You are on page 1of 160

‫أنطون تشيخوف‬

‫رسائل إىل العائلة‬

‫ترجمة‪ :‬ياسر شعبان‬


‫‪42‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 85‬من مجلة الدوحة نوفمبر ‪2014‬‬

‫أنطون تشيخوف‬
‫رسائل إىل العائلة‬
‫ترجمة‪ :‬ياسر شعبان‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫لوحة الغالف‪ - Osip Braz :‬روسيا‬


‫اإلخراج الفني ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬
‫الفهرس‬

‫تقديم ‪5 ...........................................................‬‬

‫حول الترجمة ‪11 ....................................................‬‬

‫إلى أ ّمه ‪19 .........................................................‬‬

‫إلى إخوته ‪30 .......................................................‬‬

‫إلى ابن ِ ّ‬
‫عمه ميهائيل تشيخوف ‪126 ..................................‬‬

‫عمه م‪ .‬ج‪ .‬تشيخوف ‪127 ........................................‬‬


‫إلى ّ‬
‫إلى زوجته و‪ .‬ل‪ .‬كنيبر ‪133 ..........................................‬‬

‫من أولجا إلى تشيخوف بعد وفاته ‪149 ..............................‬‬

‫‪5‬‬
6
‫تقديم‬

‫ولد أنطون بافلوفيتش تشيخوف في تجانروج عام ‪ .1860‬والده هو بافلوفيتش‪،‬‬


‫وكان يمتلك محلّ بقالة‪ .‬وأمه هي يفجينيا‪ ،‬كانت تحكي له القصص عن طفولتها‬
‫من حين آلخر‪ ،‬واحد من أ كثر الكتاب شهرة في االتحاد السوفيتي السابق‪،‬‬
‫بل وفي العالم أجمع‪ .‬وهو رائد القصة القصيرة بمعناها الحديث عن جدارة‬
‫واستحقاق‪ ،‬وأثّر في هذا المجال في كثير من ُ‬
‫الك ّتاب مثل فرجينيا وولف على‬
‫سبيل المثال‪ ...‬وفي العالم العربي كان له تأثير واضح على يوسف إدريس‪ ،‬الذي‬
‫عده كثيرون «تشيخوف العرب»‪.‬‬
‫ّ‬

‫تشكلت هذه الطباع‬ ‫ّ‬ ‫لين ًا ورقيق ًا إلى درجة اإلدهاش‪ ،‬وقد‬
‫كان طبع تشيخوف ّ‬
‫على الرغم من األسلوب العنيف للتربية التي تلقّ اها في طفولته‪ .‬كان والده‬
‫مستبد ًا‪ ،‬وغالب ًا ما كان يلجأ إلى العقوبات الجسدية ولو على كسرة خبز ُأعطِ يت‬
‫ّ‬
‫لكلب‪ .‬كان تشيخوف وإخوته يأ كلون حتى الشبع فقط عندما يح ّلون ضيوف ًا‪.‬‬
‫ظل القسوة واالنصياع‪ ،‬وهنا يمكن أن نسأل‪ :‬من أين أتت‬ ‫تربّى األطفال في ِ ّ‬
‫تلك الطيبة «التشيخوفية»؟!‪ .‬واليزال نور تشيخوف يُدفئ حتى اآلن‪ .‬فال مكان‬
‫لالنقباض والكآبة في قصصه‪ ،‬وسخريته ناعمة ال تجرح أحد ًا‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫في عام ‪ ،1876‬تع َّرض والده لإلفالس‪ .‬ومنذ ذلك التاريخ عانت عائلة تشيخوف‬
‫يتحمل تكاليف تعليمه‪ .‬وقد غطّ ى هذه‬
‫َّ‬ ‫من الفقر‪ .‬وكان على تشيخوف أن‬
‫المصروفات بالتدريس لطلبة آخرين‪ ،‬واصطياد الطيور وبيعها‪ ،‬وكتابة القصص‬
‫ادخر بعض النقود كان يرسلها مباشرة إلى أسرته‪.‬‬ ‫القصيرة للصحف‪ .‬وكلما َّ‬
‫وخالل فترة دراسته قرأ الكثير من الكتب لكبار المؤ ِ ّلفين العالميين‪ ،‬من أمثال‬
‫سرفانتس وشوبنهاور‪.‬‬

‫عام ‪ ،1879‬التحق تشيخوف بجامعة موسكو‪ .‬وخالل فترة دراسته كتب‬


‫العديد من القصص القصيرة لتسديد مصروفات الجامعة ومساعدة أسرته‪ .‬وفي‬
‫عام ‪ ،1886‬طلبت منه واحدة من كبريات الصحف الروسية «نوفوي فريميا‪-‬‬
‫‪ »Novoye Vremya- New Times‬أن يكتب لها القصص‪ .‬وسرعان ما‬
‫اكتسبت قصصه شهرة‪ ،‬واطّ لع كتاب آخرون على قصصه‪ ،‬و ُأعجبوا بها‪ .‬كتب‬
‫مجموعة قصصية بعنوان «‪ »At Dusk‬وهي التي فازت بجائزة بوشكين‪ ،‬وهي‬
‫ِّ‬
‫المتميزة‪.‬‬ ‫جائزة للكتابة القصصية‬

‫وفي عام ‪ 1887‬كتب مسرحية بعنوان «إيفانوف ‪ ،»Ivanov‬التي حازت إعجاب‬


‫النقّ اد رغم أن تشيخوف لم يكن راضي ًا عنها‪.‬‬

‫اشترى تشيخوف منز ً‬


‫ال وقطعة من األرض في مليخوفو ‪ Melikhovo‬بالقرب‬
‫من موسكو‪ ،‬وذلك في عام ‪ ،1892‬وفي أثناء وجوده هناك‪ ،‬ساعد الناس الذين‬
‫عاشوا بالقرب منه‪ ،‬فكان يحضر لهم الطعام والمالبس‪ ،‬والدواء عند المرض‪،‬‬
‫كذلك كان يقوم بتطبيبهم‪.‬‬

‫وفي أثناء وجوده في مليخوفو‪ ،‬بدأ كتابة مسرحيته «النورس ‪.»The Seagull -‬‬
‫َ‬
‫تحظ بإعجاب‬ ‫وعند عرضها ألوّل مرة‪ ،‬جاء أداء المم ِ ّثلين ّ‬
‫سيئ ًا للغاية‪ ،‬ولم‬
‫الجمهور‪ .‬والحق ًا َت َّم عرضها على مسرح آخر‪ ،‬مسرح الفن في موسكو‪ ،‬حيث‬
‫تحسن أداء الممثلين‪ .‬وبعد فترة قصيرة َت َّم تمثيل مسرحية ُأخرى له بعنوان «العم‬
‫َّ‬

‫‪8‬‬
‫فانيا ‪ .»Uncle Vanya -‬وبعد ذلك كتب مسرحيتين عظيمتين‪ ،‬هما‪:‬‬
‫«األخـــــوات الــثــالث ‪ ،»Three Sisters-‬و«بســـتـان الكــــرز‪-‬‬
‫‪ .»The Cherry Orchard‬وحتى وقتنا الحاضر ما زالت هذه‬
‫ّ‬
‫محل اهتمام المسرحيين الذين يقومون بعرضها‪ ،‬أو بعرض‬ ‫المسرحيات‬
‫معالجات جديدة لها‪.‬‬

‫ّ‬
‫السل‪ ،‬وفَرض عليه المرض أن‬ ‫وفي عام ‪ 1897‬أصيب تشيخوف بداء‬
‫صحته‪ .‬وانتقل إلى يالطا حيث اشترى‬ ‫ّ‬ ‫لتتحسن‬
‫َّ‬ ‫يقوم بتغيير نمط حياته‬
‫ال‪ ،‬والحق ًا‪ ،‬تزوَّج من أولجا نيبر وهي مم ِ ّثلة مسرحية قامت بأداء‬
‫هناك منز ً‬
‫البطولة النسائية في معظم مسرحياته‪ .‬وفي يالطا‪ ،‬كتب بعض قصصه‬
‫األكثر شهرة‪ ،‬ومن بينها قصة «السيدة والكلب ‪The Lady With -‬‬
‫‪.»The Dog‬‬

‫مما جعل األطباء‬


‫ساءت حالته الصحية للغاية في ربيع عام ‪ّ ،1904‬‬
‫الروس ينصحونه بالسفر إلى خارج روسيا‪ ،‬فسافر إلى بادن فيلر‪ ،‬منتجع‬
‫جبلي في جنوب ألمانيا‪ .‬وبوصوله بصحبة زوجته؛ أدرك تشيخوف أنه‬
‫يتحدث عن مشاريعه بالكتابة والسفر‪ ،‬حتى‬
‫ّ‬ ‫ُحتضر‪ ،‬لكنه مع ذلك ّ‬
‫ظل‬ ‫ي َ‬
‫أنه فرح بالفرصة التي اقتنصتها زوجته الحبيبة عندما تركته فجأة في‬
‫ّ‬
‫فزف الخبر إلى أخته ماريّا في رسالة‪« :‬لقد سافرت أولجا‬ ‫المنتجع‪،‬‬
‫إلى سويسرا لتعالج أسنانها»‪ ،‬فبدا األمر كما لو أن أولجا فعلت ذلك‬
‫لتؤكد مرة أخرى على الشبه بين موت تشيخوف وموت إيفان إيليتش‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بطل رواية تولستوي القصيرة التي َع َّدها بعض النقاد المصدر الرئيس‬
‫لقصة تشيخوف «حكاية مم ّلة»‪ .‬كانت زوجة إيفان إيليتش منشغلة عن‬
‫احتضار زوجها بحياتها االجتماعية الزاخرة باالستقباالت المرحة والناس‬
‫أصم‪ ،‬وخادم رائع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجذابين تارك ًة إياه مع سرير نظيف‪ ،‬وحائط‬

‫‪9‬‬
‫قال إيزاك التشولّر طبيب تشيخوف في يالطا‪« :‬إن الزوجة الشابة التي‬
‫تكشفت عن أنانية مرعبة‪ ...‬كانت تترك المريض‬
‫ّ‬ ‫أحبها تشيخوف بجنون‬ ‫َّ‬
‫وحيد ًا لشهور عديدة»‪.‬‬

‫وكتب الدكتور إريك شفيرير بعد وفاة تشيخوف يلومه على سفره إلى‬
‫سيء‬
‫ّ‬ ‫َسخالين وعلى أسفاره األخرى‪« :‬كان كاتب ًا رائع ًا ولكنه طبيب‬
‫للغاية ألنه جرؤ على السفر في الوقت الذي كان عليه كمريض بداء في‬
‫الصدر أن يتدفّ أ‪ ،‬ويشرب الحليب الساخن مع توت الع ّليق»‪.‬‬

‫توجه في عام ‪ 1890‬إلى سيبيريا‪ ،‬ومنها إلى جزيرة‬


‫وكان تشيخوف قد َّ‬
‫َسخالين‪ ،‬وهي عبارة عن سجن مفتوح أو معسكرات عمل للمجرمين‪.‬‬
‫تحدث إلى الكثير من المسجونين‪ ،‬واكتشف أنهم كانوا يعاملون‬ ‫َّ‬ ‫وهناك‬
‫سيئة للغاية‪ .‬وكانوا كثير ًا ما يتعرضون للضرب‪ .‬وبينهم كان هناك‬‫بطريقة ّ‬
‫بعض األطفال‪.‬‬

‫ووصف ترحاله عبر أنهار سيبيريا ودروبها في مجموعة مقاالت «عبر‬


‫ّ‬
‫والسكان‬ ‫سيبيريا»‪ ،‬ثم جمع في َسخالين مادة وثائقية ضخمة عن السجناء‬
‫المح ّليين متحاور ًا مع الكثيرين منهم ودارس ًا بالتفصيل ظروف حياتهم‬
‫وتعسف الموظّ فين‪ ،‬ومنها أل َ‬
‫ّف كتابه‬ ‫ُّ‬ ‫اليومية‪ ،‬ثم عن إدارة السجون‬
‫«جزيرة َسخالين ‪ »The Island Of Sakhalin-‬وكذلك قصة بعنوان‬
‫«القاتل» ‪.The Murder‬‬

‫ّ‬
‫الشاق الطويل‪ ،‬تخ ّلى تشيخوف عن إعجابه برواية‬ ‫بعد عودته من سفره‬
‫تولستوي القصيرة «سوناتا كريتزر»‪ ،‬وكان قد صرح قبل كتابته «جزيرة‬
‫َسخالين» في رسالة إلى بيليشيف‪« :‬من بين كل ما يُكتب اآلن عندنا‪،‬‬
‫وفي الخارج‪ ،‬تكاد ال تعثر على عمل يضاهي «سوناتا كريتزر» من حيث‬
‫أهم ّية الفكرة وجمال األداء»‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪10‬‬
‫لكنه‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬كتب في رسالة إلى سوفورين‪ :‬إن «سوناتا كريتزر» اآلن‬
‫إلي‪ ،‬وتبدو مربكة‪ ،‬أو أن رحلتي (إلى َسخالين ) جعلتني‬
‫مضحكة بالنسبة ّ‬
‫سن الرشد»‪.‬‬
‫أبلغ ّ‬

‫وبعد هذه الرحلة توقَّف تشيخوف عن متابعة كتابة مشروع روايته الوحيدة‬
‫ِّ‬
‫المتحمس‬ ‫«قصص من حياة أصدقائي»‪ ،‬بعد أن كان ورّط بطلها بموقفه‬
‫من «سوناتا كريتزر» قبل «جزيرة َسخالين»‪ ،‬وإن كان قد ْ‬
‫أك َث َر الحديث‬
‫عن هذه الرواية إلى كثير من معارفه‪ ،‬وعلى مدى سنوات ّ‬
‫ظل َيع ُِد بإنجازها‬
‫القريب؛ كتب في رسالة إلى أخيه ألكسندر في عام ‪ 1887‬يقول‪« :‬عندي‬
‫رواية ليست مم ّلة‪ ،‬ولكنها ال تصلح لمج ّلة»‪ .‬وكتب يقول في رسالة إلى‬
‫جريجوروفيتش في عام ‪« :1888‬تتناول الرواية بعض العائالت‪ ،‬وهناك‬
‫شخصيتان رئيستان‪ :‬رجل وامرأة‪ ،‬تتح ّلق حولهما األحجار األخرى‪.».‬‬

‫وفي رسالة إلى سوفورين كتب يقول في عام ‪« :1889‬إنني أ كتب هذه‬
‫الرواية على شكل قصص منتهية منفردة وشديدة الصلة فيما بينها عبر‬
‫مجموعة من المغامرات واألفكار والشخصيات‪ ،‬ولكل قصة عنوانها‬
‫سج َل موقف ًا مثير ًا‪،‬‬
‫الخاص»‪.‬لكنه ‪-‬مع ذلك‪ -‬لم ينجز هذه الرواية‪ ،‬بل َّ‬
‫سيظهر بعدئذ في كتاب «تشيخوف في مذكرات معاصريه»‪ ،‬إذ قال‪:‬‬
‫«لم يتقن كتابة الرواية إال النبالء»‪ ،‬الشرط الذي ال يستوفيه هو نفسه‪،‬‬
‫جده ألبيه ق ّن ًا‪ ،‬افتدى نفسه وأوالده عام ‪ ،1844‬أي قبل والدة‬
‫فقد كان ّ‬
‫بست عشرة سنة فقط‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تشيخوف‬

‫وحتى وهو يلفظ أنفاسه األخيرة‪ ،‬كان تشيخوف رقيق ًا للغاية‪ ،‬كحاله‬
‫طوال حياته‪ .‬كان يقلقه شيء واحد فقط‪ :‬أال يزعج أحد ًا‪ .‬وحين ساءت‬
‫حالته ليلة الثاني من يوليو «تموز» من عام ‪ 1904‬في منتجع بادن فيلر‪،‬‬
‫طلب استدعاء الطبيب‪ ،‬لكنه تم ّنى عدم إيقاظ الصبي لكي يذهب من‬

‫‪11‬‬
‫أجل أسطوانة األكسجين‪ .‬فهو لن يجد الوقت الكافي في جميع األحوال‪.‬‬
‫جاء الطبيب‪ ،‬فخاطبه تشيخوف بألمانيته المحدودة‪« :‬إيخ شتيربي ‪-‬‬
‫إنني أموت!»‪ .‬وبعد سنوات ع ّلقت زوجته أولجا كنيبر على هتافه هذا‪:‬‬
‫«إنني أموت!» ك ّررها تشيخوف بالروسية‪ ،‬كما لو أنه يترجم صيحته‬
‫األخيرة لزوجته التي ترافقه في رحلته األخيرة‪ .‬وبهدوء‪ ،‬دون أي اختناق‬
‫ّ‬
‫بالسل‪ ،‬انتقل إلى العالم‬ ‫مب ّرح وهذا نادر ًا ما يحدث عند وفاة المصابين‬
‫اآلخر‪...‬‬

‫تواريخ‬

‫‪ :1875‬غادر تشيخوف تاجانروج بعد تع ُّرضه لإلفالس‪ ،‬ولطرد أسرته من المنزل الذي‬
‫كانت تعيش فيه‪.‬‬

‫‪ :1879‬التحق بكلية الطب في موسكو‪.‬‬

‫‪ :1882‬نشر قصص ًا قصيرة ورسومات في صحيفة «أوسكوكي ‪ »Oskoki‬الفكاهية في‬


‫سان بطرسبرج‪.‬‬

‫َس مهنة الطب‪.‬‬


‫‪ :1884‬مار َ‬
‫‪ :1887‬بداية نشر قصصه القصيرة في الصحف ُ‬
‫الكبرى‪.‬‬

‫‪ 21 :1890‬أبريل‪ ،‬بدأ رحلته إلى جزيرة َسخالين في سيبريا‪ ،‬مرور ًا بمعسكرات العمل‬
‫يتم نقل المجرمين إليها‪ .‬ووصل إلى الجزيرة في ‪ 11‬يونيو من العام نفسه‪.‬‬
‫التي كان ّ‬
‫‪ :1895‬افتتاح مسرح الفن في موسكو‪ .‬وانتهاء تشيخوف من كتابة مسرحيته «النورس»‪.‬‬

‫ّ‬
‫«السل»‪.‬‬ ‫‪ :1897‬أُصيب بالدرن الرئوي‬

‫‪ :1901‬عرض مسرحية «األخوات الثالثة» على مسارح فقيرة‪ .‬تزوّج من مم ّثلة المسرح‬
‫أولجا كنيبر‪ .‬عرض مسرحية «بستان الكرز»‪ ،‬وهي آخر مسرحيات تشيخوف‪.‬‬

‫مصحة بادن فيلر‪ ،‬وهو‬


‫ّ‬ ‫‪ :1904‬بعد تع ُّرضه ألزمتين قلبيتين‪ ،‬رحل تشيخوف وهو في‬
‫في الرابعة واألربعين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫حول الترجمة‬

‫مثلما نحن مدينون للمؤ ِ ّلفين بالكثير من المعرفة والمتعة‪ ،‬فنحن مدينون‪،‬‬
‫‪-‬وربما بنفس القدر‪ -‬للمترجمين‪ ،‬خاصة أن مهنة الترجمة تستهلك الكثير‬
‫ُترجم‬
‫من الوقت والبصر والحواس‪ ،‬وبشكل خاص في حالة تن ُّوع من ي َ‬
‫لهم‪ ،‬ففي الترجمة البد أن تتفاعل مع النص وخلفيته الثقافية والتاريخية‪،‬‬
‫وكذلك مع سمات مترجمه األسلوبية والشخصية‪.‬‬

‫معظم المترجمين المعروفين من الرجال‪ ،‬وال يقتصر ذلك على عالمنا‬


‫العربي‪ ،‬بل يكاد يكون ظاهرة عالمية عبر التاريخ‪ .‬وهكذا فإن التصدي‬
‫ِ‬
‫لمترجمة يستحقّ التوقُّ ف‪ ،‬خاصة إذا كانت رائدة في مجالها‬ ‫لترجمة عمل‬
‫ثقافي ًا وتاريخي ًا‪.‬‬

‫ِ‬
‫مترجمة رسائل تشيخوف التي‬ ‫وهذا ما ينطبق على كونستانس جارنيت‬
‫ِّ‬
‫نقدمها للقارئ العربي عن النسخة اإلنجليزية ضمن كتاب «الدوحة»‪.‬‬
‫وكونستنانس جديرة بلقب رائدة مترجمي األدب الروسي إلى اإلنجليزية‪،‬‬
‫يتصدى لترجمة‬
‫ّ‬ ‫وما زالت ترجماتها حتى اآلن نماذج تحتذى ّ‬
‫ألي مترجم‬
‫األدب الروسي الكالسيكي‪.‬‬

‫كونستانس جارنيت (‪ 16‬ديسمبر ‪ 17 - 1861‬ديسمبر ‪ ،)1946‬الطفلة‬


‫السادسة بين ثمانية أطفال ألب يعمل بالمحاماة‪ ،‬دافيد بالك (‪– 1817‬‬
‫وألم هي كالرا ماريا باتين (‪ .)1875 – 1825‬ومن إخوتها‬ ‫ّ‬ ‫‪،)1892‬‬
‫عالِم الرياضيات المعروف آرثر بالك‪ .‬في عام ‪1873‬م أصيب والدها‬
‫بالشلل‪ ،‬وبعدها بعامين ِ ّ‬
‫توفيت أمّها بعد أزمة قلبية فاجأتها وهي تعين‬
‫زوجها على االنتقال من مقعده إلى سريره‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫تلقَّ ت تعليمها في المدرسة العليا التابعة لبرايتون وهوف‪ ،‬وبعدها‬
‫درست األدبين الالتيني واليوناني في كلية نيونهام كمبريدج بمنحة‬
‫دراسية حكومية‪ .‬وفي عام ‪ 1833‬انتقلت إلى لندن حيث عملت في‬
‫البداية موظفة حكومية‪ ،‬ثم أمينة مكتبة في مكتبة قصر الشعب‪ .‬ومن‬
‫خالل أختها الروائية والمسؤولة في النقابة العمالية‪ ،‬كليمينتينا بالك‪،‬‬
‫قابلت د‪ .‬ريتشارد جارنيت‪ ،‬والذي أصبح الحق ًا المسؤول عن مطبوعات‬
‫المتحف البريطاني‪ ،‬وابنه إدوارد جارنيت الذي تزوّجت به في برايتون‬
‫‪ 31‬أغسطس ‪ .1889‬وكان إدوارد يعمل مح ِ ّرر ًا لدى عدد من الناشرين‬
‫(تي‪ .‬فيشر أنوين‪ ،‬ويليام هينمان‪ ،‬ودوكوورث) قبل أن ينتقل للعمل لدى‬
‫الناشر المعروف جوناثان كيب‪.‬‬

‫وقدمها إدوارد للّاجئ‬


‫وفي صيف عام ‪ ،1891‬حملت بطفلها الوحيد‪َّ ،‬‬
‫الروسي فيليكس فولخوفسكي‪ ،‬والذي بدأ بتدريسها الروسية‪ .‬كذلك‬
‫قدمها لرفيقه الالجئ‪ ،‬كذلك‪ ،‬سيرجي ستيبنياك وزوجه فاني‪ .‬وبعد فترة‬
‫ّ‬
‫وجيزة بدأت تعمل مع ستيبنياك بترجمة األعمال الروسية لنشرها‪ .‬وكان‬
‫أوّل عمل من ترجمتها بعنوان «قصة شائعة ‪»A Common Story -‬‬
‫للكاتب الروسي إيفان جونشاروف‪ ،‬و«مملكة الرب داخلك» للكاتب‬
‫الروسي ليو تولستوي‪ ،‬ونُشرت خالل زيارتها األولى لروسيا في بداية عام‬
‫‪.1894‬‬

‫توجهت إلى ياسنايا بوليانا‪ ،‬حيث‬


‫وبعد زيارتها لموسكو وسان بطرسبرج‪َّ ،‬‬
‫التقت ليو تولستوي‪ .‬ورغم ما أبداه تولستوي من اهتمام برغبته في أن‬
‫تقوم بترجمة المزيد من أعماله الدينية‪ ،‬إال أن كونستانتس كانت قد‬
‫بدأت ترجمة روايات تورجينيف‪ ،‬واستمرت في ترجمتها بعد عودتها‬
‫إلى لندن‪ .‬وبع وفاة ستيبنياك في ‪ ،1895‬استكملت كونستانس الترجمة‬
‫بمعاونة زوجته فاني‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وخالل العقود األربعة التالية‪ ،‬ترجمت جارنيت عشرات من أعمال‬
‫تولستوي‪ ،‬وجوجول‪ ،‬وإيفان جونشاروف‪ ،‬وديستويفسكي‪ ،‬وتورجينيف‪،‬‬
‫وأوستروفسكي‪ ،‬وألكسندر هيرزين‪ ،‬وتشيخوف‪.‬‬

‫على مستوى حياتها الشخصية‪ ،‬درس ابنها الوحيد‪ ،‬ديفيد جارنيت‪،‬‬


‫البيولوجيا‪ ،‬وبعد فترة بدأ يكتب الروايات‪ ،‬ومن بينها الرواية ذات الشعبية‬
‫«‪ »Lady into Fox‬عام ‪ .1922‬وفي نهاية عقد العشرينيات بدأ الوهن‬
‫يدب في جسد جارنيت‪ ،‬وعرف الشيب طريقه إلى شعرها‪َ ،‬‬
‫وض ُعف‬ ‫ّ‬
‫بصرها للغاية‪ .‬وفي عام ‪ ،1934‬اعتزلت كونستانس جارنيت الترجمة‬
‫بعد نشر ترجمتها لثالث مسرحيات من تأليف تورجينيف‪ .‬وبعد وفاة‬
‫زوجها في عام ‪ ،1937‬عاشت في عزلة تامة‪ ،‬وعانت من اعتالل قلبها‬
‫ومن أزمات تنفسية‪ ،‬وخالل السنوات األخيرة من حياتها لم يعد بوسعها‬
‫المشي بال عكازات‪.‬‬

‫ترجمت كونستانس ‪ 73‬مج ّلد ًا من األعمال األدبية الروسية‪ ،‬وحازت‬


‫ترجماتها على إعجاب كبير من مؤ ِ ّلفين مرموقين مثل جوزيف كونراد‪،‬‬
‫ود‪.‬هـ‪ .‬لورانس‪.‬‬

‫ويرى البعض أنه من حيث قيمة المنجز األدبي‪ ،‬تأتي جارنيت في المرتبة‬
‫تتميز بضخامة ما أنجزته من ترجمات‪ ،‬فلقد ترجمت ما‬
‫ّ‬ ‫الثانية‪ ،‬لكنها‬
‫يزيد على سبعين مجلد ًا من األدب الروسي بغرض النشر التجاري‪،‬‬
‫ومن بينها جميع روايات ديستويفسكي‪ ،‬ومئات من قصص تشيخوف‬
‫ومج ّلدين لمسرحياته‪ ،‬واألعمال الرئيسة لتورجنيف‪ ،‬ومعظم أعمال‬
‫تولستوي ومختارات لكل من هرزين‪ ،‬وجونشاروف‪ ،‬وأوستروفسكي‪.‬‬

‫وقال أحد أصدقائها‪« ،‬د‪.‬هـ‪ .‬لورانس»‪ّ ِ ،‬‬


‫مثمن ًا ما بذلته من جهد إلنجاز‬
‫ترجماتها بإتقان قدر استطاعتها‪« :‬جالسة في الحديقة وأمامها مئات‬

‫‪15‬‬
‫الصفحات من ترجمتها الرائعة لألدب الروسي‪ .‬وكانت عند االنتهاء من‬
‫صفحة‪ ،‬تقوم بإلقائها فوق كومة من األوراق على األرض دون حتى أن‬
‫ترفع رأسها‪ ،‬لتبدأ الترجمة من جديد‪ .‬وكانت هذه الكومة ترتفع لتصل‬
‫إلى ركبتيها‪ ،‬ليبدو المشهد ك ّله سحر ّي ًا‪.»..‬‬

‫وكما قال إزرا باوند‪« :‬بدون جارنيت‪ ،‬لم يكن أدباء القرن التاسع عشر‬
‫الروس ليتركوا هذا التأثير السريع على األدب األميركي في بداية القرن‬
‫العشرين‪ .‬ففي «قبضة متح ّركة» يذكر همنجواي بحثه في أرفف سلفيا‬
‫بيتش عن األعمال األدبية الروسية‪ ،‬وكيف أنه وجد فيها عمق ًا وإنجاز ًا‬
‫لم يُع َرفا قبلها ق ّ‬
‫َط‪ .‬فقبل ذلك قيل له إن «كاثرين مانسفيلد» كاتبة قصة‬
‫جيدة‪ ،‬بل كاتبة قصة عظيمة‪ ،‬لكنه قال «بعد قراءة تشيخوف اكتشفت أن‬
‫قصصها تافهة‪ ،‬فقراءة األدب الروسي بمثابة العثور على كنز‪.‬‬

‫وعلى الجانب اآلخر‪ ،‬كان هناك منتقدون لترجمات جارنيت‪ ،‬من بينهم‬
‫الروسيان فالديمير نابوكوف‪ ،‬وجوزيف برودسكي‪ .‬وانطلق انتقاد‬
‫ّ‬
‫نابوكوف لترجمات جارنيت من رؤيته المعلنة بأن المترجم المثالي‬
‫يجب أن يكون ذكر ًا‪ .‬أما برودسكي‪ ،‬فانتقد ترجمات جارنيت الفتقارها‬
‫إلى السمات الممي ّزة لكل كاتب‪ ،‬بما يسمح بالوقوف على االختالفات‬
‫بينهم كما في اللغة الروسية‪ ،‬وقال «السبب الرئيس لندرة ق ّراء اإلنجليزية‬
‫القادرين على التمييز بين تولستوي وديستويفسكي‪ ،‬يعود إلى أنهم لم‬
‫يقرأوا ما كتبه كالهما‪ ،‬بل قرأوا أعمالهما مكتوبة بأسلوب جارنيت»‪.‬‬

‫ورأى آخرون من منتقديها أنها كانت متس ِ ّرعة في ترجمتها‪ ،‬وكانت تغفل‬
‫بعض التفاصيل الصغيرة ألجل سالسة الترجمة‪ ،‬خاصة في ترجماتها‬
‫ألعمال ديستويفسكي‪ ،‬ومن ذلك ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬أنها كانت‬
‫ٍ‬
‫كلمات أو جم ً‬
‫ال ال تفهمها‪.‬‬ ‫تضم‬
‫ّ‬ ‫تتجاهل األجزاء التي‬

‫‪16‬‬
‫ولم تمنع تلك االنتقادات أن ي ّتخذ المترجمون الالحقون لها‪ ،‬مثل‬
‫روزميري إيدموندز‪ ،‬ودافيد ماجارشاك‪ ،‬من ترجماتها نماذج تحتذى عند‬
‫تصديهم لترجمة األدب الروسي‪.‬‬
‫ّ‬

‫ياسر شعبان‬
‫القاهرة – ‪2014‬‬

‫المصدر‪:‬‬
‫‪ -‬كونستانس جارنيت ‪ 22‬يناير ‪.2011‬‬
‫(‪)Constance Garnett ، Edna O’Brien، The Guarddian‬‬
‫‪ -‬حروب الترجمة ‪ ،The Translation War‬دافيد ريمنيك ‪ 7 ،‬نوفمبر ‪.2005‬‬
‫(‪.)David Remnick، The New Yorker‬‬

‫‪17‬‬
18
‫أنطون تشيخوف‬
‫رسائل إىل العائلة‬

‫‪19‬‬
‫‪1876‬يتوسطها األب بافيل يجوروفيتش تشيخوف (‪1825‬‬ ‫ّ‬ ‫صورة عائلية ال ُتقطت عام‬
‫شماس ًا بالكنيسة‪ .‬ا ّتسمت تربيته ألطفاله بالتز ُّمت‬
‫ّ‬ ‫وكان‬ ‫بقالة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫محل‬ ‫‪ .)1898 -‬امتلك‬
‫الديني واألخالقي‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪1‬‬
‫إلى أ ّمه بفجينيا ياكوفليفنا موروزوف‬

‫باخرة «يرماك»‪ 20 ،‬يونيو ‪1890‬‬

‫تحياتي أيّها األعزاء في منزلنا‪..‬‬


‫ّ‬

‫أخير ًا بوسعي أن أخلع فرد َت ْي حذائي (البوت) الثقيلتين والموحلتين‪،‬‬


‫وبنطالي البالي الم ّتسخ‪ ،‬وقميصي األزرق الذي يلمع بما عليه من‬
‫تراب امتزج بالعرق‪ .‬أخير ًا بوسعي أن أغتسل وأرتدي مالبس أخرى‬
‫بل كنت في الدرجة‬ ‫مثل باقي البشر‪ .‬لست مسافر ًا في عربة الشيز‬
‫ ( ((‬

‫األولى بباخرة «يرماك»‪ .‬لقد بدأ ذلك منذ عشرة أيام‪ ،‬فلقد كتبت لك‬
‫علي أن‬
‫من «ليستفنتشانيا» بأنني لم ألحق بباخرة «بيكال»‪ ،‬وهكذا كان ّ‬
‫أعبر بحيرة بيكال يوم الجمعة بد ً‬
‫ال من الثالثاء‪ ،‬وحينها لن يكون أمامي‬
‫سوى باخرة «أمور» التي ستنطلق في الثالثين من الشهر‪ .‬لكنه القدر‪،‬‬

‫‪ :Chaise -1‬الشيز‪ ،‬عربة خفيفة ذات عجلتين أو أربع‪( .‬هوامش الكتاب للمترجم)‬

‫‪21‬‬
‫الذي ‪-‬غالب ًا‪ -‬ما يمارس معنا أالعيب تفوق قدرتنا على التوقُّ ع‪ .‬ففي‬
‫صباح الثالثاء‪ ،‬خرجت في جولة على شاطئ بحيرة بيكال‪ ،‬وإذا بي أرى‬
‫أمامي مدخنة باخرة صغيرة‪ ،‬واألدخنة تتصاعد منها‪ .‬تساءلت عن وجهة‬
‫متوجهة إلى كليوفو «الجهة األخرى من‬ ‫ِّ‬ ‫هذه الباخرة‪ ،‬فأخبروني بأنها‬
‫البحر»‪ ،‬فلقد استأجرها أحد التجار لنقل بضائعه عبر البحيرة‪.‬‬

‫وأضافوا‪ :‬نحن أيض ًا نرغب في عبور «البحر» والذهاب إلى محطة سكك‬
‫حديد بويارسكايا‪ .‬واستفسرت منهم عن المسافة بين كليوفو وبويارسكايا‪.‬‬
‫وتوسلت‬
‫َّ‬ ‫فأخبروني أنها حوالي ‪ 27‬فرست ًا (((‪ .‬وعدت مسرع ًا إلى رفاقي‪،‬‬
‫إليهم أن يقبلوا بمخاطرة الذهاب إلى كليوفو‪ .‬وأقول «مخاطرة» ألن‬
‫الذهاب إلى كليوفو ‪ -‬حيث ال شيء هناك سوى ميناء وكوخ لحارس‪-‬‬
‫سيجعلنا نواجه خطر عدم العثور على خيول‪ ،‬وأن نضطر للبقاء في كليوفو‪،‬‬
‫ونتأخر عن موعد القطار الذي سينطلق يوم الجمعة‪ ،‬وبالنسبة لنا هذا أسوأ‬
‫من موت «إيجور»‪ ،‬ألننا سنضط ّر لالنتظار إلى الثالثاء‪ .‬ووافق رفاقي‪.‬‬
‫وتوجهنا‬
‫ّ‬ ‫وتشاركنا جميعنا في حزم أمتعتنا‪ ،‬وبكل بهجة ركبنا الباخرة‪،‬‬
‫مباشرة إلى البار‪ ،‬وطلبنا أطباق شوربة‪ :‬طبق شوربة بحق الرب!‪ ،‬نصف‬
‫وضيق ًا للغاية‪ ،‬لكن الطاهي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مملكتي لقاء طبق شوربة!‪ .‬كان البار كريه ًا‬
‫جريجوري إيفانيتش‪ ،‬والذي سبق له أن عمل خادم ًا منزلي ًا في فورنيز‪،‬‬
‫شهي ًا للغاية‪ .‬وكان الطقس‬ ‫ّ‬ ‫كان في قمة أدائه المهني‪ .‬ق ََّدم لنا طعام ًا‬
‫مستق ّر ًا ومشمس ًا‪ .‬وكان لصفحة مياه بحيرة بيكال لون التركواز‪ ،‬كانت‬
‫أ كثر شفافية من مياه البحر الميت‪ .‬ويقولون إنه‪ ،‬في المواضع العميقة‬
‫منها‪ ،‬بوسع المرء أن يرى القاع على مبعدة فرست واحد؛ ولقد رأيت أنا‬
‫نفسي مثل ذلك العمق‪ ،‬حيث الصخور والجبال تنعكس بلون هو مزيج‬
‫من التركواز واألزرق‪ ،‬مما جعلني أشعر بقشعريرة تسري في جسدي كله‪.‬‬

‫‪ :Verst -1‬الفرست‪ ،‬مقياس روسي للمسافة يعادل ‪ 3500‬قدم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫كانت رحلتنا عبر بحيرة بيكال رحلة رائعة للغاية‪ .‬ولن أنساها ما حييت‪.‬‬

‫لكنني سأخبرك بشيء غير لطيف فيها؛ لقد سافرنا في الدرجة الثالثة‪،‬‬
‫ال ب ّرية هائجة طوال‬‫وكان السطح بكامله ممتلئ ًا بالخيول‪ ،‬كانت خيو ً‬
‫الوقت‪ .‬ولقد أضفت هذه الخيول مسحة خاصة على عبورنا البحيرة‪ :‬فلقد‬
‫بدا األمر كما لو كنا في باخرة لصوص‪ .‬وعند الوصول إلى كليوفو‪ ،‬قام‬
‫الحارس بنقل أمتعتنا إلى محطة السكك الحديدية‪ ،‬قاد هو الكارة (((‪،‬‬
‫وسرنا نحن بمحاذاة الشاطئ الفاتن‪ .‬وكم كان ليفيتان أحمق ألنه لم‬
‫يرافقني‪ .‬كانت الطريق تم ّر بالغابة‪ :‬إلى اليمين كانت أشجار الغابة تصعد‬
‫وج ُرف‬‫التالل‪ ،‬وإلى اليسار كانت تهبط باتجاه البحيرة‪ .‬يالها من وهاد ُ‬
‫شديدة االنحدار! كم كانت ألوان بحيرة بيكال رقيقة ودافئة! والشيء‬
‫بالشيء يُذكر‪ ،‬كانت دافئة للغاية‪ .‬وبعد أن مشيت لمسافة ‪ 8‬فرسات‪،‬‬
‫وصلنا إلى محطة ميشكان ‪ ،Myskan‬حيث قام الموظف الحكومي‬
‫يستعد للسفر هو اآلخر‪ ،‬بالترحيب بنا‪ ،‬وق ََّدم لنا شاي ًا‬
‫ّ‬ ‫كياهتان‪ ،‬الذي كان‬
‫رائع ًا‪،‬‬

‫كذلك وجدنا هناك الخيول التي ستنقلنا إلى بويارسكايا‪ ،‬ونتيجة لذلك‬
‫تقدم ًا ‪ 24‬ساعة على موعد‬ ‫انطلقنا الخميس بد ً‬
‫ال من الجمعة‪ ،‬مما منحنا ُّ‬
‫نقل الخيول من المحطة‪ .‬وانطلقنا بأقصى سرعة ممكنة‪ ،‬يحدونا أمل وا ٍه‬
‫بأن نصل إلى سريتينشك بحلول اليوم الحادي والعشرين‪ .‬وسأخبرك عند‬
‫لقائنا بأمر رحلتي بمحاذاة جرف سيلينجا‪ ،‬وعبر ترانسبياكاليا‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬سأقول ‪-‬فقط‪ -‬إن تلك السيلينجا كانت بمثابة حالة وحدة‬
‫مستم ّرة‪ ،‬أما في ترانسبياكاليا فلقد وجدت كل ما رغبت فيه‪ :‬القوقاز‪،‬‬
‫وادي نهر بسيول‪ ،‬وضاحية زفينيجورود‪ ،‬ونهر الدون‪ .‬وخالل يوم من‬

‫‪ : Cart -1‬الكارة‪ ،‬عربة بدوالبين يجرها حصان‪ ،‬وتستخدم في نقل البضائع‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫انطالق الخيول عبر القوقاز‪ ،‬تصل مسا ًء إلى سهوب نهر الدون‪ ،‬وفي‬
‫الصباح‪ ،‬تستيقظ بعد غفوة على ريف بولتافا‪ .‬وهكذا على امتداد آالف‬
‫الفرسات‪.‬‬

‫ومررنا‪ ،‬كذلك‪ ،‬بفيرهنيودنيسك‪ ،‬وهي قرية صغيرة جميلة‪ ،‬وتيكيتا‬


‫البائسة‪ ،‬التي تشبه سومي‪ .‬وبصراحة لم يكن لدينا وقت للتفكير في‬
‫ِّ‬
‫لنفكر سوى في‬ ‫النوم أو طعام العشاء‪ .‬على إيقاع حوافر الخيول لم نكن‬
‫إمكانية أن نحصل على خيول عند وصولنا إلى المحطة التالية‪ ،‬وقد نعلق‬
‫لخمس أو ست ساعات‪ .‬لقد قطعنا مئتي فرست في أربع وعشرين ساعة‪،‬‬
‫وأعتقد أنه ليس بوسع أحد أن يفعل أفضل من ذلك في صيف كهذا‪.‬‬

‫حد ًا مخيف ًا عند‬


‫استبد بنا اإلرهاق والخمول؛ فلقد بلغت درجة الحرارة ّ‬
‫َّ‬
‫منتصف النهار‪ ،‬بينما‪ ،‬في الليل‪ ،‬كان الجو بارد ًا للغاية لدرجة أنني‬
‫اضطررت الرتداء معطفي الجلدي فوق ما أرتديه من مالبس‪ .‬وذات‬
‫ليلة شديدة البرودة اضطررت الرتداء معطفي المصنوع من فرو الماعز‪.‬‬
‫ورغم ذلك أ كملنا طريقنا‪ ،‬ووصلنا إلى سرايتينيشك قبل ساعة من إقالع‬
‫الباخرة‪ ،‬ونقدنا السائقين من المحطّ تين السابقتين‪ ،‬روبية لكل منهما‪.‬‬

‫وهكذا انتهت رحلتي بالخيول‪ .‬ولقد استم ّرت شهرين (انطلقت في‬
‫‪ 21‬أبريل)‪ .‬وذلك إذا استبعدنا الوقت المنقضي في القطار والباخرة‪،‬‬
‫واأليام الثالثة التي قضيناها في إيكاترينبرج‪ ،‬واألسبوع الذي قضيناه‬
‫في تومسك‪ ،‬واليوم الذي قضيناه في كراسنويارسك‪ ،‬واألسبوع في‬
‫إركوتشك‪ ،‬ويومين على شواطئ بحيرة بيكال‪ ،‬األيام التي ضاعت هباء‬
‫تقدري السرعة التي‬
‫في انتظار أن تعبر القوارب الفيضانات‪ ،‬بوسعك أن ّ‬
‫انطلقنا بها‪ .‬كانت رحلتي ناجحة للغاية‪ ،‬وأتمناها للجميع‪ .‬فلم أمرض‪،‬‬
‫ولم أفقد من أمتعتي الكثيرة سوى شفرة شحذ األقالم‪ ،‬وحزام وبرطمان‬

‫‪24‬‬
‫س‪ .‬وليس باألمر المعتاد أن‬
‫صغير به مرهم الكاربوليك‪ .‬نقودي لم ُت َم ّ‬
‫يسافر المرء آالف الفرسات وهو بخير حال‪.‬‬

‫لقد أصبحت معتاد ًا ‪-‬للغاية‪ -‬على صوت العجالت‪ ،‬لدرجة تجعلني‬


‫مندهش ًا من نفسي‪ ،‬ال أصدق أنني لست في «شيز»‪ ،‬وأنني لم أسمع‬
‫األجراس وهي ُتقرع‪ .‬وبدا غريب ًا أنني عندما آوي إلى الفراش أستطيع‬
‫ساقي على آخرهما‪ ،‬من الغريب كذلك أن وجهي ليس مغطّ ًى‬ ‫َّ‬ ‫أن ُأ ِ ّ‬
‫مدد‬
‫بالتراب‪ .‬لكن األغرب أن زجاجة براندي كوفشينيكوف التي أعطيتها لي‬
‫لم ُتكسر‪ ،‬ولم يزل البراندي بداخلها‪ ،‬كل قطرة منه‪ .‬وأقسمت أنني لن‬
‫أفتحها إال على شاطئ الباسيفيك‪.‬‬

‫أبحرت على ظهر الباخرة شيلكا‪ ،‬عبر نهر أمور الذي يم ّر بـ«وكروفسكايا‬
‫ستانيستا»‪ .‬لم يكن النهر أوسع من نهر البسيول‪ ،‬بل ربما أضيق‪ .‬كان‬
‫شاطئا النهر صخريّين‪ :‬كانت هناك ُج َرف شديدة االنحدار وأحراش‪ .‬كان‬
‫نهر ًا هائج ًا للغاية‪ ...‬لقد جاهدنا لنتج ّنب أن نعلق في مستنقع‪ ،‬أو تصطدم‬
‫دفّ تنا بالشاطئ؛ فغالب ًا ما يحدث هذا للبواخر ومراكب نقل البضائع عندما‬
‫تكون مسرعة‪ .‬كم كان ذلك خانق ًا! وبالكاد وصلنا إلى أوست كارا‪ ،‬حيث‬
‫ليودعوا في السجن‪.‬‬
‫َت َّم إنزال خمسة أو ستة مجرمين‪ ،‬للعمل بالمناجم‪ ،‬أو َ‬

‫أمس‪ ،‬وصلنا إلى نرتتشينسك‪ .‬لم يكن في المدينة الصغيرة شيء يُذكر‪،‬‬
‫لكن بوسع المرء أن يعيش فيها‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬كيف حالكم أيها السيدات والسادة؟ انقطعت أخباركم عني‪ .‬فهل‬
‫بوسع كل منكم أن ي َُغ َّرم ببنسين ليرسل لي برقية‪.‬‬

‫ستبقى الباخرة في جوربيتسا هذه الليلة‪ .‬والليالي هنا ضبابية‪ ،‬مما يجعل‬
‫اإلبحار خطير ًا‪ ،‬وسأرسل لكم هذه الرسالة من جوربيتسا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫أركب اآلن في الدرجة األولى‪ ،‬ألن رفاقي في الدرجة الثانية‪ ،‬ورغبت في‬
‫االبتعاد عنهم‪ .‬فلقد كنا مع ًا (ثالثة في عربة شيز)‪ ،‬ونمنا مع ًا‪ ،‬لقد م ََّل كل‬
‫منا من اآلخر‪ ،‬خاصة أنا‪ .‬أعتذر لرداءة خطّ ي‪ ،‬ويرجع ذلك إلى اهتزازات‬
‫الباخرة التي تجعل الكتابة صعبة للغاية‪.‬‬

‫وتوجهت إلى حجرة ضابطَ ي الباخرة‪ ،‬وشربت‬


‫ّ‬ ‫ولهذا توقّ فت عن الكتابة‪،‬‬
‫شاي ًا‪ .‬كانا كالهما قد حظي بفترة نوم طويلة؛ مما جعلهما في مزاج‬
‫معتدل للغاية‪ .‬وكان أحدهما‪ ،‬الضابط «ن» (كان لكنيته وقع سيء على‬
‫أذني)‪ ،‬ضابط ًا في سالح المشاة‪ ،‬وكان طويل القامة‪ ،‬قوي البنية‪ ،‬يتم ّتع‬
‫تياه ًا بنفسه‪ ،‬يغ ّني أغنيات من جميع‬
‫بصوت جهوري‪ ،‬وكان متفاخر ًا ّ‬
‫األوبرات‪ ،‬لكن‪ ،‬لم تكن لديه أذن موسيقية‪ ،‬وكان رفيق ًا غير محظوظ‪،‬‬
‫بدد كل ماله على نفقات أسفاره‪ ،‬وكان يحفظ كل أعمال مياكوفسكي‬
‫ّ‬
‫سيء التنشئة ومتح ِ ّرر للغاية‪ ،‬ويثرثر لدرجة تدفع من ينصت‬
‫عن ظهر قلب‪ّ ،‬‬
‫وعماته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إليه إلى الغثيان‪ .‬وهو‪ ،‬مثلي‪ ،‬مغرم بالحديث عن أعمامه‬

‫مهذب‪ ،‬متواضع‪ ،‬ومتع ِ ّلم بكل‬


‫ّ‬ ‫أما الضابط اآلخر‪« ،‬م»‪ ،‬فهو جغرافي‪،‬‬
‫معنى الكلمة‪ .‬ولوال وجود «ن»‪ ،‬لكنت مستعد ًا للسفر ماليين الفرسات‬
‫دون ضجر‪ .‬لكن بصحبة «ن»‪ ،‬الذي يقحم نفسه في كل حديث‪ ،‬أصبح‬
‫اآلخر مضجر ًا لي أيض ًا‪ ..‬أظن أننا وصلنا جوربيتسا‪.‬‬

‫إلي في َسخالين‪.‬‬
‫سأعد لكم صيغة البرقية التي أريدكم أن ترسلوها َّ‬
‫ّ‬ ‫غد ًا‬
‫وسأحاول أن أصوغ كل ما أريد معرفته عنكم فيما ال يزيد عن ثالثين‬
‫كلمة‪ ،‬ويجب عليكم أن تحاولوا االلتزام بالنموذج‪.‬‬

‫يالها من ذبابة خيل‪ ،‬ال تتوقَّف عن القرص!‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫َسخالين‪ 11 ،‬يوليو ‪1890‬‬

‫وصلت بسالم‪ ،‬مكتب تلغراف َسخالين‬

‫تشيخوف‬

‫َسخالين‪ 27 ،‬سبتمبر ‪1890‬‬

‫حسن ًا‪ .‬سأصل قريب ًا‪.‬‬

‫تشيخوف‬

‫‪27‬‬
‫بفجينيـــا ياكوفليفنـــا مـــوروزوف (‪– 1835‬‬
‫‪ :)1919‬حملـــت اســــــــم «تشـــيخوف» بعـــد‬
‫زواجهـــا‪ .‬كان لهـــا دور مؤ ِ ّثـــر فـــي تنشـــئة‬
‫تشـــيخوف‪ .‬وورث عنهـــا الحساســـية والطبـــع‬
‫ِّ‬
‫الليـــن‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫َسخالين‪ 6 ،‬أ كتوبر ‪1890‬‬

‫خالص التحية يا أمي الغالية!‬

‫أ كتب لك هذه الرسالة ‪-‬تقريب ًا‪ -‬في ليلة مغادرتي روسيا‪ .‬يومي ًا نتوقّ ع‬
‫تتأخر عن‬‫َّ‬ ‫وصول باخرة من أسطول المتط ِ ّوعين‪ ،‬ونتع َّلق بآمال أنها لن‬
‫سيتم‬
‫ّ‬ ‫العاشر من شهر أ كتوبر‪ .‬أرسل هذه الرسالة إلى اليابان‪ ،‬ومنها‬
‫إرسالها إلى شنغهاي أو أميركا‪.‬‬

‫أعيش اآلن عند محطّ ة كورساكوفو‪ ،‬حيث ال يوجد مكتب تلغراف أو‬
‫مكتب بريد‪ ،‬والتي ال تصلها سفن إال مرة كل ‪ 14‬يوم ًا‪ .‬أمس وصلت‬
‫باخرة‪ ،‬وأحضرت لي من الشمال رزمة من الرسائل والبرقيات‪ .‬ومن‬
‫الرسائل عرفت أن ماشا معجبة بالكريميا ‪ ،Crimea‬وأعتقد أنها س ُتعجب‬
‫بالقوقاز أ كثر‪..‬‬

‫ياللغرابة! عندما تكون في َسخالين‪ ،‬يكون الطقس بارد ًا وممطر ًا‪ ،‬بينما‬
‫ال‪ :‬كان َب َرد طفيف‬ ‫منذ حضوري إلى اليوم كان الطقس دافئ ًا وجمي ً‬
‫يتساقط في الصباحات‪ ،‬وهناك ثلج أبيض اللون فوق أحد الجبال‪ ،‬لكن‬
‫األرض ال تزال خضراء‪ ،‬واألوراق لم تسقط‪ ،‬وجميع النباتات نضرة‪،‬‬
‫كما هي الحال في الريف خالل شهر مايو من فصل الصيف‪ .‬هذه هي‬
‫َسخالين!‪.‬‬

‫عند منتصف ليل أمس‪ ،‬سمعت هدير الباخرة‪ .‬وقفز الجميع من مخادعهم‬
‫يتصايحون مبتهجين‪ :‬الباخرة وصلت!‪ .‬ارتدينا مالبسنا وخرجنا نحمل‬
‫حدقنا في المدى‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫متوجهين إلى الميناء‪ّ ،‬‬ ‫المصابيح الغازية‬

‫كانت هناك باخرة بالفعل‪ ....‬وأجمعت غالبية األصوات أنها الباخرة‬


‫بطرسبرج‪ ،‬التي سأستق ّلها إلى روسيا‪ .‬غمرتني البهجة‪ .‬صعدنا على متن‬

‫‪29‬‬
‫تبدى لنا‪،‬‬
‫وجدفنا باتجاه الباخرة‪ .‬ودا َومْنا على التجديف حتى ّ‬
‫َّ‬ ‫القارب‪،‬‬
‫في الضباب الهيكل األسود للباخرة‪ .‬وصاح أحدنا بصوت مرتفع يشبه‬
‫صهيل الحصان‪ ،‬متسائ ً‬
‫ال عن اسم الباخرة‪ .‬وجاءتنا اإلجابة‪« :‬البيكال»‪.‬‬
‫اللعنة! يالها من خيبة أمل! مشتاق للعودة إلى موطني‪ ،‬ولم تعد بي رغبة‬
‫لالستمرار في َسخالين‪.‬‬

‫هنا‪ ،‬وطوال الشهور الثالثة األخيرة لم أ َر سوى مجرمين أو أشخاص ال‬


‫والجلْد‪ ،‬اإلدانة بالسجن‪ .‬أجواء‬
‫َ‬ ‫يتحدثون إال عن عقوبات االسترقاق‪،‬‬ ‫ّ‬
‫محبطة‪ .‬كم أتوق إلى السفر سريع ًا إلى اليابان ومنها إلى الهند!‪.‬‬

‫أنا بخير حال‪ ،‬باستثناء ومضات أمام عيني والتي تتك َّرر كثير ًا اآلن‪،‬‬
‫وبعدها أصاب‪ ،‬دائم ًا‪ ،‬بصداع شديد‪ .‬تك َّررت الومضات أمام عيني أمس‬
‫واليوم‪ ،‬وهكذا أ كتب هذه الكلمات وأنا مصاب بصداع شديد وخدر‬
‫بكامل جسدي‪.‬‬

‫وفي هذه المحطّ ة‪ ،‬يعيش الجنرال الياباني كوزيه سان وبرفقته معاوناه‪،‬‬
‫وهما صديقان حميمان لي‪ .‬إنهم يعيشون مثل األوروبيين‪ .‬اليوم زارهم‬
‫ِّ‬
‫سيقدمونها‬ ‫موظفون في السلطة المحلية‪ ،‬ليعرضوا عليهم الزخارف التي‬
‫هدايا لهم‪ ،‬أما أنا فلقد تعايشت مع صداعي وشربت الشمبانيا‪.‬‬

‫منذ كنت في الجنوب اضطررت ثالث مرات إلى أن أذهب إلى ناي‬
‫تتكسر موجات المحيط الحقيقية على شواطئها‪ .‬انظ ْر إلى‬
‫َّ‬ ‫ريس حيث‬
‫الخارطة وستشاهد عندئذ‪ ،‬عند الساحل الجنوبي‪ ،‬تلك المنطقة الفقيرة‬
‫والموحشة المعروفة باسم «ناي ريس»‪ .‬وحاصرت األمواج قارب ًا على‬
‫متنه ستة صيادي الحيتان من األميركيين‪ ،‬الذين تحطّ مت سفينتهم قبالة‬
‫شاطئ َسخالين‪ ،‬واآلن يعيشون في المحطة ويتج ّولون مكتئبين في شوارع‬
‫المدينة‪ .‬إنهم بانتظار الباخرة بطرسبرج‪ ،‬وسيبحرون برفقتي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫لن ُاحضر لك معاطف الفرو‪ ،‬ألنه ال يوجد أي منها في َسخالين‪.‬‬
‫أتم ّنى لكم موفور الصحة‪ ،‬ولترعاكم السماء‪.‬‬
‫أحضرت لكم هدايا‪ .‬ولقد انحسر وباء الكوليرا في فالديفوستوك‪،‬‬
‫واليابان‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪2‬‬
‫إلى أخته ماريا بافلوفيتش‬

‫باخرة «ألكساندر نيفسكي «‪ 23‬أبريل ‪ ،1890‬في الصباح الباكر‬

‫ (((‬
‫عزيزتي تونجيوزيز‬

‫هل أمطرت عند عودة إيفان من الدير؟ في ياروسالفا انهمرت أمطار‬


‫غزيرة‪ ،‬لدرجة دفعتني أن ّ‬
‫ألف نفسي بخيتون ((( من الجلد‪ .‬وكان انطباعي‬
‫األول أن نهر الفولجا قد سممته األمطار‪ ،‬وبنوافذ القمرة التي سالت‬
‫ِّ‬
‫المتدفقة من أنف «ج» والذي جاء للقائي‬ ‫عليها الدموع‪ ،‬وباإلفرازات‬
‫ِّ‬
‫وتذكرني‬ ‫عند المحطة‪ .‬تحت األمطار تبدو ياروسالفا مثل زيفينجورود‪،‬‬
‫كنائسها بدير برفينيسكي‪ ،‬فهناك الكثير من اللوحات اإلرشادية لمن‬

‫‪ -1‬تونجيوزيز‪ ،‬في الروسية‪ ،‬خنزير بري‪.‬‬


‫‪ :Chiton -2‬خيتون‪ ،‬ثوب إغريقي للرجال والنساء‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫يجهلون القراء والكتابة‪ ،‬وهو دائم ًا موحل‪ ،‬وهناك غربان كثيرة برؤوس‬
‫كبيرة تتبختر على الرصيف‪.‬‬

‫علي تجاه موهبتي؛ استغرقت في النوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وفي الباخرة‪ ،‬قمت بأوّل واجب‬
‫سيئ ًا ‪ :‬مروج‬
‫وعندما استيقظت تأمّلت الشمس‪ .‬لم يكن نهر الفولجا ّ‬
‫خضراء وسط المياه‪ ،‬واألديرة السابحة في ضوء الشمس‪ ،‬والكنائس‬
‫البيضاء‪ ،‬المدى المترامي ال مثيل له‪ ،‬فأينما ينظر المرء فثمة مكان رائع‬
‫للجلوس وصيد السمك‪ .‬بينما السيدات المرافقات ((( يتج ّولن برشاقة فوق‬
‫العشب األخضر بمحاذاة النهر‪.‬‬

‫ومن حين إلى آخر من الممكن سماع صوت نفير الراعي‪ .‬وتح ِ ّلق‬
‫النوارس فوق المياه مثل دريشكا الصغيرة‪.‬‬
‫أما الباخرة فلم تكن على المستوى المأمول‪...‬‬
‫كونداسوفا معي على الباخرة نفسها‪ .‬وال أعرف وجهتها أو غرضها من‬
‫السفر‪ .‬وعندما سألتها عن ذلك‪ ،‬سارعت بقول أشياء غامضة‪ ،‬تلميحية‪،‬‬
‫أ كثر منها توضيحية‪ ،‬عن شخص ما واعدها على اللقاء في وهد بالقرب‬
‫ّ‬
‫تدق‬ ‫ثم انخرطت في ضحكة مجلجلة هستيرية‪ ،‬وبدأت‬ ‫من كنيشما‪ّ ،‬‬
‫األرض بقدميها‪ ،‬أو تلكز بكوعها دون ترتيب‪ .‬وتجاوزنا كنيشما والوهد‪،‬‬
‫ولم تغادر الباخرة‪ ،‬مما أسعدني كثير ًا‪ .‬وبالمناسبة‪ ،‬أمس رأيتها للمرة‬
‫أقل من اآلخرين‪ ،‬لكنها‬ ‫األولى في حياتي وهي تأ كل‪ .‬لم تكن تأ كل ّ‬
‫كانت تأ كل بطريقة ميكانيكية كما لو كانت تطحن الشوفان‪.‬‬

‫كوستروما مدينة جميلة‪ .‬ورأيت طرح النهر حيث اعتاد أن يعيش ليفيتان‬
‫الكسول‪ .‬وصلت إلى كنيشما‪ ،‬وهناك تج ّولت على الجادة‪ ،‬وتابعت‬

‫‪ :Class Ladies -1‬مرافقات يعملن بالمدارس‪ ،‬ويوكل إليهن الجلوس بالفصول بينما الفتيات‬
‫يتلقين التعليمات من المدرس‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫توجهت إلى الصيدلية لشراء كمية من أمالح‬‫العشاق المحليين‪ .‬عندئذ ّ‬
‫البرثوليت لمداواة لساني‪ ،‬الذي كان جاف ًا مثل الجلد بعد الدواء الذي‬
‫تناولته‪.‬‬

‫وعندما رأى الصيدالني أولجا بتروفنا تنازعه انفعاالن‪ :‬البهجة‪ ،‬والتش ّوش‪،‬‬
‫وخمنت من‬‫ّ‬ ‫فلقد كانت كما هي دون تغيير‪ .‬يعرف أحدهما اآلخر‪،‬‬
‫الحديث الذي دار بينهما أنهما سبق وتج ّوال مع ًا أ كثر من مرة حول الوهاد‬
‫بالقرب من كنيشما‪.‬‬

‫الباخرة باردة ومعتمة نوع ًا ما‪ ،‬لكنها لطيفة إجما ً‬


‫ال‪ .‬وتنطلق صافرتها‬
‫كل دقيقة‪ ،‬صافرة تجمع بين نهيق حمار وقيثارة عوليس ‪ .‬في غضون‬
‫ (((‬

‫خمس أو ست ساعات سنصل إلى نزني‪ .‬الشمس مشرقة‪ .‬الليلة الماضية‬


‫نمت مثل الفنانين‪ .‬نقودي بأمان‪ ،‬ألنني مقتصد في اإلنفاق على الطعام‪.‬‬

‫كم هي جميلة زوارق قطر البواخر‪،‬فكل واحد منها يج ّر خلفه من أربع‬


‫ّ‬
‫مفكر ألمعي شاب يحاول أن يح ِ ّلق بعيد ًا‪،‬‬ ‫إلى خمس بواخر‪ ،‬وتبدو مثل‬
‫وجدتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بينما تتع ّلق‪ ،‬بأطراف معطفه‪ ،‬زوجته ((( وحماته وأخت زوجته‬

‫ملبدة بالغيوم‪ ،‬ونهر الفولجا‬


‫الشمس محتجبة خلف السحب‪ ،‬والسماء َّ‬
‫الواسع يبدو كئيب ًا‪ .‬عرفت اآلن لماذا ال يعيش ليفيتان عند نهر الفولجا‪،‬‬
‫سيئ ًا أن يمتلك المرء‬
‫جمة على الروح‪ ،‬ورغم ذلك فليس ّ‬
‫فهو يلقي بكآبة ّ‬
‫ال على ضفّ تيه‪.‬‬‫منز ً‬

‫‪ :Aeolian harp -1‬قيثارة عوليس‪ ،‬قيثارة الريح‪.‬‬


‫‪ :Plebeian -2‬استخدم هذه الكلمة لوصف الزوجة‪ ،‬ومعناها أحد العامة في روما القديمة‪ ،‬وهي‬
‫محبطة لزوجها الفيلسوف اليوناني العظيم‪.‬‬
‫تحيل إلى زوجة أرسطو المشهورة بأنها كانت ِ‬

‫‪34‬‬
‫إذا كان النادل قادر ًا على السير سأطلب منه بعض القهوة‪ ،‬أما‪ ،‬والحال‬
‫كذلك‪ ،‬فليس أمامي سوى أن أشرب ماء دون أي نكهة‪.‬‬

‫تحياتي لكل من ماريوشكا وأولجا (((‪.‬‬

‫حسن ًا‪ ،‬اعتنيا بنفسيكما‪ .‬سأداوم على الكتابة لكم بانتظام‪.‬‬

‫المسافر الضجر عبر نهر الفولجا‪،‬‬

‫اإلنسان‬

‫تشيخوف‬

‫‪ -1‬خادمتا عائلة تشيخوف‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ماريا بافلوفيتش تشيخوف (‪ :)1957 – 1863‬شقيقة‬
‫تشيخوف‪ .‬مع ِ ّلمة وف ّنانة تشكيلية‪ .‬لها الفضل في جمع‬
‫أعمال تشيخوف بعد وفاته‪ .‬وأشرفت حتى وفاتها على‬
‫متحف تشيخوف بمنزله في يالطا‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫من الباخرة‪ ،‬مساءً ‪ 24 ،‬أبريل ‪1890‬‬

‫عزيزتي تونجيوزيز‬

‫أطفو اآلن فوق مياه نهر كاما‪ ،‬لكنني ال أستطيع تحديد موقعي بدقة‪ ،‬أظن‬
‫أنني بالقرب من تخيستوبول‪ .‬كذلك ال أستطيع أن أمتدح جمال المشهد‪،‬‬
‫ألن الطقس بارد للغاية‪ ،‬ولن تزهر أشجار البتوال‪ ،‬فقط‪ ،‬ما زالت هناك‬
‫وثمة قطع من الثلج تطفو على‬
‫مساحات صغيرة من الثلج هنا وهناك‪ّ ،‬‬
‫سطح الماء من حين آخر‪ ،‬المشهد موحش‪.‬‬

‫أجلس في القمرة حيث يجلس الجميع من كل صنف ولون إلى المائدة‪،‬‬


‫وينصتون إلى النقاش الدائر‪ ،‬متسائلين‪ :‬ألم يحن الوقت لتناول الشاي؟‬
‫ولو كان األمر بيدي فلن أفعل سوى تناول الطعام طوال النهار‪ ،‬وألنني‬
‫ال أملك ما يكفي من مال لتناول الطعام طوال النهار‪ ،‬أمضي الوقت في‬
‫النوم والنوم‪.‬ال أصعد إلى سطح الباخرة‪ ،‬فالجو هناك بارد‪ .‬لي ً‬
‫ال تتساقط‬
‫تهب ريح شديدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األمطار‪ ،‬ونهار ًا‬

‫أوه‪ ،‬الكافيار! ال أتوقَّف عن تناوله‪ ،‬وال أشبع منه‪.‬‬

‫لألسف لم أحضر معي كيس ًا صغير ًا من الشاي وآخر من السكر‪ .‬وأنا اآلن‬
‫مجبر على طلب كوب شاي مرة بعد أخرى‪ ،‬وهذا أمر مضجر ومكلف‪.‬‬
‫اليوم نويت أن أشتري بعض الشاي والسكر من كازان‪ ،‬لكنني غفوت‬
‫رغم ًا عني‪.‬‬

‫ياااه يا أمي! أظننا سنتوقّ ف ألربع وعشرين ساعة في إيكاترينبرج‪ ،‬وسأم ّر‬
‫لرؤية بعض األقارب‪ .‬ربما تلين قلوبهم‪ ،‬ويقرضونني ثالث روبيات‬

‫‪37‬‬
‫وأوقية شاي‪.‬‬

‫ومن المناقشة التي أنصت إليها اآلن‪ّ ِ ،‬‬


‫أخمن أن أعضاء محكمة يسافرون‬
‫معي‪ .‬إنهم ليسوا أشخاص ًا بارعين‪ .‬لكن التجار‪ ،‬الذين يحنثون بوعودهم‬
‫من حين آلخر‪ ،‬يبدون أذكياء‪ .‬بدأت أتع ّرف بفاحشي الثراء‪.‬‬

‫أرخص من الفطر‪ ،‬لكن سرعان ما يزهدهما المرء‪.‬‬ ‫الحفيش‬


‫ ( ((‬
‫سمك ُ‬
‫لدي بعد ألكتب عنه؟ ال شيء‪ ...‬هناك جنرال‪ ،‬نحيل القوام وسيم‬ ‫ّ‬ ‫ماذا‬
‫المالمح‪ .‬وهو دائم االنتقال من القمرة إلى سطح الباخرة‪ ،‬وبالعكس‪،‬‬
‫وهو يرسل صورته الفوتوغرافية إلى مكان ما‪ ،‬ربما إلى نادسون‪ ،‬ويحاول‪،‬‬
‫بهكذا طريقة‪ ،‬أن يُع ِ ّرف اآلخرين أنه كاتب‪ .‬اليوم كان كذبه مفضوح ًا‬
‫وهو يخبر سيدة بأن «سافورين» نشرت له كتاب ًا‪ ،‬وبالطبع أظهرت دهشتي‬
‫وتقديري لذلك‪.‬‬

‫ما زالت نقودي على حالها‪ ،‬باستثناء ما أنفقه على الطعام‪ .‬فاألنذال لن‬
‫مجان ًا‪.‬‬
‫يطعمونني ّ‬

‫لست مبتهج ًا أو ضجر ًا‪ ،‬لكن هناك خدر ًا يسري بروحي‪ .‬أرغب في‬
‫الجلوس دون أن أتح ّرك أو أنطق‪ .‬اليوم‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬لم أنطق‬
‫قس على‬
‫تحدثت إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫سوى خمس كلمات‪ .‬ذلك ليس صحيح ًا‪ ،‬فلقد‬
‫سطح السفينة‪.‬‬

‫اآلن بدأ مرورنا عبر أراضي السكان المح ّليين‪ ،‬فهناك كثير من التتار‪ :‬إنهم‬
‫أشخاص محترمون‪ ،‬وسلوكهم ٍ‬
‫راق‪.‬‬

‫الحفيش‪ ،‬نوع صغير من سمك الحفش يكثر في بحر قزوين وأنهاره‪ ،‬ويُصنع‬
‫‪ُ :Starlet -1‬‬
‫الكافيار من بطارخه‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫تتخيال أخطار ًا ال وجود لها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أتوسل إليكما‪ ،‬أمي وأبي‪ ،‬أ ّلا تقلقا وأ ّلا‬
‫َّ‬

‫اعذروني ألنني ذكرت الطعام كثير ًا في رسالتي‪ .‬فإذا لم أ كتب عن‬


‫لدي موضوعات أخرى‪.‬‬‫الطعام‪ ،‬كنت سأ كتب عن برودة الطقس‪ ،‬فليس ّ‬

‫‪39‬‬
‫‪ 29‬أبريل‪1890 ،‬‬

‫عزيزتي تونجيوزيز‬

‫ّ‬
‫السكان‬ ‫نهر كاما باهت للغاية‪ .‬وإلدراك جماله‪ ،‬يجب أن يكون المرء من‬
‫المح ّليين‪ ،‬ويجلس ساكن ًا على سطح مركب لنقل البضائع إلى جوار برميل‬
‫مليء بالبترول‪ ،‬أو كيس مليء بالسمك المجفّ ف‪ ،‬وال يتوقّ ف عن ّ‬
‫عب‬
‫الشراب من الزجاجة‪ .‬ضفّ تا النهر جرداوان‪ ،‬واألشجار عارية‪ ،‬واألرض‬
‫لونها بني كالح‪ ،‬وهناك مساحات متناثرة مغطّ اة بالثلج‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫يتسبب في هبوبها بمثل‬
‫َّ‬ ‫تلك الريح التي ال يستطيع حتى الشيطان ذاته أن‬
‫هذه الشدة والبرودة‪.‬‬

‫تهب الرياح الباردة‪ ،‬وتح ِ ّرك المياه‪ ،‬تلك المياه التي أصبحت‬
‫ّ‬ ‫وعندما‬
‫بعد الفيضان ب ّن ّية بلون الطمي‪ ،‬يشعر المرء بالبرودة والضجر والبؤس‪،‬‬
‫وألحان الكونسرتينا ((( تبدو حزينة‪ ،‬وهناك أشخاص يقفون متص ّلبين على‬
‫سطوح سفن نقل البضائع ويرتدون معاطف من جلود الماعز كأنهم في‬
‫طقس جنائزي ال ينتهي‪ .‬رمادية هي القرى على جانبي نهر كاما‪ ،‬وسيظن‬
‫السحب‪ ،‬الضجر‪،‬‬‫البد أنهم يعملون في تصنيع ُّ‬
‫سكان هذه القرى ّ‬‫المرء أن ّ‬
‫وتنظيف األسوار‪ ،‬وإزالة الوحل من الطرقات‪ ،‬وال شيء سواها‪ .‬وتزدحم‬
‫محطّ ات التوقُّ ف بالسكان المتع ِ ّلمين الذين يم ِ ّثل لهم توقُّ ف باخرة حدث ًا‬
‫يقدر أن دخلهم ال‬ ‫جدير ًا باالهتمام‪ ..‬ومن مظهرهم يستطيع المرء أن ِ ّ‬
‫يتجاوز ‪ 35‬روبي ً‬
‫ال‪ ،‬وأن الجميع لديهم مرض ما‪.‬‬

‫سبق أن ذكرت لك أن هناك رجال قانون على متن الباخرة‪ :‬رئيس محكمة‪،‬‬

‫‪ :Concertina -1‬كونسرتينا‪ ،‬نوع من آالت األكورديون‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫والمدعي العام‪ .‬رئيس المحكمة عجوز ألماني موفور الصحة‬ ‫ِّ‬ ‫قاض‪،‬‬
‫وودود‪ ،‬مسيحي أرثوذوكسي‪ ،‬ورع‪ ،‬ومن الجلي أنه نذر نفسه للجنس‪.‬‬
‫أما القاضي‪ ،‬فهو رجل عجوز يشبه العزيز نيكوالي‪ ،‬يهوى الرسم‪ ،‬يسير‬
‫منحني ًا‪ ،‬يسعل‪ ،‬ومغرم بالموضوعات ذات الطابع الفكاهي المرح‪ .‬أما‬
‫المدعي العام فهو رجل في الثالثة واألربعين‪ ،‬ناقم على الحياة‪ ،‬ليبرالي‪،‬‬
‫ّ‬
‫شكوكي‪ ،‬ورفيق جيد للغاية‪ .‬وطوال الرحلة انشغل ثالثتهم بتناول الطعام‪،‬‬
‫مهمة للغاية ويأ كلون‪ ،‬يقرأون ويأ كلون‪ .‬وهناك‬ ‫ّ‬ ‫يناقشون موضوعات‬
‫المدعي العام وهو يقرأ كتابي «‪In‬‬ ‫ّ‬ ‫مكتبة على متن الباخرة‪ ،‬ورأيت‬
‫‪ ..»the Twilight‬وبدأوا الكالم عني‪ .‬لكن مامين سيبيرياك‪ ،‬مؤ ِ ّلف‬
‫«جبال األورال ‪ ،»Urals -‬هو المؤ ِ ّلف األكثر شهرة في هذه المناطق‪.‬‬
‫إنه يحظى باهتمام يفوق تولستوي‪.‬‬

‫مضى عامان ونصف العام وأنا مبحر باتجاه بيرم‪ ،‬أو هكذا يبدو األمر لي‪.‬‬
‫وصلنا هناك حوالي الساعة الثانية لي ً‬
‫ال‪ .‬والقطار يغادر في السادسة مساءً‪.‬‬
‫لم يكن أمامي سوى االنتظار‪ .‬أمطرت‪ .‬المطر‪ ،‬البرد‪ ،‬الوحل‪ ...‬برررر!‪.‬‬
‫ِّ‬
‫متميز‪ ،‬ويرجع ذلك إلى وفرة أشباه‬ ‫خط سكك حديد أورالسكاي ّ‬
‫خط‬ ‫إن ّ‬
‫رجال األعمال هنا‪ ،‬والمصانع‪ ،‬والمناجم‪ ،‬وغيرها من األشياء المشابهة‪،‬‬
‫التي تعطي قيمة للوقت‪.‬‬

‫صباح أمس استيقظت وتطلعت من نافذة عربة القطار‪ ،‬شعرت بكراهية‬


‫شديدة للطبيعة‪ :‬كانت األرض بيضاء اللون‪ ،‬واألشجار مغطّ اة بالصقيع‪،‬‬
‫تهب على القطار بانتظام‪ .‬أليس ذلك مق ِ ّزز ًا؟ أليس‬
‫ّ‬ ‫وريح شديدة البرودة‬
‫الك ُلوش ‪ ،‬فارتديت حذائي‪ ،‬البوت الضخم‪،‬‬ ‫ ( ((‬ ‫كريه ًا؟ لم أحضر معي َ‬
‫خالل المسافة إلى حجرة الطعام ألتناول القهوة‪ ،‬وبدا األمر وكأن منطقة‬
‫األورال بكاملها تفوح منها رائحة القطران‪ .‬وعندما وصلنا إلى إيكاترينبرج‬

‫‪ :Galosh -1‬ال َكلُوش‪ ،‬حذاء فوقي مطاطي يُلبس فوق الحذاء العادي‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫والب َرد‪ .‬ارتديت معطفي الجلدي‪ .‬كانت‬‫َ‬ ‫بدأ هطول األمطار‪ ،‬والثلج‪،‬‬
‫عربات الكاب ((( شيء ال يُحتمل؛ فهي حقيرة ومُ َّتسخة وغير مُ َ‬
‫حكمة؛‬
‫مما يسمح بتس ُّرب مياه األمطار إلى داخلها‪ ،‬وال توجد بها وسائد زنبركية‬
‫تمتص الصدمات‪ ،‬وللحصان الذي يج ّرها أربعة سيقان مُ تباعد أحدها عن‬‫ّ‬
‫كية‪ ،‬هنا‪ ،‬ليست‬
‫رش ّ‬‫الد ِ‬
‫اآلخر‪ ،‬وحوافر ضخمة‪ ،‬وظهر نحيل‪ ...‬وعربات ّ‬
‫سوى محاكاة ساخرة لعربات البريتشكا التي لدينا‪ ،‬تشبهها باإلضافة إلى‬
‫رث ومته ّرئ‪ ،‬وال شيء أ كثر‪ .‬وكلما حاولت‬ ‫وجود سقف لها من قماش ّ‬
‫تح ّري الدقة في وصف سائق عربة الكاب وعربته‪ ،‬هنا‪ ،‬ستكون الصورة‬
‫أ كثر كاريكاتيرية‪ .‬إنهم ال يقودون العربات في منتصف الطريق‪ ،‬حيث‬
‫ممهدة نوع ًا ما‪ ،‬بل بالقرب من قنوات التصريف على جانبي‬‫األرض غير ّ‬
‫وممهدة‪ .‬جميع سائقي عربات الكاب‬ ‫َّ‬ ‫الطريق حيث تكون األرض موحلة‬
‫يشبهون دوبروليبوف‪.‬‬

‫في روسيا جميع المدن متشابهة‪ .‬إيكاترينبرج مشابهة تمام ًا لبيرم وطوال‪.‬‬
‫إن صوت النواقيس مهيب وناعم‪ .‬توقّ فت عند الفندق األميركي (ليست‬
‫جميعها سيئة)‪ ،‬وبمج ّرد وصولي أرسلت برقية إلى (أ‪.‬م‪.‬س ‪)A. M. S‬‬
‫أخبره أنني ق ّررت البقاء في حجرتي بالفندق مدة يومين‪.‬‬

‫المقيمين في هذا الفندق ينقلون للقادم الجديد شعور ًا أقرب ما يكون‬


‫إن ُ‬
‫إلى الرعب‪ .‬فجميعهم بحواجب سميكة‪ ،‬فكوك ضخمة‪ ،‬وأكتاف عريضة‪،‬‬
‫وقبضات ضخمة وعيون صغيرة للغاية‪ .‬إنهم مولودون في مصانع الصلب‬
‫ال من طبيب‬ ‫المح ّل ّية‪ ،‬حيث استقبلهم‪ ،‬عند مولدهم‪ ،‬الميكانيكيون بد ً‬
‫بالسماوَر ((( أو بزجاجة مياه‪ ،‬بينما‬
‫التوليد‪ .‬ويأتي إلى حجرتك شخص ما ّ‬
‫أتنحى جانب ًا‪ .‬وهذا الصباح أتى شخص‬ ‫ّ‬ ‫تتوقّ ع أنه سيقتلك في أية لحظة‪.‬‬

‫‪ :Cab -1‬عربة أجرة يجرها حصان واحد‪.‬‬


‫السما َور‪ ،‬إناء إلعداد الشاي‪.‬‬
‫‪ّ :Samovar -2‬‬

‫‪42‬‬
‫من هؤالء‪ ،‬كثيف الحاجبين‪ ،‬ضخم الفكين‪ ،‬هائل الجسد يكاد يالمس‬
‫السقف‪ ،‬ويبلغ عرض كتفيه سبعة أقدام‪ ،‬ويرتدي معطف ًا من الفرو كذلك‪.‬‬

‫حسن ًا‪ ،‬أظن أن هذا الشخص سيقتلني‪ .‬بدا كما لو كان قريبنا «‪A. M.‬‬
‫‪ ،»S‬وبدأنا الحديث‪ .‬إنه عضو في المجلس المح ّلي ‪ ،Zemstvo‬ويدير‬
‫تتم إنارتها بالكهرباء‪ ،‬وهو رئيس تحرير صحيفة‬
‫طاحونة ابن عمه‪ ،‬التي ّ‬
‫«إيكاترينبيرج» األسبوعية الخاضعة لرقابة رئيس البوليس «بارون تايوب»‪،‬‬
‫وتقدم ًا في العمر‪ ،‬ويعيش‬
‫ُّ‬ ‫وهو متز ِ ّوج ولديه طفالن‪ ،‬ويزداد ثراء وسمنة‬
‫عيشة رغدة‪ .‬وقال إنه ال وقت لديه ليشعر بالضجر‪ .‬نصحني بزيارة‬
‫المتحف والمصانع والمناجم‪ .‬وشكرت له نصيحته‪ .‬ودعاني لشرب‬
‫الشاي غد ًا مسا ّء‪ ،‬ودعوته ليتناول معي طعام الغداء أو العشاء‪ ،‬لكنه لم‬
‫يلح في دعوتي لزيارته في بيته‪ .‬ومن كل ما سبق‪،‬‬
‫يدعني للعشاء‪ ،‬ولم ّ‬
‫ُ‬
‫ربما تستنتجين ‪-‬يا أمي‪ -‬أن األقارب لم يرقّ وا لحالي؛ فاألقارب صنف‬
‫ال أع ِ ّول عليه كثير ًا‪.‬‬

‫هناك ثلج بالشارع‪ ،‬وكنت قد أنزلت الستائر عن عمد حتى أتج َّنب رؤية‬
‫المعالم األسيوية‪ .‬وأجلس في انتظار ر َّد من تايومين على برقيتي‪ .‬كنت‬
‫رد‬
‫خط باخرة كورباتوف‪ّ .‬‬‫ّ‬ ‫قد أرسلت لهم البرقية التالية‪« :‬تايومين‪.‬‬
‫مدفوع‪ .‬أرجو إعالمي بموعد إبحار باخرة الركاب من تومسك»‪ .‬وبنا ًء‬
‫سيتحدد ما إذا كنت سأسافر بالباخرة أم بالعربات التي تج ّرها‬
‫َّ‬ ‫على ِ ّ‬
‫ردهم‬
‫َرست‪ ،‬من الثلوج الذائبة واألوحال‪.‬‬
‫الخيول لمسافة ‪ 1500‬ف َ‬

‫طوال الليل هناك طرق دائم على ألواح الصلب في كل مكان هنا‪ .‬ويحتاج‬
‫ّ‬
‫الدوي المتواصل‪.‬‬ ‫المرء رأس ًا من الصلب حتى ال يُصاب بالجنون من‬
‫أعد لنفسي قهوة‪ .‬وجاءت النتيجة بشعة للغاية‪ .‬لكنني‬
‫اليوم‪ ،‬حاولت أن ّ‬
‫شربتها رغم ذلك‪ .‬فحصت خمس مالءات‪ ،‬خاصة ملمس نسيجها‪ ،‬لكنني‬

‫‪43‬‬
‫لم أشترِ أي ًا منها‪ .‬وسأذهب اليوم لشراء َك ُلوش‪.‬‬

‫هل أنتظر رسالة منكم عند وصولي إلى إركوتسك؟‬

‫اطلبوا من ليكا أ ّلا تترك تلك الهوامش الكبيرة في رسائلها‪.‬‬

‫تشيخوف‬

‫‪44‬‬
‫قرية يار‪ 45 ،‬فرست ًا من تومسك‪ 14 ،‬مايو ‪1890‬‬

‫أمّي العظيمة‪ ،‬ماشا الرائعة‪ ،‬حلوتي ميشا‪ ،‬وكل سكان بيتنا‪ ،‬عند وصولي‬
‫إلى إيكاترينبرج‪ ،‬تسلمت رد ًا على برقيتي التي سبق وأرسلتها إلى‬
‫تايومين‪« .‬أول باخرة إلى توسمك ستتح ّرك في الثامن عشر من شهر‬
‫مايو»‪ .‬ومعنى هذا أنه‪ ،‬سواء أرضيت أم َأب َْيت‪ ،‬سأضط ّر إلى استخدام‬
‫الخيول في رحلتي‪ .‬وهذا ما فعلته‪ .‬غادرت تيامون في الثالث من مايو‬
‫خصصتها للعالج من‬
‫ّ‬ ‫بعد قضاء يومين أو ثالثة أيام في إيكاترينبرج؛‬
‫الكحة والبواسير‪ .‬وباإلضافة إلى خدمة النقل العام‪ ،‬بوسع المرء أن‬
‫ّ‬
‫يستأجر سائقين خصوصيين لنقله إلى سيبريا‪ ،‬وكان هذا اختياري رغم‬
‫أنه ال فارق بين االثنين‪ .‬فلقد وضعاني‪ ،‬أنا خادم الرب‪ ،‬في عربة شيز‬
‫تشبه الس ّلة‪ ،‬وقادا الحصانين اللذين كانا يج ّران العربة‪ ،‬بينما أنا جالس‬
‫الرب‪ ،‬ال ّ‬
‫أفكر في شيء‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫في الس ّلة مثل سمكة ذهبية‪ ،‬ناظر ًا إلى عالم‬

‫والرب وحده يعلم‬


‫ّ‬ ‫تلوح سهول سيبريا‪ ،‬كما أظن‪ ،‬عند نهاية إيكاترينبرج‪،‬‬
‫أين تنتهي‪ ،‬إنها تشبه سهوب ((( جنوب روسيا‪ ،‬باستثناء القليل من أجمات‬
‫أشجار البتوال متناثرة هنا وهناك‪ ،‬وتلك الريح شديدة البرودة التي تلسع‬
‫ثمة خضرة على اإلطالق‪،‬‬
‫الوجنات‪ .‬لم يكن الربيع قد بدأ بعد‪ .‬ليس ّ‬
‫كانت األشجار عارية‪ ،‬والجليد لم يكن قد تالشى من كل األماكن‪.‬‬
‫فهناك طبقة جليدية معتمة فوق سطوح البحيرات‪ .‬في التاسع من مايو‬
‫كان هناك ثلج صلب‪ ،‬واليوم‪ ،‬الرابع عشر‪ ،‬تساقط الثلج صانع ًا طبقة‬
‫الب ّط‪ .‬يااه‪،‬‬
‫بسمك ثالث أو أربع بوصات‪ .‬ال أحد يذكر الربيع باستثناء َ‬
‫البط! لم أشهد في حياتي مثل هذه األعداد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يالهذه المجموعات من‬

‫‪ :Steppe -1‬سهب‪ ،‬سهل واسع خال من الشجر‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫إنها تطير فوق الرؤوس‪ ،‬إنها تطير بالقرب من عربة الشيز‪ ،‬وتسبح في‬
‫البحيرات والبرك‪ .‬اختصار ًا‪ ،‬لو معي بندقية من أردأ األنواع‪ ،‬الصطدت‬
‫اآلالف منها في يوم واحد‪.‬‬

‫وبوسع المرء أن يسمع صيحات اإلوز البري‪ ،‬فهناك أعداد كبيرة منه‬
‫أيض ًا‪ .‬وكثير ًا ما يصادف المرء سرب ًا من الكركي أو البجع‪ ،‬وكذلك طيور‬
‫الشنقب ( (( ودجاج األرض‪ ،‬وهو يرفرف بأجنحته بين أجمات أشجار‬
‫يتم اصطياد أو أ كل األرانب البرية التي تقف منتصبة على‬ ‫البتوال‪ .‬وهنا ال ّ‬
‫أرجلها الخلفية مشرعة آذانها‪ ،‬وهي تراقب العابرين بنظرات فضولية دون‬
‫توجس‪ .‬كثير ًا ما تشاهدها وهي تجري عبر الطريق‪ ،‬وال ي َُع ّد ذلك‪،‬‬
‫أدنى ُّ‬
‫هنا‪ ،‬بمثابة نذير شؤم‪.‬‬

‫ِّ‬
‫متجمدتان‪.‬‬ ‫قدمي‬
‫ّ‬ ‫الجو بارد‪ ...‬ارتديت معطفي الفرو‪ .‬جسدي بخير‪ ،‬لكن‬
‫لففتهما بالمعطف الجلدي‪ ،‬لكن دون فائدة‪ ...‬ارتديت بنطالين أحدهما‬
‫تقدمنا في الطريق‪ ،‬تتراءى لنا سريع ًا أعمدة‬ ‫ُّ‬ ‫فوق اآلخر‪ .‬وفي أثناء‬
‫التلغراف وبرك المياه وأجمات أشجار البتوال‪ .‬مررنا ببعض المهاجرين‪،‬‬
‫ثم بسجن للترحيل‪ ...‬قابلنا مسافرين سير ًا على األقدام يحملون القدور‬
‫على ظهورهم‪ ،‬هؤالء الذين يجوبون سهول سيبريا من أقصاها إلى أقصاها‬
‫دون مانع أو رادع‪ .‬ذات مرة قتلوا امرأة عجوز ًا ليسرقوا ت ّنورتها التحتانية‬
‫ِّ‬
‫تحدد‬ ‫ليلفّ وا بها أرجلهم‪ ،‬ومرة أخرى سرقوا الصفيحة المعدنية التي‬
‫ِّ‬
‫سيحطمون‬ ‫المتبقية‪ ،‬وربّما في هذا فائدة ما‪ ،‬وفي مرة أخرى‬‫ِّ‬ ‫المسافة‬
‫رأس أحد المتس ِ ّولين‪ ،‬أو يفقأون عيني أحد اإلخوة المنفيين‪ ،‬لكنهم‬
‫‪-‬أبد ًا‪ -‬ال يتع َّرضون للمسافرين‪.‬‬

‫ّ‬
‫يتذكر‬ ‫وإجما ً‬
‫ال‪ ،‬السفر هنا آمن للغاية طالما األمر يتع ّلق باللصوص‪ .‬وال‬

‫الجهلول‪ ،‬الشكب‪ ،‬الباسكين‪ ،‬طائر طويل المنقار‪.‬‬


‫‪ :Snipe -1‬الشنقب‪ُ ،‬‬

‫‪46‬‬
‫سائقو الحافالت العامّة أو السائقون الخصوصيون تع ُّرض أي مسافر‬
‫للسرقة‪ .‬وعند الوصول إلى محطّ ة ما‪ ،‬تترك حاجياتك خارجها‪ ،‬وإذا‬
‫استفسرت عن إمكانية تع ّرضها للسرقة‪ ،‬يجيبونك بابتسامة أنه ال وجود‬
‫للسرقة أو القتل على الطريق‪ .‬وأعتقد أنني لو فقدت نقودي في المحطة‬
‫إلي السائق إذا وجدها‪ ،‬ولن يتفاخر لقيامه‬
‫سيردها ّ‬
‫ّ‬ ‫أو في عربة الشيز‪،‬‬
‫بهذا‪.‬‬

‫طيبون وعطوفون‪ ،‬ولديهم تقاليد رائعة‪ .‬ت ّتسم‬ ‫ال‪ ،‬الناس هنا ّ‬ ‫إجما ً‬
‫حجراتهم ببساطة التأثيث وبالنظافة‪ ،‬مع مظاهر للرفاهية‪ ،‬األس ّرة ناعمة‬
‫ولينة‪ ،‬فالمراتب والوسائد الكبيرة محش ّوة بالريش‪ .‬واألرضيات إما مطلية‬ ‫ّ‬
‫ببسط من الك ّتان منزلية الصنع‪ .‬وتفسير ذلك‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أنهم‬ ‫ُ‬ ‫اة‬ ‫مغطّ‬ ‫أو‬
‫يعيشون عيشة رغيدة‪ ،‬فكل عائلة تمتلك ستة عشر دسياتين (حوالي ‪48‬‬
‫ (((‬
‫أ كر ًا ((() من األراضي الخصبة‪ ،‬وما تنتجه من قمح رائع‪( .‬ويكلف بود‬
‫دقيق القمح ‪ 30‬كوبك ًا ((()‪ ،‬لكن‪ ،‬ال يعيش جميعهم في رغد وبحبحوة‪.‬‬
‫والبد أن يفخر المرء بطريقتهم في الحياة‪.‬‬

‫وعند الدخول‪ ،‬لي ً‬


‫ال‪ ،‬حجرة نوم لهؤالء الناس‪ ،‬لن تلتقط األنف أية رائحة‬
‫حدث أن قامت امرأة عجوز بمسح ملعقة‬ ‫َ‬ ‫كريهة أو «رائحة روسية»‪.‬‬
‫الشاي بتنورتها‪ ،‬لكنهم ال يدعونك لشرب الشاي دون أن يكون هناك‬
‫مفرش على المائدة‪ ،‬وال يقوم بعضهم بتنظيف رؤوس بعضهم اآلخر في‬
‫وجودك‪ ،‬وال يضعون أصابعهم في كوب اللبن أو الماء في أثناء تقديمه‬
‫لك‪ ،‬واآلنية الفخارية نظيفة‪ ،‬والكفاس ( (( رائق مثل البيرة‪ ،‬وحقيقة‪،‬‬

‫‪ :Acre‬األكر‪ ،‬مقياس للمساحة يساوي ‪ 480‬ياردة مربعة‪ ،‬أو نحو ‪ 4000‬متر مربع‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ :Pood‬بُود‪ ،‬وحدة وزن روسية‪ ،‬تساوي ‪ 36‬باوند‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪ :Kopeck‬وحدة نقد روسية‪ ،‬تساوي ‪ 100 /1‬من الروبل‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪ :Kvass‬نوع من الجعة يُصنع في أوروبا الشرقية‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪47‬‬
‫هناك نظافة ليس بوسع صغار القوم الروس سوى أن يحلموا بها‪ ،‬رغم‬
‫أنهم أنظف بكثير من كبار القوم!‪.‬‬

‫هنا يصنعون أشهى خبز‪ ،‬ولقد أكلت منه بنهم شديد في أول وجبة لي‪.‬‬
‫كذلك فإن فطائر الفاكهة والفطائر المحلّاة والفطائر المقلية والملفوف‬
‫بح َلق الملفوف الروسي صغير الحجم إسفنجي‬ ‫الرائع‪ ،‬الذي يذكرني َ‬
‫جيدة للغاية هنا‪ .‬أما ما دون ذلك فال يتناسب مع المعدة‬
‫القوام‪ ،‬جميعها ّ‬
‫تمت دعوتي لتناول «مرق‬ ‫األوروبية‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬في كل مكان َّ‬
‫ّ‬
‫البط»‪ ،‬وهو مُ ق ِ ّزز للغاية‪،‬فهو سائل يبدو مثل الوحل السائل ببعض أجزاء‬
‫من البط البري والبصل غير المطهي‪ ،‬تطفو على سطح المرق‪ .‬وذات‬
‫ُعدوا لي بعض المرق على اللحم‪ ،‬ويقلوا لي بعض ًا‬ ‫م ّرة طلبت منهم أن ي ّ‬
‫قدموا لي مرق ًا مالح ًا للغاية‪ ،‬قذر ًا وبه قطع صلبة‬
‫من سمك الفرخ ( ((‪ّ .‬‬
‫ال من اللحم‪ ،‬أما سمك الفرخ فقد َت ّم قليه دون تنظيفه من‬ ‫من الجلد بد ً‬
‫المم َّلح‪ ،‬ويشوونه كذلك‪.‬‬
‫ويعدون مرق الكرنب على اللحم ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحراشف‪.‬‬
‫وقدموا لي بعض ًا من هذا السمك المم ّلح مشو ّي ًا؛ وكان من أ كثر األشياء‬
‫المق ِ ّززة التي تناولتها على اإلطالق‪ ،‬فبمج َّرد أن مضغته قمت ببصقه على‬
‫الفور‪ .‬أما الشاي الذي يشربونه فمذاقه ومظهره أقرب لخليط من أوراق‬
‫المريمية والخنافس‪.‬‬

‫وبالمناسبة‪ ،‬اشتريت من إيكاتنبيرج ربع رطل من الشاي‪ ،‬وخمسة أرطال‬


‫من السكر‪ ،‬وثالث ليمونات‪ .‬ولم يكن هذا الشاي كافي ًا‪ ،‬لكن ما من‬
‫مكان آخر أشتري منه شاي ًا‪ .‬ففي جميع هذه المدن المتواضعة‪ ،‬وحتى‬
‫في األماكن الحكومية‪ ،‬يشرب الجميع شاي البريك ( ((‪ ،‬وحتى أفضل‬

‫‪ :Perch -1‬ال َفرخ‪ ،‬نوع من السمك النهري‪.‬‬


‫‪ :Tea brick -2‬شاي صيني المنشأ‪ ،‬وهو عبارة عن قوالب من أوراق الشاي المفرومة بعد‬
‫ضغطها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫محلّات البقالة هنا ال تبيع شاي ًا يزيد سعره على روبيل وخمسين كوبيك ًا‬
‫خمر‪.‬‬
‫الم َّ‬
‫للرطل‪ .‬ولم أجد أمامي سوى شراب المريمية ُ‬

‫والمسافة التي تفصل بين محطة وأخرى تعتمد على المسافة بين أقرب‬
‫قريتين‪ ،‬والتي تتراوح بين ‪ 20‬و‪ 40‬فرست ًا‪ .‬والقرى هنا كبيرة‪ ،‬وال وجود‬
‫للقرى الصغيرة‪ .‬وهناك كنائس ومدارس في كل مكان‪ ،‬واأل كواخ‬
‫مصنوعة من الخشب‪ ،‬وبعضها من طابقين‪.‬‬

‫بالتجمد‪ ،‬ولي ً‬
‫ال يتساقط الثلج‬ ‫ّ‬
‫ ( ((‬
‫والب َريكات‬
‫ُ‬ ‫ومع المغيب‪ ،‬يبدأ الطريق‬
‫بانتظام‪ ،‬مما يجعل المرء يحتاج معطف فرو إضافي ًا‪ ....‬ياله من طقس‬
‫يتجمد في كتل‪ .‬وترتجف الروح‬ ‫َّ‬ ‫بارد! إنه أمر رهيب‪ ،‬حتى الوحل‬
‫داخل المرء‪ ،‬لدرجة يشعر معها أنها على وشك مفارقة جسده‪ ...‬ومع‬
‫اقتراب نهاية اليوم‪ ،‬يُستنفد المرء من شدة البرد‪ ،‬ومع اهتزاز النواقيس‬
‫وتعالي أصواتها‪ ،‬يتوق المرء إلى الدفء والفراش‪ .‬وخالل قيامهم بتبديل‬
‫وأتنحى جانب ًا وأغفو في الحال‪ ،‬وبعد دقيقة‪ ،‬يأتي‬ ‫ّ‬ ‫الخيول‪ ،‬أنتهز الفرصة‬
‫السائق ليجذبني من ُك ّم ردائي وهو يقول‪« :‬انهض‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬حان‬
‫كعبي‪ .‬كان‬
‫َّ‬ ‫موعد االنطالق»‪ .‬وفي المساء التالي‪ُ ،‬أصبت بألم شديد في‬
‫ألم ًا ال يُطاق‪ .‬يبدو أنهما أصيبا بلسعة الثلج‪.‬‬

‫ال أستطيع أن أ كتب المزيد‪ .‬لقد وصل «الرئيس»‪ ،‬رئيس بوليس‬


‫المقاطعة‪ .‬وتعارفنا‪ ،‬وبدأنا تبادل الحديث‪ .‬وداع ًا إلى الغد‪.‬‬

‫‪ :Puddle -1‬بريكة‪ ،‬بركة صغيرة بها ماء قذر ووحل‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫تومسك‪ 16 ،‬مايو‬

‫ضيق للغاية من الخلف‪ .‬عزيزتي‬


‫يبدو أن حذائي (البوت) هو السبب‪ ،‬فهو ّ‬
‫ميشا‪ ،‬متى يصبح عندك أطفال؟ وال شك عندي في ذلك‪ ،‬أنصحك‬
‫وأنصحهم بعدم شراء بضائع رخيصة الثمن‪ .‬فالثمن المنخفض للبضائع‬
‫الروسية عالمة على رداءتها‪ .‬وفي وضعي هذا‪ ،‬أؤكد لك أن السير بدون‬
‫حذاء أفضل من ارتداء حذاء رخيص الثمن‪ .‬تص َّوري ألمي المب ِ ّرح! فأنا‬
‫دائم الخروج من عربة الشيز‪ ،‬للجلوس على األرض الرطبة وخلع حذائي‬
‫كعبي‪ .‬وكم أشعر براحة بالغة عندما أضعهما في الثلج! ولم يكن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ألريح‬
‫أمامي سوى أن أشتري حذاء بوت من اللباد من «إيشيم»‪ ...‬وهكذا كنت‬
‫أسير مرتدي ًا هذا الحذاء حتى بل َِي من الوحل والرطوبة‪.‬‬

‫في الصباح‪ ،‬بين الخامسة والسادسة‪ ،‬نشرب الشاي في أحد األ كواخ‪.‬‬
‫كم يصبح الشاي‪ ،‬خالل الرحلة‪ ،‬نعمة عظيمة! اآلن‪ ،‬أدركت قيمته‪،‬‬
‫وبدأت أشربه بضراوة يانوف نفسها‪ .‬إنه يجعل الدفء يسري في البدن‪،‬‬
‫ويذهب بالوسن‪ ،‬ومعه أتناول الكثير من الخبز‪ ،‬ففي غياب أنواع الطعام‬
‫األخرى‪ ،‬يتم تناول الخبز بكميات كبيرة للغاية‪ ،‬ولهذا السبب يتناول‬
‫الفالحون الكثير من الخبز والنشويات‪ .‬نشرب الشاي‪ ،‬ونتبادل الحديث‬
‫مع الفالحات الالئي يتم َّتعن بالرقة ورهافة المشاعر والكدح‪ ،‬باإلضافة‬
‫لكونهن أمّهات مخلصات وأكثر تح ُّرر ًا من نظرائهن في روسيا األوروبية‪،‬‬
‫يوجهن اإلهانات لهن‪ ،‬ألنهن في مثل طول‬‫فأزواجهن ال يضربنهن‪ ،‬أو ِ ّ‬
‫وقوة ومهارة سادتهن وأزواجهن‪ .‬إنهن يعملن في قيادة العربات عندما‬
‫يكون أزواجهن غير موجودين‪ ،‬وكذلك هن ي َْهوين المزاح‪.‬‬

‫لسن قاسيات مع أطفالهن‪ ،‬بل يد ِ ّللنهم بإفراط‪ .‬فاألطفال ينامون في َأ ِس ّرة‬

‫‪50‬‬
‫وثيرة كما يشاؤون‪ ،‬ويتناولون الطعام‪ ،‬ويشربون الشاي برفقة الرجال‪.‬‬
‫ويع ِ ّنفن الرجال عندما يسخرون من حنانهن‪ .‬ال وجود للديفتريا «داء‬
‫الخناق»‪ ،‬أو الجدري القاتل هنا‪ ،‬والغريب أن تلك األمراض ّ‬
‫أقل وبائية‬
‫هنا من أي مكان في العالم‪ ،‬فقط يتوفّ ى اثنان أو ثالثة من جراء اإلصابة‬
‫أطباء أو مستشفيات‪ .‬والتطبيب هنا يقوم به‬ ‫بها‪ ،‬وينتهي الوباء‪ .‬ال يوجد ّ‬
‫يتم اللجوء إلى التشريط وكؤوس الهواء بإفراط‬ ‫معالجون قرويون‪ .‬وهنا ّ‬
‫مُ ض ّر‪ .‬فحصت حالة مريض يهودي مصاب بسرطان الكبد‪ ،‬وكانت حالة‬
‫هذا اليهودي سيئة‪ ،‬يتنفّ س بصعوبة بالغة‪ ،‬لكن ذلك لم يمنع المعالج‬
‫القروي من إخضاعه لجلسات كؤوس الهواء اثنتي عشرة مرة‪.‬‬

‫وهذا مناسب لليهود‪ ،‬فهنا يفلحون األرض‪ ،‬ويعملون كسائقين للمركبات‬


‫ويدعون بالـ«الكريستياني»‪ .‬ألنهم شرعي ًا‬
‫َ‬ ‫البرية والبحرية‪ ،‬وبالتجارة‪،‬‬
‫وفعلي ًا «كريستياني» ( ((‪ .‬ويحظون باحترام عالمي‪ ،‬وحسب «الرئيس»‬
‫ال يتم استبعادهم عند اختيار شيخ القرية‪ .‬ورأيت يهودي ًا نحيف ًا يعبس‬
‫مشمئ ّز ًا‪ ،‬ويبصق عندما يحكي الرئيس قصص ًا بذيئة‪ :‬ألنها تؤذي روحه‬
‫الطاهرة‪ ،‬وتقوم زوجته بإعداد مرق سمك رائع‪ .‬وجاملتني زوجة اليهودي‬
‫قدمت لي الكافيار مع أشهى خبز أبيض‪.‬‬
‫المصاب بالسرطان بأن َّ‬

‫وال يُسمع هنا شيء عن االستغالل من اليهود‪ .‬وكذلك الحال بالنسبة‬


‫بعدين هنا‪ ،‬تع َّرضوا لإلقصاء من‬ ‫الم َ‬
‫للبولنديين‪ .‬يوجد عدد محدود من ُ‬
‫ومهذبون‪ .‬ويعيش بعضهم‬ ‫ّ‬ ‫بولندا في عام ‪ .1864‬إنهم طيبون‪ ،‬مضيافون‪،‬‬
‫في بذخ واضح‪ ،‬بنما يعاني آخرون من الفقر المدقع‪ ،‬ويعملون َك َتب ًة في‬
‫المحطّ ات‪ .‬وعند صدور العفو العام من الحكومة البولندية‪ ،‬عاد األثرياء‬
‫مجدد ًا؛ حيث كانت‬
‫َّ‬ ‫منهم إلى بولندا‪ ،‬لكنهم سرعان ما عادوا إلى سيبريا‬
‫حياتهم أفضل‪ .‬أما الفقراء فلقد حلموا بالعودة إلى الوطن‪ ،‬رغم أنهم‬

‫‪ -1‬الفالحون‪ ،‬حرفياً «مسيحيون»‪ ،.‬تعليق المترجم من الروسية إلى اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ّ‬
‫ثري بولندي‪ ،‬بان زايلسكي‪ ،‬وله‬ ‫كانوا عجائز عجزة‪ .‬في إيشيم‪ ،‬قام‬
‫ابنة تشبه ساشا كيزيلوف‪ ،‬بتأجير حجرة وتقديم عشاء رائع لي مقابل‬
‫روبيل واحد في اليوم‪ ،‬كان يدير نَزله‪ ،‬ويكتنز المال بشراهة متناهية‪ ،‬وكان‬
‫َّ‬
‫المهذب في سلوكه‪ ،‬في‬ ‫ظل ذلك البولندي‬ ‫يستنزف أموال الجميع‪ ،‬لكنه ّ‬
‫طريقة تقديم الوجبات‪ ،‬وفي كل شيء‪.‬‬

‫تحمل الثلوج حتى‬‫َّ‬ ‫بدافع الجشع لم يرجع إلى بولندا‪ ،‬وبدافع الجشع‬
‫بالقديس نيقوال‪ ،‬وعندما يموت‪ ،‬ستبقى ابنته‪ ،‬التي‬
‫ّ‬ ‫جاء موعد االحتفال‬
‫ولدت في إيشيم‪ ،‬هنا لألبد‪ ،‬وهكذا سوف تضاعف من عدد العيون‬
‫السوداء والمالمح الرقيقة في سيبريا!‪ .‬ومثل هذا التمازج العرضي للدماء‬
‫مفيد‪ ،‬ألن السيبيريين ليسوا جميلين‪ .‬ليس بينهم أشخاص بشعر داكن‪.‬‬
‫تودين لو أكتب عن التتار بال ريب‪ ،‬إن عددهم محدود للغاية هنا‪.‬‬
‫وربما ّ‬
‫إنهم أناس صالحون‪ .‬ففي إقليم كازان يذكرهم الجميع بالخير هنا‪ ،‬حتى‬
‫القساوسة‪ ،‬وفي سيبريا يقولون إنهم «أفضل من الروس»‪ ،‬مثلما قال لي‬
‫«الرئيس» في حضور مجموعة من الروس الذين التزموا الصمت أمام‬
‫قوله هذا‪.‬‬

‫غنية روسيا بالناس الطيبين!‪ .‬لوال البرد الذي يحرم روسيا‬


‫يا الله‪ ،‬كم هي ّ‬
‫من الصيف‪ ،‬ولوال الموظّ فون الحكوميون الذين يستغ ّلون الفالحين‬
‫والمبعدين‪ ،‬لكانت سيبريا أغنى وأسعد األراضي‪.‬‬

‫لدي للعشاء‪ .‬عادة ما يحمل األشخاص العقالء عشرين رط ً‬


‫ال من‬ ‫ال طعام ّ‬
‫المؤن عندما يذهبون إلى تومسك‪ .‬ويبدو أنني كنت مغفّ ً‬
‫ال‪ ،‬وهكذا عشت‬
‫ألسبوعين ال أتناول سوى اللبن والبيض المسلوق‪ .‬خالل يومين يُصاب‬
‫المرء بالضجر من مثل هذه الرحلة‪ .‬فطوال رحلتي لم أتناول العشاء سوى‬
‫َم ّرتين‪ ،‬وال أحسِ ب‪ ،‬هنا‪ ،‬دعوة العشاء «مرق السمك» التي جاملتني بها‬

‫‪52‬‬
‫الزوجة اليهودية‪ ،‬التي التهمت خاللها الطعام بعد أن تناولت ما يكفي مع‬
‫كل كوب شاي شربته‪ .‬لم أتناول الفودكا أبد ًا؛ فالفودكا السيبرية كريهة‬
‫للغاية‪ ،‬وحقيقة‪ ،‬أقلعت عن عادة تناولها خالل طريقي إلى أيكاترينبرج‪.‬‬
‫تنبه المخ‪ ،‬وما تعالج يلحق بالمرء‬
‫ويضط ّر المرء إلى شرب الفودكا ألنها ّ‬
‫من كسل والمباالة من جراء السفر‪ ،‬مما يجعله غبي ًا وواهن ًا‪.‬‬

‫توقّ فت! ال أستطيع الكتابة‪ ،‬فلقد جاء رئيس تحرير سيبريسكي فيستينيك‬
‫ثم رحل‪.‬‬ ‫«ن»‪ ،‬وهو ّ‬
‫سكير خليع‪ ،‬كي يتع َّرف بي‪ ،‬تناول بعض البيرة‪ّ ،‬‬
‫وبعدها عاودت الكتابة‪.‬‬

‫وخالل األيام الثالثة األولى من رحلتي‪ ،‬آلمتني عظام الترقوة‪ ،‬والكتفين‬


‫الممهدة‪ .‬لم أ كن‬
‫َّ‬ ‫والفقرات‪ ،‬بسبب ارتجاج العربات على الطرقات غير‬
‫قادر ًا على الوقوف أو الجلوس أو االستلقاء‪ ،‬لكن على الجانب اآلخر‪،‬‬
‫شهيتي بشكل ال‬‫َّ‬ ‫وتحسنت‬
‫َّ‬ ‫تالشت جميع اآلالم في رأسي وصدري‪،‬‬
‫ُصدق‪ ،‬وتراجعت البواسير لدرجة التالشي‪ .‬لكن التو ُّتر الزائد‪ ،‬والقلق‬
‫ي َّ‬
‫الدائم على الحقائب وغيرها‪ ،‬وربما اإلفراط في الشراب خالل حفالت‬
‫تسببت‬
‫تسبب في بصاق الدم في الصباحات‪ ،‬والتي َّ‬
‫الوداع في موسكو‪َّ ،‬‬
‫في شيء من االكتئاب‪ ،‬وإثارة أفكار متشائمة‪ ،‬لكن‪ ،‬باقتراب نهاية الرحلة‬
‫تالشت هذه األعراض‪ ،‬فاآلن ال أعاني حتى من السعال‪ .‬ولقد مضى زمن‬
‫ال كما هي الحال اآلن‪ ،‬وذلك بعد أن أمضيت‬‫طويل منذ أن سعلت قلي ً‬
‫أسبوعين في الهواء الطلق‪.‬‬

‫فبعد األيام الثالثة األولى من السفر‪ ،‬بدأ جسدي يتع َّود االهتزاز‪ ،‬وبمرور‬
‫الوقت لم أعد أالحظ تعاقب الظهيرة والمساء والليل‪ .‬أصبح الوقت يم ّر‬
‫تتكهن بأنه منتصف‬
‫َّ‬ ‫سريع ًا كما يحدث في المرض الخطير‪ .‬فيمكنك أن‬
‫تتأهب لحلول الليل‪ ،‬أو‬
‫النهار‪ ،‬عندما يقول الفالحون «سيدي‪ ،‬يجب أن َّ‬

‫‪53‬‬
‫ّ‬
‫نضل في الظالم»‪ ،‬وعندما تنظر إلى ساعتك‪ ،‬وتجدها التاسعة فعلي ًا‪.‬‬ ‫ربما‬

‫كانوا يقودون بسرعة‪ ،‬لكن تلك السرعة لم تكن ملفتة‪ .‬ربما يرجع ذلك‬
‫إلى أننا كنا نسير على الطرقات في ظل ظروف سيئة‪ ،‬ففي الشتاء يجب‬
‫أن يكون السفر أسرع‪ .‬إنهم يندفعون بالخيول إلى أعلى التالل بسرعة‬
‫كبيرة‪ ،‬وقبل االنطالق وقبل أن يستقر السائق في مكانه‪ ،‬هناك حاجة‬
‫لرجلين أو ثالثة لكبح جماحها‪ّ ِ .‬‬
‫تذكرني الخيول هنا بفرقة خيول اإلطفاء‬
‫في موسكو‪ .‬وذات يوم كدنا أن ندهس امرأة عجوز‪ ،‬ومرة أخرى كدنا أن‬
‫تودين أن أسرد لك قصة مغامرة أدين‬
‫نصطدم بسجن الترحيل‪ .‬اآلن‪ ،‬هل ّ‬
‫فيها بحياتي لسائق سيبيري؟‪ .‬فقط أرجو من أمّي أال تبكي وتنتحب‪،‬‬
‫فالمغامرة انتهت على خير‪ .‬ففي السادس من مايو‪ ،‬وقرابة نهاية اليوم‪،‬‬
‫كانت العربة التي أركبها يجرها حصانان يقودهما سائق عجوز لطيف‪.‬‬

‫كانت عربة شيز صغيرة‪ ،‬وكنت نعسان ًا‪ ،‬ولبرهة من الزمن‪ ،‬رأيت بريق‬
‫األضواء الملتوية في الحقول وأجمات البتوال‪ ،‬فلقد كان ذلك هو‬
‫موعد إحراق العشب‪ ،‬فهذه عادتهم هنا‪ .‬وفجأة سمعت القعقعة الرشيقة‬
‫للعجالت‪ ،‬إنها كارة تسير بسرعة هائلة نحونا كما لو كانت طائر ًا‪ ،‬وسارع‬
‫سائقي العجوز بالتح ُّرك جهة اليمين‪ ،‬فاندفعت الخيول الثالثة إلى‬
‫اليمين‪ ،‬وإذا بي أرى عبر الظلمة كارة ضخمة وثقيلة وسائقها با ّتجاه رحلة‬
‫العودة‪ .‬وتبعتها كارة أخرى تسير بسرعة هائلة‪ .‬وسارعنا باالنحراف قدر‬
‫المستطاع إلى اليمين‪ .‬ومما أثار استغرابي وانتباهي أن الكارة لم ت َّتجه‬
‫ّ‬
‫لدي وقت للتفكير في الوضع‬ ‫إلى اليمين بل إلى اليسار‪ ...‬وبالكاد كان‬
‫«يا إله السموات! ستصطدم العربتان!»‪،‬‬

‫وعندما وقع التصادم الهائل‪ ،‬تداخل الحصانان في كتلة سوداء‪ ،‬وسقطت‬


‫السروج‪ ،‬وارتفعت عربة الشيز التي أركبها عالي ًا في الهواء‪ ،‬وتهاويت على‬

‫‪54‬‬
‫األرض‪ ،‬وتساقط متاعي فوقي‪ ،‬لكن هذا لم يكن كل شيء‪ ،‬فلقد كانت‬
‫هناك عربة ثالثة مندفعة فوقنا‪ ،‬وكان هذا كفي ً‬
‫ال بتحطيمي ومتع ّلقاتي إلى‬
‫ذرّات‪ ،‬لكن حمد ًا للرب! لم أ كن نائم ًا‪ ،‬ولم تنكسر لي عظمة واحدة في‬
‫هذا السقوط‪ ،‬ونجحت في النهوض سريع ًا واالبتعاد عن موقع الحادث‪.‬‬
‫«وصحت في سائق الكارة الثالثة‪« :‬توقّ ف»‪« ....‬توقّ ف»!‪ ،‬لكنها‬
‫كانت مندفعة ولم تتوقف إال بعد االصطدام بالعربة الثانية‪ .‬ومن المؤكد‬
‫أني لو كنت قادر ًا على النوم في عربة الشيز‪ ،‬أو لو تبعت العربة الثالثة‬
‫العربة الثانية مباشرة‪ ،‬لكنت سأعود كسيح ًا أو فارس ًا بال رأس‪ .‬وكانت‬
‫نتيجة الحادثة‪ ،‬تحطّ م العربات‪ ،‬وتم ُّزق حبال الجر والسروج‪ ،‬وتناثرت‬
‫المتع ّلقات على األرض‪ ،‬أما الخيول فلقد أصيبت بسجحات وجروح‪،‬‬
‫وكانت منهكة للغاية‪ ،‬وتعاظم داخلنا شعور أننا في خطر‪ .‬وا َّتضح أن‬
‫السائق األول نجح في كبح خيول عربته‪ ،‬أما السائقان اآلخران فكانا‬
‫نائمين‪ ،‬وتبعت خيول عربتيهما العربة األولى دون أية سيطرة عليها‪ .‬وعند‬
‫اإلفاقة من الصدمة‪ ،‬انخرط سائقي العجوز والرجال الثالثة اآلخرون في‬
‫تبادل الشتائم بضراوة‪ .‬أوه‪ ،‬كم كانوا متجاوزين في تبادل السباب!‪.‬‬
‫وظننت أن األمر سينتهي بعراك‪ .‬وال يمكنك تص ُّور الشعور بالوحدة وسط‬
‫هذا الوابل من السباب السوقي في الخالء‪ ،‬قبيل الفجر‪ ،‬وعلى خلفية‬
‫النيران التي ترعى في العشب قريب ًا وبعيد ًا‪ ،‬دون أن ّ‬
‫تؤدي هذه النيران‬
‫ال بالحزن والخوف!‬‫إلى تدفئة هواء الليل البارد!‪ .‬أوه‪ ،‬كم كان قلبي مثق ً‬
‫المهشمة والحاجيات‬
‫ّ‬ ‫فعندما سمعت السباب‪ ،‬وتط َّلعت إلى العربات‬
‫المبعثرة‪ ،‬بدا األمر وكأنني قد انجرفت إلى عالم آخر‪ ،‬كما لو كنت على‬
‫وشك أن ُأهشَّ م في لحظة‪ ....‬وبعد ساعة من تبادل السباب واإلهانات‪،‬‬
‫ّ‬
‫المفككة بحبل‪ ،‬ويسعى إلى جمع ما تناثر‪ ،‬وحتى‬ ‫يضم السائق القوائم‬
‫ّ‬
‫مهمته هذه‪ .‬ووصلنا إلى المحطة بطريقة ما‪ ،‬كنا‬
‫ّ‬ ‫أحزمتي استخدمها في‬
‫نسير ببطء متنا ٍه كما لو ك ّنا نزحف‪ ،‬ثم نتوقَّف من حين إلى آخر‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫وبعد خمسة أو ستة أيام بدأ هطول أمطار مصحوب بهبوب رياح شديدة‪.‬‬
‫كانت تمطر ليل نهار‪ .‬ارتديت معطفي الجلدي الذي وقاني من المطر‬
‫والريح‪ .‬ياله من معطف رائع! كان المرور عبر الوحل صعب ًا للغاية‪ ،‬وبدأ‬
‫السائقون يتذمرون من االستمرار في السير خالل الليل‪ .‬لكن أسوأ األشياء‬
‫جميع ًا‪ ،‬وما لن أنساه مطلق ًا‪ ،‬هو عبور األنهار‪ ،‬فعند الوصول إلى النهر‬
‫ال يبدأ صياح الركاب والسائقين‪ ،‬باإلضافة إلى هطول األمطار وهبوب‬ ‫لي ً‬
‫يؤدي إلى صوت طرطشة‪...‬‬ ‫الرياح‪ ،‬وانزالق قطع الثلج عبر النهر؛ مما ِ ّ‬
‫ولإلضافة إلى مباهجنا‪ ،‬يتصاعد صياح طيور البلشون التي تعيش طيور‬
‫البلشون حول األنهار السيبرية وعلى سطح مياهها‪ ،‬ومن ذلك يبدو أنها ال‬
‫تهتم بالطقس بقدر اهتمامها بالموقع‪.‬‬
‫ّ‬

‫وبعد ساعة‪ ،‬في الظالم‪ ،‬تراءى لنا قارب نقل يشبه مركب نقل البضائع‪،‬‬
‫وله مجاديف ضخمة تشبه كلّابات السلطعون‪.‬‬

‫كان رجال النقل على هذا الزورق أفظاظ ًا‪ ،‬ألن معظمهم كانوا من‬
‫المبعدين عن أوطانهم األصلية إلى هنا كعقاب على حياتهم اآلثمة‪ .‬إنهم‬
‫سيئة إلى درجة ال ُتح َتمل‪ ،‬ويتبادلون الصراخ؛ طالبين‬ ‫يستخدمون لغة ّ‬
‫ال للغاية‪ ،‬طوي ً‬
‫ال‬ ‫المال والفودكا‪ ..‬كان النقل عبر األنهار يستغرق وقت ًا طوي ً‬
‫ومجدد ًا انتابني ذلك‬
‫َّ‬ ‫لدرجة مزعجة‪ .‬بدأ قارب النقل يتح ّرك ببطء‪.‬‬
‫الشعور بالوحدة‪ ،‬وبدا صياح طائر البلشون كما لو كان ينقل رسالة‪ ،‬كما‬
‫لو كان يقول‪« :‬أيها الرجل العجوز ال تخف‪ ،‬أنا هنا‪ ،‬لقد أرسلني أفراد‬
‫عائلة لينتفاريوفس ‪ Lintvaryovs‬إلى هنا من بسِ ول ‪.Psyol‬‬

‫وفي السابع من مايو عندما طلبت الخيول‪ ،‬قال السائق إن نهر اإلرتيش‬
‫قد فاض عن ضفافه وأغرق السهول الخضراء‪ ،‬لدرجة أن الباخرة كوزما‬
‫‪ Kuzma‬انطلقت أمس‪ ،‬وواجهت صعوبة في العودة‪ ،‬ونتيجة لذلك فأنا‬

‫‪56‬‬
‫ال أستطيع االنتقال‪ ،‬ويجب أن أنتظر‪ ...‬وعندما تساءلت‪ :‬إلى متى؟‬
‫الرب وحده يعرف!‪ .‬يالها من إجابة مبهمة! كذلك‪ ،‬كنت‬
‫ّ‬ ‫جاءت اإلجابة‪:‬‬
‫قد أقسمت على التخ ُّلص‪ ،‬خالل هذه الرحلة‪ ،‬من اثنين من نقائصي والتي‬
‫كانت مصدر ًا لقدر كبير من الكلفة والمشاكل واالرتباك‪ ،‬وأعني بذلك‬
‫استعدادي لالنقياد‪ ،‬وسهولة إغرائي؛ فسرعان ما أوافق‪ ،‬وبناء على ذلك‬
‫أضط ّر للسفر بأية حال‪ ،‬مما يضط ّرني‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬إلى دفع ضعف النفقات‬
‫واالنتظار لساعات كذلك‪ .‬أقسمت أن أرفض الموافقة واالنقياد‪ ،‬وهكذا‬
‫تراجعت آالم جانبي‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬عندما أحضروا عربة نقل غير‬
‫مناسبة‪ ،‬فلقد كانت كارة عادية وكثيرة االرتجاج‪ ،‬رفضت أن أسافر بها‪،‬‬
‫البد‬
‫ّ‬ ‫وأبديت إصرار ًا على ذلك‪ ،‬وبداخلي ثقة أن هناك عربة أخرى‪،‬‬
‫ستظهر‪ ،‬رغم أنهم قد يعلنون أنها غير موجودة في القرية كلها‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫تم اختراع مسألة فيضانات نهر إرتيش‪ ،‬ببساطة‪،‬‬‫وحقيقة‪ ،‬شككت أنه ّ‬
‫لتج ُّنب القيادة خالل هذا الوحل لي ً‬
‫ال‪ .‬احتججت وطلبت منهم أن ينطلقوا‪.‬‬
‫وشجعه‬
‫ّ‬ ‫وافق الفالح الذي سمع عن الفيضانات من كوزما‪ ،‬لكنه لم يرها‪،‬‬
‫الرجال العجائز بقولهم إنهم عندما كانوا شباب ًا‪ ،‬واعتادوا القيادة‪ ،‬لم‬
‫يكونوا يخشون شيئ ًا‪ .‬وانطلقنا‪ ،‬وسط هطول متزايد لألمطار وهبوب‬
‫قدمي‪ .‬هل‬
‫ّ‬ ‫للعواصف‪ ،‬وتزايد الصقيع‪ ...‬وشعرت بحذائي البوت على‬
‫تعرفين كيف يكون الشعور بحذاء البوت عندما تمتلئ بالماء؟ إنها تصبح‬
‫تقدمنا عبر الطريق‪ ،‬ويالهول‬
‫كما لو كانت مصنوعة من الجيلي‪ .‬واستمر ُّ‬
‫تجسدت أ كاذيبهم أمام عيني في هيئة بحيرة هائلة‪ ،‬تظهر‬
‫َّ‬ ‫ما رأيت! لقد‬
‫خاللها األرض في شكل بقع متناثرة هنا وهناك‪ ،‬وكذلك األجمات‪ :‬تلك‬
‫هي السهول التي أغرقها الفيضان‪.‬‬

‫ومن بعيد تراءت ضفة نهر إيرتيش‪ ،‬وعليها تنتثر أشرطة بيضاء من الثلج‪.‬‬
‫مجدد ًا عبر البحيرة‪ .‬ربما كان علينا أن نعود‬
‫َّ‬ ‫بدأنا االنطالق بالعربة‬

‫‪57‬‬
‫علي نزوة غير مفهومة‬
‫ّ‬ ‫أدراجنا‪ ،‬لكنه العناد ما حال دون ذلك‪ ،‬وسيطرت‬
‫بالمعارضة لتلك النزوة التي جعلتني أقفز من اليخت في وسط البحر‬
‫األسود‪ ،‬ودفعتني للقيام بعدد غير قليل من األفعال الحمقاء‪ُ ...‬أ ِ ّ‬
‫رجح أن‬
‫العصاب‪ .‬وواصلنا السير ِ ّ‬
‫متلمسين ما توافر من الجزر‬ ‫ذلك نوع خاص من ُ‬
‫الصغيرة وأشرطة اليابسة وسط المياه‪ .‬وبحثنا عن الكباري وألوح الخشب‬
‫كعالمات إرشادية عبر الطريق‪ ،‬لكن الفيضان كان قد جرفها كلها‪.‬‬

‫وللعبور عليها‪ ،‬كان عينا أن نخ ِ ّلص الخيول من سروجها ونقودها واحد ًا‬
‫بفك السروج عن الخيول‪ ،‬وقفزت إلى الماء‬ ‫ّ‬ ‫بعد اآلخر‪ .‬قام السائق‬
‫بحذائي البوت وأمسكت بها‪ ...‬يالها من تسلية مبهجة! واألمطار والريح‪.‬‬
‫رب السماء! وأخير ًا وصلنا إلى جزيرة صغيرة وعليها ينتصب كوخ‬ ‫يا ّ‬
‫وحيد بال سقف‪ .‬وبدأت الخيول المب َّللة تتج َّول في الروث المختلط‬
‫مهمة قيادتنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالوحل‪ .‬خرج من الكوخ فالح بيده عصا طويلة‪ ،‬وتولّى‬
‫إنه يقوم بقياس عمق المياه بواسطة عصاه‪ ،‬ويختبر صالبة اليابسة‪ .‬قادنا‬
‫الرب على صنيعه هذا‪ ،‬أطلق‬
‫ّ‬ ‫للوصول إلى شريط طويل من اليابسة‪ ،‬يباركه‬
‫البد أن نلتزم الجانب األيمن ‪-‬وربّما‬
‫ّ‬ ‫وشدد علينا أننا‬
‫ّ‬ ‫عليه «الجرف»‪.‬‬
‫أتذكر‪ -‬لنصل إلى جرف آخر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يكون األيسر‪ ،‬ال‬

‫وهذا ما فعلناه‪ .‬امتأل حذائي البوت المصنوع من الكتان بالماء‪ ،‬وصدر‬


‫عنه صوت بقبقة بما احتواه من مياه‪ ،‬وكذلك عن جوربي صدر الصوت‬
‫نفسه‪ .‬لم يتف ّوه السائق بكلمة‪ ،‬دون أن يتوقّ ف عن الفرقعة بالسوط‪ ،‬في‬
‫ّ‬
‫لحث الخيول على مواصلة السير‪ .‬كان من دواعي سروره أن‬ ‫إيقاع مغتم‪،‬‬
‫يعود أدراجه‪ ،‬لكن‪ ،‬اآلن‪ ،‬فات أوان ذلك‪ ،‬كان الظالم قد ّ‬
‫حل‪ ،‬وأخير ًا‪،‬‬
‫القصية بارزة‪ ،‬أما القريبة‬
‫ّ‬ ‫يا للبهجة! وصلنا إلى نهر إيرتيش‪ ..‬كانت ضفّ ته‬
‫فكانت منحدرة‪ .‬كانت الضفة القريبة غائرة‪ ،‬تبدو شديدة االنحدار‪،‬‬
‫منفرة‪ ،‬وجرداء‪ ،‬وكانت المياه العكرة تفيض عليها بما تحمله من رغوة‬

‫‪58‬‬
‫بيضاء‪ ،‬ثم تتراجع ثانية كما لو كانت قد شعرت باالشمئزاز عند مالمسة‬
‫الضفة المنحدرة غير المألوفة‪ ،‬حيث يبدو أن الضفادع وأرواح المجرمين‬
‫وحدها تستطيع أن تعيش عليها‪ .‬ولم يصدر عن نهر إيرتيش أي هدير أو‬
‫صوت مرتفع‪ ،‬لكنه بدا كما لو كان له إيقاع جنائزي حزن ًا على األكفان‬
‫المستق ّرة في قاعه‪ .‬ياله من انطباع لعين! أما الضفة البعيدة فهي مرتفعة‪،‬‬
‫تراكم عليها طمي ب ّني داكن‪ ،‬ومهجور‪.‬‬

‫كان هناك كوخ‪ ،‬يعيش فيه رجال يعملون في نقل البضائع‪ .‬خرج أحدهم‬
‫ليعلن أن النقل مستحيل فالعاصفة على وشك الهبوب‪ .‬وقالوا إن النهر‬
‫علي أن أبقى الليل في الكوخ‪.‬‬
‫واسع والعاصفة قوية؛ وبنا ًء على ذلك كان ّ‬
‫عمال النقل وسائقي‪ ،‬زئير الريح‪ ،‬دمدمة المطر‪،‬‬
‫إنها ليلة ال ُتنسى‪ :‬شخير ّ‬
‫غمغمة نهر إيرتيش‪ .‬وقبل الذهاب إلى النوم‪ ،‬كتبت رسالة إلى ماريا‬
‫فالديميروفنا؛ فلقد ّ‬
‫تذكرت بركة بوزهاروفسكي‪.‬‬

‫وفي الصباح‪ ،‬لم تكن لديهم رغبة في نقلي عبر النهر‪ ،‬فلقد كانت الريح‬
‫نجدف ونحن نركب القارب‪ .‬قمت بالتجديف عبر‬ ‫شديدة‪ .‬كان علينا أن ِ ّ‬
‫النهر‪ ،‬وبدأ تساقط األمطار‪ ،‬وهبوب الرياح‪ ،‬غرقت حاجياتي في المياه‬
‫وكذلك فردتا حذائي (البوت) المصنوعتان من الكتان واللتان كانتا قد‬
‫جفّ تا خالل الليل عندما وضعتهما في الفرن‪ ،‬أصبحا مثل الجيلي مجدد ًا‪.‬‬
‫أوه‪ ،‬لم ُأصب باألنفلونزا‪ ،‬وذلك بفضل معطفي الجلدي العزيز‪ .‬وعند‬
‫عودتي يجب أن تكافئيه بدهنه بالشحم الحيواني أو زيت القندس‪.‬‬

‫على ضفة النهر جلست ساعة بكاملها على حقيبتي في انتظار الخيول‬
‫َّ‬
‫وأتذكر كم كان الجرف الذي صعدناه منحدر ًا للغاية‪.‬‬ ‫القادمة من القرية‪.‬‬
‫المبعدين‬ ‫وفي القرية تدفّ أت ب َنفَ سي‪ ،‬وشربت بعض الشاي‪ .‬جاء بعض ُ‬
‫متوسلين للحصول على بعض الصدقات‪ .‬وكانت كل أسرة تخبز يومي ًا‬ ‫ِّ‬

‫‪59‬‬
‫حوالي أربعين رط ً‬
‫ال من دقيق القمح من أجلهم‪ .‬يبدو األمر كما لو كان‬
‫نوع ًا من اإلتاوة الجبرية‪.‬‬

‫وكان هؤالء المبعدون يبيعون هذا الخبز ليشربوا بثمنه الخمر في الحانة‪.‬‬
‫رث الهيئة يسير بصعوبة بالغة‪ ،‬وكانت‬‫وجاءني واحد منهم‪ ،‬كان عجوز ًا ّ‬
‫بعينيه كدمتان على يد رفاقه من المبعدين في الحانة‪ .‬كان قد سمع عن‬
‫وجود مسافر بالحجرة‪ ،‬واصطحبني إلى لقاء أحد التجار‪ ،‬وبدأ الغناء‬
‫وتالوة الصلوات‪ .‬تلى صالة طلب ًا للصحة ولطمأنينة الروح‪ ،‬وغ ّنى ترنيمة‬
‫الرب‪ ،‬بصحبة القديسين‪ ،‬يا إلهي»‪ ،‬وتقريب ًا لم‬
‫ّ‬ ‫عيد الفصح «لينهض‬
‫يتغن بها‪ .‬وبعد ذلك بدأ سلسلة من األكاذيب‪ ،‬من بينها‬
‫َّ‬ ‫يترك أغنية لم‬
‫ّ‬
‫السكير‬ ‫ادعاؤه أنه كان تاجر ًا في روسيا‪ .‬والحظت كم كان هذا المخلوق‬
‫ّ‬
‫يزدري الفالحين الذين كان يعيش من خيرهم‪.‬‬

‫وفي الحادي عشر من الشهر‪ ،‬انطلقت بنا خيول البريد‪ .‬وقرأت دفاتر‬
‫الشكاوى في محطة البريد من فرط شعوري بالسأم‪.‬‬

‫وفي يوم الثاني عشر‪ ،‬لم يوافقوا على إعطائي خيو ً‬


‫ال‪ ،‬متذ ِ ّرعين بأنني‬
‫أتمكن من قيادتها‪ ،‬ألن نهر «أوب» فاض وأغرق جميع السهول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لن‬
‫المؤدي إلى كراسني يار‪ ،‬ومنه‪ ،‬مسافة عشرين‬
‫ّ‬ ‫ونصحوني أن أسلك الطريق‬
‫فرست‪ ،‬إلى دبروفين بالقارب‪ ،‬ومن دبروفين يمكنني أن أحصل على‬
‫خاصة لنقلي إلى كراسني يار‪ .‬ووصلت في‬
‫ّ‬ ‫خيول البريد‪ .‬استأجرت خيو ً‬
‫ال‬
‫الصباح‪ ،‬فأخبروني بوجود قارب‪ ،‬لكن يجب أن أنتظر قلي ً‬
‫ال من الوقت‬
‫الجد قد أرسل أحد العمال بالقارب لتوصيل سكرتير الرئيس إلى‬
‫ّ‬ ‫ألن‬
‫دوبروفين‪.‬‬

‫حسن ًا‪ ،‬سننتظر‪ ....‬مضت ساعة‪ ،‬وأخرى وثالثة‪ ،‬وأوشك اليوم على‬
‫االنتصاف‪ ،‬ومن بعده يأتي المساء‪ .‬الله كريم‪ ،‬كم شربت من الشاي! وكم‬

‫‪60‬‬
‫تناولت من الخبز! وكم من األفكار دارت بعقلي!‪ ،‬وكم استغرقت في‬
‫النوم!‪َ .‬ح ّل الظالم‪ ،‬ولم يأت ّ‬
‫أي قارب‪ ،‬وتبدى نور الصباح‪ .‬وأخير ًا‪ ،‬عند‬
‫التاسعة صباح ًا‪ ،‬عاد العمال‪ .‬حمد ًا للرب‪ ،‬ها نحن نطفو أخير ًا! وكم كان‬
‫والمجدفون بارعون‪ ،‬والجزر جميلة‪ .‬حاصرت‬‫ِّ‬ ‫ال! هدأت الريح‪،‬‬ ‫ذلك جمي ً‬
‫ِّ‬
‫يجدفن في‬ ‫الفيضانات الرجال والماشية بغتةً‪ ،‬ورأيت الفالحات وهن‬
‫قوارب للوصول إلى الجزر حيث توجد األبقار لحلبها‪ .‬واألبقار نحيلة‬
‫وكئيبة الهيئة‪ .‬فلم يكن ثمة عشب لها‪ ،‬بسبب البرودة الشديدة‪.‬‬

‫جدفوا الثني عشر فرست ًا‪ .‬وعند الوصول إلى محطة‬ ‫كان العمال قد ّ‬
‫دوبروفين‪ ،‬شربت شاي ًا‪ ،‬ومع الشاي ّ‬
‫قدموا لي ‪-‬تص َّوري‪ -‬كعك ال َوفل ‪.‬‬
‫ (((‬

‫المبعدين‪ .‬وعند‬
‫المبعدين أو زوجة ألحد ُ‬
‫وخمنت أن ربّة المنزل من ُ‬ ‫ّ‬
‫الوصول إلى المحطّ ة التالية‪ ،‬اشتكى لي رجل دين عجوز بولندي‪َّ ،‬‬
‫قدمت‬
‫له بعض األنتيبيرين ( ((‪ ،‬من الفقر‪ ،‬وذكر كونت سابيجا‪ ،‬وهو بولندي‬
‫وكان حاجب ًا بالمحكمة النمساوية‪ ،‬وساعد رفاقه من القرويين‪ ،‬وأنه‬
‫مؤخر ًا‪ ،‬وهو في طريقه إلى سيبريا‪ ،‬وأضاف رجل الدين‪« :‬إنه يقيم‬
‫وصل َّ‬
‫بالقرب من المحطّ ة‪ ،‬في مكان ال أعرفه‪ ،‬يا أيتها األم المقدسة‪ ،‬توقّ عت‬
‫أن يساعدني‪ ،‬كتبت إليه في فيينا‪ ،‬لكنني لم أتلقَّ ّ‬
‫أي رد‪.»..‬‬

‫لماذا لست من البوليس الس ّري؟ لو أنا كذلك لكنت سأعيد هذا الرفيق‬
‫المسكين إلى وطنه‪.‬‬

‫مجدد ًا أن ِ ّ‬
‫يوفروا لي الخيول‪ .‬لقد فاض‬ ‫ّ‬ ‫وفي الرابع عشر من مايو‪ ،‬رفضوا‬
‫نهر الـ«توم»‪ .‬ياله من اضطراب! ال يقتصر األمر على االضطراب‪ ،‬بل‬

‫‪ :Waffle -1‬ال َوفل‪ ،‬كعكة تُعد من دقيق وحليب وبيض‪ ،‬وتُشوى في أداة خاصة؛ تُعرف بـ«‬
‫مشواة ال َوفل»‪.‬‬
‫‪ :Antipyrin -2‬األنتيبيرين‪ ،‬مركب أبيض يُستخدم لتسكين األلم‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫يتجاوزه إلى اليأس! أبعد بخمسين فرست عن تومسك‪ ،‬وإذا بي أواجه هذا‬
‫العائق غير المتوقع!‪ .‬لو كانت هناك امرأة مكاني لما توقّ فت عن البكاء‬
‫والعويل‪ .‬وجد بعض أصحاب القلوب الرحيمة حلّاً لورطتي‪ ،‬ونصحوني‬
‫بأن أواصل المسير حتى أصل إلى نهر «توم» على بعد ستة فرسات‬
‫من هنا‪ ،‬وأضافوا‪« :‬وهناك سينقلونك في قارب تجديف عبر النهر إلى‬
‫«يار»‪ ،‬ومنها ستق ّلك إليا ماركوفيتش إلى تومسك»‪ .‬استأجرت حصان ًا‬
‫وانطلقت إلى توم‪ ،‬إلى المكان حيث يُفترض أن يوجد فيه القارب‪ .‬وعند‬
‫وصولي لم أجد أي قارب‪ .‬وهناك أخبروني أنه قد انطلق ت ّو ًا بالبريد‪،‬‬
‫ومن الصعب أن يعود قريب ًا بسبب العاصفة‪ .‬بدأت االنتظار‪ .‬كانت اليابسة‬
‫وهبت الرياح‪...‬‬ ‫مغطّ اة بالثلوج‪ ،‬هطلت األمطار وتساقط َ‬
‫الب َرد‪َّ ،‬‬

‫َم َّرت ساعة‪ ،‬واثنتان‪ ،‬ولم يظهر ّ‬


‫أي قارب‪ .‬إن القدر يسخر مني‪ .‬وعدت‬
‫إلى المحطة‪ .‬وهناك كان ساعي البريد‪ ،‬وبصحبته ثالثة خيول لنقل‬
‫يتأهب لالنطالق با ّتجاه نهر توم‪ .‬أخبرته أنه ال يوجد قارب‬
‫ّ‬ ‫البريد‪،‬‬
‫ليقل ّه من هناك‪ .‬فمكث‪ .‬لقد كافأني القدر‪ ،‬إذ أخبرني‪ ،‬بعد استفساري‬
‫المرتبك عن وجود شيء صالح لأل كل‪ ،‬أن ربّة المنزل لديها بعض مرق‬
‫ُ‬
‫الك ُرنب‪ .‬يا سالم! إنه يوم سعدي! وجلبت لي ابنة ربّة المنزل مرق كرنب‬
‫َ‬
‫أحظ‬ ‫المحمرة والخيار‪ .‬ولم‬
‫َّ‬ ‫رائع‪ ،‬ومعه بعض قطع اللحم والبطاطس‬
‫بتناول مثل هذا العشاء منذ كنت في بان زاليسكي‪ .‬وبعد تناول البطاطس‬
‫غادرت‪ ،‬وأعددت لنفسي بعض القهوة‪.‬‬

‫وعند اقتراب المساء‪ ،‬قام ساعي البريد‪ ،‬وهو رجل طاعن السن‪ ،‬ب ََذل‬
‫مجهود ًا واضح ًا طوال اليوم‪ ،‬ولم يتج ّرأ أن يجلس في حضوري‪ ،‬بالتجهيز‬
‫لالنطالق إلى نهر «توم»‪ .‬وفعلت الشيء نفسه‪ .‬وبمج ّرد وصولنا إلى‬
‫النهر‪ ،‬تراءى لنا قارب ما‪ ،‬وكان قارب ًا طوي ً‬
‫ال‪ ،‬ولم أحلم يوم ًا بقارب بمثل‬
‫يتم تحميل البريد على القارب‪ ،‬شهدت ظاهرة‬
‫هذا الطول‪ .‬وبينما كان ّ‬

‫‪62‬‬
‫ّ‬
‫دوي رعد‪ ،‬وهو حدث غريب في مثل هذه الريح الباردة‪،‬‬ ‫غريبة‪ ،‬كان هناك‬
‫وبمثل هذا الثلج على األرض‪ .‬أ كملوا التحميل‪ ،‬ثم انطلق القارب‪.‬‬

‫عزيزتي ميشا‪ ،‬سامحيني ألن بهجتي بالسفر أنستني أن أصطحبك معي!‬


‫لكن‪ ،‬كم كنت حصيف ًا لعدم اصطحابي أي شخص! ففي البداية انطلق‬
‫القارب عبر مرج من أجمات الصفصاف‪ .‬وكما هو مألوف‪ ،‬أنه قبل‬
‫تهب ريح قوية فجأة‪ ،‬وتتسبب في تزايد سرعة تدفُّ ق‬
‫ّ‬ ‫العاصفة أو خاللها‪،‬‬
‫المياه وارتفاع األمواج‪ .‬ونصحنا المراكبي‪ ،‬الجالس عند دفة القارب‪،‬‬
‫وردوا عليه‬
‫أن ننتظر بين أجمات الصفصاف إلى حين انتهاء العاصفة‪ّ .‬‬
‫بأنه إذا ساءت العاصفة‪ ،‬فربّما يبقون بين أجمات الصفصاف حتى حلول‬
‫المساء‪ ،‬وحينها ستغرقهم المياه تمام ًا‪.‬‬

‫ولجأوا إلى االقتراع العلني لالستقرار على قرار باألغلبية‪ ،‬وجاء القرار‬
‫والتقدم كم كان قدري ساخر ًا شرير ًا! أوه‪ ،‬لماذا‬
‫ُّ‬ ‫باالستمرار في التجديف‬
‫وركزنا أفكارنا‪....‬‬ ‫ُّ‬
‫التهكمية السمجة؟‪ .‬جدفنا في صمت‪َّ ،‬‬ ‫هذه األحداث‬
‫ّ‬
‫وتذكرت الجندي‬ ‫تذكرت هيئة ساعي البريد‪ ،‬رجل متن ّوع التجارب‪.‬‬‫َّ‬
‫الشاب الذي أصبح قرمزي ًا كما عصير الكرز‪َّ .‬‬
‫فكرت‪ :‬إذا انقلب القارب‪،‬‬
‫سأقذف بمعطفي الفرو ثم بالمعطف الجلدي‪ ،‬وبعدها حذائي (البوت)‬
‫وهلم ج ّرا‪ .‬لكن ضفة النهر الحت أقرب‬
‫ّ‬ ‫ثم‪...‬‬
‫المصنوع من التيل‪َّ ،‬‬
‫وأقرب‪ ،‬وسرت الطمأنينة إلينا‪ ،‬ونبض قلبي مبتهج ًا‪ ،‬وأطلقت زفرة كما‬
‫لو أنه بوسعي أن أتنفّ س بحرية أخير ًا‪ ،‬وقفزت إلى الضفة الزلقة‪ .‬حمد ًا‬
‫للرب!‪.‬‬

‫وعند الوصول إلى إليا ماركوفيتش‪( ،‬تحمل اسم شخص تح َّول إلى‬
‫ال‪ ،‬فالطريق‬‫اليهودية) أخبروني أنه ليس بوسعي أن أستكمل مسيرتي لي ً‬
‫علي أن أبقى إلى اليوم التالي‪ .‬ولم يكن ذلك باألمر السيئ‪،‬‬
‫سيئة‪ ،‬ولذلك َّ‬

‫‪63‬‬
‫وبقيت‪ .‬وبعد تناول الشاي‪ ،‬جلست أل كتب لك هذه الرسالة‪ ،‬ولم يقاطعني‬
‫شيء سوى زيارة الـ«رئيس»‪ .‬والرئيس هو مزيج ثري من نوزدريوف‬
‫مغن‪ّ ،‬‬
‫حكاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهليستاكوف والشخص اللئيم‪ .‬إنه ّ‬
‫سكير‪ ،‬خليع‪ ،‬كاذب‪،‬‬
‫وباإلضافة إلى كل ما سبق هو رجل ودود‪ .‬كان قد أحضر معه صندوق ًا‬
‫كبير ًا ممتلئ ًا بأوراق العمل‪ .‬وكان السكرتير رج ً‬
‫ال رائع ًا‪ ،‬جيد التعليم‪،‬‬
‫ليبرالي ًا احتجاجي ًا تع َّلم في بطرسبرج‪ ،‬وصاحب فكر متح ِ ّرر‪ .‬وال علم ّ‬
‫لدي‬
‫بالذي أتى به إلى سيبريا‪ ،‬هو مصاب إصابة بالغة بكافة أنواع األمراض‪،‬‬
‫«كولي ًا»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكان مضط ّر ًا ألن يشرب‪ ،‬رغم مبادئه‪ ،‬مما جعله‬

‫سكر‪ .‬صاح‬‫إن الرجل المم ِ ّثل للسلطة الرسمية أرسل في طلب شراب مُ ِ‬
‫أتوسل إليك!»‪ .‬وبالتأ كيد‪ ،‬شربت‬
‫ّ‬ ‫منادي ًا‪« :‬يا دكتور‪ ،‬اشرب كأس ًا أخرى‪،‬‬
‫يتمدد‬
‫ّ‬ ‫هذه الكأس‪ .‬كان مم ِ ّثل السلطة الرسمية‪ ،‬يشرب بصوت مرتفع‪،‬‬
‫بوقاحة‪ ،‬ويستخدم لغ ًة فاضحة‪ .‬وبعدها ذهبنا للنوم‪ .‬وفي الصباح َت ّم طلب‬
‫جدد ًا‪ .‬تج ّرعا الشراب حتى العاشرة مساءً‪ ،‬وفي النهاية‬
‫سكر مُ ّ‬
‫الم ِ‬
‫الشراب ُ‬
‫رحال‪ .‬وسكان إليا ماركوفيتش‪ ،‬يقولون إن الفالحين‪،‬هنا‪ ،‬يحبون هذا‬
‫الشخص المته ِ ّود لدرجة العبادة‪ ،‬لقد أعطوني الخيول التي ستق ّلني إلى‬
‫تومسك‪.‬‬

‫وركبنا نحن الثالثة‪ ،‬الرئيس والسكرتير وأنا‪ ،‬العربة نفسها‪ .‬وطوال الطريق‬
‫العب من‬
‫ّ‬ ‫لم يتوقّ ف الرئيس عن سرد األ كاذيب‪ ،‬كما لم يتوقّ ف عن‬
‫زجاجة الشراب‪ ،‬ويتباهي بأنه لم يحصل على أية رشاوى‪ ،‬وكان غاضب ًا‬
‫مما شاهده‪ ،‬ول ّوح بقبضته في وجه من قابلهم من متس ِ ّولين أو بغايا‪.‬‬
‫سارت بنا العربة لمسافة ‪ 15‬فرست‪ ،‬ثم ع ّرجت على قرية بروفكينو‪...‬‬
‫توقّ فنا بالقرب من ّ‬
‫دكان ألحد اليهود بغرض االستراحة وتناول وجبة‬
‫سكر لنا‪ ،‬بينما كانت‬
‫وشراب خفيف‪ .‬وسارع اليهودي بإحضار شراب مُ ِ‬
‫تعد لنا بعض ًا من مرق السمك‪ ،‬وهي السيدة نفسها التي كتبت لك‬
‫زوجته ّ‬

‫‪64‬‬
‫يتم إحضار كل من «سوتسكي ‪»sotsky‬‬ ‫عنها ت ّو ًا‪ .‬وأ َم َر الرئيس بأن ّ‬
‫و«دسياتسكي ‪ ،»desyatsky‬ومقاول الطريق‪ ،‬ليمثلوا أمامه‪ .‬وفي‬
‫ُس ْكره هذا بدأ يو ِ ّبخهم‪ ،‬ولم يكبح جماحه شيء؛ حتى وجودي بينهم‪.‬‬
‫كان يطلق الشتائم مثل التتري‪.‬‬

‫وسرعان ما انفصلت عن الرئيس‪ ،‬وفي عشية الخامس عشر من مايو‪،‬‬


‫يؤدي إلى تومسك‪ .‬وخالل اليومين‬
‫انطلقت عبر طريق مرعب‪ ،‬لكنه ّ‬
‫األخيرين لم نقطع سوى ‪ 70‬فرست ًا‪ ،‬وهكذا‪ ،‬بوسعك أن تتص ّوري مدى‬
‫سوء الطرقات!‬

‫في تومسك‪ ،‬كان من العسير المرور عبر الوحل‪ .‬وعن المدينة وأسلوب‬
‫المعيشة هنا‪ ،‬سأ كتب بعد يوم أو يومين‪ ،‬لكن‪ ،‬وداع ًا اآلن‪ ،‬فلقد مللت‬
‫من الكتابة‪.‬‬

‫ال وجود لخشب الحور هنا‪ .‬كانت الباخرة كوفشينيكوف راسية هنا‪.‬‬
‫ورأيت طيور العندليب والعقعق والوقواق‪.‬‬

‫اليوم تس َّلمت برقية مك ّونة من ‪ 80‬كلمة من سوفورين‪.‬‬

‫أرجو قبول اعتذاري عن تفكك رسالتي هذه‪ .‬فهي غير مترابطة‪ ،‬لكن ما‬
‫باليد حيلة‪ .‬فحتى لو كنت بغرفة في أحد الفنادق‪ ،‬فلن أستطيع أن أ كتب‬
‫أفضل منها‪ .‬واغفري لي طولها‪ ،‬فهذا ليس خطأي‪ .‬فقلمي يطاوع تدفُّ ق‬
‫أفكاري‪ ،‬باإلضافة إلى أنني أرغب في الحديث معك‪ .‬إنها الثالثة بعد‬
‫منتصف الليل‪ .‬ك َّلت يدي‪ .‬وبدأت فتيلة الشمعة تذوي‪ ،‬وبالكاد أستطيع‬
‫أن أرى‪ .‬اكتبي لي عند الوصول إلى كل أربعة أو خمسة أيام‪ .‬ويبدو أن‬
‫يتم نقله هنا ليس‪ ،‬فقط‪ ،‬عن طريق البحر‪ ،‬بل بر ًا أيض ًا عبر سيبريا‪،‬‬
‫البريد ّ‬
‫وهكذا سيكون بوسعي أن أتس ّلم الرسائل تباع ًا‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫أخبرني جميع أهالي تومسك أنهم لم يسبق لهم أن شهدوا ربيع ًا ممطر ًا‬
‫وبارد ًا مثل هذا الربيع‪ ،‬منذ عام ‪ .1842‬إن نصف تومسك مغمور بالمياه‪.‬‬
‫إنه حظّ ي!‬

‫أتناول الحلوى اآلن‪.‬‬

‫سأمكث في تومسك حتى توقُّ ف هطول األمطار‪ .‬إنهم يقولون إن الطريق‬


‫إلى إركيوتشك رهيب للغاية‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫تومسك‪ 20 ،‬مايو‬

‫المقدس (((‪ ،‬لكن هنا‪ ،‬حتى الصفصاف ما زال عاري ًا‬ ‫ّ‬ ‫اليوم عيد الثالوث‬
‫من األوراق‪ ،‬ومازالت الثلوج تغطّ ي ضفّ ة نهر توم‪ .‬غد ًا‪ ،‬سأبدأ رحلتي إلى‬
‫إركوتشك‪ .‬أنا اليوم في راحة‪ .‬ال حاجة للعجلة‪ ،‬فحركة السفن البخارية‬
‫البد أنني أتبع هذا‬
‫ّ‬ ‫في بحيرة بيكال لن تبدأ قبل العاشر من يونيو‪ ،‬لكن‪،‬‬
‫الطريق‪.‬‬

‫أنا على قيد الحياة‪ ،‬نقودي بأمان‪ ،‬أعاني ألم ًا خفيف ًا في عيني ُ‬
‫اليسرى؛‬
‫بها ألم خفيف متواصل‪.‬‬

‫نصحني الجميع بأن أعود عبر أميركا‪ ،‬حيث يُقال إن المرء قد يموت ضجر ًا‬
‫في وسائل النقل البحري التط ّوعي‪ ،‬فجميعها خاضع للنظام العسكري‬
‫وضوابط الشريط األحمر‪ ،‬وغالب ًا‪ ،‬ال تتوقّ ف في أي ميناء بطريقها‪.‬‬

‫ولتمضية الوقت أقوم بتدوين بعض انطباعاتي عن رحلتي‪ ،‬وأرسلها‬


‫إلى صحيفة «نوفوي فريميا‪»Novoye Vremya- New Times -‬‬
‫وسوف تطّ لعين عليها بعد العاشر من شهر يونيو‪ .‬إنني أ كتب القليل عن‬
‫كل شيء‪ ،‬نوع ًا ما من الثرثرة‪ .‬ال أكتب من أجل المجد‪ ،‬لكن من وجهة‬
‫قدم ًا‪.‬‬
‫نظر تجارية‪ ،‬ومقابل النقود التي حصلت عليها مُ ّ‬

‫ّ‬
‫لدي هذا الشعور من السكارى الذي‬ ‫تومسك مدينة مم ّلة للغاية‪ .‬وتأ َّكد‬
‫تع ّرفت إليهم عن ُقرب‪ ،‬ومن ُ‬
‫المثقَّ فين الذين جاؤوا ّ‬
‫إلي في الفندق للتعبير‬
‫ّ‬
‫والسكان ‪-‬كذلك‪ -‬مم ّلون للغاية‪.‬‬ ‫عن تقديرهم لي‪،‬‬

‫‪ :Trininty -1‬عيد الثالوث المقدس‪ ،‬األحد الثامن بعد عيد الفصح‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫خالل يومين ونصف اليوم سأصل إلى كراسنويارشك‪ ،‬وخالل سبعة أو‬
‫ثمانية أيام سأصل إلى إركوتشك‪ .‬تبعد إركوتشك ‪ 1500‬فرست‪ .‬أعددت‬
‫لنفسي القهوة‪ ،‬وسأتناولها اآلن‪.‬‬

‫عد تومسك تقع تايجا‪ .‬سنم ّر بها لرؤيتها‪.‬‬

‫تحياتي إلى جميع أفراد عائلة لينتفاريوفس ‪ ،Lintvaryovs‬وماريوشكا‬ ‫ّ‬


‫أتوسل إلى أمي أ ّلا تقلق‪ ،‬وال تترك نفسها نهب ًا لألحالم السيئة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العجوز‪.‬‬
‫هل نجحت زراعة الفجل؟ ال يوجد ّ‬
‫أي منه هنا‪.‬‬

‫استمتعوا بوقتكم‪ ،‬وال تقلقوا بشأن النقود‪ ،‬سنحصل على الكثير منها‪ ،‬ال‬
‫تحاولوا االقتصاد في النفقات‪ ،‬وتفسدوا عطلتكم الصيفية‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫كراسنويارشك‪ 28 ،‬مايو ‪1890‬‬

‫نتقدم حثيث ًا نحو‬


‫ّ‬ ‫ياله من طرق مُ هلِك!‪ .‬ولم يكن بوسعنا إال أن‬
‫وتم إصالح العربة التي تق ّلني م ّرتين‪ .‬وكان أوّل ما تع َّرض‬
‫كراسنويارشك‪ّ ،‬‬
‫مقدمة العربة بمحورها‪،‬‬
‫للكسر تلك القطعة الرأسية من الحديد التي تربط ّ‬
‫ث ُّم ُكسِ رت الدائرة الموجودة أسفل الفرامل‪ .‬طوال حياتي لم أشهد مثل‬
‫ذلك الطريق المملوء بالوحل الذي يعوق الحركة‪ ،‬ويعاني ‪-‬كذلك‪-‬‬
‫من كل مظاهر اإلهمال‪ .‬وسأ كتب إلى نوفويو فريميا عن األهوال التي‬
‫واجهتها هنا‪ ،‬ولهذا لن أذكرها اآلن‪.‬‬

‫آخر ثالث محطّ ات كانت رائعة‪ ،‬فك ّلما اقتربنا من كراسنويارشكا‪ ،‬يبدو‬
‫أننا نقترب من عالم مختلف‪ .‬فلقد خرجنا من الثلج إلى السهل الذي يشبه‬
‫سهل «دونيتس ستيب ‪ ،»Donets steppe‬لكن هنا قمة الجبل أضخم‪.‬‬
‫شروق الشمس في أبهى حاالته‪ ،‬وأشجار البتوال أزهرت‪ ،‬رغم أنه قبل‬
‫ثالث محطّ ات‪ ،‬لم تكن البراعم قد تف ّتحت حتى‪.‬‬

‫للرب‪ ،‬أخير ًا وصلت إلى مكان فيه الصيف بال أمطار أو ريح‬ ‫ّ‬ ‫حمد ًا‬
‫ِّ‬
‫متحضرة‪ ،‬ومقارنة بها تبدو‬ ‫باردة‪ .‬إن كراسنويارشكا فاتنة المناظر‪ ،‬مدينة‬
‫قمة التأنُّق»‪ .‬الشوارع‬
‫تومسك «مثل خنزير على رأسه قلنسوة ضيقة‪ ،‬وفي ّ‬
‫جيدة‬
‫شيدة من الحجر وم َّتسعة‪ ،‬والكنائس ّ‬
‫وممهدة‪ ،‬والبيوت مُ َّ‬
‫ّ‬ ‫هنا نظيفة‬
‫التشييد والزخرف‪.‬‬

‫أنا حي وبخير حال‪ .‬ونقودي بأمان‪ ،‬وكذلك باقي متع ّلقاتي‪ ،‬فقط فقدت‬
‫جوارب صوفية‪ ،‬لكنني وجدتها سريع ًا‪.‬‬

‫وباستثناء العربة التي أق ّلتني‪ ،‬كل شيء كان مُ رضي ًا‪ ،‬وليس هناك ما أشكو‬

‫‪69‬‬
‫منه‪ .‬فقط أنفق قدر ًا هائ ً‬
‫ال من المال‪ .‬ال يشعر المرء بالعجز عن تلبية‬
‫االحتياجات العملية اليومية كما يشعر خالل رحلة ما‪ .‬إنني ُأنفق أ كثر من‬
‫حاجتي‪ ،‬فأنا أتص َّرف بشكل خاطئ‪ ،‬وأقول كالم ًا غير صحيح‪ ،‬ودائم ًا‬
‫أتوقّ ع ما ال يحدث‪.‬‬

‫سوف أصل إلى إركوتشك خالل خمسة أو ستة أيام‪ ،‬حيث سأمضي‬
‫أتوجه إلى سريتينشك‪ ،‬وهناك ستنتهي رحلتي على‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬
‫عدة أيام هنا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫اليابسة‪ .‬أل كثر من أسبوعين وأنا في عربة تسير بال توقُّ ف‪ ،‬ال أفكر في‬
‫شيء سوى الطريق‪ ،‬وال أعيش لشيء سوى الوصول‪ ،‬فكل صباح أرى‬
‫الشمس من شروقها إلى غروبها‪ .‬وأصبحت معتاد ًا للغاية على ذلك األمر‪،‬‬
‫كما لو أنني أمضيت حياتي في قيادة العربات ومحاولة التغ ُّلب على‬
‫الطرقات الموحلة‪ .‬وعندما تتوقَّف األمطار‪ ،‬وال يتبقى هناك أية أوحال‬
‫على الطريق‪ ،‬يشعر المرء بالدهشة وبقليل من الضجر‪ .‬كم أنا بذيء! كم‬
‫ّ‬
‫الحظ‪ ،‬وفي حالة رثّة!‪.‬‬ ‫أبدو نذ ً‬
‫ال! وكم تبدو مالبسي تعيسة‬

‫‪ ...‬أخبري أمي أنه مازال بحوزتي برطمان ونصف البرطمان من القهوة‪،‬‬


‫ّ‬
‫وأتغذى على الجراد والعسل الب ّري‪ ،‬واليوم سأتناول طعام العشاء في‬
‫إركوتشك‪ .‬وكلما ا ّتجه المرء إلى الشرق‪ ،‬تصبح األشياء أغلى‪ .‬فهنا دقيق‬
‫الجاودار بسبعين كوبيك للبود‪ ،‬بينما على الجانب اآلخر من تومسك‬
‫كان بخمسة وعشرين أو سبعة وعشرين كوبيك ًا للبود‪ ،‬بينما دقيق القمح‬
‫بثالثين كوبيك ًا للبود‪ .‬والتبغ الذي يُباع في سيبريا فاسد وكريه‪ ،‬أشعر‬
‫َب هذه الحالة‪.‬‬
‫بالقلق ألن التبغ الذي أحمله قار َ‬

‫أسافر بصحبة مالزمين وطبيب بالجيش‪ ،‬وجميعهم يقصدون أمور ًا ما‪.‬‬


‫وهكذا لم تعد لمسدسي قيمة ُت َ‬
‫ذكر‪ .‬فمع مثل هذه الصحبة‪ ،‬حتى الجحيم‬
‫لن يكون مرعب ًا‪ .‬كنا قد تناولنا الشاي ت ّو ًا في المحطّ ة‪ ،‬وبعد تناول الشاي‬

‫‪70‬‬
‫سنقوم بجولة في المدينة‪.‬‬

‫ّ‬
‫لدي أي تحفُّ ظ على الحياة في كراسنويارشك‪ .‬وال أعرف سبب‬ ‫ليس‬
‫اختيار هذا المكان إلرسال المبعدين إليه‪.‬‬

‫اإلنسان‬

‫تشيخوف‬

‫‪71‬‬
‫عائلة تشيخوف‬

‫‪72‬‬
‫إركوتشك‪ 6 ،‬يونيو ‪1890‬‬

‫تحياتي لكم‪ ،‬إلى أمّي‪ ،‬وإيفان‪ ،‬وماشا‪ ،‬وميشا‪ ،‬وجميعكم!‬

‫قمة سلسلة‬‫في رسالتي األخيرة المط َّولة‪ ،‬كتبت إليكم أن الجبال تشبه ّ‬
‫جبال دونيتس‪ ،‬لكن هذا ليس صحيح ًا‪ ،‬فعندما تط ّلعت إليها من الشارع‬
‫رأيت أنها تشبه الجدران المرتفعة التي تحيط بالمدينة‪َّ ،‬‬
‫وذكرتني بالقوقاز‪.‬‬
‫وعند اقتراب المساء‪ ،‬غادرت المدينة وعبرت نهر ينيسي‪ ،‬رأيت على‬
‫الضفة األخرى جبا ً‬
‫ال تشبه ‪-‬تمام ًا‪ -‬جبال القوقاز‪ ،‬ضبابية وحالمة‪ .‬نهر‬
‫ينيسي عريض تنساب مياهه برشاقة‪ ،‬وي َّتسم بأنه كثير المنعطفات‪ ،‬جميل‬
‫البد‬
‫ّ‬ ‫ورائق الصفحة أ كثر من نهر الفولجا‪ .‬والمرور خالله رائع‪ ،‬لكن‬
‫أن تكون المراكب جيدة التصميم واإلنشاء‪ ،‬بما يسمح باإلبحار عكس‬
‫ا ّتجاه التيار‪.‬‬

‫تلك الجبال ونهر ينيسي هي أول األشياء األصيلة والجديدة التي‬


‫عما واجهته من متاعب‬ ‫أصادفها في سيبريا‪ .‬لقد منحتني مشاعر ع ّوضتني ّ‬
‫ومشكالت خالل الرحلة‪ ،‬والتي جعلتني أنعت ليفيتان بالمغفَّ ل ألنه كان‬
‫غبي ًا للغاية‪ ،‬ولم يرافقني‪.‬‬

‫تم َت ّد التيجة ((( بشكل متواصل من كراسنويارشك إلى إرتوشك‪ .‬وأشجارها‬


‫ليست أضخم من أشجار سوكولنيكي‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬ال يعرف ولو سائق‬
‫واحد كم تبلغ مساحتها‪ .‬فليس من نهاية يُمكن رؤيتها بالعين المج َّردة‪.‬‬
‫إنها تمتد إلى مئات الفرسات‪ .‬وال يعرف أحد نوع الكائنات التي تعيش‬
‫في التيجة‪ ،‬وهل هي عاقلة أم غير عاقلة‪ .‬وفقط‪ ،‬في الشتاء‪ ،‬يتوافد الناس‬

‫‪ :Taiga -1‬التيجة‪ ،‬غابة صنوبر‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫من أقصى الشمال‪ ،‬عبر التيجة‪ ،‬وبصحبتهم حيوانات الرنة ( (( من أجل‬
‫قمة الجبل والنظر منها إلى األسفل‪ ،‬ترى‬ ‫الحصول على الخبز‪ .‬وعند بلوغ ّ‬
‫أمامك جب ً‬
‫ال ث ُّم آخر‪ ،‬وكذلك هناك جبال على الجانبين‪ ،‬وجميعها مُ غطّ اة‬
‫بطبقة سميكة من الثلج‪ .‬وغالب ًا ما تجعل الخوف يسري في األوصال عند‬
‫التط ُّلع إليها‪ .‬وذلك هو ثاني األشياء األصيلة والجديدة‪.‬‬

‫من كراسنويارسك‪ ،‬بدأ الطقس يصبح حا ّر ًا ومترب ًا‪ .‬الحرارة فظيعة‪.‬‬


‫ولذلك طويت الكاب ومعطفي المصنوع من جلد الماعز‪ ،‬ووضعتهما‬
‫ويلطخ أسفل عنقي‪ّ .‬‬
‫أف!‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بعيد ًا في حقائبي‪ .‬التراب يمأل فمي وأنفي‪،‬‬
‫نحن نقترب من إركوتشك‪ ،‬وكان علينا أن نعبر نهر أنجارا على متن قارب‬
‫هبت ريح قويّة‪ .‬وبعد أن عشنا‪ ،‬رفقتي من‬ ‫نقل‪ .‬وعلى سبيل السخرية م ّنا‪ّ ،‬‬
‫العسكريين وأنا‪ ،‬في حلم قضاء عشرة أيام في حوض االستحمام وتناول‬
‫العشاء والنوم‪ ،‬وقفنا على ضفة النهر وقد اصف ّرت وجوهنا قلق ًا من أن‬
‫نُضطر لقضاء الليلة في القرية‪ ،‬ال في إركوتشك‪ .‬ولم ينجح قارب النقل‬
‫في الوصول إلى ضفّ ة النهر‪ .‬وقفنا ساعةً‪ ،‬و ُأخرى‪ ،‬يالرحمة السماء‪ ،‬لقد‬
‫نجح القارب في الوصول إلى ضفة النهر بعد جهد جهيد!‪.‬‬

‫برافو‪ ،‬سنحظى باالستحمام‪ ،‬وسنتناول طعام العشاء ونخلد إلى النوم!‪.‬‬


‫أوه‪ ،‬كم رائع أن يستحم المرء ويأ كل وينام!‪.‬‬

‫إركوتشك مدينة جميلة‪ ،‬هادئة ومُ ِ ّ‬


‫تحضرة‪ .‬فيها مسرح ومُ تحف وحديقة‬
‫عامّة حيث تقوم فرقة موسيقية بالعزف‪ ،‬وفيها فندق مالئم‪....‬ال وجود‬
‫ألسوار بشعة المنظر‪ ،‬أو الفتات سخيفة على المحال‪ ،‬وال أماكن الستنزاف‬
‫المثيرة‪ .‬وهناك خان يُدعى «تاجانروج»‪ ،‬حيث‬ ‫أموال الناس باإلعالنات ُ‬
‫ب الصنوبر ‪ 6‬كوبيكات للرطل‪.‬‬ ‫سعر رطل السكر ‪ 24‬كوبك‪ ،‬وسعر ُل ّ‬

‫‪ :Reindeer -1‬الرنة‪ ،‬نوع من األيائل‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أدخر ما ّ‬
‫لدي من ب ُّن إلى حين الوصول إلى‬ ‫أنا بخير حال‪ .‬نقودي بأمان‪َّ .‬‬
‫َسخالين‪ .‬أشرب شاي ًا رائع ًا هنا‪ ،‬يجعلني أشعر بقدر معقول من االنتعاش‬
‫ال صينيين‪ .‬إنهم ودودون وأذكياء‪ .‬وعند بلوغ ضفة‬ ‫واالنتباه‪ .‬رأيت رجا ً‬
‫قدموا لي المال على الفور‪ ،‬واستقبلوني بترجاب شديد‪،‬‬ ‫النهر السيبيري‪ّ ،‬‬
‫وجاملوني بتقديم السجائر‪ ،‬ودعوني إلى النزول ضيف ًا عليهم في منزلهم‬
‫الصيفي‪ .‬هناك الكثير من محال بيع الحلوى‪ ،‬لكن كل شيء هنا باهظ‬
‫الثمن للغاية‪ .‬األرصفة هنا من الخشب‪.‬‬

‫ليلة أمس‪ ،‬تج ّولت بالسيارة مع بعض رجال الشرطة‪ .‬سمعنا شخص ًا ما‬
‫ست مرات‪ .‬البد أنه كان شخص ًا يتع ّرض للقتل‪ .‬وذهبنا‬
‫يصرخ طلب ًا للعون ّ‬
‫الستكشاف األمر‪ ،‬لكننا لم نعثر على أي شخص‪.‬‬

‫في إركوتشك للعربات وسائد من الزنبرك المتصاص الصدمات‪ .‬إنها‬


‫مدينة أفضل من إيكاترنبرج أو تومسك‪ .‬إنها مدينة أوروبية الطابع بحقّ ‪.‬‬

‫قداس ًا كبير ًا في السابع عشر من يونيو (((‪ ،‬كذلك احتفلوا في يوم‬


‫أقيموا ّ‬
‫التاسع والعشرين من يونيو قدر استطاعتكم‪ ،‬سأصاحبكم بفكري‪،‬‬
‫ ( ((‬

‫ويجب أن تشربوا نخب ًا في صحتي‪.‬‬

‫لص‪.‬‬
‫مجعدة وقذرة ومم َّزقة!‪ ،‬إنني أبدو مثل ّ‬
‫َّ‬ ‫كل متع ّلقاتي أصبحت‬
‫لن ُأحضر لك فرو ًا في غالب األحوال‪ ،‬ألنني ال أعرف أين ّ‬
‫يتم بيعها‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أنني كسول‪ ،‬لدرجة تجعلني ال أسأل عن أماكن بيعها‪.‬‬

‫يجب أن يصطحب المرء وسادتين كبيرتين معه في الرحالت‪ ،‬باإلضافة‬

‫‪ -1‬ذكرى وفاة أخيه نيكوالي‪.‬‬


‫‪ :Name day -2‬عيد الشفيع‪ ،‬عيد القدّيس الذي يحمل أي إنسان اسمه‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫إلى أ كياس داكنة اللون للوسائد‪.‬‬

‫سأتوجه‬
‫ّ‬ ‫توجه إلى الجنوب؟‪.‬‬
‫ما أخبار إيفان؟ ماذا يفعل؟‪ ،‬أين هو؟ هل َّ‬
‫ويتأهب رفاقي لإلصابة بدوار البحر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من إركوتشك إلى بيكال‪.‬‬

‫أصبح حذائي البوت فضفاض ًا من تكرار ارتدائي له‪ ،‬ولم يعد يؤلم َ‬
‫كعب ْي‪.‬‬
‫طلبت عصيدة الحنطة السوداء من أجل الغد‪ .‬وخالل الرحلة هنا فكرت‬
‫في اللبن الرائب‪ ،‬وبدأت أشتريه مع اللبن الطازج من كل محطة أصل‬
‫إليها‪.‬‬
‫هل استلمت البطاقات البريدية التي أرسلتها إليك من المدن الصغيرة‬
‫التي مررت بها؟ احتفظي بها‪ ،‬فبواسطتها سأستطيع أن ِ ّ‬
‫أقدر كم يستغرق‬
‫وصول البريد‪ .‬البريد هنا بطيء نوع ًا ما‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫إركوتشك‪ 7 ،‬يونيو‪1890 ،‬‬

‫‪ ...‬تغادر الباخرة ميناء سريتينشك في العشرين من يونيو‪ .‬ليرحمني الرب‪،‬‬


‫ّ‬
‫يحل هذا اليوم؟‪ .‬كيف سأشغل وقتي؟ فالرحلة إلى‬ ‫ماذا سأفعل إلى أن‬
‫غيرت مسار رحلتي‬‫سريتينشك لن تستغرق إال خمسة أو ستة أيام‪ .‬لقد ّ‬
‫أتوجه إلى‬
‫ّ‬ ‫تغيير ًا جذر ّي ًا‪ .‬فمن هابروفيسك (انظروا الخارطة) ( ((‪ ،‬لم‬
‫توجهت إلى أوسوري‪ ،‬ومنها إلى فالديفوستوك‪،‬‬
‫َّ‬ ‫نيكوالفيسك‪ ،‬بل‬
‫ومن هناك إلى َسخالين‪ .‬البد أن ُألقي نظرة على منطقة أوسوري‪ .‬وفي‬
‫فالديفوستوك‪ ،‬سأسبح في البحر‪ ،‬وآكل المحار‪.‬‬

‫‪ ...‬كان الطقس بارد ًا عند الوصول إلى مانسك‪ ،‬ومن كانسك (طالعي‬
‫التوجه إلى الجنوب‪ .‬وبدأ كل شيء يخضوضر كما هو‬ ‫ُّ‬ ‫الخارطة) بدأت‬
‫الحال عندك‪ ،‬حتى أشجار البلوط‪ .‬أشجار البتوال لونها أكثر دكنة من‬
‫مثيالتها في روسيا‪ ،‬األخضر ليس عاطفي ًا للغاية‪ .‬وهناك أعداد كبيرة من‬
‫ّ‬
‫محل أشجار الليلك‬ ‫ّ‬
‫تحل‬ ‫أشجار الغُ بيراء الروسية بيضاء اللون‪ ،‬وهي هنا‬
‫والكرز‪ .‬ويقولون إنهم يصنعون مربّيات رائعة من ثمار أشجار الغُ بيراء‪.‬‬
‫وتذوّقت بعض ثمار الغُ بيراء مُ َخ ّللة‪ ،‬ولم تكن ّ‬
‫سيئة المذاق‪.‬‬

‫يصاحبني الضابطان وطبيب الجيش‪ .‬لقد حصلوا على نفقات سفرهم‬


‫مضاعفة لثالث م ّرات‪ ،‬ورغم ذلك فلقد أنفقوها عن آخرها‪ ،‬رغم أنهم‬
‫يسافرون في عربة واحدة‪ .‬إنهم مفلسون للغاية‪ ،‬وال يحتكمون حتى على‬
‫واحد منتظرين أن ترسل لهم جهة عملهم بعض النقود‪ .‬إنهم‬ ‫ (((‬
‫فارذنج‬

‫‪ -1‬خالل غياب تشيخوف‪ ،‬حازت أسرته خارطة لسيبريا‪ ،‬كانوا بواسطتها يتابعون مراحل تقدمه في رحلته‪.‬‬
‫‪ :Farthing -2‬الفارذنج‪ ،‬قطعة نقد بريطانية تساوي ربع بنس‪ ،‬شيء ضئيل القيمة‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫رفاق ودودون‪ .‬كان بحوزة كل واحد منهم ‪ 1500‬روبيل لتغطية نفقات‬
‫السفر‪ ،‬ولم تكن الرحالت لتكلفهم سوى ّ‬
‫أقل القليل (إذا ما استبعدنا‬
‫بالطبع ما كانوا ينفقونه في كل محطة توقُّ ف)‪ .‬كانوا يفاوضون كل من‬
‫قابلهم سواء في المحطات أو في الفنادق‪ ،‬لدرجة جعلت الناس يخشون‬
‫تقديم الفواتير لهم‪ .‬وفي صحبتهم دفعت أقلّ من المعتاد‪ .‬واليوم‪ ،‬وألول‬
‫مرة‪ ،‬أشاهد قطّ ة سيبرية‪ ،‬لها فراء ناعم طويل‪ ،‬وسلوك لطيف‪.‬‬

‫شعرت بحنين إلى الوطن‪ ،‬واليوم أرسلت لك برقية أطلب منكم أن‬
‫تساهموا جميع ًا‪ ،‬وترسلوا لي برقية طويلة‪ .‬أظن أنه لن يثقل كاهلكم‪ -‬يا‬
‫أهل بيت لوكا‪ -‬أن ينفق كل منكم خمسة روبيالت‪.‬‬

‫يحبه ميشكا؟ من المرأة التي يحكي لها إيفانينكو الحكايات‬


‫ّ‬ ‫من الذي‬
‫أحب يامايس ألنني حلمت بها أمس‪ .‬وبالمقارنة‬‫ّ‬ ‫عمه؟ البد أنني‬
‫عن ّ‬
‫(هن ال يعرفن كيف يلبسن‬
‫ّ‬ ‫مع الشابات السيبيريات من حيث مظهرهن‬
‫أو يغ ّنين أو يضحكن)‪ ،‬فإن يامايس‪ ،‬دريشكا‪ ،‬وجونداشيا ‪-‬ببساطة‪-‬‬
‫المجمد‪ ،‬فالمرء يجب‬
‫ّ‬ ‫ملكات‪ .‬الفتيات والنساء السيبيريات مثل السمك‬
‫ّ‬
‫ليتمكن من مغازلتهن‪.‬‬ ‫ (((‬
‫أن يكون حيوان الفظ ((( والفقمة‬

‫أحب الصمت أ كثر‬


‫ّ‬ ‫مللت من رفاقي‪ .‬من األلطف أن يسافر المرء بمفرده‪.‬‬
‫من أي شيء آخر في الرحلة‪ ،‬ورفاقي ال يتوقّ فون عن الكالم والغناء‪ ،‬إنهم‬
‫يردوها‬
‫ال مني على أن ّ‬ ‫ال يتك ّلمون سوى عن النساء‪ .‬لقد اقترضوا ‪ 36‬روبي ً‬
‫غد ًا‪ ،‬وأنفقوها في الت ّو‪ .‬إنهم ِ ّ‬
‫مبذرون للغاية‪.‬‬

‫أحيان ًا‪ ،‬تبعد المحطات‪ ،‬بعضها عن اآلخر‪ ،‬مسافة تتراوح بين ‪ 30‬و‪35‬‬

‫ثديي شبيه بالفقمة‪ ،‬وتعني ّ‬


‫الفظ‪.‬‬ ‫‪ :Walrus -1‬حيوان ّ‬
‫‪ :Seal -2‬الفقمة‪ ،‬عجل البحر‪ ،‬حيوان من لواحم البحر؛ شبيه بالسمك ظاهراً‪ ،‬لكنه من الثدييات‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫فرست ًا‪ .‬وعند السير لي ً‬
‫ال‪ ،‬تسير العربة وتسير حتى تشعر بالسخف وبالدوار‪،‬‬
‫وإذا جازفت بسؤال السائق‪ :‬كم تبعد المحطّ ة التالية؟ لن يجيبك برقم‬
‫أقل من (سبعين فرست ًا)‪ ،‬وتترك هذه اإلجابة ألم ًا في النفس‪ ،‬خاصة‬ ‫ّ‬
‫بالحفر‪،‬وعندما‬
‫ُ‬ ‫عندما تكون مضط ّر ًا لإلسراع في طريق موحل ممتلئ‬
‫تكون ظمآن‪.‬‬

‫لقد تع ّلمت أن أنام وسط الضجيج‪ ،‬وال أمانع ‪-‬مطلق ًا‪ -‬يقومون بإيقاظي‪.‬‬
‫ثم في اليوم التالي عند وقت الغداء يشعر‬
‫كقاعدة ال ينام المرء ليوم وليلة‪ّ ،‬‬
‫المرء بثقل في جفونه‪ ،‬وفي المساء والليل‪ ،‬قرب فجر اليوم الثالث‪ ،‬ينعس‬
‫المرء في عربة الشيز‪ ،‬وأحيان ًا يغفو لدقائق وهو جالس‪ ،‬وعلى العشاء‬
‫وبعده في المحطات‪ ،‬وبينما تحظى الخيول بفترة الراحة دون سروجها‪،‬‬
‫يستلقي المرء على كنبة‪ ،‬لكن العذاب الحقيقي يبدأ في الليل‪.‬‬

‫في المساء‪ ،‬وبعد تناول سبعة أ كواب من الشاي‪ ،‬يحل الخدر بكامل‬
‫الجسد‪ ،‬ويتوق المرء لالستلقاء على ظهره‪ ،‬تنغلق عيناه‪ ،‬وتؤلمه قدماه‬
‫داخل حذائه البوت الضخم‪ ،‬ويصبح عقله مش ّوش ًا‪ .‬وإذا تركت نفسي‬
‫ّ‬
‫لدي رغبة في‬ ‫أغط في نوم عميق من فوري‪،‬وإذا كانت‬ ‫ّ‬ ‫للنوم فإنني‬
‫شدة االرتجاجات‬
‫االستمرار‪ ،‬فإنني أنام في عربة الشيز مهما كانت ّ‬
‫وعند الوصول إلى المحطات‪ ،‬يقوم السائقون بإيقاظ الراكب ليدفع أجرة‬
‫كمه‪،‬‬
‫السفر‪ .‬وال يقومون بإيقاظ الراكب عن طريق الصراخ أو جذبه من ّ‬
‫تسبب ذلك رائحة الثوم التي تفوح من أفواههم‪ ،‬تفوح منهم‬ ‫بقدر ما ِ ّ‬
‫رائحة الثوم والبصل دائم ًا لدرجة تصيبني بالغثيان‪.‬‬

‫تعلمت النوم في عربة الشيز بعد أن تجاوزنا كراسنويارشك‪ .‬وفي الطريق‬


‫إلى إركيوتشك نمت طوال ثمانية وخمسين فرست ًا‪ ،‬ولم أستيقظ خاللها‬

‫‪79‬‬
‫سوى مرة واحدة‪ .‬لكن النوم في عربة على الطريق‪ ،‬ال تجعل المرء يشعر‬
‫بتحسن‪ .‬إنه ليس نوم ًا حقيقي ًا‪ ،‬لكنه نوع من فقدان الوعي‪ ،‬وبعده يصبح‬
‫ُّ‬
‫رأس المرء مش ّوش ًا‪ ،‬ويصبح للفم مذاق ّ‬
‫سيئ‪.‬‬
‫إن الصينيين يشبهون هؤالء الرجال الطاعنين في السن الذين اعتاد عزيزي‬
‫نيكوالي أن يرسمهم‪ .‬ولبعضهم ضفائر صغيرة رائعة‪.‬‬

‫جاءت الشرطة لرؤيتي في تومسك‪ .‬وقرابة الساعة الحادية عشرة أخبرني‬


‫الساقي ‪-‬فجأة‪ -‬أن مساعد رئيس الشرطة يريد رؤيتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫فولتيري؟ قلت‬ ‫ما سبب ذلك؟ هل هي السياسة؟ هل يشتبهون في أنني‬
‫وقدم‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫مهذب بشارب طويل‪،‬‬ ‫للساقي‪ُ :‬اطلب منه الدخول‪ .‬دخل ّ‬
‫سيد‬
‫علي في‬
‫ّ‬ ‫مهتم ًا باألدب‪ ،‬بل هو نفسه كاتب‪ ،‬ودخل‬
‫ّ‬ ‫نفسه‪ .‬يبدو أنه كان‬
‫حجرتي كما لو كان داخ ً‬
‫ال على النبي محمد في مكة ليعلن إسالمه‪.‬‬
‫وسأخبرك لماذا أذكره في رسالتي لك‪ .‬في نهاية الخريف سيذهب إلى‬
‫بطرسبرج‪ ،‬وتثاقلت عليه بطلب أن يحمل صندوقي معه‪ ،‬ويودعه مكتب‬
‫جريدة «نوفوي فريميا»‪.‬‬
‫يجب أن تتذكري هذا في حالة ذهاب أي فرد من عائلتنا أو أصدقائنا‬
‫إلى بطرسبرج‪.‬‬
‫وبالمناسبة‪ ،‬بوسعك أن تبحثي عن مكان في الريف‪ .‬فعند عودتي إلى‬
‫روسيا سأستريح لخمس سنوات‪ ،‬ال أفعل شيئ ًا سوى البقاء في مكان‬
‫واحد غير منشغل بشيء‪ .‬أي مكان بالريف سيكون مالئم ًا‪ .‬أعتقد أنه من‬
‫الممكن تدبير النقود‪ ،‬فاألحوال ال تبدو سيئة‪ .‬وإذا أنجزت العمل الذي‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫مقدم ًا (أنجزت نصفه فعلي ًا) سيكون‬
‫ّ‬ ‫حصلت على مقابله المادي‬
‫أن أقترض ألفين أو ثالثة آالف روبيل في الربيع؛ على أن ِ ّ‬
‫أسددها خالل‬
‫خمس سنوات‪.‬‬
‫وال يتعارض هذا مع ضميري‪ ،‬فلقد سمحت لقسم النشر في «نوفويا‬

‫‪80‬‬
‫فريميا» أن ينشروا ألفين أو ثالثة آالف نسخة من كتبي‪ ،‬وسأسمح لهم‬
‫أن ينشروا المزيد منها‪.‬‬
‫جاد قبل أن أبلغ الخامسة والثالثين‪...‬‬
‫وأعتقد أنني لن أشرع في أي عمل ّ‬
‫أرغب أن أستمتع بحياتي الخاصة‪ ،‬والتي ج ّربتها سابق ًا‪ ،‬لكنها َم َّرت دون‬
‫تأثير واضح بسبب العديد من الظروف والمالبسات‪.‬‬
‫مشطت معطفي الجلدي بالدهن‪ .‬إنه معطف رائع‪ .‬لقد وقاني من‬
‫اليوم ّ‬
‫اإلصابة بالبرد‪ .‬كذلك معطفي المصنوع من جلد الغنم ممتاز هو اآلخر‪،‬‬
‫لقد استخدمته كمعطف ومرتبة‪.‬فبداخله يشعر المرء بالدفء كما لو كان‬
‫داخل فرن‪ .‬لكنه غير مريح دون وسائد‪.‬وال يحلّ القش محلها‪ ،‬فمع‬
‫االحتكاك المستم ّر يعلق الكثير من األتربة بوجه المرء بما يمنعه من‬
‫لدي مالءة واحدة‪ .‬هذا بشع للغاية‪ .‬كذلك اكتشفت أنني‬ ‫ّ‬ ‫النوم‪.‬ليس‬
‫بحاجة للمزيد من البناطيل‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ّ‬
‫محطة ليستفنيتشنايا‪ ،‬على بحيرة بيكال‪ 13 ،‬يونيو‬

‫يم ّر الوقت رتيب ًا‪ .‬ففي مساء الحادي عشر من يونيو‪ ،‬أوّل أمس‪ ،‬انطلقنا‬
‫من إركوتشك‪ ،‬على أمل أن نلحق بباخرة بيكال‪ ،‬والتي تغادر في الرابعة‬
‫صباح ًا‪ .‬وفي المسافة بين إركوتشك وبيكال‪ ،‬هناك ثالث محطّ ات‪ .‬وفي‬
‫المحطّ ة األولى أخبرونا أن جميع الخيول منهكة؛ ولهذا فمن المستحيل‬
‫أن نتح ّرك في الوقت الراهن‪ .‬وكان علينا المبيت هنا هذه الليلة‪.‬‬
‫صباح أمس‪ ،‬تح َّركنا من المحطة‪ ،‬وعند الظهيرة وصلنا بيكال‪ .‬ذهبنا‬
‫إلى الميناء‪ ،‬وإجابة عن تساؤالتنا أخبرونا أن الباخرة لن تتح َّرك قبل‬
‫الجمعة الموافق الخامس عشر من يونيو‪ .‬ومعنى هذا أننا يجب أن نبقى‬
‫على الشاطئ‪ ،‬ونتط ّلع إلى المياه‪ ،‬وننتظر‪ .‬وحيث إن لكل شيء نهاية‬
‫لدي اعتراض على االنتظار‪ ،‬وأنا دائم ًا أتح ّلى‬
‫ّ‬ ‫بمرور الوقت‪ ،‬لم يكن‬
‫بالصبر خالل االنتظار‪ ،‬لكن المشكلة أن الباخرة ستغادر في العشرين من‬
‫الشهر با ّتجاه «أمور»‪ .‬وإذا لم نلحق بالباخرة فلن يكون أمامنا إال انتظار‬
‫الباخرة التالية‪ ،‬والتي لن تغادر قبل الثالثين من الشهر‪ .‬يالرحمة السماء‪.‬‬
‫متى أصل إلى َسخالين!‬

‫انطلقنا إلى بيكال بمحاذاة ضفّ ة نهر أناجرا‪ ،‬الذي ينبع من بحيرة بيكال‪،‬‬
‫ويصب في ينيسي‪ .‬طالعي الخارطة‪.‬‬

‫الضفاف فاتنة‪ .‬سالسل جبلية‪ ،‬وغابات كثيفة على الجبال‪ .‬ال يزال‬
‫الطقس بديع ًا مشمس ًا ودافئ ًا‪ ،‬وخالل الطريق شعرت أنني بحالة جيدة‬
‫للغاية‪ ،‬أشعر بسعادة شديدة أعجز عن وصفها‪ .‬ربما يرجع ذلك إلى التباين‬
‫بين اإلقامة في إركوتشك وبين المناظر الفاتنة على ضفاف األنجارا‬
‫والتي تشبه سويسرا‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫إنه شيء ما جديد وأصيل‪ .‬سرنا بمحاذاة ضفّ ة النهر وصو ً‬
‫ال إلى منبعه‪،‬‬
‫يسمونها‬
‫ّ‬ ‫وتح ّولنا إلى اليسار‪ ،‬حتى وصلنا إلى ضفة بحيرة بيكال‪ ،‬والتي‬
‫البحر في سيبريا‪ .‬إن صفحة مياهها مثل المرآة‪ .‬وبالتأ كيد‪ ،‬لم يكن من‬
‫الممكن رؤية الضفة األخرى للبحيرة‪ ،‬فهي تبعد تسعين فرست ًا‪ .‬الضفاف‬
‫مرتفعة‪ ،‬منحدرة‪ ،‬صخرية‪ ،‬ومغطّ اة بالثلج‪ ،‬وإلى اليمين واليسار هناك‬
‫تشبه األوداج ‪ Au-dag‬أو الهوتيبل في فوديسيا ‪Tohtebel‬‬ ‫رعنات‬
‫ (((‬

‫‪.at Feodosia‬إنها تشبه الكريميا ‪ .crimea‬تقع محطة ليستفنيتشنايا‬


‫عند حافة البحيرة‪ ،‬وهي شبيهة‪ ،‬للغاية‪ ،‬بيالطا؛ لو كانت البيوت بيضاء‬
‫لكانت صورة طبق األصل من يالطا‪ .‬فقط ال توجد بيوت على الجبال‪،‬‬
‫فهي شاهقة االرتفاع لدرجة تحول دون البناء على قممها‪.‬‬

‫ِّ‬
‫تذكرني بتلك الدارات الموجودة في‬ ‫استأجرنا حجرة مناسبة‬
‫كراسكوفسكي‪ .‬ومن النافذة‪ ،‬على بعد ياردتين أو ثالث ياردات‪ ،‬تقع‬
‫بحيرة بيكال‪ .‬وإيجار هذه الحجرة روبيل في اليوم‪ .‬لكن فكرة أننا سنبقى‬
‫علي جمال الجبال والغابات‬
‫ّ‬ ‫هنا إلى الخامس عشر من الشهر‪ ،‬أفسدت‬
‫وصفحة مياه البحيرة الرائقة كما المرآة‪ .‬ماذا سنفعل هنا؟ ماالذي نجهله؟‬
‫وما الطعام الذي سنتناوله؟‪.‬‬

‫إن سكان المكان ال يأ كلون سوى الثوم‪ .‬ال لحم أو سمك‪ .‬لم ِ ّ‬
‫يقدموا لنا‬
‫اللبن‪ ،‬لكنهم وعدونا بتقديمه‪ .‬ومقابل رغيف من دقيق القمح يطلبون‬
‫ستة عشر كوبك ًا‪ .‬اشتريت بعض الحنطة السوداء وقطعة من لحم الخنزير‬
‫يعدوا لي عصيدة منها‪ :‬لم تكن طيبة المذاق‪ ،‬لكن‪،‬‬
‫دخن‪ ،‬وطلبت أن ّ‬
‫الم َّ‬
‫ُ‬
‫ما باليد حيلة‪ ،‬لم يكن أمامي سوى تناولها‪ .‬وطوال فترة الظهيرة كنا‬
‫نتج َّول في القرية بحث ًا عن شخص يبيعنا دجاجة‪ ،‬ولم نجد أحد ًا‪.‬‬

‫الرعن‪ُ ،‬قنّة الجبل الخارجة منه والداخلة في البحر‪.‬‬


‫‪ّ :Promontory -1‬‬

‫‪83‬‬
‫لكن‪ ،‬كانت الفودكا متوافرة‪ .‬الروسي خنزير كبير‪ ،‬فإذا سألته لماذا ال‬
‫رجع ذلك إلى غياب وسائل المواصالت‬ ‫سي ِ‬
‫يأ كل اللحم أو السمك‪ُ ،‬‬
‫واال ّتصاالت‪ ...‬إلى آخر تلك األسباب‪ ،‬رغم أن الفودكا موجودة بكميات‬
‫كبيرة‪ ،‬لكن في قرى بعيدة للغاية‪ .‬وبوسع المرء أن ِ ّ‬
‫يخمن أن جلب اللحم‬
‫البد يكون أسهل من جلب الفودكا صعبة النقل وباهظة الثمن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والسمك‬
‫بالتأ كيد إن تناول الفودكا أكثر متعة من صيد السمك من بحيرة بيكال أو‬
‫تربية الماشية‪.‬‬

‫وعند منتصف الليل وصلت باخرة صغيرة‪ ،‬وذهبنا لنستطلع األمر‪ ،‬وانتهزنا‬
‫الفرصة لنسأل عن أي شيء صالح لأل كل‪ .‬وأخبرونا أنه سيكون بوسعنا أن‬
‫ِّ‬
‫متأخر‪ ،‬لقد انطفأت نيران‬ ‫نتناول طعام الغداء غد ًا‪ ،‬لكن‪ ،‬اآلن‪ ،‬الوقت‬
‫كل أصبح هناك شيء نتطلع‬ ‫المطبخ‪ ...‬إلخ‪ ..‬شكرناه بالنسبة للغد‪ ،‬فعلى ٍ ّ‬
‫إليه!‪ .‬لكن واحسرتاه! جاء ربّان الباخرة وأخبرنا أن الباخرة ستبحر غد ًا‬
‫في الرابعة من بعد الظهر مُ َّتجهة إلى كلتوك‪ .‬شكرناه‪ ،‬ونحن في البار‪،‬‬
‫حيث لم تكن من مساحة لنتح ّرك فيها‪.‬‬

‫شربنا زجاجة بيرة حامضة رديئة الطعم (الزجاجة بخمسة وثالثين كوبك ًا)‪،‬‬
‫ورأيت في أحد األطباق كريّات بلون الكهرمان‪ ،‬كانت كافيار السالمون‪.‬‬
‫عدنا إلى الحجرة التي استأجرناها لننام‪ .‬سئمت من النوم‪ ،‬فيومي ًا كان‬
‫علي أن أبسط معطفي المصنوع من جلد األغنام بطبقة الصوف ألعلى‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتحت رأسي أضع معطف ًا سميك ًا مطوي ًا‪ ،‬ووسادة كذلك‪ ،‬وأستلقي على‬
‫هذه الكومة مرتدي ًا صدرية وبنطا ً‬
‫ال‪ ...‬أيتها الحضارة‪ ،‬أين أنت؟‪.‬‬

‫اليوم‪ ،‬تهطل األمطار وبحيرة بيكال يغمرها الضباب‪« .‬كم هو شائق‬


‫أخمن أن سيماشكو سيع ِ ّلق بهذه الجملة‪ .‬هذا مملّ‪ ،‬لم أجد سوى‬
‫هذا!»‪ّ ِ ،‬‬

‫‪84‬‬
‫الجلوس والكتابة‪ ،‬لكن‪ ،‬ال يستطيع المرء أن يعمل في الطقس الرديء‪.‬‬
‫هذا نذير بملل بشع‪ ،‬فلو كنت بمفردي ما تأفّ فت‪ ،‬لكن هناك ضابطين‬
‫وطبيب ًا في الجيش بصحبتي‪ ،‬وجميعهم مغرمون بالحديث والجدل‪ .‬ال‬
‫يتحدثون في كل شيء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يفهمون كثير ًا‪ ،‬لكنهم‬

‫ومتبجح‪ .‬عندما أسافر في المستقبل سأحرص‬ ‫ِّ‬ ‫وأحد الضابطين متغطرس‬


‫على أن أ كون بمفردي‪ .‬فالجلوس في عربة تشيز أو حجرة بمفردي متأ ِ ّم ً‬
‫ال‬
‫ِّ‬
‫ومتفكر ًا أ كثر متعة من وجود صحبة‪.‬‬

‫ه ِ ّنئوني‪ :‬بعت وسيلة النقل الخاصة بي في إركوتشك‪ .‬ولن أذكر كم‬


‫َغشي ًا عليها‪ ،‬ولن تنام لخمس‬
‫تقاضيت ثمن ًا مقابلها‪ ،‬وإال ستسقط أمي م ّ‬
‫ليال‪.‬‬

‫تشيخوف‬

‫‪85‬‬
‫‪ 1‬يونيو‪1890 ،‬‬

‫في السادسة مساءً ‪ ،‬وليس بعيد ًا عن ستانيتسا بكروفسكايا‪.‬‬

‫يتم‬
‫ف فجوة في الباخرة‪ ،‬واآلن ّ‬ ‫مما خ َّل َ‬
‫م َّرت الباخرة على صخرة‪ّ ،‬‬
‫نضخ‬
‫ّ‬ ‫إصالحها‪ .‬جنحت الباخرة واصطدمت بالشاطئ الرملي‪ ،‬وبدأنا‬
‫المياه من السفينة‪ .‬إلى اليسار الضفة الروسية‪ ،‬وإلى اليمين الضفة الصينية‪.‬‬
‫إذا ُق ِ ّدر لي أن أعود إلى وطني اآلن‪ ،‬سيكون من حقّ ي أن أتفاخر‪« :‬رغم‬
‫أنني لم أ كن في الصين‪ ،‬فلقد رأيت الصين من بعد عشرين قدم ًا فقط»‪.‬‬
‫ال بهدف رؤية‬‫يجب علينا أن نمكث الليلة في بوكروفسكايا‪ .‬وسنقيم حف ً‬
‫المكان‪.‬‬
‫إذا كنت مليونير ًا‪ ،‬لم أ كن سأتوانى عن امتالك باخرة في «أمور»‪ .‬إنها‬
‫منطقة ريفية بديعة‪ .‬وأنصح إيجور ميهالوفيتش بأن يقصد هذه المنطقة‬
‫بد ً‬
‫ال من «توابز ‪ ،»Tuapse -‬وال وجود هنا للعناكب الذئبية أو الجراد‪.‬‬
‫وعلى الجانب الصيني‪ ،‬هناك مخفر وكوخ صغير‪ ،‬وهناك ‪-‬كذلك‪-‬‬
‫أ كياس من الدقيق مك َّومة على الضفة‪ ،‬ويقوم رجال صينيون بائسو الهيئة‬
‫بسحب األكياس إلى داخل الكوخ على عربات يد‪ .‬وفي الخلفية تتراءى‬
‫َ‬
‫الغابات الكثيفة مترامية األطراف‪.‬‬
‫لوجوههن سمت روسي‪ ،‬لكنهن‬
‫ّ‬ ‫صحبتنا بعض الطالبات من إركوتشك‪،‬‬
‫لسن جميالت‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫بوكروفاسكايا ستانيستا‪ 23 ،‬يونيو ‪1890‬‬

‫لقد أخبرتك ت ّو ًا أننا اصطدمنا بضفّ ة رملية‪ .‬وعند بلوغ أوست سترايلكا‪،‬‬
‫حيث يلتقي نهرا شيلكا‪ ،‬وأرجون (راجعي الخارطة)‪ ،‬علقت الباخرة‬
‫وأدى‬
‫في مياه ضحلة بعمق قدمين ونصف القدم‪ ،‬اصطدمت بصخرة‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫متعددة بجانبها‪ ،‬وامتأل مخزن الباخرة بالماء‪ ،‬وغرقت‬ ‫ذلك إلى فجوات‬
‫بضخ المياه منها باستخدام‬
‫ّ‬ ‫الباخرة حتى استق ّرت بالقاع‪ .‬وبدأوا‬
‫بحار عاري الجسد‬
‫مضخات‪ ،‬وإغالق الفجوات التي نشأت‪ ،‬وزحف ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى المخزن‪ ،‬ووقف في المياه التي وصلت حتى رقبته‪ ،‬وحاول غلق‬
‫وتمت تغطية كل ثقب من الداخل بقطعة قماش‬
‫بكعب ْي قدميه‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫الثقوب‬
‫ثبتوا دعامة‬
‫القمة‪ ،‬ثم ّ‬
‫ّ‬ ‫مغموسة في الشحم‪ ،‬ووضعوا لوح خشب على‬
‫خشبية فوق األخير‪ ،‬وقد حملت السقف كما لو كانت عمود ًا‪ .‬كانت تلك‬
‫يضخون المياه إلى خارج الباخرة من الساعة‬
‫ّ‬ ‫هي عملية اإلصالح‪ .‬وكانوا‬
‫يتسبب ذلك في إنقاص‬
‫َّ‬ ‫الخامسة من بعد الظهر حتى الليل‪ ،‬دون أن‬
‫المياه‪ ،‬واضط ّروا إلى إيقاف العمل حتى الصباح التالي‪.‬‬

‫وفي الصباح اكتشفوا المزيد من الثقوب في جسد الباخرة‪ ،‬وبدأوا‬


‫بضخ المياه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البحارة يقومون‬
‫ّ‬ ‫مجدد ًا‪ .‬كان‬
‫َّ‬ ‫وضخ المياه‬
‫ّ‬ ‫محاوالت غلقها‬
‫بينما نحن ‪-‬الركاب‪ -‬كنا نروح ونجيء على سطح الباخرة‪ ،‬وال نتوقّ ف‬
‫وفع َل الربّان ووكيله كما فعلنا‪،‬‬
‫عن االنتقاد‪ ،‬واأل كل‪ ،‬والشرب‪ ،‬والنوم‪َ ،‬‬
‫يبد عليهما أنهما في عجلة من أمرهما‪ .‬وإلى اليمين كانت الضفّ ة‬
‫ولم ُ‬
‫الصينية‪ ،‬وإلى اليسار تقع ستانيستا‪ ،‬بوكروفسكايا‪ ،‬حيث يعيش القوزاق‬
‫من «أمور» وإذا أراد المرء الذهاب إلى روسيا فله ذلك‪ ،‬وإذا أراد الذهاب‬
‫إلى الصين فله ذلك‪ ،‬ليس هناك ما يحول دونه والقيام بما يرغب‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫كانت حرارة الج ّو ال ُتطاق خالل النهار‪ ،‬لدرجة أن المرء ال يحتاج أن‬
‫وقدموا لنا طعام العشاء في الثانية عشرة‬
‫يرتدي أ كثر من قميص حريري‪ّ .‬‬
‫ظهر ًا‪ ،‬أما العشاء ففي السابعة مساءً‪.‬‬

‫ولسوء الحظ وصلت الباخرة فيستنيك من االتجاه المقابل‪ ،‬وكان عليها‬


‫متهيئين للنزول في ستانيتسا‪ ،‬ولم تنجح فيستنيك‬
‫ّ‬ ‫عدد كبير من المسافرين‬
‫في الوصول إلى رصيف الميناء‪ ،‬وعلقت الباخرتان كلتاهما‪ .‬وكانت‬
‫هناك فرقة موسيقية عسكرية على الباخرة فيستنيك‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كانت هناك‬
‫حفلة موسيقية دورية‪ .‬وطوال األمس قامت الفرقة الموسيقية بالعزف على‬
‫والبحارة‪ ،‬ولشغل الوقت إلى أن‬
‫ّ‬ ‫سطح الباخرة‪ ،‬وذلك بغرض تسلية الربّان‬
‫يتم إصالح الباخرة‪.‬‬
‫ّ‬

‫كان النصف النسائي من الركاب مبتهج ًا غاية االبتهاج؛ فهناك فرقة‬


‫وبحارة‪....‬أوه! كذلك كانت الطالبات سعيدات بشكل‬
‫وضباط ّ‬
‫ّ‬ ‫موسيقية‬
‫خاص‪ .‬فمساء أمس‪ ،‬تج َّولنا في مستعمرة القوزاق‪ ،‬حيث كانت الفرقة‬
‫الموسيقية نفسها قد َت َّم استئجارها للعزف هناك‪ .‬واليوم بدأت عملية‬
‫مجدد ًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اإلصالح‬

‫مجدد ًا بعد تناول طعام الغداء‪ ،‬لكنه كان غير‬


‫َّ‬ ‫وعد الربّان بأننا سننطلق‬
‫يحدق بعيد ًا في المدى‪ ،‬وبدا كما لو كان غير‬ ‫ِّ‬ ‫حاسم في وعده‪ ،‬وكان‬
‫مما يقول‪.‬‬
‫واثق ّ‬

‫لم نكن في عجلة من أمرنا‪ .‬وعندما سألت مسافر ًا‪« :‬متى سنرحل من‬
‫هنا؟»‪ ،‬أجابني‪« :‬لماذا تسأل؟ ألست مرتاح ًا هنا؟»‪.‬‬
‫وهو على حقّ ‪ ،‬لماذا ال نمكث ألطول فترة ممكنة طالما لم ينل منا‬
‫الضجر؟‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫قمة األدب‪ .‬وكان الصينيون‪ ،‬من ّ‬
‫ركاب‬ ‫كان الربان ومعاونه ومساعده في ّ‬
‫الدرجة الثالثة‪ ،‬ودودين ومرحين‪ .‬أمس جلس أحد الصينيين على سطح‬
‫الباخرة‪ ،‬وغ ّنى أغنية حزينة للغاية بصوت متك َّلف ومرتفع الطبقة‪ ،‬وفي‬
‫أثناء ذلك كانت هيئة وجهه من الجانب مثيرة للضحك أ كثر من أي‬
‫كاريكاتير‪ .‬وتط َّلع الجميع إليه وضحكوا‪ ،‬لكنه لم ُي ِع ْر أدنى انتباه لكل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫غ ّنى بصوت عالي الطبقة‪ ،‬ثم غ ّنى بصوت تينور‪ .‬يا إلهي‪ ،‬ياله من‬
‫صوت! كان غناؤه مشابه ًا لغثاء الخراف أو خوار عجل‪ّ ِ .‬‬
‫يذكرني الرجال‬
‫الصينيون بالحيوانات األليفة اللطيفة‪ ،‬وضفائرهم الطويلة السوداء تشبه‬
‫ضفائر ناتاليا ميهالوفنا‪.‬‬

‫وبمناسبة ذكر الحيوانات األليفة‪ ،‬هناك جرو ثعلب أليف يعيش في‬
‫الحمام‪ .‬وهو قابع هناك‪ ،‬يتابع كل من يدخل لالغتسال‪ .‬وإذا لم ي َر أحد ًا‬
‫ّ‬
‫لفترة طويلة يبدأ بالعواء كما لو كان يبكي‪.‬‬

‫يتحدثون إال عن الذهب‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يالغرابة المحادثات التي أتابعها هنا! إنهم ال‬
‫المناجم‪ ،‬قافلة المتط ِ ّوعين واليابان‪ .‬وفي بكروفسكايا يقوم جميع‬
‫الفالحين‪ ،‬وحتى الكهنة‪ ،‬بالتنقيب عن الذهب‪ .‬والشيء نفسه يقوم‬
‫به المنفيون‪ ،‬ويصبحون أثرياء بالسرعة نفسها التي يصبحون بها فقراء‪.‬‬
‫وهناك أشخاص يشبهون الخالفيين المهرة‪ ،‬وهؤالء ال يشربون سوى‬
‫مده من‬
‫يتم ّ‬
‫الشمبانيا‪ ،‬وللذهاب إلى الحانة‪ ،‬يسيرون على بساط أحمر ّ‬
‫أ كواخهم إلى الحانة‪.‬‬

‫َت ّتسم قرية «أمور» بأنها ممتعة للغاية‪ ،‬وباألصالة الواضحة‪ .‬وتبدو الحياة‬

‫‪89‬‬
‫ِّ‬
‫تذكرني بالقصص‬ ‫هنا منب ّتة الصلة عن نمط الحياة األوروبي‪ .‬إنها‬
‫األميركية‪ ،‬فالشواطئ ب ّرية للغاية‪ ،‬وت َّتسم باألصالة وبالترف‪ ،‬بما يجعل‬
‫المرء يتوق إلى الحياة هناك طوال حياته‪.‬‬
‫أ كتب هذه السطور المعدودة في الخامس عشر من يونيو‪ .‬بدأت الباخرة‬
‫مجدد ًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مما أعاق استمراري في الكتابة‪ .‬إنها تتح َّرك‬
‫تهت ّز؛ ّ‬
‫تجاوزنا «أمور» بألف فرست‪ ،‬ورأينا ماليين المشاهد الفاتنة‪ ،‬وتم َّلكني‬
‫الدوار من فرط النشوة واالبتهاج‪ .‬يالها من مشاهد رائعة! وكم هو الجو‬
‫حا ّر هنا! والليالي‪ ،‬كم هي دافئة! هناك ضباب في الصباح‪ ،‬ورغم ذلك‪،‬‬
‫ّ‬
‫يظل الج ّو دافئ ًا‪.‬‬
‫نظرت عبر منظار األوبرا إلى الشاطئ‪ ،‬فرأيت عدد ًا هائ ً‬
‫ال من البط واإلوز‬
‫والبلشون‪ ،‬وجميع أنواع الكائنات ذات المناقير الطويلة‪.‬‬ ‫والغطاس‬
‫ ( ((‬

‫هذا هو المكان المثالي لمنزل صيفي‪ .‬وفي مكان صغير يُدعى رينوف‪،‬‬
‫طلب مني شخص ينقّ ب بحث ًا عن الذهب‪ ،‬أن أفحص زوجته المريضة‪.‬‬
‫في أثناء مغادرة منزله‪ ،‬وضع في يدي لفة أوراق نقدية‪ .‬شعرت بالخجل‪.‬‬
‫وبدأت أرفض‪ ،‬وأعيدها إليه‪ ،‬وأخبره أنني غني‪ ،‬ولست بحاجة إلى المال‪،‬‬
‫وتبادلنا أطراف الحديث لفترة طويلة‪ ،‬وكل منا يحاول إقناع اآلخر‪ ،‬وفي‬
‫ال‪ .‬وأمس‪ ،‬تناول شخص آخر‬ ‫النهاية وجدت في كفّ ي خمسة عشر روبي ً‬
‫من المنقّ بين عن الذهب‪ ،‬له وجه بتيا بوليفايف‪ ،‬طعام الغداء معي‪ ،‬وفي‬
‫قمرتي‪ ،‬وعلى الغداء تناول الشمبانيا بد ً‬
‫ال من الماء‪ ،‬ودفع مقابل الطعام‬
‫والشراب‪.‬‬

‫القرى هنا تشبه تلك التي على نهر الدون‪ .‬هناك اختالف في المباني‪،‬‬
‫يهتم السكان هنا بالصيام‪ ،‬إنهم يتناولون اللحم‬
‫ّ‬ ‫لكنه طفيف للغاية‪ .‬ال‬
‫ِّ‬
‫المقدس‪ ،‬والفتيات يدخن السجائر‪ ،‬والسيدات العجائز‬ ‫حتى في األسبوع‬

‫‪ -1‬طائر مائي‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫يدخن البايب!‪ .‬ويالها من ليبرالية! أوه‪ ،‬يالها من ليبرالية!‪.‬‬
‫ّ‬

‫الهواء على الباخرة ملتهب باالنفعال والحماسة المتزايدة مع احتدام‬


‫يتحدثوا بصوت مرتفع؛ فليس هناك‬ ‫ّ‬ ‫النقاش‪ .‬هنا ال يخشى الناس أن‬
‫من سيقوم باالنقضاض عليهم‪ ،‬أو ينفيهم إلى مكان ما‪ ،‬وهكذا يصبح‬
‫بوسعك أن تكون ليبرالي ًا كما تشاء‪ .‬إجما ً‬
‫ال‪ ،‬الناس مستق ّلون‪ ،‬يعتمدون‬
‫على أنفسهم‪ ،‬وعقالنيون‪.‬‬

‫وإذا كان هناك أية إساءة فهم في أوشت كارا‪ ،‬حيث يعمل المجرمون‬
‫(بينهم العديد من السياسيين الذين ال يعملون)‪ ،‬فإن منطقة «أمور»‬
‫بكاملها في حالة ثورة‪ .‬وال يتع ّلق األمر برواية القصص‪ .‬فبوسع المجرم‬
‫الهارب أن يسافر بح ّرية على متن الباخرة إلى المحيط‪ ،‬دون أدنى خوف‬
‫من أن يقوم ربّان الباخرة بتسليمه‪ .‬ويرجع ذلك ‪-‬جزئي ًا‪ -‬إلى االختالف‬
‫يتم في روسيا‪ ،‬حيث يتساءل الجميع‪« :‬ماذا ستفعل‬ ‫التام مع كل ما ّ‬
‫معي؟»‪.‬‬

‫نسيت أن أخبرك أنه في ترانسبيكاليا السائقون ليسوا روسيين‪ ،‬بل‬


‫بوريات‪.((( Buriats -‬إنهم أناس مرحون‪ ،‬وخيولهم خبيثة للغاية‪ ،‬فليس‬
‫من الممكن تجهيزها دون أن تحدث مشكلة‪ ،‬إنها أكثر اهتياج ًا من خيول‬
‫يتم تقييد‬
‫يتم تطقيم الحصان الذي يج ّر عربة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫اإلطفاء‪ .‬فعندما ّ‬
‫سيقانه بإحكام‪ ،‬ألنه‪ ،‬بمجرد أن تتح َّرر‪ ،‬تنطلق العربة بسرعة شديدة‬
‫يؤدي إلى انحباس األنفاس‪.‬‬
‫للغاية‪،‬مما ّ‬

‫الح َكمة‬
‫وإذا لم ُتقَ َّيد سيقان الحصان في أثناء تطقيمه‪ ،‬فإنه سيرفس‪ ،‬يلفظ َ‬
‫المطبقة على فمه‪ ،‬يضرب العربة بحوافره‪ ،‬يم ِ ّزق سرجه‪ ،‬ويتص َّرف مثل‬
‫ّ‬
‫شيطان صغير أفزعته أصوات األبواق التحذيرية‪.‬‬

‫‪ -1‬البوريات‪ :‬أكبر أقلية عرقية تعيش في سيبريا‪ ،‬وتعود أصولها إلى أقصى شمال منغوليا‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫‪ 26‬يونيو‬

‫الصحة والبهجة‪ ،‬وال‬


‫ّ‬ ‫إننا نقترب من بالجوفيشتشينسك (((‪ .‬انعمي بموفور‬
‫تعتادي على الحياة بدوني‪ .‬ال ّ‬
‫شك أنك بدأت تعتادين ذلك!‪.‬‬

‫محبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لكم كل التحية واالحترام‪ ،‬وقبلة‬

‫أنا بخير حال‪.‬‬

‫‪ -1‬إحدى مدن‪ ‬روسيا‪ ‬في‪ ‬الكيان الفيدرالي الروسي «أمور أوبالست»‪ .‬يبلغ عدد سكانها حوالي‬
‫‪ 210101‬نسمة‪ .‬وتقع على نهر آمور عند مصب نهر زيي‪ ،‬وتبعد عن العاصمة موسكو حوالي‬
‫‪ 7990‬كم‪ .‬ومساحتها أكثر من ‪ 350‬كيلومتراً مربعاً‪ ،‬وتعداد سكانها حوالي ‪ 220‬ألف نسمة‪ .‬وهي‬
‫نهر ْي آمور‪ ،‬وزيي‪.‬‬
‫مركز مقاطعة‪ ،‬ومدينة حدودية‪ ،‬وميناء مهم على َ‬

‫‪92‬‬
‫الباخرة مورافيوف‪ 29 ،‬يونيو ‪1890‬‬

‫الشهب‪ ،‬وتبدو كما لو كانت‬


‫هناك خنافس مضيئة تطير في قمرتي مثل ُ‬
‫ومضات كهربية‪ .‬وعبر بحيرة أمور يسبح الماعز البري خالل النهار‪.‬‬
‫الذباب هنا ضخم للغاية‪ .‬أتقاسم قمرتي مع رجل صيني‪ ،‬صن ليو لي‪ ،‬هو‬
‫ال يتوقّ ف عن إخباري كيف أنه ‪-‬في الصين‪ -‬عند اقتراف أتفه األشياء‬
‫يتحدث وهو‬
‫َّ‬ ‫قد يتع ّرض المرء لإلعدام‪ .‬ليلة أمس َد َّخن األفيون‪ ،‬واستم َّر‬
‫نائم طوال الليل‪ ،‬وحرمني من النوم‪.‬‬

‫وفي السابع والعشرين من الشهر‪ ،‬تج َّولت في قرية صينية ُتدعى أيجون‪.‬‬
‫شيئ ًا فشيئ ًا بدا كما لو أنني أدلف إلى عالم خيالي رائع‪.‬‬

‫الباخرة تهت ّز‪ ،‬من الصعب أن أ كتب‪.‬‬

‫غد ًا سأصل إلى هارباروفسك‪ .‬بدأ الرجل الصيني الغناء وفق نوتة موسيقية‬
‫َدوَّنها على مروحته الورقية‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫تشيخوف جالس ًا وإلى اليسار أخوه ألكسندر‪ ،‬في عام ‪1882‬‬

‫‪94‬‬
‫‪3‬‬
‫إلى إخوته‬

‫(إلى ميشا)‬

‫تاجانروج‪ 1 ،‬يوليو‪1876 ،‬‬

‫أخي العزيز ميشا‪،‬‬

‫استلمت رسالتك وأنا في حالة يرثى لها من الضيق والضجر‪ ،‬وكنت‬


‫جالس ًا عند البوابة أتثاءب‪ ،‬وبنا ًء على ذلك تستطيع أن ِ ّ‬
‫تقدر وقع تلك‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫علي‪ .‬أسلوبك جيد‪ ،‬ولم أجد في الرسالة ّ‬
‫أي خطأ إمالئي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الرسالة‬
‫هناك شيئ ًا واحد ًا لم يعجبني‪ ،‬لماذا أطلقت على نفسك عبارة «أخوك‬
‫الذي ال قيمة أو أهمية له»؟ ربّما تكون أدركت ضآلتك‪ ،‬ولكن أمام‬
‫الرب‪ ،‬وربّما أمام الجمال والذكاء والطبيعة‪ ،‬ولكن ليس أمام البشر‪ .‬فأمام‬
‫ّ‬
‫الرجال يجب أن تشعر بسم ّو منزلتك‪ .‬لماذا؟ ألنك لست وضيع ًا‪ ،‬أنت‬
‫رجل متواضع‪ ،‬أليس كذلك؟ حسن ًا‪ ،‬عليك أن تنظر إلى نفسك بتقدير‬
‫كم ًا مهم ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫أ كثر‪ ،‬فأنت رجل متواضع‪ ،‬وتعرف أن الرجل المتواضع ليس ّ‬

‫‪95‬‬
‫ال تشعر بالخزي «لكونك وضيع ًا» عند «إدراك أنك بال قيمة»‪.‬‬

‫من الجيد أنك تقرأ‪ .‬اكتسب عادة القراءة‪ .‬فسيحين الوقت الذي تعرف‬
‫فيه قيمة هذه العادة‪ .‬هل جعلتك قراءة رواية «مدام بييشرستو» تبكي‬
‫مدرار ًا؟ لقد قرأتها مرة‪ ،‬ومنذ ستة شهور أعدت قراءتها بغرض دراستها‪،‬‬
‫وبعد القراءة انتابني إحساس كريه يشبه ما نشعر به نحن ‪-‬البشر الفانين‪-‬‬
‫عندما نفرط في تناول الزبيب أو الكشمش‪ .‬اقرأ «دون كيشوت»‪ ،‬إنها‬
‫شيء رفيع المستوى‪ ،‬إنها من تأليف سرفانتس‪ ،‬والذي يقال إن له منزلة‬
‫شكسبير نفسها‪ .‬وأنصح إخوتي أن يقرأوا ‪-‬إذا لم يكونوا قد فعلوا ذلك‬
‫فع ً‬
‫ال‪ -‬مؤلف تورجينيف؛ «هاملت ودون كيشوت»‪ .‬لن تفهمه يا عزيزي‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تقرأ كتاب ًا مس ّلي ًا في أدب الرحالت‪ ،‬اقرأ كتاب «الفرقاطة‬
‫باالدا» (‪ )The Frigate Pallada‬لـ«جونتشاروف»‪.‬‬

‫سأجلب معي طالب ًا‪ ،‬سيقيم معنا في المنزل تحت رعايتنا‪ ،‬مقابل عشرين‬
‫روبي ً‬
‫ال في الشهر‪ .‬أعرف أن هذا المبلغ غير كاف‪ ،‬إذا ما أخذنا في‬
‫االعتبار سعر الطعام في موسكو‪ ،‬وأن أمّنا واهنة لتطعم وافدين‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫نيكوالي بافلوفيتش تشيخوف (‪ ،)1889 – 1858‬الشقيق‬
‫األكبر لتشيخوف‪ .‬كان فنان ًا تشكيلي ًا موهوب ًا‪ .‬توفي إثر إصابته‬
‫بالدرن الرئوي‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫(إلى نيكوالي)‬

‫موسكو‪1886 ،‬‬

‫ُ‬
‫يشك جوته ونيوتن‬ ‫أنت دائم الشكوى من أن الناس «ال يفهمونك»!‪ .‬ولم‬
‫يتحدث عن العقيدة التي‬
‫ّ‬ ‫من ذلك‪ .‬فقط المسيح اشتكى منه‪ ،‬لكنه كان‬
‫جاء بها‪ ،‬وليس عن نفسه‪ .‬إن الناس يفهمونك جيد ًا‪ .‬وإذا لم تفهم‬
‫نفسك‪ ،‬فليس ذلك خطأهم‪.‬‬

‫وأتفهم مشاعرك‪ .‬أعرف خصالك‬‫َّ‬ ‫ِّ‬


‫أؤكد لك ‪-‬كأخ وصديق‪ -‬أنني أفهمك‬
‫الحميدة مثلما أعرف أصابعي الخمسة‪ ،‬إنني ِ ّ‬
‫أقدرها واحترمها للغاية‪.‬‬
‫أظن أنك عطوف‬ ‫وإذا أردت إثبات ًا لزعمي هذا‪ ،‬فبوسعي أن ّ‬
‫أعدها لك‪ّ .‬‬
‫ومستعد لمقاسمة آخر مليم معك‪ ،‬ولست‬
‫ّ‬ ‫لدرجة اللين‪ ،‬شهم‪ ،‬إيثاري‪،‬‬
‫حسود ًا أو حقود ًا‪ ،‬طيب القلب‪ ،‬تعطف على البشر والحيوانات‪ ،‬جدير‬
‫َّ‬
‫تتذكر اإلساءة‪ ،‬ولديك هبة من‬ ‫بالثقة‪ ،‬ال تحمل ضغينة أو تنافق‪ ،‬وال‬
‫السماء ق ّلما يحظى بها اآلخرون‪ ،‬لديك الموهبة‪ .‬وتضع الموهبة في منزلة‬
‫فوق ماليين البشر‪ ،‬ألنه على ظهر األرض ‪-‬فقط‪ -‬هناك ف ّنان بين كل‬
‫خاصة‪ ،‬حتى لو كنت ضفدع ًا أو‬
‫ّ‬ ‫مليوني شخص‪ .‬تضع موهبتك في منزلة‬
‫عنكبوت ًا سيحترمك الناس‪ ،‬ألن الموهبة تغفر أي شيء‪.‬‬

‫لديك إخفاق واحد‪ ،‬ويعود إليه زيف وضعك‪ ،‬وتعاستك واضطراب‬


‫التام للثقافة‪ .‬سامحني‪ ،‬من‬
‫ّ‬ ‫أمعائك‪ .‬ويتم َّثل هذا اإلخفاق في افتقارك‬
‫فضلك‪ ،‬لكن ‪-‬كما تعرف‪ -‬للحياة شروطها‪ .‬فمن أجل أن تعيش مرتاح ًا‬
‫ولتتمكن من معايشتهم بسعادة‪ ،‬يجب أن تحوز قدر ًا‬
‫َّ‬ ‫بين المتع ِ ّلمين‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫محدد ًا من الثقافة‪ .‬إن الموهبة لتدخلك في مثل تلك الدائرة‪ ،‬فأنت تنتمي‬
‫ّ‬
‫يتم سحبك بعيد ًا عنها‪ ،‬لتتأرجح بين المثقَّ فين والمستأجرين‪.‬‬
‫إليها‪ ،‬لكن‪ّ ،‬‬

‫وحسب رؤيتي‪ ،‬يجب أن يستوفي المثقَّ فون الشروط التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬احترام الجانب اإلنساني في الشخصية‪ ،‬ولهذا السبب هم دائم ًا‬


‫ومستعدون للعطاء‪ .‬إنهم ال يتشاجرون بسبب‬
‫ّ‬ ‫ودودون‪ ،‬دمثون‪َّ ،‬‬
‫مهذبون‪،‬‬
‫مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي‪ ،‬وإذا عاشوا مع أحد‪ ،‬ال‬
‫يعدون ذلك منحة منهم‪ ،‬ويرحلون دون أن يقولوا «ليس بوسع أحد أن‬
‫ّ‬
‫المقدد‬
‫َّ‬ ‫يعيش معك»‪ .‬إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم‬
‫والنكات ووجود غرباء في منزلهم‪.‬‬

‫‪ -2‬يتعاطفون‪ ،‬ليس فقط مع المتس ِ ّولين والقطط‪ .‬وتنفطر قلوبهم لما‬


‫يرونه أو ال يرونه‪ .‬إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما‪ ،‬ولدفع نفقات‬
‫األخوة في الجامعة‪ ،‬ولشراء المالبس ألمهاتهم‪.‬‬

‫‪ -3‬إنهم يحترمون ممتلكات اآلخرين‪ ،‬ولهذا ِ ّ‬


‫يسددون ما عليهم من ديون‪.‬‬

‫‪ -4‬إنهم مخلصون‪ ،‬ويخشون الكذب كما ُتخشى النار‪ .‬إنهم ال يكذبون‪،‬‬


‫حتى ولو في األشياء الصغيرة‪ .‬فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة‬
‫يتغير سلوكهم في الشارع‬ ‫َّ‬ ‫للمتحدث‪ .‬ال يتظاهرون‪ ،‬بل ال‬
‫ّ‬ ‫أدنى بالنسبة‬
‫يتعمدون االستعراض أمام رفاقهم األق ّل منهم منزلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عنه في المنزل‪ ،‬وال‬
‫ال يثرثرون‪ ،‬وال يثقلون على اآلخرين بثقتهم بأنفسهم‪ .‬واحترام ًا منهم‬
‫لآلخرين‪ ،‬فإنهم يميلون إلى الصمت أ كثر من الكالم‪.‬‬

‫‪ -5‬ال يحطّ ون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة اآلخرين‪ .‬وال يلعبون‬
‫يتنهدون ويستحوذون عليهم‪ .‬وال‬
‫على شغاف قلوب اآلخرين‪ ،‬ليجعلوهم ّ‬
‫يقولون «يُساء فهمي»‪ ،‬أو «لقد أصبحت شخص ًا من الدرجة الثانية»‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫ألن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص‪ ،‬ومبتذل وتافه وزائف‪.‬‬

‫هم ال يعانون من الخيالء والغرور‪ .‬وال يحفلون بتلك الماسات الزائفة‬


‫ّ‬
‫السكير‪ ،‬وينصتون‬ ‫(أقصد المشهورين)‪ ،‬وال يأنفون من مصافحة‬
‫إلى صيحات إعجاب مُ شاهد مشتت في معرض للصور الفوتوغرافية‪،‬‬
‫ويترددون كثير ًا إلى الحانات‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ -6‬وإذا أبرموا صفقة متواضعة‪ ،‬فإنهم ال يتباهون كما لو كانوا عقدوا‬


‫صفقة بمئة روبيل‪ ،‬وال يعطون ألنفسهم أولوية على اآلخرين‪ .‬إن الموهوب‬
‫الحقيقي دائم ًا ما يحافظ ‪-‬دوم ًا ‪ -‬على اندماجه بين الجموع‪ ،‬وبعيد ًا‬
‫قدر المستطاع عن اإلعالن‪ .‬وحتى كرايلوف‪ ،‬قال ‪-‬سابق ًا‪ -‬إن البرميل‬
‫الفارغ يصدر عنه صدى صوت أ كثر من البرميل الممتلئ‪.‬‬

‫ويضحون في سبيلها بالراحة‬


‫ّ‬ ‫‪ -7‬إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها‪.‬‬
‫والنساء والخمر والخيالء‪ .‬إنهم فخورون بموهبتهم‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك‪،‬‬
‫من الصعب إرضاؤهم‪.‬‬

‫الحس الجمالي داخلهم‪ .‬وال يستطيعون الذهاب للنوم‬ ‫ّ‬ ‫ُنمون‬


‫‪ -8‬ي ّ‬
‫يتحملون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات‪ ،‬أو تنفّ س هواء‬
‫ّ‬ ‫بمالبسهم‪ ،‬وال‬
‫فاسد‪ ،‬أو السير على أرض عليها بُصاق‪ ،‬أو أن يطهوا وجباتهم على موقد‬
‫زيتي‪ .‬ويسعون قدر استطاعتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسم ّو‬
‫بها‪ .‬وليس كل ما يرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش‪ ،‬وال يطلبون‬
‫المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية‪ .‬إنهم يرغبون‪- ،‬خاصة‬
‫الفنانين منهم‪ -‬بالطزاجة‪ ،‬واألناقة‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬واالحتواء األمومي‪.‬‬
‫يتشممون رفوف‬
‫ّ‬ ‫إنهم ال يشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل‪ ،‬وال‬
‫الخزانات‪ ،‬ألنهم ليسوا خنازير ًا‪ ،‬ويعلمون أنهم ليسوا كذلك‪ .‬ويتناولون‬
‫الشراب ‪-‬فقط‪ -‬عندما يكونون غير مرتبطين بعمل أو في عطلة‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وهذا بعض ما يجب أن يكون عليه المثقّ فون‪ .‬فلكي تكون مثقَّ ف ًا‪ ،‬وال‬
‫تكون في مرتبة أدنى من المحيطين بك‪ ،‬ال يكفي أن تقرأ «أوراق‬
‫بيكويك»‪ ،‬وتحفظ منولوج ًا من «فاوست»‪.‬‬

‫ما يحتاجه المثقّ ف هو العمل الدائم‪ ،‬ليل نهار‪ ،‬والقراءة المستم ّرة‪،‬‬
‫والدراسة‪ ،‬واإلرادة؛ فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له‪.‬‬

‫وتمدد‪ ،‬وابدأ القراءة‪ .‬اقرأ أعمال‬


‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫وحطم زجاجة الفودكا‪،‬‬ ‫تعال إلينا‪،‬‬
‫تورجنيف‪ ،‬إذا أردت‪ ،‬التي لم يسبق لك أن قرأتها‪ .‬يجب أن تتخ ّلى عن‬
‫تفاهتك‪ ،‬فأنت لست طف ً‬
‫ال‪ ،‬فعما قريب ستبلغ الثالثين‪ .‬لقد حان الوقت!‪.‬‬

‫أنتظرك‪ ...‬نحن جميع ًا ننتظرك‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫إيفان بافلوفيتش تشيخوف (‪ :)1922 – 1861‬الشقيق األصغر‬
‫فعا ً‬
‫ال في كثير من الجمعيات‬ ‫لتشيخوف‪ .‬عمل بالتدريس‪ .‬كان عضو ًا ّ‬
‫المهتمة بالفقراء وأطفال المع ِ ّلمين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األهلية‬

‫‪102‬‬
‫(إلى إيفان)‬

‫البندقية‪ 24 ،‬مارس ‪1891‬‬

‫أنا اآلن في البندقية‪ .‬وصلت هنا منذ يومين قادم ًا من فيينا‪ .‬ولم أ َر في‬
‫حياتي مدينة بمثل روعة فينسيا‪ .‬إنها في غاية السحر والتألّق والبهجة‪،‬‬
‫ال عن الشوارع والطرقات تمتد القنوات‪ ،‬وبد ً‬
‫ال‬ ‫إنها مفعمة بالحياة‪ .‬وبد ً‬
‫من سيارات األجرة‪ ،‬يسير الجندول‪ .‬والعمارة هنا مذهلة‪ ،‬وتكاد ال توجد‬
‫بقعة هنا تخلو من المالمح التاريخية أو الفنية‪ .‬وعلى متن الجندول‪ ،‬وعبر‬
‫القنوات‪ ،‬يمكنك أن تشاهد قصر الدوق حيث عاشت ديدمونة‪ ،‬وكذلك‬
‫الرسامين‪ ،‬والكنائس‪ .‬وفي الكنائس توجد منحوتات‬ ‫ّ‬ ‫بيوت كثير من‬
‫ورسومات لم نحلم بها حتى‪ .‬فع ً‬
‫ال إنها مدينة فاتنة‪.‬‬

‫وطوال اليوم‪ ،‬من الصباح الباكر وحتى المساء‪ ،‬ال أغادر الجندول‪ ،‬وال‬
‫أتوقف عن التج ُّول‪ ،‬أو أدور بتؤدة حول ميدان سان مارك المشهور‪.‬‬
‫والميدان منبسط ونظيف كما لو كانت أرضيته من الباركيه‪ .‬وهنا‪ ،‬في‬
‫سان مارك‪ ،‬ما تعجز الكلمات عن وصفه‪ ،‬قصر الدوق وغيره من البنايات‬
‫التي تجعلني أشعر كما لو كنت أنصت إلى جوقة تغني‪ ،‬أستشعر الجمال‬
‫المذهل والمتعة فيها‪.‬‬

‫أما مساءً‪ ،‬فيا إلهي‪ ،‬إنها ت َّتسم بغرابة وروعة ال يمكن احتمالهما‪ :‬االنتقال‬
‫بالجندول‪ ،‬الدفء‪ ،‬الهدوء‪ ،‬والنجوم‪ ،‬وال وجود للخيول في البندقية‪،‬‬
‫يعم السكون كما في الريف‪ .‬تروح الجنادل وتجيء‪ ،‬ثم يم ّر‬
‫ولذلك ّ‬
‫جندول مُ ضا ًء بالفوانيس‪ .‬وعليه آالت مختلفة؛ دوبل باس‪ ،‬وكمانات‬

‫‪103‬‬
‫وجيتار‪ ،‬وماندولين‪ ،‬وبوق‪ ،‬باإلضافة إلى سيدتين أو ثالث‪ ،‬والعديد‬
‫من الرجال‪ ،‬ويتعالى منه الغناء والموسيقى‪ .‬يغ ّنون مقاطع من األوبرا‪.‬‬
‫ال حتى يم ّر إلى جوارك جندول‬ ‫تتقدم قلي ً‬
‫َّ‬ ‫يالها من أصوات! وما تكاد‬
‫ممتلئ بالمغ ّنين‪ ،‬ثم جندول آخر وآخر‪ ،‬ويتشبع الهواء‪ ،‬حتى منتصف‬
‫الليل‪ ،‬بمزيج من األصوات المنبعثة من أوتار الكمانات وأصوات التينور‪،‬‬
‫تمس شغاف القلب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجميع أنواع األصوات التي‬

‫ميريزكوفسكي‪ ،‬الذي قابلته هنا‪ ،‬مبتهج للغاية ومأخوذ بما حوله‪ .‬فبالنسبة‬
‫لنا نحن ‪-‬الروس المقهورين‪ -‬من السهل أن تذهب عقولنا في عالم من‬
‫الجمال والثروة والحرية‪ .‬وإنني أتوق إلى البقاء هنا لألبد‪ ،‬لدرجة أنه عند‬
‫القداس في الكنائس‪ ،‬وعندما أنصت لألرغن كنت أتوق ألن‬
‫ّ‬ ‫حضور‬
‫أصبح كاثوليكي ًا‪.‬‬

‫إن مقابر الكانوفا والتيتيان رائعة للغاية‪ .‬وهنا يدفنون الفنانين العظماء في‬
‫الكنائس كما الملوك‪ ،‬وهنا ال يستخفّ ون بالفن كما هو حالنا‪ ،‬فالكنائس‬
‫ِّ‬
‫توفر الحماية والدعم للوحات التصويرية والتماثيل مهما كانت عارية‪.‬‬

‫وفي قصر الدوق هناك لوحة‪ ،‬فيها حوالي عشرة آالف شكل بشري‪.‬‬

‫اليوم األحد‪ .‬وستقوم فرقة موسيقية بالعزف في ميدان سان مارك‪.‬‬

‫وإذا سنحت لك فرصة القدوم إلى البندقية‪ ،‬فستكون أفضل شيء يحدث‬
‫في حياتك‪ .‬ويجب أن ترى الزجاج هنا (كان أخوه إيفان يعمل مد ِ ّرس ًا‬
‫في مدرسة ملحقة بمصنع زجاج)‪ .‬فزجاجاتك بشعة مقارنة بالموجود‬
‫هنا‪ ،‬لدرجة أنها تدفعني للغثيان بمج َّرد التفكير فيها‪.‬‬

‫وإلى أن أ كتب لك قريب ًا‪ ،‬أقول لك وداع ًا‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫إلكساندر بافلوفيتش تشيخوف (‪ :)1913 – 1855‬األخ الكبير لتشيخوف‪.‬‬
‫عمل صحافي ًا‪ ،‬وكذلك مارس الكتابة األدبية‪ّ ِ .‬‬
‫توفي إثر إصابته بسرطان‬
‫الحنجرة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫(إلى ألكسندر)‬

‫موسكو‪ 20 ،‬نوفمبر ‪1887‬‬

‫حسن ًا‪ ،‬انتهى العرض األول (إيفانوف) وسأخبرك عنه بالتفصيل‪.‬‬

‫وعلى سبيل البداية‪ ،‬وعدني «كورش» بعشر بروفات‪ ،‬لكنه لم ي ِ ّ‬


‫ُقدم‬
‫لي سوى أربعة‪ ،‬وبينها اثنتان فقط يمكن أن نطلق عليهما بروفة‪ ،‬أما‬
‫األخريان فلقد كانتا بمثابة ٍ‬
‫تبار بين المثلين في الشجار والسباب‪ .‬فقط‬
‫دافيدوف وجالما كانا يعرفان دوريهما‪ ،‬أما اآلخرون فكانوا على ثقة‬
‫بم ِ ّ‬
‫لقنهم وقناعتهم الداخلية‪.‬‬ ‫ُ‬

‫الفصل األول‪ :‬أقف خلف خشبة المسرح في مقصورة صغيرة تشبه‬


‫الزنزانة‪ .‬وأسرتي في مقصورة البنوار يرتجفون‪ .‬وعلى خالف توقّ عاتي‪،‬‬
‫كنت هادئ ًا وواعي ًا أن أتج َّنب اإلثارة‪ .‬كان المم ِ ّثلون عصبيين ومثارين‪،‬‬
‫ويخبط بعضهم البعض اآلخر‪ .‬ارتفع الستار‪ ..‬ودخل المم ِ ّثل المختار‬
‫تردده‪ ،‬ونسيانه لدوره‪ ،‬واإلكليل الذي ُق ِ ّدم له في‬
‫وتسبب ّ‬
‫ّ‬ ‫لهذه الليلة‪.‬‬
‫علي بداية من الجمل األولى‪ .‬حتى كسيليفسكي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جعل المسرحية غريبة‬
‫يقدم جملة حوار واحدة بشكل صحيح‪،‬‬‫الذي توقّ عت منه الكثير‪ ،‬لم ِ ّ‬
‫وال جملة واحدة بالفعل‪ .‬نطق بأشياء من تأليفه الخاص‪ .‬ورغم هذا‪،‬‬
‫ورغم ارتباك مدير خشبة المسرح‪ ،‬حقَّ ق في الفصل األول نجاح ًا هائ ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وتعالت صيحات كثيرة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬كثير من الناس على خشبة المسرح‪ .‬زوّار‪ .‬لم يكن‬
‫ملمين بأدوارهم‪ ،‬وارتكبوا أخطاءً‪ ،‬وتبادلوا حديث ًا بال معنى‪.‬‬
‫المم ّثلون ّ‬

‫‪106‬‬
‫كانت كل كلمة تجرحني مثل ّ‬
‫سكين تصيب ظهري‪ .‬لكن‪ ،‬أوه يا موزيه!‬

‫حتى هذا الفصل القى نجاح ًا‪ .‬ونادى الجمهور جميع الممثلين‪ ،‬بل‬
‫ُ‬
‫نوديت أنا م ّرتين قبل إغالق الستار‪ :‬تهانينا ومزيد من النجاح‪.‬‬

‫سيئ ًا‪ .‬وتحقَّ ق مزيد من النجاح‪ .‬وكان‬


‫الفصل الثالث‪ :‬لم يكن التمثيل ّ‬
‫علي أن أصعد إلى خشبة المسرح ثالث مرات قبل إنزال الستار‪ ،‬وفي كل‬‫ّ‬
‫مرة كان دافيدوف يصافحني‪ ،‬بينما جالما‪ ،‬مثل مانيلوف‪ ،‬كانت تضغط‬
‫يدي إلى قلبها؛ إنه االبتهاج بانتصار الموهبة والفضيلة‪.‬‬

‫سيئ ًا‪ .‬وتوالى النداء قبل رفع الستار‬


‫الفصل الرابع‪ :‬المشهد األول‪ ،‬لم يكن ّ‬
‫ممل‪ .‬لم يكن المتف ِ ّرجون معتادين على‬‫ّ‬ ‫مجدد ًا‪ .‬وبعدئذ فاصل طويل‬
‫َّ‬
‫المشاهد‪ ،‬بل كانوا يبقون في‬
‫والتوجه إلى البار بين َ‬
‫ُّ‬ ‫مغادرة مقاعدهم‬
‫أمكانهم مغمغمين‪ .‬وارتفع الستار‪ .‬الموسيقى تعزف‪ ،‬عبر القوس تظهر‬
‫طاولة العشاء (حفل زفاف)‪ .‬تعزف الفرقة الموسيقية مقطوعات بهيجة‪.‬‬
‫يخرج أشابين العريس سكارى‪ ،‬وهكذا ترى أنهم يظنون أنفسهم يتص ّرفون‬
‫‪-‬الب َُّد‪ -‬مثل البهلونات‪ ،‬ويرقصون في مرح‪ .‬وأصابتني الممازحات‬
‫الخمارات‪ ،‬باليأس‪ .‬وعندئذ خرج‬ ‫ّ‬ ‫الخشنة واألجواء المشابهة ألجواء‬
‫كيسليفسكي‪ ،‬وكان الحوار في هذا الجزء حوار ًا شعري ًا ومثير ًا للمشاعر‪،‬‬
‫سكران‪ ،‬فبدا مثل عامل غير‬
‫َ‬ ‫ملم ًا بدوره‪ ،‬وكان‬
‫لكن كيسليفسكي لم يكن ّ‬
‫ّ‬
‫ممل وكريه‪.‬‬ ‫بارع‪ .‬وتح َّول الحوار الشعري القصير إلى شيء ما‬

‫وفي نهاية المسرحية‪ ،‬يموت البطل ألنه ال يستطيع تجاوز ما تع َّرض له‬
‫استبد بهم الشعور بالبرد واإلرهاق‪ ،‬ال‬
‫َّ‬ ‫من إهانة‪ .‬والمشاهدون الذين‬
‫ّ‬
‫لدي نهاية أخرى)‪.‬‬ ‫يفهمون هذا الموت (أص ّر المم ِ ّثلون عليه‪ ،‬وكانت‬
‫وعلي‪ .‬وخالل إحدى النداءات سمعت‬ ‫ّ‬ ‫وتعالت النداءات على المم ِ ّثلين‬

‫‪107‬‬
‫ّ‬
‫ودق األرض‬ ‫أصوات استهجان‪ ،‬لكن‪ ،‬سرعان ما ابتلعتها أمواج التصفيق‬
‫باألقدام‪.‬‬
‫وإجما ً‬
‫ال‪ ،‬شعرت باإلرهاق واالنزعاج‪ .‬كان األمر مثير ًا لالشمئزاز رغم أن‬
‫المسرحية القت قدر ًا معقو ً‬
‫ال من النجاح‪...‬‬

‫وقال روّاد المسارح إنهم لم يسبق لهم ‪-‬مطلق ًا‪ -‬أن رأوا مثل ذلك القلق‬
‫في أي مسرح آخر‪ ،‬أو مثل تلك الحالة من التصفيق واالستهجان‪ ،‬أو‬
‫سمعوا مثل تلك المناقشات بين الجمهور‪ ،‬كما حدث مع مسرحيتي‪.‬‬
‫ولم يحدث قبل اآلن مطلق ًا في «كورش ‪ »Korsh’s -‬أن ن ِ‬
‫ُودي على‬
‫المؤ ِ ّلف ليصعد إلى خشبة المسرح بعد الفصل الثاني‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫‪ 24‬نوفمبر‬

‫مجدد ًا إلى طاولة الكتابة متف ِ ّرغ ًا لتأليف‬


‫َّ‬ ‫توقَّف كل شيء أخير ًا‪ ،‬وعدت‬
‫القصص بروح تغمرها السكينة‪ .‬ال يمكنك تخمين كيف كان األمر! لقد‬
‫أخبرتك‪ ،‬ت ّو ًا‪ ،‬أنه في العرض األول ساد الشعور باإلثارة بين الجمهور‬
‫ِّ‬
‫الملقن‪ ،‬الذي عمل طوال اثنين وثالثين عام ًا‬ ‫وعلى خشبة المسرح ولدى‬
‫دون أن يشعر به أحد مطلق ًا‪.‬‬

‫أحدثوا ضجيج ًا وصراخ ًا‪ ،‬وصفّ قوا‪ ،‬وغمغموا في استياء‪ .‬وفي البار‬
‫وصل األمر إلى َح ّد العراك‪ .‬وفي شرفة المسرح أراد الطالب إلقاء أحد‬
‫األشخاص منها‪ ،‬وكذلك َت َّم صرف شخصين بالبوليس‪ .‬سادت اإلثارة‬
‫جميع األجواء‪.‬‬

‫كان المم ِ ّثلون في حالة من التو ُّتر العصبي‪ .‬وكل ما كتبته لك ولماسالف‬
‫حول تمثيلهم وحالتهم المزاجية ال ينبغي أن تخرج عنكما‪ .‬فهناك الكثير‬
‫يتفهمه ويغفره‪ ..‬فلقد ا ّتضح أن للمم ِ ّثلة‪ ،‬التي‬
‫ّ‬ ‫مما يجب على المرء أن‬
‫كانت تقوم بالدور الرئيس في مسرحيتي‪ ،‬ابنة كانت مريضة للغاية‪ ،‬فكيف‬
‫شخصيتها؟ فعلت مجلة «كوربين ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫وتتقمص‬
‫ّ‬ ‫تستطيع أن تستوعب دورها‬
‫‪»Kurepin‬خير ًا عندما امتدحت المم ِ ّثلين‪.‬‬

‫في اليوم التالي للعرض‪ ،‬كانت هناك متابعة صحافية قام بها بيوتر كتشاييف‬
‫في مجلة «موسكوفيسكي لوستوك ‪ .»Moskovsky Listok -‬ولقد‬
‫نعت مسرحيتي بأنها ساخرة بوقاحة وخليعة للغاية‪ .‬بينما امتدحتها مجلة‬
‫«فيدوموستي ‪.»Vyedomosti -‬‬

‫وإذا قرأت المسرحية‪ ،‬لن تكتشف مصدر تلك اإلثارة التي وصفتها لك‪،‬‬

‫‪109‬‬
‫خاص ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فلن تجد فيها شيئ ًا‬

‫رسامون‪ ،‬أنه كان‬‫وأكد لي كل من نيكوالي وشيهتل وليفيتان‪ ،‬وجميعهم ّ‬ ‫َّ‬


‫واضح ًا للغاية غرابة العرض المسرحي‪ .‬وفي القراءة ال يالحظ المرء شيئ ًا‬
‫كهذا‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫إركوتشك‪ 5 ،‬يونيو ‪1890‬‬

‫أخي األوروبي‬

‫السيئ أن تعيش في سيبريا‪ ،‬لكن‪ ،‬من األفضل أن تعيش‬ ‫ّ‬ ‫بالطبع من‬
‫ال من أن تعيش‬ ‫في سيبريا وتشعر أنك رجل حسن السمعة والخلق‪ ،‬بد ً‬
‫في بطرسبرج بسمعة مل َّوثة ألنك ّ‬
‫سكير ووغد‪ .‬دون اإلشارة إلى الرفقة‬
‫الحالية‪.‬‬

‫سيبريا بلد كبير وبارد‪ .‬فمهما سرت فيها فلن تصل إلى نهايتها‪ .‬ولم أ َر‬
‫شيئ ًا جديد ًا أو شائق ًا‪ ،‬ورغم ذلك اكتسبت خبرة كبيرة‪ .‬فلقد واجهت‬
‫فيضانات األنهار والبرودة والوحل الذي من الصعب تجاوزه‪ ،‬والجوع‬
‫والحاجة إلى النوم‪ ..‬ومثل تلك األحاسيس ال تستطيع الحصول عليها في‬
‫موسكو ولو مقابل مليون روبيل! عليك أن تأتي إلى سيبريا‪ .‬اطلب من‬
‫السلطات أن تنفيك إلى سيبريا‪.‬‬

‫أفضل المدن السيبرية هي إركوتشك‪ .‬تومسك ال تستحق أن تنفق فيها‬


‫فارزنج ًا نحاسي ًا‪ ،‬والضواحي ليست أفضل من كريبكايا التي تعيش فيها‬
‫ضجر ًا للغاية‪ .‬وأكثر األشياء غرابة أنك ال تجد ما تأ كله في تلك الضواحي‪،‬‬

‫وآه يا عزيزي‪ ،‬كم يكون المرء واعي ًا بمثل هذه األشياء خالل الرحلة!‬
‫وذلك عند الوصول إلى مدينة ما وشعورك أنك قادر على التهام جسد‬
‫بأ كمله‪ ،‬ولألسف ال تجد السجق أو الجبن أو اللحم أو حتى الرنكة‪ ،‬لكن‬
‫‪-‬فقط‪ -‬البيض واللبن الخالي من الطعم والنكهة‪.‬‬

‫راض عن رحلتي‪ ،‬ولست نادم ًا على العودة‪ .‬السفر ّ‬


‫شاق‪ ،‬لكن‬ ‫وإجما ً‬
‫ال أنا ٍ‬

‫‪111‬‬
‫الراحة بعده شيء مبهج‪ .‬أرتاح مستمتع ًا‪.‬‬

‫سأتوجه إلى بيكال‪ ،‬وسأعبر تلك البحيرة على متن باخرة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫من إركوتشك‬
‫والمسافة من «بيكال» إلى «أمور» تبلغ حوالي ألف فرست‪ ،‬ومن هناك‬
‫سأتوجه بالباخرة إلى المحيط الهادي؛ وأوّل ما سأفعله عند وصولي هو‬
‫ّ‬
‫االستحمام وتناول المحار‪.‬‬

‫توجهت إلى الفراش‪.‬‬


‫ثم ّ‬‫الحمام‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وصلت هنا أمس‪ ،‬وذهبت ‪-‬أ ّو ً‬
‫ال‪ -‬إلى‬
‫أوه‪ ،‬كم استغرقت في النوم! ولم أعرف قيمة النوم إال اآلن‪.‬‬

‫ّ‬
‫يدي‪.‬‬ ‫أباركك بكلتا‬

‫أخوك اآلسيوي‬

‫تشيخوف‬

‫‪112‬‬
‫نيس‪ 23 ،‬فبراير ‪1898‬‬

‫لقد أساءت مجلة «نوفوي فريميا» تناول قضية زوال‪ .‬لقد تبادلت والرجل‬
‫العجوز الرسائل حول الموضوع (وكنا معتد َل ْين للغاية‪ ،‬رغم ذلك)‪،‬‬
‫وتجاوز كالنا ذلك الموضوع‪.‬‬

‫ال أرغب في الكتابة‪ ،‬وال أريد رسائله التي يداوم فيها على تبرير افتقار‬
‫يحب النظام العسكري‪ ،‬وال أرغب فيها ألنني سئمتها‬
‫ّ‬ ‫أسلوبه للياقة بأنه‬
‫أحب النظام العسكري أنا أيض ًا‪ ،‬لكنني لن أحبها‬
‫ّ‬ ‫كلها منذ زمن بعيد‪.‬‬
‫إذا سمحت صحيفة للـ ‪ cactuses‬بطباعة رواية زوال في الملحق دون‬
‫سبب‪ ،‬بينما ينهالون بالشتائم على زوال نفسه في الصحيفة‪ ،‬وما الغاية‬
‫من ذلك؟ وهذا ما لم يعرفه أي من الـ ‪ cactuses‬مطلق ًا‪ ،‬لدافع نبيل‬
‫وللطهارة األخالقية‪ .‬وبعامة‪ ،‬إلهانة زوال خالل محاكمته‪ ،‬وإعالن أنه غير‬
‫جدير بأن يكون أديب ًا‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫ألكسين‪ ،‬يوليو ‪1891‬‬

‫أخي المص ِ ّور غزير اإلنتاج‪،‬‬

‫وصلتني رسالة منك منذ فترة طويلة‪ ،‬وبرفقتها صور سيماشكو‪ ،‬لكنني‬
‫أرد إلى اآلن‪ ،‬ألنني طوال تلك الفترة أحاول صياغة األفكار الكبيرة‬
‫لم ّ‬
‫للرد الذي أبتغيه‪.‬‬
‫المناسبة ّ‬

‫جميع أهلنا على قيد الحياة وبخير حال‪ ،‬ونحن دائمو الحديث عنك‪،‬‬
‫يرحب‬
‫ونأسى ألن غزارة إنتاجك تحول بينك وبين المجيء إلينا‪ ،‬حيث ّ‬
‫الجميع بوجودك للغاية‪ ،‬وكذلك أبي‪.‬‬

‫بينما أكتب إليك‪ ،‬غادر إيفانيجورتش‪ ،‬ويعيش معنا اآلن‪ .‬وسوفرين زارنا‬
‫وتحدث عنك‪ ،‬واصطاد السمك‪ .‬وأنا مشغول ‪-‬للغاية‪ -‬بالعمل مع‬
‫َّ‬ ‫م ّرتين‪،‬‬
‫َسخالين‪ ،‬وأشياء ُأخرى ليست ّ‬
‫أقل إثارة للضجر‪ ،‬وكثير من العمل الشاق‪.‬‬

‫أحلم بأن أربح أربعين ألف ًا‪ ،‬ألتوقّ ف تمام ًا عن الكتابة‪ ،‬التي أزهدها‪،‬‬
‫وذلك ألشتري قطعة صغيرة من األرض‪ ،‬وأعيش مثل ناسك في معتزل‬
‫مثالي‪ ،‬على أن تكون أنت وإيفان في الجوار‪ ،‬أحلم أن ِ ّ‬
‫أقدم خمسة عشر‬
‫قريبي الفقيرين‪ .‬فإجما ً‬
‫ال أحيا حياة موحشة‪ ،‬وسئمت‬ ‫َّ‬ ‫أ كر ًا لكل منكما‪ ،‬يا‬
‫يتقدم بي العمر‬
‫َّ‬ ‫العمل الدائم بالكتابة للحصول على مقابل ضئيل‪ ،‬بينما‬
‫حثيث ًا‪.‬‬

‫‪-‬قصة جيدة‪ .‬لماذا‬


‫ّ‬ ‫قصتك األخيرة ‪-‬في رأيي‪،‬وقد شاركني إياه سوفرين‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫أنت مقل في كتابة القصص؟‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المتخصص في علم الحيوان‪ ،‬والحاصل على درجته‬ ‫ف‪ .‬أ‪ .‬فاجنر‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫العلمية معك‪ ،‬يعيش معنا في المجمع السكني نفسه‪.‬‬

‫المجمع السكني‬
‫َّ‬ ‫إنه يكتب أطروحة جافّ ة للغاية‪ .‬وكذلك يعيش معنا في‬
‫نفسه‪ ،‬الفنان كيسيليوف‪ .‬ونخرج مع ًا في جوالت مسائية نتبادل خاللها‬
‫النقاش الفلسفي‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫مليهوفو‪ 15 ،‬أبريل ‪1894‬‬

‫لقد عدت من تافريدا الحارقة‪ ،‬وأنا اآلن جالس على الضفاف الباردة‬
‫لبركتي‪ .‬الج ّو دافئ للغاية‪ ،‬ويشير الترمومتر إلى أن درجة الحرارة تصل‬
‫ست وعشرين درجة مئوية‪.‬‬
‫إلى ّ‬

‫أنا منشغل بالعناية باألرض‪ :‬أقوم بتعبيد طرقات جديدة‪ ،‬وأزرع الزهور‪،‬‬
‫وأقطع األشجار الذابلة‪ ،‬وأطارد الدجاج والكالب إلخراجها من الحديقة‪.‬‬
‫إن األدب يقوم بدور إراكيت‪ ،‬الموجود دائم ًا في الخلفية‪ .‬لم أعد أرغب‬
‫في الكتابة‪ ،‬وحقيقة‪ ،‬من الصعب الجمع بين الرغبة في الحياة والرغبة‬
‫في الكتابة‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ميهائيل بافلوفيتش تشيخوف (‪:)1936 – 1865‬‬
‫الشقيق األصغر لتشيخوف‪ .‬عمل ضابط ًا في الشرطة‪.‬‬
‫وكانت له بعض المقاالت الصغيرة في مجلّات‬
‫األطفال تحت اسم مستعار (م‪ .‬بوهيميان)‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫(إلى ميهائيل)‬

‫يالطا‪ 6 ،‬فبراير‪1899 ،‬‬

‫ضجر أنا؛ أقرأ «كتاب حياتي ‪ »the book of my life -‬للكاهن‬


‫بروفيري‪ .‬وهذه فقرة تتع َّلق بالحرب‪:‬‬

‫«إن الجيوش النظامية العاملة‪ ،‬في وقت السلم‪ ،‬هي جراد يلتهم خبز‬
‫الشعب مخ ِ ّلفة فراغ ًا كريه ًا في المجتمع‪ ،‬بينما ‪-‬في وقت الحرب‪ -‬هي‬
‫آالت قتال اصطناعية‪ ،‬وعندما تنمو وتتط ّور‪ ،‬تضيع الحرية أمام األمن‬
‫والمجد الوطني!‬

‫الم ِ ّ‬
‫تحيز‪ ،‬وعن الحظوة‬ ‫إنها المدافع غير القانوني عن الظلم والقانون ُ‬
‫والطغيان»‪.‬‬

‫ُ‬
‫(كتِب ذلك في أربعينيات القرن التاسع عشر)‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫نيس‪ ،‬االثنين‪ ،‬في أسبوع اآلالم‪ ،‬أبريل‪1891 ،‬‬

‫نحن اآلن في نيس‪ ،‬على ساحل البحر‪ .‬الشمس مشرقة‪ ،‬والجو دافئ‪،‬‬
‫واألخضر يكسو كل األمكنة‪ ،‬والج ّو مشبع باألريج الف ّواح‪ .‬وتستغرق‬
‫الرحلة من نيس إلى المدينة ذائعة الصيت؛ موناكو‪ ،‬ساعة فقط‪ .‬وفي‬
‫تتخيل‬
‫ّ‬ ‫ُلعب القمار «الروليت»‪ .‬لك أن‬
‫موناكو فندق مونت كارلو‪ ،‬حيث ي َ‬
‫حجرات «ذا هول أوف نوبيليتي ‪ ،»the Hall of Nobility -‬لكنها‬
‫يتم لعب الروليت‪ ،‬وهذا‬
‫أ كبر وأجمل وأفخم‪ .‬هناك مناضد كبيرة‪ ،‬وعليها ّ‬
‫اللعبة سأصفها لك عند عودتي‪ .‬أول أمس ذهبت إلى مونت كارلو‪،‬‬
‫حيث لعبت وخسرت‪ .‬اللعبة مذهلة للغاية‪ .‬فبعد الخسارة‪ ،‬تأمّلت‪ ،‬أنا‬
‫وسوفرين فيلس‪ ،‬هذه اللعبة‪ ،‬وتوصلنا إلى نظام يضمن المكسب لمن‬
‫ي ّتبعه‪ .‬وذهبنا أمس‪ ،‬وكان بحوزة كل منا ‪ 500‬فرنك فرنسي‪ ،‬وفي الجولة‬
‫األولى راهنت وربحت قطعتين ذهبيتين‪ ،‬وتك َّرر ذلك مرة بعد أخرى حتى‬
‫امتألت جيوب صدريتي بالذهب‪ .‬وأصبح بحوزتي نقود ًا فرنسية تعود‬
‫لعام ‪ ،1808‬باإلضافة إلى عمالت نمساوية ويونانية وإيطالية وبلجيكية‪.‬‬

‫لم يسبق لي أن رأيت هذا َ‬


‫الك ّم من العمالت الذهبية والفضية‪ .‬وكنت‬
‫قد بدأت اللعب في الخامسة مساءً‪ ،‬وعند العاشرة لم يكن في جيبي‬
‫علي سوى وجود تذكرة العودة إلى‬
‫ّ‬ ‫حتى فرنك واحد‪ ،‬ولم يه ِ ّون األمر‬
‫نيس في جيبي‪ .‬وهكذا كان األمر يا أصدقائي! وأعرف أنك ستقول‪:‬‬
‫«ياله من سلوك وضيع! فنحن فقراء للغاية‪ ،‬بينما هو في الخارج يلعب‬
‫الروليت»‪ ،‬وهذا قول عادل تمام ًا‪ ،‬وأسمح لك أن تنتقدني بعنف كما‬
‫تشاء‪ .‬لكنني ‪-‬شخصي ًا‪ -‬سعيد للغاية بما فعلته‪ .‬فبأي حال‪ ،‬اآلن أصبح‬
‫بوسعي أن أحكي ألحفادي أنني لعبت الروليت‪ ،‬وخبرت شعور اإلثارة‬
‫عند المقامرة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫وجوار الكازينو حيث تلعب الروليت‪ ،‬هناك مكان آخر للنصب على‬
‫ِّ‬
‫وتقدم له طعام ًا رائع ًا‪ .‬فكل‬ ‫الناس؛ المطاعم‪ .‬إنها تستنزف المرء ببشاعة‬
‫طبق عبارة عن قطعة فنية احترافية‪ ،‬يكاد المرء ينحني أمامها إظهار ًا‬
‫لإلعجاب ويت َر َّدد في تناولها من فرط إعجابه بها‪ .‬فكل قضمة مغموسة‬
‫بخليط من الخرشوف والكمأ ولسان العصفور من كل نوع‪ .‬ويا إلهي‬
‫الرحيم! كم هي حقيرة وكريهة هذه الحياة‪ ،‬بكل خرشوفها ونخيلها ورائحة‬
‫أزهار البرتقال التي تفوح منها! أحب الثروة والرفاهية‪ ،‬لكن الرفاهية هنا‪،‬‬
‫رفاهية بهو المقامرة‪ّ ِ ،‬‬
‫تذكرني برفاهية دروة المياه‪.‬‬

‫هناك شيء في الج ّو يجترح شعور المرء باالحترام‪ ،‬وينال من قيمة‬


‫المشهد‪ ،‬وصوت موج البحر والقمر‪.‬‬

‫أمس‪ ،‬األحد‪ ،‬ذهبت إلى الكنيسة الروسية الموجودة هنا‪ .‬والغريب أنهم‬
‫ّ‬
‫محل‬ ‫ال من الصفصاف‪ ،‬وجوقة من السيدات‬ ‫استخدموا جريد النخل بد ً‬
‫جوقة الغلمان‪ ،‬مما يضفي على اإلنشاد إيقاع ًا أوبرالي ًا‪ .‬إنهم يضعون‬
‫والشماس‬
‫ّ‬ ‫ويتحدث حامل الصولجان‬
‫َّ‬ ‫عمالت أجنبية في الصحن‪،‬‬
‫كالهما اللغة الفرنسية‪ ... ،‬إلخ‪.‬‬
‫ومن بين جميع األماكن التي زرتها إلى اآلن‪ ،‬للبندقية أجمل الذكريات‬
‫ال قريبة الشبه من هاركوف‪ ،‬ونابولي مكان بذيء‪.‬‬‫لدي‪ .‬فـ«روما» إجما ً‬
‫ّ‬
‫والبحر ال يجتذبني‪ ،‬ألنني مللته من طول عالقتي به خالل شه َر ْي نوفمبر‬
‫وديسمبر‪.‬‬
‫أشعر كما لو كنت أسافر طوال عام كامل‪ .‬فلم أ كد أعود من َسخالين حتى‬
‫مجدد ًا‪ ،‬وبعدها إلى إيطاليا‪...‬‬
‫َّ‬ ‫توجهت إلى بطرسبرج‪ ،‬ث ُّم إلى بطرسبرج‬
‫َّ‬
‫تذكرني في صلواتك‪ ،‬وعندما تفطر‪،‬‬ ‫إذا لم أصل عند حلول عيد الفصح‪َّ ،‬‬
‫تهاني من بعيد‪ ،‬وتأ كيدي أنني سأفتقدك للغاية عشية عيد الفصح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتقبل‬

‫‪120‬‬
‫بطرسبرج‪ 18 ،‬أ كتوبر ‪1896‬‬

‫دوي هائل‪.‬‬‫ٌّ‬ ‫ال ذريع ًا‪ ،‬وصاحب انهيارها‬‫لقد فشلت المسرحية فش ً‬


‫وسيطر شعور هائل ومو ِ ّتر بالعار واالرتباك في المسرح‪ .‬وجاء تمثيل‬
‫جميع المم ِ ّثلين ّ‬
‫سيئ ًا للغاية‪ .‬والمغزى األخالقي لها أنه يجب أ ّلا أكتب‬
‫مسرحيات بعد اآلن‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫يالطا‪ 26 ،‬أ كتوبر ‪1898‬‬

‫أسعى اآلن إلى شراء قطعة أرض في يالطا ألبني عليها بيت ًا أقضي به‬
‫وتوصلت إلى هذا القرار بسبب التنقُّ ل المستمر بين‬
‫َّ‬ ‫فترات الشتاء‪.‬‬
‫وحماليها‪ ،‬ومصادفات الطهي‪ ،‬إلى آخر هذه األشياء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حجرات الفنادق‪،‬‬
‫وستقضي أمّي الشتاء بصحبتي‪ .‬ال وجود للشتاء هنا‪ ،‬فنحن في نهاية‬
‫أ كتوبر‪ ،‬لكن الزهور وغيرها من النباتات متف ِ ّتحة‪ ،‬واألشجار خضراء‪،‬‬
‫والطقس دافئ‪.‬‬

‫يوجد كثير من الماء هنا‪ ،‬ولن أحتاج شيئ ًا بعيد ًا عن المنزل‪ ،‬ال حاجة‬
‫وسيتم‬
‫ّ‬ ‫ألي منشآت من أي نوع‪ ،‬فكل شيء سيكون تحت سقف واحد‪.‬‬
‫تخزين الفحم والخشب وغير ذلك من أشياء في القبو‪ .‬والدجاجات لن‬
‫يعوقها شيء عن التجوال طوال العام‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ال حاجة لبناء منزل خاص‬
‫لها‪ ،‬يكفي أن أقوم بتسييج جزء لها‪ .‬وبالقرب من هنا يوجد مخبز وسوق‬
‫شرقية‪ ،‬وسيكون ذلك مناسب ًا ألمّي ومريح ًا لها كذلك‪ .‬وبالمناسبة‪ ،‬بوسع‬
‫أمّي أن تتس ّلى بجمع الفطر الصالح للطهي و‪ boletuses‬خالل فصل‬
‫الخريف‪ .‬لن أقوم بتشييد المنزل بنفسي‪ ،‬سيتولّى المهندس المعماري‬
‫هذا األمر‪ .‬وستكون جميع المنازل جاهزة في أبريل القادم‪ .‬واألرض التي‬
‫اشتريتها مناسبة لبناء منزل ريفي‪ .‬فالمنزل ستحيط به حديقة وأحواض‬
‫زهور وأخرى للخضروات‪ .‬كذلك سيصل خط السكك الحديدية إلى‬
‫يالطا العام القادم‪.‬‬

‫وبالنسبة للزواج الذي تتوق إليه‪ ،‬ماذا بوسعي أن أقول لك؟ فأن تتزوج‬
‫تحب‪ .‬ألن الزواج من فتاة ألنها جميلة‪ ،‬يشبه شراء شيء ما ال‬
‫ّ‬ ‫يعني أنك‬
‫يرغب فيه المرء‪ ،‬فقط ألنه وجده في السوق‪ ،‬ووجد أنه من صنف ِ ّ‬
‫جيد‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الحب‪ ،‬وما سواه من جاذبية جنسية وجسدية وغير‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أسري هو‬ ‫إن أهم رابط‬
‫التنبوء بنتائجها‬
‫ُّ‬ ‫ذلك من أشياء‪ ،‬إنما هي مصدر حزن ووحشة‪ ،‬وال يمكن‬
‫مهما بلغت مهارتنا في إجراء الحسابات‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فاألمر ال يتع َّلق‬
‫فتجاه ْل هذه الصفة ألنها ال تعني سوى‬‫َ‬ ‫ب‪،‬‬ ‫بجمال البنت بل بأن ُت َح ّ‬
‫القليل‪.‬‬

‫مسرحية «العم فانيا» ِ ّ‬


‫تحقق نجاحات في جميع أنحاء اإلقليم؛ ولذلك ال‬
‫يمكن ‪-‬أبد ًا‪ -‬أن أعرف أين سأربح‪ ،‬وأين سأخسر‪ ،‬وال أعتمد على تلك‬
‫اللعبة على اإلطالق‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫‪ 28‬يوليو ‪1888‬‬

‫على البحر األسود وبحر قزوين‪ ،‬وبعيد ًا عن الحياة‪ ..‬باخرة نقل بضائع‬
‫صغيرة الحجم ومتهالكة‪ ،‬اسمها «دير»‪ ،‬تنطلق بأقصى سرعة من سوهوم‬
‫ُ‬
‫والقمرة الوحيدة في هذه الباخرة حارة‬ ‫إلى بوتي‪ .‬الوقت منتصف الليل‪.‬‬
‫ورطبة للغاية‪ .‬وهناك رائحة شيء يحترق تتصاعد من حبل ما‪ ،‬أو سمكة‬
‫ما‪ ،‬أو من البحر‪ .‬صوت المح ِ ّرك يصل إلينا مد ِ ّوي ًا «بووم بووم بووم»‪.‬‬
‫وعن الماكينات تصدر أصوات على سطح الباخرة أو من األسفل‪ .‬الظلمة‬
‫تزحف متمايلة داخل ُ‬
‫القمرة‪ ،‬والسرير يهت ّز إلى أعلى وإلى أسفل‪ ،‬بينما‬
‫أسعى إلى تحويل انتباهي من الجوع إلى محاولة االستلقاء على السرير‪،‬‬
‫ال إلى حلقي قبل أن تنزل إلى كعبي‪.‬‬‫وإذا بمياه سلتزر ترتجع وصو ً‬

‫لم يكن من السهل انتقاء مالبسي في الظالم‪ ،‬واكتفيت بارتداء مالبسي‬


‫قدمي ببعض قضبان‬‫ّ‬ ‫سريع ًا ومغادرة القمرة‪ .‬ياله من ظالم! ارتطمت‬
‫الحديد غير المرئية‪ ،‬وبحبل كذلك‪ ،‬فأينما خطوت تتع ّثر في براميل وأكياس‬
‫وأسمال بالية‪ ،‬كذلك تدوس على رماد فحمي‪ .‬وفي الظالم اصطدمت‬
‫بشيء ما يتك َّون من قضبان متوازية‪ ،‬إنه قفص مملوء باألغنام التي‬
‫سبق ورأيتها خالل النهار‪ .‬كانت مستيقظة ومهتاجة تنصت إلى أصوات‬
‫اهتزازات القارب‪ .‬وإلى جوار القفص هناك جوادان تركيان مستيقظان‬
‫منصة ربّان الباخرة‪ .‬كادت‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المؤدية إلى‬ ‫توجهت إلى الساللم‬
‫كذلك‪َّ ...‬‬
‫بقبعتي من فوق رأسي‪ ،‬والباخرة تهت ّز‪ .‬وكان الصاري أمام‬
‫ريح قوية تطيح ّ‬
‫منصة الربّان يهت ّز بانتظام وبطء مثل بندول اإليقاع‪ ،‬حاولت أن أح ِ ّول‬
‫ّ‬
‫عيني لم تطاوعاني؛ تمام ًا مثل معدتي‪ ،‬وأص َّرتا على‬
‫ّ‬ ‫بصري عنه‪ ،‬لكن‬
‫متابعة األشكال المتح ِ ّركة‪ ...‬السماء والبحر غارقان في الظلمة‪ ،‬والشاطئ‬

‫‪124‬‬
‫غير مرئي‪ ،‬ويبدو سطح السفينة مثل بقعة من الظلمة‪ .‬لم يكن هناك ولو‬
‫مصدر ضوء وحيد‪.‬‬

‫خلفي نافذة‪ ،‬نظرت عبرها فرأيت رج ً‬


‫ال يتط َّلع ‪-‬باهتمام‪ -‬إلى شيء ما‪،‬‬
‫ويُدير عجلة ما‪ ،‬وعلى وجهه تعبير كما لو كان يعزف السيمفونية التاسعة‪.‬‬
‫وإلى جواري يقف الربّان‪ ،‬ممتلئ الجسد قلي ً‬
‫ال‪ ،‬مرتدي ًا حذاءه الجلدي‪.‬‬
‫إلي عن المهاجرين القوقاز‪ ،‬وعن حرارة الجو‪ ،‬وعن عواصف‬ ‫تحدث ّ‬‫َّ‬
‫الشتاء‪ ،‬وفي الوقت ذاته يتط َّلع إلى شيء ما في الظالم؛ يبدو بعيد ًا‪،‬‬
‫وباتجاه الشاطئ‪.‬إذا به يقول لشخص ما‪« :‬يبدو أنك تنحرف كثير ًا إلى‬
‫البد من وجود أضواء هنا‪ .‬هل تراها؟»‪ .‬وإذا بشخص‬ ‫ّ‬ ‫مجدد ًا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اليسار‬
‫ليرد عليه‪« :‬تس َّلق‪ ،‬وتفقَّ د‬
‫ما يجيب من وسط الظلمة‪« :‬ال يا سيدي»‪ّ ،‬‬
‫منصة الربّان وتتس ّلق بتؤدة‪ .‬وفي‬
‫األمر»‪.‬وإذا بكتلة من الظلمة تظهر فوق ّ‬
‫غضون دقيقة سمعنا‪« :‬نعم يا ِ ّ‬
‫سيدي»‪.‬‬

‫تط َّلعت إلى اليسار حيث يُفت َرض أن تأتي أضواء الفنار‪ ،‬واستعرت منظار‬
‫يتغير‬
‫َّ‬ ‫الربّان‪ ،‬لكنني لم أ َر شيئ ًا‪ .‬وبعد مرور نصف ساعة‪ ،‬ثم ساعة‪ ،‬لم‬
‫شيء‪ .‬وال يزال الصاري يتمايل بانتظام‪ ،‬والماكينات تتعالى أصواتها‪،‬‬
‫بقبعتي‪ .‬لم تكن الظلمة حالكة‪ ،‬لكن هناك ما يدفع إلى‬
‫والريح تعبث َّ‬
‫الترقُّ ب‪.‬‬

‫ِّ‬
‫مؤخرة الباخرة‪ ،‬وهو يصيح‪:‬‬ ‫وفجأة‪ ،‬قذف الربّان شيئ ًا ما‪ ،‬بعنف إلى‬
‫«يالك من ماكينة ال نفع منك!»‪.‬‬

‫صرخ بتو ُّتر بأعلى صوته‪« :‬إلى اليسار‪ ،‬إلى اليسار‪ ،..‬إلى اليمين! يااااه!»‪.‬‬

‫تعالت‪ ،‬باألوامر أصوات غير مفهومة‪ .‬وبدأت الباخرة تتح َّرك‪ ،‬وصدر‬
‫صوت صرير عن الماكينات‪«.‬يااااه!»‪ ،‬صرخ الربّان‪ .‬وعند ِ ّ‬
‫مقدمة الباخرة‬

‫‪125‬‬
‫ّ‬
‫يدق‪ ،‬وعلى سطحها المعتم كانت هناك أصوات‬ ‫كان هناك ناقوس‬
‫ألشخاص يجرون‪ ،‬ويتصادمون‪ ،‬ويصرخون في تو ُّتر‪ .‬وعادت الباخرة‬
‫مجدد ًا تنفث دخانها بصعوبة بالغة‪ ،‬وبدا أنها تسعى كي تتح َّرك‬
‫َّ‬ ‫«دير»‬
‫إلى الخلف‪.‬‬

‫سألت‪ :‬ما هذا؟ وتس َّلل ّ‬


‫إلي شعور طفيف بالخوف‪ .‬ولم أتلقَّ أية إجابة‪.‬‬

‫وإذا بي أسمع صياح الربّان‪ :‬التصادم وشيك‪ ،‬يالها من ماكينة خردة! إلى‬
‫اليسار‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المقدمة‪ ،‬وفجأة ‪-‬وسط الضجيج‪ُ -‬سمِ ع صوت‬ ‫ظهرت أضواء حمراء في‬
‫صفّ ارة‪ ،‬ولم تكن صادرة عن الباخرة «دير»‪ ،‬بل عن باخرة ُأخرى‪ .‬اآلن‬
‫أدركت‪ :‬هناك تصادم وشيك! وقفت الباخرة «دير» تنفث دخانها وتهت ّز‬
‫دون حركة‪ ،‬كما لو كانت في انتظار إشارة حتى تغرق‪ ،‬لكن‪ ،‬بمج َّرد أن‬
‫فكرت في الوضع‪ ،‬كان في طريقه للتالشي‪ ،‬فلقد ظهرت األضواء الحمراء‬‫َّ‬
‫إلى يسارنا‪ ،‬وظهر للعيان ُّ‬
‫ظل باخرة‪ .‬كانت بمثابة جسد طويل أسود يك ّر‬
‫بمحاذاتنا‪ ،‬وأضواؤها الحمراء تومض‪ ،‬وكذلك تطلق الباخرة صفارة مثقلة‬
‫بالشعور بالذنب‪.‬‬

‫سألت الربان‪ :‬أوف‪ ،‬ما اسم تلك الباخرة؟‬

‫ثم أجاب‪ :‬إنها الباخرة‬ ‫نظر الربان بمنظاره إلى الباخرة التي تم ّر مثل ّ‬
‫ظل‪ّ ،‬‬
‫«تويدي»‪.‬‬

‫وبعد فترة صمت‪ ،‬بدأنا الحديث عن الباخرة «فيستا» التي اصطدمت‬


‫بباخرتين وغرقت‪ .‬تحت تأثير هذا الحديث‪ ،‬بدا البحر والليل والرياح‬
‫بصورة بشعة‪ ،‬كما لو كانت موجودة من أجل إهالك البشر‪ ،‬وشعرت‬
‫إلي بأن هذا‬
‫باألسى وأنا أنظر إلى هذا الرجل البدين القصير‪ ،‬وقد همس ّ‬

‫‪126‬‬
‫ال أو آج ً‬
‫ال‪ ،‬سيسقط إلى القاع ويختنق بالماء‬ ‫الرجل المسكين‪ ،‬إن عاج ً‬
‫المالح‪.‬‬

‫عدت إلى قمرتي‪ ،‬لها رائحة تزكم األنوف‪ ،‬وهناك رائحة طبخ‪ .‬وكان‬
‫رفيقي في السفر‪ ،‬سوفرين فيلس‪ ،‬نائم ًا بالفعل‪ ،‬خلعت كامل مالبسي‬
‫وذهبت إلى الفراش‪ ..‬بوووم بوووم بوووم!‪ ،‬كنت غارق ًا في العرق‪،‬‬
‫واستبد بي اإلجهاد من كثرة االهتزاز‪ ،‬وتساءلت؛ «لماذا‬
‫ّ‬ ‫أتنفّ س بصعوبة‪،‬‬
‫أنا هنا؟»‪.‬‬

‫استيقظت‪ .‬وكان الظالم قد انقشع‪ .‬كنت مب َّل ً‬


‫ال بالعرق‪ ،‬ولفمي رائحة‬
‫كريهة‪ ،‬ارتديت مالبسي وغادرت المكان‪ .‬كل شيء عليه قطرات الندى‪.‬‬
‫كانت الماعز الب ّرية تتط َّلع بعيون بشرية عبر قضبان القفص المحبوسة‬
‫فيه‪ ،‬وبدت كما لو كانت تتساءل‪« :‬لماذا أنا هنا؟»‪ ،‬وكان ربّان الباخرة‬
‫ِّ‬
‫ويحدق في المدى‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫متسمر ًا ما زال‪،‬‬

‫وتتبدى «إلبورس» من خلف‬


‫ّ‬ ‫تمتد الجبال بمحاذاة الساحل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إلى اليسار‬
‫الجبال‪.‬‬

‫وأشرقت الشمس وسط الضباب الكثيف‪ ،‬وأصبح باإلمكان رؤية الوادي‬


‫يمتد بمحاذاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األخضر لريون وخليج بوتي‬

‫‪127‬‬
‫‪4‬‬
‫إلى ابن ِ ّ‬
‫عمه ميهائيل تشيخوف‬

‫تاجانروج‪ 10 ،‬مايو ‪1877‬‬

‫‪ -‬إذا أرسلت لك رسائل كي توصلها إلى أمّي‪ ،‬أرجو أن تس ِ ّلمها إليها‬


‫على انفراد‪ ،‬فهناك أشياء في الحياة ال يستأمن عليها المرء سوى شخص‬
‫واحد يثق فيه‪ .‬ولهذا السبب أ كتب إلى أمّي دون معرفة اآلخرين ممن ال‬
‫يأبهون بأسراري‪ ،‬أو ال تمثل لهم أهمية تذكر‪ ...‬أما رجائي الثاني فهو‬
‫تتوان عن إراحة أمّي‪ ،‬فهي ‪-‬بدني ًا ومعنوي ًا‪ -‬معت ّلة‪.‬‬
‫َ‬ ‫أهمية؛ رجا ًء ال‬
‫أ كثر ّ‬
‫تعدك مج ّرد ابن أخ‪ ،‬فمكانتك عندها تفوق ذلك بكثير‪.‬‬
‫إنها ال ّ‬

‫إن ألمي تلك الشخصية التي يم ِ ّثل لها دعم اآلخرين معنوي ًا دعم ًا شخصي ًا‬
‫لها‪ .‬إنه طلب سخيف‪ ،‬أليس كذلك؟‪ .‬لكنك ستفهم‪ ،‬خاصة وأنني قد‬
‫ذكرت «معنوي ًا» بمعنى الدعم الروحي‪ .‬ال يستحقّ أي شخص‪ ،‬في هذا‬
‫محبتنا أكثر من أمهاتنا‪ ،‬وبناء على ذلك أتوقَّع أنك سوف‬
‫ّ‬ ‫العالم الكريه‪،‬‬
‫تلزم خادمك الوضيع بأن يعمل من أجل راحة أمّه المعت ّلة الواهنة للغاية‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫‪5‬‬
‫عمه م‪ .‬ج‪ .‬تشيخوف‬
‫إلى ّ‬

‫موسكو‪1885 ،‬‬

‫ّ‬
‫محل صديق‬ ‫لم أستطع القدوم لرؤيتك الصيف الماضي‪ ،‬ألنني حللت‬
‫لي يشغل منصب طبيب المقاطعة‪ ،‬والذي سافر لقضاء عطلته‪ ،‬لكن‪ ،‬هذا‬
‫َّ‬
‫ألتمكن من رؤيتك‪.‬‬ ‫أود أن أسافر‬
‫العام ّ‬

‫في شهر ديسمبر الماضي‪ ،‬داهمتني نوبة من بصق الدم‪ ،‬وقررت أن أحصل‬
‫على بعض المال من االعتماد المالي األدبي ألسافر إلى الخارج في‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫رحلة عالج‪ .‬أنا بحال أفضل اآلن‪ ،‬لكنني ما زلت أعتقد أنه يجب‬
‫السفر‪ ،‬وتحديد موعده‪ ،‬سواء إلى كريميا أو القوقاز‪ ،‬سأم ُّر عبر تاجانروج‪.‬‬

‫َّ‬
‫أتمكن من االنضمام إليك أل كون في خدمة‬ ‫أشعر باألسف ألنني لم‬
‫قومي من تاجانروج‪ ،‬فأنا على يقين من أنه إذا كان عملي هناك‪ ،‬فسأ كون‬
‫الجلي أن قدري أن أبقى‬
‫ّ‬ ‫وبصحة أفضل‪ ،‬لكن من‬‫ّ‬ ‫أهدأ وأكثر مرح ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫لدي نوعان من العمل‪ :‬كوني‬ ‫في موسكو‪ .‬فبيتي ومستقبلي المهني هنا‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫طبيب ًا‪ ،‬كنت سأصبح كسو ً‬
‫ال في تاجانروج‪ ،‬وأنسى الطب‪ ،‬لكن في موسكو‬
‫ليس لدى الطبيب وقت فراغ ليذهب إلى النادي ويلعب الورق‪ .‬وكوني‬
‫كاتب ًا‪ ،‬فال فائدة مني إال في موسكو أو بطرسبرج‪.‬‬

‫الطب شيئ ًا فشيئ ًا‪ .‬أداوم على مداواة المرضى‪ .‬ويومي ًا‬
‫ّ‬ ‫أتقدم في مهنة‬
‫َّ‬
‫لدي العديد من األصدقاء‪ ،‬ومن‬‫ّ‬ ‫ال واحد ًا على المواصالت‪.‬‬ ‫أنفق روبي ً‬
‫بالمجان‪ ،‬أما النصف‬
‫ّ‬ ‫وعلي أن أعالج نصفهم‬
‫ّ‬ ‫ث ََّم العديد من المرضى‪.‬‬
‫اآلخر فيدفعون لي من ‪ 4‬إلى ‪ 5‬روبيالت في الكشف الواحد‪ .‬وبوسعي‬
‫أن أعلن ‪-‬دون قلق‪ -‬أنني لم أث َر بعد‪ ،‬وأنني بحاجة إلى وقت طويل‬
‫لتحقيق ذلك‪ ،‬لكنني أعيش مستور ًا‪ ،‬وال أحتاج شيئ ًا‪ .‬وطالما أنا على‬
‫قيد الحياة‪ ،‬فسيكون وضع عائلتي المالي بأمان‪ .‬اشتريت أثاث ًا جديد ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولدي خادمان‪ ،‬وأقيم بعض الحفالت‬ ‫واستأجرت بيانو بحالة جيدة‪،‬‬
‫علي‪ ،‬وال أنوي‬
‫ّ‬ ‫المسائية الصغيرة بصحبة الموسيقى والغناء‪ .‬ال ديون‬
‫االقتراض‪.‬‬

‫وحتى وقت قريب للغاية‪ ،‬كنا نشتري من الجزارة والبقالة على النوتة‪ ،‬أما‬
‫اآلن فلقد انتهى ذلك‪ ،‬وأصبحنا ندفع نقد ًا مقابل جميع مشترياتنا‪ .‬أما‬
‫القادم‪ ،‬فال أحد يعلمه‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فليس هناك ما نشكو منه‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫موسكو‪ 18 ،‬يناير ‪1887‬‬

‫خالل العطالت كنت منهمك ًا ‪-‬للغاية‪ -‬في العمل‪ ،‬لدرجة أنني كنت‬
‫منهك ًا جد ًا عندما ّ‬
‫حل يوم الشفيع الخاص بأمّي‪.‬‬

‫يجب أن أخبرك أنه في بطرسبرج أنا اآلن أ كثر الكتاب شهرة‪ .‬ويستطيع‬
‫المرء اكتشاف ذلك من الصحف والمجالت‪ ،‬والتي في نهاية العام‬
‫تهتم بي‪ ،‬وتتناقل اسمي وأخباري‪ ،‬وتمتدحني بأ كثر‬
‫ّ‬ ‫‪ 1886‬كانت‬
‫مما أستحق‪ .‬وكانت نتيجة تزايد شهرتي األدبية أنني حظيت بعدد من‬
‫ثم المزيد من العمل والضغوط واالستنفاد‪.‬‬ ‫الطلبات والدعوات‪ ،‬ومن ّ‬
‫عملي مرهق لألعصاب‪ ،‬ومزعج‪ ،‬ويخ ِ ّلف ضغط ًا‪.‬‬

‫إنه عمل جماهيري‪ ،‬ويفرض الشعور بالمسؤولية‪ ،‬بما يضاعف من‬


‫تتسبب في القلق لي وألسرتي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫قدمت تقرير ًا عني‪،‬‬
‫صعوبته‪ .‬وكل صحيفة َّ‬
‫و ُتقرأ قصصي في محافل عامة‪ ،‬وأينما ذهبت يشير الناس نحوي‪ ،‬يربكني‬
‫تغيرات‪ .‬ال أهنأ‬
‫التزايد المستم ّر في أعداد من يعرفونني‪ ،‬وغير ذلك من ُّ‬
‫بيوم واحد من السكينة‪ ،‬وأشعر أنني أسير على األشواك كل دقيقة‪.‬‬

‫فولوديا على حق‪ ،‬فال يستطيع المرء أن يمتلك العالم‪ ،‬لكن‪ ،‬بوسعه‬
‫أن يُدعى «سيد العالم»‪ .‬أخبر فولوديا أنه‪ ،‬بعيد ًا عن اإلقرار بالفضل‪،‬‬
‫والتبجيل أو اإلعجاب بمناقب أفضل الرجال تلك السمات التي تجعل‬
‫رج ً‬
‫ال ما فريد ًا ومناسب ًا لأللوهية‪ ،‬من حقّ الشعوب والمؤ ِ ّرخين أن يطلقوا‬
‫الرب أو‬
‫ّ‬ ‫على من يختارونه ما يشاؤون‪ ،‬دون خشية من اإلساءة إلى عظمة‬
‫الرب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اال ّتهام برفع اإلنسان إلى مرتبة‬

‫ِّ‬
‫الطيبة‪ ،‬وليس الشخص‪ ،‬ذلك المبدأ اإللهي‬ ‫الحقيقة أننا ِ ّ‬
‫نمجد الخصال‬

‫‪131‬‬
‫الذي نجح في تنميته داخل نفسه إلى درجة بعيدة‪ .‬ووفق ًا لذلك يُطلق‬
‫على الملوك لقب «األعظم»‪ ،‬رغم أنهم جسدي ًا ربما ال يكونون أطول‬
‫من ل‪ .‬ل‪ .‬لوبودا‪ ،‬ويُدعى البابا بـ «قداسة البابا»‪ ،‬ويُطلق على البطريرك‬
‫عادة «الكوني»‪ ،‬رغم عدم وجود روابط بينه وبين أي كوكب سوى‬
‫«سيد العالم»‪ ،‬رغم‬
‫ّ‬ ‫األرض‪ ،‬وهكذا كان يُطلق على األمير فالديمير لقب‬
‫جد ًا من العالم‪،‬‬
‫أنه لم يكن يحكم سوى جزء صغير ّ‬

‫يطلق على األمراء ألقاب مثل «الجليل» و»ذائع الصيت»‪ ،‬رغم أن‬
‫الثقاب السويدي أشهر منهم آالف المرات‪ ،‬إلخ‪ .‬وعند استخدام مثل‬
‫نعبر‪ ،‬ببساطة‪ ،‬عن‬ ‫ِّ‬
‫ونفخم‪ ،‬لكننا ِ ّ‬ ‫ِّ‬
‫نضخم‬ ‫هذه التعبيرات‪ ،‬ال نكذب أو‬
‫ابتهاجنا‪ ،‬مثلما أن األم ال تكذب عندما تدعو طفلها «طفلي الذهبي»‪.‬‬
‫يتحمل الجمال كل ما هو‬
‫َّ‬ ‫يتحدث داخلنا‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫إنه الشعور بالجمال هو ما‬
‫شائع وتافه‪ ،‬إنه يدفعنا إلى مقارنات ال يعيرها فولوديا ‪-‬بذكائه‪ -‬اهتمام ًا‪،‬‬
‫لكنه سيدركها بقلبه‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬من المعتاد مقارنة العيون السود‬
‫وتجعدات الشعر باألمواج‪....‬إلخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالليل‪ ،‬والزرقاء باألزرق السماوي‪،‬‬
‫وحتى اإلنجيل يهوى تلك المقارنات‪ ،‬وعلى سبيل المثال «الرحم أ كثر‬
‫ا ِ ّتساع ًا من الفردوس»‪ ،‬أو «شمس العدل أشرقت»‪« ،‬صخرة اإليمان»‪...‬‬
‫إلخ‪.‬‬

‫إن الشعور بالجمال الكامن داخل اإلنسان ال يعرف حدود ًا أو قيود ًا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫«سيد العالم»‪ ،‬ويحمل‬ ‫وربما لهذا السبب يطلق على األمير الروسي‬
‫صديقي فولوديا االسم نفسه‪ ،‬فاألسماء ُتم َنح للناس‪ ،‬ال لطبائعهم‪ ،‬بل‬
‫تيمن ًا برجال من الماضي وتخليد ًا لذكراهم‪.‬‬
‫ُّ‬

‫حجة أخرى سيجدها مقنعة‬‫ّ‬ ‫ّ‬


‫فلدي‬ ‫وإذا لم ي َّتفق معي طالبك الشاب‪،‬‬
‫الرب‪ ،‬فإننا ال نرتكب خطيئة ضد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مصاف‬ ‫بال شك‪ :‬عند رفع البشر إلى‬

‫‪132‬‬
‫الحب‪ ،‬بل ‪-‬على النقيض‪ -‬نحن نعبر عنه‪ .‬فال ينبغي أن ن ِ ّ‬
‫ُحقر الناس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وذلك هو الشيء الجوهري‪ .‬فمن األفضل أن ندعو إنسان ًا بـ«مالكي» من‬
‫أن ننعته بالـ «األحمق»‪ ،‬رغم أن البشر أقرب إلى أن يكونوا حمقى من‬
‫أن يكونوا مالئكة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫تشيخوف وإلي اليمين أولجا كنيبر (‪ ،)1868-1959‬زوجته‪ ،‬وكانت ممثّلة مسرحية مرموقة‪ ،‬حصلت على‬
‫جائزة الدولة لالتحاد السوفيتي‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫‪6‬‬
‫إلى زوجته و‪ .‬ل‪ .‬كنيبر‬

‫يالطا‪ 26 ،‬مارس ‪1900‬‬

‫هناك شعور بالكآبة السوداوية في رسالتك‪ ،‬مم ِ ّثلتي العزيزة‪ ،‬أنت كئيبة‬
‫يتخيل أنك‬
‫َّ‬ ‫ال‪ ،‬فبوسع المرء أن‬ ‫وتعيسة للغاية‪ ،‬لكن ذلك لن يدوم طوي ً‬
‫بشهية مفتوحة‬
‫ّ‬ ‫قريب ًا‪ ،‬قريب ًا للغاية‪ ،‬ستجلسين في القطار وتتناولين غداءك‬
‫ال‪ -‬برفقة ماشا قبل اآلخرين‪ ،‬فعلى األقل‬‫جد ًا‪ .‬لطيف أن تأتي ‪-‬أو ً‬
‫سيكون بوسعنا أن نجد وقت ًا للحديث مع ًا‪ ،‬ونتج ّول قلي ً‬
‫ال‪ ،‬ونشاهد بعض‬
‫األشياء‪ ،‬ونشرب ونأ كل‪ .‬لكن‪ ،‬من فضلك ال تحضري معك (‪.)....‬‬

‫لدي مسرحية جديدة‪ ،‬إنها كذبة صحافية‪ .‬فالصحافة ‪-‬دائم ًا‪ -‬ال‬
‫ّ‬ ‫ليس‬
‫تقول الصدق عني‪ .‬ولو أني قد بدأت مسرحية‪ ،‬لكنت أنت أول من‬
‫يعرف بها‪.‬‬

‫جدي ًا هنا‪ ،‬لكننا نخرج ونتجول بال‬‫تهب رياح قويّة‪ ،‬فالربيع لم يبدأ ّ‬
‫ّ‬
‫َكلوش‪ ،‬وبال قبعاتنا المصنوعة من الفرو‪ .‬وقريب ًا للغاية ستزهر أشجار‬
‫منسقة‪ ،‬ومكس ّوة بالطحالب‪،‬‬ ‫التوليب‪ّ .‬‬
‫لدي حديقة جميلة هنا‪ ،‬لكنها غير َّ‬

‫‪135‬‬
‫إنها حديقة هواة بحقّ ‪.‬‬

‫ِّ‬
‫سأقدمك‬ ‫ِّ‬
‫متحمس في مديحه لك وألعمالك المسرحية‪.‬‬ ‫جوركي هنا‪ .‬إنه‬
‫له عند مجيئك‪.‬‬

‫أوه يا عزيزتي! لقد وصل شخص ما‪ .‬إنه زائر‪ .‬وداع ًا مؤقَّت ًا أيتها المم ِ ّثلة!‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫يالطا‪ 20 ،‬مايو ‪1900‬‬

‫تحياتي لك‪ ،‬أيتها المم ِ ّثلة العزيزة الساحرة!‪ .‬كيف حالك؟ كيف تشعرين؟‬
‫ّ‬
‫كنت بحالة سيئة للغاية في أثناء عودتي إلى يالطا‪ .‬عانيت صداع ًا شديد ًا‬
‫وارتفاع ًا في درجة الحرارة قبل مغادرة موسكو‪ .‬كان األمر خطير ًا‪،‬‬
‫وحبذت إخفاءه عنك‪ ،‬واآلن أنا بخير حال‪.‬‬
‫َّ‬

‫كيف حال ليفيتان؟ أشعر بقلق رهيب النقطاع أخباره عني‪ .‬إذا عرفت‬
‫شيئ ًا أرجو أن تكتبي لي‪.‬‬

‫حافظي على نفسك‪ ،‬واستمتعي بوقتك‪ .‬سمعت أن ماشا أرسل لك رسالة‪،‬‬


‫ولهذا سارعت بكتابة هذه السطور المعدودات‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫يالطا‪ 14 ،‬فبراير‪1900 ،‬‬

‫عزيزتي المم ِ ّثلة‪،‬‬

‫الصور رائعة للغاية‪ ،‬خاصة تلك الصورة التي تظهرين فيها مستلقية وعلى‬
‫وجهك مسحة حزن‪ ،‬ومنكباك يستندان على ظهر مقعد‪ ،‬مما يضفي عليك‬
‫مسحة من الشجن الشفيف‪ ،‬وتعبير ًا لطيف ًا يخفي روح ًا شيطانية صغيرة‪.‬‬
‫وهناك صورة أخرى جيدة‪ ،‬لكنك فيها تبدين شبيهة قلي ً‬
‫ال بامرأة يهودية‬
‫تقليدية‪ ،‬مثل موسيقية تحضر درس ًا في معهد الموسيقى‪ ،‬لكن في الوقت‬
‫كتخصص ٍ‬
‫ثان‪ ،‬وهي‬ ‫ُّ‬ ‫طب األسنان على طبيب بارع وذلك‬ ‫ذاته تدرس ّ‬
‫ال في موجيليف‪ ،‬وهذا الخطيب شخص يشبه «م»‬ ‫مخطوبة وستتزوج رج ً‬
‫هل أنت غاضبة؟ حق ًا‪ ،‬غاضبة حق ًا؟ إنه انتقامي منك ألنك لم ِ ّ‬
‫توقعي‬
‫لي على هذه الصور‪.‬‬

‫من بين السبعين زهرة التي زرعتها الخريف الماضي‪ ،‬ثالثة فقط لم تنبت‪.‬‬
‫فجميع زهور الليلك والسوسن والتوليب ومسك الروم والمكحلة‪ ،‬جميعها‬
‫نبتت‪ .‬والصفصاف اخضوضر فعلي ًا‪ .‬وهناك وفرة من العشب األخضر‬
‫بالقرب من المقعد الصغير الموجود عند الزاوية‪ .‬وشجرة اللوز أزهرت‬
‫هي األخرى‪.‬‬

‫لقد وضعت مقاعد صغيرة في جميع أرجاء الحديقة‪ ،‬لم أختر تلك‬
‫المقاعد الضخمة ذات القوائم الحديدية‪ ،‬بل اخترت تلك المصنوعة من‬
‫الخشب بعد أن قمت بطالئها باللون األخضر‪ .‬كذلك قمت ببناء ثالثة‬
‫جسور فوق المجرى المائي‪ .‬وزرعت أشجار النخيل‪ .‬فعلي ًا‪ ،‬توجد جميع‬
‫أنواع األشياء الجديدة‪ ،‬لدرجة أنك لن تتع َّرفي إلى المنزل أو الحديقة‬

‫‪138‬‬
‫يتغير‪ ،‬إنه الشخص نفسه فاتر الهمة والذي‬
‫َّ‬ ‫أو الشارع‪ .‬فقط‪ ،‬المالك لم‬
‫ك َّرس نفسه لتبجيل المواهب التي تقيم عند نيكيتسكي جيت‪ .‬ولم أسمع‬
‫أي موسيقى أو غناء منذ الخريف الماضي‪ ،‬ولم أ َر امرأة ممتعة‪ .‬فكيف‬
‫بوسعي أن أعاون مصاب ًا باالكتئاب؟‬

‫كنت قد عقدت العزم على عدم الكتابة لك‪ ،‬لكن بعد أن أرسلت الصور‪،‬‬
‫تراجعت عن موقفي‪ ،‬وها أنا أكتب لك‪ .‬بل إنني سآتي إلى سيفايتوبول‪،‬‬
‫وأك ِ ّررها عليك‪ :‬ال تخبري أحد ًا‪ ،‬خاصة فشنيفسكي‪ .‬سآتي تحت اسم‬
‫سأسجل في دفتر الفندق باسم بالكفيتش‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مستعار‪،‬‬

‫كنت أمزح عندما قلت أنك تشبهين امرأة يهودية في إحدى الصور التي‬
‫أرسلتِها‪ .‬ال تغضبي‪ ،‬يا غاليتي‪ .‬حسن ًا‪ ،‬تلك قبلة مني ليدك الصغيرة‪.‬‬

‫المخلص لك دائما‬

‫‪139‬‬
‫يالطا‪ 10 ،‬فبراير ‪1900‬‬

‫مم ِ ّثلتي الغالية‪،‬‬

‫إلي منذ قرابة شهر‬


‫الشتاء بارد للغاية‪ ،‬ولست على ما يُرام‪ ،‬ولم يكتب أحد ّ‬
‫ّ‬
‫لدي أنه لم يعد أمامي من شيء سوى السفر إلى الخارج‪،‬‬ ‫ت‬‫بأ كمله‪ ،‬وث َُب َ‬
‫حيث األجواء ليست راكدة للغاية‪ ،‬لكن‪ ،‬اآلن‪ ،‬تحسن الطقس‪ ،‬وأصبح‬
‫أدفأ‪ ،‬وق ّررت أنني سأسافر إلى الخارج ‪-‬فقط‪ -‬في نهاية الصيف‪ ،‬وذلك‬
‫لالستفادة من اإلعانة التعليمية‪.‬‬

‫وأنت‪ ،‬لماذا مصابة باالكتئاب؟ ما الذي أصابك باالكتئاب؟‪ .‬فأنت‬


‫عمك‬
‫تعيشين‪ ،‬وتعملين‪ ،‬وتمرحين وتشربين‪ ،‬وتضحكين عندما يقرأ ّ‬
‫بصوت مرتفع لك‪ ،‬فأي شيء تريدين أ كثر من ذلك؟ أما بالنسبة لي‬
‫فالوضع مختلف‪ :‬تم ِ ّزقني مسألة الجذور‪ ،‬فأنا أعيش عيشة منقوصة‪ ،‬ال‬
‫أشرب رغم أنني مغرم بالشراب‪ ،‬أعشق الضوضاء لكنني ال أسمعها‪،‬‬
‫التردد بين أن‬
‫ُّ‬ ‫تم نقلها إلى مكان جديد‪ ،‬وتعاني‬
‫حقيقة أنا مثل شجرة ّ‬
‫تضرب بجذورها في األرض أو تذبل‪ .‬لو كنت أسمح لنفسي من حين‬
‫ّ‬
‫فلدي دوافعي لذلك‪ ،‬لكن‪ ،‬ماذا بالنسبة لك؟‬ ‫آلخر أن أشكو الضجر‪،‬‬
‫كذلك يشكو ميرهولد من رتابة حياته هو اآلخر!‪.‬‬

‫وعلى ِذكر ميرهولد‪ ،‬إنه بحاجة لقضاء الصيف بأ كمله في كريميا‪ .‬حالته‬
‫الصحية تتط َّلب ذلك‪ .‬لكن‪ ،‬يجب أن يقضي الصيف كام ً‬
‫ال‪.‬‬

‫مجدد ًا‪ .‬ال أفعل شيئ ًا ألنني أنوي أن أ ك ِ ّرس نفسي‬


‫َّ‬ ‫تحسنت حالتي‬
‫َّ‬ ‫حسن ًا‪،‬‬
‫للعمل الحق ًا‪ .‬أ كتفي بالحفر في الحديقة‪ .‬أ كتب ذلك لك‪ ،‬فبالنسبة‬
‫لنا نحن ‪-‬البشر الضئيلين‪ -‬المستقبل لغز محجوب‪ .‬وصلتني رسالة من‬

‫‪140‬‬
‫رئيسك نميروفيتش منذ فترة ليست طويلة جد ًا‪ .‬ذكر فيها أن الشركة‬
‫ستعرض مسرحياتها في سيفاستوبول‪ ،‬ثم يالطا‪ ،‬وذلك مع بداية شهر‬
‫مايو‪ .‬وفي يالطا سيتم تقديم خمسة عروض‪ ،‬ثم بروفات مسائية‪ .‬فقط‬
‫المميزين في الفرقة سيبقون لهذه البروفات‪ ،‬أما الباقون فسيكون‬ ‫َّ‬ ‫األعضاء‬
‫المميزين‪ .‬بالنسبة للمخرج‬
‫َّ‬ ‫بوسعهم االستمتاع بالعطلة‪ .‬مُ تأ كد أنك من‬
‫متميزة‪ ،‬وبالنسبة للمؤ ِ ّلف أنت بالغة النفاسة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أنت‬

‫مجدد ًا إال بعد أن ترسلي لي صورتك‬


‫َّ‬ ‫ّ‬
‫لدي مفاجأة لك؛ لن أ كتب لك‬
‫«بورتريه»‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫يالطا‪ 22 ،‬يناير ‪1900‬‬

‫مم ِ ّثلتي العزيزة‬

‫وعمك «ألكسندر‬
‫في السابع عشر كم يناير وصلتني برقيات من أمّك وأخيك ّ‬
‫إيفانوفيتش» الذي وقّ ع بـ«العم ساشا»‪ ،‬ومن ن‪ .‬ن‪ .‬سوكولوفسكي‪.‬‬

‫أرجو أن تكوني حميمة بالقدر الذي يجعلك تنقلي خالص شكري‬


‫وامتناني لهم‪.‬‬

‫إلي؟ ماذا حدث؟ أم أنت اآلن مفتونة للغاية؟ حسن ًا‪ ،‬ما‬
‫لماذا ال تكتبين ّ‬
‫الرب في عونك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باليد حيلة‪ .‬ليكن‬

‫ُأخبرت أنك ستصلين إلى يالطا في شهر مايو‪ .‬إذا كان ذلك أمر ًا نهائي ًا‪،‬‬
‫تتقدمي ببعض االستيضاحات حول المسرح؟‪ .‬فالمسرح هنا‬ ‫َّ‬ ‫فلماذا لم‬
‫تتمكني من استئجاره إال بعد التفاوض مع من يستأجره‬ ‫َّ‬ ‫يتم تأجيره‪ ،‬ولن‬
‫ّ‬
‫حالي ًا‪ ،‬وهو الممثل نوفيكوف‪ .‬وإذا ف َّوضتني للقيام بذلك األمر‪ ،‬فربما‬
‫أتحدث إليه غد ًا‪.‬‬
‫َّ‬

‫في السابع عشر من هذا الشهر‪َ ،‬م َّرت ذكرى عيد الشفيع الخاصة بي‪،‬‬
‫وكذلك ذكرى اختياري لأل كاديمية‪َ ،‬م َّرت كلتاهما باهتة وكئيبة‪ ،‬فلقد‬
‫تحسنت حالتي‪ ،‬لكن أمّي هي المريضة‪ .‬ومثل تلك‬ ‫َّ‬ ‫كنت مريض ًا‪ .‬اآلن‬
‫التحمس‪ ،‬سواء‬
‫ُّ‬ ‫المشكالت الصغيرة تذهب بالقدرة على االستمتاع أو‬
‫لعيد الشفيع أو الختياري لأل كاديمية‪ .‬كذلك منعتني من الكتابة إليك‬
‫والرد على برقيتك في الوقت المناسب‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تتحسن اآلن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمّي‬

‫‪142‬‬
‫أرى عائلة سردين من حين آلخر‪ .‬إنهم يأتون لزيارتنا‪ ،‬ومن النادر أن‬
‫أزورهم‪ ،‬لكنني لم أنقطع ‪،‬تمام ًا‪ ،‬عنهم‪.‬‬

‫إلي‪ ،‬وال تنوين ذلك قريب ًا كذلك‪ .‬إن إكس هو المالم‬


‫إذ ًا‪ ،‬أنت ال تكتبين َّ‬
‫على كل ذلك‪ .‬أفهم موقفك!‪.‬‬

‫ِّ‬
‫أقبل يدك الصغيرة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫يالطا‪ 2 ،‬يناير‪1900 ،‬‬

‫تحياتي‪ ،‬مم ّثلتي العزيزة! هل أنت غاضبة ألنني لم أ كتب إليك منذ فترة‬
‫طويلة؟ اعتدت الكتابة إليك دون انقطاع‪ ،‬لكن الرسائل لم تصلك ألن‬
‫معارفنا المشتركين كانوا يحصلون عليها من مكاتب البريد‪ ،‬وال يقومون‬
‫بتوصيلها إليك‪..‬‬

‫أتم ّنى لكم السعادة في العام الجديد‪ .‬بصدق‪ ،‬أتمنى لك السعادة‪،‬‬


‫وأنحني الثم ًا قدميك الصغيرتين‪ .‬لك خالص أمنياتي بالسعادة والثراء‬
‫والصحة واالبتهاج‪ .‬نحن بأفضل حال هنا‪ ،‬نأ كل كثير ًا‪ ،‬وندردش كثير ًا‪،‬‬
‫ونضحك كثير ًا‪ ،‬وغالب ًا ما نتحدث عنك‪ .‬ستخبرك ماشا عندما تعود إلى‬
‫موسكو كيف أمضينا الكريسماس‪.‬‬

‫لم أه ِ ّنئك على نجاح مسرحيتك «حيوات وحيدة ‪ ،»Lonely Lives‬فما‬


‫زلت آمل أنك ستأتين إلى يالطا‪ ،‬وأنني سأراك على المسرح تم ِ ّثلينها‪،‬‬
‫وعندها أه ِ ّنئك خالص التهنئة‪ .‬كتبت إلى ميرهولد‪ ،‬وطلبت منه في‬
‫رسالتي أال يكون عنيف ًا للغاية معك في الجزء المتع ِ ّلق بالرجل العصبي‪.‬‬
‫الغالبية العظمى من الناس عصبيون‪ ،‬كما تعرفين؛ فالعدد األكبر منهم‬
‫حادة‪ ،‬لكن‪ ،‬سواء‬ ‫ّ‬ ‫يعاني معاناة دائمة‪ ،‬لكن عدد ًا محدود ًا تنتابه نوبات‬
‫في الشوارع أو في المنازل‪ ،‬هل سبق لك أن رأيت أشخاص ًا ينتحبون‪،‬‬
‫يتقافزون ويخبطون رؤوسهم؟ يجب التعبير عن المهانات بالطريقة التي‬
‫يتم التعبير بها في الحياة‪ ،‬وليس باأليادي واألرجل‪ ،‬بل بنبرة الصوت‬ ‫ّ‬
‫ودرجة التعبير‪ ،‬ال باإليماءات‪ ،‬وبرشاقة أيض ًا‪ .‬إن االنفعاالت الرقيقة‬
‫للروح لدى األشخاص المتع ِ ّلمين يجب التعبير عنها ظاهري ًا بخفّ ة‪.‬‬
‫وسأرد‪ :‬مامن قواعد تب ِ ّرر الزيف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ستقولين‪ :‬إنها القواعد المسرحية‪،‬‬

‫‪144‬‬
‫أخبرتني أختي أنك قمت بأداء دور «آ ّنا» ببراعة‪ .‬آه‪ ،‬كم أتم ّنى أن تأتي‬
‫فرقة مسرح الفن إلى يالطا! امتدحت مجلة «نوفوي فريميا» فرقتكم‬
‫تغير في نهج هذه المجلة الفصلية‪ ،‬فمن الواضح أنهم‬ ‫المسرحية‪ .‬وهناك ُّ‬
‫قصتي‬
‫سيتم نشر ّ‬‫ّ‬ ‫سيتوجهون إلى امتداحك دون النظر ألية اعتبارات‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الجديدة‪ ،‬وهي غريبة للغاية‪ ،‬في عدد شهر فبراير من مجلة«‪.»Zhizn‬‬
‫وهناك عدد هائل من الشخصيات‪،‬وهناك مشهدية كذلك‪ ،‬هناك هالل‪،‬‬
‫وطائر الواق دائم الصياح‪ ،‬ومن بعيد يتعالى صياح «بووو! بوووو!» كما‬
‫لو كانت بقرة محتجزة بمفردها‪ .‬كل شيء موجود في هذه القصة‪..‬‬

‫ّ‬
‫بالقش‬ ‫ليفتان موجود معنا‪ .‬فوق مدفئتي ر ََسم قمر ًا ّ‬
‫يطل على حقل ممتلئ‬
‫والتبن في أ كوام‪ ،‬وهناك غابة بعيدة‪.‬‬

‫حسن ًا‪ ،‬أتم ّنى لك موفور الصحة يا عزيزتي‪ ،‬المم ِ ّثلة الرائعة‪ .‬أتوق إلى‬
‫رؤياك‪.‬‬

‫متى سترسلين لي صورك؟ يالها من خيانة!‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫يالطا‪ 30 ،‬أ كتوبر‪1899 ،‬‬

‫تسألين إن كنت سأشعر باإلثارة‪ ،‬رغم أنك تعرفين أنني ‪-‬فقط‪ -‬سمعت أن‬
‫«العم فانيا» كان يجب أن يُس ِ ّلم في يوم السادس والعشرين من هذا الشهر‬
‫رسالتك التي استلمتها في اليوم السابع والعشرين‪ .‬بدأ توافد البرقيات‬
‫إلي عبر‬
‫علي مساء السابع والعشرين بينما كنت في الفراش‪ .‬أرسلوها ّ‬
‫ّ‬
‫الهاتف‪ .‬كنت أستيقظ كل مرة‪ ،‬وأعدو حافي القدمين إلى الهاتف‪ ،‬وأنا‬
‫يرن الهاتف مرة بعد أخرى‪ .‬إنها‬
‫ثم ال أكاد أغفو حتى ّ‬
‫أرتجف من البرد‪ّ ،‬‬
‫المرة األولى التي تحرمني فيها شهرتي من النوم‪ .‬وفي المساء التالي‪،‬‬
‫وقبل أن أنام‪ ،‬شبشبي و«الروب دي شامبر» كانا جوار سريري‪ ،‬لكن لم‬
‫يصلني المزيد من البرقيات‪.‬‬

‫احتوت البرقيات على عدد المكالمات والنجاح الباهر‪ ،‬لكن‪ ،‬كان هناك‬
‫توصلت إلى استنتاج بأن حالتكم‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫محير‪ ،‬فيها‪ ،‬ومنه‬ ‫شيء غامض‪ ،‬بل‬
‫وأكدت الصحف التي وصلتني‬‫العقلية‪ ،‬جميع ًا‪ ،‬لم تكن بأفضل أحوالها‪َّ .‬‬
‫اليوم ِ ّ‬
‫صحة استنتاجي‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المتوسط والمعتاد ليس كافي ًا لكم جميع ًا‬ ‫نعم يا ممثلتي العزيزة‪ ،‬فالنجاح‬
‫أنتم‪ ،‬أيّها المم ِ ّثلون المسرحيون‪ ،‬فأنتم بحاجة إلى شيء مد ٍّو للغاية‪َّ .‬‬
‫مؤخر ًا‬
‫تع َّرضتم لإلفساد‪ ،‬بل أصابكم الصمم من تكرار الحديث عن النجاحات‪،‬‬
‫تسممتم بذلك العقار‬
‫والمسارح الممتلئة بالمشاهدين وتلك الخاوية‪ ،‬لقد َّ‬
‫وخالل عامين أو ثالثة أعوام لن تكونوا صالحين لشيء‪ .‬والشيء نفسه‬
‫ينطبق عليك! هل أنت غاضبة؟ ما شعورك؟ أنا ما زلت في المكان نفسه‪،‬‬
‫وما زلت الشخص نفسه‪ ،‬أعمل‪ ،‬وأزرع األشجار‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫لكن الزوّار يتوافدون‪ ،‬وال أستطيع االستمرار في الكتابة‪ .‬إنهم يمكثون‬
‫أل كثر من ساعة‪ ،‬يطلبون الشاي‪ ،‬ويطلبونه في السماور‪ .‬أوه‪ ،‬كم أنا‬
‫مستوحش ومكتئب!‬

‫بتبدد الصداقة التي بيننا‪ ،‬فربما يتس ّنى لنا أن‬


‫ُّ‬ ‫ال تنسيني‪ ،‬وال تسمحي‬
‫نذهب سوي ًا إلى مكان ما خالل هذا الصيف‪.‬‬

‫واآلن‪ :‬وداع ًا مؤقت ًا؟ ربما لن نلتقي قبل شهر أبريل‪ .‬وإذا كنتم ستأتون‬
‫جميع ًا إلى يالطا‪ ،‬للتمثيل والراحة‪ ،‬فسيكون ذلك أمر ًا رائع ًا للغاية‪.‬‬
‫سيحمل أحد الزوّار هذه الرسالة ليلقيها في صندوق البريد‪.‬‬

‫إلي‪ ،‬أنا‬
‫مقدس أن تكتبي ّ‬
‫َّ‬ ‫ملحوظة‪ :‬مم ِ ّثلتي العزيزة‪ ،‬أستحلفك بكل‬
‫مستوحش ومكتئب‪ .‬ربما أكون في سجن‪ ،‬وأنا ممتلئ بالغضب والغيظ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫يالطا‪ 1 ،‬نوفمبر ‪1899‬‬

‫أتفهمها للغاية‪ ،‬لكن حتى لو‬ ‫َّ‬ ‫أتفهم حالتك المزاجية‪ ،‬مم ِ ّثلتي العزيزة‪،‬‬
‫َّ‬
‫كنت مكانك‪ ،‬لم أ كن ألشعر بمثل هذا االضطراب اليائس‪ .‬فال شخصية‬
‫آ ّنا‪ ،‬وال المسرحية بكاملها جديرة بكل هذه المشاعر واإلرهاق العصبي‪.‬‬
‫إنها مسرحية قديمة‪ .‬إنها عتيقة‪ ،‬وفيها كثير من العيوب والنواقص‪ ،‬فإذا‬
‫يتوصل أ كثر من نصف الممث ِ ّلين إلى درجة األداء ونبرة الصوت‬ ‫ّ‬ ‫لم‬
‫الصحيحة‪ ،‬فهذا عيب المسرحية بال جدال‪ .‬وهذا شيء‪ ،‬أما الشيء الثاني‬
‫تدعي مثل‬ ‫البد أن تتوقّ في عن القلق بشأن النجاح والقلق‪ .‬ال َ‬ ‫ّ‬ ‫فهو أنك‬
‫هذه األشياء تشغلك‪ .‬إنه واجبك أن تداومي على العمل يوم ًا بعد يوم‪،‬‬
‫متأهبة الرتكاب األخطاء التي ال يمكن‬ ‫ِّ‬ ‫بإتقان‪ ،‬وفي صمت‪ ،‬وأن تكوني‬
‫ال يجب أن تقومي بأداء وظيفتك كمم ِ ّثلة‪،‬‬ ‫تج ُّنبها‪ ،‬ولإلخفاقات‪ .‬إجما ً‬
‫مهمة إحصاء عدد المكالمات قبل فتح الستارة‪ .‬فعندما‬ ‫واتركي لآلخرين ّ‬
‫يكتب المرء أو يمثل‪ ،‬يجب أن يكون واعي ًا بأنه ال يفعل الشيء الصحيح‪،‬‬
‫فهذا أمر معتاد‪ ،‬وبالنسبة للمبتدئين هو مفيد للغاية!‪.‬‬

‫ثالث األشياء أن المخرج قد أرسل لي برقية أن العرض الثاني كان رائع ًا‪،‬‬
‫متميزين في أداء أدوارهم‪ ،‬وأنه كان راضي ًا‬
‫ِّ‬ ‫وأن جميع المم ّثلين كانوا‬
‫للغاية‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫يالطا‪ 30 ،‬سبتمبر ‪.1899‬‬

‫بالرد على رسالتك التي سألتِني فيها عن آخر مشهد‬


‫ّ‬ ‫حسب طلبك أسرعت‬
‫مسرحي جمع بين أستروف وإلينا‪.‬‬

‫كتبتي أن أستروف يخاطب إلينا في هذا المشهد مثل عاشق ولهان‪« ،‬إنه‬
‫بقشة»‪ ،‬لكن هذا ليس صحيح ًا‪ ،‬ليس‬
‫يتشبث ّ‬
‫ّ‬ ‫يتشبث بمشاعره مثل غريق‬
‫ّ‬
‫صحيح ًا على اإلطالق! إن أستروف معجب بإلينا‪ ،‬ولقد اجتذبته بجمالها‪،‬‬
‫تحدث إليها‬
‫َّ‬ ‫لكن‪ ،‬في المشهد األخير عرف أنه ال أمل له فيها‪ ،‬وهكذا‬
‫وقبلها بطريقة‬
‫في ذلك المشهد بنبرة صوت تشبه الحرارة في إفريقيا‪َّ ،‬‬
‫اعتيادية للغاية لتمضية الوقت‪ .‬لو أن أستروف قد تعامل مع هذا المشهد‬
‫بعنف‪ ،‬لكان المزاج العام للمشهد الرابع تالشى تمام ًا‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫منزل تشيخوف في يالطا‬

‫‪150‬‬
‫الحب والزواج بين أنطون تشيخوف والمم ِ ّثلة أولجا‬
‫ّ‬ ‫(خمس سنوات من‬
‫كنيبر‪ ،‬والتي قامت بأداء العديد من األدوار النسائية الرئيسة في مسرحياته‪،‬‬
‫الحب في المسرح‪ .‬وبسبب ارتباط أولجا بالعمل في‬
‫ّ‬ ‫من أشهر قصص‬
‫مسرح موسكو‪ ،‬واضطرار تشيخوف للبقاء في يالطا بسبب حالته الصحية‪،‬‬
‫استم ّرت عالقتهما رغم المسافة‪ ،‬بل توطدت متجاوزة عقبات خطيرة‬
‫وذلك خالل تبادل الرسائل الدائم بينهما‪ .‬وبعد وفاة تشيخوف‪ ،‬داومت‬
‫متخيلة‬
‫َّ‬ ‫أولجا ‪-‬لشهرين‪ -‬على كتابة يومياتها‪ ،‬وكانت عبارة عن رسائل‬
‫إلى تشيخوف)‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫‪7‬‬
‫من أولجا إلى تشيخوف بعد وفاته‬

‫‪ 19‬أغسطس‪1904 ،‬‬

‫أخير ًا أصبحت قادرة على الكتابة إليك‪ ،‬يا عزيزي‪ ،‬وأنا أشعر بك قريب ًا‬
‫ال‬‫جد ًا رغم أنك بعيد للغاية! ال أعرف أين أنت اآلن‪ .‬ولقد انتظرت طوي ً‬
‫اليوم الذي أستطيع أن أ كتب لك فيه‪.‬‬

‫اليوم‪ ،‬ذهبت إلى موسكو وزرت قبرك‪ ...‬كم هو رائع‪ ،‬لو تعلم! فبعد‬
‫وعبِ ق للغاية‪،‬‬
‫الجفاف المنتشر في الجنوب‪ ،‬كل شيء هنا مورق ومثمر‪َ ،‬‬
‫وف ّواح للغاية‪ ،‬تفوح رائحة األرض والعشب الطازج‪ ،‬ولألشجار ذلك‬
‫أصدق أنك لست بين األحياء! أنا في‬‫ّ‬ ‫الحفيف الناعم‪ .‬ال أستطيع أن‬
‫ماسة للكتابة إليك‪ ،‬ألخبرك بكل شيء مررت به منذ احتضارك‬ ‫حاجة ّ‬
‫وتلك اللحظة التي توقَّف عندها قلبك عن الخفقان‪ ،‬قلبك المسكين‬
‫والمريض والواهن جد ًا‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬بينما أكتب إليك‪ ،‬يبدو الوضع غريب ًا لكن تسيطر عليك رغبة عارمة‬
‫في القيام بذلك‪ .‬وبينما أكتب إليك‪ ،‬أشعر أنك على قيد الحياة‪ .‬هناك في‬

‫‪152‬‬
‫مكان ما‪ ،‬تنتظر تلك الرسالة‪ .‬يا أغلى األحباب‪ ،‬يا حبيبي‪ ،‬دعني أتف ّوه‬
‫أمسد شعرك الناعم المنساب‪ ،‬وأنظر‬ ‫ببعض الكلمات الشاعرية‪ ،‬دعني ِ ّ‬
‫في عينيك الالمعتين العزيزتين‪ .‬آه‪ ،‬لو عرفت ما إذا كنت قد استشعرت‬
‫أنك ُتح َتضر‪ .‬أظن أنك استشعرت ذلك‪ ،‬ربما بشكل مُ بهم‪ ،‬لكنك ‪-‬يقين ًا‪-‬‬
‫استشعرت ذلك‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪ 20‬أغسطس ‪1904‬‬

‫عزيزي‪ ،‬لقد عدت ت ّو ًا من لقاء بأخيك إيفان‪ ،‬وأزعجته بسرد تفاصيل‬


‫األيام األخيرة في حياتك‪ ،‬لكنني استشعرت أنه استفاد من ذلك رغم‬
‫انزعاجه وضجره‪ .‬وبوسعي أن أحكي عن كل شيء‪ ،‬بوسعي أن أحكي‬
‫لألبد عن بادنفايلر‪ ،‬وعنك‪ ،‬وعن شيء ما عظيم وهائل حدث في تلك‬
‫المدينة الثرية ذات اللون األخضر الزم ّردي والموجودة في الغابة السوداء‪.‬‬
‫هل تذكر كم أحببنا جوالتنا على عربة نقل الحقائب التي أطلقنا عليها‬
‫تفهمتك في أوقات‬‫اسم «جولة سياحية»؟ لقد كنت ودود ًا للغاية‪ ،‬كم ّ‬
‫َّ‬
‫تتذكر كيف ك ّنا نتج َّول‪ ،‬كنت تعتصر يدي بتؤدة‪ ،‬وعندها‬ ‫مثل تلك؟‪ .‬هل‬
‫كنت أسألك عما إذا كنت بخير حال‪ ،‬ولم تكن تع ِ ّلق بشيء‪ ،‬فقط تومئ‬
‫برأسك‪ ،‬وتمنحني ابتسامة على سبيل اإلجابة‪ ،‬ورغبة مني في التعبير عن‬
‫احترامك‪ ،‬كنت أحيان ًا ُأ ِ ّ‬
‫قبل يدك!‪.‬‬

‫التقدم عبر غابة الصنوبر‬


‫ُّ‬ ‫وكنت تمسك بيدي طوي ً‬
‫ال‪ ،‬ثم نستم ّر في‬
‫الف ّواحة‪ .‬كم كنت تفضل تلك البقعة المعشوشبة التي تغمرها الشمس!‬
‫وكيف كان الطريق يصبح وعر ًا بامتداد أحد الخنادق‪ ،‬وعندئذ كنت‬
‫تداوم على توجيه السائق بالتزام القيادة بمزيد من البطء‪ ،‬كم كنت تبتهج‬
‫الممتدة عى مساحة شاسعة دون أسوار حولها‪ ،‬ودون‬
‫ّ‬ ‫لرؤية أشجار الفاكهة‬
‫َّ‬
‫تتذكر وطننا‪ ،‬روسيا البائسة‪.‬‬ ‫أن ُتس َرق منها ولو حبة كرز أو كمثرى‪ .‬كنت‬
‫َّ‬
‫تتذكر الطاحونة الرائعة‪ ،‬وكم كانت منخفضة لدرجة احتجابها وسط‬ ‫هل‬
‫األعشاب الكثيفة‪ ،‬وال يدل على وجودها سوى بريق قطرات الماء على‬
‫عجلتها الدوارة؟ كم كنت تهوى القرى النظيفة والمريحة والحدائق‬
‫تمتد صفوف منتظمة من الزنابق البيضاء‪ ،‬وأحواض‬
‫ّ‬ ‫الصغيرة حيث‬

‫‪154‬‬
‫الزهور‪ ،‬والحدائق المزروعة بالخضروات والفاكهة! وكم كنت متأ ِ ّلم ًا‬
‫وأنت تقول‪ :‬عزيزتي‪ ،‬متى يعيش فلّاحونا في منازل صغيرة مثل هذه!‬

‫حبيبي الغالي‪ ،‬أين أنت اآلن؟‬

‫‪155‬‬
‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر الحداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬

‫‪156‬‬
157
158
159
160

You might also like