Professional Documents
Culture Documents
رسائل إلى العائلة 93887
رسائل إلى العائلة 93887
أنطون تشيخوف
رسائل إىل العائلة
ترجمة :ياسر شعبان
الناشر :
وزارة الثقافة والفنون والتراث -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة.
الفهرس
تقديم 5 ...........................................................
إلى ابن ِ ّ
عمه ميهائيل تشيخوف 126 ..................................
5
6
تقديم
تشكلت هذه الطباع ّ لين ًا ورقيق ًا إلى درجة اإلدهاش ،وقد
كان طبع تشيخوف ّ
على الرغم من األسلوب العنيف للتربية التي تلقّ اها في طفولته .كان والده
مستبد ًا ،وغالب ًا ما كان يلجأ إلى العقوبات الجسدية ولو على كسرة خبز ُأعطِ يت
ّ
لكلب .كان تشيخوف وإخوته يأ كلون حتى الشبع فقط عندما يح ّلون ضيوف ًا.
ظل القسوة واالنصياع ،وهنا يمكن أن نسأل :من أين أتت تربّى األطفال في ِ ّ
تلك الطيبة «التشيخوفية»؟! .واليزال نور تشيخوف يُدفئ حتى اآلن .فال مكان
لالنقباض والكآبة في قصصه ،وسخريته ناعمة ال تجرح أحد ًا.
7
في عام ،1876تع َّرض والده لإلفالس .ومنذ ذلك التاريخ عانت عائلة تشيخوف
يتحمل تكاليف تعليمه .وقد غطّ ى هذه
َّ من الفقر .وكان على تشيخوف أن
المصروفات بالتدريس لطلبة آخرين ،واصطياد الطيور وبيعها ،وكتابة القصص
ادخر بعض النقود كان يرسلها مباشرة إلى أسرته. القصيرة للصحف .وكلما َّ
وخالل فترة دراسته قرأ الكثير من الكتب لكبار المؤ ِ ّلفين العالميين ،من أمثال
سرفانتس وشوبنهاور.
وفي أثناء وجوده في مليخوفو ،بدأ كتابة مسرحيته «النورس .»The Seagull -
َ
تحظ بإعجاب وعند عرضها ألوّل مرة ،جاء أداء المم ِ ّثلين ّ
سيئ ًا للغاية ،ولم
الجمهور .والحق ًا َت َّم عرضها على مسرح آخر ،مسرح الفن في موسكو ،حيث
تحسن أداء الممثلين .وبعد فترة قصيرة َت َّم تمثيل مسرحية ُأخرى له بعنوان «العم
َّ
8
فانيا .»Uncle Vanya -وبعد ذلك كتب مسرحيتين عظيمتين ،هما:
«األخـــــوات الــثــالث ،»Three Sisters-و«بســـتـان الكــــرز-
.»The Cherry Orchardوحتى وقتنا الحاضر ما زالت هذه
ّ
محل اهتمام المسرحيين الذين يقومون بعرضها ،أو بعرض المسرحيات
معالجات جديدة لها.
ّ
السل ،وفَرض عليه المرض أن وفي عام 1897أصيب تشيخوف بداء
صحته .وانتقل إلى يالطا حيث اشترى ّ لتتحسن
َّ يقوم بتغيير نمط حياته
ال ،والحق ًا ،تزوَّج من أولجا نيبر وهي مم ِ ّثلة مسرحية قامت بأداء
هناك منز ً
البطولة النسائية في معظم مسرحياته .وفي يالطا ،كتب بعض قصصه
األكثر شهرة ،ومن بينها قصة «السيدة والكلب The Lady With -
.»The Dog
9
قال إيزاك التشولّر طبيب تشيخوف في يالطا« :إن الزوجة الشابة التي
تكشفت عن أنانية مرعبة ...كانت تترك المريض
ّ أحبها تشيخوف بجنون َّ
وحيد ًا لشهور عديدة».
وكتب الدكتور إريك شفيرير بعد وفاة تشيخوف يلومه على سفره إلى
سيء
ّ َسخالين وعلى أسفاره األخرى« :كان كاتب ًا رائع ًا ولكنه طبيب
للغاية ألنه جرؤ على السفر في الوقت الذي كان عليه كمريض بداء في
الصدر أن يتدفّ أ ،ويشرب الحليب الساخن مع توت الع ّليق».
ّ
الشاق الطويل ،تخ ّلى تشيخوف عن إعجابه برواية بعد عودته من سفره
تولستوي القصيرة «سوناتا كريتزر» ،وكان قد صرح قبل كتابته «جزيرة
َسخالين» في رسالة إلى بيليشيف« :من بين كل ما يُكتب اآلن عندنا،
وفي الخارج ،تكاد ال تعثر على عمل يضاهي «سوناتا كريتزر» من حيث
أهم ّية الفكرة وجمال األداء».
ّ
10
لكنه ،بعد ذلك ،كتب في رسالة إلى سوفورين :إن «سوناتا كريتزر» اآلن
إلي ،وتبدو مربكة ،أو أن رحلتي (إلى َسخالين ) جعلتني
مضحكة بالنسبة ّ
سن الرشد».
أبلغ ّ
وبعد هذه الرحلة توقَّف تشيخوف عن متابعة كتابة مشروع روايته الوحيدة
ِّ
المتحمس «قصص من حياة أصدقائي» ،بعد أن كان ورّط بطلها بموقفه
من «سوناتا كريتزر» قبل «جزيرة َسخالين» ،وإن كان قد ْ
أك َث َر الحديث
عن هذه الرواية إلى كثير من معارفه ،وعلى مدى سنوات ّ
ظل َيع ُِد بإنجازها
القريب؛ كتب في رسالة إلى أخيه ألكسندر في عام 1887يقول« :عندي
رواية ليست مم ّلة ،ولكنها ال تصلح لمج ّلة» .وكتب يقول في رسالة إلى
جريجوروفيتش في عام « :1888تتناول الرواية بعض العائالت ،وهناك
شخصيتان رئيستان :رجل وامرأة ،تتح ّلق حولهما األحجار األخرى.».
وفي رسالة إلى سوفورين كتب يقول في عام « :1889إنني أ كتب هذه
الرواية على شكل قصص منتهية منفردة وشديدة الصلة فيما بينها عبر
مجموعة من المغامرات واألفكار والشخصيات ،ولكل قصة عنوانها
سج َل موقف ًا مثير ًا،
الخاص».لكنه -مع ذلك -لم ينجز هذه الرواية ،بل َّ
سيظهر بعدئذ في كتاب «تشيخوف في مذكرات معاصريه» ،إذ قال:
«لم يتقن كتابة الرواية إال النبالء» ،الشرط الذي ال يستوفيه هو نفسه،
جده ألبيه ق ّن ًا ،افتدى نفسه وأوالده عام ،1844أي قبل والدة
فقد كان ّ
بست عشرة سنة فقط.
ّ تشيخوف
وحتى وهو يلفظ أنفاسه األخيرة ،كان تشيخوف رقيق ًا للغاية ،كحاله
طوال حياته .كان يقلقه شيء واحد فقط :أال يزعج أحد ًا .وحين ساءت
حالته ليلة الثاني من يوليو «تموز» من عام 1904في منتجع بادن فيلر،
طلب استدعاء الطبيب ،لكنه تم ّنى عدم إيقاظ الصبي لكي يذهب من
11
أجل أسطوانة األكسجين .فهو لن يجد الوقت الكافي في جميع األحوال.
جاء الطبيب ،فخاطبه تشيخوف بألمانيته المحدودة« :إيخ شتيربي -
إنني أموت!» .وبعد سنوات ع ّلقت زوجته أولجا كنيبر على هتافه هذا:
«إنني أموت!» ك ّررها تشيخوف بالروسية ،كما لو أنه يترجم صيحته
األخيرة لزوجته التي ترافقه في رحلته األخيرة .وبهدوء ،دون أي اختناق
ّ
بالسل ،انتقل إلى العالم مب ّرح وهذا نادر ًا ما يحدث عند وفاة المصابين
اآلخر...
تواريخ
:1875غادر تشيخوف تاجانروج بعد تع ُّرضه لإلفالس ،ولطرد أسرته من المنزل الذي
كانت تعيش فيه.
21 :1890أبريل ،بدأ رحلته إلى جزيرة َسخالين في سيبريا ،مرور ًا بمعسكرات العمل
يتم نقل المجرمين إليها .ووصل إلى الجزيرة في 11يونيو من العام نفسه.
التي كان ّ
:1895افتتاح مسرح الفن في موسكو .وانتهاء تشيخوف من كتابة مسرحيته «النورس».
ّ
«السل». :1897أُصيب بالدرن الرئوي
:1901عرض مسرحية «األخوات الثالثة» على مسارح فقيرة .تزوّج من مم ّثلة المسرح
أولجا كنيبر .عرض مسرحية «بستان الكرز» ،وهي آخر مسرحيات تشيخوف.
12
حول الترجمة
مثلما نحن مدينون للمؤ ِ ّلفين بالكثير من المعرفة والمتعة ،فنحن مدينون،
-وربما بنفس القدر -للمترجمين ،خاصة أن مهنة الترجمة تستهلك الكثير
ُترجم
من الوقت والبصر والحواس ،وبشكل خاص في حالة تن ُّوع من ي َ
لهم ،ففي الترجمة البد أن تتفاعل مع النص وخلفيته الثقافية والتاريخية،
وكذلك مع سمات مترجمه األسلوبية والشخصية.
ِ
مترجمة رسائل تشيخوف التي وهذا ما ينطبق على كونستانس جارنيت
ِّ
نقدمها للقارئ العربي عن النسخة اإلنجليزية ضمن كتاب «الدوحة».
وكونستنانس جديرة بلقب رائدة مترجمي األدب الروسي إلى اإلنجليزية،
يتصدى لترجمة
ّ وما زالت ترجماتها حتى اآلن نماذج تحتذى ّ
ألي مترجم
األدب الروسي الكالسيكي.
13
تلقَّ ت تعليمها في المدرسة العليا التابعة لبرايتون وهوف ،وبعدها
درست األدبين الالتيني واليوناني في كلية نيونهام كمبريدج بمنحة
دراسية حكومية .وفي عام 1833انتقلت إلى لندن حيث عملت في
البداية موظفة حكومية ،ثم أمينة مكتبة في مكتبة قصر الشعب .ومن
خالل أختها الروائية والمسؤولة في النقابة العمالية ،كليمينتينا بالك،
قابلت د .ريتشارد جارنيت ،والذي أصبح الحق ًا المسؤول عن مطبوعات
المتحف البريطاني ،وابنه إدوارد جارنيت الذي تزوّجت به في برايتون
31أغسطس .1889وكان إدوارد يعمل مح ِ ّرر ًا لدى عدد من الناشرين
(تي .فيشر أنوين ،ويليام هينمان ،ودوكوورث) قبل أن ينتقل للعمل لدى
الناشر المعروف جوناثان كيب.
14
وخالل العقود األربعة التالية ،ترجمت جارنيت عشرات من أعمال
تولستوي ،وجوجول ،وإيفان جونشاروف ،وديستويفسكي ،وتورجينيف،
وأوستروفسكي ،وألكسندر هيرزين ،وتشيخوف.
ويرى البعض أنه من حيث قيمة المنجز األدبي ،تأتي جارنيت في المرتبة
تتميز بضخامة ما أنجزته من ترجمات ،فلقد ترجمت ما
ّ الثانية ،لكنها
يزيد على سبعين مجلد ًا من األدب الروسي بغرض النشر التجاري،
ومن بينها جميع روايات ديستويفسكي ،ومئات من قصص تشيخوف
ومج ّلدين لمسرحياته ،واألعمال الرئيسة لتورجنيف ،ومعظم أعمال
تولستوي ومختارات لكل من هرزين ،وجونشاروف ،وأوستروفسكي.
15
الصفحات من ترجمتها الرائعة لألدب الروسي .وكانت عند االنتهاء من
صفحة ،تقوم بإلقائها فوق كومة من األوراق على األرض دون حتى أن
ترفع رأسها ،لتبدأ الترجمة من جديد .وكانت هذه الكومة ترتفع لتصل
إلى ركبتيها ،ليبدو المشهد ك ّله سحر ّي ًا.»..
وكما قال إزرا باوند« :بدون جارنيت ،لم يكن أدباء القرن التاسع عشر
الروس ليتركوا هذا التأثير السريع على األدب األميركي في بداية القرن
العشرين .ففي «قبضة متح ّركة» يذكر همنجواي بحثه في أرفف سلفيا
بيتش عن األعمال األدبية الروسية ،وكيف أنه وجد فيها عمق ًا وإنجاز ًا
لم يُع َرفا قبلها ق ّ
َط .فقبل ذلك قيل له إن «كاثرين مانسفيلد» كاتبة قصة
جيدة ،بل كاتبة قصة عظيمة ،لكنه قال «بعد قراءة تشيخوف اكتشفت أن
قصصها تافهة ،فقراءة األدب الروسي بمثابة العثور على كنز.
وعلى الجانب اآلخر ،كان هناك منتقدون لترجمات جارنيت ،من بينهم
الروسيان فالديمير نابوكوف ،وجوزيف برودسكي .وانطلق انتقاد
ّ
نابوكوف لترجمات جارنيت من رؤيته المعلنة بأن المترجم المثالي
يجب أن يكون ذكر ًا .أما برودسكي ،فانتقد ترجمات جارنيت الفتقارها
إلى السمات الممي ّزة لكل كاتب ،بما يسمح بالوقوف على االختالفات
بينهم كما في اللغة الروسية ،وقال «السبب الرئيس لندرة ق ّراء اإلنجليزية
القادرين على التمييز بين تولستوي وديستويفسكي ،يعود إلى أنهم لم
يقرأوا ما كتبه كالهما ،بل قرأوا أعمالهما مكتوبة بأسلوب جارنيت».
ورأى آخرون من منتقديها أنها كانت متس ِ ّرعة في ترجمتها ،وكانت تغفل
بعض التفاصيل الصغيرة ألجل سالسة الترجمة ،خاصة في ترجماتها
ألعمال ديستويفسكي ،ومن ذلك -على سبيل المثال -أنها كانت
ٍ
كلمات أو جم ً
ال ال تفهمها. تضم
ّ تتجاهل األجزاء التي
16
ولم تمنع تلك االنتقادات أن ي ّتخذ المترجمون الالحقون لها ،مثل
روزميري إيدموندز ،ودافيد ماجارشاك ،من ترجماتها نماذج تحتذى عند
تصديهم لترجمة األدب الروسي.
ّ
ياسر شعبان
القاهرة – 2014
المصدر:
-كونستانس جارنيت 22يناير .2011
()Constance Garnett ، Edna O’Brien، The Guarddian
-حروب الترجمة ،The Translation Warدافيد ريمنيك 7 ،نوفمبر .2005
(.)David Remnick، The New Yorker
17
18
أنطون تشيخوف
رسائل إىل العائلة
19
1876يتوسطها األب بافيل يجوروفيتش تشيخوف (1825 ّ صورة عائلية ال ُتقطت عام
شماس ًا بالكنيسة .ا ّتسمت تربيته ألطفاله بالتز ُّمت
ّ وكان بقالة. ّ
محل .)1898 -امتلك
الديني واألخالقي.
20
1
إلى أ ّمه بفجينيا ياكوفليفنا موروزوف
األولى بباخرة «يرماك» .لقد بدأ ذلك منذ عشرة أيام ،فلقد كتبت لك
علي أن
من «ليستفنتشانيا» بأنني لم ألحق بباخرة «بيكال» ،وهكذا كان ّ
أعبر بحيرة بيكال يوم الجمعة بد ً
ال من الثالثاء ،وحينها لن يكون أمامي
سوى باخرة «أمور» التي ستنطلق في الثالثين من الشهر .لكنه القدر،
:Chaise -1الشيز ،عربة خفيفة ذات عجلتين أو أربع( .هوامش الكتاب للمترجم)
21
الذي -غالب ًا -ما يمارس معنا أالعيب تفوق قدرتنا على التوقُّ ع .ففي
صباح الثالثاء ،خرجت في جولة على شاطئ بحيرة بيكال ،وإذا بي أرى
أمامي مدخنة باخرة صغيرة ،واألدخنة تتصاعد منها .تساءلت عن وجهة
متوجهة إلى كليوفو «الجهة األخرى من ِّ هذه الباخرة ،فأخبروني بأنها
البحر» ،فلقد استأجرها أحد التجار لنقل بضائعه عبر البحيرة.
وأضافوا :نحن أيض ًا نرغب في عبور «البحر» والذهاب إلى محطة سكك
حديد بويارسكايا .واستفسرت منهم عن المسافة بين كليوفو وبويارسكايا.
وتوسلت
َّ فأخبروني أنها حوالي 27فرست ًا ((( .وعدت مسرع ًا إلى رفاقي،
إليهم أن يقبلوا بمخاطرة الذهاب إلى كليوفو .وأقول «مخاطرة» ألن
الذهاب إلى كليوفو -حيث ال شيء هناك سوى ميناء وكوخ لحارس-
سيجعلنا نواجه خطر عدم العثور على خيول ،وأن نضطر للبقاء في كليوفو،
ونتأخر عن موعد القطار الذي سينطلق يوم الجمعة ،وبالنسبة لنا هذا أسوأ
من موت «إيجور» ،ألننا سنضط ّر لالنتظار إلى الثالثاء .ووافق رفاقي.
وتوجهنا
ّ وتشاركنا جميعنا في حزم أمتعتنا ،وبكل بهجة ركبنا الباخرة،
مباشرة إلى البار ،وطلبنا أطباق شوربة :طبق شوربة بحق الرب! ،نصف
وضيق ًا للغاية ،لكن الطاهي، ّ مملكتي لقاء طبق شوربة! .كان البار كريه ًا
جريجوري إيفانيتش ،والذي سبق له أن عمل خادم ًا منزلي ًا في فورنيز،
شهي ًا للغاية .وكان الطقس ّ كان في قمة أدائه المهني .ق ََّدم لنا طعام ًا
مستق ّر ًا ومشمس ًا .وكان لصفحة مياه بحيرة بيكال لون التركواز ،كانت
أ كثر شفافية من مياه البحر الميت .ويقولون إنه ،في المواضع العميقة
منها ،بوسع المرء أن يرى القاع على مبعدة فرست واحد؛ ولقد رأيت أنا
نفسي مثل ذلك العمق ،حيث الصخور والجبال تنعكس بلون هو مزيج
من التركواز واألزرق ،مما جعلني أشعر بقشعريرة تسري في جسدي كله.
22
كانت رحلتنا عبر بحيرة بيكال رحلة رائعة للغاية .ولن أنساها ما حييت.
لكنني سأخبرك بشيء غير لطيف فيها؛ لقد سافرنا في الدرجة الثالثة،
ال ب ّرية هائجة طوالوكان السطح بكامله ممتلئ ًا بالخيول ،كانت خيو ً
الوقت .ولقد أضفت هذه الخيول مسحة خاصة على عبورنا البحيرة :فلقد
بدا األمر كما لو كنا في باخرة لصوص .وعند الوصول إلى كليوفو ،قام
الحارس بنقل أمتعتنا إلى محطة السكك الحديدية ،قاد هو الكارة (((،
وسرنا نحن بمحاذاة الشاطئ الفاتن .وكم كان ليفيتان أحمق ألنه لم
يرافقني .كانت الطريق تم ّر بالغابة :إلى اليمين كانت أشجار الغابة تصعد
وج ُرفالتالل ،وإلى اليسار كانت تهبط باتجاه البحيرة .يالها من وهاد ُ
شديدة االنحدار! كم كانت ألوان بحيرة بيكال رقيقة ودافئة! والشيء
بالشيء يُذكر ،كانت دافئة للغاية .وبعد أن مشيت لمسافة 8فرسات،
وصلنا إلى محطة ميشكان ،Myskanحيث قام الموظف الحكومي
يستعد للسفر هو اآلخر ،بالترحيب بنا ،وق ََّدم لنا شاي ًا
ّ كياهتان ،الذي كان
رائع ًا،
كذلك وجدنا هناك الخيول التي ستنقلنا إلى بويارسكايا ،ونتيجة لذلك
تقدم ًا 24ساعة على موعد انطلقنا الخميس بد ً
ال من الجمعة ،مما منحنا ُّ
نقل الخيول من المحطة .وانطلقنا بأقصى سرعة ممكنة ،يحدونا أمل وا ٍه
بأن نصل إلى سريتينشك بحلول اليوم الحادي والعشرين .وسأخبرك عند
لقائنا بأمر رحلتي بمحاذاة جرف سيلينجا ،وعبر ترانسبياكاليا.
واآلن ،سأقول -فقط -إن تلك السيلينجا كانت بمثابة حالة وحدة
مستم ّرة ،أما في ترانسبياكاليا فلقد وجدت كل ما رغبت فيه :القوقاز،
وادي نهر بسيول ،وضاحية زفينيجورود ،ونهر الدون .وخالل يوم من
23
انطالق الخيول عبر القوقاز ،تصل مسا ًء إلى سهوب نهر الدون ،وفي
الصباح ،تستيقظ بعد غفوة على ريف بولتافا .وهكذا على امتداد آالف
الفرسات.
وهكذا انتهت رحلتي بالخيول .ولقد استم ّرت شهرين (انطلقت في
21أبريل) .وذلك إذا استبعدنا الوقت المنقضي في القطار والباخرة،
واأليام الثالثة التي قضيناها في إيكاترينبرج ،واألسبوع الذي قضيناه
في تومسك ،واليوم الذي قضيناه في كراسنويارسك ،واألسبوع في
إركوتشك ،ويومين على شواطئ بحيرة بيكال ،األيام التي ضاعت هباء
تقدري السرعة التي
في انتظار أن تعبر القوارب الفيضانات ،بوسعك أن ّ
انطلقنا بها .كانت رحلتي ناجحة للغاية ،وأتمناها للجميع .فلم أمرض،
ولم أفقد من أمتعتي الكثيرة سوى شفرة شحذ األقالم ،وحزام وبرطمان
24
س .وليس باألمر المعتاد أن
صغير به مرهم الكاربوليك .نقودي لم ُت َم ّ
يسافر المرء آالف الفرسات وهو بخير حال.
أبحرت على ظهر الباخرة شيلكا ،عبر نهر أمور الذي يم ّر بـ«وكروفسكايا
ستانيستا» .لم يكن النهر أوسع من نهر البسيول ،بل ربما أضيق .كان
شاطئا النهر صخريّين :كانت هناك ُج َرف شديدة االنحدار وأحراش .كان
نهر ًا هائج ًا للغاية ...لقد جاهدنا لنتج ّنب أن نعلق في مستنقع ،أو تصطدم
دفّ تنا بالشاطئ؛ فغالب ًا ما يحدث هذا للبواخر ومراكب نقل البضائع عندما
تكون مسرعة .كم كان ذلك خانق ًا! وبالكاد وصلنا إلى أوست كارا ،حيث
ليودعوا في السجن.
َت َّم إنزال خمسة أو ستة مجرمين ،للعمل بالمناجم ،أو َ
أمس ،وصلنا إلى نرتتشينسك .لم يكن في المدينة الصغيرة شيء يُذكر،
لكن بوسع المرء أن يعيش فيها.
لكن ،كيف حالكم أيها السيدات والسادة؟ انقطعت أخباركم عني .فهل
بوسع كل منكم أن ي َُغ َّرم ببنسين ليرسل لي برقية.
ستبقى الباخرة في جوربيتسا هذه الليلة .والليالي هنا ضبابية ،مما يجعل
اإلبحار خطير ًا ،وسأرسل لكم هذه الرسالة من جوربيتسا.
25
أركب اآلن في الدرجة األولى ،ألن رفاقي في الدرجة الثانية ،ورغبت في
االبتعاد عنهم .فلقد كنا مع ًا (ثالثة في عربة شيز) ،ونمنا مع ًا ،لقد م ََّل كل
منا من اآلخر ،خاصة أنا .أعتذر لرداءة خطّ ي ،ويرجع ذلك إلى اهتزازات
الباخرة التي تجعل الكتابة صعبة للغاية.
إلي في َسخالين.
سأعد لكم صيغة البرقية التي أريدكم أن ترسلوها َّ
ّ غد ًا
وسأحاول أن أصوغ كل ما أريد معرفته عنكم فيما ال يزيد عن ثالثين
كلمة ،ويجب عليكم أن تحاولوا االلتزام بالنموذج.
26
َسخالين 11 ،يوليو 1890
تشيخوف
تشيخوف
27
بفجينيـــا ياكوفليفنـــا مـــوروزوف (– 1835
:)1919حملـــت اســــــــم «تشـــيخوف» بعـــد
زواجهـــا .كان لهـــا دور مؤ ِ ّثـــر فـــي تنشـــئة
تشـــيخوف .وورث عنهـــا الحساســـية والطبـــع
ِّ
الليـــن.
28
َسخالين 6 ،أ كتوبر 1890
أ كتب لك هذه الرسالة -تقريب ًا -في ليلة مغادرتي روسيا .يومي ًا نتوقّ ع
تتأخر عنَّ وصول باخرة من أسطول المتط ِ ّوعين ،ونتع َّلق بآمال أنها لن
سيتم
ّ العاشر من شهر أ كتوبر .أرسل هذه الرسالة إلى اليابان ،ومنها
إرسالها إلى شنغهاي أو أميركا.
أعيش اآلن عند محطّ ة كورساكوفو ،حيث ال يوجد مكتب تلغراف أو
مكتب بريد ،والتي ال تصلها سفن إال مرة كل 14يوم ًا .أمس وصلت
باخرة ،وأحضرت لي من الشمال رزمة من الرسائل والبرقيات .ومن
الرسائل عرفت أن ماشا معجبة بالكريميا ،Crimeaوأعتقد أنها س ُتعجب
بالقوقاز أ كثر..
ياللغرابة! عندما تكون في َسخالين ،يكون الطقس بارد ًا وممطر ًا ،بينما
ال :كان َب َرد طفيف منذ حضوري إلى اليوم كان الطقس دافئ ًا وجمي ً
يتساقط في الصباحات ،وهناك ثلج أبيض اللون فوق أحد الجبال ،لكن
األرض ال تزال خضراء ،واألوراق لم تسقط ،وجميع النباتات نضرة،
كما هي الحال في الريف خالل شهر مايو من فصل الصيف .هذه هي
َسخالين!.
عند منتصف ليل أمس ،سمعت هدير الباخرة .وقفز الجميع من مخادعهم
يتصايحون مبتهجين :الباخرة وصلت! .ارتدينا مالبسنا وخرجنا نحمل
حدقنا في المدى، ِّ
متوجهين إلى الميناءّ ، المصابيح الغازية
29
تبدى لنا،
وجدفنا باتجاه الباخرة .ودا َومْنا على التجديف حتى ّ
َّ القارب،
في الضباب الهيكل األسود للباخرة .وصاح أحدنا بصوت مرتفع يشبه
صهيل الحصان ،متسائ ً
ال عن اسم الباخرة .وجاءتنا اإلجابة« :البيكال».
اللعنة! يالها من خيبة أمل! مشتاق للعودة إلى موطني ،ولم تعد بي رغبة
لالستمرار في َسخالين.
أنا بخير حال ،باستثناء ومضات أمام عيني والتي تتك َّرر كثير ًا اآلن،
وبعدها أصاب ،دائم ًا ،بصداع شديد .تك َّررت الومضات أمام عيني أمس
واليوم ،وهكذا أ كتب هذه الكلمات وأنا مصاب بصداع شديد وخدر
بكامل جسدي.
وفي هذه المحطّ ة ،يعيش الجنرال الياباني كوزيه سان وبرفقته معاوناه،
وهما صديقان حميمان لي .إنهم يعيشون مثل األوروبيين .اليوم زارهم
ِّ
سيقدمونها موظفون في السلطة المحلية ،ليعرضوا عليهم الزخارف التي
هدايا لهم ،أما أنا فلقد تعايشت مع صداعي وشربت الشمبانيا.
منذ كنت في الجنوب اضطررت ثالث مرات إلى أن أذهب إلى ناي
تتكسر موجات المحيط الحقيقية على شواطئها .انظ ْر إلى
َّ ريس حيث
الخارطة وستشاهد عندئذ ،عند الساحل الجنوبي ،تلك المنطقة الفقيرة
والموحشة المعروفة باسم «ناي ريس» .وحاصرت األمواج قارب ًا على
متنه ستة صيادي الحيتان من األميركيين ،الذين تحطّ مت سفينتهم قبالة
شاطئ َسخالين ،واآلن يعيشون في المحطة ويتج ّولون مكتئبين في شوارع
المدينة .إنهم بانتظار الباخرة بطرسبرج ،وسيبحرون برفقتي.
30
لن ُاحضر لك معاطف الفرو ،ألنه ال يوجد أي منها في َسخالين.
أتم ّنى لكم موفور الصحة ،ولترعاكم السماء.
أحضرت لكم هدايا .ولقد انحسر وباء الكوليرا في فالديفوستوك،
واليابان.
31
2
إلى أخته ماريا بافلوفيتش
(((
عزيزتي تونجيوزيز
32
يجهلون القراء والكتابة ،وهو دائم ًا موحل ،وهناك غربان كثيرة برؤوس
كبيرة تتبختر على الرصيف.
علي تجاه موهبتي؛ استغرقت في النوم. ّ وفي الباخرة ،قمت بأوّل واجب
سيئ ًا :مروج
وعندما استيقظت تأمّلت الشمس .لم يكن نهر الفولجا ّ
خضراء وسط المياه ،واألديرة السابحة في ضوء الشمس ،والكنائس
البيضاء ،المدى المترامي ال مثيل له ،فأينما ينظر المرء فثمة مكان رائع
للجلوس وصيد السمك .بينما السيدات المرافقات ((( يتج ّولن برشاقة فوق
العشب األخضر بمحاذاة النهر.
ومن حين إلى آخر من الممكن سماع صوت نفير الراعي .وتح ِ ّلق
النوارس فوق المياه مثل دريشكا الصغيرة.
أما الباخرة فلم تكن على المستوى المأمول...
كونداسوفا معي على الباخرة نفسها .وال أعرف وجهتها أو غرضها من
السفر .وعندما سألتها عن ذلك ،سارعت بقول أشياء غامضة ،تلميحية،
أ كثر منها توضيحية ،عن شخص ما واعدها على اللقاء في وهد بالقرب
ّ
تدق ثم انخرطت في ضحكة مجلجلة هستيرية ،وبدأت من كنيشماّ ،
األرض بقدميها ،أو تلكز بكوعها دون ترتيب .وتجاوزنا كنيشما والوهد،
ولم تغادر الباخرة ،مما أسعدني كثير ًا .وبالمناسبة ،أمس رأيتها للمرة
أقل من اآلخرين ،لكنها األولى في حياتي وهي تأ كل .لم تكن تأ كل ّ
كانت تأ كل بطريقة ميكانيكية كما لو كانت تطحن الشوفان.
كوستروما مدينة جميلة .ورأيت طرح النهر حيث اعتاد أن يعيش ليفيتان
الكسول .وصلت إلى كنيشما ،وهناك تج ّولت على الجادة ،وتابعت
:Class Ladies -1مرافقات يعملن بالمدارس ،ويوكل إليهن الجلوس بالفصول بينما الفتيات
يتلقين التعليمات من المدرس.
33
توجهت إلى الصيدلية لشراء كمية من أمالحالعشاق المحليين .عندئذ ّ
البرثوليت لمداواة لساني ،الذي كان جاف ًا مثل الجلد بعد الدواء الذي
تناولته.
وعندما رأى الصيدالني أولجا بتروفنا تنازعه انفعاالن :البهجة ،والتش ّوش،
وخمنت منّ فلقد كانت كما هي دون تغيير .يعرف أحدهما اآلخر،
الحديث الذي دار بينهما أنهما سبق وتج ّوال مع ًا أ كثر من مرة حول الوهاد
بالقرب من كنيشما.
34
إذا كان النادل قادر ًا على السير سأطلب منه بعض القهوة ،أما ،والحال
كذلك ،فليس أمامي سوى أن أشرب ماء دون أي نكهة.
اإلنسان
تشيخوف
35
ماريا بافلوفيتش تشيخوف ( :)1957 – 1863شقيقة
تشيخوف .مع ِ ّلمة وف ّنانة تشكيلية .لها الفضل في جمع
أعمال تشيخوف بعد وفاته .وأشرفت حتى وفاتها على
متحف تشيخوف بمنزله في يالطا.
36
من الباخرة ،مساءً 24 ،أبريل 1890
عزيزتي تونجيوزيز
أطفو اآلن فوق مياه نهر كاما ،لكنني ال أستطيع تحديد موقعي بدقة ،أظن
أنني بالقرب من تخيستوبول .كذلك ال أستطيع أن أمتدح جمال المشهد،
ألن الطقس بارد للغاية ،ولن تزهر أشجار البتوال ،فقط ،ما زالت هناك
وثمة قطع من الثلج تطفو على
مساحات صغيرة من الثلج هنا وهناكّ ،
سطح الماء من حين آخر ،المشهد موحش.
لألسف لم أحضر معي كيس ًا صغير ًا من الشاي وآخر من السكر .وأنا اآلن
مجبر على طلب كوب شاي مرة بعد أخرى ،وهذا أمر مضجر ومكلف.
اليوم نويت أن أشتري بعض الشاي والسكر من كازان ،لكنني غفوت
رغم ًا عني.
ياااه يا أمي! أظننا سنتوقّ ف ألربع وعشرين ساعة في إيكاترينبرج ،وسأم ّر
لرؤية بعض األقارب .ربما تلين قلوبهم ،ويقرضونني ثالث روبيات
37
وأوقية شاي.
ما زالت نقودي على حالها ،باستثناء ما أنفقه على الطعام .فاألنذال لن
مجان ًا.
يطعمونني ّ
لست مبتهج ًا أو ضجر ًا ،لكن هناك خدر ًا يسري بروحي .أرغب في
الجلوس دون أن أتح ّرك أو أنطق .اليوم ،على سبيل المثال ،لم أنطق
قس على
تحدثت إلى ّ ّ سوى خمس كلمات .ذلك ليس صحيح ًا ،فلقد
سطح السفينة.
اآلن بدأ مرورنا عبر أراضي السكان المح ّليين ،فهناك كثير من التتار :إنهم
أشخاص محترمون ،وسلوكهم ٍ
راق.
الحفيش ،نوع صغير من سمك الحفش يكثر في بحر قزوين وأنهاره ،ويُصنع
ُ :Starlet -1
الكافيار من بطارخه.
38
تتخيال أخطار ًا ال وجود لها.
ّ أتوسل إليكما ،أمي وأبي ،أ ّلا تقلقا وأ ّلا
َّ
39
29أبريل1890 ،
عزيزتي تونجيوزيز
ّ
السكان نهر كاما باهت للغاية .وإلدراك جماله ،يجب أن يكون المرء من
المح ّليين ،ويجلس ساكن ًا على سطح مركب لنقل البضائع إلى جوار برميل
مليء بالبترول ،أو كيس مليء بالسمك المجفّ ف ،وال يتوقّ ف عن ّ
عب
الشراب من الزجاجة .ضفّ تا النهر جرداوان ،واألشجار عارية ،واألرض
لونها بني كالح ،وهناك مساحات متناثرة مغطّ اة بالثلج ،باإلضافة إلى
يتسبب في هبوبها بمثل
َّ تلك الريح التي ال يستطيع حتى الشيطان ذاته أن
هذه الشدة والبرودة.
تهب الرياح الباردة ،وتح ِ ّرك المياه ،تلك المياه التي أصبحت
ّ وعندما
بعد الفيضان ب ّن ّية بلون الطمي ،يشعر المرء بالبرودة والضجر والبؤس،
وألحان الكونسرتينا ((( تبدو حزينة ،وهناك أشخاص يقفون متص ّلبين على
سطوح سفن نقل البضائع ويرتدون معاطف من جلود الماعز كأنهم في
طقس جنائزي ال ينتهي .رمادية هي القرى على جانبي نهر كاما ،وسيظن
السحب ،الضجر،البد أنهم يعملون في تصنيع ُّ
سكان هذه القرى ّالمرء أن ّ
وتنظيف األسوار ،وإزالة الوحل من الطرقات ،وال شيء سواها .وتزدحم
محطّ ات التوقُّ ف بالسكان المتع ِ ّلمين الذين يم ِ ّثل لهم توقُّ ف باخرة حدث ًا
يقدر أن دخلهم ال جدير ًا باالهتمام ..ومن مظهرهم يستطيع المرء أن ِ ّ
يتجاوز 35روبي ً
ال ،وأن الجميع لديهم مرض ما.
سبق أن ذكرت لك أن هناك رجال قانون على متن الباخرة :رئيس محكمة،
40
والمدعي العام .رئيس المحكمة عجوز ألماني موفور الصحة ِّ قاض،
وودود ،مسيحي أرثوذوكسي ،ورع ،ومن الجلي أنه نذر نفسه للجنس.
أما القاضي ،فهو رجل عجوز يشبه العزيز نيكوالي ،يهوى الرسم ،يسير
منحني ًا ،يسعل ،ومغرم بالموضوعات ذات الطابع الفكاهي المرح .أما
المدعي العام فهو رجل في الثالثة واألربعين ،ناقم على الحياة ،ليبرالي،
ّ
شكوكي ،ورفيق جيد للغاية .وطوال الرحلة انشغل ثالثتهم بتناول الطعام،
مهمة للغاية ويأ كلون ،يقرأون ويأ كلون .وهناك ّ يناقشون موضوعات
المدعي العام وهو يقرأ كتابي «In ّ مكتبة على متن الباخرة ،ورأيت
..»the Twilightوبدأوا الكالم عني .لكن مامين سيبيرياك ،مؤ ِ ّلف
«جبال األورال ،»Urals -هو المؤ ِ ّلف األكثر شهرة في هذه المناطق.
إنه يحظى باهتمام يفوق تولستوي.
مضى عامان ونصف العام وأنا مبحر باتجاه بيرم ،أو هكذا يبدو األمر لي.
وصلنا هناك حوالي الساعة الثانية لي ً
ال .والقطار يغادر في السادسة مساءً.
لم يكن أمامي سوى االنتظار .أمطرت .المطر ،البرد ،الوحل ...برررر!.
ِّ
متميز ،ويرجع ذلك إلى وفرة أشباه خط سكك حديد أورالسكاي ّ
خط إن ّ
رجال األعمال هنا ،والمصانع ،والمناجم ،وغيرها من األشياء المشابهة،
التي تعطي قيمة للوقت.
:Galosh -1ال َكلُوش ،حذاء فوقي مطاطي يُلبس فوق الحذاء العادي.
41
والب َرد .ارتديت معطفي الجلدي .كانتَ بدأ هطول األمطار ،والثلج،
عربات الكاب ((( شيء ال يُحتمل؛ فهي حقيرة ومُ َّتسخة وغير مُ َ
حكمة؛
مما يسمح بتس ُّرب مياه األمطار إلى داخلها ،وال توجد بها وسائد زنبركية
تمتص الصدمات ،وللحصان الذي يج ّرها أربعة سيقان مُ تباعد أحدها عنّ
كية ،هنا ،ليست
رش ّالد ِ
اآلخر ،وحوافر ضخمة ،وظهر نحيل ...وعربات ّ
سوى محاكاة ساخرة لعربات البريتشكا التي لدينا ،تشبهها باإلضافة إلى
رث ومته ّرئ ،وال شيء أ كثر .وكلما حاولت وجود سقف لها من قماش ّ
تح ّري الدقة في وصف سائق عربة الكاب وعربته ،هنا ،ستكون الصورة
أ كثر كاريكاتيرية .إنهم ال يقودون العربات في منتصف الطريق ،حيث
ممهدة نوع ًا ما ،بل بالقرب من قنوات التصريف على جانبياألرض غير ّ
وممهدة .جميع سائقي عربات الكاب َّ الطريق حيث تكون األرض موحلة
يشبهون دوبروليبوف.
في روسيا جميع المدن متشابهة .إيكاترينبرج مشابهة تمام ًا لبيرم وطوال.
إن صوت النواقيس مهيب وناعم .توقّ فت عند الفندق األميركي (ليست
جميعها سيئة) ،وبمج ّرد وصولي أرسلت برقية إلى (أ.م.س )A. M. S
أخبره أنني ق ّررت البقاء في حجرتي بالفندق مدة يومين.
42
من هؤالء ،كثيف الحاجبين ،ضخم الفكين ،هائل الجسد يكاد يالمس
السقف ،ويبلغ عرض كتفيه سبعة أقدام ،ويرتدي معطف ًا من الفرو كذلك.
حسن ًا ،أظن أن هذا الشخص سيقتلني .بدا كما لو كان قريبنا «A. M.
،»Sوبدأنا الحديث .إنه عضو في المجلس المح ّلي ،Zemstvoويدير
تتم إنارتها بالكهرباء ،وهو رئيس تحرير صحيفة
طاحونة ابن عمه ،التي ّ
«إيكاترينبيرج» األسبوعية الخاضعة لرقابة رئيس البوليس «بارون تايوب»،
وتقدم ًا في العمر ،ويعيش
ُّ وهو متز ِ ّوج ولديه طفالن ،ويزداد ثراء وسمنة
عيشة رغدة .وقال إنه ال وقت لديه ليشعر بالضجر .نصحني بزيارة
المتحف والمصانع والمناجم .وشكرت له نصيحته .ودعاني لشرب
الشاي غد ًا مسا ّء ،ودعوته ليتناول معي طعام الغداء أو العشاء ،لكنه لم
يلح في دعوتي لزيارته في بيته .ومن كل ما سبق،
يدعني للعشاء ،ولم ّ
ُ
ربما تستنتجين -يا أمي -أن األقارب لم يرقّ وا لحالي؛ فاألقارب صنف
ال أع ِ ّول عليه كثير ًا.
هناك ثلج بالشارع ،وكنت قد أنزلت الستائر عن عمد حتى أتج َّنب رؤية
المعالم األسيوية .وأجلس في انتظار ر َّد من تايومين على برقيتي .كنت
رد
خط باخرة كورباتوفّ .ّ قد أرسلت لهم البرقية التالية« :تايومين.
مدفوع .أرجو إعالمي بموعد إبحار باخرة الركاب من تومسك» .وبنا ًء
سيتحدد ما إذا كنت سأسافر بالباخرة أم بالعربات التي تج ّرها
َّ على ِ ّ
ردهم
َرست ،من الثلوج الذائبة واألوحال.
الخيول لمسافة 1500ف َ
طوال الليل هناك طرق دائم على ألواح الصلب في كل مكان هنا .ويحتاج
ّ
الدوي المتواصل. المرء رأس ًا من الصلب حتى ال يُصاب بالجنون من
أعد لنفسي قهوة .وجاءت النتيجة بشعة للغاية .لكنني
اليوم ،حاولت أن ّ
شربتها رغم ذلك .فحصت خمس مالءات ،خاصة ملمس نسيجها ،لكنني
43
لم أشترِ أي ًا منها .وسأذهب اليوم لشراء َك ُلوش.
تشيخوف
44
قرية يار 45 ،فرست ًا من تومسك 14 ،مايو 1890
أمّي العظيمة ،ماشا الرائعة ،حلوتي ميشا ،وكل سكان بيتنا ،عند وصولي
إلى إيكاترينبرج ،تسلمت رد ًا على برقيتي التي سبق وأرسلتها إلى
تايومين« .أول باخرة إلى توسمك ستتح ّرك في الثامن عشر من شهر
مايو» .ومعنى هذا أنه ،سواء أرضيت أم َأب َْيت ،سأضط ّر إلى استخدام
الخيول في رحلتي .وهذا ما فعلته .غادرت تيامون في الثالث من مايو
خصصتها للعالج من
ّ بعد قضاء يومين أو ثالثة أيام في إيكاترينبرج؛
الكحة والبواسير .وباإلضافة إلى خدمة النقل العام ،بوسع المرء أن
ّ
يستأجر سائقين خصوصيين لنقله إلى سيبريا ،وكان هذا اختياري رغم
أنه ال فارق بين االثنين .فلقد وضعاني ،أنا خادم الرب ،في عربة شيز
تشبه الس ّلة ،وقادا الحصانين اللذين كانا يج ّران العربة ،بينما أنا جالس
الرب ،ال ّ
أفكر في شيء... ّ في الس ّلة مثل سمكة ذهبية ،ناظر ًا إلى عالم
45
إنها تطير فوق الرؤوس ،إنها تطير بالقرب من عربة الشيز ،وتسبح في
البحيرات والبرك .اختصار ًا ،لو معي بندقية من أردأ األنواع ،الصطدت
اآلالف منها في يوم واحد.
وبوسع المرء أن يسمع صيحات اإلوز البري ،فهناك أعداد كبيرة منه
أيض ًا .وكثير ًا ما يصادف المرء سرب ًا من الكركي أو البجع ،وكذلك طيور
الشنقب ( (( ودجاج األرض ،وهو يرفرف بأجنحته بين أجمات أشجار
يتم اصطياد أو أ كل األرانب البرية التي تقف منتصبة على البتوال .وهنا ال ّ
أرجلها الخلفية مشرعة آذانها ،وهي تراقب العابرين بنظرات فضولية دون
توجس .كثير ًا ما تشاهدها وهي تجري عبر الطريق ،وال ي َُع ّد ذلك،
أدنى ُّ
هنا ،بمثابة نذير شؤم.
ِّ
متجمدتان. قدمي
ّ الجو بارد ...ارتديت معطفي الفرو .جسدي بخير ،لكن
لففتهما بالمعطف الجلدي ،لكن دون فائدة ...ارتديت بنطالين أحدهما
تقدمنا في الطريق ،تتراءى لنا سريع ًا أعمدة ُّ فوق اآلخر .وفي أثناء
التلغراف وبرك المياه وأجمات أشجار البتوال .مررنا ببعض المهاجرين،
ثم بسجن للترحيل ...قابلنا مسافرين سير ًا على األقدام يحملون القدور
على ظهورهم ،هؤالء الذين يجوبون سهول سيبريا من أقصاها إلى أقصاها
دون مانع أو رادع .ذات مرة قتلوا امرأة عجوز ًا ليسرقوا ت ّنورتها التحتانية
ِّ
تحدد ليلفّ وا بها أرجلهم ،ومرة أخرى سرقوا الصفيحة المعدنية التي
ِّ
سيحطمون المتبقية ،وربّما في هذا فائدة ما ،وفي مرة أخرىِّ المسافة
رأس أحد المتس ِ ّولين ،أو يفقأون عيني أحد اإلخوة المنفيين ،لكنهم
-أبد ًا -ال يتع َّرضون للمسافرين.
ّ
يتذكر وإجما ً
ال ،السفر هنا آمن للغاية طالما األمر يتع ّلق باللصوص .وال
46
سائقو الحافالت العامّة أو السائقون الخصوصيون تع ُّرض أي مسافر
للسرقة .وعند الوصول إلى محطّ ة ما ،تترك حاجياتك خارجها ،وإذا
استفسرت عن إمكانية تع ّرضها للسرقة ،يجيبونك بابتسامة أنه ال وجود
للسرقة أو القتل على الطريق .وأعتقد أنني لو فقدت نقودي في المحطة
إلي السائق إذا وجدها ،ولن يتفاخر لقيامه
سيردها ّ
ّ أو في عربة الشيز،
بهذا.
طيبون وعطوفون ،ولديهم تقاليد رائعة .ت ّتسم ال ،الناس هنا ّ إجما ً
حجراتهم ببساطة التأثيث وبالنظافة ،مع مظاهر للرفاهية ،األس ّرة ناعمة
ولينة ،فالمراتب والوسائد الكبيرة محش ّوة بالريش .واألرضيات إما مطلية ّ
ببسط من الك ّتان منزلية الصنع .وتفسير ذلك ،بالطبع ،أنهم ُ اة مغطّ أو
يعيشون عيشة رغيدة ،فكل عائلة تمتلك ستة عشر دسياتين (حوالي 48
(((
أ كر ًا ((() من األراضي الخصبة ،وما تنتجه من قمح رائع( .ويكلف بود
دقيق القمح 30كوبك ًا ((() ،لكن ،ال يعيش جميعهم في رغد وبحبحوة.
والبد أن يفخر المرء بطريقتهم في الحياة.
:Acreاألكر ،مقياس للمساحة يساوي 480ياردة مربعة ،أو نحو 4000متر مربع. -1
:Poodبُود ،وحدة وزن روسية ،تساوي 36باوند. -2
:Kopeckوحدة نقد روسية ،تساوي 100 /1من الروبل. -3
:Kvassنوع من الجعة يُصنع في أوروبا الشرقية. -4
47
هناك نظافة ليس بوسع صغار القوم الروس سوى أن يحلموا بها ،رغم
أنهم أنظف بكثير من كبار القوم!.
هنا يصنعون أشهى خبز ،ولقد أكلت منه بنهم شديد في أول وجبة لي.
كذلك فإن فطائر الفاكهة والفطائر المحلّاة والفطائر المقلية والملفوف
بح َلق الملفوف الروسي صغير الحجم إسفنجي الرائع ،الذي يذكرني َ
جيدة للغاية هنا .أما ما دون ذلك فال يتناسب مع المعدة
القوام ،جميعها ّ
تمت دعوتي لتناول «مرق األوروبية .على سبيل المثال ،في كل مكان َّ
ّ
البط» ،وهو مُ ق ِ ّزز للغاية،فهو سائل يبدو مثل الوحل السائل ببعض أجزاء
من البط البري والبصل غير المطهي ،تطفو على سطح المرق .وذات
ُعدوا لي بعض المرق على اللحم ،ويقلوا لي بعض ًا م ّرة طلبت منهم أن ي ّ
قدموا لي مرق ًا مالح ًا للغاية ،قذر ًا وبه قطع صلبة
من سمك الفرخ ( ((ّ .
ال من اللحم ،أما سمك الفرخ فقد َت ّم قليه دون تنظيفه من من الجلد بد ً
المم َّلح ،ويشوونه كذلك.
ويعدون مرق الكرنب على اللحم ُ ّ الحراشف.
وقدموا لي بعض ًا من هذا السمك المم ّلح مشو ّي ًا؛ وكان من أ كثر األشياء
المق ِ ّززة التي تناولتها على اإلطالق ،فبمج َّرد أن مضغته قمت ببصقه على
الفور .أما الشاي الذي يشربونه فمذاقه ومظهره أقرب لخليط من أوراق
المريمية والخنافس.
48
محلّات البقالة هنا ال تبيع شاي ًا يزيد سعره على روبيل وخمسين كوبيك ًا
خمر.
الم َّ
للرطل .ولم أجد أمامي سوى شراب المريمية ُ
والمسافة التي تفصل بين محطة وأخرى تعتمد على المسافة بين أقرب
قريتين ،والتي تتراوح بين 20و 40فرست ًا .والقرى هنا كبيرة ،وال وجود
للقرى الصغيرة .وهناك كنائس ومدارس في كل مكان ،واأل كواخ
مصنوعة من الخشب ،وبعضها من طابقين.
بالتجمد ،ولي ً
ال يتساقط الثلج ّ
( ((
والب َريكات
ُ ومع المغيب ،يبدأ الطريق
بانتظام ،مما يجعل المرء يحتاج معطف فرو إضافي ًا ....ياله من طقس
يتجمد في كتل .وترتجف الروح َّ بارد! إنه أمر رهيب ،حتى الوحل
داخل المرء ،لدرجة يشعر معها أنها على وشك مفارقة جسده ...ومع
اقتراب نهاية اليوم ،يُستنفد المرء من شدة البرد ،ومع اهتزاز النواقيس
وتعالي أصواتها ،يتوق المرء إلى الدفء والفراش .وخالل قيامهم بتبديل
وأتنحى جانب ًا وأغفو في الحال ،وبعد دقيقة ،يأتي ّ الخيول ،أنتهز الفرصة
السائق ليجذبني من ُك ّم ردائي وهو يقول« :انهض ،يا صديقي ،حان
كعبي .كان
َّ موعد االنطالق» .وفي المساء التاليُ ،أصبت بألم شديد في
ألم ًا ال يُطاق .يبدو أنهما أصيبا بلسعة الثلج.
49
تومسك 16 ،مايو
في الصباح ،بين الخامسة والسادسة ،نشرب الشاي في أحد األ كواخ.
كم يصبح الشاي ،خالل الرحلة ،نعمة عظيمة! اآلن ،أدركت قيمته،
وبدأت أشربه بضراوة يانوف نفسها .إنه يجعل الدفء يسري في البدن،
ويذهب بالوسن ،ومعه أتناول الكثير من الخبز ،ففي غياب أنواع الطعام
األخرى ،يتم تناول الخبز بكميات كبيرة للغاية ،ولهذا السبب يتناول
الفالحون الكثير من الخبز والنشويات .نشرب الشاي ،ونتبادل الحديث
مع الفالحات الالئي يتم َّتعن بالرقة ورهافة المشاعر والكدح ،باإلضافة
لكونهن أمّهات مخلصات وأكثر تح ُّرر ًا من نظرائهن في روسيا األوروبية،
يوجهن اإلهانات لهن ،ألنهن في مثل طولفأزواجهن ال يضربنهن ،أو ِ ّ
وقوة ومهارة سادتهن وأزواجهن .إنهن يعملن في قيادة العربات عندما
يكون أزواجهن غير موجودين ،وكذلك هن ي َْهوين المزاح.
50
وثيرة كما يشاؤون ،ويتناولون الطعام ،ويشربون الشاي برفقة الرجال.
ويع ِ ّنفن الرجال عندما يسخرون من حنانهن .ال وجود للديفتريا «داء
الخناق» ،أو الجدري القاتل هنا ،والغريب أن تلك األمراض ّ
أقل وبائية
هنا من أي مكان في العالم ،فقط يتوفّ ى اثنان أو ثالثة من جراء اإلصابة
أطباء أو مستشفيات .والتطبيب هنا يقوم به بها ،وينتهي الوباء .ال يوجد ّ
يتم اللجوء إلى التشريط وكؤوس الهواء بإفراط معالجون قرويون .وهنا ّ
مُ ض ّر .فحصت حالة مريض يهودي مصاب بسرطان الكبد ،وكانت حالة
هذا اليهودي سيئة ،يتنفّ س بصعوبة بالغة ،لكن ذلك لم يمنع المعالج
القروي من إخضاعه لجلسات كؤوس الهواء اثنتي عشرة مرة.
51
ّ
ثري بولندي ،بان زايلسكي ،وله كانوا عجائز عجزة .في إيشيم ،قام
ابنة تشبه ساشا كيزيلوف ،بتأجير حجرة وتقديم عشاء رائع لي مقابل
روبيل واحد في اليوم ،كان يدير نَزله ،ويكتنز المال بشراهة متناهية ،وكان
َّ
المهذب في سلوكه ،في ظل ذلك البولندي يستنزف أموال الجميع ،لكنه ّ
طريقة تقديم الوجبات ،وفي كل شيء.
تحمل الثلوج حتىَّ بدافع الجشع لم يرجع إلى بولندا ،وبدافع الجشع
بالقديس نيقوال ،وعندما يموت ،ستبقى ابنته ،التي
ّ جاء موعد االحتفال
ولدت في إيشيم ،هنا لألبد ،وهكذا سوف تضاعف من عدد العيون
السوداء والمالمح الرقيقة في سيبريا! .ومثل هذا التمازج العرضي للدماء
مفيد ،ألن السيبيريين ليسوا جميلين .ليس بينهم أشخاص بشعر داكن.
تودين لو أكتب عن التتار بال ريب ،إن عددهم محدود للغاية هنا.
وربما ّ
إنهم أناس صالحون .ففي إقليم كازان يذكرهم الجميع بالخير هنا ،حتى
القساوسة ،وفي سيبريا يقولون إنهم «أفضل من الروس» ،مثلما قال لي
«الرئيس» في حضور مجموعة من الروس الذين التزموا الصمت أمام
قوله هذا.
52
الزوجة اليهودية ،التي التهمت خاللها الطعام بعد أن تناولت ما يكفي مع
كل كوب شاي شربته .لم أتناول الفودكا أبد ًا؛ فالفودكا السيبرية كريهة
للغاية ،وحقيقة ،أقلعت عن عادة تناولها خالل طريقي إلى أيكاترينبرج.
تنبه المخ ،وما تعالج يلحق بالمرء
ويضط ّر المرء إلى شرب الفودكا ألنها ّ
من كسل والمباالة من جراء السفر ،مما يجعله غبي ًا وواهن ًا.
توقّ فت! ال أستطيع الكتابة ،فلقد جاء رئيس تحرير سيبريسكي فيستينيك
ثم رحل. «ن» ،وهو ّ
سكير خليع ،كي يتع َّرف بي ،تناول بعض البيرةّ ،
وبعدها عاودت الكتابة.
فبعد األيام الثالثة األولى من السفر ،بدأ جسدي يتع َّود االهتزاز ،وبمرور
الوقت لم أعد أالحظ تعاقب الظهيرة والمساء والليل .أصبح الوقت يم ّر
تتكهن بأنه منتصف
َّ سريع ًا كما يحدث في المرض الخطير .فيمكنك أن
تتأهب لحلول الليل ،أو
النهار ،عندما يقول الفالحون «سيدي ،يجب أن َّ
53
ّ
نضل في الظالم» ،وعندما تنظر إلى ساعتك ،وتجدها التاسعة فعلي ًا. ربما
كانوا يقودون بسرعة ،لكن تلك السرعة لم تكن ملفتة .ربما يرجع ذلك
إلى أننا كنا نسير على الطرقات في ظل ظروف سيئة ،ففي الشتاء يجب
أن يكون السفر أسرع .إنهم يندفعون بالخيول إلى أعلى التالل بسرعة
كبيرة ،وقبل االنطالق وقبل أن يستقر السائق في مكانه ،هناك حاجة
لرجلين أو ثالثة لكبح جماحهاّ ِ .
تذكرني الخيول هنا بفرقة خيول اإلطفاء
في موسكو .وذات يوم كدنا أن ندهس امرأة عجوز ،ومرة أخرى كدنا أن
تودين أن أسرد لك قصة مغامرة أدين
نصطدم بسجن الترحيل .اآلن ،هل ّ
فيها بحياتي لسائق سيبيري؟ .فقط أرجو من أمّي أال تبكي وتنتحب،
فالمغامرة انتهت على خير .ففي السادس من مايو ،وقرابة نهاية اليوم،
كانت العربة التي أركبها يجرها حصانان يقودهما سائق عجوز لطيف.
كانت عربة شيز صغيرة ،وكنت نعسان ًا ،ولبرهة من الزمن ،رأيت بريق
األضواء الملتوية في الحقول وأجمات البتوال ،فلقد كان ذلك هو
موعد إحراق العشب ،فهذه عادتهم هنا .وفجأة سمعت القعقعة الرشيقة
للعجالت ،إنها كارة تسير بسرعة هائلة نحونا كما لو كانت طائر ًا ،وسارع
سائقي العجوز بالتح ُّرك جهة اليمين ،فاندفعت الخيول الثالثة إلى
اليمين ،وإذا بي أرى عبر الظلمة كارة ضخمة وثقيلة وسائقها با ّتجاه رحلة
العودة .وتبعتها كارة أخرى تسير بسرعة هائلة .وسارعنا باالنحراف قدر
المستطاع إلى اليمين .ومما أثار استغرابي وانتباهي أن الكارة لم ت َّتجه
ّ
لدي وقت للتفكير في الوضع إلى اليمين بل إلى اليسار ...وبالكاد كان
«يا إله السموات! ستصطدم العربتان!»،
54
األرض ،وتساقط متاعي فوقي ،لكن هذا لم يكن كل شيء ،فلقد كانت
هناك عربة ثالثة مندفعة فوقنا ،وكان هذا كفي ً
ال بتحطيمي ومتع ّلقاتي إلى
ذرّات ،لكن حمد ًا للرب! لم أ كن نائم ًا ،ولم تنكسر لي عظمة واحدة في
هذا السقوط ،ونجحت في النهوض سريع ًا واالبتعاد عن موقع الحادث.
«وصحت في سائق الكارة الثالثة« :توقّ ف»« ....توقّ ف»! ،لكنها
كانت مندفعة ولم تتوقف إال بعد االصطدام بالعربة الثانية .ومن المؤكد
أني لو كنت قادر ًا على النوم في عربة الشيز ،أو لو تبعت العربة الثالثة
العربة الثانية مباشرة ،لكنت سأعود كسيح ًا أو فارس ًا بال رأس .وكانت
نتيجة الحادثة ،تحطّ م العربات ،وتم ُّزق حبال الجر والسروج ،وتناثرت
المتع ّلقات على األرض ،أما الخيول فلقد أصيبت بسجحات وجروح،
وكانت منهكة للغاية ،وتعاظم داخلنا شعور أننا في خطر .وا َّتضح أن
السائق األول نجح في كبح خيول عربته ،أما السائقان اآلخران فكانا
نائمين ،وتبعت خيول عربتيهما العربة األولى دون أية سيطرة عليها .وعند
اإلفاقة من الصدمة ،انخرط سائقي العجوز والرجال الثالثة اآلخرون في
تبادل الشتائم بضراوة .أوه ،كم كانوا متجاوزين في تبادل السباب!.
وظننت أن األمر سينتهي بعراك .وال يمكنك تص ُّور الشعور بالوحدة وسط
هذا الوابل من السباب السوقي في الخالء ،قبيل الفجر ،وعلى خلفية
النيران التي ترعى في العشب قريب ًا وبعيد ًا ،دون أن ّ
تؤدي هذه النيران
ال بالحزن والخوف!إلى تدفئة هواء الليل البارد! .أوه ،كم كان قلبي مثق ً
المهشمة والحاجيات
ّ فعندما سمعت السباب ،وتط َّلعت إلى العربات
المبعثرة ،بدا األمر وكأنني قد انجرفت إلى عالم آخر ،كما لو كنت على
وشك أن ُأهشَّ م في لحظة ....وبعد ساعة من تبادل السباب واإلهانات،
ّ
المفككة بحبل ،ويسعى إلى جمع ما تناثر ،وحتى يضم السائق القوائم
ّ
مهمته هذه .ووصلنا إلى المحطة بطريقة ما ،كنا
ّ أحزمتي استخدمها في
نسير ببطء متنا ٍه كما لو ك ّنا نزحف ،ثم نتوقَّف من حين إلى آخر.
55
وبعد خمسة أو ستة أيام بدأ هطول أمطار مصحوب بهبوب رياح شديدة.
كانت تمطر ليل نهار .ارتديت معطفي الجلدي الذي وقاني من المطر
والريح .ياله من معطف رائع! كان المرور عبر الوحل صعب ًا للغاية ،وبدأ
السائقون يتذمرون من االستمرار في السير خالل الليل .لكن أسوأ األشياء
جميع ًا ،وما لن أنساه مطلق ًا ،هو عبور األنهار ،فعند الوصول إلى النهر
ال يبدأ صياح الركاب والسائقين ،باإلضافة إلى هطول األمطار وهبوب لي ً
يؤدي إلى صوت طرطشة... الرياح ،وانزالق قطع الثلج عبر النهر؛ مما ِ ّ
ولإلضافة إلى مباهجنا ،يتصاعد صياح طيور البلشون التي تعيش طيور
البلشون حول األنهار السيبرية وعلى سطح مياهها ،ومن ذلك يبدو أنها ال
تهتم بالطقس بقدر اهتمامها بالموقع.
ّ
وبعد ساعة ،في الظالم ،تراءى لنا قارب نقل يشبه مركب نقل البضائع،
وله مجاديف ضخمة تشبه كلّابات السلطعون.
كان رجال النقل على هذا الزورق أفظاظ ًا ،ألن معظمهم كانوا من
المبعدين عن أوطانهم األصلية إلى هنا كعقاب على حياتهم اآلثمة .إنهم
سيئة إلى درجة ال ُتح َتمل ،ويتبادلون الصراخ؛ طالبين يستخدمون لغة ّ
ال للغاية ،طوي ً
ال المال والفودكا ..كان النقل عبر األنهار يستغرق وقت ًا طوي ً
ومجدد ًا انتابني ذلك
َّ لدرجة مزعجة .بدأ قارب النقل يتح ّرك ببطء.
الشعور بالوحدة ،وبدا صياح طائر البلشون كما لو كان ينقل رسالة ،كما
لو كان يقول« :أيها الرجل العجوز ال تخف ،أنا هنا ،لقد أرسلني أفراد
عائلة لينتفاريوفس Lintvaryovsإلى هنا من بسِ ول .Psyol
وفي السابع من مايو عندما طلبت الخيول ،قال السائق إن نهر اإلرتيش
قد فاض عن ضفافه وأغرق السهول الخضراء ،لدرجة أن الباخرة كوزما
Kuzmaانطلقت أمس ،وواجهت صعوبة في العودة ،ونتيجة لذلك فأنا
56
ال أستطيع االنتقال ،ويجب أن أنتظر ...وعندما تساءلت :إلى متى؟
الرب وحده يعرف! .يالها من إجابة مبهمة! كذلك ،كنت
ّ جاءت اإلجابة:
قد أقسمت على التخ ُّلص ،خالل هذه الرحلة ،من اثنين من نقائصي والتي
كانت مصدر ًا لقدر كبير من الكلفة والمشاكل واالرتباك ،وأعني بذلك
استعدادي لالنقياد ،وسهولة إغرائي؛ فسرعان ما أوافق ،وبناء على ذلك
أضط ّر للسفر بأية حال ،مما يضط ّرني ،أحيان ًا ،إلى دفع ضعف النفقات
واالنتظار لساعات كذلك .أقسمت أن أرفض الموافقة واالنقياد ،وهكذا
تراجعت آالم جانبي .على سبيل المثال ،عندما أحضروا عربة نقل غير
مناسبة ،فلقد كانت كارة عادية وكثيرة االرتجاج ،رفضت أن أسافر بها،
البد
ّ وأبديت إصرار ًا على ذلك ،وبداخلي ثقة أن هناك عربة أخرى،
ستظهر ،رغم أنهم قد يعلنون أنها غير موجودة في القرية كلها ...إلخ.
تم اختراع مسألة فيضانات نهر إرتيش ،ببساطة،وحقيقة ،شككت أنه ّ
لتج ُّنب القيادة خالل هذا الوحل لي ً
ال .احتججت وطلبت منهم أن ينطلقوا.
وشجعه
ّ وافق الفالح الذي سمع عن الفيضانات من كوزما ،لكنه لم يرها،
الرجال العجائز بقولهم إنهم عندما كانوا شباب ًا ،واعتادوا القيادة ،لم
يكونوا يخشون شيئ ًا .وانطلقنا ،وسط هطول متزايد لألمطار وهبوب
قدمي .هل
ّ للعواصف ،وتزايد الصقيع ...وشعرت بحذائي البوت على
تعرفين كيف يكون الشعور بحذاء البوت عندما تمتلئ بالماء؟ إنها تصبح
تقدمنا عبر الطريق ،ويالهول
كما لو كانت مصنوعة من الجيلي .واستمر ُّ
تجسدت أ كاذيبهم أمام عيني في هيئة بحيرة هائلة ،تظهر
َّ ما رأيت! لقد
خاللها األرض في شكل بقع متناثرة هنا وهناك ،وكذلك األجمات :تلك
هي السهول التي أغرقها الفيضان.
ومن بعيد تراءت ضفة نهر إيرتيش ،وعليها تنتثر أشرطة بيضاء من الثلج.
مجدد ًا عبر البحيرة .ربما كان علينا أن نعود
َّ بدأنا االنطالق بالعربة
57
علي نزوة غير مفهومة
ّ أدراجنا ،لكنه العناد ما حال دون ذلك ،وسيطرت
بالمعارضة لتلك النزوة التي جعلتني أقفز من اليخت في وسط البحر
األسود ،ودفعتني للقيام بعدد غير قليل من األفعال الحمقاءُ ...أ ِ ّ
رجح أن
العصاب .وواصلنا السير ِ ّ
متلمسين ما توافر من الجزر ذلك نوع خاص من ُ
الصغيرة وأشرطة اليابسة وسط المياه .وبحثنا عن الكباري وألوح الخشب
كعالمات إرشادية عبر الطريق ،لكن الفيضان كان قد جرفها كلها.
وللعبور عليها ،كان عينا أن نخ ِ ّلص الخيول من سروجها ونقودها واحد ًا
بفك السروج عن الخيول ،وقفزت إلى الماء ّ بعد اآلخر .قام السائق
بحذائي البوت وأمسكت بها ...يالها من تسلية مبهجة! واألمطار والريح.
رب السماء! وأخير ًا وصلنا إلى جزيرة صغيرة وعليها ينتصب كوخ يا ّ
وحيد بال سقف .وبدأت الخيول المب َّللة تتج َّول في الروث المختلط
مهمة قيادتنا.
ّ بالوحل .خرج من الكوخ فالح بيده عصا طويلة ،وتولّى
إنه يقوم بقياس عمق المياه بواسطة عصاه ،ويختبر صالبة اليابسة .قادنا
الرب على صنيعه هذا ،أطلق
ّ للوصول إلى شريط طويل من اليابسة ،يباركه
البد أن نلتزم الجانب األيمن -وربّما
ّ وشدد علينا أننا
ّ عليه «الجرف».
أتذكر -لنصل إلى جرف آخر. َّ يكون األيسر ،ال
58
بيضاء ،ثم تتراجع ثانية كما لو كانت قد شعرت باالشمئزاز عند مالمسة
الضفة المنحدرة غير المألوفة ،حيث يبدو أن الضفادع وأرواح المجرمين
وحدها تستطيع أن تعيش عليها .ولم يصدر عن نهر إيرتيش أي هدير أو
صوت مرتفع ،لكنه بدا كما لو كان له إيقاع جنائزي حزن ًا على األكفان
المستق ّرة في قاعه .ياله من انطباع لعين! أما الضفة البعيدة فهي مرتفعة،
تراكم عليها طمي ب ّني داكن ،ومهجور.
كان هناك كوخ ،يعيش فيه رجال يعملون في نقل البضائع .خرج أحدهم
ليعلن أن النقل مستحيل فالعاصفة على وشك الهبوب .وقالوا إن النهر
علي أن أبقى الليل في الكوخ.
واسع والعاصفة قوية؛ وبنا ًء على ذلك كان ّ
عمال النقل وسائقي ،زئير الريح ،دمدمة المطر،
إنها ليلة ال ُتنسى :شخير ّ
غمغمة نهر إيرتيش .وقبل الذهاب إلى النوم ،كتبت رسالة إلى ماريا
فالديميروفنا؛ فلقد ّ
تذكرت بركة بوزهاروفسكي.
وفي الصباح ،لم تكن لديهم رغبة في نقلي عبر النهر ،فلقد كانت الريح
نجدف ونحن نركب القارب .قمت بالتجديف عبر شديدة .كان علينا أن ِ ّ
النهر ،وبدأ تساقط األمطار ،وهبوب الرياح ،غرقت حاجياتي في المياه
وكذلك فردتا حذائي (البوت) المصنوعتان من الكتان واللتان كانتا قد
جفّ تا خالل الليل عندما وضعتهما في الفرن ،أصبحا مثل الجيلي مجدد ًا.
أوه ،لم ُأصب باألنفلونزا ،وذلك بفضل معطفي الجلدي العزيز .وعند
عودتي يجب أن تكافئيه بدهنه بالشحم الحيواني أو زيت القندس.
على ضفة النهر جلست ساعة بكاملها على حقيبتي في انتظار الخيول
َّ
وأتذكر كم كان الجرف الذي صعدناه منحدر ًا للغاية. القادمة من القرية.
المبعدين وفي القرية تدفّ أت ب َنفَ سي ،وشربت بعض الشاي .جاء بعض ُ
متوسلين للحصول على بعض الصدقات .وكانت كل أسرة تخبز يومي ًا ِّ
59
حوالي أربعين رط ً
ال من دقيق القمح من أجلهم .يبدو األمر كما لو كان
نوع ًا من اإلتاوة الجبرية.
وكان هؤالء المبعدون يبيعون هذا الخبز ليشربوا بثمنه الخمر في الحانة.
رث الهيئة يسير بصعوبة بالغة ،وكانتوجاءني واحد منهم ،كان عجوز ًا ّ
بعينيه كدمتان على يد رفاقه من المبعدين في الحانة .كان قد سمع عن
وجود مسافر بالحجرة ،واصطحبني إلى لقاء أحد التجار ،وبدأ الغناء
وتالوة الصلوات .تلى صالة طلب ًا للصحة ولطمأنينة الروح ،وغ ّنى ترنيمة
الرب ،بصحبة القديسين ،يا إلهي» ،وتقريب ًا لم
ّ عيد الفصح «لينهض
يتغن بها .وبعد ذلك بدأ سلسلة من األكاذيب ،من بينها
َّ يترك أغنية لم
ّ
السكير ادعاؤه أنه كان تاجر ًا في روسيا .والحظت كم كان هذا المخلوق
ّ
يزدري الفالحين الذين كان يعيش من خيرهم.
وفي الحادي عشر من الشهر ،انطلقت بنا خيول البريد .وقرأت دفاتر
الشكاوى في محطة البريد من فرط شعوري بالسأم.
حسن ًا ،سننتظر ....مضت ساعة ،وأخرى وثالثة ،وأوشك اليوم على
االنتصاف ،ومن بعده يأتي المساء .الله كريم ،كم شربت من الشاي! وكم
60
تناولت من الخبز! وكم من األفكار دارت بعقلي! ،وكم استغرقت في
النوم!َ .ح ّل الظالم ،ولم يأت ّ
أي قارب ،وتبدى نور الصباح .وأخير ًا ،عند
التاسعة صباح ًا ،عاد العمال .حمد ًا للرب ،ها نحن نطفو أخير ًا! وكم كان
والمجدفون بارعون ،والجزر جميلة .حاصرتِّ ال! هدأت الريح، ذلك جمي ً
ِّ
يجدفن في الفيضانات الرجال والماشية بغتةً ،ورأيت الفالحات وهن
قوارب للوصول إلى الجزر حيث توجد األبقار لحلبها .واألبقار نحيلة
وكئيبة الهيئة .فلم يكن ثمة عشب لها ،بسبب البرودة الشديدة.
جدفوا الثني عشر فرست ًا .وعند الوصول إلى محطة كان العمال قد ّ
دوبروفين ،شربت شاي ًا ،ومع الشاي ّ
قدموا لي -تص َّوري -كعك ال َوفل .
(((
المبعدين .وعند
المبعدين أو زوجة ألحد ُ
وخمنت أن ربّة المنزل من ُ ّ
الوصول إلى المحطّ ة التالية ،اشتكى لي رجل دين عجوز بولنديَّ ،
قدمت
له بعض األنتيبيرين ( (( ،من الفقر ،وذكر كونت سابيجا ،وهو بولندي
وكان حاجب ًا بالمحكمة النمساوية ،وساعد رفاقه من القرويين ،وأنه
مؤخر ًا ،وهو في طريقه إلى سيبريا ،وأضاف رجل الدين« :إنه يقيم
وصل َّ
بالقرب من المحطّ ة ،في مكان ال أعرفه ،يا أيتها األم المقدسة ،توقّ عت
أن يساعدني ،كتبت إليه في فيينا ،لكنني لم أتلقَّ ّ
أي رد.»..
لماذا لست من البوليس الس ّري؟ لو أنا كذلك لكنت سأعيد هذا الرفيق
المسكين إلى وطنه.
مجدد ًا أن ِ ّ
يوفروا لي الخيول .لقد فاض ّ وفي الرابع عشر من مايو ،رفضوا
نهر الـ«توم» .ياله من اضطراب! ال يقتصر األمر على االضطراب ،بل
:Waffle -1ال َوفل ،كعكة تُعد من دقيق وحليب وبيض ،وتُشوى في أداة خاصة؛ تُعرف بـ«
مشواة ال َوفل».
:Antipyrin -2األنتيبيرين ،مركب أبيض يُستخدم لتسكين األلم.
61
يتجاوزه إلى اليأس! أبعد بخمسين فرست عن تومسك ،وإذا بي أواجه هذا
العائق غير المتوقع! .لو كانت هناك امرأة مكاني لما توقّ فت عن البكاء
والعويل .وجد بعض أصحاب القلوب الرحيمة حلّاً لورطتي ،ونصحوني
بأن أواصل المسير حتى أصل إلى نهر «توم» على بعد ستة فرسات
من هنا ،وأضافوا« :وهناك سينقلونك في قارب تجديف عبر النهر إلى
«يار» ،ومنها ستق ّلك إليا ماركوفيتش إلى تومسك» .استأجرت حصان ًا
وانطلقت إلى توم ،إلى المكان حيث يُفترض أن يوجد فيه القارب .وعند
وصولي لم أجد أي قارب .وهناك أخبروني أنه قد انطلق ت ّو ًا بالبريد،
ومن الصعب أن يعود قريب ًا بسبب العاصفة .بدأت االنتظار .كانت اليابسة
وهبت الرياح... مغطّ اة بالثلوج ،هطلت األمطار وتساقط َ
الب َردَّ ،
وعند اقتراب المساء ،قام ساعي البريد ،وهو رجل طاعن السن ،ب ََذل
مجهود ًا واضح ًا طوال اليوم ،ولم يتج ّرأ أن يجلس في حضوري ،بالتجهيز
لالنطالق إلى نهر «توم» .وفعلت الشيء نفسه .وبمج ّرد وصولنا إلى
النهر ،تراءى لنا قارب ما ،وكان قارب ًا طوي ً
ال ،ولم أحلم يوم ًا بقارب بمثل
يتم تحميل البريد على القارب ،شهدت ظاهرة
هذا الطول .وبينما كان ّ
62
ّ
دوي رعد ،وهو حدث غريب في مثل هذه الريح الباردة، غريبة ،كان هناك
وبمثل هذا الثلج على األرض .أ كملوا التحميل ،ثم انطلق القارب.
ولجأوا إلى االقتراع العلني لالستقرار على قرار باألغلبية ،وجاء القرار
والتقدم كم كان قدري ساخر ًا شرير ًا! أوه ،لماذا
ُّ باالستمرار في التجديف
وركزنا أفكارنا.... ُّ
التهكمية السمجة؟ .جدفنا في صمتَّ ، هذه األحداث
ّ
وتذكرت الجندي تذكرت هيئة ساعي البريد ،رجل متن ّوع التجارب.َّ
الشاب الذي أصبح قرمزي ًا كما عصير الكرزَّ .
فكرت :إذا انقلب القارب،
سأقذف بمعطفي الفرو ثم بالمعطف الجلدي ،وبعدها حذائي (البوت)
وهلم ج ّرا .لكن ضفة النهر الحت أقرب
ّ ثم...
المصنوع من التيلَّ ،
وأقرب ،وسرت الطمأنينة إلينا ،ونبض قلبي مبتهج ًا ،وأطلقت زفرة كما
لو أنه بوسعي أن أتنفّ س بحرية أخير ًا ،وقفزت إلى الضفة الزلقة .حمد ًا
للرب!.
وعند الوصول إلى إليا ماركوفيتش( ،تحمل اسم شخص تح َّول إلى
ال ،فالطريقاليهودية) أخبروني أنه ليس بوسعي أن أستكمل مسيرتي لي ً
علي أن أبقى إلى اليوم التالي .ولم يكن ذلك باألمر السيئ،
سيئة ،ولذلك َّ
63
وبقيت .وبعد تناول الشاي ،جلست أل كتب لك هذه الرسالة ،ولم يقاطعني
شيء سوى زيارة الـ«رئيس» .والرئيس هو مزيج ثري من نوزدريوف
مغنّ ،
حكاء، ّ وهليستاكوف والشخص اللئيم .إنه ّ
سكير ،خليع ،كاذب،
وباإلضافة إلى كل ما سبق هو رجل ودود .كان قد أحضر معه صندوق ًا
كبير ًا ممتلئ ًا بأوراق العمل .وكان السكرتير رج ً
ال رائع ًا ،جيد التعليم،
ليبرالي ًا احتجاجي ًا تع َّلم في بطرسبرج ،وصاحب فكر متح ِ ّرر .وال علم ّ
لدي
بالذي أتى به إلى سيبريا ،هو مصاب إصابة بالغة بكافة أنواع األمراض،
«كولي ًا».
ّ وكان مضط ّر ًا ألن يشرب ،رغم مبادئه ،مما جعله
سكر .صاحإن الرجل المم ِ ّثل للسلطة الرسمية أرسل في طلب شراب مُ ِ
أتوسل إليك!» .وبالتأ كيد ،شربت
ّ منادي ًا« :يا دكتور ،اشرب كأس ًا أخرى،
يتمدد
ّ هذه الكأس .كان مم ِ ّثل السلطة الرسمية ،يشرب بصوت مرتفع،
بوقاحة ،ويستخدم لغ ًة فاضحة .وبعدها ذهبنا للنوم .وفي الصباح َت ّم طلب
جدد ًا .تج ّرعا الشراب حتى العاشرة مساءً ،وفي النهاية
سكر مُ ّ
الم ِ
الشراب ُ
رحال .وسكان إليا ماركوفيتش ،يقولون إن الفالحين،هنا ،يحبون هذا
الشخص المته ِ ّود لدرجة العبادة ،لقد أعطوني الخيول التي ستق ّلني إلى
تومسك.
وركبنا نحن الثالثة ،الرئيس والسكرتير وأنا ،العربة نفسها .وطوال الطريق
العب من
ّ لم يتوقّ ف الرئيس عن سرد األ كاذيب ،كما لم يتوقّ ف عن
زجاجة الشراب ،ويتباهي بأنه لم يحصل على أية رشاوى ،وكان غاضب ًا
مما شاهده ،ول ّوح بقبضته في وجه من قابلهم من متس ِ ّولين أو بغايا.
سارت بنا العربة لمسافة 15فرست ،ثم ع ّرجت على قرية بروفكينو...
توقّ فنا بالقرب من ّ
دكان ألحد اليهود بغرض االستراحة وتناول وجبة
سكر لنا ،بينما كانت
وشراب خفيف .وسارع اليهودي بإحضار شراب مُ ِ
تعد لنا بعض ًا من مرق السمك ،وهي السيدة نفسها التي كتبت لك
زوجته ّ
64
يتم إحضار كل من «سوتسكي »sotsky عنها ت ّو ًا .وأ َم َر الرئيس بأن ّ
و«دسياتسكي ،»desyatskyومقاول الطريق ،ليمثلوا أمامه .وفي
ُس ْكره هذا بدأ يو ِ ّبخهم ،ولم يكبح جماحه شيء؛ حتى وجودي بينهم.
كان يطلق الشتائم مثل التتري.
في تومسك ،كان من العسير المرور عبر الوحل .وعن المدينة وأسلوب
المعيشة هنا ،سأ كتب بعد يوم أو يومين ،لكن ،وداع ًا اآلن ،فلقد مللت
من الكتابة.
ال وجود لخشب الحور هنا .كانت الباخرة كوفشينيكوف راسية هنا.
ورأيت طيور العندليب والعقعق والوقواق.
أرجو قبول اعتذاري عن تفكك رسالتي هذه .فهي غير مترابطة ،لكن ما
باليد حيلة .فحتى لو كنت بغرفة في أحد الفنادق ،فلن أستطيع أن أ كتب
أفضل منها .واغفري لي طولها ،فهذا ليس خطأي .فقلمي يطاوع تدفُّ ق
أفكاري ،باإلضافة إلى أنني أرغب في الحديث معك .إنها الثالثة بعد
منتصف الليل .ك َّلت يدي .وبدأت فتيلة الشمعة تذوي ،وبالكاد أستطيع
أن أرى .اكتبي لي عند الوصول إلى كل أربعة أو خمسة أيام .ويبدو أن
يتم نقله هنا ليس ،فقط ،عن طريق البحر ،بل بر ًا أيض ًا عبر سيبريا،
البريد ّ
وهكذا سيكون بوسعي أن أتس ّلم الرسائل تباع ًا.
65
أخبرني جميع أهالي تومسك أنهم لم يسبق لهم أن شهدوا ربيع ًا ممطر ًا
وبارد ًا مثل هذا الربيع ،منذ عام .1842إن نصف تومسك مغمور بالمياه.
إنه حظّ ي!
66
تومسك 20 ،مايو
المقدس ((( ،لكن هنا ،حتى الصفصاف ما زال عاري ًا ّ اليوم عيد الثالوث
من األوراق ،ومازالت الثلوج تغطّ ي ضفّ ة نهر توم .غد ًا ،سأبدأ رحلتي إلى
إركوتشك .أنا اليوم في راحة .ال حاجة للعجلة ،فحركة السفن البخارية
البد أنني أتبع هذا
ّ في بحيرة بيكال لن تبدأ قبل العاشر من يونيو ،لكن،
الطريق.
أنا على قيد الحياة ،نقودي بأمان ،أعاني ألم ًا خفيف ًا في عيني ُ
اليسرى؛
بها ألم خفيف متواصل.
نصحني الجميع بأن أعود عبر أميركا ،حيث يُقال إن المرء قد يموت ضجر ًا
في وسائل النقل البحري التط ّوعي ،فجميعها خاضع للنظام العسكري
وضوابط الشريط األحمر ،وغالب ًا ،ال تتوقّ ف في أي ميناء بطريقها.
ّ
لدي هذا الشعور من السكارى الذي تومسك مدينة مم ّلة للغاية .وتأ َّكد
تع ّرفت إليهم عن ُقرب ،ومن ُ
المثقَّ فين الذين جاؤوا ّ
إلي في الفندق للتعبير
ّ
والسكان -كذلك -مم ّلون للغاية. عن تقديرهم لي،
67
خالل يومين ونصف اليوم سأصل إلى كراسنويارشك ،وخالل سبعة أو
ثمانية أيام سأصل إلى إركوتشك .تبعد إركوتشك 1500فرست .أعددت
لنفسي القهوة ،وسأتناولها اآلن.
استمتعوا بوقتكم ،وال تقلقوا بشأن النقود ،سنحصل على الكثير منها ،ال
تحاولوا االقتصاد في النفقات ،وتفسدوا عطلتكم الصيفية.
68
كراسنويارشك 28 ،مايو 1890
آخر ثالث محطّ ات كانت رائعة ،فك ّلما اقتربنا من كراسنويارشكا ،يبدو
أننا نقترب من عالم مختلف .فلقد خرجنا من الثلج إلى السهل الذي يشبه
سهل «دونيتس ستيب ،»Donets steppeلكن هنا قمة الجبل أضخم.
شروق الشمس في أبهى حاالته ،وأشجار البتوال أزهرت ،رغم أنه قبل
ثالث محطّ ات ،لم تكن البراعم قد تف ّتحت حتى.
للرب ،أخير ًا وصلت إلى مكان فيه الصيف بال أمطار أو ريح ّ حمد ًا
ِّ
متحضرة ،ومقارنة بها تبدو باردة .إن كراسنويارشكا فاتنة المناظر ،مدينة
قمة التأنُّق» .الشوارع
تومسك «مثل خنزير على رأسه قلنسوة ضيقة ،وفي ّ
جيدة
شيدة من الحجر وم َّتسعة ،والكنائس ّ
وممهدة ،والبيوت مُ َّ
ّ هنا نظيفة
التشييد والزخرف.
أنا حي وبخير حال .ونقودي بأمان ،وكذلك باقي متع ّلقاتي ،فقط فقدت
جوارب صوفية ،لكنني وجدتها سريع ًا.
وباستثناء العربة التي أق ّلتني ،كل شيء كان مُ رضي ًا ،وليس هناك ما أشكو
69
منه .فقط أنفق قدر ًا هائ ً
ال من المال .ال يشعر المرء بالعجز عن تلبية
االحتياجات العملية اليومية كما يشعر خالل رحلة ما .إنني ُأنفق أ كثر من
حاجتي ،فأنا أتص َّرف بشكل خاطئ ،وأقول كالم ًا غير صحيح ،ودائم ًا
أتوقّ ع ما ال يحدث.
سوف أصل إلى إركوتشك خالل خمسة أو ستة أيام ،حيث سأمضي
أتوجه إلى سريتينشك ،وهناك ستنتهي رحلتي على ّ ثم
عدة أيام هناّ ،
ّ
اليابسة .أل كثر من أسبوعين وأنا في عربة تسير بال توقُّ ف ،ال أفكر في
شيء سوى الطريق ،وال أعيش لشيء سوى الوصول ،فكل صباح أرى
الشمس من شروقها إلى غروبها .وأصبحت معتاد ًا للغاية على ذلك األمر،
كما لو أنني أمضيت حياتي في قيادة العربات ومحاولة التغ ُّلب على
الطرقات الموحلة .وعندما تتوقَّف األمطار ،وال يتبقى هناك أية أوحال
على الطريق ،يشعر المرء بالدهشة وبقليل من الضجر .كم أنا بذيء! كم
ّ
الحظ ،وفي حالة رثّة!. أبدو نذ ً
ال! وكم تبدو مالبسي تعيسة
70
سنقوم بجولة في المدينة.
ّ
لدي أي تحفُّ ظ على الحياة في كراسنويارشك .وال أعرف سبب ليس
اختيار هذا المكان إلرسال المبعدين إليه.
اإلنسان
تشيخوف
71
عائلة تشيخوف
72
إركوتشك 6 ،يونيو 1890
قمة سلسلةفي رسالتي األخيرة المط َّولة ،كتبت إليكم أن الجبال تشبه ّ
جبال دونيتس ،لكن هذا ليس صحيح ًا ،فعندما تط ّلعت إليها من الشارع
رأيت أنها تشبه الجدران المرتفعة التي تحيط بالمدينةَّ ،
وذكرتني بالقوقاز.
وعند اقتراب المساء ،غادرت المدينة وعبرت نهر ينيسي ،رأيت على
الضفة األخرى جبا ً
ال تشبه -تمام ًا -جبال القوقاز ،ضبابية وحالمة .نهر
ينيسي عريض تنساب مياهه برشاقة ،وي َّتسم بأنه كثير المنعطفات ،جميل
البد
ّ ورائق الصفحة أ كثر من نهر الفولجا .والمرور خالله رائع ،لكن
أن تكون المراكب جيدة التصميم واإلنشاء ،بما يسمح باإلبحار عكس
ا ّتجاه التيار.
73
من أقصى الشمال ،عبر التيجة ،وبصحبتهم حيوانات الرنة ( (( من أجل
قمة الجبل والنظر منها إلى األسفل ،ترى الحصول على الخبز .وعند بلوغ ّ
أمامك جب ً
ال ث ُّم آخر ،وكذلك هناك جبال على الجانبين ،وجميعها مُ غطّ اة
بطبقة سميكة من الثلج .وغالب ًا ما تجعل الخوف يسري في األوصال عند
التط ُّلع إليها .وذلك هو ثاني األشياء األصيلة والجديدة.
74
أدخر ما ّ
لدي من ب ُّن إلى حين الوصول إلى أنا بخير حال .نقودي بأمانَّ .
َسخالين .أشرب شاي ًا رائع ًا هنا ،يجعلني أشعر بقدر معقول من االنتعاش
ال صينيين .إنهم ودودون وأذكياء .وعند بلوغ ضفة واالنتباه .رأيت رجا ً
قدموا لي المال على الفور ،واستقبلوني بترجاب شديد، النهر السيبيريّ ،
وجاملوني بتقديم السجائر ،ودعوني إلى النزول ضيف ًا عليهم في منزلهم
الصيفي .هناك الكثير من محال بيع الحلوى ،لكن كل شيء هنا باهظ
الثمن للغاية .األرصفة هنا من الخشب.
ليلة أمس ،تج ّولت بالسيارة مع بعض رجال الشرطة .سمعنا شخص ًا ما
ست مرات .البد أنه كان شخص ًا يتع ّرض للقتل .وذهبنا
يصرخ طلب ًا للعون ّ
الستكشاف األمر ،لكننا لم نعثر على أي شخص.
لص.
مجعدة وقذرة ومم َّزقة! ،إنني أبدو مثل ّ
َّ كل متع ّلقاتي أصبحت
لن ُأحضر لك فرو ًا في غالب األحوال ،ألنني ال أعرف أين ّ
يتم بيعها،
باإلضافة إلى أنني كسول ،لدرجة تجعلني ال أسأل عن أماكن بيعها.
75
إلى أ كياس داكنة اللون للوسائد.
سأتوجه
ّ توجه إلى الجنوب؟.
ما أخبار إيفان؟ ماذا يفعل؟ ،أين هو؟ هل َّ
ويتأهب رفاقي لإلصابة بدوار البحر.
ّ من إركوتشك إلى بيكال.
أصبح حذائي البوت فضفاض ًا من تكرار ارتدائي له ،ولم يعد يؤلم َ
كعب ْي.
طلبت عصيدة الحنطة السوداء من أجل الغد .وخالل الرحلة هنا فكرت
في اللبن الرائب ،وبدأت أشتريه مع اللبن الطازج من كل محطة أصل
إليها.
هل استلمت البطاقات البريدية التي أرسلتها إليك من المدن الصغيرة
التي مررت بها؟ احتفظي بها ،فبواسطتها سأستطيع أن ِ ّ
أقدر كم يستغرق
وصول البريد .البريد هنا بطيء نوع ًا ما.
76
إركوتشك 7 ،يونيو1890 ،
...كان الطقس بارد ًا عند الوصول إلى مانسك ،ومن كانسك (طالعي
التوجه إلى الجنوب .وبدأ كل شيء يخضوضر كما هو ُّ الخارطة) بدأت
الحال عندك ،حتى أشجار البلوط .أشجار البتوال لونها أكثر دكنة من
مثيالتها في روسيا ،األخضر ليس عاطفي ًا للغاية .وهناك أعداد كبيرة من
ّ
محل أشجار الليلك ّ
تحل أشجار الغُ بيراء الروسية بيضاء اللون ،وهي هنا
والكرز .ويقولون إنهم يصنعون مربّيات رائعة من ثمار أشجار الغُ بيراء.
وتذوّقت بعض ثمار الغُ بيراء مُ َخ ّللة ،ولم تكن ّ
سيئة المذاق.
-1خالل غياب تشيخوف ،حازت أسرته خارطة لسيبريا ،كانوا بواسطتها يتابعون مراحل تقدمه في رحلته.
:Farthing -2الفارذنج ،قطعة نقد بريطانية تساوي ربع بنس ،شيء ضئيل القيمة.
77
رفاق ودودون .كان بحوزة كل واحد منهم 1500روبيل لتغطية نفقات
السفر ،ولم تكن الرحالت لتكلفهم سوى ّ
أقل القليل (إذا ما استبعدنا
بالطبع ما كانوا ينفقونه في كل محطة توقُّ ف) .كانوا يفاوضون كل من
قابلهم سواء في المحطات أو في الفنادق ،لدرجة جعلت الناس يخشون
تقديم الفواتير لهم .وفي صحبتهم دفعت أقلّ من المعتاد .واليوم ،وألول
مرة ،أشاهد قطّ ة سيبرية ،لها فراء ناعم طويل ،وسلوك لطيف.
شعرت بحنين إلى الوطن ،واليوم أرسلت لك برقية أطلب منكم أن
تساهموا جميع ًا ،وترسلوا لي برقية طويلة .أظن أنه لن يثقل كاهلكم -يا
أهل بيت لوكا -أن ينفق كل منكم خمسة روبيالت.
أحيان ًا ،تبعد المحطات ،بعضها عن اآلخر ،مسافة تتراوح بين 30و35
78
فرست ًا .وعند السير لي ً
ال ،تسير العربة وتسير حتى تشعر بالسخف وبالدوار،
وإذا جازفت بسؤال السائق :كم تبعد المحطّ ة التالية؟ لن يجيبك برقم
أقل من (سبعين فرست ًا) ،وتترك هذه اإلجابة ألم ًا في النفس ،خاصة ّ
بالحفر،وعندما
ُ عندما تكون مضط ّر ًا لإلسراع في طريق موحل ممتلئ
تكون ظمآن.
لقد تع ّلمت أن أنام وسط الضجيج ،وال أمانع -مطلق ًا -يقومون بإيقاظي.
ثم في اليوم التالي عند وقت الغداء يشعر
كقاعدة ال ينام المرء ليوم وليلةّ ،
المرء بثقل في جفونه ،وفي المساء والليل ،قرب فجر اليوم الثالث ،ينعس
المرء في عربة الشيز ،وأحيان ًا يغفو لدقائق وهو جالس ،وعلى العشاء
وبعده في المحطات ،وبينما تحظى الخيول بفترة الراحة دون سروجها،
يستلقي المرء على كنبة ،لكن العذاب الحقيقي يبدأ في الليل.
في المساء ،وبعد تناول سبعة أ كواب من الشاي ،يحل الخدر بكامل
الجسد ،ويتوق المرء لالستلقاء على ظهره ،تنغلق عيناه ،وتؤلمه قدماه
داخل حذائه البوت الضخم ،ويصبح عقله مش ّوش ًا .وإذا تركت نفسي
ّ
لدي رغبة في أغط في نوم عميق من فوري،وإذا كانت ّ للنوم فإنني
شدة االرتجاجات
االستمرار ،فإنني أنام في عربة الشيز مهما كانت ّ
وعند الوصول إلى المحطات ،يقوم السائقون بإيقاظ الراكب ليدفع أجرة
كمه،
السفر .وال يقومون بإيقاظ الراكب عن طريق الصراخ أو جذبه من ّ
تسبب ذلك رائحة الثوم التي تفوح من أفواههم ،تفوح منهم بقدر ما ِ ّ
رائحة الثوم والبصل دائم ًا لدرجة تصيبني بالغثيان.
79
سوى مرة واحدة .لكن النوم في عربة على الطريق ،ال تجعل المرء يشعر
بتحسن .إنه ليس نوم ًا حقيقي ًا ،لكنه نوع من فقدان الوعي ،وبعده يصبح
ُّ
رأس المرء مش ّوش ًا ،ويصبح للفم مذاق ّ
سيئ.
إن الصينيين يشبهون هؤالء الرجال الطاعنين في السن الذين اعتاد عزيزي
نيكوالي أن يرسمهم .ولبعضهم ضفائر صغيرة رائعة.
80
فريميا» أن ينشروا ألفين أو ثالثة آالف نسخة من كتبي ،وسأسمح لهم
أن ينشروا المزيد منها.
جاد قبل أن أبلغ الخامسة والثالثين...
وأعتقد أنني لن أشرع في أي عمل ّ
أرغب أن أستمتع بحياتي الخاصة ،والتي ج ّربتها سابق ًا ،لكنها َم َّرت دون
تأثير واضح بسبب العديد من الظروف والمالبسات.
مشطت معطفي الجلدي بالدهن .إنه معطف رائع .لقد وقاني من
اليوم ّ
اإلصابة بالبرد .كذلك معطفي المصنوع من جلد الغنم ممتاز هو اآلخر،
لقد استخدمته كمعطف ومرتبة.فبداخله يشعر المرء بالدفء كما لو كان
داخل فرن .لكنه غير مريح دون وسائد.وال يحلّ القش محلها ،فمع
االحتكاك المستم ّر يعلق الكثير من األتربة بوجه المرء بما يمنعه من
لدي مالءة واحدة .هذا بشع للغاية .كذلك اكتشفت أنني ّ النوم.ليس
بحاجة للمزيد من البناطيل.
81
ّ
محطة ليستفنيتشنايا ،على بحيرة بيكال 13 ،يونيو
يم ّر الوقت رتيب ًا .ففي مساء الحادي عشر من يونيو ،أوّل أمس ،انطلقنا
من إركوتشك ،على أمل أن نلحق بباخرة بيكال ،والتي تغادر في الرابعة
صباح ًا .وفي المسافة بين إركوتشك وبيكال ،هناك ثالث محطّ ات .وفي
المحطّ ة األولى أخبرونا أن جميع الخيول منهكة؛ ولهذا فمن المستحيل
أن نتح ّرك في الوقت الراهن .وكان علينا المبيت هنا هذه الليلة.
صباح أمس ،تح َّركنا من المحطة ،وعند الظهيرة وصلنا بيكال .ذهبنا
إلى الميناء ،وإجابة عن تساؤالتنا أخبرونا أن الباخرة لن تتح َّرك قبل
الجمعة الموافق الخامس عشر من يونيو .ومعنى هذا أننا يجب أن نبقى
على الشاطئ ،ونتط ّلع إلى المياه ،وننتظر .وحيث إن لكل شيء نهاية
لدي اعتراض على االنتظار ،وأنا دائم ًا أتح ّلى
ّ بمرور الوقت ،لم يكن
بالصبر خالل االنتظار ،لكن المشكلة أن الباخرة ستغادر في العشرين من
الشهر با ّتجاه «أمور» .وإذا لم نلحق بالباخرة فلن يكون أمامنا إال انتظار
الباخرة التالية ،والتي لن تغادر قبل الثالثين من الشهر .يالرحمة السماء.
متى أصل إلى َسخالين!
انطلقنا إلى بيكال بمحاذاة ضفّ ة نهر أناجرا ،الذي ينبع من بحيرة بيكال،
ويصب في ينيسي .طالعي الخارطة.
الضفاف فاتنة .سالسل جبلية ،وغابات كثيفة على الجبال .ال يزال
الطقس بديع ًا مشمس ًا ودافئ ًا ،وخالل الطريق شعرت أنني بحالة جيدة
للغاية ،أشعر بسعادة شديدة أعجز عن وصفها .ربما يرجع ذلك إلى التباين
بين اإلقامة في إركوتشك وبين المناظر الفاتنة على ضفاف األنجارا
والتي تشبه سويسرا.
82
إنه شيء ما جديد وأصيل .سرنا بمحاذاة ضفّ ة النهر وصو ً
ال إلى منبعه،
يسمونها
ّ وتح ّولنا إلى اليسار ،حتى وصلنا إلى ضفة بحيرة بيكال ،والتي
البحر في سيبريا .إن صفحة مياهها مثل المرآة .وبالتأ كيد ،لم يكن من
الممكن رؤية الضفة األخرى للبحيرة ،فهي تبعد تسعين فرست ًا .الضفاف
مرتفعة ،منحدرة ،صخرية ،ومغطّ اة بالثلج ،وإلى اليمين واليسار هناك
تشبه األوداج Au-dagأو الهوتيبل في فوديسيا Tohtebel رعنات
(((
ِّ
تذكرني بتلك الدارات الموجودة في استأجرنا حجرة مناسبة
كراسكوفسكي .ومن النافذة ،على بعد ياردتين أو ثالث ياردات ،تقع
بحيرة بيكال .وإيجار هذه الحجرة روبيل في اليوم .لكن فكرة أننا سنبقى
علي جمال الجبال والغابات
ّ هنا إلى الخامس عشر من الشهر ،أفسدت
وصفحة مياه البحيرة الرائقة كما المرآة .ماذا سنفعل هنا؟ ماالذي نجهله؟
وما الطعام الذي سنتناوله؟.
إن سكان المكان ال يأ كلون سوى الثوم .ال لحم أو سمك .لم ِ ّ
يقدموا لنا
اللبن ،لكنهم وعدونا بتقديمه .ومقابل رغيف من دقيق القمح يطلبون
ستة عشر كوبك ًا .اشتريت بعض الحنطة السوداء وقطعة من لحم الخنزير
يعدوا لي عصيدة منها :لم تكن طيبة المذاق ،لكن،
دخن ،وطلبت أن ّ
الم َّ
ُ
ما باليد حيلة ،لم يكن أمامي سوى تناولها .وطوال فترة الظهيرة كنا
نتج َّول في القرية بحث ًا عن شخص يبيعنا دجاجة ،ولم نجد أحد ًا.
83
لكن ،كانت الفودكا متوافرة .الروسي خنزير كبير ،فإذا سألته لماذا ال
رجع ذلك إلى غياب وسائل المواصالت سي ِ
يأ كل اللحم أو السمكُ ،
واال ّتصاالت ...إلى آخر تلك األسباب ،رغم أن الفودكا موجودة بكميات
كبيرة ،لكن في قرى بعيدة للغاية .وبوسع المرء أن ِ ّ
يخمن أن جلب اللحم
البد يكون أسهل من جلب الفودكا صعبة النقل وباهظة الثمن.
ّ والسمك
بالتأ كيد إن تناول الفودكا أكثر متعة من صيد السمك من بحيرة بيكال أو
تربية الماشية.
وعند منتصف الليل وصلت باخرة صغيرة ،وذهبنا لنستطلع األمر ،وانتهزنا
الفرصة لنسأل عن أي شيء صالح لأل كل .وأخبرونا أنه سيكون بوسعنا أن
ِّ
متأخر ،لقد انطفأت نيران نتناول طعام الغداء غد ًا ،لكن ،اآلن ،الوقت
كل أصبح هناك شيء نتطلع المطبخ ...إلخ ..شكرناه بالنسبة للغد ،فعلى ٍ ّ
إليه! .لكن واحسرتاه! جاء ربّان الباخرة وأخبرنا أن الباخرة ستبحر غد ًا
في الرابعة من بعد الظهر مُ َّتجهة إلى كلتوك .شكرناه ،ونحن في البار،
حيث لم تكن من مساحة لنتح ّرك فيها.
شربنا زجاجة بيرة حامضة رديئة الطعم (الزجاجة بخمسة وثالثين كوبك ًا)،
ورأيت في أحد األطباق كريّات بلون الكهرمان ،كانت كافيار السالمون.
عدنا إلى الحجرة التي استأجرناها لننام .سئمت من النوم ،فيومي ًا كان
علي أن أبسط معطفي المصنوع من جلد األغنام بطبقة الصوف ألعلى، ّ
وتحت رأسي أضع معطف ًا سميك ًا مطوي ًا ،ووسادة كذلك ،وأستلقي على
هذه الكومة مرتدي ًا صدرية وبنطا ً
ال ...أيتها الحضارة ،أين أنت؟.
84
الجلوس والكتابة ،لكن ،ال يستطيع المرء أن يعمل في الطقس الرديء.
هذا نذير بملل بشع ،فلو كنت بمفردي ما تأفّ فت ،لكن هناك ضابطين
وطبيب ًا في الجيش بصحبتي ،وجميعهم مغرمون بالحديث والجدل .ال
يتحدثون في كل شيء.
ّ يفهمون كثير ًا ،لكنهم
تشيخوف
85
1يونيو1890 ،
يتم
ف فجوة في الباخرة ،واآلن ّ مما خ َّل َ
م َّرت الباخرة على صخرةّ ،
نضخ
ّ إصالحها .جنحت الباخرة واصطدمت بالشاطئ الرملي ،وبدأنا
المياه من السفينة .إلى اليسار الضفة الروسية ،وإلى اليمين الضفة الصينية.
إذا ُق ِ ّدر لي أن أعود إلى وطني اآلن ،سيكون من حقّ ي أن أتفاخر« :رغم
أنني لم أ كن في الصين ،فلقد رأيت الصين من بعد عشرين قدم ًا فقط».
ال بهدف رؤيةيجب علينا أن نمكث الليلة في بوكروفسكايا .وسنقيم حف ً
المكان.
إذا كنت مليونير ًا ،لم أ كن سأتوانى عن امتالك باخرة في «أمور» .إنها
منطقة ريفية بديعة .وأنصح إيجور ميهالوفيتش بأن يقصد هذه المنطقة
بد ً
ال من «توابز ،»Tuapse -وال وجود هنا للعناكب الذئبية أو الجراد.
وعلى الجانب الصيني ،هناك مخفر وكوخ صغير ،وهناك -كذلك-
أ كياس من الدقيق مك َّومة على الضفة ،ويقوم رجال صينيون بائسو الهيئة
بسحب األكياس إلى داخل الكوخ على عربات يد .وفي الخلفية تتراءى
َ
الغابات الكثيفة مترامية األطراف.
لوجوههن سمت روسي ،لكنهن
ّ صحبتنا بعض الطالبات من إركوتشك،
لسن جميالت.
86
بوكروفاسكايا ستانيستا 23 ،يونيو 1890
لقد أخبرتك ت ّو ًا أننا اصطدمنا بضفّ ة رملية .وعند بلوغ أوست سترايلكا،
حيث يلتقي نهرا شيلكا ،وأرجون (راجعي الخارطة) ،علقت الباخرة
وأدى
في مياه ضحلة بعمق قدمين ونصف القدم ،اصطدمت بصخرةّ ،
ِّ
متعددة بجانبها ،وامتأل مخزن الباخرة بالماء ،وغرقت ذلك إلى فجوات
بضخ المياه منها باستخدام
ّ الباخرة حتى استق ّرت بالقاع .وبدأوا
بحار عاري الجسد
مضخات ،وإغالق الفجوات التي نشأت ،وزحف ّ ّ
إلى المخزن ،ووقف في المياه التي وصلت حتى رقبته ،وحاول غلق
وتمت تغطية كل ثقب من الداخل بقطعة قماش
بكعب ْي قدميهّ ،
َ الثقوب
ثبتوا دعامة
القمة ،ثم ّ
ّ مغموسة في الشحم ،ووضعوا لوح خشب على
خشبية فوق األخير ،وقد حملت السقف كما لو كانت عمود ًا .كانت تلك
يضخون المياه إلى خارج الباخرة من الساعة
ّ هي عملية اإلصالح .وكانوا
يتسبب ذلك في إنقاص
َّ الخامسة من بعد الظهر حتى الليل ،دون أن
المياه ،واضط ّروا إلى إيقاف العمل حتى الصباح التالي.
87
كانت حرارة الج ّو ال ُتطاق خالل النهار ،لدرجة أن المرء ال يحتاج أن
وقدموا لنا طعام العشاء في الثانية عشرة
يرتدي أ كثر من قميص حريريّ .
ظهر ًا ،أما العشاء ففي السابعة مساءً.
لم نكن في عجلة من أمرنا .وعندما سألت مسافر ًا« :متى سنرحل من
هنا؟» ،أجابني« :لماذا تسأل؟ ألست مرتاح ًا هنا؟».
وهو على حقّ ،لماذا ال نمكث ألطول فترة ممكنة طالما لم ينل منا
الضجر؟.
88
قمة األدب .وكان الصينيون ،من ّ
ركاب كان الربان ومعاونه ومساعده في ّ
الدرجة الثالثة ،ودودين ومرحين .أمس جلس أحد الصينيين على سطح
الباخرة ،وغ ّنى أغنية حزينة للغاية بصوت متك َّلف ومرتفع الطبقة ،وفي
أثناء ذلك كانت هيئة وجهه من الجانب مثيرة للضحك أ كثر من أي
كاريكاتير .وتط َّلع الجميع إليه وضحكوا ،لكنه لم ُي ِع ْر أدنى انتباه لكل
ذلك.
غ ّنى بصوت عالي الطبقة ،ثم غ ّنى بصوت تينور .يا إلهي ،ياله من
صوت! كان غناؤه مشابه ًا لغثاء الخراف أو خوار عجلّ ِ .
يذكرني الرجال
الصينيون بالحيوانات األليفة اللطيفة ،وضفائرهم الطويلة السوداء تشبه
ضفائر ناتاليا ميهالوفنا.
وبمناسبة ذكر الحيوانات األليفة ،هناك جرو ثعلب أليف يعيش في
الحمام .وهو قابع هناك ،يتابع كل من يدخل لالغتسال .وإذا لم ي َر أحد ًا
ّ
لفترة طويلة يبدأ بالعواء كما لو كان يبكي.
َت ّتسم قرية «أمور» بأنها ممتعة للغاية ،وباألصالة الواضحة .وتبدو الحياة
89
ِّ
تذكرني بالقصص هنا منب ّتة الصلة عن نمط الحياة األوروبي .إنها
األميركية ،فالشواطئ ب ّرية للغاية ،وت َّتسم باألصالة وبالترف ،بما يجعل
المرء يتوق إلى الحياة هناك طوال حياته.
أ كتب هذه السطور المعدودة في الخامس عشر من يونيو .بدأت الباخرة
مجدد ًا.
َّ مما أعاق استمراري في الكتابة .إنها تتح َّرك
تهت ّز؛ ّ
تجاوزنا «أمور» بألف فرست ،ورأينا ماليين المشاهد الفاتنة ،وتم َّلكني
الدوار من فرط النشوة واالبتهاج .يالها من مشاهد رائعة! وكم هو الجو
حا ّر هنا! والليالي ،كم هي دافئة! هناك ضباب في الصباح ،ورغم ذلك،
ّ
يظل الج ّو دافئ ًا.
نظرت عبر منظار األوبرا إلى الشاطئ ،فرأيت عدد ًا هائ ً
ال من البط واإلوز
والبلشون ،وجميع أنواع الكائنات ذات المناقير الطويلة. والغطاس
( ((
هذا هو المكان المثالي لمنزل صيفي .وفي مكان صغير يُدعى رينوف،
طلب مني شخص ينقّ ب بحث ًا عن الذهب ،أن أفحص زوجته المريضة.
في أثناء مغادرة منزله ،وضع في يدي لفة أوراق نقدية .شعرت بالخجل.
وبدأت أرفض ،وأعيدها إليه ،وأخبره أنني غني ،ولست بحاجة إلى المال،
وتبادلنا أطراف الحديث لفترة طويلة ،وكل منا يحاول إقناع اآلخر ،وفي
ال .وأمس ،تناول شخص آخر النهاية وجدت في كفّ ي خمسة عشر روبي ً
من المنقّ بين عن الذهب ،له وجه بتيا بوليفايف ،طعام الغداء معي ،وفي
قمرتي ،وعلى الغداء تناول الشمبانيا بد ً
ال من الماء ،ودفع مقابل الطعام
والشراب.
القرى هنا تشبه تلك التي على نهر الدون .هناك اختالف في المباني،
يهتم السكان هنا بالصيام ،إنهم يتناولون اللحم
ّ لكنه طفيف للغاية .ال
ِّ
المقدس ،والفتيات يدخن السجائر ،والسيدات العجائز حتى في األسبوع
-1طائر مائي.
90
يدخن البايب! .ويالها من ليبرالية! أوه ،يالها من ليبرالية!.
ّ
وإذا كان هناك أية إساءة فهم في أوشت كارا ،حيث يعمل المجرمون
(بينهم العديد من السياسيين الذين ال يعملون) ،فإن منطقة «أمور»
بكاملها في حالة ثورة .وال يتع ّلق األمر برواية القصص .فبوسع المجرم
الهارب أن يسافر بح ّرية على متن الباخرة إلى المحيط ،دون أدنى خوف
من أن يقوم ربّان الباخرة بتسليمه .ويرجع ذلك -جزئي ًا -إلى االختالف
يتم في روسيا ،حيث يتساءل الجميع« :ماذا ستفعل التام مع كل ما ّ
معي؟».
الح َكمة
وإذا لم ُتقَ َّيد سيقان الحصان في أثناء تطقيمه ،فإنه سيرفس ،يلفظ َ
المطبقة على فمه ،يضرب العربة بحوافره ،يم ِ ّزق سرجه ،ويتص َّرف مثل
ّ
شيطان صغير أفزعته أصوات األبواق التحذيرية.
-1البوريات :أكبر أقلية عرقية تعيش في سيبريا ،وتعود أصولها إلى أقصى شمال منغوليا.
91
26يونيو
محبة.
ّ لكم كل التحية واالحترام ،وقبلة
-1إحدى مدن روسيا في الكيان الفيدرالي الروسي «أمور أوبالست» .يبلغ عدد سكانها حوالي
210101نسمة .وتقع على نهر آمور عند مصب نهر زيي ،وتبعد عن العاصمة موسكو حوالي
7990كم .ومساحتها أكثر من 350كيلومتراً مربعاً ،وتعداد سكانها حوالي 220ألف نسمة .وهي
نهر ْي آمور ،وزيي.
مركز مقاطعة ،ومدينة حدودية ،وميناء مهم على َ
92
الباخرة مورافيوف 29 ،يونيو 1890
وفي السابع والعشرين من الشهر ،تج َّولت في قرية صينية ُتدعى أيجون.
شيئ ًا فشيئ ًا بدا كما لو أنني أدلف إلى عالم خيالي رائع.
غد ًا سأصل إلى هارباروفسك .بدأ الرجل الصيني الغناء وفق نوتة موسيقية
َدوَّنها على مروحته الورقية.
93
تشيخوف جالس ًا وإلى اليسار أخوه ألكسندر ،في عام 1882
94
3
إلى إخوته
(إلى ميشا)
95
ال تشعر بالخزي «لكونك وضيع ًا» عند «إدراك أنك بال قيمة».
من الجيد أنك تقرأ .اكتسب عادة القراءة .فسيحين الوقت الذي تعرف
فيه قيمة هذه العادة .هل جعلتك قراءة رواية «مدام بييشرستو» تبكي
مدرار ًا؟ لقد قرأتها مرة ،ومنذ ستة شهور أعدت قراءتها بغرض دراستها،
وبعد القراءة انتابني إحساس كريه يشبه ما نشعر به نحن -البشر الفانين-
عندما نفرط في تناول الزبيب أو الكشمش .اقرأ «دون كيشوت» ،إنها
شيء رفيع المستوى ،إنها من تأليف سرفانتس ،والذي يقال إن له منزلة
شكسبير نفسها .وأنصح إخوتي أن يقرأوا -إذا لم يكونوا قد فعلوا ذلك
فع ً
ال -مؤلف تورجينيف؛ «هاملت ودون كيشوت» .لن تفهمه يا عزيزي.
وإذا أردت أن تقرأ كتاب ًا مس ّلي ًا في أدب الرحالت ،اقرأ كتاب «الفرقاطة
باالدا» ( )The Frigate Palladaلـ«جونتشاروف».
سأجلب معي طالب ًا ،سيقيم معنا في المنزل تحت رعايتنا ،مقابل عشرين
روبي ً
ال في الشهر .أعرف أن هذا المبلغ غير كاف ،إذا ما أخذنا في
االعتبار سعر الطعام في موسكو ،وأن أمّنا واهنة لتطعم وافدين.
96
نيكوالي بافلوفيتش تشيخوف ( ،)1889 – 1858الشقيق
األكبر لتشيخوف .كان فنان ًا تشكيلي ًا موهوب ًا .توفي إثر إصابته
بالدرن الرئوي.
97
(إلى نيكوالي)
موسكو1886 ،
ُ
يشك جوته ونيوتن أنت دائم الشكوى من أن الناس «ال يفهمونك»! .ولم
يتحدث عن العقيدة التي
ّ من ذلك .فقط المسيح اشتكى منه ،لكنه كان
جاء بها ،وليس عن نفسه .إن الناس يفهمونك جيد ًا .وإذا لم تفهم
نفسك ،فليس ذلك خطأهم.
98
محدد ًا من الثقافة .إن الموهبة لتدخلك في مثل تلك الدائرة ،فأنت تنتمي
ّ
يتم سحبك بعيد ًا عنها ،لتتأرجح بين المثقَّ فين والمستأجرين.
إليها ،لكنّ ،
-5ال يحطّ ون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة اآلخرين .وال يلعبون
يتنهدون ويستحوذون عليهم .وال
على شغاف قلوب اآلخرين ،ليجعلوهم ّ
يقولون «يُساء فهمي» ،أو «لقد أصبحت شخص ًا من الدرجة الثانية»،
99
ألن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص ،ومبتذل وتافه وزائف.
100
وهذا بعض ما يجب أن يكون عليه المثقّ فون .فلكي تكون مثقَّ ف ًا ،وال
تكون في مرتبة أدنى من المحيطين بك ،ال يكفي أن تقرأ «أوراق
بيكويك» ،وتحفظ منولوج ًا من «فاوست».
ما يحتاجه المثقّ ف هو العمل الدائم ،ليل نهار ،والقراءة المستم ّرة،
والدراسة ،واإلرادة؛ فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له.
101
إيفان بافلوفيتش تشيخوف ( :)1922 – 1861الشقيق األصغر
فعا ً
ال في كثير من الجمعيات لتشيخوف .عمل بالتدريس .كان عضو ًا ّ
المهتمة بالفقراء وأطفال المع ِ ّلمين.
ّ األهلية
102
(إلى إيفان)
أنا اآلن في البندقية .وصلت هنا منذ يومين قادم ًا من فيينا .ولم أ َر في
حياتي مدينة بمثل روعة فينسيا .إنها في غاية السحر والتألّق والبهجة،
ال عن الشوارع والطرقات تمتد القنوات ،وبد ً
ال إنها مفعمة بالحياة .وبد ً
من سيارات األجرة ،يسير الجندول .والعمارة هنا مذهلة ،وتكاد ال توجد
بقعة هنا تخلو من المالمح التاريخية أو الفنية .وعلى متن الجندول ،وعبر
القنوات ،يمكنك أن تشاهد قصر الدوق حيث عاشت ديدمونة ،وكذلك
الرسامين ،والكنائس .وفي الكنائس توجد منحوتات ّ بيوت كثير من
ورسومات لم نحلم بها حتى .فع ً
ال إنها مدينة فاتنة.
وطوال اليوم ،من الصباح الباكر وحتى المساء ،ال أغادر الجندول ،وال
أتوقف عن التج ُّول ،أو أدور بتؤدة حول ميدان سان مارك المشهور.
والميدان منبسط ونظيف كما لو كانت أرضيته من الباركيه .وهنا ،في
سان مارك ،ما تعجز الكلمات عن وصفه ،قصر الدوق وغيره من البنايات
التي تجعلني أشعر كما لو كنت أنصت إلى جوقة تغني ،أستشعر الجمال
المذهل والمتعة فيها.
أما مساءً ،فيا إلهي ،إنها ت َّتسم بغرابة وروعة ال يمكن احتمالهما :االنتقال
بالجندول ،الدفء ،الهدوء ،والنجوم ،وال وجود للخيول في البندقية،
يعم السكون كما في الريف .تروح الجنادل وتجيء ،ثم يم ّر
ولذلك ّ
جندول مُ ضا ًء بالفوانيس .وعليه آالت مختلفة؛ دوبل باس ،وكمانات
103
وجيتار ،وماندولين ،وبوق ،باإلضافة إلى سيدتين أو ثالث ،والعديد
من الرجال ،ويتعالى منه الغناء والموسيقى .يغ ّنون مقاطع من األوبرا.
ال حتى يم ّر إلى جوارك جندول تتقدم قلي ً
َّ يالها من أصوات! وما تكاد
ممتلئ بالمغ ّنين ،ثم جندول آخر وآخر ،ويتشبع الهواء ،حتى منتصف
الليل ،بمزيج من األصوات المنبعثة من أوتار الكمانات وأصوات التينور،
تمس شغاف القلب.
ّ وجميع أنواع األصوات التي
ميريزكوفسكي ،الذي قابلته هنا ،مبتهج للغاية ومأخوذ بما حوله .فبالنسبة
لنا نحن -الروس المقهورين -من السهل أن تذهب عقولنا في عالم من
الجمال والثروة والحرية .وإنني أتوق إلى البقاء هنا لألبد ،لدرجة أنه عند
القداس في الكنائس ،وعندما أنصت لألرغن كنت أتوق ألن
ّ حضور
أصبح كاثوليكي ًا.
إن مقابر الكانوفا والتيتيان رائعة للغاية .وهنا يدفنون الفنانين العظماء في
الكنائس كما الملوك ،وهنا ال يستخفّ ون بالفن كما هو حالنا ،فالكنائس
ِّ
توفر الحماية والدعم للوحات التصويرية والتماثيل مهما كانت عارية.
وفي قصر الدوق هناك لوحة ،فيها حوالي عشرة آالف شكل بشري.
وإذا سنحت لك فرصة القدوم إلى البندقية ،فستكون أفضل شيء يحدث
في حياتك .ويجب أن ترى الزجاج هنا (كان أخوه إيفان يعمل مد ِ ّرس ًا
في مدرسة ملحقة بمصنع زجاج) .فزجاجاتك بشعة مقارنة بالموجود
هنا ،لدرجة أنها تدفعني للغثيان بمج َّرد التفكير فيها.
104
إلكساندر بافلوفيتش تشيخوف ( :)1913 – 1855األخ الكبير لتشيخوف.
عمل صحافي ًا ،وكذلك مارس الكتابة األدبيةّ ِ .
توفي إثر إصابته بسرطان
الحنجرة.
105
(إلى ألكسندر)
106
كانت كل كلمة تجرحني مثل ّ
سكين تصيب ظهري .لكن ،أوه يا موزيه!
حتى هذا الفصل القى نجاح ًا .ونادى الجمهور جميع الممثلين ،بل
ُ
نوديت أنا م ّرتين قبل إغالق الستار :تهانينا ومزيد من النجاح.
وفي نهاية المسرحية ،يموت البطل ألنه ال يستطيع تجاوز ما تع َّرض له
استبد بهم الشعور بالبرد واإلرهاق ،ال
َّ من إهانة .والمشاهدون الذين
ّ
لدي نهاية أخرى). يفهمون هذا الموت (أص ّر المم ِ ّثلون عليه ،وكانت
وعلي .وخالل إحدى النداءات سمعت ّ وتعالت النداءات على المم ِ ّثلين
107
ّ
ودق األرض أصوات استهجان ،لكن ،سرعان ما ابتلعتها أمواج التصفيق
باألقدام.
وإجما ً
ال ،شعرت باإلرهاق واالنزعاج .كان األمر مثير ًا لالشمئزاز رغم أن
المسرحية القت قدر ًا معقو ً
ال من النجاح...
وقال روّاد المسارح إنهم لم يسبق لهم -مطلق ًا -أن رأوا مثل ذلك القلق
في أي مسرح آخر ،أو مثل تلك الحالة من التصفيق واالستهجان ،أو
سمعوا مثل تلك المناقشات بين الجمهور ،كما حدث مع مسرحيتي.
ولم يحدث قبل اآلن مطلق ًا في «كورش »Korsh’s -أن ن ِ
ُودي على
المؤ ِ ّلف ليصعد إلى خشبة المسرح بعد الفصل الثاني.
108
24نوفمبر
أحدثوا ضجيج ًا وصراخ ًا ،وصفّ قوا ،وغمغموا في استياء .وفي البار
وصل األمر إلى َح ّد العراك .وفي شرفة المسرح أراد الطالب إلقاء أحد
األشخاص منها ،وكذلك َت َّم صرف شخصين بالبوليس .سادت اإلثارة
جميع األجواء.
كان المم ِ ّثلون في حالة من التو ُّتر العصبي .وكل ما كتبته لك ولماسالف
حول تمثيلهم وحالتهم المزاجية ال ينبغي أن تخرج عنكما .فهناك الكثير
يتفهمه ويغفره ..فلقد ا ّتضح أن للمم ِ ّثلة ،التي
ّ مما يجب على المرء أن
كانت تقوم بالدور الرئيس في مسرحيتي ،ابنة كانت مريضة للغاية ،فكيف
شخصيتها؟ فعلت مجلة «كوربين -
ّ وتتقمص
ّ تستطيع أن تستوعب دورها
»Kurepinخير ًا عندما امتدحت المم ِ ّثلين.
في اليوم التالي للعرض ،كانت هناك متابعة صحافية قام بها بيوتر كتشاييف
في مجلة «موسكوفيسكي لوستوك .»Moskovsky Listok -ولقد
نعت مسرحيتي بأنها ساخرة بوقاحة وخليعة للغاية .بينما امتدحتها مجلة
«فيدوموستي .»Vyedomosti -
وإذا قرأت المسرحية ،لن تكتشف مصدر تلك اإلثارة التي وصفتها لك،
109
خاص ًا.
ّ فلن تجد فيها شيئ ًا
110
إركوتشك 5 ،يونيو 1890
أخي األوروبي
السيئ أن تعيش في سيبريا ،لكن ،من األفضل أن تعيش ّ بالطبع من
ال من أن تعيش في سيبريا وتشعر أنك رجل حسن السمعة والخلق ،بد ً
في بطرسبرج بسمعة مل َّوثة ألنك ّ
سكير ووغد .دون اإلشارة إلى الرفقة
الحالية.
سيبريا بلد كبير وبارد .فمهما سرت فيها فلن تصل إلى نهايتها .ولم أ َر
شيئ ًا جديد ًا أو شائق ًا ،ورغم ذلك اكتسبت خبرة كبيرة .فلقد واجهت
فيضانات األنهار والبرودة والوحل الذي من الصعب تجاوزه ،والجوع
والحاجة إلى النوم ..ومثل تلك األحاسيس ال تستطيع الحصول عليها في
موسكو ولو مقابل مليون روبيل! عليك أن تأتي إلى سيبريا .اطلب من
السلطات أن تنفيك إلى سيبريا.
وآه يا عزيزي ،كم يكون المرء واعي ًا بمثل هذه األشياء خالل الرحلة!
وذلك عند الوصول إلى مدينة ما وشعورك أنك قادر على التهام جسد
بأ كمله ،ولألسف ال تجد السجق أو الجبن أو اللحم أو حتى الرنكة ،لكن
-فقط -البيض واللبن الخالي من الطعم والنكهة.
111
الراحة بعده شيء مبهج .أرتاح مستمتع ًا.
ّ
يدي. أباركك بكلتا
أخوك اآلسيوي
تشيخوف
112
نيس 23 ،فبراير 1898
لقد أساءت مجلة «نوفوي فريميا» تناول قضية زوال .لقد تبادلت والرجل
العجوز الرسائل حول الموضوع (وكنا معتد َل ْين للغاية ،رغم ذلك)،
وتجاوز كالنا ذلك الموضوع.
ال أرغب في الكتابة ،وال أريد رسائله التي يداوم فيها على تبرير افتقار
يحب النظام العسكري ،وال أرغب فيها ألنني سئمتها
ّ أسلوبه للياقة بأنه
أحب النظام العسكري أنا أيض ًا ،لكنني لن أحبها
ّ كلها منذ زمن بعيد.
إذا سمحت صحيفة للـ cactusesبطباعة رواية زوال في الملحق دون
سبب ،بينما ينهالون بالشتائم على زوال نفسه في الصحيفة ،وما الغاية
من ذلك؟ وهذا ما لم يعرفه أي من الـ cactusesمطلق ًا ،لدافع نبيل
وللطهارة األخالقية .وبعامة ،إلهانة زوال خالل محاكمته ،وإعالن أنه غير
جدير بأن يكون أديب ًا.
113
ألكسين ،يوليو 1891
وصلتني رسالة منك منذ فترة طويلة ،وبرفقتها صور سيماشكو ،لكنني
أرد إلى اآلن ،ألنني طوال تلك الفترة أحاول صياغة األفكار الكبيرة
لم ّ
للرد الذي أبتغيه.
المناسبة ّ
جميع أهلنا على قيد الحياة وبخير حال ،ونحن دائمو الحديث عنك،
يرحب
ونأسى ألن غزارة إنتاجك تحول بينك وبين المجيء إلينا ،حيث ّ
الجميع بوجودك للغاية ،وكذلك أبي.
بينما أكتب إليك ،غادر إيفانيجورتش ،ويعيش معنا اآلن .وسوفرين زارنا
وتحدث عنك ،واصطاد السمك .وأنا مشغول -للغاية -بالعمل مع
َّ م ّرتين،
َسخالين ،وأشياء ُأخرى ليست ّ
أقل إثارة للضجر ،وكثير من العمل الشاق.
أحلم بأن أربح أربعين ألف ًا ،ألتوقّ ف تمام ًا عن الكتابة ،التي أزهدها،
وذلك ألشتري قطعة صغيرة من األرض ،وأعيش مثل ناسك في معتزل
مثالي ،على أن تكون أنت وإيفان في الجوار ،أحلم أن ِ ّ
أقدم خمسة عشر
قريبي الفقيرين .فإجما ً
ال أحيا حياة موحشة ،وسئمت َّ أ كر ًا لكل منكما ،يا
يتقدم بي العمر
َّ العمل الدائم بالكتابة للحصول على مقابل ضئيل ،بينما
حثيث ًا.
ِّ
المتخصص في علم الحيوان ،والحاصل على درجته ف .أ .فاجنر،
114
العلمية معك ،يعيش معنا في المجمع السكني نفسه.
المجمع السكني
َّ إنه يكتب أطروحة جافّ ة للغاية .وكذلك يعيش معنا في
نفسه ،الفنان كيسيليوف .ونخرج مع ًا في جوالت مسائية نتبادل خاللها
النقاش الفلسفي.
115
مليهوفو 15 ،أبريل 1894
لقد عدت من تافريدا الحارقة ،وأنا اآلن جالس على الضفاف الباردة
لبركتي .الج ّو دافئ للغاية ،ويشير الترمومتر إلى أن درجة الحرارة تصل
ست وعشرين درجة مئوية.
إلى ّ
أنا منشغل بالعناية باألرض :أقوم بتعبيد طرقات جديدة ،وأزرع الزهور،
وأقطع األشجار الذابلة ،وأطارد الدجاج والكالب إلخراجها من الحديقة.
إن األدب يقوم بدور إراكيت ،الموجود دائم ًا في الخلفية .لم أعد أرغب
في الكتابة ،وحقيقة ،من الصعب الجمع بين الرغبة في الحياة والرغبة
في الكتابة.
116
ميهائيل بافلوفيتش تشيخوف (:)1936 – 1865
الشقيق األصغر لتشيخوف .عمل ضابط ًا في الشرطة.
وكانت له بعض المقاالت الصغيرة في مجلّات
األطفال تحت اسم مستعار (م .بوهيميان).
117
(إلى ميهائيل)
«إن الجيوش النظامية العاملة ،في وقت السلم ،هي جراد يلتهم خبز
الشعب مخ ِ ّلفة فراغ ًا كريه ًا في المجتمع ،بينما -في وقت الحرب -هي
آالت قتال اصطناعية ،وعندما تنمو وتتط ّور ،تضيع الحرية أمام األمن
والمجد الوطني!
الم ِ ّ
تحيز ،وعن الحظوة إنها المدافع غير القانوني عن الظلم والقانون ُ
والطغيان».
ُ
(كتِب ذلك في أربعينيات القرن التاسع عشر).
118
نيس ،االثنين ،في أسبوع اآلالم ،أبريل1891 ،
نحن اآلن في نيس ،على ساحل البحر .الشمس مشرقة ،والجو دافئ،
واألخضر يكسو كل األمكنة ،والج ّو مشبع باألريج الف ّواح .وتستغرق
الرحلة من نيس إلى المدينة ذائعة الصيت؛ موناكو ،ساعة فقط .وفي
تتخيل
ّ ُلعب القمار «الروليت» .لك أن
موناكو فندق مونت كارلو ،حيث ي َ
حجرات «ذا هول أوف نوبيليتي ،»the Hall of Nobility -لكنها
يتم لعب الروليت ،وهذا
أ كبر وأجمل وأفخم .هناك مناضد كبيرة ،وعليها ّ
اللعبة سأصفها لك عند عودتي .أول أمس ذهبت إلى مونت كارلو،
حيث لعبت وخسرت .اللعبة مذهلة للغاية .فبعد الخسارة ،تأمّلت ،أنا
وسوفرين فيلس ،هذه اللعبة ،وتوصلنا إلى نظام يضمن المكسب لمن
ي ّتبعه .وذهبنا أمس ،وكان بحوزة كل منا 500فرنك فرنسي ،وفي الجولة
األولى راهنت وربحت قطعتين ذهبيتين ،وتك َّرر ذلك مرة بعد أخرى حتى
امتألت جيوب صدريتي بالذهب .وأصبح بحوزتي نقود ًا فرنسية تعود
لعام ،1808باإلضافة إلى عمالت نمساوية ويونانية وإيطالية وبلجيكية.
119
وجوار الكازينو حيث تلعب الروليت ،هناك مكان آخر للنصب على
ِّ
وتقدم له طعام ًا رائع ًا .فكل الناس؛ المطاعم .إنها تستنزف المرء ببشاعة
طبق عبارة عن قطعة فنية احترافية ،يكاد المرء ينحني أمامها إظهار ًا
لإلعجاب ويت َر َّدد في تناولها من فرط إعجابه بها .فكل قضمة مغموسة
بخليط من الخرشوف والكمأ ولسان العصفور من كل نوع .ويا إلهي
الرحيم! كم هي حقيرة وكريهة هذه الحياة ،بكل خرشوفها ونخيلها ورائحة
أزهار البرتقال التي تفوح منها! أحب الثروة والرفاهية ،لكن الرفاهية هنا،
رفاهية بهو المقامرةّ ِ ،
تذكرني برفاهية دروة المياه.
أمس ،األحد ،ذهبت إلى الكنيسة الروسية الموجودة هنا .والغريب أنهم
ّ
محل ال من الصفصاف ،وجوقة من السيدات استخدموا جريد النخل بد ً
جوقة الغلمان ،مما يضفي على اإلنشاد إيقاع ًا أوبرالي ًا .إنهم يضعون
والشماس
ّ ويتحدث حامل الصولجان
َّ عمالت أجنبية في الصحن،
كالهما اللغة الفرنسية ... ،إلخ.
ومن بين جميع األماكن التي زرتها إلى اآلن ،للبندقية أجمل الذكريات
ال قريبة الشبه من هاركوف ،ونابولي مكان بذيء.لدي .فـ«روما» إجما ً
ّ
والبحر ال يجتذبني ،ألنني مللته من طول عالقتي به خالل شه َر ْي نوفمبر
وديسمبر.
أشعر كما لو كنت أسافر طوال عام كامل .فلم أ كد أعود من َسخالين حتى
مجدد ًا ،وبعدها إلى إيطاليا...
َّ توجهت إلى بطرسبرج ،ث ُّم إلى بطرسبرج
َّ
تذكرني في صلواتك ،وعندما تفطر، إذا لم أصل عند حلول عيد الفصحَّ ،
تهاني من بعيد ،وتأ كيدي أنني سأفتقدك للغاية عشية عيد الفصح.
ّ وتقبل
120
بطرسبرج 18 ،أ كتوبر 1896
121
يالطا 26 ،أ كتوبر 1898
أسعى اآلن إلى شراء قطعة أرض في يالطا ألبني عليها بيت ًا أقضي به
وتوصلت إلى هذا القرار بسبب التنقُّ ل المستمر بين
َّ فترات الشتاء.
وحماليها ،ومصادفات الطهي ،إلى آخر هذه األشياء.
ّ حجرات الفنادق،
وستقضي أمّي الشتاء بصحبتي .ال وجود للشتاء هنا ،فنحن في نهاية
أ كتوبر ،لكن الزهور وغيرها من النباتات متف ِ ّتحة ،واألشجار خضراء،
والطقس دافئ.
يوجد كثير من الماء هنا ،ولن أحتاج شيئ ًا بعيد ًا عن المنزل ،ال حاجة
وسيتم
ّ ألي منشآت من أي نوع ،فكل شيء سيكون تحت سقف واحد.
تخزين الفحم والخشب وغير ذلك من أشياء في القبو .والدجاجات لن
يعوقها شيء عن التجوال طوال العام ،وهكذا ،ال حاجة لبناء منزل خاص
لها ،يكفي أن أقوم بتسييج جزء لها .وبالقرب من هنا يوجد مخبز وسوق
شرقية ،وسيكون ذلك مناسب ًا ألمّي ومريح ًا لها كذلك .وبالمناسبة ،بوسع
أمّي أن تتس ّلى بجمع الفطر الصالح للطهي و boletusesخالل فصل
الخريف .لن أقوم بتشييد المنزل بنفسي ،سيتولّى المهندس المعماري
هذا األمر .وستكون جميع المنازل جاهزة في أبريل القادم .واألرض التي
اشتريتها مناسبة لبناء منزل ريفي .فالمنزل ستحيط به حديقة وأحواض
زهور وأخرى للخضروات .كذلك سيصل خط السكك الحديدية إلى
يالطا العام القادم.
وبالنسبة للزواج الذي تتوق إليه ،ماذا بوسعي أن أقول لك؟ فأن تتزوج
تحب .ألن الزواج من فتاة ألنها جميلة ،يشبه شراء شيء ما ال
ّ يعني أنك
يرغب فيه المرء ،فقط ألنه وجده في السوق ،ووجد أنه من صنف ِ ّ
جيد.
122
الحب ،وما سواه من جاذبية جنسية وجسدية وغير
ّ ّ
أسري هو إن أهم رابط
التنبوء بنتائجها
ُّ ذلك من أشياء ،إنما هي مصدر حزن ووحشة ،وال يمكن
مهما بلغت مهارتنا في إجراء الحسابات .وبناء على ذلك ،فاألمر ال يتع َّلق
فتجاه ْل هذه الصفة ألنها ال تعني سوىَ ب، بجمال البنت بل بأن ُت َح ّ
القليل.
123
28يوليو 1888
على البحر األسود وبحر قزوين ،وبعيد ًا عن الحياة ..باخرة نقل بضائع
صغيرة الحجم ومتهالكة ،اسمها «دير» ،تنطلق بأقصى سرعة من سوهوم
ُ
والقمرة الوحيدة في هذه الباخرة حارة إلى بوتي .الوقت منتصف الليل.
ورطبة للغاية .وهناك رائحة شيء يحترق تتصاعد من حبل ما ،أو سمكة
ما ،أو من البحر .صوت المح ِ ّرك يصل إلينا مد ِ ّوي ًا «بووم بووم بووم».
وعن الماكينات تصدر أصوات على سطح الباخرة أو من األسفل .الظلمة
تزحف متمايلة داخل ُ
القمرة ،والسرير يهت ّز إلى أعلى وإلى أسفل ،بينما
أسعى إلى تحويل انتباهي من الجوع إلى محاولة االستلقاء على السرير،
ال إلى حلقي قبل أن تنزل إلى كعبي.وإذا بمياه سلتزر ترتجع وصو ً
124
غير مرئي ،ويبدو سطح السفينة مثل بقعة من الظلمة .لم يكن هناك ولو
مصدر ضوء وحيد.
تط َّلعت إلى اليسار حيث يُفت َرض أن تأتي أضواء الفنار ،واستعرت منظار
يتغير
َّ الربّان ،لكنني لم أ َر شيئ ًا .وبعد مرور نصف ساعة ،ثم ساعة ،لم
شيء .وال يزال الصاري يتمايل بانتظام ،والماكينات تتعالى أصواتها،
بقبعتي .لم تكن الظلمة حالكة ،لكن هناك ما يدفع إلى
والريح تعبث َّ
الترقُّ ب.
ِّ
مؤخرة الباخرة ،وهو يصيح: وفجأة ،قذف الربّان شيئ ًا ما ،بعنف إلى
«يالك من ماكينة ال نفع منك!».
صرخ بتو ُّتر بأعلى صوته« :إلى اليسار ،إلى اليسار ،..إلى اليمين! يااااه!».
تعالت ،باألوامر أصوات غير مفهومة .وبدأت الباخرة تتح َّرك ،وصدر
صوت صرير عن الماكينات«.يااااه!» ،صرخ الربّان .وعند ِ ّ
مقدمة الباخرة
125
ّ
يدق ،وعلى سطحها المعتم كانت هناك أصوات كان هناك ناقوس
ألشخاص يجرون ،ويتصادمون ،ويصرخون في تو ُّتر .وعادت الباخرة
مجدد ًا تنفث دخانها بصعوبة بالغة ،وبدا أنها تسعى كي تتح َّرك
َّ «دير»
إلى الخلف.
وإذا بي أسمع صياح الربّان :التصادم وشيك ،يالها من ماكينة خردة! إلى
اليسار.
ِّ
المقدمة ،وفجأة -وسط الضجيجُ -سمِ ع صوت ظهرت أضواء حمراء في
صفّ ارة ،ولم تكن صادرة عن الباخرة «دير» ،بل عن باخرة ُأخرى .اآلن
أدركت :هناك تصادم وشيك! وقفت الباخرة «دير» تنفث دخانها وتهت ّز
دون حركة ،كما لو كانت في انتظار إشارة حتى تغرق ،لكن ،بمج َّرد أن
فكرت في الوضع ،كان في طريقه للتالشي ،فلقد ظهرت األضواء الحمراءَّ
إلى يسارنا ،وظهر للعيان ُّ
ظل باخرة .كانت بمثابة جسد طويل أسود يك ّر
بمحاذاتنا ،وأضواؤها الحمراء تومض ،وكذلك تطلق الباخرة صفارة مثقلة
بالشعور بالذنب.
ثم أجاب :إنها الباخرة نظر الربان بمنظاره إلى الباخرة التي تم ّر مثل ّ
ظلّ ،
«تويدي».
126
ال أو آج ً
ال ،سيسقط إلى القاع ويختنق بالماء الرجل المسكين ،إن عاج ً
المالح.
عدت إلى قمرتي ،لها رائحة تزكم األنوف ،وهناك رائحة طبخ .وكان
رفيقي في السفر ،سوفرين فيلس ،نائم ًا بالفعل ،خلعت كامل مالبسي
وذهبت إلى الفراش ..بوووم بوووم بوووم! ،كنت غارق ًا في العرق،
واستبد بي اإلجهاد من كثرة االهتزاز ،وتساءلت؛ «لماذا
ّ أتنفّ س بصعوبة،
أنا هنا؟».
127
4
إلى ابن ِ ّ
عمه ميهائيل تشيخوف
إن ألمي تلك الشخصية التي يم ِ ّثل لها دعم اآلخرين معنوي ًا دعم ًا شخصي ًا
لها .إنه طلب سخيف ،أليس كذلك؟ .لكنك ستفهم ،خاصة وأنني قد
ذكرت «معنوي ًا» بمعنى الدعم الروحي .ال يستحقّ أي شخص ،في هذا
محبتنا أكثر من أمهاتنا ،وبناء على ذلك أتوقَّع أنك سوف
ّ العالم الكريه،
تلزم خادمك الوضيع بأن يعمل من أجل راحة أمّه المعت ّلة الواهنة للغاية.
128
5
عمه م .ج .تشيخوف
إلى ّ
موسكو1885 ،
ّ
محل صديق لم أستطع القدوم لرؤيتك الصيف الماضي ،ألنني حللت
لي يشغل منصب طبيب المقاطعة ،والذي سافر لقضاء عطلته ،لكن ،هذا
َّ
ألتمكن من رؤيتك. أود أن أسافر
العام ّ
في شهر ديسمبر الماضي ،داهمتني نوبة من بصق الدم ،وقررت أن أحصل
على بعض المال من االعتماد المالي األدبي ألسافر إلى الخارج في
علي
ّ رحلة عالج .أنا بحال أفضل اآلن ،لكنني ما زلت أعتقد أنه يجب
السفر ،وتحديد موعده ،سواء إلى كريميا أو القوقاز ،سأم ُّر عبر تاجانروج.
َّ
أتمكن من االنضمام إليك أل كون في خدمة أشعر باألسف ألنني لم
قومي من تاجانروج ،فأنا على يقين من أنه إذا كان عملي هناك ،فسأ كون
الجلي أن قدري أن أبقى
ّ وبصحة أفضل ،لكن منّ أهدأ وأكثر مرح ًا،
ّ
لدي نوعان من العمل :كوني في موسكو .فبيتي ومستقبلي المهني هنا.
129
طبيب ًا ،كنت سأصبح كسو ً
ال في تاجانروج ،وأنسى الطب ،لكن في موسكو
ليس لدى الطبيب وقت فراغ ليذهب إلى النادي ويلعب الورق .وكوني
كاتب ًا ،فال فائدة مني إال في موسكو أو بطرسبرج.
الطب شيئ ًا فشيئ ًا .أداوم على مداواة المرضى .ويومي ًا
ّ أتقدم في مهنة
َّ
لدي العديد من األصدقاء ،ومنّ ال واحد ًا على المواصالت. أنفق روبي ً
بالمجان ،أما النصف
ّ وعلي أن أعالج نصفهم
ّ ث ََّم العديد من المرضى.
اآلخر فيدفعون لي من 4إلى 5روبيالت في الكشف الواحد .وبوسعي
أن أعلن -دون قلق -أنني لم أث َر بعد ،وأنني بحاجة إلى وقت طويل
لتحقيق ذلك ،لكنني أعيش مستور ًا ،وال أحتاج شيئ ًا .وطالما أنا على
قيد الحياة ،فسيكون وضع عائلتي المالي بأمان .اشتريت أثاث ًا جديد ًا،
ّ
ولدي خادمان ،وأقيم بعض الحفالت واستأجرت بيانو بحالة جيدة،
علي ،وال أنوي
ّ المسائية الصغيرة بصحبة الموسيقى والغناء .ال ديون
االقتراض.
وحتى وقت قريب للغاية ،كنا نشتري من الجزارة والبقالة على النوتة ،أما
اآلن فلقد انتهى ذلك ،وأصبحنا ندفع نقد ًا مقابل جميع مشترياتنا .أما
القادم ،فال أحد يعلمه ،وهكذا ،فليس هناك ما نشكو منه.
130
موسكو 18 ،يناير 1887
خالل العطالت كنت منهمك ًا -للغاية -في العمل ،لدرجة أنني كنت
منهك ًا جد ًا عندما ّ
حل يوم الشفيع الخاص بأمّي.
يجب أن أخبرك أنه في بطرسبرج أنا اآلن أ كثر الكتاب شهرة .ويستطيع
المرء اكتشاف ذلك من الصحف والمجالت ،والتي في نهاية العام
تهتم بي ،وتتناقل اسمي وأخباري ،وتمتدحني بأ كثر
ّ 1886كانت
مما أستحق .وكانت نتيجة تزايد شهرتي األدبية أنني حظيت بعدد من
ثم المزيد من العمل والضغوط واالستنفاد. الطلبات والدعوات ،ومن ّ
عملي مرهق لألعصاب ،ومزعج ،ويخ ِ ّلف ضغط ًا.
فولوديا على حق ،فال يستطيع المرء أن يمتلك العالم ،لكن ،بوسعه
أن يُدعى «سيد العالم» .أخبر فولوديا أنه ،بعيد ًا عن اإلقرار بالفضل،
والتبجيل أو اإلعجاب بمناقب أفضل الرجال تلك السمات التي تجعل
رج ً
ال ما فريد ًا ومناسب ًا لأللوهية ،من حقّ الشعوب والمؤ ِ ّرخين أن يطلقوا
الرب أو
ّ على من يختارونه ما يشاؤون ،دون خشية من اإلساءة إلى عظمة
الرب.
ّ اال ّتهام برفع اإلنسان إلى مرتبة
ِّ
الطيبة ،وليس الشخص ،ذلك المبدأ اإللهي الحقيقة أننا ِ ّ
نمجد الخصال
131
الذي نجح في تنميته داخل نفسه إلى درجة بعيدة .ووفق ًا لذلك يُطلق
على الملوك لقب «األعظم» ،رغم أنهم جسدي ًا ربما ال يكونون أطول
من ل .ل .لوبودا ،ويُدعى البابا بـ «قداسة البابا» ،ويُطلق على البطريرك
عادة «الكوني» ،رغم عدم وجود روابط بينه وبين أي كوكب سوى
«سيد العالم» ،رغم
ّ األرض ،وهكذا كان يُطلق على األمير فالديمير لقب
جد ًا من العالم،
أنه لم يكن يحكم سوى جزء صغير ّ
يطلق على األمراء ألقاب مثل «الجليل» و»ذائع الصيت» ،رغم أن
الثقاب السويدي أشهر منهم آالف المرات ،إلخ .وعند استخدام مثل
نعبر ،ببساطة ،عن ِّ
ونفخم ،لكننا ِ ّ ِّ
نضخم هذه التعبيرات ،ال نكذب أو
ابتهاجنا ،مثلما أن األم ال تكذب عندما تدعو طفلها «طفلي الذهبي».
يتحمل الجمال كل ما هو
َّ يتحدث داخلنا ،وال
ّ إنه الشعور بالجمال هو ما
شائع وتافه ،إنه يدفعنا إلى مقارنات ال يعيرها فولوديا -بذكائه -اهتمام ًا،
لكنه سيدركها بقلبه .وعلى سبيل المثال ،من المعتاد مقارنة العيون السود
وتجعدات الشعر باألمواج....إلخ.
ّ بالليل ،والزرقاء باألزرق السماوي،
وحتى اإلنجيل يهوى تلك المقارنات ،وعلى سبيل المثال «الرحم أ كثر
ا ِ ّتساع ًا من الفردوس» ،أو «شمس العدل أشرقت»« ،صخرة اإليمان»...
إلخ.
إن الشعور بالجمال الكامن داخل اإلنسان ال يعرف حدود ًا أو قيود ًا.
ِّ
«سيد العالم» ،ويحمل وربما لهذا السبب يطلق على األمير الروسي
صديقي فولوديا االسم نفسه ،فاألسماء ُتم َنح للناس ،ال لطبائعهم ،بل
تيمن ًا برجال من الماضي وتخليد ًا لذكراهم.
ُّ
132
الحب ،بل -على النقيض -نحن نعبر عنه .فال ينبغي أن ن ِ ّ
ُحقر الناس، ّ
وذلك هو الشيء الجوهري .فمن األفضل أن ندعو إنسان ًا بـ«مالكي» من
أن ننعته بالـ «األحمق» ،رغم أن البشر أقرب إلى أن يكونوا حمقى من
أن يكونوا مالئكة.
133
تشيخوف وإلي اليمين أولجا كنيبر ( ،)1868-1959زوجته ،وكانت ممثّلة مسرحية مرموقة ،حصلت على
جائزة الدولة لالتحاد السوفيتي.
134
6
إلى زوجته و .ل .كنيبر
هناك شعور بالكآبة السوداوية في رسالتك ،مم ِ ّثلتي العزيزة ،أنت كئيبة
يتخيل أنك
َّ ال ،فبوسع المرء أن وتعيسة للغاية ،لكن ذلك لن يدوم طوي ً
بشهية مفتوحة
ّ قريب ًا ،قريب ًا للغاية ،ستجلسين في القطار وتتناولين غداءك
ال -برفقة ماشا قبل اآلخرين ،فعلى األقلجد ًا .لطيف أن تأتي -أو ً
سيكون بوسعنا أن نجد وقت ًا للحديث مع ًا ،ونتج ّول قلي ً
ال ،ونشاهد بعض
األشياء ،ونشرب ونأ كل .لكن ،من فضلك ال تحضري معك (.)....
لدي مسرحية جديدة ،إنها كذبة صحافية .فالصحافة -دائم ًا -ال
ّ ليس
تقول الصدق عني .ولو أني قد بدأت مسرحية ،لكنت أنت أول من
يعرف بها.
جدي ًا هنا ،لكننا نخرج ونتجول بالتهب رياح قويّة ،فالربيع لم يبدأ ّ
ّ
َكلوش ،وبال قبعاتنا المصنوعة من الفرو .وقريب ًا للغاية ستزهر أشجار
منسقة ،ومكس ّوة بالطحالب، التوليبّ .
لدي حديقة جميلة هنا ،لكنها غير َّ
135
إنها حديقة هواة بحقّ .
ِّ
سأقدمك ِّ
متحمس في مديحه لك وألعمالك المسرحية. جوركي هنا .إنه
له عند مجيئك.
أوه يا عزيزتي! لقد وصل شخص ما .إنه زائر .وداع ًا مؤقَّت ًا أيتها المم ِ ّثلة!.
136
يالطا 20 ،مايو 1900
تحياتي لك ،أيتها المم ِ ّثلة العزيزة الساحرة! .كيف حالك؟ كيف تشعرين؟
ّ
كنت بحالة سيئة للغاية في أثناء عودتي إلى يالطا .عانيت صداع ًا شديد ًا
وارتفاع ًا في درجة الحرارة قبل مغادرة موسكو .كان األمر خطير ًا،
وحبذت إخفاءه عنك ،واآلن أنا بخير حال.
َّ
كيف حال ليفيتان؟ أشعر بقلق رهيب النقطاع أخباره عني .إذا عرفت
شيئ ًا أرجو أن تكتبي لي.
137
يالطا 14 ،فبراير1900 ،
الصور رائعة للغاية ،خاصة تلك الصورة التي تظهرين فيها مستلقية وعلى
وجهك مسحة حزن ،ومنكباك يستندان على ظهر مقعد ،مما يضفي عليك
مسحة من الشجن الشفيف ،وتعبير ًا لطيف ًا يخفي روح ًا شيطانية صغيرة.
وهناك صورة أخرى جيدة ،لكنك فيها تبدين شبيهة قلي ً
ال بامرأة يهودية
تقليدية ،مثل موسيقية تحضر درس ًا في معهد الموسيقى ،لكن في الوقت
كتخصص ٍ
ثان ،وهي ُّ طب األسنان على طبيب بارع وذلك ذاته تدرس ّ
ال في موجيليف ،وهذا الخطيب شخص يشبه «م» مخطوبة وستتزوج رج ً
هل أنت غاضبة؟ حق ًا ،غاضبة حق ًا؟ إنه انتقامي منك ألنك لم ِ ّ
توقعي
لي على هذه الصور.
من بين السبعين زهرة التي زرعتها الخريف الماضي ،ثالثة فقط لم تنبت.
فجميع زهور الليلك والسوسن والتوليب ومسك الروم والمكحلة ،جميعها
نبتت .والصفصاف اخضوضر فعلي ًا .وهناك وفرة من العشب األخضر
بالقرب من المقعد الصغير الموجود عند الزاوية .وشجرة اللوز أزهرت
هي األخرى.
لقد وضعت مقاعد صغيرة في جميع أرجاء الحديقة ،لم أختر تلك
المقاعد الضخمة ذات القوائم الحديدية ،بل اخترت تلك المصنوعة من
الخشب بعد أن قمت بطالئها باللون األخضر .كذلك قمت ببناء ثالثة
جسور فوق المجرى المائي .وزرعت أشجار النخيل .فعلي ًا ،توجد جميع
أنواع األشياء الجديدة ،لدرجة أنك لن تتع َّرفي إلى المنزل أو الحديقة
138
يتغير ،إنه الشخص نفسه فاتر الهمة والذي
َّ أو الشارع .فقط ،المالك لم
ك َّرس نفسه لتبجيل المواهب التي تقيم عند نيكيتسكي جيت .ولم أسمع
أي موسيقى أو غناء منذ الخريف الماضي ،ولم أ َر امرأة ممتعة .فكيف
بوسعي أن أعاون مصاب ًا باالكتئاب؟
كنت قد عقدت العزم على عدم الكتابة لك ،لكن بعد أن أرسلت الصور،
تراجعت عن موقفي ،وها أنا أكتب لك .بل إنني سآتي إلى سيفايتوبول،
وأك ِ ّررها عليك :ال تخبري أحد ًا ،خاصة فشنيفسكي .سآتي تحت اسم
سأسجل في دفتر الفندق باسم بالكفيتش.
َّ مستعار،
كنت أمزح عندما قلت أنك تشبهين امرأة يهودية في إحدى الصور التي
أرسلتِها .ال تغضبي ،يا غاليتي .حسن ًا ،تلك قبلة مني ليدك الصغيرة.
المخلص لك دائما
139
يالطا 10 ،فبراير 1900
وعلى ِذكر ميرهولد ،إنه بحاجة لقضاء الصيف بأ كمله في كريميا .حالته
الصحية تتط َّلب ذلك .لكن ،يجب أن يقضي الصيف كام ً
ال.
140
رئيسك نميروفيتش منذ فترة ليست طويلة جد ًا .ذكر فيها أن الشركة
ستعرض مسرحياتها في سيفاستوبول ،ثم يالطا ،وذلك مع بداية شهر
مايو .وفي يالطا سيتم تقديم خمسة عروض ،ثم بروفات مسائية .فقط
المميزين في الفرقة سيبقون لهذه البروفات ،أما الباقون فسيكون َّ األعضاء
المميزين .بالنسبة للمخرج
َّ بوسعهم االستمتاع بالعطلة .مُ تأ كد أنك من
متميزة ،وبالنسبة للمؤ ِ ّلف أنت بالغة النفاسة.
ِّ أنت
141
يالطا 22 ،يناير 1900
وعمك «ألكسندر
في السابع عشر كم يناير وصلتني برقيات من أمّك وأخيك ّ
إيفانوفيتش» الذي وقّ ع بـ«العم ساشا» ،ومن ن .ن .سوكولوفسكي.
إلي؟ ماذا حدث؟ أم أنت اآلن مفتونة للغاية؟ حسن ًا ،ما
لماذا ال تكتبين ّ
الرب في عونك.
ّ باليد حيلة .ليكن
ُأخبرت أنك ستصلين إلى يالطا في شهر مايو .إذا كان ذلك أمر ًا نهائي ًا،
تتقدمي ببعض االستيضاحات حول المسرح؟ .فالمسرح هنا َّ فلماذا لم
تتمكني من استئجاره إال بعد التفاوض مع من يستأجره َّ يتم تأجيره ،ولن
ّ
حالي ًا ،وهو الممثل نوفيكوف .وإذا ف َّوضتني للقيام بذلك األمر ،فربما
أتحدث إليه غد ًا.
َّ
في السابع عشر من هذا الشهرَ ،م َّرت ذكرى عيد الشفيع الخاصة بي،
وكذلك ذكرى اختياري لأل كاديميةَ ،م َّرت كلتاهما باهتة وكئيبة ،فلقد
تحسنت حالتي ،لكن أمّي هي المريضة .ومثل تلك َّ كنت مريض ًا .اآلن
التحمس ،سواء
ُّ المشكالت الصغيرة تذهب بالقدرة على االستمتاع أو
لعيد الشفيع أو الختياري لأل كاديمية .كذلك منعتني من الكتابة إليك
والرد على برقيتك في الوقت المناسب. ّ
تتحسن اآلن.
َّ أمّي
142
أرى عائلة سردين من حين آلخر .إنهم يأتون لزيارتنا ،ومن النادر أن
أزورهم ،لكنني لم أنقطع ،تمام ًا ،عنهم.
ِّ
أقبل يدك الصغيرة.
143
يالطا 2 ،يناير1900 ،
تحياتي ،مم ّثلتي العزيزة! هل أنت غاضبة ألنني لم أ كتب إليك منذ فترة
طويلة؟ اعتدت الكتابة إليك دون انقطاع ،لكن الرسائل لم تصلك ألن
معارفنا المشتركين كانوا يحصلون عليها من مكاتب البريد ،وال يقومون
بتوصيلها إليك..
144
أخبرتني أختي أنك قمت بأداء دور «آ ّنا» ببراعة .آه ،كم أتم ّنى أن تأتي
فرقة مسرح الفن إلى يالطا! امتدحت مجلة «نوفوي فريميا» فرقتكم
تغير في نهج هذه المجلة الفصلية ،فمن الواضح أنهم المسرحية .وهناك ُّ
قصتي
سيتم نشر ّّ سيتوجهون إلى امتداحك دون النظر ألية اعتبارات. َّ
الجديدة ،وهي غريبة للغاية ،في عدد شهر فبراير من مجلة«.»Zhizn
وهناك عدد هائل من الشخصيات،وهناك مشهدية كذلك ،هناك هالل،
وطائر الواق دائم الصياح ،ومن بعيد يتعالى صياح «بووو! بوووو!» كما
لو كانت بقرة محتجزة بمفردها .كل شيء موجود في هذه القصة..
ّ
بالقش ليفتان موجود معنا .فوق مدفئتي ر ََسم قمر ًا ّ
يطل على حقل ممتلئ
والتبن في أ كوام ،وهناك غابة بعيدة.
حسن ًا ،أتم ّنى لك موفور الصحة يا عزيزتي ،المم ِ ّثلة الرائعة .أتوق إلى
رؤياك.
145
يالطا 30 ،أ كتوبر1899 ،
تسألين إن كنت سأشعر باإلثارة ،رغم أنك تعرفين أنني -فقط -سمعت أن
«العم فانيا» كان يجب أن يُس ِ ّلم في يوم السادس والعشرين من هذا الشهر
رسالتك التي استلمتها في اليوم السابع والعشرين .بدأ توافد البرقيات
إلي عبر
علي مساء السابع والعشرين بينما كنت في الفراش .أرسلوها ّ
ّ
الهاتف .كنت أستيقظ كل مرة ،وأعدو حافي القدمين إلى الهاتف ،وأنا
يرن الهاتف مرة بعد أخرى .إنها
ثم ال أكاد أغفو حتى ّ
أرتجف من البردّ ،
المرة األولى التي تحرمني فيها شهرتي من النوم .وفي المساء التالي،
وقبل أن أنام ،شبشبي و«الروب دي شامبر» كانا جوار سريري ،لكن لم
يصلني المزيد من البرقيات.
احتوت البرقيات على عدد المكالمات والنجاح الباهر ،لكن ،كان هناك
توصلت إلى استنتاج بأن حالتكم
َّ ِّ
محير ،فيها ،ومنه شيء غامض ،بل
وأكدت الصحف التي وصلتنيالعقلية ،جميع ًا ،لم تكن بأفضل أحوالهاَّ .
اليوم ِ ّ
صحة استنتاجي.
ِّ
المتوسط والمعتاد ليس كافي ًا لكم جميع ًا نعم يا ممثلتي العزيزة ،فالنجاح
أنتم ،أيّها المم ِ ّثلون المسرحيون ،فأنتم بحاجة إلى شيء مد ٍّو للغايةَّ .
مؤخر ًا
تع َّرضتم لإلفساد ،بل أصابكم الصمم من تكرار الحديث عن النجاحات،
تسممتم بذلك العقار
والمسارح الممتلئة بالمشاهدين وتلك الخاوية ،لقد َّ
وخالل عامين أو ثالثة أعوام لن تكونوا صالحين لشيء .والشيء نفسه
ينطبق عليك! هل أنت غاضبة؟ ما شعورك؟ أنا ما زلت في المكان نفسه،
وما زلت الشخص نفسه ،أعمل ،وأزرع األشجار.
146
لكن الزوّار يتوافدون ،وال أستطيع االستمرار في الكتابة .إنهم يمكثون
أل كثر من ساعة ،يطلبون الشاي ،ويطلبونه في السماور .أوه ،كم أنا
مستوحش ومكتئب!
واآلن :وداع ًا مؤقت ًا؟ ربما لن نلتقي قبل شهر أبريل .وإذا كنتم ستأتون
جميع ًا إلى يالطا ،للتمثيل والراحة ،فسيكون ذلك أمر ًا رائع ًا للغاية.
سيحمل أحد الزوّار هذه الرسالة ليلقيها في صندوق البريد.
إلي ،أنا
مقدس أن تكتبي ّ
َّ ملحوظة :مم ِ ّثلتي العزيزة ،أستحلفك بكل
مستوحش ومكتئب .ربما أكون في سجن ،وأنا ممتلئ بالغضب والغيظ.
147
يالطا 1 ،نوفمبر 1899
أتفهمها للغاية ،لكن حتى لو َّ أتفهم حالتك المزاجية ،مم ِ ّثلتي العزيزة،
َّ
كنت مكانك ،لم أ كن ألشعر بمثل هذا االضطراب اليائس .فال شخصية
آ ّنا ،وال المسرحية بكاملها جديرة بكل هذه المشاعر واإلرهاق العصبي.
إنها مسرحية قديمة .إنها عتيقة ،وفيها كثير من العيوب والنواقص ،فإذا
يتوصل أ كثر من نصف الممث ِ ّلين إلى درجة األداء ونبرة الصوت ّ لم
الصحيحة ،فهذا عيب المسرحية بال جدال .وهذا شيء ،أما الشيء الثاني
تدعي مثل البد أن تتوقّ في عن القلق بشأن النجاح والقلق .ال َ ّ فهو أنك
هذه األشياء تشغلك .إنه واجبك أن تداومي على العمل يوم ًا بعد يوم،
متأهبة الرتكاب األخطاء التي ال يمكن ِّ بإتقان ،وفي صمت ،وأن تكوني
ال يجب أن تقومي بأداء وظيفتك كمم ِ ّثلة، تج ُّنبها ،ولإلخفاقات .إجما ً
مهمة إحصاء عدد المكالمات قبل فتح الستارة .فعندما واتركي لآلخرين ّ
يكتب المرء أو يمثل ،يجب أن يكون واعي ًا بأنه ال يفعل الشيء الصحيح،
فهذا أمر معتاد ،وبالنسبة للمبتدئين هو مفيد للغاية!.
ثالث األشياء أن المخرج قد أرسل لي برقية أن العرض الثاني كان رائع ًا،
متميزين في أداء أدوارهم ،وأنه كان راضي ًا
ِّ وأن جميع المم ّثلين كانوا
للغاية.
148
يالطا 30 ،سبتمبر .1899
كتبتي أن أستروف يخاطب إلينا في هذا المشهد مثل عاشق ولهان« ،إنه
بقشة» ،لكن هذا ليس صحيح ًا ،ليس
يتشبث ّ
ّ يتشبث بمشاعره مثل غريق
ّ
صحيح ًا على اإلطالق! إن أستروف معجب بإلينا ،ولقد اجتذبته بجمالها،
تحدث إليها
َّ لكن ،في المشهد األخير عرف أنه ال أمل له فيها ،وهكذا
وقبلها بطريقة
في ذلك المشهد بنبرة صوت تشبه الحرارة في إفريقياَّ ،
اعتيادية للغاية لتمضية الوقت .لو أن أستروف قد تعامل مع هذا المشهد
بعنف ،لكان المزاج العام للمشهد الرابع تالشى تمام ًا.
149
منزل تشيخوف في يالطا
150
الحب والزواج بين أنطون تشيخوف والمم ِ ّثلة أولجا
ّ (خمس سنوات من
كنيبر ،والتي قامت بأداء العديد من األدوار النسائية الرئيسة في مسرحياته،
الحب في المسرح .وبسبب ارتباط أولجا بالعمل في
ّ من أشهر قصص
مسرح موسكو ،واضطرار تشيخوف للبقاء في يالطا بسبب حالته الصحية،
استم ّرت عالقتهما رغم المسافة ،بل توطدت متجاوزة عقبات خطيرة
وذلك خالل تبادل الرسائل الدائم بينهما .وبعد وفاة تشيخوف ،داومت
متخيلة
َّ أولجا -لشهرين -على كتابة يومياتها ،وكانت عبارة عن رسائل
إلى تشيخوف).
151
7
من أولجا إلى تشيخوف بعد وفاته
19أغسطس1904 ،
أخير ًا أصبحت قادرة على الكتابة إليك ،يا عزيزي ،وأنا أشعر بك قريب ًا
الجد ًا رغم أنك بعيد للغاية! ال أعرف أين أنت اآلن .ولقد انتظرت طوي ً
اليوم الذي أستطيع أن أ كتب لك فيه.
اليوم ،ذهبت إلى موسكو وزرت قبرك ...كم هو رائع ،لو تعلم! فبعد
وعبِ ق للغاية،
الجفاف المنتشر في الجنوب ،كل شيء هنا مورق ومثمرَ ،
وف ّواح للغاية ،تفوح رائحة األرض والعشب الطازج ،ولألشجار ذلك
أصدق أنك لست بين األحياء! أنا فيّ الحفيف الناعم .ال أستطيع أن
ماسة للكتابة إليك ،ألخبرك بكل شيء مررت به منذ احتضارك حاجة ّ
وتلك اللحظة التي توقَّف عندها قلبك عن الخفقان ،قلبك المسكين
والمريض والواهن جد ًا.
اآلن ،بينما أكتب إليك ،يبدو الوضع غريب ًا لكن تسيطر عليك رغبة عارمة
في القيام بذلك .وبينما أكتب إليك ،أشعر أنك على قيد الحياة .هناك في
152
مكان ما ،تنتظر تلك الرسالة .يا أغلى األحباب ،يا حبيبي ،دعني أتف ّوه
أمسد شعرك الناعم المنساب ،وأنظر ببعض الكلمات الشاعرية ،دعني ِ ّ
في عينيك الالمعتين العزيزتين .آه ،لو عرفت ما إذا كنت قد استشعرت
أنك ُتح َتضر .أظن أنك استشعرت ذلك ،ربما بشكل مُ بهم ،لكنك -يقين ًا-
استشعرت ذلك.
153
20أغسطس 1904
154
الزهور ،والحدائق المزروعة بالخضروات والفاكهة! وكم كنت متأ ِ ّلم ًا
وأنت تقول :عزيزتي ،متى يعيش فلّاحونا في منازل صغيرة مثل هذه!
155
صدر يف سلسلة كتاب الدوحة
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده اإلسالم بني العلم واملدنية 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
ترجمة :غادة حلواين • فتنة الحكاية جون أيديك -سينثيا أوزيك -جيل ماكوركل -باتريشيا هامبل
الطاهر الحداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد عبقرية الصدّيق 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
د .محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده الكتابات السياسية 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية 31
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني) 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
د.بنسامل حِ ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون عن َ 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشال سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية) 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
د.زيك نجيب محمود الرشق الفنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إيل العائلة 42
156
157
158
159
160