Professional Documents
Culture Documents
ردمك 978–614–01–2047–1
تــوزيــــع
مينع ن�سخ �أو ا�ستعمال �أي جزء من هذا الكتاب ب�أية و�سيلة ت�صويرية �أو الكرتونية �أو
ميكانيكية مبا فيه الت�سجيل الفوتوغرايف والت�سجيل على �أ�شرطة �أو �أقرا�ص مقروءة �أو �أية
و�سيلة ن�شر �أخرى مبا فيها حفظ املعلومات ،وا�سرتجاعها من دون �إذن خطي من النا�شر.
5
فام�ض ً
قدما وال تتوقف». «�إذا كنت ت�سري عرب اجلحيمِ ،
ون�ستون ت�شر�شل
7
9
I
11
الكتاب�ة ،أو أنّ�ه كان مح ّتم� ًا أن أهت�دي إليه�ا ،وأ ّن جرثومة الحكي
عل�ى ال�ورق وج�دت أخير ًا منف�ذ ًا لها كي تجتاح عالمي المس�تور
عل�ي تف ّتقت بافتعال
ّ والمفق�ود ف�ي دواخلي ،وأن س�مات ظهورها
فكرة الموت؟!
كل ش�يء ،ال فه�ا أن�ذا! وحي�د ًا ف�ي ش�قّتي التي تش�بهني في ّ
س�عيد ًا ال حزين� ًا ،أل�وك ذكريات الماضي ف�ي ذهني ،وأنفث حثالة
أروض�ه إل�ى اآلن .مغترب ًاس�جائره ف�ي منفض�ة النس�يان ال�ذي لم ِّ
ألتصق في خرابي الجميل هذا وس�ط الكلمات ،أعزل أمام س�لطنة
الوجع وفاشالً في محاوالت تبيان زالتٍ وشرحها بكلمات بخسة.
تورطني أكثر أمام ليست الكتابة اآلن حلاّ ً لي من ورطتي ،بقدر ما ّ
حيز ًا في هذه الدنيا بعد اآلن ،وأدري أ ّن صهيل الحزن ،فلن أشغل ّ
ِ
أفكار الغضب والحداد لن تنسل في جمل ٍ وفقرات ،وأعلم أني لن
أشفى ،بل ال آمل في أن أشفى ،فما زلت أغرق وأغرق ،وال شيء
يصعد بي وهم ًا س�وى زيف أحالم ٍ صغرى تخلقها الكتابة تأريخ ًا.
كل شيء ،جاز لي الحديث ههنا ،وال شيء يدفعني اآلن إلى فبعد ّ
الكتاب�ة س�وى األل�م ال�ذي ينفد فال يبقى منه س�وى الوجع .أعلم
رثاء على ما تفعله بي وعلى ما أ ّن الكلمات س�تخونني في النهاية ً
أفجر جدران هذا الكتم.
مستعد كي ّ
ٌّ أحقنها به ،لك ّني
ول�و اس�تطعت ترجم�ة ه�ذه األوراق صوت� ًا لفعل�ت ..لك�ن
لألسف ال أستطيع ،هذا ما تك ّنه الصدور ،وال ّشفاه تخون ما تخفيه
الرخيم ،فلتنب يتبق لي الكثير كي أستخدم صوتي ّ الصدور .كما لم َّ ّ
عن صوتي حبال الكلمات ورنَّة عالمات ال ّتشكيل والترقيم..
بدأت هذا القمار المعقّد والوازن ،وأنا أجد نفس�ي تائه ًا
ُ منذ
12
ف�ي تحدي�د مواطن الح�روف ورصدهاُ ،ترى كي�ف يواجه الك ّتاب
علي الكتابة بالجهل ٍ
ُمغامراتهم مع بياض مجهول ُمختلق .تستحيل ّ
خط ع�ن م�ا يج�ب علي خ ّطه على هذه األوراق ،ولك ّني أدري أ ّن ّ
ّ
قلم�ي سيس�ير عل�ى ُخط�ى حزني فقط ،س�ائل غربت�ي وحده كفيل
بإيقاظ قرحة الكتابة وضمور الوعيي في أناملي.
أتراها الكتابة صعبة إلى هذا الحد في حقن هذا ال ّتيهان داخلي
بيني وبين نفس�ي ،أم أ ّن كتابة نفس�ك ُتعد ش�يئ ًا قاسي ًا وغير شريفٍ
ُّ
حق النفس؟ في ِّ
أهي تعرية أم ماذا؟
كل ه�ذا!! .لو لم يخبرني م�اذا أق�ول ي�ا ت�راي؟! من أين أتى ّ
بدأت باالقتراب من الجراح وتعريتها ُ ال ّطبيب البارحة لما ُ
كنت قد
مرد هذه ،لما ب�دأت رحلة ال ّت ّ
ُ بج�رات قل�م ،ل�و لم يكن كذلك لما ّ
عاطفية قاتلة في ترسيخ شيء ما م ّني قبلٍ ٍ ٍ
أصبحت في غمرة نزعة
ّ ُ
يطببني مع نفس�ي كل صل�ة ،فوحدها الكتابة حديث ّ تتب�رأ م ّن�ي ّ
أن ّ
والدهش�ة تجد أخير ًا مفرغ ًا ولع�ل حروف ال ّتم ّني ّ ّ غي�ر المصالح�ة.
ِ
ك�ون لها واقع ًا افتراضي ًا تعم�ل فيه .ول َم ال! حياة واس�ع ًا له�ا ك�ي ُت ِّ
داخل الورق أرحم من حياة ٍ خارجه.
ش�ك من الخبر ،فلم يكن إلاّ احتماالً يمكن أن ٍّ زلت في
ُ ما
يورد .قال لي ُمهاتفةً ..« :نعتقد أنّك لن تواصل .»..كلمني بصيغة
يتب�رأ من مس�ؤوليته عني ليجعلها مس�ؤولية حدثن�ي كأنّ�ه ّ الجم�عّ ،
ِ
الجمي�ع ،كأنّ�ه أراد م ّن�ي أن أُبادر في ال ّتفكي�ر بفعل آخر متم ّنياتي،
وأن أحاول مسامحة العالم ونفسي.
أريد أي معاهدة ،أريد أن أثور.. صلح ًا! ال ُ من قال إني أريد ُ
13
أن أغضب ..ففي آخر األمر إن كان ما قاله صحيح ًا ،فإنّي سأغادر
مكمالً شيئ ًا من ال ّنقص والعجز. ِّ معوض ًا َّ
لكن! هل جواز البوح الوجع دائم ًا؟
َم َر ِّدي اآلن أن أحاول لملمة األيام الخليلة التي ستأتي ،والتي
سأتخ ّلص بها من عثرة الحياة ،وشؤم لزوجة الكدر الذي ُيداهمني
منذ القدم .في الحقيقة لم أجد نفس�ي أكثر بهجة من اآلن ،أش�عر
سأتحرر ..ال بل سأجعل مفتاح قيدي بين أصابعي، ّ مرة ٍ أنّيوألول ّ ّ
وأفكن�ي متى ط�اب لي ،ألنّي ف�ي آخر األمر لج ُمن�ي مت�ى ش�ئت ِ أُ ِ
ُّ
وس�يمحى دون أن يترك األثر ..أو ُ مجرد ش�يء س�يزول ّ أصبحت
إلي.
خيل ّ كما ُي ّ
ربي يراني من حيث ال أدري ،يراقبني ويشهد بطولة أدري أن ّ
الخس�ارة الت�ي أنش�دها عل�ى ورقٍ م�ن ح�ظ ،أربح نقاط� ًا تغرقني
حي�ث ال يمكنني الصعود ،أن�زف أكثر وأعطش ُ وتغ�وص ب�ي إل�ى
معن�ى في هذا االحت�راق المتواصل ً لكل س�طر أكث�ر فق�ط ألجعل ّ
م�ن الب�ذر الممي�ت ،لكن إلى متى س�أبقى على ه�ذه الحال؟ متى
س�تأتي النهاي�ة ي�ا ترى كي أت�رك رهاناتي على ورق ..إذا ما وصل
إلى قارئ؟
نهض�ت أنظ�ر م�ن ال ّناف�ذة ،يب�دو أ ّن المدين�ة ارت�دت ثي�اب ُ
حراسه عليها ،ويبدو أ ّن ليلتي المقمرة انتهت نومها ،والليل أسكن ّ
أيض ًا.
وفرغت أنا أيض ًا ،وقد حان الوقت ألطفئ هذاُ فرغت كأسي،
المشوار ال ّطويل من ال ّنفث ،وأذهب ألستشفي بعض ال ّنوم َّ
لعل الغد
يكون أفضل...
14
II
28
III
م�ا دم�ت أض�ع تناقض�ي اآلن بين أربع زواي�ا ،فيطيب لي أن
أمي ،أن أناجيها وأنا أعلم أنّها لن ترد. أتحدث إلى ّّ
الصغيرة ،ك�م أبكيتك خفي ًة أم�اه فلتغف�ري ،فلتغفري أس�ئلتي ّ ّ
لس�ت أكثر ح ّظ ًا منك .ال أعلم بماذا كنتُ بكلماتي الس�احقة ،فأنا
تجيبينن�ي عندم�ا كن�ت أس�ألكِ« :أين وال�دي؟» ،ماذا عس�اك كنتِ
الدمع أليس كذلك؟ هل أماه آنذاك؟ كنتِ تشربين كؤوس ّ تقولين ّ
كنت تجيبينني أنّه في العمل أو أنّه مسافر؟
أردت حمل ثقلك ُ كن�ت طفلاً باكي ًا وأنت ال تعلمي�ن، ُ أم�اه!
ّ
بتجاهل�ي وب�رودي ك�ي ال أزي�د الك�رب كرب ًا ،لكن ري�اح الكرب
أماه أبكي فهااش�تهت عك�س ا ّتج�اه ظ ّن�ي فزدته بفعلي ،لم ترين�ي ّ
أنا أبكي بعدك ،كنت أراك ِ وليس بي طاقة كي أزيل عنك الس�قم،
ش�اهدت نورك
ُ راقبت�ك تندثري�ن وم�ا في اس�تطاعتي جمع نِثارك،
ش�اهدت صحتك وهي تخبو ش�يئ ًا ُ يخفت ويغيب دون أن ألمس�ه،
فشيئ ًا ،شاهدت جفافك أمامي دون أن أقدر أن أرويك ،دون أن أعيد
الحياة إلى أوردتك ،كان حزنك المترامي يش�ع من كل الجوانب،
ولم أكن إال عبئ ًا بادي ًا أمامه.
أم�اه لم�ا أُلت إلي�ه ،معاناتك مضى زمنه�ا ،وبقدر ما اغف�ري ّ
29
ِ
عانيته ،عانى ابنكِ وال يزال..
أنا أفيض ألم ًا يا ّ
أمي ..وعن قريب سأسافر أنا اآلخر.
***
تعافيت من صبغة الموت التي احتوتني منذ ُ كنت من قبل قد ُ
ٍ
الصغر ،والتي جعلتني أبلع رماد نصف طفولة مس�لوبة ،وأكبر بين
ولكن حرماني من وطن ٍ آخر كان شيئ ًا لئيم ًا. ّ أرملة ووالدها،
تركتن�ي والدتي في السادس�ة عش�رة ،وكان�ت وفاتها أثقل من
بطعنة خرقت ٍ تكونت داخلي، ٍ
العمر .عندما ماتت أحسست بفجوة ّ
ٍ
تكس�رصدري ،بخفوت تدريجي لرؤيتي للعالم ،وكأ ّن ش�يئ ًا ما قد ّ
ج�د ًا ،أحسس�ت بقلب�ي بعي�د ّ ٌ وانح�ل بع�د وفاته�ا ،ش�عرت بأنّ�ي َّ
وش�عرت بأقصى درجات اليتم، ُ مرة، يؤلمني وينزف كما لم يفعل ّ
ٍ
الدنيا صورة بال ألوان ،مجرد أسود وبأحاس�يس تيه وش�رود ،باتت ّ
رمادي حزي�ن ٍ خائب يعيد الذكرى.. ٍّ وأبي�ض يكس�و نظ�ري ،مجرد
شعور يختبره البشر. ٍ حينها فقط شعرت بأ ّن الفقد هو أقسى
وجدي ليل ًة لم نشهدها من قبل ،كانت ليلة جاءت ّ عشت أنا
ُ
فيها الخرسة األخيرة لقلب والدتي ،صمتها األخير الذي أطبق على
والسراب. ّ بصيص أملنا وجعلنا نعيش على الخواء
توفيت والدتي إثر س�كتة قلبية أتت بعد س�وء أحوالها ،وكان
ذلك في ليلة من ليالي أكتوبر األخيرة ،بال ّتحديد قرابة أذان الفجر.
تأوهات خفيفة ال تكاد ُتسمع ،في البدء كان قد أيقظني من نومي ّ
أتح�رى عنها وفي ّ فقم�ت م�ن مضجع�ي ُ ظنن�ت أنّ�ه م�واء ق ّطتن�ا،
ُ
تفكيري أن أعطيها علبة س�ردين كي تخرس فأرجع إلى ال ّنوم ،إلاّ
الصوت أنّ�ي فوجئ�ت بأنّها نائمة هي األخ�رى ،فبحثت عن صدى ّ
30
فتحت الباب ُ أدركت أن منبعه غرفة والدتي.ُ من أين يأتي ،إلى أن
وأن�رت غرفته�ا ،فوجدته�ا جالس� ًة عل�ى األرض حامل� ًة قنين�ة ماء ُ
وتتجرع جرعات ،وتس�كب الماء على رأس�ها ،وتطلق أنين ًا خافت ًا. ّ
فش�عرت بجس�دها ُ وأمس�كت يديها
ُ وهرع�ت إليها،
ُ ذع�رت حينه�ا
حمل�ت هات�ف المن�زل وا ّتصل�ت بطبيب ُ المرتع�ش ،وف�ي الحي�ن
تحسب ًا لحاالتٍ كتلك فقط، ّ والدتي ،وبدا حينها كأنّه أعطاني رقمه
كنت ألتقي به في كنت أعلم أنّه سيكون مستيقظ ًا ،ألنّي غالب ًا ما ُكما ُ
المس�جد عند صالة الفجر .ر ّد على اتصالي ،فش�رحت له الموقف
فعلت ذلك مع ذلك التوتر ون ّز ُ بس�رعة ،وإلى اآلن ال أدري كيف
حينا العرق والصدمة .أس�رع بالمجيء جري ًا ،ألنه كان من س�كان ّ
فتح�ت له الباب بعد ُ ول�م يك�ن يفصله عن منزلنا س�وى ش�ارعين.
مهيئ ًا« :اجلب لي أن لمحته من النافذة ،دخل وقال لي كالم ًا كان ّ
مفاتي�ح والدت�ك» .ذهب�ت للبحث عنها هلع ًا ،ث�م جلبتها له .حمل
ثم ذهب مسرع ًا بها إلى الضعيف بين ذراعيه بحذرَّ ، جسد والدتي ّ
المستشفى.
جدي م�ن نومه الثّقيل ،كاد أن أس�رعت ألوقظ ّ
ُ عندم�ا غ�ادر،
يصفعني بعد أن أيقظته ،شرحت له الوضع سريع ًا هو اآلخر ،حينها
ارتدى معطفه دون أن يغس�ل وجهه أو يغير مالبس�ه .خرجنا بدون
ٍ
س�يئي الحظ ،فعلى تفكير نبحث عن س�يارة أجرة لتق ّلنا ،لكن ك ّنا ّ
تمر أي واحدة في ذلك الوقت المبكر .فقررنا العدو غير عادة لم َّ
إلى المستشفى ،الذي كان يستغرق الوصول إليه خمس عشرة دقيقة.
عندم�ا وصلن�ا ،وجدن�ا ال ّطبي�ب خ�ارج المستش�فى ،وجدن�اه
مرة أول ّ
يجلس على الدرج األمامي يد ّخن س�يجارة ،وكانت تلك ّ
31
لمحت وجهه عبر المس�افة القصيرة التي تفصلنا عنه، ُ أراه يد ّخن،
الضيق .لن أقول أنّي ش�يء من ّ ٌ عادية وفيها
ّ بدت لي مالمحه غير
مرة أخرى ،وأن ذلك الش�تات ت ّفهمت األمر من بدايته بأنّي ُش� ّت ُّ
سيش�طر نصف�ي الثان�ي إلى أنصاف وغبار ،ولك ّني ش�عرت بخطب
المرة األولى التي ما ليس كما كان يحدث س�ابق ًا ،ولم تكن تلك ّ
كنت أعيش ّأيام ًا وليالي مثل شهدت فيها حال ًة كتلك لوالدتي ،فقد ُ ُ
أظن بأ ّن ليلتها تلك هي األخيرة. ّ ذلك ،ولم
ج�دي جالس� ًا ،وق�ع أرض ًا س�اجد ًا يبكي ويضرب عندم�ا رآه ّ
الصم�اء ،وبدا لي كأنّه يطرق بابها ليخبرها بأ ّن بكلت�ا يدي�ه األرض ّ
انحنيت أحاول رفعُ ش�خص ًا آخر س�يأتي زائر ًا ليس�كن دون عودة.
الدم يسيل من يديك.. «جدي انهض ..ماذا تفعلّ .. جدي قائالً لهّ : ّ
والدت�ي تنتظ�ر!!» .رف�ع رأس�ه حينها ومالمح االفتقار تلتبس�ه ،نظر
ثم احتضنني بين أضلعه ونطق األبوة يهطل من عينيهّ ، ّ إلي وسائل َّ
بكلمات عمياء في شبه صراخ مبحوح ..« :تركتني زوجتي ،تركني
صهري ،وابنتي اآلن تصفعني بتركها لي ،فال تتركني أنت أيض ًا.»..
كالصخر ،كان فقط ال ّتفكير بموت والدتي يأخذ ّ علي كلماته وقعت ّ
رتوج ُّل ما فكّ ُ
أستعد لهُ ،
ُّ م ّني الكثير ،والحق أن أمر ًا كذاك كنت
في�ه وقته�ا ه�و ترك والدتي لصغ�ري األحمق يعيش وحده في ج ّنة
من األلم.
شعرت بأني أشالء ،كان داخلي يئن دون أن أنبس ببنت شفة ُ
أتخيل مصيري اآلتي؛ أ ّن
ّ رحت في تلك اللحظات ُ أو أذرف دمعة،
أقبل رأسها تعد لي الفطور ،ولن ّ والدتي لن توقظني صباح ًا ،ولن ّ
الش�ريف ،ول�ن أذه�ب معه�ا إل�ى مرك�ز ال ّتحليالت لجل�ب نتائج
32
أقبلها ،ولن أس�مع الفحوصات ،ولن أش�تم ح ّناءها في يدها عندما ّ
كنت أكرهه.ُ صراخها الذي
حب�ل مش�يمتي ُقط�ع عند الوالدة ،وهنال�ك ُقطع حبل روحي
فقدت هويتي التي لم تعد لي يوم ًا. ُ بالدنيا ،وهنالك ّ
قال لنا الطبيب« :أتريدان رؤيتها؟» .أجابه جدي بـ« :ال» ،فقد
وأما ال ّتحمل عن�ده فقد اكتفى من الصب�ر بداخل�هّ ، عج�زت مضغ�ة ّ
تحمل�ه ،فالي�د الت�ي رفعت تابوت وال�دي لم تعد قادر ًة على حمل ّ
تاب�وت آخ�ر ،والعي�ن الت�ي رأت ما تبقّى من وال�دي لم تعد قادر ًة ٍ
ٍ
أما أنا فقد جاء ردي على رؤية جسد ابنته نائم ًا دون ن َفس أو حراكّ .
لعل أردت رؤيته�ا ألحت�رق بجمر الفراق وأُك�وى برحيلها َّ ُ إيجاب� ًا،
كل األحوال لم أكن ألراها بعد ذلك ،كما أنّهم عيني تسيل ،ففي ّ
يقولون إن أجس�اد األموات تكون مالمحها جميلة بعد أن ُيفارقوا
تبعت الطبيب بع�د أن أجبته بأني ُ الحي�اة ذهاب� ًا نح�و باب ّ
الس�ماء.
جدي على كتف�ه ودخلنا نحن الثالثة أري�د رؤيته�ا ،فأس�ند الطبيب ّ
جدي في قاعة االس�تقبال ،وذهبت أنا والطبيب المستش�فى .تركنا ّ
أم�ي .عندما رأيتها مغ ّطا ًة بمالءة الس�رير إل�ى الغرف�ة حي�ث توجد ّ
رفعت الغطاء عن وجهها ،وهذا ُ س�ارعت بخطاي نحوها،ُ الزرقاء،
ِ
السقم، األخير كان ساكن ًا ،تعلوه ابتسامة شاحبة ،وكأنّه َيش ُّع بذهاب ّ
وفمها الباسم كان ُيشير إلى رسالة أخيرة منها لي ،كأنّها تقول لي
أجر
خرجت ُّ ُ فيها« :ابتس�م من أجلي يا وحيد» .لم أع ِ نفس�ي ح ّتى
هت توج ُ
حدقتيّ .
ّ دمع من
وجعي بألم تضاعف داخلي وانفرج معه ٌ
وجلس�ت بجانبه ،ظللنا صامتين للحظات ،بعدها ُ جدي
إلى حيث ّ
قلت له« :إ ّن والدتي تعتذر لكلينا لرؤيتها على ذلك ال ّشكل ،وتقول ُ
33
غصة في أردفت بعد أن اعترضتني ّ ُ إنه يجب أن نعيش س�عيدين»،
«قل لي ..هل س�نقدر؟» .ضرب صدري بقبضة يده وقال: الحلقْ :
«بالطبع سنقدر!».
آخر كلمة لي له كانت« :سنرى».
أس�عدت حقّ� ًا؟ ،ال ليس ب�ي صفة من قاموس ُ وه�ا أن�ا أرى،
السعادة ،لك َّنني أبتسم ،من أجل والدتي ال غير.
رحمكِ اهلل!
كره�ت كلمات العزاء ،زادتني ألم ًا وغضب ًا وكره ًا .ص ّليناُ ك�م
في اليوم التالي صالة جنازتها في المسجد بعد صالة الظهر ،وكما
الصف .بعد انته�اء صالتنا عليها ،خرجت صلي�ت ف�ي آخر ّ
ُ أذك�ر،
قطعت مسافات طويلة ،مخ ّلف ًا ُ وكل ما أذكره بعدها هو أنّي مسرع ًاّ ،
وعدت في وقتٍ متأ ّخر من الليل .لم أدخل ش�يئ ًا ُ ذهابي للجنازة،
إلى معدتي ،فمن أين عساه أن يمر الطعام ووالدتي لم تكن لتعود،
ِ
ث�م إنّ�ي لم أش�عر بالج�وع إزاء الح ْمل المبكر ال�ذي أثقل كاهلي، ّ
عليإضاف ًة إلى األفكار الس�وداوية التي انتهزت فرصتها واس�تولت ّ
تغذيت فيها علىُ أغلقت على نفس�ي ثالث�ة أيام،
ُ ف�ي تل�ك الحالة.
علي طرحها على نفسي ّ
سقم الذكريات ،وعلى األسئلة التي وجب َّ
عيني هاالت س�واد من ّ كي أخرج من ذلك الوضع ،وطغت على
تعب البكاء ال ّطائش على وطن لن يعود ،ولم أجد غير ال ّنوم وسيل ًة
كنت أنامكي أعالج به نفسي وأر ّتب به حاضري المهمل والمبعثرُ .
ساعات طويلة ،ح ّتى الق ّطة رثت لحالي وشعرت بحزن ٍ ينبعث من
غرفتي ،فمن حين إلى حين كانت تأتي وتجلس أمام الباب وتبقى
ٍ
ألربت على م�رات تخدش باب الغرف�ة لع ّلي أفتح ّ تم�وء .س�معتها ّ
34
اعتدت أن أفعل مداعب ًة لها.
ُ رأسها وأمسح على أذنيها وذقنها كما
جدي باب غرفتي ذلك الذي لم أكن أس�تيقظ إلاّ على طرق ّ
كان يعلمني بأنّه قد أتى الفتات الذي أبقى على حياتي ،تلك ال ّشطائر
تعدها والدتي.
األصل التي كانت ّ
تقبل�ي الوض�ع كان صعب� ًا ،ول�م ينب�س ببنت ج�دي أن ّ فه�م ّ
تعدها
ش�فة ف�ي تل�ك الفت�رة ،اكتفى بتحضير ال ّش�طائر الت�ي كانت ّ
فجدي كان ل�ي والدت�ي ،أو باألح�رى الت�ي ع ّلمها جدي والدت�يّ ،
متمرس� ًا ،وكانت تم ّتعني تش�بيهاته الغريبة
فيم�ا مض�ى رئي�س طهاة ّ
ٍ
الدم ،والتي ال تخلو من ش�يء ُيؤكل أو ُيش�رب، المصحوبة بخ ّفة ّ
كأن يرى امرأ ًة سمينة في التلفاز فيقول لي« :كوكا كوال اثنان لتر»،
لك�ن م�ا كان يس�تف ّزني هو العبارة التي تل�ي تلك الكوكا اثنان لتر:
«كوكا كوال اثنان لتر ،لك ّني أحب شكلها ،ألنّه يشبه شكل زوجتي»،
سمي الطفالت الصغيرات ذوات الثّالث سنوات أو السنتين أو كان ُي ّ
بـ« :غزل البنات» ،يقولها عن خدودهن ،ألنّها رطبة وحلوة ،وتصلح
ومعنى.
ً لألكل تشبيه ًا
توال�ت األي�ام بعد فقدان�ي والدتي ،هزيمتي الثّانية التي زادت
على ميزان خس�ارة ٍ س�ابقة ،ل ُتثقل قس�طاس صبري الذي اس� ُتبدل
كل ذلك جحيم ًا ،وإيماني أصبحت ّأيامي بع�د ّ
ْ بآخ�ر أكب�ر حجم ًا.
وكنت في
ُ معدل�ه ينق�ص بدرجات ودرج�ات. ف�ي المواصل�ة كان ّ
أفكار من س�رابٍ ال ليلة أضع رأس�ي على الوس�ادة ،تحت ّلني كل ٍ
ٌ ّ
س�أتصرف به�ا في تلكّ كن�ت أفك�ر ف�ي الكيفية التي ُ ُيلتق�ط ،فق�د
الحرب الباردة التي دخلتها بدون إذن ،فكرت في كون الحياة التي
ستؤولها حياتي والطرائق التي سأ ّتخذها ألواجه بها العراقيل بدون
35
س�يمكنني أن أعيش مع قلقي الذي ال أم�ي .وكيف ُ صم�ام أمان�يّ ، ّ
كنت أنظر إليه كوحش ٍ عمالق سيأكلني، ينتهي من المستقبل الذي ُ
ٍ
سيمكنني أن أصل بكهولة اكتسبتها مبكّ ر ًا إلى ذروة النجاح. وكيف ُ
فق�دت مرونتي منذ ذلك الوق�ت ،فقد كانت مراهقتي ُ والح�ق أنّ�ي
ّ
لكن طاقاتها كُ بحت واختفت بخطوط ّ تحلم بفيض أحالم عديدة،
جبين هرمي المبكّ ر من أثر الحرمان ،فكُ تب َّ
علي ..حينها أن أغدو
السن شاخ قبل أوانه. كهالً صغير ّ
والركود اللذين احتقنا
السكون ّ كانت تلك المح ّطة هي مرحلة ّ
كنت أعلم أن القادم لن يكون حميد ًا ،ولم يكن في أوردتي ،ألنّي ُ
منصة أداء الواقع
قد تبقّى لي خيار غير أن أعيش على الهامش ،وراء ّ
يهمني ما الذي سأخس�ره كي ال ألتقط حزن ًا آخر يقطعني إرب ًا .لم ّ
الدنيا ،وخياري ذاك
لتصوف�ي واعتزالي ما تحكي�ه ّ ّ بع�د أن أخل�ص
سادية الحاضر.
ّ حتمي ًا كي ُتخطئني
ّ مجرد صدفة ،بل كانّ لم يكن
فأمس�يت أمثّله في لحظاتي هذه ،فها
ُ الس�بيل
أتقنت دور عابر ّ
ُ
كل يوم
منف�ي في ش�قّة كراهب ،وف�ي ّ ٌّ عاب�ر ف�ي كالم عاب�ر،
ٌ أن�ذا
نصي الطويل.. أجرب تعويذة حروف ُتكمل ّ ّ
***
رب�ت عل�ى كتف�ي كثي�ر م�ن األصدق�اء ،أش�عروني بكثير من ّ
الرض�ى واألن�س ،إلاّ أ ّن كلماتهم كان�ت تنتهي بعد غيابهم ،فمهما
ّ
وأحن وأق�رب فإنّها كانت تزول،
ّ كان�ت كلم�ات عزائه�م لي أرقى
عت
تجر ُ
كنت أنا وحدي المصاب ،وحدي من ّ ألنّه في آخر األمر ُ
يهمني األمر.
العلقم ،وألنّني وحدي من كان ّ
يغير مأكلي
جدي أن ّ قرر ّ
مضي سنتين على وفاة والدتيّ ، ّ بعد
36
بالذه�اب للعي�ش عند الخالة ه�دى ،تلك الخالة التي لم ومش�ربي ّ
لجدي ،هي أكبر أكن أراها إلاّ في المناسبات فقط ،واالبنة المتبقّية ّ
وربما لصفتها تلك قد آثر من والدتي ،كانت لئيمة بعض الش�يءّ ،
ج�دي أن يقط�ن م�ع والدتي .اضطررنا إلى العي�ش معها رغب ًة من ّ
وافقت ألنّي
ُ قدم في العمر. ج�دي ال�ذي احت�اج إلى العناية ألثر ال ّت ّ ّ
وأحبب�ت الفكرة،
ُ ارتأي�ت أ ّن تغيي�ر موط�ن األل�م س�يكون أفضل، ُ
تحبني ،لس�بب مجهول ،والذي أظ ّنه رغم أن تلك الخالة لم تكن ّ
لكونها لم ُتنجب في عدد والداتها الثّالث س�وى البنات وبس�بب
زوجه�ا ال�ذي اش�تكى يوم� ًا في والدتها األخي�رة ،والتي كانت بعد
يورث اسمه، بذكر ٍّ وفاة والدي بعد س ّتة أشهر ونصف ،ألنّه رغب
وكاد أن يرغمها على إجهاض الجنين ،وليته فعل.
جدي فكرة طيب ،وهو الذي عرض على ّ زوجها «وديع» رجل ّ
ألح عليه في ال ّطلب ،والءمتني أوضاع اللجوء إلى العيش معهم ،بل ّ
واعتبرت نفس�ي غريب ًا
ُ العي�ش ف�ي منزله�م .أخذت ال ّطابق األخير،
خفيف� ًا ال غي�ر ،إل�ى أن يأت�ي يوم مغادرتي ،بدون رس�الة وداع وال
رت أس�ماء بنات خالتي بصعوبة لفرط وصي�ة أق�دار ،ح ّتى أنّي تذكّ ُ
ّ
الصغ�ر ،فقد كانت عالقت�ي بهن باردة العالق�ة البعي�دة معه�ن من�ذ ّ
قليلاً ،أتذكّ �ر أ ّن الكب�رى منه�ن صفعتني ،في الخامس�ة من عمري
لعبثي بصنبور الماء في إحدى ال ّزيارات ،ومنذ ذلك الحين وأنا ال
الذهاب مع والدتي رغم إلحاحها، وكنت أرفض بعد ذلك ّ ُ أقربهن،
ذهب�ت فال أقرب أحد ًا منه�ن .من صفعتني كانت ُ وح ّت�ى إن كن�ت
هي «فاطمة الزهراء» ،تكبرني بس�بع س�نوات ،وأختها «مريم» التي
أما الصغرى فيهن فكانت «ياسمين» ذبول زهر حظي تصغرها بسنةّ ،
37
الدونية منذ الصغر ،بل قبل أن تولد. العثر ،فر ٌد آخر حمل جينة ّ
ما زلت أذكر اليوم األول لي في المنزل ،لم أكن أعلم ح ّتى
كنت أسمع اسمها دون أن أن لياسمين وجود ًا في تلك العائلة ،بل ُ
أش�تم وجود ًا
َّ أعلم أنّها قريبتي .وحتى اآلن ال أدري كيف أنّي لم
لرائحة أزهار دمشق التي رتعت بينها .ح ّتى أنّي ظننت أنّها الخادمة
حضور ليٍ أول
مرات في ّ عندما رأيتها للمرة األولى .رأيتها ثالث ّ
مرة تلبس وزرة طبخ وتضع غطاء رأس بعقدة إل�ى المن�زل ،رأيته�ا ّ
السطح المط ّلتين على أرنبية على جبينها .ورأيتها أخرى من نافذتي ّ ّ
الخارج ،كانت تحمل كيس قمامة ترميه في الحاوية ،ح ّتى أنّي لم
أتفرس في مالمح وجهها .والثالثة عندما كانت تالعب هرة منزلنا ّ
التي انتقلت بدورها معنا.
مج�رد نظ�رات فق�ط ،وكان بع�د ال ّظهي�رة، ّ األول
كان لقاؤن�ا ّ
جدي التي نس�يها. ع�دت إل�ى منزلن�ا ألجلب حقيب�ة ّ ُ حي�ث أنّن�ي
ُ
الضخمة ،التي أتعبتني في السلالم حامالً الحقيبة اليدوية ّ صعدت ّ
ُ
وكن�ت س�عيد ًا لع�دم إمداد أحدهم الع�ون لي ،فذلك كان ُ حمله�ا،
صعدت بها إلى ال ّطابق ُ علي لحظتي المس�تقبلية. سيفس�د َّ بال ريب ُ
السطح لمحت باب ّ
ُ السطح ،كنت العلوي واألخير ،المتداخل مع ّ
وأكملت خطواتي ال ّتعبة نحو باب ال ّطابق على الموارب ،فلم أبال ِ
ُ
ارتميت علىُ وضعت الحقيبة ،ث�م ُ الس�طح الحدي�دي. يس�ار ب�اب ّ
أحد قدإح�دى األرائ�ك أف�رغ تعب�ي بنفس ٍ طويل ٍ ُمجهد .ل�م يكن ٌ
بالرغم من تأثيثه وجعله مكان ًا يصلح اتخذ من ال ّطابق مسكن ًا ،لذا ّ
والسكون والخواء لشخصين أتيا من منفى إلى منفى ،فغبار الوحدة ّ
فشعرت لحظتها بضيق ُ من األنفس كان ال يزال يجول في دهاليزه،
38
ضد الروائح ،فلم أجد مفر ًا س�وى أن في ال ّتنفس لحساس�ية أنفي ّ
فوجئت بها
ُ فوجئت بها،
ُ أفتح ال ّنافذة المط ّلة على السطح ،وهنالك
هي ذات الشعر األسود الذي يصل إلى خصرها ،كانت تحمل بيدها
الصغيرة .لم الس�طح ّ تطل من نافذة ّ غطاء رأس�ها األبيض ،وكانت ُّ
تشعر بوجودي من قبل ،وفور فتحي لل ّنافذة التي أصدرت صرير ًا،
فجائية تتماوج مع انس�دال شعرها الذي لمع في ّ اس�تدارت بحركة
عيني إزاء انعكاس ضوء ال ّش�مس على لونه األس�ود ،لوهلة وقتها ّ
ظنن�ت أنّ�ه ش�بح والدت�ي ،كانت تلك لحظة من ال ّش�وق بعد مرارة ُ
س�نتين أستس�يغ فيهما طعم النظر في عينين بنيتين تفيضان تس�اؤالً
القط لس�اني ،وانحبس�ت كلمة التحية في حلقي، ُّ أمي .أكل
كعيني ّ
ُ
ومئ برأس�ي مبتس�م ًا ،فر ّدت هي أيض ًا ابتس�امتي فلم أقدر إلاّ أن أ َ
دخل�ت إل�ى قوقعت�ي وراء ال ّنافذة ُ بأخ�رى صغي�رة بغمازتي�ن ،ث�م
ِ
مت على كنت تعب ًا ،فن ُ أتفوه بكلمة ،وقد ُ كس�لحفاة خائفة دون أن ّ
مخيلتي كهاجس.. لكن عينيها علقتا في ّ ّ فوري،
أول م�ا عرفته�ا ،لقائ�ي الثّاني بها كان�ت ياس�مين حذق�ة م�ن ّ
خرجت
ُ وكنت وقتها
ُ والذي أتى سريع ًا وفي اليوم نفسه ،كان ليالً،
إلى السطح ،حامالً حصيرة أجلس عليهاُ ،م ّتكئ ًا بظهري على حائط
ومس�تند ًا إل�ى وس�ادة .ل�م يمض ِ زم�ن قصير على جلوس�ي ،ح ّتى
فأشرت بإشارة ٍ صوتية: ُ س�معت طرقاتٍ على باب ال ّش�قة الصغيرة، ُ
سمعت صرير الباب الحديدي ُيفتح والذي ُ جدي»، «أنا هنا أنا هنا يا ّ
تركته ش�به مغلق ،كان الباب على يس�اري ويبعد ع ّني حوالى ثالثة
ُلت دون أن أنظر على يساري« :تأ ّخرت، جدي ،فق ُ حسبت أنّه ّ
ُ أمتار.
أهذه ك ّلها صالة؟!» .جذبت أنفي رائحة زكية ،فاستدرت حينها على
39
مرة أخرى .قالت لي« :إنّهم ينتظرونك يساري ،فإذا بي ألتقي بعينيها ّ
شيء من الحزم« :سآتي بعد قليل». ٌ على العشاء» ،أجبتها بنبرة فيها
ل�م ُتغ�ادر واقترب�ت حيث أجلس ،وقالت« :م�اذا تفعل؟» ،لم أفكّ ر
شعر إليليا أبو ماضي ،فأجبتها مقتبس ًا منه« :كما ٍ حينها إلاّ في بيتِ
أمل فال ّتأ ّلم .»!..قالت تمازحني« :ال
يفع�ل أولئ�ك الذين يريدون ال ّت ّ
قلت لها« :مضت جاهلي ًا» ،ثم أضافت« :آسفة على خسارتك»ُ . ّ تكن
سنتان اآلن ،فال داعي ،»..ثم أردفت« :آسف على سؤالي هذا ،ولكن
من أنتِ؟» .س�معتها وهي تحاور نفس�ها همس� ًا تقول« :صحيح ما
قلت لحظتها« :وهل أعرفك؟» .قالت: جدي ،ال يعرفني حتى!» ُ قاله ّ
تس�اءلت بدوري مع
ُ «لنقل أني قريبتك الصغرى في هذه العائلة».
أفس�حت
ُ نفس�ي بأنّي أعرف فاطمة الزهراء ومريم ،فمن هي إذن؟.
لها مجاالً للجلوس ،جلس�ت وألصقت ظهرها على الحائط مثلي.
ق ُل�ت له�ا« :إذ ًا اس�مكِ هو؟« ..قالت وهي تس�تف ّزني« :أال تخجل!
هذه بداية خاطئة يا قريبي ،والدتك أعطتني اسمي وأنت ال تعرفني
ول�م ترن�ي ف�ي حياتك ،ال يليق هذا ي�ا بن الخالة ،ال يليق!» ،قلت
ش�عرت بالحرج« :آس�ف ولكن ،»..قاطعتني« :أمزح فقط» ،ثم ُ وقد
أسهل عليك األمر؟»، فت« :لكن يجب أن تكتشفه بنفسك ،هل ّ أر َد ْ
قلت« :من فضلك!!» ،قالت« :اس�مي على اس�م نوع من األزهار»،
رحت أفكّ ر ،ولم يخطر في ذهني س�وى ُ متعجب� ًا« :أزه�ار!!».
ّ قل�ت
ُ
كنت أس�مع اس�م ياسمين دون الياس�مين صديق طفولتي ،كما أنّي ُ
السنين.
أن أبالي بهوية حاملته طوال تلك ّ
كنت أحاول التفكير بعمق ،كانت اللغة اإلنجليزية تأخذ ك ّلما ُ
فقلت بصوتٍ قريبٍ للهمس أحاور به نفسي دون أن ُ لساني عنو ًة،
40
أعي أنّها ستسمعني:
»?«Could she be Jasmine
جاءني ر ّدها سريع ًا ،فضربت كتفي بيدها وقالت:
»!«Yep! She could be
ضحك�ت م�ن اس�تهتارها وقل�ت« :إذن فلا داع�ي ل�ي م�ن ُ
ِ
كن�ت أعرف�ك وأجهل�ك في الوقت نفس�ه» ،قالت« :هذا ِ االعت�ذار،
ُ
الصدى: ٍ
وقلت بصوت عديم ّ ُ السماء
هززت رأسي نحو ّ ُ ما يبدو».
«نع�م هك�ذا تب�دو علي�ه األمور ،قل�تِ إن والدتي ه�ي من أعطتكِ
س�متكِ األموات،
فقلت أنا« :أنت أيض ًا ّ ُ اس�مك؟» .أومأت إيجاب ًا،
كل ِ
أعتقد أنّه لن تخفى عنك حروف شخص شهير مثلي ،فرد فقد ّ
أبوة وأمومة» .قالت «ربما» ،قلت وأنا أش�يح وجهي ما يملك من ّ
عنه�ا نح�و األف�ق« :ليس عدالً» .س�اد ش�يء من الصم�ت بيننا بعد
ش�طرت اللحظ�ة بضحكة طائش�ة خرجت م�ن فمي ،فقالت ُ ذل�ك.
«أتصدقين ،ظننتكِ خادمة المنزل»،
ّ ل�ي« :إذ ًا ،م�ا المزحة؟» ،قل�ت:
متحدية كاألطفال« :ال يليق ،ال ُيناسب ،كنت ّ أجابتني بنبرة ساخرة
تجهلن�ي وتجه�ل وج�ودي ،واآلن ظنن�ت أنّي الخادم�ة ..ما هذا..
قل ..ماذا أيض ًا؟؟!!» .قلت: قلْ ،
هل لديك ش�يء آخر ال أعرفهْ ..
ٍ
«كل شيء جديد هنا ،فكوني لطيفة من فضلك» ،قالت« :أتعلم ،أنا ّ
كل هذا ،س�أجعلك تعيش جحيم ًا عصبية ،قد أفعل بك ش�يئ ًا بعد ّ
نهضت قائالً حينها بعد أن اكتفت غدة مزاحي« :افعلي ُ إذا أردت».
ما تشائين ،».ثم أردفت« :أنا جائع ،أنذهب أم ماذا؟» ،قالت« :هيه!
ِ
قلت مغادر ًا وه�ي تتبعني« :الحق ًا ،الحق ًا» ،بعدها ل�م أنت�ه منك!»ُ ،
غادرنا إلى العشاء.
41
العشاء ،أن ال يكون
كل لقمة في ذاك َ تحايلت على نفسي في ّ
ُ
ٍ
كل عود يابس ٍ
جيد ًا أن قدر ّ
كنت أدري ّ للقدر يد في كل ذاك ،ألنّي ُ
ٍ
كل زهرة ُتنبذ ..هو ّ
الذبول. هو الكسر ،وأن مصير ّ
42
IV
م�رت تس�ع س�نوات عل�ى وفاة والدت�ي ،هي مقتب�ل عمري، ّ
س�ت وعش�رون سنة أحملها أعداد ًا .تغيرت حياتي قليالً مع عملي
غادرت منزل خالتي ُهدى وأنا في العش�رين من ُ وم�ا ط�رأ بع�د أن
عمري إلى فرنسا بهدف الدراسة ،أربع سنوات زادتني فيها الغربة
جدي وياس�مين ،وغرفتي افتقدت في ذلك المنزل ّ ُ إيالم� ًا ووجع� ًا،
بجدرانها األربعة التي تركت على أحدها شرخ ًا صغير ًا يعود للكمة
غضبت
ُ سبابتي اليمنى ،عندما بيدي ،والتي بسببها كنت قد كسرت ّ
من كالم ٍ قيل وراء ظهري من خالتي ُهدى ،وهي تتجاذب أطراف
�ن يتوافدن عليها الحدي�ث عن�ي مع جماعتها من النس�اء اللواتي كُ َّ
كل يوم س�بت للحديث .ويبدو أ ّن ولعي باآللة الحاس�بة ترك أثر ًا،
ألعمل محاس�ب ًا في ش�ركة صغيرة أُ ّسس�ت من طرف جدي الذي
تركها ألحد أصدقائه بعد أن رفضت أنا رئاستها ،فلم أرد أن أظهر
للعلن ،كما أني لست محتاج ًا لذلك القدر من األهمية ،فقد كنت
أؤمن بأني يوم ًا ما س�يحدث لي ما أعيش�ه اآلن ،كما أني لم أكن
علي ذل�ك المنصب من المال ،فقد ورثت محتاج� ًا إل�ى ما س�يدره ّ
كل ما يملكه والدي ووالدتي شرع ًا ،وما ورثته و ّزعته على جمعيات
ب�وة ،فأنا أيض ًا
ي�ورث األنبياء ش�يئ ًا لبنيهم غير ال ّن ّ
خيري�ة ،وكم�ا ال ّ
43
متكس�رة كا ّلتي كان يحملها والداي .وحس�ابي البنكي ثت روح ًا ِ
ور ُ
ّ
ممتلئ ينتظر أن ُيصرف فقط ،ويا ليتني كنت كذلك الشخص الذي
يتمنى حدوث أمنية صرف أمواله في ش�راء الس�عادة ،والذي يتمنى
لو كان في استطاعته أن ينقب عن الذهب والماس ،ليشتريها كلها
كنت حكيم ًا ويكنزها ويتنرجس فيها لوحده ،فيخدع نفسه بالحياةُ .
ألخت�ار الح�زن بيع�ة ،فهو ال يكلف ش�يئ ًا مقابل�ه .ليس األمر كأني
أحاول ساعي ًا في جعل نفسي كئيب ًا ،فذلك يحدث من تلقاء نفسه،
وكون�ي ه�ذا الش�خص م�ا هو إال رغبة في ع�دم التألم ،فأن تخدع
عقلك الباطن بحالتك يغنيك عن الصدمة التي تأتيك فجأة ،ألنك
تكون مهيأً للحزن ،فال يشكل ذلك فرق ًا.
حب�ذ قت�ل الماض�ي ،ألن�ه ال يم�وت ،ول�م أع�د أحاول ُ
ل�م أ ّ
وكلأدركت أنّه مهم�ا حاولت ،فال ُيمكننيُّ ، ُ جاه�د ًا ال ّنس�يان ،فقد
أصبح�ت ق�ادر ًا علي�ه ه�و أن أعبث بمحو بع�ض أجزائه ،فكما ُ م�ا
كان�ت القاع�دة منذ القدم ،بأنه يلزمني كإنس�ان كي أمحو منحنيات
الذاكرة أغير نمط عيشي وأقد ِ َم على عزل بحار ّ الرتابة فأواصل ،أن ّ ّ
ِ َ ٍ
المتش�ابكة بتغيي�ر األف�كار بأخرى وأخذ س�بل أخ�رى كي ال أك ّل،
ذكاء على ً فق�د أصب�ح كل ي�وم أملك�ه صراع ًا أحاول في�ه أن أزداد
الصمت وحدها أش�كال ما يغمرني ،الس�يما وأن األصداء ولغات ّ
حياة بش�قّتي ،ال أنيس لي غير اهلل وكلمات على كتب ،إضافة إلى
اإليحاء المخيف لجدران شقتي الملتحفة برائحة الفراغ.
ما مضى ذهب ،ولم يعد الماضي اليوم يمثل لي شيئ ًا ،أمسى
ٍ
ب ع�دو ُيتط ّل ُ
ٍّ أروضه ،أو مثلمث�ل حي�وان ش�رس ُيحت�اج م ّن�ي أن ّ
م ّن�ي أن أع ّلم�ه لغ�ة الح�روب جي�د ًا بتلقينه درس� ًا ف�ي الهزيمة ،ال
44
يس�عني إلاّ أن أقول إنه أصبح حليفي ،فك ّلما زاغت ملكة س�ؤالي
الحق أنّه قدّ عدت إلى سيرتي الغابرة هناك. ُ في ال ّتنقيب عن جواب،
وربما ما زال اكتفى في سنين خلت بحقن إبر المرارة في روحيّ ،
فغدا أمر ًا طواعي ًا يش�كّ ل خطر ًا مهمالً، اعت�دت عليه َ
ُ وربم�ا
يفع�لّ ،
أشعر بخطره أحيان ًا ،لكن سرعان ما ُينسى مع األحزان التي تتلقّفني
أصبحت على غي�ر العادة، ُ وترم�ي ب�ي م�ن دربٍ إل�ى درب ،فق�د
امرء ًا ُع ّدلت عجينته كي يعيش على الحزن .وليس هذا شاذ ًا أيض ًا،
ملج�إ لتتد ّثر ،فال تجد ٍ تبحث عن
ُ فكلمات�ي مثل�ي ،حزين�ة وهارب�ة
سبيالً غير دواخلها كما ألجأ أنا إلى دواخلي ،وسعادتي لم يكن أمر
مهم� ًا ،ب�ل لم تعد مهمة ال قِدم ًا وال في هذه اللحظة وال وجوده�ا ّ
التي بعدها ،فأنا أدري أنّي لس�ت أهالً ألنتمي إلى طبقة الس�عداء.
كل ش�يء قد ال يجد وال تعاس�تي هي األخرى تهم ،فالذي اغتيل ّ
يتبق سوى ملجأ أفكار ي ّتقي فيه من دخان ما و ّلى من أحداث ،فلم َّ
أشد سواد ًا من عتمة الليل ،فرهبة عتمتي التي تنيرني ظلمةً ،باطني ّ
أما أنا فماذا يضيئني؟ ومن كل األحوال بمصابيحّ ، الليل ُتضاء في ّ
يضيئني؟ يمكن أن أقترح «المش�اعر» ،لكن لس�وء الحظ ،انخفض
أقل خطر ًا تركيز عواطفي على نفسي وعلى هذا العالم بأكمله ،ليلي ُّ
نة تفاعل من سهدي القابع في بواطن الصدر ،والذي يراقب دون ِس ٍ
ُ
يحرك وتر ًا.. الدنيا بعضها مع بعض دون أن ّ مكونات ّ
ّ
وضع�ت الوقت ف�ي حالة انتظار ،وأوقفت ُ كان الئق� ًا م ّن�ي أن
علي وماتأمل ما يطرأ ّ عجل�ة الزم�ن وعقاربه�ا التي تدور رغب ًة في ّ
ُيفتع�ل ب�ي ،ألنّ�ي كن�ت مدرك ًا أن األمل المس�تقبلي لن ُيعيلني في
ش�يء ،فلن ينفعني القلق من يوم نهاية مجهول ،وال أريد أن أُب َّش�ر
45
بال ّتنازل عن حزني ،ولن يكون من الحكمة تركي له وتركه لي ،فقد
ووجوب ًا م ّنا لف�ظ ال ّنفس األخير مع ًا،
ُولدن�ا مع� ًا م�ن رح�م واحدةُ ،
فهجرته نية في ا ّتباع حدس ٍ من حديث القلب ،سيزيدني غُصص ًا في
هدينا واحد.فحزني جهاديُ .. اشتياقي للاّ شيء ،فال أريد إجهاضهُ ،
الرب على ألم ُيخلق اإلنس�ان في كَ َبد؟! عس�ى أن يس�امحني ّ
غلوي.
ِّ
بقوة ما
كنت رجل الوق�تّ ، أفكّ �ر أحيان� ًا ،م�اذا ل�و حدث أن ُ
فأغير الذي طرأ والذي س�يطرأ بعده، الس�فر عب�ر األزمنةّ ، أمكنن�ي ّ
كأن أُهات�ف ،ي�وم والدت�ي ،وال�دي برق�م مجه�ول ،وأخب�ره بعدم
الخ�روج م�ن بيت�ه أل ّن لعن� ًة س�تحل عليه إن خرج ،أو أتس� ّلل إلى
ووجوب فأزف خب�ر ًا كاذب ًا بحظ�ر التجوال َُّ الحي�ة
مطبع�ة الجرائ�د ّ
س�ام يحوم في يوم األحد البقاء في المنزل بس�بب طاعون ٍ أو ٍ
غاز
ٍّ
أغير مثالً يوم والدتي إلى يوم ف�ي أرج�اء مدين�ة الدار البيض�اء ،أو ّ
آخر غير يوم األحد ،كأن يكون يوم االثنين أو غيره من أيام اهلل..
أي ش�يء فقط ألحظى بطبيعة ش�خصية مش�رقة تنبض مهما يكنّ ..
بالحيوية.
لكن المش�كلة أنه حتى لو أمكنني ذلك ،فلن أُفلح في تغيير ّ
تحدي الطبيع�ة وقوانين الكون ف�ي عالقتها مع ش�يء ،فلا ُيمك�ن ّ
نجح�ت ف�ي العبث بالماض�ي ،فعودتي إلى ُ مش�يئة اهلل ،ح ّت�ى وإن
وس�يرديني جالس� ًا على مقعدي ُ الحاضر الذي تركته ،س�يعبث بي
أُس�مع نقرات فوق ورقة تحت س�طح خش�بي ،ألنّه ال عشوائية في
كل فع�ل ٍ وحدث حكمة أم�ر بمقدار ،وفي ّ ف�كل ٍ
ّ ح�دوث األم�ور،
يغير
تقبلي أو رفضي لن ّ يعلمها الذي فطرني على ما أنا عليه اليومُّ ،
46
لتركت
ُ سيد الموقف ،فلو كان بيدي، ش�يئ ًا ،وبعد ،س�يبقى االعتياد ّ
محدد بسعادة مطلقة ،إلاّ أن ّ عمر محدد وفي زمن ٍ بقاء في
ال ّتمني ً
أفعال ال ّتمني ما هكذا تعمل!
يخي�ل ل�ي أنّي بدأت أُصاب بالجنون ،وس�يماء العجز المبين ّ
علي ،وال يزيدن�ي انتمائي ألفراد ال�ذي ال يلي�ن ،ظه�رت أعراض�ه ّ
جماعة الحياة ،لعدم كفاءتي سوى مرارة.
الضمور فلماذا إذ ًا؟ لماذا ّأيتها الحياة؟ لماذا وس�متني بطابع ّ
الرمادي ،ولماذا أُترك جريح ًا بالفقد ،ومكس�ور الجناح في ش�بابي ّ
أفضل كفرخ يفقد معنى وجوده المتمحور حول ال ّطيران والمالحةّ ،
رب على هذا ال ّتعقّل الشبيه بالحمق! بالمرة يا ُّ ّ أجن
ّ أن
الصاخب�ة هذه ،بأنّي ل�م أعد أقبل العيش إلاّ ُ
أدرك ف�ي ليلت�ي ّ
وأف�كار محايدة وباستش�عار ب�ارد أيض ًا، ٍ بلغ�ة فق�د وبمش�اعر ر ّث�ة
التحجر والغالظة ّ غدوت كبلدة فصولها خريف وشتاء .فلماذا هذا ُ
ف�ي ال�كالم ،ولماذا تعاندني الدموع ،هل أصبحت عالم مآس ٍ دون
أن أدري؟ أأل ّن ق�در الحزان�ى أن يعت� ّزوا بصف�ات مكفهرة ٍ كتلك؟.
ولدت فيه إلى هذا ُ مهي�أً منذ بداية ذلك األحد الذي كن�ت ُّ إذ ًا فق�د
األحد الذي أعيش في ليلته هذه قبل حلول صباحه المقيت..
كان جب�ران يق�ول« :أري�د أن أموت ش�وق ًا ال ملالً» .س�يكون
أخ�ذت كلمات�ه ملاذ ًا أو قبر ًا لي .فهل س�ينفعني ال ّش�وق ُ ع�ار ًا إن
أحن
ّ ي�ا صديق�ي؟ لن ُيفيدني في ش�يء حي�ن المغادرة ،ال أريد أن
أمل الذع ،وما أذرفه كلماتٍ تعبير ًا عن نواحي إلى شيء ،فال ّشوق ٌ
ويس�عفني مالمة العين التي تدمع في كل فؤادي األخرسُ ،يعيلني ُ
أظن بأنّي لم أعد قادر ًا على البكاء. أصبحت ُّ
ُ يوم وليلة ،لدرجة أنّي
47
أتركُ قلمي وأنزع ن ّظارتي ،وأغيب عن الزوايا األربع بخطواتٍ
ّ
عيني
ّ ثم أُ ُ
غمض سماء شاحبة مثليّ ،
ً نحو سريري ،ألمح من نافذتي
مستعد ًا ألستيقظ
ّ خائر القوى ،ممتلئ ًا ّ
بغصة مرارة أنام على مضضها
عليها محروم األمنيات..
48
49
I
فجر آخر تستقبله حواسي ،أستيقظ على صوت يرن بنغمة بيانو
وكمان ،أراقب س�قف الغرفة قليالً كي أس�تعيد ذاكرة الحاضر التي
ثم أعبر من ّبر النسيان الذي افتعله خلفتها أمس ،أفيق من سباتيّ ،
النوم إلى ض ّفة ال ّتذكّ ر لمواجهة يوم آخر ّ
بالروتين نفسه.
أتوض�أ ،ألبس ما
ّ يص�دح ص�وت الم�آذن ف�ي أذني فأنه�ض،
ث�م أذه�ب ألص ّلي الصبح في المس�جد يحمين�ي م�ن ب�رد فبراي�رّ ،
بمع�دة خاوي�ة ،ث�م أخ�رج من المس�جد تارك ًا س�جدات ُتزيل ع ّني
مشكوين إلى اهلل .أعود وأنا أس ّلم على
ّ ثقل خطيئاتٍ وألم ًا وغضب ًا
بعض الجيران ،أحادث قليالً بعض الذين يعرفونني ،وأعرج بخطاي
فران الح�ي المقابل للعم�ارة التي ٍ
المتعب�ة لش�راء خب�ز ط�ازج م�ن ّ
أس�كن فيه�ا ،عمارت�ي الواقعة على الحد األخير من ش�ارع محمد
مجرد س�كون يداولها الخامس .وما ُيحيط بالمنطقة التي أس�كنهاّ ،
مش�يدة ،تبدو كأنّه�ا قاربت على االنته�اء فلم تكتمل، ّ ومب�ان ٍ ش�به
الرمادي واآلجر وقضبان الحديد فأصبحت مهجورة يسكنها ال ّطوب ّ
وأشعة الشمس.
ّ والرياح
والخشب ،والتي نخرتها ال ّشتاء ّ
أستعد للدخول إلى شقّتي التي تلتحفني وتتقاسم معي مرارة ّ
األيام .باردة هي ،وغريبة مثلي ،أو باألحرى أنا الذي جعلتها غريبة
51
مرة قب�ل امتالكها ،أ ّن أول ّ
كل حائ�ط بل�ون مختل�ف .أذكر ّ بصب�غ ّ
تتس�رع ،س�أجد لك ش�قة غير هذه، ّ صاح�ب العم�ارة ق�ال لي« :ال
ال ت�زال قي�د اإلصلاح» ،لك ّنه�ا لم ُت َر لي بذل�ك العطب ،فموقعها
صبرت أسبوعين إلى أن ُ أما الباقي فلم أبال ِ به،
هو الذي جذبنيّ ،
غبتُ كنت قدأتيت إليها كي أبدأ رحلة أخرى في مدينة ُ ُ ُتصلح ،ثم
الدراسة وأشياء أخرى. عنها بسبب ّ
عد واجب ًا
حين أفتح قفل الباب وأخطو خطوتي األولى فيهاُ ،ي ُّ
ليرت�د إل�ي الص�دى م�ن الفراغ الدام�س بصالون ٍ السلام ُ
ّ ّ ّ أن ألق�ي ّ
سجادة ،تركته خالي ًا ٍ ٍ
أي زينة ،ال فرش وال ّ قبالتي ،صالون خال من ّ
فلا وظيف�ة ل�ه عن�دي غير ال ّتج�وال فيه ،فغالب ًا م�ا أدور حلقات به
عصبية ترهقني ،كما أن من يزورونني قليلون، ّ عندما تتم ّلكني فكرة
زائر كان ،زيادة على أ ّن ش�قّتي فغرفة المعيش�ة تكفي الس�تقبال أي ٍ
والديكور الذي أورثته من نفسي إليها ،فإنّها ال تصلح رغم حجمها ّ
للرؤية.ألن تكون مكان ضيافة ،فهي مليئة بي ،وما بي ..ال يصلح ّ
ش أس�تفيق ب�ه من خمولي. أب�دأ صباح�ي االعتي�ادي بأخذ ُد ٍّ
وأضع كريم ش�عر أل ّطف به ش�عري األس�ود الب ّني الذي ُيصبح شبه
ناع�م م�ن أث�ر تق ّلبات ال ّنوم .أض�ع إبريق الماء فوق الموقد ،أصنع
الصباحي وأتلوه بتحضير ش�راب ثمالتي :القهوة .بعد ذلك ش�ايي ّ
أطل من ش�رفة غرفتي أُش�عل عود بخور ،ثم أضع مائدة إفطاريّ .
على مدينة اس�تفاقت من نومها بعد لحظات ،وهدير رياحها الذي
س�رعان ما س�يقوم بخطواته األولى في تحريك رايات علم البالد
بش�ارع محمد الخامس ،الذي يبدو من بعيد وكأنّه مس�ار ال نهاية
ل�ه ،فق�ط نق�ط تالش ٍ وس�راب تتراءى من بعيد على ش�كل أضواء
52
ورؤوس بشر وسيارات وأشياء أخرى تشبه ما سبق.
أحضر إبريق الشاي ّ ُيشير صفير اإلبريق فأعود إلى المطبخ كي
ثم أصنع على مهل ٍ قدح قهوتي منسمةّ ، أعده بال أوراق ّ األخضرُّ ،
الم ّر ،وأهجره إلى أن يبرد.
ُ
ٍ
أجل�س ألفط�ر مع حزن يتلقفني ك ّلما أنيرت ذاكرتي وارتوت
مربى ،فحالوة ال ّشاي دمائي ،آكل خبزي بدون تحلية ،ال جبنة وال ّ
اعت�دت على ذلك ،فال ّطعام غدا له ذوق آخر بعد ُ تكف�ي ،ولكون�ي
حواس�ي .أنته�ي من إفطاري، ّ تتذوقه
ّ يتذوق�ه عقل�ي وال
الم�رضّ ،
فأرشف بعض قهوتي ،ثم ألبس قميصي األبيض وسروالي األسود،
ثم قميص ًا قطني ًا .أمسح زجاج ن ّظارتي وأضعها ،وشعري ال يدعوني َّ
ثم أضع ساعتي في يدي لمشطه فيدي تكفي بإرجاعه إلى اليمينّ ،
اليمنى وخاتمي ال ّنحاس�ي في بنصر اليد نفس�ها ،بعد ذلك أرتدي ُ
ّ ً ِ
معطفي الب ّني فوقي تدثرا مقفالً أزراره.
بعد أن أنتهي من هندمة نفسي ،أُكمل قدحي الذي بردّ ،
أتلذذ
ثم أدير مش�غّل بطع�م القه�وة الب�اردة ،أحتس�يها ح ّتى آخر رش�فةَّ ،
الس�يدي بس�ورة البق�رة ،ك�ي تزيل اآليات ش�حناتٍ س�البة بعد أن ّ
أُغادر ،بأخرى ُتضفي بريق أمل من كالم اهلل..
الثّامنة تمام ًا ،أكون قد خرجت .وإنّي لأَ خرج إلى ّ
الدنيا كمن
سيارتي ،وآخذ محرك ّال يعرف شيئ ًا وال يريد أن يعرف شيئ ًا .أدير ّ
طريقي انعطاف ًا على زنقة القرطبي ،والتي يزعجني هواؤها الممتلئ
ثم طوالًبرائحة المصانع ،فأعبر إلى شارع الجيش الملكي يسار ًاّ ،
بدواس�تي نح�و ش�ارع أنفا ،حي�ث يقبع مكان عمل�ي الموجود في
(غوتيي.)Gautier /
53
السلالم .عندما أدخل أس� ّلم أتحاش�ى المصعد دائم ًا وأصعد ّ
أمر بالقرب من مكتبه إن تالقت أعيننا. على من ألقاه أمامي أو من ّ
ٍ
أمل ،فذلك ُيريحني بطريقة ما. أر ّفه عن نفس�ي في العمل ،بل ال ُّ
مرة يعقدونها فال أحضرها ،رغم أنّها وأكره تلك االجتماعات ،وكم ّ
إجباري�ة ،أكتف�ي وقتها بإعداد ملف على حاس�وبي ،فأضع أفكاري
التي ال تنتهي والتي يمكن أن تس�اعدهم بعد أن آخذ من صديقي
هم به ،فأنس�خه وأعطيه ورئيس�ي «س�عد» موضوع االجتماع الذي ّ
والح�ق أن أمر
ّ لس�عد ال�ذي يغ ّط�ي عل�ى حض�وري بينه�م بملف.
ال ّشركة ك ّله ال يعنيني الب ّتة ،أقوم بعملي وكفى ،فالتطوير ،والتقديم،
والتأخير ،واالستئناف ..مصطلحات بأفكار أحتفظ بها لنفسي ،كما
أن�ه ال طائ�ل ل�ي من التفكير في ح�ل وضعيات ال تضاهي وضعية
نفسي ،والكالم كثير ًا ُيرهقني ،فدائم ًا ما أجعل الكلمات تنوب ع ّني.
ربما لهذا الصباحية سريع ًاّ ،
تمر فترتي ّ يمر الوقت سريع ًا هناّ ،ّ
تصوفي المعتاد في ش�قّتي.. ً
أح�ب العم�ل أكثر ،يجعلني بعيدا عن ّ ُّ
غير أ ّن هذا الجسد المتعب وهذا القلب الجافي ال يتركانني ،حتميتي
أن أجلس عند قداسة تلك العذراء ،فأنا أخاف عدم ترك األثر.
الثانية عشرة د ّقت ،وقد تبقّى نصف ساعة ويحين وقت الغداء،
ارتأيت أن أُكمل الثالثين دقيقة كما أفعل دائم ًا ،في تدقيق السجالت ُ
ش�باك ٍ
وفي كتابة تقرير س�ريع .ثم أنتهي بس�قي نبات موجود داخل ّ
ال ّناف�ذة ،بر ّش�ه بم�ا يتبقى من قنينة الم�اء المعدني الموضوعة فوق
كل األح�وال ،دائم� ًا ما تكون خطوت�ي الموالية أحد مكتب�ي .وف�ي ّ
األمرين؛ إما أن أتغدى مع سعد في المطعم ،وإما أذهب إلى شقتي
ألستعد لتعب ال ّتدوين.
ّ ألنام قليالً بعد ال ّتعب،
54
آث�رت أن أتغ�دى م�ع س�عد في مطع�م بالقرب من الش�ركة.
وجدت سعد ًا ينتظرني قبالة الباب الزجاجي الكبير للشركة .قبل أن
أخرج ،أخذت كوب قهوة بالستيكي ًا صغير الحجم من ماكينة القهوة
جد ًا ،أكره
الموجودة قبالة مركز االستقبال ،قهوة مجانية ،وأكرهها ّ
القهوة التي ال تصنع باليد ،كما أكره تفضيل آلة على يد ٍ ال س�يما
يحض�ر ش�رابي ،ورغم األفكار الت�ي تراودني عن القهوة اآللية، ّ م�ا
فإني أشربها بكل تق ّزز ،أصبر على الكافيين الذي يحتاجه جسمي.
ذهبن�ا إل�ى المطع�م المجاور ،وغالب ًا ال آكل كثير ًا ،فأنا أذهب
مع سعد للحديث فقط ،ثرثار هو ،وأحب ثرثرته تلك ،وال أعرف
كيف أستس�لم لهذا الش�قي الذي يدفعني للحديث دائم ًا ،ويجعلني
أتبادل معه السخرية.
ج�اء الن�ادل بع�د أن جلس�نا وق�ال« :كالمعتاد دائم� ًا؟» ،أجابه
س�عد« :نع�م وعلب�ة س�جائر» ،قال صديقن�ا النادل« :عش�رون دقيقة
ويجهز» ،وقبل أن ينصرف ،تذكرت أن القهوة التي بيدي يكفي ما
صبرت عليها فناديته قائالً ..« :وقهوة سوداء من فضلك» .قال لي
سعد« :أال تكتفي من ذاك السم ،أن تبدو متعب ًا طوال الوقت» ،قلت
دون النظر إليه« :كما أنت تشرب سم سيجارتك لتشبع رغبتك ،أنا
أيض ًا أش�رب س�مي كي ال أش�عر بثقلي» قال لي« :ولكنك شره في
حقن الكافيين» ،أدرت رأسي نحوه ،ثم قلت« :على كل ،هي جزء
م�ن ارتوائ�ي ،ال أبال�ي بما يفعله الكافيين ،أعلم أن الس�جائر تضر
أكث�ر م�ن القه�وة ،ولكن لو لم تكن الس�جائر تنفث دخان ًا وتحترق
ألدمنتها ،إال أني ال أحب األشياء التي تحترق بالنار ،لن تتآلف مع
لهيب�ي ،ل�ذا فأن�ا أحتاج س�ائالً ألطفئ قليالً من�ي ،والقهوة هي أداة
55
ألمي ،وعصاي التي أهش بها على غنم استيقاظي» ،قال لي« :افعل
ما تش�اء ،»..ثم أش�عل س�يجارته المتبقية في علبة س�جائره ،وأخذ
جرعت�ه األول�ى منه�ا ونف�ث دخانه ف�ي الهواء ،ثم قال« :أنا س�عيد
أنك ال تدخن ،لكني لم أعلم أنك تحب أن تجعل نفسك تعاني»،
قلت وأنا ألوح بيدي ألزيل دخان الس�جائر« :ليس األمر كذلك يا
أعود نفسي أن أحيا هكذا ،ألن الحياة صديقي ،كل ما في األمر ،أنا ّ
ليس�ت عادلة كما تبدو ،وأنا ال أريد أن أحترق كس�يجارتك بلهيب
التوقع�ات ،أن�ا أحي�ا فقط بقلب معطوب ،وعندما تعيش كثير ًا تتألم
كثي�ر ًا ،»..قاطعن�ي س�اخر ًا« :تتح�دث وكأنك في التس�عين أو المئة
من عمرك ،وكأن رأس�ك اش�تعل ش�يب ًا» ،فأجبته بعد أن احتس�يت
آخر رش�فة من تلك القهوة الكريهة« :يا صديقي ،اإلنس�ان ال يهرم
بالسنين ،بل باألحزان» ،صمت بعد قولي قليالً ،ثم قال وهو يبتسم:
«فهمت ما تريد قوله» ،وأنهى الحديث بإش�عال حاس�وبه المحمول
لعيني التأمل من بعيد في حمامة بيضاء ّ الذي يجلبه معه ،وأنا تركت
تشرب من نافورة صغيرة تقع بالقرب من المطعم ،قائالً في نفسي:
«متى يأتي السالم».
هم س�عد بأكل البيتزا المتوس�طة جاء النادل بأطباقنا المعتادةَّ ،
الحجم ،وانتهيت أنا من الس�لطة س�ريع ًا ،وهممت بش�رب سودائي
ألعيدني إلى نفسي.
ِ
ل�م أن�ه قدح�ي ،وعي�اء م�ا بعد العمل أش�عرني بال ّن�وم فجأ ًة.
و َّدعت سعد ًا سريع ًا ،وحملت حقيبة سوداء صغيرة كنت قد جلبتها
ركبت س�يارتي ،واس�تغرقت ُ معي ،فيها بضع أوراق تخص عميالً.
المسافة من المطعم إلى العمارة عشرين دقيقة .ركنت السيارة قرب
56
رصيف المبنى ،حملت حقيبتي ،ثم توجهت نحو الباب ،وقبل أن
دت أدراجي بمسافة أصعد الدرج ،تذكرت أني لم أُقفل السيارةُ ،
فع ُ
زر اإلقفال األتوماتيكي عن بعد. ضغطت ّ
ُ ثم
قصيرة عن المدخلّ ،
ال أحب استعمال المصعد ألن فيه مرآة ،وأنا ال أحب المرايا
ألنّه�ا ُتظه�ر مكام�ن ال ّنقص في الجس�د ،وألني ال أري�د أن أُواجه
وجه�ي بمالمح�ه التي أصبحت ش�يئ ًا ما ..بلي�دة وصامتة .ما ُ
زلت
أذك�ر يوم� ًا عندما كان�ت إحدى الجارات تقيم حفل خطوبة ،أعتقد
وكنت أريد الصعود بعد أن كنت ُ مساء،
ً أنه كان البنتها ،وكان ذلك
عرجت على محل تأمينات أراجع ُ ثم
قد خرجت لش�راء ال ّش�ايّ ،
بع�ض الحس�ابات ،فطال غيابي ثالثين دقيق�ة فقط ،وعندما عدت،
كان ال�درج ال�ذي نزل�ت منه عند مغادرت�ي مكت ّظ ًا بالناس .صعقت
لحظته�ا بكث�رة األوج�ه ومس�احيق التجمي�ل المفرط�ة التي تضعها
النساء ،ولم يكن لدي خيار غير المصعد ،فعلى أي حال تجد فرصة
الصعود فيه بضغطة زر وانتظار .كنت أنتظر أنا وشخصين آخرين،
امرأة قصيرة مع ابنتها أو قريبتها أو ما شابه ذلك .حين أضاء الزر
ترددت في
ُ األخض�ر للمصع�د ،ضغطت الس�يدة ال�زر ،ف ُفتح باب�ه،
الصع�ود ،إال أن الض�رورة غلب�ت تر ّددي .عبرت دون أن أنظر إلى
شبحي في المرآة .وطوال الثواني للوصول إلى الطابق األول حيث
يوجد ما يوجد ،بقيت الس�يدة ومن معها واقفتين مقابلتين للمرآة،
السيدة تعدل غطاء رأسها ،واألخرى أخرجت أحمر شفاه وأدوات
كنت أدير للمرآة ظهري وال أبالي أخرى تزين نفس�ها .أما أنا فقد ُ
بم�ا كانت�ا تفعالن�ه .عندما خرجتا وبقيت وحدي مع ش�بح ورائي،
كنت أنتظر صوت انفتاح المصعد ليس إلاّ ،وحين انفتح وخرجت، ُ
57
أثارني الفضول إلى وجهي الذي لم أكن أنظر إليه إلاّ نادر ًا ،ودون
نظرت قبل أن ينسد الباب ،فواجهتني من المرآة نظرة واحدة إرادة ٍ
ُ
بت بخيبة.. ِ
ب�اردة نح�وي ،وحي�ن اختفت مع إقفال المصع�د ..أص ُ
من نظرة ٍ واحدة فقط.
ل�دي ال تكتف�ي في العمل فق�ط ،فأنا أصعد ّ هواي�ة الحس�اب
مرة أحس�بها الدرج�ات إلى ش�قّتي .أحيان ًا أخطئّ ، وأع�د ّ
ُّ السلالم ّ
س�بعين درجة ،وأخرى تزيد بواحدة أو تنقص ،وتبقى عش�ر أخرى
والسطح .شبه مظلمة هي شقتي ،تقع في جهة ال تفصل بين طابقي ّ
تصلها أشعة الشمس ،وذلك يناسبني ،فكثرة األضواء تعمي بصري
وتجعلني تعب ًا ،والشمس هي األخرى تتعبني.
وضع�ت مفاتي�ح الس�يارة والمن�زل فوق طاولة منقوش�ة قرب
مزهري�ة خالي�ة م�ن ال�ورود .نزعت معطفي ،وتوجه�ت نحو خزانة
لبس�ت عش�وائي ًا دون أن أبالي
ُ المالب�س ،ترك�ت لي�دي االختي�ار،
ال بال ّزين�ة وال بال ّل�ون ،كيفم�ا كان نوع القميص أو الس�روال الذي
اختارته حاس�ة يدي فقد لبس�ته ،وقد حدث مرة أن لبس�ت قميص ًا
مقلوب� ًا وخرج�ت ب�ه ألبت�اع ،إل�ى أن نبهني حارس العم�ارة عندما
ع�دت بأن�ي كنت ألبس�ه مقلوب ًا ،ومن حينه�ا أصبحت عندما ألبس
شيئ ًا أتيقن جيد ًا إن كنت لبست األشياء كما يجب.
الصباح ،وأس�تيقظ كالعادة على أغف�و قليلاً أرت�اح من تع�ب ّ
المنبه برنّة البيانو الحزين والكمان الذي ينثر سقمه ،كفعل ٍ ُّ
أعد به
نفسي لليلة بؤس ٍ أخرى.
أصل بعد
ِّ إنه�ا الرابع�ة ،وق�د أ ّذن المؤذن لصلاة العصر ،ولم
عل�ي أن أجم�ع االثنتي�ن .نهض�ت من ّ وس�يتوجب
ّ صلاة الظه�ر،
58
فراشي ومرارة القهوة تسري في فمي مع ريق االستيقاظ ،وشعري
غير مرتب .حملت علب ًة زرقاء صغيرة أضع بها حاجيات الحمام،
وذهب�ت إل�ى الحم�ام مباش�رة ،فتحت صنبور الم�اء ،دافئ كعادته،
توضأت.ّ ثم
أخذت د ّشي ونظفت أسناني ّ
صليت الركعات الثماني تباع ًا ،ثم أتى بعدها االس�تعداد لنثر
قلم
شراشري على الورق الصامت ،بقلم رصاص ال أكتب إال بهٌ ،
وأظل أس�تنزف الحزن الذي ُّ أه�ش ب�ه عل�ى قنوطي وألمي جي�د ًا،
يعترين�ي م�ن الصب�اح إل�ى ما بعد نومي القصي�ر إلى أن يأتي وقت
نومي الذي ال أحب أن أستيقظ منه ،وكم مرة عندما أسمع أو أقرأ
ِ ِ ِ
ت ﴿الل َي َت َو َّفى األَ ْن ُف َس ح َ
ين َم ْوت َها َوا َّلتي َل ْم َت ُم ْ هَُّ آية في سورة الزمر
�ل األُ ْخ َرى ِإ َلى ِ ِ ِ ِ ِ
ت َو ُي ْرس ُ�ك ا َّلتي َق َضى َع َل ْي َها ا ْل َم ْو َف�ي َم َنام َه�ا َف ُي ْمس ُ
آل َياتٍ لِق َْوم ٍ َي َت َفكَّ ُرو َن﴾ [اآلية .]42 :أثناء ك َ ِ ِ
�م ًى ِإ َّن في َذل َ أَ َجل ٍ ُم َس ّ
ذلك كم يدعو شخص في داخلي أن يمسك اهلل نفسي ويجعلها من
التي قضى عليها الموت ،ولكني أس�تيقظ بالنفس التي ترس�ل إلى
وكنت أحاول دائم ًا أن أُقنع نفس�ي بالفكرة وبإمكانية ُ مس�مى،
ّ أجل
يتغير.
حصولها باإليمان بوقوعها ،لكن من غير جدوى ،ال شيء ّ
ج�د ًا ،تخونني ال ّلغة قبل أن أب�دأ ،وأفتقد للثّقة
مأس�اوي ّ
ٌّ ه�ذا
بت اآلن أعلم شيئ ًا واحد ًا؛
قبل سحق ما يربض فوق ذهني دهس ًاُّ ،
ممجديه�ا ،ولس�ت من ّ لس�ت م�ن
ُ ليس�ت الكتاب�ة اآلن حّل�اّ ً ل�ي،
مسانديها رغبة في ال ّتفريغ ،ألنّها عندما تفرغني ،تقوم بإعادة ملئي
بحلقات انتظار ،إلاّ أنّه ال يس�عني إلاّ القبول بها في هذه المرحلة
إلي..
يطوقني بالوهم الذي نسبته ّ كل ال ّتشييء الذي ّ مع ّ
لكن أين ألتجئ ..أين أحتمي من علقة ال ّتجاهل ،فلن يمكنني
59
التغابي هذه الليلة أيض ًا بعدم ال ّطرق على الورق.
الصباح ينتظرني ليعطيني شحنة باردة اقترب الوقت ،وفنجان ّ
مرة من البن كي تساير مرارتي. ّ
ئ مكتبي في غرفتي الموجودة في ذيل ال ّشقة ،غرفة تحمل ُ
هي ُ أ ِّ
عدلكل عض�و م ّن�ي ،جه�از آخر لل ّتنفس والبقاء عل�ى قيد البقاء .أُ ِّ ّ
إن�ارة المصب�اح المكتبي ،حيث تكون إنارته خفيفة ،كي ال ُتصيبني
وألبس ثياب ًا فضفاضةُ بالتع�ب ،كما ل ُتضيء مس�احة المكتب فق�ط.
�ع حرارة جس�مي ،وكي ال يلتصق عرقي بها من أثر عنفي كي َت َس َ
في الكتابة.
قب�ل الب�دء ،أنف�ض المس�احة الجلدية التي أجل�س عليها في
كرس�يي المكتب�ي من غبار ،رغم ع�دم وجوده ،فحركتي ُتعزى إلى
ئ نفسي لجنازة أخرى لي، ُ
هي ُ
أنني أنفض بقايا تعب األمس ،كأني أ ِّ
أس�مي نفس�ي كاتب ًا أو ما ش�ابه ،أنا ّ وبكل فخر ال أس�تطيع أن ّ فأنا
ظ�روف غير مالئمة فجعلته يوقن أن تس�خير ٌ مج�رد رج�ل داهمت�ه ّ
اللغة بهذا ال ّشكل قد تستطيع بكل احتماالتها أن تصل إلى جوهره،
ِ
ب حكمة فف�ي آخ�ر األمر أش�عر بأنّي رجل يحتض�ر ،إذ ًا فل َم الُ ،ر ّ
رجل قبل الموت!
إلي ،فلن يعدو وفي ينسب ّ وإذا ما كان هناك شيء عاق وغير ٍّ
قلم رصاص ،فأنا ال أعي هذه األداة بشكل جيد ،أراها شيئ ًا اخ ُترع
للتحريف والتضليل ،حتى اإلشارة إليه باسم ٍ يحمل معه قذائف ال
انجذبت إلى
ُ س�يد معارك حامل�ه؟.. يفت�أ يربكن�ي ،أيعن�ي ذلك أنه ِّ
ربم�ا ألن خاصيت�ه في قابلية المس�ح والتغيير كأن الرص�اص إذ ًاّ ..
ش�يئ ًا ل�م ُيكت�ب ..هي م�ن جذبتني ،وأ ّن تحريفه لزم�ن الكتابة هو
60
من أيقظ خيالي بجعله أداة زمني ،فاس�تحالة رجل الوقت جعلتني
ٍ
أغتصب به الزمن بممحاة ،وأخلق بقلم كادح ٍ ال ُ أبحث عن ش�يء
يتوقف عن تزويد صاحبه بالالزم وغير اللاّ زم.
أهكذا أنتقم؟
ٍ
خ�ط على خش�ب قب�ل الب�دء ،أول ش�يء أضع�ه برصاص�ي ُي ُّ
المكت�ب ،مقولت�ان ال عالق�ة تجمعهم�ا ،لكن ف�ي حضوري أُ ُ
جمع
ؤيد بهما ،ولو أ ّن أحدهما باللغة الفرنسية، نتقد وأُ ّ
وأُطوى بهما ،بل أُ ُ
فلن أُترجم ما استس�اغته حاس�ة انتقائي في حين قراءة .أكتبهما في
كل بداي�ة وأنته�ي بمحوهما ،كأنهما بدايتي وخاتمتي ،ويرويان كل ِّ
ٍ شيء متناقض ٍٍ
ومتنافر يشكل ما في كنهي.
يأت�ي الجن�ون من عند "نيتش�ه" على مكتب�ي أوالً قائالً" :إنني،
ولك�ي أُعب�ر بطريق�ة األلغاز .ميت في هيئة أبي ،حي في هيئة أمي،
وسأعيش طويالً وأعرف الشيخوخة".
عرفن�ي نيتش�ه كطف�ل صغير س�يكبر ليرى الحي�اة بضعف في ُي ِّ
روح والديه ،ويهدمني باستحالة شيخوختي.
ثم يأتي « »Giesbertثاني ًاُ ،فيعزي استحالتي للشيخوخة نفسها،
فيقول:
«Le cancer fait le vide autour de vous. Plus de visites, ni
d’invitations, ni de coup de téléphone. Tout le monde vous
repousse».
65
والوس�طى ،ودون أن أنظ�ر إلى وضع�ت قلم�ي بي�ن الس�بابة ُ ُ
يميني ،حملت قدح القهوة ألرتش�ف بعض ًا منها وأكمل في تركيز،
حملت اإلبريق ُ لكن كوبي فرغ دون أن أش�عر أني احتس�يته كامالً.
ارتش�فت ُ ألس�كب ،كان فارغ ًا أيض ًا ،فلم يمأل س�وى ربع القدح.
وطرق�ت بقع�ر ال�كأس على س�طح المكتب ،كأني ُ القه�وة القليل�ة
س�تأنف الحكم في ُ طرق�ت ُمعلن� ًا ع�ن انته�اء جلس�ة محاكمةُ ،
وسي ُ
بد أن تكون. المرة القادمة إذا ما كانت ..وال َّ
س�ت كرس�يي رافع ًا رأس�ي إلى الس�طح ،تن ّف ُ ّ كأت على ظهر ا ّت ُ
وزف�رت بق�وة .تحسس�ت وجه�ي بيدي اليمن�ى .لحيتي ُ الص َع�داء،
ُّ
ومسحت شعري ُ مسحت على جبهتي،
ُ أصبحت ك َّثة ويجب حلقُها.
ٍ
يدي من أول ش�عرة منس�دلة على جبيني إلى آخر ش�عرة في بكلتا ّ
وأنزلت رأسي عمودي ًا حتى َّ
ارتد ُ تركت يدي مع ّلقة برقبتي، ُ رقبتي،
نظرت للحظات ،ثم رفعت بصري إلى ورقي ُ فخدي،
ّ بصري نحو
مألت صفحاتٍ دون ُ وتذكر ،ويبدو أننيُّ وما كتبته في حالة نسيان
أدرت رأسي نحو النافذة على يميني ،وقد كان الليل سكن ُ توقُّف.
رت في أن الس�اعة تش�ير إلى الثّامنة وال ّنصف ،فكّ ُ المكان .عقارب ّ
ضت الفكرة ،فلن يعني ذلك شيئ ًا ،فكأسي فرغت، قو ُ ُ
أكمل ،لك ّني ّ
وأنّي سأثمل أكثر إذا ما أكملت.
يحدث ُ لعل شيئ ًا ما نهضت ألتجول في أنحاء مسكني قليالًَّ ، ُ
هام ًا أش�علت األنوار ،مررت بجان�ب المكتب ّ ُ ب�دون تد ّخ�ل ٍ من�ي.
لكي أخرج من غرفتي ،فاستوقفتني حروف مخدوشة عليه ال أتذكَّ ُر
بخط عريض ٍ ٍّ متى كتبتها أو نقش�تها بس�كين على س�طحه الخشبي،
وبائن ٍ تقول أحرفي باإلنجليزية:
66
))((All you need to reach me is to lose everything
صمت
ُّ أضح�ك كما لم أضحك م�ن قبل ،بعدها ُ قرأ ُته�ا وأن�ا
قليلاً ،فق�د ب�دا أن س�خريتي م�ن نفس�ي لم تكن ف�ي مح ِّلها ،ألن
ميت.. الظاهر أنها كانت كلمات حكيمة من رجل ّ
أل�م يك�ن الخ�راب دائم ًا موطن والدة ِ أش�ياء وانبعاث أش�ياء
فكل هزيمة هي بداية كل األش�ياء الخس�ارات؟ ُّ أُخرى ،وأن بداية ِّ
وعي ٍ جديد وبداية حكاية ليست كسابقاتها.
ألي�س ذل�ك الطائ�ر األس�طوري خبيث� ًا بما يكف�ي ُلي َبرهن عن
عظمة الخس�ارة؟ أليس�ت أس�طورة «الفينيق» مثاالً يعينني على فهم
حالت�ي؟ ألي�س ه�و ذلك ال ّطائر الجميل والقوي ،والذي يس�توحي
عظمة والدته من خس�ارته حيث يحترق ويصبح رماد ًا ُليعيد إحياء
م�ر ًة أخ�رى كل أل�ف عام! فرديته تلك أال ُتش�بهني؟ يقولون نفس�ه َّ
الصفات ،ويغدو طائر يشبهه في ِّ ٌ إنه يعيش سعيد ًا وفرد ًا وال يوجد
يري�د أن يحرق أحد ًا غير نفس�ه ُليعاد ،وفي ُ األم�ر جائ�ز ًا عندم�ا ال
األمر ُمطابقة ما لقضيتي ..من يعلم لربما أنا فينيقي على حد تأويل ٍ
ٌّ
الصينيين. ٍ
محرف مني بتأويل ّ َّ
ٍ
همهم بصوت مسموع أترن َُّم به مع ٍ ُ لت في الصالون وأنا أ
ُ تجو ُ َّ
جرات التشيلو .وقفت تحت مصباح الصالون المضاء .نظرت إلى ّ
ِ
غصة البنية التي ُ
حدق إليهما .ولم تسعني سوى ّ يدي وبقيت أ ّ ظهر ّ
ابتلتني .فقط ال ُيمكنني أن أفهم بنية أنني شاب وأشيب في الوقت
نفسه .وما بال هذا الصراع النفسي الذي يلتهمني في قضية العمر!
كل ش�يء، غترب من ِّ ٌ أش�ع ُر أحيان ًا أنني عاجز عن المش�يُ ،
وم ُ فأنا
حت�ى األل�وان اخ ُتزل�ت عن�دي في لون واحد ال اثني�ن .زياد ًة على
67
خيل خيل المقهر لألشياء على غير حقيقتها ،ورتابة األيامُ .ي ّ ذلك ال ّت ّ
ل�ي أحيان� ًا أنن�ي أعيش في فيلم ٍ باألبيض واألس�ود ،وأ ّن ازدواجية
ومزج ال َّلونان فش�كال رم�ز ًا لضياعي، اللوني�ن تلع�ب م�ن حول�يُ ،
يكف عن ّ لو ٌن أرتدي صبغته على جفني؛ ال ّلون الرمادي الذي لن
وسيتبعني حتى قبري في صفة شاهد ٍ قرب رأسي ،حتى ُ مالحقتي،
قلمي يقذف رصاصه رماد ًا ،وهب ًا وحرمان ًا..
تبع ُد عني كان�ت إس�فنجة صف�راء مرمية عل�ى األرض ،كانت ُ
الصالون، فتحت نافذة ّ ُ نصف متر تقريب ًا ،خطرت ببالي فكرة طريفة.
ه�توتوج ُ
ّ اس�تعددت
ُ بخط�ى ثابث�ة رواء اإلس�فنجة ،ث�م ً جع�ت
ُ ور
َ
سد ُد ضربة جزاء .ركلتها فضربت نحوها ،فركلتها ككرة قدم ،كأنني أُ ِّ
حاشية النافذة الجانبية على اليمين ولم ُتصب الهدف ،حملتها مر ًة
أُخرى ألقوم بمحاولة أُخرى ..فشلت ،محاولة أُخرى بعد السابقة،
ذهبت ألطل ألرى أين وصلت اإلسفنجة ،وهل ُ أصبت فيها الهدف.ُ
ارتطمت باألرض .كان فعالً س�خيف ًا مني ،فقد ارتطمت اإلس�فنجة
ظل المار بش�خص م�ار ،لك َّن�ه ل�م يرني ،ولم يعرف م�ن ألقى بهاَّ .
واقف� ًا للحظ�ات وه�و ين ُظ ُر إلى األبنية محاوالً توقُّع من أين ُرميت
فأكمل مسيره َ ليس له أهمية اإلسفنجة ،لكن يبدو أنه فكّ ر أن األمر َ
وابتعدت عن النافذة وأنا ُ وقفت مدهوش� ًا في لحظة،
ُ وهو يبتس�م.
صمت مصدوم ًا، ٍ
أضحك بشدة وأقهقه كمجنون ،بعد لحظة أُخرى
ُّ
أعلم جيد ًا لم�اذا البكاء، ُ خدي .كن�ت
َّ ونزل�ت دم�و ٌع طفيف�ة عل�ى
اقشعرت
ّ ش�عرت حينها برعش�ة تذكّ ٍر بجس�دي ،فقد تذكّ رت ش�يئ ًا
ل�ه ُش�عيرات جس�دي ،أمر ًا أحم�ق كنت قد أقدمت عل�ى القيام به
لك�ن أمر ًا إلهي ًا حدث قد أنقذن�ي .لم يمض ِ على ّ ع�ن غي�ر قص�د،
68
ذلك س�وى ش�هرين ،فقد حاولت القفز من النافذة نفس�ها ،لم أنو ِ
جرب الوق�وف على حا َّفة الموت، ُ
بالفع�ل ،فق�د حاول�ت فقط أن أ ِّ
أيرجلي ،ال أتذكّ ُر َّ ّ إال أن األم�ر ح�دث فعلاً ،فقد انزلقت إحدى
ثوب قميصي ُ بالس�قوط .ولوال ش�عرت ُ ُ كل ما أذكره هو أنّي قدمّ ،
لكن�ت ف�ي ع�داد الموتى ،وقد أحرق�ت القميص بعد ذلك لكي ال ُ
تمسكت بسلك أتذكّ َر الحدث .حمد ًا لخيوط القميص المتينة التي ّ
بحائط العمارة والمار ِ عم�ود الكهرباء األس�ود ،الذي كان ُملتصق� ًا
بالس�لك ألبقى الخيوط تش�بثت ِّ ُ ّ
الحظ أ ّن تحت نافذتي ،ولحس�ن
س�يحدث ،وال أدري كيف ُ ُمع َّلق ًا للحظات وهلع ًا ومرتبك ًا لما كان
ي�دي حافة النافذة ّ مس�ك بكلتا َ جاءتن�ي القُوة بعضالت س�اعدي ألُ
َّ
ٍ
ش�عرت بش�يء ُ كأنني أتس� َّل ُق س�ور ًا .كان مخيف ًا ح ّق ًا ،أتذكّ ر أنني
ب في الرابعة صباح ًا أرادت أن ته ُّ يحتويني ،كأن الريح التي كانت ُ
ُتنقذني هي األُخرى ..كانت ليلة فزع ٍ بحق!
عدت إلى غرفتي وصوت معدتي ما فتئ ُينادي ،خ ّزان خالياي ُ
قد نفد ،ومن الواجب أن أشبع بطني ألستأنف الكتابة .أحقّر الكتابة
بهذا الفعل ،تجعلني أجوع س�ريع ًا ،وليس أي جوع ،فجو ُع الكتابة
عادي ًا ،ومتى يبدأ ال ينتهي إال عندما تنتهي حرقة األفكار ،وكم ليس ّ
نمت جائع ًا من أثر تعبها لي. ُ مرة
َّ
حبة بطاطا واحدة تبقَّت فتحت الثالجةَّ ، ُ إلى المطبخ ذهبت،
وقلي�ل م�ن األرز .المعادل�ة ليس�ت كامل�ة إلش�باعي، ٌ وجزرت�ان،
وذهب�ت لتغيير
ُ أغلق�ت الثالجة ُ ومؤونت�ي ف�ي الثالج�ة ق�د نفدت.
معصمي،
ّ كم�اه إلى ارتدي�ت قميص� ًا صيفي� ًا أبيض يصل ّ ُ مالبس�ي.
كنت به.ُ حر العنفوان الذي تركت أزراره مفتوحة ألبر َد من ِّ ُ
69
أقفل�ت باب ش�قتي .لم تكن أنوار السلالم
ُ خرج�ت بع�د أن
ُ
س�معت صوت باب الش�قة ُ مض�اءة بع�د خروج�ي ،عندما أضأتها،
المقابل لش�قتي ُيفتح .كانت الش�قة خالية من قبل ،واآلن يس�كنها
جيران جدد جاؤوا قبل يومين ،وهذه أول مرة أصادف فيها أحدهم.
ستصعد
ُ تحمل س ّلة غسيل ،والظاهر أنها
ُ كانت امرأة مس ّنة ،وكانت
إلى السطح لتضع الغسيل فوق الحبال كي يجف ،وكما بدا لي ،أن
س� َّلة الغس�يل كبيرة ش�يئ ًا ما ،وال أظن أن امرأة بترهالت على يدها
وتقوس ٍ على ظهرها ستقدر على حملها. ُّ
ل�م أك�ن ف�ي مزاج جيد للحديث ،في البداي�ة تر َّددت بعد أن
السالم فور إضاءتي المصباح الذي ُينير الطابق. ألقيت عليها َّ
ُ
قلت لها:
ُ
– أيمكنني المساعدة؟
تنتظ�ر أحد ًا
ُ وتنه�دت كأنه�ا كانت
ابتس�مت ابتس�امة عريض�ة َّ
ثم قالت بعدها:
السلةَّ ،
يحمل عنها ّ
ُ
– نعم ..نعم! يا ولدي.
ُ
الصعود،حملت الس ّلة في يد ومددت يد ًا للعجوز أعينها على ّ ُ
ق األرض في ص�وت معدن�ي أس�فل منس�أتها الخش�بية يط�ر ُ ٌ وكان
فتحت الب�اب الحديدي األحمر، ُ الس�طح،
كل درج�ة .وصلن�ا إلى َّ ِّ
ووضعت الس ّلة.
ُ
قالت لي:
– اهلل يرضى عليك.
قلت مبتسم ًا:
– ال مشكل ،شيء واجب.
70
بنفس ِ االبتسامة ر ّدت علي:
– اهلل يعينك ويحفظك.
غ�ادرت ونظراتها
ُ ثم
َ�وس االبتس�امة على وجهيَّ ، أكمل�ت تق ُّ
ُ
تجاوزت عتبة الباب.
ُ تتبعني إلى أن
ُ
الزر الدائريكبس ِّأعدت َ ُ األضواء التي كانت ُمنارة انطفأت.
ِ
ألحتل الطابق
َّ مت بقوة ،ألن فيه عطب ًا لم ُيصلح منذ أن َقد ُ األبيض ّ
نزلت لل�زر بك ِّف�ي. ٍ
األخي�ر .أُني�رت األض�واء بفع�ل ُجهد ش�حنته
ُ ِّ
نصر آخر من العائلة المجاورة ،األول كانت بع ٍالتقيت ُ
ُ الدرج ..ثم َّ
المرأة العجوز ،واآلن ش�ابة تقريب ًا في س� ّني نفس�ها أو أصغر مني.
باب ُشقَّتهم مفتوح ًا ،راحت تنظر تار ًة إلى الباب وتار ًة عندما رأت َ
إلي ،كأنها تريد أن تفهم ما الذي حصل. ّ
أدركت الوضع ،فقلت لها:
– المرأة الكبيرة التي تس�كن هنا طلبت المس�اعدة في حمل
س َّلة الغسيل ،فساعدتها.
تبسمت بعد أن كانت مالمح وجهها تريد تفسير ًا ما ،تنفَّستِ
ُ َّ
الص َعداء وزفرت بتنهيدة طويلة.
ُّ
قالت:
مرة أخرى. – آآه ..الحـمد للـه! ظننت أنها خرجت ّ
تل�م أرد إكم�ال الحدي�ث ،ول�م أعقِّب على كالمه�ا .تداركَ ْ
وعرفت عن نفسها وهي تضحك: نفسها َّ
نحن الجيران الجدد ،أنا حفيدة المرأة التي ساعدتها.
ُ – آسفة،
رددت عليها بصيغتها نفسها:ُ
فت – وأنا الجار القديم هنا ،والذي أصبح جديد ًا عندكمَّ ،
تشر ُ
71
بمعرفتكم.
قالت:
طيبة.
– فلتكن جيرة ِّ
إلي يدها ل ُتصافحني ،قالت:
ألقت َّ
– بالمناسبة ..أنا نجوى.
اليس�رى
رفعت بإبهام يدي ُ
ُ ثم
حنيت رأس�ي قليالًَّ ،
ُ صافحتها.
نظارتي التي انزلقت ،قلت:
– وأنا وحيد.
علي مزحة:
ضحكت من اسمي ،وألقت َّ
تعد تسكن اآلن لوحدك.
– لم ُ
قلت لها: غادرت مبتسم ًا في وجهها ،وقبل أن أنزل َّ
الساللمُ ، ُ
– ح ّق ًا..
اختفيت بعدها مع انطفاء األنوار.
ُ ثم
ط�وال المس�افة الت�ي قطع ُتها نحو الس�وق المركزية «أس�يما»،
كنت أفكّ ر في كالم تلك الجارة الجديدة ،أدري أنها كانت تمازحني
ُ
غبية
فقط ،ولكن ..هل بالفعل لم أعد أس�كن وحدي؟ تبدو فكر ًة َّ
فالس�كن ال يعني دائم ًا باب ًا مقابل باب ،أو ش�قَّة قرب أو
صاغتهاَّ ،
لربم�ا عام�ة الناس يفهمون كلمة «س�كن» ف�وق أو تح�ت أخ�رىَّ ،
ورمزي إلى مع من نعيش ،وإلى وس�ط من نتفاعل، ٍّ بش�كل ٍ عادي
ولكن مفاهيمي أنا أش�ياء أُخرى عن ما يفكّ ر به العامة ،فس�كني ال
مكن أن أقول عن
يقطن فيهُ ،في ُ
ُ يختص به جس�دي والمكان الذي ُّ
متش�رد ،ال أس�كن وال أقطن ال هنا وال هناك ،فاألمر ّ نفس�ي :أنني
ويعنى به قلبي الذي أحمله ،ال الجسد الذي أملكه وظيفة شخصي ُ
72
ف�ي الحي�اة وإجباري� ًة في الفناء ،فالقلب ون�وع ضرباته هي من ُت ُّ
قر
الملجأ الذي يهرب إليه اإلنسان حينما يذعر ويخاف.
فأين هو ملجئي إذن؟ إلى من أعود؟ وأين هو طريقي الصحيح
في متاهة االنتماء والالانتماء؟ وإلى متى س�أبقى ههنا أعيش أو ال
هوية ،وال َّبر أمان يحضنني. أعيش بدون َّ
ابتع�ت م�ا احتجت�ه م�ن ذرة وجلب�ان ُمع َّلبينّ ،
وبقي�ة ال َّتكوينة ُ
ِ ٍ
ثم خرجت. دفعت الحس�اب ّ ُ تصلح لعش�اء س�لطي كالعادة. ُ التي
رت أنني في الغد يمكن أن آتي وقفت للحظات أمام المدخل ،فكَّ ُ ُ
خصص الم َّ
تجولت بالم�كان ُ ألتغ�دى ف�ي المن�زل .عدت دخ�والًَّ ، َّ
أخرج�ت مذكِّ رت�ي ،ألرى وصف� ًة ألكل�ة تكون على ُ للخض�روات.
أرجعت المذكّ رة إل�ى جيبي وفي ُ مزاج�ي غ�د ًا .فكّ �رت قليلاًَّ ،
ث�م
ذهن�ي أ ّن «طاجي�ن» س�يفي بالغ�رض ،فل�ن يأخ�ذ م ّن�ي الكثي�ر من
الوقت ،كما ال يحتاج المراقبة كثير ًا.
عدتُ ثم خرجت. ابتعت ما أريده من لحم وخضروات وتوابل ّ ُ
بأيد ٍ عامرة في الطريق نفسه الذي سلكته في مجيئي .كانت خطواتي
بطيئة ،ولم يعد يفصلني عن وصولي س�وى ش�ارع مس�تقيم وطويل
لكي أصل إلى العمارة .نظرت نحو السماء التي اشتد لون غيومها
أس�رعت ف�ي ُخطاي، ُ قطع�ت أمت�ار ًا أخ�رى ،فبدأت تمطر، ُ دكن�ةً،
مرة الجد الذي لم أره من�ذ زمن ،قال لي ّ ّ ورح�ت أفكّ �ر ف�ي ذل�ك
بجدتي ،فقد هطل المطر في يوم زفافه ،بل يحب المطر ،يذكّ ره ّ ّ بأنّه
ح ّت�ى أنه�م اتخ�ذوا هطول األمطار موعد ًا يخرجان فيه لل ّتن ّزه .أتراه
اآلن يتن َّزه تحت ذرفات المطر متذكّ ر ًا جدتي وتفاصيلها التي كانت
ويبعث كلمات نحو ُ طل من وراء النافذة ،ويدعو تنز عطف ًا؟ أتراه ُي ُّ ُّ
73
السماء؟ أتراه أسعفته ركبتاه اللتان نخرهما صدأ الهرم في الذهاب
إلى المسجد في هذا الجو الماطر؟! ربما هو كذلك ،أو ربما ليس
السنين األربع التي تفصله كذلك ،قد يكون غا ّط ًا في النوم من أثر ِّ
أس�ترجع ف�ي حلم يقظة على الطريق ش�كله ُ ع�ن الثماني�ن .رحت
الذي سيزيد ظرافة من قبل ،بقصر قامته وكتفيه المنحنيتين ،وعظام
ساعديه ال َّنحيلة المختفية تحت جلبابه في حياء ،ومعصميه اللذين
تبدو عليهما آثار الوهن ،ومنسأته الجميلة المزخرفة والمنقوشة .ما
زلت أذكر وجهه البشوش رغم ال َّتجاعيد وقصمات الجبين ،وصوته ُ
ب كالمه وتجعل حديثه حة ُت َع ِّل ُ كل كلمة ينطقها ُب َّ ال�ذي ُيخ�رج ف�ي ِّ
طفولي ًا .وما زلت أذكر ضرباته الخفيفة على ظهري بقائمة منس�أته
عندم�ا كن�ت أتأ َّخر في االس�تيقاظ والذهاب معه إلى المس�جد في
فتوح النهار .ويبدو أنني لم أكن كُ فئ ًا في حمل جينة ال َّطهي ألنشرها
أناني أنا ح َّتى في ما ليس لي .أُراهن ٌّ في مطعم أو ح َّتى في تطويرها.
يطبخ ،وقد ع َّلم كل حيل ال َّطبخ ياسمين وأخواتها .حتى أنه ما زال ُ
أعدها ال ُيضاهي طعم ش�طائره، اآلن ال ي�زال طع�م الش�طائر الت�ي ُّ
وأعتقد أنه الحب
ُ جيد ًا،
شيء أعرفه ِّ ٌ شيء ما ينقصني في تحليتها، ٌ
حب ًا في الطبخ ،بل في إش�باع أطب�خ ُّ والبرك�ة أو م�ا ش�ابه ،فأن�ا ال
جيد ًا ،ولكن
س�يئ ًا أم ِّ
غريزة الجوع ال غير ،وال يهم المذاق ،أكان ِّ
جي�د ًا ،فال َّتعلم على يد خبير ل�ن يأتي من وراء ف�ي الغال�ب يك�ون ّ
الشهية.
َّ ذلك سوى األطباق
وجدت نفس�ي أم�ام العمارة ،مب ّللاً بالمطر ُ غرة،
عل�ى حي�ن َّ
الذكرى التي أتت بسابق إنذار مطري. ومنتعش ًا من أثر ِّ
ج ّففت حذائي أمام عتبة باب العمارة .صعدت الساللم بمزاج
74
تجمع ش�كوى الخاليا ُ تحركات وأصوات معدتي التي متعكِّ �ر م�ن ّ
كنت تأوه�ات ،وق�د مض�ى على جوع�ي أربع س�اعاتُ . وتطلقه�ا ُّ
س�معت ُ متوجس� ًا فق�ط ب�أن أُصف�ع بوجه جديد أالقيه مرة أخرى. ِّ
صوت ًا ينزل متثاقالً مع نقرات نحاس�ية رتيبة ،وكانت المرأة المس� ّنة
أصبحت مقابالً لها. ُ ف�ت بضع درجات خلفي ،ثم م�رة أخ�رى .خ َّل ُ
مرت كان�ت المالب�س الت�ي رأيته�ا م�ن قب�ل ترتديه�ا هي نفس�هاّ ،
ابتس�مت لها فلم تر َّد ُ تقضب ًا بعض الش�يء، بجانبي ،وبدا وجهها ُم ِّ
أكملت ُ بش�يء ،ولم تس�تجب البتس�امتي كي ُتر َّد بواحدة مثلها .أنا
صعودي وهي أكملت نزولها دون أي فعل ٍ ُيذكر.
شعرت
ُ فتحت الباب .قبل أن أدخل، ُ أدخلت المفتاح ألفتح، ُ
صعدت أغلقت الباب ،ثم ٍ
برعشة َّتيار هوائي بارد آت من السطح.
ُ ُ
ولمحت س�لة الغس�يل التي ُ العش�ر درجات ألُغلقه ،وجدت ُه موارب ًا،
بأذني، ّ رت كالم ًا ّ
طن صعدت بها مساعدة للمرأة المسنة ،حينها تذكّ ُ ُ
كان كالم ًا عابر ًا وكلمات غير مشروحة ،وقد كانت الكلمات تعود
�رت أن أفع�ل ش�يئ ًا ،كأن أطرق بابه�م ألعلمهم بأن لحفيدته�ا .فكَّ ُ
عارضت نفس�ي ،فمازالت مرارة القهوة ُ العجوز قد خرجت ،لك ِّني
فوضعت احتماالً ُ تلعب في فمي والجوع يجعلني في مزاج س�يئ، ُ
أستنزف طاقتي وأهتم بشيء ليس لي به عالقة أو ُ ناقص ًا ال يجعلني
تعرف إحدى ُ صلة :فمن يعلم ،لربما العجوز خرجت لتبتاع ،أو أنها
علي أن أبالي بما ال يجب. الجارات بالعمارة ،وبالتالي فال يجب َّ
دخل�ت مضجع�ي وأطرافي تصطك ،وقميصي األبيض أصبح ُ
دش سريع يدفئ جسدي. أول ما خطر ببالي هو ٌّ شفاف ًا وملتصق ًا بيّ .
أخذت د ِّشي على مضض الجوع صابر ًا على تدفئة أعضاء جسدي ُ
75
رت مالبس�ي بأخرى قطنية غي ُ الحمام بعد أن َّ َّ خرج�ت م�ن ُ الب�ارد.
س�روال رياض�ي وس�ترة صوفي�ة بس�حاب ،وقد يكون ٌ وفضفاض�ة،
غريب ًا أنّي ال أنزع نظارتي في االستحمام ،فقد أصبحت جزء ًا عملي ًا
ف�ي تركيب�ة هندامي ،وال ُيمكنني االس�تغناء عنه�ا .انتعلت صندالي
ح�ت إلى غرفتي. ثم ُر ُ الحمامَّ ،
َّ األزرق الموج�ود أم�ام عتب�ة ب�اب
بقدم�ي العاريتي�ن زربي�ة الغرف�ة الرطب�ة، ئ�ت ِ
ّ أزل�ت صندال�ي .وط ُ ُ
قدمي .أخرج�ت من الخزانة ّ ش�عرت بالب�رد ق�د أخذ كس�وته على ُ
أخذت
ُ ح�ت ُدرج ًا بالخزان�ة،إيش�ارب ًا ووضعت�ه س�ريع ًا برقبت�ي .ف َت ُ
لبس�ت الجوارب واقف ًا،ُ زوج ج�واربٍ م�ن الن�وع الصوفي الثقيل،
أتلصص على حرف ٍ يوجد ه�ت إل�ى المطب�خ دون أن ّ توج ُ وبعده�ا َّ
على مكتبي.
إناء عريض ًا فيه حبات بطاطا وحبات جزر فوق مائدة وضعت ً ُ
كرسي أق ِّشر البطاطا ،أقطع الجزر ٍّ جلست على
ُ المطبخ البالستيكية.
مربع�ات صغي�رة كما فعلت بالبطاطا بعد تقش�يرها .اس�تغرق األمر َّ
بعض الوقت ،وضع ُتهما كلاّ ً على حدة في قدر فيه ماء ،وتركتهما
قدر صغير هو وضع�ت األر َّز ليغلي في ٍ ُ يغلي�ان ف�وق الموق�د ،كما
الصلصة التي أعددتها البارحة بالخردل جلب�ت من الثالجة َّ ُ اآلخ�ر.
وارتأيت أن أُضي�ف قليالً من زيت ُ والكتش�وب والجب�ن الم�ذاب،
الصلصة طازجة أكثر. الذرة لتصبح ّ
وذهبت ألقضي الدقائق الخمس والعشرين ُ تركت القدور تغلي ُ
فتحت ُ الت�ي تجه� ُز فيه�ا الق�دور ف�ي تص ّفح حاس�وبي المحم�ول.
مجرد رس�ائل إلكترونية قديمة من عمالء للش�ركة، َّ علبة وارداتي؛
ال رس�ائل جدي�دة .انتابتن�ي خيب�ة أمل في أنه ل�م تكن هناك خدمة
76
الدنيا أقدمها ،أُس ِّلي بها الزمن بعض الوقت ،كما ألنسى ُّ
تهجم ُّ ما ِّ
بأرقام بنكية وأموال قادمة وأخرى مس�افرة ،وأتعملق في حس�ابات
أخرى غير الحساب الحرفي للكلمات.
الحظ اليوم ،سأزداد علقم ًا فقط ،وستكفيني تلك ّ لكنني سيئ
الكلم�ات البخيس�ة عل�ى ال�ورق في إدراك نفس�ي الت�ي أصلها في
ليلة ..وال أقربها في ليال ٍ طويلة وعقيمة.
ال ت�زال الم�رارة ف�ي لعابي وحلقي ،والج�وع يفتك بمعدتي.
الساعة الموجودة أدنى اليمين بقوة على بطني .نظرت إلى ّ مسحت ّ
ُ
على شاشة الكمبيوتر ،تبقَّت دقيقة لكي أنهض لمعاينة القدور.
أطف�أت نار
ُ ومش�يت حافي� ًا نح�و المطب�خ،
ُ نهض�ت بس�رعة،
ُ
خلطت األر ّز وكامل المجموعة ُ حت القدور من الماء. الموقد ،ور ّش ُ
ثم بملعقة في الصلصةَّ ،
وسكبت فوقها ّ ُ مع الجلبان ّ
والذرة المع َّلبين
يدي اليمنى وشوكة في يدي اليسرى ،بدأت عملية الخلط .وضعت
وغرست الشوكة في وسطها.
ُ مقعر،
السلطة في صحن زجاجي ّ
راجعت
ُ ازدردت سلطتي في هدوء وسكون ،وفي الوقت نفسه ُ
مل ّف ًا كنت قد كُ ّلفت به صباح ًا عن خطأ اقترفه زميل لي في العمل
بخلطه حسابين لعميلين.
77
II
78
شعرها الكستنائي الباهت ،وتحمل مظ ّل ًة بدت لي صغيرة الحجم،
به�ا ش�خصية رس�وم متحرك�ة ،أعتقد أنها لذلك الفأر األس�ود ذي
نظرت إلى وجهي،األذني�ن الكبيرتي�ن فوق رأس�ه «ميكي م�اوس»َ .
وتفرست مالمحي لوهلة ،ح َّتى أنّها ترددت في الحديث معي ،فقد ّ
فاجأها منظري الذي يبدو مليئ ًا بال ّتعب.
قالت:
– آسفة على إزعاجك ،يبدو أنّك كنت نائم ًا..
قلت:
– ال بأس أتحتاجين شيئ ًا؟
بقيت صامتة ،كانت متر ِّددة في ما تريد قوله.
ش�عر عن وجهها فوق أذنها بعد إذ نظرت إلى ٍ رفعت خصل
تتشج ُع لتقول شيئ ًا.
َّ ثم رفعت بصرها نحوي ،كأنها األسفلَّ ،
قالت:
– قد يبدو األمر شخصي ًا لكنني أحتاج مساعدتك في شيء،
فلم أتعرف إلى أحد في العمارة بعد.
قلت لها:
– ألي�س األم�ر ش�خصي ًا ،أال يوجد فرد في العائلة يس�اعدك
بدلي؟
– وال�داي خ�ارج المن�زل ،ولم يأتيا بعد ،وأنا ال أريدهما أن
الصغيرة ال تزال رضيعة،
يعلما باألمر ،وكما ترى أن أختي ّ
وأنا األخت الكبرى هنا ،لذا...
ملي ًا في أن ذلك س�يزيدني تعب ًا ،وس�أمرض بال ش�ك،
رت ّفكّ ُ
لك ّنني لم أفكّ ر في ّ
الرفض ،فقلت:
79
– حسن ًا ما المطلوب؟
قالت:
– أريدك أن تبحث معي عن شخص.
– شخص؟
جدتي.
– أريدك أن تبحث معي عن ّ
ث�م تذكّ رت محاورتي األول�ى معها ،وتذكّ ُ
رت فكّ ُ
�رت قليلاًَّ ،
كالمها وتعابير وجهها بعد أن كان باب الشقة مفتوح ًا.
قلت لها:
– لق�د رأيته�ا قب�ل س�اعتين عندما كنت صاعد ًا إلى ش�قتي،
أعتقد أنها خرجت.
بدا القلق عليها ،كأنها سمعت ما ال تريد.
قالت:
– يا إلهي كيف سأجدها؟!
قلت:
– ولماذا تريدين البحث عنها؟ ألن ترجع؟
قالت:
الذاكرة ،وأصبحت تنسى ٍ
جدتي مريضة ،مصابة بضعف في ّ – ّ
كثير ًا.
صمتت للحظة ،ثم أضافت:
– هي من ضحايا الزهايمر.
بسبابة يدي اليسرى لرفع نظارتي كعالمة
قمت بحركة الإرادية ّ
ُ
وضع�ت إبهامي
ُ تفكي�ر وحي�رة ،لكن�ي ل�م أش�عر بهيكل النظ�ارة.
وبقيت ممسك ًا بالجلد الذي بينهما.
ُ عيني
ّ وسبابتي على
ّ
80
عيني ،وكم
ّ ي�ا إله�ي ،كم م�ن الحكايات قرأت هذه الفتاة في
وجسات أخذت عني! من ال ّت ُّ
وقلت لها سريع ًا كمن
ُ نظرت إلى األسفل حيث توجد قدماي،
ُ
يعتذر ،مدير ًا ظهري:
غير مالبسي.ُ
– انتظري سأ ّ
قالت:
– من فضلك ..وحيد ..أسرع!!
وضعت ن ّظارتي ،وتبادر إلى ذهني مكان األريكة ُ لم أتذكّ ر أين
بحثت خلفها وتحتها ،لكنني لم أجد شيئ ًا، ُ نمت عليها جالس ًا،التي ُ
كنت أبحث عنه ،فش�يئان كانا كن�ت محت�ار ًا ح ّتى ف�ي ما ُُ ب�ل إنن�ي
األول ن ّظارتي التي أبحث
لتوهاّ ، يتقافزان في ذاكرتي التي استيقظت ِّ
َت بذهني ،والتي قيلت بنبرة ِ
عنها والثاني حروف اس�مي التي َعلق ْ
مساعدة جريئة تنتظر م ّني نداء االستجابة.
�دت أن أدوس عل�ى ن ّظارت�ي قب�ل أن أجده�ا ُملق�ا ًة عل�ى ِ
ك ُ
األرض عل�ى مس�افة قصي�رة م�ن األريك�ة .وضع�ت الن ّظارات كي
الصور ألُفكِّ ر بش�كل ٍ رزين ،وبدا الوقت كأنّه يتباطأ بعد أن ت ّتضح ّ
قمت بعملية ذهنية لما سأفعله ،فال أريد أن أترك مجاالً للخطأ.
ح�ذاء مريح ًا
ً وانتعلت
ُ ارتدي�ت معطف� ًا ثقيلاً ف�وق ما ألب�س،
ُ
البنية ،وخرجت حمل�ت مظ ّلتي ّ
ُ الس�ير.
يصل�ح للمدى الطويل من ّ ُ
لمالقاتها.
الدرج لم أجدها واقفة أمام باب شقّتي ،وجدتها جالسة على ّ
تض�ع راحة يده�ا على جبينه�ا ،وعندما ُ المح�اذي لش�قّتي .كان�ت
تقترب منها ،أدارت وجهها ُ ت صوت إغالق الباب وخطواتي سمع ْ
َ
81
تغيرت.
تنظر إلى هيئتي التي ّ
ُ سريع ًا وهي
قالت وهي ما تزال جالسة:
– هل انتهيت!!
– نعم.
أردفت:
ُ ثم
– اسمكِ نجوى أليس كذلك؟
– نعم هو كذلك.
بعده�ا وقف�ت ،ب�دت لي متفاجئ�ة قليالً ،أعتق�د أنّها تفاجأت
السلالم ،إلاّ أن تغير .كان يمكن أن ننزل على ّ من مظهري الذي ّ
األم�ر سيس�تغرق وقت ًا .اضط�ررت أن أركب المصعد معها لكي ال
نظرت
ُ ث لي ك ّلماتتح�د ُ
ّ صب�رت عل�ى مالمح وجهي التي
ُ أُح�رج.
إلى ش�بحي في المرآة ،ولكي ال أش�غل بالي بالخطوط المرس�ومة
أنظر إليها وأحاول أن أحادثها لكي أنسى نفسي رحت ُ
ُ على وجهي،
وحكيها واغتيابها لي بصورة تفضح عيوبي.
قلت:
جدتك دون أن يح�دث كثير ًا أن تخ�رج ّ
ُ – إذن نج�وى ،ه�ل
يراها أحد أو دون مراقبة؟
حنت رأسها ،وبدا عليها الشعور بال ّندم.
قالت:
– إن�ه خطئ�ي ،كان يج�ب أن أراقبه�ا ،لكن م�اذا يمكنني أن
الس�طح،كن�ت أطب�خ لها ،وبعد ذلك صعدت إلى ّ ُ أفع�ل،
�ف عل�ى الحب�ال ،فناديته�ا ِ
وجدته�ا تض�ع المالب�س لتج ّ
لتأت�ي ،لك ّنه�ا أب�ت ،وقالت إنها س�تأتي بعد قليل ،فتركتها
82
انش�غلت بملء
ُ على راحتها ،وانش�غلت بنقل األثاث ،كما
اس�تمارة عملي الجديد الذي س�أحظى به غد ًا بعد انتقالنا
إلى هنا.
فهمت سبب عدم ا ّتصالها بوالديها ،فقلت:
ُ
س�ر ًا دون إخب�ار والدي�ك ،ألي�س
– وتريدي�ن البح�ث عنه�ا ّ
كذلك؟
أجابت:
تبح�ث معي ،ألنك
ُ – صحي�ح ،وهن�اك س�بب آخ�ر لجعلك
س�ألت
ُ رأيته�ا وتع�رف مالمحه�ا ،وقبل أن آتي إليك ،فقد
والكل أجابني
ُّ كل من بالعمارة هل رأى امرأة مسنة تخرج،
َّ
بالنفي.
فكّ رت في ما قالتّ ،
ثم قلت:
– وهل سألتِ حارس الحي؟
قالت:
– حارس الحي؟ ..مممم ال ،لم أتجاوز سكان العمارة قط،
تع�رف المكان
ُ وه�ذا س�بب آخ�ر لجعل�ك ترافقني ،فأنت
واألشخاص الموجودين هنا.
فباشرت بابتسامة جا َّفة ،ثم
ُ لم أُرد أن أزعجها بأسئلة أخرى،
قلت:
– أتم َّنى أن نجدها!
ر َّدت لي االبتسامة ،وحام الصمت لحظتها ح َّتى ُفتحت أبواب
المصعد.
كان مط�ر ًا ّ
قوي� ًا ،خرجن�ا م�ن الب�اب الكبير للعم�ارة ،والريح
83
ٍ
تصفع وجهي بقوة ،إلاّ أنها أنعش�تني ،وأيقظت ما تبقى من أجزاء
بي كانت نائمة.
فتح�ت مظ َّلت�ي ،وهي أيض ًا فتح�ت مظ ّلتها ،وكان وقع المطر
ُ
وتوجهنا نحو
َّ مدوي ًا .ابتعدنا عن العمارة بمسافة،
على طبلتي أذني ّ
السيارات لنسأل الحارس. مرأب ّ
ل�م يك�ن صوت�ي الخفيف�ة تر ُّدداته ُيس�مع مع تس�اقط المطر،
فرفع ُته قليالً ألسأله:
قلت:
السالم عليكم. – ّ
السالم ،كيف الحال؟ – وعليكم ّ
– الحمد هلل ،اسمح لي ،أريد أن أسألك عن شيء.
ثم أردفت:
تمر من
السن ُّ
– قل لي ،هل صادف أن رأيت امرأة كبيرة في ّ
هنا ،أو بالقرب من العمارة.
وأشرت بيدي إلى نجوى:
ُ
– هذه حفيدتها.
لم أُرد أن أفتح باب الحديث أكثر فأُحرج نجوى ،فقلت له:
– المرأة قد تاهت عن العمارة ،ونحن بصدد البحث عنها.
قال الحارس:
– يا صديقي ،أنت تعرف أن كثيرين يأتون إلى هنا ويذهبون،
أعتقد أنه ال يمكنني مساعدتك في هذا ،ولكن متى يمكن
أن تكون قد خرجت؟
– ال أعلم بالضبط ،ولكن يمكن أن تكون قبل ساعة أو أكثر
84
تقريب ًا.
– قبل ساعة!
ثم أردف:
– ال أعتقد أن أحد ًا قد خرج من عمارتكم في ذاك الوقت،
فقد كنت أنا وصديقي ند ّخن بالقرب من العمارة ،وال أظن
أحد غيرك أنت ،فقد رأيتنا أليس
على ما أذكر أنه قد خرج ٌ
كذلك؟
قلت:
– صحيح ..صحيح.
قال:
– أؤكِّ د لك يا صديقي أنني لم أرها.
– شكر ًا على أي حال ،لقد أفدتنا بشيء.
كنت قد
قداح�ة؟»ُ . قب�ل أن أغ�ادر ،نادان�ي« :هـي�ه هل لديك ّ
وضع�ت الق ََّداح�ة الت�ي أُش�عل به�ا الموقد في أحد جيب�ي بنطالي.
بقداحتي ،ش�كرني والس�يجارة في فمه تتمايل مع أش�عل س�يجارته َّ
دخان يخرج مع كلمات شكره.
مش�ينا كثير ًا ونحن نس�أل عن خبر يجعلنا نتقفَّى أثرها ،لكننا
لم نجد شيئ ًا يعيننا .والجو القارس الذي أتى به المطر ،جعل أنفي
ويتجم ُد من البرد ،وال َّلحظات التي ك ّنا نبحث فيها ،أمكن لها
َّ يحمر
ُّ
أن تكون ال ّلحظات التي أشتعل فيها بحزن أنفثه إلى الورق ..ال أن
أتجمد في طريق بحث. َّ
خطون�ا مس�افة طويل�ة ،ومررن�ا بالق�رب م�ن أح�د البن�وك
الس�اعة الرقمي�ة المع َّلق�ة ف�وق مدخل�ه،
نظ�رت إل�ى ّ
ُ ((.))BMCI
85
وكان�ت األرق�ام الحم�راء تش�ير إلى ال ّتاس�عة وس�بع عش�رة دقيقة،
ودرجة الحرارة كانت اثنتي عشرة درجة .مررنا بالقرب من منعطف
الممر الذي نحن به ،قاومت مظ ّلتي، ِّ هبت رياح عبربجوار البنكَّ ،
وضعت نجوى لحظتها ْ وتكسرت مظ ّلة نجوى ،فقد كانت صغيرة. َّ
قلنس�وة معطفه�ا ،لك�ن بدا ل�ي ذلك غير مالئم ،فالقلنس�وة قصيرة
رفضت في البدء ،لكنني شيئ ًا ما .قلت« :خذي مظ ّلتي ،إنها قوية»َ ،
جمعت مظ ّلتها المكسورة ،وحملتها بيدها اليسرى. ْ أصررت عليها.
ُ
أخذت مظ ّلتي وقالت« :ألن تحتمي أنت أيض ًا من المطر؟!» ،قلت: ْ
«أك�ره المط�ر ،ولكن ..س�أكون صديقه الي�وم» .قالت« :هل جننت،
اضطررت أن أرفع صوتي أكثر ،قلت والماء يسيل ُ ستمرض حتم ًا».
من فمي وكلماتي« :ال بأس احتمي أنتِ فقط ،»..ثم أضفت« :ومن
غير الالئق أن أحتمي معكِ تحت مظلة ،تعرفين ما أعني ،قد يراني
أحد أنا وهي
زوجك أو ما شابه» .ليس األمر أني أخاف أن يراني ٌ
كل ما في األمر ،أني ال أريد أن تحت مظلة ،فيبني عني فكر ًة ماّ ،
للحظ السيئ.ِّ الرثة معها ،فأحيان ًا أكون جالب ًا
أخلط هالتي ّ
تش�ي مالمحها التي ارتس�مت على وجهها بأنها فهمتني ،ولم
تفتع�ل بعده�ا س�وى ابتس�امة رضى تش�ي بأنها تفهم ع�ن حدادي
المخفي.
بحثنا قرابة ال َّثالثين دقيقة ،نمشي جنب ًا لجنب ،وكانت تراقبني
بم�س م ّن�ي ،أو أن بصمات�ي التي ٍّ بنظراته�ا خلس�ة ،كأنه�ا ش�عرت
ش�ك
َّ انطبعت على يد المظلة ش�رحت لها ش�يئ ًا مبهم ًا م ّني ،ثم ال
ضرر نفسي يلحق به ،فهاالت ٍ توجسات
في أنها أخذت عن جارها ُّ
أحد م ّني أو منها تظهر، حزن ٍ ُتحيط بي وبأشيائي التي كلما اقترب ٌ
86
شعرت باألسى على حالتي التي قرأت سابق ًا جزء ًا منها من ْ وربما
نافذتي روحي.
ٍ ِ
لم تك َّل الس�ماء عن الهطول ،واكتملت س�اعة من بحث غير
ُمجدٍ ،وال شيء أعاننا على اقتفاء أثر العجوز ،أو ح َّتى خبر مرورها
يتبق سوى العودة إلى العمارة، من األماكن القريبة من الحي ،ولم َّ
وأن ننتظر لع ّلها ترجع أو يحدث شيء ما.
عدن�ا أم�ام عتبة باب العمارة نتر ّق�ب بعدما انتهت حيلنا .غدا
ٍ
جس�دي مب ّلالً ح َّتى آخر بقعة جا َّفة في مالبس�ي ،وأنفي ُم ْ
ح َم ٌّر من
أضحيت كفرخ ٍ ارتوى ُ يحيط بعظام جسدي الخفيف. ُ ال ّتجمد الذي
ريش�ه بالم�اء ،وارتع�دت عضالت�ه ال ّطرية ،ورمش�ت عين�اه بتثاقل،
وانتصفت جفونه .لم أقدر على أن أرفع ن َّظارتي التي انزلقت على
تصطك في فمي المغلق بإحكام ،وانحش�رت ُّ أنفي ،وكانت ثناياي
يقشعر لها
ُّ بشدة ٍ في جيبي معطفي ،ورعشات البرد التي تمر يداي َّ
بدني وتس�قط معها قطرات ماء من خصل ش�عري ورموش�ي ،ومن
ضعف�ت رؤيت�ي قليالً بس�بب ن َّظارت�ي التي أصبحت أنف�ي كذل�كُ .
ٍ
ضبابية بسبب قطرات ماء سقطت عليها ،ولم أجد خيار ًا سوى أن
ربما ،والتي أط ُلب من التي بجانبي المساعدة ،والتي نسيت وجودي ّ
اكتفت بمراقبة ال ّناس يمين ًا وشماالً ،تقطع بضعة أمتار وتعودها تارة
أخرى.
تكس�ر في مفاصل نزع�ت ن ّظارت�ي ،ش�عرت بجليد ٍ
دموي قد ّ
ّ ُ
ح�ت له�ا بي�دي دون كلم�ات ،أش�رت لو ُ ذراع�ي الت�ي نزع ْته�اَّ .
بحرك�ة بمعصم�ي وأصاب�ع يدي إلى أنني أريد أن أمس�ح ن َّظارتي.
بش�فتي المخدرتين وأس�ناني المصطكّ ة« :هل ..عندك ّ قلت ُمرغم ًاُ
87
منديل..؟» .أجابتني« :ال ولكن هاتها ،ثوبي سيفي بالغرض» .ثوب
معطفها كان خش�ن ًا ،لك ّنه قام بالغرض .كنت محترس� ًا هذه َّ
المرة،
عيني .وضع ُتها بس�رعة ،كان الزجاج ّ أخذتها من يدها وأنا أمس�ح
غي�ر ممس�وح كفاي�ة ،إال أن ذل�ك كان كافي� ًا ألرى بصورة أوضح
السابق. من ّ
بع�د دقائ�ق أخرى من االنتظار ،لم أس�تطع مواصلة الوقوف،
فأش�رت بي�دي إل�ى نج�وى أنّي س�أدخل إلى داخل العم�ارة ،فقد ُ
احتدم�ت جزيئ�ات الب�رد المش� َّنج ف�ي جوف�ي ،وتش� ّنجت أوتاري
الضعيفة ،ولم تعد قادرة على مواصلة العزف الحركي.
جلس�ت ق�رب مصب�اح فوق�ي ،أش�علته ُليدفئن�ي ،وأزعجتن�ي ُ
المكررة عندما كان المصباح ينطفئ فأعيد إنارته. ّ الحركة
بعد برهة ،دخلت نجوى هي أيض ًا ،وعالمات اليأس تمألها،
ِّن يدها بديناميكية حركة بيديها ،كأنها تفركهما ل ُتشعل وكانت ُتسخ ُ
نار ًا في راحة يديها لتخلق تدفئة.
تقدم�ت نح�وي ،جلس�ت بالق�رب م ّني ،قالت وبه�ا رغبة في َّ
الب�كاء« :مصيب�ة ..مصيب�ة» .ل�م أجد م�ا أقوله ،فالتزم�ت الصمت.
ركبتي على شكل ،xووضعت جبهتي عليهما، ّ ذراعي على
ّ وضعت
ُ
فأدرت وجهي نحو اليس�ار حيث توجد ُ انعوت ن ّظارتي بوضعيتي،
نجوى بجانبي ،بدا لي كأنها تبكي ،وكانت تبكي بالفعل ،وال مراء
دت في قول أنها تفكّ ر في طريقة ما لتصوغ ما ستقوله لوالديها .تر ّد ُ
ٍ
شيء ألواسيها ،فأنا أكره بدء إشعال حديث ماَ ،ب ْي َد أنّي أكره أيض ًا
أن أرى امرأ ًة تبكي أمامي ،فذلك يذكِّ رني بوالدتي.
وزفرت ف�ي الهواء،
ُ ذراع�ي،
ّ عق�دت
ُ اعتدل�ت ف�ي جلس�تي،
ُ
88
رفعت رأس�يُ فتصاع�د ُدخ�ا ٌن م�ن فم�ي ،وقد ّ
تنبه�ت هي لفعلي.
الذهبي « ،»138الموجود وس�ط ق�ت نظ�ري على رق�م العمارة ّ وع ّل ُ
قطعة بالس�تيكية صغيرة بلون أس�ود ،فوق الباب المش�بك ،والتي
ُترى من األمام والخلف.
تفع َل ْ
ثت وابتسامة ال أعرف من أين أتت اتخذت شكلها َ تحد ُ
َّ
على وجهي:
يتجول تحته ،أو
َّ شك أنه اآلن
يحب المطر ،وال َّ
ّ جد
لدي ٌّ
َّ –
ينظر من نافذة ما.
أخفت وجهها تمسح دموعها .قالت:
كل ش�يء ..ولك�ن ل�م أج�د ش�خص ًا غي�رك،– آس�فة عل�ى ِّ
أدخلتك في محنة ال تريدها.
قلت وأنا ال أزال أنظر إلى األرقام ّ
الذهبية التي تلمع في زجاج ُ
ن ّظارتي.
– ال بأس سيدتي ،لم ُيزعجني شيء ،إضافة إلى أنك جديدة
هنا.
ارتاحت بتنهيدة قصيرة ،ثم قالت:
تحب المطر،
ُّ جدت�ي كذلك
يحب المطرّ . ُّ – قل�ت أ َّن َّ
ج�دك
حبونه.
السن كلُّهم ُي ُّفي الحقيقة كبار ّ
أناس يضعون األش�ياء الجميلة في – لي�س الجمي�ع ،فهن�اك ٌ
كل ليلة
الذكري�ات العقيم�ة التي تضيء الج�راح في ِّ خان�ة ِّ
هطولُ ،فيصبح المطر مؤلم ًا بقدر ما هو ساحر.
إلي ويهينني ،ال أعرف
يلمح ّقلت كالم ًا ّ
كانت هفو ًة م ّني أن ُ
إن كان�ت فهم�ت م�ا أقصد وما لم أقص�د ،فقد صمتت قليال كأنها
89
أدارت الكالم الذي قلته في رحى فهمها وإدراكها .أزالت قلنسوتها
من على رأسها ،ور ّتبت شعرها الكستنائي.
بعده�ا ج�اء صوته�ا خفيف� ًا وهديالً ُيفتى م�ن ورائه بتفاؤل ال
أملكه ،قالت:
ربم�ا ،أو ف�ي الحقيق�ة كالمك صحيح ،فاألش�ياء الجميلة – ّ
�ؤرخ بي�ن ثنايا ذكرى مؤلم�ة ُتخدش على جدران عندم�ا ُت َّ
قلب َّ الذاك�رة ،وتصب�ح مث�ل ٍ ّ
وي ُ
الحظ الس�يئُ ، لعنة تجلب ُ
جمالها إلى نقيضه الذي ننفر منه عاد ًة ،تج ُّنب ًا لل َّتكرار الذي
نتصور.
َّ يؤذينا أكثر مما
ب�دت ل�ي كلماته�ا يقيني�ة ،إال أن به�ا مالبس�ة لخط�أ ال أعي
مكمن�ه جي�د ًا ،ول�ن يك�ون جائز ًا لي أن أُكم�ل حديثي بعد كلماتها
أدركت
ُ ال ّطويلة التي أتخمتني برجوع ٍ إلى ذاكرة الماضي ّ
السحيق،
أطل�ت الحديث أكثر ،فس�أُ ّ
خد ُر أكثر ،تار ًة بالبرد الذي ُ أنن�ي إذا م�ا
بالسفح الثلجي الذي يقبع بالذاكرة كل جانب ،وتار ًة َّ ُيحيطني من ِّ
تكفُّ والذي س�ينهار ليجرفني إلى أش�جار األسئلة ال َّشائكة التي ال
عن وخزي بنصالها.
نظرت مباشر ًة إلى عينيها ،ثم قلت:ُ أبقيت على ابتسامتي.
ُ
– سيدتي ،الحقيقة ُم َّرة ،لك َّنها مخبأ نشوتنا لنواصل العيش.
عجبت بها:
ُ أجابت بمزحة أُ
الس�وداء ،توقظن�ا م�ن ال ّن�وم بمرارته�ا لنواجه ما
– كالقه�وة ّ
ينتظرنا.
عندم�ا ذك�رت القه�وة ،أصبح�ت صديقت�ي فج�أ ًة ،ب�ل كأنها
أعطتن�ي أم�ر ًا بال س�بب ألهدم أف�كار رفضي في بادئ األمر عندما
90
عين�ي نصف
ّ وفتح�ت
ُ طلب�ت مس�اعدتي ،فتخ ّل ُ
ي�ت ع�ن رس�ميتي،
وكش�فت عن أس�ناني بضحكة قصي�رة أتاحت لها النظر
ُ اليقظتي�ن،
إلى جانبي المنسي لمالمح الوجه المنفتح والمنغلق بكهولته.
– صحيح ..صحيح نجوى..
وحدقت إلى تراسيم خلقتي ،وقالت:
َّ ضحكت هي األخرى،
ضحكت أخير ًا!
َ –
حريته على وجهي. لجمت ِ
وتركت لالبتسام ّ
ُ ضحكتي، ُ
قلت:
ِ ِ
– أنت أيض ًا فعلت ِّ
سيدتي.
قاطعتني ممازحة:
لست سيد ًة كما ترى. ُ سيدي، – ِ
ّ
«س�يدتي» ،إنها ع�ادة العمل ال
ّ اعت�دت عل�ى قول
ُ – ع�ذر ًا،
أكثر.
– حسن ًا!
جدتكس�يدتـ ..عفو ًا! نجوى ،إ َّن التفكير في أمر َّ – حس�ن ًاّ ،
يره�ق أكث�ر ،ضع�ي أملاً ف�ي رجوعه�ا وف�ي إيجاده�ا،
السيئة ال يأتي من ورائها سوى تحقُّقها.فال َّتوقُّعات ِّ
إلي ،وممتلئ ًا
وجدت نفس�ي أقول كالم ًا فارغ ًا بالنس�بة ّ
ُ فجأ ًة،
وجدت نفسي أتكلم بنبرة شخص ٍ ُ إلى آخره بالنسبة إلى اآلخرين،
س�خرت من
ُ يع�رف الحي�اة الت�ي ال يفقه فيها ش�يئ ًا س�وى الوجع،
حجة، لكن األمر صحيح لن تنفيه أي َّ نفسي للحظات حين الكالمَّ ،
فا َّلذي َّ
يتفو ُه بكالم لم ُيش�فه ،عادة ما ُيش�فى به غيره ،تبقى تجرب ًة
في الحياة والعيش ،والفرق بيني وبينها في استجابة األمل هو أنها
91
الصحيحةتؤم�ن ب�ه ،كما أنها تبدو مليئة باأللوان ،وتملك األجوبة ّ ُ
واألس�ئلة المخت�ارة بعناي�ة ..وعل�ى العكس ،أن�ا اختلطت أجوبتي
وأس�ئلتي فأصب�ح كل م�ا أتف�وه ب�ه مث�ل أطروح�ات تبن�ي حجج ًا
ونظريات ،فأصبح الفراغ يمألني ،وهذا األخير هو الش�يء الوحيد
ٍ
رؤية مباشرة ٍ مع نافذ َتي روحي اللتين المتبقّي الذي ُيروى علن ًا في
زاعي الذي تر ّتله الوحدة ،والذي يفصله انشطاري تشيان بالفراغ ال ِّن ِّ
تدق.
المتتالي في ساعة عمري التي ال ُ
وأردفت قائالً:
ُ
أمر كهذا؟
ث ٌ يحد ُ
– أين كنتم تجدونها عندما كانت تتيه أو ُ
قالت:
– لم تكن األشياء كما اآلن ،فالحي كلُّه كان يعرفها ،وعندما
ف بمراقبتها وتخرج ،ينتبه كانت تغافل أحد ًا في البيت كُ ِّل َ
أحد في الحيُ ،فيعيدها إلى البيت ،لكن األمر صعب لها ٌ
اآلن!
وتمس حواجز
ُّ ُ
تأخذ طابع ًا ش�خصي ًا رت أن أس�ئلتي بدأتفكَّ ُ
فجحدت به وبتصديقه
ُ مرة
فاكتفيت بأمل خدعني أكثر من َّ ُ العائلة،
أم ُلها
ليحدث ما تريدهُ ،ليصبح َُ الزائف .أخدعني ألُ ِّ
ربت على كتفها
أمالً وبقايا.
قلت:
– ال تقلقي ،سنجدها.
صمت لحظة:ُّ وأضفت بعد أن
ُ
– ..سنجدها إن شاء اهلل!
– إن شاء اهلل..
92
وع�دت إلى طبيعتي األولى برعش�ة البرد التي ُ صم�ت
ُّ بعده�ا
ش�عرت بالب�رد أكث�ر حينه�ا،
ُ قرص�ت جس�دي ل ُتذكِّ رن�ي بهويت�ي،
�ات أل�م ٍ ف�ي كامل
غص ُبالعس�رة تأخذن�ي .وانحش�رت َّ وأحسس�ت ُ
ُ
صدقت ُجزء ًا من كلماتي جسد ،كأن كُ َّل رقعة بي تشكو م ّني ألنها َّ
التي ال ُتبرأ وتجرح أكثر.
تجمدت�ا ألني أخرجتهما في ح�ركات مع الكالم الذي ي�داي ّ
عاء.
شيء من الحياة ا ِّد ً
ٌ ولين ًا وفيه
طيب ًا ِّ
قلته ،ليبدو كالمي ِّ
يدي بصعوبة:
ّ فركت
ُ قلت بعد أن ُ
– نج�وى ،انتظريني دقائق ،س�أصعد ألجل�ب قفَّازين لتغطية
يدي ،وشيئ ًا أضعه على رأسي. ّ
– حسن ًا ،ال تتأ ّخر.
صعدت
ُ تركتها خلفي بنظراتي التي رأتها ُتعيد وضع قلنسوتها.
شعرت بدوار يأخذني فجأة ،ودوخة تم ّلكت عقلي ُ الساللم بروية،ّ
توقفت لبرهة
ُ وإدراك�ي ال�ذي خوى من جهده في تل�ك المحادثة.
أستجمع أنفاسي .حركت رأسي يمنة ويسرة ككلب ُيج ّفف نفسه من
أنفض ع ِّني آثار قلبي الذي ُ الماء ،وكنت أُج ّفف نفسي فعالًُ ،
كنت
نب�ض قليلاً ف�ي المحادثة من أثر ضحك�ي ،والذي كان يبوح دون
إذن ٍ م ِّني بس�كوته وخرس�ه اللذين وهبتهما له الحياة ،ورعيتهما أنا
المشيدة من ألم وغضب. ِ
ليستق َّرا في قلعتي كضيفين أتيا برحالهما
َّ
صحيح أنّي
ٌ صعدت مجاور ًا كتفي للحائط خوف ًا من أن أقع. ُ
أشعر بثقل ٍ غير عادي على جسدي ُ المرة،
بالضعف ،لكن هذه َّ أشعر ُّ
كتفي ،وأمتاراً
ّ ً
بأكمله ،كأن أطنانا من الحديد والخشب ترتكز على
وشعرت
ُ رجلي،
ّ ق خصري ،وقيود ًا ُت ِّ
كب ُل تطو ُ
السالسل الثقيلة ِّ من َّ
93
بذراعي تفقدان اإلحساس وأصبحتا تتحركان على هواهما. ّ
مررت بأحد األزرار التي تنير ُ انطفأت األنوار وأنا في الوسط،
ساللم الطوابق التي تفصل طابق ًا عن آخر .لم تكن بي رغب ٌة في أن
أفرق بين البصر أنير طريقي ،فطريقي كان وما زال معتم ًا ،فلم أعد ّ
كنت المادي ،يتس�اويان في ميزان بصيرتي ،فقد ُ ّ الوجودي والبصر
ّ
يضيء
ُ ض�ر مصبا ٌح إذا ما انطفأ ،فلا مصباح ضري�ر ًا دائم� ًا ،ول�ن ُي َّ
أي شعلة غير شعلة الحياة التي طريق العدم إذا كان فتيل ُه ال يقبل َّ
حياي ،قيدها فقط من يمسكني. أصبحت أسطورة في قواميس َم َ
يت أن تكون شقتي قريبة غير بعيدة كما ألِفتها، ألول ٍ
مرة تم ّن ُ
َّ َّ
غيرت رغباتي البش�رية، الضع�ف الجدي�د وغير المألوف ّ فح�االت َّ
اخترت
ُ فأدركت شيئ ًا؛ أنني
ُ وشعور ما خالجني في تلك ال َّلحظات،
الس�كن بعي�د ًا للحظ�ات كه�ذه فقط ،كي أضع نفس�ي في نزال مع ّ
فن المقاومة إلرادتي وإللحادي وألدر َس َّ ِّ إرهاق�ي ال�ذي ال ينتهي،
منذ الوالدة .ال أدري الس�بب الضع�ف الذي س�رى معي ُ بتراكي�ب َّ
ربما ألغادر سريع ًا ِ
الذي يجعلني أناهض نفسي بطريقة البعد هذه! ّ
الدنيا؟ أو أ ّن وجودي هذا كما ألن الذين مثلي يعتبرون ثقالً على ُّ
ا َّتفق ،يعكِّ ُر على الدنيا صفاء مسارها بمعاكسة شريعتها وقوانينها؟
كل هذا بي؟! تفعل َّ ُ أو أن أفعالي البريئة بإجرامها هي من
أظن أنني لن أفي وعدي لنجوى بأن ّ وصلت ال ّطابق الثالث. ُ
يك�ون انتظاره�ا ل�ي قصير ًا ،فق�د تبقَّى طابقان ألصل ،أي ما ُيعادل
س�تة وأربعين درجة ألصل ،وس�يأخذ ذلك وقت ًا طويالً مع زحفي
مدة ِ م�ا بعد وصولي ف�ي البحث عن ه�ذا ك�ي أص�ل ،إضاف�ة إل�ى َّ
أغير مالبس�ي قفازي وطاقية قطنية لرأس�ي ،أو ح ّتى أنه يمكنني أن ِّ ّ
94
ك ّلها إذا لزم األمر ،ألحمي أعظمي اله َّشة من وخز البرد.
عبرت درجات أخرى والظالم كان شبه حالك ،وإنارة مصابيح ُ
الح�ي الخارجي�ة الت�ي يأتي ش�عاع طفيف صادر منه�ا يعبر النوافذ ّ
السلالمتض�يء منعرجات ّ ُ الصغي�رة للعم�ارة ،ه�ي وحده�ا الت�ي
كل طابق وطابق ،كما ُتنير بش�كل ٍ باهت ّ
جد ًا ش�به الحلزونية بين ِّ
كل شقَّة في ال َّطوابق األربعةاالنعطافات المتاهية التي تتشابه نحو ِّ
كل طاب�ق منها على ثالث ش�قق .وال ّطابق الخامس والت�ي يحت�وي ُّ
أقطن فيه ،هو الوحيد الذي يضم شقَّتين متقابلتين. ُ الذي
صعدت درج ًة أخرى ،المس�ت قدمي ش�يئ ًا ،فس�معت ُ عندما
صوت معدن ٍ ارتطم باألرض .كنت أنظر أمامي قبالً ،وبعد االرتطام
نظرت تحتي ،وبدا لي شيئ ًا يلمع مع األشعة التي تأتي من النوافذ، ُ
نظرت إليه جيد ًا ،ولكني لم أتعرف إلى ذلك الش�يء الذي لمحته
يب�رق .ضرب�ت بقدم�ي ركل� ًة خفيف�ة لك�ي أدرك م�ا ال�ذي ارتطم
ب�األرض ،فس�معت بعده�ا صوتين ،الصوت األول نفس�ه ،واآلخر
لم أعرف ما هو بل بدا لس�معي كصوت بالس�تيك ،أو زجاج ،أو
خشب تشوشت ذاكرتي ،ولم أقدر على مواصلة الصعود أمام عقبة
األصوات.
�ن للحظ�ات ال ّلمعان الباهت الص ِ
ادر من ال ّش�يء، أتمع ُ ح�ت َّ
ُر ُ
ّ
وأتخيل مجسمه لع ِّلي أفهم ما الذي أصبته .ارتعب جسدي بصوتِ
َ ّ َّ
يتحرك في الدرج ،وحينها بدأ خوفي َّ حركة ما ،وقد ظهر لي شيء
صور بشعة لوحوش فع ُل نفسهُ .رسمت في ذهني ِ
ٌ الذي نُس َي كيف ُي ِّ
نراه�ا ف�ي األفلام وخرافات اختفاء بع�ض ال ّناس في ال ّظالم ،ح ّتى
ٍ
َّنت من ش�يء أش�ك في أكذوبة األش�باح ،إال أنّني تيق ُ ُّ بدأت
ُ أنّني
95
واح�دٍ ،أن�ي س�أُصادف المخلوق�ات األخرى الت�ي ُخلقت من نار،
الصراخ وسأكون شاهد ًا على رؤية أجسادها وهيئتها .لم أقدر على ُّ
عملية سريعة ٍ واحتكمت إلى زممت فمي، ولو ح ّتى بصوت خافت.
ُ ُ
تخيلات ،فمن الممكن أن مجرد ُّ �رت ف�ي أ َّن تلك ّ ف�ي ذهن�ي .فكّ ُ
يكون أحد الجيران قد فقد وعيه عند طلوعه ،أو جريمة قتل اف ُتعلت
أخرجت هاتفي من جيبي مرتعد ًا ُ هنا ..واحتماالت عديدة أخرى.
أحدث ضجيج ًا .وقبل أن أضغط ال ّز َر لكي أُشعل مصباحه َ بدون أن
ملح ٌة في أن أعط�س .بقيت حامالً يل�ي الصغي�ر ،جاءتن�ي رغب� ُة َّ ّ
الل َّ
س�بابتي فوق ش�اربي وضعت ّ ُ الهات�ف ف�ي ي�د ،وف�ي اليد األخرى
وحاولت جاهد ًا أن ال أُسمع صوت ًا. ُ أفقي ًا بفتحتي أنفي، وألصقتها ّ
مرت اللحظة بسالم ،واستطعت حبس العطسة. َّ
تراجعت بخطوات سلسة إلى الوراء ،واإلنارة البيضاء للهاتف ٍ
ُ
ٍ
أزحف بجوار الحائط ملتصق ًا ُ مش�يت بهدوء ُ موجه ٌة نحو الحائط، َّ
زر الكهرباء تذكر موض�ع ِّ المشوش�ة في ُّ َّ ب�ه ،وق�د أعانتن�ي ذاكرتي
مر ًة أخرى ،فطاردتني سمعت جلب ًة َّ ُ المضاء بالبرتقالي .اقتربت أكثر،
وأدرت وجهي نحو ناحية ُ أس�رعت
ُ أفكار الهيئة التي س�تواجهني.
الش�يء ال�ذي يلمع ُملصق ًا ظه�ري بالحائط .أطفأت مصباح هاتفي
زر اإلنارة دون وصل�ت إل�ى مكان ال ّزر ،وضعت ك ّفي عل�ى ِّ ُ حي�ن
أن أضغ�ط ،رغب� ًة ف�ي االس�تعداد لرؤي�ة الحقيق�ة التي ستكتش�فني
بعدقمت ٍّ ُ الص َعداء في صمت، َّست ُّ استعددت بعد أن تنف ُ ُ وأكتشفها.
دت للحظة، وصلت إلى الرقم واحد ،فتر َّد ُ ُ تنازلي من الرقم ثالثة،
وتوجس.. ّ بكل ما أوتيت من ضعف وضغطت ِّ
ُ عتتشج ُ َّ لكنني
الزمت مكاني أُش�اهد ما يحدث ،آلمتني األنوار ُ أُنير ال ّطابق،
96
شعرت باألسف على نفسي ال غير. ُ ثم
عيني َّ ّ في
عدتُ كنت ضحي ًة للمطر فقط ،وضحية للبرد الذي التحفني. ُ
أدراج�ي إل�ى نج�وى ،ناديتها بصوتي الباهت والمرتاح قليالً« :هييه
ثم أردفت« :انتظر نجوى!» ،استدارت وقالت لي« :تأخرت كثير ًا!»َّ ،
قلت له�ا« :اتبعيني
تغي�ر ثيابك»ُ . لحظ�ة ،أن�ت ل�م تفعل ش�يئ ًا ،لم ِ
ّ
جدتك». لنحمل َّ
لم تفهم ما كنت أشير إليه .شرحت لها بكلمات قصيرة تقيني
الساللم قلت ..« :فوق.».. ما حدثِ ّ :
«جدتك ..نائمة» ،وبإشارة إلى ّ
وقلت ُ حم َلت جسدها بسرعة ،وأرادت الجري صعود ًا ،فاستوقفتها
لها بأن تهدأ لكي ال نوقظها فتهلع .ولم أطلب منها أن تصعد إال
تحاشي ًا لما يحدث داخلي من نزاع ٍ مرضي يأكلني ُ
ويه ِّش ُم عروقي.
صعدنا بخطواتٍ ال يسمع منها سوى حفيف أحذيتنا المكتسية
وأنفاس�نا كان صداها يزيد مع الحيطان المتقابلة،ُ بال ُّت�راب والم�اء.
الص�وت وتضاعف�ه .انطفأتِ األنوار ،وأش�علتها هي. الت�ي تعك�س ّ
وتمس�ك
ُ السلالم مم�ددة على ّّ حي�ث رأيته�ا .كان�ت
ُ وصلن�ا إل�ى
�رت بين نومها وإغمائه�ا ،لكن متى وأين وكيف، ِ
منس�أتها ،وق�د ح ُ
أدوات استفهام خالجتني ،والتي لم تعد بي رغب ٌة في اإلجابة ُ ك ّلها
تط ُّن في رأسي ،وال طاقة لي كي أجيب عنها ،فكفاني عليها ،لكنها ِ
ّ
الدراما التي أرعبتني من قبل والتي شككت في معتقداتي.
بت م ِّني نجوى أن أنادي أحد الجيران ُليساعدنا في حمل ط َل ْ
قلت لها« :ذلك لن ُيجدي رفضت مستفسر ًا :لماذاُ .
ُ جدتها ،لك ّنني َّ
نفع ًا ،ال تحاولي أن ُتدخلي أحد ًا آخر في هذا ،الناس هنا ألسنتهم
طويلة ،وال أحب أن ُتروى عنكم أشياء تشيع وتتداول بين الجيران،
97
محاولة في حملها قد تؤدي ٍ وأي كم�ا أن ّ ِ
جدت�ك ثقيل�ة كم�ا أرىُّ ،
ثم
فهم�ت ما أعنيهَّ ، ْ إل�ى س�قوطها ،لذا لنحاول إيقاظها فحس�ب».
بت أنا أن
جر ُ حاول�ت أن توقظه�ا ،لك ّنه�ا لم ُتفل�ح بالمناداة عليهاَّ .
أمس�ح
ُ رفعت ك ّفي إلى ش�عري ُ رش قط�رات الم�اء عل�ى وجهها. أَ َّ
ونششت بأصابعي على وجه العجوز، ُ ذهاب ًا وإياب ًا ح َّتى تب َّللت يدي،
وضعت ك ِّفي على معطفي الذي ُ والمرة ال َّثالث�ة
َّ م�ر ًة ثانية،
حاول�ت َّ
ُ
مرات عدة، ٍ
بشدة َّ مس�حت َّ
ُ أصبح فش�ل ُه في امتصاص المياه ميزته،
بقوة وأنا أحرك ٍ
نشش�ت َُّ ثم
واجتمعت بأصابعي وراحة يدي مياهَّ ،
غم
عضلات ذراع�ي ،بعده�ا اس�تيقظت العجوز ،والظاهر أن�ه لم ُي َ
ألي كدمة بجس�دها أو م�زق في ثوبها، أي أثر ّ عليه�ا ،فلا يوج�د ّ
الرأس لم يسقط من مكانه ،وهذا يعني أنها كانت نائمة وح ّتى غطاء ّ
أنرت ُ بإرادته�ا ،ووضعيته�ا تل�ك أكَّ دت ذلك ،فعندم�ا رأيتها بعدما
الدرج ومو ِّلي ًة كتفها اليس�رى للحائط، األنوار ،كانت جالس�ة على ّ
س�بب نزولها،
ُ حيرني أكثر ،هو وممس�ك ًة منس�أتها بإحكام ،وا ّلذي َّ
وكما يبدو من ثيابها ،فهي غير عامرة ٍ ولو ح ّتى بقطرة ماء ،والمعنى
أنَّها لم تخرج قط!
كان الموقف س�اخر ًا عندما اس�تفاقت فقالت« :صباح الخير».
نظرت إلى وجه حفيدتها التي تدمع وابتسمت لها .وعندما نظرت ْ
إلي أنا الذي ساعدتها من قبل واآلن تتعرف ّ إلي شعرت بالفزع ،لم ّ ّ
يت مرضها عاكس�ت األمنيات وتم ّن ُ ُ أيض ًا .نس�تني بس�رعة ،ولحظتها
كل يوم ٍ أنسى فيه الفضل وأنسى الوجوه، الذي س�يجعلني أس�تيقظ َّ
لو بغير قصد. الس َّ
وأنسى ُّ
إل�ي نج�وى ،وقالت لي همس� ًا« :حاول مس�ايرتها». اعت�ذرت َّ
ْ
98
ابتسمت فقط.
ُ أخذت نصيحتها بغُلو ،ولم أُثِر وتر ًا للحديث، ُ
والحق أني أبتس�م كثير ًا ،فاالبتس�امة ُّ أصبح�ت أبتس�م كثي�ر ًا،
ُ
فالض ُّد دائما
تعري�ف آخ�ر للح�زن ..بل أقس�ى من مالمح األس�ىِّ ، ٌ
ٍ
لكل شيء في الوجود. تعريف آخر وفصيح ِّ ٌ
نهض�ت العج�وز متثاقل�ة ،وكانت نجوى تمس�كها من ذراعها ِ
أردت مس�كها م�ن ذراعه�ا األخ�رى ،فأبعدت يده�ا ع ّني. ُ بح�ذر.
جدتي» .اس�تمعت ل�ت إهانته�ا .قال�ت له�ا نج�وى« :ال تخافي َّ تقب ُ َّ
لحفيدته�ا ،وأمس�كت ي�دي الب�اردة .وقفت العج�وز وعلى وجهها
تتحسس شيئ ًا. ّ نظرة غريبة ،كأنّها تتأمل أو
سحق ًا! سرى معها هي األخرى ما يتناكف بي.
حاولت أن أنزع يدي وأضعها على مرفقها، ُ ل�م تنظ�ر نحوي.
وش�عرت بدفئها
ُ بق�وة على يدي،
لك َّنه�ا أب�ت ترك�ي ،ب�ل ضغطت َّ
المرة وقالت« :آه هذا أنت!» .في يحتوي يدي .ن َظرت نحوي هذه َّ
البداي�ة ل�م يدركني نس�يانها وال ذاكرتها الت�ي تآكلت ،ولم تدركني
أي عي�ن ٍ رأت ش�كل صورت�ي ،ولكن �خ عل�ى ِّ سترس ُ
َّ عيناه�ا الت�ي
تبقى ذاكرة أخرى ُتخ َّزن فيها المواقف ،إنّها ذاكرة الجسد ،خطوط
ت ُ ٍ
عطي ْ
مرر فوق ماس�ح ليزر ،فأ َ عرفت ع ّني ،مثل كود أمني ُي َّ يدها َّ
هويتي لها. معلوماتي عن ّ
حاسة اللمس. ّ مكابر ٌة أنتِ يا
أتف�وه بكلمة طوال الصعود نحو ش�قتي ،ش�عرت بضعف ّ ل�م
أعضائ�ي يزي�د م�ع حالة التوتر واإلرهاق الذي أصبح متواصالً في
وصوت طقطقة األحذية الس ّتة جعلني أتمنى أن حركة أقوم بها، ٍ كل
ُ ِّ
ويدوي في طبلتي ّ أص�م ،رغ�م حفيفه الخفيف فإنّ�ه يصدح ّ أصب�ح
َ
99
الصبراحمرتا من ّ
ّ استشعرت بأن عروقي بدأت تنتفخ ،وأذناي
ُ أذني.
غي�ر الب�ادي ،وال�ذي ال ُي�رى لهما وال�ذي أراه وحدي بعين قلبي.
كنت أن ُفخ صدري ألستنش�ق القدر األقصى وم�ن حي�ن ٍ إل�ى حينُ ،
خات األلم الذي ارتفع ضغطه ،فلم م�ن اله�واء ،ألخ ّف�ف ع ّني مض َّ
تبق لي س�وى أن أصطبر أكثر ح ّتى أصل إلى غيهبي ألحتمي من َي َّ
عتبى السقم.
وصلن�ا إل�ى الطاب�ق األخير ،أردت ت�رك يد العجوز من يدي،
بقوة فخ ّلفت على ي�دي آثار عظام تش�ددت ثاني�ة .انتزعته�ا ّ ّ لك َّنه�ا
يدها الناتئة .ظ ّلت نجوى تمسكها مخافة أن تتهاوى ،لكن العجوز
العصبية
ّ انزعجت وانتزعت ذراعها من حفيدتها ،وأخذت بشكل من
ثم انتصبت ٍ
اليمنىَّ ،
منس�أتها من يد حفيدتها بحركة س�ريعة بيدها ُ
تمشي ،كأنّها ُتس ِّفه مساعدتنا ،إال أنها كانت راضي ًة شيئ ًا ما بوجهها
مخفية .الزمتها نجوى تمشي معها المترين َّ انقلب بشاشة شبه َ الذي
فاستدرت مقابالً لهما بكتفي وظهري أفتح باب ُ نحو شقتهم ،أما أنا
ش�قتي .دخل�تِ العجوز لتس�تريح ،ونجوى لم تتج�اوز عتبة الباب
انتظرت واقف ًا بإشارة
ُ السرير.
تذهب لتكمل نومها على ّ ُ تراقبها وهي
أغلقت
ْ من نجوى بأن أنتظرها ،وعلى ما يبدو فإنّها تريد ش�كري.
وتوجهت نحوي. َّ ُشقَّتها،
قالت:
– ال أعرف كيف أشكرك على ما فعلت معي.
قلت رغم أ َّن بعض الدوار كان يعتريني:
– لم أفعل شيئ ًا.
ِ
قوس.
وأتبعت كلماتي بابتسامة ،وشفتاي تعبتا من ال َّت ُّ
ُ
100
ح َّي�اي ،ونظراتها تلك أقلقتني ،بدا كأنها
ح�دق إلى ُم َ راح�ت ُت ّ
في شيئ ًا غريب ًا.
رأت ّ
قالت:
الدماء!
مصاصي ّ – أنت تبدو شاحب ًا ،بشرتك تبدو كبشرة َّ
ش�عرت بضي�ق في صدري
ُ اعتق�دت أنه�ا كان�ت تم�زح ،فقد
ُ
ش�دة رغبتي في
س�معت م�ا قال�ت ،فازداد ألم�ي وتفاقمت ّ
ُ عندم�ا
إخفاء ما بي.
صرخت صرخ ًة صغيرة ،وقالت: ْ
– يا إلهي أنفك ينزف!!!
الصداع.
ش�عرت بصداع في رأس�ي ،وزاد وجودها أمامي من ّ
ُ
تمالكت نفسي فقُلت:
ُ
– هذا يحدث لي أحيان ًا ،ليس بالشيء المهم.
ابتلعت بعضه.
ُ ال�دم يس�يل م�ن فتح َت�ي أنفي نحو فم�ي، كان ّ
رفع�ت وجه�ي إلى أعلى ك�ي ال يتواصل ال ّنزيف .أخرجت نجوى ُ
تمس�ح دمي .وبس�رعة
ُ ورقي� ًا أبي�ض م�ن معطفها ،وراحت ّ منديلاً
مس�حت
ُ ثم
أزح�ت يده�ا ع ّن�ي بحذر ،وأخذت المنديل من يدهاّ ، ُ
تعلم نوع وجه ُت�ه لها لفعلي ،فه�ي ال ٍ
ُ أي س�بب ُيذك�ر َّ لعنت�ي دون َّ
ُحرقتي.
علي األرق.
أما أنا فبدا ّبدا عليها الهلعّ ،
تش�ك
ّ دت أن أضحك ،أن أظهر بشاش�ة مصطنعة ،كي ال تعم ُ َّ
في ما يحدث لي.
قلت:
جدتك تنتظر ،أعتقد أنها جائعة ،اذهبي من فضلك ِ
سيدتي َّ – ّ
101
لمعاينتها ،فهي تحتاجك.
قالت:
سيدي.
– حاضر ّ
أضافت:
– ..لكن ،هل أنت بخير؟
– ثقي بي ،ليس بي شيء ،إنّها حالة تأتيني من حين آلخر.
– المهم أنّه يجب أن ترتاح ،يبدو لي أنك أُصبت بنزلة برد،
انتظر سأجلب قرص أسبرين.
استوقفتها قائالً:
– شكر ًا لك نجوى ،ال تقلقي ،لدي أقراص أسبرين.
– عل�ى راحت�ك ،عل�ى أي ح�ال ،خ�ذ قس�ط ًا م�ن ّ
الراح�ة،
كل شيء،كل هذا ،وشكر ًا على ِّ جرك في ِّ
وسامحني على ِّ
تحضر لك ش�راب ًا س�اخن ًا ،فأنت تحتاجه
ّ وقل لوالدتك أن
في هذا البرد.
لم أنطق ببنت ش�فة ،س�وى افتعال إش�ارات ابتس�امات على
وجهي.
قبل أن تدخل شقَّتها ،قالت:
– أراك الحق ًا.
دخل�ت مضجعي مكتئب ًا
ُ بادلته�ا بابتس�امة مزموم�ة أُخرى ،ثم
كتفي،
ّ الرثة ،مخذوالً بجسدي ال َّثقيل وبمعطفي الذي ُي ُ
ثقل لحالتي َّ
وم َم ْسر ٌح جد ًا بهرمي المبكر ،الذي تشكَّ ل في خرفي المكتسي على ُ
ٍ
كل زاوية ،لكن لم يكن شيئ ًا جديد ًا ،فقط الغصص نفسها والجرع ِّ
كل ليلة ،فقط هي جر ٌع زائدة آلمتني أكثر المرة نفسها التي ُ
آخذها َّ ّ
102
من الالزم ،وق َّلت في نش�وتي ،وزادت من فراغي الجوفي أضعاف ًا
مضاعفة.
عيني بعد دخولي ،ولم أُلق ِ لها باالً ،فما هي ّ دمو ٌع هطلت من
ِ
إلاّ فائ�ض المعان�اة والتوت�ر ل َما كبس�ه التكرار ال�ذي ُيق ِّلده الوجع.
لكن بش�رتي اليوم انكوت بها أكثر، َّ كانت دموعي حارقة كعادتها،
أت بها من غشاء البرد الذي يكتسيها. وتد َّف ْ
جف فيها الماء ،وقاحالً كتربة.. كبئر ّ ٍ كنت
ُ
أماه! ِ
أحتاج دفئك ّ
لم أع ِ في شقتي سوى أن وجودي بها أصبح مريح ًا لنفسيتي.
نزعت حذائي ُ فش�عرت بخ ّف�ة ما مع األلم نفس�ه. ُ نزع�ت معطف�ي، ُ
ٍ
وأول ش�يء رت مالبس�ي على مهلّ ، غي ُومش�يت حافي ًاَّ . ُ وجوربي،
ّ
رت فيه هو دوائي وقرص أسبرين لصداع رأسي. فكَّ ُ
جد ًا ،كأنّي
كنت أبدو شاحب ًا ّ وكان صحيح ًا ما قالته الفتاة ،فقد ُ
أض�ع مس�احيق تجمي�ل .بدوت مثل الغمام�ة عندما نزعت نظارتي
تنبئانبدوت طيف ًا بحق ،وكانت عيناي ّ ُ ونظرت إلى المرآة مكره ًا، ُ
جفني ،وشفتاي فقدتا لونهما ّ الرمادي تحت شدة ال َّلون َّ بالرعد من ّ ّ
للدفء الذي يزيل عنهما خدر االبتسامة. وكانتا متع ّطشتين ّ
كبرياء
ً كم تكون المساعدة مؤلمة ،عندما تهبها وال تأخذها..
فقط.
خبئني من الوحشة كان من المفترض أن أرتدي شيئ ًا فضفاض ًا ُي ّ
ارتديت قميص ًا بكمين
ُ الت�ي صنعته�ا األمطار في جس�دي من ب�رد.
قصيري�ن ،وبنط�االً عش�وائي ًا ُيغ ّطي عورتي ،والفض�ل لجهاز ال ّتدفئة
مرة ٍ بتشغيله ،بعد إذ نبذته في ُركن ٍ منسي ،لعدم ألول َّ
ِ
الذي أسعد َّ
103
المرة ،رغم شريط تحملي الحرارة المفرطة .لم أشعر بالجوع هذه َّ ّ
مللت من ُ التعب الذي مررت منه ،وكانت بي رغبة ملحة في ال ّنوم.
فأرجعت مصدرها إلى مكان نفيه ،وارتديت ما يلتصق ُ تلك التدفئة،
بلحميُ ،ليضاعف حرارة جسمي الطبيعية.
وجدت نفسي ملقى على السرير ،ساقاي سارتا ُ ال أدري كيف
فتك به بي دون أن أشعر ،كانتا ُت ِّلبيان مقاومة رغبات التقهقر الذي أُ ُ
كل عضو ٍ في أجهزتي يريد ال ّنوم ،إال أن الذاكرة التي نفس�ي .كان ُّ
تش�بعت أب�ت أن تن�ام ،فتركتني في حالة نوم ٍ نصف�ي ،يقظ ًا ونائم ًا. َّ
أتحدثه،
َّ بأي لغة كنت أتفوه بكالم ال أفقهه وال أعي ِّ فجأ ًة وجدتني ّ
ألغة أحالم أم لغة واقع؟ لم أكن أدري إن كنت نائم ًا ح ّق ًا أم أنني
أتخي�ل ،فعين�اي كانتا ش�به مفتوحتين ،وعقل�ي كان غائب ًا ،ولم أكن ّ
عيني
ّ فكل األضواء كانت مطفأة ،ضوء أرى س�وى س�قف الغرفةُّ ،
والدي ،صور َتي ّ وح�ده مش�تعل ،ح ّت�ى بدا ل�ي أنِّي رأيت صور َت�ي
الرهيب بحنيني إلى أوطاني ،وإلى زمن الغياب واالرتياب، الحلم َّ
وإلى االرتهاب مني ومن جشع األيام والفصول واألقدار..
هات ألم ٍ خرجت من فمي. تأو ُ ُّ
كفان�ي ع�ذاب ال�روح ،ال تقتلن�ي أنت أيض ًا يا جرح الجس�د،
في أنا تسكن َّ
ُ الصفقة التي جعلتك أم أنّك أنت أيض ًا ال تقبل هذه ّ
سيد الحزن ال ّطويل! ّ
ش�عرت بوحش�ة ال ّلي�ل ،وكان هدي�ر الري�اح يؤرج�ح دف ًة من ُ
ورجوع ًا تار ًة بزاوية أخرى ،كأن طقس� ًا ما النافذة إياب ًا تار ًة بزاويةُ ،
خصصت غرفة للعالج والمرض في آخرها. ُيفتعل في شقتي التي َّ
الضوضاء التي ُتصدرها لم تعد بي قدر ٌة على الصبر أكثر على ّ
104
حمام العرق والهلوس�ات التي تزرعها فأخرجت نفس�ي من ّ ُ الدفة، ّ
الصور ولكن رهب�ة ُّ َّ ي�دي،
ّ الضع�ف .صفع�ت وجه�ي بكلتا خالي�ا ّ
رت تحت لحافي ح َّتى لم يعد لي أثر وجود تكو ُالضبابية لم ُتزلَّ . ّ
صفعت
ُ سوى داخلها ،وآخر دمعة بكاء شحيحة ذرفتها في الداخل.
أش�علت
ُ وأزل�ت ال ِّلح�اف مقاوم� ًا لهفة ال ّنوم. ُ م�ر ًة أخ�رى، نفس�ي ّ
المصباح بقربي وأنا مغمض العينين ،فتحتهما ،ونسيت بعد فتحهما
أنني كنت أريد ال ّنوم ،فقد التهمني جوع الكتابة .قمت وكان جسدي
وذهبت أعرج نحو فصيلة ُ يقاوم حمقي ،عققت تحذيرات صحتي،
ب طلق�ات رص�اص .أصبح�ت الجمل الت�ي أ ُخطُّها ج�ر ُالخش�ب ُا ِّ
�ت كفع�ل خالص ٍ أُ َ
ه�د ُم به. أصبح َْ تصي�ب األه�داف وال ُتخط�ئ،
الرؤى التي أطمع في تبيانها، ظننت أنني س�أتوازن عندما أتوه في ُّ ُ
لدت
يج�ف نهري ألف�رح بالجفاف ال�ذي ُو ُ ُّ أنّن�ي س�أرتوي بعدم�ا
الذكرى ألجل�ه ،أنّن�ي س�أعيد تش�كيل الهرم ال�ذي ُهدم بح�وادث ّ
س�أجد كن�زي ال�ذي ض�اع في األعماق إث�ر عاصفة ُ العاب�رة ،أنن�ي
مطرية أفقدتني وعيي ،فترك ُت ُه مخافة غرقي معه ،وأنني سأرقى فوق
بقوة الحرف الذي يجعلني ملك ًا وعبد ًا ..لكن ال شيء من ضعفي َّ
تهاويت من س�فح ذاكرة ال َّش�تات، ُ ذلك حدث ،هزمني الواقع ،إذ
وتعمق�ت جراح�ي أكث�ر ،وغبنت قلبي بمفاوضات فاش�لة ،وزادت ّ
ٍ
علي بخيبات أخرى. الهزائم وتوالت كيفما شاءتُ ،منهال ًة ّ
حمل�ت الممحاة ألزي�ل خطيئتي ُ ل�م أق�در عل�ى المواصل�ة.
كل مواجهة مباش�رة؛ عندما كنت �ف ع�ن تعذيبي ف�ي ِّ الت�ي ل�ن تكُ َّ
أدركت أ َّن محاولة
ُ بقوة ،تم ّزقت الورقة ،عندها أدركت أمر ًا، أمحي ّ
تحريف بحد ذاته ،ولن ُيجدي ش�يئ ًا غير تمزيق ٌ محو الماضي هو
105
أحسست أن ماُ حاضري ،وتعفين مستقبلي .وعندما تم ّزقت الورقة،
صدقي الذي انطفأ على ق�د وق�ع ،كان فق�ط عقوبة لي على مس�ح ِ
الورق.
رت في لم أجد ما أفعله حينها سوى التخلص من جهدي ،فكَّ ُ
أن أحرق الورق ،أو أرمي بالكلمات في س ّلة المهمالت ،فسيكون
حو َل إلى دخان يعبره الريح محوها جريمة ال غير ..لذا فل ُتحرق ل ُت َّ
ذرات غاز، ويغادر إلى شخص غيري أو يبقى موجود ًا على شكل ّ
يتنفَّسني ال ّناس فأُقرأ في ذات تنفس .أو أُهمل في كرة ٍ ورقية ،فأُغادر
ويعاد تش�كيلي ورق ًا ٍ
من حاوية إلى حاوية ،من مصنع إلى مصنعُ ،
حمل من يد ٍ إلى يد ،وأُبعث من هنا إلى هناك ..إلى هناك، آخر ،وأُ ُ
حي بأكثر من فأبق�ى ّ ً
خفي�ا كما ش�اء لي أن أكونُ ،مش� َّتت ،لك�نٌّ ..
طريقة.
كومته�ا ورميتها في س� َّلة المهمالت ،وأخرى بع�ض األوراق َّ
جعلتها رماد ًا ،ألُو َّز َع بالطريقتين ،غازات وأشكاالً.
ش�تتشو ُ
تذكَّ �رت أنّن�ي ل�م أثم�ل بقهوت�ي ،وال أدري كي�ف َّ
عل�ي األوق�ات ،فنس�يت طع�م المرارة ال�ذي ال أعيش َّ وتلخب َط ْ
�ت
الدورية .إرادتي أن بطل إرهاقاتي َّ ته ُّز نشوتي ،و ُت ُ
إال برتوشاته التي ُ
مساء بقهوة ٍ ترتشفني. ً وأقلب األوقات ،وأجعل ال ّنهارَ أحايد العادة،
وصبب�ت ف�ي كأس�ين ،واح�دة ل ّلحظ�ة، ُ �رت الفنج�ان،
حض ُ َّ
واألخرى إلثارة ال َّلحظة ببرودتها ال َّزائدة على التي قبلها.
وقد غدرتني الكتابة هذا المساء ،أفاضتني أكثر مِ َّما جمعتني.
فلعل مفاصلي ّ أتجو ُل في أرجاء المنزل، َّ ورحت
ُ حملت كأسي
ُ
ٍ
ل�ت أبح�ث ع�ن م�كان مالئم تجو ُ
الص�دأّ . وذهن�ي ينقش�ر عنهم�ا ّ
106
كل ركن في محيطي يصلح لفرز الذهن ،والحق أ ّن َّ للجلوس لتصفية ّ
ٍ
كل شيء يحيط نفسي عن نفسي ،لن أقول إن الوحدة موجودة في ِّ
بي ،بل أكثر من ذلك ،في الحقيقة لست وحيد ًا أيض ًا ،الوحدة أرقى
إلي ،أنا فقط ش�يء انبعث من رماد الوحدة ،إنس�ان من أن تنتس�ب ّ
عت مت ال ّطويل ..ومكاني هو اآلخر ،ح َّتى لو َّ
ترب ُ الص ُ خي�م داخل�ه ّ ّ
وكل ركن ٍ مثله الراحة المضطربةُّ ، في مطبخي ،س�أجد فس�حة من ّ
بمعدالت أكثر قسوة، ٍ سيعادله في اضطرابه ..إال غرفتي التي تزيد
ّ ُ
فهذه األخيرة ،ليست كباقي األماكن ،إنّها مثل المقبرة ،فيها األموات
أشخاص كلُّهم دارت على أعناقهم َشفرة الموت، ٌ أكثر من األحياء،
الرحيل ،كلُّهم منقوش�ون على كتب في وأنوفهم استنش�قت رائحة َّ
رفوفي الكبيرة ،التي تس َّلطت على غرفتي وأخذت الجزء الكبير فيها.
وأكثرهم شهر ًة هو ذلك الغاضب «نيتشه» ،ذلك المارد الذي غلغل
وصحح نظري بقوانين العجز ّ ف�ي الرف�ض ،وغرس نزعته داخل�ي، َّ
ّ
ال�ذي يحقن�ه المرض ولصكوك الذك�رى الغائرة ،فهو اآلخر عاش
س�ير ًة مرضية .كان يقول« :في حالة المرض يغدو اإلنس�ان عاجز ًا
أي شيء وعاجز ًا أي شيء؛ عاجز ًا عن الحسم في ِّ عن التخلص من ِّ
ٍ
أي شيء؛ كل شيء يغدو جارح ًا» ،وزاد كشفي عندما قال: عن ر ِّد ِّ
حد التالصق؛ ٍ
«تتق�ارب األش�ياء مع اإلنس�ان بصفة وقحة مزعج�ة َّ
تقيح ًا».
والذكرى تصبح جرح ًا ُم ِّ األحداث تصيب في العمقِّ ،
وكنت فعالً مجروح ًا من س�نوات العس�رة ،ومقروح ًا بماضٍ،
أي ذكرى ،كلها تتب�رأ م ّني ّ
ح�د عدم البرء ،ولم َّ تقيح�ت ّ وجراح�ي َّ
الرشوة ،وأنا أيض ًا جاءت شاهد ًة على أفعالي تحاكمني كقاض ٍ ُ
يقبل َّ
كل ذكرى في يوم محاكمتي ،راضي ًا بحكمي ،فقد آل إلى كنت مع ِّ ُ
107
الخفي�ة التي تؤول ك ّلها إلى رغبة في نفس َّ م�ا تط َّلع�ت إلي�ه نواياي
سقراط قضاها.
ارتشفت نصف الكأس وأنا أجول هنا وهناك ،تار ًة في الردهة،
َّظ ذهني بشكل ٍ تدريجي ،وأزهرت الصالون ،وقد تيق َ وتار ًة أخرى في ّ
البن ما حولي. رائحة ِّ
�ب بعناي�ة ،األواني ف�ي مكانها وتلم�ع بنظافتها، محيط�ي مر َّت ٌ
أزواج األحذي�ة مصط ّف� ٌة كال َّتالميذ ،وآخر األمر ..أ َّن ش�بح الوحدة
أي إهمال، ٍ ٍ
كل بقعة في شقَّتي بكل ترتيب وحصانة من ِّ يجول في ِّ
الم�رء وحده ،يجب علي�ه أن يكون نظيف ًا ومر َّتب ًا في ُ فعندم�ا يعي�ش
مثالي ًا هو
ّ كل ش�يء ،ح َّتى في حزنه ،فيجب على الحزن أن يكون ِّ
اآلخر ،ال تنقصه ناقصة .وأنا اآلخر ،ال أريد أن أعيش جحيم ًا ثاني ًا
تس�كن في ذاكرتي، ُ غير الذي يحيا في داخلي ،تكفي الجثث التي
تتحرك في جحيم ٍ غير منتظم. ّ وال أريد أن أغدو جثّة عفنة
كرسي ًا ووضعته في الصالون أمام ّ أخذت مكاني أخير ًا ،حملت ُ
أحدق إلى السماء التي تظهر عيني ّ
ّ وكل انتباهي ع َّلقته في ُّ النافذة،
تغي ُر معالمه�ا قطرات المطر مرب�ع ٍ أزرق من نافذت�يِّ ، عل�ى ش�كل ّ
بعيني ،خيالي ّ الس�حب
س�بحت في ُّ ُ التي تلمع بغزارة ش�به مرئية.
مجس�مات وأشكاالً بالغيوم الرمادية ،التي تظهر مبهمة َّ راح يش�كِّ ل
وجوه غريبة ٌ بغياب نور ال َشمس وحضور نور القمر ،وتشكَّ لت عبث ًا
مكدرة ُتشبهني كرب ًا. َّ
معن ،صادفت عيناي غيم ًة ُمضاءة بضوء بع�د لحظ�ات م�ن ال َّت ّ
القمر وتظهر ب َّلورية ال ّلون ،غيمة أراحت قلبي بكلمة (اهلل) منحوت ًة
الس�ماء وش�امخ ًة بعرضها وطولها .حينها وضعت كأس�ي على في ّ
108
وأتضر ُع إلى َّ كف�ي ألدعو لوجهين تحت ال ُّتراب، ّ ورفع�ت
ُ األرض،
أناني لي في تحقيق طلبٍ ..تمقُتني ٍّ
اهلل عس�ى أن يس�تجيب لطلبٍ
فيه الحياة داخلي.
صغير يرى ألعاب ًا ٍ خ�وت كأس�ي ،وكن�ت ال أزال أنظر بعط�ش
دت من س�ودائي أثناء تعلُّقي ،ولم يدم ذلك تج�ر ُ َّ م�رة.
ناري�ة ألول ّ
حدتها وهي ُتداعب انتبهت لنكهتها التي خفَّت َّ ُ طويالً ،فسرعان ما
ألش�بع بالرؤية َ هت إلى ال ّنافذة وتوج ُّ لس�اني .قمت من الكرس�ي،
حدقت كاملة ،وأجعلها كحلقة انتظار بعدما أرجع بالكأس األخرىّ .
إلى السماء التي تشبه البحر في هدوئه وغضبه ،وأُراقب القمر الذي
يتخبأ متحرك ًا م�ع الغيومّ ، ّ �ر من موضع ٍ إلى آخر يتغي ُ
ُي�رى ل�ي أنّ�ه َّ
ويتجرد منها تار ًة ُليرى واضح ًا ّ وراءها تار ًة ُليرى بتالبيب من ضوئه،
بازغ ًا وبدر ًا يلغي كل األضواء.
ش�عرت بالحرارة ُ رغ�م الجم�ود البارد لرش�فات القهوة ،فإني
بالحمى، صبت
ُ ُتداع�ب جس�مي ،وعيائ�ي قد تفاقم ،وال ّظاه�ر أنّي أُ
َّ
الحم�ى ،وعلى تغافل هذا ّ وقلم�ي ل�م يس�اندني اليوم على تجاهل
ش�ربت كأس�ي في جرعتين ُم َّرتين ،ومزاجي قد ُ الكدح المتواصل.
ويكدرني بمثالية كل ال�ذي يحي�ط بي ينفر م ّن�ي ُ تعكَّ �ر أكث�ر ،وكأ َّن َّ
ثمأقفل�ت النافذة فق�د دخل بعض المطر إلى األرضيةَّ ، ُ اصطفاف�ه.
حيث ُ قع�دت على الكرس�ي ُ وفتح�ت الناف�ذة.
ُ �دت إل�ى غرفت�ي ُع ُ
أعتكف الكتابة ش�ا ّد ًا ش�عري وحاني ًا رأس�ي مغمض الجفنينَ .ف ْو َر
وطيرت أوراقي ريح َّ الحمى معي ،دخلت ٌ ّ أخ�ذي مكان�ي وتجانس
وانتعشت أنا كذلك ولم أغضب ،ولم أقم ألجمعها، ُ عن المكتب،
العربية المش ّتتة أخذت أركان ًا ّ فحالتها المبعثرة هي بعثرتي ،وحروف
109
تطوقن�ي .تلقّ�ف نظري جملة قصي�رة« :ما مضى ذهب» ،لم حول�ي ِّ
الضاد اخترت لغة َُّ وجدت نفسي عسير ًا عندما ُ ُيلهمني المعنى ،بل
وكل المجازات لن الصعبة في كتابته�ا وفهمهاُّ ، حرف�ةً ،ه�ذه اللُّغ�ة َّ
وبمجرد دخولك إليها ،لن َّ تقدر أن تكفي في إغناء قارئها وكاتبها،
تخرج منها إال مجلود ًا بأسواطها التي تشحن بالعروبة. ُ
ٍ
الريح التي أقبلت علي ،كانت ترمز بإشارة ألن أنهض وأغادر، ّ
وم دائم ًا كان عالج ًا نافع ًا. ألعا َل َج بال ّنسيان المؤ َّقت ،فال َّن ُ
كمحارب عاد من معركة كان فيها هو الناجي ذهبت إلى سريري ُ ُ
الوحيد ،جريح ًا ومنتصر ًا بخيبة أمل ،واستقبلته أرضه بحرارة وتصفيق
رض به ،بسبب انتصاره هازم ًا نفسه فقط بتركه لحياته هناك. لم َي َ
المرة األولى ،ولم تأتني سنة نوم ،ولم يهدأ عقلي بت في ّ تق ّل ُ
تحكم ٍالسيدي بجهاز ُّ من ُمراجعة غفوات َّ
فأشعلت ُمشغِّل ِّ ُ الذاكرة،
ف المكان كي تجعله مريح ًا، زر تركت اآليات ُتغ ِّل ُ عن بعد ،ضغط ُة ٍّ
لتحف أنا بكلم ِ اهلل عسى أن أنام. َ وكي أُ
110
III
جد ًا ،وعظامي كانت استيقظت متأ ِّخر ًا .أعضائي كانت منهكة ّ
كالمكس�ورة ،وكان انثن�اء المفاص�ل يخزن�ي .وال ُّش�عاع المس�تطيل
ال�ذي يأت�ي من ثق�ب النافذة أذابني كقطعة ثل�ج ،وصهرني كقطعة
ومتشعبة بوحي ال ّنسيان،
ّ بالستيك .كانت مالمحي مكابرة بالمرارة
كحركة أضرم بها النار في جسدي. ٍ وكل احتكاك مع الغطاء كان
اصطبرت على كل شيء وقمت جاهد ًا.
وكنت وحدي أشتعل بشرارة األمس ،مغ ّطى ُ الجو بارد ًا،
ُّ كان
عيني. ب ِ ِك ْلس ِ النوم المنصهر على وجهي ،وعمش العياء الذي ِ
يغشي
ّ
الساعة فظننتها
نظرت إلى ساعة الحائط .لم أحتكم إلى عقربي ّ
أول رؤي�ة ،لكنه�ا كانت الحادية عش�رة .ال يهم ،فقد العاش�رة ف�ي َّ
غبت عن العمل. ُ
كتبت مالحظة على ورقة ،كي تذكِّ رني باالتصال بسعد ألخبره ُ
رميت
ُ بأنّي لن آتي اليوم وسآخذ بضعة أيام راحة بسبب المرض.
الورقة فوق طاولة صغيرة في زاوية الغرفة ُوضعت عليها مزهرية.
يدي على رأس�ي، فقرفصت على األرض .وضعت ّ ُ انتابتني دوخة،
عيني ،لم يكن يتراءى لي سوى البياض غير العادي الذي ّ أغمضت
مدة.بتحسن ٍ بعد َّ
ُّ شعرت
ُ يكتسي سواد االنغالق.
111
فخذي ،ولم أستطع النهوض .جلست خائر ًا ّ تش َّنجت عضالت
وطريح ًا على األرض ُمو ِّلي ًا ظهري إلى الحائط الذي بقُربي ،وكانت
وضعت عليها كاهلي ،فقس�مت ظهري طوالً .لم ُ زاوي� ًة تل�ك التي
أتحمل .وقفت بصعوبة بعد أن ِ ارتخت عضالتي من تقلُّصها. ّ
الحم�ى .ل�م أط�ق رائح�ة الن�وم ّ كان أنف�ي مس�دود ًا بمخ�اط
فتحت ُ قزز من نفس�ي.والم�رض الت�ي تحيطني ،فقد أش�عرتني بال َّت ُّ
الحمام ّ وتوجهت دون ال ّنظر إلى ش�يء ،حامالً أدوات ّ ق ّنينة الغاز،
الحمى.
ّ حمام ًا أتطهر به من طفيليات كي آخذ ّ
ابتعدت ع ّني روائح الفم ،وانفتحت فتحتا أنفي بعد طهارتي،
وانح ّلت مس�ام جس�دي تستش�عر الهواء ،وارتوت ش�عيرات بدني،
وألقي�تُ ف�ت ش�عري بع�د خروج�ي، فاس�تفقت كم�ا يج�ب .ص ّف ُ
ُ
الحمى في سلة الغسيل. ّ بالمالبس التي اجتمعت بها
وجدت
ُ مسحت ن ّظارتي من عتاب األمس ألستقبل لون اليوم،
ش�طائري تنتظرن�ي ،س�خّنتها في المكروي�ف ووضعتها في صحن،
وذهب�ت ب�ي وبه نحو موض�ع األريكة المقابلة للتلفاز .أثار انتباهي ُ
�ت ِ
هاتف�ي ال�ذي يوم�ض ب�األزرق ،ش�خص م�ا كان يتصل بي؛ س ُّ
ا ّتص�االت م�ن س�عد ،وف�ي الغال�ب اتصاالت�ه كانت ليس�ألني عن
أرجع�ت الهاتف حي�ث كان موضوع ًا قرب موضع التلفاز، ُ غياب�ي.
وعدت أدراجي إلى الكنبة ألوازن غلبة الجوع ُ ولم أدر هذا األخير،
بالفطور.
لت مقطوع�ات موس�يقية لش�وبان أش�علت حاس�وبي .ش� َّغ ُُ
وب�اخ وتشيكوفس�كي ،عس�ى نق�رات ش�وبان ُتنير المن�زل ،وكمان
ِ
يح�رك األثاث النائم ،وتش�عل األوتار لحن ِّ تشيكوفس�كي الحزي�ن
112
الصادرة من مشروع استيقاظي المتأ ِّخر .أزعجتني طرقات اإلصالح ّ
الصاخب�ة بطرقها الرتيب بن�اء بالق�رب م�ن العم�ارة ،وتلك اآلالت ّ
كانت تشتت انتباهي .ذلك االختالط بين هدوء الموسيقى وصخب
الذكي متجاهالً وحملت هاتفي ّ
ُ اآلالت أزعجني .أطفأت الحاسوب،
ألتفرد بالمقطوعات نفسها ّ سماعات األذن االتصال بسعد .وضعت ّ
عمال البناء.
وحدي ح ّتى ينتهي ّ
الصباح ال�ذي تن ّفس قبلي أع�ددت الش�اي ،وجلس�ت أفتت�ح ّ
كنت أسمع ،فقد غرة انتابتني مسحة الحزن مما ُ بساعات .على حين ّ
حملتها من الحاس�وب كانت مقطوعة دخيلة على المجموعة التي ّ
إل�ى الهات�ف ،كان�ت مقطوعة للع�ازف العبقري ((آدم هيرس�ت))،
كل ش�يء. ال�ذي ه ّزتن�ي ج�رات مقطوعته ،فهو عازف تش�يلو بعد ّ
وتمر على أذني كنداء لجفاف البكاء ّ مقطوعته تلك التي ته ّز كياني
كش ٍ
�عر الذي كنت أتخيله ،تزأر النوتات في أذني فتجعلني مس�لوب ًا ِ
ّ ّ ُ
تبرأ منه قائله .اسم المقطوعة هو« :الباب الخفي.»Hidden Door / ّ
أين هذا الباب يا صديقي آدم ..أين؟ وهل يوجد ح ّق ًا ،ألنني
أري�د أن أخف�ي م�ا ب�ي في�ه ،وأنبذها ح ّت�ى أريدها إل�ى أجل آخر،
أن أس�ترها من القيل والقال ،فقط قل لي ،هل هذا الباب موجو ٌد
بالفعل؟
وح ّتى لو ُوجد فإني ال أحمل مفاتيح ألفتحه كما يحمله باقي
علي من ال ّزيارة ،لن يكون إال قلبي، الضريح الممنوع ّ البشر؛ وهذا ّ
الكونية،
ّ كل المفاتيح
جربت َّ فلا أمل�ك مفاتيح لهذه العضلة ،وقد ّ
لك ّنها لم ُتفلح.
كي�ف أدخ�ل إلي�ك يا قل�ب ومفتاح الحب ض�اع م ّني؟ كيف
113
الس�عادة؟ كيف أنش�ئ أزف إلي�ك خب�ر قدوم�ي وأنا ال أفهم معنى ّ
طريق�ي إلي�ك وما ّدة البناء مجهولة عندي؟ وكيف أصعد إليك وقد
ثم كيف أزيل عنك أغالل العادة الحزينة أكل ران الوجع مفاصلي؟ ّ
ٍ
جمدتك س�ي َمكِّ نني من إيقاظك بعد أن ّ أي جواب ُ فتصير مبتهج ًا؟ ُّ
من الخوف؟!
صدقن�ي ي�ا قل�ب ،إ ّن ال�ذي يرعبن�ي هو تكرار حادثة س�ادية ّ
تفتعلها بي األقدار بش�راكة مع الدنيا .يا قلب جعلتك س�اخر ًا من
أتجرد منك .نعم سوف ّ الحياة هكذا ،ال ألتخ ّلص منك ،بل كي ال
نبتسم ،لكن ليس هنا ،فقط اشفع لي عند ربي يومئذٍ...
وال تس�امحيني ي�ا لعن�ة العاطف�ة ،فه�ذا أفضل ل�ك ،فما أكثر
ِ
الكرة،
أحبذ اآلن مع�اودة ّ الموجوعي�ن من�ك .أوجعتن�ي يوم� ًا ،وال ّ
ح ّتى لو فعلتِ خارقة قاموس الجفاء ،فلن تصيبي م ّني شيئ ًا ،ستأتين
بوحيك وتنشفين وتنسلين أمام أقدام األيام المحدودة التي تبقّت.
كانت س�اعة الحائط تش�ير إلى الثّانية عش�رة وخمس عش�رة
السماعات ،صفت أُذناي ،فقد توقف ضجيج األشغال. دقيقة .أزلت ّ
تركت هاتفي وع َّلقت مهاتفة سعد في ذهني ألهاتفه بعد أن أص ِّلي
صالتي المؤ ّخرة.
هاتف�ت س�عد ًا وأخبرت�ه أنّني متع�ب ولن آتي ،وطلبت منه أن ُ
وأعربت له ما
ُ يصلن�ي بالمدي�ر ألش�رح له حالتي .ربطن�ي بالمدير،
قد جرى لي ،وأنّه ليس بي القدرة على القدوم ،وأنّي أحتاج أيام ًا
ألرت�اح .قب�ل أن يتركن�ي ،ك ّلفني بمهمة مراجعة س�جالت ال ّش�هر،
وأنّه سيرسل لي ما ُيتط ّلب في بريدي اإللكتروني .تم ّنى لي الشفاء
وتحدثت أنا ّ لجدي .أنهيت المكالمة معه، العاجل ،وأن أب ِّلغ سالمه ّ
114
ثم انتهى حديثنا ٍ
وسعد لوقت قصير ،وتم ّنى لي الشفاء هو اآلخرّ ،
بعد أن قطع اال ّتصال.
ٍ
أي شفاء يتم ّنى لي هؤالء!ّ
األيام األخرى،يبق سوى أن أتابع يومي الذي يتشابه مع ّ ولم َ
عما سيمأل نقصاني بعدها .إلاّ أ ّن هذا
التي تنقضي وأتساءل دائم ًا ّ
اليوم كان مغاير ًا ،فقد أخلفت فيه العمل بس�بب مرض ٍ مؤ ّقت طفا
كقطع�ة ف ّلي�ن ف�ي بحي�رة مرضي المزمن ،ف�زاد ال ّطين عكرةّ ،
ومرغ
صفو ما تؤول إليه حياتي بتغيير آخر طفيف.
115
IV
حلقت
ُ تغير ،س�وى أنن�ي م�رت خمس�ة ّأي�ام ،وال ش�يء ق�د ّ ّ
أصبحت
ُ فت من ش�اربي ولحيتي ،وتناس�ب االثنان. ش�عري ،وخ ّف ُ
السابق في جوفها.السابق في الواجهة ،لك ّني نفسه ّ أبدو مختلف ًا عن ّ
األيام الخمسة في الفعل الوحيد الذي يرهقني ،ترهقني قضيت ّ
ُ وقد
كنت عليه.ُ مرهق قليالً مقارن ًة بما
ٌ الكتابة لك ّنني
الحمى كانت مستضاف ًة فقط، ّ رشح المرض ع ّني ،وال ّظاهر أ ّن َ
الحمىّ بحمى منذ زمن .تسببت ولتكون عابر ًة وتغادر ،فلم أصب ّ
لي بمشاكل وخيمة قلقت منها لسرطاني ،فقد نقصت مناعتي أكثر،
وزادت األدوية التي أكرهها .لم يشكّ ل ذلك فرق ًا كبير ًا ،فما دمت
سيشفى يوم ًا .الذي أرهب خارج ًا معطوب ًا فهذا أفضل ،ألن الخارج ُ
الداخلية التي تزيد وال تنقص منه ،هو أ ّن تضاعفه سيربك معافاتي ّ
بفعله ،وهذا يزيد من رهبتي مما قاله لي ال ّطبيب ذات أمسية .لكن
مرت بخير في كل األحوال ،رغم قلقي من نتائج الفحوصات األمور َّ
التي أخبرني بها الطبيب ،وقد نصحني بأن أبتعد عن شرب القهوة
حدة قلقي .استطعت االمتناع عن الكافيين وعن األعمال التي تزيد َّ
تستقر حالتي.
ّ بصعوبة ريثما
جدي ،وف�ي أن أجعل حضوري ببيت خالتي أفكّ �ر ف�ي زيارة ّ
116
مفاج�أة ،رغب� ًة ف�ي أن يفرح ب�ي بعد غيابي ال ّطوي�ل ،وكي يعاتبني
مرة معاكس ًة لقوى السنين ككل ّ ِّ ويقبلني على جبيني بعتابه الجميلِّ ،
التي تكبرني أضعاف ًا.
بتخرج ابنه ،وكم ُّ عندما أذهب لل ِّزيارة ،يسعد كما يسعد األب
المطول، َّ نأخ�ذ م�ن الوق�ت في الحديث! هو عضلت�ي في الحديث
ح ّتى أ ّن تلك الخالة ،أصبحت تحترم وجودي معهم ،وترخي لؤمها
الكل
ُّ أكثر ،ألنني أعرف كيف أتعامل مع شيخ البيت الذي أصبح
للعصبية التي تنشدها السنون التي ّ يجد صعوبات في الحديث معه،
تكدس�ت في جس�ده ،وال ّظاهر أن نفورهم من طلباته المتكاثرة هو َّ
أصبحت األداة
ُ م�ا جعله�م ش�ديدي العج�ز في تلبيتها ،ولهذا فق�د
بالرضى ،كما يش�عرني هو بالبر ،وبخصلة ش�عر التي تجعله يش�عر ّ
أتعمد أن أحادثه أكثر ،فقط لسماع رنّتها أمي ،ولمستها التي مضتّ ،
ٍ
مرة زرته فيه�ا كانت في عيد األضحى ّ آخر حضوره�ا. م�ن وج�زء
ال�دور العل�وي حيث كنت الماض�ي ،وق�د هيمن�ت أن�ا وه�و على ّ
يخص العمل وأحوال الش�ركة، ُّ نتحدث عنه ّ وج�ل م�ا كنا
ُّ أس�كن،
أما البقية فقد كان حديث أصدقاء لم َير بعضهم بعض ًا منذ زمن.
وأفضل أن أزوره في أواخر مارس ّ ما ِزلنا في منتصف فبراير،
الرفض عندما عق�ب ع�رس أح�د أقرباء زوج خالتي .لم أقدر على ّ
متقبالً رغم عدم السابق ُليخبرني .كنت ّ ا ّتصل بي زوجها في الشهر ّ
اجتذاب�ي للحفلات واألع�راس ،فلم يكن زوجها ش�خص ًا س�أقف
فقبلت
ُ الرفض، بجدي حاجز ًا أزال ع ّني ّ ضد دعوته ،وكان اعتناؤه ّ َّ
سأتهرب من ذلك ّ الدعوة على مضض .لن يكون األمر سيئ ًا ،ألنّني ّ
جدي ،عصفوران في ِ
الصخب الذي سيقام في درك الوقت بصحبة ِّ ّ
117
ثم أُغادر.
ليلة واحدة َّ
وها هو ذا يوم الس�بت ُيغادر كس�ابقيه ،ألس�تقبل األحد الذي
تمقت�ه غري�زة الك�ره المدفون�ة ف�ي ذك�رى والدي .ال أرت�اح لمدته
قدرية ،فهو األول
ّ الزمني�ة ،أخ�اف الخيان�ة في أي لحظة ،فس�اعاته
المقدمة وهو يوم عطلة، ِّ في األسبوع .سخري ٌة أن يكون األحد في
فضل ارتقاب وي َّكأن اإلنسان جعله أضحية لوحدته ،كأنّه سوء حظُ ،
تم�ر عل�ى مه�ل ف�ي تج ُّنب عزلت�ه عن باق�ي األيام س�اعاته وه�ي ُّ
األخرى.
أحب هذا اليوم بدالً من مقته؟َّ علي أن
أكان يجب َّ
ربما!
ّ
إلاّ أنّي أكرهه ألن جميع البدايات التي حيكت بي حدثت فيه،
أحمل منه نبذ ًة ما .سحق ًا،!..
ُ شك أنّي
وهو يوم والدتي الثّانية ،وال ّ
أك�ره أن أصب�ح ي�وم عطلة ،مراقبة الوقت وهو يمر زاحف ًا ،تجعلني
مائع ًا .أحاول دائم ًا أن أحقنه بالمغادرة ،أذهب إلى سعد ،أو أحمل
سيارتي ألزور البحر.ّ
وكل أفعالي
لكن مهما كنت أفعل ،يصنع بي ما يشاء في مدتهُّ ،
تصدر عنه ،فهو ُيعطي تأشيرة الحرية ،وأنا أكره تلك الحرية أكثر.
اسقُطي ع ّني يا حرية األحد!
118
119
I
غبية؛ ق ّل ُ
مت انتقم�ت م�ن األح�د الليلة الماضية ،بفعل أش�ياء َّ ُ
وعدت في
ُ لخرج�ت
ُ أخرج�ت القمام�ة ،ول�وال المرضُ أظاف�ري،
دت ليل�ه بلعب�ة فيديو في منتص�ف ال ّلي�ل ألنته�ي من�ه س�ريع ًاّ .
ش�ر ُ
مسلية كالجرائد ،قرأت النكات في آخر ّ الباليستيشن ،وقراءة أشياء
صفحاته�ا ،وع�ن اعتق�ال مجرمين وتفكي�ك خاليا إرهابية في مدن
أي ق�ارئ يق�رأ للمرة الثانية ف�ي حياته جريدة ،لم مج�اورة .ومث�ل ِّ
وينافق تهمن�ي ح�روب األديان والمج�ازر التي يكذب فيها بعضهم ُ ّ
السياسي بنصرة ِ
فيها بعضهم اآلخر ،ولم يستجد جني رأي ال ّتعبير ّ
نظام ومعارضة آخر ،ألنّي أسمع وأسمع عن تغيرات ستطرأ ،وفي
يتغير شيء ،ويبقى المواطن هو هو. األخير ال ّ
تأمل�ت ،قب�ل مغادرت�ه ألن�ام ،حيل�ه الخبيث�ة الت�ي كانت مثل ّ
لعهرها الذي ِ
السيناريو ُ
لشدة عدم مماثلة ّ كواليس مسرحية ُحذفتّ ،
رت أن أمحو ذاكرتي منه بالنوم ِ
لدي ،وقد ُ ُينافي نواميس االستقامة ّ
أمالً ضعيف ًا في استقبال اليوم الذي يليه.
***
متعب� ًا كالع�ادة اس�تيقظتُ ،مجه�د ًا ُ
بحثالة األم�س وخوارجه.
كل صباح.
فقت في موعدي المعهود .قمت بأموري االعتيادية في ّ أَ ُ
121
السابعة وعشرين أرسلت في ّ ُ بعد أن ِ اكتملت هيئة صباحي بمثاليتها،
زت نفسي جه ُخبره فيها بأنّي سأَ ْق ُد ُم اليومّ . دقيقة رسال ًة إلى سعد أُ ُ
ف�ت به من قِبل ِ ونس�خت العمل الذي ك ّل ُ ُ بهندم�ة العم�ل المعت�ادة،
جد ًا بما قمت به من إضافات. المدير الذي سيسعد ّ
أنهي�ت م�ا تبقّى من كأس ال ّش�اي المؤقت، ُ اقترب�ت ال ّتاس�عة.
والتي سيطول عناقي لها على ما أعتقد ،إلى حين عودة قهوتي لتعيد
سألت الطبيب عن ُ صقل األثر في عروقي بنشوتها المركّ زة .عندما
ٍ
متى ُيمكنني العودة إلى شربها ،لم يفدني سوى بجملة قصيرة ،قال
لي« :أنا ال أتو ّقع األمور ،ولك ّنك ستعرف متى» ،كأنّه جعل خيارها
ولكن كالمه
َّ أي وق�ت ،ل�م أعرف ح ّق ًا م�ا كان يعنيه، مفتوح� ًا ف�ي ّ
حدد يتناسب مع كان فيه نبوءة ما ،وأ ّن عودتها ستكون في زمان ُم ّ
رغبة تضاؤل مرضي.
وأغلقت أزرار معطفي ثم خرجت. ُ وضعت المفاتيح في جيبي، ُ
الدنيا غريبة بعض �دت س�يارتي ف�ي طريقي االعتيادي .بدت ل�ي ُّ ُق ُ
كل
عبده ّ ُ ُ غربتن�ي عن ال ّطريق الذي
كن�ت أ ِّ ال ّش�يء .س� ّتة أي�ام فقط ّ
زائر للمرة األولى ،وكأ َّن هذا اليوم ش�عرت كأنّني ٌ ُ يوم ٍ بالعجالت،
الضوء
الجانبية ..وعاتبني ّ ّ ه�و أول أي�ام عمليَ .عمتني الملصق�ات
األحم�ر عل�ى غياب�ي ..وخضخضتني مطب�ات ..وصرخ في وجهي
جد ًا ،وكان يشدني ّ وشعرت أن حزام األمان ُّ ُ سائق أجرة غاضب..
مع�د ُل الس�رعة ينزل�ق م�ن يدي من حين إلى حي�ن ..وكان المقود ِّ
كل قطعة غيار في س�يارتي ش�عرت بأ ّن َّ
ُ ُيقاوم ويستس�لم لوجهتي.
تش�كو من غيابي ،ح ّتى باب العمارة الذي دلفته س�ابق ًا قد أس�مع
صرير ًا لم ُيسمع من قبل!
122
م�ا بِ�كِ ي�ا مدينتي ،وما بكِ يا أش�يائي ،هل غي�اب الموجوع
فرحبتم به معاكسةً؟ لوجودهّ ، أشعركم بالحنين ُ
الزجاجي حيث يدخل توجهت نحو الباب ُّ ُ ثم
سيارتيَّ ، ركنت ّ ُ
المو ّظف�ون .عندم�ا ولجت ،اس�توقفني حارس األم�ن ،أخبرني بأ ّن
خاصٌّ دخلت منه
ُ باب ال ّزبناء من الجهة األخرى ،وأ ّن الباب الذي
بالمو ّظفين فقط.
تغير الحارس أيض ًا! هل هذا من فعلك أيض ًا يا خربة البيضاء؟ ّ
أعرب�ت ل�ه بأنّن�ي مو ّظف هنا ،وأريته بطاق�ة عملي التي كنت ُ
رأيت س�عد ًا الذي كان
ُ صدقني. أضعها داخل جيب س�ترتي ،ولم ُي ِّ
في الجوار ،ناديته ليش�رح للرجل .أتى س�عد ُيعانقني على سلامة
عودتي ،وأخبر الحارس في حديثٍ فردي بهويتي ،وبدا الهلع على
الس�ابق ،واعتذر مني .لم الرئيس ّ الحارس عندما علم بأنّني حفيد ّ
يب�در م ّن�ي أي ش�يء م�ن القلق على اس�تيقافه لي ،فق�د كان يؤ ّدي
«كنت تقوم بعملكَ عت الحارس ُمس�الم ًا قائالً: عمله فحس�ب .و َّد ُ
يا صديقي ليس إلاّ ».
أو َل الواصلين وس�عد بعدي ،وج ّنبني ذاك أحاديث مع كنت َّ ُ
زمالء العمل.
أمشي أنا وسعد جنب ًا لجنب.
قلت له: ُ
يجب أنُ ش�يء جديد
ٌ – هل كل ش�يء على ما يرام ،أَهناك
أعلمه؟
السيطرة!
كل شيء تحت ّ – ُّ
صافحت�ه ،وافترقن�ا بمفت�رق الطاب�ق ،هو يكمل مس�يره ليأخذ
123
قت إلى اسمي المكتوب حد ُ الساللم إلى فوقّ . المصعد ،وأنا أصعد ّ
على الباب للحظات « .»M.NADIRتعجبني حروفي الفرنس�ية وما
ش�خص ال يعرفني، ٌ فيه�ا م�ن تضلي�ل ،ال ُتن�ذر بفكرة إذا ما قرأها
إم�ا «نذي�ر /ناظر /نظي�ر .»...كم تك�ون ال ّلغات األخرى س�يقرأها ّ
لطيفة في تبديل المعنى وتحريفهُ ،تخفي األسرار عن الذي يجهلنا،
فمعرفة األسماء تؤ ّدي عاد ًة إلى معرفة األشياء.
ظنن�ت أنّن�ي س�أجد الم�كان ُمكت ّظ� ًا بالغبار، ُ فتح�ت الب�اب، ُ
واعتقدت أ َّن
ُ وش�احب ًا من جفاف حضوري الذي اعتملته بالغياب،
الس�قي ،وأن ال ّنوافذ س�تكون مغلق ًة ِ
�ح ّ نبتتي الخضراء س�تذبل ل ُش ِّ
كما تركتها ..إلاّ أني فوجئت ،وجدتها مليئة بالحياة؛ نبتتي مرتوية،
وتي ٌار هوائي يروح في أوراقٍ فوق المكتب ،وكان المكان منتعش� ًا ّ
دخلت المكتب ظننت أنّ�ي م�ر عل�ى أنفي، ٍ
ُ ُ برائح�ة عط�ر س�بق أن ّ
الخطأ للحظات!
شيء ما غريب في هذا اليوم! ٌ
ِّب عن دليل يختصر األحداث جيد ًا ،أُنق ُ
حوقل�ت ف�ي الم�كان ّ ُ
وضعت حقيبة يدي فوق س�طح ُ والج�و ال�ذي ل�م آلف�ه. َّ المفاجئ�ة
أتعرف إلى ما حدث ،فعالقتي وطيدة بالمكان، حاولت أن َّ ُ المكتب.
لفت انتباهي ش�يء ،س�طح جي�د ًاَ . وكل األش�ياء تعرفن�ي وأعرفه�ا ّ ُّ
طهر، بم ِّطهره ُ المكتب كان ممس�وح ًا بعناية ،وليس من عادتي أن أُ ِّ
كحبة ش�كوالتة ذائبة. البني القاتم يبدو المع ًا ّ ِّ كما أ َّن دهان خش�به
ربما وتشاكلت بين نفسي والمقعد! ّ ُ كرس�ي المكتب، ّ جلس�ت على ُ
غير ُليناسب تغير جسدي فلم يتالءم معي ،أو أ َّن معياره َت َّ أنا الذي ّ
مرفقي على المكتب ورادفت يد ًا على ّ وضعت
ُ شخص ًا آخر غيري.
124
ورحت أُفكِّ ر في ما يحدث من هذا ُ وضع�ت يدي عليهما، ُ ي�د ،ث�م
إما أنّه أصبح ينفرني لغيابي أشك في أ ّن هذا المكان ّ ُّ بدأت
ُ الصباح.
ّ
رحبت بي األشياء األخرى معاكسة. يرحب بي كما ّ وإما أنّه ّ
يتبق سوى تفسير وحيد للمفاجأة ،ال ّظاهر أ َّن أحد ًا ما عمل لم ّ
قت بنظري أسترجع خارطة المكان؛ خزانة هنا في غيابي مؤ َّقت ًا .ح ّل ُ
السادس الرمادية على اليمين ،صور ٌة كبيرة للملك محمد ّ السجالت ّ ّ
مع ّلق� ٌة عل�ى الج�دار ال�ذي خلف�ي ،ال ّناف�ذة العريضة على اليس�ار،
يطوق طول وعرض الس�تائر الحمر الفاتحة ،معدن األلمنيوم الذي ّ ّ
تطل على نخلة طويلة بش�ارع ممتد ال يرتاح من وقع ٍ ٍ
النافذة التي ُّ
تتوس�طه لمبة ّ الس�قف األبيض الذي األقدام وحش�رجة العجالتّ ،
ُرية صغيرة. ُمزخرفة بزينة ُتحيطها تبدو كث ّ
أدنيت نظري إلى المكتب ،لم ينقص منديل ورقي أو زاد في ُ
كل شيء في مكانه كما تركته، علبة المحارم الورقية الخضراء .كان ُّ
األقالم في العلبة األسطوانية ،وصورة صغيرة لوالدي ووالدتي في
الصغير في الركن. إطار أضعه فوق المكتب ،وعلم المغرب ّ
نسيت شيئ ًا ،لم ُ اكتفيت من إعادة روحي إلى المكان ،لك ّنني ُ
وعدت أجلس ُ الصغيرة، حملت الس� ّلة ّ ُ أنظر إلى س� ّلة المهمالت.
حملت بضعة أوراق ُمنكمش�ة وفتحته�ا ،كان أغلبيتها ُ ف�ي مكان�ي.
تبين لي عدم صت منها حين ّ يعود لي وحدي كنت نس�ختها وتخ ّل ُ
وجدت أخير ًا
ُ أعهد أنّي رميتها.
ُ وج�دت ورق� ًة ال ُ نفعيته�ا ،إلاّ أنّ�ي
تخص ُّ أش�ياء ال
ٌ ق بها
دلي�ل اإلدان�ة ال�ذي كن�ت أبحث عن�ه ،أورا ٌ
�ي األربعاء والخميس الفارطين. يوم ْتخص َ ُّ م�ا أق�وم به ،وال ّتواريخ
تعرجات الورقة أبحث عن اسم. َّبت في ُّ وحددتها بيدي .نق ُ ّ حملتها
125
أي اسم ،لكن ما نفع األسماء إذا ما ُوجد تاريخ الوقوع، لم أجد َّ
نسبي إلى
ٍّ يتحو ُل بها من شيء
ّ فال ّتاريخ ثغرة األشياء ،وال ّطفرة التي
حقيقة مشهودة مطلقة.
تجاهل�ت الم�كان واألحداث بع�د حصولي على ُمرادي ،ولم ُ
ٍ
ُص ال ّش�خص الذي دخل هنا دون أش�غل نفس�ي بعدها بش�يء يخ ُّ
الرئيس�ي إلاّيتحرك المفتاح ّ
ّ إذني ،أل َّن األمر س�يكون رس�مي ًا ،فال
تغاضيت عما كان يزعجني ريثما تنتهي س�اعات ُ بأم�ر م�ن المدير.
�ص األم�ر عل�ى س�عد .كان ُيمك�ن أن أ َّتصل ب�ه وأُنهي عمل�ي وأ ُق ُّ
الحوار ،لك ّني أحتاج أن أُركِّ ز لكي ال تهزمني األرقام ،وأحتاج أن
أرتاح إلى عملي ُمركِّ ز ًا في إعادة نمط َشغل نفسي.
فكتمت أس�ئلتي ،وهو أيض� ًا لم ُيعر
ُ ا َّتص�ل ب�ي س�عد مرتين،
والمرت�ان كانت�ا في طلب تس�جيل حس�ابات جديدة ّ أهمي�ة، ّ لألم�ر
لعمالء جدد.
جاءن�ي ا ِّتص�ال للحضور عند المدي�ر ،لتقديم طلبه المتواضع
ب بي، رح َ
وتوجهت إليهّ .
ُ لت األوراق في يدي حم ُالذي ك ّلفني بهَ .
كرس�ي قبالة مكتبه العريض .س�ألني عن ٍّ طلب م ّني الجلوس على
جدي أيض ًا ،فأجبته في بالحمى ،وعن ّ
ّ وصحتي التي ُغ َّشت ّ أخباري
ثم طلب م ّني ما طلب .أعطيته الملف، إيجاز «الحمد هلل – بخير»َّ ،
وبدا على وجهه الرضا وال ُّشكر ،قال لي« :لم يكن عليك أن تك ِّلف
نفس�ك بهذه اإلضافات» ،كأنّه اس�تحى م ّني ومن إرهاقي لنفس�ي،
ولم أجد جمل ًة أنسب أُجيبه بها ،والتي كانت لفولتير:
«Travaillons sans raisonner… C’est le seul moyen de rendre la
vie supportable».
126
هضمت شكره ُ ضحك س ّنه ،و َشكَ رني على مثاليتي في العمل،
مت من مكاني ألُغادر ،بادلته ال ّتحية في انزعاج من اإلطراء كتم ًاُ .ق ُ
لو ُح بيدي سلام ًا علي�ه .كان يجب عليه أن يعلمني ُ
وغادرت�ه وأن�ا أ ِّ
بما حدث في غيابي ،أو أنّهم كلُّهم ظ ُّنوا أني ال أُمانع في أن يشغر
معذور على أي ٌ أحده�م م�كان عمل�ي في غيابي بدون إذن؟ ،لك ّنه
ويكتب
ُ إلي،
ث ّ يتحد ُ
َّ حال ،فقد كان مش�غوالً كما رأيت ،فقد كان
وينظر إلى الحاسوب تار ًة أخرى. ُ شيئ ًا تار ًة
يأخذ دقيقتين من مكتبه إلى ُ عدت إلى المس�ار ال ّطويل الذي ُ
و«السلام عليكم» ّ ابتس�مت
ُ مكتب�ي ،وتالق�ت عين�اي م�ع زملاء،
الحظ لم يس�توقفني أحد ِّ مراتٍ عديدة من قِبلي ،ولحس�ن تكررت ّ ّ
ليسألني عن غيابي.
نف�رت من جذبها لي ،ول�م أطل ال ّنظر ُ رأي�ت ماكين�ة القه�وة. ُ
ُ
عدت إلى مكتبي ،أدخل أرقام ًا تار ًة، ُ في ش�هوتي وإدماني للقهوة.
ٍ ٍ
يصبُّ وكل شيء وأستقبل طلبات تار ًة ،وأ َّتصل بزمالء تار ًة أخرىُّ ، ُ
ف�ار ًا من عدالة ال ّنفس وأوجاعها، ف�ي العمل نفس�ه ،فيجعلني ذلك ّ
ضد األلم؟ وها أنذا ٍ
يزودنا بمناعة َّ ألم يقل «شيش�رون» بأن العمل ِّ
أفعل بنصيحت�ه ،مناع ٌة مؤ ّقتة وع�ود ٌة دائمة ،كأنِّي ُ زل�ت
ُ أفع�ل وم�ا
كد ُس األوجاع تحته وي ِّ كل صباح إلى األعلى ُ يرتفع ّ
ُ منحنى
ً أرسم
سيزيفي ًا..
ّ ثم ينزل في ال ّليل مطأطئ ًا ومخذوالً .لربما ُ
كنت بال ُّشغلَّ ،
وتنفلت عن غير قصد َ أرفع صخرة الحياة عالي ًا لتصل إلى ذروتها،
الكرة نُزوالً نحوها مجبول على ُمعاودة ّ ٌ والساخر أنّني
إلى األسفلّ ،
أزلي ًا،
وحكم ًا ّ لحملها نحو األعلى مرار ًا وتكرار ًا .قد تكون عقوبة ُ
لك ّني أعلم دون حدس ،أنّي سأنتهي م ّني دون شك ،فاألشياء تنتهي
127
عندما ال تبقى أحالم نريد وصولها ،وليس�ت ُمبتغياتي كأي إنس�ان
طبيعية فيكبر ويحصل على عمل ،وبعدها َيعقُد ّ عادي؛ أن يحيا حيا ًة
فتزوجها.
َّ أحبها
قرانه على امرأة َّ
التش�بث بأحالم
ّ نف�ع
طبيعي�ةً ،ولك�ن ..ما ُ ّ ق�د تك�ون حيات�ي
ُمتش�ابهة ،أال ُيمكنن�ي أن أُخال�ف عقي�دة ه�ؤالء .ألي�س لألبط�ال
خاص�ة لوض�ع األقنع�ة كما لألش�رار الخارقين ّ الخارقي�ن أس�باب
أس�باب كذل�ك؟! فاالثن�ان حظي�ا بقليل من الحظ الس�يئ وكبوات
أحدث لهم القدر.َ نفسية جعلتهم كذلك ،وهم ُيناصرون من أجل ما ّ
ُ
ش�رير ًا ،بل أش�كِّ ُل الحياد في ّ
ثنائية خير ًا وال ِّ لس�ت خارق ًا ،ال ِّ ُ وأنا
لست أبيض بقليل ٍ منُ ككل بشري وطأ هذه األرض، ِّ الخير وال َّشر
السواد أو أسود بقليل ٍ من البياض كما ُتشكِّ ُل دائرة الين يانغ ،أحب َّ
والبخل في نفس�ي ،ال خلط االثنين مع ًا لكي ال ألتمس اإلحس�ان ُ
طبيعي عل�ى غير طبيعته،ٌّ أُري�د أن آخ�ذ س�م ًة وأنس�ى أُخرى ،فقط
كنت
يهم إن ُالس�عداء ،وال ُّ نت منذ القدم محذوف ًا من إلياذة ُّ فقد كُ ُ
حريتي ألمي ،وس�راج بياض ًا نزق ًا أو س�واد ًا طائش� ًا ،أوليس نبراس ّ
ِع َّلتي ُيتمي ،وإضاءة ُجرحي قلمي! فال أشياء أملكها لتملكني ،فأنا
ب على الوحدة ال در ٌ وشخص ُم َّ ٌ درب نفسه على الوحدة، شخص َّ ٌ
وأما أن ُيعيد
مر ًة واحدةّ ، ش�خص يخس�ر ّ ٌ ُيباح له أن يش�تكي ،فهو
جد ًا.
مخجل ّ ٌ مر ًة أخرى ..فذلك الكرة ّ
َّ
الصادق في كالمه والمنافق وأكثر ما ُيزعجني هو ذلك القول ّ
س�يتغير»؛ ل�م أكن أعلم أ ّن ّ رت نفس�ك ،فالعالم غي َ ف�ي وقع�ه« :إن ّ
الذاتالمبين في إره�اق ّ العال�م وص�ل إل�ى ه�ذا المكر والخ�داع ُ
ش�يء بديهي ،ويمكن فهمه ٌ بكلمات إيجابية ُتغني وتوجع .ال ّتغيير
128
تخ�ص بني� ًة ُمعقَّ�د ًة كال ّنفس البش�ريةُّ ،
تغي ُر ُّ وحص�ر ُه ف�ي أش�ياء ال
كل ما يحدث هو تبديالت تغيرُّ ،اإلنسان حقيقة ،ولكن العالم لن َي ّ
يتبد ُل فيها ال ّنظر من أس�وأ إلى أحس�ن ،وت َّتضح األصوات طفيفةَّ ،
لكن تأثير العالم يبقى هو هو ،إن لم ُيكدرك بشكل، بشكل ُمفاجئَّ ،
سيحاول أن حيث بدأت ،لك ّنه ُ ُ سيكدرك بشكل آخر ،لن ُيعيدك من ُ
ذكاء،
ً يكون قاس�ي ًا ليلعب معك بش�كل ٍ أفضل ،فكُ َّلما ازداد المرء
صعب�ت الحي�اة بمعايي�ر اإلدراك وال َّتغيير ،فق�د ُج َّن كثيرون وانتحر ُ
ٍ
حقن معضلة سحق فكري بذكاء ُمصطنع، تغير خاطئ ٍ
َ كثيرون بسبب ُّ
غير المرء نفسه. سيتغير إن ّ
ّ ومعظم هؤالء ظ ُّنوا أ ّن العالم
كطفلة صغيرة الٍ تلعب ف�ي ذهني وك�م تبق�ى كلمات فرنس�ية
ُ
تمل:
»?«Comment je vais expliquer l’inexplicable
129
II
130
رجعت وأنا
ُ أي شخص. إلى طابق ٍ فوق المطعم ،وجدته فارغ ًا من ِّ
س�ألت النادل عن س�عد ،فأجابني بأنّه لم يره ُ في حيرة ٍ من أمري.
لكن رصيدي بالهاتف كان حاولت اال ِّتصال بهَّ ،
ُ وأنّه لم يأتِ بعد.
وطلب�ت منه أن ُيخبره إذا ما حضر أنّي ُ �دت إلى ال ّنادل ق�د نف�دُ .ع ُ
عدت إلى المكتب وأن ي َّتصل بي. ُ قد
ع�دت إل�ى مكتب�ي ،متس�ائالً عن غراب�ة هذا الي�وم التي يزيد ُ
بإخالف مواعيده.
ذهبت
ُ جاءن�ي ا ِّتصال�ه بعد عش�ر دقائق ،وطلب م ّن�ي القدوم.
أجر الخطى .كان المطعم يبدو صغير ًا من مكاني ،بدا كنقطة تالش ٍ
ُّ
الس�راب الذي ُتحدثه لتوس�طه نقطة الفصل بين ش�ارعين .أتعبني َّ ُّ
ال ّشمس على األرض البعيدة المقابلة للمطعم .تبقَّت نصف المسافة
أكملت مسيري.ُ ورقي ًا أمسح وجهيّ ،
ثم ّ أخرجت منديالً
ُ ألصل.
وأنا أرى من بعيد ،بدا لي كأن ش�خص ًا ما يجلس مع س�عد،
أش�حت
ُ وتبين لي فيما بعد أنّها كانت امرأة .لم أبال ِ بال َّنظر كثير ًا، ّ
ورحت أتم ّلى في المبنى الذي يضم المطعم. ُ نظري عنها،
علي الحص�ار بحضور امرأة!.. م�ا أم�ر س�عد اليوم الذي أدار َّ
أخاف أن تقرأني ،أو ُيزعجهم حضوري.
ما بالك يا اثنينُ ..تعاكسني أنت أيض ًا!
اقترب�ت ول�م يرن�ي س�عد بعد .بدت لي الم�رأة مألوفة .لم أَر ُ
أدرت الفكرةُ لكن بنية جسدها لم تكن تخفى على ذاكرتي. وجههاّ ،
أبحث عن امرأة ٍ ُتش�ابهها من زميالتي في العمل ،لكن ُ في ذهني،
لم أجد المواصفات نفس�ها .كانا يجلس�ان موازيين لخط قدومي،
وينظر نحوي ،والمرأة العكس ،فكرسيها ُيقابل ُ كرسي سعد قبالتي ُّ
131
حركان أيديهما ويضحكان .رآني وي ِّ كرس�ي س�عد .كانا يتحاورانُ ، َّ
ً
ورددت ال َّتحي�ة بتلويح�ة أيض�ا .ل�م تلتفت ُ فل�وح ل�ي بي�ده، س�عد َّ
تبحث في حقيبته�ا الموضوعة فوق ال ّطاولة. ُ نت رأس�ها الم�رأةَ ،ح ْ
جهت مباش�رةُ دخلت من الباب الجانبي وكانا هما على يس�اري .ا َّت ُ
أخذت ق ِّنينة ماء صغيرة،ُ إلى ثالجة المطعم قبل أن أذهب إليهما.
قت متوجه ًا نحو سعدَّ .
حد ُ ّ شربت نصفها وحملتها في يدي اليسرى ُ
تت هي بعد أن رأت س�عد ًا ينظر وراءها إلى لون ش�عر المرأة .الت َف ْ
وقفت وقالت« :وحيد! ماذا تفعل ْ صدق من كانت، إل�ى أح�د .ل�م أُ ِّ
بحمى الذاكرة تفاج�أت ح ّق ًا ،تبعتني التي أُ
صبت من أجلها َّ ُ ُ هن�ا؟».
رت حينها ِ
ح ّت�ى إل�ى عمل�ي .قلت« :ماذا تفعلين أنت هن�ا..؟» .فكَّ ُ
ثم قلت« :هل كان عملك الجديد في ش�ركتنا؟» .س�عد لم س�ريع ًاَّ ،
يفهم شيئ ًا ،فتد َّخل قائالً« :كيف تعرفان بعضكما؟».
أكر ُه األسئلة الكثيرة.
أخذت مقعدي .جلست هي أيض ًا. ُ
قال لي سعد:
أعرفك بالمو َّظفة الجديدة. – أفسدت المفاجأة ،كنت أريد أن ّ
موجه ًا كالمه لنجوى:
ّ ثم أردف
حدثتك عنه.
– نجوى ،هذا صديقي الذي َّ
شربت
ُ صدمت ،أعتقد أ ّن سعد ًا حكى لها شيئ ًا ع ّني. بدا كأنّها ُ
كنت تفاجأت قليالًُ .
ُ م�ا تبقَّ�ى م�ن م�اء في الق ّنينة ح ّتى آخر قط�رة.
عد هذا أمر ًامرتاح ًا بعض الشيء ،فهي قرأت قبالً ُجزء ًا م ّني ،ولن ُي َّ
أقلق منه.
ووضعت يديُ ووضعت مرفقي األيس�ر على الطاولة، ُ زفرت
ُ
132
اليمنى وأش�رت إلى نجوى .قلت رفع�ت راحة يدي ُ
ُ عل�ى خ�دي.
بشيء من عدم االهتمام:
– نجوى جارة لي ،وتس�كن في العمارة نفس�ها التي أس�كن
بها.
قلت ممازح ًا:
رت نظري إلى نجوىُ ، غي ُ
ّ
ِ
أي حال ،لم ُيقلقك هذا ال ّشقي؟
– على ّ
– ال ،ال.
جدتك إذ ًا ،هل هي بخير؟
– حسن ًا ،كيف حال َّ
– الحمد هلل ،كيف حالك أنت؟ ال بل قل لي أوالً ،لماذا لم
أرك هنا من قبل؟
– أموري بخير اآلن ،لم تريني ألنّي أخذت بضعة ّأيام ٍ راحة
ألسباب صحية..
ب�دا كأنّه�ا أدرك�ت األم�ر ،وفهمت ما أعني�ه ومتى وقع ذلك.
ثم رسمت ٍ
وأومأت أنا بإشارة غير واضحة برأسيَّ ،
ُ توسعت عيناها،ّ
على وجهي ابتسامة تعرف هي معناها.
ٍ
بجملة قصيرة وسكت: يت على األمر لك ّني غ َّط ُ
كنت تعب ًا فقط.
ُ – ..
ث
يتحد ُ
َّ نتحدث ،كان س�عد هو أيض ًا َّ في حين كنت أنا وهي
في الهاتف ،وعندما انتهى واجهته بسؤال.
أخرجت الورقة من جيبي ومددتها أمامي ،قلت: ُ
– س�عد! ق�ل ل�ي ،أتع�رف لمن هذه ،يبدو أ َّن أحد ًا اس�تعمل
مكتبي مؤ َّقت ًا.
قال لي:
133
– نعم أعرفه.
– من؟
– إنّها تجلس بجانبك.
دعكت جبيني:
ُ
شمي استشعرت بأ َّن العطر كان مألوف ًا.. قلت أ ّن ّ
حاسة ِّ – لقد ُ
زعج�ت كثي�ر ًا صراح�ةً .أن يأخ�ذ مكان عمل�ي رجل أقبلها،
ُ أُ
الرفض.
شيء يقبل َّ
ٌ لكن امرأة..
بعد لحظات قلت:
ِ
– أ ُتبلين جيد ًا؟ هل الءمك المكان؟
قالت:
السي سعد! – بال ّطبع ،بال ّطبع! اهلل يخلي لينا ّ
ضد ما أُفكِّ ر فيه.
كنت آمال أن ُيجيبني سعد َّ ُ
قلت له:
– هل هي معنا في المجموعة؟!
تد َّخلت هي قائلة:
– وهل وجودي يضر؟!
قال لي سعد:
ِ
– أسيدي ..ه ّنينا !..اترك المرأة في شأنها ..ال تبدأ!
قلت:
جيدة بما
– ال ،تب�دو جريئ�ة ،يب�دو أنّها تنتمي إلينا ،أس�ئلتها ّ
يكفي لكي ال تكون عقب ًة في الطريق.
ضحكت نجوى من قولي.
أردفت:
ُ
134
– عل�ى أي ح�ال ،مرحب� ًا بكِ معنا ،إذا ما احتجت ش�يئ ًا ،أنا
في الخدمة.
ثم أردفت:
ووقفتَّ ،
ُ قلت كالمي
ُ
لدي أشغال يجب القيام بها.
َّ – أترككم هنا،
قال سعد:
تتغدى معنا؟
– ألن ّ
لست جائع ًا.
ُ – ال يا صديقي،
بالرحي�ل ،قالت نجوى بعد أن أمس�كت ذراعي�م ّقب�ل أن أ ُه َّ
وأوقفتني ألسمع منها شيئ ًا:
– آسفةٌ ..لم أكن أعلم.
نزعت يدها
ْ ثم
تتحدثّ ،ّ ابتسمت كأنّي ال أعلم عن ماذا كانت ُ
بتخيل مرارتي وبأنّني رجل بائس ال يقبل ال ّش�فاء، ُّ بعد أن أُش�بِعت
ابتلعت اعتذارها ُمغادر ًا.
ُ ثم
لك�ن مواجه�ة ذل�ك الك�م م�ن َّ كن�ت جائع� ًا،ُ ف�ي الحقيق�ة
جيد ًا أنّها لحوحة في ٍ
ف من امرأة أعرف ّ االستجوابات التي لن تكُ ّ
لكن ذلك لم طلبه�ا وفضولي�ة بع�ض ال ّش�يء ،جعلتني أنفر هارب� ًاّ .
علي
كل ما في األمر أنّه يجب ّ يجعلني أنفر منها أو أكره ُوجودهاّ ،
أن أعت�اد وجوده�ا بينن�ا .لك ّن�ي في أعماقي ،لم أك�ن أريد مواصلة
ه�ذا المج�يء والذه�اب إلى عري�ن المتاعب الجدي�د الذي يواجه
أقرر وضع حظر لي لذهابي ربما سوف ّ الذات باألشخاص الجددّ . ّ
إل�ى المطع�م ثاني�ة ،وال ّظاهر أن امرأة أتت اليوم ،وفي الغد س�تأتي
اثنتان أو أكثر معها .س�أحاول االنقطاع عنهم ،فقد تفضحني آداب
الحديث ،فمن الممكن أن ال أر ّد على س�ؤال ُمباش�ر من أش�خاص
135
متأكد كل
ٌ مستقبلية .وسأُهمل سعد ًا قليالً ،ألنّي ّ مستقبليين في ّأيام
ال ّتأكد أنه أينما يكون هو س�تكون معه ،فقد بدا بينهما نظرات ما،
ظل أي أحد آخر ،ش�خص َّ وش�خص مثل�ي يفه�م العي�ون أكثر من ِّ ٌ
يراق�ب ط�وال حيات�ه ظواه�ر الحياة وهي تمر؛ الفصول ،الش�مس،
السماءُ ،عمال البناء ،أصحاب البقالة والباعة ،وجوه الليل ،المارةّ ،
ال ّناس ،عباراتهم ومالمحهم...
جيد ًة له هو الذي بحث ما بحث، وأعتقد أنّها ستكون زيجة ّ
ب�د أن أح�اول ع�دم الظهور لك�ي ال أنفق رصي�د وقتهما ل�ذا فلا َّ
وحديثهما بوجودي.
اختفيت عن أنظارهما ،ويبدو ألنهما هما ُ ابتع�دت كثي�ر ًا ح ّتى
ُ
ارتحت أنا من غيابهما .لم يرفضاني، ُ أيض ًا ارتاحا من وجودي ،كما
لك�ن أن�ا ال�ذي أرفض حضوري الباهت ،ولي�س هذا جديد ًا أيض ًا،
وليس هرب ًا أيض ًا ،وليس ضعف ًا أو خوف ًا ،إنّما هو ع ّفة وحصانة لي
من ورع ال ّشباب.
وأخذت محفظتي من جيب ِ ٍ
عدت إلى المكتب بمعدة خاوية،
ُ ُ
كل هذه المسافة من أجل النقود لكي السترة ،والتي جعلتني أقطع ّ
أم َّر من ال ّشارع
ُطى ُمسرعة ،ولم ُ عدت بخ ً ُ يسد جوعي. أشتري ما ُّ
نفسه الذي هما فيه .جلست في أحد المطاعم البعيدة عنهما ،وحدي
ٍ
ويبردها. ش على روحي ُ بد من سائل ٍ ما ُي َر ُّ مع ق ّنينة ماء ُتطفئني ،فال ّ
ومريح مع ًا ،تجعلكٌ رهي�ب
ٌ عجي�ب م�ا تفعله الوحدة، ٌ ش�يء
ٌ
ٍ
كل ش�يء ،فقط لتحظى به�دوء ما ُيعيدك إلى صوابك، ته�رب م�ن ِّ ُ
الذات وعاداتها ،فدائم ًا أنانية ّ أو باألحرى ليس الوحدة وحدها ،بل ّ
وسائل ما وبضعة حروف فت الجلوس وحدي في المكان ،أنا ِ
ٌ ما أل ُ
136
عصية.
ّ وأرقام ،وأحيان ًا مع بضعة أفكار
وجلس�ت أنتظر م�دة تحضيرها. ٍ
س�لطة كبير ًا، طلب�ت صح�ن
ُ ُ
أفك رموز أحجيات أشغل بها االنتظار ح ّتى أعبث بهاتفيّ ، ُ حتُر ُ
تأتي الوجبة.
حل ٍ
لغز لم أس�تطع اإلجابة عنه ،اهت َّز �ر في ّ عندم�ا كن�ت أفكِّ ُ
نظرت إلى رقمها .لم ُ نصي�ة .فتحتها، هاتف�ي بيدي لوصول رس�الة ّ
الرس�الة« :هذا رقمي» .هل كانت الرقم .كان محتوى ِّ أتعرف لمن ّ
يتكو ُن منّ صية جواب اللغز الذي الرسالة ال ّن ّ مصادفة؟ فقد أعطتني ِّ
الرسالة. حت إلى لغز صاحب ّ ور ُ أجبت على اللغزُ ، ُ ثالثة أحرف.
ٍ
الرقم أو صاحبته. أول تخمينة كانت في مح ّلها ،فقد عرفت صاحب ّ َّ
لجدي واألهل» .كانت تلك أجبت برسالة رد !OK« :أبلغي سالمي ّ ُ
ياس�مين ،ل�م أره�ا من�ذ عيد األضحى الذي تركته�ا فيه في أبهتها.
أتذكَّ �ر أن لقاءاتن�ا ل�م تكن تدوم لوقت طويل ،حديثنا يكون قصير ًا
تمر رؤيتها سريع ًة دائم ًا .ما زالت ياسمين بالطلة نفسها ،ال وعابر ًاُّ ،
قت إلى وجهها كثير ًا منذ لقائنا الفارط أو في لقاءاتنا حد ُ أذكر أنّي ّ
مرات قليل�ة بعد عودتي من الدراس�ة ُ
الفارط�ة الت�ي أحصي�ت ف�ي ّ
بالخارج ،وكانت ك ّلها مناس�بات فقط ،أعيا ٌد أحضرها وأخرى ال،
لذ ٌة ما ،بخ ّف ٍة ما ،وأحيان ًا بثقل ٍ ما،
لك�ن حض�وري يك�ون فيه دائم� ًا ّ َّ
هج�رت تلك العائلة بذلك العقوق بع�دم االتصال ،و ُهجراني ُ فق�د
الذكرى التي أش َت ُّم فيها والدتي لهم لم يكن سوى هرب من عدوى ّ
عدتُ وضعت أوزاري؟! وسيكون مؤلم ًا إن أنا ُ أوليس عندهم َ فيهم،
وجدت مكاني هناك ح ّق ًا ُ بكل ُعقدها وبساطتها ،ولو ألعيش األمور ّ
الرحيم�ة ،فقدري أن أتبع ن�ور اال ِّتكاء على لالزمته�م ألوضاعه�م ّ
137
أتقيد أري�د أن َّ
ُ عضل�ة نفس�ي فق�ط ،فلا أريد ش�فق ًة م�ن أحد ،وال
أحن
ُّ بشروط أحد ،وال أريد أن أكون عبئ ًا على أحد .شقّة عجزي
أعلم أنّها ستزيدني َعلقم ًا ال غير. ُ رفاهي ٍة
ّ علي من
ّ
ٍ
الس� َلطة ش�امخ ًة بأن�واع خض�ر كثيرة وصلص�ة فوقها ج�اءت ّ
س�يء إلى معدتي ،وب�دأت األكل ُ أزل�ت ال ّطماط�م الت�ي ُت ُ بالجب�ن.
أتفس�ح بالمكان .بدا المكان خالي ًا بعض الش�يء ،وكان ذلك وأنا ّ
صحي�ح أ َّن اآلخر ل�ه األفضلية ٌ أفض�ل بكثي�ر م�ن المطع�م اآلخر،
في اإلعداد وال ّزينة والمس�احة ،لكن ال بأس ،أنا رجل بس�يط يقبل
ببساطة األشياء ،وأعتقد أنني سأجعل من هذا المكان موقع ًا للهرب
والرؤية أفضل قريب من ال ّنافورةُّ ، ٌ كل يوم عمل ،والجميل أنّه في ّ
من ذي قبل.
أعلمت ال ّنادل
ُ السلطة. أنهيت نصف ّ ُ خطرت لي فكر ٌة بعد أن
بأنّني سأذهب إلى مكان ثم أعود لكي ال يأخذ سلطتي معتقد ًا أنني
اش�تريت
ُ ذهب�ت إلى حيث توجد ال ّنافورة، ُ فرغ�ت م�ن األكل. ُ ق�د
الس�جائر والبالونات وكذا كيس حبوب من بائع بالقرب منها يبيع ّ
شعرت
ُ حت أرمي للحمام ليزدرد، الصغار فآباءهمُ .ر ُ ألعاب ًا تجذب ّ
دت إلى مكاني بالعط�اء أكث�ر ،وأحببت هديله بق�در ما أزعجنيُ .ع ُ
س�تجم ًا بال ّظل ِ الذي
ّ جلس�ت أُكمل غدائي ُم ُ بع�د أن ف�رغ الكي�س.
الذهن ،وقد تعكس�ه ش�جرة بالق�رب م ّني .كان موقع ًا مثالي� ًا لراحة ّ
الس�رية التي تخلو من رت فعلاً أن تصب�ح هذه المح ّطة راحتي ّ ق�ر ُ
ّ
الضوضاء ،والتي ال تخلو من إشراكي بال ّطبيعة.
وشبعت ح ّتى آخر صرخة ُ حبة أرز، السلطة إلى آخر ّ التهمت ّ
يتبق س�وى نصف س�اعة كي أعود إلى المكتب كي أُعيد بطن .لم ّ
138
المرة األولى بعد ّأيامي األولى في ولربما هذه هي ّ ّ ترتيب نفس�ي،
جيد ًا ،فأنا أريد
العم�ل أبق�ى إل�ى ما بعد الزوال أعمل ،وكان ش�يئ ًا ّ
ش�عرت بضيق تنفسها ُ الكرس�ي الذي نس�يني ،ونبتتي التي
َّ أن أعتاد
اشتياق ًا لي ،كما أقالمي وأزرار الهاتف ولوحة المفاتيح التي اشتاقت
ك ّلها بشكل ٍ ُم ِل ٍّح إلى بصمات أصابعي ،وكما ألعيد درس ال ّتفاضل
كل يوم ٍ لغة مالمح كن�ت أقرأ فيه ُّ بي�ن وجه�ي ووج�ه والدي الذي
كنت أقرأ فيه لغة األمومة والحنان الصبى ،وبجانبه وجه أمي الذي ُ ّ
والعط�ف ال�ذي و ّل�ى ،وألضف�ي رائحتي على رائح�ة المكان ،فهو
كل صباح ِ دخول ،بكلمات متناقضة أضحك لها ب بي في ّ يرح ُ
من ِّ
مرة ٍ لتناقض اللغة الفرنسية التي تستفز العربية بشكل متواطئ. كل ّ
أراقب
ُ فتركت نفسي جالس ًا ُ لم أُرد اختزال الجو الذي أنا فيه،
الماء الذي يصعد من وسط النافورة.
عندما كنت هائم ًا في فوارة الماء وس�يله من جنبات النافورة،
نصية أخرى من ياس�مين، ر َّن هاتف�ي رنّت�ه المعتادة لوصول رس�الة ّ
الرسالة ساخر ًة« :من نهار دفنوه ..مجاو زاروه» .أبسمتني تلك تقول ّ
صية التي تأتي دائم ًا كس�ابقاتها منها للعقوق الذي أفتعله الرس�الة ال ّن ّّ
لكن رصيدي من الرسائل قد نفد، ّ أردت أن أرسل لها، ُ بها وبهم.
كنت نوع ًا
الرسالة السابقة التي أرسلتها هي األخيرة ،لك ّني ُ وكانت ّ
طبعت باألزرار على الهاتف« :وهل ُ ما مبتهج ًا ألنّها لم ُترسل ،ألنّي
اشتقت إليكِ» .هلُ يمكن للموتى أن يزوروا األحياء .سآتي قريب ًا..
يحدث بين انجرفت وراء ما ُ
ُ كان عشق ًاُ ،ح ّب ًا ،ال أدري ،لك ّني فقط
جد ًا وال أفصح عن نواياي ،لكن في كتوم ّ
ٌ سعد وجارتي .أدري أنّي
شيء ما يجرفني إلى طفولتي وإلى ّأيام سعادتي األولى ،وال ٌ ياسمين
139
أفسر الشعور الذي يعتريني ك ّلما أراها ،أشعر أمامها كأنّي أعلم كيف ّ
قديس�ة ما ،امرأة لبس�ت ثوب األمومة .أكره ذلك الش�عور ،ال أمام ّ
أريد أن أشاهد شريط فيديو محروق ًا يوجعني بدقائقه الفائقة السرعة
عائد ًا بي إلى حاضر عاج ٌز أنا عن رس�مه ،وأن أدخل أنا وهي في
وكل ما في األمر إلي أقرب من الخيالّ ، دائرة زواج ،شيء بالنسبة ّ
أصبح�ت أرهب مما تفعل�ه األقدار بي .أريد ُ أنّ�ي أخ�اف ال ّتك�رار..
أن أواج�ه ه�ذا المصي�ر وح�دي ،أل�م أُخلق له�ذه المهمة فقط؟ أن
وببندقية واحدة،
ّ بمسدس واحد ،وبسيفٍ واحد، ّ أواجه عرين األلم
ورم�وز كثيرة ذات معن�ى واحد؟ .ال يزالٍ وبقل�م رص�اص واح�د..
الوقت ألفكر في غس�ل نفس�ي من بقايا الحزن ،فحاجتي إليه تفوق
الذكوري�ة إل�ى أنث�ى ،وأدري أ ّن ا ّتخ�اذي لمنح�ى الفردية حاجات�ي ّ
ال�ذي يقتلن�ي لي�س ال ّطريق�ة الصحيحة للعيش ،لك�ن هكذا ُجبلت،
س�يرديني وال يمكنني تغيير ذلك .زياد ًة على مرضي الف ّتاك والذي ُ
عما قريب ربما كما قال لي الطبيب يوم ًا ،كما ال يمكن أن أخالف ّ
هويت�ي وأط�وي بقاي�ا الماضي ،وم�ا يمنعني هو ذلك االنتظار الذي ّ
أتحمس له في منحي ّ بمعاينت�ي ،ذل�ك ال ّترقب الذي ال س�محت ل�ه ُ
ُ
ف�ي ضرورة أن أربط نفس�ي بامرأة ،فلا ُيمكنني أن ش�ار ًة م�ا توق�د َّ
قدر لي أن أغدر بإلحادي بعاطفة الحب ،سأؤمن به يوم ًا ما إذا ما ّ
ولست ساذج ًا كفاية ألخدع بنداءاته لفؤادي ،ذلك ال ّنداء ُ أعيش أكثر.
مرة أعود فيها إلى المنزل عندما أرى الخفي الذي يمر عبري في كل ّ
من سيارتي امرأة ورجالً يتشابكان األيدي .لكن هناك منطق ًا في عدم
ٍ
جبار ًا ّ
كالدببة التي ال ّ كوني في العظمة من بشيء ال ّنسخ في ال ّتأللؤ
تخ�اف أن تعي�ش وحده�ا ،ذلك الكبرياء في خلق عالم من خطوط
140
جيد ًا أحد في حكمه إلاّ بإرادتك .وأعلم ّجسدك وحده وال ُيشركك ٌ
لم�اذا يك�ون منط�ق تفكيري هذا رزين ًا وم�ر ًا هكذا بحضوره الغائب
ال�ذي ال يري�د أن ينتظ�ر أو يتو ّق�ع ه�ذا وذاك ،فعندم�ا كان بعضهم
كنت أنا حينها أبحث عن الهدوء ،وعن نفسي يبحثون عن الحبُ ،
أمس التي تاهت في غمرة األشياء التي ال تكا ُد تصطفي معنى ..فما َّ
لوجائي للهدوء في هذا العمر الذي يكاد أن يكون حائر ًا بين العجز
ضي والوقوف ..كما أ ّن قطار الحب مضى دون الم ِّ
والمواصلة ،وبين ُ
أن ينتظرني ،فلن ينتظر من لديه تذكرة موت.
دفع�ت ثم�ن وجبت�ي ،وخرج�ت نح�و مخ�دع هاتف�ي مقاب�ل ٍ ُ
ٍّ
أت رصيد هاتفي وبعدها غادرت مو ّلي ًا ظهري لمح ّطة عب ُللمطعمّ .
حن بطاقة سرعان ما س ُتستنزف في ٍ ٍ
جديدة بمعدة ممتلئة ،وبجسد ُش َ
زمنية أخرى بالعمل. ساعات ّ
أخرجت يد ًا واحد ًة من جيبيِّ ،
ألو ُح بها ُ وأمام مرآي من بعيد،
لالثنين اللذين ينتظران عودتي أمام الباب الزجاجي.
جو بترو ألس�تعيد َّ
صعدت َدرج ال ّنس�يان ٍّ
ُ حادثتهما قليالً ،ثم
المكان.
***
كانت ال ّطرقات مزدحمة عندما عدت إلى مضجعي ،فأضيفت
عشر دقائق إلى العشرين دقيقة التي كنت أستغرقها عاد ًة في الوصول
إلى شقّتي.
جد ًا م�ن جلبة األبواق، دخل�ت الش�قّة .كان�ت آذاني منزعجة ّ
ُ
علي من مخ َّلفات تلك األصوات العنيفة ّ
للس�ائقين؛ وتراكم ال ّتوتر َّ
المتنوعة افتعل�ت بي ألم ًا
ِّ وأص�وات أبواقه�م
ُ الصارخ�ة
حناجره�م ّ
141
الدخيل في شهر فبراير ،وتالحم الحر ّ ِّ وعكَّ رت مزاجي ،زياد ًة على
الحمى على الموقف ّ لت حال�ة فض ُ الس�يارات المصط ّف�ة بدخانه�اَّ .
كنت فيه. ُ المزري الذي ُ
بمعاكس�ة األش�ياء لي الس�رير مخذوالً ُ رميت بجس�دي على ّ ُ
جي�د الي�وم غي�ر المطعم الجديد ورس�الة الي�وم ،فل�م يك�ن ش�يء ّ
البقية ،فكانت تغريدات ُمزعج ًة آلمت أما ّ ياسمين وساعات العملّ ،
الراحة لدي. منطقة ّ
حب�ات الع�رق تنض�ح من جس�دي، دت لدقائ�ق .كان�ت ّ تم�د ُ
ّ
قزز في فمي ومن اإلرهاق ال ّنفس�ي الذي يعبأ ش�عرت بقليل ٍ من ال ّت ُّ ُ
ورميت األخرى في س� ّلة الغس�يل. ُ المتعرقة،
ِّ رت مالبس�ي غي ُ بيّ .
جف وعاد جف وجهي من العرق فغس�لته بالماء ،لكن ُس�رعان ما َّ ّ
ك العرق. ٍ
تح ُّكنت أقوم بها كانت ُ وكل حركة ُ ليتعكَّ ر من نار الجسدّ ،
أحب أن أبادل بها ُّ تغلغلت في عروقي عفونة الكراهية التي ال
أصبحت غاضب ًا بحق ،وانتابتني ُ نزق ال ّزمان ،فلم أس�تطع أن أهدأ.
ٍ
صككت أس�ناني،ُ لهف�ة ف�ي ضرب ش�يء م�ا ،وبالفعل فعلت ،فقد
وضربت باب المطبخ الخشبي. ُ قوتي في قبضة يد وجمعت كامل َّ ُ
وصمت ُه ضربتي. ِ
س�معت صوت كس�ر ،وكان فعالً ش� ّق ًا في الباب
َ ُ
ش�عرت بح�رارة قاتل�ة توغَّلت بش�كل ٍ فوراني في أنح�اء أعضائي، ٍ
ُ
أي أثر
وأصب�ح وجه�ي أحم�ر .قبضتي لم ُتجرح ول�م يظهر عليها ُّ
لكدمة ما أو قطرة دم ،غضبي كله حملت ُه ضربتي تلك. ٍ
ركبتي راكع ًا ،تغيي�ر ًا للهيئة ألجعل قواي ّ ي�دي عل�ى ّ وضع�ت
ُ
العصبي�ة .بع�د لحظ�ات م�ن ال ّتنفس المس�تمر، ّ خائ�ر ًة م�ن ق�واي
واستشرت
ُ اس�تعدت ش�يئ ًا من الهدوء ،وانتفضت ع ِّني لغة الغضب
142
لعقالنيتي.
كنت أحتاج أن كن�ت ال أزال عل�ى وضوء ،فذهب�ت ألصليُ ، ُ
أهدأ.
جلست على األرض خائب ًا ككُ ّل ّ
مرة. ُ ثميت فريضتيَّ ، ص ّل ُ
كنت أدعو؟ُ فهل
ال لم أكن!
كل كن�ت أفكّ �ر ف�ي الحرك�ة القادم�ة التي تس�توجب م ّني في ِّ
تواطؤ
ُ لحظ�ة رحي�ل ٍ ع�ن فع�ل ٍ م�ا ،أفكّ ر في م�ا ُيمكن أن ينس�جه
الحياة مع الوقت لتس�ليتي من جديد ،وعما يمكن أن تخلقه رياح
ال ّزم�ان ف�ي إجباري على ال ّتنفس ال ّطويل وفي جعل أش�رعتي متين ًة
ويس�رة ،مشاهد ًا الطوفان العلني كي أس�اير ش�جنها المتواصل ُيمن ًة ُ
لس�يماء ال َّتقهقر الذي تفعله بي األيام الجليلة التي اكتس�ت ُعس�ر ًة،
ت بسحقي كما فعلت عناصر هذا اليوم في معاكسة عاداتها. فباشر ْ
َ
ُ
حل سوى أن أنهض ألنفض ع ّني الحرارة التي لم أصل إلى ٍّ
ٍ
أي شيء ُيعيد حالة استقطبتني ،وأن أبقى بعيد ًا قدر المستطاع عن ِّ
الغضب ،فذاك يزيد من تدفُّق المرض.
الدوائية ،ش�ربته وأنا ووضعت فيه البرش�مة َّ
ُ أخذت كأس ماء، ُ
نس�يت هاتفي ف�ي بنطالي في حالة ُ أتوج�ه إل�ى س� ّلة الغس�يل ،فقد ّ
الهيجان تلك.
المش�رعة ،كي أزهو بال ّنس�يم العالي ّ أط�ل م�ن النوافذ
ّ ذهب�ت
ُ
راقبت الس�ماء. ِ ٍ
ُ الذي يصل آخر ش�خص بالعمارة وحده لقربه من ّ
السماء .طلبت أرقام السحب وفي ُزرقة ّ منبع الهدوء وهو يهيم في ّ
ياسمين ألَنتشي بصوتها عطر ًا آخر ..غير عطر األحداث الوغدة.
143
III
144
ح ّتى صديقي اليوم عاج ٌز عن مواس�اتي ،أصبحنا خاليين من
كل شيء ،سوى من حثالة الهم. ِّ
ماذا يمكن أن أفعل في حالة االنشطار هذه التي تقصم جبيني
همي على يأس� ًا ح ّت�ى ف�ي الكتاب�ة ،وعج�ز ًا ح ّتى في رغبة ص�رف ّ
الرغبة التي اجتاحتني بإفراغ لساني بالحديث على الورق ،وما هذه ّ
غير عادتي؟ ماذا ُتراك ِ ياسمين فعلتِ بمشاكستك لي اليوم؟ أ ُتراك
أنتِ أيض ًا تشعرين بكدري فزادك ِ ُبعدي تجاهالً لي فقط؟
ه�م ْام َرأً ال ينتظر ش�يئ ًا غير
س�يدتي ،فم�اذا ُي ُّهمن�ي األم�ر ّ ال ُي ّ
ضره معه إلى غيابات القبور وتعجيل س�نوات ِ
ال� ّزوال ،غي�ر حم�ل ّ
عجزه إلى نهايتها ُمبكّ ر ًا.
ولست خائف ًا
ُ لربما عن قريبٍ أيض ًا، سأموت حتم ًاّ ، ُ أدرك أنّي
رب نحوهما ما زال ُحلم ًا. أن أفنى ،ولست أنوي البقاء أيض ًاّ ،
والد ُ
لك ّني أخاف أن أموت وجع ًا وقهر ًا ،أخاف سيدتي أن أغادر بسبب
كل ش�يخ ٍ طاعن ٍ في الم�رض .أري�د ميت� ًة هانئة وطبيعية كما يموت ّ
الس�ابق واللاّ حق ،أكُ هولت�ي أم ّ
بنو ُة الس�ن .لك ّن�ي فق�ط أجه�ل من ّ
الخاليا الخبيثة.
بحثت ف�ي الخزانة عن ُ تك�ون األفلام دائم� ًا ملج�أً لله�رب.
المدمجة ألفالم متوس�طة الحج�م أضع فيها بعض األق�راص ُ ِّ ُعلب�ة
العالمي�ة األولى والثّانية،
ّ وثائقي�ة ،وأكثره�ا ع�ن هتلر وعن الحرب ّ
فلح في جعل ال ّتحالف وتغيرات العالم بأراضيه ُت ُ الدول ُّ فلعل مآسي ّ ّ
بحثت تحت سريري وفي األدراج ُ قائم ًا في صدري .لم أجد العلبة،
م�ر ًة أخرى .كنت أبحث متجاهالً بحثت في الخزانة ّ ُ ول�م أجده�ا.
الخشبي المستطيل ،كنت أحاول البحث بعيد ًا عن مرماه، َّ الصندوق
145
الصغير الذي يلمع ،أحاول بعيد ًا عن خلساته التي ُتربكني من ُقفله ّ
أن أش�يح بنظري عنه كي ال تجرفني فكرة تش�تهي رؤية ما بداخله
محب ًة وكُ ره ًا هناك.
من نور ذكرى مجتمع ًة ّ
تعب�ت م�ن الذه�ول الذي استش�اطني في البحث ،فلا العلب ُة ُ
عرفت عن مكان وجودها وال لمعان القفل تو ّقف من ربوضه على ّ
يقظتي منه.
واستس�لمت أخير ًا
ُ وعصبي�ة بفع�ل ذل�ك، ّ الس�هوم تو ّت�ر ًازاد ّ
حملتُ ألن أترك الحروب التلفزيونية وأنير صندوق حربي بفتحه.
وجلبت مفتاحه ُ الصندوق ،كان ثقيالً بعض ال ّشيء ،وضعته أرض ًا،
والسيارة ،فالواجب أن أحتفظ ّ الصغير المع ّلق بجوار مفاتيح المنزل َّ
الرموز التي ب�ه قريب� ًا م ّن�ي ،واألش�ياء التي توجعنا يجب أن تك�ون ّ
فمجرد نس�يانها ومواجهتها عن غير قصد ّ ُتع ّلله�ا قريب�ة م ّنا لنألفها،
قد يأخذ م ّنا الكثير مستقبالً عند مواجهتها .وهذا ما أخاف منه!
والعلب الصناديق ُ جلس�ت ناحية التابوت الفاخر الذي ُيش�به َّ ُ
والحلي ،ش�كل ُه فقط يوح�ي بأنّه يحوي ُ الت�ي توض�ع به�ا الجواهر
ٍ
جدي هدية من ّ كه�وف أوج�اع ٍ وش�روخ ذكري�ات من ال ّزم�ن .كان ّ
ال�ذي اعت�اد ه�و اآلخر على وضع ماضيه في صندوقٍ ُيش�به الذي
كل دفنت به ّ ُ أمتلكه .كانت حيل ًة خبيث ًة ح ّق ًا في الغفران لنفسي ،فقد
الصورة قصصت ّ ُ الماضي المتعثر ،إلاّ صورتين لوالدي ،وعبث ًا ُ
كنت
كل واحد ٍ منها في إطار، التي تجمعها في واحدة بتفريقهما ووضع ّ
الصورتان اللتان �كل زم�ن ٍ ذك�راه، ِ
ولكل واحد منهما أثره ،وهما ّ ّ فل ّ
أضعهما على مكتبي في العمل ،ألنّي آخذ بركتهما وهما ُيشاهدانني
أكس�ر حاجز ال ّتقوى علي بأنّي لم ّالس�ماء ّ أقوم بعملي ،ليرضيا في ّ
146
والبِ ِّر بيني وبينهم.
ِ
فتحت األعجوبة .أعماني الضوء المرتد لخاتم والدي الف ِّضي ُ
الذهب�ي .كان ف�ي الصن�دوق أحجار كريم�ة ،مرآ ٌة وخات�م والدت�ي ّ
الصور الذي أعجزني حين البأس، صغيرة إطارها نحاسي ،وألبوم ّ
رقمية
ّ وخلخ�االن ذهبي�ان كانت تضعهما والدتي بمعصمها ،س�اع ٌة
أقراص ُمدمجة لـ« ناس الغيوان» مكتوب على أحدها ٌ تعود لوالدي،
ِ
كل وصفاتها حفظت ّ
ُ حال» ،ومفكّ رة طبخ والدتي التي يم َتا ْي ْص َفا ا ْل َ
«ا ْ
س�يارة والدي المخدوش�ة الت�ي تحمل ع�ن ظه�ر قل�ب ،ومفاتي�ح ّ
المخفية في ثنيات معدنها المصقولة، ّ معه�ا خط�وط أصاب�ع والدي
الفضي الذي أصب�ح ُيباع بثمن ٍ بخس في الصغي�ر ّ وهات�ف والدت�ي ّ ُ
زماني هذا ،وسترة ال ّطبخ األرجوانية التي كانت تضعها والدتي في
فكنت آخذها ُ المطبخ ،والتي كانت تنس�ى بس�حابها األمامي ال ّنقود
خلس� ًة منها ،وأزرار اقتلعتها وحدها من بعض أثواب والدتي ،فلم
الصغر أحتفظ بمالبس�ها ،ألن رائحة أمومتها س�تعود بي إلى وجع ّ
واالنجالء في غمرة سعادتي التي كانت بوجودها ،كما أنّي ال أريد
كنت َس�ببها في أحد أثوابها عندما ُ أن أبعثر نظري في المزقة التي
المهرجين.
ّ شددتها منه في حفل مدرسي التجاء وخوف ًا من أحد
الصور الجميلة التي حفظتها والدتي في أعياد أراقب ُّ انكفأت
ُ
زي ش�رطي ميالدي ،أرتدي في إحداها زي ًا عس�كري ًا ،وفي أخرى َّ
عابس فيها بجوار عة سوداء ،وأخرى بذل ًة زرقاء ،وصور ًة لي وأنا بقب ٍ
ٌ َّ
ألبس فيها لباس ًا تقليدي ًا وأضع طربوش ًا الخالة هدى ،وصور ًة أخرى ُ
أحمر وأبكي ،وكان ذلك بمناسبة حفل عقيقتي.
كم أنت أسود وأبيض ُّأيها الماضي!
147
ِهمت في أشياء عدة ،وقع نظري على قرص ٍ مدمج مكتوبٍ
ُ َّ ُ
عل�ى غالف�ه تاري�خ « .»1986/10/02أفظع حالتي ذلك ال ّتاريخ،
أصبحت أك�ره الثّاني من أكتوبر،
ُ وال�دي ،في�ه
ّ كان تاري�خ زواج
مما خ ّلفاه لي من أس�ى متوارث .ومذ تؤلمن�ي أوجاعهم�ا أكث�ر ّ
شريط األصلي إلى قرص ٍ حولت ال ّأعطتني الخالة القرص بعد أ ْن ّ
فتحت الصندوق اليوم على ُ عققت ال ّن�داء.
ُ ُمدم�ج ،لم أش�اهده،
ٍ
أي حال ،وأقراص هتلر والحروب ضاعت في مكان ما ،إضاف ًة
إل�ى أ ّن القن�وات ال ّتلفزيوني�ة واألنترني�ت س�يزيدانني ملالً فقط.
وال أري�د أن أص�اب بالغب�اء من حمق القنوات ،وس�هل أن ترى
ف�كل ما عليك هو أن ُتنش�ئ حس�اب ًا في ّ االنحط�اط ف�ي العال�م،
مواقع كـ« فيس�بوك» ،بعدها س�ترى الحمقى هناك ..ال ُيحصون.
أملك حس�اب ًا،
ُ كنت
ُ الس�اذجة،
أعفيت نفس�ي من تلك المواقع ّ ُ
ِ
لك ّن�ي حذفت�ه لف�رط ما ق ّززني عديم�و ال ّلون ،كما هرب ًا من ذلك
الس�خافات في خلق ال ّتفقه في ال ّتفقر ثقافي ًا ..فماذا س�تنفع تلك ّ
بهجة ما لرجل بائس موته حتمي.
ثم ا ّتخذت موضع ًا وتسريح ًة على أدخلت القرص بحاسوبيّ ،
السرير ،وانتظرت قليالً ح ّتى ُيقرأ..
حت أشاهد سعادتهما وأقيسها ببهجتي. بعدها ُر ُ
***
لمدة ٍ وصلت إلى العشرين لم أكمل ال ّشريط بأكمله ،شاهدت ّ
مت فجأ ًة .تركت ال ّشريط يعمل، ِ
دقيقة فقط ،فقد غلبني ال ُّنعاس فن ُ
ورغ�م تل�ك البنادي�ر وال َّزغاري�د وال ّطبول وال َّتهليالت ال ّن ّ
س�ائية ،لم
أستيقظ ،فقد تجاهلتها مسامعي ويقظتي بال ّنوم .ولم يوقظني سوى
148
جلبة بعض الجيران ،فقد كانت هناك حفلة في ال ّطابق الذي تحتي.
فتح�ت عين�ي ،وجدتن�ي أنظ�ر إل�ى شاش�ة الكمبيوتر، ُ عندم�ا
الرؤي�ة غي�ر واضح�ة كفاي� ًة ليفهمه�ا النس�يان المؤ ّقت من وكان�ت ُّ
وأشعة ال ّشاشة أعمتني ّ صحوي ،ح ّتى األلوان بدت لي ك ّلها بيضاء،
ِ
جيد ًا كي َتعي رؤيتي عيني ورمشت ّ ّ أغمضت
ُ من أول فتحة عين.
رفعت رأس�ي نحو س�قف الغرفة إلى أن جيد. ٍ
ُ ما ُيحيط بها بش�كل ّ
والص�ورة األخيرة التي ّ أع�دت نظري إلى ال ّشاش�ة، ُ يصف�ى ذهن�ي.
الس�اعة والربع للش�ريط كانت ضحك� ًة لوالديِّ ،
متفرد ًة انته�ت بها ّ
بالحجم الكبير لل ّشاش�ة آخذ ًة معالمها ببياض س� ّنه وشاربه وأهدابه
خاصتي َّ الضحكة التي ُتش�به التي لدي ،إال أ َّن الضاحك�ةِّ ، المنثني�ة ّ
منية الحضور وال ّتكرار. وافتها ّ
ِ
ت كان الن�وم أفض�ل علاج ٍ لي من ذل�ك ال ّزخم ،رغم أنّي ن ْم ُ
ألكثر من ساعة ونصف تقريب ًا ،إلاّ أ ّن ذلك كان كافي ًا ،فقد انتعشت
ذاكرت�ي وألق�ت برواس�ب ال ّزمان الفائت بصبح�ه وزواله وتعبه في
متوجه ًا ألغس�ل وجهي وأفتح ليالً ّ نهضت
ُ الدفينة. الذكريات ّ س� ّلة ّ
انحنيت إليه ُ عدت إلى حيث يوجد الحاسوب، ُ جديد ًا بدون أخطاء.
الساعة ،كانت الساعة العاشرة وثماني من جانبه األيسر ألنظر إلى ّ
الذكرى، أخرجت بلاء ُّ أطف�أت الجه�از بع�د أن ُ وعش�رين دقيق�ة.
بكلأقفلت على الصندوق ،وأرجعته ّ ُ وأعدت ال ّشريط إلى جحره. ُ
حيث يرتكن بعيد ًا ُ وعسرته إلى حيث يجب أن يكون ،إلى رحمته ُ
ع ّني بوجوده الثّقيل.
أتجول في حلقات بالصالون، ّ رت كأس شاي ،شربتها وأنا حض ُ ّ
الصالون إلى المطبخ، ٍ ٍ ِ تار ًة أمشي في ِّ
خط م ّتصل بإياب وذهاب من ّ
149
تصدر
ُ الصالون .والموسيقى التي كانت وتار ًة عود ًة من المطبخ إلى ّ
من تحتي ،بدا كأنّها هدأت قليالً ،والظاهر أ ّن الحفلة قد ش�ارفت
على االنتهاء.
مرة أخرى .لبس�ت معطفي. غس�لت وجهي ّ
ُ انتعل�ت حذائ�ي.
عزمت على الذهاب للمش�ي قليالً ليس�ري معي تف ُّت ُح ال ّليل بهوائه
المنعش ،فالخارج أرحم ب ُفس�حته الباردة على ش�قّتي التي اكتس�ت
ح�رار ًة ،وهواء الش�رفة ال يكفي لجس�دي بأكمل�ه ،كما أ ّن حاجتي
بد لدمي أن يجري في جميع مآقي. للمشي ضرورية ،ال َّ
تصدر منهاُ تجاوزت باب الشقة التي
ُ نزلت الساللم ،وعندما
وجدت على العتبات البعيدة عن الش�قة بطاقة تعريف، ُ الموس�يقى،
حملته�ا ،كان�ت لش�اب في العش�رين من عمره تقريب� ًا .الظاهر أنها
رجعت بخطواتي ُ تخص أحد ًا من الشقة الحافلة بصوت الموسيقى. ّ
إلى الوراء ،وقفت أمام الباب ،طرقته مرتين ولم يفتح أحد .فكّ رت
أن أضعها تحت ثقب الباب المستطيل ال ّتحتي وأدفعها واقي ًا نفسي
تنازلت عندما
ُ من الموسيقى التي ستصفعني عند فتح الباب ،لك ّني
رأي�ت ال� ّزر ال�ذي ي�رن ،فلم أره في البداية ،فل�م يكُ ن مضيئ ًا بلونه
الضعيفة بال ّطابق. البرتقالي ،كما أ ّن المكان شبه مظلم هناك لإلنارة ّ
مرتي�ن ول�م يفتحوا ،تليت ضغطة ثالث�ة ،بعدها فتح ضغط�ت ال� ّزر ّ
ُ
وجدت بطاقة تعريف، ُ فقلت له إني ُ السلام،
ألقيت ّ
ُ ش�اب الباب.
تعرف إلى وأنه�ا يمك�ن أن تك�ون ألحد الحاضرين .أخذه�ا م ّنيّ ،
ث�م قبل أن أذهب ،طلب م ّني مالكه�ا م�ن نظرته األولى ،ش�كرنيَّ ،
ورفضت بحسن ُ علي كذلك،
وأصر َّ ّ أن أدخل ألحتفل بعيد ميالده
وغادرت مو ّدع ًا ّإياه بـ« :عيد ميالد سعيد».
ُ ّنية
150
كل الوجهات ،رغب ًة في خرجت على بساط األرض ،ووجهتي ّ ُ
أول حافلة رأيتها صعدت إليها، ٍ
وأبحث عن طريق العودةَّ . َ أن أتيه
قطعت تذكر ًة ولم أس�أل عن وِجهتها .المس�افة التي ُ لم أر رقمها،
تها الحافلة إلى مح ّطتها األخيرة ،كانت كافية لتجعلني س�ائح ًا قطع َ
َ
الراكب الوحيد ،أنا وكنت ّ
ُ ألول م�رة ف�ي مدينت�ي .تو ّقفت الحافلة، ّ
الس�ائق« :إنّها المح ّطة بقيت جالس� ًا إلى أن ّنبهني ّ ُ والس�ائق فقط، ّ
األخيرة!».
قدمي قد
ّ أظن أ ّن
نزلت ُمغترب ًا إلى مكاني المجهول ،موقع ال ُّ ُ
ست جيوب بنطالي بيدي ،لم أكن أحمل تحس ُ ّ وطئتا تربته من قبل.
وجدت نفس�ي ُمحاط� ًا بالعراء؛ ُ الدنيا حولي، نظ�رت إل�ى ُّ ُ هاتف�ي.
أش�جار عمالقة ،ومصابيح ال ّش�ارع الذي أنا فيه منها اثنان مضاءان ٌ
المشهد كفلم رعب. ُ من أصل خمسة ،بدا
تحرك�ت بخط�وات أرجع أدراج�ي من ال ّطريق الذي أتت منه ّ
الجانبية التي تنظر ّ السائق تتبعني من مرآته الحافلة ،وكانت نظرات ّ
مألت صدري بالهواء ُ نسيم ال ّليل ُمنعش ًا َّ
حد أنّي ُ إلى الخلف .كان
برئت�ي .كان ال ّطري�ق موحش� ًا بعض ال ّش�يء ،وقد ّ أستس�يغ رائحت�ه
ش�عرت باأللف�ة ،فأن�ا عائد من آخر ال ّطريق ُمعي�د ًا زمان العثرة إلى ُ
أوله. ّ
ش�ت بين ِ
تل�ك العزل�ة الت�ي تخدش المكان لم ُتخفني ،فقد ع ُ
وت الذي ُتس�معه أوراق األش�جار ُي َغ ّنيني الص ُ براثنها س�نوات .كان ّ
الصغيرة هو وصوت خطواتي على الحصى والعيدان ّ ُ وأترنّم به معه،
تنتسب إليه ضوضائي وحدها .كان ُ بالس�كون الذي اآلخر أش�عرني ّ
كل شيء ساكن ًا وهادئ ًا ،وتن ّفسي هو وحده من يصدر ذبذبة حياة.
151
مترجالً نحو المجهول الذي ّ نزعت ن ّظارتي وتركتها في يديُ
ِ
س�يوصلني إل�ى ش�قّتي .ل�م أب�ال بالوقت المتأ ّخ�ر ،ولم أكن أضع
ساعة يدي ،توقيتي هو ال ّلحظة التي أنا فيها فقط.
والسيارات مركون ًة تأخذكانت المنازل مطفأة ،واألحياء نائمةّ ،
حت أش�اهد األش�ياء ببهجة الس�بات اس�تعداد ًا لحرق بنزين الغدُ .ر ُ ّ
المتحرك
ّ شعرت أنّي خفيف بوجودي بينهم ،فقد كنت ُ طفل صغير،
الوحيد وس�ط الجمادات ،وال ّش�اهد الوحيد على هدنة الصفاء بين
المرصع في سمائي يبتسم لي من وراء ّ الليل والسماء .وكان القمر
المعب�د والمتالش�ي أمام�ي بعيد ًا يلتح�م مع لون ّ الغي�م ،وال ّطري�ق
السماء. ّ
مشيت في وسط الطريق الخالي والمستقيم الذي يمشي نحو ِ
كحد فاصل ٍ ٍّ أتتبع األش�رطة البيضاء في الوس�ط ،أس�ير ما ال أعلمّ ،
بين الجانب المنير والجانب المظلم .يمين ًا توجد المنازل ،ويس�ار ًا
الضوء يوجد س�راب األش�جار والعتمة .ك ّلما كنت أقترب أكثر من ّ
حدة األضواء تخف. األحمر لشارة الوقوف ،كانت ّ
مت تقد ُكنت أمشي وكأنّي المتحكّ م في زوال الجمادات؛ ك ّلما ّ
يخرب ال ّن�ور بال ّظالم ،أمح�ي تالبيبهظ ُل�م م�ا ورائ�ي ،كن�ت كمن ّ
بتقدمي.
ّ
بالساعة التي أنا فيها ،وال ّتوقيت
أخرجت تذكرة الحافلة ألتنبأ ّ
صعدت فيه الحافلة كما ُتش�ير ال ّتذكرة هو (( ))22:53إضاف ًة
ُ الذي
إل�ى أربعي�ن دقيقة تقريب ًا التي اس�تغرقتها الحافلة مع مس�يري هذا،
ربما هي اآلن (( ،))23:47لكن ال يهم. ّ
أخربه ك ّلما يمر على ذاكرتي ،أحاول أن ّ أخطو وشريط اليوم ُّ
152
اقترب�ت م�ن ال ّش�ارة الحم�راء ،أترك ورائ�ي حثالة الوج�ع وأكتفي
مرت ،وأنتقي كل لحظة عسيرة ّ أمامي بوجه الحقيقة ،وأراقب مكر ّ
ٍ
علي وأترك بقاياه كل تعب َخطا ّ �ح ّ منها س�بب ًا لس�وء القدر ،وأُ َر ِّش ُ
ِ
دت أصل إلى ال ّش�ارة ،ح ّتى أمس�ى جس�دي خالص� ًة ورائ�ي .م�ا ك ُ
خفيف ًا ،وتع ّففت روحي ،وانقشعت درجة من غمامة نظري.
هت فعالً!
ُت ُ
حت لو ُ
ال أدري أي�ن قادتن�ي قدم�اي في هذا الليل الموحشّ .
س�يارة أجرة تق ّلني ،ذكرت له اس�م المكان دون زيادة« :فندق إلى ّ
عداده ليوصلني. شيراتون» ،فشغّل ّ
ومش�يت بحذر أراقب حوالي ،فقد كان ُ ّدت س�ائق األجرة،نق ُ
الم�كان خالي� ًا وزفي�ر اللي�ل ينش�ط ب�ه ،وفي هذا الوق�ت وما بعده
الس�رقة ،ويس�تيقظ الجانب األس�ود للمنطقة .لم أكن خائف ًا، تكثر ّ
يمس�ني أح�د ،فهاالت اقتراب س�يدركني .لن ّ وال أعتق�د أ ّن أح�د ًا ُ
لكن تفكيرهم س�يزول بعد الموت تحيط بي ،قد يفكرون بإيذائيّ ،
مررت بالقرب ُ دخلت من زقاق مظلم، ُ أن تصلهم نظرة تشاؤم ٍ م ّني.
أكملت مس�يري ،ولم يقف في طريقي ُ من مدرس�ة ابتدائية بائس�ة.
الرذيلة ،والتي جم�ل تجذب إل�ى ّ
ٌ أي ل�ص .تناه�ت إل�ى مس�امعي ّ
تقل
أبرزها« :الجو بارد ،باغي تسخن الليلة!!» ،وعبارات أخرى ال ّ
ظن
بت ّ عنها غواي ًة وتحريض ًا وتنشيط ًا إلقامة ما ُيقام .ولألسفّ ،
خي ُ
أعدل في سرعة مشيي، الالتي َأر ْد َن ما أردن ،لم ألتفت ح ّتى ،ولم ّ
إلى أن ِ اختفيت دون حفيف يذكر.
أخذت
ُ مس�افة طويل�ة أخ�رى لك�ي أص�ل م�ن حيث جئ�ت.
كل باب منزلي يوجد على ّ
ّ الرصيف األيمن ،أمشي بمحاذاة شجر ّ
153
رت برائحة الخزامى وبعض األنواع التي لم أعرف مصدر منزل .تع ّط ُ
س�رت وس�رت ،إلى أن اقتربت من المنعرج ُ فوحانها من األزهار.
أمر على يمينه نحو الحي الذي أقطن فيه. الذي ُّ
انجلت لي الفتة تشير إلى اليمين ،بها كلمة واضحة واألخرى
رفعت
ُ يبق بيني وبين اللاّ فتة سوى ثوان ٍ ألقربها. شبه ممحية ،ولم َ
همست في الهواء: ُ عيني من بعيد ٍ إلى شقّتي المطفأة. ّ
((أحييك يا قصر الوجع!)) ّ
األش�ياء ح�ول العم�ارة ك ّلها نامت إلاّ مخ�دع الهاتف اليقظ،
يت من بعيد صاحبه الذي حي ُ
يوم بآخرّ .
والذي ال ُيغلق ح ّتى يفترق ٌ
وأكملت طريقي نحو العمارة. ُ أمر أمامه، رآني ُّ
شعرت بأ ّن ثقالً زال عني ،وأن أتون ّ
الدنيا ُ دخلت الشقة،
ُ عندما
ج�ف ،وغ�دا ن�وء ًا أتم ّتع به بعد زواله .لن أقول أنّي أحسس�ت ّ ق�د
بسعادة ٍ ما ،ولكن بهج ًة ما استذقتها في فسخ ال ّتم ّلق الذي فعلته مع
الصباح على غير عادتي. ّ
ِ ُ
ئ الجهد الذي قمت به مش�ي ًا ومتعةً. ربضت على الكنبة أطف ُ ُ
نظرت إلى الساعة ،كانت الثانية عشرة وال ّنصف .لبست لباس نومي
ونفضت ب ّطانيتي ،وبعدها أرخيت عظامي على ّ
السرير.
مرت ِ
لم تأتني سنة نوم .عيناي كانتا ساهدتين ،وذهني كذلكّ .
ٍ
وكل ش�يء ا ّتخذ منحى العكس، ّ دقائق كثيرة وأنا بالحالة نفس�ها،
فلم أعهد أن أنشط ليالً ،ح ّتى أنّي لم أتثاءب.
عيني ُترهقان
ّ لعل
جهت إلى شرفة الغرفة َّ ُ حملت جسدي وا ّت ُ
أطل منم�رة كنت ّ كل ّ الصف�راء ألعم�دة الكهرب�اء .في ّ باألض�واء ّ
�ر من ال ّلي�ل ،دائم ًا م�ا أرى الحارس الذي ال ّش�رفة ف�ي وق�ت متأ ّخ ٍ
154
يبق�ى س�اهر ًا ونح�ن ني�ام ،وحده م�ع هدوء ال ّلي�ل بجانب كلبه ذو
يتج�ول في األزقة ين ّظف بمكنس�ته جوانب ّ الف�رو األصف�ر ،وح�ده
يتحمل رجل تجاوز الخمسين برد ال ّليل ّ الرصيف .ال أعرف كيف ّ
مرة سكنت في الحي ،فلو لم أول ّ هو وكلبه العجوز الذي طاردني ّ
يك�ن صاحب�ه آن�ذاك ،ألخذ قطعة مهترئ ًة م ّني .ما ُيثيرني في الرجل
تحمل وحش�ة الليل ،وعالم�ه ال ّليلي بأضوائه ه�و إرادت�ه تل�ك في ُّ
الوحي�دة الت�ي ُتني�ر العالم الخالي من البش�ر ،والعامر بال ّنباح ال ّنادر
مرة خالجتني فكرة السيارات .ال أنكر أنّي كم ّ لكلبه العجوز وجمود ّ
فلعل الوحدة ّ أن أهبط ألفعل مثله فأس�اعده في ش�طب ال ّش�وارع،
يمكنها أن تجمعنا نحن الغرباء.
محرمة في قوانينها. ماذا أقول! الوحدة ال ُتقتس�م ،المش�اركة ّ
كما أحترم حدود وحدتي ،فهو اآلخر لن يرضى أن يشاركني عزلته.
س�معت اهت�زاز ال ّطاول�ة بس�بب وص�ول رس�الة إل�ى هاتفي. ُ
حيث يومض .كانت رسال ًة متأ ّخرة ُ وذهبت إلى
ُ ابتعدت عن ال ّشرفة
ُ
من ياس�مين .ترى ماذا تريد م ّني في هذا ال ّليل؟ تراها عرفت أنّي
يقظ ولم يأتني ال ّنوم؟
((ح ّق ًا! متى ستأتي؟)).
أجبتها بأخرى(( :أتركيها مفاجأ ًة ..كسابقاتها)).
وردتني أخرى منها:
«سأ ّتصل بك اآلن لتشرح لي مفاجآتك هذه!».
فأرسلت فور ًا قبل أن ت ّتصل:ُ جيد ٍ للحديث، لم أكن في مزاج ٍ ّ
«من فضلك ياسمين إنّي متعب ،غد ًا أ ّتصل بكِ».
أرسلت من فورها:ْ
155
«عنيد كعادتك! لك ّنك لن تنام قبل أن تقول لي». ٌ
أزعجن�ي إصراره�ا الذي أع�رف أنّه لن ينتهي ح ّتى تصل إلى
مبتغاها ،فأجبت فضولها:
«وأنت لحوح ٌة كعادتك ،في ال ّشهر القادم».
أجابت:
« ُتخدع بالخدعة نفس�ها دائم ًا ،فلتكن زيارتك ثقيل ًة على غير
عادتها ،إلى حين ٍ إذ ًا».
وألحفت نفس�ي بغطائي،ُ الس�رير
حت على ّ تس�ر ُّ كنت واقف ًا، ُ
طبعت على الهاتف:
«إلى حين».
أرسلت رسالتها ال ّتالية بعد دقائق:
«هيه وحيد ،قل لي ..أتسعد بأن أُ ْخ َطب؟».
هضمت رسالتها تلك ،وأرسلت عن غير إرادة: ُ
«سأحاول أن أبتهج من أجلك».
أجابت بأخرى كأنّها غاضبة شيئ ًا ما:
«إذ ًا ال تحاول ،تصبح على خير».
جاءتن�ي رغب�ة ف�ي أن أر َّد عليه�ا بـ« :س�أصبح على مضض»،
ٍ
كل شيء في كلمتين حجمت عن ال ّطبع المستحيل ولخ ُ
ّصت ّ ُ لك ّني
ِ
«وأنت أيض ًا».
وحاولت جاهد ًا
ُ تمثيلية اليوم،
ّ تجاهلت غضبها ،وأزلت ع ّني ُ
أن أق�رأ ش�يئ ًا ريثم�ا ُيرهق ذهني باألف�كار ،و ُتتعب عيناي باختالط
الحروف واختالف المعاني ومواضع النقط والفواصل.
ٍ
أقلاس�تكنت ف�ي س�ريري وأن�ا أراهن على صب�ح ٍ جديد َّ ُ ث�م
ّ
156
وجع ًا ،وأعرف كل المعرفة بأنّي سأصبح على مضض..
***
158
IV
170
دفع�ت ثم�ن إبري�ق ال ّش�اي وثمن ما طلب�ا ،وقبل أن أخرج ُ عاقل�ة.
ح�ت لهم�ا بي�دي ،وكانت نظراتهما تخترقان ال ّزجاج تتبعاني إلى لو ُ َّ
مار ًا. ِ
اختفيت وراء ال ْترام الذي كان ّ
ُ أن
حيث أقطن ،قد لم آت بسيارتي ،فالمكان قريب من العمارة ِ
ُ
أتيت منه، ُ عت من ال ّطريق الذي تستغرق المسافة عشرين دقيقةَ .ر ِج ُ
خرجت من المقهى تارك ًا االثنين في راحة ُ ومرت أربع دقائق منذ ّ
ليتحدثا كما شاءا كما يحدث دائم ًا ،لك ّنهما أتيا في الوقت المناسب ّ
رت أنني إذا ما زاد اكتظاظه سأغادر، لرحيلي عن المقهى ،فقد فكّ ُ
وق�د كان حضورهم�ا إش�ارة إل�ى مغادرت�ي .قد يظ ّن�ان أنّي أهرب
منهما ،لك ّني ال أفعل ،فقط أخاف لوم نفسي إذا ما خرجت أنانيتها
في حديث ،أو تخرج كلمات باردة وقاس�ية ،فقد ال أش�عر بصدى
يلمس ُ أفضل ترك أثري الكلمات الجارحة التي تخرج من فمي ،لذا ّ
أحب�ذ فعلهما بجعلي محور ج�زء ًا م�ن العت�اب ،إضاف� ًة إلى أنّي ال ّ
في ،وس�عد ُيجيد خلق الحديث دائم ًا فينس�يا س�بب وجودهما مع ًا ّ
الحوار بيني وبينه ،كما أنه يعرف كيف ُيثير لغة تواصلي ،وقد اختار
شريك ًة تشبه فضوله وتنتقي أسئلتها بعناية ،وضغطهما المشترك لم
الراحة التي أنا فيها. مرة من منطقة ّ كل ّأحبذهُ ،يخرجانني في ّ أعد ّ ُ
تعب�ت قدماي من المش�ي ،فلم أعت�د الحركة كثير ًا ،وال أدري
كيف أواصل العمل في ال ّشركة بدون تعب ،لربما هي إرادة ما تتو ّلد
ض�د العياء الذي ُيخ ّلفه مرض�ي .األمر اآلن مختلف، َّ عن�دي هن�اك
قدمي قد سخنتا َّ شعرت بأ َّن
ُ عائد إلى جسدي ال إلى عقلي. فاألمر ٌ
وقفت ق�رب مح ّط ٍة ُ والح�ذاء أيض� ًا زاد الح�رارة بالتصاق�ه بقدم�ي.
الحظ لمِّ جلس�ت على مقعد ،ولحس�ن ُ صغيرة النتظار الحافالت.
171
مرحررت رباط حذائ�ي وخلعتهَّ . أح�د ينتظ�ر ق�دوم الحافلةّ . ٌ يك�ن
محل �دت أن أط ُل�ب من�ه أن يأتيني بق ّنينة م�اء من ِ
ِّ أمام�ي صب�ي ،ك ُ
لجمت لساني ،فكبريائي ُ الضفة األخرى من ال ّشارع ،لك ّني بقالة في ّ
ارتح�ت قليالً،ُ يس�مح لي.
ُ األحم�ق ف�ي ع�دم طل�ب المس�اعدة ال
الرباط أو أعدت ارتداء الحذاء دون أن أعقد رباطه ،ولكي ال ُيرى ّ ُ
أتعثّ�ر ب�ه ،دسس�ته داخل الحذاء في الجانبي�ن قرب كعبي ،أزعجني
ٍ
ورمات ذهبت ُببطء أصبر على ال ّت ُّ ُ قليالً ،إلاّ أنّه أفضل من ّ
الس�ابق.
قدمي ،أمشي مشية البطريق وأحاول أن أخفي ألمي. ّ غير ال ّظاهرة في
ومر ًة أخرى سيار ًا ذا ا ّتجاهينّ . فت في الوسط ،فقد كان طريق ًا ّ تو ّق ُ
والراجعين .بدت لي فسحة كبيرة الحد الفاصل بين القادمين ّ َّ أجدني
الس�ائقين أو بوق ٍ
ووصلت بسلام دون إهانة أحد ّ ُ أمر بألمي، لكي َّ
وعدت حيث كنت قاعد ًا بعد أن ُ اشتريت ق ّنينتين صغيرتين، ُ سيارة. ّ
أعدت المشهد نفسه ،وقوف ًا وتق ّلب ًا في مشيتي وتأ ّلم ًا.
مش�هد من عصر ٌ ش�ربت الق ّنين�ة األول�ى ُدفع� ًة واح�دة ،وكان ُ
الس ّ�يارات عبث بنظري ،وأكثر يمر أمامي ،واختالط ألوان ّ الس�رعة ُّ ّ
س�يارات األج�رة ،أحمر وأبي�ض .خنقتني رائحة األل�وان كان ل�ون ّ
الضجيج القائم مرت بمحاذاتي ،وذاك ّ البنزين التي خ ّلفتها ش�احنة ّ
فأصبحت في حالة ميلودراما كدرية. ُ قدمي،
ّ زاد من األلم في
كل يوم أعيش�ه ُيكدر حياتي هذه. ش�يء في ٌِّ بد أن يحدث ال َّ
ٍ
جيد، جيد ،وألتأ ّلم بشكل ّ لدت ألشقى بشكل ّ أحيان ًا أفكّ ر في أنّي ُو ُ
جيد. ٍ ٍ
جيد ..لك ّني فقط ال أعيش بشكل ّ وألتعب بشكل ّ
شخص ينتظر حافل ًة ٌ بقيت جالس ًا قرابة الثّماني دقائق ،ثم جاء ُ
س�يارة وأكملت س�يري .فكّ رت في أن آخذ ّ ُ وقف�ت حينه�ا
ُ س�تأتي.
172
أي واحدة رأت إشارة أجرة توصلني ،لكن دون جدوى ،فلم تتو ّقف ّ
الركاب. بالمرة ركوب واحدة وإن كانت فارغ ًة من ُّ ّ ورفضت
ُ يدي،
مدت�ه التي كان يمك�ن أن تكون أكمل�ت س�يري ال�ذي س�تتضاعف ّ ُ
أقل من ضعفها بدقائق. ربما َّ خمس عشرة دقيقة ،إلى ضعفها أو ّ
حاولت ما أمك�ن أن أُصلح من ُ وصل�ت أم�ام ب�اب العم�ارة. ُ
خف عناق�ه العاصر لقدمي مش�يتي .عندم�ا دخل�ت نزعت حذائيَّ ،
األرضية
ّ �ت قدماي المس ْ َ ش�عرت بب�رودة ٍ وراحة عندما ُ بع�د ذلك.
الدرجات األولى .كن�ت مجهد ًا إلى أقصى جلس�ت عل�ى ّ ُ الب�اردة.
السلالم .الدرج�ات درج�ة .اس�تجمعت ن َفس�ي المتبقّ�ي ألصع�د ّ
الخم�س األول�ى صعد ُته�ا بصعوبة ،وتبقّت ثمان�ي درجات ألصل
بصبر يحملني إلى ٍ رحت أفكّ ر من أين ُيمكن أن آتي ُ ال ّطابق األول.
ورجلي ..حبو ًا .لم
ّ يدي
صعدت الدرجات الثّماني مستعمالً ّ ُ هناك.
لت ن ّظارتي التي عد ُ
حل غير المصعدّ . أستطع المواصلة ،ولم ُي َر لي ٌّ
قدم�ي بألمهما نحو المصعد ،كي أضغط ّ وش�ددت عزيمة ُ انع�وت،
ِ
زره ليأتي ُليق ّلني .صعدته بعد أن انفتح. على ِّ
أزعجني ضوء المصعد ،وزاد حرارة فروة رأسي .انفتح الباب
خرجت مهزوم ًا .تركت الحذاء من يدي ُ علن عن وصولي. أخير ًا ُي ُ
وكنت أن ُُّز عرق ًا ،وكان ُ بيدي قميصي، ّ س�ت
تحس ُ ّ ليرتطم باألرض.
المتعرقة أيض ًا،
ِّ العرق أيض ًا يس�يل من مس�ام جبهتي .مس�حته بيدي
بكل األس�ف ثم حملتّ ، وواصلت واقف ًا التنفُّس البطيء والم ّتزنّ . ُ
ودخلت شقّتي وفي حلقي آالف الغصص. ُ على نفسي ،حذائي،
وانتعلت خ ّفي .لم أفكّ ر بعدها في ش�يء. ُ نزع�ت الجوربي�ن،
غريزي تحت الماء داخل تصرف وبفعل لم ِ
ٍّ وجدت نفسي عن ُّ ُ أعه
173
فسية تدريجي ًاَّ ،
لكن استعدت عافيتي ال ّن ّ ُ الحمام .سرعان ما خرجت،
الس�رير، قدم�ي جعلتان�ي أبق�ى رابض ًا تار ًة على األريكة وتار ًة على ّ ّ
المتورمة ،ووضعت فوق ّ وضع�ت الثّلج على بعض الجه�ات ُ فق�د
أوتيت ُ يت جالس ًا على كرسي ّ
بكل ما الثّلج ضمادات بيضاء .وص ّل ُ
من ضعف.
الج�و الب�ارد حليف� ًا ل�ي ،فبوج�ود حفيف�ه ال�ذي ي�روي ُّ كان
قدمي ،وأن أُ َه ِّوي ّ حاولت معه أن أنسى حرارة ألم ُ مضجعي برود ًة،
علي المصعد ،والتي جعلتني ّ
ذهني من حرارة األضواء التي سلطها َّ
رفاهية ،وطعم برد ِ الجولة التي ّ الصباح الذي عشته حينها أفقد طعم ّ
قمت بها. ُ
عندم�ا كن�ت جالس� ًا عل�ى األريك�ة أش�اهد ال ّتلف�از ،ش�عرت
لذة ما جعلت بدني بجورب�ي ق�د تب ّللا بفعل ذوبان الثل�ج ،وكانت ّ
ّ
قدميّ واكتفيت بترك
ُ والضمادات، ّ نزعت الجوربين ُ تجمد ًا.
يقشعر ُّ ُّ
وش�عرت أيض�ا بال َّتعب يأخذً ُ طبيعية،
ّ عاريتي�ن ك�ي تلتمس�ا ب�رود ًة
جه َد عضالت كتفي ورقبتي ،وكان جزئي األسفل ك ّله متعب ،فقد أُ ِ
نهضت ُ بالمش�ي .ل�م أُرد ال ّن�وم عل�ى األريك�ة ،فهي تؤلم ظه�ري.
ضغطت ال ّزر األحمر ألطفئه، ُ وأنا أحمل ريموت ال ّتلفاز في يدي،
الرده�ة وأنا أضع م�ررت من ّ ُ ث�م رمي�ت الريم�وت عل�ى األريكة. َّ
فتحت ُ دخل�ت غرفتي، ُ ي�دي على الحائط مس�تعين ًا به في المش�ي،
إلي ،أش�علت المصباح أش�عة الش�مس الباهتة ّ ّ د ّف�ة الناف�ذة لتدخل
الس�رير آخذ ًا قس�ط ًا ورميت بجس�دي على ّ ُ الصغير قرب س�ريري، ّ
ِ
العضلية التي أُرهقَت عيني وأريح فيها أليافي الراحة ،أُطفئ فيها
ّ ّ من ّ
خرس كدمات قدمي .قبل أن أغمض، ُ ٍ
الي�وم بطري�ق طوي�ل ،كما أل َ
174
السادسة .وبضغطة خاطئة ُفتحت قائمة ُ
حملت الهاتف ألو ّقته على ّ ُ
الهواتف ،وظهر لي رقم ياس�مين واس�مها .أنهيت توقيت الهاتف،
ووضع ُته بعد أن نزعت ن ّظارتي ووضعتها على طاولة صغيرة قرب
وشعرت بأنّي يجب
ُ عيني،
ّ أغمضت
ُ ثم
أعدت استلقائيَّ ،ُ سريري.
غيرت موضع جنبي الذي نمت عليه من األيسر إلى أن أقول شيئ ًاّ .
شت نحو ال ّزرقة الفاتحة من ال ّنافذة وأغمضت عيني: رم ُاأليمنَّ .
«تصبحين على ٍ
خير ياسمين».
175
V
ضوء ال ّنهار بدأ يختفي تدريجي ًا ،وال ّش�مس س�رعان ما بدأت
أشع ًة ضئيلة تضيء األجزاء السبات تارك ًة وراءها ّ تدخل في مرحلة ّ
ِ
الصباح س ُتستبدل
الدنيا من مشاغلها ،وثياب ّ العلوية للمدينة ،وهنئتِ ّ
بعد قليل بثياب ال ّليل ،وس ُتشعل األضواء منيرة جمال األحياء ليالً،
وسيسمع جمال أصوات المآذن التي ُتعلن عن صالة المغرب ،كما ُ
هي بداية ترتيل اآليات جهر ًا.
مساء بهاتفي ،سمعته ولم أستطع تحريك ً السادسةاهت ّز رنين ّ
م�رة لص�وت اآللتي�ن كل ّ ي�دي ألوق�ف رنين�ه ،فأن�ا أستس�لم ف�ي ّ
مرت دقيقتا المقطوعة ،ولم أحاول الضاربتي�ن ف�ي صمي�م األوتارّ . ّ
استس�لمت
ُ لكن جس�دي خائر القوة. ح ّتى ال ّنهوض ،دماغي يقظّ ،
لغفوة ٍ أخرى أداهم بها الدقائق العشر التي س ُتعاد بعدها المقطوعة.
تركت لمسامعي لحن ُ ألحرك يدي،
ّ رنّت ولم أستطع تمالك نفسي
وتركت لجسدي عجز الحركة ،وانتهت المقطوعة ُ الكمان والبيانو،
الرنة األولى،
عيني بع�د ّ
ّ فتحت
ُ للم�رة الثاني�ة ،ول�م أب�ارح مكاني.ّ
طل من ثق�وب ال ّنافذة، ض�وء خاف�ت ُي ُّ
ٌ وف�ي الثّاني�ة فتحتهم�ا .كان
ويس� ّلط ش�عاعه عل�ى مكتبي ،أعجبني ال ّتأللؤ ال�ذي ُيحدثه ّ
الضوء ُ
ٍ
المش�ترك م�ع م�اء ق ّنينة فوق مكتب�ي ،بدا المع ًا ويدعوني إلى بداية
176
ٍ ٍ
المرة األولى التي س�فرة جديدة باالس�تيقاظ ،ش�عرت أ َّن هذه هي ّ
ٍ
ضوء جميل غير مؤلم ٌ عيني على ش�يء جميل ،ش�يء به ّ أفتح فيها
أحسستُ مرة
وألول ّ
ّ وغير أصفر ُيعمي كما ُتعمي مصابيح المنزل،
أ ّن ال ّشمس قد فعلت بي خير ًا برسمها ما أبهجني في فعل استيقاظ.
وأعجبت أكثر بال ّظل ُ أطل�ت ال ّنظر إلى ال ّش�يء المتو ِّهج كجوه�رة، ُ
الممت�د م�ن قبل�ه ،والذي يش�كِّ ل ظلاّ ً للق ّنينة ال�ذي يبدو أكبر منها ِ
حجم ًا ،حيث أ ّن قعرها وحده ُيضيء.
جيد ًا، للم�رة الثّالث�ة ،حينها افتتحت ملك� ُة وعيي ّ ّ ر َّن الهات�ف
م�ددت يدي إلى ُ أصبح�ت حواس�ي تو ّظ�ف كم�ا ينبغي بدون تيه. ْ
ست مكان الهاتف ،وأطفأته دون أن تحس ُ ّ ال ّطاولة ُمغمض العينين،
أرى .نقّب�ت بأصابع�ي ع�ن ن ّظارتي جانبه ،لمس�تها وأخذتها ُمرجع ًا
وضع�ت الن ّظ�ارة وم�ا زل�ت ُمغم�ض العينين، ُ ي�دي إل�ى مكانه�ا،
مس�حت م�ا تبقّ�ى م�ن عمش ٍ من تح�ت إط�ار ال ّنظارة. ُ فتحتهم�ا،
نهضت وفي ذهني فكرة عادة ٍ قديمة قد ُوضعت في خانة األش�ياء ُ
توجهت أعد القهوة ،ح ّتى أنّي نسيت ألم قدمي عندما ّ المؤجلة ،أن َّ ّ
الدرج ال�ذي أضع فيه عبوة فتحت ُّ
ُ إل�ى المطب�خ ،لكن س�رعان ما
رت أ ّن ش�عوري في الحاجة القه�وة الت�ي ل�م ُتفت�ح منذ زم�ن ،تذكّ ُ
وسم ًة إليها ليس هو هذا الذي شعرت به ،فقد كانت مجرد غريزة ِ
ّ ُ
أغلقت ُ صائم كاد أن يفطر عن غير قصد. ٌ من سمات عاداتي ،كأنّي
عدتُ وأعدت وضع ن ّظارتيَّ ،
ثم ُ غسلت وجهي، ُ الدرج وانسحبت. ُّ
إلى غرفتي أزيل ريق ال ّنوم بجرعات من ق ّنينة الماء التي أزالت ع ّني
أش�علت مصباح المكتب ،وأطفأت نور الغرفة، ُ عبوس االس�تيقاظ.
نظرت من مت خاللها. ِ
ُ المدة التي ن ُفتحت ال ّنافذة ،لتزال رائحة ّ ُ ثم
َّ
177
خاللها ،بدا لي ضوء ال ّش�مس في بداية اختفائه ،حينها خطر ببالي
حملت هاتفي ،وضعت ُ ش�يء ،ولم أس�تطع منع نفس�ي من فعله.
ٍ
برش�اقة فيهما مع قليل ٍ من األلم، قدمي جوربين ،وقد ش�عرت في
ّ
السابق .ارتديت سترتي الخضراء فوق وبأ َّن حالتهما اآلن أفضل من ّ
تضاعف ًة لوقايتي من البرد وحيط ًة من دخوله إلى ِ م�ا كن�ت ألب�سُ ،م
باطن صدري.
الصغيرة وحملت ق ّنينة الماء ّ
ُ وضعت مفاتيح الشقة في جيبي، ُ
ثم صعدت أطفأت جميع األنوار وخرجتَّ ، ُ ثم
اليس�رىَّ ، في يدي ُ
السطح.. إلى ّ
خاص ًة وأنا
ّ لم أستطع منع نفسي من مشاهدة غروب ال ّشمس،
حيي ،كما تتوافق مسافة الالتعب بين شقّتي ٍ
أسكن أعلى عمارة في ّ
الرؤية.وبين مكان ّ
أتخيل ما الذي سأش�اهده ،هل سأش�اهد غروب ًا ّ صعدت وأناُ
فقط ،أم لحظة وداع ٍ لخيوط ال ّش�مس ،أم انتهاء يوم ٍ آخر واس�تالل
خيالت ترك�ت كل ال ّت ُّ
ُ خي�وط ي�وم ٍ آخر م�ن ثوب عمري المهترئ.
الدرجات األخيرة .نس�يم الهواء وأخ�ذت نفس� ًا عميق� ًا ف�ي ّ ُ جانب� ًا،
وحررلذة في تن ّفس�ي ّ اس�تقبلني م�ن فتح�ة الباب الموارب ،أغدق ّ
عرقلات ف ْتح َت�ي أنفي ومس�الك حنجرتي .امتألت رئتاي بال ّنس�يم
عت موارب�ة الب�اب ودخل�ت .كان ال�ذي رأيت�ه ش�ر ُ العلي�ل عندم�ا َّ
س�حر ًا ،لم أمنع نفس�ي من االبتس�ام ،ولم أمنع أسناني من ال ّظهور
ح ّت�ى آخ�ر ضرس ٍ أبيض ،ولم أمنع انكماش أهدابي وصغر عيوني
كن�ت في حالة هيجان عاطفي لما ُتريه لي الحياة ُ �و حواجب�ي. وع ُل ِّ
ُ
ٍ
الس�عادة والمتعة قد سار في طيب فيها ،كان ش�يئ ًا ُيش�به ّ من جانب ِّ
178
جوارح�ي ،موقظ� ًة معها العضلة الخاملة في صدري لتنبض لما قد
س�مى ٍ
س�رى في أوردتي من بهجة عارمة لم تصل ذروتها إلى ما ُي ّ
بالفرح.
السطح عالي ًا ،فقد كان يصل إلى يطوق ّلم يكن الحائط الذي ّ
السماء األرجوانية يدي على حا ّفته ،ألشاهد ّ وضعت ّ ُ نحري تقريب ًا.
بفعل ُحمرة ال ّشمس ،فقد كانت ال ّشمس بدأت تختفي بفعل الغيوم
رجعت الس�فلي ل ُتصبح دائرة ناقصةَ . التي محت جزء ًا من قوس�ها ّ
يدي في جيبي س�روال نومي. إلى الوراء مس�افة قصيرة ،ووضعت ّ
طيرت معها تالبيب س�ترتي قوية بجس�دي ومالبس�يّ ، ريح ّ هبت ٌ ّ
ٍ
كل ش�عرة في فاقش�عرت ُّ
ّ المفتوحة ،ودخلت إلى مس�ام جس�دي،
يدي ،ووضعتهما على أخرجت ّ
ُ يحدث حينها.
ُ أصدق ماِّ بدني .لم
ومس�حت ش�عري أرجعه إلى الوراء .كانت بهجة لم يسبق ُ رأس�ي
لها أن داعبتني ُوجدت لحظتها ،وارتسمت سيماؤها على وجهي.
كل األلوان واضح ًة كنت أبتس�م أم أضحك .ب�دت ّ ل�م أع�رف إن ُ
وراقية على غير عادتها ،بل تو َّهجت في مرمى عيني ،وبعثت زرقة
ِ
الصفاء والغن�ى عن ما رأته الس�ماء الباهت�ة ف�ي عين�ي مالمح م�ن ّ
تدق باب وجعي .رعش�ات من البرد آثرت ك ّلها ِ
عيني من مش�اه َد ُّ
لدي
ّ حاسة الكاتب المجبرة ّ مشهد لم تستطعٌ المرور من خاللي،
ال ّتعبي�ر عنه�ا بالكلم�ات ،كان�ت صور ًة قد عج�زت روح الوصف
ع�ن ت�دارك االختلاط المتباي�ن بين ما يوجد وم�ا ال يوجد ،الكل
الس�ؤال مأخ�و ٌذ ف�ي حي�ن لحظة ن�ادرة تريح وتدهش وتجعل من ّ
طيور تح ّل�ق في دوائر ،تار ًةٌ ش�يئ ًا ال ُيضاه�ى ف�ي دهش�ة الجواب:
تتحركَّ تهب،
الرياح التي ُّ يمين ًا وبس�رعة وتار ًة يس�ار ًا ،تتماهى مع ّ
179
كيفم�ا ش�اءت ف�ي مجموع�ات ،خلقت عندي رغب� ًة في أن أصبح
حر ًا في الطيران والهبوط ،وفي تحريك جسدي كيفما واحد ًا منهاّ ،
شئت بدون شروط.
بعيني اللتين ا ّتجهتا صوب البحر البعيد ،صوب ّ رحت أجول
ال ّش�مس الت�ي تض�ع بينه�ا وبينه في الس�ماء غيوم تلاقٍ من بياض ٍ
ّ
ٍ
وزرقة تربك العين .اختلط الكل في صورة جماعية مع ما يصدره ٍ
البحر البعيد؛ بواخر أش�علت أنوارها عليها ،واحد ٌة بإضاءة ٍ حمراء
غنى ُ
وأخرى خضراء ،أس�طح األحياء المحيطة أمام العمارة تعطي ً
كل سطح الصحون الهوائية الكثيرة والموجودة على ّ لشعبية المدينةُّ ، ّ
ار كهربائي تس�تعد بأول تي ٍ
ّ بقعة س�كن ،أضواء ال ّش�وارع التي بدأت
ّ
وأناس من بعيد أراه�م ،يبدون كال ّنمل. ٌ يم�ر م�ن األسلاك عبرها. ُّ
سيارات وحافالت. الصغيرةّ ،تتحرك كأش�كال اللعب ّ ّ ومجس�ماتّ
وأض�واء معام�ل أن�ارت الواجه�ات .والمالب�س الت�ي ترفرف على
كل سطح. الحبال على ّ
الدائري، وصل�ت بال ّش�مس لحظة الوداع والوع�د إلى نصفها ّ ْ
ِ
ت عيني بالعمى الذي افتعله بي لونها مخفي ًة تحت سحابتها ،أُده َش ْ ّ
مرت طائ�ر ٌة على يميني ،وكان دائم ًا ما البرتقال�ي اللاّ معّ .
ُّ األصف�ر
الدخ�ان األبي�ض ال�ذي ُيخ ّلف وراءها راس�م ًا خ ّط ًا يحيرن�ي ذل�ك ّ ِّ
طوي�ل الم�دى م�ن حيث ج�اءت متوجهة ،وقد س�ألت عنه وقمت
المحركات تلتق�ي مع البرودة في الجو، ِّ بأبح�اثُ ،يق�ال إ َّن ح�رارة
ال ّشيء الذي ينتج عنه تك ُّثف الماء ُفيعطي دخان ًا أبيض ،وقيل أيض ًا
تنفث دخانها ُ أجنبية،
ّ إنّه عالمة على أ ّن الطائرة التي تصدره طائر ٌة
تمر من فوقه بأنّها أجنبية. ل ُتعلم رادار البالد الذي ّ
180
الصع�داء ،ونفخ�ت ص�دري .أطلق�ت زف�ر ًة طويل� ًة تنفس�ت ّ
لتخ�رج حرارة الس�بع ٍ وثالثين درج�ة متالحمة مع جزيئات الهواء،
الصادر الس�ماء أمام�ي بي�اض دخان .ذل�ك الضوء األخض�ر ّ ف ُتني�ر ّ
الس�ماء من منارة مس�جد الحس�ن الثّاني ،بدأ لونه يتو ّهج مع إبطال ّ
بضوئها الذي كان ُيخفيه.
جل معالمها نور لها على رأسها واختفت ُّ وضعت الشمس آخر ٍ
المضيئة .بعد لحظات غابت ال ّشمس وراء غيم ٍ كساها رماديةً ،ولم
واشتدت
ّ يعد يظهر منها سوى شعاع خافت في الوسط .غابت هي
الس�ماء زرقة داكنة .لم أكن محظوظ ًا ألرى ال ّش�مس تختفي وراء ّ
البحر ،منتقل ًة إلى بلدان أخرى تزيل عن سكانها وطأة ال ّليل وتفتح
لهم صباح ًا آخر .اختفت ال ّشمس عن مرآي وراء منازل بعيدة عالية
وددت لو أزيلها ألكمل فصل ال ّنهاية والمغيب الذي ُ هي األخرى،
ِ
َيع ُد بإعادة دورة ّأيام البشر.
جلس�ت عل�ى ط�وب موج�ود باألرج�اء ،أراقب زرق�ة العالم ُ
الخال�ي م�ن ش�ائبة البش�ر .رنّمني ص�وت األذان ،ولم أش�عر ح ّتى
وش�عرت بأنّي
ُ عيني،
ّ تجمعت كل رؤى البهجة دموع ًا خفيفة على ّ
خائر أمام ما ُتحدثه بي رحمة اهلل ،ضعيف ًا أمام ما ارتقت له نفسي
أصور المشهد ،لك ّني ّ السيئة جانب ًا .فكّ رت أن
واضع ًة جزء األحالم ّ
الص�ور ،ألنّها تجعل األش�ياء أح�ب التق�اط ُّّ ناقض�ت رغبت�ي ،فلا
أمق�ت ه�ذا ُ الجميل�ة بخيس�ة وموضوع� ًة ف�ي ذاك�رة هات�ف ،وأن�ا
التشييء ،لذا آثرت أن أر ِّشحها في ذاكرة ال ّنسيان ،ح ّتى إذا عادت
صدفة وفجأ ًةُ ،تعيد معها البهجة التي عشتها.
انتهى األذان .نهضت بعده تارك ًا ورائي أضواء صفر ًا تو ّهجت
181
عل�ى ط�ول مس�احة رؤيتي .و ّدعت الج�زء البائن للقمر بتلويحة يد
رجع�ت إل�ى مضجع�ي مليئ ًا بم�ا أحدثته ب�ي ال ّطبيعة التي قصي�رةَ ،
والسكون محلاّ ً ،واللحظات أعمار ًا. ّ تجعل المشاهدة عباد ًة،
ي�ت فريضتي .داهمني الجوع عندما كنت أجهر توض�أت وص ّل ُ ّ
ألعد أي طبق ،أردت أن آكل ما هو ّ بصالت�ي ،ول�م تك�ن ب�ي رغبة
جاهز دون أن أضع فيه جزء ًا من وصفة ما أو لمسة يد.
بحث�ت ع�ن معطف�ي البن�ي .وجدته على المش�جب الموجود ُ
بحث�ت في
ُ بالحم�ام ه�و والمالب�س األخ�رى الت�ي كن�ت ألبس�ها. ّ
الداخلي الصغيرة ،وجدتها في الجيب ّ السوداء ّ جيوبه عن محفظتي ّ
جدي .أدري ٍ
تخص مطعم ّ ُّ قديمة األيسر ،ف ّتشت داخلها عن بطاقة
أخذت
ُ يقدمون أطباق ًا ووجبات منظرها وحده يش�بعك. جيد ًا أنّهم ّ ّ
ثم جمعت المعطف وأع�دت المحفظة في جيب الس�ترةّ ، ُ البطاق�ة،
ث�م أخذتها والمالب�س األخ�رى المع ّلق�ة ،ووضعته�ا بي�ن ذراعيَّ ،
ألضعها في س ّلة الغسيل بجوار آلة ال ّتصبين األتوماتيكية.
تعرف إل�ى صوتي من حمل هاتف ضرب�ت أرق�ام المطعمّ ، ُ
صحته وأحوال ّ تحدثنا قليالً ،س�ألته ع�ن
لبي�ات والخدم�اتّ ، ال ّط ّ
جديجي�د ٍ يس�مح بإطال�ة الحدي�ث عن ّ العم�ل ،وكن�ت بم�زاج ّ
أعرب�ت ل�ه عن ُ وبع�ض األم�ور المتع ّلق�ة بإصالح�ات المطع�م.
متوس�ط
ّ طلبيت�ي ،الت�ي كانت س�لطة م�ن الحجم الكبير وصحن ّ
حدثني عن طبق م�ن األس�ماك المقلي�ة .قبل أن أنهي المكالم�ةّ ،
سيرسله على حساب المطعم. يقدمونه ،وقال أنّه ُ جديد أصبحوا ّ
طلبيتي واإلضافة ،التي ستأتي محمولة إلى أنهيت اال ّتصال منتظر ًا ّ
ُ
عنوان شقّتي.
182
تأوه�ات معدتي ،وألنّي صاب�ر على ُّ ٌ م�رت نص�ف س�اعة وأنا ّ
ّ
أك�ره ال ّترق�ب ،فل�م أترق�ب جرس الباب أن يرن .فتحت حاس�وبي ّ
المحم�ول ،أهمل�ت في�ه الوقت إلى أن يأتي ما يس�د جوع معدتي.
تداولت بمشاهدة فيديوهات ،وفي لعب الشطرنج في موقع ٍ أجنبي
زت في مباراة وخسرت أخرى ،وبعد مع أجانب من كل الدولُ ،ف ُ
أش�عت ُه على ش�بكة عيني، ّ مما خ ّلفته
الخس�ارة أغلقت الجهاز تعب ًا ّ
األشعة.
ّ رغم أ ّن زجاج ن ّظارتي يعكس
ِ
نف�دت نص�ف س�اعة أخ�رى دون أن أس�مع رني�ن الج�رس،
م�ر ًة ثانية ،لك ّني أحجمت ع�ن ذلك ،فحالة فكّ �رت ف�ي أن أ ّتص�ل ّ
عقالنية
ّ ل�دي ُتفقدن�ي صوابي أحيان ًا ،وقد أقول أش�ياء غيرّ الج�وع
سأندم عليها .ذهبت إلى المطبخ بعدما نفد صبري ،لم أكن عازم ًا
أعد ش�يئ ًا ،ما س�أجده في الثّالجة س�يفي بالغرض .بدا لي على أن َّ
وأصبحت أرنب ًا بعدها،
ُ الجزر حلاّ ً أنسب .أخذت واحدة أقرضها،
كرسي قربٍّ وصلت إلى أربع جزرات نجرتها بأسناني جالس ًا على ُ
واصلت ش�ربُ خف جوعي بعض ال ّش�يء ،بعدها طاولة المطبخَّ .
الماء إلى أن يأتي من سيأتي.
الس�اعة وال ّنصف قب�ل أن ير ّن اس�تغرق العام�ل م�ا يزي�د عن ّ
الج�رس .اعت�ذر ل�ي ،فق�د كان�ت زحم�ة ف�ي ال ّطري�ق ع ّطلت�ه هو
ودراجته ال ّنارية في الوصول بسرعة .نقدته ثمن ال ّطبقين ،وقلت له ّ
«بالصحة
ّ بأن يحتفظ بما تبقّى من الثمن .غادر وهو يو ّدعني قائالً:
وأغلق�ت الباب ،ث�م توجهت إلى ُ ابتس�مت ف�ي وجه�ه
ُ والراح�ة»،
ّ
مجلسي بالمطبخ ألتهم األطباق الثّالثة.
وش�عرت كأنّه قد
ُ انته�ى يوم�ي بقلي�ل ٍ م�ن الك�در والم�رارة،
183
ش�عرت بس�كون ٍ في
ُ تو ّلدت في قلبي خصلة ما تش�به األمل ،فقد
كل األحوال كان صدري قبل أن أضع رأس�ي على الوس�ادة ،وفي ّ
إلي. جيد ًا بلحظات ّ
هدية من اهلل ّ يوم ًا ّ
لكن ..أكان نوع تلك ال ّلحظات هي ما يجب أن أبحث عنه؟
وأن أنقب عن ما ُيجاورها ألخلق بهج ًة أكبر؟
أدرك أ ّن الحياة لن تبتس�م لي ولن أراهن أنا على العبث في
مس�تعد ًا الس�تقبال
ّ لس�ت
ُ وكل م�ا ف�ي األمر ،أنّي
ال ّتنقي�ب عنه�اّ ..
ٍ
كل ش�يء ورائي، أتجرد من ّ
ّ الغفران بعد ،س�يأتي الغفران بعد أن
زلت أشعر بلهيب المرارة، بعد أن ُتحذف عادة الهزيمة لدي ،فما ُ
وما زلت أحس بأن فتيل الخسارة لم ينطفئ بعد.
تعد لي من خيبات؟ ُتراك يا قدر ،ماذا ُّ
184
VI
الصباح ال ّتالي ،استيقظت متأ ِّخر ًا ،ذهبت إلى العمل متأ ّخر ًا في ّ
رت أنّي لعذر ما لسعد ،إلاّ أنّي فكّ ُ ٍ كدت ألاّ أذهب اختالق ًاُ ساعة،
سأكون الخاسر في الصفقة ،وسأزداد قلق ًا من مراقبتي حيطان الشقة.
نظرت إلى س�اعة يدي .قاربت الحادية عش�رة أن تدق .أزلت ُ
أصابع�ي ع�ن لوح�ة المفاتيح ،وفتحت ق ّنينة الماء أش�رب ما بقي.
فنهضت
ُ شعرت باإلعياء
ُ رششت آخر القطرات على نبتتي من بعيد.
الجو غائم ًا بعض ال ّش�يء ،وكان ُّ الس�تائر ،وبدا
فتحت ّ
ُ كرس�يي،
ّ من
وقليل من ال ّناس يحملون ٌ ال ّش�ارع األمام�ي خالي� ًا على غير عادت�ه،
س�جادتهم بأيديه�م وعل�ى أكتافهم .كان هن�اك من يلبس «الجالبة» ّ
ِ
عادية ،وامرأتان هما أيض ًا كانت وجهتهما وهناك من يلبس مالبس
ّ
المس�جد البعي�د ع ّن�ي ف�ي العمل والقريب لي حيث أس�كن .كنت
تتبق لي س�وى س�اعة وأنته�ي ،كي أذهب أض�ع ف�ي ذهن�ي أنّه لم َّ
ُ
س�ولت لي نفس�ي ُخطوتي ال ّتالية .لكن بعد إلى المطعم ،هكذا قد ّ
رت أ َّن اليوم هو يوم الجمعة، المش�هد الذي رأيته من ال ّنافذة ،تذكّ ُ
وأنّنا نخرج يوم الجمعة في الحادية عشرة ،وما أكّ د لي ذلك أيض ًا
بس�ياراتهم .حينها ّ ه�و أنّ�ي رأيت بع�ض المو ّظفين وه�م ُيغادرون
الستائر إلى وضعها األصلي. أعدت ّ ُ رجعت بخطواتي للوراء بعد أن
185
الملف الذي كنت َّ أوقفت حاس�وبي عن االش�تغال بعد أن حفظت
خرجت مسرع ًا بعد إقفالي باب المكتب. ُ ثم
أعمل عليهَّ ،
يت ثم ص ّل ُ وتوضأتَّ ،
ّ عدت إلى المنزل ،أخذت د ّش� ًا س�ريع ًا، ُ
الصالة، صالة الصبح ،فلم أص ّلها لتأخري في االس�تيقاظ .أنهيت ّ
مهيأً إلعادة تدوير ما أعيشه وذهبت إلى المسجد َّ ُ سجادتي وحملت ّ
ُ
الصفر كيفما ا ّتفق. إلى نقطة ّ
ٍ
الركعتين ،وع�دت بدعاء إلى أنه�ى الخطي�ب خطبت�ه ،ص ّلين�ا ّ
الرحمان كي ينظر إلى حالي ،ويرأف بي كي ال أهلك نفسي وجع ًا. ّ
ال أذك�ر أنّ�ي أكلت «الكس�كس» بعد صلاة الجمعة منذ وفاة
والدتي أو عند تلك الخالة ،فقد ر َّن هاتفي وأنا أدخل شقّتي وكان
الم ّتصل سعد ًا .أخبرني بأنّنا سنتغدى عند نجوى رغب ًة من والديها،
الجو
ِّ تضايق�ت قليلاً ،فلم آلف منذ زم�ن على
ُ ل�م أرف�ض ،لك ّن�ي
يدي من تحضير شيء. ّ مثالية ألقي
ّ العائلي ،لك ّنها كانت فرص ًة
ر ّن ج�رس الب�اب .وج�دت س�عد ًا ينتظرن�ي .أغلقت ش�قّتي.
الصالون ،ثم ج�اءت والدتها دخلن�ا ال ّش�قة المجاورة .جلس�نا ف�ي ّ
بـ« القصري�ة» ،بع�د أن وضعته�ا قال�ت لنا« :مرحب ًا ..مرحب ًا» ،س�عد
قلت بضع كلماتٍ أنا أيض ًا. بدأ ُيجاملها وكذا أدب منه ..وقد ُ
الصالون قبل أن تجتمع العائلة ،أثار انتباهي لت بنظري في ّ ُج ُ
لوحة ُتقابلني مع ّلقة على الحائط ،صورة رجل أسمر ويلبس جلباب ًا
صينية ّ أبي�ض ،يض�ع فوق رأس�ه طربوش� ًا أحمر ،وباألس�فل أمام�ه
ب عليها كؤوس ،ورافع ًا يده حامالً إبريق ال ّش�اي نحو األعلى َي ُص ُّ
من األعلى في إحدى الكؤوس.
ِ
والجدة وحدها من لم تأت بعد ،وال ّظاهر أنّها اكتم�ل الع�دد،
ّ
186
اصطف يسار ًا ،ولم َّ والكل
ّ ستجلس بجانبي ،فأنا في أقصى اليمين،
الجدة تطقطق بمنسأتها التي أرهبتني ّ تبق مساحة إال بجانبي .جاءت َ
الكل
ّ دخلت وجلس�ت بجانبي .قال األب« :على بركة اهلل»، ْ يوم ًا،
الذكريات الميتة. أتذوق طعم ّ وهممت ُّ حملت الملعقة، ُ بدأ باألكل،
العج�وز جانب�ي ل�م ُتعر لي اهتمام ًا ح ّتى أنّها لم تعرف ولم تس�أل
حد أنّه�ا اكتفت بالحديث م�ن ه�و ال ّش�خص الذي يجلس جانبهاَّ ،
إلى طفلة صغيرة موجودة بين األم وابنتها.
جر بي للحديث ثت قليالً بعدما انتهت الوليمة ،سعد من َّ تحد ُ ّ
ٍ
ش�رحت له ُ عن ش�يء مرتبط بمش�كل ٍ بنكي وقع مع والد نجوى.
ما يجب فعله والوثائق المتط ّلبة التي يجب عليه اإلدالء بها .وبعد
ٍ
بالسياس�ة ،ضجرت من مدة ،دخل س�عد ونس�يبه في حديث يتع ّلق ّ ّ
خرجت ُ الذهاب. فوقفت واعتذرت بأنّه يجب علي ّ ُ االستماع لهما،
َّ
والجدة ّ الصغيرة وقبلت الطفل�ة ّ بع�د أن س� ّلمت عل�ى أهل المنزل ّ
عدت إلى ركني أستش�في بعض الهدوء وراحة ُ ث�م
عل�ى جبينهم�اَّ ،
الجو العائلي الذي لم يعد يليق بي. ِّ البال من
كل جو الجمعة الذي يعيد َّ ع�دت إل�ى ط�وري بعد أن غلبن�ي ُّ ُ
الصفر ،فالجمعة دائم ًا ما كانت جرة عمري إلى ِّ أحوال ال ّتناقض في ّ
أغير نش�اطي وأنهي ال ُّنقط�ة الت�ي أنطل�ق منه�ا وإليه�ا أنتهي ،ومنها ّ
السابقة.ال ّنشاطات ّ
محمالً بن�وع من ال ّطمأنين�ة ،قضيته كما ّ ج�اء المس�اء كعادت�ه
كل يوم جمعة ،أكمل روتين مساء الجمعة بوضع المالبس أقضي ّ
منزلية ،ألستقبل الغد بح ّل ٍة ّ في آلة ال ّتصبين للغسل ،والقيام بأعمال
مرة لمقاومة الكدر. أستعد ككُ ّل ّ
ّ جديدة ،وكي
187
189
I
191
ربما كنت يائس� ًا دون أن أعي ذلك ،أو أنا ح ّق ًا كذلك ،فضياع أو ّ
تغير األشياء
اآلمال هي من خصال اليأس ،واالمتناع عن الترقب في ُّ
هو أيض ًا كذلك.
كل يوم ،ولكن لل ّنسخة نفسها ،فقط إضافات جديدة أتغي ُر َّ
قد ّ
واء ،و َتكرار ًا النقسام خاليا
تقل عن سابقاتها غضب ًا ،ووجع ًا ،و َخ ً ال ّ
وراثية ميتة تجول في كبدي. ّ
ما زلت أذكر طعم األلم ،الذي ذقته يومي الخميس والجمعة
تجرعت فيه مأساة العالج الكيميائي. الماضيين .ذلك الخميس الذي ّ
وفقدت إزاءه وزن ًا غير مستبين من طاقة ُ هزلت منه كثير ًا،
ُ كان ألم ًا
والرخوة خيوطها. حياتي المنقضية ّ
أتذكّ �ر أنّ�ي عندما اس�تيقظت ،وج�دت ال ّطبيب يجلس بقربي،
المخدر
ِّ إلي بكلمات ،لك ّني لم أفهم ما قاله إثر ما فعله بي تحدث ّ ّ
أثناء فترة العالج ،وضايقتني حينها حركات شفاهه التي كانت تشي
بكالم لم تقدر قدرتي على مسايرة الحروف أن تتلقّاها .كما أذكر،
رأيت بعد ذلك ،فقد رأيت والدتي تجلس على ُ متشكّ ك ًا ،في ما قد
فهمت منها أنّها تحمد
ُ وتقوس شفتيها بابتسامةِّ سريري قرب قدمي،
عيني،
ّ اهلل على سلامتي ،ابتس�امتها تلك التي على إثرها أغمضت
رجع بهما إلى خبايا شريحتي في حلم. أَ ُ
صحتي ،ال أذكر
معافى في ّ
ً كان حلم� ًا دون الحل�م ،كن�ت فيه
م�ا كن�ت ألب�س ،لك ّن�ي أتذكر ش�خصين كان�ا يجلس�ان بقربي أمام
ش�اب يكبرني بقليل ،وطفل يبلغ عمره حواليٌّ عتبة منزلنا القديم،
الس�ابعة .ل�م أر وجهيهم�ا ،وحاول�ت أن أدي�ر رأس�ي السادس�ة أو ّّ
قوتها على رقبتي كي ال أس�تدير.خفي ًة أحكمت ّ لك�ن قو ًة َّ
َّ إليهم�ا،
192
ك ّنا نجلس نراقب الشارع الذي أمامنا في رهبة الليل وسكونه ،ولم
يكن أحد يمر منه ،وال سيارة مركونة ،وكانت األضواء وحدها تنير
المنارة ،أماجزء ًا من الشارع ،والمساحة التي كانت أمامنا وحدها ُ
بعدها بأمتار فال ُيرى سوى الظالم .لم أُطق ذلك الصمت ،فأردت
قول شيء ألخرج نفسي من حرج الجلوس والضيق دون موضوع.
س�معت صوت ُ ش�فتي،
ّ قبل أن أقول ش�يئ ًا ،بل ح ّتى قبل أن ّ
أحرك
الرجل يقول« :أعرف ما تو ّد قوله» ،ساعتها لجمت لساني ،ولم أفه
بكلمةُ ،خ ّدرت بالكامل ،فلم أسمع صوته في أذني ،بل سمعته في
ورح�ت حينها أبحلق
ُ مشوش� ًا مما قد حدث،
ب�ت ّ عقل�ي .س�اعتها ُّ
إل�ى الظلام الدام�س الذي تخلفه وحش�ة ال ّش�ارع المظلم ما وراء
النور الذي يضيء مقتبلي ،عبث ًا ألعي ما حدث .أكننت في نفس�ي
أتخيل فقط ،فعزمت أن أحاول الحديث مرة أخرى ،وقبل أن ّ بأنّي
مرة أخرى في عقلي يقول لي: أفعل ،س�معت الصوت في رأس�ي ّ
مرة أخرى ،وحاولت فزعت ّ
ُ «ل�م يح�ن دورك لتنه�ض يا صديقي»،
أتفوه بكلمة .قلت في نفس�ي الداخل�ي دون أن ّ أن أجي�ب بصوت�ي ّ
«أي دور؟» .انتظرت موجه ًا ومركّ ز ًا كالمي إليه َّ
لعل المحاولة تفلحُّ : ّ
اإلجابة منه ،لكن ال شيء حدث .بعد لحظات ،وقف الرجل ،ولم
ترج�ل أمامي ،خطا كثير ًا ،حتى اقتربأتح�رك ك�ي ألمح مالمحهّ . ّ
ّ
حي�ث يوج�د الظلام ،وقف وقد ولى ظهره لي ،وفجأ ًة أدار نصف
وجهه األيسر خلفه نحوي دون أن يدير جسده ،لم َأر نصف وجهه
جيد ًا ،فقد كانت مالمحه مبهمة بفعل ال ّظالم والمسافة البعيدة ،لكن ّ
يتقوس بين ش�فتيه ،وكانت ابتس�امة كبير ًةكم�ا أظ�ن ،رأي�ت لمعان ًا ّ
إلي ،س�معت حينها في عقلي« :ليس اآلن يا صديقي» ،ثم موجهة ّ ّ
193
دوامة الظالم،
ومرة أخرى قبل أن تخفيه ّ أدار وجهه وأكمل مسيرهّ ،
قال« :اعتني به بدلي» ،ثم اختفى.
«اعتن ِ به بدلي!» .من هذا الذي سأعتني به بدله؟!
أدرت م�ا قال�ه ل�ي ف�ي ذهني ،ث�م تذكّ رت الطف�ل الذي كان
يجل�س معن�ا ،حي�ث كان الرجل على يميني هو والطفل .ظننت أنه
عندم�ا س�أحاول إدارة عنق�ي سأفش�ل ثانية ،لك�ن لم يحدث ذلك.
نظ�رت عل�ى يميني حي�ث كان يجلس الذي ذهب ،فلم يكن أحد.
نظ�رت يس�ار ًا ،وأيض� ًا لم أجد أح�د ًا .لحظتها وأنا حيران البال بين
بقوة
ثم نفخت صدري بالهواء ،وزفرت ّ الحقيق�ة والخي�ال ،وقف�ت َّ
لعل طنين األفكار
ورحت أبحلق في األرض َّ ُ ثم عاودت الجلوس، ّ
يخف وزنه .فجأ ًة س�معت صوت َّ الذي يثقل رأس�ي يجد حلاّ ً كي
فالصوت كان يصعد من بكاء يتصاعد تدريجي ًا ،اغتربت مرة أخرىّ ،
صدري .رفعت رأسي حينها ،ولم َأر أحد ًا بالجوار ،نظرت خلفي،
ال أحد ،والبكاء لم يتو ّقف .أدركت حينها أنّه صادر من ذلك الطفل
رحت أتساءل إن كان ،هو أيض ًا ،يلعب ُ الصغير ،ولم أعرف أين هو،
بعيني قدر المس�تطاع لك�ن لم أجد لهّ جل�ت
ُ مع�ي لعب�ة ال ّتخاط�ر.
عيني .لحظة إرجاعّ أث�ر ًا .دعك�ت جبيني مغم�ض العينين ،وفتحت
يدي ،ش�عرت بش�يء دافئ يقطر عليها .نظرت إلى يدي ،بدت لي
غي�ر ي�دي الت�ي أعرفه�ا بخدوش القلم الذي مح�ا بعض بصماتي،
وال االنكماشات الذكورية التي تشي باألعمال التي قامت بها يدي
ي�دي أرنو إليهما بحرص ،وجدتهما ّ ردتط�وال اعتم�ادي عليهاَ .ف ُ
ي�دي ،إلاّ أن�ي كنت أش�عر بحركتي فيهما .ب�دت لي أصابعي ّ غي�ر
يدي تبدوان ناعمتين ،وحينها قطرت بضع قطرات قصيرة شيئ ًا ماّ ،
194
عيني،
ّ عليهما ،اعتقدت أ ّن السماء بدأت تمطر ،لكن المصدر كان
ذراعي ،كانتا نحيلتين
ّ إلاّ أنّي لم أكن أشعر أني أبكي .نظرت إلى
قدمي،ّ وقصيرتين ،وال تنمو عليهما ش�عيرات الرجولة .نظرت إلى
أغمضت
ُ جد ًاّ .
ثم حذائي ليس هو الذي كنت أنتعله ،مقاسه صغير ّ
عيني بعد أن أدركت األمر ،جاءتني رغبة بالبكاء ..وبكيت مغمض ّ
العينين أحترق بالوداع.
عين�ي ونظ�رت حولي ،وج�دت البياض وحده ّ عندم�ا فتح�ت
الضوء األبيض المنعكس على جدران الحجرة يحيط بمرآي ،وكان ّ
حدقت إلى عيني .سمعت ضجيج ًا يصدر من ما حوليّ . ّ يبرق في
الس�قف أح�اول أن أع�ي ازدواجية أحلام اليقظة تل�ك وواقعيتها.
أنزل�ت نظ�ري وح�ده إل�ى األس�فل ،ث�م نح�و اليمين ،وأحسس�ت
ي ،فقد كنت أبكي خد ّعيني تسيل عبر ّ ّ بذرفات الدموع التي غمرت
تلوح أم�ام وجهي .كان جهاز نائم� ًا .فج�أ ًة ظه�رت ل�ي يد ال ّطبيب ِّ
األوكس�جين يزعجن�ي ،حاول�ت رف�ع ذراعي ألزيل�ه ،لكن ُقمعت
رغبتي وإرادتي بالفراغ ال ّطاقي بجس�دي ،وبالعياء الذي لم يس�مح
كنت في عجز تام لم يس�مح لي حتى ألوت�اري وألياف�ي بالحرك�ةُ .
بحك خدي أو تجفيف دموعي. ّ
ماء على وجهي، ورش ً ّ نزع ع ّني الطبيب جهاز األوكس�جين،
خدي نضح�ت تل�ك القط�رات على وجهي تنزل نحو عنقي .صفع ّ
بصفعة خفيفة ألس�تفيق ،ثم وضع يده اليس�رى بحذر تحت رقبتي
يرفعني ،ووضعت مس�اعدته الممرضة وس�اد ًة رطبة عالية ،ثم أعاد
وضع رقبتي التي ش�عرت أنّها ستنكس�ر ،رأس�ي هو اآلخر والذي
رمش�ت كثي�ر ًا محاوالً الرف�ع الخفي�ف قد تأ ّلم أيض ًاّ . ُر َّج م�ن إث�ر ّ
195
إزال�ة الدم�وع التي س�كنت جفوني .ش�عرت بوخ�زة ٍ في معصمي،
يهدئن�ي ،وهدأت بع�د دقائق وأحسس�ت أ ّن الممرض�ة حقن�ت م�ا ّ ُ
توضح�ت رؤيت�ي بع�د ذلك ،وش�عرت باحتكام جس�دي ّ بالفع�ل.
دت وأنا تنه ُ
خديّ .ألح�ك ّ
ّ حركت يدي إلش�ارات الم�خ ،وبال�كاد ّ
أنظر إلى أقصى اليمين حيث يوجد ال ّزجاج .رأيت س�عد ًا ونجوى
بجانبه ،كانت نجوى تبكي ،وس�عد كان ُيلصق يديه بالزجاج ،وقد
جيد ًا ،نزع يديه منعيني ّ
ّ ح�دق إلى
ب�دا الهل�ع عل�ى وجهه .ما إن ّ
ثم جلس هو أيض ًا. الزجاج وأمسك نجوى ليجلسها على الكرسيّ ، ُّ
أخرج من جيب سترته منديالً ورقي ًا ،وبدا لي كأنه يكتب شيئ ًا عليه.
ألص�ق المندي�ل المف�رود بكل أبعاده وزواياه على الزجاج ،أمس�كه
بكلتا يديه ح ّتى التصق بأكمله على الزجاج.
لم تعنني الكلمات التي كتب بقدر ما عنتني حالة سعد ،كانت
مرة أرى الضعف في سعد ،كان قريب البكاء أو أنّه بكا. أول ّ تلك ّ
بخط أسود كبير على المنديل« :كدت أن ٍّ المعوجة
ّ قرأت الكلمات ُ
تقتلنا».
جيد ًا ،ولكن�ي أدركت أني ل�م أفه�م م�ا الذي كان يري�د قوله ّ
كن�ت ف�ي حال�ة خط�ر ،فضربات قلبي التي كان�ت ته ّز صدري ه ّز ًا ُ
وشت لي ،فال أذكر أنّي شعرت بخفقانه كما حدث وقتها.
ٍ ِ
تعبير على وجهي لهما .نظرت للحظة إلى نجوى لم أُبد َّ
أي
التي كانت حاني ًة رأسها ،فتذكّ رت ياسمين بغيابها الحاضر بدعواتها
المرة الس�ابقة التي كانت قبل عيد األضحى ،لم م�ن المن�زل ،فف�ي ّ
علي هذه المرة، حدة خطره ّ تتحمل الوضع الذي كنت فيه رغم ق ّلة ّ ّ
تح�ب المجيء لمعاينتي ،وكان أفضل لي، َّ المرة الس�ابقة لم ومن�ذ ّ
196
لم أُرد أن يراقبني الياسمين وأنا أنسل احتضاري المؤ ّقت ،وأحترق
وأُعاد رماد ًا بالخيبات نفسها ،هزيالً كفرخ فقس من بيضة.
تمت بنجاح ،وأنّي نُقلت ما لم أفهمه وقتها ،هو أ َّن عمليتي قد ّ
تمت فيه�ا العملية ،إذ ًا فما الذي جعل ٍ
إل�ى غرف�ة أخ�رى غير التي ّ
االثنين يهلعان؟
بع�د أن ضايقتن�ي وشوش�ة ال ّطبيب والممرض�ة ،قلت بصوتٍ
مبحوح ال يكاد ُيسمع لل ّطبيب« :من فضلك ..أريد أن أرتاح ،أريد
أن أبقى وحدي ،وأطفئ األنوار» .لم ُير َّد الطبيب بشيء ،قام طائع ًا
ولبى طلبي عن طيب خاطر .خرج هو والممرضة ،وأطفأ األنوار، ّ
ثم طلب من سعد أن يتركني بعد أن فتح الباب. ّ
احتجت أربع س�اعات نمتها ألس�تعيد طاقتي وأش�حن عقلي
بإرجاع ذاكرة الحاضر .أذكر أنّه عندما جاء ال ّطبيب ليتفقّد حالتي،
تحدثت معه بعض الوقت ،ثم قاطعته وس�ط الحديث أني أريد أن ُ
أفقت س�معت ص�وت المئذنة وهي تعلن ُ أتوض�أ ألصل�ي ،فعندم�ا
ّ
ع�ن دخ�ول صلاة المغرب .س�اعدني على الوق�وف والتوجه نحو
توضأت ،وشعرت بماء الوضوء الذي غسل ّ دورة مياه بالمستشفى،
أعضاء جسمي يسري بشفائه نحو إيقاظ روحي ال ّنائمة .ص ّليت في
عدت ُمكره ًا ومرغم ًا
ُ ش�عرت بأنّي
ُ الحجرة جالس� ًا ،وبعد ّ
الصالة،
من جديد .عدت بعد ذلك إلى الفراش ،أنتظر الصالة القادمة بعد
ليحدثني ،وجدني نائم ًا،
ّ ولوجه�ا بن�وم ٍ طفيف .وحين أتى الطبي�ب
ونمت فعالً ،ولم أسيقظ ح ّتى صباح الجمعة ،مخلف ًا فريضة العشاء.
الجمعة كانت مح ّطة الزيارات الكئيبة ،جاءت العائلة المنسية
دون جدي وياسمين ،أتوا ليطمئ ّنوا على شيخوختي البارزة بكلمات
197
فرح�ت أكمل مس�رحية االمتثال للنقاه�ة .بعدهم جاء دور الع�زاءُ ،
كل طاقت�ي في حديث طوي�ل على الهاتف، ياس�مين الت�ي أخ�ذت ّ
عل�ي بهلعه�ا المكاب�ر ،ولم أعتب ف�ي حديثي علىَّ تطمئ�ن
ُّ كان�ت
غيابه�ا ،فق�د أعجبن�ي ع�دم حضوره�ا ،ورغ�م ذلك ،فلغ�ة التلعثم
والخ�وف عل�ى حالت�ي كان بادي ًا على حب�ال حنجرتها .بعدها جاء
بحدة أخفس�عد ونجوى في المس�اء ،وهما أيض ًا مارس�ت معهما ّ
تكررت. ٍ
مر بكلمات ّ السيناريو نفسه الذي َّ
بعد أن غادر سعد ونجوى ،دخل الطبيب .اعتدلت في جلستي
أستمع إليه .جلس على كرسي على يميني ،قال:
– هل تشعر بتحسن؟
– الحمد هلل ،بخير ،اآلن أفضل.
– نسعد بذلك.
عما يريد
ثم أردف والحرص في كالمه ،كأنّه ال يريد اإلعراب ّ
أن يقول:
– أتعلم..
صمت للحظة ،ثم أكمل.
– ..كدنا أن نفقدك!..
قلت مستفسر ًا:
يمر العالج بخير؟ هل وقع خلل ما؟ – ماذا تعني ألم َّ
مر على ما يرام ،كل ما في األمر أ ّن..
– ال ال ،كل شيء َّ
مرة أخرى ،ثم أردف: صمت ّ
– أعني بعد العملية..
– هل حدث شيء.
198
ربما. – ّ
– إذ ًا!؟
..دخلت في حالة إغماء ،واضطرب قلبك ،وكاد أن يتوقف.
في ،فلو اضطرب قلبي في شيء تحرك كلماته شيئ ًا ساكن ًا ّ
لم ّ
آخر غير المرض لذعرت.
قال:
صدقن�ي ،وربم�ا م�ا س�أقوله ل�ك اآلن صع�ب التصدي�ق، ّ –
ولكنك كنت ما بين الحياة والموت.
– ما بين الحياة والموت؟
مرة أرى فيها ش�يئ ًا كهذا ،ظننت لوهلة– ث�ق ب�ي ،ه�ذه أول ّ
أحضر يدي ألمضي على وفاتك! ّ أنّي سوف
وجدت ما يقوله مستحيالً للتصديق ،فقلت:
– أح ّق ًا ما تقول؟
كل معتقدات�ي عن الحياة والموت ،عن التصديق
وجع�ت ّ
َ – أَ
وعدمه ،عن الرجوع والعودة.
ثم أردف بعد أن صمت للحظات.
أتص�دق! عش�رون دقيق�ة ومنحن�ى التذب�ذب يمش�ي ّ – ..
مس�تقيمي ًا بالشاش�ة ،عش�رون دقيقة ونحن نحاول إفاقتك
الص�در ،حت�ى فقدن�ا األمل ،وحينها ل�م أفكّ ر في
بصاع�ق ّ
صدقني
جدك والعائلةِّ .ش�يء غير الكيفية التي س�أخبر بها ّ
ي�ا ابن�ي ،طوال الثالثين س�نة التي عملته�ا ،لم أُصب بهذا
االرتباك من قبل.
لم أفه بشيء ،كنت أنصت فقط ،وأنتظر منه أن ينتهي.
199
اقترب بكرسيه قليالً نحوي ،ثم فاجأني بسؤال.
– قل لي ،هل حلمت البارحة بشيء؟
– ربما..
– هل تذكر شيئ ًا؟
الح�ق أن�ي كن�ت أتذك�ر الكثير من�ذ أمس ،فع�اد ُة األحالم أن
شيء
ٌ ُتعاش وسط الحلم ،لكن أن تخرج لتعيد مجرياتها في الواقع
مستحيل .قد أكون تذكّ رت صوت بكاء الطفل وكلمات الرجل ،أما
الباقي فلم أكن متأكد ًا من صحة تذكري له.
دعكت جبيني محاوالً تذكّ ر الصورة واألصوات ،ثم أجبته:
– لست متأكد ًا ،ال أتذكّ ر الكثير.
تن�س أن تخبرني ،لكن قل لي،– ال ب�أس ،عندم�ا تتذك�ر ال َ
هل القليل الذي تذكره به والدك؟
كرهت لعبة الطبيب والمريض ،يسألني فأجيبه ،ثم يعاود الكرة
ُ
ثانية.
قلت:
– ال أظن ذلك ،لماذا؟
كل ،صدق أو ال تصدق ،فقد كان منقذك..– على ّ
– هه!!
مط شفتيه ،وأصدرت أسنانه صوت اصطكاك ثم رفع نظارته َّ
الطبية ،وقال:
الروح أخذ ما
– بعد الدقائق العشرين التي ظننا فيها أن مالك ّ
يملك ،صعد صوت بكاء طفيف من صدرك ،ثم تصاعد،
وبدأ جس�دك يهتز ،ثم بدأت تصرخ بكلمات إنجليزية لم
200
«Why father?.. أفهمه�ا جي�د ًا ،ولك�ن أعتق�د أنه�ا كان�ت
»Whyأو شيئ ًا من هذا القبيل.
حدقتيَ ،س ُهم وجهي ،وبدا
ّ عندما سمعت ما قاله ،جمد بؤبؤا
التجهم بائن ًا على وجهي ،فقد اكتملت حلقة فهمي عندما انقطعت ّ
أتحدث بحرف ،وش�ددت قبض َتي ّ عن الحلم بعد أن اس�تفقت .لم
يدي تحت الغطاء ،ح ّتى ُطبعت أظافري على راحتي يدي.
ش�عر الطبيب بضيق خاطري ،وفهم أني اكتش�فت شيئ ًا .وقف
ربت على كتفي قائالً:ثم ّ
– المهم أنّك بخير اآلن..
كانت تربيتته تلك كإفاقة لي ،وإخراج ًا لي من ّ
دوامة الذهول
وص�ل الحلم بالنجاة ،واإلدراك الش�امل لما عناه الرجل في
ال�ذي َ
الحلم ،والذي كان والدي بال شك.
قال لي قبل أن يخرج:
– إلى أن تهدأ األمور ،وتستعيد عافيتك ،أريد الحديث معك
في شيء آخر متع ّلق بـ ...الَ ..
انس األمر ،ارتح اآلن ،إلى
طيب ،أراك فيما بعد.
وقت آخر .يوم ّ
ظللت في صمتي دون اإلجابة ،وعندما خرج ،ألقيت برأس�ي
ب ما
تش�ي ُ
ِّ على الوس�ادة ،أحاول وقف مزيج األس�ئلة التي ما فتئت
مرة ،كنت وألول ّّ تبقّى من شعري ،وتعصر زيت قلقي في رحاها،
غاضب� ًا عل�ى األم�وات ،كنت غاضب ًا على وال�دي الذي لم يتركني
أغادر معه.
تعذبت كفاية .ألم يك�فِ إرث والدي لي، كن�ت غاضب� ًا فق�د ّ
ُ
نحرت
ُ بكيت�ه ف�ي الحي�اة وفي األحالم ،بكيت�ه فراق ًا ولوعة وعذاب ًا،
201
عين�اي دموع� ًا عل�ى صعوبة الوصول إليه ما بين األرض والس�ماء،
لكن�ه أرجعن�ي إل�ى مرحل�ة الصف�ر والفت�ور ..وأنا أك�ره البدايات،
فالبداي�ة أش�د أن�واع الغص�ص الت�ي م�ا أن ُوجدت قهرت نس�ياني
وتذكّ �ري .أل�م يك�فِ يتمه لي؟ ألم يك�فِ غيابه جرح ًا؟ ألم يأن له
أن يمسك بيدي حقيقة ويفصلني عن عذاب قبر الحياة هذه حينها؟
وابتسامته تلك ،أهي أيض ًا كانت تعبرها رسالة والدتي عندما بكي ُتها
يوم ًا؟
اللعنة! لماذا يجب أن أصبر على نزق هذه الحياة بالسخرية؟!
وأتجرع
ّ كان يجب على أحدهما أن يأخذني معه ،فإنّي أموت هنا
الدنيا إغاظة وفتك ًا ..وال أُعالج جراحي الغائرة س�وى أش�د س�موم ّ
حزن ًا..
قضيته.
ّ لكل
لكن ال بأس ،أنا قادم ..فهكذا هي المصائرّ ..
أهلت
ُ واري�ت بها ما مض�ى،
ُ م�رت بع�د الجمع�ة ثالث�ة أي�ام ّ
الت�راب عل�ى عي�اء الم�رض ،وعدت إلى العمل بحالة صحية ش�به
بددت رصيد نزق ذلك الغضب في األيام الثالثة المتبقية من معافاةّ .
األس�بوع ،وفي العمل بإفراغ بطارية الذكرى المؤذية التي أعادتني
وحاولت أن أمش�ي بضعفي قدر ُ إل�ى ب�كاء الصغ�ر ..كبت ًا ُمخرج ًا،
ٍ
المستطاع نحو طريق يؤ ّدي صوب المعافاة التي تؤدي إلى شيء ما.
202
II
ِ
مس�حت نظارتي ،وفي حركة وضعها على وجهي ،انعكس�ت
ص�ورة زج�اج الناف�ذة عليه�ا بصورة خضراء من أث�ر الزجاج الذي
عدلت اعوجاجها يعكس األشعة البنفسجية .وضعتها على وجهيّ ،
بأصابعي ،ومسحت بها جبهتي .اعتدلت في جلستي على الكرسي،
وانكف�أت نح�و المكت�ب .كان ضوء الش�مس الذي تصدره قبل أن
تضرب المآذن معلنة عن صالة المغرب بساعةُ ،يضفي إنارة جميلة
حملت قلمي أضيف لمس�اتٍ على ُ المك�دس أمام�ي.
ّ عل�ى ورق�ي
وصحح�ت تعابير في غير ّ م�ا كتب�ت .أزل�ت بضع كلمات وجمالً،
مح ّلها.
قطعت ورق ًة بيضاء من كتاب رس�م صغير ،كتبت في وس�طها ُ
أول خطر ببالي ألوراقي، بقلم أس�ود« :ش�يء ما» ،عنوان ًا محتمالً ّ
ثم وضعت الورقة أعلى األوراق. فقد كانت آخر كلمات كتبتهاّ .
أش�عة الش�مس الرطبة ،وأصبح نورها خافت ًا ّ
يزين ّ خ ّفت ّ
حدة
ٍ
س�طح مكتب�ي البن�ي بل�ون جميل ٍ وب�ارد يدعو لل ّنوم واالس�ترخاء.
بملف أخضر ،وتركت ٍّ ثم وضعتها نهض�ت حاملاً األوراق ،ر ّتبته�ا ّ
الملف فوق المكتب.
أكره األشياء
ُ كنت ملزم ًا أن أحلق لحيتي ،فقد أصبحت كثّة.
203
إلي هي الحالقة ،ليس طعن ًا في الحالقة نفسها ،ولكن لما بال ّنسبة ّ
تفعله بي المرايا التي تغدر بي باآلالم المرتس�مة على وجهي .لم
كل خميس أكره المشي ولم أكره المسافات ال ّطويلة التي أخطوها ّ
محل حالقةّ لك�ن المس�افة القصيرة الت�ي تبعث بي نحو
ّ للتج�وال،
مرة جلس�ت تلك الخمس والعش�رين تكبدن�ي الكثي�ر .ك�م ّالح�ي ّ
دقيقة الطويلة ،على ذلك الكرسي األسود الكبير ،مكره ًا أنتظر أن
ينتهي الحالق من عمله .كنت أجلس دائم ًا حاني ًا رأسي صابر ًا على
تلك المرآة الهائلة ،وعلى تلك االختالسات التي ترمقني بها عيناي
بالم�رآة ،فق�د كانت ُتهلعني نحولة معصمي وبرودة بش�رتي .عندما
قصةكان الحالق ينتهي ،أنقده بسرعة وأغادر سريع ًا دون النظر إلى ّ
ح�د أنّ�ي كنت أختل�س ال ّنظر إلى الش�عر إذا ه�ي أعجبتن�ي أم الَّ ،
كل األحوال، زجاج أحد أبواب س�يارة ما في طريق عودتي ،ففي ِّ
كل
ال ُيظهر زجاج السيارات األشياء واضحة كما تبدو عليه ،وفي ِّ
قصة الش�عر عادية ،وأبدو بها كعس�كري في األحوال أيض ًا ،تكون ّ
الواجهة.
م�رتحلق�ت ذقن�ي وش�اربي بماكين�ة الحالق�ة الكهربائي�ةّ . ُ
الدقائق التي استغرقتها طويلة وعسيرة ،ح ّتى أنّي ركزت على شفتي
بأي حكّ ة
زعج ِّالباهتتي�ن وأن�ا أحل�ق ،كان ال ب�د أن أصبر ك�ي ال أُ َ
حلقت ثم غس�لت ثم ُ زع�ج ذقن�ي ،وألتج ّنب لمس وجهي كثير ًا. ُ ُت
مسحت بمنشفة وجهي بأكمله.
جلس�ت على س�ريري أفكّ ر في ش�يء ُ
أقتل به الدقائق المتبقّية
ويفتح ليلي .اس�تلقيت على جنبي األيمن.. قبل أن تغيب الش�مس ُ
مرة أخرى ،لم أجد ش�يئ ًا س�وى أن فاأليس�ر ،ثم اعتدلت جالس� ًا ّ
204
أذهب إلى مكتبتي الصغيرة برفوفها الكبيرة.
لم ُتثرني أي األسماء الموجودة ألحمل بضاعتها ،بقيت واقف ًا
بدون حيرة من دون أن أحمل كتاب ًا.
كانت صورة رأسي تنعكس على زجاج ال ّنافذة ،ولون رفوفي
الرمادية بقربي ُيضفي مع هزالي ورأس�ي المنحني بال ّتفكير ،صور ًة ّ
مثالي�ة ذكّ رتن�ي بلوح�ة فني�ة كن�ت ق�د رأيته�ا في موقع م�ن مواقع
اإلنترني�ت فحفظته�ا عل�ى الحاس�وب ،ب�دا ل�ي مالئم� ًا أن أش�غل
نس�خت الصورة،
ُ حاس�وبي وأتفقّده�ا م�ا دم�ت مثّلت ج�زء ًا منها.
وسرى في جسدي نوع من األلفة لما فعلته بي معانيها التي أيقظت
حزني وأشبعت ظمأه.
استلقيت على السرير،
ُ ألصق ُتها بالحائط المقابل لسريري ،ثم
معدالً ّإياه بوسادتين ،واحد ًة فوق األخرى.ورفعت رأسي نحوه ّ
أتأمل ش�كل ال ّلوحة ،صبغة ال ّلوحة ،خطوطها ،وما اس�تلقيت ّ
ترمي إليه ،وس�طو ال ّش�حوب واأللوان التي اكتس�ت بنسل الغياب،
وكنت أفكّ ر في كيف خطرت على اإلسباني اسم ال ّلوحة ،في كيف
كل ذلك ابتدأها «بيكاسو» يا ترى وأعطاها عنوانها الشخصي فارد ًة ّ
العجز .هل االس�م ابتدأ كيانها وأعطى يد راس�مها ش�كل إتيانها أم
أ َّن انتهاءها أفشى وأظهر معالمها لعيني راسمها؟
«ع�ازف القيث�ارة العج�وز» ،ه�ذا ه�و اس�مها ال�ذي أث�ار ع ّلة
الش�يخوخة التي تس�كنني ،بدا لي كأ ّن حياتي مو ّقعة على قماش�ها
األصلي ،حالتي مرس�ومة على القماش مو ّش�اة بفقر ش�بابي؛ تلك
المالمح المكتومة ،والشعر األشيب ،ورقعة الكتف ،والثّوب البالي،
ولون الجسد ال ّشاحب ،ورأسه المطأطئ ،والقيثارة بين األيدي التي
205
الكل يشي أنّي كنت،ّ تظهر أنّها تعزف لحن السجن صمت ًا وسكون ًا.
وم�ا زل�ت ،أحم�ل ح ِّظي المري�ض كقيثارة على ش�كل قلمَّ ،
أتربع
كالعجوز ،أعزف في وحدة ٍ بقلمي في ال ّليالي الباردة رافض ًا ش�فقة
أملك من أمل ٍ نافد وحزن ٍ فائض. ُ الحياة بسعادة ما
مقلتي إلى وجه العجوز ،لم ّ أحدق بكل أبعاد
عشر دقائق وأنا ّ
يلع�ب حي�اد المل�ل ف�ي عيني .آثرت أن أتو ّق�ف لكي ال أنزع عنها
رغبت في تمزيقها
ُ غط�اء الوق�ار الذي تمثّل�ه .انتزعتها من الحائط،
أما األول�ى فلم أقدر ق�درت عل�ى الثّانيةّ ،ُ وحذفه�ا م�ن حاس�وبي.
طوي�ت الورق�ة ووضعتها في درج ٍ منس�ي ه�و اآلخر ،درج ٍ ُ عليه�ا.
ٍّ
الحب واألمل .ها هي ذي تحف ٌة مؤلمة ُتحيل عن نفاد ّ كل
يختزل ّ
في س ُتجمع مع باقي ال ّتحف من دون رؤية. ال ّشباب ّ
منفى آخر
ً مجرد مآس ٍ تشكّ ل خوائي، ّ الدرج
كل ما في ذلك ّ ّ
لدب نائم،
الصندوق الخش�بي؛ صورت�ان لحيوانين ،واحدة ٍّ كمنف�ى ّ
تتوس�طها ابتسامة ياسمين ّ وأخرى ألس�د ٍ ثائر ،وصورة لي ،وأخرى
معي يوم جاءت للمرة األولى واألخيرة إلى المستشفى.
إلي،
رغم أنّهما منفيان ،فهما ليس�ا المنفى الرئيس�ي بال ّنس�بة ّ
ولعل شاعر ًا سبقني:ّ
206
للتسوق بعد صالة المغرب. ّ
رتغي ُجوها المظلمّ ، أش�علت بعض األنوار ل ُتنار ال ّش�قّة من ّ ُ
ووضعت معطفي على جسدي ،وانتعلت حذائي المطري. ُ مالبسي،
كل مر ًة أخيرة إذا ما كان ّ راقبت ّ
ُ حمل�ت المظل�ة ،وقب�ل أن أخرج، ُ
ٍ
شيء في موضعه ..وكان كذلك.
ي�ت في المس�جد ،وعندما خرج�ت كانت اآليات األخيرة ص ّل ُ
﴿ي�ا أَ َّي ُت َه�ا ال َّن ْف ُسم�ن س�ورة الفج�ر ال ت�زال عالق� ًة ف�ي ص�دريَ :
ِ ِ ِ ِ اضي ًة مر ِ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ض َّي ًة * َفا ْد ُخلي في ع َبادي ا ْل ُم ْط َمئ َّن� ُة * ْارجع�ي إ َل�ى َر ِّبك َر َ َ ْ
* َوا ْد ُخ ِلي َج َّن ِتي﴾.
ب�دأت أعي اآليات ،ال عن األنفس التي س�بقتني: ُ كناي� ًة ع ّن�ي
فأين أنتِ يا نفس�ي المطمئ ّنة؟ هل أنتِ مطمئ ّنة ح ّق ًا؟ هل أُزعجك
ربي بتعذيب نت األمانة يا ّ بقساوة الحجر الرابض على قلبي؟ هل ُخ ُ
نفس�ي بس�بب وبال س�بب؟ .اغفر لي يا ربي ،فما لي غيرك أ ّتكل
عليه ،ال أطلب شيئ ًا غير أن تفعل بي خير ًا ،وإذ كان مزيد من األلم
ِ
أطلب عف�وك من عقوق ُ �ك ال تنتهي،خي�ر ًا ..فلا ب�أس ب�ه ،حكَ ُم َ
كل ي�وم ،وإذا ما نفس�ي ،وم�ن ذن�وب الحرمان ال�ذي أُذيقه لذاتي ّ
أتمسك به ،فلتكن أنت يا من فطرني على هذا ،أن ّ أملكان هناك ٌ
تكون أنت وحدك أملي ،فاآلمال المتع ّلقة باألشياء تزول ،واآلمال
علي
ربي أغدق ّ المنفلت�ة م�ع األنام غي�ر رصينة وغير ثابتة وكاذبةّ ، ُ
الراحة ،فال أريدها بقدر أملك ،وسكون وحدانيتك ،لم أطلب يوم ًا ّ
ما أريد عفوك وقضاء حاجتي ،فقد تأ ّخر الوقت كثير ًا على أمثالي
ك�ي ُيواصل�وا كدح العمر ه�ذا ،ال أريد ال ّتد ّخل في مصيري ،افعل
بي قبل أن أفعل بنفسي شيئ ًا.
207
السوق ألجلب ما يمأل ثلاّ جتي قطعت مساف ًة شبه طويلة نحو ّ ُ
األيام التي تلت العملية على األكل اقتصرت بعد ّ ُ التي فرغت ،فقد
رت أ ّن الالئحة جدي .فكّ ُ في الخارج أو عبر طلب يأتيني من مطعم ّ
الت�ي وضعته�ا ف�ي ذهن�ي ع�ن م�ا سأش�تريه طويلة بعض الش�يء،
ساعدي
ّ واألكياس البالس�تيكية التي س� ُتوضع بها س� ُتؤلم عضالت
الرخوة ،وخلصت إلى أن أقسم الالئحة نصفين بين اليوم والغد. ّ
أتجول وس�ط ص ّفين م�ن الباعة الذين يضعون الخضر ّ ح�ت ُر ُ
تجرها عجالت" :الكروس�ة" .أنظر يمين ًا وش�ماالً، ٍ
في عربة خش�بية ّ
حت الذهنية بما هو واجب اقتناؤه وضروريُ .ر ُ ح�ت الئحت�ي ّ تص ّف ُ
ّل�ت بين أربعة باعة .مألت كيس� ًا بالس�تيكي ًا إل�ى جه�ة اليمي�ن ،تنق ُ
أتبضع الحام�ض والفلفل والبهارات.. حت ش�ماالً ّ ثم ُر ُ بالخض�رّ .
الدجاج، يتبق س�وى أن أش�تري لحم البقر أو ّ كيس آخر .لم ّ امتأل ٌ
س�معت بائع ًا يصي�ح بتخفيض ثمن بعض ُ ّأيهم�ا س�يفي بالغ�رض.
الفواك�ه ،وكان بع�ض ال ّن�اس ُيحيط�ون به .لم ُيغرن�ي العرض ،فأنا
أك�ره الفواك�ه إال القلي�ل ،والحالوة يجتمع عليها البش�ر كثير ًا ،كما
الذباب. الذباب على قطعة حلوى ..وأنا أكره ّ يجتمع ّ
اكتظ المكان ،كما لم أعد أطيق نبرة ّ هممت بالخروج بعد أن ِ
ُ
َاش!!))، ((يلاَّ ْه َم ْبق ْ
َاش َم ْبق ْ وتكرر نفس الجملةَ : ّ البائ�ع الت�ي تصيح
والتي ُتعاد بالحدة نفسها ،ال ّشيء الذي آلم طبلتي أذني وأخرجهما
من طيب صوت اإلمام الذي قرأ القرآن.
نظ�رت إل�ى س�اعة يدي ،لحظات وأنا أراق�ب عقربيها انتظار ًا ُ
سمعت صوت الكيس البالستيكي ُ رفعت رأسي عندما ُ أمام الج ّزار.
وحملتُ فوق منضدة الج ّزار ،نقدته ،أرجع لي صرف المئة درهم،
208
أكدسه في الكيس البالستيكي مع باقي المجموعة. الكيس الصغير ّ
كل ش�يء ابتعته س�يكفي، وقف�ت لوهل�ة أم�ام الج ّزار ،أفكّ ر في إن ّ ُ
ٍ
كنت أخش�ى من ش�يء واح�د ،أن يتم ّزق وب�دا ل�ي األم�ر كذلكُ .
حر َج نفسي مع المارة .أخذت كيس ًا آخر كبير ًا من أحد األكياس فأُ ِ
األول إليه ،وبعض ًا من الكيس نقلت بعض ًا من الكيس ّ ُ المحل نفسه. ّ
صوت كرهت أن ٌ الثّاني أيض ًا إليه .وأنا أفعل ذلك ،تخ ّلل إلى أذني
حدة وقعه أحمل أثقاالً ،كان صوت قطرات المطر وهي أمشي على ّ
صككت أس�ناني ُ لمحل الجزارة.
ّ تنض�ح ف�وق الغطاء البالس�تيكي ُ
هززت
ُ فتحت مظ ّلت�يّ ،
ثم ُ أخذت نفس� ًا،
ُ وزف�رت م�ن أنف�ي حنق ًا.ُ
القوية مقارن ًة
ّ اليمنى
جمع�ت قبضتيهما في ذراع�ي ُ ُ كيس�ين بع�د أن
اليس�رى ألحمل الكيس اآلخر، وانحنيت بمظ ّلتي بيدي ُ
ُ باليس�رى، ُ
وخطوت
ُ اس�تعددت للمطر الغزير،
ُ فقد كان خفيف ًا بعض ال ّش�يء.
ُمتجاوز ًا عتبة المحل أسير في دربي .كان اختياري صحيح ًا عندما
الس�وق كانت موحل�ة بقطرات انتعل�ت الح�ذاء المط�ري ،ف�أرض ّ
كنت انتعلت صنداالً لكانت كارث ًة سأصاب بها بالكدر المطر ،فلو ُ
الجوية.
ّ كل االمتنان لل ّنشرة في ال ّطريقّ ،
الريح ل�م أعت�ب على ز ّخات المط�ر التي صفعت وجهي مع ّ
هب�ت ،ولم أعتب على الوح�ل الذي علق ببنطالي ،وحاولت الت�ي ّ
م�رت س�يارة بالقرب من برك�ة صغيرة ،فنثرت ألاّ أغض�ب حينم�ا ّ
السفلي من ثيابي حيث دخل بعضها إلى وحلها ومياهها على الجزء ّ
كل يوم ،تهرب األكياس .فلماذا الغضب والعتب؟ تعاكسني األشياء ّ
الراح�ة ف�ي لحظات عدي�دة ،ويأخذني ال ّتعب وقت ما ش�اء، م ّن�ي ّ
وتق ّلبن�ي المصائ�ب مت�ى أرادت ،ويتهافت ش�قائي وع�دم ارتياحي
209
على اإلزعاج في قرعة الحظ! فماذا لدي غير الصبر على مق ِّلباتِ
َ ّ ّ
المزاج هذه؟ فليس بإمكاني تغيير شيء ،فهذا قدري ،وقرعة ح ّظي
كنت أريد ..فلن ونصيبي المخصي .وهل لي في أن أعترض؟! .وإن ُ
ُيجاز لي ولن ُيباح استئناف حكمي ،وال شيء أحول به بيني وبينه
س�وى أن أرضى بكراهية األش�ياء الكثيرة وضآلة األش�ياء المريحة
التي ُتطيب خاطري ،فعلى كل حال ،لو كان انعدام راحتي موجود ًا،
ربي أعتزم وأُنذره ضعفي من جموح الدنيا ،فعلى ّلجننت من شقاء ّ ُ
قافل�ة الخ�ور ال�ذي يحت ّلني ،فما زلت في دربي هذا أس�ير ،ضعيف ًا
أدري ،وصابر ًا بال أمل من عثرات دنيا القدر وصدفة المنتظر.
ِ
خدرت�ا بالحم�ل ،ورجلاي م ّلت�ا من تل�ك األرض، ذراع�اي ّ
وعيناي تأ ّلمتا من أنوار الشوارع المضاءة التي تعكس شرارتها على
األرض المب ّلل�ة لل ّش�ارع الم�ؤ ّدي إل�ى عمارتي ،وآلمني بصري من
البرتقالي ال�ذي يلمع على ن ّظارتي ،وانعكاس األنوار الض�وء ُ رتاب�ة ّ
السيارات المب ّللة هو أيض ًا أصابني بتش ّنج ٍ مزاجي. على أسقف ّ
الري�اح التي كادت خ�ف هط�ول المط�ر ،وانخفض�ت س�رعة ّ َّ
وضع�ت األكي�اس على األرض ُ تطي�ر مظ ّلت�ي س�ابق ًا .تو ّق ُ
ف�ت، أن ّ
ثم أس�دلت اليمنى من عيائهاّ ، نفضت ذراعي ُ
ُ ويس�راي. من يميني ُ
اليمنى ألنفض عياء اليس�رى .لم ُيضايقني المظ ّلة ،وحملتها بيدي ُ
أمتار وأصل.ٌ المطر الخفيف ،وح ّتى إن فعل ،فما هي إلاّ
بس�بابته نحوي، لمح�ت الح�ارس وهو ُيش�ير ّ ُ عندم�ا اقترب�ت
متحدث ًا لش�خص ٍ واقف أمام باب العمارة على يمينه. ّ ويدير وجهه ُ
ٍ
لمحت
ُ ظننت أنّه يشير إلى شيء ما خلفي ،إلاّ أنّه كان يعنيني .وقد ُ
توضح لي شكل الشخص الواقف المشهد من بعيد .عندما اقتربتّ ،
210
أم�ام ب�اب العم�ارة ،فقد كان ال ّظالم المحيط بزوايا باب العمارة ال
اقتربت أكثر ،وعيني
ُ ُيبين ش�يئ ًا من خلقته من بعيد ،وكانت امرأة.
نت في تمع ُ
تحرك�ت المرأة نح�ويّ ، ج�د ًا عل�ى م�ا ترىّ .متحس�رة ّ ّ
حت بصوت بدا هادئ ًا" :ياسمين!!". ص ُ ثم ُ
مشيتها وقصر قامتهاّ ..
ب�دت ياس�مين ش�احبة ،ل�م تق�ل كلم�ة ،اقترب�ت م ّن�ي أكث�ر
وسارعت في خطاها ،ثم ألقت نفسها على صدري تحضنني وتعصر ْ
جسدي بعناقها لي .لم تنظر لي ح ّتى ،بل غمست وجهها بصدري
غصاتها وأنفاسها المتق ّطعة تسري من صدري سمعت صوت ّ ُ فقط.
مرة. إلى أذناي .لم أفهم ما بالها ،وال أذكر أ ّن جسدها التصق بي ّ
كل م�ا كان بيدي، أحرجتن�ي بالتص�اق جس�دها بجس�دي .ترك�ت ّ
ي�دي على كتفيها أحاول برفق خلق مس�احة ضئيلة بيني ّ ووضع�ت
ُ
رحت أس�أل في لحظة دهش�ة وحيرة" :ياس�مين ما األمر؟ ُ وبينها.
قول�ي ..لم�اذا تبكين؟" .لم تقل ش�يئ ًا ،وواصل�ت بكاءها الذي زاد
أعدت الكلمات نفسها ولم ُتجبني .قلت لها" :هيه! ُ طنين ًا في أذني.
ارفعي رأسكِ! ما الذي وقع؟" .رفعت رأسها نحوي ،كانت دموعها
خديها بفعل كحل عيونها ،وخرجت كلماتها الس�وداء تس�قط على ّ ّ
الس�وداء" :لـ ..لـ .ماذا ..لـماذا..متق ّطع ًة وواهية من بركة دموعها ّ
ش�عرت
ُ قلت لها" :لم أكن أحمله".ال ت�ر ُّد عل�ى هاتفـ...ـك؟؟!"ُ .
بجسدها يتهاوى بين ذراعي ،فأمسكتها وقلت" :تو ّقفي عن البكاء،
تتحدث بش�يء وواصلت البكاء .أزعجني ّ وقولي ما حدث ."..لم
الوض�ع ،فقل�ت له�ا" :ياس�مين ،افعلي م�ا أقوله ،حس�ن ًا!" .أومأت
برأس�ها فق�ط .قل�ت" :حاول�ي أن تحمل�ي معي األكي�اس ،وعندما
حملت
ُ وطوقت ذراعي. نتحدث .".لم تفه بكلمةّ ،ّ نصعد إلى الشقة
211
أن�ا كيس�ين ،وه�ي حملت المظ ّل�ة والكيس اآلخر .طوال المس�افة
الفاصلة بين مكاني وباب العمارة سؤال واحد كان يجول في رأسي:
تنبئني؟".
تنبئني يا مطر؟ ماذا ّ
"ماذا ّ
تركت ياسمين األكياس وأمسكت ْ أغلقت باب العمارة،
ُ ما أن
لكن
بشدة ،ولم تستطع وقف بكائها .كانت تريد قول شيءّ ، ذراعي ّ
شفتيها كانتا مرتبكتين .قلت حينها:
ِ
– قولي ،ما األمر ،قولي!! أنت تفزعينني ،ما األمر!!
غصة:
قالت في غمرة ّ
– سامحني وحيد ،سامحني..
ِ
حدثيني أرج�وك ،اهلل يخليك قولي
– أس�امحك عل�ى م�اذا! ّ
شيئ ًا فأنا ال أفهم!
– مات ..مات..
– مات؟! من الذي مات؟
ورججت
ُ أمس�كت ذراعه�ا،
ُ دت قب�ل أن تخبرن�ي ،لك ّني
ت�ر ّد ْ
جسدها كأنّي أصعقه بكهرباء سؤالي.
ٍ
وضع�ت جبهته�ا على صدري ،وقال�ت بصوت مزموم ٍ ُيختز ُن
من ورائه الحرقة:
جدي ..مات..– مات ّ
يتوس�ط صدري ،لم يخفق قلبي ح ّتى ،وما ّ ش�عرت بس�كون
ُ
شعرت بأنّي
ُ فتئت ياسمين تقول أشياء لم ألق ِ لها أذن ًا ُتصغي إليها.
ٍ
وميت ،أغ�وص أعماق ًا تليها كل ش�يء س�اكن ّ ف�ي قع�ر محيط ماّ ،
ٍ
السطح. ّ فوق شيء أعماق ،تارك ًا كل
كنت أبكي؟ُ تراي هل
212
ال لم أكن أبكي ،كنت أشعر بكثير من الجمود احت ّلني فقط.
إلي ح ّتى لم أش�عر كما تراه أصبح الموت أمر ًا ّ
عادي ًا بال ّنس�بة ّ
يشعر باقي ال ّناس! تراه ماذا فعل بي هذا البرود؟
إنّه فعل الالمباالة ليس إلاّ .
خذت قرار ًا بأن ال أفيض مشاعري وال ُ كنت ا ّتكرهت نفسيُ . ُ
أتو ّقع أو أنتظر شيئ ًا ،وأن أتعامل مع األمور بشكل ٍ من البرود .إذ ًا!
الراغبة ،فلماذا ال أشعر فها هي خططي تنجح ،تحققت رغباتي غير ّ
لذة الفوز المريرة؟ هل أل ّن المرارة نفسها بالرضا؟ لماذا ال أستشعر ّ ّ
لم تس�تطع مواصلة ما تحكيه هالتي التي فاقت غصص الجفاف؟
أصبحت قاحالً ،عديم اإلحساس ..ح ّتى بموت األصدقاء؟ ُ هل
الفيزيائي ال غير.ُّ الموت
ُ إنّه
كل األسباب التي تركت وكنت أعلم ّ
ُ لم تذرف عيني أي دمعة،
غدد البكاء عندي جافة ،وأحدها أنّي أعلم أ ّن النحيب اكتفى م ّني،
تس�تحق م ّني وضع زينتها ،أل ّن
ّ وأ ّن البكاء أصبح موض ًة قديمة ال
س�يد مت حينها ّ الص ُأش�دها ضراو ًة ،يبقى ّ ّ أنواع األلم عندما ُتذاق
وكل ما ُيواري الوجع ..هو خ ّط ٌة حرك ساكن ًاّ ، الموقف ،والقلب ال ُي ّ
للحد من ش�ظايا األلم ،وإش�عال ّ مرة
كل ّ محكمة ما يفتعلها العقل ّ
تمرد عقلي شرارة ما تبدأ في حرق وحذف وعزل جرعات األلمّ ..
علي!
ّ
لم أشعر بتغيير مطلق لما حدث ،سوى أن الحزن وضع إسمنته
ال ّطفي�ف عل�ى وجه�ي وجعله صلب ًا وقاس�ي ًا .أحسس�ت أ ّن معطفي
أصب�ح ثقيلاً ،ودم�وع ياس�مين التي تهطل عل�ى قميصي تحرقني،
وضرب�ات قبضته�ا على صدري كأنّه�ا تريد إرجاعي إلى الحياة لم
213
ألتح�دث بها إليها،
ّ ف�ي ش�يئ ًا .ل�م أجد الكلمات المناس�بة تح�رك ّ ّ
ّ
وأحسس�ت أن إطار نظارتي ُيثقل وجهي ،والماء الذي س�قط على ّ ُ
ٍ
كل ش�يء غدا جارح ًا وخش�ن ًا بنطالي أزعجني التصاقه اللزج بيّ ..
الكل ..إلاّ م�ا بداخلي الذي رباّ يفتع�ل حرك� ًة وانفع�االً ّ
للصدمة..
جمود ًا.
حاولت ألاّ أكون قاسي ًا على قلب امرأة ٍ يلتعج أمامي ،امرأة ال ُ
حت أخ ّففلجل نساء األرضُ .ر ُ ّ تريد تصديق الموت كما يحدث
«قدر ٍ ٍ
أجزاء في جوفي ،بكلمات لم أجد غيرهاّ : ٌ تحبه�ا
عل�ى ام�رأة ّ
اهلل وما شاء فعل».
ت على كتفيها ولم أتو ّقف رب ُّ
وضعت األكياس على األرضّ . ُ
بشفتي ال تخلو منها كلمات العزاء .أبعدتها ّ عن قول كلمات ال تليق
أمسكت معصميها بكلتا يداي. ُ بخطوات ع ّني ،ثم
قلت:
– ياسمين انظري إلي!
– !.......
– فقط انظري إلي!
كل مالمحي الجامدة بصعوبة،
رت حينه�ا ّفغي ُ
رفع�ت رأس�هاّ ،
ْ
بالراحة ،فإذا ما رأت ما ارتس�م على
إلى أخرى مبتس�مة تش�عرها ّ
تركت أحد
ُ وجهي قبالً ،س ُتشفق على ُرضاب ألمي ،ورغوة وجعي.
ومسحت دموعها الكحلية.
ُ وأمسكت اآلخر،
ُ معصميها
قلت لها:
ُ
– ال ينبغي البكاء على األموات.
زاد بكاؤها أكثر ،وأنا زادت العلقة في صدري تواطؤ ًا.
214
الحظ�ت أن يديه�ا مرتعش�تان وباردتان ،وال تقلاّ ن عن برودة ُ
ونفخت فيهما ،محاوالً تدفئة
ُ أمسكت يديها
ُ جسدي شيئ ًا أنا أيض ًا.
ِ
عتمل في جوفي. حار ًا من لهب ما ُي ُ يدي ويديها ب َن َفسي الذي خرج ّ ّ
وطلبت
ُ نزع�ت معطفي وألبس�تها ّإياه ،و ّليته�ا أمامي نحو المصعد، ُ
كنت حامالً األكي�اس الثّالثة والمظ ّلة.منه�ا أن تضغ�ط ال� ّزر ،فق�د ُ
هت
وتوج ْ
ّ أمس�كت ياس�مين من يدي كيس�ين، ْ وصلنا إلى طابقي،
وكن�ت ش�اكر ًا لفعله�ا ،فق�د تراخت أوت�ار عضالت ُ نح�و ش�قّتي،
عياء.
ً ساعدي
ّ
ووضع�ت ما بيدي ف�ي ركن خلف ُ فتح�ت ش�قّتي المظلم�ة، ُ
أش�علت األنوار .ه�ي ذهبت لتجلس على األريكة .بعد ُ الب�اب ،ثم
ه�ت نحو ياس�مين ،كانت توج ُ كل األض�واء إلاّ غرفت�يّ ، أن�رت ّ
ُ أن
قرفصت أمامها ووجهي ُ حاني ًة رأسها من ثقل األفكار التي راودتها.
بالقرب من رأسها الحاني.
قلت لها:
– كفى! إنّا هلل وإنّا إليه راجعون.
أخرجت من جيب
ُ أشاحت نظراتها ع ّني وحنت رأسها أكثر.
مددت
ُ ثم
ورفعت ذقنها نحويّ ،
ُ معطفي الذي تلبسه منديالً ورقي ًا،
إلى يدها المنديل وقلت:
مجرد خسارة.
ّ – امسحي دموعك ،البكاء على األموات
– ولكن..
رحت إلى غرفتي تارك ًا ياسمين في بحر دموعها
ُ ظللت صامت ًا.
ح ّتى تهدأ.
أغير فيه مالبس�ي المب ّلل�ة ،تبادر إلى
كنت ّ
ف�ي الوق�ت ال�ذي ُ
215
المرة األولى التي تدخل فيها ياس�مين مس�كني، ذهني أ ّن هذه هي ّ
مر ًة واحدة عتبتي.
صحي�ح أنّه�ا تع�رف العنوان ،لك ّنها ل�م تطأ ولو ّ
ٌ
جوي الكئيب ويزيدها حزن ًا. أخاف أن يلتحفها ّ
خرجت من غرفتي.ُ سمعت صوتها ُيناديني.
ُ
أجبتها:
– هل تحتاجين شيئ ًا؟
232
III
233
الص�داع بالمس�ح على ش�عري ذهاب� ًا وإياب ًا. وحاول�ت أن أخ ّف�ف ّ
مد يدي إلى ال ّطاولة ،وكان غريب ًا وحاولت ّ ُ بقي�ت ُمغم�ض العيني�ن ُ
ي�دي وقعت�ا ف�ي فراغ ،والغريب في األم�ر أن ال ّطاولة كما أذكر ّ أن
ألتوجه يس�ار ًا ألُنير المكان.ّ وقفت
ُ كانت غير بعيدة عن األريكة.
زر عين�ي ألرى انعكاس زجاج ال ّتلفاز وتتبعه ،فبقربه يوجد ّ ّ فتح�ت
ُ
الرابعة ،ح ّتى خطوت ثالث خطوات ،وما كدت أن أخطو ّ ُ اإلنارة.
كدت أن أقع لوال أن حافظت ُ شيء اصطدمت به قدمي، ٌ اعترضني
أنرت الم�كان ،وآلمتني ُ أكمل�ت مسترش�د ًا بالتلفاز، ُ عل�ى توازن�ي.
عيني ُيعميهما ويزيد من ّ احت�ل
َّ األش�عة ف�ي عين�ي لدرجة أ ّن بياض ًا ّ
عرفت لماذا
ُ الضباب عن عيني، مستوى صداع رأسي .عندما انقشع ّ
تغير موضع ال ّطاولة ،ولماذا تعثّرت قدمي من قبل .كانت ياس�مين ّ
خولتها أن «تصرف�ي عل�ى راحت�ك» ّ ّ تن�ام عل�ى األرض ،ويب�دو أن
تغير موضع ال ّطاولة وتفرش ب ّطانيات وجدت من يس�تعملها غيري ّ
تكورها داخل ٍ
أن�ا ال�ذي نبذته�ا في خزانة بغرفتي .راقتني طفولتهاّ ،
ال ّلحاف ،وخصل شعرها المبعثرة والمنسدلة على وجهها .أشعرتني
قسوت عليها ليلة أمس. ُ بأنّي
حملت هاتفها الموضوع ُ اضطجعت قليالً عندما أنرت الغرفة. ْ
هت توج ُ
أش�علت إنارة الهاتف ،ثم ّ ُ وأطفأت اإلنارة.
ُ على ال ّطاولة،
أنرت غرفتي وأطفأت نور الهاتف. ُ إل�ى غرفت�ي .وجدته�ا مفتوحة،
وضع�ت هاتفه�ا ُ الصب�اح. وأش�عة ّ ّ فتح�ت ال ّناف�ذة لدخ�ول اله�واء ُ
الس�رير .لم أتفقّد اس�تلقيت على ّ
ُ ثموحملت هاتفيّ ، ُ فوق مكتبي،
رأيت ياسمين .كان يومض بلونه األزرق، ُ هاتفي منذ أمس ،بل منذ
وجدت عشرين ا ّتصاالً من ياسمين ورسائل ُ السري،
الرقم ّ أدخلت ّ
ُ
234
الس�رير،
رمي�ت الهاتف على ّ ُ ع�دة تس�أل ع ّن�ي فيه�ا وع�دم ر ّدي. ّ
وضعت في ذهني ُ واستلقيت على ظهري أفكّ ر في خطوتي القادمة. ُ
غس�لت وجهي ،وأخرجت من درج ٍ ُ ثم نهضت. جدولة ما س�أفعله ّ
مألت ق ّنينة ماء
ُ ثم
بالخزانة علبة أعواد البخور ،أشعلت اثنين منهاَّ ،
بحثت عن ن ّظارت�ي ،لم أجدها، ُ صغي�رة ،ش�ربتها بأكمله�ا .،عندم�ا
�رت أ ّن ياس�مين كان�ت ق�د أخذتها أم�س وأنها ّ
ربما ال حينه�ا تذكّ ُ
جرعت نصف كأس ماء ُ أخذت علبة دوائي، ُ الس�ترة.
تزال بجيب ّ
تركت فوق
ُ ثم
لحبة دواء دائيّ ، حبة دواء للمعدة ،ونصف ًا ثاني ًا ّ مع ّ
فوار ًا لمن ّش�ط في نص�ف كأس ٍ أخرى َيحتاج مائ�دة المطب�خ قرص ًا ّ
إلى دقيقة كي يعطي مفعوله.
ش خمس ًا وأربعين دقيقة، أخذت ُد ّش ًا طويالً ،وقد استغرق ّ
الد ُّ ُ
أطلت�ه ألزي�ل بقاي�ا األم�س وحثالة أرق ال ّنوم عن أعضاء جس�دي،
حم�ي عظام�ي التي ُبردت ،وأزيل عنها صدأ خمول ال ّنعاس كم�ا ألُ ّ
فتصبح مرنِة.
وجلست في المطبخ ُ أعد فطوري، رحت ُُّ شربت المن ّشط ،ثم ُ
حصتها إلى أن تستيقظ. حصتي منه وأترك لل ّنائمة ّ أزدرد ّ
الصالون. وصوت خطواتها وهي تفتح نوافذ ّ ُ إلي تثاؤبها
تناهى َّ
مرت بجانب المطبخ ،ألقت يدها سالم ًا ،وأكملت مراسم استيقاظها ّ
لتحتل مكانها على ّ مدة إلى حيث أجل�س ث�م ا ّتجه�ت بعد ّ ب�دشّ ،
كرسي قبالتي.
رفعت خصلة شعر هاربة وقالت:
– صباح الخير!
جاء صوتي متق ّطع ًا:
235
جيد ًا؟ ِ
– صباح الخير ..هل نمت ّ
أشارت بإيماءة رأس بأنها كذلك.
قلت لها:
ُ
– شاي أم قهوة بالحليب؟
أي شيء. – ّ
نهض�ت وتو ّق ُ
فت بجانبها، ُ وضحكت هي األخرى.
ْ ضحك�ت
ُ
بسبابتي.
نقرت على فروة شعرها ّ
ُ ثم
ّ
قلت:
اخدمي نفسك.
ُ –
تثاءبت قائلةً:
– و..ا..خا!
اختفيت من حولها.ُ ثم
ّ
الصال�ون عندما جاءن�ي صوتها ُينادي.أط�ل م�ن نافذة ّ ّ كن�ت
ُ
استدرت ألجدها ت ّتجه نحوي.
ُ نزعت نفسي من ال ّنافذة ثمُ
سألتني:
بحثت عنه
ُ – ه�ل رأي�ت هاتفي؟ وضعته أمس فوق ال ّطاولة،
لك ّني لم أجده.
اس�تعنت ب�ه
ُ – وضعت�ه ف�ي غرفت�ي عندم�ا وجدت�ك نائم�ة،
ألضيء الطريق نحو الغرفة.
جلبته لها ،وقلت:
الس�رير أريح من
– عل�ى فك�رة ،لم�اذا لم تنامي في غرفتيّ ،
األرض.
– لم أستطع ال ّنوم وحدي.
236
أي حال ،ن ّظارتي من فضلك.– مـ...ـمم ،على ّ
– ستجدها قرب ال ّتلفاز.
– على كل حال ساعديني في طوي المالءات عن األرض.
رح�ت أجم�ع أن�ا وهي األغطي�ة ،أرجعتها إل�ى حيث كانت. ُ
وع�دت ألحم�ل م�ا تبقّ�ى ،وكانتُ وراح�ت ه�ي تر ّت�ب الم�كان،
وس�ادتي التي نامت عليها هي ما بقي ،وس�ادتي تلك التي تحمل
هم�ي .ك�م ي�ا ترى نقُصت هموم ياس�مين بعد أن وضعت رأس�ها ّ
عليه�ا؟ ه�ل زادت وس�ادتي هموم ًا أخ�رى؟ أم أن عدواي انتقلت
إليها؟
لمحت ياسمين تريد الخروج من باب ال ّشقة. ُ
– إلى أين؟
السطح.– سأصعد لجلب ثيابي من ّ
– متى وضعتها لتجف؟
كنت نائم ًا.
َ – أمس عندما
– ألم تكن ُتمطر؟!
– ال.
ِ
– انتظرين�ي أصع�د مع�ك ألفت�ح ل�ك الب�اب الحديدي ،من
الصعب فتحه أليس كذلك؟ ّ
– ال أعلم ،وجدته مفتوح ًا باألمس.
– دعين�ا نصع�د ،أن�ا متأكّ د أنّه س�يكون ُمغلق ًا ،فهناك جار لنا
يأتي متأ ّخر ًا دائم ًا ،ويصعد فوق ليد ّخن.
وش�حذت طاقتي ألفتح لها الباب.
ُ الدرجات العش�ر، صعدنا ّ
تركته�ا وع�دت ،ت�ارك ًا ب�اب ال ّش�قة موارب� ًا لكي ال تط�رق فأخطو
237
المسافة ما بين غرفتي وباب ال ّشقة ألفتح ،فأنا أحاول ما أمكن أن
أ ّدخر طاقاتي بخطط تقيني الحركة كثير ًا ،فليس لي منها إلاّ القليل
القليل.
س�معت صوت باب ال ّش�قة ُيغل�ق ،وتناهت ُ �رت مالبس�ي.
غي ُّ
الزر األخي�ر للمعطفأغلق�ت أنا ّ
ُ َطرق�ات ياس�مين بب�اب الغرف�ة.
الرياضيةمدت لي بذلت�ي ّ غي�رت ياس�مين ثيابهاّ ، وفتح�ت الب�ابّ . ُ
طلبت منها أن تنتظر ح ّتى ُ وضحكت من شعري غير المر ّتب بعد.
ثم طلبت م ّني أن أعيرها إيش�ارب ًا إذا ُوجد أجهز ،أومأت برأس�هاّ ،
لتضعه بعنقها نظر ًا لبرودة الجو.
ووضعت إيشارب ًا رمادي ًا
ُ بت شعري سريع ًا ،انتعلت حذائي، ر ّت ُ
وحملت بيدي ق ّفازان لعلها ٍ
أخذت آخر ذا لون أسود، على عنقي.
ُ ُ
تحتاج إليهما.
تخصني وحدي، ّ أصبحت أش�ترك بأش�يائي التي ُ الحظت أنّي
ُ
ووجدت نفسي أفعل أشياء لم أعتد فعلها من قبل .شعرت باختالف ٍ
ُ ً ُ
أمور لم أفعلها من ٍ ما ،كأ ّن تقاسم ما لي مع ياسمين وال ّتفكير في
أمر أقوم به تلقائي ًا دون انزعاج ،كأ ّن ذلك مألوف وليس فعالً قبل ٌ
غير عادي!
مددت لها اإليشارب .سألتها ُ وجدتها ت ّتكئ على باب ال ّشقة،
إن كانت بحاجة إلى القفازين ،رفضت طلبي فوضعتهما في جيبي
فقد أحتاجهما أنا.
نظرت إلى ساعة يدي وقلت: ُ
أقدم– إنّها التاسعة ،سنتأ ّخر قليالً ،ألنّي سأذهب إلى ال ّشركة ّ
عذر ًا لعدم قدومي للعمل.
238
– على راحتك!
واجهت نجوى تخرج من ش�قّتها
ُ فتحت باب ال ّش�قة لنخرج.
ُ
أيض ًا:
– صباح الخير وحيد!
قلت:
– صباح الخير!..
وياسمين تلتني سالم ًا.
تركت ياس�مين
ُ تفاجأت نجوى عندما رأت ياس�مين بجانبي.
وخطوت نحو نجوى أخبرها بأنّي لن آتي للعمل ُ قرب باب ال ّشقة،
وجدت ذلك أفضل ،فال أريد إرهاق ُ اليوم وأن ُتعلم س�عد بذلك.
ٍ
بالذهاب إلى هناك وبذل جهد في كلمات تشكّ ل عذر ًا لعدم نفسي ّ
مجيئي.
التفت إلى ياسمين ورائي ،فبدت لي مالمحها منزعجة بعض ُّ
ال ّشيء ،والحظت نجوى ذلك أيض ًا.
قالت نجوى:
تعرفني إليها؟
– ألن ّ
قلت مشير ًا إلى ياسمين:
ُ
– هذه هي!
تحية نس�ائية
وتوجهت نجوى لتعطيها ّ
ّ ابتس�مت ياس�مين لها،
بقبلتين على وجنتيها ،قالت لها:
– البقية في حياتك.
قلت لياسمين:
– ه�ذه نج�وى زميلتي بالعمل ،وخطيبة صديقي س�عد ،أنت
239
تعرفين سعد.
– آه! نعم!
وجهت نظرها إلى نجوى:ّ ثم
ّ
مبروك الخطوبة.. –
اهلل يبارك فيك. –
دت وقلت:
تنه ُ
ّ
– ياسمين هل نذهب؟
أومأت لي قبوالً.
يتحدثان
ّ نزلنا نحن الثّالثة ،هما أمامي وأنا وراءهما .بدا كأنهما
كنت أخاطب ف�ي ش�يء أس�معه لك ّني ال أح�اول فهمه ،فأنا أيض� ًا ُ
أحبه إالنفسي في ما سيحدث بعد أن أصل إلى المنزل الذي لم ّ
بوجود الذي قد مات وياس�مين .أدرك اآلن أ ّن عالقتي مع خالتي
رممت منذ زم�ن ،فطالما يبقى المرء ربم�ا أنّه�ا ِّ س�تر ّمم أو ّ
ُ وأهله�ا
بعيد ًا ُتصبح صورته لدى ناظره واضح ًة دون ش�وائب ،والس�بب..
أحد من أحد تبدأ العيوب الصدور ،فك ّلما اقترب ٌ الجهل بما تك ّنه ّ
بال ّظه�ور ،ويك�ون منطل�ق ال ّتقارب صف ًة مذمومة تجلب معها س�وء
حد ًا فاصالًحظ ،وهذا ما تع ّلمته في سيرة الوحدة ،فدائم ًا ما أضع ّ
بيني وبين ال ّناس ،ليس انزعاج ًا أو ضجر ًا منهم ،بل عفاف ًا ووقار ًا،
كم�ا أن ذل�ك م�ع إضاف�ة بعض القياس�اتُ ،يعتبر هيب� ًة منك تتو ّلد
لدى اآلخر.
الصباح من بقدمي تنزالن ح ّتى برق في عيني ضوء ّ ّ لم أشعر
س�معت كلم�ة «عملية» قالتها ُ بي�ن زج�اج العم�ارة .قبل أن أخرج،
وأظن كنت أنا، ِ نجوى لياسمين ،وتلقائي ًا
ُّ فهمت أن محور الحديث ُ ُ
240
أنّه�ا كان�ت ت�روي لها س�يناريو حف�ل ضعفي .وال ش�ك أ َّن هذين
االثنتي�ن أصبحت�ا قريبتي�ن في غضون الدقائ�ق الخمس التي مضت
هت
ونسيتا وجودي .مررنا بالقرب من سيارتي وأكملتا سيرهماّ .نب ُ
لبقيت ُتحادثها إلى أن تصل الذهاب ،فلو لم أفعل َ ياسمين أنّه علينا ّ
سيارتها التي تبعد عن سيارتي بأمتار.ّ
دخل�ت الس�يارة .ش�اهدت عبر مرآتي الجانبي�ة أنّهما تتبادالن
س�يارتي
فتحت ياس�مين الباب األيمن للس�يارة وصعدتّ . ْ األرقام.
خرجت من السيارة
ُ المحرك ألنطلق.
ّ تحتاج عشر دقائق كي يسخن
طلبت من ياسمين أن تنتظرني.ُ بعد أن
– أين أنت ذاهب؟
السيارة.
– سأتمشى قليالً ح ّتى تجهز ّ
– ال تتأ ّخر!
أخ�ذت أمش�ي تارك ًا ّ
س�يارتي وياس�مين بعينيه�ا اللتين تتبعان ُ
الس�يارات التي ش�غّلها مالكوها
ّ رحت أم ّش�ط بنظري عددُ وجهتي.
خلعت
ُ اس�تعداد ًا للعمل أو لغير العمل كما س�أفعل أنا بعد قليل.
بحثت جيوبي عن منديل ورقي ُ ن ّظارتي التي كساها ضباب أنفاسي.
وجدت س�بب ًا أنته�ي به م�ن الدقائق الخمس
ُ ول�م أج�ده ،وعنده�ا
عل�ي بعض الجرائدّ ه�ت إل�ى مخدع الهاتف ،ألقت توج ُ المتبقي�ةّ .
ّ
ِ
ووجوهه�االدقيق�ةُ ،تحيته�ا ببع�ض عناوينه�ا العريض�ة ،وأخباره�ا ّّ
تحيتها بعدم االكتراث وبإش�احة.ورددت ّ
ُ المتعبة بعدس�ة الكاميرا،
ُ
اش�تريت علب�ة منادي�ل ورق ،وعلكَ تين من ن�وع « »Tridentكي ّ
أعد
جيد ًا لمن س�أُ ّ
قدم لهم جيد ًا ،وكي ُتس�مع كلماتي ّجهازي ال ّلغوي ّ
دت ونفس�ي ُمنتعش كلمات العزاء ولمن سأس�تقبل منهم أخرىُ .ع ُ
241
بنكه�ة ال ّنعن�اع التي ام ُتزجت بجوفي ولعابي .أش�ارت لي ياس�مين
بس�بابتها
ّ من بعيد بأنّنا قد تأ ّخرنا إش�ار ًة بمعصمها وهي تنق ُُر فوقه
مهل.
حت لها فقط بإشارة لل ّت ُّ لو ُ الساعة وتأخر الوقتّ . عالم ًة على ّ
مددت لها العلكة األخرى بنكهة ال ّتوت. ُ السيارة.
صعدت ّ
ُ
بالمحمدية س�يت ّطلب
ّ لك�ي أص�ل إل�ى بي�ت خالتي الموج�ود
الس�ريع الذي الس�اعة ،نظر ًا لل ّطريق ّ وقت ًا ،قد يصل إلى ما يقارب ّ
خاصة في ه�ذا الوقت ،لكن ال ّ س�آخذه وال�ذي س�يكون مزدحم� ًا
مفر من ذلك االكتظاظ الذي سأواجهه ،ليس اكتظاظ ًا واحد ًا فقط، ّ
بل اثنين ،واحد ًا في ال ّطريق التي س�توصلني وآخر بعد ال ّطريق في
زحمة الحدث والوجهة.
قالت لي:
– إذن فقد فعلها سعد!
– ما رأيك إذ ًا؟
– اختياره مو ّفق .هل قال لها إنه كان خاطب ًا من قبل؟
– ال أعلم ،لك ّني أعتقد أنّه فعل.
وأنهيت كالمي بنبرة عدم االهتمام:
ُ
– اهلل يكمل ليهم بالخير...
أعقبت بعدها بسؤال ٍ عن ّ
جدي: ُ انعطفت يمين ًاّ ،
ثم ُ
جدي البارحة؟
توفي ّّ – هل
ثم و ّلت وجهه�ا لي بعد أن
كان�ت تنظ�ر م�ن زج�اج ال ّناف�ذةَّ ،
سمعت ُجملتي:
– نعم البارحة ليالً ..على ما أعتقد ،فلم أكن في المنزل ليلة
أمي. ٍ
سمعت ذلك با ّتصال هاتفي من ّ ُ وفاته،
242
محدث ًا نفسي:
ّ قلت بصوتٍ خافت ُ
– بقي عجو ٌز واحد إذن.
الريح وال ّطريق.
جيد ًا لضوضاء ّ
– هل قلت شيئ ًا؟ لم أسمعك ّ
– لم أقل شيئ ًا.
– .............
رأيت
ُ تبقّت مسافة طويلة بعض ال ّشيء وأنعطف يسار ًا ألصل.
رأيت الالفتة
ُ مكتوب عليها الرقم ،60خ ّففت سرعتي قليالً.
ٌ الفت ًة
الدواسة.
ضغطت ّ
ُ التي تشير أنّه يمكنني زيادة سرعتي إلى المئة،
قالت ياسمين:
– خ ّفض من سرعتك قليالً!!..
ثم أرد َف ْ
ت: ّ
تجمدتا.
ّ جلبت معك القفازين ،يداي َ – هل
بيداي ،وكان�ت هناك زحمة تتط ّلب م ّني
ّ كن�ت ماس�ك ًا المقود ُ
ستعد ًا ّ
ألي شتيمة أو حادث. ال ّتركيز ،ولم أكن ُم ّ
قلت:
– أدخلي يدك في جيب معطفي األيمن وستجدينهما. ِ
257
259
I
261
اآلخرين.
سيد الحزن ال ّطويل، ِ
ول َم أكون حاضر ًا في ذلك الزفاف! فأنا ّ
كل ما يحدث ما هو إلاّ تكمل ٌة لشريط العدميتغير عنديّ ، ال شيء ّ
الذي أنتمي إليه.
أُقيم�ت جن�از ٌة األس�بوع الفارط خ ّلفت ص�ور ًا وأصوات ًا ،وهذ
األسبوع ُخ ّلفت األشياء نفسها ،فقط بطريقة ُمغايرة.
262
II
موعد معٌ صلت بسعد وأخبرته أنّي سأغادر بعد قليل ،فلي ُ ا ّت
طيب ًا ّ
الخط بعد أن تم ّنى لي ح ّظ ًا ّ ال ّطبيب في العاش�رة ،وقد أغلق
جيدة منه.
وأن تكون األخبار ّ
سيارتي من مرأب ال ّشركة .استغرقت أدرت مقود ّ
ُ العاشرة تمام ًا
صعدت إلى ُ ثم
سيارتي ّركنت ّ
ُ عشر دقائق كي أصل قرب العيادة.
ضغطت
ُ الدور األول الذي فيه عيادته .فتحت لي ُمس�اعدته عندما ّ
زر االستقبال. ّ
السي نادر. – أهالً ّ
– أهالً! هل ال ّطبيب هنا؟
تفضل بالجلوس ،سأُعلمه بحضورك. – نعمّ ،
أس�تعد به للخبر المهم.
ُّ وأخذت نفس� ًا عميق ًا
ُ أخذت مقعد ًا،
مر
خ�رج مري�ض م�ن الباب األبي�ض ،حيث يوجد مكت�ب طبيبيّ .
يهم بالخروج ،نظر نحوي وقال« :بال ّشفاء»، من أمامي ،وعندما كان ّ
أجبته« :لك أيض ًا».
نزع�ت المس�اعدة وزرته�ا البيضاء ،وو ّظب�ت حقيبتها الجلدية
دخل�ت عند ال ّطبيب تأخذ منه إذن
ْ ثم وضعتها بس�اعدها. ال ّزرق�اءَّ ،
ِ
المغادرة .عندما أغلقت الباب قالت لي« :أدخل اآلن فهو ُيريدك»، ُ
282
ثم غا َدرت ،لتتركني أنا وهو في ساحة جدران ٍ بيض تحيط بنا من ّ
رت وقتها لماذا قال لي العاشرة ،أل ّن فترته الصباحية كل جانب .تذكّ ُ ّ
يوم األربعاء تنتهي مع العاشرة.
ثم دخلت .وجدته على وشك نزع وزرته البيضاء طرقت الباب َّ ُ
هو أيض ًا.
صافحني وقال:
تفضل بالجلوس.كنت أنتظركّ ، ُ – أهالً،
– شكر ًا.
ٍ
خزانة س�وداء تحوي ع ّل�ق وزرت�ه عل�ى مش�جب صغير قرب
رفوف� ًا موضوع� ًة عليه�ا كتب مصط ّفة .أخذ كوبين بالس�تيكيين عن
منضدة بجانب الخزانة.
قال:
– قهوة؟
وكن�ت أحت�اج قه�و ًة بالفعل ،فأجبته س�ريع ًا ،كأنّي ُ
كنت أنتظر ُ
سؤاله أن ُيلقى علي:
– من فضلك!
ش�غّل آل�ة القه�وة الصغي�رة ،الموضوع�ة ه�ي األخ�رى قرب
ثم جلساألكياس البالستيكية ،وضع الكوبين في موضعهما باآللة ّ
على مقعده في مكتبه.
المرة ،أنت
جدك ،لم أس�تطع المجيء تل�ك ّ – آس�ف لوف�اة ّ
تعرف أحوال العمل.
– أتفهم ذلك.
مر ًة ثانية.
تعازي لك ّ
َّ كل حال،– على ّ
283
نهض يجلب القهوة.
– قطعة سكّ ر؟
– من فضلك.
مد لي واح�د ًا ووضع
جل�س ف�ي مكان�ه وف�ي يده الكوبي�نَّ ،
المهم
ّ ارتشفت رشفتين متتاليتين ،كانتا ساخنتين ،لكن
ُ اآلخر أمامه.
هو أن تستيقظ باقي شرايين دماغي ال ّنائمة.
رشفت ثالث ًة وقلت:
ُ
أردت حديثي؟
َ – إذن ،في ماذا
وضع كوبه على سطح المكتبّ ،
مط شفيه واعتدل في جلسته.
قال:
سيئة وأخرى
– قد ال أريد إخبارك بهذا ،ولكن عندي أخبار ّ
جيدة.
ّ
التزمت هدوئي وسكوني ،فاتح ًا ُ ارتبت بعض ال ّشيء مما قاله.ُ
ومعد ًا جوارحي لألخبار الجيدة ،أل ّن األخبار ّ
الس�يئة أعرفها، ّ أذني
ّ
فهي ما قاله لي من قبل ،وسوف ُيضيف إليها شيئ ًا آخر.
الجيدة؟
ّ السيئة أم
بأيهما أبدأّ ،– ّ
– ابدأ بما تراه مناسب ًا!
رت ثم أضفت:فكّ ُ
أفضل األسوأ ،ما دام ما قلته لي سابق ًا مثله.
– ال في الحقيقة ّ
جيد ًا ّ
المرة أوضح لك ّ– حسن ًا! قبل ذلك ،أريد أن أعتذر فلم ّ
السابقة...الماضية ،فلم أكن متأكّ د ًا ،لكن بعد العملية ّ
صمت ثم أضاف:
– ..فإ ّن األمر أكيد.
– اشرح لي!
تغيرت مالمحه ،رفع إطار ن ّظارته ال ّط ّبية ّ
بسبابته ،وبدا لي كأنّه ّ
أخذ نفس ًا ،بعدها بادر بالحديث:
كل ،لم يعد ف�ي إمكاننا تقليص األورام، – كم�ا تش�اء! على ٍّ
المعالج�ة الكيميائي�ة لم تعد تنف�ع ...ال أريد إخبارك بهذا
ح ّق ًا!
– أكمل من فضلك.
السابقة ،رغم الجراحة ،فقد ق ّلصنا عدد ًا ضئيالً – حسن ًا! ّ
المرة ّ
م�ن األورام ،كم�ا أنّه�ا تتزايد ،وكما رأي�ت ،فجرعة تركيز
كن�ت أعطيت�ك مرتفعة مقارنة عن س�ابقاتها، ُ ال�دواء الت�ي
ّ
وأعتقد أ ّن األمر لن يطول كثير ًا ح ّتى تتضاعف األورام..
ل�م أنب�س بح�رف ،فق�د كان م�ا يقوله صحيح� ًا ،فحالتي بعد
الصحة،
خرجت منها منكسر ّ ُ العملية األخيرة لم تكن كما قبل ،فقد
ومتضرر الجسم ،السيما أ ّن قلبي كاد أن يتو ّقف.
ّ
قال:
– لكن ال تخفُ ،يمكن إنقاذك.
عندم�ا ق�ال ل�ي أنّه ُيمك�ن إنقاذي ،طفرت ياس�مين فجأ ًة في
ذهني.
قلت:
الجيد؟
ّ – هل خبر إنقاذي هو الخبر
لكن هناك خطر.
ْ – صحيح..
– ماذا تعني؟
– دعني أبدأ لك كيف أتاني الخبر ،كانت مفاجأ ًة ح ّق ًا.
285
ثم أكمل:رشف من قهوته ّ
أخصائي في أمراض ّ ل�دي صدي�ق ف�ي ألمانيا ،هو كذل�ك
َّ –
وكن�ت أعل�م أنّ�ه يوم� ًا ما س�تؤول حالتك إلى
ُ الس�رطان،
ّ
عين ًة من
ما عليها اآلن ،وكنت قبل س� ّتة أش�هر قد أعطيته ّ
وصدق ماذا!؟ ،تطابق دمك مع أحد المرضى الذي ّ دمك،
توف�ي ف�ي المستش�فى الذي يعمل فيه ،وق�د وافقت عائلة
المتو َّفى على ال ّت ّبرع بأعضائه ،حيث اس�تفاد ش�خصان كانا
ف�ي حال�ة حرج�ةُ ،زرع ألحدهما كلي�ة ،واآلخر ُزرعت له
قرني�ة عي�ن ..إذن ماذا ت�رى؟ فالعرض ما زال قائم ًا ُليزرع
لك جزء ًا من كبده.
جرع�ت ك�وب القه�وة بأكمله ،واكتنفت مرارته�ا المعتادة في
ُ
فمي ،رغم سوء تحضيرها .وتلقائي ًا أجوبتي ك ّلها جمعت في جوابٍ
ُ
سمعت منه.
ُ مما
واحد ّ
قلت:
سيدي...
– ّ
نظرت
ُ رفعت ك ّفي أمسح شعري،
ُ فت عن الكالم للحظة، تو ّق ُ
إلى عينيه مباشر ًة.
سيدي ..أنا أرفض! – ّ ..
بدا مصعوق ًا من كالمي ،فقال:
– ماذا؟! ...لم أفهم!
قلت بنبرة غضب مكتوم:
ُ
– قلت لك إنّي أرفض!
أولها ذلك الخطر
كانت هناك أسباب عديدة جعلتني أرفضّ ،
286
مستعد ًا لتقليص ما تبقّى لي
ّ لستُ الكبير الذي أوحى إليه ،وثانيها
في المراهنة واألمل على نجاح عملية زرع كبد ،وثالثها وهو األهم،
إلي ولو على سبيل العالج، ٍ
أي عضو ال ينتمي ّ أنّه ال يمكنني قبول ّ
واألخير هو أنّي أريد أن أكون صاحي ًا عندما تأتيني نوبات الموت،
مخدر ،فهناك عظم ٌة في ال ّلحظات ّ فال أريد الموت وأنا تحت تأثير
أعدل عن رفض�ي وأن أقبل ُ قرار س�يجعلني األخي�رة .ول�ن يوج�د ٌ
جيد ًة مغ ّلف ًة بأخبار ّ
س�يئة .خبر زف أخبار ًا ّبما يقوله ال ّطبيب الذي َّ
تدهور حالتي الذي زاد والذي س�يزيد في المس�تقبل ..كان أرحم
ٍ
بكثير مما قاله لي بعده.
قال:
– هل من سبب لرفضك؟
– ال أريد أن أنهي حياتي بمستشفى ،أترك حياتي تنتهي كما
ُق ِّدر لها.
ولك�ن هن�اك فرص� ٌة لل ّش�فاء ،كم�ا أ ّن األطب�اء ف�ي ألمانيا
ْ –
متمرسون للغاية واحترافيون.ّ
– حاول أن تفهم ،لن أراهن على عملية زرع.
تحل باألمل يا ابني!
َّ –
وعملت
ُ تحدث عن األمل ،جاءتني رغبة في أن أغادر،عندما ّ
عل�ى أنه�ي الحديث س�ريع ًا ألعود إلى م�ا تبقّى لي من وقت ومن
ضع�ف ،فه�ذا ال ّطبي�ب األحم�ق ّ
بترهاته اغتصب م ّن�ي وقت ًا للعمل
تعوض.
وأخذ مني لحظات ال ّ
قلت:
أق�در م�ا تحاول أن تقنعني ب�ه ،لكن أترك األمور
س�يديّ ، ّ –
287
كما هي.
جيد ًا م�ا يحدث،
– اعذرن�ي عل�ى تط ّفل�ي ،يب�دو أنّ�ك تعي ّ
غيرت رأيك،
المهم س�أفعل ما بوس�عي ،وتذكّ ر ،في حال ّ
فأنا مستعد.
تفهمه.
مددت يدي ألصافحه على ّ ُ وقفت حينها،
ُ
جيدا ما يحدث، – شكر ًا على تفهمك ،وكما ْ
قلت ،فأنا أعي ّ
سأغير رأيي ،وكما تعلم األرواح بيد اهلل.
ّ أظن أنّي
ّ وال
ٍ
– المهم أنا في ص ّفك ،وكل شيء على رغبتك.
نزعت يدي من يده .قلت له مو ّدع ًا:
ُ
كل شيء.– شكر ًا على ّ
خرجت من العيادة ،وفي داخلي كانت تتشكّ ل غدد مستقبلية ُ
تعدني لما سأالقيه في اآلتي القريب أو البعيد للصبر ،توارثت كي ّ ّ
المجهول ،فقد أصبح األمر مؤكّ د ًا.
كن�ت مرتاب� ًا م�ن نفس�ي للحديث ال�ذي خضته م�ع ال ّطبيب، ُ
ٍ
وكن�ت أحت�اج فت�رة نقاه�ة صغيرة أُدر ُج فيها ال�كالم الذي قيل لي ُ
ٍ
إلى خانة تليق بها.
ل�م أع�د إل�ى العمل ،وصوتي كان ش�به مكب�وح ،فلم أُهاتف
نصي ًة تخبره بأنّي لن ُ
أقدم. أرسلت له رسال ًة ُّ سعد ًا ،وال
علي األمور بين األمس واليوم :خالتي وفخرها الذي اختلطت َّ
تري�د توريث�ه ،والطبيب الذي زاد تأكيده على أن احتضاري س�يأتي
عاجالً أم آجالً.
مستعد كفاي ًة كما قيل لي ذات حلم؟ ٌّ لكن هل أناْ
خرجت من العيادة عائد ًا إلى شقّتي،
ُ ُخ ّيل لي أنّي سرعان ما
288
تخيال
وتكدسه بكبدي .أدري أنّه كان ّ ّ بقوة المرض بدأت أشعر ّ ُ أنّي
ال غي�ر ،إلاّ أ ّن التفكي�ر ف�ي أمر المعاناة المس�تقبلية زاد من هلعي.
أما هذا ال ّتر ّقب كل األم�ور التي حدثت ال ب�أس بهاّ ، ف�ي الحقيق�ة ّ
كل جانب ،هو الذي ال يمكنني تجاهله ،فإنّه ال�ذي يحي�ط ب�ي من ّ
وددت لو تأتي لحظات االحتضار اآلن ،فأنا أكره ُ يقتلني قتالً بطيئ ًا،
األشياء التي تأتي فجأة ،دون أن أدري ما نوع الخطط التي سيتح ّتم
علي بها مجابهتها. َّ
أكره أفعال ال ّتم ّني هذه.
قدر ثمن حياتي؟ وإلى متى س�يظل هذا الجس�د إذ ًا! بماذا ُ
س�ي ّ
يواصل ال ّنزوح؟ وكم من الوقت تبقّى لي كي تنفد ذخائري؟
لو كنت إنسان ًا عادي ًا بطبيعة بشرية عادية ،سأرقى في كل لحظةٍ
ّ ّ ُ
السعادة ،أفعل ما لم أفعل ،آكل ما لم آكله ،أشرب تبقّت إلى ذروة ّ
أحب كما لم ُّ ما لم أشربه ،أقوم بأفعال حمقاء لم أقم بها من قبل،
أحب ،أبتهج كما لم أبتهج ..وبعد ،سأفنى كباقي المخلوقات؛ مثل
رسخ السحيق ال أريد عيش مثله! .أريد لموتي أن ُي ّ هذا المسلسل ّ
في ذاكرة الهواء والحجارة والجماد ،كجندي لفظ نفسه األخير بعد
أن ته ّش�مت آخ�ر عظم�ة ف�ي جس�ده دفاع ًا عن ما يؤم�ن به ،نُصر ًة
إلرادة ٍ جماعية وهي الوطن.
كبدني ال ّندم قبل وسي ّ
شيء سيظلمني ٌُ أن أُنهي حياتي كساذج،
ولكن تعليلي َّ أفس�ر حالتي هذه،
آخر غمضة عين .ال أعرف كيف ّ
السقم وفخري بضعفي. ال ُيمكن أن يكون إلاّ كبرياء ّ
بحد ذاته،تمر ٌد ّ رت بالكتابة ،فالكتابة ّ مبتهج ح ّق ًا ،فقد ُث ُ
ٌ لك ّني
أبين به ٍ أنا راض ٍ عن ّ
كل النتائج ،فهي آخر فعل خالص أمكنني أن ّ
289
وكل
ذرة هواء ستش�هد ع ّنيّ ،
فكل ّ
كنت أريدهُّ ،
عن الترس�يخ الذي ُ
وكل جماد أحاطني بغرفتي سيش�هد على
قط�رة مط�ر ه�ي كذل�كّ ،
كنت كما أريد ..هذا يرضيني بحق.
ُ كوني
290
IV
فكّ رت كثير ًا قبل أن أقدم على الحديث إلى ياسمين ،بشأن ما
قلت إني سأفكّ ر في األمر ،ولك ّني وجد ُتني ثت فيه أنا وخالتيُ ، تحد ُ
ّ
عما سيمكنني اإلقدام عليه. عاجز ًا ّ
خلي�ة تجلب األس�ى فق�ط ،وأنّني قنبلة أري�د أن أقنعه�ا بأنّ�ي ّ
مؤ ّقتة ،أريدها أن تتج ّنب اإلصابة بإنفلونزاي ،لن أسامح نفسي إذا
سي ّ ِ
عذبني، بت لها ضرر ًا .وما يفتك بي ،هو أ ّن كال المنحنيين ُ سب ُ ما ّ
سواء أقنعتها أم ال ،سأُش ّتت بال ّتأكيد.
لكل هذا. بد لي من حل ّ ال ّ
كل ه�ذا ال ّتردد ،لكن..
ل�و كان�ت ام�رأ ًة غيرها لما حدث لي ُّ
كل ما تبقّى لي في طاعة الحياة ،بقدر ما أريدها، إنّها ياسمين ،هي ُّ
ال أريد ندب حياتها بقراراتي.
ها أنذا! أريد أن أحب ..فال أقدر!
قررت أخير ًا بعد طول تفكير ،وبعد طول صراع ،أنّي يجب أن ّ
أتحمل مسؤولية ما سيأتي بعد ذلك ،فهي ياسمين قبل ّ أحادثها وأن
كل ش�يء ،فهي تلك المرأة التي ال ُيمكنني أن أعي في ما تفكّ ر، ّ
الت�ي ال أق�در عل�ى عصي�ان ثقتها كما يقع لي مع باقي ال ّناس ،هي
المرأة التي اختزلت روح والدتي وعاطفتها.
291
فلعل ما ُيحدثه ّ عش�اء في الخ�ارج،
ً ارتأي�ت أن أض�ع موعد ًا، ُ
الصباح وملل الزوال. الليل من نسيم ٍ يكون أرحم من ما ُينشده ّ
تأوه ّ
سأزعم في أربعائي هذا الذي بدأ بأخبار ،أن أُنهيه في مناقشتي مع
ّيت فيه ما صدمني ،فال أمانع ياس�مين ،فما دام هذا اليوم يوم ًا تلق ُ
كل ذل�ك يخلصني في ي�وم ٍ واحد من لع�ل ّ ّ أن أره�ق معه�ا أيض� ًا،
منتظراتي.
فقت معها على أنّي صلت بياسمين ،ووافقت على فكرتي ،ا ّت ُ ُ ا ّت
الس�ابعة الصيدلي�ة الت�ي تعمل فيها كي أق ّلها في ّ س�آتي إل�ى حي�ث ّ
وال ّنصف.
أيلم يعد يفصلني عن الموعد س�وى س�اعتين .لم ُيراودني ُّ
شعور لعاشق ينتظر ساعة رؤية حبيبته ،ذلك االنتظار المرير وال ّتو ّتر ٍ
وعما سيبدأ حديثه .وذلك اإلفتقار للثّقة ما جهد في ما سيقول، الم ِ
ّ ُ
صحيح أنّي متو ّت ٌر قليالً،
ٌ قبل أن ُيحادثها ،لم يحدث لي هو اآلخر،
لكن ال أُلقي باالً كما هي العادة ،ما سوف يحدث فإنّه سيحدث.
جزء
ٌ لس�ت بارع ًا في أدائها أيض ًا ،ألنّه ينقصني ُ تخيل ال ّلقاءولعبة ُّ
س�يئ ًا ما فعلته ب�ي العزلة ،أغدو أقوى في مثل م�ن اإلهتم�ام ،ليس ّ
تصرفي .وغير ذلك وما يسبق هذه المواقف ،ألنّي أكون طبيعي ًا في ّ
كل شيء ،هو أنّي ال أتو ّقع النتيجة ،ألعب بِالح ّظي كما ألعب دوم ًا: ّ
الربح ،وال أنوي الخسارة أيض ًا. ال أنوي ّ
***
الصيدلية .رأتني
س�يارتي أم�ام ّ
ركنت ّ
ُ ج�اءت س�اعة الموعد،
زميلتها أدخل في واجهة االستقبال.
قالت:
292
صحتك؟
ّ – كيف حال
صحتي!
ّ ما بالهم ال يجدون ما يقولون لي غير السؤال عن
قلت:
– وهلل الحمد.
رف كبي�ر علي�ه األدوية .عندما س�معت
كان�ت ياس�مين وراء ٍّ
وتوجهت نحو المنضدة
ّ الرف الخش�بي، صوتي ،خرجت من وراء ّ
الخشبية لالستقبال .قالت:
جئت مبكّ ر ًا!
َ –
قالت لها صديقتها:
– ُيمكنكِ أن تغادري إذا شئت ،سأتك ّفل بالباقي.
– حسن ًا شكر ًا.
استأ َذ ْ
نت زميلتها.
قلت:
السيارة.
– سأنتظرك في ّ
السيارةُ ،تزيل وزرتها البيضاء .لبست معطفها،
رأيتها من نافذة ّ
ثم خرجت لمالقاتي.
َّ
قبل أن أنطلق قالت لي:
فيم تريد حديثي؟– إذن َ
قلت لها بنبرة ساخرة:
ُ
طلبت الحديث معك ال استجوابك ،وال أريد الحديث في ُ –
السيارة.
ّ
أغير
– أعت�ذر ،ولك�ن علي�ك أن تنتظ�ر قليالً بع�د ،يجب أن ّ
أوالً.
ثيابي ّ
293
أردفت تر ُّد لي سخريتي:
ْ ثم
ّ
تحب رائحة األدوية.
ُّ – وال أعتقد أنّك
انطلقت قائالً:ُ
– كما شاء الياسمين.
تغير ٍ
لمدة وصلت العشرين دقيقة ،ح ّتى تس ّنى لها أن ّ انتظرت ُّ
أحببت
ُ بني ًا فاتح ًا ،بدت في أبهتها ،بل
ثيابها .جاءت تلبس فس�تان ًا ّ
الذهبي ،بدا لي وجهها تصفيفة غطاء رأسها األسود وحزام خصرها ّ
مغاير ًا قليالً ،ال أعتقد أنّها وضعت مس�احيق تجميل على وجهها،
ربما هو فقط كحل عينيها الذي يتناسب ربما وضعت القليل ،أو ّ أو ّ
الس�مراء قليلاً ،تبدو كغجرية أو ام�رأة من بالد م�ع بش�رة وجهه�ا ّ
األرمن.
قلت إنّي لم أرغب في ياسمين أكثر! سأكذب إن ُ
كنت تحت تأثير ما أحدثته س�يارتي .ليس األمر أنّي ُ صعدت ّْ
بي الفتنة ،إلاّ أ ّن قلبي قد نبض.
أش�حت نظري بابتس�امة،
ُ ثم
ق�ت إل�ى عينيه�ا للحظ�اتّ ، حد ُ ّ
فقالت حينها:
– ماذا؟
– ال شيء...
– أعرف ابتسامتك تلك ،تبدو ساخر ًة بعض ال ّشيء.
– تبدين أجمل من العادة!
– باسم اهلل عليك ...باسم اهلل عليك!!
– إنّها الحقيقة!
!Go Go! Salade man.. –
294
ل�م أج�د مكان� ًا أفضل من ش�اطئ «عين الذي�اب» ،كي أُفصح
لعل رطوبة المكان وصوت تالطم األمواج عم�ا ي�دور في خلديَّ ، ّ
عل�ي .وطوال ال ّطريق ،ل�م أفكّ ر فيما ّ يكون�ان حلف�اء ل�ي بتأثيرهما
سيمكنني به أن أبدأ غايتي. ُ
الس�يارة ف�ي تل�ك ال ّطري�ق ال ّطويلة المليئة ّ
بالس�يارات ّ ركن�ت
ُ
دخلت من نافذتي ملوحة البحر فأنعش�تني ،وكان ْ المركون�ة ط�والً.
ٍ
كل ش�يء س�يجري على ما ُي�رام ،فمزاجي كان البح�ر ينبئن�ي ب�أ ّن َّ
وأي
أي عائق ّ س�تخولني مواجه�ة َّ
ّ جي�د ًا ،وش�عرت أن ب�ي قدر ًة ما ّ
ومش�يت أنا وهي جنب ًا لجنبُ أوصدت الس�يارة، ُ زخم من الكدر.
الصغيرة ،التي الرصيف المقابل ،حيث توجد بعض الكشكات ّ على ّ
السكر .عندما تبيع رقائق البطاطس ،والمث ّلجات ،ومشروب قصب ّ
يدي في جيبي معطفي .لم أدخلت ُّ الجو تختلجني، ِّ شعرت ببرودة
ُ
رضيتُ تطوق ذراع�ي ،أحرجتني ،لك ّني أع�رف م�ن أي�ن أتت يدها ّ
جيد ًا لماذا قامت بذل�ك ،كانت غير ًة فقط، ببهجته�ا ،وأفه�م ذل�ك ّ
أحست بالحرج من النساء اللواتي ربما ّ فاألكثرية هنا يفعلون هكذاّ ،
كنت
ُ مررن بجانبنا والالتي ُيمس�كن بأيدي رجالهن .وفي الحقيقة
رأيت بعض ال ّشباب مررن بجانبي رمقنها ُ أنا أيض ًا مريد ًا لذلك ،فقد
أردت ملكيتها لي وحدي اليوم ،وهذا هو كبرياء رجل ٍ ُ بنظرات ،لذا
خائف أن يفقد ما ُيريد امتالكه إراد ًة ال رغبة.
قالت لي:
– إلى أين اآلن؟
مطعم بحري.
ٌ – أتركي األمر لي ،وِجهتنا
– لكن ما يزال هناك وقت!
295
لهذا نحن نتم ّشى ،من قال أنّنا سنذهب اآلن ،المطعم هو –
المح ّطة األخيرة.
إلى أين سنذهب اآلن؟ –
إلى حيث ذهبت قدماي ،ضعي الثّقة فيهماُ ،يحسنان اختيار –
السبل. ّ
جنونك المعتاد دائم ًا!! –
المجنون�ون عقلاء ،ثقي بي ،إنّهم كذلك ،غير أنّهم لديهم –
الخاصة في ممارسة ال ّتعقل. ّ طريقتهم
ال ينته�ي جنون�ك ه�ذا! ماذا تس�مي ه�ذه الحالة في قلب –
المعاني؟
تعنين فوبيا ال ّتناقض. –
مصطلحات غبية كصاحبها! –
أتتم ّلقينني أم ماذا؟ –
وإذا كنت ،فماذا ستفعل؟ –
آخ م ّنك ّأيتها البدوية! –
!Keep walking salade man, keep walking –
السلطة» كما تعلمين! لست «رجل ّ ُ –
ِ
بلى! نعطي األسماء غالب ًا للعادة التي تلتصق بال ّشخص. –
استسلمت! هل ترضين بهذا؟ ْ –
كفاك استسالم ًا وقاوم ،ر ّد لي ال ّتسمية بأخرى! –
بـ« سيدة الياسمين» أيعجبكِ هذا؟
ّ
حسن ًا! أحب أن أناديكِ
ّ –
أصيل فعالًُ ،تلقي عناوين لما يحيطك دون أن ٌ عربي
ٌّ أنت
َ –
تشعر.
296
– ال أفتخر بذلك.
– ولماذا هذا االنتقاص؟
يتلوى
– ال أدري ،تل�ك الق�درة في الش�خص العربي تجعله ّ
من ألمه بأشكال عديدة.
لم ترد ال ّتعمق كثير ًا فيما قلت ،قالت:
أحببت االسم..
ُ يهمني ذلك،
ربما ،لكن ال ّ – ّ
نتح�دث ط�وال ال ّطري�قّ ،
كل م�ا قي�ل كان معاكس�ات ّ ظللن�ا
وحاولت أن أكون ألطف من
ُ وممازح�ات بينن�ا كما يحدث دائم�ا،
أي سؤال.عد ًا نفسي لإلجابة عن ّ العادة ُم ّ
نظ�رت إل�ى س�اعة يدي بعد أن ك ّنا نجل�س على الرمل قرب
ُ
ال ّشاطئ.
قلت لها:ُ
– حان الوقت ،أنذهب؟
– كما تريد.
الرائحة المنبعثة من
شممت من مكاني ّ ُ خطونا مساف ًة قصيرة،
وكن�ت جائع ًا للمس�افة التي قطعناه�ا ولحديثي وضحكي ُ المطع�م،
التحية على صاحب
ّ المزين بالخش�ب ،ألقينا ّ أيض ًا .دخلنا المطعم
وتركت لياسمين
ُ رحب بنا .جلس�نا إلى مائدة لش�خصين، المطعمّ ،
اخترت أن أتبع ذوقها الذي ال ُيخطئ
ُ االختيار من قائمة ال ّطلبات،
ذهبت إلى دورة
ْ في إش�باع جوعي .تركَ ْتنِي ياس�مين جالس� ًا بعد أن
ثت المس�ؤول عن ال ّطبخ ب�أن ال ُيضيف ّ
أي حد ْ
ث�م بعده�ا ّالمي�اهّ ،
لصحتي كما أخبرتها ،تفادي ًا لما قد يحدث لمعدتي. ّ بهارات،
بعدها عادت تجلس قبالتي.
297
ت نصف كأس ماء موضوع ٍ على المائدة الخشبية .قالت:شرب ْ
َ
– لك سبب لدعوتي هكذا فجأة ،أليس كذلك؟
ربما.
– ّ
بدت هلع ًة قليالً .قالت:
صحتك ،قل لي؟ ّ – هل هي
شيء آخر ،المهم هو..ٌ صحتيّ –
رت من مالمحي قليالً.
وغي ُ
ارتشفت جرعة ماءّ ،
ُ
– ياسمين ،أريد جواب ًا فقط ،لماذا ال تريدين شيئ ًا دائم ًا؟
فهمت ما أرمي
ْ عدلت غطاء رأسها بشيء من العصبية ،كأنّها
ّ
إليه:
– لم أفهم ما تعنيه؟
الرفض الذي أعيش عليه.ي ّقلت لماذا ت ّتبعين َه ْد َ
ُ –
قالت وهي تبتسم:
– أن�ت تعل�م! بال ّطب�ع أنت تعلم ،فق�ط ال يمكنني وحيد ،ال
أقدر.
– ال أري�د أن أحرج�ك بأس�ئلة ،ولك�ن لم�اذا رفض�تِ تلك
وتمسكتِ بحبلي الذي يقترب من االنقطاع؟ ّ العروض،
زادت عصبيتها درجة:
– تسألني لماذا؟ أعتقد أنّك تعلم مسبق ًا.
ش�عرت ببعض المرارة تستس�يغني ،وببعض األلم ينبعث من
ُ
ياسمين.
ال ّلعنة عليك يا عاطفة الحب!
أشاحت وجهها عني ،وإن لم أخطئ فقد الحت ذرفات دموع ٍ
298
شبه مرئية على عينيها.
الرأس: قلت مطاطئ ُّ
– هذا يقتلني أيض ًا ،أكره هذا أيض ًا! ولكن...
رفعت صوتي قليالً:
ُ
– ياسمين انظري إلي!
أرجعت بصرها نحوي.
اليمنى ضرب ًة خفيفة .وقلت: ضربت صدري بقبضتي ُ
ُ
ميت ًا؟ هه! أتقبلين بهذا؟
– أتريدين أن تتزوجي رجالً ّ
– أقبل وحيد أقبل.
الدائمة ،وخارت ق�واي أنا من عصيانها أزعجتن�ي إصراراته�ا ّ
يتمسك بأمل ٍ في ال ّتأ ّلم فقط.
ّ الذي يتزايد ،والذي
ٍ
قلت بص�وت متعبٍ قريبٍ من ألقي�ت بوزن�ي على الكرس�يُ . ُ
البكاء:
السنين التي عشتها ،يمكن أن أقول لكِ أ ّن طعم – طوال هذه ّ
ٍ
بطريقة ما ،ال أريد ألم ًا فت
تكي ُمستحب ًا ،لك ّني ّ
ّ األلم ليس
أكب�دك ِ ّإياهُ ،يمكنني أن أصبر إن رأيتك س�عيدة فقط آخ�ر ّ
مع شخص غيري ..سأُنسى مع الوقت.
– ................
صدقيني ،إنّها رغب�ة لحظتك هذه، – أعل�م ف�ي ما تفكري�نّ ،
عذب أنا هناك ،ال أريد أن أحترق أما بعد س�تندمين ،وس�أُ ّ ّ
بدموعك في الحياة األخرى.
وبدأت أنهار مقدم ًا أمامها .للحظة
ُ بدأت أقلق عندما لم ترد،
ُ
وجدت
ُ ل�م أج�د الكلم�ات المالئم�ة كي أفس�ر ما يجب تفس�يره،
299
ٍ
بطريقة أو نفس�ي عاج�ز ًا ،وكان أم�ر ًا طبيعي� ًا ،فق�د كان�ت النتيج�ة
بأخرى ستأتي هكذا ،مهما كانت نهايتها ستؤلمني زياد ًة.
اهتدى ُرشدي السمها فقط:
– ياسمين..
س�يارتي ،ثم قل�ت اس�مها ،حمل�ت حقيبته�ا ومفاتي�ح ّ ُ م�ا أن
ّ
الح�ظ كان المطعم خالي ًا، انس�حبت خارج� ًة م�ن المطعم .لحس�ن
المقدم�ة ،إلاّ أنّهم كانوا بعيدين .لم أحاول ّ رغ�م بع�ض ال ّزبناء في
قمت بخطوتي إلى صاحب المطعم ُ أن أتبعها ،كي ال أثير قلق أحد.
وتقبل عذري عن أعتذر له ،على أن ُيلغي طلبنا ،لحدوث أمر مهمّ ،
خرجت أم ّشط اال ّتجاه الذيُ ثم
حسن خاطر .نقدته ثمن ما طلبناّ ،
سارعت في خطاي إليها ،ولم أُرد أن أصرخ باسمها كي ُ جئنا منه.
تنتظرني ،ألنّها لن تنتظر.
جلست في مقعدي. ُ السيارة،
فتحت باب ّ ُ
قلت لها: ُ
الذهاب؟ – أين تريدين ّ
لكن كلماتٍ علقت المضيّ ، أردت ُ
ُ لم ُتجبني وتركتني حائر ًا.
بصدري كان يجب أن تخرج ،وأخرجتها بصعوبة.
يتبق لي الكثير ياس�مين، ِ
– أنت ال تعرفين كم تبقّى لي ،لم ّ
أصبحت لحظاتي معدودة.
المدة معك ،ال أكترث إن كانت أسبوع ًا ،شهر ًا – أريد تلك ّ
فتركك يعني
َ واحد ًا ،سنة سنتان ،ال أبالي وحيد ال أبالي،
موت�ي أيض� ًا ،أن�ت ال تعرف م�اذا يمكن أن يحدث المرأة ٍ
ُ
أعدت نفسها ألشياء كهذه ،يؤلمني ..يؤلمني رؤيتك تعاني ّ
300
وحدك دون أن أفعل شيء.
– أنت ال تعين ما تقولين.
ل�م ُتع�ر ل�ي اهتمام ًا وخرجت ،تبع ُتها ،أمس�كتها من معصمها
قوتي ألو ّليها إلى صدري ،وخارت استخدمت ّ
ُ وهي ما فتئت ُتقاوم،
قواها علي واستسلمت.
– أريد أن أرتاح ياسمين ،أريد أن أرتاح في سالم ،أريد ميتة
هنيئة.
كان كالمها متلعثم ًا وهي تقول:
– أعلم ..أعلم ..ويؤلمني هذا أكثر..
وضعت يدي أمسح على رأسها. ُ
مجرد عابر ،اجعلي عبوري
– عزيزت�ي اتركين�ي ألرتاح ،فأن�ا ّ
جميالً ،هذا ما أطلبه منك.
أعدت سؤالي:
ُ هدأت قليالً ومضيت معها إلى السيارة.
– أين نذهب؟
ج ّففت دمعها وقالت:
– هل نعود إلى المطعم؟
– لكن بشرط.
– ما هو؟
حدثيني عن نفسك أكثر. – ّ
طلب غريب ،لك ّنك بدورك ستفعل. ٌ –
أورثك
– ال مشكل ،لكن ليس اآلن ،ألنّك ستقرأينني بعد أن ّ
ّإياه..
– أتعني..
301
– أجل ،ستجدينني مكتوب ًا كامالً هناك ح ّتى لو غادرت.
بدا على وجهها مسحة حزن ٍ أخرى ،لك ّني أبهجتها.
زلت هنا ،فحاول�ي إعادة عجني من الس�اعة ،أن�ا ما ُ
لح�د ّ
ّ –
جديد ،لك ّني أعدك أنّي سأبقى أنا أنا كما عرفتني يوم ًا.
– سأحاول.
302
V
ِ
وددت لو أنّها لم تنته.
ُ كانت أمسي ًة
الالمشرفة ،ولم يعد في مقدوري وضع اسم ٍ لي ّ عدت عودتيُ
تحولبعد حس�رة الالعودة إليها ،فطعم الفرح الذي ذقته معها قد ّ
غبي ًا ،ساذج ًا،
إلى ألم .ال أدري كيف يمكن أن أنعت نفسي اليومّ ،
كل مرادفات الالانتصار وال ّنقص مشرد ًا ،عاجز ًا ،محبط ًا ،ولن تكفي ّ
ّ
حدثتني عن نفسها ،زادتني غرق ًا باالشتياق إليها. في وصفي ،فعندما ّ
قم�ت به�ا مع
ُ الس�وداء الت�ي أكان�ت ربح� ًا تل�ك المس�رحية ّ
ياس�مين؟ بال ّطبع كانت كذلك ،إلاَّ أ َّن فوز ًا بطعم الخس�ارة ُيش�به
تهدم داخلي ،فقد كان فؤادي الضحلة .وبدون أن أحزر ما قد ّ المياه ّ
وعبأه هناك.
كل رصيد نبضه ّ لفظ آخر نبضة هناك لديها ،استنزف ّ
لس�ت قابالً على ما آل إليه األمر ،إلاّ أ ّن رغبة المقاومة ُ أدرك أني
تكسرت لدي ،فضمرت من لذلك عندما عدت إلى شقّتي ،كانت قد ّ
نغصة سرت من حلقي إلى أين يسكن الوجع. ٍ تلقاء نفسها في آخر
شعبِ القادم الصمود أمام ال ّت ُّ
سيمكنني ّ كل ذلك ،ال أعتقد أنّه ُ وبعد ّ
للم�رض ،فق�د تو ّل�د يأس في داخلي في صفة أم�ل ،والذي ّ
ينبئني
بأ ّن القادم سيكون عاجالً ،وأن ما سيأتي سيكون سقطتي األخيرة.
ذل�ك ال ّتح ّط�م األنث�وي لياس�مين بع�د أن و ّدعته�ا أم�ام باب
303
من�زل خالت�ي ،قد أنّبني كثير ًا .وواجب غيابي أصبح اآلن ضروري ًا،
وحاجتي اآلن لكي أختلي بنفسي وصلت ذروة العزلة ،فمنذ ليلتي
سيتغير في نظريّ هذه ،يجب أن أضع مساف ًة بيني وبين العالم الذي
أكثر ،ألنّي لن أصبر في العجز األخير ،لهذا فأنا أحتاج عزل ًة ثابتة،
شروط سأخلقها ،كي أعيش مع ما سيأتي بحذر، ٍ تتغير إلاّ بفعل
ال ّ
ولكي أضع أيض ًا حظر ًا لي من ال ّتم ّني في حين لحظة ضعف..
أقدم استقالتي غد ًا من ال ّشركة ،ففصليثم سيكون ضروري ًا أن ّ ّ
األخير سيبدأ قريب ًا ،وواجبي أن أعيشه ح ّتى آخر دقيقة وثانية ،وح ّتى
آخر لطخة حبر..
304
305
I
307
بع�د تقديم االس�تقالة ،انتابني ش�عور الح�داد المغتصب ،فقد
الراح�ة مقابل كن�ت آخذ به فس�حة من ّ ُ ُحرم�ت م�ن الفع�ل ال�ذي
عنفوان تأريخ نفسي على ورق.
بقي�ت عل�ى ح�دادي م�ن ذلك ليومي�ن ،بدون رش�ى الكتابة، ُ
وب�دون ر ٍّد عل�ى االتص�االت الهاتفية ،وبكثير م�ن ال ّتجاهل لما أنا
مقبل عليه .إلاّ أ ّن ذاكرة الياسمين تتبعني حيث مضيت ،تقلق لعدم
الرد ،تجترح عزلتي كما ال أريد ،تقاومني الحدي�ث ،تعاتبن�ي لع�دم ّ
عندما أُسهب في نفي نفسي.
ف�ي الي�وم الثّالث ،أتت ياس�مين كي تخت�رق عالمي ،جرحت
تظن أنّي
عزلتي ليالً برنّات على باب ش�قّتي ،لم أرد أن أفتح كي ّ
لست موجود ًا ،لك ّنها كانت بارع ًة في قراءتي ،تدري أني لست من ُ
هواة ال ّتسكّ ع ،وأ ّن ليلي هو منزلي ،وأ ّن المكان الوحيد الذي ألجأ
إليه هو شقّتي .نصف ساعة وهي ت ّتصل بهاتفي ،وتضغط على رنّان
فتحت في ال ّنهاية مستقبالً
ُ ق ،وتنادي باسمي لع ّلي أفتح. الباب وتد ّ
بقيت
ُ كل ش�يء ،ال تفقد نفس�ك أيض ًا!» كالم العتب منها« :فقدت ّ
صامت� ًا .قال�ت« :ل�ن تتخ ّل�ص م ّني هكذا .».قل�ت« :أنا ال أحاول..
حتى اآلن» .قالت« :لن أدعك تعيش هكذا ..أقسم لك ..لن أدعك
تفع�ل بنفس�ك هك�ذا! اكرهني إذا ش�ئت ..لكن ل�ن أتو ّقف ،وأنت
قلت عائد ًا أدراجي إلى األريكة« :دعي العناد إلى جيد ًا»ُ . تعلم هذا ّ
وقتٍ آخر .».أقف َلتِ الباب .قالت« :أنا ال أفهمك فقط ال أفهمك!
الرجال هكذا؟ كل هذا؟ لماذا أنتم ّ فلم ّشيء تأسى عليهّ ، ٌ يتبق
لم ّ
الغم
أتحبون ّ ّ ج�دي كذل�ك ..والدي كذل�ك ..وأنت مثلهم أيض� ًا، ّ
ِ
�م ال تقولين أنّنا نكرهه» ثم الدرجة..؟» قلت س�اخر ًا« :ل َ إل�ى ه�ذه ّ
308
أضف�ت بع�د صمت« :الس�يما رجال ما قبل الم�وت!» .قالت بنبرة
ب�اردة« :أن�ت تري�د ذلك حقّ� ًا »..قلت« :س�أحاول أن أريد ذلك.».
«قلت لي أن أحاول تغييرك ،إذن سأفعل ،ثق بي .»!..قلت: َ قالت:
«كيف؟» .قالت« :س�تعرف كيف ،فلن تتخ ّلص م ّني بس�هولة» .قلت
حينها أداعب الجو« :تبدين أجمل عند الغضب ،أريد أن أرى ماذا
يمكنك أن تفعلي».
األي�ام ،وبدأت أش�عر أنّي أقترب وأقترب من ش�فرة وتوال�ت ّ
الم�وت ،لي�س اقتراب� ًا مجازي ًا ،بل اقتراب ًا ّ
أقل ما يمكن أن ُيقال عنه
إنه جزئي .وقد حاولت أن أتر ّهب قدر المستطاع ،لك ّني كنت أفشل
أمام ياسمين ،فقد اجترحت عزلتي ،لدرجة أنّها غلبتني ح ّتى عزفت
ت شهر عطلتها ّ
لتبذره في مراقبتي. عن الكتابة إلاّ أحيان ًا ،بل َ
أخذ ْ
الرجل وعاداته وأحزانه!
تغير المرأة من أقدار ّ يا إلهي كم ّ
راح�ت تلتص�ق ب�ي إلى أقصى حد ،ل�م تتركني آكل وحدي،
أتأمل نفسي وحدي .والعائلة هم أيض ًا وال أن أتن ّزه وحدي ،وال أن ّ
كن�ت أجد ما يفوق
ُ أصب�ح اهتماه�م ب�ي أكث�ر ،وفي الي�وم الواحد
الخمس ا ّتصاالت تلج هاتفي منهم.
كن�ت أؤم�ن دائم�ا ،أ ّن لحظ�ات اله�دوء نذي�ر القتراب ُ كم�ا
الجو العائلي ودفء الياس�مين س�يدومان، ّ ظننت أ ّن ذلك ُ العاصفة.
بل نبتت داخلي شتالت أمل وسالم أنّي سوف أواصل أكثر ..لكن
لم يمض ِ سوى أسبوعين ح ّتى الحظت تفاقم المرض.
ل�م أكتش�ف وج�وب إحالتي إل�ى المستش�فى إلاّ بعد المرور
تعرجات جسدي أمام المرآة .راقبته بتجربة أليمة في مراقبة سلوك ّ
كل ليل�ة قب�ل أن أن�ام ،أقي�س وزن�ي وع�رض ص�دري وخص�ري، ّ
309
ويوم� ًا بع�د ي�وم كان القياس ينخفض ،ونتوءات العظام تأخذ مكان
الذهاب إلى المستشفى إلاّ بعد أن تأكّ دت في أقرر ّالعضالت .لم ّ
إح�دى الليال�ي أن دماغ�ي هو اآلخر ب�دأت خالياه تموت على ما
أعتقد..
ح�دث ذل�ك عندما كنت أقيس كالع�ادة ،فارد ًا جزئي العلوي
بعريه أمام المرآة ،أراقب نهش ال ّزمن لما كان ين ّز حيا ًة ،وكان يبدو
�زل بأكمله في خدش الضع�ف وخات�م حضوري اخ ُت َ ل�ي أ ّن نق�ش ّ
تلبدت الصغر على كتفي اليسرى .عندما انتهيت من القياس وحين ّ ّ
خ�س وأضلعي ّ الذي خيب�ة أخ�رى ف�ي رصي�د الخيبات م�ن وزني ّ
ٍ ٍ
مكبد ٍ بدماء سود،ّ أضلعي بين مخفي بجزء التي انكمشت ،فوجئت
وعندم�ا تبع�ت األثر ،وجد ُت�ه ينبع من كبدي ،لحظتها ا ّتخذ عاملي
خيالت ،وعلى إثرها نزفت من أنفي وفمي، ال ّنفسي بقهر ال ّلحظة بال ّت ّ
الرحيل وجع ًا، ارتميت على األرض ،فقد زادتني ذكرى اقتراب ّ ُ ثم
ّ
وياسمين كانت دائم ًا تحضر في ذاكرتي عند لحظ َت ْي الفناء وال ّشفاء.
علي،ظننت أنّه سيغمى علي ،لكن لم ُيغم ّ ُ لم أستطع الحراك ،حتى
دت األرض لعدم حراكي ،وحاولت أن أنام محتوي ًا ببرودتها. وتوس ُ
ّ
الصباح الباكر ،استفقت على رعشة البرد الذي ألحفني، وفي ّ
بكل ش�لل ،وا ّتصلت ثم عن غريزة بدون وعي ،بحثت عن هاتفي ّ
بسعد كي يأتي إلى شقّتي في كالم قصير وصف ًا بأ ّن حالتي حرجة.
التفوه بش�يء ،بل رحت أحاول إفهامه ّ عندما أتى لم أس�تطع ح ّتى
بإش�ارات ،وعندما لم يدرك رس�التي ،أعطاني ورقة وقلم ،وكتبت
له عندما كان ال يزال في يدي القدرة على الكتابة في تلك الحالة،
وفي الحال ا ّتصل بطبيبي كي أُحال إلى قس�م ٍ بالمستش�فى .قبل أن
310
سيارة إسعاف ٍ لتق ّلني ،جاءت ياسمين وخالتي تؤلمان الوعيي.
تأتي ّ
السيارة ،كانت أنفاس ياسمين تتصاعد بقربي ،كأنّها
حين أدخلوني ّ
ه�ي م�ن كانت تحتاج األوكس�جين ليس أنا ،وكان صدى أنفاس�ها
ته�دئ من روعي، يط�ن بأذن�ي عندم�ا كانت تحاول أن ّ
ّ المتهدج�ة
ّ
فقد كنت في حالة ش�تات وهذيان .عندما أدخلوني غرفة اإلنعاش
الداخلي ،كانت المرة األولى التي تحدثكي يعقّموا منبع ال ّنزيف ّ
يسمى بـ« :الجالء السمعي» ،فحينما كانوا
لي تلك التجربة ،أو ما ّ
س�معت
ُ ينهش�ون بمباضعه�م جس�دي ،وحينم�ا كنت في الوعيي،
خالت�ي تق�رأ ببكاء آيات س�ورة اإلخالص والفل�ق والناس ،وآياتٍ
ّ
من سورة الفجر تدعو لي بأن ينتهي شقائي ألطمئن بميتة رحيمة،
كنت أشير إليه ذات
كانت خالتي تتم ّنى لي الموت ألنّها فهمت ما ُ
حديثٍ معها..
تغيرت عاداتي بفعل اجتياح المرض ،ألبقى جريح ًا
ومن وقتها ّ
ومكبالً بالعجز على س�رير ،محاوالً إضافة ألوان أخرى إلى
ّ خائر ًا
ذاكرتي ..ألوان األمل..
311
II
312
أبح�ث ع�ن ال ّتدفئة ال غير ،فف�ي آخر األمر فقد انقلبت ُ وأصبح�ت
ُ
يتغير فيها شيء سوى ضدي على غير نفسي التي لم ّ طبيعة جسمي ّ
ٍ
أق�در على الحراك ،لكن بحدود طاقة تنتهي س�ريع ًا، ضع�ف أكث�ر.
ُ
كل عضو ٍ من جس�دي، بفعل آالم ظهري واألرق الذي انتش�ر في ّ
أحس بأن أطنان� ًا من الحديد تربض عليهما. ُّ كتف�ي اللتي�ن
ّ وخاص� ًة
ّ
يتغير كثير ًا ،ولم تقبل شعيرات جسدي بأن تنسل، شكل وجهي لم ّ ُ
وكنت مبتهج ًا لذلك ،سأزداد مرار ًة إن سقط شعري .وهزالني ذاك، ُ
كنت آكله في األس�ابيع
قيؤ ألي ش�يء ُ لم يكن ناتج ًا س�وى عن ال ّت ّ
وبت أرفض طعام شهيتي تدريجي ًاّ ،
فقدت ّ
ُ الثّالثة األولى ،وبعد ذلك
الضئيل هو أنب�وب المغذي، المستش�فى .طاق�ة حراك�ي مصدره�ا ّ
إضاف ًة إلى منبع اإلرادة الذي أحمله داخلي .بشرتي أصبحت ّ
أشد
ش�حوب ًا وصفرة ،وعيناي أمس�تا تكتسيان بلون المرضُ ،
صفر ًة تار ًة
وحمر ًة تار ًة. ُ
أخير ًا أصبح بإمكاني أن أقول بأنّي سعيد ،لن أرحل في فصل
والدتي.
فلتستعد أرضك الخصبة لتستقبلني..
ّ مرحب ًا يا فصل ّ
الربيع
***
أخذت
ُ اعتدل�ت ف�ي تس�ريحتي واضع ًا ظهري على الوس�ادة،
ُ
ٍ
ساعة يدي من فوق منضدة على جانبي األيسر ،والتي عليها مصباح
كنت فيها على قيد كتابة
ليالي التي ُ
َّ صغير أش�عله ليالً ُمعيد ًا ّ
بجوه
نفسي.
الحظت
ُ وضعت ساعة يدي .تن ّف ُ
ست ما سعته رئتاي من الهواء. ُ
خف عطبها ،بل كأنّني أصبحت في ّأيامي األخيرة أ ّن نفس�يتي قد ّ
313
خفيف ًا على األرض ،كما لو أن األشياء التي كانت ُتعاكسني قديم ًا
صدي أصبح وجودها حولي شبه منعدم ،وال ّظاهر أ ّن خططي في ال ّت ّ
فكل ما أصب�ح يتناهى إلى لم�ا يزيدن�ي ك�در ًا ق�د باءت بال ّنج�احّ ،
سمعي هذه األيام ،هو هدوء محض ،وسكينة رطبة داخلي ،كأنّني
فقدت القدرة على مجابهة االنزعاج ،وأنّه هو أيض ًا قد رثى لحالي ُ
فأصب�ح حليف�ي بمغادرته دون ع�ودة .حاالت غضبي هي األخرى
خمدت ،فلم أشعر بغليان عروقي مند زمن.
زيارات العائلة صارت أقل من قبل ،وكان ذلك أفضل ،ألنّي
المتفرقة ،كانوا يزدادون يأس ًا وشفق ًة ّ كما رأيت في زياراتهم العشرة
ك ّلم�ا عادون�ي ،فق�د فهم�وا ما ترمي إليه عق�ارب الوقت ،بأ ّن زمن
رحيلي سيكون عن قريب ،فهذا الهدوء غير العادي الذي تداولني
ولس�ت متضايق ًا من هذا ُ في األيام األخيرة ،يؤ ّهبني لس�كتة أبدية.
ال ّتحايل إذا كان ذلك ُيريحني في فترتي هذه ،كما أنّه عادل ،وينفض
أحببت األش�ياء التي تأتي ُ الرتاب�ة الت�ي تنتظر ال ّتغيير ،فلطالما
ع ّن�ي ّ
كرتها .أدري أ ّن استقبال هادم ال ّلذات لن مر ًة واحدة دون أن ُتعيد ّ
ّ
يمر ذلك بسالم ،إلاّ أ ّن ما تبقّى معوالً على أن َّ ولست ِّ
ُ يكون سهالً،
السنوات الهرمة التي عشتها سيكفي الصبر الذي جمعته طوال ّ من ّ
كل كل شيء ،أنا رجل بين موت وحياة ،وبعد ّ على ما أظن ،فقبل ّ
شيء ،فقد استجاب لي القدير أخير ًا.
صرتُ اإلضافية التي ُتضاف في أواخر مارس، ّ الساعة
مع هذه ّ
أتلذذ أش�عر أنّي أس�بق ال ّزمن بلحظات ،أن تغلغله في يغدو تزييف ًا ّ
َّ
قضيتي ال ّش�خصية أمام قضي�ة الوطن بأكمله ،لك ّنها ّ ب�ه ،أدرك أنّه�ا ّ
عمري الذي سينقضي بشكل أسرع بفعلها ،وهذا ال ّنوع من ال ّتسارع
314
األيام أسرع ،ألنّه
يغير منطق العادة لدي ،كما ُتصبح ّ ُيعجبني ،ألنّه ّ
وأب�ذر فيه وقتي ،فق�د ُحرمتّ ل�دي م�ا أقض�ي فيه س�اعاتي َّ لي�س
من عملي بس�بب المرض ،إلاّ أنه كان في س�بيل صبر س�ينتهي في
لحظاتٍ أخيرة.
كل شيء. إنّه رضاي بعد ّ
وضع�ت األوراق
ُ ري�ح ق ّلب�ت أوراق�ي التي أراجعها.
ٌ دخل�ت
نهضت أغلق ال ّنافذة ،فلم يعد
ُ والقلم في درج تحت المنضدة ،ثم
ٍ
س�معت طرقات على الباب المفتوح يس�تهويني ال ّنظر عبر ال ّنوافذ.
ُ
اس�تدرت بعد غلق ال ّنافذة ،وقد كان س�عد .ا ّتجه نحوي
ُ لحجرتي.
ُيصافحن�ي ك ّف� ًا لك�ف إل�ى األعلى ،كما يفعل العبو كرة ّ
الس�لة أو
كرة القدم.
قال لي:
– كيف حالك يا صديقي؟
– بخير.
استلقيت بسريري.
ُ
– ألن تأتي نجوى؟
– ستأتي بعد قليل.
فور حديثي عنها ،دخلت تحمل بيدها كيس ًاّ ،
مدته لي ،وقالت:
هدية م ّني ومن سعد.
– هذه ّ
هت نظري الحظت بيدها التي أعطتني الكيس خاتم ًا ذهبي ًاّ .
وج ُ
صوب سعد.
قلت له:
– سعد يبدو أنّه قريب!
315
ب�دا ل�ي وجه�ه قد امتأل ِ
بس�مة الحزن ،فف�ي الغالب لن أكون
حاضر ًا.
قال:
– عدني أنّك ستحضر.
– س�أحضر يا صديقي ،س�تعلم أني س�أكون الحاضر الوحيد
هناك ،وجميع الحضور سيكونون غائبين.
لو لم تنتشلنا نجوى من صمتنا ،الستغرقنا وقت ًا حتى تعود لنا
صيغة الحديث ومو ّدته.
قالت نجوى:
– كفاكم ألغاز ًا وكلمات ال أفهمها ،ال تس�تغرقوا في ال ّتفكير
المستقبلي.
الصمت الذي حام بيننا. فانقشع حينها ّ
ب ّلغني س�عد سلام ًا من المدير وال ّزمالءّ .
ثم انتهت زيارتهما.
ٍ
كلمة له« :كُ ْن بخير!» ،ونجوى قال لي سعد قبل أن ُيغادر في آخر
قب�ل أن تخ�رج قال�ت لي« :اس�قي ورودك اليوم ،فصاحبتها س�تأتي
اليوم» .وكان كذلك ،فبعد ال ّظهيرة ا ّتصلت بي ياس�مين أنّها س�تأتي
بعد انتهاء عملها.
كنت بصدده.
الدرج أكمل م�ا ُ أخرج�ت أوراق�ي وقلم�ي م�ن ّ
ُ
وبعدما شعرت بعياء الجسد أخذت غفوة.
316
III
317
ضحكت قائالً:
ُ
– كما تقولين!
تحسن؟
ّ – هل األمور في
ثم قلت:صمت للحظةّ ، ُّ
– تبدو األمور بخير.
بالضعف. ٍ ٍ
تلوت كالمي بابتسامة عريضة تشي ّ ُ ثم
َّ
وسقيت بآخر
ُ حملت ق ّنينة الماء التي كنت أحتضنها بجانبي، ُ
ّ
المغذي نحو جررت مشجب
ُ نهضت من السرير، ُ ما فيها األزهار.
ال ّنافذة ألفتحها.
قلت لها بعد فتحها: ُ
– تعالي أريد أن أريك شيئ ًا.
تقدمت نحوي .قامت بوضعيتي نفسها ،وضعت مرفقيها على ّ
حاشية ال ّنافذة.
السماء وقلت:نظرت إلى ّ
ُ
– أتعلمين! هناك نجمة في لحظة مناسبة تتع ّلق في سماء اهلل،
ألي كائن بش�ري ،دائم ًا
أحب ش�يء ّ ّ تك�ون تل�ك ال ّنجم�ة
تتفرد بال ّلمعان بين النجوم األخرى وال تغيب.
ّ
أشرت بسبابتي إلى نجمتي الوحيدة هناك.
ُ ثم
ياسمين ،أترين تلك ال ّنجمة هناك؟ –
تلك القريبة من الهالل. –
ٍ
مرة أحادثك فيها ،أو ِ
نع�م .إنّه�ا أنت ،قد تكون ه�ذه آخر ّ –
ربم�ا ه�ذا ه�و ال�وداع هنا عل�ى األرض ،لك�ن تيقّني أنّي
ّ
سأبقى هناك أعلى ،قد أغيب ،لكني سأحضر قرب نجمتي
318
تلك ،ألنّها فقط أنتِ..
– ...........................
كنت أبحث عن كنت أناديك كل ليلة مقمرة ،فقد ُ – أتدرين ُ
ش�ك اآلن في ما س�أقول ،فببس�اطةّ موطن أعود إليه ،وال
أن�ت موطن�ي ،كن�تِ تس�كنينني منذ الق�دم ،لك ّني فقط لم
أُلق ِ باالً ،واآلن تأ ّخر الوقت ،هذا قاس ٍ ياس�مين ،س�أُحرم
منك...
الس�ماء
كدت أعيد نظري من ّ ُ تتف�وه ياس�مين بكلمة ،وما ّ ل�م
إليه�ا ،ح ّت�ى وجدته�ا تبكي ،وكانت عين�اي كذلك ،فقد آن لي بعد
أجزاء منه
ٌ بكاء على قلبي الذي استعادت ً زمن أن أبكي ،أن أفرح
ٍ
هويتها التي ضاعت في أزمنة غابرة. ّ
احتضنتها كأنّي ال أريد فراقها.
كم أبكيتك ياس�مين ،س�امحي ألمي ال ّنزق ،ال تنس�يني ،فقد
�بت في محاوالت ال ّنس�يان ،دعي ش�بابي يعود بتذكّ رك لي ،ولو ِ
ش ُ
البرزخية ،وكيف س�تكون
ّ بزيارات قبور ،ال أدري كيف هي الحياة
الدور الذي يقوم به الميت.حالتي مع الالوقت هناك ،وال أدري بعد ّ
وجه�د حديث�ي كاد أن يفقدن�ي وعي�ي بي�ن أجه�دت كثي�ر ًاُ ،
ُ
وج�ررت مش�جب المغ�ذي بمس�اعدة منه�ا كي ُ ذراعيه�ا ،فتركته�ا
السرير.أستلقي على ّ
الدموع. جلست وابتسام ٌة تعلو على وجهها مع ّ ْ
قالت:
يخيل لي أنّي لم أعرفك يوم ًا هكذا ،بل أشعر – تبدو مختلف ًا! ّ
بأ ّن حضورك أصبح أقوى من ذي قبل.
319
قلت وأنا أضحك:
عدت طفالً ..من جديد.
ُ –
بعد لحظة غمرني الحزن ،فسألتني:
مرة أخرى؟
– ما بالك ّ
غص ًة حارقة .قلت:
بلعت ُّ
– ياسمين أنا حزين اليوم.
– ................
– لي�س م�ا تعتقدين�ه ..أن�ا حزين على أرض الياس�مين ،إنّها
تنسل ..سوريا تنزف.
– ..................
يئن من جانبها ..أريد أن أفعل شيئ ًا..
– قلبي ّ
خدها وقلت: مسحت دمع ًة نزلت على ّ ُ
ِ
– أريد أن أطلب منك شيئ ًا..
– وما هذا الذي تريده؟
– أنتِ تعلمين أنّه ال أحد سيرثني ..أريد من سوريا أن ترثني،
تبرعي بكل ما لدي ..بيعي ش�قتي ..أي ش�يء ،س�أعطيكِ
ّ ّ
ّ
جميع ما أملك ،وامنحيه في سبيل سوريا ..ياسمين ،أتألم
عندما أرى سوريا تنزف حزن ًا ..ويتم ًا..
– ..................
– أعل�م أنن�ي ال أقدر على ش�يء ..فرجل س�يموت لن يفيد
في ش�يء .ياس�مين! ِجدِي طريقة كي تدعميهم بها ..إنّهم
أحبه!
يحبون الياسمين كما ّ إخوانيّ ،
ثم أكملت:
صمت بعد برهةّ ،
ُّ
320
– ..ل�و كان ممكن� ًا ..أري�د أن أدفن هناك! أريد أن أدفن في
أحب أن أدفن
ّ عرب�ي أليس كذل�ك..
ّ أرض الياس�مين .أن�ا
هن�اك ..أو فق�ط ألقي بجس�دي هناك ،س�يعرف الياس�مين
كيف ُيعالجني فدائم ًا ما هو يفعل.
بكاء..
ً جهدت ياسمينْ أُ
ياسمين
ُ زلت أُ ْبكيها وأَ ْبكيها ..لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟
ما ُ
سيحييه اهلل..
دمشق يحترق ،لك ّنه سيعودُ ..
خيم الحزن على الغرفة ،ومنظر ياس�مين زاد من ألمي أكثر. ّ
قلت لها:
ُ
– موعد الزيارة قارب على االنتهاء ،قاربت العاش�رة ،يجب
أن أرتاح ،فموعد دوائي اقترب.
مدتحمل�ت حقيبته�ا بعد أن تدارك�ت الوقت هي األخرىّ . ْ
لي بكوب ماء وناولتني دوائي ،شربته وسرى في دمي ُيرغمني على
االستعداد لل ّنوم.
إلي .كانت مالمح وجهها تعزم على للحظات بقيت واقف ًة تنظر ّ
خدي وأخرى ٍ
ثم قامت بخطوات نحوي وطبعت قبلة على ّ شيءّ .
انصرفت دون
ْ ثم
على جبيني ،فقالت« :هذه كي تبقيك على الحياة»ّ ،
أن تقول كلمة وداع ٍ ألنّها ال تريد وداعي ،كما ال يريد الياسمين أن
الصدر ،وإذا
يفارق أناسه ..فالوطن ليس رقعة أرض ..بل عضلة في ّ
بقي األثر يتوارث. تو ّقفت العضلةَ ..
اقتربت من ياسمين زاد ضعفي وا ّتضحت ُ كنت كهانكوك ،ك ّلما ُ
مالمح�ي ،وكم�ا قال�ت ،فإنّ�ي أبدو غريب� ًا الي�وم ،والغرابة هي من
أتحس�س ش�فتيها بوجنتي وجبيني ّ الرحي�ل .س�أحاول أن عالم�ات ّ
321
ما أمكن ،وس�أحاول أن أس�خّر ذاكرتي في تكرارها دون ال ّش�عور
بالملل ..والقادم مهما يكن سأحملها في ذاكرة قلبي.
سيدتي ،فرقودي األخير قادم.
ال تنتظريني ّ
322
IV
323
األرض ..لكن ما هكذا ُتحاك األحزان ،فالمآسي تسمى كذلك ألنّها
تجمع الفرد والجماعة ..إذن فمرحى للوجع وبؤسه!
لم أعد أحتمل!
تجترن�ي ،تجذبني من أز ّق�ة الفرح إلى ّ روائ�ح الحني�ن ب�دأت
غياب�ات الح�زن ال ّطوي�ل .والوقت الذي بدأ ين�زح ببطء نحو الغد،
قضيت أوقات ًا أمارس ما كان يمارسه ُ يحقن في أوردتي الوجل .قبالً
حس�بت احتماالت كم تبقّى لي من ُ وأعد،
ّ وأعد
ّ أعد
نيوتن ،فقط ّ
الدقائق ..من الثّواني ..من ال ّلحظات.. الساعات ..من ّ األيام ..من ّ
ّ
ولم أجد في ال ّنهاية غير هذه ال ّلحظة لحظ ًة للفناء .وإنّه المساء كما
خ ّططت ،سأكتمل بنهاية قصيدة ٍ ابتدأتني.
إحساس اليوم بأ ّن الوقت قد اقترب ،وأ ّن وقت السفر قد ٌ لدي
َّ
الرحيل كقلم الحبر األزرق الذي حان له أن يأتي .وقد أزفت ساعة ّ
أكتب به ،والذي ش�ارف على االنتهاء هو اآلخر فقد أصبح باهت ًا،
الدنيا
سيس�خِّر آخر قطراته في كلماتي األخيرة ،وحبر هذه ّ والذي ُ
ال ينف�ع ف�ي كتاب�ة فصل ما بعد الموت ،فللم�وت توقيته الخاص،
وال ُيمكنني وصف رقودي األخير ،ولو كان ُممكن ًا ..فلن أفعل.
م�ا الكلم�ات األخي�رة التي ُيمكنني أن أنكتب بها اآلن يا ترى
قبل االضمحالل؟
مهذبة تحمل عنف�وان رجل ٍ راحل، فلتك�ن جملاً راقي�ة إذنّ ،
يهمني أمر أحد آخر سوى ياسمين. وال ّ
إلي�ك وح�دك ِ ياس�مين ،حاول�ي أن تكتنزين�ي داخل صدرك،
وليذكرني قلبك ياسمين فأنا أحتاجه.
324
حبذا لو
الس�ريعة قبل ال ّنفادّ ،
لن ينفع ال ّتمني اآلن في كتابتي ّ
كنتِ هنا أيتها الغائبة ع ّني والقريبة إلى ذاكرتي ،أريدك أن تمسحي
أمي عندما أمرض ،أريد شفتيك على على رأسي كما كانت تفعل ّ
وخدي ..فقط امنحيني وقت ًا كي أطيل ال ّتحديق في عينيك..ّ جبهتي
ياسمين ال أجيد الكالم في منطق الحب ،وكلماتي ال ترضى
خط الوصايا ،لذا فهذه هي آخر أن تلين له ،ويدي كذلك ال ُتجيد ّ
لغوي قبل أن ينفد كلماتي لكِ ،لربما هي آخر ما أملك من رصيد ٍ
ٍّ ّ
وأنفد:
غادرتكِ فال تذبلي.
2015/12/20م
ه�شام فريد
325