You are on page 1of 328

‫الطبعـة الأوىل‪ :‬ت�رشين الثاين‪/‬نوفمرب ‪2016‬م – ‪1438‬هـ‬

‫ردمك ‪978–614–01–2047–1‬‬

‫جميع احلقوق حمفوظة‬

‫تــوزيــــع‬

‫عين التينة‪ ،‬شارع المفتي توفيق خالد‪ ،‬بناية الريم‬


‫هاتف‪(+961–1) 785107 – 785108 – 786233 :‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 5574–13 :‬شوران – بيروت ‪ – 2050–1102‬لبنان‬
‫فاكس‪ – (+961–1) 786230 :‬البريد اإللكتروني‪asp@asp.com.lb :‬‬
‫الموقع على شبكة اإلنترنت‪http://www.asp.com.lb :‬‬

‫مينع ن�سخ �أو ا�ستعمال �أي جزء من هذا الكتاب ب�أية و�سيلة ت�صويرية �أو الكرتونية �أو‬
‫ميكانيكية مبا فيه الت�سجيل الفوتوغرايف والت�سجيل على �أ�شرطة �أو �أقرا�ص مقروءة �أو �أية‬
‫و�سيلة ن�شر �أخرى مبا فيها حفظ املعلومات‪ ،‬وا�سرتجاعها من دون �إذن خطي من النا�شر‪.‬‬

‫�إن الآراء الواردة في هذا الكتاب ال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي‬

‫التنضي�د وف�رز األل�وان‪� :‬أبـج���د غرافيك����س‪ ،‬بيروت – هات�ف ‪(+961–1) 785107‬‬


‫الطباع�ة‪ :‬مطاب���ع ال���دار العربي���ة للعل���وم‪ ،‬بيروت – هات�ف ‪(+961–1) 786233‬‬
‫« �إىل َخ ْل َج ِة الإح�سا�س � ّأمي‪..‬‬
‫الدار والدي‪..‬‬
‫عمودِ ّ‬
‫و�إىل ُ‬
‫�أحبكم‪..‬‬
‫كونوا بخري‪ ..‬دائم ًا‪»..‬‬

‫‪5‬‬
‫فام�ض ً‬
‫قدما وال تتوقف»‪.‬‬ ‫«�إذا كنت ت�سري عرب اجلحيم‪ِ ،‬‬
‫ون�ستون ت�شر�شل‬

‫‪7‬‬
9
‫‪I‬‬

‫جد ًا كسودائي التي أشربها‪.‬‬ ‫مر ّ‬ ‫أنا مر‪ٌّ ،‬‬


‫ك ّلم�ا فك�رت ف�ي ذل�ك‪ ،‬فأن�ا أكره ه�ذا ح ّق ًا‪ ،‬أك�ره الجلوس‬
‫إلى مكتبي محاوالً إش�عال رغبة انتقام‪ ،‬لكن لماذا في هذا الوقت‬
‫علي أن أفعل هذا منذ زمن‪ ،‬أو أ َّن الزمن‬ ‫ّ‬
‫ربما كان يجب َّ‬ ‫بالذات‪ّ ،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬بحلول لحظات‬ ‫وقت ُليعلمني‪ ،‬تواطؤ ًا مع ِّ‬
‫ٌ‬ ‫لم يكن لديه‬
‫ربم�ا كان حقيق� ًا م ّن�ي أن أفعل‪ ،‬وأصبح مباح ًا اآلن فقط‬ ‫كه�ذه‪ ،‬أو ّ‬
‫أن أنتقم حبر ًا على ورق بعد أن ش�ارفت على االنتهاء وال ّتالش�ي‬
‫المفتعل ِ بي‪..‬‬
‫بفعل نخر السنين والفتك ُ‬
‫ش�خص لن يبقى موجود ًا بعد‬ ‫ٌ‬ ‫يتحدث ههنا‬
‫ّ‬ ‫ومن الصعب أن‬
‫حول لتصبح‬ ‫أس�مي كلماتي هذه التي س�تتخذ ش�كل ال ّت ُّ‬ ‫ّ‬ ‫مدة‪ ،‬فماذا‬
‫ّ‬
‫يفس�ر ش�يئ ًا مما يحدث‬ ‫جمالً فأوراق ًا؟ أعلم أنّها لن تش�كّ ل نقيض ًا ّ‬
‫ل�ي‪ ،‬أوراق�ي ه�ذه التي ال يهم متى س�وف تنته�ي أو أنّها لن تنتهي‬
‫بعدي‪ ،‬فانتهاؤها مرهو ٌن بحياتي التي ال أعرف متى ستنفد منها آخر‬
‫شهقة حياة‪ ،‬قد تكبر هي وأصغر أنا ألبقى مع ّلق ًا في عنوان قصيدة‬
‫«بقية حياة»‪.‬‬
‫لمحمود درويش ّ‬
‫للس�خافة! ه�ل فاض األلم فجأ ًة حتى ب�دأت أكتب ههنا؟‬ ‫ي�ا ّ‬
‫أم أن خبر األسابيع المحتملة المتبقية لي جعلتني أرشد إلى هدي‬

‫‪11‬‬
‫الكتاب�ة‪ ،‬أو أنّ�ه كان مح ّتم� ًا أن أهت�دي إليه�ا‪ ،‬وأ ّن جرثومة الحكي‬
‫عل�ى ال�ورق وج�دت أخير ًا منف�ذ ًا لها كي تجتاح عالمي المس�تور‬
‫عل�ي تف ّتقت بافتعال‬
‫ّ‬ ‫والمفق�ود ف�ي دواخلي‪ ،‬وأن س�مات ظهورها‬
‫فكرة الموت؟!‬
‫كل ش�يء‪ ،‬ال‬ ‫فه�ا أن�ذا! وحي�د ًا ف�ي ش�قّتي التي تش�بهني في ّ‬
‫س�عيد ًا ال حزين� ًا‪ ،‬أل�وك ذكريات الماضي ف�ي ذهني‪ ،‬وأنفث حثالة‬
‫أروض�ه إل�ى اآلن‪ .‬مغترب ًا‬‫س�جائره ف�ي منفض�ة النس�يان ال�ذي لم ِّ‬
‫ألتصق في خرابي الجميل هذا وس�ط الكلمات‪ ،‬أعزل أمام س�لطنة‬
‫الوجع وفاشالً في محاوالت تبيان زالتٍ وشرحها بكلمات بخسة‪.‬‬
‫تورطني أكثر أمام‬ ‫ليست الكتابة اآلن حلاّ ً لي من ورطتي‪ ،‬بقدر ما ّ‬
‫حيز ًا في هذه الدنيا بعد اآلن‪ ،‬وأدري أ ّن‬ ‫صهيل الحزن‪ ،‬فلن أشغل ّ‬
‫ِ‬
‫أفكار الغضب والحداد لن تنسل في جمل ٍ وفقرات‪ ،‬وأعلم أني لن‬
‫أشفى‪ ،‬بل ال آمل في أن أشفى‪ ،‬فما زلت أغرق وأغرق‪ ،‬وال شيء‬
‫يصعد بي وهم ًا س�وى زيف أحالم ٍ صغرى تخلقها الكتابة تأريخ ًا‪.‬‬
‫كل شيء‪ ،‬جاز لي الحديث ههنا‪ ،‬وال شيء يدفعني اآلن إلى‬ ‫فبعد ّ‬
‫الكتاب�ة س�وى األل�م ال�ذي ينفد فال يبقى منه س�وى الوجع‪ .‬أعلم‬
‫رثاء على ما تفعله بي وعلى ما‬ ‫أ ّن الكلمات س�تخونني في النهاية ً‬
‫أفجر جدران هذا الكتم‪.‬‬
‫مستعد كي ّ‬
‫ٌّ‬ ‫أحقنها به‪ ،‬لك ّني‬
‫ول�و اس�تطعت ترجم�ة ه�ذه األوراق صوت� ًا لفعل�ت‪ ..‬لك�ن‬
‫لألسف ال أستطيع‪ ،‬هذا ما تك ّنه الصدور‪ ،‬وال ّشفاه تخون ما تخفيه‬
‫الرخيم‪ ،‬فلتنب‬ ‫يتبق لي الكثير كي أستخدم صوتي ّ‬ ‫الصدور‪ .‬كما لم َّ‬ ‫ّ‬
‫عن صوتي حبال الكلمات ورنَّة عالمات ال ّتشكيل والترقيم‪..‬‬
‫بدأت هذا القمار المعقّد والوازن‪ ،‬وأنا أجد نفس�ي تائه ًا‬
‫ُ‬ ‫منذ‬
‫‪12‬‬
‫ف�ي تحدي�د مواطن الح�روف ورصدها‪ُ ،‬ترى كي�ف يواجه الك ّتاب‬
‫علي الكتابة بالجهل‬ ‫ٍ‬
‫ُمغامراتهم مع بياض مجهول ُمختلق‪ .‬تستحيل ّ‬
‫خط‬ ‫ع�ن م�ا يج�ب علي خ ّطه على هذه األوراق‪ ،‬ولك ّني أدري أ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫قلم�ي سيس�ير عل�ى ُخط�ى حزني فقط‪ ،‬س�ائل غربت�ي وحده كفيل‬
‫بإيقاظ قرحة الكتابة وضمور الوعيي في أناملي‪.‬‬
‫أتراها الكتابة صعبة إلى هذا الحد في حقن هذا ال ّتيهان داخلي‬
‫بيني وبين نفس�ي‪ ،‬أم أ ّن كتابة نفس�ك ُتعد ش�يئ ًا قاسي ًا وغير شريفٍ‬
‫ُّ‬
‫حق النفس؟‬ ‫في ِّ‬
‫أهي تعرية أم ماذا؟‬
‫كل ه�ذا!!‪ .‬لو لم يخبرني‬ ‫م�اذا أق�ول ي�ا ت�راي؟! من أين أتى ّ‬
‫بدأت باالقتراب من الجراح وتعريتها‬ ‫ُ‬ ‫ال ّطبيب البارحة لما ُ‬
‫كنت قد‬
‫مرد هذه‪ ،‬لما‬ ‫ب�دأت رحلة ال ّت ّ‬
‫ُ‬ ‫بج�رات قل�م‪ ،‬ل�و لم يكن كذلك لما‬ ‫ّ‬
‫عاطفية قاتلة في ترسيخ شيء ما م ّني قبل‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أصبحت في غمرة نزعة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يطببني مع نفس�ي‬ ‫كل صل�ة‪ ،‬فوحدها الكتابة حديث ّ‬ ‫تتب�رأ م ّن�ي ّ‬
‫أن ّ‬
‫والدهش�ة تجد أخير ًا مفرغ ًا‬ ‫ولع�ل حروف ال ّتم ّني ّ‬ ‫ّ‬ ‫غي�ر المصالح�ة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ك�ون لها واقع ًا افتراضي ًا تعم�ل فيه‪ .‬ول َم ال! حياة‬ ‫واس�ع ًا له�ا ك�ي ُت ِّ‬
‫داخل الورق أرحم من حياة ٍ خارجه‪.‬‬
‫ش�ك من الخبر‪ ،‬فلم يكن إلاّ احتماالً يمكن أن‬ ‫ٍّ‬ ‫زلت في‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫يورد‪ .‬قال لي ُمهاتفةً‪ ..« :‬نعتقد أنّك لن تواصل‪ .»..‬كلمني بصيغة‬
‫يتب�رأ من مس�ؤوليته عني ليجعلها مس�ؤولية‬ ‫حدثن�ي كأنّ�ه ّ‬ ‫الجم�ع‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫الجمي�ع‪ ،‬كأنّ�ه أراد م ّن�ي أن أُبادر في ال ّتفكي�ر بفعل آخر متم ّنياتي‪،‬‬
‫وأن أحاول مسامحة العالم ونفسي‪.‬‬
‫أريد أي معاهدة‪ ،‬أريد أن أثور‪..‬‬ ‫صلح ًا! ال ُ‬ ‫من قال إني أريد ُ‬
‫‪13‬‬
‫أن أغضب‪ ..‬ففي آخر األمر إن كان ما قاله صحيح ًا‪ ،‬فإنّي سأغادر‬
‫مكمالً شيئ ًا من ال ّنقص والعجز‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫معوض ًا‬ ‫َّ‬
‫لكن! هل جواز البوح الوجع دائم ًا؟‬
‫َم َر ِّدي اآلن أن أحاول لملمة األيام الخليلة التي ستأتي‪ ،‬والتي‬
‫سأتخ ّلص بها من عثرة الحياة‪ ،‬وشؤم لزوجة الكدر الذي ُيداهمني‬
‫منذ القدم‪ .‬في الحقيقة لم أجد نفس�ي أكثر بهجة من اآلن‪ ،‬أش�عر‬
‫سأتحرر‪ ..‬ال بل سأجعل مفتاح قيدي بين أصابعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مرة ٍ أنّي‬‫وألول ّ‬ ‫ّ‬
‫وأفكن�ي متى ط�اب لي‪ ،‬ألنّي ف�ي آخر األمر‬ ‫لج ُمن�ي مت�ى ش�ئت‬ ‫ِ‬ ‫أُ ِ‬
‫ُّ‬
‫وس�يمحى دون أن يترك األثر‪ ..‬أو‬ ‫ُ‬ ‫مجرد ش�يء س�يزول‬ ‫ّ‬ ‫أصبحت‬
‫إلي‪.‬‬
‫خيل ّ‬ ‫كما ُي ّ‬
‫ربي يراني من حيث ال أدري‪ ،‬يراقبني ويشهد بطولة‬ ‫أدري أن ّ‬
‫الخس�ارة الت�ي أنش�دها عل�ى ورقٍ م�ن ح�ظ‪ ،‬أربح نقاط� ًا تغرقني‬
‫حي�ث ال يمكنني الصعود‪ ،‬أن�زف أكثر وأعطش‬ ‫ُ‬ ‫وتغ�وص ب�ي إل�ى‬
‫معن�ى في هذا االحت�راق المتواصل‬ ‫ً‬ ‫لكل س�طر‬ ‫أكث�ر فق�ط ألجعل ّ‬
‫م�ن الب�ذر الممي�ت‪ ،‬لكن إلى متى س�أبقى على ه�ذه الحال؟ متى‬
‫س�تأتي النهاي�ة ي�ا ترى كي أت�رك رهاناتي على ورق‪ ..‬إذا ما وصل‬
‫إلى قارئ؟‬
‫نهض�ت أنظ�ر م�ن ال ّناف�ذة‪ ،‬يب�دو أ ّن المدين�ة ارت�دت ثي�اب‬ ‫ُ‬
‫حراسه عليها‪ ،‬ويبدو أ ّن ليلتي المقمرة انتهت‬ ‫نومها‪ ،‬والليل أسكن ّ‬
‫أيض ًا‪.‬‬
‫وفرغت أنا أيض ًا‪ ،‬وقد حان الوقت ألطفئ هذا‬‫ُ‬ ‫فرغت كأسي‪،‬‬
‫المشوار ال ّطويل من ال ّنفث‪ ،‬وأذهب ألستشفي بعض ال ّنوم َّ‬
‫لعل الغد‬
‫يكون أفضل‪...‬‬
‫‪14‬‬
‫‪II‬‬

‫ال أعرف كيف يمكنني أن أختزل هذا الحكي الطويل‪..‬‬


‫تكون شخصي هذا‬ ‫تشبعت مرارة بما يكفي حتى ّ‬ ‫حياتي هذه ّ‬
‫هكذا‪ ،‬شخص ًا بصفة نصف شخص‪ ،‬لم يعد يغريه شيء‪ ،‬ولم تعد‬
‫تمس ّ‬
‫ملذته في ش�يء‪ .‬ال‬ ‫الدني�ا الت�ي تغ�ري بالكثير ُّ‬ ‫ّ‬
‫مل�ذات ه�ذه ّ‬
‫أعرف نفسي إلى نفسي اليوم‪ ،‬أحيان ًا أتساءل‪،‬‬‫أعرف كيف يمكن أن ّ‬
‫الرب أنصفني لكون البالء نعم ًة‬
‫ّ‬ ‫ولدت يا ترى ألشقى؟ أم أ ّن‬
‫ُ‬ ‫هل‬
‫أس�تحق هذا العمر بعد أن كنت عثرة ش�ؤم‬
‫ُّ‬ ‫يهبها لعباده؟ هل ح ّق ًا‬
‫بع�د والدت�ي؟ ه�ل أنا يا ترى من عالم�ات الغضب‪ ،‬وأ ّن وجودي‬
‫ٍ‬
‫ههنا يعكّ ر صفو الحياة التي ما فتئت تأخذ ّ‬
‫كل جزء م ّني على حدة‪،‬‬
‫تبعثرني وتنثرني كيفما شاءت؟‬
‫ال يس�عني ال ّتفلس�ف في األمور التي ش�كّ لت ربوة ما أنبتت‬
‫جيد ًا أ ّن هذه الحياة وأرضها‬
‫بذاخة الحزن المقيم في جوفي‪ ،‬وأعلم ّ‬
‫ال تس�تحقان م ّن�ي ر ّد فع�ل تجاههم�ا‪ ،‬فدورة عم�ري اخ ُتصرت في‬
‫كل شيء‪.‬‬‫وجب كي يتناسب مع ّ‬ ‫َ‬ ‫مآس ٍ رتيبة ومترادفة كأ ّن حدوثها‬
‫روحي هذه التي لم تعد أنابيب البهجة توصل إليها إلاَّ القليل‪،‬‬
‫كيف أثريها أمالً وهذا الفؤاد الذي أحمله لم يعد ينبض إال ليجعلني‬
‫الدهش�ة‪ ،‬التعجب‪ ،‬التفاؤل‪..‬‬
‫وكل تلك المش�اعر‪ :‬الفرح‪ّ ،‬‬
‫أتحرك؟ ُّ‬
‫ّ‬
‫‪15‬‬
‫ك ّله�ا ُوئ�دت‪ ،‬ولم ينبت من قبرها س�وى الغضب‪ ،‬الحزن‪ ،‬الفتور‪،‬‬
‫الهستيريا‪ ،‬الوحدة‪ ،‬الخوف‪ ،‬الذعر‪ ،‬الخزي‪ ،‬المعاناة‪ ،‬الندم‪ ،‬الحنين‬
‫الخائن واألمل في الالشيء‪.‬‬
‫خيل لي أحيان ًا أ ّن مجرى ما أعيش�ه س�ببه نقاط التحول التي‬ ‫ُي ّ‬
‫اختزنتها ذاكرة الماضي‪ ،‬ذلك الماضي الذي يجعلني ملك ًا خاسر ًا‪،‬‬
‫استبدلت رغباته الطبيعية‬ ‫وشخص ًا بجراح غائرة‪ ،‬وعليالً ينقصه ٌ‬
‫أمل ُ‬
‫تستمد تحركاتها إلاّ بمورفين الوجع‪ .‬ولست مستغرب ًا من‬
‫ُّ‬ ‫بأخرى ال‬
‫ع ّلة تكويني العقيم في سيناريو العمر كله‪ .‬ك ّلها باسمي؛ مالمحي‪،‬‬
‫منسية‪ ،‬ولغتي التي لم‬‫ّ‬ ‫فجائعي‪ ،‬وسيرتي المنكوبة التي تكاد تكون‬
‫تكتم�ل إلاّ فق�د ًا‪ .‬فلم يعد يكس�و صدري العامر بالغصص‪ ،‬س�وى‬
‫عمرت به فأصبحت جثث ًا‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬
‫مشاعر بالية في صيغة أسئلة وشكوك ّ‬
‫كل شهيق وزفير رحت أشعر كأنّي أحتاج إلى تنقية ما أو أن أتقيأ‬ ‫ّ‬
‫معنى للفتور‬
‫ً‬ ‫�د م�ن عض�و ٍ معطوب‪ ،‬فقد أصبح هن�ا واآلن‬ ‫دم� ًا ّ‬
‫تكب َ‬
‫وللحياد الذي يعبأ بي‪ ،‬وأصبحت تقاسيم المرض من شرعية الحياة‬
‫مل�ح على ذهني ووجهي‪ ،‬ربم�ا اآلن فقط غدا مباح ًا‬ ‫ٍّ‬ ‫بادي�ة بش�كل ٍ‬
‫وغني‬
‫ٌّ‬ ‫بكل ِ حيلي‪،‬‬
‫بكل لغتي‪ ،‬مخدو ٌع أنا ّ‬
‫لي أن أقول إني مفجو ٌع ِّ‬
‫أنا بنفط مرارتي‪.‬‬
‫أصبح�ت عاطلاً عن الفرح‪ ،‬ع�ن تأكيد حضوري في واقعي‪،‬‬
‫صرت بال اس�م‪ ،‬أو‬
‫ُ‬ ‫وغياب�ي ال�ذي يخج�ل منه الغياب نفس�ه‪ .‬فقد‬
‫لربما أنا الش�خص الوحيد الذي ال يحمل في‬ ‫أني بال اس�م ٍ طوع ًا‪ّ ،‬‬
‫جعب�ة هويت�ه منذ س�كوت حاضره بوحدة الموت�ى كلمات أو نقط ًا‬
‫لربما‬
‫منونة‪ّ ،‬‬
‫عل�ى ح�روف‪ ،‬أو عالم�ات كس�ر أو ج�ر أو عالم�ات ّ‬
‫لت بي حركات السكون وحدها‪.‬‬ ‫وقب ْ‬
‫لت َ‬ ‫قبِ ُ‬
‫‪16‬‬
‫لم أحب الحديث عن الماضي الذي جلدني‪ ،‬فمثل هذا النوع‬
‫ولكن رصيد الحروف ال ينفد‪ ،‬ووجوب ًا‬ ‫ّ‬ ‫م�ن الحدي�ث ال يليق ب�ي‪،‬‬
‫دمت في سكرة الكتابة هذه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫م ّني أن أذكره ما‬
‫جلي� ًا في حلم‬
‫م�ح‪ ،‬يظه�ر ّ‬ ‫ولع�ل وج�ه الماض�ي ال�ذي ل�م ُي َ‬ ‫َّ‬
‫والمتح�رك داخلي‬
‫ّ‬ ‫يراودن�ي كثي�ر ًا‪ ،‬مغ�زاه وجه�ان يقتلان الثّاب�ت‬
‫بكل شيء‪.‬‬ ‫مرة مفجوع ًا ّ‬ ‫كل ّ‬
‫بكلمات العذاب‪ ،‬حلم أستيقظ منه في ِّ‬
‫الضب�اب‪ ،‬يتراءيان‬‫يتحدث لي وجهان يكس�وهما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي حلم�ي‬
‫لي كنجمين‪ ،‬كوكبين‪ ،‬شمس�ين اثنتين في عنق الس�ماء‪ ،‬يس�أالنني‬
‫م�رة ع�ن حال�ي وكيف هو مآلي ف�ي الحياة‪ ،‬وعن ضياعي‬ ‫ف�ي كل ّ‬
‫ف�ي رف�ات مأس�اتي وق�دري‪ ،‬لك ّني دائم ًا ما أمضي بأس�ئلتهما دون‬
‫ج�واب‪ ،‬فمالم�ح وجه�ي الكئيب وجس�دي ال ّنحي�ل تمقمق تحت‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء أصب�ح ي ّتخ�ذ صبغة‬ ‫ش�فتي العازفتي�ن ع�ن ال�كالم‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫ّ‬
‫فجيع�ة وحالة اس�تئناف‪ .‬وح ّت�ى إن خرجت عن طوري وأردت أن‬
‫الران الذي بصدري‪ ،‬فماذا عساي أن أقول؟ ثم‬ ‫أنبس بحرف يختصر ّ‬
‫علي الذكرى العابرة‬
‫ماذا عس�اي أن أحكي للموتى الذين تجبرهم َّ‬
‫مجرد‬
‫ضحية أقدار‪ ،‬أم ّ‬‫ّ‬ ‫ركت يتيم� ًا‪ ،‬أم‬‫ف�ي حل�م؟ ه�ل أقول بأنّي ُت ُ‬
‫الروي‬ ‫ٍ‬
‫ثم كي�ف أمكنني يا ترى أن أختصر ّ‬ ‫غري�ب ف�ي دني�ا غريبة؟ ّ‬
‫وأيام�ي التي و ّلت س�اعاتها ودقائقها ّ‬
‫كالس�نين فأردتني‬ ‫ع�ن زمان�ي ّ‬
‫كهالً؟!‬
‫أحن‬
‫ّ‬ ‫هيه�ات هيه�ات لو لم تك�ن األمور آلت إلى هذا‪ ،‬لكان‬
‫الذكرى‬‫ب�د لي من لعق ج�رح ّ‬ ‫عل�ي خب�ر اقت�راب أجل�ي‪ ،‬لكن ال ّ‬ ‫ّ‬
‫والحكي عنه مهما كانت األحوال‪.‬‬
‫تذوقت طعم مرارة اليتم‪،‬‬ ‫من�ذ وهلت�ي األول�ى في هذه الحياة ّ‬
‫‪17‬‬
‫األول معي‪ ،‬لتذكّ رني بقصديتي السحيقة‬ ‫كب َرت ذكرى فقدان الوطن ّ‬ ‫ُ‬
‫ف�ي ي�وم والدت�ي‪ ،‬ودائم ًا م�ا يكون يوم عيد ميلادي مح ّط ًة أخرج‬
‫من ساعاتها ودقائقها مثقالً بغصص على صدري‪ ،‬ح ّتى أ َّن الفصل‬
‫لدت فيه كان فصالً متع ّطش ًا للجفاف‪ ،‬وبذلك حملت جينة‬ ‫الذي ُو ُ‬
‫الخرف والالارتواء‪.‬‬
‫عم�ري عل�ى وفاة والدي‪ .‬س�ت وعش�رون س�نة‬ ‫ق�د ُر ُ‬ ‫مض�ى ْ‬
‫كل لحظ�ة منه�ا في ب�ادرة الحظ الس�يئ الذي‬ ‫أرجتن�ي أتفكّ �ر ف�ي ِّ‬
‫أحمل�ه‪ ،‬وأحيان�ا أجد نفس�ي ف�ي متاهة بين الحقيق�ة وال ّزيف‪ ،‬كأ َّن‬
‫مجرد س�يناريو أُخرج بالخطأ على ش�كل واقع ٍ يش�كّ ل‬ ‫الذي حدث ّ‬
‫ثم بداية‬ ‫واقع�ي؛ ال أفه�م‪ ،‬والدت�ي‪ ..‬فصل خريف‪ ..‬وفاة والدي‪ّ ..‬‬
‫طياتها‬ ‫بكل تفاصيلها وما في ّ‬ ‫تس�مى حيا ًة ّ‬
‫ّ‬ ‫حياتي إذا ما أرادت أن‬
‫ٍ‬
‫معد ًا‪.‬‬
‫كل شيء كان ّ‬ ‫من خسارات‪ ،‬وكأ َّن َّ‬
‫وف�اة وال�دي كان�ت أول حفل حزن ٍ ل�ي‪ ،‬المعنى أنّي لم أبكِ‬
‫ّ‬
‫وأص�رخ عندم�ا خرج�ت من بطن والدتي إث�ر الوالدة‪ ،‬بل إثر وفاة‬
‫األول‬ ‫والدي في حادث سير‪ ،‬أشفق عليه كثير ًا‪ ،‬لم ينعم برؤية ابنه ّ‬
‫واألخير‪ ،‬لم َير شكله إذا ما كان يحمل منه جزء ًا‪.‬‬
‫رأيت‬ ‫ُ‬ ‫م�ا زل�ت أذك�ر رغ�م س� ّني الصغيرة آن�ذاك‪ ،‬كيف أنّ�ي‬
‫أظن أنّي‬ ‫وجه�ي ف�ي مرآة المس�تقبل‪ ،‬قد ال تنفعني ذاكرت�ي كثير ًا‪ّ .‬‬
‫اكتش�فت أنّي أش�به‬‫ُ‬ ‫كن�ت ف�ي الثالث�ة أو الرابع�ة من عمري‪ ،‬عندما‬ ‫ُ‬
‫س�ن‬‫ٍّ‬ ‫كل ش�يء‪ ،‬ح ّتى في لعنة اليتم التي اكتش�فتها في‬ ‫والدي في ّ‬
‫تربى في ميتم‪ ..‬يبدو أن قدرنا واحد!‬ ‫أخرى أ َّن والدي ّ‬
‫التشوش‪ ،‬أنّي دخلت إلى غرفة نوم والدتي‪ ،‬وبدأت‬ ‫ُّ‬ ‫أذكر رغم‬
‫ُ‬
‫وجدت ألبوم صور‪ ،‬كان‬ ‫ُ‬ ‫العب�ث ف�ي خزانته�ا لعب ًا ال غير‪ ،‬إل�ى أن‬
‫‪18‬‬
‫ٍ‬
‫طفولة‬ ‫ط باألبيض واألزرق‪ ،‬فتحته عبث ًا ألجد صور‬ ‫ذا غالف مخ ّط ٍ‬
‫كن�ت أع�رف وجهه في صورة ٍ واح�دة ٍ فقط كانت تضعها‬ ‫ُ‬ ‫لوال�دي‪.‬‬
‫والدتي فوق منضدة قرب س�ريرها‪ ،‬صورة وحيدة في إطار خش�بي‬
‫مربع يحمي الصورة التي بداخله‪ ،‬صورة زواجهما‪،‬‬ ‫مصون بزجاج ّ‬
‫أم�ي بثوبه�ا األبي�ض الذي يفوح أنوثةً‪ ،‬وأبي بذقنه الوس�يم وبذلته‬ ‫ّ‬
‫السوداء كأنّه أحد المشاهير‪ .‬وجدت في األلبوم صور ًا قديمة تعود‬ ‫ّ‬
‫لعهد والدي‪ ،‬كلُّها باألبيض واألسود‪ ،‬طفولته في الميتم الذي كان‬
‫يقيم فيه‪ ،‬وأخرى في مراهقته مع زمالئه‪ .‬لم أكن أدري لمن تعود‬
‫الصور في س�ني الصغيرة تلك‪ ،‬لكن ما أثار انتباهي‪ ،‬هو أنّي‬ ‫تلك ُّ‬
‫الصور وجدت نفسي أنظر إلى نفسي‪ ،‬ح ّتى أنّي دعكت‬ ‫في إحدى ّ‬
‫تعجب ًا‪ ،‬حينها أخذت‬ ‫الوجه في الصورة التي كانت تكبر راحة يدي ّ‬
‫الص�ورة وذهب�ت إل�ى والدتي التي كانت تجلس في بيت المعيش�ة‬ ‫ّ‬
‫تش�اهد التلفاز‪ ،‬لم أدرك أنّي س�أوقظ وحش� ًا موجع ًا حينها س�يتلو‬
‫قل�ت له�ا‪« :‬ماما‪ ،‬انظري‪ ،‬إنّه أن�ا‪ ..‬أنا!!»‪ ،‬أخذت‬
‫ُ‬ ‫حض�وره الب�كاء‪.‬‬
‫إل�ي وتار ًة إلى الص�ورة تتأكّ د‪ ،‬وقد‬
‫م ّن�ي الص�ورة وه�ي تنظ�ر تار ًة ّ‬
‫مرتها األولى التي الحظت انتقال مالمح وجهه إلى وجهي‪.‬‬ ‫كانت َّ‬
‫قلت وأنا أضحك‪« :‬من الماريو‬ ‫قال�ت ل�ي‪« :‬م�ن أين أتيت بهذه؟»‪ُ ،‬‬
‫صوت بكاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫(الخزان�ة)!!»‪ ،‬ل�م أش�عر ح ّتى جاءتني صفع� ٌة يتخ ّللها‬
‫خدي‪ ،‬والغريب أنّي لم أبكِ‪،‬‬ ‫أحك االحمرار على ّ‬‫ُّ‬ ‫انكف�أت حينه�ا‬ ‫ُ‬
‫رح�ت م�ن ذاك الوق�ت وتلك اللحظات أتس�اءل م�ا بال الذي‬ ‫ُ‬ ‫ب�ل‬
‫قد حدث ح ّتى تلقيت صفع ًة لبحثي في ش�يء لم يكن يجب َّ‬
‫علي‬
‫البحث فيه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تبعت والدتي التي ذهبت إلى غرفة نومها دون أن تنظر إلي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫‪19‬‬
‫تحرك�ت‬‫وجدته�ا جالس� ًة عل�ى األرض تق ّل�ب وريق�ات األلب�وم‪ّ .‬‬
‫ّب فيه‬
‫ووضع�ت يدي الرطبيتين عل�ى وجهها أنق ُ‬ ‫ُ‬ ‫بخط�وات نحوه�ا‬
‫ع�ن الح�زن ال�ذي جعله�ا تبكي‪ ،‬قل�ت‪« :‬مام�ا!‪ ..‬لم�اذا تبكين؟»‪،‬‬
‫ضمتن�ي وقال�ت‪« :‬اجل�س بجانب�ي أريد أن أقول لك ش�يئ ًا»‪ .‬عندما‬ ‫ّ‬
‫مدت يدها تأخذ الصورة الموضوعة على المنضدة‪ ،‬تريد‬ ‫جلست‪ّ ،‬‬
‫أن تش�رح لي أنّي أش�به والدي‪ ،‬قالت‪« :‬أنت تعرف هذا الذي في‬
‫ت‪« :‬هل تعرف من هو؟»‪،‬‬ ‫أومأت برأس�ي إيجاب� ًا‪ .‬أرد َف ْ‬
‫ُ‬ ‫الص�ورة؟»‪،‬‬
‫قل�ت‪« :‬باب�ا ألي�س كذل�ك؟»‪ .‬قالت‪« :‬وهل تعرف أي�ن هو اآلن؟»‪.‬‬
‫بعض الكلمات ونحن صغار تبدو جميل ًة عندما ُتنطق بدون إحساس‬
‫وبال ش�عور‪ ،‬فقط ننس�خ ما يقوله اآلخرون بالحذافير نفس�ها لكن‬
‫جدي إنه في األرض وفي السماء»‪،‬‬ ‫بمعنى مغاير‪ .‬قلت لها‪« :‬يقول ّ‬
‫جدي إنه مات»‪،‬‬ ‫قال�ت‪« :‬ه�ل تع�رف ما يعني ه�ذا؟»‪ ،‬قلت‪« :‬يقول ّ‬
‫جدك أم ال؟»‪ ،‬أجبت بال ّنفي بتحريك‬ ‫قالت‪« :‬وهل تفهم ما قاله لك ّ‬
‫جدي إني يجب أن‬ ‫قلت‪« :‬لكن يقول لي ّ‬ ‫رأس�ي يمين ًا ويس�ار ًا‪ ،‬ثم ُ‬
‫أُسافر إلى السماء ألراه‪ ،‬ماما هل تعرفين كيف أسافر إلى السماء؟»‪،‬‬
‫وخبأت وجهها ع ّني بدون أن تشعرني بأنّها تبكي‪.‬‬ ‫لم تجبني‪ّ ،‬‬
‫�ت وجلب�ت برتقالتين من المطبخ‪ .‬حملتهما أمام نظري‪،‬‬ ‫نهض ْ‬
‫َ‬
‫إل�ي‪ ،‬ماذا‬
‫قل�ت أن�ا بعق�ل طاه�ر‪« :‬أعطين�ي ليمون�ة»‪ ،‬قالت‪« :‬انظر ّ‬
‫ت�رى اآلن ف�ي ي�دي؟»‪ ،‬قلت‪« :‬جوج ليمونات (برتقالتان)!»‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫«يتش�ابهان ألي�س كذل�ك؟»‪ ،‬قل�ت‪« :‬نع�م واآلن أعطين�ي واحدة!»‪،‬‬
‫ثم وضعت واحدة في يدي قائل ًة لي‪« :‬ال تق ّشرها بعد!»‪،‬‬ ‫ضحكت‪َّ ،‬‬
‫واألخرى فوق صورة والدي الذي يقف بجانبها‪ ،‬بعدها قالت لي‪:‬‬
‫«ماذا لديك في يديك اآلن؟»‪« ،‬ليمونة!» قلت لها‪ ،‬بعد ذلك قالت‬
‫‪20‬‬
‫الص�ورة م�اذا يوجد فوق�ه؟»‪ ،‬قلت‪« :‬ل�م أفهم»‪،‬‬ ‫ل�ي‪« :‬وال�ذي ف�ي ّ‬
‫بسبابتها‪،‬‬
‫حينها حملت الصورتين وحاولت أن تشرح لي بإشارات ّ‬
‫الصورة‪ ،‬هو نفس�ه الذي ف�ي الصورة التي‬ ‫قال�ت‪« :‬ه�ذا ال�ذي ف�ي ّ‬
‫وجدته�ا‪ ،‬ه�ل فهم�ت؟!»‪ ،‬لم أفهم ما عنت�ه ح ّق ًا‪ ،‬حاولت ما أمكن‬
‫بسبابتها إلى وجهي‬ ‫توضح لي‪ ،‬لك ّني لم أفهم إلاّ عندما أشارت ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫وقالت‪« :‬وحيد‪ ،‬عندما تكبر سيصبح وجهك كوجه والدك الذي في‬
‫فقلت لها‪« :‬سأسافر أيض ًا‪ ،‬أليس كذلك؟»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حت ح ّق ًا‪،‬‬
‫فر ُ‬‫الصورة»‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫كل شيء بعد قولي فقالت‪« :‬كُ ْل ليمونتك اآلن‪.»!!..‬‬ ‫أنهت َّ‬
‫صعد بي س ّلم العمر فبدأت أكبر وأكبر‪ ،‬وبدأت أعي تدريجي ًا‬
‫الحقائ�ق‪ ،‬ونم�ت في ذهني ملكات وفي جس�دي ع�ادات‪ ،‬وبدأت‬
‫يتغير إلاّ حنظالً‪ ،‬وبدأ‬ ‫حواس�ي أيض ًا تستس�يغ طعم الدنيا الذي لم ّ‬
‫السؤال أخذت مجراها االعتيادي‬ ‫سقمي يظهر شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬كما نزعة ّ‬
‫وحاول�ت أن أتس�اءل دون أن أس�أل‪ ،‬وأصبح�ت عاهتي‬ ‫ُ‬ ‫اجتياح� ًا‪،‬‬
‫ضحي ًة سهل ًة‬
‫ّ‬ ‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫واضحة‪ ،‬ونقصي إلى الحب األبوي بدأ يجلو‪،‬‬
‫يتلذذ بي من حين إلى حين لكن‬ ‫فلم أستطع الهرب‪ ،‬فراح الوجع ّ‬
‫كنت أرى فقر والدتي‬ ‫أق�ل وط�أة‪ .‬وقهرتني بصيرتي عندم�ا ُ‬ ‫بتركي�ز ّ‬ ‫ٍ‬
‫بوالدي وتأ ّلمها بي‪ ،‬لكن ما كان يش�فع لي هي زهور بيض تس�طو‬
‫عل�ى المن�زل‪ ،‬ف�ي الباحة وعلى ال ّش�رفات وال ّنوافذ‪ ،‬وقد قالت لي‬
‫أبجدية‬
‫ّ‬ ‫والدتي إن والدي كان يعشق هذا النوع من األزهار‪ .‬تعلمت‬
‫ترعرعت بينه ولم تطب لي رائحة غير‬ ‫ُ‬ ‫الصغر‪،‬‬
‫مأساة الياسمين منذ ّ‬
‫الحس�ية للروائح‪ ،‬وبقدر‬ ‫ّ‬ ‫رائح�ة الياس�مين الت�ي ترقبني في ذاكرتي‬
‫أحبب�ت الياس�مين في صغ�ري ال يمكنني أن أق�ول إني أكرهه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫م�ا‬
‫ضي‬ ‫بم ِّ‬
‫ب�ت ال أطي�ق رائحت�ه ف�ي عم�ري ه�ذا‪ ،‬فقد وص�م ُ‬ ‫لك ّن�ي ُّ‬
‫‪21‬‬
‫الس�نوات جراح ًا ال ُتمحى آثارها‪ ،‬وندبات مش�رطة بفؤادي‪ ،‬وع ّل ًة‬
‫وتش�رد تحي�ط بي‪ .‬وفي هذا النوع‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي جوه�ري‪ ،‬وهاالت الانتماء‬
‫من األزهار أيض ًا‪ ،‬يتدخل القدر جاعال حزني ونقيضه وجهين لعملةٍ‬
‫ً‬
‫الرحيل عنها‪..‬‬ ‫وسيدته ترهقني فكرة ّ‬ ‫بالذكرى ّ‬ ‫نبات ُيرهقني ّ‬ ‫ٌ‬ ‫واحدة؛‬
‫رغم بعدي عنها‪.‬‬
‫جيد ًا كيف ينتقي ضحاياه‪ ،‬وال يجهل‬ ‫القدر ساخر ح ّق ًا‪ ،‬يعرف ّ‬
‫توانس�ت مع‬
‫ُ‬ ‫يربي مش�اعرهم كما ينبغي‪ ،‬كما فعل معي ح ّتى‬ ‫كيف ّ‬
‫وحدتي منذ األزل كما أراد لي‪..‬‬
‫األول من نوفمبر‪ ،‬كانت والدتي‬ ‫انطلقت رحلة ال ّشقاء في ذلك ّ‬
‫تتصور‬ ‫ّ‬ ‫بعد الوالدة تستقبل ال ّتهاني من هذه وتلك وهذا وذاك‪ ،‬ولم‬
‫شعل فتيالً ينتهي بال ّنحيب وال ّتعازي‪.‬‬ ‫في يوم فرح ٍ كذاك أ ّن شرار ًة س ُت ُ‬
‫جدي‪ ،‬عندما حملتني والدتي بين ذراعيها قالت‬ ‫حد أقاويل ّ‬ ‫وعلى ّ‬
‫له‪« :‬أش�عر بضيق ٍ في صدري‪ ،‬ال ّنظر إلى وجهه يش�عرني برغبة في‬
‫ش�يء ما ال ُيش�عرني باألمان من إنجاب هذا الطفل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫البكاء‪ ،‬فقط‬
‫أخبئه من شيء ما أجهله‪ ،‬فقط إحساس ما‪ ..‬إحساس ما»‪.‬‬ ‫أريد أن ّ‬
‫متوجس� ًا‪ ،‬فق�د كان لوالدتي‬
‫ّ‬ ‫ج�دي عل�ى ما قالته‪ ،‬بل كان‬ ‫ل�م ي�ر َّد ّ‬
‫ولكن حدس�ها كان ال‬ ‫ّ‬ ‫تنبؤ ًا‪،‬‬
‫قدرة ما على استش�عار األش�ياء‪ ،‬ليس ّ‬
‫وجدي كان يتم ّنى في نفسه أن تكون على خطأ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخطئ إلاّ نادر ًا‪،‬‬
‫ُ‬
‫جن الليل‪ ،‬ووالدتي بدأت تهلع من تأ ّخر والدي وعدم‬ ‫كان قد ّ‬
‫مخبأً عند عاملة االس�تقبال‪،‬‬ ‫ر ّده ال ّتصاله�ا بهاتف�ه‪ .‬وق�د جاء الخبر ّ‬
‫ج�دي وح�ده لتخبره بأ ّن رجلين يس�أالن ع�ن عائلة ((كمال‬ ‫ن�ادت ّ‬
‫ش�رطي ًا واآلخر‬
‫ّ‬ ‫جدي ليالقي الرجلين‪ ،‬كان أحدهما‬ ‫نادر))‪ ،‬ذهب ّ‬
‫يتقصى على‬ ‫ّ‬ ‫رطي بأنّه أتى إلى منزلنا‬ ‫أحد جيراننا بالحي‪ ،‬أخبره ال ّش ُّ‬
‫‪22‬‬
‫أحد فلم يجد شخص ًا‪ ،‬فعرج على منزل جارنا المجاور ليشرح له‬
‫الوض�ع‪ .‬أكم�ل الج�ار إيصال خبر الوفاة‪ ،‬وغ�ادر هو واالثنان إلى‬
‫حي�ث يوج�د م�ا يوجد كي تكتمل إج�راءات التحقيق بحضور فرد ٍ‬
‫ّ‬
‫من العائلة‪.‬‬
‫ق ال ّتمني ُيعاتبه بالخذالن من كلمات والدتي‪.‬‬ ‫وأر ُ‬‫جدي َ‬‫ذهب ّ‬
‫عاد ليالً إلى المستشفى حامالً في يده كيس ًا أبيض وبعض األوراق‪،‬‬
‫ثم دخل إلى غرفة والدتي‪ ،‬وطلب من خالتي «هدى» بأن تخرج هي‬ ‫ّ‬
‫وابنتيه�ا‪ ،‬خالت�ي لم تعقّب لفرط ما كانت مالمحه جا ّدة ومنزعجة‪،‬‬
‫وكانت ذات أذن صاغية فخرجت‪.‬‬
‫جدي قائل ًة له‪« :‬تبدو شاحب ًا‪ ،‬ال تبدو لي على‬ ‫تلقّفت والدتي ّ‬
‫كرسي‬
‫ٍّ‬ ‫جدي بكلمة‪ ،‬خطا نحوها وجلس على‬ ‫يتفو ْه ّ‬
‫ما يرام‪ .»!..‬لم َّ‬
‫ٍ‬
‫يحك بحركة الإرادية‬ ‫الصمت وهو‬
‫ُّ‬ ‫ثم اعتكف ّ‬ ‫على يمين سريرها‪َّ ،‬‬
‫صامت‬‫ٌ‬ ‫جبهته دون أن ينظر إليها‪ .‬قالت له‪« :‬إنّك تخيفني‪ ،‬لماذا أنت‬
‫هكذا‪ ،‬ما األمر أبي؟»‪ .‬حمل كيسه الذي وضعه أرض ًا واقترب من‬
‫لدي أخبار ال ُتنذر بخير!»‪ ،‬قالت له‬ ‫َّ‬ ‫والدتي قائالً‪« :‬س�لوى ابنتي‪،‬‬
‫في الحين‪« :‬هل هو ابني‪ ،‬هل ورث من مرض قلبي شيئ ًا؟»‪ .‬أجابها‪:‬‬
‫«لي�س األم�ر كذل�ك‪ ،‬ال أريد إخبارك ح ّق ًا‪ ،‬ولكن‪ ..‬إنّه قضاء اهلل يا‬
‫ابنت�ي‪ .»..‬قال�ت ل�ه مستفس�رة‪« :‬إن لم يكن ابن�ي فمن؟ أم هل هي‬
‫حالت�ي الصحي�ة‪ ،‬ه�ل س�اءت بعد الوالدة؟»‪ .‬أجابه�ا‪« :‬أنتِ وابنكِ‬
‫ّ ّ‬
‫ثم‬
‫الس�رير‪ّ ،‬‬ ‫ث�م صم�ت قليالً ووضع الكيس فوق فراش ّ‬ ‫بخي�ر‪َّ ،»..‬‬
‫أردف بصوتٍ يتخ ّلله الخزي‪ ..« :‬ابنتي‪ ،‬إنّه صهري‪ ،‬إنّه زوجك‪،»..‬‬
‫كل م�ا تبقّى من حادث‬ ‫ث�م أخ�رج م�ا ف�ي الكيس وق�ال لها‪« :‬هذا ُّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫ونب�ات منزل�ي»‪ .‬ألقي الخب�ر على والدتي‬ ‫ٌ‬ ‫الس�يارة‬ ‫الس�ير‪ ،‬مفاتي�ح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪23‬‬
‫كالسهم المشتعل الذي ينغرس في كومة قش‪ ،‬لم تلبث ثوان ٍ ح ّتى‬ ‫ّ‬
‫س�قطت أنا‬
‫ُ‬ ‫وب�كاء وندب� ًا‪ .‬لم تع ِ ما تفعله‪ ،‬ح ّتى‬ ‫ً‬ ‫اش�تعلت صراخ� ًا‬
‫م�ن بي�ن يديها عل�ى األرض‪ ،‬ح ّتى انطبع الخدش الموجود بكتفي‬
‫هدئها لك ّنه فش�ل‪ ،‬وحينما وصل صدى‬ ‫جدي أن ُي ّ‬ ‫األيس�ر‪ ،‬حاول ّ‬
‫ملت أنا بين‬ ‫نحيبها إلى خارج الغرفة‪ ،‬جاءت الخالة والممرضة‪ُ ،‬ح ُ‬
‫يدي الممرضة‪ ،‬وفهمت خالتي ما حدث عندما قرأت على األوراق‬
‫جدي في‬ ‫الملقاة على الس�رير (ش�هادة وفاة‪ ،)..‬فحاولت مس�اعدة ّ‬
‫ٍ‬
‫ضبط والدتي من أن تقوم بشيء خطير لنفسها‪ ،‬وحماي ًة لي من أن‬
‫تفعل بي شيئ ًا أنا أيض ًا‪ ،‬وليتها فعلت‪.‬‬
‫ركت بال اسم ٍ‬ ‫كان يوم والدتي دراما حقيقية‪ ،‬زياد ًة على أنّي ُت ُ‬
‫سميني‪.‬‬‫سي ّ‬ ‫ألسبوع‪ ،‬ألنّهم ا ّتفقوا سابق ًا على أن والدي من ُ‬
‫الضعيف‪ ،‬ولم‬ ‫وجراء قلبها ّ‬ ‫ّ‬ ‫جراء ال ّتعب‬‫فقدت والدتي وعيها ّ‬ ‫ْ‬
‫لمدة ٍ ناهزت العشرين يوم ًا‬ ‫تحضر الجنازة ألنّها ظ ّلت في غيبوبتها ّ‬
‫الصدمة‪ .‬عندما استفاقت في اليوم الموالي للمدة‪ ،‬استرجعت‬ ‫من أثر ّ‬
‫األحداث‪ ،‬ولم تجد س�بيالً غير أن ُتعيد الحدث األول نفس�ه بعد‬
‫مر يوم�ان ووالدتي على تلك الحال‪ ،‬لم‬ ‫أن تذكّ �رت وف�اة وال�دي‪ّ .‬‬
‫المغذي الذي‬ ‫ّ‬ ‫تحدث أحد ًا من الزوار‪ ،‬ولم تأكل ش�يئ ًا‪ ،‬ال َّل ّ‬
‫هم إال‬ ‫ّ‬
‫أجبروها على وضعه‪ ،‬حتى أنّهم وضعوا شريط ًا الصق ًا في معصمها‬
‫تثبيت� ًا ل�ه ك�ي ال تنزع�ه‪ ،‬فق�د رفضت وضع�ه‪ ،‬وربطوا يديه�ا كأنّها‬
‫تج�ن في تل�ك الفترة‪ ،‬ولك ّن�ي أدرك أيض ًا‬ ‫ّ‬ ‫مجنون�ة‪ .‬أدرك أنّه�ا ل�م‬
‫ٍ‬
‫كل شيء حولها‬ ‫أ ّن والدتي صعبة المراس‪ ،‬إذا آلمها شيء‪ ،‬ترفض ّ‬
‫وتستطيع فعل أي شيء‪ ،‬لحسن الحظ أ ّن الممرضين الحظوا األمر‪،‬‬
‫وأنا لن أعارض أفعال والدتي‪ ،‬ولن أقول إني أشعر بما شعرت به‬
‫‪24‬‬
‫ألنّه سيكون نفاق ًا ال غير‪ ،‬ولك ّنه شعور متبادل‪ ،‬وإن أمكنني تفسيره‬
‫فهو ذلك الشعور الذي أخذني بعد وفاتها‪ ،‬ذلك اإلحساس الموجع‬
‫ومكب ٌل من كل أطراف جسدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أحس كأنّني مسجو ٌن‬
‫ُّ‬ ‫الذي جعلني‬
‫تمن زائل ال ُيسمن‬‫وكل ما أحيا عليه هو خمر كآبة ُيظمئ‪ ،‬وخب ُز ٍّ‬
‫وال ُيغني من جوع‪.‬‬
‫بد لها أن ُتعافى‬‫أؤمن بأ ّن األضرار المتخلفة من الجروح ال ّ‬
‫يوم ًا‪ ،‬وأن القلب رغم نزيفه المتواصل من كدمات العمر سيتعافى‬
‫يوم� ًا‪ .‬لك�ن العالم�ات الت�ي توش�م على ظهر الالانمح�اء تقبع في‬
‫الذاكرة‪ ،‬وال وجود لسبيل ٍ غير النسيان‪ ،‬وهذا ما لم أقدر عليه وما‬
‫مطورة عن‬
‫مجرد نسخة ّ‬ ‫فكل مرحلة عمر هي ّ‬ ‫لم تقدر عليه والدتي‪ُّ ،‬‬
‫نظن أنّنا ننس�ى‪ ،‬لك ّننا فقط نراكم ذكريات الماضي على‬ ‫س�ابقاتها‪ُّ ،‬‬
‫الذكرى كما‬ ‫طرب على الجرح‪ ،‬تعود ّ‬ ‫حساس ُي ُ‬‫وأي وتر ّ‬ ‫الحاضر‪ُّ ،‬‬
‫كانت في ال ّلحظة نفسها التي عشناها‪.‬‬
‫أرادت والدت�ي أن تنس�ى‪ ،‬وأن تتاب�ع الحياة‪ ،‬وأن تعتنق دالل‬
‫اسمها‪ ،‬وأن تتذكّ ر هويتها األولى قبل أن ُتصبح أرمل ًة لبست األبيض‬
‫زي مرضى‪ .‬انبعثت غ ُّدة أمومتها من جديد وعملت على العودة‬ ‫في ّ‬
‫ومربي ًا‪ ،‬وقد قضت ش�هرين في‬‫ّ‬ ‫تركت لي الغياب مرش�د ًا‬‫ْ‬ ‫إلي‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬
‫مش�فى إع�ادة ال ّتأهي�ل‪ ،‬ورفضت أن يزوره�ا أحد يجلبني معه‪ ،‬فلم‬
‫وج ّو ُه وبياضه‬
‫الرخوة‪ ،‬ألوان المستش�فى َ‬ ‫ُترد أن تخ ّزن في ذاكرتي ّ‬
‫الذي ال ُيحمد‪ .‬شهران استعادت فيهما عافيتها ووزنها الذي نقص‪،‬‬
‫وتقبلت قض�اء اهلل‪ .‬برهنت والدتي‬ ‫ج�ددت رغبته�ا في الحياة ّ‬ ‫كم�ا ّ‬
‫للمختصي�ن بعالجه�ا أنّها قادر ٌة على مواصلة الحياة دون ندم‪ ،‬فقد‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫تركتن�ي رضيع� ًا ومتألم� ًا‪ – ‬ربم�ا‪ – ‬باختفاء والدت�ه‪ ،‬ولم تخ ّلف لي‬
‫‪25‬‬
‫واعتدت اليد‬
‫ُ‬ ‫تعد لي الحليب المص ّنع ح ّتى اعتدته‬‫سوى يد ٍ هرمة ّ‬
‫فصرت خشن ًا في طبعي دون أن أدري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التي حملتني‪،‬‬
‫ع�ادت والدت�ي إل�ى المنزل لتجد األحب�اب ينتظرون‪ ،‬جاءت‬
‫السالم‪ ،‬لون أزهار الفاجعة التي بقيت على‬ ‫وهي تحمل بيدها لون ّ‬
‫قيد الحياة من حادث السير‪ .‬دخلت وهي ال تعلم كيف تبدأ حوار‬
‫األم مع ابنها‪ ،‬وكانت تدري المجهول الذي سأواجهه بعد أن أفطن‬ ‫ّ‬
‫مسيرة العمر وأرشد‪.‬‬
‫وقت ح ّتى اعتد ُتها في‬
‫ٌ‬ ‫أدي�ن لوالدت�ي باعت�ذارات‪ ،‬فقد تط ّلب‬
‫اعتدت خواءه إلاّ من جدي‪ ،‬وأحيان ًا الخالة‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ربما ألنّي ُ‬‫المنزل‪ّ ،‬‬
‫أمي‪ ،‬فلم آخذ‬ ‫الدنيا سببه رفضي لحليب ّ‬ ‫هدى‪ .‬وجحودي في هذه ّ‬
‫عاطفتها في قطرات حليب‪ ،‬فنما جسدي ضعيف ًا ورخو ًا من الخارج‪،‬‬
‫وصلد ًا من ّ‬
‫الداخل‪.‬‬
‫كب�رت العالق�ة بين�ي وبين والدتي حس�ب مجراه�ا ال ّطبيعي‪،‬‬
‫الصغ�ر كنت غريب ًا‪ ،‬وكان‬ ‫لك�ن اختالف�ي المبكّ �ر ّ‬
‫عذبها قليالً‪ .‬منذ ّ‬ ‫ّ‬
‫ظن أن حدس�ها سيفش�ل تأثيره‬ ‫كل مرة‪ .‬من ّ‬ ‫حدس�ها يخطئني في ّ‬
‫في فلذة كبدها؟ فلم تكن تعلم ما يجول في عقلي ولم تقدر على‬
‫أن تتر ّقب أفعالي‪ .‬لم أكن طفالً عادي ًا‪ ،‬فعندما كان الجميع يشاهد‬
‫ال ّتلفاز أغيب إلى غرفتي أدرس أو أر ّتب مالبس�ي أو ألعب باآللة‬
‫الحاسبة‪ .‬وعندما يجتمعون للغداء‪ ،‬أذهب إلى المطبخ أساعد دون‬
‫مرة أعطي لهم‬ ‫ٍ‬
‫كل ّ‬
‫الصحون‪ ،‬وفي ّ‬ ‫إذن من والدتي في إعادة ترتيب ّ‬
‫ترتيب ًا‪ .‬وعندما ينام الجميع أبقى س�اهر ًا أراقب س�قف غرفتي‪ ،‬أو‬
‫وكنت قليل الكالم أيض ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أصعد متس ّلالً إلى السطح أرقب ّ‬
‫السماء‪.‬‬
‫يكثر فيه صدى‬ ‫تعم�د ًا‪ ،‬ب�ل اعتياد ًا على س�كون المنزل الذي ُ‬
‫لي�س ّ‬
‫‪26‬‬
‫كبرت اآلن ونبت‬‫ُ‬ ‫الصم�ت عن�د غي�اب والدتي للعمل‪ ،‬وبما أنن�ي‬ ‫ّ‬
‫كل ذلك بأنّه كان تهيئة لهذا المستقبل‬ ‫أفسر ّ‬ ‫لي ذقن‪ُ ،‬فيمكنني أن ّ‬
‫الرتيب‪.‬‬
‫الذه�اب إلى‬ ‫كن�ت أك�ره ّ‬ ‫ٍ‬
‫ف�ي مرحل�ة م�ا ف�ي س�ن ال ّتاس�عة‪،‬‬
‫ُ‬
‫السبب‪،‬‬
‫أي خالف بيني وبين والدتي غير ذلك ّ‬ ‫المدرسة‪ ،‬ولم يكن ُّ‬
‫ويعزى األمر ك ّله إلى قضية االسم‪،‬‬ ‫الذي لم تكن تعرف ما وراءه‪ُ ،‬‬
‫كنت أسمعه ير ُّن في أذني‬ ‫الذي كان يرهقني ويبكيني بال دمع‪ ،‬فقد ُ‬
‫ست في كل يوم مدرسة‪ .‬وكيفما ا ّتفق‪ ،‬جاء‬ ‫من خمس مرات إلى ٍّ‬
‫اسمي ال ّشخصي واسمي العائلي متشابهين‪ .‬حقيقتهما أنّهما وجهان‬
‫ذابلة واحدة‪ ،‬يش�كّ الن محور دمع�ة ويأس وضياع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لورق�ة خري�فٍ‬
‫وأحيان� ًا صدف� ًة في صفة قدر‪ .‬االس�م األول يرم�ز للصنف الواحد‬
‫أما الثّاني فهو‬
‫هامش�ية األش�ياء وانعزال دائم عن الجمع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولش�عار‬
‫ويزي�د عليه‬
‫ُ‬ ‫إيحاء‬
‫ً‬ ‫األول ف�ي التعري�ف‪ ،‬إلاّ أنّ�ه ينق�ص عن�ه‬ ‫ش�بيه ّ‬
‫أفضل أن أُنادى بأحدهما‪ ،‬فذلك كان يزيح ع ّني وقع‬ ‫وكنت ّ‬ ‫ُ‬ ‫رقي ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫أما جمعهما في لفظ واحد ومز ُج ثقل ٍّ‬ ‫االستماتة وثقل المعنى‪ّ ،‬‬
‫حد البغض‪.‬‬ ‫يؤرقني ّ‬ ‫الصغيرة‪ ،‬فكان ّ‬ ‫منهما على نفسي ّ‬
‫أي قدرة إلهية تلك التي جعلت اسمي الكامل «وحيد نادر»‪،‬‬
‫صغرى‪ ،‬وجودي ههنا أثقل‬ ‫قضيتها ُ‬
‫لكن األسماء تبقى أسماء فقط‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫من معناهما‪.‬‬
‫كل ما حدث‪ ،‬وما يحدث‪ ،‬وما س�يحدث‪ ،‬ليس مجرد صدفةٍ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫بت أخ�اف كلمة‬ ‫حمق�اء‪ ،‬فلا وج�ود لش�يء اس�مه الصدف�ة‪ ،‬وقد ُّ‬
‫الدال الذي يش�ير‬ ‫«قدر»‪ ،‬ذلك القاف الذي يش�ي بالقضاء‪ ،‬وذلك ّ‬
‫بالرؤيا‪...‬‬
‫والراء الذي يوحي ّ‬ ‫الدأب‪ّ ،‬‬ ‫إلى ّ‬
‫‪27‬‬
‫يد في واقعي‪.‬‬ ‫ليس للعبث ٌ‬
‫يحبذ‬
‫طريق�ي التي أحذوها‪ ،‬أليس�ت ممش�ى الهلاك الذي ال ّ‬
‫وجوب اسم ٍ لعبوره غير «وحيد نادر» أم ماذا؟ أوليس هواء ممشاي‬
‫طى هو اليأس أم ماذا؟ وذلك فها أنذا أحقق األمر‪،‬‬ ‫الذي أخطوه ُخ ً‬
‫الذكرى‪ ،‬وأش�هق يأس�ي المختلط بمسكّ رات‬ ‫أمش�ي حافي ًا على نار ّ‬
‫األح�زان‪ .‬ه�ا أن�ذا أحيا معدوم ًا مكتفي ًا بنفس�ي فق�ط‪ ،‬وها أنذا في‬
‫آخر األمر كما أرادت العزلة في حياتي‪ :‬أن أصبح ملحد ًا بالعاطفة‪.‬‬
‫اش�تهيت العيش‪ ،‬ما هكذا أُحرم‬
‫ُ‬ ‫يحق لي الغضب‪ ،‬فما هكذا‬ ‫ُّ‬
‫من مهجة الحياة‪ ،‬ليس هكذا وجب أن أنبض‪ ،‬وما هكذا وجب أن‬
‫ٍ‬
‫بحبر على ورق‪..‬‬ ‫تتحجر عواطفي واقع ًا وتلين‬‫ّ‬
‫أفضل حياة العدم‪.‬‬
‫أحن إلى سيرتي األولى قبل أن أوجد‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫أي شيء‪ ..‬غير هذا!‬ ‫ليتني حجر‪ّ ،‬‬

‫‪28‬‬
‫‪III‬‬

‫م�ا دم�ت أض�ع تناقض�ي اآلن بين أربع زواي�ا‪ ،‬فيطيب لي أن‬
‫أمي‪ ،‬أن أناجيها وأنا أعلم أنّها لن ترد‪.‬‬ ‫أتحدث إلى ّ‬‫ّ‬
‫الصغيرة‪ ،‬ك�م أبكيتك خفي ًة‬ ‫أم�اه فلتغف�ري‪ ،‬فلتغفري أس�ئلتي ّ‬ ‫ّ‬
‫لس�ت أكثر ح ّظ ًا منك‪ .‬ال أعلم بماذا كنت‬‫ُ‬ ‫بكلماتي الس�احقة‪ ،‬فأنا‬
‫تجيبينن�ي عندم�ا كن�ت أس�ألكِ‪« :‬أين وال�دي؟»‪ ،‬ماذا عس�اك كنتِ‬
‫الدمع أليس كذلك؟ هل‬ ‫أماه آنذاك؟ كنتِ تشربين كؤوس ّ‬ ‫تقولين ّ‬
‫كنت تجيبينني أنّه في العمل أو أنّه مسافر؟‬
‫أردت حمل ثقلك‬ ‫ُ‬ ‫كن�ت طفلاً باكي ًا وأنت ال تعلمي�ن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أم�اه!‬
‫ّ‬
‫بتجاهل�ي وب�رودي ك�ي ال أزي�د الك�رب كرب ًا‪ ،‬لكن ري�اح الكرب‬
‫أماه أبكي فها‬‫اش�تهت عك�س ا ّتج�اه ظ ّن�ي فزدته بفعلي‪ ،‬لم ترين�ي ّ‬
‫أنا أبكي بعدك‪ ،‬كنت أراك ِ وليس بي طاقة كي أزيل عنك الس�قم‪،‬‬
‫ش�اهدت نورك‬
‫ُ‬ ‫راقبت�ك تندثري�ن وم�ا في اس�تطاعتي جمع نِثارك‪،‬‬
‫ش�اهدت صحتك وهي تخبو ش�يئ ًا‬ ‫ُ‬ ‫يخفت ويغيب دون أن ألمس�ه‪،‬‬
‫فشيئ ًا‪ ،‬شاهدت جفافك أمامي دون أن أقدر أن أرويك‪ ،‬دون أن أعيد‬
‫الحياة إلى أوردتك‪ ،‬كان حزنك المترامي يش�ع من كل الجوانب‪،‬‬
‫ولم أكن إال عبئ ًا بادي ًا أمامه‪.‬‬
‫أم�اه لم�ا أُلت إلي�ه‪ ،‬معاناتك مضى زمنه�ا‪ ،‬وبقدر ما‬ ‫اغف�ري ّ‬
‫‪29‬‬
‫ِ‬
‫عانيته‪ ،‬عانى ابنكِ وال يزال‪..‬‬
‫أنا أفيض ألم ًا يا ّ‬
‫أمي‪ ..‬وعن قريب سأسافر أنا اآلخر‪.‬‬
‫***‬
‫تعافيت من صبغة الموت التي احتوتني منذ‬ ‫ُ‬ ‫كنت من قبل قد‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫الصغر‪ ،‬والتي جعلتني أبلع رماد نصف طفولة مس�لوبة‪ ،‬وأكبر بين‬
‫ولكن حرماني من وطن ٍ آخر كان شيئ ًا لئيم ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أرملة ووالدها‪،‬‬
‫تركتن�ي والدتي في السادس�ة عش�رة‪ ،‬وكان�ت وفاتها أثقل من‬
‫بطعنة خرقت‬ ‫ٍ‬ ‫تكونت داخلي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫العمر‪ .‬عندما ماتت أحسست بفجوة ّ‬
‫ٍ‬
‫تكس�ر‬‫صدري‪ ،‬بخفوت تدريجي لرؤيتي للعالم‪ ،‬وكأ ّن ش�يئ ًا ما قد ّ‬
‫ج�د ًا‪ ،‬أحسس�ت بقلب�ي‬ ‫بعي�د ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وانح�ل بع�د وفاته�ا‪ ،‬ش�عرت بأنّ�ي‬ ‫َّ‬
‫وش�عرت بأقصى درجات اليتم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مرة‪،‬‬ ‫يؤلمني وينزف كما لم يفعل ّ‬
‫ٍ‬
‫الدنيا صورة بال ألوان‪ ،‬مجرد أسود‬ ‫وبأحاس�يس تيه وش�رود‪ ،‬باتت ّ‬
‫رمادي حزي�ن ٍ خائب يعيد الذكرى‪..‬‬ ‫ٍّ‬ ‫وأبي�ض يكس�و نظ�ري‪ ،‬مجرد‬
‫شعور يختبره البشر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حينها فقط شعرت بأ ّن الفقد هو أقسى‬
‫وجدي ليل ًة لم نشهدها من قبل‪ ،‬كانت ليلة جاءت‬ ‫ّ‬ ‫عشت أنا‬
‫ُ‬
‫فيها الخرسة األخيرة لقلب والدتي‪ ،‬صمتها األخير الذي أطبق على‬
‫والسراب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بصيص أملنا وجعلنا نعيش على الخواء‬
‫توفيت والدتي إثر س�كتة قلبية أتت بعد س�وء أحوالها‪ ،‬وكان‬
‫ذلك في ليلة من ليالي أكتوبر األخيرة‪ ،‬بال ّتحديد قرابة أذان الفجر‪.‬‬
‫تأوهات خفيفة ال تكاد ُتسمع‪ ،‬في البدء‬ ‫كان قد أيقظني من نومي ّ‬
‫أتح�رى عنها وفي‬ ‫ّ‬ ‫فقم�ت م�ن مضجع�ي‬ ‫ُ‬ ‫ظنن�ت أنّ�ه م�واء ق ّطتن�ا‪،‬‬
‫ُ‬
‫تفكيري أن أعطيها علبة س�ردين كي تخرس فأرجع إلى ال ّنوم‪ ،‬إلاّ‬
‫الصوت‬ ‫أنّ�ي فوجئ�ت بأنّها نائمة هي األخ�رى‪ ،‬فبحثت عن صدى ّ‬
‫‪30‬‬
‫فتحت الباب‬ ‫ُ‬ ‫أدركت أن منبعه غرفة والدتي‪.‬‬‫ُ‬ ‫من أين يأتي‪ ،‬إلى أن‬
‫وأن�رت غرفته�ا‪ ،‬فوجدته�ا جالس� ًة عل�ى األرض حامل� ًة قنين�ة ماء‬ ‫ُ‬
‫وتتجرع جرعات‪ ،‬وتس�كب الماء على رأس�ها‪ ،‬وتطلق أنين ًا خافت ًا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فش�عرت بجس�دها‬ ‫ُ‬ ‫وأمس�كت يديها‬
‫ُ‬ ‫وهرع�ت إليها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذع�رت حينه�ا‬
‫حمل�ت هات�ف المن�زل وا ّتصل�ت بطبيب‬ ‫ُ‬ ‫المرتع�ش‪ ،‬وف�ي الحي�ن‬
‫تحسب ًا لحاالتٍ كتلك فقط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والدتي‪ ،‬وبدا حينها كأنّه أعطاني رقمه‬
‫كنت ألتقي به في‬ ‫كنت أعلم أنّه سيكون مستيقظ ًا‪ ،‬ألنّي غالب ًا ما ُ‬‫كما ُ‬
‫المس�جد عند صالة الفجر‪ .‬ر ّد على اتصالي‪ ،‬فش�رحت له الموقف‬
‫فعلت ذلك مع ذلك التوتر ون ّز‬ ‫ُ‬ ‫بس�رعة‪ ،‬وإلى اآلن ال أدري كيف‬
‫حينا‬ ‫العرق والصدمة‪ .‬أس�رع بالمجيء جري ًا‪ ،‬ألنه كان من س�كان ّ‬
‫فتح�ت له الباب بعد‬ ‫ُ‬ ‫ول�م يك�ن يفصله عن منزلنا س�وى ش�ارعين‪.‬‬
‫مهيئ ًا‪« :‬اجلب لي‬ ‫أن لمحته من النافذة‪ ،‬دخل وقال لي كالم ًا كان ّ‬
‫مفاتي�ح والدت�ك»‪ .‬ذهب�ت للبحث عنها هلع ًا‪ ،‬ث�م جلبتها له‪ .‬حمل‬
‫ثم ذهب مسرع ًا بها إلى‬ ‫الضعيف بين ذراعيه بحذر‪َّ ،‬‬ ‫جسد والدتي ّ‬
‫المستشفى‪.‬‬
‫جدي م�ن نومه الثّقيل‪ ،‬كاد أن‬ ‫أس�رعت ألوقظ ّ‬
‫ُ‬ ‫عندم�ا غ�ادر‪،‬‬
‫يصفعني بعد أن أيقظته‪ ،‬شرحت له الوضع سريع ًا هو اآلخر‪ ،‬حينها‬
‫ارتدى معطفه دون أن يغس�ل وجهه أو يغير مالبس�ه‪ .‬خرجنا بدون‬
‫ٍ‬
‫س�يئي الحظ‪ ،‬فعلى‬ ‫تفكير نبحث عن س�يارة أجرة لتق ّلنا‪ ،‬لكن ك ّنا ّ‬
‫تمر أي واحدة في ذلك الوقت المبكر‪ .‬فقررنا العدو‬ ‫غير عادة لم َّ‬
‫إلى المستشفى‪ ،‬الذي كان يستغرق الوصول إليه خمس عشرة دقيقة‪.‬‬
‫عندم�ا وصلن�ا‪ ،‬وجدن�ا ال ّطبي�ب خ�ارج المستش�فى‪ ،‬وجدن�اه‬
‫مرة‬ ‫أول ّ‬
‫يجلس على الدرج األمامي يد ّخن س�يجارة‪ ،‬وكانت تلك ّ‬
‫‪31‬‬
‫لمحت وجهه عبر المس�افة القصيرة التي تفصلنا عنه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أراه يد ّخن‪،‬‬
‫الضيق‪ .‬لن أقول أنّي‬ ‫ش�يء من ّ‬ ‫ٌ‬ ‫عادية وفيها‬
‫ّ‬ ‫بدت لي مالمحه غير‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وأن ذلك الش�تات‬ ‫ت ّ‬‫فهمت األمر من بدايته بأنّي ُش� ّت ُّ‬
‫سيش�طر نصف�ي الثان�ي إلى أنصاف وغبار‪ ،‬ولك ّني ش�عرت بخطب‬
‫المرة األولى التي‬ ‫ما ليس كما كان يحدث س�ابق ًا‪ ،‬ولم تكن تلك ّ‬
‫كنت أعيش ّأيام ًا وليالي مثل‬ ‫شهدت فيها حال ًة كتلك لوالدتي‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ُ‬
‫أظن بأ ّن ليلتها تلك هي األخيرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬ولم‬
‫ج�دي جالس� ًا‪ ،‬وق�ع أرض ًا س�اجد ًا يبكي ويضرب‬ ‫عندم�ا رآه ّ‬
‫الصم�اء‪ ،‬وبدا لي كأنّه يطرق بابها ليخبرها بأ ّن‬ ‫بكلت�ا يدي�ه األرض ّ‬
‫انحنيت أحاول رفع‬‫ُ‬ ‫ش�خص ًا آخر س�يأتي زائر ًا ليس�كن دون عودة‪.‬‬
‫الدم يسيل من يديك‪..‬‬ ‫«جدي انهض‪ ..‬ماذا تفعل‪ّ ..‬‬ ‫جدي قائالً له‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫والدت�ي تنتظ�ر!!»‪ .‬رف�ع رأس�ه حينها ومالمح االفتقار تلتبس�ه‪ ،‬نظر‬
‫ثم احتضنني بين أضلعه ونطق‬ ‫األبوة يهطل من عينيه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلي وسائل‬ ‫َّ‬
‫بكلمات عمياء في شبه صراخ مبحوح‪ ..« :‬تركتني زوجتي‪ ،‬تركني‬
‫صهري‪ ،‬وابنتي اآلن تصفعني بتركها لي‪ ،‬فال تتركني أنت أيض ًا‪.»..‬‬
‫كالصخر‪ ،‬كان فقط ال ّتفكير بموت والدتي يأخذ‬ ‫ّ‬ ‫علي كلماته‬ ‫وقعت ّ‬
‫رت‬‫وج ُّل ما فكّ ُ‬
‫أستعد له‪ُ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫م ّني الكثير‪ ،‬والحق أن أمر ًا كذاك كنت‬
‫في�ه وقته�ا ه�و ترك والدتي لصغ�ري األحمق يعيش وحده في ج ّنة‬
‫من األلم‪.‬‬
‫شعرت بأني أشالء‪ ،‬كان داخلي يئن دون أن أنبس ببنت شفة‬ ‫ُ‬
‫أتخيل مصيري اآلتي؛ أ ّن‬
‫ّ‬ ‫رحت في تلك اللحظات‬ ‫ُ‬ ‫أو أذرف دمعة‪،‬‬
‫أقبل رأسها‬ ‫تعد لي الفطور‪ ،‬ولن ّ‬ ‫والدتي لن توقظني صباح ًا‪ ،‬ولن ّ‬
‫الش�ريف‪ ،‬ول�ن أذه�ب معه�ا إل�ى مرك�ز ال ّتحليالت لجل�ب نتائج‬
‫‪32‬‬
‫أقبلها‪ ،‬ولن أس�مع‬ ‫الفحوصات‪ ،‬ولن أش�تم ح ّناءها في يدها عندما ّ‬
‫كنت أكرهه‪.‬‬‫ُ‬ ‫صراخها الذي‬
‫حب�ل مش�يمتي ُقط�ع عند الوالدة‪ ،‬وهنال�ك ُقطع حبل روحي‬
‫فقدت هويتي التي لم تعد لي يوم ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بالدنيا‪ ،‬وهنالك‬ ‫ّ‬
‫قال لنا الطبيب‪« :‬أتريدان رؤيتها؟»‪ .‬أجابه جدي بـ‪« :‬ال»‪ ،‬فقد‬
‫وأما ال ّتحمل عن�ده فقد اكتفى من‬ ‫الصب�ر بداخل�ه‪ّ ،‬‬ ‫عج�زت مضغ�ة ّ‬
‫تحمل�ه‪ ،‬فالي�د الت�ي رفعت تابوت وال�دي لم تعد قادر ًة على حمل‬ ‫ّ‬
‫تاب�وت آخ�ر‪ ،‬والعي�ن الت�ي رأت ما تبقّى من وال�دي لم تعد قادر ًة‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫أما أنا فقد جاء ردي‬ ‫على رؤية جسد ابنته نائم ًا دون ن َفس أو حراك‪ّ .‬‬
‫لعل‬ ‫أردت رؤيته�ا ألحت�رق بجمر الفراق وأُك�وى برحيلها َّ‬ ‫ُ‬ ‫إيجاب� ًا‪،‬‬
‫كل األحوال لم أكن ألراها بعد ذلك‪ ،‬كما أنّهم‬ ‫عيني تسيل‪ ،‬ففي ّ‬
‫يقولون إن أجس�اد األموات تكون مالمحها جميلة بعد أن ُيفارقوا‬
‫تبعت الطبيب بع�د أن أجبته بأني‬ ‫ُ‬ ‫الحي�اة ذهاب� ًا نح�و باب ّ‬
‫الس�ماء‪.‬‬
‫جدي على كتف�ه ودخلنا نحن الثالثة‬ ‫أري�د رؤيته�ا‪ ،‬فأس�ند الطبيب ّ‬
‫جدي في قاعة االس�تقبال‪ ،‬وذهبت أنا والطبيب‬ ‫المستش�فى‪ .‬تركنا ّ‬
‫أم�ي‪ .‬عندما رأيتها مغ ّطا ًة بمالءة الس�رير‬ ‫إل�ى الغرف�ة حي�ث توجد ّ‬
‫رفعت الغطاء عن وجهها‪ ،‬وهذا‬ ‫ُ‬ ‫س�ارعت بخطاي نحوها‪،‬‬‫ُ‬ ‫الزرقاء‪،‬‬
‫ِ‬
‫السقم‪،‬‬ ‫األخير كان ساكن ًا‪ ،‬تعلوه ابتسامة شاحبة‪ ،‬وكأنّه َيش ُّع بذهاب ّ‬
‫وفمها الباسم كان ُيشير إلى رسالة أخيرة منها لي‪ ،‬كأنّها تقول لي‬
‫أجر‬
‫خرجت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فيها‪« :‬ابتس�م من أجلي يا وحيد»‪ .‬لم أع ِ نفس�ي ح ّتى‬
‫هت‬ ‫توج ُ‬
‫حدقتي‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫دمع من‬
‫وجعي بألم تضاعف داخلي وانفرج معه ٌ‬
‫وجلس�ت بجانبه‪ ،‬ظللنا صامتين للحظات‪ ،‬بعدها‬ ‫ُ‬ ‫جدي‬
‫إلى حيث ّ‬
‫قلت له‪« :‬إ ّن والدتي تعتذر لكلينا لرؤيتها على ذلك ال ّشكل‪ ،‬وتقول‬ ‫ُ‬
‫‪33‬‬
‫غصة في‬ ‫أردفت بعد أن اعترضتني ّ‬ ‫ُ‬ ‫إنه يجب أن نعيش س�عيدين»‪،‬‬
‫«قل لي‪ ..‬هل س�نقدر؟»‪ .‬ضرب صدري بقبضة يده وقال‪:‬‬ ‫الحلق‪ْ :‬‬
‫«بالطبع سنقدر!»‪.‬‬
‫آخر كلمة لي له كانت‪« :‬سنرى»‪.‬‬
‫أس�عدت حقّ� ًا؟‪ ،‬ال ليس ب�ي صفة من قاموس‬ ‫ُ‬ ‫وه�ا أن�ا أرى‪،‬‬
‫السعادة‪ ،‬لك َّنني أبتسم‪ ،‬من أجل والدتي ال غير‪.‬‬
‫رحمكِ اهلل!‬
‫كره�ت كلمات العزاء‪ ،‬زادتني ألم ًا وغضب ًا وكره ًا‪ .‬ص ّلينا‬‫ُ‬ ‫ك�م‬
‫في اليوم التالي صالة جنازتها في المسجد بعد صالة الظهر‪ ،‬وكما‬
‫الصف‪ .‬بعد انته�اء صالتنا عليها‪ ،‬خرجت‬ ‫صلي�ت ف�ي آخر ّ‬
‫ُ‬ ‫أذك�ر‪،‬‬
‫قطعت مسافات طويلة‪ ،‬مخ ّلف ًا‬ ‫ُ‬ ‫وكل ما أذكره بعدها هو أنّي‬ ‫مسرع ًا‪ّ ،‬‬
‫وعدت في وقتٍ متأ ّخر من الليل‪ .‬لم أدخل ش�يئ ًا‬ ‫ُ‬ ‫ذهابي للجنازة‪،‬‬
‫إلى معدتي‪ ،‬فمن أين عساه أن يمر الطعام ووالدتي لم تكن لتعود‪،‬‬
‫ِ‬
‫ث�م إنّ�ي لم أش�عر بالج�وع إزاء الح ْمل المبكر ال�ذي أثقل كاهلي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫علي‬‫إضاف ًة إلى األفكار الس�وداوية التي انتهزت فرصتها واس�تولت ّ‬
‫تغذيت فيها على‬‫ُ‬ ‫أغلقت على نفس�ي ثالث�ة أيام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ف�ي تل�ك الحالة‪.‬‬
‫علي طرحها على نفسي‬ ‫ّ‬
‫سقم الذكريات‪ ،‬وعلى األسئلة التي وجب َّ‬
‫عيني هاالت س�واد من‬ ‫ّ‬ ‫كي أخرج من ذلك الوضع‪ ،‬وطغت على‬
‫تعب البكاء ال ّطائش على وطن لن يعود‪ ،‬ولم أجد غير ال ّنوم وسيل ًة‬
‫كنت أنام‬‫كي أعالج به نفسي وأر ّتب به حاضري المهمل والمبعثر‪ُ .‬‬
‫ساعات طويلة‪ ،‬ح ّتى الق ّطة رثت لحالي وشعرت بحزن ٍ ينبعث من‬
‫غرفتي‪ ،‬فمن حين إلى حين كانت تأتي وتجلس أمام الباب وتبقى‬
‫ٍ‬
‫ألربت على‬ ‫م�رات تخدش باب الغرف�ة لع ّلي أفتح ّ‬ ‫تم�وء‪ .‬س�معتها ّ‬
‫‪34‬‬
‫اعتدت أن أفعل مداعب ًة لها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫رأسها وأمسح على أذنيها وذقنها كما‬
‫جدي باب غرفتي ذلك الذي‬ ‫لم أكن أس�تيقظ إلاّ على طرق ّ‬
‫كان يعلمني بأنّه قد أتى الفتات الذي أبقى على حياتي‪ ،‬تلك ال ّشطائر‬
‫تعدها والدتي‪.‬‬
‫األصل التي كانت ّ‬
‫تقبل�ي الوض�ع كان صعب� ًا‪ ،‬ول�م ينب�س ببنت‬ ‫ج�دي أن ّ‬ ‫فه�م ّ‬
‫تعدها‬
‫ش�فة ف�ي تل�ك الفت�رة‪ ،‬اكتفى بتحضير ال ّش�طائر الت�ي كانت ّ‬
‫فجدي كان‬ ‫ل�ي والدت�ي‪ ،‬أو باألح�رى الت�ي ع ّلمها جدي والدت�ي‪ّ ،‬‬
‫متمرس� ًا‪ ،‬وكانت تم ّتعني تش�بيهاته الغريبة‬
‫فيم�ا مض�ى رئي�س طهاة ّ‬
‫ٍ‬
‫الدم‪ ،‬والتي ال تخلو من ش�يء ُيؤكل أو ُيش�رب‪،‬‬ ‫المصحوبة بخ ّفة ّ‬
‫كأن يرى امرأ ًة سمينة في التلفاز فيقول لي‪« :‬كوكا كوال اثنان لتر»‪،‬‬
‫لك�ن م�ا كان يس�تف ّزني هو العبارة التي تل�ي تلك الكوكا اثنان لتر‪:‬‬
‫«كوكا كوال اثنان لتر‪ ،‬لك ّني أحب شكلها‪ ،‬ألنّه يشبه شكل زوجتي»‪،‬‬
‫سمي الطفالت الصغيرات ذوات الثّالث سنوات أو السنتين‬ ‫أو كان ُي ّ‬
‫بـ‪« :‬غزل البنات»‪ ،‬يقولها عن خدودهن‪ ،‬ألنّها رطبة وحلوة‪ ،‬وتصلح‬
‫ومعنى‪.‬‬
‫ً‬ ‫لألكل تشبيه ًا‬
‫توال�ت األي�ام بعد فقدان�ي والدتي‪ ،‬هزيمتي الثّانية التي زادت‬
‫على ميزان خس�ارة ٍ س�ابقة‪ ،‬ل ُتثقل قس�طاس صبري الذي اس� ُتبدل‬
‫كل ذلك جحيم ًا‪ ،‬وإيماني‬ ‫أصبحت ّأيامي بع�د ّ‬
‫ْ‬ ‫بآخ�ر أكب�ر حجم ًا‪.‬‬
‫وكنت في‬
‫ُ‬ ‫معدل�ه ينق�ص بدرجات ودرج�ات‪.‬‬ ‫ف�ي المواصل�ة كان ّ‬
‫أفكار من س�رابٍ ال‬ ‫ليلة أضع رأس�ي على الوس�ادة‪ ،‬تحت ّلني‬ ‫كل ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫س�أتصرف به�ا في تلك‬‫ّ‬ ‫كن�ت أفك�ر ف�ي الكيفية التي‬ ‫ُ‬ ‫ُيلتق�ط‪ ،‬فق�د‬
‫الحرب الباردة التي دخلتها بدون إذن‪ ،‬فكرت في كون الحياة التي‬
‫ستؤولها حياتي والطرائق التي سأ ّتخذها ألواجه بها العراقيل بدون‬
‫‪35‬‬
‫س�يمكنني أن أعيش مع قلقي الذي ال‬ ‫أم�ي‪ .‬وكيف ُ‬ ‫صم�ام أمان�ي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫كنت أنظر إليه كوحش ٍ عمالق سيأكلني‪،‬‬ ‫ينتهي من المستقبل الذي ُ‬
‫ٍ‬
‫سيمكنني أن أصل بكهولة اكتسبتها مبكّ ر ًا إلى ذروة النجاح‪.‬‬ ‫وكيف ُ‬
‫فق�دت مرونتي منذ ذلك الوق�ت‪ ،‬فقد كانت مراهقتي‬ ‫ُ‬ ‫والح�ق أنّ�ي‬
‫ّ‬
‫لكن طاقاتها كُ بحت واختفت بخطوط‬ ‫ّ‬ ‫تحلم بفيض أحالم عديدة‪،‬‬
‫جبين هرمي المبكّ ر من أثر الحرمان‪ ،‬فكُ تب َّ‬
‫علي‪ ..‬حينها أن أغدو‬
‫السن شاخ قبل أوانه‪.‬‬ ‫كهالً صغير ّ‬
‫والركود اللذين احتقنا‬
‫السكون ّ‬ ‫كانت تلك المح ّطة هي مرحلة ّ‬
‫كنت أعلم أن القادم لن يكون حميد ًا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫في أوردتي‪ ،‬ألنّي ُ‬
‫منصة أداء الواقع‬
‫قد تبقّى لي خيار غير أن أعيش على الهامش‪ ،‬وراء ّ‬
‫يهمني ما الذي سأخس�ره‬ ‫كي ال ألتقط حزن ًا آخر يقطعني إرب ًا‪ .‬لم ّ‬
‫الدنيا‪ ،‬وخياري ذاك‬
‫لتصوف�ي واعتزالي ما تحكي�ه ّ‬ ‫ّ‬ ‫بع�د أن أخل�ص‬
‫سادية الحاضر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حتمي ًا كي ُتخطئني‬
‫ّ‬ ‫مجرد صدفة‪ ،‬بل كان‬‫ّ‬ ‫لم يكن‬
‫فأمس�يت أمثّله في لحظاتي هذه‪ ،‬فها‬
‫ُ‬ ‫الس�بيل‬
‫أتقنت دور عابر ّ‬
‫ُ‬
‫كل يوم‬
‫منف�ي في ش�قّة كراهب‪ ،‬وف�ي ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫عاب�ر ف�ي كالم عاب�ر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أن�ذا‬
‫نصي الطويل‪..‬‬ ‫أجرب تعويذة حروف ُتكمل ّ‬ ‫ّ‬
‫***‬
‫رب�ت عل�ى كتف�ي كثي�ر م�ن األصدق�اء‪ ،‬أش�عروني بكثير من‬ ‫ّ‬
‫الرض�ى واألن�س‪ ،‬إلاّ أ ّن كلماتهم كان�ت تنتهي بعد غيابهم‪ ،‬فمهما‬
‫ّ‬
‫وأحن وأق�رب فإنّها كانت تزول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كان�ت كلم�ات عزائه�م لي أرقى‬
‫عت‬
‫تجر ُ‬
‫كنت أنا وحدي المصاب‪ ،‬وحدي من ّ‬ ‫ألنّه في آخر األمر ُ‬
‫يهمني األمر‪.‬‬
‫العلقم‪ ،‬وألنّني وحدي من كان ّ‬
‫يغير مأكلي‬
‫جدي أن ّ‬ ‫قرر ّ‬
‫مضي سنتين على وفاة والدتي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعد‬
‫‪36‬‬
‫بالذه�اب للعي�ش عند الخالة ه�دى‪ ،‬تلك الخالة التي لم‬ ‫ومش�ربي ّ‬
‫لجدي‪ ،‬هي أكبر‬ ‫أكن أراها إلاّ في المناسبات فقط‪ ،‬واالبنة المتبقّية ّ‬
‫وربما لصفتها تلك قد آثر‬ ‫من والدتي‪ ،‬كانت لئيمة بعض الش�يء‪ّ ،‬‬
‫ج�دي أن يقط�ن م�ع والدتي‪ .‬اضطررنا إلى العي�ش معها رغب ًة من‬ ‫ّ‬
‫وافقت ألنّي‬
‫ُ‬ ‫قدم في العمر‪.‬‬ ‫ج�دي ال�ذي احت�اج إلى العناية ألثر ال ّت ّ‬ ‫ّ‬
‫وأحبب�ت الفكرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ارتأي�ت أ ّن تغيي�ر موط�ن األل�م س�يكون أفضل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تحبني‪ ،‬لس�بب مجهول‪ ،‬والذي أظ ّنه‬ ‫رغم أن تلك الخالة لم تكن ّ‬
‫لكونها لم ُتنجب في عدد والداتها الثّالث س�وى البنات وبس�بب‬
‫زوجه�ا ال�ذي اش�تكى يوم� ًا في والدتها األخي�رة‪ ،‬والتي كانت بعد‬
‫يورث اسمه‪،‬‬ ‫بذكر ّ‬‫ٍ‬ ‫وفاة والدي بعد س ّتة أشهر ونصف‪ ،‬ألنّه رغب‬
‫وكاد أن يرغمها على إجهاض الجنين‪ ،‬وليته فعل‪.‬‬
‫جدي فكرة‬ ‫طيب‪ ،‬وهو الذي عرض على ّ‬ ‫زوجها «وديع» رجل ّ‬
‫ألح عليه في ال ّطلب‪ ،‬والءمتني أوضاع‬ ‫اللجوء إلى العيش معهم‪ ،‬بل ّ‬
‫واعتبرت نفس�ي غريب ًا‬
‫ُ‬ ‫العي�ش ف�ي منزله�م‪ .‬أخذت ال ّطابق األخير‪،‬‬
‫خفيف� ًا ال غي�ر‪ ،‬إل�ى أن يأت�ي يوم مغادرتي‪ ،‬بدون رس�الة وداع وال‬
‫رت أس�ماء بنات خالتي بصعوبة لفرط‬ ‫وصي�ة أق�دار‪ ،‬ح ّتى أنّي تذكّ ُ‬
‫ّ‬
‫الصغ�ر‪ ،‬فقد كانت عالقت�ي بهن باردة‬ ‫العالق�ة البعي�دة معه�ن من�ذ ّ‬
‫قليلاً‪ ،‬أتذكّ �ر أ ّن الكب�رى منه�ن صفعتني‪ ،‬في الخامس�ة من عمري‬
‫لعبثي بصنبور الماء في إحدى ال ّزيارات‪ ،‬ومنذ ذلك الحين وأنا ال‬
‫الذهاب مع والدتي رغم إلحاحها‪،‬‬ ‫وكنت أرفض بعد ذلك ّ‬ ‫ُ‬ ‫أقربهن‪،‬‬
‫ذهب�ت فال أقرب أحد ًا منه�ن‪ .‬من صفعتني كانت‬ ‫ُ‬ ‫وح ّت�ى إن كن�ت‬
‫هي «فاطمة الزهراء»‪ ،‬تكبرني بس�بع س�نوات‪ ،‬وأختها «مريم» التي‬
‫أما الصغرى فيهن فكانت «ياسمين» ذبول زهر حظي‬ ‫تصغرها بسنة‪ّ ،‬‬
‫‪37‬‬
‫الدونية منذ الصغر‪ ،‬بل قبل أن تولد‪.‬‬ ‫العثر‪ ،‬فر ٌد آخر حمل جينة ّ‬
‫ما زلت أذكر اليوم األول لي في المنزل‪ ،‬لم أكن أعلم ح ّتى‬
‫كنت أسمع اسمها دون أن‬ ‫أن لياسمين وجود ًا في تلك العائلة‪ ،‬بل ُ‬
‫أش�تم وجود ًا‬
‫َّ‬ ‫أعلم أنّها قريبتي‪ .‬وحتى اآلن ال أدري كيف أنّي لم‬
‫لرائحة أزهار دمشق التي رتعت بينها‪ .‬ح ّتى أنّي ظننت أنّها الخادمة‬
‫حضور لي‬‫ٍ‬ ‫أول‬
‫مرات في ّ‬ ‫عندما رأيتها للمرة األولى‪ .‬رأيتها ثالث ّ‬
‫مرة تلبس وزرة طبخ وتضع غطاء رأس بعقدة‬ ‫إل�ى المن�زل‪ ،‬رأيته�ا ّ‬
‫السطح المط ّلتين على‬ ‫أرنبية على جبينها‪ .‬ورأيتها أخرى من نافذتي ّ‬ ‫ّ‬
‫الخارج‪ ،‬كانت تحمل كيس قمامة ترميه في الحاوية‪ ،‬ح ّتى أنّي لم‬
‫أتفرس في مالمح وجهها‪ .‬والثالثة عندما كانت تالعب هرة منزلنا‬ ‫ّ‬
‫التي انتقلت بدورها معنا‪.‬‬
‫مج�رد نظ�رات فق�ط‪ ،‬وكان بع�د ال ّظهي�رة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األول‬
‫كان لقاؤن�ا ّ‬
‫جدي التي نس�يها‪.‬‬ ‫ع�دت إل�ى منزلن�ا ألجلب حقيب�ة ّ‬ ‫ُ‬ ‫حي�ث أنّن�ي‬
‫ُ‬
‫الضخمة‪ ،‬التي أتعبتني في‬ ‫السلالم حامالً الحقيبة اليدوية ّ‬ ‫صعدت ّ‬
‫ُ‬
‫وكن�ت س�عيد ًا لع�دم إمداد أحدهم الع�ون لي‪ ،‬فذلك كان‬ ‫ُ‬ ‫حمله�ا‪،‬‬
‫صعدت بها إلى ال ّطابق‬ ‫ُ‬ ‫علي لحظتي المس�تقبلية‪.‬‬ ‫سيفس�د َّ‬ ‫بال ريب ُ‬
‫السطح‬ ‫لمحت باب ّ‬
‫ُ‬ ‫السطح‪ ،‬كنت‬ ‫العلوي واألخير‪ ،‬المتداخل مع ّ‬
‫وأكملت خطواتي ال ّتعبة نحو باب ال ّطابق على‬ ‫الموارب‪ ،‬فلم أبال ِ‬
‫ُ‬
‫ارتميت على‬‫ُ‬ ‫وضعت الحقيبة‪ ،‬ث�م‬ ‫ُ‬ ‫الس�طح الحدي�دي‪.‬‬ ‫يس�ار ب�اب ّ‬
‫أحد قد‬‫إح�دى األرائ�ك أف�رغ تعب�ي بنفس ٍ طويل ٍ ُمجهد‪ .‬ل�م يكن ٌ‬
‫بالرغم من تأثيثه وجعله مكان ًا يصلح‬ ‫اتخذ من ال ّطابق مسكن ًا‪ ،‬لذا ّ‬
‫والسكون والخواء‬ ‫لشخصين أتيا من منفى إلى منفى‪ ،‬فغبار الوحدة ّ‬
‫فشعرت لحظتها بضيق‬ ‫ُ‬ ‫من األنفس كان ال يزال يجول في دهاليزه‪،‬‬
‫‪38‬‬
‫ضد الروائح‪ ،‬فلم أجد مفر ًا س�وى أن‬ ‫في ال ّتنفس لحساس�ية أنفي ّ‬
‫فوجئت بها‬
‫ُ‬ ‫فوجئت بها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أفتح ال ّنافذة المط ّلة على السطح‪ ،‬وهنالك‬
‫هي ذات الشعر األسود الذي يصل إلى خصرها‪ ،‬كانت تحمل بيدها‬
‫الصغيرة‪ .‬لم‬ ‫الس�طح ّ‬ ‫تطل من نافذة ّ‬ ‫غطاء رأس�ها األبيض‪ ،‬وكانت ُّ‬
‫تشعر بوجودي من قبل‪ ،‬وفور فتحي لل ّنافذة التي أصدرت صرير ًا‪،‬‬
‫فجائية تتماوج مع انس�دال شعرها الذي لمع في‬ ‫ّ‬ ‫اس�تدارت بحركة‬
‫عيني إزاء انعكاس ضوء ال ّش�مس على لونه األس�ود‪ ،‬لوهلة وقتها‬ ‫ّ‬
‫ظنن�ت أنّ�ه ش�بح والدت�ي‪ ،‬كانت تلك لحظة من ال ّش�وق بعد مرارة‬ ‫ُ‬
‫س�نتين أستس�يغ فيهما طعم النظر في عينين بنيتين تفيضان تس�اؤالً‬
‫القط لس�اني‪ ،‬وانحبس�ت كلمة التحية في حلقي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أمي‪ .‬أكل‬
‫كعيني ّ‬
‫ُ‬
‫ومئ برأس�ي مبتس�م ًا‪ ،‬فر ّدت هي أيض ًا ابتس�امتي‬ ‫فلم أقدر إلاّ أن أ َ‬
‫دخل�ت إل�ى قوقعت�ي وراء ال ّنافذة‬ ‫ُ‬ ‫بأخ�رى صغي�رة بغمازتي�ن‪ ،‬ث�م‬
‫ِ‬
‫مت على‬ ‫كنت تعب ًا‪ ،‬فن ُ‬ ‫أتفوه بكلمة‪ ،‬وقد ُ‬ ‫كس�لحفاة خائفة دون أن ّ‬
‫مخيلتي كهاجس‪..‬‬ ‫لكن عينيها علقتا في ّ‬ ‫ّ‬ ‫فوري‪،‬‬
‫أول م�ا عرفته�ا‪ ،‬لقائ�ي الثّاني بها‬ ‫كان�ت ياس�مين حذق�ة م�ن ّ‬
‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫وكنت وقتها‬
‫ُ‬ ‫والذي أتى سريع ًا وفي اليوم نفسه‪ ،‬كان ليالً‪،‬‬
‫إلى السطح‪ ،‬حامالً حصيرة أجلس عليها‪ُ ،‬م ّتكئ ًا بظهري على حائط‬
‫ومس�تند ًا إل�ى وس�ادة‪ .‬ل�م يمض ِ زم�ن قصير على جلوس�ي‪ ،‬ح ّتى‬
‫فأشرت بإشارة ٍ صوتية‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫س�معت طرقاتٍ على باب ال ّش�قة الصغيرة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫سمعت صرير الباب الحديدي ُيفتح والذي‬ ‫ُ‬ ‫جدي»‪،‬‬ ‫«أنا هنا أنا هنا يا ّ‬
‫تركته ش�به مغلق‪ ،‬كان الباب على يس�اري ويبعد ع ّني حوالى ثالثة‬
‫ُلت دون أن أنظر على يساري‪« :‬تأ ّخرت‪،‬‬ ‫جدي‪ ،‬فق ُ‬ ‫حسبت أنّه ّ‬
‫ُ‬ ‫أمتار‪.‬‬
‫أهذه ك ّلها صالة؟!»‪ .‬جذبت أنفي رائحة زكية‪ ،‬فاستدرت حينها على‬
‫‪39‬‬
‫مرة أخرى‪ .‬قالت لي‪« :‬إنّهم ينتظرونك‬ ‫يساري‪ ،‬فإذا بي ألتقي بعينيها ّ‬
‫شيء من الحزم‪« :‬سآتي بعد قليل»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫على العشاء»‪ ،‬أجبتها بنبرة فيها‬
‫ل�م ُتغ�ادر واقترب�ت حيث أجلس‪ ،‬وقالت‪« :‬م�اذا تفعل؟»‪ ،‬لم أفكّ ر‬
‫شعر إليليا أبو ماضي‪ ،‬فأجبتها مقتبس ًا منه‪« :‬كما‬ ‫ٍ‬ ‫حينها إلاّ في بيتِ‬
‫أمل فال ّتأ ّلم‪ .»!..‬قالت تمازحني‪« :‬ال‬
‫يفع�ل أولئ�ك الذين يريدون ال ّت ّ‬
‫قلت لها‪« :‬مضت‬ ‫جاهلي ًا»‪ ،‬ثم أضافت‪« :‬آسفة على خسارتك»‪ُ .‬‬ ‫ّ‬ ‫تكن‬
‫سنتان اآلن‪ ،‬فال داعي‪ ،»..‬ثم أردفت‪« :‬آسف على سؤالي هذا‪ ،‬ولكن‬
‫من أنتِ؟»‪ .‬س�معتها وهي تحاور نفس�ها همس� ًا تقول‪« :‬صحيح ما‬
‫قلت لحظتها‪« :‬وهل أعرفك؟»‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫جدي‪ ،‬ال يعرفني حتى!» ُ‬ ‫قاله ّ‬
‫تس�اءلت بدوري مع‬
‫ُ‬ ‫«لنقل أني قريبتك الصغرى في هذه العائلة»‪.‬‬
‫أفس�حت‬
‫ُ‬ ‫نفس�ي بأنّي أعرف فاطمة الزهراء ومريم‪ ،‬فمن هي إذن؟‪.‬‬
‫لها مجاالً للجلوس‪ ،‬جلس�ت وألصقت ظهرها على الحائط مثلي‪.‬‬
‫ق ُل�ت له�ا‪« :‬إذ ًا اس�مكِ هو؟‪« ..‬قالت وهي تس�تف ّزني‪« :‬أال تخجل!‬
‫هذه بداية خاطئة يا قريبي‪ ،‬والدتك أعطتني اسمي وأنت ال تعرفني‬
‫ول�م ترن�ي ف�ي حياتك‪ ،‬ال يليق هذا ي�ا بن الخالة‪ ،‬ال يليق!»‪ ،‬قلت‬
‫ش�عرت بالحرج‪« :‬آس�ف ولكن‪ ،»..‬قاطعتني‪« :‬أمزح فقط»‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫أسهل عليك األمر؟»‪،‬‬ ‫فت‪« :‬لكن يجب أن تكتشفه بنفسك‪ ،‬هل ّ‬ ‫أر َد ْ‬
‫قلت‪« :‬من فضلك!!»‪ ،‬قالت‪« :‬اس�مي على اس�م نوع من األزهار»‪،‬‬
‫رحت أفكّ ر‪ ،‬ولم يخطر في ذهني س�وى‬ ‫ُ‬ ‫متعجب� ًا‪« :‬أزه�ار!!»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قل�ت‬
‫ُ‬
‫كنت أس�مع اس�م ياسمين دون‬ ‫الياس�مين صديق طفولتي‪ ،‬كما أنّي ُ‬
‫السنين‪.‬‬
‫أن أبالي بهوية حاملته طوال تلك ّ‬
‫كنت أحاول التفكير بعمق‪ ،‬كانت اللغة اإلنجليزية تأخذ‬ ‫ك ّلما ُ‬
‫فقلت بصوتٍ قريبٍ للهمس أحاور به نفسي دون أن‬ ‫ُ‬ ‫لساني عنو ًة‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫أعي أنّها ستسمعني‪:‬‬
‫»?‪«Could she be Jasmine‬‬
‫جاءني ر ّدها سريع ًا‪ ،‬فضربت كتفي بيدها وقالت‪:‬‬
‫»!‪«Yep! She could be‬‬
‫ضحك�ت م�ن اس�تهتارها وقل�ت‪« :‬إذن فلا داع�ي ل�ي م�ن‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫كن�ت أعرف�ك وأجهل�ك في الوقت نفس�ه»‪ ،‬قالت‪« :‬هذا‬ ‫ِ‬ ‫االعت�ذار‪،‬‬
‫ُ‬
‫الصدى‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وقلت بصوت عديم ّ‬ ‫ُ‬ ‫السماء‬
‫هززت رأسي نحو ّ‬ ‫ُ‬ ‫ما يبدو»‪.‬‬
‫«نع�م هك�ذا تب�دو علي�ه األمور‪ ،‬قل�تِ إن والدتي ه�ي من أعطتكِ‬
‫س�متكِ األموات‪،‬‬
‫فقلت أنا‪« :‬أنت أيض ًا ّ‬ ‫ُ‬ ‫اس�مك؟»‪ .‬أومأت إيجاب ًا‪،‬‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫أعتقد أنّه لن تخفى عنك حروف شخص شهير مثلي‪ ،‬فرد فقد ّ‬
‫أبوة وأمومة»‪ .‬قالت «ربما»‪ ،‬قلت وأنا أش�يح وجهي‬ ‫ما يملك من ّ‬
‫عنه�ا نح�و األف�ق‪« :‬ليس عدالً»‪ .‬س�اد ش�يء من الصم�ت بيننا بعد‬
‫ش�طرت اللحظ�ة بضحكة طائش�ة خرجت م�ن فمي‪ ،‬فقالت‬ ‫ُ‬ ‫ذل�ك‪.‬‬
‫«أتصدقين‪ ،‬ظننتكِ خادمة المنزل»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ل�ي‪« :‬إذ ًا‪ ،‬م�ا المزحة؟»‪ ،‬قل�ت‪:‬‬
‫متحدية كاألطفال‪« :‬ال يليق‪ ،‬ال ُيناسب‪ ،‬كنت‬ ‫ّ‬ ‫أجابتني بنبرة ساخرة‬
‫تجهلن�ي وتجه�ل وج�ودي‪ ،‬واآلن ظنن�ت أنّي الخادم�ة‪ ..‬ما هذا‪..‬‬
‫قل‪ ..‬ماذا أيض ًا؟؟!!»‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫قل‪ْ ،‬‬
‫هل لديك ش�يء آخر ال أعرفه‪ْ ..‬‬
‫ٍ‬
‫«كل شيء جديد هنا‪ ،‬فكوني لطيفة من فضلك»‪ ،‬قالت‪« :‬أتعلم‪ ،‬أنا‬ ‫ّ‬
‫كل هذا‪ ،‬س�أجعلك تعيش جحيم ًا‬ ‫عصبية‪ ،‬قد أفعل بك ش�يئ ًا بعد ّ‬
‫نهضت قائالً حينها بعد أن اكتفت غدة مزاحي‪« :‬افعلي‬ ‫ُ‬ ‫إذا أردت»‪.‬‬
‫ما تشائين‪ ،».‬ثم أردفت‪« :‬أنا جائع‪ ،‬أنذهب أم ماذا؟»‪ ،‬قالت‪« :‬هيه!‬
‫ِ‬
‫قلت مغادر ًا وه�ي تتبعني‪« :‬الحق ًا‪ ،‬الحق ًا»‪ ،‬بعدها‬ ‫ل�م أنت�ه منك!»‪ُ ،‬‬
‫غادرنا إلى العشاء‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫العشاء‪ ،‬أن ال يكون‬
‫كل لقمة في ذاك َ‬ ‫تحايلت على نفسي في ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كل عود يابس ٍ‬
‫جيد ًا أن قدر ّ‬
‫كنت أدري ّ‬ ‫للقدر يد في كل ذاك‪ ،‬ألنّي ُ‬
‫ٍ‬
‫كل زهرة ُتنبذ‪ ..‬هو ّ‬
‫الذبول‪.‬‬ ‫هو الكسر‪ ،‬وأن مصير ّ‬

‫‪42‬‬
‫‪IV‬‬

‫م�رت تس�ع س�نوات عل�ى وفاة والدت�ي‪ ،‬هي مقتب�ل عمري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫س�ت وعش�رون سنة أحملها أعداد ًا‪ .‬تغيرت حياتي قليالً مع عملي‬
‫غادرت منزل خالتي ُهدى وأنا في العش�رين من‬ ‫ُ‬ ‫وم�ا ط�رأ بع�د أن‬
‫عمري إلى فرنسا بهدف الدراسة‪ ،‬أربع سنوات زادتني فيها الغربة‬
‫جدي وياس�مين‪ ،‬وغرفتي‬ ‫افتقدت في ذلك المنزل ّ‬ ‫ُ‬ ‫إيالم� ًا ووجع� ًا‪،‬‬
‫بجدرانها األربعة التي تركت على أحدها شرخ ًا صغير ًا يعود للكمة‬
‫غضبت‬
‫ُ‬ ‫سبابتي اليمنى‪ ،‬عندما‬ ‫بيدي‪ ،‬والتي بسببها كنت قد كسرت ّ‬
‫من كالم ٍ قيل وراء ظهري من خالتي ُهدى‪ ،‬وهي تتجاذب أطراف‬
‫�ن يتوافدن عليها‬ ‫الحدي�ث عن�ي مع جماعتها من النس�اء اللواتي كُ َّ‬
‫كل يوم س�بت للحديث‪ .‬ويبدو أ ّن ولعي باآللة الحاس�بة ترك أثر ًا‪،‬‬
‫ألعمل محاس�ب ًا في ش�ركة صغيرة أُ ّسس�ت من طرف جدي الذي‬
‫تركها ألحد أصدقائه بعد أن رفضت أنا رئاستها‪ ،‬فلم أرد أن أظهر‬
‫للعلن‪ ،‬كما أني لست محتاج ًا لذلك القدر من األهمية‪ ،‬فقد كنت‬
‫أؤمن بأني يوم ًا ما س�يحدث لي ما أعيش�ه اآلن‪ ،‬كما أني لم أكن‬
‫علي ذل�ك المنصب من المال‪ ،‬فقد ورثت‬ ‫محتاج� ًا إل�ى ما س�يدره ّ‬
‫كل ما يملكه والدي ووالدتي شرع ًا‪ ،‬وما ورثته و ّزعته على جمعيات‬
‫ب�وة‪ ،‬فأنا أيض ًا‬
‫ي�ورث األنبياء ش�يئ ًا لبنيهم غير ال ّن ّ‬
‫خيري�ة‪ ،‬وكم�ا ال ّ‬
‫‪43‬‬
‫متكس�رة كا ّلتي كان يحملها والداي‪ .‬وحس�ابي البنكي‬ ‫ثت روح ًا‬ ‫ِ‬
‫ور ُ‬
‫ّ‬
‫ممتلئ ينتظر أن ُيصرف فقط‪ ،‬ويا ليتني كنت كذلك الشخص الذي‬
‫يتمنى حدوث أمنية صرف أمواله في ش�راء الس�عادة‪ ،‬والذي يتمنى‬
‫لو كان في استطاعته أن ينقب عن الذهب والماس‪ ،‬ليشتريها كلها‬
‫كنت حكيم ًا‬ ‫ويكنزها ويتنرجس فيها لوحده‪ ،‬فيخدع نفسه بالحياة‪ُ .‬‬
‫ألخت�ار الح�زن بيع�ة‪ ،‬فهو ال يكلف ش�يئ ًا مقابل�ه‪ .‬ليس األمر كأني‬
‫أحاول ساعي ًا في جعل نفسي كئيب ًا‪ ،‬فذلك يحدث من تلقاء نفسه‪،‬‬
‫وكون�ي ه�ذا الش�خص م�ا هو إال رغبة في ع�دم التألم‪ ،‬فأن تخدع‬
‫عقلك الباطن بحالتك يغنيك عن الصدمة التي تأتيك فجأة‪ ،‬ألنك‬
‫تكون مهيأً للحزن‪ ،‬فال يشكل ذلك فرق ًا‪.‬‬
‫حب�ذ قت�ل الماض�ي‪ ،‬ألن�ه ال يم�وت‪ ،‬ول�م أع�د أحاول‬ ‫ُ‬
‫ل�م أ ّ‬
‫وكل‬‫أدركت أنّه مهم�ا حاولت‪ ،‬فال ُيمكنني‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫جاه�د ًا ال ّنس�يان‪ ،‬فقد‬
‫أصبح�ت ق�ادر ًا علي�ه ه�و أن أعبث بمحو بع�ض أجزائه‪ ،‬فكما‬ ‫ُ‬ ‫م�ا‬
‫كان�ت القاع�دة منذ القدم‪ ،‬بأنه يلزمني كإنس�ان كي أمحو منحنيات‬
‫الذاكرة‬ ‫أغير نمط عيشي وأقد ِ َم على عزل بحار ّ‬ ‫الرتابة فأواصل‪ ،‬أن ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫المتش�ابكة بتغيي�ر األف�كار بأخرى وأخذ س�بل أخ�رى كي ال أك ّل‪،‬‬
‫ذكاء على‬ ‫ً‬ ‫فق�د أصب�ح كل ي�وم أملك�ه صراع ًا أحاول في�ه أن أزداد‬
‫الصمت وحدها أش�كال‬ ‫ما يغمرني‪ ،‬الس�يما وأن األصداء ولغات ّ‬
‫حياة بش�قّتي‪ ،‬ال أنيس لي غير اهلل وكلمات على كتب‪ ،‬إضافة إلى‬
‫اإليحاء المخيف لجدران شقتي الملتحفة برائحة الفراغ‪.‬‬
‫ما مضى ذهب‪ ،‬ولم يعد الماضي اليوم يمثل لي شيئ ًا‪ ،‬أمسى‬
‫ٍ‬
‫ب‬ ‫ع�دو ُيتط ّل ُ‬
‫ٍّ‬ ‫أروضه‪ ،‬أو مثل‬‫مث�ل حي�وان ش�رس ُيحت�اج م ّن�ي أن ّ‬
‫م ّن�ي أن أع ّلم�ه لغ�ة الح�روب جي�د ًا بتلقينه درس� ًا ف�ي الهزيمة‪ ،‬ال‬
‫‪44‬‬
‫يس�عني إلاّ أن أقول إنه أصبح حليفي‪ ،‬فك ّلما زاغت ملكة س�ؤالي‬
‫الحق أنّه قد‬‫ّ‬ ‫عدت إلى سيرتي الغابرة هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في ال ّتنقيب عن جواب‪،‬‬
‫وربما ما زال‬ ‫اكتفى في سنين خلت بحقن إبر المرارة في روحي‪ّ ،‬‬
‫فغدا أمر ًا طواعي ًا يش�كّ ل خطر ًا مهمالً‪،‬‬ ‫اعت�دت عليه َ‬
‫ُ‬ ‫وربم�ا‬
‫يفع�ل‪ّ ،‬‬
‫أشعر بخطره أحيان ًا‪ ،‬لكن سرعان ما ُينسى مع األحزان التي تتلقّفني‬
‫أصبحت على غي�ر العادة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وترم�ي ب�ي م�ن دربٍ إل�ى درب‪ ،‬فق�د‬
‫امرء ًا ُع ّدلت عجينته كي يعيش على الحزن‪ .‬وليس هذا شاذ ًا أيض ًا‪،‬‬
‫ملج�إ لتتد ّثر‪ ،‬فال تجد‬ ‫ٍ‬ ‫تبحث عن‬
‫ُ‬ ‫فكلمات�ي مثل�ي‪ ،‬حزين�ة وهارب�ة‬
‫سبيالً غير دواخلها كما ألجأ أنا إلى دواخلي‪ ،‬وسعادتي لم يكن أمر‬
‫مهم� ًا‪ ،‬ب�ل لم تعد مهمة ال قِدم ًا وال في هذه اللحظة وال‬ ‫وجوده�ا ّ‬
‫التي بعدها‪ ،‬فأنا أدري أنّي لس�ت أهالً ألنتمي إلى طبقة الس�عداء‪.‬‬
‫كل ش�يء قد ال يجد‬ ‫وال تعاس�تي هي األخرى تهم‪ ،‬فالذي اغتيل ّ‬
‫يتبق سوى‬ ‫ملجأ أفكار ي ّتقي فيه من دخان ما و ّلى من أحداث‪ ،‬فلم َّ‬
‫أشد سواد ًا من عتمة الليل‪ ،‬فرهبة‬ ‫عتمتي التي تنيرني ظلمةً‪ ،‬باطني ّ‬
‫أما أنا فماذا يضيئني؟ ومن‬ ‫كل األحوال بمصابيح‪ّ ،‬‬ ‫الليل ُتضاء في ّ‬
‫يضيئني؟ يمكن أن أقترح «المش�اعر»‪ ،‬لكن لس�وء الحظ‪ ،‬انخفض‬
‫أقل خطر ًا‬ ‫تركيز عواطفي على نفسي وعلى هذا العالم بأكمله‪ ،‬ليلي ُّ‬
‫نة تفاعل‬ ‫من سهدي القابع في بواطن الصدر‪ ،‬والذي يراقب دون ِس ٍ‬
‫ُ‬
‫يحرك وتر ًا‪..‬‬ ‫الدنيا بعضها مع بعض دون أن ّ‬ ‫مكونات ّ‬
‫ّ‬
‫وضع�ت الوقت ف�ي حالة انتظار‪ ،‬وأوقفت‬ ‫ُ‬ ‫كان الئق� ًا م ّن�ي أن‬
‫علي وما‬‫تأمل ما يطرأ ّ‬ ‫عجل�ة الزم�ن وعقاربه�ا التي تدور رغب ًة في ّ‬
‫ُيفتع�ل ب�ي‪ ،‬ألنّ�ي كن�ت مدرك ًا أن األمل المس�تقبلي لن ُيعيلني في‬
‫ش�يء‪ ،‬فلن ينفعني القلق من يوم نهاية مجهول‪ ،‬وال أريد أن أُب َّش�ر‬
‫‪45‬‬
‫بال ّتنازل عن حزني‪ ،‬ولن يكون من الحكمة تركي له وتركه لي‪ ،‬فقد‬
‫ووجوب ًا م ّنا لف�ظ ال ّنفس األخير مع ًا‪،‬‬
‫ُولدن�ا مع� ًا م�ن رح�م واحدة‪ُ ،‬‬
‫فهجرته نية في ا ّتباع حدس ٍ من حديث القلب‪ ،‬سيزيدني غُصص ًا في‬
‫هدينا واحد‪.‬‬‫فحزني جهادي‪ُ ..‬‬ ‫اشتياقي للاّ شيء‪ ،‬فال أريد إجهاضه‪ُ ،‬‬
‫الرب على‬ ‫ألم ُيخلق اإلنس�ان في كَ َبد؟! عس�ى أن يس�امحني ّ‬
‫غلوي‪.‬‬
‫ِّ‬
‫بقوة ما‬
‫كنت رجل الوق�ت‪ّ ،‬‬ ‫أفكّ �ر أحيان� ًا‪ ،‬م�اذا ل�و حدث أن ُ‬
‫فأغير الذي طرأ والذي س�يطرأ بعده‪،‬‬ ‫الس�فر عب�ر األزمنة‪ّ ،‬‬ ‫أمكنن�ي ّ‬
‫كأن أُهات�ف‪ ،‬ي�وم والدت�ي‪ ،‬وال�دي برق�م مجه�ول‪ ،‬وأخب�ره بعدم‬
‫الخ�روج م�ن بيت�ه أل ّن لعن� ًة س�تحل عليه إن خرج‪ ،‬أو أتس� ّلل إلى‬
‫ووجوب‬ ‫فأزف خب�ر ًا كاذب ًا بحظ�ر التجوال ُ‬‫َّ‬ ‫الحي�ة‬
‫مطبع�ة الجرائ�د ّ‬
‫س�ام يحوم في يوم األحد‬ ‫البقاء في المنزل بس�بب طاعون ٍ أو ٍ‬
‫غاز‬
‫ٍّ‬
‫أغير مثالً يوم والدتي إلى يوم‬ ‫ف�ي أرج�اء مدين�ة الدار البيض�اء‪ ،‬أو ّ‬
‫آخر غير يوم األحد‪ ،‬كأن يكون يوم االثنين أو غيره من أيام اهلل‪..‬‬
‫أي ش�يء فقط ألحظى بطبيعة ش�خصية مش�رقة تنبض‬ ‫مهما يكن‪ّ ..‬‬
‫بالحيوية‪.‬‬
‫لكن المش�كلة أنه حتى لو أمكنني ذلك‪ ،‬فلن أُفلح في تغيير‬ ‫ّ‬
‫تحدي الطبيع�ة وقوانين الكون ف�ي عالقتها مع‬ ‫ش�يء‪ ،‬فلا ُيمك�ن ّ‬
‫نجح�ت ف�ي العبث بالماض�ي‪ ،‬فعودتي إلى‬ ‫ُ‬ ‫مش�يئة اهلل‪ ،‬ح ّت�ى وإن‬
‫وس�يرديني جالس� ًا على مقعدي‬ ‫ُ‬ ‫الحاضر الذي تركته‪ ،‬س�يعبث بي‬
‫أُس�مع نقرات فوق ورقة تحت س�طح خش�بي‪ ،‬ألنّه ال عشوائية في‬
‫كل فع�ل ٍ وحدث حكمة‬ ‫أم�ر بمقدار‪ ،‬وفي ّ‬ ‫ف�كل ٍ‬
‫ّ‬ ‫ح�دوث األم�ور‪،‬‬
‫يغير‬
‫تقبلي أو رفضي لن ّ‬ ‫يعلمها الذي فطرني على ما أنا عليه اليوم‪ُّ ،‬‬
‫‪46‬‬
‫لتركت‬
‫ُ‬ ‫سيد الموقف‪ ،‬فلو كان بيدي‪،‬‬ ‫ش�يئ ًا‪ ،‬وبعد‪ ،‬س�يبقى االعتياد ّ‬
‫محدد بسعادة مطلقة‪ ،‬إلاّ أن‬ ‫ّ‬ ‫عمر محدد وفي زمن‬ ‫ٍ‬ ‫بقاء في‬
‫ال ّتمني ً‬
‫أفعال ال ّتمني ما هكذا تعمل!‬
‫يخي�ل ل�ي أنّي بدأت أُصاب بالجنون‪ ،‬وس�يماء العجز المبين‬ ‫ّ‬
‫علي‪ ،‬وال يزيدن�ي انتمائي ألفراد‬ ‫ال�ذي ال يلي�ن‪ ،‬ظه�رت أعراض�ه ّ‬
‫جماعة الحياة‪ ،‬لعدم كفاءتي سوى مرارة‪.‬‬
‫الضمور‬ ‫فلماذا إذ ًا؟ لماذا ّأيتها الحياة؟ لماذا وس�متني بطابع ّ‬
‫الرمادي‪ ،‬ولماذا أُترك جريح ًا بالفقد‪ ،‬ومكس�ور الجناح‬ ‫في ش�بابي ّ‬
‫أفضل‬ ‫كفرخ يفقد معنى وجوده المتمحور حول ال ّطيران والمالحة‪ّ ،‬‬
‫رب على هذا ال ّتعقّل الشبيه بالحمق!‬ ‫بالمرة يا ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أجن‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫الصاخب�ة هذه‪ ،‬بأنّي ل�م أعد أقبل العيش إلاّ‬ ‫ُ‬
‫أدرك ف�ي ليلت�ي ّ‬
‫وأف�كار محايدة وباستش�عار ب�ارد أيض ًا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بلغ�ة فق�د وبمش�اعر ر ّث�ة‬
‫التحجر والغالظة‬ ‫ّ‬ ‫غدوت كبلدة فصولها خريف وشتاء‪ .‬فلماذا هذا‬ ‫ُ‬
‫ف�ي ال�كالم‪ ،‬ولماذا تعاندني الدموع‪ ،‬هل أصبحت عالم مآس ٍ دون‬
‫أن أدري؟ أأل ّن ق�در الحزان�ى أن يعت� ّزوا بصف�ات مكفهرة ٍ كتلك؟‪.‬‬
‫ولدت فيه إلى هذا‬ ‫ُ‬ ‫مهي�أً منذ بداية ذلك األحد الذي‬ ‫كن�ت ّ‬‫ُ‬ ‫إذ ًا فق�د‬
‫األحد الذي أعيش في ليلته هذه قبل حلول صباحه المقيت‪..‬‬
‫كان جب�ران يق�ول‪« :‬أري�د أن أموت ش�وق ًا ال ملالً»‪ .‬س�يكون‬
‫أخ�ذت كلمات�ه ملاذ ًا أو قبر ًا لي‪ .‬فهل س�ينفعني ال ّش�وق‬ ‫ُ‬ ‫ع�ار ًا إن‬
‫أحن‬
‫ّ‬ ‫ي�ا صديق�ي؟ لن ُيفيدني في ش�يء حي�ن المغادرة‪ ،‬ال أريد أن‬
‫أمل الذع‪ ،‬وما أذرفه كلماتٍ تعبير ًا عن نواحي‬ ‫إلى شيء‪ ،‬فال ّشوق ٌ‬
‫ويس�عفني مالمة العين التي تدمع في كل‬ ‫فؤادي األخرس‪ُ ،‬يعيلني ُ‬
‫أظن بأنّي لم أعد قادر ًا على البكاء‪.‬‬ ‫أصبحت ُّ‬
‫ُ‬ ‫يوم وليلة‪ ،‬لدرجة أنّي‬
‫‪47‬‬
‫أتركُ قلمي وأنزع ن ّظارتي‪ ،‬وأغيب عن الزوايا األربع بخطواتٍ‬
‫ّ‬
‫عيني‬
‫ّ‬ ‫ثم أُ ُ‬
‫غمض‬ ‫سماء شاحبة مثلي‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫نحو سريري‪ ،‬ألمح من نافذتي‬
‫مستعد ًا ألستيقظ‬
‫ّ‬ ‫خائر القوى‪ ،‬ممتلئ ًا ّ‬
‫بغصة مرارة أنام على مضضها‬
‫عليها محروم األمنيات‪..‬‬

‫‪48‬‬
49
‫‪I‬‬

‫فجر آخر تستقبله حواسي‪ ،‬أستيقظ على صوت يرن بنغمة بيانو‬
‫وكمان‪ ،‬أراقب س�قف الغرفة قليالً كي أس�تعيد ذاكرة الحاضر التي‬
‫ثم أعبر من ّبر النسيان الذي افتعله‬ ‫خلفتها أمس‪ ،‬أفيق من سباتي‪ّ ،‬‬
‫النوم إلى ض ّفة ال ّتذكّ ر لمواجهة يوم آخر ّ‬
‫بالروتين نفسه‪.‬‬
‫أتوض�أ‪ ،‬ألبس ما‬
‫ّ‬ ‫يص�دح ص�وت الم�آذن ف�ي أذني فأنه�ض‪،‬‬
‫ث�م أذه�ب ألص ّلي الصبح في المس�جد‬ ‫يحمين�ي م�ن ب�رد فبراي�ر‪ّ ،‬‬
‫بمع�دة خاوي�ة‪ ،‬ث�م أخ�رج من المس�جد تارك ًا س�جدات ُتزيل ع ّني‬
‫مشكوين إلى اهلل‪ .‬أعود وأنا أس ّلم على‬
‫ّ‬ ‫ثقل خطيئاتٍ وألم ًا وغضب ًا‬
‫بعض الجيران‪ ،‬أحادث قليالً بعض الذين يعرفونني‪ ،‬وأعرج بخطاي‬
‫فران الح�ي المقابل للعم�ارة التي‬ ‫ٍ‬
‫المتعب�ة لش�راء خب�ز ط�ازج م�ن ّ‬
‫أس�كن فيه�ا‪ ،‬عمارت�ي الواقعة على الحد األخير من ش�ارع محمد‬
‫مجرد س�كون يداولها‬ ‫الخامس‪ .‬وما ُيحيط بالمنطقة التي أس�كنها‪ّ ،‬‬
‫مش�يدة‪ ،‬تبدو كأنّه�ا قاربت على االنته�اء فلم تكتمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومب�ان ٍ ش�به‬
‫الرمادي واآلجر وقضبان الحديد‬ ‫فأصبحت مهجورة يسكنها ال ّطوب ّ‬
‫وأشعة الشمس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والرياح‬
‫والخشب‪ ،‬والتي نخرتها ال ّشتاء ّ‬
‫أستعد للدخول إلى شقّتي التي تلتحفني وتتقاسم معي مرارة‬ ‫ّ‬
‫األيام‪ .‬باردة هي‪ ،‬وغريبة مثلي‪ ،‬أو باألحرى أنا الذي جعلتها غريبة‬

‫‪51‬‬
‫مرة قب�ل امتالكها‪ ،‬أ ّن‬ ‫أول ّ‬
‫كل حائ�ط بل�ون مختل�ف‪ .‬أذكر ّ‬ ‫بصب�غ ّ‬
‫تتس�رع‪ ،‬س�أجد لك ش�قة غير هذه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صاح�ب العم�ارة ق�ال لي‪« :‬ال‬
‫ال ت�زال قي�د اإلصلاح»‪ ،‬لك ّنه�ا لم ُت َر لي بذل�ك العطب‪ ،‬فموقعها‬
‫صبرت أسبوعين إلى أن‬ ‫ُ‬ ‫أما الباقي فلم أبال ِ به‪،‬‬
‫هو الذي جذبني‪ّ ،‬‬
‫غبت‬‫ُ‬ ‫كنت قد‬‫أتيت إليها كي أبدأ رحلة أخرى في مدينة ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُتصلح‪ ،‬ثم‬
‫الدراسة وأشياء أخرى‪.‬‬ ‫عنها بسبب ّ‬
‫عد واجب ًا‬
‫حين أفتح قفل الباب وأخطو خطوتي األولى فيها‪ُ ،‬ي ُّ‬
‫ليرت�د إل�ي الص�دى م�ن الفراغ الدام�س بصالون ٍ‬ ‫السلام‬ ‫ُ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن ألق�ي ّ‬
‫سجادة‪ ،‬تركته خالي ًا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أي زينة‪ ،‬ال فرش وال ّ‬ ‫قبالتي‪ ،‬صالون خال من ّ‬
‫فلا وظيف�ة ل�ه عن�دي غير ال ّتج�وال فيه‪ ،‬فغالب ًا م�ا أدور حلقات به‬
‫عصبية ترهقني‪ ،‬كما أن من يزورونني قليلون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عندما تتم ّلكني فكرة‬
‫زائر كان‪ ،‬زيادة على أ ّن ش�قّتي‬ ‫فغرفة المعيش�ة تكفي الس�تقبال أي ٍ‬
‫والديكور الذي أورثته من نفسي إليها‪ ،‬فإنّها ال تصلح‬ ‫رغم حجمها ّ‬
‫للرؤية‪.‬‬‫ألن تكون مكان ضيافة‪ ،‬فهي مليئة بي‪ ،‬وما بي‪ ..‬ال يصلح ّ‬
‫ش أس�تفيق ب�ه من خمولي‪.‬‬ ‫أب�دأ صباح�ي االعتي�ادي بأخذ ُد ٍّ‬
‫وأضع كريم ش�عر أل ّطف به ش�عري األس�ود الب ّني الذي ُيصبح شبه‬
‫ناع�م م�ن أث�ر تق ّلبات ال ّنوم‪ .‬أض�ع إبريق الماء فوق الموقد‪ ،‬أصنع‬
‫الصباحي وأتلوه بتحضير ش�راب ثمالتي‪ :‬القهوة‪ .‬بعد ذلك‬ ‫ش�ايي ّ‬
‫أطل من ش�رفة غرفتي‬ ‫أُش�عل عود بخور‪ ،‬ثم أضع مائدة إفطاري‪ّ .‬‬
‫على مدينة اس�تفاقت من نومها بعد لحظات‪ ،‬وهدير رياحها الذي‬
‫س�رعان ما س�يقوم بخطواته األولى في تحريك رايات علم البالد‬
‫بش�ارع محمد الخامس‪ ،‬الذي يبدو من بعيد وكأنّه مس�ار ال نهاية‬
‫ل�ه‪ ،‬فق�ط نق�ط تالش ٍ وس�راب تتراءى من بعيد على ش�كل أضواء‬
‫‪52‬‬
‫ورؤوس بشر وسيارات وأشياء أخرى تشبه ما سبق‪.‬‬
‫أحضر إبريق الشاي‬ ‫ّ‬ ‫ُيشير صفير اإلبريق فأعود إلى المطبخ كي‬
‫ثم أصنع على مهل ٍ قدح قهوتي‬ ‫منسمة‪ّ ،‬‬ ‫أعده بال أوراق ّ‬ ‫األخضر‪ُّ ،‬‬
‫الم ّر‪ ،‬وأهجره إلى أن يبرد‪.‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أجل�س ألفط�ر مع حزن يتلقفني ك ّلما أنيرت ذاكرتي وارتوت‬
‫مربى‪ ،‬فحالوة ال ّشاي‬ ‫دمائي‪ ،‬آكل خبزي بدون تحلية‪ ،‬ال جبنة وال ّ‬
‫اعت�دت على ذلك‪ ،‬فال ّطعام غدا له ذوق آخر بعد‬ ‫ُ‬ ‫تكف�ي‪ ،‬ولكون�ي‬
‫حواس�ي‪ .‬أنته�ي من إفطاري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتذوقه‬
‫ّ‬ ‫يتذوق�ه عقل�ي وال‬
‫الم�رض‪ّ ،‬‬
‫فأرشف بعض قهوتي‪ ،‬ثم ألبس قميصي األبيض وسروالي األسود‪،‬‬
‫ثم قميص ًا قطني ًا‪ .‬أمسح زجاج ن ّظارتي وأضعها‪ ،‬وشعري ال يدعوني‬ ‫َّ‬
‫ثم أضع ساعتي في يدي‬ ‫لمشطه فيدي تكفي بإرجاعه إلى اليمين‪ّ ،‬‬
‫اليمنى وخاتمي ال ّنحاس�ي في بنصر اليد نفس�ها‪ ،‬بعد ذلك أرتدي‬ ‫ُ‬
‫ّ ً ِ‬
‫معطفي الب ّني فوقي تدثرا مقفالً أزراره‪.‬‬
‫بعد أن أنتهي من هندمة نفسي‪ ،‬أُكمل قدحي الذي برد‪ّ ،‬‬
‫أتلذذ‬
‫ثم أدير مش�غّل‬ ‫بطع�م القه�وة الب�اردة‪ ،‬أحتس�يها ح ّتى آخر رش�فة‪َّ ،‬‬
‫الس�يدي بس�ورة البق�رة‪ ،‬ك�ي تزيل اآليات ش�حناتٍ س�البة بعد أن‬ ‫ّ‬
‫أُغادر‪ ،‬بأخرى ُتضفي بريق أمل من كالم اهلل‪..‬‬
‫الثّامنة تمام ًا‪ ،‬أكون قد خرجت‪ .‬وإنّي لأَ خرج إلى ّ‬
‫الدنيا كمن‬
‫سيارتي‪ ،‬وآخذ‬ ‫محرك ّ‬‫ال يعرف شيئ ًا وال يريد أن يعرف شيئ ًا‪ .‬أدير ّ‬
‫طريقي انعطاف ًا على زنقة القرطبي‪ ،‬والتي يزعجني هواؤها الممتلئ‬
‫ثم طوالً‬‫برائحة المصانع‪ ،‬فأعبر إلى شارع الجيش الملكي يسار ًا‪ّ ،‬‬
‫بدواس�تي نح�و ش�ارع أنفا‪ ،‬حي�ث يقبع مكان عمل�ي الموجود في‬
‫(غوتيي‪.)Gautier /‬‬
‫‪53‬‬
‫السلالم‪ .‬عندما أدخل أس� ّلم‬ ‫أتحاش�ى المصعد دائم ًا وأصعد ّ‬
‫أمر بالقرب من مكتبه إن تالقت أعيننا‪.‬‬ ‫على من ألقاه أمامي أو من ّ‬
‫ٍ‬
‫أمل‪ ،‬فذلك ُيريحني بطريقة ما‪.‬‬ ‫أر ّفه عن نفس�ي في العمل‪ ،‬بل ال ُّ‬
‫مرة يعقدونها فال أحضرها‪ ،‬رغم أنّها‬ ‫وأكره تلك االجتماعات‪ ،‬وكم ّ‬
‫إجباري�ة‪ ،‬أكتف�ي وقتها بإعداد ملف على حاس�وبي‪ ،‬فأضع أفكاري‬
‫التي ال تنتهي والتي يمكن أن تس�اعدهم بعد أن آخذ من صديقي‬
‫هم به‪ ،‬فأنس�خه وأعطيه‬ ‫ورئيس�ي «س�عد» موضوع االجتماع الذي ّ‬
‫والح�ق أن أمر‬
‫ّ‬ ‫لس�عد ال�ذي يغ ّط�ي عل�ى حض�وري بينه�م بملف‪.‬‬
‫ال ّشركة ك ّله ال يعنيني الب ّتة‪ ،‬أقوم بعملي وكفى‪ ،‬فالتطوير‪ ،‬والتقديم‪،‬‬
‫والتأخير‪ ،‬واالستئناف‪ ..‬مصطلحات بأفكار أحتفظ بها لنفسي‪ ،‬كما‬
‫أن�ه ال طائ�ل ل�ي من التفكير في ح�ل وضعيات ال تضاهي وضعية‬
‫نفسي‪ ،‬والكالم كثير ًا ُيرهقني‪ ،‬فدائم ًا ما أجعل الكلمات تنوب ع ّني‪.‬‬
‫ربما لهذا‬ ‫الصباحية سريع ًا‪ّ ،‬‬
‫تمر فترتي ّ‬ ‫يمر الوقت سريع ًا هنا‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫تصوفي المعتاد في ش�قّتي‪..‬‬ ‫ً‬
‫أح�ب العم�ل أكثر‪ ،‬يجعلني بعيدا عن ّ‬ ‫ُّ‬
‫غير أ ّن هذا الجسد المتعب وهذا القلب الجافي ال يتركانني‪ ،‬حتميتي‬
‫أن أجلس عند قداسة تلك العذراء‪ ،‬فأنا أخاف عدم ترك األثر‪.‬‬
‫الثانية عشرة د ّقت‪ ،‬وقد تبقّى نصف ساعة ويحين وقت الغداء‪،‬‬
‫ارتأيت أن أُكمل الثالثين دقيقة كما أفعل دائم ًا‪ ،‬في تدقيق السجالت‬ ‫ُ‬
‫ش�باك‬ ‫ٍ‬
‫وفي كتابة تقرير س�ريع‪ .‬ثم أنتهي بس�قي نبات موجود داخل ّ‬
‫ال ّناف�ذة‪ ،‬بر ّش�ه بم�ا يتبقى من قنينة الم�اء المعدني الموضوعة فوق‬
‫كل األح�وال‪ ،‬دائم� ًا ما تكون خطوت�ي الموالية أحد‬ ‫مكتب�ي‪ .‬وف�ي ّ‬
‫األمرين؛ إما أن أتغدى مع سعد في المطعم‪ ،‬وإما أذهب إلى شقتي‬
‫ألستعد لتعب ال ّتدوين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ألنام قليالً بعد ال ّتعب‪،‬‬
‫‪54‬‬
‫آث�رت أن أتغ�دى م�ع س�عد في مطع�م بالقرب من الش�ركة‪.‬‬
‫وجدت سعد ًا ينتظرني قبالة الباب الزجاجي الكبير للشركة‪ .‬قبل أن‬
‫أخرج‪ ،‬أخذت كوب قهوة بالستيكي ًا صغير الحجم من ماكينة القهوة‬
‫جد ًا‪ ،‬أكره‬
‫الموجودة قبالة مركز االستقبال‪ ،‬قهوة مجانية‪ ،‬وأكرهها ّ‬
‫القهوة التي ال تصنع باليد‪ ،‬كما أكره تفضيل آلة على يد ٍ ال س�يما‬
‫يحض�ر ش�رابي‪ ،‬ورغم األفكار الت�ي تراودني عن القهوة اآللية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫م�ا‬
‫فإني أشربها بكل تق ّزز‪ ،‬أصبر على الكافيين الذي يحتاجه جسمي‪.‬‬
‫ذهبن�ا إل�ى المطع�م المجاور‪ ،‬وغالب ًا ال آكل كثير ًا‪ ،‬فأنا أذهب‬
‫مع سعد للحديث فقط‪ ،‬ثرثار هو‪ ،‬وأحب ثرثرته تلك‪ ،‬وال أعرف‬
‫كيف أستس�لم لهذا الش�قي الذي يدفعني للحديث دائم ًا‪ ،‬ويجعلني‬
‫أتبادل معه السخرية‪.‬‬
‫ج�اء الن�ادل بع�د أن جلس�نا وق�ال‪« :‬كالمعتاد دائم� ًا؟»‪ ،‬أجابه‬
‫س�عد‪« :‬نع�م وعلب�ة س�جائر»‪ ،‬قال صديقن�ا النادل‪« :‬عش�رون دقيقة‬
‫ويجهز»‪ ،‬وقبل أن ينصرف‪ ،‬تذكرت أن القهوة التي بيدي يكفي ما‬
‫صبرت عليها فناديته قائالً‪ ..« :‬وقهوة سوداء من فضلك»‪ .‬قال لي‬
‫سعد‪« :‬أال تكتفي من ذاك السم‪ ،‬أن تبدو متعب ًا طوال الوقت»‪ ،‬قلت‬
‫دون النظر إليه‪« :‬كما أنت تشرب سم سيجارتك لتشبع رغبتك‪ ،‬أنا‬
‫أيض ًا أش�رب س�مي كي ال أش�عر بثقلي» قال لي‪« :‬ولكنك شره في‬
‫حقن الكافيين»‪ ،‬أدرت رأسي نحوه‪ ،‬ثم قلت‪« :‬على كل‪ ،‬هي جزء‬
‫م�ن ارتوائ�ي‪ ،‬ال أبال�ي بما يفعله الكافيين‪ ،‬أعلم أن الس�جائر تضر‬
‫أكث�ر م�ن القه�وة‪ ،‬ولكن لو لم تكن الس�جائر تنفث دخان ًا وتحترق‬
‫ألدمنتها‪ ،‬إال أني ال أحب األشياء التي تحترق بالنار‪ ،‬لن تتآلف مع‬
‫لهيب�ي‪ ،‬ل�ذا فأن�ا أحتاج س�ائالً ألطفئ قليالً من�ي‪ ،‬والقهوة هي أداة‬
‫‪55‬‬
‫ألمي‪ ،‬وعصاي التي أهش بها على غنم استيقاظي»‪ ،‬قال لي‪« :‬افعل‬
‫ما تش�اء‪ ،»..‬ثم أش�عل س�يجارته المتبقية في علبة س�جائره‪ ،‬وأخذ‬
‫جرعت�ه األول�ى منه�ا ونف�ث دخانه ف�ي الهواء‪ ،‬ثم قال‪« :‬أنا س�عيد‬
‫أنك ال تدخن‪ ،‬لكني لم أعلم أنك تحب أن تجعل نفسك تعاني»‪،‬‬
‫قلت وأنا ألوح بيدي ألزيل دخان الس�جائر‪« :‬ليس األمر كذلك يا‬
‫أعود نفسي أن أحيا هكذا‪ ،‬ألن الحياة‬ ‫صديقي‪ ،‬كل ما في األمر‪ ،‬أنا ّ‬
‫ليس�ت عادلة كما تبدو‪ ،‬وأنا ال أريد أن أحترق كس�يجارتك بلهيب‬
‫التوقع�ات‪ ،‬أن�ا أحي�ا فقط بقلب معطوب‪ ،‬وعندما تعيش كثير ًا تتألم‬
‫كثي�ر ًا‪ ،»..‬قاطعن�ي س�اخر ًا‪« :‬تتح�دث وكأنك في التس�عين أو المئة‬
‫من عمرك‪ ،‬وكأن رأس�ك اش�تعل ش�يب ًا»‪ ،‬فأجبته بعد أن احتس�يت‬
‫آخر رش�فة من تلك القهوة الكريهة‪« :‬يا صديقي‪ ،‬اإلنس�ان ال يهرم‬
‫بالسنين‪ ،‬بل باألحزان»‪ ،‬صمت بعد قولي قليالً‪ ،‬ثم قال وهو يبتسم‪:‬‬
‫«فهمت ما تريد قوله»‪ ،‬وأنهى الحديث بإش�عال حاس�وبه المحمول‬
‫لعيني التأمل من بعيد في حمامة بيضاء‬ ‫ّ‬ ‫الذي يجلبه معه‪ ،‬وأنا تركت‬
‫تشرب من نافورة صغيرة تقع بالقرب من المطعم‪ ،‬قائالً في نفسي‪:‬‬
‫«متى يأتي السالم»‪.‬‬
‫هم س�عد بأكل البيتزا المتوس�طة‬ ‫جاء النادل بأطباقنا المعتادة‪َّ ،‬‬
‫الحجم‪ ،‬وانتهيت أنا من الس�لطة س�ريع ًا‪ ،‬وهممت بش�رب سودائي‬
‫ألعيدني إلى نفسي‪.‬‬
‫ِ‬
‫ل�م أن�ه قدح�ي‪ ،‬وعي�اء م�ا بعد العمل أش�عرني بال ّن�وم فجأ ًة‪.‬‬
‫و َّدعت سعد ًا سريع ًا‪ ،‬وحملت حقيبة سوداء صغيرة كنت قد جلبتها‬
‫ركبت س�يارتي‪ ،‬واس�تغرقت‬ ‫ُ‬ ‫معي‪ ،‬فيها بضع أوراق تخص عميالً‪.‬‬
‫المسافة من المطعم إلى العمارة عشرين دقيقة‪ .‬ركنت السيارة قرب‬
‫‪56‬‬
‫رصيف المبنى‪ ،‬حملت حقيبتي‪ ،‬ثم توجهت نحو الباب‪ ،‬وقبل أن‬
‫دت أدراجي بمسافة‬ ‫أصعد الدرج‪ ،‬تذكرت أني لم أُقفل السيارة‪ُ ،‬‬
‫فع ُ‬
‫زر اإلقفال األتوماتيكي عن بعد‪.‬‬ ‫ضغطت ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫قصيرة عن المدخل‪ّ ،‬‬
‫ال أحب استعمال المصعد ألن فيه مرآة‪ ،‬وأنا ال أحب المرايا‬
‫ألنّه�ا ُتظه�ر مكام�ن ال ّنقص في الجس�د‪ ،‬وألني ال أري�د أن أُواجه‬
‫وجه�ي بمالمح�ه التي أصبحت ش�يئ ًا ما‪ ..‬بلي�دة وصامتة‪ .‬ما ُ‬
‫زلت‬
‫أذك�ر يوم� ًا عندما كان�ت إحدى الجارات تقيم حفل خطوبة‪ ،‬أعتقد‬
‫وكنت أريد الصعود بعد أن كنت‬ ‫ُ‬ ‫مساء‪،‬‬
‫ً‬ ‫أنه كان البنتها‪ ،‬وكان ذلك‬
‫عرجت على محل تأمينات أراجع‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫قد خرجت لش�راء ال ّش�اي‪ّ ،‬‬
‫بع�ض الحس�ابات‪ ،‬فطال غيابي ثالثين دقيق�ة فقط‪ ،‬وعندما عدت‪،‬‬
‫كان ال�درج ال�ذي نزل�ت منه عند مغادرت�ي مكت ّظ ًا بالناس‪ .‬صعقت‬
‫لحظته�ا بكث�رة األوج�ه ومس�احيق التجمي�ل المفرط�ة التي تضعها‬
‫النساء‪ ،‬ولم يكن لدي خيار غير المصعد‪ ،‬فعلى أي حال تجد فرصة‬
‫الصعود فيه بضغطة زر وانتظار‪ .‬كنت أنتظر أنا وشخصين آخرين‪،‬‬
‫امرأة قصيرة مع ابنتها أو قريبتها أو ما شابه ذلك‪ .‬حين أضاء الزر‬
‫ترددت في‬
‫ُ‬ ‫األخض�ر للمصع�د‪ ،‬ضغطت الس�يدة ال�زر‪ ،‬ف ُفتح باب�ه‪،‬‬
‫الصع�ود‪ ،‬إال أن الض�رورة غلب�ت تر ّددي‪ .‬عبرت دون أن أنظر إلى‬
‫شبحي في المرآة‪ .‬وطوال الثواني للوصول إلى الطابق األول حيث‬
‫يوجد ما يوجد‪ ،‬بقيت الس�يدة ومن معها واقفتين مقابلتين للمرآة‪،‬‬
‫السيدة تعدل غطاء رأسها‪ ،‬واألخرى أخرجت أحمر شفاه وأدوات‬
‫كنت أدير للمرآة ظهري وال أبالي‬ ‫أخرى تزين نفس�ها‪ .‬أما أنا فقد ُ‬
‫بم�ا كانت�ا تفعالن�ه‪ .‬عندما خرجتا وبقيت وحدي مع ش�بح ورائي‪،‬‬
‫كنت أنتظر صوت انفتاح المصعد ليس إلاّ ‪ ،‬وحين انفتح وخرجت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫‪57‬‬
‫أثارني الفضول إلى وجهي الذي لم أكن أنظر إليه إلاّ نادر ًا‪ ،‬ودون‬
‫نظرت قبل أن ينسد الباب‪ ،‬فواجهتني من المرآة نظرة واحدة‬ ‫إرادة ٍ‬
‫ُ‬
‫بت بخيبة‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ب�اردة نح�وي‪ ،‬وحي�ن اختفت مع إقفال المصع�د‪ ..‬أص ُ‬
‫من نظرة ٍ واحدة فقط‪.‬‬
‫ل�دي ال تكتف�ي في العمل فق�ط‪ ،‬فأنا أصعد‬ ‫ّ‬ ‫هواي�ة الحس�اب‬
‫مرة أحس�بها‬ ‫الدرج�ات إلى ش�قّتي‪ .‬أحيان ًا أخطئ‪ّ ،‬‬ ‫وأع�د ّ‬
‫ُّ‬ ‫السلالم‬ ‫ّ‬
‫س�بعين درجة‪ ،‬وأخرى تزيد بواحدة أو تنقص‪ ،‬وتبقى عش�ر أخرى‬
‫والسطح‪ .‬شبه مظلمة هي شقتي‪ ،‬تقع في جهة ال‬ ‫تفصل بين طابقي ّ‬
‫تصلها أشعة الشمس‪ ،‬وذلك يناسبني‪ ،‬فكثرة األضواء تعمي بصري‬
‫وتجعلني تعب ًا‪ ،‬والشمس هي األخرى تتعبني‪.‬‬
‫وضع�ت مفاتي�ح الس�يارة والمن�زل فوق طاولة منقوش�ة قرب‬
‫مزهري�ة خالي�ة م�ن ال�ورود‪ .‬نزعت معطفي‪ ،‬وتوجه�ت نحو خزانة‬
‫لبس�ت عش�وائي ًا دون أن أبالي‬
‫ُ‬ ‫المالب�س‪ ،‬ترك�ت لي�دي االختي�ار‪،‬‬
‫ال بال ّزين�ة وال بال ّل�ون‪ ،‬كيفم�ا كان نوع القميص أو الس�روال الذي‬
‫اختارته حاس�ة يدي فقد لبس�ته‪ ،‬وقد حدث مرة أن لبس�ت قميص ًا‬
‫مقلوب� ًا وخرج�ت ب�ه ألبت�اع‪ ،‬إل�ى أن نبهني حارس العم�ارة عندما‬
‫ع�دت بأن�ي كنت ألبس�ه مقلوب ًا‪ ،‬ومن حينه�ا أصبحت عندما ألبس‬
‫شيئ ًا أتيقن جيد ًا إن كنت لبست األشياء كما يجب‪.‬‬
‫الصباح‪ ،‬وأس�تيقظ كالعادة على‬ ‫أغف�و قليلاً أرت�اح من تع�ب ّ‬
‫المنبه برنّة البيانو الحزين والكمان الذي ينثر سقمه‪ ،‬كفعل ٍ ُّ‬
‫أعد به‬
‫نفسي لليلة بؤس ٍ أخرى‪.‬‬
‫أصل بعد‬
‫ِّ‬ ‫إنه�ا الرابع�ة‪ ،‬وق�د أ ّذن المؤذن لصلاة العصر‪ ،‬ولم‬
‫عل�ي أن أجم�ع االثنتي�ن‪ .‬نهض�ت من‬ ‫ّ‬ ‫وس�يتوجب‬
‫ّ‬ ‫صلاة الظه�ر‪،‬‬
‫‪58‬‬
‫فراشي ومرارة القهوة تسري في فمي مع ريق االستيقاظ‪ ،‬وشعري‬
‫غير مرتب‪ .‬حملت علب ًة زرقاء صغيرة أضع بها حاجيات الحمام‪،‬‬
‫وذهب�ت إل�ى الحم�ام مباش�رة‪ ،‬فتحت صنبور الم�اء‪ ،‬دافئ كعادته‪،‬‬
‫توضأت‪.‬‬‫ّ‬ ‫ثم‬
‫أخذت د ّشي ونظفت أسناني ّ‬
‫صليت الركعات الثماني تباع ًا‪ ،‬ثم أتى بعدها االس�تعداد لنثر‬
‫قلم‬
‫شراشري على الورق الصامت‪ ،‬بقلم رصاص ال أكتب إال به‪ٌ ،‬‬
‫وأظل أس�تنزف الحزن الذي‬ ‫ُّ‬ ‫أه�ش ب�ه عل�ى قنوطي وألمي جي�د ًا‪،‬‬
‫يعترين�ي م�ن الصب�اح إل�ى ما بعد نومي القصي�ر إلى أن يأتي وقت‬
‫نومي الذي ال أحب أن أستيقظ منه‪ ،‬وكم مرة عندما أسمع أو أقرأ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫﴿الل َي َت َو َّفى األَ ْن ُف َس ح َ‬
‫ين َم ْوت َها َوا َّلتي َل ْم َت ُم ْ‬ ‫هَُّ‬ ‫آية في سورة الزمر‬
‫�ل األُ ْخ َرى ِإ َلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َو ُي ْرس ُ‬‫�ك ا َّلتي َق َضى َع َل ْي َها ا ْل َم ْو َ‬‫ف�ي َم َنام َه�ا َف ُي ْمس ُ‬
‫آل َياتٍ لِق َْوم ٍ َي َت َفكَّ ُرو َن﴾ [اآلية‪ .]42 :‬أثناء‬ ‫ك َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�م ًى ِإ َّن في َذل َ‬ ‫أَ َجل ٍ ُم َس ّ‬
‫ذلك كم يدعو شخص في داخلي أن يمسك اهلل نفسي ويجعلها من‬
‫التي قضى عليها الموت‪ ،‬ولكني أس�تيقظ بالنفس التي ترس�ل إلى‬
‫وكنت أحاول دائم ًا أن أُقنع نفس�ي بالفكرة وبإمكانية‬ ‫ُ‬ ‫مس�مى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أجل‬
‫يتغير‪.‬‬
‫حصولها باإليمان بوقوعها‪ ،‬لكن من غير جدوى‪ ،‬ال شيء ّ‬
‫ج�د ًا‪ ،‬تخونني ال ّلغة قبل أن أب�دأ‪ ،‬وأفتقد للثّقة‬
‫مأس�اوي ّ‬
‫ٌّ‬ ‫ه�ذا‬
‫بت اآلن أعلم شيئ ًا واحد ًا؛‬
‫قبل سحق ما يربض فوق ذهني دهس ًا‪ُّ ،‬‬
‫ممجديه�ا‪ ،‬ولس�ت من‬ ‫ّ‬ ‫لس�ت م�ن‬
‫ُ‬ ‫ليس�ت الكتاب�ة اآلن حّل�اّ ً ل�ي‪،‬‬
‫مسانديها رغبة في ال ّتفريغ‪ ،‬ألنّها عندما تفرغني‪ ،‬تقوم بإعادة ملئي‬
‫بحلقات انتظار‪ ،‬إلاّ أنّه ال يس�عني إلاّ القبول بها في هذه المرحلة‬
‫إلي‪..‬‬
‫يطوقني بالوهم الذي نسبته ّ‬ ‫كل ال ّتشييء الذي ّ‬ ‫مع ّ‬
‫لكن أين ألتجئ‪ ..‬أين أحتمي من علقة ال ّتجاهل‪ ،‬فلن يمكنني‬
‫‪59‬‬
‫التغابي هذه الليلة أيض ًا بعدم ال ّطرق على الورق‪.‬‬
‫الصباح ينتظرني ليعطيني شحنة باردة‬ ‫اقترب الوقت‪ ،‬وفنجان ّ‬
‫مرة من البن كي تساير مرارتي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ئ مكتبي في غرفتي الموجودة في ذيل ال ّشقة‪ ،‬غرفة تحمل‬ ‫ُ‬
‫هي ُ‬ ‫أ ِّ‬
‫عدل‬‫كل عض�و م ّن�ي‪ ،‬جه�از آخر لل ّتنفس والبقاء عل�ى قيد البقاء‪ .‬أُ ِّ‬ ‫ّ‬
‫إن�ارة المصب�اح المكتبي‪ ،‬حيث تكون إنارته خفيفة‪ ،‬كي ال ُتصيبني‬
‫وألبس ثياب ًا فضفاضة‬‫ُ‬ ‫بالتع�ب‪ ،‬كما ل ُتضيء مس�احة المكتب فق�ط‪.‬‬
‫�ع حرارة جس�مي‪ ،‬وكي ال يلتصق عرقي بها من أثر عنفي‬ ‫كي َت َس َ‬
‫في الكتابة‪.‬‬
‫قب�ل الب�دء‪ ،‬أنف�ض المس�احة الجلدية التي أجل�س عليها في‬
‫كرس�يي المكتب�ي من غبار‪ ،‬رغم ع�دم وجوده‪ ،‬فحركتي ُتعزى إلى‬
‫ئ نفسي لجنازة أخرى لي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫هي ُ‬
‫أنني أنفض بقايا تعب األمس‪ ،‬كأني أ ِّ‬
‫أس�مي نفس�ي كاتب ًا أو ما ش�ابه‪ ،‬أنا‬ ‫ّ‬ ‫وبكل فخر ال أس�تطيع أن‬ ‫ّ‬ ‫فأنا‬
‫ظ�روف غير مالئمة فجعلته يوقن أن تس�خير‬ ‫ٌ‬ ‫مج�رد رج�ل داهمت�ه‬ ‫ّ‬
‫اللغة بهذا ال ّشكل قد تستطيع بكل احتماالتها أن تصل إلى جوهره‪،‬‬
‫ِ‬
‫ب حكمة‬ ‫فف�ي آخ�ر األمر أش�عر بأنّي رجل يحتض�ر‪ ،‬إذ ًا فل َم ال‪ُ ،‬ر ّ‬
‫رجل قبل الموت!‬
‫إلي‪ ،‬فلن يعدو‬ ‫وفي ينسب ّ‬ ‫وإذا ما كان هناك شيء عاق وغير ٍّ‬
‫قلم رصاص‪ ،‬فأنا ال أعي هذه األداة بشكل جيد‪ ،‬أراها شيئ ًا اخ ُترع‬
‫للتحريف والتضليل‪ ،‬حتى اإلشارة إليه باسم ٍ يحمل معه قذائف ال‬
‫انجذبت إلى‬
‫ُ‬ ‫س�يد معارك حامل�ه؟‪..‬‬ ‫يفت�أ يربكن�ي‪ ،‬أيعن�ي ذلك أنه ِّ‬
‫ربم�ا ألن خاصيت�ه في قابلية المس�ح والتغيير كأن‬ ‫الرص�اص إذ ًا‪ّ ..‬‬
‫ش�يئ ًا ل�م ُيكت�ب‪ ..‬هي م�ن جذبتني‪ ،‬وأ ّن تحريفه لزم�ن الكتابة هو‬
‫‪60‬‬
‫من أيقظ خيالي بجعله أداة زمني‪ ،‬فاس�تحالة رجل الوقت جعلتني‬
‫ٍ‬
‫أغتصب به الزمن بممحاة‪ ،‬وأخلق بقلم كادح ٍ ال‬ ‫ُ‬ ‫أبحث عن ش�يء‬
‫يتوقف عن تزويد صاحبه بالالزم وغير اللاّ زم‪.‬‬
‫أهكذا أنتقم؟‬
‫ٍ‬
‫خ�ط على خش�ب‬ ‫قب�ل الب�دء‪ ،‬أول ش�يء أضع�ه برصاص�ي ُي ُّ‬
‫المكت�ب‪ ،‬مقولت�ان ال عالق�ة تجمعهم�ا‪ ،‬لكن ف�ي حضوري أُ ُ‬
‫جمع‬
‫ؤيد بهما‪ ،‬ولو أ ّن أحدهما باللغة الفرنسية‪،‬‬ ‫نتقد وأُ ّ‬
‫وأُطوى بهما‪ ،‬بل أُ ُ‬
‫فلن أُترجم ما استس�اغته حاس�ة انتقائي في حين قراءة‪ .‬أكتبهما في‬
‫كل بداي�ة وأنته�ي بمحوهما‪ ،‬كأنهما بدايتي وخاتمتي‪ ،‬ويرويان كل‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬ ‫شيء متناقض ٍ‬‫ٍ‬
‫ومتنافر يشكل ما في كنهي‪.‬‬
‫يأت�ي الجن�ون من عند "نيتش�ه" على مكتب�ي أوالً قائالً‪" :‬إنني‪،‬‬
‫ولك�ي أُعب�ر بطريق�ة األلغاز‪ .‬ميت في هيئة أبي‪ ،‬حي في هيئة أمي‪،‬‬
‫وسأعيش طويالً وأعرف الشيخوخة"‪.‬‬
‫عرفن�ي نيتش�ه كطف�ل صغير س�يكبر ليرى الحي�اة بضعف في‬ ‫ُي ِّ‬
‫روح والديه‪ ،‬ويهدمني باستحالة شيخوختي‪.‬‬
‫ثم يأتي «‪ »Giesbert‬ثاني ًا‪ُ ،‬فيعزي استحالتي للشيخوخة نفسها‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫‪ «Le cancer fait le vide autour de vous. Plus de visites, ni‬‬
‫‪d’invitations, ni de coup de téléphone. Tout le monde vous‬‬
‫‪repousse».‬‬

‫كنت راضي ًا عن مرضي‪ ،‬فأنا ال أخاف من صحو‬ ‫ُ‬ ‫يهم إن‬


‫لن ّ‬
‫جسدي‪ ،‬فعندما يمرض المرء في جوهره‪ ،‬ال تعدو أن تكون أشياء‬
‫أولي وراثة تعني شيئ ًا‪ ،‬فال بأس بذلك الفتك‬ ‫ٍ‬
‫سطحية كسرطان كبد َّ‬
‫عتم�ل ب�ي م�ع ضرر تل�ك األدوية الت�ي تأكل من�ي كثير ًا‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ال�ذي ُي‬
‫‪61‬‬
‫و ُتعطين�ي قليلاً‪ ،‬فقد صبرت على الكثير‪ ،‬ويكفي مقاوم ًة لس�رطان‬
‫تتوال�د وتتناس�ل علي‪ ،‬فلن ُتضاهي خالي�ا خبيثة في‬‫ُ‬ ‫األق�دار الت�ي‬
‫تورمات أوجاع سكنتني‪.‬‬ ‫جسدي ُّ‬
‫قبل البدء‪ ،‬يكون واجب ًا أن أشرب دوائي‪ ،‬فالقلق من مهيجات‬
‫الم�رض‪ ،‬ويك�ون الزم� ًا ش�ربه‪ ،‬لك�ي ال أتع�ب مرتي�ن‪ ..‬تعب� ًا في‬
‫الجسد‪ ..‬وآخر في طعن الكلمات‪..‬‬
‫ق واحد يكفي!‬ ‫فإرها ٌ‬
‫ٍ‬
‫تص�وف أبدأ الكتابة‪ ،‬أقلق كثير ًا وال أرتاح لجملي‬ ‫ٍ‬
‫كدروي�ش ُم ِّ‬
‫التي أكتبها‪ ،‬وكلماتي التي أنفثها من مضخة ذاكرتي غير يقينية في‬
‫معناها‪ ،‬فحروفي غير دافئة وغير مؤسسة على شيء ثابت ومطلق‪،‬‬
‫فأنا ال أريد أن أُصيب المعنى‪ ،‬وبقدر ما يشاء ذلك المتصوف في‬
‫البح�ث ع�ن يابس�ة يجدها ليرتاح فيها من نفس�ه‪ ،‬أح�اول أنا أيض ًا‬
‫أن أهرب في حرفتي من نفس�ي‪ ،‬ولكن المصيبة‪ ،‬أني أجد نفس�ي‬
‫كل صبغة‬ ‫في كل حرف أكتبه ألكبته من صدري إلى الورق‪ ،‬وفي ِّ‬
‫مش�اعر أخطُّه�ا أج�د نطفة من صدري تحم�ل جينة منها‪ ،‬وفي كل‬
‫فك�رة أبدؤه�ا فأنهيه�ا‪ ،‬أجد جزء ًا من ذاكرت�ي يتأرجح على بندول‬
‫خطئها وصحتها‪ ،‬كأني ال أريد التذكر جاهد ًا في نس�يان وجودي‪،‬‬
‫مؤلم ذلك كش�ظية‬‫ٌ‬ ‫فأتذك�ر أكث�ر فأكث�ر وأع�رف ع�ن هويت�ي أكثر‪،‬‬
‫خش�ب مغروس�ة في لحمي‪ ،‬بقدر ما أُحاول نزعها‪ ..‬أزيد عمقها‪.‬‬
‫وكل ذلك ال بأس به‪ ،‬فال أشياء مجانية‪ ،‬يجب أن أنزف وأحترق‪،‬‬
‫لك�ي تمتل�ئ الورق�ة وأُس�تنزف أن�ا جيد ًا من خيبات�ي‪ ،‬لكي ال أجد‬
‫ع�ذر ًا يقين�ي عت�اب النفس‪ ،‬س�بيالً ف�ي فضح ال�ذات وتعريتها كي‬
‫تجرني مع س�خطي‪ ،‬فال ش�واهد عيان ُيبطلون جرائمي التي أكون‬ ‫ّ‬
‫‪62‬‬
‫فيها أنا الضحية والقاتل مع ًا‪.‬‬
‫أحسب نفسي مرتب ًا في كل شيء‪ ،‬وحسباني ذاك أخذته‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫م�ن مكتب�ي ف�ي العمل‪ ،‬ف�كل األقلام والدفاتر ح َّتى س� ّلة القمامة‬
‫تأخذ مكان ًا معين ًا بدون ضجة‪ ،‬ومحتويات منزلي هي كذلك بالرتابة‬
‫أخلط الس�راويل مع‬‫ُ‬ ‫نفس�ها‪ ،‬فف�ي خزان�ة المالب�س مثالً‪ ،‬ن�ادر ًا ما‬
‫القمص�ان‪ ،‬وال أذك�ر أن�ي وجدت ش�يئ ًا ملقى على األرض بش�كل‬
‫متعمد‪ ،‬بل حتى ش�كل جس�دي وش�عري والمالبس التي أرتديها‬ ‫َّ‬
‫أي عدم اس�تقرار إال‬ ‫مرتب�ة بحصان�ة‪ ،‬حت�ى دق�ات قلبي ال ُتحدث ّ‬
‫في حاالتٍ نادرة بفعل المرض‪.‬‬
‫ولكن الكتابة تأتي ف ُتع ِّلمني العش�وائية بكل أبجدياتها‪ ،‬أنس�ى‬
‫كل قواع�د الترتي�ب‪ .‬مكتب�ي المنس�ق وال�ذي يك�ون من قب�ل أنيق ًا‬ ‫َّ‬
‫مستعدة ل ُتجرح و ُتخدش‪ُ ،‬يصبح ساحة معركة‪ ،‬حرب ًا‬ ‫َّ‬ ‫ومزين ًا بأوراق‬
‫َّ‬
‫ضروس� ًا تكون خس�ائرها هي الفوائد التي تكس�بها تعاريج الورق‪،‬‬
‫تتبعثر األوراق هنا وهناك‪ .‬وفي نفسي ال أصبر على األشياء المبعثرة‬
‫الت�ي تحي�ط ب�ي في غير مكانها‪ ،‬ولكن ف�ي حالة الهيجان العاطفي‬
‫بحقنات الكتابة‪ ،‬أنسى كل شيء كان يستفزني ويثير الترتيب عندي‪،‬‬
‫كأن البصر ال يركِّ ز إال في بياض الورق‪.‬‬
‫عندما أصل إلى ذروتي‪ ،‬تغدو ضربات قلبي حسيسة الخفقان‪،‬‬
‫وأصبح عنيف ًا في بذر الكلمات‪ ،‬أنس�ى الهدوء المس�تكين‪ ،‬وتغدو‬
‫أفعالي كعازف آلة ال ُتحمى آل ُت ُه إال بحرارة الجس�د‪ ،‬وتحتاج كل‬
‫كل‬ ‫عضو ٍ في الجسد‪ ،‬فدائم ًا ما كان القلم آلة عزف الكاتب‪ ،‬فبعد ّ‬
‫ش�يء أنا أس� ّطر في أرقام ال ّتاريخ ما تبقّى من هذه الحياة‪ .‬ولربما‬
‫أتالءم مع التئام الجراح‬
‫َ‬ ‫أؤلم نفسي لكي‬‫ُ‬ ‫حركُ أناملي ألمي‪،‬‬‫كان ُم ِّ‬
‫‪63‬‬
‫�د‪ ..‬ث�م تتف َّت�ح ف�ي كل فع�ل كتاب�ة‪ .‬ويزيد ذلك‬ ‫وتنس ُّ‬
‫َ‬ ‫الت�ي ُتخ�اط‬
‫حام التذيلي لألفكار تلك المؤثرات الصوتية التي تزيد استخراج‬ ‫ال ِّل ُ‬
‫الكلم�ات م�ن منجمه�ا‪ ،‬هي تعاس�ة نوت�ات آلة موس�يقية وترية ال‬
‫ٍ‬
‫صدى حولي لشيء غيرها هي مع نقرات قلمي‪ ،‬جرات آلة‬ ‫ً‬ ‫سمع‬
‫ُي ُ‬
‫جزء من‬
‫ٌ‬ ‫أشع ُر أن أوتاره األربعة‬ ‫التشيلو تمارس ساديتها على قلبي‪ُ ،‬‬
‫يأكل وينخر بال تعب‪ ،‬أو‬ ‫ش�راييني‪ ،‬وقوس�ه يعزف داخلي كمنش�ار ُ‬
‫خر ُج رحيق ًا على أنصالها‪ ،‬دم ًا خالصته‬ ‫كأمواس وسيوف تطعنني ف ُت ِ‬
‫س�واد قل�ب وانش�راح ذه�ن م�ن ش�وائبه ومعضالته بش�كل ٍ مؤقت‬
‫تنبش في منحدر جبل وجعي‪ ،‬فتس�قط الكلمات‬ ‫ُ‬ ‫ودوري‪ .‬وألحانه‬
‫فتكبر متدحرجة لتش�كِّ ل فقرة‪ ،‬ثم ورقة‬ ‫ُ‬ ‫تكبر‬
‫على الورق دقيقة ثم ُ‬
‫أؤمن بأن التش�يلو إذا‬ ‫ُ‬ ‫غير ُمحصاة‪.‬‬ ‫بوجهين‪ ،‬وبعدها بضعة أوراق ِ‬
‫سمحت لنفسي بالعزف عليه يوم ًا‪ ،‬سأعزف ألحان ًا تشب ُه الكلمات‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫كل‬
‫جو ِّ‬ ‫زعج وس َتخرب َّ‬ ‫الجافة التي ألفظها على الورق‪ ،‬نوتات س ُت ُ‬
‫علي ألنني عازفها ومخترع‬ ‫ش�فق ّ‬‫ُ‬ ‫س�عيد يأمن في عيش�ه‪ ،‬ستجعله ُي‬
‫مرة ٍ راودتني فكرة أن آخذ دروس ًا ألتع َّلم العزف‬ ‫ألحانها‪ ،‬وكم من َّ‬
‫جيد ًا بأن‬
‫يتبق الوقت لل ّتعلم أيض ًا‪ ،‬كما أنّي فكَّ رت ّ‬ ‫علي�ه‪ ،‬لك�ن ل�م َّ‬
‫متقن للتعب النفس�ي‪ ،‬وأنني س�أُصبح بارع ًا في‬ ‫ٌ‬ ‫تجس�يد‬
‫ٌ‬ ‫الموس�يقى‬
‫ويسرة‪ ،‬وموسيقاي ولغة أساي س ُتسمع وسينتبه‬ ‫تقليب أوجاعي ُيمنة ُ‬
‫خفيت حزني‬ ‫ُ‬ ‫لها بعض الناس عندما أعزف‪ ،‬وأكره أن ُيش َف َق علي‪ ،‬أَ‬
‫فكيف ل�ي أن أُظهر عجزي‬ ‫َ‬ ‫بقل�م ٍ عل�ى ال�ورق لصم�ت الكلمات‪،‬‬
‫الذكريات‬ ‫وقه�ري بالنغم�ات؟ لذا فقد اكتفيت بالع�زف على أوتار ِّ‬
‫تع�ب أكثر من الكتابة‪ ،‬كم�ا أنها صامتة وال‬ ‫وخ ّطط�ت‪ ،‬فلا ش�يء ُي ُ‬
‫صدى أثناء ممارسة السادية على األوراق‪ ،‬والحروف خيانتها‬ ‫ً‬ ‫ُتسمع‬
‫‪64‬‬
‫أما النوتات فتفضح من أول ترنيمة‪.‬‬ ‫ومض ّللة بمعناها‪ّ ،‬‬ ‫ضئيلة ُ‬
‫عذب البعض‪ ،‬وس�جن البعض‪ ،‬وأبكى‬ ‫مجرم عالمي‪ّ ،‬‬‫ٌ‬ ‫الحرف‬
‫ُ‬
‫وكل هؤالء الضحايا ُيميتون أجزاءهم‬ ‫شقاء للبعض‪ُّ ..‬‬ ‫ً‬ ‫البعض‪ ،‬وشكَّ َل‬
‫ليهب‪ ،‬أو‬ ‫قدم ِ‬ ‫التي لم يعودوا بحاجة إليها في س�بيله‪ ،‬كأنها قربان ُي ّ‬
‫حمل القلم أو كتب ش�يئ ًا‬ ‫َ‬ ‫وكل من‬
‫يحك�م إال باإلع�دام‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫كق�اض ٍ ال‬
‫كيفم�ا كان‪ ،‬أكان مأس�اوي ًا أو س�اخر ًا أو ُمضح�ك ًا‪ ..‬أو ح َّت�ى مج�رد‬
‫ال�رداءة أو‬ ‫حماق�ات‪ ،‬فه�و بطبع�ه إنس�ان ُيح�اول ملء ف�راغ ما‪ ،‬فال ّ‬
‫فكل‬ ‫الجودة تعني ش�يئ ًا أمام محاولة خلق فس�حة نس�يان الحاضر‪ُّ ،‬‬
‫وكل كاتبٍ لو لم يشعر بال َّنقص‪،‬‬ ‫مبني ٌة أُ ُسسها على الماضي‪ُّ ،‬‬ ‫الكتابات ّ‬
‫وتوس َل ألنامله‬
‫َّ‬ ‫ش على ما بداخله وأجبر عقله على العمل‪،‬‬ ‫تحر َ‬
‫لما َّ‬
‫أحب األمر‬ ‫ّ‬ ‫كي تخُط‪ ...‬لكن هذه أشياء ليس لها أي عالقة بي‪ ،‬لم‬
‫يهمن�ي رداءة هذه الكتاب�ة أو جودتها‪ ،‬فلن تعدو أن‬ ‫من�ذ البداي�ة‪ ،‬ال ّ‬
‫مجرد تأبين صغير لي‪.‬‬ ‫مجرد أصداء لما مضى‪ّ ،‬‬ ‫تكون ّ‬
‫ضد‬ ‫كل شيء‪ ،‬ح ّتى االستواء أخاصمه‪ ،‬أنحاز َّ‬ ‫ألعب الحياد في ِّ‬ ‫ُ‬
‫أجعل السطور مستقيمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رغبة استقامة الكتابة‪ ،‬وأحاول ما أمكن أن‬
‫ب أنا حتى في السطور‪ ،‬وروحي‬ ‫لكن دون جدوى‪ ،‬ال تستقيم‪ُ ..‬متق ِّل ٌ‬
‫أرس�مها عل�ى الورق غاضبة‪ ،‬ال تري�د أن تخضع ألي قانون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كم�ا‬
‫الحظت أنني نادر ًا ما‬‫ُ‬ ‫ترضخ إلى أي قاعدة اس�تقامة‪ .‬وقد‬ ‫َ‬ ‫وال أن‬
‫وضع�ت أي نقط‪ ،‬أكتفي ف�ي آخر الفكرة‬ ‫ُ‬ ‫أض�ع نق�ط النهاي�ة‪ ،‬وإن‬
‫بثالث نقط‪ ،‬ألن حديثي طويل‪ ،‬وبوحي ال ينتهي في إصابة وعدم‬
‫ريد كتابته‪..‬‬ ‫إصابة ما أُ ُ‬
‫ببساطة أتبع غريزتي فقط‪.‬‬
‫***‬

‫‪65‬‬
‫والوس�طى‪ ،‬ودون أن أنظ�ر إلى‬ ‫وضع�ت قلم�ي بي�ن الس�بابة ُ‬ ‫ُ‬
‫يميني‪ ،‬حملت قدح القهوة ألرتش�ف بعض ًا منها وأكمل في تركيز‪،‬‬
‫حملت اإلبريق‬ ‫ُ‬ ‫لكن كوبي فرغ دون أن أش�عر أني احتس�يته كامالً‪.‬‬
‫ارتش�فت‬ ‫ُ‬ ‫ألس�كب‪ ،‬كان فارغ ًا أيض ًا‪ ،‬فلم يمأل س�وى ربع القدح‪.‬‬
‫وطرق�ت بقع�ر ال�كأس على س�طح المكتب‪ ،‬كأني‬ ‫ُ‬ ‫القه�وة القليل�ة‬
‫س�تأنف الحكم في‬ ‫ُ‬ ‫طرق�ت ُمعلن� ًا ع�ن انته�اء جلس�ة محاكمة‪ُ ،‬‬
‫وسي‬ ‫ُ‬
‫بد أن تكون‪.‬‬ ‫المرة القادمة إذا ما كانت‪ ..‬وال َّ‬
‫س�ت‬ ‫كرس�يي رافع ًا رأس�ي إلى الس�طح‪ ،‬تن ّف ُ‬ ‫ّ‬ ‫كأت على ظهر‬ ‫ا ّت ُ‬
‫وزف�رت بق�وة‪ .‬تحسس�ت وجه�ي بيدي اليمن�ى‪ .‬لحيتي‬ ‫ُ‬ ‫الص َع�داء‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ومسحت شعري‬ ‫ُ‬ ‫مسحت على جبهتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أصبحت ك َّثة ويجب حلقُها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫يدي من أول ش�عرة منس�دلة على جبيني إلى آخر ش�عرة في‬ ‫بكلتا ّ‬
‫وأنزلت رأسي عمودي ًا حتى َّ‬
‫ارتد‬ ‫ُ‬ ‫تركت يدي مع ّلقة برقبتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫رقبتي‪،‬‬
‫نظرت للحظات‪ ،‬ثم رفعت بصري إلى ورقي‬ ‫ُ‬ ‫فخدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بصري نحو‬
‫مألت صفحاتٍ دون‬ ‫ُ‬ ‫وتذكر‪ ،‬ويبدو أنني‬‫ُّ‬ ‫وما كتبته في حالة نسيان‬
‫أدرت رأسي نحو النافذة على يميني‪ ،‬وقد كان الليل سكن‬ ‫ُ‬ ‫توقُّف‪.‬‬
‫رت في أن‬ ‫الس�اعة تش�ير إلى الثّامنة وال ّنصف‪ ،‬فكّ ُ‬ ‫المكان‪ .‬عقارب ّ‬
‫ضت الفكرة‪ ،‬فلن يعني ذلك شيئ ًا‪ ،‬فكأسي فرغت‪،‬‬ ‫قو ُ‬ ‫ُ‬
‫أكمل‪ ،‬لك ّني ّ‬
‫وأنّي سأثمل أكثر إذا ما أكملت‪.‬‬
‫يحدث‬ ‫ُ‬ ‫لعل شيئ ًا ما‬ ‫نهضت ألتجول في أنحاء مسكني قليالً‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫هام ًا‬ ‫أش�علت األنوار‪ ،‬مررت بجان�ب المكتب ّ‬ ‫ُ‬ ‫ب�دون تد ّخ�ل ٍ من�ي‪.‬‬
‫لكي أخرج من غرفتي‪ ،‬فاستوقفتني حروف مخدوشة عليه ال أتذكَّ ُر‬
‫بخط عريض ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫متى كتبتها أو نقش�تها بس�كين على س�طحه الخشبي‪،‬‬
‫وبائن ٍ تقول أحرفي باإلنجليزية‪:‬‬
‫‪66‬‬
‫))‪((All you need to reach me is to lose everything‬‬
‫صمت‬
‫ُّ‬ ‫أضح�ك كما لم أضحك م�ن قبل‪ ،‬بعدها‬ ‫ُ‬ ‫قرأ ُته�ا وأن�ا‬
‫قليلاً‪ ،‬فق�د ب�دا أن س�خريتي م�ن نفس�ي لم تكن ف�ي مح ِّلها‪ ،‬ألن‬
‫ميت‪..‬‬ ‫الظاهر أنها كانت كلمات حكيمة من رجل ّ‬
‫أل�م يك�ن الخ�راب دائم ًا موطن والدة ِ أش�ياء وانبعاث أش�ياء‬
‫فكل هزيمة هي بداية‬ ‫كل األش�ياء الخس�ارات؟ ُّ‬ ‫أُخرى‪ ،‬وأن بداية ِّ‬
‫وعي ٍ جديد وبداية حكاية ليست كسابقاتها‪.‬‬
‫ألي�س ذل�ك الطائ�ر األس�طوري خبيث� ًا بما يكف�ي ُلي َبرهن عن‬
‫عظمة الخس�ارة؟ أليس�ت أس�طورة «الفينيق» مثاالً يعينني على فهم‬
‫حالت�ي؟ ألي�س ه�و ذلك ال ّطائر الجميل والقوي‪ ،‬والذي يس�توحي‬
‫عظمة والدته من خس�ارته حيث يحترق ويصبح رماد ًا ُليعيد إحياء‬
‫م�ر ًة أخ�رى كل أل�ف عام! فرديته تلك أال ُتش�بهني؟ يقولون‬ ‫نفس�ه َّ‬
‫الصفات‪ ،‬ويغدو‬ ‫طائر يشبهه في ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫إنه يعيش سعيد ًا وفرد ًا وال يوجد‬
‫يري�د أن يحرق أحد ًا غير نفس�ه ُليعاد‪ ،‬وفي‬ ‫ُ‬ ‫األم�ر جائ�ز ًا عندم�ا ال‬
‫األمر ُمطابقة ما لقضيتي‪ ..‬من يعلم لربما أنا فينيقي على حد تأويل ٍ‬
‫ٌّ‬
‫الصينيين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫محرف مني بتأويل ّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫همهم بصوت مسموع أترن َُّم به مع‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لت في الصالون وأنا أ‬
‫ُ‬ ‫تجو ُ‬ ‫َّ‬
‫جرات التشيلو‪ .‬وقفت تحت مصباح الصالون المضاء‪ .‬نظرت إلى‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫غصة البنية التي‬ ‫ُ‬
‫حدق إليهما‪ .‬ولم تسعني سوى ّ‬ ‫يدي وبقيت أ ّ‬ ‫ظهر ّ‬
‫ابتلتني‪ .‬فقط ال ُيمكنني أن أفهم بنية أنني شاب وأشيب في الوقت‬
‫نفسه‪ .‬وما بال هذا الصراع النفسي الذي يلتهمني في قضية العمر!‬
‫كل ش�يء‪،‬‬ ‫غترب من ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫أش�ع ُر أحيان ًا أنني عاجز عن المش�ي‪ُ ،‬‬
‫وم‬ ‫ُ‬ ‫فأنا‬
‫حت�ى األل�وان اخ ُتزل�ت عن�دي في لون واحد ال اثني�ن‪ .‬زياد ًة على‬
‫‪67‬‬
‫خيل‬ ‫خيل المقهر لألشياء على غير حقيقتها‪ ،‬ورتابة األيام‪ُ .‬ي ّ‬ ‫ذلك ال ّت ّ‬
‫ل�ي أحيان� ًا أنن�ي أعيش في فيلم ٍ باألبيض واألس�ود‪ ،‬وأ ّن ازدواجية‬
‫ومزج ال َّلونان فش�كال رم�ز ًا لضياعي‪،‬‬ ‫اللوني�ن تلع�ب م�ن حول�ي‪ُ ،‬‬
‫يكف عن‬ ‫ّ‬ ‫لو ٌن أرتدي صبغته على جفني؛ ال ّلون الرمادي الذي لن‬
‫وسيتبعني حتى قبري في صفة شاهد ٍ قرب رأسي‪ ،‬حتى‬ ‫ُ‬ ‫مالحقتي‪،‬‬
‫قلمي يقذف رصاصه رماد ًا‪ ،‬وهب ًا وحرمان ًا‪..‬‬
‫تبع ُد عني‬ ‫كان�ت إس�فنجة صف�راء مرمية عل�ى األرض‪ ،‬كانت ُ‬
‫الصالون‪،‬‬ ‫فتحت نافذة ّ‬ ‫ُ‬ ‫نصف متر تقريب ًا‪ ،‬خطرت ببالي فكرة طريفة‪.‬‬
‫ه�ت‬‫وتوج ُ‬
‫ّ‬ ‫اس�تعددت‬
‫ُ‬ ‫بخط�ى ثابث�ة رواء اإلس�فنجة‪ ،‬ث�م‬ ‫ً‬ ‫جع�ت‬
‫ُ‬ ‫ور‬
‫َ‬
‫سد ُد ضربة جزاء‪ .‬ركلتها فضربت‬ ‫نحوها‪ ،‬فركلتها ككرة قدم‪ ،‬كأنني أُ ِّ‬
‫حاشية النافذة الجانبية على اليمين ولم ُتصب الهدف‪ ،‬حملتها مر ًة‬
‫أُخرى ألقوم بمحاولة أُخرى‪ ..‬فشلت‪ ،‬محاولة أُخرى بعد السابقة‪،‬‬
‫ذهبت ألطل ألرى أين وصلت اإلسفنجة‪ ،‬وهل‬ ‫ُ‬ ‫أصبت فيها الهدف‪.‬‬‫ُ‬
‫ارتطمت باألرض‪ .‬كان فعالً س�خيف ًا مني‪ ،‬فقد ارتطمت اإلس�فنجة‬
‫ظل المار‬ ‫بش�خص م�ار‪ ،‬لك َّن�ه ل�م يرني‪ ،‬ولم يعرف م�ن ألقى بها‪َّ .‬‬
‫واقف� ًا للحظ�ات وه�و ين ُظ ُر إلى األبنية محاوالً توقُّع من أين ُرميت‬
‫فأكمل مسيره‬ ‫َ‬ ‫ليس له أهمية‬ ‫اإلسفنجة‪ ،‬لكن يبدو أنه فكّ ر أن األمر َ‬
‫وابتعدت عن النافذة وأنا‬ ‫ُ‬ ‫وقفت مدهوش� ًا في لحظة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وهو يبتس�م‪.‬‬
‫صمت مصدوم ًا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أضحك بشدة وأقهقه كمجنون‪ ،‬بعد لحظة أُخرى‬
‫ُّ‬
‫أعلم جيد ًا لم�اذا البكاء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خدي‪ .‬كن�ت‬
‫َّ‬ ‫ونزل�ت دم�و ٌع طفيف�ة عل�ى‬
‫اقشعرت‬
‫ّ‬ ‫ش�عرت حينها برعش�ة تذكّ ٍر بجس�دي‪ ،‬فقد تذكّ رت ش�يئ ًا‬
‫ل�ه ُش�عيرات جس�دي‪ ،‬أمر ًا أحم�ق كنت قد أقدمت عل�ى القيام به‬
‫لك�ن أمر ًا إلهي ًا حدث قد أنقذن�ي‪ .‬لم يمض ِ على‬ ‫ّ‬ ‫ع�ن غي�ر قص�د‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫ذلك س�وى ش�هرين‪ ،‬فقد حاولت القفز من النافذة نفس�ها‪ ،‬لم أنو ِ‬
‫جرب الوق�وف على حا َّفة الموت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بالفع�ل‪ ،‬فق�د حاول�ت فقط أن أ ِّ‬
‫أي‬‫رجلي‪ ،‬ال أتذكّ ُر َّ‬ ‫ّ‬ ‫إال أن األم�ر ح�دث فعلاً‪ ،‬فقد انزلقت إحدى‬
‫ثوب قميصي‬ ‫ُ‬ ‫بالس�قوط‪ .‬ولوال‬ ‫ش�عرت ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل ما أذكره هو أنّي‬ ‫قدم‪ّ ،‬‬
‫لكن�ت ف�ي ع�داد الموتى‪ ،‬وقد أحرق�ت القميص بعد ذلك لكي ال‬ ‫ُ‬
‫تمسكت بسلك‬ ‫أتذكّ َر الحدث‪ .‬حمد ًا لخيوط القميص المتينة التي ّ‬
‫بحائط العمارة والمار‬ ‫ِ‬ ‫عم�ود الكهرباء األس�ود‪ ،‬الذي كان ُملتصق� ًا‬
‫بالس�لك ألبقى‬ ‫الخيوط تش�بثت ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الحظ أ ّن‬ ‫تحت نافذتي‪ ،‬ولحس�ن‬
‫س�يحدث‪ ،‬وال أدري كيف‬ ‫ُ‬ ‫ُمع َّلق ًا للحظات وهلع ًا ومرتبك ًا لما كان‬
‫ي�دي حافة النافذة‬ ‫ّ‬ ‫مس�ك بكلتا‬ ‫َ‬ ‫جاءتن�ي القُوة بعضالت س�اعدي ألُ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ش�عرت بش�يء‬ ‫ُ‬ ‫كأنني أتس� َّل ُق س�ور ًا‪ .‬كان مخيف ًا ح ّق ًا‪ ،‬أتذكّ ر أنني‬
‫ب في الرابعة صباح ًا أرادت أن‬ ‫ته ُّ‬ ‫يحتويني‪ ،‬كأن الريح التي كانت ُ‬
‫ُتنقذني هي األُخرى‪ ..‬كانت ليلة فزع ٍ بحق!‬
‫عدت إلى غرفتي وصوت معدتي ما فتئ ُينادي‪ ،‬خ ّزان خالياي‬ ‫ُ‬
‫قد نفد‪ ،‬ومن الواجب أن أشبع بطني ألستأنف الكتابة‪ .‬أحقّر الكتابة‬
‫بهذا الفعل‪ ،‬تجعلني أجوع س�ريع ًا‪ ،‬وليس أي جوع‪ ،‬فجو ُع الكتابة‬
‫عادي ًا‪ ،‬ومتى يبدأ ال ينتهي إال عندما تنتهي حرقة األفكار‪ ،‬وكم‬ ‫ليس ّ‬
‫نمت جائع ًا من أثر تعبها لي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مرة‬
‫َّ‬
‫حبة بطاطا واحدة تبقَّت‬ ‫فتحت الثالجة‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫إلى المطبخ ذهبت‪،‬‬
‫وقلي�ل م�ن األرز‪ .‬المعادل�ة ليس�ت كامل�ة إلش�باعي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وجزرت�ان‪،‬‬
‫وذهب�ت لتغيير‬
‫ُ‬ ‫أغلق�ت الثالجة‬ ‫ُ‬ ‫ومؤونت�ي ف�ي الثالج�ة ق�د نفدت‪.‬‬
‫معصمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كم�اه إلى‬ ‫ارتدي�ت قميص� ًا صيفي� ًا أبيض يصل ّ‬ ‫ُ‬ ‫مالبس�ي‪.‬‬
‫كنت به‪.‬‬‫ُ‬ ‫حر العنفوان الذي‬ ‫تركت أزراره مفتوحة ألبر َد من ِّ‬ ‫ُ‬
‫‪69‬‬
‫أقفل�ت باب ش�قتي‪ .‬لم تكن أنوار السلالم‬
‫ُ‬ ‫خرج�ت بع�د أن‬
‫ُ‬
‫س�معت صوت باب الش�قة‬ ‫ُ‬ ‫مض�اءة بع�د خروج�ي‪ ،‬عندما أضأتها‪،‬‬
‫المقابل لش�قتي ُيفتح‪ .‬كانت الش�قة خالية من قبل‪ ،‬واآلن يس�كنها‬
‫جيران جدد جاؤوا قبل يومين‪ ،‬وهذه أول مرة أصادف فيها أحدهم‪.‬‬
‫ستصعد‬
‫ُ‬ ‫تحمل س ّلة غسيل‪ ،‬والظاهر أنها‬
‫ُ‬ ‫كانت امرأة مس ّنة‪ ،‬وكانت‬
‫إلى السطح لتضع الغسيل فوق الحبال كي يجف‪ ،‬وكما بدا لي‪ ،‬أن‬
‫س� َّلة الغس�يل كبيرة ش�يئ ًا ما‪ ،‬وال أظن أن امرأة بترهالت على يدها‬
‫وتقوس ٍ على ظهرها ستقدر على حملها‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ل�م أك�ن ف�ي مزاج جيد للحديث‪ ،‬في البداي�ة تر َّددت بعد أن‬
‫السالم فور إضاءتي المصباح الذي ُينير الطابق‪.‬‬ ‫ألقيت عليها َّ‬
‫ُ‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– أيمكنني المساعدة؟‬
‫تنتظ�ر أحد ًا‬
‫ُ‬ ‫وتنه�دت كأنه�ا كانت‬
‫ابتس�مت ابتس�امة عريض�ة َّ‬
‫ثم قالت بعدها‪:‬‬
‫السلة‪َّ ،‬‬
‫يحمل عنها ّ‬
‫ُ‬
‫– نعم‪ ..‬نعم! يا ولدي‪.‬‬
‫ُ‬
‫الصعود‪،‬‬‫حملت الس ّلة في يد ومددت يد ًا للعجوز أعينها على ّ‬ ‫ُ‬
‫ق األرض في‬ ‫ص�وت معدن�ي أس�فل منس�أتها الخش�بية يط�ر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وكان‬
‫فتحت الب�اب الحديدي األحمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الس�طح‪،‬‬
‫كل درج�ة‪ .‬وصلن�ا إلى َّ‬ ‫ِّ‬
‫ووضعت الس ّلة‪.‬‬
‫ُ‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫– اهلل يرضى عليك‪.‬‬
‫قلت مبتسم ًا‪:‬‬
‫– ال مشكل‪ ،‬شيء واجب‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫بنفس ِ االبتسامة ر ّدت علي‪:‬‬
‫– اهلل يعينك ويحفظك‪.‬‬
‫غ�ادرت ونظراتها‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َ�وس االبتس�امة على وجهي‪َّ ،‬‬ ‫أكمل�ت تق ُّ‬
‫ُ‬
‫تجاوزت عتبة الباب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تتبعني إلى أن‬
‫ُ‬
‫الزر الدائري‬‫كبس ِّ‬‫أعدت َ‬ ‫ُ‬ ‫األضواء التي كانت ُمنارة انطفأت‪.‬‬
‫ِ‬
‫ألحتل الطابق‬
‫َّ‬ ‫مت‬ ‫بقوة‪ ،‬ألن فيه عطب ًا لم ُيصلح منذ أن َقد ُ‬ ‫األبيض ّ‬
‫نزلت‬ ‫لل�زر بك ِّف�ي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫األخي�ر‪ .‬أُني�رت األض�واء بفع�ل ُجهد ش�حنته‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫نصر آخر من العائلة المجاورة‪ ،‬األول كانت‬ ‫بع ٍ‬‫التقيت ُ‬
‫ُ‬ ‫الدرج‪ ..‬ثم‬ ‫َّ‬
‫المرأة العجوز‪ ،‬واآلن ش�ابة تقريب ًا في س� ّني نفس�ها أو أصغر مني‪.‬‬
‫باب ُشقَّتهم مفتوح ًا‪ ،‬راحت تنظر تار ًة إلى الباب وتار ًة‬ ‫عندما رأت َ‬
‫إلي‪ ،‬كأنها تريد أن تفهم ما الذي حصل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أدركت الوضع‪ ،‬فقلت لها‪:‬‬
‫– المرأة الكبيرة التي تس�كن هنا طلبت المس�اعدة في حمل‬
‫س َّلة الغسيل‪ ،‬فساعدتها‪.‬‬
‫تبسمت بعد أن كانت مالمح وجهها تريد تفسير ًا ما‪ ،‬تنفَّستِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الص َعداء وزفرت بتنهيدة طويلة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫مرة أخرى‪.‬‬ ‫– آآه‪ ..‬الحـمد للـه! ظننت أنها خرجت ّ‬
‫ت‬‫ل�م أرد إكم�ال الحدي�ث‪ ،‬ول�م أعقِّب على كالمه�ا‪ .‬تداركَ ْ‬
‫وعرفت عن نفسها وهي تضحك‪:‬‬ ‫نفسها َّ‬
‫نحن الجيران الجدد‪ ،‬أنا حفيدة المرأة التي ساعدتها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– آسفة‪،‬‬
‫رددت عليها بصيغتها نفسها‪:‬‬‫ُ‬
‫فت‬ ‫– وأنا الجار القديم هنا‪ ،‬والذي أصبح جديد ًا عندكم‪َّ ،‬‬
‫تشر ُ‬
‫‪71‬‬
‫بمعرفتكم‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫طيبة‪.‬‬
‫– فلتكن جيرة ِّ‬
‫إلي يدها ل ُتصافحني‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ألقت َّ‬
‫– بالمناسبة‪ ..‬أنا نجوى‪.‬‬
‫اليس�رى‬
‫رفعت بإبهام يدي ُ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫حنيت رأس�ي قليالً‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫صافحتها‪.‬‬
‫نظارتي التي انزلقت‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫– وأنا وحيد‪.‬‬
‫علي مزحة‪:‬‬
‫ضحكت من اسمي‪ ،‬وألقت َّ‬
‫تعد تسكن اآلن لوحدك‪.‬‬
‫– لم ُ‬
‫قلت لها‪:‬‬ ‫غادرت مبتسم ًا في وجهها‪ ،‬وقبل أن أنزل َّ‬
‫الساللم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫– ح ّق ًا‪..‬‬
‫اختفيت بعدها مع انطفاء األنوار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ط�وال المس�افة الت�ي قطع ُتها نحو الس�وق المركزية «أس�يما»‪،‬‬
‫كنت أفكّ ر في كالم تلك الجارة الجديدة‪ ،‬أدري أنها كانت تمازحني‬
‫ُ‬
‫غبية‬
‫فقط‪ ،‬ولكن‪ ..‬هل بالفعل لم أعد أس�كن وحدي؟ تبدو فكر ًة َّ‬
‫فالس�كن ال يعني دائم ًا باب ًا مقابل باب‪ ،‬أو ش�قَّة قرب أو‬
‫صاغتها‪َّ ،‬‬
‫لربم�ا عام�ة الناس يفهمون كلمة «س�كن»‬ ‫ف�وق أو تح�ت أخ�رى‪َّ ،‬‬
‫ورمزي إلى مع من نعيش‪ ،‬وإلى وس�ط من نتفاعل‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫بش�كل ٍ عادي‬
‫ولكن مفاهيمي أنا أش�ياء أُخرى عن ما يفكّ ر به العامة‪ ،‬فس�كني ال‬
‫مكن أن أقول عن‬
‫يقطن فيه‪ُ ،‬في ُ‬
‫ُ‬ ‫يختص به جس�دي والمكان الذي‬ ‫ُّ‬
‫متش�رد‪ ،‬ال أس�كن وال أقطن ال هنا وال هناك‪ ،‬فاألمر‬ ‫ّ‬ ‫نفس�ي‪ :‬أنني‬
‫ويعنى به قلبي الذي أحمله‪ ،‬ال الجسد الذي أملكه وظيفة‬ ‫شخصي ُ‬
‫‪72‬‬
‫ف�ي الحي�اة وإجباري� ًة في الفناء‪ ،‬فالقلب ون�وع ضرباته هي من ُت ُّ‬
‫قر‬
‫الملجأ الذي يهرب إليه اإلنسان حينما يذعر ويخاف‪.‬‬
‫فأين هو ملجئي إذن؟ إلى من أعود؟ وأين هو طريقي الصحيح‬
‫في متاهة االنتماء والالانتماء؟ وإلى متى س�أبقى ههنا أعيش أو ال‬
‫هوية‪ ،‬وال َّبر أمان يحضنني‪.‬‬ ‫أعيش بدون َّ‬
‫ابتع�ت م�ا احتجت�ه م�ن ذرة وجلب�ان ُمع َّلبين‪ّ ،‬‬
‫وبقي�ة ال َّتكوينة‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ثم خرجت‪.‬‬ ‫دفعت الحس�اب ّ‬ ‫ُ‬ ‫تصلح لعش�اء س�لطي كالعادة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التي‬
‫رت أنني في الغد يمكن أن آتي‬ ‫وقفت للحظات أمام المدخل‪ ،‬فكَّ ُ‬ ‫ُ‬
‫خصص‬ ‫الم َّ‬
‫تجولت بالم�كان ُ‬ ‫ألتغ�دى ف�ي المن�زل‪ .‬عدت دخ�والً‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أخرج�ت مذكِّ رت�ي‪ ،‬ألرى وصف� ًة ألكل�ة تكون على‬ ‫ُ‬ ‫للخض�روات‪.‬‬
‫أرجعت المذكّ رة إل�ى جيبي وفي‬ ‫ُ‬ ‫مزاج�ي غ�د ًا‪ .‬فكّ �رت قليلاً‪َّ ،‬‬
‫ث�م‬
‫ذهن�ي أ ّن «طاجي�ن» س�يفي بالغ�رض‪ ،‬فل�ن يأخ�ذ م ّن�ي الكثي�ر من‬
‫الوقت‪ ،‬كما ال يحتاج المراقبة كثير ًا‪.‬‬
‫عدت‬‫ُ‬ ‫ثم خرجت‪.‬‬ ‫ابتعت ما أريده من لحم وخضروات وتوابل ّ‬ ‫ُ‬
‫بأيد ٍ عامرة في الطريق نفسه الذي سلكته في مجيئي‪ .‬كانت خطواتي‬
‫بطيئة‪ ،‬ولم يعد يفصلني عن وصولي س�وى ش�ارع مس�تقيم وطويل‬
‫لكي أصل إلى العمارة‪ .‬نظرت نحو السماء التي اشتد لون غيومها‬
‫أس�رعت ف�ي ُخطاي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قطع�ت أمت�ار ًا أخ�رى‪ ،‬فبدأت تمطر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دكن�ةً‪،‬‬
‫مرة‬ ‫الجد الذي لم أره من�ذ زمن‪ ،‬قال لي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ورح�ت أفكّ �ر ف�ي ذل�ك‬
‫بجدتي‪ ،‬فقد هطل المطر في يوم زفافه‪ ،‬بل‬ ‫يحب المطر‪ ،‬يذكّ ره ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأنّه‬
‫ح ّت�ى أنه�م اتخ�ذوا هطول األمطار موعد ًا يخرجان فيه لل ّتن ّزه‪ .‬أتراه‬
‫اآلن يتن َّزه تحت ذرفات المطر متذكّ ر ًا جدتي وتفاصيلها التي كانت‬
‫ويبعث كلمات نحو‬ ‫ُ‬ ‫طل من وراء النافذة‪ ،‬ويدعو‬ ‫تنز عطف ًا؟ أتراه ُي ُّ‬ ‫ُّ‬
‫‪73‬‬
‫السماء؟ أتراه أسعفته ركبتاه اللتان نخرهما صدأ الهرم في الذهاب‬
‫إلى المسجد في هذا الجو الماطر؟! ربما هو كذلك‪ ،‬أو ربما ليس‬
‫السنين األربع التي تفصله‬ ‫كذلك‪ ،‬قد يكون غا ّط ًا في النوم من أثر ِّ‬
‫أس�ترجع ف�ي حلم يقظة على الطريق ش�كله‬ ‫ُ‬ ‫ع�ن الثماني�ن‪ .‬رحت‬
‫الذي سيزيد ظرافة من قبل‪ ،‬بقصر قامته وكتفيه المنحنيتين‪ ،‬وعظام‬
‫ساعديه ال َّنحيلة المختفية تحت جلبابه في حياء‪ ،‬ومعصميه اللذين‬
‫تبدو عليهما آثار الوهن‪ ،‬ومنسأته الجميلة المزخرفة والمنقوشة‪ .‬ما‬
‫زلت أذكر وجهه البشوش رغم ال َّتجاعيد وقصمات الجبين‪ ،‬وصوته‬ ‫ُ‬
‫ب كالمه وتجعل حديثه‬ ‫حة ُت َع ِّل ُ‬ ‫كل كلمة ينطقها ُب َّ‬ ‫ال�ذي ُيخ�رج ف�ي ِّ‬
‫طفولي ًا‪ .‬وما زلت أذكر ضرباته الخفيفة على ظهري بقائمة منس�أته‬
‫عندم�ا كن�ت أتأ َّخر في االس�تيقاظ والذهاب معه إلى المس�جد في‬
‫فتوح النهار‪ .‬ويبدو أنني لم أكن كُ فئ ًا في حمل جينة ال َّطهي ألنشرها‬
‫أناني أنا ح َّتى في ما ليس لي‪ .‬أُراهن‬ ‫ٌّ‬ ‫في مطعم أو ح َّتى في تطويرها‪.‬‬
‫يطبخ‪ ،‬وقد ع َّلم كل حيل ال َّطبخ ياسمين وأخواتها‪ .‬حتى‬ ‫أنه ما زال ُ‬
‫أعدها ال ُيضاهي طعم ش�طائره‪،‬‬ ‫اآلن ال ي�زال طع�م الش�طائر الت�ي ُّ‬
‫وأعتقد أنه الحب‬
‫ُ‬ ‫جيد ًا‪،‬‬
‫شيء أعرفه ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫شيء ما ينقصني في تحليتها‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫حب ًا في الطبخ‪ ،‬بل في إش�باع‬ ‫أطب�خ ّ‬‫ُ‬ ‫والبرك�ة أو م�ا ش�ابه‪ ،‬فأن�ا ال‬
‫جيد ًا‪ ،‬ولكن‬
‫س�يئ ًا أم ِّ‬
‫غريزة الجوع ال غير‪ ،‬وال يهم المذاق‪ ،‬أكان ِّ‬
‫جي�د ًا‪ ،‬فال َّتعلم على يد خبير ل�ن يأتي من وراء‬ ‫ف�ي الغال�ب يك�ون ّ‬
‫الشهية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ذلك سوى األطباق‬
‫وجدت نفس�ي أم�ام العمارة‪ ،‬مب ّللاً بالمطر‬ ‫ُ‬ ‫غرة‪،‬‬
‫عل�ى حي�ن َّ‬
‫الذكرى التي أتت بسابق إنذار مطري‪.‬‬ ‫ومنتعش ًا من أثر ِّ‬
‫ج ّففت حذائي أمام عتبة باب العمارة‪ .‬صعدت الساللم بمزاج‬
‫‪74‬‬
‫تجمع ش�كوى الخاليا‬ ‫ُ‬ ‫تحركات وأصوات معدتي التي‬ ‫متعكِّ �ر م�ن ّ‬
‫كنت‬ ‫تأوه�ات‪ ،‬وق�د مض�ى على جوع�ي أربع س�اعات‪ُ .‬‬ ‫وتطلقه�ا ُّ‬
‫س�معت‬ ‫ُ‬ ‫متوجس� ًا فق�ط ب�أن أُصف�ع بوجه جديد أالقيه مرة أخرى‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫صوت ًا ينزل متثاقالً مع نقرات نحاس�ية رتيبة‪ ،‬وكانت المرأة المس� ّنة‬
‫أصبحت مقابالً لها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ف�ت بضع درجات خلفي‪ ،‬ثم‬ ‫م�رة أخ�رى‪ .‬خ َّل ُ‬
‫مرت‬ ‫كان�ت المالب�س الت�ي رأيته�ا م�ن قب�ل ترتديه�ا هي نفس�ها‪ّ ،‬‬
‫ابتس�مت لها فلم تر َّد‬ ‫ُ‬ ‫تقضب ًا بعض الش�يء‪،‬‬ ‫بجانبي‪ ،‬وبدا وجهها ُم ِّ‬
‫أكملت‬ ‫ُ‬ ‫بش�يء‪ ،‬ولم تس�تجب البتس�امتي كي ُتر َّد بواحدة مثلها‪ .‬أنا‬
‫صعودي وهي أكملت نزولها دون أي فعل ٍ ُيذكر‪.‬‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫فتحت الباب‪ .‬قبل أن أدخل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أدخلت المفتاح ألفتح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫صعدت‬ ‫أغلقت الباب‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬
‫برعشة َّتيار هوائي بارد آت من السطح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ولمحت س�لة الغس�يل التي‬ ‫ُ‬ ‫العش�ر درجات ألُغلقه‪ ،‬وجدت ُه موارب ًا‪،‬‬
‫بأذني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رت كالم ًا ّ‬
‫طن‬ ‫صعدت بها مساعدة للمرأة المسنة‪ ،‬حينها تذكّ ُ‬ ‫ُ‬
‫كان كالم ًا عابر ًا وكلمات غير مشروحة‪ ،‬وقد كانت الكلمات تعود‬
‫�رت أن أفع�ل ش�يئ ًا‪ ،‬كأن أطرق بابه�م ألعلمهم بأن‬ ‫لحفيدته�ا‪ .‬فكَّ ُ‬
‫عارضت نفس�ي‪ ،‬فمازالت مرارة القهوة‬ ‫ُ‬ ‫العجوز قد خرجت‪ ،‬لك ِّني‬
‫فوضعت احتماالً‬ ‫ُ‬ ‫تلعب في فمي والجوع يجعلني في مزاج س�يئ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أستنزف طاقتي وأهتم بشيء ليس لي به عالقة أو‬ ‫ُ‬ ‫ناقص ًا ال يجعلني‬
‫تعرف إحدى‬ ‫ُ‬ ‫صلة‪ :‬فمن يعلم‪ ،‬لربما العجوز خرجت لتبتاع‪ ،‬أو أنها‬
‫علي أن أبالي بما ال يجب‪.‬‬ ‫الجارات بالعمارة‪ ،‬وبالتالي فال يجب َّ‬
‫دخل�ت مضجع�ي وأطرافي تصطك‪ ،‬وقميصي األبيض أصبح‬ ‫ُ‬
‫دش سريع يدفئ جسدي‪.‬‬ ‫أول ما خطر ببالي هو ٌّ‬ ‫شفاف ًا وملتصق ًا بي‪ّ .‬‬
‫أخذت د ِّشي على مضض الجوع صابر ًا على تدفئة أعضاء جسدي‬ ‫ُ‬
‫‪75‬‬
‫رت مالبس�ي بأخرى قطنية‬ ‫غي ُ‬ ‫الحمام بعد أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫خرج�ت م�ن‬ ‫ُ‬ ‫الب�ارد‪.‬‬
‫س�روال رياض�ي وس�ترة صوفي�ة بس�حاب‪ ،‬وقد يكون‬ ‫ٌ‬ ‫وفضفاض�ة‪،‬‬
‫غريب ًا أنّي ال أنزع نظارتي في االستحمام‪ ،‬فقد أصبحت جزء ًا عملي ًا‬
‫ف�ي تركيب�ة هندامي‪ ،‬وال ُيمكنني االس�تغناء عنه�ا‪ .‬انتعلت صندالي‬
‫ح�ت إلى غرفتي‪.‬‬ ‫ثم ُر ُ‬ ‫الحمام‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫األزرق الموج�ود أم�ام عتب�ة ب�اب‬
‫بقدم�ي العاريتي�ن زربي�ة الغرف�ة الرطب�ة‪،‬‬ ‫ئ�ت‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫أزل�ت صندال�ي‪ .‬وط ُ‬ ‫ُ‬
‫قدمي‪ .‬أخرج�ت من الخزانة‬ ‫ّ‬ ‫ش�عرت بالب�رد ق�د أخذ كس�وته على‬ ‫ُ‬
‫أخذت‬
‫ُ‬ ‫ح�ت ُدرج ًا بالخزان�ة‪،‬‬‫إيش�ارب ًا ووضعت�ه س�ريع ًا برقبت�ي‪ .‬ف َت ُ‬
‫لبس�ت الجوارب واقف ًا‪،‬‬‫ُ‬ ‫زوج ج�واربٍ م�ن الن�وع الصوفي الثقيل‪،‬‬
‫أتلصص على حرف ٍ يوجد‬ ‫ه�ت إل�ى المطب�خ دون أن ّ‬ ‫توج ُ‬ ‫وبعده�ا َّ‬
‫على مكتبي‪.‬‬
‫إناء عريض ًا فيه حبات بطاطا وحبات جزر فوق مائدة‬ ‫وضعت ً‬ ‫ُ‬
‫كرسي أق ِّشر البطاطا‪ ،‬أقطع الجزر‬ ‫ٍّ‬ ‫جلست على‬
‫ُ‬ ‫المطبخ البالستيكية‪.‬‬
‫مربع�ات صغي�رة كما فعلت بالبطاطا بعد تقش�يرها‪ .‬اس�تغرق األمر‬ ‫َّ‬
‫بعض الوقت‪ ،‬وضع ُتهما كلاّ ً على حدة في قدر فيه ماء‪ ،‬وتركتهما‬
‫قدر صغير هو‬ ‫وضع�ت األر َّز ليغلي في ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يغلي�ان ف�وق الموق�د‪ ،‬كما‬
‫الصلصة التي أعددتها البارحة بالخردل‬ ‫جلب�ت من الثالجة َّ‬ ‫ُ‬ ‫اآلخ�ر‪.‬‬
‫وارتأيت أن أُضي�ف قليالً من زيت‬ ‫ُ‬ ‫والكتش�وب والجب�ن الم�ذاب‪،‬‬
‫الصلصة طازجة أكثر‪.‬‬ ‫الذرة لتصبح ّ‬
‫وذهبت ألقضي الدقائق الخمس والعشرين‬ ‫ُ‬ ‫تركت القدور تغلي‬ ‫ُ‬
‫فتحت‬ ‫ُ‬ ‫الت�ي تجه� ُز فيه�ا الق�دور ف�ي تص ّفح حاس�وبي المحم�ول‪.‬‬
‫مجرد رس�ائل إلكترونية قديمة من عمالء للش�ركة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫علبة وارداتي؛‬
‫ال رس�ائل جدي�دة‪ .‬انتابتن�ي خيب�ة أمل في أنه ل�م تكن هناك خدمة‬
‫‪76‬‬
‫الدنيا‬ ‫أقدمها‪ ،‬أُس ِّلي بها الزمن بعض الوقت‪ ،‬كما ألنسى ُّ‬
‫تهجم ُّ‬ ‫ما ِّ‬
‫بأرقام بنكية وأموال قادمة وأخرى مس�افرة‪ ،‬وأتعملق في حس�ابات‬
‫أخرى غير الحساب الحرفي للكلمات‪.‬‬
‫الحظ اليوم‪ ،‬سأزداد علقم ًا فقط‪ ،‬وستكفيني تلك‬ ‫ّ‬ ‫لكنني سيئ‬
‫الكلم�ات البخيس�ة عل�ى ال�ورق في إدراك نفس�ي الت�ي أصلها في‬
‫ليلة‪ ..‬وال أقربها في ليال ٍ طويلة وعقيمة‪.‬‬
‫ال ت�زال الم�رارة ف�ي لعابي وحلقي‪ ،‬والج�وع يفتك بمعدتي‪.‬‬
‫الساعة الموجودة أدنى اليمين‬ ‫بقوة على بطني‪ .‬نظرت إلى ّ‬ ‫مسحت ّ‬
‫ُ‬
‫على شاشة الكمبيوتر‪ ،‬تبقَّت دقيقة لكي أنهض لمعاينة القدور‪.‬‬
‫أطف�أت نار‬
‫ُ‬ ‫ومش�يت حافي� ًا نح�و المطب�خ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نهض�ت بس�رعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫خلطت األر ّز وكامل المجموعة‬ ‫ُ‬ ‫حت القدور من الماء‪.‬‬ ‫الموقد‪ ،‬ور ّش ُ‬
‫ثم بملعقة في‬ ‫الصلصة‪َّ ،‬‬
‫وسكبت فوقها ّ‬ ‫ُ‬ ‫مع الجلبان ّ‬
‫والذرة المع َّلبين‬
‫يدي اليمنى وشوكة في يدي اليسرى‪ ،‬بدأت عملية الخلط‪ .‬وضعت‬
‫وغرست الشوكة في وسطها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مقعر‪،‬‬
‫السلطة في صحن زجاجي ّ‬
‫راجعت‬
‫ُ‬ ‫ازدردت سلطتي في هدوء وسكون‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬ ‫ُ‬
‫مل ّف ًا كنت قد كُ ّلفت به صباح ًا عن خطأ اقترفه زميل لي في العمل‬
‫بخلطه حسابين لعميلين‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪II‬‬

‫انكفأت إلى المس�احات‬ ‫ُ‬ ‫كان�ت الس�ماء ال ت�زال تمط�ر عندما‬


‫البيض�اء‪ ،‬أوراق ُملئ�ت ف�ي غض�ون س�اعة ونص�ف أو أكث�ر‪ .‬كان‬
‫طل عل�ى العالم الذي أعيش‬ ‫فأش�علت التلف�از ألُ َّ‬
‫ُ‬ ‫يج�ب أن أرت�اح‪،‬‬
‫ش�يدت‪ ،‬وأخبار عن‬ ‫فيه؛ مجرد نش�رة أخبار ُمعادة عن مستش�فيات ّ‬
‫أش�عة ال ّتلفاز‬
‫ّ‬ ‫الحكوم�ة الحالي�ة‪ ..‬زادتن�ي مللاً ال غير‪ .‬لم أتحمل‬
‫واألشعة الحارقة لمسلسل تركي مدبلج باللغة الدارجة ُعرض بعد‬
‫عيني بقيلولة أرتاح‬ ‫ّ‬ ‫وأطف�أت‬
‫ُ‬ ‫نهاي�ة نش�رة األخب�ار‪ .‬أطفأت ال ّتلفاز‪،‬‬
‫من تعب اليوم‪.‬‬
‫غف�وت قراب�ة الس�اعة‪ ،‬ولم توقظني س�وى طرقات على باب‬
‫السمعي القوي‬ ‫حسي َّ‬ ‫شقتي‪ ،‬طرقات كان يمكن أن ال ُتسمع لوال ِّ‬
‫باألصوات ح َّتى في نومي‪.‬‬
‫نهضت متثاقالً وش�به نائم‪ ،‬لم أنتبه لعدم وجود نظارتي على‬ ‫ُ‬
‫كنت يقظ ًا بالمرارة‬ ‫وجهي‪ ،‬ولم أنتبه لشعري المبعثر وغير المر َّتب‪ُ .‬‬
‫غس�لت‬
‫ُ‬ ‫الت�ي تش�حن نفس�ها ف�ي لعاب�ي وأس�ناني من أث�ر القهوة‪.‬‬
‫وجهي‪ ،‬ومسحته بيدي دون منشفة‪ ،‬ولم أهتم بشعري‪ ،‬ولم أالحظ‬
‫غسلت وجهي أني بدون ن ّظارات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أيض ًا عندما‬
‫كان�ت حفي�دة العج�وز‪ .‬كانت ترتدي معطف ًا أس�ود يتالءم مع‬

‫‪78‬‬
‫شعرها الكستنائي الباهت‪ ،‬وتحمل مظ ّل ًة بدت لي صغيرة الحجم‪،‬‬
‫به�ا ش�خصية رس�وم متحرك�ة‪ ،‬أعتقد أنها لذلك الفأر األس�ود ذي‬
‫نظرت إلى وجهي‪،‬‬‫األذني�ن الكبيرتي�ن فوق رأس�ه «ميكي م�اوس»‪َ .‬‬
‫وتفرست مالمحي لوهلة‪ ،‬ح َّتى أنّها ترددت في الحديث معي‪ ،‬فقد‬ ‫ّ‬
‫فاجأها منظري الذي يبدو مليئ ًا بال ّتعب‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– آسفة على إزعاجك‪ ،‬يبدو أنّك كنت نائم ًا‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ال بأس أتحتاجين شيئ ًا؟‬
‫بقيت صامتة‪ ،‬كانت متر ِّددة في ما تريد قوله‪.‬‬
‫ش�عر عن وجهها فوق أذنها بعد إذ نظرت إلى‬ ‫ٍ‬ ‫رفعت خصل‬
‫تتشج ُع لتقول شيئ ًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ثم رفعت بصرها نحوي‪ ،‬كأنها‬ ‫األسفل‪َّ ،‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– قد يبدو األمر شخصي ًا لكنني أحتاج مساعدتك في شيء‪،‬‬
‫فلم أتعرف إلى أحد في العمارة بعد‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫– ألي�س األم�ر ش�خصي ًا‪ ،‬أال يوجد فرد في العائلة يس�اعدك‬
‫بدلي؟‬
‫– وال�داي خ�ارج المن�زل‪ ،‬ولم يأتيا بعد‪ ،‬وأنا ال أريدهما أن‬
‫الصغيرة ال تزال رضيعة‪،‬‬
‫يعلما باألمر‪ ،‬وكما ترى أن أختي ّ‬
‫وأنا األخت الكبرى هنا‪ ،‬لذا‪...‬‬
‫ملي ًا في أن ذلك س�يزيدني تعب ًا‪ ،‬وس�أمرض بال ش�ك‪،‬‬
‫رت ّ‬‫فكّ ُ‬
‫لك ّنني لم أفكّ ر في ّ‬
‫الرفض‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫‪79‬‬
‫– حسن ًا ما المطلوب؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫– أريدك أن تبحث معي عن شخص‪.‬‬
‫– شخص؟‬
‫جدتي‪.‬‬
‫– أريدك أن تبحث معي عن ّ‬
‫ث�م تذكّ رت محاورتي األول�ى معها‪ ،‬وتذكّ ُ‬
‫رت‬ ‫فكّ ُ‬
‫�رت قليلاً‪َّ ،‬‬
‫كالمها وتعابير وجهها بعد أن كان باب الشقة مفتوح ًا‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫– لق�د رأيته�ا قب�ل س�اعتين عندما كنت صاعد ًا إلى ش�قتي‪،‬‬
‫أعتقد أنها خرجت‪.‬‬
‫بدا القلق عليها‪ ،‬كأنها سمعت ما ال تريد‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– يا إلهي كيف سأجدها؟!‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ولماذا تريدين البحث عنها؟ ألن ترجع؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫الذاكرة‪ ،‬وأصبحت تنسى‬ ‫ٍ‬
‫جدتي مريضة‪ ،‬مصابة بضعف في ّ‬ ‫– ّ‬
‫كثير ًا‪.‬‬
‫صمتت للحظة‪ ،‬ثم أضافت‪:‬‬
‫– هي من ضحايا الزهايمر‪.‬‬
‫بسبابة يدي اليسرى لرفع نظارتي كعالمة‬
‫قمت بحركة الإرادية ّ‬
‫ُ‬
‫وضع�ت إبهامي‬
‫ُ‬ ‫تفكي�ر وحي�رة‪ ،‬لكن�ي ل�م أش�عر بهيكل النظ�ارة‪.‬‬
‫وبقيت ممسك ًا بالجلد الذي بينهما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عيني‬
‫ّ‬ ‫وسبابتي على‬
‫ّ‬
‫‪80‬‬
‫عيني‪ ،‬وكم‬
‫ّ‬ ‫ي�ا إله�ي‪ ،‬كم م�ن الحكايات قرأت هذه الفتاة في‬
‫وجسات أخذت عني!‬ ‫من ال ّت ُّ‬
‫وقلت لها سريع ًا كمن‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى األسفل حيث توجد قدماي‪،‬‬
‫ُ‬
‫يعتذر‪ ،‬مدير ًا ظهري‪:‬‬
‫غير مالبسي‪.‬‬‫ُ‬
‫– انتظري سأ ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫– من فضلك‪ ..‬وحيد‪ ..‬أسرع!!‬
‫وضعت ن ّظارتي‪ ،‬وتبادر إلى ذهني مكان األريكة‬ ‫ُ‬ ‫لم أتذكّ ر أين‬
‫بحثت خلفها وتحتها‪ ،‬لكنني لم أجد شيئ ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نمت عليها جالس ًا‪،‬‬‫التي ُ‬
‫كنت أبحث عنه‪ ،‬فش�يئان كانا‬ ‫كن�ت محت�ار ًا ح ّتى ف�ي ما ُ‬‫ُ‬ ‫ب�ل إنن�ي‬
‫األول ن ّظارتي التي أبحث‬
‫لتوها‪ّ ،‬‬ ‫يتقافزان في ذاكرتي التي استيقظت ِّ‬
‫َت بذهني‪ ،‬والتي قيلت بنبرة‬ ‫ِ‬
‫عنها والثاني حروف اس�مي التي َعلق ْ‬
‫مساعدة جريئة تنتظر م ّني نداء االستجابة‪.‬‬
‫�دت أن أدوس عل�ى ن ّظارت�ي قب�ل أن أجده�ا ُملق�ا ًة عل�ى‬ ‫ِ‬
‫ك ُ‬
‫األرض عل�ى مس�افة قصي�رة م�ن األريك�ة‪ .‬وضع�ت الن ّظارات كي‬
‫الصور ألُفكِّ ر بش�كل ٍ رزين‪ ،‬وبدا الوقت كأنّه يتباطأ بعد أن‬ ‫ت ّتضح ّ‬
‫قمت بعملية ذهنية لما سأفعله‪ ،‬فال أريد أن أترك مجاالً للخطأ‪.‬‬
‫ح�ذاء مريح ًا‬
‫ً‬ ‫وانتعلت‬
‫ُ‬ ‫ارتدي�ت معطف� ًا ثقيلاً ف�وق ما ألب�س‪،‬‬
‫ُ‬
‫البنية‪ ،‬وخرجت‬ ‫حمل�ت مظ ّلتي ّ‬
‫ُ‬ ‫الس�ير‪.‬‬
‫يصل�ح للمدى الطويل من ّ‬ ‫ُ‬
‫لمالقاتها‪.‬‬
‫الدرج‬ ‫لم أجدها واقفة أمام باب شقّتي‪ ،‬وجدتها جالسة على ّ‬
‫تض�ع راحة يده�ا على جبينه�ا‪ ،‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫المح�اذي لش�قّتي‪ .‬كان�ت‬
‫تقترب منها‪ ،‬أدارت وجهها‬ ‫ُ‬ ‫ت صوت إغالق الباب وخطواتي‬ ‫سمع ْ‬
‫َ‬
‫‪81‬‬
‫تغيرت‪.‬‬
‫تنظر إلى هيئتي التي ّ‬
‫ُ‬ ‫سريع ًا وهي‬
‫قالت وهي ما تزال جالسة‪:‬‬
‫– هل انتهيت!!‬
‫– نعم‪.‬‬
‫أردفت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫– اسمكِ نجوى أليس كذلك؟‬
‫– نعم هو كذلك‪.‬‬
‫بعده�ا وقف�ت‪ ،‬ب�دت لي متفاجئ�ة قليالً‪ ،‬أعتق�د أنّها تفاجأت‬
‫السلالم‪ ،‬إلاّ أن‬ ‫تغير‪ .‬كان يمكن أن ننزل على ّ‬ ‫من مظهري الذي ّ‬
‫األم�ر سيس�تغرق وقت ًا‪ .‬اضط�ررت أن أركب المصعد معها لكي ال‬
‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫ث لي ك ّلما‬‫تتح�د ُ‬
‫ّ‬ ‫صب�رت عل�ى مالمح وجهي التي‬
‫ُ‬ ‫أُح�رج‪.‬‬
‫إلى ش�بحي في المرآة‪ ،‬ولكي ال أش�غل بالي بالخطوط المرس�ومة‬
‫أنظر إليها وأحاول أن أحادثها لكي أنسى نفسي‬ ‫رحت ُ‬
‫ُ‬ ‫على وجهي‪،‬‬
‫وحكيها واغتيابها لي بصورة تفضح عيوبي‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫جدتك دون أن‬ ‫يح�دث كثير ًا أن تخ�رج ّ‬
‫ُ‬ ‫– إذن نج�وى‪ ،‬ه�ل‬
‫يراها أحد أو دون مراقبة؟‬
‫حنت رأسها‪ ،‬وبدا عليها الشعور بال ّندم‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– إن�ه خطئ�ي‪ ،‬كان يج�ب أن أراقبه�ا‪ ،‬لكن م�اذا يمكنني أن‬
‫الس�طح‪،‬‬‫كن�ت أطب�خ لها‪ ،‬وبعد ذلك صعدت إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫أفع�ل‪،‬‬
‫�ف عل�ى الحب�ال‪ ،‬فناديته�ا‬ ‫ِ‬
‫وجدته�ا تض�ع المالب�س لتج ّ‬
‫لتأت�ي‪ ،‬لك ّنه�ا أب�ت‪ ،‬وقالت إنها س�تأتي بعد قليل‪ ،‬فتركتها‬
‫‪82‬‬
‫انش�غلت بملء‬
‫ُ‬ ‫على راحتها‪ ،‬وانش�غلت بنقل األثاث‪ ،‬كما‬
‫اس�تمارة عملي الجديد الذي س�أحظى به غد ًا بعد انتقالنا‬
‫إلى هنا‪.‬‬
‫فهمت سبب عدم ا ّتصالها بوالديها‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫س�ر ًا دون إخب�ار والدي�ك‪ ،‬ألي�س‬
‫– وتريدي�ن البح�ث عنه�ا ّ‬
‫كذلك؟‬
‫أجابت‪:‬‬
‫تبح�ث معي‪ ،‬ألنك‬
‫ُ‬ ‫– صحي�ح‪ ،‬وهن�اك س�بب آخ�ر لجعلك‬
‫س�ألت‬
‫ُ‬ ‫رأيته�ا وتع�رف مالمحه�ا‪ ،‬وقبل أن آتي إليك‪ ،‬فقد‬
‫والكل أجابني‬
‫ُّ‬ ‫كل من بالعمارة هل رأى امرأة مسنة تخرج‪،‬‬
‫َّ‬
‫بالنفي‪.‬‬
‫فكّ رت في ما قالت‪ّ ،‬‬
‫ثم قلت‪:‬‬
‫– وهل سألتِ حارس الحي؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫– حارس الحي؟‪ ..‬مممم ال‪ ،‬لم أتجاوز سكان العمارة قط‪،‬‬
‫تع�رف المكان‬
‫ُ‬ ‫وه�ذا س�بب آخ�ر لجعل�ك ترافقني‪ ،‬فأنت‬
‫واألشخاص الموجودين هنا‪.‬‬
‫فباشرت بابتسامة جا َّفة‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫لم أُرد أن أزعجها بأسئلة أخرى‪،‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– أتم َّنى أن نجدها!‬
‫ر َّدت لي االبتسامة‪ ،‬وحام الصمت لحظتها ح َّتى ُفتحت أبواب‬
‫المصعد‪.‬‬
‫كان مط�ر ًا ّ‬
‫قوي� ًا‪ ،‬خرجن�ا م�ن الب�اب الكبير للعم�ارة‪ ،‬والريح‬
‫‪83‬‬
‫ٍ‬
‫تصفع وجهي بقوة‪ ،‬إلاّ أنها أنعش�تني‪ ،‬وأيقظت ما تبقى من أجزاء‬
‫بي كانت نائمة‪.‬‬
‫فتح�ت مظ َّلت�ي‪ ،‬وهي أيض ًا فتح�ت مظ ّلتها‪ ،‬وكان وقع المطر‬
‫ُ‬
‫وتوجهنا نحو‬
‫َّ‬ ‫مدوي ًا‪ .‬ابتعدنا عن العمارة بمسافة‪،‬‬
‫على طبلتي أذني ّ‬
‫السيارات لنسأل الحارس‪.‬‬ ‫مرأب ّ‬
‫ل�م يك�ن صوت�ي الخفيف�ة تر ُّدداته ُيس�مع مع تس�اقط المطر‪،‬‬
‫فرفع ُته قليالً ألسأله‪:‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫السالم عليكم‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫السالم‪ ،‬كيف الحال؟‬ ‫– وعليكم ّ‬
‫– الحمد هلل‪ ،‬اسمح لي‪ ،‬أريد أن أسألك عن شيء‪.‬‬
‫ثم أردفت‪:‬‬
‫تمر من‬
‫السن ُّ‬
‫– قل لي‪ ،‬هل صادف أن رأيت امرأة كبيرة في ّ‬
‫هنا‪ ،‬أو بالقرب من العمارة‪.‬‬
‫وأشرت بيدي إلى نجوى‪:‬‬
‫ُ‬
‫– هذه حفيدتها‪.‬‬
‫لم أُرد أن أفتح باب الحديث أكثر فأُحرج نجوى‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫– المرأة قد تاهت عن العمارة‪ ،‬ونحن بصدد البحث عنها‪.‬‬
‫قال الحارس‪:‬‬
‫– يا صديقي‪ ،‬أنت تعرف أن كثيرين يأتون إلى هنا ويذهبون‪،‬‬
‫أعتقد أنه ال يمكنني مساعدتك في هذا‪ ،‬ولكن متى يمكن‬
‫أن تكون قد خرجت؟‬
‫– ال أعلم بالضبط‪ ،‬ولكن يمكن أن تكون قبل ساعة أو أكثر‬
‫‪84‬‬
‫تقريب ًا‪.‬‬
‫– قبل ساعة!‬
‫ثم أردف‪:‬‬
‫– ال أعتقد أن أحد ًا قد خرج من عمارتكم في ذاك الوقت‪،‬‬
‫فقد كنت أنا وصديقي ند ّخن بالقرب من العمارة‪ ،‬وال أظن‬
‫أحد غيرك أنت‪ ،‬فقد رأيتنا أليس‬
‫على ما أذكر أنه قد خرج ٌ‬
‫كذلك؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫– صحيح‪ ..‬صحيح‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫– أؤكِّ د لك يا صديقي أنني لم أرها‪.‬‬
‫– شكر ًا على أي حال‪ ،‬لقد أفدتنا بشيء‪.‬‬
‫كنت قد‬
‫قداح�ة؟»‪ُ .‬‬ ‫قب�ل أن أغ�ادر‪ ،‬نادان�ي‪« :‬هـي�ه هل لديك ّ‬
‫وضع�ت الق ََّداح�ة الت�ي أُش�عل به�ا الموقد في أحد جيب�ي بنطالي‪.‬‬
‫بقداحتي‪ ،‬ش�كرني والس�يجارة في فمه تتمايل مع‬ ‫أش�عل س�يجارته َّ‬
‫دخان يخرج مع كلمات شكره‪.‬‬
‫مش�ينا كثير ًا ونحن نس�أل عن خبر يجعلنا نتقفَّى أثرها‪ ،‬لكننا‬
‫لم نجد شيئ ًا يعيننا‪ .‬والجو القارس الذي أتى به المطر‪ ،‬جعل أنفي‬
‫ويتجم ُد من البرد‪ ،‬وال َّلحظات التي ك ّنا نبحث فيها‪ ،‬أمكن لها‬
‫َّ‬ ‫يحمر‬
‫ُّ‬
‫أن تكون ال ّلحظات التي أشتعل فيها بحزن أنفثه إلى الورق‪ ..‬ال أن‬
‫أتجمد في طريق بحث‪.‬‬ ‫َّ‬
‫خطون�ا مس�افة طويل�ة‪ ،‬ومررن�ا بالق�رب م�ن أح�د البن�وك‬
‫الس�اعة الرقمي�ة المع َّلق�ة ف�وق مدخل�ه‪،‬‬
‫نظ�رت إل�ى ّ‬
‫ُ‬ ‫((‪.))BMCI‬‬
‫‪85‬‬
‫وكان�ت األرق�ام الحم�راء تش�ير إلى ال ّتاس�عة وس�بع عش�رة دقيقة‪،‬‬
‫ودرجة الحرارة كانت اثنتي عشرة درجة‪ .‬مررنا بالقرب من منعطف‬
‫الممر الذي نحن به‪ ،‬قاومت مظ ّلتي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫هبت رياح عبر‬‫بجوار البنك‪َّ ،‬‬
‫وضعت نجوى لحظتها‬ ‫ْ‬ ‫وتكسرت مظ ّلة نجوى‪ ،‬فقد كانت صغيرة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫قلنس�وة معطفه�ا‪ ،‬لك�ن بدا ل�ي ذلك غير مالئم‪ ،‬فالقلنس�وة قصيرة‬
‫رفضت في البدء‪ ،‬لكنني‬ ‫شيئ ًا ما‪ .‬قلت‪« :‬خذي مظ ّلتي‪ ،‬إنها قوية»‪َ ،‬‬
‫جمعت مظ ّلتها المكسورة‪ ،‬وحملتها بيدها اليسرى‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫أصررت عليها‪.‬‬
‫ُ‬
‫أخذت مظ ّلتي وقالت‪« :‬ألن تحتمي أنت أيض ًا من المطر؟!»‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫«أك�ره المط�ر‪ ،‬ولكن‪ ..‬س�أكون صديقه الي�وم»‪ .‬قالت‪« :‬هل جننت‪،‬‬
‫اضطررت أن أرفع صوتي أكثر‪ ،‬قلت والماء يسيل‬ ‫ُ‬ ‫ستمرض حتم ًا»‪.‬‬
‫من فمي وكلماتي‪« :‬ال بأس احتمي أنتِ فقط‪ ،»..‬ثم أضفت‪« :‬ومن‬
‫غير الالئق أن أحتمي معكِ تحت مظلة‪ ،‬تعرفين ما أعني‪ ،‬قد يراني‬
‫أحد أنا وهي‬
‫زوجك أو ما شابه»‪ .‬ليس األمر أني أخاف أن يراني ٌ‬
‫كل ما في األمر‪ ،‬أني ال أريد أن‬ ‫تحت مظلة‪ ،‬فيبني عني فكر ًة ما‪ّ ،‬‬
‫للحظ السيئ‪.‬‬‫ِّ‬ ‫الرثة معها‪ ،‬فأحيان ًا أكون جالب ًا‬
‫أخلط هالتي ّ‬
‫تش�ي مالمحها التي ارتس�مت على وجهها بأنها فهمتني‪ ،‬ولم‬
‫تفتع�ل بعده�ا س�وى ابتس�امة رضى تش�ي بأنها تفهم ع�ن حدادي‬
‫المخفي‪.‬‬
‫بحثنا قرابة ال َّثالثين دقيقة‪ ،‬نمشي جنب ًا لجنب‪ ،‬وكانت تراقبني‬
‫بم�س م ّن�ي‪ ،‬أو أن بصمات�ي التي‬ ‫ٍّ‬ ‫بنظراته�ا خلس�ة‪ ،‬كأنه�ا ش�عرت‬
‫ش�ك‬
‫َّ‬ ‫انطبعت على يد المظلة ش�رحت لها ش�يئ ًا مبهم ًا م ّني‪ ،‬ثم ال‬
‫ضرر نفسي يلحق به‪ ،‬فهاالت‬ ‫ٍ‬ ‫توجسات‬
‫في أنها أخذت عن جارها ُّ‬
‫أحد م ّني أو منها تظهر‪،‬‬ ‫حزن ٍ ُتحيط بي وبأشيائي التي كلما اقترب ٌ‬
‫‪86‬‬
‫شعرت باألسى على حالتي التي قرأت سابق ًا جزء ًا منها من‬ ‫ْ‬ ‫وربما‬
‫نافذتي روحي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لم تك َّل الس�ماء عن الهطول‪ ،‬واكتملت س�اعة من بحث غير‬
‫ُمجدٍ‪ ،‬وال شيء أعاننا على اقتفاء أثر العجوز‪ ،‬أو ح َّتى خبر مرورها‬
‫يتبق سوى العودة إلى العمارة‪،‬‬ ‫من األماكن القريبة من الحي‪ ،‬ولم َّ‬
‫وأن ننتظر لع ّلها ترجع أو يحدث شيء ما‪.‬‬
‫عدن�ا أم�ام عتبة باب العمارة نتر ّق�ب بعدما انتهت حيلنا‪ .‬غدا‬
‫ٍ‬
‫جس�دي مب ّلالً ح َّتى آخر بقعة جا َّفة في مالبس�ي‪ ،‬وأنفي ُم ْ‬
‫ح َم ٌّر من‬
‫أضحيت كفرخ ٍ ارتوى‬ ‫ُ‬ ‫يحيط بعظام جسدي الخفيف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ّتجمد الذي‬
‫ريش�ه بالم�اء‪ ،‬وارتع�دت عضالت�ه ال ّطرية‪ ،‬ورمش�ت عين�اه بتثاقل‪،‬‬
‫وانتصفت جفونه‪ .‬لم أقدر على أن أرفع ن َّظارتي التي انزلقت على‬
‫تصطك في فمي المغلق بإحكام‪ ،‬وانحش�رت‬ ‫ُّ‬ ‫أنفي‪ ،‬وكانت ثناياي‬
‫يقشعر لها‬
‫ُّ‬ ‫بشدة ٍ في جيبي معطفي‪ ،‬ورعشات البرد التي تمر‬ ‫يداي َّ‬
‫بدني وتس�قط معها قطرات ماء من خصل ش�عري ورموش�ي‪ ،‬ومن‬
‫ضعف�ت رؤيت�ي قليالً بس�بب ن َّظارت�ي التي أصبحت‬ ‫أنف�ي كذل�ك‪ُ .‬‬
‫ٍ‬
‫ضبابية بسبب قطرات ماء سقطت عليها‪ ،‬ولم أجد خيار ًا سوى أن‬
‫ربما‪ ،‬والتي‬ ‫أط ُلب من التي بجانبي المساعدة‪ ،‬والتي نسيت وجودي ّ‬
‫اكتفت بمراقبة ال ّناس يمين ًا وشماالً‪ ،‬تقطع بضعة أمتار وتعودها تارة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫تكس�ر في مفاصل‬ ‫نزع�ت ن ّظارت�ي‪ ،‬ش�عرت بجليد ٍ‬
‫دموي قد ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ح�ت له�ا بي�دي دون كلم�ات‪ ،‬أش�رت‬ ‫لو ُ‬ ‫ذراع�ي الت�ي نزع ْته�ا‪َّ .‬‬
‫بحرك�ة بمعصم�ي وأصاب�ع يدي إلى أنني أريد أن أمس�ح ن َّظارتي‪.‬‬
‫بش�فتي المخدرتين وأس�ناني المصطكّ ة‪« :‬هل‪ ..‬عندك‬ ‫ّ‬ ‫قلت ُمرغم ًا‬‫ُ‬
‫‪87‬‬
‫منديل‪..‬؟»‪ .‬أجابتني‪« :‬ال ولكن هاتها‪ ،‬ثوبي سيفي بالغرض»‪ .‬ثوب‬
‫معطفها كان خش�ن ًا‪ ،‬لك ّنه قام بالغرض‪ .‬كنت محترس� ًا هذه َّ‬
‫المرة‪،‬‬
‫عيني‪ .‬وضع ُتها بس�رعة‪ ،‬كان الزجاج‬ ‫ّ‬ ‫أخذتها من يدها وأنا أمس�ح‬
‫غي�ر ممس�وح كفاي�ة‪ ،‬إال أن ذل�ك كان كافي� ًا ألرى بصورة أوضح‬
‫السابق‪.‬‬ ‫من ّ‬
‫بع�د دقائ�ق أخرى من االنتظار‪ ،‬لم أس�تطع مواصلة الوقوف‪،‬‬
‫فأش�رت بي�دي إل�ى نج�وى أنّي س�أدخل إلى داخل العم�ارة‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬
‫احتدم�ت جزيئ�ات الب�رد المش� َّنج ف�ي جوف�ي‪ ،‬وتش� ّنجت أوتاري‬
‫الضعيفة‪ ،‬ولم تعد قادرة على مواصلة العزف الحركي‪.‬‬
‫جلس�ت ق�رب مصب�اح فوق�ي‪ ،‬أش�علته ُليدفئن�ي‪ ،‬وأزعجتن�ي‬ ‫ُ‬
‫المكررة عندما كان المصباح ينطفئ فأعيد إنارته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحركة‬
‫بعد برهة‪ ،‬دخلت نجوى هي أيض ًا‪ ،‬وعالمات اليأس تمألها‪،‬‬
‫ِّن يدها بديناميكية حركة بيديها‪ ،‬كأنها تفركهما ل ُتشعل‬ ‫وكانت ُتسخ ُ‬
‫نار ًا في راحة يديها لتخلق تدفئة‪.‬‬
‫تقدم�ت نح�وي‪ ،‬جلس�ت بالق�رب م ّني‪ ،‬قالت وبه�ا رغبة في‬ ‫َّ‬
‫الب�كاء‪« :‬مصيب�ة‪ ..‬مصيب�ة»‪ .‬ل�م أجد م�ا أقوله‪ ،‬فالتزم�ت الصمت‪.‬‬
‫ركبتي على شكل ‪ ،x‬ووضعت جبهتي عليهما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذراعي على‬
‫ّ‬ ‫وضعت‬
‫ُ‬
‫فأدرت وجهي نحو اليس�ار حيث توجد‬ ‫ُ‬ ‫انعوت ن ّظارتي بوضعيتي‪،‬‬
‫نجوى بجانبي‪ ،‬بدا لي كأنها تبكي‪ ،‬وكانت تبكي بالفعل‪ ،‬وال مراء‬
‫دت في قول‬ ‫أنها تفكّ ر في طريقة ما لتصوغ ما ستقوله لوالديها‪ .‬تر ّد ُ‬
‫ٍ‬
‫شيء ألواسيها‪ ،‬فأنا أكره بدء إشعال حديث ما‪َ ،‬ب ْي َد أنّي أكره أيض ًا‬
‫أن أرى امرأ ًة تبكي أمامي‪ ،‬فذلك يذكِّ رني بوالدتي‪.‬‬
‫وزفرت ف�ي الهواء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذراع�ي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عق�دت‬
‫ُ‬ ‫اعتدل�ت ف�ي جلس�تي‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪88‬‬
‫رفعت رأس�ي‬‫ُ‬ ‫فتصاع�د ُدخ�ا ٌن م�ن فم�ي‪ ،‬وقد ّ‬
‫تنبه�ت هي لفعلي‪.‬‬
‫الذهبي «‪ ،»138‬الموجود وس�ط‬ ‫ق�ت نظ�ري على رق�م العمارة ّ‬ ‫وع ّل ُ‬
‫قطعة بالس�تيكية صغيرة بلون أس�ود‪ ،‬فوق الباب المش�بك‪ ،‬والتي‬
‫ُترى من األمام والخلف‪.‬‬
‫ت‬‫فع َل ْ‬
‫ثت وابتسامة ال أعرف من أين أتت اتخذت شكلها َ‬ ‫تحد ُ‬
‫َّ‬
‫على وجهي‪:‬‬
‫يتجول تحته‪ ،‬أو‬
‫َّ‬ ‫شك أنه اآلن‬
‫يحب المطر‪ ،‬وال َّ‬
‫ّ‬ ‫جد‬
‫لدي ٌّ‬
‫َّ‬ ‫– ‬
‫ينظر من نافذة ما‪.‬‬
‫أخفت وجهها تمسح دموعها‪ .‬قالت‪:‬‬
‫كل ش�يء‪ ..‬ولك�ن ل�م أج�د ش�خص ًا غي�رك‪،‬‬‫– آس�فة عل�ى ِّ‬
‫أدخلتك في محنة ال تريدها‪.‬‬
‫قلت وأنا ال أزال أنظر إلى األرقام ّ‬
‫الذهبية التي تلمع في زجاج‬ ‫ُ‬
‫ن ّظارتي‪.‬‬
‫– ال بأس سيدتي‪ ،‬لم ُيزعجني شيء‪ ،‬إضافة إلى أنك جديدة‬
‫هنا‪.‬‬
‫ارتاحت بتنهيدة قصيرة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫تحب المطر‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫جدت�ي كذلك‬
‫يحب المطر‪ّ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫– قل�ت أ َّن َّ‬
‫ج�دك‬
‫حبونه‪.‬‬
‫السن كلُّهم ُي ُّ‬‫في الحقيقة كبار ّ‬
‫أناس يضعون األش�ياء الجميلة في‬ ‫– لي�س الجمي�ع‪ ،‬فهن�اك ٌ‬
‫كل ليلة‬
‫الذكري�ات العقيم�ة التي تضيء الج�راح في ِّ‬ ‫خان�ة ِّ‬
‫هطول‪ُ ،‬فيصبح المطر مؤلم ًا بقدر ما هو ساحر‪.‬‬
‫إلي ويهينني‪ ،‬ال أعرف‬
‫يلمح ّ‬‫قلت كالم ًا ّ‬
‫كانت هفو ًة م ّني أن ُ‬
‫إن كان�ت فهم�ت م�ا أقصد وما لم أقص�د‪ ،‬فقد صمتت قليال كأنها‬
‫‪89‬‬
‫أدارت الكالم الذي قلته في رحى فهمها وإدراكها‪ .‬أزالت قلنسوتها‬
‫من على رأسها‪ ،‬ور ّتبت شعرها الكستنائي‪.‬‬
‫بعده�ا ج�اء صوته�ا خفيف� ًا وهديالً ُيفتى م�ن ورائه بتفاؤل ال‬
‫أملكه‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ربم�ا‪ ،‬أو ف�ي الحقيق�ة كالمك صحيح‪ ،‬فاألش�ياء الجميلة‬ ‫– ّ‬
‫�ؤرخ بي�ن ثنايا ذكرى مؤلم�ة ُتخدش على جدران‬ ‫عندم�ا ُت َّ‬
‫قلب‬ ‫َّ‬ ‫الذاك�رة‪ ،‬وتصب�ح مث�ل ٍ‬ ‫ّ‬
‫وي ُ‬
‫الحظ الس�يئ‪ُ ،‬‬ ‫لعنة تجلب‬ ‫ُ‬
‫جمالها إلى نقيضه الذي ننفر منه عاد ًة‪ ،‬تج ُّنب ًا لل َّتكرار الذي‬
‫نتصور‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يؤذينا أكثر مما‬
‫ب�دت ل�ي كلماته�ا يقيني�ة‪ ،‬إال أن به�ا مالبس�ة لخط�أ ال أعي‬
‫مكمن�ه جي�د ًا‪ ،‬ول�ن يك�ون جائز ًا لي أن أُكم�ل حديثي بعد كلماتها‬
‫أدركت‬
‫ُ‬ ‫ال ّطويلة التي أتخمتني برجوع ٍ إلى ذاكرة الماضي ّ‬
‫السحيق‪،‬‬
‫أطل�ت الحديث أكثر‪ ،‬فس�أُ ّ‬
‫خد ُر أكثر‪ ،‬تار ًة بالبرد الذي‬ ‫ُ‬ ‫أنن�ي إذا م�ا‬
‫بالسفح الثلجي الذي يقبع بالذاكرة‬ ‫كل جانب‪ ،‬وتار ًة َّ‬ ‫ُيحيطني من ِّ‬
‫تكف‬‫ُّ‬ ‫والذي س�ينهار ليجرفني إلى أش�جار األسئلة ال َّشائكة التي ال‬
‫عن وخزي بنصالها‪.‬‬
‫نظرت مباشر ًة إلى عينيها‪ ،‬ثم قلت‪:‬‬‫ُ‬ ‫أبقيت على ابتسامتي‪.‬‬
‫ُ‬
‫– سيدتي‪ ،‬الحقيقة ُم َّرة‪ ،‬لك َّنها مخبأ نشوتنا لنواصل العيش‪.‬‬
‫عجبت بها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أجابت بمزحة أُ‬
‫الس�وداء‪ ،‬توقظن�ا م�ن ال ّن�وم بمرارته�ا لنواجه ما‬
‫– كالقه�وة ّ‬
‫ينتظرنا‪.‬‬
‫عندم�ا ذك�رت القه�وة‪ ،‬أصبح�ت صديقت�ي فج�أ ًة‪ ،‬ب�ل كأنها‬
‫أعطتن�ي أم�ر ًا بال س�بب ألهدم أف�كار رفضي في بادئ األمر عندما‬
‫‪90‬‬
‫عين�ي نصف‬
‫ّ‬ ‫وفتح�ت‬
‫ُ‬ ‫طلب�ت مس�اعدتي‪ ،‬فتخ ّل ُ‬
‫ي�ت ع�ن رس�ميتي‪،‬‬
‫وكش�فت عن أس�ناني بضحكة قصي�رة أتاحت لها النظر‬
‫ُ‬ ‫اليقظتي�ن‪،‬‬
‫إلى جانبي المنسي لمالمح الوجه المنفتح والمنغلق بكهولته‪.‬‬
‫– صحيح‪ ..‬صحيح نجوى‪..‬‬
‫وحدقت إلى تراسيم خلقتي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ضحكت هي األخرى‪،‬‬
‫ضحكت أخير ًا!‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫حريته على وجهي‪.‬‬ ‫لجمت ِ‬
‫وتركت لالبتسام ّ‬
‫ُ‬ ‫ضحكتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫– أنت أيض ًا فعلت ِّ‬
‫سيدتي‪.‬‬
‫قاطعتني ممازحة‪:‬‬
‫لست سيد ًة كما ترى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫سيدي‪،‬‬ ‫– ِ‬
‫ّ‬
‫«س�يدتي»‪ ،‬إنها ع�ادة العمل ال‬
‫ّ‬ ‫اعت�دت عل�ى قول‬
‫ُ‬ ‫– ع�ذر ًا‪،‬‬
‫أكثر‪.‬‬
‫– حسن ًا!‬
‫جدتك‬‫س�يدتـ‪ ..‬عفو ًا! نجوى‪ ،‬إ َّن التفكير في أمر َّ‬ ‫– حس�ن ًا‪ّ ،‬‬
‫يره�ق أكث�ر‪ ،‬ضع�ي أملاً ف�ي رجوعه�ا وف�ي إيجاده�ا‪،‬‬
‫السيئة ال يأتي من ورائها سوى تحقُّقها‪.‬‬‫فال َّتوقُّعات ِّ‬
‫إلي‪ ،‬وممتلئ ًا‬
‫وجدت نفس�ي أقول كالم ًا فارغ ًا بالنس�بة ّ‬
‫ُ‬ ‫فجأ ًة‪،‬‬
‫وجدت نفسي أتكلم بنبرة شخص ٍ‬ ‫ُ‬ ‫إلى آخره بالنسبة إلى اآلخرين‪،‬‬
‫س�خرت من‬
‫ُ‬ ‫يع�رف الحي�اة الت�ي ال يفقه فيها ش�يئ ًا س�وى الوجع‪،‬‬
‫حجة‪،‬‬ ‫لكن األمر صحيح لن تنفيه أي َّ‬ ‫نفسي للحظات حين الكالم‪َّ ،‬‬
‫فا َّلذي َّ‬
‫يتفو ُه بكالم لم ُيش�فه‪ ،‬عادة ما ُيش�فى به غيره‪ ،‬تبقى تجرب ًة‬
‫في الحياة والعيش‪ ،‬والفرق بيني وبينها في استجابة األمل هو أنها‬
‫‪91‬‬
‫الصحيحة‬‫تؤم�ن ب�ه‪ ،‬كما أنها تبدو مليئة باأللوان‪ ،‬وتملك األجوبة ّ‬ ‫ُ‬
‫واألس�ئلة المخت�ارة بعناي�ة‪ ..‬وعل�ى العكس‪ ،‬أن�ا اختلطت أجوبتي‬
‫وأس�ئلتي فأصب�ح كل م�ا أتف�وه ب�ه مث�ل أطروح�ات تبن�ي حجج ًا‬
‫ونظريات‪ ،‬فأصبح الفراغ يمألني‪ ،‬وهذا األخير هو الش�يء الوحيد‬
‫ٍ‬
‫رؤية مباشرة ٍ مع نافذ َتي روحي اللتين‬ ‫المتبقّي الذي ُيروى علن ًا في‬
‫زاعي الذي تر ّتله الوحدة‪ ،‬والذي يفصله انشطاري‬ ‫تشيان بالفراغ ال ِّن ِّ‬
‫تدق‪.‬‬
‫المتتالي في ساعة عمري التي ال ُ‬
‫وأردفت قائالً‪:‬‬
‫ُ‬
‫أمر كهذا؟‬
‫ث ٌ‬ ‫يحد ُ‬
‫– أين كنتم تجدونها عندما كانت تتيه أو ُ‬
‫قالت‪:‬‬
‫– لم تكن األشياء كما اآلن‪ ،‬فالحي كلُّه كان يعرفها‪ ،‬وعندما‬
‫ف بمراقبتها وتخرج‪ ،‬ينتبه‬ ‫كانت تغافل أحد ًا في البيت كُ ِّل َ‬
‫أحد في الحي‪ُ ،‬فيعيدها إلى البيت‪ ،‬لكن األمر صعب‬ ‫لها ٌ‬
‫اآلن!‬
‫وتمس حواجز‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫تأخذ طابع ًا ش�خصي ًا‬ ‫رت أن أس�ئلتي بدأت‬‫فكَّ ُ‬
‫فجحدت به وبتصديقه‬
‫ُ‬ ‫مرة‬
‫فاكتفيت بأمل خدعني أكثر من َّ‬ ‫ُ‬ ‫العائلة‪،‬‬
‫أم ُلها‬
‫ليحدث ما تريده‪ُ ،‬ليصبح َ‬‫ُ‬ ‫الزائف‪ .‬أخدعني ألُ ِّ‬
‫ربت على كتفها‬
‫أمالً وبقايا‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ال تقلقي‪ ،‬سنجدها‪.‬‬
‫صمت لحظة‪:‬‬‫ُّ‬ ‫وأضفت بعد أن‬
‫ُ‬
‫– ‪ ..‬سنجدها إن شاء اهلل!‬
‫– إن شاء اهلل‪..‬‬
‫‪92‬‬
‫وع�دت إلى طبيعتي األولى برعش�ة البرد التي‬ ‫ُ‬ ‫صم�ت‬
‫ُّ‬ ‫بعده�ا‬
‫ش�عرت بالب�رد أكث�ر حينه�ا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قرص�ت جس�دي ل ُتذكِّ رن�ي بهويت�ي‪،‬‬
‫�ات أل�م ٍ ف�ي كامل‬
‫غص ُ‬‫بالعس�رة تأخذن�ي‪ .‬وانحش�رت َّ‬ ‫وأحسس�ت ُ‬
‫ُ‬
‫صدقت ُجزء ًا من كلماتي‬ ‫جسد‪ ،‬كأن كُ َّل رقعة بي تشكو م ّني ألنها َّ‬
‫التي ال ُتبرأ وتجرح أكثر‪.‬‬
‫تجمدت�ا ألني أخرجتهما في ح�ركات مع الكالم الذي‬ ‫ي�داي ّ‬
‫عاء‪.‬‬
‫شيء من الحياة ا ِّد ً‬
‫ٌ‬ ‫ولين ًا وفيه‬
‫طيب ًا ِّ‬
‫قلته‪ ،‬ليبدو كالمي ِّ‬
‫يدي بصعوبة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فركت‬
‫ُ‬ ‫قلت بعد أن‬ ‫ُ‬
‫– نج�وى‪ ،‬انتظريني دقائق‪ ،‬س�أصعد ألجل�ب قفَّازين لتغطية‬
‫يدي‪ ،‬وشيئ ًا أضعه على رأسي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫– حسن ًا‪ ،‬ال تتأ ّخر‪.‬‬
‫صعدت‬
‫ُ‬ ‫تركتها خلفي بنظراتي التي رأتها ُتعيد وضع قلنسوتها‪.‬‬
‫شعرت بدوار يأخذني فجأة‪ ،‬ودوخة تم ّلكت عقلي‬ ‫ُ‬ ‫الساللم بروية‪،‬‬‫ّ‬
‫توقفت لبرهة‬
‫ُ‬ ‫وإدراك�ي ال�ذي خوى من جهده في تل�ك المحادثة‪.‬‬
‫أستجمع أنفاسي‪ .‬حركت رأسي يمنة ويسرة ككلب ُيج ّفف نفسه من‬
‫أنفض ع ِّني آثار قلبي الذي‬ ‫ُ‬ ‫الماء‪ ،‬وكنت أُج ّفف نفسي فعالً‪ُ ،‬‬
‫كنت‬
‫نب�ض قليلاً ف�ي المحادثة من أثر ضحك�ي‪ ،‬والذي كان يبوح دون‬
‫إذن ٍ م ِّني بس�كوته وخرس�ه اللذين وهبتهما له الحياة‪ ،‬ورعيتهما أنا‬
‫المشيدة من ألم وغضب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ليستق َّرا في قلعتي‬ ‫كضيفين أتيا برحالهما‬
‫َّ‬
‫صحيح أنّي‬
‫ٌ‬ ‫صعدت مجاور ًا كتفي للحائط خوف ًا من أن أقع‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أشعر بثقل ٍ غير عادي على جسدي‬ ‫ُ‬ ‫المرة‪،‬‬
‫بالضعف‪ ،‬لكن هذه َّ‬ ‫أشعر ّ‬‫ُ‬
‫كتفي‪ ،‬وأمتاراً‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫بأكمله‪ ،‬كأن أطنانا من الحديد والخشب ترتكز على‬
‫وشعرت‬
‫ُ‬ ‫رجلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ق خصري‪ ،‬وقيود ًا ُت ِّ‬
‫كب ُل‬ ‫تطو ُ‬
‫السالسل الثقيلة ِّ‬ ‫من َّ‬
‫‪93‬‬
‫بذراعي تفقدان اإلحساس وأصبحتا تتحركان على هواهما‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مررت بأحد األزرار التي تنير‬ ‫ُ‬ ‫انطفأت األنوار وأنا في الوسط‪،‬‬
‫ساللم الطوابق التي تفصل طابق ًا عن آخر‪ .‬لم تكن بي رغب ٌة في أن‬
‫أفرق بين البصر‬ ‫أنير طريقي‪ ،‬فطريقي كان وما زال معتم ًا‪ ،‬فلم أعد ّ‬
‫كنت‬ ‫المادي‪ ،‬يتس�اويان في ميزان بصيرتي‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ّ‬ ‫الوجودي والبصر‬
‫ّ‬
‫يضيء‬
‫ُ‬ ‫ض�ر مصبا ٌح إذا ما انطفأ‪ ،‬فلا مصباح‬ ‫ضري�ر ًا دائم� ًا‪ ،‬ول�ن ُي َّ‬
‫أي شعلة غير شعلة الحياة التي‬ ‫طريق العدم إذا كان فتيل ُه ال يقبل َّ‬
‫حياي‪ ،‬قيدها فقط من يمسكني‪.‬‬ ‫أصبحت أسطورة في قواميس َم َ‬
‫يت أن تكون شقتي قريبة غير بعيدة كما ألِفتها‪،‬‬ ‫ألول ٍ‬
‫مرة تم ّن ُ‬
‫َّ َّ‬
‫غيرت رغباتي البش�رية‪،‬‬ ‫الضع�ف الجدي�د وغير المألوف ّ‬ ‫فح�االت َّ‬
‫اخترت‬
‫ُ‬ ‫فأدركت شيئ ًا؛ أنني‬
‫ُ‬ ‫وشعور ما خالجني في تلك ال َّلحظات‪،‬‬
‫الس�كن بعي�د ًا للحظ�ات كه�ذه فقط‪ ،‬كي أضع نفس�ي في نزال مع‬ ‫ّ‬
‫فن المقاومة إلرادتي وإللحادي‬ ‫وألدر َس َّ‬ ‫ِّ‬ ‫إرهاق�ي ال�ذي ال ينتهي‪،‬‬
‫منذ الوالدة‪ .‬ال أدري الس�بب‬ ‫الضع�ف الذي س�رى معي ُ‬ ‫بتراكي�ب َّ‬
‫ربما ألغادر سريع ًا‬ ‫ِ‬
‫الذي يجعلني أناهض نفسي بطريقة البعد هذه! ّ‬
‫الدنيا؟ أو أ ّن وجودي هذا كما‬ ‫ألن الذين مثلي يعتبرون ثقالً على ُّ‬
‫ا َّتفق‪ ،‬يعكِّ ُر على الدنيا صفاء مسارها بمعاكسة شريعتها وقوانينها؟‬
‫كل هذا بي؟!‬ ‫تفعل َّ‬ ‫ُ‬ ‫أو أن أفعالي البريئة بإجرامها هي من‬
‫أظن أنني لن أفي وعدي لنجوى بأن‬ ‫ّ‬ ‫وصلت ال ّطابق الثالث‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يك�ون انتظاره�ا ل�ي قصير ًا‪ ،‬فق�د تبقَّى طابقان ألصل‪ ،‬أي ما ُيعادل‬
‫س�تة وأربعين درجة ألصل‪ ،‬وس�يأخذ ذلك وقت ًا طويالً مع زحفي‬
‫مدة ِ م�ا بعد وصولي ف�ي البحث عن‬ ‫ه�ذا ك�ي أص�ل‪ ،‬إضاف�ة إل�ى َّ‬
‫أغير مالبس�ي‬ ‫قفازي وطاقية قطنية لرأس�ي‪ ،‬أو ح ّتى أنه يمكنني أن ِّ‬ ‫ّ‬
‫‪94‬‬
‫ك ّلها إذا لزم األمر‪ ،‬ألحمي أعظمي اله َّشة من وخز البرد‪.‬‬
‫عبرت درجات أخرى والظالم كان شبه حالك‪ ،‬وإنارة مصابيح‬ ‫ُ‬
‫الح�ي الخارجي�ة الت�ي يأتي ش�عاع طفيف صادر منه�ا يعبر النوافذ‬ ‫ّ‬
‫السلالم‬‫تض�يء منعرجات ّ‬ ‫ُ‬ ‫الصغي�رة للعم�ارة‪ ،‬ه�ي وحده�ا الت�ي‬
‫كل طابق وطابق‪ ،‬كما ُتنير بش�كل ٍ باهت ّ‬
‫جد ًا‬ ‫ش�به الحلزونية بين ِّ‬
‫كل شقَّة في ال َّطوابق األربعة‬‫االنعطافات المتاهية التي تتشابه نحو ِّ‬
‫كل طاب�ق منها على ثالث ش�قق‪ .‬وال ّطابق الخامس‬ ‫والت�ي يحت�وي ُّ‬
‫أقطن فيه‪ ،‬هو الوحيد الذي يضم شقَّتين متقابلتين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫صعدت درج ًة أخرى‪ ،‬المس�ت قدمي ش�يئ ًا‪ ،‬فس�معت‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫صوت معدن ٍ ارتطم باألرض‪ .‬كنت أنظر أمامي قبالً‪ ،‬وبعد االرتطام‬
‫نظرت تحتي‪ ،‬وبدا لي شيئ ًا يلمع مع األشعة التي تأتي من النوافذ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نظرت إليه جيد ًا‪ ،‬ولكني لم أتعرف إلى ذلك الش�يء الذي لمحته‬
‫يب�رق‪ .‬ضرب�ت بقدم�ي ركل� ًة خفيف�ة لك�ي أدرك م�ا ال�ذي ارتطم‬
‫ب�األرض‪ ،‬فس�معت بعده�ا صوتين‪ ،‬الصوت األول نفس�ه‪ ،‬واآلخر‬
‫لم أعرف ما هو بل بدا لس�معي كصوت بالس�تيك‪ ،‬أو زجاج‪ ،‬أو‬
‫خشب تشوشت ذاكرتي‪ ،‬ولم أقدر على مواصلة الصعود أمام عقبة‬
‫األصوات‪.‬‬
‫�ن للحظ�ات ال ّلمعان الباهت الص ِ‬
‫ادر من ال ّش�يء‪،‬‬ ‫أتمع ُ‬ ‫ح�ت َّ‬
‫ُر ُ‬
‫ّ‬
‫وأتخيل مجسمه لع ِّلي أفهم ما الذي أصبته‪ .‬ارتعب جسدي بصوتِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتحرك في الدرج‪ ،‬وحينها بدأ خوفي‬ ‫َّ‬ ‫حركة ما‪ ،‬وقد ظهر لي شيء‬
‫صور بشعة لوحوش‬ ‫فع ُل نفسه‪ُ .‬رسمت في ذهني‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫الذي نُس َي كيف ُي ِّ‬
‫نراه�ا ف�ي األفلام وخرافات اختفاء بع�ض ال ّناس في ال ّظالم‪ ،‬ح ّتى‬
‫ٍ‬
‫َّنت من ش�يء‬ ‫أش�ك في أكذوبة األش�باح‪ ،‬إال أنّني تيق ُ‬ ‫ُّ‬ ‫بدأت‬
‫ُ‬ ‫أنّني‬
‫‪95‬‬
‫واح�دٍ‪ ،‬أن�ي س�أُصادف المخلوق�ات األخرى الت�ي ُخلقت من نار‪،‬‬
‫الصراخ‬ ‫وسأكون شاهد ًا على رؤية أجسادها وهيئتها‪ .‬لم أقدر على ُّ‬
‫عملية سريعة‬ ‫ٍ‬ ‫واحتكمت إلى‬ ‫زممت فمي‪،‬‬ ‫ولو ح ّتى بصوت خافت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تخيلات‪ ،‬فمن الممكن أن‬ ‫مجرد ُّ‬ ‫�رت ف�ي أ َّن تلك ّ‬ ‫ف�ي ذهن�ي‪ .‬فكّ ُ‬
‫يكون أحد الجيران قد فقد وعيه عند طلوعه‪ ،‬أو جريمة قتل اف ُتعلت‬
‫أخرجت هاتفي من جيبي مرتعد ًا‬ ‫ُ‬ ‫هنا‪ ..‬واحتماالت عديدة أخرى‪.‬‬
‫أحدث ضجيج ًا‪ .‬وقبل أن أضغط ال ّز َر لكي أُشعل مصباحه‬ ‫َ‬ ‫بدون أن‬
‫ملح ٌة في أن أعط�س‪ .‬بقيت حامالً‬ ‫يل�ي الصغي�ر‪ ،‬جاءتن�ي رغب� ُة َّ‬ ‫ّ‬
‫الل َّ‬
‫س�بابتي فوق ش�اربي‬ ‫وضعت ّ‬ ‫ُ‬ ‫الهات�ف ف�ي ي�د‪ ،‬وف�ي اليد األخرى‬
‫وحاولت جاهد ًا أن ال أُسمع صوت ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أفقي ًا بفتحتي أنفي‪،‬‬ ‫وألصقتها ّ‬
‫مرت اللحظة بسالم‪ ،‬واستطعت حبس العطسة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تراجعت بخطوات سلسة إلى الوراء‪ ،‬واإلنارة البيضاء للهاتف‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أزحف بجوار الحائط ملتصق ًا‬ ‫ُ‬ ‫مش�يت بهدوء‬ ‫ُ‬ ‫موجه ٌة نحو الحائط‪،‬‬ ‫َّ‬
‫زر الكهرباء‬ ‫تذكر موض�ع ِّ‬ ‫المشوش�ة في ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ب�ه‪ ،‬وق�د أعانتن�ي ذاكرتي‬
‫مر ًة أخرى‪ ،‬فطاردتني‬ ‫سمعت جلب ًة َّ‬ ‫ُ‬ ‫المضاء بالبرتقالي‪ .‬اقتربت أكثر‪،‬‬
‫وأدرت وجهي نحو ناحية‬ ‫ُ‬ ‫أس�رعت‬
‫ُ‬ ‫أفكار الهيئة التي س�تواجهني‪.‬‬
‫الش�يء ال�ذي يلمع ُملصق ًا ظه�ري بالحائط‪ .‬أطفأت مصباح هاتفي‬
‫زر اإلنارة دون‬ ‫وصل�ت إل�ى مكان ال ّزر‪ ،‬وضعت ك ّفي عل�ى ِّ‬ ‫ُ‬ ‫حي�ن‬
‫أن أضغ�ط‪ ،‬رغب� ًة ف�ي االس�تعداد لرؤي�ة الحقيق�ة التي ستكتش�فني‬
‫بعد‬‫قمت ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫الص َعداء في صمت‪،‬‬ ‫َّست ُّ‬ ‫استعددت بعد أن تنف ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأكتشفها‪.‬‬
‫دت للحظة‪،‬‬ ‫وصلت إلى الرقم واحد‪ ،‬فتر َّد ُ‬ ‫ُ‬ ‫تنازلي من الرقم ثالثة‪،‬‬
‫وتوجس‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫بكل ما أوتيت من ضعف‬ ‫وضغطت ِّ‬
‫ُ‬ ‫عت‬‫تشج ُ‬ ‫َّ‬ ‫لكنني‬
‫الزمت مكاني أُش�اهد ما يحدث‪ ،‬آلمتني األنوار‬ ‫ُ‬ ‫أُنير ال ّطابق‪،‬‬
‫‪96‬‬
‫شعرت باألسف على نفسي ال غير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫عيني َّ‬ ‫ّ‬ ‫في‬
‫عدت‬‫ُ‬ ‫كنت ضحي ًة للمطر فقط‪ ،‬وضحية للبرد الذي التحفني‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أدراج�ي إل�ى نج�وى‪ ،‬ناديتها بصوتي الباهت والمرتاح قليالً‪« :‬هييه‬
‫ثم أردفت‪« :‬انتظر‬ ‫نجوى!»‪ ،‬استدارت وقالت لي‪« :‬تأخرت كثير ًا!»‪َّ ،‬‬
‫قلت له�ا‪« :‬اتبعيني‬
‫تغي�ر ثيابك»‪ُ .‬‬ ‫لحظ�ة‪ ،‬أن�ت ل�م تفعل ش�يئ ًا‪ ،‬لم ِ‬
‫ّ‬
‫جدتك»‪.‬‬ ‫لنحمل َّ‬
‫لم تفهم ما كنت أشير إليه‪ .‬شرحت لها بكلمات قصيرة تقيني‬
‫الساللم قلت‪ ..« :‬فوق‪.»..‬‬ ‫ما حدث‪ِ ّ :‬‬
‫«جدتك‪ ..‬نائمة»‪ ،‬وبإشارة إلى ّ‬
‫وقلت‬ ‫ُ‬ ‫حم َلت جسدها بسرعة‪ ،‬وأرادت الجري صعود ًا‪ ،‬فاستوقفتها‬
‫لها بأن تهدأ لكي ال نوقظها فتهلع‪ .‬ولم أطلب منها أن تصعد إال‬
‫تحاشي ًا لما يحدث داخلي من نزاع ٍ مرضي يأكلني ُ‬
‫ويه ِّش ُم عروقي‪.‬‬
‫صعدنا بخطواتٍ ال يسمع منها سوى حفيف أحذيتنا المكتسية‬
‫وأنفاس�نا كان صداها يزيد مع الحيطان المتقابلة‪،‬‬‫ُ‬ ‫بال ُّت�راب والم�اء‪.‬‬
‫الص�وت وتضاعف�ه‪ .‬انطفأتِ األنوار‪ ،‬وأش�علتها هي‪.‬‬ ‫الت�ي تعك�س ّ‬
‫وتمس�ك‬
‫ُ‬ ‫السلالم‬ ‫مم�ددة على ّ‬‫ّ‬ ‫حي�ث رأيته�ا‪ .‬كان�ت‬
‫ُ‬ ‫وصلن�ا إل�ى‬
‫�رت بين نومها وإغمائه�ا‪ ،‬لكن متى وأين وكيف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫منس�أتها‪ ،‬وق�د ح ُ‬
‫أدوات استفهام خالجتني‪ ،‬والتي لم تعد بي رغب ٌة في اإلجابة‬ ‫ُ‬ ‫ك ّلها‬
‫تط ُّن في رأسي‪ ،‬وال طاقة لي كي أجيب عنها‪ ،‬فكفاني‬ ‫عليها‪ ،‬لكنها ِ‬
‫ّ‬
‫الدراما التي أرعبتني من قبل والتي شككت في معتقداتي‪.‬‬
‫بت م ِّني نجوى أن أنادي أحد الجيران ُليساعدنا في حمل‬ ‫ط َل ْ‬
‫قلت لها‪« :‬ذلك لن ُيجدي‬ ‫رفضت مستفسر ًا‪ :‬لماذا‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫جدتها‪ ،‬لك ّنني‬ ‫َّ‬
‫نفع ًا‪ ،‬ال تحاولي أن ُتدخلي أحد ًا آخر في هذا‪ ،‬الناس هنا ألسنتهم‬
‫طويلة‪ ،‬وال أحب أن ُتروى عنكم أشياء تشيع وتتداول بين الجيران‪،‬‬
‫‪97‬‬
‫محاولة في حملها قد تؤدي‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬ ‫كم�ا أن ّ ِ‬
‫جدت�ك ثقيل�ة كم�ا أرى‪ُّ ،‬‬
‫ثم‬
‫فهم�ت ما أعنيه‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫إل�ى س�قوطها‪ ،‬لذا لنحاول إيقاظها فحس�ب»‪.‬‬
‫بت أنا أن‬
‫جر ُ‬ ‫حاول�ت أن توقظه�ا‪ ،‬لك ّنه�ا لم ُتفل�ح بالمناداة عليها‪َّ .‬‬
‫أمس�ح‬
‫ُ‬ ‫رفعت ك ّفي إلى ش�عري‬ ‫ُ‬ ‫رش قط�رات الم�اء عل�ى وجهها‪.‬‬ ‫أَ َّ‬
‫ونششت بأصابعي على وجه العجوز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذهاب ًا وإياب ًا ح َّتى تب َّللت يدي‪،‬‬
‫وضعت ك ِّفي على معطفي الذي‬ ‫ُ‬ ‫والمرة ال َّثالث�ة‬
‫َّ‬ ‫م�ر ًة ثانية‪،‬‬
‫حاول�ت َّ‬
‫ُ‬
‫مرات عدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشدة َّ‬ ‫مس�حت َّ‬
‫ُ‬ ‫أصبح فش�ل ُه في امتصاص المياه ميزته‪،‬‬
‫بقوة وأنا أحرك‬ ‫ٍ‬
‫نشش�ت َّ‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫واجتمعت بأصابعي وراحة يدي مياه‪َّ ،‬‬
‫غم‬
‫عضلات ذراع�ي‪ ،‬بعده�ا اس�تيقظت العجوز‪ ،‬والظاهر أن�ه لم ُي َ‬
‫ألي كدمة بجس�دها أو م�زق في ثوبها‪،‬‬ ‫أي أثر ّ‬ ‫عليه�ا‪ ،‬فلا يوج�د ّ‬
‫الرأس لم يسقط من مكانه‪ ،‬وهذا يعني أنها كانت نائمة‬ ‫وح ّتى غطاء ّ‬
‫أنرت‬ ‫ُ‬ ‫بإرادته�ا‪ ،‬ووضعيته�ا تل�ك أكَّ دت ذلك‪ ،‬فعندم�ا رأيتها بعدما‬
‫الدرج ومو ِّلي ًة كتفها اليس�رى للحائط‪،‬‬ ‫األنوار‪ ،‬كانت جالس�ة على ّ‬
‫س�بب نزولها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حيرني أكثر‪ ،‬هو‬ ‫وممس�ك ًة منس�أتها بإحكام‪ ،‬وا ّلذي َّ‬
‫وكما يبدو من ثيابها‪ ،‬فهي غير عامرة ٍ ولو ح ّتى بقطرة ماء‪ ،‬والمعنى‬
‫أنَّها لم تخرج قط!‬
‫كان الموقف س�اخر ًا عندما اس�تفاقت فقالت‪« :‬صباح الخير»‪.‬‬
‫نظرت إلى وجه حفيدتها التي تدمع وابتسمت لها‪ .‬وعندما نظرت‬ ‫ْ‬
‫إلي أنا الذي ساعدتها من قبل واآلن‬ ‫تتعرف ّ‬ ‫إلي شعرت بالفزع‪ ،‬لم ّ‬ ‫ّ‬
‫يت مرضها‬ ‫عاكس�ت األمنيات وتم ّن ُ‬ ‫ُ‬ ‫أيض ًا‪ .‬نس�تني بس�رعة‪ ،‬ولحظتها‬
‫كل يوم ٍ أنسى فيه الفضل وأنسى الوجوه‪،‬‬ ‫الذي س�يجعلني أس�تيقظ َّ‬
‫لو بغير قصد‪.‬‬ ‫الس َّ‬
‫وأنسى ُّ‬
‫إل�ي نج�وى‪ ،‬وقالت لي همس� ًا‪« :‬حاول مس�ايرتها»‪.‬‬ ‫اعت�ذرت َّ‬
‫ْ‬
‫‪98‬‬
‫ابتسمت فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أخذت نصيحتها بغُلو‪ ،‬ولم أُثِر وتر ًا للحديث‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والحق أني أبتس�م كثير ًا‪ ،‬فاالبتس�امة‬ ‫ُّ‬ ‫أصبح�ت أبتس�م كثي�ر ًا‪،‬‬
‫ُ‬
‫فالض ُّد دائما‬
‫تعري�ف آخ�ر للح�زن‪ ..‬بل أقس�ى من مالمح األس�ى‪ِّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫لكل شيء في الوجود‪.‬‬ ‫تعريف آخر وفصيح ِّ‬ ‫ٌ‬
‫نهض�ت العج�وز متثاقل�ة‪ ،‬وكانت نجوى تمس�كها من ذراعها‬ ‫ِ‬
‫أردت مس�كها م�ن ذراعه�ا األخ�رى‪ ،‬فأبعدت يده�ا ع ّني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بح�ذر‪.‬‬
‫جدتي»‪ .‬اس�تمعت‬ ‫ل�ت إهانته�ا‪ .‬قال�ت له�ا نج�وى‪« :‬ال تخافي َّ‬ ‫تقب ُ‬ ‫َّ‬
‫لحفيدته�ا‪ ،‬وأمس�كت ي�دي الب�اردة‪ .‬وقفت العج�وز وعلى وجهها‬
‫تتحسس شيئ ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نظرة غريبة‪ ،‬كأنّها تتأمل أو‬
‫سحق ًا! سرى معها هي األخرى ما يتناكف بي‪.‬‬
‫حاولت أن أنزع يدي وأضعها على مرفقها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ل�م تنظ�ر نحوي‪.‬‬
‫وش�عرت بدفئها‬
‫ُ‬ ‫بق�وة على يدي‪،‬‬
‫لك َّنه�ا أب�ت ترك�ي‪ ،‬ب�ل ضغطت َّ‬
‫المرة وقالت‪« :‬آه هذا أنت!»‪ .‬في‬ ‫يحتوي يدي‪ .‬ن َظرت نحوي هذه َّ‬
‫البداي�ة ل�م يدركني نس�يانها وال ذاكرتها الت�ي تآكلت‪ ،‬ولم تدركني‬
‫أي عي�ن ٍ رأت ش�كل صورت�ي‪ ،‬ولكن‬ ‫�خ عل�ى ِّ‬ ‫سترس ُ‬
‫َّ‬ ‫عيناه�ا الت�ي‬
‫تبقى ذاكرة أخرى ُتخ َّزن فيها المواقف‪ ،‬إنّها ذاكرة الجسد‪ ،‬خطوط‬
‫ت‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫عطي ْ‬
‫مرر فوق ماس�ح ليزر‪ ،‬فأ َ‬ ‫عرفت ع ّني‪ ،‬مثل كود أمني ُي َّ‬ ‫يدها َّ‬
‫هويتي لها‪.‬‬ ‫معلوماتي عن ّ‬
‫حاسة اللمس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مكابر ٌة أنتِ يا‬
‫أتف�وه بكلمة طوال الصعود نحو ش�قتي‪ ،‬ش�عرت بضعف‬ ‫ّ‬ ‫ل�م‬
‫أعضائ�ي يزي�د م�ع حالة التوتر واإلرهاق الذي أصبح متواصالً في‬
‫وصوت طقطقة األحذية الس ّتة جعلني أتمنى أن‬ ‫حركة أقوم بها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ويدوي في طبلتي‬ ‫ّ‬ ‫أص�م‪ ،‬رغ�م حفيفه الخفيف فإنّ�ه يصدح‬ ‫ّ‬ ‫أصب�ح‬
‫َ‬
‫‪99‬‬
‫الصبر‬‫احمرتا من ّ‬
‫ّ‬ ‫استشعرت بأن عروقي بدأت تنتفخ‪ ،‬وأذناي‬
‫ُ‬ ‫أذني‪.‬‬
‫غي�ر الب�ادي‪ ،‬وال�ذي ال ُي�رى لهما وال�ذي أراه وحدي بعين قلبي‪.‬‬
‫كنت أن ُفخ صدري ألستنش�ق القدر األقصى‬ ‫وم�ن حي�ن ٍ إل�ى حين‪ُ ،‬‬
‫خات األلم الذي ارتفع ضغطه‪ ،‬فلم‬ ‫م�ن اله�واء‪ ،‬ألخ ّف�ف ع ّني مض َّ‬
‫تبق لي س�وى أن أصطبر أكثر ح ّتى أصل إلى غيهبي ألحتمي من‬ ‫َي َّ‬
‫عتبى السقم‪.‬‬
‫وصلن�ا إل�ى الطاب�ق األخير‪ ،‬أردت ت�رك يد العجوز من يدي‪،‬‬
‫بقوة فخ ّلفت على ي�دي آثار عظام‬ ‫تش�ددت ثاني�ة‪ .‬انتزعته�ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫لك َّنه�ا‬
‫يدها الناتئة‪ .‬ظ ّلت نجوى تمسكها مخافة أن تتهاوى‪ ،‬لكن العجوز‬
‫العصبية‬
‫ّ‬ ‫انزعجت وانتزعت ذراعها من حفيدتها‪ ،‬وأخذت بشكل من‬
‫ثم انتصبت‬ ‫ٍ‬
‫اليمنى‪َّ ،‬‬
‫منس�أتها من يد حفيدتها بحركة س�ريعة بيدها ُ‬
‫تمشي‪ ،‬كأنّها ُتس ِّفه مساعدتنا‪ ،‬إال أنها كانت راضي ًة شيئ ًا ما بوجهها‬
‫مخفية‪ .‬الزمتها نجوى تمشي معها المترين‬ ‫َّ‬ ‫انقلب بشاشة شبه‬ ‫َ‬ ‫الذي‬
‫فاستدرت مقابالً لهما بكتفي وظهري أفتح باب‬ ‫ُ‬ ‫نحو شقتهم‪ ،‬أما أنا‬
‫ش�قتي‪ .‬دخل�تِ العجوز لتس�تريح‪ ،‬ونجوى لم تتج�اوز عتبة الباب‬
‫انتظرت واقف ًا بإشارة‬
‫ُ‬ ‫السرير‪.‬‬
‫تذهب لتكمل نومها على ّ‬ ‫ُ‬ ‫تراقبها وهي‬
‫أغلقت‬
‫ْ‬ ‫من نجوى بأن أنتظرها‪ ،‬وعلى ما يبدو فإنّها تريد ش�كري‪.‬‬
‫وتوجهت نحوي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُشقَّتها‪،‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– ال أعرف كيف أشكرك على ما فعلت معي‪.‬‬
‫قلت رغم أ َّن بعض الدوار كان يعتريني‪:‬‬
‫– لم أفعل شيئ ًا‪.‬‬
‫ِ‬
‫قوس‪.‬‬
‫وأتبعت كلماتي بابتسامة‪ ،‬وشفتاي تعبتا من ال َّت ُّ‬
‫ُ‬
‫‪100‬‬
‫ح َّي�اي‪ ،‬ونظراتها تلك أقلقتني‪ ،‬بدا كأنها‬
‫ح�دق إلى ُم َ‬ ‫راح�ت ُت ّ‬
‫في شيئ ًا غريب ًا‪.‬‬
‫رأت ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫الدماء!‬
‫مصاصي ّ‬ ‫– أنت تبدو شاحب ًا‪ ،‬بشرتك تبدو كبشرة َّ‬
‫ش�عرت بضي�ق في صدري‬
‫ُ‬ ‫اعتق�دت أنه�ا كان�ت تم�زح‪ ،‬فقد‬
‫ُ‬
‫ش�دة رغبتي في‬
‫س�معت م�ا قال�ت‪ ،‬فازداد ألم�ي وتفاقمت ّ‬
‫ُ‬ ‫عندم�ا‬
‫إخفاء ما بي‪.‬‬
‫صرخت صرخ ًة صغيرة‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫– يا إلهي أنفك ينزف!!!‬
‫الصداع‪.‬‬
‫ش�عرت بصداع في رأس�ي‪ ،‬وزاد وجودها أمامي من ّ‬
‫ُ‬
‫تمالكت نفسي فقُلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫– هذا يحدث لي أحيان ًا‪ ،‬ليس بالشيء المهم‪.‬‬
‫ابتلعت بعضه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ال�دم يس�يل م�ن فتح َت�ي أنفي نحو فم�ي‪،‬‬ ‫كان ّ‬
‫رفع�ت وجه�ي إلى أعلى ك�ي ال يتواصل ال ّنزيف‪ .‬أخرجت نجوى‬ ‫ُ‬
‫تمس�ح دمي‪ .‬وبس�رعة‬
‫ُ‬ ‫ورقي� ًا أبي�ض م�ن معطفها‪ ،‬وراحت‬ ‫ّ‬ ‫منديلاً‬
‫مس�حت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أزح�ت يده�ا ع ّن�ي بحذر‪ ،‬وأخذت المنديل من يدها‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫تعلم نوع‬ ‫وجه ُت�ه لها لفعلي‪ ،‬فه�ي ال‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫أي س�بب ُيذك�ر َّ‬ ‫لعنت�ي دون َّ‬
‫ُحرقتي‪.‬‬
‫علي األرق‪.‬‬
‫أما أنا فبدا ّ‬‫بدا عليها الهلع‪ّ ،‬‬
‫تش�ك‬
‫ّ‬ ‫دت أن أضحك‪ ،‬أن أظهر بشاش�ة مصطنعة‪ ،‬كي ال‬ ‫تعم ُ‬ ‫َّ‬
‫في ما يحدث لي‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫جدتك تنتظر‪ ،‬أعتقد أنها جائعة‪ ،‬اذهبي من فضلك‬ ‫ِ‬
‫سيدتي َّ‬ ‫– ّ‬
‫‪101‬‬
‫لمعاينتها‪ ،‬فهي تحتاجك‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫سيدي‪.‬‬
‫– حاضر ّ‬
‫أضافت‪:‬‬
‫– ‪ ..‬لكن‪ ،‬هل أنت بخير؟‬
‫– ثقي بي‪ ،‬ليس بي شيء‪ ،‬إنّها حالة تأتيني من حين آلخر‪.‬‬
‫– المهم أنّه يجب أن ترتاح‪ ،‬يبدو لي أنك أُصبت بنزلة برد‪،‬‬
‫انتظر سأجلب قرص أسبرين‪.‬‬
‫استوقفتها قائالً‪:‬‬
‫– شكر ًا لك نجوى‪ ،‬ال تقلقي‪ ،‬لدي أقراص أسبرين‪.‬‬
‫– عل�ى راحت�ك‪ ،‬عل�ى أي ح�ال‪ ،‬خ�ذ قس�ط ًا م�ن ّ‬
‫الراح�ة‪،‬‬
‫كل شيء‪،‬‬‫كل هذا‪ ،‬وشكر ًا على ِّ‬ ‫جرك في ِّ‬
‫وسامحني على ِّ‬
‫تحضر لك ش�راب ًا س�اخن ًا‪ ،‬فأنت تحتاجه‬
‫ّ‬ ‫وقل لوالدتك أن‬
‫في هذا البرد‪.‬‬
‫لم أنطق ببنت ش�فة‪ ،‬س�وى افتعال إش�ارات ابتس�امات على‬
‫وجهي‪.‬‬
‫قبل أن تدخل شقَّتها‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫– أراك الحق ًا‪.‬‬
‫دخل�ت مضجعي مكتئب ًا‬
‫ُ‬ ‫بادلته�ا بابتس�امة مزموم�ة أُخرى‪ ،‬ثم‬
‫كتفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرثة‪ ،‬مخذوالً بجسدي ال َّثقيل وبمعطفي الذي ُي ُ‬
‫ثقل‬ ‫لحالتي َّ‬
‫وم َم ْسر ٌح جد ًا بهرمي المبكر‪ ،‬الذي تشكَّ ل في خرفي المكتسي على‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كل زاوية‪ ،‬لكن لم يكن شيئ ًا جديد ًا‪ ،‬فقط الغصص نفسها والجرع‬ ‫ِّ‬
‫كل ليلة‪ ،‬فقط هي جر ٌع زائدة آلمتني أكثر‬ ‫المرة نفسها التي ُ‬
‫آخذها َّ‬ ‫ّ‬
‫‪102‬‬
‫من الالزم‪ ،‬وق َّلت في نش�وتي‪ ،‬وزادت من فراغي الجوفي أضعاف ًا‬
‫مضاعفة‪.‬‬
‫عيني بعد دخولي‪ ،‬ولم أُلق ِ لها باالً‪ ،‬فما هي‬ ‫ّ‬ ‫دمو ٌع هطلت من‬
‫ِ‬
‫إلاّ فائ�ض المعان�اة والتوت�ر ل َما كبس�ه التكرار ال�ذي ُيق ِّلده الوجع‪.‬‬
‫لكن بش�رتي اليوم انكوت بها أكثر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كانت دموعي حارقة كعادتها‪،‬‬
‫أت بها من غشاء البرد الذي يكتسيها‪.‬‬ ‫وتد َّف ْ‬
‫جف فيها الماء‪ ،‬وقاحالً كتربة‪..‬‬ ‫كبئر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫أماه!‬ ‫ِ‬
‫أحتاج دفئك ّ‬
‫لم أع ِ في شقتي سوى أن وجودي بها أصبح مريح ًا لنفسيتي‪.‬‬
‫نزعت حذائي‬ ‫ُ‬ ‫فش�عرت بخ ّف�ة ما مع األلم نفس�ه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نزع�ت معطف�ي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وأول ش�يء‬ ‫رت مالبس�ي على مهل‪ّ ،‬‬ ‫غي ُ‬‫ومش�يت حافي ًا‪َّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫وجوربي‪،‬‬
‫ّ‬
‫رت فيه هو دوائي وقرص أسبرين لصداع رأسي‪.‬‬ ‫فكَّ ُ‬
‫جد ًا‪ ،‬كأنّي‬
‫كنت أبدو شاحب ًا ّ‬ ‫وكان صحيح ًا ما قالته الفتاة‪ ،‬فقد ُ‬
‫أض�ع مس�احيق تجمي�ل‪ .‬بدوت مثل الغمام�ة عندما نزعت نظارتي‬
‫تنبئان‬‫بدوت طيف ًا بحق‪ ،‬وكانت عيناي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ونظرت إلى المرآة مكره ًا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫جفني‪ ،‬وشفتاي فقدتا لونهما‬ ‫ّ‬ ‫الرمادي تحت‬ ‫شدة ال َّلون َّ‬ ‫بالرعد من ّ‬ ‫ّ‬
‫للدفء الذي يزيل عنهما خدر االبتسامة‪.‬‬ ‫وكانتا متع ّطشتين ّ‬
‫كبرياء‬
‫ً‬ ‫كم تكون المساعدة مؤلمة‪ ،‬عندما تهبها وال تأخذها‪..‬‬
‫فقط‪.‬‬
‫خبئني من الوحشة‬ ‫كان من المفترض أن أرتدي شيئ ًا فضفاض ًا ُي ّ‬
‫ارتديت قميص ًا بكمين‬
‫ُ‬ ‫الت�ي صنعته�ا األمطار في جس�دي من ب�رد‪.‬‬
‫قصيري�ن‪ ،‬وبنط�االً عش�وائي ًا ُيغ ّطي عورتي‪ ،‬والفض�ل لجهاز ال ّتدفئة‬
‫مرة ٍ بتشغيله‪ ،‬بعد إذ نبذته في ُركن ٍ منسي‪ ،‬لعدم‬ ‫ألول َّ‬
‫ِ‬
‫الذي أسعد َّ‬
‫‪103‬‬
‫المرة‪ ،‬رغم شريط‬ ‫تحملي الحرارة المفرطة‪ .‬لم أشعر بالجوع هذه َّ‬ ‫ّ‬
‫مللت من‬ ‫ُ‬ ‫التعب الذي مررت منه‪ ،‬وكانت بي رغبة ملحة في ال ّنوم‪.‬‬
‫فأرجعت مصدرها إلى مكان نفيه‪ ،‬وارتديت ما يلتصق‬ ‫ُ‬ ‫تلك التدفئة‪،‬‬
‫بلحمي‪ُ ،‬ليضاعف حرارة جسمي الطبيعية‪.‬‬
‫وجدت نفسي ملقى على السرير‪ ،‬ساقاي سارتا‬ ‫ُ‬ ‫ال أدري كيف‬
‫فتك به‬ ‫بي دون أن أشعر‪ ،‬كانتا ُت ِّلبيان مقاومة رغبات التقهقر الذي أُ ُ‬
‫كل عضو ٍ في أجهزتي يريد ال ّنوم‪ ،‬إال أن الذاكرة التي‬ ‫نفس�ي‪ .‬كان ُّ‬
‫تش�بعت أب�ت أن تن�ام‪ ،‬فتركتني في حالة نوم ٍ نصف�ي‪ ،‬يقظ ًا ونائم ًا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أتحدثه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بأي لغة كنت‬ ‫أتفوه بكالم ال أفقهه وال أعي ِّ‬ ‫فجأ ًة وجدتني ّ‬
‫ألغة أحالم أم لغة واقع؟ لم أكن أدري إن كنت نائم ًا ح ّق ًا أم أنني‬
‫أتخي�ل‪ ،‬فعين�اي كانتا ش�به مفتوحتين‪ ،‬وعقل�ي كان غائب ًا‪ ،‬ولم أكن‬ ‫ّ‬
‫عيني‬
‫ّ‬ ‫فكل األضواء كانت مطفأة‪ ،‬ضوء‬ ‫أرى س�وى س�قف الغرفة‪ُّ ،‬‬
‫والدي‪ ،‬صور َتي‬ ‫ّ‬ ‫وح�ده مش�تعل‪ ،‬ح ّت�ى بدا ل�ي أنِّي رأيت صور َت�ي‬
‫الرهيب بحنيني إلى أوطاني‪ ،‬وإلى زمن الغياب واالرتياب‪،‬‬ ‫الحلم َّ‬
‫وإلى االرتهاب مني ومن جشع األيام والفصول واألقدار‪..‬‬
‫هات ألم ٍ خرجت من فمي‪.‬‬ ‫تأو ُ‬ ‫ُّ‬
‫كفان�ي ع�ذاب ال�روح‪ ،‬ال تقتلن�ي أنت أيض ًا يا جرح الجس�د‪،‬‬
‫في أنا‬ ‫تسكن َّ‬
‫ُ‬ ‫الصفقة التي جعلتك‬ ‫أم أنّك أنت أيض ًا ال تقبل هذه ّ‬
‫سيد الحزن ال ّطويل!‬ ‫ّ‬
‫ش�عرت بوحش�ة ال ّلي�ل‪ ،‬وكان هدي�ر الري�اح يؤرج�ح دف ًة من‬ ‫ُ‬
‫ورجوع ًا تار ًة بزاوية أخرى‪ ،‬كأن طقس� ًا ما‬ ‫النافذة إياب ًا تار ًة بزاوية‪ُ ،‬‬
‫خصصت غرفة للعالج والمرض في آخرها‪.‬‬ ‫ُيفتعل في شقتي التي َّ‬
‫الضوضاء التي ُتصدرها‬ ‫لم تعد بي قدر ٌة على الصبر أكثر على ّ‬
‫‪104‬‬
‫حمام العرق والهلوس�ات التي تزرعها‬ ‫فأخرجت نفس�ي من ّ‬ ‫ُ‬ ‫الدفة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الصور‬ ‫ولكن رهب�ة ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ي�دي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الضع�ف‪ .‬صفع�ت وجه�ي بكلتا‬ ‫خالي�ا ّ‬
‫رت تحت لحافي ح َّتى لم يعد لي أثر وجود‬ ‫تكو ُ‬‫الضبابية لم ُتزل‪َّ .‬‬ ‫ّ‬
‫صفعت‬
‫ُ‬ ‫سوى داخلها‪ ،‬وآخر دمعة بكاء شحيحة ذرفتها في الداخل‪.‬‬
‫أش�علت‬
‫ُ‬ ‫وأزل�ت ال ِّلح�اف مقاوم� ًا لهفة ال ّنوم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫م�ر ًة أخ�رى‪،‬‬ ‫نفس�ي ّ‬
‫المصباح بقربي وأنا مغمض العينين‪ ،‬فتحتهما‪ ،‬ونسيت بعد فتحهما‬
‫أنني كنت أريد ال ّنوم‪ ،‬فقد التهمني جوع الكتابة‪ .‬قمت وكان جسدي‬
‫وذهبت أعرج نحو فصيلة‬ ‫ُ‬ ‫يقاوم حمقي‪ ،‬عققت تحذيرات صحتي‪،‬‬
‫ب طلق�ات رص�اص‪ .‬أصبح�ت الجمل الت�ي أ ُخطُّها‬ ‫ج�ر ُ‬‫الخش�ب ُا ِّ‬
‫�ت كفع�ل خالص ٍ أُ َ‬
‫ه�د ُم به‪.‬‬ ‫أصبح ْ‬‫َ‬ ‫تصي�ب األه�داف وال ُتخط�ئ‪،‬‬
‫الرؤى التي أطمع في تبيانها‪،‬‬ ‫ظننت أنني س�أتوازن عندما أتوه في ُّ‬ ‫ُ‬
‫لدت‬
‫يج�ف نهري ألف�رح بالجفاف ال�ذي ُو ُ‬ ‫ُّ‬ ‫أنّن�ي س�أرتوي بعدم�ا‬
‫الذكرى‬ ‫ألجل�ه‪ ،‬أنّن�ي س�أعيد تش�كيل الهرم ال�ذي ُهدم بح�وادث ّ‬
‫س�أجد كن�زي ال�ذي ض�اع في األعماق إث�ر عاصفة‬ ‫ُ‬ ‫العاب�رة‪ ،‬أنن�ي‬
‫مطرية أفقدتني وعيي‪ ،‬فترك ُت ُه مخافة غرقي معه‪ ،‬وأنني سأرقى فوق‬
‫بقوة الحرف الذي يجعلني ملك ًا وعبد ًا‪ ..‬لكن ال شيء من‬ ‫ضعفي َّ‬
‫تهاويت من س�فح ذاكرة ال َّش�تات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذلك حدث‪ ،‬هزمني الواقع‪ ،‬إذ‬
‫وتعمق�ت جراح�ي أكث�ر‪ ،‬وغبنت قلبي بمفاوضات فاش�لة‪ ،‬وزادت‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫علي بخيبات أخرى‪.‬‬ ‫الهزائم وتوالت كيفما شاءت‪ُ ،‬منهال ًة ّ‬
‫حمل�ت الممحاة ألزي�ل خطيئتي‬ ‫ُ‬ ‫ل�م أق�در عل�ى المواصل�ة‪.‬‬
‫كل مواجهة مباش�رة؛ عندما كنت‬ ‫�ف ع�ن تعذيبي ف�ي ِّ‬ ‫الت�ي ل�ن تكُ َّ‬
‫أدركت أ َّن محاولة‬
‫ُ‬ ‫بقوة‪ ،‬تم ّزقت الورقة‪ ،‬عندها أدركت أمر ًا‪،‬‬ ‫أمحي ّ‬
‫تحريف بحد ذاته‪ ،‬ولن ُيجدي ش�يئ ًا غير تمزيق‬ ‫ٌ‬ ‫محو الماضي هو‬
‫‪105‬‬
‫أحسست أن ما‬‫ُ‬ ‫حاضري‪ ،‬وتعفين مستقبلي‪ .‬وعندما تم ّزقت الورقة‪،‬‬
‫صدقي الذي انطفأ على‬ ‫ق�د وق�ع‪ ،‬كان فق�ط عقوبة لي على مس�ح ِ‬
‫الورق‪.‬‬
‫رت في‬ ‫لم أجد ما أفعله حينها سوى التخلص من جهدي‪ ،‬فكَّ ُ‬
‫أن أحرق الورق‪ ،‬أو أرمي بالكلمات في س ّلة المهمالت‪ ،‬فسيكون‬
‫حو َل إلى دخان يعبره الريح‬ ‫محوها جريمة ال غير‪ ..‬لذا فل ُتحرق ل ُت َّ‬
‫ذرات غاز‪،‬‬ ‫ويغادر إلى شخص غيري أو يبقى موجود ًا على شكل ّ‬
‫يتنفَّسني ال ّناس فأُقرأ في ذات تنفس‪ .‬أو أُهمل في كرة ٍ ورقية‪ ،‬فأُغادر‬
‫ويعاد تش�كيلي ورق ًا‬ ‫ٍ‬
‫من حاوية إلى حاوية‪ ،‬من مصنع إلى مصنع‪ُ ،‬‬
‫حمل من يد ٍ إلى يد‪ ،‬وأُبعث من هنا إلى هناك‪ ..‬إلى هناك‪،‬‬ ‫آخر‪ ،‬وأُ ُ‬
‫حي بأكثر من‬ ‫فأبق�ى ّ ً‬
‫خفي�ا كما ش�اء لي أن أكون‪ُ ،‬مش� َّتت‪ ،‬لك�ن‪ٌّ ..‬‬
‫طريقة‪.‬‬
‫كومته�ا ورميتها في س� َّلة المهمالت‪ ،‬وأخرى‬ ‫بع�ض األوراق َّ‬
‫جعلتها رماد ًا‪ ،‬ألُو َّز َع بالطريقتين‪ ،‬غازات وأشكاالً‪.‬‬
‫ش�ت‬‫تشو ُ‬
‫تذكَّ �رت أنّن�ي ل�م أثم�ل بقهوت�ي‪ ،‬وال أدري كي�ف َّ‬
‫عل�ي األوق�ات‪ ،‬فنس�يت طع�م المرارة ال�ذي ال أعيش‬ ‫َّ‬ ‫وتلخب َط ْ‬
‫�ت‬
‫الدورية‪ .‬إرادتي أن‬ ‫بطل إرهاقاتي َّ‬ ‫ته ُّز نشوتي‪ ،‬و ُت ُ‬
‫إال برتوشاته التي ُ‬
‫مساء بقهوة ٍ ترتشفني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأقلب األوقات‪ ،‬وأجعل ال ّنهار‬‫َ‬ ‫أحايد العادة‪،‬‬
‫وصبب�ت ف�ي كأس�ين‪ ،‬واح�دة ل ّلحظ�ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�رت الفنج�ان‪،‬‬
‫حض ُ‬ ‫َّ‬
‫واألخرى إلثارة ال َّلحظة ببرودتها ال َّزائدة على التي قبلها‪.‬‬
‫وقد غدرتني الكتابة هذا المساء‪ ،‬أفاضتني أكثر مِ َّما جمعتني‪.‬‬
‫فلعل مفاصلي‬ ‫ّ‬ ‫أتجو ُل في أرجاء المنزل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ورحت‬
‫ُ‬ ‫حملت كأسي‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ل�ت أبح�ث ع�ن م�كان مالئم‬ ‫تجو ُ‬
‫الص�دأ‪ّ .‬‬ ‫وذهن�ي ينقش�ر عنهم�ا ّ‬
‫‪106‬‬
‫كل ركن في محيطي يصلح لفرز‬ ‫الذهن‪ ،‬والحق أ ّن َّ‬ ‫للجلوس لتصفية ّ‬
‫ٍ‬
‫كل شيء يحيط‬ ‫نفسي عن نفسي‪ ،‬لن أقول إن الوحدة موجودة في ِّ‬
‫بي‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬في الحقيقة لست وحيد ًا أيض ًا‪ ،‬الوحدة أرقى‬
‫إلي‪ ،‬أنا فقط ش�يء انبعث من رماد الوحدة‪ ،‬إنس�ان‬ ‫من أن تنتس�ب ّ‬
‫عت‬ ‫مت ال ّطويل‪ ..‬ومكاني هو اآلخر‪ ،‬ح َّتى لو َّ‬
‫ترب ُ‬ ‫الص ُ‬ ‫خي�م داخل�ه ّ‬ ‫ّ‬
‫وكل ركن ٍ مثله‬ ‫الراحة المضطربة‪ُّ ،‬‬ ‫في مطبخي‪ ،‬س�أجد فس�حة من ّ‬
‫بمعدالت أكثر قسوة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سيعادله في اضطرابه‪ ..‬إال غرفتي التي تزيد‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فهذه األخيرة‪ ،‬ليست كباقي األماكن‪ ،‬إنّها مثل المقبرة‪ ،‬فيها األموات‬
‫أشخاص كلُّهم دارت على أعناقهم َشفرة الموت‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أكثر من األحياء‪،‬‬
‫الرحيل‪ ،‬كلُّهم منقوش�ون على كتب في‬ ‫وأنوفهم استنش�قت رائحة َّ‬
‫رفوفي الكبيرة‪ ،‬التي تس َّلطت على غرفتي وأخذت الجزء الكبير فيها‪.‬‬
‫وأكثرهم شهر ًة هو ذلك الغاضب «نيتشه»‪ ،‬ذلك المارد الذي غلغل‬
‫وصحح نظري بقوانين العجز‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي الرف�ض‪ ،‬وغرس نزعته داخل�ي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫ال�ذي يحقن�ه المرض ولصكوك الذك�رى الغائرة‪ ،‬فهو اآلخر عاش‬
‫س�ير ًة مرضية‪ .‬كان يقول‪« :‬في حالة المرض يغدو اإلنس�ان عاجز ًا‬
‫أي شيء وعاجز ًا‬ ‫أي شيء؛ عاجز ًا عن الحسم في ِّ‬ ‫عن التخلص من ِّ‬
‫ٍ‬
‫أي شيء؛ كل شيء يغدو جارح ًا»‪ ،‬وزاد كشفي عندما قال‪:‬‬ ‫عن ر ِّد ِّ‬
‫حد التالصق؛‬ ‫ٍ‬
‫«تتق�ارب األش�ياء مع اإلنس�ان بصفة وقحة مزعج�ة َّ‬
‫تقيح ًا»‪.‬‬
‫والذكرى تصبح جرح ًا ُم ِّ‬ ‫األحداث تصيب في العمق‪ِّ ،‬‬
‫وكنت فعالً مجروح ًا من س�نوات العس�رة‪ ،‬ومقروح ًا بماضٍ‪،‬‬
‫أي ذكرى‪ ،‬كلها‬ ‫تتب�رأ م ّني ّ‬
‫ح�د عدم البرء‪ ،‬ولم َّ‬ ‫تقيح�ت ّ‬ ‫وجراح�ي َّ‬
‫الرشوة‪ ،‬وأنا أيض ًا‬ ‫جاءت شاهد ًة على أفعالي تحاكمني كقاض ٍ ُ‬
‫يقبل َّ‬
‫كل ذكرى في يوم محاكمتي‪ ،‬راضي ًا بحكمي‪ ،‬فقد آل إلى‬ ‫كنت مع ِّ‬ ‫ُ‬
‫‪107‬‬
‫الخفي�ة التي تؤول ك ّلها إلى رغبة في نفس‬ ‫َّ‬ ‫م�ا تط َّلع�ت إلي�ه نواياي‬
‫سقراط قضاها‪.‬‬
‫ارتشفت نصف الكأس وأنا أجول هنا وهناك‪ ،‬تار ًة في الردهة‪،‬‬
‫َّظ ذهني بشكل ٍ تدريجي‪ ،‬وأزهرت‬ ‫الصالون‪ ،‬وقد تيق َ‬ ‫وتار ًة أخرى في ّ‬
‫البن ما حولي‪.‬‬ ‫رائحة ِّ‬
‫�ب بعناي�ة‪ ،‬األواني ف�ي مكانها وتلم�ع بنظافتها‪،‬‬ ‫محيط�ي مر َّت ٌ‬
‫أزواج األحذي�ة مصط ّف� ٌة كال َّتالميذ‪ ،‬وآخر األمر‪ ..‬أ َّن ش�بح الوحدة‬
‫أي إهمال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كل بقعة في شقَّتي بكل ترتيب وحصانة من ِّ‬ ‫يجول في ِّ‬
‫الم�رء وحده‪ ،‬يجب علي�ه أن يكون نظيف ًا ومر َّتب ًا في‬ ‫ُ‬ ‫فعندم�ا يعي�ش‬
‫مثالي ًا هو‬
‫ّ‬ ‫كل ش�يء‪ ،‬ح َّتى في حزنه‪ ،‬فيجب على الحزن أن يكون‬ ‫ِّ‬
‫اآلخر‪ ،‬ال تنقصه ناقصة‪ .‬وأنا اآلخر‪ ،‬ال أريد أن أعيش جحيم ًا ثاني ًا‬
‫تس�كن في ذاكرتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غير الذي يحيا في داخلي‪ ،‬تكفي الجثث التي‬
‫تتحرك في جحيم ٍ غير منتظم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال أريد أن أغدو جثّة عفنة‬
‫كرسي ًا ووضعته في الصالون أمام‬ ‫ّ‬ ‫أخذت مكاني أخير ًا‪ ،‬حملت‬ ‫ُ‬
‫أحدق إلى السماء التي تظهر‬ ‫عيني ّ‬
‫ّ‬ ‫وكل انتباهي ع َّلقته في‬ ‫ُّ‬ ‫النافذة‪،‬‬
‫تغي ُر معالمه�ا قطرات المطر‬ ‫مرب�ع ٍ أزرق من نافذت�ي‪ِّ ،‬‬ ‫عل�ى ش�كل ّ‬
‫بعيني‪ ،‬خيالي‬ ‫ّ‬ ‫الس�حب‬
‫س�بحت في ُّ‬ ‫ُ‬ ‫التي تلمع بغزارة ش�به مرئية‪.‬‬
‫مجس�مات وأشكاالً بالغيوم الرمادية‪ ،‬التي تظهر مبهمة‬ ‫َّ‬ ‫راح يش�كِّ ل‬
‫وجوه غريبة‬ ‫ٌ‬ ‫بغياب نور ال َشمس وحضور نور القمر‪ ،‬وتشكَّ لت عبث ًا‬
‫مكدرة ُتشبهني كرب ًا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫معن‪ ،‬صادفت عيناي غيم ًة ُمضاءة بضوء‬ ‫بع�د لحظ�ات م�ن ال َّت ّ‬
‫القمر وتظهر ب َّلورية ال ّلون‪ ،‬غيمة أراحت قلبي بكلمة (اهلل) منحوت ًة‬
‫الس�ماء وش�امخ ًة بعرضها وطولها‪ .‬حينها وضعت كأس�ي على‬ ‫في ّ‬
‫‪108‬‬
‫وأتضر ُع إلى‬ ‫َّ‬ ‫كف�ي ألدعو لوجهين تحت ال ُّتراب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ورفع�ت‬
‫ُ‬ ‫األرض‪،‬‬
‫أناني لي في تحقيق طلبٍ‪ ..‬تمقُتني‬ ‫ٍّ‬
‫اهلل عس�ى أن يس�تجيب لطلبٍ‬
‫فيه الحياة داخلي‪.‬‬
‫صغير يرى ألعاب ًا‬ ‫ٍ‬ ‫خ�وت كأس�ي‪ ،‬وكن�ت ال أزال أنظر بعط�ش‬
‫دت من س�ودائي أثناء تعلُّقي‪ ،‬ولم يدم ذلك‬ ‫تج�ر ُ‬ ‫َّ‬ ‫م�رة‪.‬‬
‫ناري�ة ألول ّ‬
‫حدتها وهي ُتداعب‬ ‫انتبهت لنكهتها التي خفَّت َّ‬ ‫ُ‬ ‫طويالً‪ ،‬فسرعان ما‬
‫ألش�بع بالرؤية‬ ‫َ‬ ‫هت إلى ال ّنافذة‬ ‫وتوج ُ‬‫ّ‬ ‫لس�اني‪ .‬قمت من الكرس�ي‪،‬‬
‫حدقت‬ ‫كاملة‪ ،‬وأجعلها كحلقة انتظار بعدما أرجع بالكأس األخرى‪ّ .‬‬
‫إلى السماء التي تشبه البحر في هدوئه وغضبه‪ ،‬وأُراقب القمر الذي‬
‫يتخبأ‬ ‫متحرك ًا م�ع الغيوم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫�ر من موضع ٍ إلى آخر‬ ‫يتغي ُ‬
‫ُي�رى ل�ي أنّ�ه َّ‬
‫ويتجرد منها تار ًة ُليرى واضح ًا‬ ‫ّ‬ ‫وراءها تار ًة ُليرى بتالبيب من ضوئه‪،‬‬
‫بازغ ًا وبدر ًا يلغي كل األضواء‪.‬‬
‫ش�عرت بالحرارة‬ ‫ُ‬ ‫رغ�م الجم�ود البارد لرش�فات القهوة‪ ،‬فإني‬
‫بالحمى‪،‬‬ ‫صبت‬
‫ُ‬ ‫ُتداع�ب جس�مي‪ ،‬وعيائ�ي قد تفاقم‪ ،‬وال ّظاه�ر أنّي أُ‬
‫َّ‬
‫الحم�ى‪ ،‬وعلى تغافل هذا‬ ‫ّ‬ ‫وقلم�ي ل�م يس�اندني اليوم على تجاهل‬
‫ش�ربت كأس�ي في جرعتين ُم َّرتين‪ ،‬ومزاجي قد‬ ‫ُ‬ ‫الكدح المتواصل‪.‬‬
‫ويكدرني بمثالية‬ ‫كل ال�ذي يحي�ط بي ينفر م ّن�ي ُ‬ ‫تعكَّ �ر أكث�ر‪ ،‬وكأ َّن َّ‬
‫ثم‬‫أقفل�ت النافذة فق�د دخل بعض المطر إلى األرضية‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫اصطفاف�ه‪.‬‬
‫حيث‬ ‫ُ‬ ‫قع�دت على الكرس�ي‬ ‫ُ‬ ‫وفتح�ت الناف�ذة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫�دت إل�ى غرفت�ي‬ ‫ُع ُ‬
‫أعتكف الكتابة ش�ا ّد ًا ش�عري وحاني ًا رأس�ي مغمض الجفنين‪َ .‬ف ْو َر‬
‫وطيرت أوراقي‬ ‫ريح َّ‬ ‫الحمى معي‪ ،‬دخلت ٌ‬ ‫ّ‬ ‫أخ�ذي مكان�ي وتجانس‬
‫وانتعشت أنا كذلك ولم أغضب‪ ،‬ولم أقم ألجمعها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عن المكتب‪،‬‬
‫العربية المش ّتتة أخذت أركان ًا‬ ‫ّ‬ ‫فحالتها المبعثرة هي بعثرتي‪ ،‬وحروف‬
‫‪109‬‬
‫تطوقن�ي‪ .‬تلقّ�ف نظري جملة قصي�رة‪« :‬ما مضى ذهب»‪ ،‬لم‬ ‫حول�ي ِّ‬
‫الضاد‬ ‫اخترت لغة َّ‬‫ُ‬ ‫وجدت نفسي عسير ًا عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُيلهمني المعنى‪ ،‬بل‬
‫وكل المجازات لن‬ ‫الصعبة في كتابته�ا وفهمها‪ُّ ،‬‬ ‫حرف�ةً‪ ،‬ه�ذه اللُّغ�ة َّ‬
‫وبمجرد دخولك إليها‪ ،‬لن‬ ‫َّ‬ ‫تقدر أن تكفي في إغناء قارئها وكاتبها‪،‬‬
‫تخرج منها إال مجلود ًا بأسواطها التي تشحن بالعروبة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫الريح التي أقبلت علي‪ ،‬كانت ترمز بإشارة ألن أنهض وأغادر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وم دائم ًا كان عالج ًا نافع ًا‪.‬‬ ‫ألعا َل َج بال ّنسيان المؤ َّقت‪ ،‬فال َّن ُ‬
‫كمحارب عاد من معركة كان فيها هو الناجي‬ ‫ذهبت إلى سريري ُ‬ ‫ُ‬
‫الوحيد‪ ،‬جريح ًا ومنتصر ًا بخيبة أمل‪ ،‬واستقبلته أرضه بحرارة وتصفيق‬
‫رض به‪ ،‬بسبب انتصاره هازم ًا نفسه فقط بتركه لحياته هناك‪.‬‬ ‫لم َي َ‬
‫المرة األولى‪ ،‬ولم تأتني سنة نوم‪ ،‬ولم يهدأ عقلي‬ ‫بت في ّ‬ ‫تق ّل ُ‬
‫تحكم ٍ‬‫السيدي بجهاز ُّ‬ ‫من ُمراجعة غفوات َّ‬
‫فأشعلت ُمشغِّل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الذاكرة‪،‬‬
‫ف المكان كي تجعله مريح ًا‪،‬‬ ‫زر تركت اآليات ُتغ ِّل ُ‬ ‫عن بعد‪ ،‬ضغط ُة ٍّ‬
‫لتحف أنا بكلم ِ اهلل عسى أن أنام‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وكي أُ‬

‫‪110‬‬
‫‪III‬‬

‫جد ًا‪ ،‬وعظامي كانت‬ ‫استيقظت متأ ِّخر ًا‪ .‬أعضائي كانت منهكة ّ‬
‫كالمكس�ورة‪ ،‬وكان انثن�اء المفاص�ل يخزن�ي‪ .‬وال ُّش�عاع المس�تطيل‬
‫ال�ذي يأت�ي من ثق�ب النافذة أذابني كقطعة ثل�ج‪ ،‬وصهرني كقطعة‬
‫ومتشعبة بوحي ال ّنسيان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالستيك‪ .‬كانت مالمحي مكابرة بالمرارة‬
‫كحركة أضرم بها النار في جسدي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكل احتكاك مع الغطاء كان‬
‫اصطبرت على كل شيء وقمت جاهد ًا‪.‬‬
‫وكنت وحدي أشتعل بشرارة األمس‪ ،‬مغ ّطى‬ ‫ُ‬ ‫الجو بارد ًا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫كان‬
‫عيني‪.‬‬ ‫ب ِ ِك ْلس ِ النوم المنصهر على وجهي‪ ،‬وعمش العياء الذي ِ‬
‫يغشي‬
‫ّ‬
‫الساعة فظننتها‬
‫نظرت إلى ساعة الحائط‪ .‬لم أحتكم إلى عقربي ّ‬
‫أول رؤي�ة‪ ،‬لكنه�ا كانت الحادية عش�رة‪ .‬ال يهم‪ ،‬فقد‬ ‫العاش�رة ف�ي َّ‬
‫غبت عن العمل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كتبت مالحظة على ورقة‪ ،‬كي تذكِّ رني باالتصال بسعد ألخبره‬ ‫ُ‬
‫رميت‬
‫ُ‬ ‫بأنّي لن آتي اليوم وسآخذ بضعة أيام راحة بسبب المرض‪.‬‬
‫الورقة فوق طاولة صغيرة في زاوية الغرفة ُوضعت عليها مزهرية‪.‬‬
‫يدي على رأس�ي‪،‬‬ ‫فقرفصت على األرض‪ .‬وضعت ّ‬ ‫ُ‬ ‫انتابتني دوخة‪،‬‬
‫عيني‪ ،‬لم يكن يتراءى لي سوى البياض غير العادي الذي‬ ‫ّ‬ ‫أغمضت‬
‫مدة‪.‬‬‫بتحسن ٍ بعد َّ‬
‫ُّ‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫يكتسي سواد االنغالق‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫فخذي‪ ،‬ولم أستطع النهوض‪ .‬جلست خائر ًا‬ ‫ّ‬ ‫تش َّنجت عضالت‬
‫وطريح ًا على األرض ُمو ِّلي ًا ظهري إلى الحائط الذي بقُربي‪ ،‬وكانت‬
‫وضعت عليها كاهلي‪ ،‬فقس�مت ظهري طوالً‪ .‬لم‬ ‫ُ‬ ‫زاوي� ًة تل�ك التي‬
‫أتحمل‪ .‬وقفت بصعوبة بعد أن ِ ارتخت عضالتي من تقلُّصها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الحم�ى‪ .‬ل�م أط�ق رائح�ة الن�وم‬ ‫ّ‬ ‫كان أنف�ي مس�دود ًا بمخ�اط‬
‫فتحت‬ ‫ُ‬ ‫قزز من نفس�ي‪.‬‬‫والم�رض الت�ي تحيطني‪ ،‬فقد أش�عرتني بال َّت ُّ‬
‫الحمام‬ ‫ّ‬ ‫وتوجهت دون ال ّنظر إلى ش�يء‪ ،‬حامالً أدوات‬ ‫ّ‬ ‫ق ّنينة الغاز‪،‬‬
‫الحمى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حمام ًا أتطهر به من طفيليات‬ ‫كي آخذ ّ‬
‫ابتعدت ع ّني روائح الفم‪ ،‬وانفتحت فتحتا أنفي بعد طهارتي‪،‬‬
‫وانح ّلت مس�ام جس�دي تستش�عر الهواء‪ ،‬وارتوت ش�عيرات بدني‪،‬‬
‫وألقي�ت‬‫ُ‬ ‫ف�ت ش�عري بع�د خروج�ي‪،‬‬ ‫فاس�تفقت كم�ا يج�ب‪ .‬ص ّف ُ‬
‫ُ‬
‫الحمى في سلة الغسيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالمالبس التي اجتمعت بها‬
‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫مسحت ن ّظارتي من عتاب األمس ألستقبل لون اليوم‪،‬‬
‫ش�طائري تنتظرن�ي‪ ،‬س�خّنتها في المكروي�ف ووضعتها في صحن‪،‬‬
‫وذهب�ت ب�ي وبه نحو موض�ع األريكة المقابلة للتلفاز‪ .‬أثار انتباهي‬ ‫ُ‬
‫�ت‬ ‫ِ‬
‫هاتف�ي ال�ذي يوم�ض ب�األزرق‪ ،‬ش�خص م�ا كان يتصل بي؛ س ُّ‬
‫ا ّتص�االت م�ن س�عد‪ ،‬وف�ي الغال�ب اتصاالت�ه كانت ليس�ألني عن‬
‫أرجع�ت الهاتف حي�ث كان موضوع ًا قرب موضع التلفاز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غياب�ي‪.‬‬
‫وعدت أدراجي إلى الكنبة ألوازن غلبة الجوع‬ ‫ُ‬ ‫ولم أدر هذا األخير‪،‬‬
‫بالفطور‪.‬‬
‫لت مقطوع�ات موس�يقية لش�وبان‬ ‫أش�علت حاس�وبي‪ .‬ش� َّغ ُ‬‫ُ‬
‫وب�اخ وتشيكوفس�كي‪ ،‬عس�ى نق�رات ش�وبان ُتنير المن�زل‪ ،‬وكمان‬
‫ِ‬
‫يح�رك األثاث النائم‪ ،‬وتش�عل األوتار لحن‬ ‫ِّ‬ ‫تشيكوفس�كي الحزي�ن‬
‫‪112‬‬
‫الصادرة من مشروع‬ ‫استيقاظي المتأ ِّخر‪ .‬أزعجتني طرقات اإلصالح ّ‬
‫الصاخب�ة بطرقها الرتيب‬ ‫بن�اء بالق�رب م�ن العم�ارة‪ ،‬وتلك اآلالت ّ‬
‫كانت تشتت انتباهي‪ .‬ذلك االختالط بين هدوء الموسيقى وصخب‬
‫الذكي متجاهالً‬ ‫وحملت هاتفي ّ‬
‫ُ‬ ‫اآلالت أزعجني‪ .‬أطفأت الحاسوب‪،‬‬
‫ألتفرد بالمقطوعات نفسها‬ ‫ّ‬ ‫سماعات األذن‬ ‫االتصال بسعد‪ .‬وضعت ّ‬
‫عمال البناء‪.‬‬
‫وحدي ح ّتى ينتهي ّ‬
‫الصباح ال�ذي تن ّفس قبلي‬ ‫أع�ددت الش�اي‪ ،‬وجلس�ت أفتت�ح ّ‬
‫كنت أسمع‪ ،‬فقد‬ ‫غرة انتابتني مسحة الحزن مما ُ‬ ‫بساعات‪ .‬على حين ّ‬
‫حملتها من الحاس�وب‬ ‫كانت مقطوعة دخيلة على المجموعة التي ّ‬
‫إل�ى الهات�ف‪ ،‬كان�ت مقطوعة للع�ازف العبقري ((آدم هيرس�ت))‪،‬‬
‫كل ش�يء‪.‬‬ ‫ال�ذي ه ّزتن�ي ج�رات مقطوعته‪ ،‬فهو عازف تش�يلو بعد ّ‬
‫وتمر على أذني كنداء لجفاف البكاء‬ ‫ّ‬ ‫مقطوعته تلك التي ته ّز كياني‬
‫كش ٍ‬
‫�عر‬ ‫الذي كنت أتخيله‪ ،‬تزأر النوتات في أذني فتجعلني مس�لوب ًا ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تبرأ منه قائله‪ .‬اسم المقطوعة هو‪« :‬الباب الخفي‪.»Hidden Door /‬‬ ‫ّ‬
‫أين هذا الباب يا صديقي آدم‪ ..‬أين؟ وهل يوجد ح ّق ًا‪ ،‬ألنني‬
‫أري�د أن أخف�ي م�ا ب�ي في�ه‪ ،‬وأنبذها ح ّت�ى أريدها إل�ى أجل آخر‪،‬‬
‫أن أس�ترها من القيل والقال‪ ،‬فقط قل لي‪ ،‬هل هذا الباب موجو ٌد‬
‫بالفعل؟‬
‫وح ّتى لو ُوجد فإني ال أحمل مفاتيح ألفتحه كما يحمله باقي‬
‫علي من ال ّزيارة‪ ،‬لن يكون إال قلبي‪،‬‬ ‫الضريح الممنوع ّ‬ ‫البشر؛ وهذا ّ‬
‫الكونية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل المفاتيح‬
‫جربت َّ‬ ‫فلا أمل�ك مفاتيح لهذه العضلة‪ ،‬وقد ّ‬
‫لك ّنها لم ُتفلح‪.‬‬
‫كي�ف أدخ�ل إلي�ك يا قل�ب ومفتاح الحب ض�اع م ّني؟ كيف‬
‫‪113‬‬
‫الس�عادة؟ كيف أنش�ئ‬ ‫أزف إلي�ك خب�ر قدوم�ي وأنا ال أفهم معنى ّ‬
‫طريق�ي إلي�ك وما ّدة البناء مجهولة عندي؟ وكيف أصعد إليك وقد‬
‫ثم كيف أزيل عنك أغالل العادة الحزينة‬ ‫أكل ران الوجع مفاصلي؟ ّ‬
‫ٍ‬
‫جمدتك‬ ‫س�ي َمكِّ نني من إيقاظك بعد أن ّ‬ ‫أي جواب ُ‬ ‫فتصير مبتهج ًا؟ ُّ‬
‫من الخوف؟!‬
‫صدقن�ي ي�ا قل�ب‪ ،‬إ ّن ال�ذي يرعبن�ي هو تكرار حادثة س�ادية‬ ‫ّ‬
‫تفتعلها بي األقدار بش�راكة مع الدنيا‪ .‬يا قلب جعلتك س�اخر ًا من‬
‫أتجرد منك‪ .‬نعم سوف‬ ‫ّ‬ ‫الحياة هكذا‪ ،‬ال ألتخ ّلص منك‪ ،‬بل كي ال‬
‫نبتسم‪ ،‬لكن ليس هنا‪ ،‬فقط اشفع لي عند ربي يومئذٍ‪...‬‬
‫وال تس�امحيني ي�ا لعن�ة العاطف�ة‪ ،‬فه�ذا أفضل ل�ك‪ ،‬فما أكثر‬
‫ِ‬
‫الكرة‪،‬‬
‫أحبذ اآلن مع�اودة ّ‬ ‫الموجوعي�ن من�ك‪ .‬أوجعتن�ي يوم� ًا‪ ،‬وال ّ‬
‫ح ّتى لو فعلتِ خارقة قاموس الجفاء‪ ،‬فلن تصيبي م ّني شيئ ًا‪ ،‬ستأتين‬
‫بوحيك وتنشفين وتنسلين أمام أقدام األيام المحدودة التي تبقّت‪.‬‬
‫كانت س�اعة الحائط تش�ير إلى الثّانية عش�رة وخمس عش�رة‬
‫السماعات‪ ،‬صفت أُذناي‪ ،‬فقد توقف ضجيج األشغال‪.‬‬ ‫دقيقة‪ .‬أزلت ّ‬
‫تركت هاتفي وع َّلقت مهاتفة سعد في ذهني ألهاتفه بعد أن أص ِّلي‬
‫صالتي المؤ ّخرة‪.‬‬
‫هاتف�ت س�عد ًا وأخبرت�ه أنّني متع�ب ولن آتي‪ ،‬وطلبت منه أن‬ ‫ُ‬
‫وأعربت له ما‬
‫ُ‬ ‫يصلن�ي بالمدي�ر ألش�رح له حالتي‪ .‬ربطن�ي بالمدير‪،‬‬
‫قد جرى لي‪ ،‬وأنّه ليس بي القدرة على القدوم‪ ،‬وأنّي أحتاج أيام ًا‬
‫ألرت�اح‪ .‬قب�ل أن يتركن�ي‪ ،‬ك ّلفني بمهمة مراجعة س�جالت ال ّش�هر‪،‬‬
‫وأنّه سيرسل لي ما ُيتط ّلب في بريدي اإللكتروني‪ .‬تم ّنى لي الشفاء‬
‫وتحدثت أنا‬ ‫ّ‬ ‫لجدي‪ .‬أنهيت المكالمة معه‪،‬‬ ‫العاجل‪ ،‬وأن أب ِّلغ سالمه ّ‬
‫‪114‬‬
‫ثم انتهى حديثنا‬ ‫ٍ‬
‫وسعد لوقت قصير‪ ،‬وتم ّنى لي الشفاء هو اآلخر‪ّ ،‬‬
‫بعد أن قطع اال ّتصال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أي شفاء يتم ّنى لي هؤالء!‬‫ّ‬
‫األيام األخرى‪،‬‬‫يبق سوى أن أتابع يومي الذي يتشابه مع ّ‬ ‫ولم َ‬
‫عما سيمأل نقصاني بعدها‪ .‬إلاّ أ ّن هذا‬
‫التي تنقضي وأتساءل دائم ًا ّ‬
‫اليوم كان مغاير ًا‪ ،‬فقد أخلفت فيه العمل بس�بب مرض ٍ مؤ ّقت طفا‬
‫كقطع�ة ف ّلي�ن ف�ي بحي�رة مرضي المزمن‪ ،‬ف�زاد ال ّطين عكرة‪ّ ،‬‬
‫ومرغ‬
‫صفو ما تؤول إليه حياتي بتغيير آخر طفيف‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫‪IV‬‬

‫حلقت‬
‫ُ‬ ‫تغير‪ ،‬س�وى أنن�ي‬ ‫م�رت خمس�ة ّأي�ام‪ ،‬وال ش�يء ق�د ّ‬ ‫ّ‬
‫أصبحت‬
‫ُ‬ ‫فت من ش�اربي ولحيتي‪ ،‬وتناس�ب االثنان‪.‬‬ ‫ش�عري‪ ،‬وخ ّف ُ‬
‫السابق في جوفها‪.‬‬‫السابق في الواجهة‪ ،‬لك ّني نفسه ّ‬ ‫أبدو مختلف ًا عن ّ‬
‫األيام الخمسة في الفعل الوحيد الذي يرهقني‪ ،‬ترهقني‬ ‫قضيت ّ‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫كنت عليه‪.‬‬‫ُ‬ ‫مرهق قليالً مقارن ًة بما‬
‫ٌ‬ ‫الكتابة لك ّنني‬
‫الحمى كانت مستضاف ًة فقط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رشح المرض ع ّني‪ ،‬وال ّظاهر أ ّن‬ ‫َ‬
‫الحمى‬‫ّ‬ ‫بحمى منذ زمن‪ .‬تسببت‬ ‫ولتكون عابر ًة وتغادر‪ ،‬فلم أصب ّ‬
‫لي بمشاكل وخيمة قلقت منها لسرطاني‪ ،‬فقد نقصت مناعتي أكثر‪،‬‬
‫وزادت األدوية التي أكرهها‪ .‬لم يشكّ ل ذلك فرق ًا كبير ًا‪ ،‬فما دمت‬
‫سيشفى يوم ًا‪ .‬الذي أرهب‬ ‫خارج ًا معطوب ًا فهذا أفضل‪ ،‬ألن الخارج ُ‬
‫الداخلية التي تزيد وال تنقص‬ ‫منه‪ ،‬هو أ ّن تضاعفه سيربك معافاتي ّ‬
‫بفعله‪ ،‬وهذا يزيد من رهبتي مما قاله لي ال ّطبيب ذات أمسية‪ .‬لكن‬
‫مرت بخير في كل األحوال‪ ،‬رغم قلقي من نتائج الفحوصات‬ ‫األمور َّ‬
‫التي أخبرني بها الطبيب‪ ،‬وقد نصحني بأن أبتعد عن شرب القهوة‬
‫حدة قلقي‪ .‬استطعت االمتناع عن الكافيين‬ ‫وعن األعمال التي تزيد َّ‬
‫تستقر حالتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بصعوبة ريثما‬
‫جدي‪ ،‬وف�ي أن أجعل حضوري ببيت خالتي‬ ‫أفكّ �ر ف�ي زيارة ّ‬

‫‪116‬‬
‫مفاج�أة‪ ،‬رغب� ًة ف�ي أن يفرح ب�ي بعد غيابي ال ّطوي�ل‪ ،‬وكي يعاتبني‬
‫مرة معاكس ًة لقوى السنين‬ ‫ككل ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ويقبلني على جبيني‬ ‫بعتابه الجميل‪ِّ ،‬‬
‫التي تكبرني أضعاف ًا‪.‬‬
‫بتخرج ابنه‪ ،‬وكم‬ ‫ُّ‬ ‫عندما أذهب لل ِّزيارة‪ ،‬يسعد كما يسعد األب‬
‫المطول‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫نأخ�ذ م�ن الوق�ت في الحديث! هو عضلت�ي في الحديث‬
‫ح ّتى أ ّن تلك الخالة‪ ،‬أصبحت تحترم وجودي معهم‪ ،‬وترخي لؤمها‬
‫الكل‬
‫ُّ‬ ‫أكثر‪ ،‬ألنني أعرف كيف أتعامل مع شيخ البيت الذي أصبح‬
‫للعصبية التي تنشدها السنون التي‬ ‫ّ‬ ‫يجد صعوبات في الحديث معه‪،‬‬
‫تكدس�ت في جس�ده‪ ،‬وال ّظاهر أن نفورهم من طلباته المتكاثرة هو‬ ‫َّ‬
‫أصبحت األداة‬
‫ُ‬ ‫م�ا جعله�م ش�ديدي العج�ز في تلبيتها‪ ،‬ولهذا فق�د‬
‫بالرضى‪ ،‬كما يش�عرني هو بالبر‪ ،‬وبخصلة ش�عر‬ ‫التي تجعله يش�عر ّ‬
‫أتعمد أن أحادثه أكثر‪ ،‬فقط لسماع رنّتها‬ ‫أمي‪ ،‬ولمستها التي مضت‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مرة زرته فيه�ا كانت في عيد األضحى‬ ‫ّ‬ ‫آخر‬ ‫حضوره�ا‪.‬‬ ‫م�ن‬ ‫وج�زء‬
‫ال�دور العل�وي حيث كنت‬ ‫الماض�ي‪ ،‬وق�د هيمن�ت أن�ا وه�و على ّ‬
‫يخص العمل وأحوال الش�ركة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫نتحدث عنه‬ ‫ّ‬ ‫وج�ل م�ا كنا‬
‫ُّ‬ ‫أس�كن‪،‬‬
‫أما البقية فقد كان حديث أصدقاء لم َير بعضهم بعض ًا منذ زمن‪.‬‬
‫وأفضل أن أزوره في أواخر مارس‬ ‫ّ‬ ‫ما ِزلنا في منتصف فبراير‪،‬‬
‫الرفض عندما‬ ‫عق�ب ع�رس أح�د أقرباء زوج خالتي‪ .‬لم أقدر على ّ‬
‫متقبالً رغم عدم‬ ‫السابق ُليخبرني‪ .‬كنت ّ‬ ‫ا ّتصل بي زوجها في الشهر ّ‬
‫اجتذاب�ي للحفلات واألع�راس‪ ،‬فلم يكن زوجها ش�خص ًا س�أقف‬
‫فقبلت‬
‫ُ‬ ‫الرفض‪،‬‬ ‫بجدي حاجز ًا أزال ع ّني ّ‬ ‫ضد دعوته‪ ،‬وكان اعتناؤه ّ‬ ‫َّ‬
‫سأتهرب من ذلك‬ ‫ّ‬ ‫الدعوة على مضض‪ .‬لن يكون األمر سيئ ًا‪ ،‬ألنّني‬ ‫ّ‬
‫جدي‪ ،‬عصفوران في‬ ‫ِ‬
‫الصخب الذي سيقام في درك الوقت بصحبة ِّ‬ ‫ّ‬
‫‪117‬‬
‫ثم أُغادر‪.‬‬
‫ليلة واحدة َّ‬
‫وها هو ذا يوم الس�بت ُيغادر كس�ابقيه‪ ،‬ألس�تقبل األحد الذي‬
‫تمقت�ه غري�زة الك�ره المدفون�ة ف�ي ذك�رى والدي‪ .‬ال أرت�اح لمدته‬
‫قدرية‪ ،‬فهو األول‬
‫ّ‬ ‫الزمني�ة‪ ،‬أخ�اف الخيان�ة في أي لحظة‪ ،‬فس�اعاته‬
‫المقدمة وهو يوم عطلة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫في األسبوع‪ .‬سخري ٌة أن يكون األحد في‬
‫فضل ارتقاب‬ ‫وي َّ‬‫كأن اإلنسان جعله أضحية لوحدته‪ ،‬كأنّه سوء حظ‪ُ ،‬‬
‫تم�ر عل�ى مه�ل ف�ي تج ُّنب عزلت�ه عن باق�ي األيام‬ ‫س�اعاته وه�ي ُّ‬
‫األخرى‪.‬‬
‫أحب هذا اليوم بدالً من مقته؟‬‫َّ‬ ‫علي أن‬
‫أكان يجب َّ‬
‫ربما!‬
‫ّ‬
‫إلاّ أنّي أكرهه ألن جميع البدايات التي حيكت بي حدثت فيه‪،‬‬
‫أحمل منه نبذ ًة ما‪ .‬سحق ًا‪،!..‬‬
‫ُ‬ ‫شك أنّي‬
‫وهو يوم والدتي الثّانية‪ ،‬وال ّ‬
‫أك�ره أن أصب�ح ي�وم عطلة‪ ،‬مراقبة الوقت وهو يمر زاحف ًا‪ ،‬تجعلني‬
‫مائع ًا‪ .‬أحاول دائم ًا أن أحقنه بالمغادرة‪ ،‬أذهب إلى سعد‪ ،‬أو أحمل‬
‫سيارتي ألزور البحر‪.‬‬‫ّ‬
‫وكل أفعالي‬
‫لكن مهما كنت أفعل‪ ،‬يصنع بي ما يشاء في مدته‪ُّ ،‬‬
‫تصدر عنه‪ ،‬فهو ُيعطي تأشيرة الحرية‪ ،‬وأنا أكره تلك الحرية أكثر‪.‬‬
‫اسقُطي ع ّني يا حرية األحد!‬

‫‪118‬‬
119
‫‪I‬‬

‫غبية؛ ق ّل ُ‬
‫مت‬ ‫انتقم�ت م�ن األح�د الليلة الماضية‪ ،‬بفعل أش�ياء َّ‬ ‫ُ‬
‫وعدت في‬
‫ُ‬ ‫لخرج�ت‬
‫ُ‬ ‫أخرج�ت القمام�ة‪ ،‬ول�وال المرض‬‫ُ‬ ‫أظاف�ري‪،‬‬
‫دت ليل�ه بلعب�ة فيديو في‬ ‫منتص�ف ال ّلي�ل ألنته�ي من�ه س�ريع ًا‪ّ .‬‬
‫ش�ر ُ‬
‫مسلية كالجرائد‪ ،‬قرأت النكات في آخر‬ ‫ّ‬ ‫الباليستيشن‪ ،‬وقراءة أشياء‬
‫صفحاته�ا‪ ،‬وع�ن اعتق�ال مجرمين وتفكي�ك خاليا إرهابية في مدن‬
‫أي ق�ارئ يق�رأ للمرة الثانية ف�ي حياته جريدة‪ ،‬لم‬ ‫مج�اورة‪ .‬ومث�ل ِّ‬
‫وينافق‬ ‫تهمن�ي ح�روب األديان والمج�ازر التي يكذب فيها بعضهم ُ‬ ‫ّ‬
‫السياسي بنصرة‬ ‫ِ‬
‫فيها بعضهم اآلخر‪ ،‬ولم يستجد جني رأي ال ّتعبير ّ‬
‫نظام ومعارضة آخر‪ ،‬ألنّي أسمع وأسمع عن تغيرات ستطرأ‪ ،‬وفي‬
‫يتغير شيء‪ ،‬ويبقى المواطن هو هو‪.‬‬ ‫األخير ال ّ‬
‫تأمل�ت‪ ،‬قب�ل مغادرت�ه ألن�ام‪ ،‬حيل�ه الخبيث�ة الت�ي كانت مثل‬ ‫ّ‬
‫لعهرها الذي‬ ‫ِ‬
‫السيناريو ُ‬
‫لشدة عدم مماثلة ّ‬ ‫كواليس مسرحية ُحذفت‪ّ ،‬‬
‫رت أن أمحو ذاكرتي منه بالنوم‬ ‫ِ‬
‫لدي‪ ،‬وقد ُ‬ ‫ُينافي نواميس االستقامة ّ‬
‫أمالً ضعيف ًا في استقبال اليوم الذي يليه‪.‬‬
‫***‬
‫متعب� ًا كالع�ادة اس�تيقظت‪ُ ،‬مجه�د ًا ُ‬
‫بحثالة األم�س وخوارجه‪.‬‬
‫كل صباح‪.‬‬
‫فقت في موعدي المعهود‪ .‬قمت بأموري االعتيادية في ّ‬ ‫أَ ُ‬
‫‪121‬‬
‫السابعة وعشرين‬ ‫أرسلت في ّ‬ ‫ُ‬ ‫بعد أن ِ اكتملت هيئة صباحي بمثاليتها‪،‬‬
‫زت نفسي‬ ‫جه ُ‬‫خبره فيها بأنّي سأَ ْق ُد ُم اليوم‪ّ .‬‬ ‫دقيقة رسال ًة إلى سعد أُ ُ‬
‫ف�ت به من قِبل ِ‬ ‫ونس�خت العمل الذي ك ّل ُ‬ ‫ُ‬ ‫بهندم�ة العم�ل المعت�ادة‪،‬‬
‫جد ًا بما قمت به من إضافات‪.‬‬ ‫المدير الذي سيسعد ّ‬
‫أنهي�ت م�ا تبقّى من كأس ال ّش�اي المؤقت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اقترب�ت ال ّتاس�عة‪.‬‬
‫والتي سيطول عناقي لها على ما أعتقد‪ ،‬إلى حين عودة قهوتي لتعيد‬
‫سألت الطبيب عن‬ ‫ُ‬ ‫صقل األثر في عروقي بنشوتها المركّ زة‪ .‬عندما‬
‫ٍ‬
‫متى ُيمكنني العودة إلى شربها‪ ،‬لم يفدني سوى بجملة قصيرة‪ ،‬قال‬
‫لي‪« :‬أنا ال أتو ّقع األمور‪ ،‬ولك ّنك ستعرف متى»‪ ،‬كأنّه جعل خيارها‬
‫ولكن كالمه‬
‫َّ‬ ‫أي وق�ت‪ ،‬ل�م أعرف ح ّق ًا م�ا كان يعنيه‪،‬‬ ‫مفتوح� ًا ف�ي ّ‬
‫حدد يتناسب مع‬ ‫كان فيه نبوءة ما‪ ،‬وأ ّن عودتها ستكون في زمان ُم ّ‬
‫رغبة تضاؤل مرضي‪.‬‬
‫وأغلقت أزرار معطفي ثم خرجت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وضعت المفاتيح في جيبي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الدنيا غريبة بعض‬ ‫�دت س�يارتي ف�ي طريقي االعتيادي‪ .‬بدت ل�ي ُّ‬ ‫ُق ُ‬
‫كل‬
‫عبده ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫غربتن�ي عن ال ّطريق الذي‬
‫كن�ت أ ِّ‬ ‫ال ّش�يء‪ .‬س� ّتة أي�ام فقط ّ‬
‫زائر للمرة األولى‪ ،‬وكأ َّن هذا اليوم‬ ‫ش�عرت كأنّني ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يوم ٍ بالعجالت‪،‬‬
‫الضوء‬
‫الجانبية‪ ..‬وعاتبني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ه�و أول أي�ام عملي‪َ .‬عمتني الملصق�ات‬
‫األحم�ر عل�ى غياب�ي‪ ..‬وخضخضتني مطب�ات‪ ..‬وصرخ في وجهي‬
‫جد ًا‪ ،‬وكان‬ ‫يشدني ّ‬ ‫وشعرت أن حزام األمان ُّ‬ ‫ُ‬ ‫سائق أجرة غاضب‪..‬‬
‫مع�د ُل الس�رعة ينزل�ق م�ن يدي من حين إلى حي�ن‪ ..‬وكان المقود‬ ‫ِّ‬
‫كل قطعة غيار في س�يارتي‬ ‫ش�عرت بأ ّن َّ‬
‫ُ‬ ‫ُيقاوم ويستس�لم لوجهتي‪.‬‬
‫تش�كو من غيابي‪ ،‬ح ّتى باب العمارة الذي دلفته س�ابق ًا قد أس�مع‬
‫صرير ًا لم ُيسمع من قبل!‬
‫‪122‬‬
‫م�ا بِ�كِ ي�ا مدينتي‪ ،‬وما بكِ يا أش�يائي‪ ،‬هل غي�اب الموجوع‬
‫فرحبتم به معاكسةً؟‬ ‫لوجوده‪ّ ،‬‬ ‫أشعركم بالحنين ُ‬
‫الزجاجي حيث يدخل‬ ‫توجهت نحو الباب ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫سيارتي‪َّ ،‬‬ ‫ركنت ّ‬ ‫ُ‬
‫المو ّظف�ون‪ .‬عندم�ا ولجت‪ ،‬اس�توقفني حارس األم�ن‪ ،‬أخبرني بأ ّن‬
‫خاص‬‫ٌّ‬ ‫دخلت منه‬
‫ُ‬ ‫باب ال ّزبناء من الجهة األخرى‪ ،‬وأ ّن الباب الذي‬
‫بالمو ّظفين فقط‪.‬‬
‫تغير الحارس أيض ًا! هل هذا من فعلك أيض ًا يا خربة البيضاء؟‬ ‫ّ‬
‫أعرب�ت ل�ه بأنّن�ي مو ّظف هنا‪ ،‬وأريته بطاق�ة عملي التي كنت‬ ‫ُ‬
‫رأيت س�عد ًا الذي كان‬
‫ُ‬ ‫صدقني‪.‬‬ ‫أضعها داخل جيب س�ترتي‪ ،‬ولم ُي ِّ‬
‫في الجوار‪ ،‬ناديته ليش�رح للرجل‪ .‬أتى س�عد ُيعانقني على سلامة‬
‫عودتي‪ ،‬وأخبر الحارس في حديثٍ فردي بهويتي‪ ،‬وبدا الهلع على‬
‫الس�ابق‪ ،‬واعتذر مني‪ .‬لم‬ ‫الرئيس ّ‬ ‫الحارس عندما علم بأنّني حفيد ّ‬
‫يب�در م ّن�ي أي ش�يء م�ن القلق على اس�تيقافه لي‪ ،‬فق�د كان يؤ ّدي‬
‫«كنت تقوم بعملك‬‫َ‬ ‫عت الحارس ُمس�الم ًا قائالً‪:‬‬ ‫عمله فحس�ب‪ .‬و َّد ُ‬
‫يا صديقي ليس إلاّ »‪.‬‬
‫أو َل الواصلين وس�عد بعدي‪ ،‬وج ّنبني ذاك أحاديث مع‬ ‫كنت َّ‬ ‫ُ‬
‫زمالء العمل‪.‬‬
‫أمشي أنا وسعد جنب ًا لجنب‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬ ‫ُ‬
‫يجب أن‬‫ُ‬ ‫ش�يء جديد‬
‫ٌ‬ ‫– هل كل ش�يء على ما يرام‪ ،‬أَهناك‬
‫أعلمه؟‬
‫السيطرة!‬
‫كل شيء تحت ّ‬ ‫– ُّ‬
‫صافحت�ه‪ ،‬وافترقن�ا بمفت�رق الطاب�ق‪ ،‬هو يكمل مس�يره ليأخذ‬
‫‪123‬‬
‫قت إلى اسمي المكتوب‬ ‫حد ُ‬ ‫الساللم إلى فوق‪ّ .‬‬ ‫المصعد‪ ،‬وأنا أصعد ّ‬
‫على الباب للحظات «‪ .»M.NADIR‬تعجبني حروفي الفرنس�ية وما‬
‫ش�خص ال يعرفني‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فيه�ا م�ن تضلي�ل‪ ،‬ال ُتن�ذر بفكرة إذا ما قرأها‬
‫إم�ا «نذي�ر‪ /‬ناظر‪ /‬نظي�ر‪ .»...‬كم تك�ون ال ّلغات األخرى‬ ‫س�يقرأها ّ‬
‫لطيفة في تبديل المعنى وتحريفه‪ُ ،‬تخفي األسرار عن الذي يجهلنا‪،‬‬
‫فمعرفة األسماء تؤ ّدي عاد ًة إلى معرفة األشياء‪.‬‬
‫ظنن�ت أنّن�ي س�أجد الم�كان ُمكت ّظ� ًا بالغبار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتح�ت الب�اب‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واعتقدت أ َّن‬
‫ُ‬ ‫وش�احب ًا من جفاف حضوري الذي اعتملته بالغياب‪،‬‬
‫الس�قي‪ ،‬وأن ال ّنوافذ س�تكون مغلق ًة‬ ‫ِ‬
‫�ح ّ‬ ‫نبتتي الخضراء س�تذبل ل ُش ِّ‬
‫كما تركتها‪ ..‬إلاّ أني فوجئت‪ ،‬وجدتها مليئة بالحياة؛ نبتتي مرتوية‪،‬‬
‫وتي ٌار هوائي يروح في أوراقٍ فوق المكتب‪ ،‬وكان المكان منتعش� ًا‬ ‫ّ‬
‫دخلت المكتب‬ ‫ظننت أنّ�ي‬ ‫م�ر عل�ى أنفي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫برائح�ة عط�ر س�بق أن ّ‬
‫الخطأ للحظات!‬
‫شيء ما غريب في هذا اليوم!‬ ‫ٌ‬
‫ِّب عن دليل يختصر األحداث‬ ‫جيد ًا‪ ،‬أُنق ُ‬
‫حوقل�ت ف�ي الم�كان ّ‬ ‫ُ‬
‫وضعت حقيبة يدي فوق س�طح‬ ‫ُ‬ ‫والج�و ال�ذي ل�م آلف�ه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫المفاجئ�ة‬
‫أتعرف إلى ما حدث‪ ،‬فعالقتي وطيدة بالمكان‪،‬‬ ‫حاولت أن َّ‬ ‫ُ‬ ‫المكتب‪.‬‬
‫لفت انتباهي ش�يء‪ ،‬س�طح‬ ‫جي�د ًا‪َ .‬‬ ‫وكل األش�ياء تعرفن�ي وأعرفه�ا ّ‬ ‫ُّ‬
‫طهر‪،‬‬ ‫بم ِّ‬‫طهره ُ‬ ‫المكتب كان ممس�وح ًا بعناية‪ ،‬وليس من عادتي أن أُ ِّ‬
‫كحبة ش�كوالتة ذائبة‪.‬‬ ‫البني القاتم يبدو المع ًا ّ‬ ‫ِّ‬ ‫كما أ َّن دهان خش�به‬
‫ربما‬ ‫وتشاكلت بين نفسي والمقعد! ّ‬ ‫ُ‬ ‫كرس�ي المكتب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جلس�ت على‬ ‫ُ‬
‫غير ُليناسب‬ ‫تغير جسدي فلم يتالءم معي‪ ،‬أو أ َّن معياره َت َّ‬ ‫أنا الذي ّ‬
‫مرفقي على المكتب ورادفت يد ًا على‬ ‫ّ‬ ‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫شخص ًا آخر غيري‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫ورحت أُفكِّ ر في ما يحدث من هذا‬ ‫ُ‬ ‫وضع�ت يدي عليهما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي�د‪ ،‬ث�م‬
‫إما أنّه أصبح ينفرني لغيابي‬ ‫أشك في أ ّن هذا المكان ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بدأت‬
‫ُ‬ ‫الصباح‪.‬‬
‫ّ‬
‫رحبت بي األشياء األخرى معاكسة‪.‬‬ ‫يرحب بي كما ّ‬ ‫وإما أنّه ّ‬
‫يتبق سوى تفسير وحيد للمفاجأة‪ ،‬ال ّظاهر أ َّن أحد ًا ما عمل‬ ‫لم ّ‬
‫قت بنظري أسترجع خارطة المكان؛ خزانة‬ ‫هنا في غيابي مؤ َّقت ًا‪ .‬ح ّل ُ‬
‫السادس‬ ‫الرمادية على اليمين‪ ،‬صور ٌة كبيرة للملك محمد ّ‬ ‫السجالت ّ‬ ‫ّ‬
‫مع ّلق� ٌة عل�ى الج�دار ال�ذي خلف�ي‪ ،‬ال ّناف�ذة العريضة على اليس�ار‪،‬‬
‫يطوق طول وعرض‬ ‫الس�تائر الحمر الفاتحة‪ ،‬معدن األلمنيوم الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫تطل على نخلة طويلة بش�ارع ممتد ال يرتاح من وقع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫النافذة التي ُّ‬
‫تتوس�طه لمبة‬ ‫ّ‬ ‫الس�قف األبيض الذي‬ ‫األقدام وحش�رجة العجالت‪ّ ،‬‬
‫ُرية صغيرة‪.‬‬ ‫ُمزخرفة بزينة ُتحيطها تبدو كث ّ‬
‫أدنيت نظري إلى المكتب‪ ،‬لم ينقص منديل ورقي أو زاد في‬ ‫ُ‬
‫كل شيء في مكانه كما تركته‪،‬‬ ‫علبة المحارم الورقية الخضراء‪ .‬كان ُّ‬
‫األقالم في العلبة األسطوانية‪ ،‬وصورة صغيرة لوالدي ووالدتي في‬
‫الصغير في الركن‪.‬‬ ‫إطار أضعه فوق المكتب‪ ،‬وعلم المغرب ّ‬
‫نسيت شيئ ًا‪ ،‬لم‬ ‫ُ‬ ‫اكتفيت من إعادة روحي إلى المكان‪ ،‬لك ّنني‬ ‫ُ‬
‫وعدت أجلس‬ ‫ُ‬ ‫الصغيرة‪،‬‬ ‫حملت الس� ّلة ّ‬ ‫ُ‬ ‫أنظر إلى س� ّلة المهمالت‪.‬‬
‫حملت بضعة أوراق ُمنكمش�ة وفتحته�ا‪ ،‬كان أغلبيتها‬ ‫ُ‬ ‫ف�ي مكان�ي‪.‬‬
‫تبين لي عدم‬ ‫صت منها حين ّ‬ ‫يعود لي وحدي كنت نس�ختها وتخ ّل ُ‬
‫وجدت أخير ًا‬
‫ُ‬ ‫أعهد أنّي رميتها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وج�دت ورق� ًة ال‬ ‫ُ‬ ‫نفعيته�ا‪ ،‬إلاّ أنّ�ي‬
‫تخص‬ ‫ُّ‬ ‫أش�ياء ال‬
‫ٌ‬ ‫ق بها‬
‫دلي�ل اإلدان�ة ال�ذي كن�ت أبحث عن�ه‪ ،‬أورا ٌ‬
‫�ي األربعاء والخميس الفارطين‪.‬‬ ‫يوم ْ‬‫تخص َ‬ ‫ُّ‬ ‫م�ا أق�وم به‪ ،‬وال ّتواريخ‬
‫تعرجات الورقة أبحث عن اسم‪.‬‬ ‫َّبت في ُّ‬ ‫وحددتها بيدي‪ .‬نق ُ‬ ‫ّ‬ ‫حملتها‬
‫‪125‬‬
‫أي اسم‪ ،‬لكن ما نفع األسماء إذا ما ُوجد تاريخ الوقوع‪،‬‬ ‫لم أجد َّ‬
‫نسبي إلى‬
‫ٍّ‬ ‫يتحو ُل بها من شيء‬
‫ّ‬ ‫فال ّتاريخ ثغرة األشياء‪ ،‬وال ّطفرة التي‬
‫حقيقة مشهودة مطلقة‪.‬‬
‫تجاهل�ت الم�كان واألحداث بع�د حصولي على ُمرادي‪ ،‬ولم‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ُص ال ّش�خص الذي دخل هنا دون‬ ‫أش�غل نفس�ي بعدها بش�يء يخ ُّ‬
‫الرئيس�ي إلاّ‬‫يتحرك المفتاح ّ‬
‫ّ‬ ‫إذني‪ ،‬أل َّن األمر س�يكون رس�مي ًا‪ ،‬فال‬
‫تغاضيت عما كان يزعجني ريثما تنتهي س�اعات‬ ‫ُ‬ ‫بأم�ر م�ن المدير‪.‬‬
‫�ص األم�ر عل�ى س�عد‪ .‬كان ُيمك�ن أن أ َّتصل ب�ه وأُنهي‬ ‫عمل�ي وأ ُق ُّ‬
‫الحوار‪ ،‬لك ّني أحتاج أن أُركِّ ز لكي ال تهزمني األرقام‪ ،‬وأحتاج أن‬
‫أرتاح إلى عملي ُمركِّ ز ًا في إعادة نمط َشغل نفسي‪.‬‬
‫فكتمت أس�ئلتي‪ ،‬وهو أيض� ًا لم ُيعر‬
‫ُ‬ ‫ا َّتص�ل ب�ي س�عد مرتين‪،‬‬
‫والمرت�ان كانت�ا في طلب تس�جيل حس�ابات جديدة‬ ‫ّ‬ ‫أهمي�ة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لألم�ر‬
‫لعمالء جدد‪.‬‬
‫جاءن�ي ا ِّتص�ال للحضور عند المدي�ر‪ ،‬لتقديم طلبه المتواضع‬
‫ب بي‪،‬‬ ‫رح َ‬
‫وتوجهت إليه‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫لت األوراق في يدي‬ ‫حم ُ‬‫الذي ك ّلفني به‪َ .‬‬
‫كرس�ي قبالة مكتبه العريض‪ .‬س�ألني عن‬ ‫ٍّ‬ ‫طلب م ّني الجلوس على‬
‫جدي أيض ًا‪ ،‬فأجبته في‬ ‫بالحمى‪ ،‬وعن ّ‬
‫ّ‬ ‫وصحتي التي ُغ َّشت‬ ‫ّ‬ ‫أخباري‬
‫ثم طلب م ّني ما طلب‪ .‬أعطيته الملف‪،‬‬ ‫إيجاز «الحمد هلل – بخير»‪َّ ،‬‬
‫وبدا على وجهه الرضا وال ُّشكر‪ ،‬قال لي‪« :‬لم يكن عليك أن تك ِّلف‬
‫نفس�ك بهذه اإلضافات»‪ ،‬كأنّه اس�تحى م ّني ومن إرهاقي لنفس�ي‪،‬‬
‫ولم أجد جمل ًة أنسب أُجيبه بها‪ ،‬والتي كانت لفولتير‪:‬‬
‫‪ «Travaillons sans raisonner… C’est le seul moyen de rendre la‬‬
‫‪vie supportable».‬‬

‫‪126‬‬
‫هضمت شكره‬ ‫ُ‬ ‫ضحك س ّنه‪ ،‬و َشكَ رني على مثاليتي في العمل‪،‬‬
‫مت من مكاني ألُغادر‪ ،‬بادلته ال ّتحية‬ ‫في انزعاج من اإلطراء كتم ًا‪ُ .‬ق ُ‬
‫لو ُح بيدي سلام ًا علي�ه‪ .‬كان يجب عليه أن يعلمني‬ ‫ُ‬
‫وغادرت�ه وأن�ا أ ِّ‬
‫بما حدث في غيابي‪ ،‬أو أنّهم كلُّهم ظ ُّنوا أني ال أُمانع في أن يشغر‬
‫معذور على أي‬ ‫ٌ‬ ‫أحده�م م�كان عمل�ي في غيابي بدون إذن؟‪ ،‬لك ّنه‬
‫ويكتب‬
‫ُ‬ ‫إلي‪،‬‬
‫ث ّ‬ ‫يتحد ُ‬
‫َّ‬ ‫حال‪ ،‬فقد كان مش�غوالً كما رأيت‪ ،‬فقد كان‬
‫وينظر إلى الحاسوب تار ًة أخرى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫شيئ ًا تار ًة‬
‫يأخذ دقيقتين من مكتبه إلى‬ ‫ُ‬ ‫عدت إلى المس�ار ال ّطويل الذي‬ ‫ُ‬
‫و«السلام عليكم»‬ ‫ّ‬ ‫ابتس�مت‬
‫ُ‬ ‫مكتب�ي‪ ،‬وتالق�ت عين�اي م�ع زملاء‪،‬‬
‫الحظ لم يس�توقفني أحد‬ ‫ِّ‬ ‫مراتٍ عديدة من قِبلي‪ ،‬ولحس�ن‬ ‫تكررت ّ‬ ‫ّ‬
‫ليسألني عن غيابي‪.‬‬
‫نف�رت من جذبها لي‪ ،‬ول�م أطل ال ّنظر‬ ‫ُ‬ ‫رأي�ت ماكين�ة القه�وة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫عدت إلى مكتبي‪ ،‬أدخل أرقام ًا تار ًة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في ش�هوتي وإدماني للقهوة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يصب‬‫ُّ‬ ‫وكل شيء‬ ‫وأستقبل طلبات تار ًة‪ ،‬وأ َّتصل بزمالء تار ًة أخرى‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ف�ار ًا من عدالة ال ّنفس وأوجاعها‪،‬‬ ‫ف�ي العمل نفس�ه‪ ،‬فيجعلني ذلك ّ‬
‫ضد األلم؟ وها أنذا‬ ‫ٍ‬
‫يزودنا بمناعة َّ‬ ‫ألم يقل «شيش�رون» بأن العمل ِّ‬
‫أفعل بنصيحت�ه‪ ،‬مناع ٌة مؤ ّقتة وع�ود ٌة دائمة‪ ،‬كأنِّي‬ ‫ُ‬ ‫زل�ت‬
‫ُ‬ ‫أفع�ل وم�ا‬
‫كد ُس األوجاع تحته‬ ‫وي ِّ‬ ‫كل صباح إلى األعلى ُ‬ ‫يرتفع ّ‬
‫ُ‬ ‫منحنى‬
‫ً‬ ‫أرسم‬
‫سيزيفي ًا‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ثم ينزل في ال ّليل مطأطئ ًا ومخذوالً‪ .‬لربما ُ‬
‫كنت‬ ‫بال ُّشغل‪َّ ،‬‬
‫وتنفلت عن غير قصد‬ ‫َ‬ ‫أرفع صخرة الحياة عالي ًا لتصل إلى ذروتها‪،‬‬
‫الكرة نُزوالً نحوها‬ ‫مجبول على ُمعاودة ّ‬ ‫ٌ‬ ‫والساخر أنّني‬
‫إلى األسفل‪ّ ،‬‬
‫أزلي ًا‪،‬‬
‫وحكم ًا ّ‬ ‫لحملها نحو األعلى مرار ًا وتكرار ًا‪ .‬قد تكون عقوبة ُ‬
‫لك ّني أعلم دون حدس‪ ،‬أنّي سأنتهي م ّني دون شك‪ ،‬فاألشياء تنتهي‬
‫‪127‬‬
‫عندما ال تبقى أحالم نريد وصولها‪ ،‬وليس�ت ُمبتغياتي كأي إنس�ان‬
‫طبيعية فيكبر ويحصل على عمل‪ ،‬وبعدها َيعقُد‬ ‫ّ‬ ‫عادي؛ أن يحيا حيا ًة‬
‫فتزوجها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أحبها‬
‫قرانه على امرأة َّ‬
‫التش�بث بأحالم‬
‫ّ‬ ‫نف�ع‬
‫طبيعي�ةً‪ ،‬ولك�ن‪ ..‬ما ُ‬ ‫ّ‬ ‫ق�د تك�ون حيات�ي‬
‫ُمتش�ابهة‪ ،‬أال ُيمكنن�ي أن أُخال�ف عقي�دة ه�ؤالء‪ .‬ألي�س لألبط�ال‬
‫خاص�ة لوض�ع األقنع�ة كما لألش�رار الخارقين‬ ‫ّ‬ ‫الخارقي�ن أس�باب‬
‫أس�باب كذل�ك؟! فاالثن�ان حظي�ا بقليل من الحظ الس�يئ وكبوات‬
‫أحدث لهم القدر‪.‬‬‫َ‬ ‫نفسية جعلتهم كذلك‪ ،‬وهم ُيناصرون من أجل ما‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫ش�رير ًا‪ ،‬بل أش�كِّ ُل الحياد في ّ‬
‫ثنائية‬ ‫خير ًا وال ِّ‬ ‫لس�ت خارق ًا‪ ،‬ال ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وأنا‬
‫لست أبيض بقليل ٍ من‬‫ُ‬ ‫ككل بشري وطأ هذه األرض‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الخير وال َّشر‬
‫السواد أو أسود بقليل ٍ من البياض كما ُتشكِّ ُل دائرة الين يانغ‪ ،‬أحب‬ ‫َّ‬
‫والبخل في نفس�ي‪ ،‬ال‬ ‫خلط االثنين مع ًا لكي ال ألتمس اإلحس�ان ُ‬
‫طبيعي عل�ى غير طبيعته‪،‬‬‫ٌّ‬ ‫أُري�د أن آخ�ذ س�م ًة وأنس�ى أُخرى‪ ،‬فقط‬
‫كنت‬
‫يهم إن ُ‬‫الس�عداء‪ ،‬وال ُّ‬ ‫نت منذ القدم محذوف ًا من إلياذة ُّ‬ ‫فقد كُ ُ‬
‫حريتي ألمي‪ ،‬وس�راج‬ ‫بياض ًا نزق ًا أو س�واد ًا طائش� ًا‪ ،‬أوليس نبراس ّ‬
‫ِع َّلتي ُيتمي‪ ،‬وإضاءة ُجرحي قلمي! فال أشياء أملكها لتملكني‪ ،‬فأنا‬
‫ب على الوحدة ال‬ ‫در ٌ‬ ‫وشخص ُم َّ‬ ‫ٌ‬ ‫درب نفسه على الوحدة‪،‬‬ ‫شخص َّ‬ ‫ٌ‬
‫وأما أن ُيعيد‬
‫مر ًة واحدة‪ّ ،‬‬ ‫ش�خص يخس�ر ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُيباح له أن يش�تكي‪ ،‬فهو‬
‫جد ًا‪.‬‬
‫مخجل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مر ًة أخرى‪ ..‬فذلك‬ ‫الكرة ّ‬
‫َّ‬
‫الصادق في كالمه والمنافق‬ ‫وأكثر ما ُيزعجني هو ذلك القول ّ‬
‫س�يتغير»؛ ل�م أكن أعلم أ ّن‬ ‫ّ‬ ‫رت نفس�ك‪ ،‬فالعالم‬ ‫غي َ‬ ‫ف�ي وقع�ه‪« :‬إن ّ‬
‫الذات‬‫المبين في إره�اق ّ‬ ‫العال�م وص�ل إل�ى ه�ذا المكر والخ�داع ُ‬
‫ش�يء بديهي‪ ،‬ويمكن فهمه‬ ‫ٌ‬ ‫بكلمات إيجابية ُتغني وتوجع‪ .‬ال ّتغيير‬
‫‪128‬‬
‫تخ�ص بني� ًة ُمعقَّ�د ًة كال ّنفس البش�رية‪ُّ ،‬‬
‫تغي ُر‬ ‫ُّ‬ ‫وحص�ر ُه ف�ي أش�ياء ال‬
‫كل ما يحدث هو تبديالت‬ ‫تغير‪ُّ ،‬‬‫اإلنسان حقيقة‪ ،‬ولكن العالم لن َي ّ‬
‫يتبد ُل فيها ال ّنظر من أس�وأ إلى أحس�ن‪ ،‬وت َّتضح األصوات‬ ‫طفيفة‪َّ ،‬‬
‫لكن تأثير العالم يبقى هو هو‪ ،‬إن لم ُيكدرك بشكل‪،‬‬ ‫بشكل ُمفاجئ‪َّ ،‬‬
‫سيحاول أن‬ ‫حيث بدأت‪ ،‬لك ّنه ُ‬ ‫ُ‬ ‫سيكدرك بشكل آخر‪ ،‬لن ُيعيدك من‬ ‫ُ‬
‫ذكاء‪،‬‬
‫ً‬ ‫يكون قاس�ي ًا ليلعب معك بش�كل ٍ أفضل‪ ،‬فكُ َّلما ازداد المرء‬
‫صعب�ت الحي�اة بمعايي�ر اإلدراك وال َّتغيير‪ ،‬فق�د ُج َّن كثيرون وانتحر‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫حقن معضلة سحق فكري بذكاء ُمصطنع‪،‬‬ ‫تغير خاطئ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫كثيرون بسبب ُّ‬
‫غير المرء نفسه‪.‬‬ ‫سيتغير إن ّ‬
‫ّ‬ ‫ومعظم هؤالء ظ ُّنوا أ ّن العالم‬
‫كطفلة صغيرة ال‬‫ٍ‬ ‫تلعب ف�ي ذهني‬ ‫وك�م تبق�ى كلمات فرنس�ية‬
‫ُ‬
‫تمل‪:‬‬
‫»?‪«Comment je vais expliquer l’inexplicable‬‬

‫‪129‬‬
‫‪II‬‬

‫ش�ربت فيها قنينة‬


‫ُ‬ ‫الس�اعات الثّالث س�ريع ًا بدون تفانٍ‪،‬‬ ‫مرت ّ‬ ‫َّ‬
‫غلب� ًة لجفاف العادة م�ن القهوة‪ ،‬ولم أتوا َن عن النقر‬ ‫م�اء ونص�ف‪َ ،‬‬
‫على لوحة المفاتيح وضرب أرقام الهاتف األرضي‪.‬‬
‫وتوجهي نحو‬‫ّ‬ ‫ج�اءت فت�رة االس�تراحة‪ ،‬وف�ي لحظة نهوض�ي‬
‫معص�م الب�اب لفتح�ه‪ ،‬قف�زت عالمة اس�تفهام الش�خص الذي مأل‬
‫مدة غيابي‪ ،‬تس�تهوي فضولي‪ .‬رجعت بخطوات إلى‬ ‫مكاني خالل ّ‬
‫رأيت سعد ًا أمام ماكينة‬
‫ُ‬ ‫الدرج‪،‬‬
‫نزلت َّ‬
‫ُ‬ ‫المكتب آخذ ًا أوراقي الثّبوتية‪.‬‬
‫طلب كوبين‪ ،‬وبإشارة ٍ من يده أشار إلى المطعم وأنّي يجب‬ ‫َ‬ ‫القهوة‪،‬‬
‫أش�رت إليه أنا اآلخر‬
‫ُ‬ ‫أن أُالقي�ه هن�اك‪ ،‬كان�ت هذه من غير عاداته‪.‬‬
‫من بعيد بإيماءة رأس أنّي سآتي‪.‬‬
‫غس�لت وجهي أم�ام المرآة الكبيرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذهب�ت إل�ى دورة المياه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أنيق ش�يئ ًا ما‪ ،‬بل أحمل‬‫وفاجأن�ي منظ�ري حقّ� ًا‪ ،‬ب�ل لم ألحظ أنّي ٌ‬
‫وس�ام ًة بائس�ة‪ .‬انتع�ش وجهي بالم�اء البارد‪ ،‬انفتح�ت معه عيناي‪.‬‬
‫ثم‬‫فخلعت ُس�ترتي وحملتها على س�اعدي‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫حار ًا قليالً‪،‬‬
‫كان الجو ّ‬
‫توجهت إلى حيث سعد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫لم أجد سعد ًا في المطعم‪ ،‬فحصت المكان لع ّلي أجده جالس ًا‬
‫الدرج الحلزوني الذي ُيؤ ِّدي‬ ‫صعدت ّ‬‫ُ‬ ‫في مكان ٍ غير مكاننا المعتاد‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫رجعت وأنا‬
‫ُ‬ ‫أي شخص‪.‬‬ ‫إلى طابق ٍ فوق المطعم‪ ،‬وجدته فارغ ًا من ِّ‬
‫س�ألت النادل عن س�عد‪ ،‬فأجابني بأنّه لم يره‬ ‫ُ‬ ‫في حيرة ٍ من أمري‪.‬‬
‫لكن رصيدي بالهاتف كان‬ ‫حاولت اال ِّتصال به‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وأنّه لم يأتِ بعد‪.‬‬
‫وطلب�ت منه أن ُيخبره إذا ما حضر أنّي‬ ‫ُ‬ ‫�دت إلى ال ّنادل‬ ‫ق�د نف�د‪ُ .‬ع ُ‬
‫عدت إلى المكتب وأن ي َّتصل بي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قد‬
‫ع�دت إل�ى مكتب�ي‪ ،‬متس�ائالً عن غراب�ة هذا الي�وم التي يزيد‬ ‫ُ‬
‫بإخالف مواعيده‪.‬‬
‫ذهبت‬
‫ُ‬ ‫جاءن�ي ا ِّتصال�ه بعد عش�ر دقائق‪ ،‬وطلب م ّن�ي القدوم‪.‬‬
‫أجر الخطى‪ .‬كان المطعم يبدو صغير ًا من مكاني‪ ،‬بدا كنقطة تالش ٍ‬
‫ُّ‬
‫الس�راب الذي ُتحدثه‬ ‫لتوس�طه نقطة الفصل بين ش�ارعين‪ .‬أتعبني َّ‬ ‫ُّ‬
‫ال ّشمس على األرض البعيدة المقابلة للمطعم‪ .‬تبقَّت نصف المسافة‬
‫أكملت مسيري‪.‬‬‫ُ‬ ‫ورقي ًا أمسح وجهي‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ّ‬ ‫أخرجت منديالً‬
‫ُ‬ ‫ألصل‪.‬‬
‫وأنا أرى من بعيد‪ ،‬بدا لي كأن ش�خص ًا ما يجلس مع س�عد‪،‬‬
‫أش�حت‬
‫ُ‬ ‫وتبين لي فيما بعد أنّها كانت امرأة‪ .‬لم أبال ِ بال َّنظر كثير ًا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ورحت أتم ّلى في المبنى الذي يضم المطعم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نظري عنها‪،‬‬
‫علي الحص�ار بحضور امرأة!‪..‬‬ ‫م�ا أم�ر س�عد اليوم الذي أدار َّ‬
‫أخاف أن تقرأني‪ ،‬أو ُيزعجهم حضوري‪.‬‬
‫ما بالك يا اثنين‪ُ ..‬تعاكسني أنت أيض ًا!‬
‫اقترب�ت ول�م يرن�ي س�عد بعد‪ .‬بدت لي الم�رأة مألوفة‪ .‬لم أَر‬ ‫ُ‬
‫أدرت الفكرة‬‫ُ‬ ‫لكن بنية جسدها لم تكن تخفى على ذاكرتي‪.‬‬ ‫وجهها‪ّ ،‬‬
‫أبحث عن امرأة ٍ ُتش�ابهها من زميالتي في العمل‪ ،‬لكن‬ ‫ُ‬ ‫في ذهني‪،‬‬
‫لم أجد المواصفات نفس�ها‪ .‬كانا يجلس�ان موازيين لخط قدومي‪،‬‬
‫وينظر نحوي‪ ،‬والمرأة العكس‪ ،‬فكرسيها ُيقابل‬ ‫ُ‬ ‫كرسي سعد قبالتي‬ ‫ُّ‬
‫‪131‬‬
‫حركان أيديهما ويضحكان‪ .‬رآني‬ ‫وي ِّ‬ ‫كرس�ي س�عد‪ .‬كانا يتحاوران‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫ورددت ال َّتحي�ة بتلويح�ة أيض�ا‪ .‬ل�م تلتفت‬ ‫ُ‬ ‫فل�وح ل�ي بي�ده‪،‬‬ ‫س�عد َّ‬
‫تبحث في حقيبته�ا الموضوعة فوق ال ّطاولة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نت رأس�ها‬ ‫الم�رأة‪َ ،‬ح ْ‬
‫جهت مباش�رة‬‫ُ‬ ‫دخلت من الباب الجانبي وكانا هما على يس�اري‪ .‬ا َّت‬ ‫ُ‬
‫أخذت ق ِّنينة ماء صغيرة‪،‬‬‫ُ‬ ‫إلى ثالجة المطعم قبل أن أذهب إليهما‪.‬‬
‫قت‬ ‫متوجه ًا نحو سعد‪َّ .‬‬
‫حد ُ‬ ‫ّ‬ ‫شربت نصفها وحملتها في يدي اليسرى‬ ‫ُ‬
‫تت هي بعد أن رأت س�عد ًا ينظر وراءها‬ ‫إلى لون ش�عر المرأة‪ .‬الت َف ْ‬
‫وقفت وقالت‪« :‬وحيد! ماذا تفعل‬ ‫ْ‬ ‫صدق من كانت‪،‬‬ ‫إل�ى أح�د‪ .‬ل�م أُ ِّ‬
‫بحمى الذاكرة‬ ‫تفاج�أت ح ّق ًا‪ ،‬تبعتني التي أُ‬
‫صبت من أجلها َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هن�ا؟»‪.‬‬
‫رت حينها‬ ‫ِ‬
‫ح ّت�ى إل�ى عمل�ي‪ .‬قلت‪« :‬ماذا تفعلين أنت هن�ا‪..‬؟»‪ .‬فكَّ ُ‬
‫ثم قلت‪« :‬هل كان عملك الجديد في ش�ركتنا؟»‪ .‬س�عد لم‬ ‫س�ريع ًا‪َّ ،‬‬
‫يفهم شيئ ًا‪ ،‬فتد َّخل قائالً‪« :‬كيف تعرفان بعضكما؟»‪.‬‬
‫أكر ُه األسئلة الكثيرة‪.‬‬
‫أخذت مقعدي‪ .‬جلست هي أيض ًا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قال لي سعد‪:‬‬
‫أعرفك بالمو َّظفة الجديدة‪.‬‬ ‫– أفسدت المفاجأة‪ ،‬كنت أريد أن ّ‬
‫موجه ًا كالمه لنجوى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ثم أردف‬
‫حدثتك عنه‪.‬‬
‫– نجوى‪ ،‬هذا صديقي الذي َّ‬
‫شربت‬
‫ُ‬ ‫صدمت‪ ،‬أعتقد أ ّن سعد ًا حكى لها شيئ ًا ع ّني‪.‬‬ ‫بدا كأنّها ُ‬
‫كنت‬ ‫تفاجأت قليالً‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫م�ا تبقَّ�ى م�ن م�اء في الق ّنينة ح ّتى آخر قط�رة‪.‬‬
‫عد هذا أمر ًا‬‫مرتاح ًا بعض الشيء‪ ،‬فهي قرأت قبالً ُجزء ًا م ّني‪ ،‬ولن ُي َّ‬
‫أقلق منه‪.‬‬
‫ووضعت يدي‬‫ُ‬ ‫ووضعت مرفقي األيس�ر على الطاولة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زفرت‬
‫ُ‬
‫‪132‬‬
‫اليمنى وأش�رت إلى نجوى‪ .‬قلت‬ ‫رفع�ت راحة يدي ُ‬
‫ُ‬ ‫عل�ى خ�دي‪.‬‬
‫بشيء من عدم االهتمام‪:‬‬
‫– نجوى جارة لي‪ ،‬وتس�كن في العمارة نفس�ها التي أس�كن‬
‫بها‪.‬‬
‫قلت ممازح ًا‪:‬‬
‫رت نظري إلى نجوى‪ُ ،‬‬ ‫غي ُ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫أي حال‪ ،‬لم ُيقلقك هذا ال ّشقي؟‬
‫– على ّ‬
‫– ال‪ ،‬ال‪.‬‬
‫جدتك إذ ًا‪ ،‬هل هي بخير؟‬
‫– حسن ًا‪ ،‬كيف حال َّ‬
‫– الحمد هلل‪ ،‬كيف حالك أنت؟ ال بل قل لي أوالً‪ ،‬لماذا لم‬
‫أرك هنا من قبل؟‬
‫– أموري بخير اآلن‪ ،‬لم تريني ألنّي أخذت بضعة ّأيام ٍ راحة‬
‫ألسباب صحية‪..‬‬
‫ب�دا كأنّه�ا أدرك�ت األم�ر‪ ،‬وفهمت ما أعني�ه ومتى وقع ذلك‪.‬‬
‫ثم رسمت‬ ‫ٍ‬
‫وأومأت أنا بإشارة غير واضحة برأسي‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫توسعت عيناها‪،‬‬‫ّ‬
‫على وجهي ابتسامة تعرف هي معناها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بجملة قصيرة وسكت‪:‬‬ ‫يت على األمر‬ ‫لك ّني غ َّط ُ‬
‫كنت تعب ًا فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– ‪..‬‬
‫ث‬
‫يتحد ُ‬
‫َّ‬ ‫نتحدث‪ ،‬كان س�عد هو أيض ًا‬ ‫َّ‬ ‫في حين كنت أنا وهي‬
‫في الهاتف‪ ،‬وعندما انتهى واجهته بسؤال‪.‬‬
‫أخرجت الورقة من جيبي ومددتها أمامي‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– س�عد! ق�ل ل�ي‪ ،‬أتع�رف لمن هذه‪ ،‬يبدو أ َّن أحد ًا اس�تعمل‬
‫مكتبي مؤ َّقت ًا‪.‬‬
‫قال لي‪:‬‬
‫‪133‬‬
‫– نعم أعرفه‪.‬‬
‫– من؟‬
‫– إنّها تجلس بجانبك‪.‬‬
‫دعكت جبيني‪:‬‬
‫ُ‬
‫شمي استشعرت بأ َّن العطر كان مألوف ًا‪..‬‬ ‫قلت أ ّن ّ‬
‫حاسة ِّ‬ ‫– لقد ُ‬
‫زعج�ت كثي�ر ًا صراح�ةً‪ .‬أن يأخ�ذ مكان عمل�ي رجل أقبلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أُ‬
‫الرفض‪.‬‬
‫شيء يقبل َّ‬
‫ٌ‬ ‫لكن امرأة‪..‬‬
‫بعد لحظات قلت‪:‬‬
‫ِ‬
‫– أ ُتبلين جيد ًا؟ هل الءمك المكان؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫السي سعد!‬ ‫– بال ّطبع‪ ،‬بال ّطبع! اهلل يخلي لينا ّ‬
‫ضد ما أُفكِّ ر فيه‪.‬‬
‫كنت آمال أن ُيجيبني سعد َّ‬ ‫ُ‬
‫قلت له‪:‬‬
‫– هل هي معنا في المجموعة؟!‬
‫تد َّخلت هي قائلة‪:‬‬
‫– وهل وجودي يضر؟!‬
‫قال لي سعد‪:‬‬
‫ِ‬
‫– أسيدي‪ ..‬ه ّنينا‪ !..‬اترك المرأة في شأنها‪ ..‬ال تبدأ!‬
‫قلت‪:‬‬
‫جيدة بما‬
‫– ال‪ ،‬تب�دو جريئ�ة‪ ،‬يب�دو أنّها تنتمي إلينا‪ ،‬أس�ئلتها ّ‬
‫يكفي لكي ال تكون عقب ًة في الطريق‪.‬‬
‫ضحكت نجوى من قولي‪.‬‬
‫أردفت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪134‬‬
‫– عل�ى أي ح�ال‪ ،‬مرحب� ًا بكِ معنا‪ ،‬إذا ما احتجت ش�يئ ًا‪ ،‬أنا‬
‫في الخدمة‪.‬‬
‫ثم أردفت‪:‬‬
‫ووقفت‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫قلت كالمي‬
‫ُ‬
‫لدي أشغال يجب القيام بها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫– أترككم هنا‪،‬‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫تتغدى معنا؟‬
‫– ألن ّ‬
‫لست جائع ًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– ال يا صديقي‪،‬‬
‫بالرحي�ل‪ ،‬قالت نجوى بعد أن أمس�كت ذراعي‬‫�م ّ‬‫قب�ل أن أ ُه َّ‬
‫وأوقفتني ألسمع منها شيئ ًا‪:‬‬
‫– آسفةٌ‪ ..‬لم أكن أعلم‪.‬‬
‫نزعت يدها‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫تتحدث‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ابتسمت كأنّي ال أعلم عن ماذا كانت‬ ‫ُ‬
‫بتخيل مرارتي وبأنّني رجل بائس ال يقبل ال ّش�فاء‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بعد أن أُش�بِعت‬
‫ابتلعت اعتذارها ُمغادر ًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫لك�ن مواجه�ة ذل�ك الك�م م�ن‬ ‫َّ‬ ‫كن�ت جائع� ًا‪،‬‬‫ُ‬ ‫ف�ي الحقيق�ة‬
‫جيد ًا أنّها لحوحة في‬ ‫ٍ‬
‫ف من امرأة أعرف ّ‬ ‫االستجوابات التي لن تكُ ّ‬
‫لكن ذلك لم‬ ‫طلبه�ا وفضولي�ة بع�ض ال ّش�يء‪ ،‬جعلتني أنفر هارب� ًا‪ّ .‬‬
‫علي‬
‫كل ما في األمر أنّه يجب ّ‬ ‫يجعلني أنفر منها أو أكره ُوجودها‪ّ ،‬‬
‫أن أعت�اد وجوده�ا بينن�ا‪ .‬لك ّن�ي في أعماقي‪ ،‬لم أك�ن أريد مواصلة‬
‫ه�ذا المج�يء والذه�اب إلى عري�ن المتاعب الجدي�د الذي يواجه‬
‫أقرر وضع حظر لي لذهابي‬ ‫ربما سوف ّ‬ ‫الذات باألشخاص الجدد‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫إل�ى المطع�م ثاني�ة‪ ،‬وال ّظاهر أن امرأة أتت اليوم‪ ،‬وفي الغد س�تأتي‬
‫اثنتان أو أكثر معها‪ .‬س�أحاول االنقطاع عنهم‪ ،‬فقد تفضحني آداب‬
‫الحديث‪ ،‬فمن الممكن أن ال أر ّد على س�ؤال ُمباش�ر من أش�خاص‬
‫‪135‬‬
‫متأكد كل‬
‫ٌ‬ ‫مستقبلية‪ .‬وسأُهمل سعد ًا قليالً‪ ،‬ألنّي‬ ‫ّ‬ ‫مستقبليين في ّأيام‬
‫ال ّتأكد أنه أينما يكون هو س�تكون معه‪ ،‬فقد بدا بينهما نظرات ما‪،‬‬
‫ظل‬ ‫أي أحد آخر‪ ،‬ش�خص َّ‬ ‫وش�خص مثل�ي يفه�م العي�ون أكثر من ِّ‬ ‫ٌ‬
‫يراق�ب ط�وال حيات�ه ظواه�ر الحياة وهي تمر؛ الفصول‪ ،‬الش�مس‪،‬‬
‫السماء‪ُ ،‬عمال البناء‪ ،‬أصحاب البقالة والباعة‪ ،‬وجوه‬ ‫الليل‪ ،‬المارة‪ّ ،‬‬
‫ال ّناس‪ ،‬عباراتهم ومالمحهم‪...‬‬
‫جيد ًة له هو الذي بحث ما بحث‪،‬‬ ‫وأعتقد أنّها ستكون زيجة ّ‬
‫ب�د أن أح�اول ع�دم الظهور لك�ي ال أنفق رصي�د وقتهما‬ ‫ل�ذا فلا َّ‬
‫وحديثهما بوجودي‪.‬‬
‫اختفيت عن أنظارهما‪ ،‬ويبدو ألنهما هما‬ ‫ُ‬ ‫ابتع�دت كثي�ر ًا ح ّتى‬
‫ُ‬
‫ارتحت أنا من غيابهما‪ .‬لم يرفضاني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أيض ًا ارتاحا من وجودي‪ ،‬كما‬
‫لك�ن أن�ا ال�ذي أرفض حضوري الباهت‪ ،‬ولي�س هذا جديد ًا أيض ًا‪،‬‬
‫وليس هرب ًا أيض ًا‪ ،‬وليس ضعف ًا أو خوف ًا‪ ،‬إنّما هو ع ّفة وحصانة لي‬
‫من ورع ال ّشباب‪.‬‬
‫وأخذت محفظتي من جيب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫عدت إلى المكتب بمعدة خاوية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كل هذه المسافة من أجل النقود لكي‬ ‫السترة‪ ،‬والتي جعلتني أقطع ّ‬
‫أم َّر من ال ّشارع‬
‫ُطى ُمسرعة‪ ،‬ولم ُ‬ ‫عدت بخ ً‬ ‫ُ‬ ‫يسد جوعي‪.‬‬ ‫أشتري ما ُّ‬
‫نفسه الذي هما فيه‪ .‬جلست في أحد المطاعم البعيدة عنهما‪ ،‬وحدي‬
‫ٍ‬
‫ويبردها‪.‬‬ ‫ش على روحي ُ‬ ‫بد من سائل ٍ ما ُي َر ُّ‬ ‫مع ق ّنينة ماء ُتطفئني‪ ،‬فال ّ‬
‫ومريح مع ًا‪ ،‬تجعلك‬‫ٌ‬ ‫رهي�ب‬
‫ٌ‬ ‫عجي�ب م�ا تفعله الوحدة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ش�يء‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء‪ ،‬فقط لتحظى به�دوء ما ُيعيدك إلى صوابك‪،‬‬ ‫ته�رب م�ن ِّ‬ ‫ُ‬
‫الذات وعاداتها‪ ،‬فدائم ًا‬ ‫أنانية ّ‬ ‫أو باألحرى ليس الوحدة وحدها‪ ،‬بل ّ‬
‫وسائل ما وبضعة حروف‬ ‫فت الجلوس وحدي في المكان‪ ،‬أنا‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ما أل ُ‬
‫‪136‬‬
‫عصية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأرقام‪ ،‬وأحيان ًا مع بضعة أفكار‬
‫وجلس�ت أنتظر م�دة تحضيرها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫س�لطة كبير ًا‪،‬‬ ‫طلب�ت صح�ن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أفك رموز أحجيات أشغل بها االنتظار ح ّتى‬ ‫أعبث بهاتفي‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫حت‬‫ُر ُ‬
‫تأتي الوجبة‪.‬‬
‫حل ٍ‬
‫لغز لم أس�تطع اإلجابة عنه‪ ،‬اهت َّز‬ ‫�ر في ّ‬ ‫عندم�ا كن�ت أفكِّ ُ‬
‫نظرت إلى رقمها‪ .‬لم‬ ‫ُ‬ ‫نصي�ة‪ .‬فتحتها‪،‬‬ ‫هاتف�ي بيدي لوصول رس�الة ّ‬
‫الرس�الة‪« :‬هذا رقمي»‪ .‬هل كانت‬ ‫الرقم‪ .‬كان محتوى ِّ‬ ‫أتعرف لمن ّ‬
‫يتكو ُن من‬‫ّ‬ ‫صية جواب اللغز الذي‬ ‫الرسالة ال ّن ّ‬ ‫مصادفة؟ فقد أعطتني ِّ‬
‫الرسالة‪.‬‬ ‫حت إلى لغز صاحب ّ‬ ‫ور ُ‬ ‫أجبت على اللغز‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثالثة أحرف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫الرقم أو صاحبته‪.‬‬ ‫أول تخمينة كانت في مح ّلها‪ ،‬فقد عرفت صاحب ّ‬ ‫َّ‬
‫لجدي واألهل»‪ .‬كانت تلك‬ ‫أجبت برسالة رد‪ !OK« :‬أبلغي سالمي ّ‬ ‫ُ‬
‫ياس�مين‪ ،‬ل�م أره�ا من�ذ عيد األضحى الذي تركته�ا فيه في أبهتها‪.‬‬
‫أتذكَّ �ر أن لقاءاتن�ا ل�م تكن تدوم لوقت طويل‪ ،‬حديثنا يكون قصير ًا‬
‫تمر رؤيتها سريع ًة دائم ًا‪ .‬ما زالت ياسمين بالطلة نفسها‪ ،‬ال‬ ‫وعابر ًا‪ُّ ،‬‬
‫قت إلى وجهها كثير ًا منذ لقائنا الفارط أو في لقاءاتنا‬ ‫حد ُ‬ ‫أذكر أنّي ّ‬
‫مرات قليل�ة بعد عودتي من الدراس�ة‬ ‫ُ‬
‫الفارط�ة الت�ي أحصي�ت ف�ي ّ‬
‫بالخارج‪ ،‬وكانت ك ّلها مناس�بات فقط‪ ،‬أعيا ٌد أحضرها وأخرى ال‪،‬‬
‫لذ ٌة ما‪ ،‬بخ ّف ٍة ما‪ ،‬وأحيان ًا بثقل ٍ ما‪،‬‬
‫لك�ن حض�وري يك�ون فيه دائم� ًا ّ‬ ‫َّ‬
‫هج�رت تلك العائلة بذلك العقوق بع�دم االتصال‪ ،‬و ُهجراني‬ ‫ُ‬ ‫فق�د‬
‫الذكرى التي أش َت ُّم فيها والدتي‬ ‫لهم لم يكن سوى هرب من عدوى ّ‬
‫عدت‬‫ُ‬ ‫وضعت أوزاري؟! وسيكون مؤلم ًا إن أنا‬ ‫ُ‬ ‫أوليس عندهم‬ ‫َ‬ ‫فيهم‪،‬‬
‫وجدت مكاني هناك ح ّق ًا‬ ‫ُ‬ ‫بكل ُعقدها وبساطتها‪ ،‬ولو‬ ‫ألعيش األمور ّ‬
‫الرحيم�ة‪ ،‬فقدري أن أتبع ن�ور اال ِّتكاء على‬ ‫لالزمته�م ألوضاعه�م ّ‬
‫‪137‬‬
‫أتقيد‬ ‫أري�د أن َّ‬
‫ُ‬ ‫عضل�ة نفس�ي فق�ط‪ ،‬فلا أريد ش�فق ًة م�ن أحد‪ ،‬وال‬
‫أحن‬
‫ُّ‬ ‫بشروط أحد‪ ،‬وال أريد أن أكون عبئ ًا على أحد‪ .‬شقّة عجزي‬
‫أعلم أنّها ستزيدني َعلقم ًا ال غير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رفاهي ٍة‬
‫ّ‬ ‫علي من‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫الس� َلطة ش�امخ ًة بأن�واع خض�ر كثيرة وصلص�ة فوقها‬ ‫ج�اءت ّ‬
‫س�يء إلى معدتي‪ ،‬وب�دأت األكل‬ ‫ُ‬ ‫أزل�ت ال ّطماط�م الت�ي ُت‬ ‫ُ‬ ‫بالجب�ن‪.‬‬
‫أتفس�ح بالمكان‪ .‬بدا المكان خالي ًا بعض الش�يء‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫وأنا ّ‬
‫صحي�ح أ َّن اآلخر ل�ه األفضلية‬ ‫ٌ‬ ‫أفض�ل بكثي�ر م�ن المطع�م اآلخر‪،‬‬
‫في اإلعداد وال ّزينة والمس�احة‪ ،‬لكن ال بأس‪ ،‬أنا رجل بس�يط يقبل‬
‫ببساطة األشياء‪ ،‬وأعتقد أنني سأجعل من هذا المكان موقع ًا للهرب‬
‫والرؤية أفضل‬ ‫قريب من ال ّنافورة‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كل يوم عمل‪ ،‬والجميل أنّه‬ ‫في ّ‬
‫من ذي قبل‪.‬‬
‫أعلمت ال ّنادل‬
‫ُ‬ ‫السلطة‪.‬‬ ‫أنهيت نصف ّ‬ ‫ُ‬ ‫خطرت لي فكر ٌة بعد أن‬
‫بأنّني سأذهب إلى مكان ثم أعود لكي ال يأخذ سلطتي معتقد ًا أنني‬
‫اش�تريت‬
‫ُ‬ ‫ذهب�ت إلى حيث توجد ال ّنافورة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فرغ�ت م�ن األكل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ق�د‬
‫الس�جائر والبالونات وكذا‬ ‫كيس حبوب من بائع بالقرب منها يبيع ّ‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫حت أرمي للحمام ليزدرد‪،‬‬ ‫الصغار فآباءهم‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ألعاب ًا تجذب ّ‬
‫دت إلى مكاني‬ ‫بالعط�اء أكث�ر‪ ،‬وأحببت هديله بق�در ما أزعجني‪ُ .‬ع ُ‬
‫س�تجم ًا بال ّظل ِ الذي‬
‫ّ‬ ‫جلس�ت أُكمل غدائي ُم‬ ‫ُ‬ ‫بع�د أن ف�رغ الكي�س‪.‬‬
‫الذهن‪ ،‬وقد‬ ‫تعكس�ه ش�جرة بالق�رب م ّني‪ .‬كان موقع ًا مثالي� ًا لراحة ّ‬
‫الس�رية التي تخلو من‬ ‫رت فعلاً أن تصب�ح هذه المح ّطة راحتي ّ‬ ‫ق�ر ُ‬
‫ّ‬
‫الضوضاء‪ ،‬والتي ال تخلو من إشراكي بال ّطبيعة‪.‬‬
‫وشبعت ح ّتى آخر صرخة‬ ‫ُ‬ ‫حبة أرز‪،‬‬ ‫السلطة إلى آخر ّ‬ ‫التهمت ّ‬
‫يتبق س�وى نصف س�اعة كي أعود إلى المكتب كي أُعيد‬ ‫بطن‪ .‬لم ّ‬
‫‪138‬‬
‫المرة األولى بعد ّأيامي األولى في‬ ‫ولربما هذه هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ترتيب نفس�ي‪،‬‬
‫جيد ًا‪ ،‬فأنا أريد‬
‫العم�ل أبق�ى إل�ى ما بعد الزوال أعمل‪ ،‬وكان ش�يئ ًا ّ‬
‫ش�عرت بضيق تنفسها‬ ‫ُ‬ ‫الكرس�ي الذي نس�يني‪ ،‬ونبتتي التي‬
‫َّ‬ ‫أن أعتاد‬
‫اشتياق ًا لي‪ ،‬كما أقالمي وأزرار الهاتف ولوحة المفاتيح التي اشتاقت‬
‫ك ّلها بشكل ٍ ُم ِل ٍّح إلى بصمات أصابعي‪ ،‬وكما ألعيد درس ال ّتفاضل‬
‫كل يوم ٍ لغة مالمح‬ ‫كن�ت أقرأ فيه ّ‬‫ُ‬ ‫بي�ن وجه�ي ووج�ه والدي الذي‬
‫كنت أقرأ فيه لغة األمومة والحنان‬ ‫الصبى‪ ،‬وبجانبه وجه أمي الذي ُ‬ ‫ّ‬
‫والعط�ف ال�ذي و ّل�ى‪ ،‬وألضف�ي رائحتي على رائح�ة المكان‪ ،‬فهو‬
‫كل صباح ِ دخول‪ ،‬بكلمات متناقضة أضحك لها‬ ‫ب بي في ّ‬ ‫يرح ُ‬
‫من ِّ‬
‫مرة ٍ لتناقض اللغة الفرنسية التي تستفز العربية بشكل متواطئ‪.‬‬ ‫كل ّ‬
‫أراقب‬
‫ُ‬ ‫فتركت نفسي جالس ًا‬ ‫ُ‬ ‫لم أُرد اختزال الجو الذي أنا فيه‪،‬‬
‫الماء الذي يصعد من وسط النافورة‪.‬‬
‫عندما كنت هائم ًا في فوارة الماء وس�يله من جنبات النافورة‪،‬‬
‫نصية أخرى من ياس�مين‪،‬‬ ‫ر َّن هاتف�ي رنّت�ه المعتادة لوصول رس�الة ّ‬
‫الرسالة ساخر ًة‪« :‬من نهار دفنوه‪ ..‬مجاو زاروه»‪ .‬أبسمتني تلك‬ ‫تقول ّ‬
‫صية التي تأتي دائم ًا كس�ابقاتها منها للعقوق الذي أفتعله‬ ‫الرس�الة ال ّن ّ‬‫ّ‬
‫لكن رصيدي من الرسائل قد نفد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أردت أن أرسل لها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بها وبهم‪.‬‬
‫كنت نوع ًا‬
‫الرسالة السابقة التي أرسلتها هي األخيرة‪ ،‬لك ّني ُ‬ ‫وكانت ّ‬
‫طبعت باألزرار على الهاتف‪« :‬وهل‬ ‫ُ‬ ‫ما مبتهج ًا ألنّها لم ُترسل‪ ،‬ألنّي‬
‫اشتقت إليكِ»‪ .‬هل‬‫ُ‬ ‫يمكن للموتى أن يزوروا األحياء‪ .‬سآتي قريب ًا‪..‬‬
‫يحدث بين‬ ‫انجرفت وراء ما ُ‬
‫ُ‬ ‫كان عشق ًا‪ُ ،‬ح ّب ًا‪ ،‬ال أدري‪ ،‬لك ّني فقط‬
‫جد ًا وال أفصح عن نواياي‪ ،‬لكن في‬ ‫كتوم ّ‬
‫ٌ‬ ‫سعد وجارتي‪ .‬أدري أنّي‬
‫شيء ما يجرفني إلى طفولتي وإلى ّأيام سعادتي األولى‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬ ‫ياسمين‬
‫‪139‬‬
‫أفسر الشعور الذي يعتريني ك ّلما أراها‪ ،‬أشعر أمامها كأنّي‬ ‫أعلم كيف ّ‬
‫قديس�ة ما‪ ،‬امرأة لبس�ت ثوب األمومة‪ .‬أكره ذلك الش�عور‪ ،‬ال‬ ‫أمام ّ‬
‫أريد أن أشاهد شريط فيديو محروق ًا يوجعني بدقائقه الفائقة السرعة‬
‫عائد ًا بي إلى حاضر عاج ٌز أنا عن رس�مه‪ ،‬وأن أدخل أنا وهي في‬
‫وكل ما في األمر‬ ‫إلي أقرب من الخيال‪ّ ،‬‬ ‫دائرة زواج‪ ،‬شيء بالنسبة ّ‬
‫أصبح�ت أرهب مما تفعل�ه األقدار بي‪ .‬أريد‬ ‫ُ‬ ‫أنّ�ي أخ�اف ال ّتك�رار‪..‬‬
‫أن أواج�ه ه�ذا المصي�ر وح�دي‪ ،‬أل�م أُخلق له�ذه المهمة فقط؟ أن‬
‫وببندقية واحدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بمسدس واحد‪ ،‬وبسيفٍ واحد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أواجه عرين األلم‬
‫ورم�وز كثيرة ذات معن�ى واحد؟‪ .‬ال يزال‬‫ٍ‬ ‫وبقل�م رص�اص واح�د‪..‬‬
‫الوقت ألفكر في غس�ل نفس�ي من بقايا الحزن‪ ،‬فحاجتي إليه تفوق‬
‫الذكوري�ة إل�ى أنث�ى‪ ،‬وأدري أ ّن ا ّتخ�اذي لمنح�ى الفردية‬ ‫حاجات�ي ّ‬
‫ال�ذي يقتلن�ي لي�س ال ّطريق�ة الصحيحة للعيش‪ ،‬لك�ن هكذا ُجبلت‪،‬‬
‫س�يرديني‬ ‫وال يمكنني تغيير ذلك‪ .‬زياد ًة على مرضي الف ّتاك والذي ُ‬
‫عما قريب ربما كما قال لي الطبيب يوم ًا‪ ،‬كما ال يمكن أن أخالف‬ ‫ّ‬
‫هويت�ي وأط�وي بقاي�ا الماضي‪ ،‬وم�ا يمنعني هو ذلك االنتظار الذي‬ ‫ّ‬
‫أتحمس له في منحي‬ ‫ّ‬ ‫بمعاينت�ي‪ ،‬ذل�ك ال ّترقب الذي ال‬ ‫س�محت ل�ه ُ‬
‫ُ‬
‫ف�ي ضرورة أن أربط نفس�ي بامرأة‪ ،‬فلا ُيمكنني أن‬ ‫ش�ار ًة م�ا توق�د َّ‬
‫قدر لي أن‬ ‫أغدر بإلحادي بعاطفة الحب‪ ،‬سأؤمن به يوم ًا ما إذا ما ّ‬
‫ولست ساذج ًا كفاية ألخدع بنداءاته لفؤادي‪ ،‬ذلك ال ّنداء‬ ‫ُ‬ ‫أعيش أكثر‪.‬‬
‫مرة أعود فيها إلى المنزل عندما أرى‬ ‫الخفي الذي يمر عبري في كل ّ‬
‫من سيارتي امرأة ورجالً يتشابكان األيدي‪ .‬لكن هناك منطق ًا في عدم‬
‫ٍ‬
‫جبار ًا ّ‬
‫كالدببة التي ال‬ ‫ّ‬ ‫كوني‬ ‫في‬ ‫العظمة‬ ‫من‬ ‫بشيء‬ ‫ال ّنسخ في ال ّتأللؤ‬
‫تخ�اف أن تعي�ش وحده�ا‪ ،‬ذلك الكبرياء في خلق عالم من خطوط‬
‫‪140‬‬
‫جيد ًا‬ ‫أحد في حكمه إلاّ بإرادتك‪ .‬وأعلم ّ‬‫جسدك وحده وال ُيشركك ٌ‬
‫لم�اذا يك�ون منط�ق تفكيري هذا رزين ًا وم�ر ًا هكذا بحضوره الغائب‬
‫ال�ذي ال يري�د أن ينتظ�ر أو يتو ّق�ع ه�ذا وذاك‪ ،‬فعندم�ا كان بعضهم‬
‫كنت أنا حينها أبحث عن الهدوء‪ ،‬وعن نفسي‬ ‫يبحثون عن الحب‪ُ ،‬‬
‫أمس‬ ‫التي تاهت في غمرة األشياء التي ال تكا ُد تصطفي معنى‪ ..‬فما َّ‬
‫لوجائي للهدوء في هذا العمر الذي يكاد أن يكون حائر ًا بين العجز‬
‫ضي والوقوف‪ ..‬كما أ ّن قطار الحب مضى دون‬ ‫الم ِّ‬
‫والمواصلة‪ ،‬وبين ُ‬
‫أن ينتظرني‪ ،‬فلن ينتظر من لديه تذكرة موت‪.‬‬
‫دفع�ت ثم�ن وجبت�ي‪ ،‬وخرج�ت نح�و مخ�دع هاتف�ي مقاب�ل ٍ‬ ‫ُ‬
‫ٍّ‬
‫أت رصيد هاتفي وبعدها غادرت مو ّلي ًا ظهري لمح ّطة‬ ‫عب ُ‬‫للمطعم‪ّ .‬‬
‫حن بطاقة سرعان ما س ُتستنزف في‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جديدة بمعدة ممتلئة‪ ،‬وبجسد ُش َ‬
‫زمنية أخرى بالعمل‪.‬‬ ‫ساعات ّ‬
‫أخرجت يد ًا واحد ًة من جيبي‪ِّ ،‬‬
‫ألو ُح بها‬ ‫ُ‬ ‫وأمام مرآي من بعيد‪،‬‬
‫لالثنين اللذين ينتظران عودتي أمام الباب الزجاجي‪.‬‬
‫جو‬ ‫بترو ألس�تعيد َّ‬
‫صعدت َدرج ال ّنس�يان ٍّ‬
‫ُ‬ ‫حادثتهما قليالً‪ ،‬ثم‬
‫المكان‪.‬‬
‫***‬
‫كانت ال ّطرقات مزدحمة عندما عدت إلى مضجعي‪ ،‬فأضيفت‬
‫عشر دقائق إلى العشرين دقيقة التي كنت أستغرقها عاد ًة في الوصول‬
‫إلى شقّتي‪.‬‬
‫جد ًا م�ن جلبة األبواق‪،‬‬ ‫دخل�ت الش�قّة‪ .‬كان�ت آذاني منزعجة ّ‬
‫ُ‬
‫علي من مخ َّلفات تلك األصوات العنيفة ّ‬
‫للس�ائقين؛‬ ‫وتراكم ال ّتوتر َّ‬
‫المتنوعة افتعل�ت بي ألم ًا‬
‫ِّ‬ ‫وأص�وات أبواقه�م‬
‫ُ‬ ‫الصارخ�ة‬
‫حناجره�م ّ‬
‫‪141‬‬
‫الدخيل في شهر فبراير‪ ،‬وتالحم‬ ‫الحر ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وعكَّ رت مزاجي‪ ،‬زياد ًة على‬
‫الحمى على الموقف‬ ‫ّ‬ ‫لت حال�ة‬ ‫فض ُ‬ ‫الس�يارات المصط ّف�ة بدخانه�ا‪َّ .‬‬
‫كنت فيه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المزري الذي‬ ‫ُ‬
‫بمعاكس�ة األش�ياء لي‬ ‫الس�رير مخذوالً ُ‬ ‫رميت بجس�دي على ّ‬ ‫ُ‬
‫جي�د الي�وم غي�ر المطعم الجديد ورس�الة‬ ‫الي�وم‪ ،‬فل�م يك�ن ش�يء ّ‬
‫البقية‪ ،‬فكانت تغريدات ُمزعج ًة آلمت‬ ‫أما ّ‬ ‫ياسمين وساعات العمل‪ّ ،‬‬
‫الراحة لدي‪.‬‬ ‫منطقة ّ‬
‫حب�ات الع�رق تنض�ح من جس�دي‪،‬‬ ‫دت لدقائ�ق‪ .‬كان�ت ّ‬ ‫تم�د ُ‬
‫ّ‬
‫قزز في فمي ومن اإلرهاق ال ّنفس�ي الذي يعبأ‬ ‫ش�عرت بقليل ٍ من ال ّت ُّ‬ ‫ُ‬
‫ورميت األخرى في س� ّلة الغس�يل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المتعرقة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫رت مالبس�ي‬ ‫غي ُ‬ ‫بي‪ّ .‬‬
‫جف وعاد‬ ‫جف وجهي من العرق فغس�لته بالماء‪ ،‬لكن ُس�رعان ما َّ‬ ‫ّ‬
‫ك العرق‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تح ُّ‬‫كنت أقوم بها كانت ُ‬ ‫وكل حركة ُ‬ ‫ليتعكَّ ر من نار الجسد‪ّ ،‬‬
‫أحب أن أبادل بها‬ ‫ُّ‬ ‫تغلغلت في عروقي عفونة الكراهية التي ال‬
‫أصبحت غاضب ًا بحق‪ ،‬وانتابتني‬ ‫ُ‬ ‫نزق ال ّزمان‪ ،‬فلم أس�تطع أن أهدأ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صككت أس�ناني‪،‬‬‫ُ‬ ‫لهف�ة ف�ي ضرب ش�يء م�ا‪ ،‬وبالفعل فعلت‪ ،‬فقد‬
‫وضربت باب المطبخ الخشبي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قوتي في قبضة يد‬ ‫وجمعت كامل َّ‬ ‫ُ‬
‫وصمت ُه ضربتي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫س�معت صوت كس�ر‪ ،‬وكان فعالً ش� ّق ًا في الباب‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ش�عرت بح�رارة قاتل�ة توغَّلت بش�كل ٍ فوراني في أنح�اء أعضائي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫أي أثر‬
‫وأصب�ح وجه�ي أحم�ر‪ .‬قبضتي لم ُتجرح ول�م يظهر عليها ُّ‬
‫لكدمة ما أو قطرة دم‪ ،‬غضبي كله حملت ُه ضربتي تلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ركبتي راكع ًا‪ ،‬تغيي�ر ًا للهيئة ألجعل قواي‬ ‫ّ‬ ‫ي�دي عل�ى‬ ‫ّ‬ ‫وضع�ت‬
‫ُ‬
‫العصبي�ة‪ .‬بع�د لحظ�ات م�ن ال ّتنفس المس�تمر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خائ�ر ًة م�ن ق�واي‬
‫واستشرت‬
‫ُ‬ ‫اس�تعدت ش�يئ ًا من الهدوء‪ ،‬وانتفضت ع ِّني لغة الغضب‬
‫‪142‬‬
‫لعقالنيتي‪.‬‬
‫كنت أحتاج أن‬ ‫كن�ت ال أزال عل�ى وضوء‪ ،‬فذهب�ت ألصلي‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫أهدأ‪.‬‬
‫جلست على األرض خائب ًا ككُ ّل ّ‬
‫مرة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬‫يت فريضتي‪َّ ،‬‬ ‫ص ّل ُ‬
‫كنت أدعو؟‬‫ُ‬ ‫فهل‬
‫ال لم أكن!‬
‫كل‬ ‫كن�ت أفكّ �ر ف�ي الحرك�ة القادم�ة التي تس�توجب م ّني في ِّ‬
‫تواطؤ‬
‫ُ‬ ‫لحظ�ة رحي�ل ٍ ع�ن فع�ل ٍ م�ا‪ ،‬أفكّ ر في م�ا ُيمكن أن ينس�جه‬
‫الحياة مع الوقت لتس�ليتي من جديد‪ ،‬وعما يمكن أن تخلقه رياح‬
‫ال ّزم�ان ف�ي إجباري على ال ّتنفس ال ّطويل وفي جعل أش�رعتي متين ًة‬
‫ويس�رة‪ ،‬مشاهد ًا الطوفان العلني‬ ‫كي أس�اير ش�جنها المتواصل ُيمن ًة ُ‬
‫لس�يماء ال َّتقهقر الذي تفعله بي األيام الجليلة التي اكتس�ت ُعس�ر ًة‪،‬‬
‫ت بسحقي كما فعلت عناصر هذا اليوم في معاكسة عاداتها‪.‬‬ ‫فباشر ْ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫حل سوى أن أنهض ألنفض ع ّني الحرارة التي‬ ‫لم أصل إلى ٍّ‬
‫ٍ‬
‫أي شيء ُيعيد حالة‬ ‫استقطبتني‪ ،‬وأن أبقى بعيد ًا قدر المستطاع عن ِّ‬
‫الغضب‪ ،‬فذاك يزيد من تدفُّق المرض‪.‬‬
‫الدوائية‪ ،‬ش�ربته وأنا‬ ‫ووضعت فيه البرش�مة َّ‬
‫ُ‬ ‫أخذت كأس ماء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نس�يت هاتفي ف�ي بنطالي في حالة‬ ‫ُ‬ ‫أتوج�ه إل�ى س� ّلة الغس�يل‪ ،‬فقد‬ ‫ّ‬
‫الهيجان تلك‪.‬‬
‫المش�رعة‪ ،‬كي أزهو بال ّنس�يم العالي‬ ‫ّ‬ ‫أط�ل م�ن النوافذ‬
‫ّ‬ ‫ذهب�ت‬
‫ُ‬
‫راقبت‬ ‫الس�ماء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫الذي يصل آخر ش�خص بالعمارة وحده لقربه من ّ‬
‫السماء‪ .‬طلبت أرقام‬ ‫السحب وفي ُزرقة ّ‬ ‫منبع الهدوء وهو يهيم في ّ‬
‫ياسمين ألَنتشي بصوتها عطر ًا آخر‪ ..‬غير عطر األحداث الوغدة‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫‪III‬‬

‫السكون مع المساء‬ ‫ها هو ذا ال ّليل قد جن‪ ،‬والتقت ُجزيئات ّ‬


‫ال�ذي ُيصب�ح بارد ًا ال يلوي على ش�يء س�وى االنطف�اء والجمود‪،‬‬
‫ٍ‬
‫إما في نثراته األخيرة‬ ‫تحرك قبل حلوله‪ ،‬واآلن هو ّ‬ ‫َّ‬ ‫قد‬ ‫ش�يء‬ ‫وكل‬‫ّ‬
‫الركود‪ .‬وأنا أيض ًا‬ ‫ليستقي راحةً‪ ،‬وإما أنّه بالفعل قد تجاوز مرحلة ُّ‬
‫شعوري ٍة لم تسبق أن دارت بي‪ ،‬انتهى‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بحالة‬ ‫انتهى بي األمر ُمغترب ًا‬
‫الم�رة األولى التي‬ ‫ّ‬ ‫ب�ي الحدي�ث م�ع نفس�ي فقط‪ ،‬وكانت هذه هي‬
‫أش�عر فيه�ا بأنّ�ي ف�ي حاج�ة إلى أحد ٍ م�ا أتبادل معه لغ�و الكالم‪،‬‬
‫ربما هي فقط‬ ‫تلب مطلبي‪ ،‬فهاتفها كان مش�غوالً‪ ،‬أو ّ‬ ‫فياس�مين لم ِّ‬
‫ث معي وعاقبتني برنّات انتظار‪ ،‬وبأمل ٍ في اإلجابة‬ ‫تتحد َ‬ ‫َّ‬ ‫لم ُترد أن‬
‫الصمت‬ ‫تركت لها ّ‬ ‫ُ‬ ‫وكنت خير فاعل‪،‬‬‫ُ‬ ‫زرها األخضر‪،‬‬ ‫والضغط على ِّ‬ ‫َّ‬
‫أرس�لت لها رس�ال ًة‬
‫ُ‬ ‫إجاب�ة أو ه�ي الت�ي تركت� ُه لي أيض ًا‪ ،‬وكنت قد‬
‫أتلق أي رسالة‬ ‫وحيدة بعد أن غابت ال ّشمس‪« :‬سأزوركم قريب ًا»‪ .‬ولم ّ‬
‫منها بعد رسالتي‪.‬‬
‫حاولت أن أرتاح من اإلنصات للحديث الذي يدور بين عقلي‬ ‫ُ‬
‫ح�ت أح�اول تحريك القلم قليالً بإضافة أش�ياء لما قد‬ ‫فر ُ‬ ‫وف�ؤادي‪ُ ،‬‬
‫عبأ‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫الرصاص‪ ،‬فهو من ال ّنوع الذي ُي َّ‬ ‫لت بقلم ّ‬ ‫كتبت‪ ،‬لك ّني ُخذ ُ‬
‫العبوة الصغيرة من الرصاصات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فرغت‬

‫‪144‬‬
‫ح ّتى صديقي اليوم عاج ٌز عن مواس�اتي‪ ،‬أصبحنا خاليين من‬
‫كل شيء‪ ،‬سوى من حثالة الهم‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ماذا يمكن أن أفعل في حالة االنشطار هذه التي تقصم جبيني‬
‫همي على‬ ‫يأس� ًا ح ّت�ى ف�ي الكتاب�ة‪ ،‬وعج�ز ًا ح ّتى في رغبة ص�رف ّ‬
‫الرغبة التي اجتاحتني بإفراغ لساني بالحديث على‬ ‫الورق‪ ،‬وما هذه ّ‬
‫غير عادتي؟ ماذا ُتراك ِ ياسمين فعلتِ بمشاكستك لي اليوم؟ أ ُتراك‬
‫أنتِ أيض ًا تشعرين بكدري فزادك ِ ُبعدي تجاهالً لي فقط؟‬
‫ه�م ْام َرأً ال ينتظر ش�يئ ًا غير‬
‫س�يدتي‪ ،‬فم�اذا ُي ُّ‬‫همن�ي األم�ر ّ‬ ‫ال ُي ّ‬
‫ضره معه إلى غيابات القبور وتعجيل س�نوات‬ ‫ِ‬
‫ال� ّزوال‪ ،‬غي�ر حم�ل ّ‬
‫عجزه إلى نهايتها ُمبكّ ر ًا‪.‬‬
‫ولست خائف ًا‬
‫ُ‬ ‫لربما عن قريبٍ أيض ًا‪،‬‬ ‫سأموت حتم ًا‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أدرك أنّي‬
‫رب نحوهما ما زال ُحلم ًا‪.‬‬ ‫أن أفنى‪ ،‬ولست أنوي البقاء أيض ًا‪ّ ،‬‬
‫والد ُ‬
‫لك ّني أخاف أن أموت وجع ًا وقهر ًا‪ ،‬أخاف سيدتي أن أغادر بسبب‬
‫كل ش�يخ ٍ طاعن ٍ في‬ ‫الم�رض‪ .‬أري�د ميت� ًة هانئة وطبيعية كما يموت ّ‬
‫الس�ابق واللاّ حق‪ ،‬أكُ هولت�ي أم ّ‬
‫بنو ُة‬ ‫الس�ن‪ .‬لك ّن�ي فق�ط أجه�ل من ّ‬
‫الخاليا الخبيثة‪.‬‬
‫بحثت ف�ي الخزانة عن‬ ‫ُ‬ ‫تك�ون األفلام دائم� ًا ملج�أً لله�رب‪.‬‬
‫المدمجة ألفالم‬ ‫متوس�طة الحج�م أضع فيها بعض األق�راص ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُعلب�ة‬
‫العالمي�ة األولى والثّانية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وثائقي�ة‪ ،‬وأكثره�ا ع�ن هتلر وعن الحرب‬ ‫ّ‬
‫فلح في جعل ال ّتحالف‬ ‫وتغيرات العالم بأراضيه ُت ُ‬ ‫الدول ُّ‬ ‫فلعل مآسي ّ‬ ‫ّ‬
‫بحثت تحت سريري وفي األدراج‬ ‫ُ‬ ‫قائم ًا في صدري‪ .‬لم أجد العلبة‪،‬‬
‫م�ر ًة أخرى‪ .‬كنت أبحث متجاهالً‬ ‫بحثت في الخزانة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ول�م أجده�ا‪.‬‬
‫الخشبي المستطيل‪ ،‬كنت أحاول البحث بعيد ًا عن مرماه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الصندوق‬
‫‪145‬‬
‫الصغير الذي يلمع‪ ،‬أحاول‬ ‫بعيد ًا عن خلساته التي ُتربكني من ُقفله ّ‬
‫أن أش�يح بنظري عنه كي ال تجرفني فكرة تش�تهي رؤية ما بداخله‬
‫محب ًة وكُ ره ًا هناك‪.‬‬
‫من نور ذكرى مجتمع ًة ّ‬
‫تعب�ت م�ن الذه�ول الذي استش�اطني في البحث‪ ،‬فلا العلب ُة‬ ‫ُ‬
‫عرفت عن مكان وجودها وال لمعان القفل تو ّقف من ربوضه على‬ ‫ّ‬
‫يقظتي منه‪.‬‬
‫واستس�لمت أخير ًا‬
‫ُ‬ ‫وعصبي�ة بفع�ل ذل�ك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الس�هوم تو ّت�ر ًا‬‫زاد ّ‬
‫حملت‬‫ُ‬ ‫ألن أترك الحروب التلفزيونية وأنير صندوق حربي بفتحه‪.‬‬
‫وجلبت مفتاحه‬ ‫ُ‬ ‫الصندوق‪ ،‬كان ثقيالً بعض ال ّشيء‪ ،‬وضعته أرض ًا‪،‬‬
‫والسيارة‪ ،‬فالواجب أن أحتفظ‬ ‫ّ‬ ‫الصغير المع ّلق بجوار مفاتيح المنزل‬ ‫َّ‬
‫الرموز التي‬ ‫ب�ه قريب� ًا م ّن�ي‪ ،‬واألش�ياء التي توجعنا يجب أن تك�ون ّ‬
‫فمجرد نس�يانها ومواجهتها عن غير قصد‬ ‫ّ‬ ‫ُتع ّلله�ا قريب�ة م ّنا لنألفها‪،‬‬
‫قد يأخذ م ّنا الكثير مستقبالً عند مواجهتها‪ .‬وهذا ما أخاف منه!‬
‫والعلب‬ ‫الصناديق ُ‬ ‫جلس�ت ناحية التابوت الفاخر الذي ُيش�به َّ‬ ‫ُ‬
‫والحلي‪ ،‬ش�كل ُه فقط يوح�ي بأنّه يحوي‬ ‫ُ‬ ‫الت�ي توض�ع به�ا الجواهر‬
‫ٍ‬
‫جدي‬ ‫هدية من ّ‬ ‫كه�وف أوج�اع ٍ وش�روخ ذكري�ات من ال ّزم�ن‪ .‬كان ّ‬
‫ال�ذي اعت�اد ه�و اآلخر على وضع ماضيه في صندوقٍ ُيش�به الذي‬
‫كل‬ ‫دفنت به ّ‬ ‫ُ‬ ‫أمتلكه‪ .‬كانت حيل ًة خبيث ًة ح ّق ًا في الغفران لنفسي‪ ،‬فقد‬
‫الصورة‬ ‫قصصت ّ‬ ‫ُ‬ ‫الماضي المتعثر‪ ،‬إلاّ صورتين لوالدي‪ ،‬وعبث ًا ُ‬
‫كنت‬
‫كل واحد ٍ منها في إطار‪،‬‬ ‫التي تجمعها في واحدة بتفريقهما ووضع ّ‬
‫الصورتان اللتان‬ ‫�كل زم�ن ٍ ذك�راه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ولكل واحد منهما أثره‪ ،‬وهما ّ‬ ‫ّ‬ ‫فل ّ‬
‫أضعهما على مكتبي في العمل‪ ،‬ألنّي آخذ بركتهما وهما ُيشاهدانني‬
‫أكس�ر حاجز ال ّتقوى‬ ‫علي بأنّي لم ّ‬‫الس�ماء ّ‬ ‫أقوم بعملي‪ ،‬ليرضيا في ّ‬
‫‪146‬‬
‫والبِ ِّر بيني وبينهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫فتحت األعجوبة‪ .‬أعماني الضوء المرتد لخاتم والدي الف ِّضي‬ ‫ُ‬
‫الذهب�ي‪ .‬كان ف�ي الصن�دوق أحجار كريم�ة‪ ،‬مرآ ٌة‬ ‫وخات�م والدت�ي ّ‬
‫الصور الذي أعجزني حين البأس‪،‬‬ ‫صغيرة إطارها نحاسي‪ ،‬وألبوم ّ‬
‫رقمية‬
‫ّ‬ ‫وخلخ�االن ذهبي�ان كانت تضعهما والدتي بمعصمها‪ ،‬س�اع ٌة‬
‫أقراص ُمدمجة لـ‪« ‬ناس الغيوان» مكتوب على أحدها‬ ‫ٌ‬ ‫تعود لوالدي‪،‬‬
‫ِ‬
‫كل وصفاتها‬ ‫حفظت ّ‬
‫ُ‬ ‫حال»‪ ،‬ومفكّ رة طبخ والدتي التي‬ ‫يم َتا ْي ْص َفا ا ْل َ‬
‫«ا ْ‬
‫س�يارة والدي المخدوش�ة الت�ي تحمل‬ ‫ع�ن ظه�ر قل�ب‪ ،‬ومفاتي�ح ّ‬
‫المخفية في ثنيات معدنها المصقولة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫معه�ا خط�وط أصاب�ع والدي‬
‫الفضي الذي أصب�ح ُيباع بثمن ٍ بخس في‬ ‫الصغي�ر ّ‬ ‫وهات�ف والدت�ي ّ‬ ‫ُ‬
‫زماني هذا‪ ،‬وسترة ال ّطبخ األرجوانية التي كانت تضعها والدتي في‬
‫فكنت آخذها‬ ‫ُ‬ ‫المطبخ‪ ،‬والتي كانت تنس�ى بس�حابها األمامي ال ّنقود‬
‫خلس� ًة منها‪ ،‬وأزرار اقتلعتها وحدها من بعض أثواب والدتي‪ ،‬فلم‬
‫الصغر‬ ‫أحتفظ بمالبس�ها‪ ،‬ألن رائحة أمومتها س�تعود بي إلى وجع ّ‬
‫واالنجالء في غمرة سعادتي التي كانت بوجودها‪ ،‬كما أنّي ال أريد‬
‫كنت َس�ببها في أحد أثوابها عندما‬ ‫ُ‬ ‫أن أبعثر نظري في المزقة التي‬
‫المهرجين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شددتها منه في حفل مدرسي التجاء وخوف ًا من أحد‬
‫الصور الجميلة التي حفظتها والدتي في أعياد‬ ‫أراقب ّ‬‫ُ‬ ‫انكفأت‬
‫ُ‬
‫زي ش�رطي‬ ‫ميالدي‪ ،‬أرتدي في إحداها زي ًا عس�كري ًا‪ ،‬وفي أخرى َّ‬
‫عابس فيها بجوار‬ ‫عة سوداء‪ ،‬وأخرى بذل ًة زرقاء‪ ،‬وصور ًة لي وأنا‬ ‫بقب ٍ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ألبس فيها لباس ًا تقليدي ًا وأضع طربوش ًا‬ ‫الخالة هدى‪ ،‬وصور ًة أخرى ُ‬
‫أحمر وأبكي‪ ،‬وكان ذلك بمناسبة حفل عقيقتي‪.‬‬
‫كم أنت أسود وأبيض ُّأيها الماضي!‬
‫‪147‬‬
‫ِهمت في أشياء عدة‪ ،‬وقع نظري على قرص ٍ مدمج مكتوبٍ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫عل�ى غالف�ه تاري�خ «‪ .»1986/10/02‬أفظع حالتي ذلك ال ّتاريخ‪،‬‬
‫أصبحت أك�ره الثّاني من أكتوبر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وال�دي‪ ،‬في�ه‬
‫ّ‬ ‫كان تاري�خ زواج‬
‫مما خ ّلفاه لي من أس�ى متوارث‪ .‬ومذ‬ ‫تؤلمن�ي أوجاعهم�ا أكث�ر ّ‬
‫شريط األصلي إلى قرص ٍ‬ ‫حولت ال ّ‬‫أعطتني الخالة القرص بعد أ ْن ّ‬
‫فتحت الصندوق اليوم على‬ ‫ُ‬ ‫عققت ال ّن�داء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُمدم�ج‪ ،‬لم أش�اهده‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أي حال‪ ،‬وأقراص هتلر والحروب ضاعت في مكان ما‪ ،‬إضاف ًة‬
‫إل�ى أ ّن القن�وات ال ّتلفزيوني�ة واألنترني�ت س�يزيدانني ملالً فقط‪.‬‬
‫وال أري�د أن أص�اب بالغب�اء من حمق القنوات‪ ،‬وس�هل أن ترى‬
‫ف�كل ما عليك هو أن ُتنش�ئ حس�اب ًا في‬ ‫ّ‬ ‫االنحط�اط ف�ي العال�م‪،‬‬
‫مواقع كـ‪« ‬فيس�بوك»‪ ،‬بعدها س�ترى الحمقى هناك‪ ..‬ال ُيحصون‪.‬‬
‫أملك حس�اب ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬ ‫الس�اذجة‪،‬‬
‫أعفيت نفس�ي من تلك المواقع ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫لك ّن�ي حذفت�ه لف�رط ما ق ّززني عديم�و ال ّلون‪ ،‬كما هرب ًا من ذلك‬
‫الس�خافات في خلق‬ ‫ال ّتفقه في ال ّتفقر ثقافي ًا‪ ..‬فماذا س�تنفع تلك ّ‬
‫بهجة ما لرجل بائس موته حتمي‪.‬‬
‫ثم ا ّتخذت موضع ًا وتسريح ًة على‬ ‫أدخلت القرص بحاسوبي‪ّ ،‬‬
‫السرير‪ ،‬وانتظرت قليالً ح ّتى ُيقرأ‪..‬‬
‫حت أشاهد سعادتهما وأقيسها ببهجتي‪.‬‬ ‫بعدها ُر ُ‬
‫***‬
‫لمدة ٍ وصلت إلى العشرين‬ ‫لم أكمل ال ّشريط بأكمله‪ ،‬شاهدت ّ‬
‫مت فجأ ًة‪ .‬تركت ال ّشريط يعمل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫دقيقة فقط‪ ،‬فقد غلبني ال ُّنعاس فن ُ‬
‫ورغ�م تل�ك البنادي�ر وال َّزغاري�د وال ّطبول وال َّتهليالت ال ّن ّ‬
‫س�ائية‪ ،‬لم‬
‫أستيقظ‪ ،‬فقد تجاهلتها مسامعي ويقظتي بال ّنوم‪ .‬ولم يوقظني سوى‬
‫‪148‬‬
‫جلبة بعض الجيران‪ ،‬فقد كانت هناك حفلة في ال ّطابق الذي تحتي‪.‬‬
‫فتح�ت عين�ي‪ ،‬وجدتن�ي أنظ�ر إل�ى شاش�ة الكمبيوتر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندم�ا‬
‫الرؤي�ة غي�ر واضح�ة كفاي� ًة ليفهمه�ا النس�يان المؤ ّقت من‬ ‫وكان�ت ُّ‬
‫وأشعة ال ّشاشة أعمتني‬ ‫ّ‬ ‫صحوي‪ ،‬ح ّتى األلوان بدت لي ك ّلها بيضاء‪،‬‬
‫ِ‬
‫جيد ًا كي َتعي رؤيتي‬ ‫عيني ورمشت ّ‬ ‫ّ‬ ‫أغمضت‬
‫ُ‬ ‫من أول فتحة عين‪.‬‬
‫رفعت رأس�ي نحو س�قف الغرفة إلى أن‬ ‫جيد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ما ُيحيط بها بش�كل ّ‬
‫والص�ورة األخيرة التي‬ ‫ّ‬ ‫أع�دت نظري إلى ال ّشاش�ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يصف�ى ذهن�ي‪.‬‬
‫الس�اعة والربع للش�ريط كانت ضحك� ًة لوالدي‪ِّ ،‬‬
‫متفرد ًة‬ ‫انته�ت بها ّ‬
‫بالحجم الكبير لل ّشاش�ة آخذ ًة معالمها ببياض س� ّنه وشاربه وأهدابه‬
‫خاصتي‬ ‫َّ‬ ‫الضحكة التي ُتش�به التي لدي‪ ،‬إال أ َّن‬ ‫الضاحك�ة‪ِّ ،‬‬ ‫المنثني�ة ّ‬
‫منية الحضور وال ّتكرار‪.‬‬ ‫وافتها ّ‬
‫ِ‬
‫ت‬ ‫كان الن�وم أفض�ل علاج ٍ لي من ذل�ك ال ّزخم‪ ،‬رغم أنّي ن ْم ُ‬
‫ألكثر من ساعة ونصف تقريب ًا‪ ،‬إلاّ أ ّن ذلك كان كافي ًا‪ ،‬فقد انتعشت‬
‫ذاكرت�ي وألق�ت برواس�ب ال ّزمان الفائت بصبح�ه وزواله وتعبه في‬
‫متوجه ًا ألغس�ل وجهي وأفتح ليالً‬ ‫ّ‬ ‫نهضت‬
‫ُ‬ ‫الدفينة‪.‬‬ ‫الذكريات ّ‬ ‫س� ّلة ّ‬
‫انحنيت إليه‬ ‫ُ‬ ‫عدت إلى حيث يوجد الحاسوب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جديد ًا بدون أخطاء‪.‬‬
‫الساعة‪ ،‬كانت الساعة العاشرة وثماني‬ ‫من جانبه األيسر ألنظر إلى ّ‬
‫الذكرى‪،‬‬ ‫أخرجت بلاء ّ‬‫ُ‬ ‫أطف�أت الجه�از بع�د أن‬ ‫ُ‬ ‫وعش�رين دقيق�ة‪.‬‬
‫بكل‬‫أقفلت على الصندوق‪ ،‬وأرجعته ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأعدت ال ّشريط إلى جحره‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حيث يرتكن بعيد ًا‬ ‫ُ‬ ‫وعسرته إلى حيث يجب أن يكون‪ ،‬إلى‬ ‫رحمته ُ‬
‫ع ّني بوجوده الثّقيل‪.‬‬
‫أتجول في حلقات بالصالون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رت كأس شاي‪ ،‬شربتها وأنا‬ ‫حض ُ‬ ‫ّ‬
‫الصالون إلى المطبخ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تار ًة أمشي في ِّ‬
‫خط م ّتصل بإياب وذهاب من ّ‬
‫‪149‬‬
‫تصدر‬
‫ُ‬ ‫الصالون‪ .‬والموسيقى التي كانت‬ ‫وتار ًة عود ًة من المطبخ إلى ّ‬
‫من تحتي‪ ،‬بدا كأنّها هدأت قليالً‪ ،‬والظاهر أ ّن الحفلة قد ش�ارفت‬
‫على االنتهاء‪.‬‬
‫مرة أخرى‪ .‬لبس�ت معطفي‪.‬‬ ‫غس�لت وجهي ّ‬
‫ُ‬ ‫انتعل�ت حذائ�ي‪.‬‬
‫عزمت على الذهاب للمش�ي قليالً ليس�ري معي تف ُّت ُح ال ّليل بهوائه‬
‫المنعش‪ ،‬فالخارج أرحم ب ُفس�حته الباردة على ش�قّتي التي اكتس�ت‬
‫ح�رار ًة‪ ،‬وهواء الش�رفة ال يكفي لجس�دي بأكمل�ه‪ ،‬كما أ ّن حاجتي‬
‫بد لدمي أن يجري في جميع مآقي‪.‬‬ ‫للمشي ضرورية‪ ،‬ال َّ‬
‫تصدر منها‬‫ُ‬ ‫تجاوزت باب الشقة التي‬
‫ُ‬ ‫نزلت الساللم‪ ،‬وعندما‬
‫وجدت على العتبات البعيدة عن الش�قة بطاقة تعريف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الموس�يقى‪،‬‬
‫حملته�ا‪ ،‬كان�ت لش�اب في العش�رين من عمره تقريب� ًا‪ .‬الظاهر أنها‬
‫رجعت بخطواتي‬ ‫ُ‬ ‫تخص أحد ًا من الشقة الحافلة بصوت الموسيقى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫إلى الوراء‪ ،‬وقفت أمام الباب‪ ،‬طرقته مرتين ولم يفتح أحد‪ .‬فكّ رت‬
‫أن أضعها تحت ثقب الباب المستطيل ال ّتحتي وأدفعها واقي ًا نفسي‬
‫تنازلت عندما‬
‫ُ‬ ‫من الموسيقى التي ستصفعني عند فتح الباب‪ ،‬لك ّني‬
‫رأي�ت ال� ّزر ال�ذي ي�رن‪ ،‬فلم أره في البداية‪ ،‬فل�م يكُ ن مضيئ ًا بلونه‬
‫الضعيفة بال ّطابق‪.‬‬ ‫البرتقالي‪ ،‬كما أ ّن المكان شبه مظلم هناك لإلنارة ّ‬
‫مرتي�ن ول�م يفتحوا‪ ،‬تليت ضغطة ثالث�ة‪ ،‬بعدها فتح‬ ‫ضغط�ت ال� ّزر ّ‬
‫ُ‬
‫وجدت بطاقة تعريف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقلت له إني‬ ‫ُ‬ ‫السلام‪،‬‬
‫ألقيت ّ‬
‫ُ‬ ‫ش�اب الباب‪.‬‬
‫تعرف إلى‬ ‫وأنه�ا يمك�ن أن تك�ون ألحد الحاضرين‪ .‬أخذه�ا م ّني‪ّ ،‬‬
‫ث�م قبل أن أذهب‪ ،‬طلب م ّني‬ ‫مالكه�ا م�ن نظرته األولى‪ ،‬ش�كرني‪َّ ،‬‬
‫ورفضت بحسن‬ ‫ُ‬ ‫علي كذلك‪،‬‬
‫وأصر َّ‬ ‫ّ‬ ‫أن أدخل ألحتفل بعيد ميالده‬
‫وغادرت مو ّدع ًا ّإياه بـ‪« :‬عيد ميالد سعيد»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّنية‬
‫‪150‬‬
‫كل الوجهات‪ ،‬رغب ًة في‬ ‫خرجت على بساط األرض‪ ،‬ووجهتي ّ‬ ‫ُ‬
‫أول حافلة رأيتها صعدت إليها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وأبحث عن طريق العودة‪َّ .‬‬ ‫َ‬ ‫أن أتيه‬
‫قطعت تذكر ًة ولم أس�أل عن وِجهتها‪ .‬المس�افة التي‬ ‫ُ‬ ‫لم أر رقمها‪،‬‬
‫تها الحافلة إلى مح ّطتها األخيرة‪ ،‬كانت كافية لتجعلني س�ائح ًا‬ ‫قطع َ‬
‫َ‬
‫الراكب الوحيد‪ ،‬أنا‬ ‫وكنت ّ‬
‫ُ‬ ‫ألول م�رة ف�ي مدينت�ي‪ .‬تو ّقفت الحافلة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الس�ائق‪« :‬إنّها المح ّطة‬ ‫بقيت جالس� ًا إلى أن ّنبهني ّ‬ ‫ُ‬ ‫والس�ائق فقط‪،‬‬ ‫ّ‬
‫األخيرة!»‪.‬‬
‫قدمي قد‬
‫ّ‬ ‫أظن أ ّن‬
‫نزلت ُمغترب ًا إلى مكاني المجهول‪ ،‬موقع ال ُّ‬ ‫ُ‬
‫ست جيوب بنطالي بيدي‪ ،‬لم أكن أحمل‬ ‫تحس ُ‬ ‫ّ‬ ‫وطئتا تربته من قبل‪.‬‬
‫وجدت نفس�ي ُمحاط� ًا بالعراء؛‬ ‫ُ‬ ‫الدنيا حولي‪،‬‬ ‫نظ�رت إل�ى ُّ‬ ‫ُ‬ ‫هاتف�ي‪.‬‬
‫أش�جار عمالقة‪ ،‬ومصابيح ال ّش�ارع الذي أنا فيه منها اثنان مضاءان‬ ‫ٌ‬
‫المشهد كفلم رعب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من أصل خمسة‪ ،‬بدا‬
‫تحرك�ت بخط�وات أرجع أدراج�ي من ال ّطريق الذي أتت منه‬ ‫ّ‬
‫الجانبية التي تنظر‬ ‫ّ‬ ‫السائق تتبعني من مرآته‬ ‫الحافلة‪ ،‬وكانت نظرات ّ‬
‫مألت صدري بالهواء‬ ‫ُ‬ ‫نسيم ال ّليل ُمنعش ًا َّ‬
‫حد أنّي‬ ‫ُ‬ ‫إلى الخلف‪ .‬كان‬
‫برئت�ي‪ .‬كان ال ّطري�ق موحش� ًا بعض ال ّش�يء‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫أستس�يغ رائحت�ه‬
‫ش�عرت باأللف�ة‪ ،‬فأن�ا عائد من آخر ال ّطريق ُمعي�د ًا زمان العثرة إلى‬ ‫ُ‬
‫أوله‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ش�ت بين‬ ‫ِ‬
‫تل�ك العزل�ة الت�ي تخدش المكان لم ُتخفني‪ ،‬فقد ع ُ‬
‫وت الذي ُتس�معه أوراق األش�جار ُي َغ ّنيني‬ ‫الص ُ‬ ‫براثنها س�نوات‪ .‬كان ّ‬
‫الصغيرة هو‬ ‫وصوت خطواتي على الحصى والعيدان ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأترنّم به معه‪،‬‬
‫تنتسب إليه ضوضائي وحدها‪ .‬كان‬ ‫ُ‬ ‫بالس�كون الذي‬ ‫اآلخر أش�عرني ّ‬
‫كل شيء ساكن ًا وهادئ ًا‪ ،‬وتن ّفسي هو وحده من يصدر ذبذبة حياة‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫مترجالً نحو المجهول الذي‬ ‫ّ‬ ‫نزعت ن ّظارتي وتركتها في يدي‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫س�يوصلني إل�ى ش�قّتي‪ .‬ل�م أب�ال بالوقت المتأ ّخ�ر‪ ،‬ولم أكن أضع‬
‫ساعة يدي‪ ،‬توقيتي هو ال ّلحظة التي أنا فيها فقط‪.‬‬
‫والسيارات مركون ًة تأخذ‬‫كانت المنازل مطفأة‪ ،‬واألحياء نائمة‪ّ ،‬‬
‫حت أش�اهد األش�ياء ببهجة‬ ‫الس�بات اس�تعداد ًا لحرق بنزين الغد‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ّ‬
‫المتحرك‬
‫ّ‬ ‫شعرت أنّي خفيف بوجودي بينهم‪ ،‬فقد كنت‬ ‫ُ‬ ‫طفل صغير‪،‬‬
‫الوحيد وس�ط الجمادات‪ ،‬وال ّش�اهد الوحيد على هدنة الصفاء بين‬
‫المرصع في سمائي يبتسم لي من وراء‬ ‫ّ‬ ‫الليل والسماء‪ .‬وكان القمر‬
‫المعب�د والمتالش�ي أمام�ي بعيد ًا يلتح�م مع لون‬ ‫ّ‬ ‫الغي�م‪ ،‬وال ّطري�ق‬
‫السماء‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مشيت في وسط الطريق الخالي والمستقيم الذي يمشي نحو‬ ‫ِ‬
‫كحد فاصل ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫أتتبع األش�رطة البيضاء في الوس�ط‪ ،‬أس�ير‬ ‫ما ال أعلم‪ّ ،‬‬
‫بين الجانب المنير والجانب المظلم‪ .‬يمين ًا توجد المنازل‪ ،‬ويس�ار ًا‬
‫الضوء‬ ‫يوجد س�راب األش�جار والعتمة‪ .‬ك ّلما كنت أقترب أكثر من ّ‬
‫حدة األضواء تخف‪.‬‬ ‫األحمر لشارة الوقوف‪ ،‬كانت ّ‬
‫مت‬ ‫تقد ُ‬‫كنت أمشي وكأنّي المتحكّ م في زوال الجمادات؛ ك ّلما ّ‬
‫يخرب ال ّن�ور بال ّظالم‪ ،‬أمح�ي تالبيبه‬‫ظ ُل�م م�ا ورائ�ي‪ ،‬كن�ت كمن ّ‬
‫بتقدمي‪.‬‬
‫ّ‬
‫بالساعة التي أنا فيها‪ ،‬وال ّتوقيت‬
‫أخرجت تذكرة الحافلة ألتنبأ ّ‬
‫صعدت فيه الحافلة كما ُتش�ير ال ّتذكرة هو ((‪ ))22:53‬إضاف ًة‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫إل�ى أربعي�ن دقيقة تقريب ًا التي اس�تغرقتها الحافلة مع مس�يري هذا‪،‬‬
‫ربما هي اآلن ((‪ ،))23:47‬لكن ال يهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أخربه ك ّلما‬ ‫يمر على ذاكرتي‪ ،‬أحاول أن ّ‬ ‫أخطو وشريط اليوم ُّ‬
‫‪152‬‬
‫اقترب�ت م�ن ال ّش�ارة الحم�راء‪ ،‬أترك ورائ�ي حثالة الوج�ع وأكتفي‬
‫مرت‪ ،‬وأنتقي‬ ‫كل لحظة عسيرة ّ‬ ‫أمامي بوجه الحقيقة‪ ،‬وأراقب مكر ّ‬
‫ٍ‬
‫علي وأترك بقاياه‬ ‫كل تعب َخطا ّ‬ ‫�ح ّ‬ ‫منها س�بب ًا لس�وء القدر‪ ،‬وأُ َر ِّش ُ‬
‫ِ‬
‫دت أصل إلى ال ّش�ارة‪ ،‬ح ّتى أمس�ى جس�دي‬ ‫خالص� ًة ورائ�ي‪ .‬م�ا ك ُ‬
‫خفيف ًا‪ ،‬وتع ّففت روحي‪ ،‬وانقشعت درجة من غمامة نظري‪.‬‬
‫هت فعالً!‬
‫ُت ُ‬
‫حت‬ ‫لو ُ‬
‫ال أدري أي�ن قادتن�ي قدم�اي في هذا الليل الموحش‪ّ .‬‬
‫س�يارة أجرة تق ّلني‪ ،‬ذكرت له اس�م المكان دون زيادة‪« :‬فندق‬ ‫إلى ّ‬
‫عداده ليوصلني‪.‬‬ ‫شيراتون»‪ ،‬فشغّل ّ‬
‫ومش�يت بحذر أراقب حوالي‪ ،‬فقد كان‬ ‫ُ‬ ‫ّدت س�ائق األجرة‪،‬‬‫نق ُ‬
‫الم�كان خالي� ًا وزفي�ر اللي�ل ينش�ط ب�ه‪ ،‬وفي هذا الوق�ت وما بعده‬
‫الس�رقة‪ ،‬ويس�تيقظ الجانب األس�ود للمنطقة‪ .‬لم أكن خائف ًا‪،‬‬ ‫تكثر ّ‬
‫يمس�ني أح�د‪ ،‬فهاالت اقتراب‬ ‫س�يدركني‪ .‬لن ّ‬ ‫وال أعتق�د أ ّن أح�د ًا ُ‬
‫لكن تفكيرهم س�يزول بعد‬ ‫الموت تحيط بي‪ ،‬قد يفكرون بإيذائي‪ّ ،‬‬
‫مررت بالقرب‬ ‫ُ‬ ‫دخلت من زقاق مظلم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أن تصلهم نظرة تشاؤم ٍ م ّني‪.‬‬
‫أكملت مس�يري‪ ،‬ولم يقف في طريقي‬ ‫ُ‬ ‫من مدرس�ة ابتدائية بائس�ة‪.‬‬
‫الرذيلة‪ ،‬والتي‬ ‫جم�ل تجذب إل�ى ّ‬
‫ٌ‬ ‫أي ل�ص‪ .‬تناه�ت إل�ى مس�امعي‬ ‫ّ‬
‫تقل‬
‫أبرزها‪« :‬الجو بارد‪ ،‬باغي تسخن الليلة!!»‪ ،‬وعبارات أخرى ال ّ‬
‫ظن‬
‫بت ّ‬ ‫عنها غواي ًة وتحريض ًا وتنشيط ًا إلقامة ما ُيقام‪ .‬ولألسف‪ّ ،‬‬
‫خي ُ‬
‫أعدل في سرعة مشيي‪،‬‬ ‫الالتي َأر ْد َن ما أردن‪ ،‬لم ألتفت ح ّتى‪ ،‬ولم ّ‬
‫إلى أن ِ اختفيت دون حفيف يذكر‪.‬‬
‫أخذت‬
‫ُ‬ ‫مس�افة طويل�ة أخ�رى لك�ي أص�ل م�ن حيث جئ�ت‪.‬‬
‫كل باب‬ ‫منزلي يوجد على ّ‬
‫ّ‬ ‫الرصيف األيمن‪ ،‬أمشي بمحاذاة شجر‬ ‫ّ‬
‫‪153‬‬
‫رت برائحة الخزامى وبعض األنواع التي لم أعرف مصدر‬ ‫منزل‪ .‬تع ّط ُ‬
‫س�رت وس�رت‪ ،‬إلى أن اقتربت من المنعرج‬ ‫ُ‬ ‫فوحانها من األزهار‪.‬‬
‫أمر على يمينه نحو الحي الذي أقطن فيه‪.‬‬ ‫الذي ُّ‬
‫انجلت لي الفتة تشير إلى اليمين‪ ،‬بها كلمة واضحة واألخرى‬
‫رفعت‬
‫ُ‬ ‫يبق بيني وبين اللاّ فتة سوى ثوان ٍ ألقربها‪.‬‬ ‫شبه ممحية‪ ،‬ولم َ‬
‫همست في الهواء‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫عيني من بعيد ٍ إلى شقّتي المطفأة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫((أحييك يا قصر الوجع!))‬ ‫ّ‬
‫األش�ياء ح�ول العم�ارة ك ّلها نامت إلاّ مخ�دع الهاتف اليقظ‪،‬‬
‫يت من بعيد صاحبه الذي‬ ‫حي ُ‬
‫يوم بآخر‪ّ .‬‬
‫والذي ال ُيغلق ح ّتى يفترق ٌ‬
‫وأكملت طريقي نحو العمارة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أمر أمامه‪،‬‬ ‫رآني ُّ‬
‫شعرت بأ ّن ثقالً زال عني‪ ،‬وأن أتون ّ‬
‫الدنيا‬ ‫ُ‬ ‫دخلت الشقة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫ج�ف‪ ،‬وغ�دا ن�وء ًا أتم ّتع به بعد زواله‪ .‬لن أقول أنّي أحسس�ت‬ ‫ّ‬ ‫ق�د‬
‫بسعادة ٍ ما‪ ،‬ولكن بهج ًة ما استذقتها في فسخ ال ّتم ّلق الذي فعلته مع‬
‫الصباح على غير عادتي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ئ الجهد الذي قمت به مش�ي ًا ومتعةً‪.‬‬ ‫ربضت على الكنبة أطف ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت إلى الساعة‪ ،‬كانت الثانية عشرة وال ّنصف‪ .‬لبست لباس نومي‬
‫ونفضت ب ّطانيتي‪ ،‬وبعدها أرخيت عظامي على ّ‬
‫السرير‪.‬‬
‫مرت‬ ‫ِ‬
‫لم تأتني سنة نوم‪ .‬عيناي كانتا ساهدتين‪ ،‬وذهني كذلك‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫وكل ش�يء ا ّتخذ منحى العكس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دقائق كثيرة وأنا بالحالة نفس�ها‪،‬‬
‫فلم أعهد أن أنشط ليالً‪ ،‬ح ّتى أنّي لم أتثاءب‪.‬‬
‫عيني ُترهقان‬
‫ّ‬ ‫لعل‬
‫جهت إلى شرفة الغرفة َّ‬ ‫ُ‬ ‫حملت جسدي وا ّت‬ ‫ُ‬
‫أطل من‬‫م�رة كنت ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫الصف�راء ألعم�دة الكهرب�اء‪ .‬في ّ‬ ‫باألض�واء ّ‬
‫�ر من ال ّلي�ل‪ ،‬دائم ًا م�ا أرى الحارس الذي‬ ‫ال ّش�رفة ف�ي وق�ت متأ ّخ ٍ‬

‫‪154‬‬
‫يبق�ى س�اهر ًا ونح�ن ني�ام‪ ،‬وحده م�ع هدوء ال ّلي�ل بجانب كلبه ذو‬
‫يتج�ول في األزقة ين ّظف بمكنس�ته جوانب‬ ‫ّ‬ ‫الف�رو األصف�ر‪ ،‬وح�ده‬
‫يتحمل رجل تجاوز الخمسين برد ال ّليل‬ ‫ّ‬ ‫الرصيف‪ .‬ال أعرف كيف‬ ‫ّ‬
‫مرة سكنت في الحي‪ ،‬فلو لم‬ ‫أول ّ‬ ‫هو وكلبه العجوز الذي طاردني ّ‬
‫يك�ن صاحب�ه آن�ذاك‪ ،‬ألخذ قطعة مهترئ ًة م ّني‪ .‬ما ُيثيرني في الرجل‬
‫تحمل وحش�ة الليل‪ ،‬وعالم�ه ال ّليلي بأضوائه‬ ‫ه�و إرادت�ه تل�ك في ُّ‬
‫الوحي�دة الت�ي ُتني�ر العالم الخالي من البش�ر‪ ،‬والعامر بال ّنباح ال ّنادر‬
‫مرة خالجتني فكرة‬ ‫السيارات‪ .‬ال أنكر أنّي كم ّ‬ ‫لكلبه العجوز وجمود ّ‬
‫فلعل الوحدة‬ ‫ّ‬ ‫أن أهبط ألفعل مثله فأس�اعده في ش�طب ال ّش�وارع‪،‬‬
‫يمكنها أن تجمعنا نحن الغرباء‪.‬‬
‫محرمة في قوانينها‪.‬‬ ‫ماذا أقول! الوحدة ال ُتقتس�م‪ ،‬المش�اركة ّ‬
‫كما أحترم حدود وحدتي‪ ،‬فهو اآلخر لن يرضى أن يشاركني عزلته‪.‬‬
‫س�معت اهت�زاز ال ّطاول�ة بس�بب وص�ول رس�الة إل�ى هاتفي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حيث يومض‪ .‬كانت رسال ًة متأ ّخرة‬ ‫ُ‬ ‫وذهبت إلى‬
‫ُ‬ ‫ابتعدت عن ال ّشرفة‬
‫ُ‬
‫من ياس�مين‪ .‬ترى ماذا تريد م ّني في هذا ال ّليل؟ تراها عرفت أنّي‬
‫يقظ ولم يأتني ال ّنوم؟‬
‫((ح ّق ًا! متى ستأتي؟))‪.‬‬
‫أجبتها بأخرى‪(( :‬أتركيها مفاجأ ًة‪ ..‬كسابقاتها))‪.‬‬
‫وردتني أخرى منها‪:‬‬
‫«سأ ّتصل بك اآلن لتشرح لي مفاجآتك هذه!»‪.‬‬
‫فأرسلت فور ًا قبل أن ت ّتصل‪:‬‬‫ُ‬ ‫جيد ٍ للحديث‪،‬‬ ‫لم أكن في مزاج ٍ ّ‬
‫«من فضلك ياسمين إنّي متعب‪ ،‬غد ًا أ ّتصل بكِ»‪.‬‬
‫أرسلت من فورها‪:‬‬‫ْ‬
‫‪155‬‬
‫«عنيد كعادتك! لك ّنك لن تنام قبل أن تقول لي»‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫أزعجن�ي إصراره�ا الذي أع�رف أنّه لن ينتهي ح ّتى تصل إلى‬
‫مبتغاها‪ ،‬فأجبت فضولها‪:‬‬
‫«وأنت لحوح ٌة كعادتك‪ ،‬في ال ّشهر القادم»‪.‬‬
‫أجابت‪:‬‬
‫« ُتخدع بالخدعة نفس�ها دائم ًا‪ ،‬فلتكن زيارتك ثقيل ًة على غير‬
‫عادتها‪ ،‬إلى حين ٍ إذ ًا»‪.‬‬
‫وألحفت نفس�ي بغطائي‪،‬‬‫ُ‬ ‫الس�رير‬
‫حت على ّ‬ ‫تس�ر ُ‬‫ّ‬ ‫كنت واقف ًا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫طبعت على الهاتف‪:‬‬
‫«إلى حين»‪.‬‬
‫أرسلت رسالتها ال ّتالية بعد دقائق‪:‬‬
‫«هيه وحيد‪ ،‬قل لي‪ ..‬أتسعد بأن أُ ْخ َطب؟»‪.‬‬
‫هضمت رسالتها تلك‪ ،‬وأرسلت عن غير إرادة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫«سأحاول أن أبتهج من أجلك»‪.‬‬
‫أجابت بأخرى كأنّها غاضبة شيئ ًا ما‪:‬‬
‫«إذ ًا ال تحاول‪ ،‬تصبح على خير»‪.‬‬
‫جاءتن�ي رغب�ة ف�ي أن أر َّد عليه�ا بـ‪« :‬س�أصبح على مضض»‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كل شيء في كلمتين‬ ‫حجمت عن ال ّطبع المستحيل ولخ ُ‬
‫ّصت ّ‬ ‫ُ‬ ‫لك ّني‬
‫ِ‬
‫«وأنت أيض ًا»‪.‬‬
‫وحاولت جاهد ًا‬
‫ُ‬ ‫تمثيلية اليوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تجاهلت غضبها‪ ،‬وأزلت ع ّني‬ ‫ُ‬
‫أن أق�رأ ش�يئ ًا ريثم�ا ُيرهق ذهني باألف�كار‪ ،‬و ُتتعب عيناي باختالط‬
‫الحروف واختالف المعاني ومواضع النقط والفواصل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أقل‬‫اس�تكنت ف�ي س�ريري وأن�ا أراهن على صب�ح ٍ جديد َّ‬ ‫ُ‬ ‫ث�م‬
‫ّ‬
‫‪156‬‬
‫وجع ًا‪ ،‬وأعرف كل المعرفة بأنّي سأصبح على مضض‪..‬‬
‫***‬

‫بجمعت�ه وخطبة اإلم�ام التي دائم� ًا ّ‬


‫تغير‬ ‫أس�بو ٌع آخ�ر انته�ى‪ُ ،‬‬
‫الراكن في نفسي‪ ،‬والتي ُتعيد شحن ّأيامي بأعدادها الفائقة‬ ‫ال ّترتيب ّ‬
‫ال ّتضاعف‪ ،‬تعيدها صفر ًا بسبتٍ يكون مشمس ًا ومعتدل الحرارة كما‬
‫لجوه‪ .‬ومرور األحد الوازن هو اآلخر‬ ‫كل مراقبة ّ‬ ‫يعهده جسدي في ّ‬
‫بس�يارتي‪ ،‬رغم أنّي لس�ت من‬ ‫مر ش�به عس�ير‪ ،‬ش�غلته في ال ّتس�كّ ع ّ‬ ‫َّ‬
‫كل ال ّتناقضات بتأثيره‪ ،‬وقد أ َث ُ‬
‫رت‬ ‫هواة التس�كع‪ ،‬لكن األحد ينفي ّ‬
‫ار ُيصلح باب‬ ‫بنج ٍ‬ ‫ئت ّ‬ ‫ب�ه جلب�ة أخرس به�ا صمته المخيف‪ ،‬فقد ِج ُ‬
‫الرائحة الجديدة‬ ‫وكره�ت أنا تلك ّ‬
‫ُ‬ ‫غيره بأكمله‪،‬‬ ‫المطب�خ الخش�بي‪ّ ،‬‬
‫الدهان‬‫القوية‪ ،‬هو ذلك ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الروائح‬‫ضد ّ‬ ‫للخشب‪ .‬وما أفاق حساسيتي َّ‬
‫الذي ُطلي به خشب الباب‪ ،‬رائحة الكحول المنبعثة منه آلمتني في‬
‫ش�عرت منها بدوخة‪،‬‬‫ُ‬ ‫ض�د الروائح‪،‬‬
‫َّ‬ ‫قو ُته�ا مناعت�ي‬
‫أنف�ي وبعث�رت ّ‬
‫القوية أبطلت رائحة‬ ‫ّ‬ ‫الدهان‬
‫لكن رائحة ّ‬ ‫َّ‬ ‫أشعلت أعواد بخور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫البخ�ور‪ ،‬فانتهي�ت بفت�ح جميع النوافذ مكره ًا لت�زال ِ‬
‫بتنقية طبيعية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫دت‬‫ثم ُع ُ‬‫خرجت مطرود ًا من شقّتي بفعل األحد وعطره ال ّنتن‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫مر عليها ست أسابيع‪،‬‬ ‫واشتريت فرشاة أسنان جديدة فاألخرى ّ‬ ‫ُ‬ ‫ليالً‪،‬‬
‫عبوة شامبو لنفاد األخرى‪.‬‬ ‫واشتريت أيض ًا ّ‬
‫ُ‬
‫يغير‬‫وطوال األس�بوع لم تأتني رس�ال ٌة أخرى من ياس�مين‪ .‬لم ّ‬
‫ذل�ك ش�يئ ًا‪ ،‬ف�أن تأت�ي أو ال تأتي‪ ..‬ال ف�رق‪ ،‬حلولها في هاتفي أو‬
‫عدمه لن يزيد أو ينقص شيئ ًا‪ ،‬تجاهلها أو غضبها أو ح ّتى نسيانها‬
‫الرد‪ ،‬وعقوقي أو ُبعدي لها وجالؤه‬ ‫فسر شيئ ًا في رغبتي لعدم ّ‬ ‫ال ُي ّ‬
‫ولست أمثّل بشكل ٍ سيئ ألنّي لم أحاول‬ ‫ُ‬ ‫ال ُيغني من العادة شيئ ًا‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫اال ّتص�ال به�ا‪ ،‬فلض�رورة غياب�ي عدم نبش وت�ر الحديث‪ ،‬والمرور‬
‫في أحداث عابرة وغابرة بانقطاع‪ ،‬فقط ذلك الحضور الباهت لكي‬
‫همني عتابها القادم عند ال ّلقاء‪،‬‬
‫أواصل الغياب على طريقتي‪ ،‬ولن ُي َّ‬
‫الصادقة أو‬‫ُصة علقت به هو خطبتها ّ‬ ‫ولكن ما تو ّقف عند حلقي غ ّ‬
‫الكاذب�ة والت�ي أعرب�ت عنها ذات اثنين‪ ،‬ال أعرف ال ّتفاصيل‪ ،‬ولكن‬
‫إذا كانت كذب ًة أو مزح ًة فال بأس‪ ،‬وإذا كانت حقيقة‪ ..‬سأتركُ عجلة‬
‫ال ّزم�ان ت�دور إل�ى أن أنتهي وأبتهج كما قلت لها‪ ،‬ليس صبر ًا‪ ..‬بل‬
‫أول نفس‪.‬‬ ‫تعود ًا على الحرمان الذي أخذته خطيئ ًة من ّ‬
‫ُّ‬

‫‪158‬‬
‫‪IV‬‬

‫بكل راحته وإزعاجه‬ ‫ٍ‬


‫كان بحر أغنيات ذلك األسبوع‪ ،‬غادرته ِّ‬
‫نحو الذي يليه‪.‬‬
‫ورطب بشمسه وهوائه‬ ‫ٌ‬ ‫معتدل‬
‫ٌ‬ ‫يوم من ّأيام اهلل‪،‬‬
‫يوم الخميس‪ٌ ،‬‬
‫وس�جلاّ ت‪ ،‬وطلبات‬‫ِ‬ ‫وفج�ره‪ .‬أرت�ع في�ه ف�ي مكتب�ي بي�ن مل ّف�اتٍ‬
‫الدنيا‪ ،‬أداهمها وأراوغها‬‫واتص�االت‪ ،‬وال ألق�ي ب�االً لما تفتعله بي ّ‬
‫بالعم�ل‪ ،‬وأواص�ل الكدح العقيم ف�ي ز ِّج رغبات الحديث في طي‬
‫االمتن�اع‪ .‬وتج ّنب حش�د نفس�ي في خانة المناصري�ن لل ّتهميش في‬
‫ثقافة الغير وفي ذلك ال ّتفاعل في اجتماعات ال ّشركة‪ ،‬ووقاية لنفسي‬
‫من الحرج بحش�ر نفس�ي وس�ط ذينك االثنين اللذين على ما أعتقد‬
‫أنّهما سيحصالن على مكافأة الخطوبة أخير ًا‪ .‬كم كانت نجوى نافع ًة‬
‫مهب حديثٍ فينس�يا وجودي فأغادر أحيان ًا‬ ‫ِّ‬ ‫حينما تأخذ س�عد ًا في‬
‫سر ًا على جذب سعد نحوها عندما أكون‬ ‫دون كلمة‪ ،‬وكم أشكرها ّ‬
‫نتحدث في أش�ياء ُتع�اد وتتكرر‪ ،‬وك�م لها الفضل‬ ‫َّ‬ ‫واقف� ًا أن�ا وه�و‬
‫ف�ي أخ�ذ مقع�دي بجانبه ف�ي المطعم‪ ،‬وكان خير ًا لس�عد هو أيض ًا‬
‫أن ُيقابل امرأ ًة مثلها‪ ،‬لن أقول أنّه كان قدر ًا‪ ،‬لكن كان ش�يئ ًا يش�به‬
‫كنت أنا جامعها في حضرة وجودي بينهما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الصدفة‪ ،‬والتي‬
‫كل‬ ‫أبهجن�ي اختالئ�ي برقعتي الجديدة في ذلك المطعم‪ .‬ففي ّ‬
‫‪159‬‬
‫يرجع لوني‬‫ُ‬ ‫مرة آكل سلطته‬ ‫كل ّ‬
‫مرة أدخل أبوابه‪ ،‬أدخل ُه ثقيالً‪ ،‬وفي ِّ‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرج من أبوابه‪ ،‬أخرج خفيفاً‬ ‫ِ‬
‫كل ّ‬‫للونه ومع َدتي لشبعتها‪ ،‬وفي ّ‬
‫جوي العكر‪ ،‬و ُتمحى‬ ‫لربما أفضل من سابقه‪ ،‬ويصفو ّ‬ ‫وظلاّ ً وبمزاج ٍ ّ‬
‫الع ِّد والجمع‪ ،‬وال ّلصق‬ ‫من ذاكرتي شوائب األرقام واألصفار‪ ،‬ولغة َ‬
‫للملء‪ ،‬وإلعادة كتابة ال ّلغات‬ ‫ْ‬ ‫صنع صفح ٌة جديدة تص ُلح‬ ‫وال ّنقر‪ ،‬و ُت ُ‬
‫بالرموز نفسها بطرائق أخرى‪.‬‬ ‫نفسها ّ‬
‫يعمل قسمي بعدها في يوم الخميس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مرت فترة ال ّظهيرة‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬
‫يهبه فصل ال ّشتاء إراحة‬ ‫عندما بدت لي ال ّشمس غائبة‪ ،‬ونسيم الهواء َ‬
‫رت أن أخرج ألتن ّزه‪ .‬أردت االنسجام مع شهر فبراير الذي‬ ‫قر ُ‬ ‫للرئة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫لاّ‬
‫ُيكس�ي نفس�ه معاطف‪ ،‬والذي ُينعش�ني ببرده ال ذع‪ ،‬والذي تلعب‬
‫أفضل هذا الشهر كثير ًا‪،‬‬ ‫بي رياحه الباردة نافض ًة ع ّني بقايا الحزن‪ّ .‬‬
‫فلياليه الطويلة تشبعني نوم ًا‪ ،‬ونهاره القصير يقيني أزمة اليقظة كثير ًا‪.‬‬
‫بالفنلندية بـ‪(( :‬هيلميكو))‪ ،‬والتي تعني ش�هر اللؤلؤ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُيع�رف فبراي�ر‬
‫هو شهر لؤلؤ بحق‪.‬‬
‫أتج�ول بي�ن ال ّن�اس متخ ّفي ًا في معطف�ي الب ّني‪ ،‬وكانت‬ ‫ّ‬ ‫ح�ت‬
‫ُر ُ‬
‫المنس�دل على عنقي‪،‬‬ ‫لتحرك اإليش�ارب ُ‬ ‫ّ‬ ‫ريح تأتي بين حين وآخر‬ ‫ٌ‬
‫وتحرك شعري لتجعله غير مر ّتب بشكل ٍ أنيق‪.‬‬
‫عصبية‬
‫ّ‬ ‫وأعطيت إش�ار ًة‬
‫ُ‬ ‫جذبني بائع الفش�ار‪ ،‬اش�تريت كيس� ًا‪،‬‬
‫وكل ثالث‬ ‫وعي�ي أن تذهب�ا أينم�ا ش�اءتا‪ ،‬عل�ى هواهم�ا‪ُّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫لقدم�ي‬
‫ّ‬
‫والمعد للمسافات‬ ‫ِّ‬ ‫خطوات أو أربع آكل الفشار من الكيس الكبير‬
‫لتطير حبة فش�ار كانت‬ ‫ريح ّ‬ ‫مر ًة جاءت ٌ‬ ‫الطويلة من المش�ي‪ ،‬وكم ّ‬
‫ت ّتجه نحو فمي‪ ،‬كان شيئ ًا من المعاكسة ال ّلطيفة‪.‬‬
‫جلس�ت على أحد الكراس�ي بس�احة األمم الم ّتحدة‪ ،‬أش�اهد‬ ‫ُ‬
‫‪160‬‬
‫جهات‬
‫ٌ‬ ‫ال ّن�اس يركب�ون س�يارات األج�رة البيض�اء‪ ،‬صف طوي�ل وو ِ‬
‫ٌّ‬ ‫ّ‬
‫ل�كل منه�ا وجه�ة‪ ،‬تبدو كحيت�ان كبيرة‬ ‫ٍّ‬ ‫مختلف�ة‪ ،‬وحافلات كثي�رة‬
‫تلبي نداء العودة ف�ي ال ّليل باجتماع‬ ‫مصط ّف�ة وتع�وم في ال ّش�وارع‪ّ ،‬‬
‫الضخم استراح ًة للعودة باكر ًا مع طلوع الفجر‪.‬‬ ‫كل قطيع ٍ إلى مرآبه ّ‬ ‫ّ‬
‫مررت على باعة‬ ‫ُ‬ ‫نهضت ألعيد ال ّتجوال بعد أن نفد الفش�ار‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يدوية مفروشة على األرض‪ ،‬وهواتف‬ ‫ّ‬ ‫أرصفة‪ ،‬كانت هناك ساعات‬
‫محل‬‫ٍّ‬ ‫وقفت قرب‬ ‫ُ‬ ‫نقّالة‪ ،‬وأحذية‪ ،‬ون ّظارات شمسية‪ ،‬وبعض الكتب‪.‬‬
‫ف�ت خل�ف زجاجه للحظات‪ ،‬أنظر إلى حذاء أس�ود‬ ‫للمالب�س‪ .‬تو ّق ُ‬
‫أكملت مسيري‬‫ُ‬ ‫رت في العروج عليه غد ًا القتنائه‪.‬‬ ‫المع أعجبني‪ .‬فكّ ُ‬
‫الدوخة‪.‬‬ ‫ووجوه ال ّناس بأشكالها وأجناسها أصابتني بنوع من ّ‬
‫محل مث ّلجات في فصل ال ّشتاء‪ ،‬وا ّلذي‬ ‫َّ‬ ‫يبدو غريب ًا عندما تجد‬
‫ٍ‬
‫جد ًا ومغري ًا ألولئك الذين احتفلوا بش�يء س�اذج قبل‬ ‫ُيصبح نافع ًا ّ‬
‫س�بعة ّأيام‪ .‬كان المكان مكت ّظ ًا قليالً‪ ،‬ومعظمهم ش�باب يصغرونني‬
‫س�يارة ورائي‪ ،‬أض�ع في ذهني نكهة‬ ‫ظلل�ت م ّتكئ� ًا على باب ّ‬ ‫ُ‬ ‫س� ّن ًا‪.‬‬
‫السوداء‪ .‬ارتأيت‬ ‫دت بين الفانيال والشوكوالتة ّ‬ ‫ُتعجبني أختارها‪ ،‬تر ّد ُ‬
‫أن أجع�ل الي�وم أبي�ض‪ ،‬فاألبي�ض ل�و ٌن ث�ان ٍ ألناقة الح�زن‪ .‬ذهب‬
‫وعدت أدراجي‬ ‫ُ‬ ‫وطلبت أنا واحد ًا بالفانيال‪ .‬نق ُ‬
‫ّدت العامل‬ ‫ُ‬ ‫ال ّشباب‪،‬‬
‫إلى مكان جلوسي ألكمل ما تبقّى من البوظة‪.‬‬
‫أن�اس يمش�ون‪ ،‬وآخ�رون يجيئون‪ ،‬مش�اغل يج�ب أن ُتضبط‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫رس�مية‪ ،‬يحملون‬ ‫ّ‬ ‫وأعم�ال يج�ب أن ُتنج�ز‪ ،‬معظمه�م ف�ي بذالت‬
‫يدوي�ة وهوات�ف بي�د ٍ على أذن‪ .‬كانت ُخطاهم تتس�ارع‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫حقائ�ب‬
‫للراح�ة أو لتعديل س�رعة المش�ي‪ .‬لم أر أح�د ًا فيهم يلتفت‪.‬‬ ‫وق�ت ّ‬
‫ال يختلف األمر بال ّنس�بة إلى ش�ركتنا نحن أيض ًا‪ ،‬قد أش�بههم في‬
‫‪161‬‬
‫كل األش�ياء‪.‬‬ ‫بمثالية ِّ‬ ‫ّ‬ ‫إدارة العمل والقيام به‪ ،‬لك ّني لس�ت مهووس� ًا‬
‫بمعانقة ُترضي بضيقها‬ ‫ٍ‬ ‫علي الخناق‬‫تش�د َّ‬ ‫ُّ‬ ‫أكره ربطات العنق‪ ،‬فهي‬
‫أول‬ ‫الرؤس�اء والزملاء‪ ،‬ال أح�ب تلك المظاهر ال ّزائف�ة‪ .‬أتذكّ ر أ ّن ّ‬ ‫ّ‬
‫كنت آتي كشخص عادي خارج ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّأيام عملي كانت مستف ّزة للبعض‪ُ ،‬‬
‫صرت‬‫ُ‬ ‫مر ًة‬‫للجل�وس ف�ي المقه�ى أو كش�خص يريد أن يبتاع‪ ،‬ب�ل ّ‬
‫جئت مرتدي ًا بنطال جينز وقميص ًا‬ ‫ُ‬ ‫محور حديثٍ لدى بعضهم عندما‬
‫كنت أضعها على رأس�ي‪ ،‬حينها جاء س�عد ُيعاتبني‬ ‫قطني ًا وقلنس�وة ُ‬
‫ويطلب مني أن ألتزم‪ .‬قال لي إن العمل شيء والتصرف على راحةٍ‬
‫ّ ُّ‬ ‫ُ ّ‬
‫ش�يء آخر‪ ،‬بعدها غيرت مالبس�ي بمالبس رسمية‪ ،‬وأذكر أول مرة ٍ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ٌ‬
‫المزيف فور‬ ‫ّ‬ ‫وضعت فيها ربطة عنق‪ ،‬لم أرتح لها‪ ،‬شعرت بهوسها‬ ‫ُ‬
‫ثم رميتها في حاوية‬ ‫وضعها‪ ،‬أزلتها وقصصتها بمقص أربعة أجزاء‪َّ ،‬‬
‫بعي�دة ع�ن الح�ي‪ .‬لكن اآلن الكفاءة تنفي تلك األش�ياء البخيس�ة‪،‬‬
‫أما ربطة العن�ق فرفضتها‪،‬‬ ‫واكتفي�ت ا ّتفاق� ًا م�ع س�عد بالبذل�ة فقط‪ّ ،‬‬
‫أصبحت صعب المراس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ورضي بقراري‪ ،‬فهو أفضل من حالتي إن‬
‫أخرجت من جيب‬ ‫ُ‬ ‫أكمل�ت البوظة بجزئه�ا المقرمش األخير‪.‬‬ ‫ُ‬
‫لت‬ ‫عد ُ‬‫مس�حت بقاي�ا البي�اض ع�ن فم�ي‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫معطف�ي منديلاً ورقي� ًا‪،‬‬
‫حت أراقب‬ ‫فخ�ذي‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ّ‬ ‫يدي على‬‫ووضعت ّ‬‫ُ‬ ‫ن ّظارت�ي الت�ي انزلق�ت‪،‬‬
‫صخب البشر؛ سياراتهم‪ ،‬ضوضاء أبواقهم‪ ،‬أصوات الكُ عوب العالية‬
‫لل ّنساء تطرق األرض‪ ،‬أصوات الباعة وهم ُيحاولون ال ّتم ّلق للمارين‬
‫الس�جائر الملتهبة ودخ�ان أفواهها‪،‬‬ ‫للش�راء‪ ،‬مل�ل المقاه�ي‪ ،‬ونُقط ّ‬
‫ِ‬
‫الملق�ى على األرض والذي ُيباع بين د ّفات كتب‪ ،‬وصوت‬ ‫والع ْل ُ‬
‫�م ُ‬
‫المارين من‬ ‫ّ‬ ‫الدراهم التي تنتقل من جيبٍ إلى جيب‪ ،‬وقهقهة بعض‬ ‫ّ‬
‫ال�كل يتجمع�ون في م�كان واحد كاس�تعراض ٍ ما للحركة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أمام�ي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪162‬‬
‫وجل الناس‬ ‫ّ‬ ‫والكل يختلفون في أفعالهم ويتفقون في ثقل المالبس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫لمطر ُيبخ ُِّر عنهم تو ُّتر اليوم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يحملون مظ ّلة‪ ،‬ال مخافةً‪ ..‬بل تر ّقب ًا‬
‫عين�ي كرادار‬ ‫ّ‬ ‫فأدرت‬
‫ُ‬ ‫ح�د أزي� ُز األص�وات في طبلت�ي أذني‪،‬‬ ‫ا ّت َ‬
‫ل�ت ُمحاوالً ألاّ‬
‫ترج ُ‬
‫دت وجهتي‪ّ .‬‬ ‫ح�د ُ‬ ‫للس�كينة‪ّ .‬‬ ‫أبح�ث ع�ن وجهة ّ‬ ‫ُ‬
‫يأكل‬
‫وطفل مع والدته ُ‬ ‫ٌ‬ ‫أحاذي أحد ًا من الجموع التي تمشي مسرعةً‪.‬‬
‫وابتسمت‬
‫ُ‬ ‫المث ّلجات‪ ،‬تعثّر فألصق بوظته ببنطالي‪ ،‬اعتذرت الوالدة‪،‬‬
‫الصغي�ر ث�م مضيت‪.‬‬ ‫مس�حت عل�ى ش�عر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ف�ي وجهه�ا دون كلم�ة‪.‬‬
‫مسحت أجزاء بوظة الفراولة عن بنطالي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أخرجت منديالً ورقي ًا آخر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أزلتها ورميت المنديل في حاوية صغيرة مع ّلقة بعمود كهرباء‪.‬‬
‫تس�اءلت‬
‫ُ‬ ‫الصخب‪ ،‬كم‬ ‫المكتبات أفضل األماكن لالبتعاد عن ّ‬
‫ِ‬
‫لماذا هي كذلك‪ ،‬لم َيكفنِي تفسير بأ ّن من يرتادها بغية شراء كتاب‬
‫يعزلك‬ ‫قليل‪ ،‬السر أ َّن صمتها ذاك ورائحة الكتب يحوطهما حقل ما ِ‬
‫ّ ُّ‬
‫كل هذا‪ ،‬أ ّن فيها أموات ًا‪ ،‬أصحاب قبور‬ ‫والسبب وراء ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن الخارج‪،‬‬
‫موضوع ٌة أس�ماؤهم على أرفف كتب‪ ،‬وآخرين أحياء لكن قليلون‬
‫كب�ر عدده�م‪ .‬وكان في اعتقادي دائم ًا أن أولئك الذين يأتون‬ ‫مهم�ا ُ‬
‫القتناء كتاب‪ُ ،‬يعزى فعلهم إلى زيارة فقط‪ ،‬كأنّهم يزورون ميت ًا في‬
‫قبره‪ ،‬أو باألحرى يعتقون رقبة كتاب بدفع ثمنه‪.‬‬
‫ف كبير‪ ،‬رحت أتنقل بين‬ ‫دخلت المكتبة ُمسرع ًا‪ .‬اختفيت وراء َر ٍّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أقسام الكتب‪ ،‬ولم ُيثرني سوى رسم على رواية لفكتور هيغو‪ ،‬رجل ٍ‬
‫مقيدتان وراء ظهره‪ ،‬وأمامه مقصلة‪ ،‬وكانت‬ ‫ٍ‬
‫جاث على ركبتيه ويداه ّ‬
‫مالمح وجهه مخدوشة‪ ،‬موصوم ًة بأسى القدر والعقم الذي ُتنبعه في‬
‫عبر عنها كاتبها في روايته‪ ،‬تلك‬ ‫وجهه تلك األرملة «المقصلة» كما ّ‬
‫كل ما يملكه المحكوم بقرانها‪ .‬أش�حت‬ ‫األرمل�ة الت�ي ُتدم�ي آخ�ذة ّ‬
‫‪163‬‬
‫حنق ًا من حكم‬ ‫نظري مبعد ًا إياه عن التحديق في اسم الرواية‪ ،‬سأزداد ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أترج ُل بموازاة‬‫ّ‬ ‫حت‬ ‫عل�ي‪ ،‬ومن ال ّتش�ريد الذي أُ ُ‬
‫رديت ب�ه‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ّ‬ ‫األق�دار‬
‫ف العام�ر بالكت�ب‪ ،‬أُم ّت�ع نظري باألش�كال والحج�وم المختلفة‬ ‫ال�ر ِّ‬
‫ّ‬
‫تنبع�ث منه�ا‪ .‬ق�د تكون متش�ابه ًة في‬ ‫ُ‬ ‫الرائح�ة الت�ي‬
‫أش�تم ّ‬
‫ُّ‬ ‫للكت�ب‪،‬‬
‫الرائحة على ش�كل كلمات‪،‬‬ ‫تتغير ّ‬ ‫الرائحة‪ ،‬لكن حينما ُيفتح أحدها ّ‬
‫أول ُشعلة على رأسها‪ُ ،‬تعطي‬ ‫كشأن عيدان البخور‪ ،‬كلها في مواجهة ّ‬
‫الروائح المخزونة‪ ،‬لكن عند اشتعالها‬ ‫رائحة تتشابه فيها جميع نكهات ّ‬
‫البقية‪.‬‬
‫فردها عن ّ‬ ‫حاسة ال ّشم جمالها و ُت ِّ‬ ‫جمر ًا‪ ،‬تستسيغ ّ‬
‫مددت يدي عشوائي ًا إلى كتاب دون أن أرى ما نوع الكتاب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫أس�ندت عليه ظه�ري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي�ت ظه�ري لحائ�ط مقاب�ل ل�رف‬ ‫و ّل ُ‬
‫الكت�اب أق�رأ بعين�ي ال بعقل�ي‪ ،‬فال أري�د أن أدرك أو أعي أو أفهم‬
‫م�ا ُلغ�ة ال ّتواص�ل التي يريد بها الكاتب إيصال أفكاره‪ ،‬وكان كتاب‬
‫جو الخارج الذي التصقت‬ ‫أهدئ فيها ّ‬ ‫ت به عشر دقائق ِّ‬ ‫مد ْد ُ‬
‫صحة‪َّ .‬‬ ‫ّ‬
‫وأكملت دور ًة كامل ًة وبطيئ ًة‬
‫ُ‬ ‫أرجعت الكتاب إلى مكانه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بي بقاياه‪.‬‬
‫كنت ال ّزائ�ر الثّاني الموجود بالمكتبة‪،‬‬ ‫ت فيه�ا نظري بالمكان‪ُ .‬‬ ‫أش� ّت ُ‬
‫ثم‬
‫دفع�ت ثمنها َّ‬
‫ْ‬ ‫س�يدة اش�ترت كتب أطفال‪.‬‬ ‫فق�د س�بقتني لل ّزي�ارة ّ‬
‫خرجت بعدها‪ ،‬وأفكار تخسيس الوزن الذي خ ّلفه كتاب‬ ‫ُ‬ ‫خرجت‪.‬‬
‫الصح�ة‪ ،‬كان�ت ُتكم�ل دورتها في ذهني ح ّت�ى اضمحلت إلى آخر‬ ‫ّ‬
‫كلمة منها في س ّلة اللاّ وعي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أجلس وراء زجاجه الذي يفصل‬ ‫ُ‬ ‫فكّ رت أن أذهب إلى مقهى‪،‬‬
‫ابتعدت‬
‫ُ‬ ‫والمترجلي�ن وبين الجالس�ين والمتحاورين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بي�ن الواقفي�ن‬
‫الرصيف بجوار نخلة‪.‬‬
‫ووقفت على حاشية ّ‬
‫ُ‬ ‫عن المكتبة أمتار ًا قليلة‪،‬‬
‫ورحت‬
‫ُ‬ ‫ثم وضعتهما في جيبي معطفي‪،‬‬ ‫نفخت في يدي لتدفئتهما‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫‪164‬‬
‫أبحث بعيني عن مقهى قريب وخال ٍ بعض ال ّشيء‪ .‬ولكثرة المقاهي‬
‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫أي اسم ألي مقهى‪ ،‬فما نفع األسماء في قواميسي!‪.‬‬ ‫ال أذكر ّ‬
‫الرصيف‬ ‫انتقل�ت إلى ّ‬
‫ُ‬ ‫واح�د ًا ق�رب زاوية حي�ث توجد الحافالت‪،‬‬
‫على يميني‪ ،‬والمؤ ّدي إليه مباش�رة‪ .‬أس�رعت في س�يري كي أُبطل‬
‫الرصيف‬ ‫الس�يارات التي تمش�ي وتجيء بالقرب من ّ‬ ‫أزيز عجالت ّ‬
‫أردت لي س�وى‬ ‫ُ‬ ‫دخل�ت المقه�ى‪ ،‬كان خالي ًا كما‬ ‫ُ‬ ‫ال�ذي أن�ا علي�ه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جلس�ت على مقعد إلى اليمين قرب الزجاج الذي‬ ‫من ش�خصين‪.‬‬
‫ُ‬
‫ط�ل عل�ى الخ�ارج‪ .‬كانت جريدة موضوعة ف�وق ال ّطاولة‪ ،‬حملتها‬ ‫ُي ّ‬
‫ِ‬
‫الس�جائر‬ ‫ووضعته�ا عل�ى ال ّطاول�ة المج�اورة ل�ي‪ .‬حمل�ت منفضة ّ‬
‫عدت إلى‬‫ُ‬ ‫وضع�ت عليها الجري�دة‪.‬‬‫ُ‬ ‫ووضعته�ا عل�ى ال ّطاول�ة التي‬
‫قاومت‬
‫ُ‬ ‫طلبيتي‪.‬‬
‫مكان�ي بع�د أن أش�رت إل�ى ال ّنادل أن يأتي ليأخ�ذ ّ‬
‫فانتهيت بطلب إبريق شاي ٍ صغير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حبات البن‪،‬‬
‫رغبتي في ّ‬
‫الصامتة والمتحرك�ة من وراء ال ّزجاج؛‬ ‫رح�ت أش�اهد األفالم ّ‬ ‫ُ‬
‫برتقالية يستوقفون ال ّناس لخدمة ما تتع ّلق‬ ‫ّ‬ ‫ال ْترام وأشخاص بقمصان‬
‫بأرقام الهواتف وعروض ُمقامة‪ .‬كانت مقابلة كرة قدم ُمعادة‪ ،‬منقولة‬
‫أتعرف إلى البلد الذي‬ ‫بتلفاز من الحجم الكبير موجود بالمقهى‪ .‬لم ّ‬
‫مت فيها في المباراة‬ ‫ِ‬
‫السبع التي ه ُ‬ ‫كان منه الفريقان‪ .‬خالل الدقائق ّ‬
‫سجل أحد الفريقين الذي هو الفريق األزرق‬ ‫انتظار ًا إلبريق ال ّشاي‪ّ ،‬‬
‫حي�ث أُخ�رج حارس الفري�ق األصفر‬ ‫ُ‬ ‫هدف�ه الثّان�ي بضرب�ة ج�زاء‪،‬‬
‫ببطاقة حمراء لعرقلة مهاجم خصمه‪ ،‬والتي على إثرها جاءت ضربة‬
‫الجزاء‪ ،‬والفريق األصفر كان دون أهداف‪.‬‬
‫حاولت أن‬
‫ُ‬ ‫ش�فتي بأصابع�ي‪ ،‬كانت�ا جافتي�ن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫س�ت‬
‫تحس ُ‬ ‫عندم�ا ّ‬
‫لك�ن لعاب�ي كان جا ّف� ًا ه�و اآلخ�ر‪ .‬حملت كأس‬ ‫َّ‬ ‫أر ّطبهم�ا بلس�اني‪،‬‬
‫‪165‬‬
‫ومضمضت كي تس�تعيد‬ ‫ُ‬ ‫جرعت جرعتين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫م�اء كان�ت عل�ى ال ّطاولة‪،‬‬
‫سكبت في كأس صغيرة ال ّشاي‪ ،‬ارتشفت من‬ ‫ُ‬ ‫الغدد ال ّل ّ‬
‫عابية نشاطها‪.‬‬
‫الجو ب�ارد ًا‪ .‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫لك�ن ال ب�أس بها ما دام‬
‫ّ‬ ‫ال�كأس‪ ،‬أحر َق�ت لثّت�ي‪،‬‬
‫الصغير ُيضفيان دفئ ًا على‬ ‫البخ�ار المتصاع�د منها ومن فوه�ة اإلبريق ّ‬
‫المع ّلق على المباراة‪،‬‬ ‫اله�دوء القائ�م‪ ،‬المتداخل مع صوت الجماهير ُ‬
‫وأيض ًا مع صوت الرجلين اللذين يتحاوران وطقطقة حذاء النادل وهو‬
‫الخارجية دون أن تدخل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخدم جماعة أتت وجلست على الكراسي‬ ‫ُ‬
‫مس�حت‬
‫ُ‬ ‫أنفاس�ي الباردة جعلت ال ّزجاج الذي بقربي ضبابي ًا‪،‬‬
‫قت نظري على مباراة كرة القدم‪.‬‬ ‫ال ّزجاج بيدي‪ ،‬وع ّل ُ‬
‫تطلع مع‬ ‫ُ‬ ‫ش�عرت بالحرارة‬ ‫ُ‬ ‫أنهيت الكأس الثّانية من اإلبريق‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ونزعت‬ ‫ُ‬ ‫ب�ت قميصي الذي انكم�ش‪،‬‬ ‫نزع�ت معطف�ي‪ ،‬ر ّت ُ‬ ‫ُ‬ ‫جس�دي‪.‬‬
‫نفخت‬ ‫ُ‬ ‫ن ّظارت�ي الت�ي تغمغم�ت ه�ي األخ�رى ببخ�ار الكأس الت�ي‬
‫ثم‬
‫مس�حت زجاج النظارة بمنديل ورقي آخر َّ‬ ‫ُ‬ ‫على س�طحها لتبرد‪،‬‬
‫أعدت وضعها‪ .‬انتهت المباراة بفوز الفريق األزرق بهدفين لهدف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وب�دأ المقه�ى باالمتلاء‪ ،‬فقد دخل ثمانية زبائن آخرين‪ ،‬ثالث ٌة منهم‬
‫اجتمعوا على طاولة بقربي‪ ،‬وكان أحدهم يد ّخن‪ ،‬لم ُيزعجني دخان‬
‫اعتدت على رائحة ال ّتبغ مع سعد‪ ،‬أدري أ ّن حالتي‬ ‫ُ‬ ‫سيجارته‪ ،‬فقد‬
‫الصحي�ة ال تس�مح ل�ي‪ ،‬ولك�ن لم أرد أن أزعج�ه‪ ،‬فقد بدا متو ِّتر ًا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وغيرت مجلسي إلى الجهة اليسرى‬ ‫حملت معطفي ّ‬ ‫ُ‬ ‫بكل بساطة‬
‫لذا ّ‬
‫أي انزعاج‪.‬‬ ‫دون أن أثير قلقهم أو أظهر ّ‬
‫ياضية إلى‬ ‫الر ّ‬
‫غي�ر عامل المقهى القن�اة ّ‬ ‫بع�د دقائ�ق‪ ،‬وبع�د أن ّ‬
‫فأخرج�ت‬
‫ُ‬ ‫قن�اة ناش�يونال جيوغراف�ي‪ ،‬ق ّززتن�ي بع�ض الحش�رات‪،‬‬
‫وفتح�ت بري�دي اإللكترون�ي ألرى إذا ما ولجتني‬ ‫ُ‬ ‫الذك�ي‪،‬‬‫هاتف�ي ّ‬
‫‪166‬‬
‫أقفلت‬
‫ُ‬ ‫أي رسائل‪ .‬كانت علبة الواردات كما هي‪ ،‬ال شيء جديد‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يتبق‬
‫وعدت إلى إكمال الكأس الثّالثة من ال ّشاي‪ ،‬والتي لم َّ‬ ‫ُ‬ ‫الهاتف‬
‫فيها إلاّ قليل‪ .‬احتسيتها بأكملها‪ .‬ما إن صببت ما تبقّى من اإلبريق‬
‫يتجوالن‬
‫َّ‬ ‫الصدفة! سعد ونجوى كانا‬ ‫الصغير حتى دخل ال ّشخصان ُّ‬ ‫ّ‬
‫هم�ا أيض� ًا‪ .‬ل�م أج�د ملجأً للهروب أو االختباء س�وى اللجوء إلى‬
‫الصمت‪ .‬لكن بال جدوى‪ ،‬فس�رعان ما دخال والتفت س�عد‬ ‫التزام ّ‬
‫توجها نحوي‪ .‬جلس�ت‬ ‫يبح�ث ع�ن طاولة‪ ،‬ف َلمحن�ي‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫إل�ى يس�اره‬
‫كرس�ي ًا من ال ّطاولة‬
‫ّ‬ ‫الكرس�ي الذي بجانبي‪ ،‬ونقل س�عد‬
‫ِّ‬ ‫نجوى على‬
‫المجاورة وجلس مقابالً لنجوى التي على يميني‪.‬‬
‫حيادي ٌة هي طبيعتي ّ‬
‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫الحد الفاصل بين األشياء‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كنت دائم ًا‬
‫قصديتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قصديتها وغير‬
‫ّ‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫مرة أراك في مقهى؟‬ ‫أول ّ‬
‫– ماذا تفعل هنا ّ‬
‫المرة األولى يا صديقي‪ ،‬إنّها عادة الخميس‪.‬‬ ‫– ليست ّ‬
‫بقيت نجوى صامتة‪ .‬كانت تحمل هاتفها ّ‬
‫الذكي تتص ّفح‪ .‬وقد‬
‫الحظت فيها ش�يئ ًا منذ أن دخلت‪ّ ،‬‬
‫غيرت هيئتها قليالً‪ ،‬وأصبحت‬
‫تضع غطاء رأس‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– نجوى‪..‬‬
‫رفعت رأسها نحوي وقالت‪:‬‬
‫– نعم!‬
‫بعيني إلى ما تضعه على رأسها‪ .‬قلت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وأشرت‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت‬
‫ِ‬
‫– راقني شكلك الجديد‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫رمق�ت نج�وى س�عد ًا بنظ�رات‪ ،‬ورمقها هو اآلخ�ر بال ّنظرات‬‫ْ‬
‫الصغي�رة التي عليها اإلبريق وكأس�ي التي‬
‫يني�ة ّ‬‫الص ّ‬
‫أبع�دت ّ‬
‫ُ‬ ‫نفس�ها‪.‬‬
‫أفس�حت مس�اح ًة كافية عل�ى ال ّطاولة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قرب�ت أن تف�رغ من ش�ايها‪،‬‬
‫ُ‬
‫وقلت مع تنهيدة خفيفة‪:‬‬‫ُ‬ ‫شبكت أصابعي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫مرفقي عليها َّ‬
‫ّ‬ ‫وضعت‬
‫ُ‬
‫قصتكما؟‬‫– ‪ ..‬ما ّ‬
‫قبل أن يقول سعد شيئ ًا‪ ،‬جاء ال ّنادل يقطع كلماته التي كانت‬
‫تريد أن تخرج‪ .‬طلب س�عد قهو ًة بالحليب‪ ،‬وطلبت نجوى عصير‬
‫ليمون‪.‬‬
‫فر َج عن سعد وعن ما كان يريد قوله‪.‬‬ ‫ذهب ال ّنادل‪ ،‬وأُ ِ‬
‫مد سعد يد ُه إلى يد نجوى وأمسكها وأحكم قبضته‪ ،‬قال لي‬ ‫َّ‬
‫والفرحة تعلو وجهه‪:‬‬
‫عرفك إلى خطيبتي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫– أ ّ‬
‫علي المفاجأة‪ ،‬كنت أعرف أ ّن األمور س�تؤول إلى ما‬
‫تبد َّ‬
‫لم ُ‬
‫حدث‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– مبروك‪ ..‬مبروك‪..‬‬
‫قال سعد وتلته الكلمات نفسها من نجوى‪:‬‬
‫– اهلل يبارك فيك‪.‬‬
‫وذهبت إلى دورة‬
‫ُ‬ ‫نهضت من مقعدي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعد دقائق من الحديث‪،‬‬
‫عدت وطلبت من ال ّنادل أن يأتيني بإبريق شاي آخر‪ .‬أغرتني‬ ‫ُ‬ ‫المياه‪.‬‬
‫رائحة البن الصاعدة من قهوة س�عد‪ ،‬رغم إبطال الحليب ش�يئ ًا من‬
‫الرائح�ة‪ ،‬إلاّ أن قليلاً منه�ا كان كافي� ًا ليوق�ظ رغبتي‪ ،‬لك ّني‬
‫من�اداة ّ‬
‫ٍ‬
‫وبكثير من اإلرادة‪.‬‬ ‫قاومت بال ّشاي‬
‫‪168‬‬
‫جلست‪ ،‬قالت لي نجوى‪:‬‬
‫ُ‬ ‫بعد أن‬
‫– وأنت؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫– أنا ماذا؟‬
‫– أال تفكّ ر في خطبة إحداهن‪ ،‬أو ال ّزواج ّ‬
‫عامة؟‬
‫لم أتر ّدد في أن أقول مباشرة في ما كان يجب أن أفكّ ر فيه‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ال أريد اآلن‪.‬‬
‫– وهل هناك سبب؟‬
‫اعتدلت في‬ ‫ارتش�فت رش�فة ش�اي من كأس�ي‪ ،‬قلت بعد أن ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جلستي‪:‬‬
‫– وهل لإلرادة سبب؟‬
‫تد ّخل سعد قائالً‪:‬‬
‫– اتركي�ه يفع�ل م�ا يش�اء‪ ،‬إنّه ال يس�تمع ألح�د‪ ،‬ح ّتى أنا ال‬
‫أغي�ر رأي�ه إذا م�ا ع�زم على ش�يء‪ ،‬وثقي بأ َّن‬
‫ُيمكنن�ي أن ّ‬
‫أجوبته مطلقة‪ ..‬ال ُتقلقي نفسك‪.‬‬
‫قالت لي نجوى‪:‬‬
‫– هل أفعل بنصيحته؟‬
‫– افعلي ما تشائين‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬‫كان يجب أن أنهي ال ّنقاش الذي يدور في ملعبي‪ُ ،‬‬
‫أحب تركها إل�ى أن تأتي‪ ،‬وال ّزواج‬
‫ُّ‬ ‫– هن�اك بع�ض األش�ياء‪،‬‬
‫شيء قد يعود إلى منطق تلك األشياء التي تأتي مشيئ ًة ال‬ ‫ٌ‬
‫رغب ًة أو تفكير ًا‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ك بع�ض ال ّش�يء في ما تق�ول‪ ،‬فقد قلت‬‫– أرى أنّ�ك متش�كّ ٌ‬
‫«الزواج قد يعود إلى‪.»..‬‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫صدقين�ي‪ ،‬قل�ت ل�ك أ ّن أجوبت�ه مطلق�ة‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬
‫– ل�ن ُيجيب�ك ّ‬
‫تشكّ كي‪.‬‬
‫قلت حينها‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫– تريدين جواب ًا‪ ،‬إذن دعيني أقول لك إ َّن االحتمال وج ٌه آخر‬
‫لليقين‪.‬‬
‫ضحك سعد وقال لنجوى‪:‬‬
‫قل�ت ل�كِ‪ ،‬اتركي�ه يفعل ما يش�اء‪ ،‬ال ُيمكنك فهم ما ُيفكّ ر‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫– ‬
‫فيه‪ ،‬هكذا هو‪ ،‬ال ُتتعبي نفس�كِ عناء تو ّقع اإلجابات كما‬
‫تفعلين معي‪.‬‬
‫لم أعلم إن كان سعد حينها يجاملني أم يتم ّلقني‪.‬‬
‫ه ّزت نجوى كتفيها وقالت لي‪:‬‬
‫– افعل ما يحلو لك‪ ،‬ح ّظ ًا سعيد ًا!‬
‫وقفت حينها‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– ح ّظ ًا سعيد ًا لكما أنتما أيض ًا‪ ،‬اعتنيا ببعضكما‪.‬‬
‫عل�ي بالبق�اء‪ ،‬إلاّ أنّي رفضت بعد أن كان صوت األذان‬ ‫َّ‬ ‫أَ َّ‬
‫لح�ا‬
‫حليفي ُمعلن ًا عن صالة العصر‪.‬‬
‫الكرس�ي‬
‫ِّ‬ ‫م�ددت ي�دي ألحمل معطفي الذي ع ّلقته على ظهر‬ ‫ُ‬
‫وتوجهت نحو ال ّنادل دون أن أنبس‬
‫ّ‬ ‫الذي كنت جالس ًا عليه‪ ،‬ارتديته‪،‬‬
‫بكلمة لهما‪ ،‬وتركتهما خلف ظهري يراقبانني كأنّي أقوم بأفعال غير‬ ‫ٍ‬

‫‪170‬‬
‫دفع�ت ثم�ن إبري�ق ال ّش�اي وثمن ما طلب�ا‪ ،‬وقبل أن أخرج‬ ‫ُ‬ ‫عاقل�ة‪.‬‬
‫ح�ت لهم�ا بي�دي‪ ،‬وكانت نظراتهما تخترقان ال ّزجاج تتبعاني إلى‬ ‫لو ُ‬ ‫َّ‬
‫مار ًا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اختفيت وراء ال ْترام الذي كان ّ‬
‫ُ‬ ‫أن‬
‫حيث أقطن‪ ،‬قد‬ ‫لم آت بسيارتي‪ ،‬فالمكان قريب من العمارة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫أتيت منه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عت من ال ّطريق الذي‬ ‫تستغرق المسافة عشرين دقيقة‪َ .‬ر ِج ُ‬
‫خرجت من المقهى تارك ًا االثنين في راحة‬ ‫ُ‬ ‫ومرت أربع دقائق منذ‬ ‫ّ‬
‫ليتحدثا كما شاءا كما يحدث دائم ًا‪ ،‬لك ّنهما أتيا في الوقت المناسب‬ ‫ّ‬
‫رت أنني إذا ما زاد اكتظاظه سأغادر‪،‬‬ ‫لرحيلي عن المقهى‪ ،‬فقد فكّ ُ‬
‫وق�د كان حضورهم�ا إش�ارة إل�ى مغادرت�ي‪ .‬قد يظ ّن�ان أنّي أهرب‬
‫منهما‪ ،‬لك ّني ال أفعل‪ ،‬فقط أخاف لوم نفسي إذا ما خرجت أنانيتها‬
‫في حديث‪ ،‬أو تخرج كلمات باردة وقاس�ية‪ ،‬فقد ال أش�عر بصدى‬
‫يلمس‬ ‫ُ‬ ‫أفضل ترك أثري‬ ‫الكلمات الجارحة التي تخرج من فمي‪ ،‬لذا ّ‬
‫أحب�ذ فعلهما بجعلي محور‬ ‫ج�زء ًا م�ن العت�اب‪ ،‬إضاف� ًة إلى أنّي ال ّ‬
‫في‪ ،‬وس�عد ُيجيد خلق‬ ‫الحديث دائم ًا فينس�يا س�بب وجودهما مع ًا ّ‬
‫الحوار بيني وبينه‪ ،‬كما أنه يعرف كيف ُيثير لغة تواصلي‪ ،‬وقد اختار‬
‫شريك ًة تشبه فضوله وتنتقي أسئلتها بعناية‪ ،‬وضغطهما المشترك لم‬
‫الراحة التي أنا فيها‪.‬‬ ‫مرة من منطقة ّ‬ ‫كل ّ‬‫أحبذه‪ُ ،‬يخرجانني في ّ‬ ‫أعد ّ‬ ‫ُ‬
‫تعب�ت قدماي من المش�ي‪ ،‬فلم أعت�د الحركة كثير ًا‪ ،‬وال أدري‬
‫كيف أواصل العمل في ال ّشركة بدون تعب‪ ،‬لربما هي إرادة ما تتو ّلد‬
‫ض�د العياء الذي ُيخ ّلفه مرض�ي‪ .‬األمر اآلن مختلف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عن�دي هن�اك‬
‫قدمي قد سخنتا‬ ‫َّ‬ ‫شعرت بأ َّن‬
‫ُ‬ ‫عائد إلى جسدي ال إلى عقلي‪.‬‬ ‫فاألمر ٌ‬
‫وقفت ق�رب مح ّط ٍة‬ ‫ُ‬ ‫والح�ذاء أيض� ًا زاد الح�رارة بالتصاق�ه بقدم�ي‪.‬‬
‫الحظ لم‬‫ِّ‬ ‫جلس�ت على مقعد‪ ،‬ولحس�ن‬ ‫ُ‬ ‫صغيرة النتظار الحافالت‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫مر‬‫حررت رباط حذائ�ي وخلعته‪َّ .‬‬ ‫أح�د ينتظ�ر ق�دوم الحافلة‪ّ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫يك�ن‬
‫محل‬ ‫�دت أن أط ُل�ب من�ه أن يأتيني بق ّنينة م�اء من‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫أمام�ي صب�ي‪ ،‬ك ُ‬
‫لجمت لساني‪ ،‬فكبريائي‬ ‫ُ‬ ‫الضفة األخرى من ال ّشارع‪ ،‬لك ّني‬ ‫بقالة في ّ‬
‫ارتح�ت قليالً‪،‬‬‫ُ‬ ‫يس�مح لي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األحم�ق ف�ي ع�دم طل�ب المس�اعدة ال‬
‫الرباط أو‬ ‫أعدت ارتداء الحذاء دون أن أعقد رباطه‪ ،‬ولكي ال ُيرى ّ‬ ‫ُ‬
‫أتعثّ�ر ب�ه‪ ،‬دسس�ته داخل الحذاء في الجانبي�ن قرب كعبي‪ ،‬أزعجني‬
‫ٍ‬
‫ورمات‬ ‫ذهبت ُببطء أصبر على ال ّت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫قليالً‪ ،‬إلاّ أنّه أفضل من ّ‬
‫الس�ابق‪.‬‬
‫قدمي‪ ،‬أمشي مشية البطريق وأحاول أن أخفي ألمي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫غير ال ّظاهرة في‬
‫ومر ًة أخرى‬ ‫سيار ًا ذا ا ّتجاهين‪ّ .‬‬ ‫فت في الوسط‪ ،‬فقد كان طريق ًا ّ‬ ‫تو ّق ُ‬
‫والراجعين‪ .‬بدت لي فسحة كبيرة‬ ‫الحد الفاصل بين القادمين ّ‬ ‫َّ‬ ‫أجدني‬
‫الس�ائقين أو بوق‬ ‫ٍ‬
‫ووصلت بسلام دون إهانة أحد ّ‬ ‫ُ‬ ‫أمر بألمي‪،‬‬ ‫لكي َّ‬
‫وعدت حيث كنت قاعد ًا بعد أن‬ ‫ُ‬ ‫اشتريت ق ّنينتين صغيرتين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سيارة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أعدت المشهد نفسه‪ ،‬وقوف ًا وتق ّلب ًا في مشيتي وتأ ّلم ًا‪.‬‬
‫مش�هد من عصر‬ ‫ٌ‬ ‫ش�ربت الق ّنين�ة األول�ى ُدفع� ًة واح�دة‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬
‫الس ّ�يارات عبث بنظري‪ ،‬وأكثر‬ ‫يمر أمامي‪ ،‬واختالط ألوان ّ‬ ‫الس�رعة ُّ‬ ‫ّ‬
‫س�يارات األج�رة‪ ،‬أحمر وأبي�ض‪ .‬خنقتني رائحة‬ ‫األل�وان كان ل�ون ّ‬
‫الضجيج القائم‬ ‫مرت بمحاذاتي‪ ،‬وذاك ّ‬ ‫البنزين التي خ ّلفتها ش�احنة ّ‬
‫فأصبحت في حالة ميلودراما كدرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زاد من األلم في‬
‫كل يوم أعيش�ه ُيكدر حياتي هذه‪.‬‬ ‫ش�يء في ِّ‬‫ٌ‬ ‫بد أن يحدث‬ ‫ال َّ‬
‫ٍ‬
‫جيد‪،‬‬ ‫جيد‪ ،‬وألتأ ّلم بشكل ّ‬ ‫لدت ألشقى بشكل ّ‬ ‫أحيان ًا أفكّ ر في أنّي ُو ُ‬
‫جيد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جيد‪ ..‬لك ّني فقط ال أعيش بشكل ّ‬ ‫وألتعب بشكل ّ‬
‫شخص ينتظر حافل ًة‬ ‫ٌ‬ ‫بقيت جالس ًا قرابة الثّماني دقائق‪ ،‬ثم جاء‬ ‫ُ‬
‫س�يارة‬ ‫وأكملت س�يري‪ .‬فكّ رت في أن آخذ ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقف�ت حينه�ا‬
‫ُ‬ ‫س�تأتي‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫أي واحدة رأت إشارة‬ ‫أجرة توصلني‪ ،‬لكن دون جدوى‪ ،‬فلم تتو ّقف ّ‬
‫الركاب‪.‬‬ ‫بالمرة ركوب واحدة وإن كانت فارغ ًة من ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ورفضت‬
‫ُ‬ ‫يدي‪،‬‬
‫مدت�ه التي كان يمك�ن أن تكون‬ ‫أكمل�ت س�يري ال�ذي س�تتضاعف ّ‬ ‫ُ‬
‫أقل من ضعفها بدقائق‪.‬‬ ‫ربما َّ‬ ‫خمس عشرة دقيقة‪ ،‬إلى ضعفها أو ّ‬
‫حاولت ما أمك�ن أن أُصلح من‬ ‫ُ‬ ‫وصل�ت أم�ام ب�اب العم�ارة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫خف عناق�ه العاصر لقدمي‬ ‫مش�يتي‪ .‬عندم�ا دخل�ت نزعت حذائي‪َّ ،‬‬
‫األرضية‬
‫ّ‬ ‫�ت قدماي‬ ‫المس ْ‬ ‫َ‬ ‫ش�عرت بب�رودة ٍ وراحة عندما‬ ‫ُ‬ ‫بع�د ذلك‪.‬‬
‫الدرجات األولى‪ .‬كن�ت مجهد ًا إلى أقصى‬ ‫جلس�ت عل�ى ّ‬ ‫ُ‬ ‫الب�اردة‪.‬‬
‫السلالم‪ .‬الدرج�ات‬ ‫درج�ة‪ .‬اس�تجمعت ن َفس�ي المتبقّ�ي ألصع�د ّ‬
‫الخم�س األول�ى صعد ُته�ا بصعوبة‪ ،‬وتبقّت ثمان�ي درجات ألصل‬
‫بصبر يحملني إلى‬ ‫ٍ‬ ‫رحت أفكّ ر من أين ُيمكن أن آتي‬ ‫ُ‬ ‫ال ّطابق األول‪.‬‬
‫ورجلي‪ ..‬حبو ًا‪ .‬لم‬
‫ّ‬ ‫يدي‬
‫صعدت الدرجات الثّماني مستعمالً ّ‬ ‫ُ‬ ‫هناك‪.‬‬
‫لت ن ّظارتي التي‬ ‫عد ُ‬
‫حل غير المصعد‪ّ .‬‬ ‫أستطع المواصلة‪ ،‬ولم ُي َر لي ٌّ‬
‫قدم�ي بألمهما نحو المصعد‪ ،‬كي أضغط‬ ‫ّ‬ ‫وش�ددت عزيمة‬ ‫ُ‬ ‫انع�وت‪،‬‬
‫ِ‬
‫زره ليأتي ُليق ّلني‪ .‬صعدته بعد أن انفتح‪.‬‬ ‫على ِّ‬
‫أزعجني ضوء المصعد‪ ،‬وزاد حرارة فروة رأسي‪ .‬انفتح الباب‬
‫خرجت مهزوم ًا‪ .‬تركت الحذاء من يدي‬ ‫ُ‬ ‫علن عن وصولي‪.‬‬ ‫أخير ًا ُي ُ‬
‫وكنت أن ُُّز عرق ًا‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫بيدي قميصي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫س�ت‬
‫تحس ُ‬ ‫ّ‬ ‫ليرتطم باألرض‪.‬‬
‫المتعرقة أيض ًا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫العرق أيض ًا يس�يل من مس�ام جبهتي‪ .‬مس�حته بيدي‬
‫بكل األس�ف‬ ‫ثم حملت‪ّ ،‬‬ ‫وواصلت واقف ًا التنفُّس البطيء والم ّتزن‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫ودخلت شقّتي وفي حلقي آالف الغصص‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫على نفسي‪ ،‬حذائي‪،‬‬
‫وانتعلت خ ّفي‪ .‬لم أفكّ ر بعدها في ش�يء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نزع�ت الجوربي�ن‪،‬‬
‫غريزي تحت الماء داخل‬ ‫تصرف‬ ‫وبفعل لم ِ‬
‫ٍّ‬ ‫وجدت نفسي عن ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أعه‬
‫‪173‬‬
‫فسية تدريجي ًا‪َّ ،‬‬
‫لكن‬ ‫استعدت عافيتي ال ّن ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحمام‪ .‬سرعان ما خرجت‪،‬‬
‫الس�رير‪،‬‬ ‫قدم�ي جعلتان�ي أبق�ى رابض ًا تار ًة على األريكة وتار ًة على ّ‬ ‫ّ‬
‫المتورمة‪ ،‬ووضعت فوق‬ ‫ّ‬ ‫وضع�ت الثّلج على بعض الجه�ات‬ ‫ُ‬ ‫فق�د‬
‫أوتيت‬ ‫ُ‬ ‫يت جالس ًا على كرسي ّ‬
‫بكل ما‬ ‫الثّلج ضمادات بيضاء‪ .‬وص ّل ُ‬
‫من ضعف‪.‬‬
‫الج�و الب�ارد حليف� ًا ل�ي‪ ،‬فبوج�ود حفيف�ه ال�ذي ي�روي‬ ‫ُّ‬ ‫كان‬
‫قدمي‪ ،‬وأن أُ َه ِّوي‬ ‫ّ‬ ‫حاولت معه أن أنسى حرارة ألم‬ ‫ُ‬ ‫مضجعي برود ًة‪،‬‬
‫علي المصعد‪ ،‬والتي جعلتني‬ ‫ّ‬
‫ذهني من حرارة األضواء التي سلطها َّ‬
‫رفاهية‪ ،‬وطعم برد ِ الجولة التي‬ ‫ّ‬ ‫الصباح الذي عشته‬ ‫حينها أفقد طعم ّ‬
‫قمت بها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عندم�ا كن�ت جالس� ًا عل�ى األريك�ة أش�اهد ال ّتلف�از‪ ،‬ش�عرت‬
‫لذة ما جعلت بدني‬ ‫بجورب�ي ق�د تب ّللا بفعل ذوبان الثل�ج‪ ،‬وكانت ّ‬
‫ّ‬
‫قدمي‬‫ّ‬ ‫واكتفيت بترك‬
‫ُ‬ ‫والضمادات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نزعت الجوربين‬ ‫ُ‬ ‫تجمد ًا‪.‬‬
‫يقشعر ُّ‬ ‫ُّ‬
‫وش�عرت أيض�ا بال َّتعب يأخذ‬‫ً‬ ‫ُ‬ ‫طبيعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عاريتي�ن ك�ي تلتمس�ا ب�رود ًة‬
‫جه َد‬ ‫عضالت كتفي ورقبتي‪ ،‬وكان جزئي األسفل ك ّله متعب‪ ،‬فقد أُ ِ‬
‫نهضت‬ ‫ُ‬ ‫بالمش�ي‪ .‬ل�م أُرد ال ّن�وم عل�ى األريك�ة‪ ،‬فهي تؤلم ظه�ري‪.‬‬
‫ضغطت ال ّزر األحمر ألطفئه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا أحمل ريموت ال ّتلفاز في يدي‪،‬‬
‫الرده�ة وأنا أضع‬ ‫م�ررت من ّ‬ ‫ُ‬ ‫ث�م رمي�ت الريم�وت عل�ى األريكة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فتحت‬ ‫ُ‬ ‫دخل�ت غرفتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي�دي على الحائط مس�تعين ًا به في المش�ي‪،‬‬
‫إلي‪ ،‬أش�علت المصباح‬ ‫أش�عة الش�مس الباهتة ّ‬ ‫ّ‬ ‫د ّف�ة الناف�ذة لتدخل‬
‫الس�رير آخذ ًا قس�ط ًا‬ ‫ورميت بجس�دي على ّ‬ ‫ُ‬ ‫الصغير قرب س�ريري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫العضلية التي أُرهقَت‬ ‫عيني وأريح فيها أليافي‬ ‫الراحة‪ ،‬أُطفئ فيها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من ّ‬
‫خرس كدمات قدمي‪ .‬قبل أن أغمض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫الي�وم بطري�ق طوي�ل‪ ،‬كما أل َ‬
‫‪174‬‬
‫السادسة‪ .‬وبضغطة خاطئة ُفتحت قائمة‬ ‫ُ‬
‫حملت الهاتف ألو ّقته على ّ‬ ‫ُ‬
‫الهواتف‪ ،‬وظهر لي رقم ياس�مين واس�مها‪ .‬أنهيت توقيت الهاتف‪،‬‬
‫ووضع ُته بعد أن نزعت ن ّظارتي ووضعتها على طاولة صغيرة قرب‬
‫وشعرت بأنّي يجب‬
‫ُ‬ ‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أغمضت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أعدت استلقائي‪َّ ،‬‬‫ُ‬ ‫سريري‪.‬‬
‫غيرت موضع جنبي الذي نمت عليه من األيسر إلى‬ ‫أن أقول شيئ ًا‪ّ .‬‬
‫شت نحو ال ّزرقة الفاتحة من ال ّنافذة وأغمضت عيني‪:‬‬ ‫رم ُ‬‫األيمن‪َّ .‬‬
‫«تصبحين على ٍ‬
‫خير ياسمين»‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪V‬‬

‫ضوء ال ّنهار بدأ يختفي تدريجي ًا‪ ،‬وال ّش�مس س�رعان ما بدأت‬
‫أشع ًة ضئيلة تضيء األجزاء‬ ‫السبات تارك ًة وراءها ّ‬ ‫تدخل في مرحلة ّ‬
‫ِ‬
‫الصباح س ُتستبدل‬
‫الدنيا من مشاغلها‪ ،‬وثياب ّ‬ ‫العلوية للمدينة‪ ،‬وهنئتِ ّ‬
‫بعد قليل بثياب ال ّليل‪ ،‬وس ُتشعل األضواء منيرة جمال األحياء ليالً‪،‬‬
‫وسيسمع جمال أصوات المآذن التي ُتعلن عن صالة المغرب‪ ،‬كما‬ ‫ُ‬
‫هي بداية ترتيل اآليات جهر ًا‪.‬‬
‫مساء بهاتفي‪ ،‬سمعته ولم أستطع تحريك‬ ‫ً‬ ‫السادسة‬‫اهت ّز رنين ّ‬
‫م�رة لص�وت اآللتي�ن‬ ‫كل ّ‬ ‫ي�دي ألوق�ف رنين�ه‪ ،‬فأن�ا أستس�لم ف�ي ّ‬
‫مرت دقيقتا المقطوعة‪ ،‬ولم أحاول‬ ‫الضاربتي�ن ف�ي صمي�م األوتار‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫استس�لمت‬
‫ُ‬ ‫لكن جس�دي خائر القوة‪.‬‬ ‫ح ّتى ال ّنهوض‪ ،‬دماغي يقظ‪ّ ،‬‬
‫لغفوة ٍ أخرى أداهم بها الدقائق العشر التي س ُتعاد بعدها المقطوعة‪.‬‬
‫تركت لمسامعي لحن‬ ‫ُ‬ ‫ألحرك يدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رنّت ولم أستطع تمالك نفسي‬
‫وتركت لجسدي عجز الحركة‪ ،‬وانتهت المقطوعة‬ ‫ُ‬ ‫الكمان والبيانو‪،‬‬
‫الرنة األولى‪،‬‬
‫عيني بع�د ّ‬
‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫للم�رة الثاني�ة‪ ،‬ول�م أب�ارح مكاني‪.‬‬‫ّ‬
‫طل من ثق�وب ال ّنافذة‪،‬‬ ‫ض�وء خاف�ت ُي ُّ‬
‫ٌ‬ ‫وف�ي الثّاني�ة فتحتهم�ا‪ .‬كان‬
‫ويس� ّلط ش�عاعه عل�ى مكتبي‪ ،‬أعجبني ال ّتأللؤ ال�ذي ُيحدثه ّ‬
‫الضوء‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫المش�ترك م�ع م�اء ق ّنينة فوق مكتب�ي‪ ،‬بدا المع ًا ويدعوني إلى بداية‬

‫‪176‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫المرة األولى التي‬ ‫س�فرة جديدة باالس�تيقاظ‪ ،‬ش�عرت أ َّن هذه هي ّ‬
‫ٍ‬
‫ضوء جميل غير مؤلم‬ ‫ٌ‬ ‫عيني على ش�يء جميل‪ ،‬ش�يء به‬ ‫ّ‬ ‫أفتح فيها‬
‫أحسست‬‫ُ‬ ‫مرة‬
‫وألول ّ‬
‫ّ‬ ‫وغير أصفر ُيعمي كما ُتعمي مصابيح المنزل‪،‬‬
‫أ ّن ال ّشمس قد فعلت بي خير ًا برسمها ما أبهجني في فعل استيقاظ‪.‬‬
‫وأعجبت أكثر بال ّظل‬ ‫ُ‬ ‫أطل�ت ال ّنظر إلى ال ّش�يء المتو ِّهج كجوه�رة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الممت�د م�ن قبل�ه‪ ،‬والذي يش�كِّ ل ظلاّ ً للق ّنينة ال�ذي يبدو أكبر منها‬ ‫ِ‬
‫حجم ًا‪ ،‬حيث أ ّن قعرها وحده ُيضيء‪.‬‬
‫جيد ًا‪،‬‬ ‫للم�رة الثّالث�ة‪ ،‬حينها افتتحت ملك� ُة وعيي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ر َّن الهات�ف‬
‫م�ددت يدي إلى‬ ‫ُ‬ ‫أصبح�ت حواس�ي تو ّظ�ف كم�ا ينبغي بدون تيه‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ست مكان الهاتف‪ ،‬وأطفأته دون أن‬ ‫تحس ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّطاولة ُمغمض العينين‪،‬‬
‫أرى‪ .‬نقّب�ت بأصابع�ي ع�ن ن ّظارتي جانبه‪ ،‬لمس�تها وأخذتها ُمرجع ًا‬
‫وضع�ت الن ّظ�ارة وم�ا زل�ت ُمغم�ض العينين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي�دي إل�ى مكانه�ا‪،‬‬
‫مس�حت م�ا تبقّ�ى م�ن عمش ٍ من تح�ت إط�ار ال ّنظارة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فتحتهم�ا‪،‬‬
‫نهضت وفي ذهني فكرة عادة ٍ قديمة قد ُوضعت في خانة األش�ياء‬ ‫ُ‬
‫توجهت‬ ‫أعد القهوة‪ ،‬ح ّتى أنّي نسيت ألم قدمي عندما ّ‬ ‫المؤجلة‪ ،‬أن َّ‬ ‫ّ‬
‫الدرج ال�ذي أضع فيه عبوة‬ ‫فتحت ُّ‬
‫ُ‬ ‫إل�ى المطب�خ‪ ،‬لكن س�رعان ما‬
‫رت أ ّن ش�عوري في الحاجة‬ ‫القه�وة الت�ي ل�م ُتفت�ح منذ زم�ن‪ ،‬تذكّ ُ‬
‫وسم ًة‬ ‫إليها ليس هو هذا الذي شعرت به‪ ،‬فقد كانت مجرد غريزة ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أغلقت‬ ‫ُ‬ ‫صائم كاد أن يفطر عن غير قصد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫من سمات عاداتي‪ ،‬كأنّي‬
‫عدت‬‫ُ‬ ‫وأعدت وضع ن ّظارتي‪َّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫غسلت وجهي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الدرج وانسحبت‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫إلى غرفتي أزيل ريق ال ّنوم بجرعات من ق ّنينة الماء التي أزالت ع ّني‬
‫أش�علت مصباح المكتب‪ ،‬وأطفأت نور الغرفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عبوس االس�تيقاظ‪.‬‬
‫نظرت من‬ ‫مت خاللها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫المدة التي ن ُ‬‫فتحت ال ّنافذة‪ ،‬لتزال رائحة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫‪177‬‬
‫خاللها‪ ،‬بدا لي ضوء ال ّش�مس في بداية اختفائه‪ ،‬حينها خطر ببالي‬
‫حملت هاتفي‪ ،‬وضعت‬ ‫ُ‬ ‫ش�يء‪ ،‬ولم أس�تطع منع نفس�ي من فعله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫برش�اقة فيهما مع قليل ٍ من األلم‪،‬‬ ‫قدمي جوربين‪ ،‬وقد ش�عرت‬ ‫في‬
‫ّ‬
‫السابق‪ .‬ارتديت سترتي الخضراء فوق‬ ‫وبأ َّن حالتهما اآلن أفضل من ّ‬
‫تضاعف ًة لوقايتي من البرد وحيط ًة من دخوله إلى‬ ‫ِ‬ ‫م�ا كن�ت ألب�س‪ُ ،‬م‬
‫باطن صدري‪.‬‬
‫الصغيرة‬ ‫وحملت ق ّنينة الماء ّ‬
‫ُ‬ ‫وضعت مفاتيح الشقة في جيبي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ثم صعدت‬ ‫أطفأت جميع األنوار وخرجت‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫اليس�رى‪َّ ،‬‬ ‫في يدي ُ‬
‫السطح‪..‬‬ ‫إلى ّ‬
‫خاص ًة وأنا‬
‫ّ‬ ‫لم أستطع منع نفسي من مشاهدة غروب ال ّشمس‪،‬‬
‫حيي‪ ،‬كما تتوافق مسافة الالتعب بين شقّتي‬ ‫ٍ‬
‫أسكن أعلى عمارة في ّ‬
‫الرؤية‪.‬‬‫وبين مكان ّ‬
‫أتخيل ما الذي سأش�اهده‪ ،‬هل سأش�اهد غروب ًا‬ ‫ّ‬ ‫صعدت وأنا‬‫ُ‬
‫فقط‪ ،‬أم لحظة وداع ٍ لخيوط ال ّش�مس‪ ،‬أم انتهاء يوم ٍ آخر واس�تالل‬
‫خيالت‬ ‫ترك�ت كل ال ّت ُّ‬
‫ُ‬ ‫خي�وط ي�وم ٍ آخر م�ن ثوب عمري المهترئ‪.‬‬
‫الدرجات األخيرة‪ .‬نس�يم الهواء‬ ‫وأخ�ذت نفس� ًا عميق� ًا ف�ي ّ‬ ‫ُ‬ ‫جانب� ًا‪،‬‬
‫وحرر‬‫لذة في تن ّفس�ي ّ‬ ‫اس�تقبلني م�ن فتح�ة الباب الموارب‪ ،‬أغدق ّ‬
‫عرقلات ف ْتح َت�ي أنفي ومس�الك حنجرتي‪ .‬امتألت رئتاي بال ّنس�يم‬
‫عت موارب�ة الب�اب ودخل�ت‪ .‬كان ال�ذي رأيت�ه‬ ‫ش�ر ُ‬ ‫العلي�ل عندم�ا َّ‬
‫س�حر ًا‪ ،‬لم أمنع نفس�ي من االبتس�ام‪ ،‬ولم أمنع أسناني من ال ّظهور‬
‫ح ّت�ى آخ�ر ضرس ٍ أبيض‪ ،‬ولم أمنع انكماش أهدابي وصغر عيوني‬
‫كن�ت في حالة هيجان عاطفي لما ُتريه لي الحياة‬ ‫ُ‬ ‫�و حواجب�ي‪.‬‬ ‫وع ُل ِّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫الس�عادة والمتعة قد سار في‬ ‫طيب فيها‪ ،‬كان ش�يئ ًا ُيش�به ّ‬ ‫من جانب ِّ‬
‫‪178‬‬
‫جوارح�ي‪ ،‬موقظ� ًة معها العضلة الخاملة في صدري لتنبض لما قد‬
‫س�مى‬ ‫ٍ‬
‫س�رى في أوردتي من بهجة عارمة لم تصل ذروتها إلى ما ُي ّ‬
‫بالفرح‪.‬‬
‫السطح عالي ًا‪ ،‬فقد كان يصل إلى‬ ‫يطوق ّ‬‫لم يكن الحائط الذي ّ‬
‫السماء األرجوانية‬ ‫يدي على حا ّفته‪ ،‬ألشاهد ّ‬ ‫وضعت ّ‬ ‫ُ‬ ‫نحري تقريب ًا‪.‬‬
‫بفعل ُحمرة ال ّشمس‪ ،‬فقد كانت ال ّشمس بدأت تختفي بفعل الغيوم‬
‫رجعت‬ ‫الس�فلي ل ُتصبح دائرة ناقصة‪َ .‬‬ ‫التي محت جزء ًا من قوس�ها ّ‬
‫يدي في جيبي س�روال نومي‪.‬‬ ‫إلى الوراء مس�افة قصيرة‪ ،‬ووضعت ّ‬
‫طيرت معها تالبيب س�ترتي‬ ‫قوية بجس�دي ومالبس�ي‪ّ ،‬‬ ‫ريح ّ‬ ‫هبت ٌ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫كل ش�عرة في‬ ‫فاقش�عرت ُّ‬
‫ّ‬ ‫المفتوحة‪ ،‬ودخلت إلى مس�ام جس�دي‪،‬‬
‫يدي‪ ،‬ووضعتهما على‬ ‫أخرجت ّ‬
‫ُ‬ ‫يحدث حينها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أصدق ما‬‫ِّ‬ ‫بدني‪ .‬لم‬
‫ومس�حت ش�عري أرجعه إلى الوراء‪ .‬كانت بهجة لم يسبق‬ ‫ُ‬ ‫رأس�ي‬
‫لها أن داعبتني ُوجدت لحظتها‪ ،‬وارتسمت سيماؤها على وجهي‪.‬‬
‫كل األلوان واضح ًة‬ ‫كنت أبتس�م أم أضحك‪ .‬ب�دت ّ‬ ‫ل�م أع�رف إن ُ‬
‫وراقية على غير عادتها‪ ،‬بل تو َّهجت في مرمى عيني‪ ،‬وبعثت زرقة‬
‫ِ‬
‫الصفاء والغن�ى عن ما رأته‬ ‫الس�ماء الباهت�ة ف�ي عين�ي مالمح م�ن ّ‬
‫تدق باب وجعي‪ .‬رعش�ات من البرد آثرت ك ّلها‬ ‫ِ‬
‫عيني من مش�اه َد ُّ‬
‫لدي‬
‫ّ‬ ‫حاسة الكاتب المجبرة‬ ‫ّ‬ ‫مشهد لم تستطع‬‫ٌ‬ ‫المرور من خاللي‪،‬‬
‫ال ّتعبي�ر عنه�ا بالكلم�ات‪ ،‬كان�ت صور ًة قد عج�زت روح الوصف‬
‫ع�ن ت�دارك االختلاط المتباي�ن بين ما يوجد وم�ا ال يوجد‪ ،‬الكل‬
‫الس�ؤال‬ ‫مأخ�و ٌذ ف�ي حي�ن لحظة ن�ادرة تريح وتدهش وتجعل من ّ‬
‫طيور تح ّل�ق في دوائر‪ ،‬تار ًة‬‫ٌ‬ ‫ش�يئ ًا ال ُيضاه�ى ف�ي دهش�ة الجواب‪:‬‬
‫تتحرك‬‫َّ‬ ‫تهب‪،‬‬
‫الرياح التي ُّ‬ ‫يمين ًا وبس�رعة وتار ًة يس�ار ًا‪ ،‬تتماهى مع ّ‬
‫‪179‬‬
‫كيفم�ا ش�اءت ف�ي مجموع�ات‪ ،‬خلقت عندي رغب� ًة في أن أصبح‬
‫حر ًا في الطيران والهبوط‪ ،‬وفي تحريك جسدي كيفما‬ ‫واحد ًا منها‪ّ ،‬‬
‫شئت بدون شروط‪.‬‬
‫بعيني اللتين ا ّتجهتا صوب البحر البعيد‪ ،‬صوب‬ ‫ّ‬ ‫رحت أجول‬
‫ال ّش�مس الت�ي تض�ع بينه�ا وبينه في الس�ماء غيوم تلاقٍ من بياض ٍ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وزرقة تربك العين‪ .‬اختلط الكل في صورة جماعية مع ما يصدره‬ ‫ٍ‬
‫البحر البعيد؛ بواخر أش�علت أنوارها عليها‪ ،‬واحد ٌة بإضاءة ٍ حمراء‬
‫غنى‬ ‫ُ‬
‫وأخرى خضراء‪ ،‬أس�طح األحياء المحيطة أمام العمارة تعطي ً‬
‫كل سطح‬ ‫الصحون الهوائية الكثيرة والموجودة على ّ‬ ‫لشعبية المدينة‪ُّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ار كهربائي‬ ‫تس�تعد بأول تي ٍ‬
‫ّ‬ ‫بقعة س�كن‪ ،‬أضواء ال ّش�وارع التي بدأت‬
‫ّ‬
‫وأناس من بعيد أراه�م‪ ،‬يبدون كال ّنمل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يم�ر م�ن األسلاك عبرها‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫سيارات وحافالت‪.‬‬ ‫الصغيرة‪ّ ،‬‬‫تتحرك كأش�كال اللعب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومجس�مات‬‫ّ‬
‫وأض�واء معام�ل أن�ارت الواجه�ات‪ .‬والمالب�س الت�ي ترفرف على‬
‫كل سطح‪.‬‬ ‫الحبال على ّ‬
‫الدائري‪،‬‬ ‫وصل�ت بال ّش�مس لحظة الوداع والوع�د إلى نصفها ّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ت عيني بالعمى الذي افتعله بي لونها‬ ‫مخفي ًة تحت سحابتها‪ ،‬أُده َش ْ‬ ‫ّ‬
‫مرت طائ�ر ٌة على يميني‪ ،‬وكان دائم ًا ما‬ ‫البرتقال�ي اللاّ مع‪ّ .‬‬
‫ُّ‬ ‫األصف�ر‬
‫الدخ�ان األبي�ض ال�ذي ُيخ ّلف وراءها راس�م ًا خ ّط ًا‬ ‫يحيرن�ي ذل�ك ّ‬ ‫ِّ‬
‫طوي�ل الم�دى م�ن حيث ج�اءت متوجهة‪ ،‬وقد س�ألت عنه وقمت‬
‫المحركات تلتق�ي مع البرودة في الجو‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بأبح�اث‪ُ ،‬يق�ال إ َّن ح�رارة‬
‫ال ّشيء الذي ينتج عنه تك ُّثف الماء ُفيعطي دخان ًا أبيض‪ ،‬وقيل أيض ًا‬
‫تنفث دخانها‬ ‫ُ‬ ‫أجنبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إنّه عالمة على أ ّن الطائرة التي تصدره طائر ٌة‬
‫تمر من فوقه بأنّها أجنبية‪.‬‬ ‫ل ُتعلم رادار البالد الذي ّ‬
‫‪180‬‬
‫الصع�داء‪ ،‬ونفخ�ت ص�دري‪ .‬أطلق�ت زف�ر ًة طويل� ًة‬ ‫تنفس�ت ّ‬
‫لتخ�رج حرارة الس�بع ٍ وثالثين درج�ة متالحمة مع جزيئات الهواء‪،‬‬
‫الصادر‬ ‫الس�ماء أمام�ي بي�اض دخان‪ .‬ذل�ك الضوء األخض�ر ّ‬ ‫ف ُتني�ر ّ‬
‫الس�ماء‬ ‫من منارة مس�جد الحس�ن الثّاني‪ ،‬بدأ لونه يتو ّهج مع إبطال ّ‬
‫بضوئها الذي كان ُيخفيه‪.‬‬
‫جل معالمها‬ ‫نور لها على رأسها واختفت ُّ‬ ‫وضعت الشمس آخر ٍ‬
‫المضيئة‪ .‬بعد لحظات غابت ال ّشمس وراء غيم ٍ كساها رماديةً‪ ،‬ولم‬
‫واشتدت‬
‫ّ‬ ‫يعد يظهر منها سوى شعاع خافت في الوسط‪ .‬غابت هي‬
‫الس�ماء زرقة داكنة‪ .‬لم أكن محظوظ ًا ألرى ال ّش�مس تختفي وراء‬ ‫ّ‬
‫البحر‪ ،‬منتقل ًة إلى بلدان أخرى تزيل عن سكانها وطأة ال ّليل وتفتح‬
‫لهم صباح ًا آخر‪ .‬اختفت ال ّشمس عن مرآي وراء منازل بعيدة عالية‬
‫وددت لو أزيلها ألكمل فصل ال ّنهاية والمغيب الذي‬ ‫ُ‬ ‫هي األخرى‪،‬‬
‫ِ‬
‫َيع ُد بإعادة دورة ّأيام البشر‪.‬‬
‫جلس�ت عل�ى ط�وب موج�ود باألرج�اء‪ ،‬أراقب زرق�ة العالم‬ ‫ُ‬
‫الخال�ي م�ن ش�ائبة البش�ر‪ .‬رنّمني ص�وت األذان‪ ،‬ولم أش�عر ح ّتى‬
‫وش�عرت بأنّي‬
‫ُ‬ ‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تجمعت كل رؤى البهجة دموع ًا خفيفة على‬ ‫ّ‬
‫خائر أمام ما ُتحدثه بي رحمة اهلل‪ ،‬ضعيف ًا أمام ما ارتقت له نفسي‬
‫أصور المشهد‪ ،‬لك ّني‬ ‫ّ‬ ‫السيئة جانب ًا‪ .‬فكّ رت أن‬
‫واضع ًة جزء األحالم ّ‬
‫الص�ور‪ ،‬ألنّها تجعل األش�ياء‬ ‫أح�ب التق�اط ّ‬‫ُّ‬ ‫ناقض�ت رغبت�ي‪ ،‬فلا‬
‫أمق�ت ه�ذا‬ ‫ُ‬ ‫الجميل�ة بخيس�ة وموضوع� ًة ف�ي ذاك�رة هات�ف‪ ،‬وأن�ا‬
‫التشييء‪ ،‬لذا آثرت أن أر ِّشحها في ذاكرة ال ّنسيان‪ ،‬ح ّتى إذا عادت‬
‫صدفة وفجأ ًة‪ُ ،‬تعيد معها البهجة التي عشتها‪.‬‬
‫انتهى األذان‪ .‬نهضت بعده تارك ًا ورائي أضواء صفر ًا تو ّهجت‬
‫‪181‬‬
‫عل�ى ط�ول مس�احة رؤيتي‪ .‬و ّدعت الج�زء البائن للقمر بتلويحة يد‬
‫رجع�ت إل�ى مضجع�ي مليئ ًا بم�ا أحدثته ب�ي ال ّطبيعة التي‬ ‫قصي�رة‪َ ،‬‬
‫والسكون محلاّ ً‪ ،‬واللحظات أعمار ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تجعل المشاهدة عباد ًة‪،‬‬
‫ي�ت فريضتي‪ .‬داهمني الجوع عندما كنت أجهر‬ ‫توض�أت وص ّل ُ‬ ‫ّ‬
‫ألعد أي طبق‪ ،‬أردت أن آكل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫بصالت�ي‪ ،‬ول�م تك�ن ب�ي رغبة‬
‫جاهز دون أن أضع فيه جزء ًا من وصفة ما أو لمسة يد‪.‬‬
‫بحث�ت ع�ن معطف�ي البن�ي‪ .‬وجدته على المش�جب الموجود‬ ‫ُ‬
‫بحث�ت في‬
‫ُ‬ ‫بالحم�ام ه�و والمالب�س األخ�رى الت�ي كن�ت ألبس�ها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الداخلي‬ ‫الصغيرة‪ ،‬وجدتها في الجيب ّ‬ ‫السوداء ّ‬ ‫جيوبه عن محفظتي ّ‬
‫جدي‪ .‬أدري‬ ‫ٍ‬
‫تخص مطعم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫قديمة‬ ‫األيسر‪ ،‬ف ّتشت داخلها عن بطاقة‬
‫أخذت‬
‫ُ‬ ‫يقدمون أطباق ًا ووجبات منظرها وحده يش�بعك‪.‬‬ ‫جيد ًا أنّهم ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم جمعت المعطف‬ ‫وأع�دت المحفظة في جيب الس�ترة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫البطاق�ة‪،‬‬
‫ث�م أخذتها‬ ‫والمالب�س األخ�رى المع ّلق�ة‪ ،‬ووضعته�ا بي�ن ذراعي‪َّ ،‬‬
‫ألضعها في س ّلة الغسيل بجوار آلة ال ّتصبين األتوماتيكية‪.‬‬
‫تعرف إل�ى صوتي من حمل هاتف‬ ‫ضرب�ت أرق�ام المطعم‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫صحته وأحوال‬ ‫ّ‬ ‫تحدثنا قليالً‪ ،‬س�ألته ع�ن‬
‫لبي�ات والخدم�ات‪ّ ،‬‬ ‫ال ّط ّ‬
‫جدي‬‫جي�د ٍ يس�مح بإطال�ة الحدي�ث عن ّ‬ ‫العم�ل‪ ،‬وكن�ت بم�زاج ّ‬
‫أعرب�ت ل�ه عن‬ ‫ُ‬ ‫وبع�ض األم�ور المتع ّلق�ة بإصالح�ات المطع�م‪.‬‬
‫متوس�ط‬
‫ّ‬ ‫طلبيت�ي‪ ،‬الت�ي كانت س�لطة م�ن الحجم الكبير وصحن‬ ‫ّ‬
‫حدثني عن طبق‬ ‫م�ن األس�ماك المقلي�ة‪ .‬قبل أن أنهي المكالم�ة‪ّ ،‬‬
‫سيرسله على حساب المطعم‪.‬‬ ‫يقدمونه‪ ،‬وقال أنّه ُ‬ ‫جديد أصبحوا ّ‬
‫طلبيتي واإلضافة‪ ،‬التي ستأتي محمولة إلى‬ ‫أنهيت اال ّتصال منتظر ًا ّ‬
‫ُ‬
‫عنوان شقّتي‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫تأوه�ات معدتي‪ ،‬وألنّي‬ ‫صاب�ر على ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫م�رت نص�ف س�اعة وأنا‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أك�ره ال ّترق�ب‪ ،‬فل�م أترق�ب جرس الباب أن يرن‪ .‬فتحت حاس�وبي‬ ‫ّ‬
‫المحم�ول‪ ،‬أهمل�ت في�ه الوقت إلى أن يأتي ما يس�د جوع معدتي‪.‬‬
‫تداولت بمشاهدة فيديوهات‪ ،‬وفي لعب الشطرنج في موقع ٍ أجنبي‬
‫زت في مباراة وخسرت أخرى‪ ،‬وبعد‬ ‫مع أجانب من كل الدول‪ُ ،‬ف ُ‬
‫أش�عت ُه على ش�بكة عيني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مما خ ّلفته‬
‫الخس�ارة أغلقت الجهاز تعب ًا ّ‬
‫األشعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رغم أ ّن زجاج ن ّظارتي يعكس‬
‫ِ‬
‫نف�دت نص�ف س�اعة أخ�رى دون أن أس�مع رني�ن الج�رس‪،‬‬
‫م�ر ًة ثانية‪ ،‬لك ّني أحجمت ع�ن ذلك‪ ،‬فحالة‬ ‫فكّ �رت ف�ي أن أ ّتص�ل ّ‬
‫عقالنية‬
‫ّ‬ ‫ل�دي ُتفقدن�ي صوابي أحيان ًا‪ ،‬وقد أقول أش�ياء غير‬‫ّ‬ ‫الج�وع‬
‫سأندم عليها‪ .‬ذهبت إلى المطبخ بعدما نفد صبري‪ ،‬لم أكن عازم ًا‬
‫أعد ش�يئ ًا‪ ،‬ما س�أجده في الثّالجة س�يفي بالغرض‪ .‬بدا لي‬ ‫على أن َّ‬
‫وأصبحت أرنب ًا بعدها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الجزر حلاّ ً أنسب‪ .‬أخذت واحدة أقرضها‪،‬‬
‫كرسي قرب‬‫ٍّ‬ ‫وصلت إلى أربع جزرات نجرتها بأسناني جالس ًا على‬ ‫ُ‬
‫واصلت ش�رب‬‫ُ‬ ‫خف جوعي بعض ال ّش�يء‪ ،‬بعدها‬ ‫طاولة المطبخ‪َّ .‬‬
‫الماء إلى أن يأتي من سيأتي‪.‬‬
‫الس�اعة وال ّنصف قب�ل أن ير ّن‬ ‫اس�تغرق العام�ل م�ا يزي�د عن ّ‬
‫الج�رس‪ .‬اعت�ذر ل�ي‪ ،‬فق�د كان�ت زحم�ة ف�ي ال ّطري�ق ع ّطلت�ه هو‬
‫ودراجته ال ّنارية في الوصول بسرعة‪ .‬نقدته ثمن ال ّطبقين‪ ،‬وقلت له‬ ‫ّ‬
‫«بالصحة‬
‫ّ‬ ‫بأن يحتفظ بما تبقّى من الثمن‪ .‬غادر وهو يو ّدعني قائالً‪:‬‬
‫وأغلق�ت الباب‪ ،‬ث�م توجهت إلى‬ ‫ُ‬ ‫ابتس�مت ف�ي وجه�ه‬
‫ُ‬ ‫والراح�ة»‪،‬‬
‫ّ‬
‫مجلسي بالمطبخ ألتهم األطباق الثّالثة‪.‬‬
‫وش�عرت كأنّه قد‬
‫ُ‬ ‫انته�ى يوم�ي بقلي�ل ٍ م�ن الك�در والم�رارة‪،‬‬
‫‪183‬‬
‫ش�عرت بس�كون ٍ في‬
‫ُ‬ ‫تو ّلدت في قلبي خصلة ما تش�به األمل‪ ،‬فقد‬
‫كل األحوال كان‬ ‫صدري قبل أن أضع رأس�ي على الوس�ادة‪ ،‬وفي ّ‬
‫إلي‪.‬‬ ‫جيد ًا بلحظات ّ‬
‫هدية من اهلل ّ‬ ‫يوم ًا ّ‬
‫لكن‪ ..‬أكان نوع تلك ال ّلحظات هي ما يجب أن أبحث عنه؟‬
‫وأن أنقب عن ما ُيجاورها ألخلق بهج ًة أكبر؟‬
‫أدرك أ ّن الحياة لن تبتس�م لي ولن أراهن أنا على العبث في‬
‫مس�تعد ًا الس�تقبال‬
‫ّ‬ ‫لس�ت‬
‫ُ‬ ‫وكل م�ا ف�ي األمر‪ ،‬أنّي‬
‫ال ّتنقي�ب عنه�ا‪ّ ..‬‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء ورائي‪،‬‬ ‫أتجرد من ّ‬
‫ّ‬ ‫الغفران بعد‪ ،‬س�يأتي الغفران بعد أن‬
‫زلت أشعر بلهيب المرارة‪،‬‬ ‫بعد أن ُتحذف عادة الهزيمة لدي‪ ،‬فما ُ‬
‫وما زلت أحس بأن فتيل الخسارة لم ينطفئ بعد‪.‬‬
‫تعد لي من خيبات؟‬ ‫ُتراك يا قدر‪ ،‬ماذا ُّ‬

‫‪184‬‬
‫‪VI‬‬

‫الصباح ال ّتالي‪ ،‬استيقظت متأ ِّخر ًا‪ ،‬ذهبت إلى العمل متأ ّخر ًا‬ ‫في ّ‬
‫رت أنّي‬ ‫لعذر ما لسعد‪ ،‬إلاّ أنّي فكّ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كدت ألاّ أذهب اختالق ًا‬‫ُ‬ ‫ساعة‪،‬‬
‫سأكون الخاسر في الصفقة‪ ،‬وسأزداد قلق ًا من مراقبتي حيطان الشقة‪.‬‬
‫نظرت إلى س�اعة يدي‪ .‬قاربت الحادية عش�رة أن تدق‪ .‬أزلت‬ ‫ُ‬
‫أصابع�ي ع�ن لوح�ة المفاتيح‪ ،‬وفتحت ق ّنينة الماء أش�رب ما بقي‪.‬‬
‫فنهضت‬
‫ُ‬ ‫شعرت باإلعياء‬
‫ُ‬ ‫رششت آخر القطرات على نبتتي من بعيد‪.‬‬
‫الجو غائم ًا بعض ال ّش�يء‪ ،‬وكان‬ ‫ُّ‬ ‫الس�تائر‪ ،‬وبدا‬
‫فتحت ّ‬
‫ُ‬ ‫كرس�يي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫وقليل من ال ّناس يحملون‬ ‫ٌ‬ ‫ال ّش�ارع األمام�ي خالي� ًا على غير عادت�ه‪،‬‬
‫س�جادتهم بأيديه�م وعل�ى أكتافهم‪ .‬كان هن�اك من يلبس «الجالبة»‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫عادية‪ ،‬وامرأتان هما أيض ًا كانت وجهتهما‬ ‫وهناك من يلبس مالبس‬
‫ّ‬
‫المس�جد البعي�د ع ّن�ي ف�ي العمل والقريب لي حيث أس�كن‪ .‬كنت‬
‫تتبق لي س�وى س�اعة وأنته�ي‪ ،‬كي أذهب‬ ‫أض�ع ف�ي ذهن�ي أنّه لم َّ‬
‫ُ‬
‫س�ولت لي نفس�ي ُخطوتي ال ّتالية‪ .‬لكن بعد‬ ‫إلى المطعم‪ ،‬هكذا قد ّ‬
‫رت أ َّن اليوم هو يوم الجمعة‪،‬‬ ‫المش�هد الذي رأيته من ال ّنافذة‪ ،‬تذكّ ُ‬
‫وأنّنا نخرج يوم الجمعة في الحادية عشرة‪ ،‬وما أكّ د لي ذلك أيض ًا‬
‫بس�ياراتهم‪ .‬حينها‬ ‫ّ‬ ‫ه�و أنّ�ي رأيت بع�ض المو ّظفين وه�م ُيغادرون‬
‫الستائر إلى وضعها األصلي‪.‬‬ ‫أعدت ّ‬ ‫ُ‬ ‫رجعت بخطواتي للوراء بعد أن‬

‫‪185‬‬
‫الملف الذي كنت‬ ‫َّ‬ ‫أوقفت حاس�وبي عن االش�تغال بعد أن حفظت‬
‫خرجت مسرع ًا بعد إقفالي باب المكتب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أعمل عليه‪َّ ،‬‬
‫يت‬ ‫ثم ص ّل ُ‬ ‫وتوضأت‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عدت إلى المنزل‪ ،‬أخذت د ّش� ًا س�ريع ًا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الصالة‪،‬‬ ‫صالة الصبح‪ ،‬فلم أص ّلها لتأخري في االس�تيقاظ‪ .‬أنهيت ّ‬
‫مهيأً إلعادة تدوير ما أعيشه‬ ‫وذهبت إلى المسجد َّ‬ ‫ُ‬ ‫سجادتي‬ ‫وحملت ّ‬
‫ُ‬
‫الصفر كيفما ا ّتفق‪.‬‬ ‫إلى نقطة ّ‬
‫ٍ‬
‫الركعتين‪ ،‬وع�دت بدعاء إلى‬ ‫أنه�ى الخطي�ب خطبت�ه‪ ،‬ص ّلين�ا ّ‬
‫الرحمان كي ينظر إلى حالي‪ ،‬ويرأف بي كي ال أهلك نفسي وجع ًا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ال أذك�ر أنّ�ي أكلت «الكس�كس» بعد صلاة الجمعة منذ وفاة‬
‫والدتي أو عند تلك الخالة‪ ،‬فقد ر َّن هاتفي وأنا أدخل شقّتي وكان‬
‫الم ّتصل سعد ًا‪ .‬أخبرني بأنّنا سنتغدى عند نجوى رغب ًة من والديها‪،‬‬
‫الجو‬
‫ِّ‬ ‫تضايق�ت قليلاً‪ ،‬فلم آلف منذ زم�ن على‬
‫ُ‬ ‫ل�م أرف�ض‪ ،‬لك ّن�ي‬
‫يدي من تحضير شيء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مثالية ألقي‬
‫ّ‬ ‫العائلي‪ ،‬لك ّنها كانت فرص ًة‬
‫ر ّن ج�رس الب�اب‪ .‬وج�دت س�عد ًا ينتظرن�ي‪ .‬أغلقت ش�قّتي‪.‬‬
‫الصالون‪ ،‬ثم ج�اءت والدتها‬ ‫دخلن�ا ال ّش�قة المجاورة‪ .‬جلس�نا ف�ي ّ‬
‫بـ‪« ‬القصري�ة»‪ ،‬بع�د أن وضعته�ا قال�ت لنا‪« :‬مرحب ًا‪ ..‬مرحب ًا»‪ ،‬س�عد‬
‫قلت بضع كلماتٍ أنا أيض ًا‪.‬‬ ‫بدأ ُيجاملها وكذا أدب منه‪ ..‬وقد ُ‬
‫الصالون قبل أن تجتمع العائلة‪ ،‬أثار انتباهي‬ ‫لت بنظري في ّ‬ ‫ُج ُ‬
‫لوحة ُتقابلني مع ّلقة على الحائط‪ ،‬صورة رجل أسمر ويلبس جلباب ًا‬
‫صينية‬ ‫ّ‬ ‫أبي�ض‪ ،‬يض�ع فوق رأس�ه طربوش� ًا أحمر‪ ،‬وباألس�فل أمام�ه‬
‫ب‬ ‫عليها كؤوس‪ ،‬ورافع ًا يده حامالً إبريق ال ّش�اي نحو األعلى َي ُص ُّ‬
‫من األعلى في إحدى الكؤوس‪.‬‬
‫ِ‬
‫والجدة وحدها من لم تأت بعد‪ ،‬وال ّظاهر أنّها‬ ‫اكتم�ل الع�دد‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪186‬‬
‫اصطف يسار ًا‪ ،‬ولم‬ ‫َّ‬ ‫والكل‬
‫ّ‬ ‫ستجلس بجانبي‪ ،‬فأنا في أقصى اليمين‪،‬‬
‫الجدة تطقطق بمنسأتها التي أرهبتني‬ ‫ّ‬ ‫تبق مساحة إال بجانبي‪ .‬جاءت‬ ‫َ‬
‫الكل‬
‫ّ‬ ‫دخلت وجلس�ت بجانبي‪ .‬قال األب‪« :‬على بركة اهلل»‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫يوم ًا‪،‬‬
‫الذكريات الميتة‪.‬‬ ‫أتذوق طعم ّ‬ ‫وهممت ّ‬‫ُ‬ ‫حملت الملعقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بدأ باألكل‪،‬‬
‫العج�وز جانب�ي ل�م ُتعر لي اهتمام ًا ح ّتى أنّها لم تعرف ولم تس�أل‬
‫حد أنّه�ا اكتفت بالحديث‬ ‫م�ن ه�و ال ّش�خص الذي يجلس جانبها‪َّ ،‬‬
‫إلى طفلة صغيرة موجودة بين األم وابنتها‪.‬‬
‫جر بي للحديث‬ ‫ثت قليالً بعدما انتهت الوليمة‪ ،‬سعد من َّ‬ ‫تحد ُ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ش�رحت له‬ ‫ُ‬ ‫عن ش�يء مرتبط بمش�كل ٍ بنكي وقع مع والد نجوى‪.‬‬
‫ما يجب فعله والوثائق المتط ّلبة التي يجب عليه اإلدالء بها‪ .‬وبعد‬
‫ٍ‬
‫بالسياس�ة‪ ،‬ضجرت من‬ ‫مدة‪ ،‬دخل س�عد ونس�يبه في حديث يتع ّلق ّ‬ ‫ّ‬
‫خرجت‬ ‫ُ‬ ‫الذهاب‪.‬‬ ‫فوقفت واعتذرت بأنّه يجب علي ّ‬ ‫ُ‬ ‫االستماع لهما‪،‬‬
‫َّ‬
‫والجدة‬ ‫ّ‬ ‫الصغيرة‬ ‫وقبلت الطفل�ة ّ‬ ‫بع�د أن س� ّلمت عل�ى أهل المنزل ّ‬
‫عدت إلى ركني أستش�في بعض الهدوء وراحة‬ ‫ُ‬ ‫ث�م‬
‫عل�ى جبينهم�ا‪َّ ،‬‬
‫الجو العائلي الذي لم يعد يليق بي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫البال من‬
‫كل‬ ‫جو الجمعة الذي يعيد َّ‬ ‫ع�دت إل�ى ط�وري بعد أن غلبن�ي ُّ‬ ‫ُ‬
‫الصفر‪ ،‬فالجمعة دائم ًا ما كانت‬ ‫جرة عمري إلى ِّ‬ ‫أحوال ال ّتناقض في ّ‬
‫أغير نش�اطي وأنهي‬ ‫ال ُّنقط�ة الت�ي أنطل�ق منه�ا وإليه�ا أنتهي‪ ،‬ومنها ّ‬
‫السابقة‪.‬‬‫ال ّنشاطات ّ‬
‫محمالً بن�وع من ال ّطمأنين�ة‪ ،‬قضيته كما‬ ‫ّ‬ ‫ج�اء المس�اء كعادت�ه‬
‫كل يوم جمعة‪ ،‬أكمل روتين مساء الجمعة بوضع المالبس‬ ‫أقضي ّ‬
‫منزلية‪ ،‬ألستقبل الغد بح ّل ٍة‬ ‫ّ‬ ‫في آلة ال ّتصبين للغسل‪ ،‬والقيام بأعمال‬
‫مرة لمقاومة الكدر‪.‬‬ ‫أستعد ككُ ّل ّ‬
‫ّ‬ ‫جديدة‪ ،‬وكي‬
‫‪187‬‬
189
‫‪I‬‬

‫خ ّلف�ت الهيلميك�و بأس�بوعين‪ ،‬وه�ا أنذا في ش�هر مارس‪ ،‬ما‬


‫زل�ت أعي�ش عل�ى الطريقة القديمة التي عش�ت بها‪ ،‬ش�خص ًا معاب ًا‬
‫بجينة اليتم‪ ،‬وعامر ًا بتجاعيد البؤس مما تخ ّلفه األيام من حزن على‬
‫وجهي‪ ،‬وشريد ًا في هفوات القدر وزلاّ ت النفس‪.‬‬
‫عندم�ا أفك�ر أحيان� ًا ف�ي ّ‬
‫قضيت�ي الحياتي�ة الت�ي ال تعرف أين‬
‫وموجه بالعدم‪ ،‬ال اتجاه أصبو إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مبني‬ ‫تمضي‪ ،‬أجد نفسي كعالم ٍ‬
‫ٍّ‬
‫وال ه�دف أح�اول أن أبلغ�ه‪ ،‬تائ�ه فقط‪ ،‬وال أمل�ك ما أعالج به ما‬
‫رم َم داخلي‪ ،‬ك ّلي فرا ٌغ محض‪ ،‬وكأ َّن وجودي على هذه‬ ‫يجب أن ُي َّ‬
‫األرض خطيئة ما‪ ،‬أو عبء ما‪.‬‬
‫رنوت إلى خرابي الجميل ودماري ال ّنفس�ي والجس�دي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ك ّلما‬
‫أجد كلمتي «اإلعراض» و»الصبر» كلمتين ثقيلتين‪ُ ،‬وضعتا بكميات‬
‫كبي�رة أخ ّف�ف بهم�ا وطأة الكروب‪ ،‬وأطف�ئ بهما النيران التي تنخر‬
‫السابقة‪ ،‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وتح ُّم جدران ما تبقّى من حفنات ضئيلة من حياتي ّ‬ ‫ُ‬
‫السائغ بمرارته‪.‬‬‫ماضي ّ‬ ‫َّ‬
‫أصبحت يائس ًا كما ال أ ّدعي؟‬
‫ُ‬ ‫تراي‬
‫ربما‬ ‫دائم ًا ما أجد نفسي ساذج ًا في اإلجابة عن أسئلة كهذه‪ّ ،‬‬
‫كن�ت عاج�ز ًا فق�ط عن اإلجابة عن أش�ياء ال يمكنني لمس معناها‪،‬‬

‫‪191‬‬
‫ربما كنت يائس� ًا دون أن أعي ذلك‪ ،‬أو أنا ح ّق ًا كذلك‪ ،‬فضياع‬ ‫أو ّ‬
‫تغير األشياء‬
‫اآلمال هي من خصال اليأس‪ ،‬واالمتناع عن الترقب في ُّ‬
‫هو أيض ًا كذلك‪.‬‬
‫كل يوم‪ ،‬ولكن لل ّنسخة نفسها‪ ،‬فقط إضافات جديدة‬ ‫أتغي ُر َّ‬
‫قد ّ‬
‫واء‪ ،‬و َتكرار ًا النقسام خاليا‬
‫تقل عن سابقاتها غضب ًا‪ ،‬ووجع ًا‪ ،‬و َخ ً‬ ‫ال ّ‬
‫وراثية ميتة تجول في كبدي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ما زلت أذكر طعم األلم‪ ،‬الذي ذقته يومي الخميس والجمعة‬
‫تجرعت فيه مأساة العالج الكيميائي‪.‬‬ ‫الماضيين‪ .‬ذلك الخميس الذي ّ‬
‫وفقدت إزاءه وزن ًا غير مستبين من طاقة‬ ‫ُ‬ ‫هزلت منه كثير ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كان ألم ًا‬
‫والرخوة خيوطها‪.‬‬ ‫حياتي المنقضية ّ‬
‫أتذكّ �ر أنّ�ي عندما اس�تيقظت‪ ،‬وج�دت ال ّطبيب يجلس بقربي‪،‬‬
‫المخدر‬
‫ِّ‬ ‫إلي بكلمات‪ ،‬لك ّني لم أفهم ما قاله إثر ما فعله بي‬ ‫تحدث ّ‬ ‫ّ‬
‫أثناء فترة العالج‪ ،‬وضايقتني حينها حركات شفاهه التي كانت تشي‬
‫بكالم لم تقدر قدرتي على مسايرة الحروف أن تتلقّاها‪ .‬كما أذكر‪،‬‬
‫رأيت بعد ذلك‪ ،‬فقد رأيت والدتي تجلس على‬ ‫ُ‬ ‫متشكّ ك ًا‪ ،‬في ما قد‬
‫فهمت منها أنّها تحمد‬
‫ُ‬ ‫وتقوس شفتيها بابتسامة‬‫ِّ‬ ‫سريري قرب قدمي‪،‬‬
‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اهلل على سلامتي‪ ،‬ابتس�امتها تلك التي على إثرها أغمضت‬
‫رجع بهما إلى خبايا شريحتي في حلم‪.‬‬ ‫أَ ُ‬
‫صحتي‪ ،‬ال أذكر‬
‫معافى في ّ‬
‫ً‬ ‫كان حلم� ًا دون الحل�م‪ ،‬كن�ت فيه‬
‫م�ا كن�ت ألب�س‪ ،‬لك ّن�ي أتذكر ش�خصين كان�ا يجلس�ان بقربي أمام‬
‫ش�اب يكبرني بقليل‪ ،‬وطفل يبلغ عمره حوالي‬‫ٌّ‬ ‫عتبة منزلنا القديم‪،‬‬
‫الس�ابعة‪ .‬ل�م أر وجهيهم�ا‪ ،‬وحاول�ت أن أدي�ر رأس�ي‬ ‫السادس�ة أو ّ‬‫ّ‬
‫قوتها على رقبتي كي ال أس�تدير‪.‬‬‫خفي ًة أحكمت ّ‬ ‫لك�ن قو ًة َّ‬
‫َّ‬ ‫إليهم�ا‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫ك ّنا نجلس نراقب الشارع الذي أمامنا في رهبة الليل وسكونه‪ ،‬ولم‬
‫يكن أحد يمر منه‪ ،‬وال سيارة مركونة‪ ،‬وكانت األضواء وحدها تنير‬
‫المنارة‪ ،‬أما‬‫جزء ًا من الشارع‪ ،‬والمساحة التي كانت أمامنا وحدها ُ‬
‫بعدها بأمتار فال ُيرى سوى الظالم‪ .‬لم أُطق ذلك الصمت‪ ،‬فأردت‬
‫قول شيء ألخرج نفسي من حرج الجلوس والضيق دون موضوع‪.‬‬
‫س�معت صوت‬ ‫ُ‬ ‫ش�فتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قبل أن أقول ش�يئ ًا‪ ،‬بل ح ّتى قبل أن ّ‬
‫أحرك‬
‫الرجل يقول‪« :‬أعرف ما تو ّد قوله»‪ ،‬ساعتها لجمت لساني‪ ،‬ولم أفه‬
‫بكلمة‪ُ ،‬خ ّدرت بالكامل‪ ،‬فلم أسمع صوته في أذني‪ ،‬بل سمعته في‬
‫ورح�ت حينها أبحلق‬
‫ُ‬ ‫مشوش� ًا مما قد حدث‪،‬‬
‫ب�ت ّ‬ ‫عقل�ي‪ .‬س�اعتها ُّ‬
‫إل�ى الظلام الدام�س الذي تخلفه وحش�ة ال ّش�ارع المظلم ما وراء‬
‫النور الذي يضيء مقتبلي‪ ،‬عبث ًا ألعي ما حدث‪ .‬أكننت في نفس�ي‬
‫أتخيل فقط‪ ،‬فعزمت أن أحاول الحديث مرة أخرى‪ ،‬وقبل أن‬ ‫ّ‬ ‫بأنّي‬
‫مرة أخرى في عقلي يقول لي‪:‬‬ ‫أفعل‪ ،‬س�معت الصوت في رأس�ي ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وحاولت‬ ‫فزعت ّ‬
‫ُ‬ ‫«ل�م يح�ن دورك لتنه�ض يا صديقي»‪،‬‬
‫أتفوه بكلمة‪ .‬قلت في نفس�ي‬ ‫الداخل�ي دون أن ّ‬ ‫أن أجي�ب بصوت�ي ّ‬
‫«أي دور؟»‪ .‬انتظرت‬ ‫موجه ًا ومركّ ز ًا كالمي إليه َّ‬
‫لعل المحاولة تفلح‪ُّ :‬‬ ‫ّ‬
‫اإلجابة منه‪ ،‬لكن ال شيء حدث‪ .‬بعد لحظات‪ ،‬وقف الرجل‪ ،‬ولم‬
‫ترج�ل أمامي‪ ،‬خطا كثير ًا‪ ،‬حتى اقترب‬‫أتح�رك ك�ي ألمح مالمحه‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫حي�ث يوج�د الظلام‪ ،‬وقف وقد ولى ظهره لي‪ ،‬وفجأ ًة أدار نصف‬
‫وجهه األيسر خلفه نحوي دون أن يدير جسده‪ ،‬لم َأر نصف وجهه‬
‫جيد ًا‪ ،‬فقد كانت مالمحه مبهمة بفعل ال ّظالم والمسافة البعيدة‪ ،‬لكن‬ ‫ّ‬
‫يتقوس بين ش�فتيه‪ ،‬وكانت ابتس�امة كبير ًة‬‫كم�ا أظ�ن‪ ،‬رأي�ت لمعان ًا ّ‬
‫إلي‪ ،‬س�معت حينها في عقلي‪« :‬ليس اآلن يا صديقي»‪ ،‬ثم‬ ‫موجهة ّ‬ ‫ّ‬
‫‪193‬‬
‫دوامة الظالم‪،‬‬
‫ومرة أخرى قبل أن تخفيه ّ‬ ‫أدار وجهه وأكمل مسيره‪ّ ،‬‬
‫قال‪« :‬اعتني به بدلي»‪ ،‬ثم اختفى‪.‬‬
‫«اعتن ِ به بدلي!»‪ .‬من هذا الذي سأعتني به بدله؟!‬
‫أدرت م�ا قال�ه ل�ي ف�ي ذهني‪ ،‬ث�م تذكّ رت الطف�ل الذي كان‬
‫يجل�س معن�ا‪ ،‬حي�ث كان الرجل على يميني هو والطفل‪ .‬ظننت أنه‬
‫عندم�ا س�أحاول إدارة عنق�ي سأفش�ل ثانية‪ ،‬لك�ن لم يحدث ذلك‪.‬‬
‫نظ�رت عل�ى يميني حي�ث كان يجلس الذي ذهب‪ ،‬فلم يكن أحد‪.‬‬
‫نظ�رت يس�ار ًا‪ ،‬وأيض� ًا لم أجد أح�د ًا‪ .‬لحظتها وأنا حيران البال بين‬
‫بقوة‬
‫ثم نفخت صدري بالهواء‪ ،‬وزفرت ّ‬ ‫الحقيق�ة والخي�ال‪ ،‬وقف�ت َّ‬
‫لعل طنين األفكار‬
‫ورحت أبحلق في األرض َّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم عاودت الجلوس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يخف وزنه‪ .‬فجأ ًة س�معت صوت‬ ‫َّ‬ ‫الذي يثقل رأس�ي يجد حلاّ ً كي‬
‫فالصوت كان يصعد من‬ ‫بكاء يتصاعد تدريجي ًا‪ ،‬اغتربت مرة أخرى‪ّ ،‬‬
‫صدري‪ .‬رفعت رأسي حينها‪ ،‬ولم َأر أحد ًا بالجوار‪ ،‬نظرت خلفي‪،‬‬
‫ال أحد‪ ،‬والبكاء لم يتو ّقف‪ .‬أدركت حينها أنّه صادر من ذلك الطفل‬
‫رحت أتساءل إن كان‪ ،‬هو أيض ًا‪ ،‬يلعب‬ ‫ُ‬ ‫الصغير‪ ،‬ولم أعرف أين هو‪،‬‬
‫بعيني قدر المس�تطاع لك�ن لم أجد له‬‫ّ‬ ‫جل�ت‬
‫ُ‬ ‫مع�ي لعب�ة ال ّتخاط�ر‪.‬‬
‫عيني‪ .‬لحظة إرجاع‬‫ّ‬ ‫أث�ر ًا‪ .‬دعك�ت جبيني مغم�ض العينين‪ ،‬وفتحت‬
‫يدي‪ ،‬ش�عرت بش�يء دافئ يقطر عليها‪ .‬نظرت إلى يدي‪ ،‬بدت لي‬
‫غي�ر ي�دي الت�ي أعرفه�ا بخدوش القلم الذي مح�ا بعض بصماتي‪،‬‬
‫وال االنكماشات الذكورية التي تشي باألعمال التي قامت بها يدي‬
‫ي�دي أرنو إليهما بحرص‪ ،‬وجدتهما‬ ‫ّ‬ ‫ردت‬‫ط�وال اعتم�ادي عليها‪َ .‬ف ُ‬
‫ي�دي‪ ،‬إلاّ أن�ي كنت أش�عر بحركتي فيهما‪ .‬ب�دت لي أصابعي‬ ‫ّ‬ ‫غي�ر‬
‫يدي تبدوان ناعمتين‪ ،‬وحينها قطرت بضع قطرات‬ ‫قصيرة شيئ ًا ما‪ّ ،‬‬
‫‪194‬‬
‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عليهما‪ ،‬اعتقدت أ ّن السماء بدأت تمطر‪ ،‬لكن المصدر كان‬
‫ذراعي‪ ،‬كانتا نحيلتين‬
‫ّ‬ ‫إلاّ أنّي لم أكن أشعر أني أبكي‪ .‬نظرت إلى‬
‫قدمي‪،‬‬‫ّ‬ ‫وقصيرتين‪ ،‬وال تنمو عليهما ش�عيرات الرجولة‪ .‬نظرت إلى‬
‫أغمضت‬
‫ُ‬ ‫جد ًا‪ّ .‬‬
‫ثم‬ ‫حذائي ليس هو الذي كنت أنتعله‪ ،‬مقاسه صغير ّ‬
‫عيني بعد أن أدركت األمر‪ ،‬جاءتني رغبة بالبكاء‪ ..‬وبكيت مغمض‬ ‫ّ‬
‫العينين أحترق بالوداع‪.‬‬
‫عين�ي ونظ�رت حولي‪ ،‬وج�دت البياض وحده‬ ‫ّ‬ ‫عندم�ا فتح�ت‬
‫الضوء األبيض المنعكس على جدران الحجرة‬ ‫يحيط بمرآي‪ ،‬وكان ّ‬
‫حدقت إلى‬ ‫عيني‪ .‬سمعت ضجيج ًا يصدر من ما حولي‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫يبرق في‬
‫الس�قف أح�اول أن أع�ي ازدواجية أحلام اليقظة تل�ك وواقعيتها‪.‬‬
‫أنزل�ت نظ�ري وح�ده إل�ى األس�فل‪ ،‬ث�م نح�و اليمين‪ ،‬وأحسس�ت‬
‫ي‪ ،‬فقد كنت أبكي‬ ‫خد ّ‬‫عيني تسيل عبر ّ‬ ‫ّ‬ ‫بذرفات الدموع التي غمرت‬
‫تلوح أم�ام وجهي‪ .‬كان جهاز‬ ‫نائم� ًا‪ .‬فج�أ ًة ظه�رت ل�ي يد ال ّطبيب ِّ‬
‫األوكس�جين يزعجن�ي‪ ،‬حاول�ت رف�ع ذراعي ألزيل�ه‪ ،‬لكن ُقمعت‬
‫رغبتي وإرادتي بالفراغ ال ّطاقي بجس�دي‪ ،‬وبالعياء الذي لم يس�مح‬
‫كنت في عجز تام لم يس�مح لي حتى‬ ‫ألوت�اري وألياف�ي بالحرك�ة‪ُ .‬‬
‫بحك خدي أو تجفيف دموعي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ماء على وجهي‪،‬‬ ‫ورش ً‬ ‫ّ‬ ‫نزع ع ّني الطبيب جهاز األوكس�جين‪،‬‬
‫خدي‬ ‫نضح�ت تل�ك القط�رات على وجهي تنزل نحو عنقي‪ .‬صفع ّ‬
‫بصفعة خفيفة ألس�تفيق‪ ،‬ثم وضع يده اليس�رى بحذر تحت رقبتي‬
‫يرفعني‪ ،‬ووضعت مس�اعدته الممرضة وس�اد ًة رطبة عالية‪ ،‬ثم أعاد‬
‫وضع رقبتي التي ش�عرت أنّها ستنكس�ر‪ ،‬رأس�ي هو اآلخر والذي‬
‫رمش�ت كثي�ر ًا محاوالً‬ ‫الرف�ع الخفي�ف قد تأ ّلم أيض ًا‪ّ .‬‬ ‫ُر َّج م�ن إث�ر ّ‬
‫‪195‬‬
‫إزال�ة الدم�وع التي س�كنت جفوني‪ .‬ش�عرت بوخ�زة ٍ في معصمي‪،‬‬
‫يهدئن�ي‪ ،‬وهدأت بع�د دقائق‬ ‫وأحسس�ت أ ّن الممرض�ة حقن�ت م�ا ّ‬ ‫ُ‬
‫توضح�ت رؤيت�ي بع�د ذلك‪ ،‬وش�عرت باحتكام جس�دي‬ ‫ّ‬ ‫بالفع�ل‪.‬‬
‫دت وأنا‬ ‫تنه ُ‬
‫خدي‪ّ .‬‬‫ألح�ك ّ‬
‫ّ‬ ‫حركت يدي‬ ‫إلش�ارات الم�خ‪ ،‬وبال�كاد ّ‬
‫أنظر إلى أقصى اليمين حيث يوجد ال ّزجاج‪ .‬رأيت س�عد ًا ونجوى‬
‫بجانبه‪ ،‬كانت نجوى تبكي‪ ،‬وس�عد كان ُيلصق يديه بالزجاج‪ ،‬وقد‬
‫جيد ًا‪ ،‬نزع يديه من‬‫عيني ّ‬
‫ّ‬ ‫ح�دق إلى‬
‫ب�دا الهل�ع عل�ى وجهه‪ .‬ما إن ّ‬
‫ثم جلس هو أيض ًا‪.‬‬ ‫الزجاج وأمسك نجوى ليجلسها على الكرسي‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫أخرج من جيب سترته منديالً ورقي ًا‪ ،‬وبدا لي كأنه يكتب شيئ ًا عليه‪.‬‬
‫ألص�ق المندي�ل المف�رود بكل أبعاده وزواياه على الزجاج‪ ،‬أمس�كه‬
‫بكلتا يديه ح ّتى التصق بأكمله على الزجاج‪.‬‬
‫لم تعنني الكلمات التي كتب بقدر ما عنتني حالة سعد‪ ،‬كانت‬
‫مرة أرى الضعف في سعد‪ ،‬كان قريب البكاء أو أنّه بكا‪.‬‬ ‫أول ّ‬ ‫تلك ّ‬
‫بخط أسود كبير على المنديل‪« :‬كدت أن‬ ‫ٍّ‬ ‫المعوجة‬
‫ّ‬ ‫قرأت الكلمات‬ ‫ُ‬
‫تقتلنا»‪.‬‬
‫جيد ًا‪ ،‬ولكن�ي أدركت أني‬ ‫ل�م أفه�م م�ا الذي كان يري�د قوله ّ‬
‫كن�ت ف�ي حال�ة خط�ر‪ ،‬فضربات قلبي التي كان�ت ته ّز صدري ه ّز ًا‬ ‫ُ‬
‫وشت لي‪ ،‬فال أذكر أنّي شعرت بخفقانه كما حدث وقتها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫تعبير على وجهي لهما‪ .‬نظرت للحظة إلى نجوى‬ ‫لم أُبد َّ‬
‫أي‬
‫التي كانت حاني ًة رأسها‪ ،‬فتذكّ رت ياسمين بغيابها الحاضر بدعواتها‬
‫المرة الس�ابقة التي كانت قبل عيد األضحى‪ ،‬لم‬ ‫م�ن المن�زل‪ ،‬فف�ي ّ‬
‫علي هذه المرة‪،‬‬ ‫حدة خطره ّ‬ ‫تتحمل الوضع الذي كنت فيه رغم ق ّلة ّ‬ ‫ّ‬
‫تح�ب المجيء لمعاينتي‪ ،‬وكان أفضل لي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫المرة الس�ابقة لم‬ ‫ومن�ذ ّ‬
‫‪196‬‬
‫لم أُرد أن يراقبني الياسمين وأنا أنسل احتضاري المؤ ّقت‪ ،‬وأحترق‬
‫وأُعاد رماد ًا بالخيبات نفسها‪ ،‬هزيالً كفرخ فقس من بيضة‪.‬‬
‫تمت بنجاح‪ ،‬وأنّي نُقلت‬ ‫ما لم أفهمه وقتها‪ ،‬هو أ َّن عمليتي قد ّ‬
‫تمت فيه�ا العملية‪ ،‬إذ ًا فما الذي جعل‬ ‫ٍ‬
‫إل�ى غرف�ة أخ�رى غير التي ّ‬
‫االثنين يهلعان؟‬
‫بع�د أن ضايقتن�ي وشوش�ة ال ّطبيب والممرض�ة‪ ،‬قلت بصوتٍ‬
‫مبحوح ال يكاد ُيسمع لل ّطبيب‪« :‬من فضلك‪ ..‬أريد أن أرتاح‪ ،‬أريد‬
‫أن أبقى وحدي‪ ،‬وأطفئ األنوار»‪ .‬لم ُير َّد الطبيب بشيء‪ ،‬قام طائع ًا‬
‫ولبى طلبي عن طيب خاطر‪ .‬خرج هو والممرضة‪ ،‬وأطفأ األنوار‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم طلب من سعد أن يتركني بعد أن فتح الباب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫احتجت أربع س�اعات نمتها ألس�تعيد طاقتي وأش�حن عقلي‬
‫بإرجاع ذاكرة الحاضر‪ .‬أذكر أنّه عندما جاء ال ّطبيب ليتفقّد حالتي‪،‬‬
‫تحدثت معه بعض الوقت‪ ،‬ثم قاطعته وس�ط الحديث أني أريد أن‬ ‫ُ‬
‫أفقت س�معت ص�وت المئذنة وهي تعلن‬ ‫ُ‬ ‫أتوض�أ ألصل�ي‪ ،‬فعندم�ا‬
‫ّ‬
‫ع�ن دخ�ول صلاة المغرب‪ .‬س�اعدني على الوق�وف والتوجه نحو‬
‫توضأت‪ ،‬وشعرت بماء الوضوء الذي غسل‬ ‫ّ‬ ‫دورة مياه بالمستشفى‪،‬‬
‫أعضاء جسمي يسري بشفائه نحو إيقاظ روحي ال ّنائمة‪ .‬ص ّليت في‬
‫عدت ُمكره ًا ومرغم ًا‬
‫ُ‬ ‫ش�عرت بأنّي‬
‫ُ‬ ‫الحجرة جالس� ًا‪ ،‬وبعد ّ‬
‫الصالة‪،‬‬
‫من جديد‪ .‬عدت بعد ذلك إلى الفراش‪ ،‬أنتظر الصالة القادمة بعد‬
‫ليحدثني‪ ،‬وجدني نائم ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولوجه�ا بن�وم ٍ طفيف‪ .‬وحين أتى الطبي�ب‬
‫ونمت فعالً‪ ،‬ولم أسيقظ ح ّتى صباح الجمعة‪ ،‬مخلف ًا فريضة العشاء‪.‬‬
‫الجمعة كانت مح ّطة الزيارات الكئيبة‪ ،‬جاءت العائلة المنسية‬
‫دون جدي وياسمين‪ ،‬أتوا ليطمئ ّنوا على شيخوختي البارزة بكلمات‬
‫‪197‬‬
‫فرح�ت أكمل مس�رحية االمتثال للنقاه�ة‪ .‬بعدهم جاء دور‬ ‫الع�زاء‪ُ ،‬‬
‫كل طاقت�ي في حديث طوي�ل على الهاتف‪،‬‬ ‫ياس�مين الت�ي أخ�ذت ّ‬
‫عل�ي بهلعه�ا المكاب�ر‪ ،‬ولم أعتب ف�ي حديثي على‬‫َّ‬ ‫تطمئ�ن‬
‫ُّ‬ ‫كان�ت‬
‫غيابه�ا‪ ،‬فق�د أعجبن�ي ع�دم حضوره�ا‪ ،‬ورغ�م ذلك‪ ،‬فلغ�ة التلعثم‬
‫والخ�وف عل�ى حالت�ي كان بادي ًا على حب�ال حنجرتها‪ .‬بعدها جاء‬
‫بحدة أخف‬‫س�عد ونجوى في المس�اء‪ ،‬وهما أيض ًا مارس�ت معهما ّ‬
‫تكررت‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مر بكلمات ّ‬ ‫السيناريو نفسه الذي َّ‬
‫بعد أن غادر سعد ونجوى‪ ،‬دخل الطبيب‪ .‬اعتدلت في جلستي‬
‫أستمع إليه‪ .‬جلس على كرسي على يميني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫– هل تشعر بتحسن؟‬
‫– الحمد هلل‪ ،‬بخير‪ ،‬اآلن أفضل‪.‬‬
‫– نسعد بذلك‪.‬‬
‫عما يريد‬
‫ثم أردف والحرص في كالمه‪ ،‬كأنّه ال يريد اإلعراب ّ‬
‫أن يقول‪:‬‬
‫– أتعلم‪..‬‬
‫صمت للحظة‪ ،‬ثم أكمل‪.‬‬
‫– ‪ ..‬كدنا أن نفقدك‪!..‬‬
‫قلت مستفسر ًا‪:‬‬
‫يمر العالج بخير؟ هل وقع خلل ما؟‬ ‫– ماذا تعني ألم َّ‬
‫مر على ما يرام‪ ،‬كل ما في األمر أ ّن‪..‬‬
‫– ال ال‪ ،‬كل شيء َّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ثم أردف‪:‬‬ ‫صمت ّ‬
‫– أعني بعد العملية‪..‬‬
‫– هل حدث شيء‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫ربما‪.‬‬ ‫ – ّ‬
‫– إذ ًا!؟‬
‫‪ ..‬دخلت في حالة إغماء‪ ،‬واضطرب قلبك‪ ،‬وكاد أن يتوقف‪.‬‬
‫في‪ ،‬فلو اضطرب قلبي في شيء‬ ‫تحرك كلماته شيئ ًا ساكن ًا ّ‬
‫لم ّ‬
‫آخر غير المرض لذعرت‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫صدقن�ي‪ ،‬وربم�ا م�ا س�أقوله ل�ك اآلن صع�ب التصدي�ق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫– ‬
‫ولكنك كنت ما بين الحياة والموت‪.‬‬
‫– ما بين الحياة والموت؟‬
‫مرة أرى فيها ش�يئ ًا كهذا‪ ،‬ظننت لوهلة‬‫– ث�ق ب�ي‪ ،‬ه�ذه أول ّ‬
‫أحضر يدي ألمضي على وفاتك!‬ ‫ّ‬ ‫أنّي سوف‬
‫وجدت ما يقوله مستحيالً للتصديق‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫– أح ّق ًا ما تقول؟‬
‫كل معتقدات�ي عن الحياة والموت‪ ،‬عن التصديق‬
‫وجع�ت ّ‬
‫َ‬ ‫– أَ‬
‫وعدمه‪ ،‬عن الرجوع والعودة‪.‬‬
‫ثم أردف بعد أن صمت للحظات‪.‬‬
‫أتص�دق! عش�رون دقيق�ة ومنحن�ى التذب�ذب يمش�ي‬ ‫ّ‬ ‫– ‪..‬‬
‫مس�تقيمي ًا بالشاش�ة‪ ،‬عش�رون دقيقة ونحن نحاول إفاقتك‬
‫الص�در‪ ،‬حت�ى فقدن�ا األمل‪ ،‬وحينها ل�م أفكّ ر في‬
‫بصاع�ق ّ‬
‫صدقني‬
‫جدك والعائلة‪ِّ .‬‬‫ش�يء غير الكيفية التي س�أخبر بها ّ‬
‫ي�ا ابن�ي‪ ،‬طوال الثالثين س�نة التي عملته�ا‪ ،‬لم أُصب بهذا‬
‫االرتباك من قبل‪.‬‬
‫لم أفه بشيء‪ ،‬كنت أنصت فقط‪ ،‬وأنتظر منه أن ينتهي‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫اقترب بكرسيه قليالً نحوي‪ ،‬ثم فاجأني بسؤال‪.‬‬
‫– قل لي‪ ،‬هل حلمت البارحة بشيء؟‬
‫– ربما‪..‬‬
‫– هل تذكر شيئ ًا؟‬
‫الح�ق أن�ي كن�ت أتذك�ر الكثير من�ذ أمس‪ ،‬فع�اد ُة األحالم أن‬
‫شيء‬
‫ٌ‬ ‫ُتعاش وسط الحلم‪ ،‬لكن أن تخرج لتعيد مجرياتها في الواقع‬
‫مستحيل‪ .‬قد أكون تذكّ رت صوت بكاء الطفل وكلمات الرجل‪ ،‬أما‬
‫الباقي فلم أكن متأكد ًا من صحة تذكري له‪.‬‬
‫دعكت جبيني محاوالً تذكّ ر الصورة واألصوات‪ ،‬ثم أجبته‪:‬‬
‫– لست متأكد ًا‪ ،‬ال أتذكّ ر الكثير‪.‬‬
‫تن�س أن تخبرني‪ ،‬لكن قل لي‪،‬‬‫– ال ب�أس‪ ،‬عندم�ا تتذك�ر ال َ‬
‫هل القليل الذي تذكره به والدك؟‬
‫كرهت لعبة الطبيب والمريض‪ ،‬يسألني فأجيبه‪ ،‬ثم يعاود الكرة‬
‫ُ‬
‫ثانية‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ال أظن ذلك‪ ،‬لماذا؟‬
‫كل‪ ،‬صدق أو ال تصدق‪ ،‬فقد كان منقذك‪..‬‬‫– على ّ‬
‫– هه!!‬
‫مط شفتيه‪ ،‬وأصدرت أسنانه صوت اصطكاك ثم رفع نظارته‬ ‫َّ‬
‫الطبية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫الروح أخذ ما‬
‫– بعد الدقائق العشرين التي ظننا فيها أن مالك ّ‬
‫يملك‪ ،‬صعد صوت بكاء طفيف من صدرك‪ ،‬ثم تصاعد‪،‬‬
‫وبدأ جس�دك يهتز‪ ،‬ثم بدأت تصرخ بكلمات إنجليزية لم‬
‫‪200‬‬
‫«‪Why father?..‬‬ ‫أفهمه�ا جي�د ًا‪ ،‬ولك�ن أعتق�د أنه�ا كان�ت‬
‫‪ »Why‬أو شيئ ًا من هذا القبيل‪.‬‬
‫حدقتي‪َ ،‬س ُهم وجهي‪ ،‬وبدا‬
‫ّ‬ ‫عندما سمعت ما قاله‪ ،‬جمد بؤبؤا‬
‫التجهم بائن ًا على وجهي‪ ،‬فقد اكتملت حلقة فهمي عندما انقطعت‬ ‫ّ‬
‫أتحدث بحرف‪ ،‬وش�ددت قبض َتي‬ ‫ّ‬ ‫عن الحلم بعد أن اس�تفقت‪ .‬لم‬
‫يدي تحت الغطاء‪ ،‬ح ّتى ُطبعت أظافري على راحتي يدي‪.‬‬
‫ش�عر الطبيب بضيق خاطري‪ ،‬وفهم أني اكتش�فت شيئ ًا‪ .‬وقف‬
‫ربت على كتفي قائالً‪:‬‬‫ثم ّ‬
‫– المهم أنّك بخير اآلن‪..‬‬
‫كانت تربيتته تلك كإفاقة لي‪ ،‬وإخراج ًا لي من ّ‬
‫دوامة الذهول‬
‫وص�ل الحلم بالنجاة‪ ،‬واإلدراك الش�امل لما عناه الرجل في‬
‫ال�ذي َ‬
‫الحلم‪ ،‬والذي كان والدي بال شك‪.‬‬
‫قال لي قبل أن يخرج‪:‬‬
‫– إلى أن تهدأ األمور‪ ،‬وتستعيد عافيتك‪ ،‬أريد الحديث معك‬
‫في شيء آخر متع ّلق بـ‪ ...‬ال‪َ ..‬‬
‫انس األمر‪ ،‬ارتح اآلن‪ ،‬إلى‬
‫طيب‪ ،‬أراك فيما بعد‪.‬‬
‫وقت آخر‪ .‬يوم ّ‬
‫ظللت في صمتي دون اإلجابة‪ ،‬وعندما خرج‪ ،‬ألقيت برأس�ي‬
‫ب ما‬
‫تش�ي ُ‬
‫ِّ‬ ‫على الوس�ادة‪ ،‬أحاول وقف مزيج األس�ئلة التي ما فتئت‬
‫مرة‪ ،‬كنت‬ ‫وألول ّ‬‫ّ‬ ‫تبقّى من شعري‪ ،‬وتعصر زيت قلقي في رحاها‪،‬‬
‫غاضب� ًا عل�ى األم�وات‪ ،‬كنت غاضب ًا على وال�دي الذي لم يتركني‬
‫أغادر معه‪.‬‬
‫تعذبت كفاية‪ .‬ألم يك�فِ إرث والدي لي‪،‬‬ ‫كن�ت غاضب� ًا فق�د ّ‬
‫ُ‬
‫نحرت‬
‫ُ‬ ‫بكيت�ه ف�ي الحي�اة وفي األحالم‪ ،‬بكيت�ه فراق ًا ولوعة وعذاب ًا‪،‬‬
‫‪201‬‬
‫عين�اي دموع� ًا عل�ى صعوبة الوصول إليه ما بين األرض والس�ماء‪،‬‬
‫لكن�ه أرجعن�ي إل�ى مرحل�ة الصف�ر والفت�ور‪ ..‬وأنا أك�ره البدايات‪،‬‬
‫فالبداي�ة أش�د أن�واع الغص�ص الت�ي م�ا أن ُوجدت قهرت نس�ياني‬
‫وتذكّ �ري‪ .‬أل�م يك�فِ يتمه لي؟ ألم يك�فِ غيابه جرح ًا؟ ألم يأن له‬
‫أن يمسك بيدي حقيقة ويفصلني عن عذاب قبر الحياة هذه حينها؟‬
‫وابتسامته تلك‪ ،‬أهي أيض ًا كانت تعبرها رسالة والدتي عندما بكي ُتها‬
‫يوم ًا؟‬
‫اللعنة! لماذا يجب أن أصبر على نزق هذه الحياة بالسخرية؟!‬
‫وأتجرع‬
‫ّ‬ ‫كان يجب على أحدهما أن يأخذني معه‪ ،‬فإنّي أموت هنا‬
‫الدنيا إغاظة وفتك ًا‪ ..‬وال أُعالج جراحي الغائرة س�وى‬ ‫أش�د س�موم ّ‬
‫حزن ًا‪..‬‬
‫قضيته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لكل‬
‫لكن ال بأس‪ ،‬أنا قادم‪ ..‬فهكذا هي المصائر‪ّ ..‬‬
‫أهلت‬
‫ُ‬ ‫واري�ت بها ما مض�ى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫م�رت بع�د الجمع�ة ثالث�ة أي�ام‬ ‫ّ‬
‫الت�راب عل�ى عي�اء الم�رض‪ ،‬وعدت إلى العمل بحالة صحية ش�به‬
‫بددت رصيد نزق ذلك الغضب في األيام الثالثة المتبقية من‬ ‫معافاة‪ّ .‬‬
‫األس�بوع‪ ،‬وفي العمل بإفراغ بطارية الذكرى المؤذية التي أعادتني‬
‫وحاولت أن أمش�ي بضعفي قدر‬ ‫ُ‬ ‫إل�ى ب�كاء الصغ�ر‪ ..‬كبت ًا ُمخرج ًا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫المستطاع نحو طريق يؤ ّدي صوب المعافاة التي تؤدي إلى شيء ما‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫‪II‬‬

‫ِ‬
‫مس�حت نظارتي‪ ،‬وفي حركة وضعها على وجهي‪ ،‬انعكس�ت‬
‫ص�ورة زج�اج الناف�ذة عليه�ا بصورة خضراء من أث�ر الزجاج الذي‬
‫عدلت اعوجاجها‬ ‫يعكس األشعة البنفسجية‪ .‬وضعتها على وجهي‪ّ ،‬‬
‫بأصابعي‪ ،‬ومسحت بها جبهتي‪ .‬اعتدلت في جلستي على الكرسي‪،‬‬
‫وانكف�أت نح�و المكت�ب‪ .‬كان ضوء الش�مس الذي تصدره قبل أن‬
‫تضرب المآذن معلنة عن صالة المغرب بساعة‪ُ ،‬يضفي إنارة جميلة‬
‫حملت قلمي أضيف لمس�اتٍ على‬ ‫ُ‬ ‫المك�دس أمام�ي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عل�ى ورق�ي‬
‫وصحح�ت تعابير في غير‬ ‫ّ‬ ‫م�ا كتب�ت‪ .‬أزل�ت بضع كلمات وجمالً‪،‬‬
‫مح ّلها‪.‬‬
‫قطعت ورق ًة بيضاء من كتاب رس�م صغير‪ ،‬كتبت في وس�طها‬ ‫ُ‬
‫أول خطر ببالي ألوراقي‪،‬‬ ‫بقلم أس�ود‪« :‬ش�يء ما»‪ ،‬عنوان ًا محتمالً ّ‬
‫ثم وضعت الورقة أعلى األوراق‪.‬‬ ‫فقد كانت آخر كلمات كتبتها‪ّ .‬‬
‫أش�عة الش�مس الرطبة‪ ،‬وأصبح نورها خافت ًا ّ‬
‫يزين‬ ‫ّ‬ ‫خ ّفت ّ‬
‫حدة‬
‫ٍ‬
‫س�طح مكتب�ي البن�ي بل�ون جميل ٍ وب�ارد يدعو لل ّنوم واالس�ترخاء‪.‬‬
‫بملف أخضر‪ ،‬وتركت‬ ‫ٍّ‬ ‫ثم وضعتها‬ ‫نهض�ت حاملاً األوراق‪ ،‬ر ّتبته�ا ّ‬
‫الملف فوق المكتب‪.‬‬
‫أكره األشياء‬
‫ُ‬ ‫كنت ملزم ًا أن أحلق لحيتي‪ ،‬فقد أصبحت كثّة‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫إلي هي الحالقة‪ ،‬ليس طعن ًا في الحالقة نفسها‪ ،‬ولكن لما‬ ‫بال ّنسبة ّ‬
‫تفعله بي المرايا التي تغدر بي باآلالم المرتس�مة على وجهي‪ .‬لم‬
‫كل خميس‬ ‫أكره المشي ولم أكره المسافات ال ّطويلة التي أخطوها ّ‬
‫محل حالقة‬‫ّ‬ ‫لك�ن المس�افة القصيرة الت�ي تبعث بي نحو‬
‫ّ‬ ‫للتج�وال‪،‬‬
‫مرة جلس�ت تلك الخمس والعش�رين‬ ‫تكبدن�ي الكثي�ر‪ .‬ك�م ّ‬‫الح�ي ّ‬
‫دقيقة الطويلة‪ ،‬على ذلك الكرسي األسود الكبير‪ ،‬مكره ًا أنتظر أن‬
‫ينتهي الحالق من عمله‪ .‬كنت أجلس دائم ًا حاني ًا رأسي صابر ًا على‬
‫تلك المرآة الهائلة‪ ،‬وعلى تلك االختالسات التي ترمقني بها عيناي‬
‫بالم�رآة‪ ،‬فق�د كانت ُتهلعني نحولة معصمي وبرودة بش�رتي‪ .‬عندما‬
‫قصة‬‫كان الحالق ينتهي‪ ،‬أنقده بسرعة وأغادر سريع ًا دون النظر إلى ّ‬
‫ح�د أنّ�ي كنت أختل�س ال ّنظر إلى‬ ‫الش�عر إذا ه�ي أعجبتن�ي أم ال‪َّ ،‬‬
‫كل األحوال‪،‬‬ ‫زجاج أحد أبواب س�يارة ما في طريق عودتي‪ ،‬ففي ِّ‬
‫كل‬
‫ال ُيظهر زجاج السيارات األشياء واضحة كما تبدو عليه‪ ،‬وفي ِّ‬
‫قصة الش�عر عادية‪ ،‬وأبدو بها كعس�كري في‬ ‫األحوال أيض ًا‪ ،‬تكون ّ‬
‫الواجهة‪.‬‬
‫م�رت‬‫حلق�ت ذقن�ي وش�اربي بماكين�ة الحالق�ة الكهربائي�ة‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫الدقائق التي استغرقتها طويلة وعسيرة‪ ،‬ح ّتى أنّي ركزت على شفتي‬
‫بأي حكّ ة‬
‫زعج ِّ‬‫الباهتتي�ن وأن�ا أحل�ق‪ ،‬كان ال ب�د أن أصبر ك�ي ال أُ َ‬
‫حلقت ثم غس�لت ثم‬ ‫ُ‬ ‫زع�ج ذقن�ي‪ ،‬وألتج ّنب لمس وجهي كثير ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُت‬
‫مسحت بمنشفة وجهي بأكمله‪.‬‬
‫جلس�ت على س�ريري أفكّ ر في ش�يء ُ‬
‫أقتل به الدقائق المتبقّية‬
‫ويفتح ليلي‪ .‬اس�تلقيت على جنبي األيمن‪..‬‬ ‫قبل أن تغيب الش�مس ُ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬لم أجد ش�يئ ًا س�وى أن‬ ‫فاأليس�ر‪ ،‬ثم اعتدلت جالس� ًا ّ‬
‫‪204‬‬
‫أذهب إلى مكتبتي الصغيرة برفوفها الكبيرة‪.‬‬
‫لم ُتثرني أي األسماء الموجودة ألحمل بضاعتها‪ ،‬بقيت واقف ًا‬
‫بدون حيرة من دون أن أحمل كتاب ًا‪.‬‬
‫كانت صورة رأسي تنعكس على زجاج ال ّنافذة‪ ،‬ولون رفوفي‬
‫الرمادية بقربي ُيضفي مع هزالي ورأس�ي المنحني بال ّتفكير‪ ،‬صور ًة‬ ‫ّ‬
‫مثالي�ة ذكّ رتن�ي بلوح�ة فني�ة كن�ت ق�د رأيته�ا في موقع م�ن مواقع‬
‫اإلنترني�ت فحفظته�ا عل�ى الحاس�وب‪ ،‬ب�دا ل�ي مالئم� ًا أن أش�غل‬
‫نس�خت الصورة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حاس�وبي وأتفقّده�ا م�ا دم�ت مثّلت ج�زء ًا منها‪.‬‬
‫وسرى في جسدي نوع من األلفة لما فعلته بي معانيها التي أيقظت‬
‫حزني وأشبعت ظمأه‪.‬‬
‫استلقيت على السرير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ألصق ُتها بالحائط المقابل لسريري‪ ،‬ثم‬
‫معدالً ّإياه بوسادتين‪ ،‬واحد ًة فوق األخرى‪.‬‬‫ورفعت رأسي نحوه ّ‬
‫أتأمل ش�كل ال ّلوحة‪ ،‬صبغة ال ّلوحة‪ ،‬خطوطها‪ ،‬وما‬ ‫اس�تلقيت ّ‬
‫ترمي إليه‪ ،‬وس�طو ال ّش�حوب واأللوان التي اكتس�ت بنسل الغياب‪،‬‬
‫وكنت أفكّ ر في كيف خطرت على اإلسباني اسم ال ّلوحة‪ ،‬في كيف‬
‫كل ذلك‬ ‫ابتدأها «بيكاسو» يا ترى وأعطاها عنوانها الشخصي فارد ًة ّ‬
‫العجز‪ .‬هل االس�م ابتدأ كيانها وأعطى يد راس�مها ش�كل إتيانها أم‬
‫أ َّن انتهاءها أفشى وأظهر معالمها لعيني راسمها؟‬
‫«ع�ازف القيث�ارة العج�وز»‪ ،‬ه�ذا ه�و اس�مها ال�ذي أث�ار ع ّلة‬
‫الش�يخوخة التي تس�كنني‪ ،‬بدا لي كأ ّن حياتي مو ّقعة على قماش�ها‬
‫األصلي‪ ،‬حالتي مرس�ومة على القماش مو ّش�اة بفقر ش�بابي؛ تلك‬
‫المالمح المكتومة‪ ،‬والشعر األشيب‪ ،‬ورقعة الكتف‪ ،‬والثّوب البالي‪،‬‬
‫ولون الجسد ال ّشاحب‪ ،‬ورأسه المطأطئ‪ ،‬والقيثارة بين األيدي التي‬
‫‪205‬‬
‫الكل يشي أنّي كنت‪،‬‬‫ّ‬ ‫تظهر أنّها تعزف لحن السجن صمت ًا وسكون ًا‪.‬‬
‫وم�ا زل�ت‪ ،‬أحم�ل ح ِّظي المري�ض كقيثارة على ش�كل قلم‪َّ ،‬‬
‫أتربع‬
‫كالعجوز‪ ،‬أعزف في وحدة ٍ بقلمي في ال ّليالي الباردة رافض ًا ش�فقة‬
‫أملك من أمل ٍ نافد وحزن ٍ فائض‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحياة بسعادة ما‬
‫مقلتي إلى وجه العجوز‪ ،‬لم‬ ‫ّ‬ ‫أحدق بكل أبعاد‬
‫عشر دقائق وأنا ّ‬
‫يلع�ب حي�اد المل�ل ف�ي عيني‪ .‬آثرت أن أتو ّق�ف لكي ال أنزع عنها‬
‫رغبت في تمزيقها‬
‫ُ‬ ‫غط�اء الوق�ار الذي تمثّل�ه‪ .‬انتزعتها من الحائط‪،‬‬
‫أما األول�ى فلم أقدر‬ ‫ق�درت عل�ى الثّانية‪ّ ،‬‬‫ُ‬ ‫وحذفه�ا م�ن حاس�وبي‪.‬‬
‫طوي�ت الورق�ة ووضعتها في درج ٍ منس�ي ه�و اآلخر‪ ،‬درج ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عليه�ا‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫الحب واألمل‪ .‬ها هي ذي تحف ٌة مؤلمة ُتحيل عن نفاد‬ ‫ّ‬ ‫كل‬
‫يختزل ّ‬
‫في س ُتجمع مع باقي ال ّتحف من دون رؤية‪.‬‬ ‫ال ّشباب ّ‬
‫منفى آخر‬
‫ً‬ ‫مجرد مآس ٍ تشكّ ل خوائي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدرج‬
‫كل ما في ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫لدب نائم‪،‬‬
‫الصندوق الخش�بي؛ صورت�ان لحيوانين‪ ،‬واحدة ٍّ‬ ‫كمنف�ى ّ‬
‫تتوس�طها ابتسامة ياسمين‬ ‫ّ‬ ‫وأخرى ألس�د ٍ ثائر‪ ،‬وصورة لي‪ ،‬وأخرى‬
‫معي يوم جاءت للمرة األولى واألخيرة إلى المستشفى‪.‬‬
‫إلي‪،‬‬
‫رغم أنّهما منفيان‪ ،‬فهما ليس�ا المنفى الرئيس�ي بال ّنس�بة ّ‬
‫ولعل شاعر ًا سبقني‪:‬‬‫ّ‬

‫م�ا دام منف�اي الكبي�ر بداخلي‬ ‫تب�دد وحش�تي‬‫كل المناف�ي ال ّ‬


‫ُّ‬
‫السماء لحافها ظلمةً‪ ،‬وقد آن للمآذن‬‫غابت ال ّشمس‪ ،‬ووضعت ّ‬
‫الصالة والفالح‪.‬‬‫تحيي على ّ‬
‫أن ّ‬
‫أظن أن الليلة ستكون‬
‫الجوية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫حسب ما رأيته زواالً في النشرة‬
‫الس�ماء عا ّقة لألنب�اء اليوم‪ ،‬أريد ّ‬
‫الذهاب‬ ‫ماط�رة‪ ،‬وأرج�و أن تكون ّ‬

‫‪206‬‬
‫للتسوق بعد صالة المغرب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫رت‬‫غي ُ‬‫جوها المظلم‪ّ ،‬‬ ‫أش�علت بعض األنوار ل ُتنار ال ّش�قّة من ّ‬ ‫ُ‬
‫ووضعت معطفي على جسدي‪ ،‬وانتعلت حذائي المطري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مالبسي‪،‬‬
‫كل‬ ‫مر ًة أخيرة إذا ما كان ّ‬ ‫راقبت ّ‬
‫ُ‬ ‫حمل�ت المظل�ة‪ ،‬وقب�ل أن أخرج‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫شيء في موضعه‪ ..‬وكان كذلك‪.‬‬
‫ي�ت في المس�جد‪ ،‬وعندما خرج�ت كانت اآليات األخيرة‬ ‫ص ّل ُ‬
‫﴿ي�ا أَ َّي ُت َه�ا ال َّن ْف ُس‬‫م�ن س�ورة الفج�ر ال ت�زال عالق� ًة ف�ي ص�دري‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اضي ًة مر ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َّي ًة * َفا ْد ُخلي في ع َبادي‬ ‫ا ْل ُم ْط َمئ َّن� ُة * ْارجع�ي إ َل�ى َر ِّبك َر َ َ ْ‬
‫* َوا ْد ُخ ِلي َج َّن ِتي﴾‪.‬‬
‫ب�دأت أعي اآليات‪ ،‬ال عن األنفس التي س�بقتني‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫كناي� ًة ع ّن�ي‬
‫فأين أنتِ يا نفس�ي المطمئ ّنة؟ هل أنتِ مطمئ ّنة ح ّق ًا؟ هل أُزعجك‬
‫ربي بتعذيب‬ ‫نت األمانة يا ّ‬ ‫بقساوة الحجر الرابض على قلبي؟ هل ُخ ُ‬
‫نفس�ي بس�بب وبال س�بب؟‪ .‬اغفر لي يا ربي‪ ،‬فما لي غيرك أ ّتكل‬
‫عليه‪ ،‬ال أطلب شيئ ًا غير أن تفعل بي خير ًا‪ ،‬وإذ كان مزيد من األلم‬
‫ِ‬
‫أطلب عف�وك من عقوق‬ ‫ُ‬ ‫�ك ال تنتهي‪،‬‬‫خي�ر ًا‪ ..‬فلا ب�أس ب�ه‪ ،‬حكَ ُم َ‬
‫كل ي�وم‪ ،‬وإذا ما‬ ‫نفس�ي‪ ،‬وم�ن ذن�وب الحرمان ال�ذي أُذيقه لذاتي ّ‬
‫أتمسك به‪ ،‬فلتكن أنت يا من فطرني على هذا‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫أمل‬‫كان هناك ٌ‬
‫تكون أنت وحدك أملي‪ ،‬فاآلمال المتع ّلقة باألشياء تزول‪ ،‬واآلمال‬
‫علي‬
‫ربي أغدق ّ‬ ‫المنفلت�ة م�ع األنام غي�ر رصينة وغير ثابتة وكاذبة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫الراحة‪ ،‬فال أريدها بقدر‬ ‫أملك‪ ،‬وسكون وحدانيتك‪ ،‬لم أطلب يوم ًا ّ‬
‫ما أريد عفوك وقضاء حاجتي‪ ،‬فقد تأ ّخر الوقت كثير ًا على أمثالي‬
‫ك�ي ُيواصل�وا كدح العمر ه�ذا‪ ،‬ال أريد ال ّتد ّخل في مصيري‪ ،‬افعل‬
‫بي قبل أن أفعل بنفسي شيئ ًا‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫السوق ألجلب ما يمأل ثلاّ جتي‬ ‫قطعت مساف ًة شبه طويلة نحو ّ‬ ‫ُ‬
‫األيام التي تلت العملية على األكل‬ ‫اقتصرت بعد ّ‬ ‫ُ‬ ‫التي فرغت‪ ،‬فقد‬
‫رت أ ّن الالئحة‬ ‫جدي‪ .‬فكّ ُ‬ ‫في الخارج أو عبر طلب يأتيني من مطعم ّ‬
‫الت�ي وضعته�ا ف�ي ذهن�ي ع�ن م�ا سأش�تريه طويلة بعض الش�يء‪،‬‬
‫ساعدي‬
‫ّ‬ ‫واألكياس البالس�تيكية التي س� ُتوضع بها س� ُتؤلم عضالت‬
‫الرخوة‪ ،‬وخلصت إلى أن أقسم الالئحة نصفين بين اليوم والغد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أتجول وس�ط ص ّفين م�ن الباعة الذين يضعون الخضر‬ ‫ّ‬ ‫ح�ت‬ ‫ُر ُ‬
‫تجرها عجالت‪" :‬الكروس�ة"‪ .‬أنظر يمين ًا وش�ماالً‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫في عربة خش�بية ّ‬
‫حت‬ ‫الذهنية بما هو واجب اقتناؤه وضروري‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ح�ت الئحت�ي ّ‬ ‫تص ّف ُ‬
‫ّل�ت بين أربعة باعة‪ .‬مألت كيس� ًا بالس�تيكي ًا‬ ‫إل�ى جه�ة اليمي�ن‪ ،‬تنق ُ‬
‫أتبضع الحام�ض والفلفل والبهارات‪..‬‬ ‫حت ش�ماالً ّ‬ ‫ثم ُر ُ‬ ‫بالخض�ر‪ّ .‬‬
‫الدجاج‪،‬‬ ‫يتبق س�وى أن أش�تري لحم البقر أو ّ‬ ‫كيس آخر‪ .‬لم ّ‬ ‫امتأل ٌ‬
‫س�معت بائع ًا يصي�ح بتخفيض ثمن بعض‬ ‫ُ‬ ‫ّأيهم�ا س�يفي بالغ�رض‪.‬‬
‫الفواك�ه‪ ،‬وكان بع�ض ال ّن�اس ُيحيط�ون به‪ .‬لم ُيغرن�ي العرض‪ ،‬فأنا‬
‫أك�ره الفواك�ه إال القلي�ل‪ ،‬والحالوة يجتمع عليها البش�ر كثير ًا‪ ،‬كما‬
‫الذباب‪.‬‬ ‫الذباب على قطعة حلوى‪ ..‬وأنا أكره ّ‬ ‫يجتمع ّ‬
‫اكتظ المكان‪ ،‬كما لم أعد أطيق نبرة‬ ‫ّ‬ ‫هممت بالخروج بعد أن ِ‬
‫ُ‬
‫َاش!!))‪،‬‬ ‫((يلاَّ ْه َم ْبق ْ‬
‫َاش َم ْبق ْ‬ ‫وتكرر نفس الجملة‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫البائ�ع الت�ي تصيح‬
‫والتي ُتعاد بالحدة نفسها‪ ،‬ال ّشيء الذي آلم طبلتي أذني وأخرجهما‬
‫من طيب صوت اإلمام الذي قرأ القرآن‪.‬‬
‫نظ�رت إل�ى س�اعة يدي‪ ،‬لحظات وأنا أراق�ب عقربيها انتظار ًا‬ ‫ُ‬
‫سمعت صوت الكيس البالستيكي‬ ‫ُ‬ ‫رفعت رأسي عندما‬ ‫ُ‬ ‫أمام الج ّزار‪.‬‬
‫وحملت‬‫ُ‬ ‫فوق منضدة الج ّزار‪ ،‬نقدته‪ ،‬أرجع لي صرف المئة درهم‪،‬‬
‫‪208‬‬
‫أكدسه في الكيس البالستيكي مع باقي المجموعة‪.‬‬ ‫الكيس الصغير ّ‬
‫كل ش�يء ابتعته س�يكفي‪،‬‬ ‫وقف�ت لوهل�ة أم�ام الج ّزار‪ ،‬أفكّ ر في إن ّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كنت أخش�ى من ش�يء واح�د‪ ،‬أن يتم ّزق‬ ‫وب�دا ل�ي األم�ر كذلك‪ُ .‬‬
‫حر َج نفسي مع المارة‪ .‬أخذت كيس ًا آخر كبير ًا من‬ ‫أحد األكياس فأُ ِ‬
‫األول إليه‪ ،‬وبعض ًا من الكيس‬ ‫نقلت بعض ًا من الكيس ّ‬ ‫ُ‬ ‫المحل نفسه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫صوت كرهت أن‬ ‫ٌ‬ ‫الثّاني أيض ًا إليه‪ .‬وأنا أفعل ذلك‪ ،‬تخ ّلل إلى أذني‬
‫حدة وقعه أحمل أثقاالً‪ ،‬كان صوت قطرات المطر وهي‬ ‫أمشي على ّ‬
‫صككت أس�ناني‬ ‫ُ‬ ‫لمحل الجزارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تنض�ح ف�وق الغطاء البالس�تيكي‬ ‫ُ‬
‫هززت‬
‫ُ‬ ‫فتحت مظ ّلت�ي‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫أخذت نفس� ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وزف�رت م�ن أنف�ي حنق ًا‪.‬‬‫ُ‬
‫القوية مقارن ًة‬
‫ّ‬ ‫اليمنى‬
‫جمع�ت قبضتيهما في ذراع�ي ُ‬ ‫ُ‬ ‫كيس�ين بع�د أن‬
‫اليس�رى ألحمل الكيس اآلخر‪،‬‬ ‫وانحنيت بمظ ّلتي بيدي ُ‬
‫ُ‬ ‫باليس�رى‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وخطوت‬
‫ُ‬ ‫اس�تعددت للمطر الغزير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فقد كان خفيف ًا بعض ال ّش�يء‪.‬‬
‫ُمتجاوز ًا عتبة المحل أسير في دربي‪ .‬كان اختياري صحيح ًا عندما‬
‫الس�وق كانت موحل�ة بقطرات‬ ‫انتعل�ت الح�ذاء المط�ري‪ ،‬ف�أرض ّ‬
‫كنت انتعلت صنداالً لكانت كارث ًة سأصاب بها بالكدر‬ ‫المطر‪ ،‬فلو ُ‬
‫الجوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل االمتنان لل ّنشرة‬ ‫في ال ّطريق‪ّ ،‬‬
‫الريح‬ ‫ل�م أعت�ب على ز ّخات المط�ر التي صفعت وجهي مع ّ‬
‫هب�ت‪ ،‬ولم أعتب على الوح�ل الذي علق ببنطالي‪ ،‬وحاولت‬ ‫الت�ي ّ‬
‫م�رت س�يارة بالقرب من برك�ة صغيرة‪ ،‬فنثرت‬ ‫ألاّ أغض�ب حينم�ا ّ‬
‫السفلي من ثيابي حيث دخل بعضها إلى‬ ‫وحلها ومياهها على الجزء ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬تهرب‬ ‫األكياس‪ .‬فلماذا الغضب والعتب؟ تعاكسني األشياء ّ‬
‫الراح�ة ف�ي لحظات عدي�دة‪ ،‬ويأخذني ال ّتعب وقت ما ش�اء‪،‬‬ ‫م ّن�ي ّ‬
‫وتق ّلبن�ي المصائ�ب مت�ى أرادت‪ ،‬ويتهافت ش�قائي وع�دم ارتياحي‬
‫‪209‬‬
‫على اإلزعاج في قرعة الحظ! فماذا لدي غير الصبر على مق ِّلباتِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المزاج هذه؟ فليس بإمكاني تغيير شيء‪ ،‬فهذا قدري‪ ،‬وقرعة ح ّظي‬
‫كنت أريد‪ ..‬فلن‬ ‫ونصيبي المخصي‪ .‬وهل لي في أن أعترض؟!‪ .‬وإن ُ‬
‫ُيجاز لي ولن ُيباح استئناف حكمي‪ ،‬وال شيء أحول به بيني وبينه‬
‫س�وى أن أرضى بكراهية األش�ياء الكثيرة وضآلة األش�ياء المريحة‬
‫التي ُتطيب خاطري‪ ،‬فعلى كل حال‪ ،‬لو كان انعدام راحتي موجود ًا‪،‬‬
‫ربي أعتزم وأُنذره ضعفي من جموح‬ ‫الدنيا‪ ،‬فعلى ّ‬‫لجننت من شقاء ّ‬ ‫ُ‬
‫قافل�ة الخ�ور ال�ذي يحت ّلني‪ ،‬فما زلت في دربي هذا أس�ير‪ ،‬ضعيف ًا‬
‫أدري‪ ،‬وصابر ًا بال أمل من عثرات دنيا القدر وصدفة المنتظر‪.‬‬
‫ِ‬
‫خدرت�ا بالحم�ل‪ ،‬ورجلاي م ّلت�ا من تل�ك األرض‪،‬‬ ‫ذراع�اي ّ‬
‫وعيناي تأ ّلمتا من أنوار الشوارع المضاءة التي تعكس شرارتها على‬
‫األرض المب ّلل�ة لل ّش�ارع الم�ؤ ّدي إل�ى عمارتي‪ ،‬وآلمني بصري من‬
‫البرتقالي ال�ذي يلمع على ن ّظارتي‪ ،‬وانعكاس األنوار‬ ‫الض�وء ُ‬ ‫رتاب�ة ّ‬
‫السيارات المب ّللة هو أيض ًا أصابني بتش ّنج ٍ مزاجي‪.‬‬ ‫على أسقف ّ‬
‫الري�اح التي كادت‬ ‫خ�ف هط�ول المط�ر‪ ،‬وانخفض�ت س�رعة ّ‬ ‫َّ‬
‫وضع�ت األكي�اس على األرض‬ ‫ُ‬ ‫تطي�ر مظ ّلت�ي س�ابق ًا‪ .‬تو ّق ُ‬
‫ف�ت‪،‬‬ ‫أن ّ‬
‫ثم أس�دلت‬ ‫اليمنى من عيائها‪ّ ،‬‬ ‫نفضت ذراعي ُ‬
‫ُ‬ ‫ويس�راي‪.‬‬ ‫من يميني ُ‬
‫اليمنى ألنفض عياء اليس�رى‪ .‬لم ُيضايقني‬ ‫المظ ّلة‪ ،‬وحملتها بيدي ُ‬
‫أمتار وأصل‪.‬‬‫ٌ‬ ‫المطر الخفيف‪ ،‬وح ّتى إن فعل‪ ،‬فما هي إلاّ‬
‫بس�بابته نحوي‪،‬‬ ‫لمح�ت الح�ارس وهو ُيش�ير ّ‬ ‫ُ‬ ‫عندم�ا اقترب�ت‬
‫متحدث ًا لش�خص ٍ واقف أمام باب العمارة على يمينه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويدير وجهه‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫لمحت‬
‫ُ‬ ‫ظننت أنّه يشير إلى شيء ما خلفي‪ ،‬إلاّ أنّه كان يعنيني‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬
‫توضح لي شكل الشخص الواقف‬ ‫المشهد من بعيد‪ .‬عندما اقتربت‪ّ ،‬‬
‫‪210‬‬
‫أم�ام ب�اب العم�ارة‪ ،‬فقد كان ال ّظالم المحيط بزوايا باب العمارة ال‬
‫اقتربت أكثر‪ ،‬وعيني‬
‫ُ‬ ‫ُيبين ش�يئ ًا من خلقته من بعيد‪ ،‬وكانت امرأة‪.‬‬
‫نت في‬ ‫تمع ُ‬
‫تحرك�ت المرأة نح�وي‪ّ ،‬‬ ‫ج�د ًا عل�ى م�ا ترى‪ّ .‬‬‫متحس�رة ّ‬ ‫ّ‬
‫حت بصوت بدا هادئ ًا‪" :‬ياسمين!!"‪.‬‬ ‫ص ُ‬ ‫ثم ُ‬
‫مشيتها وقصر قامتها‪ّ ..‬‬
‫ب�دت ياس�مين ش�احبة‪ ،‬ل�م تق�ل كلم�ة‪ ،‬اقترب�ت م ّن�ي أكث�ر‬
‫وسارعت في خطاها‪ ،‬ثم ألقت نفسها على صدري تحضنني وتعصر‬ ‫ْ‬
‫جسدي بعناقها لي‪ .‬لم تنظر لي ح ّتى‪ ،‬بل غمست وجهها بصدري‬
‫غصاتها وأنفاسها المتق ّطعة تسري من صدري‬ ‫سمعت صوت ّ‬ ‫ُ‬ ‫فقط‪.‬‬
‫مرة‪.‬‬ ‫إلى أذناي‪ .‬لم أفهم ما بالها‪ ،‬وال أذكر أ ّن جسدها التصق بي ّ‬
‫كل م�ا كان بيدي‪،‬‬ ‫أحرجتن�ي بالتص�اق جس�دها بجس�دي‪ .‬ترك�ت ّ‬
‫ي�دي على كتفيها أحاول برفق خلق مس�احة ضئيلة بيني‬ ‫ّ‬ ‫ووضع�ت‬
‫ُ‬
‫رحت أس�أل في لحظة دهش�ة وحيرة‪" :‬ياس�مين ما األمر؟‬ ‫ُ‬ ‫وبينها‪.‬‬
‫قول�ي‪ ..‬لم�اذا تبكين؟"‪ .‬لم تقل ش�يئ ًا‪ ،‬وواصل�ت بكاءها الذي زاد‬
‫أعدت الكلمات نفسها ولم ُتجبني‪ .‬قلت لها‪" :‬هيه!‬ ‫ُ‬ ‫طنين ًا في أذني‪.‬‬
‫ارفعي رأسكِ! ما الذي وقع؟"‪ .‬رفعت رأسها نحوي‪ ،‬كانت دموعها‬
‫خديها بفعل كحل عيونها‪ ،‬وخرجت كلماتها‬ ‫الس�وداء تس�قط على ّ‬ ‫ّ‬
‫الس�وداء‪" :‬لـ‪ ..‬لـ‪ .‬ماذا‪ ..‬لـماذا‪..‬‬‫متق ّطع ًة وواهية من بركة دموعها ّ‬
‫ش�عرت‬
‫ُ‬ ‫قلت لها‪" :‬لم أكن أحمله"‪.‬‬‫ال ت�ر ُّد عل�ى هاتفـ‪...‬ـك؟؟!"‪ُ .‬‬
‫بجسدها يتهاوى بين ذراعي‪ ،‬فأمسكتها وقلت‪" :‬تو ّقفي عن البكاء‪،‬‬
‫تتحدث بش�يء وواصلت البكاء‪ .‬أزعجني‬ ‫ّ‬ ‫وقولي ما حدث‪ ."..‬لم‬
‫الوض�ع‪ ،‬فقل�ت له�ا‪" :‬ياس�مين‪ ،‬افعلي م�ا أقوله‪ ،‬حس�ن ًا!"‪ .‬أومأت‬
‫برأس�ها فق�ط‪ .‬قل�ت‪" :‬حاول�ي أن تحمل�ي معي األكي�اس‪ ،‬وعندما‬
‫حملت‬
‫ُ‬ ‫وطوقت ذراعي‪.‬‬ ‫نتحدث‪ .".‬لم تفه بكلمة‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫نصعد إلى الشقة‬
‫‪211‬‬
‫أن�ا كيس�ين‪ ،‬وه�ي حملت المظ ّل�ة والكيس اآلخر‪ .‬طوال المس�افة‬
‫الفاصلة بين مكاني وباب العمارة سؤال واحد كان يجول في رأسي‪:‬‬
‫تنبئني؟"‪.‬‬
‫تنبئني يا مطر؟ ماذا ّ‬
‫"ماذا ّ‬
‫تركت ياسمين األكياس وأمسكت‬ ‫ْ‬ ‫أغلقت باب العمارة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ما أن‬
‫لكن‬
‫بشدة‪ ،‬ولم تستطع وقف بكائها‪ .‬كانت تريد قول شيء‪ّ ،‬‬ ‫ذراعي ّ‬
‫شفتيها كانتا مرتبكتين‪ .‬قلت حينها‪:‬‬
‫ِ‬
‫– قولي‪ ،‬ما األمر‪ ،‬قولي!! أنت تفزعينني‪ ،‬ما األمر!!‬
‫غصة‪:‬‬
‫قالت في غمرة ّ‬
‫– سامحني وحيد‪ ،‬سامحني‪..‬‬
‫ِ‬
‫حدثيني أرج�وك‪ ،‬اهلل يخليك قولي‬
‫– أس�امحك عل�ى م�اذا! ّ‬
‫شيئ ًا فأنا ال أفهم!‬
‫– مات‪ ..‬مات‪..‬‬
‫– مات؟! من الذي مات؟‬
‫ورججت‬
‫ُ‬ ‫أمس�كت ذراعه�ا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫دت قب�ل أن تخبرن�ي‪ ،‬لك ّني‬
‫ت�ر ّد ْ‬
‫جسدها كأنّي أصعقه بكهرباء سؤالي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وضع�ت جبهته�ا على صدري‪ ،‬وقال�ت بصوت مزموم ٍ ُيختز ُن‬
‫من ورائه الحرقة‪:‬‬
‫جدي‪ ..‬مات‪..‬‬‫– مات ّ‬
‫يتوس�ط صدري‪ ،‬لم يخفق قلبي ح ّتى‪ ،‬وما‬ ‫ّ‬ ‫ش�عرت بس�كون‬
‫ُ‬
‫شعرت بأنّي‬
‫ُ‬ ‫فتئت ياسمين تقول أشياء لم ألق ِ لها أذن ًا ُتصغي إليها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وميت‪ ،‬أغ�وص أعماق ًا تليها‬ ‫كل ش�يء س�اكن ّ‬ ‫ف�ي قع�ر محيط ما‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫السطح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فوق‬ ‫شيء‬ ‫أعماق‪ ،‬تارك ًا كل‬
‫كنت أبكي؟‬‫ُ‬ ‫تراي هل‬
‫‪212‬‬
‫ال لم أكن أبكي‪ ،‬كنت أشعر بكثير من الجمود احت ّلني فقط‪.‬‬
‫إلي ح ّتى لم أش�عر كما‬ ‫تراه أصبح الموت أمر ًا ّ‬
‫عادي ًا بال ّنس�بة ّ‬
‫يشعر باقي ال ّناس! تراه ماذا فعل بي هذا البرود؟‬
‫إنّه فعل الالمباالة ليس إلاّ ‪.‬‬
‫خذت قرار ًا بأن ال أفيض مشاعري وال‬ ‫ُ‬ ‫كنت ا ّت‬‫كرهت نفسي‪ُ .‬‬ ‫ُ‬
‫أتو ّقع أو أنتظر شيئ ًا‪ ،‬وأن أتعامل مع األمور بشكل ٍ من البرود‪ .‬إذ ًا!‬
‫الراغبة‪ ،‬فلماذا ال أشعر‬ ‫فها هي خططي تنجح‪ ،‬تحققت رغباتي غير ّ‬
‫لذة الفوز المريرة؟ هل أل ّن المرارة نفسها‬ ‫بالرضا؟ لماذا ال أستشعر ّ‬ ‫ّ‬
‫لم تس�تطع مواصلة ما تحكيه هالتي التي فاقت غصص الجفاف؟‬
‫أصبحت قاحالً‪ ،‬عديم اإلحساس‪ ..‬ح ّتى بموت األصدقاء؟‬ ‫ُ‬ ‫هل‬
‫الفيزيائي ال غير‪.‬‬‫ُّ‬ ‫الموت‬
‫ُ‬ ‫إنّه‬
‫كل األسباب التي تركت‬ ‫وكنت أعلم ّ‬
‫ُ‬ ‫لم تذرف عيني أي دمعة‪،‬‬
‫غدد البكاء عندي جافة‪ ،‬وأحدها أنّي أعلم أ ّن النحيب اكتفى م ّني‪،‬‬
‫تس�تحق م ّني وضع زينتها‪ ،‬أل ّن‬
‫ّ‬ ‫وأ ّن البكاء أصبح موض ًة قديمة ال‬
‫س�يد‬ ‫مت حينها ّ‬ ‫الص ُ‬‫أش�دها ضراو ًة‪ ،‬يبقى ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنواع األلم عندما ُتذاق‬
‫وكل ما ُيواري الوجع‪ ..‬هو خ ّط ٌة‬ ‫حرك ساكن ًا‪ّ ،‬‬ ‫الموقف‪ ،‬والقلب ال ُي ّ‬
‫للحد من ش�ظايا األلم‪ ،‬وإش�عال‬ ‫ّ‬ ‫مرة‬
‫كل ّ‬ ‫محكمة ما يفتعلها العقل ّ‬
‫تمرد عقلي‬ ‫شرارة ما تبدأ في حرق وحذف وعزل جرعات األلم‪ّ ..‬‬
‫علي!‬
‫ّ‬
‫لم أشعر بتغيير مطلق لما حدث‪ ،‬سوى أن الحزن وضع إسمنته‬
‫ال ّطفي�ف عل�ى وجه�ي وجعله صلب ًا وقاس�ي ًا‪ .‬أحسس�ت أ ّن معطفي‬
‫أصب�ح ثقيلاً‪ ،‬ودم�وع ياس�مين التي تهطل عل�ى قميصي تحرقني‪،‬‬
‫وضرب�ات قبضته�ا على صدري كأنّه�ا تريد إرجاعي إلى الحياة لم‬
‫‪213‬‬
‫ألتح�دث بها إليها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ف�ي ش�يئ ًا‪ .‬ل�م أجد الكلمات المناس�بة‬ ‫تح�رك ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وأحسس�ت أن إطار نظارتي ُيثقل وجهي‪ ،‬والماء الذي س�قط على‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء غدا جارح ًا وخش�ن ًا‬ ‫بنطالي أزعجني التصاقه اللزج بي‪ّ ..‬‬
‫الكل‪ ..‬إلاّ م�ا بداخلي الذي ربا‬‫ّ‬ ‫يفتع�ل حرك� ًة وانفع�االً ّ‬
‫للصدمة‪..‬‬
‫جمود ًا‪.‬‬
‫حاولت ألاّ أكون قاسي ًا على قلب امرأة ٍ يلتعج أمامي‪ ،‬امرأة ال‬ ‫ُ‬
‫حت أخ ّفف‬‫لجل نساء األرض‪ُ .‬ر ُ‬ ‫ّ‬ ‫تريد تصديق الموت كما يحدث‬
‫«قدر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أجزاء في جوفي‪ ،‬بكلمات لم أجد غيرها‪ّ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫تحبه�ا‬
‫عل�ى ام�رأة ّ‬
‫اهلل وما شاء فعل»‪.‬‬
‫ت على كتفيها ولم أتو ّقف‬ ‫رب ُّ‬
‫وضعت األكياس على األرض‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫بشفتي ال تخلو منها كلمات العزاء‪ .‬أبعدتها‬ ‫ّ‬ ‫عن قول كلمات ال تليق‬
‫أمسكت معصميها بكلتا يداي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بخطوات ع ّني‪ ،‬ثم‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ياسمين انظري إلي!‬
‫– ‪!.......‬‬
‫– فقط انظري إلي!‬
‫كل مالمحي الجامدة بصعوبة‪،‬‬
‫رت حينه�ا ّ‬‫فغي ُ‬
‫رفع�ت رأس�ها‪ّ ،‬‬
‫ْ‬
‫بالراحة‪ ،‬فإذا ما رأت ما ارتس�م على‬
‫إلى أخرى مبتس�مة تش�عرها ّ‬
‫تركت أحد‬
‫ُ‬ ‫وجهي قبالً‪ ،‬س ُتشفق على ُرضاب ألمي‪ ،‬ورغوة وجعي‪.‬‬
‫ومسحت دموعها الكحلية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وأمسكت اآلخر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫معصميها‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– ال ينبغي البكاء على األموات‪.‬‬
‫زاد بكاؤها أكثر‪ ،‬وأنا زادت العلقة في صدري تواطؤ ًا‪.‬‬
‫‪214‬‬
‫الحظ�ت أن يديه�ا مرتعش�تان وباردتان‪ ،‬وال تقلاّ ن عن برودة‬ ‫ُ‬
‫ونفخت فيهما‪ ،‬محاوالً تدفئة‬
‫ُ‬ ‫أمسكت يديها‬
‫ُ‬ ‫جسدي شيئ ًا أنا أيض ًا‪.‬‬
‫ِ‬
‫عتمل في جوفي‪.‬‬ ‫حار ًا من لهب ما ُي ُ‬ ‫يدي ويديها ب َن َفسي الذي خرج ّ‬ ‫ّ‬
‫وطلبت‬
‫ُ‬ ‫نزع�ت معطفي وألبس�تها ّإياه‪ ،‬و ّليته�ا أمامي نحو المصعد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت حامالً األكي�اس الثّالثة والمظ ّلة‪.‬‬‫منه�ا أن تضغ�ط ال� ّزر‪ ،‬فق�د ُ‬
‫هت‬
‫وتوج ْ‬
‫ّ‬ ‫أمس�كت ياس�مين من يدي كيس�ين‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وصلنا إلى طابقي‪،‬‬
‫وكن�ت ش�اكر ًا لفعله�ا‪ ،‬فق�د تراخت أوت�ار عضالت‬ ‫ُ‬ ‫نح�و ش�قّتي‪،‬‬
‫عياء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ساعدي‬
‫ّ‬
‫ووضع�ت ما بيدي ف�ي ركن خلف‬ ‫ُ‬ ‫فتح�ت ش�قّتي المظلم�ة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أش�علت األنوار‪ .‬ه�ي ذهبت لتجلس على األريكة‪ .‬بعد‬ ‫ُ‬ ‫الب�اب‪ ،‬ثم‬
‫ه�ت نحو ياس�مين‪ ،‬كانت‬ ‫توج ُ‬ ‫كل األض�واء إلاّ غرفت�ي‪ّ ،‬‬ ‫أن�رت ّ‬
‫ُ‬ ‫أن‬
‫قرفصت أمامها ووجهي‬ ‫ُ‬ ‫حاني ًة رأسها من ثقل األفكار التي راودتها‪.‬‬
‫بالقرب من رأسها الحاني‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫– كفى! إنّا هلل وإنّا إليه راجعون‪.‬‬
‫أخرجت من جيب‬
‫ُ‬ ‫أشاحت نظراتها ع ّني وحنت رأسها أكثر‪.‬‬
‫مددت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ورفعت ذقنها نحوي‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫معطفي الذي تلبسه منديالً ورقي ًا‪،‬‬
‫إلى يدها المنديل وقلت‪:‬‬
‫مجرد خسارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫– امسحي دموعك‪ ،‬البكاء على األموات‬
‫– ولكن‪..‬‬
‫رحت إلى غرفتي تارك ًا ياسمين في بحر دموعها‬
‫ُ‬ ‫ظللت صامت ًا‪.‬‬
‫ح ّتى تهدأ‪.‬‬
‫أغير فيه مالبس�ي المب ّلل�ة‪ ،‬تبادر إلى‬
‫كنت ّ‬
‫ف�ي الوق�ت ال�ذي ُ‬
‫‪215‬‬
‫المرة األولى التي تدخل فيها ياس�مين مس�كني‪،‬‬ ‫ذهني أ ّن هذه هي ّ‬
‫مر ًة واحدة عتبتي‪.‬‬
‫صحي�ح أنّه�ا تع�رف العنوان‪ ،‬لك ّنها ل�م تطأ ولو ّ‬
‫ٌ‬
‫جوي الكئيب ويزيدها حزن ًا‪.‬‬ ‫أخاف أن يلتحفها ّ‬
‫خرجت من غرفتي‪.‬‬‫ُ‬ ‫سمعت صوتها ُيناديني‪.‬‬
‫ُ‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫– هل تحتاجين شيئ ًا؟‬

‫هت حيث كانت مرور ًا ّ‬


‫بالردهة‪.‬‬ ‫توج ُ‬
‫ّ‬
‫عيني‪ ،‬فقد نزعت غطاء رأس�ها‬‫ّ‬ ‫لمع لون ش�عرها األس�ود في‬
‫األس�ود‪ ،‬ش�عور ًا باالختناق على ما أعتقد‪ .‬نظرت نحوي ووقفت‪،‬‬
‫بدت عليها مالمح تشي باالطمئنان المستعاد تدريجي ًا‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ِ‬
‫لت مالبسي لحاف األريكة‪.‬‬ ‫– ‪ ..‬آسفة! ب ّل ْ‬
‫هم ًا‪ ،‬قولي لي‪ ،‬أحسن اآلن؟‬‫– ال تأخذي ّ‬
‫– قليالً‪.‬‬
‫بدا أ ّن شفتيها وأسنانها ُتطقطقان من البرد‪ُ .‬‬
‫قلت حينها بعد أن‬
‫غلب الصمت بين مسافتينا‪:‬‬
‫– انتظري للحظة‪..‬‬
‫– ‪.................‬‬
‫ٍ‬
‫بحث�ت ف�ي خزانت�ي عن ش�يء أعطيه ّإياها ترتدي�ه‪ ،‬ولم أجد‬ ‫ُ‬
‫الرياضية‪ ،‬والتي لم ألبسها يوم ًا‪ ،‬والتي ال تزال جديدة‬
‫سوى بذلتي ّ‬
‫كم�ا اش�تريتها يوم� ًا حينم�ا أُخب�رت من قِب�ل طبيبي أنّ�ي يجب أن‬
‫أضفت إلى جان�ب البذلة قميص ًا‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أم�ارس الرياض�ة‪ ،‬ول�م أفعل‪ّ .‬‬
‫قطني ًا وجوربين‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫ذهبت إليها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫– أتناسبك هذه؟‬
‫كان�ت تنظ�ر إلى الك ُتب المصط ّفة تح�ت مائدة ال ّتلفاز‪ ،‬والتي‬
‫لم أجد مكان ًا يأويها فوضعتها هناك‪ .‬أدارت رأسها نحوي وقالت‪:‬‬
‫– ماذا؟‬
‫– أتفي هذه بالغرض؟‬
‫وقفت بعد أن كانت مقرفصة تتص ّفح عناوين الكتب‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ِ‬
‫سأجهز لك الحمام‪ ،‬ستمرضين على هذه الحال‪.‬‬ ‫– ‬
‫ّ‬
‫ثم أوم�أت موافقة وهي تنظر ناحية‬ ‫ب�دا عليه�ا الخج�ل قليالً‪َّ ،‬‬
‫اليسار‪.‬‬
‫حمام�ي‪ ،‬مكاني الذي‬ ‫جي�دة رغم أنّها س�تدخل ّ‬ ‫كان�ت فك�ر ًة ّ‬
‫أهتم بأن‬
‫ّ‬ ‫أس�ترجع في�ه مزاج�ي‪ ،‬وال�ذي لم يدخله أحد غي�ري‪ .‬لم‬
‫الصابون الصفراء التي تحوي‬ ‫ترى ال ّش�امبو الذي أس�تعمل أو علبة ّ‬
‫حمامي تبدو فاخرة لرجل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صابون� ًا ذا عط�ر خزام�ي‪ .‬ونوع ًا ما غرفة ّ‬
‫جيد ًا‬
‫شيء‪ ،‬أدري ّ‬
‫ٌ‬ ‫الحمام إذا ما كان ينقصه‬
‫ّ‬ ‫يعيش وحده‪ .‬لم أتفقّد‬
‫حمام ٍ لي‪.‬‬
‫حاسة الترتيب عندي قد سبقتني في آخر ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫وذهبت‬
‫ُ‬ ‫حملت علبتي ال ّزرقاء التي أضع فيها حاجيات الحمام‪،‬‬ ‫ُ‬
‫إليها في غرفة المعيشة‪.‬‬
‫كل ما تحتاجينه هنا‪.‬‬ ‫– ُخذي‪ّ ،‬‬
‫أخرجت من العلبة فرش�اة أس�نان بغطائها‪ ،‬لم أكن اس�تعملتها‬
‫ُ‬
‫بعد‪ ،‬وأردفت‪:‬‬
‫– وهذه أيض ًا‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫وتقدمتني بخطوات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخذ ْتها من يدي‪،‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫سيدتي! المعطف من فضلك‪.‬‬‫– ّ‬
‫أخذت من يدها المالبس‬
‫ُ‬ ‫خرج�ت م�ن فمها ضحكة قصي�رة‪.‬‬
‫وأخذت‬
‫ُ‬ ‫أرجعت لها ما بيدي‬
‫ُ‬ ‫والعلبة‪ ،‬ونزعت معطفي وهي تقشعر‪.‬‬
‫نقرت على جبهتها‬
‫ُ‬ ‫نظرت في عينيها لوهلة وابتسمت‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫المعطف‪.‬‬
‫بسبابتي قائالً‪:‬‬
‫ّ‬
‫تصرفي على راحتك‪ ،‬واخدمي نفسك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫– ‬
‫الحمام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أشرت إليها لتدخل‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت هي دون أن تفه بكلمة‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقلت لها أن تنتظر قليالً عندما تريد فتح صنبور المياه البارد لتدفئة‬
‫ُ‬
‫رددت اإليماءة بأخرى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أومأت برأسها استجابة‪ ،‬وأنا‬
‫ْ‬ ‫الساخن‪.‬‬ ‫الماء ّ‬
‫دخلت إلى غرفتي أعتصر خمر األحداث التي دخلت عنوة دون‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫أن تطرق‪.‬‬
‫***‬
‫خرج�ت م�ن الحم�ام‪ ،‬لتجدني أص ّلي ف�ي غرفتي التي تركت‬ ‫ْ‬
‫الصالة‪ ،‬الشيء الذي منعني‬ ‫كنت داخل ّ‬ ‫بابها موارب ًا عن غير قصد‪ُ .‬‬
‫لصدها عند الب�اب‪ ،‬أو ألخذِها‬ ‫ّ‬ ‫م�ن اإلجاب�ة عل�ى ندائه�ا أو ح ّت�ى‬
‫يقرب غرفتي‪ .‬لكن‬‫ُ‬ ‫بحدي�ث أجل�س ب�ه أنا وهي في مكان آخ�ر ال‬
‫م�ا بي�دي حيل�ة‪ ،‬فقد كانت تفصلن�ي ركعة واحدة أنهي بها صالتي‬
‫وقد حاولت اإلسراع ما أمكن‪.‬‬
‫دخلت ورأى‬‫ْ‬ ‫شهد‪ ،‬ما إن‬‫علي وأنا في ال ّت ّ‬
‫تطل برأسها ّ‬ ‫فتحت ّ‬
‫ْ‬
‫جزء من عيني خيالها الذي يعكسه مصباح المكتب‪ ،‬ح ّتى تباطأت‬ ‫ٌ‬
‫تش�هدي داعي ًا في‬
‫ّ‬ ‫فأكملت‬
‫ُ‬ ‫الصالة‪،‬‬
‫س�بابتي‪ ،‬وفق�دت تركي�زي في ّ‬ ‫ّ‬
‫‪218‬‬
‫مرة ألسباب قد تحدث‪ ،‬كما الذي حدث‪.‬‬ ‫كل ّ‬‫آخره مغفرة كما أفعل ّ‬
‫أس�تعد لمعركتي التي خس�رتها في منع‬ ‫ّ‬ ‫أتممت سلامي‪ ،‬وأنا‬ ‫ُ‬
‫كرسيي الذي‬ ‫ّ‬ ‫متوجه ًة نحو‬
‫ّ‬ ‫دخول أحد لغرفتي‪ .‬فور سالمي‪ ،‬كانت‬
‫أجل�س علي�ه في فترة الكتاب�ة‪ .‬كانت عازم ًة وتريد الجلوس‪ ،‬ولوال‬
‫ب�كل ال ّطرق‬
‫ّ‬ ‫ولتحدثت معها‬
‫ّ‬ ‫لكن�ت أمس�كتها م�ن ذراعيه�ا‬ ‫ُ‬ ‫أس�اها‬
‫التي لم أفتعلها من قبل‪ ،‬فقط كي أُداهمها بحديثٍ ُينسيها فضولها‬
‫نحو غرفتي‪ .‬لم أستطع قول شيء وال فعل شيء كي أصرفها عن‬
‫أن�رت ُمرغم� ًا األض�واء كي تبدو‬ ‫ُ‬ ‫س�احة الكلم�ات ك�ي ال تت�أ ّذى‪.‬‬
‫الضوء الخافت المس� ّلط عل�ى ما في غرفتي‬ ‫عادي�ة‪ ،‬فذل�ك ّ‬ ‫الغرف�ة ّ‬
‫ُيغري بالفضول‪ ،‬وفضول ياسمين يزداد وال ينطفئ عندما ترى أمر ًا‬
‫الجو‬
‫ّ‬ ‫أنرت األضواء طلبت م ّني إطفاءها‪ ،‬وقالت بأ ّن‬ ‫ُ‬ ‫جديد ًا‪ .‬عندما‬
‫أريح هكذا‪.‬‬
‫يا إلهي كيف أتخ ّلص منها من هنا!‬
‫أتحدث معها في‬ ‫ّ‬ ‫هرعت إليها‬ ‫ُ‬ ‫جلس�ت على الكرس�ي‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫عندما‬
‫وكل ذلك كي أُبقي عينيها‬ ‫ّ‬ ‫وصحتهم وعن والديها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ش�ؤون العائلة‬
‫فأحاول أن أحمل مل ّفي األخضر عن عينيها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مع ّلقتين على وجهي‬
‫ونجح�ت ف�ي حمل�ه فعلاً‪ ،‬إلاّ أ ّن الورقة البيضاء التي فيها العنوان‬ ‫ُ‬
‫سقطت عند حملي له فوشت بي‪.‬‬
‫قاطعت حديثنا حينها فقالت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫– سقطت ورقة من الملف!‬
‫مرت الورقة من تحت المكتب لتصل‬ ‫كنت سيئ الحظ عندما ّ‬
‫بالقرب من قدميها‪ .‬حمل ْتها وقرأَتها‪ ،‬ولم تع ّلق على ش�يء‪ ،‬لكنها‬
‫ِ‬
‫وإلي‬
‫َّ‬ ‫ل�م ُتع�د القطع�ة إل�ى مكانها‪ ،‬بل راحت تنظر إلى الورقة تار ًة‬
‫‪219‬‬
‫تار ًة أخرى‪ ،‬كأنها تحاول تفسير العالقة بيني وبين حاجياتي‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫– أفقدت شيئ ًا؟‬
‫قلت وأنا أنظر إلى الورقة بنبرة غائبة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– أنا دائم الفقد‪..‬‬
‫– لم أفهم!‬
‫– إذن ستفهمين يوم ًا‪.‬‬
‫– ‪...............‬‬
‫– هل يمكنني استرجاع الورقة؟‬
‫– ‪..............‬‬
‫ثم وضعتها على المكتب‪.‬‬ ‫لم ُتعطها لي مباشر ًة‪ ،‬طوتها ّ‬
‫الصمت‪ ،‬قالت لي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بعض لحظات من ّ‬
‫كنت تكتب ش�عر ًا‪،‬‬
‫– أتعل�م! ق�رأت ش�يئ ًا ل�ك‪ ،‬أعل�م أنّ�ك َ‬
‫وصدقني لس�ت س�يئ ًا‪ ،‬قد ال تذكر‪ ،‬ولك ّنك تركت أوراق ًا‬
‫ّ‬
‫في البيت دون أن تدري‪.‬‬
‫– ممكن‪.‬‬
‫ولكن جملها علقت في‬ ‫ّ‬ ‫– هناك قصيد ٌة لك ال أتذكّ ر اسمها‬
‫ذهني‪ ،‬أتريد أن تسمع؟‬
‫لم يكن وقت ًا مناس�ب ًا لذلك‪ ،‬سأُس�تنزف من كلمات المراهقة‬
‫سأتضرر‪ ،‬لكن إن كان‬
‫ّ‬ ‫التي س ُتحيي وتر الوجع داخلي‪ ،‬أدري أنّي‬
‫ضرار رغم‬‫جدي ببوحي الموجع‪ ،‬فال ِ‬ ‫سبيل سيجعلها ُتراكم وفاة ّ‬
‫ٌ‬
‫كبدني ّإياه‪.‬‬
‫الضرر والبأس الكامل الذي س ُت ّ‬‫ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪220‬‬
‫جيد ًا‪ ،‬لك ّني س�آخذ كلمتين من‬
‫– ال أتذكّ �ر عن�وان القصي�دة ّ‬
‫القصيدة عنوان ًا لها إذا شئت‪.‬‬
‫تحبين‪.‬‬
‫– كما ّ‬
‫رغب ٌة ما تو ّلدت داخلي على شكل غضب وانزعاج‪ ،‬فأن ُتلقي‬
‫س�يؤلمني‪ ،‬لو لم يكن اس�مها كال ّناجي الوحيد من‬ ‫ٍ‬
‫هي كلمات لي ُ‬
‫خوف خائر‬
‫ٌ‬ ‫كل ما عن�دي‪ .‬انتابني‬
‫َبل�ت أن تقرأ ّ‬
‫ح�ادث وال�دي‪ ،‬لق ُ‬
‫ٍ‬
‫قبل أن تعمد إلى نثر حروف ال أذكرها كتبتها فيما مضى‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫أي حال اسمع!‬ ‫سميتها «دروب الغياب»‪ ،‬على ِّ‬
‫– ّ‬
‫اه!أماه!‬
‫«أم ّ‬ ‫ّ‬
‫ويمر الهواء‬ ‫احملي ال ّشوكة واغرسي نصلها هناك حيث يتد ّفق ّ‬
‫الدم ّ‬
‫فأنا لم أعد في رخاء وال راحة ّأيام وأعوام‬
‫ُشقّي صدري وأزيلي الحياة م ّني‬
‫فدنيا الخراب قد نالت م ّني‬ ‫ُ‬
‫أزيلي ع ّني جرثومة يأسي وبؤسي‬
‫صعلوك أحالمي‬ ‫وأوقفي رجفان ُ‬
‫وأمديني بزيت رحى موتك‬ ‫أميتي نبضي ّ‬
‫فإنّي أريد حياة العدم الذي يحيط بجفني ترابك‬
‫الرحيل‬ ‫ِ‬
‫اقتليني أنت ليجوز لي ّ‬
‫فال اطمئنان في حملي الثّقيل‬
‫سيدة موتي‬‫أنا ال أنام ّ‬
‫بحزني‬‫ورؤاي حالك ٌة ال َتطيب إلاّ ُ‬
‫انزعي ع ّني أصفاد وسالسل الصفاقة‬
‫‪221‬‬
‫فابنك حنين غباره ونُثار زفيره ال يصلح مع أوجه ال ّشفقة‬
‫ّأماه! سارعي في جلب ثمن مغادرتي بدعاء‬
‫ألني أريد المغادرة بال تذكرة رحيل ُتبخس ثمني‬
‫امنحيني الوداع لشوقي الذي مات‬
‫الذكريات الذي عاث‬ ‫رمل ّ‬‫وأزيلي م ّني وع ّني َ‬
‫ويا ّأمي! أسندي رأسي إلى فراشي‬
‫وامسحي بيدِك ِ ال ّشريفة على شعري‬
‫في من انتظار الجواب‬ ‫فاألمل يا ّأمي قد مات طوالً َّ‬
‫سكنت روح الخائن أسعى في دروب الغياب‪.»...‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا‬
‫قاطعته�ا عن�د الكلم�ات األخي�رة بك ّفي عل�ى أن تعتكف عن‬
‫يتبق سوى كلماتٍ جاحدة ٍ كسابقاتها‪ ،‬لك ّنها كانت‬ ‫قول المزيد‪ ،‬فلم ّ‬
‫الرهان بجعل نفسي أكمل ما تبقّى‪،‬‬ ‫فخسرت ّ‬‫ُ‬ ‫مصر ًة على أن ُتكمل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫سطر واحد تبقّى‪.‬‬‫ٌ‬ ‫فما هو إلاّ‬
‫مرة أخرى‪:‬‬ ‫قلت بصوت غائب ّ‬ ‫ُمنزالً ك ّفي‪ُ ،‬‬
‫أسف ًا على ال ّش ِ‬
‫كر ُمو ّدع ًا األنام واأليتام»‪.‬‬ ‫«وداع ًا ثم ِ‬
‫َّ‬
‫صمت�ت لنب�رة صوت�ي الت�ي لم تكن تش�ي إلاّ بعم�ق الجراح‬ ‫ْ‬
‫تع�ودت على ما يجرحني‪،‬‬ ‫يك�ف فواره�ا‪ .‬يمكن أن أكون ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الت�ي ال‬
‫لربما كان هذا هو‬‫ش�يء لن أعتاد علي�ه‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أم�ا أن أُح�زن غي�ري فهو‬ ‫ّ‬
‫سبب رغبتي في ال ّتواري عن األنظار‪ ،‬أعلم أ ّن وجودي وحده أمام‬
‫بحد ذاته‪.‬‬
‫ألم ّ‬‫شخص يعرفني‪ ،‬السيما ياسمين‪ ،‬هو ٌ‬
‫أرادت أن ُتبهجني فقالت‪:‬‬
‫– إذن ما اسمها؟‬
‫كن�ت مرتب�ك ًا‪ ،‬وياس�مين الحظ�ت ارتباك�ي البائن‪ .‬ل�م أتذكّ ر‬
‫ُ‬
‫‪222‬‬
‫فحاولت خلق اسم ٍ ما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عنوان القصيدة‪،‬‬
‫جلت في ذهني وأنا أتنقّل ببصري‬‫ُ‬ ‫ألقيت بنظري حول المكان‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ثم إلى رفوفي‪،‬‬‫من ياسمين إلى ما ُيحيط بي؛ إلى ياسمين نظرت‪ّ ،‬‬
‫س�ريري‪ ،‬جدراني األربعة‪ ،‬اإلضاءة الخافتة مع وحش�ة الليل‪ ،‬وفي‬
‫دت إلى وجه‬
‫ثم ُع ُ‬‫بكل أماكن الغرفة‪ّ ،‬‬ ‫شملت نظر ًة واحد ًة ّ‬ ‫ُ‬ ‫األخير‬
‫لت إلى‬
‫ترج ُ‬
‫ثم ّ‬ ‫قت إلى وجهها للحظات‪ّ ،‬‬ ‫حد ُ‬ ‫ياسمين حيث بدأت‪ّ .‬‬
‫قلت‬ ‫ِ‬
‫تحركاتي‪ .‬حينها ُ‬ ‫باب الغرفة‪ ،‬وياسمين لم تفتئ عيناها تتبعان ّ‬
‫«منفى بدون عنوان»‪.‬‬‫ً‬ ‫وأنا ألقي إليها نصف نظرة‪:‬‬
‫هات من معدتي معلن ًة عن جوعي‪ ،‬وسمعتها هي‬ ‫تأو ٌ‬
‫خرجت ّ‬ ‫ْ‬
‫وش�كرت ص�وت معدتي بعد أن كانت‬ ‫ُ‬ ‫�ت من مكانها‪،‬‬
‫نهض ْ‬ ‫أيض� ًا‪َ .‬‬
‫حلاّ ً في إبعادها عن ما يجلب ُش ُبهاتِ الفضول‪.‬‬
‫تمر بقربي خارج ًة من الغرفة‪:‬‬ ‫قالت وهي ّ‬
‫سأعد شيئ ًا‪ ،‬أنا جائعة أيض ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫– ‬
‫أومأت برأسي وقلت‪:‬‬‫ُ‬
‫– اطبخي ما ُيشبعني‪.‬‬
‫– ماذا تريد إذن؟‬
‫أي شيء‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫– ‪.......‬‬
‫– ماذا؟‬
‫جدي‪.‬‬
‫طلبك هذا مثل طلب ّ‬ ‫ُ‬ ‫– ‬
‫أشرت بيدي إلى المطبخ‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫الرد‪َّ ،‬‬
‫أهملت ّ‬
‫ُ‬
‫تصرفي على راحتك‪.‬‬‫ّ‬ ‫– ‬
‫وذهبت‬
‫ُ‬ ‫وضع�ت األكياس‪ ،‬حملته�ا‬
‫ُ‬ ‫حي�ث‬
‫ُ‬ ‫ه�ت إل�ى‬
‫توج ُ‬
‫ث�م ّ‬
‫ّ‬
‫‪223‬‬
‫وضعت م�ا بيدي ف�وق ال ّطاولة‬
‫ُ‬ ‫ث�م‬
‫به�ا إل�ى المطب�خ حي�ث ه�ي‪ّ ،‬‬
‫البالستيكية‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫تحبين‪.‬‬
‫اطبخي ما ّ‬ ‫– ُ‬
‫تحب أنت؟‬
‫ّ‬ ‫– وماذا‬
‫كل شيء‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫قالت كأنّها م ّلت من أجوبتي الوجيزة‪:‬‬
‫سيد! لن أطبخ شيئ ًا إن لم تقل‪.‬‬
‫– على وجه التحديد يا ّ‬
‫عمدت أن أُعاكسها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– إذن ستبقين جائعة‪.‬‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫خديها وزفرت ّ‬
‫نفخت ّ‬
‫– آآخ! صعب المراس‪.‬‬
‫أطلقت ضحك ًة مختبئ ًة بين حلقي وأنفي دون أن تظهر أسناني‪.‬‬
‫ُ‬
‫قلت وأنا أغادر‪:‬‬
‫ثم ُ‬
‫يت لها ظهري‪ّ ،‬‬ ‫استدرت وو ّل ُ‬
‫ُ‬
‫– َسلطة‪ ..‬ولتكن بدون طماطم‪.‬‬
‫الردهة‪:‬‬
‫حيث وصلني عبر جدران ّ‬ ‫ُ‬ ‫سمعت صوتها يقول‬
‫ُ‬
‫– كيف نَسيت‪You are the Salade man! ،‬‬

‫ضحكت حينها وأنا أرمي جسدي على األريكة أُشعل ال ّتلفاز‪.‬‬


‫ُ‬
‫كنت ُمبتهج ًا عندما عادت إلى مزاجها معي‪ .‬أعود طفالً أمام ياسمين‬
‫ُ‬
‫أمي‪ ،‬أكره األسى على وجهها‪،‬‬ ‫ربما ألنّها تحمل جزء ًا من ّ‬
‫وحدها‪ّ ،‬‬
‫وأحاول ما أمكن أن أبدو غير كئيبٍ أمامها‪ ،‬ح ّتى أنّي أغسل وجهي‬
‫مرة كي ال تظهر جفوني سود ًا من عبء الالسعادة وقحط‬ ‫أكثر من ّ‬
‫الفرح‪.‬‬
‫‪224‬‬
‫مرت نصف ساعة‪ .‬جاءت ياسمين واضع ًة على ال ّطاولة القريبة‬ ‫ّ‬
‫ثم عادت إلى المطبخ وأتت‬ ‫متوسطي الحجم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫من األريكة صحنين‬
‫مدت لي بواحدة‪ ،‬ورحنا نأكل‪.‬‬
‫بشوكتين‪ّ ،‬‬
‫إلي متر ّقبةً‪:‬‬
‫السلطة‪ ،‬فقالت لي وهي تنظر ّ‬ ‫أنهيت نصف ّ‬ ‫ُ‬
‫– إذ ًا؟‬
‫!‪Délicieuse… Mais‬‬ ‫ –‬
‫…?‪Mais quoi‬‬ ‫– ‬
‫ال تفهمي األمر غلط‪ ..‬فقط‪...‬‬ ‫– ‬
‫فقط ماذا؟‬ ‫– ‬
‫تتخ ّللها نكهة الـ‪..‬‬ ‫– ‬
‫كنت‬
‫انقطعت عن الكالم‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ظ ّل�ت عيناه�ا ترتقب�ان جوابي حين‬
‫أريد قول «الحزن»‪ ،‬لك ّني فكّ رت حينها في أ ّن ذلك ُ‬
‫س�يعيدها إلى‬
‫بدل ذلك قلت‪:‬‬ ‫السابقة‪َ ،‬‬
‫حالتها ّ‬
‫– ‪ ..‬نكه ٌة لم ّ‬
‫أتعرف إليها‪.‬‬
‫قالت وهي ترفع حاجبها األيمن‪:‬‬
‫تذوقته؟‬
‫– إذن فقد ّ‬
‫– هه! هل وضعت سحر ًا هنا؟!‬
‫– ربما!‬
‫– هل يجب أن أقلق إذ ًا؟‬
‫أوالً‪.‬‬
‫– إذا شئت‪ ،‬لن ُتصاب به إن لم تؤمن بوجوده ّ‬
‫– ساحرة!‬
‫– عنيد!‬
‫تكدست أحزاني‪،‬‬
‫بحزنها أخفيه داخلي حيث ّ‬
‫السلطة ُ‬
‫التهمت ّ‬
‫ُ‬
‫‪225‬‬
‫ماء أيض ًا‪.‬‬
‫وقمت ألغسل البقايا التي علقت بأسناني‪ ،‬وألشرب ً‬ ‫ُ‬
‫ر ّن هاتفها فوق ال ّطاولة‪ ،‬حمل ْته وأجابت‪:‬‬
‫س�أبيت هنا الليلة‪ ،‬غد ًا‬
‫ُ‬ ‫أم�ي! نع�م أنا مع وحيد اآلن‪،‬‬ ‫– أل�و ّ‬
‫سنأتي‪.‬‬
‫إل�ي بيده�ا ك�ي أقترب‪ ،‬فق�د طلبت خالت�ي حديثي‪.‬‬ ‫أش�ارت َّ‬
‫ويتعب فمي‪.‬‬‫مر ًة أخرى كالم ًا ال ُيناسبني ُ‬
‫أخلق ّ‬
‫ُ‬ ‫أخذت الهاتف‬
‫ُ‬
‫– مرحب ًا خالتي هدى!‬
‫صحتك وأحوالك؟‬ ‫ّ‬ ‫– أهالً ابني! هل أنت بخير كيف هي‬
‫الدواء‪.‬‬
‫جيد مع ّ‬ ‫ٍ‬
‫بتحسن‪ ،‬أتماشى بشكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫– الحمد هلل‪ ،‬أشعر‬
‫قلت بعد أن تر ّددت‪:‬‬‫ثم ُ‬ ‫ّ‬
‫بالصبر‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫تتح‬ ‫أن‬ ‫المهم‬ ‫الخبر‪،‬‬ ‫آلمني‬ ‫– ‬
‫غصاتها من الهاتف‪.‬‬ ‫سمعت صوت ّ‬ ‫ُ‬
‫أردفت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬‫ّ‬
‫– إنّا هلل وإنّا إليه راجعون‪.‬‬
‫– ‪..................‬‬
‫أردت إنهاء المكالمة سريع ًا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وكل شيء عنده‬
‫ّ‬ ‫– خالتي كفى! إ ّن هلل ما أخذ وله ما أعطى‬
‫ِ‬
‫بكاء وادعي‬ ‫مسمى‪ ،‬فلتصبري ولتحتسبي‪ ،‬كفاك‬ ‫إلى أجل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بالرحمة‪.‬‬
‫له ّ‬
‫– ‪..................‬‬
‫نظ�رت إل�ى ياس�مين‪ ،‬وجدته�ا هي األخرى تح�اول تجفيف‬ ‫ُ‬
‫المتض�رر األكبر‬
‫ّ‬ ‫وج�دت لحظته�ا أنّ�ي أنا وحدي‬
‫ُ‬ ‫بع�ض دموعه�ا‪.‬‬
‫والباكي األكبر والحزين األكبر هنا‪ ،‬ال يعلمون أ ّن نار شريط إعادة‬
‫‪226‬‬
‫وف�اة والدت�ي أعي�ده‪ ،‬وال يعلم�ون أ ّن اعتيادي هذا على الجمود ما‬
‫الداخلي‪ ،‬فلم تعد عيني‬ ‫هو إلاّ نتيجة لتراكم كتالت هائلة من الفراغ ّ‬
‫انتقلت إلى مرحلة البكاء داخالً دون البيان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تلف�ظ دمع� ًا ُي�رى‪ ،‬فقد‬
‫الصبر‪.‬‬
‫زر ّ‬‫كقمة جبل‪ ،‬مجبوالً على إعادة ّ‬ ‫صنعت‪ ،‬بارد ًا ّ‬ ‫فهكذا ُ‬
‫تتوجع‬
‫ّ‬ ‫وشعرت بأ ّن أحشائي‬
‫ُ‬ ‫ك ّلفني بكاؤهما آالم ًا في المعدة‪،‬‬
‫فابتلعت الكثير‬
‫ُ‬ ‫غصات المرارة التي ازداد حقنها في حنجرتي‪،‬‬ ‫من ّ‬
‫ح ّتى احترقت أمعائي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ث�ت بكلمات أخيرة ُتنهي آهات ش�علة‬ ‫ف�ت س�ريع ًا‬
‫وتحد ُ‬
‫ّ‬ ‫تصر ُ‬ ‫ّ‬
‫الموت‪:‬‬
‫بالصبر‪ ..‬سأنقل الهاتف لياسمين‪.‬‬‫– حسن ًا‪ ،‬خالتي عليك ّ‬
‫وضعت الهاتف بين يديها لتفعل ما تشاء‪ ،‬ثم ذهبت بخطواتٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫جرعت كؤوس ماء باردة‪ُ ،‬تطفئ ألم معدتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مسرعة إلى المطبخ‪.‬‬
‫كنت أغس�ل‬‫جفني عندما ُ‬ ‫ّ‬ ‫س�ت‬
‫تحس ُ‬‫ّ‬ ‫مرات عدة‪.‬‬ ‫وغس�لت وجهي ّ‬ ‫ُ‬
‫ونظ�رت ف�ي الم�رآة راغب� ًا ف�ي قراءة‬
‫ُ‬ ‫وجه�ي‪ ..‬وال دمع�ة ذرفته�ا‪،‬‬
‫مالمحي‪.‬‬
‫علي الحزن؟!‬
‫هل بدا ّ‬
‫ال‪ ..‬اليتم وشبيهه ال غير!‬
‫ٍ‬
‫كمقطوعة شريطها متق ّطع‪،‬‬ ‫كان بكاء ياسمين المتق ّطع يصلني‬
‫المجهدة‪،‬‬‫حدته تار ًة وتنخفض أخرى‪ ،‬وبين ال ّتارتين أنفاسها ُ‬ ‫ترتفع ّ‬
‫لت أن أتركها في‬ ‫ففض ُ‬ ‫ولم يكن في وس�عي هذه المرة أن أُس�كته‪ّ ،‬‬
‫حالها ح ّتى تهدأ‪.‬‬
‫لربم�ا‬
‫لم�دة طويل�ة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال أدري كي�ف تواص�ل ال ّنس�اء الب�كاء‬
‫الهياجة التي تخرج ُدفع ًة واحدة‪ ،‬تلك‬ ‫راجع لتلك المش�اعر ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ذلك‬
‫‪227‬‬
‫قوة جذب‬ ‫الذكريات المنس�ية مش�كّ ل ًة ّ‬ ‫العواط�ف الت�ي تأتي بش� ّتى ّ‬
‫وقو ًة ضارب ًة تكسر سدود الجفون‪.‬‬ ‫الدموع‪ّ ،‬‬ ‫لسيل ّ‬
‫ش�عرت ب�ه ي�زداد ح�رارة‪ ،‬كما جس�مي‬ ‫ض�م وجه�ي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ف�ي خ ِّ‬
‫أحسست بضغط عال ٍ يعتريني ورأسي بدأت متاريس القلق‬ ‫ُ‬ ‫كذلك‪،‬‬
‫المختل�ط م�ع الم�اء بوجهي أصابن�ي بصداع ٍ‬ ‫تط�رق في�ه‪ ،‬والع�رق ُ‬
‫نصف�ي‪ ،‬وكان�ت مس�ام بدن�ي ك ّلها تزفر ُبخ�ار ًا ش�عور ًا باالختناق‪.‬‬
‫كم ّي�اتٍ كبي�رة من اله�واء‪ ،‬لكن لم تكفي‬ ‫ح�ت أتن ّف�س وأس�حب ّ‬ ‫ُر ُ‬
‫عزمت أن أصعد إلى الس�طح كي يحتويني‬ ‫ُ‬ ‫في مكاني ذاك‪ ،‬حينها‬
‫مررت بالقرب من ياس�مين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هواء الليل‪ ،‬ومطره إذا ما كان يهطل‪.‬‬
‫نظرت إلى وجهها من بعيد‪ ،‬جفناها‬ ‫ُ‬ ‫وكانت قد تو ّقفت عن البكاء‪،‬‬
‫ثم‬
‫افتعل�ت إش�ار ًة له�ا دون كالم بأنّي س�أذهب ّ‬ ‫ُ‬ ‫أصبح�ا أحمري�ن‪.‬‬
‫وصعدت نحو ُمريدي‪ .‬كان الجو قارس� ًا‪ ،‬وكانت‬ ‫ُ‬ ‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫س�أعود‪.‬‬
‫تمط�ر قليلاً‪ ،‬ل�م أبتع�د ع�ن الباب الحدي�دي كثير ًا‪ّ ،‬‬
‫تحس�ب ًا إذا ما‬
‫مألت صدري ح ّتى آخ�ره بالهواء البارد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تزاي�دت غ�زارة األمط�ار‪.‬‬
‫الجو البارد مشكّ ل ًة سحابة بخار‬ ‫ّ‬ ‫وزفرت حرارتي التي تكاثفت مع‬ ‫ُ‬
‫شعرت‬ ‫عدة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫مرات ّ‬ ‫الكرة ّ‬
‫عاودت ّ‬‫ُ‬ ‫السماء ثم اختفت‪.‬‬ ‫تصعدت في ّ‬ ‫ّ‬
‫هيأ المكان للبرودة لتسكن فيه‪.‬‬ ‫بالحرارة ته ّز رحالها م ّني‪ ،‬وجسدي ّ‬
‫كم�ا خ ّطط�ت‪ ،‬زادت نس�بة غ�زارة المطر‪ ،‬وتبلل جزء من مالبس�ي‬
‫دت بسهولة خلف الباب‬ ‫دت قبل أن أُصاب بنزلة برد‪ُ .‬ع ُ‬ ‫فع ُ‬
‫إثرها‪ُ ،‬‬
‫كأت عليه أستشعر قوانين الدفء في جسدي‬ ‫ثم ا ّت ُ‬ ‫الحديدي‪ ،‬أغلقته ّ‬
‫واحتل مكانه س�كون وإحساس‬ ‫ّ‬ ‫صداع رأس�ي زال‬ ‫ُمغمض العينين‪ُ .‬‬
‫بعودة األمور إلى نصابها‪.‬‬
‫الصدر وال ّنفس‪ ،‬لكن أن تختلط األمور‬ ‫ق�د أصب�ر على ضي�ق ّ‬
‫‪228‬‬
‫خرت‬ ‫ولست من الذين إذا التعج قلبهم ّ‬ ‫ُ‬ ‫على عقلي شيء ُيربكني‪،‬‬
‫قوة القلب‪،‬‬ ‫بقوة العقل أكثر من ّ‬ ‫أؤمن ّ‬
‫ُ‬ ‫جميع األعضاء مثله تواسيه‪،‬‬
‫وق�در المس�تطاع أح�اول ألاّ أت�رك اإلحس�اس لحواس�ي ولقلب�ي‪،‬‬
‫ِ‬
‫تذوق ما يح�دث بملكة عقلي‬ ‫ع َوض� ًا أح�اول م�ا أمك�ن أن أجعل ّ‬
‫كل أحاسيسي ُم ّرة‪ ،‬لذا فأنا أح ّليها بأفكار وأُراكم‬ ‫فقط‪ ،‬وأدري أ ّن ّ‬
‫الرب على هذا‬ ‫فوقها اعتقادات‪ ،‬أو أنفثها على الورق‪ ،‬وليغفر لي ّ‬
‫وليس�امحني ضمي�ري على ما آلت‬ ‫أمده لنفس�ي‪ُ ،‬‬ ‫االنتق�اص ال�ذي ّ‬
‫كل األحوال أبقى ال ّظال�م والمظلوم‪،‬‬ ‫إلي�ه نفس�ي الجريح�ة‪ ..‬فف�ي ّ‬
‫اليتم‬
‫هوية أفعالي معقّدة ومجهولة ال ّنسب إذا ما ُحذف سببا ُ‬ ‫وتبقى ّ‬
‫والموت‪.‬‬
‫ُ‬
‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫يدي ألُش�عل دفئ ًا‪.‬‬ ‫فركت ّ‬ ‫ُ‬ ‫أغلقت باب الش�قة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نزلت‪،‬‬
‫ُ‬
‫ظننت أ ّن ياس�مين‬
‫ُ‬ ‫حول المكان‪ ،‬كان مصباح غرفة المعيش�ة ُمطفأً‪،‬‬
‫نظرت إلى غرفتي‪ ،‬كان‬ ‫ُ‬ ‫أنرت المصباح‪ ،‬ولم تكن هي هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نامت‪.‬‬
‫ضوء المصباح المكتبي يس� ّلط جزء ًا من إضاءته قرب عتبة الباب‪،‬‬
‫تحرك في‬
‫ظ�ل قد ّ‬ ‫�رت أنّ�ي ق�د أغلق�ت ب�اب غرفتي‪ ،‬وقد بدا ٌّ‬ ‫تذكّ ُ‬
‫صككت أس�ناني حينها من فضول‬ ‫ُ‬ ‫الغرفة وش�ى به ضوء المصباح‪.‬‬
‫ياسمين‪.‬‬
‫دخلت غرفتي فوجدتها فاتح ًة مل ّفي األخضر وتقرأ ما بداخله‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ما أن رأتني‪ ،‬تر ّددت في مواصلة القراءة‪ .‬أغلقت الملف‪ ،‬وبدا على‬
‫وجهها شفقة ترميها إلي‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– هل سارت األمور بخير مع والدتك؟‬
‫– بخير‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫ت‪:‬‬ ‫أرد َف ْ‬
‫– ستذهب معي غد ًا إلى البيت أليس كذلك؟ سنحضر جنازة‬
‫جدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تش�يع‬
‫ّ‬ ‫الرفض مس�تحيالً‪ ،‬بل كانت رغبة داخلي تريد أن‬ ‫كان ّ‬
‫أشيع أحد ًا من قبل‪ ،‬فقد كان أمر ًا أريد اكتشافه‪.‬‬
‫دمت لم ّ‬ ‫ُ‬ ‫جنازته‪ ،‬ما‬
‫قلت‪:‬‬
‫– إن شاء اهلل‪.‬‬
‫حنت ياسمين رأسها تنظر إلى الملف‪ ،‬كأنّها تحاول استخراج‬
‫عيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقفت فجأ ًة واتجهت صوب‬ ‫ْ‬ ‫جمل�ة م�ا م�ن لونه تقولها لي‪.‬‬
‫مت نحوي‪،‬‬ ‫ق�رأت ف�ي عينيه�ا أنّها عازم� ٌة على قول كالم م�ا‪َّ .‬‬
‫تقد ْ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫وقف�ت أمام�ي ورفع�ت رأس�ها نحو وجهي ل ُتس�اوي مس�افة عينيها‬
‫بعين�ي الت�ي يفصله�ا قصرها ع ّني‪ ،‬فهي تصل تقريب ًا إلى نحري‪ .‬لم‬ ‫ّ‬
‫أتحدث بها‪ ،‬ح ّتى عيون عقلي فشلت في فهم رسالة‬ ‫ّ‬ ‫أجد كلمات‬
‫تتفرس في وجهي وما نهش�ت به س�نون‬ ‫عيني‪ .‬راحت ّ‬ ‫ّ‬ ‫عينيها إلى‬
‫وضع ْتها في‬
‫َ‬ ‫البؤس‪ ،‬ثم رفعت يدها نحو وجهي‪ ،‬نزعت ن ّظارتي‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫رت‬
‫فتسم ُ‬
‫ّ‬ ‫أقو على الحراك‬ ‫الرياضية التي ارتدتها‪ .‬لم َ‬‫جيب ُسترتي ّ‬
‫ووجدت نفسي ُمحاصر ًا بين ما‬‫ُ‬ ‫مكاني دون نُطق‪ ،‬شعرت بال ّتوتر‪،‬‬
‫يجب أن أفعل وبين ما يجب ألاّ أفعل‪.‬‬
‫كلمات بصعوبة من فمي‪:‬‬‫ٌ‬ ‫خرجت‬
‫– ماذا تفعلين؟‬
‫– ‪...........‬‬
‫ش�عرت بمسكتها تلك تزداد‬
‫ُ‬ ‫ذراعي بيديها الرطبتين‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أمس�كت‬
‫تتحسس ما بي‪ .‬أنزلت عينيها عن وجهي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عصرة‪ ،‬كأنّها تحاول أن‬
‫‪230‬‬
‫مر ًة أخرى بدموعها تنهال‬ ‫وشعرت ّ‬
‫ُ‬ ‫ووضعت جبهتها على صدري‪،‬‬
‫وقفت صامت ًا‪ ،‬تارك ًا لها‬
‫ُ‬ ‫على قميصي وعلى السجين داخل القفص‪.‬‬
‫مهمة وضع ِ ما ُي ُ‬
‫لعج قلبها داخلي‪..‬‬ ‫ّ‬
‫انخفض َت َر ُّد ُد شهقاتها‪ ،‬ثم جاء صوتها‪:‬‬
‫– وحيد‪..‬‬
‫– ‪..........‬‬
‫عين�ي‪ ،‬وكان كُ حل دموعها المتبقّي‬
‫ّ‬ ‫تحدق في‬
‫رفع�ت رأس�ها ّ‬
‫يسيل عبر وجنتيها‪.‬‬
‫– قلبك وحيد‪ ..‬أين هو قلبك وحيد‪..‬؟‬
‫– ‪............‬‬
‫– وحي�د أش�عر بأنّ�ك ُتعان�ي‪ ..‬ه�ل هن�اك من خط�ب‪ ..‬هل‬
‫تدعي؟‬
‫صحتك على ما يرام كما ّ‬ ‫ّ‬
‫تس�ألني ه�ذه الم�رأة أين قلب�ي‪ ،‬تريدني هذه الفت�اة أن أجيبها‬
‫تحب وتكره‪ ،‬تسألني عن كوني بال‬ ‫ّ‬ ‫أين هي عضلة اإلحساس التي‬
‫نبض‪ ،‬وتقول إنها تشعر بأنّي أُعاني وأنّي أكذب في شأن صحتي‪.‬‬
‫كل اإلجابات‬ ‫ِ‬
‫سيدتي أن أجيبك وأنا ُحذفت م ّني ّ‬ ‫كيف عساني ّ‬
‫بكل‬
‫احترقت ّ‬
‫ُ‬ ‫تشح غزارة أسئلتي؟ كيف أجيبكِ وقد‬ ‫التي أمكنها أن ّ‬
‫ٍ‬
‫سنة أحملها عجز ًا؟‬
‫سيدتي أتريدينني أن أحرقك بكلماتي؟‬ ‫ّ‬
‫ال أريدك أن تري ضعفي فتضعفي من حماقة ما أفتعله بنفسي‪.‬‬
‫اعتزلت أحاديث‬
‫ُ‬ ‫م�اذا أحك�ي ل�ك؟! أأقول ل�كِ الحقيقة أنّ�ي‬
‫كل يوم!‬‫ألمي التي في داخلك أ ّن جوفي يبكي ّ‬ ‫نبضي! هل أقول ّ‬
‫إنّي تائه ياس�مين‪ ،‬أش�عر أنّه ال أرض يمكنها القبول بي بعد‬
‫‪231‬‬
‫اآلن غير أرض األموات‪ ،‬وقلبي هذا لم يعد يملك خرائط ُترش�ده‬
‫إلي‪ ،‬فؤادي هذا لم يعد يسكنني‪ ،‬غادر منذ زمن‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لن أقول اغفري‪ ،‬ولكن‪ ..‬حاولي فقط‪ ،‬حاولي أن تفهمي أنّي‬
‫التجرد من األلم باأللم‪ ،‬وأنّي أحاول أن أمأل نفس�ي فراغ ًا‬ ‫ّ‬ ‫أحاول‬
‫ذيب الكرب الذي ال ينتهي‪.‬‬ ‫وي ُ‬
‫مآسي‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫لعل فراغي يبتلع‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بغصة إلى معدتي‪ ،‬وأحرقتني كسابقاتها‪.‬‬ ‫ابتلعت كبرياء اإلجابة ّ‬ ‫ُ‬
‫حي�ث مخرجي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ونظ�رت نحو الباب‬
‫ُ‬ ‫أش�حت بص�ري ع�ن عينيها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ذراعي الفاش�لتين وقلت‪« :‬ياس�مين‪ ..‬حان وقت‬ ‫ّ‬ ‫نزع�ت يديه�ا عن‬ ‫ُ‬
‫خرج�ت ونظراته�ا كانت تتبعني وقلبها كان يس�أل عن‬ ‫ُ‬ ‫ث�م‬
‫ال ّن�وم»‪ّ .‬‬
‫وجود واحد ٍ بداخلي‪.‬‬
‫وضرب�ت الحائ�ط القريب م ّن�ي بقبضة‬
‫ُ‬ ‫أغلق�ت ب�اب الغرف�ة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أمور كتلك‪ ،‬لتتركني‬ ‫بيدي‪ ،‬كي تفهم أنّي أغضب في الحديث عن‬
‫وسر ما تك ّنه أعضاء جسدي من ألم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وشأني أنا‬
‫يت بغرفتي‪ ،‬ولتبحث إذا ما شاءت في ما تحويه األمكنة‬ ‫ضح ُ‬ ‫ّ‬
‫السرية في غرفتي‪ ،‬ولتفعل ما طاب لها بما أسقطته على الورق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أطف�أت األن�وار‪ ،‬ول�م أع�د إل�ى غرفتي كي آخ�ذ هاتفي وال‬ ‫ُ‬
‫ورحت أحاول اتخاذ وضعية لجس�دي على األريكة ألنام‬ ‫ُ‬ ‫ن ّظارتي‪،‬‬
‫بدون لحاف‪ ،‬عسى أن تأتيني غمضة ببركة عيني اآلسنة‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫‪III‬‬

‫يتع�رق بأكمل�ه‪ ،‬وصهيل عروقي ينبض في أذني‪ ،‬عيناي‬ ‫ّ‬ ‫بدن�ي‬


‫مغمضت�ان رغم� ًا عنهم�ا‪ ،‬وص�وت قط�رات صنب�ور الم�اء أفقدتني‬
‫صواب�ي بع�د أن ِ اس�تفاقت أذناي عليه‪ ،‬وأيقظ�ت عقلي ال ّنائم معه‪.‬‬
‫مس�تعد ًا آلالم ال ّظهر‬
‫ّ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬ ‫لم أقدر على أن أتق ّلب في نومي‪ ،‬فقد‬
‫بما خ ّلفته نتوءات األريكة‪.‬‬
‫أتحدث لنفسي‬ ‫ّ‬ ‫جد ًا كي‬‫مر ّ‬ ‫عظامي مسحوقة كي أقوم بحركة‪ٌّ ،‬‬
‫الصباح‪ ،‬ذهني يسكنه خمول ال ّنوم‪ ،‬وهاالت التعب‬ ‫بكالم عذب هذا ّ‬
‫أحك أنفي‪ .‬أعدتها‬ ‫ُّ‬ ‫كت يدي إلى وجهي‬ ‫حر ُ‬ ‫تزحف فوق جسدي‪ّ .‬‬
‫نمت دون غطاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رت أنّي‬ ‫إلى مكانها‪ .‬استشعرت لحاف ًا فوقي‪ .‬تذكّ ُ‬
‫رت قليالً‪ ،‬ثم‬ ‫بدأت ذاكرتي تس�ترجع األمس لتحيله إلى اليوم‪ ،‬فكّ ُ‬
‫خلصت إلى أول فكرة نائمة كجواب‪ ،‬وهي أ ّن ياسمين من وضعت‬
‫لحاف ًا فوقي‪.‬‬
‫عين�ي‪ ،‬كان ال ّظلام يس�طو على الم�كان‪ ،‬فقط ثقوب‬ ‫ّ‬ ‫فتح�ت‬
‫ُ‬
‫أش�عة وارد ًة تنعك�س عل�ى زج�اج ال ّتلفاز‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ناف�ذة الصال�ون ترس�ل‬
‫أزل�ت ع ّني ما‬
‫ُ‬ ‫وذراع�ي ألوق�ظ مفاصلي وعظامي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫رجل�ي‬
‫ّ‬ ‫دت‬
‫م�د ُ‬
‫ّ‬
‫شعرت بصداع ٍ في‬ ‫ُ‬ ‫جلست مغمض العينين وسط العتمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُيلحفني‪.‬‬
‫يدي‪،‬‬
‫وأمس�كت رأس�ي بكلتا َّ‬ ‫ُ‬ ‫فخذي‬
‫ّ‬ ‫مرفقي على‬‫ّ‬ ‫رأس�ي‪ .‬وضعت‬

‫‪233‬‬
‫الص�داع بالمس�ح على ش�عري ذهاب� ًا وإياب ًا‪.‬‬ ‫وحاول�ت أن أخ ّف�ف ّ‬
‫مد يدي إلى ال ّطاولة‪ ،‬وكان غريب ًا‬ ‫وحاولت ّ‬ ‫ُ‬ ‫بقي�ت ُمغم�ض العيني�ن‬ ‫ُ‬
‫ي�دي وقعت�ا ف�ي فراغ‪ ،‬والغريب في األم�ر أن ال ّطاولة كما أذكر‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫ألتوجه يس�ار ًا ألُنير المكان‪.‬‬‫ّ‬ ‫وقفت‬
‫ُ‬ ‫كانت غير بعيدة عن األريكة‪.‬‬
‫زر‬ ‫عين�ي ألرى انعكاس زجاج ال ّتلفاز وتتبعه‪ ،‬فبقربه يوجد ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتح�ت‬
‫ُ‬
‫الرابعة‪ ،‬ح ّتى‬ ‫خطوت ثالث خطوات‪ ،‬وما كدت أن أخطو ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنارة‪.‬‬
‫كدت أن أقع لوال أن حافظت‬ ‫ُ‬ ‫شيء اصطدمت به قدمي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اعترضني‬
‫أنرت الم�كان‪ ،‬وآلمتني‬ ‫ُ‬ ‫أكمل�ت مسترش�د ًا بالتلفاز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عل�ى توازن�ي‪.‬‬
‫عيني ُيعميهما ويزيد من‬ ‫ّ‬ ‫احت�ل‬
‫َّ‬ ‫األش�عة ف�ي عين�ي لدرجة أ ّن بياض ًا‬ ‫ّ‬
‫عرفت لماذا‬
‫ُ‬ ‫الضباب عن عيني‪،‬‬ ‫مستوى صداع رأسي‪ .‬عندما انقشع ّ‬
‫تغير موضع ال ّطاولة‪ ،‬ولماذا تعثّرت قدمي من قبل‪ .‬كانت ياس�مين‬ ‫ّ‬
‫خولتها أن‬ ‫«تصرف�ي عل�ى راحت�ك» ّ‬ ‫ّ‬ ‫تن�ام عل�ى األرض‪ ،‬ويب�دو أن‬
‫تغير موضع ال ّطاولة وتفرش ب ّطانيات وجدت من يس�تعملها غيري‬ ‫ّ‬
‫تكورها داخل‬ ‫ٍ‬
‫أن�ا ال�ذي نبذته�ا في خزانة بغرفتي‪ .‬راقتني طفولتها‪ّ ،‬‬
‫ال ّلحاف‪ ،‬وخصل شعرها المبعثرة والمنسدلة على وجهها‪ .‬أشعرتني‬
‫قسوت عليها ليلة أمس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بأنّي‬
‫حملت هاتفها الموضوع‬ ‫ُ‬ ‫اضطجعت قليالً عندما أنرت الغرفة‪.‬‬ ‫ْ‬
‫هت‬ ‫توج ُ‬
‫أش�علت إنارة الهاتف‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأطفأت اإلنارة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫على ال ّطاولة‪،‬‬
‫أنرت غرفتي وأطفأت نور الهاتف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إل�ى غرفت�ي‪ .‬وجدته�ا مفتوحة‪،‬‬
‫وضع�ت هاتفه�ا‬ ‫ُ‬ ‫الصب�اح‪.‬‬ ‫وأش�عة ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتح�ت ال ّناف�ذة لدخ�ول اله�واء‬ ‫ُ‬
‫الس�رير‪ .‬لم أتفقّد‬ ‫اس�تلقيت على ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬‫وحملت هاتفي‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فوق مكتبي‪،‬‬
‫رأيت ياسمين‪ .‬كان يومض بلونه األزرق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هاتفي منذ أمس‪ ،‬بل منذ‬
‫وجدت عشرين ا ّتصاالً من ياسمين ورسائل‬ ‫ُ‬ ‫السري‪،‬‬
‫الرقم ّ‬ ‫أدخلت ّ‬
‫ُ‬
‫‪234‬‬
‫الس�رير‪،‬‬
‫رمي�ت الهاتف على ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع�دة تس�أل ع ّن�ي فيه�ا وع�دم ر ّدي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وضعت في ذهني‬ ‫ُ‬ ‫واستلقيت على ظهري أفكّ ر في خطوتي القادمة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫غس�لت وجهي‪ ،‬وأخرجت من درج ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ثم نهضت‪.‬‬ ‫جدولة ما س�أفعله ّ‬
‫مألت ق ّنينة ماء‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫بالخزانة علبة أعواد البخور‪ ،‬أشعلت اثنين منها‪َّ ،‬‬
‫بحثت عن ن ّظارت�ي‪ ،‬لم أجدها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صغي�رة‪ ،‬ش�ربتها بأكمله�ا‪ .،‬عندم�ا‬
‫�رت أ ّن ياس�مين كان�ت ق�د أخذتها أم�س وأنها ّ‬
‫ربما ال‬ ‫حينه�ا تذكّ ُ‬
‫جرعت نصف كأس ماء‬ ‫ُ‬ ‫أخذت علبة دوائي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الس�ترة‪.‬‬
‫تزال بجيب ّ‬
‫تركت فوق‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫لحبة دواء دائي‪ّ ،‬‬ ‫حبة دواء للمعدة‪ ،‬ونصف ًا ثاني ًا ّ‬ ‫مع ّ‬
‫فوار ًا لمن ّش�ط في نص�ف كأس ٍ أخرى َيحتاج‬ ‫مائ�دة المطب�خ قرص ًا ّ‬
‫إلى دقيقة كي يعطي مفعوله‪.‬‬
‫ش خمس ًا وأربعين دقيقة‪،‬‬ ‫أخذت ُد ّش ًا طويالً‪ ،‬وقد استغرق ّ‬
‫الد ُّ‬ ‫ُ‬
‫أطلت�ه ألزي�ل بقاي�ا األم�س وحثالة أرق ال ّنوم عن أعضاء جس�دي‪،‬‬
‫حم�ي عظام�ي التي ُبردت‪ ،‬وأزيل عنها صدأ خمول ال ّنعاس‬ ‫كم�ا ألُ ّ‬
‫فتصبح مرنِة‪.‬‬
‫وجلست في المطبخ‬ ‫ُ‬ ‫أعد فطوري‪،‬‬ ‫رحت ُّ‬‫ُ‬ ‫شربت المن ّشط‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬
‫حصتها إلى أن تستيقظ‪.‬‬ ‫حصتي منه وأترك لل ّنائمة ّ‬ ‫أزدرد ّ‬
‫الصالون‪.‬‬ ‫وصوت خطواتها وهي تفتح نوافذ ّ‬ ‫ُ‬ ‫إلي تثاؤبها‬
‫تناهى َّ‬
‫مرت بجانب المطبخ‪ ،‬ألقت يدها سالم ًا‪ ،‬وأكملت مراسم استيقاظها‬ ‫ّ‬
‫لتحتل مكانها على‬ ‫ّ‬ ‫مدة إلى حيث أجل�س‬ ‫ث�م ا ّتجه�ت بعد ّ‬ ‫ب�دش‪ّ ،‬‬
‫كرسي قبالتي‪.‬‬
‫رفعت خصلة شعر هاربة وقالت‪:‬‬
‫– صباح الخير!‬
‫جاء صوتي متق ّطع ًا‪:‬‬
‫‪235‬‬
‫جيد ًا؟‬ ‫ِ‬
‫– صباح الخير‪ ..‬هل نمت ّ‬
‫أشارت بإيماءة رأس بأنها كذلك‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– شاي أم قهوة بالحليب؟‬
‫أي شيء‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫نهض�ت وتو ّق ُ‬
‫فت بجانبها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وضحكت هي األخرى‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ضحك�ت‬
‫ُ‬
‫بسبابتي‪.‬‬
‫نقرت على فروة شعرها ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫اخدمي نفسك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– ‬
‫تثاءبت قائلةً‪:‬‬
‫– و‪..‬ا‪..‬خا!‬
‫اختفيت من حولها‪.‬‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫الصال�ون عندما جاءن�ي صوتها ُينادي‪.‬‬‫أط�ل م�ن نافذة ّ‬ ‫ّ‬ ‫كن�ت‬
‫ُ‬
‫استدرت ألجدها ت ّتجه نحوي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نزعت نفسي من ال ّنافذة ثم‬‫ُ‬
‫سألتني‪:‬‬
‫بحثت عنه‬
‫ُ‬ ‫– ه�ل رأي�ت هاتفي؟ وضعته أمس فوق ال ّطاولة‪،‬‬
‫لك ّني لم أجده‪.‬‬
‫اس�تعنت ب�ه‬
‫ُ‬ ‫– وضعت�ه ف�ي غرفت�ي عندم�ا وجدت�ك نائم�ة‪،‬‬
‫ألضيء الطريق نحو الغرفة‪.‬‬
‫جلبته لها‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫الس�رير أريح من‬
‫– عل�ى فك�رة‪ ،‬لم�اذا لم تنامي في غرفتي‪ّ ،‬‬
‫األرض‪.‬‬
‫– لم أستطع ال ّنوم وحدي‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫أي حال‪ ،‬ن ّظارتي من فضلك‪.‬‬‫– مـ‪...‬ـمم‪ ،‬على ّ‬
‫– ستجدها قرب ال ّتلفاز‪.‬‬
‫– على كل حال ساعديني في طوي المالءات عن األرض‪.‬‬
‫رح�ت أجم�ع أن�ا وهي األغطي�ة‪ ،‬أرجعتها إل�ى حيث كانت‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وع�دت ألحم�ل م�ا تبقّ�ى‪ ،‬وكانت‬‫ُ‬ ‫وراح�ت ه�ي تر ّت�ب الم�كان‪،‬‬
‫وس�ادتي التي نامت عليها هي ما بقي‪ ،‬وس�ادتي تلك التي تحمل‬
‫هم�ي‪ .‬ك�م ي�ا ترى نقُصت هموم ياس�مين بعد أن وضعت رأس�ها‬ ‫ّ‬
‫عليه�ا؟ ه�ل زادت وس�ادتي هموم ًا أخ�رى؟ أم أن عدواي انتقلت‬
‫إليها؟‬
‫لمحت ياسمين تريد الخروج من باب ال ّشقة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫– إلى أين؟‬
‫السطح‪.‬‬‫– سأصعد لجلب ثيابي من ّ‬
‫– متى وضعتها لتجف؟‬
‫كنت نائم ًا‪.‬‬
‫َ‬ ‫– أمس عندما‬
‫– ألم تكن ُتمطر؟!‬
‫– ال‪.‬‬
‫ِ‬
‫– انتظرين�ي أصع�د مع�ك ألفت�ح ل�ك الب�اب الحديدي‪ ،‬من‬
‫الصعب فتحه أليس كذلك؟‬ ‫ّ‬
‫– ال أعلم‪ ،‬وجدته مفتوح ًا باألمس‪.‬‬
‫– دعين�ا نصع�د‪ ،‬أن�ا متأكّ د أنّه س�يكون ُمغلق ًا‪ ،‬فهناك جار لنا‬
‫يأتي متأ ّخر ًا دائم ًا‪ ،‬ويصعد فوق ليد ّخن‪.‬‬
‫وش�حذت طاقتي ألفتح لها الباب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الدرجات العش�ر‪،‬‬ ‫صعدنا ّ‬
‫تركته�ا وع�دت‪ ،‬ت�ارك ًا ب�اب ال ّش�قة موارب� ًا لكي ال تط�رق فأخطو‬
‫‪237‬‬
‫المسافة ما بين غرفتي وباب ال ّشقة ألفتح‪ ،‬فأنا أحاول ما أمكن أن‬
‫أ ّدخر طاقاتي بخطط تقيني الحركة كثير ًا‪ ،‬فليس لي منها إلاّ القليل‬
‫القليل‪.‬‬
‫س�معت صوت باب ال ّش�قة ُيغل�ق‪ ،‬وتناهت‬ ‫ُ‬ ‫�رت مالبس�ي‪.‬‬
‫غي ُ‬‫ّ‬
‫الزر األخي�ر للمعطف‬‫أغلق�ت أنا ّ‬
‫ُ‬ ‫َطرق�ات ياس�مين بب�اب الغرف�ة‪.‬‬
‫الرياضية‬‫مدت لي بذلت�ي ّ‬ ‫غي�رت ياس�مين ثيابها‪ّ ،‬‬ ‫وفتح�ت الب�اب‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫طلبت منها أن تنتظر ح ّتى‬ ‫ُ‬ ‫وضحكت من شعري غير المر ّتب بعد‪.‬‬
‫ثم طلبت م ّني أن أعيرها إيش�ارب ًا إذا ُوجد‬ ‫أجهز‪ ،‬أومأت برأس�ها‪ّ ،‬‬
‫لتضعه بعنقها نظر ًا لبرودة الجو‪.‬‬
‫ووضعت إيشارب ًا رمادي ًا‬
‫ُ‬ ‫بت شعري سريع ًا‪ ،‬انتعلت حذائي‪،‬‬ ‫ر ّت ُ‬
‫وحملت بيدي ق ّفازان لعلها‬ ‫ٍ‬
‫أخذت آخر ذا لون أسود‪،‬‬ ‫على عنقي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تحتاج إليهما‪.‬‬
‫تخصني وحدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أصبحت أش�ترك بأش�يائي التي‬ ‫ُ‬ ‫الحظت أنّي‬
‫ُ‬
‫ووجدت نفسي أفعل أشياء لم أعتد فعلها من قبل‪ .‬شعرت باختالف ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أمور لم أفعلها من‬ ‫ٍ‬ ‫ما‪ ،‬كأ ّن تقاسم ما لي مع ياسمين وال ّتفكير في‬
‫أمر أقوم به تلقائي ًا دون انزعاج‪ ،‬كأ ّن ذلك مألوف وليس فعالً‬ ‫قبل ٌ‬
‫غير عادي!‬
‫مددت لها اإليشارب‪ .‬سألتها‬ ‫ُ‬ ‫وجدتها ت ّتكئ على باب ال ّشقة‪،‬‬
‫إن كانت بحاجة إلى القفازين‪ ،‬رفضت طلبي فوضعتهما في جيبي‬
‫فقد أحتاجهما أنا‪.‬‬
‫نظرت إلى ساعة يدي وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫أقدم‬‫– إنّها التاسعة‪ ،‬سنتأ ّخر قليالً‪ ،‬ألنّي سأذهب إلى ال ّشركة ّ‬
‫عذر ًا لعدم قدومي للعمل‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫– على راحتك!‬
‫واجهت نجوى تخرج من ش�قّتها‬
‫ُ‬ ‫فتحت باب ال ّش�قة لنخرج‪.‬‬
‫ُ‬
‫أيض ًا‪:‬‬
‫– صباح الخير وحيد!‬
‫قلت‪:‬‬
‫– صباح الخير‪!..‬‬
‫وياسمين تلتني سالم ًا‪.‬‬
‫تركت ياس�مين‬
‫ُ‬ ‫تفاجأت نجوى عندما رأت ياس�مين بجانبي‪.‬‬
‫وخطوت نحو نجوى أخبرها بأنّي لن آتي للعمل‬ ‫ُ‬ ‫قرب باب ال ّشقة‪،‬‬
‫وجدت ذلك أفضل‪ ،‬فال أريد إرهاق‬ ‫ُ‬ ‫اليوم وأن ُتعلم س�عد بذلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بالذهاب إلى هناك وبذل جهد في كلمات تشكّ ل عذر ًا لعدم‬ ‫نفسي ّ‬
‫مجيئي‪.‬‬
‫التفت إلى ياسمين ورائي‪ ،‬فبدت لي مالمحها منزعجة بعض‬ ‫ُّ‬
‫ال ّشيء‪ ،‬والحظت نجوى ذلك أيض ًا‪.‬‬
‫قالت نجوى‪:‬‬
‫تعرفني إليها؟‬
‫– ألن ّ‬
‫قلت مشير ًا إلى ياسمين‪:‬‬
‫ُ‬
‫– هذه هي!‬
‫تحية نس�ائية‬
‫وتوجهت نجوى لتعطيها ّ‬
‫ّ‬ ‫ابتس�مت ياس�مين لها‪،‬‬
‫بقبلتين على وجنتيها‪ ،‬قالت لها‪:‬‬
‫– البقية في حياتك‪.‬‬
‫قلت لياسمين‪:‬‬
‫– ه�ذه نج�وى زميلتي بالعمل‪ ،‬وخطيبة صديقي س�عد‪ ،‬أنت‬
‫‪239‬‬
‫تعرفين سعد‪.‬‬
‫– آه! نعم!‬
‫وجهت نظرها إلى نجوى‪:‬‬‫ّ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫مبروك الخطوبة‪..‬‬ ‫– ‬
‫اهلل يبارك فيك‪.‬‬ ‫– ‬
‫دت وقلت‪:‬‬
‫تنه ُ‬
‫ّ‬
‫– ياسمين هل نذهب؟‬
‫أومأت لي قبوالً‪.‬‬
‫يتحدثان‬
‫ّ‬ ‫نزلنا نحن الثّالثة‪ ،‬هما أمامي وأنا وراءهما‪ .‬بدا كأنهما‬
‫كنت أخاطب‬ ‫ف�ي ش�يء أس�معه لك ّني ال أح�اول فهمه‪ ،‬فأنا أيض� ًا ُ‬
‫أحبه إال‬‫نفسي في ما سيحدث بعد أن أصل إلى المنزل الذي لم ّ‬
‫بوجود الذي قد مات وياس�مين‪ .‬أدرك اآلن أ ّن عالقتي مع خالتي‬
‫رممت منذ زم�ن‪ ،‬فطالما يبقى المرء‬ ‫ربم�ا أنّه�ا ِّ‬ ‫س�تر ّمم أو ّ‬
‫ُ‬ ‫وأهله�ا‬
‫بعيد ًا ُتصبح صورته لدى ناظره واضح ًة دون ش�وائب‪ ،‬والس�بب‪..‬‬
‫أحد من أحد تبدأ العيوب‬ ‫الصدور‪ ،‬فك ّلما اقترب ٌ‬ ‫الجهل بما تك ّنه ّ‬
‫بال ّظه�ور‪ ،‬ويك�ون منطل�ق ال ّتقارب صف ًة مذمومة تجلب معها س�وء‬
‫حد ًا فاصالً‬‫حظ‪ ،‬وهذا ما تع ّلمته في سيرة الوحدة‪ ،‬فدائم ًا ما أضع ّ‬
‫بيني وبين ال ّناس‪ ،‬ليس انزعاج ًا أو ضجر ًا منهم‪ ،‬بل عفاف ًا ووقار ًا‪،‬‬
‫كم�ا أن ذل�ك م�ع إضاف�ة بعض القياس�ات‪ُ ،‬يعتبر هيب� ًة منك تتو ّلد‬
‫لدى اآلخر‪.‬‬
‫الصباح من‬ ‫بقدمي تنزالن ح ّتى برق في عيني ضوء ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم أشعر‬
‫س�معت كلم�ة «عملية» قالتها‬ ‫ُ‬ ‫بي�ن زج�اج العم�ارة‪ .‬قبل أن أخرج‪،‬‬
‫وأظن‬ ‫كنت أنا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫نجوى لياسمين‪ ،‬وتلقائي ًا‬
‫ُّ‬ ‫فهمت أن محور الحديث ُ‬ ‫ُ‬
‫‪240‬‬
‫أنّه�ا كان�ت ت�روي لها س�يناريو حف�ل ضعفي‪ .‬وال ش�ك أ َّن هذين‬
‫االثنتي�ن أصبحت�ا قريبتي�ن في غضون الدقائ�ق الخمس التي مضت‬
‫هت‬
‫ونسيتا وجودي‪ .‬مررنا بالقرب من سيارتي وأكملتا سيرهما‪ّ .‬نب ُ‬
‫لبقيت ُتحادثها إلى أن تصل‬ ‫الذهاب‪ ،‬فلو لم أفعل َ‬ ‫ياسمين أنّه علينا ّ‬
‫سيارتها التي تبعد عن سيارتي بأمتار‪.‬‬‫ّ‬
‫دخل�ت الس�يارة‪ .‬ش�اهدت عبر مرآتي الجانبي�ة أنّهما تتبادالن‬
‫س�يارتي‬
‫فتحت ياس�مين الباب األيمن للس�يارة وصعدت‪ّ .‬‬ ‫ْ‬ ‫األرقام‪.‬‬
‫خرجت من السيارة‬
‫ُ‬ ‫المحرك ألنطلق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تحتاج عشر دقائق كي يسخن‬
‫طلبت من ياسمين أن تنتظرني‪.‬‬‫ُ‬ ‫بعد أن‬
‫– أين أنت ذاهب؟‬
‫السيارة‪.‬‬
‫– سأتمشى قليالً ح ّتى تجهز ّ‬
‫– ال تتأ ّخر!‬
‫أخ�ذت أمش�ي تارك ًا ّ‬
‫س�يارتي وياس�مين بعينيه�ا اللتين تتبعان‬ ‫ُ‬
‫الس�يارات التي ش�غّلها مالكوها‬
‫ّ‬ ‫رحت أم ّش�ط بنظري عدد‬‫ُ‬ ‫وجهتي‪.‬‬
‫خلعت‬
‫ُ‬ ‫اس�تعداد ًا للعمل أو لغير العمل كما س�أفعل أنا بعد قليل‪.‬‬
‫بحثت جيوبي عن منديل ورقي‬ ‫ُ‬ ‫ن ّظارتي التي كساها ضباب أنفاسي‪.‬‬
‫وجدت س�بب ًا أنته�ي به م�ن الدقائق الخمس‬
‫ُ‬ ‫ول�م أج�ده‪ ،‬وعنده�ا‬
‫عل�ي بعض الجرائد‬‫ّ‬ ‫ه�ت إل�ى مخدع الهاتف‪ ،‬ألقت‬ ‫توج ُ‬ ‫المتبقي�ة‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫ووجوهه�ا‬‫الدقيق�ة‪ُ ،‬‬‫تحيته�ا ببع�ض عناوينه�ا العريض�ة‪ ،‬وأخباره�ا ّ‬‫ّ‬
‫تحيتها بعدم االكتراث وبإش�احة‪.‬‬‫ورددت ّ‬
‫ُ‬ ‫المتعبة بعدس�ة الكاميرا‪،‬‬
‫ُ‬
‫اش�تريت علب�ة منادي�ل ورق‪ ،‬وعلكَ تين من ن�وع «‪ »Trident‬كي ّ‬
‫أعد‬
‫جيد ًا لمن س�أُ ّ‬
‫قدم لهم‬ ‫جيد ًا‪ ،‬وكي ُتس�مع كلماتي ّ‬‫جهازي ال ّلغوي ّ‬
‫دت ونفس�ي ُمنتعش‬ ‫كلمات العزاء ولمن سأس�تقبل منهم أخرى‪ُ .‬ع ُ‬
‫‪241‬‬
‫بنكه�ة ال ّنعن�اع التي ام ُتزجت بجوفي ولعابي‪ .‬أش�ارت لي ياس�مين‬
‫بس�بابتها‬
‫ّ‬ ‫من بعيد بأنّنا قد تأ ّخرنا إش�ار ًة بمعصمها وهي تنق ُُر فوقه‬
‫مهل‪.‬‬
‫حت لها فقط بإشارة لل ّت ُّ‬ ‫لو ُ‬ ‫الساعة وتأخر الوقت‪ّ .‬‬ ‫عالم ًة على ّ‬
‫مددت لها العلكة األخرى بنكهة ال ّتوت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السيارة‪.‬‬
‫صعدت ّ‬
‫ُ‬
‫بالمحمدية س�يت ّطلب‬
‫ّ‬ ‫لك�ي أص�ل إل�ى بي�ت خالتي الموج�ود‬
‫الس�ريع الذي‬ ‫الس�اعة‪ ،‬نظر ًا لل ّطريق ّ‬ ‫وقت ًا‪ ،‬قد يصل إلى ما يقارب ّ‬
‫خاصة في ه�ذا الوقت‪ ،‬لكن ال‬ ‫ّ‬ ‫س�آخذه وال�ذي س�يكون مزدحم� ًا‬
‫مفر من ذلك االكتظاظ الذي سأواجهه‪ ،‬ليس اكتظاظ ًا واحد ًا فقط‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بل اثنين‪ ،‬واحد ًا في ال ّطريق التي س�توصلني وآخر بعد ال ّطريق في‬
‫زحمة الحدث والوجهة‪.‬‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫– إذن فقد فعلها سعد!‬
‫– ما رأيك إذ ًا؟‬
‫– اختياره مو ّفق‪ .‬هل قال لها إنه كان خاطب ًا من قبل؟‬
‫– ال أعلم‪ ،‬لك ّني أعتقد أنّه فعل‪.‬‬
‫وأنهيت كالمي بنبرة عدم االهتمام‪:‬‬
‫ُ‬
‫– اهلل يكمل ليهم بالخير‪...‬‬
‫أعقبت بعدها بسؤال ٍ عن ّ‬
‫جدي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫انعطفت يمين ًا‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬
‫جدي البارحة؟‬
‫توفي ّ‬‫ّ‬ ‫– هل‬
‫ثم و ّلت وجهه�ا لي بعد أن‬
‫كان�ت تنظ�ر م�ن زج�اج ال ّناف�ذة‪َّ ،‬‬
‫سمعت ُجملتي‪:‬‬
‫– نعم البارحة ليالً‪ ..‬على ما أعتقد‪ ،‬فلم أكن في المنزل ليلة‬
‫أمي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫سمعت ذلك با ّتصال هاتفي من ّ‬ ‫ُ‬ ‫وفاته‪،‬‬
‫‪242‬‬
‫محدث ًا نفسي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قلت بصوتٍ خافت‬ ‫ُ‬
‫– بقي عجو ٌز واحد إذن‪.‬‬
‫الريح وال ّطريق‪.‬‬
‫جيد ًا لضوضاء ّ‬
‫– هل قلت شيئ ًا؟ لم أسمعك ّ‬
‫– لم أقل شيئ ًا‪.‬‬
‫– ‪.............‬‬
‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫تبقّت مسافة طويلة بعض ال ّشيء وأنعطف يسار ًا ألصل‪.‬‬
‫رأيت الالفتة‬
‫ُ‬ ‫مكتوب عليها الرقم ‪ ،60‬خ ّففت سرعتي قليالً‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الفت ًة‬
‫الدواسة‪.‬‬
‫ضغطت ّ‬
‫ُ‬ ‫التي تشير أنّه يمكنني زيادة سرعتي إلى المئة‪،‬‬
‫قالت ياسمين‪:‬‬
‫– خ ّفض من سرعتك قليالً‪!!..‬‬
‫ثم أرد َف ْ‬
‫ت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫تجمدتا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جلبت معك القفازين‪ ،‬يداي‬ ‫َ‬ ‫– هل‬
‫بيداي‪ ،‬وكان�ت هناك زحمة تتط ّلب م ّني‬
‫ّ‬ ‫كن�ت ماس�ك ًا المقود‬ ‫ُ‬
‫ستعد ًا ّ‬
‫ألي شتيمة أو حادث‪.‬‬ ‫ال ّتركيز‪ ،‬ولم أكن ُم ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫– أدخلي يدك في جيب معطفي األيمن وستجدينهما‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وضعتهما في يديها وقالت‪:‬‬


‫– أال تشعر بالبرد؟‬
‫– ذلك يعتمد!‬
‫– هه! على ماذا؟‬
‫– لو ُولدتِ رجالً ستعرفين على ماذا يعتمد!‬
‫ضحك�ت م�ن قولي‪ ،‬ونزع�ت أحد الق ّفازين‪ .‬لمس�ت وجهي‬
‫بيدها وقالت‪:‬‬
‫‪243‬‬
‫– أنت بردان!‬
‫الصباح ليس‬
‫– هذه طبيعة دمي وجسدي‪ ،‬وأعتقد أنّها برودة ّ‬
‫إلاّ ‪ ،‬وأنا معتا ٌد على هذا ال ّنوع من البرودة‪.‬‬
‫– أرى ذلك‪.‬‬
‫وقلت لها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫انعطفت يسار ًا‬
‫ُ‬
‫– شارفنا على الوصول‪.‬‬
‫دخلت‬
‫ُ‬ ‫اقتربت من من�زل خالتي‪،‬‬‫ُ‬ ‫نزع�ت ح�زام األم�ان بعدما‬
‫ُ‬
‫رأي�ت فوج ًا من ال ّنس�اء يدخلن‬‫ُ‬ ‫م�ن زق�اق وس�رعان م�ا تجاوزت�ه‪،‬‬
‫أردت‬
‫ُ‬ ‫ابتعدت عن المنزل بمسافة بعيدة‪ ،‬ح ّتى إذا ما‬ ‫ُ‬ ‫باب المنزل‪.‬‬
‫الس�يارات المصط ّفة في ال ّش�ارع‪.‬‬ ‫الخروج أو الهروب لن ُتزعجني ّ‬
‫ٍ‬
‫ابتعدت كثير ًا‪ ،‬ولم أُجبها سوى بإجابة يتيمة‬ ‫س�ألتني ياس�مين لماذا‬
‫ُ‬
‫قلت لها‪« :‬أسباب شخصية»‪.‬‬ ‫ربما‪ُ ،‬‬ ‫لم تفهم معناها ّ‬
‫لمحت مالك‬‫ُ‬ ‫ركن�ت س�يارتي ق�رب مقهى‪ ،‬وعندما خرج�ت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫طلبت من ياس�مين أن‬ ‫ُ‬ ‫المقه�ى ال�ذي يعرفن�ي‪ ،‬ولمحني هو أيض ًا‪.‬‬
‫لجدي‪.‬‬‫وذهبت إلى صديق ٍ قديم ّ‬‫ُ‬ ‫تسبقني‪،‬‬
‫– أهالً ولدي‪ ،‬كيف راك داير؟‬
‫عمي الحاج‪.‬‬ ‫– الحمد هلل‪ ،‬اهلل يبارك فيك ّ‬
‫جدي‪ ،‬وأعرب لي بأنّه يجب أن أستعد‪ ،‬فبعد دقائق‬ ‫ع ّزاني في ّ‬
‫جدي إلى المقبرة‪.‬‬ ‫سيارة الموتى لحمل جثمان ّ‬ ‫ستأتي ّ‬
‫الدخول لشرب القهوة‪،‬‬ ‫أنهيت الحديث سريع ًا‪ ،‬وقد طلب م ّني ّ‬
‫ُ‬
‫لك ّني رفضت بأدب بذريعة أنّي س�أذهب ألرى العائلة وأن خالتي‬
‫تنتظر مجيئي‪.‬‬
‫أج�ر خطاي‬
‫ُّ‬ ‫ورحت‬
‫ُ‬ ‫لمح�ت ياس�مين ف�ي منتص�ف ال ّطري�ق‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪244‬‬
‫ناديت على ياسمين لك ّنها‬ ‫ُ‬ ‫الذهاب إلى هناك‪.‬‬ ‫المهزومة التي ال تريد ّ‬
‫وقلت لها بأن‬ ‫ُ‬ ‫صل�ت بها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حمل�ت لحظتها هاتفي وا ّت‬ ‫ُ‬ ‫ل�م تس�معني‪.‬‬
‫تنتظر فإنّي وراءها‪.‬‬
‫ش�يء‬
‫ٌ‬ ‫الدخ�ول وح�دي‪ .‬أن أدخل أنا وياس�مين‪،‬‬ ‫ل�م أرغ�ب ّ‬
‫س�يقيني الوج�وه الغريب�ة ونوايا ال ّناس عندم�ا ينظرون إلى آخر ٍ‬
‫ذكر‬
‫الذكر الوحيد بين أخواته الثّالث‪.‬‬ ‫فجدي هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫جدي‪،‬‬ ‫من ساللة ّ‬
‫م�ر ًة أخرى‬ ‫وال�دي‪ ،‬وها أنذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫كن�ت مش�هور ًا بم�وت‬ ‫ُ‬ ‫ه�ا أن�ذا‬
‫والصديق‪.‬‬‫ّ‬ ‫جدي الذي كان برتبة األب‬ ‫سأُشهر بموت ّ‬
‫ٍ‬
‫كصعقة ح ّتمت‬ ‫شعرت برعشة في جسدي‪،‬‬ ‫ما أن ِ اقتربنا حتى‬
‫ُ‬
‫مرت ك ّلها‬ ‫جدي‪ّ ،‬‬ ‫المنس�ية مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل ذكرياتي‬ ‫على ذاكرتي اس�ترجاع ّ‬
‫مقدم�ة المنزل‪.‬‬ ‫عل�ى عين�ي وأن�ا أخط�و األمتار الت�ي تفصلني عن ّ‬
‫وكان�ت رائح�ة أزهار الياس�مين الموجودة في باحة المنزل ُتناهض‬
‫األول عندما‬ ‫الذك�رى التي انغرس�ت ف�ي ذهني؛ يومن�ا ّ‬ ‫ف�ي إرج�اع ّ‬
‫أصر هو على أن يغرس الياس�مين‬ ‫جئن�ا للس�كن عن�د خالت�ي‪ ،‬فقد ّ‬
‫والدي‪ .‬لعنة‬
‫ّ‬ ‫مقدمة المنزل‪ ،‬هو ليتذكّ ر بها ابنته‪ ،‬وأنا كي أتذكّ ر‬ ‫في ّ‬
‫سيؤلمني ذلك‬ ‫فس�يدته راقبتنا جميع ًا‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الياس�مين ما زالت موجودة‪،‬‬
‫الرحيل‪.‬‬ ‫ح ّتى بعد ّ‬
‫مررن�ا بجان�ب األزه�ار‪ ،‬وكانت ياس�مين على يس�اري حيث‬
‫قلت في نفسي كالم ًا يجمع الياسمين‬ ‫توجد الباحة‪ ،‬تخ ّطينا الباحة‪ُ .‬‬
‫مرت بجانبه‪:‬‬ ‫ومن ّ‬
‫تحضر رحيل أبٍ آخر»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مر ًة أخرى‬ ‫«ها أنت ّ‬
‫لمحت‬ ‫الدنيا من أمام الباب بعد أن صعد حشد ال ّنساء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫خوت ّ‬
‫الدرج�ات األولى‪،‬‬ ‫صعدت ّ‬ ‫ُ‬ ‫تط�ل م�ن ناف�ذة ال ّطابق الثان�ي‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫مري�م‬
‫‪245‬‬
‫مرت في مس�الكي وعاش�ت‬ ‫جيد ًا‪ ،‬رائحة ّ‬‫أميزها ّ‬
‫وش�ممت رائحة ّ‬
‫ُ‬
‫داخل�ي أعوام� ًا‪ ،‬والت�ي لم تكن س�وى رائحة الب�كاء الخفي‪ ..‬عطر‬
‫الفقد‪.‬‬
‫جلس�ت‬
‫ُ‬ ‫الصعود‪.‬‬
‫فت عن ّ‬ ‫حالت�ي ل�م تك�ن على ما ُيرام‪ ،‬فتو ّق ُ‬
‫عت ياسمين‪ ،‬قالت وهي أمامي منحنية‪:‬‬ ‫الدرج‪ِ .‬‬
‫فز ْ‬ ‫على ّ‬
‫– وحيد ما األمر؟!‬
‫– ال أشعر أنّي بخير‪.‬‬
‫التقطت أنفاس�ي‪ .‬فكّ رت أن ذلك لم يعد يعني ش�يئ ًا‪ .‬تن ّف ُ‬
‫س�ت‬ ‫ُ‬
‫ثم نهضت‪:‬‬ ‫وابتسمت في وجه ياسمين المشرق ّ‬‫ُ‬ ‫الصعداء‪،‬‬
‫ّ‬
‫– ال بأس‪ ،‬أنا بخير‪ ..‬أنا بخير!‬
‫تظاه�رت بأنّ�ي بخي�ر‪ ،‬ألنّ�ي لم أكن‪ ،‬فقد دخل ُمس�بق ًا طيف‬
‫ُ‬
‫اآلالم المرير ُيعيدني إلى ذاكرتي‪.‬‬
‫حيث‬
‫ُ‬ ‫كان ب�اب ال ّطاب�ق ّ‬
‫األول مفتوح� ًا‪ ،‬دخلنا‪ ،‬وعلى اليس�ار‬
‫عرفت وجوه بعضهن‪،‬‬‫ُ‬ ‫الصالون‪ ،‬كانت هناك نسوة يجلسن‪،‬‬ ‫يوجد ّ‬
‫إلي‬ ‫ٍ‬
‫أرهن منذ زمن وفاتها‪ .‬نظرت ّ‬ ‫ّ‬ ‫كن صديقات لوالدتي‪ ،‬ولم‬ ‫فقد ّ‬
‫إحداهن‪ .‬قالت لي من بعيد‪:‬‬
‫– وحيد! كيف حالك لم أرك منذ سنين!‬
‫رفعت صوتي قليالً‪ُ ،‬ليسمع ويخترق حديث بعض ال ّنساء‪:‬‬
‫ُ‬
‫– الحمد هلل!‬
‫ابتسمت لها‪ ،‬وابتسمت هي أيض ًا‪ ،‬ثم عادت لحديثها مع امرأة ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫بجانبه�ا‪ .‬دخل�ت ياس�مين باب� ًا أمامي ًا‪ ،‬باب المطبخ‪ .‬استنش�ق أنفي‬
‫الطيبة عطر‬
‫الرائحة ّ‬
‫رائحة ال ّشاي‪ ،‬ورائحة أوراق ال ّنعناع‪ ،‬زكّ ت تلك ّ‬
‫وقفت أمام‬
‫ُ‬ ‫ش�مي من قبل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فقدان األحياء التي س�رت مع حاس�ة‬
‫‪246‬‬
‫علي‪ ،‬بدت عليها مالمح‬ ‫تطل ّ‬‫رأيت وجه خالتي هدى وهي ّ‬ ‫ُ‬ ‫الباب‪،‬‬
‫البكاء‪ ،‬وعندما رأتني سالت دموعها كأنّها كانت تنتظر رؤية وجهي‬
‫كت نحوها أفتعل كلمات المرأة ٍ استبدلت كُ رهها لي‬ ‫تحر ُ‬
‫كي تسيل‪ّ .‬‬
‫كل األحوال هي تحمل جزء ًا من والدتي ال‬ ‫مع ال ّزمن بأمومة‪ ،‬ففي ّ‬
‫كل شيء‪ .‬كانت من قبل ُتناديني‬ ‫ُيمكنني إنكاره‪ ،‬فهي شقيقتها بعد ّ‬
‫أول‬‫باسمي‪ ،‬لكن مع ال ّزمن أصبحت ُتناديني «ابني»‪ ،‬لم أعترض في ّ‬
‫م�رة ٍ قالته�ا‪ ،‬فكلم�ة «ابني» تلك‪ ،‬تعزى لحرمانها من األبناء وكأمانةٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مت بمواساتها بما أمكنني من كلمات‬ ‫من والدتي كي تعتني بي‪ُ .‬ق ُ‬
‫ل�م ُتش�فني م�ن العلقم�ة التي في ص�دري‪ .‬دموعهم تل�ك ك ّلها لم‬
‫تجعل عيني تسيل دمع ًا‪ ،‬لك ّنها ك ّلفتني ُحرق ًة عجزت عن إخمادها‪،‬‬
‫شعرت بأ ّن قلبي يحترق بصبره‪ ،‬وأنّه ينفض رماده المشتعل في‬ ‫ُ‬ ‫بل‬
‫خلية ب�كاء تحملها عيني‪ ،‬وحلقي انجرح‬ ‫كل ّ‬‫منب�ع الب�كاء‪ ،‬مج ّفف� ًا ّ‬
‫عي� ًا‪ .‬حالة حزنهم تل�ك لن ُتضاهي‬ ‫الري�ق ال�ذي ابتلعته ّ‬ ‫م�ن كث�رة ّ‬
‫أحزان�ي‪ ،‬أدالئ�ي ال ّنزيفي�ة من القهر لن تص�ل إليها غمرة دموعهم‪،‬‬
‫أما أنا‬
‫الدم�وع‪ّ ،‬‬ ‫الصبر مبادل ًة بال ّنحيب وس�فك ّ‬ ‫ه�ن نس�اء يحترف�ن ّ‬ ‫ّ‬
‫فصب�ري ال يكف�ي‪ ،‬ودمع�ي ال يكفي ك�ي أضطهد كل هذا الوجع‪،‬‬
‫كل هذا ال ّزخم‬ ‫وكب�دي الت�ي تف ّط�رت ال تملك ّ‬
‫ق�و ًة كافي ًة لتواج�ه ّ‬
‫من الحزن‪ .‬قلوبهم تش�عر باأللم‪ ،‬وقلبي أنا اعتاد األلم ح ّتى صار‬
‫ف من‬ ‫مج�رد نكه�ة تلذع�ه‪ ،‬فأدمن قلب�ي ال ّلذعات إلى أن صار يتأ ّف ُ‬ ‫ّ‬
‫أصبحت كعود يتداعى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الجراح‪ ..‬انتياب ًا لسلوك الفجائع وما ُتخ ّلفه‪.‬‬
‫الس�قوط واالنتصاب‪ ،‬مهزوم ًا بين المقاومة واالنكس�ار‪،‬‬ ‫أمي�ل بي�ن ّ‬
‫ِ‬
‫شيء كال ّشعرة هو من ُيح ُّل التوازن بين ك ّفة ا ْل ِتعاجي الثّقيلة‬ ‫ٌ‬ ‫وكان‬
‫مقدسات هيجانها‪.‬‬ ‫وك ّفة مشاعري الخفيفة التي نسيت ّ‬
‫‪247‬‬
‫الدم�وع هن�اك بي�ن ياس�مين ووالدتها‪،‬‬ ‫ج�د ًا انهم�ار ّ‬‫أرهقن�ي ّ‬
‫الذه�اب إل�ى دورة المي�اه‪ .‬وجدت� ُه‬ ‫فاس�تأذنت بالمغ�ادرة بذريع�ة ّ‬ ‫ُ‬
‫أش�تم‬
‫ّ‬ ‫مش�غوالً‪ ،‬فكان�ت فرص� ًة ألصع�د إل�ى ال ّطاب�ق العلوي‪ ،‬كي‬
‫جدي التي غادرت أمس‪ ،‬فيجب أن‬ ‫وأقتص منه رائحة روح ّ‬ ‫ّ‬ ‫غباره‬
‫أتن ّفس أريجها المتبقّي قبل أن تندثر بين المسافة التي تفصل المنزل‬
‫سيدفن‪ ،‬وأيض ًا كي أُداعب شجني قليالً بذكريات جميل ًة‬ ‫وإلى حيث ُ‬
‫قضيناها هناك مع ًا‪.‬‬
‫الذاكرة‪ .‬المواقف‬ ‫كل درجة صعدتها كان يفيض معها استدرار ّ‬ ‫ّ‬
‫واألح�داث الت�ي عش�ناها أن�ا وجدي بدأت تس�تعيد عافيته�ا انبثاق ًا‬
‫لح�ك معدنها بوفاته؛ أذكر يوم ذهب بي إلى‬ ‫ّ‬ ‫بذهن�ي‪ ،‬وتع�ود ّبراقة‬
‫قلت له إني أريد لحي ًة كا ّلتي‬‫السابعة‪ ،‬يوم ُ‬ ‫كنت في ّ‬ ‫الحلاّ ق عندما ُ‬
‫الس�اذجة وقال إني عندما أكبر س�أحصل‬ ‫لديه‪ ،‬فضحك من براءتي ّ‬
‫تغيرات ستؤ ّدي إلى ظهورها‬ ‫على واحدة دون إرادة‪ ،‬وس ُتصاحبني ّ‬
‫ٍ‬
‫على وجهي‪ .‬كان مح ّق ًا‪ ،‬فقد كبرت‪ ،‬وأعلم أنّه كان يوحي لي بشيء‬
‫غيرات التي قال لي عنها هي ما يحدث لي اليوم‪ ،‬ولم‬ ‫آنذاك‪ ،‬أ ّن ال ّت ّ‬
‫التغيرات س�وى رش�دي واهتدائي إلى هذا الواقع‪ ،‬وأ ّن‬ ‫ّ‬ ‫تكن تلك‬
‫الحزن س�ي ّتكئ ش�يب ًا غير بائن بألوان بيض وكس�تنائية على لحيتي‪،‬‬
‫كل شعرة نبتت في غير زمانها تختبئ ألحان أحزان مخفية‬ ‫وبملء ّ‬
‫بحياء‪ ،‬مختبئة بثقلها على واجهتي‪.‬‬
‫بمحاذاته‪ ،‬وكانت مريم‬ ‫مررت ُ‬
‫ُ‬ ‫كان باب ال ّطابق الثّاني مفتوح ًا‪،‬‬
‫تك ّلم أحد ًا على الهاتف األرضي‪ ،‬وقد أثار انتباهها جس�دي الذي‬
‫مر بمحاذاة الباب المفتوح‪ ،‬فنادتني‪ ،‬واستوقفني اسمي الذي ُلفظ‪،‬‬ ‫َّ‬
‫لتحيتها‪.‬‬
‫الدرج�ات الثّلاث الت�ي صعدته�ا‪ ،‬ألدخل بعده�ا ّ‬ ‫�دت ّ‬ ‫فع ُ‬‫ُ‬
‫‪248‬‬
‫الصغيرة الت�ي كانت تحبو على‬ ‫أنه�ت المكالم�ة‪ ،‬وحمل�ت طفلتها ّ‬
‫وكنت عازم ًا ألاّ أخلق حديث ًا‬
‫ُ‬ ‫وجلس�ت أنا أيض ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جلس�ت‬
‫ْ‬ ‫األرض‪.‬‬
‫اعتذرت لها بأن�ي أريد دخول‬‫ُ‬ ‫طويلاً‪ .‬قب�ل أن أب�دأ معه�ا حديث� ًا‪،‬‬
‫تنفث حرار ًة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أثلجت مسام وجهي التي‬ ‫ُ‬ ‫الحمام كي أغسل وجهي‪.‬‬
‫ش�ربت كثير ًا من الماء‪ ،‬لكن ظمئي لم ينطفئ‪ ،‬وجفاف لس�اني لم‬ ‫ُ‬
‫بصقت كثي�ر ًا‪ ،‬ولعابي المبصوق‬ ‫ُ‬ ‫يرت�و ِ بجزيئ�ات الم�اء الي خ ّزنها‪.‬‬
‫كنت في حالة نزيفٍ نفسي‬ ‫بالدم‪ ،‬لقد ُ‬ ‫زاد إرهاقي وقلقي باختالطه ّ‬
‫ماء نفث ُتها‪ .‬لم يكن األمر خطير ًا‪ ،‬كان فقط غليان‬ ‫ِ‬
‫استخلصه كبدي د ً‬
‫الصبر ع ّل ًة من جس�دي‬ ‫عروق�ي حرق�ةً‪ ،‬وطبيعي أن يخرج خضاب ّ‬
‫لشدة صالبتي‪.‬‬ ‫تهدم خاليا داخلي ّ‬ ‫تفسير ًا عن ّ‬
‫عندم�ا خرج�ت‪ ،‬وجد ُتها تحمل صغيرتها عند الباب‪ ،‬وتراءى‬
‫تهم بالهبوط‪ .‬التفتت لي وقالت‪:‬‬ ‫لي كأنّها ّ‬
‫ونتحدث‪ُ ،‬ينادونني تحت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫– أعود‬
‫أكملت صعود ًا‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ألقبل الصغيرة على وجنتها‪ّ ،‬‬
‫خطوت نحوها ّ‬ ‫ُ‬
‫بانتصار عدم الحديث دون التفاتة‪.‬‬
‫ربما مخاف ًة‬ ‫جزء م ّني يريد ذلك‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫وجدت الباب مغلق ًا‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬
‫دخلت‬
‫ُ‬ ‫م�ن تخزي�ن ع�دوى الم�كان‪ ،‬فيجعلن�ي ذل�ك أنزف أكث�ر‪.‬‬
‫كل ليلة من‬ ‫جلست فيه اعتكاف ًا ّ‬
‫ُ‬ ‫ألشتم علياء المكان الذي‬
‫َّ‬ ‫السطح‬
‫ّ‬
‫يتغير ش�يء‪ ،‬فقط بعض األزهار المنزلية في أوان خزفية‬ ‫ليالي‪ .‬لم ّ‬
‫ّ‬
‫كبيرة‪ ،‬والياسمين كعادته ال يترك مكان ًا من األمكنة التي أذهب إليها‬
‫الس�طح‪،‬‬‫إن�اء بالس�تيكيا صغير ًا من صنبور ّ‬
‫غم�رت ً‬
‫ُ‬ ‫إلاّ ُوج�د في�ه‪.‬‬
‫وروي�ت ال ّنبات�ات‪ ،‬وغل�ب عط�ر زهرت�ي البيضاء عطر م�ا فاح من‬ ‫ُ‬
‫جلس�ت قرب أزهاري أحاول خلق لحظة س�كون بيني‬ ‫ُ‬ ‫األخريات‪.‬‬
‫‪249‬‬
‫ِ‬
‫السوداء التي انتشرت‬ ‫هو َس عطره ُيخم ُد بعض ًا من ال ّنار ّ‬ ‫لعل َ‬ ‫وبينه‪َّ ،‬‬
‫في أنحاء جسدي‪.‬‬
‫هرتنا أو‬‫أظن أنّهم تخ ّلصوا من ّ‬ ‫كنت ّ‬‫مواء‪ُ .‬‬ ‫ً‬ ‫مدة س�معت‬ ‫بعد ّ‬
‫الرحيل‪.‬‬ ‫أنّها ماتت‪ ،‬لكنه يبدو أنّها ما زالت متع ّلق ًة بنا وال تريد ّ‬
‫اتجهت نحو نافذة الصالون الصغير المط ّلة على السطح‪ .‬كانت‬ ‫ُ‬
‫فوجدت‬
‫ُ‬ ‫المغلقة‪.‬‬
‫فتحت األخرى ُ‬ ‫ُ‬ ‫إح�دى د ّفتيها الخش�بية مفتوح�ة‪،‬‬
‫إلي وأنا أنظر إلى‬ ‫الهرة جالسة على إحدى الحقائب‪ ،‬راحت تنظر ّ‬ ‫ّ‬
‫علي فقفزت من ال ّنافذة نحوي‪ ،‬ضممتها‬ ‫تعرفت ّ‬ ‫الرماديتين‪ّ .‬‬ ‫عينيها ّ‬
‫الصغير‬
‫ونقرت على أنفها ّ‬‫ُ‬ ‫إلى صدري ومسحت على أذنيها وذقنها‬
‫كبرت هي أيض ًا‪ ،‬أصبحت شواربها طويلة‪ ،‬وبدا‬ ‫الرطب كما تحب‪ُ .‬‬ ‫ّ‬
‫عليها الوهن وبعض الحزن أيض ًا‪.‬‬
‫الدخول إلى ال ّش�قة منذ البداية‪ ،‬وال القفز من ال ّنافذة‪.‬‬ ‫لم أُرد ّ‬
‫ورحت أتم ّلى مس�كني ّ‬
‫الس�ابق‬ ‫ُ‬ ‫اله�رة بي�ن ذراع�ي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بقي�ت حاملاً‬‫ُ‬
‫ومواضعه من ال ّنافذة‪ ،‬أرنو إلى تحفُّظه بالكتمان الذي يضربه على‬
‫الحمام‪ ،‬غرفتي‬‫ّ‬ ‫كل األبواب كانت موصدة؛ باب المطبخ‪،‬‬ ‫األرجاء‪ّ .‬‬
‫ج�دي‪ .‬ال أثاث بالصالون الصغير وال يوجد‬ ‫ربم�ا ُتو ّف�ى فيها ّ‬ ‫الت�ي ّ‬
‫جدي الخش�بي‪ .‬أنبأني حدس�ي‬ ‫فيه س�وى حقائب ُمغلقة وصندوق ّ‬
‫ج�دي قبل أن يلفظ أنفاس�ه األخيرة‪،‬‬ ‫كل ذل�ك كان ّ‬ ‫ب�أن م�ن فع�ل ّ‬
‫كل ما يتع ّلق به في حقائب‬ ‫وال ّظاهر أنّه كان على استعداد‪ ،‬فوضع ّ‬
‫تصلح للوداع وتر ّقب الحداد‪.‬‬
‫جدي والمكان نداء ياس�مين الذي وصل‬ ‫أخرجني من فلس�فة ّ‬
‫أغلق�ت ال ّناف�ذة‪ ،‬ألت�رك المكان ف�ي وقاره‬ ‫ُ‬ ‫السلالم‪.‬‬ ‫عب�ر ج�دران ّ‬
‫وحيائ�ه‪ ،‬دون خ�دش س�كونه بنظرات�ي الت�ي زادت ف�ي اس�ترجاع‬
‫‪250‬‬
‫والهرة‬
‫ّ‬ ‫الذكريات لي واشتياق المكان إلى من رحل عنه‪ .‬نزلت أنا‬ ‫ّ‬
‫بين توديع الياسمين واستقبال صاحبته‪.‬‬
‫وجدت الجميع قد غادروا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نزل�ت إلى ال ّطاب�ق ّ‬
‫األول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندم�ا‬
‫تفردت بي وحدي لمس�اعدتها في نقل‬ ‫يتبق غير ياس�مين التي ّ‬ ‫ولم َّ‬
‫الردهة إلى المطبخ‪.‬‬ ‫إحدى الموائد من ّ‬
‫كرس�ي أمام المائدة التي وضعناها في المطبخ‪.‬‬‫ٍّ‬ ‫جلس�ت على‬
‫ُ‬
‫ألطل على الخارج من النافذة‪،‬‬‫َّ‬ ‫وذهبت‬
‫ُ‬ ‫ذهبت هي لتغيير مالبسها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫السيارة‬
‫مرتين‪ .‬غادرت ّ‬ ‫ألتأكّ د أن الحضور قد غادروا‪ ،‬كي ال أظهر ّ‬
‫جدي وتبعتها الس�يارات األخرى‪ ،‬تمنيت أن‬ ‫الت�ي حمل�ت جثم�ان ّ‬
‫فضل�ت أن تق�وم‬ ‫تغ�ادر ياس�مين معه�م دون أن تنتظرن�ي‪ ،‬لك ّنه�ا ّ‬
‫علي وأنا‬
‫مهمة الياس�مين من قبل‪ ،‬أن تش�هد َّ‬ ‫بمهمته�ا كم�ا كان�ت ّ‬ ‫ّ‬
‫أمشي في درب األموات‪.‬‬
‫عادت‪ .‬قالت لي‪:‬‬
‫– أنذهب؟‬
‫يخيرن�ي ويختبرن�ي‪ ،‬فل�و كان بي�دي‬ ‫ب�دا وكأ ّن س�ؤالها كان ّ‬
‫ش�ئت أم أبيت‪ ،‬فس�يكون لزام ًا أن‬
‫ُ‬ ‫لرفض�ت‪ ،‬لكنه�ا حتمي�ة الحياة‪،‬‬
‫أستحي من كلماتها فأقبل‪.‬‬
‫أومأت برأسي قبوالً‪ ،‬وخرجنا والق ّطة بين ذراعي وكانت ّ‬
‫تلح‬ ‫ُ‬
‫مواء وبمالمح ِ استجداء كي ترافقني‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫سيارتي‪ُ ،‬‬ ‫ركبنا ّ‬
‫– مقبرة «الغفران» أليس كذلك؟‬
‫– نعم‪.‬‬
‫تدخر صوتها إلى أن نصل إلى المقبرة‪.‬‬
‫ت‪ّ ،‬‬
‫وسك َت ْ‬
‫‪251‬‬
‫الذهاب إلى الوداع؟ أهكذا‬ ‫كم كان الطريق طويالً!‪ .‬أهكذا هو ّ‬
‫الرحيل؟‬ ‫هو ّ‬
‫صعب ٌة هي حالة الوداع‪ ،‬حالة من األلم‪ ،‬ليس هناك لهفة فيه‪،‬‬
‫غير م ّنا الكثير‪.‬‬
‫سي ّ‬
‫ألنّنا نعلم أن ما سيأتي بعد‪ُ ،‬‬
‫علي‬‫الس�يارات األخرى‪ ،‬كي يسهل ّ‬ ‫س�يارتي بعيد ًا عن ّ‬ ‫ركنت ّ‬ ‫ُ‬
‫الرحيل إذا ما أردت‪ ،‬وأدري أنّي سأخرج اليوم مهزوم ًا من المقبرة‬ ‫ّ‬
‫لوال�دي‪ ،‬فهي المقبرة نفس�ها التي ُدفنا فيها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ككل زي�ارة أق�وم به�ا‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫هو ذا آخر سيضاف إليها‪ ،‬ألُترك أنا الورقة المر ّشحة التي ستقضي‬
‫نحبها حامل ًة ع ّزتهم‪ ،‬إلى حين ِ يأتي دوري في القرعة فأختار الورقة‬
‫الرابحة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مستعد ًا ألن أحضر عن قرب كيف ُيوارى ال ّتراب على‬ ‫ّ‬ ‫لم أكن‬
‫تركت ياس�مين تدخل مع الحش�د‪ ،‬واعتزلناهم‬ ‫ُ‬ ‫جثمان الموتى‪ ،‬لذا‬
‫حيث رحمي‬ ‫ُ‬ ‫اخترت لي مكان� ًا بعيد ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واله�رة ألرى م�ن بعي�د‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن�ا‬
‫أمي البعيد عنهم بمس�افة ليس�ت ببعيدة‪،‬‬ ‫التي ألجأ إليها دائم ًا‪ ،‬قبر ّ‬
‫وقفت أمام‬
‫ُ‬ ‫واخت�رت الم�كان مرئي� ًا لياس�مين ك�ي ال تفقد أث�ري‪.‬‬
‫أحدثها‪« :‬والدك‬‫وضع�ت يدي عليه وأنا أبتس�م قائلاً ّ‬ ‫ُ‬ ‫أم�ي‪،‬‬ ‫ش�اهد ّ‬
‫ارتاح أيض ًا‪ ،‬يجب أن تكوني سعيد ًة اليوم‪ ،‬لقد بكَ اك ِ يوم ًا‪ ،‬واليوم‬
‫لم يعد حزين ًا»‪.‬‬
‫لم يصل إلى مسامعي سوى كلمة «آمين» التي قالتها الجموع‬
‫بع�د دع�اء م�ن الفقي�ه‪ ،‬وتالها صم�ت بعد بدء الفقيه بق�راءة آياتٍ‬
‫ٌ‬
‫نس�اء‬
‫ً‬ ‫محكم�ات‪ .‬وم�ن حين آلخر كنت ألمح ياس�مين‪ .‬لم أعرف‬
‫جبار‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫صبر ّ‬
‫كثيرات في حياتي‪ ،‬لك ّني أعي أن امرأ ًة كياسمين لديها ٌ‬
‫وال أفهم نيتها تلك التي تس�توي على االلتعاج والمواس�اة‪ ،‬تكون‬
‫‪252‬‬
‫مفجوع� ًة وتتخ ّط�ى وجعه�ا ل ُتطيب على غيرها‪ .‬وها هي اآلن أراها‬
‫تفيض حنانها على والدتها‪ُ ،‬تمس�ك والدتها التي تبكي و ُتعطي لها‬
‫كتف ًا ت ّتكئ عليه‪.‬‬
‫تنز غابات وطبيعة‬ ‫صحر العاطفي الذي ُيمثّلني‪ ،‬هي ُّ‬
‫ُمقابل ال ّت ّ‬
‫من روح العاطفة‪.‬‬
‫الدفن قد‬‫م�د ٌة ناه�زت األربعين دقيقة‪ ،‬وكانت مراس�م ّ‬ ‫م�رت ّ‬ ‫ّ‬
‫ففقدت أثر ياس�مين‪ ،‬وكان بعضهم‬ ‫ِ‬
‫انتهت‪ .‬اختلطت الوجوه علي‪،‬‬
‫ُ‬
‫الزمت‬
‫ُ‬ ‫ق�د رحل�وا والبع�ض اآلخر ال يزالون أمام القبر يتحاورون‪.‬‬
‫مكان�ي‪ ،‬أُنقّ�ب عنه�ا لع ّل�ي ألمحها‪ ،‬فال أري�د أن أ ّتصل بها‪ ،‬كي ال‬
‫أس�مع صوتها المبحوح ونبرتها الميتة‪ .‬لم أجدها‪ ،‬وكانت ش�مس‬
‫أشعتها‪.‬‬
‫حار ًة‪ ،‬فآلمتني ّ‬ ‫ال ّظهيرة ّ‬
‫�دت أرح�ل دون أن أخب�ر أح�د ًا أنّ�ي س�أغادر‪ ،‬بم�ن فيه�م‬ ‫ِ‬
‫ك ُ‬
‫ياس�مين‪ .‬لك ّني لمحتها قادم ًة نحوي‪ .‬كانت تحمل كيس� ًا بالستيكي ًا‬
‫أتعرف عليه‪.‬‬
‫شيء لم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أبيض فيه‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫امسك‪ ،‬ألن تزور والديك؟‬ ‫ْ‬ ‫– ‬
‫فهم�ت حينها أنّها‬
‫ُ‬ ‫رأي�ت ق ّنينتي�ن صغيرتي�ن بالل�ون األخضر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ذهبت لشراء ماء ال ّزهر‪.‬‬
‫بكل هذه ال ّطيبة ال ّطاغية يا ياسمين! من أين؟! من‬
‫من أين تأتين ّ‬
‫انبثقت أنا في ذاكرتك حين بأسكِ كي تتذكّ ريني بهذا ال ّشكل؟‬ ‫ُ‬ ‫أين‬
‫قلت‪:‬‬
‫– ياسمين‪..‬‬
‫– نعم!‬
‫‪253‬‬
‫– اغفري لي‪.‬‬
‫– ماذا؟‬
‫– ‪ ..‬أعني‪ ..‬شكر ًا‪ ،‬ح ّق ًا شكر ًا‪.‬‬
‫عيني ابتسامتها‪ ،‬التي سأحاول أن أ ّدخرها إلى حين‬ ‫ّ‬ ‫تأ ّلقت في‬
‫عصية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تراودني أفكار‬
‫رششت ماء ال ّزهر على الشتالت التي نبتت على قبر والدتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الرسول ص ّلى اهلل عليه وس ّلم‪ ،‬عندما كان‬ ‫ودعيت في نفسي بدعاء ّ‬ ‫ُ‬
‫«السالم عليكم أهل ديار المؤمنين والمسلمين‪ ،‬وإنّا إن‬ ‫يزور قبر ًا‪ّ :‬‬
‫وتليت بذلك‬
‫ُ‬ ‫ش�اء اهلل بكم الحقون‪ ،‬نس�أل اهلل لنا ولكم العافية»‪،‬‬
‫رحمة على والدتي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫دعوات‬
‫سكبت القنينة األخرى‬‫ُ‬ ‫خطونا المسافة القصيرة إلى قبر والدي‪،‬‬
‫وأطلت الوقوف على قبر والدي‪ ،‬أنتظر مغادرة‬ ‫ُ‬ ‫وقلت ال ّشيء نفسه‪.‬‬
‫رت‬‫ج�دي‪ ،‬وكان األمر كذلك‪ُ .‬ز ُ‬ ‫م�ا تبقّ�ى م�ن ال ّناس من أمام قبر ّ‬
‫جدي الذي أتى بي هنا‪ ،‬وعاو َدت ياسمين فصل البكاء من جديد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وأقل ما أمكنني قوله‪ ،‬هو كلمات مواساة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫والدي‪ ،‬أخ�ر ُج ثقيالً وصدري ُملتهب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كن�ت حينم�ا أزور قبر‬ ‫ُ‬
‫لك�ن الي�وم م�ع الجم�ع ال�ذي أت�ى إضاف ًة إل�ى ياس�مين‪ ،‬لم يكن‬
‫السر كمن في اقتسام الحزن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سيئ ًا على اإلطالق‪ ،‬وأعتقد أن‬ ‫األمر ّ‬
‫كنت أخرج بالوزر ك ّله‪.‬‬‫ُ‬ ‫فوحدي سابق ًا كنت آتي‪ ،‬أي أنّي‬
‫صعدت بهدف أن أو ّدعهم ليس‬ ‫ُ‬ ‫قت عائد ًا إلى منزل خالتي‪،‬‬ ‫ُس ُ‬
‫إلاّ ‪ .‬س ّلمت على الخالة التي أطالت عناقها لي‪ ،‬كأنّها حاولت َّ‬
‫شم‬
‫مت على زوجها وديع وابنتيها فاطمة ال ّزهراء ومريم‪،‬‬ ‫في‪ .‬س ّل ُ‬ ‫والدها ّ‬
‫ِ‬
‫اله�رة الت�ي كانت جائعة‪ ،‬فال أريد االحتفاظ بها فقد ألفت‬ ‫وترك�ت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪254‬‬
‫فحاول�ت أن‬
‫ُ‬ ‫الصع�ب أن أو ّدع ياس�مين‪،‬‬
‫من�زل خالت�ي‪ .‬وكان م�ن ّ‬
‫كنت أدرك أنّها‬
‫ُ‬ ‫أس�تغل ال ّلحظة التي س�تغيب فيها كي أغادر‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬
‫ستطلب م ّني المبيت‪ .‬ولم يكن األمر كما خ ّططت‪ ،‬فقد رأتني وأنا‬
‫على وشك الخروج‪ ،‬فتبعتني إلى الساللم وهي ُتناديني‪:‬‬
‫– أين تذهب؟‬
‫للحظة‪ ،‬لم أجد جواب ًا مناسب ًا‪.‬‬
‫– سأغادر‪.‬‬
‫قالت دون إرادة في ال ّتبرير‪:‬‬
‫– على راحتك‪.‬‬
‫ثم أضافت‪:‬‬
‫– طمئني أنّك لن تفعل بنفسك شيئ ًا‪.‬‬
‫– وماذا عساي أن أفعل‪ ،‬وقد اف ُتعل بي من قبل‪.‬‬
‫أردفت بعد صمت‪:‬‬
‫ُ‬
‫– يجب أن أغادر‪ ..‬آسف ياسمين‪.‬‬
‫عيني اللتين بدا ُش�تاتهما واضح� ًا‪ ،‬وتنبئان بأن‬
‫ّ‬ ‫فهم�ت م�ا في‬
‫ْ‬
‫العلقم ينتظرني بعد مغادرتي‪.‬‬
‫ضمتني إليها وقالت‪:‬‬
‫– ال بأس‪ ،‬ال تفعل بنفسك شيئ ًا ّأيها األحمق!‬
‫وقلت لها في أُذنها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫التصقت بفمي بعض خصل شعرها‪،‬‬
‫– اطمئ ّني‪.‬‬
‫وط�ن الوجعِ؛‬
‫ُ‬ ‫حملتن�ي س�يارتي عائ�د ًة ب�ي إل�ى حي�ث يقبع‬
‫كنت عائد ًا ونزوح المرارة ُيعيد ش�حن نفس�ه‪ ،‬لدرجة أنّي‬
‫ش�قّتي‪ُ .‬‬
‫خرقت ضوء ًا أحمر‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪255‬‬
‫بقيت جالس� ًا أعيد ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫لم أخرج من س�يارتي بعد أن ركنتها‪.‬‬
‫المرصع‬
‫ّ‬ ‫مس�تعد ًا كفاي ًة كي أس�تقبل عالم�ي‬
‫ّ‬ ‫م�ا ح�دث‪ ،‬فل�م أك�ن‬
‫السمعية بكالم أو موسيقي‪.‬‬ ‫أردت تغيير شحناتي ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالوحدة‪ .‬للحظة‬
‫السيارة‪ .‬بدأ لحن هادئ يطلع‪ ،‬فاسترخيت قليالً للحن‬ ‫أدرت مذياع ّ‬ ‫ُ‬
‫الكالس�يكي واستس�لمت ل�ه‪ .‬أثن�اء ذلك‪ ،‬جاء ص�وت عبد الحليم‬
‫حافظ‪:‬‬
‫«في يوم‬
‫في شهر‬
‫في سنة‬
‫تهدى الجراح وتنام‬
‫وعمري جرحي أنا‬
‫أطول من األيام‪.»...‬‬
‫استسلمت إلى وقع الكلمات‪:‬‬
‫«وداع ًا يا دنيا الهنا‬
‫وداع ًا يا دنيا الهنا‬
‫وداع ًا يا حب يا أحالم‬
‫دا عمري جرحي أنا أطول من األيام‪.»...‬‬
‫سيارتي ُمغلق ًا ّإياها‬
‫وخرجت من ّ‬
‫ُ‬ ‫الراديو‪،‬‬ ‫أطفأت ّ‬
‫ُ‬ ‫أتحمل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لم‬
‫زر دون أن أستدير‪.‬‬ ‫بضغطة ٍّ‬
‫أصبح الموت ُيؤلمني في معدتي‪ .‬فور دخول ش�قّتي‪ ،‬ذهبت‬
‫أت ما فعلته الغصص حرق ًة في المعدة‪.‬‬ ‫تقي ُ‬
‫مباشرة إلى دورة المياه‪ّ ،‬‬
‫ش�عرت بأضلعي تتق ّلص‪ ،‬ونتوء قد خرج ليصبح ظاهر ًا على أحد‬ ‫ُ‬
‫كنت في حالة عتاب من الموت ال غير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أضلعي‪ ،‬فقد‬
‫‪256‬‬
‫وحمام ًا طويالً‪ .‬عندما جاء المس�اء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أخذت مس�كّ ن ًا لمعدتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وانته�ى ح�زن اآلخري�ن صباح� ًا‪ ،‬اش�تعل حزن�ي ف�ي اللي�ل بعدما‬
‫دت إلى ش�رب القهوة‪ ،‬ولم أس�تطع‬ ‫اغ ُتص�ب حقّ�ه ف�ي الب�كاء‪ُ .‬ع ُ‬
‫المهمة‪ .‬أجهل‬‫ّ‬ ‫تركت لجرح القلم‬
‫ُ‬ ‫بالدم�وع كاآلخرين‪ ،‬فقد‬ ‫ال ّتعبي�ر ّ‬
‫سيد الحزن‬ ‫كنت شديد الحزن في الكتابة‪ ،‬فحالة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ما كتبته‪ ،‬ولك ّني‬
‫عل�ي ذكر كلمتي «الموت» و»الحياة» كثير ًا في معان‬ ‫ّ‬ ‫الطوي�ل ُتح ّت�م‬
‫فلس�ت ُمحترف ًا الكتابة‪ ،‬بقدر ما أنا ممارس لها في ال ّتعبير‬
‫ُ‬ ‫متعددة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عن األلم بألفاظ ُمتالعبٍ بها إلفهام نطفة ألم‪.‬‬
‫ب�كاء الكتاب�ة لم يكفِ‪ ،‬فس�الت دموعي على وس�ادتي عندما‬
‫حاولت النوم‪.‬‬
‫ُ‬
‫جدي بكيتك بكال ال ّطريقتين‪ ،‬فال ّشمعة عندما تقترب‬ ‫ها أنذا يا ّ‬
‫كل ما في جعبتها من نار تغدو عالي ًة ح ّتى آخر‬ ‫من االنطفاء‪ُ ،‬تطلق ّ‬
‫جزيئة أوكسجين ُتساعدها‪..‬‬
‫فمن يوقف دمعي‪.‬‬

‫‪257‬‬
259
‫‪I‬‬

‫جدي‪.‬‬‫مضى أسبو ٌع على وفاة ّ‬


‫اعتدت على ذلك؟‬
‫ُ‬ ‫هل‬
‫جدي‬‫ش�كّ ل ذل�ك فرق� ًا ضئيلاً ال غير‪ ،‬فلم أعتد عل�ى رؤية ّ‬
‫كل يوم‪ .‬ويبدو أن عقوقي للعائلة قد سخّر نفسه للحظات كتلك‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أناني ًا في‬
‫وأرخى رابطتهم بي على نحو أفضل‪ .‬أعلم أنّي قد أكون ّ‬
‫اخت�رت أن أكون‬
‫ُ‬ ‫أفعال�ي تل�ك‪ ،‬أو أنّن�ي كذل�ك‪ ،‬فف�ي آخر األمر‪،‬‬
‫أجر‬
‫لس�ت أعلم‪ ،‬وال أريد أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫عابر ًا ال غير‪ ،‬فحياتي ذاهبة إلى ما‬
‫مع�ي البع�ض‪ ،‬وه�م يدركون ذلك أيض� ًا‪ ،‬ويتركون لي عذب األلم‬
‫الدنيا بي مع‬ ‫أستس�يغه وحدي‪ ،‬كما أنّي لم آلف مواجهة ما تفعله ّ‬
‫القطي�ع؛ أواجهه�ا وح�دي أعزل ب�دون دروع قلق من أحد أو على‬
‫أحد‪ ،‬وبدون عون ٍ أو دعم‪.‬‬
‫السعادة‬
‫وإنّي ألعجب لهذا ال ّترادف بين الحياة والموت‪ ،‬بين ّ‬
‫والح�زن‪ ،‬بي�ن النه�ار واللي�ل‪ ،‬بي�ن الن�ور وال ّظالم‪ ،‬بي�ن األعراس‬
‫والجنائز‪...‬‬
‫حدثني عنه زوج خالتي‪ ،‬وأعتقد‬ ‫العرس الذي ّ‬ ‫يوم أمس أُقيم ُ‬
‫ج�دي وال� ّزواج كان أم�ر ًا حتمي� ًا‪ ،‬فالحي�اة تنتهي‬
‫أ ّن ت�رادف وف�اة ّ‬
‫لتبدأ أخرى‪ .‬وتلك الحياة األخرى التي بدأت‪ ،‬لم أش�ترك بها مع‬

‫‪261‬‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫سيد الحزن ال ّطويل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ول َم أكون حاضر ًا في ذلك الزفاف! فأنا ّ‬
‫كل ما يحدث ما هو إلاّ تكمل ٌة لشريط العدم‬‫يتغير عندي‪ّ ،‬‬ ‫ال شيء ّ‬
‫الذي أنتمي إليه‪.‬‬
‫أُقيم�ت جن�از ٌة األس�بوع الفارط خ ّلفت ص�ور ًا وأصوات ًا‪ ،‬وهذ‬
‫األسبوع ُخ ّلفت األشياء نفسها‪ ،‬فقط بطريقة ُمغايرة‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫‪II‬‬

‫كنت جالس� ًا في مكتبي أعمل‪ ،‬لم أر َّد على‬ ‫ر ّن هاتفي عندما ُ‬


‫اال ّتصال‪ ،‬وتركته يرن دون أن أنظر إلى هوية المتصل‪.‬‬
‫م�رت دقائ�ق‪ ،‬وع�اد رنين الهاتف‪ .‬أخرجت�ه من جيبي ألضعه‬ ‫ّ‬
‫وضع�ت الهاتف في‬ ‫ُ‬ ‫ف�ي وضعي�ة صم�ت‪ ،‬فلمحت اس�م الم ّتصل‪.‬‬
‫وضعي�ة الصم�ت وأعدت�ه لجيبي‪ ،‬فقد كان الم ّتصل هو من أش�عل‬
‫حرقة الكتابة لدي‪.‬‬
‫أطفأت الحاس�وب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نق�رت آخ�ر نق�رة عل�ى لوحة المفاتي�ح‪.‬‬‫ُ‬
‫بل�ذة م�ا بع�د القي�ام بعمل‪ ،‬تل�ك ال ّل�ذة المجهولة بتعبٍ‬ ‫وش�عرت ّ‬
‫ُ‬
‫وحملت مفاتيحي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أكملت قهوتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫محمود ال أُعارض إرهاقه لي‪.‬‬
‫وابتس�مت في وجه‬
‫ُ‬ ‫ألقيت سلام ًا على زمالء العمل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم خرجت‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ث�ت قليالً مع الح�ارس‪ ،‬وبعدها انصرفت‬ ‫تحد ُ‬‫مو ّظف�ة االس�تقبال‪ّ .‬‬
‫للضيوف‬ ‫عد شقّتي ّ‬ ‫بسيارتي إلى منزلي‪ ،‬ال ألوي على شيء غير أن أُ ّ‬ ‫ّ‬
‫الذين سيأتون قبل الثّانية‪.‬‬
‫خلعت ُس�ترتي وحذائي‪ .‬دخلت الصالون‬ ‫ُ‬ ‫فتحت باب ش�قّتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الس�جادة ناعم‪ ،‬ورائحة‬ ‫ملمس وبر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�ذي أ ّثثت�ه الخمي�س ّ‬
‫الس�ابق‪.‬‬
‫األثاث الجديد الذي ألِف مكانه في مضجعي ُيعطي رائحة ال ّتآلف‪،‬‬
‫الصال�ون أعجبن�ي أكثر‪ ،‬فقد أصبح ُيضفي ش�يئ ًا‬ ‫والح�ق أ ّن ش�كل ّ‬ ‫ُّ‬
‫‪263‬‬
‫أش�عة ال ّش�مس‪ ،‬التي‬
‫ّ‬ ‫فتحت ال ّنافذة كي تدخل‬
‫ُ‬ ‫مميز ًا على المكان‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّريا التي برقت ب ّلوراتها‬
‫الصالون إشراقة‪ ،‬وأعجبني مظهر الث ّ‬ ‫أعطت ّ‬
‫دفعت ال ّطاولة الكبيرة إلى اليسار‬
‫ُ‬ ‫الكريستالية بفعل أشعة الشمس‪.‬‬
‫قليالً ل ُتماثل ال ّطاولة التي تش�بهها تناس�ق ًا في المس�افة واألبعاد‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫الذهبي�ة‪ ،‬ك�ي تغيب من ضوء ال ّش�مس الذي يمأل‬ ‫الس�تائر ّ‬ ‫أزح�ت ّ‬
‫ُ‬
‫المكان حرارة‪.‬‬
‫س�معت ب�اب ش�قّتي ُيفت�ح‪ ،‬وكان�ت ياس�مين‪ ،‬فق�د أعطيته�ا‬ ‫ُ‬
‫المفتاح الثّاني لشقّتي‪.‬‬
‫أخذت األكياس من يدها قائالً‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫– جئت باكر ًا!‬
‫– بطبيعة الحال‪ ،‬يجب أن أُسرع في ال ّتحضير كي يكون ذلك‬
‫في الوقت‪.‬‬
‫لتغير ثيابها‪.‬‬
‫أخذت األكياس إلى المطبخ‪ ،‬وهي ذهبت ّ‬ ‫ُ‬
‫تركت ياس�مين في المطبخ‪ ،‬فهي لن تحتاج م ّني يد عون أو‬ ‫ُ‬
‫َِ‬
‫مرات‬
‫كل موضع‪ ،‬فقد تداولت على ش�قّتي ّ‬ ‫إرش�اد‪ ،‬ألنها حفظت ّ‬
‫الحمام لكي‬
‫ّ‬ ‫دخلت إلى‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫رت مالبس�ي‪ّ ،‬‬ ‫غي ُ‬
‫جدي‪ّ .‬‬
‫عدة بعد وفاة ّ‬
‫ّ‬
‫أستعد بذهني وذاكرتي الستقبال ما سيأتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫الم�اء يهطل فوق رأس�ي‪ ،‬وكرة األف�كار والحيرة تضغط على‬
‫دماغ�ي‪ .‬لم�اذا أرادت تل�ك الخالة وزوجه�ا زيارتي‪ ،‬ليس وحدهم‬
‫لجدي‬
‫وأخت ّ‬ ‫ٌ‬ ‫بل جميعهم‪ ،‬خالتي وزوجها وبناتها‪ ،‬وأوالد بناتها‪،‬‬
‫لم أرها يوم ًا في حياتي‪ ،‬هي ومع من ال أعلم سيأتون إلى شقّتي‪.‬‬
‫الرفض عندما أخبرتني خالتي أنّها سوف تأتي لزيارتي‪.‬‬ ‫لم أستطع ّ‬
‫الطيب�ة التي أصبحت تجمعني بهم‬ ‫أصبح�ت ال أطي�ق ه�ذه العالقة ّ‬
‫ُ‬
‫‪264‬‬
‫جي�دة‪ ،‬فهي تجلب ل�ي الكثير م�ن المتاعب‬ ‫فج�أة‪ ،‬بق�در م�ا ه�ي ّ‬
‫جدي‬ ‫أخت ّ‬‫ُ‬ ‫والوجوه‪ ،‬قد أقبل بحضور خالتي وعائلتها‪ ،‬ولكن لماذا‬
‫شفق على نفسي من ما‬ ‫حب لحفيده العجوز؟ ال أُ ُ‬ ‫تلك؟ أهذا ك ّله ٌّ‬
‫سيحدث عندما سيأتون‪ ،‬بل أُشفق على شقّتي التي لم تستقبل عدد ًا‬
‫هائالً من الزوار من قبل‪ُ ،‬ترى هل س َت ْس َع ُد شقّتي بامتالئها بالكالم‬
‫س�تتجرد من تأثي�ري وتبتهج بال ّتأثير الجديد‬ ‫ّ‬ ‫والج�و العائلي؟ ُتراها‬
‫ّ‬
‫كل ما أخش�اه هو أن ُتصبح ُدنيا معيش�تي ُمغاير ًة‬ ‫الذي س�يخلفونه؟ ُّ‬
‫لوجودي فيها‪.‬‬ ‫تصلح بعد ذلك ُ‬ ‫ُ‬ ‫وال‬
‫رباه ما هذا الحصار! ما هذا الغدر الذي فعلته بي ّنيات صلة‬ ‫ّ‬
‫ذمر‬ ‫األرحام! ما هذا االقتحام المباشر وغير المباشر! وما بال هذا ال ّت ّ‬
‫الممل الذي أستش�عره لزيارة س�تنتهي ليالً! أريد أن أعرف هدفهم‬
‫لزيارة هذا البيت الكئيب وصاحبه‪ ،‬ماذا يريدون من شخص يعيش‬
‫وحده‪ ،‬وال ُيبالي بأمر العالم إذا ما انهار يوم ًا قبله؟‬
‫الحمام‬
‫ّ‬ ‫وتركت ب�اب‬
‫ُ‬ ‫ث�م خرج�ت‪،‬‬ ‫ف�ت ش�عري وم ّش�طته ّ‬ ‫ج ّف ُ‬
‫يحمل عبئي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مفتوح ًا ليخرج ُبخار الماء الذي‬
‫فرفعت صوتي‬ ‫ُ‬ ‫كنت أص ّلي عندما طرقت ياسمين باب غرفتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السجود‪ ،‬ألنذرها أنّي أصلي‪.‬‬ ‫في ّ‬
‫انتهيت من صالتي فناديتها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– هل تحتاجين شيئ ًا؟‬
‫– أري�د قطع�ة قماش‪ ،‬فالق�دور عندما تس�خن ُيصبح حملها‬
‫وإزاحتها مستحيلين‪ ،‬وأنت ال تمتلك ق ّفازات ال ّطبخ‪ ،‬لذا‪..‬‬
‫مقص ًا‬
‫أخرجت ّ‬
‫ُ‬ ‫أخرجت من خزانتي قميص ًا لم يعد ُيناس�بني‪،‬‬
‫ُ‬
‫المناس�بة‬
‫وطلبت منها أن ُتمس�ك معي وتختار القطعة ُ‬
‫ُ‬ ‫الدرج‪،‬‬
‫من ُّ‬
‫‪265‬‬
‫منه‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫طلبت قطعة ُقماش قديمة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– هل أنت مجنون!‬
‫أحبه‪ ،‬ال تقلقي سيفي بالغرض‪.‬‬
‫قميص قديم لم أعد ّ‬ ‫ٌ‬ ‫– وهذا‬
‫– أنت غريب ح ّق ًا!‬
‫ثم اس�تلقيت على‬ ‫مربع�ة‪ ،‬وأعطيتها لها‪ّ .‬‬
‫قصص�ت من�ه قطع�ة ّ‬ ‫ُ‬
‫عين�ي دون ن�وم‪ ،‬بعد أن غ�ادرت هي ُتكمل ما‬ ‫ّ‬ ‫الس�رير وأغمض�ت‬
‫كانت تفعله‪.‬‬
‫الس�رير‪.‬‬‫نهض�ت عن ّ‬
‫ُ‬ ‫الصب�اح م�ن ال ّطبي�ب‪،‬‬ ‫�رت اتص�ال ّ‬ ‫تذكّ ُ‬
‫جلس�ت على األريكة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وذهبت إلى غرفة المعيش�ة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حملت هاتفي‪،‬‬‫ُ‬
‫حاولت االتصال به‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫عندما لم ير ّد على ا ّتصاالتي األربعة والتي أعتقد أنه يعمل اآلن‬
‫أدرت ال ّتلف�از‪ .‬أتعبن�ي ال ّتلفاز ببرامج�ه فأطفأته‪ ،‬لحظتها اهت ّز‬
‫ُ‬ ‫فيه�ا‪،‬‬
‫ظننت أنّها من ال ّطبيب‪ ،‬لك ّنها لم‬
‫ُ‬ ‫هاتفي في جيبي عن ورود رسالة‪.‬‬
‫تك�ن من�ه‪ ،‬بل كانت من نج�وى‪،»Thumbs up!! Good Choice!!!« :‬‬
‫فأرسلت بدوري‪« :‬ماذا تعنين؟»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الرسالة شيئ ًا‪،‬‬
‫لم أفهم من ّ‬
‫أجابت‪:‬‬
‫»‪«Nooothing… Nothing, just take care of her for me‬‬
‫فعرفت أنّها كانت تقصد ياسمين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قرأت تلك العبارة األخيرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫فأرسلت رسال ًة أخرى‪(( :‬أتقصدين ياسمين أليس كذلك؟!))‪.‬‬
‫ُ‬
‫جاءتني رسالة حينها من سعد‪.»Bingo!« :‬‬
‫فأرسلت لهما‪« :‬ماذا تريدان م ّني أنتما؟»‪.‬‬
‫ُ‬
‫تضيع الفرص يا صديقي‪.»..‬‬ ‫أجاب سعد‪« :‬ال ّ‬
‫‪266‬‬
‫وجاءت رسالة أخرى من نجوى‪:‬‬
‫»!‪«Don’t break her heart, she loves you‬‬
‫أرسلت لهما‪« :‬طاب يومكما»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫ونهضت عن األريكة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وضعت الهاتف فوق ال ّطاولة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فكل ما‬ ‫اهتزازاته‪ ،‬لك ّني لم أقربه كي ال أدخل في مرحلة الحرج‪ّ ،‬‬
‫يقوالنه أك ّنه داخلي‪ ،‬ورغباتي في الحاجة إلى امرأة‪ ،‬تؤول ك ّلها إلى‬
‫سيمحيني‪،‬‬ ‫ياسمين‪ ،‬لكن ال ُيمكنني‪ ،‬فأنا أمتنع بسبب المرض الذي ُ‬
‫مما ستفعله حالتي بها‪.‬‬‫مذعور ّ‬
‫ٌ‬ ‫ولست خائف ًا على حالتي‪ ،‬بل أنا‬ ‫ُ‬
‫أحب مرضي وأكرهه في اآلن‬ ‫ّ‬ ‫بحد ذاته! أن‬‫أوليس هذا حرمان ًا ّ‬
‫أحب امرأ ًة وال أعمل على كسبها بسبب علة في جوفي!‬ ‫ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬أن‬
‫كل الجهات اآلن‪.‬‬ ‫يتيم من ّ‬ ‫أنا ٌ‬
‫يحش أوصالي منها‪ ،‬ال أفهم لماذا‬ ‫ُّ‬ ‫ال أعي هذا االقتراب الذي‬
‫بالصدأ؟! لماذا ُتريد فتح أبوابه‬‫ُتحاول الوصول إلى قلبي الذي امتأل ّ‬
‫في؟ أتراها ُتشفق علي‪ ،‬أم أنّها تجد شبه ًا‬ ‫زر الحياة ّ‬ ‫لتضغط إعادة ّ‬
‫إلي‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ف�ي؟!‪ .‬تعذبني معاناتي‪ ،‬ومعاناتها ف�ي رغبتها للوصول ّ‬ ‫منه�ا ّ‬
‫وتفرقت‬ ‫رجل ش� ّتت أشلاء مش�اعره‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عذبني أكثر‪ ،‬هي تدرك أنّي‬ ‫ُت ّ‬
‫أعض�اؤه ف�ي أماك�ن ُمختلفة وبعيدة عن بعضها‪ ،‬لك ّني فقط أريد أن‬
‫لتكونني كامالً؟ لماذا‬ ‫أعل�م لم�اذا ُتحاول جمع أشلائي وأعضائي ّ‬
‫ُتحاول جاهد ًة جمع رفات قلبي‪ ،‬وتريد توجيهي نحو الحقيقة التي‬
‫دواء لبعض أمراض القلب‪ ،‬لكن ال‬ ‫ٌ‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫ُعميت عنها؟‪ .‬أدركُ أ ّن‬
‫داء هو‬ ‫س�يصبح ً‬ ‫يصل�ح لي‪ ،‬وح ّتى إن صلح‪ ،‬فإنّه ُ‬ ‫ُ‬ ‫دواء‬
‫ٌ‬ ‫أعتق�د أنّ�ه‬
‫اآلخر لآلخر الذي أعطاه لي‪ .‬أعلم أ ّن المس�تقبل الملثّم ال يحمل‬
‫سيتعبني‬ ‫ألم خام ُ‬
‫لي سوى القليل من البهجة‪ ..‬والكثير من األلم‪ٌ ،‬‬
‫‪267‬‬
‫ويتبعني ُليعاتبني في القبر‪.‬‬
‫ألطل من‬ ‫ذهب�ت‬ ‫محرك س�يارة م�ن ال ّنافذة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عت ص�وت ّ‬ ‫س�م ُ‬
‫الصالون ألتأكّ د إن كانوا هم‪ ،‬وبالفعل كانوا هم‪.‬‬ ‫نافذة ّ‬
‫ذهبت إلى ياسمين‪:‬‬
‫ُ‬
‫– إنّهم هنا‪ ،‬أتحتاجين مساعدة؟‬
‫كل شيء تمام‪.‬‬‫– ال‪ّ ،‬‬
‫حمر في الف�رن‪ ،‬ورائحة البصل‬ ‫الدج�اج وهو ُي ّ‬ ‫زكّ تن�ي رائح�ة ّ‬
‫تعده هو «البسطيلة»‪.‬‬ ‫وهو ُيق ّلى‪ ،‬وال ّظاهر أ ّن ما ّ‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– أح ّق ًا ال تحتاجين شيئ ًا‪ ،‬يبدو األمر ُمتعب ًا‪.‬‬
‫قلت لك ال أريد‪ ،‬وح ّتى إن أردت فلن أطلب منك‪ ،‬أُختي‬ ‫ُ‬ ‫– ‬
‫ارتح أنت!‬
‫ْ‬ ‫لتمد لي العون‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ستأتي‬
‫شعور سخيف حينها‪ ،‬بأنّني أنا‬ ‫ٌ‬ ‫استجبت لنبرة أمرها‪ ،‬وانتابني‬
‫ُ‬
‫يف هنا وليسوا هم‪..‬‬
‫الض ُ‬
‫ّ‬
‫عندم�ا فتح�ت الب�اب لهم‪ ،‬ارتاح خاط�ري عندما لم َأر أخت‬
‫ج�دي تل�ك وم�ن معها‪ ،‬فقد ج�اءت خالتي وابنتاه�ا وأبناء ابنتيها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ربما‬
‫فربما سيتأ ّخر بعض الوقت‪ ،‬فقد أوصلهم وغادر‪ّ ،‬‬ ‫أما زوجها ّ‬
‫ثم يعود‪.‬‬
‫شيء ليقضيه ّ‬‫ٌ‬ ‫لديه‬
‫قالت خالتي هدى‪:‬‬
‫– مرحب ًا ابني! كيف حالك؟‬
‫كل شيء على ما ُيرام‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫للصغار‬
‫الصال�ون‪ ،‬الذي كفى با ّتس�اعه مركز ألعاب ّ‬ ‫أدخلته�م ّ‬
‫الذين بدؤوا بالقفز فوق األثاث‪.‬‬
‫‪268‬‬
‫وجلست معهن‪ ،‬قالت فاطمة ال ّزهراء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫بعد أن جلسن‬
‫كبرت يا ابن الخالة‪ ،‬كبرت!!‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫فبقيت‬
‫ُ‬ ‫أما أنا‬
‫بعدها نهضت هي وأختها مريم ُليعينا ياس�مين‪ّ ،‬‬
‫جالس ًا مع خالتي‪.‬‬
‫ابن فاطمة ال ّزهراء البِكر لفتح‬
‫م�ر ًة أخرى‪ ،‬ذهب ُ‬ ‫ر ّن الج�رس ّ‬
‫قمت‬‫ُ‬ ‫وتوجه نحونا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتفت إلينا‪ .‬نزع حذاءه‬
‫َ‬ ‫الب�اب‪ .‬دخ�ل ودي�ع‪،‬‬
‫من مكاني ألصافحه‪ .‬قال لي بعد أن جلس‪:‬‬
‫– كيف راك داير أولدي؟ كيف دايرا أمور الخدمة وداكشي؟‬
‫– الحم�د هلل‪ ،‬األم�ور بخي�ر وعلى خير‪ ،‬راه حنا غادين حتى‬
‫يدي مول األمانة أمانتو‪..‬‬‫ّ‬
‫وانضم إلى زوجته ليأخذ مقعد ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال‪:‬‬
‫وقت طويل ولم نجلس جماع ًة هكذا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مر‬
‫– ّ‬
‫ابتسمت في وجهه قائالً‪:‬‬
‫ُ‬
‫فعلت به ُدنياه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫كل وما‬
‫– ٌّ‬
‫الدراسة الجامعية ومشاكلها‪ ،‬باعتباره‬
‫استدرجني للحديث عن ّ‬
‫المحمدية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫درس بجامعة تقع بمدينة‬‫سمعت أنّه ُي ّ‬
‫ُ‬ ‫جامعي ًا‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬ ‫أستاذ ًا‬
‫ُي ّدرس فرع ًا ما من سلك القانون على ما أعتقد‪.‬‬
‫جاءت مريم لتقطع حديثنا‪ .‬وضعت صينية عليها إبريق ال ّشاي‬
‫الصينية‬ ‫ِ‬
‫الستائر‪ .‬وضعت ّ‬ ‫واألكواب التي لمعت حين فتحت خالتي ّ‬
‫الصغي�رة الت�ي تحت�وي عل�ى «زيت‬ ‫الصح�ون ّ‬ ‫ث�م ع�ادت لتجل�ب ّ‬ ‫ّ‬
‫مر ًة‬
‫ثم ع�ادت ّ‬‫«مرب�ى»‪« ،‬زيتون أس�ود»‪ّ ،‬‬
‫الزيت�ون»‪« ،‬زب�دة بلدي�ة»‪ّ ،‬‬
‫أخرى لتأتي بالخُبز الذي خبزته ياس�مين‪ ،‬كما أتت أيض ًا بصحنين‬
‫‪269‬‬
‫الضاحكة‪ .‬وما أن‬ ‫من الفطائر‪ ،‬وصحن فيه الجبنة المعروفة بالبقرة ّ‬
‫ش�كرت مريم فر ّدت‬ ‫ُ‬ ‫تجمعوا‪.‬‬‫الصغ�ار ال ّطاول�ة امتلأت ح ّتى ّ‬ ‫رأى ّ‬
‫ُشكري بابتسامة بادلتها بأخرى‪.‬‬
‫ش�ربت كوب ش�اي واحد فقط‪ ،‬فلم أس�تطع أن أضيف آخر‬ ‫ُ‬
‫حب�ي لل ّش�اي‪ ،‬فق�د كان يحوي تل�ك النبتة «ال ّش�يبة»‪ ،‬وأنا ال‬ ‫رغ�م ّ‬
‫اكتفيت بنزع‬
‫ُ‬ ‫أطيقها‪ ،‬بل أكرهها اس�م ًا ومذاق ًا‪ ،‬نكهتها تلك ّ‬
‫حارة‪.‬‬
‫حرها بأكل ِكسرة ياسمين ال ّطرية التي داعبت لثّتي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الدرج‪،‬‬ ‫الدواء من ّ‬ ‫عبوة ّ‬‫أخرجت ّ‬
‫ُ‬ ‫تركتهم وذهبت إلى غرفتي‪،‬‬
‫ذهبت إلى المطبخ‪ .‬كان المطبخ مشتعالً بالحديث‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫حبتين ّ‬ ‫أخذت ّ‬
‫ُ‬
‫عدت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫تمد لي كأسي ماء‪ّ ،‬‬ ‫طلبت من ياسمين أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫وحرارة الفرن‪.‬‬
‫الحبتين‪ .‬أخذت‬ ‫ّ‬ ‫وضعت الكأس�ين فوق مكتبي بجوار‬ ‫ُ‬ ‫إلى غرفتي‪.‬‬
‫الحبة األولى مع كأسها‪ ،‬وتلوتها باألخرى‬ ‫ثم تناولت ّ‬ ‫نفس ًا طويالً‪ّ ،‬‬
‫مع كأسها أيض ًا‪.‬‬
‫صلت به‬‫ُ‬ ‫حاول�ت اال ّتص�ال بال ّطبي�ب ريثم�ا تجهز الوليم�ة‪ ،‬ا ّت‬ ‫ُ‬
‫الكرة فر ّد‬
‫ع�اودت ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫وانتظ�رت قليالً‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫الم�رة األول�ى فل�م ُيجب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫على ا ّتصالي‪:‬‬
‫– أهالً دكتور! كيف الحال؟‬
‫صلت بك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت مشغوالً عندما ا ّت‬ ‫َ‬ ‫– وهلل الحمد‪ ،‬يبدو أنّك‬
‫– نعم‪ .‬لندخل في الموضوع‪ ،‬ما سبب االتصال؟‬
‫ثم أضاف‪:‬‬
‫صدقن�ي ال أري�د الحدي�ث ف�ي الموض�وع عل�ى الهاتف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫– ‬
‫أفضل عيادتي‪ ،‬فاألمر في غاية األهمية‪ ،‬وأحتاج حضورك‬ ‫ّ‬
‫كي نتناقش فيه‪.‬‬
‫‪270‬‬
‫عم ُيريد إخباري‬
‫ع�م يريد محادثتي‪ّ ،‬‬ ‫ح�ت أح�اول أن أحزر ّ‬ ‫ُر ُ‬
‫بع�د أن وض�ع قنبلة س�ابق ًا في خ ّزان األخب�ار عندي‪ ،‬أتراه ّ‬
‫يعد لي‬
‫شيئ ًا آخر؟‬
‫قلت له‪:‬‬
‫ُ‬
‫– هل األمر يتع ّلق بما قلت لي سابق ًا؟‬
‫– ممكن!‬
‫– لماذا ال ُيمكنك أن تخبرني اآلن؟‬
‫نتحدث فيه بالهاتف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قلت لك! األمر مهم‪ ،‬وليس شيئ ًا‬ ‫ُ‬ ‫– ‬
‫– حسن ًا! متى ُيمكنني القدوم؟‬
‫الس�كرتيرة عن وقتٍ فارغ يصلح لنا‬ ‫– انتظر قليالً‪ ،‬سأس�أل ّ‬
‫لنتحدث‪ ،‬فال أريد أن ُيزعجنا أحد‪.‬‬‫ّ‬
‫– خذ راحتك‪.‬‬
‫ثم قطع الخط‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫س�معت خطوات خفيفة‬ ‫تركت باب غرفتي موارب ًا‪.‬‬ ‫كن�ت ق�د‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اس�تدرت نح�و ب�اب الغرف�ة على يس�اري‪ ،‬دخل�ت طفل ٌة‬ ‫ُ‬ ‫تقت�رب‪،‬‬
‫صغي�رة‪ ،‬ال أدري إن كان�ت ابن�ة فاطمة ال ّزهراء أم ابنة مريم‪ ،‬لك ّني‬
‫الصغير نفس�ه وعيناه�ا الكبيرتان‪.‬‬ ‫أظ�ن أنّه�ا ابن�ة مري�م‪ ،‬فلها أنفها ّ‬
‫ّ‬
‫أشرت لها بيدي كي تأتي‪َ .‬ق ُدمت‬ ‫ُ‬ ‫تحدق إلى المكان‪،‬‬ ‫بقيت ال ّطفلة ّ‬
‫نحوي تجري‪ ،‬تلقّفتها وحملتها بين ذراعي أدغدغها‪ ،‬وتعالى صوت‬
‫وانحنيت مقرفص ًا أسألها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الصغيرة‪ .‬أوقف ُتها على األرض‪،‬‬ ‫ضحكاتها ّ‬
‫اسمكِ؟»‪ ،‬لم ُتبال ِ لسؤالي‪ ،‬كانت تضحك فقط‪ ،‬دغدغتها على‬ ‫«ما ُ‬
‫اسمكِ يا صغيرة؟»‪.‬‬ ‫أعدت سؤالي لها‪« :‬ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫أضلعها فزادت ضحك ًا‪.‬‬
‫قلت لها‪« :‬بوسي‬‫قالت بأحرف متلعثمة ومتأتأة‪« :‬مـ‪ ..‬مـ‪ ..‬مالك»‪ُ ،‬‬
‫‪271‬‬
‫ورددت ُقبلتها ا ّللطيفة على جبينها‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫عمو!»‪ّ .‬قبلتني على خدي‪،‬‬‫ّ‬
‫َت‬
‫وخرجت بها من الغرفة‪ .‬ألصق ْ‬
‫ُ‬ ‫حملته�ا م�ن األرض بين ذراع�ي‬
‫م�ررت بجانب‬
‫ُ‬ ‫الضحك‪.‬‬‫تك�ف ع�ن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أظف�ار يده�ا بقميص�ي‪ ،‬ول�م‬
‫الصغيرة وهي ُتقهقه‪..‬‬
‫ولوحت لها ّ‬ ‫لوحت ياسمين بيدها‪ّ ،‬‬ ‫المطبخ‪ّ ،‬‬
‫قالت مريم‪:‬‬
‫– وحيد وابنته!!‬
‫الصغيرة إلى‬ ‫ومددت ّ‬
‫ُ‬ ‫الصالون‪،‬‬‫دخلت ّ‬
‫ُ‬ ‫لم أع ّلق على ش�يء‪.‬‬
‫أهمي ًة لقساوة‬
‫ّ‬ ‫قت إلى وجهها ال ّطفولي الذي ال يولي‬ ‫وحد ُ‬
‫ّ‬ ‫والدتها‪،‬‬
‫كنت‬
‫ُ‬ ‫شك أنّي‬‫غادرت وأنا أر ّدد في نفسي‪« :‬ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫الدنيا بطفولته‪ّ ،‬‬
‫دت إلى غرفت�ي ورائحة ال ّطفولة‬ ‫ش�ك!»‪ُ .‬ع ُ‬
‫ّ‬ ‫ضاح�ك ًا ف�ي س� ّنها! ال‬
‫ُملتصقة بي‪.‬‬
‫كنت أبحث عن إيص�ال لخدمة اإلنترنيت‪،‬‬ ‫ر ّن هاتف�ي عندم�ا ُ‬
‫فأجبت‪:‬‬
‫– ألو! إذن متى؟‬
‫الساعة الثّالثة وال ّنصف؟‬‫متفر ٌغ اليوم ّ‬
‫– هل أنت ّ‬
‫– ال أظن ذلك‪ ،‬فعندي ضيوف‪.‬‬
‫الساعة العاشرة‪.‬‬‫– إذن غد ًا ّ‬
‫يدعي هو‪ ،‬فإنّي س�أطلب‬‫هم ًا كما ّ‬ ‫فكّ ُ‬
‫�رت أنّ�ه م�ا دام األم�ر ُم ّ‬
‫قضية األم�ر الجديد الذي‬
‫ُمغ�ادرة العم�ل في العاش�رة‪ ،‬كي أس�مع ّ‬
‫سيحادثني فيه‪.‬‬
‫ُ‬
‫قلت له بعد لحظة تفكير‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– حسن ًا‪ ،‬ذلك ُيناسبني‪.‬‬
‫جد ًا‪ ،‬أراك غد ًا‪.‬‬
‫جيد ّ‬ ‫– ّ‬
‫‪272‬‬
‫– إن شاء اهلل‪.‬‬
‫السالمة‪.‬‬
‫– رافقتك ّ‬
‫– وأنت أيض ًا‪.‬‬
‫واس�تجبت لن�داء خالتي التي‬ ‫ُ‬ ‫وضع�ت هاتف�ي فوق المكتب‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كانت ُتناديني للجلوس بجوار المائدة‪ ،‬فقد حان وقت الغداء‪.‬‬
‫جاءت ياسمين بعدها‪ .‬بدا لي وجهها ُمشرق ًا كالعادة‪ ،‬غسلت‬
‫وجهه�ا عل�ى م�ا أظ�ن‪ ،‬فبعض خصل ش�عرها كانت مب ّلل�ة بالماء‪،‬‬
‫نظرت إليها‬ ‫ُ‬ ‫أش�عة ال ّش�مس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وش�عرها األس�ود كان يلمع من تأثير‬
‫جلست ُمقابِل ًة‬‫ْ‬ ‫فأشحت نظري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نظرة خاطفة‪ ،‬والقت عيناي عينيها‪،‬‬
‫المفرش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت أجلس أنا ق�رب خالتي فوق األثاث‬ ‫ل�ي‪ ،‬ف�ي حي�ن ُ‬
‫الرمز‬ ‫أت�ت بعده�ا مري�م بصحن مزخرف موضوعة به تل�ك األكلة ّ‬
‫ألطب�اق بل�دي‪ .‬وضع�ت صح�ن البس�طيلة الكبي�ر ف�وق المائ�دة‪،‬‬
‫وع�ادت لتأت�ي بق ّنينتي�ن من المش�روبات الغازية والتي لن أش�ربها‬
‫وجلست مريم‬ ‫ْ‬ ‫بال ّطبع‪ ،‬تح ّفظ ًا على ما قد يطرأ على معدتي اله ّشة‪،‬‬
‫قطعت لي بس�كين‬ ‫ُ‬ ‫الكل باألكل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫هم‬
‫هي األخرى بجوار ياس�مين‪َّ .‬‬
‫قطع ًة ثالثية الشكل ووضعتها في صحن صغير ُقبالتي‪ .‬راح بعضهم‬
‫مرت لحظات‬ ‫ُيحادث‪ ،‬ومريم ترفس البنتها و ُتطعمها ُلقم ًا صغيرة‪ّ .‬‬
‫ش�هيتي في األكل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدجاج وال ّلوز الذي ألعب‬ ‫وأنا أستس�يغ طعم ّ‬
‫ٍ‬
‫وضعت الجزء‬ ‫ُ‬ ‫فانتهى بي األمر إلى قطع جزء ثالثي آخر‪ ،‬وعندما‬
‫الصحن‪ ،‬قالت فاطمة ال ّزهراء‪:‬‬‫في ّ‬
‫– يظهر لي أنّها أعجبتك‪.‬‬
‫– أعتقد ذلك أيض ًا!‬
‫وافتعلت‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى ياس�مين وأنا أقضم اللقمة األولى منها‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪273‬‬
‫ورفعت‬
‫ُ‬ ‫وس�بابتي‬
‫ّ‬ ‫لت صف�ر ًا بإبهام�ي‬ ‫حي�ث ش�كّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫حرك�ة إعج�اب‪،‬‬
‫أومأت برأسي‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫األصابع األخرى فوق‪ ،‬عالمة على حسن طهيها‪ّ ،‬‬
‫حصتي ثم نهضت‪.‬‬ ‫أنهيت ّ‬
‫ُ‬ ‫وابتسامة رضا تعلو وجهي وأنا أمضغ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫دخلت‬
‫ُ‬ ‫حبة دواء أخرى أتناولها بعد األكل‪.‬‬ ‫دت إلى غرفتي آلخذ ّ‬ ‫ُع ُ‬
‫الحظت أ ّن س� ّلة‬
‫ُ‬ ‫وتناول�ت دوائي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫المطب�خ‪ ،‬ملأت كأس� ًا بالم�اء‪،‬‬
‫القمامة كانت ُممتلئة‪ ،‬فحملتها من مقبضها البالس�تيكي وأخبرتهم‬
‫أنّي سأخرجها وأعود‪.‬‬
‫كنت‬ ‫ط�وال نزول�ي والمس�افة الت�ي قطعتها ألرم�ي ال ّنفايات‪ُ ،‬‬
‫وشعرت أ ّن شقّتي هي‬ ‫ٍ‬
‫بشحنة عائلية‪،‬‬ ‫أفكّ ر في أ ّن ما حدث ا ّتسم‬
‫ُ‬
‫أيض ًا كانت سعيدة‪ ،‬وكنت أيض ًا مبتهج ًا بدرجات‪ ،‬فقرابتي بهم قد‬
‫يغير طبع ًا من طبائع‬ ‫جدي‪ ،‬فالموت ّ‬ ‫حد ما بعد وفاة ّ‬ ‫تحسنت إلى ٍّ‬
‫ّ‬
‫ال ّناس وعاداتهم‪.‬‬
‫فوج�دت زوج خالتي ومري�م وابنتيها‬
‫ُ‬ ‫السلالم‪،‬‬
‫ع�دت أطل�ع ّ‬
‫ُ‬
‫تنزالن‪.‬‬
‫قلت لهم‪:‬‬
‫– إلى أين؟‬
‫قال وديع‪:‬‬
‫صديق لي ينتظرني‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫– يجب أن أذهب‪،‬‬
‫ثم قالت األخرى‪:‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫– زوجي قد ا ّتصل‪.‬‬
‫قال وديع‪:‬‬
‫المرة‬
‫طيبة‪ ،‬مع السلامة‪ ،‬إلى ّ‬
‫كل حال‪ ،‬كانت زيار ًة ّ‬‫– على ّ‬
‫القادمة يا ابني‪ُ ،‬دمت بخير‪.‬‬
‫‪274‬‬
‫– وأنت أيض ًا‪.‬‬
‫وأعتقد أ ّن خالتك ستذهب الحق ًا‪ ،‬س ُتوصلها فاطمة ال ّزهراء‬
‫ُ‬ ‫– ‬
‫بسيارتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫– على راحتهم‪.‬‬
‫قالت مريم‪:‬‬
‫المرة القادمة‪.‬‬
‫السالمة‪ ،‬اعتن بنفسك‪ ،‬نراك ّ‬‫– مع ّ‬
‫– إن شاء اهلل‪.‬‬
‫دخلت كانت الخالة تص ّلي في‬ ‫ُ‬ ‫وصعدت أنا‪ .‬عندما‬
‫ُ‬ ‫نزلوا هم‬
‫الصغار فكانوا‬
‫أما ّ‬ ‫الصالون‪ ،‬وكانت ياسمين وأختها تنظفان األواني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أرجعت م�ا كان بيدي إلى‬‫ُ‬ ‫المتحرك�ة بال ّتلف�از‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرس�وم‬ ‫ُيش�اهدون ّ‬
‫وكنت أفكّ ر متى سيرحلون‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫عدت بعدها إلى غرفتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المطبخ‪ ،‬ثم‬
‫فسمعت أذناي صوت الكرتون المعروض في‬ ‫ْ‬ ‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أغمضت‬
‫ُ‬
‫ال ّتلفاز‪ ،‬ومن خالل صوت ال ّش�خصية عرفته‪ ،‬كان «س�بونج بوب»‪،‬‬
‫يصل‬ ‫ُ‬ ‫كان األطفال يتس ّلون باللقطات الكوميدية‪ ،‬فصوت ضحكاتهم‬
‫إلى غرفتي‪.‬‬
‫المترابط في تركيز‬ ‫دائم� ًا م�ا أُخف�ق في تفس�ير ذلك ال ّتف�اوت ُ‬
‫حاس�ة الرؤية‪ .‬على س�بيل المثال‪،‬‬ ‫الح�واس األخ�رى عندما تغيب ّ‬
‫عيني‪ ،‬أس�مع أكثر وبش�كل أوض�ح‪ ،‬ح ّتى عندما أريد‬ ‫ّ‬ ‫عندم�ا أُغلق‬
‫جيد ًا‪ ،‬كما هو الحال أيض ًا‬
‫عيني ألستسيغ طعمه ّ‬ ‫ّ‬ ‫تذوق شيء أغمض‬ ‫ّ‬
‫مع لمس ش�يء ألستش�عر نعومته أو خش�ونته‪ .‬وهذا ال ّترابط ُيبرهن‬
‫راجع‬
‫ٌ‬ ‫أ ّن الرؤية تضعف بحضورها قوى الحواس األخرى‪ّ ،‬‬
‫والسبب‬
‫المحيطة بالعين‪ ،‬والتي‬ ‫إل�ى ذلك ال ّش�تات الذي تفتعله الجم�ادات ُ‬
‫أصبحت أؤمن بأ ّن ما يمنع العقل‬ ‫ُ‬ ‫كل الحك�ي بال ّنظ�ر فيها‪.‬‬ ‫تخت�زل ّ‬
‫‪275‬‬
‫من االرتقاء‪ ،‬ومن فصل ال ّزيف عن الحقيقة هو القلب‪ ،‬تلك العين‬
‫وأظن أ ّن منطقي‬ ‫ّ‬ ‫خرب‪،‬‬ ‫الكُ ب�رى الت�ي ترى و ُتبه�رج‪ ،‬التي َت َ‬
‫عمى و ُت ّ‬
‫ض َّل به عن نفسي‪ ،‬وال أجعل عقلي‬ ‫الدائم لقلبي‪ ،‬هو فقط لكي ال أَ ِ‬‫ّ‬
‫نبذت‬
‫ُ‬ ‫مت مند زمن‪ ،‬أنّه ك ّلما‬ ‫ُيصاب بعدوى العاطفة منه‪ ،‬فقد تع ّل ُ‬
‫كل كائن‬ ‫أصبح�ت ف�ي حال�ة أفضل‪ ،‬واهلل تعالى خل�ق في ّ‬ ‫ُ‬ ‫ف�ؤادي‬
‫قلب ًا ُيدير أواصر ذاته‪ ،‬والقلب تملكه جميع المخلوقات‪ّ ،‬‬
‫وكرم اهلل‬
‫السبب هو في‬ ‫اإلنسان بالعقل ميزة عن باقي الحيوات‪ ،‬وأعتقد أ ّن ّ‬
‫ق�و ًة ضاربة ُتحيل ال ّتوازن بين تق ّلب الفؤاد وتأثيره‬ ‫أن يك�ون العق�ل ّ‬
‫على األعضاء األخرى‪.‬‬
‫عين�ي اللتي�ن بقيت�ا مغمضتي�ن قراب�ة الخم�س دقائق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتح�ت‬
‫ُ‬
‫تتحدثان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجدت االثنتين‬
‫ُ‬ ‫ثم ذهبت إلى المطبخ‪.‬‬ ‫نهضت سريري‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ألحضر شاي ًا أهضم به‬ ‫ّ‬ ‫مألت إبريق الماء وتركته يغلي على الموقد‬ ‫ُ‬
‫تلوح بيدها‬ ‫كنت عائد ًا‪ ،‬نادتني الخالة وهي ّ‬ ‫سريع ًا ما أكلت‪ .‬عندما ُ‬
‫ذهبت نحوها طائع ًا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أن آتي إليها‪.‬‬
‫– تريدينني في شيء؟‬
‫– اخفض صوت ال ّتلفاز وتعال أريد التحدث معك‪.‬‬
‫وعدت ألجلس بقربها‪ .‬بدا كأنّها كانت تفكّ ر‬
‫ُ‬ ‫فعلت ما طلبت‪،‬‬
‫ُ‬
‫في ٍ‬
‫أمر ما‪.‬‬
‫قالت بصوت منخفض‪:‬‬
‫– أريد الحديث معك‪ ،‬لكن ليس هنا‪.‬‬
‫فهم�ت م�ا قص�دت‪ ،‬أنّه�ا تريد الحديث مع�ي في موضوع ال‬
‫ُ‬
‫تريد من األخريات سماعه‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪276‬‬
‫بالسطح فوق؟‬
‫رأيك ّ‬ ‫– ما ُ‬
‫– هذا ُيناسب!!‬
‫ع�م تريد م ّني ه�ذه الخالة‬
‫صعدن�ا‪ ،‬وكان�ت ف�ي ذهني أس�ئلة ّ‬
‫فجأ ًة‪ ،‬وفي الحقيقة كان عندي لها أسئلة أنا أيض ًا‪.‬‬
‫عندما دلفنا قالت‪:‬‬
‫– الجو جميل هنا!‬
‫– ‪...............‬‬
‫دخل�ت ف�ي صل�ب موضوع‬
‫ُ‬ ‫كرس�يين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بع�د أن جلس�نا عل�ى‬
‫أسئلتي التي أردت طرحها‪:‬‬
‫– خالتي أريد أن أسألك شيئ ًا‪.‬‬
‫هيا ُقل!‬
‫أنت أيض ًا‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫جي�د ًا‪ ،‬أعل�م أنّك تخ ّططي�ن ّ‬
‫لكل أمر‪ ،‬ال‬ ‫– خالت�ي‪ ،‬أعرف�ك ّ‬
‫أعتقد أن زيارتكِ هذه لي ليس لها هدف‪..‬‬
‫أردفت بعد لحظة صمت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫– أم أنّي أخطأت؟!‬
‫تبسمت قائلةً‪:‬‬
‫ّ‬
‫ق كوالدتك تمام ًا‪.‬‬ ‫– متحاذ ٌ‬
‫– إذن‪ ،‬ما هدفك؟‬
‫تتحدث‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تر ّددت قبل أن‬
‫– ‪ ..‬قل لي‪ ،‬هل تفكّ ر في ال ّزواج؟‬
‫عق�ت م�ن س�ؤالها ال�ذي أتى فجأ ًة‪ ،‬فلم أكن أتو ّقع س�ؤاالً‬
‫ُ‬ ‫ص‬
‫ُ‬
‫كذاك‪.‬‬
‫– من أين جاء هذا خالتي هدى؟!!‬
‫‪277‬‬
‫قالت ونبرتها فيها ُمداعب ٌة لي‪:‬‬
‫عروس لك إذا شئت‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫لدي‬
‫َّ‬ ‫– ‬
‫خدي‬
‫ووضعت يدي على ّ‬
‫ُ‬ ‫وضعت مرفقي على يد الكرس�ي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وقلت‪:‬‬
‫الزواج‪.‬‬
‫– خالتي‪ ،‬هناك أسباب تمنعني من ّ‬
‫– أذكر لي أحدها إذن!‬
‫ثم رفعته دون ال ّنظر إليها‪:‬‬ ‫حنيت رأسي ّ‬
‫ُ‬ ‫اعتدلت في جلستي‪.‬‬
‫ُ‬
‫– انظري إلى حالتي المرضية‪ ،‬أليس�ت س�بب ًا رئيس�ي ًا‪ ،‬كم ّ‬
‫مر ًة‬
‫أكون على أبواب الموت‪.‬‬
‫– ‪...............‬‬
‫– هل تريدينني أن أتركها أرملة وأعيد نفس ما وقع لوالدتي‪،‬‬
‫لن أسمح بذلك‪.‬‬
‫– ‪................‬‬
‫مرت لحظات وهي في صمت‪ ،‬بعدها قالت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫فلدي�ك حيا ٌة‬
‫َ‬ ‫ه�ذه‪،‬‬ ‫لحظتك‬ ‫ع�ش‬ ‫الغي�ب‪،‬‬ ‫تعل�م‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫أن�ت‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫واحدة تعيشها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫دت وقلت‪:‬‬ ‫منطقي ًا‪ّ .‬‬
‫تنه ُ‬ ‫ّ‬ ‫لوهلة فكّ ُ‬
‫رت أن ما قالته يبدو‬
‫– إذن هل أعرفها؟‬
‫– ها أنت ذا تسأل‪ُ ..‬يغريك فضولك!‬
‫– ‪...................‬‬
‫جد ًا‪.‬‬
‫– لنقل أنّها قريب ٌة منك ّ‬
‫فكّ رت قليالً‪:‬‬
‫– أتعنين ياسمين؟‬
‫‪278‬‬
‫رفعت إطار ن ّظارتي وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أليست على وشك أن ُتخطب؟‬ ‫– ‬
‫ت‪.‬‬‫رفض ْ‬
‫كانت‪ ،‬لك ّنها َ‬ ‫– ‬
‫‪.............‬‬ ‫– ‬
‫المرة الثّانية التي ترفض فيها أبناء‬
‫أتصدق! كانت تلك هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫– ‬
‫أحد أصدقاء والدها‪.‬‬
‫إذن سأجعلها ترفضني كذلك‪.‬‬ ‫– ‬
‫اعتدلت في جلستها‪.‬‬
‫ْ‬
‫– وحيد ابني‪ ،‬دعني أخبرك شيئ ًا‪.‬‬
‫– ‪................‬‬
‫أي شخص‪ ،‬وبصفتي والدتها أريد أن‬ ‫– أعرف ابنتي أكثر من ّ‬
‫أضمن لها سعادتها‪.‬‬
‫قاطعتها بنبرة كانت ُمنزعجة‪:‬‬
‫بكل هذا؟‬
‫– وتعتقدين أنّي سأجعلها سعيدة؟‪ ..‬من أين أتيت ّ‬
‫وضعت يدها على كتفي وقالت‪:‬‬
‫– إهدأ! أعلم بما تشعر‪ ،‬ثق بي أنا أيض ًا ال أريد هذا‪ ،‬وأفهم‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء خارج عن س�يطرتي‪ ،‬إنّها رغبتها‬ ‫رغبتك‪ ..‬لكن ُّ‬
‫هي‪.‬‬
‫أدرت وجهي إلى عينيها‪ ،‬فأومأت وهي تبتسم‪.‬‬
‫ُ‬
‫تحدث معها‪ ،‬وحاول أن تقنعها‪.‬‬
‫ولك االختيار‪ ،‬إذا شئت ّ‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫ازدردت ريقها وأكملت‪:‬‬
‫كن�ت أري�د أن أعم�ل معروف ًا ألختي رحمها اهلل‪ ،‬فهو‬
‫ُ‬ ‫– وإذا‬
‫أزوج ابنت�ي البنه�ا‪ ..‬وحي�د ال تحرمن�ي بركات أختي!‬
‫أن ّ‬
‫‪279‬‬
‫وال أعتقد أنّك أيض ًا ُتريد من رجل ٍ آخر أن ّ‬
‫يتزوجها‪ ،‬أليس‬
‫كذلك؟‬
‫علي‪ .‬لم‬
‫حيرتني أجوبتها وأس�ئلتها المترادفة‪ ،‬والتي ضغطت ّ‬ ‫ّ‬
‫رت كثير ًا فيما سأقول‪ ،‬ولك ّني‬
‫المرة‪ ،‬فقد فكّ ُ‬ ‫ً‬
‫أجد ملجأ للهرب هذه ّ‬
‫لم أجد مهرب ًا من ذلك‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫– سأفكّ ر في األمر‪.‬‬
‫ربتت على كتفي وقالت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫م�ر ًة أخرى‪ ،‬أعرف طبعك‪ُ ،‬يش�به‬ ‫وصدقني ّ‬
‫ّ‬ ‫– خ�ذ راحت�ك‪،‬‬
‫والدت�ك كثي�ر ًا‪ ،‬وأعرف�ك من�ذ كنت صغي�ر ًا‪ ،‬فقط خذ بيد‬
‫ابنتي واعتن ِ بها‪.‬‬
‫قلت سأفكّ ر في األمر ليس إلاّ ‪..‬‬
‫– ال ُيمكن أن أعدك بشيء‪ُ ،‬‬
‫�ت من الكرس�ي‪ ،‬وه�ي على أهبة النزول‪ ،‬س�بقتني نحو‬ ‫نهض ْ‬
‫َ‬
‫الباب‪ ،‬وقبل أن تختفي‪ ،‬التفتت لي وقالت‪:‬‬
‫– أنت ترى ما يناس�بك‪ ،‬ولكن تذكّ ر‪ ..‬هناك ياس�مين واحدة‬
‫في هذا العالم‪ ،‬وأنت تعرف هذا أكثر م ّني‪.‬‬
‫– سأرى ما سأفعل‪.‬‬
‫تبعت خطواتها‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أطلت جلوس�ي لبضع دقائ�ق‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫نزل�ت هي‪.‬‬
‫إلى ال ّشقة‪.‬‬
‫***‬
‫ف�ت بش�كل ٍ طبيع�ي إل�ى أن غ�ادروا بعد صلاة العصر‪.‬‬‫تصر ُ‬
‫ّ‬
‫تعامل�ت م�ع م�ا ح�دث كأنّ�ه ال كالم قيل بيني وبي�ن خالتي‪ ،‬ولم‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أصبحت بارع ًا في إخفاء‬
‫ُ‬ ‫شك لياسمين‪ ،‬فمع مرور الوقت‬ ‫أي ٍّ‬ ‫أُبد َّ‬
‫‪280‬‬
‫دت عليه‪ ،‬هو أن ال أضع‬ ‫تعو ُ‬ ‫علي فعله والذي ّ‬‫وكل ما كان ّ‬ ‫األمور‪ّ ،‬‬
‫أي اهتمام لما يحدث‪.‬‬ ‫ّ‬
‫زلت أذكر كالم خالتي‪ ،‬التي نزلت هي األخيرة من شقّتي‬ ‫ال ُ‬
‫ٍ‬
‫تركت لي كلمات انحشرت بذاكرتي ولم ُتفارق‬ ‫بعد أن نزل الكل‪،‬‬
‫ْ‬
‫ُمعاودة انبثاق نبرة صوتها في ذهني‪ .‬قالت لي‪« :‬ال تبكِ المرأة أمام‬
‫أي رجل كان‪ ،‬تذكّ ر هذا»‪ .‬ال أدري إن كان كالمها تشجيعي ًا‪ ،‬أم أنّها‬ ‫ِّ‬
‫قت كالمها‬ ‫صد ُ‬‫حجة ياسمين نحوي‪ .‬لك ّني ّ‬ ‫فقط كانت تريد إثبات ّ‬
‫تركت ذلك‬‫ُ‬ ‫وراودت نفس�ي ف�ي أنّ�ي يج�ب أن أقوم بخط�وة‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬
‫أتحدث فيها‬‫ّ‬ ‫مس�مى‪ ،‬أو إلى أن تأتي لحظة مناس�بة‬ ‫ّ‬ ‫إلى أجل غير‬
‫مع ياسمين‪ ،‬فاآلن ال أعتقد أنّي قادر على ذلك‪ ،‬فدائم ًا األحداث‬
‫الجديدة تكون كأحجيات تتط ّلب م ّني وقت ًا كي أعي تراكيبها‪ ،‬وكي‬
‫حل يقيني ال ّندم على اإلقدام‬ ‫أستخلص الن ّتائج التي ُتفضي بي إلى ٍّ‬
‫أمنيها‪ ،‬فالرجوع في القرارات ليس‬ ‫عليها‪ ،‬كما ألرضي نفس�ي وال ّ‬
‫كل ما يعود من نتائج بعد إقدامي على أمر ما‪.‬‬ ‫وأتقبل ّ‬
‫ّ‬ ‫من شيمي‪،‬‬
‫اعتدت المكان على مضض‪ ،‬إلى أن جاء ال ّليل واختفت تلك‬ ‫ُ‬
‫مت‬
‫الص ُ‬ ‫األصوات المس�افرة عبر الزمن ألولئك الذين ذهبوا‪ .‬عاد ّ‬
‫يحوي مضجعي بخوائه الموحش‪ ،‬ولم ُتسمع به غير أنفاسي‪ ،‬ولم‬
‫يتجول بهوائه سوى ثنائي أكسيد الكربون الذي أنفثه‪ .‬واستقّرت في‬ ‫ّ‬
‫أعماقي علقة حزن‪ ،‬والتي أظ ُّنها االشتياق لذلك الجو العائلي‪ ،‬فال‬
‫طوقت‬ ‫أع�د لي ال ّطع�ام ببيتي‪ ،‬وال أذكر أن بيتي قد ّ‬ ‫ّ‬ ‫أذك�ر أ ّن أح�د ًا‬
‫إحدى موائده بأشخاص في فترة الغداء‪..‬‬
‫الوح�دة توجع�ك أكثر بعد العودة إليها‪ ،‬فما أن تعتادها‪ ،‬ح ّتى‬
‫كل فعل ٍ ُيشركك بعيد ًا عنها مؤذي ًا‪.‬‬ ‫ُيصبح ّ‬
‫‪281‬‬
‫‪III‬‬

‫موعد مع‬‫ٌ‬ ‫صلت بسعد وأخبرته أنّي سأغادر بعد قليل‪ ،‬فلي‬ ‫ُ‬ ‫ا ّت‬
‫طيب ًا‬ ‫ّ‬
‫الخط بعد أن تم ّنى لي ح ّظ ًا ّ‬ ‫ال ّطبيب في العاش�رة‪ ،‬وقد أغلق‬
‫جيدة منه‪.‬‬
‫وأن تكون األخبار ّ‬
‫سيارتي من مرأب ال ّشركة‪ .‬استغرقت‬ ‫أدرت مقود ّ‬
‫ُ‬ ‫العاشرة تمام ًا‬
‫صعدت إلى‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫سيارتي ّ‬‫ركنت ّ‬
‫ُ‬ ‫عشر دقائق كي أصل قرب العيادة‪.‬‬
‫ضغطت‬
‫ُ‬ ‫الدور األول الذي فيه عيادته‪ .‬فتحت لي ُمس�اعدته عندما‬ ‫ّ‬
‫زر االستقبال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫السي نادر‪.‬‬ ‫– أهالً ّ‬
‫– أهالً! هل ال ّطبيب هنا؟‬
‫تفضل بالجلوس‪ ،‬سأُعلمه بحضورك‪.‬‬ ‫– نعم‪ّ ،‬‬
‫أس�تعد به للخبر المهم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وأخذت نفس� ًا عميق ًا‬
‫ُ‬ ‫أخذت مقعد ًا‪،‬‬
‫مر‬
‫خ�رج مري�ض م�ن الباب األبي�ض‪ ،‬حيث يوجد مكت�ب طبيبي‪ّ .‬‬
‫يهم بالخروج‪ ،‬نظر نحوي وقال‪« :‬بال ّشفاء»‪،‬‬ ‫من أمامي‪ ،‬وعندما كان ّ‬
‫أجبته‪« :‬لك أيض ًا»‪.‬‬
‫نزع�ت المس�اعدة وزرته�ا البيضاء‪ ،‬وو ّظب�ت حقيبتها الجلدية‬
‫دخل�ت عند ال ّطبيب تأخذ منه إذن‬
‫ْ‬ ‫ثم وضعتها بس�اعدها‪.‬‬ ‫ال ّزرق�اء‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫المغادرة‪ .‬عندما أغلقت الباب قالت لي‪« :‬أدخل اآلن فهو ُيريدك»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫‪282‬‬
‫ثم غا َدرت‪ ،‬لتتركني أنا وهو في ساحة جدران ٍ بيض تحيط بنا من‬ ‫ّ‬
‫رت وقتها لماذا قال لي العاشرة‪ ،‬أل ّن فترته الصباحية‬ ‫كل جانب‪ .‬تذكّ ُ‬ ‫ّ‬
‫يوم األربعاء تنتهي مع العاشرة‪.‬‬
‫ثم دخلت‪ .‬وجدته على وشك نزع وزرته البيضاء‬ ‫طرقت الباب َّ‬ ‫ُ‬
‫هو أيض ًا‪.‬‬
‫صافحني وقال‪:‬‬
‫تفضل بالجلوس‪.‬‬‫كنت أنتظرك‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫– أهالً‪،‬‬
‫– شكر ًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خزانة س�وداء تحوي‬ ‫ع ّل�ق وزرت�ه عل�ى مش�جب صغير قرب‬
‫رفوف� ًا موضوع� ًة عليه�ا كتب مصط ّفة‪ .‬أخذ كوبين بالس�تيكيين عن‬
‫منضدة بجانب الخزانة‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫– قهوة؟‬
‫وكن�ت أحت�اج قه�و ًة بالفعل‪ ،‬فأجبته س�ريع ًا‪ ،‬كأنّي ُ‬
‫كنت أنتظر‬ ‫ُ‬
‫سؤاله أن ُيلقى علي‪:‬‬
‫– من فضلك!‬
‫ش�غّل آل�ة القه�وة الصغي�رة‪ ،‬الموضوع�ة ه�ي األخ�رى قرب‬
‫ثم جلس‬‫األكياس البالستيكية‪ ،‬وضع الكوبين في موضعهما باآللة ّ‬
‫على مقعده في مكتبه‪.‬‬
‫المرة‪ ،‬أنت‬
‫جدك‪ ،‬لم أس�تطع المجيء تل�ك ّ‬ ‫– آس�ف لوف�اة ّ‬
‫تعرف أحوال العمل‪.‬‬
‫– أتفهم ذلك‪.‬‬
‫مر ًة ثانية‪.‬‬
‫تعازي لك ّ‬
‫َّ‬ ‫كل حال‪،‬‬‫– على ّ‬
‫‪283‬‬
‫نهض يجلب القهوة‪.‬‬
‫– قطعة سكّ ر؟‬
‫– من فضلك‪.‬‬
‫مد لي واح�د ًا ووضع‬
‫جل�س ف�ي مكان�ه وف�ي يده الكوبي�ن‪َّ ،‬‬
‫المهم‬
‫ّ‬ ‫ارتشفت رشفتين متتاليتين‪ ،‬كانتا ساخنتين‪ ،‬لكن‬
‫ُ‬ ‫اآلخر أمامه‪.‬‬
‫هو أن تستيقظ باقي شرايين دماغي ال ّنائمة‪.‬‬
‫رشفت ثالث ًة وقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫أردت حديثي؟‬
‫َ‬ ‫– إذن‪ ،‬في ماذا‬
‫وضع كوبه على سطح المكتب‪ّ ،‬‬
‫مط شفيه واعتدل في جلسته‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫سيئة وأخرى‬
‫– قد ال أريد إخبارك بهذا‪ ،‬ولكن عندي أخبار ّ‬
‫جيدة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التزمت هدوئي وسكوني‪ ،‬فاتح ًا‬ ‫ُ‬ ‫ارتبت بعض ال ّشيء مما قاله‪.‬‬‫ُ‬
‫ومعد ًا جوارحي لألخبار الجيدة‪ ،‬أل ّن األخبار ّ‬
‫الس�يئة أعرفها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أذني‬
‫ّ‬
‫فهي ما قاله لي من قبل‪ ،‬وسوف ُيضيف إليها شيئ ًا آخر‪.‬‬
‫الجيدة؟‬
‫ّ‬ ‫السيئة أم‬
‫بأيهما أبدأ‪ّ ،‬‬‫– ّ‬
‫– ابدأ بما تراه مناسب ًا!‬
‫رت ثم أضفت‪:‬‬‫فكّ ُ‬
‫أفضل األسوأ‪ ،‬ما دام ما قلته لي سابق ًا مثله‪.‬‬
‫– ال في الحقيقة ّ‬
‫جيد ًا ّ‬
‫المرة‬ ‫أوضح لك ّ‬‫– حسن ًا! قبل ذلك‪ ،‬أريد أن أعتذر فلم ّ‬
‫السابقة‪...‬‬‫الماضية‪ ،‬فلم أكن متأكّ د ًا‪ ،‬لكن بعد العملية ّ‬
‫صمت ثم أضاف‪:‬‬
‫– ‪ ..‬فإ ّن األمر أكيد‪.‬‬
‫– اشرح لي!‬
‫تغيرت مالمحه‪ ،‬رفع إطار ن ّظارته ال ّط ّبية ّ‬
‫بسبابته‪ ،‬وبدا لي كأنّه‬ ‫ّ‬
‫أخذ نفس ًا‪ ،‬بعدها بادر بالحديث‪:‬‬
‫كل‪ ،‬لم يعد ف�ي إمكاننا تقليص األورام‪،‬‬ ‫– كم�ا تش�اء! على ٍّ‬
‫المعالج�ة الكيميائي�ة لم تعد تنف�ع‪ ...‬ال أريد إخبارك بهذا‬
‫ح ّق ًا!‬
‫– أكمل من فضلك‪.‬‬
‫السابقة‪ ،‬رغم الجراحة‪ ،‬فقد ق ّلصنا عدد ًا ضئيالً‬ ‫– حسن ًا! ّ‬
‫المرة ّ‬
‫م�ن األورام‪ ،‬كم�ا أنّه�ا تتزايد‪ ،‬وكما رأي�ت‪ ،‬فجرعة تركيز‬
‫كن�ت أعطيت�ك مرتفعة مقارنة عن س�ابقاتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�دواء الت�ي‬
‫ّ‬
‫وأعتقد أ ّن األمر لن يطول كثير ًا ح ّتى تتضاعف األورام‪..‬‬
‫ل�م أنب�س بح�رف‪ ،‬فق�د كان م�ا يقوله صحيح� ًا‪ ،‬فحالتي بعد‬
‫الصحة‪،‬‬
‫خرجت منها منكسر ّ‬ ‫ُ‬ ‫العملية األخيرة لم تكن كما قبل‪ ،‬فقد‬
‫ومتضرر الجسم‪ ،‬السيما أ ّن قلبي كاد أن يتو ّقف‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال‪:‬‬
‫– لكن ال تخف‪ُ ،‬يمكن إنقاذك‪.‬‬
‫عندم�ا ق�ال ل�ي أنّه ُيمك�ن إنقاذي‪ ،‬طفرت ياس�مين فجأ ًة في‬
‫ذهني‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫الجيد؟‬
‫ّ‬ ‫– هل خبر إنقاذي هو الخبر‬
‫لكن هناك خطر‪.‬‬
‫ْ‬ ‫– صحيح‪..‬‬
‫– ماذا تعني؟‬
‫– دعني أبدأ لك كيف أتاني الخبر‪ ،‬كانت مفاجأ ًة ح ّق ًا‪.‬‬
‫‪285‬‬
‫ثم أكمل‪:‬‬‫رشف من قهوته ّ‬
‫أخصائي في أمراض‬ ‫ّ‬ ‫ل�دي صدي�ق ف�ي ألمانيا‪ ،‬هو كذل�ك‬
‫َّ‬ ‫– ‬
‫وكن�ت أعل�م أنّ�ه يوم� ًا ما س�تؤول حالتك إلى‬
‫ُ‬ ‫الس�رطان‪،‬‬
‫ّ‬
‫عين ًة من‬
‫ما عليها اآلن‪ ،‬وكنت قبل س� ّتة أش�هر قد أعطيته ّ‬
‫وصدق ماذا!؟‪ ،‬تطابق دمك مع أحد المرضى الذي‬ ‫ّ‬ ‫دمك‪،‬‬
‫توف�ي ف�ي المستش�فى الذي يعمل فيه‪ ،‬وق�د وافقت عائلة‬
‫المتو َّفى على ال ّت ّبرع بأعضائه‪ ،‬حيث اس�تفاد ش�خصان كانا‬
‫ف�ي حال�ة حرج�ة‪ُ ،‬زرع ألحدهما كلي�ة‪ ،‬واآلخر ُزرعت له‬
‫قرني�ة عي�ن‪ ..‬إذن ماذا ت�رى؟ فالعرض ما زال قائم ًا ُليزرع‬
‫لك جزء ًا من كبده‪.‬‬
‫جرع�ت ك�وب القه�وة بأكمله‪ ،‬واكتنفت مرارته�ا المعتادة في‬
‫ُ‬
‫فمي‪ ،‬رغم سوء تحضيرها‪ .‬وتلقائي ًا أجوبتي ك ّلها جمعت في جوابٍ‬
‫ُ‬
‫سمعت منه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مما‬
‫واحد ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫سيدي‪...‬‬
‫– ّ‬
‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫رفعت ك ّفي أمسح شعري‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فت عن الكالم للحظة‪،‬‬ ‫تو ّق ُ‬
‫إلى عينيه مباشر ًة‪.‬‬
‫سيدي‪ ..‬أنا أرفض!‬ ‫– ‪ّ ..‬‬
‫بدا مصعوق ًا من كالمي‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫– ماذا؟!‪ ...‬لم أفهم!‬
‫قلت بنبرة غضب مكتوم‪:‬‬
‫ُ‬
‫– قلت لك إنّي أرفض!‬
‫أولها ذلك الخطر‬
‫كانت هناك أسباب عديدة جعلتني أرفض‪ّ ،‬‬
‫‪286‬‬
‫مستعد ًا لتقليص ما تبقّى لي‬
‫ّ‬ ‫لست‬‫ُ‬ ‫الكبير الذي أوحى إليه‪ ،‬وثانيها‬
‫في المراهنة واألمل على نجاح عملية زرع كبد‪ ،‬وثالثها وهو األهم‪،‬‬
‫إلي ولو على سبيل العالج‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أي عضو ال ينتمي ّ‬ ‫أنّه ال يمكنني قبول ّ‬
‫واألخير هو أنّي أريد أن أكون صاحي ًا عندما تأتيني نوبات الموت‪،‬‬
‫مخدر‪ ،‬فهناك عظم ٌة في ال ّلحظات‬ ‫ّ‬ ‫فال أريد الموت وأنا تحت تأثير‬
‫أعدل عن رفض�ي وأن أقبل‬ ‫ُ‬ ‫قرار س�يجعلني‬ ‫األخي�رة‪ .‬ول�ن يوج�د ٌ‬
‫جيد ًة مغ ّلف ًة بأخبار ّ‬
‫س�يئة‪ .‬خبر‬ ‫زف أخبار ًا ّ‬‫بما يقوله ال ّطبيب الذي َّ‬
‫تدهور حالتي الذي زاد والذي س�يزيد في المس�تقبل‪ ..‬كان أرحم‬
‫ٍ‬
‫بكثير مما قاله لي بعده‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫– هل من سبب لرفضك؟‬
‫– ال أريد أن أنهي حياتي بمستشفى‪ ،‬أترك حياتي تنتهي كما‬
‫ُق ِّدر لها‪.‬‬
‫ولك�ن هن�اك فرص� ٌة لل ّش�فاء‪ ،‬كم�ا أ ّن األطب�اء ف�ي ألمانيا‬
‫ْ‬ ‫– ‬
‫متمرسون للغاية واحترافيون‪.‬‬‫ّ‬
‫– حاول أن تفهم‪ ،‬لن أراهن على عملية زرع‪.‬‬
‫تحل باألمل يا ابني!‬
‫َّ‬ ‫– ‬
‫وعملت‬
‫ُ‬ ‫تحدث عن األمل‪ ،‬جاءتني رغبة في أن أغادر‪،‬‬‫عندما ّ‬
‫عل�ى أنه�ي الحديث س�ريع ًا ألعود إلى م�ا تبقّى لي من وقت ومن‬
‫ضع�ف‪ ،‬فه�ذا ال ّطبي�ب األحم�ق ّ‬
‫بترهاته اغتصب م ّن�ي وقت ًا للعمل‬
‫تعوض‪.‬‬
‫وأخذ مني لحظات ال ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫أق�در م�ا تحاول أن تقنعني ب�ه‪ ،‬لكن أترك األمور‬
‫س�يدي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫– ‬
‫‪287‬‬
‫كما هي‪.‬‬
‫جيد ًا م�ا يحدث‪،‬‬
‫– اعذرن�ي عل�ى تط ّفل�ي‪ ،‬يب�دو أنّ�ك تعي ّ‬
‫غيرت رأيك‪،‬‬
‫المهم س�أفعل ما بوس�عي‪ ،‬وتذكّ ر‪ ،‬في حال ّ‬
‫فأنا مستعد‪.‬‬
‫تفهمه‪.‬‬
‫مددت يدي ألصافحه على ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقفت حينها‪،‬‬
‫ُ‬
‫جيدا ما يحدث‪،‬‬ ‫– شكر ًا على تفهمك‪ ،‬وكما ْ‬
‫قلت‪ ،‬فأنا أعي ّ‬
‫سأغير رأيي‪ ،‬وكما تعلم األرواح بيد اهلل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أظن أنّي‬
‫ّ‬ ‫وال‬
‫ٍ‬
‫– المهم أنا في ص ّفك‪ ،‬وكل شيء على رغبتك‪.‬‬
‫نزعت يدي من يده‪ .‬قلت له مو ّدع ًا‪:‬‬
‫ُ‬
‫كل شيء‪.‬‬‫– شكر ًا على ّ‬
‫خرجت من العيادة‪ ،‬وفي داخلي كانت تتشكّ ل غدد مستقبلية‬ ‫ُ‬
‫تعدني لما سأالقيه في اآلتي القريب أو البعيد‬ ‫للصبر‪ ،‬توارثت كي ّ‬ ‫ّ‬
‫المجهول‪ ،‬فقد أصبح األمر مؤكّ د ًا‪.‬‬
‫كن�ت مرتاب� ًا م�ن نفس�ي للحديث ال�ذي خضته م�ع ال ّطبيب‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وكن�ت أحت�اج فت�رة نقاه�ة صغيرة أُدر ُج فيها ال�كالم الذي قيل لي‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫إلى خانة تليق بها‪.‬‬
‫ل�م أع�د إل�ى العمل‪ ،‬وصوتي كان ش�به مكب�وح‪ ،‬فلم أُهاتف‬
‫نصي ًة تخبره بأنّي لن ُ‬
‫أقدم‪.‬‬ ‫أرسلت له رسال ًة ّ‬‫ُ‬ ‫سعد ًا‪ ،‬وال‬
‫علي األمور بين األمس واليوم‪ :‬خالتي وفخرها الذي‬ ‫اختلطت َّ‬
‫تري�د توريث�ه‪ ،‬والطبيب الذي زاد تأكيده على أن احتضاري س�يأتي‬
‫عاجالً أم آجالً‪.‬‬
‫مستعد كفاي ًة كما قيل لي ذات حلم؟‬ ‫ٌّ‬ ‫لكن هل أنا‬‫ْ‬
‫خرجت من العيادة عائد ًا إلى شقّتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُخ ّيل لي أنّي سرعان ما‬
‫‪288‬‬
‫تخيال‬
‫وتكدسه بكبدي‪ .‬أدري أنّه كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقوة المرض‬ ‫بدأت أشعر ّ‬ ‫ُ‬ ‫أنّي‬
‫ال غي�ر‪ ،‬إلاّ أ ّن التفكي�ر ف�ي أمر المعاناة المس�تقبلية زاد من هلعي‪.‬‬
‫أما هذا ال ّتر ّقب‬ ‫كل األم�ور التي حدثت ال ب�أس بها‪ّ ،‬‬ ‫ف�ي الحقيق�ة ّ‬
‫كل جانب‪ ،‬هو الذي ال يمكنني تجاهله‪ ،‬فإنّه‬ ‫ال�ذي يحي�ط ب�ي من ّ‬
‫وددت لو تأتي لحظات االحتضار اآلن‪ ،‬فأنا أكره‬ ‫ُ‬ ‫يقتلني قتالً بطيئ ًا‪،‬‬
‫األشياء التي تأتي فجأة‪ ،‬دون أن أدري ما نوع الخطط التي سيتح ّتم‬
‫علي بها مجابهتها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أكره أفعال ال ّتم ّني هذه‪.‬‬
‫قدر ثمن حياتي؟ وإلى متى س�يظل هذا الجس�د‬ ‫إذ ًا! بماذا ُ‬
‫س�ي ّ‬
‫يواصل ال ّنزوح؟ وكم من الوقت تبقّى لي كي تنفد ذخائري؟‬
‫لو كنت إنسان ًا عادي ًا بطبيعة بشرية عادية‪ ،‬سأرقى في كل لحظةٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫السعادة‪ ،‬أفعل ما لم أفعل‪ ،‬آكل ما لم آكله‪ ،‬أشرب‬ ‫تبقّت إلى ذروة ّ‬
‫أحب كما لم‬ ‫ُّ‬ ‫ما لم أشربه‪ ،‬أقوم بأفعال حمقاء لم أقم بها من قبل‪،‬‬
‫أحب‪ ،‬أبتهج كما لم أبتهج‪ ..‬وبعد‪ ،‬سأفنى كباقي المخلوقات؛ مثل‬
‫رسخ‬ ‫السحيق ال أريد عيش مثله!‪ .‬أريد لموتي أن ُي ّ‬ ‫هذا المسلسل ّ‬
‫في ذاكرة الهواء والحجارة والجماد‪ ،‬كجندي لفظ نفسه األخير بعد‬
‫أن ته ّش�مت آخ�ر عظم�ة ف�ي جس�ده دفاع ًا عن ما يؤم�ن به‪ ،‬نُصر ًة‬
‫إلرادة ٍ جماعية وهي الوطن‪.‬‬
‫كبدني ال ّندم قبل‬ ‫وسي ّ‬
‫شيء سيظلمني ُ‬‫ٌ‬ ‫أن أُنهي حياتي كساذج‪،‬‬
‫ولكن تعليلي‬ ‫َّ‬ ‫أفس�ر حالتي هذه‪،‬‬
‫آخر غمضة عين‪ .‬ال أعرف كيف ّ‬
‫السقم وفخري بضعفي‪.‬‬ ‫ال ُيمكن أن يكون إلاّ كبرياء ّ‬
‫بحد ذاته‪،‬‬‫تمر ٌد ّ‬ ‫رت بالكتابة‪ ،‬فالكتابة ّ‬ ‫مبتهج ح ّق ًا‪ ،‬فقد ُث ُ‬
‫ٌ‬ ‫لك ّني‬
‫أبين به‬ ‫ٍ‬ ‫أنا راض ٍ عن ّ‬
‫كل النتائج‪ ،‬فهي آخر فعل خالص أمكنني أن ّ‬
‫‪289‬‬
‫وكل‬
‫ذرة هواء ستش�هد ع ّني‪ّ ،‬‬
‫فكل ّ‬
‫كنت أريده‪ُّ ،‬‬
‫عن الترس�يخ الذي ُ‬
‫وكل جماد أحاطني بغرفتي سيش�هد على‬
‫قط�رة مط�ر ه�ي كذل�ك‪ّ ،‬‬
‫كنت كما أريد‪ ..‬هذا يرضيني بحق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كوني‬

‫‪290‬‬
‫‪IV‬‬

‫فكّ رت كثير ًا قبل أن أقدم على الحديث إلى ياسمين‪ ،‬بشأن ما‬
‫قلت إني سأفكّ ر في األمر‪ ،‬ولك ّني وجد ُتني‬ ‫ثت فيه أنا وخالتي‪ُ ،‬‬ ‫تحد ُ‬
‫ّ‬
‫عما سيمكنني اإلقدام عليه‪.‬‬ ‫عاجز ًا ّ‬
‫خلي�ة تجلب األس�ى فق�ط‪ ،‬وأنّني قنبلة‬ ‫أري�د أن أقنعه�ا بأنّ�ي ّ‬
‫مؤ ّقتة‪ ،‬أريدها أن تتج ّنب اإلصابة بإنفلونزاي‪ ،‬لن أسامح نفسي إذا‬
‫سي ّ‬ ‫ِ‬
‫عذبني‪،‬‬ ‫بت لها ضرر ًا‪ .‬وما يفتك بي‪ ،‬هو أ ّن كال المنحنيين ُ‬ ‫سب ُ‬ ‫ما ّ‬
‫سواء أقنعتها أم ال‪ ،‬سأُش ّتت بال ّتأكيد‪.‬‬
‫لكل هذا‪.‬‬ ‫بد لي من حل ّ‬ ‫ال ّ‬
‫كل ه�ذا ال ّتردد‪ ،‬لكن‪..‬‬
‫ل�و كان�ت ام�رأ ًة غيرها لما حدث لي ُّ‬
‫كل ما تبقّى لي في طاعة الحياة‪ ،‬بقدر ما أريدها‪،‬‬ ‫إنّها ياسمين‪ ،‬هي ُّ‬
‫ال أريد ندب حياتها بقراراتي‪.‬‬
‫ها أنذا! أريد أن أحب‪ ..‬فال أقدر!‬
‫قررت أخير ًا بعد طول تفكير‪ ،‬وبعد طول صراع‪ ،‬أنّي يجب أن‬ ‫ّ‬
‫أتحمل مسؤولية ما سيأتي بعد ذلك‪ ،‬فهي ياسمين قبل‬ ‫ّ‬ ‫أحادثها وأن‬
‫كل ش�يء‪ ،‬فهي تلك المرأة التي ال ُيمكنني أن أعي في ما تفكّ ر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الت�ي ال أق�در عل�ى عصي�ان ثقتها كما يقع لي مع باقي ال ّناس‪ ،‬هي‬
‫المرأة التي اختزلت روح والدتي وعاطفتها‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫فلعل ما ُيحدثه‬ ‫ّ‬ ‫عش�اء في الخ�ارج‪،‬‬
‫ً‬ ‫ارتأي�ت أن أض�ع موعد ًا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الصباح وملل الزوال‪.‬‬ ‫الليل من نسيم ٍ يكون أرحم من ما ُينشده ّ‬
‫تأوه ّ‬
‫سأزعم في أربعائي هذا الذي بدأ بأخبار‪ ،‬أن أُنهيه في مناقشتي مع‬
‫ّيت فيه ما صدمني‪ ،‬فال أمانع‬ ‫ياس�مين‪ ،‬فما دام هذا اليوم يوم ًا تلق ُ‬
‫كل ذل�ك يخلصني في ي�وم ٍ واحد من‬ ‫لع�ل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن أره�ق معه�ا أيض� ًا‪،‬‬
‫منتظراتي‪.‬‬
‫فقت معها على أنّي‬ ‫صلت بياسمين‪ ،‬ووافقت على فكرتي‪ ،‬ا ّت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا ّت‬
‫الس�ابعة‬ ‫الصيدلي�ة الت�ي تعمل فيها كي أق ّلها في ّ‬ ‫س�آتي إل�ى حي�ث ّ‬
‫وال ّنصف‪.‬‬
‫أي‬‫لم يعد يفصلني عن الموعد س�وى س�اعتين‪ .‬لم ُيراودني ُّ‬
‫شعور لعاشق ينتظر ساعة رؤية حبيبته‪ ،‬ذلك االنتظار المرير وال ّتو ّتر‬ ‫ٍ‬
‫وعما سيبدأ حديثه‪ .‬وذلك اإلفتقار للثّقة ما‬ ‫جهد في ما سيقول‪،‬‬ ‫الم ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫صحيح أنّي متو ّت ٌر قليالً‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫قبل أن ُيحادثها‪ ،‬لم يحدث لي هو اآلخر‪،‬‬
‫لكن ال أُلقي باالً كما هي العادة‪ ،‬ما سوف يحدث فإنّه سيحدث‪.‬‬
‫جزء‬
‫ٌ‬ ‫لس�ت بارع ًا في أدائها أيض ًا‪ ،‬ألنّه ينقصني‬ ‫ُ‬ ‫تخيل ال ّلقاء‬‫ولعبة ُّ‬
‫س�يئ ًا ما فعلته ب�ي العزلة‪ ،‬أغدو أقوى في مثل‬ ‫م�ن اإلهتم�ام‪ ،‬ليس ّ‬
‫تصرفي‪ .‬وغير ذلك وما يسبق‬ ‫هذه المواقف‪ ،‬ألنّي أكون طبيعي ًا في ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬هو أنّي ال أتو ّقع النتيجة‪ ،‬ألعب بِالح ّظي كما ألعب دوم ًا‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الربح‪ ،‬وال أنوي الخسارة أيض ًا‪.‬‬ ‫ال أنوي ّ‬
‫***‬
‫الصيدلية‪ .‬رأتني‬
‫س�يارتي أم�ام ّ‬
‫ركنت ّ‬
‫ُ‬ ‫ج�اءت س�اعة الموعد‪،‬‬
‫زميلتها أدخل في واجهة االستقبال‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪292‬‬
‫صحتك؟‬
‫ّ‬ ‫– كيف حال‬
‫صحتي!‬
‫ّ‬ ‫ما بالهم ال يجدون ما يقولون لي غير السؤال عن‬
‫قلت‪:‬‬
‫– وهلل الحمد‪.‬‬
‫رف كبي�ر علي�ه األدوية‪ .‬عندما س�معت‬
‫كان�ت ياس�مين وراء ٍّ‬
‫وتوجهت نحو المنضدة‬
‫ّ‬ ‫الرف الخش�بي‪،‬‬ ‫صوتي‪ ،‬خرجت من وراء ّ‬
‫الخشبية لالستقبال‪ .‬قالت‪:‬‬
‫جئت مبكّ ر ًا!‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫قالت لها صديقتها‪:‬‬
‫– ُيمكنكِ أن تغادري إذا شئت‪ ،‬سأتك ّفل بالباقي‪.‬‬
‫– حسن ًا شكر ًا‪.‬‬
‫استأ َذ ْ‬
‫نت زميلتها‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫السيارة‪.‬‬
‫– سأنتظرك في ّ‬
‫السيارة‪ُ ،‬تزيل وزرتها البيضاء‪ .‬لبست معطفها‪،‬‬
‫رأيتها من نافذة ّ‬
‫ثم خرجت لمالقاتي‪.‬‬
‫َّ‬
‫قبل أن أنطلق قالت لي‪:‬‬
‫فيم تريد حديثي؟‬‫– إذن َ‬
‫قلت لها بنبرة ساخرة‪:‬‬
‫ُ‬
‫طلبت الحديث معك ال استجوابك‪ ،‬وال أريد الحديث في‬ ‫ُ‬ ‫– ‬
‫السيارة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أغير‬
‫– أعت�ذر‪ ،‬ولك�ن علي�ك أن تنتظ�ر قليالً بع�د‪ ،‬يجب أن ّ‬
‫أوالً‪.‬‬
‫ثيابي ّ‬
‫‪293‬‬
‫أردفت تر ُّد لي سخريتي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫تحب رائحة األدوية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫– وال أعتقد أنّك‬
‫انطلقت قائالً‪:‬‬‫ُ‬
‫– كما شاء الياسمين‪.‬‬
‫تغير‬ ‫ٍ‬
‫لمدة وصلت العشرين دقيقة‪ ،‬ح ّتى تس ّنى لها أن ّ‬ ‫انتظرت ّ‬‫ُ‬
‫أحببت‬
‫ُ‬ ‫بني ًا فاتح ًا‪ ،‬بدت في أبهتها‪ ،‬بل‬
‫ثيابها‪ .‬جاءت تلبس فس�تان ًا ّ‬
‫الذهبي‪ ،‬بدا لي وجهها‬ ‫تصفيفة غطاء رأسها األسود وحزام خصرها ّ‬
‫مغاير ًا قليالً‪ ،‬ال أعتقد أنّها وضعت مس�احيق تجميل على وجهها‪،‬‬
‫ربما هو فقط كحل عينيها الذي يتناسب‬ ‫ربما وضعت القليل‪ ،‬أو ّ‬ ‫أو ّ‬
‫الس�مراء قليلاً‪ ،‬تبدو كغجرية أو ام�رأة من بالد‬ ‫م�ع بش�رة وجهه�ا ّ‬
‫األرمن‪.‬‬
‫قلت إنّي لم أرغب في ياسمين أكثر!‬ ‫سأكذب إن ُ‬
‫كنت تحت تأثير ما أحدثته‬ ‫س�يارتي‪ .‬ليس األمر أنّي ُ‬ ‫صعدت ّ‬‫ْ‬
‫بي الفتنة‪ ،‬إلاّ أ ّن قلبي قد نبض‪.‬‬
‫أش�حت نظري بابتس�امة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ق�ت إل�ى عينيه�ا للحظ�ات‪ّ ،‬‬ ‫حد ُ‬ ‫ّ‬
‫فقالت حينها‪:‬‬
‫– ماذا؟‬
‫– ال شيء‪...‬‬
‫– أعرف ابتسامتك تلك‪ ،‬تبدو ساخر ًة بعض ال ّشيء‪.‬‬
‫– تبدين أجمل من العادة!‬
‫– باسم اهلل عليك‪ ...‬باسم اهلل عليك!!‬
‫– إنّها الحقيقة!‬
‫!‪Go Go! Salade man..‬‬ ‫– ‬
‫‪294‬‬
‫ل�م أج�د مكان� ًا أفضل من ش�اطئ «عين الذي�اب»‪ ،‬كي أُفصح‬
‫لعل رطوبة المكان وصوت تالطم األمواج‬ ‫عم�ا ي�دور في خلدي‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫عل�ي‪ .‬وطوال ال ّطريق‪ ،‬ل�م أفكّ ر فيما‬ ‫ّ‬ ‫يكون�ان حلف�اء ل�ي بتأثيرهما‬
‫سيمكنني به أن أبدأ غايتي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الس�يارة ف�ي تل�ك ال ّطري�ق ال ّطويلة المليئة ّ‬
‫بالس�يارات‬ ‫ّ‬ ‫ركن�ت‬
‫ُ‬
‫دخلت من نافذتي ملوحة البحر فأنعش�تني‪ ،‬وكان‬ ‫ْ‬ ‫المركون�ة ط�والً‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كل ش�يء س�يجري على ما ُي�رام‪ ،‬فمزاجي كان‬ ‫البح�ر ينبئن�ي ب�أ ّن َّ‬
‫وأي‬
‫أي عائق ّ‬ ‫س�تخولني مواجه�ة َّ‬
‫ّ‬ ‫جي�د ًا‪ ،‬وش�عرت أن ب�ي قدر ًة ما‬ ‫ّ‬
‫ومش�يت أنا وهي جنب ًا لجنب‬‫ُ‬ ‫أوصدت الس�يارة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زخم من الكدر‪.‬‬
‫الصغيرة‪ ،‬التي‬ ‫الرصيف المقابل‪ ،‬حيث توجد بعض الكشكات ّ‬ ‫على ّ‬
‫السكر‪ .‬عندما‬ ‫تبيع رقائق البطاطس‪ ،‬والمث ّلجات‪ ،‬ومشروب قصب ّ‬
‫يدي في جيبي معطفي‪ .‬لم‬ ‫أدخلت ّ‬‫ُ‬ ‫الجو تختلجني‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫شعرت ببرودة‬
‫ُ‬
‫رضيت‬‫ُ‬ ‫تطوق ذراع�ي‪ ،‬أحرجتني‪ ،‬لك ّني‬ ‫أع�رف م�ن أي�ن أتت يدها ّ‬
‫جيد ًا لماذا قامت بذل�ك‪ ،‬كانت غير ًة فقط‪،‬‬ ‫ببهجته�ا‪ ،‬وأفه�م ذل�ك ّ‬
‫أحست بالحرج من النساء اللواتي‬ ‫ربما ّ‬ ‫فاألكثرية هنا يفعلون هكذا‪ّ ،‬‬
‫كنت‬
‫ُ‬ ‫مررن بجانبنا والالتي ُيمس�كن بأيدي رجالهن‪ .‬وفي الحقيقة‬
‫رأيت بعض ال ّشباب مررن بجانبي رمقنها‬ ‫ُ‬ ‫أنا أيض ًا مريد ًا لذلك‪ ،‬فقد‬
‫أردت ملكيتها لي وحدي اليوم‪ ،‬وهذا هو كبرياء رجل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫بنظرات‪ ،‬لذا‬
‫خائف أن يفقد ما ُيريد امتالكه إراد ًة ال رغبة‪.‬‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫– إلى أين اآلن؟‬
‫مطعم بحري‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫– أتركي األمر لي‪ ،‬وِجهتنا‬
‫– لكن ما يزال هناك وقت!‬
‫‪295‬‬
‫لهذا نحن نتم ّشى‪ ،‬من قال أنّنا سنذهب اآلن‪ ،‬المطعم هو‬ ‫– ‬
‫المح ّطة األخيرة‪.‬‬
‫إلى أين سنذهب اآلن؟‬ ‫ –‬
‫إلى حيث ذهبت قدماي‪ ،‬ضعي الثّقة فيهما‪ُ ،‬يحسنان اختيار‬ ‫– ‬
‫السبل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫جنونك المعتاد دائم ًا!!‬ ‫ –‬
‫المجنون�ون عقلاء‪ ،‬ثقي بي‪ ،‬إنّهم كذلك‪ ،‬غير أنّهم لديهم‬ ‫– ‬
‫الخاصة في ممارسة ال ّتعقل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫طريقتهم‬
‫ال ينته�ي جنون�ك ه�ذا! ماذا تس�مي ه�ذه الحالة في قلب‬ ‫– ‬
‫المعاني؟‬
‫تعنين فوبيا ال ّتناقض‪.‬‬ ‫ –‬
‫مصطلحات غبية كصاحبها!‬ ‫– ‬
‫أتتم ّلقينني أم ماذا؟‬ ‫– ‬
‫وإذا كنت‪ ،‬فماذا ستفعل؟‬ ‫– ‬
‫آخ م ّنك ّأيتها البدوية!‬ ‫– ‬
‫!‪Keep walking salade man, keep walking‬‬ ‫– ‬
‫السلطة» كما تعلمين!‬ ‫لست «رجل ّ‬ ‫ُ‬ ‫– ‬
‫ِ‬
‫بلى! نعطي األسماء غالب ًا للعادة التي تلتصق بال ّشخص‪.‬‬ ‫– ‬
‫استسلمت! هل ترضين بهذا؟‬ ‫ْ‬ ‫– ‬
‫كفاك استسالم ًا وقاوم‪ ،‬ر ّد لي ال ّتسمية بأخرى!‬ ‫– ‬
‫بـ‪« ‬سيدة الياسمين» أيعجبكِ هذا؟‬
‫ّ‬
‫حسن ًا! أحب أن أناديكِ‬
‫ّ‬ ‫– ‬
‫أصيل فعالً‪ُ ،‬تلقي عناوين لما يحيطك دون أن‬ ‫ٌ‬ ‫عربي‬
‫ٌّ‬ ‫أنت‬
‫َ‬ ‫– ‬
‫تشعر‪.‬‬
‫‪296‬‬
‫– ال أفتخر بذلك‪.‬‬
‫– ولماذا هذا االنتقاص؟‬
‫يتلوى‬
‫– ال أدري‪ ،‬تل�ك الق�درة في الش�خص العربي تجعله ّ‬
‫من ألمه بأشكال عديدة‪.‬‬
‫لم ترد ال ّتعمق كثير ًا فيما قلت‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫أحببت االسم‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يهمني ذلك‪،‬‬
‫ربما‪ ،‬لكن ال ّ‬ ‫– ّ‬
‫نتح�دث ط�وال ال ّطري�ق‪ّ ،‬‬
‫كل م�ا قي�ل كان معاكس�ات‬ ‫ّ‬ ‫ظللن�ا‬
‫وحاولت أن أكون ألطف من‬
‫ُ‬ ‫وممازح�ات بينن�ا كما يحدث دائم�ا‪،‬‬
‫أي سؤال‪.‬‬‫عد ًا نفسي لإلجابة عن ّ‬ ‫العادة ُم ّ‬
‫نظ�رت إل�ى س�اعة يدي بعد أن ك ّنا نجل�س على الرمل قرب‬
‫ُ‬
‫ال ّشاطئ‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬‫ُ‬
‫– حان الوقت‪ ،‬أنذهب؟‬
‫– كما تريد‪.‬‬
‫الرائحة المنبعثة من‬
‫شممت من مكاني ّ‬ ‫ُ‬ ‫خطونا مساف ًة قصيرة‪،‬‬
‫وكن�ت جائع ًا للمس�افة التي قطعناه�ا ولحديثي وضحكي‬ ‫ُ‬ ‫المطع�م‪،‬‬
‫التحية على صاحب‬
‫ّ‬ ‫المزين بالخش�ب‪ ،‬ألقينا‬ ‫ّ‬ ‫أيض ًا‪ .‬دخلنا المطعم‬
‫وتركت لياسمين‬
‫ُ‬ ‫رحب بنا‪ .‬جلس�نا إلى مائدة لش�خصين‪،‬‬ ‫المطعم‪ّ ،‬‬
‫اخترت أن أتبع ذوقها الذي ال ُيخطئ‬
‫ُ‬ ‫االختيار من قائمة ال ّطلبات‪،‬‬
‫ذهبت إلى دورة‬
‫ْ‬ ‫في إش�باع جوعي‪ .‬تركَ ْتنِي ياس�مين جالس� ًا بعد أن‬
‫ثت المس�ؤول عن ال ّطبخ ب�أن ال ُيضيف ّ‬
‫أي‬ ‫حد ْ‬
‫ث�م بعده�ا ّ‬‫المي�اه‪ّ ،‬‬
‫لصحتي كما أخبرتها‪ ،‬تفادي ًا لما قد يحدث لمعدتي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بهارات‪،‬‬
‫بعدها عادت تجلس قبالتي‪.‬‬
‫‪297‬‬
‫ت نصف كأس ماء موضوع ٍ على المائدة الخشبية‪ .‬قالت‪:‬‬‫شرب ْ‬
‫َ‬
‫– لك سبب لدعوتي هكذا فجأة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫ربما‪.‬‬
‫– ّ‬
‫بدت هلع ًة قليالً‪ .‬قالت‪:‬‬
‫صحتك‪ ،‬قل لي؟‬ ‫ّ‬ ‫– هل هي‬
‫شيء آخر‪ ،‬المهم هو‪..‬‬‫ٌ‬ ‫صحتي‬‫ّ‬ ‫– ‬
‫رت من مالمحي قليالً‪.‬‬
‫وغي ُ‬
‫ارتشفت جرعة ماء‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫– ياسمين‪ ،‬أريد جواب ًا فقط‪ ،‬لماذا ال تريدين شيئ ًا دائم ًا؟‬
‫فهمت ما أرمي‬
‫ْ‬ ‫عدلت غطاء رأسها بشيء من العصبية‪ ،‬كأنّها‬
‫ّ‬
‫إليه‪:‬‬
‫ – لم أفهم ما تعنيه؟‬
‫الرفض الذي أعيش عليه‪.‬‬‫ي ّ‬‫قلت لماذا ت ّتبعين َه ْد َ‬
‫ُ‬ ‫– ‬
‫قالت وهي تبتسم‪:‬‬
‫– أن�ت تعل�م! بال ّطب�ع أنت تعلم‪ ،‬فق�ط ال يمكنني وحيد‪ ،‬ال‬
‫أقدر‪.‬‬
‫– ال أري�د أن أحرج�ك بأس�ئلة‪ ،‬ولك�ن لم�اذا رفض�تِ تلك‬
‫وتمسكتِ بحبلي الذي يقترب من االنقطاع؟‬ ‫ّ‬ ‫العروض‪،‬‬
‫زادت عصبيتها درجة‪:‬‬
‫– تسألني لماذا؟ أعتقد أنّك تعلم مسبق ًا‪.‬‬
‫ش�عرت ببعض المرارة تستس�يغني‪ ،‬وببعض األلم ينبعث من‬
‫ُ‬
‫ياسمين‪.‬‬
‫ال ّلعنة عليك يا عاطفة الحب!‬
‫أشاحت وجهها عني‪ ،‬وإن لم أخطئ فقد الحت ذرفات دموع ٍ‬
‫‪298‬‬
‫شبه مرئية على عينيها‪.‬‬
‫الرأس‪:‬‬ ‫قلت مطاطئ ّ‬‫ُ‬
‫– هذا يقتلني أيض ًا‪ ،‬أكره هذا أيض ًا! ولكن‪...‬‬
‫رفعت صوتي قليالً‪:‬‬
‫ُ‬
‫– ياسمين انظري إلي!‬
‫أرجعت بصرها نحوي‪.‬‬
‫اليمنى ضرب ًة خفيفة‪ .‬وقلت‪:‬‬ ‫ضربت صدري بقبضتي ُ‬
‫ُ‬
‫ميت ًا؟ هه! أتقبلين بهذا؟‬
‫– أتريدين أن تتزوجي رجالً ّ‬
‫– أقبل وحيد أقبل‪.‬‬
‫الدائمة‪ ،‬وخارت ق�واي أنا من عصيانها‬ ‫أزعجتن�ي إصراراته�ا ّ‬
‫يتمسك بأمل ٍ في ال ّتأ ّلم فقط‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذي يتزايد‪ ،‬والذي‬
‫ٍ‬
‫قلت بص�وت متعبٍ قريبٍ من‬ ‫ألقي�ت بوزن�ي على الكرس�ي‪ُ .‬‬ ‫ُ‬
‫البكاء‪:‬‬
‫السنين التي عشتها‪ ،‬يمكن أن أقول لكِ أ ّن طعم‬ ‫– طوال هذه ّ‬
‫ٍ‬
‫بطريقة ما‪ ،‬ال أريد ألم ًا‬ ‫فت‬
‫تكي ُ‬‫مستحب ًا‪ ،‬لك ّني ّ‬
‫ّ‬ ‫األلم ليس‬
‫أكب�دك ِ ّإياه‪ُ ،‬يمكنني أن أصبر إن رأيتك س�عيدة فقط‬ ‫آخ�ر ّ‬
‫مع شخص غيري‪ ..‬سأُنسى مع الوقت‪.‬‬
‫– ‪................‬‬
‫صدقيني‪ ،‬إنّها رغب�ة لحظتك هذه‪،‬‬ ‫– أعل�م ف�ي ما تفكري�ن‪ّ ،‬‬
‫عذب أنا هناك‪ ،‬ال أريد أن أحترق‬ ‫أما بعد س�تندمين‪ ،‬وس�أُ ّ‬ ‫ّ‬
‫بدموعك في الحياة األخرى‪.‬‬
‫وبدأت أنهار مقدم ًا أمامها‪ .‬للحظة‬
‫ُ‬ ‫بدأت أقلق عندما لم ترد‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫ل�م أج�د الكلم�ات المالئم�ة كي أفس�ر ما يجب تفس�يره‪،‬‬
‫‪299‬‬
‫ٍ‬
‫بطريقة أو‬ ‫نفس�ي عاج�ز ًا‪ ،‬وكان أم�ر ًا طبيعي� ًا‪ ،‬فق�د كان�ت النتيج�ة‬
‫بأخرى ستأتي هكذا‪ ،‬مهما كانت نهايتها ستؤلمني زياد ًة‪.‬‬
‫اهتدى ُرشدي السمها فقط‪:‬‬
‫– ياسمين‪..‬‬
‫س�يارتي‪ ،‬ثم‬ ‫قل�ت اس�مها‪ ،‬حمل�ت حقيبته�ا ومفاتي�ح ّ‬ ‫ُ‬ ‫م�ا أن‬
‫ّ‬
‫الح�ظ كان المطعم خالي ًا‪،‬‬ ‫انس�حبت خارج� ًة م�ن المطعم‪ .‬لحس�ن‬
‫المقدم�ة‪ ،‬إلاّ أنّهم كانوا بعيدين‪ .‬لم أحاول‬ ‫ّ‬ ‫رغ�م بع�ض ال ّزبناء في‬
‫قمت بخطوتي إلى صاحب المطعم‬ ‫ُ‬ ‫أن أتبعها‪ ،‬كي ال أثير قلق أحد‪.‬‬
‫وتقبل عذري عن‬ ‫أعتذر له‪ ،‬على أن ُيلغي طلبنا‪ ،‬لحدوث أمر مهم‪ّ ،‬‬
‫خرجت أم ّشط اال ّتجاه الذي‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫حسن خاطر‪ .‬نقدته ثمن ما طلبنا‪ّ ،‬‬
‫سارعت في خطاي إليها‪ ،‬ولم أُرد أن أصرخ باسمها كي‬ ‫ُ‬ ‫جئنا منه‪.‬‬
‫تنتظرني‪ ،‬ألنّها لن تنتظر‪.‬‬
‫جلست في مقعدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السيارة‪،‬‬
‫فتحت باب ّ‬ ‫ُ‬
‫قلت لها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الذهاب؟‬ ‫– أين تريدين ّ‬
‫لكن كلماتٍ علقت‬ ‫المضي‪ّ ،‬‬ ‫أردت ُ‬
‫ُ‬ ‫لم ُتجبني وتركتني حائر ًا‪.‬‬
‫بصدري كان يجب أن تخرج‪ ،‬وأخرجتها بصعوبة‪.‬‬
‫يتبق لي الكثير ياس�مين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫– أنت ال تعرفين كم تبقّى لي‪ ،‬لم ّ‬
‫أصبحت لحظاتي معدودة‪.‬‬
‫المدة معك‪ ،‬ال أكترث إن كانت أسبوع ًا‪ ،‬شهر ًا‬ ‫– أريد تلك ّ‬
‫فتركك يعني‬
‫َ‬ ‫واحد ًا‪ ،‬سنة سنتان‪ ،‬ال أبالي وحيد ال أبالي‪،‬‬
‫موت�ي أيض� ًا‪ ،‬أن�ت ال تعرف م�اذا يمكن أن يحدث المرأة ٍ‬
‫ُ‬
‫أعدت نفسها ألشياء كهذه‪ ،‬يؤلمني‪ ..‬يؤلمني رؤيتك تعاني‬ ‫ّ‬
‫‪300‬‬
‫وحدك دون أن أفعل شيء‪.‬‬
‫– أنت ال تعين ما تقولين‪.‬‬
‫ل�م ُتع�ر ل�ي اهتمام ًا وخرجت‪ ،‬تبع ُتها‪ ،‬أمس�كتها من معصمها‬
‫قوتي ألو ّليها إلى صدري‪ ،‬وخارت‬ ‫استخدمت ّ‬
‫ُ‬ ‫وهي ما فتئت ُتقاوم‪،‬‬
‫قواها علي واستسلمت‪.‬‬
‫– أريد أن أرتاح ياسمين‪ ،‬أريد أن أرتاح في سالم‪ ،‬أريد ميتة‬
‫هنيئة‪.‬‬
‫كان كالمها متلعثم ًا وهي تقول‪:‬‬
‫– أعلم‪ ..‬أعلم‪ ..‬ويؤلمني هذا أكثر‪..‬‬
‫وضعت يدي أمسح على رأسها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مجرد عابر‪ ،‬اجعلي عبوري‬
‫– عزيزت�ي اتركين�ي ألرتاح‪ ،‬فأن�ا ّ‬
‫جميالً‪ ،‬هذا ما أطلبه منك‪.‬‬
‫أعدت سؤالي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫هدأت قليالً ومضيت معها إلى السيارة‪.‬‬
‫– أين نذهب؟‬
‫ج ّففت دمعها وقالت‪:‬‬
‫– هل نعود إلى المطعم؟‬
‫– لكن بشرط‪.‬‬
‫– ما هو؟‬
‫حدثيني عن نفسك أكثر‪.‬‬ ‫– ّ‬
‫طلب غريب‪ ،‬لك ّنك بدورك ستفعل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫– ‬
‫أورثك‬
‫– ال مشكل‪ ،‬لكن ليس اآلن‪ ،‬ألنّك ستقرأينني بعد أن ّ‬
‫ّإياه‪..‬‬
‫– أتعني‪..‬‬
‫‪301‬‬
‫– أجل‪ ،‬ستجدينني مكتوب ًا كامالً هناك ح ّتى لو غادرت‪.‬‬
‫بدا على وجهها مسحة حزن ٍ أخرى‪ ،‬لك ّني أبهجتها‪.‬‬
‫زلت هنا‪ ،‬فحاول�ي إعادة عجني من‬ ‫الس�اعة‪ ،‬أن�ا ما ُ‬
‫لح�د ّ‬
‫ّ‬ ‫– ‬
‫جديد‪ ،‬لك ّني أعدك أنّي سأبقى أنا أنا كما عرفتني يوم ًا‪.‬‬
‫– سأحاول‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫‪V‬‬

‫ِ‬
‫وددت لو أنّها لم تنته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كانت أمسي ًة‬
‫الالمشرفة‪ ،‬ولم يعد في مقدوري وضع اسم ٍ لي‬ ‫ّ‬ ‫عدت عودتي‬‫ُ‬
‫تحول‬‫بعد حس�رة الالعودة إليها‪ ،‬فطعم الفرح الذي ذقته معها قد ّ‬
‫غبي ًا‪ ،‬ساذج ًا‪،‬‬
‫إلى ألم‪ .‬ال أدري كيف يمكن أن أنعت نفسي اليوم‪ّ ،‬‬
‫كل مرادفات الالانتصار وال ّنقص‬ ‫مشرد ًا‪ ،‬عاجز ًا‪ ،‬محبط ًا‪ ،‬ولن تكفي ّ‬
‫ّ‬
‫حدثتني عن نفسها‪ ،‬زادتني غرق ًا باالشتياق إليها‪.‬‬ ‫في وصفي‪ ،‬فعندما ّ‬
‫قم�ت به�ا مع‬
‫ُ‬ ‫الس�وداء الت�ي‬ ‫أكان�ت ربح� ًا تل�ك المس�رحية ّ‬
‫ياس�مين؟ بال ّطبع كانت كذلك‪ ،‬إلاَّ أ َّن فوز ًا بطعم الخس�ارة ُيش�به‬
‫تهدم داخلي‪ ،‬فقد كان فؤادي‬ ‫الضحلة‪ .‬وبدون أن أحزر ما قد ّ‬ ‫المياه ّ‬
‫وعبأه هناك‪.‬‬
‫كل رصيد نبضه ّ‬ ‫لفظ آخر نبضة هناك لديها‪ ،‬استنزف ّ‬
‫لس�ت قابالً على ما آل إليه األمر‪ ،‬إلاّ أ ّن رغبة المقاومة‬ ‫ُ‬ ‫أدرك أني‬
‫تكسرت لدي‪ ،‬فضمرت من‬ ‫لذلك عندما عدت إلى شقّتي‪ ،‬كانت قد ّ‬
‫نغصة سرت من حلقي إلى أين يسكن الوجع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تلقاء نفسها في آخر‬
‫شعبِ القادم‬ ‫الصمود أمام ال ّت ُّ‬
‫سيمكنني ّ‬ ‫كل ذلك‪ ،‬ال أعتقد أنّه ُ‬ ‫وبعد ّ‬
‫للم�رض‪ ،‬فق�د تو ّل�د يأس في داخلي في صفة أم�ل‪ ،‬والذي ّ‬
‫ينبئني‬
‫بأ ّن القادم سيكون عاجالً‪ ،‬وأن ما سيأتي سيكون سقطتي األخيرة‪.‬‬
‫ذل�ك ال ّتح ّط�م األنث�وي لياس�مين بع�د أن و ّدعته�ا أم�ام باب‬

‫‪303‬‬
‫من�زل خالت�ي‪ ،‬قد أنّبني كثير ًا‪ .‬وواجب غيابي أصبح اآلن ضروري ًا‪،‬‬
‫وحاجتي اآلن لكي أختلي بنفسي وصلت ذروة العزلة‪ ،‬فمنذ ليلتي‬
‫سيتغير في نظري‬‫ّ‬ ‫هذه‪ ،‬يجب أن أضع مساف ًة بيني وبين العالم الذي‬
‫أكثر‪ ،‬ألنّي لن أصبر في العجز األخير‪ ،‬لهذا فأنا أحتاج عزل ًة ثابتة‪،‬‬
‫شروط سأخلقها‪ ،‬كي أعيش مع ما سيأتي بحذر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تتغير إلاّ بفعل‬
‫ال ّ‬
‫ولكي أضع أيض ًا حظر ًا لي من ال ّتم ّني في حين لحظة ضعف‪..‬‬
‫أقدم استقالتي غد ًا من ال ّشركة‪ ،‬ففصلي‬‫ثم سيكون ضروري ًا أن ّ‬ ‫ّ‬
‫األخير سيبدأ قريب ًا‪ ،‬وواجبي أن أعيشه ح ّتى آخر دقيقة وثانية‪ ،‬وح ّتى‬
‫آخر لطخة حبر‪..‬‬

‫‪304‬‬
305
‫‪I‬‬

‫قدمت استقالتي‪ ،‬وفور تقديمها‪ ،‬وقبل أن أغادر‬ ‫قبل أسبوعين ّ‬


‫مكتبي‪ ،‬جاء س�عد مس�رع ًا نحوي وهو يلهث‪ ،‬فقال لي‪« :‬لماذا؟»‪.‬‬
‫يتبق شيء أعمل عليه‪ ،‬حان وقت المضي»‪.‬‬ ‫قلت له‪« :‬صديقي‪ ،‬لم ّ‬
‫قال‪« :‬وماذا ستفعل‪ ،‬هل ستبحث عن عمل آخر؟ سأوصي بك حيث‬
‫تريد!»‪ .‬قلت‪« :‬لن تفهمني يا صديق! لم يعد في إمكان هذا الجسد‬
‫العمل بعد اليوم‪ .».‬قال‪« :‬ماذا تقول أنت؟»‪ .‬قلت‪« :‬تعبت! لم أعد‬
‫يتفحص خلقتي إلى أن‬ ‫ّ‬ ‫أس�تطيع المواصلة»‪ .‬راح لحظتها ينظر لي‬
‫أدرك األم�ر‪ ،‬فق�ال‪« :‬ال تق�ل لي أ ّن أخب�ار البارحة كانت‪ .»..‬قلت‪:‬‬
‫ثم غ�ادرت دون أن أترك نصف نظرة‬ ‫«م�ن ي�دري»‪ .‬قل�ت كالمي‪ّ ،‬‬
‫نحوه‪ ،‬فقد انهار سعد ورائي‪ ،‬ولم يستطع مقاومة ما حكته عيناه‪..‬‬
‫بدأ الكل يبكيني‪.‬‬
‫غادرت بعدها كشبح متس ّلالً من الباب الخلفي‪ ،‬حيث ركنت‬ ‫ُ‬
‫سيارتي‪ ،‬فلم أرد أن أخلق نصف حوار بيني وبين الحارس‪ ،‬وكنت‬ ‫ّ‬
‫الرجال معاهدة على‬ ‫أدري أ ّن س�عد ل�ن يح�اول اقتفاء أث�ري‪ ،‬فبين ّ‬
‫عكس ال ّنس�اء‪ ،‬لحظات الحزن عندنا ال تحتاج أنيس� ًا‪ ،‬وال تحتاج‬
‫كلم�ات ع�زاء ووداع‪ ،‬ح ّت�ى العتاب على الغياب ال يعني ش�يئ ًا‪ ،‬قد‬
‫نغيب سنين‪ ،‬وبعد ال ّلقاء ّ‬
‫تمر األمور كما كانت من قبل‪..‬‬

‫‪307‬‬
‫بع�د تقديم االس�تقالة‪ ،‬انتابني ش�عور الح�داد المغتصب‪ ،‬فقد‬
‫الراح�ة مقابل‬ ‫كن�ت آخذ به فس�حة من ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُحرم�ت م�ن الفع�ل ال�ذي‬
‫عنفوان تأريخ نفسي على ورق‪.‬‬
‫بقي�ت عل�ى ح�دادي م�ن ذلك ليومي�ن‪ ،‬بدون رش�ى الكتابة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وب�دون ر ٍّد عل�ى االتص�االت الهاتفية‪ ،‬وبكثير م�ن ال ّتجاهل لما أنا‬
‫مقبل عليه‪ .‬إلاّ أ ّن ذاكرة الياسمين تتبعني حيث مضيت‪ ،‬تقلق لعدم‬
‫الرد‪ ،‬تجترح عزلتي كما ال أريد‪ ،‬تقاومني‬ ‫الحدي�ث‪ ،‬تعاتبن�ي لع�دم ّ‬
‫عندما أُسهب في نفي نفسي‪.‬‬
‫ف�ي الي�وم الثّالث‪ ،‬أتت ياس�مين كي تخت�رق عالمي‪ ،‬جرحت‬
‫تظن أنّي‬
‫عزلتي ليالً برنّات على باب ش�قّتي‪ ،‬لم أرد أن أفتح كي ّ‬
‫لست موجود ًا‪ ،‬لك ّنها كانت بارع ًة في قراءتي‪ ،‬تدري أني لست من‬ ‫ُ‬
‫هواة ال ّتسكّ ع‪ ،‬وأ ّن ليلي هو منزلي‪ ،‬وأ ّن المكان الوحيد الذي ألجأ‬
‫إليه هو شقّتي‪ .‬نصف ساعة وهي ت ّتصل بهاتفي‪ ،‬وتضغط على رنّان‬
‫فتحت في ال ّنهاية مستقبالً‬
‫ُ‬ ‫ق‪ ،‬وتنادي باسمي لع ّلي أفتح‪.‬‬ ‫الباب وتد ّ‬
‫بقيت‬
‫ُ‬ ‫كل ش�يء‪ ،‬ال تفقد نفس�ك أيض ًا!»‬ ‫كالم العتب منها‪« :‬فقدت ّ‬
‫صامت� ًا‪ .‬قال�ت‪« :‬ل�ن تتخ ّل�ص م ّني هكذا‪ .».‬قل�ت‪« :‬أنا ال أحاول‪..‬‬
‫حتى اآلن»‪ .‬قالت‪« :‬لن أدعك تعيش هكذا‪ ..‬أقسم لك‪ ..‬لن أدعك‬
‫تفع�ل بنفس�ك هك�ذا! اكرهني إذا ش�ئت‪ ..‬لكن ل�ن أتو ّقف‪ ،‬وأنت‬
‫قلت عائد ًا أدراجي إلى األريكة‪« :‬دعي العناد إلى‬ ‫جيد ًا»‪ُ .‬‬ ‫تعلم هذا ّ‬
‫وقتٍ آخر‪ .».‬أقف َلتِ الباب‪ .‬قالت‪« :‬أنا ال أفهمك فقط ال أفهمك!‬
‫الرجال هكذا؟‬ ‫كل هذا؟ لماذا أنتم ّ‬ ‫فلم ّ‬‫شيء تأسى عليه‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يتبق‬
‫لم ّ‬
‫الغم‬
‫أتحبون ّ‬ ‫ّ‬ ‫ج�دي كذل�ك‪ ..‬والدي كذل�ك‪ ..‬وأنت مثلهم أيض� ًا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫�م ال تقولين أنّنا نكرهه» ثم‬ ‫الدرجة‪..‬؟» قلت س�اخر ًا‪« :‬ل َ‬ ‫إل�ى ه�ذه ّ‬
‫‪308‬‬
‫أضف�ت بع�د صمت‪« :‬الس�يما رجال ما قبل الم�وت!»‪ .‬قالت بنبرة‬
‫ب�اردة‪« :‬أن�ت تري�د ذلك حقّ� ًا‪ »..‬قلت‪« :‬س�أحاول أن أريد ذلك‪.».‬‬
‫«قلت لي أن أحاول تغييرك‪ ،‬إذن سأفعل‪ ،‬ثق بي‪ .»!..‬قلت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قالت‪:‬‬
‫«كيف؟»‪ .‬قالت‪« :‬س�تعرف كيف‪ ،‬فلن تتخ ّلص م ّني بس�هولة»‪ .‬قلت‬
‫حينها أداعب الجو‪« :‬تبدين أجمل عند الغضب‪ ،‬أريد أن أرى ماذا‬
‫يمكنك أن تفعلي»‪.‬‬
‫األي�ام‪ ،‬وبدأت أش�عر أنّي أقترب وأقترب من ش�فرة‬ ‫وتوال�ت ّ‬
‫الم�وت‪ ،‬لي�س اقتراب� ًا مجازي ًا‪ ،‬بل اقتراب ًا ّ‬
‫أقل ما يمكن أن ُيقال عنه‬
‫إنه جزئي‪ .‬وقد حاولت أن أتر ّهب قدر المستطاع‪ ،‬لك ّني كنت أفشل‬
‫أمام ياسمين‪ ،‬فقد اجترحت عزلتي‪ ،‬لدرجة أنّها غلبتني ح ّتى عزفت‬
‫ت شهر عطلتها ّ‬
‫لتبذره في مراقبتي‪.‬‬ ‫عن الكتابة إلاّ أحيان ًا‪ ،‬بل َ‬
‫أخذ ْ‬
‫الرجل وعاداته وأحزانه!‬
‫تغير المرأة من أقدار ّ‬ ‫يا إلهي كم ّ‬
‫راح�ت تلتص�ق ب�ي إلى أقصى حد‪ ،‬ل�م تتركني آكل وحدي‪،‬‬
‫أتأمل نفسي وحدي‪ .‬والعائلة هم أيض ًا‬ ‫وال أن أتن ّزه وحدي‪ ،‬وال أن ّ‬
‫كن�ت أجد ما يفوق‬
‫ُ‬ ‫أصب�ح اهتماه�م ب�ي أكث�ر‪ ،‬وفي الي�وم الواحد‬
‫الخمس ا ّتصاالت تلج هاتفي منهم‪.‬‬
‫كن�ت أؤم�ن دائم�ا‪ ،‬أ ّن لحظ�ات اله�دوء نذي�ر القتراب‬ ‫ُ‬ ‫كم�ا‬
‫الجو العائلي ودفء الياس�مين س�يدومان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ظننت أ ّن ذلك‬ ‫ُ‬ ‫العاصفة‪.‬‬
‫بل نبتت داخلي شتالت أمل وسالم أنّي سوف أواصل أكثر‪ ..‬لكن‬
‫لم يمض ِ سوى أسبوعين ح ّتى الحظت تفاقم المرض‪.‬‬
‫ل�م أكتش�ف وج�وب إحالتي إل�ى المستش�فى إلاّ بعد المرور‬
‫تعرجات جسدي أمام المرآة‪ .‬راقبته‬ ‫بتجربة أليمة في مراقبة سلوك ّ‬
‫كل ليل�ة قب�ل أن أن�ام‪ ،‬أقي�س وزن�ي وع�رض ص�دري وخص�ري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫‪309‬‬
‫ويوم� ًا بع�د ي�وم كان القياس ينخفض‪ ،‬ونتوءات العظام تأخذ مكان‬
‫الذهاب إلى المستشفى إلاّ بعد أن تأكّ دت في‬ ‫أقرر ّ‬‫العضالت‪ .‬لم ّ‬
‫إح�دى الليال�ي أن دماغ�ي هو اآلخر ب�دأت خالياه تموت على ما‬
‫أعتقد‪..‬‬
‫ح�دث ذل�ك عندما كنت أقيس كالع�ادة‪ ،‬فارد ًا جزئي العلوي‬
‫بعريه أمام المرآة‪ ،‬أراقب نهش ال ّزمن لما كان ين ّز حيا ًة‪ ،‬وكان يبدو‬
‫�زل بأكمله في خدش‬ ‫الضع�ف وخات�م حضوري اخ ُت َ‬ ‫ل�ي أ ّن نق�ش ّ‬
‫تلبدت‬ ‫الصغر على كتفي اليسرى‪ .‬عندما انتهيت من القياس وحين ّ‬ ‫ّ‬
‫خ�س وأضلعي‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬ ‫خيب�ة أخ�رى ف�ي رصي�د الخيبات م�ن وزني ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مكبد ٍ بدماء سود‪،‬‬‫ّ‬ ‫أضلعي‬ ‫بين‬ ‫مخفي‬ ‫بجزء‬ ‫التي انكمشت‪ ،‬فوجئت‬
‫وعندم�ا تبع�ت األثر‪ ،‬وجد ُت�ه ينبع من كبدي‪ ،‬لحظتها ا ّتخذ عاملي‬
‫خيالت‪ ،‬وعلى إثرها نزفت من أنفي وفمي‪،‬‬ ‫ال ّنفسي بقهر ال ّلحظة بال ّت ّ‬
‫الرحيل وجع ًا‪،‬‬ ‫ارتميت على األرض‪ ،‬فقد زادتني ذكرى اقتراب ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫وياسمين كانت دائم ًا تحضر في ذاكرتي عند لحظ َت ْي الفناء وال ّشفاء‪.‬‬
‫علي‪،‬‬‫ظننت أنّه سيغمى علي‪ ،‬لكن لم ُيغم ّ‬ ‫ُ‬ ‫لم أستطع الحراك‪ ،‬حتى‬
‫دت األرض لعدم حراكي‪ ،‬وحاولت أن أنام محتوي ًا ببرودتها‪.‬‬ ‫وتوس ُ‬
‫ّ‬
‫الصباح الباكر‪ ،‬استفقت على رعشة البرد الذي ألحفني‪،‬‬ ‫وفي ّ‬
‫بكل ش�لل‪ ،‬وا ّتصلت‬ ‫ثم عن غريزة بدون وعي‪ ،‬بحثت عن هاتفي ّ‬
‫بسعد كي يأتي إلى شقّتي في كالم قصير وصف ًا بأ ّن حالتي حرجة‪.‬‬
‫التفوه بش�يء‪ ،‬بل رحت أحاول إفهامه‬ ‫ّ‬ ‫عندما أتى لم أس�تطع ح ّتى‬
‫بإش�ارات‪ ،‬وعندما لم يدرك رس�التي‪ ،‬أعطاني ورقة وقلم‪ ،‬وكتبت‬
‫له عندما كان ال يزال في يدي القدرة على الكتابة في تلك الحالة‪،‬‬
‫وفي الحال ا ّتصل بطبيبي كي أُحال إلى قس�م ٍ بالمستش�فى‪ .‬قبل أن‬
‫‪310‬‬
‫سيارة إسعاف ٍ لتق ّلني‪ ،‬جاءت ياسمين وخالتي تؤلمان الوعيي‪.‬‬
‫تأتي ّ‬
‫السيارة‪ ،‬كانت أنفاس ياسمين تتصاعد بقربي‪ ،‬كأنّها‬
‫حين أدخلوني ّ‬
‫ه�ي م�ن كانت تحتاج األوكس�جين ليس أنا‪ ،‬وكان صدى أنفاس�ها‬
‫ته�دئ من روعي‪،‬‬ ‫يط�ن بأذن�ي عندم�ا كانت تحاول أن ّ‬
‫ّ‬ ‫المتهدج�ة‬
‫ّ‬
‫فقد كنت في حالة ش�تات وهذيان‪ .‬عندما أدخلوني غرفة اإلنعاش‬
‫الداخلي‪ ،‬كانت المرة األولى التي تحدث‬‫كي يعقّموا منبع ال ّنزيف ّ‬
‫يسمى بـ‪« :‬الجالء السمعي»‪ ،‬فحينما كانوا‬
‫لي تلك التجربة‪ ،‬أو ما ّ‬
‫س�معت‬
‫ُ‬ ‫ينهش�ون بمباضعه�م جس�دي‪ ،‬وحينم�ا كنت في الوعيي‪،‬‬
‫خالت�ي تق�رأ ببكاء آيات س�ورة اإلخالص والفل�ق والناس‪ ،‬وآياتٍ‬
‫ّ‬
‫من سورة الفجر تدعو لي بأن ينتهي شقائي ألطمئن بميتة رحيمة‪،‬‬
‫كنت أشير إليه ذات‬
‫كانت خالتي تتم ّنى لي الموت ألنّها فهمت ما ُ‬
‫حديثٍ معها‪..‬‬
‫تغيرت عاداتي بفعل اجتياح المرض‪ ،‬ألبقى جريح ًا‬
‫ومن وقتها ّ‬
‫ومكبالً بالعجز على س�رير‪ ،‬محاوالً إضافة ألوان أخرى إلى‬
‫ّ‬ ‫خائر ًا‬
‫ذاكرتي‪ ..‬ألوان األمل‪..‬‬

‫‪311‬‬
‫‪II‬‬

‫اليوم سيكون يومي األخير‪ ،‬أو باألحرى لن يكون‪ ،‬فما ال ّنهاية‬


‫سوى البداية‪ ،‬ففصل بدايتي ونهايتي سيبدأ بعد ساعات عندما ينتهي‬
‫امتنعت ع�ن الكتابة‬‫ُ‬ ‫قل�م الحب�ر ال�ذي ل�م أعد أكت�ب إلاّ به‪ ،‬فق�د‬
‫بالرصاص أخير ًا‪ ،‬وجميل أن يكون القلم الذي أكتب به قد قارب‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫على االنتهاء‪ ،‬فال أريد استبدال قلم جرح بآخر‪.‬‬
‫يب�دو أ ّن األم�ور وصل�ت إلى نهايتها أخي�ر ًا‪ ،‬الوهن اجتاحني‬
‫بالضرر كي أترنّم بما ُتنشده عصافير‬ ‫كما لم يفعل من قبل‪ ،‬وأشعر ّ‬
‫خلف نافذتي‪ ،‬وخلف عالمي المكس�ي بالبياض واأللوان ال ّش�فافة‬
‫لألنابيب التي تخترق جلدي بدون حياء‪.‬‬
‫أظن أنّه الثّالثاء‪،‬‬
‫األي�ام‪ ،‬ال أع�رف ما تاريخ الي�وم‪ُّ ،‬‬‫اختلط�ت ّ‬
‫ي�وم م�ن ّأي�ام أس�بوعي الخام�س‬ ‫ٌ‬ ‫ربم�ا اإلثني�ن‪ ..‬ال يه�م‪ ،‬ه�و‬
‫أو ّ‬
‫أطل على نافذتي ُلينير حجرتي‬ ‫الصباح قد ّ‬ ‫بالمستش�فى‪ ،‬ويبدو أ ّن ّ‬
‫قليالً‪.‬‬
‫أصبحت يداي هزيلتين‪ ،‬ونتوءات معصمي غدت ظاهر ًة بشكل ٍ‬
‫فقدت من وزني الكثير‪ ،‬وس�راويل المرضى أصبحت‬ ‫ُ‬ ‫الف�ت‪ ،‬فق�د‬
‫وكل قطع�ة قم�اش ألبس�ها أصبح�ت تفوح‬ ‫كبي�رة المق�اس عل�ي‪ُّ ،‬‬
‫منها رائحة المرض ورائحة اقتراب الموت‪ .‬عظامي أمس�ت باردة‪،‬‬

‫‪312‬‬
‫أبح�ث ع�ن ال ّتدفئة ال غير‪ ،‬فف�ي آخر األمر فقد انقلبت‬ ‫ُ‬ ‫وأصبح�ت‬
‫ُ‬
‫يتغير فيها شيء سوى‬ ‫ضدي على غير نفسي التي لم ّ‬ ‫طبيعة جسمي ّ‬
‫ٍ‬
‫أق�در على الحراك‪ ،‬لكن بحدود طاقة تنتهي س�ريع ًا‪،‬‬ ‫ضع�ف أكث�ر‪.‬‬
‫ُ‬
‫كل عضو ٍ من جس�دي‪،‬‬ ‫بفعل آالم ظهري واألرق الذي انتش�ر في ّ‬
‫أحس بأن أطنان� ًا من الحديد تربض عليهما‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫كتف�ي اللتي�ن‬
‫ّ‬ ‫وخاص� ًة‬
‫ّ‬
‫يتغير كثير ًا‪ ،‬ولم تقبل شعيرات جسدي بأن تنسل‪،‬‬ ‫شكل وجهي لم ّ‬ ‫ُ‬
‫وكنت مبتهج ًا لذلك‪ ،‬سأزداد مرار ًة إن سقط شعري‪ .‬وهزالني ذاك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت آكله في األس�ابيع‬
‫قيؤ ألي ش�يء ُ‬ ‫لم يكن ناتج ًا س�وى عن ال ّت ّ‬
‫وبت أرفض طعام‬ ‫شهيتي تدريجي ًا‪ّ ،‬‬
‫فقدت ّ‬
‫ُ‬ ‫الثّالثة األولى‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫الضئيل هو أنب�وب المغذي‪،‬‬ ‫المستش�فى‪ .‬طاق�ة حراك�ي مصدره�ا ّ‬
‫إضاف ًة إلى منبع اإلرادة الذي أحمله داخلي‪ .‬بشرتي أصبحت ّ‬
‫أشد‬
‫ش�حوب ًا وصفرة‪ ،‬وعيناي أمس�تا تكتسيان بلون المرض‪ُ ،‬‬
‫صفر ًة تار ًة‬
‫وحمر ًة تار ًة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أخير ًا أصبح بإمكاني أن أقول بأنّي سعيد‪ ،‬لن أرحل في فصل‬
‫والدتي‪.‬‬
‫فلتستعد أرضك الخصبة لتستقبلني‪..‬‬
‫ّ‬ ‫مرحب ًا يا فصل ّ‬
‫الربيع‬
‫***‬
‫أخذت‬
‫ُ‬ ‫اعتدل�ت ف�ي تس�ريحتي واضع ًا ظهري على الوس�ادة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ساعة يدي من فوق منضدة على جانبي األيسر‪ ،‬والتي عليها مصباح‬
‫كنت فيها على قيد كتابة‬
‫ليالي التي ُ‬
‫َّ‬ ‫صغير أش�عله ليالً ُمعيد ًا ّ‬
‫بجوه‬
‫نفسي‪.‬‬
‫الحظت‬
‫ُ‬ ‫وضعت ساعة يدي‪ .‬تن ّف ُ‬
‫ست ما سعته رئتاي من الهواء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫خف عطبها‪ ،‬بل كأنّني أصبحت‬ ‫في ّأيامي األخيرة أ ّن نفس�يتي قد ّ‬
‫‪313‬‬
‫خفيف ًا على األرض‪ ،‬كما لو أن األشياء التي كانت ُتعاكسني قديم ًا‬
‫صدي‬ ‫أصبح وجودها حولي شبه منعدم‪ ،‬وال ّظاهر أ ّن خططي في ال ّت ّ‬
‫فكل ما أصب�ح يتناهى إلى‬ ‫لم�ا يزيدن�ي ك�در ًا ق�د باءت بال ّنج�اح‪ّ ،‬‬
‫سمعي هذه األيام‪ ،‬هو هدوء محض‪ ،‬وسكينة رطبة داخلي‪ ،‬كأنّني‬
‫فقدت القدرة على مجابهة االنزعاج‪ ،‬وأنّه هو أيض ًا قد رثى لحالي‬ ‫ُ‬
‫فأصب�ح حليف�ي بمغادرته دون ع�ودة‪ .‬حاالت غضبي هي األخرى‬
‫خمدت‪ ،‬فلم أشعر بغليان عروقي مند زمن‪.‬‬
‫زيارات العائلة صارت أقل من قبل‪ ،‬وكان ذلك أفضل‪ ،‬ألنّي‬
‫المتفرقة‪ ،‬كانوا يزدادون يأس ًا وشفق ًة‬ ‫ّ‬ ‫كما رأيت في زياراتهم العشرة‬
‫ك ّلم�ا عادون�ي‪ ،‬فق�د فهم�وا ما ترمي إليه عق�ارب الوقت‪ ،‬بأ ّن زمن‬
‫رحيلي سيكون عن قريب‪ ،‬فهذا الهدوء غير العادي الذي تداولني‬
‫ولس�ت متضايق ًا من هذا‬ ‫ُ‬ ‫في األيام األخيرة‪ ،‬يؤ ّهبني لس�كتة أبدية‪.‬‬
‫ال ّتحايل إذا كان ذلك ُيريحني في فترتي هذه‪ ،‬كما أنّه عادل‪ ،‬وينفض‬
‫أحببت األش�ياء التي تأتي‬ ‫ُ‬ ‫الرتاب�ة الت�ي تنتظر ال ّتغيير‪ ،‬فلطالما‬
‫ع ّن�ي ّ‬
‫كرتها‪ .‬أدري أ ّن استقبال هادم ال ّلذات لن‬ ‫مر ًة واحدة دون أن ُتعيد ّ‬
‫ّ‬
‫يمر ذلك بسالم‪ ،‬إلاّ أ ّن ما تبقّى‬ ‫معوالً على أن َّ‬ ‫ولست ِّ‬
‫ُ‬ ‫يكون سهالً‪،‬‬
‫السنوات الهرمة التي عشتها سيكفي‬ ‫الصبر الذي جمعته طوال ّ‬ ‫من ّ‬
‫كل‬ ‫كل شيء‪ ،‬أنا رجل بين موت وحياة‪ ،‬وبعد ّ‬ ‫على ما أظن‪ ،‬فقبل ّ‬
‫شيء‪ ،‬فقد استجاب لي القدير أخير ًا‪.‬‬
‫صرت‬‫ُ‬ ‫اإلضافية التي ُتضاف في أواخر مارس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الساعة‬
‫مع هذه ّ‬
‫أتلذذ‬ ‫أش�عر أنّي أس�بق ال ّزمن بلحظات‪ ،‬أن تغلغله في يغدو تزييف ًا ّ‬
‫َّ‬
‫قضيتي ال ّش�خصية أمام‬ ‫قضي�ة الوطن بأكمله‪ ،‬لك ّنها ّ‬ ‫ب�ه‪ ،‬أدرك أنّه�ا ّ‬
‫عمري الذي سينقضي بشكل أسرع بفعلها‪ ،‬وهذا ال ّنوع من ال ّتسارع‬
‫‪314‬‬
‫األيام أسرع‪ ،‬ألنّه‬
‫يغير منطق العادة لدي‪ ،‬كما ُتصبح ّ‬ ‫ُيعجبني‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫وأب�ذر فيه وقتي‪ ،‬فق�د ُحرمت‬‫ّ‬ ‫ل�دي م�ا أقض�ي فيه س�اعاتي‬ ‫َّ‬ ‫لي�س‬
‫من عملي بس�بب المرض‪ ،‬إلاّ أنه كان في س�بيل صبر س�ينتهي في‬
‫لحظاتٍ أخيرة‪.‬‬
‫كل شيء‪.‬‬ ‫إنّه رضاي بعد ّ‬
‫وضع�ت األوراق‬
‫ُ‬ ‫ري�ح ق ّلب�ت أوراق�ي التي أراجعها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫دخل�ت‬
‫نهضت أغلق ال ّنافذة‪ ،‬فلم يعد‬
‫ُ‬ ‫والقلم في درج تحت المنضدة‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬
‫س�معت طرقات على الباب المفتوح‬ ‫يس�تهويني ال ّنظر عبر ال ّنوافذ‪.‬‬
‫ُ‬
‫اس�تدرت بعد غلق ال ّنافذة‪ ،‬وقد كان س�عد‪ .‬ا ّتجه نحوي‬
‫ُ‬ ‫لحجرتي‪.‬‬
‫ُيصافحن�ي ك ّف� ًا لك�ف إل�ى األعلى‪ ،‬كما يفعل العبو كرة ّ‬
‫الس�لة أو‬
‫كرة القدم‪.‬‬
‫قال لي‪:‬‬
‫– كيف حالك يا صديقي؟‬
‫– بخير‪.‬‬
‫استلقيت بسريري‪.‬‬
‫ُ‬
‫– ألن تأتي نجوى؟‬
‫– ستأتي بعد قليل‪.‬‬
‫فور حديثي عنها‪ ،‬دخلت تحمل بيدها كيس ًا‪ّ ،‬‬
‫مدته لي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫هدية م ّني ومن سعد‪.‬‬
‫– هذه ّ‬
‫هت نظري‬ ‫الحظت بيدها التي أعطتني الكيس خاتم ًا ذهبي ًا‪ّ .‬‬
‫وج ُ‬
‫صوب سعد‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬
‫– سعد يبدو أنّه قريب!‬
‫‪315‬‬
‫ب�دا ل�ي وجه�ه قد امتأل ِ‬
‫بس�مة الحزن‪ ،‬فف�ي الغالب لن أكون‬
‫حاضر ًا‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫– عدني أنّك ستحضر‪.‬‬
‫– س�أحضر يا صديقي‪ ،‬س�تعلم أني س�أكون الحاضر الوحيد‬
‫هناك‪ ،‬وجميع الحضور سيكونون غائبين‪.‬‬
‫لو لم تنتشلنا نجوى من صمتنا‪ ،‬الستغرقنا وقت ًا حتى تعود لنا‬
‫صيغة الحديث ومو ّدته‪.‬‬
‫قالت نجوى‪:‬‬
‫– كفاكم ألغاز ًا وكلمات ال أفهمها‪ ،‬ال تس�تغرقوا في ال ّتفكير‬
‫المستقبلي‪.‬‬
‫الصمت الذي حام بيننا‪.‬‬ ‫فانقشع حينها ّ‬
‫ب ّلغني س�عد سلام ًا من المدير وال ّزمالء‪ّ .‬‬
‫ثم انتهت زيارتهما‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كلمة له‪« :‬كُ ْن بخير!»‪ ،‬ونجوى‬ ‫قال لي سعد قبل أن ُيغادر في آخر‬
‫قب�ل أن تخ�رج قال�ت لي‪« :‬اس�قي ورودك اليوم‪ ،‬فصاحبتها س�تأتي‬
‫اليوم»‪ .‬وكان كذلك‪ ،‬فبعد ال ّظهيرة ا ّتصلت بي ياس�مين أنّها س�تأتي‬
‫بعد انتهاء عملها‪.‬‬
‫كنت بصدده‪.‬‬
‫الدرج أكمل م�ا ُ‬ ‫أخرج�ت أوراق�ي وقلم�ي م�ن ّ‬
‫ُ‬
‫وبعدما شعرت بعياء الجسد أخذت غفوة‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫‪III‬‬

‫صفرة‬ ‫عيني على ُ‬‫ّ‬ ‫فتحت‬


‫ُ‬ ‫استيقظت على عبق رائحة الياسمين‪،‬‬
‫الصغير‪.‬‬
‫مصباحي ّ‬
‫أتى المساء إذن!‬
‫عين�ي كي‬
‫ّ‬ ‫أغمض�ت‬
‫ُ‬ ‫ث�م‬
‫الس�قف ش�به المظل�م‪ّ ،‬‬ ‫ق�ت ف�ي ّ‬‫حد ُ‬ ‫ّ‬
‫اليمنى‪ ،‬شعرت بحرارة‬ ‫كمشت يدي ُ‬
‫ُ‬ ‫يستشعر جسدي وعي المكان‪.‬‬
‫فوجدت‬
‫ُ‬ ‫عيني من جديد أللقي نظر ًة على يدي‪،‬‬‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫تنوط بها‪.‬‬
‫استويت‬
‫ُ‬ ‫ياس�مين ُتس�ند رأس�ها على س�ريري نائمة و ُتمس�ك يدي‪.‬‬
‫الصغيرة كانت ال تزال تؤنس‬ ‫بظهري على الوس�ادة‪ ،‬ويد ياس�مين ّ‬
‫شعرت أ ّن قسوة الحياة ملكتها ياسمين‬‫ُ‬ ‫عظام يدي ال ّنحيفة‪ .‬لوهلة‬
‫أيض ًا‪.‬‬
‫س�يدة الياس�مين ه�ذه‪ ،‬ما زال�ت أبجدية ياس�مينها‬ ‫ل�م تي�أس ّ‬
‫تسكنني وتلعب دورها في تقديمي للون الفرح‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كعصفور يتث�اءب‪ .‬وجدتني‬ ‫أقب�ل يده�ا لو لم تس�تيقظ‬‫ك�دت ّ‬
‫ُ‬
‫أبتسم لحضورها‪.‬‬
‫– يا لكِ من طفلة! يأخذك ال ّنوم ح ّتى في المستشفيات‪.‬‬
‫ضحكت وهي تتثاءب‪.‬‬
‫– اخرس‪ ..‬اخرس! لو لم تكن نائم ًا لما نمت‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫ضحكت قائالً‪:‬‬
‫ُ‬
‫– كما تقولين!‬
‫تحسن؟‬
‫ّ‬ ‫– هل األمور في‬
‫ثم قلت‪:‬‬‫صمت للحظة‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫– تبدو األمور بخير‪.‬‬
‫بالضعف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تلوت كالمي بابتسامة عريضة تشي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫وسقيت بآخر‬
‫ُ‬ ‫حملت ق ّنينة الماء التي كنت أحتضنها بجانبي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫المغذي نحو‬ ‫جررت مشجب‬
‫ُ‬ ‫نهضت من السرير‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما فيها األزهار‪.‬‬
‫ال ّنافذة ألفتحها‪.‬‬
‫قلت لها بعد فتحها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫– تعالي أريد أن أريك شيئ ًا‪.‬‬
‫تقدمت نحوي‪ .‬قامت بوضعيتي نفسها‪ ،‬وضعت مرفقيها على‬ ‫ّ‬
‫حاشية ال ّنافذة‪.‬‬
‫السماء وقلت‪:‬‬‫نظرت إلى ّ‬
‫ُ‬
‫– أتعلمين! هناك نجمة في لحظة مناسبة تتع ّلق في سماء اهلل‪،‬‬
‫ألي كائن بش�ري‪ ،‬دائم ًا‬
‫أحب ش�يء ّ‬ ‫ّ‬ ‫تك�ون تل�ك ال ّنجم�ة‬
‫تتفرد بال ّلمعان بين النجوم األخرى وال تغيب‪.‬‬
‫ّ‬
‫أشرت بسبابتي إلى نجمتي الوحيدة هناك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ياسمين‪ ،‬أترين تلك ال ّنجمة هناك؟‬ ‫– ‬
‫تلك القريبة من الهالل‪.‬‬ ‫– ‬
‫ٍ‬
‫مرة أحادثك فيها‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬
‫نع�م‪ .‬إنّه�ا أنت‪ ،‬قد تكون ه�ذه آخر ّ‬ ‫– ‬
‫ربم�ا ه�ذا ه�و ال�وداع هنا عل�ى األرض‪ ،‬لك�ن تيقّني أنّي‬
‫ّ‬
‫سأبقى هناك أعلى‪ ،‬قد أغيب‪ ،‬لكني سأحضر قرب نجمتي‬
‫‪318‬‬
‫تلك‪ ،‬ألنّها فقط أنتِ‪..‬‬
‫– ‪...........................‬‬
‫كنت أبحث عن‬ ‫كنت أناديك كل ليلة مقمرة‪ ،‬فقد ُ‬ ‫– أتدرين ُ‬
‫ش�ك اآلن في ما س�أقول‪ ،‬فببس�اطة‬‫ّ‬ ‫موطن أعود إليه‪ ،‬وال‬
‫أن�ت موطن�ي‪ ،‬كن�تِ تس�كنينني منذ الق�دم‪ ،‬لك ّني فقط لم‬
‫أُلق ِ باالً‪ ،‬واآلن تأ ّخر الوقت‪ ،‬هذا قاس ٍ ياس�مين‪ ،‬س�أُحرم‬
‫منك‪...‬‬
‫الس�ماء‬
‫كدت أعيد نظري من ّ‬ ‫ُ‬ ‫تتف�وه ياس�مين بكلمة‪ ،‬وما‬ ‫ّ‬ ‫ل�م‬
‫إليه�ا‪ ،‬ح ّت�ى وجدته�ا تبكي‪ ،‬وكانت عين�اي كذلك‪ ،‬فقد آن لي بعد‬
‫أجزاء منه‬
‫ٌ‬ ‫بكاء على قلبي الذي استعادت‬ ‫ً‬ ‫زمن أن أبكي‪ ،‬أن أفرح‬
‫ٍ‬
‫هويتها التي ضاعت في أزمنة غابرة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫احتضنتها كأنّي ال أريد فراقها‪.‬‬
‫كم أبكيتك ياس�مين‪ ،‬س�امحي ألمي ال ّنزق‪ ،‬ال تنس�يني‪ ،‬فقد‬
‫�بت في محاوالت ال ّنس�يان‪ ،‬دعي ش�بابي يعود بتذكّ رك لي‪ ،‬ولو‬ ‫ِ‬
‫ش ُ‬
‫البرزخية‪ ،‬وكيف س�تكون‬
‫ّ‬ ‫بزيارات قبور‪ ،‬ال أدري كيف هي الحياة‬
‫الدور الذي يقوم به الميت‪.‬‬‫حالتي مع الالوقت هناك‪ ،‬وال أدري بعد ّ‬
‫وجه�د حديث�ي كاد أن يفقدن�ي وعي�ي بي�ن‬ ‫أجه�دت كثي�ر ًا‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫وج�ررت مش�جب المغ�ذي بمس�اعدة منه�ا كي‬ ‫ُ‬ ‫ذراعيه�ا‪ ،‬فتركته�ا‬
‫السرير‪.‬‬‫أستلقي على ّ‬
‫الدموع‪.‬‬ ‫جلست وابتسام ٌة تعلو على وجهها مع ّ‬ ‫ْ‬
‫قالت‪:‬‬
‫يخيل لي أنّي لم أعرفك يوم ًا هكذا‪ ،‬بل أشعر‬ ‫– تبدو مختلف ًا! ّ‬
‫بأ ّن حضورك أصبح أقوى من ذي قبل‪.‬‬
‫‪319‬‬
‫قلت وأنا أضحك‪:‬‬
‫عدت طفالً‪ ..‬من جديد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫– ‬
‫بعد لحظة غمرني الحزن‪ ،‬فسألتني‪:‬‬
‫مرة أخرى؟‬
‫– ما بالك ّ‬
‫غص ًة حارقة‪ .‬قلت‪:‬‬
‫بلعت ّ‬‫ُ‬
‫– ياسمين أنا حزين اليوم‪.‬‬
‫– ‪................‬‬
‫– لي�س م�ا تعتقدين�ه‪ ..‬أن�ا حزين على أرض الياس�مين‪ ،‬إنّها‬
‫تنسل‪ ..‬سوريا تنزف‪.‬‬
‫– ‪..................‬‬
‫يئن من جانبها‪ ..‬أريد أن أفعل شيئ ًا‪..‬‬
‫– قلبي ّ‬
‫خدها وقلت‪:‬‬ ‫مسحت دمع ًة نزلت على ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫– أريد أن أطلب منك شيئ ًا‪..‬‬
‫– وما هذا الذي تريده؟‬
‫– أنتِ تعلمين أنّه ال أحد سيرثني‪ ..‬أريد من سوريا أن ترثني‪،‬‬
‫تبرعي بكل ما لدي‪ ..‬بيعي ش�قتي‪ ..‬أي ش�يء‪ ،‬س�أعطيكِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫جميع ما أملك‪ ،‬وامنحيه في سبيل سوريا‪ ..‬ياسمين‪ ،‬أتألم‬
‫عندما أرى سوريا تنزف حزن ًا‪ ..‬ويتم ًا‪..‬‬
‫– ‪..................‬‬
‫– أعل�م أنن�ي ال أقدر على ش�يء‪ ..‬فرجل س�يموت لن يفيد‬
‫في ش�يء‪ .‬ياس�مين! ِجدِي طريقة كي تدعميهم بها‪ ..‬إنّهم‬
‫أحبه!‬
‫يحبون الياسمين كما ّ‬ ‫إخواني‪ّ ،‬‬
‫ثم أكملت‪:‬‬
‫صمت بعد برهة‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫‪320‬‬
‫– ‪ ..‬ل�و كان ممكن� ًا‪ ..‬أري�د أن أدفن هناك! أريد أن أدفن في‬
‫أحب أن أدفن‬
‫ّ‬ ‫عرب�ي أليس كذل�ك‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أرض الياس�مين‪ .‬أن�ا‬
‫هن�اك‪ ..‬أو فق�ط ألقي بجس�دي هناك‪ ،‬س�يعرف الياس�مين‬
‫كيف ُيعالجني فدائم ًا ما هو يفعل‪.‬‬
‫بكاء‪..‬‬
‫ً‬ ‫جهدت ياسمين‬‫ْ‬ ‫أُ‬
‫ياسمين‬
‫ُ‬ ‫زلت أُ ْبكيها وأَ ْبكيها‪ ..‬لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟‬
‫ما ُ‬
‫سيحييه اهلل‪..‬‬
‫دمشق يحترق‪ ،‬لك ّنه سيعود‪ُ ..‬‬
‫خيم الحزن على الغرفة‪ ،‬ومنظر ياس�مين زاد من ألمي أكثر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫– موعد الزيارة قارب على االنتهاء‪ ،‬قاربت العاش�رة‪ ،‬يجب‬
‫أن أرتاح‪ ،‬فموعد دوائي اقترب‪.‬‬
‫مدت‬‫حمل�ت حقيبته�ا بعد أن تدارك�ت الوقت هي األخرى‪ّ .‬‬ ‫ْ‬
‫لي بكوب ماء وناولتني دوائي‪ ،‬شربته وسرى في دمي ُيرغمني على‬
‫االستعداد لل ّنوم‪.‬‬
‫إلي‪ .‬كانت مالمح وجهها تعزم على‬ ‫للحظات بقيت واقف ًة تنظر ّ‬
‫خدي وأخرى‬ ‫ٍ‬
‫ثم قامت بخطوات نحوي وطبعت قبلة على ّ‬ ‫شيء‪ّ .‬‬
‫انصرفت دون‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫على جبيني‪ ،‬فقالت‪« :‬هذه كي تبقيك على الحياة»‪ّ ،‬‬
‫أن تقول كلمة وداع ٍ ألنّها ال تريد وداعي‪ ،‬كما ال يريد الياسمين أن‬
‫الصدر‪ ،‬وإذا‬
‫يفارق أناسه‪ ..‬فالوطن ليس رقعة أرض‪ ..‬بل عضلة في ّ‬
‫بقي األثر يتوارث‪.‬‬ ‫تو ّقفت العضلة‪َ ..‬‬
‫اقتربت من ياسمين زاد ضعفي وا ّتضحت‬ ‫ُ‬ ‫كنت كهانكوك‪ ،‬ك ّلما‬ ‫ُ‬
‫مالمح�ي‪ ،‬وكم�ا قال�ت‪ ،‬فإنّ�ي أبدو غريب� ًا الي�وم‪ ،‬والغرابة هي من‬
‫أتحس�س ش�فتيها بوجنتي وجبيني‬ ‫ّ‬ ‫الرحي�ل‪ .‬س�أحاول أن‬ ‫عالم�ات ّ‬
‫‪321‬‬
‫ما أمكن‪ ،‬وس�أحاول أن أس�خّر ذاكرتي في تكرارها دون ال ّش�عور‬
‫بالملل‪ ..‬والقادم مهما يكن سأحملها في ذاكرة قلبي‪.‬‬
‫سيدتي‪ ،‬فرقودي األخير قادم‪.‬‬
‫ال تنتظريني ّ‬

‫‪322‬‬
‫‪IV‬‬

‫عدة كبسوالتِ مرارة‬ ‫وتخرقت ّ‬‫ّ‬ ‫اكتنفتني األوجاع‪ ،‬وخثر الدم‪،‬‬


‫داخلي‪ .‬أرش�دنا اهلل بأن ال نودي بأنفس�نا إلى التهلكة‪ ،‬ويبدو أني‬
‫كنت أُرغم على نفس�ي أن أتلو عليها أنّي‬ ‫وعذبتها‪ُ .‬‬‫أهلكت نفس�ي ّ‬
‫ا ّتخ�ذت طريق� ًا حيادي�ة للعيش‪ ،‬فآمن�ت بأ ّن طريقي تلك كانت هي‬
‫األرقى لظاهرة كالتي كنت أش�كلها‪ ،‬لكن أدرك في هذه اللحظات‬
‫أن أفكار ًا سلبية فقط كانت رابضة على ذهني‪ ،‬فلو أنّي فكّ رت بشكل‬
‫س�يان‪ ،‬لم أكن ألحظى‬ ‫لكن�ت أفض�ل م�ن اآلن‪ .‬بيد أ ّن األمر ّ‬ ‫ُ‬ ‫آخ�ر‬
‫بياس�مين ف�ي كلتا الحالتين‪ ،‬فق�د كان الموت قدري‪ ..‬كان الموت‬
‫قدم�ت طلب ًا إلى الطبيب كي أج�ري العملية‪ ،‬لكن‬ ‫حاج�زي‪ ،‬فلق�د ّ‬
‫ش�ك‬
‫ّ‬ ‫ذلك كان متأ ّخر ًا‪ ،‬فقد انتش�ر الس�رطان في كامل كبدي‪ ،‬وال‬
‫أنّه انتشر أيض ًا في األعضاء األخرى‪ ،‬وأصبح مستحيالً فعل شيء‪.‬‬
‫العمر لحظات‪ ..‬لكن ال بأس‪.‬‬
‫رغب�ت أن أم�وت وأن�ا راض ٍ ع�ن ّ‬
‫كل م�ا أوجعني‪ ،‬وألاّ أعيد‬ ‫ُ‬
‫رغبت أن أغادر وأن�ا أحمل جبال الذاكرة‬‫ُ‬ ‫ذك�رى الحني�ن األول�ى‪،‬‬
‫أحن إليه يحت�رق أمامي على مماتي‪ ،‬على أن‬ ‫ّ‬ ‫مع�ي‪ ،‬أك�ره رؤي�ة ما‬
‫رغب�ت أن أفنى‬
‫ُ‬ ‫مش�يع ًا جنازتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بخط�ى متعب�ة ف�ي ال ّطريق‬
‫ً‬ ‫يمش�ي‬
‫الذاكرة تريد بقاء أثري على هذه‬ ‫دون ص�دى وال ص�ور ًة تع�اد ف�ي ّ‬

‫‪323‬‬
‫األرض‪ ..‬لكن ما هكذا ُتحاك األحزان‪ ،‬فالمآسي تسمى كذلك ألنّها‬
‫تجمع الفرد والجماعة‪ ..‬إذن فمرحى للوجع وبؤسه!‬
‫لم أعد أحتمل!‬
‫تجترن�ي‪ ،‬تجذبني من أز ّق�ة الفرح إلى‬ ‫ّ‬ ‫روائ�ح الحني�ن ب�دأت‬
‫غياب�ات الح�زن ال ّطوي�ل‪ .‬والوقت الذي بدأ ين�زح ببطء نحو الغد‪،‬‬
‫قضيت أوقات ًا أمارس ما كان يمارسه‬ ‫ُ‬ ‫يحقن في أوردتي الوجل‪ .‬قبالً‬
‫حس�بت احتماالت كم تبقّى لي من‬ ‫ُ‬ ‫وأعد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأعد‬
‫ّ‬ ‫أعد‬
‫نيوتن‪ ،‬فقط ّ‬
‫الدقائق‪ ..‬من الثّواني‪ ..‬من ال ّلحظات‪..‬‬ ‫الساعات‪ ..‬من ّ‬ ‫األيام‪ ..‬من ّ‬
‫ّ‬
‫ولم أجد في ال ّنهاية غير هذه ال ّلحظة لحظ ًة للفناء‪ .‬وإنّه المساء كما‬
‫خ ّططت‪ ،‬سأكتمل بنهاية قصيدة ٍ ابتدأتني‪.‬‬
‫إحساس اليوم بأ ّن الوقت قد اقترب‪ ،‬وأ ّن وقت السفر قد‬ ‫ٌ‬ ‫لدي‬
‫َّ‬
‫الرحيل كقلم الحبر األزرق الذي‬ ‫حان له أن يأتي‪ .‬وقد أزفت ساعة ّ‬
‫أكتب به‪ ،‬والذي ش�ارف على االنتهاء هو اآلخر فقد أصبح باهت ًا‪،‬‬
‫الدنيا‬
‫سيس�خِّر آخر قطراته في كلماتي األخيرة‪ ،‬وحبر هذه ّ‬ ‫والذي ُ‬
‫ال ينف�ع ف�ي كتاب�ة فصل ما بعد الموت‪ ،‬فللم�وت توقيته الخاص‪،‬‬
‫وال ُيمكنني وصف رقودي األخير‪ ،‬ولو كان ُممكن ًا‪ ..‬فلن أفعل‪.‬‬
‫م�ا الكلم�ات األخي�رة التي ُيمكنني أن أنكتب بها اآلن يا ترى‬
‫قبل االضمحالل؟‬
‫مهذبة تحمل عنف�وان رجل ٍ راحل‪،‬‬ ‫فلتك�ن جملاً راقي�ة إذن‪ّ ،‬‬
‫يهمني أمر أحد آخر سوى ياسمين‪.‬‬ ‫وال ّ‬
‫إلي�ك وح�دك ِ ياس�مين‪ ،‬حاول�ي أن تكتنزين�ي داخل صدرك‪،‬‬
‫وليذكرني قلبك ياسمين فأنا أحتاجه‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫حبذا لو‬
‫الس�ريعة قبل ال ّنفاد‪ّ ،‬‬
‫لن ينفع ال ّتمني اآلن في كتابتي ّ‬
‫كنتِ هنا أيتها الغائبة ع ّني والقريبة إلى ذاكرتي‪ ،‬أريدك أن تمسحي‬
‫أمي عندما أمرض‪ ،‬أريد شفتيك على‬ ‫على رأسي كما كانت تفعل ّ‬
‫وخدي‪ ..‬فقط امنحيني وقت ًا كي أطيل ال ّتحديق في عينيك‪..‬‬‫ّ‬ ‫جبهتي‬
‫ياسمين ال أجيد الكالم في منطق الحب‪ ،‬وكلماتي ال ترضى‬
‫خط الوصايا‪ ،‬لذا فهذه هي آخر‬ ‫أن تلين له‪ ،‬ويدي كذلك ال ُتجيد ّ‬
‫لغوي قبل أن ينفد‬ ‫كلماتي لكِ‪ ،‬لربما هي آخر ما أملك من رصيد ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫وأنفد‪:‬‬
‫غادرتكِ فال تذبلي‪.‬‬

‫‪2015/12/20‬م‬
‫ه�شام فريد‬

‫‪325‬‬

You might also like