You are on page 1of 144

novbo

ook.net ‫روايات وكتب‬

-1-
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫في الطفولة‬
‫تأليف ‪ /‬عبد المجيد بن جلون‬

‫‪-2-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪1‬‬

‫ل و أنن ي كن ت أع رف ش يئًا ع ن اﻷف ﻼك واﻷب راج وطوال ع الكواك ب لم ا نفعن ي‬


‫ذل ك ف ي معرف ة ه ل الي وم ال ذي ول دت في ه ك ان ي وم س عد أو ي وم نح س‪ ،‬ذل ك أنن ي‬
‫ضا ‪.‬‬
‫ﻻ أجهل هذه اﻷشياء فحسب‪ ،‬ولكنني أجهل اليوم الذي ولدت فيه أي ً‬

‫س ه كلم ا‬‫ولس ت حانقً ا ف ي ذل ك عل ى أح د‪ ،‬ﻷن ه يتناس ب م ع الغم وض ال ذي أح ﱡ‬


‫حاول ت أن أت ذكر أي امي اﻷول ى‪ ،‬وم اذا يفي د اﻹنس ان أن يع رف الس اعة والي وم‬
‫والش هر والس نة الت ي ول د فيه ا‪ ،‬م ا دام ت الس نون الت ي س وف يقض يها ف ي الحي اة‬
‫مجهول ة‪ ،‬وم ا دام هن اك مقي اس للطفول ة والش باب والكهول ة والش يخوخة‪ ،‬وه و‬
‫أصدق في الدﻻلة على عمره من أيام يشغل نفسه بع ّدِها‪.‬‬

‫ﻻ أس تطيع أن أت ذكر ب الطبع كي ف ش رعت ف ي الحي اة‪ ،‬ولك ن ﻻ ش ك ف ي أنن ي كن ت‬


‫أرف ع ص وتي بالعوي ل ف ي الش هر اﻷول‪ ،‬وﻻ ش ك أن مﻼمح ي كان ت رخ وة‬
‫لي تمكن الن اظر إليه ا م ن تخي ل الش كل ال ذي س يتخذه ف ي النهاي ة ه ذا المخل وق‬
‫الجدي د‪ .‬وﻻ ش ك ف ي أن أول م ا أحببت ه م ن ال دنيا الجدي دة الت ي أقبل ت عليه ا ك ان‬
‫هو الرضاع‪ ،‬وأن أول مكروه أصابني هو الفطام‪.‬‬

‫إنن ي كلم ا انح درت م ع الماض ي أفض ت ب ي الح وادث ف ي النهاي ة إل ى ع الم‬
‫غ امض‪ ،‬مث ل ال ذي اس تفاق م ن حل م نس يه قب ل أن يس تفيق‪ ،‬ﻻ يمنع ه ه ذا النس يان‬
‫م ن ت ذكر العاطف ة الت ي كان ت مس يطرة علي ه أثن اءه‪ ،‬فه و يس تطيع أن يق ول إن‬
‫الحل م ك ان مزع ًج ا أو هنيئ ً ا‪ ،‬ب الرغم م ن أن ه ﻻ يت ذكر من ه ش يئًا‪ .‬أم ا العاطف ة الت ي‬
‫أك اد أش عر بأنه ا كان ت مس يطرة عل ى نفس ي ف ي ذل ك الح ين‪ ،‬فه ي م زيج م بهم م ن‬
‫اﻻس تغراب والخ وف والتطل ع‪ .‬كن ت كال ذي اكتش ف ح دود مدين ة قديم ة فج أة‪،‬‬
‫‪-3-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أس تغرب للفج أة‪ ،‬وأخ اف مم ا ق د يك ون ف ي داخ ل المدين ة‪ ،‬ولك ن تطلع ي المم زوج‬
‫بالفضول يدفع خطواتي إليها‪.‬‬

‫حت ى إذا كب رت قل يﻼً واستأنس ت ب المحيط ال ذي ول دت في ه ب دأ اﻷم ن يع ود إل ى‬


‫ض ا ﻻ ت دخل ف ي دائ رة ال ذكريات‪ .‬قي ل إنن ي ول دت‬ ‫نفس ي‪ .‬ولك ن ه ذه المرحل ة أي ً‬
‫ف ي مدين ة ال دار البيض اء ث م قض يت ف ي تل ك المدين ة بض عة أش هر‪ ،‬ث م ركب ت‬
‫البح ر ب ين ذراع ي أم ي إل ى إنكلت را‪ .‬وق د ك ان ذل ك بع د الح رب العالمي ة اﻷول ى‪،‬‬
‫أي أنن ي م ررت ف ي ب ﻼد حديث ة العه د ب الحرب‪ ،‬وم ع ذل ك ﻻ أذك ر منه ا ش يئًا ي دل‬
‫على أنني كنت أنتفع بالنظر أو التمييز‪.‬‬

‫وق د عرف ت الحي اة ﻷول م رة ف ي مدين ة منشس تر‪ ،‬وﻻ ب د أن وقت ً ا ل يس بالقص ير ق د‬
‫م ر قب ل أن تبت دئ ذاكرت ي ف ي اخت زان الص ور‪ .‬والص ور اﻷول ى القديم ة الت ي‬
‫أحتفظ بها في نفسي قليلة تعد على أصابع اليد‪.‬‬

‫فتح ت عين ي ف إذا أن ا ف ي من زل ق ديم يح يط ب ه الغم وض واﻹبه ام‪ ،‬كان ت حديق ة‬


‫كبي رة تق ع خلف ه كثي را م ا أش رفت عليه ا م ن الناف ذة‪ ،‬وتق ع أمام ه حديق ة ص غيرة‬
‫يح دها ح اجز حدي دي طوي ل يق وم ب ين المن زل والش ارع ويخترقه ا ممش ى قص ير‬
‫يفض ي إل ى بواب ة عالي ة م ن حدي د‪ .‬ك ان البي ت يت ألف م ن ثﻼث ة أدوار‪ ،‬كبي ر‬
‫اﻷبه اء والغ رف ض خم النواف ذ مل ون الزج اج‪ .‬وكان ت ه ذه اﻷوص اف تجعلن ي ﻻ‬
‫أطم ئن إلي ه أب دا‪ .‬ول م يك ن للحديق ة الخلفي ة الكبي رة بس تاني‪ ،‬ول ذلك كان ت وحش ية‬
‫النبات ات‪ ،‬تنته ي بأش جار ض خمة تبع ث رعب ا ً مبهم ا ف ي ال نفس‪ .‬وكن ت أرى م ن‬
‫آن ﻵخ ر ه ّرا أو كلب ا يج ري خ ﻼل اﻷعش اب‪ ،‬ث م يقف ز ف وق الح اجز ويختف ي ‪.‬‬
‫وكثي را م ا س اءلت نفس ي ع ن ه ذه اﻷش ياء الت ي تتح رك وم ع ذل ك فه ي ليس ت ف ي‬
‫ش كل اﻹنس ان‪ ،‬وم ا أزال أذك ر أن ه را عظ يم الهام ة داهمن ي ذات ي وم‪ ،‬فص رخت‬
‫ي‪ .‬ومم ا زاد ف ي يقين ي ب أن ه ذه المخلوق ات مخلوق ات ش ريرة‬ ‫حت ى ك اد يغم ى عل ّ‬
‫أن أه ل المن زل ك انوا يطاردونه ا‪ .‬وكان ت النواف ذ الض خمة ذات الزج اج المل ون‬
‫تثي ر ف ي نفس ي القل ق لض خامتها ولﻸض واء الملون ة الحزين ة الت ي كان ت تنف ذ منه ا‪،‬‬
‫أض ف إل ى ه ذا الض باب والثل وج وش دة الب رد‪ ،‬فق د تع اون ذل ك كل ه عل ى إث ارة‬
‫خيالي العاجز‪ ،‬حتى تأصل الرعب في نفسي‪.‬‬
‫‪-4-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أم ا اﻷش خاص ال ذين ك انوا ح ولي فه م أب ي وأم ي والمربي ة‪ .‬وكان ت عﻼقت ي‬
‫بالمربي ة أم تن م ن عﻼقت ي ب أبي ال ذي ك ان يغي ب ع ن المن زل ط ول النه ار ف ﻼ‬
‫أراه إﻻ ل يﻼً‪ ،‬وأم تن م ن عﻼقت ي ب أمي فق د كان ت ش ابة ض عيفة؛ ﻻ تمكنه ا ص حتها‬
‫الواهية من اﻻهتمام بي‪.‬‬

‫وكان ت المربي ة مثلن ا م ن م راكش‪ ،‬ول م أك ن أفارقه ا ﻻ ف ي اللي ل وﻻ ف ي النه ار‪،‬‬


‫وكن ت أس تغرب لكث رة م ا تع رف‪ ،‬فه ي ﻻ تنف ك تح دثني ع ن ب ﻼد بعي دة تق ول إنن ا‬
‫جئن ا منه ا‪ ،‬ب ﻼد تش به أح داثها أح داث الخراف ات واﻷس اطير‪ ،‬وكان ت ت روي ل ي‬
‫ي ت أثير ش ديد حت ى‬ ‫ك ذلك أقاص يص الص غار‪ .‬وق د ك ان لمث ل ه ذه اﻷس اطير عل ّ‬
‫نش أ عن دي بع د ذل ك مي ل إليه ا‪ ،‬وق د أث ارت ف ي نفس ي عالم ا يع ج باﻷش باح‬
‫والحيوانات والمخلوقات الخيالية‪.‬‬

‫وق د كن ت متأك دا م ن أنن ا أربع ة أش خاص نع يش ف ي ه ذا المن زل‪ ،‬كم ا كن ت متأك دا‬
‫م ن أنن ي أع رف ك ل غرف ه ومداخل ه ومخارج ه‪ ،‬بحي ث ل م يك ن عن دي أي ش ك ف ي‬
‫أن ه ﻻ يمك ن أن يك ون هن اك أح د ل م أره‪ ،‬فم ا راعن ي ذات ي وم إﻻ أنن ا أص بحنا‬
‫خمس ة أش خاص! فم ن أي ن أت ى ه ذا الش خص الخ امس؟! ه و طفل ة ص غيرة اندس ت‬
‫بينن ا وأزعجتن ا بعويله ا وص راخها‪ .‬وق د كن ت أع رف أن ال ذين يزورونن ا ليس وا‬
‫من ا‪ ،‬ف ﻼ داع ي لﻼس تغراب م ن وج ودهم‪ ،‬ولك ن ه ذه الطفل ة من ا وه م يقول ون عنه ا‬
‫إنها أختي‪.‬‬

‫راقن ي ج ّدا أن تك ون ل ي أخ ت‪ .‬ولس ت أس تطيع أن أنس ى الغبط ة الت ي ش عرت به ا‬


‫عن دما رفع وني ﻷنظ ر إليه ا وه ي نائم ة ف ي مه دها‪ .‬وم ن ي دري؟! لعله ا أع ادت‬
‫إل ى ذهن ي ذكري ات كان ت قريب ة من ي يوم ذاك‪ ،‬ولكنه ا ض اعت من ي اﻵن بع د أن‬
‫تراكمت عليها اﻷيام والسنون‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫واقت رن به ذا الح ادث ح ادث آخ ر ك اد يُطي ر ص وابي‪ ،‬ذل ك أنن ا تعارفن ا م ع عائل ة‬
‫إنكليزي ة ت دعى )آل ب اترنوس( وه ي تش مل أ ّم ا وث ﻼث فتي ات وش ابين‪ ،‬وكث رت‬
‫بينن ا الزي ارات حت ى توثق ت وش ائج ال ود بينن ا‪ ،‬وك ان ه ؤﻻء اﻷف راد يحب ونني‬
‫برع ايتهم ومحب تهم‪ ،‬وربم ا قض يت ف ي من زلهم الي ومين أو الثﻼث ة‪ .‬وك ان من زلهم‬
‫الص غير ي ذهب ع ن نفس ي م ا أح س ب ه م ن الوحش ة ف ي منزلن ا‪ ،‬ول ذلك كن ت‬
‫أح رص عل ى أن أص حبهم إلي ه كثي را‪ ،‬ث م ب دأت أش عر ب أنهم يتحاش ون مص احبتي‬
‫معه م‪ ،‬وب دأت أس مع أن اﻷم مريض ة‪ ،‬ث م قي ل ذات ي وم إنن ا س نزورهم‪ .‬وم ا ك دت‬
‫أقت رب م ن البي ت م ع المربي ة حت ى ش عرت ب أن س حابة م ن الح زن تظلل ه‪ .‬ودخلن اه‬
‫ف إذا بج و غري ب مكتئ ب يم ﻸ أرج اءه‪ ،‬وإذا بال دموع الص امتة تنح در م ن العي ون‪،‬‬
‫وال ذهول مرتس م عل ى الوج وه‪ ،‬وقض ينا بع ض الوق ت ﻻحظ ت خﻼل ه حرك ة غي ر‬
‫عادي ة محوره ا غرف ة ف ي ال دور الث اني‪ .‬حاول ت أن أفه م ولكنن ي ل م أس تطع‪ ،‬حت ى‬
‫إذا انصرفنا سألت المربية ونحن في الطريق‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا يبكون يا ماما؟‬


‫‪ -‬مسز باترنوس‪.‬‬
‫‪ -‬ما لها؟‬
‫‪ -‬كانت مريضة‪.‬‬
‫‪ -‬هل يبكون ﻷنها كانت مريضة؟‬
‫‪ -‬ﻻ‪.‬‬

‫‪ -‬وإذن لماذا يبكون؟‬


‫‪ -‬ﻷنه ا س افرت وس وف ﻻ ترج ع أب دا‪ ،‬ف ﻼ تس تغرب إذا أن ت زرته م ول م تج دها‪.‬‬
‫سافرت إلى بﻼد بعيدة‪ ،‬ﻻ يرجع منها من يسافر إليها‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ثم قالت وكأن الكلمة قد أفلتت منها‪ :‬ماتت يا بن ّ‬
‫مات ت! إن ه فع ل أس معه ﻷول م رة‪ .‬وب الرغم م ن أنن ي ل م أع رف مدلول ه‪ ،‬فق د‬
‫أحسست بقشعريرة تسري في جسمي الصغير‪ ،‬فسألت‪:‬‬

‫‪-6-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬ماذا يعني ماتت؟‬


‫‪ -‬ذهبت عند ﷲ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هو ﷲ؟‬
‫همست بنزعتها الدينية‪ :‬اسكت‪.‬‬
‫ثم بعد هنيهة أردفت‪:‬‬
‫‪ -‬حينما نجلس في المساء إلى المدفأة سأحدثك عنه‪.‬‬
‫وجلس نا إل ى الم دفأة ف ي المس اء وق د اس تولى عل ى نفس ي ه ذا الح وار من ذ س معته‬
‫فلم أفكر في شيء غير ﷲ والموت‪.‬‬

‫وكان ت الغرف ة كبي رة ذات نواف ذ عالي ة تظه ر م ن ورائه ا الحديق ة الموحش ة‪،‬‬
‫وذات أث اث ض خم عتي ق‪ .‬وكان ت الن ار تلته ب ف ي الموق د بألس نة ﻻفح ة حم راء‪،‬‬
‫ولس ت أدري ه ل كان ت مام ا ‪ -‬وهك ذا كن ت أدعوه ا ‪ -‬ت روي ل ي قصص ها‪ ،‬أو كن ا‬
‫ي م ا س معته ف ي‬
‫ف ي ص مت‪ .‬ذل ك أنن ي كن ت أرن و إل ى الن ار وق د اس تولى عل ّ‬
‫الصباح‪.‬‬

‫وب دأ اللي ل يس دل أس تاره‪ ،‬وأخ ذت ذرات ه الس وداء تتس رب إل ى الغرف ة الكبي رة‬
‫فتش يع فيه ا مس حة م ن الغم وض‪ ،‬ويزي دها ض وء الله ب اﻷحم ر رهب ة وج ﻼﻻً‪،‬‬
‫وك ذلك اﻷش جار الموحش ة الت ي كان ت تب دو وكأنه ا أش باح ش وهاء قائم ة ف ي‬
‫الحديق ة‪ .‬وانتظ رت م ن مربيت ي أن تح دثني ع ن ﷲ والم وت فل م تفع ل‪ .‬وأخي را‬
‫سألتها دون مقدمة‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ﻻ يرجع من يسافر إلى ﷲ؟‬
‫‪ -‬ﻷنه ﻻ يستطيع الرجوع‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا يسافر؟‬

‫‪-7-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫قال ت وق د انعك س عل ى محياه ا ض وء الله ب اﻷحم ر‪ ،‬وب دت تق اطيع وجهه ا‬


‫الح ادة كأنه ا تمث ل ص رامة الق در‪ ،‬وكان ت معانيه ا تتس رب إل ى نفس ي مج ردة‬
‫ي أن صوتها يأخذني من كل مكان‪:‬‬ ‫فيخيل إل ّ‬

‫‪ -‬هن اك ع الم آخ ر ي ا بن ي خف ي ع ن اﻷنظ ار‪ ،‬ونح ن نقض ي ف ي ه ذا الع الم عمرن ا‪،‬‬
‫ث م نم وت فت دفن أجس امنا ف ي اﻷرض وتنتق ل أرواحن ا إل ى ذل ك الع الم اﻵخ ر‪.‬‬
‫ويخلقن ا ﷲ حت ى إذا متن ا حاس بنا عل ى اﻷعم ال الت ي نق وم به ا‪ .‬ف إذا كن ا أخي ارا‬
‫أرس لنا إل ى الجن ة حي ث نع يش دائم ا ف ي س عادة‪ ،‬وإذا كن ا أش رارا أرس لنا إل ى ن ار‬
‫نحت رق فيه ا‪ ،‬ول ذلك ف ﻼ ب د م ن أن تحاس ب نفس ك وأﻻ تق وم باﻷعم ال الت ي ﻻ‬
‫يحبها ﷲ‪ ،‬حتى ﻻ يحكم عليك باﻻحتراق حينما تموت‪.‬‬

‫لس ت أذك ر أن ح ديثا أث ار نفس ي مث ل ه ذا الح ديث‪ ،‬فق د كان ت ك ل كلم ة م ن كلمات ه‬
‫تهزن ي ه ّزا عنيف ا‪ ،‬ول م أفك ر ف ي الجن ة وﻻ ف ي الس عادة الموع ودة وإنم ا فك رت ف ي‬
‫الن ار‪ ،‬وكن ت أنظ ر إليه ا بعين ين ض ارعتين متوس لتين كم ا ل و ك ان ف ي اس تطاعتها‬
‫أن تنق ذني م ن ه ذا المص ير الم روع ال ذي ينتظرن ي‪ .‬فقل ت له ا لك ي أتأك د مم ا‬
‫تقول‪:‬‬

‫‪ -‬وهل سأموت أنا أيضا يا ماما؟‬


‫‪ -‬أنت وأنا وكل من في الدنيا‪.‬‬

‫‪ -‬ولكن ﷲ لن يبعثني أنا إلى النار؟‬


‫‪ -‬إذا فعلت الخير‪.‬‬

‫‪ -‬وإذا فعل ت الش ر فس يأتي أب ي وت أتي أم ي وأن ت ف ﻼ تدعون ه يرس لني إل ى ه ذه‬
‫النار‪ .‬أليس كذلك يا ماما؟‬

‫‪-8-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬ﻻ يت دخل أح د ف ي ش ؤون اﻵخ ر هن اك ي ا بن ي‪ .‬ث م س معتها تق ول باللغ ة العربي ة‬


‫دون أن أفهم‪" .‬ﻻ إله إﻻ ﷲ‪ ،‬ﷴ رسول ﷲ‪ ،‬عليها نموت وعليها نحيا‪".‬‬

‫ش عرت بي أس رهي ب يتملكن ي ‪ ،‬وكان ت عين اي مثبتت ين ف ي الله ب المض طرم‬


‫ي أن ألس نته تتط اول لتلتهمن ي‪ ،‬وك ان تفكي ري مرك زا‬
‫ال راقص أم امي‪ ،‬وخي ل إل ّ‬
‫في النار حتى إنني كنت أحس بروحي تصرخ بين ألسنتها‪.‬‬

‫ي ا للي أس! ﻻ مف ر م ن أن أم وت ف ي ي وم م ن اﻷي ام‪ ،‬فيلق ى جس مي ف ي الت راب‬


‫المظل م ويظ ل هن اك إل ى اﻷب د يص رخ ويبك ي‪ ،‬وتلق ى روح ي ف ي الن ار وتظ ل‬
‫هن اك تص رخ وتبك ي إل ى اﻷب د أيض ا‪ ،‬ف ﻼ أظف ر بمس اعدة أب ي وﻻ أم ي كم ا أظف ر‬
‫بها في الدنيا‪ ،‬وﻻ يأتي ﻹنقاذي أحد‪.‬‬
‫من ذ ذل ك الي وم أقتط ع م ن ن ومي ج زءا ل يس بالقلي ل‪ ،‬وع ّج ت أحﻼم ي ف ي الن وم‬
‫واليقظ ة بص ور مرع دة مبرق ة‪ .‬كن ت أتمن ى م ن ص ميم قلب ي أن أج د شخص ا يق ول‬
‫ل ي إن ه ذا غي ر ص حيح‪ ،‬فل م أج ده‪ ،‬وك ان ك ل واح د ي روي نف س الخب ر ويختم ه‬
‫ب دعوتي إل ى عم ل الخي ر‪ ،‬اﻷم ر ال ذي ض ايقني‪ .‬فكي ف أس تطيع أن أفك ر ف ي‬
‫الخير وأنا مهدد بكل هذا الويل والثبور؟!‬

‫وأبت الحياة بعد هذا الحادث مباشرة إﻻ أن تصيبني بحادثة أخرى أشد وأقسى‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫كان ت أم ي كم ا قل ت م ن قب ل ش ابة ض عيفة‪ ،‬فكثي را م ا كن ت أراه ا طريح ة‬


‫الف راش‪ ،‬وم ا أزال أذك ر أن أيام ا كامل ة كان ت تم ر دون أن أراه ا‪ .‬وق د كن ت‬
‫أش عر نحوه ا بعط ف خف ي‪ ،‬ب الرغم م ن أنن ي كن ت أمي ل ك ل المي ل نح و المربي ة‪،‬‬
‫ﻷنه ا كان ت مس تأثرة بليل ي ونه اري كم ا قل ت‪ ،‬ولك ن ص ورتها ض اعت م ن‬
‫ذاكرتي تماما‪ ،‬ولست أذكر إﻻ حادثة واحدة تقترن بها‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫رفت إل ى اللع ب‪،‬‬‫ُ‬ ‫كن ت ألع ب ب بعض اللع ب وحي دا ف ي الغرف ة‪ .‬وإذا انص‬
‫انص رفت إلي ه تمام ا كم ا ل و كن ت أزاول عم ﻼً م ن اﻷعم ال‪ .‬وكان ت عن دي لعب ة‬
‫تتطل ب من ي جه دا كبي را‪ ،‬وه ي عب ارة ع ن قط ار يج ري عل ى قض بان م ن حدي د‪،‬‬
‫وكان ت ه ذه القض بان طويل ة ومتش عبة تش غل أرض الغرف ة كله ا تقريب ا‪ ،‬يس تغرق‬
‫تركيبه ا من ي وقت ا كبي را‪ .‬وقض يت وقت ا ط ويﻼ ف ي تركيبه ا‪ ،‬ث م ف ي إن زال العرب ات‬
‫فوقه ا‪ ،‬ث م ف ي ش د العرب ات إل ى الق اطرة‪ .‬وأخي را ت م م ا كن ت أرم ي إلي ه‪ ،‬وب دأ‬
‫القطار يجري فوق قضبانه في سهولة ويسر‪.‬‬

‫دخل ت أخت ي إل ى الغرف ة ف ي ه ذه اللحظ ة بال ذات وه ي تحب و‪ ،‬وم ا ك ادت ت رى‬
‫القط ار يج ري حت ى حب ت إلي ه مغتبط ة ب ه‪ ،‬ولكنه ا ل م تكت ف ب ذلك وإنم ا وض عت‬
‫ي دها الص غيرة عل ى القض بان ورفعته ا فتفكك ت أج زاء القط ار وانقل ب عل ى‬
‫اﻷرض‪ ،‬وتبعث ر ف ي لحظ ة م ا جمع ت ف ي س اعات‪ ،‬فل م أط ق ص برا عل ى ه ذا‬
‫اﻻعت داء‪ ،‬ول م يكفن ي أن أص رخ وأس تغيث وإنم ا خرج ت م ن الغرف ة أج ري ث م‬
‫رجع ت وأن ا أحم ل عص ا كبي رة أخ ذت أض ربها به ا‪ ،‬فبك ت المس كينة بك اء مؤلم ا‪،‬‬
‫وس مع أف راد العائل ة ف ي الغرف ة المج اورة بكاءه ا ف أقبلوا مس رعين وأقبل ت أم ي‬
‫ورفعته ا م ن اﻷرض‪ ،‬ث م ناولته ا إل ى المربي ة وأرادت أن تض ربني فهرب ت‬
‫فتبعتن ي‪ ،‬ولج أت إل ى أب ي ال ذي حم اني‪ .‬وم ا ت زال ص ورتها إل ى اﻵن أم امي‬
‫وه ي تح اول عبث ا أن تض ربني‪ ،‬وه و يه دئها‪ ،‬فتق ول ل ه إن ه بحمايت ه يش جعني‪،‬‬
‫وإن ه ﻻ ب د م ن تربيت ي حت ى ﻻ أتعل م اﻻعت داء عل ى غي ري م رة أخ رى‪ .‬ه ذه ه ي‬
‫الصورة الوحيدة التي أحتفظ بها ﻷمي‪.‬‬

‫ث م أح تفظ له ا بالص ورة اﻷخي رة‪ ،‬وه ي الص ورة الت ي ﻻ يمك ن أن أنس اها م ا‬
‫حيي ت‪ .‬اختف ت أم ي وب دأت أرى شخص ا غريب ا يحم ل ف ي يدي ه حقيب ة يزورن ا ك ل‬
‫ص باح ويص عد إل ى غرفته ا‪ ،‬ث م ش عرت ب العيون تتعل ق به ذا الش خص‪ ،‬ث م ب دأت‬
‫اﻷحادي ث تنقل ب إل ى هم س‪ ،‬وس اد البي ت ج و م ن الكآب ة والح زن ذكرن ي ب اليوم‬
‫الس الف ال ذي زرت في ه آل ب اترنوس‪ ،‬ولكنن ي ل م أفه م م ن الحقيق ة ش يئا ول م‬
‫يحدثني أحد عنها‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ب دأ القل ق عل ى أب ي بش كل واض ح‪ ،‬فق د أص بح يقض ي الي وم كل ه ‪ -‬عل ى غي ر عادت ه‬


‫‪ -‬ف ي المن زل‪ ،‬ولس ت أدري ك م ط ال ه ذا الش ذوذ ال ذي س اد المن زل ولكن ي أذك ر‬
‫ذات ي وم أن مربيت ي ب دأت تغي ر ل ي ثي ابي كم ا اعت ادت أن تفع ل حينم ا نك ون عل ى‬
‫أهب ة الخ روج‪ ،‬وكان ت ال دموع ف ي عينيه ا‪ .‬ث م ج اءت )ميلل ي ب اترنوس( وأخ ذتني‬
‫إل ى منزله ا‪ ،‬ودخل ت المن زل ف إذا ب اﻹخوة يع انقونني ويتح دثون ع ن عم ري‪.‬‬
‫وقض يت معه م بقي ة الي وم ف ي ه ذا الج و الغري ب‪ .‬وأخي را ف ي المس اء س معت ميلل ي‬
‫تقول ﻹخوتها‪:‬‬

‫‪ -‬إن ه ذا ﻻ يجم ل‪ ،‬ﻻ ب د م ن أن ي رى المس كين أم ه للم رة اﻷخي رة‪ .‬كي ف يمنعون ه‬
‫من هذا؟! إن في إخفاء اﻷمر عنه قسوة ﻻ تطاق‪.‬‬
‫ي ورفعتن ي إل ى المائ دة وع انقتني‪ ،‬ث م قال ت‪ :‬ﻻ تث ق بك ل م ا يق ال ل ك‪،‬‬
‫ث م التفت ت إل ّ‬
‫إنه م يض للونك‪ ،‬لق د مات ت أم ك المس كينة‪ ،‬وس آخذك اﻵن لرؤيته ا عل ى ف راش‬
‫الموت‪ ،‬ولكن عدني بأﻻّ تبكي وﻻ تخاف‪.‬‬

‫لس ت أدري ه ل وع دتها أم ﻻ‪ ،‬ولكنه ا أخ ذتني م ن ي دي ورجع ت ب ي إل ى المن زل‪،‬‬


‫فوجدنا فيه أناسا كثيرين‪ ،‬وتقدمت إليهم قائلة‪ :‬إنه ﻻ بد من أن يرى أمه‪.‬‬

‫م ا أزال أذك ر ه ذا الموق ف الرهي ب‪ ،‬حينم ا أخ ذنا طريقن ا إل ى الس لﱠم المظل م‪،‬‬
‫وب دأت أص عده بخط وات مض طربة‪ ،‬وه ذه الفت اة اﻹنكليزي ة النبيل ة آخ ذة بي دي‪،‬‬
‫وكان ت عين اي مرك زتين ف ي أعل ى الس لم‪ ،‬كم ا ل و ك ان ش بح الم وت يط العني من ه‪.‬‬
‫ي أن‬‫ل م أك ن أدرك تمام ا ج ﻼل الموق ف‪ ،‬ولكنن ي كن ت حزين ا مغموم ا يخي ل إل ّ‬
‫ي‪ ،‬ودلفن ا قل يﻼً إل ى ب اب الغرف ة‪ ،‬ث م وقفن ا أمامه ا وه ي‬
‫المن زل يك اد يطب ق عل ّ‬
‫مقفل ة‪ ،‬ث م فتحته ا ميلل ي‪ ،‬ف إذا ب ي أرى م ن خ ﻼل فُتح ة الب اب غرف ة س اكنة كم ا ل و‬
‫ك ان ك ل ش يء فيه ا ق د م ات أيض ا‪ ،‬ول م أر أم ي جالس ة ف ي الس رير تس تقبلني عل ى‬
‫عادته ا بوجهه ا البش وش المستبش ر‪ ،‬وإنم ا رأي ت أم امي س ريرها وق د ظللت ه‬
‫س حابة رهيب ة‪ ،‬وت دلت إل ى جانب ه أغطيت ه الس اكنة حت ى ك ادت تلم س اﻷرض‪ ،‬ول م‬
‫تكن حركة تبدو منه‪ ،‬حتى الصدر كان هادئا كما لو كان قطعة من السرير‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ث م تق دمت ميلل ي وأخ ذتني م ن ي دي‪ ،‬وب دأت تس عى ب ي إل ى داخ ل الغرف ة‪ .‬ك ان ك ل‬
‫ي أن الحي اة ق د‬
‫ش يء يغ رق ف ي الص مت ويغ رق م ع م رور الوق ت‪ ،‬حت ى خي ل إل ّ‬
‫انهارت وأصبحت أطﻼﻻً صامتة ﻻ حراك بها وﻻ ِر ْكز‪.‬‬

‫واقتربن ا روي دا م ن الس رير‪ ،‬ث م وقفن ا إل ى جانب ه‪ ،‬وق د تعلق ت ب ه نظرات ي حت ى ل م‬
‫أع د أرى وﻻ أح س ف ي الغرف ة بش يء س واه‪ ،‬ورفعتن ي ميلل ي فرأي ت م ن وراء‬
‫ث وب ش فاف مﻼم ح وج ه أم ي الباهت ة‪ ،‬وكأن ه ع ِنّ ي بعي د بعي د‪ ،‬يب دو وراء ض باب‬
‫الم وت‪ .‬ث م تق دمت إل ى ه ذا الوج ه بي د مض طربة وكش فت عن ه الث وب الش فاف‪،‬‬
‫وإذا بوج ه واض ح ه و وج ه أم ي بعين ه ق د علت ه ص فرة ذهبي ة هام دة‪ ،‬وت دلت عل ى‬
‫ج انبي رأس ها خص ﻼت ش عرها الكس تنائي الك ث الطوي ل‪ ،‬وق د غ ار في ه م ا ك ان‬
‫يحف ل ب ه م ن حيوي ة وبش ر‪ ،‬وح ل محلهم ا اله دوء واﻻطمئن ان والرحم ة‪ .‬وقربتن ي‬
‫ميلل ي إليه ا ﻷقبله ا‪ ،‬فلمس ت بش فتي الم رتجفتين خ دها وأحسس ت وأن ا أفع ل بب رودة‬
‫الموت تسري في أوصالي المضطرمة‪ ،‬واغرورقت عيناي بالدموع‪.‬‬

‫وأخي را أع ادتني ميلل ي إل ى وض عيتي‪ ،‬فل م أع د أرى وج ه أم ي‪ ،‬وهك ذا اختف ى‬


‫عن ي إل ى اﻷب د‪ .‬وكان ت تل ك النظ رة ه ي النظ رة اﻷخي رة إل ى ذل ك الوج ه ال ذي‬
‫أحس نحوه اليوم بحنين غريب‪.‬‬

‫ث م خرجن ا م ن الغرف ة ونزلن ا الس لم ب نفس الخط ى الوئي دة الت ي ص عدنا به ا‪،‬‬
‫واس تقبلتنا ف ي أس فله وج وه مكتئب ة ونظ رات تائه ة‪ ،‬ولك ن ميلل ي أب ت أن تس لمني‬
‫ﻷح د‪ ،‬مخاف ة أن يك ون للمنظ ر ت أثير س يئ عل ى نفس ي‪ ،‬وإنم ا أخ ذتني إل ى الحديق ة‬
‫الخلفية حيث جلست معي على مقعد خشبي لكي تسلّي عني‪.‬‬

‫كن ا ف ي فص ل الص يف م ن الس نة‪ ،‬وكان ت الليل ة ص افية والقم ر الكبي ر ي تﻸﻷ ف ي‬
‫كب د الس ماء‪ ،‬فتتس لل أض واؤه خ ﻼل اﻷغص ان وتض يء الحش ائش‪ ،‬وتمت د تحته ا‬

‫‪- 12 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫عل ى اﻷرض ظ ﻼل اﻷش جار الباس قة‪ ،‬ف امتلكني المنظ ر بجﻼل ه ورهبت ه‪ ،‬ولك ن‬
‫ميللي صرفتني عنه بحديثها‪ ،‬إذ سمعتها تقول‪:‬‬

‫‪ -‬ﻻ تح زن ي ا ص غيري‪ ،‬فه ذه ه ي الحي اة‪ .‬إن أم ك ل م تغ ب ول ن تغي ب ﻷنه ا كان ت‬


‫ام رأة خي رة‪ ،‬ول ذلك فس وف تظ ل معن ا بروحه ا‪ ،‬وس وف يجازيه ا ﷲ عل ى طيبته ا‬
‫فتع يش ف ي جن ات النع يم‪ .‬ف ﻼ تخ ف عليه ا‪ ،‬وح اول أﻻّ تح زن‪ .‬انظ ر إل ى الس ماء‪..‬‬
‫إن الجن ة هن اك وراء القم ر‪ ،‬ووراء النج وم‪ ،‬ف إذا أردت أن تراه ا ف انتظر ب زوغ‬
‫القم ر‪ ،‬ث م انظ ر إلي ه‪ ،‬فس تراها هن اك تط ل علي ك مبتس مة مستبش رة! انظ ر‪ ،‬انظ ر‪،‬‬
‫ألست تراها؟‬

‫ي أنن ي أرى م ن خ ﻼل‬ ‫ورفع ت عين ي إل ى القم ر‪ ،‬وتح ت ت أثير إيحائه ا خي ل إل ّ‬


‫ي م ن الس ماء داخ ل ص فحة الب در الكبي رة‪ .‬وك ان‬ ‫دم وعي وج ه أم ي يط ل عل ّ‬
‫ي إل ى اﻵن أنن ي أراه كلم ا رفع ت عين ي‬‫إيحاؤه ا قويّ ا حت ى إن ه م ا ي زال يخي ل إل ّ‬
‫إلى القمر‪ ،‬فأقول إنه وجه أمي‪.‬‬

‫خف ف م ن كآب ة نفس ي م ا قالت ه ل ي ميلل ي ف ي الحديق ة ذل ك المس اء‪ ،‬وعزان ي قل يﻼً‪،‬‬
‫ذل ك أنن ي منﱠي ت نفس ي ب أن أم ي مع ي ف ي الع الم وأنه ا تزورن ا م ن آن ﻵخ ر‬
‫بواسطة تلك الصفحة المضيئة التي تنير سواد الليل البهيم‪.‬‬

‫ولس ت أدري كي ف انته ت تل ك الليل ة‪ ،‬ولكنن ي أذك ر أن ه ذا الح ادث ك ان ل ه ت أثير‬


‫كبي ر عل ى المن زل وعل ى حياتن ا‪ .‬فل م يم ر وق ت طوي ل حت ى فارقن ا ه ذا المن زل‬
‫الض خم المس توحش ال ذي م ا ت زال ذك راه إل ى اﻵن تش يع ف ي إحساس ي نوع ا م ن‬
‫الرهبة واﻻضطراب‪.‬‬

‫وق د أخ ذتني المربي ة ف ي الي وم الت الي إل ى الحديق ة العام ة وحاول ت أن تص رف‬
‫ي‪ ،‬وتح اول‬
‫نفس ي ع ن ذل ك الح ادث‪ ،‬وأخ ذت تح دثني ع ن حبه ا ل ي وعطفه ا عل ّ‬
‫‪- 13 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ي أنه ا أم ي‪ ،‬حت ى ك دت أقتن ع‪ .‬وق د اس تمرت بع د ذل ك تل ح ف ي إقن اعي‬


‫أن ت وحي إل ّ‬
‫حتى اقتنعت بأنها أمي وبأن المرأة التي ماتت كانت أختها‪.‬‬

‫وهك ذا قض يت ‪ -‬ومع ي أخت ي الص غيرة ‪ -‬اﻷي ام التالي ة م ن طف ولتي‪ ،‬وأن ا أعتق د‬
‫س خ عن دي ه ذا اﻻعتق اد رعايته ا لن ا وح دبها علين ا‪ ،‬فق د جعل ت‬
‫أنه ا أم ي‪ .‬ومم ا ر ﱠ‬
‫م ن حبه ا العمي ق لن ا بلس ما س حريا ش فى نفس ينا م ن ذل ك الج رح المم ض ال ذي‬
‫أصابنا‪ .‬فإذا قلت بعد هذا "أمي" فإني فخور بأن تكون هي المرأة التي أعني‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫ك ان المن زل الجدي د ال ذي انتقلن ا إلي ه عل ى عك س الق ديم ص غير الغ رف ح ديث‬


‫اﻷث اث أم ام واجهت ه حديق ة ص غيرة منس قة‪ ،‬ول م يك ن في ه ش يء يثي ر ف ي ال نفس‬
‫الرهب ة والخ وف‪ ،‬ول ذلك فق د استأنس ت ب ه ورأي ت في ه خﻼص ا م ن ذل ك المن زل‬
‫الغامض القديم‪.‬‬

‫ك ان المن زل الجدي د يق ع تمام ا أم ام من زل آل ب اترنوس‪ ،‬ول ذلك ل م أع د ف ي حاج ة‬


‫إل ى أح د إذا أن ا أردت أن أزوره م‪ ،‬ف نحن مع ا نس كن ش ارع "ب ارك فيل د" ول يس‬
‫ي إﻻ أن أقط ع الش ارع ﻷص ل إل ى من زلهم‪ ،‬وم ا أزال أذك ر أن رقم ه ك ان‬ ‫عل ّ‬
‫)‪ (47‬بينما كان رقم منزلنا الجديد )‪.(40‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫س رعان م ا ترعرع ت وب دأت الحي اة تتف تح أم امي‪ ،‬فل م تع د مح دودة ف ي بض ع‬


‫غ رف وحديق ة‪ ،‬وإنم ا اتس عت وب دأت أتع رف إل ى الع الم الواس ع‪ ،‬وق د اتس عت‬
‫بش كل جعلن ي أتعط ش إل ى متابعته ا واكتش اف م ا ﻻ أعرف ه منه ا‪ ،‬وش جع آل‬
‫باترنوس هذا الميل عندي‪ ،‬ﻷن الحياة معهم كانت أوسع أفقا‪.‬‬

‫ي أن أذه ب إل ى أب ي‬‫ي وتخبرن ي بأنن ا س نخرج‪ ،‬فعل ّ‬


‫كثي را م ا كان ت ميلل ي تقب ل عل ّ‬
‫ي بورق ة مالي ة‬‫ليزودن ي ب النقود‪ ،‬فأذه ب إلي ه وأطل ب من ه ذل ك‪ ،‬ف إذا دف ع إل ّ‬
‫أرجعته ا إلي ه وآب ي إﻻ أن يعطين ي )بنس ات(‪ ،‬ذل ك أنن ي كن ت أعتق د أن البنس ات‬
‫وح دها ه ي النق ود الثمين ة‪ ،‬فيض حك أب ي ويعطين ي م ا أري د‪ .‬ولك ن ميلل ي تص يح‬
‫ب ي أول م ا نخ رج وتح ذرني م ن مث ل ه ذا التص رف‪ ،‬وتق ول ل ي خ ذ من ه الورق ة‬
‫ي م ن البنس ات م ا تش اء‪ .‬وك ان نف س الش يء يتك رر ف ي الم رة التالي ة ﻷن‬‫ول ك عل ّ‬
‫قول ميللي لم يكن مقنعا‪.‬‬

‫بواس طة ه ذه الفت اة ب دأت أتع رف إل ى الحي اة‪ ،‬واتس ع أف ق وج ودي‪ ،‬فك ان م ن أول‬
‫اﻷم اكن الت ي عرفته ا الس ينما والمس رح‪ ،‬والحديق ة العام ة وحديق ة الحي وان‪،‬‬
‫وكانت لها منزلة خاصة ﻷنها كانت تشبع عندي غريزة حب اﻻستطﻼع‪.‬‬

‫كان ت الس ينما تخل ق أم امي م ثﻼً علي ا‪ ،‬وكان ت ه ذه المث ل العلي ا ت دور ح ول الق وة‬
‫العض لية الت ي ته ب للش خص الق درة عل ى الس يطرة عل ى م ا حول ه‪ ،‬وكن ت أغت بط‬
‫إعجاب ا برك وب اﻷف راس والمﻼكم ة والقف ز والس باحة‪ ،‬وك ل م ا يعب ر ع ن تل ك‬
‫الق وة العض لية‪ ،‬وكن ت أنفع ل عن د رؤيت ه انفع اﻻً ش ديدا أنس ى مع ه ك ل م ا ح ولي‪.‬‬
‫وقد كانت اﻷفﻼم السينمائية في ذلك الوقت حافلة بهذا اللون من التمثيل‪.‬‬

‫أم ا المس رح فكن ت أش عر في ه بش يء آخ ر‪ .‬كان ت اﻷن وار الملون ة الت ي ي ذوب‬


‫بعض ها ف ي بع ض تف ِت ّ ر إحساس اتي‪ ،‬وتخل ق عن دي نوع ا م ن اﻻس تعداد للش رود‬

‫‪- 15 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫والهي ام‪ ،‬فينقل ب المس رح إل ى س حابة ش فافة ت رقص فيه ا فتي ات م ن ن ور ق د أف رغن‬
‫ف ي قوال ب س حرية يت ابعن اﻷلح ان ف ي رش اقة تخل ب اﻷلب اب‪ ،‬فيخي ل إل ى الن اظر‬
‫إل يهن أنه ن موس يقى مجس مة أروع تجس يم‪ ،‬ناض جات الص دور ناعم ات اﻷجي اد‪،‬‬
‫خفيف ات الخط ى‪ ،‬مستبش رات الثغ ور‪ ،‬تتح رك ص فوفهن حرك ة واح دة م ع اﻷلح ان‬
‫الراقص ة الناعم ة‪ .‬ويتن اثرن ث م يج تمعن ث م يتت الين زم را ك أنهن اﻷح ﻼم‪ .‬كن ت‬
‫أح بهن حبّ ا بريئ ا‪ ،‬وأعج ب كي ف ﻻ نقاب ل م ثلهن ف ي الحي اة‪ ،‬وأعتق د أنه ن أمثل ة‬
‫لص فاء ال نفس‪ ،‬ونق اء الض مير‪ ،‬وح ب الخي ر‪ ،‬وأن ﷲ خلقه ن م ن الرحم ة‬
‫المجردة‪.‬‬

‫وﻻ يعن ي ه ذا أنن ي كن ت أطم ئن تم ام اﻻطمئن ان للمس رح‪ .‬ذل ك أنن ي كن ت أع رف‬
‫أن الممثل ين أحي اء مثل ي‪ ،‬وأن ه يمك ن لمس هم ومع املتهم‪ ،‬عل ى عك س الممثل ين ف ي‬
‫الس ينما فق د كن ت أع رف أنه م ﻻ ي ْع دون أن يكون وا مج رد خي اﻻت‪ ،‬ل ذلك كن ت‬
‫أخش ى المن اظر المثي رة ف ي المس رح‪ .‬ظه ر أم امي ذات ي وم فج أة عل ى المس رح‬
‫ي أن ه هائ ل‪ ،‬فم ا ك دت أراه حت ى دب الخ وف ف ي قلب ي‪ ،‬ولم ا رأيت ه‬
‫فه د خي ل إل ّ‬
‫يتح رك كم ا يش اء ب دأت أح س أنن ي ف ي خط ر‪ ،‬وش عرت بأن ه إذا رآن ي وأراد أن‬
‫يلتهمن ي فل يس علي ه إﻻ أن يقف ز ويتخطفن ي‪ ،‬ول ذلك أحسس ت بف يض م ن اﻹره اب‬
‫ل م تتحمل ه أعص ابي‪ ،‬فص رخت وظلل ت أص رخ إل ى أن اض طرت ميلل ي إل ى‬
‫الخروج معي‪.‬‬

‫ومم ا أذك ر ع ن المس رح أنن ا ذهبن ا إلي ه مس اء أن ا وأم ي وميلل ي وأختاه ا‪ ،‬وكان ت‬
‫الرواي ة هزلي ة‪ ،‬ولك ن ش يئًا منه ا ل م يبعثن ي عل ى الض حك‪ ،‬فق د كان ت حرك ات‬
‫الممثل ين تب دو ل ي س خيفة فاس تثقلتهم وملل تهم‪ ،‬ث م ب دأت أحق د عل يهم‪ ،‬وأنظ ر إل يهم‬
‫ف ي عب وس‪ .‬وفط ن النظ ارة ح ولي إل ى عبوس ي إل ى درج ة أنه م ب دأوا يتهامس ون‬
‫ب ه‪ ،‬وأخي را اس تطاع أح د الممثل ين أن يبتس ر من ي الض حك ابتس ارا‪ .‬وم ا ك ادت‬
‫ش فتاي تنفرج ان بالض حك حت ى عل ت ح ولي عاص فة م ن الض حك المماث ل‪.‬‬
‫وانتبه ت ف إذا ب العيون كله ا متعلق ة ب ي‪ ،‬فبعثن ي ذل ك عل ى أن أتض اءل ف ي مك اني‪،‬‬
‫فق د كن ت أك ره كره ا ش ديدا أن تتعل ق ب ي اﻷنظ ار أو أن أك ون مح ورا لح ديث ب ين‬
‫جماعة من الناس‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وربم ا ذهبن ا إل ى إح دى الح دائق العام ة‪ ،‬حي ث ك ان يتمث ل ل ي تف تح الحي اة‬


‫وازدهاره ا‪ .‬وكن ا ن ذهب إليه ا غالب ا ف ي فص ل الص يف أو الربي ع‪ ،‬ف ﻼ نك اد نقب ل‬
‫عليه ا حت ى أح س بنفس ي تنش رح وكأنه ا تنطل ق م ن عق ال‪ .‬ألتف ت يمين ا ويس ارا‬
‫ي ج وا م ن‬ ‫فتأخ ذ عين ي الزه ور المتفتح ة ذات اﻷل وان البهيج ة الت ي تخل ق َح وال ّ‬
‫الخي ال وتس تقبلني حي ث التف ت رائح ة اﻷري ج المنعش ة الت ي كان ت تثم ل روح ي‬
‫الص غيرة‪ ،‬وتح يط به ذه الزه ور خض رة اﻷرض واﻷغص ان‪ ،‬وفوقه ا زرق ة‬
‫السماء الصافية‪ ،‬تسطع فيها أشعة الشمس الدافئة‪.‬‬

‫كن ا نقاب ل أص نافًا م ن الن اس يعل و البش ر وج وههم جميع ا عل ى تب اينهم‪ ،‬وم ن بي نهم‬
‫أمث الي م ن اﻷطف ال‪ .‬وكن ت أنتب ه لك ل ش يء‪ ،‬ﻷن ك ل ش يء ك ان جدي دا بالنس بة‬
‫ي‪ ،‬ولك ن ه ؤﻻء اﻷطف ال ك انوا يس ترعون انتب اهي أكث ر م ن اﻵخ رين‪ ،‬ف ﻼ تك اد‬ ‫إل ّ‬
‫عين ي تق ع عل ى واح د م نهم حت ى أتابع ه بنظرات ي إل ى أن يغي ب‪ .‬كن ت أنتب ه‬
‫للباس هم ولع بهم وتص رفاتهم‪ ،‬وكن ت أش عر ب أن المخلوق ات اﻷخ رى الت ي تق ع‬
‫عين ي عليه ا بعي دة عن ي ف ﻼ يمك ن أن أفك ر فيه ا‪ ،‬وكأنه ا ش يء ﻻ يتعل ق ب ي‪ .‬أم ا‬
‫ه ؤﻻء اﻷطف ال فش أنهم ش أن آخ ر‪ ،‬كن ت أش عر ب أنني ن ّد له م‪ ،‬ول ذلك ف ﻼ ب د م ن‬
‫مت ابعتهم ومعرف ة الج و ال ذي يعيش ون في ه حت ى أس تفيد م ن ذل ك‪ .‬كن ت أس تمتع بك ل‬
‫م ا أرى اس تمتاعا مج ردا ع ن اﻷغ راض‪ ،‬أم ا اﻷطف ال فكن ت أت ابعهم ب دافع م ن‬
‫س نح وهم بعاطف ة مج ردة‪ .‬كن ت أتتب ع عن دهم م ا‬ ‫تل ك المص لحة‪ ،‬ول م أك ن أح ّ‬
‫اس تحدث م ن المخترع ات ف ي ع الم اﻷلع اب‪ ،‬ف ﻼ يق ر ل ي ق رار حت ى أقتنيه ا‪،‬‬
‫وأتتبع عندهم كل ما يكون جديدا بالنسبة لي فأنتفع به في حياتي‪.‬‬

‫وك ان ف ي طليع ة م ا يأخ ذني كث رة م ا يوج د م ن الن اس ف ي الع الم‪ .‬فأن ت ﻻ تس تطيع‬
‫أن ت ذهب ﻷي مك ان دون أن تقاب ل في ه أناس ا وأناس ا كثي رين م ن ك ل ل ون وم ن‬
‫ك ل ص نف‪ ،‬فك انوا يش غلونني فأعج ب لكث رتهم واخ تﻼفهم‪ :‬الطوي ل والقص ير‪،‬‬
‫النحي ف والس مين‪ ،‬الجمي ل والقب يح‪ .‬أض ف إل ى ذل ك أنن ي كن ت مغرم ا بتتب ع‬
‫اخ تﻼف الثي اب الت ي يرت دونها‪ ،‬ف إذا رأي ت منه ا جدي دا ً ﻻ عه د ل ي ب ه م ن قب ل‬
‫ي ص احبه‪ ،‬وحت ى ينبهن ي‬ ‫وقف ت وأطل ت إلي ه النظ ر ف ي اس تغراب حت ى ينتب ه إل ّ‬
‫من قد يكون معي إلى أن مثل هذا التصرف معيب ﻻ يليق بالطفل المهذب‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأمت ع منظ ر ك ان يثي ر إعج ابي ف ي تل ك الس ن المبك رة‪ ،‬ه و منظ ر فت اة تأبط ت‬
‫ذراع فت ى‪ ،‬وك ل منهم ا منص رف إل ى اﻵخ ر يحادث ه ويض احكه‪ .‬ولس ت أدري‬
‫م اذا ك ان يبعثن ي عل ى اﻹعج اب بهم ا إن ل م يك ن م ا يب دو ف ي طلعتهم ا م ن عافي ة‬
‫وشباب وجمال‪.‬‬

‫لق د كن ت أوق ن ب أن م ا أع رف م ن الحي اة ض يق ومح دود‪ ،‬وأن م ا أجهل ه منه ا‬


‫واس ع وبعي د‪ .‬ول ذلك فق د كان ت ه ذه الح دائق العام ة بالنس بة ل ي ك المعرض ال ذي‬
‫يح وي ه ذه اﻷش ياء الجدي دة الت ي ﻻ أعرفه ا‪ .‬وم ن اﻷمكن ة الت ي كن ا نزوره ا‬
‫حديق ة الحي وان‪ ،‬ولعل ي لس ت ف ي حاج ة إل ى أن أق ول إن حديق ة الحي وان كان ت‬
‫أوق ع ف ي ال نفس م ن أخته ا حديق ة اﻹنس ان‪ .‬ف إن ك ل ش يء فيه ا ل م يك ن جدي دا‬
‫ي فحسب‪ ،‬ولكنه كان غريبا أيضا‪.‬‬ ‫بالنسبة إل ّ‬

‫أل يس غريب ا ً أن تنظ ر ﻷول م رة إل ى ه ذه المخلوق ات المخيف ة ف ي أم ان منه ا‪،‬‬


‫وه ي وراء قض بان الحدي د ف ي اﻷقف اص‪ ،‬وأن تطي ل أمامه ا الوق وف دون أن‬
‫س ك منه ا س وء؟! أض ف إل ى ذل ك ح اجتي إل ى رؤي ة نم اذج م ن ه ذه المخلوق ات‬ ‫يَم ﱠ‬
‫الت ي كن ت أس مع عنه ا كثي را ف ي القص ص‪ ،‬دون أن يس تطيع خي الي الص غير‬
‫تصورها‪.‬‬
‫كان ت الحيوان ات والطي ور مختلف ة‪ ،‬منه ا الجمي ل ال ذي يُس تأنَس برؤيت ه‪ ،‬ومنه ا‬
‫المخي ف ال ذي ته ز رؤيت ه ال َجن ان‪ .‬أم ا ه ذه اﻷخي رة فق د كن ت أق ف أمامه ا ف ي تم ام‬
‫الح ذر‪ ،‬فل م يك ن عن دي م ن المس تحيل أب دا أن تتم رد ه ذه اﻷجس ام الجب ارة ف ي‬
‫أقفاص ها‪ ،‬وتن دفع ف ي قض بان الحدي د‪ ،‬فتتس اقط كأنه ا م ن زج اج‪ .‬وكن ت أح اول أن‬
‫أتص ور بخي الي م دى م ا يح دث م ن الك وارث ل و أنه ا فعل ت ذل ك‪ ،‬وك ان م ن‬
‫المرع ب أن تنتق ل مث ل ه ذه اله واجس م ن رأس ي إل ى رؤوس ها‪ ...‬وكن ت أق ف‬
‫أم ام اﻷس د فأس مع الن اس يقول ون عن ه إن ه أقواه ا جميع ا‪ ،‬ف أرفع إلي ه بص ري‬
‫ﻷتأمل ه ف ي ح ذر‪ ،‬ف إذا بهامت ه الض خمة وتفاص يل جس مه القوي ة تثي ر الرع ب‪،‬‬
‫ي‪،‬‬
‫وأبص ره يح رك عيني ه البطيئت ين الب راقتين ث م ين زل بهم ا حت ى يس تقر نظ ره عل ّ‬
‫فتك اد تل ك النظ رات الثابت ة المغموم ة تص عقني‪ .‬ول م يك ن يخف ف م ن ه ذا اﻹره اب‬
‫إﻻّ أن تل ك النظ رات كان ت ش اردة ﻻ تق ف عن د ش يء تق ع علي ه‪ ،‬ول ذلك فإن ه ل م َيب د‬
‫عليه وهو يخترقني بنظراته أنه يقيم لي أي وزن‪.‬‬
‫‪- 18 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وق د أدف ع إل ى رك وب الفي ل م ع جماع ة م ن اﻷطف ال‪ ،‬ول وﻻ أنن ي كن ت أس تأنس به م‬


‫ﻻرتمي ت م ن فوق ه دون ت ردد‪ ،‬ﻷنن ي ل م أك ن ع اجزا ع ن تص ورهم جميع ا داخ ل‬
‫تلك البطن العظيمة التي كانوا يوجدون مباشرة فوقها‪.‬‬

‫حت ى إذا تك ررت زي ارة حديق ة الحي وان ب دأت آم ن م ا فيه ا‪ ،‬وب دأت أس تطيع‬
‫الوق وف دون خ وف أم ام الحيوان ات الش ديدة اﻻفت راس وأتأمله ا‪ .‬وكن ت كلم ا‬
‫وقف ت أم ام حي وان منه ا تص ورته طليق ا ف ي الغاب ات‪ ،‬ث م أق ارن حيات ه الح رة تل ك‬
‫بحياته السجينة هذه‪ ،‬فأرثي لحاله ولحال أقربائه الذين فقدوه في الغاب‪.‬‬

‫عرفته ا بع د انتقالن ا إل ى المن زل الجدي د‪ ،‬ف إذا ل م‬


‫ه ذه ه ي اﻷش ياء الجدي دة الت ي َ‬
‫أذهب لزيارة أحد هذه اﻷمكنة فأنا في منزل آل باترنوس القريب‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫ﻻ أس تطيع أن أت ذكر الي وم ال ذي تعارفن ا في ه م ع آل ب اترنوس‪ ،‬ف إن ذل ك أبع د م ن‬


‫متن اول ذاكرت ي‪ .‬وآل ب اترنوس عائل ة إنكليزي ة م ن أص ل يون اني‪ ،‬نزح ت إل ى‬
‫‪- 19 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫إنكلت را فيم ا غب ر م ن الزم ان‪ ،‬وه ي تت ألف م ن أخ وين اس م أح دهما ج ورجي‪،‬‬


‫وه و ش اب أني ق اجتم اعي‪ ،‬ق ّل أن يوج د ف ي البي ت‪ .‬واس م ثانيهم ا أندري ه‪ ،‬وه و‬
‫أيض ا ش اب‪ ،‬ولكن ه يختل ف ع ن أخي ه بكث رة ص مته وش روده وميل ه إل ى العزل ة‪.‬‬
‫فه و ﻻ يك اد ينته ي م ن عمل ه حت ى يه رع إل ى البي ت‪ ،‬ويقض ي في ه الس اعات‬
‫الطوال‪ ،‬إما جالسا وحده في غرفته وإما أمام المدفأة يقرأ الصحف‪.‬‬

‫ث م ت أتي بع د ذل ك اﻷخ وات ال ثﻼث‪ .‬وكب راهن ميلل ي‪ ،‬وه ي قص يرة القام ة ذات‬
‫ش عر ف احم ك ث‪ ،‬وح اجبين كثيف ين أس ودين‪ ،‬تحتهم ا عين ان عميقت ان‪ .‬وله ا‬
‫شخص ية مرح ة عابث ة بريئ ة‪ .‬ث م أللين ي‪ ،‬وه ي أط ول منه ا قام ة وأدق جس ما‪،‬‬
‫يمي ل ش عرها إل ى الحم رة‪ ،‬دقيق ة المﻼم ح زرق اء العين ين‪ ،‬تمي ل ك ل المي ل إل ى‬
‫الج د‪ .‬ث م بع د ذل ك ص غراهن‪ ،‬واس مها أنج ي‪ ،‬وه ي أجمله ن وأحفله ن بالحي اة‪،‬‬
‫ذات ق وام رش يق‪ ،‬له ا بش رة ص افية‪ ،‬وجي د طوي ل ن اعم‪ ،‬وتقاس يم واض حة‪ ،‬ﻻ‬
‫تس تطيع أن تعبره ا بعيني ك إذا م ا رأيته ا‪ ،‬وله ا مي ل إل ى الت رف والظه ور بمظه ر‬
‫المعتز بنفسه وجماله‪.‬‬

‫وك انوا يقيم ون جميع ا ف ي ه ذا المن زل ال ذي ورث وه ع ن أمه م الراحل ة‪ ،‬ويش غل‬
‫أربع ة م نهم وظ ائف كتابي ة‪ ،‬أم ا الخامس ة وه ي ميلل ي فمتفرغ ة لﻺش راف عل ى‬
‫ي‪ ،‬وك ذلك أندري ه ال ذي ك ان يقض ي‬
‫ش ؤون المن زل‪ ،‬ول ذلك فق د كان ت أق ربهم إل ّ‬
‫س اعات طويل ة م ن النه ار ف ي المن زل‪ .‬وكان ت المائ دة تجمعه م ف ي الس اعة‬
‫السادس ة مس ا ًء‪ ،‬فيتن اولون طع ام الغ داء ث م يس تريحون‪ ،‬ث م يخ رج معظمه م وتظ ل‬
‫ميلل ي وأندري ه غالب ا ف ي المن زل وح دهما‪ ،‬وق د يظل ون حي ث ه م يتس امرون إل ى‬
‫أن يحين وقت النوم‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫يت ألف المن زل م ن دوري ن وتوج د ف ي ال دور اﻷول غرف ة اﻻس تقبال‪ ،‬ذات المقاع د‬
‫ال وثيرة‪ ،‬وق د زين ت ج درانها بالص ور‪ .‬وتق ع فيه ا الع ين هن ا وهن اك عل ى تمث ال‬
‫ص غير أو باق ة م ن الزه ور أو تحف ة ص غيرة تس ترعي اﻷنظ ار‪ .‬ويوج د به ا إل ى‬
‫جان ب ذل ك ح اكي ومجموع ة كبي رة م ن اﻷس طوانات‪ ،‬ث م تليه ا غرف ة الجل وس‬
‫العادي ة‪ ،‬وبه ا بع ض المقاع د والكراس ي‪ ،‬ومنض دة ق د تراكم ت عليه ا الص حف‪،‬‬
‫وف ي الزاوي ة رف وف عليه ا كت ب‪ .‬ث م غرف ة المائ دة وفيه ا مائ دة كبي رة مربع ة تح يط‬
‫به ا الكراس ي‪ ،‬وعل ى أح د الحيط ان رف وف طويل ة م ﻸى بمس تلزمات المائ دة‪ ،‬وف ي‬
‫الزاوي ة قف ص كبي ر ب ه ببغ اء‪ .‬ويت ألف ال دور الث اني م ن ث ﻼث غ رف‪ ،‬لك ل م ن‬
‫الشابين غرفة والثالثة وهي أكبرها مخصصة لﻸخوات الثﻼث‪.‬‬

‫ف ي ه ذا المن زل قض يت الكثي ر م ن أوق ات الطفول ة‪ ،‬وكن ت أقط ع الش ارع إلي ه ف ي‬


‫الص باح فأج د ميلل ي منهمك ة ف ي عمله ا ف أؤنس وح دتها‪ ،‬وربم ا انص رفت ع ن‬
‫عمله ا لتﻼعبن ي قل يﻼً‪ ،‬وربم ا جلس ت إل ى جانبه ا ف ي المط بخ لتح دثني ع ن ش يء‬
‫أو تحك ي ل ي قص ة‪ .‬ف إذا وج دتها ف ي ال دور الث اني تعي د ترتي ب اﻷس رة فق د ترفعن ي‬
‫وتلقي بي على أحدها فوق ظهري وهي تداعبني‪.‬‬

‫وعن دما يح ين وق ت ع ودة الجمي ع ف ي المس اء أس رع إل ى ميلل ي ﻷس تقبلهم‬


‫فيغتبط ون ب ي‪ ،‬ف إذا ح دث م ا يمنعن ي م ن ذل ك‪ ،‬قال ت ميلل ي ف ي الص باح إنه م‬
‫س ألوا عن ي وافتق دوني‪ .‬وق د أخ رج م ع إح داهن ي وم اﻷح د فأذه ب معه ا إل ى‬
‫المسرح أو السينما أو الحديقة العامة‪.‬‬

‫ي ه و أندري ه المتص ّ ِوف‪ ،‬فق د كن ت أقض ي‬ ‫ك ان أروعه م جميع ا بالنس بة إل ّ‬


‫الس اعات إل ى جانب ه أنظ ر إلي ه وه و يق رأ‪ ،‬ك ان يجل س إل ى المائ دة دون س ترة‪ ،‬وق د‬
‫ب علي ه‬‫ع رى قميص ه‪ ،‬ث م يف تح الص حيفة أو الكت اب وين َك ّ‬‫ن زع ربط ة عنق ه‪ ،‬وف ك ُ‬
‫يلتهم ه‪ .‬ك ان يفن ى فيم ا يق رأ‪ ،‬وك ان منظ ره رائع ا حينم ا أراه وق د غاب ت أص ابعه‬
‫ب ين ش عوره الطويل ة الكث ة الفاحم ة‪ ،‬وأخ ذ ي داعبها دون ش عور‪ ،‬حت ى ت دلت ف وق‬
‫‪- 21 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ص دغه‪ .‬كن ت أجل س ص امتا إل ى جانب ه أرن و إلي ه ف أراه م رة يبتس م‪ ،‬وم رة‬
‫يض حك‪ ،‬وم رة أخ رى يع بس‪ ،‬وربم ا نه ض إل ى الغرف ة المج اورة‪ ،‬ورج ع منه ا‬
‫ح امﻼً كتاب ا ض خما‪ ،‬فيفتح ه وينظ ر في ه قل يﻼً ث م يعي ده إل ى مكان ه‪ .‬كن ت أش عر أن‬
‫الق راءة ج زء م ن حيات ه‪ ،‬وأن ه ك ان يحي ا فيه ا‪ ،‬وأتمن ى أن أع رف لم اذا يبتس م أو‬
‫يض حك أو يع بس‪ ،‬وأرج و أن أع رف لم اذا ي أتي بالكت اب اﻵخ ر‪ ،‬ولم اذا ك ان‬
‫ينظ ر في ه‪ .‬وكن ت أس ائل نفس ي وه و يق رأ‪ :‬م اذا ف ي ه ذه الكت ب؟ ع م تتح دث؟ وم ن‬
‫ال ذي يض عها؟ ولم اذا يض عها؟ وكن ت أل ح علي ه ف ي الس ؤال‪ ،‬وأخي را ج اءني ذات‬
‫ي وم بكت اب يحت وي عل ى قص ة مص ورة‪ ،‬تمث ل ك ل ص ورة مرحل ة م ن مراح ل‬
‫ي أنن ي فهم ت الم راد م ن ه ذه‬ ‫القص ة‪ ،‬فش رحها ل ي‪ ،‬فاغتبط ت به ا وخي ل إل ّ‬
‫الكتب‪.‬‬

‫ك ان أندري ه س ريع اﻻنفع ال‪ ،‬حطم ت م دافع الح رب العظم ى اﻷول ى أعص ابه‪،‬‬
‫فه و يغض ب بس رعة‪ ،‬ويض حك بس رعة‪ .‬وكن ت أنظ ر إلي ه وه و ي دخن ويرن و إل ى‬
‫ن ار الموق د‪ ،‬ث م فج أة أرى أوداج ه ق د انتفخ ت‪ ،‬وإذا ب ه ين تفض وي نهض ف ي‬
‫اض طراب لي ذرع الغرف ة جيئ ة وذُ ُهوب ا‪ ،‬ث م يق ف فج أة‪ ،‬ويغ رس أص ابع يدي ه‬
‫المنفرج ة ف ي ش عره‪ ،‬ويض غط بيدي ه عل ى رأس ه بش كل عص بي مثي ر‪ ،‬فأتض اءل‬
‫ي‪ ،‬وكان ت لحظ ات طويل ة تم ر‬ ‫ف ي الكرس ي خوف ا من ه‪ ،‬ولكن ه ل م يك ن يلتف ت إل ّ‬
‫علي ه وه و عل ى ه ذه الحال ة‪ .‬وق د عرف ت فيم ا بع د أن الح وادث المرعب ة الت ي‬
‫ش اهدها وه و جن دي‪ ،‬س ﱠكنته بأش باحها وأتلف ت كيان ه‪ ،‬وهيمن ت عل ى ش عوره‪ ،‬فه و‬
‫ﻻ يس تطيع أن يت ذكرها دون أن تت وتر أعص ابه‪ ،‬وتغم ره موج ة م ن اﻻنفع ال‬
‫الش ديد‪ .‬ولكنن ي ب الرغم م ن ذل ك كن ت أحب ه وأعج ب ب ه‪ ،‬ﻷنن ي كن ت أش عر وه و‬
‫ي بقلبه الكبير‪.‬‬
‫يتحدث إل ّ‬

‫أم ا أللين ي فكن ت أش عر بش يء م ن الب رود وأن ا معه ا‪ .‬فه ي فت اة يض ل اﻻبتس ام‬
‫طريق ه إل ى ثغره ا‪ ،‬وه ي تق يم وزن ا كبي را للتقالي د‪ ،‬وقلم ا تنطل ق م ن قيوده ا‬
‫لتداعبني‪ .‬لقد كانت تحبني حبا محترما‪.‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫واﻷخ ج ورجي ك ان يش بع فض ولي وحب ي لﻼس تطﻼع‪ ،‬فه و دائم ا مح اط باﻷش ياء‬
‫الجدي دة‪ ،‬وق د كن ت أل تقط من ه حركات ه وعادات ه‪ ،‬ﻷنن ي كن ت معجب ا بأناقت ه‪ ،‬فكن ت‬
‫أتتب ع تص رفاته‪ ،‬وأنتب ه لم ا يل بس وكي ف يل بس‪ ،‬ول م يك ن أح ب إل ى م ن أن أتس لل‬
‫إل ى غرفت ه وه و يس تعد للخ روج‪ ،‬ﻷنظ ر إلي ه وه و يت أنق‪ ،‬وكن ت ف ي خ ﻼل ذل ك‬
‫أتمن ى م ن ص ميم قلب ي أن أكب ر حت ى أس تطيع أن أك ون مثل ه‪ .‬ف إذا أت م تأنق ه ث م‬
‫ل بس القبع ة وس عى إل ى الم رآة يتأم ل نفس ه يمين ا وش ماﻻً‪ ،‬خ رج إل ى الب اب وش يعته‬
‫بنظ رات كله ا إعج اب‪ ،‬حت ى يغي ب عنه ا ف ي الش ارع الطوي ل ال ذي ينطل ق في ه‪.‬‬
‫وف ي ي وم اﻷح د ص باحا يرت دي ج ورجي بذل ة )الجول ف( ويخ رج ح امﻼً أدوات‬
‫اللعب‪ ،‬ثم يركب سيارة تكون في انتظاره عند باب المنزل‪.‬‬

‫ك ان هن اك تج اوب ودي بين ي وب ين ميلل ي‪ ،‬أم ا أنج ي فق د كن ت أحبه ا وأس تظرفها‪.‬‬


‫كان ت جميل ة حقّ ا‪ ،‬ولك ن جماله ا ل م يك ن جم ال ض عف واس تكانة‪ ،‬وإنم ا ك ان جم ال‬
‫ق وة وس يطرة‪ .‬كان ت م ثﻼً للعافي ة والرش اقة والجم ال‪ ،‬وكن ت أش عر وأن ا إل ى‬
‫جانبه ا بأنه ا تمتل ك ق وة س حرية تس يطر به ا عل ى م ن يك ون معه ا‪ .‬وه ي أص غر‬
‫إخوته ا وأبع د م ا تك ون ع ن القي ود والتقالي د‪ ،‬مرح ة ال نفس طيب ة القل ب‪ ،‬ذات مي ل‬
‫طبيع ي إل ى الروائ ع وم ا ثم ن م ن اﻷش ياء‪ ،‬فك ل ثم ين ف ي المن زل مل ك له ا‪ ،‬ولك ن‬
‫هذا الميل فيها لم يكن يدفع بها إلى الكبرياء‪.‬‬

‫كان ت تن اديني ف ي بع ض اﻷحي ان وه ي جالس ة وح دها ف ي غرف ة اﻻس تقبال‪ ،‬حت ى‬


‫إذا م ا أس رعت إليه ا أخ ذتني ب ين ذراعيه ا تح دثني ف ي دعاب ة وخف ة‪ .‬وك ان وجه ي‬
‫يح اذي وجهه ا فأش عر ب دافع غري ب يرغمن ي عل ى تأم ل محاس نها‪ :‬عيناه ا‬
‫ال دعجاوان الواس عتان الض احكتان‪ ،‬جي دها الن اعم الطوي ل ال ذي طالم ا دفن ت في ه‬
‫وجه ي‪ ،‬خ دها اﻷس يل الم ورد‪ ،‬ص فحة وجهه ا الس احرة الملس اء‪ ،‬وش عرها‬
‫الكستنائي المتموج‪ ،‬ووجهها المشرق الصبوح‪.‬‬
‫‪- 23 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كن ت أذه ب معه ا ف ي بع ض اﻷحي ان إل ى المس رح فيقابلن ا ش اب أني ق عن د مدخل ه‪،‬‬


‫ولس ت أس تطيع أن أنك ر أنن ي كن ت أض يق به ذا الش اب وأس تنكر وج وده‪،‬‬
‫خصوص ا حينم ا أج دها منص رفة إلي ه ف ي الح ديث‪ ،‬فقل ت له ا ذات مس اء بع د أن‬
‫فارقناه‪:‬‬

‫‪ -‬أنجي‪ ،‬من هذا الرجل؟‬


‫‪ -‬لماذا تسأل عنه؟ إنه صديقي‪ ،‬أﻻ يروقك أن يكون لي صديق؟‬
‫‪ -‬نعم يروقني‪ ،‬ولكن هذا الرجل ﻻ يعجبني‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا ﻻ يعجبك؟‬
‫‪ -‬لست أدري لماذا‪.‬‬
‫‪ -‬ألم أقل إن الطفل المستقيم يحب الناس جميعا؟‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولكن الطريقة التي يكلمك بها!‬
‫‪ -‬ولكنه صديقي‪.‬‬
‫‪ -‬إنن ي أخ اف أن يه رب ب ك ف ﻼ تثق ي ب ه‪ ،‬أل م تنتبه ي إل ى الطريق ة الت ي يكلم ك‬
‫بها؟ إنه ماكر‪.‬‬

‫م ا ك دت أنط ق به ذه الكلم ات الت ي كان ت تعب ر ع ن ش عوري نح و ه ذا الش اب‪،‬‬


‫حت ى ﻻحظ ت عليه ا الش رود‪ ،‬وكان ت ق د أث رت فيه ا‪ ،‬ول ذلك ض متني إل ى جانبه ا‬
‫قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬يا لك من طفل مشاكس‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ولم ا رجعن ا إل ى المن زل‪ ،‬س معتها تح دث أختيه ا ع ن ه ذا الح وار‪ ،‬وختم ت ح ديثها‬
‫قائلة‪ :‬إنها تخشى أن يكون ذلك إنذارا على لسان الطفل الصغير‪.‬‬

‫ه ؤﻻء ه م آل ب اترنوس‪ ،‬وذل ك ه و من زلهم ال ذي قض يت في ه وقت ا ل يس بالقص ير‬


‫من الطفولة‪ ،‬فإذا لم أوجد عندهم فأنا في منزلنا‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫ك ان منزلن ا أيض ا يتك ون م ن دوري ن‪ ،‬تق ع ف ي ال دور اﻷرض ي من ه غرف ة‬


‫اﻻس تقبال وغرف ة المائ دة وغرف ة الجل وس‪ ،‬وتق ع ف ي ال دور الث اني غرف ة جع ل‬
‫منها أبي مكتبا له ثم غرفة نومه ثم غرفة ثالثة أنام فيها أنا وأختي‪.‬‬

‫وق د عرف ت ف ي ه ذا المن زل كثي را م ن ص ور الحي اة ع ن طري ق أب ي وأم ي‬


‫وأخت ي‪ ،‬وع ن طري ق ه ؤﻻء ال ذين ك انوا يزورونن ا‪ .‬وق د ك ان أس لوب الحي اة‬
‫يختلف عندنا كثيرا أو قليﻼً عن أسلوب الحياة في منزل آل باترنوس‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأول ه ذا اﻻخ تﻼف أن منزلن ا قلم ا ك ان يخل و م ن زوار‪ ،‬وك ان ه ؤﻻء ال زوار‬
‫ي أن ا ال ذي ﻻ يع رف إﻻّ قل يﻼً ع ن اخ تﻼف طب ائع‬ ‫غرب اء تم ام الغراب ة بالنس بة إل ّ‬
‫الن اس وأل وانهم ب اختﻼف الش عوب‪ .‬ل م يك ن ال ذين يزورونن ا م ن اﻹنكلي ز ال ذين‬
‫ألف تهم وإنم ا ك انوا مراكش يين‪ ،‬وق د كن ت أتتب ع حرك اتهم وس كناتهم فأج د فيه ا دائم ا‬
‫ش يئا جدي دا‪ .‬وكن ت أص غي إل ى كلم اتهم وه م يتخ اطبون فأس تغرب له ذه الح روف‬
‫الض خمة الت ي يلفظونه ا ف ي س هولة ويس ر‪ .‬أي أن اس ه ؤﻻء!! إن ه ﻻ يك اد ثﻼث ة أو‬
‫جوه ا بأص واتهم العالي ة وض حكاتهم‬ ‫أربع ة م نهم يجتمع ون ف ي غرف ة حت ى يم ﻸوا ّ‬
‫الص اخبة‪ .‬وكان ت عن دهم ق درة غريب ة عل ى التق اط اﻷص وات المختلف ة إل ى درج ة‬
‫أنه م ك انوا يتكلم ون جميع ا م رة واح دة‪ ،‬فيك ون الواح د م نهم متكلم ا وس امعا ف ي‬
‫وقت واحد!‬

‫كان ت النس اء ي زرن أم ي ف ي أثن اء النه ار فيعل و ض جيجهن وه ن ي تكلمن حت ى إن ك‬


‫ي أنه ن يتن ازعن‪،‬‬ ‫لتس معهن م ن الش ارع! ك ن ي رفعن أص واتهن بحي ث يخي ل إل ّ‬
‫ولك ن ذل ك ل م يك ن ي تﻼءم م ع الض حك ال ذي يتخل ل ح ديثهن‪ ،‬ف أبقى ف ي حي رة م ن‬
‫أم رهن‪ .‬ول م أك ن أع رف حرف ا واح دا مم ا يقل ن‪ ،‬وكن ت أعج ب لل زي ال ذي ك ن‬
‫يرتدين ه ف ي المن ازل‪ ،‬وأعج ب م ن ص نع ه ذا ال زي‪ ،‬ولكنن ي ف ي نف س الوق ت كن ت‬
‫أطم ئن إل يهن اطمئنان ا غريب ا‪ ،‬ﻷنن ي كن ت ألم س طه ارة نفوس هن حينم ا ي داعبنني‪،‬‬
‫كم ا كن ت ألم س ق وة شخص يتهن ف ي تص رفاتهن‪ .‬ولكنن ي كن ت ﻻ أطي ق النظ ر إل ى‬
‫بعض هن‪ ،‬وه ن الخادم ات الس ود‪ ،‬كن ت أخش اهن م ن أعم اق قلب ي‪ ،‬وأزع م أنه ن‬
‫أمثل ة حي ة لم ا ي رد ف ي أقاص يص أم ي م ن مخلوق ات مش وهة قاس ية‪ ،‬وإنه ن ق د‬
‫حش وا أجس امهن الس وداء نفوس ا ً س وداء ك ذلك‪ ،‬كله ا قس وة وحن ق وبغض اء‪ .‬ول ذلك‬
‫ف ﻼ تك اد إح داهن ت دخل المن زل حت ى أتس لل من ه وأه رع إل ى من زل آل ب اترنوس‬
‫عب ر الش ارع ف ﻼ أع ود إﻻّ بع د أن أتأك د م ن أن منزلن ا ق د خ ﻼ م نهن‪ .‬وعبث ا كان ت‬
‫أم ي تح اول أن تطمئنن ي إل يهن‪ ،‬وكي ف تس تطيع ذل ك بع د أن أرعبتن ي‬
‫بأقاصيصها عن أمثالهن؟‬

‫‪- 26 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫هن اك ش يء بال ذات حيرن ي دون أن أج د ل ه تفس يرا‪ ،‬ذل ك ه و ابتع ادهن ع ن‬
‫ي أن ب ين الجنس ين ع داوة ﻻ تمحيه ا ال دماء‪ ،‬ولك ن ذل ك ك ان‬‫الرج ال حت ى خي ل إل ّ‬
‫يض يع حينم ا تك ون الواح دة م نهن م ع زوجه ا‪ .‬وإذن فم ا الس بب ف ي ابتع اد النس اء‬
‫ع ن الرج ال والرج ال ع ن النس اء؟ كن ت أﻻح ظ ف ي بع ض اﻷحي ان أن إح داهن‬
‫ت دخل غرف ة تحس بها خالي ة‪ ،‬حت ى إذا وقع ت عينه ا عل ى رج ل خرج ت مس رعة‬
‫وق د احم ّر وجهه ا‪ ،‬وربم ا ص رخت‪ ،‬ول م تك ن تكتف ي ب ذلك وإنم ا كان ت تس رع إل ى‬
‫غرفة أخرى وتقفل خلفها الباب‪.‬‬

‫ل م يخط ر بب الي أن م ا كن ت أراه ك ان لعب ة الظه ور واﻻختف اء يلعبه ا ه ذان‬


‫الجنس ان دون مل ل عل ى النح و ال ذي خط ر عل ى ب ال أح د اﻷدب اء اﻷوروبي ين‬
‫حينم ا زار م راكش ‪ -‬كم ا علم ت فيم ا بع د ‪ -‬ﻷن عقل ي ك ان أص غر م ن أن‬
‫يتص ور أن أ ّم ة بأس رها تلع ب لعب ة خال دة ﻻ نهاي ة له ا‪ .‬وإذن فم ا الس ر؟ حاول ت‬
‫أن أج ده عن د أب ي وعن د أم ي وعبث ا حاول ت أن أفه م تفس يرهما‪ ،‬وأخي را انص رفت‬
‫ع اجزا ع ن الفه م حينم ا قي ل إن ذل ك م ن تقالي دنا‪ ،‬وتخيل ت أن التقالي د ش يء م بهم‬
‫ليس من الضروري أن يُفهم‪.‬‬

‫كن ت معجب ا بوج وههن النض رة وجم الهن الغ ض‪ ،‬ولكنن ي كن ت أرث ي لح الهن‪.‬‬
‫فه ن مث ل أنج ي ف ي الجم ال‪ ،‬فلم اذا تك ون أنج ي س احرة تش يع حوله ا الغبط ة‬
‫والبهج ة؟ ولم اذا تك ون ‪ -‬دونه ن ‪ -‬رش يقة أنيق ة وك ل ش يء فيه ا رائ ع جمي ل؟‬
‫كن ت أرى م ن الواض ح أنه ن جم يﻼت ولك نهن ل م يك ن أنيق ات‪ ،‬وكن ت أع رف أن‬
‫ذل ك يرج ع إل ى ال زي ال ذي ك ن يرتدين ه‪ ،‬إذ ل م يك ن في ه ذوق وﻻ أناق ة‪ .‬فب دﻻً م ن‬
‫رأس أنج ي الع اري ذي الش عور المتموج ة كن ت أرى كوم ة م ن الحرائ ر‬
‫والمج وهرات تعل و رؤوس هن‪ ،‬وب دﻻً م ن جس م أنج ي الل دن المتكس ر‪ ،‬كن ت أرى‬
‫الثي اب الم دﻻة كأنه ا الس تائر‪ ،‬وب دﻻً م ن ق وام أنج ي الرش يق كن ت ﻻ أرى ش يئا‬
‫عل ى اﻹط ﻼق‪ ،‬وب دﻻً م ن وج ه أنج ي المتف تح العاط ل كن ت أرى وجوه ا ملطخ ة‬
‫باﻷص باغ ف أرثي لح الهن‪ ،‬وق د أراه ن ع اطﻼت فأش عر بس حرهن ث م أتفق د ه ذا‬
‫الس حر والجم ال بع د ذل ك وأس تغرب أي ن ض اع‪ .‬ولك ن ﻻ تس ل ع ن عجب ي حينم ا‬
‫‪- 27 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أبص رت ذات ي وم إح داهن وق د ارت دت وه ي تعب ث زي ا مث ل زي أنج ي‪ ،‬فب دت‬


‫رائع ة س احرة مثله ا‪ ،‬ﻻ تق ل عنه ا رش اقة وﻻ أناق ة وﻻ جاذبي ة‪ ،‬وب ذلك اس تطعت‬
‫أن أنف ذ إل ى س ر جم ال أخفت ه عن ي الحج ب واﻷس تار واﻷص باغ‪ ،‬وس اءني بع د‬
‫ذلك جدا ً أن أعود فأراها في زيها القديم‪.‬‬

‫أم ا الرج ال فك انوا ف ي الغال ب يجتمع ون ف ي المس اء‪ ،‬ف إذا اجتمع وا ف ﻼ ب ّد م ن أن‬
‫أقض ي معه م أكب ر وق ت مس تطاع‪ ،‬ﻷنن ي كن ت أج د ل ذة ف ي ذل ك‪ .‬ك انوا أب رع م ن‬
‫النس اء ف ي رف ع اﻷص وات واﻻس تماع ف ي وق ت واح د‪ ،‬وك انوا أكث ر ص خبا وأش د‬
‫ح رارة‪ ،‬ك ان ح ديثهم ص يحات وقهقه ات‪ ،‬وك انوا يكث رون م ن العب ث حت ى يخي ل‬
‫إلي ك أنه م ﻻ يعرف ون الج د‪ ،‬ويكث رون م ن الج د حت ى يخي ل إلي ك أنه م ﻻ يعرف ون‬
‫العبث‪.‬‬

‫وربم ا اجتم ع أربع ة م نهم للع ب ال ورق‪ ،‬اثن ان ض د اثن ين‪ ،‬وك ان لع بهم غريب ا‪،‬‬
‫ف أرى الﻼع ب يتن اول ورق ة ب ين أص ابع ي ده ث م يل وح به ا ف ي الفض اء م رات‪ ،‬ث م‬
‫يتناوله ا بإبهام ه ووس طاه ويض ربها ض د س بابته بض ع م رات أخ رى‪ ،‬ث م يحوله ا‬
‫يمين ا أو يس ارا‪ ،‬ك ل ذل ك وص احبه منتب ه إل ى ه ذه اﻹش ارات ك ل اﻻنتب اه‪ ،‬ث م يلق ي‬
‫بالورق ة إل ى اﻷرض ف ي ق وة ويرن و إل ى ص احبه مح اوﻻً أن يتأك د م ن أن ه فه م‬
‫عن ه م ا يري د‪ ،‬ف إذا حص لت غلط ة بس يطة ض جت الغرف ة بالص ياح‪ .‬ووي ل‬
‫للمغل وب‪ ،‬فإن ه ك ان يحك م علي ه بل بس قلنس وة م ن ال ورق كان ت تروقن ي ج دا‪ ،‬وﻻ‬
‫يجوز له أن ينزعها إﻻ إذا محا عن نفسه الغلب‪.‬‬

‫ل م يك ن ليغي ب حت ى ع ن طف ل ص غير مثل ي أن ك ل م ا يح يط به ؤﻻء الن اس مب الغ‬


‫في ه‪ ،‬فه م يب الغون ف ي ص ياحهم وف ي ض حكهم وف ي أكله م وف ي لباس هم وف ي‬
‫غض بهم وف ي عب ثهم وف ي ك ل م ا يتص ل به م‪ .‬ك ل ذل ك ف ي ب ﻼد ﻻ تع رف المبالغ ة‬
‫إليه ا س بيﻼً‪ .‬ك انوا يص يحون ب ين ق وم يهمس ون ويقهقه ون ب ين ق وم يبتس مون‪،‬‬
‫ويحرك ون أط رافهم ب ين ق وم ﻻ يك ادون يتحرك ون‪ .‬ولس ت أدري‪ :‬ه ل ك ان‬
‫‪- 28 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الهم س واﻻبتس ام والس كون يزي د ف ي تش ويه الص ياح والقهقه ة والحرك ة‪ ،‬أم أن‬
‫هؤﻻء الناس كانوا حقا ً مبالغين؟!‬

‫ح دث ذات م رة أن بلغ ت أ َح دهم رس الةٌ بوف اة والدت ه‪ ،‬فرف ع ص وته بالعوي ل ف ي‬


‫منزل ه‪ ،‬وك ان الس كون يس ود الش ارع بحي ث س معه أه ل الح ي جميع ا‪ ،‬ف أقبلوا كله م‬
‫وأح اطوا ب المنزل يستفس رون عم ا ح دث كم ا يفعل ون عن د م ا يش ب حري ق أو‬
‫تن زل نازل ة!! وح دث م رة أخ رى أن داه م ه ذا الرج ل نفس ه كل ب ض خم ف ي وس ط‬
‫الش ارع ف انطلق يص يح وم ن ورائ ه الكل ب ين بح‪ ،‬وأس رع س كان الح ي إل ى نواف ذهم‬
‫فإذا بهم يرون منظرا عجيبا ربما كان اﻷول من نوعه في تاريخ القطر كله!‬

‫ك ان ه ذا ح الهم أيض ا عن دما يخرج ون‪ ،‬فه م ق وم تعلم وا ف ي بﻼده م ح ب الربي ع‬


‫وأيام ه النض رة‪ ،‬وعل ى ذل ك فق د ك انوا يتق ابلون ف ي عش اياه ويخرج ون إل ى‬
‫الح دائق العام ة ليتمل وا مف اتن الطبيع ة الجميل ة‪ ،‬وطالم ا ص احبتُهم ف ي مث ل ه ذه‬
‫النزه ات‪ .‬ل م يكون وا يس يرون عل ى اﻷرص فة وإنم ا ك انوا يس يرون ف ي ص ف‬
‫طوي ل يض م أكث ر م ن عش رة أف راد ف ي طري ق الس يارات والعرب ات وه م يتح دثون‬
‫بأص وات عالي ة‪ ،‬دون أن يك ون لوج ودهم ف ي الش ارع ت أثير عل ى ص ياحهم‬
‫وقهقه اتهم وحرك اتهم‪ ،‬ولك ن س كان الح ي ك انوا ق د ألف وهم فل م يع ودوا يس تغربون‬
‫لتص رفاتهم‪ .‬ك انوا يُعرف ون ب ين اﻷطف ال "ب ذوي القبع ات الحم ر" وب الرغم م ن‬
‫ذل ك كان ت س معة ذوي القبع ات الحم ر ه ؤﻻء ب ين الس كان س معة حس نة لم ا لمس وه‬
‫ف يهم م ن ع زة ال نفس وح ب الخي ر وحس ن الس يرة‪ ،‬ول ذلك أح بهم جمي ع م ن ع رفهم‬
‫من اﻹنكليز‪.‬‬

‫وإذا ق دم م نهم ش خص ﻷول م رة ف ﻼ ب د م ن أن يتع رض ل بعض الص عوبات‬


‫لجهل ه بلغ ة ال بﻼد وش وارعها‪ ،‬ولك ن ل م يك ن لجهل ه ه ذا المؤق ت أي ت أثير عل ى‬

‫‪- 29 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫تص رفاته‪ ،‬فه و يخ رج وحي دا ويبت اع م ا يري د ويتف اهم م ع الن اس‪ .‬أم ا كي ف ك ان‬
‫ذلك يتم وبأي لغة‪ ،‬فا به عليم!‬

‫ح دث أن أقب ل زائ ر جدي د م ن مدين ة ال دار البيض اء وأق ام عن دنا‪ ،‬وك ان أب ي‬


‫مريض ا ﻻ يس تطيع الخ روج ول ذلك ك ان علي ه أن يخ رج وح ده‪ .‬ولم ا خ رج ﻷول‬
‫م رة خرج ت مع ه أخت ي لتتكف ل بمهم ة التعبي ر‪ ،‬وأعط اه أب ي ظرف ا كت ب علي ه‬
‫عن وان المن زل ليس تطيع أن ي دلي ب ه إل ى الش رطي عن د الض رورة فيهدي ه‬
‫الطري ق‪ .‬خ رج ص احبنا م ع أخت ي وانطل ق ف ي الش وارع الواح د تل و اﻵخ ر‪،‬‬
‫ورك ب الس يارة العام ة فابتع د تمام ا ع ن المن زل‪ ،‬فلم ا قض ى م ا ك ان يري د وأراد‬
‫الرج وع ض ل الس بيل‪ .‬س أل أخت ي ه ل تع رف الطري ق فل م تع رف م ا يق ول‪ ،‬ث م‬
‫أخذت ه إل ى أح د ال دكاكين ظان ة أن ه يري د أن يبت اع ش يئا‪ ،‬فتض ايق بع دم فهمه ا‬
‫واس تقر رأي ه عل ى أن يتص رف وح ده‪ .‬وأخي را تق دم إل ى أح د الم ارة وابتس م ل ه‬
‫محيي ا‪ ،‬ف رد علي ه ه ذا اﻻبتس امة بمثله ا‪ ،‬ث م أدخ ل ص احبنا ي ده ف ي جيب ه وأخ رج‬
‫الظ رف‪ ،‬فناول ه الرج ل ال ذي أدرك م ن هيئت ه أن ه غري ب‪ ،‬فأخ ذ من ه الظ رف وق رأ‬
‫العن وان ث م أخ ذه إل ى أح د ال دكاكين واش تري من ه طابع ا للبري د لص قه عل ى‬
‫الظ رف‪ ،‬ث م أش ار ل ه ب أن يتبع ه‪ ،‬ولش د م ا كان ت دهش ته حينم ا رأي الرج ل ي دنو‬
‫إل ى أق رب ص ندوق بري د ويلق ي في ه ب الظرف! ووق ف الرج ل مدهوش ا حينم ا رأى‬
‫ص احبنا يك اد يس تلقي عل ى قف اه م ن الض حك‪ ،‬ول م يس عه إﻻ أن ينص رف ف ي‬
‫استغراب‪.‬‬

‫ل م تك ن مهم ة ه ؤﻻء الن اس التج ارة فق ط‪ ،‬وإنم ا ك ان عن دهم أيض ا مي ل غري ب إل ى‬


‫اﻻس تمتاع بالحي اة‪ ،‬تل ك الحي اة الض احكة الت ي تق دمها إل يهم م دن إنكلت را‬
‫ومصايفها‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪6‬‬

‫ك ان الش تاء يط ول ف ي منشس تر‪ ،‬وك ان ه ذا الط ول يبع ث الحن ين ف ي النف وس إل ى‬


‫اﻷي ام الت ي تع ود فيه ا الطبيع ة إل ى نض ارتها وجماله ا‪ ،‬وتب دو الش مس الدافئ ة‬
‫س افرة ف ي الس ماوات‪ .‬وك ان الش تاء إل ى جان ب ذل ك عنيف ا ً مزمج را‪ ،‬فيتج اذب‬
‫الب رق أط راف الس حب الكثيف ة الس وداء‪ ،‬وينتق ل الرع د وص داه ف ي اﻷج واء‬
‫غاض با مخيف ا‪ ،‬وتمط ر الس ماء ف إذا بالمدين ة تك اد تس بح ف ي س يل ط ام‪ ،‬وإذا ه ي‬
‫مبلل ة م ن أقص اها إل ى أقص اها‪ ،‬وك ل ش يء فيه ا يتق اطر من ه الم اء‪ ،‬ويت راقص‬
‫المط ر عل ى أرص فة الش وارع فيح دث موس يقى رتيب ة ذات لح ن واح د مس تمر‪،‬‬
‫وتنطل ق الري اح معول ة نائح ة يُس مع له ا ف ي بع ض اﻷحي ان ص فير م زعج فتقص ف‬
‫الح واجز الخش بية وأغص ان الش جر ويتوج ع ف ي مهبّه ا الصفص اف الباس ق‪ ،‬أو‬
‫ت رجم الس ماوات الحالك ة المدين ة بواب ل م ن الب َرد ينق ر زج اج النواف ذ نق رات‬
‫متتالي ة س ريعة‪ ،‬ك أن أس رابًا م ن الطي ر تح اول عبث ا أن تخترق ه بمناقيره ا‪ ،‬أو‬
‫يمتل ئ الج و بنفاي ات ال ثلج ته ِف ت ف ي ب طء وق د ازدح م به ا الفض اء‪ ،‬فم ا ه ي إﻻ‬
‫لحظ ات حت ى ترت دي المدين ة الس وداء إزارا أب يض ناص عا‪ ،‬ف إذا بالش وارع‬
‫والبي وت واﻷش جار وك ل ش يء فيه ا يب دو كأنم ا لمس ته عص ا س حرية‪ .‬وق د أنه ض‬
‫ف ي الص باح وأط ل م ن الناف ذة ف إذا بالش وارع وم ا فيه ا ق د اختف ى ف ﻼ أرى إﻻ‬
‫ض بابا ف ي ض باب ق د يج ثم عل ى ص در المدين ة ط ول النه ار‪ ،‬فيض طر الن اس إل ى‬
‫إض اءة المص ابيح ك أن الليل ة الماض ية م ا ت زال مس تمرة‪ ،‬وتب دو مص ابيح الش وارع‬
‫خابي ة باهت ة كأنه ا نج وم بعي دة تك اد تغ ور‪ ،‬وحوله ا هال ة س وداء م ن الض باب‬
‫الكثيف يحاصر النور لكي ﻻ يتسرب منه شيء‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ك ان ه ذا الش تاء العني ف يثي ر ف ي نفس ي ص ورا م ن الجب روت ل ن أنس اها م ا‬
‫حيي ت‪ ،‬وك ان الرع د م ن أب رز ه ذه الظ واهر الت ي تثي ر خي الي فب دأت أفه م أن‬
‫الس ماء تض ج بالمخلوق ات كم ا تض ج اﻷرض‪ ،‬وأن الس ماء بالنس بة إل ى اﻷرض‬
‫ف ي الع الم مث ل ال دور الث اني بالنس بة إل ى ال دور اﻷول ف ي المن زل‪ ،‬فه ذا الرع د‬
‫ض جيج أه ل ال دور الث اني‪ ،‬وإذا ك ان الرع د ض جيجهم ف ﻼ ب د أن يكون وا عمالق ة‬
‫جب ابرة تُح دث أق دامهم عل ى الس قف ك ل ه ذه الضوض اء وه م يج رون أو يعبث ون‪،‬‬
‫وربم ا ك ان أبن اؤهم فق ط ه م ال ذين يج رون أو يعبث ون‪ .‬ث م ب دأ ص وت الرع د يقت رن‬
‫بالص وت ال ذي تحدث ه العرب ة وه ي م ارة ف ي ال َم َح ﱠج ة يجره ا ج واد مطه م جم وح‪،‬‬
‫ي كلم ا عب ر الس ماء ه زيم أن جماع ة م ن ه ؤﻻء العمالق ة ق د ركب وا‬ ‫فب ات يخي ل إل ّ‬
‫عرب ات جب ارة وانطلق وا يتس ابقون ف ي جن ون وبأقص ى م ا يس تطيعون م ن س رعة‬
‫فترتجف أنحاء العالم من تحتهم‪.‬‬

‫كان ت ال ريح ه ي الظ اهرة الثاني ة ف ي إث ارة ه ذا الخي ال‪ .‬كن ت أص غي إل ى عويله ا‬
‫ف ي ظلم ات اللي ل وأن ا م دثر ف ي الف راش‪ ،‬وطالم ا س اءلت نفس ي‪ :‬م ا معن ى ال ريح؟‬
‫ي أنه ا مقبل ة م ن‬
‫دون أن أظف ر بج واب‪ ،‬وعندئ ذ ألج أ إل ى اﻻفت راض‪ ،‬فيخي ل إل ّ‬
‫ب من ه كلم ا رفع ت بين ه وب ين الع الم الس دود‪ ،‬وك ان ص وتها‬
‫مك ان س حيق‪ ،‬وأنه ا ته ّ‬
‫يح دث ف ي نفس ي نوع ا م ن التش اؤم والتطي ر‪ ،‬ف إذا به ا ترتج ف وكأنه ا ش جرة‬
‫ي أن هن اك س ببا له ذا العوي ل‪ ،‬وأن كارث ة‬‫ص غيرة ف ي مهبه ا‪ ،‬كم ا ك ان يخي ل إل ّ‬
‫خفي ة ق د ح دثت ف ي مك ان م ا م ن مجاه ل الع الم فانطلق ت ال ريح تن دب اﻷط ﻼل‬
‫ي أحيان ا أخ رى أن الفض اء الرح ب يض ج ب آﻻم‬ ‫والخرائ ب‪ .‬وك ان يخي ل إل ّ‬
‫وأح زان مبهم ة وأن هن اك كائن ات خفي ة بَ رح به ا الع ذاب ف امتﻸت اﻷج واء‬
‫باﻷنين والعويل‪.‬‬

‫كان ت ه ذه الظ واهر الطبيعي ة العنيف ة الت ي ل م أك ن أع رف معناه ا تت رك ف ي نفس ي‬


‫ص ورة مخيف ة للع الم‪ ،‬حت ى إنه ا أص بحت ‪ -‬لط ول م ا س معت م ن أس اطير ‪-‬‬
‫رم وزا لحي اة أخ رى خفي ة يع يش فيه ا أن اس أض خم وأق در م ن بن ي البش ر ﻷن ك ل‬
‫ما يتصل بهذه الرموز عنيف وجبار‪.‬‬
‫‪- 32 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ولك ن ه ذا ل م يك ن ك ل ش يء ف ي ه ذا الش تاء الطوي ل‪ ،‬فق د ك ان ل ه جان ب آخ ر يحبب ه‬


‫ي وينس يني ه ذه الص ور المخيف ة الت ي كان ت ت داعب مخيلت ي‪ .‬وك ان الب رد‬ ‫إل ّ‬
‫الق ارس يم ﻸ جس مي الص غير نش اطا في دفعني إل ى الع دو والوث ب واﻻنغم ار ف ي‬
‫اللع ب‪ .‬واللع ب حقّ ا مظه ر م ن مظ اهر اغتب اط الطف ل بالحي اة في رى ص دره يعل و‬
‫وين زل بأنفاس ه المجه دة وق د ت ﻸﻷ وجه ه بش را ً وبرق ت عين اه رض ا واحم ّر خ داه‬
‫احمرارا بهي ًجا‪ ،‬فإذا به يشيع البشر والرضا في نفس كل من يراه‪.‬‬
‫ً‬

‫ي ف ي الش تاء أن أجل س إل ى الم دفأة أس تمع إل ى‬ ‫وك ان م ن أح ب اﻷش ياء إل ّ‬


‫اﻷقاص يص الغريب ة الت ي كان ت أم ي ترويه ا ل ي‪ ،‬وإل ى م دفأة آل ب اترنوس أس تمع‬
‫إل ى أحادي ث أفراده ا وه م يتح دثون ع ن تق دم الحض ارة والتغي ر ال ذي غم ر الحي اة‬
‫ف ﻼ تس تقر ف ي ذهن ي م ن ذل ك إﻻ ص ور باهت ة ﻻ تم ت إل ى الحقيق ة بس بب‪ ،‬ولكنن ي‬
‫كنت مع ذلك أستمتع بتلك اﻷحاديث‪.‬‬

‫مث ل ه ذا الش تاء الطوي ل الق ارس العني ف ك ان يص رف الن اس إل ى أعم الهم الجدي ة‪.‬‬
‫وق د ك ان المراكش يون ينهمك ون ف ي أعم الهم انهما ًك ا كليّ ا ولك ن ذل ك ل م يم نعهم م ن‬
‫أن يس مروا ف ي من ازلهم ليحيط وا ج دهم ه ذا بش يء م ن الله و والم رح‪ .‬ف إذا ك انوا‬
‫يس مرون ف ي منزلن ا س معت ض حكاتهم م ن الغرف ة المج اورة الت ي كن ت أن ام فيه ا‬
‫أنا وأختي ووصلتني أحاديثهم تلك التي لم أكن أفهم منها شيئا‪.‬‬

‫أم ا ه ذه اﻷعم ال الت ي ك ان ه ؤﻻء المراكش يون الن ازحون ينص رفون إليه ا‬
‫انص رافا تام ا ف ي أثن اء فص ل الش تاء‪ ،‬فق د كان ت أعم اﻻً تجاري ة ل م أك ن أفهمه ا وﻻ‬
‫أق يم له ا كبي ر وزن ف ي تل ك الس ن المبك رة‪ .‬وأس تطيع اﻵن أن أق ول إن ه ك ان يب دو‬
‫‪- 33 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫عل يهم جميع ا ت رف وم رح ﻻ ش ك أنهم ا مظه ر م ن مظ اهر النج اح‪ .‬ولك ن ه ذه‬
‫التج ارة ‪ -‬كم ا علم ت فيم ا بع د ‪ -‬ل م تك ن تس تند إل ى دراي ة أو إلم ام بالش ؤون الت ي‬
‫ﻻ ب د م ن اﻹلم ام به ا لتس يير الدف ة ف ي أثن اء الزواب ع اﻻقتص ادية‪ ،‬ول ذلك عص فت‬
‫بهم جميعا أول زوبعة صادفوها بعد ذلك‪.‬‬

‫ك ان أب ي كبقي ة الق وم ي زاول أعمال ه ف ي مكت ب‪ ،‬ف إذا ملل ت م ن الحي اة الرتيب ة‬
‫طلب ت بع ض التغيي ر ف ي اﻹلح اح علي ه ب أن يص حبني مع ه‪ ،‬حت ى إذا م ا قب ل‬
‫انتظرت صباح اليوم التالي بفارغ الصبر‪.‬‬

‫كن ا نغ ادر المن زل ف ي ح والي الس اعة الثامن ة ص باحا بع د تن اول وجب ة اﻹفط ار‬
‫مباش رة فنقاب ل ف ي الش ارع جمه ورا م ن جيرانن ا الرج ال واﻷطف ال ال ذين‬
‫يغ ادرون من ازلهم مثلن ا ذاهب ين إل ى أعم الهم أو إل ى مدارس هم‪ ،‬فك انوا يغم رون‬
‫الشوارع بجو من الحيوية والنشاط بعد الراحة التي أصابوها في أثناء الليل‪.‬‬

‫حت ى إذا م ا ركبن ا قط ار الت رام انص رفت أن ا إل ى نافذت ه أتأم ل المدين ة الت ي ت زداد‬
‫حرك ة ونش اطا كلم ا توغلن ا ف ي ش وارع اﻷس واق والعم ل‪ ،‬وك ان يخي ل للم رء أنه ا‬
‫ه ي أيض ا ق د اس تيقظت باس تيقاظ س كانها‪ ،‬فل م تك ن الع ين تق ع إﻻ عل ى حرك ة دائب ة‬
‫متزايدة تغريني بأن أتحرك وأعمل ولكنني لم أكن أعرف ماذا يمكن أن أزاول‪.‬‬

‫وأتب ع وال دي ف ي نش اط ونح ن نغ ادر الت رام وأس ير إل ى جانب ه متوثب ا لنخت رق ب اب‬
‫إح دى البناي ات ونص عد س ﻼلمها‪ ،‬ث م نق ف عن د أح د اﻷب واب لي دير في ه وال دي‬
‫مفتاح ا قب ل أن ن دخل المكت ب‪ ،‬ول م يك ن يف وتني أن ألق ي نظ رة عل ى الح روف‬

‫‪- 34 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الس وداء المنقوش ة عل ى زج اج الب اب‪ ،‬وكن ت أع رف أنه ا ح روف اس م وال دي‬
‫)مس تر ت‪ .‬ب ن جل ون( ال ذي كن ت أمي زه ب الرغم م ن أنن ي ل م أك ن أفه م الق راءة بع د‬
‫لكث رة م ا رأيت ه مطبوع ا عل ى الظ روف الت ي يس تعملها وال دي ف ي مراس ﻼته‬
‫بالمنزل‪.‬‬

‫وس رعان م ا يف تح الس كرتير اﻹنكلي زي الب اب وه و يخل ع معطف ه ويحيين ا تحي ة‬
‫الص باح‪ ،‬ث م يجل س لمكت ب مقاب ل لمكت ب وال دي ويب دأ العم ل‪ .‬ف أجلس عل ى كرس ي‬
‫إل ى جانب ه وأش رع ف ي محاول ة جدي دة فاش لة لفه م ماهي ة العم ل ال ذي يقوم ان ب ه‪.‬‬
‫وكن ت أب دأ ه ذه المحاول ة بتأم ل م ا ف ي الغرف ة‪ ،‬علن ي أعث ر عل ى ش يء يه ديني إل ى‬
‫الفه م‪ :‬ال دفاتر والملف ات والمطبوع ات وورق الكتاب ة والظ روف واﻷق ﻼم‬
‫والمح ابر والرس ائل وآل ة الض غط الناس خة‪ ،‬وطواب ع البري د‪ ،‬والص ور‪ ،‬والخزان ة‬
‫الحديدية والمفاتيح وسلة المهمﻼت ونماذج اﻷقمشة‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫عبث ا كن ت أح اول أن أرب ط ب ين ه ذه اﻷش ياء المختلف ة ﻷخ رج بفك رة واض حة ع ن‬


‫عم ل وال دي‪ ،‬وعبث ا كن ت أح اول أن أفه م اﻷلف اظ الت ي يس تعملها وال دي وس كرتيره‬
‫ﻷستعين بها على الفهم‪.‬‬

‫كن ت أفه م الغ رض م ن وج ود أدوات كثي رة ك أدوات النج ارة والحﻼق ة والخياط ة‬
‫م ثﻼً‪ .‬فه ل يعق ل أن يك ون له ذه اﻷش ياء الت ي تح يط ب ي أغ راض مماثل ة؟ وإذا ك ان‬
‫اﻷم ر ك ذلك فم ا ه ذه اﻷغ راض؟ ث م أي أس م ن الفه م ف ي مل ل وأنص رف إل ى‬
‫الحركة والتنقل بين هذه اﻷشياء متأمﻼً لها تارة وﻻمسا لها بيدي تارة أخرى‪.‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ش يئان فق ط كن ت أدرك الص لة بينهم ا‪ :‬القل م وال ورق‪ .‬فه ل ك ان ذل ك يرج ع إل ى‬


‫رغب ة ص بيانية ف ي العب ث‪ ،‬أو ك ان إي ذانا ب أنني س أبتلى بهم ا ه ذا اﻻب تﻼء العظ يم‬
‫فيما يستقبل من أيامي؟‬

‫ك ان وال دي ذات م رة منهمك ا ف ي عمل ه م ع الس كرتير‪ ،‬فملل ت م ن تأم ل ه ذه‬


‫اﻷش ياء ومحاول ة فهمه ا‪ ،‬ول ذلك تناول ت جري دة عربي ة كان ت موض وعة عل ى‬
‫المكت ب وأخ ذت أتأم ل حروفه ا‪ ،‬ث م تناول ت القل م وب دأت أح اول أن أقل د الكتاب ة‬
‫على ورقة بيضاء دون جدوى‪.‬‬

‫ي أنه ا براق ة‪ ،‬فق د وض عت‬ ‫وهن ا خط رت بب الي أول فك رة ف ي حي اتي خي ل إل ّ‬


‫الورق ة البيض اء عل ى الص حيفة المكتوب ة ف إذا ب ي اكتش فت أن حروفه ا واض حة‬
‫تح ت الورق ة الش فافة‪ ،‬فتناول ت القل م وأخ ذت أعي د عل ى ال دوائر والخط وط وال نقط‪.‬‬
‫ث م رفع ت الورق ة ف إذا به ا مكتوب ة‪ ،‬وك ان س روري عظيم ا إذ ب دا ل ي أنن ي وض عت‬
‫ي دي عل ى أس رار "العم ل" اﻷول ى‪ ،‬وازداد يقين ي ب ذلك حينم ا ق دمت الورق ة الت ي‬
‫كتبتها إلى والدي فبرقت عيناه ببريق الغبطة واﻹعجاب‪.‬‬

‫ث م فج أة أم ّل م ن ه ذا كل ه بع د م رور فت رة قص يرة م ن الوق ت‪ ،‬فق د كان ت اﻷش ياء‬


‫مح دودة وإمكاني ات العم ل ض يقة‪ ،‬يض اف إل ى ذل ك اﻻنقب اض ال ذي تص اب ب ه‬
‫النف وس ف ي فص ل الش تاء ال داكن حينم ا يوج د الم رء ف ي مك ان ل يس في ه م ا يغ ري‬
‫ب المرح‪ ،‬فأطل ب الع ودة إل ى المن زل‪ ،‬ث م أل ح ف ي الطل ب إل ى أن يض يق وال دي‬
‫فنع ود إل ى المن زل قب ل الميع اد وه و يق ول إن ه ذه ه ي الم رة اﻷخي رة الت ي‬
‫يص حبني فيه ا مع ه إل ى المكت ب‪ .‬وكن ت أق ول ذات الش يء ف ي نفس ي‪ ،‬وأس تغرب‬
‫كي ف يقض ي ك ل ي وم ه ذه الس اعات الطويل ة الممل ة ف ي مك ان يع ج ب أدوات ﻻ أفه م‬

‫‪- 36 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الغ رض منه ا‪ .‬ولك ن إن ه ي إﻻ أي ام حت ى تع اودني الرغب ة ف ي زي ارة مكت ب عم ل‬


‫والدي لتجديد المحاولة‪.‬‬

‫ه ذه ص ورة م ن حي اة الش تاء ف ي تل ك اﻷي ام الذاهب ة‪ .‬وق د ك ان حن ين الن اس إل ى‬


‫الص يف ي زداد كلم ا ازداد الش تاء ط وﻻً‪ ،‬فل يس م ن الغري ب إذن أن يح دث‬
‫الص يف حينم ا يقب ل تغيي را ف ي الحي اة‪ .‬وك ان م ن أش د الن اس احتف اﻻً ب الربيع‬
‫وبالص يف ه ؤﻻء المراكش يون ال ذين ك انوا ينظم ون أعم الهم بحي ث تس مح له م ب أن‬
‫ينص رفوا إل ى الحي اة الجدي دة الت ي حمله ا إل يهم الفص ل الجدي د‪ .‬وم ن ذا ال ذي‬
‫يس تطيع أن يظ ل ف ي منشس تر وق د أقب ل الص يف؟ وق د كن ت أتطل ع أن ا أيض ا بف ارغ‬
‫الص بر إل ى الص يف ﻻ لش يء أكث ر م ن أنن ا س نترك ه ذه المدين ة وم ا قاس يناه فيه ا‬
‫من غم إلى الشواطئ مع آل باترنوس ومواطنينا المراكشيين‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫وأخي ًرا أقب ل الص يف بنض ارته وجمال ه‪ ،‬ف إذا ب ي أتطل ع إل ى الي وم ال ذي نب رح في ه‬
‫المدين ة‪ ،‬ولك ن ص بري ﻻ يط ول فق د آن لن ا أن نبرحه ا‪ .‬بي د أن هن اك عقب ة‬
‫ص غيرة كن ت أحس ب له ا أل ف حس اب تل ك ه ي محط ة القط ار‪ .‬لق د كن ت أكرهه ا‬
‫كره ا ش ديدا إذ ل م أك ن أطي ق النظ ر إل ى الق اطرة وه ي ت دخل المحط ة‪ ،‬ك ان‬
‫منظره ا يفزعن ي وه ي تزف ر وتتنه د وترس ل ال دخان اﻷس ود الكثي ف ويك اد‬
‫ص فيرها الح اد يطي ر ص وابي‪ .‬ك ان الطغي ان ف ي أبش ع ص وره يتمث ل ل ي فيه ا‬

‫‪- 37 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫حينم ا أراه ا مقبل ة ف ي عب وس بش كلها الك الح اﻷش وه وحجمه ا الض خم البش ع‪،‬‬
‫وحينم ا أرى عجﻼته ا الغليظ ة القاس ية ت دور كأنه ا جائع ة إل ى الس حق‪ ،‬وحينم ا‬
‫تم ر ب القرب من ي وأرى جوفه ا يض ج بألس نة م ن الله ب اﻷس ود يتط اير من ه ش رار‬
‫ي أنه ا ألس نة م ن الحق د يغل ي به ا ج وف ذل ك الحي وان اﻵل ي‬ ‫أحم ر فيخي ل إل ّ‬
‫البغ يض‪ .‬وم ا ت زال الق اطرة تمث ل ل ي إل ى اﻵن الحي وان اﻵل ي ال ذي خلقت ه‬
‫الحض ارة ف ي أبش ع ص ورة‪ .‬إنه ا مث ال للقس وة والص رامة والعم ي والجب روت‪،‬‬
‫وهي صفات ﻻ شك في أن قلوب الصغار ﻻ تطمئن إليها‪.‬‬

‫ف إذا انطلق ت بن ا م ن المحط ة انطلق ت بطيئ ة ت نفخ وتزف ر كأنه ا تس تجمع قواه ا ث م‬
‫ﻻ تلب ث س رعتها أن ت زداد ث م تنطل ق بع د لحظ ات ف إذا به ا تل تهم قض بان الحدي د‬
‫التها ًم ا كأنم ا ب ّرح الج وع بعجﻼته ا‪ ،‬ث م ته يم عل ى وجهه ا ﻻ تل وي عل ى ش يء‪.‬‬
‫س ا تنش ط كم ا تنش ط نف س الج واد إذا أطل ق ل ه العن ان ف إذا‬
‫ي أن له ا نف ً‬
‫وك ان يخي ل إل ّ‬
‫العج ﻼت تح دث ص وتا رتيب ا راقص ا كم ا ل و ك ان ذل ك تعبي را ع ن رض اها عم ا‬
‫ه ي في ه م ن جه د‪ ،‬وإذا بالق اطرة ترس ل م ن آن ﻵخ ر ص فيرا ط ويﻼً تعب ر في ه ع ن‬
‫اغتباطه ا بك ل ه ذا العن ف‪ ،‬وه و ص فير ﻻ يم ت مطلق ا إل ى ذل ك الص فير المع تم‬
‫الذي أرسلته من قبل وهي داخله إلى المحطة‪.‬‬

‫عل ى أن ه س رعان م ا تتﻼش ى ه ذه اﻹحساس ات حينم ا يخ رج القط ار إل ى فض اء‬


‫الطبيع ة الواس ع‪ .‬وم ن ذا ال ذي يس تطيع أن ي ذكر ش يئا كه ذا وه و يخت رق حق ول‬
‫إنكلت را ف ي القط ار؟ عل ى الش مال واليم ين بس اط سندس ي أخض ر تن افس روع ة‬
‫خض رته روع ة زرق ة الس ماء‪ ،‬وﻻ ت رى الع ين إﻻ اﻷل وان البهيج ة ف ي ك ل مك ان‪،‬‬
‫أل وان الزه ور والطي ور واﻷش جار‪ ،‬أل وان اﻷغن ام واﻷبق ار واﻷف راس‪ ،‬أل وان‬
‫يخيل إليك لشدة انسجامها أنه قد أشرف على تنميقها فنان قدير‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وه ذا ه و الج و ال ذي يع يش في ه الن اس وه م يص يفون‪ ،‬ولق د اختلط ت اﻵن ف ي‬


‫ذهن ي كثي ر م ن الص ور‪ ،‬ول م يع د ف ي اس تطاعتي أن أرج ع ك ل ص ورة إل ى مكانه ا‬
‫م ن الجزي رة الجميل ة‪ ،‬ولكنن ي أذك ر أنه ا ترج ع ف ي جملته ا إل ى المس افات الواقع ة‬
‫بين منشستر من ناحية ومدن بﻼك بول وسنت آنز وويلز من ناحية أخرى‪.‬‬

‫ك ﻼ إنن ي أذك ر ب ﻼك ب ول مدين ة المﻼه ي الجب ارة‪ ،‬فه ذه عجلته ا الض خمة العتي دة‬
‫ت دور ف ي الفض اء وه ي تحم ل عالم ا ً م ن الن اس‪ ،‬وه ذا برجه ا الض ارب ف ي‬
‫الس ماء ﻻ أك اد أط ل م ن أعالي ه حت ى أتراج ع خوف ا وح ذرا‪ .‬م اذا ج رى ل ذلك‬
‫القط ار ال ذي أرعبن ي ف ي المحط ة؟ لق د أص بح مث ل دودة ص غيرة مس تطيلة تزح ف‬
‫ف ي ب طء وه ي ش بيهة بتل ك اللعب ة الت ي اعت دت أن ألع ب به ا ف ي المن زل‪ ،‬أم ا الن اس‬
‫فيخي ل إلي ك أنه م بق ع ص غيرة س وداء تض طرب عل ى ص فحة اﻷرض كم ا ل و كن ت‬
‫ت راهم تح ت مجه ر‪ ...‬بق ع س وداء تجتم ع وتفت رق ف ي غي ر نظ ام كم ا ل و ك ان هن اك‬
‫من يعبث بها‪ .‬تلك هي الحياة حينما نشرف عليها من اﻷعالي‪.‬‬

‫مازل ت أتص ور نفس ي ف ي مدين ة المﻼه ي المتﻸلئ ة )ب ﻼك ب ول( فبينم ا أج د نفس ي‬


‫ص اعدا إل ى الس ماء ك أنني س هم ق د انطل ق م ن ق وس‪ ،‬إذا ب ي أن زل ثاني ة ف ي س رعة‬
‫جنوني ة‪ ،‬حت ى إذا ك دت أرتط م ب اﻷرض ارتفع ت م رة أخ رى ف ي اتج اه الس ماء‬
‫وأن ا ذاه ل أح اول أن أس يطر عبث ا عل ى أعص ابي الص غيرة‪ ،‬وأعق د الع زم عل ى أن‬
‫ﻻ أرك ب ه ذه اللعب ة الجهنمي ة م رة أخ رى‪ ،‬ولك ن ﻻ يك اد الي وم الت الي يقب ل حت ى‬
‫يعاودني الحنين إليها من جديد‪.‬‬

‫وه ا ه و ذا رج ل يطل ب من ي أن أجل س عل ى بس اط ص غير ف ﻼ أك اد أفع ل حت ى‬


‫يرف ع ص وته بص يحة مدوي ة وه و ي دفع ب ي نح و الهاوي ة فيك اد قلب ي يقف ز م ن ب ين‬
‫ض لوعي‪ .‬نع م نح و الهاوي ة‪ ،‬وم اذا تك ون الهاوي ة إن ل م يك ن ه ذا الس رداب‬
‫المنح در الض يق الملت وي اﻷمل س؟ وأك اد أص يح‪ ،‬ولك ن م اذا يج دي الص ياح؟‬
‫وأرف ع عين ي ف إذا باﻷعم دة واﻷخش اب والح واجز وقط ع الحدي د تت راقص م ن‬
‫‪- 39 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ف وقي كم ا ل و ك ان ق د أص ابني جن ون‪ ،‬ولكنن ي ﻻ أرتف ع م ن جدي د حينم ا أقت رب‬


‫م ن اﻷرض ه ذه الم رة‪ ،‬وإنم ا ينته ي الس رداب فأن دفع ف ي الفض اء‪ ،‬وﻻ أك اد أفي ق‬
‫حت ى أج د نفس ي أت دحرج ف وق الرم ال‪ ،‬ف أنهض وق د أفل ت من ي زم ام نفس ي‬
‫وأح اول أن أتب ين عبث ا م ا ح ولي‪ ،‬إن الع الم يت راقص‪ ،‬وأن ا أيض ا أت راقص‪ ،‬ث م‬
‫أسقط مرة أخرى‪ ،‬لقد أصابني الدوار‪.‬‬

‫ث م بع د ذل ك تخ تلط الص ور‪ ،‬فه ذا ش اطئ البح ر ق د ع ج بالفتي ات والفتي ان حي ث‬


‫تس مع اﻷذن ه دير اﻷم واج ق د اخ تلط بص ياح اﻷطف ال وض حكات الش باب فأح دث‬
‫ذل ك كل ه موس يقى مس تحبة بليغ ة‪ .‬إنن ي أتس ابق أن ا وأخت ي ف وق الرم ال وخطواتن ا‬
‫الصغيرة تندفع نحو البحر اندفاع المتهالك الظمآن‪.‬‬

‫وتختف ي ه ذه الص ورة ف إذا بن ا نتس لق ج بﻼً منيع ا ً فنم ر برع اة وه م مض طجعون‬
‫ف ي الظ ﻼل وك أنهم يس تمتعون بالثغ اء والبغ ام حت ى إذا وص لنا القم ة وأردن ا‬
‫دب‬
‫الن زول عج ز أح د أص دقاء أب ي ع ن ذل ك فل م يك ن ل ه ب د م ن أن ين زل جالس ا ي ّ‬
‫قليﻼً وينحدر كثيرا‪.‬‬

‫ث م ت أتي ص ورة أخ رى‪ ،‬ف إذا بن ا نس ير ف ي المس اء عل ى ش اطئ البح ر‪ ،‬وكان ت‬


‫الطري ق خالي ة موحش ة نم ر فيه ا م ن آن ﻵخ ر بحص ن ق ديم يرج ع إل ى عص ر‬
‫الروم ان‪ ،‬ولق د س رنا في ه المس اء بأس ره نح اول أن نج د في ه منف ذا نرج ع من ه إل ى‬
‫المدين ة دون ج دوى‪ ،‬والطري ق خالي ة م ن الم ارة وك ل م ا يمك ن أن يرك ب‪ ،‬ول ذلك‬
‫ظللن ا نس ير ونس ير إل ى أن عجزن ا ع ن الس ير‪ ،‬ولك ن ل م يك ن لن ا ب د م ن أن نس تمر‬
‫ف ي الس ير إل ى أن خ يم الظ ﻼم بأس دافه عل ى الع المين‪ ،‬وأطل ت النج وم ت تﻸﻷ ف وق‬
‫الطري ق الروماني ة المكتنف ة بس ورين عظيم ين‪ ،‬وب دأ ه دير الم وج يم ﻸ ه ذا الج و‬

‫‪- 40 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الم وحش باﻷص داء الغامض ة‪ ،‬ومازل ت أذك ر أنن ا قض ينا ش طرا غي ر قص ير م ن‬
‫الليل ضالين ولم تنقذنا إﻻ سيارة مرت بنا بعد منتصف الليل‪.‬‬

‫ل ن أنس ى تل ك اﻷي ام الرائع ة الت ي قض يناها ف ي مص ايف إنكلت را الجميل ة‪ ،‬لق د‬


‫اس تيقظت فيه ا عل ى بهج ة الحي اة‪ ،‬وعل ى جم ال الطبيع ة‪ .‬فه ذا ه و البح ر الم تﻼطم‬
‫تتكس ر أمواج ه عل ى الش اطئ الص خري وق د أث ار ه ذا الع الم الم ائي الدهش ة ف ي‬
‫نفس ي‪ .‬م ا ه و البح ر؟ ع الم م ن الم اء محف وف ب الغموض يض يع خل ف اﻷف ق دون‬
‫أن ي درك م داه البص ر‪ .‬وق د س معت أن وراء ه ذه المي اه عالم ا آخ ر‪ ،‬وقي ل إنن ي‬
‫سأعود مرة أخرى فأخترق هذه المياه عائدا إلى بﻼد زعموا أنني جئت منها‪.‬‬

‫والن اس ف ي ه ذه المص ايف غي ر الن اس ف ي المدين ة‪ ،‬فه م هن ا جميع ا مستبش رون‬


‫ض احكون‪ ،‬يرت دون الثي اب البيض اء الناص عة فتزي دهم بش را ووج وههم محم رة‬
‫مترعة بالصحة والعافية‪.‬‬

‫وهك ذا يم ر ش هر ف ي الس نة نتس لق في ه الجب ال ونج وب الش واطئ ون رود الحق ول‬
‫ونرت اد المﻼه ي‪ .‬ش هر ض احك راق ص به يج ك ان ل ه أكب ر اﻷث ر ف ي نفس ي‪ ،‬فق د‬
‫كن ت أص بح بع ده ق ادرا عل ى تص ور م ا ي دعى بالرض ا عل ى الحي اة أو إن ش ئت م ا‬
‫يدعى بالسعادة‪.‬‬

‫وينته ي الش هر هك ذا فنقف ل راجع ين إل ى منشس تر وق د خلفن ا وراءن ا تغري د الطي ور‬
‫وف وح اﻷزه ار وال ورود وه دير البح ر‪ .‬وع دنا إل ى منشس تر بس وادها وكآبته ا م رة‬
‫أخرى لكي نكون في استقبال الشتاء الكالح العبوس حينما يعود‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪8‬‬

‫كان ت الغرف ة تس بح ف ي ظ ﻼم دام س ن دير فيه ا عيونن ا الص غيرة فيخي ل إلين ا أنه ا‬
‫ق د اختف ت م ن ش دة الظ ﻼم‪ .‬كن ا ن أوي إل ى الف راش من ذ الس اعة الس ابعة مس اء‬
‫فيستعص ي علين ا الن وم م رات كثي رة‪ .‬ل م تك ن لن ا حيل ة ف ي ه ذا الن وم المبك ر‪ .‬كن ا‬
‫نقض ي الس اعات الطويل ة ف ي أثن اء النه ار نتوس ل إل ى أمن ا أن ت ؤخر نومن ا س اعة‬
‫أو بع ض س اعة‪ ،‬ولك ن ذل ك ك ان عبث ا‪ .‬وحينم ا يبت دئ المس اء تتعل ق عيونن ا‬
‫بالس اعة الكبي رة ودقاته ا‪ ،‬نع د الث واني وال دقائق فتتعل ق أنفاس نا به ا وه ي تتق دم‬
‫نح و الس اعة المحتوم ة‪ .‬لق د عرف وا ف ي نفس ي كراهي ة الن وم المبك ر من ذ ذل ك‬
‫ي لك ي يك ون أول م ا‬ ‫الح ين‪ ،‬كن ت أتمن ى الي وم ال ذي تص ير في ه أم وري إل ّ‬
‫أتصرف فيه هو أن أسهر كما أشاء‪.‬‬

‫كان ت رهيب ة تل ك الس اعة الت ي أقض يها ب ين الوق ت ال ذي آوي في ه إل ى الف راش‬
‫والوق ت ال ذي كن ت أن ام في ه‪ ،‬أف تح عين ي ف ي الظ ﻼم ال دامس وأح دق في ه إل ى أن‬
‫يك ّل بص ري‪ .‬وحينئ ذ تل وح أم امي بق ع مختلف ة اﻷل وان تب رق ث م تس بح قل يﻼً ث م‬
‫تنطف ئ‪ ،‬حم راء ص فراء خض راء‪ ،‬وك ان ذل ك إي ذانا ب أن الحي اة ق د دب ت ف ي‬
‫‪- 42 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الظ ﻼم‪ ،‬ث م يقف ز أم امي عب د أس ود يم رق كالظ ل الع ابر‪ ،‬وع ن يمين ي وش مالي‬
‫وف وقي وج وه كالح ة تكش ر ل ي ع ن أنيابه ا‪ ،‬بارق ة العي ون منفوش ة الش عور‬
‫متقلص ة العض ﻼت‪ ،‬عش رات م ن الوج وه الكالح ة تقت رب م ن ك ل اتج اه حت ى تك اد‬
‫ي وأف تح فم ي بالص راخ ولكن ي ﻻ أس مع ل ي ص وتا‪ ،‬وأش عر بأنفاس ي‬ ‫تطب ق عل ّ‬
‫تختن ق ف ﻼ تنق ذني إﻻ حرك ة عنيف ة آت ي به ا‪ ،‬ف إذا ب ي ق ائم ف وق الس رير أح دق ف ي‬
‫الظ ﻼم م ن جدي د‪ .‬وتب دأ البق ع الملون ة س يرتها م رة أخ رى‪ ،‬فأن ادي أخت ي ولك ن‬
‫قلم ا كان ت تجي ب ل ي ن داء‪ ،‬ف ﻼ ينق ذني إﻻ أن أس تلقي ثاني ة وأدف ن وجه ي ب ين‬
‫الوسائد‪.‬‬

‫ل ذلك ل م أك ن أحتم ل مطلق ا أن تن ام أخت ي قبل ي‪ .‬ول ذلك أيض ا كن ت أكث ر م ن الك ﻼم‬
‫قب ل الن وم وأح اول دائم ا أن أح دثها ف ي الموض وعات الت ي ته تم به ا ل ئﻼ تتركن ي‬
‫أتكلم وتنام‪ ،‬وإﻻ فويل لي حينئذ من تلك اﻷشباح‪.‬‬

‫ي‪ ،‬ذل ك أن مس حة م ن الغفل ة كان ت‬ ‫ث م إن التح دث إل ى أخت ي ك ان متع ة بالنس بة إل ّ‬


‫ترت ّد عل ى فك ري‪ ،‬فل م أك ن أحس ن اﻻنتب اه إل ى م ا ح ولي ب ل ل م أك ن أش عر ب أن‬
‫هن اك أش ياء يحس ن أن أنتب ه إليه ا‪ .‬كن ت بواس طتها أع يش ﻷنه ا ه ي الت ي كان ت‬
‫ي دون أن أس تطيع‬ ‫ي م ا يح يط ب ي‪ .‬ولق د طالم ا تبرم ت ب ي وه ي تتح دث إل ّ‬ ‫تنق ل إل ّ‬
‫متابعته ا‪ .‬ك ان م ن المس لم ب ه فيم ا بين ي وبينه ا أن أع رض عليه ا ك ل مش كلة‬
‫تعترض ني‪ ،‬فأن ا دائم ا الس ائل وه ي دائم ا المجي ب‪ .‬كن ت أص دق ك ل م ا يق ال ل ي‬
‫ي اﻵن أن نظرات ي حين ذاك كان ت‬ ‫دون أن أح اول تمح يص أي ش يء‪ ،‬ويخي ل إل ّ‬
‫تعلوها مسحة من السذاجة لم يكن يجمل بي عدم اﻹنتباه إليها هي أيضا‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ط ال اللي ل وط ال الح ديث‪ ،‬ولكنن ي كن ت ص احيا تمام ا‪ .‬إن أخ وف م ا أخاف ه ه و‬


‫أن تن ام أخت ي وتتركن ي فريس ة لﻸش باح‪ .‬والغري ب أن ه ذه اﻷش باح كان ت ترهبه ا‬
‫فلم يسبق لها أن رأتها قط‪ ،‬كما أنها كانت تتبدد سريعا ً حينما أناديها فتجيب‪.‬‬

‫م ا العم ل إذن وأن ا مه دد بمواجه ة تل ك الص ور الغريب ة؟ ﻷح اول أن أثي ر ذل ك‬


‫الموض وع الق ديم ال ذي تح دثنا عن ه س اعات وس اعات دون أن نص ل في ه إل ى‬
‫جواب‪.‬فسألت‪:‬‬

‫‪ -‬لشد ما أتمنى لو كان لنا أخ يؤنسنا في هذا الظﻼم‪.‬‬


‫‪ -‬أخ‪ ،‬ومن أين لنا بأخ؟‬
‫‪ -‬نوص ي مس ز ش لمداين فتقط ف لن ا واح دا م ن حق ل الكرم ب‪ ،‬أل م تق ل لن ا إنه ا‬
‫تأتي بهم في حقيبتها من هناك؟‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬قالت لنا ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إذن فالمسألة بسيطة‪ ،‬لنكرر رجاءنا غدا‪ ،‬إن مسز شلمداين امرأة طيبة القلب‪.‬‬
‫‪ -‬إنن ي أعج ب لقوله ا‪ .‬كي ف يمك ن أن ينب ت الطف ل داخ ل الكرم ب؟ ه ل تص دق‬
‫أنت ذلك؟‬
‫‪ -‬فمن أين إذن؟‬

‫‪ -‬لس ت أدري ولكنن ي متأك دة م ن أن ه ﻻ ي أتي م ن هن اك‪ ،‬ﻷنن ا كلم ا س ألنا أح دا ع ن‬


‫ذل ك أجابن ا جواب ا مختلف ا ع ن ج واب اﻵخ رين‪ .‬ق ال أندري ه‪ :‬إن الطف ل يول د وح ده‬
‫ف ي مدخن ة الم دفأة‪ .‬وقال ت أنج ي‪ :‬إن اﻷطف ال يب اعون ف ي الس وق‪ .‬وقال ت أللين ي‪:‬‬
‫إنه م ي أتون ف ي البري د‪ .‬وقال ت أم ي‪ :‬إنه ا ﻻ تع رف م ن أي ن ت أتي مس ز ش لمداين‬
‫به م‪ .‬وقال ت مس ز ش لمداين‪ :‬إنه ا ت أتي به م م ن حق ل الكرم ب‪ .‬وهك ذا كلم ا س ألنا‬
‫أحدا أجابنا إجابة جديدة‪ ،‬فماذا تظن؟‬
‫‪- 44 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬لست أدري‪.‬‬
‫‪ -‬وأن ا أيض ا لس ت أدري‪ ،‬ولكنن ي ﻻحظ ت أن اﻷم الت ي تري د ول دا ﻻ ب د م ن أن‬
‫يرتف ع بطنه ا‪ .‬رأي ت مس ز فلتش ر منتفخ ة ث م رأي ت معه ا ت وءمين‪ ،‬ورأي ت فاطم ة‬
‫منتفخ ة ث م رأي ت معه ا ول دا أيض ا‪ ،‬فلم اذا ين تفخن هك ذا كلم ا أردن أن يك ون له ن‬
‫ولد؟!‬

‫‪ -‬هل رأيتهن أنت ينتفخن؟ يا ليتني كنت معك!‬

‫‪ -‬ل م أره ن ين تفخن وإنم ا رأي تهن منتفخ ات ورأي تهن أن ت أيض ا‪ .‬ك ّن ك ذلك هن ا‬
‫معنا في المنزل‪ ،‬ألم تﻼحظ ذلك؟‬
‫‪ -‬أبدا ً لم أر شيئا مما تقولين‪.‬‬

‫وحاول ت بك ل م ا أوتي ت م ن ق وة أن أت ذكر ذل ك ولك ن دون ج دوى ولكنن ي‬


‫صدقتها‪ .‬لقد كانت لها عينان‪.‬‬

‫وسألتها بعد ذلك‪ :‬إذن من أين يأتي اﻷطفال؟ إنني أريد أخا‪.‬‬

‫فقال ت‪ :‬ﻻ أدري‪ ،‬ولك ن ﻻ ب د لن ا م ن أن نهت دي إل ى طريق ة نحص ل به ا عل ى أخ‬


‫صغير نلعب معه‪.‬‬

‫س اد الغرف ة ص مت عمي ق م رة أخ رى‪ ،‬لق د انص رفنا مع ا إل ى التفكي ر ف ي الج واب‬


‫ع ن ه ذا الس ؤال الع ويص‪ ،‬فل م نس تطع أن نج د ل ه جواب ا ً‪ ،‬وال ذي تس اوى أمام ه‬
‫ذكاؤه ا بغفلت ي‪ ،‬ذل ك الس ؤال ال ذي طرحن اه عل ى ك ل م ن نع رف‪ .‬والغري ب أن‬
‫‪- 45 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫المس ألة بس يطة فلم اذا يحرص ون عل ى إخف اء س رها عن ا؟ وي ا لي ت اﻷم ر ك ان‬
‫مج رد ج واب ع ن س ؤال! ولكن ه ك ان أم ر رغب ة ملح ة تملكتن ي أن ا وأخت ي زمن ا‬
‫ط ويﻼً‪ ،‬فل م نك ن ف ي غن ى ع ن معرف ة الحقيق ة‪ .‬ل م يك ن اﻷم ر أم ر معرف ة وإنم ا‬
‫كان أمر مصلحة نريد تحقيقها‪ .‬إننا نريد أخا صغيرا‪.‬‬

‫وط ال ص متنا ف ي الغرف ة‪ ،‬ونح ن نفك ر‪ ،‬علّن ا نهت دي إل ى حقيق ة نرض ي به ا ه ذه‬
‫الرغب ة ف ي نفوس نا‪ .‬وقلب ت أن ا اﻷم ر عل ى وجوه ه ولك ن ل م أر في ه إﻻ مث ل م ا‬
‫أرى ف ي الغرف ة م ن ظ ﻼم‪ .‬وحاول ت ث م حاول ت‪ .........‬ث م ت ذكرت ب أن ه ذا‬
‫الص مت ح ري ب أن يك ون ق د حم ل الن وم إل ى أجف ان أخت ي‪ ،‬وحل ق به ا ف ي س ماء‬
‫اﻷحﻼم‪.‬‬

‫‪ -‬م ا العم ل إذن ي ا آمن ة؟! كي ف نس تطيع أن نظف ر ب أخ‪ ...‬آمن ة‪ ،‬م اذا؟ ه ل أن ت‬
‫نائمة؟ ﻻ‪ ،‬ﻻ تفعلي يا آمنة!‬

‫ي اﻷش باح م رة أخ رى ولك ن ﻷح اول‬


‫لق د نام ت وتركتن ي وح دي لتطب ق عل ّ‬
‫إيقاظها‪.‬‬

‫‪ -‬آمنة‪ ،‬آمنة‪ ،‬آمنة!‬

‫ي ا ويلت اه لق د أطبق ت أخت ي جفنيه ا‪ ،‬واستس لمت لن وم ه ادئ م ريح‪ .‬وانتقل ت م ن‬


‫الع الم ال ذي كان ت تبص ر في ه عيناه ا‪ :‬ع الم الن ور‪ .‬وبقي ت أن ا ف ي الع الم ال ذي كان ت‬
‫عيناي تبصر فيه ‪ :‬عالم الظﻼم‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪9‬‬

‫عاه ل المملك ة المتح دة وإمبراط ور الهن د! أل يس ه ذا لقب ا ج ديرا ب أن يثي ر إل ى‬


‫النهاي ة خي ال طف ل ي ذهب ب ه ال وهم ك ل م ذهب عن د ذك ر اﻷب اطرة واﻷقط اب‬
‫وأرب اب الص ولجان والمس تحوذين عل ى أس مى ألق اب المج د والس عادة؟! فكي ف إذا‬
‫ذكر اسم من ﻻ تغيب الشمس عن ممتلكاته وضياعه في سائر أنحاء العالمين؟!‬

‫نع م لق د ب دأ الطف ل يس مع ع ن ج ورج الخ امس عاه ل المملك ة المتح دة وإمبراط ور‬
‫الهن د أحادي ث كله ا إج ﻼل وإكب ار‪ ،‬ولق د طالم ا س مع عن ه مث ل ه ذه اﻷحادي ث فك ان‬
‫يخي ل إلي ه أنه ا ت دور ح ول ش خص ﻻ يُلم س وﻻ يُ رى لجﻼل ه وس مو مكان ه‪ .‬لق د‬
‫كان ت الص ورة الت ي تركته ا ف ي نفس ه تل ك اﻷحادي ث قريب ة م ن الص ورة الت ي‬
‫تركتها في نفسه اﻷحاديث التي سمعها عن ﷲ ﷻ‪.‬‬

‫وأس أل الق ارئ ع ن ش عوره ل و س عى إلي ه س اع وأخب ره أن ﷲ تق دس اس مه س وف‬


‫يم ر بالش ارع ال ذي يق يم ب ه ف ي الس اعة الخامس ة م ن مس اء ي وم معل وم‪ .‬إن ه نف س‬
‫الش عور ال ذي تملكن ي حينم ا س معت أن ذل ك الرج ل العظ يم ج ورج الخ امس ال ذي‬
‫تس بل اﻷجف ان مهاب ة عن د ذك ر اس مه س وف يم ر بشخص ه ف ي الش ارع ال ذي نق يم‬
‫فيه في الساعة الخامسة مساء‪ ،‬بعد يومين‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وق د حاول ت أن أس تنجد ب المنطق ﻻس تبعاد م ا ﻻ أس تطيع فهم ه كم ا تع ودت أن‬


‫أفع ل كلم ا وقف ت وجه ا لوج ه أم ام خراف ة جدي دة ‪ ......‬ولك ن ه ذه ليس ت خراف ة‪،‬‬
‫ف إن جيرانن ا ماض ون ف ي إقام ة مع الم الزين ة الت ي س وف يس تقبلون به ا العاه ل‬
‫العظ يم حينم ا ي زور م دينتهم التجاري ة العتي دة وين زل م ن عليائ ه ليم ر بش ارعهم‬
‫المتواضع البعيد في أسفل سافلين‪.‬‬

‫وت رك الجي ران وس كان الش وارع ماض ين ف ي إقام ة مع الم الزين ة وان زوى ف ي‬
‫ان دهاش يح اول أن يعط ي ل ذلك الش خص الخراف ي المجي د ص ورة يقبله ا العق ل‬
‫وتنس جم م ع ك ل م ا س معه م ن س مو وج ﻼل‪ .‬وأخ ذت اﻷل وان الناص عة تب رق أم ام‬
‫مخيلت ه ث م ب دأت اﻷش كال والص ور تتﻼح ق ف ي نفس ه‪ ،‬فه و يتص وره م رة مخلوق ا‬
‫س امي التك وين ينبع ث م ن جس مه ن ور س اطع ﻻ يمك ن الع ين م ن إطال ة النظ ر‬
‫إلي ه‪ ،‬ث م يتص وره عمﻼق ا ه ائﻼً ق ديرا يقب ل ف ي عرب ة هائل ة تم ر ب ين الس ماء‬
‫واﻷرض‪ ،‬ﻻ ب ل س يقبل ممتطي ا س حابة م ن ن ور تن زل ب ه م ن عليائ ه ث م تم ر ب ه‬
‫في فضاء الشارع ليسعد الناس بإلقاء نظرة خالدة على وجهه النوراني‪.‬‬

‫كان في استطاعته أن يسأل أحد أهل المنزل أو أحدا من آل باترنوس‪.‬‬

‫ولكن ه خج ل م ن أن يظه ر جه ﻼً به ذا الش خص ال ذي ﻻ يص ح أن يجهل ه أح د‪.‬‬


‫وه و ﻻ ي زال ي ذكر تل ك النظ رات الت ي ك ان يقاب ل به ا كلم ا ح اول اﻹمع ان ف ي‬
‫الس ؤال ع ن ﷲ وص فاته لك ي يس تطيع أن يتص وره‪ ،‬ول ذلك آث ر أن يتري ث‪،‬‬
‫وسوف يدرك الحقيقة كاملة في الساعة الخامسة من مساء الغد‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وقض ى ليل ة مفعم ة باﻷخيل ة البراق ة الناص عة ﻻ يمي ز ب ين م ا رآه منه ا وه و ن ائم‬
‫وم ا رآه منه ا وه و ص اح يرن و إل ى الس قف قب ل أن يدرك ه المن ام‪ ،‬وكان ت كله ا‬
‫ت دور ح ول ش كل المل ك العظ يم ال ذي س وف ي راه ف ي الس اعة الخامس ة م ن مس اء‬
‫اليوم التالي‪.‬‬

‫ولق د كن ت أش عر دائم ا بانفع ال الغبط ة كلم ا أقبل ت عل ى رؤي ة ش يء جدي د‪،‬‬


‫وأس توي ف ي ذل ك م ع جمي ع اﻷطف ال ‪ -‬وإن ك ل ام رئ من ا ﻻ ي زال ي ذكر الش عور‬
‫ال ذي تملك ه حينم ا رأى ه ذا الش يء أو ذاك ﻷول م رة ف ي الحي اة‪ ،‬فم ا ال رأي إذا‬
‫ك ان ه ذا ال ذي أن ا مقب ل عل ى رؤيت ه مخلوق ا ﻻ ث اني ل ه‪ ،‬وربم ا ل ن يت اح ل ي أن‬
‫أراه م رة أخ رى م دى الحي اة؟ وهك ذا اس تقبلت ص باح الي وم الت الي عل ى أن ه ص باح‬
‫أروع ي وم ف ي حي اتي‪ ،‬وازداد إيم اني ب ذلك حينم ا أش رفت م ن الناف ذة عل ى‬
‫الش ارع فب دا ل ي كم ا ل م أره م ن قب ل وه و يرف ل ف ي أزه ي الحل ل‪ ،‬وب دأت اﻷح داث‬
‫تتوالى فازداد إيماني قوة واقتناعا‪.‬‬

‫ظه ر ف ي الش ارع هن ا وهن اك رج ال الش رطة اﻹنكلي ز بقام اتهم المدي دة وب ذلهم‬
‫الس وداء المرص عة بقط ع نحاس ية براق ة وأح ذيتهم الﻼمع ة‪ ،‬أم ا رزان تهم الت ي‬
‫تض رب به ا اﻷمث ال فق د ازدادت روع ة‪ .‬إن ه ليخي ل للم رء أنه م رج ال ج دد‬
‫صنعوا منذ نصف ساعة فقط بهذه المناسبة الكريمة‪.‬‬

‫كان ت تم ر ف ي الش ارع م ن آن ﻵخ ر عجل ة بخاري ة يمتطيه ا ض ابط م ن رج ال‬


‫الب وليس بل غ انس جامه معه ا مبلغ ا ً ك ان يخي ل إل ّ‬
‫ي مع ه أن ه ه و وعجلت ه قطع ة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ول م ت زل المظ اهر الرائع ة تب دو الواح د تل و اﻵخ ر كم ا ه و م ألوف ف ي مث ل ه ذه‬


‫المناس بات إل ى أن اقت رب موع د الزي ارة‪ ،‬وإذا برص يفي الش ارع يكتظ ان قل يﻼً‬
‫قل يﻼً بالن اس‪ ،‬ث م توق ف م رور الس يارات والعرب ات‪ ،‬وازدح م الس كان وض يوفهم‬
‫ف ي النواف ذ والش رفات عل ى ط ول الش ارع‪ .‬حقّ ا لق د ك ان منظ را رائع ا بالنس بة لم ن‬
‫يراه ﻷول مرة‪...‬‬

‫وب دأت ح رارة نفس ي تس تعد لﻼرتف اع إل ى درج ة الغلي ان حينم ا أخ ذت ف رق‬
‫الش رف تم ر بالش ارع ف ي مﻼبس ها المزركش ة عل ى أنغ ام مختلف ة م ن الموس يقى‬
‫منه ا الحماس ي ال ذي يله ب المش اعر ومنه ا الن اعم ال ذي يثي ر اﻷخيل ة‪ .‬ولش د م ا‬
‫كن ت غ را وأن ا أب تهج بالمن اظر الت ي رأيته ا حت ى اﻵن عل ى خش بة المس رح‪ ،‬ف أين‬
‫ه ي م ن ه ذا المنظ ر الح ي الرائ ع ال ذي تش عرك ك ل حرك ة في ه ب أن دم الحي اة‬
‫والحقيقة ينبض فيه؟!‬

‫ث م أخ ذ المش هد ي دخل ف ي أدواره المثي رة‪ ،‬فب دت الف رق العس كرية ف ي الش ارع‬
‫وه ي ترت دي مﻼبس ها البهيج ة وتخط و عل ى نغم ات الموس يقى العس كرية ولك ن‬
‫دون عنف‪.‬‬

‫ولم ا ألقي ت ببص ري عل ى الرص يفين م ن ناف ذتنا ‪ -‬وك ان يح ف ب ي ع دد كبي ر م ن‬


‫ي‬
‫الن اس ي زداد ع ددهم م ع م رور ال دقائق دون أن أحف ل بمعرف ة م ن ه م ‪ -‬خي ل إل ّ‬
‫أنهم ا اختفي ا وراء آﻻف م ن عل م المملك ة المتح دة‪ ،‬العل م العتي د ال ذي أتع ب‬
‫الشمس وهو يغازلها دون ملل في دورانها حول اﻷرض‪...‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وب دأت أش عر بموج ة غي ر عادي ة ب ين الجم اهير المتﻼطم ة ت ؤذن ب أن الس اعة‬
‫المرموق ة ق د آن له ا أن تح ل‪ .‬فس رت ف يهم موج ة حماس ية م ا لبث ت أن اكتس حت‬
‫صفوفهم جميعا وانتقلت إلى النوافذ والشرفات‪.‬‬

‫ث م ب دأت الموج ة تتح ول إل ى هي اج ع اطفي غ امر‪ .‬وإذا بالن اس يص يحون وه م‬


‫يص فقون أو يلوح ون ب اﻷعﻼم‪ .‬وفج أة ش عرت بك ل الجل وس ف ي الش رفات وأم ام‬
‫النواف ذ ق د وقف وا وانطلق ت م ن أف واههم تع ابير وأص وات تع رب كله ا ع ن‬
‫اﻹعجاب‪.‬‬

‫وش عرت هن ا ب أن موج ة الحماس ة ق د أخ ذت تكتس حني وأنن ي ب دأت لش دة وطأته ا‬


‫أفق د التميي ز ب ين اﻷش ياء‪ ،‬فق ررت أن أنفثه ا ع ن نفس ي لك ي أتمل ى ب النظر إل ى‬
‫نصف اﻹله وهو مار بالشارع‪ ،‬فأخذت أتتبع كل ما يحيط بي‪.‬‬

‫وكن ت متأك دا م ن أنن ي تتبع ت ك ل م ا ج رى أم امي‪ ،‬وأس تطيع أن أق ول إنن ي رأي ت‬


‫ك ل ك ف ص فقت وك ل ف م هت ف وك ل عل م ص غير ل وح ب ه وك ل حرك ة مهم ا كان ت‬
‫ص غيرة وقع ت ف ي المح يط ال ذي يدرك ه بص ري‪ .‬وك ان انتب اهي ف ي ترص د م ا‬
‫يج ري دقيق ا ج ّدا بحي ث ل م أش عر إﻻ بع د ﻷي بال ذين ك انوا يص يحون ب ي ف ي‬
‫الشرفة‪ :‬انظر! الملك! الملك!‬

‫‪- 51 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫واس تدرت إل ى الص ائحين ﻷتأك د م ن س ﻼمة عق ولهم‪ ،‬ث م أخ ذت أتتب ع إش اراتهم‬
‫إل ى أن وق ع نظ ري عل ى "المل ك"! وتأك دت م ن أنن ي رأي ت الش خص ال ذي‬
‫يشيرون إليه على أنه "الملك"‪.‬‬

‫وف ي س رعة الب رق مس حت ي د خفي ة الجم اهير م ن الش ارع كم ا ل و كان ت مرس ومة‬
‫بالطباش ير عل ى س بورة‪ ،‬واض محلت الهتاف ات واختف ت الموس يقى وب دا ل ي أن‬
‫أكذوبة كبيرة تنتفخ وتنتفخ إلى أن انفجرت واضمحلت مرة واحدة‪.‬‬

‫وبارح ت الش رفة ف ي كآب ة ﻻ تخل و م ن غض ب‪ ،‬كن ت كمث ل الطف ل ال ذي من اه وال ده‬
‫بلعب ة رائع ة ح ار خيال ه ف ي تص ور مباهجه ا ث م ق دمها إلي ه بع د ذل ك لعب ة م ن لعب ه‬
‫القديمة!‬

‫وجاءني والدي يسأل‪:‬‬


‫‪ -‬أرأيت الملك؟‬
‫‪-‬ﻻ‬
‫‪ -‬ألم تستطع أن تميز الشخص الذي كنت أشير إليه؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولكنه شخص وليس الملك!‬

‫فتض احك وال دي ولعل ه أدرك م ا ي دور ف ي خل دي‪ ،‬وم ا ك ان ي دور ف ي خل دي ه و‬


‫"حض رة ص احب الجﻼل ة ج ورج الخ امس عاه ل المملك ة المتح دة وإمبراط ور‬
‫الهن د‪ ،‬ل ه رج ﻼن وي دان وص در ورأس ووج ه وأن ف وف م وعين ان‪ .‬إن ك تس خر‬
‫من ي ي ا أبت اه‪ ،‬وإﻻ ف نحن جميع ا حض رة ص احب الجﻼل ة ج ورج الخ امس عاه ل‬
‫المملكة المتحدة وإمبراطور الهند"!‬

‫‪- 52 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫قل شيئا غير هذا يا أبتاه!!!‬

‫‪10‬‬

‫دق الجرس وفتح الباب‪ ،‬وإذا بصوت وقور يقول‪:‬‬

‫‪ -‬ص باح الخي ر ي ا س يدتي‪ ،‬أل يس عن دكم طف ل ق د بل غ س ن المدرس ة وم ع ذل ك ﻻ‬


‫يزال لم يلتحق بها؟ فهل هو مريض؟‬
‫‪ -‬ﻻ يا سيدي الشرطي‪ ،‬إنه في تمام العافية‪.‬‬
‫‪ -‬هل والده موجود فأكلمه؟‬
‫‪ -‬لقد خرج إلى عمله‪.‬‬
‫‪ -‬إذن فأخبري ه ي ا س يدتي أن ه ﻻ ب د م ن أخ ذه غ دا ف ي الص باح إل ى إح دى الم دارس‬
‫المحلي ة‪ ،‬وأك دي علي ه ف ي ذل ك‪ ،‬ﻷن م ن المحظ ور ف ي ه ذه ال بﻼد ع دم اﻻلتح اق‬
‫بالمدرسة في مثل سنه‪.‬‬
‫‪ -‬سأخبره بالطبع‪.‬‬
‫شكرا يا سيدتي‪ ،‬عمي صبا ًحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫هك ذا ف تح أم امي ب اب جدي د أخش ى أن يك ون م ا ي زال مفتوح ا إل ى اﻵن! إن اﻷم ر‬


‫ﻻ يتعل ق ف ي ه ذه الم رة ب أبي‪ ،‬ول و ك ان يتعل ق ب ه له ان‪ ،‬ولكن ه أم ر الش رطي‪ ،‬ه ذا‬
‫الش خص المس تقيم ال ذي ﻻ يض حك‪ ،‬وال ذي ك ان يمث ل لن ا الص رامة مفرغ ة ف ي‬
‫قال ب م ن الرحم ة‪ .‬كن ت أراه م ن الناف ذة وه و ي ذرع الش ارع بخط اه المتزن ة‬
‫وقامت ه المدي دة وأزراره الﻼمع ة‪ ،‬فك ان يثي ر ف ي نفس ي معن ى غامض ا‪ ،‬ولكن ه ك ان‬
‫جليﻼً‪.‬‬

‫ه ذا ش خص ﻻ يُعص ى ل ه أم ر‪ ،‬وإذن ف ﻼ مف ر مم ا ﻻ مف ر من ه‪ ،‬ولق د أخبرن ي أب ي‬


‫ف ي المس اء بأن ه س وف يت أخر ع ن عمل ه ص باح الي وم الت الي ليأخ ذني إل ى‬
‫المدرسة‪.‬‬

‫ل م أن م ط ول اللي ل‪ .‬المدرس ة! م ررت كثي را قب ل اﻵن بالمدرس ة فكان ت تمﻸن ي‬


‫حواجزه ا الحديدي ة وبوابته ا المقفل ة وبنايته ا الهام دة بن وع م ن اﻻرتي اب‬
‫والخ وف‪ ،‬فكن ت أحم د ﷲ عل ى أنن ي ﻻ أرتاده ا م ع اﻷطف ال الص غار‪ ،‬وم ع ذل ك‬
‫كن ت أس تغرب كي ف يقض ون أوق اتهم هن اك‪ .‬قي ل إنه م يتعلم ون‪ ،‬ولك ن م ا معن ى‬
‫أن تتعلم؟‬

‫حادث ت أخت ي كثي را قب ل أن أن ام‪ ،‬فقال ت ل ي‪ :‬إن اﻷطف ال يتعلم ون ف ي المدرس ة‬


‫القراءة والكتابة‪.‬‬

‫ففهمت‪ ،‬ولكني مع ذلك تساءلت في نفسي‪ :‬لماذا يتعلم الناس القراءة والكتابة؟!‬

‫‪- 54 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وب الرغم م ن ه ذا ف إن مس حة م ن الح زن كان ت تس ود حوارن ا‪ ،‬ﻷنن ي س وف أع يش‬


‫بعيدا عنها منذ اﻵن ساعات طويلة من كل نهار‪.‬‬

‫وج اء الص باح‪ ،‬ف إذا ب ي أرت دي ثي ابي وأس ير م ع أب ي إل ى المدرس ة‪ .‬لق د تملكتن ي‬
‫الرهب ة وأن ا أخط و مع ه عتب ة الب اب‪ ،‬ث م رأيتن ي أدخ ل به وا فس يحا وأتق دم إل ى‬
‫جان ب أب ي نح و مكت ب جلس ت خلف ه س يدة جليل ة‪ ،‬فحي ت ه ذه أب ي وابتس مت ل ي‬
‫ابتسامة ذات مغزى‪ ،‬كأنها تريد أن تقول لي "وأخيرا ها أنت ذا !"‬

‫ورأي ت بعين ين مندهش تين دفت را يف تح وقلم ا يرف ع‪ .‬وب دأت الس يدة تس أل أب ي ع ن‬
‫اس مي وس ني ومول دي‪ ،‬وتعق ب الس ؤال بكتاب ة الج واب‪ .‬ث م رأي ت أب ي يخ رج‬
‫ويتركن ي وجه ا لوج ه أمامه ا ف ي زاوي ة م ن ه ذا البه و الكبي ر‪ .‬كن ت أري د أن‬
‫أص رخ وأن أتم رد ولكنن ي أدرك ت أن اﻷم ر ج د‪ ،‬وأن ه ﻻ توج د ق وة تس تطيع أن‬
‫تنق ذني‪ ،‬ول ذلك فاﻷج در ب ي أن أس يطر عل ى أعص ابي وأح اول أن أس اير‬
‫المقادير‪.‬‬

‫ذهب ت الس يدة ب ي إل ى أح د الفص ول‪ ،‬وم ا ك دت أخط و عتبت ه حت ى أخ ذتني عي ون‬
‫الص غار م ن ك ل مك ان وه م يتطلع ون ف ي ش يء م ن الفض ول نح و ه ذا الزمي ل‬
‫الجدي د‪ ،‬فك دت أص عق ﻷنن ي كن ت أك ره أن أك ون مح ط اﻷنظ ار‪ .‬وتس لمتني‬
‫المدرسة فأخذتني إلى مكان من الفصل وهي تحاول أن تهدئ من روعي‪.‬‬‫ِّ‬

‫م ا اللغ ة الت ي يتكلمه ا ه ؤﻻء الن اس ي ا رب؟! إنن ي ﻻ أفه م ش يئا‪ ،‬فم ا الفائ دة م ن‬
‫مجيئي إلى هنا؟‬

‫ض اعت حريت ي‪ ،‬وك ان لض ياعها أل م عظ يم ف ي نفس ي‪ ،‬فمن ذ ذل ك الي وم ل م يع د ف ي‬


‫اس تطاعتي أن أعب ر الش ارع إل ى من زل آل ب اترنوس كم ا أري د‪ ،‬وﻻ أن ألع ب م ع‬

‫‪- 55 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أخت ي‪ ،‬وﻻ أن أس تمع إل ى أقاص يص أم ي‪ ،‬وﻻ أن أجل س إل ى جان ب ميلل ي‪ .‬ك ل‬


‫هذا قد ضاع‪ ،‬فمتى أسترد حريتي يا رب ﻷفعل ما أشاء حينما أشاء؟!‬

‫راقن ي ف ي المس اء أن تك ون اﻷس ئلة ﻷول م رة م ن جان ب أخت ي واﻷجوب ة ﻷول‬


‫مرة من جانبي‪ ،‬ولكن ذلك لم يعزني عن ضياع حريتي‪.‬‬

‫لق د تحق ق م ا كن ت أخش اه وأص بحت تلمي ذاَ‪ ،‬ولك ن اعتي ادي للمدرس ة ب دأ يه ون‬
‫اﻷم ر م ع تق دم اﻷي ام‪ ،‬وب دأت أش عر ب أن لهج ة الن اس ق د تغي رت حينم ا يوجه ون‬
‫ي‪ ،‬فماذا حدث؟‬‫الحديث إل ّ‬

‫كن ت أج د اﻷش ياء المقل دة بس يطة ال تعلم‪ ،‬فتعلم ت الح روف بس رعة وتعلم ت أن‬
‫أش د بعض ها إل ى بع ض بس رعة ك ذلك‪ ،‬ولكنن ي كن ت أج د ص عوبة ف ي اﻷش ياء‬
‫الت ي تفه م‪ .‬كن ت أس مع ميلل ي وأختيه ا يتح دثن ب أنني أس تفيد بس رعة م ن المدرس ة‬
‫ولكنن ي ل م أك ن أص دقهن‪ ،‬ﻷنن ي ل م أك ن أش عر ب أنني فهم ت ش يئا واح دا مم ا‬
‫مصرا على ذلك بيني وبين نفسي‪.‬‬‫ّ‬ ‫يتحدث به هناك‪ ،‬وكنت‬

‫وف ي المدرس ة عرف ت ش يئا جدي دا أزعجن ي‪ .‬حض رت ي وم اﻷح د الص ﻼة م ع‬


‫التﻼمي ذ‪ ،‬فلم ا رجع ت إل ى المن زل وح دثت أم ي ع ن ذل ك ارب د وجهه ا‪ ،‬وس معتها‬
‫تق ول إنه ا ﻻ تس مح ل ي بالص ﻼة م ع ه ؤﻻء اﻷطف ال‪ .‬ث م وص فتهم بص فة المس يحية‬
‫ووص فتني أن ا بص فة أخ رى ل م أتبينه ا إﻻ ف ي الي وم الت الي حينم ا ص حبتني إل ى‬
‫المدرس ة لترج و م ن الن اظرة أن تعفين ي م ن الص ﻼة‪ ،‬ﻷنن ي ﻻ أدي ن بالمس يحية‪،‬‬
‫وقال ت له ا إنن ي مس لم‪ .‬كن ت أتوق ع أن ت رفض الن اظرة حرم اني م ن الص ﻼة وه ي‬
‫الت ي س معتهم يقول ون عنه ا إنه ا مقدس ة‪ ،‬ولكنه ا عل ى العك س م ن ذل ك قبل ت رج اء‬
‫أمي ورأت أنه واضح ومعقول‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كن ت أع رف أنن ي أختل ف ع ن ه ؤﻻء الن اس ف ي جنس يتي‪ ،‬وك ان ذل ك ي ؤلمني‪ ،‬إذ‬
‫لم اذا ﻻ أك ون مث ل س ائر الن اس؟ فلم ا عرف ت أنن ي أختل ف ع نهم ف ي ال دين ‪ -‬ول و‬
‫أنن ي ل م أك ن أع رف م ا ه و ال دين ‪ -‬أزعجن ي ذل ك كثي را‪ .‬أم ا ف ي أثن اء الص ﻼة فق د‬
‫أصبحت بعد هذا اليوم أنتظر المصلين في ساحة المدرسة‪.‬‬

‫وم ا أزال أرى نفس ي إل ى اﻵن والتحس ر يم ﻸ قلب ي! خرج ت م ن البناي ة أس عي‬
‫بخط ى بطيئ ة مط أطئ ال رأس‪ ،‬حت ى إذا وص لت إل ى الب اب جلس ت عل ى الس لم‬
‫القص ير وأم امي س احة المدرس ة خالي ة ص امتة تم ﻸ ال نفس رهب ة ووحش ة‪ .‬لم اذا‬
‫أن ا س يئ الح ظ هك ذا؟ م ا ل زوم التح اقي بالمدرس ة م ا دم ت أختل ف ع ن س ائر‬
‫التﻼمي ذ؟ كي ف أواجهه م إذا م ا خرج وا ووج دوني واقف ا وح دي هك ذا وعرف وا‬
‫أنن ي ل م أحض ر معه م الص ﻼة؟ ه ل أن ا ك افر ش رير طري د م ن رحم ة ﷲ؟ آه ي ا‬
‫رباه!‬

‫عرف ت أن المدرس ة حظ رت عل ى التﻼمي ذ أن يف اتحوني ف ي ه ذا الموض وع‪،‬‬


‫وفع ﻼً ل م يف اتحني أح د في ه‪ ،‬ولك ن كان ت مس حة م ن اﻻن دهاش تعل و نظ راتهم إل ّ‬
‫ي‬
‫كلما خرجوا من الصﻼة ووجدوني واقفا أنتظرهم‪.‬‬

‫المدرس ة ت روي لن ا اﻷقاص يص الديني ة بلغ ة اس تطاعت أن تلم س قلوبن ا‬ ‫ّ‬ ‫كان ت‬
‫وتفهمن ا معن ى ال دين‪ .‬كن ت ش غوفا به ذه اﻷقاص يص إل ى ح د بعي د وأتمن ى ل و كان ت‬
‫ال دروس كله ا هك ذا‪ .‬إن ص ورا منه ا م ا ت زال عالق ة ب ذهني إل ى اﻵن‪ ،‬وه ي نف س‬
‫الصور التي تقوم أمام مخيلتي كلما قرأت هذه القصص اليوم‪:‬‬

‫يوس ف وه و ملق ى ف ي الج ب بع د أن حس ده أخوت ه‪ ،‬والش رور الت ي تع رض له ا‬


‫ومحن ة أبي ه وه و ش يخ كبي ر‪ ،‬ث م انتص اره عل ى الش ر وع دم انتقام ه م ن أخوت ه بع د‬
‫ذل ك اﻻنتص ار‪ .‬والنب ي موس ى يرهب ه البح ر فينش ق ل ه ع ن طري ق حت ى إذا نج ا‬
‫انطب ق عل ى فرع ون وجن وده ذل ك المل ك الش رير‪ .‬والنب ي عيس ي وه و ي رحم‬
‫الض عفاء والمس اكين‪ ،‬ف ي أقاص يص ض اعت من ي اﻵن‪ .‬كان ت مث ل ه ذه الس ير‬
‫ت وحي إلين ا بمعن ى جلي ل للخي ر وتجعلن ا نره ب الش ر ونخش اه‪ .‬ث م أقاص يص ق وم‬
‫‪- 57 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ك انوا يعب دون الحج ارة والتماثي ل‪ :‬ق وم ك افرون ج اهلون‪ .‬وعل ى ذل ك فالن اس‬
‫قس مان‪ :‬مؤمن ون يعب دون ﷲ رب الع المين فيب ارك حي اتهم‪ ،‬وك افرون يعب دون‬
‫تل ك الص ور الحجري ة الض خمة‪ ،‬وه ذه ص ورتهم أمامن ا‪ ،‬لق د كان ت ص ورة أب ي‬
‫الهول وعنده جبال قائمة وجباه في الرمال‪.‬‬

‫فه ل أن ا م ن ه ؤﻻء الك افرين ي ا رب؟ لق د تح دثت إل ى أم ي بوساوس ي فنقلته ا إل ى‬


‫أب ي‪ .‬ومن ذ ذل ك الي وم ب دأ يعلمن ي أن ا وأخت ي م ا معن ى اﻹس ﻼم‪ ،‬فعرف ت أنن ي لس ت‬
‫م ن أولئ ك الك افرين ال ذين يعب دون الحج ارة‪ ،‬ولك ن م ن يبل غ ذل ك إخ واني التﻼمي ذ‬
‫الذين يستقبلونني بالدهشة كلما خرجوا من الصﻼة؟‬

‫زاد اطمئن اني ف ي الس نة التالي ة‪ ،‬ﻻ ﻷنن ي اعت دت المدرس ة فحس ب‪ ،‬ولك ن ﻷن‬
‫أخت ي ب دأت تص حبني إليه ا أيض ا‪ .‬فق د م رت ب نفس ال دور ال ذي م ررت ب ه‪،‬‬
‫فأفض ى به ا إل ى نف س المص ير‪ .‬ومن ذ ذل ك الح ين‪ ،‬ب دأ الجي ران يرونن ا ك ل ص باح‬
‫نف تح ب اب المن زل وننح در مع ا إل ى الش ارع‪ ،‬فنس ير في ه جنب ا إل ى جن ب‪ ،‬إل ى أن‬
‫نغيب عن اﻷنظار‪ ،‬وكانوا يروننا كذلك حينما نعود‪.‬‬

‫ض اع من ي اﻵن م ا كن ت أتعلم ه ف ي تل ك اﻷي ام‪ ،‬إﻻّ أن درس ا واح دا ﻻ يمك ن أن‬


‫أنس اه أب دا‪ ،‬ذل ك ه و درس النح و‪ .‬وكن ت أس اير المدرس ة ف ي ك ل دروس ها‪ ،‬لكنن ي‬
‫ف ي درس النح و كن ت أنقل ب إل ى تلمي ذ بلي د ﻻ حيل ة ل ه‪ .‬اﻻس م‪ ،‬الفع ل‪ ،‬الح رف‪،‬‬
‫كلم ات ‪ -‬ويام ا قاس يته منه ا ‪ -‬تت رك ف ي ال ذهن ص ورا مش وهة ملتوي ة ﻷش ياء ﻻ‬
‫تحدي د له ا‪ .‬كن ت أح اول دائم ا أﻻ تﻼحظن ي المدرس ة ف ي دروس النح و‪ ،‬ولكنه ا‬
‫فطن ت إل ى أنن ي ﻻ أس ايرها‪ .‬آه ت رى أي ن ه ي اﻵن تل ك اﻵنس ة الرص ينة ذات‬
‫القس مات الح ادة‪ ،‬والش عور الس وداء‪ ،‬والوج ه الجمي ل؟! فطن ت إل ى ع دم‬
‫مس ايرتي‪ ،‬فحاول ت أيام ا أن تفهمن ي ب اللين فعج زت‪ ،‬ث م حاول ت أن ت وقفني عل ى‬
‫كرس ي أم ام التﻼمي ذ وتص يح ف ي وجه ي غاض بة بمص طلحات نحوي ة كان ت ت زداد‬
‫غموض ا كلم ا ازداد ص ياحها‪ .‬ومن ذ ذل ك الي وم ص ار وجه ي يحم ر خج ﻼً كلم ا‬
‫س معت أح دا يق ول عن ي إنن ي تلمي ذ ن اجح‪ ،‬وه ذا الخج ل نفس ه ه و ال ذي منعن ي م ن‬

‫‪- 58 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أن أذك ر ﻷح د م ا أقاس يه م ن عن ت ف ي درس النح و ه ذا‪ .‬ول ذلك ل م يُع د ل ي ب د م ن‬


‫أن أتجرع صامتا كؤوسا مريرة من الحسرة‪ ،‬دون أن يعلم بذلك أحد‪.‬‬

‫المدرس ة كان ت ش ّرا كله ا‪ .‬فهن اك زمال ة ه ؤﻻء‬


‫َ‬ ‫وم ع ه ذا ل م أس تطع أن أق ول إن‬
‫التﻼمي ذ المه ذبين‪ ،‬ومص احبة أخت ي‪ ،‬ورض ا الن اس عن ا‪ ،‬واللع ب ف ي أثن اء‬
‫اﻻس تراحة‪ ،‬واللع ب قب ل افتت اح المدرس ة ف ي الص باح‪ ،‬وخصوص ا اﻻن زﻻق عل ى‬
‫الجليد‪ ،‬والتقاذف بكور الثلج أيام الشتاء‪.‬‬

‫ك ان ب اب المدرس ة ه و نف س ب اب الحي اة‪ ،‬ف إن حي اتي كان ت ض يقة مح دودة‪،‬‬


‫وكان ت ص ورها مس تمدة م ن نفس ي أكث ر مم ا كان ت مس تمدة م ن الواق ع‪ .‬فلم ا‬
‫اجت زت عتب ة ب اب المدرس ة‪ ،‬ﻻح ت ل ي الحي اة ف ي ص ور أخ رى‪ .‬ول م يك ن ذل ك‬
‫بفض ل ال دروس‪ ،‬ولكن ه ك ان بفض ل البيئ ة الت ي أص بحت أقض ي فيه ا ج زءا غي ر‬
‫قصير من النهار‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫إن مس ز ش لمداين تزورن ا كثي را ف ي ه ذه اﻷي ام عل ى غي ر عادته ا‪ ،‬ولم ا كن ا ننتظ ر‬


‫بف ارغ الص بر رؤيته ا لك ي نتوس ل إليه ا ونح ن نطل ب منه ا أن ت أتي لن ا ب أخ ص غير‬
‫فإنه لم يكن لنا حديث معها سوى هذا‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ه ل تري دان أخ ا ص غيرا؟ إنن ي عل ى اس تعداد لﻺتي ان ب ه‪ ،‬لك ن ذل ك يكلفكم ا ش ططا‪.‬‬


‫ﻻ ش ك ف ي أنكم ا تتعه دان بأنكم ا س تحبانه وترعيان ه‪ ،‬ث م إن عليكم ا بع د ذل ك أن‬
‫تش ترياه م ن مالكم ا الخ اص‪ ،‬فعليكم ا من ذ الي وم أن ت وفرا نقودكم ا حت ى يتجم ع‬
‫لكما المال الكافي لشراء طفل جميل يكون لكما أخا‪ .‬هل فهمتما إذن ما أريد؟‬

‫كن ا نخبره ا ف ي ك ل زي ارة بع د ذل ك بم ا تجم ع ل دينا م ن ه ذه النق ود وه ي تس تزيدنا‪،‬‬


‫ث م قال ت لن ا ذات ي وم‪ :‬إنه ا ق دمت عن د ص احب حق ل الكرم ب‪ ،‬فحدثت ه عن ا وع ن‬
‫اس تقامتنا‪ ،‬فرض ي أن يمنحن ا طف ﻼً حينم ا ينب ت‪ ،‬ولكن ه يش ترط أن نظ ل‬
‫مس تقيمين‪ ،‬وإﻻ فإن ه سيس حب من ا وع ده‪ ،‬ويبي ع الولي د الجدي د لعائل ة أخ رى يك ون‬
‫أطفالها أكثر استقامة‪.‬‬

‫رحمت ك ي ا ص احب حق ل الكرم ب ! إنن ا نرس ل إلي ك تحياتن ا كلم ا رأين ا المس ز‬
‫ش لمداين‪ ،‬وإنن ا لن دعو ﷲ ف ي س رنا وف ي جهرن ا أن يه ب ل ك البرك ة ف ي عمل ك‪،‬‬
‫وكث رة اﻷطف ال ف ي حقل ك‪ ،‬ف ارحم ه ذه الخلج ات الت ي يخف ق به ا قلبان ا الص غيران‪.‬‬
‫إن اﻷي ام لتم ر موش كة أن تنقل ب إل ى س نين‪ ،‬ونفس ينا ت ذوبان ش وقا إل ى ثم رة م ن‬
‫ثم رات حقل ك الخص يب‪ .‬ي ا ص احب حق ل الكرم ب‪ ،‬لي ت ل ك أذن ا تس مع حوارن ا‬
‫ك ل ليل ة قب ل أن نن ام! لق د اس تبطأنا هبت ك الموع ودة فمت ى تتك رم بإرس الها؟! ارح م‬
‫أم ﻼً ف ي قلب ين أوش ك أن يعص ف بهم ا الي أس‪ .‬جمعن ا نقودن ا ول م نع د نش تري ألعاب ا‬
‫وﻻ حل وى‪ ،‬واس تقام س لوكنا فك ل واح د من ا رقي ب عل ى نفس ه وعل ى اﻵخ ر‪ ،‬وإنن ا‬
‫ﻻ نس مح لل نفس ب أن يخ تلج فيه ا م ا ﻻ يرض ى‪ .‬لي ت المس ز ش لمداين تقب ل أن‬
‫تقودن ا إلي ك‪ ،‬وإذن لس فكنا دموعن ا عن د ق دميك‪ ،‬ولجعلن اك ت رق لن ا به ذه ال دموع!‬
‫ولكنه ا تق ول عن ك إن ك ﻻ تس تقبل المش ترين إﻻ بواس طتها‪ ،‬وه ي ماض ية ف ي‬
‫تس ويفنا‪ ،‬وإن كان ت ق د وع دتنا وع دها‪ ،‬فمت ى تص لنا ه ديتك ي ا ص احب حق ل‬
‫الكرمب؟‬

‫‪- 60 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫مناج اة نفس ين ب ّرح بهم ا الش وق إل ى أخ ص غير‪ ،‬لق د زادن ا وع د المس ز ش لمداين‬
‫شوقا إلى شوق‪ ،‬وإنا لنعلم إنه ّ‬
‫لحق ولكن صبرنا قد نفد‪.‬‬

‫وكث رت زياراته ا فكن ا نف تح ب اب الغرف ة لن رى تل ك الس يدة الجليل ة تخط و‬


‫بخطواته ا الوئي دة‪ ،‬وقامته ا المدي دة الت ي ل م تس تطيع اﻷي ام أن تثنيه ا‪ ،‬نح و الس لم‬
‫إل ى الط ابق الث اني حي ث توج د أم ي الت ي ل م نك ن نراه ا ف ي ه ذه اﻷي ام لمرض ها‪،‬‬
‫وكن ا دائم ا ننتب ه إل ى حقيبته ا لعلمن ا أنه ا ﻻ تحم ل الموالي د ف ي الحقيب ة العادي ة‪،‬‬
‫وإنما تحملهم في أخرى جديدة ممتازة أكبر من اﻷولى‪.‬‬

‫طرق ت الب اب ذات مس اء ففتح ت له ا الخ ادم‪ ،‬وم ا ك ادت أخت ي تس معها حت ى‬
‫أس رعت إل ى ب اب الغرف ة تط ل من ه‪ ،‬لق د كان ت عل ى البي ت مس حة غي ر عادي ة‪ ،‬وﻻ‬
‫ب د أن ذل ك ه و ال ذي دف ع أخت ي إل ى الح رص عل ى ش دة اﻻنتب اه‪ .‬ث م أقفل ت الب اب‬
‫ي نظ رات غريب ة‪ ،‬لﻸم ل فيه ا بري ق‬ ‫م رة أخ رى‪ ،‬واس تدارت نح وي تنظ ر إل ّ‬
‫شديد‪.‬‬

‫رأيته ا تقت رب من ي وه ي تغاف ل ميلل ي الت ي كان ت معن ا ف ي الغرف ة ث م تجل س إل ى‬


‫ج انبي ص امتة وق د احتبس ت أنفاس ي وأن ا أترق ب كﻼمه ا وأس تطلع أس اريرها‪ .‬ث م‬
‫خرجت ميللي مسرعة كأن صوتا دعاها‪.‬‬

‫ل م تك د تقف ل الب اب حت ى اس تدرت نح و أخت ي ﻷس ألها‪ ،‬ولكنن ي ل م أج دها إل ى‬


‫جانبي‪ ،‬لقد قفزت في الهواء ضاحكة مستبشرة‪ ،‬ثم دنت مني وهي تقول‪:‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬مسز شلمداين!‬
‫‪ -‬مالها؟‬
‫‪ -‬احرص على أﻻ تقول شيئا ً كيﻼ نفسد اﻻمر‪.‬‬
‫‪ -‬ما للمسز شلمداين؟ سوف ﻻ أقول شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬رأيتها تحمل الحقيبة الكبيرة‪ ،‬لقد صعدت بها إلى أمي!‬

‫‪ -‬رب اه! ه ل ص حيح م ا س معت؟ أيمك ن أن تك ون تل ك الحقيب ة المرموق ة ذات الجل د‬


‫الﻼم ع دخل ت إل ى منزلن ا وفيه ا أخ ص غير؟! كن ا نتح دث همس ا خوف ا م ن أن‬
‫يس معنا أح د‪ ،‬وبودن ا ل و ك ان ف ي اس تطاعتنا أن نم ﻸ المن زل ض جيجا م ن ش دة‬
‫الف رح‪ .‬ولك ن ش عورا غريب ا اس تولى علين ا مع ا ً‪ ،‬ه و أن ه يج ب أﻻّ نس بق الح وادث‬
‫حت ى ﻻ نفس دها‪ ،‬فق د يغض ب ص احب حق ل الكرم ب ويس ترد هبت ه إذا ك ان ق د‬
‫بعث بها حقّا‪.‬‬

‫قض ينا ليل ة قلق ة نن ام ونس تيقظ لنن ام عل ى ص وت يهم س تح ت الوس ادة‪ :‬أخ جدي د!‬
‫أخ جدي د! تح دثنا عن ه م ا ش اء لن ا الح ديث‪ ،‬ول م أس مع أخت ي تخبرن ي بأنه ا تري د أن‬
‫تن ام‪ ،‬ول م أر أش باحا ف ي الظ ﻼم‪ ،‬لق د تب ددت تل ك الوج وه الكريه ة‪ ،‬ول م يع د هن اك‬
‫ي حواس ي أن يك ون ل ي أخ جدي د‪ .‬وظللن ا هك ذا‬ ‫خ وف يم ﻸ نفس ي‪ ،‬فلق د مل ك عل ّ‬
‫ساعات إلى أن حملني النوم إلى عالم اﻷحﻼم الوديع‪.‬‬

‫م ن ه ذا ال ذي ينادين ا م ن ع الم اﻷح ﻼم ف ي الص باح المبك ر‪ :‬اس تيقظا! اس تيقظا! لق د‬


‫أصبح لكما أخ جديد! إنها ميللي توقظنا لتبشرنا بالحادث السعيد‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫فركن ا عيونن ا‪ ،‬وتبين ا م ا يقول ه الص وت‪ ،‬فط ارت الوس ائد ف ي اله واء وطرن ا نح ن‬
‫ف ي أثره ا نث ب ونص يح ونغن ي‪ ،‬وان دفعنا نح و الب اب ف ي س باق نح و غرف ة أم ي‬
‫لكي نري أخانا الجديد‪.‬‬

‫ﻻ ليس اﻵن‪ ،‬إنه نائم‪ ،‬سوف ﻻ تريانه إﻻ بعد يومين‪ ،‬إنه متعب‪.‬‬

‫جلس نا إل ى المس ز ش لمداين وه ي تح دثنا عن ه وع ن ص احب الحق ل‪ ،‬وكي ف رض ي‬


‫أن يبيع ه لن ا‪ ،‬وم اذا قال ت ل ه وم اذا ق ال له ا‪ ،‬وع ن رض اه عن ا وع ن س لوكنا‪.‬‬
‫ولكنن ي ل م أك ن أس تمع إل ى ش يء مم ا تق ول‪ .‬كن ت أتأم ل وجهه ا الط افح بالبش ر‬
‫والخي ر‪ ،‬وجهه ا الطوي ل المتغض ن ال ذي ك ان ممتلئ ا ف ي ي وم م ن اﻷي ام‪ ،‬وف وق‬
‫رأس ها الغط اء اﻷب يض الناص ع حول ه ش ريط أزرق ع ريض‪ .‬ك ان خ داها غ ائرين‬
‫بع د س قوط أس نانها‪ ،‬وكان ت ش فتاها ترتعش ان وه ي تتح دث إلين ا فيغمرن ي ح ديثها‬
‫بإحس اس كل ه رحم ة وخي ر‪ .‬إن ه ذه الس يدة الجليل ة ذات الخط ى الوئي دة تس حب‬
‫خلفه ا تاريخ ا ط ويﻼً كل ه عط ف وإنس انية‪ .‬لطالم ا س هرت اللي الي لك ي ين ام‬
‫اﻵخ رون‪ ،‬وم ا ت زال إل ى اﻵن تب ذل المجه ود الجب ار عل ى ض عفها لك ي تس دي‬
‫الخي ر إل ى الن اس‪ ،‬وتغم رهم بعطفه ا‪ .‬إنه ا ف وق الس بعين م ن عمره ا‪ .‬ولك ن روح‬
‫الخي ر فيه ا ش اب ي افع ﻻ يع رف الك ﻼل إلي ه س بيﻼً‪ .‬وح ول رأس ها هال ة المج د‪،‬‬
‫مجد اﻷيام الغابرة التي ﻻ تشوب شائبة ما ذكراها‪.‬‬

‫ه ذه الس يدة الجليل ة المحطم ة ه ي الت ي ت نهض م ن فراش ها متحامل ة عل ى نفس ها‬
‫لك ي تس وق الس عادة إل ى البي وت‪ .‬إنه ا تس عف اﻷمه ات‪ ،‬وتواس ي اﻷرام ل‬
‫واليت امي‪ ،‬وتع زي الش يوخ والعج زة‪ ،‬وتحم ل الغبط ة إل ى اﻷطف ال‪ ،‬دون أن يه دأ‬

‫‪- 63 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫له ا ب ال إﻻ إذا قام ت بك ل م ا ف ي اس تطاعتها لك ي تش رق الحي اة ف ي بي وت‬


‫اﻵخرين‪.‬‬

‫وه ا ه ي ذي جالس ة معن ا وق د انص رفت ع ن الكب ار إلين ا‪ ،‬س عيدة لس عادتنا‪،‬‬
‫مغتبط ة ﻻغتباطن ا‪ .‬لق د حقق ت لن ا أم ﻼً‪ ،‬وتح دثت إلين ا‪ .‬وه ا ه ي ذي تق وم قائل ة‪:‬‬
‫لق د أطل ت معكم ا الجل وس‪ ،‬واﻵن يج ب أن أق وم ﻷبح ث ع ن اﻷطف ال اﻵخ رين‬
‫الذين يريدون الحصول على أخ جديد كما كنتما تريدان‪ ،‬أليس كذلك؟‬

‫خرج ت متحامل ة عل ى نفس ها كم ا دخل ت متحامل ة عل ى نفس ها‪ ،‬ولك ن ل م يك ن يب دو‬


‫عليه ا أنه ا متعب ة ﻷنه ا كان ت تج د ل ذة ف ي القي ام بواجبه ا‪ ،‬وعن د الب اب وع دتنا ب أن‬
‫تزورنا في وقت قريب‪.‬‬

‫أم ا اﻷخ الجدي د فق د رأيت ه أخي را‪ ،‬حمل وني فأش رفت علي ه‪ ،‬ف إذا ب ي أم ام مخل وق‬
‫غري ب‪ :‬أعض اء تافه ة‪ ،‬رأس أمل س‪ ،‬عين ان ص غيرتان‪ ،‬أن ف أفط س‪ .‬وم ا ك دت‬
‫أش رف علي ه حت ى أرس ل ف ي وجه ي ص يحة كأن ه يري د أن يق ول‪" :‬أن ت ال ذي كت ب‬
‫ي أن أك ون أخ ا ل ه؟" فم ا ل ك تت أملني ي ا أخ ي الص غير؟ أﻻ تقب ل أن أك ون ل ك‬
‫عل ّ‬
‫أخ ا؟ ﻻ تخ ف‪ ،‬س وف نب ذل ك ل م ا ف ي اس تطاعتنا أن ا وأخت ي لك ي تك ون س عيدا‪.‬‬
‫فرأيت ه يبتس م ابتس امة ك ادت تنقل ب إل ى ض حكة كم ا ل و ك ان س ره أن يخ تلج قل ب‬
‫أخي ه بمث ل ه ذا الش عور‪ ،‬وش د بي ده الص غيرة عل ى إص بعي‪ ،‬كأن ه يق ول‪ :‬ه ل أن ت‬
‫متأكد من هذا؟ فابتسمت له كأنني أقول‪ :‬وهل تشك في أخيك؟‬

‫‪- 64 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫مﻸن ا زه وا وفخ را أن يك ون لن ا أخ‪ ،‬ول م يك ن ﻻغتباطن ا نهاي ة‪ ،‬أحببن اه قب ل أن‬


‫يول د‪ ،‬فلم ا ول د جنّن ا ب ه جنون ا‪ .‬وك ان الن اس ي داعبوننا به ذا‪ ،‬ولك نهم ك انوا معجب ين‬
‫لشدة اهتمامنا به وحبّنا له‪.‬‬

‫في ا ص احب حق ل الكرم ب! لق د وهب ت لن ا الس عادة ممثل ة ف ي ه ذا اﻷخ الص غير‪،‬‬
‫فكي ف ننس اك بع د م ا رزقن ا ب ه؟! لق د وص لنا اﻷخ الجدي د ودفعن ا للمس ز ش لمداين‬
‫النق ود الت ي جمعناه ا‪ ،‬ولكنه ا رجع ت إلين ا بع د ي ومين قائل ة أن ك أرجعته ا إلين ا‬
‫ﻷن ك راض ع ن س يرتنا‪ ،‬وإن اﻷخ الص غير هدي ة خالص ة من ك إلين ا‪ ،‬فكي ف‬
‫نشكرك على صفاء نفسك وطيبة قلبك؟‬

‫س وف ن ذكرك م ا س عدنا به ذا اﻷخ الص غير ي ا ص احب حق ل الكرم ب‪ ،‬ون دعو ﷲ‬


‫دائم ا أن يب ارك ل ك ف ي تجارت ك‪ ،‬ويهب ك دائم ا ً م ا تري د‪ .‬وسنوص ي اﻷطف ال ال ذين‬
‫يري دون أخ وة ب أن يش تروا أخ وتهم م ن الحق ل ال ذي تعامل ه مس ز ش لمداين‪ ،‬ف إن‬
‫صاحبه ﻻ نهاية لطيبوبة قلبه وحبه للخير‪.‬‬

‫ولك ن م ع ه ذا كل ه ﻻ نس تطيع أن نف ي بم ا نح ن م دينون ب ه ل ك ول و ظللن ا نس دي ل ك‬


‫الخي ر ط ول حياتن ا‪ .‬ول ذلك نرج و أن تقب ل م ا يس تطيع أن يقدم ه إلي ك طف ﻼن‬
‫ص غيران بع د أن أرجع ت إليهم ا نقودهم ا‪ ،‬وه و أن يش كراك آن اء اللي ل وأط راف‬
‫النهار‪ ،‬يا صاحب حقل الكرمب‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأخي ًرا أقبل ت ليل ة الم يﻼد‪ ،‬تل ك الليل ة المرموق ة الت ي انتظرناه ا ط ويﻼً وانتظرن ا‬
‫م ا فيه ا م ن ابته اج وانفع ال وغبط ة‪ ،‬لق د قابلن ا "ش يخ الم يﻼد" وح دثنا ف ي لط ف‬
‫وبش رنا بأنن ا س وف نن ال ه داياه م ا دمن ا مح افظين عل ى اﻻس تقامة‪ ،‬وأن ه س وف‬
‫يس عى به ا إلين ا ونح ن ني ام ف ي ه دوء اللي ل البه يم‪ .‬س وف ينح در إلين ا وه و يتنق ل‬
‫ب ين النج وم ث م ين زل إل ى غرفتن ا م ن خ ﻼل المدخن ة ويتحفن ا بم ا كن ا نتمن اه خ ﻼل‬
‫الس نة‪ .‬س وف يحق ق لن ا أحﻼمن ا‪ ،‬تل ك اﻷح ﻼم الت ي يعرفه ا جي دا ويع رف ك ل م ا‬
‫يتعل ق به ا‪ .‬أج ل قابلن اه‪ ،‬ورأين ا لحيت ه البيض اء الطويل ة البهيج ة‪ ،‬وص افحناه‬
‫فمنّان ا‪ ،‬وه و ﻻ ش ك س اع إلين ا بم ا نري د‪ ،‬فه و أب و اﻷطف ال جميع ا‪ ،‬أب وهم ال رحيم‬
‫ال رؤوف ال ذي خص ص حيات ه الطويل ة ﻷج ل إدخ ال الس رور عل ى قل وب أبنائ ه‬
‫اﻷبرياء‪.‬‬

‫أقبل ت ليل ة الم يﻼد واحتوتن ا غرفتن ا لنس تيقظ ف ي الص باح عل ى المفاج أة المحبوب ة‬
‫ولكنن ا ل م نس تطع الن وم م ن ف رط اﻻبته اج والتوق ع‪ ،‬واﻻطمئن ان إل ى اﻷم ل الب راق‪.‬‬
‫كنا نحاول أن ندفع اﻷفﻼك ونستعجل الصباح الجديد لنحتضن أمانينا‪.‬‬

‫وب دأنا نتح دث كم ا كن ا نتح دث دائم ا‪ ،‬ولك ن ح ديثنا ه ذه الليل ة ك ان يمت از ب الحرارة‬
‫والس رور‪ .‬ك ان تفكي ري أن ا مختص را ف ي اﻷم اني الت ي س وف أس تيقظ فأج دها‬
‫حق ائق ملموس ة‪ ،‬غي ر أن تفكي ر أخت ي تح ﱠول فج أة ع ن ه ذا الموض وع حينم ا‬
‫تساءلت‪:‬‬

‫‪ -‬كي ف يس تطيع ش يخ الم يﻼد أن ي دخل علين ا غرفتن ا ونح ن ن ائمون‪ ،‬والب اب‬
‫مقفل؟! أليس هذا غريبا؟‬
‫‪ -‬ﻻ شك في أنه يدخل‪ ،‬وإﻻ فمن ذا الذي يأتي بالهدايا؟‬
‫‪ -‬نع م إن ك ﻻ تﻼح ظ م ا يح يط ب ك‪ ،‬أن ا أيض ا كن ت أظ ن ذل ك‪ ،‬ولك ن تب ين ل ي أن‬
‫سرا‪.‬‬
‫في اﻷمر ّ‬
‫سر؟‬
‫ي ّ‬‫‪-‬أ ّ‬

‫‪- 66 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬أل م تﻼح ظ أن لحي ة ش يخ الم يﻼد ناص عة البي اض دائم ا وأن ثياب ه نظيف ة؟! كي ف‬
‫ﻻ تس و ّد لحيت ه وتتس خ ثياب ه لكث رة م ا ينح در م ع الم داخن‪ ،‬ث م كي ف يس تطيع رج ل‬
‫في مثل حجمه أن ينحدر من المدخنة الضيقة؟ هل تصدق أنت هذا؟‬
‫‪ -‬كي ف ﻻ أص دقه والن اس جميع ا يتح دثون إلين ا ب ذلك؟ وإﻻ فم ن ي أتي لﻸطف ال‬
‫بهدايا الميﻼد؟‬

‫‪ -‬آب اؤهم وأمه اتهم‪ ،‬يفتح ون عل يهم الغرف ة وه م ن ائمون‪ ،‬ويدس ون اله دايا‬
‫الص غيرة ف ي الج وارب المثبت ة ف ي م ؤخرة اﻷس ّرة‪ ،‬أم ا الكبي رة فيض عونها عل ى‬
‫اﻷرض‪ .‬وإذا كنت ﻻ تصدق ذلك فلنظل صاحيين إلى أن نري من يأتي بها‪.‬‬

‫‪ -‬ولك ن ش يخ الم يﻼد سيغض ب إذا وج دنا ص احيين ويرج ع دون أن يت رك لن ا‬


‫هدايا‪ ،‬فأنت تعلمين أن اﻷطفال المستقيمين يجب أن يناموا مبكرين‪.‬‬

‫‪ -‬إذا كن ت ﻻ تص دقني فاس مع م ا رأيت ه ه ذا الص باح‪ :‬ط رق الب اب فلم ا ف تح رأي ت‬
‫حم اﻻً ي دخل وب ين يدي ه رزمت ان كبيرت ان‪ ،‬ف أمرتني مام ا أن أص عد إل ى ال دور‬
‫الثاني حتى ﻻ أرى ما يحمله‪.‬‬

‫‪ -‬وأي شيء في هذا؟‬

‫‪ -‬لق د ك ان يحم ل اله دايا الت ي س وف تج دها هن ا ف ي الص باح‪ ،‬فه ي معن ا ف ي المن زل‬
‫اﻵن! وإذن فليس شيخ الميﻼد هو الذي يحمل إلينا هذه الهدايا!!‬

‫‪ -‬أين هي إذن؟‬

‫‪- 67 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬إنه ا ف ي غرف ة الجل وس‪ ،‬فق د ظل ت ه ذه الغرف ة مغلق ة من ذ الص باح‪ ،‬ومنعتن ي‬
‫ماما من دخولها حينما حاولت ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬وكيف نستطيع أن نتأكد من أن ما تقولينه صحيح؟‬

‫‪ -‬أل م تطل ب م ن ش يخ الم يﻼد أن يه دي ل ك دراج ة ص غيرة‪ ،‬وطلب ت أن ا من ه أن‬


‫يهدي لي عربة صغيرة ﻷضع فيها دميتي؟!‬

‫‪ -‬هذا صحيح‪.‬‬

‫‪ -‬العرب ة والدراج ة ف ي غرف ة الجل وس‪ ،‬وإذا كن ت تري د أن تتحق ق م ن ذل ك فهي ا‬


‫بنا ننزل إليها‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أخاف‪.‬‬
‫‪ -‬ليس هناك ما يخيف‪ .‬هيا انزل معي‪ ،‬فإنه يجب أن نكتشف الحقيقة!‬

‫وت رددت كثي را قب ل أن أواف ق عل ى اقتراحه ا‪ ،‬فلق د ك ان رأي ا جريئ ا بالنس بة ل ي‪،‬‬
‫ك ان تح ديا مخيف ا للحقيق ة الت ي كن ت أش فق عل ى نفس ي دائم ا م ن مواجهته ا‪،‬‬
‫وتح ديا للظ ﻼم ال ذي ﻻ أحت اج إل ى أن أق ول إن ه ك ان يرعبن ي‪ .‬أض ف إل ى ذل ك‬
‫أنن ي كن ت أخش ى أن يك ون م ا قالت ه ص حيحا فتنه ار ف ي نفس ي خراف ة لذي ذة‪ ،‬وتفق د‬
‫هدية الميﻼد بهاءها ورونقها‪.‬‬

‫وم ا زال ت تقنعن ي إل ى أن قم ت معه ا‪ ،‬وس عينا إل ى الب اب ف ي ب طء عل ى أط راف‬


‫اﻷص ابع إل ى أن وص لناه‪ ،‬ث م عالجن اه ب اللين إل ى أن انف تح دون ح س‪ ،‬ث م وض عت‬
‫ي دي ف ي ي ديها وانح درنا م ع الس لم بأق دام حافي ة‪ ،‬وب دت لن ا الم دة الت ي قض يناها ف ي‬

‫‪- 68 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫س بيلنا إل ى الغرف ة المقص ودة أط ول بكثي ر مم ا كان ت ف ي الواق ع لكث رة اله واجس‬
‫الت ي ش غلتنا خﻼله ا‪ .‬كن ا ف ي أثن اء ذل ك نض غط حت ى عل ى أنفاس نا مبالغ ة ف ي‬
‫الح ذر‪ .‬ك ان عم ﻼً ش عرنا بفداحت ه ف ي أعم اق نفوس نا ش عورا دقيق ا‪ .‬كن ا نخت رق‬
‫الق انون ونش عر ﻷول م رة بم ا ف ي اخت راق الق انون م ن إحس اس ب وخز ف ي ه ذا‬
‫الموضع الذي عرفنا فيما بعد أنه يدعى بالضمير‪.‬‬

‫ظللن ا نس مع من ذ ك ان لن ا س مع بفداح ة الحرك ة ف ي الظ ﻼم‪ ،‬وإنن ا لن أتي الي وم عم ﻼً‬


‫ﻻ نس تطيع غ دا أن نق ول إنن ا أتين اه‪ .‬أتين ا عم ﻼً ﻻ ب د م ن أن نخفي ه‪ ،‬وه ذا ف ي‬
‫الواق ع تص رف م روع‪ .‬ه يمن ه ذا الش عور عل ى نفس ين م ا زالت ا ب ريئتين م ن كثي ر‬
‫مم ا ف ي الحي اة‪ .‬كن ا نض طرب ونقش عر ونك اد نت داعى‪ ،‬ولك ن الرغب ة ف ي كش ف‬
‫الحقيق ة ومواجه ة الواق ع كان ت أكب ر م ن ه ذا كل ه‪ ،‬فلق د تمكن ا م ن الوص ول إل ى‬
‫غرف ة الس ر وكش ف الغط اء ع ن الحقيق ة‪ .‬فتحن ا بابه ا ف ي ح ذر‪ ،‬ف إذا نح ن وجه ا‬
‫لوج ه أم ام الواق ع‪ ...‬الواق ع ال ذي ش عرنا ﻷول م رة بمرارت ه‪ ......‬ك ان مص باح‬
‫الش ارع يض يء ظ ﻼم الغرف ة فرأين ا الس ر عل ى ض وئه الباه ت وب دا لن ا مرعب ا‪ .‬ل م‬
‫نستطع أن نواجهه وإنما انقلبنا على أعقابنا ورجعنا إلى غرفتنا في صمت‪.‬‬

‫اس تيقظنا ف ي الص باح عل ى ص وت أب ي وأم ي وق د ج اءا ليق دما إلين ا هدي ة عي د‬
‫الم يﻼد‪ ...‬فقفزن ا نعانقهم ا وق د أس رع ك ل واح د من ا إل ى الهدي ة الت ي ع رف س رها‬
‫ف ي أول اللي ل‪ ،‬عرفه ا ف ي الظ ﻼم‪ ،‬ولك ن ب الرغم م ن ذل ك كل ه وج دنا حقيق ة‬
‫الص باح أروع م ن حقيق ة اللي ل‪ .‬ك م كن ت س عيدا ب أن تص بح ل ي دراج ة‪ ،‬وك م كان ت‬
‫أختي سعيدة بأن تصبح لها عربة تضع فيها دميتها‪.‬‬

‫ك ان ي وم الم يﻼد يوم ا بهيج ا كل ه غبط ة وس رور‪ .‬فلق د زرن ا آل ب اترنوس ف ي‬


‫الص باح واس تمعنا إل ى الح اكي ال ذي ك ان يغ رد باﻷغ اني الرائع ة ف ي ه ذه الغرف ة‬

‫‪- 69 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الت ي ازدان ت ب الزهور والص ور الجميل ة واﻷث اث اﻷني ق‪ .‬ك ان ي وم عي د الم يﻼد‬
‫حقيق ة يوم ا جم يﻼً‪ ،‬وه و ي وم جمي ل ف ي ك ل س نة‪ ،‬ﻷن ه يحف ل دائم ا باﻷلع اب‬
‫والهدايا والزينات واﻷغاني واﻻبتسامات‪.‬‬

‫وحض رنا ه ذه الحفل ة الت ي أقامه ا أص دقاء المراكش يين ﻷطف الهم وﻷص دقاء‬
‫أطف الهم‪ .‬ودخلن ا به و الحفل ة فتعلق ت عيونن ا المش دوهة بش جرة بديع ة لعي د الم يﻼد‬
‫وق د أثم رت باله دايا واللع ب‪ ،‬واش ترك اﻷطف ال جميع ا ف ي اكتش اف لعب ة الس ر‪،‬‬
‫وه م يتض احكون ويتﻼعب ون‪ ،‬وأحطن ا بع د ذل ك بالمائ دة الحافل ة باللذائ ذ‬
‫والطيب ات‪ ،‬ث م ودعن ا ص احب الحفل ة لنقض ي العش ية ف ي الحديق ة العام ة‪ ،‬وف ي‬
‫المساء ذهبنا ضمن جماعة لمشاهدة إحدى الروايات‪.‬‬

‫ابتهجن ا بعي د الم يﻼد ابتهاج ا أنس انا قص ة الليل ة الس الفة‪ ،‬وكان ت َحري ة ب أن ت نغص‬
‫علينا بهجتنا وسرورنا‪.‬‬

‫ولكن ا ت ذكرناها خ ﻼل اللي ل‪ ،‬قب ل أن نص عد إل ى غرف ة نومن ا‪ ،‬فق د قال ت لن ا )مام ا(‬
‫ونحن جلوس حول مائدة العشاء‪:‬‬

‫ي‪ .‬إن ش يخ الم يﻼد يبلغكم ا تحيات ه‪ ،‬وه و يعت ذر إليكم ا ﻷن ه ل م يس تطع‬
‫اس تمعا إل ّ‬
‫أن يزوركم ا ف ي غرف ة نومكم ا خ ﻼل الليل ة الماض ية فس لمكما ه ديتكما ع ن‬
‫طريق ي‪ ...‬راجي ا من ي أن أن وب عن ه ف ي تس ليمها إليكم ا‪ ،‬كم ا رج ا من ي أن‬
‫أوصيكما على لسانه باﻻستقامة وحسن السلوك‪ .‬هل فهمتما؟‬

‫‪- 70 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كان ت تح دثنا بلهج ة غريب ة‪ ،‬ولكنن ا ل م نفط ن إل ى ه ذا آن ذاك‪ ،‬وإنم ا تبادلن ا‬


‫النظ رات أن ا وأخت ي وق د ط اف بن ا ط ائف م ن اﻻس تغراب‪ ....‬ث م رفعن ا عيونن ا إل ى‬
‫)بابا( فرأينا بريقا مريبا في عينيه‪.‬‬

‫ي ب الفكرة ف ي أول‬
‫كان ت أخت ي أكث ر اض طرابا من ي‪ ،‬فق د كان ت ه ي الت ي أوح ت إل ّ‬
‫اﻻم ر‪ ،‬ولك ن غمرن ا مع ا ش عور م ن الن دم ص رفنا ع ن الك ﻼم‪ ،‬ول م تن بس أخت ي‬
‫حينما صعدنا إلى غرفة النوم ببنت شفة خوفا من أن ألومها‪ ...‬دون شك‪.‬‬

‫ل م نتب ادل أي ح ديث‪ ،‬ولك ن أرقن ا ط ال‪ .‬فلق د كان ت أخت ي تفك ر دون ش ك فيم ا‬
‫دفعتن ي إلي ه وم ا ارتكبن اه م ن ج رم‪ ،‬كم ا كن ت أن ا أيض ا أفك ر ف ي نف س الح ادث‪.‬‬
‫لق د أس أنا الني ة بعي د الم يﻼد‪ .....‬وتس للنا ف ي الظ ﻼم‪ ......‬واتهمن ا وال دينا ‪...‬‬
‫ول ذلك فق د احتض ننا الن وم ب ين ذراعي ه ال رحيمتين ونح ن نتض رع إل ى ﷲ م ن‬
‫أعماق قلبينا أن يغفر لنا خطايانا في ليلة عيد الميﻼد‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ل م يك ن هن اك م ا ي دعو إل ى اﻻهتم ام بفواج ع الحي اة‪ ،‬فق د ان دمل الج رح ال ذي أحدث ه‬


‫م وت اﻷم ف ي نفس ي‪ ،‬وان دفعت ف ي الحي اة ألع ب م ع أص دقائي الص غار وم ع أخت ي‬
‫وأتردد بين منزلنا ومنزل آل باترنوس والمدرسة‪.‬‬

‫ك ان لن ا أص دقاء ص غار يلعب ون معن ا ف ي الش ارع والمن زل ﻻ أزال أذك ر م نهم‬
‫ريج ي وارن وأري ن فليتش ر‪ ،‬فم اذا ي ا ت رى ص نعت اﻷي ام بهم ا بع د ه ذه الس نين‬
‫الطويل ة؟ ولس ت أع رف لم اذا عل ق ه ذان اﻻس مان بفك ري دون غيرهم ا خ ﻼل‬
‫هذه المدة الطويلة‪.‬‬

‫ﻻ أري د أن أتح دث ع ن ه ؤﻻء اﻷص دقاء هن ا‪ ،‬وإنم ا أري د أن أذك ر عل ى س بيل‬


‫المث ال رأيه م ف ي وف ي أخت ي‪ .‬ذل ك أنن ي كن ت ض عيف البني ة‪ ،‬وكان ت أخت ي تب دو‬
‫أق وى من ي وأنض ر جس ما‪ .‬وعن دما كن ا نلتق ي بع د الخ روج م ن المدرس ة لنع دو‬
‫ونم رح ف ي طريقن ا إل ى المن زل ك ان ه ؤﻻء اﻷص دقاء يش يرون دائم ا إل ى ص حة‬
‫أخت ي وعافيته ا ث م يقيس ون ذل ك إل ى ض عفي وش حوبي‪ .‬أض ف إل ى ذل ك أنن ي كن ت‬
‫أم رض كثي را دون أن تص اب ه ي بش يء‪ ،‬ول ذلك ك ان الن اس ال ذين يقابلونه ا‬
‫باﻻبته اج يق ابلونني أن ا ب العطف‪ ،‬وكان ت ه ي ف ي الواق ع أكث ر بشاش ة وحرك ة‬
‫ونشاطا‪.‬‬

‫لس ت أدري كي ف ح دث ذل ك‪ ،‬ولكنن ي وج دتني وحي دا ب ين ه ؤﻻء اﻷص دقاء‪.‬‬


‫وك ان ﻻختف اء أخت ي م ن بينن ا ت أثير عمي ق‪ .‬لق د غاب ت ع ن اللع ب ﻷول م رة ﻷن ه‬
‫لم يعد في استطاعتها أن تبارح المنزل‪.‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أق ض مض جعي ه ذا الم رض‪ ،‬ﻷن الن اس ك انوا يتهامس ون حول ه‪ ،‬ويكث رون م ن‬
‫التأس ف‪ .‬وج اء الطبي ب‪ ،‬وه و رج ل ل ن أنس اه أب دا‪ ،‬فق د ك ان مهيب ا وق ورا يقب ل إل ى‬
‫المن زل ف ي س يارته الس وداء الﻼمع ة وك ان ك ل م ن ي راه يحترم ه وﻻ يج رؤ أح د‬
‫عل ى رف ع الص وت ف ي حض رته‪ .‬والواق ع أن منظ ره ك ان يف رض اﻻحت رام عل ى‬
‫ك ل م ن ي راه‪ .‬وكث رت زي ارات ال دكتور وادل‪ ،‬وأخي را أعل ن أن ه ﻻ ب د م ن أن‬
‫تذهب إلى المستشفى لتجري لها عملية جراحية‪.‬‬

‫خ يم الص مت عل ى المن زل م ن جدي د‪ ،‬وأع اد ذل ك إل ى ذهن ي تل ك اﻷي ام الكئيب ة‬


‫الت ي مات ت فيه ا أم ي‪ .‬وأب ي وال دي أن يواف ق عل ى مث ل ه ذه العملي ة وطل ب م ن‬
‫ال دكتور وادل أن يج د طريق ة ﻹنقاذه ا دون إجرائه ا‪ ،‬وبك ت أم ي بك اء ح ارا‬
‫وخلوت أنا إلى نفسي فإذا بالحادث يتمثل لي في أبشع صورة‪.‬‬

‫لس ت أدري م ا ن وع الم رض ال ذي أص ابها‪ ،‬وﻻ أري د أن أع رف‪ ،‬وك ل م ا أدري‬


‫ه و أنه ا أص يبت بانتف اخ ف ي عنقه ا‪ ،‬وك ان انتفاخ ا بش عا‪ ،‬وم ع ذل ك كن ت أطي ل‬
‫النظ ر إليه ا ونفس ي تك اد ت ذوب حس رات عليه ا‪ .‬ول م أن س منظ ر أولئ ك اﻷص دقاء‬
‫حينم ا ك انوا يقبل ون إلين ا لعيادته ا‪ ،‬وك انوا يقبل ون ص امتين مهم ومين وي دخلون‬
‫إل ى المن زل ف ي ح زن وحي رة‪ ،‬ث م ي دخلون الغرف ة الت ي توج د فيه ا الطفل ة‬
‫المريض ة ش اردي اﻷبص ار‪ ،‬وه م يخط ون ف ي ب طء إل ى أق رب كرس ي أو مقع د‪،‬‬
‫ث م يس أل أح دهم‪ :‬كي ف حال ك ي ا طفل ة؟ فتجي بهم ه ي ف ي ثب ات ويقظ ة بأنه ا بخي ر‬
‫وأن م ا أص ابها ﻻ يلب ث أن ي زول‪ .‬ويتك رر ه ذا الس ؤال م ن زائ ر آخ ر وتتك رر‬
‫اﻹجاب ة وتب دو عل ى الوج وه مس حة غريب ة م ن الحي رة والعط ف والخ وف‪ ،‬ث م‬
‫يس ود الص مت‪ ،‬ويتب ادل اﻷطف ال نظ رات كله ا أل م وحس رة‪ ،‬ث م يس تأذنون ف ي‬
‫اﻻنص راف ويخرج ون وه م ي دعون ف ي س ريرتهم أن يش في ﷲ ص ديقتهم‬
‫الصغيرة‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأيقن ت بس بب ه ذا الج و ال ذي ب ات يح يط بن ا أن اﻷم ر ج د خطي ر‪ .‬وج ثم الخط ر‬


‫عل ى ص دري وانت ابتني ه واجس رهيب ة‪ ،‬وكن ت أش عر بفداح ة العج ز ع ن‬
‫التص رف ف ي مث ل ه ذا الموق ف وف ي نف س الوق ت أش عر ب أن هن اك واجب ا ملق ى‬
‫على عاتقي ﻻ أعرف ما هو‪ ،‬ولكنني أعرف أنني عاجز عن القيام به‪.‬‬

‫وأخي را أعل ن ال دكتور وادل أن ه ﻻ ب د م ن العملي ة الجراحي ة‪ ،‬وأن تأخيره ا ل يس‬


‫ف ي مص لحة المريض ة‪ .‬وح اول أب ي أن يق اوم لكن ه أفهم ه ف ي وق اره الص ارم ‪-‬‬
‫وكأن ه ي تكلم بلس ان الق در ‪ -‬أن نص يحته الت ي ﻻ يمل ك غيره ا ه ي أن يض حي‬
‫اﻷب بعواطف ه ف ي س بيل مص لحة ابنت ه‪ ،‬وأن الط ب تط ور تط ورا ل م يع د مع ه‬
‫خوف من العمليات الجراحية‪ ،‬وأنه مندهش لتردد أبي وهواجسه‪.‬‬

‫وذات ص باح رهي ب ف ي ج و يطف ح بال دموع والزف رات واﻷل م‪ ،‬نقل ت أخت ي إل ى‬
‫المستش فى وه ي ثابت ة ال وعي‪ ،‬وأق ل أف راد العائل ة جزع ا‪ .‬وم ا أزال أراه ا خارج ة‬
‫م ن المن زل لتواج ه الخط ر بجب ين مرتف ع‪ ،‬وخط وات ثابت ة‪ ،‬وه ي تؤك د ﻷمه ا أن‬
‫كل شيء سوف يتم على ما يرام‪.‬‬

‫خ ﻼ المن زل م ن البهج ة وم ن الحرك ة وم ن النش اط ليخلف ه ج و كل ه ص مت وتوق ع‪،‬‬


‫كم ا ل و كان ت أنفاس ه محبوس ة‪ ،‬وحواس ه مرهف ة لس ماع أخب ار الطفل ة الموج ودة‬
‫ف ي المستش فى‪ .‬خ ﻼ المن زل كم ا ل و ك ان ق د غ ادره س كانه جميع ا‪ ،‬وعشش ت في ه‬
‫الوحش ة واﻷح زان‪ ،‬وخصوص ا حينم ا رج ع أب ي وأعل ن لن ا أنن ا ل ن نس تطيع‬
‫رؤيتها إﻻّ مرة في اﻷسبوع‪ ،‬وأن العملية ستجري بعد بضعة أيام‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وانتظرن ا عل ى أح ر م ن الجم ر موع د الزي ارة‪ ،‬وأص بحت أن ام وح دي‪ ،‬ف ي‬


‫غرفتن ا‪ ،‬ولكنن ي ف ي الحقيق ة ل م أك ن وحي دا‪ .‬لق د كان ت ذكراه ا تم ﻸ الغرف ة‪،‬‬
‫وكان ت ص ورتها تت داعى ف ي مخيلت ي ف ي أوض اعها المختلف ة‪ ،‬وف ي ص مت اللي ل‬
‫وظﻼمه كانت أنفاسي تحتبس من فرط التأثر حتى ﻷكاد أختنق‪.‬‬

‫وأخي را ً ج اء موع د الزي ارة‪ ،‬وذهب ت م ع أب ي إل ى المستش فى‪ .‬ي ا للمك ان الرهي ب!‬
‫ف ي ه ذه الزاوي ة الهادئ ة م ن أط راف المدين ة‪ ،‬تق وم تل ك البناي ة الض خمة الغريب ة‪،‬‬
‫وإن منظره ا ليثي ر ف ي ال نفس معن ى كل ه إبه ام وغم وض‪ .‬ف ي ه ذه البناي ة أرواح‬
‫ف ي خط ر‪ .‬وأن اس مه ددون ب الموت ف ي ك ل ح ين‪ ،‬وق د ترك وا لمق اديرهم وأبع د‬
‫ع نهم الن اس ليلق وا مص يرهم وحي دين ف ي ه ذه الغ رف الهادئ ة الص امتة الت ي تطف ح‬
‫برائحة غريبة كأنها رائحة اﻷرواح التي احترقت هناك‪.‬‬

‫اش‪ ،‬وق د ك ادت‬ ‫دخلن ا الغرف ة فوج دنا أخت ي جالس ة ف ي الس رير تس تقبلنا بوج ه ب ّ‬
‫تبك ي م ن ش دة الف رح‪ .‬كان ت محاط ة بالرحم ة ول ذلك ل م تك ن منزعج ة‪ ،‬ولك ن‬
‫وح دتها ف ي ذل ك المك ان كب رت عليه ا‪ .‬وق د تح دثت إلين ا ف ي مث ل ذل ك ال وعي ال ذي‬
‫فارقتن ا ب ه ع ن وح دتها‪ ،‬وم ا تش عر ب ه‪ ،‬والمعامل ة الحس نة الت ي تعامله ا به ا‬
‫الممرض ات‪ .‬وانقض ى نص ف الس اعة ال ذي ك ان مخصص ا للزي ارة ف ي لم ح‬
‫البص ر‪ ،‬ونبهتن ا إح دى الممرض ات إل ى أن موع د ال ذهاب ق د أزف‪ .‬وهن اك س ادنا‬
‫الص مت‪ ،‬وب دأ اﻻنزع اج عل ى وج ه أخت ي‪ .‬ولم ا تحركن ا للقي ام خانه ا ثباته ا‬
‫ف انفجرت باكي ة‪ ،‬فل م يك ن ب د م ن إنه اء الموق ف ك يﻼ تس تمر ف ي تأثره ا‪ ،‬ول ذلك‬
‫انحن ى عليه ا أب ي وقبله ا فتعلق ت ب ه ترج وه أﻻّ يفارقه ا‪ ،‬فعانقه ا وه و يطمئنه ا‬
‫بص وت مختن ق‪ ،‬ويؤك د له ا أن ه س وف يب ذل مجه ودا للحص ول عل ى إذن بزيارته ا‬
‫ك ل ي وم‪ .‬ث م خل ص نفس ه م ن ب ين ذراعيه ا ف ي رف ق‪ ،‬وأس رع نح و الب اب‪ .‬وكن ت‬
‫أن ا أبك ي بك ا ًء م ّرا ف ي أثن اء ذل ك‪ ،‬فس حبني م ن ي دي‪ ،‬وخرج ت مع ه دام ع المقلت ين‬
‫وأنا أشير لها بيدي اﻷخرى مودعا‪.‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫م رت اﻷي ام بطيئ ة متثاقل ة إل ى أن ج اء موع د العملي ة‪ ،‬وت أخر أب ي ع ن الع ودة إل ى‬


‫منتص ف اللي ل‪ ،‬وجلس نا ننتظ ره وق د خ ﻼ ك ل واح د بهواجس ه ف ي ص مت‪ .‬وام تﻸ‬
‫المن زل بفتي ات آل ب اترنوس وبع ض الص ديقات المراكش يات وه ن يواس ين أم ي‬
‫ويبعثنه ا عل ى اﻻطمئن ان‪ ،‬وك ررن الك ﻼم ال ذي قلن ه وط ال الوق ت‪ ،‬وب دا الص مت‬
‫يس ود الجمي ع‪ ،‬وتعلق ت اﻷنف اس‪ ،‬وتطل ع الجمي ع إل ى ي د الق در الت ي توش ك أن‬
‫تط رق الب اب‪ ،‬لتحم ل الخب ر عل ى لس ان أب ي‪ .‬وط رق الب اب‪ ،‬فقف زت أم ي بأس رع‬
‫م ا تس تطيع إلي ه‪ ،‬وتبعته ا النس اء ف دخل أب ي وه و مب تهج الوج ه ل يعلن أن العملي ة‬
‫قد نجحت‪ ،‬وأن أختي بخير‪.‬‬

‫وهك ذا انته ت تل ك اﻷزم ة الت ي خيم ت عل ى المن زل أكث ر م ن ش هرين‪ ،‬وع ادت‬
‫أخت ي إلي ه بع د نح و أس بوعين‪ ،‬ولكنه ا ع ادت شخص ا آخ ر‪ ،‬ض عيفة البني ة‪ ،‬ش احبة‬
‫الوج ه‪ ،‬يثي ر منظره ا الرأف ة ف ي أقس ى القل وب‪ .‬بي د أن ش يئا واح دا ل م يفارقه ا ه و‬
‫ثباته ا وإيمانه ا ودق ة مﻼحظته ا‪ ،‬باﻹض افة إل ى لمع ان ل م يفارقه ا أب دا ب الرغم م ن‬
‫كل ما أصابها‪ ،‬وكان ما يزال يشع بقوة في فكرها وعينيها‪.‬‬

‫واس تقبلها الن اس ي وم ع ادت ف ي بش ر وحب ور‪ ،‬ولك ن شخص ا واح دا ظ ل مض طربا‬
‫ه و أن ا‪ ،‬ذل ك أنن ي ش عرت ف ي غم وض من ذ أن وق ع نظ ري عليه ا للم رة اﻷول ى أن‬
‫أخت ي الت ي ذهب ت إل ى المستش فى ظل ت هن اك إل ى اﻷب د‪ ،‬أم ا ه ذا ال ذي احتفلن ا‬
‫بعودته فليس سوى شبحها‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫وانطل ق بن ا القط ار ينه ب قض بان الحدي د‪ ،‬وه و يزف ر ويص رخ‪ ،‬كم ا ل و ك ان ق د‬
‫انش رح ﻷن ه أس رنا‪ .‬كن ت جالس ا إل ى جان ب وال دي وإل ى جان ب أح د أقرب ائي وه و‬
‫ش اب ف ي نح و العش رين م ن عم ره‪ ،‬ع اش م دة طويل ة ف ي منشس تر‪ .‬وك ان وج ه‬
‫‪- 76 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أب ي منش رحا أم ا وج ه الش اب فك ان مغتم ا‪ ،‬وكان ت عين اه تق دحان بم زيج م ن‬


‫الح زن والغض ب‪ ،‬وأم ا أن ا فكن ت خائف ا‪ ،‬إذ ل م أك ن أعل م ف يم ه ذا الس فر وﻻ المك ان‬
‫ال ذي نقص ده‪ ،‬فق د حرص ت أم ي عل ى أﻻّ تخبرن ي‪ ،‬ولك ن أخت ي من ذ ي وم واح د‬
‫فقط قالت لي‪ :‬إن أبي سوف يأخذني وحدي إلى مراكش‪ ،‬تلك البﻼد البعيدة‪.‬‬

‫ك ان ذك ر م راكش يثي ر ف ي ذهن ي ص ورا متع ددة م ن الخراف ات الت ي كن ت‬


‫أس معها‪ .‬لق د اختلط ت ف ي فك ري ب بﻼد الزن وج‪ ،‬ال بﻼد الت ي تس كنها المخلوق ات‬
‫الش اذة ف ي ك ل ش يء‪ ،‬ف ي حجمه ا ولونه ا واﻷعم ال الت ي تأتيه ا‪ .‬ول م أص دق أخت ي‬
‫ي بالنب أ الم روع‬
‫ب الطبع‪ ،‬إذ ل م تق ل ل ي ذل ك عل ى أنه ا مؤمن ة ب ه‪ ،‬ولكنه ا ألق ت إل ّ‬
‫عل ى أنه ا فهمت ه فحس ب‪ .‬فق د قلق ت إذ ل م أك ن أتتب ع أنب اء ال بﻼد م ن أم ي وح دها‪،‬‬
‫ولكنن ي كن ت أس معها ف ي المدرس ة أيض ا ً‪ .‬وكان ت أخباره ا مثي رة حق ا‪ ،‬يل ذ‬
‫لﻸطفال أن يسمعوها‪ ،‬ولكن لم يكن مما يرضيهم أن يشدوا الرحال إليهم‪.‬‬

‫ل م أس تطع أن أص دق أنن ا ذاهب ون إل ى م راكش‪ ،‬ه ذه ال بﻼد الت ي طالم ا روت ل ي‬


‫أم ي أعاجيبه ا‪ .‬ولك ن ك ل ش يء ك ان ي دل عل ى أن أخت ي ص دقت ف ي حدس ها‪ ،‬فق د‬
‫قال ت إنن ا سنس افر بع د ي وم واح د فس افرنا بع د ي وم واح د‪ ،‬وقال ت إنن ي س وف‬
‫أس افر م ع أب ي وح ده وه ذا م ا حص ل بالفع ل‪ ،‬وهك ذا ب دأ ي داعبني اﻹيم ان بص حة‬
‫تبينها‪.‬‬

‫ونظ رت إل ى قريب ي الش اب فوجدت ه يق ف ويتح دث به ذه اللغ ة الت ي يقول ون عنه ا‬


‫إنه ا اللغ ة العربي ة‪ .‬وب الرغم م ن أنن ي ل م أك ن أفه م م ا يق ول‪ ،‬فإن ه ك ان ف ي‬
‫اس تطاعتي أن أدرك أن ه غاض ب ث ائر عل ى ه ذه الرحل ة الت ي حم ل عليه ا حم ﻼً‪،‬‬
‫وأدهش ني أن أرى أب ي ي رد عل ى ه ذا الغض ب وعل ى ه ذه الث ورة بض حكات‬
‫طويل ة تعب ر ع ن اﻻس تهانة والس رور‪ .‬فك ان الش اب يق وم ويجل س ف ي دي وان‬

‫‪- 77 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫القط ار‪ ،‬ث م يض ع رأس ه ب ين يدي ه ف ي ح زن عمي ق‪ ،‬ولك ن أدهش ني أن أرى أب ي‬


‫مستمرا في ضحكه الذي لم يكن يخلو من عبث لم أفهمه‪.‬‬

‫ك ل ذل ك والقط ار يل تهم الطري ق ف ي نه م كم ا ل و ك ان ق د أص ابه جن ون‪ .‬وب الرغم‬


‫م ن أنن ي كن ت أﻻح ظ م ا ي دور ب ين أب ي وقريب ي‪ ،‬كن ت ف ي نف س الوق ت منص رفا‬
‫إل ى التفكي ر ف ي الغاي ة م ن ه ذا الس فر‪ ،‬فق د كن ت أتص ور أن تحقيقه ا س وف يكلفن ا‬
‫المخ اطر‪ .‬ل م أع د ذل ك التلمي ذ المنس ي ف ي م ؤخرة الفص ل‪ ،‬وإنم ا أص بحت فت ى‬
‫نه ض م ع وال ده ليق تحم قل ب إفريقي ا ب ﻼد اﻷس اطير‪ .‬وه ذا م ا أط ار ص وابي‪ ،‬ولق د‬
‫زاد ف ي قلق ي غض ب الش اب وثورت ه‪ ،‬فق د عرف ت أن ه م ن ه ذه ال بﻼد الت ي ننتس ب‬
‫إليه ا جميع ا‪ ،‬ولكنن ي أع رف أن ه ل م يع د ينتم ي إليه ا ﻷن ه ل م يك ن هن اك م ا ي دل‬
‫عل ى ذل ك ف ي الحي اة الت ي يحياه ا‪ ،‬فه و يع يش ب ين اﻹنكلي ز كأن ه واح د م نهم‪ ،‬وه ذا‬
‫ما لم أﻻحظه في المراكشيين اﻵخرين‪.‬‬

‫وإذن فأن ا عل ى ص واب‪ ،‬وإذن فه ذا الش اب عل ى ص واب‪ ،‬إنن ا ف ي الطري ق إل ى‬


‫ب ﻼد مرعب ة مخيف ة اعتاده ا أب ي وعرفه ا‪ ،‬ول ذلك فس وف ﻻ يص يبه مك روه‪ .‬أم ا‬
‫نح ن اﻷجان ب عنه ا ‪ -‬أن ا وه ذا الش اب ‪ -‬فس وف نقاس ي منه ا ال ويﻼت ب دليل ه ذا‬
‫الغضب وهذه الثورة‪.‬‬

‫ولكنن ي اس تقررت ف ي آخ ر اﻷم ر عل ى أن المقاوم ة عب ث ف ي مواجه ة م ا ﻻ ب د‬


‫م ن مواجهت ه‪ .‬استس لمت للمق ادير وتركته ا تج ري كم ا تش اء دون أن أح اول أن‬
‫أكفكف من دموعي‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ولس ت أدري ه ل ك ان ذل ك ف ي ه ذا المس اء أو ف ي مس اء الي وم الت الي‪ ،‬وكن ت ق د‬


‫هي أت نفس ي لقب ول المفاج آت ولكنه ا ل م تتحم ل م ا أرى‪ .‬ه ذا جب ل م ن ن ور ف ي‬
‫ع رض البح ر ي تﻸﻷ ف ي كب د اللي ل تﻸل ؤا أع اد إل ى ذهن ي ذك رى مدين ة المﻼه ي‬
‫)ب ﻼك ب ول(‪ ،‬ولك ن ه ذا التﻸل ؤ يمت از بالض خامة والجب روت‪ .‬وإذن ف نحن عل ى‬
‫ح دود ب ﻼد اﻷس اطير‪ ،‬وه ذا جب ل م ن ن ور س وف نخترق ه ونح ن ف ي س بيلنا إليه ا‪،‬‬
‫وهن ا ل م أط ق ص برا فرفع ت ص وتي بالعوي ل‪ ،‬وح اول أب ي عبث ا أن يه دئ م ن‬
‫روع ي‪ ،‬فق د تحمل ت أعص ابي ف وق م ا تس تطيع ف ي ه ذين الي ومين‪ .‬وركبن ا زورق ا‬
‫‪ -‬وأن ا أص رخ إل ى جب ل الن ور‪ ،‬وص عدنا س ﻼلم واخترقن ا ه ذه اﻷض واء‪ ،‬ودخلن ا‬
‫غرفة صغيرة‪ ،‬كل ذلك وأنا أصرخ‪.‬‬

‫ل م يك ن جب ل الن ور س وى الب اخرة ف ي اللي ل‪ ،‬فق د اس تيقظت ف ي الص باح وأن ا‬


‫مرع وب‪ ،‬وخرج ت م ن الغرف ة م ع أب ي وقريب ي‪ ،‬وي ا لروع ة م ا رأي ت! حقّ ا لق د‬
‫دخلن ا ف ي ح دود مملك ة اﻷس اطير واﻷوه ام‪ ،‬مي اه تمت د ف ي ك ل اتج اه ﻻ تح دها‬
‫ي أنن ي‬ ‫س وى زرق ة الس ماء الشاس عة المترامي ة‪ .‬زرق ة ف ي زرق ة‪ ،‬فك ان يخي ل إل ّ‬
‫أس مع ش يئا عرف ت فيم ا بع د أن ه الموس يقى الت ي تعزفه ا الطبيع ة كلم ا اختل ت إل ى‬
‫نفس ها ف ي ع رض البح ر‪ ،‬وف ي أعم اق الغاب ات‪ ،‬أو ب ين ال تﻼل البعي دة‪ ،‬فه دأ ذل ك‬
‫م ن روع ي‪ .‬دخلن ا منطق ة اﻷس اطير ف إذا ك ل ش يء ‪ -‬عل ى عك س م ا كن ت أتوق ع ‪-‬‬
‫مس تحب رائ ع‪ ،‬وإذن فق د ك ان تخ وفي ف ي غي ر محل ه‪ .‬اخترقن ا ح دودا ي دل ك ل‬
‫شيء إلى اﻵن على أن ما وراءها ممتع وجميل‪.‬‬

‫وآن ميع اد تن اول وجب ة اﻹفط ار‪ ،‬فرأي ت رج ﻼً ف ي ثي اب البح ارة الت ي راقتن ي‬
‫ي‪ ،‬ويطل ب من ي أن أتفض ل إل ى الغرف ة الت ي يتن اول فيه ا اﻷطف ال وح دهم‬
‫يتق دم إل ّ‬
‫وجباتهم‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأمرن ي أب ي أن أتبع ه فتبعت ه‪ ،‬فق د استس لمت للمق ادير‪ ،‬وب دا ل ي أن ﻻ ب أس م ن‬


‫اﻻستس ﻼم له ا‪ .‬ودخل ت خل ف البح ار غرف ة امت دت فيه ا مائ دة طويل ة ض ج حوله ا‬
‫اﻷطف ال‪ ،‬فأخ ذت مك اني بي نهم وراقن ي أن أوج د ف ي مملك ة ك ل م ا فيه ا م ن‬
‫ي‬
‫ي رج ل مدي د القام ة وانحن ى عل ّ‬‫أقران ي‪ .‬وك ان زه وي عظيم ا حينم ا أقب ل إل ّ‬
‫يسألني عن أصناف الطعام التي أريد أن أتناولها في وجبة اﻹفطار‪.‬‬

‫ورجع ت ببص ري إل ى ال وراء ف انتهى ب ي التفكي ر بس رعة إل ى أن أح ب ش يء ل دي‬


‫ه و الب يض‪ ،‬وه و م ا ك ان يحظ ر عل ى أن أتن اول من ه أكث ر م ن بيض ة واح دة فق ط‪،‬‬
‫فقلت وعلى صوتي مسحة من التعالي‪:‬‬

‫"البيض!"‬

‫فقال الرجل الذي كان يبدو لي أطول مما هو في الواقع‪:‬‬

‫وكم بيضة؟‬

‫ي س وى أن أطل ب‬‫ولم ا كن ت ق د استأنس ت إل ى أن ه ط وع أم ري‪ ،‬وإل ى أن ه ل يس عل ّ‬


‫وعلي ه أن يطي ع‪ ،‬فق د خط ر بب الي أن أطل ب عش ر بيض ات أو عش رين‪ ،‬ولك ن خي ل‬
‫ي أن ف ي ه ذين ال رقمين كثي را م ن المبالغ ة‪ ،‬وأخي را اس تقر رأي ي عل ى أن أطل ب‬‫إل ّ‬
‫أربعًا‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وف ي لم ح البص ر وض عت أم امي أرب ع بيض ات تت راقص ف ي الس من كأنه ا أربع ة‬


‫من النجوم فالتهمتها التهاما وأنا راض عن نفسي وعن الحياة‪.‬‬

‫ودق ج رس عن د انته اء اﻹفط ار‪ ،‬فرأي ت اﻷطف ال يقف ون فوقف ت‪ ،‬ونظ رت يمين ا‬
‫وش ماﻻً فرأي ت وجوه ا ص غيرة تبتس م ل ي فل م يك ن ل ي ب ّد م ن أن أر ّد عليه ا‬
‫اﻻبتس ام‪ ،‬وس رنا إل ى غرف ة اﻷلع اب‪ ،‬وأي غرف ة! مملك ة م ن الممال ك ازده رت‬
‫بحض ارة م ن اللع ب ﻻ يمك ن وص فها‪ .‬ول م تم ر س وى لحظ ة ص غيرة حت ى اخ تلط‬
‫الق افزون ب الﻼعبين‪ ،‬والض احكون بالص ارخين‪ ،‬والمش دوهون ب المعجبين‪ ،‬فل م‬
‫يك ن ل ي ب ّد م ن أن أخ تلط به م اختﻼط ا أنس اني ك ل هم ومي وأن ا أخت رق ف ي ه ذه‬
‫الب اخرة العتي دة ع رض البح ار‪ ،‬ول م يع د يهمن ي المص ير ال ذي س وف تنته ي إلي ه‬
‫الرحلة‪.‬‬

‫وهك ذا نس يت الش اب القري ب واس تغربت ﻻكتئاب ه ف ي ع الم الم اء ه ذا الﻼع ب‬


‫الض احك المفت ون‪ ،‬ولكنن ي ل م أه تم ل ه بع د ذل ك‪ .‬وق د عرف ت فيم ا بع د أن س ّر غ ّم ه‬
‫ك ان يرج ع إل ى أن وال ده ق د أرس له معن ا إل ى م راكش ليت زوج‪ ،‬وك ان ه و يري د أن‬
‫يت زوج فت اة إنكليزي ة ﻻ فت اة م ن ه ذه ال بﻼد الت ي ل م يع د ينتم ي إليه ا بس بب م ن‬
‫اﻷسباب‪.‬‬

‫ولس ت أدري أي ن انته ت ه ذه الرحل ة‪ :‬ه ل انته ت ف ي جب ل ط ارق أو ف ي الجزائ ر؟‬


‫ولكنن ي ﻻ زل ت أذك ر أنن ي نزل ت إل ى الب ر م ن ه ذه الب اخرة الت ي أذكره ا بك ل‬
‫خي ر‪ ،‬وأن ا أس بل م ن دم وع الحن ين إل ى ذكرياته ا القريب ة م ا ي وازي ال دموع الت ي‬
‫أسبلتها خوفا َ منها وأنا أصعد إليها‪.‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأذك ر أنن ا ركبن ا ب اخرة أخ رى لم دة قص يرة ﻻ تتج اوز الي وم الواح د‪ ،‬كان ت خالي ة‬
‫م ن ك ل المت ع الت ي عرفته ا ف ي الب اخرة اﻷول ى‪ ،‬فرغب ت ع ن الحي اة فيه ا‪ ،‬وب دأت‬
‫ي م رة أخ رى‪ ،‬خصوص ا بع د أن وص لنا إل ى ال دار البيض اء ‪-‬‬ ‫مخ اوفي تع ود إل ّ‬
‫ول م أك ن أع رف أنه ا كان ت مس قط رأس ي من ذ بض ع س نوات‪ ،‬وم ن ي دري؟ فق د‬
‫أك ون ش عرت بأنه ا ليس ت غريب ة عن ي‪ ،‬ولكنن ي ب الرغم م ن ذل ك أحسس ت ب أنني‬
‫بدأت أخترق الحدود المهمة من عالم اﻷساطير‪.‬‬

‫ول م أك ن أع رف يومئ ذ مق ادير الش عوب وتقلب ات اﻷي ام‪ ،‬ولك ن راعن ي أن أرى‬
‫بش را غي ر البش ر ووجوه ا غي ر الوج وه‪ .‬لس ت أع رف اﻵن م ا فع ل ﷲ به ذه‬
‫المدين ة‪ ،‬ولكنن ي أذك ر أنن ي رأي ت فيه ا وجوه ا ارتس م عليه ا ح زن ﻻ يمك ن أن‬
‫يغي ب حت ى ع ن اﻷطف ال‪ .‬ح زن م روع يعب ر أص دق التعبي ر عم ا يعاني ه أص حابها‬
‫بع د مج د الماض ي ال ذاهب م ن ب ؤس مق يم‪ ،‬فأص ابني ن وع م ن ال ذهول‪ .‬لق د ب دأ‬
‫اﻷم ر يع ود إل ى طبيع ة الج د والص رامة‪ ،‬ه ذه الوج وه الكالح ة والثي اب الممزق ة‪،‬‬
‫واﻷجس ام العاري ة‪ ،‬ﻻ ب د أنه ا تنتس ب إل ى فص يلة أخ رى م ن البش رية غي ر الت ي‬
‫أعرفه ا‪ ....‬وق د دخل ت ف ي ع الم المفاج آت حقّ ا‪ ...‬فم ا ل ي أرى قوم ا آخ رين عل ى‬
‫بع د خط وات م ن ه ؤﻻء البؤس اء يعيش ون نف س الحي اة الت ي كن ت أعرفه ا فيم ا‬
‫مضى‪ .‬ولكن أليست هذه بﻼد اﻷساطير؟‬

‫وش يء آخ ر اس تثار خي الي‪ ،‬ذل ك أن ه ل م يك ن يخط ر عل ى ب الي أن هن اك رج ﻼً آخ ر‬


‫يش به أب ي إل ى ه ذا الح د‪ ،‬ولك ن ه ذا م ا ح دث‪ .‬نقل ت بص ري م ن اليم ين إل ى اليس ار‬
‫وم ن اليس ار إل ى اليم ين ف إذا الشخص ان ش خص واح د‪ ،‬ه ذا الرج ل ال ذي طالم ا‬
‫أحببته يوجد رجل آخر يشبهه هو أخوه‪.‬‬

‫ورفعن ي الرج ل وقبلن ي وق ال ل ي بلغ ة إنكليزي ة ركيك ة وه و يض حك‪" :‬أو ت تكلم‬


‫اﻹنكليزي ة؟" ق ال ل ي ذل ك كم ا ل و ك ان ق د ض بطني متلبس ا بجريم ة فخجل ت‪ ،‬ولك ن‬
‫خجلي ضاع في ضحكاته المتواصلة وهو يداعبني‪.‬‬
‫‪- 82 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ي‪:‬‬
‫قال وهو يضاحك أبي دون أن يمنعه ذلك من توجيه الكﻼم إل ّ‬

‫تع ال‪ ،‬تع ال ﻻ ض رورة ﻹض اعة الوق ت هن ا ف ي ه ذه المدين ة الخرب ة‪ .‬هي ا إل ى‬


‫القط ار ﻵخ ذك إل ى ف اس‪ ،‬حي ث تج د ج دك وج دتك‪ ،‬وحي ث تتع رف إل ى الحي اة كم ا‬
‫ينبغ ي أن تك ون‪ .‬ي ا ل ك م ن طف ل هذبت ه المدني ة الغربي ة! هي ا هي ا‪ ،‬س وف أعلم ك‬
‫أن ه ؤﻻء الفرنج ة ﻻ يعرف ون ش يئا ع ن الحي اة ف ي أبه ى ص ورها‪ ،‬ص ورها‬
‫البراق ة الممتع ة‪ ،‬هي ا إل ى ف اس أرض آبائ ك وأج دادك‪ ،‬حي ث أق دمك إل ى الحي اة‬
‫التي ﻻ شك في أن هؤﻻء الفرنجة أفسدوا رأيك عنها‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫رح م ﷲ تل ك اﻷي ام‪ ،‬فلق د كان ت مفاجآته ا س ريعة متﻼحق ة‪ ،‬بحي ث ل م يع د ف ي‬


‫المس تطاع متابعته ا‪ .‬فلنتج اوز الس فر م ن ال دار البيض اء إل ى ف اس‪ ،‬ودعن ا ن دخل‬
‫س ريعا إل ى المدين ة لنخت رق ش وارعها الض يقة‪ ،‬الت ي كان ت أكب ر ه ذه المفاج آت‪.‬‬
‫أه ذه ه ي المدين ة الت ي ك ان عم ي يق ول من ذ ي وم واح د إنه ا تمث ل ال بﻼد عل ى‬
‫حقيقته ا؟ ﻻ ب د أن الن اس ﻻ يس تطيعون الس ير ف ي ش وارعها إﻻ وه م يتص ادمون‬
‫باﻷكت اف‪ .‬دخلن ا ف ي أثن اء اللي ل‪ ،‬فرأين ا مص ابيح الش وارع الباهت ة الحزين ة كم ا ل و‬
‫كان ت مص ابيح ترك ت ف ي مكانه ا بع د م أتم‪ ......‬أي مدين ة خرب ة ه ذه الت ي وص لنا‬
‫إليه ا؟! انته ت الش وارع ووص لنا إل ى المك ان المقص ود‪ ،‬واخترقن ا الب اب‪ ،‬ف إذا‬
‫ي ﻷول وهل ة أنن ي أعرفه ا‪.‬‬ ‫بوج وه عدي دة تس تقبلنا‪ ،‬وج وه نس اء ورج ال خي ل إل ّ‬

‫‪- 83 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫واخ تلط الحاب ل بالناب ل‪ ،‬واخ تلط المهنئ ون بالمس افرين‪ ،‬ف إذا ب ي أبح ث ع ن أب ي‬
‫فأج ده ض اع ب ين اﻷذرع‪ ،‬وأبح ث ع ن نفس ي فأج دها ض اعت ب ين اﻷذرع أيض ا‪.‬‬
‫ه ذا يرفعن ي إل ى الفض اء ف إذا اطمأنن ت إل ى اﻷرض رفعن ي آخ ر‪ .‬وهك ذا ص ار‬
‫الموك ب ف ي ممش ي طوي ل وك ل م ن ح ولي يقول ون‪ :‬دعن ا ننطل ق إل ى الج د والج دة‬
‫فقد برح بهما الجوى‪.‬‬

‫وب ين م ن رأي ت أطف ال ص غار‪ ،‬قي ل ل ي ه ذا اب ن عم ك واب ن عمت ك‪ ،‬إل ى أن‬


‫وص لت إل ى أح دهم فقي ل ل ي‪ :‬ه ذا أخ وك‪ .‬ث م قي ل ل ي‪ :‬ه ذه أخت ك؛ فه ل ف تح ل ي‬
‫ص احب حق ل الكرم ب حقل ه عل ى مص راعيه أقتط ف من ه م ا أش اء؟ أخ ي؟ أخت ي؟‬
‫ي أن أب ي يراض يني وه و يق ول ل ي ذل ك‪ ،‬ولك ن ه ذا الص بي وه ذه‬ ‫لق د ك ان يخي ل إل ّ‬
‫الص بية أخ ي وأخت ي‪ ،‬أج دهما أم امي حقيقت ين تتحرك ان وتس عيان‪ .‬ووض عت ي دي‬
‫ف ي ي د أخ ي ال ذي ﻻ أعرف ه‪ ،‬وف ي ي د أخت ي الت ي ﻻ أعرفه ا‪ ،‬فش ع ف ي نظرهم ا‬
‫ي أنه شع في نظري أنا أيضا‪.‬‬ ‫بريق غريب خيل إل ّ‬

‫ث م فج أة س اد الجمي ع ص مت غري ب‪ ،‬ورأيتن ي أدل ف بخط ى وئي دة إل ى ه ذا الش يخ‬


‫الق ابع ف ي زاوي ة الغرف ة الكبي رة‪ ،‬واقت رب من ي أب ي ليش جعني ويق ول‪" :‬هي ا ي ا‬
‫فتى! هذا ج ّدك فضع يدك في يده‪".‬‬

‫ش عرت ﻷول م رة بالغبط ة ﻷن ل ي ج دا‪ ،‬ث م ازدادت ه ذه الغبط ة حينم ا رفع ت‬


‫ي بعيني ه ال ذابلتين‪ ،‬كأن ه يري د‬
‫نظ ري إلي ه‪ ،‬ك ان يبتس م ف ي س خرية وه و يتطل ع إل ّ‬
‫أن يق ول‪ :‬ي ا لتقلب ات اﻷي ام! لق د جعل وا من ك إفرنجي ا ي ا ص غيري‪ ،‬ولك ن ﻻ ب أس‪،‬‬
‫اقترب‪ ،‬فسوف أعلمك كيف تكون مراكشيا‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وهمس أبي‪ :‬قبل يده يا فتى‪ ،‬قبل يده‪ ،‬فهذا ج ّدك‪.‬‬

‫فاقترب ت من ه ف ي ذع ر وق د نس يت ك ل م ن ح ولي وم ا ح ولي‪ ،‬ولثم ت بش فتين‬


‫مرتعش تين ي دا مغض نة‪ ،‬فأخ ذني الش يخ م ن ي دي وه و يقربن ي إلي ه ق ائﻼً‪ :‬وأخي را‬
‫ه ا أن ت ذا‪ ،‬اقت رب‪ ،‬اقت رب يج ب أن تخل ع ه ذه الثي اب الض يقة وتس تبدل به ا ثياب ا‬
‫فضفاضة واسعة‪ .‬هل أنت خائف مني؟! اقترب‪ ،‬اقترب‪.‬‬

‫كن ت أرتع ش كالريش ة ف ي مه ب الري اح‪ ،‬وأن ا أنظ ر إل ى ه ذا الرج ل الص ارخ‬
‫ال ذي قي ل إن ه ج دي أي أن ه وال د وال دي‪ .‬ه ذا ه و الرج ل ال ذي رب ى وال دي وعلم ه‪،‬‬
‫ي أن أب ي يح تفظ‬
‫ه ذا ه و الرج ل ال ذي أتس اوى أمام ه أن ا وأب ي‪ ،‬ولك ن خي ل إل ّ‬
‫بشيء من شخصيته ونحن أمامه‪ ،‬فاستغربت لهذا‪.‬‬

‫ك ان يب دو ل ي أن ج ّدي س وف يص يح ف ي وج ه ابن ه ال ذي ه و أب ي‪ :‬أي ن ت أخرت ك ل‬


‫ه ذا ال زمن الطوي ل؟ وف يم ك ان ت أخرك؟ لق د ك ان يج ب أن تك ون هن ا من ذ زم ن‬
‫بعيد‪ ،‬ولكنك تأخرت‪.‬‬

‫ول م يك ن م ن المس تبعد عن دي أن ي نهض ج دي مه ددا وأن يه رب أب ي خائف ا‪ ،‬ولك ن‬


‫شيئا من هذا لم يحدث‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وإذن ف إن العﻼق ة ب ين ج دي وأب ي ش يء آخ ر غي ر العﻼق ة بين ي وب ين أب ي‪ .‬ولك ن‬


‫بينم ا كان ت ه ذه اﻷفك ار الص بيانية تت داعى بس رعة ف ي فك ري ش ق الص فوف عم ي‬
‫الذي استقبلنا في الدار البيضاء وهو يصيح‪:‬‬

‫ه ذا ه و الفت ى ال ذي نش أ ف ي ب ﻼد اﻹنكلي ز‪ ،‬ألس ت ت رى ثياب ه؟ ألس ت تش عر بأن ه‬


‫ي‬
‫فت ى غري ب؟ فل م يج ب الش يخ ببن ت ش فة‪ ،‬وإنم ا اقتص ر عل ى نق ل نظ ره من ه إل ّ‬
‫ومنه إليه كأنه يسخر منا معا‪.‬‬

‫قال عمي‪ :‬هيا تحدث إلى جدك باﻹنكليزية‪.‬‬

‫ي أن م ن الواج ب‬
‫ولك ن ج دي ض حك ض حكة ممطوط ة اس تغربتها من ه‪ ،‬فخي ل إل ّ‬
‫ي ش عور مرع ب ه و أنن ي خلق ت ﻷك ون‬ ‫أن أرف ع ص وتي بالعوي ل‪ .‬واس تولى عل ّ‬
‫ي عل ى أنن ي غري ب‪،‬‬ ‫غريب ا! فف ي ال بﻼد الت ي أتين ا منه ا ك ان الن اس ينظ رون إل ّ‬
‫ي أيض ا عل ى أنن ي غري ب! ول ذلك‬
‫وف ي ال بﻼد الت ي يق ال إنن ي منه ا نظ ر الن اس إل ّ‬
‫فقد أصابني شعور يشبه الشعور باﻻضطهاد‪.‬‬

‫وص اح ج دي ف ي غم رة م ن الص مت‪ :‬غيّ روا ه ذه الثي اب! إنه ا ثي اب الكف رة‪ ،‬هي ا‬
‫ي وه و يض حك ليق ول‪:‬‬ ‫افعل وا ش يئا ﻷراه ف ي ثي اب المس لمين‪ .‬ث م أقب ل عل ّ‬
‫س أعلمك‪ ،‬س أعلمك ك ل ش يء أيه ا الص غير حت ى تص بح ج ديرا ب أن تنس ب إل ى‬
‫اﻹس ﻼم والمس لمين‪ .‬وك أن الكف ر يتمث ل ل ه ف ي الثي اب الت ي أرت ديها‪ ،‬وك أن اﻹيم ان‬
‫يتمثل له في الثياب التي أمر بأن أرتديها في صرامة ممزوجة باللين‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫بي د أنن ي ل م أك ن أه تم كثي را بفه م م ا ل م أفهم ه م ن ح ديث الش يخ‪ .‬ه ذه الوج وه! ه ذه‬
‫الوج وه قب ل ك ل ش يء‪ ،‬لق د ارتس مت عليه ا ألف ة محبب ة اس تطعت أن أس بر غوره ا‬
‫ﻷول نظ رة‪ .‬ش عرت ب أن الجمي ع ك ان يرث ي لح الي‪ ،‬ولكنن ي ف ي نف س الوق ت ‪-‬‬
‫ي أنه م ف ي أش د‬‫وه ذا غري ب ‪ -‬أش عر ب أنني كن ت أرث ي لح ال الجمي ع‪ .‬إذ خي ل إل ّ‬
‫الحاجة إلى شيء فقدوه‪ ،‬ﻻ أدري ما هو‪.‬‬

‫ﻻ أع رف م اذا حص ل بع د ذل ك‪ ،‬ولكنن ي أذك ر أن ص عوبة ش ديدة قام ت بين ي وب ين‬


‫ه ؤﻻء الن اس م ن حي ث التف اهم‪ .‬وأذك ر أنن ي أعجب ت بحي اتهم إعجاب ا ش ديدا كم ا‬
‫ل و كن ت ق د انتقل ت بلمس ة م ن س احر إل ى ع الم م ن الخي ال‪ .‬واس ترعى نظ ري كث رة‬
‫م ا يوج د ف ي ه ذه ال بﻼد م ن الثم ار المختلف ة اﻷل وان والطع وم‪ .‬وﻻ أك تم الق ول‬
‫ب أنني ب دأت أنظ ر إل ى اﻹنكلي ز بع د م دة قص يرة بش يء م ن اﻻس تخفاف‪ ،‬ﻷنه م ﻻ‬
‫ي بالض بط أنه ا‬ ‫يعرف ون كي ف ينتج ون مث ل ه ذه اﻷل وان م ن الثم ار‪ ،‬وخي ل إل ّ‬
‫مصنوعات محلية يجهل اﻹنكليز طريقة إنتاجها‪.‬‬

‫وبهرتن ي ال دور‪ ،‬ال دور المزخرف ة الواس عة اﻷرج اء‪ .‬وي ا لتفاه ة ه ؤﻻء اﻹنكلي ز‬
‫وتفاه ة ال دور الت ي يس كنونها! وبهرن ي الب ذخ‪ ،‬الب ذخ الممت ع الب راق‪ ،‬وي ا لتفاه ة م ا‬
‫يفهمه هؤﻻء اﻹنكليز عن الحياة وما فيها من روائع‪.‬‬

‫س حقيق ة وت زري بحي اة منشس تر‬


‫وهك ذا ب دأت حي اة جدي دة كله ا متع ة ترض ي الح ّ‬
‫الفاحم ة الس وداء‪ ...‬وق د قض يت ف ي ف اس س تة أس ابيع ﻻ أظ ن أن ف ي اس تطاعة أي‬
‫مدينة في العالم أن تقدم لي حياة شبيهة بها في الروعة‪.‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كن ت أس تمتع بك ل ش يء‪ ،‬بم ا يرتس م عل ى وج وه اﻷطف ال م ن غبط ة وس رور‬


‫وعزيم ة‪ ،‬وبم ا كن ت أج د ف ي اﻷس واق م ن ه ذه اﻷش ياء الرائع ة الهائل ة الت ي كان ت‬
‫تبعثن ي عل ى اﻻس تغراب‪ .‬ولق د طالم ا اس تمعت إل ى أقاص يص وال دتي وه ي‬
‫تح دثني ع ن م راكش‪ ،‬ول م يخط ر بب الي أن ف ي اس تطاعة الحق ائق أن تتح دى‬
‫اﻷحﻼم إﻻ حينما حللت في هذه البﻼد‪.‬‬

‫كن ت أحس ب حن ين وال دتي إل ى م راكش ض ربا م ن الحن ين إل ى مس قط ال رأس‪،‬‬


‫ولكنن ي وجدت ه ف ي محل ه‪ ،‬وم ا زل ت أش عر به ذا إل ى الي وم‪ ،‬ول ن أس تغرب إذا ح ل‬
‫بها غزاة وتمسكوا بها إلى اﻷبد إذا كان في استطاعتهم ذلك‪.‬‬

‫لق د طالم ا ارتس مت ف ي ذهن ي ص ور مض حكة ع ن ه ذه ال بﻼد‪ ،‬وذل ك بس بب الج و‬


‫ال ذي عش ت في ه‪ ،‬ولكنن ي حينم ا حلل ت به ا‪ ،‬حينم ا ذق ت مل ذاتها واس تمتعت بم ا‬
‫فيه ا م ن أطاي ب‪ ،‬حينئ ذ ب دا ل ي أن الع الم الح ي ه و م راكش‪ ،‬وأن م راكش ه ي‬
‫الع الم الح ي‪ .‬وأن ا أح ذرك م ن أن تحس بني مبالغ ا ف إن ف ي حس بانك ه ذا إض اعة‬
‫لروع ة م ا كن ت أح س ب ه‪ ،‬ذل ك أنن ي كن ت أش عر حقيق ة ب أن س كان ه ذه ال بﻼد ق د‬
‫أل م به م ط ائف م ن الب ؤس‪ ،‬ولكنن ي ﻻ أس تطيع م ع ذل ك أن أنك ر أن الص ور الت ي‬
‫بعث ت ف ي ذهن ي عنه ا ه ي نف س الص ور الت ي بعث ت ف ي ذهن ك ع ن الجن ة بع د ك ل‬
‫ما سمعت عنها‪.‬‬

‫ولس ت أعن ي بم راكش الوج وه البائس ة الت ي تقابله ا‪ ،‬وﻻ ه ذه العق ول الت ي تكم ن‬
‫وراء ه ذه الوج وه‪ ،‬ولكنن ي أعن ي م راكش الخال دة‪ ،‬ترب ة م راكش الخص بة‪،‬‬
‫وض ميرها ال واعي وعقله ا المفك ر‪ .‬لش د م ا أتمن ى اﻵن حفن ة م ن ترابه ا أستنش ق‬
‫منها العبير الزكي الفواح‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وم ا م ن ش ك ف ي أنن ي أس تعين بتج اربي ف ي الحي اة بع د ذل ك لتحدي د الص ور عل ى‬


‫الشكل الذي حددتها‪ ،‬ولكنني كنت أشعر بهذا كله شعورا مبهما‪.‬‬

‫وهك ذا قض يت س تة أس ابيع ل ن أنس اها م ا حيي ت ف ي ه ذه ال بﻼد الخال دة‪ .‬رجع ت‬


‫إل ى إنكلت را بع دها أحم ل له ا م ن الش وق والحن ين م ا ل م أحمل ه لل بﻼد الت ي عش ت‬
‫فيه ا من ذ ول دت‪ ،‬وق د ك ان عم ي ف ي توديعن ا كم ا ك ان ف ي اس تقبالنا ف ي مدين ة ال دار‬
‫البيضاء‪ ،‬وكان يلوح لي بيده وهو يقول‪:‬‬

‫س تعود أيه ا الص غير فأطلع ك عل ى م ا ل م ت تح ل ك الفرص ة لﻼط ﻼع علي ه م ن‬


‫ب ﻼدك ه ذه‪ .‬إن ك راج ع إل ى ب ﻼد اﻹنكلي ز ولك ن ه ذه ه ي ب ﻼدك‪ ،‬وس وف ترج ع‬
‫إلين ا م رة أخ رى لتع يش هن ا إل ى اﻷب د‪ .‬دعن ي أقبل ك قب ل أن تص عد إل ى الب اخرة‪،‬‬
‫ولك ن ت ذكر بع د ه ذا كل ه‪ ،‬ت ذكر دائم ا أن ه ذه ال بﻼد ه ي ب ﻼدك مهم ا ابتع دت عنه ا‬
‫وفرقت بينك وبينها الديار‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫رجعن ا إل ى منشس تر‪ ،‬واس تقبلتنا أم ي وأخت ي عن د عتب ة ب اب المن زل ومعهم ا آل‬
‫ب اترنوس وآخ رون‪ .‬وﻻحظ ت اﻻنش راح عل ى وج ه أم ي ووج ه أخت ي لعودتن ا‪،‬‬
‫ولكنن ي ﻻحظ ت ش يئا آخ ر عل ى أخت ي ه و ه ذا الش يء البغ يض ال ذي ب ات‬
‫يط العني ف ي وجهه ا من ذ عودته ا م ن المستش فى‪ ،‬ول ذلك ب ت أتﻼف ى النظ ر إلي ه‬
‫ي إشفاقا غريبا‪.‬‬
‫ﻷن هذه المسحة الكريهة التي علته كانت تفزعني وتبعث ف ّ‬

‫وم ا ك دت أطم ئن إل ى أن الجمي ع أخ ذ مكان ه م ن غرف ة اﻻس تقبال وانص رف إل ى‬


‫الح ديث م ع أب ي وأم ي حت ى تملكتن ي رغب ة ل م أس تطع مقاومته ا‪ ،‬فانس للت روي دا‬
‫رويدا من الغرفة وانطلقت أبحث عن دراجتي الصغيرة‪.‬‬

‫وج دتها قائم ة إل ى جان ب الح ائط وق د مال ت عجلته ا اﻷول ى نح وه وعﻼه ا الغب ار‪،‬‬
‫وه ي ف ي وض عية حزين ة كأنه ا تش كو إل ى أس فل الح ائط م ا أص ابها م ن غ بن ف ي‬
‫ه ذه اﻷي ام اﻷخي رة‪ ،‬فأقبل ت عليه ا أنف ض عنه ا الغب ار وأن ا أك اد أعانقه ا م ن ش دة‬
‫ي أن‬
‫الحن ين إليه ا‪ ،‬كم ا فعل ت ي وم ق دمت ل ي هدي ة ف ي عي د الم يﻼد‪ ،‬فخي ل إل ّ‬
‫الح زن يزايله ا قل يﻼً قل يﻼً‪ ،‬ول م تم ر س وى لحظ ات حت ى كن ت ق د ركبته ا وانطلق ت‬
‫عليها كالسهم في الشارع‪.‬‬

‫تملكن ي خ ﻼل ذل ك ش عور غري ب ‪ -‬وق د تملكن ي من ذ دخل ت المن زل ‪ -‬ذل ك أنن ي‬


‫كن ت أتأم ل الش ارع ف إذا ك ل ش يء في ه عل ى س ابق عه ده‪ :‬النواف ذ واﻷب واب‬
‫واﻷرص فة وأعم دة الن ور وك ل ش يء ف ي مكان ه الق ديم كم ا ك ان‪ .‬ولك ن ب الرغم م ن‬
‫أن الجزئي ات كان ت تام ة ف إن مظهره ا ق د تغي ر‪ .‬وه ذا م ا ﻻ أزال أﻻحظ ه كلم ا‬
‫غب ت ع ن مك ان ورجع ت إلي ه ‪ -‬ولع ل الن اس جميع ا يش عرون ب ذلك ‪ -‬وﻻ ب د م ن‬
‫م رور وق ت ك اف ﻷج ل أن يع ود ه ذا المظه ر الع ام إل ى س الف عه ده‪ .‬فه ل‬

‫‪- 90 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لﻸمكن ة كم ا لﻺنس ان نف وس‪ ،‬أم أن العي ون ﻻ ت درك اﻷش ياء عل ى حقيقته ا إﻻ بع د‬


‫أن يتكرر النظر إليها؟ سؤال ﻻ مجال للبحث عن الرد عليه هنا‪.‬‬

‫وبينم ا كن ت أس تغرب له ذا س معت ص فيرا ً ح ادا فالتف ّ‬


‫ت ف إذا بالص ديق ريج ي‬
‫واق ف عن د ب اب منزل ه يل وح ل ي بيدي ه وي دعوني‪ ،‬فخفف ت م ن الس رعة ث م عرج ت‬
‫عليه‪.‬‬

‫ق ال وأن ا أترج ل إل ى جانب ه‪ :‬مت ى رجع ت؟ لق د غب ت عن ا م دة طويل ة‪ .‬وبع د أن‬


‫ي يق ول‪ :‬لنجتم ع غ دا‬
‫تبادلن ا بع ض العب ارات فه م أن الرحل ة كان ت مهم ة فأقب ل عل ّ‬
‫ف ي الص باح ف ي الش ارع الخلف ي حي ث نس تطيع أن نتح دث ع ن رحلت ك وم ا رأي ت‬
‫فيها‪ :‬فوافقت‪ ،‬وافترقنا‪.‬‬

‫كن ا جالس ين ح ول مائ دة اﻹفط ار حينم ا انطل ق الص فير ف ي الش ارع الخلف ي ف احمر‬
‫وجه ي ﻷن تنادين ا بالص فير ك ان ﻻ يعج ب آباءن ا وأمهاتن ا‪ ،‬فق د ك انوا يعلم ون أن‬
‫ف ي ه ذا التن ادي م ا ي دعو إل ى الظ ن بأنن ا نفع ل ذل ك للقي ام بعم ل ﻻ يحبون ه‪.‬‬
‫ي أنهم ا ل م يس معا‪ ،‬ث م نظ رت إل ى أخت ي‬ ‫ونظ رت إل ى أب ي ث م إل ى أم ي فخي ل إل ّ‬
‫فأبص رت بري ق اﻹدراك ف ي عينيه ا‪ ،‬وق د كن ت قل ت له ا م ن قب ل إنن ا س وف نجتم ع‬
‫ف ي الش ارع الخلف ي ﻷحك ي لﻸص دقاء الص غار م ا رأي ت‪ .‬وب دأت أتح رك ﻷن زل‬
‫ي أب ي‬
‫م ن الكرس ي‪ ،‬ولك ن بينم ا كن ت أفع ل انطل ق الص فير م رة أخ رى‪ ،‬ونظ ر إل ّ‬
‫وق د ش ك ف ي العﻼق ة ب ين الص وت وحرك اتي‪ ،‬فقف زت ‪ -‬تﻼفي ا للح رج ‪ -‬إل ى‬
‫اﻷرض وانطلقت أعدو‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫فتح ت الب اب وخرج ت فوج دت جماع ة كبي رة م ن اﻷطف ال تط وع ريج ي‬


‫باس تدعائهم بالص فير ﻷج ل أن يس تمعوا إل ى القص ة الت ي س وف أرويه ا ع ن ه ذه‬
‫ال بﻼد البعي دة الت ي كن ت فيه ا‪ .‬جلس ت عل ى عتب ة الب اب العالي ة وجل س اﻷطف ال‬
‫ي نظ رات ﻻ تخل و م ن اﻹعج اب‬ ‫ح ولي يص يحون ويتس اءلون وينظ رون إل ّ‬
‫والتقدير‪.‬‬

‫قال ريجي‪ :‬ما اسم هذه البﻼد التي كنت فيها؟‬

‫قلت‪" :‬مراكش"‪.‬‬

‫قال‪ :‬هيا‪ ،‬ﻻ داعي ﻹضاعة الوقت‪ ،‬حدثنا عن مراكش‪.‬‬

‫قلت‪ :‬بﻼد جميلة شمسها ساطعة‪ ،‬ومناظرها بهيجة‪ ،‬ولكنها حافلة بالغرائب‪.‬‬

‫وم ا ك دت ألف ظ ه ذه العب ارة حت ى برق ت العي ون ومال ت اﻷعن اق ب الرؤوس‬


‫ي اﻷطفال‪.‬‬‫الصغيرة وتطلع إل ﱠ‬

‫هيا حدثنا عن الغرائب‪ ،‬حدثنا عن الغرائب!‬

‫فك رت قل يﻼً وأن ا أح اول عبث ا أن أج د مفتتح ا للح ديث‪ ،‬وأخي را أنق ذني أح دهم‬
‫حينم ا س ألني‪ :‬ه ل ي ذهب اﻷطف ال إل ى المدرس ة ف ي ه ذه ال بﻼد الت ي تق ول إن‬
‫اس مها م راكش؟ ‪ -‬آه المدرس ة‪ ،‬نع م ي ذهبون إل ى المدرس ة‪ ،‬ولك ن ه ل تعرف ون م ا‬
‫المدرس ة؟ غرف ة مظلم ة مفروش ة اﻷرض بم ا يش به الت بن‪ ،‬يجل س عليه ا اﻷطف ال‬
‫وأم امهم الم درس ف ي مك ان ع ال ب ارز يحم ل عص ا طويل ة ف ي ي ده‪ ،‬وه و يح ث‬
‫التﻼمي ذ‪ .‬ه ل تعرف ون ع ﻼم يح ثهم؟ عل ى إح داث الض جيج‪ ،‬عل ى رف ع الص وت‬
‫والصياح‪ ،‬وويل للتلميذ الذي يتوانى في إحداث الضجيج!‬
‫‪- 92 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬هل يتعلمون إحداث الضجيج؟‬

‫‪ -‬لس ت أدري‪ ،‬ﻻ ب د أن ه الض جيج‪ ،‬ف إن كب ارهم يبرهن ون دائم ا عل ى أنه م تلق وا‬
‫ف ي ص باهم دروس ا قيم ة وبليغ ة اﻷث ر ف ي ه ذا العل م‪ .‬دعن ا م ن ه ذا‪ ،‬ولنف رض أن‬
‫أح د التﻼمي ذ ارتك ب م ا يس تحق علي ه العق اب‪ ،‬ه ل تظن ون أن الم درس يطل ب إلي ه‬
‫أن يم د ي ده ليض ربه؟ ك ﻼ‪ .‬ب ل يوج د ف ي ك ل مدرس ة ع ادة تلمي ذ ق وي ﻻ يك اد‬
‫الم درس ينظ ر إلي ه نظ رة ذات مغ زى حت ى يخ ف الض جيج فج أة‪ ،‬وي نقض ذل ك‬
‫التلمي ذ الق وي عل ى الم ذنب ف ي لم ح البص ر‪ ،‬وبحرك ة واح دة رش يقة يطرح ه‬
‫أرض ا ويرف ع ب اطن رجلي ه إل ى الم درس‪ ،‬وهن ا ي نفخ ه ذا اﻷخي ر ف ي يدي ه وه و‬
‫يخت ار م ن ب ين العص ي الت ي يض عها إل ى جانب ه أمتنه ا ع ودا وأح ّدها وقع ا‪ ،‬ث م‬
‫يأخ ذها وه و يش مر ع ن س اعده اﻷيم ن‪ ،‬ث م يض رب به ا اله واء ف ي خب رة ‪ -‬كم ا‬
‫يفع ل الح وذي ‪ -‬وذل ك لك ي يتأك د م ن جودته ا‪ .‬وهن ا تب دأ عملي ة الض رب‪،‬‬
‫الض رب الش ديد المتواص ل فيتع الى ص وت المس كين بالص راخ‪ .‬ث م يه دأ الض رب‬
‫لينحن ي الم درس عل ى التلمي ذ يوبخ ه ويتوع ده‪ .‬ث م تب دأ العاص فة م رة أخ رى إل ى‬
‫أن يعج ز المض روب ع ن الص راخ وتنه ك ق واه‪ .‬وهن ا ي أمر الم درس ب أن يطل ق‬
‫س راحه وه و يض ربه ض ربة أو ض ربتين إض افيتين عل ى ي افوخ رأس ه‪ ،‬وق د ينبث ق‬
‫منه الدم‪ .‬فإذا انتهت الدروس الصاخبة خرج المضروبون يعرجون‪.‬‬

‫وهنا قال طفل صغير لم يستطع أن يكتم شعوره‪ :‬آه آه هذا مروع!‬

‫وقال آخر متسائﻼً‪ :‬أليست هذه بﻼدا غريبة؟!‬

‫فاس تأنفت‪ :‬تل ك ه ي الكلم ة‪ :‬ب ﻼد غريب ة‪ ،‬ك ل ش يء فيه ا غري ب‪ :‬أطفاله ا‪ ،‬نس اؤها‪،‬‬
‫رجاله ا‪ ،‬أكله ا‪ ،‬بيوته ا‪ ،‬ك ل ش يء! ه ل تعرف ون قص ة اﻷك ل هن اك؟ إن الن اس‬
‫ي أكلون وين امون ف ي غرف ة واح دة‪ ،‬ويجلس ون وين امون عل ى مخ دات كبي رة‪ .‬ف ي‬

‫‪- 93 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وق ت الن وم تنقل ب إل ى غرف ة الن وم‪ ،‬وف ي وق ت اﻹفط ار والغ داء والعش اء يقب ل‬
‫الخ دم بمائ دة قص يرة اﻷرج ل يض عونها عل ى اﻷرض ث م يض عون حوله ا‬
‫المخ دات‪ ،‬ث م تقب ل خ ادم ص غيرة وه ي تحم ل آني ة ص فراء ف ي ي د وف ي ي دها‬
‫اﻷخ رى إبري ق تط وف بهم ا عل ى الجل وس لغس ل الي دين ‪ -‬نح ن نس عى إل ى‬
‫الحنفي ات‪ ،‬أم ا ه م فتس عى الحنفي ات إل يهم ‪ -‬ث م يجل س الن اس ح ول المائ دة عل ى‬
‫المخ دات وﻻ يوض ع عليه ا إﻻّ طب ق واح د كبي ر وقط ع الخب ز‪ ،‬ث م ينك ب الجمي ع‬
‫على ذلك الطبق الواحد بأيديهم يلتهمون ما فيه‪.‬‬

‫ق ال أح د اﻷطف ال‪ :‬عرف ت تل ك ال بﻼد اﻵن‪ ،‬عرفته ا‪ ،‬لق د رأيته ا ف ي الس ينما‪ ،‬إنه ا‬
‫بﻼد الزنوج‪.‬‬

‫قل ت‪ :‬تعن ي ال بﻼد الت ي يس كنها الس ود؟ ك ﻼ فأه ل ه ذه ال بﻼد وإن ك انوا غرب اء ف ي‬
‫ك ل ش يء إﻻ أن بش رتهم بيض اء‪ ،‬وه م ف ي أش كالهم مثلن ا تمام ا‪ ،‬إنه م يزاول ون‬
‫جميع اﻷعمال التي نزاولها ولكن بطريقة غريبة‪.‬‬

‫وهن ا احت دم ن زاع علم ي ب ين اﻷطف ال‪ .‬فق د راح وا يختلف ون ح ول موق ع ه ذه ال بﻼد‪،‬‬
‫وك انوا يس تقون معلوم اتهم م ن الس ينما‪ ،‬فت رددت عل ى ألس نتهم ش عوب ه ي‪:‬‬
‫الغج ر‪ ،‬الهن ود الحم ر‪ ،‬اﻹس كيمو‪ ،‬الزن وج‪ ،‬ك ل واح د ي روي م ا رآه ف ي الس ينما‬
‫وي زعم أن ه يع رف ال بﻼد الت ي أتح دث عنه ا‪ .‬فوقف ت أنظ ر إل يهم وأن ا أنتظ ر أن‬
‫يصلوا في نزاعهم إلى قرار‪.‬‬

‫ي ف ي ص مت‪ ،‬وق د عل ت‬‫واس تطعت أن ألتف ت وأرى إل ى ج انبي أخت ي تتطل ع إل ّ‬


‫وجهه ا تل ك المس حة الغريب ة الت ي كن ت أكرهه ا‪ .‬ولعل ي ض قت ذرع ا بن زاع‬
‫اﻷطف ال‪ ،‬فق د تعلق ت نظ راتهم ب ي وه م يخش ون أن أنص رف دون أن أتم م له م‬
‫حديثي عن الغرائب التي رأيتها‪ .‬حينئذ جلست مرة أخرى‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ق ال طف ل‪ :‬هي ا ح دثنا ع ن الح رب‪ ،‬كي ف يتق اتلون؟ قل ت‪ :‬ه ذه ب ﻼد ل يس فيه ا ح رب‬
‫وﻻ قت ال‪ ،‬وﻻ أظ ن أن أهله ا يغ امرون‪ ،‬ف إنهم مس المون ينزع ون إل ى نعوم ة‬
‫الحي اة ورغ دها‪ ،‬وه ذا يكف ي ف ي الدﻻل ة عل ى أنه م ليس وا م ن الغج ر وﻻ اﻹس كيمو‬
‫وﻻ الهن ود وﻻ الزن وج‪ .‬إنه م ﻻ يعرف ون القت ال‪ ،‬ولك نهم يعرف ون اﻷف راح‪،‬‬
‫ويعرفون اﻷكل الجيد‪ ،‬ويولعون باﻷشياء البراقة‪.‬‬

‫حض رت حفل ة زواج حينم ا كن ا هن اك‪ ،‬وس وف أروي لك م م ا ش اهدته فيه ا حت ى ﻻ‬


‫تسيئوا بها الظن مرة أخرى‪.‬‬

‫ك ان المن زل واس عا ض خما مزخرف ا‪ ،‬ذا أعم دة كبي رة‪ ،‬تت راقص ف ي وس طه ن افورة‬
‫م ن الم اء الص افي‪ ،‬فرش ت أرض ه بتل ك المخ دات الكبي رة‪ ،‬وجل س عليه ا ف ي ش كل‬
‫دائ رة ج وق الموس يقى وق د ح ف ب ه الم دعوون‪ .‬وف ي ال دور الث اني يط ل عش رات‬
‫م ن النس اء يس تمعن إل ى الموس يقى الت ي ك ان يعزفه ا الج وق وه و يغن ي‪ .‬وك ان‬
‫الجمي ع يوقع ون بأي ديهم عل ى رك بهم وق د اش تد به م الت أثر‪ .‬وك ان الحﻼق ون‬
‫يطوف ون به م ‪ -‬نع م الحﻼق ون ف إنهم يقوم ون بالخدم ة ف ي اﻷف راح ﻻ ليحلق وا‬
‫ال رؤوس ولك ن ليوزع وا الش اي اﻷخض ر والحلوي ات ف ي أدوات م ن فض ة ‪ -‬وق د‬
‫س طع المن زل كل ه ب اﻷنوار وكث ر الض جيج وع ﻼ ص وت الموس يقى‪ ،‬وأقب ل ك ل‬
‫موس يقى بوجه ه عل ى وج ه الموس يقى ال ذي إل ى جانب ه‪ ،‬فأقب ل علي ه ه ذا أيض ا‬
‫ب نفس الحرك ة وغني ا مع ا وهم ا عل ى ه ذه الوض عية م دة قص يرة‪ ،‬ث م يفترق ان‬
‫وينصرف كل واحد إلى الموسيقى الذي على جانبه اﻵخر بنفس الحركة‪.‬‬

‫ث م تص ف الموائ د القص يرة اﻷرج ل وينقل ب المن زل كل ه إل ى قاع ة لﻸك ل ويقب ل‬


‫الخ دم بتل ك اﻷطب اق الكبي رة الم ﻸي بقط ع اللح م الكبي رة وال دجاج وص نوف غني ة‬
‫من اﻷطعمة‪.‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ك ل ذل ك ف ي منتص ف اللي ل‪ .‬وعن دما تنته ي ه ذه الحف ﻼت ف ي المن زل يجتم ع الن اس‬
‫ع رض الش ارع ويس يروا ف ي موك ب كبي ر ينش دون اﻷناش يد‬ ‫ليخرج وا إل ى ُ‬
‫بأص وات عالي ة ويض حكون ويمرح ون إل ى أن يص لوا إل ى من زل آخ ر‪ ،‬حي ث‬
‫يجتمع ون ح ول باب ه ويرفع ون اﻷص وات بك ﻼم إل ى س اكني ه ذا المن زل الجدي د‪.‬‬
‫وبع د م دة طويل ة‪ ،‬يف تح الب اب ويخ رج ف وج م ن النس اء فيح يط به ن المحتفل ون وق د‬
‫ازدادت أصواتهم ارتفاعا ثم يعود الموكب كله إلى المنزل اﻷول‪.‬‬

‫هك ذا ي أتون بالعروس ة إل ى من زل زوجه ا‪ .‬وهن ا ينص رف الرج ال وه م‬


‫يتص افحون ويتع انقون‪ ،‬ويُقف ل ب اب المن زل بإحك ام‪ .‬وعندئ ذ تن زل النس اء م ن‬
‫ال دور الث اني ﻻس تقبال العروس ة‪ ،‬ث م يحط ن به ا ويرفعنه ا ف ي الس ماء ويطف ن به ا‬
‫داخل المنزل وهي مغمضة العينين وقد أثقلت بالذهب والجواهر‪.‬‬

‫وف ي خ ﻼل ذل ك كل ه ترس ل النس اء ص راخا غريب ا متواص ﻼً يع ِبّ رن ب ه ع ن‬


‫اغتب اطهن بالحفل ة والعروس ة‪ ،‬ث م ينته ي ه ذا كل ه‪ ،‬فتق ف ام رأة ض خمة اﻷنح اء‬
‫إل ى جان ب العروس ة وه ي تس رد كﻼم ا ل م أك ن أفه م ل ه معن ى‪ ،‬ولك ن النس اء ك ن‬
‫يقبلن عليها وينفحنها النقود كلما انتهت من عبارة‪.‬‬

‫ويس تمر ه ذا كل ه إل ى الص باح‪ ،‬فينص رف الن اس إل ى الن وم‪ ،‬لتب دأ الحف ﻼت ف ي‬
‫الي وم الت الي‪ ،‬ﻻ لمناس بة جدي دة‪ ،‬ولك ن يوم ا واح دا ﻻ يكف ي للتعبي ر ع ن اﻻنش راح‬
‫في هذه البﻼد‪ ،‬بل ﻻ بد من ثﻼثة أيام أو سبعة‪.‬‬

‫وهن ا انطل ق ص وت ممط وط يص يح‪ :‬ريج ي! ريج ي! إنه ا والدت ه تنادي ه‪ ،‬فه ب‬
‫واقف ا وه و يق ول‪ :‬يج ب أن أذه ب‪ ،‬إن أم ي تن اديني‪ ،‬لق د نس يت أن أنف ذ م ا طلبت ه‬

‫‪- 96 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫من ي‪ ،‬ولك ن ﻻ تس تمر‪ ،‬أري د أن أس مع البقي ة‪ ...‬ه ل نجتم ع هن ا بع د الظه ر؟ قول وا‬
‫إنكم موافقون ﻷجل أن أنصرف‪.‬‬

‫ك ان يلق ي كلمات ه ف ي س رعة وه و يبتع د عن ا‪ ،‬ول ذلك ل م يس عنا إﻻ أن نوافق ه فق د‬


‫ك ان حرص ه ش ديدا‪ ،‬وك ان ه ذا اﻻجتم اع ف وق ذل ك ق د عق د بن اء عل ى دعوت ه ه و‬
‫دون بقية اﻷطفال‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫عق د اجتم اع آخ ر بع د الظه ر ف ي نف س المك ان م ن الش ارع الخلف ي‪ ،‬وأخ ذ ك ل طف ل‬


‫مكان ه ح ولي‪ ،‬فراقن ي أن يرتف ع مق امي هك ذا‪ ،‬وك ان ح ديث الص باح ق د أزال عق دة‬
‫لس اني فانطلق ت أتح دث م رة أخ رى ع ن مش اهداتي ف ي ب ﻼد الغرائ ب‪ ،‬واﻷطف ال‬
‫ينصتون في اهتمام‪.‬‬

‫قل ت لك م أيه ا اﻷص دقاء إن ال بﻼد الت ي كن ا نتح دث عنه ا ف ي الص باح ‪ -‬وأذك ركم‬
‫م رة أخ رى ب أن اس مها م راكش ‪ -‬ب ﻼد غريب ة‪ .‬ولس ت أح ب أن يتب ادر إل ى ذه ن‬
‫أح د م نكم أن أهله ا غرب اء ف ي أش كالهم‪ ،‬ك ﻼ ب ل ه م مثلن ا تمام ا كم ا قل ت لك م ف ي‬
‫الص باح‪ ،‬ول و نقل تهم جميع ا إل ى منشس تر ودفع تهم ف ي حياته ا لم ا ك ان ف ي‬
‫اس تطاعتنا أن نف رق بينن ا وبي نهم‪ ،‬وله ذا يج ب أن تنس وا الزن وج والهن ود الحم ر‬
‫واﻹسكيمو والغجر‪ ...‬وأنا أتحدث إليكم عن أمر هذه البﻼد‪ ،‬فهي شيء آخر‪.‬‬
‫‪- 97 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ق ال الطف ل الص غير ص احب الص وت ال دقيق ال ذي أث ار ه ذا الموض وع ف ي‬


‫الصباح‪ :‬أسمعنا الغرائب‪ ،‬نريد أن نسمع الغرائب‪.‬‬

‫قل ت‪ :‬حس ن‪ ،‬دعن ي أت ذكر‪ .‬إن الح ﱠم ام م ن ه ذه الغرائ ب‪ .‬ه ل تظن ون أن الن اس ف ي‬
‫م راكش ي دخلون عل ى انف راد إل ى الحم ام حينم ا يري دون أن يغتس لوا؟ ك ﻼ فل يس‬
‫الحم اﱠم غرف ة ض يقة به ا ح وض‪ ،‬وإنم ا ه و مك ان شاس ع يحت وي عل ى أبه اء دامس ة‬
‫ي دخل الن اس إليه ا زراف ات بع د أن يكون وا ق د نض وا ثي ابهم‪ ،‬وﻻ يوج د ب ه ح وض‪،‬‬
‫وإنم ا يق دم إليه ا الم اء ف ي ج رادل كبي رة مص نوعة م ن الخش ب‪ ،‬فيجلس ون بينه ا‪...‬‬
‫وه و مك ان ش ديد ال دفء يخن ق اﻷنف اس‪ .‬ف إذا دخل ت إلي ه رأي ت الن اس ف ي الض باب‬
‫وه م عراي ا ك أنهم أش باح هزيل ة مخيف ة‪ ،‬وه م ﻻ يقلع ون ع ن الك ﻼم حت ى ف ي‬
‫الحم ام ب ل ق د ينص رفون إل ى العب ث ورواي ة القص ص واﻷحادي ث ك أنهم ف ي‬
‫بيوتهم‪.‬‬

‫ك ل ش يء موج ود ف ي ه ذه ال بﻼد أيه ا اﻷص دقاء‪ ،‬ولك ن عل ى طريق ة غريب ة‪ .‬ففيه ا‬


‫اﻷس واق ولك ن أس واقها ليس ت مث ل أس واقنا‪ ،‬ب ل ه ي تش تمل عل ى ص ناديق كبي رة‬
‫تكدس ت فيه ا البض ائع‪ ،‬وق د جل س الت اجر وس طها‪ ،‬وه ذه الص ناديق الكبي رة‬
‫مص طفة عل ى ج انبي الطري ق الض يقة‪ ،‬وق د جل س فيه ا الت اجر أو اس تلقى‬
‫وأص ابعه تعب ث بعق د كبي ر الحب ات وانطل ق يتم تم بك ﻼم مهم وس س ريع وه و‬
‫يح رك حب ات ه ذا العق د عل ى عج ل‪ ،‬وأب واب ه ذه ال دكاكين الص غيرة غريب ة حق ا‪،‬‬
‫فه ي ﻻ تف تح ب الطول وإنم ا ب العرض كأنه ا باب ان‪ ،‬ب اب ين زل م ن أعل ى وآخ ر‬
‫يص عد م ن أس فل‪ .‬وه ي تحت وي عل ى بض ائع رائع ة وخصوص ا دك اكين الفاكه ة‪.‬‬
‫ولك ن أغ رب ه ذه البض ائع ه و الس كر‪ ،‬ه ل تس تطيع أن تش ير إل ى حج م قطع ة‬
‫السكر عندهم؟‬

‫‪- 98 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ق ال أح د اﻷطف ال وه و يش ير ل ي بحجمه ا ويقت رب من ي ليس مع م ا س أقول‪ :‬ه ل ه ذا‬


‫هو حجمها؟‬

‫قل ت‪ :‬ه ذه قطع ة م ن الس كر ص غيرة ج ّدا‪ ،‬آه ل و رأي تم قط ع الس كر ف ي م راكش!‬
‫إنه ا ف ي ه ذا الحج م ‪ -‬قل ت ذل ك وأن ا أف تح ذراع ي ب أكبر م ا أس تطيع ‪ -‬قط ع كبي رة‬
‫من السكر لم يكن يخطر على بالي أن لها مثيﻼً في الحياة‪.‬‬

‫ق ال طف ل مش هور بالمﻼحظ ات الدقيق ة‪ :‬وك م يض عون م ن ه ذه القط ع ف ي فنج ان‬


‫من الشاي؟‬

‫قل ت‪ :‬دع ك م ن ه ذا العب ث؛ فإن ه ﻻ يوج د فنج ان وﻻ إبري ق يس ع مث ل ه ذه القط ع‬


‫الكبي رة م ن الس كر‪ .‬إنه م يأخ ذونها إل ى من ازلهم‪ ،‬ويكس رونها بواس طة مطرق ة‬
‫وس كين‪ ،‬فيجتم ع اﻷطف ال مثلن ا ح ول م ن يق وم به ذه المهم ة‪ ،‬ويلتقط ون فت ات‬
‫الس كر ال ذي يتط اير بعي دا ث م يأكلون ه وه م يتض احكون‪ .‬واﻷطف ال يترقب ون هن اك‬
‫يوم تكسير السكر بفارغ الصبر‪ ،‬ﻷجل أن يلتقطوا ذلك الفتات‪.‬‬

‫ق ال الطف ل المش هور بالمﻼحظ ات الدقيق ة‪ :‬ولم اذا ﻻ يش ترون الس كر وه و‬


‫مكسور؟! إنهم يتعبون أنفسهم‪.‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫قل ت‪ :‬لس ت أدري‪ ،‬لق د قل ت ل ك إن عن دهم ك ل ش يء ولك ن لك ل ش يء طريقت ه‬


‫الخاص ة‪ .‬خ ذ م ثﻼً قص ة ال ﱠ‬
‫ش عر عن دهم‪ ،‬فه م أن اس عن دهم الش عر كم ا عن دنا ف وق‬
‫رؤوس هم وف ي ذق ونهم‪ .‬أم ا نح ن فنحل ق ال ذقن دون ش عر ال رأس‪ ،‬أم ا ه م فيحلق ون‬
‫ش عر ال رأس دون ش عر ال ذقن! إن ذق ونهم ف ي رؤوس هم‪ ،‬ورؤوس هم ف ي ذق ونهم!!‬
‫هل أدركتم ما أريد أن أقول؟‬

‫ق ال أح د اﻷطف ال الكب ار‪ :‬ه ذا ش يء ممت ع حقّ ا‪ ،‬س وف يك ون أول عم ل أق وم ب ه‬


‫حينما أكبر هو الذهاب إلى هذه البﻼد‪ .‬ماذا قلت إنها تسمى؟‬

‫قلت‪ :‬مراكش‪.‬‬

‫فق ال‪ :‬م راكش‪ ،‬م راكش‪ ،‬م راكش ﻻ ب د م ن زيارته ا‪ ،‬إن ه ذا ال ذي تحكي ه عنه ا‬
‫غريب وممتع‪ :‬ذقونهم في رؤوسهم ورؤوسهم في ذقونهم! يا للروعة!‬

‫قال ذلك وهو يصفر ويهز رأسه إعجابا‪.‬‬

‫قل ت‪ :‬دعن ي أس رد عل يكم م ا رأي ت دون تعلي ق‪ ،‬ﻷنن ا نري د أن ننص رف إل ى‬


‫ألعابن ا‪ ،‬أل يس ك ذلك؟ إذن فاس معوا‪ ،‬ه ل تظن ون أن اﻷطف ال هن اك يهتم ون بل بس‬
‫اﻷحذي ة؟ إنه م ينطلق ون ف ي الش وارع حف اة فيط أون اﻷحج ار وقط ع الزج اج‬
‫وتس يل ال دماء م ن أق دامهم وه م ي ْع دون‪ .‬لق د رأي ت إص بع أخ ي‪ -‬ف إن ل ي أخ ا ف ي‬
‫م راكش كم ا ﻻ تعلم ون ‪ -‬رأي ت إص بع قدم ه محطم ا ً يس يل من ه ال دم وه و يتس لق‬
‫شجرة‪.‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وه ل تظن ون أن النس وة يت أنقن ف ي الش وارع‪ ،‬ويهمل ن أنفس هن ف ي المن زل كم ا‬


‫عن دنا؟ إن النس اء يت أنقن ف ي المن زل‪ ،‬أم ا ف ي الش ارع فه ن يجته دن ف ي تش ويه‬
‫أنفس هن تش ويها غريب ا‪ ،‬فه ن ي تلففن ف ي أزر بيض اء م ن ال رأس إل ى الق دم دون أن‬
‫يظه ر م نهن ش يء‪ .‬وأم ا ف ي المن زل فه ن يلبس ن الثي اب المزركش ة الرائع ة‪،‬‬
‫ويتفنن في الزينة على عكس ما عندنا تماما‪.‬‬

‫وﻻ يجتم ع النس اء والرج ال‪ ،‬ب ل يع يش ك ل فري ق عل ى ح دة‪ ،‬يه رب الرج ل م ن‬
‫النساء وتهرب المرأة من الرجال‪.‬‬

‫‪ -‬ﻻ تقاطعوني ودعوني أحدثكم عما رأيت‪.‬‬

‫تص وروا أن الن اس هن اك ﻻ يتقن ون الق راءة والكتاب ة‪ ،‬مث ل اﻷطف ال الص غار‪ ،‬ف إن‬
‫م ن بي نهم م ن ﻻ يع رف إل ى ذل ك س بيﻼً‪ .‬فق د اس توقف رج ل أب ي ونح ن ف ي‬
‫الش ارع‪ ،‬وأش ار ل ه إل ى رق م ف وق ب اب إح دى المن ازل وه و يس أله عن ه‪ ،‬فأجاب ه‬
‫أب ي‪ .‬ولم ا س ألت أب ي م اذا ك ان يري د‪ ،‬ق ال إن ه ك ان يس أل ع ن رق م المن زل ﻷن ه ﻻ‬
‫يعرف القراءة والكتابة‪ .‬ولم يكن طفﻼً صغيرا‪ ،‬وإنما كان رجﻼً كبيرا‪.‬‬

‫ك ل ش يء موج ود ف ي ه ذه ال بﻼد أيه ا اﻷطف ال حت ى الجن ائز‪ .‬إن الن اس يموت ون‬
‫هن اك كم ا يموت ون هن ا‪ ،‬ولك نهم يس يرون إل ى مق ابرهم عل ى طريق ة غريب ة‪ .‬نح ن‬
‫ي نش يد موقّ ع‬
‫نس ير ف ي الجن ائز ص امتين‪ ،‬أم ا ه م فيس يرون فيه ا وه م ينش دون‪ ،‬وأ ّ‬
‫رائع! نحن نحزن للموتي فنصمت‪ ،‬وهم يفرحون لهم فينشدون‪.‬‬

‫وه ل تظن ون أن هن اك م ا ي دعي العرب ة تش د إل ى الحص ان فيرك ب الن اس العرب ة؟‬


‫ك ﻼ‪ ،‬إنه م يركب ون الحص ان مباش رة ‪ -‬والحمي ر ف ي بع ض اﻷحي ان ‪ -‬دون أن‬
‫يكون وا ف ي حاج ة إل ى عرب ة تش د إلي ه‪ .‬ه ذا وﻻ يرك ب الحص ان إﻻ الممت ازون م ن‬
‫العلية‪.‬‬
‫‪- 101 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وك ل اﻷلع اب الت ي توج د عن دنا توج د عن دهم‪ ،‬أعن ي عن د أطف الهم‪ ،‬ولك نهم‬
‫يلعبونها تبعا ﻷصول غريبة غير التي نعرفها‪.‬‬

‫ومن ازلهم غريب ة ك ذلك ف نحن نح رص عل ى أن تك ون منازلن ا ش يقة ف ي مظهره ا‬


‫الخ ارجي وال داخلي مع ا‪ ،‬أم ا ه م فمن ازلهم ﻻ قيم ة له ا م ن حي ث مظهره ا‬
‫الخ ارجي‪ ،‬ولكنه ا ف ي ال داخل ش يء آخ ر‪ ،‬إنه ا رائع ة بم ا تش تمل علي ه م ن ب دائع‬
‫وزخ ارف‪ .‬وﻻ يمك ن أن تص دقوا أن خل ف ه ذه اﻷس وار العتيق ة من ازل ف ي‬
‫منته ى الروع ة‪ ،‬اﻷعم دة المزخرف ة‪ ،‬والطن افس‪ ،‬والحرائ ر‪ ،‬وك ل م ا يمك ن أن‬
‫يخطر على بال من الروائع‪.‬‬

‫وأح ب أن ألف ت النظ ر إل ى التطي ب‪ .‬إن م ن الغري ب ج دا أن ت رى ه ؤﻻء الن اس‬


‫يتطيب ون‪ .‬فه ذه الخ ادم تقب ل إل يهم بمض خات يحملونه ا ف ي أي ديهم‪ ،‬ث م يرش ون به ا‬
‫ثي ابهم‪ ،‬وف ي أثن اء ذل ك تك ون خ ادم أخ رى تله ب الن ار ف ي آني ة م ن الفض ة‪ ،‬ف إذا م ا‬
‫انته وا م ن ال رش نص بوا ثي ابهم الفضفاض ة وق دمت له م الخ ادم آني ة الن ار‬
‫فيض عونها تح ت ثي ابهم‪ ،‬ويتص اعد منه ا دخ ان ذو رائح ة زكي ة منعش ة‪،‬‬
‫فيحرص ون عل ى أن يبق ى ه ذا ال دخان داخ ل ثي ابهم‪ ،‬حت ى إذا م ا انته ت ه ذه‬
‫العملية الطويلة‪ ،‬فاحت منهم رائحة الطيب‪ .‬إن العطر عندهم دخان ﻻ سائل‪.‬‬

‫ولس ت أس تطيع أن أح دثكم ع ن لغ تهم‪ ،‬ﻷنن ي ل م أك ن أفه م منه ا حرف ا واح دا‪ ،‬فق د‬
‫ي كﻼمه م‪ ،‬ولكنن ي أس تطيع أن أق ول بص فة عام ة إنه م يرفع ون‬ ‫ك ان أب ي ينق ل إل ّ‬
‫أصواتهم وهو يتحدثون‪ ،‬ويستعملون حروفا ً غريبة يصعب‪...‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫تمرا ف ي الح ديث‪ ،‬ولك ن فج أة تط اير اﻷطف ال م ن ح ولي وه م‬ ‫كن ت ﻻ أزال مس ّ‬


‫يص يحون ويض حكون دون أن أدرك الس بب‪ ،‬ولكنن ي ل م ألب ث أن أدركت ه‪ ،‬حينم ا‬
‫وج دت نفس ي وجه ا لوج ه أم ام منظ ف الم داخن‪ ،‬ه ذا الرج ل ال ذي كن ا ن ذوب‬
‫فزع ا ورعب ا حينم ا نس مع ص وته وه و يم ر بالش ارع الخلف ي‪ .‬كن ا ن ذوب خوف ا م ن‬
‫ه ذا الص وت المدي د ال ذي ك ان يرس له ونح ن ف ي م أمن من ه‪ ،‬فم ا ال رأي وأن ا أمام ه‬
‫ي بشكل لم يعد لي معه مجال لﻼلتحاق باﻷطفال؟!‬ ‫اﻵن وحيدا وقد أطبق عل ّ‬

‫س خام كم ا‬
‫تض اءلت ف ي مك اني وأن ا أرف ع إلي ه بص ري ﻷرى وجه ه ال ذي ع ﻼه ال ﱡ‬
‫ع ﻼ مﻼبس ه كله ا‪ .‬وكان ت عين اه تب دوان م ن خل ف الس خام اﻷس ود ش ديدتي‬
‫البياض يتراقص في كل منهما إنسان قلق‪.‬‬

‫ورأيت ه يبتس م فب دت ل ي أس نانه أش به بالتكش ير‪ ،‬إذ ﻻح ت ل ي م ن فرج ة فم ه أس نانه‬


‫البيض اء البراق ة كم ا ل و كان ت تت راقص ف ي أمكنته ا ش وقا إل ى الس حق‪ ...‬وق د‬
‫خط ر بب الي أن أرف ع ص وتي بالعوي ل أو الص راخ‪ .‬ولك ن تب ين ل ي أن ذل ك ل ن‬
‫يج دي فت يﻼً‪ ،‬فق د أص بح ف ي اس تطاعته أن يخن ق ص وتي قب ل أن ينطل ق م ن فم ي‪.‬‬
‫وب دت عل ى وجه ي أم ارات الرع ب وازداد ه ذا الرع ب وه و يقت رب من ي ويق ول‬
‫ب ين أس نانه‪ :‬م اذا تفعل ون هن ا ف ي الش ارع الخلف ي أيه ا اﻷش قياء؟!‪ ..‬أل م ي نهكم‬
‫ذووك م ع ن اللع ب ف ي الش وارع الخلفي ة؟!‪ ...‬ه ل يلي ق ه ذا باﻷطف ال‬
‫المستقيمين؟‪ ..‬وع ّم كنت تحدثهم؟ هيه؟‬

‫فل م أجب ه‪ ،‬وكي ف أس تطيع اﻹجاب ة ف ي ه ذا الج و اﻹره ابي ال ذي أح اطني ب ه‬


‫منظ ف الم داخن؟ ل ذلك ب دأت ال دموع تتص اعد إل ى عين ي فق ال‪ :‬إذن أن ت ﻻ تري د‬
‫‪- 103 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أن تجيبن ي‪ .‬حس ن‪ ،‬وا ْي م الح ق ﻷعلقن ك وزم ﻼءك ف ي إح دى الم داخن إذا وج دتكم‬
‫تلعب ون ف ي طريق ي م رة أخ رى! واﻵن انطل ق واح ذر أن أراك ثاني ة هن ا! دفع ت‬
‫الب اب ب بطء وأن ا أنس حب مخاف ة أن يغي ر رأي ه‪ ،‬فلم ا أص بحت ف ي م أمن ص ككته‬
‫ف ي ق وة وانطلق ت أع دو وف ي إث ري ض حكاته العالي ة‪ ،‬ث م انقط ع الض حك وب دأ‬
‫يصيح مرة أخرى بصوته الحاد‪) :‬تنظيف المداخن! تنظيف المداخن!(‪.‬‬

‫وظل يبتعد إلى أن فني صوته‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫ك ل م ا يح يط بن ا ح زين ف ي ه ذه اﻷي ام‪ ،‬وإنن ا لنح اول ‪ -‬أن ا وأخت ي ‪ -‬أن نق ارن ب ين‬
‫ه ذه الحال ة الجدي دة والحال ة الت ي اعت دناها فنج د الف رق كبي را محزن ا‪ .‬إن أب ي ه ذا‬
‫ال ذي ك ان يقاب ل الحي اة بص در رح ب وثغ ر باس م‪ ،‬ه ذا الرج ل ال ذي تقمص ه الجل د‬
‫ف ي معرك ة الحي اة فخاض ها غي ر هي اب وﻻ وج ل‪ .‬ه ذا الرج ل أص بح الي وم حزين ا‬
‫تثير رؤيته اﻷشجان‪.‬‬

‫ول م تك ن اﻷم أق ل حزن ا م ن اﻷب‪ .‬فه ذه الم رأة الت ي ل م تك ن تحف ل كثي را بم ا‬
‫تج ري ب ه اﻷي ام‪ ،‬ه ذه الم رأة الت ي ك ان يت رع ص درها حنين ا إل ى أرض ال وطن‪،‬‬
‫والت ي كان ت تع يش ض احكة مستبش رة‪ ،‬ﻷنه ا تنتظ ر ي وم الع ودة إلي ه‪ ،‬ه ذه الم رأة‬
‫أيضا أصبحت حزينة‪.‬‬
‫‪- 104 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأخت ي‪ ،‬ل م تك ن أخت ي ‪ -‬وأن ا أيض ا ‪ -‬تع رف ش يئا ع ن ه ذا الس ر الخف ي ال ذي‬
‫أح ال البهج ة إل ى ح زن عمي ق‪ .‬لق د أص بحت أخت ي أكث ر م ن أي وق ت مض ى‬
‫تبع ث عل ى الح زن والش فقة‪ ،‬فه ي ت زداد ض عفا ونظراته ا ت زداد ش رودا‪ .‬إنن ي‬
‫أح س كلم ا نظ رت إليه ا أنه ا تبتع د عن ي ش يئا ً فش يئا ً وك أن س حابة رهيب ة تبتلعه ا‬
‫فتزداد بعدا كل يوم‪.‬‬

‫ول و أط ل علين ا ش خص م ن وراء الناف ذة وأبص ر ه ذه الوج وه اﻷربع ة الت ي كان ت‬


‫من ذ م دة قريب ة ض احكة مستبش رة ﻷنكره ا الي وم وق د أص بحت تح يط بالمائ دة‬
‫حزين ة واجم ة‪ .‬وق د كن ت أع رف أن الم رض م ا ي زال يم تص الحي اة م ن أخت ي‬
‫رويدا رويدا‪ ،‬ولكنني لم أكن أدرك سر ما يحيط بأبي وأمي‪.‬‬

‫بي د أنن ي ل م أك ن أص دق حرف ا واح دا مم ا كن ت أس معه أحيان ا م ن ح ديث ي دل عل ى‬


‫أن هن اك فك رة ترم ي إل ى الع ودة إل ى ال وطن م رة أخ رى‪ ،‬الع ودة النهائي ة الت ي ﻻ‬
‫رج وع بع دها‪ .‬فق د كن ت مؤمن ا ً بكلم ة طالم ا رددته ا ميلل ي وه ي‪ :‬إن جمي ع‬
‫المراكش يين يمك ن أن يع ودوا إل ى م راكش‪ ،‬أم ا مس تر ب ن جل ون فس وف يظ ل معن ا‬
‫م دى الحي اة‪ ،‬لس بب واح د ه و أن ه ﻻ يمي ل إل ى التغيي ر‪ ،‬فق د اعت اد الحي اة هن ا ول ن‬
‫يستطيع أن يتركها‪.‬‬

‫وكان ت ميلل ي تلف ظ ه ذه العب ارات بلهج ة الواث ق مم ا يق ول‪ ،‬ول ذلك ل م يك ن ب د م ن‬
‫أن أص دقها وأوم ن به ذه النظري ة الت ي ب دا ل ي ف ي ذل ك الح ين أنه ا عل ى جان ب‬
‫كبير من الحكمة‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كن ت باﻹض افة إل ى ذل ك ق د س معت أم ي تتح دث إل ى أب ي ح ديثا مس هبا ترج وه في ه‬


‫أن تع ود إل ى بﻼدن ا‪ ،‬وكان ت تكي ل الش تائم إل ى ه ذه ال بﻼد الس وداء الت ي تع ج‬
‫باﻷش رار والكف رة م ن بن ي البش ر‪ .‬فك ان أب ي يس تمع إل ى كﻼمه ا ف ي كثي ر م ن‬
‫التأمل ثم يبتسم وهو يحول مجري الحديث‪.‬‬

‫ول ذلك اس تقر ف ي روح ي أن مس تر ب ن جل ون ل ن يف ارق ه ذه ال بﻼد أب دا‪ ،‬فاطمأنن ت‬


‫إل ى أن مكروه ا ل ن يص يبنا‪ .‬ولك ن ه ذه الظ روف الجدي دة تش م منه ا رائح ة‬
‫التص ميم عل ى القي ام بعم ل فاص ل‪ .‬فه ل يمك ن أن يك ون عام ل جدي د ق د دخ ل عل ى‬
‫الموض وع فغي ر اﻻتج اه الق ديم؟ إن نظ رة واح دة إلين ا م ن خ ﻼل الناف ذة ونح ن‬
‫جل وس إل ى المائ دة أو ح ول الموق د لكافي ة الدﻻل ة عل ى أنن ا مقبل ون عل ى ق رار‬
‫حاسم يوشك أن ينفذ‪ .‬أي قرار؟ هذا ما لم أدرك له كنها‪.‬‬

‫رج ع كثي ر م ن المراكش يين إل ى بﻼده م قبلن ا‪ .‬فه ؤﻻء مس تر أب و عي اد ومس تر‬
‫قرطب ي ومس تر اب ن وح ود ومس تر ب رادة ق د رجع وا إل ى بﻼده م م ع ع ائﻼتهم من ذ‬
‫زم ن بعي د‪ .‬وم نهم م ن اش تركت ف ي ت وديعهم م ع أب ي‪ ،‬وك م كن ت أرث ي لح الهم‪.‬‬
‫ول م يك ن يخط ر عل ى ب الي أن الرح ى‪ ،‬الرح ى الجب ارة الت ي تطح ن الع زائم‪،‬‬
‫س وف تطح ن عزائمن ا نح ن أيض ا‪ .‬لق د عرف ت م راكش وعرف ت ك ل م ا يتعل ق به ا‬
‫خ ﻼل اﻷس ابيع الس تة الت ي قض يتها فيه ا‪ ،‬وأعجب ت بكثي ر مم ا فيه ا‪ ،‬ب ل ك ان يخي ل‬
‫ي ف ي بع ض اﻷحي ان أن الك رة اﻷرض ية حرم ت م ن كثي ر م ن المب اهج الت ي‬ ‫إل ّ‬
‫توج د فيه ا‪ ،‬ولكنن ي ب الرغم م ن ذل ك ل م أك ن أتمن ى أن أرج ع إليه ا ﻷع يش فيه ا‬
‫ي أن م ن الممك ن أن أرج ع إليه ا كس ائح‪ ،‬ولك ن ل م يك ن‬‫م دى الحي اة‪ .‬وك ان يخي ل إل ّ‬
‫يخطر ببالي أنني سوف أرجع إليها ﻷقيم‪.‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لم اذا؟ ل م أك ن أتب ين الس بب ي وم ذاك‪ ،‬ولكنن ي أتبين ه اﻵن‪ :‬حس ك ف ي ه ذه ال بﻼد‬
‫طلي ق ومره ف ومس تمتع ولك ن روح ك مقي د‪ ،‬ولك ن كي ف ك ان يمك ن أن أع رف‬
‫ه ذا ف ي تل ك اﻷي ام م ن طف ولتي الذاهب ة؟ ول ذلك ﻻ داع ي للتفص يل‪ ،‬ويكف ي أن‬
‫أق ول إنن ي كن ت مؤمن ا بأنن ا ل ن نرج ع إليه ا كم ا كن ت مؤمن ا بأن ه ﻻ خي ر ف ي ه ذا‬
‫الرجوع‪.‬‬

‫ومهم ا يك ن مص در ه ذا الح زن ال ذي يخ يم عل ى العائل ة فإن ه ذكرن ي بأي ام الماض ي‬


‫ال ذهبي‪ .‬لق د ذك رت يوم ا واح دا مض ى‪ ،‬ي وم أقب ل أب ي م ن عمل ه ف ي جلب ة كبي رة‬
‫وكن ت منص رفا إل ى ألع ابي‪ ،‬فنبهتن ي الجلب ة الت ي أح دثها‪ ،‬ول ذلك أقبل ت أبح ث عن ه‬
‫فل م أج ده ف ي جمي ع الغ رف‪ ،‬فقال ت أم ي إن أب ي موج ود ف ي المن زل ف إذا عث رت‬
‫ارا م ن أح د‬‫علي ه فل ي ج ائزة‪ ....‬وبحث ت ولك ن دون ج دوي‪ .‬وبينم ا كن ت م ّ‬
‫اﻷب واب قف ز أب ي م ن خلفه ا ج ذﻻً مس رورا ورفعن ي ف ي اله واء وه و ي وبخني‬
‫ﻷنني لم أستطع اﻻهتداء إلى مخبئه‪ ،‬ثم صاح بي في غبطة‪:‬‬

‫‪ -‬دعن ا نم تحن خيال ك‪ ،‬أرن ا م ا تس تطيع أن تطل ب‪ ،‬اطل ب م ا يخط ر عل ى بال ك‬


‫يكن بين يديك حقيقة تتحرك وتسعى‪.‬‬

‫ي إﻻّ أن أف تح فم ي ب أمنيتي فأج دها أم امي حقيق ة ماثل ة‪.‬‬


‫وراقتن ي الفك رة فل يس عل ّ‬
‫فتخيل ت بس رعة وأب ي يس تحثني ـ ك ل م ا يمك ن أن يم ر بمخيل ة طف ل مثل ي م ن‬
‫الحلوي ات واﻷلع اب فب دت ل ي كله ا س خيفة‪ ،‬ث م ب دأت أتص ور اﻷش ياء الكبي رة‬
‫ولكنه ا ب دت ل ي أيض ا مبالغ ا فيه ا‪ .‬ث م فج أة ت ذكرت‪ ...‬ت ذكرت أنن ي حينم ا كن ت‬
‫م ارا ب اﻷمس ف ي طري ق الع ودة م ن المدرس ة رأي ت س يارة لﻸطف ال معروض ة‬
‫للبي ع‪ ،‬وت ذكرت أنن ي أطل ت الوق وف إل ى جانبه ا وأن ا أغازله ا ف ي ش وق‪ ،‬ث م‬
‫انصرفت عنها ﻷنساها بعد ذلك‪.‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫إنها مطلب ضخم‪ ،‬ولكن لماذا ﻻ أجرب وأطلبها‪ ،‬وهكذا صحت‪:‬‬

‫سيارة! أريد أن تشتري لي السيارة التي رأيتها باﻷمس‪.‬‬

‫‪ -‬أين رأيتها ؟ وأي سيارة؟‬

‫‪ -‬سيارة معروضة للبيع في دكان قريب من المدرسة‪.‬‬

‫‪ -‬هي ا بن ا إليه ا‪ ،‬ﻻ غ داء إﻻّ بع د أن ننطل ق إل ى ص احب ال دكان ال ذي يع رض ف ي‬


‫واجهت ه الس يارة الت ي تري دها‪ ،‬سنش تريها ول و طل ب فيه ا ص احب ال دكان النج وم‬
‫بدﻻً من الدراهم‪.‬‬

‫وهك ذا انطلقن ا إل ى ص احب الس يارة الص غيرة‪ ،‬واش تريناها ف ي لم ح البص ر‬
‫ورجعن ا وأب ي يظه ر م ن الف رح واﻻغتب اط به ا أض عاف م ا أظهرت ه أن ا‪ ،‬ب الرغم‬
‫من أنني عدت إلى المنزل راكبا وعاد هو إلى جانبي راجﻼً‪.‬‬

‫ي تل ك الص ورة المرح ة ف زادت ش جوني وأن ا أقاب ل بينه ا وب ين ه ذه‬


‫ع ادت إل ّ‬
‫الص ور القاتم ة الت ي أص بحت أراه ا ص باح مس اء‪ :‬وج وه كالح ة ﻻ تبتس م‪ ،‬وعي ون‬
‫مسهدة ﻻ تطرف‪ .‬ماذا جرى؟‬

‫‪- 108 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ولس ت أدري لم اذا ت ذكرت بس بب ه ذا الج و الب ائس ال ذي يس ود المن زل تل ك اﻷي ام‬
‫الت ي قض يناها ف ي م راكش‪ ،‬فق د ب دا أب ي فيه ا يفق د مرح ه يوم ا بع د ي وم‪ ،‬ورأيت ه‬
‫يش تبك م ع عم ي ف ي مناقش ات طويل ة ﻻ نهاي ة له ا‪ ،‬وأمامهم ا دف اتر أترع ت‬
‫باﻷرق ام والعملي ات الحس ابية‪ .‬لق د ك ان ك ل ي وم يم ر من ذ ذل ك الح ين يزي د ف ي‬
‫اكتئ اب أب ي‪ ،‬ولكنن ي ب الرغم م ن ذل ك ل م أس تطع أن أتب ين حقيق ة ه ذه الظ روف‬
‫التي تكتنفنا وتزيد وطأتها مع مرور اﻻيام‪.‬‬

‫قلت ﻷختي ذات ليلة ونحن في عتبة الكري‪:‬‬

‫‪ -‬لست أدري ماذا أصابنا‪.‬‬

‫ي في الظﻼم‪:‬‬
‫فقالت بصوتها الضعيف الذي كان ينتهي إل ّ‬

‫‪ -‬إنن ا س وف نع ود جميع ا إل ى بﻼدن ا‪ ،‬إل ى م راكش‪ ،‬وس وف نقط ع ك ل عﻼق ة بينن ا‬


‫وبين منشستر‪ .‬وأي شيء في ذلك؟‬

‫إن أم ي تق ول إن م راكش ب ﻼد رائع ة يج ب أن نرج ع إليه ا‪ ،‬واﻷم ر ج د ك ل الج د‪،‬‬


‫ول ذلك ف ﻼ ب د مم ا ﻻ ب د من ه‪ .‬إن أب ي يطل ب رأي أم ي ولكن ه ﻻ يطل ب رأين ا‪ ،‬ول و‬
‫طل ب رأي ي لوافق ت عل ى ال ذهاب ﻷنن ي ض قت ذرع ا به ذه ال بﻼد الس وداء‪ ،‬وإنن ي‬
‫أريد أن أعيش في تلك المدن التي تقول عنها أمي إنها مدن بيضاء‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وﻻ أحت اج إل ى أن أق ول إن أخت ي كان ت تقص د الم دن ذات اﻷس وار البيض اء‪،‬‬
‫وإنه ا ل م تك ن ت درك الس واد ال ذي يعل ق باﻷعن اق‪ ،‬وه و الس واد ال ذي ل م أدرك أن ا‬
‫نفسي كنهه إﻻ أخيرا‪.‬‬

‫قلت‪ :‬و من ذا الذي أنبأك بذلك؟‬

‫قال ت‪ :‬ل يس م ن المه م أن تع رف م ن أنب أني‪ ،‬ولك ن يج ب أن ت وطن ال نفس عل ى‬


‫نس يان ك ل ش يء ف ي ه ذه ال بﻼد‪ ،‬وتقب ل تل ك الحي اة الت ي ح دثت عنه ا اﻷطف ال من ذ‬
‫قليل في الشارع الخلفي‪.‬‬

‫‪ -‬آمنة‪ ،‬ماذا تقولين؟!‬


‫‪ -‬هذه هي الحقيقة التي ﻻ بد من الخضوع لها‪.‬‬

‫ك ان ب ودي أﻻّ أص دق حرف ا واح دا مم ا قال ت‪ ،‬ورجع ت بفك ري إل ى ال وراء‬


‫أتص ور الماض ي وأن ا مطم ئن إل ى كلم ة ميلل ي الت ي حفظته ا ع ن ظه ر قل ب‪ ،‬وه ي‬
‫أن مستر بن جلون لن يسافر أبدا‪ ،‬لقد أصبح قطعة من هذه البﻼد‪.‬‬

‫بي د أنن ي كن ت أع رف أن ﻷخت ي عين ين نف اذتين وأذن ين مرهفت ى الح س‪ .‬وه ذا م ا‬


‫ﻻ أس تطيع أن أش ك في ه‪ ،‬ول ذلك ب ت أخش ى مواجه ة ه ذه الحقيق ة الرهيب ة الت ي‬
‫أصبحت قاب قوسين أو أدني‪.‬‬

‫ي‬
‫ظلل ت أفك ر م دة طويل ة تل ك الليل ة ف ي ال بﻼد البعي دة النائي ة الت ي س وف يكت ب عل ّ‬
‫ي أن‬
‫أن أك ون أح د أبنائه ا‪ ،‬دون أن أعل م عل ى التحدي د م اذا س يكلفني ذل ك‪ .‬إن عل ّ‬

‫‪- 110 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أفك ر بع د الي وم ف ي ال رأس الحلي ق والق دم الحافي ة والثي اب الفضفاض ة‪ ،‬وكي ف‬


‫يمكن أن يكتب لي مثل هذا اﻻمتحان القاسي دون أن يطير صوابي‪.‬‬

‫وكن ت أكث ر إلمام ا بح زن أب ي م ن أن أنطل ق إلي ه وأس تفهمه‪ ،‬فق د كن ت أع رف أن ه‬


‫ي عينين حافلتين باﻷلم دون أن يجيب‪.‬‬ ‫سوف يرفع إل ّ‬

‫وكان ت أم ي حزين ة لح زن أب ي‪ ،‬ولكنه ا كان ت ف ي نف س الوق ت مطمئن ة إل ى ه ذه‬


‫الح وادث الت ي كان ت مؤمن ة بأنه ا س وف تض ع ح دا له ذا الظ ﻼم ال ذي قض ينا في ه‬
‫نح و ثم اني س نوات‪ .‬لق د آن للط واف أن ينته ي بن ا إل ى أرض ال وطن اﻷب يض‬
‫الحبيب‪ ،‬ويخلصنا من منشستر الكريهة السوداء‪.‬‬

‫ول م يك ن ف ي اس تطاعتي أن ألح ف عل ى أخت ي بالس ؤال‪ ،‬فق د كان ت مستس لمة‬
‫لعم ﻼق الم رض الجب ار ال ذي مض ى يم تص منه ا الحي اة امتصاص ا ﻻ يخل و م ن‬
‫نهم‪ ...‬وكانت هي أبعد نظرا من أن تقيم وزنا كبيرا لما يحيط بنا‪.‬‬

‫وهك ذا بقي ت وح دي ف ي اللي ل البه يم أفك ر ف ي المص ير‪ ،‬ول م تك ن هن اك ص ور وﻻ‬


‫أش باح‪ .‬لق د كن ت أح دق ف ي الظ ﻼم وأن ا ص اح ف ﻼ أرى إﻻ ص ورة واح دة تبع ث‬
‫عل ى الرع ب والرع ب الش ديد‪ .‬وانت ابني ش عور رهي ب وأن ا أع يش ف ي ه ذا الج و‬
‫الخ انق‪ ،‬وه و أنن ي أص بحت غريب ا ع ن ع ائلتي نفس ها‪ ،‬وه و الش عور ال ذي ك ان‬
‫يضايقني حينما كنت أحس به في منشستر وفي مراكش معا‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وأخي را تملكن ي الح زن أيض ا‪ ،‬فق د أص بحت أؤم ن ب أنني س وف أنقط ع ع ن ك ل‬


‫ش يء ألفت ه من ذ كن ت فت ى ن اعم اﻷظف ار إل ى حي اة جدي دة ‪ -‬أكب ر الظ ن أنه ا مرعب ة‬
‫‪ -‬ﻻ تطمئن إليها قلوب الصغار‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫لق د انته ى ك ل ش يء‪ ،‬ول م يع د هن اك أي ش ك ف ي أنن ا راحل ون‪ .‬ولق د أص بحت‬


‫ي الجمي ع خب ر ه ذا الرحي ل المف اجئ ال ذي ﻻ‬‫الح وادث تتعاق ب بع د أن أعل ن إل ّ‬
‫ع ودة بع ده‪ .‬وق د اس تولى عل ى ن وع م ن ال ذهول من ذ ذل ك الح ين‪ ،‬فكن ت أتتب ع‬
‫حركات اﻻستعداد الدائمة بعين قلقة وقلب واجف‪.‬‬

‫ب دأت أش عر ﻷول م رة أنن ي غري ب ع ن البيئ ة الت ي عش ت فيه ا م ا يق رب م ن‬


‫ثمانية أعوام‪ ،‬وهي البيئة التي لم أعرف غيرها خﻼل الفترة التي عشتها‪.‬‬

‫نس يت وال دي ووال دتي وأخت ي وأخ ي الص غير‪ ،‬فق د انص رفت ع نهم ﻷتأم ل م ا‬
‫ح ولي مح اوﻻً أن أش بع روح ي ب النظر إلي ه‪ .‬فق د أص بحت موقن ا ب أنني أراه للم رة‬
‫اﻷخي رة‪ ،‬وأنن ي ل ن أراه بع د ذل ك إل ى اﻷب د‪ .‬كن ت أطي ل النظ ر إل ى أف راد عائل ة آل‬
‫ب اترنوس وأن ا أس ترجع ال ذكريات القديم ة‪ ،‬وكن ت أش رف م ن الناف ذة عل ى ش ارع‬
‫ب ارك فيل د وأتأم ل المن ازل والنواف ذ والح دائق والوج وه‪ ،‬ث م أتج ه ببص ري يمين ا‬
‫ﻷتأم ل الطري ق الطويل ة الت ي طالم ا س رت فيه ا إل ى المدرس ة‪ ،‬ث م أتج ه ب ه ش ماﻻً‬
‫ﻷتأم ل الطري ق الطويل ة الت ي طالم ا س رت فيه ا إل ى الحديق ة العام ة‪ ،‬وأنح در‬
‫‪- 112 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ببص ري إل ى ه ذه الش جرة الفرع اء القائم ة ف ي زاوي ة حديق ة منزلن ا اﻷمامي ة‪،‬‬
‫فتت راءى ل ي مزده رة وق د أص بحت كله ا مث ل زه رة كبي رة بيض اء ف ي أي ام‬
‫الربي ع‪ ،‬وتت راءى ل ي م رة أخ رى عاري ة الف روع ق د عص فت بأوراقه ا الذابل ة‬
‫ري اح الخري ف‪ .‬وأم امي الش ارع تنبع ث م ن ك ل مك ان من ه ذكري ات فتنبع ث لك ل‬
‫منها في قلبي حسرة من الحسرات‪.‬‬

‫م ا أغ رب الحي اة! فبع د أي ام قص يرة س وف يض غط أص بع الق در عل ى ال زر ليغي ر‬


‫منظ ر فص ل م ن رواي ة الحي اة تغيي را ك امﻼً ش امﻼً ع اجﻼً‪ .‬ولق د س رت حي اتي ف ي‬
‫قافل ة راقص ة ض احكة‪ ،‬وب دﻻً م ن أن أس ير معه ا إل ى النهاي ة وج ب عل ّ‬
‫ي أن‬
‫أنحرف عنها ﻷسير في قافلة أخرى ﻻ أعرف عنها غير النزر اليسير‪.‬‬

‫أم ا اﻷي ام الذهبي ة الذاهب ة‪ ،‬اﻷي ام الت ي أوش كت أن تص بح م ن الماض ي‪ ،‬فيطي ب‬


‫للحي اة أن تض رم فيه ا الن ار‪ ......‬وتحيله ا إل ى رم اد‪ ......‬ولك ن أث ر الن ار س وف‬
‫يظل عالقا بقلبي إلى اﻷبد‪.‬‬

‫تق ول ميلل ي‪ : .‬إنن ي أع رف أن ك س وف تنس انا كم ا نس ينا س ائر المراكش يين ال ذين‬
‫عادوا إلى بﻼدهم من قبل‪ ،‬فهل تنسانا أنت أيضا أيها الصغير؟‬

‫فأبتس م له ا منك ًرا‪ ،‬ولك ن ك ان ب ودي أن أص رخ م ن اﻷل م وأن ا أح س بلف ح الحس رة‬
‫يأخ ذ بمج امع نفس ي‪ .‬واس تغربت ف ي ذات الوق ت له ذه المﻼحظ ة الت ي كان ت ف ي‬
‫رأي ي قريب ة إل ى اﻹلح اد‪ .‬وﻻ أحت اج إل ى أن أق ول إنن ي كن ت مازل ت طف ﻼً ص غيرا‬

‫‪- 113 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ﻻ يع رف أن س تار النس يان ينس دل عق ب ك ل فص ل م ن فص ول المهزل ة‪......‬‬


‫ليرتفع عن فصل آخر منها ﻻ يلبث النظارة أن ينصرفوا إليه ﻻهين ضاحكين‪.‬‬

‫وكن ت أتطل ع إل ى وجه ي ف ي الم رآة ف أري مس حة غريب ة م ن الح زن والغض ب‬


‫والحس رة‪ ،‬وكن ت أتطل ع إل ى وج وه أف راد العائل ة ف ﻼ أرى لتل ك المس حة أث را‪ ،‬ك ان‬
‫الجميع فرحا بالعودة ومستسلما لها‪ ،‬فضايقني ذلك‪.‬‬

‫انقط ع أب ي ع ن العم ل‪ ،‬وانص رف إل ى اﻻس تعداد للس فر‪ ،‬وأقب ل أص دقاؤنا‬


‫يودعونن ا وحف ل به م منزلن ا‪ .‬وأخي را ح ان آخ ر ي وم ل ي ف ي المدرس ة‪ ،‬وم ر النه ار‬
‫مس رعا‪ ،‬ف إذا ب ي أج د نفس ي جالس ا ف ي الفص ل أس تمع درس ي اﻷخي ر ف ي ه ذه‬
‫ال بﻼد‪ .‬ول م أك ن أس مع من ه حرف ا واح دا‪ ،‬فق د انص رفت إل ى وج وه زمﻼئ ي أتأمله ا‪،‬‬
‫وإل ى ك ل ش يء ف ي الفص ل أت زود من ه ب النظرة اﻷخي رة‪ ،‬إل ى أن يس تقر نظ ري‬
‫عل ى ه ذه اﻵنس ة الوس يمة الت ي كان ت تح دثنا ع ن الت اريخ وم ا مض ى م ن‬
‫ي من آن ﻵخر مشفقين‪.‬‬ ‫العصور‪ .‬وكان الزمﻼء ينظرون إل ّ‬

‫ث م انته ى ال درس‪ ،‬فتق دمت من ي اﻷس تاذة ترب ت عل ى كتف ي وتوص يني ب أن أظ ل‬
‫حيثم ا حلل ت متش بثا بأس باب اﻻس تقامة‪ ،‬فل م أح ر جواب ا‪ ،‬وإنم ا تق دمت إليه ا‬
‫وص افحتها وانطلق ت ذاه ﻼً ص وب الب اب وأن ا أودع زمﻼئ ي الص غار‪ ،‬ث م س رت‬
‫مط رق ال رأس خ ﻼل البه و الكبي ر إل ى الب اب‪ ،‬واخترق ت س احة اللع ب الخالي ة‪.‬‬
‫وعن دما اس تدرت‪ ،‬رأي ت جماع ة م ن التﻼمي ذ واقف ين بب اب المدرس ة يش يعونني‬
‫ي‪ ،‬ث م اتجه ت إل ى الطري ق‬ ‫بنظ راتهم‪ ،‬فرفع ت له م ي دي مودع ا‪ ،‬ف ردوا جميع ا عل ّ‬
‫الع ام ﻷس ير في ه للم رة اﻷخي رة وأن ا عائ د م ن المدرس ة‪ .‬ل م أك ن أع ي مم ا ح ولي‬
‫ش يئا‪ ،‬كن ت أس ير ورأس ي مثق ل ب الهموم والحاض ر كل ه يت راقص أم ام بص ري كم ا‬
‫تتراقص الذكريات‪ .‬إن التيار يبلغني والشاطئ يبتعد عن بصري قليﻼً قليﻼً‪.‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وص لت إل ى المن زل ف إذا ب ه غ اص ب المودعين‪ ،‬فه ذه ليلتن ا اﻷخي رة ف ي منشس تر‪.‬‬


‫وم ر زم ن طوي ل أو قص ير ﻻ أدري‪ ،‬ف إذا ب ي أرى ميلل ي تأخ ذني إل ى منزله ا‬
‫حي ث أص رت عل ى أن أقض ي ليلت ي اﻷخي رة‪ ،‬وجلس نا ح ول مائ دة العش اء‪ ،‬وك ان‬
‫أف راد العائل ة كله م حاض رين وه م يتح دثون ع ن م راكش‪ ،‬وم ا س وف يص ادفني‬
‫فيه ا م ن المتاع ب بع د أن قض يت ف ي منشس تر ك ل تل ك الس نين‪ .‬ولكنن ي ل م أك ن‬
‫أه تم كثي را بالمس تقبل‪ ،‬فق د كان ت روح ي تتطل ع إل ى الماض ي ال ذاهب وت ذوب‬
‫عليه حسرات دون أن تقيم للمستقبل أي وزن‪.‬‬

‫وأذك ر أنن ي س معت ميلل ي تق ول‪ :‬إنه ا م ع تق ديرها الكام ل لﻸس باب الت ي ت دعونا‬
‫إل ى الع ودة ت رى ف ي ع ودتي خس ارة ﻻ تع وض‪ .‬وس معتها ت روي أنه ا ذهب ت إل ى‬
‫وال دي وطلب ت من ه أن يتركن ي معه م‪ ،‬أي م ع آل ب اترنوس‪ ،‬ﻷس تمر ف ي دراس تي‪،‬‬
‫وأنه ا ألح ت علي ه ف ي ذل ك‪ ،‬ولكن ه ل م يقب ل‪ .‬والواق ع أن التأس فات الت ي أب داها آل‬
‫ب اترنوس زادت مخ اوفي‪ ،‬ولكنن ي حم دت ع دم موافق ة أب ي عل ى الفك رة‪ ،‬فق د ب دا‬
‫ل ي فراق ه أف دح م ن ف راق منشس تر‪ .‬ومهم ا يك ن م ن ش يء ف إنني قض يت الليل ة‬
‫اﻷخيرة في منزل آل باترنوس‪.‬‬

‫وف ي الص باح رأي ت عرب ة النق ل واقف ة أم ام ب اب منزلن ا والعم ال ينقل ون اﻷمتع ة‬
‫إليه ا‪ .‬وهك ذا ب دأت حياتن ا ف ي منشس تر تقط ع بس رعة خطواته ا اﻷخي رة وه ي ف ي‬
‫طريقها إلى النهاية‪.‬‬

‫وأس رعت ب ي ميلل ي إل ى ذل ك المن زل ال ذي ل ن يظ ل منزلن ا بع د لحظ ات‪ ،‬ف إذا ك ل‬


‫ش يء عل ى اس تعداد للرحي ل‪ ،‬وق د ارت دي جمي ع أف راد العائل ة ثي اب الخ روج ﻻ‬
‫‪- 115 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لي ذهبوا إل ى المنتزه ات العام ة‪ ،‬وﻻ ليقض وا حاج اتهم ث م يرجع وا إل ى المن زل‪ ،‬ب ل‬
‫ﻷجل أن يذهبوا بعيدا فﻼ يعودوا إلى هذا المنزل أبدا‪.‬‬

‫كن ت س اهما أتتب ع الح وادث وه ي تتت الى بس رعة‪ ،‬فتأمل ت الجمي ع وه م يخرج ون‬
‫إل ى ع رض الش ارع‪ ،‬ورأي ت أب ي يقف ل ب اب المن زل ﻵخ ر م رة‪ .‬ولم ا انح درنا م ع‬
‫الممش ى رأيت ه يرف ع إلي ه بص ره كأن ه يودع ه‪ ،‬فب الرغم م ن ص فات الج د الت ي ك ان‬
‫ي ف ي كثي ر م ن اﻷحي ان أن ه ﻻ‬‫يطي ب ل ه دائم ا أن يتحل ى به ا حت ى ك ان يخي ل إل ّ‬
‫يت أثر بش يء‪ ،‬ب الرغم م ن ذل ك ك ان م ن المس تطاع أن ت درك ف ي نظرات ه مس حة‬
‫من التأثر‪.‬‬

‫وركبن ا الس يارة الكبي رة الت ي كان ت تنتظرن ا بالب اب‪ ،‬وبينم ا ك ان الس ائق ي دير‬
‫مفتاحه ا اﻷم امي اس تعدادا لﻼنط ﻼق كم ا ك ان الس ائقون يفعل ون ف ي ذل ك الزم ان‪،‬‬
‫كن ت أتأم ل المن زل الخ الي المغل ق النواف ذ ال ذي ك ان من ذ لحظ ة واح دة فق ط‬
‫ي ف ي لم ح البص ر أن أناس ا خي اليين ق د دخل وه وفتح وا النواف ذ‬
‫منزلن ا‪ ،‬وخي ل إل ّ‬
‫وأطل وا علين ا‪ ،‬وأن الب اب يف تح‪ ،‬وأن أطف اﻻً آخ رين ق د خرج وا من ه ليلعب وا ف ي‬
‫الش ارع‪ .‬إن منزلن ا سيص بح من زل آخ رين بع د أي ام‪ ،‬وس وف يق يم ب ه بع د اﻵن أب‬
‫آخر وأم أخرى غير أبي وأمي ومعهما أطفال غيري أنا وأختي وأخي الصغير‪.‬‬

‫وتحرك ت الس يارة ف دق قلب ي دق ات س ريعة ونح ن نبتع د‪ ،‬فألقي ت عل ى المن زل‬
‫نظ رة أخي رة وه و ه ادئ س اكن كأن ه ح زين لفراقن ا‪ .‬واخترقن ا الش وارع وأن ا أذك ر‬
‫في كل مكان ذكري من الذكريات الذاهبة‪ ،‬إلى أن وصلنا محطة القطار‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫نع م محط ة القط ار‪ ،‬ه ذه البناي ة الض خمة الت ي طالم ا أرعبن ي ال دخول إليه ا‪ ،‬ولك ن‬
‫الرع ب ال ذي تملكن ي ف ي ه ذه الم رة ك ان م ن ن وع آخ ر‪ .‬رأي ت عش رات م ن القط ر‬
‫تزف ر وتص فر وتص رخ‪ ،‬فل م أت أثر به ا‪ ،‬ب ل ل م أش عر له ا بوج ود‪ ،‬وإنم ا كن ت أس ير‬
‫وق د أمس كت ميلل ي بي دي فاس تولى عل ى ن وع م ن اﻻس تغراب أنن ا س نفترق بع د‬
‫لحظ ات م ع آل ب اترنوس إل ى اﻷب د‪ ،‬فلم اذا ﻻ أبص ر دمع ة واح دة ف ي أي مقل ة؟!‬
‫إن ه ؤﻻء الكب ار ذوو قل وب ص لدة كالحج ارة‪ ،‬ﻻ ت رى م نهم أح دا يبك ي وﻻ يش كو‬
‫ي م ن ف رط ت أثري أن الله ب ق د عل ق بروح ي‪ ،‬وأن ي دا‬ ‫وﻻ يت أثر‪ .‬إن ه يخي ل إل ّ‬
‫جب ارة تعص ر نفس ي عص را‪ .‬وكن ت أش عر برغب ة ش ديدة ف ي أن أن زوي ف ي رك ن‬
‫بعي د وأنص رف إل ى النحي ب س اعات تل و س اعات‪ ،‬ولك ن م ا ب ال ه ؤﻻء الكب ار م ا‬
‫يزال ون كم ا ك انوا؟ فه ل حنك تهم اﻷي ام‪ ،‬وجعل تهم أق در ف ي الس يطرة عل ى‬
‫مش اعرهم‪ ،‬أو بت رت مش اعرهم بت را ؟ ه ذا م ا ل م أس تطع أن أفص ل في ه ف ي تل ك‬
‫اﻷيام‪.‬‬

‫ي ميلل ي تقبلن ي وتح ذرني م ن‬


‫وأخ ذنا أماكنن ا ف ي دي وان عرب ة القط ار‪ ،‬فأقبل ت عل ّ‬
‫النس يان‪ ،‬وانص رف الجمي ع إل ى تب ادل عب ارات الش كر والت أثر‪ ،‬وذك ر اﻷي ام‬
‫الس الفة‪ ،‬وتمن ي اللق اء م رة أخ رى‪ .‬وك انوا يتكلم ون ف ي ه دوء عجي ب أث ار‬
‫خلج اتي‪ .‬ولكنن ي حينم ا رفع ت بص ري إل ى وج ه ميلل ي وق د س معنا الص فير‬
‫الم ؤذن بق رب انط ﻼق القط ار‪ ،‬رأي ت دمعت ين كبي رتين ف ي عينيه ا الس وداوين‬
‫العميقت ين‪ ،‬وﻻ أذك ر أنن ي رأي ت ف ي حي اتي وﻻ أحس بني س وف أرى دمعت ين‬
‫أعمق منهما فيما كانا يعبران عنه من رقة وإنسانية ونبل‪.‬‬

‫ن زل اﻷخ وات ال ثﻼث م ن العرب ة‪ ،‬ووقف ن يؤك دن علين ا ف ي ض رورة الكتاب ة‪،‬‬
‫وهن ا اهت ز القط ار‪ ،‬ث م تح رك‪ ،‬ث م س ار روي دا روي دا‪ .‬فلوحن ا بأكفن ا‪ ،‬وس ارت‬
‫ميلل ي إل ى جان ب الناف ذة تق ول‪ :‬إي اكم أن تنس ونا‪ ،‬إنن ي أنتظ ر رس ائلكم إلين ا أيه ا‬
‫الص غير‪ .‬فقف زت إل ى الناف ذة وعين اي ت دمعان كم ا ل و كن ت أري د أن أرم ي بنفس ي‬
‫إل ى اﻷرض وأرج ع إل ى الماض ي‪ ،‬ولك ن س رعة القط ار م ا لبث ت أن ازدادت إل ى‬
‫أن عج زت ميلل ي ع ن متابعت ه فتوقف ت وظلل ت أل وح له ا بي دي إل ى أن بارحن ا‬
‫‪- 117 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫المحط ة‪ ،‬وظلل ت أنظ ر إليه ا وه ي واقف ة إل ى أن عج زت ع ن رؤيته ا‪ ،‬وم ع ذل ك‬


‫ظللت أرنو في نفس اﻻتجاه‪.‬‬

‫ولم ا رجع ت إل ى مك اني ك ان الص مت يس ود الجمي ع وكان ت النظ رات ثابت ة‪ ،‬وق د‬
‫انص رف أص حابها ‪ -‬وﻻ ش ك ‪ -‬إل ى التفكي ر ف ي الماض ي والمس تقبل مع ا‪ ،‬أم ا‬
‫الحاض ر فل م يك ن ل ه وج ود‪ .‬وق د أعف ى الق در شخص ا واح دا م ن ه ذا العن اء ه و‬
‫اﻷخ الص غير ال ذي ل م يك ن تج اوز س نته اﻷول ى إﻻ بقلي ل‪ ،‬فق د ك ان يرف ع عيني ه‬
‫ف ي ك ل ش يء وه و يس تغرب له ذه اﻷش ياء الجدي دة الت ي يراه ا‪ ،‬حت ى إذا تع ب م ن‬
‫النظر إليها عاد فألقى رأسه على صدر والدته‪.‬‬

‫وكان ت أخت ي س اهمة أيض ا‪ ،‬تنظ ر بوجهه ا الش احب إل ى اﻷم ام‪ ،‬ول م يع د م ع‬
‫ش حوبها مج ال لظه ور الت أثر عل ى وجهه ا‪ ...‬وق د ب دا عليه ا من ذ أجري ت له ا‬
‫ي أنه ا أص بحت ب ين‬ ‫العملي ة الجراحي ة أن س نها تتق دم ك ل س اعة‪ ،‬فك ان يخي ل إل ّ‬
‫عش ية وض حاها م ن ه ؤﻻء الكب ار ال ذين ﻻ يحفل ون بش يء‪ .‬ك ان ن وع م ن الي أس‬
‫الق اتم ق د س يطر عل ى كيانه ا فأخم د ابتس امتها وأكس بها حكم ة مبهم ة م ن ع دم‬
‫المب اﻻة‪ ،‬ول ذلك ل م يب د عليه ا أي انزع اج من ذ تق رر الس فر إل ى ه ذه ال بﻼد الت ي ل م‬
‫تك ن تع رف عنه ا ش يئا‪ ،‬وم ن ي دري؟! فلعله ا بتل ك الحاس ة الغريب ة الت ي كان ت‬
‫تتمتع بها قد استطاعت أن تستشف ما يضمره لها الغيب‪...‬‬

‫أم ا أم ي فكان ت م راكش بالنس بة له ا أرض الميع اد‪ ...‬ول ذلك ك ان م ن الس هل أن‬
‫تﻼح ظ ف ي وجهه ا نوع ا م ن الغبط ة‪ ،‬ﻷنه ا كان ت عل ى ب اب تحقي ق أم ل م ن آماله ا‬
‫الكبرى في الحياة‪ ،‬وهو الذي ظل يداعبها منذ حلت بهذه البﻼد‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أم ا أب ي فل م تظه ر عل ى وجه ه س وى مس حة الج د‪ ،‬تل ك المس حة الت ي ك ان يخي ل‬


‫ل ي معه ا دائم ا أن ه منص رف إل ى معالج ة عملي ة حس ابية عويص ة‪ .....‬ول م يك ن‬
‫م ن الس هل أن تع رف ه ل العملي ة الت ي يعالجه ا اﻵن تتعل ق بالماض ي أو‬
‫المستقبل‪.‬‬

‫ك ل ذل ك والقط ار يل تهم القض بان التهام ا‪ .‬إن ه ذا الحي وان اﻵل ي ال ذي طالم ا‬
‫أرعبن ي ق د تمك ن أخي را ً م ن أن يأس رني ليق ذف ب ي خ ارج ح دود ه ذه ال بﻼد إل ى‬
‫اﻷبد‪.‬‬

‫وتطلع ت م ن ناف ذة القط ار‪ ،‬فرأي ت حق ول إنكلت را الجميل ة وق د س ادها الخري ف‬


‫كأنه ا تس تعد ﻻس تقبال ذل ك الش تاء العني ف ال ذي أوش ك أن يعص ف به ا‪ ،‬فك اد قلب ي‬
‫يذوب حسرات وأنا أودعها بنظراتي الشاردة‪.‬‬

‫أيته ا ال بﻼد الجميل ة الرائع ة! أيته ا ال بﻼد الت ي امتزج ت به ا نفس ي امتزاج ا ﻻ‬
‫انفك اك ل ه أب دا‪ ،‬ل ي ف ي كثي ر م ن زواي اك ذكري ات ﻻ تبل ى مهم ا تق ادم عليه ا‬
‫العه د‪ ،‬وباع دت ب ي عنه ا اﻷي ام‪ .‬أيته ا المص ايف الراقص ة الض احكة! أيته ا‬
‫الحق ول الخض راء المزده رة الحافل ة ب اﻷلوان! أيته ا المدين ة الس وداء ذات‬
‫الم داخن العالي ة والش وارع الص اخبة! أيته ا الح دائق المنس قة البهيج ة‪ -‬إنكلت را ي ا‬
‫مرتع صباي‪ -‬الوداع!‬

‫لق د انبع ث الماض ي كل ه أم ام مخيلت ي م رة واح دة وأن ا أط ل م ن ناف ذة عرب ة‬


‫القط ار‪ ،‬وك ل م ا تحف ل ب ه اﻷع وام الثماني ة م ن أش ياء جليل ة وتافه ة‪ ،‬ك ل م ا خ الج‬
‫قلب ي م ن أف راح وم ن أح زان خﻼله ا‪ ،‬ك ل م ا م ر ب ي فيه ا م ن أح داث كبي رة‬
‫وص غيرة‪ ،‬اللع ب م ع اﻷطف ال‪ ،‬أخيل ة اللي ل‪ ،‬التن زه ف ي الح دائق‪ ،‬الحص ون الت ي‬
‫‪- 119 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أقمته ا عل ى رم ال الش واطئ‪ ،‬المن زل ال ذي كن ا نق يم في ه‪ ،‬الغرف ة الت ي كن ت أن ام‬


‫فيه ا‪ ،‬المائ دة الت ي كن ت أجل س إليه ا‪ ،‬الك أس الت ي كن ت أش رب منه ا‪ ،‬أدراج‬
‫الس ﻼلم الت ي كن ت أص عدها‪ ،‬ك ل ش يء انبع ث أم امي م رة واح دة كم ا ل و كان ت‬
‫عصا من السحر قد مست الماضي القريب فأيقظت كل ما فيه‪.‬‬

‫إن ح ديثا ص امتا ي دور بين ي وب ين الحق ول الج رداء وأن ا أط ل عليه ا م ن ناف ذة‬
‫القطار‪.‬‬

‫أيته ا الحق ول الجميل ة الت ي س وف يزده ر فيه ا الربي ع م رة أخ رى دون أن أراه‪،‬‬


‫أيته ا اﻷف راس واﻷبق ار واﻷغن ام الت ي أم ر به ا ف ي الحق ول‪ ،‬ي ا أس راب الطي ور‬
‫الت ي تعب ر الس ماء ف ي ب طء وه دوء وانس جام‪ ،‬أيته ا اﻷحج ار الملق اة هن ا وهن اك‪،‬‬
‫أيتها اﻷوراق الذابلة‪ ،‬أيتها الحشائش الميتة‪ -‬الوداع‪ ،‬الوداع الذي ﻻ لقاء بعده‪.‬‬

‫إنكلت را‪ ،‬أيته ا ال بﻼد الجميل ة‪ ،‬إنن ي أح س بمش اعري ق د انفتح ت كله ا لتس توعب‬
‫أكبر ما يمكن استيعابه وأنا أنقل نظراتي في كل مكان‪.‬‬

‫ف ي النواف ذ اﻷخ رى أطف ال آخ رون يطل ون ف ي ف رح وي ذكرونني بأي ام الس فر إل ى‬


‫المصايف‪ ،‬فيزيد ذلك في أشجاني‪.‬‬

‫وخلفي العائلة الصامتة؛ فﻼ أسمع إﻻّ أخي الصغير وهو يعبث أو يصرخ‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ث م أتج ه ببص ري م رة أخ رى إل ى الحق ول ﻷس تأنف معه ا الح ديث الص امت‪،‬‬


‫فيخيل لي أن نفسي تعاهدها على الوفاء للذكري ما حييت‪.‬‬

‫ول م أك ن أمل ك ‪ -‬وﻻ أزال ‪ -‬م ا يمك ن أن أعب ر ب ه ع ن ه ذا الوف اء س وى الح ديث‪،‬‬
‫ولذلك فقد أمعنت فيه إمعانًا‪.‬‬

‫ف إذا رجع ت إل ى نفس ي س معت ص دى كلم ة واح دة تت ردد ف ي أنحائه ا كم ا يت ردد‬


‫صدى الصوت تحت القباب المترامية هي‪" :‬الوداع"‪.‬‬

‫ي أن‬
‫ال وداع أيه ا الماض ي ال ذي انقض ى من ذ لحظ ات‪ ،‬وم ع ذل ك ب ات يخي ل إل ّ‬
‫س نين طويل ة أص بحت تفص ل بين ي وبين ه لكث رة م ا ض ج ب ه قلب ي من ذ انقض ائه م ن‬
‫خلجات‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لس ت أس تطيع أن أزع م لنفس ي التفكي ر المص يب ف ي تل ك الس ن المبك رة‪ ،‬ولك ن‬
‫عقل ي أنك ر ش يئا ﻻ أدري م ا ه و ف ي ه ذه ال بﻼد‪ .‬ولس ت أس تطيع أن أزع م لقلب ي‬
‫اﻹحس اس المص يب أيض ا ف ي تل ك الس ن‪ ،‬ولكنن ي أحبب ت ش يئا ﻻ أدري م ا ه و ف ي‬
‫ب ﻼدي م راكش‪ .‬لق د كن ت أص غر م ن أن أص اب ب داء التعص ب‪ ،‬وإنم ا كن ت كائن ا‬
‫حي ا بس يط التفكي ر‪ ،‬ولكن ه س ليم الش عور س اذج اﻹحس اس‪ .‬كن ت عل ى اس تعداد ﻷن‬
‫أقول إنه حق ولو كان صادرا عن عدو من أعدائها‪.‬‬

‫اعت دت أن أق ول لنفس ي بع د قض اء م دة ليس ت بالقص يرة ف ي ه ذه ال بﻼد‪ :‬إن ه ذا‬


‫الطف ل المراكش ي ﻻ يق ل ع ن زميل ه اﻹنكلي زي ف ي ش يء‪ .‬إن ه ي تقن اﻷلع اب‪،‬‬
‫وي درك أدق م ا يمك ن أن يدرك ه أي طف ل‪ .‬وم ع ذل ك يوج د ش يء يعوق ه ع ن أن‬
‫يكون تام التكوين‪ ،‬فما هو؟‬

‫إن اﻷطف ال يلعب ون ب نفس الح ذق ال ذي عهدت ه ف ي أطف ال اﻹنكلي ز‪ .‬إنه م يض حكون‬
‫ويبك ون ل نفس اﻷس باب الت ي يض حك له ا ويبك ي أولئ ك اﻷطف ال‪ .‬وج وههم‬
‫ناض رة‪ ،‬وأجس امهم مكتمل ة‪ ،‬وإدراكه م واع‪ .‬وإذا ك ان ل ي أن أت دخل بعقل ي بع د‬
‫نم وه فﻸق ل إن اﻹيم ان ب النفس ه و ال ذي ل م أج د ل ه أث را ب ين أص دقائي الج دد م ن‬
‫اﻷطفال المراكشيين‪.‬‬

‫ك ان الطف ل اﻹنكلي زي كائن ا ت ام التك وين م ن الناحي ة المادي ة والمعنوي ة مع ا‪ ،‬وك ان‬
‫الطف ل المراكش ي تام ا م ن الناحي ة المادي ة فحس ب‪ ،‬أم ا الناحي ة المعنوي ة فكان ت‬
‫خرب ة منه ارة عفن ة‪ .‬إن ه ﻻ يمي ز ب ين الخط أ والص واب إﻻّ عل ى ض وء م ا يس معه‬
‫م ن الكب ار‪ .‬وأس تطيع أن أزع م اﻵن أن لقدم ه الحافي ة ورأس ه الحلي ق وثياب ه‬
‫الفضفاضة دخﻼً في الموضوع‪.‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫إن الطف ل اﻹنكلي زي يط أ برجل ه اﻷرض فيس مع وق ع حدي د الح ذاء عل ى الطري ق‬
‫الص لبة ف إذا برأس ه يرتف ع عالي ا‪ ،‬أم ا الطف ل المراكش ي فيط أ أرض ا رخ وة بق دم‬
‫حافي ة ف ﻼ يس مع ص دى لخطوات ه كأن ه يس ير ف ي الرم ال فيظ ل رأس ه مطأط أ‪.‬‬
‫وك أن الطف ل اﻹنكلي زي عل ى اس تعداد دائ م لمواجه ة التح دي بينم ا ك أن الطف ل‬
‫المراكشي يميل إلى المراوغة وتحيﱡن الفرص‪.‬‬

‫وأس تطيع اﻵن أن أق ول إن وب اء معنوي ا مروع ا ك ان يكتس ح نف وس اﻷطف ال ف ي‬


‫ذل ك الزم ان‪ ،‬وه و ﻻ يق ل خط ورة ع ن اﻷوبئ ة اﻷخ رى الت ي اعت ادت أن تكتس ح‬
‫هذه البﻼد‪.‬‬

‫ول م أك ن ق وي البني ة وﻻ مفت ول العض ﻼت‪ ،‬ولك ن انتش ر ب ين اﻷطف ال أنن ي كن ت‬


‫ف ي إنكلت را‪ -‬ويعل م ﷲ وح ده كي ف ك انوا يتص ورون ال بﻼد اﻷجنبي ة‪ -‬وأنن ي أتق ن‬
‫ف ن المﻼكم ة إتقان ا خطي را‪ ،‬ول ذلك ف إن م ن الس ﻼمة أن يتنح وا ع ن طريق ي‪ .‬ك ان‬
‫يخي ل إل يهم أن ف ي اس تطاعتي أن أص رعهم جميع ا م رة واح دة‪ ،‬ﻷنن ي أتق ن ه ذا‬
‫الفن الغريب الذي ﻻ يحتاج إلى القوة بقدر ما يحتاج إلى التدريب‪.‬‬

‫والواق ع أن ذل ك أيق ظ ف ي غ رورا ﻻ عه د ل ي ب ه م ن قب ل‪ ،‬وأخ ذ ش يء يش به‬


‫الخيﻼء يتلمس الطريق إلى نفسي‪.‬‬

‫ول ن أنس ى ي وم تجم ع اﻷطف ال ح ولي وه م يتوس لون إل ى أن أكش ف ع ن رأس ي‪-‬‬
‫وك انوا يفعل ون ذل ك بتواض ع واض ح مخاف ة م ن اس تفزاز ف ن المﻼكم ة‪ -‬وكان ت‬
‫‪- 123 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لغت ي م ا ت زال ركيك ة‪ ،‬ول ذلك آث رت أن أنه ي المحادث ة برف ع الطرب وش‪ -‬فق د ب دأت‬
‫أرت دي الحل ة الفضفاض ة‪ -‬ف إذا بالدهش ة ترتس م عل ى الوج وه‪ ،‬وإذا باﻷطف ال‬
‫يتب ادلون النظ رات وينص رفون الواح د تل و اﻵخ ر‪ .‬إن عل ى رأس ي ش عرا‪ ،‬وق د‬
‫أوح ي إل يهم ه ذا الش عر أنن ي م ن الك افرين‪ ،‬وس معتهم يقول ون بع د ذل ك ان ه ذا‬
‫الش عر س وف يتح ول إل ى قط ع م ن الحدي د حينم ا أم وت‪ ،‬وإن ﷲ س وف يع اقبني‬
‫بحمل تلك اﻷثقال إلى اﻷبد‪.‬‬

‫آه ي ا رب! ه ل اتف ق الجمي ع هن ا وهن اك عل ى كف ري؟ لق د ح ز اﻷل م ف ي نفس ي له ذا‬


‫الح ادث‪ ،‬فق د أس رعت إل ى المن زل أش كو لوال دي فق ال ل ي‪ :‬إن الح ل الوحي د ه و أن‬
‫تحل ق ه ذا الش عر‪ ،‬أل م تل بس الثي اب المراكش ية؟ إذن ف احلق ش عرك وك ن مث ل‬
‫سائر اﻷطفال‪.‬‬

‫نع م لبس ت الثي اب الفضفاض ة‪ ،‬الثي اب الواس عة الت ي تكف ي لكس اء عش رة م ن‬


‫اﻷطف ال ف ي مث ل حجم ي‪ ،‬الثي اب الت ي تقع د ب ي ع ن الحرك ة وتغرين ي بالكس ل‪،‬‬
‫وتقت ل ف ي جس مي النش اط ق تﻼً‪ ،‬كأنه ا أغ ﻼل لل روح‪ ،‬كأنه ا أص فاد للطفول ة‪ ،‬كأنه ا‬
‫تس رع ب ي إس راعا مخيف ا إل ى أرذل العم ر‪ ...‬وأن ا م ا أزال بع د ف ي زه رة‬
‫طفولتي‪.‬‬

‫والبي وت أيض ا فضفاض ة مث ل الثي اب‪ ،‬فق د ض قت ذرع ا به ذا المي دان الشاس ع ال ذي‬
‫نس كنه كأنن ا ف ي الع راء‪ .‬ألف ت الزخ ارف واﻷعم دة وب دأ يس تيقظ ف ي نفس ي حن ين‬
‫غريب إلى منزل‪ ...‬فهذا الذي نقيم فيه ليس منزﻻً وإنما هو ميدان عام‪.‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫مي دان ع ام يق يم ب ه خل ق كثي ر م ن الش يوخ والكه ول والش بان واﻷطف ال‪ ،‬كأنن ا ف ي‬
‫رحل ة ﻻ نهاي ة له ا‪ .‬لق د كن ت أفه م المن ازل عل ى أنه ا أعش اش هادئ ة ت وقظ به دوئها‬
‫الفض يلة والش اعرية ف ي النف وس‪ ،‬وترض ي نزع ة اﻻس تكانة بع د التع ب‪ .‬أم ا ه ذا‬
‫البي ت ال ذي أس كنه اﻵن فه و مي دان ع ام‪ ،‬أو بعب ارة أص ح‪ ،‬إن ه أش به بثكن ة‬
‫عسكرية ﻻ راحة فيه‪.‬‬

‫إنن ا نتت الى ح ول مائ دة اﻹفط ار إل ى س اعة الغ داء‪ ،‬ونتت الى ح ول مائ دة الغ داء إل ى‬
‫س اعة العش اء‪ ،‬وتتع الى ح ول مائ دة العش اء إل ى وق ت مت أخر م ن اللي ل‪ .‬وﻻ توج د‬
‫غرف ة خاص ة بأح د‪ ،‬الك ل مل ك للك ل‪ ،‬ك ل غرف ة بحس ب الظ روف قابل ة ﻷن تك ون‬
‫للن وم والطع ام والس هر واللع ب‪ .‬إن المك ان مش اع م ن جل س ف ي موض ع فه و ل ه‪،‬‬
‫ومن قام فقد أضاع ما ملك من قبل‪.‬‬

‫ولك ن الحي اة الجدي دة ب الرغم م ن ه ذا كل ه ب دأت تس تدرجني ش يئا فش يئا‪ ،‬ولس ت‬


‫أذك ر الم دة الت ي اس تغرقتها ف ي تعل م لغ ة التخاط ب‪ ،‬ولكنه ا ل م تك ن طويل ة عل ى‬
‫ك ل ح ال‪ ،‬وس رعان م ا أخ ذت دهش تي تض محل ﻷنس اب م ع التي ار‪ ،‬ف إذا ب ي‬
‫أص احب اﻷطف ال وأﻻع بهم وأش ترك فيم ا ك انوا يش تركون في ه م ن أس باب الت آلف‬
‫والتخاص م‪ .‬وﻻ أحس ب أن س نة واح دة انص رمت حت ى كن ت ق د ان دمجت إن دماجا‬
‫غريبا في حياتي الجديدة‪ ،‬وابتعدت ابتعادا غريبا أيضا عن حياتي القديمة‪.‬‬

‫كن ت أذك ر منشس تر وآل ب اترنوس وظلل ت أح ن إل ى الماض ي‪ ،‬ولك ن ال زمن‬


‫الق اهر ب دأ أخي را يع الج قلب ي بالنس يان‪ ،‬وب دأت اللغ ة اﻹنكليزي ة نفس ها تض ل‬
‫الطري ق إل ى لس اني م ع م رور اﻷي ام‪ ،‬حت ى أص بح م ن المتع ذر أن أفهمه ا إذا‬
‫سمعت أحدا يتكلمها‪.‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وهك ذا أص بح ذل ك الطف ل الق ديم ب ين عش ية وض حاها فت ى مراكش يا خالص ا‪ ،‬ﻻ‬


‫يحف ظ م ن حيات ه الماض ية إﻻ ال ذكريات الت ي رس بت ف ي اﻷعم اق‪ ،‬وأص بح م ن‬
‫المس تحيل أن تطف و‪ .‬وكن ت م ن آن ﻵخ ر أذك ر ق ول ميلل ي بأنن ا س وف ننس اهم كم ا‬
‫نس يهم المراكش يون م ن قبلن ا‪ ،‬ف أرى ف ي ذل ك م ا ي دعو إل ى اﻻس تغراب‪ .‬وب ات ف ي‬
‫اس تطاعتي أن أستحض رها أم ام مخيلت ي ف ﻼ أح س بأنفاس ي تحت بس‪ ،‬لق د اس تحال‬
‫اللهيب إلى رماد‪.‬‬

‫أم ا أخت ي فم ا ك ادت تح ل به ذه ال بﻼد حت ى انتب ذت زاوي ة م ن زواي ا المن زل‪ ،‬ول م‬
‫تس تطع أن تنس جم م ع الحي اة الجدي دة‪ ،‬ل ذلك ظل ت تتب ع الحرك ات والس كنات‬
‫بعين ين منطفئت ين ف ي وج ه ش احب‪ .‬وكان ت نظراته ا العليل ة تطف ح بض جر مم زوج‬
‫بالس خرية‪ ،‬وم ع ذل ك ظل ت معتص مة بع دم المب اﻻة‪ ...‬وك ان وجهه ا ي زداد ش حوبا‬
‫م ع م رور ال زمن‪ ،‬وكان ت العل ة ماض ية ف ي ارتش اف البش ر م ن وجهه ا الباه ت‬
‫الحزين‪.‬‬

‫ان دمج وال دي ف ي الحي اة المراكش ية من ذ الي وم اﻷول‪ ،‬ولك ن أب ي م ع ذل ك ظ ل‬


‫ش ارد الفك ر‪ ،‬مس تغرقا ف ي ح ل ألغ از العملي ة الحس ابية الوهمي ة الت ي ك ان يخي ل‬
‫ي أن ه م ا ي زال منهمك ا ف ي ح ل رموزه ا من ذ أيامن ا اﻷخي رة ف ي منشس تر‪ .‬ولك ن‬
‫إل ّ‬
‫كان يبدو أنه لم يصل فيها إلى أي حل‪.‬‬

‫وف تح اﻷخ الص غير عين ه‪ ،‬وب دأ يخط و خطوات ه اﻷول ى‪ ،‬ولكن ه ف تح عين ه عل ى‬
‫م راكش وح دها‪ ،‬وخط ا خطوات ه اﻷول ى عل ى أرض ها‪ ،‬فك ان مثل ه كمثل ي حينم ا‬
‫فتحت عيني وخطوت خطواتي اﻷولى في غير اﻷرض التي ولدت فيها‪.‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وم ا لبث ت اﻷم ور أن اس تقامت وان دمجنا جميع ا ‪ -‬طوع ا أو كره ا ‪ -‬ف ي ه ذه‬
‫الحي اة الجدي دة الت ي ل م يك ن لن ا ب د م ن اﻻن دماج فيه ا‪ .‬وب ات م ن المح تم التفكي ر ف ي‬
‫ه ذا الطف ل ال ذي اقت رب م ن س ن العاش رة وه و ﻻ ي زال ل م ي تعلم الق راءة والكتاب ة‬
‫في هذه البﻼد‪.‬‬

‫كن ت أتمت ع بحري ة واس عة النط اق ﻷن ه ك ان م ن المتع ذر إرس الي إل ى المدرس ة‬


‫قب ل أن أتق ن لغ ة التخاط ب‪ ،‬وق د راقن ي ذل ك ج دا‪ ،‬وك ان اﻷطف ال ينظ رون إل ى‬
‫هذا اﻻمتياز بعين الغبطة‪.‬‬

‫ولك ن اﻷم ر ل م يط ل فق د ب دأ أب ي يفك ر ف ي إرس الي إل ى المدرس ة‪ ،‬وأص بح الن اس‬


‫ي أن أض رب ص فحا ع ن ك ل م ا تعلمت ه‬ ‫جميع ا ينتق دون جه التي‪ ...‬وهك ذا ك ان عل ّ‬
‫في المدرسة يمنشستر وأن أشرع في تعلم جديد من المرحلة اﻷولى‪.‬‬

‫وحاول ت أن أق اوم ولك ن اﻷم ر ك ان ج ّدا ك ل الج د‪ ،‬وب دأ أقرب ائي كله م يحبب ون إل ّ‬
‫ي‬
‫المدرس ة فك ان نف وري منه ا ي زداد‪ ،‬ﻷنن ي كن ت أس مع أحادي ث اﻷطف ال عنه ا‪،‬‬
‫فك ان ص وابي يطي ر له ذه العقوب ات الت ي كان ت تن زل به م فيه ا وخصوص ا حينم ا‬
‫س معت طف ﻼً يق ول إن )الفقي ه( ال ذي يعلم ه يخف ي تح ت الخش بة الص غيرة الت ي‬
‫يجل س عليه ا مسدس ا مخيف ا‪ ،‬وم ن المتوق ع ف ي ك ل وق ت إذا م ا اس تبد ب ه الغض ب‬
‫أن يشهره في وجه تلميذ مشاكس ويطلق عليه النار‪....‬‬

‫وق د طالم ا وقف ت أم ام الكتاتي ب وأن ا أس تمع إل ى ه ذا الض جيج ال ذي يحدث ه فيه ا‬
‫التﻼمي ذ‪ ،‬وأت وجس خيف ة م ن أن ي زج ب ي ف ي إح داها ويطل ب من ي المش اركة ف ي‬

‫‪- 127 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ه ذا الص خب ب أعلى ص وتي ط ول النه ار‪ .‬وك ان مج رد تص ور نفس ي بي نهم يثي ر‬


‫في قلبي رعبا شديدا‪.‬‬

‫ولم ا أعرب ت ﻷب ي عم ا يس اورني ‪ -‬وه و يطل ب من ي أن أس تعد لل ذهاب إل ى‬


‫المدرس ة غ دا ‪ -‬ض حك وه و يطمئنن ي إل ى أن هن اك فرق ا كبي را ب ين الكتاتي ب‬
‫والمدرس ة‪ ،‬وأك د ل ي أن المدرس ة الت ي س وف أرس ل إليه ا ل ن تفت رق كثي را ع ن‬
‫المدرس ة الت ي عرفته ا ف ي منشس تر‪ ،‬وق ال إن الف رق الوحي د ه و أن ال دروس‬
‫كان ت تلق ي ف ي مدرس تك باللغ ة اﻹنكليزي ة أم ا ف ي المدرس ة الجدي دة فه ي تلق ي‬
‫باللغة العربية واللغة الفرنسية‪.‬‬

‫ي أن يتك رر ح ادث ذه ابي إل ى المدرس ة ﻷول م رة‬ ‫وب ذلك ب ات م ن المف روض عل ّ‬
‫م ن جدي د‪ .‬فحينم ا اس تيقظت ف ي الص باح وج دتني أس ير ف ي الطري ق م ع وال دي‬
‫ي نف س‬ ‫ﻷلتح ق بالمدرس ة‪ ،‬وأب دأ ال تعلم م ن أول مرحل ة للم رة الثاني ة‪ ،‬فاس تولى عل ّ‬
‫الش عور الق ديم حينم ا التحق ت بالمدرس ة ف ي إنكلت را‪ .‬ولكنن ي م ا لبث ت من ذ الي وم‬
‫اﻷول أن أدركت الفارق الكبير بين المدرستين‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫وج دت نفس ي ف ي المدرس ة الجدي دة أتلق ى دروس ي باللغ ة العربي ة واللغ ة الفرنس ية‪،‬‬
‫ول م يك ن يخط ر ل ي عل ى ب ال أن ه توج د مدرس ة يمك ن أن تش بع ف ي نفس ي البهج ة‬
‫مثل مدرستي هذه‪.‬‬

‫وكان ت ال دروس العربي ة مص درا م ن مص ادر اﻻنش راح‪ ،‬وكان ت ال دروس‬


‫الفرنس ية مص درا م ن مص ادر ه ذا اﻻنش راح أيض ا‪ ،‬ول م يك ن ذل ك يرج ع إل ى أنن ي‬
‫كن ت متفوق ا ب ين التﻼمي ذ فإن ه ﻻ يوج د ف ي ه ذه المدرس ة م ا ي دعى ب التفوق‪ .‬وﻻ‬
‫يوجد بها تلميذ واحد يعرف ما قصد إليه أهله من إرساله إلى المدرسة‪.‬‬

‫كن ت أخش ى المدرس ة‪ ،‬ف إذا ب ي أج دها ﻻ تفت رق كثي را ع ن الس ينما‪ .‬وك ان آخ ر م ا‬
‫يمك ن أن يخط ر بب الي أن تبع ث ال دروس التﻼمي ذ عل ى اﻻسترس ال ف ي الض حك‪،‬‬
‫وربما على التصفيق‪.‬‬

‫ك ان م درس الفرنس ية م ن اﻹخ وان الجزائ ريين‪ ،‬وك ان لن ا مدرس ان عربي ان‪،‬‬
‫أح دهما يلق ي علين ا ه ذه الم ادة الت ي ت دعى )العل م( وثانيهم ا ي دربنا عل ى حف ظ‬
‫كت اب ﷲ الك ريم‪ .‬ك ان الثﻼث ة يثي رون فين ا الض حك جميع ا‪ ،‬ولك ن اخ تﻼف‬
‫شخص ياتهم ك ان يجع ل لك ل واح د م نهم طابع ا خاص ا ف ي إث ارة الض حك والم رح‬
‫بين التﻼميذ‪.‬‬

‫م درس اللغ ة الفرنس ية رج ل نحي ل‪ ،‬يمي ل وجه ه إل ى الع رض أكث ر مم ا يمي ل إل ى‬


‫الط ول‪ ،‬يل بس عل ى رأس ه الع ريض طربوش ا ش ديد القص ر‪ ،‬فك ان يب دو لن ا كم ا ل و‬
‫كن ا ن راه مجل وا ف ي م رآة مش وهة‪ ....‬قص ير القام ة‪ ،‬يرت دي برنس ا دون جلب اب‪،‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫يحل و ل ه دائم ا أن يرم ي بجناحي ه مع ا إل ى ال وراء‪ ،‬ويعق د عليهم ا يدي ه النحيلت ين‬
‫المش عرتين‪ ،‬وك ان ش عر ذقن ه الحلي ق كثيف ا يتط اول فيك اد يص ل إل ى عين ه‪،‬‬
‫وينح در إل ى مس افة بعي دة م ع عنق ه‪ .‬ش ديد س واد ش عر الح اجبين‪ ،‬ول ه عين ان‬
‫حادت ان قلقت ان‪ ،‬وأن ف أفط س‪ .‬وك ان ص وته قوي ا ح ادا‪ ،‬وب ذلك ك ان مج رد النظ ر‬
‫إلي ه ‪ -‬وه و ي ذرع الفص ل ‪ -‬يغرين ي ب أن أسترس ل ف ي الض حك دون أن أع رف‬
‫لماذا‪ ،‬ولهذا كنت أحرص حرصا شديدا على أﻻ أنظر إليه‪.‬‬

‫ك ان ي دخل الفص ل ف ي الص باح ويق ف عن د باب ه وه و يم ر بعيني ه الض يقتين ب ين‬
‫الكراس ي يحص ي م ن تخل ف م ن التﻼمي ذ‪ ،‬ث م يتم تم ببض ع كلم ات ب ين أس نانه ف ي‬
‫ش به حن ق‪ ،‬ث م يتج ه إل ى المنص ة الت ي ك ان يجل س عليه ا‪ ،‬حت ى إذا م ا اس تقر ف ي‬
‫مكان ه ض رب إح دى كفي ه ب اﻷخرى وش رع يلق ي ه ذه الح روف الفرنس ية المع دودة‬
‫بش فتين ممط وطتين وص وت ح اد‪ .‬وك ان وجه ه يعب ر تعبي را غريب ا عم ا يثي ره‬
‫الصياح بهذه الحروف من معان في نفسه‪.‬‬

‫ولنف رض أن تلمي ذا مت أخرا دخ ل الفص ل وه و يلق ي ال دروس‪ ،‬ه ل تعرف ون م اذا‬


‫ك ان يص نع؟ ك ان يتوق ف ع ن الص ياح بح روف العل ة‪ ،‬ويش رق وجه ه إش راقا‬
‫غريب ا كم ن عث ر عل ى ض الة‪ ،‬ك ل ذل ك وه و يش د يدي ه خل ف ظه ره‪ ،‬ث م ينظ ر إل ى‬
‫زاوي ة الس قف‪ ،‬ويس ير كأن ه غاف ل نح و التلمي ذ المت أخر‪ ،‬ف إذا م ا قارب ه دار حول ه‬
‫وه و ينظ ر إل ى الس قف‪ .‬ك ل ذل ك والتﻼمي ذ يتطلع ون إل ى م ا س وف يح دث‪ .‬وفج أة‬
‫يص يح ب أعلى ص وته ص يحة ت رتج له ا حيط ان الفص ل‪) :‬أي ن ت أخرت أيه ا‬
‫الخنزير؟(‪.‬‬

‫ث م يخف ض ص وته وينحن ي عل ى التلمي ذ وه و يبتس م ويق ول‪ :‬لعل ك ت أخرت ف ي أك ل‬


‫)الكفتة والفلوس(؟ أليس كذلك يا عزيزي؟‬

‫‪- 130 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ويرتفع صوته بالصياح مرة أخرى‪ :‬نعم كنت تأكل الكفتة والفلوس!‬

‫حت ى إذا م ا انته ى ه ذا الهم س والص ياح والتمثي ل ض رب التلمي ذ ض ربا مبرح ا‬
‫وأرس له إل ى مجلس ه ف ي الفص ل‪ ،‬ث م يع ود ويعتل ي منص ته‪ ،‬ويض رب ي ده ف وق‬
‫ص دره المن تفخ‪ ،‬وينظ ر إل ى التﻼمي ذ يمين ا وش ماﻻً بعين ين ج احظتين كأن ه يقل د‬
‫نابليون بونابارت‪.‬‬

‫وﻻ يك اد يع ود إل ى الص ياح ب الحروف الفرنس ية حت ى ينص رف عنه ا م رة أخ رى‬


‫وتب رق عين اه ويقف ز م ن المنص ة ويتج ه إل ى م ؤخرة الفص ل عل ى أط راف أص ابعه‬
‫ليض بط تلمي ذا متلبس ا بجريم ة اﻻنص راف ع ن ال دروس‪ ،‬فيمس كه م ن أذن ه‬
‫ويس حبه هك ذا إل ى مك ان ب ارز أم ام التﻼمي ذ‪ .‬ك ل ذل ك وه و يس ير عل ى أط راف‬
‫أص ابعه‪ ،‬ويش ير بالص مت واﻷطف ال يكتم ون ض حكاتهم لك ي يح افظوا عل ى م ا‬
‫يشير به‪.‬‬

‫ويوقف ه أم ام التﻼمي ذ وه و يص يح‪ :‬ه ا أن ت ذا! ث م يهم س مبتس ما‪ :‬لم اذا كن ت‬
‫منص رفا ع ن ال درس؟ وم اذا كن ت تص نع؟ لق د عرف ت اﻵن م اذا كن ت تص نع‪.‬‬
‫أص ابك العط ش فانص رفت ع ن ال درس إل ى ش رب الحب ر م ن ال دواة‪ ،‬أو تش رب‬
‫الحبر أيها القذر؟‬

‫‪- 131 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ويض ج التﻼمي ذ بالض حك‪ ،‬بينم ا ينص رف م درس اللغ ة الفرنس ية إل ى تلمي ذه‬
‫الغافل‪.‬‬

‫وهك ذا ك ان يقض ي س اعات طويل ة م ن النه ار يص يح قل يﻼً ب الحروف واﻷرق ام‪،‬‬


‫وينص رف كثي ًرا إل ى تمثي ل عش رات م ن ه ذه اﻷدوار الت ي كان ت بارع ة ف ي نظ ر‬
‫التﻼميذ‪ ،‬ﻷنها كانت تنقذهم من مشقة اﻻستماع إلى الصياح‪.‬‬

‫ك ان ه ذا الم درس يس تأثر بمعظ م ال دروس ف ي الص باح وبع د الظه ر‪ .‬أم ا‬
‫المدرس ان اﻵخ ران فكان ت تخص ص لهم ا أوق ات قص يرة ك ل ي وم ﻻ تتع دى‬
‫الساعة‪.‬‬

‫وأولهم ا م درس م ادة العل م‪ .‬وه ي م ادة كثي رة اﻷلغ از متش عبة‪ ،‬اص طلح التﻼمي ذ‬
‫دون اتف اق عل ى أنه ا مس تحيلة الفه م‪ .‬ول ذلك يئس وا منه ا وانص رفوا عنه ا إل ى‬
‫العب ث العلن ي أم ام مدرس ها دون أن يحفل وا بض ربه وص ياحه‪ ،‬انص رفوا عن ه‬
‫متح ّدِين ل ه‪ ،‬غي ر ح افلين بم ا ي نجم ع ن ه ذا اﻻنص راف ﻷن ه ل م تك ن له م عن ه‬
‫حيل ة‪ .‬ك ان رج ﻼً ب دينا قص ير القام ة يرت دي ثياب ا فضفاض ة‪ ،‬وق د اس تقرت عل ى‬
‫رأس ه عمام ة واس عة اﻷرج اء‪ ،‬وحف ت بوجه ه لحي ة كبي رة به ا بض ع ش عرات‬
‫بيض اء‪ .‬أم ا ذقن ه فك ان دائ م البل ل لكث رة ص ياحه‪ ....‬ك ان يض رب براحت ه عل ى‬
‫المنض دة وه و ي رطن بألغ ازه‪ ،‬ويض رب به ا عل ى وج وه التﻼمي ذ وه م ﻻه ون بق وة‬
‫شديدة‪.‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ك ان يض رب وي رفس ويص يح بك ل م ا في ه م ن ق وة‪ ،‬وك ان بص ره يلته ب ووجه ه‬


‫يحم ر وتن تفخ أوداج ه وه و يص يح ويرس ل الش تائم بص وت ع ال ج دا‪ ،‬واض ح‬
‫ج دا‪ ،‬م زعج ج دا حت ى إن ه ليخي ل إلي ك م ن كث رة جلبت ه أن ه انقل ب إل ى عش رين م ن‬
‫المدرسين‪.‬‬

‫ويعيي ه الص ياح والض رب‪ ،‬وتعيي ه الحيل ة ﻷج ل أن ينب ه التﻼمي ذ ‪ -‬دون ج دوى ‪-‬‬
‫إل ى أن ه موج ود ف ي الفص ل‪ ،‬فيتهال ك عل ى وجه ه ف وق المنض دة حت ى يخي ل إلي ك‬
‫أن ه يبك ي‪ ،‬فيقب ل علي ه التﻼمي ذ يربت ون عل ى كتف ه ويواس ونه‪ ،‬فيطي ر ص وابه‬
‫ويق ذف بالعمام ة ف ي اله واء ويرف ع يدي ه ويس تبد ب ه الص ياح اس تبدادا مخيف ا‬
‫فينطلق إلى الباب لينادي مدير المدرسة نداءات متوالية مدوية‪.‬‬

‫ويس تمر ف ي ص ياحه م دة تط ول أو تقص ر‪ ،‬والتﻼمي ذ مش دوهون ق د انص رفوا ع ن‬


‫الض حك والعب ث له ول الموق ف‪ .‬وأخي را يقب ل الم دير‪ ،‬وه و ش يخ جزائ ري وئي د‬
‫الخطى‪ ،‬هادئ اﻷعصاب‪ ،‬ﻻ تفارق اﻻبتسامة شفتيه الذابلتين‪.‬‬

‫وﻻ يك اد الم دير الش يخ يقت رب م ن ب اب الفص ل حت ى يص يح ب ه الم درس ب أعلى‬


‫ص وته‪ ،‬أن تع ال أنق ذني م ن تﻼمي ذك‪ ،‬إنه م ي دفعون ب ي إل ى الجن ون‪ ،‬إن مدرس تك‬
‫هذه مباءة للشياطين والمردة من أبناء البشر‪ .‬أيها المدير‪ ،‬أنقذني‪ ،‬أنقذني!‬

‫وبينم ا ك ان م درس "العل م" يرس ل ه ذه الص يحات ف ي وج ه الم دير البش وش‪ ،‬ك ان‬
‫هذا ينظر إليه في هدوء عجيب‪ .‬وأخيرا يسأله‪:‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪ -‬ألست أنت اﻷستاذ في الفصل؟‬

‫فيجي ب ث ائرا ً‪ :‬نع م أن ا اﻻس تاذ‪ ،‬ولك ن الحيل ة أعيتن ي م ع ه ؤﻻء الم ردة‪ ،‬أقب ل‪ ،‬أقب ل‬
‫وأنقذني منهم!‬

‫فيق ول الم دير‪ :‬ه ل أنادي ك ف ي دروس ي لتنق ذني م نهم؟ ه ل أس تغيث ب ك؟ أن ت‬
‫المدرس فدبر شؤون دروسك بنفسك‪ ،‬كما أدبر أنا شؤون دروسي بنفسي‪.‬‬

‫ق ال ذل ك وه و ينص رف به دوء ب نفس الخط ى الوئي دة الت ي أقب ل به ا‪ .‬وهن ا يص يح‬


‫م درس م ادة "العل م" فيرف ع عص اه يض رب به ا ش ماﻻً ويمين ا ويص يح ويلع ن‪ .‬ث م‬
‫يلف نفسه لفا عصبيّا في برنسه ويغادر الفصل وهو يتعثر من شدة اﻻهتياج‪.‬‬

‫بع د ذل ك ي أتي دور الم درس الثال ث وه و ال ذي يم رن التﻼمي ذ عل ى حف ظ اﻵي ات‬


‫القرآني ة‪ .‬رج ل رب ع القام ة ف ي عنف وان الق وة والحيوي ة‪ ،‬جمي ل المحي ا‪ ،‬ك ث‬
‫اللحي ة‪ ،‬ذو عين ين نف اذتين‪ .‬وك ان إل ى جان ب ذل ك هادئ ا يح يط نفس ه بهال ة م ن‬
‫الوق ار والهيب ة‪ .‬تقابل ه ف ي ع رض الش ارع فيب دو ج م التواض ع حي ي الط رف‪ ،‬حت ى‬
‫إذا ع دت فرأيت ه ف ي المدرس ة خي ل إلي ك أن ه ش خص آخ ر‪ .‬ك ان فيه ا دائ م الوعي د‬
‫والتهدي د‪ ،‬يل وح بي ده القوي ة ف ي اله واء فيش يع الرع ب الش ديد ف ي قل وب التﻼمي ذ‪.‬‬
‫وك انوا جميع ا يخش ونه دون اس تثناء‪ ،‬وكان ت نظ رة واح دة من ه إل ى أي تلمي ذ كافي ة‬
‫ﻹرجاعه في الحال إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫خصص ت له ذا الرج ل حج رة يجع ل منه ا كتّاب ا يختل ف إلي ه اﻷطف ال قب ل موع د‬


‫ال دروس ف ي الص باح‪ ،‬وبع د موع دها ف ي المس اء‪ ،‬وك ان التﻼمي ذ يخش ونه‪،‬‬
‫فينزع ون إل ى اله روب من ه‪ .‬ول م يك ن ه ذا اله روب يقتض ي كبي ر عن اء‪ ،‬إذ‬
‫يس تطيعون ف ي الص باح أن يت أخروا إل ى موع د ال دروس‪ ،‬وف ي المس اء يس تطيعون‬
‫الخ روج م ن الب اب الخلف ي‪ ،‬دون أن يحاس بهم أح د عل ى ذل ك‪ .‬ب ل ك ان ك ل تلمي ذ‬
‫ي أتي م ن وال ده بطل ب اﻹعف اء م ن اﻻخ تﻼف إل ى الكت اب يتمت ع به ذا اﻻمتي از‬
‫رس ميا‪ ،‬وف ي اس تطاعته بع د ذل ك أن يم ر ب ه ويحيي ه وينص رف دون أن يخش ى‬
‫ش يئا‪ ،‬ﻷن ق انون المدرس ة ك ان يحمي ه م ن اﻻنكب اب عل ى حف ظ م ا أن زل ﷲ عل ى‬
‫عبده من آيات بينات‪.‬‬

‫ووي ل لل ذين يهرب ون دون أن يق دموا للمدرس ة طلب ا ممه ورا بتوقي ع وﻻة أم ورهم‪.‬‬
‫وﻻ ي أتيهم ه ذا الوي ل م ن قب ل المدرس ة أو م ديرها‪ ،‬وإنم ا ي أتيهم م ن قب ل ص احبنا‬
‫ه ذا الق وي العني ف‪ .‬فق د ك ان يعل م أن مس تقبل ه ذه الحج رة الت ي خصص ت ل ه‬
‫ره ين باﻹقب ال عليه ا‪ ،‬ف إذا تس امح ف ي تتب ع اله اربين‪ ،‬فس وف ي أتي الي وم ال ذي‬
‫تق رر في ه المدرس ة اﻻس تغناء عنه ا‪ ،‬ول ذلك فق د ج رد عزيمت ه تجري دا مخيف ا‪ ،‬وب دأ‬
‫يترص د التﻼمي ذ‪ ،‬ويت ربص به م‪ ،‬ويعت رض ط ريقهم‪ .‬وق د انص رف إل ى دراس ة‬
‫ح يلهم ف ي اله رب انص رافا دقيق ا‪ ،‬حت ى أتقنه ا جميع ا‪ ،‬وب ات ف ي اس تطاعته أن‬
‫يحبطها جميعا‪.‬‬

‫وأن ا م دين له ذا الرج ل‪ ،‬ﻷن ه أول م ن علمن ي الق راءة والكتاب ة ف ي ص ورتها‬
‫البس يطة الس اذجة‪ .‬وأذك ر أنن ي كن ت أخش اه ب الرغم م ن أن ه ل م يمس ني من ه س وء‪.‬‬
‫فق د نش أ بين ي وبين ه ن وع م ن اﻻحت رام عرف ت فيم ا بع د أن ه ك ان نتيج ة لمقابل ة تم ت‬
‫بينه وبين والدي دون أن أعلم عنها شيئا‪.‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫كان ت حجرت ه تض م مزيج ا عجيب ا م ن التﻼمي ذ‪ ،‬فم نهم الص غير ال ذي ي تعلم الق راءة‬
‫والكتاب ة ف ي المرحل ة اﻷول ى‪ ،‬وم نهم المتوس طون ال ذين ب دأوا يقطع ون أش واطا ﻻ‬
‫ب أس به ا ف ي حف ظ الس ور واﻵي ات‪ ،‬وم نهم الكب ار ال ذين أتقن وا حف ظ كت اب ﷲ‬
‫الك ريم لكث رة م ا م روا ب ه ط ردا وعكس ا‪ .‬فل م تك ن ه ذه الحج رة مخصص ة لس نة‬
‫دون أخرى‪ ،‬بل كانت مخصصة لتﻼميذ الفصول كلها‪.‬‬

‫ك ان م ن ب ين ه ؤﻻء الص غار فت ى ن اهز العش رين م ن عم ره‪ ،‬اعت اد أن يس رد ك ل‬


‫ي وم حزب ا م ن كت اب ﷲ المب ين والم درس يس تمع إلي ه‪ ،‬وك ان فت ى قوي ا خش نا تكف ي‬
‫نظ رة واح دة إلي ه لمعرف ة أن ه عل ى اس تعداد لخ وض المك اره‪ ،‬وك ان ص احبنا‬
‫يحترم ه احترام ا ش ديدا‪ ،‬وﻻ يص يح ب ه وﻻ يس تحثه‪ ،‬وك ان يعطي ه حري ة واس عة‬
‫النط اق‪ ،‬بحي ث ك ان ف ي اس تطاعته أن ي أتي وينص رف ف ي المواعي د الت ي‬
‫يختاره ا‪ ،‬وك ان يحيي ه كلم ا أقب ل وكلم ا ه م باﻻنص راف‪ ،‬وه ذا م ا ل م يك ن يتمت ع‬
‫به تلميذ غيره‪.‬‬

‫وذات ي وم حص ل م ا عك ر العﻼق ات ب ين اﻷس تاذ والتلمي ذ‪ ،‬فل م يك د الفت ى يقب ل‬


‫حت ى أع رض عن ه اﻷس تاذ إعراض ا لف ت نظ ر الص غار جميع ا‪ ،‬فك انوا ينقل ون‬
‫نظ راتهم ب ين الشخص ين ف ي حي رة وان دهاش‪ ،‬كم ا ينق ل النظ ر ب ين ن دين نش أ‬
‫بينهم ا غض ب مف اجئ‪ .‬وك ان اﻷس تاذ م ن آن ﻵخ ر يرمي ه بنظ رات ص اعقة تض ج‬
‫باﻻس تخفاف واﻻزدراء‪ ،‬ث م تط ور اﻷم ر م ن ه ذه النظ رات إل ى الك ﻼم‪ ،‬إذ وج ه‬
‫إلي ه اﻷس تاذ بض ع كلم ات ع رف منه ا أن الفت ى أت ى أم را مش ينا‪ ،‬ف رد علي ه ه ذا‬
‫بك ﻼم فه م من ه أن ه ﻻ يعب أ باهتم ام اﻷس تاذ‪ .‬عندئ ذ س اد الحج رة ص مت رهي ب‪ ،‬فق د‬
‫تط اير الش رر م ن عين ي ص احبنا وه و يض رب بعص ا ف ي اله واء‪ ،‬ويطل ب م ن‬
‫التلمي ذ ال ذي ن اهز العش رين م ن العم ر أن ي دخل ه ذه الحج رة المج اورة الخالي ة‪،‬‬
‫وح اول التلمي ذ أن يه رب ولك ن اﻷس تاذ اعت رض س بيله‪ ،‬ودفع ه داخ ل الحج رة‪،‬‬
‫فح اول أن يق اوم ولكن ه اس تحيا‪ .‬ودخ ل اﻷس تاذ ف ي أث ره وه و يتمي ز م ن الغ يظ‪ ،‬ث م‬
‫انقض عليه في جنون‪ ،‬فلم يلق مقاومة تذكر في أول اﻷمر‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ك ل ذل ك ونح ن ننظ ر مش دوهين إل ى ه ذا الح ادث الرائ ع ال ذي ل م يخط ر لن ا عل ى‬


‫ب ال أن ال دهر س وف يس مح لن ا بمش اهدته‪ .‬فق د اس تيقظت الهم ة ف ي ص در التلمي ذ‬
‫عق ب اﻹهان ات المتوالي ة الت ي وجه ت إلي ه‪ ،‬فاش تبك م ع الرج ل ف ي ص راع‬
‫مخي ف‪ .‬فقف زت قلوبن ا الص غيرة إل ى حناجرن ا ونح ن نتتب ع ه ذه الض ربات المتتالي ة‬
‫الت ي كان ا يتبادﻻنه ا‪ .‬ث م س قطا مع ا إل ى اﻷرض‪ ،‬وزاد اش تباكهما‪ ،‬وغال ب الفت ى‬
‫الق وي أس تاذه م ا اس تطاع إل ى المغالب ة س بيﻼً‪ .‬وأخي را تمك ن ه ذا م ن أن يج ثم عل ى‬
‫ص دره‪ ،‬ويكي ل ل ه ض ربات قاتل ة‪ .‬ك ل ذل ك والج دران واﻷب واب تهت ز كم ا ل و كان ا‬
‫ثورين يتنازﻻن‪.‬‬

‫ي أن‬‫ازدادت مخ اوفي بع د ه ذه الحادث ة المروع ة الت ي أث ارت قلق ي‪ ،‬وب دأ يخي ل إل ّ‬


‫ي أن‬ ‫ي ق د اعت راه بع ض التغيي ر‪ ،‬ث م خي ل إل ّ‬ ‫نظ ر ص احبنا ه ذا الطاغي ة إل ّ‬
‫العﻼق ات بين ي وبين ه أخ ذت تس عى إل ى الت وتر‪ ،‬وأخي را ب دا ل ي م ن اليق ين أن ه‬
‫يت ربص ب ي حت ى إذا أقبل ت م ع جماع ة م ن التﻼمي ذ ف ي وق ت مت أخر‪ ،‬أم ر ب أن‬
‫ترف ع أرجلن ا للض رب‪ .‬وكن ا س بعة‪ ،‬فلم ا ُرفع ت رج ﻼ التلمي ذ الس ادس أيقن ت أن‬
‫دوري آت ﻻ ري ب في ه‪ .‬فأجمع ت أم ري م رة واح دة‪ ،‬واتجه ت ببص ري إل ى‬
‫الب اب‪ ،‬وف ي لم ح البص ر كن ت أع دو ف ي الطري ق إل ى ب اب المدرس ة الخ ارجي‬
‫ك أنني أس ابق عاص فة هوج اء‪ ،‬وتبعن ي اثن ان أو ثﻼث ة م ن التﻼمي ذ ب أمر م ن‬
‫اﻷس تاذ ﻻعتق الي‪ ،‬ولك ن هيه ات! فق د ك ان الع دو الش يء الوحي د ال ذي كن ت أمت از‬
‫ب ه ب ين أقران ي الص غار‪ .‬ومن ذ ذل ك الي وم ألغي ت ه اتين الس اعتين اللت ين ك ان‬
‫يقتطعهم ا م ن وقت ي أس تاذ الق رآن‪ .‬وق د ح اول أن يعت رض طريق ي ويط اردني‬
‫ي أب دا‪ .‬وق د انقطع ت العﻼق ة بين ي وبين ه من ذ ذل ك‬
‫ولكن ه ل م ي تمكن م ن الق بص عل ّ‬
‫الح ين‪ ،‬دون أن أحت اج إل ى تق ديم موافق ة وال دي عل ى ذل ك‪ ،‬فق د أخ ذت عل ى ع اتقي‬
‫أن أتخل ص من ه م ن غي ر أن يعل م وال دي‪ ،‬ﻷنن ي كن ت أع رف أن آخ ر م ا ك ان‬
‫يمكن أن يقبله هو مساعدتي على الهرب من حفظ تنزيل العزيز العليم‪.‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫‪22‬‬

‫انس ابت بن ا الحي اة بع د ذل ك انس يابا ناعم ا هادئ ا‪ ،‬عل ى النح و ال ذي م ا ت زال تنس اب‬
‫ب ه إل ى الي وم‪ ،‬م ع خ ﻼف بس يط ﻻ عﻼق ة ل ه ب الجوهر‪ ،‬ف ﻼ داع ي لتتب ع التفاص يل‪.‬‬
‫بي د أن شخص ا واح دا ل م يك ن ينس اب م ع ه ذه الحي اة الناعم ة الهادئ ة‪ ،‬وه ذا‬
‫الش خص ه و أخت ي الت ي تش بثت به ا العل ة وازدادت وطأته ا ش دة‪ ،‬وأص بحت تفق د‬
‫وعيه ا م ن وق ت ﻵخ ر‪ ،‬واش تد هزاله ا وه ي طريح ة الف راش‪ .‬ل م أر ف ي ه ذا ش يئا‬
‫غي ر ع ادي‪ ،‬ﻷن الحي اة الجدي دة الت ي انس جمت فيه ا أس رتني‪ ،‬انص رفت إل ى‬
‫اﻻس تمتاع به ا‪ ،‬وإذا كن ت آس ف ب ين الفين ة واﻷخ رى ﻷن أخت ي ل م تش اركني ف ي‬
‫ه ذا ف إن إيم اني بأنه ا س وف تس تمتع به ا ف ي ي وم م ن اﻷي ام ك ان يخف ف م ن ح دة‬
‫اﻷسف‪ ،‬بالرغم من أنها ظلت تعيش غريبة في وسطها الجديد‪.‬‬

‫وف ي ي وم م ن أي ام عاش وراء ظلل ت ألع ب ط ول النه ار دون أن أت ذكرها‪ ،‬ولم ا‬


‫ع دت إل ى المن زل دخل ت الغرف ة الت ي كان ت توج د به ا‪ ،‬وكان ت نائم ة يح ف به ا‬
‫بع ض أف راد العائل ة‪ ،‬فم ا ك دت أمث ل أمامه ا حت ى فتح ت عينيه ا كم ا ل و كان ت مع ي‬
‫عل ى ميع اد‪ .‬عين ان خابيت ان منطفئت ان ف ي وج ه أص فر ش احب‪ ،‬ب دا ل ي أنه ا تب ذل‬
‫مجه ودا كبي را ﻷج ل أن تمك ن اﻻبتس امة م ن أن تتعل ق ‪ -‬وه ي خ ائرة ‪ -‬بش فتيها‬
‫‪- 138 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ال ذاويتين‪ ،‬ث م همس ت بألف اظ عليل ة هزيل ة واهي ة ف ي ل وم مم زوج بدعاب ة ميت ة‪ :‬ي ا‬
‫ل ك م ن أخ ع اق! أﻻ تق دم ﻷخت ك بعض ا م ن ه ذه اللع ب الكثي رة الت ي تحمله ا‪،‬‬
‫احتفظ لي بواحدة ألعب بها بعد الشفاء‪.‬‬

‫ﻻ أع رف بم اذا أجبته ا‪ ،‬ولك ن طلبه ا ب دا ل ي ف ي نف س الوق ت عادي ا‪ .‬إنه ا تري د‬


‫إح دى لعب ي‪ ،‬س وف أح تفظ له ا به ا‪ ،‬فق د طالم ا تهادين ا بلعبن ا‪ ،‬ب ل كان ت دائم ا‬
‫مش اعة بينن ا‪ .‬وإذا كن ت ق د غب ت ط ول النه ار ﻷول م رة ف ي حي اتي‪ ،‬فل يس ف ي‬
‫ذل ك م ا ي دعو إل ى اﻻهتم ام‪ .‬عرض ت عليه ا اﻷلع اب الجدي دة الت ي اش تريتها‪،‬‬
‫ولك ن ب دﻻً م ن أن تقب ل عليه ا لتفحص ها وتلع ب به ا اقتص رت عل ى تحري ك رأس ها‬
‫ي اﻵن‪،‬‬ ‫لت تمكن م ن رؤيته ا رؤي ة ع ابرة وه ي تق ول‪ :‬ﻻ‪ ،‬ل يس اﻵن‪ ،‬ﻻ تق دمها إل ّ‬
‫دعها إلى وقت آخر‪ ،‬احتفظ لي بواحدة منها إلى أن أبرأ‪.‬‬

‫قل ت مغتبط ا‪ :‬تعلم ت الي وم ألعاب ا جدي دة رائع ة‪ ،‬وس وف أعلم ك غ دا إياه ا ف ي‬
‫الص باح‪ ،‬أوه ك م ه ي رائع ة ه ذه اﻷلع اب الجدي دة! وع ادت تب ذل مجه ودا جدي دا‬
‫لتب ادلني اغتب اطي وه ي تق ول‪ :‬ﻻ‪ ،‬ل يس اﻵن‪ ،‬ف ي وق ت آخ ر‪ ،‬إن الس اعة تت أخر‪،‬‬
‫بي د أن ه يج ب أن تت ذكر‪ ،‬ﻻ ت نس أن تح تفظ ل ي بإح داها‪ ،‬اح تفظ ل ي به ا جدي دة إل ى‬
‫أن ألع ب به ا‪ .‬واﻵن دعن ي أن ام‪ ،‬ي ا ل ك م ن أخ مش اكس! دعن ي أن ام إل ى الص باح‪،‬‬
‫سنلعب في الصباح‪.‬‬

‫كن ا ف ي فص ل الص يف‪ ،‬ول ذلك ل م أك ن أذه ب إل ى المدرس ة‪ .‬ومعن ى ذل ك أنن ي‬


‫كن ت أقض ي أي امي كله ا ف ي لع ب متواص ل م ع ل داتي م ن أق اربي‪ .‬وك ان اللي ل‬
‫يض ايقني ﻷن ه يفص ل بين ي وب ين اﻷطف ال‪ ،‬ويح ول بين ي وب ين اللع ب‪ .‬وكن ت‬
‫أس تأذن أب ي أحيان ا ﻷذه ب إل ى ه ذا المن زل الكبي ر ال ذي كان ت ج دتي تقطن ه‪ ،‬فق د‬
‫ك ان يض ج بأطف ال أكث ر م ن منزلن ا‪ ،‬وك ان ه ؤﻻء اﻷطف ال يطلب ون من ي أن‬

‫‪- 139 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫أقض ي اللي ل معه م ﻷج ل أن يطلع وني عل ى اﻷلع اب الليلى ة الرائع ة‪ ،‬ولك ن أب ي‬


‫ك ان يم انع ف ي ذل ك ممانع ة أيأس تني‪ ،‬فانص رفت ع ن ه ذا اﻻس تئذان انص رافا كل ه‬
‫حسرات‪.‬‬

‫فم ا راعن ي ذات ي وم إﻻ أن أب ي ن اداني ق ائﻼً‪ :‬إن ه س وف يرس لني إل ى من زل الج دة‬
‫ﻷق يم ب ه أس بوعا أو أس بوعين‪ .‬ي ا للبهج ة! أس بوعا أو أس بوعين! إذن فس وف‬
‫أس توعب ك ل اللع ب دون رقي ب وﻻ عتي د‪ ،‬إل ى أن أعج ز ع ن الحرك ة‪ .‬ول م أكل ف‬
‫نفس ي مش قة التفكي ر ف ي الس ر ال ذي يكم ن خل ف إرس الي ه ذه الم دة الطويل ة إل ى‬
‫من زل ج دتي‪ ،‬وه و ال ذي ك ان أب ي يم انع م ن أن أقض ي في ه ليل ة واح دة بعي دا عن ه‪،‬‬
‫ذلك أن اﻻبتهاج طفا على السر الرهيب‪.‬‬

‫وف ي من زل ج دتي ال ذي ك ان يع ج بل داتي م ن اﻷطف ال اطلع ت عل ى أس رار اللع ب‬


‫ﻻ ف ي اللي ل فحس ب ولك ن ف ي ك ل دقيق ة م ن دق ائق اللي ل والنه ار أيض ا‪ .‬وك ان ب ه‬
‫ح وض كبي ر ص الح للس باحة حي ث كن ا نقض ي معظ م الوق ت ع راة نقف ز ونس بح‬
‫إل ى أن ض اق بن ا المن زل ذرع ا‪ .‬ولك ن ج دتي ل م تك ن تب الي بض جيجنا‪ ،‬فق د كان ت‬
‫مغتبطة بنا ﻻ تحفل بشيء ما دمنا نمﻸ الجو بضحكاتنا‪.‬‬

‫وم رت اﻷي ام وأن ا غاف ل ع ن الح روف القاس ية الت ي كان ت ت نقش ف ي الل وح‬
‫المحف وظ‪ .‬كن ت أله و وأض حك وألع ب بينم ا كان ت اﻷق دار تج د وتع بس وتت ربص‪.‬‬
‫وفج أة وض عت ي دي عل ى مفت اح الس ر الرهي ب ف ي الوق ت المناس ب‪ ،‬فق د س معت‬
‫كلم ة واح دة علق ت ب ذهني وأن ا ألع ب‪ ،‬وم ا زل ت أتأمله ا حت ى فهمته ا‪ .‬كلم ة كان ت‬
‫قص يرة ع ابرة أفهمتن ي لم اذا أرس لت بص فة ش اذة إل ى من زل ج دتي‪ .‬وم ا لب ث‬
‫إيم اني أن ق وي بم ا فهمت ه‪ ،‬فق د كان ت ك ل الظ روف الت ي تح يط ب ي بمثاب ة أف واه‬
‫تص رح بالس ر المخي ف دون أن أس مع ش يئا‪ .‬ولك ن ه ذه الكلم ة الع ابرة‪ ،‬ه ذه الكلم ة‬

‫‪- 140 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫الخال دة الت ي س وف تظ ل تت ردد ف ي نفس ي م ا دم ت عل ى قي د الحي اة‪ ،‬ه ذه الكلم ة‬


‫كان ت إبل غ م ن ك ل ش يء‪ .‬وتلف ت يمين ا ً وش ماﻻً وعين اي زائغت ان مرعبت ان‪ ،‬ث م‬
‫ي‬
‫انس للت نح و الب اب وفك ري ش ارد يس تكنه أس رار الكلم ة المروع ة‪ ،‬ث م خي ل إل ّ‬
‫وأن ا أخ رج إل ى ع رض الش ارع أن انهي ارا ه ائﻼً ق د دم دم فج أة ف ي أعم اقي‪.‬‬
‫وأخ ذني ص وت مرع ب م ن جمي ع أقط اري فرفع ت ي دي المرتعش تين أس د بهم ا‬
‫أذن ي ﻷح ول بينهم ا وب ين الص وت البش ع الم دوي‪ .‬ث م انطلق ت أص رخ وأع دو‬
‫يفي‬ ‫وأبك ي كم ا ل و كن ت ق د أص بت بجن ون غ امر‪ .‬وك ان الم ارة ينظ رون إل ّ‬
‫اس تغراب‪ ،‬ولكنن ي ل م أك ن أدرك ﻷح د م نهم وج ودا‪ ،‬وك ان ال بعض يح اول‬
‫اعت راض س بيلي ف أتملص من ه وأع دو ف ي جن ون‪ ،‬ورفع ت ي دي أض رب الب اب‬
‫بش دة‪ ،‬ولم ا ف تح وقف ت ف ي مك اني كم ا ل و كن ت ق د تحول ت إل ى ص خر‪ .‬رأي ت بض ع‬
‫وج وه ص فراء تب رق فيه ا عي ون فزع ة قلق ة‪ ،‬يكم ن خلفه ا ش عور أص حابها ب أنهم‬
‫قريب ون م ن كارث ة‪ ،‬ول م ين بس أح د ببن ت ش فة‪ ،‬فظللن ا هك ذا ع دة دق ائق‪ ،‬ث م‬
‫أحسس ت بالحي اة تع ود لتت دفق ف ي جس مي ت دفقا جب ارا س احقا‪ .‬وتحرك ت ف ي مك اني‬
‫اس تعدادا لمواجه ة الواق ع المري ر‪ ،‬ولك ن حركت ي أث ارت ف ي تل ك العي ون م ا‬
‫أفهمني أن أصحابها مصممون على منعي من دخول المنزل‪.‬‬

‫وع ادت الحي اة تت دفق ف ي جس مي م ن جدي د وأن ا أتحف ز كم ا ل و كن ت أس تمد ق وى‬


‫م ن الس ماء‪ ،‬وش عرت بأن ه ب ات ف ي اس تطاعتي أن أق تحم ج دارا‪ ،‬وب دا ل ي أن‬
‫دم ائي تص رخ مس تنجدة ب ي أن أن دفع ف ﻼ توج د ق وة ف وق اﻷرض تس تطيع أن‬
‫تعوق ك ف ي مث ل ه ذه الس اعات الفاص لة‪ ،‬فان دمجت وس ط كت ل م ن البش ر ك أنني‬
‫س هم يخت رق المي اه‪ ،‬وكان ت ثي ابي ممزق ة‪ ،‬ووجه ي منتفخ ا‪ ،‬وص وتي أب ح حينم ا‬
‫وقف ت أم ام ب اب الغرف ة المقفل ة الت ي اعت ادت أخت ي أن تن ام فيه ا‪ .‬وت رددت قل يﻼً‬
‫قب ل أن أق تحم الب اب ث م فج أة فتحت ه بش دة وأن ا أص رخ‪ ،‬وان دفعت نح و الزاوي ة الت ي‬
‫كان ت توج د به ا وق د وط دت نفس ي عل ى مواجه ة أفظ ع الك وارث‪ .‬ولكنن ي ل م‬
‫أتوق ع أن أج د الزاوي ة خالي ة‪ ،‬فتوقف ت وق د احتبس ت أنفاس ي‪ ،‬وك ان فك ري يتقل ب‬
‫بس رعة‪ ،‬ث م تلف ت‪ .‬وهن ا انهم رت دم وعي وأن ا أتش نج‪ ،‬واقترب ت بخط ى وئي دة‬
‫ن اظرا إل ى اﻷرض‪ .‬بض ع خط وات قص يرة مض طربة‪ ،‬ث م وقف ت أرن و إل ى‬
‫اﻷرض‪ .‬كان ت الق وة العجيب ة الت ي تتقمص ني تنس حب من ي ف ي س رعة‪ ،‬حت ى خي ل‬
‫ي أنن ي أت داعى‪ ،‬وتملكن ي حن ين غري ب إل ى أن أس قط إل ى اﻷرض‪ ،‬إل ى المك ان‬ ‫إل ّ‬
‫ال ذي أرن و إلي ه‪ ،‬إل ى ج وار ه ذا الش يء ال ذي ﻻ ب د أن ه أخت ي‪ ،‬ذل ك أنن ي أبص رت‬
‫‪- 141 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫عل ى اﻷرض العاري ة ش يئا مس تطيﻼً ق د ل ف ف ي كف ن أب يض‪ ،‬والغرف ة خالي ة م ن‬


‫ك ل آث ار أخت ي‪ ،‬نع م ف إن أخت ي الوديع ة الرحيم ة ملق اة هك ذا عل ى اﻷرض العاري ة‬
‫ودون وسادة‪...‬‬

‫ألقي ت بنفس ي إل ى اﻷرض وأن ا ﻻ أك اد أص دق م ا أرى‪ .‬وم ددت بي دي إل ى الش يء‬


‫الملق ى عل ى اﻷرض أف ك رباط ه م ن ناحي ة ال رأس‪ .‬ي ا للكارث ة! إن أخت ي ب ين‬
‫ذراع ي جث ة هام دة ﻻ ح راك به ا‪ ...‬ول م يب ق م ن الش علة الوهاج ة س وى ذبال ة‪.‬‬
‫استحالت الوقدة إلى رماد‪....‬‬

‫ي أنه ا رخ ام‪ ،‬وس رت ف ي جس مي قش عريرة وأن ا‬ ‫وض ممتها إل ى ص دري فخي ل إل ّ‬


‫أع انق الم وت وألثم ه وإبلل ه ب دموعي‪ ،‬ول و كان ت ف ي أعم اق ال يم ﻷلقي ت بنفس ي‬
‫إل ى اﻷعم اق‪ ...‬ول و كان ت ف ي الجح يم ﻻقتحم ت عليه ا ش واظ الني ران‪ .‬وك ل م ن‬
‫ح ولي وم ا ح ولي باه ت يرن و ف ي وج وم إل ى ه ذا المنظ ر الم روع‪ ،‬فخ ارت ق واي‬
‫ي الحض ور ليأخ ذوني وأن ا أدف ن وجه ي ف ي وج ه أخت ي المي ت‬ ‫وتخاذل ت‪ .‬وتق دم إل ﱠ‬
‫الب ارد‪ .‬وحاول ت أن أق اوم فخ انتني الق درة‪ ،‬ولم ا ش عرت ب أنني ﻻ محال ة مستس لم‬
‫ارتف ع ص وتي بالنش يج‪ .‬وعن دما أفق ت م ن الص دمة جل ت بعين ي ف ي ك ل مك ان ف إذا‬
‫بهم ا تنك ران ك ل مك ان‪ .‬لق د مس ت ي د التغيي ر ك ل ش يء ف ي الحي اة بع د مم ات‬
‫أخت ي‪ .‬واس تيقظت ف ي نفس ي ال ذكريات القديم ة ف ي منشس تر‪ :‬ألعابن ا وح ديثنا أثن اء‬
‫اللي ل‪ ،‬خواطرن ا ف ي لي الى عي د الم يﻼد‪ ،‬توس ﻼتنا إل ى ص احب حق ل الكرم ب‪،‬‬
‫ذهابنا إلى المستشفى‪ .‬أجل لقد كان بمثابة خطوتها اﻷولى نحو القبر‪.‬‬

‫ي أن أس ير‬‫وك اد ص وابي يطي ر وأن ا أح اول أن أقن ع نفس ي بأن ه م ن المف روض عل ّ‬
‫بقي ة الطري ق وح دي‪ ،‬فب دت ل ي الطري ق موحش ة غريب ة ك أن ل م يك ن ل ي به ا عه د‬
‫من قبل‪ .‬صارت مملة مخيفة ﻻ تثير أي اهتمام‪.‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫لق د تغي ر ك ل ش يء بع د وف اة أخت ي‪ ،‬ل ذلك كان ت وفاته ا فاص ﻼً ب ين عه دين‪ .‬وإذا‬
‫كان ت ه ي ق د انته ت ي وم توفي ت فق د انتهي ت أن ا أيض ا ف ي ذل ك الي وم‪ .‬إن ذل ك‬
‫الطف ل ال ذي ألق ى بنفس ه ف وق ص در أخت ه المي ت ل م يق م أب دا‪ .‬إن ه م ا ي زال منكب ا‬
‫علي ه إل ى الي وم يع انق أخت ه ويناديه ا‪ .‬أم ا ه ذا ال ذي ق ام فطف ل آخ ر ﻻ يم ت إلي ه‬
‫بأي صلة‪.‬‬

‫إن الح وادث الفاص لة ه ي الت ي تنه ي فت رات حياتن ا ﻻ الس نون‪ ،‬وإذا كن ت م ا أزال‬
‫طف ﻼً ف ي ذل ك الح ين‪ ،‬ف إنني أنظ ر إل ى الفت رة الت ي تس بق ه ذا الح ادث الم روع‬
‫على أنها فترة مستقلة تمام اﻻستقﻼل عما بعدها‪.‬‬

‫أم ا الفت رة الثاني ة فه ي الت ي س رت فيه ا وحي دا أتعث ر ﻷس تأنف الس ير ف ي طري ق‬
‫ي أن العين ين ال دعجاوين‬ ‫الحي اة وح دي‪ .‬وإنن ي أكت ب ه ذه الس طور فيخي ل إل ّ‬
‫الب ريئتين تط ﻼن م ن خل ف ك ل كلم ة‪ ،‬وهم ا تش عان ب ذلك البري ق الغري ب المت ألق‪.‬‬
‫إن عينيه ا تس كنان ف ي ض ميري‪ ،‬أج د فيهم ا العب وس حينم ا أهف و‪ ،‬واﻻغتب اط‬
‫حينم ا أص يب‪ ،‬وم ا زل ت أس تلهم منهم ا الهداي ة ف ي طري ق الحي اة المحفوف ة‬
‫بم واطن الزل ل والض ﻼل‪ .‬ك ان ك ل ش يء ف ي طف ولتي ممتزج ا به ا ول ذلك فق د‬
‫انته ت مرحل ة م ن طف ولتي بموته ا‪ ،‬ول م أع د أش عر برب اط بين ي وب ين ذل ك‬
‫ي ف ي ذل ك‬‫الماض ي ال ذاهب ال ذي كان ت أس طع كوك ب ف ي س مائه‪ .‬وك ان يخي ل إل ّ‬
‫الح ين م ن ف رط ه ول الص دمة أنن ي ل ن أفي ق‪ ،‬ولك ن ي د ال زمن ربت ت عل ى كتف ي‬
‫لك ي أنه ض وألح ق بقافل ة الحي اة‪ ،‬ك ان ص وابي يطي ر كلم ا رن وت إل ى )المك ان(‬
‫فأج ده فارغ ا منه ا‪ ،‬وه الني أن أنك ر ك ل م ا ح ولي‪ ،‬ب الرغم م ن أنن ي أنكرت ه‪ ،‬ك ان‬
‫يق يم بمكان ه ف ي قس وة كم ا ل و ل م يح دث ش يء‪ .‬وإذا كن ت ق د ابتع دت ف ي طري ق‬
‫الحي اة ع ن مك ان الحادث ة القاس ية‪ ،‬وإذا ك ان ال زمن ق د مس ح بي ده الرقيق ة الكل وم‬
‫وال دموع والحس رات‪ ،‬ف إن تل ك الي د الق ديرة ل ن تس تطيع أن تمح و ش يئا واح دا‪ ،‬ه و‬
‫‪- 143 -‬‬
‫‪novbo‬‬
‫روايات وكتب ‪ook.net‬‬

‫ذكراه ا ف ي قلب ي والوف اء له ذه ال ذكرى‪ .‬نع م م ا زال ص وتها ف ي أذن ي وه ي تق ول‬


‫بنبراته ا العليل ة )اح تفظ ل ي بواح دة‪ ،‬اح تفظ ل ي به ا لك ي ألع ب به ا بع د الش فاء(‪.‬‬
‫وق د احتفظ ت به ا وم ا زل ت ول ن أزال م ا ن بض بالحي اة قلب ي‪ ،‬س وف أظ ل محتفظ ا ً‬
‫له ا م دى الحي اة بش يء أس مى وأج ل م ن لعب ة‪ ،‬ولعله ا كان ت تقص د ش يئا أس مى‬
‫وأج ل منه ا‪ :‬ال ذكرى الت ي تهم س ف ي اﻷذن وتط الع ف ي الع ين وتكم ن ف ي‬
‫ي م ن ص فحة الب در كلم ا‬ ‫اﻷعم اق‪ .‬ﻻ أزال أرى ذل ك الوج ه الك ريم يط ل عل ّ‬
‫اكتم ل ف ي الس ماوات‪ ،‬ولكنن ي أص بحت أرى الي وم إل ى جانب ه وجه ا آخ ر ص غيرا‪،‬‬
‫وجه الطفلة الوديعة يطل خلف كتف اﻷم على الليل الساهم الحزين‪.‬‬

‫وإنن ي إذ أنته ي إل ى ه ذا المك ان م ن الماض ي ﻷنحن ي ف ي إج ﻼل أم ام القب ر‬


‫الص غير المجه ول‪ ،‬ﻷذرف دمع ة ح ارة عل ى الطفل ة الخابي ة الت ي كان ت ف ي ي وم‬
‫من اﻷيام شعلة من حياة‪.‬‬

‫تمت‬

‫‪- 144 -‬‬

You might also like