You are on page 1of 201

‫ب‬

‫ج‬

‫اإلهداء‬

‫إلى األرض التً خرجت عن صمتها فنطقت أخٌرً ا‬

‫إلى َمن أٌقظوا الصبح فً عٌ َنً ‪ ،‬وجعلوا لوجودي معنى‬

‫أحبّاء روحً‬

‫والديّ العزٌزٌْن‬
‫كاتبًْ األطفال المبدعٌْن‬

‫ّ‬
‫الحطاب و"محمد جمال" عمرو‬ ‫سناء‬

‫إلى شقٌقتً الوحٌدة وسندي‬


‫رهام‬
‫لروحها الحلوة وإقبالها الدابم على الحٌاة‬

‫وإلى شقٌقً الحبٌبٌْن‬


‫ٌمان وٌزٌد‬

‫وإلى " سِ ّتً " أم عبد الف ّتاح و"سِ ّتً " أم مؤمون‬
‫وإلى ك ّل األصدقاء واألحبّة‬
‫د‬

‫شكر وتقدٌر‬
‫الشكر هلل العاطً من قبل ومن بعد ؛ للطؾ قضابه وعظٌم عطابه ‪ ،‬فله الحمد كالذي نقول‬
‫وخٌرً ا مما نقول ‪ً ،‬‬
‫حمدا كثٌرً ا ط ٌّبًا ٌوازي نعماءه وٌكافا مزٌده ‪ ،‬والشكر الكبٌر واالمتنان‬
‫الخالص ألستاذي المشرؾ الدكتور محمد القضاة الذي تكرّ م علًّ بالموافقة على اإلشراؾ ‪ ،‬ثم لم‬
‫تنقطع بعدها أفضاله‪ ،‬فله الشكر لمهنٌّته العالٌة ‪ ،‬ولطؾ توجٌهه وسداد رأٌه ‪ ،‬وما شملنً به من‬
‫اهتمام إلنجاز هذه الرسالة ‪.‬‬

‫كما أتقدم بالشكر الجزٌل إلى أعضاء لجنة المناقشة األفاضل؛ الدكتورة امتنان الصمادي‪،‬‬
‫والدكتور إبراهٌم الكوفحً‪ ،‬والدكتور أسامة شهاب؛ لما صرفوه من جهد ووقت لقراءة هذه‬
‫الرسالة‪ ،‬والتعلٌق علٌها‪.‬‬

‫كما أتقدم بشكر خاص ألسرتً؛ لعونهم الكبٌر لً بشتى السبل إلنجاز هذا البحث‪ ،‬فالشكر‬
‫الخالص لوالدتً ووالدي وأخويّ ‪ ،‬ولشقٌقتً "رهام"؛ أل ّنها جعلت من المستحٌل ممك ًنا‪ ،‬ودفعت بً‬
‫إلنجاز هذه الرسالة فؤم ّدتنً بالقوّ ة والوسابل‪.‬‬

‫ّ‬
‫لموظؾ المكتبة المثابر الع ّم داوود حمّاد‪ ،‬له منً كل‬ ‫ختامًا‪ ،‬ال ٌفوتنً التوجه بالشكر الجزٌل‬
‫االحترام والتقدٌر‪.‬‬
‫ه‬

‫قائمة المحتوٌات‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬

‫ب‬ ‫قرار لجنة المناقشة‬


‫ج‬ ‫اإلهداء‬
‫د‬ ‫شكر وتقدٌر‬
‫هـ‬ ‫قابمة المحتوٌات‬
‫و‬ ‫الملخص باللؽة العربٌة‬
‫‪1‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪5‬‬ ‫التمهٌد‪ :‬فاروق جوٌدة ‪ ..‬اإلنسان والتجربة‬

‫‪15‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الرإٌة فً شعر فاروق جوٌدة‬

‫‪16‬‬ ‫المبحث األول ‪ :‬الموقؾ من الحب‬

‫‪49‬‬ ‫المبحث الثانً ‪ :‬الموقؾ من الزمن‬


‫‪70‬‬ ‫المبحث الثالث ‪ :‬الموقؾ من الوطن واإلنسان‬
‫‪111‬‬ ‫الفصل الثانً‪ :‬ظواهر من التشكٌل الفنً فً شعر فاروق جوٌدة‬
‫‪112‬‬ ‫المبحث األول ‪ :‬التناص‬
‫‪131‬‬ ‫المبحث الثانً ‪ :‬المفارقة التصوٌرٌة‬
‫‪140‬‬ ‫المبحث الثالث ‪ :‬االنزٌاح‬
‫‪148‬‬ ‫المبحث الرابع ‪ :‬البنٌة الدرامٌة والحكابٌة‬
‫‪158‬‬ ‫المبحث الخامس‪ :‬التكرار‬
‫‪165‬‬ ‫المبحث السادس ‪ :‬اإلٌقاع‬
‫‪176‬‬ ‫الخاتمة‬
‫‪178‬‬ ‫قابمة المصادر والمراجع‬
‫‪195‬‬ ‫الملخص باللؽة االنجلٌزٌة‬
‫و‬

‫الرإٌة والتشكٌل فً شعر فاروق جوٌدة‬

‫إعداد‬
‫بٌان "محمد جمال" عمرو‬

‫المشرف‬
‫الدكتور محمد أحمد القضاة‬

‫ملخص‬

‫هدفت هذه الدراسة إلى الوقوؾ على المنجز الشعريّ للشاعر المصريّ فاروق جوٌدة‪ ،‬بوصفه‬
‫قدر المستطاع – اإللمام بتفاصٌل هذه‬
‫أحد أبرز الشعراء المعاصرٌن‪ ،‬وقد حاولت هذه الرسالة – َ‬
‫خصوصٌّتها وأهمٌّتها‪ ،‬مع االلتفات واإللماح إلى العوامل‬ ‫التجربة الشعرٌّة بعمومها وإبراز‬
‫الحاسمة التً ش ّكلت االنعطافة الحا ّدة فً مسٌرته الشعرٌّة‪ ،‬لٌتحوّ ل من الشعر الرومانسًّ الحالم‬
‫إلى أن ٌنتهً إلى همومه القومٌّة واإلنسانٌّة العربٌّة‪ ،‬وقؾ الشاعر من خبللها على أعتاب مرحلة‬
‫جدٌدة فً مشروع ال ٌمكن القول عنه إنه جدٌد‪ ،‬لك ّنه أصبح المتسٌّد فً هذه التجربة الشعرٌّة ‪.‬‬

‫وجاءت هذه الدراسة فً تمهٌد وفصلٌْن اثنٌْن‪ ،‬ق ّدم التمهٌد إضاءة لحٌاة الشاعر‪ ،‬وعتبة أولى‬
‫تمهّد الستقبال تجربته الشعرٌّة عن فهم‪ ،‬رُ صدَت من خبللها العوامل البٌبٌّة والتركٌبٌّة الشخصٌّة‬
‫التً تركت أثرها فً صوته الشعريّ ‪.‬‬

‫وجاء الفصل األوّ ل للوقوؾ على الرإٌة الفكرٌّة للشاعر فً مواجهة ثبلثة محاور ربٌسٌّة‬
‫تنتظم تجربته الشعرٌّة فً جلّها‪ ،‬وهً ‪ :‬موقفه من الحبّ ‪ ،‬وموقفه من الزمن‪ ،‬وموقفه من الوطن‬
‫واإلنسان‪ ،‬وانتهى ك ّل منها إلى تحدٌد أه ّم المبلمح الناتجة عن كل رإٌة منها من منظور الشاعر‪،‬‬
‫ومتابعتها والتقرٌب بٌنها وبٌن التصوّ ر الشمولًّ لموقؾ الشاعر منها بعد اختزال تجربته الشعرٌّة‬
‫واحتوابها ‪.‬‬

‫أما الفصل الثانً‪ ،‬فقد قام على االنتخاب المدروس ألبرز ظواهر التشكٌل الف ّنً‪ ،‬التً ش ّكل‬
‫ظهورها عبلمة واضحة فً تكوّ ن النبرة الشعرٌّة لدى جوٌدة‪ ،‬بحٌث وقفت هذه الظواهر من خلؾ‬
‫الرإٌة التً ق ّدمها الشاعر‪ ،‬وعززت قٌمتها‪ ،‬ودعتنا إلى أن نتلمّس منها ما ٌساٌر التجربة‪ ،‬وٌراعً‬
‫ز‬

‫النسق الفنًّ العام للتعاطً مع النصّ الشعريّ ‪ ،‬وقد قسّم هذا الفصل فً ستة مباحث‪ ،‬هً ‪:‬‬
‫التناص‪ ،‬والمفارقة التصوٌرٌّة‪ ،‬واالنزٌاح‪ ،‬والبنٌة الدرامٌّة والحكابٌّة‪ ،‬والتكرار واإلٌقاع ‪.‬‬

‫وخلصت الدراسة إلى تؤكٌد على خصوصٌّة هذه التجربة‪ ،‬وبروزها على الساحة الشعرٌّة‬
‫مإخرً ا بوصفها واحدة من أهم األصوات الشعرٌّة التً تنبّؤت بالثورات وعبّؤت لها ‪.‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫ِة‬
‫َةا َة َّسْنل َةَف اُة اِة ْن َةم ًة َفَّس َفَة اَة ِةاَّسَةم ُة وِةييُة ُة‬ ‫ا ُة ٌّرر َة َة اَةَف ُةمَّس ِة‬ ‫َةَفِة َةا َة َّس ااِة ْنا َةس َة‬
‫َةم ا الز ر‪49:‬‬
‫َة ْن ُة َة‬ ‫َةَة ِة ْنٍةم بَةَف ْن ِة َة ِة ْني َة ٌة َةلَة ِة َّس‬
‫ن َة ْن َة َةر ُة ْنم‬
‫‪1‬‬

‫المقدمة‬

‫بسم هللا الرحمن الرحٌم‬

‫الحمد هلل ً‬
‫حمدا كثٌرً ا ط ٌّبًا ٌرضاه‪ ،‬والصبلة والسبل ُم على خٌر البرٌّة محمد بن عبدهللا النبًّ‬
‫العربًّ األمٌن‪ ،‬وعلى صحابته األخٌار إلى ٌوم الدٌن‪ ،‬وبعد‪،‬‬

‫فقد استمدت هذه الرسالة مسوّ ؼاتها‪ ،‬وقامت لتق ّدم الباحثة من خبللها دعو ًة للتخلًّ عن الترؾ‬
‫الثقافًّ واإلبداعًّ فً التعبٌر لصالح قضاٌا لها مكانتها فً وجدان اإلنسان العربًّ ‪ ،‬وبرز الشاعر‬
‫فاروق جوٌدة أنموذجً ا للمث ّقؾ العربًّ الذي تو ّكل بالهموم اإلنسانٌّة والقومٌّة العربٌّة؛ إذ ٌتب ّدى لنا‬
‫شعره ف ّنا إنسانٌّا له خصوصٌّته؛ بحٌث ٌرتهن للواقع الذي ٌدور فً فلكه‪ٌ .‬قبع المتلقً فً قصٌدته‬
‫قبل والدتها‪ ،‬وٌحضر فً وجدانه ساعة الكتابة‪ ،‬وقد حققت تجربته الشعرٌّة ذروتها حٌن أخلص‬
‫للبسطاء‪ ،‬وؼ ّنى ألجلهم ‪.‬‬

‫شهدت السنوات األخٌرة تحوال كبٌرً ا فً تجربة فاروق جوٌدة الشعرٌّة‪ ،‬حٌن تجلّت فً شعره‬
‫هموم قومٌّة بعد أن ترك بصمته فً عالم الشعر الرومانسًّ ‪ ،‬لك ّنه استطاع برهافة حسّه وؼزارة‬
‫نتاجه عبر ما ٌربو على الستة عشر دٌوا ًنا أن ٌتخذ لنفسه مكا ًنا فً حركة الشعر المعاصر؛ فجمع‬
‫إلى الثورة والصخب الرقة والعذوبة؛ لٌسجّ ل عبرها موق ًفا من الحٌاة والوطن واإلنسان‪ ،‬برز الحزن‬
‫ملمحً ا أساسٌّا فً صوته‪ ،‬أمل ْته علٌه الظروؾ التً ٌشهدها الوطن العربًّ ‪ ،‬لحظة اإلفضاء الشعريّ‬
‫لدٌه لحظة ال تعرؾ الكذب وال تتسع للتدلٌس والتزوٌق؛ فهو شاعرٌ منحاز لك ّل ما هو إنسانًّ ‪،‬‬
‫ٌكشؾ عن التصاق وثٌق بالواقع‪ ،‬وٌرى أنّ القصٌدة ٌمكن االختبلؾ حولها‪ ،‬أما الخبز فبل ٌكون‬
‫محل خبلؾ‪ ،‬وهو حق قهريّ ٌإخذ بالقوة ولٌس باالختٌار‪.‬‬

‫ْ‬
‫اتصلت معرفتً بمنجز جوٌدة الشعريّ عبر الشبكة اإللكترونٌّة قبل أكثر من ّ‬
‫ست سنوات‪،‬‬
‫ش ّدتنً إلٌه بساطة األداء ولطؾ المعنى‪ ،‬ونظرً ا إلى أنّ أعماله ؼٌر متاحة فً مكاتب التوزٌع فً‬
‫األردنّ ‪ ،‬فقد انتظرْ ت المعرض الدولًّ للكتاب‪ ،‬الذي أقٌم فً عمّان قبل أكثر من أربع سنوات‬
‫للحصول على ثبلثة من هذه الدواوٌن‪ ،‬ما دعانً إلى العكوؾ على قراءتها مرّ ات ومرات حتى‬
‫خالطت تجربته وجدانً‪ ،‬وال شك أن هذه القراءة االنطباعٌّة قد وق َفت ساعتها لدى اإلعجاب األوّ لً‬
‫‪2‬‬

‫بالتجربة بعًٌدا عن أٌة أهداؾ بحثٌّة‪ ،‬إلى أن التحقت ببرنامج الماجستٌر‪ ،‬وبدأت أسقط ما أقرأه فً‬
‫خرجت بمبلح َ‬
‫ِظ كثٌرة كانت الخٌط األوّ ل الذي ش ّدنً‬ ‫ُ‬ ‫الدراسات النقدٌّة على قصٌدة جوٌدة‪ ،‬حتى‬
‫إلى الدراسة والتعمّق أكثر فؤكثر‪ ،‬ودعتنً إلى أن أفرّ ع هذه التجربة الشعرٌّة إلى مباحث ٌقوم ك ّل‬
‫واح ٍد منها على قاعدة متٌنة ومتصلة عمٌق االتصال بصوته الشعريّ وبتجربته اإلنسانٌّة‪ ،‬وهدفت‬
‫هذه الدراسة إلى إبراز خصوصٌّة تجربته الشعرٌّة وأهمٌّتها نظرً ا اللتحامها ومساٌرتها للواقع الذي‬
‫ٌعٌشه اإلنسان العربًّ الٌوم‪ ،‬كما حاولَ ْ‬
‫ت قدر المستطاع اإللمام بمفاصل هذه التجربة الشعرٌّة‬
‫بعمومها‪ ،‬مع االلتفات إلى العوامل الحاسمة التً ش ّكلت االنعطافة الواضحة فً نبرته الشعرٌّة‪،‬‬
‫وربما ٌحسب لهذه المحاولة البحثٌّة الدخول بنظرة شمولٌّة إلى عالم جوٌدة الشعريّ ‪ ،‬والوقوؾ على‬
‫أبعاد هذا التحوّ ل وقفة تتٌح للقارئ فهم هذه التجربة والتعاطً معها ‪.‬‬

‫ُ‬
‫واعتمدت فً هذا البحث المنهج التحلٌلًّ الوصفًّ ‪ ،‬الذي ٌقؾ على الظاهرة النقدٌّة فٌحللها‪ ،‬كما‬
‫ب منها من المنهج الجمالًّ ‪ ،‬فً رصد الظواهر الفنٌّة فً النصوص الشعرٌّة وتع ّقبها‬
‫أفدت فً جان ٍ‬
‫بشكل جلًّ‬
‫ٍ‬ ‫والتعلٌق علٌها‪ ،‬وفٌما أشرت فً فصل الرإٌة إلى موقؾ الشاعر فً ثبلثة محاور تب ّدت‬
‫آلٌت االنتخاب من الظواهر الفنٌّة فً فصل التشكٌل الفنًّ ‪ ،‬وف ًقا للظواهر‬
‫ُ‬ ‫فً تجربته الشعرٌة‪ ،‬فقد‬
‫األبرز حضورً ا فً قصٌدته‪ ،‬والتً تعبّر عن رإٌته الشعرٌّة وتستجلٌها بوضوح ‪.‬‬
‫تمثلت فً ّ‬
‫تعذر الحصول على الدراسات السابقة التً‬ ‫ت جمّة‪ّ ،‬‬
‫لقد واجهت هذه الرسالة صعوبا ٍ‬
‫عنٌت بالشاعر وتجربته‪ ،‬وذلك ألسباب ع ّدة ٌبدو من أهمّها سٌاسات تح ّفظ الجامعات المصرٌّة على‬
‫كشكل‬
‫ٍ‬ ‫الرسابل الجامعٌّة‪ ،‬ورفضها تزوٌدنا بؤٌة صفحات بحثٌّة من متون الرسابل الجامعٌّة لدٌها؛‬
‫من أشكال التحرّ ز رؼم المخاطبات الشخصٌّة من قبل الباحثة‪ ،‬والرسمٌّة عبر مكتبة الجامعة‬
‫األردنٌّة‪ ،‬فٌما تجلّت الصعوبة األخرى فً قٌام " ثورة ‪ٌ 25‬ناٌر "‪ ،‬وما لحقها من فوضى‪ ،‬وانعدام‬
‫لفرص الحصول على أٌة مساعدات‪.‬‬

‫ً‬
‫استعدادا‬ ‫وتجدر اإلشارة إلى أ ّننً قد اتصلت بالشاعر عبر الهاتؾ أكثر من مرّ ة‪ ،‬وقد أبدى‬
‫لتزوٌدي بما ٌساعدنً للنهوض بالبحث‪ ،‬وتقدٌم المساعدة لً‪ ،‬ولكنّ أًٌا من ذلك لم ٌحدث‪ ،‬وربما‬
‫ٌكون لقٌام الثورة الدور األكبر فً تعذر ذلك ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وقد اطلعت على عنوانات لبعض الرسابل المكتوبة فً المنجز الشعريّ والمسرحًّ الشعريّ‬
‫فً تجربة جوٌدة ‪ ،‬كان منها رسالة ماجستٌر بعنوان " االتجاه القومً فً شعر فاروق جوٌدة " فً‬
‫جامعة األزهر فً المنصورة للباحث علً إسماعٌل دروٌش المنجزة فً عام ‪ ،2009‬و "االتجاهات‬
‫الفنٌّة فً شعر فاروق جوٌدة " للباحث محمد إٌراهٌم حسن ( د‪.‬ت) (د‪.‬م)‪ ،‬ورسالة أخرى بعنوان‬
‫"المسرح الشعريّ عند فاروق جوٌدة "‪ ،‬التً ق ّدمت فً جامعة األزهر فً أسٌوط عام ‪ ،1991‬توجّ ه‬
‫من خبللها الباحث سٌّد سٌّد عبد الرازق لدراسة المسرح الشعريّ وحده‪ ،‬وإن كان نتاج الشاعر منه‬
‫فً ذلك الحٌن ال ٌتع ّدى المسرحٌّتٌن‪ ،‬إال أن الباحث قد وجّ ه األنظار إلٌه وأصّل له باعتباره – أي‬
‫مسرح جوٌدة – ظاهرة جدٌدة فً ذلك الحٌن‪ ،‬تحتاج إلى الدراسة الجا ّدة‪ ،‬ورسالة الماجستٌر هذه‬
‫هً الوحٌدة التً تمكنت من الحصول على الصفحات العشر األولى منها فقط ‪.‬‬

‫فٌما سوى ذلك‪ ،‬فقد ش ّكلت دواوٌن الشاعر وأعماله الكاملة المصدر األساسًّ للقٌام بهذا البحث‬
‫على الصورة التً خرج علٌها ‪ ،‬كما أفدت من كتاب األستاذ الدكتور إحسان عبّاس " اتجاهات‬
‫الشعر العربً المعاصر " فً تلمّس الطرٌق اآلمن والسلٌم فً توجٌه التجربة واحتوابها‪ ،‬كما‬
‫التمست الفابدة أخٌرً ا من كتاب الناقد رجاء النقاش " ثبلثون عامًا مع الشعر والشعراء " فً مقال‬
‫له عن تجربة فاروق جوٌدة فً أربع عشرة صفحة تحت عنوان " فاروق جوٌدة وعودة إلى الصفاء‬
‫والبساطة "‪ ،‬وهً أشبه بمساحة و ّد بٌن الشاعر جوٌدة وصدٌقه الن ّقاش‪ .‬ومن كتاب " فاروق جوٌدة‬
‫شاعر الحلم الضابع وأجمل ما كتب "‪ ،‬الذي ٌق ّدم فٌه الكاتب محمد رضوان إطبللة على حٌاة‬
‫الشاعر وأبرز ما اكتنفها ٌسوق بعضً ا من قصابد الشاعر وٌعلّق علٌها بصورة بسٌطة ومقننة للؽاٌة‪.‬‬

‫وخرج هذا البحث فً تمهٌد وفصلٌْن‪ ،‬عُنً التمهٌد بالتعرٌؾ بالشاعر‪ ،‬وإبراز خصوصٌّة‬
‫صوته الشعريّ ‪ ،‬وموقعه على الخارطة الشعرٌّة‪ ،‬وأهم األحداث التً اكتنفت حٌاته وتركت أثرها‬
‫فً تكوٌنه النفسًّ واإلبداعًّ ‪.‬‬

‫ث ّم خصّصت الفصل األوّ ل للحدٌث عن رإٌة جوٌدة‪ ،‬وموقفه من كل من ‪ :‬الحب‪ ،‬والزمن‪،‬‬


‫والوطن واإلنسان‪ ،‬بحثت فً مبحث الحب‪ ،‬موقفه من المرأة‪ ،‬وقٌمتها فً وجدانه‪ ،‬والمسافة التً‬
‫ٌفرضها الشاعر على نفسه فً عبلقته بها‪ ،‬وفً مبحث الزمن تبٌّنت سطوته على عالم الشاعر‬
‫‪4‬‬

‫ككل‪ ،‬وتتبعت قلق الشاعر وهواجسه البادٌة فً قصٌدته‪ ،‬وحقٌقة نظرته إلى الزمن‪ ،‬أما فً موقفه‬
‫من الوطن واإلنسان‪ ،‬فقد ارتؤٌت أن أجمع اإلنسانً إلى السٌاسً‪ ،‬وذلك اللتباسهما فً تجربة‬
‫الشاعر؛ فهو ٌرتهن للواقع من جهة‪ ،‬وإلنسانٌّته فً التعاطً من جهة أخرى‪ ،‬وقد تقسّم هذا المبحث‬
‫إلى ثبلثة فروع‪ ،‬وجدت الباحثة ضرورة اإلشارة إلٌها بإسهاب نظرً ا للحضور الشعريّ الواضح لك ّل‬
‫منها فً قصٌدته‪ ،‬وهً على التوالً ‪ :‬فلسطٌن‪ ،‬ومصر‪ ،‬والعراق ‪.‬‬

‫كما خصّصت الفصل األخٌر للتشكٌل الفنًّ فً قصٌدة جوٌدة‪ ،‬وتعمّدت االنتخاب من الظواهر‬
‫الفنٌّة؛ وذلك لتحدٌد أبرزها ظهورً ا فً قصٌدة الشاعر‪ ،‬وللوقوؾ على القٌمة التً تإ ّدٌها هذه‬
‫الظواهر فً تؤدٌة المحتوى على الوجه المنظور‪ ،‬وحضرت هذه المنتخبات فً ستة مباحث‪ ،‬هً ‪:‬‬
‫التناص‪ ،‬والمفارقة التصوٌرٌّة‪ ،‬واالنزٌاح‪ ،‬والبنٌة الدرامٌّة والحكابٌّة‪ ،‬والتكرار واإلٌقاع ‪.‬‬

‫ثم أؼلقت أبواب البحث على خاتمة ألبرز ما توصّلت إلٌه الدراسة‪ ،‬وذٌّلته بقابمة للمصادر‬
‫والمراجع ‪.‬‬

‫تقصٌر فم ّنً‪ ،‬وحسبً أننً أردت منه التعلّم‬


‫ٍ‬ ‫فما كان من سدا ٍد فمن هللا وحده‪ ،‬وما كان من‬
‫ومنفعة الؽٌر‪ ،‬وهللا من وراء القصد‪.‬‬

‫الباحثة‬
‫‪5‬‬

‫التمهٌد‬
‫فاروق جوٌدة ‪ ..‬اإلنسان والتجربة‬
‫‪6‬‬

‫التمهٌد‬

‫فاروق جوٌدة ‪ ..‬اإلنسان والتجربة‬

‫فاروق جوٌدة شاعر مصريّ معاصر‪ ،‬حرّ ك بؤشعاره الضمٌر اإلنسانًّ العربًّ ‪ ،‬لٌؤخذ القارئ‬
‫بٌده نحو ؼ ٍد جدٌد‪ ،‬وٌدعوه إلى المزٌد من أشعاره‪ ،‬وقد دفعه ألنْ ٌبكً مرّ ة وٌثور مرّ ات‪ ،‬كما جعل‬
‫من شعره خطابًا إنسانٌّا راقًٌا ٌتوجّ ه من خبلله إلى المتلقً على اختبلؾ ثقافته ومشاربه وتوجّ هاته ‪،‬‬
‫والقبول الذي حققه الشاعر فاروق جوٌدة بحسّه اإلنسانًّ العالً الٌوم لم ٌعُد متاحً ا لؽٌره من‬
‫الشعراء المجاٌلٌن له على الساحة الشعرٌّة ‪ ،‬بعد أن علّق المصرٌون البسطاء قصابده إلى حوابط‬
‫بٌوتهم ‪.‬‬

‫مرارً ا عن كثٌر من‬ ‫لقد كان لهذا االتصال العمٌق بٌن الشاعر والبسطاء الدور فً تخلٌّه‬
‫ن الناس من أن ٌتبوأها أو‬ ‫المناصب السٌاسٌّة ‪ ،‬والجوابز التقدٌرٌّة التً لم تسمح له مكانته بً‬
‫ٌقبلها(‪ ،)1‬إذ تابع أحبلمهم‪ ،‬وتعاطؾ معهم‪ ،‬و رصد حالة الكبت السٌاسًّ والقمع والجوع والفقر ‪ ،‬ما‬
‫ن بٌبته المصرٌّة على وجه‬ ‫جعله سفٌرً ا للشرٌحة األوسع من مجتمعاتنا العربٌّة عامّة وم‬
‫الخصوص‪ ،‬فٌما ظل ٌنطلق من كل ما هو إنسانً حول موقفه من السٌاسة واالضطهاد ‪ ،‬وما سواها‬
‫من األدواء‪ ،‬التً جعلت من الشاعر ٌتقرّ ى حقٌقة الحال‪ ،‬وٌلزم نفسه بالوقوؾ إلى جانب المهمشٌن‪.‬‬

‫وتشهد تجربة الشاعر فً بداٌاتها كٌؾ استطاع جوٌدة أن ٌتخذ لنفسه مكانة مرموقة فً حركة‬
‫الشعر العربًّ المعاصر‪ ،‬بعد أن ترك بصمته فً عالم الشعر الرومانسًّ عبر ما يربو على الثبلثة‬
‫عشر دٌوا ًنا شعرٌّا‪ ،‬ظل ؾٌها على مسافة واحدة من المحبوبة ‪ ،‬ومن فكرة الحبّ القابمة بٌن طرفٌْن‬
‫ؼٌر متكافبٌنْ من منطلق النديّ ة؛ إذ ظلّت القصٌدة فً أؼلبها تتابع المرأة فً بعدها حٌ ًنا وفً‬
‫استبدادها وجورها حٌ ًنا آخر‪ ،‬ولٌس لنا إال أن نق ّدر تح ّفظ الشاعر وموقفه فً بقابه على مسافة من‬
‫مفاتن المرأة وأوصافها فً تجربته الشعرٌّة‪ٌ .‬رى الناقد رجاء النقاش فً تجربة جوٌدة فً الحب‬

‫)‪ (1‬جرٌدة الخمٌس المصرٌة ‪،‬القاهرة ‪ ،‬فاروق جوٌدة ٌعتذر عن عدم قبوله منصب وزٌر الثقافة ‪ ،‬السبت ‪ 19‬فبراٌر ‪.2011‬‬
‫‪7‬‬

‫أنها أشبه بنسمة هواء مرٌحة فً عالم صاخب‪ ،‬اهتدى إلٌها جوٌدة بفطرته السلٌمة‪ ،‬وبصٌرته الفنٌّة‬
‫عالم ماديّ‬
‫حٌاة الناس فً ٍ‬ ‫الصادقة‪ ،‬بعد أن تشوّ هت كل العواطؾ اإلنسانٌّة الرقٌقة واختفت من‬
‫صلب (‪ ،)1‬فٌما أطلق علٌه النقاش لقب شاعر "الرومانسٌّة الجدٌدة " ‪ ،‬ورأى أن سرّ نجاح جوٌدة‬
‫ّ‬
‫ٌتلخص فً كلمتٌْن هما " الصفاء والبساطة " ‪ ،‬وهً ا لتً تجعل من شعره متاحً ا للبسطاء ‪ ،‬بعدما‬
‫انصرؾ ؼٌره من الشعراء إلى اصطناع الشعر والعبث باللؽة‪ ،‬والكتابة لـ "النخبة" (‪. )2‬‬

‫ولد فاروق محمد جوٌدة بمحافظة كفر الشٌخ بمصر ‪ ،‬أمضى مراحل تعلٌمه بدمنهور‪ ،‬ثم‬
‫التحق بكلٌّة اآلداب قسم الصحافة عام ‪ ،1968‬وتخرّ ج فٌها ( ‪ ،)3‬وكانت والدته فً العاشر من‬

‫فبراٌر من عام ‪ 1945‬مٌبلدٌّة ‪ ،‬بقرٌة " أفبلطون " إحدى قرى مركز " قلٌٌن " بمحافظة كفر‬

‫الشٌخ‪ ،‬التً انتقل بعدها – وهو طفل فً شهوره األولى – إلى قرٌة تحمل اسم أسرته " عزبة‬
‫أرض تعود ملكٌتها لوالده‪ ،‬وفٌما أمضى الشاعر مراحل طفولته‬
‫ٍ‬ ‫جوٌدة " فً بٌت صؽٌر هادئ على‬
‫فً هذه البٌبة الرٌفٌّة الوادعة‪ ،‬فً وسطٍ أسريّ محبّ (‪ ،)4‬إال أنّ حٌاته لم تكن سهلة على اإلطبلق ‪،‬‬
‫فقد تنازعتها ثبلثة مشاهد مإلمة ‪ ،‬ظل أسٌرً ا لها‪ ،‬كما وجدت صداها فً تجربته الشعرٌّة‪ ،‬إذ أحاط‬
‫الم وت بالشاعر فً ثبلثة وقابع مإلمة‪ ،‬كان أوّ لها والدته أل ّم فقدت خمسً ا من أبنابها الذكور‪ ،‬إذ ماتوا‬
‫جمٌعً ا قبل أن ٌت ّم واحدهم ا لتاسعة من عمره ( ‪ ،)5‬ثم جاء فاروق جو ٌدة لٌتشرّ ب أحزان أمّه‬
‫ومخاوفها؛ أحزانها على أطفالها الراحلٌن‪ ،‬ومخاوفها على طفلها الصؽٌر " فاروق " من أن ٌناله‬
‫طفولته‬ ‫المصٌر ذاته ‪ ،‬لذا فقد ظل الشاعر على اتصال عمٌق بمعانً الفقد والموت الذي اجتاح‬
‫مبكرً ا‪ٌ ،‬قول رضوان ‪ " :‬ولطالما سمع فاروق وهو طفل صؽٌر صوت بكاء أ ّم ه المتواصل خو ًفا‬
‫على حٌاته‪ ،‬ولذلك لم ٌكن ؼرٌبًا أن تختار له اسم " فراق " عند تسجٌل اسمه فً شهادة المٌبلد ‪..‬‬
‫لكنّ والده اعترض وأراد أن ٌسمٌّه " الفاروق" تٌم ًنا بسٌدنا عمر بن الخطاب ‪ ..‬لكنّ الجدة حسمت‬

‫(‪ )1‬النقاش ‪ ،‬رجاء (‪ ،)1992‬ثالثون عا ًما مع الشعر والشعراء ‪ ،‬ط‪ ، 1‬دار سعاد الصباح ‪ ،‬الكوٌت ‪ ،‬ص ‪.274‬‬
‫(‪ )2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.276 -272‬‬
‫(‪ )3‬البحراوي ‪ ،‬سٌد (‪ ،)2002‬مختارات الشعر الحدٌث فً مصر ‪ ،‬منشورات أمانة عمّان ‪ ،‬ص ‪.257‬‬
‫(‪ )4‬رضوان ‪ ،‬محمد (‪ )2008‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ط‪ ، ،1‬دار الكتاب العربً ‪ ،‬القاهرة –‬
‫دمشق ‪ ،‬ص ‪34‬‬
‫(‪ )5‬رضوان ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ص ‪42‬‬
‫‪8‬‬

‫األمر باختٌار اسم فاروق تٌم ًنا باسم ملك مصر ٌومبذ فاروق األول" (‪.)1‬‬

‫هو صورة‬
‫أما المشهد الثانً‪ ،‬الذي ظ ّل ٌلح على وجدان الشاعر وٌضؽط على روحه ‪ ،‬ؾ‬
‫المشٌّعٌن من أهل القرٌة ‪ ،‬الذٌن كانوا ٌحم لون جسد شقٌقه الؽضّ إلى المدافن ‪ ،‬بكل تبعات هذه‬
‫الصورة من حسرة وأسى ( ‪ ،)2‬وقد تركت هذه الحوادث أثرها على طبٌعة العبلقة التً ربطت‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثٌ ًقا‪ ،‬وأحاطته هً بحرص شدٌد‪ ،‬ولهفة وحبّ‬ ‫الشاع ر بؤمّه ‪ ،‬حٌث ا رتبط الشاعر بها‬
‫كبٌرٌْن‪ ،‬وحٌنما رحل الشاعر إلى القاهرة لٌت ّم تعلٌمه‪ ،‬ترك ذلك أثرً ا مرٌرً ا فً نفس أمّه ‪ ،‬وجعلها‬
‫تقاسً لوعة ابتعاد ولدها عنها‪ .‬وكانت هذه اللهفة مشتركة بٌنهما ‪ ،‬حتى بلػ تعلّقه به ا ح ّدا كبٌرً ا‪،‬‬
‫شدٌدا لدى الشاعر (‪ ،)3‬دعاه ألن ٌتؤخر فً رثابها حتى ٌتقبّل صدمته‬
‫ً‬ ‫خلّؾ على أثر موتها حزنًا‬
‫راقها ً‬
‫أوال‪ ،‬وٌدرك أ ّنها رحلت حقٌقة عن عالمه‪ٌ ،‬قول الشاعر فً رثاء أمّه (‪: )4‬‬ ‫بؾ‬

‫حنون ال ٌساومنً‬
‫ٍ‬ ‫بصدر‬
‫ٍ‬ ‫من لً‬

‫وال ٌرى فً الهوى ً‬


‫ذال وإشفاقا‬

‫نازف أبدًا‬
‫ٌ‬ ‫مرا وجرحً‬
‫عامان ّ‬

‫جف عاد الشوق د ّفاقا‬


‫وكلما ّ‬

‫قلب األ ّم ٌسكننً‬


‫بً العمر ‪ُ ..‬‬
‫ٌمضً َ‬

‫وال أرى بعده ُح ًّبا وأشواقا‬

‫جوانحه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ذابت‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ّأول من‬

‫ب َ‬
‫مات مشتاقا‬ ‫ُ‬
‫ولست آخر قل ٍ‬

‫وٌحضر الم شهد الثالث فً حٌاة جوٌدة الشاعر ‪ ،‬حٌن اخ تبر بنفسه االقتراب من حافة ال موت‬
‫واالنتهاء عندما دهمته الحمى ‪ ،‬وسقط مرٌضً ا بالتها ٍ‬
‫ب ربوي حاد كاد أن ٌودي بحٌاته‪ ،‬فانتابته‬

‫(‪ )1‬رضوان ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ص ‪.43-42‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫(‪ )3‬رضون ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫( ) ما ؼاب وجهك عن عٌنً ‪http://egyknight.com/talk/showthread.php?t=1220 ،‬‬
‫‪4‬‬
‫‪9‬‬

‫هواجس الموت‪ ،‬وشعر أن الحٌاة لن تكتب له من جدٌد (‪. )1‬‬

‫لقد تركت هذه الحٌاة التً عاشها جوٌدة ‪ ،‬وطبٌعة العبلقة التً ربطته بالمقرّ بٌن منه أثرها علٌه‬
‫عالً الحسّ ‪ ،‬حاضر ّ‬
‫التؤثر‪ ،‬وشدٌد‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫رقٌق ا‪،‬‬ ‫وعلى تركٌبته الشخص ٌّة والوجدانٌّة ‪ ،‬إذ بدا الشاعر‬
‫الحساسٌّة لك ّل ما ٌدور مِن حوله ‪ ،‬أو ٌصٌب اآلخرٌن ‪ٌ .‬قول عنه الناقد رجاء النقاش – وقد ربطته‬
‫به عبلقة صداقة طوٌلة امتدت لما ٌقارب العشرٌن عامًا – ‪ " :‬أحسست بؤنّ هذا الشاعر الف ّنان‬
‫وتتمثل فً شخصٌّته مجموعة من الصفات التً تجذبنً دابمًا وتثٌر‬‫ّ‬ ‫ٌحمل فً صدره قلبًا داف ًبا ‪،‬‬
‫عندي مشاعر عمٌقة من اإلعجاب والتقدٌر‪ ،‬فهو لٌّن الطبع‪ ،‬عفٌؾ اللسان ‪ ،‬ودود مع ا لناس‪ ،‬شدٌد‬
‫تعامل مع الذٌن‬
‫ه‬ ‫الوفاء لمن ٌعرفهم وتربطهم به صلة إنسانٌّة‪ ،‬وهو إلى جانب ذلك صبور هادئ فً‬
‫ٌختلفون معه‪ ،‬قادر على استٌعاب أي نق ٍد ٌوجّ ه إلٌه ‪ ..‬مع ثقة بالنفس لًس فٌها أيّ لمسة من لمسات‬
‫رجت بها من معرفتً بفاروق جوٌدة ‪ ،‬هً أ ّنه ّ‬
‫ٌمثل زهرة شدٌدة‬ ‫ُ‬ ‫الؽرور ‪ ،‬والخبلصة التً خ‬
‫مجتمع أدبًّ ملًء باألشواك الجارحة‪ ،‬واألعشاب السا ّم ة‪ ،‬والشخصٌّات‬
‫ٍ‬ ‫النضارة ؼنٌّة بالعطر‪ ،‬فً‬
‫العدوانٌّة الشرسة والنباتات المتسلقة التً ال تهتم بشًء إال بالوصول إلى هدفها مهما كان الثمن‬
‫ومهما كانت الوسابل " (‪. )2‬‬

‫بدت عبلقته األولى بالقراءة والمعرفة‪ ،‬حٌن التفت إلى مكتبة أبٌه التً ضمّت إلٌها أمهات الكتب‬
‫فً الفقه واألدب و التراث والشعر‪ ،‬حتى تنوّ عت ثقافته ‪ ،‬لٌقرأ األؼانً ‪ ،‬ونهاٌة األرب وألؾ لٌلة‬
‫ولٌلة‪ ،‬إلى جانب فتح الباري ومسند ابن حنبل ونهج الببلؼة ‪ ،‬ولتستوقفه دواوٌن شعراء العربٌّة فً‬
‫ت ومرّ ات ( ‪ ،)3‬وٌشٌر‬
‫مختلؾ العصور وتبلقً فً نفسه هوىً كبٌرً ا ‪ ،‬دفع الشاعر إلى قراءتها مرّ ا ٍ‬
‫جوٌدة إلى ثبلثة من التجارب الشعرٌّة لكبار الشعراء‪ ،‬وأبلؽها أثرً ا على نفسه وفً صوته الشعريّ ‪،‬‬
‫هم المتنبً وشوقً وحافظ ‪ ،‬وٌظهر أنّ ما استهواه فً ذلك الشعر أنه " ٌج مع بٌن الم وسٌقى وعمق‬
‫المعنى والصدق الفنًّ ‪ ،‬والبعد عن التكلّؾ واالفتعال " (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬رضوان ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫(‪ )2‬النقاش ‪ ،‬رجاء ‪ ،‬ثالثون عا ًما مع الشعر والشعراء ‪ ،‬ص ‪.271‬‬
‫(‪ )3‬رضوان ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪10‬‬

‫وٌبدو جوٌدة شاعرً ا ذا موقؾٍ ورإٌة خاصّة ‪ٌ ،‬قول عنه أحد األكادٌمٌٌن المصرٌٌن " الشاعر‬
‫فاروق جوٌدة لٌس شاعرً ا كشعراء آخرٌن‪ ،‬وإنما هو شاعر صاحب موقؾ ‪ ،‬وهذا الموقؾ ٌنعكس‬
‫فً كتاباته الشعرٌة فله رإٌة فً االقتصاد‪ ،‬وله رإٌة فً السٌاسة ‪ ،‬وفً ؼٌر ذلك من االهتمامات‬
‫الفكرٌّة "( ‪ ،)1‬وبنا ًء على ما سبق ‪ ،‬فإن جوٌدة من أبرز الشخصٌّات المصرٌّة التً تط ّل على‬
‫المواطن المصريّ البسٌط والمثقؾ فً أكثر من وسٌلة إعبلمٌّة؛ فللشاعر برنامج أسبوعًّ تذٌعه قناة‬
‫الحٌاة التلفزٌونٌّة المصرٌّة فً ك ّل جمعة‪ٌ ،‬تناول فٌه هموم اإلنسان المصريّ المعاصر‪ ،‬وٌدعو من‬
‫خبلله إلى اإلصبلح‪ ،‬كما ٌكتب فً عمود ثابت فً صحٌفة األهرام المصرٌّة‪ ،‬التً ٌعمل فٌها ربٌسً ا‬
‫للقسم الثقافً تحت عنوان " هوامش حرّ ة "‪ٌ ،‬تناول من خبلل هذا العمود الشؤن المصري ‪ ،‬كما‬
‫ٌلتفت إلى اإلنسان العربًّ فً كل مكان فً أحواله السٌاسٌّة واالقتصاديّة واألدبٌّة‪ ،‬وٌصدر الشاعر‬
‫أمبل منه فً أن تتاح للجمٌع ‪ ،‬وبذلك كلّه ٌعٌش جوٌدة مع الناس وألجلهم ‪،‬‬‫دواوٌنه بؤزهد األثمان ً‬
‫وتبدو تجربته الشعرٌّة مفترقة عن ؼٌرها من التجارب؛ للتواصل القابم بٌنه وبٌن المواطن المصريّ‬
‫والعربً مشا ِه ًدا أو قار ًبا ‪.‬‬

‫وأما عن توجّ هات الشاعر وآرابه‪ ،‬فهو من المثقفٌن الوسطٌٌن ؛ إذ ٌرفض مبدأ تصفٌة اآلخرٌن‬
‫على أساس االختبلؾ‪ ،‬مبٌنًا أن ذلك ال ٌتناسب مع دٌن أو سلوك متحضر‪ ،‬وهو منزعج من التشدد‬
‫باسم الدٌن وحاالت التشرذم واالنقسام‪ ،‬وٌرى جوٌدة أننا نستمر فً رفض اآلخر مع أن أهم ما ٌمٌز‬
‫مجتمعاتنا هو السماحة و تعددٌة التوجهات والرإى والمواقؾ‪ ،‬وٌرى أنه ال بد من استخدام أسلوب‬
‫أكثر رحمة مع الناس (‪ ،)2‬وفً سٌاق آخر‪ٌ ،‬صرّ ح جوٌدة أ ّنه مع الحوار الواعً مع " اآلخر" على‬
‫أن ٌعٌد إنتاج مفاهٌمه تجاهنا ‪ ،‬وٌقول جوٌدة فً هذا الصدد إنه فً حال أردنا دخول د ابرة الحوار‬
‫ب من أن ٌفهم الؽرب – اآلخر – أنّ الشهداء الذٌن حاربوا من أجل حرٌة اإلرادة‬
‫مع اآلخر‪ ،‬فإنه ال د‬
‫لٌسوا إرهابٌٌن ‪ ،‬وأنّ المقاومة حق لكل الشعوب ‪ ،‬وإال بات سعد زؼلول إرهابًً ا وعمر المختار‬
‫إرهابًٌا ومصطفى كامل كذلك‪ ،‬إضافة إلى كل الرموز الذٌن قدموا أنفسهم ثمنًا للكلمة الحرة (‪ ،)3‬لذا‬
‫فإن الشاعر ٌجد أن أبرز مشكبلتنا مع اآلخر ّ‬
‫تتمثل فً اختبلفنا فً مفهوم المقاومة‪.‬‬

‫(‪ )1‬مصطفى‪ ،‬نادٌة محمود (تقدٌم) ‪ ،‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل حوار الثقافات‪ ،‬محاضرة للشاعر فاروق‬
‫جوٌدة بعنوان " لسنا خارج العصر " ‪ ، 2004/4/28‬سلسلة محاضرات حوار الحضارات ( ‪ ،) 3‬دار السبلم للطباعة والنشر‪،‬‬
‫ص ‪ .167‬والرأي للدكتور كمال المنوفً عمٌد كلٌة االقتصاد فً إحدى الجامعات المصرٌّة ‪.‬‬
‫(‪ )2‬برنامج " مع فاروق جوٌدة " ‪ ،‬قناة الحٌاة المصرٌة ‪ 1 ،‬نٌسان ‪.2011‬‬
‫(‪ )3‬مصطفى‪ ،‬نادٌة محمود (تقدٌم)‪ ،‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل حوار الثقافات ‪ ،‬ص ‪ 162‬و ‪.165‬‬
‫‪11‬‬

‫وتبدو قصٌدة الشاعر ومواقفه‪ ،‬ونتاجه األدبًّ والفكري ككل عبلمة مضٌبة فً مسٌرة الشعر‬
‫العربًّ المعاصر ‪ٌُ ،‬نظر إلٌها بكثٌر من االهتمام والمتاب عة فً األوساط الثقافٌّة؛ ذلك أ ّنه امتلك‬
‫ٌقظا‪ ،‬وقلمًا ال ٌحابً ‪ ،‬جعل من مقاالته وقصابده ومسرحٌّاته أشبه برصاصة ظ ّل ٌطلقها‬ ‫ضمٌرً ا ً‬
‫‪ ،‬وحزنه على المواطن‬ ‫فً صدر النظام السابق قبل قٌام الثورة وبعدها‪ ،‬وكم ألجؤه صدقه العالً‬
‫المصريّ البسٌط الذي لم َ‬
‫ٌلق قو ت ٌومه إلى أن ٌطالب له فً حقه‪ ،‬وٌكشؾ فساد المتنفذٌن فً‬
‫مصر‪ ،‬لٌُترك الشاعر بعدها رهٌن ساعات طوٌلة من التحقٌق والمساءلة ‪.‬‬

‫‪ ،‬حًن ألؽوا صبلتهم‬ ‫وٌرفض جوٌدة القطٌعة ال تً فرضها بعض الشعراء على أنفسهم‬
‫بالجمهور‪ ،‬ودعوا األخٌر إلى االرتقاء فً ثقافته لٌساٌر تجاربهم ا لشعرٌّة؛ لٌسقطوا عن أنفسهم‬
‫تبعة التوصٌل‪ ،‬وٌؽادروا أرض الواقع‪ ،‬إلى عوالم أخرى ٌخلقها الشاعر‪ ،‬لتبدو أشبه بتجارب خاصة‬
‫‪ ،‬وهً " مجمو عة من‬ ‫ت من المعاناة واالختبار‬
‫أمر متؤ ٍ‬ ‫ال تتع ّدى كاتبها‪ .‬والتجربة الشعرٌّة‬
‫ً‬
‫محصبل‬ ‫اإلحساسات والمشاعر واألفكار التً تتراكم فً نفس الفنان أو الشاعر أو األدٌب ‪ ،‬وتكون‬
‫الحتكاكه بمجتمعه وطرابق اتصاله به‪ ،‬والتفاعل بٌنهما ‪ ،‬وهذه التجربة تكون عنصرً ا أساس ًٌّا فً‬
‫تجربته الفنٌّة‪ ،‬التً تبرز فً آثاره " (‪. )1‬‬

‫وتبدو رإٌة الشاعر واضحة فً مواقفه تجاه ما ٌد ور مِن حوله ؛ فالكون ٌستجوب الشاعر‬
‫وٌستنطقه مهما حاول األخٌر ا النؽبلق على أحبلمه ورإاه الخاصة ‪ ،‬وبذلك تبدو قدرة الواقع‬
‫الظاهرة على انتزاع إفادة الشاعر ‪ ،‬ودفعه إلى تقدٌم رإٌته الخاصة تبعً ا لذلك ‪ ،‬ولذا فإ ّنه ٌصبح من‬
‫خرب‬
‫ؼٌر المنطقًّ أن ٌزخرؾ الشاعر قصٌدة لعالم ؼٌر موجود إال فً مخٌلته فٌما الواقع ِ‬
‫ومتهالِك‪ ،‬ومن هنا نلمس افتراق جوٌدة فً رإٌته الشعرٌّة عن بعض الشعراء الذي ٌقٌمون عوالم‬
‫شعرٌّة جدٌدة قرٌبة فً نسٌجها من مادة الحلم ‪ٌ ،‬قول ؼالً شكري عن الرإٌا ‪ٌ ":‬ستعٌن لها الشاعر‬
‫بالمناخ األسطوري لعدم تو ّفره على بناء منطقً مسلسل أو مقدمات ونتابج محددة " ( ‪ ،)2‬وٌنظر‬
‫ّ‬
‫ٌتخطى عبرها‬ ‫عن نضج ووعً لدى األدٌب‬ ‫شكري إلى " الرإٌا " باعتبارها مرحلة تعبّر‬
‫"األسوار الضٌّقة للرإٌة الفكرٌّة " (‪ ،)3‬فٌما تتب ّدى تجربة الشاعر والرإٌة الفكرٌة لدٌه عبر دأبها –‬
‫أي الرإٌة ‪ -‬على أن " تمنح األولوٌّة فً عناصر التجربة الشعرٌّة للعنصر االجتماعًّ والداللة‬

‫(‪ )1‬عبد النور‪ ،‬جبور(‪ ، )1984‬المعجم األدبً‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن‪،‬ط‪ ،2‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫(‪ )2‬شكري‪ ،‬ؼالً (‪ ، )1991‬شعرنا الحدٌث إلى أٌن ؟‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪12‬‬

‫السٌاسٌّة " (‪ ،)1‬وٌنهض الشاعر جوٌدة بتجربته عبر ما ٌإم ن به باالتصال بكل ما هو إنسانً ‪ ،‬فبل‬
‫تؽري قضٌّة الشكل والعوالم الحلمٌّة باالبتعاد عن التراث اإلنسانً ‪ ،‬وفً الوقت ذاته ‪ ،‬فإن طؽٌا ن‬
‫ه‬
‫القٌمة ال ٌدفعه إلى إه مال القالب الذي ٌق ّدمها فٌه‪ ،‬حتى ٌبدو الشكل والمضمون معطٌان ال ٌنفصبلن‬
‫قصٌدت الشعرٌّة‪ ،‬وإنما ٌمكن القول إنّ تجربة جوٌدة قد بدت شدٌدة العفوٌّة والبساطة حٌن‬
‫ه‬ ‫فً ظل‬
‫عبّرت عن نفسها دون تكلّؾ أو اصطناع ‪ ،‬أو تطوٌع للقوالب الجاه زة للنهوض بالقٌمة الفنٌّة للنصّ ‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٌتوخى الشاعر من‬ ‫ولذا فإنّ صدق التجربة الشعرٌّة لدٌه هً ما حدد مسارها‪ ،‬وجعل لها طابعً ا‬
‫خبلله الوصول إلى القارئ دون عنا ٍء من كبل الطرفٌْن ‪ٌ ،‬قول طه وادي ‪ " :‬القضٌّة الحقٌقٌّة فً‬
‫شعر ٌمتلك أدوات الفنّ وٌستشرؾ آمال اإلنسان‬
‫ٍ‬ ‫أدبنا المعاصر قضٌّة شعر ال شكل ‪ ،‬ونحن مع كل‬
‫بمعزل ع ن التشكٌل الفنًّ‬
‫ٍ‬ ‫العربًّ " (‪ ،)2‬وٌرى وادي أنه من السذاجة نفً القٌمة التً تق ّدمها الفكرة‬
‫عازًٌا قٌمة أي تجربة أدبًّة هً بكونها تعبّر عن " موقؾٍ إنسانًّ شامل " ( ‪ ،)3‬وقد حفلت اإلنسانٌّة‬
‫وكتبت أسماءهم فً‬
‫َ‬ ‫بكثٌر من األدباء الذٌن نهضوا بؤصواتهم الصادقة للوقوؾ إلى جانب البسطاء‪،‬‬
‫سفر الخلود‪ .‬وللشاعر جوٌدة أعمال كثٌرة تنوّ عت ما بٌن النثر والشعر والمسرح والمقال وضع ته‬
‫على الخارطة الشعرٌّة منذ بداٌاته فً السبع ٌنات من القرن الفابت وحتى الٌوم ‪ ،‬ترجمت قصابده‬
‫ومسرحٌّاته إلى ع ّدة لؽات عالمٌّة منها ‪ :‬اإلنجلٌزٌّة والفرنسٌّة واأللمانٌّة واإلسبانٌّة والصٌنٌّة ‪،‬‬
‫والبنجالٌّة والٌو ؼسبلفٌّة واإلٌطالٌّة والفارسٌّة ‪ ،‬كما تناول عدد من الباحثٌن أعماله اإلبداعٌّة فً‬
‫رسابل جامعٌّة (‪ ،)4‬حصل على جابزة ا لدولة التقدٌرٌّة فً اآلداب عام ‪ ،2002‬ونالت مسرحٌاته‬

‫من تونس والجزابر‬ ‫حضورً ا الف ًتا ونجاحً ا كبٌرً ا فً أكثر من مهرجان مسرحًّ عربًّ فً ك ّل‬
‫واألردن وسورٌا‪ ،‬واإلمارات العربٌّة المتحدة (‪ ،)5‬وتجدر اإلشارة هنا إلى آثاره الشعرٌّة‪ ،‬التً تع ّد‬
‫المصدر األوّ ل الذي ٌقؾ خلؾ هذه الدراسة‪:‬‬

‫حبٌبتً ال ترحلً (‪)1975‬‬ ‫‪.1‬‬

‫وٌبقى الحب (‪)1977‬‬ ‫‪.2‬‬

‫(‪ )1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.74‬‬


‫(‪ )2‬وادي ‪ ،‬طه(‪ ، )2000‬جمالٌات القصٌدة المعاصرة ‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق ‪ ،)2009( ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 3‬القاهرة ‪ ،‬صفحة الؽبلؾ‪.‬‬
‫(‪ )5‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬صفحة الؽبلؾ‪.‬‬
‫‪13‬‬

‫ولؤلشواق عودة (‪)1978‬‬ ‫‪.3‬‬

‫فً عٌنٌْكِ عنوانً (‪)1979‬‬ ‫‪.4‬‬

‫دابمًا أنت بقلبً (‪)1981‬‬ ‫‪.5‬‬

‫ألنً أحبّك (‪)1982‬‬ ‫‪.6‬‬

‫شًء سٌبقى بٌننا (‪)1983‬‬ ‫‪.7‬‬

‫طاوعنً قلبً فً النسٌان (‪)1986‬‬ ‫‪.8‬‬

‫لن أبٌع العمر (‪)1989‬‬ ‫‪.9‬‬

‫زمان القهر علّمنً (‪)1990‬‬ ‫‪.10‬‬

‫كانت لنا أوطان (‪)1991‬‬ ‫‪.11‬‬

‫آخر لٌالً الحلم (‪)1993‬‬ ‫‪.12‬‬

‫ألؾ وج ٍه للقمر(‪)1996‬‬ ‫‪.13‬‬

‫لو أننا لم نفترق (‪)1998‬‬ ‫‪.14‬‬

‫أعاتب فٌك عمري (‪)2000‬‬ ‫‪.15‬‬

‫فً لٌلة عشق (‪)2003‬‬ ‫‪.16‬‬

‫عزؾ منفرد (‪)2003‬‬ ‫‪.17‬‬

‫كؤن العمر ما كانا (‪)2007‬‬ ‫‪.18‬‬


‫‪14‬‬

‫فً رحاب القدس ( مجموعة شعرٌّة) (‪)2009‬‬ ‫‪.19‬‬

‫هذي ببلد لم تعد كببلدي (‪)2009‬‬ ‫‪.20‬‬

‫ماذا أصابك ٌا وطن؟ (‪)2010‬‬ ‫‪.21‬‬

‫‪ 2009‬إلى بعضها فً ثبلثة مجلدات من‬ ‫وقد قام على ض ّم كل الدواوٌن الصادرة قبل عام‬

‫‪ ،2009‬وضمّنها‬ ‫أعماله الشعرٌّة الكاملة ‪ ،‬وصدرت عن دار ال شروق فً طبعتها الثالثة عام‬

‫الشاعر –إلى جانب قصابده‪ -‬مسرحٌّاته الشعرٌّة ‪.‬‬


‫‪15‬‬

‫الفصل األول‬
‫الرإٌة فً شعر فاروق جوٌدة‬
‫‪16‬‬

‫المبحث األول‬
‫الموقف من الحب‬
‫‪17‬‬

‫الموقف من الحب‬

‫الحب قوّ ة كونٌّة تبدد وحشة الو اقع‪ ،‬وتفتح آفا ًقا جدٌدة وأبوابًا على الحلم ‪ٌ ،‬حسّ الشاعر فً‬
‫ؼمرتها أنّ الكون كلّه فً قبضته‪ ،‬وأنّ شٌبا فً هذا العالم ال ّ‬
‫ٌهزه‪ " ،‬والحب هو الذي ٌجعل اإلنسان‬
‫ٌتؽ ّلب على الشعور بالعزلة واالنفصال‪ ،‬ومع هذا ٌسمح له أن ٌكون نفسه‪ ،‬أن ٌحتفظ بتكامله " (‪. )1‬‬
‫وهو ما ٌمؤل الكون من حول اإلنسان وٌشعره بجدوى وجوده ‪ ،‬وكؤن الحب عبلمة واضحة على‬
‫قدرة اإلنسان على االتصال بنجاح بمن حوله‪ ،‬وهً رؼبة وفطرة قابمة فً األنفس ٌدفع إلٌها‬
‫الخوؾ الدابم من الوحدة " هذه الرؼبة لبلندماج مع شخ ص آخر هً أكبر توقان لدى اإلنسان ‪ ،‬إنها‬
‫ا وكذلك القبٌلة واألسرة‬ ‫أشد عوا طفه جوهرٌّة ‪ ،‬إنها القوة التً تبقً الجنس البشريّ متماسكً‬
‫والمجتمع‪ .‬والفشل فً تحقٌق هذا االندماج ٌعنً الجنون أو الدمار ‪ .‬بدون حب ما كان لئلنسانٌّة أن‬
‫توجد ٌومًا ما " (‪. )2‬‬

‫وٌق ّدم هرم (ماسلو) للحاجات اإلنسانٌّة تدرّ جً ا هرمٌّا وف ًقا للحاجات األهم فالمهمة وصوال إلى‬
‫‪ ،‬وٌرى‬ ‫تلك التً ال ٌصل إلٌها كثٌر من الناس ‪ ،‬وتقع فً قمة الهرم وهً حاجة " تحقٌق الذات "‬
‫ماسلو أنّ إشباع هذه الحاجات أو عدم إشباعها ٌإدي بالضرورة إلى وجود نمط معٌن من أنماط‬
‫الشخصٌّة (‪ .)3‬وتؤتً الحاجة إلى الحب واالنتماء فً منتصؾ الهرم تسبقها الحاجة إلى األمن وتلٌها‬
‫الحاجة إلى تقدٌر الذات ‪ ،‬وٌرى ( ماسلو ) أن إحساس الفرد بحاجة معٌنة ال ٌنشؤ إال حٌن تشبع‬
‫الحاجة السابقة لها (‪ ،)4‬ومن ذلك نعً أنّ إشباع الحاجة لؤلمان شرط أساسًّ للوصول إلى الحبّ ‪،‬‬
‫والحصول على الحب ٌدنً الفرد خطوة نحو تقدٌر الذات واإلحساس بقٌمته فً الوسط الذي ٌعٌش‬
‫فٌه ‪ .‬وتظهر الحاجة إلى الحب واالنتماء " فً رؼبة الفرد فً أن ٌإلَؾ وٌؤلؾ‪ ،‬وتتب ّدى تلك الحاجة‬

‫(‪ )1‬زٌادة وآخرون ‪ ،‬معن ( تحرٌر ) (‪ ،)1986‬الموسوعة الفلسف ٌّة العرب ٌّة ‪ ،‬معهد اإلنماء العربً ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪،‬‬
‫مج‪،1‬ص ‪.353‬‬
‫(‪)2‬فروم ‪ ،‬اٌرٌك (‪ ،)1956‬فن الحب ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬مجاهد عبد المنعم مجاهد ‪ ،‬دار العودة ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪. 42‬‬
‫(‪ )3‬عٌسى ‪ ،‬محمد رفٌقً (‪ ،)1988‬الدافع ٌّة – دراسة نقد ٌّة فً نموذج مقترح ‪ ،-‬دار األرقم للنشر والتوزٌع ‪ ،‬ط‪ ،1‬الكوٌت‪،‬‬
‫ص ‪.54‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪. 57‬‬
‫‪18‬‬

‫مع اإلحساس بالؽربة والخضوع للتؽرٌب خاصة فً المجتمعات المدٌنٌّة المزدحمة‪ ،‬وهً لٌست‬
‫مثل الحاجة إلى الجنس‪ ،‬فاألولى حاجة اجتماعٌّة والثانٌة حاجة فسٌولوجٌّة " (‪.)1‬‬

‫‪ ،‬ورؼبتنا فً‬ ‫و"البحث عن الحب – كما ٌرى (بٌتر فلٌتشر)– إ ّنما هو بحث لمعرفة الذات‬
‫الحب هً رؼبتنا ألن ٌُعترؾ بنا ال من أجل ما ( نفعل ) ولكن من أجل ما( نكون )" (‪.)2‬‬

‫ومن ه نا ٌبدو الحب حاجة إنسانٌّة ملحة‪ٌ ،‬تجاوز فٌها الفرد عزلته اإلنسانٌّة لٌتحد باآلخر‪ ،‬وهً‬
‫مكاشفة أولى ٌجرٌها مع نفسه قبل أن ٌنتقل إلى مجابهة الواقع وم صادمته ‪.‬‬

‫وٌشٌر ابن القٌم إلى هٌمنة الحب على الوجود ‪ ،‬فٌقول فً كتاب (روضة المحبٌن) إ ن العالم‬
‫العلوي والسفلً إنما وجد بالمحبة وألجلها " حركات األفبلك و الشمس والقمر والنجوم‪ ،‬وحركات‬
‫المبلبكة والحٌوانات‪ ،‬وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب "(‪. )3‬‬

‫ا حامبل للتجارب الشعورٌّة من وقوؾ الشعراء عند‬ ‫ً‬


‫تارٌخ‬ ‫وقد ق ّدم الشعر عبر العصور‬
‫أحاسٌسهم فً الحب بقصابدهم الشعرٌّة‪ ،‬وسارت حكاٌات صاحب لٌلى العامر ٌّة وجمٌل بثٌنة بٌن‬
‫الناس‪ ،‬وبتنا نرحل فً النص الشعريّ مع ابن زٌدون ووالدة إلى ظبلل وارفة فً أفٌاء األندلس‪،‬‬
‫وفٌما بدا الشعر مرجعً ا لحكاٌات الحب الجمٌلة والمإلمة عبر تارٌخ البشرٌّة جمعاء كان هذا‬
‫التوافق؛ ـؾ" الشعر والحب شبٌها ن ‪ .‬كبلهما ٌنبثق من المح دود وهو الذات والتجربة الذاتٌة إلى‬
‫البلمحدود وهو التوق إلى االتحاد بجوهر األشٌاء‪ .‬و كبلهما محاولة لئلمساك بالمستحٌل المدهش‪،‬‬
‫وجعل ما هو زمنً خارج الزم ن وجعل ما هو تارٌخً فوق التارٌخ‪ ،‬والشعر والحب ٌجعبلن ما هو‬
‫ً‬
‫ؼاٌة فً ح ّد ذاته "( ‪ .)4‬وتبقى حكاٌات الحب فً تراثنا العربًّ مطلة فً حاضرنا الشعريّ‬ ‫ؼابً‬
‫بروحها فً قصابد الشعراء الٌوم‪ ،‬وهً التً ٌستلهم منها الشعراء معاني الصبر واالحتمال لعذابات‬
‫الحبّ ‪ ،‬كما تشٌر ‪ -‬فً بعض منها‪ -‬إلى التع ّفؾ واالرتفاع عن الحسٌّة‪ٌ ،‬قول ٌحٌى السماوي (‪: )5‬‬

‫(‪ )1‬عٌسى ‪ ،‬محمد رفٌقً ‪ ،‬الدافع ٌّة – دراسة نقد ٌّة فً نموذج مقترح ‪ ،-‬ص ‪.60‬‬
‫(‪ )2‬السعداوي ‪ ،‬نوال (‪ ،)1974‬المرأة و الجنس ‪ ،‬المإسسة العربٌّة للدراسات والنشر ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫(‪)3‬ابن قٌم الجوزٌة ‪ ،‬شمس الدٌن محمد بن أبً بكر(ت‪ 751‬هـ‪1349 /‬م )‪ ،‬روضة المحبٌن ونزهة المشتاقٌن ‪ ،‬دار النببلء‪،‬‬
‫بٌروت ‪ ،‬د‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫(‪ )4‬أبو سنة ‪ ،‬محمد إبراهٌم (د‪.‬ت)‪ ،‬دراسات فً الشعر العربً ‪ ،‬دار المعارؾ ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪. 29‬‬
‫(‪ )5‬السماوي ‪ٌ ،‬حٌى (‪ ،)2008‬دٌوان البكاء على كتف الوطن ‪ ،‬دار التكوٌن ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.95-94‬‬
‫‪19‬‬

‫ّ‬
‫تستـفز خدورا‬ ‫والعـامر ٌّة‬ ‫ح بٌننا‬
‫الملو ِ‬
‫ّ‬ ‫قٌـس بن‬
‫ُ‬ ‫ال زال َ‬
‫ورداء ذلًّ فً هواكِ غرورا‬
‫َ‬ ‫حسبً أرى ضعفً أما َمكِ قو ًة‬

‫ع ٌْ َن ٌْـكِ دارا والفـإادَ عشٌرا‬ ‫ُ‬


‫فجئت مباٌعـا‬ ‫أمر الهوى قلبً‬
‫َ‬

‫وفً سٌاق ٍ آخر‪ ،‬استطاعت تجربة الحب أن تؤخذ شعراء كثٌرٌن ً‬


‫بعٌد ا عن عذابات المرض‬
‫والمرارة‪ ،‬وأتاحت لهم ا لهروب إلى الحب من واقعهم األلٌم ‪ ،‬حٌن ٌصبح الشبّاك الذي تط ّل منه‬
‫الحبٌبة نافذة الشاعر األثٌرة إلى نفسه لتسرّ ي عنه "فالعالم ٌفتح شباكه ‪ /‬من ذاك الشباك األزرق"‬
‫(‪ ،)1‬وكذا حٌن أطلت " وفٌقة " عبر شبّاكها األزرق فتحت للشاعر أبواب الحلم‪ ،‬وكؤن الشاعر كان‬
‫ٌتمنى لو تخرج إلٌه عبر ذلك الشباك‪ ،‬وهً صورة ؼٌر ممكنة لحبٌبة مٌتة ال ت ْم ثل إال فً ذاكرة‬
‫الشاعر‪ ،‬وهنا ٌبدو الشاعر كؤنه ٌناجً طٌفها وٌستدعٌها فً اإلشارة إلى عجزه عن تجاوز حبها‬
‫وقبول هذا الرحٌل‪ٌ ،‬قول (‪: )2‬‬

‫ش ّباك وفٌقة ٌا شجر ْة‬

‫تتنفس فً الغبش الصاحً‬

‫األعٌنُ عندك منتظر ْة‬

‫ب زهرة ت ّف ِ‬
‫ـاح‬ ‫تتر ّق ُ‬

‫وبدت للمرأة فً حضورها فً القصٌدة التً تعبّر عن عاطفة الحب صورٌ كثٌرة ؛ إذ استطاع‬
‫الشعر العربًّ أن ٌق ّدم تراثـًـا حضارًٌا وأدبًٌا نظرً ا لتعدد منابعه منذ الجاهلًّة حتى الٌوم ‪ ،‬فانشطرت‬
‫تبعً ا لذلك صورتها فً اتجاهٌن ‪ :‬صورة طهرانٌة عالٌة ‪ ،‬وأخرى مضادة لها تستبٌح عوالم المرأة‬
‫الخاصة‪ ،‬وال تتش ّكل إال بسطوة الؽرٌزة‪ .‬وتحكً المجامٌع الشعرٌّة التً عنٌت بؤوصاؾ النساء ذلك‬
‫الشؽؾ البالػ الذي أحاط به الرجل التفاصٌل الدقٌقة لجسد المرأة وحٌاتها ‪.‬‬

‫(‪ )1‬السٌّاب ‪ ،‬بدر شاكر (‪ ،)1998‬النهر والموت ( مقتطفات) ‪ ،‬إعداد وتقدٌم‪ :‬شوقً عبد األمٌر ‪ ،‬قصٌدة شبّاك وفٌقة ‪ ،‬دار‬
‫الفارابً‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫( ‪)2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪20‬‬

‫ك‬
‫وإن كان الرجل لم ٌتوقؾ‪ -‬منذ بدء البشرٌة‪ -‬عن التقرب إلى المر أة الستبطان عوالمها وف ّ‬
‫يسّر ارتباط نموذج المرأة لدى كثٌر من الحضارات بج ذور أسطورٌّة ؛ كالنظر‬
‫رموزها‪ ،‬وهو ما ف‬
‫ً‬
‫رمزا للنماء وا لخصب والعطاء( ‪ ،)1‬كما فً المٌثولوجٌا الرافدٌّة والمجتمع الوثنًّ‬ ‫إلٌها باعتبارها‬
‫القدٌم ‪ ،‬وتتقارب األساطٌر على اختبلفها وتعددها فً موضوع المرأة بالنظر إلى قصص الخلق‬
‫األولى والخروج من الجنة ونشوء العالم البشريّ ‪ ،‬والنظر إلٌها بوصفها مبدأ هذا الكون وأصله(‪.)2‬‬

‫أما فً القرآن الكرٌم‪ ،‬فقد استطاعت الحادثة القرآنٌة فً قصة سٌدنا ٌوسؾ أن تم ّكن لنفسها‬
‫وتظهر تفوقا للتمثٌل على عبلقة الرجل بالمرأة من منطلق الحب قاب ًم ا على االختزال فً التعبٌر‬
‫القرآنً؛ إذ ق ّدمت هذه الواقعة تفاصٌل اعتبلق امرأة العزٌز بسٌدنا ٌوسؾ ومراودتها له ‪ ،‬فً قوله‬
‫سبحانه (‪ " : )3‬قد شؽفها حبّا"‪ ،‬والشؽؾ من مراتب الحب المتقدم ة‪ ،‬وهو " إحراق الحب القلب مع‬
‫لذة ٌجدها" (‪ .)4‬وذلك ٌعنً أنّ المشاعر قد انتقلت لدٌها من مرحلة اإلدراك وصوال إلى القلب ‪،‬‬
‫‪ ،)5‬وتتضح معالم هذه القصة القرآنٌّة فً‬ ‫وهو ما ٌفسّر " أنّ الحب قد تم ّكن تماما من قلبها" (‬
‫‪ ،‬وه و ما جاء نتٌجة لشؽفها‬ ‫التفصٌل الذي ٌق ّدمه أحد الدارسٌن لدى وقوفه عند مفهوم المراودة‬
‫الشدٌد به‪ ،‬ومحاوالتها الستمالته إلٌها ؛ فالمراودة المقصودة هً كل التلمٌحات التً سبقت المكاشفة‬
‫الصرٌحة لما أرادته (‪ ،)6‬ما ٌعنً أنّ ٌوسؾ علٌه السبلم كان مهٌؤ لئلثم إثر إلحاحها الشدٌد لوال أنّ‬
‫هللا عصمه ‪.‬‬

‫وهنا تظهر مركزٌّة المعانا ة فً اقتران تجربة الحب بالحرمان‪ ،‬وؼالبًا ما ٌكون الحب مصدرً ا‬
‫للشقاء والقلق‪ ،‬وف ًقـا للطبٌعة البشرٌّة التً جبلت على خوض ؼمار التجربة االنسانٌّة ‪ -‬الحب‪ -‬حتى‬
‫ً‬
‫ملهبة وقاسٌة‪ ،‬أو ملٌبة بمعانً الهجر والقطٌعة ‪.‬‬ ‫إن كانت‬

‫بابلً ‪ ،‬قراءة فً شعر حمٌد سعٌد ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬ص ‪. 92‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )1‬السٌد جاسم ‪ ،‬عزٌز (‪ ،)1990‬إٌقاع‬
‫(‪ )2‬طه ‪ ،‬جمانة (‪ ،)2004‬المرأة العربٌة فً منظور الدٌن والواقع – دراسة مقارنة‪ ، -‬من منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪،‬‬
‫ص ‪.28‬‬
‫(‪ )3‬سورة ٌوسؾ ‪.30 :‬‬
‫(‪)4‬الثعالبًّ ‪ ،‬أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعٌل (ت ‪429‬هـ‪1038 /‬م) فقه اللغة ‪ ،‬تحقٌق جمال طلبة ‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمٌة ‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص ‪. 207‬‬
‫(‪ )5‬الشعراوي ‪ ،‬محمد متولً (د‪.‬ت)‪ ،‬تفسٌر الشعراوي ‪ ،‬المجلد الحادي عشر ‪ ،‬أخبار الٌوم – قطاع الثقافة ‪ ،‬ص ‪.6932‬‬
‫‪6‬‬
‫صة القرآن ٌّة ‪ ،‬األهلٌة للنشر والتوزٌع‪ ،‬ط‪ ، 1‬عمّان ‪ ،‬ص‬
‫( ) الطراونة ‪ ،‬سلٌمان(‪ ،)1992‬دراسة نص ٌّة ( أدب ٌّة ) فً الق ّ‬
‫‪.275‬‬
‫‪21‬‬

‫وفً ضوء ذلك‪ ،‬فقد قادت هذه التجارب كثٌرً ا من الشعراء كً ٌنقلوا شٌبا من أحاسٌسهم تعبٌرً ا‬
‫حبً من جهة واحدة‪ -‬فإنه – فً نظرهم ‪ -‬أفضل من البقاء ببل‬
‫عن األلم الذي ٌقاسونه – وإن كان ا‬
‫حب؛ ألن الحٌاة حٌنها ستبدو بالنسبة إلى هإالء موتا محققا(‪. )1‬‬

‫وتتضح عبلمات الخٌبة والنكوص‪ ،‬وٌتبدى موقؾ الشعراء من فوات تجربة مماثلة بكونه أمرً ا‬
‫ً‬
‫وباعثا على التعاسة‪ ،‬فهذه الشاعرة فدوى ط وقان التً عاشت فً وسط أسريّ محافظ‬ ‫مثٌرً ا للقلق‪،‬‬
‫ّأثر فً قدرتها على التواصل بمن حولها ‪ ،‬حتى بدت عبلقاتها وصورها فً الحب مبتورة وناقصة ‪،‬‬
‫تقول (‪:)2‬‬

‫ْ‬
‫الرائعه‬ ‫نسؤل ُ عن أشواقنا‬

‫ْ‬
‫الضائعه‬ ‫نبحث عن أشٌائنا‬

‫أٌنَ مضت؟ كٌف استحالت هبا؟‬

‫أهكذا نفق ُد أحال َمنا‬

‫أهكذا ال شًء ٌبقى لنا؟‬

‫بلى ‪ ،‬بلى؛ ال شًء ٌبقى لنا‬

‫بلى ‪ ،‬بلى؛ ال شًء ‪...‬‬

‫لك ّنما‬

‫تعسنا ‪ٌ ،‬ا فقر أعمارنا‬


‫ٌا ْ‬

‫إذا انطوى العٌش ولم تحترق‬

‫ْ‬
‫التجربه‬ ‫أرواحنا فً له ِ‬
‫ب‬

‫(‪ )1‬عباس ‪ ،‬إحسان (‪ ،)1962‬بدر شاكر السٌاب ‪ ،‬المإسسة العربٌة ‪ ،‬ط ‪ ، 6‬ص ‪.58‬‬
‫(‪ )2‬طوقان ‪ ،‬فدوى(‪ ،)1978‬الدٌوان ‪ ،‬أعطنا حبا ‪ ،‬قصٌدة " الكلمة والتجربة " ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪370-369‬‬
‫‪22‬‬

‫وبذلك تصبّ الشاعرة الخسارة فً وعابٌن متبلزمٌن ‪ :‬الشباب والحب ‪ .‬وهو ما ٌدفع إلى القول‬
‫إن القصٌدة العربٌة الٌوم – بوجه عام ‪ -‬لم تعد تخلص إلى موضوعة الحب أو تنظر إلٌه باعت باره‬
‫موضوعً ا شعرًٌا مستقبل‪ ،‬إذ باتت القصٌدة أكثر تشاب ًكا ‪ ،‬تق ّدم رإٌة مر ّكبة للحب وما ٌمكن أن ٌكتنفه‬
‫جنبً إلى جنب من أحاسٌس الشاعر وإدراكاته ؛ كمتبلزمة الحب والموت ( ‪ ،)1‬أو فً‬
‫وٌسٌر معه ا‬
‫تبلقً الحب مع الحزن والشكوى من الزمن‪ٌ ،‬قول فاروق جوٌدة (‪: )2‬‬

‫بٌنً وبٌنكِ خطوتان‬

‫ألف مٌلْ‬
‫وحٌن ٌبدو الحزن تصبح َ‬

‫وكثٌرً ا ما تفتح القصٌدة لدى فاروق جوٌدة أبوابها على مشاهد الرحٌل ‪ ،‬أو تشٌر إلى الشاعر‬
‫ً‬
‫اهظة فً سبٌل استعادته لمن ٌحبّ ‪ .‬وألنّ جوٌدة‬ ‫وهو ٌساهر األمانً‪ ،‬وٌدفع من كبرٌابه أثما ًنا ب‬
‫ٌمارس الوجود من خبلل امرأة ( ‪ ،)3‬فإنّ تر ّكز معاناته فً الحبّ ٌعمّق إحساسه باألسى ‪ ،‬ما ٌنسحب‬
‫بشكل جلًّ على صوته الشعريّ ‪ ،‬ونجده ٌستع ٌن باألسلوب الفنًّ " االستذكار "‪ ،‬ألنه فً تجربته‬
‫الشعرٌّة كثٌرً ا ما ٌنظر إلى الخلؾ(‪:)4‬‬

‫وكانت رعشة القندٌل‬

‫فً حزن تراقبنا‬

‫وتخفً الدمع أحٌانا‬

‫وكان اللٌل كالقناص ٌرصدنا‬

‫‪....‬‬

‫وروعنا قطار الفجر‬


‫ّ‬

‫‪....‬‬

‫(‪ )1‬عباس ‪ ،‬إحسان (‪،)1992‬اتجاهات الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 2‬عمّان ‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " ما زلت أسبح فً عٌونك " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.186‬‬
‫(‪ )3‬الورقً ‪ ،‬السعٌد (‪ ،)2002‬دراسات نقد ٌّة ‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌّة ‪ ،‬اإلسكندرٌّة ‪ ،‬ص ‪.228‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة "وكانت بٌننا لٌلة " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪172-171‬‬
‫‪23‬‬

‫وقدّ منا سنٌن العم ر قربانا‬

‫وفاض الدمع‬

‫فً أعماقنا خو ًفا وأحزانا‬

‫ولم تشفع أمام الدهر شكوانا‬

‫مشهديّ الرحٌل وعلى أشطر القصٌدة ككل‪ ،‬حتى لٌبدو الحب ؼاببًا؛‬
‫ة‬ ‫إنّ سطوة الزمن تهٌمن على‬
‫فاللٌل ٌترصّد‪ ،‬والفجر بدال من أن ٌؤتً بالبشارة والخٌر فإنه ٌسعى لتشتٌت الشمل وإٌقاع البًْن لٌق ّدم‬
‫صورة معكوسة‪ ،‬وتنس ّل سنون العمر‪ ،‬كما ٌستسلم المحبان لحتمٌّة االفتراق المإكد باستعمال الشاعر‬
‫لؤلفعال الماضٌة المتوالٌة‪ ،‬و" لم" التً تعمّق وتجزم باالنتهاء ‪.‬‬

‫ولكنّ تجربة الشاعر‪-‬بعامة‪ -‬فً الحب تجربة رقٌقة هامسة ‪ ،‬أدت دورً ا بالػ األثر فً التمكٌن له‬
‫فً صٌاؼة تجربته‪ ،‬قبل أن ٌحوّ ل مسار الرإٌة لدٌه لٌتخذ موق ًفا أمام الجحٌم الذي تعٌشه اإلنسانٌّة‬
‫والقومٌّة العربٌّة(‪ .)1‬وقد أطلت قضٌة الحب كمهٌمن موضوعً لدى عدد ؼٌر قلٌل من الشعراء‬
‫قبل أن ٌنطلقوا إلى قضاٌا أخرى متصلة بالوطن والهم وم الجمعٌّة ‪.‬‬

‫وأكثر ما تتب ّدى صور الحب فً قصٌدته فً المداومة على األمل وانتظار اللقاء( ‪ ،)2‬أو بانعدام‬
‫األمل والركون إلى الٌؤس ‪ ،‬إما ألن الزمان ال ٌجود باللقاء أو ألنّ المحبوبة جاحدة وظالمة ( ‪. )3‬‬
‫وٌصبح اللقاء بالنسبة للشاعر أمنٌة ٌقضً عمره كله فً انتظار تحققها ‪ ،‬وٌظل ٌرجو هذه اللحظة‬
‫فً الربٌع من كل عام لٌجددا عهودهما‪ .‬والربٌع موسم ٌرتدي فٌه الكون حلّة بهٌّة من اإلزهار‬
‫والجمال‪ ،‬فمتى ٌحٌن الوقت لٌتلوّ ن قلب الشاعر من جدٌد بلقاء الحبٌبة ؟ (‪: )4‬‬

‫(‪ٌ ) 1‬قول الشاعر ‪ ":‬تؽ ّنٌت للحب ألكثر من عشر سنوات ‪ ،‬إال أننً ؼارق فً المستنقع السٌاسًّ لخمس وعشرٌن سنة " ‪،‬‬
‫صحٌفة األخبار السودانٌّة ‪،‬السودان‪ ،‬شاعر العشق والسٌاسة ‪ ،‬الخمٌس ‪ 25‬أٌلول ‪.2008‬‬
‫(‪ٌ )2‬نظر (مثبل) ‪ :‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬المجلد األوّ ل ‪ :‬وٌمضً العمر‪ ،‬ص ‪ 151‬؛ وعشقت ؼٌري‪ ،‬ص ‪156‬؛ قد نلتقً‪،‬‬
‫ص ‪ 26‬؛ الشاطا الخالً ص ‪.113‬‬
‫(‪ٌ )3‬نظر ( مثبل ) ‪ :‬جوٌدة ‪ :‬األعمال الكاملة ‪ ،‬ألن الشوق معصٌتً ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪286‬؛ بقاٌا امرأة ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪116‬؛‬
‫أنثى بخٌلة ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.473‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "بقاٌا أمنٌة" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.27‬‬
‫‪24‬‬

‫ما زال فً قلبً بقاٌا أمنٌة‬

‫أن نلتقً ٌوما وٌجمعنا ‪ ..‬الربٌع‬

‫أن تنتهً أحزاننا‬

‫أن تجمع األقدار ٌوما ً شملنا‬

‫ْ‬
‫أختنق‬ ‫فؤنا ب ُبعدِكِ‬

‫وٌعلن جوٌدة توجهه الشعريّ الذي ال ٌرجّ ً من ا لمحبوبة شٌ ًبا أبعدَ من عٌنٌها (‪ّ ،)1‬‬
‫فٌمثل بذلك‬
‫حالة شعورٌّة سامٌة‪ٌ ،‬ستعٌن عبرها بسٌن االستقبا ل واستمرارٌّة الرحٌل بتؤكٌد الحركٌّة والمداومة‪،‬‬
‫وتجدٌد العهود بالحفاظ على الو ّد‪ٌ ،‬قول(‪: )2‬‬

‫وأنا أحبكِ‬

‫لٌس ٌعنٌنً تالقً دربنا‬

‫لحلم مستحٌلْ‬
‫ٍ‬ ‫أم ظلت األٌا ُم تحملنا‬

‫حتى وإن كان الطرٌق إلٌك عمري كلّه‬

‫سؤظل أرحل ُ فً عٌونكِ‬

‫لن أمل ّ من الرحٌلْ‬

‫وبذلك ٌرتفع جوٌدة بالمرأة فً قصٌدته عن الحسٌّة الفجّ ة‪ ،‬وتظل المرأة لدٌه ذات كٌان إنسانًّ‬
‫عال؛ إذ ٌتبلور العشق لدٌه فً ؼٌاب المحبوبة‪ً ،‬‬
‫بعٌدا عن ارتساماتها المادٌّة التً تـُفقِد المرأة شٌبا‬
‫‪ ،‬فٌما ٌحتفظ هو بمكانتها وصورتها المتقدة‪ ،‬وٌستوعب‬ ‫كثٌرً ا من وهج مرورها فً القصٌدة‬

‫(‪ٌ )1‬قول أنٌس منصور‪ " :‬إنّ فاروق جوٌدة لم ٌذهب أبعد من عٌنًْ المحبوبة ‪ ..‬وفً عٌنٌها ٌرى دنٌاه ودنٌاها ‪،‬‬
‫وٌندب الحب والزمن الرديء" ‪ ،‬رضوان ‪ ،‬محمد ( ‪ )2008‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪،‬‬
‫ص‪. 8‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " ما زلت أسبح فً عٌونك" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.189‬‬
‫‪25‬‬

‫حضورها كما لو كانت امرأة نورانًّة‪ ،‬وهو راهب متعبّد فً نور قدسِ ها ال ٌم ّل من االقتراب( ‪)1‬؛‬
‫هذا االقتراب الذي سٌتركه فٌما بعد محتر ًقا بلهٌبها‪ٌ ،‬قول فاروق جوٌدة فً هذا السٌاق (‪:)2‬‬

‫لو أننا ‪ ..‬لم نفترق‬

‫ُ‬
‫لبقٌت نج ًما فً سمائك سار ًٌا‬

‫ٌحتر ْق‬
‫ِ‬ ‫لهٌبكِ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وتركت عمري فً‬

‫هذا االحتراق المتحقق فً حاالت اقترابه منها وابتعاده عنها كذلك‪ ،‬مرتبط بالقدسٌّة التً ٌمنحها‬
‫الشاعر للمرأة‪ ،‬فٌؽلّفها بهالة من نو ر‪ ،‬أو ٌجعل من ابتعادها عنه نارً ا تحرق قلب الشاعر ‪ ،‬وفً‬
‫الحالتٌن ٌحصل االحتراق‪.‬‬
‫ً‬
‫متبتبل فً رحاب المحبوبة ‪ ،‬وٌؽدو‬ ‫وفً سٌاق هذه الهالة المتوهجة فً الحب ‪ٌ ،‬صبح جوٌدة‬
‫حبه إٌما ًنا ٌ‬
‫ؼٌبّا ٌدخل به قاموس الوجد الصوفًّ ‪ ،‬وتتوالى صلواته القلبٌّة علها تشفع له كً ٌقؾ‬
‫على أعتابها‪ ،‬فٌقول (‪:)3‬‬

‫العمر معصٌة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أضعت‬ ‫إنً‬

‫أتوب‬
‫ْ‬ ‫وجئت اآلن عندكِ كً‬

‫وأمام بابك جئت أحمل ُ توبتً‬

‫ذنوب‬
‫ْ‬ ‫حب غٌرك ال ضالل وال‬
‫ال ّ‬

‫ً‬
‫محاطا‬ ‫وتتوالد المفردات التً ٌستعًرها الشاعر من معجم الحب الصوفًّ ؛ إذ ٌراها كٌا ًنا إنسا ن ًٌّا‬
‫بالكثٌر من المهابة‪ ،‬وٌرتبط الحب لدٌه باألزلٌّة؛ ولٌس هل أن ٌختار بٌن أن ٌحب أو ال ٌحب؛ فالحب‬
‫لدٌه ٌبدأ " قبل أن تؤتً الحٌاة "‪ ،‬وال ٌنتهً مطلقا؛ إذ ٌقول (‪: )4‬‬

‫قلت إ ّنً قد رأٌتكِ‬


‫ال تعجبً إن ُ‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " لٌتنً" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.60‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " لو أننا لم نفترق" ‪ ،‬مج‪.239 ، 3‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً عٌنٌك عنوانً ‪ ،‬قصٌدة " وتاب القلب" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.262‬‬
‫(‪)4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً عٌنٌك عنوانً ‪ ،‬قصٌدة " وتاب القلب" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.261‬‬
‫‪26‬‬

‫قبل َ أنْ تؤتً الحٌا ْة‬

‫وبؤننً ٌو ًما عشقتكِ فً ضمٌر الغ ٌْب‬

‫ًّ‬
‫سرا ال أرا ْه‬
‫ً‬
‫مرتحبل فً عوالم امر أة ؼٌبٌّة ال تشً بؤي وصؾ أو شكل ‪ ،‬لك ّنه ٌستمر ؾي‬ ‫وٌظ ّل الشاعر‬
‫خوض المجاهٌل للوقوؾ على كنهها ‪ ،‬وإن كان مصٌره إلٌها هو الهبل ك‪ ،‬ولذلك فإن لحظة الحب‬
‫والشعر تقترب فً شً ٍء منها من تجربة الصوفًّ " التً تفضً به إلى االستؽراق الكلًّ فً فٌض‬
‫من السعادة والشوق تعدل لحظة التحقق على مستوى الوجود "(‪ٌ ، )1‬قول (‪: )2‬‬

‫شً ٌء إلٌكِ ٌشدّ نً‬

‫أدر ما هو منتها ْه‬


‫لم ِ‬
‫ٌو ًما أراهُ نهاٌتً‬

‫ٌو ًما أرى فٌ ِه الحٌا ْة‬

‫وكثٌرً ا ما ٌرتبط الحب بمعانً الطفولة‪ ،‬ولذة العودة إلى البدايات بمحموالتها العفوٌّة والبرٌبة ‪،‬‬
‫والحريّ التً ٌشتاقها الشعراء للخبلص من كل الهموم والقٌود والموانع المكانٌّة منها واالجتماعٌّة ‪،‬‬
‫ة‬
‫ٌقول جوٌدة (‪:)3‬‬

‫العمر ٌوم ثم نرحل بعده‬

‫ونظل ٌرهقنا المسٌر‬

‫دعنً أعٌش ولو لٌوم واح ٍد‬

‫وأحب كالطفل الصغٌر‬

‫دعنً أحدّ ق فً عٌون الفجر‬

‫ٌحملنً إلى صبح منٌر‬

‫(‪ )1‬أبوسنة ‪ ،‬إبراهٌم (د‪.‬ت)‪ ،‬دراسات فً الشعر العربً ‪ ،‬دار المعارؾ ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪. 30‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " وتحترق الشموع " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.82‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان وٌبقى الحبّ ‪ ،‬قصٌدة "وعادت حبٌبتً" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.121‬‬
‫‪27‬‬

‫فلقد سئمت الحزن واأللم المرٌر‬

‫إنّ هذا االستهبلل الذي ٌعمد إلٌه الشاعر ٌحً ل إلى الخلفٌّة الدٌنٌّة لدٌه ‪ ،‬التً تستلهم المعانً‬
‫القرآنٌة ومفاهٌم القدرٌّة(‪ ،)1‬كما ٌلجؤ إلى التكرار الرأسً البسٌط لفعل األمر " دعنً" ‪ ،‬ولكنّ نبرته‬
‫هنا تظل تحمل من الٌؤس أكثر مما تحمل من األمل‪ ،‬وربما ٌتم ّنى الشاعر هذا اللقاء‪ ،‬لك ّنه ٌحسّ فً‬
‫كثٌر من األحٌان باستحالة وقوعه‪ ،‬وبذلك ٌصبح الشاعر نهبًا للعذاب (‪:)2‬‬

‫إ ّنً أح ّبك رغم أنّ الفجر ٌبدو ‪..‬‬

‫آخر السردا ِ‬
‫ب أبعدَ من بعٌدْ‬

‫ً‬
‫مبعثـا دا بمـًا للفرح والتفاإل واالستبشار ‪ ،‬وهو ما ٌدفع الشاعر إلى أن‬ ‫ولطالما ظلّت الطفولة‬
‫ٌتم ّنى لو ٌرجع بهما العمر فٌعودا طفلٌن ‪ٌ ،‬ستعٌدان معً ا فرصة كً ٌنقذا الحبّ ‪ ،‬أو ٌعودا للطفولة‬
‫كً ٌبدأا من جدٌد(‪: )3‬‬

‫أح ّبكِ ‪..‬‬

‫تسرقُنا‬ ‫ُ‬
‫واللحظات ِ‬ ‫قل ُتها ِ‬
‫للٌل ‪..‬‬

‫فنرجو العمر لو أ ّنا ً‬


‫معا طفالنْ‬

‫َ‬
‫تحقٌق وجوده من خبلل امرأة ‪ٌ ،‬بحث عمن تق ّدم له األمان الذي ٌنشده فً‬ ‫وفً محاولة جوٌدة‬
‫صدر أمه‪ ،‬لتتطوّ ر لدٌنا معطٌاتها المتجسدة فً نموذج المرأة ‪ /‬المبلذ ‪ ،‬واستمداده القوّ ة منها‪ .‬وٌب ّدد‬

‫(‪ٌ ) 1‬قول تبارك وتعالى ‪ ":‬كؤنهم ٌوم ٌرون ما ٌوعدون لم ٌلبثوا إال ساعة من نهار ببلغ فهل ٌهلك إال القوم الفاسقون "‬
‫األحقاؾ ‪ ، 35 :‬والقدرٌّة مذهب ٌإكد أن جمٌع األحداث مقررة فً الؽٌب ‪ ،‬وٌبتعثها سبب واحد ما ورابًّ ( هللا أو القدر)‪،‬‬
‫وال تستطٌع اإلرادة اإلنسانٌّة تبدٌل شًء فٌها ‪ .‬عبد النور ‪ ،‬جبور (‪ ،)1984‬المعجم األدبً ‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬ط‪ ،2‬بٌروت‪،‬‬
‫ص ‪.209 – 208‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " ما زلت أسبح فً عٌونك" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.187‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " رسوم فوق وجه الرٌح " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.156‬‬
‫‪28‬‬

‫ت الشاعر وآماله ‪ ،‬وٌقؾ حاببل دون تحقٌقها‪ ،‬وٌفتقد‬


‫العمرُ والرحٌ ُل فً المقطوع ة التالٌة أمنٌا ِ‬
‫الشاعر من جرابهما اإلحساس باألمان والطمؤنٌنة ‪ ،‬وهو ما ٌحًله فً النهاٌة لبلرتهان إلى حالة من‬
‫الضٌاع (‪: )1‬‬

‫وٌحملنً الحنٌن إلٌكِ طفال‬

‫الصبر م ّنً‬
‫َ‬ ‫وقد سلب الزمانُ‬

‫صدرك أمنٌاتً‬
‫ِ‬ ‫وألقى َ‬
‫فوق‬

‫شقً الفإاد مع التم ّنً‬


‫َ‬ ‫وقد‬

‫العمر فً عٌنٌكِ أم ًنـا‬


‫ُ‬ ‫وكان‬

‫ت ع ّنً‬
‫العمر ٌو َم رحل ِ‬
‫ُ‬ ‫وضاع‬

‫وٌقول أٌضً ا(‪: )2‬‬

‫ُ‬
‫أبحث عنكِ فً كل ّ الوجو ْه‬ ‫اآلن‬

‫عودو ْه‬
‫وكؤننً طفل ٌ على األحزان ٌو ًما ّ‬

‫ً‬
‫رمزا للحبّ ‪ ،‬لكّنه هذه المرّ ة طفل مٌْت ٌإكد إخفاق‬ ‫وٌبدو الطفل فً قصٌدة جو ٌدة كذلك‬
‫العبلقة‪ .‬وٌستولد(‪ )3‬الشاعر المعنى فً هذا الباب من تجار ب شعرٌّة قرٌبة إلى تجربته؛ إذ ٌجاري‬
‫صبلح عبد الصبور بنبرة الحزن فً قصابده ‪ ،‬كما ٌستدعً للحب البابد رفات طفل ‪ ،‬وهنا تبدو‬

‫(‪ ) 1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة " ونشقى باألمل " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.183‬‬
‫(‪ ) 2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة " موعد ببل لقاء " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.173‬‬
‫(‪ ) 3‬التولٌد ‪ :‬هو اقتباس شاعر عن آخر معنى من معانٌه بإنزاله فً قصٌدته ببل زٌادة أو نقصان ‪ ،‬أو بتطوٌره وتعمٌقه‬
‫والزٌادة علٌه ‪ ،‬انظر ‪ :‬عبد النور ‪ ،‬جبور ‪ ،‬المعجم األدبً ‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪29‬‬

‫ّ‬
‫تخطفه الموت صؽٌرً ا‪ ،‬والموت الذي ٌقصده الشاعر هنا هو‬ ‫المفارقة فً هذا الصبًّ ( الطفل) الذي‬
‫موت للحب‪ٌ ،‬قول عبد الصبور (‪: )1‬‬

‫قولً أمات؟‬

‫سً وجنت ٌْه‬


‫سٌه ُج ّ‬
‫ُج ّ‬

‫هذا البرٌق‬

‫ٌفرش مقلت ٌْه‬


‫ُ‬ ‫ومض منه‬
‫ٌ‬ ‫ما زال‬

‫الشعاع بعٌنه الهدباء ومضته األخٌرة‬


‫ُ‬ ‫ومض‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫النحٌلة‬ ‫هذي أصاب ُع ُه‬
‫ْ‬
‫الطوٌلة‬ ‫هذي جدائل ُه‬
‫ْ‬
‫النبٌلة‬ ‫وتل َك جبهت ُه‬

‫ٌلمع َ‬
‫فوق جبهتِها الزبد‬ ‫ُ‬ ‫بٌضاء‬

‫قولً أمات ؟!‬

‫ُ‬
‫غدوت بال أحدْ‬ ‫وأنا‬

‫الشعاع بعٌنِه الهدباءِ ومضت ُه األخٌر ْة‬


‫ُ‬ ‫ومض‬

‫ثم احترق‬

‫هذا الصبً ابن السنٌن الدامٌات العارٌات من الفرح‬

‫ًّ‬
‫ؼضا حدٌث العهد‪ ،‬تعهّداه بالعناٌة‪ ،‬لك ّنه ما عاد ٌمتلك‬ ‫وٌوحً الرمز بالطفل للحب‪ ،‬بؤ ّنه ال زال‬
‫ً‬
‫ألفاظا من مثل‬ ‫أسباب بقابه إلى أن لفظ أنفاسه األخٌرة ‪ ،‬ومن ذلك ما ٌدفع الشا عر ألنْ ٌستعمل‬

‫(‪ ) 1‬عبد الصبور ‪ ،‬صبلح (د‪.‬ت)‪ ،‬الدٌوان ‪ ،‬دٌوان تؤمبلت فً زمن جرٌح ‪ ،‬قصٌدة " طفل " ‪ ،‬دارالعودة ‪ ،‬بٌروت ‪،‬‬
‫ص ‪.337-335‬‬
‫‪30‬‬

‫"جنٌن"(‪ )1‬و" لقٌط" لٌإكد لنا أ ّنه حبّ مطروح أو مرفوض تجهضه الظروؾ المحٌطة بالحبٌبٌن ‪،‬‬
‫ٌقول جوٌدة (‪:)2‬‬

‫ضامر‬
‫ٍ‬ ‫طفل‬
‫وعلى ٌدٌك رفات ٍ‬
‫ْ‬
‫وقفت عٌون حبٌبتً ‪ ..‬وتساءلت‪:‬‬

‫قبر المدٌنة أٌن طفلً ؟‬


‫باهلل ٌا َ‬

‫دقائق ٌجري هنا‬


‫ٍ‬ ‫كان منذ‬

‫القبر ٌضحك ً‬
‫قائال ‪:‬‬

‫قد صار ضٌ ًفا عندنا‬

‫صرخت دموع حبٌبتً‬

‫ٌا طفلنا ٌا طفلنا‬

‫ضحكات قبر مدٌنتً‬

‫تعلو وتعلو بٌننا‬

‫ٌا ح ّبنا ٌا ح ّبنا‬

‫وٌصعّد الحوار فً هذه األشطر الشعرٌّة من إحساس الحبٌبٌْن بمرارة الفقد؛ فالحوار بما ٌصنعه‬
‫من حركة فً جوّ القصٌدة ٌنقل صورً ا حركٌّة‪ ،‬وٌخ ّفؾ من رتابة المعنى المنقول إلى القارئ ‪ ،‬كما‬
‫ٌسرّ ب إلٌه حالة االضطراب والقلق التً تعتور ن ْف َ‬
‫س الشاعر؛ فالصورة تدور حول انتهاء الحب ‪،‬‬
‫وهو ما ٌق ّدمه الشاعر بإطار هذه الحوارٌّة الدابرة بٌنه وحبٌبته من جهة ‪ ،‬وبٌنهما وبًن القبر الذي‬
‫موضع آخر (‪:)3‬‬
‫ٍ‬ ‫بدا هاز ًبا شامتـًا ومحتض ًنا لرفات الطفل (الحب) من جه ٍة أخرى‪ٌ .‬قول الشاعر فً‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬مج‪ ، 1‬قصٌدة "كان لً قلب " ‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً عٌنٌك عنوانً ‪ ،‬قصٌدة "ومات الحب فً مدٌنتً" ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪ 300‬و ‪ 305‬و‬
‫‪.306‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألنً أحبك ‪ ،‬قصٌدة " ما قد كان ‪ ..‬كان " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.51‬‬
‫‪31‬‬

‫أحرقً األحالم والذكرى‬

‫فما قد مات ْ‬
‫مات‬
‫ً‬
‫لقٌطا‬ ‫دمعا‬
‫أخرسً ً‬

‫ْ‬
‫الرفات؟؟‬ ‫ما الذي ٌجدي لكً نبكً على هذا‬

‫إنّ هذا الموقؾ الٌابس الذي ٌتخذه الشاعر أمام ضٌاع الحب‪ٌ ،‬دعوه بؤن ٌؤمر الحبٌبة بؤن تتخلّى‬
‫عن األحبلم وتدع ذكرٌاتهما إلى الماضً ‪ ،‬فكل شًء بٌنهما ستحٌله النٌران إلى رماد‪ .‬وٌستعٌن‬
‫الشاعر لهذه الصورة بتراسل الحواس(‪ )1‬القابم فً " أخرسً دمعً ا"‪ ،‬ما ٌإكد حزم الشاعر وألمه فً‬
‫آن معً ا‪ ،‬كما ٌنزاح بالداللة محدثا خر ًقا تصاحبًٌا فً التركٌب المتمثل فً " دمعً ا ً‬
‫لقٌطا"‪ ،‬وٌنزع‬ ‫ٍ‬
‫الشاعر إلى استخدام االنزٌاح بوضوح فً شعره‪.‬‬

‫ونظرً ا لما سبق فإن ارتباط تجار ب الحب المنسحقة بعالم المدٌنة‪ ،‬تورث لدى الشاعر إحساسً ا‬
‫ً‬
‫هاببل باالؼتراب؛ هذا االؼتراب الذي ٌفضً إلى شعور أع ّم بالضٌاع ؛ هو ضٌاع وجوديّ ٌنبع من‬
‫بارز من‬
‫ٍ‬ ‫عجز الشاعر عن مواجهة الناس والحٌاة فً المدٌنة ‪ ،‬وهو ملمح رومانتٌكً لدى عد ٍد‬
‫الشعراء (‪ ،)2‬أمثال بلند الحٌدري‪ ،‬وحجازي ومن سواهم(‪ ،)3‬كما أ ّنه منزع واضح لدى جوٌدة فً‬
‫بداٌات كتابته الشعرٌّة حاكى بها من سبقه‪.‬‬

‫وتتبدى المدٌنة مكانًا مدنسًا عندما ال تستطٌع أن تقدم لئلنسان الطمؤنٌنة أو ما ٌطمح للحصول‬
‫مكانً‬
‫علٌه منها‪ ،‬بل هً تقوم بؤسوأ من ذلك حٌن تجرّ ده من كل ما هو عزٌز علٌه ‪ ،‬وتبدو فً نظره ا‬

‫(‪ )1‬تراسل الحواس‪ ،‬هو وصؾ مدركات كل حاسّة من الحواس بصفات مدركات الحاسّة األخرى فتعطً المسموعات ألوا ًنا‪،‬‬
‫العربً الحدٌث ‪ ،‬دار العودة ‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.418‬‬
‫ّ‬ ‫وتصٌر المشمومات أنؽاما ‪ .‬هبلل ‪ ،‬محمد ؼنٌمً (‪ ،)1973‬النقد‬
‫(‪ )2‬القط ‪ ،‬عبد القادر (‪ ،)1978‬االتجاه الوجدانً فً الشعر العربً المعاصر ‪،‬دار النهضة العربٌة‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪. 466‬‬
‫(‪ ) 3‬انظر مثبل ‪ :‬شوشة ‪ ،‬فاروق (د‪.‬ت)‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬قصٌدة " ضاع فً الزحام" ‪ ،‬المطبعة العالمٌّة ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ج‪، 1‬‬
‫ص ‪ 325‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪32‬‬

‫قبٌحً ا تلتصق به كل مفردات الدنس والبؽً (‪ . )1‬وٌتح ّدث الشاعر عن تلك المدٌنة التً " قتلت جنٌن‬
‫المدٌن وعالم القرٌة ‪ ،‬الخطٌبة‪/‬‬
‫ة‬ ‫الحب فً أحشابها" ‪ ،‬وٌمضً لٌضعنا إزاء عالمٌْن متضادٌن ؛ عالم‬
‫البراءة ‪ ،‬الدنس‪ /‬الطهر ‪ ،‬وٌبٌّن الشاعر حبه الشدٌد للقرٌة ورؼبته فً العودة إلٌها ‪ ،‬وفٌما ٌصوّ ر‬
‫المدٌنة بمشه ٍد ضبابًّ أسود من دخان ٌخنقه وٌسحب أنفاسه ‪ ،‬تبدو القرٌة هادبة وادعة كل ما فٌها‬
‫وب ْكر لم تعبث به أٌدي العابثٌن‪ ،‬كما أن نفوس أهلها كذلك نظٌفة وطٌبة على عكس‬
‫جمٌل وصاؾٍ ِ‬
‫ما هو علٌه الحال فً المدٌنة ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪:)2‬‬

‫ان المدٌن ِة‬ ‫وأما َم ّ‬


‫دخ ِ‬
‫ْ‬
‫ٌحترق‬ ‫صار قلبً‬

‫األنفاس فً صدري ‪..‬‬


‫ُ‬ ‫تتع ّث ُر‬

‫وصوتً ٌختن ِْق‬

‫وأعو ُد أذكر قرٌتً‬

‫طٌف الحب ٌمأل مهجتً‬


‫ُ‬ ‫ك ْم كان‬

‫األشواق كم عزفت لشدو طفولتً‬


‫ِ‬ ‫وأنامل ُ‬
‫وجدائل الصفصافِ ك ْم نظرت إلٌنا فً الخفاء‬

‫الفطري ٌمنعها‬
‫ّ‬ ‫وحٌاإها‬

‫اللقاء‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫حكاٌات‬ ‫وتجذبها‬

‫ٌا لٌتنً ٌو ًما أعود لقرٌتً‬

‫وٌعود الشاعر فً ذكرٌاته إلى الخلؾ ؛ لٌتذ ّكر لحظة ؼادر القرٌة مشفوعً ا بصلوات أمه‪ ،‬وٌبدو‬
‫كؤنه ٌرسل إلٌها برسالة حزٌنة ٌتح ّدث فٌها عن تشوّ ه القٌم اإلنسانٌة بما فٌها الحبّ فً عالم المدٌنة ‪،‬‬
‫آن معا ‪ٌ ،‬ستذكر عبرها صورة أمه وهً تو ّدع – بؤسى‬
‫ٌق ّدمها عبر مشهدٌّة جمٌلة وحزٌنة فً ٍ‬
‫(‪ )1‬عقاق ‪ ،‬قادة (‪ ،)2001‬داللة المدٌنة فً الخطاب الشعري المعاصر ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص‪.291‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " كان لً قلب " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.93‬‬
‫‪33‬‬

‫م‬ ‫كبٌر‪ -‬ولدها الوحٌد نحو عالم المدٌنة القاسً‪ ،‬فٌما ٌحسّ الشاعر فً تلك اللحظات كؤ ّنه ٌكابد آال‬
‫الفطام (‪ ، )1‬وهنا ٌظهر عمق عبلقة الشاعر بؤمّه وتعلّقه الشدٌد بها وبماضٌه السعٌد ‪ .‬وحٌن حانت‬
‫لحظة االنفصال بٌنه وبٌنها كانت هذه الصورة (‪:)2‬‬

‫وتلعث َم ْت شفتاكِ ٌا أ ّمً ‪ ..‬وخاص َمها الكال ْم‬

‫َ‬
‫األعماق ‪ٌ ..‬سري فً شجنْ‬ ‫ُ‬
‫ورأٌت صوتكِ ٌدخل ُ‬
‫الوداع‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫سمعت مع‬ ‫آخر ما‬
‫َ‬ ‫قدْ كانَ‬

‫ْ‬
‫طوتك‬‫ُ ٌا ولدي ٌبار ُك ُخ‬

‫ُ ٌاولدي ْ‬
‫معك‬

‫الدموع‬
‫ْ‬ ‫وتعانقت أصوا ُتنا بٌن‬
‫ْ‬

‫الربوع‬
‫ْ‬ ‫ضٌاءها‪ ..‬بٌن‬
‫َ‬ ‫والشمس تجمع فً المغٌ ِ‬
‫ب‬ ‫ُ‬

‫وهنا ٌُظهر الشاعر تواإمًا بٌنه وبٌن مفردات الطبٌعة التً تبدو فً صورة الشمس الراحلة فً‬
‫آخر النهار‪ ،‬إذ تجمع ضٌاءها لتتوارى أخٌرً ا فً األفق ‪ ،‬وهو هنا ٌشٌر إلى اللحظات األخٌرة من‬
‫وداعه ألمه حٌن بدأت أنفاسها تتردد وتعلو أكثر بالدعاء ‪:‬‬

‫للسماء‬
‫ْ‬ ‫األرض ‪ٌ ..‬صع ُد‬
‫َ‬ ‫وندا ُء صوتِكِ بٌن أعماقً ّ‬
‫ٌهز‬

‫ُ ٌا ولدي ْ‬
‫معك‬

‫ُ‬
‫ومضٌت ٌا أمً غرٌ ًبا فً الحٌا ْه‬

‫كم ظل ّ ٌجذبنً الحنٌنُ إلٌكِ فً وق ِ‬


‫ت الصال ْه‬

‫ك ّنا نصلٌّها ً‬
‫معا‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان وٌبقى الحب ‪ ،‬قصٌدة " وٌموت فٌنا اإلنسان " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.108‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.109-108‬‬
‫‪34‬‬

‫‪ ،‬ما ٌبٌّن أن‬ ‫وكما كانت عبلقة الشاعر بؤمه عبلقة حب وحرص‪ ،‬كانت كذلك عبلقته بوالده‬
‫لى المدٌنة حمّله وصٌة التردد إلى‬ ‫الشاعر قد نشؤ ألسرة محبّة وحانٌة ‪ ،‬فوالده الذي أرسله إ‬
‫ً‬
‫وأكٌدا ‪،‬‬ ‫"الحسٌن" (‪ )1‬كلما أل ّم به حزن أو كرب لٌصلً هنالك ركعتٌن ‪ ،‬أشار علٌه بها ً‬
‫حبل شافًٌا‬
‫لكن ما الذي حصل حقٌقة مع الشاعر ؟ لنتابعه ٌقول (‪: )2‬‬

‫أبتا ْه ‪..‬‬

‫باألمس عدْ ُ‬
‫ت إلى الحسٌنْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫صلٌت فٌه الركعت ٌْن‬

‫ْ‬
‫كانت‬ ‫بق ٌَ ْت همومً مثلما‬

‫ْ‬
‫صارت همومً فً المدٌن ِة‬

‫تذوب ‪ ..‬بركعت ٌْنْ !!‬


‫ُ‬ ‫ال‬

‫وتفسّر هذه الحالة الشعور باالؼتراب والضآلة فً عالم المدٌنة الكبٌر ‪ٌ ،‬قول أنٌس منصور ‪:‬‬
‫رة‬ ‫" هذا واضح عند الشباب الذي ٌجًء من الرٌؾ إلى العاصمة الكبرى ‪ ،‬فالرٌؾ عابلة صؽً‬
‫متقاربة متداخلة بعضها فً بعض‪ ،‬أما المدٌنة الكبرى فهً الضخامة والقوة والعظمة وأمامها ٌشعر‬
‫اإلنسان بؤ ّنه ضبٌل ‪ ،‬تافه ‪ ،‬ال ٌدري به أحد ‪ ،‬ولٌس أح ٌد فً حاج ٍة إلٌه"(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬هو مسجد اإلمام الحسٌن بن علً فً القاهرة ‪ ،‬بُنً فً عهد الفاطمٌٌن ‪ ،‬واتخذه الناس مزارً ا تبرّكا برأس الحسٌن بن علً‬
‫ابن أبً طالب المدفون تحته‪.‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "بالرؼم م ّنا قد نضٌع" ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )3‬منصور ‪ ،‬أنٌس (‪ ،)1992‬الحب الذي بٌننا ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ،1‬ص ‪.144‬‬
‫‪35‬‬

‫وفاروق جوٌدة القادم من القرٌة ‪ ،‬حٌن ٌحاول أن ٌقٌم شٌ ًبا من التوازن مع نفسه ٌزور الحسٌن‬
‫وأضرحة األولٌاء(‪ ،)1‬وٌشكو هناك عجزه عن التكٌّؾ فً ظل المدٌنة‪ ،‬لذا فبل ٌعود من المستهجن‬
‫أنّ نجد الحب ً‬
‫لقٌطا(‪ ،)2‬أو نجده قتٌبل ومجهول الهوٌّة فً قصابده التً قالها فً رحاب الحسٌن (‪،)3‬‬
‫وما سواها من القصابد (‪: )4‬‬

‫إ ّنً أح ّبك‬

‫ْ‬
‫النهاٌه‬ ‫آه ما أقسى‬

‫‪...‬‬

‫الحب أحمله قتٌال‬


‫ّ‬ ‫هذا جنٌنُ‬

‫ْ‬
‫الجناٌه؟‬ ‫ارتكب‬
‫َ‬ ‫من ُترى‬

‫وقد جانب أحد الدارسٌن الصواب حٌن تحدث عن المرأة ‪ /‬المومس فً قصٌدة جوٌدة فً‬
‫ً‬
‫رمزا‬ ‫إشارته إلى الخطٌبة المرتكبة ( ‪)5‬؛ فلٌس لهذه المرأة مكان فً قصٌدة الشاعر إال بكونها‬
‫لؤلوطان التً ٌرى فٌها األخٌر أوكارً ا للبؼاء ال حقٌقٌة قابمة بحد ذاتها‪ ،‬وٌمكن لنا بقراءة األبٌات‬
‫التً ٌحٌل إلٌها الكاتب أن نكتشؾ خلطه بٌن الحب‪ /‬الخطٌبة‪ ،‬والمرأة ‪ /‬الخطٌبة ‪ ،‬فنرجح األولى‬
‫على الثانٌة (‪: )6‬‬

‫أسقطت ح ّبكِ من سنٌن حٌاتً‬

‫شبحا على الطرقا ِ‬


‫ت‬ ‫ً‬ ‫وصلبته‬

‫وجمعت أ ٌّام الفضائل كلّها‬


‫ُ‬

‫(‪ٌ )1‬زور الشاعر الحسٌن حامبل همومه فٌصلًّ ركعتٌن وٌعود بدونها ‪ ،‬وال تؽٌّر ثقافته العالٌة وقراءاته الكثٌرة شٌبا من‬
‫قناعاته ‪ ،‬وهو ٌرى أنّ من حق الناس أن تفعل كل ما ٌمكنه أن ٌخفؾ عن أرواحها ‪ ،‬كما ٌرفض كل محاوالت منع الناس من‬
‫زٌارة األضرحة ‪ ،‬برنامج متلفز من إعداد الشاعر وتقدٌمه ‪ :‬مع فاروق جوٌدة ‪ ،‬قناة الحٌاة المصرٌّة ‪ 1 ،‬نٌسان ‪2011‬‬
‫(‪ )2‬انظر مثبل ‪ :‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬لقٌط األحبة ‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.246‬‬
‫(‪ ) 3‬انظر مثبل ‪ :‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬فً رحاب الحسٌن‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪ 266‬؛ وانظر أٌضًا ‪ :‬جوٌدة ‪ ،‬بالرؼم م ّنا قد‬
‫نضٌع ‪ ،‬مج‪ 1،‬ص ‪.15‬‬
‫(‪ )4‬انظر مثبل ‪ :‬جوٌدة ‪ :‬األعمال الكاملة ‪ ،‬لن أبٌع العمر‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.261‬‬
‫(‪ )5‬منصور ‪ ،‬عبد هللا (‪ ،)2000‬صورة المرأة فً شعر عبد الرحٌم عمر دراسة نقدٌة مقارنة ‪ ،‬المإسسة العربٌة للدراسات‬
‫والنشر ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫(‪ )6‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة "خطٌبة"‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.194‬‬
‫‪36‬‬

‫ُ‬
‫فوجدت بعدي أفضل الحسنا ِ‬
‫ت‬

‫الضالل خطٌئة ً‬
‫ِ‬ ‫قد كن ِ‬
‫ت فً لٌل‬

‫ال الصوم ٌغفرها وال صلواتً‬

‫وتلمح هذه األشطر إلى أن هنالك شٌ ًبا من الخلل وانعدام التوازن فً عبلقته بالمرأة ‪ ،‬حتى‬
‫أصبح حبه لها خطٌبة ال تؽفرها وسابل التكفٌر ‪.‬‬

‫والبلفت للمتابع أنّ المرأة فً شعره تؤخذ مبل مح م حافِظة‪ ،‬ترفض االبتذال ؛ فهو كثٌر الوقوؾ‬
‫عند عٌنًْ المحبوبة (‪ ،)1‬وذلك ما ٌمكن أن ٌُبلحظ من االستقراء األولًّ لعناوين القصابد قبل الولوج‬
‫إلى متونها‪ ،‬ومنها ‪ :‬أنا وعٌناك ‪ ،‬فً عٌنٌك عنوانً ‪ ،‬عٌناك أرض ال تخون (‪ ،)2‬إلى جانب قصابد‬
‫أخرى كثٌرة تستؤثر فٌها العٌون اهتمام الشاعر‪ ،‬كما ٌبرز فٌها شًء من متعلقات المرأة هو العطر‬
‫(‪: ) 3‬‬

‫ُ‬
‫وكنت الراهب المسجون فً عٌنٌكِ‬

‫الحب معصٌة‬
‫ّ‬ ‫عاش‬

‫وذاق الشوق غفرانا‬

‫ُ‬
‫أموت فً عٌن ٌْكِ‬ ‫ُ‬
‫وكنت‬

‫ث ّم أعود ٌبعثنً‬

‫لهٌب العطر بركانا‬

‫والعٌنان بوابة الرإٌة ‪ ،‬ومن خبللها تتحقق مهمة اإل بصار‪ ،‬فما الذي ٌبصره ال شاعر فً هذه‬
‫المرأة عبر عٌنٌها ؟ ‪ ،‬ال شك أنّ للعٌنٌن لؽة أبل غ من تلك التً ٌتصرّ ؾ بها اللسان ‪ ،‬لؽة توما‬

‫(‪ )1‬انظر مثبل ‪:‬أرٌد الحٌاة‪ ،‬لمن أعطً قلبً‪ ،‬نحن والزمان‪ ،‬ألن الشوق معصٌتً ‪ ،‬العٌون الحزٌنة‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتبت هذه القصائد بٌن عامً ‪ 1981-1977‬؛ أي فً بداٌاته األولى فً قصٌدة الحب‪.‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألف وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة "وكانت بٌننا لٌلة " ‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.169‬‬
‫‪37‬‬

‫بالمحبة حٌنا وبالبؽضاء والكراهٌة أحٌانا أخرى‪ ،‬كما أنها قد تفسّر عدم االكتراث واإلهمال ‪ ،‬وكل‬
‫ذلك عبر النظرة ‪.‬‬

‫ا على وظٌفتها فً اإلبصار أم على جمالٌتها‬ ‫ولكن هل ٌبدو منظور المتابع للعٌن منسكبً‬
‫وصفاتها ؟ إنها تتحقق بكونها تحمل مكنونات القلب‪ ،‬وتتحدث بلسانه (‪ .)1‬والنظرة أول الطرٌق فً‬
‫مسؤلة الحب بٌن الرجل والمرأة ‪ ،‬ومنها تبدأ الشرارة األولى ( ‪ٌ ،)2‬قول أحمد شوقً فً إحدى‬
‫روابعه الشعرٌّة (‪: )3‬‬

‫عٌنً في لغة الهوى عٌناكِ‬


‫ّ‬ ‫وخاطب ْت‬
‫َ‬ ‫الكالم‬
‫ِ‬ ‫و ّ‬
‫تعطلت لغة‬

‫أمس من عمر الزمان وال غ ٌد ُجمع الزمان فكان ٌوم رضاكِ‬


‫ِ‬ ‫ال‬

‫وفً كتاب طوق الحمامة ٌجعل ابن ح زم إدمان النظر أولى عبلمات الحب ‪ٌ ،‬قول " وللحب‬
‫عبلمات ٌقفوها الفطن وٌهتدي إلٌها الذكًّ فؤوّ لها إدما ن النظر والعٌن باب النفس الشارع ‪ ،‬وهً‬
‫المنقبة عن سرابرها والمعربة عن بواطنها "(‪ ،)4‬وبذلك تبدو األهمٌّة التً ٌولٌها الشعراء للعٌن‪.‬‬
‫ً‬
‫رمزا للنور‪ /‬اإلظبلم ‪ ،‬واألمان‪/‬الضٌاع ؛‬ ‫وٌكثؾ فاروق جوٌدة استعانته بالعٌن فً شعره‬
‫فمن برٌق عٌنٌها ٌستبدل الشاعر كل مفردات العذاب ‪ ،‬وٌوقظ حنٌنه إلٌها ‪ ،‬وتنقذه هً بدورها من‬
‫دوامات الضٌاع التً تؤخذ الشاعر فً حال ابتعادها عنه‪ٌ ،‬قول (‪: )5‬‬

‫النور‬
‫ِ‬ ‫عٌناكِ بحر‬

‫ٌحملُنً إلى‪..‬‬

‫نقً القلب‬
‫زمن ّ‬
‫ِ‬

‫(‪ )1‬الحطاب ‪ ،‬محمد جمٌل (‪ ،)1992‬العٌون فً الشعر العربً ‪ ،‬دار الحوار ‪ ،‬ط‪ ، 1‬البلذقٌّة ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫العربً القدٌم ‪ ،‬دار الحامد ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬ص‪.66‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬لفتة ‪ ،‬ضٌاء (‪ ،)2009‬لغة العٌون – قراءة فً خطاب العٌن فً الشعر‬
‫(‪ )3‬شوقً ‪ ،‬أحمد (د‪.‬ت)‪ ،‬الشوق ٌّات ‪ ،‬قصٌدة " زحلة" ‪ ،‬تحقٌق وتقدٌم عمر فاروق الطباع ‪ ،‬دار األرقم ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬المجلد‬
‫الثانً ‪ ،‬ص ‪.125-124‬‬
‫(‪ )4‬ابن حزم األندلسًّ ‪ ،‬أبو محمد علً بن محمد بن سعٌد ( ت ‪ 456‬هــ ‪1063 /‬م )‪ ،‬طوق الحمامة فً األلفة واألالف‪ ،‬مكتبة‬
‫عرفة ‪ ،‬دمشق ‪1349 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫(‪ )5‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة "عٌناك أرض ال تخون " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪ 320‬و ‪.324‬‬
‫‪38‬‬

‫مجنون الخٌالْ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫توبة عاب ٍد‬ ‫عٌناكِ‬

‫تصارع وحدها‬
‫ُ‬ ‫وقفت‬

‫شبح الضاللْ‬
‫َ‬

‫‪....‬‬

‫عٌناكِ فً شِ عري خلو ٌد‬

‫ٌعصف بالزمن‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اآلفاق‬ ‫ٌعبر‬
‫ُ‬

‫بالزمان‬
‫ِ‬ ‫عٌناكِ عندي‬

‫ُ‬
‫غدوت بال زمنْ‬ ‫وقد‬

‫وتصوّ ر القصٌدة انكسار الحلم ‪ ،‬بعد أن كان النور ٌفٌض من عٌنٌها‪ ،‬خفت الضوء وشحُ بت‬
‫األشٌاء؛ ففقدان الشاعر لعٌنٌها – بوابة النور إلى قلبه‪ٌ -‬إدي إلى اإلعتام وإظبلم العالم م ن حوله‪،‬‬
‫وعلى ذلك ٌختم به قصٌدته ‪ ،‬وإن كان هنا ٌستعٌر العٌن جزءًا من كل وٌقصد المحبوبة ‪ ،‬لٌقول إن‬
‫انتهاء عهد الحب بٌنهما هو نهاٌة الشاعر‪.‬‬

‫كما ٌمنح الشاعر عٌنًْ محبوبته صورة باتت تقلٌدٌّة توارثتها قرابح الشعراء من التراث الشعريّ‬
‫ّ‬
‫وتتمثل فً سهام النظرات التً تردي بها عٌنُ الم حبوبة الشاعر(‪: )1‬‬ ‫العربًّ ‪،‬‬

‫رمته عٌونك فاستشهدا‬ ‫وماذا سٌفعل قلب جرٌ ٌح؟‬

‫نً" هً التً أطلقته إلى‬ ‫وٌصرّ ح جوٌدة فً إحدى اللقاءات بؤنّ قصٌدة " فً عٌنٌكِ عنوا‬
‫الجماهٌر‪ ،‬والقت لدى القارئ استحسانــًا وقبوال كبٌرٌن ‪ ،‬و تبادلها المحبون فً بعض رسابلهم( ‪،)2‬‬
‫الشاعر ألن ٌصنع تابو للمرأة ال ٌتجاوزه‪ ،‬وبذلك ٌإسس للمحددات التً‬
‫َ‬ ‫وربما دفع هذا االستحسانُ‬
‫ش ّكلت صورتها فً شعره فٌما بعد ‪.‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة‪ ،‬دٌوان زمان القهر علمنً ‪ ،‬قصٌدة " أرٌدك عمري " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص‪.297‬‬
‫(‪ ) 2‬لقاء متلفز مع الشاعر فاروق جوٌدة على قناة دبً الفضابٌّة ‪ "،‬نلتقً مع بروٌن حبٌب "‪ 8 ،‬أٌار ‪.2008‬‬
‫‪39‬‬

‫ولكن القصٌدة ال تعدم كذلك األثر الذي تفرضه مرجعًّ ات الشاعر العقدٌّة والمجتمعٌّة ؛ فلقاء‬
‫الشاعر بحبٌبته – إن تحقق‪ -‬فإنه ال ٌخلو من الضوابط؛ تلك التً ترسخ معانً الحب المثالً(‪:)1‬‬

‫لو عادت األٌا ْم‬

‫ورجعت ٌمنعنً الحٌاء من الكال ْم‬

‫وٌثور فً األعماق صوت مشاعري‬

‫وأصٌح فً صمتً‬

‫ماذا ٌقول الناس لو ق ّبلتها‬

‫"هذا حرام " !‬

‫وتقترب حدود تجربة جوٌدة فً شًء منها من تجربة الشاعر العراقً ٌحٌى السماوي؛ من حٌث‬
‫المضامٌن التً تش ّكل موقؾ كل من الشاعرٌن أمام الموضوع ذاته ‪ ،‬لكنهما ٌفترقان فٌما ٌحققانه من‬
‫بصمة أسلوبٌّة بابنة فً شعر ك ّل منهما على حدة ‪ ،‬هذا التقارب فً الن َفس تفسّره الظروؾ التً‬
‫اكتنفت حٌاة الشاعرٌن ؛ فكبلهما قد نشؤ فً مجتمعات مؽلقة ال تسمح باالنفتاح على المرأة (‪ ،)2‬كما‬
‫أنهما تب ّنٌا همومًا كبٌرة تجاه أوطانهما ‪ ،‬بلؽت ح ّدها لدى السماوي بسبب من االؼتراب المكانً ‪،‬‬
‫الذي ٌعمّق مرارة وجعه العراقًّ ‪ .‬وتتجلّى المرأة لدى الشاعرٌن حلمًا ٌتؤبّى فً كثٌر من األحوال‬
‫على التح ّقق ‪ٌ ،‬قول السماوي (‪: )3‬‬

‫ُ‬
‫سقطت‬ ‫فإذا‬

‫مضرجا بلظى اشتٌاقً‬


‫ً‬

‫كفنٌنً حٌن تؤتلق النجوم‬

‫(‪ ) 1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "لو عادت األٌام " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.78‬‬
‫نموذجـا) ‪ ،‬مإسسة الٌمامة الصحفٌّة ‪ ،‬الرٌاض ‪ ،‬ص‬
‫ً‬ ‫(‪ ) 2‬القرنً ‪ ،‬فاطمة (‪ ، )2008‬الشعر العراقً فً المنفى ( السماوي‬
‫‪ ، 223‬وانظر أٌضًا ‪ " :‬لم ٌكن السماوي ‪ ...‬ذلك البلهً المتعابث ‪ ،‬وال الفنان ( المتنرجس) بكثرة الصواحب ‪ ،‬بل كان زوجً ا‬
‫محبًا ممت ًنا لشرٌكته فً رحلة الشقاء" المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.227‬‬
‫(‪ )3‬السماوي ‪ٌ ،‬حٌى (‪ ، )2006‬دٌوان قلٌلك ال كثٌرهنّ ‪ ،‬قصٌدة " ستسافرٌن غدًا ؟ " ‪ ( ،‬د‪.‬د ) ‪ ،‬استرالٌا ‪ ،‬ص ‪.24 -23‬‬
‫‪40‬‬

‫بثوب عرس من ثٌابك‬

‫واستمطري لً فً صالتك‬

‫ماء مغفرة‬

‫السر‬
‫ّ‬ ‫فقد كتم الفإاد‬

‫لوال أنّ شعري‬

‫قد وشى بك‬

‫وٌقول جوٌدة (‪: )1‬‬

‫صلًّ ألجلً‬

‫إننً سؤموت مشتا ًقا وأنت تكابرٌنْ‬

‫هذي دمائً فً ٌدٌك‬

‫تطهري منها وأنت أمام ربك تسجدٌنْ‬

‫إن االنتظار المقلق الذي عاناه الشاعر كً ٌلقى المحبوبة ‪ ،‬وٌؤسه فً نهاٌة المطاؾ ٌدعوانه إلى‬
‫ود إلى استجداء العطؾ وال تر ّفق بقلب ٌموت‬ ‫االكتفاء باالشتٌاق ‪ ،‬والتوقؾ عن استجداء الوع‬
‫اشتٌا ًقا ‪ ،‬والشاعر هنا ٌلقً على حبٌبته تبعة إفساد الحبّ ‪ ،‬فدماإه فً ٌدٌها ‪ ،‬وهو ٌدعوها إلى‬
‫التطهّر وفً ذلك داللة على أ ّنها قد جنت علٌه‪ .‬وهً إلى جانب ذلك كله تبدو أحٌانا متلوّ نة فً و ّدها‬
‫مستبدة به (‪: )2‬‬

‫أن ِ‬
‫ت الفصول ُ جمٌعها‬

‫الغرٌب على ربوعكِ‬


‫ُ‬ ‫وأنا‬

‫أحمل ُ األشواق بٌن حقائبً‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر ‪ ،‬قصٌدة " قبل أن ٌرحل عام " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.220‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " ألؾ وجه للقمر " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.148‬‬
‫‪41‬‬

‫وأما َم بابِكِ أنتظِ ْر‬

‫وٌتضح لنا فً كثٌر األحوال أنّ المحبوبة هً التً تمسك بزمام القوة فً قصٌدة جوٌدة لكنها ال‬
‫تبادر ؛ إذ تبدو امرأة سلبٌّة ‪ ،‬بارد ة ومتلبّدة العواطؾ تستمرئ تعذٌب الشاعر وتستب ّد به ‪ٌ ،‬قول‬
‫جوٌدة (‪: )1‬‬

‫وأراك فً وسط الزحام‬

‫كالضٌاء‬
‫ْ‬ ‫طٌ ًفا بعٌدًا‬

‫النداء‬
‫ْ‬ ‫وٌطٌر قلبً من ضلوعً فً‬

‫إلً‬
‫عودي ّ‬

‫الحب بعدكِ والصدٌق‬


‫ّ‬ ‫ُ‬
‫افتقدت‬ ‫إ ّنً‬

‫ال تتركٌنً فً ضباب العمر‬

‫وحدي كالغرٌق‬

‫ُ‬
‫أمسكت بالمندٌل فً وسط الزحا ْم‬

‫إلً‬
‫عودي ّ‬

‫ُ‬
‫وسمعت صوتك من بعٌد ٌعتذر‪:‬‬

‫تنتظر‬
‫ْ‬ ‫ال‬

‫تخضع القصٌدة فً إٌقاعها لعوالم الشاعر الداخلٌّة المستنز َفة ‪ ،‬بما ٌنتابها من حرقة وألم ٌسبّبه‬
‫تكرار " عودي إلًّ " ‪ ،‬والذي ٌإكد أن هذه المرأة تسٌطر على وجدانه وأنّ إلحاحاته ال تلقى لدٌها‬
‫ردات الشعرٌّة التً ٌلجؤ‬ ‫عط ًفا ‪ ،‬كما أنّ األداء الشفاهً للقصٌدة ٌتركنا مع روح ّ‬
‫تنز ألمًا فً تلك المؾ‬
‫إلٌها الشاعر كم ّد الواو فً " عودي " وإطبلق النفس باأللؾ فً " النداء" كؤ ّنه نداء حقٌقًّ ٌتردد‬
‫رجعْ ه فً روح الشاعر التعٌسة التً تبلقً ما تبلقٌه من صد وإعراض ‪ ،‬والشاعر الذي ٌراها وسط‬
‫‪،‬‬ ‫حشد من الناس ال ٌرى سواها ‪ ،‬وٌح ّقق الشاعر لقصٌدته شروط الؽنابٌّة من خبلل المفردات‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "وسط الزحام" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.41-40‬‬
‫‪42‬‬

‫لتخترق نفس القارئ وتترك أثرها علٌه كما لو كانت من تجاربه الخاصة ‪ ،‬وتأتٌه فً النهاٌة إجابتها‬
‫الصادمة المقتضبة لتوقؾ العالم من حوله بالبل حركة المتمثلة بالسكون‪.‬‬

‫وٌتراجع خطاب األمل فً قصٌدة جوٌدة ‪ ،‬وٌسٌطر الٌؤس وٌتؽوّ ل على أحبلم الشاعر وآماله فً‬
‫لحظة تجمعهما معً ا‪ ،‬وٌعمد الشاعر إلى الحذؾ لٌعمق استحالة اللقاء‪ ،‬فهو عاجز عن التمنً(‪:)1‬‬

‫وأقول لنفسً‪:‬‬

‫لو جاءت ‪!...‬‬

‫فٌطل ّ الٌؤس وٌصفعنً‬

‫تنزف من قلبً أشٌا ٌء‬

‫دمع ودما ٌء وحنٌنٌ‬


‫ٌ‬

‫وبقاٌا حلم مقتولْ‬

‫وٌحاول الشاعر أن ٌهرب بنفسه إلى الواقع ‪ً ،‬‬


‫بعٌدا عن آالم الحب وعذاباته ‪ ،‬وٌبدو كٌؾ ٌحاول‬
‫الشاعر أن ٌضع تجربته فً الحب جانبًا فٌتناساها ‪ ،‬ولك ّنه عبر إعبلنه ذلك ‪ٌ ،‬فضح ذاته بحقٌقة أنه‬
‫ال ٌمكن له أن ٌنسى طالما ٌحمل قلبًا دابم الخفقان وإحساسً ا عالًٌا ال ٌعٌنه على التوقؾ‪ ،‬وهً‬
‫عزت أسباب اللقاء بٌنه وبٌن الحبٌبة ‪ ،‬لك ّنه على كل‬
‫محاولة من الشاعر كً ٌواسً نفسه بعد أن ّ‬
‫األحوال ٌق ّدم خبلصة موقفه من الحب عند مفترق التجربة بٌن نهاٌة عهد قصٌدته الرومانسٌّة وبداٌة‬
‫مرحلة جدٌدة ٌتسٌّدها الوطن ‪ٌ ،‬قول (‪: )2‬‬

‫العمر أجمل ُ من‬


‫ُ‬

‫عٌون حبٌب ٍة رحلَ ْت‬


‫ِ‬
‫ت امرأ ْة‬
‫وأغلى من عذابا ِ‬

‫وألن جوٌدة ٌنطلق من كل ما هو إنسانً فً الحٌاة ؛ فإنّ قصٌدته فً الحب كذلك تتوسّع‬
‫لتكتسب ً‬
‫بعدا أشمل وأوسع بابًا ؛ إذ ٌنتقل من الحب فً حدوده المؽلقة إلى المحبة بمعانٌها اإلنسانٌّة‬

‫(‪ ) 1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " متى تؤتٌن؟ " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.179‬‬
‫( ‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " رحلة النسٌان " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.299‬‬
‫‪43‬‬

‫السامٌة‪ ،‬لٌشمل كل الكون بؤمنٌاته فً محبة الخٌر والتكافل ‪ ،‬والقلق لشؤن اإلنسان فً هذا الوجود ‪،‬‬
‫ٌقول جوٌدة (‪:)1‬‬

‫الرغٌف مع الصغار‬
‫َ‬ ‫الحب ٌا دنٌاي أن ن ِجد‬

‫النهار‬
‫ْ‬ ‫نغرس األحال َم فً أٌدي‬
‫َ‬ ‫أن‬

‫وٌقول كذلك فً انقضاء عهد " الهوى " وحلول عهد الحب الذي ٌكترث لئلنسانٌّة وٌتلمّس‬
‫مشكبلتها (‪: )2‬‬

‫ما عاد ٌا دنٌاي وقت للهوى‬

‫نبض الحب فً وجدانً‬


‫ُ‬ ‫ما عاد‬

‫الحب أن نجد األمان مع المنى‬

‫القضبان‬
‫ِ‬ ‫أال ٌضٌع العمر فً‬

‫أال تمزقنا الحٌاة بخوفها‬

‫نسان‬
‫ِ‬ ‫أن ٌشعر االنسان باإل‬

‫أال ٌعانً الجوع أبنائً غدً ا‬

‫أال ٌضٌق المر ُء بالحرمان‬

‫وبعد مؽامراته الطوٌلة فً قصٌدة الحب ٌعلن جوٌدة أنّ المرأة التً فً خٌاله ؛ المرأة ‪ /‬الحلم لم‬
‫تؤت بعد ‪ ،‬ولكن المفاجؤة التً ٌخببها للقارئ هً أن هذه المرأة الوحٌدة المنتظرة هً الوطن ‪ ،‬وهً‬
‫" زمانه اآلتً" ‪ ،‬وهً الوحٌدة القادرة على أن تنسٌه عذاباته إذا ما استطاعت أن تتخلص من‬
‫الزٌؾ والقٌود وسطوة الجبلدٌن(‪: )3‬‬

‫أنا المسجون فً حلمً‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "وحدي على الطرٌق " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.56‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة "مدٌنتً ببل عنوان " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.73‬‬

‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " امرأة لم تؤت بعد " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.255‬‬
‫‪44‬‬

‫وفً منفى انكساراتً‬

‫أنا فً الكون عصفور‬

‫بال وطن‬

‫أسافر فً صباباتً‬

‫أنا المجنون فً زمن ‪ ..‬بال لٌلى‬

‫فؤٌن تكون لٌالتً‬

‫وألنّ الشاعر ٌعشق وطنه كما ٌنتمً لكل األوطان العربٌّة ؛ إ ّن‬
‫ؾه ٌحكً لنا حكاٌة سناء محٌدلً‪،‬‬
‫المرأة ‪ /‬المناضلة ‪ ،‬التً جسّد عبرها الصورة المثلى للعشق الذي ٌودي بصاحبه إلى االستشهاد ‪،‬‬
‫كً تدفع محٌدلً " ضرٌبة " هذا العشق بؤبهظ األثمان (‪: )1‬‬

‫كانت تعلم ‪..‬‬

‫عشق لألوطانْ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫الموت ضرٌبة‬ ‫أنّ‬

‫الحب سٌصب ُح ٌو ًما‬


‫ّ‬ ‫أنّ‬

‫وشم لألكفانْ‬
‫ٍ‬ ‫أجمل‬

‫عرسا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الموت سٌصبح‬ ‫أنّ‬

‫ٌنسٌنا كل األحزانْ‬

‫وهنا إذ ٌحتفً الشاعر بالشهادة ٌق ّدمها عرسً ا ال مو ًتا ‪ ،‬وٌستعٌر دالالتها من ملفوظات العامّة فً‬
‫تسم ٌة مؤتم الشهٌد عرسً ا ؛ تعبٌرً ا عن فرحه بلقاء هللا وجواره ‪ ،‬ولذا فإنّ سناء قد استطاعت أن‬
‫تختار ‪ ،‬فدفعت مهرً ا ؼالًٌا لهذه األرض لكنها فً النهاٌة حصدت حبّها ‪.‬‬

‫(‪ )1‬شهٌدة الجنوب اللبنانً ‪ ،‬نفذت عملٌة استشهادٌّة فً تجمع لآللٌّات العسكرٌّة اإلسرابلٌّة ‪ ،‬عند نقطة للتفتٌش بسٌارة مفخخة‬
‫عام ‪ ، 1985‬وطالبت فً وصٌّتها األخٌرة أن ٌسمّوها " عروس الجنوب "‪.‬‬
‫‪45‬‬

‫لقد جرت العادة أال تسلم تجربة شعرٌّة من الحب والم رأة ‪ ،‬وبانتهاء هذا التصوّ ر عن الحب فً‬
‫شعر فاروق جوٌدة ٌمكن القول إنّ مشاعر الحب لدٌه واالفتتان بالمرأة ظلت تواجهها لحظة مواجهة‬
‫لى أشكال من األلم والحرمان ؛ فهنالك نقطة‬ ‫مع القدر ‪ ،‬الذي ٌدفع الحب فً أؼلب األحٌان إ‬
‫مصٌرٌّة فاصلة تبقٌه على موعد دابم مع الفراق ‪ ،‬كما تتشبع تجربته بمفارقة عجٌبة بٌن موقؾ‬
‫الشاعر من الحب وموقؾ المرأة منه ‪ ،‬حتى ٌستنفذ الشاعر فً لحظة الحب والع ذاب كل طاقته‬
‫ّ‬
‫تتعطل بالجفاء المتكرر والعوابق‬ ‫الشعورٌّة والشعرٌّة ؛ فحاجة الشاعر إلى الدٌمومة واالستمرار‬
‫التً تصرؾ الحبٌبٌْن عن اللقاء ‪.‬‬

‫وطرفا العبلقة فً قصٌدة الشاعر لٌسا ِن ّدٌْن ‪ ،‬إنها ك ّفة مابلة لصالح المحبوبة ‪ ،‬وحظ بابس‬
‫بالنسبة للشاعر ‪ ،‬وال تضطلع المرأة بدور حقٌقًّ فً قصٌدة جوٌدة إال فٌما ّ‬
‫تمثله من استبداد وسلبٌّة‬
‫فً أحٌان كثٌرة ‪.‬‬

‫وتبدو قضٌة صدقٌّة تجربة الحب لدى الشاعر مثٌرة للتساإل ‪ ،‬فهل ٌمكن لشاعر أن ٌشحن‬
‫تصوراته فً الحب دون تجارب حقٌقٌّة ؟ ‪ٌ ،‬مكن القول إ ّنه ٌؽلب على الشعراء الذٌن ٌعٌشون‬
‫حكاٌات حبّ التعبٌر عنها عبر قصابدهم ‪ ،‬كما ٌؽلب علٌهم التوسل بكنى وأسماء مستعارة وحقٌقٌّة‬
‫للمحبوبة ‪ ،‬وربما ٌق ّدم الشاعر بعضً ا من تفاصٌل هذه العبلقة لتبدو خصوصٌة تجربته الشعرٌّة ؛‬
‫لكنّ جوٌدة ال ٌتوسّل بؤسماء الحبٌبة ‪ ،‬ما ٌدعو إلى النظر فً هذه القصابد على اعتبارها‬
‫سٌنارٌوهات مفترضة ٌسمح فٌها الشاعر للقارئ أن ٌعاٌن تجاربه ؾ ي الحب ‪ ،‬وذلك ال ٌعنً أن‬
‫الشاعر ال ٌمتلك تجارب حقٌقٌّة خاصّة ؛ إذ لٌس من قصابد فً الحب ببل حب ‪ ،‬لكن ما ٌنظر إلٌه‬
‫ّ‬
‫وٌعزز هذا‬ ‫حقٌقة هو درجة اقتراب الشاعر من تجاربه أو افتراقه عنها فً حدود تجربته الشعرٌّة ‪،‬‬
‫الطرح امتبلء تجربة جوٌدة بقصابد ذات طابع تقلٌديّ فً الحبّ ‪ ،‬كالحبٌبة التً تؽدو لؽٌره ‪ ،‬وتعود‬
‫ما بٌنهم ؛ لٌذ ّكرهم‬ ‫بعد السنٌن لٌراها صدفة مع طفل ‪ ،‬والقلب الصؽٌر الذي ٌتبادله المحبون فً‬
‫بالعهود التً ٌقطعونها ‪ ،‬لذا فإنه ٌمكن القول إنه ما من خصوصٌّة متجسدة عبر قصٌدة فاروق‬
‫جوٌدة فً الحب ؛ ألنه ٌصنع مسافة بٌن ما ٌحضُره التعبٌر عنه ‪ ،‬وبٌن شإونه الخاصة ‪ .‬وذلك ال‬
‫ٌنفً صدقٌة الشاعر األدبٌّة ؛ ألنه ٌعبّر عن مشاعر حقٌقٌّة سواء أكانت تعود إلٌه ‪ ،‬أو حاول أن‬
‫علٌه النقاد أنّ الشاعر يجب أنْ‬ ‫ٌعبّر بها عن مشاعر اآلخرٌن " وال ٌعنً هذا الصدق الذي أل ّح‬
‫ٌكون قد عانى ح ًقا تجربته ‪ ،‬فربما صوّ ر لنا الشعراء تجارب عصفت بآخرٌن ‪ ،‬وقد نجحوا هم فً‬
‫‪46‬‬

‫اكتناه هذه التجارب وإخراجها أعماال شعرٌّة رابعة ؛ ذلك أنّ القدرة على وصؾ العواطؾ موهبة‬
‫أوتٌها الشعراء" (‪. )1‬‬

‫وتفترق قصٌدة الؽزل عن قصٌدة الحب فً كون األولى مصطنعة ومنسوجة ‪ ،‬أما قصٌدة الحب‬
‫فهً تعبً ر حقٌقً وعفوي ٌترك الشاعر نفسه معها لتؤخذه إلى حٌث تتحقق رإاه الشعرٌّة ‪،‬‬
‫عر‬ ‫ومعٌارها الوحٌد هو الصدق الداخلً والظاهر فً التعبٌر ‪ ،‬وقد فرقت نازك المبلبكة بٌن ش‬
‫الحب وقصابد العبث العاطفً (‪ )2‬؛ فشعر الحب هو " ذلك الؽناء العاطفًّ هللا ٌؾ الذي ٌصدر عن‬
‫العاشق ‪ ،‬وٌعبّر عن مشاعر مشتعلة ‪ ،‬وحنٌن ّ‬
‫معذب ال ٌهدأ ‪ ،‬بحٌث ٌكون ذلك الؽناء طاقة تنفٌس‬
‫ّ‬
‫وتؤزمها " (‪ ، )3‬أما قصابد العبث العاطفً فهً بما تفصح عنه كلمة‬ ‫تخ ّفؾ من اصطخاب العواطؾ‬
‫( عبث ) تقوم على اللهو ‪ ،‬واالبتعاد عن جوهر الحبّ الخالص من أي ؼاٌات أخرى ‪ ،‬وٌبرهن‬
‫جوٌدة على أنه شاعر من ذلك الصنؾ ا ألول الذي ٌبدو فٌه محبًا والهًا ‪ ،‬ال ٌعٌر شؤ ًنا لحاجاته‬
‫الحسٌّة فً جو القصٌدة ‪ٌ ،‬قول (‪: )4‬‬

‫لٌس فً إمكانً‬
‫َ‬ ‫ُبعدي و ُبعدُكِ‬

‫ت ثوانً‬ ‫ُ‬
‫أموت إذا ابتعد ِ‬ ‫فؤنا‬

‫أغٌب عن الوجو ِد إذا التقى‬


‫ُ‬ ‫وأنا‬

‫عناق حانً‬
‫ٍ‬ ‫شوقً وشوقكِ فً‬

‫أنا ال أراكِ دقٌقة ألهو بها‬

‫عنوان‬
‫ِ‬ ‫أو لحظة حٌرى بال‬

‫قد تسؤلٌنَ اآلنَ ‪ :‬ما أقصى المنى ؟‬

‫ٌلتقٌـان‬
‫ِ‬ ‫قلبً وقلبكِ حٌن‬

‫وتإكد هذه األبٌات على أنه ما من مكان للجموح والحسٌّة فً شعر جوٌدة ‪ ،‬وبذلك فإن جوٌدة‬
‫فً انطبلقه من عٌنً المحبوبة وعطرها إ ّنما ٌتوسّل بالحسًّ كً ٌصل إلى الحب بعده الروحًّ دون‬

‫الشعري ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬ط‪ ، 1‬سورٌة ‪ ،‬ص ‪.25‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬العاكوب ‪ ،‬عٌسى (‪ ،)2002‬العاطفة واإلبداع‬
‫(‪ )2‬المبلبكة ‪ ،‬نازك (‪ ،)1979‬الصومعة والشرفة الحمراء ‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن ‪ ،‬ط‪ ، 2‬بٌروت ‪،‬ص ‪.88-57‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪. 57‬‬
‫(‪)4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان أعاتب فٌك عمري ‪ ،‬قصٌدة "أعاتب فٌك عمري " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪ 324‬و ‪.327‬‬
‫‪47‬‬

‫ّ‬
‫المتمثل فً العناق مرتبط باألشواق ال بجسديْ الحبٌبٌْن‬ ‫أن ٌتؽٌّا ما هو دون ذلك ‪ ،‬فحتى فعل الض ّم‬
‫‪ٌ .‬مكن القول أخٌرً ا إنّ الرجل والمرأة صنوا الوجود ومبتدإه ‪ ،‬وحٌن تحضر المرأة فً الشعر فإنما‬
‫لتإ ّكد أنّ مبعث القوة الذي ٌفرضه حضورها فً القصٌدة ‪ ،‬أٌّا كان عمق هذا الحضور أو شكله ‪،‬‬
‫فإنه ٌعٌد ترتٌب المفردات والكون من حول الشاعر أو ربما ٌبعثر ك ّل شًء ‪ ،‬لكن ٌبقى الحب مسؤلة‬
‫كونٌّة ‪ ،‬والوقوؾ على عدد من أمثلته ال ٌفضً إلى حصر شًء من تشكبلته ‪.‬‬
‫‪48‬‬

‫المبحث الثانً‬
‫الموقف من الزمن‬
‫‪49‬‬

‫الموقف من الزمن‬

‫قُهر اإلنسان على مرّ التارٌخ بالزمن ؛ إذ بقً الزمن عامبل حاسمًا فً مصٌره ؛ فً الحب‬
‫والشقاء والمرض واالنتهاء‪ ،‬لٌق ّدم اإلنسان محاوالت كثٌرة الستٌعاب الزمن وتحوالته وآثاره على‬
‫اآلدمًّ ‪ ،‬ما ألهم البشرٌة الختراع الوسابل والطرق التً تكشؾ عن قلق مبكر من الوقت ‪ ،‬التً من‬
‫شؤنها أن ترصد حاجة اإل نسان الداببة لمتابعته واستؽبلله ‪ ،‬فكان أن ظهرت وسابل حساب الزمن‬
‫لدى كثٌر من األمم والحضارات ‪ ،‬التً استعانت على ذلك بتعداد األٌام والشهو ر ‪ ،‬واستعمال‬
‫المزاول الشمسٌّة واختراع الساعة " فمن متابعته لحركة الظل إلى المزولة الشمسٌّة ‪ ،‬إلى استعمال‬
‫ن بالوقت ‪...،‬‬ ‫ساعة الماء والرمل ‪ ،‬ث ّم إلى الساعة ذات الر ّقاص ‪ ...‬إ ّنما ٌعنً اهتمام اإلنسا‬
‫فاإلنسان منذ أقدم العصور كان مهتمًا بقٌاس الوقت " (‪.)1‬‬

‫وٌنظر األدب إلى الزمن من خبلل عبلقة األخٌر باإلنسان ‪ ،‬تلك العبلقة التً توجت فً‬
‫أعمال عدد ؼٌر قلٌل من األدباء والشعراء ممن أحسوا بؤنه ٌتهددهم فً وجودهم اإلنسانًّ وسعادتهم‬
‫رّ ها انقضاإه علٌهم وعلى‬ ‫واستمرارهم ‪ ،‬حتى كتبوا قصابد فجابعٌّة تعبّر عن اآلالم التً ٌج‬
‫أحوالهم‪ ،‬حكتها لنا فلسفة أبً العبلء المعري أمام الزمن ‪ ،‬وروتها قصة البحتري فً وقفته األخٌرة‬
‫لدى إٌوان كسرى وبكتها قلوب الشعراء حسرة ومرارة لفواته (‪. )2‬‬

‫وكانت ألبً العبلء تجربة فرٌدة مع الدهر وموقؾ جلًّ منه ؛ فالحبس واعتزال الناس وكل‬
‫العوامل النفسٌّة واالجتماعٌة التً حاقت به جعلت الحزن ٌؽلّؾ قصابده ‪ ،‬ودعته ألن ٌخلـؾ شعرً ا‬
‫ٌشً بنزعة تشاإمٌّة عالٌة النبرة تجاه الزمن‪ ،‬وٌعترؾ للقدر بإحكام قبضته (‪:)3‬‬

‫المؤمول من وعده‬
‫ِ‬ ‫ومخلف‬ ‫دهر ٌا منجز إٌعاده‬
‫ٌا ُ‬

‫وأي أقرانِ َك لم تبل ِه‬


‫ّ‬ ‫أي جدٌد لك لم تبله‬

‫العربً ‪ ،‬وزارة الثقافة ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌة العامة ‪ ،‬بؽداد‪،‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ ) 1‬الشحاذ ‪ ،‬أحمد (‪ ،)2001‬لغة الزمن ومدلوالتها فً التراث‬
‫ص ‪.33‬‬
‫( ‪ )2‬توفٌق ‪ ،‬إمٌل (‪ ،)1982‬الزمن بٌن العلم والفلسفة واألدب ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة ‪.143-142،‬‬
‫(‪)3‬المعري‪ ،‬أبو العبلء أحمد بن عبد هللا‪ ( ،‬ت ‪ 449‬هــ ‪ 1057 /‬م ) سقط الزند ‪ ،‬شرح وتقدٌم‪ :‬عمر فاروق الطباع ‪ ،‬دار‬
‫األرقم ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت ‪ ،1998 ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪50‬‬

‫جسّد المعري ‪ -‬عبر شعره ‪ -‬القلق الذي ٌواجهه اإلنسان أمام مصٌره المحكوم بالفناء ‪ ،‬وٌظل‬
‫هو رهٌن عجزه عن التجاوز؛ تجاوز ما ٌرتبه انقضاء الزمن علٌه وعلى أقرانه و على الكون من‬
‫حوله ‪ .‬لقد وقؾ الشعراء القدامى أمام الزمن وقفة عداء ‪ ،‬وظلت فكرة الموت والفناء تستؤثر‬
‫بتؤمبلتهم ‪ ،‬وتشؾّ عن تصاوٌرهم الخاصة ‪ ،‬ورإاهم الواعٌة لحقٌقة الزمن ‪ ،‬وما ٌجرّ ه من خطوب‬
‫وٌترك أثره فً الموجودات ‪ ،‬إلى جانب ما ٌرتبه تقلب الزمن على أخبلق الناس لتبدو شحٌحة بخٌلة‬
‫ال تبالً بمن حولها‪ٌ ،‬قول البحتريّ شاتمًا الدهر وأهله (‪: )1‬‬

‫الخلق َب ْو‬
‫ِ‬ ‫وجمٌع هذا‬ ‫سو‬
‫إنّ الزمان زمان ّ‬

‫فجوابهم عن ذاك َو ْو‬ ‫فإذا سؤلته ُم ندى ً‬

‫لم ٌكن للخ ْل ِق ّ‬


‫ضو‬ ‫الضوء ُبخال‬
‫َ‬ ‫لو ٌملكون‬

‫وبذلك بدت الصورة األشمل التً طبعتها اإلنسانٌة على اختبلؾ أدوارها للزمن هً صورة‬
‫سوداوٌّة قاتمة " ٌشهد على ذلك العدٌد من الصفات الذمٌمة التً وصم بها الزمن "(‪. )2‬‬

‫وٌهز الزمن عالم اإلنسان فً حاالت التذ ّكر والصبوة إلى الماضً ‪ ،‬ألنه عادة ما ٌسقطه فً‬
‫ّ‬
‫حالة من العجز والتؤسؾ واإلحساس بالمرارة ‪ ،‬فً تلك المنطقة بٌن الماضً والمستقبل ‪ ،‬إذ ٌصبح‬
‫القلق وتذ ّكر الموت وارتقابه ومعاناة الماضً أمرً ا ٌهدم العالم بؤسره من حول اإلنسان (‪.)3‬‬

‫وظاهرة الخوؾ من الحاضر وم جاهٌله تدفع اإلنسان إلى الحنٌن والعودة بالذكرٌات إلى‬
‫الماضً الجمٌل ‪ " ،‬فالحنٌن إلى الماضً الجمٌل فً الحقٌقة لٌس إال حنٌ ًنا إلى النفس فً أبهى‬
‫حاالتها وفً أؼنى وجوهها وأكثرها حٌوٌة وبهجة ‪ ،‬وحنٌننا إلى الماضً لٌس إال حنٌ ًنا إلى أنفسنا‬
‫وقد صفت من المكدرات وراقت من األحزان"(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬البحتري ‪ ،‬أبو عبادة الولٌد بن عبٌد بن ٌحٌى التنوخً الطابً ( ت‪283‬هـ\ ‪ 897‬م ) دٌوان البحتري ‪ 2 ،‬جزء ‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمٌّة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،1987 ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.69-68‬‬
‫(‪ )2‬سوار ‪ ،‬محمد وحٌد الدٌن (‪ ،)2001‬الزمن بٌن البراءة واالتهام ‪ ،‬دار الثقافة ‪ ،‬األردن ‪ ،‬ص ‪. 23‬‬
‫(‪ )3‬ؼاستون باشبلر (‪ ،)1982‬جدلٌة الزمن ‪ ،‬ترجمة خلٌل أحمد خلٌل ‪ ،‬المإسسة الجامعٌّة للدراسات والنشر والتوزٌع ‪،‬‬
‫بٌروت ‪ ،‬ص ‪. 48-47‬‬
‫(‪ )4‬زاٌد ‪ ،‬أمل ‪ ،‬هل النوستالجٌا ظاهرة عربٌة ؟ ‪ ،‬صحٌفة األخبار السعودٌة ‪ ،‬المجلة الثقافٌة ‪ ،‬العدد ‪ ، 189‬االثنٌن ‪15‬‬
‫صفر ‪ 1328‬هــ ‪ 5 ،‬آذار ‪.2007‬‬
‫‪51‬‬

‫والحنٌن إلى الماضً أو النوستالجٌا ( ‪ )1‬هً ظاهرة إنسانٌّة تزداد حدتها حٌن ٌكون الواقع‬
‫بابسً ا(‪ ، )2‬ما ٌدفع اإلنسان للسفر إلى الماضً للبحث عن سعادة باتت مفقودة ‪ ،‬كتلك التً ٌرتجٌها‬
‫الشعراء فً استحضار حب بات ً‬
‫بابدا أو فً شباب انقضى‪.‬‬

‫وٌعزو اإلنسان سبب قلقه وخوفه من الزمن إلى ارتباطه بساعاتنا البٌولوجٌّة التً تمشً بؤبداننا‬
‫إلى الهرم ‪ ،‬وهً ساعة ال تتو ّقؾ تدنٌنا كل ٌوم من الموت وتقرّ ب اإلنسان خطوة بخطوة نحو لحده‪.‬‬

‫وحٌن نقرأ مشهد الزمن عند األدباء والفبلسفة والمفكرٌن نجدهم ال ٌتركون لحظة سواء أكانت‬
‫سلبٌة أم إٌجابٌة إال وٌتوقفون عندها ؛ ألنها تمثل حالة وج ٍد عند بعضهم ‪ ،‬أو حالة ألم عند أكثرهم ؛‬
‫ذلك أنه ما من شك أن للزمن أثرً ا تحكم ًٌّا ٌصعب على أي من المخلوقات تحاشٌه ‪ ،‬وٌرى فٌلسوؾ‬
‫من مثل (كانت) أنّ الزمان والمكان هما مقولتٌْن من مقوالت الفهم ؛ أي أنها لٌست ذات وجود فعلً‬
‫من ناحٌة الشًء فً ذاته ( ‪ .)3‬وٌقول صاحب كتاب لحظة األبدٌّة ‪ ":‬إنّ الزمان ال ٌنفك ٌعمل فً‬
‫جسد اإلنسان إتبل ًفا ‪ .‬إنّ كل خطوة ٌخطوها على درب العمر تقرّ به من لحده ‪ .‬األٌام تحوك كفنه‬
‫على نولها الذي ال ٌتو ّقؾ ‪ ،‬والدقابق دو ٌد ٌؤكل جسده إلى أن ٌتحلل إلى تراب إ ّنه مع كل لحظة‬
‫تمضً ٌموت بعض من كٌانه ‪ ،‬وٌستنفذ جزءًا من حصته" (‪.)4‬‬

‫إنه لٌتس ّنى لنا االقتراب أكثر من دالالت الزمن بصورتها الدقٌقة فً كتاب هللا تعالى بعد أن‬
‫أولى القرآن الكرٌم أهمٌة جلٌلة للزمن عبر ارتباطه بعدٌد من األحكام الشرعٌّة ‪ ،‬كشرط لصحتها‬
‫وقبولها من هللا ؛ فللصوم شهر وللطبلق ع ّدة ‪ ،‬وللحج مواقٌت‪.‬‬

‫وقد جاء التوجٌه القرآنً بضرورة االلتفات إلى الزمن ‪ ،‬ما أتاح لئلنسان فرصة التؤمل فً‬
‫اإلعجاز القرآنً ومتابعة أثر الزمن فً اإلنسان والكون من خبلل القصص القرآنً الذي ي رصد‬
‫تحوله وحركٌّته ‪ ،‬وحٌن ٌبدو للمإمن أن الزمن ال يُ جارى ‪ ،‬فإن الزمن ٌإكد فً القرآن الكرٌم‬

‫(‪ )1‬النوستالجٌا ‪ :‬التوقان المنهوم إلى الماضً وإلى أماكن معٌنة ‪ ،‬وهً شكل آخر من أشكال التمسك بما ال ٌُطال لسبب أو‬
‫آلخر ‪ ،‬انظر ‪ :‬الٌوسؾ‪ٌ ،‬وسؾ(‪ ،)1978‬الغزل العذري دراسة فً الحب المقموع ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العربً ‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫ص ‪.43‬‬
‫(‪ )2‬زاٌد ‪ ،‬أمل ‪ ،‬هل النوستالجٌا ظاهرة عربٌة؟ ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زٌادة‪ ،‬معن‪ ،‬وآخرون ( تحرٌر)( ‪ ،)1986‬الموسوعة الفلسف ٌّة العرب ٌّة ‪ ،‬ص ‪.467‬‬
‫(‪ )4‬الحاج شاهٌن ‪ ،‬سمٌر (‪ ،)1980‬لحظة األبد ٌّة دراسة الزمن فً أدب القرن العشرٌن ‪ ،‬المإسسة العربٌّة للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ص ‪16‬‬
‫‪52‬‬

‫سلطته وٌكشؾ عن عظمة الخالق وفردانٌته واستخدامه الزمن لٌكون آٌة للناس وداللة على إعجاز‬
‫هللا تعالى وعظٌم قدرته ‪ ،‬وهو ما ٌتضح فً قصة " عزٌر بن شرحٌاء" العبد الصالح الذي أظهر‬
‫تعجبًا من حال المدٌنة الخاوٌة المدمرة ‪ ،‬فؤماته هللا وأحٌاه بعد مبة عام لٌرى من ذلك قدرة هللا على‬
‫عز مِن‬ ‫البعث (‪ .)1‬إنّ تدبّر اآلٌة التالٌة ٌدلّل على أنّ الزمن إنما ٌُدرك بإحداث التؽٌٌر ‪ٌ ،‬قول – ّ‬
‫او ٌَ ٌة َعلَى عُرُ وشِ َها َقا َل أَ َّنى ٌُحْ ًٌِ َه ِذ ِه َّ‬
‫هللاُ َبعْ دَ َم ْو ِت َها‬ ‫قابل‪ ":) ( -‬أَ ْو َكالَّذِي َمرَّ َعلَى َقرْ ٌَ ٍة َوه َ‬
‫ًِ َخ ِ‬
‫‪2‬‬

‫ظرْ إِلَى‬ ‫ت ِم َب َة َعام َفا ْن ُ‬


‫ٍ‬ ‫ض ٌَ ْو ٍم َقا َل َب ْل لَ ِب ْث َ‬ ‫ت ٌَ ْومًا أَ ْو َبعْ َ‬ ‫ت َقا َل لَ ِب ْث ُ‬ ‫هللاُ ِم َب َة َع ٍام ُث َّم َب َع َث ُه َقا َل َك ْم لَ ِب ْث َ‬
‫َفؤ َ َما َت ُه َّ‬
‫ْؾ ُن ْنشِ ُز َها ُث َّم‬‫ِظ ِام َكٌ َ‬‫ظرْ إِلَى ْالع َ‬ ‫اس َوا ْن ُ‬ ‫ار َك َولِ َنجْ َعلَ َك آَ ٌَ ًة لِل َّن ِ‬ ‫ُ‬
‫ِك َو َش َر ِاب َك لَ ْم ٌَ َت َس َّنهْ َوا ْنظرْ إِلَى ِح َم ِ‬ ‫َط َعام َ‬
‫هللا َعلَى ُك ِّلل َشًْ ٍء َق ِدٌرٌ "‬ ‫َن ْكسُو َها لَحْ مًا َفلَمَّا َت َبٌ ََّن لَ ُه َقا َل أَعْ لَ ُم أَنَّ َّ َ‬
‫ؼٌر أن الموقؾ م ن الزمن ٌختلؾ وف ًقا للوجهة التً ٌتخذها الناظر أو ٌحدد من خبللها تؤثٌر‬
‫الثبلث ؛ وهو الذي ٌترك البعض على‬
‫ة‬ ‫الزمن علٌه أو تؤثره به ‪ ،‬وذلك راجع إلى الزمن فً مستوٌاته‬
‫اتصال وثٌق بالماضً ٌجترّ ون إشراقاته وزالته ‪ ،‬فٌما ٌتشوّ ؾ آخرون مستقببل ؼنًًا باإلنجازات‬
‫ٌجعلهم ٌشعرون بالرضى عن الزمن ‪ ،‬وتصبح اللحظة الراهنة لدٌهم فرصة لؤلمل والتخطٌط ‪ ،‬وهو‬
‫األمر عٌنه الذي اختلفت ألجله نظرٌات علماء النفس فً الحدٌث عن الزمن ؛ إذ ٌرى (فروٌد ) أنّ‬
‫كل م ا ٌتعلق باإلنسان هو مقرر ساب ًقا ‪ ،‬وأنّ قوى ؼٌر مربٌة بداخلنا تسٌطر علٌنا ‪ ،‬وتجعلنا فً‬
‫قبضة ؼرابز الحٌاة والموت‪ ،‬وتجعل شخصٌتنا فً الكبر نتاج ما ٌحدث لنا قبل الخامسة من العمر ‪،‬‬
‫بحٌث ٌصبح محكو ًم ا علٌنا بتلك التجارب األولٌّة التً تؽطً كل حركاتنا ( ‪ ، )3‬فٌما ٌرى ( جوردن‬
‫إلبورت ) أنّ الماضً لٌس مهمًا إال بقدر تؤثٌره على الحاضر ( ‪ ، )4‬فٌما ٌؤخذ عالم ن ْفس آخر منطق‬
‫التوسط حٌن ٌدعو إلى ضرورة " أن ٌنظر بوجه إلى ماضً اإلنسان ‪ ،‬وٌنظر بوجه آخر إلى‬
‫مستقبل اإلنسان ‪ ،‬وعندما تجتمع هاتان النظرتان ‪ ،‬فإنهما تعطٌان صورة كاملة لئلنسان" ( ‪ )5‬وفً‬
‫ذلك تركٌز على اللحظة الراهنة ‪ .‬وٌرى إمٌل توفٌق أنّ الزمن والتارٌخ هما العنصران المكونان‬
‫للحضارة (‪ ،)6‬وبذلك تتجلى أهمٌته فً نظر اإلنسان على ذاته‪ ،‬وعلى الكون من حوله ‪ ،‬وعلى قٌام‬

‫(‪)1‬الكبٌسً ‪ ،‬أحمد (‪ ،)2000‬قصص القرآن الكرٌم ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم – جمهورٌة العراق ‪ ،‬بؽداد ‪ ،‬ص ‪.350‬‬
‫(‪ )2‬سورة البقرة ‪.259 :‬‬
‫(‪)3‬الفتبلوي ‪ ،‬علً شاكر (‪ ،)2010‬سٌكولوجٌة الزمن ‪ ،‬دار صفحات ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫(‪)4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫(‪ )5‬الفتبلوي ‪ ،‬علً شاكر ‪ ،‬سٌكولوجٌة الزمن ‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫(‪ )6‬توفٌق ‪ ،‬إمٌل (‪ ،)1982‬الزمن بٌن العلم والفلسفة واألدب ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪53‬‬

‫قٌام الحضارات والشعوب واألمم وانتهابها ‪ ،‬إلى ؼٌر ذلك من شواهدَ تإكد أن للزمن سلطة على‬
‫كل شًء ‪.‬‬
‫ً‬
‫أصٌبل فً مختلؾ الدراسات اإلنسانٌّة واألدبٌّة ‪ ،‬وناله من الفلسفة الحظ‬ ‫وبدا الزمن عنصرً ا‬
‫الوافر من االهتمام ‪ .‬ابتدا ًء بقدماء منظري الٌونان ‪ ( :‬هٌروقلٌطس ) و(أرسطو ) و(أفبلطون ) ومن‬
‫سواهم ‪ ،‬ولٌس انتها ًء بالفبلسفة الؽربٌٌن أمثال ( هٌدجر) و(كانت) و(جان بٌاجٌه)( ‪ ،)1‬كما ظهرت‬
‫حقٌقة االهتمام به فً آراء المتصوفة والمعتزلة وأفكارهم عن األزلٌة واألبدٌة فً الذات اإللهٌّة ؛ إ ذ‬
‫نال الزمن أهمٌة كبٌرة فً التراث اإلسبلمًّ " ورأى المتكلمون أنّ الزمان اعتباريّ موهوم لٌس‬
‫موجودا ‪ ..‬وكان ابن سٌنا ٌرى أ ّنه وعاء ال لون له وال حجم ‪ ،‬وهو أوقات متتالٌة ‪ .‬وعند أبً‬
‫ً‬
‫البركات البؽدادي الزمان ظاهرة نفسٌّة أو حدسٌّة تدركها النفس بذاتها ومع ذاتها ووجودها قبل كل‬
‫شًء تشعر به وتلحظه بذهنها " (‪.)2‬‬

‫لك ّنه الشعر وحده من ٌمنح الزمن هوٌة جدٌدة ً‬


‫بعٌدا عن دالالته الفٌزٌابٌّة والرٌاضٌّة‪.‬‬
‫وٌستبٌـــِن المسٌري وجود زمنٌن فً الشعر اهتدى إلٌهما عبر عدد من القصابد الشعرٌة ‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫الزمان الكونً والزمان اإلنسانً ‪ٌ ،‬قول‪ ":‬أما الزمان الكونً فقد تكون له بداٌة ولك ّنه ال ٌعرؾ‬
‫النهاٌة ‪ ،‬فهو شكل من أشكال األزلٌّة ‪ ..‬وهو فً العادة زمان دابريّ مرتبط بدورات الطبٌعة ‪ ،‬أو‬
‫بالماضً الذهبً أو بالطفولة ‪ ..‬فهو فً حقٌقة األمر ال زمان ‪ ،‬أما الزمان اإلنسانً هو الزمان الذي‬
‫نعٌش فٌه فنعرؾ الصراع واألفراح والحدود ‪ ،‬وهو ذو بداٌة ونهاٌة ‪ ...،‬وهو الزمان الذي تتحقق‬
‫أو تجهض فٌه إنسانٌتنا " (‪.)3‬‬

‫ونحن بذلك إزاء زمانٌن ٌستجلٌهما الكاتب ؛ أحدهما (دابريّ ال زمانً) ‪ -‬كما ٌصطلح علٌه‪-‬‬
‫ذلك أنه متجدد مثل دورة الطبٌعة وتعاقب الفصول ‪ ،‬واآلخر – الزمان اإلنسانً‪ -‬هو ذلك الذي‬
‫ٌحسب من عمر اإلنسان وما ٌولًّ منه ال ٌعود – بحسب تعبٌر الكاتب‪ -‬؛ وكؤن منظور الكاتب إلى‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬جعفر‪ ،‬صفاء (‪ ،)2000‬الوجود الحقٌقً عند مارتن هاٌدجر ‪ ،‬منشؤة المعارؾ ‪ ،‬االسكندرٌة ‪ ،‬ص ‪.428 -421‬‬
‫(‪ )2‬زٌادة ‪ ،‬معن ‪ ،‬الموسوعة الفلسف ٌّة العرب ٌّة ‪ ،‬ص ‪.468-467‬‬
‫(‪ )3‬المسٌري ‪ ،‬عبد الوهاب (د‪.‬ت)‪ ،‬فً األدب والفكر دراسات فً الشعر والنثر ‪ ،‬مكتبة الشروق الدولٌّة ‪ ،‬مصر‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪54‬‬

‫الزمن واعترافه به مرتبط بضرورة االبتداء واالنتهاء والتحول والتؽٌٌر ‪ .‬ذلك المنظور الذي ٌشحذ‬
‫كوامن اإلبداع لدى الشعراء منذ األزل ‪.‬‬

‫على أنّ الزمن الذي ٌقصد إلٌه الشعراء ويعبرون عنه زمن منتقى من حٌواتهم ‪ ،‬ال ٌعبؤ باألٌام‬
‫المتوالٌة أو األحداث المتعاقبة ؛ ألننا حتى فً مخٌبلتنا ً‬
‫بعٌدا عن التعبٌر األدبًّ والفنًّ فإننا ال‬
‫نحتفظ من أعمارنا إال بتلك األحداث الكبٌرة التً ال ت نسى ‪ ،‬فالزمن إذن " ال ٌحتفظ إال بذكرى‬
‫الحوادث فً حٌاتنا ولحظاتنا الحاسمة ‪ ،‬لك ّنه ال ٌحتفظ بذكرى أعمارنا ‪ ،‬وذلك السفر الطوٌل عبر‬
‫ال ٌجوز لنا أن نخلط بٌن ذكرى ماضٌنا وذكرى زماننا " (‪.)1‬‬
‫السنون ‪ ،‬ؾ‬

‫وٌلمح البعض إلى أن الزمن الذي ٌتح ّكم بذات المبدع هو " زمن نفسًّ شعوري" كما نجده عند‬
‫إمٌل توفٌق ؛ فمقًاس الوقت لدٌه هو اإلحساس " وهذه النفس قد تنظر إلى العام فإذا هو لمحة‬
‫للهفتها على فواته ‪ ،‬وقد تنظر إلى اللمحة فإذا هً دهر سرمد الزدحامها بالمنظر بعد المنظر‬
‫والخٌال بعد الخٌال إلى ؼٌر نهاٌة ٌحدها الحس ‪ ،‬وٌقؾ عندها االستحضار "( ‪ ، )2‬والزمن محكوم‬
‫بعوالم الفرد النفسٌّة وظبلل خٌباته أو سعادته ومدى تؤثٌر كل منها علٌه‪ ،‬وهو المفهوم النفسً للزمن‬
‫ً‬
‫طوٌبل ‪ ،‬وإنما الطوٌل هو توقع المستقبل ‪،‬‬ ‫والذي عبّر عنه ( أوؼسطٌن ) بقوله " لٌس المستقبل‬
‫ً‬
‫طوٌبل ‪ ،‬وإنما الطوٌل هو ذاكرة الماضً "(‪ٌ . )3‬قول فاروق جوٌدة (‪:)4‬‬ ‫ولٌس الماضً‬

‫ب ٌذوب‬ ‫ما أبطؤ النبضا ِ‬


‫ت فً قل ٍ‬

‫ْ‬
‫عادت‬ ‫ما أطول األحزان لو‬

‫بالقلوب‬
‫ْ‬ ‫لتعصِ ف‬

‫(‪ )1‬ؼاستون باشبلر ‪ ،‬جدلٌة الزمن ‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫(‪ )2‬توفٌق ‪ ،‬إمٌل ‪ ،‬الزمن بٌن العلم والفلسفة واألدب‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫(‪ )3‬رشدي ‪ ،‬والء ‪ ،‬إشكالٌة الزمن ‪http://www.alfalsafa.com/Azzamen.html‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة " موعد ببل لقاء " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.176‬‬
‫‪55‬‬

‫وقد انماز الشاعر فاروق جوٌدة بوعً حاد تجاه قضٌة الزمن ‪ ،‬ما جعله كثٌر الدوران فً‬
‫شعره كلّه ‪ ،‬وال سٌّما أ ّنه عانى فقد إخوته وهو فً سن صؽٌرة‪،‬األمر الذي ترك أثره جلٌّا على‬
‫موقفه من الزمن عامة ‪ ،‬ومن الموت خاصة ‪ ،‬وٌرى الشاعر أن موت إخوته جمٌعً ا قبل أن ٌتمّوا‬
‫التاسعة قد جعله على اتصال وثٌق بمعانً الفقد ‪ ،‬كما تر كه مترقبا للموت فً ك ّل لحظة ( ‪ ،)1‬فٌما‬
‫رسّب ذلك أثرً ا قاسًٌا على روحه ‪ ،‬ودعاه ألن ٌخلع على الزمن شٌ ًبا كثٌرً ا من الشتابم ومشاعر‬
‫النقمة والتشاإم ‪ ،‬فتعبٌر الشاعر عن أساه اإلنسانًّ المتؤتً من إحساسه بالزمن ٌؤخذنا إلى أعمق‬
‫وجود والحٌاة ال تتحصّل لدٌه إال بالمقاساة‬ ‫األؼوار فً نفسه ‪ ،‬وٌسمح له أن ٌق ّدم فلسفة فً ال‬
‫والتجربة ‪.‬‬

‫وٌنهض الطفل الراقد فً ذات الشاعر ‪ ،‬وٌسافر نحو تخوم الماضً لٌستعٌد عوالم تركها ذات‬
‫وداع ‪ ،‬قبل أن ٌجري به العمر نحو المشٌب دون أن ٌشعر‪ ،‬وتنس ّل من بٌن ٌدٌه سنوات العمر‬
‫فٌبكٌها ألمًا وحسرة ‪ ،‬وٌعجب النقضابها بسرعة (‪: )2‬‬

‫العمر ٌا أماه ٌرحل فً اصفرار‬

‫ما كان لً فٌه الخٌار‬

‫العشرة األولى تضٌع‬

‫عشرون عا ًم ا بعدها‬

‫خمس ٌمزقها الصقٌع‬

‫أنا ال أصدق أننً‬

‫أمشً لدرب األربعٌن‬

‫وٌبرز اللون األصفر بلواحقه الداللًّة عبلمة للموت والذبول وانتهاء األجل ‪ ،‬وهو اللون الذي‬
‫تحمله أوراق الشجر حٌن تنتهً دورة حٌاتها فتسقط تاركة أمها الشجرة ‪ ،‬وكما الشجرة تطرح‬

‫(‪ )1‬رضوان ‪ ،‬محمد ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬ص‪.43 -42‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة " الصبح حلم ال ٌجًء " ‪ ،‬مج ‪.362-361 ، 1‬‬
‫‪56‬‬

‫أوراقها تسقط أوراق العمر المصفرة من جعبة الشاعر إلى ؼٌر رجعة ‪ ،‬هكذا ٌنقضً العمر بالنسبة‬
‫إلٌه ‪ ،‬إنه ٌصفر وٌذبل كؤنْ لم ٌكن ٌانعً ا ٌومًا ‪ ،‬أو كمؽٌب الشمس حٌن تنكسر وتتوارى فً األفق‬
‫بلونها األصفر فً حالة من الموات وتحطم اآلمال ‪ ،‬لكن الفارق بٌن الشاعر وهذا الكون هو أنّ‬
‫الشمس تشرق من جدٌد ‪ ،‬وأنّ الشجرة تلبس حلّة جدٌدة مطلع كل ربٌع ‪ ،‬لكنّ العمر ٌضٌع وٌتمزق‬
‫وٌذهب وال ٌعود‪.‬‬

‫الطفل ٌا أماه ٌسرع‬

‫نحو درب األربعٌن‬

‫أتصدقٌن ؟‬

‫ما أرخص األعمار‬

‫فً سوق السنٌن !‬

‫إنّ تبلّد الحٌاة من حول الشاعر ‪ ،‬وشعوره بالمرارة التً تنتاب عالمه ا لداخلًّ تدعوه إلى نبش‬
‫الذكرٌات القدٌمة ‪ .‬إنه فً محاولته الٌابسة لبلحتماء بذلك الركن البعٌد الدافا من الماضً ببساطته‬
‫متشبثا بالطفولة ٌبلحقه ؼول " األربعٌن "‪ ،‬أي طفولة هذه وهو " ٌسرع نحو درب‬ ‫ً‬ ‫وبراءته ال زال‬
‫األربعٌن"!!‪.‬‬

‫ولننظر كٌؾ ٌفسّر الشاعر تلك األجواء القلقة التً أحاطت به فً صؽره من خوؾ شدٌد من‬
‫فقده‪ ،‬وإحساسه بؤنه الوحٌد الذي أبقت علٌه األقدار ألمه ‪ ،‬فهو ٌستعٌد الماضً وهدهداتها له ‪،‬‬
‫وأمنٌاتها أن ٌبقٌه هللا لها ‪ ،‬وأن ٌمنحه العمر الطوٌل ‪ .‬لقد فقد الشاعر قدرته على مواجهة الحاضر‬
‫فلجؤ إلى الماضً ألمر من اثنٌن ؛ إما ألن الماضً ٌمنحه شٌ ًبا من السلوى ‪ ،‬أو لكونه أسٌر ٍ‬
‫ماض‬
‫ألٌم لم ٌعد بوسعه أن ٌتخطاه فً حاضره ‪ٌ ،‬قول (‪: )1‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة " الصبح حلم ال ٌجًء " ‪ ،‬مج ‪.362-361 ، 1‬‬
‫‪57‬‬

‫ت‬
‫أسمع أغنٌا ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عدت‬ ‫ما‬

‫كالتً ك ّنا نغنٌها‬

‫أذكر صوتك الحانً‬


‫ُ‬ ‫ما زلت‬

‫ٌغ ّنً اللٌل ٌستجدي المنى‬

‫أن تمنح الطفل الصغٌر‬

‫والقلب السعٌد‬
‫َ‬ ‫العمر‬

‫والعمر ٌا أمً ضنٌن‬


‫ُ‬

‫لكننً ما ُ‬
‫زلت أحلم‬

‫مثلما ٌو ًما رأٌتك تحلمٌنْ‬

‫ه ذا الحزن الذي ٌؽلّؾ حاضر الشاعر ‪ٌ ،‬ق ّدم الز من عبر نافذة ؼٌر سعٌدة ؛ فالع مر ٌسرع‬
‫وذلك ٌعنً انقضاء الكثٌر‪ ،‬والعمر ضنٌن وهو ما ٌعنً أن الشاعر ربما لن ٌحظى منه بعدَ هذا‬
‫بالكثٌر ‪ .‬إنها نقطة عالٌة من التوتر بٌن حافتً الماضً واآلتً‪ ،‬وهً التً تكشؾ بجبلء أن الشاعر‬
‫ماض حزٌن وقلق من مستقبل قد ال ٌؤتً ‪ .‬لقد فرض الماضً نفسه على‬
‫ال ٌعٌش لحظته؛ إنه أسٌر ٍ‬
‫القصٌدة وتواترت فٌها المفردات الدالة على الزمن بذلك " الصبح الذي ال ٌجًء " و "لٌل الشتاء "‬
‫القاسً والطوٌل‪ ،‬والعمر الذي قضاه فً" سجن كبٌر" ‪ ،‬وفً ذلك كله تؤكٌد على أنّ الشاعر ٌابس‬
‫من الحٌاة وأنّ اإلحباط ٌتح ّكم به ‪ .‬لكنّ هذا الماضً مع ك ّل محموالته التً تشً بقلق الشاعر حٌاله‬
‫ماض جمٌل حٌث كانت حٌاته فً قرٌته الوادعة " البحٌرة " فً‬
‫ٌظل أجمل من واقعه ‪ ،‬بل هو ٍ‬
‫رعاٌة أمه ‪ ،‬وهنا ٌندؼم الزمان والمكان فً فضاء الشاعر ما ٌدلل على استدعاء الذاكرة لزمن‬
‫الطفولة فً أكمل تجلٌاتها‪.‬‬

‫فالشاعر ٌناجً أمه بعد أن شعر بالعمر ٌسرق سنوات حٌاته ‪ ،‬وٌعود إلى الخلؾ لٌذكرها ساعة‬
‫ترك القرٌة إلى المدٌنة للتعلّم ‪ ،‬ثم جرى العمر على سهوة منه ً‬
‫بعٌدا عنها وعن مراتع طفولته‬
‫وصباه‪ ،‬وتركه ٌقاسً الزٌؾ والتلوّ ن والزمان الجاحد فً عالم المدٌنة‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫ماض عزٌز إلى نفسه وحاضر متهالك ال علٌه وحده بل على‬


‫وٌقؾ الشاعر لٌقٌم مفارقة بٌن ٍ‬
‫اإلنسانٌّة جمعاء‪ ،‬لكن تفاإلٌّة الشاعر تؽلق القصٌدة على حتمٌّة حلول " الزمن السعٌد " الذي ٌرمز‬
‫لزمن بمستوٌاته الثبلثة ‪:‬‬ ‫إلٌه بالولٌد المنتظر‪ ،‬وٌرى أنه قادم وإن تؤخر‪ .‬وبذلك تجمع القصٌدة ا‬
‫الماضً‪ ،‬والحاضر والمستقبل ‪.‬‬

‫وٌقلب الشعراء صفحة الشباب والسعادة كً ٌدركوا أنّ الزمان ال ٌجود بما ٌرتجونه منه ‪،‬‬
‫كما أنه ٌمضً برتابة قاتلة ‪ ،‬ما ٌدفع الشاعر إلى اإلحسا س بال جدوى البقاء فً إطاره ‪ ،‬وهذا بلند‬
‫الحٌدري الذي دهمته ؼربة اجتماعٌة مبكرة قضاها بالتشرد والٌؤس‪ ،‬أ دت به إلى اعتزال المجتمع‬
‫والناس ‪ ،‬وؼربة أخرى فً ببلد هللا عمّقت إحساسه بقسوة الحٌاة واأللم وجعلته ٌخاؾ المجتمع‬
‫والحٌاة والزمن (‪ٌ ، )1‬قول بنزعته التشاإمٌّة الطافحة (‪: )2‬‬

‫فً األربعٌن‬

‫وعلى ٌدي‬

‫أحالم تموت بال غ ِد‬


‫ٍ‬ ‫أكداس‬

‫أنا من سنٌن‬

‫لو تعلمٌن‬

‫طاي ال ُ‬
‫ش ّر ِد‬ ‫ت غٌر صدى ُخ َ‬
‫ما عدْ ُ‬

‫أنا من سنٌن‬

‫لو تعلمٌنْ‬

‫أٌقظت فً األشواك من عطشً المهٌن‬

‫حقدي الكمٌنْ‬

‫طرٌق أسو ِد‬


‫ٍ‬ ‫حقد األمانً المائتات على‬

‫(‪ )1‬جعفر ‪ ،‬محمد راضً (‪ ،)1999‬االغتراب فً الشعر العراقً المعاصر ‪ ،‬من منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪ ،‬دمشق ‪،‬‬
‫ص ‪14‬و‪.37‬‬
‫(‪)2‬الحٌدري ‪ ،‬بلند (‪ ،)1975‬دٌوان خطوات فً الغربة ‪ ،‬قصٌدة فً األربعٌن ‪ ،‬دار العودة ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.187-186‬‬
‫‪59‬‬

‫وٌعبّر جوٌدة عن تلك الرتابة والوقوع فً ال جدوى البقاء فً هذه الحٌاة عبر هذا السإال‬
‫الممضّ المتعِب (‪:)1‬‬

‫شًء‬
‫ٍ‬ ‫نطار ُد من كل‬
‫َ‬ ‫لماذا‬

‫وننسى األمان على أرضنا‬

‫خلف الحٌاة‬
‫َ‬ ‫وٌتركنا الٌؤس‬

‫فنكره كالمو ِ‬
‫ت أعمارنا؟!‬

‫وٌقع الشاعر تحت ثقل هم ومه وأحبلمه وٌشعر بسطوة الزمن ‪ ،‬التً تمتد عبر مسٌرته‬
‫الشعرٌة فً سجاالت دابرة بٌن العمر واألمانً ‪ ،‬فالزمن – كما ٌقول جوٌدة‪ -‬هو " من أهم العناصر‬
‫التً نستطٌع من خبللها أن ندرك مشاعر اآلخرٌن ‪ ..‬إنّ الزمن هو الجانب الوحٌد القادر على‬
‫تعرٌة األشٌاء وكشؾ ؼموضها "( ‪ .)2‬وبتهوٌمات قلقة ٌتؤرجح فٌها بٌن كفتً الٌؤس واألمل ٌسلّم‬
‫فً قرارة نفسه بؽلبة األٌام والتخلً عن الحلم ‪ ،‬فحتى انتظاره للؽد ال ٌعدو أكثر من انتظار هدأة‬
‫األمانً واالستسبلم لقهر الوقت ‪.‬‬

‫وال ٌنفلت الشاعر من ضوابط القصٌدة التقلٌدٌّة فً األبٌا ت التالٌة ؛ ألنه ال ٌستطٌع أن ٌتٌح‬
‫لنفسه ً‬
‫شكبل من أشكال التدفق الشعوريّ الذي ٌسمح به الشكل الحر‪ ،‬وربما ٌعود تقٌده بالشكل‬
‫الهندسًّ الثابت للقصٌدة التقلٌدٌّة ههنا إلى إحساسه بؤ ّنه مقٌّد الفكر وقلق بفعل الزمن‪ ،‬وبذلك ٌهٌمن‬
‫األثر النفسً على الشكل البنابًّ للقصٌدة‪ ،‬كما أنه ٌقدم رإٌة متؤرجحة – كما سبق وأشرنا‪ٌ ، -‬قول‬
‫(‪:)3‬‬

‫الكبار‬
‫ْ‬ ‫وترتاح فٌنا األمانً‬ ‫غدًا ٌهدأ الشوق بٌن الضلوع‬

‫الجدار‬
‫ْ‬ ‫رسو ًما من الصم ِ‬
‫ت فوق‬ ‫الربوع التً عانقتنا‬
‫ُ‬ ‫وتغدو‬

‫إال أنه ٌحاول أن ٌنشر عقٌدة التفاإل‪ ،‬وٌرسلها إلى قرابه بضرورة االند فاع نحو الحٌاة مؽالبًا‬
‫ٌؤسه؛ لٌإكد أنه سٌعود إلٌهم فكرة ال حقٌقة‪ ،‬وٌشرق عبر كل ما ٌبعث على البشارة ومقاومة انقضاء‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬تمهل قلٌبل فإنك ٌوم ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪. 212‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق (‪ ،)1997‬لٌس للحب أوان ( نثر ) ‪ ،‬دار ؼرٌب للطباعة والنشر ‪ ،‬ط‪، 1‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪. 202‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً لٌلة عشق ‪ ،‬تمنٌت عمرً ا أحبك فٌه ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.401‬‬
‫‪60‬‬

‫الزمن‪ .‬وٌستعٌن لذلك بضحكات الصؼار التً تقود إلى اإلٌمان بالؽد‪ ،‬واإلشراق الذي تؤتً به شمس‬
‫نهار جدٌد‪ ،‬فٌقول (‪:)1‬‬

‫الصغار‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫سؤشرق فً ضحكات‬ ‫ُ‬
‫غبت ٌومــــًا‬ ‫أغٌب وإن‬
‫َ‬ ‫أنا لن‬

‫النهار‬
‫ْ‬ ‫وٌصدح فً الكون صوت‬ ‫سؤرجع حٌن ٌطـل ّ الربــٌع‬

‫فزمن الطفولة زمن ال ٌعرؾ المستحٌل ‪ ،‬وفً استدعابه استجبلبٌ لشعور الطفل الخالً من‬
‫أي وعً للزمن (‪ ،)2‬والربٌع بخضرته داللة كبٌرة على التجدد واللقاء والبداٌات السعٌدة ‪ ،‬وٌبدو أن‬
‫ً‬
‫متفاببل‪ ،‬لذا فإنه ٌواجه الزمن ‪ ،‬وهو الذي ٌم ّد الشاعر بقدرات خارقة على‬ ‫الشاعر ٌود أن ٌكون‬
‫تخطً الحاضر بكل معطٌاته " والطفولة بهذا الحس المتسامً فوق الزمن قادرة على أن تم ّد‬‫ّ‬
‫اإلنسان المحبط – ومهما كانت درجة إحباطه – بسند روحًّ ٌم ّكنه من مواجهة بإس حاضره "‬
‫(‪ ، )3‬كما أن استدعاءها شكل من أشكال محاولة اإلنسان المتواصلة لقهر الزمن ( الوقت) – كما‬
‫ٌراه البعض‪ ،)4(-‬والربٌع بخضرته داللة كبٌرة على ا لتجدد واللقاء والبداٌات السعٌدة ‪ ،‬وٌبدو أن‬
‫ً‬
‫متفاببل لذا فإنه ٌواجه الزمن ‪.‬‬ ‫الشاعر ٌود أن ٌكون‬

‫مشكل الشاعر مع الزمن عصٌة على الحل‪ ،‬فما جدوى أن ٌعٌش فً زمن موحش ٌحصد‬
‫ة‬ ‫وتبدو‬
‫فٌه الخٌبات‪ .‬وتبدو فٌه الصورة بابسة وسوداوٌّة ٌعان ي فٌها الشاعر أزمة وجودٌّة ٌشعر عبرها‬
‫وبإحساس عمٌق بالضٌاع وهو ٌشعر بـ " أق دام الزمان " تدوسه وتسحق كرامته ‪ ،‬هكذا‬
‫ٍ‬ ‫بالسخط‬
‫ٌكون الحال حٌن ٌبدو الماضً طافحً ا بالكرب ‪ ،‬والمستقبل ؼٌر منشود ٌحاصر الشاعر فً الحاضر‬
‫ماض ٌتكا علٌه أو مستقبل ٌصبو إلٌه ؟‪ ،‬إ ّنه ٌسقط فً العدم (‪:)5‬‬
‫حقٌقً ‪ ،‬ماذا ٌفعل دون ٍ‬
‫ة‬ ‫ببل هوٌة‬

‫(‪ )1‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.405‬‬


‫(‪)2‬عقاق ‪ ،‬قادة (‪ ،)2001‬داللة المدٌنة فً الخطاب الشعري المعاصر ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص‪.372‬‬
‫(‪ ) 3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.370‬‬
‫(‪)4‬إمٌل توفٌق‪ ،‬الزمن بٌن العلم والفلسفة واألدب ‪ ،‬ص ‪. 156‬‬
‫(‪)5‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألنً أحبك ‪ ،‬قصٌدة " تحت أقدام الزمان" ‪ ،‬مج‪ ،2‬ص ‪.15‬‬
‫‪61‬‬

‫هكذا نمضً‪ ..‬حٌارى تحت أقدام الزمانْ‬

‫ُ‬
‫نغرق فً زمان ٍ‬ ‫كٌف‬

‫شًء فٌه ٌنض ُح بالهوانْ ؟‬


‫ٍ‬ ‫كل‬

‫وٌبدو أن الشاعر الٌمنح ثقته م طل ًقا للزمن وف ًقا لخبرات الماضً‪ ،‬كما ٌتمدد الزمن الكونً فً‬
‫قصٌدته حتى ٌخسر طبٌعته الحقٌقٌّة ‪ ،‬وٌكتسب سمات المطل والتطاول فبل ٌعو د النهار نهارً ا وال‬
‫اللٌل ً‬
‫لٌبل‪ ،‬وٌؽدو الشتاء عن كل الفصول ‪ ،‬وٌعمد الشاعر إلى تشخً ص مفردات الزمن لٌدلل على‬
‫تحكمها‪ ،‬وإعمال أثرها فٌه ‪ .‬و ْ‬
‫بالقدر الذي نرصد خبلله الحالة النفسٌّة للشاعر حٌال الزمن نراه‬
‫ٌقول (‪: )1‬‬

‫الوقت جالد قبٌح الوجه‬

‫ٌرصد خطوتً‬

‫ٌ‬
‫عابث ما أسوأه‬ ‫وشتاإنا لٌل طوٌل‬

‫‪....‬‬

‫ك ّنا نطل ّ وحولنا‬

‫ضجر‬
‫ٍ‬ ‫تتر ّنح األٌام فً‬

‫نبض واهنُ (‪. )2‬‬


‫ٌ‬ ‫وضوء الشمس‬

‫وٌبكً الشاعر أٌام الصبا والشباب الؽارب ؛ وٌنظر بجفاء إلى السنٌن الفابتة التً جحدته ولم‬
‫تإ ّده شٌ ًبا من البهجة والسعادة‪ ،‬وٌضعنا فً مشهد تؤملًّ لما سٌإول ه‬
‫إلً حال الجمٌع فً "عتاب من‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة "رحلة النسٌان "‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.298‬‬
‫(‪)2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " ما زلت أسبح فً عٌونك" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.186‬‬
‫‪62‬‬

‫القبر" ‪ ،‬وتظهر عبرها مفردات الزمنٌة الزوالٌّة والشً خوخة والمشٌب التً ٌذ ّكر بها ‪ ،‬وٌإكد أنّ‬
‫الجمٌع سٌمشً نحوها ٌومًا إلى العبور األخٌر بجوار هللا ‪ٌ ،‬قول (‪:)1‬‬

‫ٌا أٌها الطٌف البعٌدْ‬

‫عتاب‬
‫ْ‬ ‫فً القل ِ‬
‫ب شً ٌء من‬

‫الشباب‬
‫ْ‬ ‫ودّ ُ‬
‫عت أٌامً وودّ عنً‬

‫التراب‬
‫ْ‬ ‫ذرا ِ‬
‫ت‬ ‫ل ْم َ‬
‫ٌبق شً ٌء من وجودي غٌر ّ‬

‫وٌدرك الشاعر أنّ حاضر ه بدأ با لتلوّ ن والتب ّدل حٌن ٌرحل الرفاق ؛ فشعور اإلنسان بكونه‬
‫ً‬
‫محاطا بؤحبابه ٌمنحه قدرً ا كبٌرً ا من الطمؤنٌنة والسكٌنة ‪ ،‬لكنّ رحٌل الرفقة مهلك لئلنسان قبل أن‬
‫بشاعر إنسان ؟‪ .‬وٌذهب بنا جوٌدة إلى أعمق ال بإر فً نفسه لٌصوّ ر حز ًنا‬
‫ٍ‬ ‫ٌكون شاعرً ا‪ ،‬فكٌؾ‬
‫شفٌ ًفا‪ ،‬وٌقودنا عبر قصٌدته فً رحلة إلى زمان قصًّ ومكان ٌقاوم البلى بعد أن ؼابت عنه وجوه‬
‫الصحاب‪ .‬وال ٌبدو الموت لعنة أو مصٌبة بالنسبة للشاعر‪ ،‬إنه ٌتقبله على نفسه بعقٌدة التسلٌم لكن ما‬
‫ٌإلمه هو رحٌل األحبة‪ ،‬ولكنّ الصورة تبدأ حٌن تاه الشاعر عن بٌته القدٌم ‪ ،‬ثم دخله لٌشعر بؽربة‬
‫عن كل الموجودات (‪:)2‬‬

‫وعلى جدار الصمت نامت صورتً‬

‫تاهت مالمحها مع األٌام مثل‪ ..‬حكاٌتً‬

‫ودموعها تنساب كالماضً وتروي قصتً‬

‫بجوار مقعدنا رأٌت جرٌدة‬

‫‪..‬‬ ‫فٌها مواعٌد السفر‬

‫‪..‬‬ ‫ومتى تعود الطائرة‬

‫وشرٌط أغنٌة لعل رنٌنها‬

‫قد ظل ٌسرع‪ ..‬ثم يسرع‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " عتاب من القبر " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.30‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان وٌبقى الحب ‪ ،‬قصٌدة " عندما ٌرحل الرفاق " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪.148-147‬‬
‫‪63‬‬

‫خلف ذكرى‪ ..‬حائرة‬

‫‪..‬‬ ‫فتوقفت نبضاتها‬

‫‪:‬‬ ‫وسمعتها‬

‫‪..‬‬ ‫) أٌها الساهر تغفو‬

‫‪..‬‬ ‫تذكر العهد‪ ..‬و تصحو‬

‫و إذا ما التؤم جرح جدّ بالتذكار‪ ..‬جرح‬

‫فتعلّم كٌف تنسى و تعلم‪ ..‬كٌف تمحو)‬

‫وتوضّح االستعانة بمفتتح أطبلل ناجً مع الشجن الذي ٌقدمه لها صوت أم كلثوم كٌؾ ٌتشرّ ب‬
‫جوٌدة عبر هذا االستحضار الح وارٌّة الباكٌة بٌن الشاعر وقلبه ‪ ،‬وفٌه توق للعودة إلى الماضً‬
‫السعٌد (‪ ،)1‬لكن هذا الماضً ال ٌستطٌع أن ٌق ّدم العزاء لقلب الشاعر‪ ،‬ألنه فً الحقٌقة ال ٌزٌده إال‬
‫أسى ؛ فالذكرٌات تإجج حزنه وتدفعه إلى البكاء أكثر لتلك اللحظات التً باتت موؼلة فً الماضً‪،‬‬
‫مجددا ولو للحظة ‪ .‬إ ّنه ٌحاول ههنا أن ٌعانق النسٌان فً سبٌل أن تشفى‬
‫ً‬ ‫ولٌس للتذكر أن ٌحٌٌها‬
‫روحه ‪.‬‬

‫فً هذه المحاولة الٌابسة لٌق ّدم العزاء لنفسه ‪ٌ ،‬نتقل الشاعر منها إلى رثاء نفسه ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ٌَظهر التوجٌه اإلٌجابًّ لمشاعر القلق من الموت باتجاه الرضى بقضاء هللا‪ ،‬وهو ما ٌسا عد الشاعر‬
‫على التقوّ ي والمجابهة‪ ،‬والخروج من حالة االستسبل م القهريّ إلى االستسبلم العقديّ ‪ ،‬واإلٌمان بؤنّ‬
‫الحٌاة والموت صنوان ال ٌفترقان (‪: )2‬‬

‫سلوانُ ال تحزنً إن خاننً األجل ُ‬

‫ُ‬
‫ٌنبت األمل ُ‬ ‫وجرح‬
‫ٍ‬ ‫جرح‬
‫ٍ‬ ‫ما بٌن‬

‫العمر أحال ًما نطاردها‬


‫ُ‬ ‫قد ٌصب ُح‬

‫الفنً ‪ ،‬دار قطري بن الفجاءة‪ ،‬ط‪ ، 1‬الدوحة ‪ ،‬ص ‪120‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬عٌد ‪ ،‬جمال(‪ ،)1994‬تذوق النص األدبً – جمالٌات األداء‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " سلوان ال تحزنً " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪ 162‬و ‪.165‬‬
‫‪64‬‬

‫نجري وتجري و ُتدمٌنا وال َنصِ ل ُ‬


‫سلوانُ ٌا طفلتً ال تحزنً أبدًا‬

‫إنّ الطٌور بضوء الفجر تكتحل ُ‬

‫طٌرا ٌغنً الحب فً أمل‬ ‫ما ُ‬


‫زلت ً‬

‫قد ٌمنح الحل ُم ما ال ٌمن ُح األجل ُ‬


‫وٌجسّد الشاعر فهمًا دقٌ ًقا للشرٌعة اإلسبلمٌّة حٌن ٌطلب إلى ابنته أن تإمن بحتمٌّة األجل ‪ ،‬وأن‬
‫تستقبل رحٌل أبٌها ببل جزع ‪ ،‬وتظهر القصٌدة تقاربًا بٌنها وبٌن ق صٌدة مالك بن الرٌب فً رثاء‬
‫نفسه‪ ،‬وهو ٌدعو ابنته لعدم الجزع ولتقبل موته الذي ُتظهر خوفها من وقوعه ‪ ،‬وٌبدو أنّ جوٌدة فً‬
‫قابمة على الخدٌعة‬ ‫هذا السٌاق ٌبدي ٌؤسً ا من العمر ‪ ،‬وتبدو العبلقة المضطربة بٌنه وبٌن الزمن‬
‫ٌرض ‪ ،‬فلماذا ٌؽضً الشاعر ً‬
‫قلٌبل عن‬ ‫َ‬ ‫والخٌانة؛ فالموت حدث قاهر ٌجتاح اإلنسان رضً أم لم‬
‫تسلٌمه بالقضاء ؟‪ٌ ،‬ظهر أنّ تقصٌر الزمن عن منح الشاعر ما كان ٌطمح إلٌه وٌحلم به ٌدعوه فً‬
‫النهاٌة إلى اإلحساس بثقله والتع ّنً فً اإلذعان له والتسلٌم بؤمر ه‪ ،‬هذا التعنً ال ٌطول ألن الشاع ر‬
‫ٌستسلم كعادته للقضاء‪ ،‬وٌرضى باألمل حتى وإن مات دون ؼاٌته ‪ .‬و هذه حال اإلنسان فً انتظار‬
‫الموت؛ فــ" الموت حقًقة بالؽة الوضوح ال ٌمكن تج ّنبها ‪ ،‬والمشكلة فً إٌجاد وسٌلة تجعل الموت‬
‫مقبوال "(‪ .)1‬والشاعر هنا كؤنه ٌنتظر الموت وال ٌبالً ‪.‬‬

‫هكذا ظلّت أحبلم الشاعر وتجاربه فً الحب محكومة بالزمن ‪ ،‬ولم ٌف ّكر ٌومًا أن ٌسوسه أو‬
‫إمكانً لدٌه للسعادة واإلحساس بالحٌاة؛ فالعمر‬
‫ة‬ ‫ٌهادنه‪ ،‬لكن إحساسه الدابم بانقضاء الزمن ٌهدم ك ّل‬
‫ٌنقضً وال ٌعود‪ ،‬لذلك ٌصبح من المنطقًّ إحساس الشاعر باقتراب الموت ‪ .‬وتتسرّ ب إلى الشاعر‬
‫عمر جدٌد‪ ،‬لكن هذه الرؼبة بظبللها النفسٌّة ال تعٌنه على التخطً (‪: )2‬‬
‫ٍ‬ ‫رؼبة فً‬

‫قصار‬
‫ْ‬ ‫ولكنّ أٌا َم عمري‬ ‫عـمرا أح ّبـك فٌـه‬
‫ً‬ ‫تم ّن ُ‬
‫ٌت‬

‫(‪ )1‬عبده ‪ ،‬سمٌر (‪ ،)1993‬التحلٌل النفسً لحالة انتظار الموت ‪ ،‬دار الكتاب العربً ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً لٌلة عشق ‪ ،‬قصٌدة " تمنٌت عمرً ا أحبك فٌه " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.406-405‬‬
‫‪65‬‬

‫المدار‬
‫ْ‬ ‫فٌـــكفً بؤ ّنكِ أن ِ‬
‫ت‬ ‫نجــم‬
‫ٍ‬ ‫األفق أطالل َ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫صرت فً‬ ‫إذا‬

‫والموت لدى الشاعر ال ٌستثنً األمة‪ ،‬التً تبدو ؾي نفسه أمة قد خسرت أسباب وجودها ‪ ،‬وهنا‬
‫ٌتح ّدث الشاعر عن الموت المعنويّ لؤلمة (‪:)1‬‬

‫كثٌرونَ ماتوا ‪ ..‬بك ٌْنا علٌ ِهم‬

‫أقمنا علٌ ِهم صالة الرحٌلْ‬


‫ً‬
‫جمٌال‬ ‫صبرا‬
‫ً‬ ‫الناس ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وقلنا مع‬

‫صبر لد ٌْنا جمٌلْ ؟‬


‫ٍ‬ ‫فهل كل ّ‬
‫كثٌرون ماتوا‬

‫أهلنا علٌهم تالل الترب‬

‫ولكننا لم نمت بعد لكن‬

‫لماذا ٌُهال ُ علٌنا التراب ؟!‬

‫وقد استحوذت على الشاعر مبكرً ا محاوالته فً تشكٌل موقؾ من الماضً والتفكٌر فً الوقت ؛‬
‫لٌتطور هذا الزمن وٌقود إلى وعً جدٌد ٌراوح الشاعر فٌه بٌن الصدمة وبٌن النظر العقبلنً إلى‬
‫الزمن ‪ .‬والزمن الحقٌقً لدى الشاعر هو ذلك المرتبط باالنتهاء والموت ‪ ،‬وهو زمن ٌدركه الشاعر‬
‫تمامًا وٌسري مفعوله علٌه وعلى ما ٌحٌطه‪ ،‬وهو األشد أثرً ا على الشاعر ‪ ،‬إذ ٌبدو لكل شًء نهاٌة‬
‫متوقعة ومنظورة ‪.‬‬

‫ال ٌق ّدم نفسه إال من وجهة واحدة ؛ هً وجهة‬ ‫كما أنّ الزمن فً وعً جوٌدة وفً قصٌدته‬
‫االنقضاء والهرم‪ ،‬وهو ال ٌحمل للشاعر أي لوحات سعٌدة‪ ،‬وال ٌعً أي معنى ً‬
‫بعٌدا عن ذلك ‪ ،‬ولذا‬
‫ً‬
‫مضمحبل‪ ،‬أو ٌكاد ال ٌتحصّل لدٌه شًء منها ‪.‬‬ ‫فإن وعً الشاعر بالسعادة ٌبدو‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان شًء سٌبقى بٌننا ‪ ،‬قصٌدة " موتى ببل قبور " ‪ ،‬مج ‪.143-142 ، 2‬‬
‫‪66‬‬

‫ولقد كان لدوافع الطفولة دورها فً تكوٌن رإٌة الشاعر تجاه الزمن ؛ إذ ظل الشاعر مسكو ًنا‬
‫‪ ،‬وهو ما ٌفسّر ما ذهب إلٌه‬ ‫بقلق انتظار اللحظة علٌه وعلى أحبابه‪ ،‬وكل ما ٌدور فً محٌطه‬
‫(فروٌد) من حقٌقة أن اإلنسان "رهٌن ماضٌه ببل فكاك وحصٌلة ذلك الماضً "(‪.)1‬‬

‫وبقٌت المزاوجة بٌن األزمنة‪ ،‬التً عمد إلٌها الشاعر‪ ،‬شاهدة على عدم تقبله ‪ ،‬وإحساسه بؤنّ‬
‫خبراته الشعورٌّة تجاه الزمن عاجزة عن أن تعطً صورة دقٌقة لحاجاته وأفكاره‪ ،‬مع ذلك كلّه فقد‬
‫أبان الشاعر عن صدق واضح فً تجربته مع الزمن ‪ ،‬ألنه سمح إلحساساته أن تتسرّ ب بعفوٌّة إلى‬
‫مهم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتتكثؾ لتحكً شٌ ًبا ولو ٌسٌرً ا فً هذا الباب ؛ فحٌن ٌشٌح الناس النظر عما ٌإل‬ ‫قصٌدته‬
‫وٌإثرون االنصراؾ إلى الطمؤنٌنة ٌل ّح على وجدان الشاعر ما ٌعانٌه‪ ،‬وٌؤبى على نفسه إال أن ٌق ّدم‬
‫ً‬
‫جدٌدا ‪ ،‬لكنها لم‬ ‫ً‬
‫مستقببل‬ ‫محاولة ولو كانت ٌابسة لٌخلص من إحباطاته ‪ ،‬وٌو ّدع الماضً لٌحتضن‬
‫تكن ٌومًا مهمة سهلة ألحد من الشعراء ‪.‬‬

‫نة الماضً‬ ‫وٌظل الحقل الداللً والصٌػ اللؽوٌّة لؤلفعال فً قصٌدة جوٌدة هنا تإكد هٌم‬
‫والتعتٌم على المستقبل‪ ،‬فٌما ال ٌخرج الحاضر عن كونه مساحة لبلستحضار ال أكثر‪ ،‬وهو ما ٌعنً‬
‫أن ذاكرة الشاعر تنشط لتق ّدم القصٌدة ‪ .‬لكن النزعة الماضوٌّة قد تقهقرت لد ٌه فً تجربته الوطنٌّة‬
‫المتق ّدمة‪ ،‬فما عاد ٌركض نحو الماضً لٌستدعً صبلح الدٌن ‪ ،‬بل بات ٌنطلق وٌستشرؾ حاض ر‬
‫األوؼاد والفاسدٌن ولصوص العصر‪ ،‬وٌتنبؤ لهم بنهاٌة مخزٌة‪.‬‬

‫وكان الزمن موضوعً ا مهٌم ًنا وظاهرً ا بوضوح فً القصٌدة فً باكورة التجربة لدى جوٌدة ‪،‬‬
‫إال أنه بات ٌطل عبر رإٌة الشاعر لٌرسخ به ما ٌذهب إلٌه من أفكار وٌبٌّنه من قناعات ؛‬
‫فاضطراب العبلقة بٌن الشاعر والزمن بدأ بالخفوت ‪ ،‬بعد أن اتخذ منه موق ًفا ص دامٌّا فً بداٌة‬
‫تجربته الشعرٌّة‪ ،‬ثم عاد به ودفعه للتوقؾ عن الخوؾ من الزمن ‪ ،‬واستلّه بإٌمانه العمٌق من مهاوي‬
‫السقوط فً العدم ومنحه األمل ‪ ،‬ال لٌبدأ بداٌة جدٌدة ‪ ،‬بل لٌحٌا ما تبقى من عمره خارج إطار القلق‬
‫قدر واحد محتوم ‪ .‬هذه القناعات األخً رة التً‬
‫المضنً من الزمن‪ ،‬والذي سٌُسلِمه فً النهاٌة إلى ٍ‬
‫تحصّلت لدى الشاعر جعلته ٌعالج الموت برإٌة إسبلمٌّة صافٌّة ‪ .‬وجعلت هللا والقدر هما الحقٌقتان‬
‫الوحٌدتان اللتان ٌإمن بهما جوٌدة ً‬
‫جٌدا فً وقوفه أمام الزمن‪.‬‬

‫( ‪ )1‬الفتبلوي ‪ ،‬علً شاكر (‪ ،)2010‬سٌكولوجٌة الزمن ‪ ،‬دار صفحات ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪67‬‬

‫إنّ ما سبق وأشرنا إلٌه قد ٌتفسّر – إ لى جانب ما سبق‪ -‬بانحسار حضور الزمن فً الفضاء‬
‫الشعري فً القصٌدة لدى ا لشاعر بٌن بواكٌر التجربة من جهة ‪ ،‬وآخر ما وصل إلٌنا من نتاج‬
‫الشاعر من جهة ثانٌة ؛ ففً األولى تتب ّدى سوداوٌّة الشاعر وانكماشه النفسًّ ‪ ،‬واتصال موقفه من‬
‫الزمن بتجارب الشاعر بصورة شخصًّة على الصعٌد النفسً واإلنسانًّ ‪ ،‬أما فً المرحلة التً تلٌها‬
‫فقد بات الشاعر ٌنطلق من مفهوم الز من لٌحقق رإٌة جمعٌّة تعنً ك ّل فرد على وجه البسٌطة ؛‬
‫وذلك ما ٌمكن أن تفسّره عنوانات القصابد التً نالت ً‬
‫حٌزا كبٌرً ا من دواوٌنه الشعرٌّة فً البداٌات ؛‬
‫ففً الشطر األول ٌنصرؾ الشاعر إلى المصادمة مع الزمن وال ّتعنً فً اإلذعان عبر قص ابد من‬
‫مثل ‪( :‬عندما يؼفو القدر)‪ ،‬و(عتاب من القبر)‪ ،‬و (وكذب الدهر)‪ ،‬و (ضحاٌا الزمان)‪( ،‬وٌخدعنا‬
‫الزمن)‪ ،‬و (ونشقى باألمل)‪ ،‬إلى ما سوى ذلك من القصابد ‪ ،‬فً الشطر الثانً تبدو القصٌدة أخؾ‬
‫لهجة وأكثر تسلٌمًا ؛ ومنها‪( :‬وسافر الزمن الجمٌل)‪( ،‬وهانت األٌام) ‪ ،‬و( تمنٌت عمرً ا أحبك فٌه) ‪،‬‬
‫و(أقدار) ‪.‬وهنا ٌتحوّ ل الشاعر من حالة االضطراب فً التعاطً مع الزمن إلى التسلٌم المطلق‪ .‬لكنّ‬
‫ً‬
‫محتفظا بتلك المرارة التً سببها عجزه عن تحقٌق ما ٌرٌد‪.‬‬ ‫الشاعر ٌظ ّل‬

‫تاب للتجارب اإلنسانٌّة‬ ‫وتبقى للزمن سطوته ‪ٌ ،‬مارسها عبر مستوٌاته الثبلثة بتفاوت منطقًّ ع‬
‫كل على حدة؛ فالحاضر هو تلك اللحظة الراهنة التً نعٌش فٌها وقد ال ّ‬
‫تمثل لنا شٌ ًبا حقٌق ًٌّا إن لم‬
‫تؤخذنا معها إلى المستقبل‪ ،‬أو تنبش معنا الماضً‪ ،‬والماضً الذي نط ّل علٌه بسعادة مرة وبحسرة‬
‫مرات‪ ،‬كلما دعت الحاجة إلى ذلك‪ ،‬والمستقبل القادم مجهول الهوٌّة الذي نقؾ حٌاله متشوّ قٌن‬
‫آن معً ا‪.‬‬
‫ومتوجّ سٌن فً ٍ‬
‫‪68‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الموقف من الوطن واإلنسان‬
‫‪69‬‬

‫الموقف من الوطن واإلنسانْ‬

‫" الشعر السٌاسًّ لن ٌعٌش ‪ ..‬وال أراهن علٌه ‪ ،‬رهانً دابمًا على القصابد اإلنسانٌّة التً تـُكتب لها الحٌاة ‪..‬‬
‫الشعراء الذٌن كتبوا شعرً ا سٌاس ًٌّا ما َ‬
‫بقً منهم إال المتنبً بشعره اإلنسانًّ ‪ ،‬وضاعت طموحا ُته فً أن ٌصبح‬
‫محافظا ‪ ،‬ولم ٌمنحوها له " (‪.)1‬‬
‫ً‬

‫الكلمات حٌن تصٌر منفى لمن ال وطن لهم ( ‪ ،)2‬ذلك ما ٌإسس لتجربة مماثلة حٌن ٌصبح‬
‫الواقع مؤزو ًم ا من حول الشاعر فٌدعوه على الدوام لمعاٌشة الواقع والتعبٌر عنه‪ ،‬لذا ‪ ،‬فلم ٌكن له‬
‫أن ٌنسى نخٌل العراق وأهلها‪ ،‬وناس بٌروت وشوارعها ‪ ،‬واإلنسان العربًّ المنفًّ فً وطنه ‪،‬‬
‫ل فً إحدى دول‬ ‫الذي بات ٌجهل مصٌره ‪ ،‬للعم" فرج" الذي رحّ له الوطن بدافع الحاجة للعم‬
‫الخلٌج‪ ،‬لله ّم الذي ٌسكن هوا جس نسوة العراق الثكالى واألرامل ‪ ،‬للرصاصات التً سكنت صدور‬
‫صباٌا" أبو ؼرٌب "بعد خروجهن من السجن على أٌدي ذوٌهم ‪ ،‬للنفط الذي ؼدا أؼلى من دماء‬
‫العراقٌٌن‪ ،‬لؤلحزان القدٌمة الجدٌدة فً فلسطٌن‪ ،‬لؤلطفال الحالمٌن باألمن وا لرؼٌؾ بعد أن باتا‬
‫ذات الشاعر فتتوهج لدٌه‬ ‫من المستحٌل ‪ ،‬لكل هذه جمعاء تنصهر هموم الشارع العربً فً‬
‫القصٌدة ‪.‬‬

‫‪،‬‬ ‫وٌظهر لنا كٌؾ ٌعاٌن الشاعر عن قرب مؤساة اإلنسان العربًّ وهمومه الوطنٌّة والقومٌّة‬
‫حتى لٌبدو الشعر ذلك " المعلم األسٌان واالستؽاثة األخٌرة فً فم العصر القادرة على رصد‬
‫المعاناة واأللم "( ‪ ،)3‬وبذلك ٌتبدى لنا الشعر ف ًنا إنسانًٌا له خصوص ٌته‪ ،‬فاألدٌب كما ٌراه عبد‬
‫المحسن بدر ال ٌعٌش معل ًقا فً الفراغ‪ ،‬بل إنه ٌرتهن للواقع الذي ٌدور فً فلكه (‪.)4‬‬

‫وقد بدت لكلمة "اإلنسانٌّة " فً ؼٌابها عن المشهد المعٌش حضور بالػ األثر فً تس اإالت‬
‫الساسة واألدباء والمفكرٌن‪ ،‬كما بات من البلفت للنظر أن هذه الكلمة ما عادت تؽادر قوامٌس‬

‫(‪ )1‬صحٌفة األخبار السودانٌّة ‪ ،‬فاروق جوٌدة ‪ ..‬شاعر العشق والسٌاسة ‪،‬الخمٌس ‪ 25‬أٌلول ‪.2008‬‬
‫(‪ )2‬الكبٌسً ‪ ،‬طراد (‪ ، )1979‬الغابة والفصول ‪ ،‬دار الرشٌد ‪ ،‬بؽداد ‪ ،‬ص ‪.342‬‬
‫(‪ )3‬المقالح ‪ ،‬عبد العزٌز (‪ ، )2010‬الكتابة البٌضاء – الشاعر ذلك المجنون النبٌل ‪ ،‬دار الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬حكومة‬
‫الشارقة‪ ،‬ص ‪.30-29‬‬
‫(‪ )4‬بدر ‪ ،‬عبد المحسن طه(‪ ،)1981‬حول األدٌب والواقع ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط‪ ، 3‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪70‬‬

‫اللؽة كحقٌقة ال ٌحتاج إثباتها إلى دلٌل ؛ فاألبواب مشرعة فً العالم للقتل والتدمٌر فً ظل ؼٌاب‬
‫الفضٌلة واإلنسانٌة ‪.‬‬

‫إنّ هذا المشهد المرٌر‪ ،‬ال ٌدفع إلى الٌؤس المطلق ‪ ،‬وال ٌعدم فسحات األمل لكلمة‬
‫"اإلنسانٌّة "‪ ،‬فهناك دابمـًا مكان بٌن الحلم والواقع المشوّ ه ال نعبره إال بالتم ّنً واالستحضار‬
‫والتذكر والتوق إلى مستقبل أفضل‪ .‬و" اإلنسان وترٌ مشدود على الهاوٌة الفاصلة بٌن ال نهاٌتٌن‪:‬‬
‫الوجود المطلق والعدم المطلق ‪ ،‬ولذا كان وجوده من كبل النقٌضٌن على تفاوت فً نصٌب كلٌهما‬
‫ّ‬
‫انشق على نفسه وتنازعته قوى الشر فإنه ال محالة ٌرت ّد إلى الخٌر ؛‬ ‫منه " (‪ ،)1‬وأنّ اإلنسان مهما‬
‫العتباره أن الخٌر هو األصٌل فً النزعة اإلنسانٌّة‪ .‬ولذا ؾ إنّ هناك تبلزمًا بٌن ال عدل والظلم ‪،‬‬
‫الحرٌّة واالستبداد‪ ،‬السعادة والتعاسة‪ ،‬الحاضر والماضً‪ ،‬الموت والحٌاة‪ ،‬البطش والرفق ‪.‬‬

‫واأللم الذي ٌدبّ الٌوم فً اإلنسانٌّة ٌتهد ّدنا من ثبلث جهات (‪ ":)2‬فً جسمنا بالذات المكتوب‬
‫علٌه االنحطاط واالنحبلل‪ ،‬والعاجز عن االستؽناء ع ن النذر المتمثلة فً األلم والقلق‪ ،‬ث ّم من جهة‬
‫العالم الخارجً الذي تتو ّفر له قوى عتٌّة ال ُتقهر وال تعرؾ الرحمة فً ضراوته علٌنا‪ ،‬وسعٌه‬
‫إلى إبادتنا‪ ،‬وٌتؤتى التهدٌد الثالث أخٌرً ا من عبلقتنا بسابر الكابنات اإلنسانٌّة" ‪ .‬و تع ّد هذه القوى‬
‫ٌعطل سعً اإلنسان و طماحاته فً السعادة ‪ .‬وٌحاول فروٌد أن ٌخلص‬ ‫العاتٌة التً ال تقهر هً ما ّ‬
‫إلى نتٌجة مفادها أننا نركن إلى التضاد والتنافر فً حٌاتنا‪ ،‬ولٌس لكابن أن ٌحظى بسعادة مطلقة ‪،‬‬
‫وٌبدو أنّ هذا التذبب واأللم هما ما ٌصنعان حالة القلق لدى اإلنسان فٌدعوانه إلى التعبٌر‪.‬‬

‫والنزعة اإلنسانٌة فً األدب‪ -‬كما ٌعرّ فها الدكتور سمرٌن‪" -‬هً اتجاه فكريّ ي جعل األدٌب‬
‫ً‬
‫حامبل أعباءها‪ ،‬معبّرً ا عنها ؾي أدبه ‪ٌ ..،‬دفع الكاتب إلى اإلحساس بالتبعة‬ ‫مع ّنى بهموم البشرٌّة‪،‬‬
‫فردا من أفراد هذا الجنس البشريّ " (‪. )3‬‬
‫الملقاة على عاتقه لكونه ً‬

‫حتٌّة العبلقة بٌن الشاعر ومجتمعه‪ ،‬ما ٌجعله ٌتسامى بفردٌته‬


‫وٌرى الدكتور إحسان عبّاس م‬
‫لٌندؼم بالجماعة وٌصدر عنها وعن عمق الوجود اإلنسانً ؛ فوظٌفة الشعر – كما ٌراها الشاعر‬
‫ماٌاكوفسكً وٌإمّن علٌها الدكتور عبّاس‪"-‬وظٌفة واحدة هً الدفاع عن إنسانٌة اإلنسان فً هذا‬
‫العالم"(‪.)4‬‬

‫( ‪ )1‬بدوي ‪ ،‬عبد الرحمن (‪ ،)1982‬النزعة اإلنسانٌة فً الفكر العربً ‪ ،‬دار القلم ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )2‬سٌؽموند فروٌد (‪ ،)1996‬قلق فً الحضارة ‪ ،‬ترجمة جورج طرابٌشً ‪ ،‬دار الطلٌعة ‪ ،‬ط‪ ، 4‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.24-23‬‬
‫(‪ )3‬سمرٌن ‪ ،‬رجا (‪ )2003‬االتجاه اإلنسانً فً الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬دار الٌراع ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫(‪ )4‬عباس ‪ ،‬إحسان (‪ )1977‬اتجاهات الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ص ‪ .202‬وماٌاكوفسكً هو شاعر‬
‫وكاتب ومناضل روسً ‪ ،‬لقّب بشاعر الثورة ‪ ،‬وٌقصد بها الثورة البلشفٌّة التً نشِ ط من خبللها لترسٌخ مبادئ االشتراكٌّة ‪،‬‬
‫أنهى حٌاته بٌده فً ‪ 14‬نٌسان ‪.1930‬‬
‫‪71‬‬

‫فالشاعر القدٌر هو الذي ٌعً حقٌقة دوره ‪ ،‬وٌجترح من الواقع ما ٌحقق رإٌته ( ‪ ،)1‬وهو‬
‫الذي ٌستدعً القارئ لحظة انبثاق القصٌدة الشعرٌّة؛ فهو إنما ٌكتب لتحقٌق التواصل " وإذا اختفى‬
‫القارئ من حٌاة الكاتب فقد اختفى أهم عامل محرض على الكتابة"(‪. )2‬‬

‫وفً حٌن تبدو مشكلة الشاعر والجمهور مشكلة قدٌمة ال تبدأ من صٌحة أبً تمام وال من بٌت‬
‫لٌس لً جمهور وال أرٌد‬ ‫المتنبً‪ ،‬فإنها إنما تبدأ من تلك النبرة الٌابسة التً أطلقها أدونٌس "‬
‫جمهورا"‪ ،‬وٌرى العبلق فٌما ٌرى ‪-‬بعد أن ٌسوق الحدٌث السابق‪ -‬أنّ صرخة هذا الشاعر الحدٌث‬

‫تفضً بنا إلى تساإالت‪ ،‬أو ربما تكون فً جُ لّها حقابق تكشؾ لنا أبعاد مشكلة التلقً‪ٌ ،‬قول العبلق‬
‫(‪ ":)3‬هذه النبرة الٌابسة‪ ،‬أهً إعبلن لقطٌعة مطلقة بٌن الشاعر وجمهوره ؟ أهً تجسٌد للمشكلة‬
‫بٌن القصٌدة ومتلقٌها ؟‪ ،‬أهً تتوٌج لمعضلة الشعر العربًّ فً هذه الفترة ؟"‪.‬‬

‫ومن هنا فإن االصطراع بٌن القٌمة والتشكٌل الفنً قد أخذت بعض الشعراء ً‬
‫بعٌدا عن‬
‫االلتحام بحٌاة الناس والتعبٌر عنهم‪ ،‬على اعتبار أنّ ما ٌجعل األدب مفترقا عن ؼٌره من الحقول‬
‫هو اإلعبلء من القٌمة الفنٌة على حساب االتصال بالواقع‪ ،‬لكنّ خلود األدب إنما ٌتحقق بقدر ما‬
‫ٌكون مخلصً ا لحٌاة الناس وملتحمًا بوجدانهم (‪.)4‬‬

‫ووفًً ألحزان اإلنسان عامة والعربًّ خاصة أٌنما ح ّل ‪ ،‬حتى‬


‫ا‬ ‫ًا‬
‫صدٌق مخلصًا‬ ‫لقد بدا جوٌدة‬
‫تمكن – وباقتدار – من االقتراب من روحه‪ ،‬ومبلمسة العالم من حوله ‪.‬‬

‫‪ ،‬بأحبلم‬ ‫كما استطاع الشاعر القبض على كل اللحظات الحزٌنة التً ٌرتعش لها الوجدان‬
‫حابرة وحاضرة فً آن معً ا‪ ،‬لكنها توّ اقة على الدوام إلى انبعاثا ٍ‬
‫ت جدٌدة ‪.‬‬

‫وٌرى جوٌدة فً قصابده السٌاسٌة تعبٌرً ا عن موقؾ إنسانًّ ضد قوىً طاؼٌة ‪ ،‬وهو إنما‬
‫ٌصدر عن كل ما هو إنسانً إزاء ما ٌدور من حوله من الجوع والتهجٌر والظلم وق مع األنظمة‬

‫(‪ )1‬علً جعفر العبلق وآخرون (‪ )1992‬إشكالٌة الشاعر العربً الحدٌث والتواصل مع الجمهور ‪ ،‬كاسٌت صوتً ‪ ،‬ندوة‬
‫النقد األدبً مهرجان جرش‪.‬‬
‫( ‪ )2‬المقالح ‪ ،‬عبد العزٌز ‪ ،‬الكتابة البٌضاء ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫( ‪ )3‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر وآخرون ‪ ،‬إشكالٌة الشاعر العربً الحدٌث والتواصل مع الجمهور‪(.‬كاسٌت صوتً)‬
‫(‪ )4‬وادي ‪ ،‬طه ‪ ،‬جمالٌات القصٌدة المعاصرة ‪ ،‬ص ‪. 16‬‬
‫‪72‬‬

‫الفاسدة(‪ ،)1‬ولذلك ٌمكن القول إن اإلنسانًّ مندؼم بالسٌاسً على امتداد تجربة الشاعر‪ ،‬التً عنٌت‬
‫بالمشهد العربًّ فً اآلونة األخٌرة ‪.‬‬

‫قع‬ ‫وقد ق ّدر لهذه التجربة أن ت نعطؾ عن مسارها الذي كانت علٌه وتتحول استجابة للوا‬
‫ً‬
‫تحوال فً مسار رإٌتها من الشعر ذي األبعاد‬ ‫السٌاسًّ الراهن للوطن العربً‪ ،‬فقد شهدت تجربته‬
‫الذاتٌة إلى االندؼام بالجماعة والتعبٌر عنها؛ إذ تج ّلت فً شعر جوٌدة همو م قومٌة بعد أن ترك‬
‫بصمته فً عالم الشعر الرومانسًّ ‪ ،‬وقد سجّ لت عبر هذه االنعطافة نقطة تحوّ ل كبٌرة جعلت من‬
‫وعمق جدٌدٌْن ال تصدر إال عن اله ّم اإلن سانًّ والسٌاسًّ‬
‫ٍ‬ ‫شعره بعد سقوط بؽداد تجربة ذات بُعد‬
‫ّ‬
‫تختط لها نس ًقا مؽاٌرً ا‪.‬‬ ‫دون أن‬

‫إنّ ثقافة االلتزام هً التً تدعو شاعرً ا من مثل فاروق جوٌدة ٌتبنى الموقؾ اإلنسانً‬
‫بمحموالته االجتماعًّة والسٌاسٌّة واالقتصادٌة ألنْ ٌقول ‪ " :‬عندما كنت أؼنً للحب قبل ثبلثٌن‬
‫عاما ً كان العمر‪ ،‬والتجربة‪ ،‬والحلم‪ ،‬والشباب ٌسمح بذلك‪ ..‬ولكن ال أستطٌع الٌوم أن أكتب أبٌاتا ً‬
‫مثل (فً عٌنٌك عنوانً)‪ ،‬فً الوقت الذي ٌمكننً كتابة (هذي ببلد لم تعد كببلدي)‪ ،‬وٌبقى الفرق‬
‫فً الرإٌة وعمق التجربة‪ ،‬لذلك اختلفت عن الماضً ‪ ،‬فاختلفت القصٌدة عندي‪ ،‬لم أعد ذلك الشاب‬
‫الصؽًر الذي ٌتؽزل فً عٌون حبٌبته‪ ،‬وٌرى فٌها الوطن والقضٌة‪ ،‬ألن القضٌة سقطت‪،‬‬
‫واألوطان سُلبت‪ ،‬والحرٌات ضاعت‪ ،‬فكٌؾ أقول لها فً عٌنٌك عنوانً؟؟ إذا كان العنوان قد‬
‫ضاع‪ ،‬وضاع عنوان األمة‪ ..‬ال توجد عاصمة عربٌة لها عنوان اآلن"(‪.)2‬‬

‫ومن هنا نذر الشاعر نفسه لئلنسانٌّة‪ ،‬وكان لزا ًم ا علٌه على أعتاب مرحلة جدٌدة أن ٌت جه‬
‫إلى هذا المٌدان الخصب؛ لٌرى عبر مرآته الدامٌة أحبلمه وأحبلم العرب بالحرٌة والخبلص ‪،‬‬
‫وكً ٌبدأ مشروعً ا ال ٌمكن القول عنه إنه جدٌد لكنه أصبح المتسٌد فً هذه التجربة الفرٌدة ‪.‬‬

‫أنا مهموم بقضاٌا‬ ‫وٌردؾ فاروق جوٌدة فً حدٌثه عن تحوّ ل تجربته الشعرٌّة بالقول ‪" :‬‬
‫الحرٌات والتقدم‪ً ،‬‬
‫بعٌدا عن خلفًات كارل ماركس أو الفكر الماركسً‪ ،‬أنا أطالب بعدالة اجتماعٌّة‬
‫حقٌقٌّة توفر لئلنسان حٌاة كرٌمة‪ ،‬وبحرٌات تعطً اإلنسان الحق فً أن ٌعبّر عن نفسه وذاته دون‬
‫وصاٌة من أحد‪ ،‬حتى نلحق بالعصر‪ ،‬ألننا ال نستطٌع العٌش خارجه‪.‬هذه الثبلثٌة تمثل موقفً من‬
‫الحٌاة‪ ،‬ومن المجتمعات العربٌة " (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬تظهر هذه الرإٌة بجبلء فً األفكار التً ٌقدّمها الشاعر فً برنامجه األسبوعًّ المتلفز " مع فاروق جوٌدة " ؛ فالمحتوى‬
‫اإلنسانً ٌطؽى على آرابه وقصابده فً أبعادها السٌاسٌة واالجتماعٌة والقومٌة العربٌة ‪.‬‬
‫(‪ )2‬لصحٌفة األخبار السودانٌّة ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر العشق والسٌاسة ‪ 25 ،‬أٌلول ‪.2008‬‬
‫(‪ )3‬لصحٌفة األخبار السودانٌّة ‪ ،‬فاروق جوٌدة شاعر العشق والسٌاسة ‪ 25 ،‬أٌلول ‪2008‬‬
‫‪73‬‬

‫وتتضح مبلمح هذا االلتزام لدى الشاعر لكونه التزامًا أخبلقًٌا فردًٌا ‪ ،‬ال تدفع إلٌه أٌة أفكار‬
‫فبوٌّة أو حزبٌّة؛ ـؾ" ارتباط الكاتب بفكرة ٌبثها فً أدبه شًء أقدم من ماركس كثٌرً ا‪ ،‬بل إنه قدٌم‬
‫قدم األدب"(‪ ،)1‬ونابع من رؼبة األدٌب فً البقاء إلى جانب الناس والتعبٌر عنهم‪ ،‬وقد دفع جوٌدة‬
‫ً‬
‫باهظا فً تخلٌه عن كثٌر من المناصب السٌاسٌّة والمكاسب‬ ‫لقاء ذلك ما ٌمكن أن ٌ ُع ّده البعض ثم ًنا‬
‫المادٌّة ‪.‬‬

‫ًإذا ‪ ،‬فقد بدأ الشاعر باإلصؽاء واالستجابة لواقعه ‪ ،‬بعد أنْ ؼادر أرض الحلم ‪ ،‬فالقصٌدة " ما‬
‫عادت رقصة حول نٌران الحلم اآلسر ‪ ،‬بل نواحً ا ٌتصاعد عند جثته المضٌبة " ( ‪ . )2‬إنّ الوعً‬
‫العمٌق بالواقع هو ما ٌحمّل الشاعر التزامات جسٌمة تترتب على قصٌدته تدفعه للقول ( ‪ ":)3‬إننً‬
‫لست كؽٌري من الشعراء الذٌن ٌعٌشون فً برج عاجًّ ‪ ،‬وإنما أ عٌش أحداث عصري وأمتً‪،‬‬
‫وأعتقد أن الشاعر الذي ٌخرج عن سٌاق عصره وقضاٌا وطنه‪ ،‬فإنه ٌخرج عن المنظومة برمتها‪،‬‬
‫وأنا تركٌبتً خاصة جداً " ‪.‬‬

‫إنّ المكانة التً ٌتبوإها فاروق جوٌدة على الخارطة الشعرٌة الٌوم هً التً تشكلت أخٌرً ا‬
‫‪،‬‬ ‫فً قصٌدته السٌاسٌّة‪ ،‬فٌم ع ّدت قصابده السابقة مرحلة اقتضتها باكورة التجربة والعمر آنذاك‬
‫وعلى الرؼم من أن جوٌدة ؼٌر سعٌد بسقوطه ألكثر من ثبلثٌن سنة فً " مستن قع السٌاسة " –‬
‫على حد تعبٌره‪ -‬إال أنه ٌرى أن هذه القصٌدة هً التً صنعت جماهٌرٌته ‪ ،‬وأ ّنه فً النهاٌة مع‬
‫قضٌة اإلنسان كٌفما كانت وأٌنما حل ؛ فإٌبلء الشاعر ج ّل اهتمامه لقضاٌا اإلنسان هو ما دفعه ألن‬
‫ٌوجه طاقاته االبداعٌّة برمّتها لتصدر عن الوجدان الجمعًّ لؤلمة العربٌّة واإلسبلمٌّة على ح ّد‬
‫سواء ‪.‬‬

‫وإذا كانت السٌاسة (‪)Politics‬هً علم الحكومة ‪ ،‬وفن عبلقات الحكم ‪ ،‬وتطلق على مجموعة‬

‫الشإون التً تهم الدولة‪ ،‬أو الطرٌق التً ٌسلكها الحكام ( ‪ ،)4‬فما من شك حٌنها أن ٌبدو تخوّ ؾ‬
‫الشعراء واألدباء بعامة من سطوة الخطاب السٌاسً أمرً ا مبررً ا‪ ،‬إذ ٌترتب على األدٌب أن ٌمتلك‬

‫(‪ )1‬عوض ‪ ،‬لوٌس (‪ ،)1963‬االشتراكٌة واألدب ‪ ،‬دار اآلداب ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫(‪ )2‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر ‪ ،‬الشعر والتلقً ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬األردن ‪ ، 1997 ،‬ص ‪.94‬‬
‫(‪ )3‬جرٌدة الرإٌة ‪ ،‬صفاء عزب ‪ ،‬فاروق جوٌدة ‪ :‬أنا حزٌن ألن قضاٌانا العربٌة والمصٌرٌة بٌعت ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬الثبلثاء ‪7 ،‬‬
‫أبرٌل ‪.2009‬‬
‫(‪ )4‬الكٌالً ‪ ،‬عبد الوهاب ‪ ،‬الزهٌري ‪ ،‬كامل ‪ :‬الموسوعة السٌاسٌة ‪ ،‬المإسسة العربٌة للدراسات والنشر ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪ ، 1974‬ط‪ ، 1‬ص ‪197‬‬
‫‪74‬‬

‫من الموهبة ما ٌإهله للخروج من المحتوى السٌاسً بقطعة شعرٌة تتسم بالجودة الفنٌة والنزعة‬
‫األدبٌة ‪.‬‬

‫وإن كنا نحاول دومًا أن نخلّص الشعر من ؼطاء الظرفًّ والسٌاسًّ ‪ ،‬فإن السٌاسة لم تعد‬
‫موضوعً ا طار ًبا فً القصٌدة الشعرٌّة‪ ،‬إذ ٌقول العبلق ‪ِ -‬‬
‫تبعً ا لذلك‪ " :-‬إنّ ما نرفضه هو أن ٌصبح‬
‫ً‬
‫مشروخا ٌع ّكر سماءها الصافٌة العمٌقة ‪ ،‬فٌدفعها‬ ‫الموضوع السٌاسًّ عببـــا على القصٌدة ‪ ،‬حجرً ا‬
‫إلى الصراخ واالندفاع إلى الخارج واالحتكام إلى مرجعٌاته " ( ‪ .)1‬ونظرً ا لهذه الرإٌة اإلنسانٌّة‬
‫التً ٌتصل بها اإلنسانً بالوطنً والسٌاسً‪ ،‬كانت هذه الوقفة لدى تجربته ‪ً ،‬‬
‫أمبل فً أن تكشؾ‬
‫م دى تحقق رإاه القومٌّة والوطنٌّة ‪ ،‬وظهورها الواضح فً معالجته للقضاٌا المتصلة ببلده مصر‪،‬‬
‫وباألوطان العربٌّة األخرى ‪.‬‬

‫‪ .1‬فلســطٌن‬

‫تداول العرب القضٌة الفلسطٌنٌّة باكرً ا ‪ ،‬وبدأوا ٌتنادون لحماٌة مصالحهم القو مٌة والوطنٌة‬
‫الواحدة فً المنطقة ‪ ،‬وكان ذلك االهتمام ساب ًقا لقرار التقسٌم وقبل اإلعبلن عن قٌام الكٌان‬
‫اإلسرابٌلًّ (‪ ،)2‬وجاءت هزٌمة ‪ 1948‬كارثٌة على الشعوب العربٌة التً انخرطوا خبللها فً‬

‫ً‬
‫طوٌبل‪ ،‬لكن الصدمة التارٌخٌّة كانت تلك التً صنعتها نكسة حزٌران للبلدان‬ ‫البكاء والتؤلم ً‬
‫أمدا‬
‫العربٌّة المتاخمة لؤلراضً المحتلة ‪ ،‬جعلتها تتحمل تبعات الكارثة سٌاسًٌا واجتماعًٌا ونفسًٌا‪،‬‬
‫لٌطال ذلك فٌما بعد النشاط الثقافً واألدبً ألجٌال كاملة من المبدعٌن ‪ ،‬فً حٌن شكلت النكسة‬
‫موضوعة ضاؼطة وفارضة لنفسها بقوة على النتا ج األدبً فً شتى مٌادٌنه ‪ :‬الشعر ‪ ،‬والنثر‪،‬‬
‫والعمل المسرحًّ وم ا سواه‪.‬‬

‫كما لفتت نكسة حزٌران أنظار المفكرٌن إلى خطؤ اإلقلٌمٌّة‪ ،‬ودعت إلى التوقؾ عن دراسة‬
‫أي جزء من الوطن العربًّ قابمًا بذاته ‪ ،‬وبذلك أنهت النكسة مفهوم القطرٌّة ‪ ،‬ودعت إلى مرحلة‬

‫(‪ )1‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر ‪ :‬الشعر والتلقً ‪ ،‬ص ‪.151‬‬


‫(‪ )2‬زعٌتر ‪ ،‬أكرم (‪ ،)2002‬صفحات ثائرة ‪ ،‬دار البشٌر ‪ ،‬عمان ‪ ،‬ص ‪239-238‬‬
‫‪75‬‬

‫؛ ألن ذلك ٌضر العر ب أكثر مما‬ ‫جدٌدة ٌنبذ فٌها اإلنسان العربًّ دعوات الفرقة واالنقسام‬
‫ٌنفعهم(‪.)1‬‬

‫وفٌما ألقت النكسة بظبلله ا على واقع األمة‪ ،‬ورفدت الوعً السٌاسًّ واالجتماعًّ لدٌها ‪ ،‬كان‬
‫من البدهًّ أن ٌنتج عن ذلك كله إحساس قومًّ عام نابع عن إٌمان حاد بضرورة النضال ‪ .‬وقد‬
‫مثلت وقابع هذه المؤساة أمام جوٌدة ما دفعه لكً ي ندد بالوحشٌة التً طالت كل شًء فً حٌاة‬
‫الفلسطٌنًّ فٌما بعد على إثر هجرته الثانٌة ولجوبه إلى دول الجوار ‪ٌ .‬قول خٌري منصور فً هذا‬
‫الصدد ‪ ":‬إنّ البلجىء الذي كان ٌتهٌؤ للعودة من نابلس إلى ٌافا وجد نفسه فً عمان أو دمشق أو‬
‫بؽداد‪ ،‬وقد تحول إلى ما ٌشبه طابر ن ّقار الخشب‪ ،‬ولهذا الطابر لمن ال ٌعرفه منقار حاد وطوٌل‬
‫ٌوشك أن ٌكون أطول من جسده‪ ،‬وهو ٌمكث شهورً ا فً نقر جذع شجرة كً ٌبنً عشً ا لفراخه‪،‬‬
‫ٌحتل ! "(‪.)2‬‬
‫ه‬ ‫وما إن ٌفرغ من البناء حتى ٌفاجؤ بطابر جارح ٌنقضّ على العش وٌلتهم ما فٌه ثم‬

‫وٌبدأ الشاعر قصٌدته " ملعون ٌا سٌؾ أخً " بعتبة نصٌّة متمثلة باآلتً ‪ ":‬طلب الفلسطٌنٌون‬
‫جثث الموتى حتى ال ٌموتوا‬ ‫المحاصرون فً لبنان فتوى من علماء المسلمٌن تبٌح لهم أكل‬
‫جوعً ا"!!(‪ ،)3‬وهو بذلك ٌقوم بمهمة إطبلع المتلقً على اإلطار الذي كتبت ألجله هذه القصٌدة ‪.‬‬

‫وٌتبدى انفعال جوٌدة الشدٌد مما حدث( ‪ ،)4‬ما ٌدعوه إلى هذا التف ّج ر الشعوري ‪ ،‬والتعبٌر عن‬
‫حنقه البالػ ورهافة حسّه أمام هذه المآسً شدٌدة الوقع على روحه و إنسانٌته‪ ،‬والٌرى أن األ مة‬
‫ؼٌر برٌبة فحسب مما ٌحٌق بإخوانها الفلسطٌنٌٌن‪ ،‬بل إنها مدانة ومجرمة ‪ ،‬والتارٌخ شاهد على‬
‫ذلك‪ٌ ،‬قول (‪:)5‬‬

‫(‪ )1‬الوردي ‪ ،‬علً (‪ ،)1979‬لمحات اجتماع ٌّة من تارٌخ العراق الحدٌث ‪ ،‬مطبعة المعارؾ ‪ ،‬بؽداد ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪-317‬‬
‫‪ ، 318‬وانظر أٌضًا ‪ :‬السٌد جاسم‪ ،‬عزٌز (‪ ،)1973‬مسائل مرحلٌة فً النضال العربً ‪ ،‬دار الطلٌعة ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت ‪ ،‬ص‬
‫‪.394‬‬
‫(‪)2‬القدس العربً ‪ ،‬خٌري منصور ‪ ،‬مقال بعنوان " مسارح بدٌلة " ‪ ،‬العدد ‪ 17-16 ،6794‬نٌسان ‪ ، 2011‬ص‬
‫‪.10‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر ‪ ،‬قصٌدة " ملعون ٌا سٌؾ أخً " ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.263‬‬
‫(‪ )4‬فً اإلشارة إلى عدوان حركة أمل الشٌعٌة ومن والها على المخٌمات الفلسطٌنٌة فً لبنان فً أٌار ‪ 1985‬؛ لتصفٌة‬
‫الوجود الفلسطٌنً على أراضٌها وتقوٌض نفوذه ‪.‬‬

‫(‪)5‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر‪ ،‬ملعون ٌا سٌؾ أخً‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.263‬‬
‫‪76‬‬

‫لم آكل شٌئــًا‬

‫منذ بداٌة هذا العا ْم‬

‫والجوع القاتل ٌؤكلنً‬


‫ُ‬

‫ٌتسلّل ُ ُ‬
‫س ّما ‪ ..‬فً األحشاء‬

‫‪...‬‬

‫َمنْ مِنكم ٌمنحنً فتوى باسم اإلسالم؟‬

‫أن آكل َ ابنً‬

‫ويمضً الشاعر لٌقؾ على التؾاصٌل الكارثٌة لهذه الحادثة ‪ ،‬كؤ ّنه ٌنقل شهادة حقٌقٌّة ألحد‬
‫ً‬
‫مرتعدا من الخوؾ‪ ،‬فهل من فتوى تبٌح له أن‬ ‫س ّكان المخٌم‪ ،‬وقد مات ابنه بٌن ٌدٌه جابعً ا‪ ،‬عط ًشا‪،‬‬
‫ٌؤكل رفات ابنه الوحٌد؟!! ‪.‬‬

‫إنّ هذه البشاعة الشدٌدة فً المطلب وسرٌالٌته – إن تحقق ‪-‬ال تعادل قسوة ما ألحقه العرب يّ‬
‫بؤخٌه‪ ،‬ما دفعه للشعور بؤنه فاقد لقٌمته‪ .‬وفٌما ٌستمرّ الشاعر فً الحدٌث عن معاناة الفلسطٌنًّ‬
‫الذي ال ٌم لك وط ًنا‪ ،‬كما تلؾظه كل األبواب‪ ،‬فإنه ٌشٌر إلى موقؾ األدٌان بالجملة من هذه اإلبادة‬
‫الجماعٌّة‪ ،‬وٌلحق العار بمنفذي هذه المجازر البربرٌّة الوحشٌة (‪: )1‬‬

‫ِ‪ ..‬وباسم الدٌن ِ‬ ‫فؤخً فً‬

‫وباس ِم محمدْ‬
‫ْ‬

‫ٌقتلنً فً غرفة نومً‬

‫ابنً قد مات بسٌف أخً‬

‫سٌف أخً فً كل كتاب‬


‫َ‬ ‫ملعون ٌا‬

‫فً التورا ِة‬

‫وفً اإلنجٌل وفً القرآنْ‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر‪ ،‬ملعون ٌا سٌؾ أخً‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.276‬‬
‫‪77‬‬

‫ملعونٌ ٌا سٌف أخً‬

‫فً كل ّ زمانْ‬

‫‪...‬‬

‫رح ٌم موبو ٌء ج ّم َعنا‬

‫خان ْتنا كل ّ األرحا ْم‬

‫ما َ‬
‫أنت أخً‬

‫سفاحا ٌا ملعونُ ‪ ..‬وابنَ حرا ْم‬


‫ً‬ ‫َ‬
‫جئت‬ ‫قدْ‬

‫ملعونٌ ٌا وج َه أخً (‪)1‬‬

‫وٌقؾ الشاعر أمام تراجع اإلنسانٌّة فً الذٌن ٌبٌحون ألنفسهم قتل اآلخر باسم هللا وباسم‬
‫المذهب‪ ،‬وباسم الحزب بهذه السادٌّة فً التعذٌب ‪ ،‬لكنّ الفلسطٌنًّ ٌجد مخرجه فً ك ّل أرض حٌن‬
‫ٌطلب الشهادة‪ ،‬وإن كانت بسٌؾ أخٌه‪.‬‬

‫وثابقًً إلى حد ما فً قصابده السٌاسٌّة‪ ،‬ما دفع إلى النظر فً السٌاق التارٌخً‬
‫ا‬ ‫لقد كان الشاعر‬
‫لؤلحداث‪ ،‬وكٌؾ تمثلها فً شعره وأرّ خ لها فنًٌا‪ ،‬وفق حصولها عربًٌا وعالمًٌا ‪ ،‬وٌإكد هذا المسلك‬
‫لدى الشاعر محاولته الدا ببة لبلضطبلع بالدور المؤمول منه ‪ ،‬وقلقه من التقصٌر أو التفرٌط فً‬
‫جانب القضٌة الفلسطٌنٌّة‪ٌ ،‬قول ‪ ":‬ال نستطٌع كشعب أ ن نبعد أنفسنا عن القضٌة الفلسطٌنٌّة ‪ ،‬وقد‬
‫‪ .)2‬وٌفزع الشاعر ل حالة االنقسام فً الصؾ‬ ‫حاربنا عنها وق ّدمنا مبات اآلالؾ من الشهداء"(‬
‫الفلسطٌنً‪ ،‬وٌرى أن أعظم منجزات الثورة المصرٌّة هً المتمثلة فً التقارب والمصالحة التً‬
‫تمت للفلسطٌنٌٌن على أراضٌها (‪.)3‬‬

‫ونظرً ا لهًمنة القضٌة على إحساس الشاعر ككل ‪ ،‬وانطباع القصٌدة لدٌه بموقفه الشخصًّ‬
‫تجاه األحداث‪ ،‬فقد اتخذت القضٌة م كانها على امتداد تجربته الشعرٌة لتحتل قدرً ا كبٌرً ا من قصابده‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪،‬دٌوان لن أبٌع العمر‪ ،‬ملعون ٌا سٌؾ أخً‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪277‬‬
‫(‪ )2‬برنامج "مع فاروق جوٌدة " ‪ 6 ،‬أٌار ‪.2011‬‬
‫(‪ )3‬وقّعت حركتا فتح وحماس فً القاهرة اتفاقا لتحقٌق المصالحة الفلسطٌنٌة تحت رعاٌة مصرٌة فً ‪ 4‬أٌار ‪.2011‬‬
‫‪78‬‬

‫التً بلؽت العشرات (‪ ،)1‬وكثٌرً ا ما ظلت القضٌة الفلسطٌنٌة لدٌه مختزلة فً تلك البقعة الجؽرافٌة‬
‫المحصورة " القدس"؛ نظرً ا لقٌمتها الدٌنٌّة والتارٌخٌّة على مرّ العصور ‪.‬‬

‫بخصوصً ٌقٌم عبرها جسرً ا بٌنه‬


‫ة‬ ‫ٌنهض‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫محاوال أن‬ ‫وقد وقؾ الشاعر أمام المدٌنة المقدسة‬
‫وبٌنها؛ لٌجعل م ن القدس الزمة تتكرر فً كل قصٌدة ‪ ،‬وربما لم تعنه هذه البلزمة على اإلبداع ؛‬
‫ألنها قامت على " محاصرته داخل هذا الواقع المفروض علٌه ‪ ،‬وتقزٌم دوره اإلراديّ فً نسج‬
‫‪ .)2‬وعلٌه فإنه لم ٌلجؤ إلى رموز‬ ‫نصّه وؾق تصور خاص به تبرز فٌه مقدرته اإلبداعٌّة" (‬
‫وإٌماءات مبهمة‪ ،‬إنما فضّل فً حضور القدس أن " ٌقٌم بٌارقه كبٌرة‪ ،‬صرٌحة ناصعة ‪ ،‬ولم ٌكن‬
‫ٌرٌد من قرابه حٌرة إزاء أعماقه "(‪.)3‬‬

‫وال ٌمكن القول إن التشاإم وحده كان سٌد الموقؾ فً القصابد التً كتبها جوٌدة فً القدس‪،‬‬
‫ألن كثٌرا من القصابد كانت تحمل بشرى العودة والحرٌة (‪ ،)4‬حٌث ظلت فكرة الموت ‪ /‬المٌبلد‬
‫فكرة الزمة فً عدد ؼٌر قلٌل من تلك القصابد‪ ،‬مع ما لحقها من تكثٌؾ فكريّ ورمزيّ وحسًّ‬
‫ٌضع األمة أمام استحقاق جسٌم تجاه القدس‪.‬‬

‫وٌنطلق الشاعر فً إحدى قصابده من الحادثة المقدسة المتمثلة فً قصة سٌدنا نوح والطوفان‬
‫(‪ٌ ،)5‬قول فً ذلك (‪:)6‬‬

‫ح ال تعبؤ بمن خانوا‬


‫ٌا نو ُ‬

‫غادر‬
‫ْ‬ ‫فلن ٌنجو من الطوفان‬

‫بح ْلمِه ْم‬


‫القدس تحتضن الرجال الراحلٌن ُ‬

‫غائر‬
‫ْ‬ ‫ح فً األعماق‬
‫والجر ُ‬

‫القدس ما زالت تحلق فً القلو ِ‬


‫ب‬ ‫ُ‬

‫(‪)1‬صدر للشاعر مجموعة شعرٌة عن دار الشروق المصرٌة عام ‪ 2009‬بعنوان " قصابد فً رحاب القدس" ضمت‬
‫العشرات من القصابد التً احتفت بالقدس والقضٌة ‪ .‬برنامج "مع فاروق جوٌدة " ‪ 6 ،‬أٌار ‪.2011‬‬
‫(‪ )2‬كنون ‪ ،‬أحمد زكً (‪ ،)2006‬المقدس الدٌنً فً الشعر العربً المعاصر من النكبة إلى النكسة ‪ ،‬مإسسة إفرٌقٌا الشرق‬
‫‪ ،‬الدار البٌضاء ‪ ،‬المؽرب ‪ ،‬ص ‪.228‬‬
‫(‪ )3‬جبرا ‪ ،‬جبرا إبراهٌم (‪ ،)1975‬النار والجوهر ‪ ،‬دار القدس ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق (‪ ، )2009‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬لن أسلم راٌتً ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫ووحْ ٌنِا وال ُتخاطبنً فً الذٌن َظلموا إ ّنهُم ُمؽرَ قون" سورة هود آٌة‪/37 :‬‬ ‫(‪ )5‬وذلك من قوله تعالى " واص َنع الفُل َ‬
‫ك بؤعٌُن َنا َ‬
‫وقوله تعالى‬
‫للقوم الظالمٌن"‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫د‬‫ً‬ ‫ُع‬
‫ب‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫وقٌ‬ ‫الجوديّ‬ ‫على‬ ‫ت‬ ‫واستو‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫األم‬ ‫ضًَ‬‫ُ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ء‬ ‫الما‬ ‫وؼٌضَ‬ ‫اقلعً‬ ‫ُ‬
‫ء‬ ‫سما‬ ‫وٌا‬ ‫ء‬
‫َكِ‬ ‫ما‬ ‫عً‬‫َ‬ ‫ل‬‫اب‬ ‫أرضُ‬ ‫" وقٌ َل ٌا‬
‫سورة هود ‪ :‬آٌة‪.43‬‬
‫(‪ )6‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬لن تموتوا مرتٌن ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪79‬‬

‫األفق أحزانــًـا ُت ْ‬
‫كابر‬ ‫ِ‬ ‫وإن بدت فً‬

‫ً‬
‫جدٌدا فً شعره؛ ألنها‬ ‫ولم تمتزج هذه الحادثة فً ذات الشاعر إلى الح ّد الذي ٌجعل لها طابعً ا‬
‫ظلت فً إطار االستحضار المؤلوؾ ‪ ،‬ولكنه ٌحاول القول إنّ القدس ستنتفض على هذا الو اقع بقوة‬
‫طوفان هالك‪ٌ ،‬قضً على" الذٌن ظلموا"‪ ،‬وأداروا ظهورهم لمعاناتها ‪ ،‬وهو انتصار للحق الذي‬
‫أراده هللا لسٌدنا نوح علٌه السبلم‪ ،‬وسٌكتبه للقدس وللرجال الراحلٌن بحلمهم فً " الفُلك" ؛ وهً‬
‫القدس التً نختزل فٌها أحبلمنا وآمالنا فً الخبلص ‪ ،‬وٌبقى هذا االستحضار فً إطار التوقعات ‪،‬‬
‫ٌنطلق من الدافع الدٌنًّ تجاه المدٌنة‪ .‬وٌولي الشاعر النص القرآنً قٌمة كبرى‪ ،‬وٌتحرّ ك من خبلله‬
‫لبلهتداء بداللته الدٌنٌّة والثرٌّة فً التؤكٌد على م شروعٌّة المقاومة ومكانة الشهداء ‪ ،‬وٌكشؾ عن‬
‫ذلك فً قصٌدته " متى ٌفٌق النابمون " (‪:)1‬‬

‫المنابر ٌخطبونْ‬
‫ِ‬ ‫شهداإنا فوق‬

‫قاموا إلى لبنان صلوا فً كنائسها‬

‫وزاروا المسجد األقصى‬

‫وطافوا فً رحاب القدس‬

‫واقتحموا السجونْ‬

‫شبر‬
‫فً كل ٍ‬
‫الوطن المك ّبل ٌنبتون‬
‫ِ‬ ‫من ثرى‬

‫و ِ إ ّنا قادمونْ‬

‫سبٌل‬
‫ِ‬ ‫{ وال تحسبنّ الذٌنَ قُتِلوا فً‬

‫أمواتــــًا ‪ ..‬بل أحٌا ٌء عند ر ّبهم ٌُرزقون}‬

‫ً‬
‫وفارؼا لتطواؾ هإالء الشهداء األموات‬ ‫والحقٌقة أن القدس هنا ال تعدو كونها مكا ًنا مجوّ فــًا‬
‫األحٌاء‪ ،‬وقد نهضوا من عوالم الموت إلى العالم السفلًّ ؛ فالموتى ٌستمرون فً مزاولة الحٌاة بٌن‬
‫ً‬
‫جسدا هم من استكانوا وناموا ‪ ،‬وأنّ األحٌاء الفعلٌٌن هم الشهداء‬ ‫األحٌاء‪ ،‬لئلشارة إلى أنّ األحٌاء‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬متى ٌفٌق النابمون ‪. 93-90 ،‬‬
‫‪80‬‬

‫‪ ،‬ال ٌتحقق إال‬ ‫ّ‬


‫وٌحثوهم على موت البق‬ ‫الخالدون الذٌن مضوا‪ ،‬وعادوا كً ٌوقظوا النابمٌن‪،‬‬
‫بالنضال والشهادة‪.‬‬

‫ولكن ذلك ال ٌعنً أن الشاعر ال ٌتحسّس العار ‪ ،‬إنما ٌستحضر نماذج األبطال ؛ لٌضع القارئ‬
‫أمام مؤساة افتقارنا إلى أمثال هإالء ‪ .‬وأمام حٌرته فً المآل الذي ستنتهً إلٌه القدس ‪ٌ ،‬ستدعً‬
‫الشاعر بجبلل شخصٌة صبلح الدٌن لٌعتذر إلٌه ولمنجزاته‪ ،‬ففً رسالة إلى صبلح الدٌن ٌقول‬
‫أسٌان حزٌ ًنـا (‪: )1‬‬
‫َ‬ ‫الشاعر‬

‫ٌا س ٌّدي فألع َت ِر ْ‬


‫ف‬

‫الجامح‬
‫َ‬ ‫أنّ الجواد‬

‫المجنونَ قد خسِ ر الرهانْ‬

‫الزمان الوغ ِد‬


‫ِ‬ ‫وبؤنّ أوحال‬

‫َ‬
‫فوق رإوسنا ‪...‬‬

‫ثٌاب ال ُملكِ والتٌجان‬


‫َ‬ ‫صارت‬

‫القدس تسؤل ُ ‪:‬‬


‫سمسارا‪ ..‬وباع األ ّم‬
‫ً‬ ‫صار االبن‬
‫َ‬ ‫كٌف‬

‫بؤرخص األثمانْ ؟!‬


‫ِ‬ ‫الهوان‬
‫ِ‬ ‫سوق‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫والكنائس لم َ‬
‫ٌزلْ‬ ‫ِ‬ ‫ِن ‪..‬‬ ‫ُ‬
‫صوت المآذ ِ‬
‫ٌرفع راٌة العصٌانْ‬
‫ُ‬ ‫فً القدس‬

‫أكبر منك ٌا زمنَ الهوانْ‬


‫ُ‬

‫وفً قصٌدة بعنوان " مرثٌة حلم"(‪ٌ ، )2‬قول الشاعر‪:‬‬

‫تعجب ففً زمنً‬


‫ْ‬ ‫ٌا خالِدَ السٌفِ ال‬

‫باعوا المآذِنَ والقرآنَ راضٌنا‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " رسالة إلى صبلح الدٌن " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪ 204‬و ‪.208‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬من دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " مرثٌة حلم " ‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.368‬‬
‫‪81‬‬

‫قٌم مِنْ ُت ِ‬
‫راب َك ٌا ابنَ العاص ‪ ..‬فً دمِنا‬

‫لهٌب العار ٌكوٌنا‬


‫ُ‬ ‫ثؤر طوٌل ٌ ‪..‬‬
‫ٌ‬
‫ق ْم ٌا بالل ُ ‪ّ ..‬‬
‫وأذنْ ‪ ..‬صم ُتنا عدَ ٌم‬

‫كل ّ الذي كانَ ُط ً‬


‫هرا لم ٌ ُعدْ فٌنا‬

‫الحق ٌجمعنا‬
‫ِ‬ ‫هل من صالح ٍ بسٌفِ‬

‫القدس ٌومـًا فٌحٌٌها ‪ ..‬و ٌُحٌٌنا‬


‫ِ‬ ‫فً‬

‫فالقدس فً المقطوعة األولى أ ّم عقــّـها ابنها السمسار ‪ ،‬وتخلّى عنها بؤبخس األثمان ‪ ،‬وٌبدو‬
‫ً‬
‫تنازال عن ّ‬
‫حق العربًّ فٌها ‪ ،‬وذلك ما تجسده الصورة التً رسم ها الشاعر‪ .‬فٌما‬ ‫التخلًّ عن القدس‬
‫ٌعترؾ أنّ الخٌول الجامحة‪ /‬الشعوب التً ترمز إلى الثورة والتؤهب للتحرٌر قد خسرت الرهان‬
‫واستكانت‪ ،‬وفً ظ ّل هذه الصورة القاسٌة ٌبقى التمسك با ألدٌان السماوٌة؛ اإلسبلم والمسٌحٌّة هو‬
‫مفتاح الخبلص‪ ،‬وال تكتفً القدس هن ا بالحضور باعتبارها وعا ًء للحدث ‪ ،‬إ ّنها ضحٌّة تواجه‬
‫جبلدها بالسإال ‪ ،‬وقد تجرّ د من مشاعر البن وّ ة تجاه أمّه فسامح بها أعدا َءه ‪ ،‬وهذا ما تمتهنه‬
‫السٌاسات العربٌّة الٌوم‪ ،‬وتظل القدس تبحث عن مجٌب‪.‬‬

‫وتتصل الرموز فً المقطع الثانً بإشعاع تارٌخًّ عرٌق لكنه مقطوع عن أبعاده الزمنٌّة‪ ،‬إال‬
‫و مجٌبه فً إطار إٌراد األسماء وسردها دون اإلشارة إلى‬ ‫أنّ ما ٌضعؾ هذا االستحضار ه‬
‫الصور المشرقة التً خلّدتها هذه الرموز النضالٌة‪ ،‬وإن بدا هذا الحشد لؤلسماء ً‬
‫شكبل من أشكال‬
‫التفجّ ر الشعوري لدى الشاعر لما تعانٌه القدس‪ ،‬فً الوقت الذي ٌحفل فٌه تارٌخنا بالمخلّدٌن وال‬
‫أبطال جدد ‪ .‬والقدس فً هذا المقطع فقدت معالم الحٌاة ومباهجها‪ ،‬وهً بحاجة إلى من ٌؤتً‬
‫إلحٌابها‪ٌ ،‬ظل ذلك فً إطار التساإل ؛ ألن الشاعر مترقــّبُ آم ٌل لهذا ‪ ،‬لك ّنه ٌفتقد إلى العبلمات‬
‫المنببة‪ ،‬بل هو ٌتحسس العار والذل الذي ٌُلمِح باندثار الحلم‪ ،‬ولذلك ٌقول فً النهاٌة (‪:)1‬‬

‫أي الحكاٌا س ُتروى ُ‬


‫عارنا جلل ٌ‬ ‫ّ‬

‫نحنُ الهوانُ و ُذل ّ القدس ٌكفٌنا‬

‫وجرحً َ‬
‫أنت ٌا وطنً‬ ‫حزنً عنٌ ٌد ُ‬

‫شًء بعدَ ك مهما كانَ ‪ٌُ ..‬غنٌنا‬


‫َ‬ ‫ال‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬من دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " مرثٌة حلم " ص ‪.373‬‬
‫‪82‬‬

‫القدس فً عٌ َن ٌْـ َك ساجدة ً‬


‫َ‬ ‫إ ّنً أرى‬

‫َ‬
‫وأنت اآلن تبكٌنا‬ ‫تبكً علٌ َك‬

‫القدس ٌج َم ُعنا‬
‫ِ‬ ‫طٌف‬
‫ُ‬ ‫العٌن‬
‫ِ‬ ‫ما زال َ فً‬

‫مات وال األحال ُم ُتنسٌــنا‬


‫الحل ُم َ‬
‫ال ُ‬

‫وفً هذه الصورة التً تؤخذها المدٌنة المحتلة بما فٌها من دالالت اإلعتام واإلظبلم الذي‬
‫ٌسود المدٌنة ‪ -‬القدس‪ -‬فهو إنما ٌإ ّكد على أ ّنها مدٌنة حزٌنة مقهورة ومؤس ورة ‪ ،‬كما أنّها تفٌض‬
‫بالدماءْ (‪:)1‬‬

‫الضٌاء‬
‫ْ‬ ‫ما عادَ فٌكِ مدٌنتً شً ٌء ‪ ..‬لٌمنحنا‬

‫كالضالل سٌو َف ُه‬


‫ِ‬ ‫فاللٌل ُ ٌحمل ُ‬
‫دماء‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫صارت‬ ‫وبحارنا‬
‫ُ‬

‫اضة "(‪: )2‬‬


‫وٌقول الشاعر فً قصٌدة " إلى آخر شهداء االنتؾ‬

‫ُمت صامدًا‬

‫القدس تبكً‬
‫ِ‬ ‫واتر ْك عٌونَ‬
‫ُ‬

‫قبر َك َ‬
‫ألف عا ْم‬ ‫فوق ِ‬

‫األرض‪ ..‬ال ترحلْ‬


‫ِ‬ ‫ُم ْت َ‬
‫فوق هذي‬

‫كالمسٌح‬
‫ْ‬ ‫وإنْ صلبو َك فٌها‬

‫صبح ٍ‬ ‫ُ‬
‫سٌنبت ألف ُ‬ ‫فغدًا‬

‫الذبٌح‬
‫ْ‬ ‫الوطن‬
‫ِ‬ ‫فً ثرى‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة "عودة األنبٌاء" ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.329‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً لٌلة عشق ‪ ،‬قصٌدة " إلى آخر شهداء االنتفاضة ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.453‬‬
‫‪83‬‬

‫وٌبدو اختٌار الرمز وتوظٌفه هنا بسٌطـًا ومباشرً ا‪ ،‬فقد وظؾ الشاعر محنة المسٌح ومعاناته‬
‫حٌن ق ّدم نفسه فدا ًء للبشرٌّة (‪ ،)1‬بمقابل محنة المدٌنة القدس التً تبحث عمن ٌقدم الدماء واألرواح‬
‫رخٌصة ًالفتدائها‪ ،‬وتبدو القدس فً هذه الصورة مكانًا موح ًشا‪ٌ ،‬قول فً مقطع آخر من القصٌدة‬
‫ذاتها‪:‬‬

‫حتى ولو صلبو َك حٌـّـًا‪ ...‬ال ُتهـادِنْ‬

‫هلْ ٌستوي البطل ُ الشهٌ ُد‬

‫مؤجور وخائنْ ؟!‬


‫ٍ‬ ‫أما َم‬

‫ً‬
‫مستقببل ط ٌّبًا‪ ،‬فٌنفض عن نفسه‬ ‫وٌرٌد الشاعر أن نجعل من القدس دافعً ا لمقاومتنا‪ ،‬وٌستشرؾ‬
‫وٌعد بمٌبلد صبح ٍ جدٌد‪.‬‬
‫هذه النبرة الحزٌنة‪ِ ،‬‬

‫َ‬
‫تحت‬ ‫َ‬
‫الحدٌث عن بعض المدن العربٌّة التً ترسؾُ الظلم‬ ‫وٌثٌر الحدٌث عن المدٌنة المحتلّة‬
‫ً‬
‫مإكدا وحدة‬ ‫كم الطؽا ِة‪ ،‬ما ٌدعو الشاعر إلى التجوال بٌن هذه المدن راثًٌا واقع األمّة العربٌّة‪،‬‬
‫حُ ِ‬
‫المصٌر والمعاناة واالنتماء)‪ ،(2‬فالشاعر ٌلتحم مع األسى الفلسطٌنًّ ككل ‪ ،‬وال ٌنظر إلى القدس‬

‫بمعزل عن أخواتها الباقٌات من المدن الفلسطٌنٌّة‪ٌ ،‬قول )‪: (3‬‬

‫النخٌل وفً شذى الزهرا ِ‬


‫ت‬ ‫ِ‬ ‫وسط َ‬
‫ْ‬ ‫رابها‬
‫األرض بٌن ت ِ‬
‫ِ‬ ‫أنا صام ٌد فً‬

‫الح ْت وفي ٌدها الصبا ُ‬


‫ح‬ ‫َ‬ ‫وخلف غزة كلّما‬
‫َ‬ ‫لخلٌل‬
‫ِ‬ ‫عندَ ا‬

‫طفال أحلّق فً شواطئ ذاتً‬


‫ً‬ ‫القدس حٌن تعٌدنً‬
‫ِ‬ ‫أنا صام ٌد فً‬

‫ذابت مآقٌها من العبرا ِ‬


‫ت‬ ‫أنا صام ٌد فً لٌل ٌافا كلّما‬

‫(‪ٌ" )1‬عتقد النصارى أنّ عٌسى علٌه السبلم قد صُلب ثم ك ّفن ودفن ومات ثبلثة أٌام ثم ُبعِث‪ ،‬ثم صعد إلى السماء‪،‬‬
‫واعتقادهم بصلبه باطل باألدلة من كتابهم "‪ ،‬انظر‪ :‬الخولً‪ ،‬محمد علً(‪ ،)1990‬حقٌقة عٌسى علٌه السالم‪ ،‬دار‬
‫قتلنا المسٌ َح عٌسى اب َْن‬ ‫الفبلح للنشر والتوزٌع‪ ،‬عمان ‪ ،‬ص ‪ .57‬وفً القرآن الكرٌم‪ ،‬قال هللا تعالى ‪ ":‬وقول ِِه ْم إ ّنا ْ‬
‫اتباع‬
‫َ‬ ‫ك من ُه ما ل ُه ْم ب ِه منْ ٍ‬
‫علم إال‬ ‫ش ّب َه ل ُه ْم وإنّ الذٌن اختلفوا فٌ ِه لفً ش ًّ‬
‫هللا وما َق َتلوهُ وما صلبوهُ ولكن ُ‬
‫مر ٌَ َم رسو َل ِ‬
‫ً‬
‫الظنّ وما قتلوهُ ٌقٌنا ب ْل رف َع ُه هللا ُ إلٌهْ وكان هللا ُ عزٌزا حكٌما"‪ .‬النساء‪.156-155 :‬‬
‫العربً الحدٌث ‪ ،‬دار الكندي ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬األردنّ ‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫ّ‬ ‫(‪)2‬عبٌدات ‪ ،‬زهٌر (‪ ،)2006‬صورة المدٌنة فً الشعر‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬لن أسلّم راٌتً‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪84‬‬

‫وذلك أنّ مصاب القدس هو مُصاب المدن والقرى الفلسطٌنٌّة كلـّها ‪ ،‬وإنما حالها كحال الجسد‬
‫الذي دبّ فٌه الداء فتداعى له سابره‪.‬‬

‫ٌقول فً قصٌد ٍة أخرى(‪:)1‬‬

‫مِنْ ع ْ‬
‫ش ِر سنٌنْ‬

‫برصاص ِة غدْ ْر‬


‫َ‬ ‫ما ِ‬
‫ت أبً‬

‫ت أبً فً َج ْف ِن َ‬
‫الع ٌْ ِن‬ ‫ك ّف ْن ُ‬

‫ولنْ أنسى عنوانَ الق ْب ْر‬

‫األرض‬
‫ِ‬ ‫فو َق‬
‫فؤبً ٌتمدّ ُد ْ‬

‫وطول ال ّن ْ‬
‫هر‬ ‫ِ‬ ‫الوطن‬
‫ِ‬ ‫بعرض‬
‫ِ‬

‫القدس‬
‫ُ‬ ‫بٌنَ العٌ َن ٌْ ِن تنا ُم‬

‫الفجر‬
‫ْ‬ ‫وفً ف ِم ِه قرآنُ‬

‫أقدا ُم أبً َ‬
‫فوق الطاغو ِ‬
‫ت‬

‫ج ال َب ْح ْر‬
‫وصدْ ُر أبً أم وا ُ‬

‫كثٌرا فً ع ّكا‬
‫لمحو ُه ً‬

‫الصبر‬
‫ْ‬ ‫ٌبٌع‬
‫األطفال ُ‬
‫ِ‬ ‫بٌنَ‬

‫غز َة قال َ لِ َمنْ رحلوا‬


‫فً ّ‬

‫إنْ هانَ الوطنُ ٌهونُ ال ُع ْم ْر‬


‫ً‬
‫مكانة ًمهمّة تح ّتم علٌه استدعاء العواصم العربٌّة‬ ‫على أنّ للقدس كذلك – العاصمة الحلم‪-‬‬
‫واإلسبلمٌّة المشتركة معها باله ّم والقهر ‪ .‬إنّ الشاعر‪ ،‬بهذا العناء الداخلًّ الذي ٌقاسٌه ألجل‬
‫القدس‪ٌ ،‬جمع إلٌها أشكال المهانة والهزٌمة التً تستشري فً األمة العربٌّة واإلسبلمٌّة ‪ ،‬وتهدد‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬قصٌدة " إن هان الوطن ٌهون العمر "‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪85‬‬

‫دعواتها إلى الوحدة العربٌّة‪ ،‬وبذلك تك ون القدس واحدة من كثٌرات من المدن التً دفعت ثمن‬
‫العار والتخاذل العربًّ (‪: )1‬‬

‫الحق ‪ ..‬قد و َه َن ْت‬


‫ّ‬ ‫مع ال ّن ِ‬
‫اس حول َ‬ ‫ٌا جا َ‬

‫أع ٌَ ْتنا مـــآسٌنا‬


‫فٌنا المروءة ُ ْ‬

‫بٌروت فً ال ٌَ ِّم ما َت ْت‬


‫ُ‬

‫انتحرت‬
‫َ‬ ‫قُدْ ُ‬
‫سنا‬

‫ونحنُ فً العار ِ نسقً َو ْحلَنا طٌنا‬

‫بغدا ُد تبكً ‪ ..‬وطهرانٌ ٌحاصِ ُرها‬

‫بحر من الد ّم بات اآلن ٌسقٌنا‬


‫ٌ‬

‫إنّ هذا الشجن ال ٌقؾ بالشاعر عند هذا الح ّد ‪ ،‬لك ّنه ٌدفعه لٌق ّدم بكابٌّة حز ٌنة للقدس تمت ّد فً‬
‫روحه المثقلة بحجم الوطن العربًّ كلّه )‪: (2‬‬

‫وطنٌ بلَ ْو ِن ّ‬
‫الصبح ِ كانْ‬

‫المإذن‬
‫ِ‬ ‫ص ْو ِ‬
‫ت‬ ‫ٌمتدّ منْ َ‬

‫الشام للسودانْ‬
‫ِ‬ ‫فً ربوع ِ‬

‫ٌ ّن ُ‬
‫ساب َ‬
‫فوق ضِ فافِ دجلة َ‬

‫ٌنتشً فٌها‪..‬‬

‫وٌرقُ ُ‬
‫ص فً ُربا لبنانْ‬

‫الزٌتون‬
‫ِ‬ ‫خمائل‬
‫ِ‬ ‫و ٌُطِ ل ُّل َ‬
‫فوق‬

‫فً بغدادَ ‪ ..‬فً حلب‪ ..‬وفً ع ّمــان‬

‫عٌنا ُه دجلَة ُ والفُ ُ‬


‫رات‪..‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬من دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " مرثٌة حلم " ‪ ،‬مج‪ ، 2‬ص ‪.368‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬قصٌدة " رسالة إلى صبلح الدٌن "‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫‪86‬‬

‫جناحــ ُه ٌمت ُّلد فً الٌ َم ِن السعٌ ِد‬


‫ُ‬

‫العربً‬
‫ّ‬ ‫إلى ضفافِ المغر ِ‬
‫ب‬

‫مِن أقصى الخلٌج ِ إلى ذرى أسوانْ‬

‫ض‬
‫سٌناء ٌن ُب ُ‬
‫َ‬ ‫القلب فً‬
‫ُ‬

‫بالجالل‬
‫ِ‬ ‫المتو َج‬
‫ّ‬ ‫ٌح ِمل ُ النٌل َ‬
‫فتسج ُد الشطـــآن‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫كعبة الدنٌا‬ ‫وطنُ تطوف علٌ ِه م ّكة‬

‫ّ‬
‫الحق واإلٌمانْ‬ ‫ُ‬
‫وبٌت‬

‫آخر من القصٌدة ذاتها ‪ٌ ،‬قول الشاعر ‪:‬‬


‫وفً مقطع ٍ‬
‫زن ‪..‬‬
‫الح ِ‬
‫ب ُ‬‫القدس تبدو فً ثٌا ِ‬
‫ُ‬

‫ضوء ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫قندٌال بال‬

‫نبض ‪ ..‬بال ألوانْ‬


‫بال ٍ‬

‫كثٌرا‬
‫تبكً ً‬

‫الفجر‬
‫ِ‬ ‫كلّما حا َن ْت صالةُ‬

‫ْ‬
‫وانطفؤت عٌونُ الص ْب ِح‪..‬‬
‫ّ‬
‫المإذنُ باألذان‬ ‫َ‬
‫وانطلق‬

‫استطاع الشاعر أن ٌـ ُ ْـل ِبس القدس الثوب اإلنسانًّ ‪ ،‬لك ّنه لم ٌستطع أن ٌخرج من أساه‬
‫فٌخاطبها معشوقة ً أو محبوبة إال فً قصٌدة واحدة بعنوان " أل ّنك عشت فً دمنا"‪ ،‬حٌث ٌقول(‪:)1‬‬

‫نسٌناكِ !!‬

‫األول؟‬ ‫ت رغم البعد كن ِ‬


‫ت غرا َمنا ّ‬ ‫وكٌف ‪ ..‬وأن ِ‬

‫زمن نسٌنا فٌه‬


‫ٍ‬ ‫َ‬
‫العشق فً‬ ‫وكن ِ‬
‫ت‬

‫( ‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان شًء سٌبقى بٌننا ‪ ،‬قصٌدة " ألنك عشت فً دمنا" ‪ ،‬مج‪ ، 2‬ص‪.83‬‬
‫‪87‬‬

‫ب ‪ ..‬واألشواق ‪ ..‬والنجوى‬
‫طعم الح ّ‬

‫وكن ِ‬
‫ت األمنَ حٌنَ نصٌر أغرا ًبا بال مؤوى‬

‫وما سوى ذلك‪ ،‬فإنّ الصورة التً ظلّت سابدة ً لها على امتداد القصابد هً صورة الحزٌنة‬
‫المقهورة والمؽتصبة (‪: )1‬‬

‫الٌؤس ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫قبٌ ٌح ٌا زمانَ‬

‫ٌصٌر وج ُه القُدْ ِ‬
‫س‬ ‫ُ‬ ‫حٌن َ‬

‫فً َع ٌْ َن ٌْ َك أحزانا‬

‫جهرا فً مسا ِجدِنا‬


‫ً‬ ‫ٌبول ُ الفاسِ ُق العِربٌ ُد‬

‫س َفهــًا‬ ‫ٌُضا ِج ُع قُدْ َ‬


‫سنا َ‬

‫وٌقضً اللٌل َ فً المِحرا ِ‬


‫ب سكرانا‬

‫امتهان ٌمكن أن ٌطا َل مكا ًنا مقدّسً ا برموزه المتمثلة بالمساجد والمحارٌب‪ ،‬وبالقدس‬
‫ٍ‬ ‫إ ّنه أبشعُ‬
‫القبلة األولى التً توجّ ه إلٌها المسلمون فً صبلت ِِهم ٌومًا‪.‬‬

‫‪ ،‬إنها تضًء بوضوح البعد‬ ‫وال ّ‬


‫تمثل قصٌدة الشاعر البعد الدٌنً لمدٌنة القدس فحسب‬
‫إلسبلمٌّة والمسٌحٌّة بخ ّفة ‪،‬‬ ‫َ‬
‫الرموز واألحداث التارٌخٌة ا‬ ‫جمع الشاعر‬
‫ِ‬ ‫الحضاري للمدٌنة عبر‬
‫ً‬
‫هبلال‬ ‫وتوحٌد همومهم فً استعادة المدٌنة المحتلة وتحرٌرها‪ ،‬لٌشٌر إلى أ ّنهم فً اله ّم واحد –‬
‫وصلٌبً‪:)2( -‬‬
‫ا‬

‫جلباب مرٌ َم ‪..‬‬


‫ُ‬

‫الظلماء‬
‫ْ‬ ‫الخلٌل ٌُضً ُء فً‬
‫ِ‬ ‫فوق‬ ‫ل ْم َ‬
‫ٌزلْ َ‬

‫ُ‬
‫صوت عٌسى‪..‬‬ ‫فً المه ِد ٌسري‬

‫نقاء‬
‫ْ‬ ‫نهرا مِنْ‬
‫س ً‬ ‫ربوع القُدْ ِ‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫بالضٌاء‬
‫ْ‬ ‫ٌا لٌلة اإلسراءِ عودي‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬قصٌدة " رسالة إلى شارون " ‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان أعاتب فٌك عمري ‪ ،‬قصٌدة "ماذا تبقى من ببلد األنبٌاء" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.362-360‬‬
‫‪88‬‬

‫العذراء‬
‫ْ‬ ‫بجذع النخل ِة‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫هزي‬

‫ٌساقط ُاألمل ُ الولٌ ُد‪..‬‬


‫ّ‬

‫ربوع القدْ س‪..‬‬


‫ِ‬ ‫على‬

‫تنتفض المآذِنُ ‪ْ ٌُ ..‬ب َعث الشهداء‬


‫ُ‬

‫وٌنتقد الشاعر بقاء القضٌة الفلسطٌنٌة فً مضمار التباكً وقعود الهمم‪ ،‬وٌستمر فً نقد التقالٌد‬
‫الشابعة التً أحالت ذكرى النكبات إلى مناسبات للتباري بالقول والخطب ؛ ففً الذكرى الخمسٌن‬
‫لضٌاع فلسطٌن‪ٌ ،‬بدو الشاعر رافضً ا للواقع العربًّ ‪ ،‬مع ّن ًفا ومدٌ ًنا كذلك ألبرز معاهدات السبلم‬
‫التً جعلت من العرب ٌتخلون أكثر ٌومًا بعد ٌوم عن قضٌتهم األساس – القضٌّة الفلسطٌنٌّة‪، -‬‬
‫ٌقول الشاعر فً مشهد جنابزيّ – كؤنه ٌضع ٌده على موضع الخلل‪: -‬‬

‫ماذا تب ّقى من بالد األنبٌاء؟‬

‫خمسون عا ًما‬

‫ضجٌجا‬
‫ً‬ ‫والحناجر تمأل الدنٌا‬

‫الهواء‬
‫ْ‬ ‫ثم نبتلع‬

‫ثم ٌردؾ فٌقول ‪:‬‬

‫ماذا تبقى من بالد األنبٌاء‬

‫ما بٌن أوسلو‪..‬‬

‫والغناء‬
‫ْ‬ ‫والوالئم ‪ ..‬والموائد والتهانً‪..‬‬

‫ضاعت فلسطٌن الحزٌنة‬

‫األبناء حول رفاتها‬


‫َ‬ ‫فاجمعوا‬

‫وابكوا كما تبكً النساء‬


‫ّ‬
‫وتعطل حلّها‪،‬‬ ‫وهنا ٌُــقٌم الشاعر مؤتمًا‪ ،‬وٌحشد ك ّل األدواء التً تستشري فً جسد القضٌّة‬
‫زمة لكل مقطوعاته فً هذه القصٌدة ‪ ،‬أنّ‬ ‫وٌُــــــشعِر بهذا السإال االستنكاري الذي ٌجعله ال‬
‫الجواب هو ‪ :‬لم َ‬
‫ٌبق شًء ‪ ،‬وٌحاول الشاعر من خبلل ذلك أن ٌضعنا فً خطورة الراهن والقادم‬
‫‪ ،‬وإن كان‬ ‫بكثٌر من اإلحباط‪ ،‬فحدٌثه عن الرفات ٌعنً أنّ آماله فً إنقاذ ما تبقى لم ٌعد ممك ًنا‬
‫الشاعر ٌنظر إلى قدسٌّة هذه األرض من قدسٌّة األنبٌاء التً مرّ ت علٌها ‪ ،‬فإ ّنه ٌحاول أن ٌواجه‬
‫‪89‬‬

‫القارئ مستخدمًا هذا الرمز لؤلنبٌاء كوسٌلة تثوٌر واستنهاض‪ ،‬لكنّ محاوالت الشاعر تكاد ال تفلح‪،‬‬
‫ألنه ٌسلّم فً النه اٌة إلى أنه ال ٌخاطب إال عاجزٌن ‪ٌ ،‬حطهم عن مرتبة االقتدار والرجولة ‪،‬‬
‫وٌدعوهم لكً ٌبكوا " كما تبكً النساء"‪ ،‬وبهذا ٌرتهن الشاعر للظرؾ ا لسًء الذي تركه وؼٌره‬
‫من الشعراء ٌتحوّ لون من نبرتهم الشعرٌّة العالٌة إلى نبرة أخرى جدٌدة اقتضتها مرحلة " ما بعد‬
‫أوسلو" ‪.‬‬

‫هذا المشهد الشعريّ المشوب بالحزن مرة ‪ ،‬وبالعزٌمة واألمل مرة أخرى ظ ّل حاضرً ا فً‬
‫التجربة الشعرٌّة لفاروق جوٌدة على امتدادها ‪ ،‬حٌث لم ٌحدث أ ّنه تخلّى عن األمل لحظة واحدة ‪،‬‬
‫وظلّت أعتى قصابده إدانة وٌؤسً ا تؽلق أبوابه ا على تفاإلٌّة كبٌرة ٌستشرؾ الشاعر من خبللها‬
‫واقعً ا أفضل للقضٌّة الفلسطٌنٌّة وما سواها من القضاٌا على امتداد المشهد العربًّ ك لّه‪ ،‬وكم هً‬
‫نبوءات الشاعر التً صدقت‪ ،‬وكتب لها أن تصبح شاهدة على أنّ األمل وسٌلة مشروعة ومم ّكنة‬
‫للخبلص !!‪.‬‬

‫وبقً االستحضار الدٌنً الوسٌلة األبرز إلحبلل التفاإل محل الٌؤس ‪ ،‬ولئلٌمان بؤن ا لؽد آت‬
‫باألفضل عً‬
‫تب ا للتوجٌهات القرآنٌّة الكثٌرة ‪ ،‬التً ٌقتات الشاعر علٌها بانتظار الؽد ا لمؤمول‪ٌ ،‬قول‬
‫الشاعر فً إحدى قصابده (‪:)1‬‬

‫ْ‬
‫توارت‬ ‫إنّ الشعوب وإن‬

‫القهر‬
‫ِ‬ ‫فً زمان‬

‫سوف تطل ّ من علٌائها‬

‫وٌعو ُد فً ٌدِها الزما ْم‬

‫الصبح‬
‫ِ‬ ‫فارفع جبٌ َنك نحو ْ‬
‫ضوءِ‬

‫ت‬
‫الفجر آ ٍ‬
‫َ‬ ‫إنّ‬

‫لن ٌطول َ بنا الظال ْم‬

‫وٌرى الشاعر أنّ مصلحة الوطن العربًّ أال ٌركن إلى الٌؤس مشٌرً ا إلى الجهود ا لتً حققتها‬
‫المقاومة العراقٌّة والفلسطٌنًّة فً إثارة الرأي العام األمرٌكً‪ ،‬وٌإكد على أن هذه المقاومة تثبت‬
‫أننا ما زلنا أحٌاء‪ ،‬وأننا ال زلنا نقاتل(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً لٌلة عشق ‪ ،‬قصٌدة " آخر شهداء االنتفاضة " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.453‬‬
‫‪90‬‬

‫‪ .2‬مصـــر‬

‫مصر موطن الشاعر الذي ظ ّل ٌصعّد الزفرات حز ًنا علٌه وعلى ناسه‪ ،‬وٌسمو الشاعر من‬
‫خبلل ذلك إلى كل ما هو إنسانًّ ؛ فهو ٌعٌش على مقربة من الناس وٌنوء بآالمهم فٌمضً فً‬
‫نصرة الجٌاع ‪ ،‬ورفض الظلم‪ ،‬ويثور على الخطؤ ‪ ،‬وٌرى أنّ الجهل دا ٌء خطٌر فً جسم األمة‬
‫بوصفها‬ ‫وشعوبها‪ ،‬ونعمة كبٌرة متحصّلة لدى حكامها ‪ ،‬كما ٌمضً الشاعر خلؾ قضٌّة الحرٌّة‬
‫قصٌدت فً مصر إلى حرٌّات ‪ ،‬وتبرز‬
‫ه‬ ‫ً‬
‫شاؼبل أساسٌـًا ومإرّ ًقا للبشرٌّة‪ ،‬وٌفرّ ع الشاعر الحرٌّة فً‬
‫منها حرٌّته فً ا لتعبٌر والكتابة‪ ،‬وبذلك تبدو رؼبات الشاعر الشخصٌّة وشكواه من عجزه عن أن‬
‫ٌقول ما ٌشاء‪ ،‬وكثٌرً ا ما دعت هذه الحرٌات المقموعة صاحبها للقول فتركته رهٌن ساعات طوٌلة‬
‫من التحقٌق والمحاسبة ‪ ،‬كما حالت مصداقٌته فً قول الحق بٌنه وبٌن مراكز علٌا فً الدولة‬
‫المصرٌّة ‪.‬‬

‫لكنّ بقاء الشاعر إلى ج انب المهمشٌن والكادحٌن والفقراء ‪ ،‬وإٌمانه بؤن ما ٌسعى إلٌه فً‬
‫الحقٌقة أمر ٌسبق الحصول على الحرٌّة بدرجات‪ ،‬جعله ٌؤخذ على عاتقه أن يؼدو صوتهم العالً‬
‫الذي ال ٌُهادن‪ ،‬فــ " الشاعر الوطنًّ ٌخون شعبه إذا ل ْم ٌعانقه بقصٌدة " (‪. )2‬‬

‫إنّ ما ٌدعو إلى قلق الشاعر تجاه وطنه وأهله أنه ال ٌرى أبسط الحقوق تإدى إلٌهم حٌن ٌُفتقد‬
‫الرؼٌؾ من أٌد ي الصؽار ‪ ،‬وذاك هو شعوره الذي ٌدفع به ألنْ ٌترفق بالجٌاع ‪ ،‬وٌرحم ضعؾ‬
‫المساكٌن‪ ،‬وٌلعن لصوص الشعوب وا لمتاجرٌن بدمابهم ‪ .‬وهو ما ٌرشح عن موقؾ الشاعر الذي‬
‫ا‪ ،‬وتسلٌم زمام أمرها للقوى‬ ‫ٌرى أن الحال هذه نتٌجة لتهالك األمة العربٌة واإلسبلمٌة سٌاسًً‬
‫العظمى فً العالم تحكم وتنهب المصادر ‪ ،‬وبذلك ٌتعالق وٌلتبس اإل نسانً بالسٌاسً فً قصٌدة‬
‫ك أن قصابده فً هذا الباب بمثابة ثروة‬
‫الشاعر فاروق جوٌدة حتى ال ٌكادان ٌفترقان ‪ .‬وال ش ّ‬
‫إنسانٌّة؛ أل ّنها تقؾ على خٌط رفٌع بٌن ؼضبه وحنقه‪ ،‬ومحبّته الشدٌدة لمصر وبٌن هذا وذاك تقوم‬
‫القصٌدة لدٌه على أبرع ما ٌكون التوصٌؾ‪ ،‬وأجمل ما تكون العبارة‪ .‬وٌبدو حبّ الشاعر لو طنه‬
‫عبر صوته الصادق فً الكتابة عن البسطاء‪ ،‬ومتابعة أحبلم المقهورٌن ‪.‬‬

‫وٌبنً جوٌدة عالمه الشعريّ فً هذا الباب على جمع السٌاسًّ إلى االجتماعًّ إلى اإلنسانً ‪،‬‬
‫وٌبدو حبّه لوطنه خالصً ا ال تبرره أٌة منؾعة‪ ،‬لكنّ هذا الوطن ٌتؤبّى على الشاعر وٌلفظه ‪ ،‬فٌقرر‬

‫(‪ )1‬مصطفى ‪ ،‬نادٌة محمود (تقدٌم) ‪ :‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل حوار الثقافات ‪ ،‬محاضرة للشاعر‬
‫فاروق جوٌدة بعنوان " لسنا خارج العصر " ‪ ، 2004/4/28‬سلسلة محاضرات حوار الحضارات ( ‪ ، ) 3‬دار السبلم‬
‫للطباعة والنشر ‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫(‪ )2‬السٌد جاسم ‪ ،‬عزٌز (‪ ،)1995‬دراسات نقد ٌّة فً األدب الحدٌث ‪ ،‬الهٌبة المصرٌّة العامة للكتاب ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪91‬‬

‫الشاعر فً النهاٌة أن ٌبادله اإلنكار باإلنكار ‪ .‬وقد هٌؤت حساسٌة الشاعر العالٌة للكشؾ عن‬
‫براعته فً تطوٌع الشعر لقضاٌا العصر‪ ،‬وسرعة االستجابة للحدث ‪ ،‬لنراه ٌعالج قضٌة الهجرة ؛‬
‫هجرة الشباب المصرٌٌن الكادحٌن فً سبٌل لقمة العٌش التً ضنّ بها الوطن ‪ٌ ،‬قول (‪: )1‬‬

‫ال تستبٌح كرامتً ‪ ..‬وعنادي‬ ‫ألرض ال تساوم فرحتً‬


‫ٍ‬ ‫أهفو‬

‫ٌتراقصون مع الصباح النادي‬ ‫أشتاق أطفاال كح ّبات الندى‬

‫غا َب ْت وغ ْبنا وانتهت ببعا ِد‬ ‫ُ‬


‫اشتقت ٌوما أن تعود بالدي‬

‫وإشارة الشاعر إلى أنّ ببلده هً التً ؼابت داللة على أنه ٌعانً حالة من االؼتراب النفسًّ‬
‫حٌن كان ٌعٌش فٌها ‪ ،‬وأمنٌاته السابقة تنبً عن حالة الهوان التً ٌحٌاه ا ‪ ،‬وعن األ طفال الذٌن‬
‫ٌفتقدون إلى السعادة واالبتسام‪ ،‬وٌإكد الشاعر أنّ موطنه قد آثر أن ٌهادن السماسرة على ما فً‬
‫ذلك من خٌانة للطموح الشعبًّ ‪ .‬إ ّنه ٌذهب إلى أبعد من ذلك بكثٌر ‪ ،‬لٌتركها فً صورة امرأة‬
‫فاسدة (‪: )2‬‬

‫الغض لألوغا ِد‬


‫ّ‬ ‫باعت صباها‬ ‫أحببتها حتى الثمالة بٌنما‬

‫وتفرقت شِ ٌَ ًعا بكل ّ بال ِد‬


‫ّ‬ ‫ْ‬
‫تاجرت فً عِ ْرضِ ها‬ ‫هذي بال ٌد‬

‫وفً حالة الش ّد والجذب بٌن الشاعر ووطنه ‪ٌ ،‬حسّ الشاعر أنّ الوطن ٌحبّ أبناءه لك ّنه ٌمٌل‬
‫إلى ك ّفة الفبة المتح ّكمة باألموال والسلطات فٌها ؛ ألنه ال ٌقوى على ؼٌر ذلك ‪ ،‬كؤنّ الشاعر‬
‫ٌحاول أن ٌجعل من الوطن نفسه ضحٌّة كذلك ؛ ألنه فً قرارة نفسه ال ٌستطٌع اإلذعان لحقٌقة أنّ‬
‫ً‬
‫طوٌبل قد ٌجنً علٌه ‪ٌ ،‬قول (‪:)3‬‬ ‫هذا الوطن الذي أحبه‬

‫عن حزنها فً لحظة استشهادي‬ ‫ال تسؤلونً عن دموع بالدي‬

‫كانت تهرول ُ خلفنا وتنادي‬ ‫ٌ‬


‫صرخة‬ ‫فً كل ّ شبر من ثراها‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق (‪ ،)2010‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬قصٌدة "هذي ببلد لم تعد كببلدي" ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫القاهرة ‪،‬ص ‪ . 42‬والقصٌدة مهداة إلى شهداء مصر من الشباب الذٌن ابتلعتهم األمواج على شواطا إٌطالٌا وتركٌا و‬
‫الٌونان‪.‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬قصٌدة "هذي ببلد لم تعد كببلدي" ‪ ،‬ص ‪.44-43‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬قصٌدة "هذي ببلد لم تعد كببلدي" ‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪92‬‬

‫لكنّ الشاعر لم ٌعد قادرً ا على أن ٌق ّدم عنها األعذار ‪ ،‬وكٌؾ ٌسامحها وهو ٌتذ ّكر األجساد‬
‫التً تزاحمت ‪ ،‬والبحر الذي أخذهم فً لجته وابتلع أجساده م الؽضّة وأحبلمهم الصؽٌرة ؟ ‪ ،‬فإن‬
‫ب لها فقد استسلمت " للص والقواد" وما كان لها أن تفعل (‪: )1‬‬
‫كان من ذن ٍ‬

‫تتزاح ُم األجساد باألجسـا ِد‬ ‫مرنـا‬


‫البحر ل ْم ٌرحم براءة ُع ِ‬
‫ُ‬

‫أضاء فإادي‬
‫َ‬ ‫فجرا‬ ‫َ‬
‫واستٌقظت ً‬ ‫حتى الشهادة راوغتنً لحظة‬

‫والقــوا ِد‬
‫ّ‬ ‫للص‬
‫ّ‬ ‫واستسلمت‬ ‫ْ‬
‫ضاقت بنا‬ ‫كل ّ الحكاٌة أ ّنها‬

‫تهرب من فمً ‪ :‬هذي بال ٌد لم ت ُعدْ كبالدي‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والكلمات‬ ‫ُ‬
‫وصرخت‬

‫إنّ معضلة إحساس الشاعر باالؼتراب عن الذات والمجتمع والدولة تكمن فً محاوالته الداببة‬
‫‪ ،‬لٌبقى أمام خٌارٌن‬ ‫للبحث عن مخرج ؛ لتجاوز حاضره المؽرق فً القسوة لكن دون جدوى‬
‫أحبلهما مرّ ؛ إما االنسحاب واالنكفاء على الذات ‪ ،‬وفً مرحلة أخرى تدجٌنه وتحوٌله إلى كابن‬
‫عاجز ‪ ،‬أو تثوٌره للوقوؾ فً وجه دواعً اؼترابه ‪ ،‬وهذا الوقوؾ إن ظ ّل فردٌا ال تدعمه قوى‬
‫مجتمعة فإنه ال ٌعٌن صاحبه على ا لمجابهة (‪ ، )2‬ولنا أن نقول إنّ الشاعر قد حاول فً بداٌة‬
‫األمر أن ٌساٌر عواطفه تجاه وطنه ‪ ،‬وأن ٌذ ّكرها – وهً التً تعرؾ ً‬
‫جٌدا‪ -‬أنه ٌحبّها ‪ .‬وٌخاطب‬
‫الشاعر فٌها النٌل ؛ لٌجسّد مفارقة واضحة فً النهر الذي كان ٌفٌض لت خصب الحٌاة من حوله‬
‫لكنه الٌوم ٌبخل على األبناء ‪ .‬فً هذه المعاتبة الطوٌلة عبر القصٌدة ٌحاول الشاعر أن ٌقدم لمصر‬
‫فرصة كً تعدِل عن أخطابها ‪ ،‬إنه ٌحاول عبر هذه الضراعة بتكرار ندابه إلى النٌل أن ٌطلب‬
‫منها أن ترأؾ بحال اإلنسان المصريّ البسٌط العاشق لها(‪:)3‬‬

‫أٌنَ الهوى والمنى ‪ ..‬أٌنَ المواوٌل ُ‬ ‫الحبٌب الذي داوى موا ِج َعنا‬
‫َ‬ ‫ُك َ‬
‫نت‬

‫للقتل تحلٌلُ؟‬
‫ِ‬ ‫س ّما ‪ ..‬فهل‬ ‫َ‬
‫أصبحت ُ‬ ‫نحرمِها‬
‫خمرا ال ّ‬ ‫قد ُك َ‬
‫نت ٌا نٌل ُ ً‬

‫ُ‬
‫والعشق كالداءِ ال ٌشفٌه تؤمٌل ُ‬ ‫ما زال َ ٌا نٌل ُ عشقً فٌ َك ٌهزمنً‬

‫ثم ٌنهض الشاعر من ضٌاعه لٌستعٌن باألمل مرات ومرات ‪ ،‬ولٌشٌر أنه لن ٌتخلّى عن حلمه‬
‫لعودة مصر إلى صورتها الحبٌبة إلى نفسه ‪ ،‬فٌقول ‪:‬‬

‫إنْ ٌرحل العمر‪ ..‬ما للحلم ترحٌل ُ‬ ‫أحالمنا لم تزل فً الطٌن نغرسها‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬قصٌدة "هذي ببلد لم تعد كببلدي" ‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫(‪ )2‬بركات ‪ ،‬حلٌم (‪ ،)2006‬االغتراب فً الثقافة العرب ٌّة – متاهات اإلنسان بٌن الحلم والواقع ‪ ، -‬م ركز دراسات الوحدة‬
‫العربٌّة ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪.12-9‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علّمنً ‪ ،‬قصٌدة " وتبقى أنت ٌانٌل " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪. 308-306‬‬
‫‪93‬‬

‫فالكل ّ ٌمضً وتبقى َ‬


‫أنت ٌا نٌل ُ‬ ‫ٌفارقُنا‬
‫ضوءا ال ِ‬
‫ً‬ ‫الع ٌْ ِن‬ ‫ما َ‬
‫زلت فً َ‬

‫وٌبٌّن الشاعر ضرورة أن ٌكافح اإلنسان المصريّ كل قوى الشرّ التً ٌرمز إلٌها الشاعر‬
‫بالظبلم والجبلدٌن والسارقٌن ‪ ،‬وٌمضً لٌإكد أنّ هذه اآلفات كلها عارضة ووحده الوطن باق ‪.‬‬

‫و ُت َ‬
‫شخص حالة االؼتراب النفسً لدى اإل نسان العربًّ نظرً ا الضطراب البنٌة االجتماعٌّة ‪،‬‬
‫حتى تتسع الهوّ ة بٌن الفقراء‬ ‫ووقوع الفرد تحت وطؤة االستؽبلل الطبقًّ والظلم والحرمان ‪،‬‬
‫واألؼنٌاء ‪ ،‬الضعفاء واألقوٌاء ما ٌرسخ إحساس الفبة الضعٌفة بالعجز والخوؾ ‪ ،‬واالنسحاب إلى‬
‫الزاوٌة ومعاٌنة اؼترابها على صعٌد الوعً الذاتً وفً نظرته ا إلى السلطة المهٌمنة ( ‪ ، )1‬وقد‬
‫ً‬
‫مقاببل للقهر والذل الناتج عن تحكم السلطة بالعباد ‪ ،‬حٌث‬ ‫جعل الشاعر – وف ًقا لذلك‪ -‬مسؤلة الفقر‬
‫ٌؽٌب العدل وٌنعدم التوازن ‪ ،‬وتشٌع البؽضاء بٌن آكلً األموال وأصحاب النفوذ من جهة ‪،‬‬
‫ً‬
‫متنفذا والكادح كادحً ا (‪: )2‬‬ ‫والفقراء والمهمشٌن من جهة أخرى‪ ،‬حتى ٌبقى المتنفذ‬

‫وحدي أنا ُم على ترابكِ‬

‫ك ّفنً عٌنً‬

‫بضوء من رحٌق الفجر‬


‫ٍ‬

‫مِن سعف النخٌل ْ‬

‫ُ‬
‫ظمئت على ضفافِك‬ ‫فلكم‬

‫رغم أنّ النٌل َ ٌجري‬

‫ألف مٌلْ‬
‫فً ربوعك َ‬

‫حتى ٌقول ‪:‬‬

‫آمن‬
‫خبز ٍ‬
‫رغٌف ٍ‬
‫ُ‬ ‫ح ّقً علٌه‬

‫لإلنسان‬
‫ِ‬ ‫اإلنسان‬
‫ِ‬ ‫وكرامة‬

‫الدقٌق إلحساس الطبقة المهمشة فً‬ ‫وتجسّد قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن؟" الوصؾ‬
‫مصر بالتوزٌع الجابر للثروات ‪ ،‬التً تتر ّكز فٌها األموال فً ٌد فبة قلٌلة تستؤثر بها وتجوّ ع‬
‫الشعب ‪ ،‬ما ٌعنً أن الشاعر مسكون بهواجس تحقٌق العدالة لؤلمة والوقوؾ فً وجه كل ما ّ‬
‫ٌعطل‬

‫(‪ )1‬بركات ‪ ،‬حلٌم ‪ ،‬االغتراب فً الثقافة العرب ٌّة – متاهات اإلنسان بٌن الحلم والواقع ‪ ، -‬ص ‪.61-59‬‬

‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان آخر لٌالً الحلم ‪ ،‬قصٌدة " هذي حكاٌتنا معًا" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.117 -103‬‬
‫‪94‬‬

‫السعً لتوفٌر حٌاة كرٌمة للمصرٌٌن والوقوؾ فً وجه ما أسم اه بـ " الداء الحقٌقً " المتمثل فً‬
‫برامج التنمٌة الوهمٌة والكاذبة ‪ ،‬وٌرى الشاع ر أنّ مصر لٌست دولة فقٌرة لكنها دولة منهوبة (‪)1‬‬
‫‪ ،‬وكتبت هذه القصٌدة لضحاٌا العبّارة اآلتٌة من السعودٌّة والمحمّلة بالم صرٌٌن ‪ ،‬وق ّدم لها الشاعر‬
‫باآلتً ‪" :‬إلى ضحاٌا سفٌنة الموت سالم إكسبرس" ‪ٌ ،‬قول فٌها (‪: )2‬‬

‫(ع ّمً فرج)‬

‫رجل ٌ بسٌط الحال‬

‫لم ٌعرف من األ ٌّ ِام شٌئا‬

‫غٌر صم ِ‬
‫ت المتعبٌنْ‬ ‫َ‬

‫ك ّنا إذا اشتدت رٌا ُ‬


‫ح الش ّك‬

‫نلتمس الٌقٌنْ‬
‫ُ‬ ‫ب ٌْنَ ٌدٌ ِه‬

‫ووقابع حكاٌة العم فرج أنه نظر من حوله ورأى كل شًء قد تبدل ‪ ،‬ولم ٌجد فً حقول القمح‬
‫سوى " الفبران تسكر من دماء الكادحٌن" ‪ ،‬ثم تناول إعبل ًنا فً صحٌفة ٌطلب العاملٌن فً رحلة‬
‫فهزه الشوق لكً ٌحج وٌزور خٌر البرٌّة ‪ ،‬إ ّنه ٌفكر فً اإلعبلن وٌسرّ ي عن‬
‫إلى ببلد النفط ‪ّ ،‬‬
‫نفسه بالقول ‪:‬‬

‫مصر الحبٌبة‬
‫ُ‬ ‫كل ّ شيء فٌكِ ٌا‬

‫سوف ٌنسى بعد حٌنْ‬

‫األرض‬
‫ْ‬ ‫عاشق نسٌته هذي‬
‫ٍ‬ ‫أنا لست ّأول‬

‫كم نسٌت ألوف العاشقٌنْ‬

‫(‪ )1‬مصطفى ‪ ،‬نادٌة محمود ( م‬


‫تقدي) ‪ :‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل حوار الثقافات ‪ ،‬محاضرة للشاعر‬
‫فاروق جوٌدة بعنوان " لسنا خارج العصر " ‪ ، 2004/4/28‬سلسلة محاضرات حوار الحضارات ( ‪ ، ) 3‬دار السبلم‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪،‬فاروق (‪ ،)2010‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن" ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ، 2‬ص ‪.19‬‬
‫‪95‬‬

‫ثم ٌؽٌب العم فرج فً رحلته من أجل الرؼٌؾ ألبنابه ‪ ،‬لك ّنه ككل المصرٌٌن البسطاء ٌعانً‬
‫فً كل لحظ ٍة حنٌنه الشدٌد إلى مصر ‪ ،‬وتمرّ به السنوات ‪ ،‬وي عود على متن الباخرة بشوقه‬
‫الجارؾ لٌطؤ أرض ببلده مرة ثانٌة ‪ ،‬لكنّ لؤلقدار رواٌة أخرى تكتبها على فرج الذي صرؾ‬
‫عمره فً الؽربة وعلى كثٌرٌن سواه لم نعرؾ لهم اسمًا وال حكاٌة ‪ .‬إنهم المهمشون فً كل أرض‬
‫‪ ،-‬ولٌس لهإالء أن ٌحملوا أٌة مبلمح (‪: )1‬‬

‫ع ّمً فرج‬

‫الرجوع إلى الوطنْ‬


‫ِ‬ ‫قد حانَ مٌعا ُد‬

‫ع ّمً فرج‬

‫القمٌص على ٌد ٌْ ِه‬


‫َ‬ ‫وضع‬

‫وصاح‪ٌ :‬ا أحباب ال تتعجبوا‬

‫إ ّنً أش ّم عبٌر ماء النٌل فوق الباخر ْه‬

‫هٌا احملونً‬

‫كً أرى وجه الوطن‬

‫وٌستعٌد الشاعر حكاٌة سٌدنا ٌعقوب ‪ ،‬وكؤن الكمد الشدٌد الذي أطاح به لم ٌؽادره إال ساعة‬
‫اشت ّم من بعٌد " عبٌر ماء النٌل" ‪ ،‬لكنّ اللحظة التً عاش العم فرج ألجلها سنوات طوٌلة بدأت‬
‫تتب ّدد أمام ناظرٌه حٌن أخذته عتمة البحر على مقربة من "الشاطا الموعود" ‪ ،‬ولم تكتمل فرحته‬
‫برإٌة أوالده واألرض ‪ ،‬فٌما رُ ّد سٌدنا ٌوسؾ إلى حضن أبٌه ‪ .‬إنّ جوٌدة بالوصؾ الدقٌق لواقعة‬
‫ؼرق العبارة ٌحمّل نفسه آالما كبٌرة فً استحضار شخصٌّة فبلح بسٌط شهدَ الشاعر معه لحظات‬
‫الموت وأشهدَ نا علٌها ‪ ،‬إننا نشعر من خبلل هذا االستحضار عناء الشاعر وألمه ‪ ،‬وما ٌفرضه‬
‫على نفسه من تخٌّل للحظات األخٌرة لهإالء المصرٌٌن قبل أن ٌتخذوا من قرارة البحر مؤواهم‬
‫األخٌر (‪:)2‬‬

‫ب‬
‫ألف با ٍ‬
‫والما ُء ٌفت ُح َ‬

‫والظال ُم ّ‬
‫ٌدق أرجاء السفٌنة‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن" ‪ ،‬ص ‪.30-28‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن" ‪ ،‬ص ‪.32-30‬‬
‫‪96‬‬

‫ْ‬
‫تناثرت‬ ‫جموع العائدٌنَ‬
‫ُ‬ ‫غاصت‬
‫َ‬

‫ْ‬
‫حزٌنه‬ ‫ٌ‬
‫صٌحات‬ ‫اللٌل‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫وتس ّم ْ‬
‫رت عٌناهُ فوق الشاطئ الموعو ِد‪..‬‬

‫راودَ هُ حنٌنه‬

‫آ ِه ٌا وطنً‬

‫نحو َك ‪ ..‬ث ّم ٌقط ُعها الظال ْم‬


‫ٌدي َ‬
‫ّ‬ ‫أمدّ‬

‫وأظل ّ أصر ُ‬
‫خ فٌ َك ‪ :‬أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫باهلل أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫باهلل أنقِذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫وتفٌض روح العم فرج ومن معه ‪ ،‬ولكن الحكاٌة ال تتوقؾ عند هذا الحد ‪ ،‬ولٌس ؼرٌبًا أن‬
‫ٌمضً الشاعر فً قصّته الشعرٌّة إلى أن ٌسجّ ل لها نهاٌة ؛ نها ٌة تإكد أنّ ع ناء هذه الطبقة ال‬
‫أبدا إال بالموت ببل كرامة كما هً الحال دابما بالنسبة إلى هإالء ً‬
‫بعٌدا عن أوطانهم ‪ ،‬فما‬ ‫ينتهً ً‬
‫هً الكرامة التً خسرها هإالء البسطاء بالموت فً عُرْ ض البحر ؟ إنها بالتؤكٌد كرامة الدفن فً‬
‫األرض التً لطالما أحبوها ‪ ،‬وقدموا أرواحهم فً السابق دفاعً ا عنها ‪ .‬و ُتختتم القصٌدة بعتاب‬
‫وإؼفاءة أبدٌّة‪ٌُ ،‬طبق فٌها الشاعر قصٌدته على مرارة عمٌقة (‪: )1‬‬

‫ُ‬
‫الموت‬ ‫واسودّ ت الدنٌا ‪ ..‬وقا َم‬

‫قصة البسطاءِ‬
‫ٌروي ّ‬
‫ّ‬
‫والتنط ِع ‪ ..‬والهوانْ‬ ‫التخاذل ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫زمن‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫ع ّمً فرج‬

‫ِض ع ٌْ َن ُه‬
‫بٌن الضحاٌا كانَ ٌُغم ُ‬

‫عاب‬
‫ش ْ‬ ‫ٌحفر قبرهُ بٌن ال ِّ‬
‫ُ‬ ‫ج‬
‫والمو ُ‬

‫عتاب‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ِس فً‬ ‫ٌ‬
‫مسبحة وٌهم ُ‬ ‫وعلى ٌد ٌْ ِه ُتطل ّ‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن" ‪ ،‬ص ‪.35-32‬‬
‫‪97‬‬

‫اآلنَ ٌا وطنً أعو ُد إلٌ َك‬

‫توصِ ُد فً عٌونً كل َّ ْ‬
‫باب‬

‫ل َم ضِ َ‬
‫قت ٌا وطنً بِنا؟‬

‫قدْ كانَ حلمً‬

‫أنْ ٌزول َ اله ُّلم ع ّنً‬

‫بابك‬
‫عندَ ِ‬
‫قد كان ُحلمً‬

‫أنْ أرى قبري‬

‫أعتاب ْك‬
‫ِ‬ ‫على‬

‫المل ُح ك ّفننً‬

‫عذاب ْك‬
‫ِ‬ ‫ج أرح َم من‬
‫وكانَ المو ُ‬

‫بقبر‬ ‫وبخ َ‬
‫ِلت ٌا وطنً ٍ‬
‫تراب ْك‬
‫ٌحتوٌنً فً ِ‬
‫فب ِخ ْل َ‬
‫ت ٌو ًما بالسكنْ‬

‫واآلنَ تبخل ُ بالكفنْ‬

‫ماذا أصاب َك‪...‬‬

‫ٌا وطنْ‬

‫إن عزل العِبارة األخٌرة " ٌا وطن" عن سٌاقها فً الشطر الذي ٌسبقها ٌجعل من خطاب عمً‬
‫فرج شدٌد اللهجة تجاه الوطن بعض الشًء ‪ ،‬فسكوته لحظة قبل أن ٌوجّ ه كبلمه إلى الوطن ٌحمل‬
‫ً‬
‫شدٌدا وخٌبة بقٌت فً صدره حتى النهاٌة ‪ .‬وعبر هذه الحوارٌّة الطوٌلة األقرب إلى‬ ‫لومًا‬
‫المونولوج الداخلً ٌبدو كؤن الشاعر من خبلل العم فرج ٌتحدث من نفسه إلى نفسه لٌسمعه العالم‬
‫كلّه ‪ .‬إنّ الصورة المرسومة تجسد مفارقة كبٌرة فً الوطن الذي ضاق وعاؾ أبناءه ‪ ،‬حتى القبر‬
‫لم ٌعد متاحً ا فٌه ‪ ،‬فٌما تبدو األمواج العاتٌة والظبلم الذي ابتلعهم أرح َم من عذ اب الوطن ‪ ،‬وبات‬
‫ً‬
‫مبلذا آم ًنا ٌقبله هذا الرجل‬ ‫الملح هو الكفن ‪ ،‬وبذلك تؽلق القصٌدة أبوابها على الموت حٌن ٌبدو‬
‫ً‬
‫بدٌبل عن العٌش بال كرامة‪.‬‬
‫‪98‬‬

‫ورؼم محاوالت الشاعر مرارً ا فً أال ٌسمح إلحباطاته بالتحكم به ‪ ،‬إال أ ّنه ٌجد نفسه محاصرً ا‬
‫بصور من الظلم والهوان ‪ ،‬وٌؤبى أن ٌنفض ٌدٌه وٌتجاوز فً قصٌدته ما ٌعبّر عن أزمات‬
‫اإلنسان المعاصر فً مصر والعالم كلّه ‪ ،‬أل ّنه ٌرٌد العٌش الحر‪ ،‬وٌرفض على الدوام االستسبلم‬
‫للتشاإم ‪ ،‬لكنّ قصٌدته تضعه دومًا فً مصادمة مفضوحة مع الواقع ‪ ،‬لٌعبّر عن موقفه من الفبة‬
‫الباؼٌة فً وطنه ‪ ،‬ومن تلك الفبة األخرى التً اعتادت الطؤطؤة ؛ فعندما تؽٌب استقبللٌّة الفرد‬
‫وقٌمته كإنسان‪ٌ ،‬ؽٌب كذلك وعٌه بالمسإولٌّة تجاه نفسه وتجاه اآلخرٌن ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪: )1‬‬

‫موالي قُلْ لً‬


‫َ‬ ‫باهللِ ٌا‬

‫جبٌن الحزن‬
‫ِ‬ ‫كٌف تن ُب ُ‬
‫ت فً‬

‫أطٌاف ابتسامة‬
‫ُ‬

‫موالي تضح ُك‬


‫َ‬ ‫وأرا َك ٌا‬

‫والصغار على رصٌفِ الجوع ‪..‬‬


‫ُ‬

‫ٌلتقطون شٌ ًئا‬

‫صنادٌق القمامة‬
‫ِ‬ ‫من‬

‫أوراق‬
‫ِ‬ ‫وٌطل ّ وجه َك فوق‬

‫الصحٌف ِة ٌبتس ْم‬

‫موالي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أٌقنت ٌا‬

‫خٌر النع ْم‬


‫أنّ الجهل َ مِن ِ‬

‫فهو ٌتحدث عن الجوع الذي ٌنهك وجوه األطفال ببل رحمة ‪ ،‬فٌما وجه الحاكم ٌطل باس ًما فً‬
‫مفارقة قاسٌة ‪ ،‬وٌهزأ الشاعر به حٌن ٌخاطبه بـ " ٌا موالي " ‪ ،‬وهو شكل من أشكال التحرٌض‬
‫ودفع الناس إلى رفض الراهن ‪ ،‬وإال فكٌؾ ٌمكن له أن ٌق ّدم احترامه لمن ٌجوّ ع األطفال وٌستؽ ّل‬
‫بساطة الناس ؟ ‪.‬‬

‫والشاعر إذ ٌرنو إلى واقع مؽاٌر تسوده الحرٌّات ‪ٌ ،‬رى أنه ال بد من التحرّ ك إل ى الداخل ‪،‬‬
‫ومحاولة إصبلح ما فسد من العقل المصريّ المستنٌر ‪ ،‬وما ٌتهدده بتارٌخه وفكره وحضارته ‪،‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علمنً ‪ ،‬قصٌدة " ابتسامة" ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.320‬‬
‫‪99‬‬

‫أو دون قصد " فً إحداث هذا‬ ‫وٌشٌر الشاعر إلى اإلعبلم الذي بحسب قوله " ٌشارك بقصد‬
‫الخلل(‪ ، )1‬بعد أن كانت األقبلم والعقول مجٌّشة للكذب والمماحكات ‪ ،‬واإلعبلء من شؤن الحاكم ‪.‬‬
‫ً‬
‫متداخبل برإى دٌنٌة وسٌاسٌة متباٌنة ‪ ،‬وقد ظهرت الحرٌّة‬ ‫وظل الوقوؾ على مفهوم الحرٌة‬
‫فً التارٌخ العربًّ اإلسبلمً ً‬
‫بعٌد ا عن معناها السٌاسً بوقوفها نقٌضا للحكم المطلق اإلستبدادي؛‬
‫إنما توضحت باعتبارها نقٌضًا للعبودٌة ‪ ،‬ومن منطلق آخر ‪ ،‬فقد تحركت فً دابرة الحدٌث عن‬
‫االختٌار مقابل الجبر ‪ ،‬وبذلك جلل المفهوم بصبؽة دٌنٌة مذهبٌة ( ‪ ، )2‬لكن للشاعر ههنا موقؾً ا‬
‫سٌاسًً من تقوٌض حرٌّات الصحافة ‪ ،‬وانتهاك الحقوق الفكرٌّة فً التعبٌر عن الرأي دون محاسبة‬
‫ا‬
‫‪ ،‬وهو ٌعلن جهرً ا أنه لن ٌكون ٌومًا صو ًتا للسلطان (‪: )3‬‬

‫الحرف ًّ‬
‫حرا‬ ‫ُ‬ ‫ضٌر َك أن ٌصٌر‬
‫ماذا ٌُ ُ‬
‫َ‬
‫سٌاط ‪ ..‬وال سجونْ ؟!‬ ‫ال قٌودَ ‪ ..‬وال‬

‫النهر الجلٌلْ‬
‫ُ‬ ‫ٌا أٌها‬

‫أنا من بالطِ َك مستقٌلْ‬

‫القهر‬
‫ِ‬ ‫سجون‬
‫ِ‬ ‫أنا لن أغ ّنً فً‬

‫واللٌل الطوٌلْ‬
‫ِ‬
‫وفً آخر السٌاقات وأبرزها فً الشؤن المصريّ فً قصٌدة جوٌدة تبرز ثورة ٌناٌر؛ لتضع ً‬
‫حدا‬
‫للخٌبات التً الحقت الشاعر سنوات طواال ‪ ،‬ولتبدو نقطة تحول ّ‬
‫ٌتخفؾ الشاعر عبرها من كل‬
‫األحمال التً أثقلت كاهله وكاهل اإلنسان المصريّ من كبت سٌاسًّ وقهر اجتماعًّ ‪ .‬وٌتحسّس‬
‫الشاعر مناخات الحرٌّة بعد الثورة فً قصٌدة " األرض قد عادت لنا " ‪ ،‬و ٌرى أنّ هذه الثو رة‬
‫متناسبة بسلمٌّتها وطابعها الحضاريّ مع تارٌخهم اإلنسانًّ فً مصر‪ ،‬وهً نموذج رابع وطرٌقة‬
‫مثلى للرفض ببل جرابم ‪ ،‬وهو إضافة إلى ذلك ٌإكد للمصريّ أ ّنه سٌشعر فٌما بعد أ ّنهم قد عاشوا‬
‫بهذا اإلنجاز لحظة تارٌخٌّة ؼٌر عادٌّة ‪ ،‬أكدوا من خبللها وجودهم كشعب ‪ ،‬وقدرتهم على التؽٌٌر‬
‫رؼم أدوات البطش المحٌطة بهم من كل جانب (‪ ، )4‬وهو كلما تذ ّكر ثورتهم ونظر إلى الثورات‬

‫(‪ )1‬برنامج " مع فاروق جوٌدة" ‪ ،‬قناة الحٌاة المصرٌّة ‪. 2011/5/13 ،‬‬
‫(‪ )2‬الجنحانً ‪ ،‬الحبٌب (‪ ، )2009‬مفهوم الحرٌة فً الفكر العربًّ ‪ ،‬مجلة العربً الكوٌتٌة ‪ ،‬عدد ‪ ، 603‬فبراٌر ‪ ،‬ص‪-20‬‬
‫‪.23‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " أؼنٌة للوطن " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.166‬‬
‫(‪ )4‬برنامج "مع فاروق جوٌدة " ‪ ،‬الجمعة ‪ 6‬أٌار ‪.2011‬‬
‫‪100‬‬

‫األخرى التً اشتعلت فً المنطقة وجد أنّ " هللا كان معنا ولم ٌتخ ّل عنا فً أي وقت من األوقات"‪،‬‬
‫ٌقول فً قصٌدته (‪: )1‬‬

‫كثٌرا فً الحساب ‪..‬‬


‫موالي أخطؤنا ً‬
‫َ‬

‫فقد نسٌنا ما علٌ َك ‪ ..‬وكم نسٌنا ما لنا‬

‫الحلم‬ ‫َ‬
‫أجهضت آخر ما تبقى مِن لٌالً ُ‬

‫زمن البراء ِة بٌننا‬


‫ِ‬ ‫مِن‬

‫الطغٌان ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫الخضوع ‪ ..‬وسطوة‬
‫ِ‬ ‫لك ّنه زمن‬

‫ٌرتع خلفنا‬
‫ُ‬ ‫والجال ُد‬

‫فلــَك ْم حلُمنا أن نرى‬

‫ً‬
‫عزٌزا آمنا‬ ‫وط ًنا‬

‫ولكم حلُمنا أن نرى‬

‫شع ًبا نق ًٌّا مإمِنا‬

‫ارحلْ وخلفك لعنة التارٌخ ‪..‬‬

‫أ ّما نحن ‪..‬‬

‫لحال سبٌلِنا‪..‬‬
‫ِ‬ ‫فاتركنا‬

‫نبنً الذي ض ٌّ َ‬
‫عت مِن أمجادِنا‬

‫نحًٌ الذي ض ٌّ َ‬
‫عت مِن أعمارنا‬

‫ْ‬
‫عادت لنا‬ ‫األرض قد‬
‫ُ‬

‫وبٌن التضاد الذي تقٌمه الصورة بٌن لٌالً الحلم التً أُجهضت فً سطوة الطؽٌان ٌنتقل‬
‫الشاعر إلى صورة مؽاٌرة ٌتبدد فٌها لون السواد الذي تفرضه اللٌالً إلى ما ٌرؼب الشاعر فً‬
‫أبٌض ٌحاول فٌه‬
‫َ‬ ‫رإٌته ‪ ،‬هذه الرإٌة الجدٌدة التً ٌو ّدها ٌ ّتسع فضاإها ألنها تدخل عالمًا حُ لمٌّا‬

‫(‪ )1‬قصٌدة " األرض قد عادت لنا " ‪http://www.youtube.com/watch?v=n9PrdJxrfEY‬‬


‫‪101‬‬

‫الشاعر أن ٌلملم ما تبقى من قدرة هذا الشعب على الحٌاة ‪ ،‬وعلى البناء من جدٌد ‪ .‬وٌمرّ الشاعر‬
‫عبر هذه القصٌدة مذكرً ا الطاؼٌة بكل االنتهاكات التارٌخٌّة ا لتً تعمّدها وبقٌت وصمة عار فً‬
‫جبٌن الوطن ‪ ،‬وٌضع فً مقدمتها مسؤلة العبلقات مع " إسرابٌل" ‪ ،‬وقضٌة التورٌث ‪ ،‬والجٌاع‬
‫والمظلومٌن من أبناء الشعب المصريّ ‪ ،‬كلّها كانت موجودة لك ّنه لم ٌلتفت ٌومًا " ألحزان‬
‫المدٌنة"‪.‬‬

‫هكذا ظلّت قصٌدة الشاعر جوٌدة تمضً بالتوازي مع الواقع الذي ٌحٌاه اإلنسان المصريّ‬
‫البسٌط ‪ ،‬ولم تخرج ساعة لتخلق لها نس ًقـا مؽاٌرً ا ‪ٌ ،‬قول الشاعر( ‪ ": )1‬خذوا كبلمً كلّه كهموم‬
‫مواطن مصريّ عربًّ ٌدرك جزءًا من حجم المؤساة وال أدعً أننً محٌط بكل جوانب المؤساة"‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪ .3‬العراق‬

‫أط ّل المشهد العراقً بإرة جدٌدة طافحة باأللم تنضاؾ إلى قابمة أحزان الشاعر العربًّ‬
‫وتزٌدها مرارة ‪ ،‬إذ " لم ٌصادؾ الشاعر – ذلك المجنون النبٌل‪ -‬ظر ًفا أسوأ من هذا الظرؾ‬
‫التارٌخًّ الراهن الذي ٌمثل بداٌة االنهٌار السرٌع فً تارٌخ العرب سٌاسًً ا وثقافًٌا ‪ ،‬لذلك فهو‬
‫ٌعٌش حالة من القلق ؼٌر المسبوق " (‪ )2‬؛ فمنذ احتبلل العراق واألمة العربٌّة تجدد أحزانها ‪،‬‬
‫ً‬
‫حدودا فاصلة بٌن موقفه من وطنه وموقفه من األوطان‬ ‫وتجترّ خٌباتها ‪ ،‬وألن جوٌدة لم ٌضع ٌومًا‬
‫ً‬
‫شدٌدا لحادثة احتبلل العراق ‪ ،‬وما تبعها من إساءات طالت الشعب‬ ‫األخرى‪ ،‬ؾقد أبدى تؤثرا‬
‫العراقًّ الشقٌق حتى انسحب ذلك على شعره بصورة جلٌّة ّ‬
‫تمثلت فً سرعة استجابته للحدث ‪،‬‬
‫والتعبٌر عنه‪.‬‬

‫هزت ضمٌر اإلنسانٌّة ‪ ،‬بدا الشاعر أكثر تماس ًكا فً مواجهة الواقع‬
‫وفً هذه المحنة التً ّ‬
‫ً‬
‫جاهدا فً تؤدٌة دوره التحرٌضًّ ‪ ،‬مستؽنًٌا عن التباكً واالرتهان للحدث المإلم ؛ إذ‬ ‫المؤساويّ ‪،‬‬
‫بدت فً نبرة الشاعر رسالة جدٌدة ٌنقلها إلى المتلقً العربًّ ٌرفض من خبللها الثقافة العربٌّة‬

‫(‪ )1‬مصطفى ‪ ،‬نادٌة محمود (تقدٌم) ‪ :‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل حوار الثقافات ‪ ،‬محاضرة للشاعر‬
‫فاروق جوٌدة بعنوان " لسنا خارج العصر " ‪ ، 2004/4/28‬سلسلة محاضرات حوار الحضارات ( ‪ ، ) 3‬دار السبلم‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬ص ‪.161‬‬
‫(‪ )2‬المقالح ‪ ،‬عبد العزٌز (‪ ،)2010‬الكتابة البٌضاء – الشاعر ذلك المجنون النبٌل ‪ ، -‬دار الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬حكومة‬
‫الشارقة‪ ،‬ص ‪. 126‬‬
‫‪102‬‬

‫المهزومة التً تداوم على اجترار المصابب ‪ ،‬وإطالة الوقوؾ علٌها ً‬


‫بدال من محاولة اجتٌازها من‬
‫أجل ؼ ٍد كرٌم لك ّل الشعوب العربٌّة ‪ٌ ،‬قول الشاعر فً إحدى قصابده (‪:)1‬‬

‫لم ٌخلق شعو ًبا تستكٌنْ‬ ‫اغضب فإنّ‬

‫األرض تحنً رأسها للغاضبٌنْ‬


‫َ‬ ‫اغضب فإنّ‬
‫ْ‬

‫األرض بركا ًنا وٌغدو صو ُت َك الدامً نشٌدَ ال ُمتعبٌنْ‬


‫َ‬ ‫اغضب ستلقى‬

‫اغضب‬
‫ْ‬

‫فإ ّن َك إن ركعت الًو َم‬

‫سوف تظل ّ تركع بعدَ آالف السنٌنْ‬

‫اغضب‬
‫ْ‬

‫ألطفال فً بغدادَ‬
‫ِ‬ ‫إذا الحت أما َمك صورة ا‬

‫ماتوا جائعٌنْ‬

‫وتبدو االستعانة باألسلوب اإلنشابًّ فً األمر لتوجٌه الخطاب لؤلمة ‪ ،‬وٌظهر االستهبلل الذي‬
‫ٌعمد إلٌه الشاعر فً وحدة متكررة متمثلة بالفعل " اؼضب " ‪ ،‬والتً تقوم بدور تثوٌريّ‬
‫ً‬
‫أخبلطا من‬ ‫تحرٌضًّ ‪ ،‬وٌسٌطر على مفتتح القصٌدة إحساس الشاعر بالؽضب الشدٌد ‪ ،‬لكنّ‬
‫العواطؾ تتزاحم نفسه فٌما بعد ؛ ألنه ٌعٌش حالة من االضطراب ‪ ،‬فك ّل ما طافت به الذكرٌات‬
‫األلٌمة على صور األطفال الجابعٌنْ ‪ ،‬علته آهة وتملكه الؽ ّم ‪ ،‬وبدأ ٌتحوّ ل من خطاب الؽضب إلى‬
‫خطاب االستعطاؾ‪ ،‬والنظر بعٌن الرحمة ألطفال بؽداد المحزونٌن ‪ .‬وعلى الرؼم من ك ّل مشاعر‬
‫السخط التً ٌصبّها الشاعر نظرً ا لك ّل ذلك فإ ّنها ال تكفٌه لٌشفً ؼلٌله ‪ ،‬ولذا فإنه ال ٌرى النصر‬
‫متحق ًقا إال بالتوحّ د واالتصال باألرض عبر الموت فً سبٌلها (‪:)2‬‬

‫اغضب‬

‫الموت‬ ‫لم َ‬
‫ٌبق غٌر ْ‬

‫فداء أرضك‬
‫َ‬ ‫إما أن تموت‬

‫(‪ )1‬قصٌدة اؼضب ؾ‬


‫إنّ هللا لم ٌخلق شعوبًا تستكٌن‬
‫‪http://www.alqudstalk.com/forum/showthread.php?t=564‬‬
‫(‪ )2‬قصٌدة اؼضب ؾ‬
‫إنّ هللا لم ٌخلق شعوبًا تستكٌن‬
‫‪http://www.alqudstalk.com/forum/showthread.php?t=564‬‬
‫‪103‬‬

‫ألي وغدْ‬ ‫أو ُت َ‬


‫باع ّ‬

‫ُم ْت فً ثراها‬

‫إنّ لألوطان ًّ‬


‫سرا لٌس ٌعرفه أحدْ‬

‫ُسل م الشاعر من فاجع ٍة إلى أخرى ‪ ،‬فما إن ٌلبث أن‬


‫الممتحن بالببلء ٌظ ّل ٌ ِ‬
‫َ‬ ‫لكنّ هذا الوطن‬
‫ٌشتد لٌُجابه ‪ ،‬حتى ٌلقٌه فً دو امة جدٌدة من المِحن واالختبارات الحقٌقٌّة لصبره وقدرته على‬
‫االستمرار‪ ،‬وقد روّ عت الشاعر شهادات النسوة العراقٌات البلبً تعرّ ضن لئلذالل فً سجن ( أبو‬
‫آن معً ا على ما آلت إلٌه الحال (‪: )2‬‬ ‫ً‬
‫وساخطا فً ٍ‬ ‫ؼرٌب) (‪ )1‬فكتب قصٌدته حزٌ ًنا‬

‫الغضب‬
‫ْ‬ ‫من قال إنّ العار ٌمحوهُ‬

‫غتص ْب‬
‫وأما َمنا عرض الصباٌا ٌُ َ‬

‫تفجرت‬
‫ت ّ‬ ‫صور الصباٌا العارٌا ِ‬

‫لهب‬
‫العٌون نزٌف د ّم من ْ‬
‫ِ‬ ‫بٌنَ‬

‫التارٌخ كٌف تخو ُن ُه‬


‫ِ‬ ‫عار على‬
‫ٌ‬

‫سلَ ْب‬
‫ح لمن َ‬
‫همم الرجال و ٌُستبا ُ‬

‫إنّ حٌوٌة المحتوى الحضاري لعصر الشاعر فٌما ٌخصّ العراق ‪ ،‬الذي ظ ّل فً أذهان‬
‫الشعراء منارة للمجد والقوّ ة واالزدهار‪ ،‬هو ما ح ّتم علٌه التفاعل معه ‪ ،‬ومواكبته لٌإ ّدي به إلى‬
‫والدة قصٌدة جدٌدة فً العراق ‪ ،‬تحكً هذه المرّ ة المجد الؽارب واآلمال المضٌّعة ‪ ،‬وخٌبة الحلم‬
‫فً البلد الذي ظلّت أعٌن العرب ترقبه بزهو وحبور‪ ،‬قبل أن ٌنتهً إلى حاله الٌوم ‪ ،‬هذه الصورة‬
‫التً انهارت فً أفبدة الشعراء عن العراق ‪ ،‬هً التي تدفعهم الٌوم – وبكثٌر من التوجّ ع – إلى أن‬
‫ٌعاٌنوا فً أشعارهم وجع الواقع المرٌر ‪ .‬وهنا ٌستحٌل ك ّل شًء فً عالم جوٌدة إلى سواد ‪ ،‬حٌن‬

‫(‪ “ )1‬تعرّضت السجٌنات األمنٌات العراقٌات فً سجن أبو ؼرٌب إلى عملٌات اؼتصاب وإذالل متنوعة مما دفع بعض‬
‫ب ؼسبل للعار"‬
‫ب أو نسٌ ٍ‬
‫اللواتً أطلق سراحهنّ إلى االنتحار هروبًا من الواقع األلٌم ‪ ،‬بٌنما قتل البعض اآلخر منهن بٌد قرٌ ٍ‬
‫‪http://www.ana-arabi.blogspot.com/2010/01/1_5261.html.‬‬
‫(‪ )2‬قصٌدة من قال إنّ العار ٌمحوه الؽضب ‪http://www.iraqlights.info/vb/showthread.php?t=32708‬‬
‫‪104‬‬

‫ته التً ٌهدٌها إلى أطفال‬ ‫ٌرى بؽدا د تتهاوى على أعٌن من الناس ‪ٌ ،‬قول فً مفتتح قصٌد‬
‫العراق(‪: )1‬‬

‫ما دا َم ٌح ُك ُمنا الجنونْ‬

‫كالب الصٌد‬
‫َ‬ ‫سترى‬

‫تلت ِهم األج ّنة فً البطونْ‬

‫المشانق‬
‫ِ‬ ‫سنرى الصغار على‬

‫جهرا ٌُصلبونْ‬
‫ً‬ ‫الفجر‬
‫ِ‬ ‫فً صالة‬
‫وٌحاول الشاعر أن ّ‬
‫ٌكثؾ فً لحظ ة واحدة ما شهدته بؽداد على مرّ العصور ‪ ،‬حٌث تتراءى‬
‫صور وامضة جٌوش التتار والمؽول ‪ ،‬وبالتوازي معها تظهر له صورة الجٌش‬
‫ٍ‬ ‫أمامه فً‬
‫األمرٌكًّ وهو ٌروّ ع العراقٌٌن وٌقتلهم بوحشٌة ‪ ،‬لكنّ الشاعر ٌرٌد أن ٌذ ّكر المحت ّل أنّ الشعب‬
‫العراقًّ لن ٌرضى ٌومًا بمصٌر الهنود الحمر (‪: )2‬‬

‫كالوباء‬
‫ْ‬ ‫جٌش التتار ّ‬
‫ٌدق أبواب المدٌنة‬

‫وٌزحف الطاعون‬
‫ُ‬

‫أحفا ُد هوالكو على جثث الصغار ٌزمجرونْ‬

‫ٌذكر األ ٌّام‬


‫ُ‬ ‫ما زال دجلة‬

‫والماضً البعٌد ٌطل ّ من خلف القرونْ‬

‫كثٌرا ‪ ..‬ث ّم راحوا‬


‫ع َبر الغزاة هنا ً‬

‫أٌن راح العابرون ؟‬

‫العراق‬
‫ِ‬ ‫سٌموت هوالكو ‪ ..‬وٌعود أطفال‬

‫أما َم دجلة ٌرقصونْ‬

‫(‪ http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm )1‬من قال إن النفط أؼلى من دمً ‪ ،‬كتبها‬


‫الشاعر على إثر احتبلل العراق عام ‪ ، 2003‬وؼناها الفنان العراقً كاظم الساهر ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق ‪http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm‬‬
‫‪105‬‬

‫ً‬
‫جدٌدا للؽد ‪ ،‬الذي‬ ‫إنّ التفاإلٌّة التً ٌداوم علٌها الشاعر فً قصابده ‪ ،‬تروّ ج لؤلمل وتفتح بابًا‬
‫ٌتمنى الشاعر من خبلله أن تلقً األمة أحزان األمس إلى األمس ‪ ،‬وأن ال تستعٌدها إال على سبٌل‬
‫الذكرٌات التً ٌمكن لها أن تعبّا الشعوب وتثوّ رها ض ّد المحتل ‪ ،‬وهذا ظاهرٌ فً قصٌدة الشاعر ‪،‬‬
‫ألنه فً النهاٌة ال ٌعترؾ إال بوجود العراق ‪ ،‬والعراق وحده ‪ ،‬وسٌؤتً ٌوم ٌرحل فٌه الؽزاة كما‬
‫رحلت فلول الذٌن سبقوهم‪.‬‬

‫وٌُظهر الشاعر حنٌنه إلى أٌّام بؽداد ‪ ،‬وعهد الرخاء والخٌر فٌها ‪ ،‬فمهما ك ّدرت أشكال البؽً‬
‫سماء بؽداد ‪ ،‬فإنه ال ٌزال هناك فً األفق متسع للحلم فً أفبدة الشعراء والناس ‪ ،‬لتعود بؽداد إلى‬
‫مكانتها بٌن العواصم العربٌّة ‪ .‬وٌإنسن الشاعر المدٌنة لٌكتمل خطابه اإلنسانًّ بمواساته ومناجاته‬
‫لها ‪ٌ ،‬قول (‪: )1‬‬

‫تمركِ فً فمً‬ ‫ُ‬


‫أشتاق ٌا بغدا ُد َ‬
‫َ‬
‫النفط أغلى من دمً؟!‬ ‫من قال إنّ‬

‫بغدا ُد ال ‪ ..‬ال تتؤلمً‬

‫البهتان فً الزمن العمً‬


‫ِ‬ ‫ْ‬
‫تعالت صٌحة‬ ‫مهما‬

‫بغدا ُد ‪ ..‬ال تستسلمً ‪ ..‬بغدا ُد ‪ ..‬ال تستسلمً‬

‫وٌدرك الشاعر أنّ احتبلل العراق ظلّت تؽذٌه عوامل خفٌّة كامنة ‪ ،‬أبع د من أكذوبة " أسلحة‬
‫عاقل أن ٌص ّدقها ‪ ،‬لذا فقد وقؾ الشاعر أمام واقع احتبلل العراق‬
‫ٍ‬ ‫الدمار " ‪ ،‬التً ال ٌمكن أليّ‬
‫بخلفٌّاته السٌاسٌّة ‪ ،‬لٌبعث من خبلله برسالة إلى " بوش " الربٌس األمرٌكً آنذاك ‪ .‬وٌعبّر النصّ‬
‫التالً عن موقؾ الشاعر العروبًّ الذي ٌقؾ فً مواجهة كل ما ٌتهدد أوطاننا العربٌّة من دخبلء‬
‫ومحتلٌّن ‪ٌ ،‬قول الشاعر مودّعً ا بوش بعد زٌارته إلى العراق ‪ ،‬التً خلّفها أشبه بالجحٌم (‪: )2‬‬

‫ت المساج ِد‬
‫انظر إلى صم ِ‬
‫ْ‬

‫والمنابر تشتكى‬

‫(‪ http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm)1‬من قال إن النفط أؼلى من دمً ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫ك فً ٌدٌْك " ‪ ،‬ص ‪.14-13‬‬ ‫( ) جوٌدة ‪ ،‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬قصٌدة " ارح ْل ‪ ..‬وعا ُر َ‬
‫‪106‬‬

‫مار‬
‫وٌصٌ ُح فً أرجائها شب ُح الدّ ْ‬

‫انظر إلى بغدادَ تنعى أهلها‬


‫ْ‬

‫دار لدار‬ ‫ُ‬


‫الموت من ٍ‬ ‫وٌطوف فٌها‬
‫ُ‬

‫اآلنَ ترحل ُ عن ثرى بغدادَ‬

‫خلف جنو ِد َك القتلى‬


‫َ‬

‫وعار َك أي ْ‬
‫عار‬ ‫ُ‬

‫وجوٌدة بهذا القلق الذي ٌبدٌه حٌال احتبلل العراق ‪ ،‬كمواطن عربًّ ٌإمن بالقومٌّة وٌحمل فً‬
‫قلبه ك ّل معانً العروبة ‪ ،‬فإنه ٌحمّل نفسه مسإولٌّة الخروج باألمّة من هذا الواقع وإن كانت‬
‫وسٌلته إلى ذلك مجرّ د فكرة ‪ ،‬هذه الفكرة هً التً تحًٌ فً النفوس األمل ‪ ،‬وتجعل من لحظة‬
‫الموت بشارة مٌبلد ‪ ،‬وتخلق من الدمار ألؾ صُبح ‪ٌ ،‬قول (‪:)1‬‬

‫بغدا ُد ٌا بلدَ الرشٌد ‪...‬‬

‫والزمن المجٌدْ‬
‫ِ‬ ‫التارٌخ ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ٌا قلعة‬

‫بح المج ّن ِح‬


‫ص ِ‬‫اللٌل وال ُّل‬
‫ِ‬ ‫ارتحال‬
‫ِ‬ ‫بٌن‬

‫ٌ‬
‫موت و عٌدْ‬ ‫لحظتان ‪..‬‬

‫ما ب ٌْن أشالءِ الشهٌدْ‬

‫الكون فً صو ِ‬
‫ت الولٌدْ‬ ‫ِ‬ ‫عرش‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ٌهتز‬

‫وتستمرّ محنة الشاعر إزاء العراق ‪ ،‬وٌضٌفها إلى صؾّ النوابب التً تعصؾ باألمّة وفً قلب‬
‫الشاعر ‪ ،‬وألنّ واقعنا العربًّ ال ٌفلس ‪ ،‬وٌظ ّل ٌص ّدر إلى الشعراء واألدباء الفاجعة تلو األخرى ‪،‬‬
‫فإنّ قصٌدة جوٌدة تظ ّل متوهّجة بحكاٌات هذا الواقع ومراراته ـ تقع على مسافة قرٌب ٍة منها ‪،‬‬
‫تتب ّناها وتص ّدرها للمواطن العربًّ فً ك ّل مكان ‪.‬‬

‫(‪ http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm )1‬من قال إن النفط أؼلى من دمً ‪.‬‬


‫‪107‬‬

‫الفصل الثانً‬
‫ظواهر من التشكٌل الفنً فً شعر‬
‫فاروق جوٌدة‬
‫‪108‬‬

‫المبحث األول‬
‫التناص‬
‫‪109‬‬

‫التناص‬

‫ٌع ّد التناص من اآللٌات المهمّة التً ٌوظفها الشعراء عا مة إلؼناء نصوصهم ‪ ،‬وٌتجسّد عبر‬
‫المستقبل ل هذه النصوص ‪ ،‬وبذلك‬
‫ِ‬ ‫التناص تفاعل خبلق بٌن النصوص المستدعاة المذوبة والنص‬
‫ٌصبح النص الجدٌد تولٌفة بٌن الحاضر والماضً تتذبذب بٌن الجدة والطرافة من جانب ‪ ،‬وبٌن‬
‫ر ونجاحه فً تطوٌع النص‬ ‫النمطٌة فً االستدعاء والتوظٌؾ ‪ ،‬وٌعود ذلك لمدى اقتدار الشاع‬
‫الضٌؾ ‪ ،‬ودمجه فً أجزاء قصٌدته ‪.‬‬

‫وترى جولٌا كرستٌفا أنّ التناص هو " ترحال للنصوص ‪ ،‬وتداخل نصًّ ‪ ،‬ففً فضاء نص‬
‫معٌن تتقاطع وتتنافى ملفوظات عدٌدة منقطعة من نصوص أخر " ( ‪ ، )1‬وٌعود لهذه الباحثة فضل‬
‫استواء مصطلح التناص بصورة دقٌقة فً محاوالتها للتنظٌر له فً ستٌنٌات القرن الفابت ( ‪، )2‬‬
‫خاصة فً متابعتها لمحاوالت أستاذها العالم الروسً مٌخابٌل باختٌن‪.‬‬

‫" والشاعر حٌن ٌستدرج إلى قصٌدته نصً ا آخر‪ ،‬فبل بد من تذوٌب ذلك النص أو دمجه ضمن‬
‫جدي لٌتحول ذلك النص الؽابب إلى حركة تتؤلأل ظلمة النص الجدٌد فتقترض منه ‪ ،‬وتضٌؾ‬
‫سٌاق د‬
‫جدٌدا " (‪ ، )3‬وبذلك ٌشٌر الكاتب إلى وظٌفة التناص‬
‫ً‬ ‫إلى جسده أٌضً ـا قوة خفٌة وإلى روحه توترً ا‬
‫فً إضاءة النص وإبراز المعانً ‪ ،‬واإلشارة إلٌها بوضوح ‪ ،‬كما ٌنوّ ه إلى نسبة حضور النص‬
‫المستدعى فً النص الجدٌد فً حال تذوٌبه أو دمجه ‪ ،‬وتبدو من خبلل ذلك أشكال التناص من‬
‫اقتباس وتضمٌن ومعارضة ومحاورة ‪،‬إلى ما سوى ذلك‪.‬‬

‫وتتضح أهمٌة التناص فً إحساس الشاعر باإلرث اإلنسانًّ والحضاريّ الذي ٌستند إلٌه ‪،‬‬
‫وهو ما ٌعمّق شعوره باتصاله بمن سبقه إنسانًٌا وحضارًٌا وفكرًٌا وأٌدلوجًٌا ودٌنًٌا إلى ؼٌر ذلك‬
‫من القواسم المشتركة التً تجمع اإلنسانٌّة منذ األزل ‪ٌ ،‬قول الؽذامً " تداخل النصوص هً سمة‬
‫جوهرٌّة فً الثقافة العربٌّة حٌث تتشكل العوالم الثقافٌّة فً ذاكرة اإلنسان ممتزجة ومتداخلة فً‬
‫تشابكٍ عجٌب ومذه ل " (‪.)4‬‬

‫)‪ (1‬كرستٌفا ‪ ،‬جولٌا (‪ ،)1991‬علم النص ‪ ،‬ترجمة فرٌد الزاهً ‪ ،‬مراجعة عبد الجلٌل ناظم ‪ ،‬دار توبقال للنشر‪،‬‬
‫ط‪ ، 1‬المؽرب‪ ،‬ص ‪21‬‬
‫(‪ )2‬الزعبً ‪ ،‬أحمد (‪ ، )2000‬التناص نظر ٌّا وتطبٌقٌا ‪ ،‬مإسسة عمون للنشر والتوزٌع ‪ ،‬ط‪ ، 2‬عمان ‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )3‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر ‪ ،‬الشعر والتلقً ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫(‪ )4‬الؽذامً ‪ ،‬عبد هللا (‪ ،)1993‬ثقافة األسئلة ( مقاالت فً النقد والنظر ٌّة ) ‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬ط‪ ، 2‬الكوٌت ‪،‬‬
‫ص‪.119‬‬
‫‪110‬‬

‫وٌتسع حضور التناص فً شعر فاروق جوٌدة فً تفاعله مع النصوص الدٌنٌة والتراثٌة‬
‫والتارٌخٌة واألدبٌّة ‪ ،‬لكن هذا التفاعل ٌؤتً فً أطر محدودة ‪ ،‬ال ٌتجاوز فٌها الشاعر النمط السابد‬
‫لبلستحضار ‪ ،‬إنما ٌقؾ لدى عتباته األولى ‪ ،‬فٌما ٌحٌلنا بذلك إلى اعتقادٌْن ؛ إما محدودٌّة ثقافة‬
‫الشاعر ‪ ،‬أو توجهه بكلٌّّته إلى القارئ العاديّ البسٌط بحٌث ٌجعل استحضاراته ولؽته أقرب إلى‬
‫التناول والهضم ‪ ،‬وهو ما ٌُعت َقد أن الشاعر ٌرمً إلٌه ‪.‬‬

‫وٌتٌح التناص لؤلدٌب أن ٌتحرّ ك بحرٌّة فً فضاء النص لٌطوّ ع حصٌلته المعرفٌّة والثقا فٌّة‬
‫لتشكٌل نص فنًّ ٌحاو ل األدٌب من خبلله إبراز براعته فً أن ٌحوم حول النص لٌخرج دالالت‬
‫أكثر جدة عمن سبقه ‪ ،‬أو ٌكتفً بالدالالت القرٌبة إلى ذهن المتلقً ‪ ،‬وكل ذلك عابد إلى قدرة‬
‫ً‬
‫جدٌدا ٌنفذ من‬ ‫الشاعر على تطوٌع النص لخدمته وثقافته العالٌة ‪ ،‬التً قد تإهله لٌشكل منظورً ا‬
‫خبلله إلى النص‪.‬‬

‫‪ .1‬التناص الدٌنً ‪:‬‬

‫تكتسب النصوص الدٌنٌّة احترامًا كبٌرً ا وقبوال لدى النفس البشرٌّة ‪ ،‬التً جبلت فً فطرتها‬
‫على اإلٌمان بوجود قوى عظمى تسٌّر الكون ‪ ،‬تتحقق عبرها مشٌبة هللا ‪ .‬وتعطً النصوصُ‬
‫اعر عبر اختزال المعنى وت كثٌفه‬ ‫الدٌنٌّة للنص الشعريّ المهابة ‪ ،‬وتسهم فً تقدٌم ؼاٌة الش‬
‫باالستحضار الدٌنًّ الذي ٌؽنً القصٌدة من ناحٌة ‪ ،‬وٌخدم النص باإلٌجاز والوصول إلى المعنى‬
‫المطلوب بؤقل الكلمات من ناحٌة أخرى ‪ ،‬وذلك عابد إلى رسوخ المعنى الذي ٌإدٌه النص الدٌنًّ‬
‫المستجلب فً المرجعٌّة العقابدٌّة لدى المتلقً ‪.‬‬

‫أوجه منها ؛ التؤثر بالقرآن الكرٌم‬ ‫وٌظهر التناص الدٌنً لدى فاروق جوٌدة عبر عدة‬
‫واإلنجٌل‪ ،‬واستدعاء القصة القرآنٌّة ‪ ،‬أو جز ٍء منها ‪ ،‬واستدعاء الرموز الدٌنٌّة وإبرازها ‪ ،‬وال‬
‫ٌقتبس الشاعر من القرآن الكرٌم على الصورة الببلؼٌة القدٌمة كؤن ٌنقل اآلٌة أو جزءًا منها إال فً‬
‫‪111‬‬

‫مواضع قلٌلة ج ّدا رؼم ؼزارة إنتاجه الشعريّ ‪ ،‬إنما بقٌت استدعاءاته حابمة فً جو النص القرآنً‬
‫ٌعٌد عبرها الشاعر إنتاج الداللة القرآنٌة التً تحٌل إلى اآلٌة القرآنٌة بوضوح‪.‬‬

‫والكبلم المقبوس هو الذي ٌضاؾ إلى الفكرة التً ٌصوؼها الشاعر شعرً ا ‪ ،‬فتؤخذ مكانها البلبق‬
‫فً نصه وتبدو متممة للمعنى ‪ ،‬كاإل فادة من النصوص القرآنٌة والحدٌث والشعر إلى ؼٌر ذلك ‪،‬‬
‫وال ٌحدث أن ٌنتقل النص حرفًًا إنما ٌلحقه شًء بسٌط من التحوي ‪ ،‬وتظهر فٌه براعة الشاعر‬
‫فً تطوٌع الموروث لخدمة نصه الشعريّ ‪ ،‬وقد عرّ فه شهاب الدٌن الحلبً بقوله" هو أن ٌضمّن‬
‫الكبلم شٌ ًبا من القرآن أو الحدٌث وال ٌنبّه علٌه للعلم به" (‪.)1‬‬

‫وٌحوّ ر الشاعر اآلٌة القرآنٌة من قوله تبارك وتعالى( ‪ } )2‬وإذا أنعمنا على اإلنسان أعرض‬

‫ونؤى بجانبه وإذا مسه الشر كان ٌإوسا { ‪ ،‬وٌوظفها عبر األبٌات التالٌة(‪: )3‬‬

‫لم ٌبق من أرضها زرع وال ثمر‬ ‫ٌو ًما سٌحكى هنا عن أمة هلكت‬

‫فعندما زادهم من فضله فجروا‬ ‫حقت علٌهم من الرحمن لعنــته‬

‫الذل‬ ‫وٌتؤثر الشاعر بمضمون اآلٌة القرآنٌّة فً إشارته إلى األمة العربٌّة التً استمرأت‬
‫التخاذل مإذن بانتهابها وزوالها ؛‬ ‫والمهانة ‪ ،‬وٌرى أنّ بقاء األمة على حالها من التهاون و‬
‫فاألجواء القرآنٌة التً تفرضها اآلٌة الكرٌمة تشٌع صورة استشرافٌّة ّ‬
‫ٌحذر بها الشاعر من عاقبة‬
‫أمرها إن هً بقٌت على شؤنها من الهوان ‪ ،‬وهنا ٌؤخذ الشاعر المعنى الكامل لآلٌة القرآنٌة‬
‫وٌضمّنها فً قصٌدته ‪.‬‬

‫وٌنمو تفاعله مع التراث اإلسبلمً والقرآن الكرٌم بصورة خاصة فً االق تباس الحاصل فً‬
‫} وهزي إلٌك بجذع النخلة‬ ‫التحوٌر البسٌط الذي ٌلحق بالنص القرآنً المؤخوذ من سورة مرٌم‬

‫(‪ )1‬شهاب الدٌن الحلبً (‪ ،)1980‬حسن التوسل إلى صناعة الترسل ‪ ،‬تحقٌق‪ :‬كرم ٌوسؾ ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬ط‪، 1‬‬
‫بؽداد ‪،‬ص ‪.323‬‬
‫(‪ )2‬سورة اإلسراء ‪.83 :‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان كانت لنا أوطان ‪ ،‬قصٌدة " كانت لنا أوطان " ‪ ،‬مج ‪ ،3‬ص ‪.46‬‬
‫‪112‬‬

‫تساقط علٌك رطبًا جنٌّا {(‪ ، )1‬لكن المفارقة تبدو فً هذا االستدعاء بؤن الصورة تؤتً بعكس‬

‫التوقعات ؛ فجذع النخلة التً تكتنز على الدوام بإٌحاءات خصبة وافرة ٌساقط لدى الشاعر القهر‬
‫واإلرهاب والدجل ‪ ،‬وٌتش ّكل عبر هذا التوظٌؾ انزٌاح داللًّ باالبتعاد بالنصّ القرآنً عن داللته‬
‫األصلٌّة ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪:)2‬‬

‫ٌساقط القهر واإلرهاب والدجل‬ ‫ٌا وصمة العار هزي جذع نخلتنا‬

‫وعصبة الظلم لن تعلو بها دول‬ ‫ضاعت شعوب وزالت قبلنا دول‬

‫وفٌما تنوعت منابع التؤثر نصً ا واستلهامًا بدا التلمٌح واإلٌحاء الذي ٌشٌر به الشاعر إلى‬
‫بعض أجزاء القصة القرآنٌّة فً حكاٌة سٌدنا ٌوسؾ مع رإٌا الملك ‪ ،‬والتً تفسّر عبر الشاعر‬
‫باآلٌة من سورة ٌوسؾ } تزرعون سبع سنٌن دأبا {‪ .‬والشاعر فً هذه األبٌات ٌتنبؤ برإٌا خراب‬

‫ً‬
‫مستندا إلى سنوات البوار التً أشار إلٌها سٌدنا ٌوسؾ فً تفسٌر الرإٌا ‪ٌ ،‬قول تبارك‬ ‫مصر‬
‫سمان ٌؤكلهنّ سبعٌ عِ جاؾْ وسبع سنببل ٍ‬
‫ت خضر‬ ‫ٍ‬ ‫وتعالى(‪ } :)3‬وقال الملك إ ّنً أرى َسب َْع بقرا ٍ‬
‫ت‬

‫رإٌاي إنْ كنتم للرإٌا تعبرون { ‪ ،‬وفً ذلك ٌقول جوٌدة‬


‫َ‬ ‫وأ ُ َخ َر ٌابسات‪ٌ ،‬ا أٌّها المؤل أفتونً فً‬

‫(‪:)4‬‬

‫ٌا سندباد العصر إرجع‬

‫لم ٌ ُعدْ فً الحب شًء‬

‫غٌر هذا االنتحار‬

‫إرجع فإنّ األرض شاخت‬

‫والسنٌن الخضر‬

‫البوار‬
‫ْ‬ ‫ٌؤكلها‬

‫(‪ )1‬سورة مرٌم ‪.25:‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان كانت لنا أوطان ‪ ،‬قصٌدة "مرثٌة ما قبل الؽروب" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.42‬‬
‫(‪ )3‬سورة ٌوسؾ ‪.240 :‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان آخر لٌالً الحلم ‪ ،‬قصٌدة " النجم ٌبحث عن مدار " ‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.78‬‬
‫‪113‬‬

‫فعن طرٌق فهم المعنى والداللة الكاملة لآلٌة القرآنٌة تتضح لدٌنا العبلقة بٌن النص الشعريّ‬
‫والنص المحال إلٌه ‪ ،‬كما تتب ّدى استعانة الشاعر بؤجواء من القصص القرآنٌة ‪ ،‬التً تؤخذ جانبًا من‬
‫الداللة العامة للحكاٌة ؛ ففً قصة سٌدنا نوح ‪ ،‬تبدو الصورة النمطٌة لبلستدعاء والتً درج علٌها‬
‫الشعراء هً تلك الماثلة فً تصوٌر مشهد الطوفان ‪ ،‬لكن الشاعر ٌقتطع تلك الجزبٌّة المتعلقة فً‬
‫خطاب هللا لسٌدنا نوح بعد أن طلب إلٌه األخٌر الشفاعة لولده ‪ ،‬وٌتؤتى هذا التصوٌر فً قصٌدة‬
‫{ (‪ ، )1‬وٌقول جوٌدة‬ ‫} وال تخاطبنً فً الذٌن ظلموا إ ّنهم مؽرقون‬ ‫جوٌدة من اآلٌة القرآنٌة‬
‫مستعٌرً ا داللة خطاب هللا لسٌدنا نوح ّ‬
‫لٌمثلها على الذٌن أداروا ظهورهم للمدٌنة المقدسة – القدس‬
‫‪ ، -‬وٌب ّشرهم بوعٌد ألٌم (‪: )2‬‬

‫ٌا نوح ال تعبؤ بمن خانوا‬

‫غادر‬
‫ْ‬ ‫فلن ٌنجو من الطوفان‬

‫بحل ِم ِه ْم‬
‫القدس تحتضنُ الرجال الراحلٌنَ ُ‬
‫ُ‬

‫غائر‬
‫ْ‬ ‫األعماق‬
‫ِ‬ ‫ح فً‬
‫والجر ُ‬

‫وٌستعٌر الشاعر الداللة الروحانٌّة السامٌة فً معجزة ارتداد البصر لسٌدنا ٌعقوب ‪ ،‬لكنّ‬
‫االستدعاء ٌشؾّ عن الكمد والحزن الشدٌد الذي رافق سٌدنا ٌعقوب فً ضٌاع ولده ‪ ،‬وٌتخذ‬
‫الشاعر إلى جانب ذلك داللة ضخامة الحدث والمعاناة ؛ ألن استدعاء القصة ٌتوقؾ لدى مصٌبة‬
‫سٌدنا ٌعقوب فً ولده ‪ ،‬دون أن تنفرج الؽمّة فً فضاء القصٌدة لدى الشاعر ‪ ،‬ومن ذلك تبدو‬
‫المفارقة بٌن مصٌر ك ّل من الشخصٌّة القرآنٌّة والشخصٌّة الشعر ٌّة ‪ٌ ،‬قول الشاعر فً هذا‬
‫السٌاق(‪: )3‬‬

‫ملح زادي‬
‫ودعاء أمً ‪ ..‬كٌس ٍ‬ ‫هـذا قمـٌصً فٌه وجه بنٌتً‬

‫ما ال أرى من غربتً وبعادي‬ ‫القمـٌص فقد ْ‬


‫رأت‬ ‫َ‬ ‫ردّ وا إلى أ ّمً‬

‫و ُتشٌع هذه األبٌات حالة التوجس التً انتابت األم قبل رحٌل ولدها فً رحلته هذه ‪ ،‬وكؤنها‬
‫كانت تحس فً نفسها شٌبا من االرتٌاب وعدم االرتٌاح ‪ ،‬وهو قلب األم الذي ال ٌخٌب ‪ ،‬وٌقترب‬

‫عالى ‪ ":‬واصْ َن ِع الفُ ْل َ‬


‫ك بؤعْ ٌُنِنا َو َوحْ ٌــِنا وال ُتخاطبنً فً الذٌن ظلموا إ ّنهم مؽرقون" ‪ ،‬سورة‬ ‫(‪ )1‬القرآن الكرٌم وذلك من قوله ت‬
‫هود ‪ :‬آٌة ‪ / 37‬وقوله تعالى ‪ ":‬وقٌل ٌا أرضُ ابلعً ماءكِ وٌا سما ُء أَ ْقلِعً وؼٌضَ الما ُء وقضًَ األم ُر واستوت على‬
‫للقوم الظالمٌن" سورة هود ‪ :‬آٌة ‪.43‬‬
‫ِ‬ ‫الجوديّ وقٌ َل بُع ًدا‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ :‬فً رحاب القدس(‪ ، )2009‬قصٌدة " لن تموتوا مرتٌن " ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬ماذا أصابك ٌا وطن ‪ ،‬قصٌدة " هذي ببلد لم تعد كببلدي ‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪114‬‬

‫ا والشمس والقمر ‪،‬‬ ‫بذلك من التفسٌر الذي قدمه سٌدنا ٌعقوب لولده حٌن رأى أحد عشر كوكبً‬
‫وحٌن توجّ س سٌدنا ٌعقوب خاؾ من كٌد أبنابه لًوسؾ ودعاه لكتمان رإٌاه ‪ ،‬وحٌن جًء على‬
‫بدم كذب } أدرك سٌدنا ٌعقوب أنّ فً األمر مكرً ا ‪ ،‬فرأى سٌدنا ٌعقوب ما لم‬
‫قمٌص ٌوسؾ { ٍ‬
‫ٌدركه ٌوسؾ إال بعد حٌن ‪ .‬وٌطلب الشاعر فً القصٌدة أن ٌُر ّد القمٌص إلى أمّه ‪ ،‬لكنّ هذا‬
‫القمٌص لن ٌُستتبع بذلك الؽابب كما فً القصة القرآنٌّة ‪ ،‬فمن هجر الببلد لم ٌعد إلٌها وكان البحر‬
‫بقسوته مبلذه األخٌر‪.‬‬

‫وفً قصٌدة عودة األنبٌاء ٌستدرج الشاعر أقطاب الدٌانات السماوٌة ‪ :‬محمد علٌه الصبلة‬
‫والسبلم وعٌسى وموسى علٌهما السبلم فً قصٌدته مع محموالت هذه الشخصٌات وحضورها ؛‬
‫دنا محمد صلى هللا علٌه وسلم ٌوم‬ ‫فبعٌسى علٌه السبلم رمز الصبر والسبلم واآلالم ‪ ،‬وبسً‬
‫أضاءت بنوره سماء القدس فً لٌلة اإلسراء والمعراج إلى سٌدنا موسى علٌه السبلم باعتباره‬
‫ً‬
‫رمزا للحق والقوة فً وجه الطؽاة ‪ٌ ،‬قول الشاعر (‪: )1‬‬

‫األرض ٌا موسى‬
‫ُ‬

‫الجماجم والسجونْ‬
‫ِ‬ ‫تض ُّلج من‬

‫َ‬
‫المشانق‬ ‫أطفالُنا عرفوا‬

‫ضاجعوا األحزانَ‬

‫زمن الجنونْ‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫وٌخاطب المسٌح علٌه السبلم‪ٌ ،‬قول‪:‬‬

‫ِ‬ ‫عٌسى رسول َ‬


‫ٌا مهدَ السالم‬

‫الناس‬
‫ِ‬ ‫هذي قبور‬

‫بالجماجم والعظا ْم‬


‫ِ‬ ‫ضاقت‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬قصائد فً رحاب القدس ‪" ،‬عودة األنبٌاء" ‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪115‬‬

‫أحٌاإنا فٌها نٌا ْم‬

‫محمد علٌه السبلم ‪:‬‬

‫أهال رسول َ‬

‫خٌر ال ُهدا ِة الصادقٌنْ‬


‫ٌا َ‬

‫أنا ٌا محم ُد قد أتٌ ُت َك‬

‫مِن درو ِ‬
‫ب الحائرٌنْ‬

‫‪.......‬‬

‫ٌا ُمنصِ ف األحٌاءِ والموتى‬

‫نورا أضاء طرٌقنا‬


‫وٌا ً‬

‫ترتع بٌننا‬
‫ُ‬ ‫تترك األحزانَ‬
‫ال ُ‬

‫هذه القصٌدة تصوّ ر العجز والقهر والظلم وتلتجا إلى نور األنبٌاء الهداة ‪ ،‬بعد أن ح ّل الظبلم‬
‫ّ‬
‫الحق ‪ ،‬هذه المدٌنة ترٌد استعادة النور الذي كان ٌسعى فً جنباتها بالعدل والقوّ ة‪ /‬موسى‬ ‫وؼاب‬
‫علٌه السبلم ‪ ،‬والسبلم والمحبّة والصبر ‪ /‬المسٌح علٌه السبلم ‪ ،‬وبنور الهداة الصالحٌن وإمامتهم ‪/‬‬
‫محمد علٌه الصبلة والسبلم ‪:‬‬

‫للضٌاء‬
‫ْ‬ ‫عاد الظال ُم مدٌنتً ‪ ...‬ما كن ِ‬
‫ت ٌومــًا‬

‫األنبٌاء‬
‫ْ‬ ‫اآلنَ ٌرحل ُ عنكِ ُ‬
‫نور‬

‫السماء‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ٌخترق‬ ‫النور‬
‫ُ‬

‫‪......‬‬

‫الضٌاء‬
‫ْ‬ ‫ما عادَ فٌكِ مدٌنتً شً ٌء لٌمنحنا‬
‫‪116‬‬

‫وتبدو النمطٌة فً استحضار هذه الشخصٌات وتوظٌؾ محموالتها فً جو القصٌدة ‪ ،‬وقد باتت‬
‫النمطٌة " من أخطر المزالق الفنٌّة التً تتهدد عملٌّة استدعاء الشخصٌّات التراثٌّة فً شعرنا‬
‫المعاصر بالتحول إلى عملٌّة تقرٌرٌّة فجّ ة " (‪.)1‬‬

‫وقؾ رسول هللا فً حجّ ته األخٌرة " حجّ ة الوداع"‪،‬‬


‫وفً أجوا ٍء روحانٌّة عالٌة ٌستدعً جوٌدة ة‬
‫وٌقؾ الشاعر أمام باب رسول هللا فً روضته الشرٌفة باكًٌا ‪ ،‬وٌحضره الشعر حتى تتجلّى له‬
‫صورة الرسول – صلّى هللا علٌه وسلم ‪ ، -‬وتتر ّدد كلماته فً أذن الشاعر ‪ ،‬وكؤنها ُتقال لتوّ ها ‪،‬‬
‫وبدت هذه القصٌدة أشبه بوج ٍد صوفًّ تهٌم بها روح جوٌد ة فً حاالت إٌمانٌّة عالٌة ‪ٌ ،‬جهد فٌها‬
‫الشاعر فً مدح خٌر البرٌّة ‪ ،‬وٌتبلقى فً قصٌدته مع خطبة الوداع فً قول الرسول الكرٌم ‪":‬‬
‫‪.)2‬‬ ‫أٌّها الناس ‪ ،‬اسمعوا قولً ‪ ،‬فإ ّنً ال أدري لعلًّ ال ألقاكم بعد عامً هذا بهذا الموقؾ ً‬
‫أبدا" (‬
‫ٌقول جوٌدة – مستحضرً ا قول رسول هللا – (‪: )3‬‬

‫ٌطوف فً عبراتً‬
‫ُ‬ ‫ِب الزمانُ‬
‫رك َ‬

‫وأنا أرا َك تطل ّ مِن عرفا ِ‬


‫ت‬

‫خاشعا‬
‫ً‬ ‫وأ َما َمك التارٌ ُخ ٌجس ُد‬

‫والحق حولَ َك شام ُخ الراٌا ِ‬


‫ت‬ ‫ّ‬

‫مشرق‬
‫ٍ‬ ‫وتودّ ُع الدنٌا بوج ٍه‬

‫فٌه الجالل ُ ‪ ..‬ونبل ُ كل صفا ِ‬


‫ت‬

‫تهمس بٌنها‬
‫ُ‬ ‫الجموع وأن َ‬
‫ت‬ ‫ُ‬ ‫تبكً‬

‫قدْ ال أرا ُك ْم فً الحجٌج اآلتً‬

‫ّ‬
‫المتمثلة بالصلب والفداء‬ ‫وعلى صعٌد آخر ‪ ،‬تبدو إفادة الشاعر من الموروث الدٌنًّ الم سٌحًّ‬
‫‪ ،‬وال ٌتجاوز الشاعر فً هذا االستدعاء تصورات المتلقً عن الثابت فً األذهان ‪ ،‬فقد " ظل رمز‬
‫المسٌح فً إطار داللته الراسخة ‪ :‬الصلب ‪ .‬ولم ٌستطع أحد تحرٌر هذا الرمز تمامًا من مٌراثه‬

‫(‪ )1‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)2005‬استدعاء الشخصٌات التراثٌة فً الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬دار الؽرٌب للطباعة والنشر‬
‫والتوزٌع ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.294‬‬
‫(‪ )2‬ابن هشام ‪ ،‬أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أٌوب الحمٌري (‪ 218‬هـ‪ 833 /‬م) ‪ ،‬تهذٌب سٌرة ابن هشام ‪ ،‬تحقٌق‪:‬عبد‬
‫السبلم هارون ‪ ،‬ط‪، 6‬مكتبة السنة ‪ ،‬القاهرة ‪ ،1989 ،‬ص ‪.285‬‬
‫(‪ )3‬صحٌفة األهرام المصرٌّة ‪ ،‬زاوٌة " هوامش حرّة "‪،‬على باب المصطفى ‪ ،‬بقلم فاروق جوٌدة ‪. 2010/3/12 ،‬‬
‫‪117‬‬

‫ح ًقا"(‪ ، )1‬وٌتصل هذا الرمز – فً العادة‪ -‬بمعانً التضحٌة واآلالم ‪ ،‬وٌجًء لدى الشعراء فً‬
‫سٌاق الحدٌث عن القضٌّة الفلسطٌنٌّة ‪ ،‬وسابر الببلد الع ربٌّة التً تلقى ْ‬
‫الجور واإلٌذاء ‪ٌ ،‬قول‬
‫جوٌدة (‪: )2‬‬

‫حتى ولو صلبوك ح ٌّا‬

‫ال تهادنْ‬

‫هل ٌستوي البطل ُ الشهٌ ُد‬

‫مؤجور وخائنْ ؟!‬


‫ٍ‬ ‫أما َم‬

‫وفً سٌاق متصل ‪ٌ ،‬بدو إٌحاء الشاعر بؤجواء العشاء األخٌر التً ٌستدعً عبرها محنة‬
‫والمرو عٌن ‪ ،‬وتتقاطع القصٌدة مع الرواٌة ا إلنجٌلٌّة فً عبارة " خبز‬
‫َّ‬ ‫أطفال العراق الجٌاع‬
‫الموت" ‪ ،‬تلك الرواٌة التً تشٌر إلى الخبز الذي باركه المسٌح فً العشاء األخٌر حٌن قال‬
‫للحوارٌٌن " خذوا كلوا ‪ :‬هذا هو جسدي " ( ‪ ، )3‬وفٌما كان المسٌح ٌمنحهم خبز الحٌاة ‪ ،‬وٌعطٌهم‬
‫األبدٌّة ‪ٌ ،‬قتسم أطفال العراق " خبز الموت" قبل أن ٌُؽدَر بهم لًُ ـقتلوا بصورة وحشٌّة ‪ ،‬تنهً‬
‫عذاباتهم (‪: )4‬‬

‫أطفال ُ بغدادَ الحزٌن ِة ٌسؤلونْ ‪..‬‬

‫ب ٌُقتلونْ‬
‫عن أي ذن ٍ‬

‫الجوع‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ٌتر ّنحونَ على شظاٌا‬

‫ٌقتسمونَ خبز المو ِ‬


‫ت ث ّم ٌودّ عون‬

‫ً‬
‫حٌزا كبٌرً ا من رإاه الشعرٌّة‬ ‫وال ٌقؾ التؤثر عند ح ّد لدى جوٌدة ‪ ،‬حٌث ٌشؽل التراث الدٌنًّ‬
‫ا بالمفاهٌم الدٌنٌّة‬ ‫‪ ،‬فكما ٌهتدي الشاعر بنصوص من كتاب هللا ‪ ،‬فإنه ٌبدي كذلك تؤثرً ا واضحً‬

‫الشعري ‪ ،‬دراسات نقدٌّة ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة العامة‪ ،‬ط‪ ، 1‬بؽداد ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر (‪ ،)1990‬فً حداثة النص‬
‫ص ‪ .60‬وانظر أٌضًا ‪ :‬الضاوي ‪ ،‬أحمد عرفات (‪ ، )1998‬التراث فً شعر رواد الشعر الحدٌث ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬ط‪، 1‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً لٌلة عشق ‪ ،‬قصٌدة " إلى آخر شهداء االنتفاضة " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.457‬‬
‫(‪ " )3‬وفٌما هم ٌؤكلون ‪ ،‬أخذ ٌسوع الخبز ‪ ،‬وبارك وكسر ‪ ،‬وأعطى التبلمٌذ وقال خذوا كلوا هذا جسدي الذي ٌبذل عنكم "‬
‫متى ‪. 26:26‬‬
‫(‪http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=1991 )4‬‬
‫‪118‬‬

‫والمعتقدات المستمدة من القرآن الكرٌم والسنة النبوٌّة ؛ كمفهوم القضاء والقدر ‪ ،‬ومعانً عاقبة‬
‫الظلم إذ ٌقول (‪: )1‬‬

‫‪..‬‬ ‫ُ ‪ٌ ..‬ا‬ ‫ُ ‪ٌ ..‬ا‬

‫َ‬
‫أنت الوا ِح ُد الباقً‬

‫الفناء‬
‫ْ‬ ‫القهر ٌطوٌ ِه‬
‫ِ‬ ‫وعصر‬
‫ُ‬

‫كل ّ الطغا ِة ‪ ..‬وإن تمادى ظل ُم ُهم‬

‫ٌتساقطونَ ‪..‬‬

‫تشاء‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأنت تفعل ُ ما‬

‫والشعبً ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬التناص األسطوري‬

‫تتخذ األسطورة فً الذاكرة الجمعٌّة ً‬


‫حٌزا ال ٌستهان به ‪ ،‬وهً حكاٌة ذات أحداث عجٌبة‬
‫خارقة للعادة ‪ ،‬استعان بها اإلنسان البدابًّ األوّ ل لتفسٌر الظواهر الكونٌّة ‪ ،‬ورؼم أنها تحكً‬
‫ً‬
‫تارٌخا ٌتعارض مع الواقع إال أ ّنها تصوّ ر وعًٌا حضارٌّا كبٌرً ا ‪ ،‬وتكتسً أهمٌتها من ذلك المحمل‬
‫الفكريّ المنتِج والمعبّر عن حراك فكريّ واع ومتق ّدم لدى اإلنسان األول فً النظر فً الكون ‪،‬‬
‫وقدرة على الكتابة والتعبٌر ‪.‬‬

‫واألسطورة هً " حكاٌة عن كابنات تتجاوز تصورات العقل الموضوعً ‪ ،‬وما ٌمٌزها عن‬
‫الخرافة هو االعتقاد فٌها ‪ :‬فاألسطورة موضوع اعتقاد " (‪ ، )2‬وألن األسطورة نتاج إبداع اإلنسان‬
‫فهً ذات مساس حقٌقً بحٌاته اإلنسانٌّة والفكرٌة ‪ ،‬وتعبّر بشكل جلًّ عن كل ما ٌتصل به من‬
‫قضاٌا الموت والخٌر والشرّ وسابر ا ألخبلق ‪ ،‬ومن هنا تبدو قص ور نظرة البعض إلٌها بكونها‬
‫مجرد تشكٌل بدابً ؛ أل ّنها " عامل جوهري وأساسً فً حٌاة اإلنسان فً كل عصر ‪ ،‬وفً أرقى‬
‫الحضارات" (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علمنً ‪ ،‬قصٌدة " نهاٌة طاؼٌة" ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.339‬‬
‫العربً ‪ ،‬دار الطلٌعة‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪ ،‬ص ‪. 8‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬خلٌل ‪ ،‬أحمد خلٌل (‪ ،)1973‬مضمون األسطورة فً الفكر‬
‫العربً المعاصر ‪ ،‬دار الفكر العربً ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪ ،1966 ، 3‬ص ‪.222‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ‪ :‬الشعر‬
‫‪119‬‬

‫على صعٌد تجربته الشعرٌّة ؛ فكل‬ ‫وال ٌتكا جوٌدة ع لى األسطورة أو ٌنفذ من خبللها‬
‫استدعاءاته تبقى فً إطار المؤلوؾ ‪ ،‬حٌث ال ٌعوّ ل كثٌرً ا على ثقافة المتلقً‪.‬‬

‫وقد تواصل الشاعر مع الموروث عبر أسطورة العنقاء ‪ ،‬ووظفها لٌشٌر إلى التجدد والحٌاة ‪،‬‬
‫وبعث الحًاة من جدٌد من تح ت الرماد ؛ فالعنقاء طابر احترق ؼضبًا وألمًا على العذابات التً‬
‫ٌواجهها اإلنسان فً العالم األرضًّ ‪ ،‬وتحول إلى رماد إال أنه عاد وانبعث عبر بٌضة بقٌت فً‬
‫العش (‪ ، )1‬وٌتوسّل الشاعر به لئلشارة إلى الشعب الفلسطٌنًّ الذي ال تنتهً أسباب مقاومته ‪،‬‬
‫وكما تشٌر البٌضة التً بقٌت فً العش إلى حٌاة جدٌدة ‪ ،‬فإن الشعب الفلسطٌنًّ كذلك سٌولد من‬
‫ّ‬
‫وٌتمثل الشاعر‬ ‫جدٌد ‪ ،‬لئلشارة إلى أ ّنه شعب خالد ال ٌموت ‪ ،‬رؼم كل محاوالت اإلبادة ‪،‬‬
‫األسطورة عبر األبٌات التالٌة ‪ ،‬فٌقول (‪: )2‬‬

‫ال تحزنً أم المدائن ‪ ..‬ال تخافً‬

‫الٌوم غدْ‬
‫ِ‬ ‫سوف ٌولَ ُد من رماد‬

‫طام‬
‫الح ِ‬
‫أطالل ُ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ستنبت بٌن َ‬ ‫فغدًا‬

‫بستان ووردْ‬
‫ٍ‬ ‫ظالل‬

‫الركام‬
‫ِ‬ ‫ج من لظى هذا‬
‫وغدًا سٌخر ُ‬

‫فرسان ومجدْ‬
‫ٍ‬ ‫صهٌل‬

‫وٌستدعً الشاعر كذلك األسطورة البابلٌّة " جلجامش" فً رحلته للبحث عن عشبة الخلود ‪،‬‬
‫التً خاض ألجلها المجاهٌل ً‬
‫الهثا وراء سر الحٌاة والشباب األبديّ ‪ ،‬وٌتقاطع البٌت مع األسطورة‬
‫فً عبارة " سر الحٌاة " ‪ ،‬وفً اإلخفاق الذي لحق جلجامش فً بلوغ ؼاٌته ‪ ،‬كما لحق الشاعر‬
‫وألقمه الخٌبة ‪ ،‬حٌن لم تتحقق آماله الوطنٌّة ‪ٌ ،‬قول الشاعر فً هذا السٌاق (‪: )3‬‬

‫فدس ْت س ّمها فٌنا‬


‫سر الحٌاة ّ‬
‫ّ‬ ‫جئنا للٌلى وقلنا إنّ فً ٌدها‬
‫ولٌلى فً وجدان المتلقً العربًّ هً الحبٌبة األوفر ً‬
‫حظا فً االستدعاء لدى الشعراء‬
‫المعاصرٌن ‪ ،‬والشاعر هنا ٌتوسّل بها لئلشارة إلى ببلد النفط التً هاجر إلٌها المصرٌون طمعً ا بــ‬

‫العربً ‪ ،‬ص ‪.72‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬خلٌل ‪ ،‬أحمد خلٌل ‪ ،‬مضمون األسطورة فً الفكر‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " ال تنتظر أح ًدا‪ ..‬فلن ٌؤتً أحد" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.266‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان كانت لنا أوطان ‪ ،‬قصٌدة "عودوا إلى مصر " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.33‬‬
‫‪120‬‬

‫" الدوالر" ‪ ،‬إال أنّ الحٌاة قد بدت لهم تعٌسة وموحشة ً‬


‫بعٌدا عن النٌل وحٌاة البسطاء‪ .‬ومن هنا‬
‫تبدو اإلشارات البسٌطة التً مال إلٌها الشاعر فً وقوفه أمام األسطورة ‪.‬‬

‫ُ‬
‫والتراث‬ ‫أما التناص الشعبًّ أو الفلكلوريّ فقد بدا أكثر وضوحً ا التصاله بحٌاة الناس ‪.‬‬
‫الشعبً هو " األدب المجهول المإلِؾ ‪ ،‬العامً اللؽة ‪ ،‬المتوارث جٌبل بعد جٌل بالرواٌة الشفوٌّة "‬
‫(‪ ، )1‬وتشكل الحكاٌة الشعبٌّة نمط سلوك الجماعة وطباعها وعاداتها ‪ ،‬وهً فً كثٌر منها تكشؾ‬
‫عن رؼبات اإلنسان وطماحاته ‪ .‬ودرجت العادة أن تصبح هذه الحكاٌات من المروٌّات ‪ ،‬وتصبح‬
‫الحكاٌة الشعبٌّة جزءًا من هوٌة األمة ووجودها الحضاريّ ‪ .‬وتعالج الحكاٌة الشعبٌّة – فً الؽالب‪-‬‬
‫القضاٌا المسٌسة بالواقع االجتماعًّ والٌومًّ العاديّ لدى اإلنسان ولكنها تستقر فً وعً الجماعة‬
‫وفقا للخوارق التً ٌتمتع بها أبطالها فً تحقٌق المعجزات والقضاء على الشر‪.‬‬

‫ومن ذلك حكاٌة السندباد ؛ إذ نالت شخصٌته اهتمامًا كبٌرً ا من الشعراء المعاصرٌن ‪ ،‬أل ّنها‬
‫مثلت الطموح ْ‬
‫وجوب األفاق ؛ واختبار المؽامرات التً ٌسعى الشاعر من خبللها كً ٌحقق‬
‫وجوده اإلنسانًّ ‪ ،‬فـــ" إلقاء الضوء على شخصٌة السندباد كانت لثراء هذه الشخصٌّة ‪ ،‬وقدرتها‬
‫على حمل األبعاد المتعددة لتجربة اإلنسان المعاصر ‪ ،‬ومؽامرته فً دروب الوجود" (‪. )2‬‬

‫لكنّ جوٌدة هنا ٌحسّ بالمرارة والهزٌمة ‪ ،‬وٌطلب إلى السندباد أن ٌعود من مؽامراته ؛ أل ّنها‬
‫لم تعُد م جدٌة ‪ ،‬وٌبدو أنّ الشاعر هنا ٌجرّ د السندباد من قدرته على ارتٌاد الصعاب ‪ ،‬وبذلك تبدو‬
‫الشخصٌة عاجزة عن تؤدٌة دال لتها المعهودة التً تستحضر فً سٌاقها ؛ فالسندباد الذي كان ٌعود‬
‫بالحكاٌات والكنوز ‪ ،‬ال ٌستطٌع أن ٌؤتً الٌوم بشًء ؛ ألنه لن ٌجد سوى " البوار " ‪ .‬ولما ٌبدٌه‬
‫استحضار رحلة السندباد من الخٌبة والخسارة ‪ٌ ،‬عمق الشاعر فً مقابل ذلك صورة اإلنسان‬
‫العربًّ المهزوم الذي لم ٌعد بوس ِع ِه أن ٌق ّدم شٌبا ألمّته (‪: )3‬‬

‫ٌا سندباد العصر إرجع‬

‫لم ٌعد فً الحب شًء‬

‫(‪ )1‬بنٌس ‪ ،‬محمد (‪ ،)1985‬ظاهرة الشعر المعاصر فً المغرب ‪ ،‬دار التنوٌر للطباعة والنشر ‪ ،‬ط‪ ، 2‬المؽرب ‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫(‪ )2‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)1984‬الرحلة الثامنة للسندباد‪ ،‬دراسة فنٌّة عن شخصٌّة السندباد فً شعرنا المعاصر ‪ ،‬دار‬
‫ثابت‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان آخر لٌالً الحلم ‪ ،‬قصٌدة " النجم ٌبحث عن مدار " ‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.78‬‬
‫‪121‬‬

‫غٌر هذا االنتحار‬

‫إرجع فإنّ األرض شاخت‬

‫والسنٌن الخضر‬

‫البوار‬
‫ْ‬ ‫ٌؤكلُها‬

‫وٌتصل التراث الشعبً كذلك بالمعتقدات المؽلوطة التً درجت علٌها العامّة فً تحصٌن‬
‫أحبابهم من العٌن والحسد والمكاره ‪ ،‬وتبدو المرجعٌّة الشعبٌّة التً ٌستعٌرها الشاعر عبر " اللفافة‬
‫" و " التعوٌذة " التً ٌسمٌّها العامّة " حجابًا " ‪ٌ ،‬قول الشاعر (‪: )1‬‬

‫وهناك فً الركن البعٌد‬

‫لفافة فٌها دعاء من أبً‬

‫تعوٌذة من قلب أمً‬

‫القدر‬
‫ْ‬ ‫لم ٌباركها‬

‫وٌعطً التناص مع التراث الشعبًّ للشعر مصداقٌّة عالٌة ‪ ،‬وقربًا إلى المتلقً ؛ فقد أفاد‬
‫الشاعر من المقولة الشعبٌّة " الجوع كافر " ‪ ،‬فً قوله (‪: )2‬‬

‫هذا هو الطغٌان ٌعبث فً قلو ِ‬


‫ب الناس منتش ًٌا‬

‫وفً سف ٍه ٌجاه ِْر‬

‫وأما َم بابِ َك ٌصرخ األطفال ُ جوعى‬

‫َ‬
‫سمعت اآلن أنات الحناجر؟!‬ ‫هل‬

‫كافر‬
‫موالي ْ‬
‫َ‬ ‫الجوع ٌا‬
‫ُ‬

‫كما ٌنسجم مع التوجٌه النبويّ ‪ ،‬فٌما أثر عن الرسول الكرٌم من دعابه " اللهم إ ّنً أعوذ بك‬
‫من الكفر والفقر ‪ ،‬وأعوذ بك من عذاب القبر ‪ ،‬ال إله إال أنت" ‪ ،‬وذلك من باب اقتران الكفر بالفقر‬
‫فً الحدٌث النبويّ الشرٌؾ‪.‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان كانت لنا أوطان ‪ ،‬قصٌدة " أحزان لٌلة ممطرة " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.19‬‬
‫(‪ )2‬قصٌدة " األرض قد عادت لنا " ‪. http://www.youtube.com/watch?v=n9PrdJxrfEY‬‬
‫‪122‬‬

‫" شفٌق جبر" ؛‬ ‫وتستدعً األبٌات التالٌة إلى أذهاننا حكاٌة ثابتة فً المخٌال الج معًّ لــ‬
‫ذلك القرويّ الذي دخل قرٌة وتوجّ ه إلى مقبرتها ‪ ،‬فعجب لما كتب على شواهد قبورها ‪ ،‬حٌن ُخط‬
‫على إحداها " هنا ٌرقد فبلن الفبلنً ‪ ،‬ولد عام ‪ 1917‬وتوفً عام ‪ 1985‬وعمره ثبلث سنوات "‬

‫إلى أن أدرك أنّ أهل هذه القرٌة ٌحسبون أعمارهم بعدد السنوات التً عاشوها سعداء ‪ ،‬فطلب‬
‫َ‬
‫ٌحظ‬ ‫إلٌهم أن ٌكتبوا على شاهدة قبره " هنا ٌرقد ج بر ‪ ..‬من بطن أمه للقبر " فً إشارة إلى أنه لم‬
‫بالسعادة ٌومًا ‪ ،‬وفً هذا الصدد ٌقول الشاعر (‪: )1‬‬

‫الحلم البعٌدْ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫زورق‬ ‫أنا‬

‫حار الزمانُ بسحرها‬


‫أنا لٌلة َ‬

‫بالزمن السعٌدْ‬
‫ِ‬ ‫ٌقاس‬
‫ُ‬ ‫عمر الحٌا ِة‬
‫ُ‬

‫ولتسؤلً ع ٌْن ٌْكِ أٌن برٌقُها؟‬

‫ألم ‪ :‬توارى ‪ ..‬صار شٌ ًئا من جلٌدْ‬


‫ستقول ُ فً ٍ‬
‫كما تظهر إلفادة الشاعر فً قصٌدته من الموروث الشعبًّ األبرز فً مصر ‪ ،‬وهو التبرك‬
‫بزٌارة الحسٌن(‪ ، )2‬واللجوء إلٌه فً قضاء الحاجات ‪ ،‬وشفاء العاهات ‪ ،‬وتفرٌج الهموم ‪ ،‬وقد‬
‫أشرنا إلى دالالت هذه االستفادة فٌما سبق من مباحث الرسالة‪.‬‬

‫‪ .3‬التناص األدبً ‪:‬‬

‫ٌصق ُل االستناد إلى الموروث األدبًّ والشعري موهبة الشاعر وٌربًّ حسّه ‪ ،‬وٌدفع به‬
‫إلنتاج نصوص جدٌدة تنتمً إلى جذورها األولى ‪ ،‬وتكتسب فً ذاتها درجة من اإلبداع ‪ُ ،‬تعرّ ؾ‬
‫بثقافة الشاعر ‪ ،‬وقدرته التواصلٌّة مع اإلرث الشعريّ ؛ ففً التولٌد والتضمٌن والتؤثر وما سوى‬
‫ذلك من الوسابل التناصٌّة إبقا ٌء على الهوٌة العربٌّة ‪ ،‬وضمان خلودها بتناقلها ً‬
‫جٌبل عن جٌل ‪.‬‬
‫والتناص مع الموروث الشعريّ من أهم ما ٌتوسّل به الشعراء لخدمة التراث ‪ ،‬والمساهمة فً‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة "عٌناك أرض ال تخون" ‪ ،‬مج ‪،1‬‬
‫(‪ )2‬برنامج " مع فاروق جوٌدة " ‪ ،‬تلفزٌون الحٌاة المصريّ ‪ ،‬الجمعة ‪ 1‬نٌسان ‪.2011‬‬
‫‪123‬‬

‫اتصال الماضً بالحاضر ‪ ،‬وهو إلى جانب ذلك إؼنا ٌء للقصٌدة ‪ ،‬وداع ٌم لفهم المعنى الذي ٌرمً‬
‫إلٌه الشاعر الجدٌد ‪ ،‬عبر استعارة ما رسخ فً األذهان من الشعر المستدعى ‪.‬‬

‫ُ‬
‫وٌحدث أن تتمدد المسافة بٌن النص اآل خِذ والنص المؤخوذ عنه ‪ ،‬كؤن ٌُلمح الشاعر المستفٌد‬
‫إلماحً ا للنص القدٌم دون أن ٌكون ذلك شدٌد الظهور ‪ ،‬وهو ما ٌطلق علٌه بالتناص " الخفً (‬
‫العمٌق) وهو ما ٌتم إنتاجه بفعل مجموعة من القوانٌن التحوٌلٌّة التً عبّر عنها نقادنا القدامى‬
‫بمصطلحات مثل ‪ :‬النقل ‪ ،‬القلب ‪ ،‬الزٌادة ‪ ... ،‬والتناص إذا كان على درجة كبٌرة من الخفاء ال‬
‫ٌسهل الوقوؾ علٌه إال لمن أكثر من حفظ األشعار" (‪ ، )1‬وٌبدو من ذلك إسقاط جوٌدة مؽزى بٌت‬
‫الحرٌري – صاحب المقامات‪ -‬الذي ٌدعو إلى حكمة التسلٌم لتقلّب الدهر ‪ ،‬الذي ال ٌثبت على حال‬
‫‪ٌ ،‬ورد الحرٌري فً ذلك قوله فً المقامة الشعرٌّة (‪:)2‬‬

‫األقدار‬
‫ِ‬ ‫شر ُك الردى وقرارةُ‬ ‫ٌا خاطب الدنـٌا الدن ٌّة إنها‬

‫دار‬
‫أبكت غدًا ُبعدًا لها ِم ـن ِ‬ ‫دار متى ما أضحكت من ٌومها‬
‫ٌ‬

‫ّ‬
‫لٌحذر المحبوبة من مؽبّة الفراق ‪ ،‬فٌقول (‪: )3‬‬ ‫فٌما ٌمتص جوٌدة المعنى من األبٌات السابقة‬

‫ُ‬
‫الصمت أحال َمنا‬ ‫غدًا ٌؤكل ُ‬
‫ُ‬
‫أعانق فٌك الردى‬ ‫تعالً‬

‫قصٌر‬
‫ٍ‬ ‫عمر‬
‫ٍ‬ ‫أراكِ ابتسامة‬

‫فمهما ضحكنا سنبكً غدا‬

‫وٌنمو التفاعل النصًّ لدى جوٌدة فً مواضع كثٌرة من وح دة الشعور بٌن الشاعر الحد ٌث‬
‫والقدٌم ‪ ،‬فٌؤتً التوظٌؾ متساو ًقا مع تجربة الشاعر وحالته النفسٌّة ‪ ،‬من ذلك قول جوٌدة (‪: )4‬‬

‫ْ‬
‫هدأت‬ ‫القدس عادَ ْت وال أحال ُمنا‬
‫ُ‬ ‫ال‬

‫الشعري قراءة أخرى لقضٌة السرقات ‪ ،‬منشؤة المعارؾ ‪ ،‬االسكندرٌة ‪،‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬السعدنً ‪ ،‬مصطفى (‪ ،)1991‬التناص‬
‫ص‪.96‬‬
‫(‪ )2‬الحرٌري ‪ ،‬أبو محمد القاسم بن علً بن محمد بن عثمان الحرٌري البصري (‪ 516‬هـــ ‪1112-‬م) ‪ :‬مقامات الحرٌري (‬
‫برواٌة الزمخشريّ ) ‪ ،‬مطبعة المعارؾ ‪ ،‬بٌروت ‪ ،1873 ،‬ص ‪.224‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علّمنً ‪ ،‬قصٌدة " أرٌدك عمري " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪. 298-297‬‬
‫(‪)4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " مرثٌّة حلم " ‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.187‬‬
‫‪124‬‬

‫نموت و ُتحٌٌنا أمانٌنــــا‬


‫ُ‬ ‫وقد‬

‫العمر ‪ ..‬ال حل ٌم وال وطنٌ‬


‫َ‬ ‫ما أثقل َ‬
‫سٌف لٌحمٌنا‬
‫ٌ‬ ‫وال أمانٌ وال‬

‫وٌعٌد الشاعر إلى األذهان فً الشطرٌن األخٌرٌن بٌت المتنبً " ب َم التعلل ال أه ٌل وال‬
‫تكثؾ مشاعر الحزن ‪ ،‬وتإكد توحّ دها لدى الشاعرٌْن ‪.‬‬ ‫وطن‪، "...‬وهً إحالة ّ‬

‫وال تقؾ استعانة جوٌدة بالموروث الشعريّ عند ح ّد التبلقً مع نتاج الشعراء القدماء ؛ إذ‬
‫ٌساٌر جوٌدة قصٌدة الشاعر علً الجارم فً محاولة منه إلنعاش ذاكرة الجٌل لصورة بؽداد البهٌّة‬
‫فً قصابد الشعراء ‪ ،‬وٌحاكً جوٌدة قصٌدة الجارم ؛ الستعادة وهج أٌّام بؽداد الماضٌة ‪ ،‬وإلحٌاء‬
‫أمنٌاته فً عودتها لسابق عهدها ‪ٌ ،‬قول علً الجارم (‪: )1‬‬

‫ومنارة المجد التلٌد‬ ‫بغداد ٌا بلد الرشٌد‬

‫زهراء فً ثغر الخلود‬ ‫ٌا بسمة ل ّما تزل‬

‫ومضرب المثل الشرود‬ ‫ٌا موطن الحب المقٌم‬

‫بة ُخ ّط فً لوح الوجود‬ ‫ٌا سطر مجد للعرو‬

‫وٌقول جوٌدة فً قصٌدته (‪: )2‬‬

‫بغدا ُد ٌا بلدَ الرشٌدْ ‪...‬‬

‫والزمن المجٌدْ‬
‫ِ‬ ‫التارٌخ ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ٌا قلعة‬

‫والصبح المج ّن ِح‬


‫ِ‬ ‫اللٌل‬
‫ِ‬ ‫ارتحال‬
‫ِ‬ ‫بٌن‬

‫ٌ‬
‫موت و عٌدْ‬ ‫لحظتانْ ‪..‬‬

‫شطر منه مع تبدٌل‬


‫ٍ‬ ‫وفً قصٌدة أخرى ٌضمّن جوٌدة بٌ ًتا ألبً تمام عبر استجبلبه ‪ ،‬واستقطاع‬
‫بسٌط ‪ ،‬وهو ما ٌكشؾ عن تنوّ ع وؼنىً فً قصٌدة الشاعر ‪ ،‬إضافة إلى عفوٌّة الشاعر وتلقابٌّته‬

‫(‪ )1‬الجارم ‪ ،‬علً (‪ ،)1990‬الدٌوان ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 2‬مصر‪ ،‬قصٌدة " بؽداد " ( كتبت عام ‪ ، )1938‬ص ‪.172‬‬
‫(‪ http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm)2‬من قال إن النفط أؼلى من دمً ‪.‬‬
‫‪125‬‬

‫فً استحضار البٌت ‪ .‬وبذلك التحوٌر ا لبسٌط ‪ ،‬تبلمس قصٌدة جوٌدة النص األصٌل ‪ ،‬كما تبدو‬
‫عمٌقة الصلة بواقع الشاعر ‪ ،‬والؽاٌة التً استدعٌت ألجلها ‪ٌ ،‬قول (‪: )1‬‬

‫تن ُم بٌن ضلوعِ نا‬


‫السنٌن ا‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫جثث‬

‫فؤش ّم رائحة‬

‫مات فً قلبً ‪ ..‬وتسق ُط دمعتانْ‬


‫لشًء َ‬
‫ٍ‬

‫فالعطر عطركِ والمكانُ ‪ ..‬هو المكانْ‬


‫ُ‬

‫لكنّ شٌ ًئا قد ّ‬
‫تكسر بٌننا‬

‫ت أن ِ‬
‫ت ‪ ...‬وال الزمانُ هو الزمانْ‬ ‫ال أن ِ‬

‫والمقطع السابق بالشطر األخٌر ٌحاكً قول أبً تمام (‪: )2‬‬

‫األوطار‬
‫ُ‬ ‫خف الهوى وتولّت‬
‫ّ‬ ‫دٌار‬
‫الدٌار ُ‬
‫ُ‬ ‫ت أن ِ‬
‫ت وال‬ ‫ال أن ِ‬

‫بحار‬
‫ُ‬ ‫الطلول وأهلها زم ًنا عذاب الور ِد فهً‬
‫ِ‬ ‫مجاورةُ‬
‫َ‬ ‫كانت‬

‫وٌبدو من ذلك كٌؾ ٌؤتً التناص ‪،‬عامّة ‪ ،‬فً صور بسٌطة ‪ ،‬قرٌبة إلى ذهن ا لمتلقً بمعانٌها‬
‫فً‬ ‫وما تحٌل إلٌه ‪ ،‬دون أن ٌصرؾ الشاعر طاقته فً إبراز قدراته الفنٌة ‪ ،‬أو كشؾ طاقاته‬
‫استدراج نصوص ؼٌر م ألوفة للقارئ وتطوٌعها فً بنٌة القصٌدة ‪ ،‬وبذلك فإنّ جوٌدة ٌحاول أن‬
‫ٌترك المتلقً فً حالة من االسترخاء الذهنً التا ّم ‪ ،‬فبل ٌجهده فً البحث عن أصول النصوص‬
‫المستدعاة والمُطوّ عة فً ظ ّل النص ‪ ،‬إ ّنما ٌق ّدم للقارئ لفتة بسٌطة ‪ ،‬تدعو األخٌر إلى النهوض‬
‫استنادا لما تحققه هذه المرجعٌّات فً نفس القارئ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بالنصّ ‪ ،‬فهمًا ّ‬
‫وتؤثرً ا ‪،‬‬

‫ت وال الزمان هو الزمان " ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.347‬‬ ‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة "ال أن ِ‬
‫ت أن ِ‬
‫(‪ )2‬أبو تمام ‪ ،‬حبٌب بن أوس بن الحارث الطائً ( ت ‪232‬هـ ‪843 /‬م)‪ ،‬دٌوان أبً تمّام ‪ ،‬شرح الخطٌب التبرٌزيّ ‪،‬‬
‫تحقٌق‪ :‬محمد عبد عزام ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط ‪ ، 4‬القاهرة‪ ،‬سلسلة ذخابر العرب ‪ ، 5‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.68‬‬
‫‪126‬‬

‫المبحث الثانً‬
‫المفارقة التصوٌرٌة‬
‫‪127‬‬

‫المفارقة التصوٌر ٌّة‬

‫اإلحساس الصادق لدى الشاعر ‪ ،‬وتق ّدم حساسٌته العالٌة فً هذا العالم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تلخص المفارقة‬
‫المإلم الذي ٌضعه فً اختبار دقٌق بٌن ما هو كابن وما ٌجب أن ٌكون ‪ ،‬ولبشاعة الراهن تتش ّكل‬
‫المفارقة‪ ،‬كؤن الشاعر ٌفقد توازنه حٌن النظر إلى هذا العالم المضطرب لٌقول إنّ ك ّل ما يدور فً‬
‫األنحاء ؼٌر منطقًّ ‪ .‬وٌرى جوته أنّ " المفارقة هً ذرة الملح التً وحدها تجعل الطعام مقبول‬
‫المذاق" (‪ ، )1‬وتعنً المفارقة حدوث ما ال ٌتوقع ‪ ،‬والتعبٌر عن موقؾ على ؼٌر ما ٌستلزمه ذلك‬
‫الموقؾ (‪ )2‬؛ فـ " التناقض فً المفارقة التصوٌرٌة فكرة تقوم على استنكار االختبلؾ والتفاوت‬
‫بٌن أوضاع كان من شؤنها أن تتفق وتتماثل ‪ ،‬أو بتعبٌر مقابل تقوم على افتراض ضرورة االتفاق‬
‫فٌما واقعه االختبلؾ " ( ‪ .)3‬فٌما ٌرى ص الح فضل أ ّنه بقدر ما ٌكون فً النص من " تباٌن‬
‫واختبلؾ وتناقض بقدر ما ٌكون فٌه من ابتبلؾ وانسجام " (‪.)4‬‬

‫أما فروٌد " فقد رأى فً المفارقة وسٌلة تطلق نوعا من اللذة التً من شؤنها أن تساعد على‬
‫التخلص من المكبوتات شؤنها شؤن النكتة " ( ‪ ، )5‬وإن كان فً وسع المفارقة أن تقدم للقارئ فعبل‬
‫تطهٌرٌّا من باب االنتقاد والمحاسبة ‪ -‬فً نظر البعض ‪ -‬فإنها فً الؽالب ترسّب لدى آخرٌن‬
‫إحساسً ا عمٌ ًقا بالمرارة ‪ ،‬وباتساع الهوّ ة بٌن ما يإ َمل وبٌن واقع بالػ البشاعة ؛ فالشاعر ال ٌسعى‬
‫خلؾ المثالٌّة بالقدر الذي ٌتمنى أن ٌحٌا وقو َمه حٌاة بسٌطة وادعة ‪ .‬إننا نخلص عبر هذا‬
‫التوصٌؾ للنظر فً أبرز دوافع المفارقة فً شعر جوٌدة ‪ ،‬وهً تلك التً ّ‬
‫ٌتمثلها عبر إحساسه‬
‫العمٌق بضٌاع أحبلمه الوطنٌّة والقومٌّة ‪ ،‬إذ " تعد المفارقة عنصرً ا مهٌم ًنا فً الشعر العربًّ‬
‫المعاصر ‪ ،‬وهً ولٌدة موقؾ نفسً وعقلً وثقافً معٌن " ( ‪ ، )6‬ولننظر كٌؾ تتب ّدى المفارقة‬

‫(‪ )1‬مٌوٌك ‪ ،‬دي سً (‪ ،)1977‬موسوعة المصطلح النقدي ‪ :‬المفارقة وصفاتها ‪ ،‬ترجمة عبد الواحد لإلإة ‪ ،‬دار المؤمون ‪،‬‬
‫وزارة الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬بؽداد ‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )2‬عبد الرحمن ‪ ،‬نصرت (‪ ، )2007‬فً النقد الحدٌث ‪ ،‬دراسة فً مذاهب نقدٌة حدٌثة وأصولها الفكرٌّة ‪ ،‬جهٌنة للنشر‬
‫والتوزٌع ‪ ،‬ط‪، 1‬عمّان ‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )3‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ، )1978‬عن بناء القصٌدة العرب ٌّة الحدٌثة ‪ ،‬دار الفصحى للطباعة والنشر ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫(‪ )4‬فضل ‪ ،‬صبلح (‪ ، )1998‬أسالٌب الشعر ٌّة المعاصرة ‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر والتوزٌع ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫(‪ )5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫العربً الحدٌث ‪ ،‬منشأة المعارؾ ‪ ،‬اإلسكندرٌة ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )6‬السعدنً ‪ ،‬مصطفى (‪ ، )1987‬البنٌات األسلوب ٌّة فً لغة الشعر‬
‫ص‪.213‬‬
‫‪128‬‬

‫الساخرة بما ٌشوبها من األلم والحزن ‪ ،‬والشاعر ٌخاطب الطاؼٌة فً قصٌدة " رسالة إلى بوش"‬
‫فٌقول (‪: )1‬‬

‫ٌا سٌدي بوش العظٌم‬

‫ٌا با َبنا العالً ‪ ..‬وٌا حصنَ الٌتامى الضائعٌنْ‬

‫ٌا تاج هذا الكون ‪ٌ ..‬ا قوت الحٌارى الجائعٌنْ‬

‫َمن ٌقتل‬ ‫وٌبدو الشاعر ههنا هازبا ؛ إذ ٌبدو من ؼٌر المتوقع والمعقول أن ٌرفع من شؤن‬
‫فر الشاعر فً وعً‬ ‫األطفال وٌرمّل النساء ‪ ،‬وعبر هذا التناقض بٌن ما ٌشعر وما ٌقول ‪ٌ ،‬ح‬
‫القارئ المؤساة الحضارٌّة التً تعانٌها الشعوب العربٌّة جراء تبعٌّتها للقوة العظ مى فً عالمنا ‪،‬‬
‫وتش ّكل المفارقة جوهر هذه المؤساة فً صورة هزلٌّة قاهرة أقرب ما تكون إلى اإلدانة ‪ ،‬وقد‬
‫استطاعت هذه السخرٌة فً المفارقة أن تنهض بالنسٌج الفنًّ لقصٌدة الشاع ر‪ ،‬فبل تخرج أبٌاتها‬
‫للهجاء المباشر أو التقرٌري وتبقى اإلدانة خفٌة مقبولة ‪ ،‬وٌكمل الشاعر من القصٌدة ذاتها فٌقول‬
‫(‪: ) 2‬‬

‫ٌا س ٌّدي بوش العظٌم‬

‫لٌل مظلمة‬
‫باهلل كٌف ٌعانق الصبح الجمٌل خٌوط ٍ‬

‫تبنون فً أوطانكم مجدًا ‪ ..‬وفً أوطاننا‬

‫تعلو السجونُ المحكمة‬

‫صحو وادع‬
‫وفً األبٌات السابقة تبدو صورتان متقابلتان لعالم جمٌل وآخر مشوّ ه ‪ ،‬عالم َ‬
‫فً‬ ‫وآخر معتم كبٌب ‪ ،‬وتبدو المفارقة بٌن المجد الذي ٌعلو فً الؽرب ‪ ،‬والسجون التً تشٌّد‬
‫أوطاننا إلذالل اإلنسان العربًّ والمسلم والنٌل من كرامته ‪.‬‬

‫وفً سٌاق متصل ‪ ،‬تتكثؾ المفارقات فً قصٌدة جوٌدة حٌن ٌتح ّدث عن وطنه الحبٌب‬
‫مصر‪ ،‬وألنه ٌحبه وٌق ّدم نفسه فدا ًء له فإن الشاعر ٌستهجن المفارقة المتحصّلة من إنكار الوطن‬
‫ً‬
‫رمزا للمواطن المصريّ البسٌط ‪ .‬وقد كثرت الصور‬ ‫وتهمٌشه ‪ ،‬وٌصدر جوٌدة عن ذلك بوصفه‬
‫المتقابلة فً هذا الجانب على صعٌد المفارقة لدى الشاعر ‪ ،‬إذ ٌقول فً إحدى قصابده (‪: )3‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان آخر لٌالً الحلم ‪ ،‬قصٌدة " رسالة إلى بوش من طفلة مسلمة بالبوسنة" ‪ ،‬مج‪، 3‬‬
‫ص‪.127‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علمنً‪ ،‬قصٌدة "وتبقى أنت ٌا نٌل"‪ ،‬ص ‪.306‬‬
‫‪129‬‬

‫أٌنَ الهوى والمنى ‪ ..‬أٌنَ المواوٌل ُ‬ ‫الحبٌب الذي داوى موا ِج َعنا‬
‫َ‬ ‫ُك َ‬
‫نت‬

‫للقتل تحلٌلُ؟‬
‫ِ‬ ‫س ّما ‪ ..‬فهل‬ ‫َ‬
‫أصبحت ُ‬ ‫نحرمِها‬
‫خمرا ال ّ‬ ‫قد ُك َ‬
‫نت ٌا نٌل ُ ً‬

‫والمفارقة التصورٌّة قابمة بٌن ثنابٌّة متضادة فً صراع بٌن االنتشاء بالخمر وبٌن‬
‫الموت بالس ّم ‪ ،‬والباعث واحد وهو النٌل حٌن كان مشر ًقا فً نفس الشاعر‪ ،‬وبعد أن بات مصدرً ا‬
‫لشقابه وتعاسته‪ ،‬والشاعر باستخدامه الفعل" كنت" للداللة على ح به للوطن ‪ٌ ،‬عنً أنه ما عاد‬
‫كذلك‪ ،‬وإن كان ٌشٌر إشارة إلى تب ّدل الحال بانقطاع الؽناء السعٌد واألمانً التً كان الشاعر‬
‫ٌرتجٌها ولم ٌجدها‪.‬‬

‫إنّ المتتبع للمفارقة فً قصٌدة جوٌدة ٌجد أ ّنها سبلح فً ٌد الشاعر ٌس هم فً خلق درجة‬
‫ً‬
‫محدثا تعارضً ا باب ًنا وكبٌرً ا بٌن الطرفٌن‬ ‫عالٌة من التوتر فً جو قصٌدته طالما استحضرها‬
‫المتناقضٌْن ‪ ،‬وكلّما أمعن الشاعر فً تصوٌر المفارقة فً القصٌدة ‪ ،‬ارتفعت الدهشة لدى المتلقً‬
‫ونالت الفكرة التً ٌطرحها الشاعر حضورً ا ً‬
‫بالؽا فً الذاكرة اإلنسانٌّة ‪ .‬وتتجسّد المفارقة فً‬
‫أوجها حٌن ٌخاطب الشاعر وطنه بازدراء ‪ ،‬رؼم ما تؤخذه األوطان فً نفوس أبنابها من المحبة‬
‫والتقدٌر ‪ ،‬وتتسع المفارقة وتبدو واضحة حٌث ٌقول (‪: )1‬‬

‫ضٌع ِ‬
‫ت عمري واستبحت شبابً‬ ‫أسرفت فً حبً وأن ِ‬
‫ت بخٌلة‬

‫أحضانك الخضراء لألغـراب‬ ‫بٌنً وبٌنك ألف مٌل بٌنمـا‬

‫وتــُــنسج خًوط المفارقة وفقا لعدة عوامل " منها ما ٌتعلق باألطراؾ أو الشخصٌات التً‬
‫قامت علٌها القصٌدة ‪ ،‬ومنها ما ٌتعلق بالمواقؾ التً فرضت على هذه األطراؾ أو الشخصٌات‬
‫"(‪ .)2‬وفً النص السابق ٌبدو كٌؾ كان للظروؾ واألحداث دور فً تش ّكل المفارقة ‪.‬‬

‫وتإدي المفارقة وظٌفة إؼنابٌّة ترفع من شعرٌّة النص ‪ ،‬و ُتحدِث أثرً ا واضحً ا فً نفس المتلقً‬
‫‪ ،‬وذلك حٌن ٌلجؤ الشاعر إلى أن " ٌستعٌن بتقنٌة المفارقة كوسٌلة ببلؼٌة " ‪"rhetoric device‬‬

‫إلثراء شعرٌة النص الذي ترد فٌه ‪ ،‬وإلحداث أبلػ األثر فً المتلقً بؤقل وسٌلة تعبٌرٌّة ممكنة ‪،‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن ‪ ،‬قصٌدة ماذا أصابك ٌا وطن‪ ،‬ص ‪ 41‬و ‪.44‬‬
‫(‪ )2‬سلٌمان ‪ ،‬خالد (‪ ، )1999‬المفارقة واألدب ‪ ،‬دراسات فً النظرٌة والتطبٌق ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 1‬عمّان ‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪130‬‬

‫ودون أن ٌجعل من نصه بنا ًء قابمًا على المفارقة" ( ‪ ، )1‬وتبدو جدتها فٌما تمنحه هذه المفارقة‬
‫لسابر األبٌات ‪ ،‬وفً اإلضافة الحقٌقٌّة لها على صعٌد المعنى ‪.‬‬

‫وٌُنظر إلى التحوالت التً تخلّفها البنٌة المتضادة ‪ ،‬فً إسهامها فً قلب المعانً المتداولة‬
‫معان جدٌدة ‪ٌ ،‬ستقبلها المتلقً على أ ّنها مسلمات لكنه ا‪ -‬ببل شك ‪ -‬تكون قد‬
‫ٍ‬ ‫ومشاركتها فً إرساء‬
‫أ ّدت دورها الفاعل فً إثارة انفعال المتلقً بما ال ٌُتو ّقع ‪ ،‬فالمعنى المتداول والمنظور بالنسبة‬
‫للقارئ هو صورة الوطن الحانً على أبنابه ‪ ،‬لكنها صورة تنكسر لتعبّر عن الوطن الذي ٌسعد‬
‫بؤ ّنات الموتى ‪ ،‬وقد أ ّدت هذه الصورة إلى إرساء معنى جدٌد للوطن كحصٌلة لعمق المفارقة بٌن‬
‫طرفً الصورة ؛ تلك الصورة الماثلة فً األذهان واألخرى المتحققة عبر هذه األبٌات (‪: )2‬‬

‫الناس شكوانا‬
‫ِ‬ ‫وكٌف ُنخفً أما َم‬ ‫الموت فً َج َل ٍد‬
‫َ‬ ‫كٌف نلقى‬
‫َ‬ ‫عـلّ ْم َتنا‬

‫تطرب من أ ّنـات موتانا‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأنت‬ ‫هذا هو الموت ٌسري فً مضاجعنا‬

‫وٌقول الشاعر فً سٌاق متصل (‪: )3‬‬

‫وحدي أنام على ترابك‬

‫كفنً عٌنً‬

‫الفجر‬
‫ِ‬ ‫بضوء من رحٌق‬
‫ٍ‬

‫من سعف النخٌلْ‬


‫ُ‬
‫ظمئت على ضفافِكِ‬ ‫فلَ َك ْم‬

‫رغم أنّ النٌل ٌجري‬

‫فً ربوعِ ك َ‬
‫ألف مٌلْ‬

‫وٌعمد الشاعر إلى المفار قة ذات الطرفٌْن المعاصرٌْن ؛ إذ ٌضع كبل من طرفً المفا رقة‬
‫مكتمبل أما َم اآلخر ( ‪ ، )1‬وتتكوّ ن الصورة من وجهٌن متماٌزٌْن ؛ األول ٌتجسّد فً استحضار‬
‫الماضً القرٌب ‪ ،‬والثانً ٌتجسد من لحظة الحضور ‪ٌ ،‬قول الشاعر (‪:)2‬‬

‫(‪ )1‬السابق ‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫(‪ )2‬قصٌدة " كؤنّ العمر ما كانا"‬
‫‪.http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=69242‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان آخر لٌالً الحلم ‪ ،‬قصٌدة " هذي حكاٌتنا معًا" ‪ ،‬مج ‪، 3‬ص ‪.103‬‬
‫‪131‬‬

‫وطنٌ جمٌل ٌ كان ٌو ًما‬

‫كعبة األوطانْ‬
‫ُ‬
‫الرجولة عن ثراه‬ ‫اآلن ترتحل ُ‬

‫وٌسق ُط الفرسان‬

‫فً ساحة الدجل الرخٌص‬

‫ُ‬
‫أمنٌات العمر‬ ‫تسق ُط‬

‫ٌؤتً الماء مسمو ًما‬

‫ٌؤتً الخبز مسمو ًما‬

‫ٌؤتً الحلم مسمو ًما‬

‫ٌؤتً الصبح مصلو ًبا على الجدرانْ‬

‫وتتمثل المفارقة التصوٌرٌّة عبر األبٌات التالٌة بمعطٌاتها التراثٌّة ‪ ،‬لكنّ المعطى التراثً‬
‫ات الطرؾ التراثًّ الواحد " وفٌها‬ ‫ٌظهر بصورة معكوسة عن ما أثر عنه ‪ ،‬وهً مفارقة ذ‬
‫ٌستدعً الشاعر الطرؾ التراثًّ الثانً إلى وعً القارئ دون أن ٌصرّ ح بمبلمحه التراثٌة‪ -‬التً‬
‫ٌعتمد على أ ّنها مضمرة فً وعً القارئ‪ ، -‬وبدال من التصرٌح بهذه المبلمح ٌضفً الشاعر على‬
‫هذا الطرؾ التراثً المبلمح الخاصة بالطرؾ المعاصر ‪ ،‬التً تناقض المبلمح الحقٌقٌة المضمرة‬
‫للطرؾ التراثًّ " (‪ ، )3‬ومن ذلك ما ٌظهر فً قصٌدة الشاعر " ال تنتظر ً‬
‫أحدا فلن ٌؤتً أحد " ‪،‬‬
‫صبلح الدٌن أنّ جٌشه لم ٌعد كما كان قادرً ا على االنتصار ودحْ ر ُ‬
‫الظبلم فً‬ ‫َ‬ ‫وفٌها ٌخبر الشاعرُ‬
‫مفارقة مرٌرة سوداء ‪ٌ ،‬سلبُ فٌها الشاعرُ الطرؾ التراثً محموالته الحقٌقٌّة ‪ ،‬وٌلبسه صورة‬
‫الراهن الساقط فً مستنقعات العجز والتهاون ‪ٌ ،‬قول (‪:)4‬‬

‫هذي الخٌول ُ تر ّهلَ ْت‬

‫صها‬
‫الفرسان ٌنق ُ‬
‫ِ‬ ‫ومواكب‬
‫ُ‬

‫(‪ )1‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)1978‬عن بناء القصٌدة العربٌة الحدٌثة ‪ ،‬دار الفصحى للطباعة والنشر ‪ ،‬القاهرة ‪،‬ص ‪.140‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة " رسالة إلى صبلح الدٌن " ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.212-211‬‬
‫(‪ )3‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري‪ ،‬عن بناء القصٌدة العربٌة المعاصرة ‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " ال تنتظر أح ًدا‪ ..‬فلن ٌؤتً أحد" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.264-263‬‬
‫‪132‬‬

‫الجلَدْ‬ ‫مع ال ُط ِ‬
‫هر‪َ ..‬‬

‫الرءوس‬
‫ُ‬ ‫هذا الزمان تع ّف َن ْت فٌه‬

‫ضمائرها َف َ‬
‫سدْ‬ ‫ِ‬ ‫شًء فً‬
‫ٍ‬ ‫وكل ّ‬

‫***‬

‫هذي الخٌول ُ العاجز ْه‬

‫الركض ‪..‬‬
‫َ‬ ‫تستطٌع‬
‫َ‬ ‫لن‬

‫فً قِ َم ِم ال ِجبالْ‬
‫ورعد‬
‫ْ‬ ‫أمطار‬
‫ٌ‬ ‫األفق‬
‫ِ‬ ‫و ّكل ما فً‬

‫ماذا سٌبقى للجوا ِد إذا تهاوى‬

‫ولحد؟!‬
‫كفن ْ‬
‫ٌرتاح فً ٍ‬
‫َ‬ ‫غٌر أن‬

‫والشاعر – فً المقطع األخٌر – ٌقلل من شؤن المقاومة الفلسطٌنٌّة المتمثلة بالسلطة وقدرتها‬
‫على النهوض من الواقع البابس الذي وصلت إلٌه ‪ ،‬وقد ُكتبت هذه القصٌدة على خلفٌة توقٌع‬
‫اتفاقٌة السبلم مع إسرابٌل ( أوسلو) ‪ ،‬وهو ما ٌدفع الشا عر إلى حالة شدٌدة من القنوط ‪ ،‬ولسان‬
‫حاله ٌقول ‪ :‬إنْ نحن وصلنا إلى هذه المرحلة المخزٌة فحتى خٌول صبلح الدٌن لن تقٌلنا مما نحن‬
‫فٌه ‪ ،‬والحقٌقة أنّ سلب هذه الخٌول الجامحة والفاتحة خواصّها داللة كبٌرة على أنّ الشاعر ٌرزح‬
‫تحت وطؤة الٌؤس‪ .‬وداللة كذلك على أنّ ما ٌحدث هو المفارقة ال ما ٌعبّر به الشاعر عبر هذه‬
‫المواكب والخٌول ‪.‬‬

‫المفارق فً الجوانب ذات االتصال المسٌس بقضاٌا األرض والوطن ‪ ،‬فإنها لم‬
‫ة‬ ‫وكما اتسعت‬
‫تؽب كذلك عن تجربة الشاعر فً قصابده فً الحب ؛ إذ كثٌرً ا ما رسم الشاعر لنفسه عالمًا مثالٌا‬
‫مع الحبٌبة سرعان ما تكسّر بجحود المحبوبة تارة ‪ ،‬وبفعل الدهر تارة أخرى ‪ ،‬وهو ما اصطلح‬
‫على تسمٌته بـــ"المفارقة الرومانسٌّة "(‪ٌ . )1‬قول الشاعر فً هذا السٌاق (‪: )2‬‬

‫(‪ )1‬سلٌمان ‪ ،‬خالد (‪ ،)1999‬المفارقة واألدب ‪ ،‬دراسات فً النظرٌة والتطبٌق ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ، 1‬عمّان ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة " فً رحاب الحب" ‪ ،‬مج ‪ ،1‬ص ‪223-222‬‬
‫‪133‬‬

‫للناس ٌؤتً‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫كعبة‬ ‫جعل ُتكِ‬

‫البقاع‬
‫ِ‬ ‫الناس من كل ّ‬
‫ُ‬ ‫إل ٌْكِ‬

‫ُ‬
‫وصغت هواكِ للدنٌا نشٌدًا‬

‫الشعاع‬
‫ِ‬ ‫تراقص حال ًما مثل‬

‫وكم ضمتك عٌناي اشتٌا ًقا‬

‫وكم حملتك فً شوق ذراعً‬

‫قبرا‬ ‫رجع ُ‬
‫ت لكعبتً فوجدت ً‬ ‫ْ‬

‫وزهرا حوله تلهو األفاعً‬


‫ً‬

‫عبدتك فً الهوى زم ًنا طوٌال‬

‫أهرب من ضٌاعً‬
‫ُ‬ ‫وصرت اآلن‬

‫وفً صورة أخرى من صور المفارقة ٌكشؾ فٌها الشاعر هواجس حبٌ َبٌْن ساعة الرحٌل ‪،‬‬
‫وتبدو واضحة عبر األبٌات التالٌة (‪: )1‬‬

‫وحولَنا‬
‫الطرٌق ْ‬
‫ِ‬ ‫ك ّنا نصلًّ فً‬

‫ٌتندّ ُر الكهانُ بالضحكا ِ‬


‫ت‬

‫دموعنا‬
‫َ‬ ‫الظالم‬
‫ِ‬ ‫ك ّنا نعان ُِق فً‬

‫منفطر من العبرا ِ‬
‫ت‬ ‫ٌ‬ ‫والدرب‬
‫ُ‬

‫المسافر فً دمً‬
‫ُ‬ ‫وتو ّقف الزمنُ‬

‫وتع ّث ْ‬
‫رت فً لوعة خطواتً‬

‫وٌفقد الحبٌبان توازنهما ساعة الرحٌل ‪ ،‬وتبدو األشٌاء من حولهما ؼرٌبة وؼٌر واقعٌّة ‪،‬‬
‫وتستدعً عوالمهما النفسٌّة صورً ا قاسٌة شدٌدة الوقع توازي إحساسهما بالفراق ؛ فالكاهن ٌتخلّى‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة " لو أننا لم نفترق" ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.244 -243‬‬
‫‪134‬‬

‫عن وقاره وهٌبته فً صورة مستهجنة ٌبدو فٌها هازبا لما آل إلٌه حال األحبة بس بب من البٌْن ‪،‬‬
‫فٌما ٌقوم الحبٌبان بالصبلة ‪ ،‬وكؤن هذا الفراق بٌنهما ال ٌمك ن تصدٌقه بالقدر الذي ال ٌمكن أن‬
‫نصدق صورة كاهن ٌظهر فً سلوك ال ٌتوافق مع مكانته الدٌنٌّة‪.‬‬
‫‪135‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫االنزٌاح‬
‫‪136‬‬

‫االنزٌاح‬

‫ٌُحدِث االنزٌاح دهشة لدى المتلقً ‪ ،‬وهً الوظٌفة التً ٌتوخاها الشاعر من اللؽة لتإدٌها فً‬
‫‪ ، )1‬وذلك‬ ‫نصه ؛ لذا فإ ّنه من ؼٌر الممكن أن نسمً التؽٌٌر انزٌاحً ا ما لم ٌكن مفاجبا للقارئ (‬
‫بالتؤكٌد هو ما ٌصنع الدهشة‪ .‬واالنزٌاح هو " خروج التعبٌر عن السابد أو المتعارؾ علٌه قٌاسً ا‬
‫فً االستعمال ‪ ،‬رإٌة ولؽة وصٌاؼة وتركٌبًا "( ‪ ، )2‬وهو لدى جان كوهن " الشرط الضروريّ‬
‫لكل شعر" (‪ . )3‬ولبلنزٌاح قدرة على خلق فجوة ومسافة توتر سواء أكان ذلك بٌن المسند والمسند‬
‫إلٌه ‪ ،‬أم الصفة وموصوفها أم بٌن المتضاٌفات ‪ ،‬كما ٌمنح الصورة الفنٌّة لؽة إٌحابٌّة خاصة ؛ تلك‬
‫التً أسماها جان كوهن باللؽة االنزٌاحٌة التً تمٌّز لؽة الشعر عن النثر ‪ ،‬فٌما أدخل كوهن‬
‫االستعارة فً باب االنزٌاح بقوله "االستعارة الشعرٌّة هً انتقال من اللؽة ذات الطبٌعة المطابقة‬
‫إلى اللؽة ذات الطبٌعة اإلٌحابٌّة ‪ ،‬انتقال ٌتحقق بفضل استدارة كبلم معٌّن ٌفقد معناه على مستوى‬
‫اللؽة األول ‪ ،‬ألجل العثور علٌه فً المستوى الثانً " (‪.)4‬‬

‫واالنزٌاح ظاهرة أسلوبٌّة ببلؼٌّة تنبّه لها اللؽوٌٌون األوابل ‪ ،‬وبدا ذلك ظاهرً ا فً تراثنا‬
‫النقديّ عبر عدد من المصطلحات التً استعان بها هإالء ‪ ،‬من مثل ‪ :‬العدول ‪ ،‬االنحراؾ ‪ ،‬اللحن‬
‫والخروج إلى ما سواها ( ‪ ، )5‬و" ورد عن أبً حٌان التوحٌدي أن االنزٌاح أمر لٌس للنفس عنه‬
‫ؼنى ؛ إذ النفس كلِفة بالتجدد مولعة به ‪ ،‬فقد سؤل أبو حٌان صدٌقه مسكوٌه علة كراهٌة النفس‬
‫الحدٌث المعاد ‪ ،‬فكان جواب مسكوٌه " أنّ الحدٌث للنفس كالؽذاء للبدن ‪ ،‬فإعادته علٌها بمنزلة‬
‫إعادة الؽذاء لجسم اكتفى منه "" (‪.)6‬‬

‫اللبالف ‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.185‬‬


‫ّي‬ ‫الننقد‬
‫ّي‬ ‫(‪ )1‬وٌس ‪ ،‬أحمد محمد ( د‪.‬ت) ‪ ،‬االنزياح ف اللتاا‬
‫(‪ )2‬الٌافً ‪ ،‬نعٌم (‪ ،)1995‬أطياف ال جه ال احق ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫(‪ )3‬كوهن ‪ ،‬جان (‪ ،)1986‬لنية اللغة الشعت ّيية ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬محمد الولً ومحمد العمري ‪ ،‬الدار البٌضاء ‪ ،‬دار توبقال ‪ ،‬ط‪، 1‬‬
‫ص ‪.20‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫اللبالف ‪ ،‬ص ‪.52-35‬‬
‫ّي‬ ‫الننقد‬
‫ّي‬ ‫(‪ )5‬وٌس ‪ ،‬االنزياح ف اللتاا‬
‫(‪)6‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪137‬‬

‫وفً الخرق التصاحبً الحاصل فً اللؽة ٌبدو الطرفان ؼٌر متجانسٌْن ؛ ألنّ كبل منهما ٌنتمً‬
‫ً‬
‫جدٌدا عماده اإلٌحاء والتؤثٌر ‪ ،‬ما ٌجعل‬ ‫إلى عالم مختلؾ ‪ ،‬لكن الشاعر قد جمع بٌنهما لٌقٌم عالمًا‬
‫المعنى ٌمتد وٌنفتح لٌعطً دالالت مؽاٌرة ‪ .‬ولٌس من شك أن اللؽة بانزٌاحها تكتسب طابعً ا جمالًٌا‬
‫وقدرة إٌحابٌّة ‪ٌ.‬قول عز الدٌن إسماعٌل " المفروض فً لؽة الشعر أن تكون ذات طاقة تعبٌرٌّة‬
‫مصفاة ومكثفة ‪ ،‬ومن هنا ٌبدو أننا نتطلّب فً لؽة الشعر أال تكون هً لؽة الناس ‪ ،‬وأن تكون‬
‫لؽتهم فً آن معً ا " ( ‪ ، )1‬والمقصود من وراء ذلك هو ما تحققه المفردة فً البناء العبلبقً الذي‬
‫ٌجمعها فً السٌاق إلى مفردة أخرى ؛ فاللؽة ّإذن ال تتحقق وتإ ّدي دورها المثٌر لبلهتمام بالنسبة‬
‫للقارئ إال عندما ٌبتدع الشاعر لنفسه عبرها خصوصٌّة فً االستعمال ‪.‬‬

‫وٌرى البعض أن التداخل وتجاوز العرؾ المؤلوؾ فً اللؽة ٌخلق لدٌنا صورة مختلطة أو "‬
‫مهجنة " مثل الصور التً تقوم على التراسل وتبادل المدركات ‪ ،‬وهو بهذا ٌإدي وظٌفة ازدواجٌة‬
‫إحداها داللٌة فكرٌّة ‪ ،‬واألخرى خاصة بعوالم الشاعر النفسٌّة تستقصً العالم الشعوريّ الداخلً‬
‫‪ . )2‬وألن الصورة‬ ‫للشاعر عبر انتقاءاته اللؽوٌّة وصوره المتشكلة التً ٌشحن بها خطابه (‬
‫‪ ، )3‬فإنها تنتقل باللؽة من داللتها‬ ‫الشعرٌة لٌست بحال من األحوال انعكاسً ا مرآوًٌا للواقع (‬
‫المعنوٌّة عبر التمثٌل لها بصٌؽة مدركات حسٌّة إلى مدى أرحب " تنهض من خبلله اإلحساسات‬
‫المحتدمة فً وجدان الشاعر ‪ ،‬لتتشكل مع حركة النفس ‪ ،‬وزاوٌة النظر الداخلً لؤلشٌاء " ( ‪، )4‬‬
‫ولكً ٌوصل الشاعر تجربته بمنتهى النفاذ علٌه أن ٌستؽل بذكاء حصٌلته اللؽوٌّة ‪ ،‬وٌم ّد الجسور‬
‫المتٌنة بٌنها وبٌن روحه ؛ فالشعرٌّة " ال تقوم على الزاوٌة المفردة للفظة ‪ ..،‬ألنّ التجزٌا ال ٌمكن‬
‫أن ٌخلق الشعرٌّة ‪ ،‬إنما الخالق هو التوحٌد واالنصهار فً بنٌة كلٌّة " (‪. )5‬‬

‫وٌمرّ االنزٌاح إلى المتلقً عبر ع ّدة وسابل ‪ ،‬وٌرى (وٌس) أنّ أهمها هً االستعارة حٌث‬
‫ٌقول " تع ّد االستعارة أ ّم االنزٌاحات الداللٌّة " (‪ ، )6‬وتتم عبر االستعارة المكنٌة والتمثٌلٌّة بالتعبٌر‬

‫العربً الم عاصر ‪ :‬قضاٌاه وظواهره الفن ٌّة والمعنو ٌّة ‪ ،‬دار الفكر العربً ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ( ‪ ، )1966‬الشعر‬
‫ط‪ ،3‬القاهرة ‪.179 ،‬‬
‫الشعري ‪ ،‬مكتبة الدراسات األدبٌّة ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص‪-109‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬حسن عبد هللا ‪ ،‬محمد (‪ ،)1981‬الصورة والبناء‬
‫‪.114‬‬
‫(‪ )3‬عبلق ‪ ،‬فاتح (‪ ، )2005‬مفهوم الشعر عند رواد الشعر الحر ‪ ،‬منشورات اتحاد الك ّتاب العرب ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ص ‪.262‬‬
‫(‪ )4‬راضً جعفر ‪ ،‬عبد الكرٌم (‪ ،)1998‬رماد الشعر ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة العامّة‪ ،‬ط‪ ، 1‬بؽداد ‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫(‪ )5‬راضً جعفر ‪ ،‬رماد الشعر ‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫(‪ )6‬وٌس ‪ ،‬أحمد محمد ‪ :‬االنزياح ف اللتاا الننقد اللبالف ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪138‬‬

‫بالتعبٌر الببلؼًّ ‪ ،‬وٌمكن القول إن االنزٌاح ٌإدي مهمته فً اللؽة الشعرٌّة وٌبرز لدى جوٌدة فً‬
‫التجسٌم والتشخٌص والتراسل ؛ إذ ٌظهر عبر هذه الوسابل كٌؾ ّ‬
‫تتكثؾ الصورة الشعرٌّة عبر‬
‫إطار شعوريّ واحد ‪ ،‬وٌعود هذا التباعد فً مكونات الصورة‬
‫ٍ‬ ‫حشد عناصر متباعدة كً تؤتلؾ فً‬
‫الشعرٌّة إلى أنّ الشاعر ٌدخل فً حالة من الؽٌبوبة أو فً لحظة حلمٌّة حٌن ٌكتب قصٌدته ‪،‬‬
‫ً‬
‫خلٌطا من عناصر ع ّدة ‪ ،‬وتبدو الصورة الفنٌّة "تركٌبة وجدانٌّة تنتمً فً‬ ‫فٌصبح العمل الفنًّ‬
‫جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمابها إلى عالم الواقع ‪ .‬ومن ثم ٌبدو لنا فً كثٌر من‬
‫األحٌان أن الشاعر أو الفنان ٌعبث فً صوره بالطبٌعة وباألشٌاء الواقعة " (‪ ، )1‬وٌتضح ذلك فً‬
‫اعتماده على تبادل المدركات ‪ ،‬عبر اعتماده على وسابل التصوٌر المؤلوفة من تجسٌم وتشخٌص ؛‬
‫ألن هذه الوسابل هً من ٌحدث الخلخلة فً التركٌب اللؽويّ ‪ ،‬وهً كذلك من ٌسحب التعبٌر‬
‫الشعريّ إلى دوابر الخٌال وكسر التو ّقع الذي ٌقوم علٌه اإلنزٌاح ‪ .‬وترتٌبًا على ما سبق ‪ ،‬فإ ّنه‬
‫ٌمكن لنا معاٌنة االنزٌاح الداللً واإلسنادي للؽة فً قصٌدة الشاعر فاروق جوٌدة ‪ ،‬والتً‬
‫ً‬
‫اعتمادا تامًا ‪ ،‬حٌن درجت على دمج المادٌات ووصلها بصور روحٌة ومعنوٌة‬ ‫اعتمدتها لؽته‬
‫أ ّدت إلى التداخل واالنسجام ‪ ،‬والسموّ بالما ّدي للتعبٌر عن عاطفة إنسانٌّة عالٌة‪.‬‬

‫وٌعمد الشاعر لبلنزٌاح خروجً ا على النمطٌّة المستهلكة فً الصٌاؼة الشعرٌّة ‪ ،‬ولبلبتعاد عن‬
‫القالب اللؽوي وعرفٌّة االستعمال ‪ ،‬لذا فإن الشاعر ٌجهد فً تفعٌل طاقته اإلبداعٌّة ؛ إلحداث‬
‫االضطراب والخلخلة فً البناء التصاحبً للؽة كً تخرق المؤلوؾ والمتداول ‪ٌ .‬قول جوٌدة‪ -‬على‬
‫سبٌل االنزٌاح اإلسنادي فً الجملة الفعلٌّة (‪: )2‬‬

‫إنْ ضاقت الدنٌا عل ٌْك‬

‫فخ ْذ همو َم َك فً ٌد ٌْك‬


‫ُ‬

‫واذهب إلى قبر الحسٌن‬

‫وهناك " صلًّ " ركعت ٌْن‬

‫وٌبدو االنزٌاح فً جملة ( خذ همومك فً ٌدٌْك ) ؛ إذ تعد الهموم من المجردات الذهنٌّة‬


‫والنفسٌّة ‪ ،‬ومجٌبها مع الفعل (خذ) الذي ٌحمل دالالت حسٌّة ٌشكل خر ًقا معجمٌّا تصاحبٌّا ‪،‬‬

‫(‪ )1‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ‪ ،‬الشعت العتلف المعاصت ‪ ،‬ص ‪.127‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " عندما ننتظر القطار" ‪ ،‬مج‪.15-14 ، 1‬‬
‫‪139‬‬

‫وٌتحمّل هذا االنزٌاح عبء تصعٌد المعنى عبر ما تجسده الهموم ؛ وتجسٌد الهموم ٌجعلها كؤنها‬
‫واضحة للعٌان ‪ ،‬وكذلك أحزان الشاعر كبٌرة وثقٌلة على ذاته ‪ ،‬ال ٌستطٌع منها فكا ًكا‪.‬‬

‫ونستطٌع أن نلحظ ما ٌص ّدره الواقع النفسًّ المؤزوم للتركٌب اللؽوي فً القصٌدة عبر‬
‫ُترجم وٌُخلق منه اضطراب وزعزعة فً‬
‫االنزٌاحات ؛ فاالضطراب الحاصل فً نفس الشاعر ٌ َ‬
‫التصاحب المعجمًّ ؛ فؤحزان الشاعر فً المدٌنة – وف ًقا للقصٌدة السابقة‪ -‬تدعو الشاعر لخرق‬
‫التوقعات عبر اإلبداالت اللؽوٌّة التً ٌحدثها ‪ ،‬لتشكل عبر هذا الخرق شكبل من أشكال الرفض‬
‫واإلحساس بالبلمعقول بما تفاجا به هذه المدٌنة قاطنٌها الجدد اآلتٌن من الطبٌعة بعفوٌّتها إلى‬
‫المدٌنة بمتناقضاتها ‪ٌ ،‬قول (‪: )1‬‬

‫قد قال لً ٌو ًما أبً‪:‬‬

‫كالغرٌب‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫جئت ٌا ولدي المدٌنة‬ ‫إن‬

‫البإس‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تلعق من ثراها‬ ‫وغدو َ‬
‫ت‬ ‫ْ‬

‫اللٌل الكئٌب‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫وٌقوم االنزٌاح فً ( تلعق من ثراها البإس) على إسناد الفعل (تلعق) إلى الفاعل (البإس) ‪،‬‬
‫وٌتش ّكل الخرق فً إخراج البإس من صفته المجرّ دة لٌبدو ذا داللة حسٌّة نظرً ا التصاله بالفعل‬
‫(تلعق) ‪ ،‬وهنا ٌبدو االنزٌاح فً الداللة فً اجتماع ما ال ٌجتمع بٌن الحسًّ والمعنويّ ‪.‬‬

‫وٌبدو االنزٌاح الداللًّ فً ( اللٌل الكبٌب ) بٌن الموصوؾ والص ّفة ‪ ،‬ولو كان لنا – وف ًقا‬
‫للمنظور المنطقً والعقبلنً ‪ -‬أن نختار صفة للٌل فإنه ٌُحتمل أن تكون اإلبداالت اللؽوٌّة الممكنة‬
‫هً ‪ :‬اللٌل المُظلم ‪ ،‬اللٌل الطوٌل ‪ ،‬إلى ؼٌر ذلك من الممكنات ‪ ،‬لكن هذه التراكٌب ببل شك لن‬
‫تثٌر دهشة القارئ ‪ ،‬ولن تدعوه إلى استقراء المؽزى الباطنً خلؾ هذا االستعمال ‪ ،‬ما دعا‬
‫الشاعر إلى تشخٌص اللٌل لٌعطٌه دالالت موحٌة ؛ فإعطاء اللٌل صفة الحٌاة ٌجعل من الكآبة‬
‫شعورً ا ٌتبلقى فٌه القارئ مع اللٌل وٌشاركه إٌاه لكونه صفة إنسانٌّة ٌدركها القارئ جٌ ًّدا‪.‬‬

‫وتتنافر الكلمات فً بنٌة التشكٌل اللؽوي ‪ ،‬وتقوم اللؽة بالتداعً إلى ذاكرة الشاعر لتساند‬
‫عالمه النفسًّ عبر تسرٌح هذه التركٌبات اللؽوٌة المتراكبة والمتناقضة؛ لٌتخفؾ الشاعر بعدها من‬
‫إحساسه بحالة من الفوضى والتناقض ؛ وهً الوظٌفة التً ٌإدٌها االنزٌاح فً كسر التو ّقع ‪ ،‬وال‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان حبٌبتً ال ترحلً ‪ ،‬قصٌدة " عندما ننتظر القطار" ‪ ،‬مج‪، 1‬ص ‪.13‬‬
‫‪140‬‬

‫بحال من األحوا ْل ‪ ،‬وتقوم هذه االنزٌاحات بمهمة إضاءة عوالم‬


‫ٍ‬ ‫ٌمكن للشعر أن ٌتخلّى عنها‬
‫الشاعر الداخلٌّة ‪ ،‬وٌسمح الشاعر عبرها للمتلقً بمشاركته وجدانٌّاته واالضطبلع بشًء مما ٌثقل‬
‫روحه ؛ ففً قصٌدته ( الطقسُ هذا العام ) ٌتحدث الشاعر عن شتاء أٌامه وؼربة روحه ‪ ،‬والتً‬
‫ّ‬
‫ٌكثفها عبر االسترسال فً َسوق االنزٌاحات اإلسنادٌّة عبر الجملة اإلسمٌّة من المبتدأ والخبر (‪:)1‬‬

‫الصب ُح فً ع ٌْن ٌْكِ‬

‫تحصدُه المناجل‬

‫ٌهرب كلّما الحت‬


‫ُ‬ ‫والفجر‬
‫ُ‬

‫األفق السالسلْ‬
‫ِ‬ ‫على‬

‫ٌطٌش‬
‫ُ‬ ‫فالقهر حٌنَ‬
‫ُ‬

‫فً زمن الخطاٌا‬

‫مقتول‬
‫ٍ‬ ‫ٌفرق بٌن‬
‫لن ّ‬

‫وقاتلْ‬

‫فـ ( الصبح تحصده المناجل ) ‪ ،‬وهنا تبدو كٌؾ تتناقض المفردتٌن إٌحابٌّا ؛ ألن الصبح ٌوحً‬
‫بالر ّقة واللٌن ‪ ،‬والمنجل أداة تقطع السنبلة ‪ ،‬كؤن هذه المناجل تقطع على الصبح بزوؼه ‪ ،‬وهو‬
‫بعض ما القاه الشاعر فً ( الوطن البخٌل ) ‪ ،‬وٌبدو اعتماد الشاعر اإلسناد ؼٌر المؤلوؾ الذي‬
‫ٌعمّق الفجوة بٌن المسند والمسند إلٌه ‪ ،‬ولذلك فإنّ الشاعر قد عمد إلى هذا االنزٌاح لٌبٌّن بشاعة ما‬
‫ٌبلقٌه كل شًء جمٌل فً وطنه ( مصر) ‪ ،‬وعبر هذه االنزٌاحات المتبلحقة فً الفجر الهارب‪،‬‬
‫والقهر الطابش ٌفصح الشاعر عما فً نفسه‪.‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان زمان القهر علّمنً ‪ ،‬قصٌدة " الطقس هذا العام " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.319-318‬‬
‫‪141‬‬

‫وتتوهّج اللؽة وتزداد حضورً ا باالنزٌاح عبر الدالالت الجدٌدة التً ٌمنحها للنصّ الشعريّ‬
‫بالخروقات واالنتهاكات التً تش ّكل لؽة جدٌدة تسعى من أجل اكتساب خصوصٌّة ‪ٌ ،‬قول الشاعر‬
‫مخاطبًا حبٌبته (‪: )1‬‬

‫صباحكِ أحلى‬
‫ُ‬

‫مِنَ الٌاسمٌنْ‬

‫َ‬
‫الشموخ الحزٌنْ‬ ‫ٌحب‬
‫ّ‬ ‫وقلبً‬

‫العطر هذا الجنون‬


‫ِ‬ ‫وفٌكِ مِن‬

‫وفٌكِ مِن السحر‬

‫دِف ُء الحنٌنْ‬

‫وقد كسر الشاعر المعنى المتحصّل فً األذهان لمفردة ( الشموخ ) حٌن ألزمها بصفة‬
‫ً‬
‫شموخا‬ ‫(الحزٌن) ؛ فالشموخ – فً العادة – ٌوازي الكبرٌاء واألنفة ‪ ،‬لكنه ٌبدو لدى الشاعر‬
‫حزٌ ًنا‪.‬‬

‫وتخرج اللؽة عن سٌاقها المؤلوؾ فً قصٌدة جوٌدة فً انزٌاح اإلضافة ‪ ،‬لتشكل خر ًقا واضحً ا‬
‫للتصاحب المعجمًّ ٌفصل السابق عن البلحق إال من الداللة المتكونة عبر االنزٌاح ‪ٌ ،‬قول‬
‫الشاعر (‪: )2‬‬

‫ْ‬
‫مات‬ ‫ابنً قدْ‬

‫قتلوهُ أمامً‬

‫صرٌعا‬
‫ً‬ ‫قد سقط‬

‫جوع ال ٌرح ْم‬


‫ٍ‬ ‫بٌنَ مخال ِ‬
‫ب‬

‫ْ‬
‫أموت‬ ‫سوف‬
‫َ‬ ‫بعد دقائق‬

‫ودماء صغٌري شالل‬

‫ْ‬
‫الطرقات‬ ‫ٌتد ّف ُق فوق‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان أعاتب فٌك عمري ‪ ،‬قصٌدة " الشموخ الحزٌن " ‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.370‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر ‪ ،‬قصٌدة " ملعون ٌا سٌف أخً " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.264‬‬
‫‪142‬‬

‫ألن الشاعر ٌصور هنا مشهدا بالػ القسوة ؾ إ ن الخرق ٌبدو مإدًٌا فً ض ّم المخالب إلى‬
‫الجوع‪ ،‬فالجوع ٌنهش كحٌوان مفترس وٌإدي مهمة اإلهبلك لؤلطفال ‪ ،‬لكن هذا اإلهبلك لٌس‬
‫مجرد موت عادي ‪ ،‬إنه موت مإلم مرٌر ٌقاسً فٌه األطفال الجوع والخوؾ والحرمان ‪ ،‬ولهذا‬
‫فإن لفظة (مخالب ) هً التً رفعت معنى الموت الذي لقٌه هإالء األطفال إلى هذا المستوى من‬
‫التخصٌص ‪.‬‬
‫‪143‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫البنٌة الدرامٌة والحكائٌة‬
‫‪144‬‬

‫البنٌة الدرام ٌّة والحكائ ٌّة‬

‫تصدر الدراما عن الحٌاة ؛ فهً أداة ناقلة للصراعات التً تواجهها النفس البشرٌّة ‪ ،‬إذ تقوم‬
‫هً بتجلِـــ ٌَتها والوقوؾ على جوهرها ‪ ،‬كما أنها تقدم معانً سامٌة ترتقً باإلنسان وتصوّ ر عالمه‬
‫القابم على معارك اجتماعٌّة وسٌاسٌّة كثٌرة ‪ ،‬وٌجعل الشعراء من التصوٌر الدرامً متنفسً ا‬
‫لئلفضاء عما ٌعانونه ‪ ،‬مبتعدٌن بذلك عن التقرٌرٌّة الفجة والخطابٌة المباشرة ‪ ،‬بحٌث ٌرتفع‬
‫النص الشعريّ لٌحقق مستوى فنًٌا وجمالًٌا عالًٌا‪.‬‬

‫وتنبثق البنٌة الدرامٌة فً القصٌدة المعاصرة الٌوم عبر مجموعة من العناصر الفنٌّة ‪ ،‬التً‬
‫تؽنً النص الشعريّ وتكسبه قبوال كبٌرً ا لدى المتلقً ‪ ،‬ومن تلك العناصر ‪ :‬الحوار بنوعٌه ؛‬
‫الداخلً والخارجً ‪ ،‬الصراع ‪ ،‬الشخصٌات ‪ ،‬والحبكة‪.‬‬

‫وٌبدو فً مجًء المسرح ساب ًقا على ظهور الشعر فً تارٌخنا اإلنسانًّ داللة واضحة على‬
‫طبٌعة التؤثر الذي لحق بالشعر من جراء استعارة العناصر الفنٌة الخاصة بالمسرح ‪ٌ ،‬قول عبد‬
‫العزٌز حمودة ‪ ،‬حٌن رأى أن الشعر لٌس أقدم الفنون التً عرفها اإلنسان‪ " ،‬وذلك لسبب بسٌط ‪،‬‬
‫وهو أن الشاعر ال بد وأن ٌكون قد جاء بعد توصل اإلنسان إلى لؽة متفق علٌها فً التخاطب‪ ،‬إذ‬
‫لٌس من المعقول أن ٌكون اإلنسان األول قد قال الشعر فً وقت كان ٌتفاهم فٌه مع أخٌه أو مع‬
‫‪. 1‬‬
‫جاره أو ابن قبٌلته ‪ ،‬باإلشارة أو الصوت ؼٌر المفهوم "( )‬
‫ّ‬
‫وتوظؾ العناصر الدرامٌّة لنسج حكاٌة لها بداٌة ونهاٌة ووسط ‪ ،‬كما ٌكتنفها عنصر الصراع‪،‬‬
‫وتبدو هذه التوجهات الدرامٌّة فً القصابد ذات النفس الشعريّ الطوٌل ‪ ،‬وٌبدو أنّ الشاعر ٌحاول‬
‫‪ ، )2‬وهو ما‬ ‫آن معً ا (‬
‫االضطبلع بمهمة الموازنة بٌن المقدرة الشعرٌّة والمقدرة القصصٌّة فً ٍ‬
‫ٌحاول جوٌدة أن ٌحققه عبر قصابده الشعرٌّة األخٌرة‪ .‬وتعمل الدراما بصفتها ن ًّ‬
‫صا مإدى على‬
‫ثبلثة محاور‪ ،‬هً " الحركة والكبلم الشعريّ ‪ ،‬والمكان الذي ٌمٌز فضاء الحركة والكبلم معً ا "(‪)3‬‬
‫‪ ،‬وتع ّد اللؽة أداة األدب القادرة على تطوٌع الوسابل التعبٌرٌّة لتؤدٌة فكرة األدٌب ‪ ،‬ونظرً ا لكون‬
‫مجال الكلمة ؼٌر محدد فإنه ٌصبح بإمكان الكلمة أو اللؽة من خبلل العمل األدبًّ أن تتناول‬
‫الظواهر الحٌاتٌّة فن ًٌّا بصورة واسعة ؼٌر قابلة للتحدٌد ‪ ،‬ولٌس لشًء فً الحٌاة أن ٌتر ّفع عن‬

‫(‪ )1‬حمودة ‪ ،‬عبد العزٌز (‪ ، )1998‬اللناء القتامف ‪ ،‬الهٌئة المصرٌّة العامة للكتاب ‪ ،‬اإلسكندرٌّة ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫العتلف المعاصت ‪ ،‬ص ‪.301‬‬
‫ّي‬ ‫(‪ )2‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ‪ ،‬الشعت‬
‫(‪ )3‬منٌر ‪ ،‬ولٌد (‪ ،)1997‬جقلية اللغة الحقا ف القتاما الشعت ّيية الحقيثة ‪ ،‬الهٌئة المصرٌّة العامّة للكتاب ‪ ،‬القاهرة ‪،‬‬
‫ص‪.8‬‬
‫‪145‬‬

‫األدب لٌكون ما ّدته " ال توجد ظاهرة ما فً عالم األشٌاء لٌس باإلمكان تصوٌرها ونقلها إلى العمل‬
‫األدبًّ إذا كان ذلك ضرورٌّا لخلق الصورة الفنٌّة ‪ ،‬كما ٌنقل األدب الحدث بحرٌة عبر الزمان‬
‫والمكان ‪ ،‬وله القدرة على بث ش ّتى خطوط السٌاق التً تجمع فٌما بٌن الوصؾ والسرد‬
‫والحوار"(‪.)1‬‬

‫واحدا من التكنٌكات التً ٌستعٌرها الشعراء من الرواٌة ‪ ،‬وٌر ّكز هذا‬


‫ً‬ ‫وٌبدو الحوار الداخلًّ‬
‫التكنٌك على المحتوى الداخلً لوعً الشخصٌّة المعبّرة فً جو القصٌدة ( ‪ ،)2‬كما ٌبدو المونولوج‬
‫المتن ّفس الوحٌد للشخصٌّة كً تفضً بما ٌإرقها‪ .‬وفً هذا الخطاب من النفس إلى النفس ٌدرك‬
‫القارئ كل ما ٌإرّ ق الشاعر عبر ما ٌحمّلها من هموم ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪:)3‬‬

‫ألم ‪:‬‬
‫همس الحزٌنُ وقال فً ٍ‬
‫َ‬

‫أساف ُِر ‪ ..‬كٌف ٌا‬

‫أح َت ِمل ُ ِ‬
‫البعادَ عن ال ُبن ٌّة ‪ ..‬والبنٌنْ ؟‬

‫ل َم ال أح ُّلج‪..‬‬

‫ُ‬
‫أموت وال أرى‬ ‫فهلْ‬

‫خٌر البر ٌّ ِة أجمعٌنْ‬


‫َ‬

‫لِ َم ال أساف ُِر ؟ ‪ ..‬كلّها أوطاننا‬

‫المفصح عنها عبر الحوار الداخلً أنها تمثل أفكارً ا متفرقة ‪،‬‬
‫َ‬ ‫وٌلحظ المتابع لهذه المكنونات‬
‫تتزاحم فً نفس الشاعر ‪ ،‬فتؤتً منثورة فً تضاعٌؾ قصٌدته ؛ إذ ٌكشؾ الحوار الداخلًّ عن‬
‫حالة الصراع التً ٌعٌشها بطل الحكاٌة " العم فرج "‪ ،‬لتؤتً بعدها هذه األشطر ؼٌر متسقة أو‬
‫م ّتحدة من حٌث المضمون ‪ ،‬ولك ّنها مإدٌة لحقٌقة المعاناة التً ٌعٌشها الشاعر‪.‬‬

‫(‪ )1‬أوفسٌانٌكوف وآخرون (‪ ، )2007‬لقاخل أجناس الفن ‪ ،‬ترجمة حسٌن جمعة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬منشورات أمانة عمان الكبرى‬
‫‪،‬ص‪.126‬‬
‫(‪ )2‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)1978‬عن لناء النصيقة العتل ّيية الحقيثة ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار الفصحى للطباعة والنشر ‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬قي ان ماذا أصالك يا طن ؟ ‪ ،‬قصٌدة ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪146‬‬

‫وٌقوم الصوت الداخلًّ على إبراز الهواجس والخواطر ‪ ،‬كما ٌعٌن على الحركة الذهنٌّة ( ‪،)1‬‬
‫وٌكسب القصٌدة قٌمة درامٌّة بما ٌو ّفره لها من حٌوٌّة ؛ إذ ٌنتقل الشاعر عبر المونولوج فً صوته‬
‫من التقرٌرٌّة إلى تعدد األصوات الذي ٌتٌحه حوار الشخصٌّة مع نفسها (‪)2‬؛ ما ٌق ّدم قدرً ا أكبر من‬
‫البوح واإلفضاءْ ‪ٌ ،‬قول الشاعر فً قصٌدة اخرى (‪:)3‬‬

‫ال تنتظِ ْر أحدًا ‪..‬‬

‫أحدْ‬
‫فلنْ ٌؤتً َ‬

‫الرٌح‬
‫ِ‬ ‫صو ِ‬
‫ت‬ ‫غٌر ْ‬
‫لم ٌبق شً ٌء ُ‬

‫الكسٌح ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫والسٌفِ‬
‫ّ‬

‫ووج ُه ُح ٍلم ٌرتعِدْ‬

‫وهنا ٌتح ّدث الصوت إلى نفسه بخٌبة بادٌة ‪ ،‬كؤننا به ٌقول إ ّنه ما عادت مخاطبة الؽٌر والحث‬
‫على النهوض أمرً ا مجدًٌا حتى بات الشاعر ٌطلق اآلهة من نفسه وإلى نفسه ‪ ،‬وٌستعٌن لذلك‬
‫بثبلث من أدوات النفً فً شطرٌْن اثنٌن ‪ ،‬مكث ًفا بذلك شعوره بالٌؤس ‪ ،‬والذي ٌنقله بصورة‬
‫واضحة إلى القارئ عبر هذه األدوات ؛ ال ‪ ،‬ولن ولم التً تإ ّدي نفًٌا صرٌحً ا‪ .‬كما ٌلجؤ الشاعر فً‬
‫القصٌدة ذاتها إلى البناء الدابري فً اتصال آخر القصٌدة بؤوّ لها ‪ ،‬وتوضّح هذه االستعانة أنّ‬
‫الشاعر ٌجهر فً المُف َت َتح بخٌْبة النهاٌة ‪ ،‬وٌق ّدم الصدمة للقارئ فً باب القصٌدة ‪ ،‬وفً ذلك ما‬
‫ٌإ ّكد استسبلم الشاعر للحقٌقة البابسة والخذالن دون أن ٌعِد القارئ بؤٌة مفاجآت قادمة فً القصٌدة‬
‫‪ ،‬وهو إذ ٌفتتح قصٌدته بالشطر الشعريّ " ال تنتظر ً‬
‫أحدا " ‪ ،‬نراه ٌقول عند النهاٌة فٌما ٌشبه‬
‫مشهدا سٌنٌماب ًٌّا (‪: )4‬‬
‫ً‬

‫المكسور‬
‫ُ‬ ‫الفارس‬
‫ُ‬

‫ٌنتظر النهاٌة فً َجلَدْ‬


‫ُ‬

‫زائغتان ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫عٌنان‬
‫ِ‬
‫شاحب ‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫وج ٌه‬
‫ْ‬

‫ُ‬
‫وبرٌق ُح ٍلم فً مآقٌ ِه ج َمدْ‬

‫(‪ )1‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ‪ ،‬الشعت العتلف المعاصت ‪ ،‬ص ‪.294‬‬


‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.300‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق‪ ،‬ال تنتظر أح ًدا فلن ٌأتً أحد ‪ ،‬مج‪.260 ، 3‬‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬ال تنتظر أح ًدا فلن ٌأتً أحد ‪.266 ،‬‬
‫‪147‬‬

‫ال تنتظِ ر أحدًا‪..‬‬

‫فلنْ ٌؤتً أحدْ‬

‫حاصر َك الجلٌ ُد ‪..‬‬


‫َ‬ ‫فاآلن‬

‫إلى األبدْ‬

‫إنّ عملٌّة اإلبداع الشعريّ تتمثل فً دخول ال وعً الشاعر واستنطاقه ‪ ،‬وكشؾ عوالمه‬
‫الداخلٌّة عبر المونولوج ‪ ،‬وهو بهذا التكنٌك ٌتمكن من حشد عدٌد من األفكار والهواجس دون أن‬
‫تكون دخٌلة ومستكرهة فً بنٌة القصٌدة ؛ ألنّ الشاعر عبر المونولوج ٌستطٌع أن ٌق ّدم ومضات‬
‫خاطفة ؼٌر مكتملة أحٌا ًنا ‪ ،‬إال أنها تإدي –ببل شك‪ -‬الؽرض الذي سٌقت ألجله ‪ ،‬وتعفً الشاعر‬
‫عبره متابع َة المتلقً ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪:)1‬‬
‫من السرد الذي قد ٌنهك القصٌدة ‪ ،‬وٌخسر َ‬

‫ما ُك ُ‬
‫نت أعل ُم ‪..‬‬

‫مر‬ ‫آخر ما تب ّقى من شحو ِ‬


‫ب ال ُع ِ‬ ‫َ‬ ‫أنّ‬

‫كسٌح‬
‫ْ‬ ‫قندٌل ٌ‬
‫ما ُك ُ‬
‫نت أعل ُم‬

‫أنّ آخر ما سٌبقى‬

‫ض ِر‬ ‫الربوع ُ‬
‫الخ ْ‬ ‫ِ‬ ‫أطالل‬
‫ِ‬ ‫فوق‬

‫جرٌح‬
‫ْ‬ ‫عصفور‬
‫ٌ‬

‫ما ُ‬
‫كنت أعل ُم‬

‫أنّ دندنة اللٌالً الراقصا ِ‬


‫ت‬

‫مع األمانً‬

‫رٌح‬
‫ض ْ‬ ‫سوف ُت ِ‬
‫صب ُح ق ْب َ‬

‫وٌظهر إلى جانب ذلك كله الحوار العاديّ ‪ ،‬الذي ٌقوم فً القصٌدة على أساس تع ّدد‬
‫األصوات‪ ،‬والحوار العادي ‪ ،‬أو كما ٌطلق علٌه الدٌالوج ‪ ،‬هو " صوتان لشخصٌْن مختلفٌْن‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة هل كنت تعلم ‪ ،‬ص ‪.289-288‬‬
‫‪148‬‬

‫ٌشتركان معً ا فً مشه ٍد واحد ‪ ،‬تتبٌّن من خبلل حدٌثهما أبعاد الموقؾ " ( ‪ ، )1‬وٌصوّ ر الشاعر فً‬
‫القصٌدة التالٌة حوارً ا دابرً ا بٌنه وبٌن وحبٌبته تتن ّقل به القصٌدة بٌن صوتٌْن ‪ ،‬ما ٌثرٌها وٌكسبها‬
‫طابع الحٌوٌّة (‪:)2‬‬

‫سوف تنسانً‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وقالت ‪:‬‬

‫وتنسى أ ّننً ٌو ًما‬

‫نبض وجدانً‬
‫َ‬ ‫وهب ُت َك‬

‫وتعشق موجة أخرى‬

‫دفء شطآنً‬
‫َ‬ ‫وتهجر‬

‫اسمً‬
‫وٌسقط كالمنى ْ‬

‫وسوف ٌتوه عنوانً‬

‫ُترى ستقول ٌا ُعمري‬

‫بؤ ّن َك َ‬
‫كنت تهوانً ؟!‬

‫ُ‬
‫فقلت ‪ :‬هواكِ إٌمانً‬

‫ومغفرتً ‪ ..‬وعصٌانً‬

‫ولو أنساكِ ٌا عمري‬

‫حناٌا القلب ‪ ..‬تنسانً‬

‫ُ‬
‫وقلت ‪ ،‬لكنّ الحوار قد ٌظهر‬ ‫وٌبدو الحوار فً أبسط أشكاله ‪ ،‬وٌظهر ذلك من األفعال ‪ :‬قالت‬
‫كذلك من خبلل توجٌه الخطاب إلى أحدهم داخل القصٌدة ‪ ،‬دون الحصول على صوت آخر فً‬
‫المقابل ‪ ،‬إ ّنما تشً أجواء القصٌدة بوجود عنصرٌْن اثنٌْن أحدهما ٌقول واآلخر ٌستمع ‪ ،‬ولذلك‬
‫فإنّ الشاعر ٌكلّؾ نفسه عناء السإال والجواب لتبدو الصورة واضحة األبعاد ‪ٌ ،‬قول جوٌدة فً‬
‫هذا السٌاق فً قصٌدة ٌخاطب بها حبٌبته (‪: )3‬‬

‫العتلف المعاصت ‪ ،‬ص ‪.294‬‬


‫ّي‬ ‫(‪ )1‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ‪ ،‬الشعت‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان فً عٌنٌْك عنوانً ‪ ،‬قصٌدة فً عٌنٌْكِك عنوانً ‪ ،‬مج‪ ،1‬ص ‪.246-245‬‬

‫(‪ )3‬جوٌدة ‪،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة ال شًء بعدي ‪ ،‬مج ‪.301 ، 3‬‬
‫‪149‬‬

‫شًء تهربٌنْ ؟‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫من ّ‬

‫من وحشة األ ٌّام بعدي‬

‫أ ْم من الذكرى ‪..‬‬

‫وأطٌافِ الحنٌنْ ؟!‬

‫األشواق‬
‫ِ‬ ‫مِنْ لوعة‬

‫المسافر ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫والحلم‬
‫ِ‬
‫الضوءِ فً القل ِ‬
‫ب الحزٌنْ ؟!‬ ‫ْ‬ ‫وانطفاءِ‬

‫ت‬
‫حزن صام ٍ‬
‫ٍ‬ ‫غٌر‬
‫ال شًء بعدي ُ‬

‫ٌنساب فً ع ٌْن ٌْكِ حٌن تف ّكرٌن‬


‫ُ‬

‫وٌظهر أن الطرؾ الثانً فً الحدٌث مضمر فً سٌاق القصٌدة ‪ ،‬وإن لم نجد تفاعلٌّة حقٌقٌّة‬
‫ً‬
‫مقصودا فً كون المحبوبة قد ؼٌّبت نفسها وانسحبت بإرادتها‬ ‫فً أرجاء النصّ ‪ ،‬فربّما ٌكون ذلك‬
‫؛ لتترك للشاعر إدارة الحوار الواضح من جهته والصامت من جهتها ‪ ،‬أو أل ّنها لم ِ‬
‫ترد أن تكون‬
‫جزءًا من هذه الحوارٌّة لتخرج منها كما خرجت من حٌاة الشاعر‪.‬‬

‫وكما ٌستعٌر الشاعر أبرز مقوّ مات الرواٌة ‪ٌ ،‬عمد بالمقابل إلى األسلوب القصصً ‪ ،‬والذي‬
‫ٌجذب المتلقً لمتابعة التفاصٌل الدقٌقة للحكاٌة المسرودة ‪ ،‬وٌتح ّقق عبر هذا األسلوب تشكٌل عالم‬
‫مكتمل ٌطالع فٌه القارئ الزمان والمكان والحركة المتؤتٌة من دوران الحكاٌة ‪ ،‬والحدث الذي بلػ‬
‫ذروته ومشى نحو نهاٌة متوافقة وتسلس َل الحدث ‪ ،‬وإذ ٌتخذ السارد موقعً ا ٌحدد من خبلله زاوٌة‬
‫الرإٌة ‪ٌ ،‬ظهر عبر األسلوب القصصًّ كٌؾ " تكتسب العواطؾ الذاتٌّة مظهر الموضوعٌّة " ( ‪)1‬‬
‫ٌقول الشاعر فً حكاٌة (العم فرج ) ‪:‬‬

‫األفق فرقعة‬
‫ِ‬ ‫وراء‬
‫َ‬ ‫دو ْت‬
‫ّ‬

‫ْ‬
‫ستكٌنه‬ ‫ْ‬
‫أطاحت بالقلو ِ‬
‫ب ال ُم‬

‫ب‬
‫ألف با ٍ‬
‫والما ُء ٌفت ُح َ‬

‫ْ‬
‫السفٌنه‬ ‫أرجاء‬
‫َ‬ ‫والظال ُم ّ‬
‫ٌدق‬

‫األقلف الحقيا ‪ ،‬دار الثقافة ‪ ،‬بٌروت – لبنان ‪ ،‬ص ‪.454‬‬


‫ّي‬ ‫(‪ )1‬هالل ‪ ،‬محمد غنٌمً (‪ ،)1973‬الننق‬
‫‪150‬‬

‫ْ‬
‫تناثرت‬ ‫جموع العائدٌن‬
‫ُ‬ ‫غاصت‬

‫ْ‬
‫حزٌنه‬ ‫ٌ‬
‫صٌحات‬ ‫اللٌل‬
‫ِ‬ ‫فً‬

‫وتس ّم ْ‬
‫رت عٌناهُ فوق الشاطئ الموعو ِد ‪..‬‬

‫راودَ هُ حنٌ ُنه‬

‫و ُتسرّ عُ هذه األفعال المتوالٌة من تد ّفق الحكاٌة ‪ ،‬وتبدو من خبللها ذروة الحدث ‪ ،‬وٌضعنا‬
‫الشاعر فً صلب الحكاٌة لٌتركنا نشهد مع هذه الجموع حادثة الؽرق ‪ ،‬فنستمع إلى صٌحاتهم‬
‫المتوسّلة ‪ ،‬ونتخٌّل الماء وهو ٌتد ّفق إلى أرجاء السفٌنة ‪ ،‬حتى ٌضٌق الحٌز أو زاوٌة الرإٌة التً‬
‫بعرض بطًء لنظرته‬
‫ٍ‬ ‫ٌتٌحها لنا الشاعر إلى أن ٌتفرّ د الكادر بصورة ذاك العامل المسكٌن (فرج)‬
‫األخٌرة نحو الشاطا الموعود ‪ ،‬وٌكثؾ الشاعر هذه الصورة وٌق ّدم تفاصٌلها ‪ ،‬لما تإدٌه هذه‬
‫التفاصٌل من أهمٌّة فً أجواء القصٌدة ‪ ،‬وإلتمام صورة المعاناة فً أدق معطٌاتها ‪ ،‬والتً أراد أن‬
‫ٌسرّ بها الشاعر إلى القارئ‪ ،‬وقد ت ّم له ذلك بخ ّفة واقتدارْ ‪.‬‬

‫ّ‬
‫وٌوظؾ الشاعر العناصر الدرامٌّة لنسج قصة لها بداٌة ووسط ونهاٌة ‪ ،‬كما ٌكتنفها عنصر‬
‫الصراع ‪ ،‬وتبدو لدى جوٌدة فً نسق حكاٌة ‪ٌ ،‬ق ّدم لها بالسرد ‪ ،‬وٌستعٌن الشاعر بتقنٌة االرتداد‬
‫إلى الماضً ) ‪ )Flashback‬؛ إحدى تقنٌات العمل السٌنمابً والروابً ‪ ،‬و " هً وسٌلة سردٌّة‬
‫قصصٌة توجه إضاءتها الخاطفة إلى عرض أحداث سبقت فً الوقوع المشهد االفتتاحً للعمل‬
‫األدبً ‪ ..‬وٌمكن تنمٌة تلك االرتدادات من خبلل حلم ٌقظة أو ذكرٌات إحدى الشخصٌات ‪ ،‬أو‬
‫سٌاق حلمً متتابع أو حوار " (‪ ،)1‬وتعود الذكرٌات هنا لراوي الحكاٌة ‪ ،‬الذي ٌبدو كؤنه جمع من‬
‫حوله أهالً البلدة لٌقصّ علٌهم قصة مواطن مصريّ " ؼلبان " ‪ ،‬لذا فهو ٌعود فً الحكاٌة إلى‬
‫مشهدا وقع فً زمان سابق مب ّكر ‪ٌ ،‬ق ّدم عبره بطاقة تعرٌفٌّة ببطل الحكاٌة ‪،‬‬
‫ً‬ ‫الماضً ‪ ،‬وٌُدخل‬
‫وٌعتمد فً الحكاٌة على التنامً ال التراكم (‪: )2‬‬

‫(ع ّمً فرج ) ‪..‬‬

‫الحال‪..‬‬
‫ِ‬ ‫رجل ٌ بسٌط‬

‫ٌعرف مِن األ ٌّ ِام شٌ ًئا‬


‫ل ْم ِ‬
‫غ ٌْ َر صم ِ‬
‫ت ال ُمتعبٌنْ‬

‫)‪ (1‬فتحً ‪ ،‬إبراهٌم (‪ ،)1986‬معجم المصطلحات األقل ّيية ‪ ،‬التعاضدٌّة العمالٌّة للطباعة والنشر ‪ ،‬صفاقس‪ -‬تونس ‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫)‪ (2‬جوٌدة ‪ ،‬قي ان ماذا أصالك يا طن؟ ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن؟ " ‪ ،‬ص ‪.20-19‬‬
‫‪151‬‬

‫ُك ّنا إذا اشتدّ ْت رٌا ُ‬


‫ح الش ِّك‬

‫ب ٌْنَ ٌدٌ ِه نلتم ُ‬


‫ِس الٌقٌنْ‬

‫الشمس ع ٌْنٌ ِه ‪..‬‬


‫ِ‬ ‫ْ‬
‫غابت خٌوط‬ ‫ك ّنا إذا‬

‫شً ٌء فً جوانِحِنا ٌَضِ ل ُّل ‪ ..‬وٌستكٌنْ‬

‫غارقتان فً سؤم السنٌنْ‬


‫ِ‬ ‫ع ٌْناهُ‬

‫وذقن ُه البٌضا ُء تحمل ُ َ‬


‫ألف ُح ٍلم‬

‫للحٌارى الضائعٌنْ‬

‫وفً سٌاق متصل ‪ٌ ،‬لجؤ الشاعر إلى السرد ؛ ألنّ ما ٌود أن ٌقوله كثٌر ومتبلحق ‪ٌ ،‬ؤتً على‬
‫تارٌخا ملٌ ًبا بالتفاصٌل ‪ ،‬لكنّ الشاعر ٌضًء – عبر اإلشارة‬
‫ً‬ ‫هٌبة ومضات سرٌعة تختزل‬
‫السرٌعة إلٌه – ذهن القارئ ومعرفته التارٌخٌّة ‪ ،‬وهو إنما ٌرٌد من القارئ أن ٌجعل هذا التارٌخ‬
‫ّ‬
‫لتخطٌها ‪ ،‬وفً األبٌات التالٌة ٌثري الشاعر‬ ‫حاضرً ا إلى نفسه ‪ ،‬لٌتذ ّكر هذه المآسً ‪ ،‬وٌستع ّد‬
‫ت شعورٌّة لدى الشاعر ‪ ،‬حٌث ٌقؾ فً‬
‫قابم بٌن المفردات ‪ٌ ،‬فسّر تناقضا ٍ‬
‫أجواء النصّ بتقابل ٍ‬
‫قصٌدته على ثنابٌّات وحقول داللٌّة قابمة على الجدب‪/‬الخصب ‪ ،‬و الحٌاة‪ /‬الموت ‪ ،‬والوالدة ‪/‬‬
‫الموت ‪ ،‬والتقابل الفعلًّ هو الذي ٌحدث من العبلقة الجدلٌّة بٌن الموت والمٌبلد ‪ ،‬وتكتمل هذه‬
‫بالصورة الحركٌّة ‪ ،‬واللؽة الساردة التً ٌعمد إلٌها الشاعر‪ ،‬إذ ٌقول (‪: )1‬‬

‫أطفال بغداد الحزٌنة فً الشوارع ٌصرخون‬

‫جٌش التتار‪ٌ..‬دق أبواب المدٌنة كالوباء ‪..‬‬

‫وٌزحف الطاعون‬

‫أحفاد هوالكو على جثث الصغار ٌزمجرون‬

‫صراخ الناس ٌقتحم السكون‬

‫أنهار دم فوق أجنحة الطٌور الجارحات ‪..‬‬

‫مخالب سوداء تنفذ فً العٌون‬

‫(‪ )1‬قصٌدة ‪ :‬من قال إنّ النفط أغلى من دمً ؟ ‪. http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm‬‬


‫‪152‬‬

‫ما زال دجلة ٌذكر األٌام ‪..‬‬

‫والماضً البعٌد ٌطل ّ من خلف القرونْ‬

‫وتمنح هذه البنى الدرامٌّة قصٌدة الشاعر طابعها اإلنسانًّ ‪ ،‬وتجذبها إلى واقع اإلنسان‬
‫بعدا جمال ًٌّا ٌرقى بدالالت النصّ الشعريّ ‪ ،‬وٌجعله ٌشعّ من الداخل ‪،‬‬
‫العربًّ ‪ ،‬كما تكسبها ً‬
‫وٌكشؾ عن مقدرة الشاعر فً الموازنة بٌن عاطفته المتدفقة والجٌّاشة وبٌن تقٌٌد هذه العاطفة إلى‬
‫ب فنًٍ ٌحتوٌها بمهارة ‪ ،‬وٌبرز جمالٌّاتها ومراراتها دفعة واحدة ‪ ،‬وعند ذاك ٌتجلّى اإلبداع‪.‬‬
‫قال ٍ‬
‫‪153‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫التكرار‬
‫‪154‬‬

‫التــكرار‬

‫ٌع ّد التكرار من الظواهر األسلوبٌّة التً تإدي دورً ا إٌحابٌّا داللٌــ ًّا فً أجواء القصٌدة ‪ ،‬وقد‬
‫سعى الشعراء إلى استثمار طاقاتها لتطوٌر أداء قصابدهم ‪ ،‬وهً من األدوات الفنٌّة التً تعطً‬
‫للقصٌدة سمات جمالٌّة تسهم فً تشكٌل موقؾ الشاعر وتصوره ‪ ،‬وقد ٌؤتً التكرار خدمة‬
‫ألؼراض كثٌرة داخل القصٌدة ‪ ،‬كما ٌمنح التكرار القصٌدة قوة تؤثٌرٌّة تتمثل فٌما ٌقدمه باإللحاح‬
‫فً المكرّ ر على صعٌد المعنى ‪ ،‬وهو " عنصر ببلؼًّ طارئ فً جمالٌّات الشعر المعاصر ‪ ،‬إذا‬
‫أحسن توظٌفه بشكل جٌّد ‪ ،‬ولم ٌكن عبلمة على إفبلس الشاعر وعجزه " ( ‪ . )1‬وٌبدو التكرار من‬
‫أبرز اإلمكانات اللؽوٌّة المتاحة للشاعر على بساطته وسهولة االستعانة به ‪ ،‬إال أ ّنه قد ٌضع‬
‫الشاعر فً خانة التقصٌر عن توظٌفه توظٌ ًفا البقا ومإدًٌا فً أجواء القصٌدة ً‬
‫بعٌدا عن الحشو‬
‫والحشد الذي ال ٌخدم المعنى ؛ إذ " ال ٌجب للشاعر أن ٌكرّ ر اسمًا إال على جهة التشوّ ق‬
‫‪ ، )2‬وترى نازك المبلبكة أنّ‬ ‫واالستعذاب ‪ ..‬أو على سبٌل التنوٌه به ‪ ،‬واإلشارة إلٌه بذكر " (‬
‫التكرار ال ٌَحسُن فً القصٌدة بمجرد االستعانة به ‪ ،‬ألنه "ٌحتاج إلى أن ٌجًء فً مكانه من‬
‫القصٌدة ‪ ،‬وأن تلمسه ٌد الشاعر تلك اللمسة السحرٌّة التً تبعث الحٌاة فً الكلمات " ( ‪ ، )3‬وتبٌّن‬
‫المبلبكة أنّ اقتصار الشعراء على ملء البٌت واستقدام العنصر المكرر فً القصٌدة إلحداث‬
‫مزلق تعبٌريّ " (‪.)4‬‬
‫ٍ‬ ‫الموسٌقى ٌوقع الشاعر فً "‬
‫ُوظؾ التكرار لدى كثٌر من الشعراء إلنتاج الداللة ‪ ،‬كما ّ‬
‫ٌوظؾ فن ًٌّا فً النص الشعريّ‬ ‫وٌ ّ‬
‫" لدوافع نفسٌّة وأخرى فنٌّة " ( ‪ ، )5‬وٌوحً بسٌطرة العنصر المكرر وإلحاحه فً فكر الشاعر أو‬
‫ال شعوره( ‪ ، )6‬وتتخذ ظاهرة التكرار مكانها فً شعر جوٌدة ؛ إذ ٌشحن بها التعبٌر الشعريّ‬
‫لٌتنامى عبرها المعنى الذي ٌل ّح علٌه الشاعر ‪ ،‬وٌسعى إلى إبرازه وصرؾ األنظار إلٌه ‪ ،‬وٌقابل‬
‫هذا التكثٌؾ من تكرار بعض الوحدات أو الجمل فً النص شحنة شعورٌّة خاصّة تشٌع دالالت‬

‫(‪ )1‬وادي ‪ ،‬طه ‪ ،‬جمالٌات القصٌدة المعاصرة ‪ ،‬ص ‪.116‬‬


‫(‪ )2‬ابن رشٌق القٌروانًّ األزديّ (‪ 456‬هـ‪1063 /‬م ) ‪ ،‬العمدة فً محاسن الشعر وآدابه ونقده ‪ ،‬تحقٌق وتعلٌق‪ :‬محمد‬
‫محًٌ الدٌن عبد الحمٌد ‪ ،‬دار الجٌل للنشر والتوزٌع والطباعة‪ ،‬ط‪ ، 4‬بٌروت ‪.74/2 ،1972 ،‬‬
‫)‪ (3‬المبلبكة ‪ ،‬نازك (‪ ،)1967‬قضاٌا الشعر المعاصر ‪ ،‬منشورات مكتبة النهضة ‪ ،‬ط‪ ، 3‬ص ‪.257‬‬
‫)‪ (4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.257‬‬
‫العربً الحدٌث ‪ ،‬منشؤة المعارؾ ‪ ،‬اإلسكندرٌّة ‪ ،‬ص‬
‫ّ‬ ‫)‪ (5‬السعدنً ‪ ،‬مصطفى (‪ ، )1987‬البنٌات األسلوب ٌّة فً لغة الشعر‬
‫‪.172‬‬
‫كلً دار العلوم ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫(‪ )6‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)1978‬عن بناء القصٌدة العرب ٌّة الحدٌثة ‪ ،‬ة‬
‫‪155‬‬

‫هذا التكرار وتندفع نحو القارئ لتإدي الداللة المنشودة لدى الشاعر بؤٌسر السبل ‪ ،‬وٌنظر إلى‬
‫التكرار أحٌا ًنا بوصفه عنصرً ا ظاهرًٌا ال أكثر ‪ ،‬عاجز عن تؤدٌة أي دور فً بنٌة القصٌدة ‪ ،‬لكنّ‬
‫ذلك ؼٌر كابن إال فً حالة قصور الشاعر عن استؽبلل قٌمة التكرار لبلرتفاع بنصّه ال لحشوه‬
‫بالمكررات دون أن تإدي هذه اإلضافة إلى قٌمة صوتٌّة أو إٌحابٌة الفتة‪.‬‬

‫وٌعمد جوٌدة إلى التكرار فً أبسط أشكاله ‪ ،‬والمتمثل فً التكرار البٌانً ( ‪ ، )1‬وٌبدو التكرار‬
‫على مستوى اللفظة الواحدة فً الفعل ‪ٌ ،‬قول الشاعر (‪: )2‬‬

‫كنا نصلًّ فً الطرٌق وحولنا‬

‫ٌتندّ ر الك ّهان بالضحكا ِ‬


‫ت‬

‫دموعنا‬
‫َ‬ ‫الظالم‬
‫ِ‬ ‫ُك ّنا نعان ُِق فً‬

‫منفطر مِن العبرا ِ‬


‫ت‬ ‫ٌ‬ ‫والدرب‬
‫ُ‬

‫وتبدو الوظٌفة الجمالٌّة فً هذا التكرار النمطً الذي ٌتوهج المعنى عبره‪ ،‬فالفعل المتصل‬
‫بضمٌر المتكلمٌن (ك ّنا) أدى دور التصعٌد فً المعنى ‪ ،‬كما ساعد على تقدٌم صورتٌن مشحونتٌن‬
‫بالشجن واألسى فً نفس الشاعر ‪ ،‬وٌإدي ارتباط داللة الفعل المكرر بالماضً إلى عمق األثر‬
‫الذي ٌتركه على الشاعر وٌدعوه إلى االنفعال ؛ ألنه ٌهمد إلخبارنا بما آلت إلٌه الحال بعدها‬
‫كنتٌجة متحصلة لهذه الصور الحزٌنة ؛ إذ ظل هذا الفعل المكرر ٌصعّد وٌعٌن الشاعر على التذكر‬
‫كما أنه أعان القارئ على تو ّقع النهاٌة‪ ،‬وهو ما تجسّد بافتراق الحبٌبٌْن على ٍ‬
‫نحو مإلم ‪ ،‬كما‬
‫تحققت القٌمة األخرى للتكرار والمتمثلة فً الموسٌقى الداخلٌّة فً ( ك ّنا ) المكررة ‪ ،‬وٌبدو أنّ‬
‫هنالك نس ًقا موسٌقٌّا واضحً ا فً ترتٌب المفردات لتبلقً نظٌراتها فً األشطر التً تلٌها ؛ إذ‬
‫ٌتضح التكرار فً األبنٌة اللؽوٌّة المتماثلة والمتكررة حٌث الفعل ٌقابل الفعل ‪ ،‬وتقابل الجملة‬
‫االسمٌّة األخرى ‪ ،‬وذلك منسحب على أحرؾ المضارعة والضمابر المتصلة ‪ٌ ،‬حقق الشاعر‬
‫عبره توازًٌا تركٌبٌّا فً تكرٌره للصٌػ النحوٌّة( ‪ ، )3‬وهو إلى جانب إٌحابه بقٌمة داللٌّة ٌُكسب‬

‫(‪ )1‬المبلبكة ‪ ،‬نازك ‪ ،‬قضاٌا الشعر المعاصر ‪ ،‬ص ‪.246‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة لو أننا لم نفترق ‪ ،‬مج ‪ ،3‬ص ‪.243‬‬
‫(‪ )3‬الؽرفً ‪ ،‬حسن (‪ ، )1989‬البنٌة اإلٌقاع ٌّة فً شعر حمٌد سعٌد ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة العامّة ‪ ،‬بؽداد ‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪156‬‬

‫أجواء القصٌدة نس ًقا موسٌقٌّا محببًا لدى القارئ ‪ٌ .‬قول فً مختتم القصٌدة (‪: )1‬‬

‫كنت أعرف والرحٌل ٌ ّ‬


‫شدنا‬ ‫ما ُ‬

‫أ ّنً أودّ ُع مهجتً وحٌاتً‬

‫وتتحقق قٌمة التكرار لدى جوٌدة فً أنماط ع ّدة ؛ منها استعانته به فً تكرار الجملة الشعرٌّة‪،‬‬
‫التً ٌعمد إلٌها ؼالبًا فً ختام المقطع الشعريّ ؛ كً ٌبقى أثر هذا التردٌد عمٌ ًقا فً نفس المتلقً ال‬
‫ٌؽادره لكثرة ما ٌل ّح علٌه الشاعر ‪ ،‬ونظرً ا لكونه آخر ما ٌبلمس قلب المتلقً لدى القراءة ٌقول‬
‫الشاعر فً قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن " (‪: )2‬‬

‫ٌدي نحو َك ث ّم ٌقط ُعها الظال ْم‬


‫ّ‬ ‫آه ٌا وطنً ‪ ..‬أمدّ‬

‫وأظل ّ أصر ُ‬
‫خ فٌك أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫باهللِ أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫باهللِ أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬

‫هلل أنقذنا ‪ ..‬حرا ْم‬


‫با ِ‬

‫وٌظهر عمق هذا التردٌد فً الداللة التً ٌسعى الشاعر إلى تبلٌؽها ‪ ،‬فقد تش ّكلت عاطفٌة التكرار‬
‫لتإ ّدي معنى االستؽاثة واالستجداء ؛ فالشاعر عبر صوت ( العم فرج ) ٌل ّح على الوطن وٌتعطفه‬
‫ً‬
‫مناخا إٌقاعٌّا واضحً ا‪.‬‬ ‫مرارً ا كً ٌرأؾ به ‪ ،‬كما ٌخلق عبر هذا التكرار‬

‫وتتضح قٌمة التكرار فً قصٌدة جوٌدة بالحب ‪ ،‬ذلك ألن عبلقته بالحبٌبة ال تقوم على مبدأ‬
‫الندٌّة‪ ،‬إ ّنما ٌستمر الشاعر فً التوسّل عبر عبلقة ؼٌر متكافبة ٌظهر فٌها الشاعر ضعٌ ًفا ٌستعٌن‬
‫بالتكرار محاوال استدرار عطؾ المرأة وطلب و ّدها ‪ ،‬أو دفعها إلى أن تتر ّفق به ‪ ،‬وعمد الشاعر‬
‫إلى تكرار الدواخل (‪ )3‬ومنها حرؾ الجرّ ربّ ؛ حٌث ٌقول (‪: )4‬‬

‫ال تشعرٌنً أنَّ ح ّبكِ‬

‫ْ‬
‫معصٌه‬ ‫أكبر‬
‫كان َ‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لو أننا لم نفترق ‪ ،‬قصٌدة لو أننا لم نفترق ‪ ،‬مج ‪ ،3‬ص ‪.244‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌاوطن ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن " ‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫العربً الحدٌث ‪ ،‬ص ‪.149-148‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬السعدنً ‪ ،‬مصطفى ‪ ،‬البنٌات األسلوب ٌّة فً لغة الشعر‬
‫(‪ )4‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان لن أبٌع العمر ‪ ،‬قصٌدة " لن أبٌع العمر " ‪ ،‬مج‪ ، 2‬ص ‪.260-259‬‬
‫‪157‬‬

‫قولً سئمنا ‪ ..‬ر ّبما‬

‫قولً كرهنا ‪..‬ر ّبما‬

‫قولً بؤنً ُ‬
‫كنت وه ًما‬

‫أو خٌاال فً حٌاتِك‬

‫لكن بر ّبك ال تقولً‬

‫إنّ عمري كان عندك‬

‫لٌلة من أمنٌاتك‬

‫كنت شٌ ًئا ‪..‬‬


‫ال تشعرٌنً أننً ما ُ‬

‫غٌر تؤكٌ ٍد لذات ِْك‬


‫َ‬

‫ٌتجلّى التكرار فً األشطر السابقة فً أكثر من صورة ‪ ،‬لكنّ التجاء الشاعر إلى استعمال‬
‫(ربما) مكرور ًة ٌحٌل بصورة جلٌّة إلى ارتباط هذا االستعمال بؤؼوار نفس الشاعر وإحساساته‬
‫العمٌقة ‪ ،‬وتبدو ( ربما ) كما لو أنها صوت الشاعر الداخلًّ الذي ٌتم ّنى عبره أن ٌكون داللة ما‬
‫تقوله الحبٌبة عن فشل حبهما هو السؤم والكره ‪ ،‬وهو ما ٌمكن أن ٌتحمّله الشاعر من المحبوبة ؛‬
‫ألنه ٌجعل من استعماله لضمٌر المتكلمٌن (نا) مع األفعال كما لو أنهما متعادلٌْن فً هذا السؤم ‪،‬‬
‫لكنّ ما ٌجرح كبرٌاء الشاعر وٌخاؾ وقوعه هو أن ٌكون بالنسبة لهذه الحبٌبة مجرد رؼبة عابرة‪.‬‬

‫وٌعمد الشاعر إلى التفرٌع فً قصٌدته مستخدمًا التكرار ‪ ،‬وٌظهر المدى التؤثٌري الذي ٌق ّدمه‬
‫التكرار على امتداد القصٌدة فً ش ّدها بخٌط واحد من أولها حتى آخرها ‪ ،‬كما ٌتدخل الشاعر‬
‫بالعنصر المكرر عن طرٌق تركٌب التكرار ومزجه بوسابل لؽوٌّة إٌحابٌّة أخرى ؛ كما فعل فً‬
‫قصٌدته ‪ ،‬حٌث مزج " بٌن التكرار وأسلوب الحذؾ واإلضمار على نحو تآزرت فٌه األداتان " ‪،‬‬
‫وتؤتً هذه الصٌؽة مكررة سبع مرّ ات فً تضاعٌؾ القصٌدة ( ‪ٌ ، )1‬قول الشاعر فً قصٌدته ( لو‬
‫أننا ) (‪: )2‬‬

‫لو أ ّننا ٌو ًما جع ْلنا ُع َ‬


‫مرنا‬

‫األشجار‬
‫ِ‬ ‫الظالل كروضة‬
‫ِ‬ ‫بٌن‬

‫لو أ ّننا ُعدنا إلى أحالمِنا‬

‫(‪ )1‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري‪ ،‬عن بناء القصٌدة العرب ٌّة الحدٌثة ‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت قلبً ‪ ،‬قصٌدة لو أننا لم نفترق ‪ ،‬مج ‪ ، 1‬ص ‪.338-337‬‬
‫‪158‬‬

‫األطٌار‬
‫ِ‬ ‫سكرى ُنناجٌها مع‬

‫طفالن فً أحزانِنا‬
‫ِ‬ ‫لو أ ّننا‬

‫مزمار‬
‫ِ‬ ‫ننسى الحٌاة على صدى‬

‫إلى أن ٌقول ‪:‬‬

‫لو أننا ‪ ..‬لو أننا ‪ ..‬لو أننا‬

‫األقدار‬
‫ِ‬ ‫ما أسهل الشكوى من‬

‫وٌبدو فً المقطع األخٌر ‪ ،‬كٌؾ ٌل ّم الشاعر هذه المتكررات لٌعطٌها داللة نهابٌّة واحدة ‪ ،‬تإكد‬
‫على أنّ كثرة التم ّنً وانعدام فرص تحققه ‪ ،‬وتظهر هذه الداللة بصورة أكثر وضوحً ا عبر الحذؾ‬
‫الواقع فٌما بعد ( لو أننا) ‪ ،‬وعبر حرؾ االمتناع (لو ) وما ٌإدٌه من معانً الصعوبة واالستحالة‬
‫‪ ،‬وٌكررها الشاعر على سبٌل الخٌبة ‪.‬‬

‫وفً قصٌدة أخرى ‪ٌ ،‬ستعٌن الشاعر بالتكرار لؽاٌات التدرج فً الداللة‪ ،‬وترتبط المكررات‬
‫بدالالت حسٌّة متصلة بمح ّل التكرار وسٌاقه ‪ٌ ،‬قول الشاعر (‪: )1‬‬

‫ماذا ٌفٌ ُد‬

‫حاصرنا مكانْ‬
‫ُ‬ ‫العمر أصنا ًما ٌُ‬
‫َ‬ ‫إذا قض ٌْنا‬

‫الناس ضل ّ الراهبانْ ؟‬
‫ِ‬ ‫ل َم ال نقول ُ أما َم كل ّ‬
‫ل َم ال نقول ُ حبٌبتً قد َ‬
‫مات فٌنا ‪ ..‬العاشقانْ ؟‬

‫فقد ق ّدم التكرار داللة جدٌدة مع المكرّ ر أكثر وضوحً ا من سابقتها ‪ ،‬وٌتضح كٌؾ تتنامى‬
‫الداللة وتتوالد لتزٌد عم ًقا ؛ ففً الشطر األول ٌوحً الشاعر بداٌة بتفسّخ العبلقة بٌنهما‬
‫بتصوٌرهما براهبٌْن قد ضبل ‪ ،‬ثم ٌذهب الشاعر إلى داللة أعمق لٌإكد على انتهاء العبلقة دون‬
‫إٌحاء عبر جملة واضحة حٌن قال ( َ‬
‫مات فٌنا العاشقان ) ‪ ،‬وهً التً أخذت الداللة نحو مستوىً‬
‫جدٌد‪.‬‬

‫(‪)1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابما أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة ال أنت أنت وال الزمان هو الزمان ‪،‬مج ‪ ،1‬ص ‪.350‬‬
‫‪159‬‬

‫وال ٌؽٌب عن بال أحدهم ما ٌإدٌه التكرار من جوّ موسٌقًّ فً تضاعٌؾ القصٌدة ‪ ،‬فٌما ٌطلق‬
‫علٌه بالموسٌقى الداخلٌّة عبر تكرار حرؾ من الحروؾ ‪ ،‬وهو " نوع ٌ دقٌق ٌكثر استعماله فً‬
‫شعرنا الحدٌث " (‪ ، )1‬فالشاعر إذ ٌكرر حرؾ السٌن إنما ٌعبّر عن مسحة الحزن التً تؽلّؾ قلب‬
‫الشاعر ‪ ،‬رؼم ما ٌعبّر عنه من رإى تفاإلٌّة ‪ ،‬إال أنه ٌتح ّدث من قلب اللحظة عن األسى الذي‬
‫ٌتملكه عبر حرؾ الهمس ( السٌن) وباالستعانة بحرؾ الصاد ‪ ،‬وٌحقق حرؾ السٌن انسٌابًا‬
‫ألشطر القصٌدة ‪ ،‬كما ٌعبّر عن دخٌلة نفس الشاعر وٌسرّ ب إلٌها ومنها األسى ‪ٌ ،‬قول جوٌدة‬
‫ههنا ‪)2(:‬‬

‫ٌاقدس‬
‫ُ‬ ‫ولن ننساكِ‬

‫ستجمعنا صالة الفجر فً صدرك‬

‫ْ‬
‫ثغرك‬ ‫تبسم من سنا‬
‫وقرآن ّ‬

‫حشوا أو ً‬
‫زابدا على بنٌة‬ ‫ً‬ ‫بذلك ٌحقق التكرار حضورً ا لطٌ ًفا فً قصٌدة جوٌدة ؛ فبل ٌرد‬
‫القصٌدة‪ ،‬إنما ٌإ ّدي دوره فً المعنى من ناحٌة ‪ ،‬وفً تحقٌق نسق موسٌقًّ جمٌل تستدرجه أذن‬
‫المتلقً ‪.‬‬

‫(‪ )1‬المبلبكة ‪ ،‬نازك ‪ :‬قضاٌا الشعر المعاصر ‪ ،‬ص ‪.239‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪،‬دٌوان شًء سٌبقى بٌننا ‪ ،‬قصٌدة ألنك عشت فً دمنا ‪ ،‬مج ‪ ،2‬ص ‪.87-86‬‬
‫‪160‬‬

‫المبحث السادس‬
‫اإلٌقاع‬
‫‪161‬‬

‫اإلٌقاع‬

‫ٌجسّد العمل الفنًّ لحظة شعورٌّة ذات دالالت ‪ ،‬تترجمها القصٌدة عبر اللؽة ومحموالتها من‬
‫جهة ‪ ،‬وعبر الموسٌقى التً تتحقق للشاعر داخل قصٌدته من جهة أخرى ؛ فـــ " القصٌدة تشكٌل‬
‫جمالً بلؽة ذات إٌقاع موسٌقًّ " ( ‪ ، )1‬وال ٌمكن لنا إنكار ما لموسٌقى الشعر من أثر على نفس‬
‫المتلقً ‪ ،‬وكلما كان الشاعر قادرً ا على اختٌار القوالب الشعرٌّة األنسب لقصٌدته فإنه سٌتمكن من‬
‫االتصال بذابقة المتلقً ‪ ،‬وإٌصال تجربته الشعرٌّة باقتدارْ ؛ فالموسٌقى ال تقؾ عند كونها حاجة‬
‫موسٌقٌّة تتطلبها األذن ‪ ،‬بل إنها تقوم بمهمة تهٌبة المتلقً ‪ ،‬وخلق االستعداد النفسًّ لدٌه للتجاوب‬
‫مع إٌقاعات الشعر وموسٌقاه (‪ٌ . )2‬قول نزار قبانً " الشعر هندسة حروؾ وأصوات ُنعمر بها‬
‫فً نفوس اآلخرٌن عالمًا ٌشبه عال َمنا الداخلًّ ‪ .‬والشعراء مهندسون لكل منهم طرٌقته فً بناء‬
‫بشكل ربٌس على المنظور‬
‫ٍ‬ ‫الحروؾ وتعمٌرها " ( ‪ ، )3‬وجوٌدة إذ ٌتكا فً نصّه الشعريّ‬
‫الكبلسٌكً فً تشكٌل بنٌته اإلطارٌّة ‪ ،‬وإنْ خرج بصورة نسبٌّة فً بعض األحٌانْ ‪ ،‬فإ ّنه ٌكشؾ‬
‫فً تشكٌله الموسٌقً عن قدرة فنٌّة استطاعت أن تجسّد انفعاالت الشاعر وأحاسٌسه فً حركة‬
‫الموسٌقى داخل النص‪.‬‬

‫وظ ّل عبر التزامه بالحفاظ على نهج القصٌدة العربٌّة القدٌمة والتشكٌل الموسٌقًّ الخلٌلًّ قادرً ا‬
‫على رفد قصٌدته بالمستوى الفنًّ الذي ٌضمن لها تواصل القارئ وتذوّ قه لها ‪ ،‬وعلى الرؼم من‬
‫أنّ تجربته الشعرٌّة ظلّت تراوح بٌن الشعر العمودي والحر فً إطارها العا ّم حتى آخر دواوٌنه‬
‫الشعرٌّة ‪ ،‬إال أن ما ٌظهر فً هذه المراوحة أنّ الشاعر قد بقً مخلصً ا للشكل التقلٌديّ حتى فً‬
‫قصٌدة التفعٌلة ‪ ،‬ومن ذلك اهتمامه البالػ بالقافٌة وحرصه علٌها ‪ ،‬وٌسوق ربٌعً عبد الخالق فً‬
‫كتابه ( أثر التراث العربًّ القدٌم فً الشعر العربًّ المعاصر ) أمثلة من شعر جوٌدة إلى جانب‬
‫ؼٌره من الشعراء ‪ ،‬وٌعلّق علٌها بالقول ‪ ":‬منهم من نظم قصٌده على النمط القدٌم ‪ ،‬وراح ٌفتت‬
‫وحدة البٌت الموسٌقٌّة مقطعً ا أبٌاته فً سطور ؼٌر متساوٌة لكً تؤخذ فً الكتابة فقط شكل الشعر‬

‫(‪ )1‬وادي ‪ ،‬طه ‪ ،‬جمالٌات القصٌدة المعاصرة ‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫(‪ )2‬موسى ‪ ،‬منٌؾ(‪ ، )1984‬نظرٌة الشعر عن الشعراء والنقاد فً األدب ‪ ،‬دار الفكر العربً ‪ ،‬مصر ‪ ،‬ص ‪.381‬‬
‫(‪ )3‬قبانً‪ ،‬نزار ‪ ،‬الشعر قندٌل أخضر(‪ ، )1963‬منشورات نزار قبانً ‪ ،‬بٌروت – لبنان ‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪162‬‬

‫الجدٌد حتى إذا قرأناها أمكننا ر ّدها إلى صورتها الحقٌقٌّة فإذا هً أبٌات موزونة ومقفاة من‬
‫الطراز التقلٌديّ " (‪ ، )1‬من ذلك قول الشاعر (‪: )2‬‬

‫ف‬
‫ألعتر ْ‬
‫ِ‬ ‫ٌا س ٌّدي ‪َ ..‬ف‬

‫ِح‪..‬‬
‫أنّ الجوادَ الجام َ‬

‫المجنونَ قد خسِ َر ّ‬
‫الرهانْ‬

‫الزمان الوغ ِد‬


‫ِ‬ ‫وبؤنّ أوحال َ‬
‫َ‬
‫فوق رءوسِ نا ‪..‬‬

‫ثٌاب ال ُملكِ والتٌجانْ‬


‫َ‬ ‫ْ‬
‫صارت‬

‫وترت ّد هذه األسطر الشعرٌّة ؼٌر المتساوٌة لتش ّكل أبٌا ًتا مقفاة موزونة على النسق التالً ‪:‬‬

‫ِح المجنونَ قدْ خسِ َر الرهــان‬


‫دَ الجام َ‬ ‫فألع َت ِر ْ‬
‫ف أنّ الجــوا‬ ‫ْ‬ ‫ٌا سٌدي‬

‫ْ‬
‫صارت ثٌاب ال ُملك والتٌجانْ‬ ‫َق رإوسِ نا‬ ‫الزمان الوغ ِد فـو‬
‫ِ‬ ‫وبؤنّ أوحال َ‬

‫وٌشٌع بعض الدارسٌن قلقهم من سٌطرة القافٌة وتح ّكمها فً حركة المبدع وأدابه الشعريّ‬
‫داخل القصٌدة ‪ ،‬لكن نازك المبلبكة ترى أنّ من الخطؤ اعتبار التزام القافٌة أمرً ا ً‬
‫مقٌدا لئلبداع ‪،‬‬
‫ت من كونها تؤتً دون تكلّؾٍ أو اصطناع "‬
‫وترى أنّ األصل فً جمالٌّة القافٌة وسحرها متؤ ٍ‬
‫والتقفٌة مفتا ٌح سحريّ ٌقودنا إلى المناطق ؼٌر الواعٌة من العقل الباطن للشاعر " ( ‪ ، )3‬وتفرض‬
‫القافٌة وجودها فً القصٌدة ‪ ،‬وهً التً تدفع القارئ لمتابعة القصٌدة مهما طالت أشطرها لبلوؼها‬
‫‪ ،‬وتحقٌق جرس موسٌقًّ محبب تتطلبه األذن ‪ ،‬تقول نازك ‪ ":‬الشعر الحرّ ال ٌح ّدد طول الشطر ‪،‬‬
‫وإنمّا ٌتركه حرّ ا ٌطول كما ٌشاء ‪ ،‬فتؤتً القافٌة أشبه بفاصلة قوٌة الشخصٌّة تفصل بٌن السطوح‬
‫المستوٌة وتنهٌها بح ّد ّ‬
‫ٌشخص كٌانها‪..‬أنّ القافٌة هً نقطة القوة والصبلبة فً كٌان الشطر " ( ‪،)4‬‬
‫وتظهر هذه اإلشارات فً شعر جوٌدة فً السٌاقات التً ٌعمد فٌها الشاعر إلى السرد والحكاٌة ‪،‬‬
‫ولذا فإن القافٌة ال تؤتً إال بعد أن ٌتم الشاعر الجملة التً ٌرٌد بمعناها التام ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪: )5‬‬

‫العربً المعاصر ‪ ،‬دار المعرفة‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬عبد الخالق ‪ ،‬ربٌعً محمد علً (‪ ، )1989‬أثر التراث العربً القدٌم فً الشعر‬
‫الجامعٌّة‪ ،‬اإلسكندرٌّة ‪ ،‬ص ‪ .75‬وانظر كذلك ‪ :‬نبوي ‪ ،‬عبد العزٌز (‪ ،)1987‬اإلطار الموسٌقً للشعر مالمحه وقضاٌاه ‪،‬‬
‫الصدر لخدمات الطباعة ‪ ،‬القاهرة – مدٌنة نصر ‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألؾ وجه للقمر ‪ ،‬قصٌدة رسالة إلى صبلح الدٌن ‪ ،‬مج ‪ ، 3‬ص ‪.204‬‬
‫(‪ )3‬المبلبكة ‪ ،‬نازك (‪ ،)1993‬ساٌكلوجٌة الشعر ومقاالت أخرى ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌة العامة ‪،‬‬
‫بؽداد ‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )4‬المبلبكة ‪ ،‬ساٌكلوجٌة الشعر ومقاالت أخرى ‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫(‪ )5‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن ؟‪ ،‬قصٌدة ماذا أصابك ٌا وطن ؟‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪163‬‬

‫(ع ّمً فرج )‬

‫الحزن‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ظهر‬
‫ِ‬ ‫ب َ‬
‫فوق‬ ‫ٌو ًما تقلّ َ‬

‫صفراء‬
‫َ‬ ‫أخرج صفحة‬
‫َ‬

‫األرض‬
‫ِ‬ ‫بطول‬
‫ِ‬ ‫إعال ًنا‬

‫ٌطلب فً "بال ِد النفطِ "‬


‫ُ‬

‫بعض العاملٌنْ‬
‫َ‬

‫ألم‪:‬‬
‫همس الحزٌنُ وقال َ فً ٍ‬
‫َ‬

‫أسافر ‪ ..‬كٌف ٌا‬


‫ُ‬

‫أحتمل ُ البعادَ عن ال ُبن ٌّ ِة ‪ ..‬والبنٌنْ ؟‬

‫وتبدو القافٌة المقٌّدة بحرؾ الروي ( النون الساكنة ) متؤخرة بعد عدة أشطر إلى أن ٌنتهً إلٌها‬
‫القارئ ‪ ،‬وال شك أنّ القافٌة عنصر من عناصر الموسٌقى الشعرٌّة ‪ ،‬التً تتٌح للقصٌدة انسٌابٌة‬
‫وثرا ًء من الناحٌة الؽنابٌّة ‪ ،‬ولهذا تبدو األشطر األولى المفتقرة للتقفٌة ضعٌفة بعض الشًء من‬
‫ناحٌة الموسٌقى التً تو ّفرها للقصٌدة ‪ ،‬ثم تؤتً القافٌة على انتظار من القارئ ‪ .‬وٌرى الدكتور‬
‫بدوي طبانة ضرورة أن ٌخضع الشعر لنظام موسٌقً خاص ٌلتزمه فً أجزاء العمل األدبً عبر‬
‫تقسٌمه إلى وحدات مإتلفة تتكرر وفقـــًا لنسق محدد ( ‪ ، )1‬وتتمثل بالقافٌة التً تحقق انسجامًا‬
‫صوتًٌا بٌن أبٌات القصٌدة وأشطرها على امتدادها‪.‬‬

‫ومن المبلمح البارزة فً قصٌدة جوٌدة من حٌث الموسٌقى هو اعتماده الكلًّ على البحور‬
‫الصافٌة فً قصٌدته الشعرٌّة ؛ حٌث درج الشاعر على المراوحة فً قصابده بٌن أربعة بحور‬
‫صافٌة ٌستجلٌها القارئ بٌسر على امتداد دواوٌنه الشعرٌّة ‪ ،‬وٌؤتً فً مقدمتها بحر الكامل الذي‬
‫ٌؽطً ما ٌقارب من نصؾ تجربة الشاعر ‪ٌ ،‬لٌه فً االستعمال المتقارب ‪ ،‬ث ّم الوافر ‪ ،‬كما ٌحضر‬
‫المتدارك فً نسبة ضبٌلة للؽاٌة ‪ ،‬ومهما ٌكن فإن لجوء الشاعر إلى البحور الصافٌة التً تعتمد فً‬
‫بنابها على وحدة التفعٌلة المكررة ٌجعل من مهمته فً إبراز صوته الشعري أٌسر تحق ًقا ‪ ،‬ألنّ‬
‫البحور الممزوجة هً التً تقٌس بالفعل مقدرة الشاعر على تطوٌع الوزن الشعريّ لخدمة‬
‫قصٌدته‪ٌ ،‬قول جوٌدة مستعٌ ًنا ببحر الكامل (‪: )2‬‬

‫(‪ )1‬طبانة ‪ ،‬بدوي (‪ ،)1963‬التٌارات المعاصرة فً النقد األدبً ‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.278‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن ؟‪ ،‬قصٌدة هذا عتاب الحب لؤلحباب‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪164‬‬

‫ب‬ ‫َ‬
‫وضاق باألعتا ِ‬ ‫الطواف‬
‫َ‬ ‫سئ َم‬ ‫ٌ‬
‫عاشق‬ ‫إ ّنً أح ّبكِ رغم أ ّنً‬

‫ب ب ـ ب ـ ‪/‬ب ب ـ ب ـ ‪ /‬ـ ـ ـ‬ ‫ــبـ‪/‬ببـبـ‪/‬ــبـ‬

‫م َتـفاعلن ‪ /‬متـَفاعلن ‪ /‬متفاعل‬ ‫م ْتفاعلن ‪ /‬م َتــفاعلن ‪ /‬متـْفاعلن‬

‫النصا ِ‬
‫ب‬ ‫ّ‬ ‫لم تعرفً األنقى من‬ ‫خاشعا‬
‫ً‬ ‫رحابكِ‬
‫ِ‬ ‫طاف قلبً فً‬
‫َ‬ ‫كم‬

‫ــبـ‪/‬ــبـ‪/‬ـــ‬ ‫ــبـ‪/‬ــبـ‪/‬ببـبـ‬

‫مت ْـفاعلن‪ /‬م ْتـفاعلن‪ /‬متفاعل‬ ‫مت ْــفاعلن ‪ /‬مت ْـفاعلن ‪ /‬متـَفاعلن‬

‫ت عمري واستبح ِ‬
‫ت شبابً‬ ‫ض ٌّع ِ‬ ‫ٌ‬
‫بخٌلة‬ ‫ُ‬
‫أسرفت فً ح ّبً ‪ ..‬وأن ِ‬
‫ت‬

‫ــبـ‪/‬ــبـ‪/‬ببــ‬ ‫ــبـ‪/‬ــبـ‪/‬ببـبـ‬

‫متـْـفاعلن ‪ /‬م ْتـفاعلن‪ /‬متفاعل‬ ‫متــْـفاعلن‪ /‬متـْفاعلن‪ /‬م َتــفاعلن‬

‫وٌؽلب علٌها خروج الوزن الشعريّ إلى التفعٌلة الفرعٌّة ( م ْتفاعلن ) باإلضمار ‪ ،‬وهو تسكٌن‬
‫الثانً فً التفعٌلة العروضٌّة ( م َتفاعلن ) ‪ ،‬وقد أفاد الشاعر من إمكانٌات البحر الكامل وأحسن‬
‫استؽبللها فً خلق موسٌقا شعرٌّة واضحة ‪ ،‬عبر هذا األداء الفنً بصورة هندسٌّة تجسّد الحالة‬
‫اإلبداعٌّة لدى الشاعر ‪ ،‬وتحمل قلقه الذاتً وانبعاثاته النفسٌّة ‪ .‬وٌستعٌن الشاعر فً قصٌدة أخرى‬
‫بوزن تفعٌلة المتقارب ‪ ،‬ونلحظ كٌؾ ٌكرر الشاعر التفعٌبلت فً نظام ثابت من حٌث عدد‬
‫التفعٌبلت الواردة فً ك ّل سطر ‪ ،‬ما ٌإكد على أنه ال ٌستعٌر من الشكل الحر إال قالبه الهندسًّ‬
‫الخارجً ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪:)1‬‬

‫شًء‬
‫ٍ‬ ‫لماذا ُن َ‬
‫طار ُد من كل‬

‫فعولن ‪ /‬فعول‪ /‬فعولن‪ /‬فعولن‬ ‫ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ ب‪ /‬ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ ـ‬

‫وننسى األمانَ على أرضِ نا‬

‫فعولن‪ /‬فعول ‪ /‬فعولن ‪/‬فعو‬ ‫ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ ب‪ /‬ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ‬

‫الٌؤس خلف الحٌا ِة‬


‫ُ‬ ‫وٌح ِملُنا‬

‫فعول ‪ /‬فعولن ‪ /‬فعولن ‪/‬فعولن‬ ‫ب ـ ب‪ /‬ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ ـ ‪ /‬ب ـ ـ‬

‫أعمارنا‬
‫َ‬ ‫فنكره كالمو ِ‬
‫ت‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " تمهّل ً‬
‫قلٌبل ‪ ..‬فإ ّنك ٌوم " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.212‬‬
‫‪165‬‬

‫فعول ‪ /‬فعولن ‪/‬فعولن ‪ /‬فعو‬ ‫بـب‪/‬بــ‪/‬بــ‪/‬بـ‬

‫وٌإكد جوٌدة أهمٌة القافٌة فً شعره ‪ ،‬سوا ٌء أتفقت حروؾ الروي فً مجمل قصٌدته أم لم‬
‫تتفق‪ ،‬إال أنه ٌحافظ – ؼالبًا على النسق نفسه من الحركات والسكنات التً تش ّكل القافٌة فً‬
‫قصٌدته‪ ،‬وتبدو أهمٌة القافٌة لدى الشاعر نظرً ا لقٌمتها فً اإلبقاء على القارئ واستدراجه إلى‬
‫القصٌدة ‪ ،‬لكً ال ٌشعر بالملل من رتابة األشطر المتوالٌة دون فاصلة موسٌقٌّة ترنّ فً األذن ‪،‬‬
‫وهً لذة ٌتؽٌّاها القارئ وٌسعى إلٌها ‪ ،‬تقول نازك إن مبلػ قٌمة القافٌة فً القصٌدة هً أ ّنها "‬
‫تصبح وسٌلة لخلق وحدة فً القصٌدة كلّها ‪ ،‬فهً تل ّم شتات الجو بالنؽم العالً الذي تحدثه ‪ .‬إنها‬
‫تربط بعض األشطر ببعضها ربطا محكمًا ‪ ،‬وتساعد على اختتام القصٌدة ‪ ..‬وهً نجمة متؤلقة‬
‫ٌلقٌها الشاعر على الطرٌق ‪ .‬إنها معالم مضٌبة فً الدرب ‪ ، ،‬ولذلك نفرح حٌن نصادفها وكؤننا‬
‫التقٌنا بحبٌب فارقناه زم ًنا" ( ‪ ، )1‬وقد ٌنوّ ع الشاعر بالقافٌة‪ ،‬فٌكسر قاعدة التماثل بٌن السكنات‬
‫والحركات‪ ،‬وٌحتفظ بحرؾ الروي ‪ ،‬وهنا نراه ٌقول (‪: )2‬‬

‫ج أقدامً‬
‫سٌمحو المو ُ‬

‫كما ٌغتال ُ أقدا َم ْك‬

‫وٌدفن بٌنها ُحلُمً‬

‫رفا ًتا ب ٌْن أحالم ْ‬


‫ِك‬

‫وتبقى بعدنا ذكرى‬

‫ُتسائل ُ ‪ :‬أٌنَ أٌا ُم ْك ؟‬

‫وٌلجؤ الشاعر إلى البحور الصافٌة ‪ ،‬لما تجعل هذه االستعانة من النظم أمر أٌسر ‪ ،‬إذا ما‬
‫قورن بالنظم على البحور الممزوجة ‪ ،‬وتظهر قٌمة هذه االستعانة فً الشعر الحرّ ‪ ،‬وتعلّل نازك‬
‫ً‬
‫فضبل عن أنها ال تتعب‬ ‫ذلك "ألنّ وحدة التفعٌلة هناك تضمن حرٌّة أكبر ‪ ،‬وموسٌقى أٌسر‬
‫الشاعر فً االلتفات إلى تفعٌلة معٌنة ال بد من مجٌبها منفردة فً خاتمة كل شطر " (‪. )3‬‬

‫وٌعمد جوٌدة إلى استخدام القافٌة المقٌّدة بكثافة فً شعره ‪ ،‬وترى نازك أنّ اعتماد الشاعر‬
‫المعاصر على القافٌة المقٌدة واللجوء إلى التسكٌن ٌضعؾ الجملة الشعرٌّة ‪ ،‬وٌجعلها خافتة الوزن‬
‫إذا ما لجؤنا إلى وصل أواخر األشطر الشعرٌّة بؤولها ‪ ،‬ووف ًقا لذلك فإن الكلمات ستؤخذ الحركات‬

‫(‪)1‬المبلبكة ‪ ،‬ساٌكلوجٌة الشعر ومقاالت أخرى ‪ ،‬ص ‪.64‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ولؤلشواق عودة ‪ ،‬قصٌدة " أٌن أٌامك " ‪ ،‬ص ‪.207‬‬
‫(‪ )3‬المبلبكة ‪ ،‬نازك (‪ ،)1967‬قضاٌا الشعر المعاصر‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪166‬‬

‫التً تفرضها علٌها المواقع اإلعرابٌّة ‪ ،‬فٌخسر الشعر بذلك طابعه الموسٌقًّ ‪ ،‬وسماته الشعرٌّة‬
‫وٌقترب أكثر إلى النثر ( ‪ ، )1‬ولكنّ لتسكٌن القوافً دالالته المعنوٌّة ‪ ،‬واتصاالته العمٌقة بنفسٌّة‬
‫الشاعر ؛ ففً الوقوؾ لدى الحرؾ األخٌر فً األشطر الشعرٌّة ما ٌشبه الؽصة ‪ ،‬التً تخنق نفس‬
‫الشاعر وال تعٌنه على االنطبلق واالندفاع ‪ ،‬وفً ذلك إلقاء للضوء على روح الشاعر التعٌسة‬
‫المقٌّدة ‪ ،‬وهً أشبه بــ " بلوكاج " ٌوقؾ التدفق الشعري ‪ ،‬وٌحاكً الحالة النفسٌّة للشاعر ‪ٌ ،‬قول‬
‫جوٌدة (‪: )2‬‬

‫خجل‬
‫ٍ‬ ‫عادت أٌامك فً‬

‫اللٌل وتبكً‬
‫ِ‬ ‫تتسلل ُ فً‬

‫خلف الجدرانْ‬

‫زمن‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫هدأت أٌا ُمك من‬

‫ونسٌ ُتك ٌو ًما ال أدري‬

‫طاوعنً قلبً ‪ ..‬فً النسٌانْ‬

‫وكما تبدو للقافٌة المقٌدة دالالتها الموحٌة الراجعة إلى عالم الشاعر الداخلًّ ‪ ،‬فإنّ للقافٌة‬
‫المطلقة كذلك قٌمتها الداللٌّة واتصالها بنفسٌّة الشاعر ‪ ،‬وقد بدا الربط بٌن القافٌة والداللة النفسٌّة‬
‫أمرً ا ٌجذب إلٌه أنظار المحدثٌن ‪ ،‬وٌش ّكل فً ذاته ما ٌشبه النظرٌة أو القاعدة ‪ ،‬التً تعٌن الناقد‬
‫على إصدار حكمه فً قصابد الشعراء ‪ ،‬واتجاهاتهم الوجدانٌّة ( ‪ )3‬؛ " فشعراء الرقة ٌمٌلون إلى‬
‫استعمال الكسر لما فٌه من لٌن وانكسار ٌبلبم العواطؾ الرقٌقة المنكسرة ‪ ،‬وشعراء الفخامة‬
‫ٌمٌلون إلى الضم لٌناسب تحدٌاتهم وقوة شخصٌاتهم " ( ‪ ، )4‬وجوٌدة – لر ّقته فً مخاطبة الحبٌبة‬
‫وخضوعه لها ‪ٌ -‬لجؤ إلى القافٌة المكسورة فً ؼٌر موضع ‪ٌ ،‬قول – على سبٌل المثال‪: )5( -‬‬

‫ُبعدي و ُبعدكِ لٌس فً إمكانً‬

‫ت ثوانً‬ ‫ُ‬
‫أموت إذا ابتعد ِ‬ ‫فؤنا‬

‫ضائع فً حزن ِه‬


‫ٌ‬ ‫وأنا زمانٌ‬

‫(‪ )1‬المبلبكة ‪ ،‬قضاٌا الشعر المعاصر ‪ ،‬ص ‪141‬‬


‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان طاوعنً قلبً فً النسٌان ‪ ،‬قصٌدة " طاوعنً قلبً فً النسٌان " ‪ ،‬مج ‪ ، 2‬ص ‪.157‬‬
‫الشعري ‪ ،‬مكتبة المنار ‪ ،‬ط‪ ، 1‬األردن – الزرقاء ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬نافع ‪ ،‬عبد الفتاح صالح (‪ ، )1985‬عضو ٌّة الموسٌقى فً‬
‫ص ‪.77‬‬
‫الشعري ‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫(‪ )4‬نافع ‪ ،‬عبد الفتاح صالح ‪ ،‬عضو ٌّة الموسٌقى فً‬
‫(‪ )5‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان أعاتب فٌك عمري ‪ ،‬دٌوان " أعاتب فٌك عمري " ‪ ،‬مج‪ ، 3‬ص ‪.325 ،323‬‬
‫‪167‬‬

‫فإذا ابتسم ِ‬
‫ت ٌرى الوجودَ أغانً‬

‫هل أستعٌد لدٌكِ كل َّ دقٌق ٍة‬

‫باي ‪ ..‬وأخمدَ ْت نٌرانً ؟‬ ‫ْ‬


‫سرقت صِ َ‬

‫الغرٌب لروض ٍة‬


‫َ‬ ‫الطٌر‬
‫َ‬ ‫من ٌُر ِج ُع‬

‫واألغصان‬
‫ِ‬ ‫الزهر‬
‫ِ‬ ‫عبٌر‬
‫َ‬ ‫نس ٌَ ْت‬

‫وٌعمد الشاعر إلى التلوٌن الموسٌقً فً أكثر من صورة ‪ ،‬إذ ٌلجؤ – وإن كان ذلك فً صورة‬
‫محدودة‪ -‬إلى التدوٌر ‪ ،‬لئلفادة من التشكٌل الموسٌقً الذي ٌحدثه اتصال األشطر ببعضها البعض‬
‫‪ٌ ،‬قول العبلق " تجربة التدوٌر من المحاوالت الواضحة لتلوٌن البناء الموسٌقً للقصٌدة العربٌّة‬
‫الحدٌثة ‪ ،‬وإلحداث شًء من الخضخضة لنبضها اإلٌقاعً الذي بدا مستقرً ا وقلٌل التنوّ ع ‪ ..‬لقد‬
‫حاول الشاعر العربًّ الحدٌث من خبلل التدوٌر أن ٌفتح أبٌات قصٌدته على بعضها البعض" ( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬لكنّ العبلق كذلك ٌرى أنّ التدوٌر قد ٌوقع الشاعر فً مزلق اإلطالة ‪ ،‬فٌتحوّ ل الشعر إلى نثر‬
‫فاضح‪ ،‬وتخسر القصٌدة شكلها اإلٌقاعً والجمالً ( ‪ .)2‬ونظرً ا إلى أنّ جوٌدة ال ٌلجؤ إال فً حدود‬
‫ضٌقة إلى التدوٌر ‪ ،‬فهو إنما ٌسعى من خبلل هذا التشكٌل اإلٌقاعً إلى تحقٌق رإٌة خاصة ‪،‬‬
‫بحٌث ٌبدو لهذا التدوٌر مؽزى ‪ ،‬فبل ٌؤتً جزا ًفا‪ٌ .‬قول فً قصٌدة " ٌا زمان الحزن فً بٌروت "‬
‫(‪:)3‬‬

‫ُ‬
‫بٌروت‬ ‫واألنقاض ٌا‬
‫ِ‬ ‫برغم الصم ِ‬
‫ت ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ما زلنا نناجٌكِ‬

‫والقضبان‬
‫ِ‬ ‫ان‪..‬‬
‫والسج ِ‬
‫ّ‬ ‫برغم الخوفِ ‪..‬‬
‫ِ‬
‫ما زلنا ننادٌكِ‬

‫ُ‬
‫بٌروت‬ ‫والطغٌان ‪ٌ ..‬ا‬
‫ِ‬ ‫القهر ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫برغم‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫زالت أغانٌكِ‬ ‫ما‬

‫ُ‬
‫بٌروت ‪..‬‬ ‫األحزان ٌا‬
‫ِ‬ ‫وكل ّ قصائ ِد‬

‫ال تكفً لنبكٌكِ‬

‫الشعري ‪ ،‬دراسات نقد ٌّة ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة العامة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بؽداد ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر(‪ ، )1990‬فً حداثة النص‬
‫ص ‪.99‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان شً ٌء سٌبقى بٌننا ‪ ،‬قصٌدة " ٌا زمان الحزن فً بٌروت " ‪ ،‬مج‪ ، 2‬ص ‪.133‬‬
‫‪168‬‬

‫بحٌث تتصل نهاٌات األشطر الشعرٌّة ببداٌات التً تلٌها ‪ ،‬فً كل شطر من األشطر السابقة ‪،‬‬
‫ّ‬
‫تتوزع فً شطرٌْن ‪ ،‬وتكشؾ االستعانة بالتدوٌر هنا‬ ‫وٌقع التدوٌر فً المفردة " بٌروت " ؛ حٌث‬
‫عن قلق الشاعر ورؼبته فً أن ٌقول كل ما ٌجول فً خاطره دفعة واحدة ‪ ،‬دون أن تعٌقه أٌة‬
‫فواصل شعرٌّة‪.‬‬

‫وكما أ ّدت الموسٌقى الخارجٌّة دورها فً إثراء قصٌدة الشاعر ‪ ،‬فقد لجؤ كذلك إلى اإلفادة من‬
‫القٌمة الموسٌقٌّة التً ٌحدثها تكرار الحروؾ ‪ ،‬وتماثل الصٌػ النحوٌّة فً بناء القصٌدة ‪ ،‬فٌما‬
‫ٌُعرؾ بالموسٌقى الداخلٌّة ‪ ،‬وهنا نراه ٌستعٌن بتكرار بعض الوحدات لٌحقق للقصٌدة وقعً ا فً أذن‬
‫القارئ؛ كتكراره لحرؾ العٌن – ً‬
‫مثبل‪ -‬إذ ٌقول (‪:)1‬‬

‫عمري وعمرك دمعتان‬

‫َ‬
‫األشواق ‪..‬‬ ‫الدمعة الفرحى لقاء ٌجمع‬

‫الجوانح فرحتانْ‬
‫ِ‬ ‫ترقص فً‬

‫وداع‬
‫ٌ‬ ‫الدمعة الثكلى‬

‫ُ‬
‫ٌخنق األشواق ‪ٌ ..‬شطرنا ‪..‬‬

‫فتنزف ‪ ..‬مهجتانْ زمان الخوف‬


‫ُ‬
‫وٌتكرّ ر حرؾ العٌن ّ‬
‫ست مرات فً األشطر الشعرٌّة السابقة ‪ ،‬وٌبدو عمق حضوره فً مجٌبه‬
‫فً مفردات ذات وقع ألٌم على نفس الشاعر والقارئ ؛ فً الدمعة والوداع ‪ ،‬والعمر ‪ .‬والعٌن من‬
‫األحرؾ الحنجرٌّة الجهرٌّة ‪ ،‬وتخرج من أقصى الحلق ‪ ،‬ولذا ٌبدو شٌوع هذا الحرؾ فً أشطر‬
‫القصٌدة داللة على أنّ معاناة الشاعر عمٌقة وسحٌقة فً صدره ‪ٌ ،‬قول فً قصٌدة أخرى (‪: )2‬‬

‫الحبّ فً أعماقِنا ‪ ..‬طف ٌل تشرّ د كالضٌاعْ‬

‫نحٌا الوداع ولم نكن ٌومًا نف ّكر بالوداعْ‬

‫وٌبنً الشاعر جملته الشعرٌّة على تقسٌم مموسق باستخدام أفعال ماضٌة ‪ ،‬مع ما تبعثه هذه‬
‫األفعال المتبلحقة من موسٌقا شعرٌّة جمٌلة تدركها األذن ‪ ،‬وهً تقسٌمات ظاهرة فً القصٌدة ‪،‬‬
‫تحدث إٌقاعً ا داخل ًٌّا فً بناء القصٌدة ‪ٌ ،‬قول جوٌدة (‪: )3‬‬

‫(‪ )1‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان ألنً أحبك ‪ ،‬قصٌدة " زمان الخوؾ " ‪ ،‬مج‪ ، 2‬ص ‪.52‬‬
‫(‪ )2‬جوٌدة ‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬دٌوان دابمًا أنت بقلبً ‪ ،‬قصٌدة " ال أنت أنت وال الزمان هو الزمان " ‪ ،‬مج‪ ، 1‬ص ‪-349‬‬
‫‪350‬‬
‫(‪ )3‬جوٌدة ‪ ،‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن ‪ ،‬قصٌدة " ماذا أصابك ٌا وطن " ‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪169‬‬

‫األفق فرقعة‬
‫ِ‬ ‫وراء‬
‫َ‬ ‫دوت‬
‫ّ‬
‫ْ‬
‫المستكٌنة‬ ‫أطاح ْت بالقلوب‬
‫َ‬

‫ب‬
‫ألف با ٍ‬
‫والما ُء ٌفت ُح َ‬
‫ْ‬
‫السفٌنة‬ ‫أرجاء‬
‫َ‬ ‫والظال ُم ّ‬
‫ٌدق‬

‫جموع العائدٌنَ‬
‫ُ‬ ‫غاصت‬
‫ْ‬
‫حزٌنة‬ ‫ٌ‬
‫صٌحات‬ ‫اللٌل‬
‫ِ‬ ‫تناثر ْت فً‬
‫َ‬
‫وفً قراءة فاحصة لؤلبٌات السابقة نرى ً‬
‫شكبل من أشكال التآلؾ الصوتً المتحصّل من‬
‫التركٌب الداخلً للقصٌدة ‪ ،‬بحٌث تتقابل األفعال الماضٌة والجمل اإلسمٌة محدثة نس ًقا موسٌقٌّا‬
‫لطٌ ًفا على السمع ‪ ،‬فكل من األفعال ( دوّ ت ‪ ،‬أطاحت ‪ ،‬ؼاصت ‪ ،‬تناثرت ) تؤتً وف ًقا لصٌؽة‬
‫نحوٌّة متكررة تق ّدم فابدة موسٌقٌّة للقصٌدة ‪ ،‬كما أن الجمل اإلسمٌة كذلك تتبلقى وتكشؾ عن‬
‫اتساق مقصو ٍد إلٌه ؛ فــ ( الماء ) تقابل ( الظبلم ) ‪ ،‬و ( تفتح ) تقابل ( ٌدق ) ‪ ،‬وهكذا إلى آخر‬
‫ٍ‬
‫السطر الشعريّ ‪.‬‬

‫أخٌرً ا ‪ٌ ،‬مكن القول إن جوٌدة ظ ّل على حذر فٌما ٌخصّ البناء الموسٌقً لقصٌدته الشعرٌّة ‪،‬‬
‫ت محدودة ‪ ،‬ولم ٌُرد من كل‬
‫ولم ٌحاول الخروج على الشكل التقلٌديّ للقصٌدة العربٌّة إال فً نطاقا ٍ‬
‫القوالب واألشكال الموسٌقٌّة إال أن تإدي رإٌته على الوجه المنظور ‪ ،‬وبذلك نخلص إلى نتٌجة‬
‫مفادها أنّ الفكرة التً ٌبلّؽها الشاعر فً قصٌدته هً الهاجس ‪ ،‬ال كٌؾ ٌإدٌها ‪ ،‬مع ذلك كله ‪ ،‬فقد‬
‫بقً الشكل والمعنى معطٌان ال ٌنفصبلن فً قصٌدة الشاعر ‪ ،‬إذ جاء بالشكل على أصوله‬
‫ٌسع من خبلله إلى رفع قٌمة قصٌدته فنٌّا بالقدر الذي أراد فٌه الشاعر‬
‫المتواضع علٌها ‪ ،‬لكنه لم َ‬
‫ً‬
‫حامبل للمعنى‪.‬‬ ‫أن ٌكون هذا الشكل وعا ًء‬

‫ٌتح ّدث النقاش عن الموسٌقى فً عالم جوٌدة الشعريّ ‪ ،‬فٌقول ‪ " :‬وأنا أقرأ األعمال الكاملة‬
‫ُ‬
‫أحسست كؤننً فً أمسٌة صافٌة من أمسٌات الربٌع ‪ ،‬هدأت‬ ‫لفاروق جوٌدة فً عالمه الشعريّ ‪.. ،‬‬
‫فٌها الطبٌعة ونشطت العصافٌر والببلبل وجماعات الكروان فانطلقت بالؽناء السهل المسترسل ‪،‬‬
‫دون أن ٌحدث خلل فً أصواتها الموسٌقٌّة ‪ ،‬ودون أن ٌكون لهذه الطٌور أي هدؾ سوى التعبٌر‬
‫عن نشوتها بالحٌاة ‪ ..‬ودون أن تبحث عن هذه الطٌور عن جمهور ٌستمع إلٌها وٌعبّر لها عن‬
‫‪170‬‬

‫ً‬
‫وبعٌدا عن أي هدؾ إال التعبٌر‬ ‫اإلعجاب بالتصفٌق والهتاؾ " ( ‪ ، )1‬وٌكمل النقاش فٌقول "‬
‫الخالص عن جمال الحٌاة ‪ ،‬وبهذه البساطة نفسها ٌؽ ّنً فاروق جوٌدة فً أشعاره"(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬النقاش ‪ ،‬رجاء ‪ ،‬ثالثون عا ًما مع الشعر والشعراء ‪ ،‬ص ‪.273‬‬


‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.273‬‬
‫‪171‬‬

‫خاتمة‬

‫خاطبت هذه التجربة الشعرٌّة اإلنسان العربًّ البسٌط فً كل مكان ‪ ،‬بهمومه وأحبلمه‬
‫وتوقانه إلى عالم جمٌل ‪ٌ ،‬حٌاه ً‬
‫بعٌدا عن الكدر واله ّم والمصاعب ‪ ،‬وقد استطاعت هذه التجربة‬
‫الشعرٌّة أن تم ّكن لنفسها ‪ ،‬وتتخذ لها مكا ًنا فً حركة الشعر العربًّ المعاصر ‪ ،‬لتسجّ ل لها‬
‫خصوصٌّة تتمثل فً اإللحاح على هواجس اإلنسان العربًّ ‪ ،‬والخروج إلى واقع مختلؾ ‪ ،‬ولم‬
‫تحاول هذه التجربة أن تخرج عن هذه المنظومة لتش ّكل نس ًقا مؽاٌرً ا ‪ ،‬وقد استطاعت بالفعل أن‬
‫تساوق الواقع وتوازٌه عبر إعادة إنتاجه إبداعً ا شعرٌّا عالًٌا ٌبلمس نفوس البسطاء من الناس قبل‬
‫أن ٌخاطب المثقفٌن والنخب ‪ ،‬وذلك هو ما أسّس لهذه التجربة وخلق لها جماهٌرٌّة واسعة فً‬
‫أوساط القراء‪ ،‬وجعل من صدقها مفتاحً ا للقلوب؛ إذ خرجت تجربة الحب لدى جوٌدة من كل‬
‫محدداتها وأبعادها الشخصٌة لتبدو تجربة ذات أفق إنسانًّ مفتوح ‪ ،‬كما رشحت تجربته فً موقفه‬
‫من المرأة عن كونها تؤخذ فً قصٌدته مبلمح محافِظة بعٌدة عن االبتذال ‪ ،‬ترفعها عن الحسٌّة‬
‫الفجّ ة وتخاطبها كٌا ًنا عالًٌا ‪ ،‬ولم تحقق قصٌدته فً الحب أٌة خصوصٌّة؛ ألنها بدت أشبه‬
‫بسٌنارٌوهات مفترضة ٌسمح فٌها الشاعر للقارئ أن ٌعاٌن تجاربه فً الحب ‪ ،‬وٌبدو كٌؾ ٌترك‬
‫الشاعر مسافة بٌن تجاربه الخاصة وصوته الشعريّ ‪.‬‬

‫كما برز الزمن بكل محموالته التً تشً بقلق الشاعر ‪ ،‬بحٌث فرض الماضً نفسه على‬
‫القصٌدة وؼلّؾ حاضر الشاعر باألسى ‪ ،‬وٌبدو كٌؾ أنه لم ٌمنح ثقته مطل ًقا للزمن وف ًقا لخبرات‬
‫الطفولة ؛ فقد شاركت دوافع الطفولة بصورة ال ٌستهان بها فً رإٌة الشاعر وقلقه تجاه الزمن ‪،‬‬
‫ولم ٌق ّدم الزمن نفسه فً وعً جوٌدة وفً قصٌدته إال من وجهة واحدة ؼٌر سعٌدة ‪ ،‬هً وجهة‬
‫االنقضاء والهرم ‪ ،‬وبرز فً هذا الباب موقفه من الموت فً ع ّدة أشكال‪ ،‬وانتهٌنا إلى أن الشاعر‬
‫ٌوجّ ه قلقه من الم وت وانقضاء الزمن توجٌهًا إٌجاب ًٌّا عبر اإلذعان والتسلٌم للقدر ‪ ،‬واإلٌمان‬
‫بحتمٌّة األجل‪ .‬وهو ما دفع الشاعر لٌتحوّ ل فً نبرته تجاه الزمن من المصادمة إلى التسلٌم ‪.‬‬

‫وكشفت قصٌدته فً الوطن واإلنسان كٌؾ انقتح الشاعر على ك ّل جراحات األمة ‪ ،‬وسمح‬
‫للشعر أن ٌحمّله ك ّل األلم والمرارة ‪ ،‬ما دعاه لبلستجابة على الدوام لؤلحداث الحاصلة فً الوطن‬
‫العربًّ بحساسٌّة عالٌة ‪ ،‬لتنبثق عنها قصٌدته فً القضٌّة الفلسطٌنٌّة ومصر والعراق‪ ،‬ولٌق ّدم‬
‫قصابد تحرٌضٌّة ‪ ،‬استشرؾ من خبللها واقعً ا أفضل لؤلمة ‪.‬‬
‫‪172‬‬

‫وقد استثمر الشاعر مفردات لؽوٌّة قرٌبة التناول إلى المتلقٌن على بساطة مكوناتهم الثقافٌّة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ورق فً قصٌدة الحب ‪ ،‬وقامت لؽته على التضاد‬ ‫ارتفع نبض اللؽة فً القصٌدة السٌاسٌّة ‪،‬‬
‫والمفارقة ‪ ،‬ووظفت ثناثٌات الحلم والواقع ‪ ،‬وتستمر قصٌدته فً ظل تهوٌمات قلقة بٌن الٌؤس‬
‫واألمل ‪ ،‬لك ّنها تنتهً فً الؽالب بانتصار اإلنسان‪ ،‬ما دفعه إلى المراهنة على األمل والتفاإل‬
‫رؼم أن الواقع كان مشوّ هًا للؽاٌة ‪ .‬فً استرفاده للشخصٌّات والحوادث الدٌنٌّة والتارٌخٌّة والرموز‬
‫ظلّت االستدعاءات فً نطاق المؤلوؾ لدى ك ّل القراء ‪ ،‬ولم ٌتكا جوٌدة إلى عوالم أسطورٌّة ؛‬
‫ألنها تنؤى به عن الواقع الذي ظ ّل هو عمٌق الصلة به ‪.‬‬

‫أوضحت التجربة إفادة الشاعر من اإلرث الحضاري واإلنسانً ‪ ،‬واالستناد إلٌه‪ ،‬بحٌث تحرّ ك‬
‫الشاعر من خبلله وظل فً إطار الدالالت القرٌبة إلى ذهن المتلقً ‪.‬‬

‫ؼلب على التكرار فً قصٌدته تؤدٌته لقٌمة داللٌّة فً اإللحاح والتؤكٌد ‪ ،‬فٌم لم ٌل ّح الشاعر كثٌرً ا‬
‫على القٌمة الموسٌقٌّة التً ٌإدٌها التكرار إال فً نطاقات محدودة ‪.‬‬

‫اتصؾ توظٌفه للموسٌقى فً قصٌدته بالبساطة والسهولة واالسترسال ‪ ،‬وخلت القصٌدة لدٌه من‬
‫أٌة عٌوب فنٌّة فً الموسٌقى الشعرٌّة ‪ ،‬وتحررت من كل القٌود لتبدو أشبه بالؽناء ‪.‬‬

‫أخٌرً ا ‪ٌ ،‬مكن القول إن تجربة جوٌدة فً عمومها قامت لتإدي قٌمة رإٌوٌة فكرٌّة تدعونا إلى‬
‫االلتفات إلى دور الشاعر – من منظور سارتر‪ -‬فً كونه ٌرى مهمة الشعر باضطبلعه بــ "إسقاط‬
‫القناع " عن العالم ‪.‬‬
‫‪173‬‬

‫‪ ‬قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬

‫‪ .1‬المصادر‪:‬‬

‫_ القرآن الكرٌم‪.‬‬

‫_ العهد الجدٌد‪.‬‬

‫_البحتري ‪ ،‬أبو عبادة الولٌد بن عبٌد بن ٌحٌى التنوخً الطابً ( ت‪283‬هـ\ ‪ 897‬م )‬

‫دٌوان البحتري ‪ 2 ،‬جزء ‪ ،‬دار الكتب العلمٌّة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت ‪.1987 ،‬‬

‫‪ -‬أبو تمام ‪ ،‬حبٌب بن أوس بن الحارث الطابً ( ت‪ 232‬هـ‪ ) 843 /‬دٌوان أبً ت ّمام ‪،‬‬

‫شرح الخطٌب التبرٌزيّ ‪ ،‬سلسلة ذخابر العرب ‪ ، 5‬تحقٌق‪ :‬محمد عبد عزام ‪ ،‬دار‬

‫المعارؾ‪ ،‬ط ‪ ، 4‬القاهرة‪.‬‬

‫_ الثعالبًّ ‪ ،‬أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعٌل ( ت ‪429‬هـ‪1038 /‬م) فقه‬

‫اللغة ‪ ،‬تحقٌق‪ :‬جمال طلبة ‪ ،‬دار الكتب العلمٌة ‪ ،‬بٌروت‪ ،‬ط‪.1994 ،1‬‬

‫‪ -‬جوٌدة ‪ ،‬فاروق ‪ ،)2009( ،‬األعمال الكاملة ‪ 3 ،‬مجلدات ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 3‬القاهرة‪.‬‬

‫_ ـــــــــــ ( ‪ ،)1997‬لٌس للحب أوان ( نثر ) ‪ ،‬دار ؼرٌب للطباعة والنشر ‪ ،‬ط‪،1‬‬

‫القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــ (‪ ،)2010‬دٌوان ماذا أصابك ٌا وطن؟ ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة ‪.‬‬

‫‪ -‬ـــــــــــــــــ (‪ ،)2010‬دٌوان هذي بالد لم تعد كبالدي ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــــ (‪ ، )2009‬قصائد فً رحاب القدس ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة ‪.‬‬


‫‪174‬‬

‫_ الحرٌري ‪ ،‬أبو محمد القاسم بن علً بن محمد بن عثمان الح رٌري البصري (‪516‬ه ـ‪/‬‬

‫‪1112‬م) ‪ ،‬مقامات الحرٌري ( برواٌة الزمخشريّ ) ‪ ،‬مطبعة المعارؾ ‪ ،‬بٌروت ‪،‬‬

‫‪.1873‬‬

‫_ ابن حزم األندلسًّ ‪ ،‬أبو محمد علً بن محمد بن سعٌد ( ت ‪ 456‬هــ ‪1063 /‬م ) ‪،‬‬

‫طوق الحمامة فً األلفة واألالف‪ ،‬مكتبة عرفة ‪ ،‬دمشق ‪1349 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪ -‬ابن رشٌق القٌروانًّ األزديّ ( ‪ 456‬هـ‪1063 /‬م ) ‪ ،‬العمدة فً محاسن الشعر وآد ابه‬

‫ونقده ‪ ،‬تحقٌق وتعلٌق‪ :‬محمد محًٌ الدٌن عبد الحمٌد ‪ ،‬دار الجٌل للنشر والتوزٌع‬

‫والطباعة‪ ،‬ط‪ ، 4‬بٌروت ‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ -‬شهاب الدٌن الحلبً ‪ ،‬محمود بن فهد (ت ‪725‬هـ‪1324 /‬م)‪ ،‬حسن التوسل إلى صناعة‬

‫الترسل ‪ ،‬تحقٌق‪ :‬كرم ٌوسؾ ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم‪ ،‬ط‪ ، 1‬بؽداد ‪.1980 ،‬‬

‫_ ابن قٌم الجوزٌة ‪ ،‬شمس الدٌن محمد بن أبً بكر(ت‪ 751‬هـ‪1349 /‬م ) ‪ ،‬روضة‬

‫المحبٌن ونزهة المشتاقٌن ‪ ،‬دار النببلء ‪ ،‬بٌروت ‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫_ المعري‪ ،‬أبو العبلء أحمد بن عبد هللا ( ت ‪ 449‬هــ ‪ 1057 /‬م ) سقط الزند ‪ ،‬شرح‬

‫وتقدٌم عمر فاروق الطباع ‪ ،‬دار األرقم ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت‪.1998،‬‬

‫‪ -‬ابن هشام ‪ ،‬أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أٌوب الحمٌري (‪ 218‬هـ ‪ 833 /‬م) ‪ ،‬تهذٌب‬

‫سٌرة ابن هشام ‪ ،‬تحقٌق ‪:‬عبد السبلم هارون ‪ ،‬مكتبة السنة‪ ،‬ط‪ ، 6‬القاهرة ‪.1989 ،‬‬
‫‪175‬‬

‫‪ - 1‬المراجع‪:‬‬

‫العربً المعاصر ‪ :‬قضاٌاه وظواهره الفن ٌّة‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬إسماعٌل ‪ ،‬عز الدٌن ( ‪ ، )1966‬الشعر‬

‫والمعنو ٌّة ‪ ،‬دار الفكر العربً ‪ ،‬ط‪ ، 3‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬أوفسٌانٌكوؾ وآخرون ( ‪ ، )2007‬تداخل أجناس الفن ‪ ،‬ترجمة حسٌن جمعة ‪ ،‬ط ‪، 1‬‬

‫منشورات أمانة عمان الكبرى‪.‬‬

‫‪ -‬البحراوي‪ ،‬سٌد (‪ ،)2002‬مختارات الشعر الحدٌث فً مصر ‪ ، ،‬منشورات أمانة عمّان‪.‬‬

‫_ بدر ‪ ،‬عبد المحسن طه(‪ ،)1981‬حول األدٌب والواقع ‪ ،‬دار المعارؾ‪ ،‬ط‪ ، 3‬القاهرة‪.‬‬

‫_ بدوي ‪ ،‬عبد الرحمن (‪ ،)1982‬النزعة اإلنسانٌة فً الفكر العربً ‪ ،‬دار القلم ‪،‬‬

‫بٌروت‪.‬‬

‫‪ -‬بركات ‪ ،‬حلٌم ( ‪ ،)2006‬االغتراب فً الثقافة العرب ٌّة – متاهات اإلنسان بٌن الحلم‬

‫والواقع ‪ ، -‬مركز دراسات الوحدة العربٌّة ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت‪.‬‬

‫_ باشبلر ‪ ،‬ؼاستون ( ‪ ،)1982‬جدلٌة الزمن ‪ ،‬ترجمة خلٌل أحمد خلٌل ‪ ،‬المإسسة‬

‫الجامعٌّة للدراسات والنشر والتوزٌع ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫_ بنٌس ‪ ،‬محمد ( ‪ ،)1985‬ظاهرة الشعر المعاصر فً المغرب ‪ ،‬دار التنوٌر للطباعة‬

‫والنشر‪ ،‬ط‪ ، 2‬المؽرب‪.‬‬


‫‪176‬‬

‫_ توفٌق ‪ ،‬إمٌل ( ‪ ،)1982‬الزمن بٌن العلم والفلسفة واألدب ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪، 1‬‬

‫القاهرة‬

‫_ الجارم ‪ ،‬علً (‪ ،)1990‬الدٌوان ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 2‬مصر‪.‬‬

‫‪ -‬جبرا ‪ ،‬جبرا إبراهٌم (‪ ،)1975‬النار والجوهر ‪ ،‬دار القدس ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫_ جعفر‪ ،‬صفاء ( ‪ ،)2000‬الوجود الحقٌقً عند مارتن هاٌدجر ‪ ،‬منشؤة المعارؾ ‪،‬‬

‫اإلسكندرٌة‪.‬‬

‫_ جعفر ‪ ،‬محمد راضً (‪ ،)1999‬االغتراب فً الشعر العراقً المعاصر ‪ ،‬من منشورات‬

‫اتحاد الكتاب العرب ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫_ الحاج شاهٌن ‪ ،‬سمٌر (‪ ،)1980‬لحظة األبد ٌّة دراسة الزمن فً أدب القرن العشرٌن ‪،‬‬

‫المإسسة العربٌّة للدراسات والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫الشعري ‪ ،‬مكتبة الدراسات األدبٌّة ‪ ،‬دار‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬حسن عبد هللا ‪ ،‬محمد (‪ ،)1981‬الصورة والبناء‬

‫المعارؾ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫_ الحطاب ‪ ،‬محمد جمٌل ( ‪ ،)1992‬العٌون فً الشعر العربً ‪ ،‬دار الحوار ‪ ،‬ط‪، 1‬‬

‫البلذقٌّة‪.‬‬

‫‪ -‬حمودة ‪ ،‬عبد العزٌز ( ‪ ، )1998‬البناء الدرامً ‪ ،‬الهٌبة المصرٌّة العامة للكتاب ‪،‬‬

‫اإلسكندرٌّة‪.‬‬
‫‪177‬‬

‫_ الحٌدري ‪ ،‬بلند (‪ ،)1975‬دٌوان خطوات فً الغربة ‪ ،‬دار العودة ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫العربً ‪ ،‬دار الطلٌعة ‪،‬‬


‫ّ‬ ‫_ خلٌل ‪ ،‬أحمد خلٌل ( ‪ ،)1973‬مضمون األسطورة فً الفكر‬

‫ط‪ ،1‬بٌروت‪.‬‬

‫‪ -‬الخولً‪ ،‬محمد علً(‪ ،)1990‬حقٌقة عٌسى علٌه السالم‪ ،‬دار الفبلح للنشر والتوزٌع‬

‫‪،‬عمان ‪.‬‬

‫‪ -‬راضً جعفر ‪ ،‬عبد الكرٌم ( ‪ ،)1998‬رماد الشعر ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة العامّة‪ ،‬ط ‪، 1‬‬

‫بؽداد ‪.‬‬

‫‪ -‬رضوان ‪ ،‬محمد ( ‪ )2008‬فاروق جوٌدة شاعر الحلم الضائع وأجمل ما كتب ‪ ،‬دار‬

‫الكتاب العربً ‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة – دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬زاٌد ‪ ،‬علً عشري (‪ ،)1978‬عن بناء القصٌدة العرب ٌّة الحدٌثة ‪ ،‬دار الفصحى للطباعة‬

‫والنشر ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــــــ ( ‪ ،)2005‬استدعاء الشخصٌات التراثٌة فً الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬دار‬

‫الؽرٌب للطباعة والنشر والتوزٌع ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــــــ (‪ ،)1984‬الرحلة الثامنة للسندباد ‪ ،‬دراسة فنٌّة عن شخصٌّة السندباد فً‬

‫شعرنا المعاصر ‪ ،‬دار ثابت ط‪ ، 1‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬الزعبً ‪ ،‬أحمد( ‪ ،)2000‬التناص نظر ٌّا وتطبٌقٌا ‪ ،‬مإسسة عمون للنشر والتوزٌع ‪ ،‬ط ‪2‬‬

‫‪ ،‬عمان‪.‬‬

‫‪ -‬زعٌتر ‪ ،‬أكرم (‪ ،)2002‬صفحات ثائرة ‪ ،‬دار البشٌر ‪ ،‬عمان‪.‬‬


‫‪178‬‬

‫‪ -‬زٌادة ‪ ،‬معن وآخرون ( تحرٌر ) ( ‪ :)1986‬الموسوعة الفلسف ٌّة العرب ٌّة ‪ ،‬معهد اإلنماء‬

‫العربً ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت‪.‬‬

‫_ السعداوي ‪ ،‬نوال ( ‪ ،)1974‬المرأة و الجنس ‪ ،‬المإسسة العربٌّة للدراسات والنشر ‪،‬‬

‫بٌروت‪.‬‬

‫العربً الحدٌث ‪،‬‬


‫ّ‬ ‫_ السعدنً ‪ ،‬مصطفى ( ‪ ، )1987‬البنٌات األسلوب ٌّة فً لغة الشعر‬

‫منشؤة المعارؾ‪ ،‬اإلسكندرٌّة‪.‬‬

‫‪ ،‬منشؤة‬ ‫الشعري قراءة أخرى لقضٌة السرقات‬


‫ّ‬ ‫_ ــــــــــــــــــ (‪ ،)1991‬التناص‬

‫المعارؾ ‪ ،‬االسكندرٌة‪.‬‬

‫‪ ،‬دار‬ ‫‪ -‬سلٌمان ‪ ،‬خالد ( ‪ ،)1999‬المفارقة واألدب ‪ ،‬دراسات فً النظرٌة والتطبٌق‬

‫الشروق ‪ ،‬ط‪ ، 1‬عمّان ‪.‬‬

‫_ السماوي ‪ٌ ،‬حٌى ( ‪ ، )2006‬دٌوان قلٌلك ال كثٌرهنّ ‪ ،‬قصٌدة " ستسافرٌن غدًا؟" ‪،‬‬

‫(د‪.‬د ) ‪ ،‬استرالٌا‪.‬‬

‫_ ــــــــــــــــــ (‪ ،)2008‬دٌوان البكاء على كتف الوطن ‪ ،‬دار التكوٌن ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬سمرٌن ‪ ،‬رجا ( ‪ )2003‬االتجاه اإلنسانً فً الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬عمّان ‪ ،‬دار‬

‫الٌراع‬
‫‪179‬‬

‫_ أبو سنة ‪ ،‬محمد إبراهٌم (د‪.‬ت)‪ ،‬دراسات فً الشعر العربً ‪ ،‬دار المعارؾ ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫_ سوار ‪ ،‬محمد وحٌد الدٌن ( ‪ ،)2001‬الزمن بٌن البراءة واالتهام ‪ ،‬دار الثقافة ‪،‬‬

‫األردن‪.‬‬

‫بابلً ‪ ،‬قراءة فً شعر حمٌد سعٌد ‪ ،‬دار الشروق‬


‫ّ‬ ‫_ السٌد جاسم ‪ ،‬عزٌز (‪ ،)1990‬إٌقاع‬

‫‪ ،‬عمّان‪.‬‬

‫_ ــــــــــــــــــ (‪ ،)1973‬مسائل مرحلٌة فً النضال العربً ‪ ،‬دار الطلٌعة ‪ ،‬ط‪ ،1‬بٌروت‬

‫_ السٌّاب ‪ ،‬بدر شاكر ( ‪ ،)1998‬النهر والموت ( مقتطفات) ‪،‬إعداد وتقدٌم‪ :‬شوقً عبد‬

‫األمٌر ‪ ،‬دار الفارابً‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت‬

‫العربً ‪ ،‬وزارة الثقافة ‪،‬‬


‫ّ‬ ‫_ الشحاذ ‪ ،‬أحمد ( ‪ ،)2001‬لغة الزمن ومدلوالتها فً التراث‬

‫دار الشإون الثقافٌة العامة ‪ ،‬بؽداد‬

‫‪ -‬الشعراوي ‪ ،‬محمد متولً ( د‪.‬ت)‪ ،‬تفسٌر الشعراوي ‪ ،‬المجلد الحادي عشر ‪ ،‬أخبار الٌوم‬

‫– قطاع الثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬شكري ‪ ،‬ؼالً (‪ ، )1991‬شعرنا الحدٌث إلى أٌن ؟ ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة‪.‬‬

‫_ شوشة ‪ ،‬فاروق (د‪.‬ت)‪ ،‬األعمال الكاملة ‪ ،‬المطبعة العالمٌّة ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫_ شوقً ‪ ،‬أحمد ( د‪.‬ت) ‪،‬الشوق ٌّات ‪ ،‬تحقٌق وتقدٌم عمر فاروق الطباع ‪ ،‬دار األرقم ‪،‬‬

‫بٌروت‪.‬‬
‫‪180‬‬

‫ط‪، 1‬‬ ‫_ الضاوي ‪ ،‬أحمد عرفات ( ‪ ،)1998‬التراث فً شعر رواد الشعر الحدٌث ‪،‬‬

‫عمّان‪.‬‬

‫‪ -‬طبانة ‪ ،‬بدوي (‪ ،)1963‬التٌارات المعاصرة فً النقد األدبً ‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة‪.‬‬

‫القصة القرآن ٌّة ‪ ،‬األهلٌة‬


‫ّ‬ ‫_ الطراونة ‪ ،‬سلٌمان(‪ ،)1992‬دراسة نص ٌّة ( أدب ٌّة ) فً‬

‫للنشر والتوزٌع‪ ،‬ط‪ ، 1‬عمّان‪.‬‬

‫_ طه ‪ ،‬جمانة ( ‪ ،)2004‬المرأة العربٌة فً منظور الدٌن والواقع – دراسة مقارنة‪، -‬‬

‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪.‬‬

‫_ طوقان ‪ ،‬فدوى(‪ ،)1978‬الدٌوان ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬ط‪ ، 1‬بٌروت‪.‬‬

‫الشعري ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬ط‪ ، 1‬سورٌة‬


‫ّ‬ ‫_ العاكوب ‪ ،‬عٌسى (‪ ،)2002‬العاطفة واإلبداع‬

‫_ عباس ‪ ،‬إحسان (‪ ،)1962‬بدر شاكر السٌاب ‪ ،‬المإسسة العربٌة ‪ ،‬ط ‪.6‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــــــ (‪، )1977‬اتجاهات الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬عمان‪ ،‬دار الشروق‪.‬‬

‫_ ــــــــــــــــــ (‪،)1992‬اتجاهات الشعر العربً المعاصر ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 2‬عمّان‪.‬‬

‫العربً‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬عبد الخالق ‪ ،‬ربٌعً محمد علً ( ‪ ، )1989‬أثر التراث العربً القدٌم فً الشعر‬

‫المعاصر ‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌّة ‪،‬اإلسكندرٌّة‪.‬‬

‫‪ -‬عبد الرحمن ‪ ،‬نصرت ( ‪ ، )2007‬فً النقد الحدٌث ‪ ،‬دراسة فً مذاهب نقدٌة حدٌثة‬

‫وأصولها الفكرٌّة ‪ ،‬جهٌنة للنشر والتوزٌع ‪ ،‬ط‪، 1‬عمّان‬


‫‪181‬‬

‫‪ -‬عبد النور ‪ ،‬جبور(‪ ، )1984‬المعجم األدبً ‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن‪،‬ط‪ ،2‬بٌروت ‪.‬‬

‫_ عبده ‪ ،‬سمٌر ( ‪ ،)1993‬التحلٌل النفسً لحالة انتظار الموت ‪ ،‬دار الكتاب العربً ‪،‬‬

‫دمشق‪.‬‬

‫العربً الحدٌث ‪ ،‬دار الكندي ‪ ،‬عمّان‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬عبٌدات ‪ ،‬زهٌر (‪ ،)2006‬صورة المدٌنة فً الشعر‬

‫‪ ،‬األردنّ ‪.‬‬

‫_ عقاق ‪ ،‬قادة (‪ ،)2001‬داللة المدٌنة فً الخطاب الشعري المعاصر ‪ ،‬منشورات اتحاد‬

‫الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬العبلق ‪ ،‬علً جعفر (‪ ،)1997‬الشعر والتلقً ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬األردن‪.‬‬

‫الشعري ‪ ،‬دراسات نقد ٌّة ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬ــــــــــــــــــ (‪ ، )1990‬فً حداثة النص‬

‫العامة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بؽداد‪.‬‬

‫‪ -‬عبلق ‪ ،‬فاتح ( ‪ ، )2005‬مفهوم الشعر عند رواد الشعر الحر ‪ ،‬منشورات اتحاد الك ّتاب‬

‫العرب ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬عوض ‪ ،‬لوٌس (‪ ،)1963‬االشتراكٌة واألدب ‪ ،‬دار اآلداب‪،‬ط‪ ، 1‬بٌروت‪.‬‬

‫الفنً ‪ ،‬دار قطري بن‬


‫ّ‬ ‫النص األدبً – جمالٌات األداء‬
‫ّ‬ ‫_ عٌد ‪ ،‬جمال(‪ ،)1994‬تذوق‬

‫الفجاءة‪ ،‬ط‪ ، 1‬الدوحة‪.‬‬

‫‪ -‬عٌسى ‪ ،‬محمد رفٌقً (‪ ،)1988‬الدافع ٌّة – دراسة نقد ٌّة فً نموذج مقترح ‪ ،-‬دار األرقم‬

‫للنشر والتوزٌع ‪ ،‬ط‪ ، 1‬الكوٌت‪.‬‬


‫‪182‬‬

‫‪ -‬الؽذامً ‪ ،‬عبد هللا ( ‪ ،)1993‬ثقافة األسئلة ( مقاالت فً النقد والنظر ٌّة ) ‪ ،‬دار سعاد‬

‫الصباح ‪،‬ط‪ ، 2‬الكوٌت‪.‬‬

‫‪ -‬الؽرفً ‪ ،‬حسن ( ‪ ، )1989‬البنٌة اإلٌقاع ٌّة فً شعر حمٌد سعٌد ‪ ،‬دار الشإون الثقافٌّة‬

‫العامّة ‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫‪ -‬فتحً ‪ ،‬إبراهٌم ( ‪ ،)1986‬معجم المصطلحات األدب ٌّة ‪ ،‬التعاضدٌّة العمالٌّة للطباعة‬

‫والنشر ‪ ،‬صفاقس‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫_ الفتبلوي ‪ ،‬علً شاكر (‪ ،)2010‬سٌكولوجٌة الزمن ‪ ،‬دار صفحات ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬فروم ‪ ،‬اٌرٌك ( ‪ ،)1956‬فن الحب ‪ ،‬تر جمة ‪ :‬مجاهد عبد المنعم م جاهد ‪ ،‬دار العودة ‪،‬‬

‫بٌروت‪.‬‬

‫‪ -‬فروٌد ‪ ،‬سٌؽموند (‪ ،)1996‬قلق فً الحضارة ‪ ،‬ترجمة جورج طرابٌشً ‪ ،‬دار الطلٌعة‪،‬‬

‫ط‪ ، 4‬بٌروت‪.‬‬

‫‪ -‬فضل ‪ ،‬صبلح ( ‪ ، )1998‬أسالٌب الشعر ٌّة المعاصرة ‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر‬

‫والتوزٌع ‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬قبانً‪ ،‬نزار ‪ ،‬الشعر قندٌل أخضر(‪ ، )1963‬منشورات نزار قبانً ‪ ،‬بٌروت – لبنان‪.‬‬

‫نموذجـا) ‪ ،‬مإسسة‬
‫ً‬ ‫_ القرنً ‪ ،‬فاطمة ( ‪ ، )2008‬الشعر العراقً فً المنفى ( السماوي‬

‫الٌمامة الصحفٌّة ‪ ،‬الرٌاض‪.‬‬


‫‪183‬‬

‫_ القط ‪ ،‬عبد القادر (‪ ،)1978‬االتجاه الوجدانً فً الشعر العربً المعاصر ‪،‬دار النهضة‬

‫العربٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫_ الكبٌسً ‪ ،‬أحمد (‪ ،)2000‬قصص القرآن الكرٌم ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم – جمهورٌة‬

‫العراق ‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫_ الكبٌسً ‪ ،‬طراد (‪ ،)1979‬الغابة والفصول ‪ ،‬دار الرشٌد ‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫‪ -‬كرستٌفا‪ ،‬جولٌا (‪ ،)1991‬علم النص ‪ ،‬ترجمة فرٌد الزاهً ‪ ،‬مراجعة عبد الجلٌل ناظم ‪،‬‬

‫ط‪ ، 1‬دار توبقال للنشر ‪ ،‬المؽرب‪.‬‬

‫‪ -‬كنون ‪ ،‬أحمد زكً (‪ ،)2006‬المقدس الدٌنً فً الشعر العربً المعاصر من النكبة إلى‬

‫النكسة ‪ ،‬مإسسة إفرٌقٌا الشرق ‪ ،‬الدار البٌضاء ‪ ،‬المؽرب‪.‬‬

‫‪ -‬كوهن ‪ ،‬جان (‪ ،)1986‬بنٌة اللغة الشعر ٌّة ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬محمد الولً ومحمد العمري ‪ ،‬دار‬

‫توبقال‪ ،‬الدار البٌضاء‪.‬‬

‫‪ -‬الكٌالً ‪ ،‬عبد الوهاب ‪ ،‬الزهٌري ‪ ،‬كامل ( ‪ :)1974‬الموسوعة السٌاسٌة ‪ ،‬المإسسة‬

‫العربٌة للدراسات والنشر ط‪ ،1‬بٌروت ‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫العربً القدٌم‬
‫ّ‬ ‫_ لفتة ‪ ،‬ضٌاء (‪ ،)2009‬لغة العٌون – قراءة فً خطاب العٌن فً الشعر‬

‫‪ ،‬دار الحامد ‪ ،‬عمّان‪.‬‬

‫_ المسٌري ‪ ،‬عبد الوهاب (د‪.‬ت)‪ ،‬فً األدب والفكر دراسات فً الشعر والنثر ‪ ،‬مكتبة‬

‫الشروق الدولٌّة ‪ ،‬مصر‪.‬‬


‫‪184‬‬

‫‪ -‬مصطفى ‪ ،‬نادٌة محمود ( تقدٌم) ( د‪.‬ت ) ‪ ،‬خصائص الثقافة العربٌة واالسالمٌة فً ظل‬

‫حوار الثقافات ‪ ،‬سلسلة محاضرات حوار الحضارات ( ‪ ، ) 3‬دار السبلم للطباعة‬

‫والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.‬‬

‫‪ -‬المقالح ‪ ،‬عبد العزٌز ( ‪ ،)2010‬الكتابة البٌضاء – الشاعر ذلك المجنون النبــٌل ‪ ، -‬دار‬

‫الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬حكومة الشارقة‪.‬‬

‫_ المبلبكة ‪ ،‬نازك (‪ ،)1993‬ساٌكلوجٌة الشعر ومقاالت أخرى ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم‬

‫‪ ،‬دار الشإون الثقافٌة العامة ‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫‪، 2‬‬ ‫_ ـــــــ ـــــــــــ ( ‪ ،)1979‬الصومعة والشرفة الحمراء ‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن ‪ ،‬ط‬

‫بٌروت‪.‬‬

‫‪ -‬ــــــــــــــــــ (‪ ،)1967‬قضاٌا الشعر المعاصر ‪ ،‬منشورات مكتبة النهضة ‪ ،‬ط‪. 3‬‬

‫_ منصور ‪ ،‬أنٌس (‪ ،)1992‬الحب الذي بٌننا ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ط‪. 1‬‬

‫_ منصور ‪ ،‬عبد هللا ( ‪ ،)2000‬صورة المرأة فً شعر عبد الرحٌم عمر دراسة نقدٌة‬

‫مقارنة ‪ ،‬المإسسة العربٌة للدراسات والنشر ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬

‫‪ ،‬الهٌبة‬ ‫_ منٌر ‪ ،‬ولٌد ( ‪ ،)1997‬جدلٌة اللغة والحدث فً الدراما الشعر ٌّة الحدٌثة‬

‫المصرٌّة العامّة للكتاب ‪ ،‬القاه رة‪.‬‬

‫_ موسى ‪ ،‬منٌؾ(‪ ، )1984‬نظرٌة الشعر عن الشعراء والنقاد فً األدب ‪ ،‬دار الفكر‬

‫العربً ‪ ،‬مصر ‪.‬‬


‫‪185‬‬

‫‪ -‬مٌوٌك ‪ ،‬دي سً (‪ ،)1977‬موسوعة المصطلح النقدي ‪ :‬المفارقة وصفاتها ‪ ،‬تر جمة‬

‫عبد الواحد لإلإة ‪ ،‬دار المؤمون ‪ ،‬وزارة الثقافة واإلعبلم ‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫الشعري ‪ ،‬مكتبة المنار‬


‫ّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬نافع ‪ ،‬عبد الفتاح صالح (‪ ، )1985‬عضو ٌّة الموسٌقى فً‬

‫‪ ،‬ط‪ ، 1‬األردن – الزرقاء‪.‬‬

‫‪ -‬نبوي ‪ ،‬عبد العزٌز ( ‪ ،)1987‬اإلطار الموسٌقً للشعر مالمحه وقضاٌاه ‪ ،‬الصدر‬

‫لخدمات الطباعة ‪ ،‬القاهرة – مدٌنة نصر‪.‬‬

‫‪ -‬النقاش ‪ ،‬رجاء ( ‪ ،)1992‬ثالثون عا ًما مع الشعر والشعراء ‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬ط‪، 1‬‬

‫الكوٌت‪.‬‬

‫األدبً الحدٌث ‪ ،‬دار الثقافة ‪ ،‬بٌروت – لبنان‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬هبلل ‪ ،‬محمد ؼنٌمً (‪ ،)1973‬النقد‬

‫‪ -‬وادي ‪ ،‬طه(‪ ، )2000‬جمالٌات القصٌدة المعاصرة ‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون ‪ ،‬ط‪، 1‬‬

‫بٌروت ‪.‬‬

‫‪ -‬الوردي ‪ ،‬علً (‪ ،)1979‬لمحات اجتماع ٌّة من تارٌخ العراق الحدٌث ‪ ،‬مطبعة المعارؾ‬

‫‪ ،‬بؽداد‪.‬‬

‫_ الورقً ‪ ،‬السعٌد (‪ ،)2002‬دراسات نقد ٌّة ‪ ،‬دار المعرفة الجامعٌّة‪ ،‬اإلسكندرٌّة ‪.‬‬

‫والبالغً ‪ ،‬اتحاد الكتاب‬


‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫االنزٌاح فً التراث‬ ‫‪ -‬وٌس ‪ ،‬أحمد محمد ( د‪.‬ت) ‪،‬‬

‫العرب ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬الٌافً ‪ ،‬نعٌم (‪ ،)1995‬أطٌاف الوجه الواحد ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫_ الٌوسؾ‪ٌ ،‬وسؾ(‪ ،)1978‬الغزل العذري دراسة فً الحب المقموع ‪ ،‬منشورات اتحاد‬

‫الكتاب العربً ‪ ،‬دمشق‪.‬‬


‫‪186‬‬

‫‪ - 2‬الدورٌات‪:‬‬

‫‪ -‬جرٌدة الخمٌس المصرٌة ‪ ،‬فاروق جوٌدة ٌعتذر عن عدم قبوله منصب وزٌر الثقافة ‪،‬‬

‫السبت ‪ 19‬فبراٌر ‪.2011‬‬

‫_ صحٌفة األهرام المصرٌّة ‪ ،‬زاوٌة " هوامش حرّ ة "‪ ،‬على باب المصطفى ‪ ،‬بقلم فاروق‬

‫جوٌدة ‪. 2010/3/12 ،‬‬

‫_ صحٌفة األخبار السودانٌّة ‪،‬السودان‪ ،‬فاروق جوٌدة ‪ ..‬شاعر العشق والسٌاسة ‪،‬‬

‫الخمٌس ‪ 25‬أٌلول ‪.2008‬‬

‫_ صحٌفة األخبار السعودٌة ‪ ،‬أمل زاٌد ‪ ،‬هل النوستالجٌا ظاهرة عربٌة ؟ ‪ ،‬المجلة الثقافٌة‬

‫‪ ،‬العدد ‪ ، 189‬االثنٌن ‪ 15‬صفر ‪ 1328‬هــ ‪ 5 ،‬آذار ‪.2007‬‬

‫_ جرٌدة الرإٌة ‪ ،‬صفاء عزب ‪ ،‬فاروق جوٌدة ‪ :‬أنا حزٌن ألن قضاٌانا العربٌة‬

‫والمصٌرٌة بٌعت ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬الثبلثاء ‪ 7 ،‬أبرٌل ‪.2009‬‬

‫_ القدس العربً ‪ ،‬خٌري منصور ‪ ،‬مقال بعنوان " مسارح بدٌلة " ‪ ،‬العدد ‪-16 ،6794‬‬

‫‪ 17‬نٌسان ‪.2011‬‬

‫مجلة العربً‬ ‫_ الجنحانً ‪ ،‬الحبٌب ( ‪ ، )2009‬مفهوم الحرٌة فً الفكر العربًّ ‪،‬‬

‫الكوٌتٌة‪ ،‬عدد ‪ ، 603‬فبراير‪.‬‬


187

:‫ المواقع االلكترونٌة‬- 3

http://www.albasrah.net/thaqafa_fnoon/sh3r/alnaft.htm

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=19

91

http://egyknight.com/talk/showthread.php?t=1220

http://www.alfalsafa.com/Azzamen.html

http://www.alqudstalk.com/forum/showthread.php?t=564

http://www.ana-arabi.blogspot.com/2010/01/1_5261.html

http://www.iraqlights.info/vb/showthread.php?t=32708

http://www.youtube.com/watch?v=n9PrdJxrfEY

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=19

91

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=69

242
‫‪188‬‬

‫‪ - 4‬برامج تلفزٌونٌة و صوتٌة‪:‬‬

‫‪ -‬برنامج متلفز من إعداد الشاعر وتقدٌمه ‪" ،‬مع فاروق جوٌدة" ‪ ،‬قناة الحٌاة المصرٌّة ‪1 ،‬‬

‫نٌسان ‪2011‬‬

‫‪ -‬برنامج "مع فاروق جوٌدة " ‪ 6 ،‬أٌار ‪.2011‬‬

‫‪ -‬برنامج " مع فاروق جوٌدة" ‪ ،‬قناة الحٌاة المصرٌّة ‪ 13 ،‬أٌار‪2011‬‬

‫_ لقاء متلفز مع الشاعر فاروق جوٌدة على قناة دبً الفضابٌّة ‪ "،‬نلتقً مع بروٌن حبٌب‬

‫"‪ 8 ،‬أٌار ‪.2008‬‬

‫‪ -‬علً جعفر العبلق وآخرون ( ‪ ،)1992‬إشكالٌة الشاعر العربً الحدٌث والتواصل مع‬

‫الجمهور ‪ ،‬كاسٌت صوتً ‪ ،‬ندوة النقد األدبً مهرجان جرش‪.‬‬


189

Vision And Artistic Formation In Farouk Jwaida Poetry

By:

Bayan “Mohammad Jamal” Amr

Supervisor:

Dr. Mohammad Ahamd Al-Qudah

Abstract

The present study aimed at exploring the poetic achievement of the Egyptian poet

Farouk Jwiedeh as one of the most prominent contemporary poets. Through this study,

the researcher tried , as much as possible, explore the details of this poetic experience in

general , its most prominent privacy and its importance shedding some light on the

crucial factors that formed this sharp turn in his poetic journey to move from the

romantic dreaming poetry to his Arab, humanistic and national concerns through which

the poet started a new phase in a project which cannot be said to be new, but the

dominant in this poetic experience.

This study consists of an introduction and two chapters. The introduction shed some

light on the poet’s life paving the way for the perception of his poetic experience

understandably specifying the environmental and personal-formative factors that

affected his poetic voice.

The first chapter was to find out the poet’s intellectual vision facing three dimensions

that organize his poetic experience: his attitude from love, time and human and

homeland. Each of these dimensions specified the most important features resulted from
190

each vision according to the point of view of the poet following them up and converging

them and the comprehensive conception of the poet’s attitude after the containment of

his poetic experience.

As for the second chapter, it was based on the careful selection of the most prominent

artistic formation whose appearance shaped a clear sign in the formation of the poetic

tone for Jweideh. These phenomena came out of the vision that the poet presented and

reinforced their values and called us to find what matches the experiment and take into

account the artistic approach to deal with poetic texts. This chapter was divided into six

subjects: intertextuality, figurative irony, displacement, narrative and dramatic

structure, repetition and rhythm.

The present study concluded with confirming the privacy of this experience, and its

prominence recently in the poetic field as one of the most important poetic voices that

predicted and loaded for the rebellions.

You might also like