You are on page 1of 262

‫اجلمهورية اجلزائرية الدميقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العايل والبحث العلمي‬


‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 1945‬قاملة‬
‫قسم اللغة واألدب العريب‬ ‫كلية اآلداب واللغات‬
‫ختصص‪ :‬بالغة ونقد أديب‬

‫إشراف الدكتـور‪:‬‬ ‫إعــداد الطالب‪:‬‬


‫بوزيد سـاسي هــادف‬ ‫زيــد بكـاكـرية‬

‫أعضاء جلنة املناقشة‪:‬‬


‫األستاذ الدكتور‪ :‬رشيد حليم جامعة الشاذيل بن جديد‪-‬الطارف‪-‬رئيسا‬
‫الدكتور‪ :‬بوزيد ساسي هادف جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 1945‬قاملة‪..‬مشرفا ومقررا‬
‫الدكتورة‪ :‬فريدة زرقني جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 1945‬قاملة‪..‬عضوا ممتحنا‬
‫الدكتورة‪ :‬وردة معلم جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 1945‬قاملة‪..‬عضوا ممتحنا‬

‫السنة اجلامعية‪2015 - 2014 :‬‬


‫‪2015/‬‬ ‫‪/‬‬ ‫نوقشت هذه الذكرة وأجيزت بتاريخ‪:‬‬

‫من طرف السادة أعضاء لنة الناقشة الكونة من‪:‬‬

‫ال ـرأي‬ ‫الرتبــة‬ ‫السم واللقب‬


‫رئيس اللجنة‬

‫عضو‬

‫عضو‬
‫الستاذ الشرف‬
‫ومقرر اللجنة‬
‫شكر وعرفان‬

‫أتوجه بجزيل الشكر والعرفان للدكتور "بوزيد ساسي‬


‫هادف"‬
‫الذي تفضل باإلشراف على هذا البحث واعتنى به عناية‬
‫خاصة‪،‬‬
‫وكذا على فاضل مالحظاته وتوجيهاته القيمة‪،‬‬
‫كما أتوجه بالشكر الجزيل لألساتذة الكرام‪" :‬السعيد‬
‫مومني‪ ،‬فريدة بومهرة‪ ،‬عبد الغني خشة"‪ ،‬على تشجيعهم‬
‫ومرافقتهم لي في هذا الطريق الوعر‪ ،‬كما أجزل الشكر‬
‫ألسرة القسم أساتذة وطلبة‪،‬‬
‫وكذا إلى "منير بكاكرية" الذي بفضل أنامله رأى هذا‬
‫البحث طريقه إلى النور‪،‬‬
‫إليكم جميعًا خالص تقديري ومحبتي‪.‬‬

‫زيد بكاكرية‬
‫خطـة البحث‬
‫* مقدمة‬
‫* الفصل التمهيدي‪" :‬مفاهيم نظرية"‬
‫‪ -1‬التشكيل‬
‫‪ -2‬الجمال‬
‫‪ -3‬الخيال‬
‫‪ -4‬الصورة الفنية‬
‫‪ -5‬المعمار الفني‬
‫* الفصل األول‪" :‬الشاعر والجمال"‬
‫‪ -1‬الشاعر بين اليفاع والنضوج‬
‫‪ -2‬جمالية الصورة الفنية وأنماطها في شعر ابن المعتز‬
‫‪ -3‬األثر الجمالي للخيال في شعر ابن المعتز‬
‫‪ -4‬الجمال بين الوعي والتشكيل عند الشاعر‬
‫* الفصل الثاني‪" :‬األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز"‬
‫‪ -1‬البعد الجمالي المكاني‬
‫‪ -2‬البعد الجمالي الزماني‬
‫‪ -3‬البعد الجمالي النفسي‬
‫‪ -4‬البعد الجمالي التشخيصي‬
‫*ملحق‪" :‬آراء وأصداء عن ابن المعتز وشعره قديما وحديثا"‬
‫‪ -1‬قديما‬
‫‪ -2‬حديثا‬
‫* خـاتمة‬
‫* قائمة المصادر والمراجع‬
‫مـ ـ ـق ـ ـدمـ ـ ـة‬
‫إ ّن لل ّذات اإلنسانية نزوعا فطري حنو اجلمال‪ ،‬فهو ومثلما متعارف عليه منذ أغرب‬
‫العصور ظاهرة طبيعية لدى كل إنسان‪ ،‬ولطاملا حظيت الظاهرة اجلمالية ومديت اإلحساس هبا‬
‫ابهتمام عظيم منذ القدمي‪ ،‬وبُذلت يف سبيلها آراء وأفكار ونظريت فلسفية‪ ،‬كلها سعت‬
‫الصماء إىل فضاء احلياة الرحب‪ ،‬وقد‬
‫جاهدة لفك طالسم هذه الظاهرة وإخراجها من بؤرهتا ّ‬
‫سار هذا االهتمام عرب العصور دون كلل أو ملل ومل يكن العصر احلديث شاذا عن هذه‬
‫القاعدة فقد نشطت مؤخرا الدراسات اليت تناولت الظاهرة اجلمالية ابلبحث والتمحيص خاصة‬
‫يف ميدان الفن ابعتباره أرقى الظواهر اجلمالية على اإلطالق‪ ،‬وذلك بتفرعاته وأقسامه املتعددة‬
‫واليت من بينها الشعر قطعيا‪ ،‬فالشعر نتاج مجايل صادر عن الوعي اجلمايل‪ ،‬فهو ممارسة مجالية‬
‫انبعثت من رؤية الشاعر الفنان لعامله وطريقته يف فهمه والتعامل معه‪ .‬لذا فالتشكيل اجلمايل‬
‫يهتم ابلشعر بوصفه متلكا مجاليا للواقع ويسعى أيضا إىل ترسيخ احلقيقة اليت يتمثلها مجال‬
‫الشعر بوصفه ال يرتبط بفضيلة القيمة األخالقية‪ ،‬بل بقدرته على مجال متثيلها وجتسيدها‪،‬‬
‫فالفن ليس متثيال لشيء مجيل وإمنا هو متثيل مجيل لشيء من األشياء مثلما يذهب إليه‬
‫"اميانويل كانط"‪.‬‬
‫من هنا كانت انطالقة هذا البحث يف مسعاه إىل إقامة مجاليات الشعر العريب يف الفرتة‬
‫العباسية من خالل النموذج البحثي الذي اعتمده الباحث متجسدا يف املدونة الشعرية لـ "ابن‬
‫املعتز" هذه الشخصية التارخيية والشعرية والنقدية اليت كانت وال زالت مدار اهتمام املؤرخني‬
‫واألدابء وغريهم‪ ،‬فقد تناول املؤرخون شخصية الرجل بني أحداث عصره‪ ،‬رجال عاش معاانة‬
‫عصره حوادثه وأحداثه اليت طالت مقربيه ابملأساة مث ولت وجهها جتاهه‪ ،‬فقد كان أهال‬
‫للخالفة زمنا اليت انهلا فيما بعد‪ ،‬فما بقي فيها سوى ليلة وبعضها حىت أتت على حياته‪ ،‬مث‬

‫أ‬
‫تناول ال ّدارسون شخصية "ابن املعتز" الشاعر والناقد وعامل البالغة البارع‪ ،‬فكان شاعرا مبدعا‬
‫أتثر ابلظروف السياسية واالجتماعية والفكرية والفنية اليت عاشها‪ ،‬مث بعمالقة الشعر إابن عصره‬
‫والعصور السابقة له‪.‬‬
‫ويطرح هذا البحث إشكالية الكشف عن منابع التشكيل اجلمايل عند ابن املعتز يف‬
‫مدونته الشعرية‪ ،‬يف حماولة للوقوف على مدى تناغم أشعاره مع القيم اجلمالية السائدة يف عصره‬
‫أو حىت يف العصور السابقة والالحقة له‪ ،‬وأيضا القوالب التشكيلية اليت أنتجت إبداعاته ومدى‬
‫أتثريها على الصيغة اجلمالية النهائية هلاته اإلبداعات الشعرية‪ ،‬كما قد حاولنا جاهدين تقصي‬
‫الدراسات السابقة بغية اإلفادة منها وجعلها أرضية قاعدية ينطلق منها هذا البحث‪ ،‬إال أن ما‬
‫وجدانه من خالل هذا التقصي هو عدم تناول املبحث اجلمايل والتشكيلي يف شعر ابن املعتز‬
‫يف دراسات مستقلة‪ ،‬مع وجود حبوث ودراسات ورسائل علمية يف غريه من شعراء الفرتة‬
‫العباسية كحال رسالة الدكتوراه املعنونة ب"التشكيل اجلمايل يف شعر بشار بن برد" لصاحبها‬
‫"عبد الكرمي احلبيب" من جامعة البعث بسورية‪ ،‬وهي الرسالة اليت تعذر علينا احلصول على‬
‫نسخة منها مطبوعة كانت أم إلكرتونية‪ ،‬وكذلك نشري إىل وجود دراسات وأطروحات علمية‬
‫تناولت شعر ابن املعتز من نواحي متفرقة‪ ،‬ومنها نذكر مثال رسالة ماجستري بعنوان "شعر ابن‬
‫املعتز العباسي دراسة حتليلية حديثة" لصاحبها "أمحد جاسم احلسني" وكذا رسالة ماجستري‬
‫موسومة ب" الصورة الفنية يف شعر ابن املعتز" من اجناز "زكية خليفة مسعود ورسائل أخرى‬
‫تناولت شخصيته وأثره يف النقد العريب‪.‬‬
‫وابحلديث عن الدوافع اليت حفزت الباحث لطرق ابب موضوع التشكيل اجلمايل عند‬
‫"ابن املعتز" فلعل أبرزها ما اتصل "اببن املعتز" نفسه من حيث اخلربة احلياتية اليت استقاها‬
‫الرجل من مسرية األيم ومصائر الذين سبقوه فتجلت داخل تركيبته النفسية جمموعة من‬

‫ب‬
‫املتناقضات اليت ما إن اجتمعت داخل إنسان واحد إالّ وانبجست من ذلك املنت كائنا مجاليا‬
‫حىت وإن اعتصرته األحزان وذلك ما نتلمسه جليا يف شخصية "ابن املعتز" الذي أبدع مدونة‬
‫شعرية حتمل بني جنبات أبياهتا وقصائدها مكامن اجلمال الفين‪ ،‬هذا األخري الذي ش ّكل هو‬
‫اآلخر دافعا قوي من مجلة تلك الدوافع اليت اقرتنت هبا هذه الدراسة‪ ،‬حيث يرتقي اجلمال الفين‬
‫مصاف االستاطيقا اإلنسانية إن مل نقل الكونية‪ ،‬بوصفه إبداعا من عدم وتلك هي امليزة‬
‫احلصرية اليت حباها هللا لإلنسان‪ ،‬ومبا أ ّن الدراسة اجلمالية يف ميدان املعرفة األدبية حداثية أو‬
‫حديثة نسبيا‪ ،‬فإ ّن تطبيق آلياهتا اإلجرائية املمكنة على مدونة وشاعر تراثي كان أعظم هذه‬
‫وفين يف‬
‫الدوافع على اإلطالق‪ ،‬ورمبا يُعزى ذلك إىل ميل الباحث الكبري إىل كل ما هو مجايل ّ‬
‫النص الرتاثي‪ ،‬كل هذه ال ّدوافع كانت الشعلة األوىل اليت أانرت درب خطوات هذا البحث يف‬
‫مسعاه لتقصي دالالت وأمناط التشكيل اجلمايل على اختالف مستويته وفق النظريت احلديثة‬
‫واملناهج الغربية اليت أفاد منها الدارسون‪ ،‬فكان تسليط الضوء على إحدى املدوانت الشعرية‬
‫ذات عصر عباسي حافل ابألحداث والتقلبات‪ ،‬يف حبث حنسب أنّه من اجل ّدة مبكان يف‬
‫معاجلة "ابن املعتز" وإبداعه معاجلة تشكيلية مجالية‪.‬‬
‫ّأما عن الصعوابت اليت واجهت هذا البحث فعلى كثرهتا فهي مل تثن من عزم الباحث‬
‫لرفع شراعه واإلحبار به يف حميط املعرفة الواسع‪ ،‬ولعل من أبرز تلك الصعوابت هي كثرة‬
‫الدراسات اجلمالية اليت تدور حول املصطلح‪ ،‬ومفهومات علم اجلمال من دون دراسات‬
‫تطبيقية إجرائية‪ ،‬أو حىت حتديد دقيق ملصطلح اجلمال واألمر سيان ابلنسبة للتشكيل ما زادمها‬
‫غموضا وإهباما‪ ،‬وأدى إىل كثري من التخبط يف املفهومات النقدية وتعدد النظريت اليت ختص‬
‫املصطلحني يف الساحة النقدية العربية املعاصرة‪ ،‬ضف إىل ذلك احتكار املصطلحني يف ميادين‬
‫معرفية وفنية معينة‪ ،‬فالتشكيل كان غالبا حكرا على املشتغلني يف ميدان الفنون اجلميلة بتفرعاهتا‬

‫ج‬
‫ظل ميزة حصرية للفلسفة واملشتغلني عليها‪ّ ،‬أما يف ميدان الدرس النقدي فقد‬
‫الكثرية‪ ،‬واجلمال ّ‬
‫اُقتصر على التنظري هلما وهو ما طرح صعوبة أخرى متثلت يف نُدرة املراجع املتخصصة إن مل نقل‬
‫انعدامها‪ ،‬وهو ما دفع ابلباحث إىل جتشم عناء الرتمجة اليت استهلكت منه الكثري من اجلهد‬
‫وخباصة الوقت‪ .‬وقد اقتضت هذه الدراسة تقسيم البحث إىل ثالثة فصول وملحق‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل التمهيدي‪:‬‬
‫وقد تناول الباحث يف هذا الفصل الذي عنونه بـ‪" :‬مفاهيم نظرية"‪ ،‬املصطلحات أو‬
‫املفاهيم الكربى اليت تدخل يقينا يف أطوار الدراسة وقد شكلت هذه املفاهيم مخسة عناصر‬
‫وهي على التوايل‪" :‬التشكيل – اجلمال – اخليال – الصورة الفنية – املعمار الفين"‪ ،‬وقد حاول‬
‫الباحث يف هذا الفصل بسط هذه املفاهيم‪ ،‬وذلك عرب مجع اآلراء املختلفة واالجتاهات‬
‫املتباينة‪ ،‬والنظريت املتعددة وتصنيفها وطرحها طرحا منهجيا علميا‪ ،‬مراعيا يف ذلك‬
‫خصوصيات كل عنصر والضوابط الناظمة له‪ ،‬وذلك وفق تسلسل مفاهيمي اصطالحي‬
‫ومعريف‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل األول‪:‬‬
‫بعد الفراغ من ضبط وبسط املفاهيم الكربى اليت يعتمدها البحث يف سريورته‪ ،‬ينتقل‬
‫يتسربَ ُل وفق أربعة عناصر‪،‬‬
‫الباحث إىل الفصل األول الذي عُنو َن بـ‪" :‬الشاعر واجلمال" والذي َ‬
‫لعل أوهلا وليس منها هروب‪ ،‬نبذة تعريفية موجزة ابلشاعر "ابن املعتز" وتسليط الضوء على‬
‫بعض مسارات حياته وماشاهبا من مآس وسعادة وكذا تلمس منطلقاته اإلبداعية اليت هلا عالقة‬
‫وشائجية حبياته الواقعية‪ ،‬مث تناول الباحث مجالية الصورة الفنية يف شعر "ابن املعتز" مسلطا‬
‫الضوء ومدعما أبمثلة شعرية تطبيقية‪ ،‬على مكامن اجلمال داخل الصورة الفنية يف شعره‬
‫احلسي‪ ،‬مث‬
‫واملستويت اجلمالية املخفية داخل تكوينها خاصة ما تعلق بطابعها النفسي وجانبها ّ‬

‫د‬
‫جسده اخليال يف شعر‬
‫يف العنصر الثالث تناول البحث ابلدراسة والتحليل األثر اجلمايل الذي ّ‬
‫"ابن املعتز" وما امتاز به انطالقا من خميّلة صاحبه‪ ،‬فأخريا أييت عنصر اجلمال بني الوعي‬
‫والتشكيل عند الشاعر‪ ،‬حيث يستقصي الباحث مدى التكامل بني الوعي والتشكيل يف بناء‬
‫الكون الشعري عند "ابن املعتز"‪ ،‬وأيضا ملدى حتقيقهما للرباعة الفنية اجلمالية‪.‬‬
‫‪ -‬الفصل الثاين‪:‬‬
‫يف آخر فصول البحث الذي عنوانه "األبعاد اجلمالية يف شعر ابن املعتز" عكف‬
‫الباحث على رصد وسرب األبعاد اجلمالية األربعة املكونة للفضاء الشعري عنده وهي "البعد‬
‫الزماين – النفسي ‪ -‬التشخيصي" وقد جرت وفق ترتيب منطقي واستخالص‬
‫اجلمايل املكاين‪ّ -‬‬
‫للسمات اجلمالية النامجة عن عالقة هذه األبعاد ببعضها وجتاورها داخل شعر "ابن املعتز"‪.‬‬
‫ملحق‪:‬‬
‫صف فيه‬
‫ب البحث‪ ،‬ارأتى الباحث إفراد ملحق ّ‬
‫بعد هناية الفصول الثالثة املشكلة للُ ّ‬
‫آراء العلماء والنقاد وال ّدارسني قدميا وحديثا يف شعر "ابن املعتز"‪ ،‬ومدى مطابقته للمعايري‬
‫النقدية النوعية اليت حيفل هبا النقد العريب‪.‬‬
‫كان هذا عن منت البحث وابلطبع فمن البديهي أن يكون لكل حبث مقدمة وخامتة‪،‬‬
‫فاألوىل تشكل متهيدا للبحث طرح فيه الباحث احملاور الكربى املشكلة لبحثه وأيضا الدوافع‬
‫والصعوابت وإشكالية البحث عموما‪ ،‬مث أتيت اخلامتة اليت تلخص أهم النتائج اليت رسا عليها‬
‫البحث‪ ،‬مث مع آخر ما ُكتب وهي فهرسة املصادر واملراجع اليت استند إليها البحث يف حتصيل‬
‫مادته املعرفية‪.‬‬
‫ّأما ما اختص مبنهج البحث واعتبارا لطبيعة املدونة اليت تنتمي إىل األدب‪ ،‬فقد اقتضت‬
‫الدراسة توزعها بني نظري‪ ،‬ونظري تطبيقي‪ ،‬كما أ ّن هذه الدراسة قد أفادت من كثري من العلوم‬

‫ه‬
‫واملعارف اإلنسانية على غرار التاريخ وعلم االجتماع وعلم النفس وخاصة الفلسفة حىت أ ّن هذه‬
‫الدراسة تكاد يتنازعها األدب والفلسفة‪ ،‬كما اتصلت أيضا بفن العمارة والفنون التشكيلية‬
‫وحىت ابهلندسة املعمارية وعلوم األحياء والوجودية وغريها من امليادين املعرفية‪ ،‬وقد تراوحت هذه‬
‫فين حتليلي استقصائي‪ ،‬وفقا لقواعد املنهج‬
‫الدراسة بني منهجني أحدمها وصفي‪ ،‬واآلخر ّ‬
‫العلمي احلديث الذي تتضافر فيه جمموعة من املناهج‪ ،‬بل وتفرض ذاهتا تبعا لتحليل الظاهرة‬
‫األدبية‪ ،‬وهبذا فقد حاول الباحث أن يوفر هلذا البحث مقوما أساسيا لقيمته العلمية‪ ،‬وهو‬
‫دراسة املدونة الشعرية ‪-‬األمنوذج‪ -‬دراسة منهجية منظمة تقوم على قدر ضروري من املوضوعية‬
‫واالنضباط العلمي‪ ،‬ذلك أ ّن األهداف اليت يرمسها البحث لنفسه تبدأ من أتسيس املنهج‬
‫املنضبط املشتق من رؤية واضحة‪.‬‬
‫ويف األخري واعرتافا مين ابلفضل ملن تتلمذت على يديه لسنوات والذي أوالين اهتماما‬
‫ورعاية‪ ،‬فكان خري عضد يل ابملشورة والنصيحة والتوجيه وخاصة التشجيع‪ ،‬وهو من سعدت‬
‫ُكن له‬
‫كثريا حبسن رفقته وصحبته‪ ،‬وهو الدكتور الفاضل "بوزيد ساسي هادف"‪ ،‬الذي أ ّ‬
‫مشاعر ود خاصة‪ ،‬جلهده الكبري يف إقالة عثرات هذا البحث وتقومي اعوجاجه وتسديد خطاه‬
‫حنو الطريق األمثل‪.‬‬
‫ويف اخلتام يريد الباحث قول كلمة وهي أن هذا البحث ليس سوى مقرتح إلعادة فهم‬
‫النص الشعري الرتاثي فهما جديدا ُمتعمقا‪ ،‬وبرؤية منهجية تفيد من اآلخر قبل احمللي‪ ،‬كما‬
‫حتاول أن تتحسس اجلذور العميقة يف بناء الذات العربية بناءا مجاليا‪ ،‬وابإلنسان اجلمايل الذي‬
‫أسسه الوعي الشعري العريب القدمي‪.‬‬
‫وهللا من وراء القصد‪ ،‬وهو ملهم التوفيق‪.‬‬

‫و‬
‫‪ )1‬التشكيـل‪.‬‬

‫‪ )2‬الجم ـال‪.‬‬

‫‪ )3‬الخي ـال‪.‬‬

‫‪ )4‬الصورة الفنية‪.‬‬

‫‪ )5‬المعمـار الفني‪.‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -1‬التـ ـشك ـ ـي ـل‪:‬‬

‫أ) المفهوم اللغوي‪:‬‬


‫تندرج كلمة التشكيل ضمن اجلذر اللغوي "شكل"‪ ،‬حيث جاء يف لسان العرب‪ :‬الشكل‬
‫وشكل الشيء صورته احملسوسة واملتوهة‪،‬‬ ‫ثل‪ ،‬وقوله تشكل العنب‪ :‬أينع بعضه‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫بالفتح الشبه وامل ُ‬
‫وتشكل الشيء‪ :‬تصور‪ ،‬وشكله‪ :‬صوره(‪ ،)1‬أما يف املندد يف اللغة واعألما قدد جاء تشكل‬

‫العنب أي أخذ يف النضج‪ ،‬وشكل الشيء‪ :‬صوره‪ ،‬وتشكل‪ :‬تصور‪ ،‬تشاكماا أي متاثماا‬
‫وتواقد ا(‪ ،)2‬كما جاء يف املعدم الوسيط يف معىن شكل‪ :‬شاكله أي شاهبه وماثله‪ ،‬وشكل‬
‫الشيء‪ :‬صوره‪ ،‬وشكل تشاكماا مبعىن تشاهباا ومتاثماا وتشكل أي مطاوعُ شكله‪ ،‬وتشكل‬
‫الشيء‪ :‬تصور ومتثل(‪.)3‬‬
‫‪« The‬‬ ‫‪American Heritage‬‬ ‫وأما يف قاموس الرتاث اعأمريكي للغة اإلجنليزية‬
‫قدد جاء التشكيل بعدة معان ودالالت منها‪:‬‬ ‫”‪Dictionary of the English language‬‬

‫التشكيل مبعىن االستعارة واجملاز‪ ،‬وهو املتعلق بالكما وما يدور يف قلكه‪ ،‬ومنها أيضا التشكيل‬
‫ما احتوى للى العديد من اعأشكال املتعلدة بزخرقة الكما ‪ ،‬و جاء التشكيل أيضا مبعىن‬
‫التشابه والتماثل(‪.)4‬‬
‫كل هذا الكما لن مصطلح التشكيل يلتدي معظمه يف معان حمددة للى غرار‬
‫التشابه‪ ،‬التماثل والتصور‪ ،‬وبالفعل هذا هو جوهر التشكيل يف سياقه الكلي أو يف معناه‬

‫(‪ )1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ :‬دار املعارف‪- ،‬اجمللد‪ ،-4‬د‪.‬ط‪ ،‬كورنيش النيل‪-‬الداهرة مصر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪2310‬‬
‫(‪ )2‬املندد يف اللغة واعألما ‪ :‬دار املشرق‪،‬ط‪ ،25‬بريوت‪ ،1975 ،‬ص ‪. 398‬‬
‫(‪ )3‬جممع اللغة العربية‪ :‬املعدم الوسيط‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪،‬ط‪ ،4‬مجهورية مصر العربية‪ ،2004 :‬ص ‪.491‬‬
‫‪4 -The American Heritage Dictionary of the English language, fourth edition, Houghton‬‬
‫(‪Mifflin Company, 2000 . p209 (Adapted‬‬

‫‪-9-‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫الشمويل‪ ،‬قدل املعاجم اللغوية تدريبا ومثلما ورد تكاد جتمع للى املعىن التصوري والتماثلي‬
‫للمصطلح أو لن ُدل لكلمة التشكيل‪ ،‬ولكن ما يماحظ أيضا أنه يكاد البعد البصري هو‬
‫رحل هذا‬
‫صاحب اهليمنة يف الدالالت السطحية والعميدة للمصطلح وذلك مانتلمسه حينما نُ ِّ‬
‫املصطلح صوب قضاء النص اعأديب بالتباره نصا مكتوبا مديدا خبطيته‪ ،‬يندل يف قضاءنا‬
‫التأملي الذهين مستوى جديدا مرشحا للدراءة يضاف لذلك املستوى املتداول ‪،‬ومن ههنا‬
‫يسعى مصطلح التشكيل طاملا اشتغل يف قضاء النص اعأديب املكتوب إىل حتريض جمتمع التلدي‬
‫للى استكشاف ومتثل وكذا قراءة أو لن ُدل استدراء البعد البصري يف قضاء النص املكتوب‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ب) المفهوم المعرفي‪:‬‬


‫أما رجول ا للمفهو املعريف أو االصطماحي قإن املرجعية اعأدبية أو لن ُدل الرتاثية‬
‫للتشكيل‪ ،‬تكمن أساسا يف الثنائية التدليدية "الشكل واملضمون" واليت كرست هيمنتها طويما‬
‫أو لفرتة طويلة للى قعالية رصد حركة إشكالية النصي يف املدونة النددية الددمية‪.‬‬
‫باالنتدال للحياة الثداقية املعاصرة اليت جتري حتميتها للى املعارف اإلنسانية ككل‪ ،‬قإن‬
‫التدد الثدايف والرؤيوي الذي حصل يف املدونة النددية احلديثة والذي انتهى بفاللية كربى يف‬
‫ندل تلك النظريات واملنهديات وكذلك التعريفات إىل منطدة تلق جديدة‪ ،‬قذات اعأمر جرى‬
‫للى املصطلحات واملفاهيم اجلديدة‪ ،‬ومن هنا قالثنائية التدليدية "الشكل واملعىن" استبدلت‬
‫بثنائية جديدة اصطلح لليها بثنائية "التشكيل والرؤيا" وحتول الشكل مبعناه اجملرد إىل التشكيل‬
‫مبعناه املركب واملعدد واملتعدد‪ ،‬البسيط واعأحادي‪ ،‬كما حتول املعىن أو املضمون من معناه أو‬
‫لن ُدل مبعناه املباشر والكمي إىل الرؤيا مبعناها النولي احللمي والماقصدي‪ ،‬كل هذه احلركية اليت‬
‫خضعت هلا ثنائية الشكل واملعىن واليت خرجت من ثوهبا التدليدي متوشحةا بوشاح احلداثة‪،‬‬
‫أقرزت لنا ثنائية جديدة أكثر دينامية وقاللية هي ثنائية "التشكيل و الرؤيا" للى النحو الذي‬
‫جييب قيه هذا الفضاء اجلديد للى انشغاالت النداد احملدثني وأيضا استفهامات املنهج احلديث‬
‫برؤيته ونزلته الشاملة ذات املنحى اإلشكايل الشديد‪.‬‬
‫وباالنتدال إىل لماقة التشكيل باجلوانب اإلبدالية لألدب خاصة ما تعلق بالشعر‪،‬‬
‫قلرمبا جند أن اجلاحظ هو أول من التفت إىل طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج‬
‫والتصوير»(‪ ،)1‬وإذا قلنا أيضا أن التشكيل مبعىن التمثيل قهذا حييلنا للى مكامن لماقة وطيدة‬

‫(‪ )1‬لبد الغاقر مكاوي‪ :‬قصيدة وصورة‪ ،‬سلسلة لامل املعرقة‪ ،‬اجمللس الوطين الكوييت للثداقة والفنون‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪ 1987‬ص‪.17‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫نسدت خيوطها لرب الزمن بني الرسم والشعر بالتبارها ضربني من الثداقة اإلنسانية املمتدة‬
‫اجلذور زمنيا‪ ،‬قفكرة التمثيل يف قهم العماقة بني الرسم والشعر يف احلديدة هي قكرة جوهرية‬
‫تكلم لنها الفماسفة املسلمون انطماقا من الفكرة اعأرسطوطاليسية يف حماكاة الطبيعة كندطة‬
‫لداء مشرت ك بني كما الفنني أي الرسم و الشعر‪.‬‬
‫مث إن احلركة السريالية منذ بداياهتا ما لبثت وما قتئت التأكيد للى حديدة أن الشعر‬
‫ميدد ختومه وراء االتصال اللفظي ليشمل أشكاال وطرائق من التعبري الفين‪ ،‬ولذلك أخذوا ‪-‬‬
‫احلركة السريالية‪ -‬للى لاتدهم مهمة إلغاء هذه التخو أو احلدود بني الشعر والرسم واختاروا‬
‫الغموض طريدهم يف ذلك بغية إثارة اخليال لن طريق التناقر والتعارض‪ .‬ويف احلديدة مل حيدث‬
‫أن سبق للشعر والتصوير أو التشكيل أن تضامنا وتفالما مثلما كان إبان هذه الفرتة وبتحريك‬
‫مميز من احلركة السريالية* وحىت نظريهتا الدادئية** قكما قيل قدد كان الشعراء يرمسون‬
‫والرسامون ينظمون الدصائد‪ ،‬وهذا دليل مميز للى ذلك التماهي السحيق يف العماقة بني الرسم‬
‫والشعر‪.‬‬

‫* الحركة السيريالية‪ :‬نشأت احلركة السرييالية كمذهب أديب جديد يف أوروبا يف ما بعد احلرب العاملية اعأوىل وتعتمد هذه‬
‫احلركة للى قكرة ما قوق الطبيعة أو ما بعد الواقع وتسعى هذه احلركة إىل إدخال لماقات جديدة ومضامني غري مستمدة‬
‫مازجا بني‬
‫من الواقع يف اعألمال اعأدبية‪ ،‬والتاريخ احملدد لنشأهتا كان سنة ‪ 1924‬بريادة "بروتون" وأصدر بيانه اعأول ا‬
‫الدادئية والفرودية ودالياا بعد لملية اهلد إىل لملية بناء للى ضوء املذاهب الفكرية الثورية والسياسية اجلديدة وذلك بغية‬
‫معاجلة هذا اإلنسان املأزو الذي خلفته احلرب‪ ،‬وهبذا تفوقت للى الدادئية خاصة بعد انضما الكثري من اعأدباء‬
‫واملفكرين والفنانني هلا‪.‬‬
‫** الدادئية‪ :‬اقرتن ظهور الدادئية بديا احلرب العاملية اعأوىل أو بعدها بدليل‪ ،‬وذلك لندما أللن الشالر "تريستان تازارا"‬
‫لن والدهتا سنة ‪ 1916‬يف زيوريخ السويسرية مث انتدلت إىل قرنسا ومنها إىل أقطار أخرى لتبلغ ذروهتا سنة ‪، 1919‬‬
‫وكانت التوجهات الكربى هلذه احلركة تسري وقق أنسنة العامل وجعل اإلنسان مدار كل العلو والفنون‪ ،‬حيث هامجت‬
‫الدادئية الديم الدينية واعأنظمة االجتمالية والسياسية وآمنت بفكرة جوهرية وهي أن اجملتمع الذي ينتج احلرب ال يستحق‬
‫الفن‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫إن التماثل بني الشعر والتشكيل يرجع إىل ما قبل العصرين الروماين و اإلغريدي لندما‬
‫ساد التأثر بني اعأجناس اعأدبية والفنية‪ ،‬وخصوصا بني الرسم والشعر لدرجة أصبح احلديث لن‬
‫قصيدة للوحة أمرا بديهيا ال وجود عأثر الشك قيه‪ ،‬ومن هنا انتشرت مصطلحات من قبيل‬
‫قضاء اعأشكال‪ ،‬حبر الرموز‪ ،‬موسيدى اعألوان‪ ،‬إيداع الرموز‪...‬اخل‪.‬‬
‫ولعل أقد النصوص اليت دللت للى تلكم العماقة الساحرة بني الرسم والشعر املدولة‬
‫املنسوبة إىل "سيمونيدس الكيوسي"* ”‪ 468-556( “Simonides of Ceos‬ق‪ ) .‬اليت يدول‬
‫قيها‪« :‬إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق‪ ،‬وأ ّن الرسم أو التصوير شعر صامت»(‪.)1‬‬
‫واملهم يف هذه املدولة الشهرية املنسوبة إىل سيمونيدس واليت تعددت تأويماهتا وكثرت شروحاهتا‬
‫لرب العصور أهنا أكدت للى التماثل الدائم بني اعأجناس اإلبدالية‪ ،‬وبصفة خاصة بني‬
‫كما يكون الشعر يكون الرسم‪.‬‬ ‫”‪“Horace‬‬ ‫التشكيل والشعر مثلما يدول "هوراس"‬
‫وبالرجوع إىل مصطلح التشكيل وخصائصه قهو من املصطلحات اليت حتتوي قدرا‬
‫معتربا من خاصيات املرونة والرحابة والدينامية قهو ال يتلبث يف الطبدتني العميدة والسطحية‬
‫للمصطلح بل جنده يتمظهر يف كل زاوية حمددة من النص مما يساهم يف حساسية وزاوية وظل‬
‫منه ميكنها أن تسهم يف ترسيخ مفهومية التصوير والتمثل ملصطلح التشكيل ومن هنا يكون‬
‫مصطلح التشكيل مصطلحا نصياا أو ما بعد نصي‪،‬أي أنه ميثل النص يف حالة تشبعه الفين‬

‫* سيمونيدس الكيوسي‪ :‬ولد يف سنة ‪ 556‬ق‪ .‬يف جزيرة كيوس اليونانية وتويف يف اغرجينتو يف سنة ‪ 467‬ق‪ .‬وهو‬
‫الشالر الغنائي اليوناين‪ ،‬ذهب إىل أثينا سنة ‪ 520‬ق‪ .‬بناء للى دلوة امللك "هيبارخوس" ومن هنا ك دخل يف صداقة‬
‫وثيدة الوصال مع الدائد اليوناين الشهري "ثيموستكليس"‪ ،‬بعد سلسلة من اجلرائم واملشادات بني امللك وأمرائه التدأ‬
‫"سيمونيدس" إىل ثيساليا حيث لاش يف بماط اعأمراء‪ ،‬ومن املعدزات اليت حصلت له أنه يعترب الناجي الوحيد يف اهنيار‬
‫سدف قالة احلفمات يف هذه املدينة بعد هما ك اجلميع حتت أنداضها‪ ،‬يعترب "سيمونيدس" الشالر الشعيب يف اليونان‬
‫الددمية وقد حتدث لنه أرسطو يف كتابه "أخماقيات نيدوما ك"‪ ،‬وقد اقتبس لنه الكثري من الفماسفة الددماء وجتلى ذلك‬
‫خاصة يف حماورات أقماطون مع أستاذه سدراط‪.‬‬
‫(‪ )1‬لبد الغاقر مكاوي‪ :‬قصيدة وصورة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪34‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫وامتمائه اجلمايل الغائرة يف قضاء الدراءة املتفتحة بني يدي التداول ولذا من املنطدي الدول أن‬
‫التشكيل هبذا املعىن يدل للى الرسم بوصفه نصا إبداليا بصريا يتضمن خطابا متحديا وحمفزا‬
‫نصه‬
‫ومثريا للتأويل‪ ،‬وهذا املعىن اإلشكايل بالذات هو الذي أخذه اعأدب وسخره لوصف ِّ‬
‫اعأديب يف حالة استكماله بعد حلول الرؤيا قيه‪.‬‬
‫ومن مثة ما ميكن أن نصطلح لليه قنيا ومجالي ا يف هذا السياق "بالتشكيل العا " الذي‬
‫يدارب اجملال النصي اعأجناسي يف ُكلِّيته ومشوليته وجند من ذلك ما يتمفصل للى أساس‬
‫اعأجناس واعأشكال النصية والفنية قنصطلح به للى "التشكيل الشعري"‪" ،‬التشكيل السردي"‪،‬‬
‫"التشكيل الدرامي"‪ ،‬ومنتهى ذلك كلِّه وصفوته "التشكيل اجلمايل" بالتباره منوطا بتحديق‬
‫أقصى غايات النصوص اإلبدالية ‪،‬وهي الوصول إىل درجة تتلبس قيها اجلمال وجتعل املبدع‬
‫النصي أو التشكيل اجلمايل للنص‪ ،‬الذي يوجه مداره‬
‫واملتلدي للى السواء رهائن اجلمال ِّ‬
‫صوب اإلنسان ذلك الكائن اجلمايل املولع والعاشق لكل ما هو حماط ومتلبس باجلمال‪.‬‬
‫ويعد التشكيل مبفهوماته املتعددة واملتنولة واملتشعبة للى هذا اعأساس أحد املكونات‬
‫الرئيسة يف تكوين اخلطاب اعأديب‪ ،‬ولذا وجب للى املشتغل بالنص اعأديب أو لن ُدل بالنصوص‬
‫اإلبدالية إمجاال إدراكه وقهمه وحتليله إذا ما أراد قحص النصي يف جماله النصي‪ ،‬ومن البديهي‬
‫أن ال يبلغ اخلطاب غايته وال يكتب له النداح إن هو جتاوز يف منهده النظري قاللية نددية‬
‫يف قضاء التشكيل ومظاهره وحاالته وحتوالته‪ ،‬بوصفه جماال حيويا لميدا للنظر والتحليل‬
‫والكشف لن خاصية الفاللية اجلمالية اليت يكون اخلطاب اعأديب قد حددها‪ ،‬ومن املسلم به‬
‫أن مفهو التشكيل أو اصطماح التشكيل متكن من حظوة كربى لدى املشتغلني للى دائرة‬
‫املنهديات احلديثة‪ ،‬املشتغلة إجرائيا ولمليا للى حاضنة النصوص اإلبدالية وتعاملت معه‬
‫بوصفه الوجه االصطماحي احلديدي املنتج والنولي‪ ،‬والتربت يف كثري من آرائها أن ال جلمالية‬

‫‪- 14 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫النص اعأديب أو اخلطاب اعأديب دومنا االشتغال للى منطدة التشكيل احليوية والكثيفة وقراءة‬
‫أمنوذج التشكيل الفين والكشف لن طبدات اشتغاله اجلمالية‪.‬‬
‫النصي يف اعأشكال الفنية لموما واعأجناس اعأدبية للى وجه صخصوص هو‬
‫إن اعأُمنوذج ِّ‬
‫ظل هذا املنظور «تشكيل قبل أن يكون بما يتكشف عنه فضاء التشكيل وأدواته‬
‫يف ِّ‬
‫الفاعلة من جمال»(‪ ،)1‬كما يعترب أيضا النظا النصي التشكيلي نظاما سيميائيا «يعيش‬
‫الحدث مخاضا وتجربة ويختلط عنده الحلم بالوعي‪ ،‬والخيال بالواقع‪ ،‬والالمرئي‬
‫بالمرئي‪ ،‬فتستحيل عنده اللعبة لعبا بالكلمات فيتحرر الدال من المدلول في تشكيل‬
‫عفوي يرمي إلى تمثيل عالم قيد البناء وتنقلب الكلمات إلى شيفرة جمالية ال تكشف‬
‫عن محتواها وكونها»(‪ ،)2‬كما أن التشكيل بوصفه مصطلحا ومفهوما أدبيا مستعارا إن صح‬
‫التعبري يشتغل يف جمال قن الشعر للى نطاق واسع‪ ،‬ويتمظهر للى هذا اعأساس مصطلح‬
‫ومعتربا يف االستعمال النددي‪ ،‬لوصف ومتحيص الشعر بوصفه املادة‬
‫التشكيل متظهرا واسعا ُ‬
‫اخلا اليت ميارس قيها ولليها آلياته اإلجرائية وأحكامه املعيارية‪ ،‬كما يُعىن باحلرا ك الفين‬
‫واجلمايل والسيميائي داخل بنية الدصيدة وخارجها وحوهلا ويف قضائها‪ ،‬وهذا ما دقع بأحد‬
‫رواد الشعر العريب املهتم واملهمو بدضية املصطلح لدرجة كبرية إىل الدول‪« :‬إن القصيدة التي‬
‫تفتقد التشكيل تفتقد مبررات وجودها»(‪)3‬؛ بوصفه الفضاء الذي مينح الدصيدة هويتها‬
‫الشعرية والفنية وكذلك اجلمالية ومعناها احلداثي ويدرجها بدوة يف اجملال النولي واملتميز لفن‬
‫الشعر‪.‬‬

‫(‪ )1‬صماح لبد الصبور‪ :‬حيايت يف الشعر‪ ،‬ديوان صماح لبد الصبور‪ ،‬دار العودة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪ ،1969 ،‬ص‪.563‬‬
‫(‪ )2‬بيري جريو‪ :‬للم اإلشارة ‪-‬السيميولوجيا‪ ،-‬تر‪ :‬د‪.‬منذر لياشي‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‪ ،‬ط‪ ،3‬حلب‪، 2007 ،‬‬
‫ص‪. 18‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.31-30‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ويف هذا السياق قإن مصطلح التشكيل مبعناه البنائي والتنظيمي «يكشف بوضوح‬
‫العبقرية الهندسية للشاعر وقدرته على خلق أدوات للفكر تزيده رهافة ونفادا من يوم‬
‫ألخر‪ ،‬فالشاعر يتحرك من دون أن يدرك في نظام من العالقات والعالمات والتحوالت‬
‫وال يتلقى أو يطارد منها إال هذا التأثير العفوي الخاص الذي يفصل بحالة معينة من‬
‫عملياته الحميمة»(‪ ،)1‬وهي ترتاكم وتتزاخم يف حدل التكوين الشعري للدصيدة وتؤلف‬
‫نسيدها وتنشئ نظامها الفين واجلمايل النولي واخلاص للى النحو الذي تتهيأ قيه الحتواء‬
‫الرؤيا ودجمها يف سياق التشكيل‪ ،‬يف السبيل إىل تشييد الكون الشعري يف الدصيدة وللى ضوء‬
‫هذه الرؤية اخلاصة «صارت القصيدة ال تتوقف عند حدود نظم تشكيل جديد للوجود‬
‫اإلنساني» (‪ )2‬بل صارت تتعداه وأصبحت بآلياهتا التدانية اجملردة واستنادا هلذا السياق املوضوع‬
‫نولا من متثيل العامل وتشكيماا مجاليا وقنيا للوجود‪ ،‬يف إلادة إنتاج حيوية للمعىن الكوين‬
‫بأمنوذجه اجلمايل وهو يفسر حركة اعأشياء تفسريا شعريا نوليا‪.‬‬
‫قإذا نظرنا للدصيدة الشعرية لرب املفاهيم املعتمدة ملصطلح التشكيل قسندد أن‬
‫الدصيدة حيكمها تشكيمان‪:‬‬
‫‪ -‬تشكيل داخلي‪ :‬وهو الذي يتدسد يف العناصر التصويرية واآلليات اليت يتبعها الشالر يف‬
‫رسم قكرته بالكلمات‪.‬‬

‫(‪ )2‬لبد اجلليل مندور‪ :‬املداربة السيميائية للنص اعأديب‪-‬أدوات ومناذج‪ ،-‬ضمن كتاب السيمياء والنص اعأديب‬
‫(حماضرات امللتدى الوطين اعأول) منشورات جامعة حممد خيضر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بسكرة‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫(‪ )2‬لز الدين إمساليل‪ :‬الشعر العريب املعاصر‪-‬قضاياه وظواهره الفنية واملعنوية‪ ،-‬دار العودة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت ‪ ،1969‬ص‬
‫‪. 69‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -‬تشكيل خارجي‪ :‬وهو املتمثل يف الوزن والداقية والشكل املوسيدي‪ ،‬الذي تتخذه الدصيدة‬
‫الشعرية لترتجم انفعاالت الشالر وتؤثر بطبيعة احلال يف املتلدي‪ ،‬ولذلك البد أن يتكامل‬
‫التشكيمان حىت تكون الدصيدة ذات قيمة قنية ومعنوية‪.‬‬
‫إن استعراض املفهومات واعأقكار اليت خلفتها املصطلحات الفنية وتداخلها يف اجملاالت‬
‫ذات الصلة‪ ،‬جتعلنا نعتدد جازمني أن مصطلح التشكيل أو لن ُدل كلمة تشكيل تنبع من قن‬
‫التصوير وهي صاحلة للتداول االبستيمولوجي والفين مع غريها من الفنون واملدارات اإلبدالية‬
‫والشعر يف واقع احلال هو اعأقرب إىل التصوير دون سواه‪ ،‬قتشكيل اللوحة ونظم الدصيدة‬
‫يتبلوران أحدها حتريكا باليد كريشة الفنان والثاين ُدرر الكما وهي وظيفة الشالر قهو وإن‬
‫خضع لألغراض النفعية‪ ،‬إال أن مددار العمد يف تكويناته وتشكيماته اللغوية والتصويرية‬
‫واإليدالية سيخضع ملددرة الشالر الفردية اخلاصة دون غريها‪.‬‬
‫وتبدى اإلشارة قدط ملدى حضور مصطلح التشكيل يف الرتاث النددي العريب حيث ال‬
‫جند هلذا املصطلح وجودا ندديا يف هذا الرتاث أو حىت يف املعدم اللغوي آنذا ك‪ ،‬ولكن جوهره‬
‫واملشكمات والدضايا احململة يف ثناياه كانت حاضرة وبدوة ولكن حتت مادة لغوية مغايرة‬
‫اصطلح لليها بالتخيل؛ وهي اليت تدل للى لملية التآلف أو التأليف بني الصور وإلادة‬
‫تشكيلها‪.‬‬
‫وقد أشارت الباحثة "ألفت الرويب" بأن مجهور الفماسفة املسلمني تناولوا قيما خيص‬
‫مصطلح التخييل مبعىن التشكيل يف مواضع دالة للى التصوير قيصبح متضمنا لكل ما هو‬
‫(‪)1‬‬
‫وذلك أن التخييل «يكتسب معنى التأثير حين يتم تخييل حقيقة أو أمر ما أو‬ ‫ُحماكى‬
‫إعادة صياغته أو تشكيل هذه الحقيقة تشكيال جماليا مؤثرا فيصبح معنى التخييل‬

‫(‪ )1‬ألفت كمال الرويب‪ :‬نظرية الشعر العريب لند الفماسفة املسلمني‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ، 1983 ،‬ص ‪.118‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫التشكيل والتأثير« (‪ ،)1‬قعبد الداهر اجلرجاين يدقع بفكرة ما يسميه التخييل إىل معىن جديد‬
‫وهو يدرهنا ويربطها بالتصوير وهنا ما ميكن التباره تأويما سيكولوجيا لعملية التذوق اجلمايل‬
‫التشكيلي‪ ،‬أما العمامة ابن سينا قهو يعتدد بأن مثة أخطاء ممكنة تتخلل لملية احملاكاة من‬
‫طرف الشالر‪ ،‬وهو يدقع مبداربة الشعر بالتصوير إىل درجة التداده أن تصوير الشالر جيب أن‬
‫يكون واقعيا‪.‬‬
‫إن لبارة "سيمونيدس" الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت‪ ،‬اليت سبق ذكرها وذلك‬
‫يف معرض إشارته إىل تلكم العماقة الفنية اجلوهرية بني الشعر والرسم اليت تدو للى التعبري من‬
‫خمال الصورة مع اختماف اعأدوات(‪ ،)2‬إال أن واقع استثمار العماقة بني كليهما‪-‬الشعر‬
‫والرسم‪ -‬ال تتم إال بتكامل تلك اعأدوات‪ ،‬وهذا مل يكن متاحا يف الثداقة الشفاهية وال لمليا‬
‫يف ثداقة املخطوطات‪ ،‬الطبالة وحدها أتاحت هذا التكامل اخلماق بني الكلمة واعأيدونة‬
‫ضمن الواقع الفين التداويل حيث يرتدي قيه العمل الشعري ليصري جماال منوذجيا وحدما خصبا‬
‫لتداخل اعأجناس الفنية حيث لززت الصورة الفنية والتعبري اللفظي كل منهما اعأخر(‪،)3‬‬
‫وحيث صار التشكيل مكان أخر للموازي النصي‪ ،‬يتبادل معه التأثري واإلضاءة(‪.)4‬‬
‫إن العماقة بني الشعر والتشكيل لتبلغ ذروهتا يف النص اجملسد أو لن ُدل اعأيدونة النصية‬
‫يطوع الكلمات واعأحرف وكذا تنسق وتعاجل لتشكل صورة بدائعية للى سطح الورقة‬
‫حيث ِّ‬
‫الشعرية وتعطي لنا لوحة بصرية لشيء ما‪ ،‬ولندما يكون النص شعريا تصبح اعأيدونة الشعرية‬

‫(‪ )1‬ألفت كمال الرويب‪ :‬نظرية الشعر العريب لند الفماسفة املسلمني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪. 117‬‬
‫(‪ )2‬جون بول سارتر‪ :‬ما اعأدب‪ ،‬تر‪:‬حممد غنيمي همال‪ ،‬دار العودة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1984 ،‬ص ‪. 15‬‬
‫(‪ ) 2‬والرت ج‪.‬أونج‪ :‬الشفاهية والكتابية‪ ،‬تر‪:‬حسن البنا لز الدين‪ ،‬مراجعة حممد لصفور‪ ،‬سلسلة لامل املعرقة‪ ،‬اجمللس‬
‫الوطين للثداقة والفنون واآلداب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الكويت‪ ، 1994 ،‬ص ‪. 231‬‬
‫(‪ )4‬نبيل منصر‪ :‬اخلطاب املوازي للدصيدة العربية املعاصرة‪ ،‬دار توبدال للنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬دمشق‪ ، 2007 ،‬ص ‪. 92‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫النصية نتاج ا بصري ا حديديا للرسم بالكلمات‪ .‬ويذهب "صماح لبد الصبور" بعيدا يف مداربته‬
‫لعملية التشكيل يف الشعر واعأدب بصفة لامة حينما يعترب أن لملية التشكيل هي يف واقع‬
‫يكمل الفعل الديونيسي‬
‫اعأمر لملية تدل للى قعل لدلي ينظم ويوازن للى قعل أبولوين ِّ‬
‫حسب تعبريه‪ ،‬أي أن أبولون "إله العدل" وهو ملهم النحت والشعر امللحمي يكمل قعل‬
‫ديونيسوس إله النشوة وملهم الرقص واملوسيدى‪ ،‬قمن هنا تصبح لملية التشكيل اعأبولونية‬
‫لملية لدلية والية‪ ،‬تنكب للى تنسيق البناء من خمال إبراز ذروة يف الدصيدة أيا كان موقعها‬
‫وأيضا من خمال إقامة التوازن بني الصور‪ ،‬التدرير واملوسيدى‪.‬‬
‫يدول "صماح لبد الصبور"‪« :‬ولكن هل يتم هذا التشكيل بشكل واع بحيث تنتفي‬
‫التلقائية فيه؟ ال فليس ألبولو كعقل نصيب في العملية الفنية‪ ،‬بل إن التشكيل يصبح‬
‫لدى الفنان نوعا من الغريزة الفنية‪ ،‬مثله مثل المقدرة على الوزن وتكوين الصور»(‪ ،)1‬ومن‬
‫هنا ينتحي لبد الصبور طريق املزج بني العدمانية والغريزة‪ ،‬الضدان املتدابمان املسريان بطبيعة‬
‫احلال حلاالت اإلنسان ضمن صريورة احلياة ومناحيها املختلفة‪ ،‬ولكن يف اآلن ذاته قإن‬
‫التشكيل ال يستدر حبال للى هذا املعىن بل يغادره ويتداوز حدود الدصيدة ليصبح تشكيما‬
‫للذات والكون يف آن‪ ،‬تشكيماا يعتربه الشالر اإلجنليزي "ويليا بليك" ينتدل من الرباءة الغفماء‬
‫إىل براءة التدربة‪.‬‬
‫يصبح ويصري التشكيل بشىت معانيه أقرب إىل التكوين كما تعرب لنه الكلمة اعأملانية ‪-‬‬
‫‪ ،-Bildung‬وهي الكلمة اليت أطلدت املفهو ‪ ،‬ولنها نُِدل إىل باقي اللغات أما املفكر‬
‫‪“Johann‬‬ ‫‪Wolfgang von‬‬ ‫واعأديب اعأملاين اجلليل "يوهان قولفغانغ قون غوته"‬
‫”‪ )1832-1749(Goethe‬الذي يعترب أن الفن تشكيل قبل أن يكون مجاال‪ ،‬قهو حييلنا‬

‫(‪ )1‬صماح لبد الصبور‪ :‬حيايت يف الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪. 49‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫دون ريب إىل ربط تلدائي بني كلمة ‪ -Bildung-‬يف اللغة اعأملانية ونظريهتا التشكيل يف‬
‫اللسان العريب‪ ،‬ولليه ميكن اخلماص إىل نتيدة ختربنا بأن "قون غوته" يعد أبرز من ساهم يف‬
‫حتديد هذا املفهو نظريةا وإبدالا‪ ،‬وللى هذا قندطة االلتداء بني املصطلحني هلي قكرة التكوين‬
‫أو ميكن الدول حركة التكوين‪ ،‬قعملية اإلبداع لو أخذنا "قون غوته" و"صماح لبد الصبور"‬
‫مثالني تتدلى لندها يف رحلة اكتشاف تتميز لن الصنعة اليت جيعلها الندد الرمسي الددمي‬
‫حكما معياريا للعمل الفين‪.‬‬
‫خنلص إىل أن العماقة بني الشعر والتشكيل لماقة وطيدة إن كان للى مستوى الرؤيا‪،‬‬
‫أو للى مستوى الغايات اجلمالية التصويرية قكماها يتولد من ينابيع اعأحما ‪ ،‬اعأساطري‬
‫واعأخيلة‪ ،‬وميتد إىل ألماق الذاكرة البشرية يف أولياهتا وكذلك يف مآالهتا‪ ،‬قاإلنسان الددمي‬
‫اكتشف الشعر وقت اكتشاقه للرسم والتشكيل لندما كان حياول قهم حاالته واضطراباته‬
‫واختماجات نفسه وما يعرتيه وما يصيبه من حتوالت الدهر ومآسي احلياة وأقراحها‪ ،‬ولذلك‬
‫قإن الشعر والتشكيل ميثمان حماولة للسيطرة أو ميكن الدول الدالب الذي يصدل قيه كل ما‬
‫سبق وهو نفس ما يعرتي اإلنسان احلديث رغم الفوارق الرهيبة اليت نسدت خيوطها لرب‬
‫الزمن‪ ،‬ولكن ظلت العدد احلياتية والنفسية لإلنسان راسخة بل تزداد ضراوة واستعارا خاصة‬
‫لددة اخلوف من اجملهول وتمايف مآسي اعأقدار‪ ،‬قكماها ‪-‬التشكيل والشعر‪ -‬سبيل لصون‬
‫اجلمال يف العامل من خمال مداومة الدبح وهداء الشر وترميم النفس البشرية حىت جتابه وتداو‬
‫لوامل التعرية الدهرية إن صح الدول‪ ،‬قالرتاسل بني الشعر والتشكيل هلو كفيل بأن جيدد‬
‫احلدلني معا من خمال تبادل اعأدوات واللهدات اجلمالية‪ ،‬قضما لن اإلضاقات املتوقعة اليت‬
‫يضيفها الشالر أو الرسا لندما يدو بدراءة احلدل اجملاور له قراءة إبدالية مجالية‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫إن نص الدصيدة التشكيلية جيمع بني متناقضات مجة‪ ،‬قهو حيتاج إىل مبدع قناص‬
‫للدطات اعأكثر سحرا وإىل قارئ جنيب ذي ذائدة كاسرة غري آلفة للمبتذل الركيك‪ ،‬قتفضي به‬
‫إىل إدرا ك مجالية النص وحركة أبعاضه وهي تتململ للى بياض الورقة‪ ،‬قالشالرية اليو هي اليت‬
‫أصبحت أكثر جماء يف التعامل مع الصورة إشهارية كانت أ سياسية أ سينمائية‪ ،‬قدد قال‬
‫"بيكاسو" ذات يو «إن التصوير هو شعر مكتوب في أبيات بإيقاعات تشكيلية‪،)1("..‬‬
‫كما قال "ليوناردو داقنشي"‪« :‬التصوير هو الشعر الذي يرى وال يسمع‪ ،‬والشعر هو‬
‫التصوير الذي يسمع وال يرى"(‪ ،)2‬قإذن بدليل من الكلمات املتنولة الدالالت واملنتداة بدقة‬
‫قناصة سديد قد متكن الدارئ من حاجياته التذوقية اجلمالية والوجدانية والوجودية‪.‬‬

‫‪(1) Painting and Poetry: Form, Metaphor, and the Language of Literature-Par Franklin‬‬
‫(‪R. Rogers, Mary Ann Rogers, by associated university presses, 1985. p65 (Adapted‬‬
‫(‪ )2‬ليوناردو داقنشي‪ :‬نظرية التصوير‪ ،‬تر‪ :‬لادل السيوي‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪. 33‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -2‬ال ـ ـجـمـ ـ ـ ـال‪:‬‬

‫أ) المفهوم اللغوي‪:‬‬


‫اجلمال مصدر اجلميل‪ ،‬والفعل مجُل‪ ،‬قال إبن سيده‪« :‬الجمال الحسن يكون في‬
‫ين تَ ْس َرحو َن﴾(‪.)2‬‬
‫ين تريحو َن َوح َ‬
‫(‪)1‬‬
‫الفعل والخلق» ‪ ،‬يدول تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَك ْم ف َيها َج َمال ح َ‬
‫وجاء يف الصحاح‪ :‬مجله‪ :‬زينه‪ ،‬ويفرق أبو همال العسكري بني كلميت احلُسن واجلمال‪ ،‬قيدول‪:‬‬
‫«والح ْسن في األصل للصورة‪ ،‬ثم استعمل في األفعال واألخالق‪ ،‬والجمال في األصل‬
‫لألفعال واألخالق واألحوال الظاهرة ثم استعمل في الصور»(‪.)3‬‬
‫كما جاء يف املندد يف اللغة واعألما مجُل مجاالا‪ ،‬ح ُسن خل ادا قهو مجيل وهي مجيلة‪،‬‬
‫واجلمال هو احلُ ْسن‪ ،‬واجلمالية‪ :‬للم اجلمال(‪.)4‬‬
‫جاء يف املعدم الوسيط‪ ،‬اجلمال لند الفماسفة صفة تُلحظ يف اعأشياء‪ ،‬وتبعث يف‬
‫باب من أبواب الفلسفة يبحث يف اجلمال ومداييسه‬
‫وسرورا‪ ،‬وللم اجلمال ٌ‬
‫ا‬ ‫رضا‬
‫النفس ا‬
‫ونظرياته(‪.)5‬‬
‫أما يف قاموس الرتاث اعأمريكي قداء اجلمال "‪ "Beauty‬مبعىن احلُ ْسن أو اجلودة يف‬
‫إحساسا باملتعة والسرور وحتدث انفعاالا يف املشالر واعأحاسيس‪،‬‬
‫ا‬ ‫الشيء اليت تُعطي العدل‬

‫(‪ )1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.684‬‬


‫(‪ )2‬الدرآن الكرمي‪ ،‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.06‬‬
‫(‪ ) 3‬أبو همال العسكري‪ :‬الفروق اللغوية ‪ ،‬تح‪ :‬حممد إبراهيم سليم‪ ،‬دار العلم والثداقة للنشر والتوزيع‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‬
‫مصر ص‪157‬‬
‫(‪ )4‬املندد يف اللغة واعألما ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.102‬‬
‫(‪ )5‬جممع اللغة العربية‪ :‬املعدم الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ممتزجا لادة مع خصائص معينة مثل تناغم اعأشكال‪ ،‬واعألوان‪،‬‬


‫ويرتبط هذا اجلمال ويكون ا‬
‫والتميز الفين الصادق واعأصيل(‪.)1‬‬
‫أما يف قاموس "كولينز" للغة اإلجنليزية قدد جاء يف تعريف اجلمال "‪ "Beauty‬بأنه‬
‫ذلك املزيج من كل الصفات واملميزات لشخص ما أو لشيء ما مما يؤجج اعأحاسيس واملشالر‬
‫ويعطي العدل متعة خاصة(‪.)2‬‬
‫إذن قاجلمال حديدةٌ أ ْو لهُ حديدةٌ وهذه احلديدة تظهر من خمال موجود تكون صفة‬
‫أيضا قد يكون إنساناا تتداخل يف تركيبته‬
‫له‪ ،‬قد يكون هذا املوجود شيئاا وقد يكون قعماا و ا‬
‫الفيزيولوجية والنفسية مظاهر اجلمال املتعددة‪ ،‬وللى هذا لن خيتلف املشاهدون للى وجود‬
‫تبعا لشعورهم للى درجة ذلك اجلمال‪ ،‬قيكون‬
‫اجلمال يف أمر مجيل وإ ْن كانوا قد خيتلفون ا‬
‫استشعاره وقوة تأثريه لدى إنسان أكرب منها لدى إنسان آخر‪ ،‬قإذن لطاملا كان اإلنسان كائناا‬
‫مجالياا بطبعه قمنذ وجوده لديه منتوج مجايل (تصاوير‪ ،‬آالت موسيدية‪ ،‬أشعار‪ ،‬رسم‪ ...‬اخل)‬
‫مبعىن أن لديه الددرة للى إنتاج كل ما هو مجيل بل والتفالل معه‪.‬‬
‫واجلمال الفين هو أحد الطرق اليت اخرتلها اإلنسان يف طريده حنو السعادة‪ ،‬وهنا يدول‬
‫"شيلر"‪« :‬ال شيء غير الجمال بقادر على أن يجعل العالم بأسره سعيدا»(‪ ،)3‬ولعل هذا‬
‫الطرح هو ما يُفسر وجود آثار مجالية تعود إىل العصور البدائية إلنسان الكهوف‪.‬‬
‫واملماحظ للتعريفات السابدة ملا يتصل باجلمال سيلحظ من دون شك التداءها يف‬
‫نداط مشرتكة لديدة ملفهو اجلمال اللغوي والديم اعأساسية اليت يبىن لليها مفهو اجلمال‪ ،‬من‬

‫( ‪(1) The American heritage Dictionary of English language, op.cit, P 54. (Adapted‬‬
‫‪(2) Collins English Dictionary complete and Unabridged , Harper Collins publishers,‬‬
‫(‪2000, P 34. (Adapted‬‬
‫(‪ )3‬قريدريك شيلر‪ :‬يف الرتبية اجلمالية‪ ،‬تر‪ :‬وقاء حممد إبراهيم‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ط‪ ،1‬مصر‪ ،1991 ،‬ص‬
‫‪.295‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫حيث هو البالث والدادر للى تأجيج نري العواطف وبث نوع من اللذة العصبية داخل لدل‬
‫اإلنسان‪ ،‬وجتاوبه الماإرادي لندما يدع بصره إىل أو للى ما يبعث البهدة داخل النفس‬
‫اإلنسانية ولكن البصر وحده ليست له حصرية ندل اجلمال إىل ملكة احلس و الذوق‪ ،‬السمع‬
‫أيضا له ما له يف هذا اعأمر‪ ،‬وإال قلن ميكن أن حنس أو نتذوق مجال املوسيدى واعأشعار اليت‬
‫ا‬
‫تندلها الدناة السمعية إىل سريرة اإلنسان وجتعله يتوهج إلداباا وسعادة وطمأنينة نفسية‪.‬‬
‫هذا هو إذن اجلمال وبتعريفاته املختلفة اليت تُفضي معظمها إىل ولاء واحد وهو بث‬
‫السعادة يف النفس اإلنسانية‪ ،‬وياهلا من وظيفة يُعىن هبا اجلمال طاملا كان اإلنسان أسهل لتدبل‬
‫مظاهر احلزن والتوتر واخلوف‪ ،‬قالسعادة وحدها تدف مواجهة هلذا الثماثي الذي طاملا هيمن‬
‫للى سيكولوجية اإلنسان منذ اعأزل‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ب) المفهوم المعرفي‪:‬‬


‫بالرغم من قِد الدراسات اليت اهتمت مبوضوع اجلمال‪ ،‬قإن هذا املوضوع ظل مدار‬
‫تباين واختماف يف الفهم بني الدارسني للى مستوى إدراكه وتدديره‪ ،‬ولعل ذلك يرجع إىل‬
‫شبكة معددة من العماقات تتداخل يف مضمارها الذاتية واملوضولية‪،‬املادية واملعنوية‪،‬احلسية‬
‫واجملردة‪،‬كما يرجع أيضا لكونه يرتبط للى الصعيد اإلدراكي بآليات بشرية غامضة من الصعوبة‬
‫مبكان رصد كيفية اشتغاهلا‪ ،‬وقد وقف املنظرون والدارسون إزاء مواقف صختلفة من موضوع‬
‫اجلمال ومتسائلني لن حديدته‪ ،‬من حيث هو ُمعطى موضولي ليين وقائم خارج الذات‬
‫املدركة‪ ،‬أ يتوقف وجوده للى اإلدرا ك؟ أ ال هذا وال ذا ك‪ ،‬ولكنه حديدة موضولية‪ ،‬يعد‬
‫نولا من اجلمال‪.‬‬
‫إدراكها ا‬
‫ولذا تظل مسألة تعريف اجلمال من املسائل الشائكة لرب العصور قاالختماف لدى‬
‫جل من لرف اجلمال ولرقه يرجع إىل اختماف طريدة التفكري وقلسفة احلياة‪ ،‬قلو نظرنا إىل‬
‫ِّ‬
‫صاحب نظرية املثل الفيلسوف اإلغريدي "أقماطون" لوجدنا أن اجلمال لنده مرادف للصماح‬
‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫أو هو الصماح للى وجه الدقة‪ ،‬كما يعين به الفضيلة وما يرتبط هبا ‪ ،‬وأن الفنون لنده هي‬
‫كلها حماكاة يف غالبها عأهنا حتاكي الطبيعة اليت هي بدورها ‪-‬الطبيعة‪ -‬حماكاة لعامل ممثل‪،‬‬
‫وبالتايل قإن الفنون هي حماكاة احملاكاة ومن هنا يُرى الفنان حياكي يف الطبيعة‪ ،‬قالطبيعة هي‬
‫حماكاة لعامل املثل وهي ُمثل لُليا غري حمسوسة‪.‬‬
‫ُ‬
‫قأقماطون يف حماوارته للى لسان أستاذه "سدراط" يرى أن الشيء ال يكون مجيماا إال‬
‫مبددار مساهته يف اجلمال املطلق(‪ )2‬الذي هو الصماح والفضيلة كما يراه‪ ،‬لكن برؤية متوازنة‬

‫(‪ )1‬روز غريب‪ :‬الندد اجلمايل وأثره يف الندد الغريب‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪ ، 1983 ،‬ص ‪.30‬‬
‫(‪ )2‬حماورات أقماطون‪ :‬تح‪:‬زكي جنيب حممود‪ ،‬مكتبة اعأسرة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬مجهورية مصر العربية‪ ، 2001 ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫للدمال ومع تسليمنا بالديمة اجلمالية وأن اعأشياء تكون مجيلة سوى باجلمال املطلق "الصماح‬
‫نولا من التعسف هلذه الديمة‬
‫والفضيلة" أال يُعترب الركون هلذه النظرة الضيدة واحلصرية للدمال ا‬
‫الربانية واإلنسانية للى السواء‪.‬‬
‫تشددا‪،‬‬
‫ا‬ ‫وللى لكس النظرة اعأقماطونية املتشددة للدمال كانت نظرة "أرسطو" أقل‬
‫وذهب اللتبار أن الواقع هو جتسيد للمثال قالفن ليس إما حبسب االحتمال أو احملاكاة للواقع‬
‫وإمنا ملا جيب أن يكون لليه الواقع‪ ،‬وبالتايل صاغ نظرية اإلمكان حبسب الضرورة وأن اجلميل‬
‫سواء أكان حياا أ شيئاا مكوناا من أجزاء ينطوي بالضرورة للى نظا يدو بني أجزائه(‪.)1‬‬
‫متاما‬
‫أما الفيلسوف الروماين "أقلوطني ”‪ ) 270-205( “Plotinus‬قرأى رؤية مغايرة ا‬
‫ملفهو اجلمال ولاكس هبا سابديه اإلغريق‪ ،‬حيث اقرتن اجلمال لنده مبا يشعه يف النفس من‬
‫بعيدا لن ثنائية الصماح والفضيلة اليت اقرتن هبا‬
‫خالصا ا‬
‫ا‬ ‫سرور وابتهاج‪ ،‬وحنا به منحى مادياا‬
‫اجلمال اعأقماطوين‪.‬‬
‫إن هذه النظرية الفلسفية للدمال من طرف أساطني الفلسفة اإلغريدية ونظريهتا‬
‫أساسا للى قكرة حتديق صفات التماثل واالئتماف‪ ،‬قكان أن حدث تواقق أو‬
‫الرومانية قائمة ا‬
‫لداء بني تصوراهتم امليتاقيزيدية وختيماهتم االستاطيدية (اجلمالية)‪ ،‬قأصبحت تطبيداهتم يف جمايل‬
‫واجلمال والفن هي اجلانب االستاطيدي إلشكالية البحث لن "الوحدة يف امليتاقيزيديا" واليت‬
‫سعى إليها الفماسفة لندما قسروا مسألة الكثرة والتعدد‪.‬‬

‫(‪ )1‬أمحد حممود خليل‪ :‬يف الندد اجلمايل‪ ،‬رؤية الشعر اجلاهلي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪ ، 1996 ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫بديت التعاريف تتضارب للى مر العصور حماولة للوصول لتعريف جامع للدمال‪،‬‬
‫ولكن اعأمر صعب اإلجناز مادا اجلمال ينبين للى الذوق مثلما يدول "كانط" «أن ال حقيقة‬
‫موضوعية للجمال مادام معياره الذوق»(‪.)1‬‬
‫ال خيتلف اثنان أن لكل حضارة إنسانية مميزاهتا املعرقية ورؤاها املختلفة لألشياء‪،‬‬
‫وبالنسبة للدمال ومبا أنه قيمة إنسانية مشرتكة وحىت إهلية تشاركها اهلل مع من خلدهم من‬
‫البشر‪ ،‬قمن هنا كانت للمسلمني نظرهتم اخلاصة هلذا املوضوع وقد مارس اجلمال يف ظل‬
‫ملموسا سواء للى اجلانب اإلمياين العدائدي أو للى اجلانب النفسي أو‬
‫ا‬ ‫دورا‬
‫العديدة اإلسمامية ا‬
‫حىت يف اعأحكا الفدهية‪ ،‬ليظهر له مسات مميزة يف ظل املنهج اإلسمامي لعل أهها الطهارة‬
‫والنداء والصماح وهو ما جيعله يرتبط ولو جزئياا بذلك املفهو اعأقماطوين للدمال خاصة ما‬
‫تعلق بالصماح وقوا النفس‪ ،‬ويدل وجود اهتما اإلسما وتابعيه بدضية اجلمال للى وهم‬
‫زورا بالشرائع السماوية‪ ،‬من طرف بعض المادينيني‬ ‫ِ‬
‫قضية الصراع بني الدين واجلمال اليت لُفدت ا‬
‫دائما موق افا لدائياا للدين من املتعة‪.‬‬
‫حىت يُظهروا ا‬
‫ولعل نظرة الفماسفة املسلمني للدمال تلتدي مع نظرة الفيلسوف اإلغريدي "هرياقليط"‬
‫الذي جعل من اإلله هو املثال اعأللى للدمال ومنتهاه اعأبدي‪ ،‬و يف هذا نذكر حديثاا للرسول‬
‫"حممد لليه الصماة والسما " لن اجلمال لندما قال‪« :‬إ ّن اهلل جميل يحب الجمال‪ ،‬ويحب‬
‫أن يرى أثر نعمته على عبده‪ ،‬ويبغض البؤس والتباؤس»(‪ )2‬رواه أمحد وصححه اعألباين‪.‬‬

‫(‪ )1‬لبد اهلل الطيب‪ :‬املرشد لفهم أشعار العرب وصنالتها‪ ،‬ج‪ ،2‬دار الفكر العريب‪ ،‬بريوت‪ ، 1970 ،‬ص ‪.485‬‬
‫(‪ ) 2‬حممد بن لبد اهلل التربيزي‪ :‬مشكاة املصابيح‪ ،‬تح‪ :‬ناصر الدين اعألباين‪ ،‬املكتب اإلسمامي‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪ ،3‬بريوت‪،‬‬
‫‪ ، 1985‬ص ‪.494‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫وباالنتدال إىل حماولة معرقة مفهو إسمامي للدمال؛ أي تعريف اصطماحي قسندد‬
‫أنفسنا إزاء معِني ال ينضب من التعاريف هبذا اخلصوص ولعل أحد أهم هذه املفهومات املعرقية‬
‫مفهو العمامة "الدرطيب" لفكرة اجلمال إذ يدول‪« :‬الجمال يكون في الصورة وتركيب‬
‫فأما جمال الخلقة‪ :‬فهو أمر‬
‫الخلقة‪ ،‬ويكون في األخالق الباطنية ويكون في األفعال‪ّ ،‬‬
‫يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متالئما‪ ،‬فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك وال‬
‫وأما جمال األخالق‪ ،‬فكونها على الصفات المحمودة‪ ،‬من العلم‬
‫نسبته ألحد من البشر‪ّ ،‬‬
‫وأما جمال األفعال‪ :‬فهو وجودها‬
‫والحكمة‪ ،‬وكظم الغيظ‪ ،‬وإرادة الخير لكل واحد‪ّ ،‬‬
‫الخلق‪ ،‬وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم»(‪ .)1‬أما شيخ‬
‫مالئمة لمصالح َ‬
‫الفماسفة املسلمني "أبو حامد الغزايل" قدد أوجد نولني للدمال‪ ،‬اجلمال الظاهر وهو الذي‬
‫تُ ْعىن به احلواس‪ ،‬واجلمال الباطن وهو من شأن البصرية اليت يعترب أن من ُح ِرمها قدد ُح ِر التلذذ‬
‫باجلمال احلديدي‪.‬‬
‫أما "أبو حيان التوحيدي" قدد جعل من الطبيعة الرالي اعأول واحلصري للدمال‬
‫بالتبارها املعلم اعأول لإلنسان‪ ،‬أما لند املتصوقة بالتبارهم اهلائمون حبب اهلل قدد جعلوا من‬
‫ُ‬
‫انعكاسا للدمال اإلهلي وقكرهتم اعأساسية هلذا املفهو ‪ ،‬هو أن اإلنسان‬
‫ا‬ ‫اجلمال يف هذا العامل‬
‫يستطيع أن يتحد روحياا لن طريق الوجد واحلياة املتدشفة والتنسك والعبادة اخلالصة وتندية‬
‫الروح واجلسد من مجيع الرغبات والشهوات الدنيوية‪ ،‬هبذا قدط ميكن أن يصل اإلنسان إلدرا ك‬
‫ُك ِنه اجلمال وتلمس مآثره للى حياته‪ ،‬وللى ذكر اجلمال اإلهلي يدول "ابن الديم"‪...« :‬‬

‫(‪ )1‬الدرطيب‪ :‬اجلامع عأحكا الدرآن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪1413 ،‬ه ‪ ، 1993-‬ص ‪.48-47‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫وجماله سبحانه وتعالى على أربعة مراتب‪ ،‬جمال الذات وجمال الصفات وجمال األفعال‬
‫وجمال األسماء ‪.)1(»...‬‬
‫مل يكن تذوق أو معرقة اجلمال بالشيء املبهم أو الغريب بالنسبة لعرب اجلاهلية أو ما‬
‫معكوسا للى اعأشياء املادية‬
‫ا‬ ‫بعد اإلسما ‪ ،‬حيث إن تددير العرب قبل اإلسما للدمال كان‬
‫مدتصرا للى‬
‫ا‬ ‫حاضرا إال أنه كان‬
‫ا‬ ‫احلسية مثل مجال املرأة والبعري والفرس واعأطمال‪ ،‬قكان اجلمال‬
‫ردود الفعل واملشالر العاطفية املباشرة من حب وشوق وحنني ولولة‪ ،‬وغداة جميء اإلسما كان‬
‫االهتما جبمال النفس واخلُلق واخلِلدة‪ ،‬قدد حث اإلسما أتباله للى النظاقة والطهارة‬
‫واالهتما مبظهرهم وزينتهم‪ ،‬ناهيك للى أن الفنان يف العصر اإلسمامي يديم قنه للى الوحي‬
‫بعيدا لن مداييس الشكل اإلنساين وحدودها‪ ،‬عأن الفكر اإلسمامي‬
‫أو احلدس ويديم اعأشكال ا‬
‫قا بتمديد املثل اعأللى الذي هو اهلل وليس للى متديد اعأنا‪ ،‬ولدد متثل هذا يف آيات الدرآن‬
‫الكرمي لند توسيع الفرق بني اإلنسان الرتايب اعأصل وبني اهلل اخلالق املصور وهو احلق املطلق‬
‫الذي حييط املأل اعأللى‪.‬‬
‫وهكذا ميكننا الدول إن الفماسفة املسلمني كان هلم بصمة متميزة يف مفهومية اجلمال‬
‫وتعددت املفاهيم بتعدد الرؤى والنظرات املختلفة لألشياء واحلياة بصفة لامة ولعل من املفاهيم‬
‫مهما يف صدل النظرية اجلمالية لندهم هو مفهو التناسق أو التناسق الكوين‪،‬‬
‫دورا ا‬
‫اليت لعبت ا‬

‫(‪ )1‬ابن الديم اجلوزيه‪ :‬بدائع الفوائد‪ ،‬دار الرتاث‪ ،‬الداهرة‪ ،‬ط‪ ، 1973 ،2‬ص ‪.182-181‬‬
‫وخصوصا لند إخوان الصفا‪،‬‬
‫ا‬ ‫* التناسق الكوني‪ :‬هو مفهو ظهر لند الفيثاغورثيني وتر ك ا‬
‫تأثريا لدى الفماسفة املسلمني‬
‫وجوهر معناه أن اجلمال هو االنسدا املتأتى من خمال وحدة جتمع التنوع واالختماف داخلها يف كل منسدم‪.‬‬
‫ُ‬
‫** إخوان الصفا ‪ :‬يدول لنهم ابن تيمية بأهنم مجالة يف دولة بين بويه ببغداد وكانوا من الصابئة املتفلسفة املتحنفة‪ ،‬قهم‬
‫مجالة من املفكرين لاشت بالبصرة يف الدرن ‪ 10‬ميمادي‪ ،‬ذات نزلة قلسفية سياسية وميول شيعية‪ ،‬كانت غايتهم إسعاد‬
‫النفس وصاغوا مذهباا زلموا بأنه وقق بني الدين اإلسمامي والفلسفة اليونانية = ينظر املوسولة امليسرة يف اعأديان‬
‫واملذاهب واعأحزاب املعاصر‪ ،‬ص ‪.950‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫قدد لدي مفهو التناسق الكوين والذي ظهر منبته أول مرة لند الفيثاغورثيني الرتحاب الذي‬
‫وخصوصا لند إخوان الصفا**‪ ،‬الذين طوروا مفهو التناسق‬
‫ا‬ ‫يليق به لند الفماسفة املسلمني‬
‫أيضا من‬
‫بشكل يتفق مع حبثهم خبصوص نظريات املوسيدى‪ ،‬كما استفاد الفماسفة املسلمون ا‬
‫آراء أقماطون املثالية الذي يرى خصوصية جلمال وجتعله من مكونات الشيء اجلميل أي أن له‬
‫يف نفسه قيمة ذاتية‪ ،‬وكذلك من أرسطو الذي يرى بأن اجلمال هو االنسدا احلاصل من‬
‫خمال وحدة جتمع يف داخلها التنوع واالختماف يف كل منسدم‪ ،‬قالنظرة التواقدية إذن بني‬
‫مجهرة الفماسفة تكمن يف أن اجلمال يكمن يف الشيء اجلميل وهو الذي يُشع باحلياة‪.‬‬
‫كل‬
‫ومن هنا بدي اجلمال للى مر التاريخ موضع جتاذب بني الفماسفة وأهل الفكر ٌ‬
‫يديل بدلوه‪ ،‬وبالوصول إىل العصور الوسطى والعصر احلديث وظهور تيارات قكرية زامخة يف‬
‫الشرق والغرب‪ ،‬قكان اجلمال من املواضيع اليت حظيت بنصيب واقر من التداول واعأطاريح‬
‫الفكرية جاللة منه ميدانا خصبا للمبارزات الفكرية والفلسفية بني أهل العلم‪.‬‬
‫لعل من برز من الفماسفة الغربيني الذين تناولوا هذا املفهو اجلمايل بالطرح والتحليل‬
‫وصوالا إىل التنظري جند الفيلسوف "اميانويل كانط" صاحب املصنف الشهري "ندد ملكة احلكم"‬
‫يدول كانط يف مفهو اجلمال‪« :‬هو ما يرضي الجميع بدون سابق تصميم أو قاعدة يقاس‬
‫عليها‪ ،‬وهو شكل غائية الشيء بدون أن تتمثل فيه غاية ما‪ ،‬وهو وسيلة االتفاق بين‬
‫العقل والحس‪ ،‬أو بين الخيال واإلدراك اتفاقا حرا ذاتيا كأنما العقل يجد في الجميل‬
‫ضالته المنشودة دون أن تكون فيه صورة لماهية الجمال‪ ،‬والجميل كونه محسوسا يمثل‬
‫للعقل صورة اكتمال لصورة مثالية تمأل فراغه وعطشه إلى صور الكمال والنهاية‬

‫‪- 30 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫الالمحسوسة‪ ،)1(»...‬ومن هنا قكانط لديه رؤية ذاتية ملفهو اجلمال وحنى به منحى مغاير‬
‫جدا داخل ذوقية اإلنسان للدمال وصنف‬
‫متاما ملا ورد يف قلسفة أسماقه اإلغريق وتعمق ا‬
‫ا‬
‫مستندا يف ذلك إىل حديدة راسخة آمن هبا كانط‬
‫ا‬ ‫اجلمال بأنه وسيلة اتفاق بني العدل واحلس‪،‬‬
‫وهي أن لإلنسان غاية بذاته وأن الذات ال تنظر لألشياء للى أساس معياري إمنا تدديري‪،‬‬
‫‪ «Paul‬يف حديثه لن موضوع تددير اجلمال وذلك يف كتابه‬ ‫»‪Guyer‬‬ ‫ويدول بول غاير‬
‫"كانط ومتطلبات التذوق"‪:‬‬
‫‪« The‬‬ ‫‪view that all matter’s for aesthetic appreciation is the abstract formal‬‬

‫‪pattern manifested by the object, that is the way in which the element are‬‬
‫(‪)2‬‬
‫»‪interrelated in space and/or time‬‬ ‫‪.‬‬

‫وبالرتمجة التدريبية يدول "بول غاير" أن الرؤية أو النظرة الدائلة بأن كل ما يهم عأجل‬
‫التددير اجلمايل‪ ،‬هو وجود منط رمسي جمرد يتدلى يف الكائن سواء كانت طبيعته إنسانية أو جمرد‬
‫شكل من أشكال الطبيعة املوجبة هبذا اجلمال‪ ،‬قهو يعترب بأن هذه الطريدة هي اعأمثل لربط‬
‫اعأشياء بعضها ببعض داخل الفضاء والوقت أو الوقت حسب تعبريه‪ ،‬لعل هذا الرأي ل"بول‬
‫غاير" هو السبيل لنظرة متحيصية لميدة تسلط الضوء للى ما أراد كانط أن يوحيه بفكرته لن‬
‫التددير اجلمايل وربطه بالذات دون دخل أو تدخل للمصدر أو منبع اجلمال‪.‬‬

‫متاما لن املوضولية قمثماا‬


‫مل يكن كانط الوحيد الذي رأى بذاتية املُعطى اجلمايل وبُعده ا‬
‫"جان كوهن" يعترب أن اجلمال ليس معطى موضولياا البتة أو مستدماا لن الذات املدركة‪ ،‬ولكنه‬

‫(‪ )1‬روز غريب‪ :‬الندد اجلمايل وأثره يف الندد الغريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪(2) Paul Guyer : Kant and the claimes of taste : Cambridge, mass, Harvard university‬‬
‫‪press, 1979 P 25.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يكمن يف الشعور‪ ،‬أو يف قدرته للى إيداظ الشعور باجلمال‪ ،‬ذلك أن ال قيمة لنده عأي شكل‬
‫إال يف اإلحساس به(‪.)1‬‬
‫وهبذا يصل بنا كانط إىل تعريف جامع للدمال مفاده‪« :‬أ ّن الجمال شيء يعجب‬
‫المرء ليس من خالل االنطباع أو الفكرة‪ ،‬بل بأسلوب ال نفعي ووفق الضرورة الذاتية‬
‫وبأسلوب عام»(‪ ،)2‬ومن هنا قدد قصرت وجهة نظر كانط اجلمال للى اجلانب الشعوري‬
‫اهتماما قيه لكوهنا معطيات طبيعية ال دخل‬
‫ا‬ ‫لإلنسان ومل تعر للموضولية أو اجلوانب املادية‬
‫لإلنسان والفن قيها‪ ،‬غري أن هذه النظرة ظلت حمل جتاذب وأسئلة تطرح من طرف املهتمني‬
‫وأصحاب الفكر حيث قالوا بأن قكرة الذاتية أو الشعورية ملفهومية اجلمال ال ميكنها أن حتيط‬
‫هبذا اعأخري‪ ،‬لكون مدركات الفرد ختضع لرتسانة من العوامل الفيزيولوجية‪ ،‬السيكولوجية‬
‫والرتبوية‪.‬‬
‫ميكن االستنتاج بأن مسألة الوجود املوضولي ال تفيد يف تكوين احلكم اجلمايل‪ ،‬بل ما‬
‫جيب أن يُعىن به هو التصور املرتبط باملتعة أو الكدر وما ميكن أن حيدثه الشيء من إثارة‬
‫أيضا‪ ،‬قنحن ال نسعى من‬
‫اعأحاسيس وهنا ينتفي املوقف التعريف كما ينتفي املوقف اعأخماقي ا‬
‫خمال هذا اإلدرا ك إىل حتديق هدف لملي وال نتساءل هل أن هذا الشيء حس ٌن أو ناقع‪،‬‬
‫ناهيك لن أننا ال نربط بفعل اإلرادة اليت هي نفعية‪ ،‬قليس لوجود الرغبة يف امتما ك الشيء‬
‫لماقة باملوقف اجلمايل بل التأمل ِ‬
‫الص ْرف والسبب هو املشالر املتعلدة هبذا التأمل‪.‬‬

‫(‪ )1‬جان كوهن‪ :‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬تر‪:‬حممد الويل وحممد العمري‪ ،‬سلسلة املعرقة اعأدبية‪ ،‬دار توبدال للنسر‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ، 1986‬ص ‪.19‬‬
‫(‪ )2‬كانط اميانويل‪ :‬ندد العدل احملض‪ ،‬تر‪:‬موسى وهبة‪ ،‬مركز اإلمناء الدومي‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت ‪ ، 1988‬ص ‪.63‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫من اجلدير بالذكر أن كانط يفرتض أن كل شخص قادر للى الوصول إىل نفس احلكم‬
‫اجلمايل يف النهاية‪ ،‬وأن اجلميل مجيل لاملياا بالضرورة وأن هذا االختماف الذي نشاهده واقعياا‬
‫يف اعأذواق يرجع إىل لد حتديق صفاء احلكم اجلمايل بالضرورة‪ ،‬إذ أنه ‪-‬كاحلكم اعأخماقي‬
‫متاما‪ -‬ميكن أن يفسر باعأقكار املسبدة والذوق السائد واعأهواء الشخصية‪ ،‬وغريها من العوامل‬
‫ا‬
‫املؤثرة اليت حتد من حرية التبادل بني ملكيت التخيل التمثيلي والفهم‪ ،‬وتركيز كانط للى هذا‬
‫املعطى نابع من كون اجلمال هو الشيء الوحيد الدادر للى ندل النظا اعأخماقي من املستوى‬
‫ُ‬
‫الصرف إىل املستوى احلسي التمثلي‪.‬‬
‫العدلي ِّ‬
‫كما أنه ‪-‬كانط‪ -‬يشدد للى أن من املستحيل اختيار أيدونات مجالية تتخذ رمزا‬
‫للدمال اعأمسى‪ ،‬ويرجع ذلك إىل طبيعة استشعار اجلمال الذي يعتمد للى حدوث هذا‬
‫التمالب والتبادل احلر بني ملكيت التخيل والفهم‪ ،‬قلذلك لندما يعمد اإلنسان إىل احلديث‬
‫لن أيدونات ورموز مجالية قإنه يدو بذلك بسبب طبيعة لدله الذي مييل إىل وضع أيدونات أو‬
‫مناذج مجالية سامية‪ ،‬إال باإللتماد للى جسم اإلنسان عأن نظامه اعأخماقي الداخلي هو‬
‫الوحيد الذي حيمل يف ثناياه قيمة سامية ومطلدة‪.‬‬
‫‪Kant Aesthetic‬‬ ‫اعأمر اعأخري الذي يشري إليه كانط من خمال نظريته اجلمالية "‬
‫‪ "Theory‬يتمثل يف أن الندطة اليت تربط الفن واجلمال واعأخماق‪ ،‬هو هذا التوازي الواضح بني‬
‫استشعار اجلمال وبني الوصول إىل اجلانب اعأخماقي‪ ،‬قاإلثنان يعتمدان للى مفهومي العاملية‬
‫"‪ "Universality‬والتلدائية الذاتية "‪ "Autonomy‬قلِكي يكون الشيء مجيماا جيب أن يشعر ك‬
‫باملتعة إىل درجة أنك تفرتض أنه سيُلحق نفس اإلحساس باآلخرين‪ ،‬كما أن الوصول إىل‬
‫الواجب اعأخماقي يعتمد للى العاملية كذلك إذ يشرتط ببالثك لكي يكون أخماقياا أن يكون‬

‫‪- 33 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫تعارضا أو اختماقاا‪ ،‬كما يعتمد للى التلدائية الذاتية‬


‫ا‬ ‫قابماا للتعميم للى كل البشر دون أن خيلق‬
‫هذا التذوق اجلمايل وهي احساسك اخلاص باملتعة كشرط أساسي لتحدق اجلمال‪.‬‬
‫وخيلص كانط بتصور معني يتبني من خماله أن النشاط اجلمايل هو نوع من اللعب احلر‬
‫للخيال العبدري يتموضع يف ندطة التداء بني اإلحساس والعدل‪ ،‬قحركية اخليال تدو بالتخطيط‬
‫دون أي تصور أو مفهو لدلي حمدد‪ ،‬أما حكم الذوق قإنه يتكئ للى ذلك اإلحساس بوجود‬
‫نشاط تباديل بني اخليال يف حركته احلرة والفهم يف الصياغة أو خضوله للدوانني(‪.)1‬‬
‫وبذا قدد أثبت كانط مبشروله للى أن احلكم اجلمايل هو حكم ذايت متأمل‪ ،‬قابل عأن‬
‫يتغري من ذات عأخرى ليعارض بذلك احلكم املنطدي الذي يدو للى مفاهيم غري متغرية‪ ،‬إنه‬
‫املعيار الوحيد للدمال لند كانط بشرط االنتباه؛ أي أن ما يروق ليس املادة احلسية بل الشكل‬
‫الذي تتخذه هذه املادة‪ ،‬ولعل أهم ما ترتب للى نظرية كانط اجلمالية هو أنه قد حدد‬
‫للدمال ميدانه اخلاص املستدل لن جمال املعرقة النظرية من جهة وجمال السلو ك اعأخماقي من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬كذلك تفرغت لن قلسفة كانط اجلمالية نزلة شكلية مرجعها أن اجلمال قد‬
‫حمدودا بشروط قبلية سابدة للى اخلربة ومرجعها الذات (الرتاسندنتالية) وترتب لن ذلك‬
‫أصبح ا‬
‫(‪)2‬‬
‫أن أصبح اجلمال متص افا بالكلية والضرورة‪...‬‬
‫ولدد ظل اجلمال مبفاهيته وتلوناته حمل جتاذبات بني قماسفة العامل الغريب واإلنسانية‬
‫كل يديل بدلوله يف حماولة إلنتاج مفهو ابستمولوجي قار للدمال ومايدور يف قلكه‬
‫لموما‪ٌ ،‬‬
‫ا‬
‫من مدركات وأحاسيس‪ ،‬قفلسفة اجلمال وخاصة يف العصور الوسطى ولصر التنوير بأوروبا‬

‫(‪ ) 1‬شاكر لبد احلميد‪ :‬التفضيل اجلمايل‪ ،‬دراسة يف سيكولوجية التذوق الفين‪ ،‬سلسلة لامل املعرقة‪ ،‬العدد ‪ ،267‬اجمللس‬
‫الوطين للثداقة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ، 2001 ،‬ص ‪.102‬‬
‫(‪ )2‬أمرية حلمي مطر‪ :‬مددمة يف للم اجلمال وقلسفة الفن‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،1‬مجهورية مصر العربية‪، 1989 ،‬‬
‫ص ‪.11‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أخذت طا ابعا إجرائياا معد ادا للى يد من اشتغل هبا من املفكرين والفماسفة‪ ،‬قصارت النظرة‬
‫العامة للدمال هي أن يأخذ اإلنسان للى لاتده السعي الكتشاف اجلمال من زاوية أوىل مث‬
‫عرب لن حسه اجلمايل وإبراز‬
‫قأخريا بأن يُ ِّ‬
‫معا‪ ،‬ا‬‫ثانياا باحلرص للى حتديق اعألمال اعأدبية والفنية ا‬
‫ملكته الذواقة بصورة أو بأخرى‪ ،‬وهبذا أخذ اجلمال شيئاا قشيئاا يكتسب صفة العلمية حيث‬
‫تفرلت أقسامه وجوانبه وظهرت قيه وله معايري وآليات إجرائية‪ ،‬قصار مرتادوا اجلمال‬
‫واملشتغلني يف ساحاته يهتمون أوالا بتحليل اللذة املصاحبة لإلحساس مبا هو مجيل وحيرصون‬
‫ثانياا للى حتليل الديمة والتدديرات الذوقية‪ ،‬مث ثالثاا بوضع نظرية لتحديد الشروط اليت من شأهنا‬
‫يصبح اجلميل مجيماا بناءاا للى توقرها يف املرئيات‪.‬‬
‫ومن هنا صار اجلمال هدقاا متدصياا للفن حيث ارتبط به ارتباطاا لضوياا إن مل ندل‬
‫وجودياا‪ ،‬طاملا كان الفن ينشد غاية الوصول إىل الديم املتواقدة أو املتآلفة اليت يتم استخماصها‬
‫من الكون والعامل اإلنساين بكل تناقضاته‪ ،‬لذلك أصبحت تصورات اإلنسان وأحكامه اخلاصة‬
‫حول اجلميل تؤخذ بعني اإللتبار يف كل لملية قنية أو إبدالية‪ ،‬قاملدرسة اإلمربيدية الربيطانية‬
‫‪)1776-1711( «David‬‬ ‫»‪Hume‬‬ ‫املمثلة يف شخص الفيلسوف العظيم "ديفيد هيو "‬
‫جعلت سلطان الذوق أو التذوق قوق كل سلطان بالنسبة ملسألة تدييم اعألمال الفنية‪ ،‬ومن‬
‫مثة تصبح التفضيمات اجلمالية مبنزلة التعبريات لن ذوق املتلدي أكثر من كوهنا إقادات لن‬
‫املوضوع الفين‪.‬‬
‫إن اختماف الرؤى واملشارب الفكرية يف موضوع اجلمال أقرز لنا أساطيناا كان هلا‬
‫الفضل يف توضيح ورسم املعامل الكربى هلذا املوضوع‪ ،‬والفيلسوف املفكر اجلليل "قريديك‬
‫هيدل" يصنف كأحد أكثر املنظرين احملدثني يف ما خيص اجلمال‪ ،‬حيث أن هذا الفيلسوف‬
‫العظيم دأب كما سابديه وخاصة كانط أن مييز العماقة اجلمالية باعأشياء ليس قدط لن العماقة‬

‫‪- 35 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫النظرية اليت تعرب لن ذاهتا بالعلم ‪-‬قاجلمال قد قصل لن احلديدة وشق طريده املستدل‪ -‬إمنا لن‬
‫‪«Friedrich‬‬ ‫العماقة العملية اعأخماقية ذات الغايات النفعية‪ ،‬قالفيلسوف "قريديك هيدل"‬
‫»‪ )1831-1770(Hegel‬يرى أن الفن خيتلف لن اإلهتما العملي ‪-‬اإلستعمايل‪ -‬يف أنه يرت ك‬
‫الشيء يوجد يف استدماله احلر بينما يهد االستعمال الشيء حني يُستخد للحصول منه للى‬
‫النفع(‪ ،)1‬ويرى "هيدل" أن اجلمال يف الفن راجع إىل احتاد الفكرة مبظهرها احلسي والنظر إىل‬
‫الفكرة ذاهتا يكون احلق‪ ،‬والنظر إىل مظهرها احلسي الشاخص يكون اجلمال‪ ،‬ونظرته العامة‬
‫للدمال هي الفكرة اليت تعرب لن الوحدة املباشرة بني الذات املوضوع‪ ،‬وأن هذا اجلمال ال‬
‫يتحدق يف أقصى درجاته إال يف اجلمال الفين عأنه ينبع من الروح أو اإلنسان‪ ،‬يف حني أن‬
‫اجلمال الطبيعي هو أول صورة من صور اجلمال عأنه ميثل الصورة اعأوىل اليت تتدلى قيها روح‬
‫الفكرة‪ ،‬قاجلمال لند "هيدل" ميدانه اإلدرا ك احلسي إدرا اكا ال يستلز أقيسة لامة جمردة‪،‬‬
‫قاجلمال قكرة لامة خالدة هلا وجود مستدل وتتدلى يف اعأشياء حسياا‪.‬‬
‫لدد التدد "هيدل" بوجود صريورة تارخيية ومنطدية يف الوقت نفسه للمطلق‪ ،‬للى الفن‬
‫أن ينخرط قيها‪ ،‬قلطاملا الترب "هيدل" اجلمال بأنه الظهور احملسوس للفكرة لذلك قإنه يطلب‬
‫جسدا هلا وهلذا قهو يرقض اجلمال الطبيعي‪ ،‬وبالتايل جتد الطبيعة نفسها‬
‫العمل الفين ليكون ا‬
‫مدصاة من مفاهيمية هيدل للدمال بعدما كانت لند "شيلنج" و"كانط" تتم لصاحل منظور‬
‫أساسا‪ ،‬وبذلك يعترب "دانيال شار" أن مجالية هيدل هي مجالية لفلسفة الفن أكثر من‬
‫تارخيي ا‬
‫كوهنا نظرية للدميل(‪ ،)2‬قموضوع اجلمال لند "هيدل" هو موضوع قلسفي تُشكل قلسفته‬
‫حلدة ضرورية يف جمموع الفلسفة‪ ،‬هلذا ال ميكن قهم موضوع اجلمال إال ضمن هذا النسق‬

‫(‪ )1‬جممولة من املؤلفني‪ :‬اجلمال يف تفسريه املاركسي‪ ،‬منشورات وزارة الثداقة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬دمشق‪ ، 1968 ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪2‬‬
‫‪( ) Daniel Charles: Esthétique: Encyclopeadia universsalis corpus7, Paris, 1996, P 296.‬‬
‫(‪(Adapted‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫املعريف الذي بفضله تتم معرقة العامل بالتباره كلية لضوية متطورة وكل تساؤل حول مفهو‬
‫اجلمال والفن هو تساؤل ال جواب له إال داخل نسق قلسفي شامل‪ ،‬عأن الفن يف رأيه شكل‬
‫من أشكال جتليات الروح(‪.)1‬‬
‫حضورا‬
‫ا‬ ‫وبالرجوع إىل مفهومية اجلمال الفين لند "هيدل" وهو املوضوع الذي جند له‬
‫متميزا يف نظريته العامة حول قكرة أو موضوع اجلمال‪ ،‬قهو ‪-‬هيدل‪ -‬يرى أن اجلمال الفين هو‬
‫ا‬
‫شيء ذو طبيعة قداسية قيعتربه مجاالا متو الدا لن الروح‪ ،‬اليت هي مبدأ احلياة ويف الفلسفة‬
‫بالتبارها احلديدة املفكرة والذات اليت تتصور اعأشياء يف مدابل املوضوع املتصوْر‪ ،‬ويدابل املادة‬
‫أيضا كما يدابل الطبيعة بكل شكلياهتا وجتلياهتا احملسوسة(‪.)2‬‬
‫وكما يدابل اجلسد حاويها و ا‬
‫قإذن مبا أن هذا اجلمال الفين هو مجال متولد لن الروح قهو ذو طبيعة إهلية حسب‬
‫دائما (اهلل هو الروح)‪ ،‬واجلمال أو الفن الذي يتولد من هذه الروح يستمد مادته من‬
‫"هيدل" ا‬
‫املوضولي إال أنه يدتطع املظهر اخلارجي الذي يرتاءى له كأنه واقع‪ ،‬ولكن ذلك ال يعين‬
‫ضيالا للذات (الروح)‪ ،‬لذلك يرى‬
‫ا‬ ‫بالضرورة اإلتكاء للى احلس ومرجعياته كوهنا تسبب‬
‫"هيدل" يف جتاوز حمدودية العامل احلسي وصوالا إىل احلدائق الكلية‪ ،‬من خمال جتسيد الذاتية‬
‫اليت تستغرق بتأملها يف صميم وجودها الذايت‪ ،‬واجلمال املطلق لنده حيتوي للى احلدس‬
‫(‪ )1938-1859‬لنه بأنه الدوة اليت‬ ‫»‪«Husserl‬‬ ‫"‪ "Intvition‬والذي كما يدول "هوسرل"‬
‫تُدر ك هبا ماهيات الظواهر(‪ ،)3‬وذلك عأنه واثق الصلة باحلديدة اإلهلية أو ولياا بالذات من‬
‫حيث هي مطلدة(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬حممد املعزوز‪ :‬للم اجلمال يف الفكر العريب الددمي‪ ،‬منشورات احتاد كتاب املغرب‪ ،‬ط‪ ،1‬الرباط‪ ، 2003 ،‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ )2‬جمدي وهبة‪ :‬معدم مصطلحات اعأدب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪ ، 1974 ،‬ص ‪.105‬‬
‫(‪ )3‬معن زيادة‪ :‬املوسولة الفلسفية العربية‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬اجمللد‪ ،1‬د‪.‬ط‪ ، 1986 ،‬ص ‪.359‬‬
‫(‪ )4‬إبراهيم زكريا‪ :‬هيدل واملثالية املطلدة‪ ،‬دار مصر للطبالة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ، 1970 ،‬ص ‪.395‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ولطاملا كان السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة هلذا الرأي اهليدلي حول اجلمال الفين‬
‫وإمكانية أن تكون احلديدة الروحية املطلدة اليت هي غاية الفن‪ ،‬بكوهنا اقتطاع أو إجتزاء حيز‬
‫واقعي رغم السطحية املدرونة باحلس واملدركات وذلك لندما تتم احملاولة بتلمس احلدائق‬
‫الروحية يف الطبيعة؟‪ ،‬قيديب هنا "هيدل" لن هذا اإلستفها بكون اجلمال هو اعأسلوب‬
‫الوحيد واحملدد للتعبري لن احلديدة وتددميها‪ ،‬وأن الفن ال يعكس الواقع بل الروح املطلدة لن‬
‫(‪)1‬‬
‫ومواقدة للحرية املتاحة يف الفعل اإلبدالي ودرجة حتديق الفكرة‬ ‫ذاهتا ومن مثة العثور لليها‬
‫أيضا من‬
‫املطلدة يف املندز الفين‪ ،‬قدد صنف "هيدل" منزلة كل من الفنون حسب حتررها ا‬
‫تعبريا‬
‫لاجزا لن التعبري الروحي ا‬
‫إلزامات املادة‪ ،‬قالترب قن العمارة أبعد الفنون لن اجلمال كونه ا‬
‫مطاب ادا بواسطة املادة الثديلة اليت تستخدمها كعنصر حسي مما يضطرها انطماقاا من الروح أن‬
‫تعد الروح يف وجوده العدلي واحلسي حميطاا خارجياا يؤدي وظيفة ما(‪ ،)2‬وعأن اجلمال الصادر‬
‫لن العمارة ال يتصل بالروح احلرة قدر ما يتصل بالوظائفية اليت هتبط باجلمال إىل مراتب دنيا‬
‫وبذلك ختد مباشرة الدصدية النفعية الغائية‪ ،‬وهو ما يتناقض وما يدلو إليه "هيدل" ونظريته‬
‫اجلمالية‪.‬‬
‫كما ينبغي معرقة أن "هيدل" ال يعترب أن كل متوضع حسي هو مجال‪ ،‬قاحلسي يف العمل‬
‫الفين أو اإلبداع اعأديب ال ميكنه بأي شكل أن حيفظ استدماله‪ ،‬ومن هنا قإنه لن يتأتى لنا‬
‫إدرا ك اجلمال أو لندل اجلميل إذا اقتصرنا للى احلسي قدط ضمن هذه املدركات‪ ،‬رمبا يرجع‬
‫يدا من جتريدات ملكة الفهم‬
‫ذلك وبصفة ألمق إىل أن اجلمال ال ميكن حبال أن يكون جتر ا‬
‫"‪ "Understanding‬اليت تعدز لن إدرا ك اجلمال‪ ،‬ويرجع ذلك إىل أن ملكة الفهم ال تستطيع‬

‫(‪)1‬لدنان املبار ك‪ :‬آراء هيدل اجلمالية‪ ،‬جملة أقاق لربية‪ ،‬العدد ‪ ،9‬السنة السادسة‪ ،‬بغداد‪ ، 1981 ،‬ص ‪.105‬‬
‫(‪ )2‬دنيس هويسمان‪ :‬للم اجلمال‪ ،‬تر‪ :‬حسن ظاقر‪ ،‬منشورات لويدات‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1980 ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪-‬بطبيعتها‪ -‬أن تتداوز الفهم إىل الوحدة بني الذات واملوضوع‪ ،‬املتناهي والمامتناهي‪ ،‬وذلك‬
‫وحر وبالتايل ال ميكن‬
‫عأهنا ‪-‬ملكة الفهم‪ -‬حمدودة بني املتناهي والعرضي بينما اجلمال المتناه ُ‬
‫أن تدركه‪ ،‬وكذلك يرى "هيدل" أن الغموض الذي يكشف قهمنا اجلميل يتأتى من كوننا ننظر‬
‫جمردا ومستدماا لن احلسي ولن الفكرة(‪.)1‬‬
‫موضولا ا‬
‫ا‬ ‫له بوضعه‬
‫ميكن أن ندول أن "هيدل" كان مياالا اللتبار اجلمال الذي نبدله بولي منا كأللى‬
‫أشكال املطلق أو الروح وهلذا يضع "هيدل" مجال الطبيعة خارج إطار مجالياته‪ ،‬قهو يعترب بكل‬
‫لود‬
‫قنالة وصمابة رأي أن اجلمال الفين هو أللى من الطبيعة‪ ،‬قاجلمال الفين مجال مبدع مو ٌ‬
‫جدي ٌد للعدل ومبددار ما تبدو تلكم الروح ونتاجها أللى وأمجل من الطبيعة وظواهرها‪ ،‬كذلك‬
‫يكون الفن أللى من الطبيعة ومشتداهتا‪.‬‬
‫قدمال الفن إذن بالنسبة هليدل هو تألق الروح وهو أكثر إشراقاا من مجال الطبيعة وهبذا‬
‫مغايرا ملا لُرف لند غريه من املفكرين حول ماهية‬
‫يكون هذا الفيلسوف العظيم قد حنى منحى ا‬
‫اجلمال وجعلهم الطبيعة أللى وأرقى ما يف الوجود من مجال بالتبارها ضيعة اخلالق‪ ،‬ومن‬
‫(‪ )1918-1886‬الذي‬ ‫»‪«Joyce Kilmer‬‬ ‫أولئك الذين حنو هذا النحو "جويس كيلمر"‬
‫أظن أني لن أرى أبدا قصيدة لها جمال الشجر‪ ،‬القصيدة يصنعها المجانين من‬
‫يدول‪ّ « :‬‬
‫أمثالي ولكن اهلل وحده قادر على صنع الشجر»(‪ ،)2‬أما بالنسبة هليدل قإن اهلل هو الروح‬
‫والروح جيد يف اإلنسان أكمل حضور له‪ ،‬ويف نتاجات الفن ميكننا أن نتلمس هذا احلضور‬

‫‪(1) Jack Kaminsky: Hegel on art. An Interpretation of Hegel’s Aesthetics. Univ Now‬‬
‫(‪York press, 1970, P 10. )Adapted‬‬
‫(‪ )2‬إ‪.‬نوكس‪ :‬ال نظريات اجلمالية‪ :‬كانط‪ ،‬هيدل‪ ،‬شوبنهاور‪ ،‬تر‪ :‬حممد شفيق شيا‪ ،‬منشورات حبسون الثداقية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫بريوت‪ ، 1985 ،‬ص ‪.147‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫املثايل هلل للروح للى حنو أدق بكثري وألمق بكثري مما جنده يف الطبيعة وظواهرها‪ ،‬ويف احلديدة‬
‫قإن املضمون الروحي للدمال يرتفع مع ارتفاع مستوى الكائنات أي مع تطورها العضوي‪.‬‬
‫بعد أن رأينا رؤية "هيدل" ملاهية اجلمال وربطه بثنائية الفكرة والروح وحيث يتضح‬
‫جليا أنه حني يدول أن اجلمال قكرة قإمنا يدصد بذلك أن اجلمال واحلديدة واحد‪ ،‬عأن اجلميل‬
‫يستلز وجوباا أن يكون حديدياا يف ذاته قهو يرى أنه البد عأي قكرة أن حتدق نفسها خارجياا‪،‬‬
‫وأن يكون هلا وجود موضولي متعني اعأمر نفسه بالنسبة للحديدي البد أن يظهر نفسه للولي‬
‫من خمال تعيينه‪ ،‬وذلك راجع لكون أن الفكرة أو احلديدة اليت تكون منفصلة ومنعزلة لن‬
‫الواقع اخلارجي تكون قارغة من املضمون وليست ذات قيمة‪ ،‬ولذلك إذا قلنا أن اجلميل هو‬
‫أيضا(‪.)1‬‬
‫التموضع احلسي للفكرة‪ ،‬قإن الفكرة ال يتكون حديدية قحسب وإمنا مجيلة ا‬
‫وللى هذا قاجلمال رغم متيزه امليتاقيزيدي هو مزيج يصل بني الفكرة العدمانية والرد‬
‫احلسي‪ ،‬أي املضمون والشكل للى حنو جوهري ويكتشف من خمال وحدهتا اجلمالية لن‬
‫حديدة احلياة‪.‬‬
‫وبذا قخماصة نظرية "هيدل" يف اجلمال والفن هي أهنما و كليهما تعبري ووسيلة من‬
‫وسائل معرقة احلديدة الدصوى للوجود(‪ ،)2‬قحاجة اإلنسان للدمال تنبع من رغبته يف معرقة‬
‫ذاته والتعبري لنه وتلبية احتياجات لديه‪ ،‬ومن هنا قهيدل يربط النشاط اجلمايل باعأشكال‬
‫املتنولة للممارسات اإلنسانية ويربطه بالعامل احمليط باإلنسان‪ ،‬وأن اعأشياء حتتفظ بوجودها‬
‫املستدل احلر يف العماقة اجلمالية‪ ،‬ولذا قاملدصود باجلمال لند الفيلسوف "هيدل" هو اجلمال‬
‫الفين الذي تبدله الروح اإلنسانية وليس اجلمال الطبيعي‪ ،‬ومن هنا جنده يرقض النزلة الطبيعية‬

‫‪(1) G.F. Hegel : Aesthetics , Lectures on philosophy of art, trans by : T.M Knox, 1st‬‬
‫(‪volume, Oxford University press, 1975, P 111. )Adapted‬‬
‫(‪ )2‬أمرية حلمي مطر‪ :‬قلسفة اجلمال‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ،‬ج ع‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يف الفن اليت تبغي تدليد الطبيعة أو تصويرها كما هي‪ ،‬قدد كان هدف "هيدل" من دراسة‬
‫اجلمال وارتباطاته بالفن واعأدب هو جعله إنسانياا أو لن ُدل قيمة إنسانية ذات التبار بالنسبة‬
‫ملاهية احلياة‪ ،‬قهو ‪-‬اجلمال‪ -‬يسالد اإلنسان للى حتديق إنسانيته وذاته ولذلك قدمال الفن‬
‫ومسوا‪ ،‬وانطماقاا من مذهبه‬
‫متيزا ا‬
‫وضوحا و ا‬
‫ا‬ ‫هو احلديدة الوحيدة لفكرة اجلمال‪ ،‬قالعدل قيه أكثر‬
‫الدائل بأن كل ما هو موجود معدول وأن الطبيعة مظهر من مظاهر العدل يف أدىن مستوياته يف‬
‫الوجود‪ ،‬وهلذا كلما كان تنصيب العدل للى حنو الزيادة ‪-‬والعدل هو الروح لند هيدل أو مبعىن‬
‫واحد‪ -‬كان املوجود أقضل‪ ،‬وهلذا قهو يرى أن اجلمال يف الفن أمسى من اجلمال يف الطبيعة‬
‫اجلامدة؛ عأن اعأثر الفين ينطوي للى أكثر قدر من الروح وبالتايل من احلرية والروح واحلرية ها‬
‫أمسى ما يف الوجود(‪.)1‬‬
‫استمرت النظريات اجلمالية يف إثارة الصخب الفكري واملعريف من حوهلا وأبانت لن‬
‫حس إنساين رقيع جتاه قكرة اجلمال وربطها بالواقع ودجمها يف كل مسارات اإلنسانية سواء ما‬
‫اتصل بالعلو أو الفن أو احلق واخلري وكذلك الطبيعة واآلال ‪ ...‬اخل‪ ،‬وكلها مثريات حسية أو‬
‫قيما مجالية جتعل احلياة تكتسي رون ادا حىت‬
‫أحكاما مجالية معيارية أو ا‬
‫ا‬ ‫انفعمات ذهنية تفرز لنا‬
‫وإن كانت مآسيها غالبة للى سعادهتا أو أقراحها‪ ،‬ويف موضوع الديم اجلمالية كان الشالر‬
‫(‪ )1805-1759‬من الذين‬ ‫»‪«Friedrich Schiller‬‬ ‫والفيلسوف اعأملاين "قريدريش شيلر"‬
‫امتطوا صهوة اجلمال وانتج نظريةا مجالية مل تسلك طريق اإلحنياز ملعاصريه بل اختارت االنزياح‬
‫ليس شعرياا بل واقعياا صخالفة للسائد وإن كان بنسب متفاوتة يف مفاهية اجلمال واعأحكا‬
‫والعمائق اليت تتخلله‪ ،‬ويدول "شيلر" لن جدل اإلنسان واجلمال‪« :‬ليس ثمة من سبيل آخر‬

‫(‪ )1‬لبد الرمحن بدوي‪ :‬قلسفة اجلمال والفن لند هيدل‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ، 1996 ،1‬ص ‪.22‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يجعل من إنسان الحس إنسان العقل إال بجعله إنسان جمال أوال»(‪ ،)1‬هذه ليست مدولة‬
‫إنسان هاو بل مدولة إنسان يفهم معاين احلياة وقيمها وهو الذي اشتغل يف حدلي الشعر‬
‫والفلسفة واللذين كما يتواقدان قهما يتعارضان للى أكثر من صعيد‪ ،‬ولدد نظر "شيلر" إىل‬
‫العنصر اجلمايل يف احلياة وما يتصل هبا أو يف الفن واعأدب وما يتصل هبما نظرة تواقدية ال‬
‫حسي‬
‫كون أو العنصر اجلمايل لنده هو الذي يوحد بني املادة والشكل‪ ،‬أي أنه ِّ‬‫إقصائية‪ ،‬قامل ِّ‬
‫ُ‬
‫مرتبط باجلانب الطبيعي املادي املديد بالزمان واملكان أما اجلانب الصوري والذي يعين به‬
‫العدلي أو الروحي قهو ذا ك الذي ينبع من اإلنسان وطبيعته العدلية وتعالده باملطلق‪.‬‬
‫كان هذا اإللتداد الفكري ملفهومية اجلمال لند "شيلر" نتاج استفهامات لصفت بذهنه‬
‫إبان مرحلة احلداثة اليت كان يعيشها وقتذا ك‪ ،‬حيث طرح سؤاالا جوهرياا وأساسياا هو كيف‬
‫ميكن لإلنسان اخلروج من الوضعية املزرية اليت أصبح يعيشها بعد ولوجه مرحلة احلداثة اليت‬
‫واكبت لصر التنوير اليت طُبعت بالطابع اآلاليت أو اعأدايت الذي غلب للى تشكيل املناحي‬
‫االجتمالية والسياسية والفكرية لإلنسانية‪ ،‬وللخروج من هذا الواقع املزري اعأليم الغري المائق‬
‫باإلنسان وبكرامته ذهب "شيلر" للدول بأن البعد اجلمايل هو الذي ميكن أن يدود اإلنسان إىل‬
‫احلرية احلديدية وإىل السعادة اإلنسانية املطلدة‪ ،‬يدول "شيلر" يف هذا‪« :‬البد من تقديم‬
‫الجمال وإبدائه بوصفه العلة الشارطة الضرورية لإلنسانية‪ ،‬وعلينا بالتالي أن نرقى اآلن إلى‬
‫التصور الخالص لإلنسانية ‪ ...‬لذا يتعين علينا أن نسعى إلى اكتشاف المطلق والدائم في‬
‫تلك المظاهر أو التجليات الفردية والمتغيرة للموجودات البشرية»(‪.)2‬‬

‫(‪ ) 1‬قريدريش شيلر‪ :‬يف الرتبية اجلمالية لإلنسان‪ ،‬تر‪ :‬د وقاء حممد إبراهيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.06‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.191‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫قاجلمالية وحدها حسب "شيلر" تعيد لإلنسان وحدته الكلية املتكاملة ذلك عأن احلالة‬
‫اجلمالية هي الوحيدة اليت تؤلف كما يف ذاهتا مرجع ذلك كوهنا جتمل يف داخلها أو يف ذاهتا‬
‫سائر شروط وظروف أصلها ووجودها املستمر‪ ،‬وهنا قدط أي يف احلالة اجلمالية يشعر اإلنسان‬
‫بذاته وأن إنسانيته تفصح لن نفسها جبماء ووضوح متكامل‪ ،‬وقد لرب "شيلر" لن ذلك بدوله‪:‬‬
‫«الجمالية هي وحدها التي تستطيع أن تجعل من المجتمع أمرا حقيقيا بالفعل طالما أنها‬
‫تعزز اإلرادة الكلية من خالل طبيعة الفرد‪ ،‬فعلى الرغم من أ ّن الحاجة قد تقود خطى‬
‫اإلنسان نحو الجماعة وأ ّن العقل يرسخ في وعي اإلنسان المبادئ االجتماعية‪ ،‬إالّ أ ّن‬
‫الجمال وحده هو الذي يستطيع أن يخلع على اإلنسان شخصية اجتماعية»(‪.)1‬‬
‫يدا ومثالياا لإلنسان بالنسبة لشيلر‪ ،‬واملثل اعأللى للدمال‬
‫إذن قاجلمال ميثل شيئاا قر ا‬
‫بالنسبة له هو املؤلِف االنسدامي الذي جيمع بني اجلمال اهلادئ الذي يولد لدى اإلنسان‬
‫وتبعا لذلك قإن من‬
‫راحة ومتعة واجلمال الصاخب الذي يولد لدى اإلنسان احلركة والتوتر‪ ،‬ا‬
‫شأن اجلمال أن يدود رجل احلس إىل الفكر والشكل وأن يدود رجل الفكر إىل املادة والعامل‬
‫احلسي(‪ ،)2‬ولدد أكد "شيلر" هبذا أهية ودور اجلمال ورديفه الفن يف انتدال اإلنسان إىل احلياة‬
‫املتحضرة اليت حيدق قيها سعادته ويتم قيها االرتداء به إىل املستوى اعأخماقي الذي يتحدق قيه‬
‫ومن خماله االنسدا والتوازن بني اجلانب املادي احلسي ونديضه اجلانب الفكري أو الروحي‪،‬‬
‫روحا ومن مثة قإن اجلمال هو كمال‬
‫وذلك عأن اإلنسان بطبيعته ليس كله مادة وكما ليس كله ا‬
‫التحدق إلنسانية اإلنسان‪.‬‬

‫(‪ )1‬قريدريش شيلر‪ :‬يف الرتبية اجلمالية لإلنسان‪ ،‬تر‪ :‬د وقاء حممد إبراهيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.294‬‬
‫(‪ )2‬إبراهيم زكريا‪ :‬قريدريش شيلر‪ ،‬لامل اجلمال وقيلسوف احلضارة‪ ،‬جملة لامل الفكر‪ ،‬العدد الرابع‪، 1974 ،‬‬
‫ص ‪.1154‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫مث ما يلبث أن يزيد "شيلر" يف رؤاه حلاجة اإلنسان للدمال حينما يعترب أنه لندما تتمزق‬
‫الروح وينفصل العمل لن املتعة والذات لن املوضوع وتتفكك الوحدة والتناغم تكون هنا ك‬
‫حاجة إىل اجلمال‪ ...‬وإىل خلق النفس اجلميلة بإجياد بُعد مجايل للذات اإلنسانية تكون وسيلة‬
‫إنداذ(‪.)1‬‬
‫إن املرحلة اجلمالية ذات أهية وجودية بالنسبة لشيلر رغم كل تلك االلتدادات اليت‬
‫تدول بأهنا ‪-‬املرحلة اجلمالية‪ -‬ال تفضي عأية حديدة‪ ،‬لكن الواقع خيربنا غري ذلك حسبه قتأمل‬
‫اجلميل حيدق أهية كبرية لدينا ويلبسنا لباس احلرية وحتسسها كما يعطي اإلنسان قدرة للى‬
‫جتاوز الطبيعة‪ ،‬قاجلميل هو مركب اإلنسانية وتأشريهتا إلجياد ذاهتا وحتسس احلديدة الكامنة يف‬
‫الوجود‪ ،‬قالعمل الفين يشكل بصدق الوسيلة الفعالة إلشعار أنفسنا باحلرية للى مددار ما‬
‫مينحه لنا من قدرات للى حتديق تواقق بني العدل واحلس‪ ،‬وهنا يتدسد لنا دور الفنان اعأصيل‬
‫الذي مبددرته يتمكن من حتطيم كل مظهر مادي بواسطة الشكل الروحي قإذن جيعل "شيلر"‬
‫وحد اجملتمع ذلك عأنه يرتبط منطدياا مبا هو موجود‬
‫من اجلمال رسالة خللق التكامل‪ ،‬وهذا يُ ِّ‬
‫طابعا‬
‫مجيعا‪ ،‬قاجلمال وحده كما مت ذكره ساب ادا هو الذي يُسب ُغ للى اإلنسان ا‬
‫ومشرت ك بينهم ا‬
‫دث من ضمن رغباته قمن‬
‫اجتمالياا‪ ...‬واإلنسان هبذا ومن خماله ُجي ِّم ُل نفسه والبهدة احلرة حت ُ‬
‫خمال اجلمال يتم ولوج احلرية من أوسع أبواهبا‪ ،‬ويا هلا من لظمة لندما يرتبط اجلمال واحلرية‬
‫ارتباطاا وجودياا ولكن "شيلر" يفرتض أن هذه احلرية ال تكون ذات قوائم إال لندما يكون‬
‫اإلنسان كامماا وكِما داقعيه احلسي والعدلي قد تطورا وغياب هذا االقرتاض جيعل احلرية مفدودة‬
‫وجمرد سراب‪.‬‬

‫(‪ )1‬جماهد لبد املنعم جماهد‪ :‬جدل اجلمال واإلغرتاب‪ ،‬دار الثداقة للنشر والتوزيع‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫متدانسا‪ ،‬وذلك‬
‫ا‬ ‫إذن قاإلدرا ك اجلمال وحده من جيعل من اإلنسان شيئاا كلياا أو كماا‬
‫عأن كما الطبيعتني يف اإلنسان ‪-‬احلسية والعدلية‪ -‬ينبغي لليها أن تتواقدا وتتآلفا معه وقيه‪،‬‬
‫مظهرا الحتاد الفن واعأخماق وتماقي احلس‬
‫وهكذا يصبح النشاط اجلمايل يف رأيه ‪-‬شيلر‪ -‬ا‬
‫والعدل‪ ،‬وتصاحل املادة والصورة وتواقق احلرية واعأخماقية(‪.)1‬‬
‫لص "شيلر" إىل حديدة أنه ال يوجد إال اجلمال ما نستطيع أن نستمتع به كأقراد‬
‫وخي ُ‬
‫سعيدا‬
‫وكدنس بشري يف الوقت نفسه‪ ،‬قما شيء غري اجلمال بدادر للى أن جيعل العامل بأسره ا‬
‫وأن ينسى كل موجود حدوده وقيوده مادا سحر اجلمال حميط به‪ ،‬قإذن قدد أراد "شيلر" أن‬
‫يوضح إىل وجود انفصال بني لامل احلرية (العامل العدلي) ولامل الضرورة وربط هذين العاملني‬
‫بواسطة اجلمال‪ ،‬الذي يتمثل بالعمل الفين وذلك بالتباره شكماا حياا جتتمع قيه املادة‬
‫امليتاقيزيدية حيث يلعب دور الواسطة لتحديق التواقق بني الفرد واجملتمع‪ ،‬ولذلك يشدد للى‬
‫وجوب احلرية يف الفن حىت يتحدق اهلدف املطلوب منه(‪.)2‬‬
‫وخيتم "شيلر" نظرته للدمال بالدول‪« :‬يجب أن يستعيد اإلنسان نفسه من جديد في‬
‫(‪) 3‬‬
‫لعب قائم للى‬
‫ٌ‬ ‫اجلمال‬ ‫أن‬ ‫كنا‬
‫أدر‬ ‫إذا‬ ‫هذا‬ ‫ويتم‬ ‫؛‬ ‫كل لحظة عن طريق الحياة الجمالية»‬
‫تأكيدا حلرية‬
‫النسق واحلرية والتحرر من الغرض املباشر حيث جيمع اللعب بني احلسي والعدلي ا‬
‫اإلنسان ومجاله‪.‬‬
‫وهكذا ح ِفل موضوع اجلمال يف كل مرة ويف كل لصر بآراء وتنظريات زامخة جعلته‬
‫ميداناا خصباا للتماقح الفكري واحلضاري بني اجملتمعات اإلنسانية تبياناا وبرهاناا للى ما تكتنزه‬
‫الروح البشرية من لشق وشغف المعدول لسحر اجلمال‪ ،‬وبتنوع املشارب الفكرية ملن تناولوا‬

‫(‪ )1‬إبراهيم زكريا‪ :‬قريدريش شيلر‪ ،‬لامل اجلمال وقيلسوف احلضارة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.1155‬‬
‫(‪ )2‬غادة املدد لدرة‪ :‬قلسفة النظريات اجلمالية‪ ،‬دار جروس برس‪ ،‬ط‪، 1‬طرابلس لبنان‪ ، 1996،‬ص ‪.129‬‬
‫(‪ )3‬جماهد لبد املنعم جماهد‪ :‬جدل اجلمال واالغرتاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫موضوع اجلمال خاض أغلبهم يف الفلسفة الواقعية دومنا إقصاء للوجدانيات والروحانيات‪ ،‬ومن‬
‫‪«Karl‬‬ ‫الفلسفة الواقعية انبعثت اعأقكار املاركسية وبناءاا لليها جاء "كارل ماركس"‬
‫»‪ )1883-1817(Marks‬بنظرياته يف االقتصاد‪،‬السياسة‪ ،‬الفن واعأدب معلناا بذلك بداية‬
‫لهد جديد يف النظرة لألمور واحلياة وما يتصل هبا‪ ،‬ومل تكن قكرة اجلمال مبعزل أو مبنأى لن‬
‫زخم نظرياته املعرقية اليت تدو للى املادية بشديها املنطدي والتارخيي‪ ،‬وجرت مادية "ماركس"‬
‫للى جل أقكاره وانتاجاته يف امليادين سابدة الذكر ومن هنا قدد ألبس "ماركس" اجلمال صفة‬
‫للما يدرس متثل أو قهم اإلنسان اجلمايل للعامل والواقع حسب قوالد منتظمة‪،‬‬
‫العلمية ولده ا‬
‫تتناول طبيعة التطور االجتمالي وقوانينه يف كل مرحلة تارخيية‪.‬‬
‫وقد لد بأن الفن واإلبداع اعأديب جزء مهم من للم اجلمال‪ ،‬قاجلمال يف الفن يعرب لن‬
‫مصاحل الطبيعة الصالدة والفن ينربي مبهمة التعبري لن الدوانني املوضولية واجلدلية يف الواقع‬
‫االجتمالي والثدايف‪ ،‬قاجلمالية لند "ماركس" هي اجلمالية االجتمالية املنبعثة من اخلارج‬
‫لتهيمن للى اإلنسان نتيدة التطور املادي والعماقات االجتمالية املؤثرة واملتأثرة به‪ ،‬قاجلميل‬
‫لظيما يف اجملتمع‪ ،‬قاإلبداع‬
‫دورا معرقياا ا‬
‫يُكتسب يف احلياة والفن حني مينح املتعة واللذة الروحية ا‬
‫الفين الذي يكتسب صفة اجلمالية هو الذي ينسخ الواقع بصدق وال ينشأ اجلمال احلديدي‬
‫حسبه إال من خمال النضال من أجل إلادة بناء اجملتمع ثورياا‪ ،‬كما أنه ال ميكن حبال إقامة‬
‫الظروف االجتمالية واالقتصادية للشعب العامل لكي يبدع ألماالا ذات مجال وليكتسب‬
‫مددرة أمت للى تددير اجلميل إال بواسطة الشيولية‪.‬‬
‫قلدد نظرت املاركسية للدمال كتمثيل للنشاط اإلبدالي العملي والغرضي لند اإلنسان‬
‫ويف هذا النشاط ومن خماله يتمثل جوهر اإلنسان وقواه االبدالية اهلادقة إىل حتويل الطبيعة‬

‫‪- 46 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫واجملتمع(‪ ،)1‬وقد التربت املاركسية أن اجلميل هو قدط كل ما يستديب للممارسة االجتمالية‬


‫لإلنسان ويستند للصفات الطبيعية للشيء حبيث أن طبيعة الوجود االجتمالي للفرد هي‬
‫املتحكم اعأساسي يف إدراكه اجلمايل‪ ،‬قبالنسبة ملاركس قالوجود االجتمالي هو الذي حيدد‬
‫الولي‪ ،‬ولذا قاحلكم اجلمايل يف النهاية هو نتاج سوسيوثدايف يصدر لن اإلنسان كنتيدة‬
‫حتمية لعماقته مبحيطه االجتمالي‪ ،‬إذ أن الذي تنعد قيه الثداقة العالية ال يتوقع منه أن يصدر‬
‫أحكاما مجالية سامية ونبيلة‪ ،‬ولذا قإن املوقف املاركسي اللينيين خيتلف جذرياا لن املوقفني‬
‫ا‬
‫املادي واملثايل امليتاقيزيديني يف أنه يؤكد بأن اعأساس املوضولي إلدراكنا لتمظهرات اجلمال يف‬
‫العامل احمليط بنا‪ ،‬إمنا هو النشاط اخلماق والعمل اهلادف لإلنسان ويف خضم هذا احلرا ك‬
‫اإلنساين تتلد الطبيعة االجتمالية لإلنسان‪ ،‬وقواه اخلماقة اليت تسعى إىل قرض التغيري للى‬
‫الطبيعة ‪-‬املادية‪ -‬واجملتمع‪ ،‬وبذا تتطور وتنمو هذه الدوى اخلماقة يف انسدا شامل وحرية‬
‫تامة‪.‬‬
‫غري أن هنا ك من املفكرين من يرى بأن اجلمالية املاركسية تنتدص من الذاتية وهلا التداد‬
‫راسخ بأن الدالدة املادية مبثابة الواقع احلديدي اعأوحد‪ ،‬قهذا اإلنتداص ال يتناول الذات العدلية‬
‫قدط بل يتعداه للذات الداخلية واالنفعاالت واملخيلة اليت تذوب يف ولي اإلنسان‪ ،‬إن هذا‬
‫االنتداص لكفيل بتغييب أحد الشروط املسبدة للثورة وذلك يف «وجوب أن تكون جذور‬
‫الحاجة إلى تغيير جذري كامنة في ذاتية األفراد أنفسهم في عقلهم وأهوائهم في دوافعهم‬
‫الغريزية وأهدافهم‪ ،‬لقد سقطت النظرية الماركسية في عين التشيؤ الذي أماطت اللثام‬

‫(‪ . )1‬روزنتال ‪ -‬ب‪ .‬يودين‪ :‬املوسولة الفلسفية‪ ،‬ترمجة وحتديق‪ :‬مسري كر ‪ ،‬دار الطليعة للطبالة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪ ، 1997‬ص ‪.280‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫عنه وكافحته في المجتمع الشامل»(‪ ،)1‬وهلذا قاجلمالية املاركسية تصنِّف الذاتية للى التبار‬
‫أهنا مفهوم ا بورجوازياا‪ ،‬وقد أدى هتوينها بالذاتية لنتيدة لكسية ملا أرادته املاركسية من أهداف‬
‫لربوليتاريا اجلمال إن صح الدول‪ ،‬وبفعل هذا التهوين انربت املاركسية للمناداة بالواقعية والتبارها‬
‫منوذج الفن التددمي(‪ )2‬وهلذا تفسري بتلك احلملة الشرسة اليت تصدرهتا املاركسية نالتة إياها‬
‫بالرجعية والفن الدنئ املنحط‪.‬‬
‫ومن اخلصائص اليت تتفرد هبا اجلمالية املاركسية هو ربطها للدمال بالثورة واحلرا ك‬
‫اإلجتمالي‪ ،‬حيث أصبح العمل الفين بناءاا للى سلم مداييس اجلمالية املاركسية يكتسب‬
‫استنادا إىل املذهب الواقعي الذي يعترب العمود‬
‫ا‬ ‫قيمته ليس من خمال ذاتية بل من خارجه‬
‫الفدري للفلسفة املاركسية وما ارتبط هبا من نظريات‪ ،‬ولذا قإنه ومبوجب هذه املداييس قإنه ال‬
‫ُحيكم للى العمل الفين من خمال قيمته اجلمالية بل من جهة لماقته بتشديع الثورة(‪.)3‬‬
‫وقد أوضح "ماركس" يف العديد من مصنفاته أن التصور اجلمايل ليس قطرياا يف اإلنسان‬
‫بل هو نتاج املمارسة العملية املادية الطويلة‪ ،‬وهو ‪-‬اجلمال‪ -‬مرتبط ارتباطاا لضوياا بالنشاط‬
‫دائما يعتمد كلياا للى اإلنسان يف‬
‫اإلنساين الوالي واهلادف‪ ،‬قاجلمال حسب تعبري "ماركس" ا‬
‫نشاطه اجلمايل املتنوع حيث تكونت تصوراته اجلمالية تارخيياا‪ ،‬ناهيك لن رؤيته أن اجلمال‬
‫صاحب جذور يف العامل املادي هذا اجلمال هو واقعه موضولي وخاصية ذاتية‪ ،‬وينشأ مفهو‬
‫اجلمال حني يتم التفالل بني املوضوع والذات‪ ،‬ومل تكن احلرية مبعزل لن مفهومية اجلمال‬

‫(‪ )1‬ماركوز‪ :‬البعد اجلمايل‪ ،‬تر‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪ ، 1979 ،‬ص ‪.15‬‬
‫(‪ )2‬للي أبو ملحم‪ :‬يف اجلماليات حنو رؤية جديدة إىل قلسفة الفن‪ ،‬ط‪ ،1‬املؤسسة اجلامعية للدراسات النشر والتوزيع‪،‬‬
‫د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪ ، 1990 ،‬ص ‪.79‬‬
‫(‪ )3‬أمرية حلمي مطر‪ :‬مددمة يف للم اجلمال وقلسفة الفن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.114‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫بالنسبة ملاركس قهي حسبه أساس اجلمال احلديدي والشرط اعأهم يف حتديق الشعور اجلمايل‬
‫اجتمالياا‪.‬‬
‫قتتلخص إذن نظرة "ماركس" للدمال يف أنه احلل والرتياق الفعال ضد مسو املثالية اليت‬
‫متديدا لألوضاع الدائمة‪ ،‬قاملوضوع اجلمايل هو الكشف لن اعأسس احلياتية املادية‬
‫ا‬ ‫رآها‬
‫والعملية اليت ينشأ منها اجلمال‪ ،‬وإىل تفسري هذا اجلمال من زاوية نظر ثورية متكاملة وشخصية‬
‫وكذلك تارخيية‪.‬‬
‫لدد تطلب التأسيس ملفهومية اجلمال وبسط تعريف جامع له استهما ك نظريات معرقية‬
‫كثرية واشتغال الكثري من ألما الفكر وأساطني املعرقة اإلنسانية‪ ،‬ويف رحلته لرب العصور ُخص‬
‫اجلمال لطبيعة لماقته بالذات البشرية باالهتما المائق لكونه يشكل املماذ اآلمن لكل نفس‬
‫تواقة للعيش يف كنف السعادة والتخلص من نري اعأحزان واملآسي وتراجيديا احلياة‪ ،‬ومأل ذلك‬
‫الفراغ الذي يعرتي اإلنسان يف جتلياته املادية والعدلية وخاصة الروحية‪ ،‬ولذا مل يبق اجلمال رهني‬
‫طبيعته اجملردة بل اكتسى صفة العلمية املوضولية املبنية للى قوالد وضوابط شأنه شأن العلو‬
‫متأخرا إال أنه شكل ثورة معرقية يف ميدان اإلنسانيات رغم ما‬
‫ا‬ ‫اعأخرى وإن حصل هذا اعأمر‬
‫ُوضع له من لراقيل حماولة التدليل من أهيته هادقة لكسر للميته اليت ناهلا بعد رحلة معرقية‬
‫شاقة قكان للم اجلمال إنصاقاا لإلنسان والطبيعة واملاورائيات بشكل لا ‪ ،‬لكن املثري أنه ال‬
‫ميكن عأحد أن يدول بأن للم اجلمال هو للم مداييس اجلمال الذي يتطلب جدلياا معرقة‬
‫مددما لند إنتاج اعأشياء اجلميلة‪ ،‬ولذا أمكن الدول بأن للم‬
‫قوالد البد أن تؤخذ يف االلتبار ا‬
‫اجلمال هو الشرلية غري احملددة ‪-‬بي د أهنا قاهرة‪ -‬النابعة من جمموع النتائج املوقدة(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬جان برتليمي‪ :‬حبث يف للم اجلمال‪ ،‬تر‪ :‬د‪.‬أنور لبد العزيز‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ، 1970 ،‬ص ‪.05‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫كل هذا يُفضي بنا إىل نتيدة أن اجلمال ال يؤثر قدط يف لماقات اعأقراد قيما بينهم‬
‫أيضا يف لماقتهم باعأشياء‪ ،‬قنحن للى سليدتنا منيل وجننح لألشياء اجلميلة وننفر من‬
‫بل يؤثر ا‬
‫أساسا يف خياراتنا‬
‫اعأشياء الدبيحة‪ ،‬ومنارس إرادياا وال إرادياا هذا امليول يف حياتنا وجنعله ا‬
‫واختياراتنا‪ ،‬ولذا قإن الرضا العدلي الذي يرجع إىل االنسدا بني طبيعتنا وجتربتنا يتحدق بالفعل‬
‫للى حنو جزئي‪ ،‬وحتدده إمنا هو اإلحساس باجلمال‪ ،‬إن اجلمال هو الضمان للى إمكان‬
‫االتساق واعأُلفة بني الروح والطبيعة ومن مثة قهو أساس اإلميان كل اإلميان بسيادة اخلري‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -3‬الخـ ـ ـيـ ـال‪:‬‬

‫أ) المفهوم اللغوي‪:‬‬


‫تنحدر كلمة اخليال من اجلذر اللغوي خيل‪ ،‬وقد جاء يف لسان العرب‪ :‬خال الشيء‬
‫خيال خيلةا وخْي لةا‪ ،‬وخاالا وخيماا وخيماناا وصخالة وخيلةا وخيلولة‪ :‬ظنه‪ ...‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬ي َخيَّل‬

‫إلَْيه م ْن س ْحره ْم أَنَّـ َها تَ ْس َعى﴾ أي يُشبه‪ُ ،‬‬


‫وخيِّل إليه أنه كذا‪ ،‬للى ما مل يسم قالله‪ :‬من‬
‫الوهم(‪.)1‬‬
‫التخييل و ْ‬
‫أيضا مبعىن الشخص والطيف وصورة متثال الشيء يف املرآة وما تشبه‬
‫كما جاء اخليال ا‬
‫أيضا الظن والتوهم(‪ ،)2‬جاء يف املندد يف اللغة واعألما‬
‫لك يف اليدظة املنا من الصور وهو ا‬
‫ُخيِّل إليه وله أنه كذا‪ :‬توهم أنه كذا‪ ،‬ختيل له أنه كذا أي تشبه وتوهم أنه كذا‪ ،‬واخليال مجعه‬
‫أخيلة‪ :‬الظن والوهم‪ .‬املخيلة واخليالية‪ :‬الدوة اليت ختيل ومتثل اعأشياء(‪.)3‬‬
‫أما يف املعدم الوسيط قوردت كلمة خيل مبعىن اللبس والشبه قخيل إليه أنه كذا لُبِس‬
‫وشبِّه ووجه إليه الوهم‪ ،‬واخليال الشخص‪ ،‬والطيف‪ ...‬ومن كل شيء ما تراه كالظل‪ ،‬واملخيلة‬
‫ُ‬
‫الدوة ختيل اعأشياء وتصورها وهي مرآة العدل(‪.)4‬‬
‫يأيت يف مدابل كلمة اخليال باللغة العربية كلمة "‪ "Immagination‬يف اللغة اعأجنليزية‬
‫وحسب معدم "كولينز" قداء تعريفها كاآليت‪:‬‬

‫(‪ )1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1307- 1304‬‬


‫(‪ )2‬مجيل صليبا‪ :‬املعدم الفلسفي‪ ،‬الشركة العاملية للكتاب‪ ،‬ج‪ ،1‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ، 1991 ،‬ص ‪.546‬‬
‫(‪ )3‬املندد يف اللغة واعألما ‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.202‬‬
‫(‪ )4‬جممع اللغة العربية‪ :‬املعدم الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.267-266‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪« The faculty or action of producing ideas, esp mental images of what is‬‬
‫‪not present or has not been experienced‬‬ ‫)‪».(1‬‬
‫وبالرتمجة التدريبية هي قاللية أو حركية إنتاج اعأقكار‪ ،‬وكذلك الصور الذهنية ملا هو‬
‫‪Mental creative‬‬ ‫أيضا‪" :‬‬
‫حاضرا‪ -‬أو مل يتم اختباره حياتياا بعد‪ ،‬وجاء ا‬
‫غري موجود – ا‬
‫‪ ،)2("ability‬وذلك مبعىن الددرة العدلية اإلبدالية‪ ،‬أما يف اللغة الفرنسية قداء مصطلح اخليال‬
‫"‪ "Imaginaire‬يف أنه ملكة يتواقر لليها الذهن لتمثل الصور(‪ ،)3‬كما أنه جاء مبعىن ملكة‬
‫يتواقر لليها الذهن للتخيل إلستعارة صور أو إبدالها‪ ،‬ومنه ميكن احلديث لن اخليال املعيد‬
‫واخليال املبدع(‪.)4‬‬
‫تكاد جتمع كل هذه التعريفات السابدة للى حديدة أن اخليال ملكة ذهنية توهم العدل‬
‫وتنتج له تصاوير من الواقعه تكون ز اادا البدالاته وتفتق مهاراته يف شىت دروب وضروب احلياة‪،‬‬
‫مفهوما أساسياا يف تاريخ‬
‫ا‬ ‫وإذا كانت هذه الكلمة ‪-‬اخليال أو املتخيل‪ -‬قد حتددت بصفتها‬
‫دورا ال يدل أهية لن العامل املادي يف‬
‫الذهنيات أو اعأنرتوبولوجيا إليماء العامل الرمزي ا‬
‫النظريات املاركسية‪ ،‬قإن ذات املفهو ستتسع مدلوالته بتعدد العلو اإلنسانية اليت وظفته‬
‫خبلفيات معرقية صختلفة وكذا مبكونات اصطماحية صختلفة‪ ،‬ولن كلمة خيال ومتخيل يشري‬
‫"جاستون باشمار" إىل أن كلمة متخيل ليست سوى مرادف يعرب بشكل أقضل لن كلمة‬
‫(‪) 6‬‬
‫قهو يسعى داخل‬ ‫خيال‪ ،‬وجيعلها مفتوحة ومتمنعة(‪ ،)5‬قاخليال إذن طاقة ختلق وتكتشف‬

‫‪(1) Collins English Dictionary, op.cit, p 254.‬‬


‫‪(2) Ibid, the same page.‬‬
‫‪(3) Paul Robert: Dictionnaire alphabétique analogique de la Lange Francaise, du‬‬
‫(‪nouveau littre Lerobert, Parie xl, France, 1977, tom3, P 598.)Adapted‬‬
‫‪(4) Patrick Bacry, Hélène Houssemaine : Larousse de la Langue Française, Librairie‬‬
‫(‪tom1, 1977, P 934 .)Adapted‬‬
‫(‪(5) Gastone Bachelard : L’air et les songs, José corti, Paris, 1990, P 07.)Adapted‬‬
‫(‪ )6‬سري موريس بورا‪ :‬اخليال الرومانسي‪ ،‬تر‪ :‬إبراهيم الصرييف‪ ،‬اهليئة املصرية للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1977 ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫جديدا عأن مهمته اعأصلية‬


‫ذهن اإلنسان إلذابة كل لنصر من لناصر الفكرة إللطائها مذاقاا ا‬
‫دوما إىل التحليق الماهنائي قهو ملكة تكشف لن احلديدة اليت تدع وراء املألوف من‬
‫تنزع ا‬
‫اعأشياء‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ب) المفهوم المعرفي‪:‬‬


‫كشأن اجلمال مل يكن اخليال بالشيء الطارئ للى املعرقة اإلنسانية‪ ،‬بل له امتداد‬
‫دهري كيف ال وهو ملكة إبداع إنسان العصور اعأوىل يف رحلته اعأبدية حنو قهم حاالته‬
‫أمرا حمي ارا بالنسبة للمعارف اليت ختوض يف‬
‫دائما ا‬
‫واإلحاطة مبآالته‪ ،‬قلدد شكل اخليال ا‬
‫دائما باحلديث لن االنفعال واحلواس‬
‫اإلنسانيات‪ ،‬ذلك أن احلديث لن اخليال كان يرتبط ا‬
‫والشعر والفن وقضية احملاكاة‪ .‬وقد صنف احلديث لن هذه اعأمور ضمن احلديث لما هو‬
‫مظنون وواهم‪ ،‬وكان معيار تدييم اعأقاويل هو املنطق وشرائطه وموجهاته‪ ،‬وهبذا الترب اخليال‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫مصدرا للتوهم مثله يف ذلك مثل اعأساس الذي قامت لليه "للو الصور" ا‬
‫ا‬
‫طبعا للفلسفة اعأقماطونية‪ ،‬قمشكل‬
‫وقد جاء مفهو اخليال بالتباره حماكاة إذا رجعنا ا‬
‫لموما لدى أقماطون ال يهم قدط مسألة العماقة بني ما هو متبد وبني ما هو منوذج‬
‫الصورة ا‬
‫طبعا‪ -‬ودور الفنون‪ ،‬بل يهم كذلك وضعية اإلنسان الذي‬
‫وكذا وضعية املدينة –املدينة الفاضلة ا‬
‫تتداذقه الصور ‪-‬النسخ والصور‪ -‬السيموالكرات والظمال واالنعكاسات والرموز(‪ ،)1‬قأقماطون‬
‫هبذا يُعرب لن تلكم اللحظة التارخيية اليت جتسد قيها لامل املظاهر‪ ،‬حيث أصبح هذا العامل‬
‫يطرح بصفته مثيماا مشاهباا للواقع احلديدي للنموذج ولعامل املعاين والصور احلديدية الذي هو لامل‬
‫ا ملثل‪ ،‬ولدد الرتف "أقماطون" بدور اخليال بعد أن كان ينظر إليه نظرة قاصرة قهو كان باسم‬
‫ميدد سلطة العدل يف املدابل‪« ،‬لكنه‬
‫احلديدة والفضيلة ينظر نظرة دونية للخيال (احملاكاة) و ِّ‬
‫مالبث في محاورة "طيماوس" أن اعترف للخيال بالقدرة على استحضار الرؤية الصوفية‬
‫تلك التي تسمو على ما يتناوله العقل‪ ،‬وفي محاورة "تثيت" ذهب أفالطون إلى أ ّن‬

‫‪(1) Hélène védrine : les grand conception de l’imaginaire, biblio Essais, Paris, 1990, P‬‬
‫(‪42.)Adapted‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫التخيل والتذكر‪ ،‬وإدراك المحسوسات المشتركة وظائف للعقل ال للحس‪ ،‬وأ ّن أعضاء‬
‫الحس ال تدرك الخصائص المشتركة بين موضوعات الحس‪ ،‬إنما يدرك ذلك العقل‬
‫والتخيل عنده يرسم في موضوعاته التي تصبح مادة التفكير‪ ،‬وهكذا يؤدي التخيل‬
‫وظيفتين‪ :‬إستعادة صور المحسوسات واستخدام الصور الحسية في التفكير»(‪.)1‬‬
‫داقعا رئيسياا من موقفه الغامض من اخليال مبعىن أنه‬
‫لدد كان إميان "أقماطون" بالعدل ا‬
‫جعله أحياناا يف مراتب متددمة للى العدل وأحياناا أخرى بوصمه وسيلة للتضليل واإليها‬
‫داقعا للخطأ إللتماده للى ما تددمه احلواس من مدركات‪ ،‬قهي حتاكي الواقع‬
‫وجعل اخليال ا‬
‫أيضا غري حديدي‪ ،‬وبذا يظهر بعض التناقض يف آراء "أقماطون" جتاه اخليال حني‬
‫الذي هو ا‬
‫يدلل من أهيته وجيعل منه وظيفة للنفس غري السامية‪ ،‬وال بد من اإلشارة للى أن ال وجود‬
‫بالنسبة عأقماطون لظاهر بدون وجود أي ليست هنا ك صورة بدون واقع حديدي‪ ،‬وال وجود‬
‫حملاكاة بدون منوذج يدول "أقماطون" يف هذا السياق‪« :‬إ ّن المقلّد أو صانع الصور ال يعلم‬
‫عن الوجود الحق شيئا وإنما يعرف المظاهر وحدها»(‪.)2‬‬
‫إن موقف "أقماطون" واضح يف نسبية معينة يف إقامة تدابل بني النشاط الصنالي من‬
‫جهة وبني النشاط اخليايل من جهة أخرى‪ ،‬ومع هذا مل يرق اخليال لنده بسبب تصوره‬
‫شهريا أو مدولة شهرية‬
‫للمحاكاة إىل مستوى الطاقة اإلنتاجية وامللكة اخلماقة صخال افا مبدأ ا‬

‫(‪ )1‬احلسني احلايل‪ :‬اخليال أداة لإلبداع‪ ،‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ ،‬ط‪ ،1‬الرباط‪ ،‬اململكة املغربية‪ ، 1988 ،‬ص ‪.23‬‬
‫(‪ ) 2‬مجهورية أقماطون‪ :‬تر‪ :‬د‪ .‬قؤاد زكريا‪ ،‬املؤسسة املصرية العامة للتأليف والنشر‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ،‬ص‬
‫‪.368‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫"لفيلوسطراط" حني قال «إ ّن الفنان عندما يعرج إلى السموات ليحضر منها الصور ال‬
‫يحاكي وال ينسخ بل يتخيل»(‪.)1‬‬
‫ظلت هذه النمطية مستمرة بالنسبة للخيال لند "أقماطون" حىت نبغ تلميذه "أرسطو"‬
‫وضعا التبارياا للى اخليال‪ ،‬وأخرجه من سدن مفاهية احملاكاة وكذا من سدن‬
‫وكسرها وأضفى ا‬
‫النماذج والنسخ‪ ،‬قنظر للخيال للى أنه نوع من احلركة احلاصلة يف الذهن والناجتة لن املدركات‬
‫موجودا بالتباره‬
‫ا‬ ‫احلسية‪ ،‬وبذا ختلص من وضعية الماوجود اليت أسندها إليه "أقماطون" وصار‬
‫دورا أساسياا بني الفكر (العدل) واإلحساس‪ ،‬قهو ‪-‬أرسطو‪ -‬أبعد اخليال لن‬
‫وسيطاا يلعب ا‬
‫اإلحساس وجعله مستدماا لنه رغم ارتباطه به‪ ،‬وهو الشيء الذي يفسر قدرتنا للى إنتاج‬
‫الصور وتنويعها والتأليف بينها أو اختبارها‪ ،‬قحصها وتوظيفها‪ ،‬وهلذا يؤكد "أرسطو" أن‬
‫صورا رغم أهنا ترد يف شكل صور قكل لملية تفكري مهما كانت طبيعتها‬
‫املفاهيم ليست ا‬
‫تكون مصاحبة بالصور وبذلك يلعب اخليال وظيفة الربط والوصل والرتكيب(‪.)2‬‬
‫يدول "أرسطو" يف كتابه النفس لن موضوع اخليال » التخيل الحركة المتولّدة عن‬
‫اإلحساس بالفعل‪ ،‬ولما كان البصر هو الحاسة الرئيسية فقد اشتق التخيل فنطاسية‬
‫"‪ "Phantasia‬اسمه من النور فاوس "‪ "Phaos‬إذ بدون النور ال يمكن أن نرى‪ ،‬ولما‬
‫كانت الصور تبقى فينا وتشبه اإلحساسات فإ ّن الحيوانات تفعل أفعاال كثيرة بتأثيرها‬
‫بعضها ألنها ال يوجد عندها عقل‪ ،‬وهذه هي البهائم وبعضها اآلخر ألن عقلها يحجب‬
‫باالنفعال أو األمراض أو النوم كالحال في اإلنسان»(‪ ،)3‬قهو هنا يركز للى حاسة البصر‬

‫‪(1) Jean Pierre Vernant : Religions, histoires, raisons, Petite collection, Maspero, Paris,‬‬
‫(‪1979, P110 .)Adapted‬‬
‫(‪(2) Hélène védrine: Les grand conception de l’imaginaire, op.cit, P 31.)Adapted‬‬
‫(‪ )3‬أرسطو طاليس‪ :‬كتاب النفس‪ ،‬تر‪:‬أمحد قؤاد اعأهواين‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪ ، 1962 ،2‬ص ‪.107‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يف إدرا ك احملسوسات أكثر من غريها‪ ،‬والتماد اخليال لليها بصورة كبرية قلهذا كانت احلركة‬
‫الذهنية املعتمدة للى احملسوسات تشبه احلركة املوجودة يف العامل اخلارجي قاملخيلة لبارة لن‬
‫اآلثار اليت يدركها احلس أي أن اخليال هو احلركة الناشئة لن اإلحساسات يف الذهن(‪.)1‬‬
‫اقتباسا‬
‫حديدة مل يذكر "أرسطو" اخليال كمصطلح بل لرب لنه مبفهومني اعأول هو احملاكاة ا‬
‫من أستاذه "أقماطون" والثاين قنطاسيا مثلما ورد يف كتابه النفس‪ ،‬وقد الترب أن اخليال قوة‬
‫ضرورية جيب تواقرها يف شىت الفنون وخاصة الشعر قكان أن ربط بني اخليال والوهم للى التبار‬
‫أن مجوحها يدفز باإلنسان من كل ما هو واقعي مدر ك إىل كل ما هو متخيل يتداوز الواقع‬
‫إلدرا ك اجلوانب الوجدانية من احلياة النفسية ودوائرها الغائرة الغامضة واليت حتتاج يديناا إىل‬
‫لنصرا ذاتياا باحلركة وال حىت‬
‫قدرات إدراكية تفوق قدرات العدل‪ ،‬ولليه قالنفس خماقاا لسابديه ا‬
‫منسدما قلذا ال ميكن أن تكون النفس خارج اجلسم باستثناء العدل الفعال العنصر‬
‫ا‬ ‫كياناا‬
‫خالدا وأبدياا(‪.)2‬‬
‫اعأشرف من النفس الذي ينفصل لن اجلسم ويبدى ا‬
‫ومن هنا قأرسطو يرقض قكرة حترير اخليال لن صرامة العدل بل إنه أكد للى أن ال‬
‫جدوى للخيال ما مل يشتغل حتت إمارة العدل ووصايته وذلك حتت شعار قكرة اإلقناع‪ ،‬قكل‬
‫أسلوب شعري يف مستوياته التخييلية ينبغي أن يأخذ يف التباره ضرورة اإلقناع املنطدي‬
‫والوضوح يف اكتشاقه للحدائق ودوائرها‪ ،‬إذ ال ينبغي للخيال أن يصل درجة لالية من التمويه‬
‫حىت ال ينفلت من رقابة العدل(‪ ،)3‬إن الشالر حسب "أرسطو" حني يركب بساط اخليال حمل ادا‬

‫(‪ )1‬أرسطو طاليس‪ :‬قن الشعر‪ ،‬تح‪:‬لبد الرمحن بدوي‪ ،‬دار النهضة املصرية‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1953 ،‬ص ‪.244‬‬
‫(‪ )2‬أرسطو طاليس‪ :‬كتاب النفس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫(‪ )3‬الفارايب‪ :‬رسالة يف قوانني صنالة الشعر للمعلم الثاين ‪-‬لن قن الشعر عأرسطو طاليس‪ ،-‬دار الثداقة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‬
‫لبنان‪ ،‬ص ‪.151-150‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يف لوامل الغرابة واملتناقضات بالشكل الذي ال يسمح للعدل متابعة لملية تبسيط وتوضيح‬
‫احلدائق أما السامع بأسلوب إقنالي إمنا خيرج لن دائرة احملاكي إىل دائرة الوهم‪.‬‬
‫ورغم أن "أرسطو" هو الذي الرتف لصاحب امللكة املتخيلة باملكانة المائدة به وجمد تلك‬
‫امللكة اليت تستطيع اجلمع بني الصور وأثىن للى الددرة يف اجملاز(‪ ،)1‬إال أنه نظر للخيال بصفة‬
‫لامة نظرتني منفصلتني اعأوىل إجيابية والثانية سلبية‪ ،‬قهو إجيايب لكونه حركة ثانوية ناجتة لن‬
‫حمفزا مللكة اإلبداع وهو سليب لكونه أكثر التوهم‬
‫اإلحساس ومواصلة له ولكونه معيناا للذاكرة ا‬
‫كذباا‪ ،‬رغم أنه يرى يف اخليال الدوة املصورة اليت جتد ماال جتد احلواس البتة قهي صاحبة قدرة‬
‫خماقة للى تركيب الصور ودجمها أما احلس قهو قاصر للى أن يفعل هذا‪.‬‬
‫يف احلديدة لدد اهتمت الفلسفة اعأرسطية باخليال من جانبه التخييلي أكثر من‬
‫اهتمامها جبانبه التخيلي‪ ،‬قاعأول هو حماولة ضبط الدوة املتخيلة لند املتلدى وكذا توجيهها من‬
‫طرف العدل الذي رسم مسب ادا حدود التخييل لند املبدع‪ ،‬أما التخيل قهو صورة مجالية أمسى‬
‫حدا وكبتاا جلموحها داخل ذهن‬
‫لذات املبدع اخلاصة واملتفردة وامللدومة بسلطة العدل واحلس ا‬
‫املبدع‪.‬‬
‫لموما قإن "أرسطو" ال خيتلف لن أستاذه يف إلطاء السلطة للعدل ووصايته للى‬
‫ا‬
‫قاصرا للى الوصول للمعرقة للى الرغم من أنه ينص يف حديثه للى أنه ال‬
‫اخليال الذي يبدى ا‬
‫ميكن للدوة العدلية أن متارس وظيفتها بدون لون اخليال(‪.)2‬‬
‫إذا انتدلنا باحلديث لن امتداد اخليال لدى العرب الددامى قسنددهم مل يولوه ما يليق‬
‫به من العناية رغم إقرارهم بوجود هذه امللكة‪ ،‬لكنهم نسبوها إىل قوى ماورائية الوجودية أمسوها‬

‫(‪ )1‬إحسان لباس‪ :‬قن الشعر‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪، 4‬لمان ‪ ، 1987 ،‬ص ‪.142‬‬
‫(‪ )2‬حممد غنيمي همال‪ :‬الندد اعأديب احلديث‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪ ، 1962 ،2‬ص ‪.107‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫"شيطان الشعر" جاللني من اخليال شكماا من اإلهلا املستمد من الدوى اخلارجية وظل هذا‬
‫االلتداد الفكري سارياا حىت لصر بين أمية‪ ،‬وقد استمر النظر إىل اخليال بعد أن حترر من‬
‫معتدد املاورائية مشوباا باحلذر والشك‪ ،‬وحىت الفماسفة املسلمني الذين اشتغلوا يف احلدول‬
‫املعرقية هذه الفرتة جند أن معظمهم أهلوا احلديث لن اخليال يف مدابل التخييل الذي حظي‬
‫وجوهرا للعملية اإلبدالية متدبلني ذلكم االختماف الذي‬
‫ا‬ ‫كزا‬
‫لديهم مبا يليق جاللني منه مر ا‬
‫أسس له "أرسطو" بني العدل والتخيل‪ ،‬قالعدل ههنا هو السبيل الوحيد املوصل للحديدة بينهما‬
‫احلواس قإهنا تدد معارف خاطئة قدد سارت الفلسفة العربية مع الفارايب والكندي وابن سينا‬
‫وابن رشد للى نفس الطرح العدماين الذي أسست له الفلسفة اعأرسطية وقد سارت لندهم‬
‫قكرة أن قوة اخليال ال ميكنها إطماقاا أن تصل مستوى الددرات العدلية اليت تنهض باحلديدة يف‬
‫إطار احلكم الكلي اجملرد‪ ،‬ولليه قإن قوة اخليال هاته هي نتاج ملددرة دنيا يف نفس الدائل‬
‫واملتلدي للى السواء وال ميكنها حبال أن تبلغ درجة الكلي اجملرد‪.‬‬
‫يدول الفيلسوف العريب " يعدوب بن إسحاق الكندي " (‪« :) 873-805‬التوهم‬
‫هو الفنطاسيا‪ ،‬قوة نفسانية ومدركة للصور الحسية مع غيبة طينتها‪ ،‬ويقال الفنطاسيا هو‬
‫التخيل‪ ،‬وهو حضور صور األشياء المحسوسة مع غيبة طينتها»(‪ ،)1‬قيظهر هنا تأثر‬
‫الكندي اجللي بالفلسفة اليونانية حيث جعل التخيل مرادقاا للتوهم وهو ما يدابل كلمة قنطاسيا‬
‫"‪ "Phantasia‬يف اللغة اليونانية واليت تعين النور‪ ،‬قدد سار الكندي للى هنج سابديه إذ جعل‬
‫اخليال مرادقاا للوهم وقوة إنسانية مضللة‪ ،‬ومل ينظر إليه كدوة قعالة تتداوز حفظ صور اعأشياء‬

‫(‪ )1‬يعدوب بن إسحاق الكندي‪ :‬رسائل الكندي الفلسفية‪ ،‬تح‪:‬حممد لبد اهلادي أبو ريدة‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬د‪.‬ط‪،‬‬
‫الداهرة‪ ، 1955 ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫الغائبة لن احلس إىل التصرف يف هذه الصور بالفك والرتكيب لتكوين صور جديدة‪ ،‬وهنا‬
‫أغفل الكندي احلديث لن اجلانب اجلمايل للخيال ودوره يف العملية اإلبدالية‪.‬‬
‫وقد استمر جدل اخليال يف الفلسفة العربية اإلسمامية مع "الفارايب أبو نصر حممد" (‪-874‬‬
‫‪ ) 950‬الذي بسط نظرية مكتملة اعأركان خبصوص اخليال‪ ،‬قريى الفارايب أن اإلتصال بالعدل‬
‫الفعال أو "الفيض اإلهلي" كما يسميه يكون لن طريدني‪ :‬طريق العدل وطريق املخيلة أو طريق‬
‫ُ‬
‫النظر و طريق اإلهلا ‪ ،‬وهو كغريه من الفماسفة يعطي سلطة كبرية للعدل قهو حسبه ما يعصم‬
‫لن الوقوع يف اخلطأ ويعتمد هذا الدور ليشمل االنفعاالت الناجتة لن العملية التخييلية‪،‬‬
‫قالتخييل الشعري حسب "الفارايب" لملية إيها يعكف من خماهلا الشالر للى خداع املتلدي‪،‬‬
‫والتأثري قيه من خمال أقاويل صخيلة وتوجيه سلوكه إىل الوجهة اليت يريده أن يتده إليها عأنه يرى‬
‫أن بني السلو ك الذي يرمي إليه الشالر من قِبل املتلدي واالنفعال الناتج لن تلك اعأقاويل‬
‫لماقة نفسية قوية‪.‬‬
‫ويف سياق آخر قإن "الفارايب" يعطي الدوة املتخيلة أهية قصوى قهو يدرهنا بالعدل الفعال‬
‫إذا تواقرت قيها شروط بائنة للى ضرورة حدوث توازن بينهما وبني احملسوسات الواردة إليها من‬
‫اخلارج حىت ال تستويل لليها استيماء يستغرقها بالكامل‪ ،‬ومل تكن خادمة للدوة الناطدة قإذا‬
‫حتدق هذا اتصلت بالعدل الفعال وانعكست لليها الصور قتأخذ هذه الصور وتتخيلها هبا‬
‫حياكيها من احملسوسات املرئية اليت حتتفظ هبا‪ ،‬ولذا قالدوة املتخيلة ال تدو بتلدي الصور احلسية‬
‫الواردة لليها من طرف احلواس وحفظها بشكل سليب قدط بل هلا دور إجيايب وقعال يتميز بنوع‬
‫من اإلبداع واخللق‪.‬‬
‫ومن هنا خنلص أن الدوة املتخيلة لند "الفارايب" مركز اخليال ومولده الفعال‪ ،‬ليست جمرد‬
‫ذاكرة أو قوة حفظ بل هي احملفز للى لملية الرتكيب الذهين للصور املستداة من احملسوسات‬

‫‪- 60 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫بديعا حيث تتداوز‬


‫اجملردة يف الطبيعة‪ ،‬قاملتخيلة تعيد تركيب احملسوسات املختزنة لديها تركيباا ا‬
‫املعطى اخلارجي كما تندله احلواس‪.‬‬
‫أما باحلديث لن "ابن سينا" قإن له اجتاه غري اجتاه "الفارايب" يف النظرة ملوضوع اخليال‬
‫بعيدا يف تغليب اخليال ويتدلى ذلك بوضوح من خمال نظريته يف النبوة‬
‫قهو يذهب ا‬
‫واإلهلامات‪ ،‬قإذا كان "الفارايب" قد التز الطريق العدلي حبيث جعل قمة اإلنسانية تتمثل يف‬
‫العدل املستفاد‪ ،‬قإن "ابن سينا " سن طري ادا صخال افا لكل الرتاث اعأرسطي وهو طريق احلدس‬
‫واإلهلا ‪ ،‬قدد جتاوز "ابن سينا" (‪ ) 1037-980‬رأي "أرسطو" بأن اخليال أو التخيل "إحساس‬
‫ضعيف" جالماا منه ثاين قوى احلس الباطن ومكاهنا مدد الدماغ ويسميه املصورة‪ ،‬حيث أهنا‬
‫الدوة اليت حتفظ ما قبله احلس املشرت ك من احلواس اجلزئية وتبدى قيه بعد غيبة احملسوسات(‪.)1‬‬
‫قلدد قصر "ابن سينا" دور املصورة للى حفظ الصور املددمة من قبل احلواس دون‬
‫التصرف قيها‪ ،‬قللوصول إىل احلدائق يدرر "ابن سينا" وجود طريدني‪ :‬طريق مباشر؛ وهو طريق‬
‫احلركة واخليال‪ ،‬وطريق يتوسط املددمات املنطدية‪ ،‬وإذا كان الطريق الثاين يسلك سبيل‬
‫أسا إىل املطلوب من غري استعانة‬
‫االستدالالت والرباهني املنطدية قإن الطريق اعأول يتده ر ا‬
‫باملددمات املنطدية وذلك باإلتصال مباشرة بالعدل الفعال "الفيض اإلهلي" حيث تصبح‬
‫الغيبيات مشاهدة يف صورة ورموز لصاحب احلدس‪.‬‬
‫استعدادا لماتصال بالعدل الفعال‪ ،‬وكلما اشتدت درجته‬
‫ا‬ ‫ويعترب احلدس لند "ابن سينا"‬
‫لند بعض الناس استغنوا لن كل ختريج أو تعليم بل وتصبح العلو كأهنا حاضرة يف أذهاهنم‪،‬‬
‫وهذا هو لني اخليال الذي به تتم اإلهلامات للبشر للى اختماف مشارهبم قينبغ منهم من ينبغ‬
‫وللى هذا يسميه "ابن سينا" يف أحد نصوصه "الدوة الددسية"‪ ،‬قباخليال يشار ك اإلنسان‬

‫(‪ ) 1‬ابن سينا‪ :‬النداة يف احملكمة املنطدية والطبيعية واإلهلية‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬ط‪ ،2‬الداهرة‪ ، 1938 ،‬ص ‪.163‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫العدول املفارقة حبيث خترج معارقه لن حدود التدليد‪ ،‬ويتداوز بكثري ما نصل إليه بطريق‬
‫االستنتاجات العدلية العادية‪.‬‬
‫وملا كانت تلك اإلهلامات حتدث دقعة واحدة وبشكل غري مدصود كان البد من‬
‫وصاية العدل لليها وقرض رقابته املستمر عأهنا تفرض نفسها للى املبدع‪ ،‬لذا قدور العدل هو‬
‫صر للى جعل‬
‫تنظيم هذه اإلهلامات مبا يتناسب واملدا واملدال‪ ،‬وبذلك يكون "ابن سينا" ُم ٌ‬
‫قياسيا منطدياا‪ ،‬قالعمل اإلبدالي حسب رأيه يكون للى شكل‬
‫اإلبداع يف شىت الفنون ا‬
‫ومضات خاطفة حتدث يف الذهن لتكتمل يف صورة هنائية للى شكل لمل تا ‪ ،‬كما قد الترب‬
‫ونولا من الذكاء احملدود واملهارة اللغوية‬
‫"ابن سينا" اخليال حيلة صنالية وجعله ضرباا من الفطنة ا‬
‫اصطنالا‪ ،‬يتوسل إليه بطرائق من احليل تؤول إىل تناسب اعأجزاء يف‬
‫ا‬ ‫اليت يصطنعها الشالر‬
‫سياق التشابه أو التخالف(‪.)1‬‬
‫ولدد جعل من اخليال وسيلة يلتدأ إليها املبدع للتحايل وخداع املتلدي من خمال‬
‫توسله اللغة لن طريق تأليف كلماهتا بشكل متكنه من التأثري يف املتلدي واملماحظ للى "ابن‬
‫سينا" أنه ربط بني اخليال والتخييل‪ ،‬حيث قرن قهم النشاط اخليايل بالتمكن من إدرا ك التخييل‬
‫حىت تتم اإلحاطة بالعمل الفين من مجيع جوانبه‪ ،‬ولذا متثلت أطروحة "ابن سينا" يف الدوة‬
‫أيضا باخلياالت احملسوسة ولكنها ختتلف‬
‫املتخيلة يف وجود خصائص ترتبط بالصور احملسوسة و ا‬
‫لنها بالنولية ويسميها املعاين‪.‬‬
‫نستشف من نظرية "ابن سينا" يف اخليال والدوة املتخيلة أنه مل خيلط بني الوهم واخليال‬
‫كما قعله "أرسطو" وحىت "الفارايب" من بعد‪ ،‬قاخليال لنده نوع من الفيض أو اإلهلا الغامض‬
‫مبدلا بالفطرة من خمال إدراكه عأشياء قد تغيب لند‬
‫الذي حيدث يف اليدظة قيدعل اإلنسان ا‬

‫(‪ )1‬لاطف جودة نصر‪ :‬اخليال مفهوماته ووظائفه‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1984 ،‬ص ‪.149‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫غريه من بين جنسه‪ ،‬قالتمايز يكون مبدى قدرة الدوة املتخيلة لند اإلنسان للى الدقع به إلنتاج‬
‫واقع بديع يكرس لديه الددرة للى اخللق واإلبداع‪ ،‬وبذا قدط ألطى "ابن سينا" الدوة املتخيلة‬
‫الددرة للى تركيب أو قصل بعض ما يف اخليال لن بعض وهو ما نسبه الرومانسيون للخيال‬
‫بأنه ينشر ويفكك ليعيد بناء الصورة من جديد‪.‬‬
‫ومن اجلدير التنبيه إليه أن اخليال مل يكن ميزة حصرية للفلسفة اإلسمامية اليت تناولته‬
‫بالدراسة والتحليل وإن كان اعأثر اعأرسطي ذو بصمة واضحة يف مندزات هذه الفلسفة حول‬
‫هذا املوضوع‪ ،‬قدد كان للبماغيني والنداد مفاهية للخيال تبني انعكاس قلسفة الفماسفة‬
‫املسلمني لليها ‪ ،‬وقد تشبث العديد من أولئك البماغيني مبا انتهى إليه سابدوهم الفماسفة من‬
‫نتائج حول موضوع اخليال قكان أن أدخوال اخليال يف وقالب املنطق‪ ،‬وبناءاا للى هذا قدد‬
‫قاسوا اخليال يف اإلبداع بشىت أنواع مبداييس صورية وأخرى أخماقية‪ ،‬وكان نتاج هذا الدياس‬
‫لإلبداع الذي ميتد يف جذوره إىل الفلسفة اليونانية أن أثاروا العديد من الدضايا اهلامة من أبرزها‬
‫مشكلة اللفظ واملعىن ومانتج لنها من تبارز قكري طويل انتهى مع بزوغ قدر نظرية النظم‬
‫للدرجاين (‪ ،) 1078-1010‬الذي استمد مفهومه للخيال من االستناد لآلية الدرآنية‪﴿ :‬قال‬
‫بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾(‪ ،)1‬والذي ‪-‬التخييل‪-‬‬
‫يعين يف هذه اآلية إيها النفس وخدالها بالسحر ولذلك جند "اجلرجاين" يعرف التخييل بأنه‬
‫"هو ما يثبت فيه الشاعر أمرا هو غير ثابت أصال‪ ،‬ويدعي دعوة ال طريق إلى تحصيلها‬
‫ويقول قوال يخدع فيه نفسه ويريها ماال ترى"(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬الدرآن الكرمي‪ :‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.66‬‬


‫(‪ )2‬لبد الدادر اجلرجاين‪:‬أسرار البماغة‪،‬تح‪:‬حممد الفاضلي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪، 1999 ،‬ص ‪.205-204‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫إن مذهب "اجلرجاين" يف ما خيص قضية التخييل يشبه ما ذهب إليه بعض النداد يف‬
‫التبارهم التخييل مرادقاا لإليها أو يكاقئه منطدياا‪ ،‬ولكنه ما يفيتء أن يبني أن اخليال قوة‬
‫ونشاط ينشأ من جممولة قوى متشابكة متثل وحدة واحدة وهذه الدوى تتمثل يف العدل‪ ،‬التذكر‬
‫والتوهم واإلدرا ك والذكاء‪ ،‬وتتشابك هذه اعأجزاء احلاضرة يف الذهن تفرز قوة مبدلة خماقة يتم‬
‫هبا ومن خماهلا تشكيل كل لناصر التدربة اإلبدالية‪ ،‬قرؤية "اجلرجاين" واضحة جبماء للى أن‬
‫اخليال نشاط تعمل قيه كل الدوى املختلفة السابدة الذكر للى تركيب العناصر املتباينة‬
‫واملتبالدة وتعمل للى تدريبها وجعلها متآلفة‪ ،‬وهنا يظهر دور الفكر واخلاطر اليت هبما يستدلي‬
‫ويسرتجع ممامح اليت ال تظهر مباشرة مبدرد االستدلاء هلا وإمنا يكون بعد تثبت وتذكر وقكر‬
‫للنفس يف الصور اليت تعرقها وحتريك الوهم يف استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه(‪.)1‬‬
‫وامللفت يف اهتما "اجلرجاين" بدضية التخييل أنه حاد جزئياا لن النظرية الفلسفية هلذا‬
‫طبعا‪ -‬للى دراسة التخييل من خمال اعأثر الذي‬
‫اعأخري حيث كان تركيز الفماسفة ‪-‬املسلمني ا‬
‫يرتكه الكما املخيل يف نفوس السامعني أو بتعبري آخر يركزون للى سيكولوجية املتلدي‪ ،‬ومل‬
‫اهتماما لطبيعة العمل الفين أي طبيعة هذا الكما املخيل‪ ،‬أما "اجلرجاين" قدد حلل‬
‫ا‬ ‫يولوا‬
‫التخييل للى أنه جزء ال يتدزأ من العمل الفين وحتدث لن تكونه وإنشائه ووجوده‪ ،‬قكانت‬
‫رؤيته للخيال للى أساس أنه قيض من اإلهلا خيتص به املبدلون الذين يتوقر قيهم االستعداد‬
‫الذهين واملوهبة‪ ،‬وهبذا يكون "اجلرجاين" قد قسر أن اخليال ليس جمرد نشاط أحادي الدوة بل‬
‫تتظاقر قيه قوى ذهنية متعددة ينشأ لنها خيال قين واحد ومن هنا يتلد اإلبداع الفين‪ ،‬وبذلك‬

‫(‪)1‬لبد الدادر اجلرجاين‪:‬أسرار البماغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.135‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫يكون "لبد الداهر" الناقد العريب الفذ الذي لرف اخليال وأدر ك أهيته بشكل مل يسبده أحد‬
‫قيما نعلم(‪.)1‬‬
‫وهكذا ظلت مفاهية اخليال لرب العصور حمل نداش قكري تتداذبه أطرف من الفلسفة‬
‫كل من منظاره‬
‫واعأدب والفنون‪ ،‬ومع العصر احلديث تباينت النظرة إىل اخليال قنظر إليه ٌ‬
‫الفلسفي ومشربه الفكري وحىت املذهيب‪ ،‬قفي حني نادت الكماسيكية بضرورة تدييد اخليال‬
‫بضابط العدل‪ ،‬رأت قيه الرومنسية لامل أقضل من لامل احلديدة قحظي لندهم اخليال مبنزلة‬
‫قوقية الئدة‪ ،‬وقد كان موضوع اخليال لرضة لتأثري تيارات قكرية متعددة منها "املادية‬
‫والوجودية‪...‬اخل"‪.‬‬
‫ويف تاريخ الفلسفة يعترب "كانط" حبق حمطة بارزة قيها يتعلق باملنزلة اليت حظي هبا اخليال‬
‫من طرف أساطني الفلسفة الغربية‪ ،‬قاملخيلة يف الفكر الكانطي هي ملكة تدو ببناء الصورة‬
‫الفضائية للموضوع داخل احلدس اجملرد‪ ،‬قهو الذي يندل ما يف الذهن إىل الواقع وجيعله ممكناا‪،‬‬
‫أمرا ضرورياا عأنه ملكة وقدرة إنسانية ال ميكن حبال جتاهل دورها قهي‬
‫ويعترب "كانط" اخليال ا‬
‫املخصوصة بوظيفة تركيب ما بالذهن من صور منفصلة وتددميها يف صورة متكاملة اجلزاء مل‬
‫أجل قوى اإلنسان‪،‬‬
‫يكن من املمكن حتصيلها يف غياب اخليال‪ ،‬يدول "كانط"‪ « :‬الخيال ُّ‬
‫وأنه ال غنى ألية قوة أخرى من القوى اإلنسان عن الخيال‪ ،‬وقلّما وعى الناس قدر‬
‫الخيال وخطره»(‪.)2‬‬

‫منهدا وتطبي ادا‪ ،‬دار طماس‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪ ،1‬دمشق‪،‬‬


‫ا‬ ‫(‪ )1‬أمحد للي دهان‪ :‬الصورة البماغية لند الداهر اجلرجاين‬
‫ص ‪.620‬‬
‫(‪ )2‬حممد غنيمي همال‪ :‬الندد اعأديب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.411‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أرضا تديم لليها الذات نشاطها الفكري وهبذا يتخذ‬


‫قلدد حاول "كانط" اختاذ اخليال ا‬
‫"كانط" اخليال قوة مؤسسة للرتكيب‪ ،‬واملعروف أن "كانط" يرى أن قعل التفكري هو لمده‬
‫قعل الرتكيب‪ ،‬وهبذا يصري اخليال ملكة مؤسسة وبشكل قبلي لفعل الرتكيب بشكل لا ‪ ،‬بل‬
‫إن اخليال هو الشكل الرتكييب اخلالص بامتياز‪ ،‬ويتحدق مفعول اخليال حسب "كانط" من‬
‫مدى الفكر مبدمولة من التخطيطات اعأولية املتعالية اليت متكن من متثل الصورة اخلالصة‪ ،‬كما‬
‫أساسا‬
‫أساسا للرؤية وكل لماقة مع أشياء احمليط املشتتة وهبذا يصبح ما كان يعترب ا‬
‫تشكل ا‬
‫للتوهم هو لينه ما يؤسس لألقق الذي تدو لليه العماقة باملوجود‪.‬‬
‫ومن هنا يصبح التمييز املانوي بني الواقع واخليال يف حكم امللغى حيث إنه بدالا من أن‬
‫يظل اخليال هو املدابل الضدي للواقع يغدو مع "كانط" هو ما يؤسس للواقعي واملوضولي‪،‬‬
‫يدول "هيدغر" لن اخليال الكانطي‪« :‬الخيال السامي إذن هو األساس المكون إلمكان‬
‫المعرفة األنطولوجية وللميتافيزيقا في معناها العام‪ ...‬بهذا القول يكون كانط قد أدخل‬
‫الخالص كوظيفة ضرورية للروح‪ ...‬إ ّن الخيال ملكة أو قدرة تمكن من الحدس‬
‫الخالص»(‪ ،)1‬مث ما يلبث "كانط" أن يربط بني اخليال واجلمال ضمن نظريته اإلستيطيدية‬
‫حيث يكشف لن خصوبة اخليال الكبرية‪ ،‬قاخليال هنا يتحرر من املفهو ليكتشف حريته عأن‬
‫خاضعا إلكراهات‬
‫ا‬ ‫اجلمال يدقع إىل التفكري أكثر‪ ،‬وإذا كان اخليال يف املعرقة املوضولية‬
‫حرا يف منظور مجايل(‪.)2‬‬
‫الفاهة‪..‬قإنه يف املدابل يكون ا‬
‫مربزا وطادة هذه العماقة اليت جتمعها قائماا‪:‬‬
‫مث يؤكد "كانط" للى لمائدية اخليال باإلدرا ك ا‬
‫«إ ّن اإلدراكات المختلفة توجد في العقل على نحو منفصل ويبدو ربطها على نحو‬

‫‪(1) Heidegger (M): Kant et le problème de la métaphysique, Ed. Gallimard, 1953, P‬‬
‫(‪177-180.) Adapted‬‬
‫(‪(2) Hélène védrine: les grand conception de l’imaginaire, op.cit, P 107. )Adapted‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫فعالة تركب‬
‫يخالف وجودها في الحس مطلبا ضروريا ومن ثم ينبغي أن توجد فينا قدرة ّ‬
‫الكثرة التي يبديها المظهر‪ ،‬وليست هذه القدرة شيئا آخر سوى الخيال»(‪.)1‬‬
‫وميكن تلخيص رؤية "كانط" للخيال بأنه يتصوره بوصفه قوة موحدة أو رابطة تعمل يف‬
‫مستويني أحدها يربط اخليال قيه إدراكات املوضولات املختلفة من نفس النوع واآلخر يدو‬
‫قيه اخليال بربط اإلدراكات املختلفة لنفس املوضوع املعطى‪ ،‬قاخليال لنده هو وسيلة اإلدرا ك‬
‫احلسي لكل من هوية الفرد والنوع لكل من هوية التصور وهوية املوضوع‪ ،‬ولذلك قكانط يعترب‬
‫مستندا يف ذلك آلراء قلسفية ل "ديفيد‬
‫ا‬ ‫أول من أسس إلكتشاف دور اخليال يف لملية املعرقة‬
‫هيو " الذي ال ميكن تناسي أو التغاضي لن إسهاماته يف هذا اجملال‪ ،‬ولذا قدد أبان "كانط"‬
‫يف نظريته للخيال لن تزاخم كبري للكثري من اآلراء الفلسفية اليونانية واليت بدورها كانت اللبنة‬
‫اعأساس للفلسفة املثالية اليت رادها "كانط"‪ ،‬هذه الفلسفة كانت هلا إشعالات ال ميكن حدبها‬
‫(‪ ) 1834-1772‬قدد واقق "كولردج" قكرة "كانط"‬ ‫»‪«Coleridge‬‬ ‫للى نظرية "كولردج"‬
‫ورأيه بأن ملكة اخليال ضرورية يف إدرا ك احلدائق والوصول إىل املعرقة‪ ،‬إال أنه خيتلف معه يف‬
‫وظائفية اخليال قعلى لكس "كانط" يرى "كولردج" أن الدور الذي يدو به اخليال ليس جمرد‬
‫مجع للصور احلسية إمنا هو تنظيم هلذه الصور‪ ،‬والتوقيق بني ما يكون قيها من متناقضات لن‬
‫طريق رؤية الوحدة الباطنة املتخفية وراء هذه املتناقضات ومن مث قاخليال ال يدتصر للى مجع ما‬
‫روحا‬
‫يف الطبيعة قحسب‪ ،‬وال يندله كما هو بل حياول أن يضفي لليه ما هو متفرق يف الطبيعة ا‬
‫وموحدا‪.‬‬
‫ا‬ ‫واحدة‪ ،‬قإذا املتفرق يف الطبيعة وباملددرة املتخيلة يصري متكامماا‬
‫ومن املهم اإلشارة إىل أن "كولردج" ألطى تعري افا للخيال‪ ،‬حيث يدول‪« :‬الخيال هو‬
‫القوة التي بواسطتها تستطيع صور معينة أو إحساس واحد أن يهيمن على عدة صور أو‬

‫(‪ )1‬مصطفى ناصف‪ :‬مشكلة املعىن يف الندد احلديث‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ، 1960 ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أحاسيس فيحقق الوحدة فيما بينها أشبه بالصهر ‪ ...‬وهذه القوة التي هي أسمى‬
‫الملكات اإلنسانية تتخذ أشكاال منها العاطفي العنيف ومنها الهادئ الساكن‪ ،‬ففي صور‬
‫نشاطها الهادئة التي تبعث على المتعة فحسب‪ ،‬نجدها تخلق وحدة األشياء الكثيرة‪،‬‬
‫بينما تفتقد هذه الوحدة في وصف الرجل العادي الذي ال يتوافر لديه ملكة الخيال لهذه‬
‫األشياء‪ ،‬إذ نجده يصفها وصفا بطيئا الشيء تلو الشيء بأسلوب يخلو من العاطفة»(‪.)1‬‬
‫ناهيك أن "كولردج" يدسم اخليال إىل نولني قيدول‪« :‬إني أعتبر الخيال ّإما أوليا أو‬
‫ثانويا‪ ،‬فالخيال األولي هو في رأيي القوة الحيوية أو األولية التي تجعل اإلدراك اإلنساني‬
‫ممكنا‪ ،‬وهو تكرار العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في األنا المطلق‪ّ ،‬أما الخيال‬
‫الثانوي فهو في عرفي صدى للخيال األولي غير أنه يوجد مع اإلرادة الواعية‪ ،‬وهو يشبه‬
‫الخيال األولي في نوع الوظيفة التي يؤديها‪ ،‬ولكنه يختلف عنه في الدرجة وفي طريقة‬
‫نشاطه‪ ،‬إنه يذيب ويالشي ويحطم لكي يخلق من جديد ‪ ،)2(»...‬قاملبدع بالنسبة ل‬
‫"كولردج" ال يكتفي باخليال اعأويل بل جياوزه للثانوي الذي يساهم يف لملية اإلبداع بشكل‬
‫قعال لنه لو اقتصر للى اعأول ويفصل "كولردج" أكثر يف هذا املوضوع قائماا‪« :‬فالخيال‬
‫األولي يسعى إلى الوقوف على ماهية األشياء وإدراكها‪ ،‬ويحتاج على سبر أغوار الشيء‬
‫والنفاذ إلى أعماقه ‪ ...‬ولكن الخيال الثانوي ليس إدراكا يقوم على استقصاء الصفات‬
‫والجزئيات التي يتركب من مجموعها الشيء المدرك‪ ،‬وإنما هو إدراك يقتصر فيه الشاعر‬
‫على الصفات التي تهمه فقط في الشيء المدرك»(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬حممد مصطفى بدوي‪ :‬كولردج‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة مصر‪ ، 1958 ،‬ص ‪.158‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.157-156‬‬
‫(‪ )3‬حممد زكي العشماوي‪ :‬دراسات يف الندد اعأديب املعاصر‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،1‬الداهرة‪ ، 1994 ،‬ص ‪.264-263‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ومن هنا يدو اخليال بالربط بني الطبيعة والعمل الفين بالتماده املدركات احلسية مادة‬
‫له تسالده للى بناء لمله الفين‪ ،‬كما أن "كولردج" أخذ للى لاتده التمييز والفصل املعريف‬
‫بني اخليال والوهم‪ ،‬قهو يضع الوهم يف مستوى أللى من اإلدرا ك والتذكر ولكن يف مستوى‬
‫أدىن من اخليال‪ ،‬قهو يعترب أن الوهم خيتص مبوضوع املتوهم كما أن موضوع اخليال هو الشيء‬
‫املتخيلن وال يتأتى حبال أن يكون املوضوع متوهاا ومتخيماا يف آن واحد‪ ،‬قمن خمال هذا‬
‫التمييز بني اخليال والوهم أراد "كولردج" أن يبعد أي لبس أو خلط بني اعأمرين أو الفضائني‪،‬‬
‫قاخليال قدرة تدو باملزج والرتكيب قيما لديها من صور صختزلة لتشكيل صور جديدة‪ ،‬أما الوهم‬
‫قهو أدىن درجة من اخليال إذ يتدبل اعأشياء اجلاهزة وخيلط بينها‪.‬‬
‫لدد اهتم قدماء اإلغريق بكلمة خيال ولكن هذا االهتما كان مدي ادا بعديدهتم قالتُرب‬
‫ضرب من اجلنون العلوي‬
‫ٌ‬ ‫اخليال يف الكثري من تنظريات "سدراط" وتلميذه "أقماطون"‬
‫وهلوسات ذهنية‪ ،‬ولكن "أرسطو" شذ لن الدالدة وأشار يف الكثري من نصوصه إىل كلمة‬
‫خيال وكذا امللكة املتخيلة وقد ساد هذا التنظري اعأرسطي للى الكثري من الثداقات اليت تتابعت‬
‫لرب اعأزمنة يف أنه أرجع إىل اخليال املددرة للى اجلمع بني الصورة‪ ،‬وكذا يف رد العمل الفين‬
‫للى الوحدة يف املأساة(‪.)1‬‬
‫وبالوصول للمدرسة الكماسيكية قدد نادت هذه اعأخرية باحلديدة وحدها وجعلتها مدار‬
‫ووصف بأنه ملكة قوضوية ال ختضع للعدل‪ ،‬وسادت هذه‬
‫اعأدب والفن وتضاءلت قيمة اخليال ُ‬
‫النظرة لفرتة من الزمن ومتكنت من كثري من لدول الفماسفة للى غرار "ديكارت"‪" ،‬هوبز"‪،‬‬
‫"دريدن"‪ ،‬للى أن اعأمر تغري بالنسبة للخيال‪ ،‬يف العصر احلديث قازداد االهتما به وظهر‬
‫(‪ ) 1822-1792‬بأن العدل حيرت الفروق بني اعأشياء بينما حيرت‬ ‫»‪«Shilly‬‬ ‫مبدأ "شيلي"‬

‫(‪ )1‬أرسطو‪ :‬قن الشعر‪ ،‬تر‪:‬لبد الرمحن بدوي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫اخليال مواضع الشبه قيها‪ ،‬وهبذا صار للخيال من يداقعون لنه وينزلونه منزلة العدل من حيث‬
‫الدداسة والددرة للى إيداظ ملكة اإلبداع‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -4‬الـ ـص ـورة الـ ـف ـنيـ ـة‪:‬‬

‫أ) المفهوم اللغوي‪:‬‬


‫إن املطالع ملعاجم وقواميس اللغة العربية جيد أن معىن صورة واملصور من أمساء اهلل‬
‫ُ‬
‫مجيعا قألطى لكل شيء صورته‪ ،‬وهيئته اليت يتميز‬
‫احلسىن‪ ،‬قاهلل تعاىل هو من صور املوجودات ا‬
‫توهت‬
‫ُ‬ ‫هبا للى اختماف هذه الصور وتنولها‪ ،‬وقد جاء يف لسان العرب‪ :‬تصورت الشيء‪:‬‬
‫صورته قتصور يل‪ ،‬ويدال‪ :‬صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته وصورة اعأمر كذا وكذا أي صفته(‪،)1‬‬
‫أما "الراغب اعأصفهاين" قيدول‪« :‬الصورة ما ينتقش به األعيان ويتميز بها غيرها‪ ،‬وذلك‬
‫ضربان‪ :‬أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة وثانيهما معقول يدركه الخاصة دون‬
‫خص بها شيئا‬
‫العامة‪ ،‬كالصور التي اختص بها اإلنسان من العقل والروية‪ ،‬والمعاني التي ّ‬
‫فشيئا» (‪.)2‬‬
‫وقد وردت كلمة صوركم واملصور والصورة يف الكثري من آيات الدرآن العظيم وهلا الكثري‬
‫من املعاين حسب سياقها كمعاين اخللق واإلجياد والتشكيل والرتتيب هذا من ناحية املفهومية‬
‫اللغوية‪ ،‬أما الناحية الفنية قالدرآن الكرمي يعد ألظم مرجع يف التصوير الفين‪ ،‬وقد ارتدت قيه‬
‫الصورة الفنية إىل الذي جعلها شكماا من أشكال اإللداز البياين‪.‬‬
‫جاءت كلمة صورة "‪ "Image‬يف املعاجم اعأجنبية مبعان صختلفة قفي قاموس الرتاث‬
‫صْنع وإنتاج مثال الشيء أو الشخص أو الطبيعة وذلك‬
‫اعأمريكي جاءت هذه الكلمة مبعىن ُ‬

‫(‪ )1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،25‬ص ‪.2523‬‬
‫(‪ ) 2‬الراغب اعأصفهاين‪ :‬املفردات يف غريب الدرآن‪ ،‬تح‪ :‬صفوت لدنان الداودي‪ ،‬دار الدلم‪ ،‬الدار الشامية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫دمشق‪ ،‬بريوت‪1412 ،‬ه ‪ ،‬ص ‪.497‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أيضا مبعىن استنساخ شكل الشخص أو‬


‫مثل متثيل الشالر لألشياء يف قصائده‪ ،‬كما جاءت ا‬
‫شيء ما يف الطبيعة أو كائن حي معني وخباصة مثاله النحيت(‪.)1‬‬
‫واملماحظ مما سبق أن الصورة لرب تارخيها استهلكت مفاهيم لديدة من اليونان الددمي‬
‫إىل احلضارة والفكر العريب وصوالا للعصر احلديث‪ ،‬وقد ظهر هذا املصطلح إىل اجلدل الفكري‬
‫بغزارة غداة حماوالت النداد الربط بني الرسم والشعر والتددمي احلسي لألشياء واالنفعاالت‬
‫واحلدائق‪.‬‬

‫‪(1) The American Heritage, Dictionary of the English language, op.cit, P 378.‬‬
‫(‪)Adapted‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ب) المفهوم المعرفي‪:‬‬


‫لدد استُخد مصطلح الصورة منذ "أرسطو" إىل اليو استخدامات متعددة‪ ،‬قدد‬
‫متميزا أو لن ُدل مبعىن متميز‪ ،‬مث حتدق له الرواج بعد ذلك بفضل‬
‫استخداما ا‬
‫ا‬ ‫استخدمه "أرسطو"‬
‫حركة السريياليني خاصة‪ ،‬يدول "أرسطو" يف مفهومية الصورة‪« :‬إ ّن الصورة هي أيضا استعارة‪،‬‬
‫إذ إنها ال تختلف عنها إال قليال فعندما يقال "وثب كاألسد" نكون أمام صورة ولكن‬
‫عندما يقال "وثب األسد" نكون أمام استعارة‪ ،‬فلكون اإلثنين جسورين سمي آخيل‪ ،‬على‬
‫سبيل النقل أسدا»(‪ ،)1‬ومبا أن أكثر الفنون استعماالا للصورة هو الشعر بشىت صنوقه قدد كان‬
‫امتدادا بائناٌ من رؤية الشالر اليوناين "سيمونيدس الكيوسي"‬
‫ا‬ ‫استلها "أرسطو" هلذه الرؤية‬
‫رسم ناطق‪.‬‬
‫بدوله بأن الشعر صورة ناطدة أو ٌ‬
‫ولكن "أرسطو" يف جزئية معينة يربط مفهو الصورة باحملاكاة ويعمق رباط الوصل بني‬
‫الشعر والرسا ‪ ،‬قالرسا إذا كان يستعمل يف لوحته الريشة واعألوان قإن الشالر يستعمل‬
‫اعألفاظ واملفردات ويصوغها يف قالب قين مؤثر يرت ك أثره يف املتلدي‪ ،‬ولذلك قإن "أرسطو"‬
‫أضاف للى الصورة هالة من التشريف وميزها لن باقي اعأساليب بعدما كانت مدرتنة باخليال‬
‫الذي التربه سابدوه ضرباا من اجلنون العلوي‪ ،‬وأن الشعراء مسكونون باعأرواح وهذه اعأرواح من‬
‫احا شريرة(‪ ،)2‬وطاملا أن "أرسطو" قد قرن مفهو‬
‫خرية كما ميكن أن تكون أرو ا‬
‫املمكن أن تكون ِّ‬
‫الصورة بأسلوب االستعارة قهو يدول لنها «ولكن أعظم األساليب حقا هو أسلوب‬
‫االستعارة ‪ ...‬وهو أية الموهبة»(‪ ،)3‬وحىت تكون الصورة يف رأي "أرسطو" حية داخل النص‬

‫(‪(1) Aristotle: Retorica, Edit par Aguilar, Madrid, 1967, P 240.) Adapted‬‬
‫(‪ )2‬إحسان لباس‪ :‬قن الشعر‪ ،‬دار الثداقة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت لبنان‪ ، 1959 ،‬ص ‪.141‬‬
‫(‪ )3‬أرسطو‪ :‬قن الشعر‪ ،‬تر‪ :‬حممد شكري لياد‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬الداهرة‪ ، 1967 ،‬ص ‪.128‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫اإلبدالي هلا ما هلا من مفعول من تأثري ومفعول قمابد هلا من خيال خيرجها من النمطية‬
‫والتدرير واملباشرة‪ ،‬قاخليال هو الذي حيلق بالدارئ يف اآلقاق الرحبة‪ ،‬وخيلق له دنيا جديدة‬
‫ولوامل ال مرئية خترجه من العزلة والتدوقع‪.‬‬
‫قالتصوير يف اعأدب نتيدة لتعاون كل احلواس وكل امللكات‪ ،‬والشالر املصور حني‬
‫يربط بني اعأشياء يثري العواطف اعأخماقية واملعاين الفكرية والصورة منهج ‪-‬قوق املنطق‪ -‬لبيان‬
‫حدائق اعأشياء(‪ ،)1‬وبذا كانت مصادر الصورة متنولة بني ملكات ذهنية وأخرى حسية‪،‬‬
‫قاخليال واإلدرا ك واحلس والبصرية كلها تساهم بنصيب يف بناء الصورة يف الذهن ومن مثة‬
‫ترمجتها قعماا إبدالياا ذي صبغة مجالية‪ ،‬قحني تدور يف ضمري املبدع قكرة تلح لليه مصحوبة‬
‫شديدا قيخفف لن‬
‫بعاطفة قوية قإنه يندقع للتعبري لن هذه املشالر اليت تضغط لليه ضغطاا ا‬
‫نفسه بندل إحساسه إىل اآلخرين قيستشري طاقة اخليال‪ ،‬وهي الطاقة اليت جتمع لناصر متفرقة‬
‫من الذاكرة والعدل لتصنع منها صورة(‪ ،)2‬قهذه الصورة هي اليت ترتجم لاطفة الشالر وتفصح‬
‫لنها وهي اليت تؤثر يف مجهور املتلدني قتدذهبم إىل الشالر منفعلني مع أحاسيسه متماهني يف‬
‫لواطفه‪ ،‬قالفكرة يف اإلبداع الشعري ختتفي وراء العاطفة واخليال‪.‬‬
‫شالرا كان أ قنان‪ -‬يستعني باخليال لبناء الصورة الفنية يف مندزه اإلبدالي‪،‬‬
‫قاملبدع ‪ -‬ا‬
‫وذلك عأن احلديدة اجملردة ال تكفيه للتعبري لن نفسه‪ ،‬كما اخليال له دور تأليف الصور الذهنية‬
‫اليت ترتجم إىل لواطف ومن هنا قإن خصوبة اخليال وقالليته تكمنان يف قدرته للى توليد‬
‫الصور وإنتاجها واجلمع بينها حيدد قدرة املبدع للى الكشف واإلبداع‪ ،‬وهذا هو جوهر النظرية‬
‫اعأرسطية قيما خيص بناء الصورة الفنية وهي ذات النظرية اليت استلهم منها العرب الددامى‬

‫(‪ )1‬مصطفى ناصف‪ :‬الصورة اعأدبية‪ ،‬دار اعأندلس للطبالة والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص ‪.09‬‬
‫(‪ ) 2‬بشرى موسى صاحل‪ :‬الصورة الشعرية يف الندد العريب احلديث‪ ،‬املركز الثدايف العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪، 1994 ،‬‬
‫ص ‪.29‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫كل حسب توجهه الفكري قمثماا إذا رأينا‬


‫قكرهتم العامة جتاه هذه الصورة‪ ،‬وإن خاضوا قيها ٌ‬
‫قكر "اجلاحظ" قندده يؤكد للى أهية التصوير يف اإلبداع الشعري وذلك من خمال مدولته‬
‫النددية الشهرية "الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير"(‪.)1‬‬
‫قدد ربط "اجلاحظ" بني الشعر والرسم والنسيج وهذه رؤية متددمة بالنسبة لزمانه ولنظرية‬
‫الصورة الفنية‪ ،‬قعندما يرى "اجلاحظ" أن الشعر جنس من التصوير قهو قد ألطى الشعر قيمة‬
‫قنية مجالية قهذا يعين أن الشالر جيب أن ميتلك قدرة بارلة للى إثارة صورة بصرية يف ذهن‬
‫املتلدي‪" ،‬قاجلاحظ" (‪ ) 869-776‬يكون هبذا قد توصل إىل أهية جانب التدسيم وأثره يف‬
‫إغناء الفكر بصور حسية قابلة للحركة والنمو‪ ،‬تعطي الشعر قيمة قنية ومجالية ال ميكن للمتلدي‬
‫جنسا من التصوير يعين هذا قدرته للى إثارة صور بصرية‬
‫االستغناء لنه‪ ،‬قحينما يكون الشعر ا‬
‫يف ذهن املتلدي‪ ،‬وهي قكرة تعد املدخل اعأول أو املددمة اعأوىل للعماقة بني التصوير والتددمي‬
‫احلسي للمعىن(‪ .)2‬وقد أقاد البماغيون والنداد العرب الذين جاءوا من بعد "اجلاحظ" من قكرته‬
‫يف جانب التصوير وحاولوا أن يصبوا اهتماماهتم للى الصفات احلسية يف التصوير اعأديب وأثره‬
‫يف إدرا ك املعىن ومتثله‪ ،‬وإن اختلفت آرائهم وتفاوتت يف درجاهتم(‪.)3‬‬
‫وإذا جتاوزنا "اجلاحظ" إىل "قدامة بن جعفر" (وقاته ‪ ) 948‬قدد جعل من الشعر صورة‬
‫للمعىن ولد املعاين املادة اخلا للشعر قمددرة الشالر تكمن يف قدرته للى إبراز الشكل‬
‫واللفظ‪ ،‬قإذا كانت املعاين للشعر مبنزلة املادة املوضولية والشعر قيها كالصورة كما يوجد يف كل‬
‫صنالة من أنه البد هلا من منشئ موضوع يدبل تأثري الصور‪ ،‬قإن للى الشالر إذا شرع يف أي‬

‫(‪ )1‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‪ ،‬تح‪ :‬لبد السما هارون‪ ،‬مصطفى البايل احلليب‪ ،‬الداهرة‪ ، 1948 ،‬ص ‪.121‬‬
‫(‪ )2‬جابر لص فور‪ :‬الصورة الفنية يف الرتاث البماغي‪ ،‬دار الثداقة للطبالة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ، 1974 ،‬ص ‪.316‬‬
‫معيارا نددياا‪ ،‬منحى تطبيدي للى شعر اعألشى الكبري‪ ،‬دار الشؤون الثداقية‪ ،‬د‪.‬ط‪،‬‬
‫(‪ )3‬لبد اإلله الصائغ‪ :‬الصورة الفنية ا‬
‫بغداد‪ ، 1987 ،‬ص ‪.170‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫الرقعة والضعة ‪ ...‬أن يتوخى البلوغ من التدويد يف ذلك الغاية املطلوبة(‪ ،)1‬وجند‬
‫معىن كان من ِّ‬
‫أن "قدامة" يتدد لن التصوير اجلاحظي خطوة جديدة‪ ،‬قلدد كان كمامه أدخل يف باب‬
‫التصوير من رأي "اجلاحظ" قيه‪ ،‬قدد جعل للشعر مادة وهي املعاين وصورة وهي الصياغة‬
‫اللفظية والتدويد (اجلودة) يف الصنالة‪ ،‬قلدد تناول "قدامة" مدومات الصورة يف الشعر ومل‬

‫يكتف يف هذا التناول بصحة اللفظ والرتكيب‪ ،‬وسمامة الوزن واتِّساق الداقية مما يعد ا‬
‫أمورا‬
‫جوهرية لبناء هيكل الشعر‪ ،‬بل وقف لند مسائل لرضية تعد مظهر اقتدار الشالر للى‬
‫االبتكار واإلبداع(‪ ،)2‬قالصورة حسب وصف "قدامة" هي الوسيلة أو السبيل لتشكيل املادة‬
‫أيضا ندل حريف للمادة املوضولة‬
‫وصوغها شأهنا يف ذلك شأن غريها من الصنالات‪ ،‬وهي ا‬
‫حيسنها ويظهرها حلية تؤكد برالة الصانع(‪.)3‬‬
‫املعىن ِّ‬
‫وبذا نستشف أن أهية التصوير داخل اإلبداع الشعري لن تغفل لن النداد الذين جاءوا‬
‫بعد "اجلاحظ" قدد قهموا الصورة بدالالهتا اللغوية احلرقية‪ ،‬حبيث مل يرو منها سوى جانبها‬
‫سائدا يف‬
‫احلسي املرئي‪ ،‬وهذا مفهو منطدي يتناسب مع طبيعة املناخ املعريف والثدايف الذي كان ا‬
‫العصور الددمية ولكن من امللفت أن النداد الددامى أدركوا ما أدركه النداد املعاصرون من أن‬
‫الصورة الشعرية هي الشيء الثابت يف الشعر كله وكل قصيدة إمنا هي يف ذاهتا صورة(‪.)4‬‬
‫ال نستطيع أن نربح استدصاء موضوع الصورة الفنية لند نداد العرب الددامى دون أن‬
‫نستلهم من رؤى "اجلرجاين" خبصوصها يدول "اجلرجاين" خبصوص الصورة‪« :‬واعلم أ ّن قولنا‬

‫(‪ )1‬قدامة بن جعفر‪ :‬ندد الشعر‪ ،‬تح‪ :‬حممد لبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪-65‬‬
‫‪.66‬‬
‫(‪ )2‬بدوي طبانة‪ :‬قدامة بن جعفر والندد اعأديب‪ ،‬الدار اعأجنلواملصرية‪ ،‬ط‪ ،3‬الداهرة‪ ، 1969 ،‬ص ‪.342‬‬
‫(‪ )3‬بشرى موسى صاحل‪ :‬الصورة الشعرية يف الندد العريب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫(‪ )4‬حممد حسن لبد اهلل‪ :‬اللغة الفنية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ، 1985 ،‬ص ‪.45‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫البينونة‬
‫الصورة إنّما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا‪ ،‬فما رأينا ْ‬
‫بين أحاد الجنس تكون من جهة الصورة‪ ،‬فكان بين إنسان من إنسان‪ ،‬وفرس من فرس‬
‫بخصوصية تكون في صورة هذا ال تكون في صورة ذاك وكذلك األمر في المصنوعات‬
‫فكان بين خاتم من خاتم‪ ،‬سوارا من سوار بذلك‪ ،‬ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين‬
‫وبينه في اآلخر ْبينونة في عقولنا وفرقا عبّرنا عن ذلك بأن قلنا المعنى في هذا صورة غير‬
‫صورته في ذلك‪ ،‬وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر‪ ،‬بل هو‬
‫مستعمل مشهور في كالم العلماء ويكفيك قول الجاحظ‪ :‬وإنّما الشعر صناعة وضرب‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا يف بيان أهية الصورة للبيان والكشف واإلبداع‪« :‬ومن الفضيلة‬
‫من التصوير» ‪ ،‬ويدول ا‬
‫الجامحة فيها أنها تبرز هذا البيان في صورة مستجدة تزيد قدره نبال وتوجد له بعد‬
‫(‪)2‬‬
‫الفضل فضال» ‪ ،‬ومن امللفت ا‬
‫أيضا أن "اجلرجاين" مل يهمل اعأثر النفسي وأهيته يف تشكيل‬
‫وتكوين الصورة‪ ،‬قاتِّسا حتليله العميق للخلق واإلبداع الشعريني للى الذوق الفين املرهف وما‬
‫تثريه مفردات البيان العريب أو ضروبه الفنية من استدابة قنية يف نفس متلديها‪ ،‬قبدا البيان‬
‫قائما للى الذوق والتذوق(‪.)3‬‬
‫العريب لنده ا‬
‫ويرى "اجلرجاين" كذلك للصورة أهنا ال تدو للى اللفظ وحده أو املعىن وحده بل أهنما‬
‫لنصران مكممان لبعضهما‪ ،‬قدراسة الصورة لند "اجلرجاين" هي دراسة متميزة ونظرته نظرة‬
‫تغاير املفاهيم اليت سبدت دراساته مما حيفزنا إىل التداده الناقد اعأول الذي بسط الدول يف‬

‫(‪ ) 1‬لبد الداهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإللداز‪ ،‬تح‪:‬حممود حممد شاكر أبو قهر‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬مطبعة املدين‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪ ، 1992‬ص ‪.365‬‬
‫(‪ )2‬لبد الداهر اجلرجاين‪ :‬أسرار البماغة‪ ،‬تح‪:‬ه‪.‬ريرت‪ ،‬مطبعة وزارة املعارف‪ ،‬ط‪ ، 1951 ،2‬ص ‪.41‬‬
‫(‪ )3‬بشرى موسى صاحل‪ :‬الصورة الشعرية يف الندد العريب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا يف موضوع الصورة لند "اجلرجاين" بأنه قد‬
‫اصطماحا ‪ ،‬وجدير بالذكر ا‬
‫ا‬ ‫مفهوما و‬
‫ا‬ ‫الصورة‬
‫مهما من رواقد الصورة‪ ،‬وأنه إذا وقع يف الصورة زادها مجاالا واستطاع أن يوازن‬
‫اقدا ا‬
‫لد اخليال ر ا‬
‫بني لمل الشالر يف تشكيل صورته ولمل الرسا يف تصوير لوحته ورأى بأن غايتهما وهي‬
‫ث ذلك‬ ‫ِ‬
‫إثارة املتلدي‪ ،‬وذلك بإحداث التآزر والتآلف بني لناصر الصورة لديهما‪ ،‬قالشالر ُحيد ُ‬
‫خاصا يف نفس‬
‫تأثريا ًّ‬
‫بأحرقه وكمامه والرسا حيدث ذلك بألوانه وخطوطه قكما املبدلني حيدثان ا‬
‫املتلدي ويوقع احملاكيات يف أوهامهم ونفوسهم بطريدة جتعلهم أشد انفعاالا من خمال هذا‬
‫التدومي احلسي للمادة املصورة‪.‬‬
‫ومفهوما ومل يبخسها حدها‪ ،‬وإن‬
‫ا‬ ‫مصطلحا‬
‫ا‬ ‫قإذن قالرتاث العريب قد لرف الصورة‬
‫اختلفت تسمياهتا لند النداد والبماغيني العرب الددامى‪ ،‬وقد قطنوا يف وقت مبكر من تاريخ‬
‫الندد اعأديب إىل أن لنصر التصوير هو قوا العمل الشعري وأساسه املتني‪.‬‬
‫وباالنتدال باحلديث لن مفهو الصورة لند الغربيني قسندد أهنا حظيت لديهم‬
‫باهتما كبري خاصة لند أصحاب الفكر الرومانتيكي قها هو الشالر الفرنسي "بيار ريفاردي"‬
‫‪ ) 1960-1889( «Pierre‬وهو من املدرسة الرومانتيكية يعرف لفظة صورة‬ ‫»‪Reverdy‬‬

‫"‪ " Image‬بأهنا إبداع ذهين صرف وهي ال ميكن أن تنبثق من املدارنة‪ ،‬إمنا تنبثق من اجلمع بني‬
‫حديدتني واقعيتني تتفاوتان يف البعد قلة وكثرة وال ميكن إحداث صورة املدارنة بني حديدتني‬
‫واقعيتني بعيدتني مل يدر ك ما بينهما من العماقات سوى العدل(‪.)2‬‬
‫أساسا للى اخليال والعدل وحده‬
‫قالصورة لند "ريفاردي" والرومنسيني بصفة لامة تعتمد ا‬
‫هو الذي يدر ك لماقاهتا‪ ،‬وباحلديث لن الصورة الفنية لند الغربيني ال ميكن إغفال نظرية‬

‫(‪ )1‬جليل رشيد قاحل‪ :‬الصورة اجملازية يف شعر املتنيب‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة بغداد‪ ، 1985 ،‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )2‬جمدي وهبة‪ :‬معدم مصطلحات اعأدب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.237‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫"كولردج" يف اخليال وأثرها الكبري يف بناء الصورة الفنية عأنه يدو بالدور اعأساس يف بناءها لن‬
‫طريق اجلمع بني لناصرها املختلفة‪ ،‬وترتبط الصورة باخليال ارتباطاُ وثيدا قبواسطة قاللية اخليال‬
‫تنفذ الصورة إىل صخيلة املتلدي قتنطبع قيها بشكل معني‪ ،‬وهيئة صخصوصة ناقلةا إحساس الشالر‬
‫جتاه اعأشياء وانفعاله هبا وتفالله معها(‪ ،)1‬ولذلك قأي حبث يف موضوع الصورة الفنية البد أن‬
‫يتطرق قيه الباحث إىل اخليال؛ عأن اخليال نشاط خماق ال يستهدف أن يكون ما يتشكل من‬
‫انعكاسا حرقياا عأنسدة متعارف لليها سل افا(‪.)2‬‬
‫ا‬ ‫الصور جمرد نسخ أو ندل للواقع ومعطياته‪ ،‬أو‬
‫ومن النداد الغربيني الذين أدلو بدلوهم يف تدصي الصورة الفنية وإجياد قضاء قكري‬
‫‪«Gaston‬‬ ‫تدور قيه ومن خماله الصورة لبناء لوامل اإلبداع الشعري جند "غاستون باشمار"‬
‫» ‪ ) 1962-1884(Bachelard‬الناقد والفيلسوف الفرنسي والذي تأسست منطلداته النظرية‬
‫الستيعاب الصورة الشعرية من مفاهيم العفوية‪ ،‬احلرية‪ ،‬احلداثة‪ ،‬حيث طرح ضمنياا التساؤل لن‬
‫املنهج النظري املمكن قصد التعبري لن اخلصوصية الذاتية لإلبداع الفين والسيما الشعر‪ ،‬وقدد‬
‫ختول لنا إمكانية استعادة ذاتية الصور مثلما تسالدنا‬
‫تبىن "باشمار" الظاهراتية ملنهدية وحيدة ِّ‬
‫للى تناول قيمتها اجلديدة(‪ ،)3‬قدد استهدف "باشمار" بطريدته احلفاظ للى أصالة الصورة‬
‫دائما قادرة للى إنتاج ذاهتا وحتاقظ للى يفالها‪ ،‬قهذه الصورة اليت شرلت يف حوار‬
‫حىت تبدى ا‬
‫مع املتلدي لن تشيخ قط عأن الولي الذايت والفردي ِّ‬
‫ميكناها من سبل الدوة واحلياة‪ ،‬قاالقتضاء‬
‫الظاهرايت بالنسبة للصورة الشعرية هو زيادةٌ للى ذلك بسيط‪ ،‬إنه يعود إىل التشديد للى قضيلة‬
‫أيضا من اإلنتاجية العظيمة اليت‬
‫أوالنيتها بل تناول الكائن ذاته يف أصالته واالستفادة ا‬

‫(‪ )1‬حممد غنيمي همال‪ :‬الندد اعأديب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫(‪ ) 2‬ساسني لساف‪ :‬الصورة الشعرية ومناذجها يف إبداع أيب نواس‪ ،‬دار الثداقة اجلامعية للنشر والتوزيع‪ ،‬د‪.‬ط‪، 1982 ،‬‬
‫ص ‪.24-23‬‬
‫‪(3) François Pire: De l’imagination Poétique, dans l’oeuvre de Gaston Bachelard,‬‬
‫(‪Librairie José corti, 1967, P 22.) Adapted‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫للخيال(‪ ،)1‬قحسب "باشمار" قإن الظاهرايت يدف لند مطلع الصورة كي يتماهى مع محولتها‬
‫املتعددة إىل درجة تدمص دور الشالر نفسه أي أن الصورة الفنية هتب للدارئ قدرة اإلنتدال‬
‫من حتدق الشعري إىل الولي اإلبدالي مبعىن التحول من موقع الذات السلبية إىل الذوبان يف‬
‫العملية اإلبدالية‪.‬‬
‫نظرا إلختزاليته وتدليصه‬
‫لدد انصرف "باشمار" لن التحليل النفسي الكماسيكي ا‬
‫الصورة إىل جمرد راسب إلدراكات قدمية تربز بطريدة ما من قبل الذاكرة‪ ،‬قمن الضروري حسب‬
‫"باشمار" كي نستعيد مطل ادا الصورة االهتما بوجودها وكياهنا كما يددمان للولي دون البحث‬
‫يف أسباب هذا الوجود‪ ،‬عأن ذلك من شأنه إبعادنا لن حديدة الصورة اليت تعترب مسل اكا جوهرياا‬
‫حنو اخرتاق وقضح سر اخليال‪ ،‬قليس املطلوب قهمها لكن اعأساسي استيعاب نشأهتا وإدراكها‬
‫يف كنهها بغري حتويلها إىل لغة أخرى‪ ،‬ولذا قإن حماولة "باشمار" لوصف ماهية الصورة الشعرية‬
‫(الفنية) من خمال قينومينولوجيا اخليال هي حماولة لفهم العامل من خمال لغة الصورة‪ ،‬اليت‬
‫ندصدها للى مستوى اخليال اإلبدالي الذي يتده ‪-‬بدوره‪ -‬حنو املستدبل حنو ما سيأيت حنو‬
‫شيء ما جديد‪ ،‬وهلذا قدد اهتم "باشمار" بالصورة يف وجودها الباطين أي يف حاالت أحما‬
‫اليدظة واخليال والذاكرة‪ ،‬ومل يهتم قحسب مبدرد مظهرها اخلارجي (أي مادهتا) أو بتعبري آخر‬
‫إن "باشمار" مل يكتف باالتصال اجلمايل للصورة الشعرية قحسب‪ ،‬الذي قيه نتعلق باجلمال‬
‫الفين املدد لنا من خمال الصورة والبحث لن املعىن املتدلى قيها(‪.)2‬‬

‫‪(1) Gaston Bachlard : la Poetique de la reverie PUF, Quadrige, Paris, 4eme Edition,‬‬
‫(‪1993, P 02.) Adapted‬‬
‫(‪ )2‬جاستون باشمار‪ :‬مجاليات الصورة‪ ،‬تر‪ :‬غادة اإلما ‪ ،‬التنوير للطبالة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت لبنان‪، 2010 ،‬‬
‫ص ‪.434‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫وظل مبحث الصورة يف الندد الغريب راسياا للى بر التدادل الفكري حىت العصر‬
‫املعاصر‪ ،‬وهنا ك من ذهب للى قكرة جديدة نسبياا واليت قحواها أن الصورة ليست نتاج رؤية‬
‫صورا تتكون من لناصر جتريدية حبتة‪ ،‬ال لماقة هلا بالبصر مطل ادا‪،‬‬
‫دائما‪ ،‬إذ إن هنا ك ا‬
‫بصرية ا‬
‫ولعل هذا ما جعل أغلب النداد الغربيني املعاصرين يتداوزون املفهو البصري للصورة عأن الناس‬
‫شديدا يف درجة تبصرهم كما قال "أوسن بليك"‪ ،‬ولذا قفكرة النداد املعاصرين‬
‫خيتلفون اختماقاا ا‬
‫للصورة هي ما تتضمن كل صورة خيالية يعرب لنها الشالر بواسطة انفعاله وتفكريه سواء‬
‫تشبيها أو إستعارة مبا حتمله الكلمات من معىن رحيب‪.‬‬
‫أكانت هذه الصورة اخليالية ا‬
‫أما النداد العرب احملدثون قدد توسع مفهو الصورة لندهم بعد النمطية اليت سادت‬
‫لند سابديهم حيث أصبح يشمل كل اعأدوات التعبريية مما تعودنا للى دراسته ضمن للم‬
‫البيان والبديع واملعاين والعروض والداقية والسرد وغريها من وسائل التعبري الفين(‪ ،)1‬وهي كذلك‬
‫الشكل الفين الذي تتخذه العبارات واعألفاظ يْنظمها الشالر يف سياق بياين خاص ليعرب لن‬
‫مستخدما طاقات اللغة وإمكاناهتا يف‬
‫ا‬ ‫جانب من جوانب التدربة الشعرية الكامنة يف الدصيدة‪،‬‬
‫الداللة والرتكيب واإليداع واحلديدة واجملاز والرتادف والتضاد واملدابلة والتدانس وغريها من‬
‫وسائل التعبري الفين واعألفاظ والعبارات هي مادة الشالر اعأوىل اليت يصوغ منها ذلك الشكل‬
‫الفين أو يرسم هبا صوره الشعرية(‪.)2‬‬
‫قاصرا للى اجلانب‬
‫قإذن مل يعد مفهو الصورة الفنية يف الندد العريب احلديث ضي ادا أو ا‬
‫البماغي قدط بل اتسع مفهومها وامتد إىل اجلانب الشعوري الوجداين‪ ،‬قدد أوىل النداد احملدثون‬
‫كبريا وليس أدل للى ذلك من الكم اهلائل للدراسات اليت أصبحت تتخذ من‬
‫اهتماما ا‬
‫ا‬ ‫الصورة‬

‫(‪ )1‬حممد الويل‪ :‬الصورة الشعرية يف اخلطاب البماغي والنددي‪ ،‬املركز الثدايف العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ، 1990 ،‬ص ‪.10‬‬
‫(‪ ) 2‬لبد الدادر الدط‪ :‬االجتاه الوجداين يف الشعر العريب املعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية للطبالة والنشر‪ ،‬ط‪، 1981 ،2‬‬
‫ص ‪.391‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫الصورة لنون ا هلا وذلك ملا للصورة من أهية لظمى يف جذب املتلدي ليتفالل مع املبدع‪ ،‬قلدد‬
‫صخصوصا باملدح والثناء‪ ،‬إهنا وحدها اليت حظيت مبنزلة‬
‫ا‬ ‫موضولا‬
‫ا‬ ‫دائما‬
‫كانت الصورة الشعرية ا‬
‫أمسى من أن تتطلع إىل مراقيها الشاصخة باقي اعأدوات التعبريية اعأخرى‪ ،‬والعديب أن يكون‬
‫هذا موضع اتفاق بني نداد ينتمون للى لصور وثداقات ولغات صختلفة(‪ ،)1‬ومفاد ذلك االتفاق‬
‫بأن الصورة الفنية ال ميكن أن تكون جمرد وصف تدريري أو حماكاة للواقع قحسب بل البد أن‬
‫تكون ومضة تلدائية تفرض نفسها للى املبدع‪ ،‬ليعرب هبذه الومضة لن حالة نفسية شعورية‬
‫تأثريا يستفزه إلدرا ك املعىن‪.‬‬
‫تنتدل بشكل تلدائي إىل املتلدي‪ ،‬لتحدث قيه ا‬

‫(‪ )1‬حممد الويل‪ :‬الصورة الشعرية يف اخلطاب البماغي والنددي‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.07‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫‪ -5‬المع ـ ـمـ ـار الـ ـف ـن ـ ـي‪:‬‬

‫إن املدصود باملعمار الفين هو هندسة النص الداخلية شعورياا وقكرياا‪ ،‬وهو مرتبط مبفهو‬
‫الوحدة العضوية مبعىن ترابط اعأحاسيس واعأقكار وانتظامها قيما يسمى بالتحا أجزاء التنظيم‪،‬‬
‫قاملعيار الفين يف النص اإلبدالي الشعري ينهض للى حركية املداطع الشعرية يف قضاء‬
‫الدصيدة‪ ،‬اليت ينهض قيها الشعور والتفكري يف حركة واحدة يندزها الشالر منذ بداية الدصيدة‬
‫إىل هنايتها مع مرالاة اإلنصات إىل الواقع احملسوس‪ ،‬قالشالر حيمل رؤيا إىل العامل تتداطع مع‬
‫رؤى لامة الناس لكنه يندلها إىل املتلدي بطريدة شالرية قيها لمق اإلحساس وبراءة التدربة‪،‬‬
‫شعرا‪ ،‬ولذا قالشالر له‬
‫مجيعا معرقة صياغتها ا‬
‫مجيعا هذه اعأقكار لكن ال يتأتى لنا ا‬
‫قدد حنمل ا‬
‫املددرة للى إيصال ما يزخم يف ذهنه من أقكار بطريدته اخلاصة يف النظم واملعمار الفين الذي‬
‫حياقظ للى الوحدة العضوية للدصيدة‪ ،‬قالشالر يبدأ املعىن وينهيه قبل أن ينتدل إىل معىن آخر‬
‫قما يسوقه الكما إىل احلشو قبل إهناء املعىن املراد تأديته‪ ،‬قكل قكرة تؤدي إىل الفكرة اليت‬
‫تليها يف إطار منظومة واحدة جتمع بني بعد الفكرة ولمق اإلحساس‪.‬‬
‫إذا لدنا قليماا إىل مصطلح العمارة قهي تعد لغة تعبري وختاطب تشمل مفردات خاصة‬
‫متيزها كنظا لغوي قائم بذاته وتكون هذه املفردات مادة اللغة املعمارية ووسيلتها وأهداقها تلبية‬
‫متطلبات مادية ومعنوية أهها اإليصال واالتصال واالستمرارية(‪ ،)1‬قاملعمار الفين للشعر هو يف‬
‫كلِّيته جممولة من العناصر والدوى اليت تتظاهر يف النص للى حنو يتم قيه تكامل املعاين‬
‫الشعرية املتبلورة يف حدائق لغوية‪ ،‬قالعامل الذي يتألف منه الدصيدة لامل متدانس تتماقى‬

‫(‪ ) 1‬البستاين مها لبد احلميد‪ :‬حماكاة التداليد يف لمارة ما بعد احلداثة ‪-‬رسالة دكتوراه‪ ،-‬قسم اهلندسة املعمارية‪ ،‬اجلامعة‬
‫التكنولوجية‪ ،‬بغداد‪ ، 1996 ،‬ص ‪.77‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أقكاره وتتعاقب يف حركة مطردة(‪ ،)1‬ولذلك كان املعمار الشعري هو جمموع العماقات املعدودة‬
‫بكل لنصر داخل النسق وجمموع هذه العماقات هو الذي يسمح بأداء وظيفته اللغوية(‪،)2‬‬
‫والنداد العرب الددامى مل يكونوا غاقلني لن هذه املسألة وإن مل تتفرد لندهم مبصطلح نددي‬
‫"قاجلرجاين لبد الداهر" يعد من أول من اكتنه أن النص ليس جممولة من اعألفاظ بل جممولة‬
‫من العماقات‪ ،‬وللى هذا تبدو قكرة النظم لنده بنائية (معمارية) ذلك عأن اعألفاظ ال تؤدي‬
‫معناها يف النص جمردة بل مرتبطة مبدمولة من اعألفاظ(‪.)3‬‬
‫قإذن ُميكن الدول أن معمارية النص الشعري حتتاج إىل جهد مضن من الشالر حلمل‬
‫جتربته الشعورية بدالب قين تتحد أجزاؤه وتتماحم لناصره وتستطيع محل رؤية الشالر‪ ،‬السيما‬
‫وأن الدصيدة جس ٌد واحد ينطوي للى جممولة من العناصر والعماقات تتماحم قيما بينها‬
‫لتؤدي وظيفة كلية‪ ،‬قالنص اعأديب جيري وقق درجة لالية من التنظيم ويتحدق هذا التنظيم وقق‬
‫طريدتني‪ :‬الواقعية بانتداء خيار أدائي وطرح بدائله‪ ،‬والسياقية اليت تفرض أال يتكون النص من‬
‫لناصر لشوائية‪ ،‬بل جيب أن يكون كل لنصر من العناصر له لماقة لضوية ببدية العناصر(‪.)4‬‬
‫وبناءاا للى هذا قاملعمارية الفنية للنص اعأديب تتكأ للى أمرين‪ :‬أوهلما يتمثل يف‬
‫االختيار أو انتداء للغة واملعىن‪ ،‬أما ثانيهما قهي الطريدة اليت ْيعمد قيها الشالر لوضع هذه‬
‫اعألفاظ واملعاين يف قالب قين حبيث تؤدي الوظيفة املرجوة واليت تتمثل يف ندل رؤية الشالر‬
‫وجتربته الشعورية إىل املتلدي‪.‬‬

‫(‪ )1‬بكار يوسف حسني‪ :‬بناء الدصيدة العربية‪ ،‬دار الثداقة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪ ، 1979 ،‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )2‬كوهن جان‪ :‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬تر‪ :‬حممد الويل‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫(‪ ) 3‬لبد الداهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإللداز‪ ،‬تعليق وشرح‪:‬لبد املنعم خفاجي‪ ،‬مكتبة الداهرة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الداهرة‪، 1969 ،‬‬
‫ص ‪.51‬‬
‫(‪ )4‬يوروي لومتان‪ :‬حتليل النص الشعري‪ ،‬بنية الدصيدة‪ ،‬تر‪:‬حممد قتوح‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬مصر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.63‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫إن استناد الشالر إىل حمكات أو معايري قالدية للغة حتكم الدصيدة كالنحو والصرف‬
‫والعروض مبنية للى تفكري منطدي سبيب‪ ،‬وكذلك اعأمر حني يستعمل ضروباا من اجملاز‬
‫كالتشبيه واالستعارة قذلك يعين أن الدصيدة مبنية للى تفكري قين مجايل قيه اخليال اجلامح‬
‫الذي يوسع قلسفة املعمار الفنية‪ ،‬قالشعر وقن العمارة يتشاركان يف التفكري املنطدي السبيب‬
‫املتسلسل وهذا مما جيمعهما يف ميدان واحد‪ ،‬قالتفكري السبيب واملنطدي والرياضي يعتمد‬
‫املعاجلة التسلسلية لذلك قإن املصمم املعياري مسري يف خط متسلسل من اعأقكار مثلما هي‬
‫سلسلة أقكار املتكلم بغرض الوصول إىل الدصد أو املغزى‪ ،‬وهذا التسلسل السبيب ال يتواقر يف‬
‫الدوالد النحوية ويف العروض قحسب بل يتعداه إىل الوحدة العضوية للدصيدة حبيث لو قدمنا‬
‫بيتاا للى بيت حده التأخري كان ذلك ليحدث خلماا يف الوحدة العضوية للدصيدة شأن ذلك‬
‫من شأن املعمار حني ال يعتمد التسلسل السبيب يف الرتكيب املعماري‪ ،‬إن التحا الشكل الفين‬
‫باملضمون إذ يكون أحدها داالا للى اآلخر ليؤديا مدلوالا معيناا مما جيعل الدصيدة توحي‬
‫باحلديدة من خمال اجلمال قشكل الرتكيب الفين يوحي باملعىن اجلمايل للدصيدة‪ ،‬كذلك‬
‫العمارة قإن شكل الرتكيب الفين اجلمايل جيب أن يتطابق مع الوظيفة االجتمالية أو املوضولية‬
‫ويكون الدال مدلوالا‪.‬‬
‫إن المباشرية التعبري اليت جندها حاضرة بدوة داخل املعمارية الفنية للنص اعأديب جتعل‬
‫خاضعا جملمولة من اآلليات اللغوية املختلفة اليت تدخل يف بناء اهليكلية اجلمالية للنص‬
‫ا‬ ‫منه‬
‫ولعل من تلك اآلليات نذكر ما يلي‪:‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫آلية التناص‪ :‬إن هذه اآللية تعد ظاهرة لغوية معددة تستعصي للى الضبط ويعتمد كشفها‬
‫وقياسها للى ثداقة املتلدي وسعة ومعرقته وقدرته للى الرتجيح(‪ ،)1‬وجتري آلية التناص وقق‬
‫مفهومني أساسني ها‪ :‬مفهو التشاكل ومفهو التدالي؛ قاعأول يدصد به العملية اليت تتضمن‬
‫انتخاب ملعامل من نصوص سابدة معروقة اعأصول من خمال انتمائها لنتاج حضاري معني‬
‫ولدد النصوص اليت يرتبط هبا وانتمائها الزمكاين‪ ،‬أما التدالي قاملرجو مبعناه هو تركيب أشكال‬
‫يف أشكال سابدة الستحضار معانيها املألوقة لدى املتلدي ومن مثة يسند إىل قدرة الذاكرة يف‬
‫ربط هذه املعاين مبعاين أخرى خارجة لنها لغرض إيصال معانيها املدصودة(‪ ،)2‬كذلك من‬
‫جممولة اآلليات اللغوية سابدة الذكر نذكر‪:‬‬
‫آلية التجريد‪ :‬واليت يُعىن هبا متثيل لشيء ما قد يكون ملموس أو غري ملموس وذلك بااللتماد‬
‫للى جممولة لمليات للى غرار التبسيط‪ ،‬التدليص‪ ،‬استخماص بعض اجلوانب وإزالة الباقي‪،‬‬
‫اإلزاحة وغريها؛ وذلك بغية الوصول إىل لمق اجلوهر‪ ،‬الغموض‪ ،‬اجلاذبية‪ ،‬قوة التعبري‪ ،‬اإلبداع‬
‫يف خلق أشكال متعددة لذات الشيء(‪.)3‬‬
‫آلية اإلزاحة‪ :‬ويدصد هبا كل صورة خترق قالدة من قوالد اللغة ومبدأ من مبادئها لن طريق‬
‫قصل الدال لن املدلول للحصول للى احتماالت كثرية للمعاين تعددية املعاين(‪ ،)4‬قاهلدف من‬
‫هذه اآللية هو تأمني االتصال كهدف هنائي عأجل قهم معىن البناء الفين للنص اإلبدالي‪.‬‬

‫(‪ )1‬البستاين مها لبد احلميد‪ :‬حماكاة التداليد يف لمارة ما بعد احلداثة ‪-‬رسالة دكتوراه‪ ، -‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.64-62‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.71-70‬‬
‫(‪ )3‬آمنة لبد اجلبار لبد الفتاح لعماري‪ :‬التدديد يف العمارة ‪-‬النظرية والتطبيق‪ ،-‬رسالة ماجستري‪ ،‬قسم اهلندسة‬
‫املعمارية‪ ،‬اجلامعة التكنولوجية‪ ،‬بغداد‪ ، 1997 ،‬ص ‪.62-61‬‬
‫(‪ )4‬لبد احلميد سهري‪ :‬املرجع يف العمارة‪ ،‬حبث يف اجمللة العراقية للهندسة املعمارية‪ ،‬لدد ‪ ، 2005 ،14‬ص ‪.115‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫آلية االستعارة‪ :‬إن مفردة االستعارة مبعناها املعمق تعين تبين منط تصميمي قائم للى جممولة‬
‫من التشاهبات البصرية اليت ال يتم كشفها بالدراءة املباشرة وهو ما ميثله اجملاز أو االستعارة‪،‬‬
‫قإذن قاالستعارة تنضوي ضمن اآلليات السابدة الذكر ولكن الكيفية اليت يتعامل هبا املبدع مع‬
‫املفردات املستعارة ضمن هذه اآلليات قد تكون تعامماا ضمن املألوف وضمن تدنية االستنساخ‬
‫املباشر‪.‬‬
‫بعيدا لن ميكانيزمات املعمار الفين للنص اإلبدالي قإن مما جيدر اإلشارة إليه هو‬
‫ا‬
‫دائما هو وقوله من املتلدي موقع االستحسان‬
‫ضرورة تناسق البناء داخل هذا النص عأن املرمى ا‬
‫ولن يتأتى ذلك إال بإخراجه ‪-‬النص‪ -‬يف حلة مجيلة بديعة آسرة لأللباب‪ ،‬قمعمارية نظا‬
‫الدصيدة أو النص اإلبدالي بشكل لا مثلها مثل خلق اإلنسان يف اتصال بعض ألضائه‬
‫ببعض قمىت انفصل واحد لن اآلخر أو باينه يف صحة الرتكيب غادر باجلسم لاهة تتخون‬
‫حماسنه وتعفي معامل مجاله(‪.)1‬‬
‫وقد تبىن مجهرة من الدارسني والباحثني احملدثني نص "ابن قتيبة" (‪) 889-828‬‬
‫بوصفه مثاالا قنياا للدصيدة العربية بأن الشالر ميهد للموضوع الذي خيتاره باملددمة الطللية‬
‫قتتدالى له ذكرى اعأحباب‪ ،‬مث يستطرد إىل الصحراء ورحلته اليت جتشم قيها املخاطر واعأهوال‪،‬‬
‫مث يصف معرتضات رحلته للى طريدة امرئ الديس‪ ،‬قإذا قرغ من الوصف وجل إىل غرضه الذي‬
‫أنشئت من أجله الدصيدة‪ ،‬ويف حاالت نفسية وموضولية ال يلتز الشالر هبذه املداييس‬
‫واملعايري‪ ،‬قدد خيتزل املددمة ويدخل للى موضوله مباشرة ويف ضوء هذه املفهومية اليت أرسى‬
‫دلائمها النداد الددامى للمعمار الفين للنص الشعري‪ ،‬دأب النداد احملدثون يف وضع تعريفات‬

‫(‪ )1‬احلامتي‪ :‬حلية احملاضرة يف صنالة الشعر‪ ،‬تح‪ :‬جعفر الطيار الكتاين‪ ،‬ج‪ ،1‬د‪.‬ط‪ ،‬كلية اآلداب جامعة الداهرة‪،‬‬
‫‪ ، 1969‬ص ‪.215‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫لبناء الدصيدة من شأهنا تدومي العملية اإلبدالية يف الشعر(‪ ،)1‬قهي بناء لمائدي يدو للى‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ ،‬قالعماقات اليت حتكم املعمار‬ ‫العماقات بني العناصر كل منها حاكم لآلخر وحمكو به‬
‫الفين للنص الشعري يزاد هبا العماقات للى املستويات املختلفة يف بناء اهليكل واللغة والصورة‬
‫واعأقكار واملوضوع واحلالة النفسية اليت تعم إطار الدصيدة سالة إبداع الشالر لعمله املندز‪،‬‬
‫معربا لن‬
‫قهذه املكونات والعناصر كلها تدخل يف معمارية الدصيدة لتشكل بناء حياا متكامماا ا‬
‫مشيدا للى‬
‫طبعا‪ ،‬وللى هذا كان البناء الفين عأركان الدصيدة ا‬
‫جتربة املبدع الذي هو الشالر ا‬
‫ثماثة حماور كربى هي‪ :‬املددمة (املطلع)‪ ،‬الغرض واملوضوع‪ ،‬وهذا للى اعأقل بالنسبة للدصيدة‬
‫التدليدية أو الددمية‪.‬‬
‫قبالنسبة للمددمة قدد نالت اهتما الدارسني احملدثني منطلدني يف قهم النص وتفسريه‬
‫يف االستدراء املوضولي للشعر العريب املوروث الدائم للى دراسة اعأثرين‪ :‬بيئة الشالر ونفسيته‪،‬‬
‫وأثرها يف والدة اإلبداع الشعري‪ ،‬واالستدراء املوضولي والتفسري الرمزي للشعر املوروث الدائم‬
‫للى كشف مجلة من اإلحياءات اليت حتر ك انفعال الشالر حلظة إجناز لمله اإلبدالي الفين يف‬
‫استهماله للدصيدة‪ ،‬وتبدى مددمة الدصيدة ذات رباط وثيق متوضعها اخلاضع للداقعني النفسي‬
‫والفين يف قول الشعر‪.‬‬
‫أما قيما خيص بالغرض قهو يُعد الركيزة اعأساسية يف معمارية الدصيدة قهو اجلزء املهم‬
‫من أجزائها اليت استولبت احلدث البالث لفن الدول وقيه خماصة جتربة الشالر اآللية‪ ،‬وقد‬
‫تتباين املوضولات املطروقة يف شعر الشالر الواحد وذلك راجع لتباين جتاربه وانفعاالته‪ ،‬وهنا ك‬
‫من الشعراء من يسلك طريق التنوع يف الغرض الشعري داخل بنية الدصيدة‪ ،‬قمنها ما يضمن‬

‫(‪ )1‬لز الدين إمساليل‪ :‬اعأدب وقنونه ‪-‬دراسة وندد‪ -‬دار الفكر العريب‪ ،‬ط‪ ، 2007 ،9‬ص ‪.59‬‬
‫(‪ )2‬حممد حسن لبد اهلل‪ :‬الصورة والبناء الشعري‪ ،‬مكتبة الدراسات اعأدبية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬مصر‪ ، 1982 ،‬ص‬
‫‪.179‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫متدددا ينصرف قيه لوجه واحد من‬


‫ا‬ ‫متطورا أ‬
‫ا‬ ‫تدليدا أ‬
‫احدا يف بنائها سواء أكان ا‬
‫موضولا و ا‬
‫ا‬
‫قن الدول‪ ،‬ومنها ما يضم أكثر من موضوع يف الدصيدة الواحدة يف بنائها النصراف الشالر‬
‫قيها عأكثر من وجه يف قن الدول ويُدلى بالغرض املركب وأما اعأول قهو الغرض البسيط‪،‬‬
‫معا‪.‬‬
‫وهاتان الظاهرتان اعأدبيتان جندها يف الدصائد ذوات املددمات والدصائد املباشرة ا‬
‫مانعا‬
‫أما بالنسبة للموضوع قأمكننا الدول أن التعدد املوضولي داخل الدصيدة ليس ا‬
‫من توقر الوحدة قيها‪ ،‬وتعين وحدة الفكر واإلحساس الذي ترشح به مجيع شرائح النص‬
‫وينساب انسياباا طبيعياا يف مكوناته من اعألفاظ واجلمل والتشبيهات حيث تتصل مجيع هذه‬
‫صب يف حبر واحد وتنساق يف رقق لتدف يف صف واحد جيسد‬
‫اعأجزاء بالغرض الرئيسي‪ ،‬قت ُ‬
‫هم الشالر وهواجسه ورؤاه قتكون الدصيدة يف تعدد موضولاهتا وانسدامها الداخلي كالشدرة‬
‫يف تعدد مكوناهتا وائتماف أجزائها وتناسق مرآها‪ ،‬وللى هذا قالبحث لن اخليط الذي ينتظم‬
‫من خماله نسيج النص هو حبث لن هذا اخليط الذي جيسد اإلحساس املسيطر للى لامة‬
‫النص وأجزائه املكونة له‪ ،‬وهذا اخليط النفسي الشعوري قائم متحدق يف كثري من بنية الشعر‬
‫العريب الددمي‪.‬‬
‫قتعدد موضولات الدصيدة مل مينع حبال أن ترتبط هذه املوضولات للى أساس قكري‬
‫أساسا هلذا الربط‪ ،‬وللى هذا‬
‫لا أو للى أساس العاطفة اليت حياول الشالر أن جيعل منها ا‬
‫دائما اجتاه إىل مرلاة‬
‫وما مفككة أو غري متصلة اعأجزاء قفيها ا‬
‫قالدصيدة الددمية مل تكن ي ا‬
‫وحدهتا للى أساس الرتابط العاطفي أو الفكري أو الفين وليس للى أساس الرتابط املوضولي‬
‫أو املنطدي‪ ،‬قمادا الرتابط العاطفي الفين هو أساس الوحدة داخل الدصيدة قإن التوتر كما‬
‫يدول "مصطفى سويف" هو الذي يدو كأساس يف وحدة الدصيدة قإنه هو الذي حير ك الشالر‬

‫‪- 89 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫ومىت توقف هذا التوتر كانت هناية الدصيدة(‪ ،)1‬ولذلك غلب اجتاه لدى البعض من الباحثني‬
‫من أن الدصيدة ليست لمماا أو صنالة مادية ميكن أن ختضع لفحوصات صخربية‪ ،‬إمنا هي لمل‬
‫إبدالي يدو للى رؤية خاصة للشالر من خمال حسه املرهف وشالريته املتوقدة‪ ،‬قيدد‬
‫للدارئ ما يعرتيه من مشالر وأحاسيس مشحونة بعواطف‪ ،‬قإذا كانت الدصيدة جتربة شعورية‬
‫قمىت توقف هذا الربكان لن قذف وتدقق محمه كان ذلك هناية الدصيدة‪.‬‬
‫ومن هنا نشري إىل أنه إذا كانت الدراسة اعأسلوبية ختتص بالظواهر اعأسلوبية اجلزئية أي‬
‫بالنسيج‪ ،‬قإن دراسة املعمار الفين يف لملية اعأداء الشعري هي اجملال احليوي للندد اعأديب‪،‬‬
‫قكل دراسة نددية جادة ينبغي أن تتبع اعأثر اعأديب لتكشف لناصره الفنية املتشابكة واملتفاللة‬
‫‪-‬يف تداخل وارتباط تعبريي وقين‪ -‬جتعل هذا اعأثر يف النهاية بنية حية أو صورة كلية قائمة للى‬
‫االنسدا والتكامل والوحدة مبفهومها العضوي(‪ ،)2‬وخلاصية الوحدة أهيتها البالغة يف تددير‬
‫العمل اعأديب لامة والدصيدة الشعرية للى وجه صخصوص عأن الوحدة هي اليت حتكم العمل‬
‫الفين وحتدد قيمته يف النهاية(‪.)3‬‬
‫دائما مما خيتل بناء الدصيدة هو مبالغة الشالر يف تزويق نصه الشعري‬
‫ولذلك كان ا‬
‫بالزخارف اللفظية كاجلناس والطباق والسدع مما يدلل من قيمة الدصيدة‪ ،‬مثلما يدلل من قيمة‬
‫الرتكيب املعماري التزيني بالزخارف غري المائدة‪ ،‬وقُل لن ذلك باستعمال التكرار يف الشعر أو‬
‫العمارة‪ ،‬قهنا ك لماقة بني العمارة والشعر قما تظهر الذكورية يف اخلطاب واملمارسة‬
‫السوسيولوجية وال يف اخلطاب اللفظي قحسب إمنا يف جتليات العمارة املادية نفسها‪ ،‬وتبدى‬

‫(‪ )1‬مصطفى سويف‪ :‬اعأسس النفسية لإلبداع الفين يف الشعر خاصة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،4‬الداهرة‪، 1969 ،‬‬
‫ص ‪.250‬‬
‫(‪ )2‬جمدي وهبة ‪ :‬معدم مصطلحات اعأدب‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.585‬‬
‫(‪ )3‬حممد زكي العشماوي‪ :‬قضايا الندد اعأديب املعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.05‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫اسعا كالعمارة هبندسة معمارية والشالر كاملعمار يتعامل مع العوامل‬


‫الدصيدة تشغل قضاءاا و ا‬
‫املادية‪ ،‬قإذا كان الشالر يصف السهول واجلبال والبحار وجدانياا‪ ،‬قإن املعمار له أدواته املادية‬
‫يف لامل العمارة اليت تليب ليس احلاجات البيولوجية بل العاطفية والوجدانية‪.‬‬
‫وللى تمازمية العمارة بالشعر والشالر باملعماري الترب الناقد "لبد اجلبار البصري" أن‬
‫البيت الشعري وإ ْن ُشبِّهه باخلباء إال أنه خيتلف لنه‪ ،‬قهو بناء متعدد الطوابق بشكل مل تصل‬
‫إليه اهلندسة احلديثة بعد قهي ال تشبه طوابق أية لمارة عأن بعضها ال يعلو البعض اآلخر‪ ،‬وال‬
‫تشبه البناء املتعدد اعأجنحة عأن اجلناح قيه ال يتلو اجلناح اآلخر‪ ،‬قالطابق اعأول مؤلف من‬
‫اعألفاظ والعماقات اليت يرتبط بعضها ببعض‪ ،‬وقد انشغل قاطنوا هذا الطابق حسب تعبري‬
‫الناقد "لبد اجلبار البصري" مبتابعة احلروف كيف جتتمع وكيف تفرتق مكونة كلمات مستعملة‪،‬‬
‫وكلمات مهملة‪ ،‬وكلمات صحيحة وكلمات معتلة‪ ،‬وبني قاطين هذا الطابق واملفردات الشعرية‬
‫دائما هو طابق النحاة وقاطنوه مندسمون للى‬
‫لماقات محيمية‪ ،‬أما الطابق الثاين حسب تعبريه ا‬
‫صرية وأخرى كوقية وهم مشغولون بدراسة تراكيب اجلملة‪ ،‬أما الطابق‬
‫أنفسهم بني مدرسة ب ْ‬
‫الثالث من طوابق معمار البيت الشعري هو طابق الصوتيات واحلركات اليت تبدو للعني صغرية‬
‫جدا وأحياناا ال تكتب ولكنها تلفظ‪ ،‬أما الطابق الرابع من طوابق البيت الشعري قهو طابق‬
‫ا‬
‫احملسنات البديعية واليت هي لبارة لن خليط من الظواهر النحوية والديم الفكرية والفلسفية‬
‫والدضايا املنطدية والدوالد النددية واملسائل اللفظية ذات الصلة بالشعر وموسيداه‪.‬‬

‫لدد اختذ املعمار الفين للدصيدة أُ ا‬


‫طرا صختلفة يف الندد احلديث إذ لاجله الباحثون والنداد‬
‫للى وقق بُىن ختتلف من واحد إىل آخر‪ ،‬قمنهم من رأى أنه احتاد املعىن باإليداع‪ ،‬ومنهم من‬
‫جديدا من حيث اجتاهات‬
‫ا‬ ‫ذهب إىل أنه اإليداع والصورة الشعرية‪ ،‬ومل يكن هذا املوضوع‬
‫الدراسة أو موضولاهتا‪ ،‬قدد درس الندد العريب الددمي هذا املوضوع للى وقق التطورات اليت‬

‫‪- 91 -‬‬
‫مفاهيم نظرية‬ ‫الفصل التمهيدي‬

‫أصابت الدصيدة العربية آنذا ك ومنها ظهور املوشح يف اعأندلس الذي ندل الدصيدة إىل مرحلة‬
‫جديدة من التشكيل البصري واإليداع واللغة‪.‬‬
‫وهبذا ُخيتتم الفصل التمهيدي الذي مت قيه تسليط الضوء ولو بالنذر اليسري للى‬
‫املفاهيم النظرية الكربى اليت تدخل يدينا يف العملية البحثية‪ ،‬وقد حاول الباحث قدر املستطاع‬
‫تبسيطها وشرحها دراسة وحتليماا من املنشأ حىت النضوج‪ ،‬وتتبع مسريهتا احلضارية وإشعالاهتا‬
‫الفكرية لرب العصور‪.‬‬
‫وخبتا الفصل التمهيدي يُستهل الولوج إىل الفصل اعأول الذي سيتم الرتكيز يف ثناياه‬
‫للى الشالر اعأمري "ابن املعتز" حمط هذا العمل البحثي يف قصل لُن ِون بالشالر واجلمال‪،‬‬
‫وسيكون متدسدا يف أربعة لناصر أوهلا نبذة ميسرة وصختصرة لن الشالر ومسريته احلياتية‬
‫واإلبدالية‪ ،‬وقراءة قاحصة للصورة الفنية يف أشعار "ابن املعتز" أنوالها وتأثريها اجلمايل‪ ،‬مث‬
‫مدى حضور اخليال يف شعره ورصد تداطعيته وأثره مع وللى اجلمال‪ ،‬مث مع العنصر اعأخري‬
‫الذي لنوانه اجلمال بني الولي والتشكيل لند الشالر وهي النظرة االستدصائية حلضور قكرة‬
‫اجلمال يف صخيلة الشالر ووليه واقرتاهنا لملياا بإبدالاته الشعرية‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫‪ )1‬الشاعر بين اليفاع والنضوج‪.‬‬

‫‪ )2‬جمالية الصورة الفنية وأنماطها في شعر ابن المعتز‪.‬‬

‫‪ )3‬األثر الجمالي للخيال في شعر ابن المعتز‪.‬‬

‫‪ )4‬الجمال بين الوعي والتشكيل عند الشاعر‪.‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -1‬الشاعر بين اليفاع والنضوج‪:‬‬

‫االسم الكامل للشاعر واألديب الناقد هو "أبو العبّاس عبد اهلل ابن املعتز"‪ُ ،‬ولد سنة‬
‫يوما‬
‫للميالد‪ ،‬هو أمري وشاعر وأديب عباسي‪ُ ،‬ويل اخلالفة ً‬ ‫‪908‬‬ ‫ميالدية وتويف سنة‬ ‫‪861‬‬

‫وبعض يوم بعد خلع املقتدر‪ ،‬ولُقب باملرتضى باهلل(‪.)1‬‬


‫لقد كان ابن املعتز أبرز الشخصيات األدبية اليت كان هلا األثر البالغ يف العصر العباسي‬
‫على توجيه جمريات األحداث السياسية واالجتماعية واخلوض فيها بسالح قلمه وعلمه‪ ،‬ومما‬
‫أثر يف ابن املعتز هو حادثة اغتيال والده املعتز من طرف أتراك القصر وفتيانه‪ ،‬قبل أن يُنفى إىل‬
‫وحتديدا إىل مكة اليت قضي فيها سنوات عديد ورجع بعدها إىل بغداد‪ ،‬ومتيزت حياته‬
‫ً‬ ‫احلجاز‬
‫إبان هذه الفرت باللهو واجملون إىل حني اإلطاحة باملقتدر باهلل (‪932 – 895‬م) فآلت اخلالفة‬
‫إليه ولكن لسوء طالعه مل تستمر أكثر من يوم وبعضه‪ ،‬ومات مقتوالً يف ذات ليلة توليه بعدما‬
‫وثب عليه غلمان املقتدر وأزهقوا روحه‪ ،‬فكانت اخلالفة العباسية منذ جده املتوكل فصالً من‬
‫اخليانات وسيطر لألتراك على مفاصل الدولة‪.‬‬
‫قد خيتلف الكثريون حول حيا املعتز السياسية وتباين اآلراء حول أدائه فيها‪ ،‬بني نظر‬
‫دونية تصمه بالضعف واالهنزامية وبني رؤية ترى خالف ذلك‪ ،‬ولكن األكيد أ ّن ابن املعتز كان‬
‫من الشخصيات األدبية الف ّذ ‪ ،‬فقد صنف يف شىت العلوم والفنون من التاريخ إىل األدب‬
‫واملوسيقى‪ ،‬حىت قيل فيه أنّه تربع على عرش يف األدب‪ ،‬واستوى على مقام من العلم ودان له‬
‫التاريخ بالوالء‪ ،‬فقد قال عنه صاحب الفهرست "حممد بن إسحاق الندمي" (تويف ‪1047‬هـ)‬
‫«واحد دهره في األدب والشعر‪ ،‬وكان يقصده فصحاء األعراب ويأخذ عنهم‪ ،‬ولقي‬

‫(‪ )1‬املنجد يف اللغة واألعالم‪ :‬جزء األعالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫العلماء من النحويين واإلخباريين كثير السماع غزير الرواية»(‪ .)1‬كما ذكره "ابن خلكان"‬
‫مطبوعا‬
‫ً‬ ‫شاعرا‬
‫(‪1282 -1211‬م) يف مصنفه "وفيات األعيان" قائال عنه‪« :‬كان أديبًا بليغًا ً‬
‫مقتدرا على الشعر‪ ،‬قريب المأخذ سهل اللفظ‪ ،‬جيِّد القريحة‪ ،‬حسن اإلبداع‪ ،‬مخالطًا‬
‫ً‬
‫معدودا من جملتهم»(‪ ،)2‬ومما يُذكر عن خصوصية شعر ابن املعتز وأدبه أنّه‬
‫ً‬ ‫للعلماء واألدباء‬
‫وجرد سيفه على أعدائها وخاصة القرامطة‬
‫سخرمها يف التعبري والدفاع عن اخلالفة العباسية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وغريهم‪ّ ،...‬أما بالنظر إىل شعرية ابن املعتز من حيث اخلصوصية الفنية‪ ،‬فإنّه يعترب بامتياز‬
‫الرائد يف شعر البديع واملجيد فيه‪ ،‬فقد قال "ابن رشيق القريواين" عن شعره «‪ ...‬وما أعلم‬
‫ُ‬
‫شاعرا أكمل وال أعجب تصني ًفا من عبد اهلل ابن المعتز ‪ ،...‬وهو عندي ألطف أصحابه‬ ‫ً‬
‫بديعا وافتتانًا»(‪.)3‬‬
‫شعرا‪ ،‬وأكثرهم ً‬
‫ً‬
‫إ ّن براعة ابن املعتز يف الشعر ال جياريها إالّ براعته يف النقد فلطاملا اتّصف بالشاعر الناقد‬
‫ولنا يف ُمصنّفيه "البديع" و "طبقات الشعراء" خري دليل على تدعيم هذا الطرح‪ ،‬ولطاملا كان‬
‫قائما عن الذوق العريب األصيل حىت أ ّن هناك من وصفه بأنقد النقاد و قال عنه أحد‬
‫نقده ً‬
‫ناقدا‪ ،‬وافر العلم والثقافة وأنه ذو‬
‫املستشرقني اعرتافًا مبكانته النقدية بأ ّن ابن املعتز كان أديبًا ً‬
‫بصري مبكامن اجلمال‪ ،‬صاحب سالمة ذوقية ومقتدراً يف أحكامه وآرائه‪ ،‬فقد كان األمري‬
‫الشاعر الناقد ابن معتز من أعالم النقد األديب‪ ،‬وأ ّن أحكامه وآراءه النقدية تنم عن إحساس‬
‫صادق بالشعر‪ ،‬وما كتاب البديع إالّ برهان صادق عن فذاذته النقدية وهو الكتاب الذي‬
‫صنفه الكثري من الباحثني املعاصرين من حيث أنه أخطر أثر يف تاريخ النقد العريب على‬

‫(‪ )1‬ابن الندمي‪ :‬الفهرست‪ ،‬ضبط وشرح‪ :‬يوسف علي الطويل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1996 ،‬م‪ ،‬ص ‪.286‬‬
‫(‪ )2‬ابن خلكان‪ :‬وفيات األعيان‪ ،‬تح‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1970 ،‬م‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫(‪ )3‬ابن رشيق‪ :‬العمد يف حماسن الشعر وآدابه‪ ،‬تح‪ :‬حممد قرقزان‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1994 ،‬م‪ ،‬ص ‪.262‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫أيضا به ‪-‬كتاب البديع‪ -‬مث برسالته عن أيب متام قد شحذ اهلمم إىل مناقشة‬
‫اإلطالق‪ ،‬ولعله ً‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا‬
‫آراء اجملددين من األدباء يف ضوء منهج له قواعده الواضحة الثابتة ‪ ،‬ال يفوت التذكري ً‬
‫أ ّن البن املعتز شذرات من النثر األديب تنوعت أساليبه بني االسرتسال والتنميق مثلما تنوعت‬
‫موضوعاته بني الوصف والسياسة واحلكمة واالجتماع‪ ،‬وقد جاء هذا النثر هنا وهناك يف‬
‫مؤلفاته‪ .‬لقد ترك ابن املعتز بعد هنايته الرتاجيدية مصنفات وآثار أدبية وعلمية استحق هبا أن‬
‫يكون من نوابغ عصره لعلنا نذكر منها اآليت‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب "البديع" والذي يعترب أول ُمؤلف يف البديع وصنعة الشعر‪ ،‬قام بتحقيقه أول مر‬
‫املستشرق الروسي "كراتوفسكي"‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب "طبقات الشعراء" وقام بتحقيقه "عبد الستار ّفراج"‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب "فصول التماثيل يف تباشري السرور"‪ ،‬حققه األستاذ "حميي الدين صربي الكودي"‬
‫‪1925‬م‪ ،‬موضوعه حول آداب الشراب مع تضمنه الكثري من الوصاف والتشبيهات‪.‬‬
‫أيضا رسالته املشهور بعنوان "يف حماسن شعر أيب متام ومساوئه"‪.‬‬
‫‪ -‬له ً‬
‫‪ -‬له ديوان شعر مطبوع بثالث طبعات (دمشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬القاهر ) وأول من نشر ديوانه أو‬
‫أجزاء منه هو املستشرق "ب‪ .‬ليون" سنة ‪ ،1891‬كما البن املعتز الكثري من اآلثار اليت مل تر‬
‫النور عرب نشرها‪.‬‬
‫إذا أسهبنا قليالً يف احلديث عن حيا ابن املعتز األدبية والنقدية‪ ،‬وهو يستحق منا ذلك‬
‫دون منّة أو إطناب فكما سبق ذكره فإ ّن ابن املعتز ميثل ظاهر الشاعر الناقد‪ ،‬فهو ممن مارسوا‬
‫قول الشعر وضربوا بسهم يف جمال النقد األديب‪ ،‬وهو ما يتضح جليًا من خالل كتابه الطبقات‪،‬‬

‫(‪ )1‬أمحد كمال زكي‪ :‬ابن املعتز العباسي‪ ،‬سلسلة أعالم العرب‪ ،‬املؤسسة املصرية للتأليف‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهر ‪1964 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.266‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وقد اعتربه "بدوي طبانة" زعيم املدرسة البيانية يف احلكم على األدب ويف تذوقه‪ ،‬لقد كان‬
‫"ابن املعتز" من أحد أئمة الشعراء احملدثني ففي «شعره رقةً ملوكية‪ ،‬وغزل الظرفاء‪ ،‬وهلهلة‬
‫المحدثين»(‪.)1‬‬
‫ِّ‬
‫وقد كان "ابن املعتز" ممن افتتنوا بالتشبيه‪ ،‬وشهد له النقاد بالرباعة فيه والحظوا أنّه عكس‬
‫فيه حياته املرتفة‪ ،‬وقد ذكر "ابن رشيق" أ ّن التشبيه تغلّب على طريقة "ابن املعتز" فانقاد إليها‬
‫طبعه(‪ ،)2‬وظلّت أشعاره يف التشبيه شواهداً يف كتب البالغة والنقد على امتداد تاريخ الثقافة‬
‫العربية‪ ،‬وقد جاء يف كتاب "العمد " البن رشيق‪« :‬وقالت طائفة من المتعقبين‪ :‬الشعراء‬
‫الرمة؛ والمولّد ابن‬
‫وإسالمي ومولّد؛ فالجاهلي امرؤ القيس؛ واإلسالمي ذو ّ‬
‫ٌ‬ ‫جاهلي‬
‫ٌ‬ ‫ثالثة‪:‬‬
‫المعتز‪ ،‬وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع الفنون»(‪ ،)3‬وقد قال‬
‫فأما شعره فهو الغاية في األوصاف‬
‫"ياقوت احلموي" عن تشبيهات "ابن املعتز"‪ّ « :‬‬
‫والتشبيهات يقر له بذلك كل ذي فضل»(‪.)4‬‬
‫ّأما عن الصنعة يف أدب "ابن املعتز" فقد ع ّده الناقد "شوقي ضيف" من أصحاب‬
‫مذهب التصنيع ووجد أنّه‪« :‬كتب في أدواته وزخرفه كتابه المعروف باسم كتاب البديع‪،‬‬
‫صنعا من أصحاب البديع» (‪ ،)5‬وقد كان "البن‬
‫عالما م ً‬
‫شاعرا ً‬
‫وهو يشهد بأ ّن صاحبه كان ً‬
‫املعتز" دور هام يف دراسة الشعر احملدث من خالل مؤلفيه "طبقات الشعراء" ورسالته "يف‬

‫(‪ ) 1‬أبو الفرج علي األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬تح‪ :‬علي السباعي وآخرين‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ج‪1973 ،10‬م‪،‬‬
‫ص ‪.38-37‬‬
‫(‪ )2‬ابن رشيق‪ :‬العمد ‪ ،‬ج‪ ،1‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.289‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.211‬‬
‫(‪ )4‬أبو عبد اهلل شهاب الدين ياقوت احلموي ‪ :‬معجم األدباء‪ ،‬تح‪ :‬أمحد فريد الرفاعي‪ ،‬دار املأمون‪ ،‬ج‪ ،4‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫ص ‪.1520‬‬
‫(‪ )5‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪185-184‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫جديدا لتذوق شعر‬


‫هنجا ً‬
‫حماسن شعر ابن متام" بشكل خاص‪ ،‬وبتأليفه لكتاب "البديع" رسم ً‬
‫احملدثني‪ ،‬م ّكن النقاد من التفاعل مع ذلك الشعر يف ضوء مقاييس نابعة من إبداع احملدثني‪،‬‬
‫فابن املعتز ممن ّأرخوا للشعر احملدث وعملوا على نشره ودراسته‪ ،‬فهو قد عرض يف كتابه‬
‫بيت ال‬ ‫‪1500‬‬ ‫أشعارا تزيد على‬
‫ً‬ ‫"طبقات الشعراء" أخبارهم ومناذج من أشعارهم فقد أثبت‬
‫توجد يف كتاب سواه‪ ،‬وهذا الكتاب «يع ّد سجالً للحياة األدبية بعد أن خلّفت وراءها‬
‫عصر العربية الخالصة بموت فحول بني أمية أوائل القرن الثاني الهجري‪ ،‬وفيه نرى‬
‫االتجاهات العجيبة والمحاوالت التي كان يقصد من ورائها تحطيم المأثور وإقامة‬
‫الجديد‪ ،‬كما نرى الموازنات العاقلة والشروح الدقيقة والميل إلى أخذ المسائل أخ ًذا‬
‫وجدانيًا بعي ًدا عن الجدل الذهني الذي غلب على النقد فيما بعد»(‪ ،)1‬وقد الحظ‬
‫الدكتور "أمحد درويش" أ ّن "ابن املعتز" يضع النثر قبل الشعر حىت يف احلديث؛ ليدفع نظرية‬
‫احملدثني بأ ّن البديع من خصائص الشعر على اإلطالق وهو هبذا حياول «أن يسحب البساط‬
‫من تحت أرجل هؤالء الشعراء مرتين»(‪.)2‬‬
‫واملثري يف هذا كله أ ّن كل هذه اآلراء اليت ترفع وتُعلي ذكره يف جمايل الشعر والنقد‪ ،‬إال‬
‫أنه مل تكن هناك دراسات وافية تفيه حقه مثلما وّف هو حق األدب العريب ونقده بإبداعات‬
‫ومنجزات ال يزال تراثنا يلهج بذكرها لرجل ظلمته احليا ولكن أنصفه التاريخ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أمحد كمال زكي‪ :‬ابن املعتز العباسي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.268‬‬
‫(‪ )2‬أمحد درويش‪ :‬النص البالغي يف الرتاث العريب واألوريب‪ ،‬دار غريب‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -2‬جمالية الصورة الفنية وأنماطها في شعر ابن المعتز‪:‬‬

‫يقول "نصرت عبد الرمحن" عن أمهية وقيمة الصور الفنية وداللتها من عالقتها بالرؤية‬
‫اإلنسانية للكون واملنتوج الثقايف اخلاص بتلك الرؤية‪« :‬وتقف الصورة الفنية في مركز العمل‬
‫الشعري‪ ،‬فهي اللغة البكر التي تباهي بعذريتها وتتيه بأنها ابنة الطبيعة واإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫ابنة التزاوج الدائم والغريب بين الطبيعة األم واإلنسان األب‪ ،‬وهي دائمة الصدود تتحدى‬
‫كل النقاد الذين يقولون هي ابنة الطبيعة والذين يقولون إنها ابنة اإلنسان‪ ،‬ومن الصورة‬
‫تنطلق نظرية التأويل‪ ،‬فالعالقة بين اإلنسان والكون متجددة وعالقة أمة من األمم به غير‬
‫عالقة أمة أخرى‪ ،‬والصورة التي يقابلها اإلنجليزي ببرود قد يجدها العربي مليئة بالحيوية‪،‬‬
‫فكلمة (النخيل) عندنا غيرها عند األمريكيين‪ ،‬فهي تحمل عندنا ثقالً وجدانيًا ال يمكن‬
‫أن تحمله لألمريكي‪ ،‬وهذا الثقل الوجداني هو الذي يجعلنا ننكر أن تكون الصورة‬
‫خارجية وتجعلنا نؤول الصورة أكثر من تأويل»(‪ ،)1‬هذه هي إذن الصور الفنية يف تفاعالهتا‬
‫اخليالية داخل ذهنية اإلنسان وهي اليت تتمايز حبسب مدركات كل إنسان وما خربه يف حياته‬
‫من حوادث وأحداث‪ ،‬كل هذا يتجلى يف "ابن املعتز" الذي حفلت حياته مبتناقضات مجّة‬
‫انعكست على شعره فجادت قرحيته بكل ما هو مجيل‪ ،‬فقد كانت فيه منذ نشأته نزعة إىل‬
‫الغناء واملوسيقى ضاعفت حسه باجلمال كما ضاعفها ترفه ونعيمه(‪.)2‬‬
‫هذا النوع من النمط املعيشي ساهم بشد يف عناية "ابن املعتز" بالتصوير والزخارف يف‬
‫تصويرا ال يرقى إىل الذي راج عند "أيب متام" و "البحرتي" بل هو تصوير ال‬
‫ً‬ ‫شعره‪ ،‬وإن كان‬

‫(‪ )1‬صاحل عبد الرمحن نصرت‪ :‬الصور الفنية يف الشعر اجلاهلي يف ضوء الدراسات النقدية احلديثة‪ ،‬مكتبة األقصى‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫عمان‪1982 ،‬م‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )2‬أبو الفرج األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬جملد ‪ ،10‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪. 40‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫عقد فيه وال تركيب؛ وهو التصوير التشبيهي الذي يغلب عليه صيغ التشبيه وعن هذا يقول‬
‫"ابن رشيق" صاحب "العمد "‪« :‬إ ّن ابن المعتز يغلب عليه التشبيه»(‪ ،)1‬وقد أظهر "ابن‬
‫املعتز" براعة كبري يف التصوير بالتشبيه إذ أخرجه من حمدوديته إىل شساعة ورحابة االستعمال‬
‫اإلبداعي فمثالً يقول "ابن املعتز" يف اهلالل(‪:)2‬‬

‫انظر إلى حسن هالل ب َدا * يهتك من أنواره الحندس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاَ‬


‫جسا‬
‫كمنجل قد صي َغ من فضة * يحصد من زهر الدجى نَـ ْر َ‬
‫يف هذين البيتني من أرجوزته "اهلالل منجل فضة" استطاع "ابن املعتز" أن يطوف بذهن‬
‫املتلقي يف فضاء من الوهم واخليال‪ ،‬حىت خييّل له يف نفسه أهنا حقيقة ناجز ‪ ،‬فابن املعتز ال‬

‫يقف عند الصور العامة بل هو يُتممها ببقية غريبة بعض الشيء‪ ،‬فهو جيعل من السماء حقالً‬
‫من زروع النرجس بدل النجوم‪ ،‬وإذا هذا احلقل الغزير الزرع خيضع ملوسم حصاد هبذا املنجل‬
‫الساطع نوره وأضوا ُؤه‪.‬‬
‫إ ّن تتايل الصور والتشبيهات يف شعر "ابن املعتز" جتعل غايته األكيد أنه حياول أن‬

‫نوعا من الطرافة يف متون شعره‪ ،‬فهي عصار ما يقدمه للفن من زينة ومجال‪ ،‬فمثالً‬
‫يضفي ً‬
‫يقول يف صور الليل(‪:)3‬‬
‫مال عن أصحابه‬
‫* كالحبشي َ‬ ‫قد أ ْغتَدي واللّيل في مآبـ ـ ـ ـه‬
‫* كأنه يضحك من ذهاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫كشف عن أنيابه‬
‫َ‬ ‫والصبح قد‬

‫(‪ )1‬ابن رشيق‪ :‬العمد يف حماسن الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.194‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬دار بريوت للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬د‪.‬ط‪1961 ،‬م‪ ،‬ص ‪.278‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫فالوجه املستعار هنا يثري الضحك وهو احلبشي‪ ،‬فهو وجه حقيقي يعرب عن حقيقة‬
‫مظلمة وراءه ولكن سرعان ما خيلفه وجه آخر ضاحك وهو الصباح اجلميل‪ ،‬مث إ ّن عبار‬
‫كشف عن أنيابه قد تقرأ قراء أخرى يف غري سياقها وهو ما يزيد يف عمق املعاين اليت يرمي‬
‫ّ‬
‫أيضا عن الصبح يف سياق التشبيه يقول(‪:)1‬‬
‫إليها "ابن املعتز"‪ ،‬هناك صور أخرى ً‬
‫عريان يمشي في الدجى بسراج‬ ‫والصبح يتلو المشتري فكأنّه *‬
‫نستطيع القول أهنا صور عارية ولكنّها ما تلبث أن تثبت يف عقولنا‪ ،‬فمن ينسى هذا‬
‫العريان وسراجه الذي كان حيمله يف الدجى فيكشف عن نيته ويفصح عن عزميته‪.‬‬
‫مقتصرا على التشبيه‪ ،‬بل كان للون حضور‬
‫ً‬ ‫قاصرا أو‬
‫مل يكن التصوير عند "ابن املعتز" ً‬
‫مشع يف الصور الفنية عند الشاعر إمياناً منه وإدراكاً أ ّن اللون كلما امتلك ثراه وأثبت حضوره‪،‬‬
‫حتقق للصور مجاهلا وكماهلا لتنشأ حينئذ كما يُقال عملية التأثري الشعري القائمة واملستلهمة من‬
‫التصوير‪ ،‬أو لنـ ُقل التقدمي احلسي للمعىن من خالل اإلحساسات البصرية اليت حيتل فيها اللون‬
‫مركز العملية‪ ،‬والعصب الذي ترتبط به عضويًا بقية اإلدراكات األخرى بغية إثار الصور احلسية‬
‫يف ذهن املتلقي‪ ،‬يقول "ابن املعتز"(‪:)2‬‬
‫وكأن طيب رياحها من نشره‬ ‫*‬ ‫وكأ ّن حمرةَ خده في لونها‬
‫فالصور البصرية هنا (وكأن محر خدها يف لوهنا) استقطبت تقريبًا صور مادية (عطرية)‬
‫اليت وردت يف الشطر الثاين (طيب رياحها)‪ ،‬لقد حضرت الطبيعة بشكل ملهم يف ثنايا‬
‫التصوير باللون يف شعر "ابن املعتز" ال بل ش ّكلت باقة ألوان مثري يف تنوعها‪ ،‬لذا أسهب "ابن‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.133‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.232‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫املعتز" يف تلوين صوره الفنية مبا ازدانت به الطبيعة من ألواح بدائعية تثبت جود الصانع فمثالً‬
‫يقول(‪:)1‬‬
‫فأجفانها بيض وأحداقها ح ْم ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫عيو ٌن كساها الغيث ثوبًا من الهوى *‬
‫الخمر‬
‫* سحي ًقا من الكافور يشيب به َ‬ ‫نسيمها‬
‫شمها المشتاق خ ـال َ‬
‫إذا ّ‬
‫احلسي اجلمايل والشغف بألوان مرئيات الطبيعة سامها يف حتديد أسلوب‬
‫إ ّن النزوع ّ‬
‫صورا يراها بعني العقل(‪،)2‬‬
‫الصياغة الشعرية التصويرية عند "ابن املعتز" واليت تثري يف املتلقي ً‬
‫ويتأتى ذلك من خالل لغة حتقق إثار املتلقي واستجابته الذهنية لتمثل صور حسية‪ ،‬وذلك‬
‫عرب ما تنظمه أنساقها من مدركات حسية (صور‪ ،‬أصوات‪ ،‬روائح ‪ )...‬واليت تقوم بوظيفة‬
‫دائما هو ما ميّز "ابن املعتز" وجعله شديد احلرص والعناية بصوره‬
‫التصوير‪ ،‬فقد كان التصوير ً‬
‫وأخيلته حىت ُوصف بأنه صاحب الصور الشعرية وسيدها(‪ ،)3‬وذلك ملا زخرت به قصائده من‬
‫صور متالحقة وتشبيهات متوالية‪.‬‬
‫دائما أبدع "ابن املعتز" بصور‬
‫الصور تزامحت يف شعر "ابن املعتز" ويف سياق وصفه للطبيعة ً‬
‫فنية فريد الوصف فخمة التكوين‪ ،‬فيقول مثالً(‪:)4‬‬
‫* كـأنّـ ـ ـ ـ ـ ـه دراه ـ ـ ٌم في منش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫والروض مغسول بليل ممطر‬
‫ّ‬
‫* والشمس في إصحاء جو أخضر‬ ‫أو كتفسير مصحف مفسـ ـ ـ ـ ـر‬
‫فزياد على الوصف البارع للطبيعة وإميانه مبدى جاذبية ملستها على القارئ أثناء‬
‫حضورها يف اإلبداع الشعري‪ ،‬سامهت عملية التلوين يف نفاد هذه الصور إىل خميلة القارئ‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.255‬‬


‫(‪ ) 2‬جابر عصفور‪ :‬الصور الفنية يف الرتاث النقدي والبالغي عند العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.284‬‬
‫(‪ )3‬مصطفى الشكعة‪ :‬الشعر والشعراء يف العصر العباسي‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪1979 ،‬م‪ ،‬ص ‪.756‬‬
‫(‪ )4‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.244‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وإثار أحاسيسه وشغفه جتاه الطبيعة ومكتنزاهتا‪ ،‬فكان "ابن املعتز" بإدراكه وخربته اجلمالية‬
‫وبتفاعله النوعي مع الطبيعة‪ ،‬وتوظيفه للون اخرج صور فنية بارعة شكالً ومضمونًا‪ ،‬فكان هذا‬
‫مصدرا مجاليًا ثريًا "البن املعتز" وظّفه الشعار كمركز استقطاب‬
‫ً‬ ‫التالحم بني اللون والطبيعة‬
‫الدراكاته احلسية وتصديرها للمتلقي‪ ،‬وباعتماد قليل من احلس أو لنقل النظر اإلستقصائي يف‬
‫شعر "ابن املعتز" سنجد أنه مولع أميا ولع بالتلوين يف صوره الفنية خاصة ما اتصل منها‬
‫بالطبيعة‪ ،‬يقول مثالً(‪:)1‬‬
‫تبرجن لزن ـ ـ ـ ـاة‬
‫مثل النساء ّ‬ ‫*‬ ‫وانظـ ْر إلى دنيـا ربيـع أقبل ـ ـ ـ ـ ـ ـت‬
‫فديت وأذن حبها بممات‬ ‫*‬ ‫والورد يضحك من نواظر نرجس‬
‫فلطاملا كانت طاقة اللون املرئية تفرض وجودها على كل اإلدراكات احلسية األخرى‪،‬‬
‫صورا حسية أخرى‪ ،‬فتنتج لنا عالقة‬
‫جند صور "ابن املعتز" اللونية البصرية غالبًا ما تستقطب ً‬
‫مجالية بني اللون كطاقة مرئية وتلك احلواس‪ ،‬حىت إن ولعه وصل أو انتقل من التصوير اللوين‬
‫للطبيعة إىل وصف الشجاعة والفروسية والبطولة‪ ،‬يقول مثالً(‪:)2‬‬
‫بأزرق لماع وأبيض صـ ـارم‬ ‫*‬ ‫ظالمه‬
‫وليل ككحل العين خضت َ‬
‫تناول "ابن املعتز" يف صورته هنا تالوين ثالث األسود (ككحل العني)‪ ،‬واألزرق‬
‫(بأزرق ملاع) لناقته اليت اغتسلت بالعرق لشد سرعتها‪ ،‬واألبيض لسيفه البتّار‪ ،‬مل يكن التلوين‬
‫وحده مهيمناً على هذه الصور الفنية البدائعية فالتشبيه كان له حضور مشع خاصة يف املقطع‬
‫األول وهو تشبيه مكتمل األركان تقريبًا‪ ،‬ما يبني جليًا متكن "ابن املعتز" من ناصيته ‪-‬التشبيه‪-‬‬
‫عموما وهو ما شهد له به نقاد عصره واملتأخرين عنهم‪ ،‬لقد كان "ابن‬
‫وناصية الصور الفنية ً‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.412‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫املعتز" شديد اإلحساس باجلمال دائم البحث عنه وعن مواطن الفن‪ ،‬فتعددت مسارب اجلمال‬
‫اهرا بالكلمة واللون والرائحة واملنظر البديع ليستشف ذلك كله‬
‫وتفرع غصن الفن لديه وأمثر ز ً‬
‫حبس اليُداينه فيه أحد‪ ،‬ويرمسه لوحة شعرية رائعة املالمح والصور ‪ ،‬خالبة األلوان‪ ،‬برؤية ملكية‬
‫ونثرا قد‬
‫شعرا ً‬
‫ال شك نابعة من كيانه وبيئته املرتفة‪ ،‬فبحثه عن الفن يف بنية الكلمة وداللتها ً‬
‫وملوكية اللفظ اليت وقف هلا معاصروه‬
‫دلت عليه يف الشعر أبياته املتوشية بأرستقراطية الصور ‪ُ ،‬‬
‫من الشعراء احرت ًاما وأحيانًا متعجبني من براعة الصقل والتخريج يف أهبى احلُلل‪.‬‬
‫مل تكن الصور الفنية عند "ابن املعتز" بذلك اجلمود بل اتصفت باحلركة وقد جعل هذا‬
‫األمر املتلقي يستشعر احلركة حني يتمثل املعىن ويتعمق الصور ‪ ،‬فالشاعر من خالل إبداعه‬
‫الشعري برهن على براعة عجيبة لديه يف استغالل الظواهر الثابتة وجعلها طرفًا من أطراف‬
‫مصدرا للحركة إمعانًا منه يف تطويع ما حوله من ظواهر الطبيعة‬
‫ً‬ ‫الصور ‪ ،‬بل وجيعلها أحيانًا‬
‫بأشكاهلا وألواهنا؛ لتكون ماد صور فنية رائعة‪ ،‬يقول مثال(‪:)1‬‬
‫تحتثهن سياط الريح في الس َحر‬
‫ْ‬ ‫*‬ ‫فرسان قطر على خيل من الزهر‬
‫تخالها سائرات وهي لم تس ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫*‬ ‫ما شئت من حركات وهي واقفةٌ‬
‫فنرى يف هذين البيتني كيف جعل "ابن املعتز" من الزهر خيوالً والندى فرسانًا عليه‪ ،‬مث‬
‫ما يلبث أن يُشرك الريح يف الصور بدورها فال يظهر شكلها‪ ،‬بل تقوم مقام السياط يف حتريك‬
‫األزهار‪ ،‬ووجه الشبه بني طريف الصور هو السري واالمتطاء كامتطاء الفرسان للخيل وذلك‬
‫إشار إىل سبب حركتها‪ ،‬فحفلت هذه الصور مبزيج استعاري كنائي وط ّد املعىن ورسخه يف‬
‫الذهن‪.‬‬

‫(‪ )1‬أبو بكر حممد بن حيىي الصويل‪ :‬شعر ابن املعتز‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬يونس السامرائي‪ ،‬القسم األول‪ ،‬الديوان‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫سلسلة كتب الرتاث‪ ،‬وزار الثقافة والفنون العراقية‪ ،‬دار احلرية للطباعة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بغداد‪1978 ،‬م‪ ،‬ص ‪.574‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫ومن الصور البدائعية اليت جندها يف شعر "ابن املعتز" صور السفينة وهي الطارئة على‬
‫حضار عصره فيشبهها الشاعر بالزجنية‪ ،‬مث يُشيع يف الصور حركة حني وصفه حلركة اجملاديف‬
‫حوهلا‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫جناح لها فرٌد على المـاء يخفق‬
‫ٌ‬ ‫*‬ ‫وزنجية كردية الحلي فوقها‬
‫قسرا كيف شاء وتطلق‬
‫فتحبس ً‬ ‫*‬ ‫يؤدبها أوالدهـا بعصيِّهم‬
‫ِّ‬
‫تضادا بني لون السفينة وحلّيها‪ ،‬فإن كان قد أثبت هلا صفة السواد‬
‫فالشاعر هنا يوجد ً‬
‫وذلك بتشبيهها بالزجنية فإ ّن حليها بيضاء ينسبها هنا الشاعر إىل قرية كرد‪ّ ،‬أما شراعها‬
‫املنتصب يف اهلواء فهو كاجلناح حيركه اهلواء فيُعرب عنه الشاعر باخلفقان والصور هنا ُمركبة‪.‬‬
‫والتصوير هنا يف هذين البيتني فإضافة حلضور التشبيه واالستعار ‪ ،‬فقد حفل باحلركة‬
‫خاصة يف بعض األلفاظ من قبيل (خيفق‪ ،‬يؤدهبا‪ ،‬تطلق ‪.)...‬‬
‫صوره فحضرت الطبيعة واخلمر وأوانيها‬
‫مل يرتك "ابن املعتز" تقريبًا من املوجودات إالّ و ّ‬
‫صوره هلذه‬
‫أبدا ّ‬
‫والصيد وأدواته‪ ،‬والطيور واحليوان وقمة ذلك كله اإلنسان جبنسيه‪ ،‬ومل تكن ً‬
‫املوجودات اعتباطية أو ارجتالية بل صور منتقا خاضعة آللية االختيار الذوقي والعقلي يف آن‪،‬‬
‫فهو ميضي بإصرار فين يف احلديث عن الصور أو ذكر شيء من خصائصها يربطها باملوصوف‪،‬‬
‫ويقارب بينهما وذلك ألجل أن يتحقق للشاعر الصدق يف احتواء املوصوف وهذه الطريقة يف‬
‫تناول الظواهر املختلفة إذا جاءت عن طريق االستعار يصنفها العلماء واملشتغلني يف ميدان‬
‫النقد والبالغة خاصة حتت عنوان الرتشيح*‪.‬‬

‫* الترشيح‪ :‬هو اإلمعان يف تناسي التشبيه الذي هو أصل االستعار ‪ ،‬واالستعار املرشحة هي اليت قرنت مبالئم املستعار‬
‫منه أي املشبه به‪.‬‬
‫(‪ )1‬أبو بكر حممد بن حيىي الصويل‪ :‬شعر ابن املعتز‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬يونس السامرائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.616‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫ولقد عين "ابن املعتز" أميا عناية بتفاصيل الصور الفنية فهو ينقلك إىل خياله‪ ،‬لرتى معامل‬
‫جديدا يف عامله‬
‫ً‬ ‫الصور عنده ‪-‬شكلها‪ ،‬هيئتها أو لوهنا‪ -‬يف إحساسه هبا‪ ،‬فيخلق هلا كونًا‬
‫الشعري‪ ،‬مادامت قد مرت خبربته التأملية واتسع هلا نطاق شعوره‪ ،‬والظواهر اليت يتناوهلا الشاعر‬
‫أيضا‬
‫هي كل ما ميكن أن مير خبرباته اليومية يف الطبيعة أو احليا املادية وماد الصور مستمد ً‬
‫عنده من تلك الظواهر‪ ،‬إذ يربط الشاعر بني الظواهر والصور‪ ،‬فيجعل برباعة متناهية الصور‬
‫ظالالً للظاهر ال تنفك عنها وتتلون بألواهنا وتشكل بأشكاهلا‪ ،‬ومن هنا يبقى للشاعر فضل‬
‫الرتكيبة الفنية املتقنة‪ ،‬واليت هي مزيج متالحم من الظاهر والصور ‪ ،‬مث فكره وإحساسه هبما‬
‫كثريا يف نقل الصور‬
‫وانطباعه النفسي الذي حيرك هذا اإلحساس‪ ،‬فقد ُوفق الشاعر يف إبداعه ً‬
‫بظاهرها ويُبقي هبا جانباً خفيا رمزياً وذلك مثالً حني يصف املصباح‪ ،‬فيقول(‪:)1‬‬
‫كترس اللجين يشق الدجى‬ ‫*‬ ‫ومصباحنا قمر مشر ٌق‬
‫بالرتس من‬
‫فبكثري من الدقة يصف الشاعر املصباح يف اجمللس بقمر مشرق مث يشبهه ُ‬
‫الفضة ميزق الظلمة‪ ،‬فاجلانب الرمزي اخلفي يتأتى من تشبيه الشاعر املصباح املستدير بالرتس‪،‬‬
‫وهو سالح يف احلرب يتقي به املقاتل الضربات وخيتفي خلفه‪ ،‬مث إ ّن هذا الرتس املصنوع من‬
‫الفضة (اللجني) ميزق الظالم ويشتته‪ ،‬ولرمبا كانت ظلمة ال ّدجى يف الصور توحي بالظلم‬
‫يصور النار بتصوير‬
‫واجلور والطغيان‪ .‬ويف سياق آخر من التصوير وهذه املر إىل الطبيعة فنجده ّ‬
‫بديع‪ ،‬فيصف اندفاعها وانتشار ضوئها بالسيوف املصقولة يتم صقلها بني عيدان احلطب‪،‬‬
‫فيقول "ابن املعتز" يف وصف النّار(‪:)2‬‬
‫كأ ّن سيوفًا بين عيدانها تجلى‬ ‫*‬ ‫شه َرةٌ ال يحجب البخل ضوءها‬
‫مَ‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.22‬‬


‫(‪ )2‬أبو بكر حممد بن حيي الصويل‪ :‬شعر ابن املعتز‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬يونس السامرائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.633‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫فالتشبيه الوارد يف هذا البيت ينقل لنا شكل ألسنة النّار وملعاهنا وضوءها واستقامتها‪،‬‬
‫الصلة‬
‫والنّار والسيوف تشرتك يف صفة واحد على األقل وهي التوجه إىل القتل والدمار‪ ،‬مث إ ّن ّ‬
‫بينهما وثيقة فالسيوف تصاغ وتصقل بفضل النّار‪ ،‬وعلى غرار النار كان تصوير "ابن املعتز"‬
‫للسماء يصنف يف خانة البدائعي املشبع بالفنية واملالمس لغريز اإلعجاب‪ ،‬فهو ينظر للسماء‬
‫صورا وأشكاالً وأمناطًا تطالعه يف حياته من‬
‫ويتأمل الثريا يف صور كثري وأشكال متعدد ‪ ،‬توافق ً‬
‫قبل من حوله‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫والثريا في الغرب كالعنق ـ ـ ـ ـود‬ ‫*‬ ‫زارني وال ّدجى أحم الحواشي‬
‫بات يجلى على غالئل سود‬ ‫*‬ ‫وهالل السماء طوق عروس‬
‫يلمع على قماش أسود‪،‬‬
‫فيؤكد الشاعر هنا سواد الليل بوصفه للهالل بطوق عروس ّ‬
‫فكان التشبيه يف الصور هنا للهالل بالطوق كناية عن استدارته أول الشهر أو آخره‪ ،‬وعنصر‬
‫الربط أقوى بني الصورتني‪ ،‬مث مل يلبث الشاعر أن اوجد رابطة نفسية عميقة بني اهلالل الذي‬
‫يشبه يف استدارته نصف السوار‪ ،‬والثريا اليت تشبه ك ًفا معجبة به‪ ،‬وقد أملح الشاعر يف هذه‬
‫الصور إىل صفة نفسية إنسانية تتصارع يف ذاتيته التواقة لفسحة األمل بعدما ذاقته من تالوين‬
‫األمل‪.‬‬
‫مل تكن الصور الفنية يف أشعار "ابن املعتز" صور جوفاء تبعث على امللل أو‬
‫االستعصاء الذهين بل كانت غالبًا صور مجالية تُشع بالفنية وال ّدقة واجلود ‪ ،‬فتتزاخم داخل‬
‫الصور الواحد العديد من القيم اجلمالية والبديعية‪" ،‬فابن املعتز" ميتلك قدر عجائبية على‬
‫اختيار الصور املناسبة ويرعى حق الرعاية الروابط والوشائج املعنوية‪ ،‬وصالت التشبه واالتفاق‬
‫عاما جيعلها‬
‫جوا ً‬
‫املادية واملعنوية والنفسية‪ ،‬ويوجد للصور ‪-‬وهذا ما يؤكد براعته التصويرية‪ً -‬‬
‫(‪ )1‬أبو بكر حممد بن حيي الصويل‪ :‬شعر ابن املعتز‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬يونس السامرائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.566‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وإبداعا متفوقًا وذلك بفضل التالقح داخل شخصية "ابن املعتز" بني البالغة‬
‫ً‬ ‫جديدا‬
‫ً‬ ‫خل ًقا‬
‫والنقد‪ ،‬فلذا فقد حاز قدر عالية على إدراك املعاين واإلحساس هبا وبنبضها املعنوي يف كل‬
‫جسم من الرتاكيب اللفظية ويف كل منط من أمناط التصوير الفين‪.‬‬
‫وباحلديث عن منطية التصوير الفين البد من استعراض النمط الغالب على التصوير عند‬
‫الشاعر "ابن املعتز" أل ّن ذلك سينري يف األخري طبيعة الشخصية األدبية الساكنة يف جسده‪،‬‬
‫وكما هو معلوم يف أحباث الصور الفنية فقد ارتكزت أمناطها على ثالث دالالت‪:‬‬
‫نتاجا لعمل الذهن اإلنساين أو ما يصطلح عليها بالصور الذهنية أي‬
‫‪ -‬الصور بوصفها ً‬
‫منبعها ذهن اإلنسان دون تدخل خارجي أو تأثري مادي‪.‬‬
‫‪ -‬الصور املبنية على اجملاز أو ما اصطلح عليها بالصور اجملازية‪.‬‬
‫‪ -‬الصور احلسية وهي اليت ما مت إدراكها حباسة البصر فتكون الصور هنا مبنية على‬
‫االستنساخ الذهين ملا سبق إدراكه باحلواس‪.‬‬
‫فالصور الفنية يتم تصنيفها حبسب مادهتا إىل صور بصرية وذوقية ومسعية‪ ،‬يقول‬
‫"حمسن إمساعيل السيد" حول طبيعة الصور الفنية وأمناطها‪« :‬الصورة الشعرية هي خالصة‬
‫تجربة ذهنية يخلقها إحساس الشاعر لتلك التجربة وقدرة خياله على تحويلها من كونها‬
‫ذهنية غير مجردة إلى رسمها صورة بارزة للعيان يتذوقها متلقوها ‪.)1(»...‬‬
‫ومبا أ ّن "ابن املعتز" انتمى لبيئة عباسية طغى عليها البذخ واجملون والرتف يف شىت‬
‫مظاهر احليا ‪ ،‬وكذلك انتمى لطبيعة حفلت باملتناقضات من اجلمال اآلسر للخضر ورونقها‬
‫إىل اإلقفار الوجداين الذي جتود به الصحراء‪ ،‬فهذه البيئة وعلى عاد شعراء عصره وسابقيه‬

‫(‪ )1‬حممد حمسن إمساعيل‪ :‬الصور الشعرية عند حيىي الغزال‪ ،‬جملة الرتاث العريب ‪-‬جملة فصلية تصدر عن إحتاد الكتّاب‬
‫العرب‪ ،-‬العدد ‪ ،75‬السنة ‪ ،19‬أبريل ‪1999‬م‪ ،‬ص ‪.49‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫كانت فضاءًا النفعاالته الشعرية ومستـن ًدا قويًا ملذهبه يف احليا ‪ ،‬فسار على خط األوائل يف‬
‫اعتبار أ ّن الصور ال ترسم دون جتربة حيّة يعيشها الشاعر حيث يتفاعل املكان (البيئة) مع‬
‫اإلنسان (الشاعر)‪ ،‬فالعود إىل الطبيعة عود إىل الفطر وال ّذات(‪.)1‬‬
‫لقد مثّل "ابن املعتز" النمط احلسي يف تصويره الشعري وخباصة يف استعماله للمجازات‬
‫كثريا‬
‫واجلناس والطباق وخباصة التشبيه‪ ،‬فقد اعترب الناقد "شوقي ضيف" أ ّن "ابن املعتز" ركز ً‬
‫على منط التشبيه يف تصويراته احملسوسة وأنّه جنح يف إنتاج أشكال منه(‪" ،)2‬فابن املعتز" أحاط‬
‫وفهم الزخرف احلسي بأشكاله من التالوين واجلناسات وغريها ولكنه غفل عن الزخرف العقلي‬
‫فهو احناز بالبديع إىل الزخرف املادي وغيّب عنه ما تعلق باملعنوي وكذا العقلي‪ ،‬وإذا كان من‬
‫سبب يُعزى إليه ذلك فهو كما سبقت اإلشار إليه البيئة املرتفة اليت انتمى إليها "ابن املعتز" من‬
‫سائدا من حواليه‪ ،‬ولذلك وقف التصوير الفين عند "ابن‬
‫حيا القصور ومناخ البذخ الذي كان ً‬
‫املعتز" عند اجلانب احلسي وخاصة ما اتّصل بالتشبيه واألخيّلة املختلفة‪ ،‬فهو ‪-‬ابن املعتز‪ -‬ملا‬
‫كان يعتين بزخارف التصوير يف إبداعه الشعري مل يرمي به إىل التعبري الرمزي عن فلسفته‬
‫أيضا ليس التصوير‬
‫احلياتية ومعاين الوجود عنده‪ ،‬ويف ذلك يقول "شوقي ضيف"‪ ...« :‬وهو ً‬
‫الحسي الذي يحلله أبو تمام إلى أصباغه التي تحدثنا عنها من تجسيم وتدبيج‬
‫ّ‬
‫وتشخيص‪ ،‬إنما هو تصوير من نوع آخر ال يحتاج تأمالً عمي ًقا»(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬خالد سعيد‪ :‬حركية اإلبداع ‪-‬دراسات يف األدب العريب احلديث‪ ، -‬دار العود ‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪1982 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.32‬‬
‫(‪ )2‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،11‬القاهر ‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.265‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.267‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫احلسي عند "ابن املعتز" وصفه البدائعي للهالل وذلك يف‬


‫ومن األمثلة املشهور للتصوير ّ‬
‫قوله(‪:)1‬‬
‫قد أثقلته حمولة من عنبر‬ ‫*‬ ‫كزْورق من فضة‬
‫انظر إليه َ‬
‫يصور اهلالل‪ ،‬فالتمس له من‬
‫تبني لنا تلك اخلاصية احلسية يف الصور فالشاعر أراد أن ّ‬
‫عامل احلس صور الزورق الذي يسبح يف املاء وقد ُمحل بالعنرب‪ ،‬وإذا مضينا يف حتليل هذه‬
‫الصور وجدنا أ ّن شكل الزورق يشبه متا ًما شكل اهلالل؛ فاهلالل يف السماء كالزورق يف املاء‪،‬‬
‫احلسية‪ ،‬وهذا ي ّدلنا على تطابق الصورتني (اهلالل‬
‫ويُالحظ هنا أ ّن وجه الشبه هو األمور ّ‬
‫حسية‬
‫والزورق) فعناصر التشابه اليت رأيناها يف املثال السابق تتطابق حرفيًا مبا ال يرتك خاصية ّ‬
‫احلسي للصور عنده‬
‫يف الشيء املُراد تصويره إال جاء له يف الصور مبا يوازيه ويساويه‪ ،‬فالنمط ّ‬
‫اتسم بأنه شكلي باالرتباط له باملشاعر واألحاسيس‪.‬‬
‫فالشاعر ال تستمر قواه اإلبداعية لكي حيكي لنا الشيء كما هو على عكس فن التصوير‬
‫الذي يريد أن يستشف الصور عن الشعور وهو ما نفتقده عند "ابن املعتز" والصور الفنية‬
‫عموما‪" ،‬فابن املعتز" الشاعر والناقد القدمي مل يبحث يف فن الصور عن العواطف‬
‫القدمية ً‬
‫شاعرا‬
‫ناقدا أو ً‬
‫واملشاعر‪ ،‬وإّمنا يبحث عن املطابقة أو اإلصابة يف التشبيه فمثالً لو سألنا ً‬
‫عما تثريه صور اهلالل يف النفس‪ ،‬لقال إ ّن اهلالل يثري يف النفس معاين ومشاعر ال‬
‫معاصرا ّ‬
‫ً‬
‫حصر هلا‪ ،‬فهو يثري فيها مشاعر الطفولة اليت حتبو‪ ،‬ويثري فيها معاين األمل يف مستقبل مشرق‬
‫ومشع كما يثري فيها الشعور بتجدد احليا وهكذا‪.‬‬
‫وهبذا يكون مفهوم الصور هو اهتداء اإلنسان حبكم تكوينه البيولوجي والنفسي للتعبري‬
‫والتنفيس عن انفعاالته‪ ،‬وتُفهم األلفاظ حبسب رغبة كل إنسان وفهمه للجمال‪ ،‬على أ ّن هناك‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.247‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫من النقاد من رأوا أ ّن "ابن املعتز" وإن غلب على فن التصوير لديه النمط أو الطابع احلسي‪،‬‬
‫صوره كانت مشبعة باألحاسيس واملعاين النفسية العميقة‪ ،‬يقول الناقد "سعد‬
‫إالّ أ ّن بعض ّ‬
‫هم‬
‫شليب"‪ ...« :‬وقد شارك ابن المعتز في تحويل الوصف إلى صور فنية‪ ،‬فما كان ّ‬
‫الشعراء في العصر العباسي همهم في العصر الجاهلي وبني أمية ‪ ...‬فهم يرقون بالواقع‪،‬‬
‫الفن في لوحات تصويرية‪ ،‬تبرز المشاعر وتعبر عن األحاسيس ويتجلى فيها‬
‫ويجسدون ّ‬
‫ّ‬
‫براعة الشاعر في االرتقاء بالواقع أو التعبير عنه بما يدهش ويفتن»(‪.)1‬‬
‫اهلم الوجودي إبان‬
‫وعلى رأي الناقد هنا "فابن املعتز" مل يكن إالّ حلقة من حلقات ّ‬
‫العصر العباسي وانعكاس إنتاجه الشعري وهو يتشارك ذلك مع من سبقوه وكذلك معاصروه‪،‬‬
‫فالصور عنده مل تكن بتلك الفجاجة أو املادية اخلالية من الروح وما يرتبط هبا من أحاسيس‬
‫بل تشاركت االثنني يف ثناياها فرتاوحت بني احلسية والذهنية اخليالية املرتبطة عاطفيًا بأحاسيسه‬
‫وانفعاالته وهو ما اكسبها صفة اجلمالية ويف هذا السياق يقول "جنيب البهييت"‪ ...« :‬وإنّا‬
‫ويصوره تصوير الغنِّي‬
‫ّ‬ ‫لنجد عند ابن المعتز بحثًا دائبًا عن الجمال ينشده‪ ،‬ويتذوقه‬
‫المترف‪ ،‬وإذا كان الشعراء الذين سبقوا ابن المعتز قد فرغوا من وضع هذا الهيكل‬
‫الشامخ‪ ،‬وتقسيم أقسامه وأفنانه‪ِّ ،‬‬
‫ومد أروقته وأبهائه‪ ،‬وتجميله بالزخارف والتماثيل‬
‫ورصعه بالدرر‪ ،‬وأضاءه باللؤلؤ الوهاج»(‪.)2‬‬
‫موهه بالذهب‪ّ ،‬‬
‫والصور‪ ،‬فإ ّن ابن المعتز قد ّ‬
‫فلذا ومن خالل كل ما مت ذكره يتبني جلياً أ ّن "ابن املعتز" هلُو رسام بارع‪ ،‬وشاعر ذكي‬
‫فطن‪ ،‬ميلك قدر إبداعية ف ّذ وبراعة خارقة يف إبراز الصور بشكلها وهيئتها ويطبعها بطابعه‬

‫(‪ )1‬سعد إمساعيل شليب‪ :‬ابن املعتز –صور لعصره‪ ،-‬دار الفكر للطباعة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬القاهر ‪1981 ،‬م‪ ،‬ص ‪.185‬‬
‫(‪ )2‬جنيب حممد البهييت‪ :‬تاري خ الشعر العريب حىت آخر القرن الثالث اهلجري‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الدار البيضاء املغرب‪،‬‬
‫‪1981‬م‪ ،‬ص ‪.517‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫النفسي‪ ،‬وقد اعتربه صفو النقاد بأنّه من رواد شعر الطبيعة‪ ،‬وأنّه رأس مدرسة الصور الشعرية‬
‫احلسي الذي ال غبار عليه‪.‬‬
‫يف الشعر العريب العباسي‪ ،‬وما ميّزها عنده الطابع ّ‬

‫‪- 112 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -3‬األثر الجمالي للخيال في شعر ابن المعتز‪:‬‬

‫لقد قال "حازم القرطاجين" ذات مر وكما مت ذكره ساب ًقا أ ّن اخلطابة وسيلة اإلقناع‬
‫بينما الشعر وسيلة للتخيّل‪ ،‬فاخليال حالةُ تظهر للتوفيق بني األشياء املتنافر بغية إجياد نوع من‬
‫التوافق بني هذه األشياء‪ ،‬فالعديد من النقاد يذهب إىل أ ّن اخليال يقوم على توليد صور‬
‫واضحة‪ ،‬وهو انطالقًا من هذا الفهم يعمل على التقاط املشاعر واألفكار وإعاد خلقها من‬
‫جديد يف عمل أديب‪ ،‬وعلى هذا األساس فالشاعر املتمكن ال يكتب كل ما متليه عليه غريزته‬
‫أسريا النفعاالته‪ ،‬بل هو ذلك الشاعر الذي يرتك خياله يتمدد من أجل التقاط الصور‬
‫ويكون ً‬
‫تعرب عن مشاعره‪ ،‬فلهذا من اجلدير القول إ ّن االعتماد على الفعل الشعري دون‬
‫الشعرية اليت ّ‬
‫االهتمام بعنصر اخليال يف مسألة اخللق اإلبداعي هلي أشبه حبالة الرقص دون قدمني‪.‬‬
‫وهلذا فارتباط العملية اإلبداعية باخليال جتعل القارئ يتعمق أكثر أثناء قراءته للنصوص‬
‫الشعرية‪ ،‬فالقارئ للعمل الشعري عندما يشخص أمامه بيت أو قصيد شعرية وتقع منه حمل‬
‫اإلعجاب يطلق عليها وصف "هذا خيال جامح" أو "هذا ختيل بديع" فيفهم السامع هلذه‬
‫الكلمات وما مياثلها‪.‬‬
‫إ ّن للشاعر قدر على سبك املعاين وصوغها يف شكل بديع‪ ،‬ولو قالوا العكس مثال "ما‬
‫أضيق هذا اخليال"‪ ،‬فهم السامع أ ّن ليس للشاعر القدر على إخراج املعاين يف صور مبتكر ‪،‬‬
‫وهل اجلمال يف الشعر إالّ هذا؟‪ ،‬فالقو املتخيلة إمنا تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد‬
‫تلقتها من طريق احلس أو الوجدان‪ ،‬وليس يف إمكاهنا أن تبدع شيئًا من عناصر مل يتقدم‬
‫للمتخيل معرفتها‪ ،‬وهو ما ينطبق على الصور احملسوسة ‪-‬كما احلال عند ابن املعتز‪ -‬فقدماء‬
‫اليونان مثالً رمزوا إىل صناعة الشعر بصور فرس له جناحان‪ ،‬وهي صور إمنا انتزعها اخليال بعد‬

‫‪- 113 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫تصور كالً من الفرس والطري بانفراده(‪ ،)1‬فاملخيلة ومما ال شك فيه أ ّهنا تعتمد على األقل‬
‫أن ّ‬
‫عند العقل اإلبداعي وهو حال الشعراء على قو التذكر حيث تتداعى املعاين وختطر على‬
‫الذهن بسهولة‪ ،‬وبعد أن ترتاءى هلا الصور بوسيلة التذكر تستخلص منها العقلية اإلبداعية ما‬
‫يالئم الغرض وتطرح جانبًا ما زاد على ذلك‪ ،‬وكل هذه العملية املعقد متوقفة على حضور‬
‫احملسوسات‪ ،‬فاملتخيلة عند اإلنسان ال ميكنها حبال أن تعمل يف غياب احلسي‪ ،‬وهو ما حييلنا‬
‫إىل القول بأ ّن القو املتخيلة ألصق من احلس ورمبا ذلك يرجع لبعدها عنه وعدم جتاوز العالقة‬
‫بينهما حدود التجريد يف الواقع‪ ،‬وما تلعب القو البصرية لإلنسان من دور فاعل يف نقل هذا‬
‫الواقع التجريدي أو التشيىيء إىل خميلة اإلنسان ومنها تنطلق عملية اإلبداع وهذا ما يتجسد‬
‫حرفيًا يف عملية اإلبداع عند الشعراء‪.‬‬
‫الفعال ‪-‬وهذا نادر‬
‫نفسا شفافة وقُدر هلا أن تتصل بالعقل ّ‬
‫فالقو املتخيلة إذا صادفت ً‬
‫احلدوث‪ -‬صار هلا إمكانية معرفة الشيء قبل وقوعه قد يصطلح عليها البعض باحلدس والبعض‬
‫بالوحي‪ ،‬لذلك كانت القو املتخيلة أرق من احلس وحىت من احلدس امللكة اإلنسانية الغامضة‪،‬‬
‫وهذه املقدر توجد عند الشعراء وإن مل يتيقنوها أحيانًا داخل نفوسهم‪ ،‬فالقو املتخيلة وعند‬
‫الشعراء على اخلصوص تستطيع االبتكار وحتوله كقو ذاتية داخلها ولكن ال يتم هلا ذلك‬
‫مستقلة عن احلس بل به ومعه أل ّن العدمية ال ميكن أن تكون وحيًا ربانيًا‪.‬‬
‫جلي لدارس النقد العريب القدمي الميكن أن يتجاهله وهي أ ّن النقد القدمي مل‬
‫وهناك واقع ّ‬
‫يأت بالصور اليت كان ال ّدارسون يتمنوها‪ ،‬فهو وحىت ال تقول جتاهل ‪-‬ونعين هنا النقد العريب‬
‫القدمي‪ -‬مل يأت هبذه الصور عند الشاعر وما وسعه من البحث عن الصور املتخيلة عنده‬

‫(‪ )1‬حممد اخلضر احلسني التونسي‪ :‬اخليال يف الشعر العريب‪ ،‬املطبعة الرمحانية يف دمشق‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬أبريل‪ ،‬دمشق‪1922 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.13‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫فيحدثنا عن طبيعتها وما يتصل هبا‪ ،‬حيث أ ّن الناقد القدمي انصرف إىل البحث يف تأثري القو‬
‫املتخيلة وأثرها على اإلنسان فبدالً من أن يهتموا بالتخيل اهتموا بالتخييل‪.‬‬
‫إ ّن فهم الشعر على اعتباره ختيالً عقليًا يعين أ ّن الشاعر يأخذ مادته من القو املتخيلة‪،‬‬
‫فيقوم بفرض ما أخذه على عقله فينربي هذا العقل بضبط قو التخيل وتوجيهها وهو ما ينتهي‬
‫بالتأثري يف خميلة املتلقي‪ ،‬واليت بدورها ‪-‬القو املتخيّلة عند املتلقي‪ -‬تقوم بالتأثري على القو‬
‫النزوعية اليت تعترب يف التصور القدمي خامة من خامات القو املتخيلة فيصري املتلقي إىل حالة‬
‫نتاجا ملا يقرأ‪ ،‬وهو املراد يف النهاية بالنسبة للفعل الشعري وغايته املرجو ‪.‬‬
‫انفعالية ً‬
‫لقد لعب الشعر القدمي على حبل التخييل عند املتلقي والذي يتم حسب املفاهيمية‬
‫حمصورا بني البسط‬
‫ً‬ ‫املعاصر على مستوى الالوعي‪ ،‬فيجنح بالعقل ‪-‬القو املدركة‪ -‬ويصبح‬
‫والقبض (عملية ذهنية) وتتم عملية االنقباض واالنبساط يف ذهنية املتلقي مىت وقع املتلقي حتت‬
‫تأثري الشعر يف حلظة الالوعي اخلالصة أي غياب العقل عند املتلقي‪ ،‬فاستجابة املتلقي للتخييل‬
‫كثريا ما تـتبع انفعاالته ختيالته‪ ،‬فقد قال‬
‫الشعري تتحقق يف ضوء حقيقة مفادها أ ّن اإلنسان ً‬
‫"ابن سينا" عن الكالم املخيّل بأنّه الكالم الذي ينفعل به املرء انفعاالً نفسانيًا غري فكري وإن‬
‫(‪)1‬‬
‫جيدا يف إبداعاته الشعرية بل و آمن‬
‫كان متيقن الكذب ‪ ،‬ومما استكنهه شاعرنا "ابن املعتز" ً‬
‫به هو أمهية اخليال يف العمل الشعري وما له من قيمة فنية يضفيها عليه‪ ،‬ناهيك عن خصوصية‬
‫اخليال والشعر والعالقة االستلزامية اليت حتكمها‪.‬‬
‫إذا استحلنا باحلديث عن اجملازات والتشبيهات واالستعارات يف شعرية "ابن املعتز"‬
‫ولنقل الشعر العريب القدمي بصفة عامة‪ ،‬فهي إذا دققنا التعبري ليس بعد جمازات واستعارات بل‬

‫(‪ )1‬الشيخ الرئيس ابن سينا‪ :‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬تح‪:‬آية اهلل حسن زاده اآلملي‪ ،‬مركز النشر ملكتب اإلعالم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،1‬قم بإيران‪1417 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪.214‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫مناذج تصويرية أسطورية خيالية بالنسبة للعريب القدمي‪ ،‬ورمبا هذه الصور األسطورية يف وصف‬
‫األشياء يف الشعر القدمي حتيل إىل االعتقاد بأنّه يوجد يف إدراك الشاعر منوذج بصري حمدد‪ ،‬ورمبا‬
‫لو أ ّن احلضار العربية وخباصة الفن التصويري التجسيمي تطورت يف منحى آخر‪ ،‬فإ ّن تلكم البذور‬
‫اجلنينية لإلدراك اخليايل األسطوري والذي من املمكن رصده يف آثار اخللق األديب الفين يف الشعر‬
‫تعبريا بصريًا يف فن النحت أو التصوير أو الرسم‪ ،‬ومن املهم‬
‫العريب القدمي‪ ،‬لرمبا تكونت وامتلكت ً‬
‫جدا القول بأ ّن النشاط اخليايل يف الشعر ال ميكن أن ُخيتصر يف تشكيالت متعلقة بالصور البالغية‬
‫ً‬
‫أو االستعمال االستعاري للكلمات‪.‬‬
‫فحقيقة أ ّن نشاط اللغة التصويري جزء مهم من فاعلية الشعر‪ ،‬إالّ أ ّن هذه الفاعلية ال ختضع‬
‫دائما إليها‪ ،‬فقد ترى يف الشعر إدرا ًكا استعاريًا أو جمازيًا مث جتد‬
‫بدالالت الصور وحدها وال تؤول ً‬
‫املعىن مرتبطاً بتوتر صويت أو لون موسيقي أو إيقاع أو غريه من املدلوالت‪ ،‬وهكذا ُخييل إلينا أ ّن املعىن‬
‫يف الشعر خيضع لتقاطعات مستمر وأ ّن ما نسميه بالنشاط اخليايل الشعري بنية معقد (‪ ،)1‬فهو‬
‫منوط بتبيان حقيقة الشعر والكشف املطمئن عن جوهره األصيل ومقوماته الذاتية‪ ،‬على أنه ليس‬
‫باملستطاع إدراك فاعلية اخليال الشعري‪ ،‬مامل يتم النظر يف طبيعة الفن أو النشاط التصويري بشكل‬
‫أيضا التوجه لدراسة نوعية اإلدراك اجلمايل وإىل درس كيفية عمل الفنان حمق ًقا التشكيل‬
‫عام‪ ،‬وجيب ً‬
‫اجلمايل لعمله الفين‪.‬‬
‫فاجلرجاين يف معرض تناوله لقضية التخييل الشعري رأى أ ّن فاعلية اخليال واكتمال نشاطه‬
‫اجلمايل داخل الشعر أو لنقل العمل الفين على اإلمجال تستوجب االعتماد على ضروب املبالغة‬
‫واإلغراق وكذلك الغرابة والبعد(‪ ،)2‬وتظافرها ضمن النشاط اخليايل داخل عمل فين معني تؤدي‬
‫انسياقيًا إىل إقناع املتلقي والتأثري فيه سواء بطريقة خاصة‪ ،‬أو باعتبار الصياغة والتشكيل من قبيل‬

‫)‪(1) C. Day Lewis: The poetic image, J. Cape, Edition 8, 2006, P 71-72.(Adapted‬‬
‫(‪ )2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار البالغة‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬ط‪1991 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.275-274‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫التحسني أو التقبيح أو الزينة والتلوين‪ ،‬وإعطائها قو النظرية أو املبدأ الذي يقول فيه اجلرجاين‪:‬‬
‫«يكسب الدني رفعةً والغامض القدر نباهةً‪ ،‬وعلى العكس يغض من شرف الشريف‪ ،‬ويَطأ من‬
‫قدر ذي العزة المنيف‪ ،‬ويظلم الفضل ويهضمه‪ ،‬ويخدش وجه الجمال ويتَخونه‪ ،‬ويعطي الشبهة‬
‫بدعا تغلو في‬
‫سلطان الحجة‪ ،‬ويرد الحجةَ إلى صبغة الشبهة‪ ،‬ويصنع من المادة الخسيسة ً‬
‫صحت‪ ،‬ودعوى‬
‫ْ‬ ‫الكيمياء وقد‬
‫َ‬ ‫القيمة وتعلو‪ ،‬ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطابع ما ترى به‬
‫اإلكسير وقد َوضحت إالّ أنها روحانية تتلبس باألوهام واإلفهام‪ ،‬دون األجسام واألجر ْام»(‪،)1‬‬
‫ومن النماذج اليت متثل هبا اجلرجاين فيما قاله هنا أبيات للشاعر "ابن املعتز" وذلك بغية إيضاح ما‬
‫ذهب إليه فيما سبق على القو اليت يتسم هبا النشاط اخليايل وما يستطيع أن يلبسه على القيم‬
‫واحملسوسات املختلفة‪.‬‬
‫ّأما النموذج الشعري الذي أورده عن "ابن املعتز" فهو مما قاله األخري يف ذم القمر واجرتاؤه‬
‫بقدر البيان على تقبيحه وهو األصل وعليه االعتماد واملعول منه يف حتسني كل حسن وتزيني كل‬
‫(‪)2‬‬
‫مزين وهو كالتايل‪:‬‬
‫يا مشكلي طيب الكرى ومنغّصي‬ ‫*‬ ‫ضحى‬
‫يا سار َق األنوار من شمس ال ّ‬
‫وأرى حر َارة ن ـ ـ ـارهـا لـن تنق ـ ـ ـ ـ ـص‬ ‫*‬ ‫ص‬
‫ّأما ضيـاء الشمس فيك فناق ـ ـ ٌ‬
‫منسلخ به ـ ـ ـقـا كلـون األبـ ـ ـ ـ ـ ـرص‬ ‫*‬ ‫لم يظف ْر التشبيه منـك بطائـ ـ ـ ـل‬
‫مفهوما نقديًا مستقالً للتخييل الشعري فهو ‪-‬التخييل الشعري‪-‬‬
‫ً‬ ‫وهكذا يؤسس اجلرجاين‬
‫خادعا يقوم على املخادعة واإليهام والتنميق والكذب البارع وهو ما نتلمسه يف‬
‫ً‬ ‫قياسا‬
‫يستحيل ً‬
‫أبيات "ابن املعتز" سابقة الذكر‪ ،‬فالنظر اجلرجانية للخيال الشعري وحىت من سبقه أو من أتى بعده‬
‫من النقاد املشتغلني يف ميدان األدب‪ ،‬جعلت منه قوام الشعر وجوهره تأث ًريا ومن مثة تصبح قضية‬

‫(‪ )1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار البالغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.318-317‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.321-320‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫التعارض بني التخييل والتصديق غري ذات أمهية يف دراسة الشعر ونقده؛ فالناقد ليس يعنيه أن يكون‬
‫املعىن الشعري صادقاً أو كاذباً إمنا مناط اهتمامه وعنايته أن خيمن ويتساءل عن موقع املعىن من‬
‫املتلقي وتأثريه يف انفعاالته وقدرته على توجهيه‪ ،‬طاملا أ ّن املقصود منه هو حسن احملاكا وما يتبعها‬
‫من تأثري فحسب‪ ،‬ولذا فإ ّن تلك الصور املركبة قد تكون معقولة مبعىن أ ّن العقل ال يستبعد وقوعها‬
‫يف اخلارج كما هو احلال يف األدب الواقعي‪ ،‬فاحلال أنه إذا مل يكن وراء اخليال رمز معقول دال‪ ،‬فإ ّن‬
‫لغوا ال لذ فيه‪.‬‬
‫باردا فتذهب متعته بالتدرج فيصبح ‪-‬كما يقال‪ً -‬‬
‫مجال اخليال يتضاءل فيكون ً‬
‫حتديدا تكتسب صفتها السامقة باعتبار أ ّن‬
‫إ ّن مجالية اخليال عند "ابن املعتز" ويف أشعاره ً‬
‫اخليال وحضوره يف شعريته أو شاعريته ينطلق من أجزاء حمسوسة ومن علم بالعالقات والفوارق بينها‪،‬‬
‫فتنتهي لذ اخليال إىل رمز دال على املثال األعلى للجمال أو رمبا تنحدر هبا إىل منتهى القبح‪،‬‬
‫فاخليال عنده جينح إىل املضاها الفنية ملا يف الواقع مشاهبة ومقاربة من أجل إحداث عوامل فنية هلا‬
‫داللتها على احلقائق فيقيم عوامله اخليالية بأوجه الشبه بني األعيان الواقعية وهو ما يفسر طغيان‬
‫احلسي يف تصويره لألشياء يف إنتاجه الشعري‪ ،‬فرتكيب احلادثة من تلك العناصر الواقعية تركيب من‬

‫اقعا هبذا التعيني فعالً‬


‫صنع اخليال‪ ،‬وألن صاحب احلادثة ‪-‬الشاعر هنا‪ -‬مل ينقل من الطبيعة حدثًا و ً‬
‫وإمنا ختيل ما هو حمتمل الوقوع وهنا يتجسد الفرق بني واقعية احلدث وواقعية األدب‪.‬‬
‫فالقول الشعري ‪-‬حسبما ما جاء عند املتقدمني من النقاد‪ -‬ال يقع يف طرف واحد من‬
‫أبدا ُمعوالً يف جودته وحسن‬
‫النقيضني الصدق والكذب‪ ،‬إمنا يقع تار صادقًا وتار كاذبًا ومل يكن ً‬
‫تأثريه على مقدار صدقه أو كذبه «فلذلك كان الصحيح في الشعر أ ّن مقدماته تكون صادقة‬
‫شعرا من حيث هو صدق وال من حيث هو كذب‪ ،‬بل من حيث هو‬
‫وتكون كاذبة‪ ،‬وليس يعد ً‬

‫‪- 118 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫كالم مخيل»(‪ ،)1‬فاخليال هو اآللية تكاد تكون الوحيد اليت تذلل السبيل إىل فهم حقيقة الشعر‬
‫ٌ‬
‫وجوهره وبغياب هذه اآللية تكون هذه احلقيقة مبهمة وفاقد لربيقها من حيث هي حقيقة‪.‬‬
‫إ ّن املتخيل تركيب وليد ال منلك نفيه من الوجود مثلما أننا ال منلك إثبات وجوده‪ ،‬ألنه‬
‫بطبيعة احلال ال منلك اإلحاطة بكل املوجودات يف هذا الكون الفسيح‪ ،‬فالرتكيب بإبداع اخليال حمال‬
‫علما ومعرفة؛ فالتخيل واخليال يف النص‬
‫أن يتم إال بتصوير أجزائه املوجود اليت هي حتت إدراكنا ً‬
‫جرده العقل من‬
‫األديب اختالق صور مل يشهدها احلس بذلك الرتكيب‪ ،‬وإمنا كانت صور أجزائها مما ّ‬
‫إدراك احلس واحتفظت به الذاكر ‪ ،‬مث إنه من املمكن إذا رجعنا قليالً ملصطلح املضاها الفنية‬
‫فاملقصود به هو اخللق الفين ‪-‬عند البعض‪ -‬فاخللق يتسم باملضاها فهو صنع اخليال مما هو خملوق‪،‬‬
‫أل ّن العناصر اجلزئية اليت تدخل يف هذه العملية هي نقل من الطبيعة ‪-‬حمسوسات‪ -‬واحلادثة املركبة‬
‫باخليال من أجزاء الطبيعة ال معهود للشاعر هبا بذلك الرتكيب‪ ،‬فالنقل من جزئيات الطبيعة وصنع‬
‫الصور الكلية من قبل اخليال مضاها وابتكار متالزمان يف آن واحد‪ ،‬فإذا حتقق اخليال يف ثنايا‬
‫املضاها الفنية حتقق فيها أهم عنصر مجايل على اإلطالق‪.‬‬
‫إ ّن احلديث عن خيال "ابن املعتز" حديث عن خيال مشبع بصور احليا املرتفة‪ ،‬ومن أجل‬
‫هذا كرست صوره وأخيلته مدركات ذهنية حول ما كان يدور يف تلك البيئة من املاديات‬
‫واحملسوسات‪ ،‬وقد سبق وذكرنا تلك الصور اليت ألبسها "ابن املعتز" على اهلالل حني أراد تشبيهه‬
‫فانتزع له صور مادية مما كان يألفه يف حميطه فإذا هو كالزورق من الفضة‪ ،‬مث حني أراد تشبيهه مر‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن "ابن املعتز" ال يكتفي هباتني الصورتني للهالل فيجعل‬
‫أخرى جعله منجالً من الفضة ً‬
‫(‪)2‬‬
‫خياله إىل سوار العاج حني قال‪:‬‬

‫(‪ )1‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تح‪ :‬احلبيب بن خوجة‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫‪2008‬م‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.294‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫حتّى تبدى مثل وقف العاج‬ ‫*‬ ‫أكل المحاق هاللها‬


‫في ليلة َ‬
‫ولرمبا كان سوار العاج يزين معصم إحدى جواريه‪ ،‬فألبسه "ابن املعتز" هاته الصور حىت يبني‬
‫بصا هبذا اهلالل ماحقا‬
‫الربيق والشكل الذي اختذه اهلالل يف ليلة كان احملاق وهو ظل الشمس مرت ً‬
‫فاسحا للظالم مكانًا بعد غياب‪ ،‬ويف صور أخرى يذهب به خياله اجلامح إىل تشبيه أصبع يف‬
‫نوره ً‬
‫(‪)1‬‬
‫كف إحدى عازفات العود فنجده يقول‪:‬‬
‫ولو تركته كان غير نطيـق‬ ‫*‬ ‫عودا بعود مخ ّفف‬
‫ومنطقة ً‬
‫در طوقت بعقيـق‬
‫أنابيب ٍّ‬ ‫*‬ ‫ف كأ ّن بنان ـ ـ ـ ـ ـ ـهـا‬
‫تقلبه كـ ٌ‬
‫فهذه الصور اليت أوردناها هي من دون شك حتتاج لرتكيبها إىل خيال متيقظ خيال معطاء ال‬
‫يذوب وال ينضب كخيال "ابن املعتز"‪ ،‬هذا اخليال الذي ما يفتأ إمداد صاحبه بأغزر الصور وأبدعها‬
‫وكذلك أطرفها‪ .‬وعليه فإ ّن "ابن املعتز" عندما أناط اهتمامه بالصور الفنية احلسية‪ ،‬إمنا هو ال يسعى‬
‫وراء األخيّلة الومهية اليت تنأى به عن واقعه وبيئته ومشاهداته ومن أجل هذه الغاية كثُـرت يف شعره‬
‫يصعب معها حتديدها أو حصرها يف نطاق معني‪ ،‬فهي تزدحم‬
‫ُ‬ ‫صور خياله الواقعية احملسوسة‪ُ ،‬كثرً‬
‫ُ‬
‫فيه وهي يف عموميتها متتاز باللطف والرباعة وال ّدقة‪.‬‬
‫جدا اإلشار إىل أ ّن "ابن املعتز" حيتفي يف شعره باألخيّلة والصور الفنية‬
‫إنّه ملن املهم ً‬
‫والتشبيهات إىل درجة اإلفراط الشديد‪ ،‬حىت قيل إ ّهنا تظهر يف شعره وقصائده على شكل وهيئة‬
‫صفوف متالحقة‪ ،‬ففي كل جانب منها صور أو ختييل معني‪ ،‬وهي كثري الورود يف شعره حملاولته أن‬
‫حيدث هبا ومن خالهلا طرافة يف شعره فهي كل ما يقدمه للفن من زينة ومجال‪ ،‬ولكن من الالفت‬
‫لالنتباه أ ّن "ابن املعتز" مل يضع مهّه يف إحداث تنويع واسع يف زخرف شعره‪ ،‬فقد رفض بشد‬

‫(‪ )1‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ج‪ ،2‬مصر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪193‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫الزخرف العقلي أو لنقل بشكل دقيق مل يستطع استعماله كما أنه مل يستطع أن يستخدم شىت أنواع‬
‫(‪) 1‬‬
‫مطرزا به قصائده وموشياً به أبياته‪ ،‬فنجده مثالً يقول‬
‫الزخرف احلسي‪ ،‬وهو ما يربر احنيازه للتشبيه ً‬
‫عبث الفؤاد بلحظ مقلته‬ ‫*‬ ‫يم يتيه بحسـن صورتـه‬
‫رٌ‬
‫لما دنت من نار وجنتـ ـ ـ ـه‬ ‫*‬ ‫وكأ ّن عقرب صدغه وقفت‬
‫فهذه من الصور البارعة احلسية فيها إبداع كبري وذلك ملا أشاعه فيها "ابن املعتز" من مجال‬
‫جدا يف صنع‬
‫بارعا ً‬
‫الوجنات أو لنقل هي نار الفن‪ ،‬لقد كان "ابن املعتز" ً‬
‫وبعث من نار‪ ،‬هي نار ُ‬
‫الصور واستحضار األخيّلة وهي براعة نرى آثارها يف كل مكان من ديوانه‪ ،‬فهو يستخرج من أغوار‬
‫(‪)2‬‬
‫أوضاعا متضاربة يشع فيها النور واجلمال واحليا ‪ ،‬مثل قوله‪:‬‬
‫ً‬ ‫الطبيعة والبيئة‬
‫عجب‬
‫ْ‬ ‫تريك على األرض شيئًا‬ ‫*‬ ‫الرياح‬
‫وزوبعة من بنات ّ‬
‫ب‬
‫كضم المحبّـة مـن ال يحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫ِّ‬ ‫*‬ ‫تضم الطريد إلى نحرهـا‬
‫والناظر هلذه الصور سيكون إزاء صور خيالية رائعة تستلزم خيال فنان حىت يعرضها على‬
‫أنظارنا‪ ،‬وليس ّأدل على هذه الرباعة من ذلكم العناق الغريب الذي أوجده لنا "ابن املعتز"‪.‬‬
‫طرف قارئه بالصور الغريبة‪ ،‬وهي ليست بصور جامد من‬
‫متاما كيف يُ ُ‬
‫فابن املعتز يعرف ً‬
‫تلك اليت تواضع عليها الشعراء وأصبحت متحجر يف اللغة‪ ،‬بل هي حية مشعة باحلركية ساحبة يف‬
‫خميّلة القارئ وكأمنا نقشت رسومها باألمس من طرف شاعر يُشع براعة فنية ومقدر تصويرية متتاز‬
‫فيها صوره باحلركية حىت ليحس القارئ ألشعاره بأنه يعيش يف دار من دور الصور املتحركة‪ ،‬فهو‬
‫أوضاعا تؤكد حقيقتها وجتعلنا كأننا نلمسها ونشاهدها‪ ،‬لقد كان التصوير‬
‫ً‬ ‫يعطي صوره وأخيّلته‬
‫المصور حين يربط بين األشياء‬
‫ّ‬ ‫والتخييل نتاج تالحم «ولتعاون كل الحواس والملكات والشاعر‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.100‬‬


‫(‪ )2‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬ج‪ ،2‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪159‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫يثير العواطف األخالقية والمعاني الفكرية‪ ،‬فالصورة منهج فوق المنطق لبيان حقائق‬
‫األشياء»(‪.)1‬‬
‫وانطالقًا من هنا يصبح التعبري الفين عرب حضور اخليال وعنايته به هو الوحيد «القادر على‬
‫أن يخلق الجمال من مجموع جانبين كل منهما ال يكتفي بذاته‪ ،‬وفي هذا الضوء نفهم كيف‬
‫يحقق الخيال صفة عليا هي التوازن واالعتدال‪ ،‬فيشيع الرضا باالنطالق والتحرر من جهة‪،‬‬
‫تالؤما‬
‫نظاما واح ًدا تتالءم عناصره ً‬
‫والمتعة بالقالب المنسق من جهة ثانية‪ ،‬يخلق الخيال ً‬
‫(‪)2‬‬
‫متاما على ما جنده عند "ابن املعتز" والصفة‬
‫ً‬ ‫ينطبق‬ ‫النقدي‬ ‫أي‬
‫ر‬ ‫ال‬ ‫وهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫مظهره الوحدة والتنوع»‬
‫اليت ميتاز هبا خياله ومدى قدر هذا اخليال على خلق اجلمال والتلبس به‪.‬‬
‫لقد استطاع "ابن املعتز" برباعة خياله الوقّاد وكذا تصويره الفين الذي يضاهي يف جودته‬
‫أساطني الشعر اجلاهلي الذي عُرف عنه بأنّه شعر عماده جود التصوير‪ ،‬فقد استطاع أن يطوف‬
‫بقارئ أشعاره يف قصور من الوهم واخليال حتاكي قصور ألف ليلة وليلة‪ ،‬إذ يقول أحد النقاد احملدثني‬
‫يف هذا الصدد‪« :‬وفي هذه القصور يعيش من يقرأ في ديوان ابن المعتز فإذا هو يرى مداهن من‬
‫كثيرا من أواني الذهب والفضة المرصعة بأنواع الجواهر والآللئ»(‪.)3‬‬
‫تبر‪ ،‬لما يرى ً‬
‫من املهم مبكان أن نشري لبعض اآلراء النقدية اليت تقول بأ ّن الشاعر عندما ينقل من الواقع‬
‫فهو نقل جامد ال جتتهد فيه ملكة التخيل بل عبار عن عملية ذهنية تلقائية تعزز من خالهلا‬
‫امللموس من اإلبداع الشعري أو الفين بصفة عامة‪ ،‬وهذا ال يستسيغه منطق فحىت يف احلالة اليت‬
‫بذورا خيالية واضحة‪ ،‬وكل ما يف األمر هو أ ّن تدخل اخليال‬
‫يكتفي فيها الشاعر بالنقل والتصوير جند ً‬
‫يكون هذه املر بأسلوب مغاير وعلى حنو خمتلف‪ ،‬فهناك شعراء يكتفون بالوقائع ومنهم من يقحم‬

‫(‪ )1‬مصطفى ناصف‪ :‬الصور األدبية‪ ،‬دار األندلس للنشر والطباعة والتوزيع‪ ،‬ط‪1996 ،3‬م‪ ،‬ص ‪.08‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )3‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،11‬مجهورية مصر العربية‪1987 ،‬م‪ ،‬ص ‪.269‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫من لدنه ما يكمل الصور املائلة أو املنحرفة‪ ،‬ولكن املهم يف هذا كله أ ّن املخيّلة تعمل يف صناعة كل‬
‫هؤالء الشعراء ولو كان من ذلك النوع الذي يهتم بالتصوير احلريف‪ ،‬فقد يبدو ويف وهلة ما أ ّن الشاعر‬
‫منظرا من املناظر الطبيعية دون أن يتصرف فيه حمروم من العنصر‬
‫‪-‬مثل ابن املعتز أحيانًا‪ -‬حني يصور ً‬
‫اخليايل يف عمله‪ ،‬ولكن الواقع خبالف ذلك أل ّن عملية التصوير ولو كانت يف أحط أشكاهلا حتتاج‬
‫للخيال بالضرور جملرد تصور الصور ‪ ،‬وحتتاج إليه مر ثانية عند التعبري يف شكل أديب عن هذه‬
‫الصور ‪.‬‬
‫فأثر اخليال ظاهر يف عملية االنتقال بالصور إىل كلمات وعملية الرجوع ثانيًا إىل صور بناءا‬
‫جدا أن يعتمد الشاعر على‬
‫على ما تولده الكلمات يف النفس من تصاوير‪ ،‬مث إنه من الضروري ً‬
‫التشبيه والتمثيل بدقة أكثر من أجل تقريب املناظر اليت يراها حمسوسة ملموسة وهذا األمر جند له‬
‫حضورا قويًا يف شعر "ابن املعتز"‪ ،‬فهو يريد أن يستعيض عن الواقع اخلارجي بصور ذهنية ويف سبيله‬
‫ً‬
‫إىل هذا الغرض كان لز ًاما عليه أن يكون دقي ًقا للغاية يف انتقائه للتصاوير اليت كما يقال يستبدل هبا‬
‫مشاهد العيون‪ ،‬لذلك فالقارئ لديوان "ابن املعتز" سيجد أ ّن اخليال هو القاسم املشرتك يف كل‬
‫قصيد تصويرية لسبب بسيط وهو أ ّن اخليال ميد الشاعر واملتلقي على السواء بالرموز واالستعارات‬
‫اليت يكونا هبا اهليكل العام املصغر للمظهر اخلارجي‪.‬‬
‫فالشاعر املمتاز ال يكبل قارئه بقيود ذهنية وال يعرض عليه التزامات معينة‪ ،‬بل يعمل من جانبه‬
‫بقدر ما يستطيع حىت يدع اجملال أمام خيال قارئه ويرتك له الفرصة ليتقدم بنفسه لبناء الرتكيب‪ ،‬ومن‬
‫هنا نكون إزاء عنصر مجايل آخر يف الشعر ال يتأتى إالّ من جراء ما حيدثه التخيل‪ ،‬حيث يعمد‬
‫الشاعر يف الكثري من األحيان إىل عدم ذكر كل شيء فيما يتعلق بعناصر عمله الفين وإمنا يشري‬
‫بكلماته إىل جمال معني يف ثنايا نصه اإلبداعي حميالً للقارئ مهمة استكماله خبياله‪ ،‬وبقدر ما ميتاز‬
‫الشاعر يف صناعته الفنية يسمح خليال قارئه بإكمال الفراغات ذلك أل ّن ما يستكمله القارئ خبياله‬
‫يثري هبجته ويكرب يف خاطره مما لو ذكره الشاعر بنفسه حرفيًا‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫إ ّن ذلك الولوع الذي غزا نفسية "ابن املعتز" بالتنويع الفين داخل أشعاره فنجد التصوير‬
‫ائعا يسحر به‬
‫والتخييل وجند التلوين والتشبيه‪ ،‬تتجاور كلها يف ُكل متكامل لتنتج لنا عمالً فنيًا ر ً‬
‫األلباب‪ ،‬ويرى أحد النقاد أ ّن هذا الولوع الذي أبداه "ابن املعتز" بالتصوير والتخييل خاصة إمنا هو‬
‫مر بها الشاعر في طفولته وتلك التي واجهها عند اكتمال رجولته هي‬
‫راجع إىل «الظروف التي ّ‬
‫المسؤولة عن هذا االتجاه»(‪ ،)1‬ولذا نقول إ ّن خيال "ابن املعتز" امتاز مجاليًا باخلصب والسعة‬
‫والسماحة وتوشح بوشاح الصفاء والواقعية يف أغلب أحيانه‪ ،‬فهو يُسعفه يف كل ظرف ووقت وميده‬
‫بكل ما حيتاج من الصور الطريفة مما حيس ويبصر ومما كان يألفه الشاعر يف حياته وظروف معيشته‪،‬‬
‫والقارئ لشعره سيعجب من الصور املتالحقة ذات األصباغ واأللوان واألشكال اليت تنساب على‬

‫خميّلة الشاعر انسيابًا فتزدحم داخلها فينتقي منها ما يشاء وما تلك الصور املتعدد لشيء واحد إالّ‬
‫لدليل واضح على هذا الطرح‪.‬‬

‫(‪ )1‬حممد عبد العزيز الكفراوي‪ :‬عبد اهلل بن املعتز العباسي‪،‬حياته وإنتاجه‪ ،‬مكتبة هنضة مصر‪ ،‬القاهر ‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫‪ ،1957‬ص ‪.156‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -4‬الجمال بين الوعي والتشكيل عند الشاعر‪:‬‬

‫لطاملا كان املفهوم الفلسفي للذاتية هو أنا ‪-‬األنا‪ -‬اإلنسان من حيث كونه كائنًا واعيًا‬
‫وفاعالً للمعرفة‪ ،‬وهذا الفاعل يوجه عمل الوعي ويضبط قصديته الساعية إلدراك املاهيات واستيعاهبا‪،‬‬
‫وجودا لذاته‪ ،‬فالذات بطبيعة احلال هي حضور دائم يف‬
‫فهذا هو املعىن املباشر واملُبسط لكون الوعي ً‬
‫متاما‬
‫الوعي بوصفه املبدأ الضروري للمعرفة‪ ،‬ويبلغ هذا احلضور درجة أن يتماهى أحدمها يف اآلخر ً‬
‫حينها تصبح املعرفة واالقتناص الفكري فعالً وفاعالً ومفعوالً معاً‪.‬‬
‫قائما بنفسه منطويًا عليها بل هي فاعلية أو وجود بكل ما‬
‫مفكرا ً‬
‫أبدا جوهراً ً‬
‫فالذات ليست ً‬
‫حتمل الكلمة من معاين الصريور والتحول‪ ،‬ومن هنا يكون الوعي عارفًا بذاتيته من خالل تشكيلها‬
‫وجودا معرفيًا يف العامل‪ ،‬على أ ّن هذا التشكيل ميثل الكيفية اليت يعيها هبا الوعي‬
‫مجاليًا فيؤسسها ً‬
‫وجيعلها مصدرا للمعىن‪ ،‬ومن هذا املنطلق ميكن اعتبار الذات الشعرية آنية مجالية ومعرفية للوعي ومن‬
‫هنا ميكن اعتبار أ ّن التأسيس اجلمايل للذات الشعرية العربية يتمثل يف اجلالل الذي يسبغه الوعي‬
‫الشعري على هذه الذات‪ ،‬فالوعي الشعري اجلمايل يقدم ذاته اجلليلة عرب التشكيالت اجلمالية‬
‫ليحوهلا إىل خطاب أكرب من كل املعاين اليت تنسب إليه‪ ،‬وذلك هو سبيله إىل تأكيد ذاتيته والتعمق‬
‫فيها أو إظهارها فريد صلبة متعالية حىت على الدهر الذي يُطوقها بكل ما ميثله من موت وفناء‪.‬‬
‫إ ّن مبحث اجلالل يف املعرفة اجلمالية وإذا كان جماالً ألفكار ُمغرقة يف املثالية‪ ،‬إالّ أنّه يف‬
‫حقيقته يعين‪« :‬الزمة جمالية لتأكيد اإلنسان في الوجود ولقدرته على ترويض الطبيعة ولموقفه‬
‫(‪) 1‬‬
‫فهما‬
‫ً‬ ‫أو‬ ‫ا‬‫ق‬‫ً‬ ‫عمي‬ ‫ا‬‫فهم‬
‫ً‬ ‫له‬ ‫يكن‬ ‫مل‬ ‫العريب‬ ‫الشاعر‬
‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫الحازم من التناقضات االجتماعية الكبرى»‬
‫مثاليًا للجالل بل فهمه على أساس أنه غاية وسيلتها املعانا واملواجهة احلقيقية لفضاء الدهر املنغلق‬
‫على األحزان‪ ،‬فلقد كان يدرك أنه يف هذا الفضاء مل جيد سوى ما مينعه من الوجود ويبقيه يف حدود‬

‫(‪ )1‬ميشال سليمان‪ :‬السمو يف الشعر بوصفه مقولة مجالية‪ ،‬جملة الفكر العريب املعاصر‪ ،‬العدد ‪ ،10‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪1981‬م‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫الكينونة املنغلقة على فقرها اجلمايل‪ ،‬ولذلك مثلما قال النقاد فهو يريد أن يتعاىل على الدهر يف ذاته‬
‫لريى ذاته يف الدهر ولذلك فالوعي اجلمايل ينمو من هذه النقطة ليوضح صور الذات يف ذاهتا‬
‫وجيعلها تدرك وتصنع تارخيها يف القيمة اإلنسانية‪ ،‬كما أ ّن هذا الوعي الشعري اجلمايل يهدف إىل‬
‫تأسيس اإلنسان اجلمايل العريب يف الوعي اجلمايل بوصفه قيمة كل القيم واملثل األعلى الذي ال يوجد‬

‫عند نقطة معينة وال يف مكان ما بل يف ذات اإلنسان ويف سعيه إىل الكمال الذي يتظاهر جالالً‬
‫ومسوا من خالل اجلمال الشعري‪.‬‬
‫ً‬
‫يف سياق منفصل وباعتبار الشعر جزءًا ال يتجزأ من الفنون اإلنسانية وباعتبار الفن «أعلى‬
‫أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال»(‪ ،)1‬فإمنا هو نتاج الوعي اجلمايل يف منط من‬
‫أمناطه التارخيية‪ ،‬وهلذا فإ ّن هذا الوعي يكثف التجربة االجتماعية تكثي ًفا فنيًا راقيًا من منظور ذايت‬
‫ختيلي تقوميي‪ ،‬ولذلك فالفن عامة والشعر خاصة إمنا يصدر عن بُىن ذهنية ما وراء ذاتية تنتمي إىل‬
‫جمموعة خاصة‪ ،‬وهي تتشكل على حنو دائم وتنحل يف جمموعات اجتماعية حني تعدل صورهتا عن‬
‫العامل كاستجابة لتغري الواقع أمامها وتبقى هذه الصور الذهنية معروفة على حنو رديء‪ ،‬فالوعي‬
‫اجلمايل هو أحد تلك الصور الذهنية اليت راحت تتشكل يف اجملتمع العريب إن قدميًا أو حديثًا‪ ،‬بفعل‬
‫املستجدات املتعدد الطارئة ذات كل عصر‪.‬‬
‫وعلى هذا فتبيان هذا الوعي هو يف أساسه تبيان للخلفية الناظمة للذات األدبية العربية عامة‬
‫والشعرية على اخلصوص‪ ،‬ومن هنا أمكننا تعريف الوعي اجلمايل بأنه الوعي الذي يتناول الظواهر‬
‫احلسية وأثرها يف الطبيعة النفسية والروحية للمتلقي‪ ،‬منطل ًقا من املقاييس‬
‫واألشياء من خالل مساهتا ّ‬
‫اجلمالية "‪ "Aesthetics Standards‬واليت تشكل مضمونه القيمي ويتالءم الوعي اجلمايل ً‬
‫طردا مع‬
‫تلك املقاييس‪ ،‬فليس مثة وعي حايف من املقاييس كما أنه ال توجد مقاييس من دون مثل عليا؛‬
‫فلذلك كان الوعي هو اآللية الذهنية االنفعالية املنتجة للظاهر واملقاييس هي الناظمة هلا‪ّ ،‬أما املثل‬
‫ُ‬
‫(‪ )1‬فؤاد املرعي‪ :‬اجلمال واجلالل‪ ،‬دار طالس‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪1991 ،‬م‪ ،‬ص ‪.89‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫فهي بطبيعة احلال املعيار األعلى الذي تسعى الظاهر إىل جتسيده وتشخيصه وحىت متثيله بواسطة‬
‫تلكم املقاييس‪.‬‬
‫خصوصا ميثالن أعلى أشكال متلُك الواقع حبسب مقاييس‬
‫ً‬ ‫عموما والشعر‬
‫ً‬ ‫ومبا أ ّن الفن‬
‫اجلمال‪ ،‬فإهنما ميثالن املؤشر األكثر مصداقية يف الداللة على ذلك التغري والتبدل يف الوعي اجلمايل‬
‫ظاهرا للحقيقة ذلك الطرح القائل بأ ّن‬
‫حيث يكون التأثري املتبادل عكسيًا بالضرور ‪ ،‬ولعله ليس ُم ً‬
‫التغري اجلزئي الذي أصاب الوعي‬
‫التغري اجلزئي الذي أصاب الشعر العريب يف العصر العباسي يتالءم و ّ‬
‫اجلمايل العريب يف ذات العصر‪ ،‬وهو ما يؤكد خطأ النظرية القائلة بأ ّن الوعي اجلمايل يف العصر‬
‫اجلاهلي هو امتداد للوعي اجلمايل يف العصر العباسي‪ ،‬فاألخري طفحت فيه الكثري من التغيريات‬
‫السوسيوثقافية انعكست شعوريًا على الفنون واإلنتاج األديب بصفة عامة‪ ،‬وما "ابن املعتز" وما محلته‬
‫املدرسة اليت انتسب إليها وهي مدرسة الصنعة إالّ لدليل واضح على ذلك االختالف البيين بني كال‬
‫العصرين‪ ،‬غري أ ّن الفرق يكمن يف أ ّن الشاعر قد يكون ذو نزعة حداثية دون أن ينتمي فكريًا للوعي‬
‫اجلمايل الكالسيكي رغم معايشته لعصر كالسيكي بامتياز‪ ،‬كما قد يكون الوعي اجلمايل للشاعر‬
‫كالسيكيًا يف عصر تغلب عليه طبائع احلداثة الفكرية‪ ،‬وتقريبًا مثل "ابن املعتز" التيار األول بامتياز‪.‬‬
‫يف احلقيقة مل يكن للنقاد أن حيكموا "البن املعتز" حبيازته لتجربة مجالية سابقة لعصره دون‬
‫أن يكون هلم ما يعضد حكمهم هذا من معايري مرجعية جيب أن تُستوّف‪ ،‬وكذلك أدلة نقلية من‬
‫صميم إبداعه الشعري فلكي تكون جتربته هذه مجالية جيب أن يكون ذا فكر مستنري حر أصيل‬
‫يتمتع بثقة نفسية جتعله يق ّدر األمور بروية وذلك من خالل وعيه بالوظيفة البصرية والسمعية للبناء‬
‫الفين عرب تصديه للمشكالت الصعبة واملعقد يف موازنته بني التصور واخلرب املكتسبة‪ ،‬كما أنه حري‬
‫به أن يوازن بني الضروريات النفسية وضرورات اجملتمع وميارسها بطريقة إنسانية ويكون ذا مقدر ف ّذ‬
‫على التقاط األفكار واقتناص اللحظة اإلبداعية‪ ،‬صحيح أ ّن مثل هذه املعطيات واملعايري املرجعية‬
‫قلّما جتتمع متكاملة يف شخصية أدبية أو فنية معينة أو حىت لنقول يف ذات شاعرية معينة‪ ،‬إالّ أ ّن‬

‫‪- 127 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫"ابن املعتز" أخذ بنصيب ليس باهلني مما سبق‪ ،‬عكس تيار عصره الفكري الذي ال زالت جتري عليه‬
‫منطية تفكري اإلنسان العريب القدمي ويُسبغ هذه النمطية على منتجه الثقايف أو األديب حني كان‬
‫االختالف حىت يف منط التفكري جناية‪.‬‬
‫إ ّن التجربة اجلمالية هي جتربة إبداعية واإلبداع يتمثل يف االنفصال عن السائد وامتالك قدر‬
‫على االستكشاف وتسليط الضوء على احليا البشرية اخلفية‪ ،‬وكذا التعبري عن الباطن بواسطة لعبة‬
‫الصور «وأ ّن هذا النوع من القوة االفتراضية للصور ستبحث في عمق الفكر عن اإلمكانيات‬
‫(‪) 1‬‬
‫جتسدت عند "ابن املعتز" وما‬
‫ّ‬ ‫اضية‬
‫رت‬ ‫االف‬ ‫القو‬ ‫هذه‬ ‫مثل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫‪،‬‬ ‫التي لم يقع استخدامها إلى اليوم»‬
‫أدل على ذلك من تصويره اخلارق ألفق اإلبداع للهالل وتشبيهه إياه بزورق من فضة مثقل حبمولة‬
‫العنرب وهنا قيمة مجالية ال يغفل عنها الوعي اجلمايل املتمرس‪ ،‬ومل يكتف على اهلالل بتصوير واحد‬
‫صوره‬
‫ابضا على صدره وسيكولوجيته‪ ،‬فمر ّ‬
‫فأفرد له تصويرات رديفة لبعضها جاعالً منه مهًا وجوديًا ر ً‬
‫زورقًا ومر منجالً ومر استعارهُ لتشبيه حبيبه فكان اهلالل حامالً ملتناقضات شعورية وقيم فلسفية‬
‫متنافر ‪ ،‬فاهلالل واحد ولكن نفسية الشاعر "ابن املعتز" متقلبة‪.‬‬
‫ولعل هذه احلالة الوجودية للشاعر هي تصديق ملقولة أ ّن ديدن الفنان هو إعاد خلق العامل‬
‫أيضا انفالت إىل دنيا احللم حىت وإن كان‬
‫وانتقال إىل عامل ما فوق احلقيقة وهروب إىل مملكة احلرية و ً‬
‫غرضه التعبري عن فرديته إقراريًا أم تصويريًا أم حىت متاهيًا يف وصف أخر من املوجودات من خالل‬
‫حبكة حية من األحداث واملشاعر‪ ،‬وكلما كان أثره الفين الذي أبدعه أصيالً اقرتب من قيمة احلقيقة‬
‫وعرب جبالء عن مطلب املعىن فكما قال "هويسمان"‪« :‬ال يمكن أن نكون مبدعين إالّ في الحقل‬
‫الذي نستطيع فيه أن نعمل دونما التعرض لخطر السخرية»(‪ ،)2‬وال ميكن أن يشك أحد يف أ ّن‬

‫‪(1) Antonin Artaud : œuvres complètes, Tome 3, Gallimard, Paris, 1978, P 74.‬‬
‫(‪(Adapted‬‬
‫(‪ )2‬دنيس هويسمان‪ :‬علم اجلمال‪-‬االستيطيقا‪ ،-‬تر‪ :‬أمري حلمي مطر‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪( ،‬د ط)‪( ،‬د ت)‪،‬‬
‫ص‪.117‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫شاعرية "ابن املعتز" هي حمل سخرية إن يف النقد احلديث أو القدمي ودليلنا مصنفات التأريخ األديب‬
‫حكما نقديًا برباعة أدبية مجالية حازها "ابن املعتز" ال خيتلف عليها اثنان‪.‬‬
‫اليت حفظت لنا ً‬
‫إ ّن شعرية "ابن املعتز" كانت على العموم «نتاج الوعي الجمالي السائد المشروط بالبيئة‬
‫انعكاس للوعي الجمالي‬
‫ٌ‬ ‫مباشرا للواقع‪ ،‬بل هو‬
‫ً‬ ‫انعكاسا‬
‫ً‬ ‫المجتمعية العامة ‪ ...‬والفن ليس‬
‫المشخص تاريخيًا من جهة والمشخص فرديًا من جهة ثانية»(‪ ،)1‬ذلك أ ّن إبداعات "ابن املعتز"‬
‫لعبت على وتر مقاربة نقدية مجالية ارتبطت ظاهريًا بوقائع ذلك العصر مقاربة مفادها أ ّن اإلبداع‬
‫دائما ومبا أنه جزء ال يتجزأ‬
‫الشعري هو نتاج الوعي اجلمايل السائد يف بيئته االجتماعية‪ ،‬فالشعر كان ً‬
‫من الفن األكثر قدر على تبيان ذلك الوعي وال يتبدى ذلك يف طبيعة املعاجلة اجلمالية للواقع‬
‫حسي ملا هو مجايل جمرد فثمة‬
‫أيضا يف التقانة الفنية اليت ليست يف احلقيقة سوى متظهر ّ‬
‫فحسب‪ ،‬بل ً‬
‫إذن عالقة بني الوعي اجلمايل والشكل الفين‪ ،‬ومن هنا فإ ّن مقاربة ذلك الوعي ال تتم على حنو‬
‫متمظهرا‪ ،‬أو لنـ ُقل إ ّن الشكل‬
‫ً‬ ‫أفضل إالّ من خالل مقاربة الشكل ‪-‬التشكيل‪ -‬الذي هو الوعي‬
‫الفين هو شكل الوعي اجلمايل‪ ،‬حىت إنه يكاد يتجذر يف نفوسنا اعتقاد بأ ّن "ابن املعتز" وعى منذ‬
‫نزوعه حنو الشعر الذي هو ضرب من ضروب الفن فالفنان ومثلما آىل "ابن املعتز" على نفسه‪ ،‬هو‬
‫من اإلبداع يف شكل تعبري وتشكيل إبداعي مث تأيت مهمة املتلقي بعد أن يُلقى إليه مبا جادت به‬
‫القرحية‪ ،‬فيعيد هذا املتلقي اإلبداع يف شكل إحساس وإبداع فكري‪ ،‬وذلك عندما يتحاوران ‪-‬الشاعر‬
‫واملتلقي‪ -‬مع العمل اإلبداعي فكالمها يعطي السؤال للماد الفنية ويفرتض اإلجابة مما يتلقاه ويدركه‬
‫أثناء إعاد اإلبداع من خالل املساحة اإلبداعية واملسافة الفكرية‪.‬‬
‫خصوصا من خالل الوعي اجلمايل فلزام علينا أن‬
‫ً‬ ‫عموما والشعري‬
‫ولكي تتم عملية اإلبداع الفين ً‬
‫نشري إىل كيفية تكون هذا الوعي وذلك من خالل أنّه مرتابط عضويًا مبا يسمى العقل الواعي أو‬

‫(‪ )1‬سعد الدين كليب‪ :‬الظاهر اجلمالية بني الواقع والفن‪ ،‬جملة املوقف األديب‪ ،‬عدد ‪ ،234‬كانون األول‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫ص ‪.88‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫الظاهري الشعوري وهذا العقل كما هو متعارف عليه علميًا له املقدر على متييز األشياء‪ ،‬والرغبة‬
‫مستخدما املنهج اإلستقرائي‪ ،‬ومن مث يستدعي الصور واملعاين‬
‫ً‬ ‫املعرفية وحتويل التخيالت إىل تصورات‬
‫وحيللها ويركبها وهذا العقل جياري الظواهر ويعمل من خالل إراد اإلنسان من حيث تشكيل املعاين‬
‫والصور واملواقف‪ ،‬ويقوم بالسلوك اإلنساين املوجه حيث يأخذ من اخلارج ويضيفه للداخل ويأخذ من‬
‫الباطن وميزجه بالظاهر ليستنتج املعاين واألفكار ويقوم باألعمال اإلدراكية املعرفية الواعية‪ ،‬وعرب هذه‬
‫العملية العقلية املتشعبة يتولد لدينا الوعي اجلمايل الذي يعمل وخاصة يف ميدان الفنون بشىت صنوفها‬
‫وما يهمنا هنا هو الشعر ‪ ،‬قلنا يعمل على استجالء احلقيقة الكامنة يف ذلك احملسوس ولتحويل‬
‫ذلك احملسوس إىل صور فنية حيث يُعرب الشاعر من خالله عند قدرته يف تصعيد الواقع‪ ،‬ويتمكن‬
‫املتلقي بعدها من إحساس وإدراك املعاين اجلميلة‪.‬‬
‫فوفق هذا املعطى املعريف احلداثي متكن "ابن املعتز" الشاعر الكالسيكي من جعل الظواهر‬
‫ُ‬
‫الوجودية حمسوسة ومسموعة ومرئية من خالل إبداع وإعاد إبداع من جانبه مث ترك ملتلقيه فضل‬
‫املشاركة اإلبداعية من جانبه‪ ،‬وحبق ساهم بشاعريته الوقاد يف إنشاء حلظات مجالية يعيشها مع‬
‫متلقيه داخل املسافة الفكرية واملساحة اإلبداعية مثلما متّ ذكره‪ ،‬وبذلك كان الوعي اجلمايل والقدر‬
‫اإلبداعية عند "ابن املعتز" نتاج نشاط إبداعي ارتكز على اخلرب اجلمالية هذه اخلرب اليت هي ظاهر‬
‫إحساسا عمي ًقا حيث م ّكنه من اكتشاف‬
‫ً‬ ‫بشرية وإحساس اإلنسان مبا يدور يف نفسه ومبا يدور حوله‬
‫ما يف الكون واحليا من اتزان وانسجام وإيقاع‪ ،‬هذا االكتشاف هو الذي جتلى يف شغف "ابن‬
‫املعتز" مبوجودات الطبيعة والبيئة بشكل عام‪ ،‬فهو قام بتحويل النطق العادي للمدركات إىل نطق‬
‫استاطيقي وجعل هلذا النطق معىن مجاليًا‪.‬‬
‫فالوعي اجلمايل يستلزم قدر إبداعية متكنه من اإلبداع واإلحساس باجلمال‪ ،‬وهذه القدر‬
‫اإلبداعية موجود يف اإلنسان املبدع يف داخله ويف أعماقه الشعورية والالشعورية ولذلك يرتاوح العمل‬
‫اإلبداعي بني الشعور والالشعور‪ ،‬فال بد للشاعر من خرب حسية طويلة وخرب مجالية مرتاكمة ليتسىن‬

‫‪- 130 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫من خالله أن يستجمع شتات األشياء وإخراجه يف شكل إبداعي والصياغة الفنية مثلما هو متعارف‬
‫عليه عند مجهور النقاد لكل عمل أديب أو إبداعي هي احملك األساسي للعملية اإلبداعية من خالل‬
‫جتربة مجالية‪ ،‬فاإلبداع الفين يتوقف ظهوره على وجود ثرو من األفكار املكتسبة من خالل اخلرب‬
‫اجلمالية وخربات مجالية خمتزنة فيصوغها املبدع صياغة جديد ويضعها يف تركيب جديد مستحدث‪.‬‬
‫ليس خفيًا على املشتغلني يف ميدان الفكر حقيقة أ ّن الفن حلظة نادر ُمثلى لتناغم العقل مع‬
‫املخيّلة وامتزاج الشيء بضده كالوهم باحلقيقة‪ ،‬السكون باحلركة‪ ،‬املاد بالروح‪ ،‬إلعاد صياغة الواقع‬
‫احلسي صياغة نوعية حتشد يف ثوابته حيا وحتوالت نشأت عن عالقة خاصة وتفاعل نوعي بني‬
‫ال ّذات وعاملها الطبيعي لتحوله أيقونة مجال حتقق املتعة وترتقي بالشعور وختلق فينا وعيًا عن ذلك‬
‫الواقع الذي جنهل أننا ال ندركه‪ ،‬فجمال الطبيعة وإن ظل مصدر إهلام للفن إالّ أ ّن الفن هو من حيول‬
‫هذا اجلمال الطبيعي (املألوف) إىل إثار وإدهاش متجددين بنقله من كينونته املادية إىل عامل االنفعال‬
‫والشعور حيث تكون الروح‪ ،‬وهنا تتجلى طاقة الفن وقدرته على االرتقاء باألشياء باكتساهبا طبيعة‬
‫الفن ينظر إىل اخلارج من الداخل لريتد باخلارج إىل الداخل‪،‬‬
‫جديد وعالقات جديد ذلك أل ّن ّ‬
‫فالفن «إبداع الروح وخلق الوعي ونتاج الحرية وما هو من إنتاج الروح يحمل طابعها ويكون‬
‫أسمى من الطبيعة»(‪ ،)1‬وذلك ما حاوله "ابن املعتز" إذ إ ّن الفن املتأصل فيه هو من أثرى إحساسه‬
‫صريه خرب مجالية قائمة بذاهتا قادر على تكوين اجلمال كأن جتعل من ومضة برق‬
‫باجلمال ال بل ّ‬
‫خاطفة شالل نور يغمر الوجود والوجدان‪ ،‬إذ يقول(‪:)2‬‬
‫جانبيه‬
‫نور األقحوان في ْ‬ ‫*‬ ‫وكأ ّن المجـ ّر جدول ماء‬
‫كف تشير إلي ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫والثريا ٌ‬ ‫*‬ ‫وكأ ّن الهالل نصف سوار‬

‫(‪ ) 1‬أمري حلمي مطر‪ :‬فلسفة اجلمال (أعالمها ومذاهبها)‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬القاهر ‪2003 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.148‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.391‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫كما أ ّن تلك اخلرب البارعة يف حتويل حقائق الواقع إىل إشارات مجالية تتلقفها الروح يف عامل‬
‫مثايل الصور ‪ ،‬وهي من أع ّدت "ابن املعتز" فنيًا الحتضان الطبيعة واكتشاف مجال موجوداهتا وبديع‬
‫ألواهنا لتنكشف له روعتها فإذا بشعره لوحات مجال يف الطبيعة وحدها‪ ،‬فهو يقول مثالً يف تشكيل‬
‫مجايل بديع(‪:)1‬‬
‫مخضرة واكتسى بالنور عار َيها‬ ‫*‬ ‫أما ترى األرض قد أعطتك زهرتها‬
‫ام في نواحيـ َه ـ ـا‬
‫وللرياض ابتسـ ٌ‬ ‫*‬ ‫فللسماء بكـاءٌ في حـدائقهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫وال مكان للشك يف أ ّن حس "ابن املعتز" باجلمال الذي وجد جتلياته يف الطبيعي مارس فن‬
‫التصوير والتلوين فهو راجع لتضافر عوامل ذاتية وموضوعية صقلت ذائقته اجلمالية‪.‬‬
‫إ ّن الفن املتأصل يف طبيعة "ابن املعتز" كان له الفضل اجلزيل يف إخصاب وإثراء وعيه‬
‫اجلمايل‪ ،‬واالنطالق به إىل مسارب مجال متنوعة رمبا ال يدركها آخرون لكنها ليست خبافية على "ابن‬
‫حسا مجاليًا‪ ،‬وخيلق معها عالقات نوعية ليستشعر مجاهلا حىت وإن غاب‬
‫املعتز" الذي حيس باألشياء ًّ‬
‫عنها اجلمال وحيس مبتعته خبرب مجالية ال ميتلكها إالّ األفذاذ‪ ،‬فبالفن اكتسب "ابن املعتز" خرب مجالية‬
‫قادرا على تقدير اجلمال وصياغة تصور فلسفي عن اجلمال فاجتمع فيه أمران ّأما األول‬
‫ووعيًا مجاليًا ً‬
‫حسي حاسة‬
‫حسي مادي كما أ ّن اإلدراك ّ‬
‫فهو املدرك اجلمايل احلسي‪ ،‬فاملثري اجلمايل (املدرك) هنا ّ‬
‫البصر له املقدر على رؤية احملسوسات فهو يرتبط ويتعلق بكل ما هو حسي ومادي‪ّ ،‬أما الثاين فهو‬
‫املعنوي واملثري اجلمايل هنا معنوي ال يلتفت إىل الشكل‪ ،‬واإلدراك للجمال شعوري عاطفي أي‬
‫معنوي‪.‬‬
‫عدا وعم ًقا ملفهوم اجلمال من املادي الظاهر إىل العاطفي الباطن‬
‫ومن هنا يعطي "ابن املعتز" بُ ً‬
‫أيضا‬
‫وبتلك اخلرب املتولد عن الفن متكن "ابن املعتز" ال من جتسيد اجلمال احمليط به فقط وإمنا ً‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.391‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫إحساسا نوعيًا مل نعهده من قبل ورمبا‬


‫ً‬ ‫خلقه يف هيئة جديد وعالقات جديد تثري الدهشة وترتك‬
‫قوله هذا يعضد هذا الطرح(‪:)1‬‬
‫ألحاظ ذي فرح بالعتب مسرور‬ ‫*‬ ‫أما ترى النرجس الميّاس يلحظنا‬
‫مداهن التبر في أوراق كـافور‬ ‫*‬ ‫كأن أحداقها في حسن صورتها‬
‫حسه املتميز باجلمال وتكوينه الفين يصل إىل تبين رؤية مجالية لبنية العامل‬
‫فابن املعتز بفعل ّ‬
‫احلسي‪ ،‬تتوحد فيها مظاهر الطبيعة على اختالف أشكاهلا وتنوع ألواهنا وأجناسها لريجعها إىل أصل‬
‫أيضا موهبته يف الغناء واملوسيقى «فكان‬
‫واحد تلتقي فيه‪ ،‬وبذلك احلس التكوين الفين تفجرت ً‬
‫خبيرا بالنغم حاذقًا في معرفة مزايا المغنين ومحاسنهم وعيوبهم بل إنّه قد أسهم في الغناء»(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫إ ّن احلديث عن اجلمال وتشكله عند "ابن املعتز" وانبجاس الوعي اجلمايل يف نفسه املبدعة هو‬
‫حديث عن النشأ حيث كانت هلذه النشأ األفضال الكبري على تفتق املوهبة األدبية لديه‪ ،‬فالطبيعة‬
‫امللكية واجلدران الذهبية اليت رعته أيام جده "املتوكل" كان هلا األثر القوي يف بناء شخصيته وصياغة‬
‫فنه إذ أسست له قاعد مجالية حسية راقية املرتبة مزوقة بأنفس وأمثل مظاهر اجلمال املادي الذي‬
‫مفهوما ملعىن اجلمال‬
‫ً‬ ‫يثري جبمالية عالية أنواع احملسوسات واإلحساسات اإلدراكية ليطبع يف وعيه‬
‫وعناصره وفق معايري مثلى اتفقت عليها طبقته االجتماعية مثلما سبقت اإلشار إليه‪ ،‬فكان أن‬
‫ظلت تلكم املعايري ماثلة يف ذاكرته وتستحضرها خميلته ليبين من صورها املادية الفخمة عامله الشعري‬
‫الذي هو صدى لتكوينه ونشأته امللكية ولتبيان هذا لننظر قوله مثالً(‪:)3‬‬
‫للعين في أوراقه الخض ـ ـ ـر‬ ‫*‬ ‫كأنّما الليمـون لمـا بدا‬
‫على زكي المسك والخمر‬ ‫*‬ ‫مداهن من ذهب أطبقت‬
‫ٌ‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.254‬‬


‫(‪ )2‬مصطفى الشكعة‪ :‬الشعر والشعراء يف العصر العباسي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.784‬‬
‫(‪ )3‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.251‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫أو قوله مثالً(‪:)1‬‬


‫يَرفل في أثوابه الحمـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫*‬ ‫كأنّما التفـاح لمـا بدا‬
‫في أكر من جامد ال َخمر‬ ‫*‬ ‫شه ٌد بماء الورد مستودع‬
‫الناظر هلذين املقطعني يستشف حقيقة براعة التصوير والصور هنا مصبوغة بصبغة ملكية ما‬
‫كانت أن تكون دون نشأته األرستقراطية اليت أخصبت وعيه اجلمايل وهو ما أ ّكده النقاد السابقني‬
‫وكذلك احملدثني‪.‬‬
‫كحال كل وعي مجايل البد لتشكيله من حضور تفاعل كيميائي مع البيئة املعاشة واحلق أن‬
‫البيئة املرتفة اليت عاش بني ظهرانيها "ابن املعتز" كان هلا قصب السبق يف تشكيل هذا الوعي‪،‬‬
‫فشاعريته مل يكن هلا أن تتكون لوال أن منحته البيئة احمليطة به براعة رسم الصور وأناقة الرتكيب مبا‬
‫حوته من طبيعة آسر لأللباب فائقة اجلمال‪ ،‬عطر الرائحة‪ ،‬زهية اللون‪ ،‬أترعت مكامن إحساسه‬
‫باجلمال وصعدت من وتري ذائقته اجلمالية وضاعفت من فاعلية إدراكاته احلسية‪ ،‬على غرار اللمس‬
‫والبصر‪ ،‬السمع والشم‪ ،‬وهو ما ارت ّد على خميلته بأن أصبحت ذات قدر عجائبية على تكوين صور‬
‫دهش الصور ذي طبيعة‬
‫مثلى لألشياء‪ ،‬وحتويل العامل احلسي املألوف إىل عامل مثري اجلمال ُم ُ‬
‫أرستقراطية‪.‬‬
‫إ ّن أثر البيئة على تكوين وعي "ابن املعتز" اجلمايل مل يقف على مظاهر العامل احلسي بل جند‬
‫امتدادا إىل اللغة واألدب‪ ،‬فالرجل كان له الفضل يف اعتباره أبرز من تناول قضية احملسنات اللفظية‬
‫ً‬ ‫له‬
‫إن مل يكن األول على اإلطالق‪ ،‬وذلك يف كتابه "البديع" وفيه يتجلى بوضوح أثر بيئته املرتفة من‬
‫خالل اهتمام "ابن املعتز" جبانب الزخرف املادي لأللفاظ وتنميق الصور وزخرفتها لتتألق مجاالً‪ ،‬هذا‬
‫ما كانت عليه البيئة من أمهية يف صقل وعيه اجلمايل وتشكيله أول مر ‪ ،‬بل وما كانت عليه من أمهية‬
‫ونقدا‪.‬‬
‫شعرا ً‬
‫يف تفتق براعته األدبية ً‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.248‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫إ ّن احلظو اليت كان عليها "ابن املعتز" إبان عصره ومقامه كأمري عباسي كان له فضل كبري‬
‫يف توفري املصادر املعرفية املتميز ‪ ،‬فقد ُسخرت له منذ صغره مكتبة عامر بالكتب على اختالف‬
‫صنوفها وأفرد له والده خري املعلمني لتدريسه وتلقينه القرآن واحلديث ومبادئ اللغة والتاريخ ولكن‬
‫"املربد" و "أبو العباس ثعلب" كانا صاحيب تأثري كبري على "ابن املعتز" وهو ما شغفه باللغة واألدب‬
‫ينهل منهما حيث «نشأ في الرواية والسماعة ‪ ...‬كما أ ّن مجلسه كان مقصد العلماء وداره‬
‫مغاثًا ألهل األدب»(‪ ،)1‬ويتضح من خالل هذا أ ّن الثقافة العربية قد غلبت عليه‪ ،‬إالّ أنّه شغف‬
‫أيضا بثقافات األمم اجملاور فولع بفلسفة اليونان وكذا اهتم بآداب الفرس واهلند إذ كانت من‬
‫ً‬
‫عمق جبد النزعة احلسية يف‬
‫متطلبات عصره الثقافية لكن اللغة واألدب أخذا تقريبًا كل حيزه وهو ما ّ‬
‫أيضا مع‬
‫شعره‪ ،‬فحصيلة ثقافته كانت ذات طابع حسي بامتياز تالءمت مع مفهوم اجلمال وتوافقت ً‬
‫أسلوبه يف جتسيد ذلك اجلمال‪ ،‬مل يكن هذا كل شيء بالنسبة لتشكيل الوعي اجلمايل عند "ابن‬
‫أيضا ضمن هذا التشكيل أل ّن الطبيعة ما هي إالّ جزء من البيئة‪،‬‬
‫املعتز" فالطبيعة كان هلا إشعاعها ً‬
‫فاألوضاع السياسية املضطربة اليت عاشتها اخلالفة العباسية وما ميز أركاهنا من رعونة يف األداء وغياب‬
‫الوازع الديين وأجواء التآمر داخل البالط ورواج أسلوب االغتياالت‪ ،‬طال مباشر "ابن املعتز" وعاىن‬
‫جراءه أزمات نفسية متالحقة كان ذروهتا فاجعة مقتل أبيه وتعرضه لالضطهاد واملهانة فقد أنشد‬
‫قائالً يف وفا أبيه(‪:)2‬‬
‫وتركوا لي الشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َرا‬ ‫*‬ ‫بخير عمري‬
‫َمضو ْ‬
‫عذرا‬
‫لي في الحياة َ‬ ‫*‬ ‫ولم أجد إذ ماتوا‬

‫(‪ ) 1‬أبو بكر الصويل‪ :‬كتاب الوراق "قسم أشعار أوالد اخللفاء"‪ ،‬تح‪ :‬ج هيورت‪ ،‬اهليئة املصرية العامة لقصور الثقافة‪،‬‬
‫د‪.‬ط‪ ،‬القاهر ‪2004 ،‬م‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.241‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫بعيدا عن أجواء تلك االضطرابات وينغمس يف‬


‫وجيها له ألن ينآى ً‬
‫هذه املآسي كانت سببًا ً‬
‫حيا اللهو عساه يقرب مكبوتاته وأحزانه املرير ‪ ،‬وكانت الطبيعة ميدانًا ملظاهر هلوه وأحضاهنا مال ًذا‬
‫اخرا يشبع إحساسه بألوان من اجلمال املثري‪ ،‬وبذلك وفرت له الطبيعة األمن وحققت‬
‫ومصدرا ز ً‬
‫ً‬ ‫رحبًا‬
‫له التوازن النفسي وروت ضمأه اجلمايل بل كان رومنسيًا للحظة عندما جعل من الطبيعة شري ًكا‬
‫يقامسه أحزانه‪ ،‬وهذه ليست مبالغة "فابن املعتز" وصل يف عالقته مع الطبيعة إىل مرتبة املشاركة‬
‫والتوحد ليخلق بتفاعله معها عالقات جديد مبا خلع عليها من صفات إنسانية (تشخيص)‬
‫أخرجتها من حيزها املعتاد إىل آفاق مجالية أرحب فكان "ابن املعتز" يف مسلكه هذا أول رواد شعر‬
‫الطبيعة ولننظر يف هذا املقطع الشعري البديع إذ يقول(‪:)1‬‬
‫بكت بدموعي أعين الزهر‬
‫حتى ْ‬ ‫*‬ ‫وقفت بالروض أبكي فقد مشبهه‬
‫الستَعارته من المط ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫لرحمتي ْ‬ ‫*‬ ‫الدمع تسفحه‬
‫َ‬ ‫لو لم تعرها جفوني‬
‫فلقد شكلت الطبيعة مبظاهرها املختلفة مصدرا للجمال عند "ابن املعتز" ويقظةً لوعيه‬
‫لتجعله يف حالة من التأهب اجلمايل الراصد ملستويات مجاهلا و لالرتباط هبا يف عالقة ذات طبيعة‬
‫مجالية فنية‪.‬‬
‫لقد أيقن "ابن املعتز" أ ّن اجلمال ليس جمرد متعة حسية وإمنا غبطة روحية تدعو إىل‬
‫النظر بانتباه واللعب مع الوجود وممارسة التفكري‪ ،‬حبيث يشعر املرء أنه أدرك الدميومة وشارف‬
‫على االكتمال ويكاد يتحد باملطلق‪ .‬إ ّن "ابن املعتز" كان مثال الفنان الذي أسس إبداعه‬
‫وإهلامه على دعائم حريته خاصة وأ ّن ماهية الفن هي احلرية وضريبتها هي املغامر يف اجملهول‬
‫واملخاطر باحليا من أجل التضحية يف معبد اجلمال الفتّان‪ ،‬وكما قال كانط‪« :‬البد من ذوق‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.195‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫حتى نحكم في شأن شيء جميل لكن البد من عبقرية إلبداع شيء جميل»(‪ ،)1‬لذلك‬
‫كان الوعي اجلمايل صاحب ثنائية ملكية إذ جتتمع فيه ملكة احلكم وملكة اإلبداع‪ ،‬فهو ينطلق‬
‫احلسية العقلية‪.‬‬
‫من احلكم التأملي لتحقيق الرضا النزيه احلر للوصول إىل الغاية واملصلحة ّ‬
‫لقد تراوح األفق اجلمايل الذي اتكأ عليه "ابن املعتز" يف إنشاء أشعاره بني املتناقضات‬
‫اليت ال جتتمع إالّ داخل قرحية شاعر فذ‪ ،‬فهو راوح شعره بني الوصف للخيل والرحلة واحلرب‬
‫أيضا كان للخمر نصيبها فولع هبا و ًلعا ح ّد أن قرنه‬
‫وغريها‪ ،‬وبني الغزل ومفاتن املرأ واجلواري و ً‬
‫النقاد يف هذا بالوليد بن يزيد‪ ،‬لكن الطبيعة وما اتصل هبا كانت املعني اجلمايل الذي ال ينضب‬
‫غّرف منه "ابن املعتز" مو ًادا خا ًما لتشبيهاته‪ ،‬كناياته واستعاراته‪ ،‬فقد بلغت براعة "ابن املعتز"‬
‫ونبوغه يف التصوير وفتنته بالطبيعة احلد الذي يصفها بال كل وال مل‪ ،‬حمل ًقا يف مساء زاهية من‬
‫الفن الرفيع وقد كيّف هلذا الولع والتصوير حبر الرجز فأفرد للطبيعة أرجوزتني مل يتح لشاعر آخر‬
‫تصويرا قيل فيه‪« :‬ال يظَن أ ّن أح ًدا قد‬
‫ً‬ ‫أن يبلغ مبلغه فيهما مصوًرا جلمال الطبيعة واجلنان‬
‫استطاع أن يأتي بمثله في تشبيهاته واختراع المعاني البديعية التي تثيرها هذه‬
‫الرياحين»(‪.)2‬‬
‫إ ّن الدليل على تشكيل وعي مجايل أصيل لدى "ابن املعتز" هو نزعته الرومنسية اليت‬
‫جتلت خاصة يف جزئية عالقته بالطبيعة‪ ،‬ومعلوم ما للرومنسية والطبيعة من وشائج وعالقة‬
‫خلقية‪" ،‬فابن املعتز" يهيم بالطبيعة هيام العاشقني ومعها تنبض مشاعره وأحاسيسه فوصفه‬
‫للحدائق والبساتني‪ ،‬واألزهار واألمثار واألهنار‪ ،‬وتطلعه إىل الكواكب والشموس واألقمار‪ ،‬فهو‬

‫(‪ )1‬اميانويل كانط‪ :‬نقد ملكة احلكم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫(‪ )2‬طه حسني‪ :‬حديث الشعر والنثر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،1‬مصر‪1953 ،‬م‪ ،‬ص ‪.168‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫من خالل هذا قد رسم أكثر من تقليد شعري وابتكر أكثر من صور بكر األمر الذي جعله‬
‫ائدا يف شعر الطبيعة ورأس مدرسة الصور الشعرية‪.‬‬
‫رً‬
‫إ ّن الوعي اجلمايل لدى "ابن املعتز" ارتد على تقنيات التشكيل يف قصائده فقد متيز‬
‫أسلوبه بالسهولة والوضوح متحاشيًا بذلك التعقيد وااللتواء‪ ،‬وما ذلك إالّ دليل على طبعه‬
‫السمح وبيئته املرتفة‪ ،‬وتناقض يف هذا على ما عُهد على أسلوب "أبو متام" الذي جينح حنو‬
‫ومهووسا مبا يف هذا الكون من مظاهر‬
‫ً‬ ‫مسحورا‬
‫ً‬ ‫الطبيعة الفلسفية املعقد ‪ ،‬لقد كان "ابن املعتز"‬
‫اجلمال ومن أجل هذا كثرت أوصافه وتشبيهاته هلذه املظاهر كثر تلفت النظر ح ًقا‪ ،‬فالسماء‬
‫اسعا‬
‫اسعا من مصادر فنّه فانطلق انطالقًا و ً‬
‫ومصدرا و ً‬
‫ً‬ ‫وما اشتملت عليه كانت مهبط إهلامه‬
‫عرضا دقي ًقا فائ ًقا‪.‬‬
‫وراء رقعتها‪ ،‬وجهد أن يعرض ما اشتملت عليه ً‬
‫ومن مؤشرات وعيه اجلمايل وتشكيله فنيًا تلك الصور الفنية العديد ملوضوع واحد‬
‫وهي دليل على موهبة خاصة قادر مل يرزقها كثري من الناس كما رزقها "ابن املعتز" فهو كان‬
‫يعمد إىل ترصيع أشعاره مبختلف احملسنات البديعية متوخيًا بذلك إحداث متعة فنية‪ ،‬طاملا محّل‬
‫صوره الفنية باحليا واجلمال والفن رغم الكثر واالزدحام املوجود عليها هذه الصور داخل‬
‫أشعاره‪ ،‬كثر يستحيل معها مجعها أو حصرها داخل حيز حمدود‪.‬‬
‫فالقارئ لشعره جيد نفسه وكأنه يتنقل يف معرض الطبيعة الفسيح املفعم بضروب األشكال‬
‫واألصباغ واأللوان "فابن املعتز" كما قال أحد النقاد شارك «في تحويل الوصف إلى صور‬
‫هم الشعراء في العصر العباسي َهمهم في العصر الجاهلي وبني أمية من‬
‫فنية فما كان ّ‬
‫توضيح الوصف والكشف عن جوانب الموصوف بل ذهبوا ينشدون الجمال‪ ،‬ويرقون‬
‫بالواقع ويجسدون الفن في لوحات تصويرية تبرز المشاعر وتعبّر عن األحاسيس‪ ،‬ويتجلى‬

‫‪- 138 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫فيها براعة الشاعر في االرتقاء بالواقع أو التعبير عنه بما يدهش ويفتن»(‪ ،)1‬فلقد كان "ابن‬
‫ويصوره تصوير الغين املرتف‪ ،‬فإذا كان من سبقه‬
‫املعتز" باحثًا دائبًا عن اجلمال ينشده ويتذوقه ّ‬
‫من الشعراء قد فرغوا من وضع هذا اهليكل الشامخ الذي هو الشعر وتقسيم أقسامه وأفنانه‬
‫موهه بالذهب ووشاه بالآللئ والدرر‪،‬‬
‫وجتميله بالزخارف والتماثيل والصور‪ ،‬فإ ّن "ابن املعتز" قد ّ‬
‫فعصر "ابن املعتز" كان حبق عصر التأثريات الفردية على نتاج العبقرية اخلاصة اليت حتل بالشعر‬
‫أثرا لشخص صاحبها وتكوينه ونشأته وبيئته‪ ،‬ومن هنا تفتقت األوعية اجلمالية جلمهر الشعراء‬
‫ً‬
‫نتاجا ملا سبق‪.‬‬
‫والفنانني يف هذا العصر ً‬
‫منوذجا لذلك الوعي الذي مينح املبدع رؤية مجالية‬
‫لقد كان الوعي اجلمايل "البن املعتز" ً‬
‫أمشل يف معرفة التشكيل اجلمايل الذي يكمن يف األثر اإلبداعي‪ ،‬أل ّن الوعي يفسح آفاق‬
‫التجلي الفين للمبدع ويكشف له عن خفايا فنية ينطوي عليها األثر وي ّدل على أبعادها وقد ال‬
‫تنكشف هذه اخلفايا ملن ال يتصف بسمة هذا الوعي‪ ،‬هذا الوعي الذي أسس داخل ذاتية‬
‫اسخا بأ ّن اخلطاب الشعري ميتاز بأمهية كربى يف جمال تكوين القيم‬
‫اعتقادا ر ً‬
‫"ابن املعتز" إميانًا و ً‬
‫اإلنسانية كما عمل مسب ًقا بفكر أ ّن مجالية اخلطاب الشعري هلا دخل عميق يف تأسيس‬
‫املفاهيم‪ ،‬ويف بناء سلوك اإلنسان ناهيك أ ّن الشعر يبين اإلنسان من الداخل‪ ،‬إنّه يؤسس قيمه‪،‬‬
‫ويـُق ّوم سلوكه ويرفع مهته ويقوي عزميته‪.‬‬
‫فاألدب باملعىن اجلمايل هو مريب لإلنسانية وإنّه من البديهي أن نعرتف إلبداع "ابن‬
‫املعتز" بالصيغة التعليمية اليت جاء عليها وإ ّن ليس بتلكم التقريرية اليت عُهدت عند غريه‪ ،‬ولكن‬
‫أليس من أعظم الغايات هو تربية نفس مجالية هلا مرجعيته فنية ذائقتها اجلمالية ف ّذ ووعيها‬
‫اجلمايل مقتدر وزاخم بثرو فكرية معترب من املكونات اجلمالية الكونية واملعرفية واحلياتية‪ ،‬إن‬

‫(‪ )1‬سعد إمساعيل شليب‪ :‬ابن املعتز صور لعصره‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬د‪.‬ط‪1981 ،‬م‪ ،‬ص ‪.185‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وعي "ابن املعتز" اجلمايل أنتج لنا تشكيالً فنيًا يستدعي منا وقفة تأمل أكثر منها وقفة إجالل‬

‫أل ّن األوىل تقود للثانية‪ ،‬إ ّن تلكم الصور الفنية اليت أبدعها "ابن املعتز" يف أشعاره تشكيالً‬
‫مجاليًا هي الصور جتعل من خيال متذوقها مجاليًا يتسع إىل أفق أرحب وجاعلة من مدى فكره‬
‫مبكرا أ ّن الشعر إبداع مجايل وسار يف إبداعه وفق هذا‬
‫أوسع وأعمق‪ ،‬إ ّن "ابن املعتز" أيقن ً‬
‫املنظور‪ ،‬كما أيقن أ ّن مهمة هذا الفن القويل هي بالدرجة األوىل بناء القيم اإلنسانية األصيلة يف‬
‫ذواتنا وأفكارنا ومواقفنا‪ ،‬كما أنّه تنبه وذلك جلي من خالل أشعاره وحىت آرائه النقدية إىل‬
‫الصلة احلميمة بني ما هو مجايل وما هو فكري فالشعر يوقظ العقل ويهيئه لتلقي األفكار‬
‫تلكم ّ‬
‫الفنية املدركة‪ ،‬والروح والعقل ال غىن عنهما يف دراسة الصور الفنية عند "ابن املعتز"‪.‬‬
‫فقد كانت الصور الفنية عنده طاقة تعبريية هائلة اإلمكانات متنوعة املستويات وهي‬
‫تشتمل يف الوقت نفسه على مهارات فكرية عديد وقد أحسن الشاعر ابتكارها وأجاد‬
‫توظيفها يف اللوحات الشعرية بالقدر املناسب‪ ،‬لذلك قال أحد حكماء الصني إ ّن صور واحد‬
‫تُساوي يف قيمتها عشر آالف كلمة‪.‬‬
‫لقد بدأ كون "ابن املعتز" الشعري حلظة تأمله مث كان أن حتسس العامل بشعوره وختيّله‬
‫وشخصه باللغة اليت تعطي هوية للكلمات وهو بذلك إّمنا حيول حكمه إىل كون شعري‪،‬‬
‫مصور باللغة وفضاء نصي نسيجه الكلمات ومهساهتا‬
‫فالكون الشعري مثلما هو معروف مملكة ّ‬
‫وإشاراهتا وحلظاهتا فهو الوجود ال ّذي يتأسس بروح الشاعر‪ ،‬إ ّن الذي ميّز "ابن املعتز" وبرهن‬
‫على قدر وعيه اجلمايل يف تشكيل أشعاره تشكيالً ينم عن فذاذ أدبية قل نظريها‪ ،‬فدوره‬
‫أحيانًا يف صنع املفارقة املعجز يتأتى حني تعجز الكلمات عن نقل الرؤية يف بعض األحيان‬
‫والرؤيا قد ال حتتويها كلمات‪ ،‬فهو كما يقال بانتخابه الكشفي يقتنص سر الوجود وخيرجه من‬
‫عدمية السكوت والصمت إىل احلركة واإلشراق‪ ،‬إ ّن وحي الذات حني يشرق يف جوارح املبدع‬

‫‪- 140 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫يعطيه حساسية خاصة جتعل احللم يتكون شعريًا والشاعر يطارده حبدسه ويقينه حىت يصل إليه‬
‫ويسكن فيه‪ ،‬وما أكثر أحالم "ابن املعتز" وما أكثر مطارداته هلا‪ ،‬فلذا فقد تكون كونه الشعري‬
‫«من همس ذاته وحركية توترها وتوهجها وانشطارها وانفالتها من قبضة العدم والتوغل في‬
‫الوجود المتجلي فتظهر األشياء من نواة الكلمات وتتشيأ الذرات والمجرات لتعلن عن‬
‫كون جديد من وحي الشاعر»(‪.)1‬‬
‫إ ّن الدارس املتفحص يف شعر "ابن املعتز" سيكتشف مبا ال يدع جماالً للشك كثافة‬
‫حضور وعيه اجلمايل‪ ،‬خاصة ما متثل يف اجلوانب املكانية والزمانية اليت تؤدي أدو ًارا متفاوتة يف‬
‫تعميق الوعي داخل إبداعه الشعري‪" ،‬فابن املعتز" سعى يف مجيع أحواله إىل رصد القيم‬
‫اإلنسانية ومتثلها يف اجملتمع وصياغتها فنيًا عرب نتاج شعري يوصل وجهة نظره ورسالته إىل‬
‫املتلقي‪ ،‬لقد استطاع "ابن املعتز" وبفضل الوسيط األول (التشكيل) وختصيص الوعي األول‬
‫اضحا‬
‫(اجلمايل) أن يفرق بني ما هو موجود حسي‪ ،‬وموجود عقلي‪ ،‬وقد يبدو ذلك جليًا وو ً‬
‫من خالل النتاجات الفنية له‪ ،‬مث ومن بعد أن أخذ املنطقي مسريته الفاعلة يف الوجود اإلبداعي‬
‫عنده وتدخله يف التفسري اجلمايل كان غرضه الوقوف على ماهية هذه اآللية اليت يعمل هبا‬
‫اجلمايل حيث نلحظ أ ّن هذا التوجه املنطقي يف ثنايا بعض أشعاره هو إلراد «التفريق بين ما‬
‫هو انفعالي خيالي وبين ما هو تأملي عقلي‪ ،‬أو لنقل بين ما هو أنا متمثال في المنجز‬
‫الفني وبين ما هو نحن متمثالً في المنجز المعرفي»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬أمحد اخلليل‪ :‬الكون الشعري مدارات ومسارات يف التذوق اجلمايل‪ ،‬راجعه‪ :‬علي القيّم‪ ،‬مديرية إحياء ونشر الرتاث‬
‫يف وزار الثقافة السورية‪ ،‬اهليئة السورية للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪2007 ،‬م‪ ،‬ص ‪.217‬‬
‫(‪ )2‬أندريه الالند‪ :‬العقل واملعايري‪ ،‬تر‪ :‬نظمي لوقا‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪1979 ،‬م‪ ،‬ص ‪.69‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وإ ّن املالحظ يف اجلمالية عند "ابن املعتز" هو امتزاجها بالنزعة األيديولوجية ويكفي أن‬
‫بعضا من أشعاره السياسية حىت يرى طغيان أيديولوجية التعصب لفئات معينة من‬
‫يقرأ الواحد ً‬
‫أيضا طغيان‬
‫املكون االجتماعي للخالفة العباسية وكذلك لرؤوس سياسية بعينها‪ ،‬ولرمبا يالحظ ً‬
‫األيديولوجية الدينية على بعض شعره السياسي ومنها على األخص وقوفه ضد الشيعة وتسفيهه‬
‫ملعتقدهم يف أكثر من مناسبة‪.‬‬
‫عموما فقد كانت هذه األيديولوجية يف تداخلها يف النمط الفكري عند "ابن املعتز"‬
‫ً‬
‫تأسي ًسا للحظات األوىل اليت انطلقت منها تفرعات الوعي اجلمايل عنده‪ ،‬وهذا معناه أ ّن سلطة‬
‫األيديولوجية كان هلا حضور جلي يف ما سبق ذكره دون أن تُنقص من بروز الذات يف هذا‬
‫أيضا القول بأ ّن العالقة اجلمالية املنطقية أو الفنية العلمية وبفعل‬
‫الوعي‪ ،‬ومن األمهية مبكان ً‬
‫نوعا من التقبل يف أرضية الوعي بشكل عام عند الشاعر‪ ،‬مبعىن‬
‫تدخل املنطقي قد وجدت هلا ً‬
‫أ ّن الوعي اجلمايل عنده ارتبط أشد االرتباط باملعايري احلاكمة والناظمة لبناء العمل الفين‪.‬‬
‫لقد كان "هليغل" ويف سعيه لكشف ظواهر الوجود رأي يف الفن على أنّه نظام أدائي‬
‫مهمته «الكشف عن الحقيقة المطلقة»(‪ ،)1‬وهو يف الوقت ذاته سعى لكشف التعميمات‬
‫بوصفها منظومة متوازنة يف األداء اجلمايل‪ ،‬ووفق هذا املنظور املتأخر زمنيًا كان "البن املعتز"‬
‫انطالقة إبداعية جتسد هذا الفكر حرفيًا‪ ،‬فهو سعى إىل فهم ال ُكليات ومنها وجود أنظمة ختتزل‬
‫الوجود يف رموز ذهنية من خالل إدراك املتشاهبات وصياغتها يف قوالب كلية ألجل أن حتمل‬
‫على املوجودات بوسائط مادية سواء أكان ذلك الوسط لفظي أم شكلي‪ ،‬مبعىن أ ّن ذلك‬
‫الكشف عن احلقيقة املطلقة ال يتم التعبري عنه إالّ بشكل مادي حمسوس وهو ما يفسر النزعة‬
‫احلسية للتصوير الفين عند "ابن املعتز"‪ ،‬كما أ ّن التصنيف الوجودي لألشياء عند الشاعر سار‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬ف‪ .‬هيغل‪ :‬فكر اجلمال‪ ،‬تر‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1981 ،‬م‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫وفق النمط اجلزئي والكلي ويف هذا الصدد هناك فكر عند "هيغل" مفادها أ ّن «الجزئي الذي‬
‫نعنيه أو نقصده في اليقين الحسي هو شيء ما ال نستطيع التعبير عنه‪ ،‬بل إ ّن العام هو‬
‫الصحيح في اليقين الحسي هو الذي نستطيع أن نعبر فقط عنه باللغة‪ ،‬بينما ال نستطيع‬
‫التعبير بشكل ممكن عن الموجود الحسي لشيء مقصود ‪.)1(»...‬‬
‫مل يكن تشبع وعي "ابن املعتز" باجلمال طارئاً أو نتاج اعتباط شعوري‪ ،‬بل كان نتاج‬
‫تأمل مجايل لألشياء فهو نظر إليها ال من أجل ذواهتا فحسب بل من أجل شيء آخر جياوزها‬
‫أال وهو املتعة‪ ،‬فانبىن وعيه اجلمايل على حقيقة أنّه ال ميكن ألحد أن يركز انتباهه على شيء‬
‫جسدت غاية املوقف‬
‫يدركه ما مل حيقق له متعة‪ ،‬ومن هنا ليس من اخلطأ القول بأ ّن املتعة ّ‬
‫اجلمايل عند "ابن املعتز"‪ ،‬األمر اآلخر الذي ميّز وعي الشاعر اجلمايل هو تلكم الرتكيبة‬
‫اجلمالية اليت تكونت داخل هذا الوعي حيث مجعت بني منفصلني ومها االدراك احلسي‬
‫والتصور العقلي‪ ،‬وال يعين بأي حال أن جتاورمها داخل هذا الوعي سيؤدي ضروريًا إىل ظهور‬
‫اجلمال‪ ،‬بل ال بد أن يذوب التصور العقلي أو ينصهر داخل اإلدراك احلسي بطريقة خاصة‪،‬‬
‫فالعالقة بينهما البد أن تكون عضوية وليست آلية‪ ،‬فاجلمال هو امتزاج مضمون عقلي ُمؤلف‬
‫من تصورات جتريبية غري إدراكية مع جمال إدراكي‪ ،‬بطريقة جتعل ذلك املضمون العقلي وهذا‬
‫اجملال اإلدراكي ال يتميز أحدمها عن اآلخر‪ ،‬لذلك كانت الصلة الفنية بني األشياء واألفكار‬
‫عند "ابن املعتز" تتميز بطابعها املباشر‪ ،‬فهي مقارنة وتشبيه وتداع‪ ،‬أي ّأهنا تقريب حر ال‬
‫يتطلب براهني‪ ،‬وهي هبذا املعىن تقريب أكيد بديهي يتحقق فورا بني موضوعني أو ظاهرتني يف‬
‫اجملتمع أو الطبيعة ينربي لوصفهما الشاعر‪.‬‬

‫(‪ )1‬فريال حسن فريال خليفة‪ :‬نقد فلسفة هيغل‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪2006 ،‬م‪ ،‬ص ‪.102‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫إ ّن هذه احلالة الفكرية عند "ابن املعتز" وقدرته الذهنية اخلالّقة هي نتاج تطور احليا يف‬
‫ُحلتها العباسية‪ ،‬ومن ضروب هذا التطور ما كان بيـنًا يف إبداعاته من تركيب متداخل (ماد ‪،‬‬
‫فكر‪ ،‬فعل) وهي أمور على أمهية قصوى لبداعة الصور الفنية اليت هي منبع اجلمال داخل‬
‫إبداعاته الشعرية‪ ،‬إذ أ ّن الشاعر ويف هذه احلالة وأمام هذه العوامل الثالثة جيد نفسه يف جمال‬
‫احلرية حيث إنّه يسمو على الطبيعة بكونه يتصرف حياهلا حسب فكر وختطيط‪ ،‬على أ ّن‬
‫الفكر والتخطيط يصقالن فيه املهارات االجتماعية كما أهنما يعتقانه من سلطة الطبيعة‪.‬‬
‫أبدا مقيّ ًدا هبذه الفكر وهذا املخطط سل ًفا كنية‬
‫لكن ومن جهة أخرى فالشاعر مل يكن ً‬
‫أولية وكهدف‪ ،‬فهما ال يظهران إالّ من خالل التفاعل مع الطبيعة مث خيتفيان بعدئذ‪ ،‬مث إ ّن‬
‫فورا خالل‬
‫الفكر اليت اعتمدها الشاعر ليست بال ماد بل هي يف جسدها املادي تتحقق ً‬
‫عملية الفعل‪ّ ،‬أما املاد والفكر فقد كانا عملية وليسا من اجلمادات أي أهنما فعل‪ ،‬وعلى هذا‬
‫معا‬
‫كان إميان "ابن املعتز" أ ّن األثر األديب ال يوجد كفكر فحسب‪ ،‬بل كتجسيد هلا يف آن ً‬
‫أي كأثر أو كشيء‪ ،‬فاألثر هنا (شعر) ال يوجد كماد جامد بل كواقع وكفعل أي هو عملية‬
‫خلق يقوم هبا الشاعر أو األديب‪ّ ،‬أما إعاد اخللق للحظة اإلدراك فهي منوطة باملتلقي أو‬
‫القارئ‪.‬‬
‫ضمن سياق آخر البد من احلديث على األثر الزماين الرتاثي لتشكيل الوعي اجلمايل‬
‫لشاعرنا "ابن املعتز"‪ ،‬فمما هو معروف يف الدراسات االستاطيقية أ ّن املفاضلة اجلمالية أو‬
‫املنتوج اجلمايل ما هو إالّ جتريد قادر على حمور انتهاء العمل الفين لعامله وتالمحه معه‪ ،‬لذلك‬
‫فالفن والشعر خاصة هلما القدر على قهر املسافات الزمنية وجماوزهتا بفضل استخدامه (الشعر)‬
‫للدالالت وتوظيفه للصور اإلبداعية اليت خترتق حمدودية املكان وال هنائية الزمن‪ ،‬هبذه الداللة‬
‫أيضا يصبح جماالً إلنتاج‬
‫املزدوجة يصبح الشعر باعتباره فنًا إنسانيًا وسيلة أساسية للفهم ومن مث ً‬

‫‪- 144 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫احلقيقة‪ ،‬وعلى هذا سار شعر "ابن املعتز" وفق حتمية تارخيية وهي الوظيفة الفعلية للتاريخ أال‬
‫وهي مجاليات تلقى الرتاث عرب النصوص واآلثار والروائع وفق مبادئ وقواعد تؤسس التصورات‬
‫املسبقة واألحكام الفاعلة للفرد‪.‬‬
‫فاحلقيقة التارخيية لوجود هبذا املعىن يصبح على إثرها نشاط التاريخ هو الوجود الفاعل‬
‫والفعلي‪ ،‬لذلك كانت اللغة الشاعرية البن املعتز لغة ترمجة حلقائق الرتاث وتطبيقها وصهرها يف‬
‫بوتقة القضايا راهنة عصره‪ ،‬بإحياء دالالت مطموسة وبذور معرفية وكذا بعث أفكار من طي‬
‫أي فهم للنص األديب الشعري عند "ابن‬
‫النسيان والكبت وكذا غياهب اللغة‪ ،‬وعلى هذا فإ ّن ّ‬
‫املعتز" ال يعين وال جيب أن يُفهم على أنّه فهم لتجربته هو‪ ،‬بل يعين فهم جتربة التاريخ والوجود‬
‫اليت تفصح عن نفسها من خالل وعرب النص لذلك البد أن يتميز النص عن املبدع‪ ،‬فالنص‬
‫منفتحا على‬
‫ً‬ ‫خاضع لقراءات املتلقي عرب الزمن وهي متغري بتغري الزمن وهو ما جيعل النص‬
‫آفاق التأويل‪ ،‬وسلطة القراء اجلمالية املتمكنة للقارئ احلذق‪.‬‬
‫فلذا فقد راعى الوعي اجلمايل عند الشاعر فكر الزمن من حيث أ ّن الزمن وبلغة أخرى‬
‫سوما داخل قصيد شعرية تشكيلية إن صح القول‪ ،‬أل ّن التجربة‬
‫ال ميكن إالّ أن يكون مر ً‬
‫اإلنسانية كلية وحتتاج لكي تكشف عن نفسها إىل مواد تعبريية بالغة الغىن والتنوع‬
‫والشعر هو أحد هذه األوجه الكشفية‪ ،‬فبماذا كان ميكن معرفة احلب والكراهية واخلري‬
‫واالنكسار والقلق واالنتظار لوال جتسيد هذه القيم يف تعابري فنية مرتاكبة لغويًا داخل قصيد‬
‫شعرية‪ ،‬وعلى هذا ميكن القول إ ّن إعاد تصوير أو تشكيل الكينونة اليت تقوم هبا الصور‬
‫التشكيلية يف شعر "ابن املعتز" جاءت لتأكيد جانب من املعرفة الذاتية املتأتية من الوعي‬
‫جسدهتا شخصية "ابن املعتز" ال تدرك وال تعي ذاهتا‬
‫اجلمايل‪ ،‬ويُقصد بذلك أ ّن الذات اليت ّ‬
‫انطالقًا مما توفره الواقعة يف أبعادها التعيينية واألوىل‪ ،‬بل بطريقة تستطيع معها الذات التخلص‬

‫‪- 145 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫من املطلق والعام للتوغل يف اخلاص والثقايف؛ أي من خالل انزياح العالمات الثقافية جبميع‬
‫أساسا الفعل‬
‫دائما و ً‬
‫استنادا إىل سريورات رمزية توسطية تنتج ً‬
‫ً‬ ‫أنواعها اليت مت إنتاجها من خالله‬
‫ومن ضمنها القصيد التشكيلية‪ ،‬لذا هناك ارتباط دال من خالل ما نتلمسه يف شعره بني‬
‫الوظيفة الفنية اليت متثلها الصور التشكيلية والتجربة اإلنسانية‪.‬‬
‫أبعادا تزحيها عن دوائر‬
‫إ ّن تضافر الوعي والتشكيل من املنظور اجلمايل مينح األشياء ً‬
‫النفعية واملباشرية إىل ما يشكل عم ًقا دالليًا وأدا حامسة يف تنظيم التجربة اإلنسانية‪ ،‬فشعر‬
‫"ابن املعتز" ليس فقط صيغة تصويرية ومتثيلية للحيا يعمل على إعاد إنتاجها‪ ،‬بل إنتاج‬
‫وابتكار وتوليد داليل‪ ،‬إنّه يستعري من احليا ولكنه حيوهلا ويسعى كذلك إىل التأليف بني عناصر‬
‫متنافر يف حاالهتا وأهدافها وآفاقها غري املتوقعة‪.‬‬
‫ووفق هذا الطرح فإ ّن الزمن احلاضر يف هذا الشعر يصري إنسانيًا يف احلدود فقط اليت‬
‫يتمفصل فيها بطريقة فنية‪ ،‬حيث ميثل التشكيل اجلمايل للشعر من خالل هذا املنظور منزلة‬
‫أنطولوجية ويتحول إىل مصدر أويل من مصادر املعرفة بالذات والعامل‪ ،‬فهو فعالً ميثل وسيلة‬
‫استكشاف أنطولوجية لعالقة الشاعر باملوجودات وبالوجود‪ ،‬لذلك كان التشكيل عند "ابن‬
‫املعتز" طريقةً يف إعطاء ذاتيته اإلنسانية املفككة باستمرار شكالً حمق ًقا وصور مالئمة لكافة‬
‫جتارهبا‪ ،‬إنّه مبعىن آخر تشكيل وصياغة لتجربته يف احليا «وهذا يتضمن بالضرورة إعادة‬
‫تشكيل لتجربتنا الزمنية»(‪ .)1‬فإذن فقد كان التشكيل عند "ابن املعتز" هو ذلك الوسيط‬
‫حوله كشاعر من خالل جتربته الوجودية إىل معطى ثابت‪ ،‬وبذلك جعلها جتربة مفتوحة‬
‫الذي ّ‬
‫على األجيال اليت تلته‪ ،‬كما أنّه بذلك أعطى للشكل الفين قو ودينامية‪.‬‬

‫‪(1) Paul Ricœur: Temps et Récit I, l’intrigue et le récit historique, coll. l’ordre‬‬
‫)‪philosophique seuil, Paris, 1983, P 07. (Adapted‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫الشاعر والجمال‬ ‫الفصل األول‬

‫خنلص من هذا إىل نتيجة مفادها أ ّن الوعي والتشكيل اجلماليني عند "ابن املعتز" مل‬
‫يكونا مكملني لبعضهما فحسب أم أثبتا براعة فنية مجالية فحسب وحىت مل يكن غايتهما إثار‬
‫معا وسيطًا معرفيًا باملعىن العميق‪ ،‬وهي معرفة مل تكن ممكنة‬
‫متعة مجالية فحسب‪ ،‬بل شكال ً‬
‫لوال جتسيد جتربة املبدع الوجودية من خالل الوعي اجلمايل يف وسيط ثابت هو التشكيل أو‬
‫العمل الفين‪ ،‬فكل مجال ال يُدرك وال يتحدد إالّ من خالل مثوله عرب شكل ما داخل الزمان‬
‫وداخل الفضاء‪« ،‬فالحياة ذاتها ال تتحدد إالّ باعتبارها خالقة لألشكال‪ ،‬ألنها شكل‬
‫والشكل هو نمط الحياة»(‪ ،)1‬لذلك فإ ّن الوسيلة الوحيد لإلمساك باجلمال تتمثل يف‬
‫جمسدا عند شاعرنا "ابن املعتز"‪ ،‬فالوعي‬
‫وسيطني مها الوعي والتشكيل وهو ما رأيناه بوضوح ً‬
‫يؤسس للنمط الذهين لإلبداع‪ ،‬بينما التشكيل يؤسس الفن لينربي هذا األخري لتأسيس التاريخ‪،‬‬
‫ألنّه لن يكون للبشر تاريخ إالّ بالقدر الذي تنكشف فيه احلقيقة أمامهم وذلك باستقرارها‬
‫ومنتجا‬
‫ً‬ ‫داخل األعمال الفنية‪ ،‬لذلك الحظنا أ ّن شعر "ابن املعتز" كان معبّـًرا عن اجلمال‬
‫للحقيقة يف اآلن نفسه‪ ،‬ويظهر ذلك يف الطاقة اهلائلة اليت تزخر هبا اآلثار الفنية املتبدية يف‬
‫قدرهتا على إنتاج املعىن وكشف احلُجب وإضاء املناطق املعتمة من خالل إبداعه لتصوير‬
‫ُ‬
‫املوجودات وإسقاط حاالته النفسية على بناء التشكيل اجلمايل ألشعاره‪.‬‬

‫(‪ )1‬سعيد بنكراد‪ :‬السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاهتا‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديد ‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ال ّدار البيضاء‪،‬‬
‫‪2003‬م‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫‪ )1‬البعد الجمالي المكاني‪.‬‬

‫‪ )2‬البعد الجمالي الزماني‪.‬‬

‫‪ )3‬البعد الجمالي النفسي‪.‬‬

‫‪ )4‬البعد الجمالي التشخيصي‪.‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -1‬البعد الجمالي المكاني‪:‬‬

‫يعترب اإلبداع الشعري من أصعب أبواب اإلبداع األديب والفين فتحا‪ ،‬ومن أخطرها‬
‫اقتحاما‪ ،‬ومن أكثرها إحلاحا يف طرح األسئلة واإلشكاليات والبحث هلا عن ردود وأجوبة يف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬ولعل من أعقد األسئلة الشعرية هي تلك اليت تثريها طبيعته اللغوية من حيث‬
‫الداللة واإلحياء والوظيفة مع استغالله لكل ما من شأنه أن يغين التجربة الشعرية‪ ،‬وكذلك من‬
‫حيث الرتميز والتمثيل والتخييل وتوظيف الشخصيات واإلحالة على ما هو تارخيي وما هو‬
‫أسطوري‪.‬‬
‫ولقد تشعبت النظريات وتعددت القراءات وتضاربت النتائج‪ ،‬ومن مثة أشعت كثريا من‬
‫القضايا األدبية والنقدية دراسة وحبثا خاصة يف أدب "ابن املعتز" كنموذج حي‪ ،‬إال أن املالحظ‬
‫هو أن بعض تلكم القضايا األخرى مل حتظ مبا تستحقه من الطرح والتحليل والدراسة وما جيب‬
‫هلا من البحث والعناية‪ ،‬على الرغم من أهنا فرضت نفسها داخل هذا األدب وجتلت يف إبداعه‬
‫الشعري على وجه اخلصوص وتناسلت كما يقال عرب قنواته املتعددة‪ ،‬وإن مجالية املكان إحدى‬
‫تلكم القضايا اليت مل حتظ باحلفاوة اليت تليق هبا كما ينبغي من حيث هي قضية نقدية وجتل‬
‫إبداعي داخل أشعار "ابن املعتز"‪ ،‬وهي من املفاتيح النقدية القادرة على فك إهبام جانب كبري‬
‫من جوانب املكونات الفنية والداللية داخل النصوص اإلبداعية للشاعر‪ ،‬وحىت الثلة القليلة اليت‬
‫تناولت هذه القضية أفردت دراسات تتوسل املنحى الفكري العقلي يف مفهومه للمكان ومن‬
‫مثة يف طرحه للبعد اجلمايل للمكان أي أهنا تدرس مجالية املكان عنده من جانب أحادي هو‬
‫اجلانب الفكري أو النفسي احملض‪.‬‬
‫ولذا فقضية مجالية املكان يف شعر "ابن املعتز" وحىت عند غريه من الشعراء قدميا وحديثا‬
‫ال زالت موضوعا حيتاج إىل وقفة تأمل وإنعام نظر ودراسات متأنية تتوخى كل ما من شأنه أن‬

‫‪- 149 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يساعد على تشخيص مجالية املكان يف اإلبداع األديب عموما والشعري على وجه اخلصوص‪،‬‬
‫حىت يضطلع برصد الوظيفة الداللية واملعاين اجملازية والتعابري البالغية والرتاكيب األسلوبية‬
‫والتخييل الشاعري‪ ،‬وكذا القضايا الرمزية واملقومات الشاعرية هلذه اجلمالية اليت يكتسبها املكان‬
‫يف الشعر‪ ،‬وذلك اعتمادا على جتزيء املكان األديب وإفراد وحداته املادية امللموسة كالبحث يف‬
‫مجالية املدينة أو البيت أو الشارع أو غريها من األشياء اليت حتمل خصائص مكانية معينة‪.‬‬
‫إال أن طبيعة البحث هنا جيب أال تكون على أساس أهنا فضاء مادي أو وجودي أو‬
‫كوين‪ ،‬ولكن على أساس أهنا فضاء فين أو أديب أي تعبري لغوي وطريقة أسلوبية تكمن خلفها‬
‫وظائف داللية يتوخى منها اإلبداع والواقع املعيش يف صياغة أدبية شعرية متميزة‪ ،‬ومبعىن أبسط‬
‫إن مجالية املكان يف الشعر ال تقوم على التشخيص املادي احملض للجمال يف مكان حمدد‪،‬‬
‫كأن يرصد الباحث مجاال بصريا وصفيا‪ ،‬أو يعمد إىل حتريك حاسة االستذكار يف ذهن‬
‫املتلقي؛ أي أن يطرح الشعر مكانا جيد له يف ذهن القارئ أو املتلقي نظرة معينة هلا ارتباط‬
‫باألحداث والوقائع واألشخاص الذين عاشوا أو ال يزالون يعيشون فيها‪ ،‬فهذه نظرة تسرد‬
‫املاضي وتكتفي مبا يوحيه مع أن اإلبداع قد ال يقصد إىل ذلك قصدا وإن توفر فيه ذلك‪.‬‬
‫ومع هذا ال ميكن بأي حال االستغناء عن اجلمال البصري أو اجلمايل الذهين التارخيي يف‬
‫رسم مجالية املكان‪ ،‬ولكن ذلك ال يكفي ألن اللغة الشعرية املتميزة من طبيعتها أهنا ال حتيل‬
‫على الواقع امللموس يف ماديته بشكل مباشر فهذه اللغة ال حتيل على املكان يف هندسته‬
‫الطولية والعرضية والعمودية أو يف شكله املربع أو املستطيل أو الدائري أو يف شكله العمراين‪،‬‬
‫وإنا حتيل عليه يف إطار ما حيمل من معان تثري النفس أو تثري ما فيها من أحاسيس وحتريك‬
‫الوجدان الذي يفرز ما عنده من شعور والشعور‪ ،‬وذلك يف إطار ما يزخر هبا املكان من‬
‫دالالت تبين أفقا شعريا ينبعث اجلمال من تراسيمه‪ ،‬وحتيل عليه أيضا يف إطار ما يكنه من‬

‫‪- 150 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وظائف كان من أجلها هذا املكان أو ذاك خمتارا يف نص معني أو نصوص شعرية حمددة دون‬
‫غريه من األماكن‪.‬‬
‫وباالنفصال إىل سياق آخر وهو سياق تعامل الشعر مع املكان وهذا ما نتلمسه بطبيعة‬
‫احلال مع شعر "ابن املعتز"‪ ،‬فسنجد أنه شعر يرفض التعامل مع املكان امليت أو على األقل يف‬
‫شكله املشوب باملوت بل إنه يرفض كل سكونية فيه ألهنا تذكر باملوت‪ ،‬وذلك يرجع لطبيعة‬
‫الشعر اليت تأىب السكونية يف كل شيء ألن عناصره املكونة لبنيته تتمتع بكل مواصفات احلركة‬
‫والسمات احلركية‪ ،‬واحلقيقة إن امتالك "ابن املعتز" للوعي لطبيعة املكان أضاف على منتوجه‬
‫األديب طاقة تفجريية خالقة فكان مكانه الشعري يف منتوجه اإلبداعي مفعما بدينامية وحركية‬
‫متواصلة‪ ،‬ما يثبت أن الشاعر سار يف مساره هذا وفق قاعدة «أ ّن االنغالق في مكان واحد‬
‫دون التمكن من الحركة فإ ّن هذه الحالة تعبر عن العجز وعدم القدرة على الفعل أو‬
‫التفاعل مع العالم الخارجي‪ ،‬أي مع اآلخرين»(‪ ،)1‬فاهتمام "ابن املعتز"باملكانية مل يكن‬
‫شيئا طارئا على شخصه وال حىت إبداعات معاصريه وسابقيه ألنه حلقة من حلقات عقد‬
‫األدب العباسي وإن انفراط هذه احللقة من قبيل تغييب املكان عن املنتج الشعري يستحيل‬
‫بالشاعر إىل الشذوذ األديب ولن يكتب ملنتوجه التسويق الناجح بني معاصريه وحىت األجيال‬
‫اليت تليه‪.‬‬
‫لذلك اكتنه "ابن املعتز" جيدا فكرة أن املكان حقيقة معاشة يؤثر يف نفسه اإلنسانية‬
‫بالقدر الذي تؤثر هذه النفس فيه‪ ،‬حيث إنه ال يوجد مكان فارغ أو سليب‪ ،‬وكل مكان مدان‬
‫ما مل جتر عليه خربة اإلنسان «فتاريخ المعرفة وتاريخ العالقة بين اإلنسان واألشياء التي‬

‫(‪ )1‬أمحد قاسم سيزا‪ :‬بناء الرواية العربية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ط‪1985 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.77‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫اختبرها»(‪ ،)1‬وعلى هذا فاملكان «يعني بدء تدوين التاريخ اإلنساني واالرتباط الجذري‬
‫بفعل الكينونة ألداء الطقوس اليومية للعيش وللوجود‪ ،‬ولفهم الحقائق الصغيرة لبناء‬
‫الروح‪ ،‬وللتراكيب المعقدة والخفية لصياغة المشروع اإلنساني ضمن األفعال‬
‫المبهمة»(‪ ،)2‬وهلذا مل خيف "ابن املعتز" ولعه باملكانية اجلمالية وكأنه يوقن مبا ال يدع جماال‬
‫للشك أن هذا الولع واالهتمام باملكان أصبح مرتبطا بعاملية األدب إذ هو أحد أسباب‬
‫الوصول إليها‪ ،‬وذلك ألن املنتوج األديب حني يفقد يف أسس بنيانه الصفة املكانية فإنه يفقد‬
‫خصوصيته وأصالته ألن األدب الذي يستطيع أن يتبناه اإلنسان وجيد فيه خصوصيته هو ذلك‬
‫األدب الذي يكتسب عاملية مستحقة فهو يفعل ذلك عرب مالمح قومية بارزة وقوية ومن‬
‫ضمن هذه املالمح جند املكانية أبرزها‪ .‬فالرتكيز على اجلمالية املكانية ليس من باب هكذا‬
‫وحسب بل باعتبارها طريقة لرؤية النص األديب من الداخل واخلارج معا‪ ،‬وبذلك تلغي هذه‬
‫اجلمالية املكانية أحادية املنهج النقدي الذي ال يرى النص األديب إال من الداخل فقط‪ ،‬أو ال‬
‫ينظر إليه إال من اخلارج فقط‪ ،‬لذا فاعتماد التقنية النقدية املسماة باجلمالية املكانية متكننا من‬
‫فهم النص األديب فهما جديدا سواء عند "ابن املعتز" أو غريه من الشعراء‪ ،‬وهذا الفهم اجلديد‬
‫يتأتى من خالل الرتابط بني ذات املبدع اخلالقة واجملتمع والبيئة املكانية من خالل الوعي هبما‪،‬‬
‫لذلك يصبح املكان «األداة األكثر استيعابًا لمعاني النص وفنّيته»(‪.)3‬‬
‫تربز أمهية املكان يف شعر "ابن املعتز" من كونه أكثر األنساق الفكرية تعقيدا‪ ،‬فهو ليس‬
‫مكانا حامال لكل التواريخ الصغرية والكبرية فقط‪ ،‬وإنا هو اللحظة الزمنية اليت نرى فيها هذه‬

‫(‪ )1‬ياسني النصري‪ :‬إشكالية املكان يف النص األديب‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بغداد‪1986 ،‬م‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )2‬ياسني النصري‪ :‬إشكالية املكان يف النص األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.396-395‬‬
‫(‪ )3‬أمل طاهر نصري‪ :‬فاعلية املكان يف بناء القصيدة‪ ،‬جملة جامعة امللك سعود‪ ،‬جامعة امللك سعود‪ ،‬عدد ‪،15‬‬
‫‪2003‬م‪ ،‬ص ‪.275‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التواريخ وقد انبنت بطريقة منهجية‪ ،‬فهو كما يقال العقل الذي ال بديل له حلضانة تاريخ البناء‬
‫العقلي والتاريخ احلسي للشاعر اإلنسان‪ ،‬ولذا فإن قراءتنا للمكان الشعري عند "ابن املعتز"‬
‫جيب أن خترج من تلكم القراءة النمطية اليت دأبت عليها املدرسة الطبيعية ومن بعدها الرومنسية‬
‫واليت قرأت املكان الفين أو الشعري على وجه اخلصوص باعتباره حمض مكان طبيعي ال أكثر‬
‫وال أقل‪ ،‬والذي يربز أمهية املكان يف شعر "ابن املعتز" أنه ال يربز شيئا معزوال أو مفردا أو بناءا‬
‫أجوفا‪ ،‬وإنا يربزه باعتباره مهارة وممارسة ونشاطا إنسانيا شاعريا حيمالن مواقف وعواطف‬
‫وانفعاالت الشاعر‪ ،‬بل وكل تفاصيله عرب حياته وتارخيه العام واخلاص‪.‬‬
‫إنه ملن األمهية مبكان اإلشارة إىل كثرة العالئق اليت ربطت املكان بالقصيدة يف أشعار‬
‫"ابن املعتز" وما لعامل املكان من عالقة بازدهار شعره عرب العصور‪ ،‬وأبرز تلك العالئق ذلك‬
‫البناء املتقارب يف الشكل واحملتوى بني البيت الشعري والبيت من األبنية وتكفي نظرة إحصائية‬
‫فاحصة يف متون أشعاره حىت تتجلى ألي باحث حقيقة هذه العالقة يف ارتباط وثيق بينهما‪،‬‬
‫ولذا فاالرتباط بني الشاعرية واملكان عند شاعرنا "ابن املعتز" هي من القوة والوضوح لتجعلنا‬
‫نكشف عن عالئق أخرى متس جوانب نفسية واجتماعية لديه‪ ،‬فنرى تلك الراحة النفسية اليت‬
‫يشعر هبا الشاعر وهو يرتب الكلمات واألفكار يف حدود بيته الشعري شبيهة بتلك الطمأنينة‬
‫اليت جيدها ساكن السكىن وهو يرتب أثاثه ومقتنيات سكنه داخل عامله الصغري‪.‬‬
‫فلقد كان هذا الشاعر شأنه شأن الكثري من الشعراء الذين حيملون يف دواوينهم أروع‬
‫املعاين وأرق األلفاظ ويربز فيها املكان عنصرا أساسيا يف قصائدهم‪ ،‬وهكذا جاءت أشعار‬
‫"ابن املعتز" واحة للقارئ والدارس معا فهي تعدل من املزاج النفسي وتعلم كليهما كيفية عشق‬
‫احلياة ورؤية اجلمال من خالل األمكنة اليت تراسلت يف شعره‪ ،‬فهو شاعر حيب الطبيعة وقد‬
‫احتفى هبا احتفاءا عظيما وكذلك رقيق املشاعر مرهف احلس‪ ،‬ترتك احلوادث أثرها البعيد يف‬

‫‪- 153 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫نفسه فيعيش الذكريات حىت جيعل منها حقيقة يسرتجع هبا مشاعره الغابرة يف كل مكان مر‬
‫به‪ ،‬فعوامله وأماكنه متنوعة غنية باملشاهد واألحاسيس‪ ،‬فصور اجلمال ال تفارق ناظريه فهو‬
‫يلتقطها بعني مصورة «فعالقة الشاعر بالمكان ذات أبعاد متعددة تستحضر الواقعي‬
‫والخيالي والوهمي‪ ،‬ويكفي أ ّن الشاعر يعيش في المكان على مستوى الوجود الحقيقي‬
‫ويسبح في المكان في عالمه الشعري‪ ،‬فيستحضر المكان من المعرفة الثقافية ويقيم‬
‫وجودا فيه أو يعدل من صورة المكان الحقيقي‪ ،‬كما يخترع المكان في الفن‬
‫ً‬ ‫نفسه‬
‫ويحتله بالوجود»(‪ ،)1‬فاملكان حيمل قيمته الشعرية؛ حيث يعيد الشاعر إنتاج ما عرفه عن‬
‫ْ‬
‫املكان وما استوحاه منه‪ ،‬بل إنه ينتج املكان شعريا من جديد وبطريقة ال تعزله عن منظومة‬
‫الفكر الذي مينحه إياه التاريخ أو مينحه هو للمتلقي تأمال واستيحاءا فحني تلتقي حدود الواقع‬
‫مع حدود اخليال‪ ،‬يف تلك املساحة املكانية ذهنيا ترتفع مهة شاعرنا "ابن املعتز"‪ ،‬إذ تتضافر‬
‫لديه عني اجلسد وعني اخليال يف النظر للطبيعة بغية خدمة األفكار وخباصة فكرة اجلمال اليت‬
‫تتضمن عند الشاعر العريب املسلم اخلري واحلق‪.‬‬
‫إن وصف املكان اجلميل عند "ابن املعتز" حيمل يف طياته تسامي النفس اإلنسانية‬
‫للشاعر‪ ،‬مثلما حيمل رثاء املكان داللة االعتبار إىل جانب معاين الوفاء وحنوه من املثل العليا‬
‫حني يصبح وصف آثار املكان يف أحد جوانبه ليس إال تشبث الشاعر بوجوده املكاين الذي‬
‫أخذ يف االرحتال‪ ،‬ولذلك جند أن عالقة شاعرنا باملكان تنوعت من قصيدة ألخرى ولعلنا جند‬
‫شوقا إىل املكان يف وجدان القصيدة‪ ،‬فعالقة الشاعر باملكان ليست مرتبة ترتيبا منطقيا زمنيا‬
‫تصاعديا ولكنها جاءت شبيهة باألمواج املتتالية ومع ذلك فقد كان لكل منها خصوصية‬
‫ضمن املكان‪ ،‬وهكذا جند ارتباط الشاعر باملكان ليس بوصفه مكانا فحسب‪ ،‬وإنا من خالل‬

‫(‪ )1‬سليم جريدي املنصوري‪ :‬شاعرية املكان‪ ،‬مطابع شركة دار العلم للطباعة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪1992 ،‬م‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ظاهرة مواكبة لألحداث اليت تدور يف األطر احلياتية لعصره ولقد ظل املكان يف الشعر عالمة‬
‫بارزة إلظهار القصيدة‪ ،‬وقد تبني أن شاعرنا يضع املكان يف مقدمة اهتمامه عند كتابة القصائد‬
‫ولذا جند االرتباط الوثيق بني املكان والشاعر الذي مازال وحىت اآلن ميثل نوذجا رائعا للشعر‬
‫بوصفه نصا حماكيا للمكان بروح شفافة وعاطفة صادقة‪.‬‬
‫من املهم أن نقول أيضا أن يف تعامل اإلنسان مع السطح املكاين استشعار ملعاين اللذة‬
‫واألمل‪ ،‬الشقاء والسعادة‪ ،‬اخلوف واألمن‪ ،‬وذلك تبعا للحالة النفسية اليت يعيشها اإلنسان يف‬
‫أجواء ذلك املكان‪ ،‬وكذلك الشاعر حني يتعامل مع أمساء األماكن (الكلمات) فإنا يتعامل‬
‫معها وهي مشبعة باملعاين الوجدانية اليت تتجاوز املعاين االنفعالية األولية «يضاف إلى ذلك‬
‫ظل المكتسبات التي احتضنتها الكلمة األولية عبر تاريخ حياتها‬
‫نتيجة الخبرة الفردية في ّ‬
‫في الفكر الجماعي»(‪.)1‬‬
‫إن حضور املكان يف شعر "ابن املعتز" أعمق من أن يوجد يف لفظة أو غريها‪ ،‬ألنه‬
‫األساس يف جتربته الشعرية منه انطلقت وإليه تؤول دالالت الرتاكيب املكونة هلا‪ ،‬فاملسألة ال‬
‫تقف عند حدود تصنيف التجارب حسب األغراض الشعرية كما ال يقف األمر عند نقل‬
‫وقائع األحداث يف املكان حىت ال يعدوا املكان أن يكون لوحة من لوحات الطبيعة تنتقل‬
‫بالوصف الشعري الذي يبين مجاهلا أوال يعدو أن يكون وعاء حيتضن جتارب الشاعر وأفعاله‬
‫ويقيه من تقلبات اجلو واجملتمعات فيبكيه إذا حلت به األحداث اجلسام‪ ،‬فللمكان تقسيمات‬
‫عديدة ولكن التقسيم الذي يهمنا‪ ،‬هو ذلك التقسيم الذي حيدد موقف الشاعر من املكان‬
‫تبعا للحالة النفسية اليت يعيشها الشاعر يف أجواء ذلك املكان‪ ،‬فالشاعر إما متآلف مع املكان‬
‫حمب له‪ ،‬إما من حيث االنتماء‪ ،‬أو احلماية أو الطمأنينة والصفاء الروحي‪ ،‬فيتميز هذا املكان‬

‫(‪ )1‬سليم جريدي املنصوري‪ :‬شاعرية املكان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.17-16‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫باحلميمية والقرب من قلب الشاعر وهذا هو املكان األليف تقريبا‪ ،‬كما أن هناك املكان‬
‫العادي وهو الذي ال حيب الشاعر اإلنسان البقاء فيه حيث القسوة والتسلط واالغرتاب‬
‫والنفي‪ ،‬كما أن املواضع اليت حتول دون األحبة وجتسد املسافة املكانية للبعد والفراق يف شعر‬
‫الغزل أو مقدمات القصائد تنتمي إىل املكان العادي‪ ،‬ويتمثل تقريبا املكان العادي هنا يف‬
‫السجن والقرب والصحراء فهذه األماكن ختافها النفس اإلنسانية وحتذر منها‪ ،‬لذلك يرى أحد‬
‫الباحثني بأن «الكهف والقبر والجدار والمنعطف والهاوية أماكن تجمع بين األحاسيس‬
‫المباشرة وبين تشكيالت الطبيعة الواعية والالواعية‪ ،‬ويشكل الشكل الخارجي لها حال‬
‫انطباع عام لألنا وهي محاطة محاصرة بها»(‪.)1‬‬
‫أما املكان حيث ال يكون أليفا وال معاديا فهو بال شك مكان حمايد «فعندما نقف‬
‫موقف الحياد من المكان فإننا سننطلق من رؤية موضوعية دون أي اعتبار بكينونة هذا‬
‫المكان‪ ،‬فتلك النظرة والرؤية الموضوعية المحايدة ستطيح بالكثير من الجماليات والقيم‬
‫المكانية التي تتأسس عبر تلك الجدلية بين المكان واإلنسان»(‪ ،)2‬أما الشاعر فاملكان‬
‫احملايد بالنسبة له هو املكان الذي ال يكون مألوفا معاديا مثل اجلبل واحلقل والشارع‪ ،‬فاحلقل‬
‫واجلبل غالبا يقفان موقف احلياد وقد يتجهان إىل األلفة يف ظروف معينة خاصة احلقل‪.‬‬
‫لقد ارتبط املكان أو لن قل مفهوم املكان عند "ابن املعتز" ارتباطا لصيقا مبفهوم احلرية‪،‬‬
‫ومما ال شك فيه أن الصورة النمطية هلذا املفهوم يف ذهنية الشاعر تتجسد يف حرية احلركة‪ ،‬لذا‬
‫فالعالقة بني اإلنسان واملكان من هذا املنحى تظهر بوصفها عالقة جدلية بني املكان واحلرية‬

‫(‪ )1‬ياسني النصري‪ :‬إشكالية املكان يف النص األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫(‪ ) 2‬خالد حسني حسني‪ :‬شعرية املكان يف الرواية اجلديدة‪ ،‬مؤسسة اليمامة الصحفية‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬الرياض‪2006 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.119-118‬‬

‫‪- 156 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وتصبح احلرية يف هذا املضمار هي جمموع األفعال اليت يستطيع اإلنسان أن يقوم هبا دون‬
‫حواجز أو عقبات؛ أي بقوى خارجية ال يقدر على قهرها أو جتاوزها م لتستحيل هذه احلرية‬
‫إىل طفرة عقلية هلا القدرة على تعظيم ملكة اإلبداع الفين داخل هذا اإلنسان‪ ،‬فلذا فلقد‬
‫شكلت معايشة "ابن املعتز" للمكان عملية جاوزت قدرته الواعية لتتوغل يف الشعوره‪ ،‬فهناك‬
‫أماكن جاذبة ساعدته على االستقرار‪ ،‬وأماكن طاردة لفظته ونفرته‪ ،‬فهو مل يكن حباجة إىل‬
‫جمرد مساحة جغرافية يعيش فيها ولكنه سعى إىل رقعة يضرب فيها جبذوره وتتأصل فيها هويته‪،‬‬
‫ومن م فقد أخذ البحث عن الكيان واهلوية عنده شكل الفعل على املكان لتحويله لرتى فيها‬
‫أناه صورهتا‪ ،‬فاختيار املكان وهتيئته ميثالن جزءا من بناء التجربة الشعرية فالذات الشاعرية ال‬
‫تكتمل داخل حدود ذاهتا‪ ،‬ولكنها تنبسط خارج هذه احلدود لتصبغ كل ما حوهلا بصبغتها‬
‫وتسقط على املكان قيمها احلضارية‪.‬‬
‫ويتضح من هذا أن املكان الذي كان يعيش يف الشاعر "ابن املعتز" هو مكان ثقايف‪،‬‬
‫أي أن الشاعر هنا حيول معطيات الواقع احملسوس وينظمها ال من خالل توظيفها املادي لسد‬
‫حاجاته املعيشية فقط‪ ،‬بل من خالل إعطائها داللة وقيمة فنية عرب اللغة الفنية أو الشعرية‪،‬‬
‫باعتبار أهنا النظام األويل لتحويل العامل إىل أنساق‪ ،‬ألن هذه اللغة اخلاصة هي أداة من أدوات‬
‫الثقافة بوصفها آلية حتول واقع املعطيات احملسوسة على نظام‪ ،‬وهي وإن مل تكن األداة الوحيدة‬
‫فهي بدون شك األداة األساسية واألولية‪ ،‬ولذا شكلت اللغة الشعرية عند "ابن املعتز" خمزون‬
‫جمرد من العالمات ينوب عن عامل املكان وحتل حمله‪.‬‬
‫إن املالحظ ملنتوج "ابن املعتز" األديب والشعري خاصة سريى أنه ليس هناك تقريبا نصا‬
‫من نصوصه الشعرية ال حيتوي على مكانية ما‪ ،‬ذلك ألن الرؤية الشعرية للنص مهما ابتعدت‬
‫عن حساسية املكان وحضوره وجتلياته فالبد من حضور مكاين معني ومصور يشحن النص‬

‫‪- 157 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بنزعة إنسانية وارتباط مجايل حييله على أرضية ما يستند إليها‪ ،‬أو مناخ ميداين يتنفس خطورة‬
‫وجوده اجلمايل والفكري من خالله‪ ،‬غري أن احلضور االستثنائي للمكان يف بعض النصوص‬
‫الشعرية "البن املعتز" املأخوذة بفاعلية شعرية املكان وحساسيتها الفنية جيعل من عنصر املكان‬
‫العنصر األبرز واألطهر واألكثر قيمة وحيوية يف سياق التشكيل اجلمايل الشعري عنده‪ ،‬وحيقق‬
‫يف ذلك قدرا هائال من التمظهر والكينونة والبنائية‪ ،‬بوصفه العالمة األكثر قوة واستحواذا على‬
‫ممكنات النص الشعري وطبقاته ومساحاته‪.‬‬
‫يف ذات السياق فإنه باإلمكان القول إن أية فكرة حني اقتطاعها من سياقها املعريف‬
‫وضخها يف بنية شعرية البد أن تعانق أجواء أخرى‪ ،‬وهلا بعد أن تنتقل من عاملها اخلاص إىل‬
‫عوامل مكانية متداخلة ال يصح إال أن نصفها بالعوامل الشعرية وسنجد أنفسنا هنا أمام مقولة‬
‫أحد النقاد عن الصورة الفنية ومبا فيها الصورة املكانية بأهنا «غير واقعية وإن كانت منتزعة‬
‫من الواقع»(‪ ،)1‬وعليه ميكن القول أن أهم ما ميز توظيف املكان مجاليا يف شعر "ابن املعتز"‬
‫هو وقوعه بني زاويتني مها زاوية التشكيل الشعري وزاوية التأويل‪ ،‬ففي الزاوية األوىل تتشكل‬
‫الصورة اجلمالية املكانية غالبا وفق رؤية شعرية يتحكم فيها اخليال ليمنحها بعدا تأثرييا مجاليا‪،‬‬
‫أما ضمن الزاوية الثانية فالشاعر مناط مبراعاة أحاسيس املتلقي ورؤيته الذوقية وأسسه النقدية‬
‫ألن ذلك سيتعدى بالتأثري حدود العمل الفين إىل التأثري يف صياغة جتربة الشاعر‪ ،‬وهبذا يكون‬
‫املكان املدمج يف بنية قصيدته منفتحا على عامل التخييل عند املتلقي‪.‬‬
‫وإذا وجل باحلديث عن خصوصية املكان يف شعر "ابن املعتز" فيمكن القول بأنه مكان‬
‫اتسم ببعض مسات احلداثة حال عصره العباسي الثاين الذي طرأت فيه مظاهر حياتية جديدة‬
‫شكلت مكانا شعريا‪ ،‬غري أن هذه احلداثة مل تكن نقطة حتول جذرية يف املنتوج الشعري "البن‬

‫(‪ )1‬عز الدين إمساعيل‪ :‬التفسري النفسي لألدب‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪( ،4‬د ت)‪ ،‬ص ‪.65‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫املعتز" فهو مل يدر ظهره للرتاث الشعري املوروث من اجلاهلية وعندما نتحدث عن مميزات هذا‬
‫الرتاث فسنجد للمكان احلضور املشع فيه وخاصة ما اتصل باملكان يف احلديث الطللي‪ ،‬ألن‬
‫الطلل حديث الزمان باملكان أي أنه حديث مكاين بالدرجة األوىل وقد مثل هذا الطلل فيما‬
‫ما مضى جمموعة من القيم‪ ،‬فهو املكان الذي يرتبط باحلبيب واملادة الفنية خللق خياله وهو‬
‫مكان األلفة واللقاء‪ ،‬ولكن تالعب به القدر فتحول املكان اآلمن إىل مكان موحش فولد‬
‫مشاعر احلزن واألمل‪ ،‬ألنه فقد العيش مع املرأة اليت أحب‪ ،‬وعلى هذا كان للطلل احلضور‬
‫املستحق يف احلديث املكاين عند "ابن املعتز" ولننظر قوله مثال(‪:)1‬‬
‫وكم نفس كالجمر تدمي مخارجه‬ ‫*‬ ‫فكم من دمعة تعصي الجفون غزيرة‬
‫طلـ ـ ـول وربع قد تغير ناهجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫*‬ ‫وآخر آثار الـ ـ ـ ـ ـمحبة ما ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى‬
‫فن فس الشاعر العاشق الوهلان حار ملتهب مثل اجلمر هذا اجلمر الذي يفعل بلهيبه ما‬
‫تفعله النار بعيدان احلطب‪ ،‬ففم الشاعر وأنفه (خمارج النفس) أصبحا مثل اجلسد احملروق من‬
‫النفس احلار الذي مصدره أعماق وأوصال الشاعر املكتوي بنار احلب‪ ،‬وبعد هذا الوصف‬
‫النفسي حلالة العاشق املغرم يقف الشاعر على أطالل احلبيبة باكيا متحسرا‪ ،‬فاألطالل تغري‬
‫حاهلا بعد أن كانت موطنا للربيع أصبحت موطنا للخريف‪ ،‬فهو هنا يقف حدادا على هذه‬
‫الطلول اليت هي آخر ما تبقى له من بقايا احلبيبة‪" ،‬فابن املعتز" يستحضر سنة شعرية جاهلية‬
‫يف الوقوف على ديار احلبيب أو األطالل اليت وقف عليها قبله امرؤ القيس وابن خذام‬
‫وغريهم‪ ،‬ولكن ما مييز هذه الصورة املكانية الطللية اليت أوردها "ابن املعتز" هي حنوه عكس‬
‫الطريقة اجلاهلية اليت تستهل القصيدة بالوقوف على األطالل والبكاء عليها م يأيت الغرض‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.128-127‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الشعري‪ ،‬فالشاعر هنا يقدم الغزل ووصف احلبيب على الوقوف على الطلل ورمبا هذا مصداق‬
‫للصفة احلداثية اليت وصف هبا شعر "ابن املعتز" بأن له صبغة حداثية متميزة‪.‬‬
‫مل يكن للطلل يف أشعار "ابن املعتز" اليت تزخر بالصور املكانية ذلك احلديث العامر بل‬
‫اقتصر ذكره على مواضع معينة ورمبا يرجع ذلك إىل نفسية الشاعر اليت تنبض باحلياة واحلركية‬
‫املتواصلة‪ ،‬ومما جيدر ذكره أن "ابن املعتز" كان يف التصوير املكاين لبيئته األرستقراطية خري جميد‪،‬‬
‫فهو كان شغوفا بوصف القصور والدور العامرة منها والغامرة اليت كان يرتدد عليها كقصور أهله‬
‫أو قصور اخللفاء وخباصة ما تعلق منها باخلليفة "املعتضد"‪ ،‬فقد وصف قصر الثريا وهو مقر‬
‫اخلليفة أكثر من مئة مرة وذلك من خالل مدائحه للمعتضد‪ ،‬وقدم لنا صورا مكانية رائعة‬
‫ومجيلة عما كان يتصف به هذا القصر‪ ،‬وعما كان يشتمل عليه من جدران ساطعة وسقوف‬
‫المعة ورياض غناء‪ ،‬وساحات واسعة جتول فيها صنوف احليوان‪ ،‬ومن ذلك قوله(‪:)1‬‬
‫ط بانِي‬
‫فيما بنى ق ّ‬ ‫*‬ ‫ما للثريا شبي ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫والسقف من ِ‬
‫نيران‬ ‫*‬ ‫حيطانه من ن ـ ـور‬
‫للعين بين جن ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ان‬ ‫*‬ ‫وأغصن مائسـ ـات‬
‫في جدول ريـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ان‬ ‫*‬ ‫والماء يغدو عليها‬
‫ّ‬
‫هذا الوصف والتصوير البديع يوضح لنا جليا الذائقة اجلمالية املتميزة اليت اتسم هبا "ابن‬
‫املعتز"‪ ،‬ولننظر هنا إىل التجسيد املكاين الذي أورده الشاعر ليبني لنا احلالة النفسية الرائقة اليت‬
‫خلفها هذا القصر البديع يف "ابن املعتز"‪ ،‬وما أفرزه من تصاوير رائعة جراء هذا اإلهبار حىت‬
‫خييل للقارئ أن هذا املكان هو قصر بلقيس ملكة سبأ‪ ،‬كما أن هذه األبيات توضح أيضا‬
‫وبصورة جلية هاته اللوحة الطبيعية اليت رمستها كلماته خبصوص هذا املكان كدليل على األلفة‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.431‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫واحملبة العالية اليت أفردها "ابن املعتز" هلذا القصر املشيد‪ ،‬وعلى عكس األلفة واحملبة اليت متاهت‬
‫معها مشاعر "ابن املعتز" جتاه هذا القصر حضرت مشاعر األمل ولوعة الفراق‪ ،‬وذلك حني‬
‫ندب منزال كان له يف نفسه منزلة رفيعة ملا قضاه يف ربوعه من عهود ومراحل زمنية وقد وصف‬
‫ما كان عليه وصفا مجيال رائعا يف قوله(‪:)1‬‬
‫يا دار جادك وابل وسق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـاك‬ ‫*‬ ‫ال مثل من ِ‬
‫زلة ال ّدويرة من ـزل‬
‫ِ‬
‫ومحاك‬ ‫لم يمح من قلبي الهوى‬ ‫*‬ ‫بؤساً لدهر غيّ ِ‬
‫رتك صـ ـروفه‬
‫ذم المن ـ ـ ـ ـازل كلهن س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫واك‬ ‫*‬ ‫لم يحل للعينين بعدك منظر‬
‫ِ‬
‫مغداك‬ ‫ممس ـ ـ ـاك ذا األصال أم‬ ‫أي المعاهد منك أندب طيبه *‬
‫هذا الوصف الرائع ملنزلة "الدويرة" وهي إحدى األمكنة اليت قضى فيها "ابن املعتز" فرتة‬
‫من صباه على ختوم بغداد‪" ،‬فابن املعتز" مل يستطع إخفاء مشاعر احلنني وأمل املآل الذي أوقعه‬
‫الدهر ملنزلة "الدويرة" يف نفسيته املرهفة‪ ،‬وكأنه هنا جيسد صفة شعرية جاهلية بلغة شعرية‬
‫عباسية رقيقة وغضة‪ ،‬هاته الصفة اليت متثل البكاء على الطلل وندبه وذات الوقت تنتفض على‬
‫الدهر ذما ملا أحدثه من تغيريات رهيبة على هذا املكان‪ ،‬ولننظر هنا كيف اجتمع الزمان‬
‫واملكان يف وصف واحد ولكن بنربتني خمتلفتني‪.‬‬
‫وما يالحظ أيضا كيف برز انقالب فكري إن صح القول يف هذه املقطوعة الشعرية من‬
‫خالل حتول املكان األليف من رمز للسعادة وراحة النفس على مصدر لكدرها ونزوعها حنو‬
‫احلزن واألسى وهذه القيمة اجلمالية املكانية ال تتوفر إال لشاعر مقتدر‪ ،‬ويف صورة ال ختتلف‬
‫كثريا عن هذه الصورة املكانية اليت ذكرت جند نفسية الشاعر متر بكدر وضيق شديد جراء‬
‫املكان املوجودة به أو فيه‪ ،‬وهذا املكان الذي يسبب الضيق واخلنق ليس بسجن أو بيداء‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.351‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫قاحلة وإنا بيت عامر ولكنه ضيق وهو جتسيد للمكان العادي وإن كان بيتا يقول فيه‬
‫الشاعر(‪:)1‬‬
‫ضمني من ضيقه سجن‬
‫قد ّ‬ ‫ب بيت زرته‪ ،‬فكأنّـ ـ ـ ـ ـما *‬
‫يا ر َّ‬
‫في قشرة إال كما نح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫*‬ ‫لم يحسن الرمان جمع أحبّة‬
‫صورة بدائعية أوردها "ابن املعتز" يف تشبيهه الضمين هلذا البيت بالسجن م يف البيت‬
‫الشعري الثاين بقشرة الرمان‪ ،‬فهذا املكان الذي هو البيت ورغم أنه عامر بأهله وزواره ورغم أنه‬
‫مشبع باحلرية املكانية إال أن نفس الشاعر ضاقت به فساوى بينه وبني السجن‪ ،‬ومل يكتف‬
‫هبذا الوصف بل استعار هلذا البيت مثرة الرمان أو قشرة الرمان اليت تكتظ داخلها حبات هذه‬
‫الثمرة مرتاكبة طبق على طبق‪.‬‬
‫لقد تالحقت الصور املكانية يف شعر "ابن املعتز" وتكاثرت ويف كل موضع وردت فيه‬
‫زادت من القيمة اجلمالية للمنتوج الشعري‪ ،‬ذلك هو املكان صاحب اإلشعاع احلضاري على‬
‫كل منتوج أديب أو فين ميكن أن يتصف بإبداع‪ ،‬ومما يالحظ يف احلضور املكاين يف شعر "ابن‬
‫املعتز" ظاهرة ملفتة لالنتباه وهي نزعة احلنني إىل مسقط الرأس ومنبع ذكرياته وخباصة سامراء‬
‫اليت طوى عليها الدهر صحائفه بعد انتقال مقر اخلالفة إىل بغداد‪ ،‬ومع انتقال "ابن املعتز" إىل‬
‫حاضرة اخلالفة يف بغداد اشتد حنينه هلا ‪-‬سامراء‪ ،-‬ويظهر لنا "ابن املعتز" من أنه كان أكثر‬
‫الشعراء إشادة ملدينته وال أدل على ذلك من انبساط نفسيته هلا وهروبه الوجداين إليها يف‬
‫أحلك الساعات اليت مرت عليه حني ختلى عنه من رشحوه للخالفة‪ ،‬وقد جاء حنني "ابن‬
‫املعتز" هلذه البيئة املكانية يف الكثري من أجزاء قصائده ومقطوعاته كما كان كثري النقمة على‬
‫بغداد ومن جوها وأهلها ويضجر من اإلقامة فيها يف مقابل حبه وتعلقه مبدينة سامراء‪ ،‬وقد‬

‫(‪)1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.443‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫كان حبه هلذه املدينة مدعاة حلب أهلها وساكنيها‪ ،‬ومثال ذلك حني يقول يف هذه‬
‫األبيات(‪:)1‬‬
‫ال أراك اهلل ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّرا‬ ‫*‬ ‫مرا‬
‫سرا ّ‬
‫بأبي يا ّ‬
‫والذي ال يتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّرا‬ ‫*‬ ‫يتقرا‬
‫ما أرى من ّ‬
‫حرا‬ ‫ِ‬
‫ماجد األخالق ّ‬ ‫*‬ ‫منهم إال أغـ ـ ّـر‬
‫فهو مل يكتف بإظهار مشاعر احلب والتعلق باملكان الذي هو مدينة سامراء والدعاء هلا‬
‫باخلري واألمان‪ ،‬بل تعدت هذه املشاعر إىل مدح أهلها والثناء عليهم بأهنم أحرار أصحاب‬
‫أخالق رفيعة‪ ،‬التعلق املكاين هنا دليل على أن نفسية الشاعر مأزومة من البيئة املكانية احلالية‬
‫إن كان طبيعيا (جتلي مكاين طبيعي عرب البيوت والديور والبساتني ‪ ...‬اخل) أم اجتماعيا من‬
‫خالل العنصر البشري الساكن مبدينة بغداد‪ ،‬ورمبا ال أدل على هذا الطرح من هذين البيتني(‪:)2‬‬
‫لليال في س َّر من را الغدا‬ ‫*‬ ‫الصراة طويالً‬
‫ليت ليالً على ّ‬
‫من بخار وصفوة من قذا‬ ‫*‬ ‫أين مسك من حماة وبخور‬
‫فهو هنا يفتدي ليايل الصراة الطويلة ببغداد لليايل سامراء اجلميلة ذات الرياض البهية‬
‫والرتبة اخلصبة واجلو النقي‪ ،‬فبغداد بدخاهنا املتصاعد ومائها الساخن ومستنقعاهتا املليئة‬
‫بالبعوض قد سلبت منه النوم‪ ،‬فهو مقيم فيها على مضض لذلك فاملكان عادي وهو احلال‬
‫مع شاعرنا "ابن املعتز" حني نقم على بغداد وبيئتها وكدر العيش فيها حني قال(‪:)3‬‬
‫مقيما في أرضها ال أريم‬
‫د ً‬ ‫*‬ ‫كيف نومي وقد حللت ببغدا‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.339‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.401‬‬

‫‪- 163 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ن أكاليل من بعوض تحوم‬ ‫*‬ ‫ببالد فيها الركايا عليه‬


‫ل دخان وماؤها محم ـ ـ ـ ـوم‬ ‫جوفها في الشتاء والصيف والفصـ *‬
‫فالناظر ملا سبق يرى كيف أثرت البيئة املكانية على نفسية صاحبها وعلى إبداعه‬
‫الشعري‪ ،‬فاملكان ارتبط عضويا بعملية اخللق الفين عند "ابن املعتز" فال تكاد ختلو قصيدة من‬
‫نفحة مكانية معينة حتمل وراءها حاالت نفسية متقلبة‪ ،‬وقد ينربي "ابن املعتز" لوصف أمكنة‬
‫كانت فيما مضى مراكز تقرير للحكم وديارا للملك مل تلبث هي األخرى أمام سطوة الدهر‬
‫وجربوته‪ ،‬ومثال ذلك دار امللك اليت اقفرت فيحاول "ابن املعتز" وبشيء من األسى أن‬
‫يسرتجع ما كانت عليه من عظمة‪ ،‬فيقول(‪:)1‬‬
‫ما إن بها من أهلها شخص‬ ‫*‬ ‫هاتيك دار الملك مقفرة‬
‫ال يستبين لشمسها قـ ـ ـ ـرص‬ ‫*‬ ‫عهدي بها والخيل جائلة‬
‫يهتك قوادم ريشه القـ ـ ـ ـص‬ ‫والملك منشور الجناح ولم *‬
‫فهو يتأسى على تلكم العظمة املنفرط عقدها وذلك االزدهار وتلك اجليوش والطمأنينة‬
‫اليت كانت سائدة أيام عنفواهنا‪ ،‬وكأن الشاعر يريد أن يعيش ولو يف اخليال األيام اليت قضاها‬
‫يف أفنية قصورها ورياضها‪ ،‬م يعود بعد حني ويف صورة أخرى لذم بغداد وأهلها وهذا يوضح‬
‫ذاك اجلانب املظلم من نفسية "ابن املعتز" الذي تغزوه الكراهية إذ يقول(‪:)2‬‬
‫مم ـ ـا سـ ـ ـ ّر يقت ـ ـ ـ ـ ـ ـص‬
‫واله ـ ـ ّم ّ‬ ‫*‬ ‫فمضى بذاك العيش آخره‬
‫أعلى مساكن أهله خ ـ ـ ـ ـ ـ ـص‬ ‫*‬ ‫أفما تـ ـ ـرى بل ًدا أقم ـ ـت به‬
‫مألى البطون وأهلها خمص‬ ‫*‬ ‫ووالته نب ـ ـط زنـ ـ ـادقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.285-284‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.285‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يف هذه األبيات نلمس مقدار األرق النفسي الذي أصاب الشاعر مذ إقامته يف بغداد‬
‫فلم يرتك مناسبة أو أخرى إال وأفرغ فيها جحيم غضبه عليها‪ ،‬فهو مل يكتف بذم بغداد من‬
‫حيث هي مدينة أو لنقل بيئة مكانية بل يتورع عن ذم أهلها ووالهتا ناعتا إياهم بأبشع‬
‫الصفات‪ ،‬وما صفة الزندقة اليت وصم هبا الوالة إال إشعارا آخر على الفساد الذي استشرى يف‬
‫عصره وكذلك الفوضى الفكرية والعقدية اليت صاحبت هذا العصر‪.‬‬
‫إن تعلق "ابن املعتز" مبدينة سامراء وحنينه إليها مل يكتف بسرده يف ثنايا شعره بل جعله‬
‫أحيانا مطالع لقصائده حىت تلك اليت ميدح فيها اخلليفة "املعتضد" الذي يتخذ من بغداد مقرا‬
‫خلالفته وإقامته‪ ،‬وما ذلك إال دليل لشبوب عاطفته وشدة شوقه إىل مهده األول‪ ،‬فصورهتا ال‬
‫تكاد تفارقه‪ ،‬ورياضها ترتاءى له يف كل حني ومن ذلك قوله(‪:)1‬‬
‫وإذا غاداك غيث فراحـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫صباحا *‬
‫سرا من را ً‬
‫أنعمي يا ّ‬
‫واغتباقًا للندى واصطباح ـا‬ ‫*‬ ‫ديما في كل يوم ووبـ ـ ـ ـ ــال‬
‫فهو يرتاح إليها ارتياح ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫كل من ينأى من الناس عنها *‬
‫ّ‬
‫ربوة مخضرة أو بطاح ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫دارا *‬
‫ال أرى مثلك ما عشت ً‬
‫ِ‬
‫القترحناك عليها اقتراحـ ـ ـا‬ ‫*‬ ‫لو حللنا وسط جنّة عدن‬
‫ولذا فالقارئ عندما يشخص أمام هذه األبيات سيخرج حبقيقة مفادها أن "ابن املعتز"‬
‫ميثل يف نزعته املكانية هذه النموذج البديع والطيب للمواطن أو لإلنسان أيا كان الذي يتعلق‬
‫مبوطنه ومهده املكاين األول‪.‬‬
‫لقد تعددت األمكنة اليت جاءت يف ثنايا شعر "ابن املعتز" من ديار وقصور ومكان‬
‫حضري كان هلا كلها حضور يف نفسيته وإهلامه الشعري‪ ،‬وال يعقل لشاعر رومنسي مثل "ابن‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.141‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫املعتز" أن يغفل عن املكان الطبيعي فهذا املكان هو املنهل الذي يرتوي منه التصوير احلسي‬
‫عنده‪ ،‬فلقد هرب "ابن املعتز" إىل املكان الطبيعي (بساتني‪ ،‬رياض‪ ،‬رىب ‪ ...‬اخل) خبياله وفكره‬
‫من واقع مؤمل وحياة مل يكن يرضاها فكان «يحب الطبيعة يفتن بها ال ريب‪ ،‬لكنه حين‬
‫يتعلق بها تستهويه الصور قبل كل شيء فيعنى برسم الشكل الخالّب‪ ،‬وشعره آيات على‬
‫أرهاف حاسة البصر‪ ،‬وحسن استقباله لألشكال واأللوان ودقة إخراجه للصور واألمثال‬
‫‪.)1(»...‬‬
‫إن "ابن املعتز" يف وصفه للمكان الطبيعي خيتار الصور املشرقة املتأللئة اجلميلة ويظهر‬
‫مهارة فائقة يف ذلك وهو أيضا يتعمق معاين الصورة‪ ،‬فيصبح للصورة املكانية يف الوصف‬
‫اعتبارات معنوية ومتعلقات فكرية ونفسية تطبعه بطابع خاص‪ ،‬إن توايل الصور املكانية يف‬
‫شعر "ابن املعتز" جدير بإعطاء انطباع عام بأن الشاعر يضيف مزيدا من األضواء واأللوان‬
‫عليها لتربز أكثر يف ثوب أنيق بديع‪ ،‬فهو ‪-‬أي ابن املعتز‪ -‬يف وصفه للمكان الطبيعي ويف‬
‫تناوله لصفاته وخصائصه وأشكاله وألوانه «يتمثل أمامنا شاعراً يحيي الطبيعة وتتعلق بها‬
‫والسراء»(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫نفسه‪،‬يجاري بها الشعور واإلحساس‪ ،‬ويشاركها البأساء‬
‫لقد استقى "ابن املعتز" مادة الصورة املكانية يف شعره ليس من قصور اخللفاء جبواهرها‬
‫ودررها فحسب‪ ،‬بل ومن معني الطبيعة ذاهتا تارة أخرى كما أنه مل يقف يف هذه التصاوير عند‬
‫الطبيعة املكانية املتحضرة وحدها بل كان ملما بالطبيعة الصحراوية هي األخرى‪ ،‬فلذا كان‬
‫املكان الطبيعي قد شكل جماال رحبا يستقي منه الشاعر "ابن املعتز" صوره فتشاركه الرؤيا وخيلع‬
‫عليه عواطفه وانفعاالته وجتاربه‪ ،‬وإن مما يالحظ يف اخلصائص الفنية للمكان الطبيعي وحضوره‬

‫(‪ )1‬سيد نوفل‪ :‬شعر الطبيعة يف األدب العريب‪ ،‬دار املعارف للنشر‪ ،‬ط‪1978 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.187-186‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.189‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫عند الشاعر هي إجياد روابط وأواصر قوية تصل بني هذا النوع من املكان مبظاهره املختلفة‬
‫وبني اإلنسان خبصائصه وصفاته‪ ،‬فيعرض هذه الصورة املكانية يف ألوان شعورية خمتلفة فيحظى‬
‫املكان الطبيعي منه بالتأمل‪ ،‬فهو مسرح خلياله يصول فيه وجيول وكأنه يريد أن يوسع دائرة‬
‫اإلنسانية فيضم إليها عناصر مكانية على قدر من اجلمال والروعة واإلجيابية‪ ،‬فالشاعر ينقل‬
‫الصورة املكانية من حيز اخلصوص إىل العموم وينقلها من حيز خياله الشعري إىل حيز الفن‪،‬‬
‫فتصبح الصورة هنا لوحة للجمال يف صورة من صورة‪ ،‬فالشاعر حيتوي الكون خبياله فيتناول‬
‫معظم الظواهر احمليطة به‪ ،‬فينقل لنا الظاهرة كما يراها خياله أو يعلل هلا بديعا خلياله فيه دور‬
‫كبري م خلربته ومشاهداته أثر فيها‪ ،‬فأحاسيس الشاعر وخياله يتعمقان املكان الطبيعي مبظاهره‬
‫اجلامدة أو املتحركة‪ ،‬فيزيل الشاعر كثريا من احلواجز والفواصل بينهما بل ويبين جسورا تصلها‬
‫ببعضها البعض‪ ،‬فلننظر مثال كيفية تصويره ألحد الرياض إذ يقول(‪:)1‬‬
‫* ك ـ ـ ـأنّهـ ـ ـ ـ ـا دراهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم في منثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِر‬ ‫والروض مغسول بليل ممطر‬
‫ّ‬
‫جو أخض ِر‬
‫ش ِر * والشمس في إضحاء ٍّ‬
‫أو كعشور المصحف المن َّ‬

‫فالوصف البديع أو لنقل التصوير البديع هلذا املكان الطبيعي الذي هو الرياض جعله‬
‫شبيها بالدراهم املنشرة هنا وهناك بعد أن غسلت هذه الرياض مبياه املطر املنهمر‪ ،‬واجلامع‬
‫بينهما هنا اللمعان واالستدارة‪ ،‬إنه مكان مجيل ال شك كان سببا عميقا يف إهلام‬
‫(‪ )Inspiration‬الشاعر وجعل حاالته الشعورية تفيض إجيابية وسعادة ونستطيع القول أن‬
‫املكان الطبيعي كان له حضور مشع يف مواضع كثرية من شعره وحماولة حصرها تتطلب من‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪:‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.244‬‬


‫* كوكب سهيل‪ :‬كوكب ميان ال يرى خبرسان وال يرى بالعراق‪ ،..‬وبني رؤية أهل احلجاز سهيل ورؤية أهل العراق إياه‬
‫عشرون يوما‪ .‬ينظر‪ :‬ابن منظور‪ ،‬معجم لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.2135‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الباحث يف خفاياها إفراد دراسة مستقلة عساها توىف حقها‪ ،‬إال أنه ال جيدر أن نرتك إحدى‬
‫الصور املكانية البدائعية اليت أوردها "ابن املعتز" حني مجع فيها املكان الطبيعي باملكان‬
‫الفضائي وذلك عند وصفه ألحد بساتني النخيل فزيادة على إضفاء صفات على تلك‬
‫النخيل‪ ،‬جيعل هلا كوكبا مير عليها هو كوكب سهيل*‪ ،‬إذ يقول(‪:)1‬‬
‫ال تشتكي حالً وال ِرحال‬ ‫*‬ ‫ولقائح في الطين باركة‬
‫ِسلْما إذا ما حارب ِ‬
‫االبال‬ ‫يغدو سهيل في الصباح لها *‬
‫ً‬
‫فالنخل بارك يف الطني وهو تصوير عميق الختفاء جذور النخل حتت الرتاب وارتكاز‬
‫ثقل اجلسم على األرض وما يلحظ أيضا حضور العالقات املعنوية اليت تضمنها معىن اللقائح‬
‫إهنا تتضمن اإلبل‪ ،‬فيقارن الشاعر بني النخل واإلبل وأثر طلوع كوكب سهيل عليهما فأثره‬
‫عليهما متضاد فهو يسامل النخل ويعادي اإلبل‪ ،‬وكما الحظنا يف هذه النماذج من الصورة‬
‫املكانية الطبيعية‪ ،‬فالشاعر حني ينربي لتكوين هذه الصورة إبداعيا فهو يوردها على شكل‬
‫مقطوعة فيتأمل من خالهلا الظاهرة املكانية عمق التأمل‪ ،‬ويستغل إحياءات األلفاظ املعنوية‬
‫لينقل ما يتعلق مبظاهر املكان الطبيعي‪.‬‬
‫إن أهم ما ميز شعر "ابن املعتز" أنه شعر مكاين بالدرجة األوىل ولذا فإن من متطلبات‬
‫إدراك اجلمال عنده هو التقرب من ذاتيته الشاعرة احلاملة مرهتن مثلما هو بإدراك الوسائل اليت‬
‫اعتمدها الشاعر يف جعل املكان يسكن يف عبري الكلمة وجناح اخليال‪ ،‬مثلما هو مرهتن بقدرة‬
‫املتلقي على تذوق العمل الفين والتفاعل معه‪ ،‬كما جتدر اإلشارة أيضا أن املكان بعامة ال‬
‫يكون مجاليا إال إذا ارتبط بقيمة معينة وكلما تعددت القيم تعددت نواحي الغىن اجلمايل‬
‫للمكان‪ ،‬واستنادا إىل هذا نستطيع القول أن املكان يف شعر "ابن املعتز" هو مكان مجايل؛ ألنه‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪:‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.385‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يقدم لنا مجلة من القيم اليت جتعلنا نكون إزاءها موقفا إجيابيا أو سلبيا‪ ،‬وقد جتلى املكان‬
‫االجتماعي بأنه حديث الزمان باملكان‪ ،‬وقد وجدنا يف شعر "ابن املعتز" أن هذا املكان‬
‫االجتماعي تراوحت قيمته بني السلب واإلجياب (بغداد‪ ،‬سامراء) فأحيانا شكل هذا املكان‬
‫مادة خصبة خللق خياله فهو مكان األلفة واللقاء ومهد الصىب‪ ،‬ولكن أثر فيه الزمن فتحول‬
‫املكان اآلمن إىل مكان موحش خرب فولد مشاعر احلزن واألمل‪ ،‬كما أن هناك مكان سليب‬
‫ميقته فال مشاعر ود جتاهه بل غضب وحنق عليه ملا شكله من مكان مصدر لكدر العيش‬
‫وشقاء النفس‪ ،‬فاستحضر الشاعر يف مكانه الشعري صورة املاضي الذاهب الذي يتصل‬
‫بالزمان واملكان يف آن‪ ،‬ففي هذا املكان جتلت معاناة الشاعر مثلما جتلت هبجته وسعادته‪.‬‬
‫فتحول املكان على أيدي ابن املعتز إىل خلق جديد حيمل صفات جديدة من خالل‬
‫الذاكرة والتخيل اإلبداعي‪ ،‬فال يكتسب املكان معناه إال من خالل دخوله‪ ،‬واخرتاقه وأنسنته‪،‬‬
‫واالندماج معه‪ ،‬والتداخل بني الزمان واملكان‪ ،‬والشاعر يف حراكه ووعيه هو أكثر التصاقا‬
‫باملكان فهو ساحة إبداعه‪ ،‬إنه مكان حسي مدرك وملموس خيفي وراءه مكانا داخليا يتصل‬
‫بأقاصي الذات الشاعرة حاضنا جتربة الشاعر ووعيه الداخلي‪ ،‬فاستحال املكان إىل رمز إنساين‬
‫يأخذ يف كثري من دالالته منحى مجاليا وفق رؤيا جديدة اختذت صورا مثالية إنسانية يتجاوز‬
‫هبا املساحة اجلغرافية اجملردة للمكان إىل كوهنا تشكيال روحيا ووجدانيا يزخر باحلركة واحلياة‪،‬‬
‫فاستنطق املكان وقدمه من خالل االستفهام وجعله حوارا مع النفس‪.‬‬
‫فهذا االستفهام املتالحق هو صوت الشاعر الذي اتصل برؤية جعلت الوقوف على‬
‫عتبات املكان الطلل وقفة مع النفس‪ ،‬فلذلك جند أن الشاعر وظف الرموز املكانية توظيفا‬
‫إحيائيا ضمن القصة الشعرية من خالل ما توحي به هذه املواضع ودالالهتا الشعرية يف النص‬
‫وهيأ هلا جهدا فنيا‪ ،‬وطاقة بارعة يف التقاط الصور‪ ،‬فاستمد الشاعر من املكان وموجوداته‪،‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫عناصر خياله ومقومات فنه‪ ،‬فكان املكان املندغم مع الزمان فكرة إنسانية حاملة معاناة‬
‫الشاعر وآالمه الداخلية يف أعماقه‪ ،‬وكان وحيا حيا وإهلاما متجددا من الرؤى املفعمة باجلمال‬
‫والفتنة‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -2‬البعد الجمالي الزماني‪:‬‬

‫من املعروف أن للزمن قوة وجودية قاهرة ومؤثرة يف نفسية اإلنسان ويف طبيعة حياته منذ‬
‫حلظة والدته حىت مماته‪ ،‬وحيث إن اإلنسان هو كائن زمين يعيش يف كنف الزمن ويتحدد معىن‬
‫وجوده بأحوال وظروف زمنية معينة‪ ،‬فإن وجوده يصبح عملية زمنية ختضع للحاالت النفسية‬
‫اليت يعانيها‪ ،‬وملوقفه من طبيعة وجوده القائم على جدلية التجربة الزمنية املعاشة وعالقته‬
‫باآلخرين‪ ،‬ومنذ ملحمة "جلجامش" يبدأ الزمن "أنا" قصرية ال تكاد تتسع لنفس ليتحول إىل‬
‫دهر قاس خميف‪ ،‬يسلم اإلنسان إىل هنايته فيندفع البطل األسطوري حماوال اهلروب من سطوة‬
‫الزمن وطغيانه باحثا عن اخللود ليعود يف هناية رحلته الشاقة واملضنية معلنا عجز اإلنسان التام‬
‫عن حتدي الزمن أو اهلرب منه إال باإلبداع الفين أو احلضاري‪ ،‬الذي حيقق له من خالل خلوده‬
‫خلوده ويثبت له من خالل جتاوزه للزمن وجوده‪.‬‬
‫لقد اندثرت تلك العصور امليثوبية بكل ما حتمله من رؤى عن الزمان واملوت‪ ،‬وحلقت‬
‫عصور متجددة وحقب متوالية والزال اإلنسان ينشد التخلص من قبضة الزمن ويبحث عن‬
‫االنفالت من براثن املوت‪ ،‬ونظرا هلذه العالقة الوشائجية بني نفس اإلنسان والزمن عرفت‬
‫الزمنية بأهنا أو بكوهنا البناء الذايت للزمن يف مقابل بنائه املوضوعي‪ ،‬فتحول هذا الزمن من جمرد‬
‫ظاهرة معيشية حمسوس هبا وموعيا هبا على اعتبار الوعي ذاته هو الزمن لتكون الزمنية رديفا‬
‫حلقيقة الوجود الذايت لدى اإلنسان‪ ،‬وعلى هذا األساس فقد قدم "كانط" الزمن كشكل وحيد‬
‫للتجربة اإلنسانية وشرط الظواهر كلها وكحدس صرف‪ ،‬بل إن احلدس الزمين عنده خيتزل‬
‫األحداس الباطنية كلها‪ ،‬ويتشكل هذا احلدس الزمين قبل األشياء كلها إن هو املعىن األول (‪،)1‬‬

‫‪(1) Kant : La Raison Pure, editor : florence khodoss presses universitaire de‬‬
‫‪France, Paris, 1954, P 69-70 (Adapted).‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وإزاء هذا الزمن الناشئ ضمن الذاتية وهبا تنشأ الزمنية املحاكية الصادرة عن التلقائية املؤلفة‬
‫اليت هي جوهر الوعي والوجود‪ ،‬واملقصود هبذه التلقائية املؤلفة اكتساب آلية التعديل الذايت اليت‬
‫جتعل اإلنسان يف ذلك مدركا لألبعاد الزمنية من حوله‪ ،‬وملا كان الشعر رفضا النكشاف العامل‬
‫وجتليه امللموس يسعى بواسطته الشاعر «إلى إعادة فهم الوجود ومساءلة الكينونة لتأسيس‬
‫رؤية االكتناه العميق»(‪ ،)1‬لذلك فعملية تأويل الكون بواسطة الشعر جيب أن تتلمس أبعاد‬
‫املمارسة الزمنية فيه‪ ،‬فالزمن هو عمق الكيان والشعر كذلك حترك للكينونة صلب نظام الكون‪،‬‬
‫فبني الشعر والزمن تساوق وقرابة من جهة كل منهما جتسيدا للوعي باملنزلة‪ ،‬وهذا ما يسوغ‬
‫للبحث يف مسألة الزمن والشعر باعتبارمها مصطلحني يتخالفان شكال ويتحالفان كنها وجوهرا‬
‫ووظيفة‪.‬‬
‫هناك فكرة مشهورة للشعر عند "شيلنغ" من حيث أنه متثيل للمطلق والشمويل يف ما‬
‫هو خاص‪ ،‬فهو مغامرة أنطولوجية يلج عربها الشاعر إىل فضاء متعدد األبعاد تكون فيه الذات‬
‫قادرة على ممارسة الكينونة كصريورة تارخيية‪ ،‬إذ ينربي الشعر ضمن هذا السياق إىل إعادة‬
‫صياغة التشكيالت اليت يوجد عليها الكون ويدخلها يف عالقات وأنساق جديدة لغاية‬
‫استكناه حقيقتها‪ ،‬وهبذا يكون الشعر فعل إبداع متحرر من الرتاث السلطوي وبعد أن يتحرر‬
‫هذا الشعر من الرتاث السلطوي ينفلت من قيده ويتطلع إىل قراءة التاريخ على النحو الذي‬
‫يراضيه‪ ،‬وملا كان هذا التحرر ال هنائيا فإنه عنوان خوض الشاعر ملغامرة تأويل العامل تأويال‬
‫شامال للذات وسياقيها املكاين والزماين‪ ،‬فإذن يتعاىل الفهم الشعري للكون على التنسيب‬
‫التارخيي ويصبح ضربا من جماهل البحث عن ثوابت الذات املطلقة عرب كل العصور‪ ،‬فمن هنا‬

‫(‪ ) 1‬عبد العزيز بومسهويل‪ :‬الشعر والتأويل‪ :‬قراءة يف جتربة أدونيس‪ ،‬مطبعة إفريقيا الشرق‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬املغرب‪1998 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.07‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫انتفت تارخيية احلدث الشعري من جهة كونه يؤرخ لدينامية الذات الشاملة أي هو يؤرخ سؤال‬
‫الكينونة امللح «وفي هذا البناء التجريدي يجد الحديث عن المسكوت عنه شرعيته فإذا‬
‫تأريخا إنما هو يصبح جفراً في بنية المسكوت عنه في سراديب‬
‫ً‬ ‫لم يعد الشعر‬
‫التاريخ»(‪.)1‬‬
‫لقد كان هناك من قسم الزمن باعتباره يتجاذبه نازعان؛ فهو إما الزمن الذي تقع على‬
‫سلمه املتعاقبات متضامة ولكنها يف آن منفصلة بعضها عن بعض‪ ،‬هذا الزمن الرياضي القابل‬
‫للقياس هو زمن الدميومة وهو إما زمن املدة‪ ،‬أي ذاك الذي تتداخل فيه احلقب وتفقد‬
‫أحجامها لفائدة ضرب من الوجود الكتلوي التجريدي «فإذا كان الضرب األول من الزمن‬
‫يدرك تحليليًا وتفكيكيًا‪ ،‬فإ ّن الضرب الثاني منه يدرك ائتالفيًا»(‪ ،)2‬فاألول هو من عمل‬
‫املؤرخ‪ ،‬والثاين من عمل الشاعر‪ ،‬هذا غايته تعميق سؤال اهلوية والكينونة‪ ،‬وذاك مقصده بلوغ‬
‫اليقني التارخيي‪ ،‬فمن هنا كان الشك الشعري حمققا ألسئلة أنطولوجية تأويال إنسانيا يعري‬
‫بوضوح كل أشكال النقص اليت تسم الكون‪ ،‬وال تقف عند حد النقص النسيب املتعلق حبقبة‬
‫تارخيية دون أخرى‪ ،‬وإن كانت معاملة الزمن على حنو جتريدي هي السبيل املوصلة هلذا املقصد‬
‫ويستطيع الشاعر عندئذ أن تتفتق قدراته اخلارقة لتأسيس عامل أفضل‪ ،‬ومرد هذه القدرة إىل‬
‫اإلحساس باالنفصال عن العامل التارخيي حنو العامل الكوين حيث مينح املستحيل هوية الوجود‬
‫فالرؤية الشعرية مطوعة برؤية مدوية للزمن ال ترى يف الشيء مركباته بقدر ما ترى فيه الشيء‬
‫نفسه‪ ،‬وهي من مثة أقدر على مداخلة األشياء والنفاذ إىل ما تنطوي عليه من أسرار ودقائق‪.‬‬

‫(‪ )1‬عبد العزيز بومسهويل‪ :‬الشعر والتأويل‪ ،‬قراءة يف جتربة أدونيس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫(‪ )2‬عبد الصمد زايد‪ :‬مفهوم الزمن ودالالته‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬د‪.‬ط‪1988 ،‬م‪ ،‬ص ‪.17-16‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فصحيح أن الشاعر يبدع ارتساماته الغنائية حول الكون وجيسد ذلك يف أشكال فنية‬
‫تفاجئ القارئ باعتبارها مواطن مجال‪ ،‬ولكن الشاعر املتوغل يف متاهة الزمن املستعر وجدانه‬
‫بلهيب السؤال الشاك يتجاوز هذا املدى األدىن إىل املدى األقصى‪ ،‬فهو يرتقي بإبداعه من‬
‫مالحظة املعرفة إىل إنشاء املعرفة‪ ،‬فأدبيته موظفة يف «إنتاج معرفة إبداعية تفكك األشياء ثم‬
‫تعيد تشكيلها وتستحضر التراث‪ ،‬ال لتستوحي منه فقط‪ ،‬بل لتؤوله وتخلق من أصواته‬
‫المتعددة فاعلية ديناميكية تسهم ح ًقا في بلوغ أقصى درجات الرؤيا الشعرية»(‪ ،)1‬وترتبط‬
‫رغبة التجاوز هذه امللحوظة لدى الشاعر مبفهوم الزمنية‪ ،‬فكلما كانت الزمنية مميزة للكائن‬
‫اإلنساين من جهة أنه يدرك مآله للزوال‪ ،‬فإهنا تتجلى بطرائق عدة ومكثفة يف كل أشكال‬
‫إنتاجه الفين‪ ،‬فمنذ أفالطون كان مفهوم الزوال الذي يتهدد الشاعر وأثره الفين باعتبارمها‬
‫مرتبطني بعامل مادي يسري حنو التالشي ضرورة‪ ،‬أي أن الشاعر يعيش بأثره القصور‬
‫األنطولوجي‪.‬‬
‫وانطالقا من هذه األطروحة برز إىل الوجود تصور ملتبس لدى الشاعر يعرتف له مجهور‬
‫املتلقني بالقدرة على صرف اهتمامهم صوب مواطن الثراء واجلمال لدى خملوقات الكون‪،‬‬
‫ويقرون يف آن بقدرته على اخللق فينزلونه خطأ يف منزلة اخلالق‪ ،‬واحلال أنه آيل للسقوط‬
‫واالندثار‪ ،‬لذلك يعاجل الشاعر قصوره األنطولوجي بإعادته عناصر الكون وخلق دينامية فاعلة‬
‫يف ذاته املتعلقة بالكون على الدوام‪ ،‬ومن هنا يتأسس مفهوم الشعرية على مبدأ اإلطالق‬
‫وحتدي احلواجز التارخيية وحتدي املقام وجتاوز للبىن العقلية‪ ،‬ذلك أن العقل اإلنساين يدعم كل‬
‫ما هو ملموس وملا كان الزمن خارجا عن اللمس‪ ،‬فإن الشاعر ال يدرك الزمن بقدر ما هو‬
‫يعيشه إذ احلياة تفيض عن العقل‪ ،‬لذلك فإن كل ما يرتسب يف الشعر من ظواهر فنية مميزة ال‬

‫(‪ )1‬عبد العزيز بومسهويل‪ :‬الشعر والتأويل‪ ،‬قراءة يف جتربة أدونيس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تكون له من مجالية إال يف إطارها خيدم به املقصد الوجداين والوجودي‪ ،‬وهو ما جيعلنا ن ويل‬
‫وجوهنا شطر اجلمالية املقصدية أو على وجه التحديد مجالية فعل الكتابة ال الكتابة يف حد‬
‫ذاهتا‪ ،‬فالشعر من خالل حركة التجريد الزمين تكمن مجاليته احلقة يف جعله الوجود كينونة‬
‫حيوية تسعى إىل تقومي الوجود كله‪ ،‬خبلق قوة متعددة اجلوانب فاعلة يف صلب الكون‪ ،‬فال‬
‫تركن الكتابة الشعرية إىل حماكاة الكون بل تصبح حماورة للكون وختلق كونا آخر بديال عنه‬
‫«هو انتظام رؤيوي مجاوز لحركة الواقع وترسباته االعتيادية المزمنة للوصول إلى‬
‫الالمتناهي باعتباره المنفذ العميق الذي تثوي فيه الرؤى الشعرية‪ ،‬بوصفها قوى حيوية‬
‫متعالية ال تحاكي فقط بل تعمل على توليد عوالم أخرى وفق إنتاجية إبداعية‪ ،‬وهذا ما‬
‫يمكن تسميته بتقويم الوجود»(‪.)1‬‬
‫فإذن على هذا األساس تتجسد مجالية الشعر عند "ابن املعتز" ليس يف تارخييته إنا يف‬
‫االنطالق من جمموع األنساق التارخيية إىل ضرب من التحليل الزمين املدوي املتعايل واملؤسس‬
‫لرؤية إبداعية استبدالية ال تصلح بقدر ما تغري اجلذر‪ ،‬وهنا يتضح البعد اإلنساين احلق لإلبداع‬
‫الشعري عنده فهو يعزله عن حميطه النفعي الضيق ويكتب الشاعر لنفسه اخللود مدعيا منزلة‬
‫اخللق‪ ،‬متجاوزا بذلك قصوره األنطولوجي املتأيت من ازدواج القدرة على التنبيه إىل مواطن‬
‫اجلمال والشعور باالندثار احلتمي‪ ،‬فلقد استقطب الزمن حاالت نفس "ابن املعتز" يف متوجها‬
‫بني مأساة العيش وختبطها بني الوهم واليقني‪ ،‬وبني تعبريها عن اهلم الوجودي واالغرتاب‪ ،‬وبني‬
‫مطالبه اجلائعة إىل إشباع اللذات املادية واجلنسية واملباهج الوجدانية‪ ،‬وبني املكان والزمان‬
‫املنغلقني على إحساسه بالعجز واإلحباط والشعور بالتمرد ودوافع الصراع‪ ،‬لذلك كله ثار "ابن‬
‫املعتز" على واقعه املرير متحديا أحيانا كل ما هو موروث من العادات والتقاليد االجتماعية‪.‬‬

‫(‪ )1‬عبد العزيز بومسهويل‪ :‬الشعر والتأويل‪ :‬قراءة يف جتربة أدونيس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪- 175 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فلقد قام شعره على حركية الزمن بكل أبعاده ومراميه وحتوالته يف الذات الشاعرة‪ ،‬فتفاعل‬
‫الزمن بالفعل الوجداين عنده الذي ال ينفصل عن الذات اليت تعيش التجربة اإلنسانية‬
‫ومساءلتها عن وجودها والغوص فيها لكشف حقيقة حضورها الفاعل يف حميطها‪ ،‬فاستحالت‬
‫الكتابة الشعرية عنده موضوعا زمكانيا كوهنا كتابة تغايرية مدركة لوعي ذاهتا من حضورها‬
‫املعاش‪ ،‬ومن معرفة طاقتها القادرة على التواصل لتكون جماال لإلبداع‪ ،‬فهذه الكتابة اليت تقوم‬
‫على حركية الزمن يف الذات الشاعرة "البن املعتز" فإهنا البد أن تعرب يف املطلق عن نوازع نفسه‬
‫اليت يتنازعها فعل التمزق بني الرغبة والعجز عن حتقيقها وبني الشك واليقني‪ ،‬وبني اإلقدام‬
‫والتخاذل‪.‬‬
‫إن املالحظ ألطوار التصوير الفين يف شعر "ابن املعتز" سيرتاءى له حقيقة موضوعاتية‬
‫وهي أن الصور الفنية عنده تنهض عادة على التخييل والتشكيل‪ ،‬سواء كان بناؤها عرب الطريق‬
‫الذهين الذي يعين التحليق بعيدا عن الزمن وصيغته املادية‪ ،‬أو الطريق احلسي الذي ميزج بني‬
‫احلضور الزمين أو إلغائه ومن هنا تتضح العالقة بينها وبني الزمن‪ ،‬فتشكيل الصور عنده خيضع‬
‫لعالقة جدلية بني احلسي والذهين حيث ال توجد صورة ذهنية خالصة كما ال توجد صورة‬
‫حسية خالصة فالصورة «هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور ولكنها في الوقت ذاته تعد‬
‫انعكاسا مكثّـ ًفا لمختلف جوانب الطبيعة والمجتمع وظواهرهما مع االحتفاظ بخصوصية‬
‫ً‬
‫التجربة وفرادتها»(‪ ،)1‬وهي تشري إىل أشياء غري مرئية موجودة يف وجدان الشاعر وقد‬
‫ترسخت عرب املسرية احلياتية حيث يتدخل الوعي الشاعر يف تشكيل الصورة املعرب عنها‪ ،‬وهبذا‬

‫(‪ )1‬عز الدين إمساعيل‪ :‬الشعر العريب املعاصر‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية واملعنوية‪ ،‬دار العودة‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪1981 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.259‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يرتبط مفهوم الصورة عند "ابن املعتز" برؤيته للعامل ودور اخليال يف إبداعه عرب موهبته الشعرية‪،‬‬
‫وهكذا تتكون عناصر الصورة عنده من خيال وفكر وعاطفة وشكل‪.‬‬
‫إن الصورة بأشكاهلا كافة لدى الشاعر "ابن املعتز" سواء مكانية قائمة على العالقة‬
‫باملكان أم زمانية تعد حصيلة التفاعل بني البىن التعبريية القائمة يف النص بعضها مع بعض‬
‫ومن هذه البىن جمتمعة يتشكل النص الشعري‪ ،‬فهي تتيح فهم واقعه املعاش واستيعابه وبذلك‬
‫تربز قيمة الصورة وجه الواقع اآلخر أو الوجه املتصور له وتتحدد أهيمتها كفاعلية شعورية‬
‫مرتبطة باإلحساس املتولد عن التجربة اإلنسانية للشاعر‪ ،‬فالقيمة الكربى للصورة الزمانية عند‬
‫"ابن املعتز" تكمن يف أهنا تعمل على تنظيم التجربة اإلنسانية الشاملة للكشف عن املعىن‬
‫األعمق للحياة والوجود‪ ،‬وقد وظفت شعريا عند "ابن املعتز" «لِبث الحيوية في الموضوع أو‬
‫الكشف عن الحالة النفسية»(‪.)1‬‬
‫فالصور الزمانية يف فاعليتها على املستوى النفسي عند الشاعر ال تستغل الرتابطات‬
‫واإلستجابات اإلجيابية فقط وإنا تركز أيضا على االستجابات السلبية ومثة صور توحد بني‬
‫النمطني وتشغل التفاعل بينهما عرب ما ميكن أن يسمى بفاعلية التضاد‪ ،‬ولذلك فالتناقض يف‬
‫الصور عند "ابن املعتز" ليس عيبا أو أمرا فنيا شائنا بل هو ضروري ضمن ديناميكية احلياة‪ ،‬إنه‬
‫التعارض الذي يستوعب التعارضات الكونية‪ ،‬وهبذا يقودنا الكشف عن حركية الصور الزمانية‬
‫إىل عالقة مع البناء اجلديل للحياة عند الشاعر فضال عن كوهنا ترتبط باملشاعر العميقة عنده‪،‬‬
‫كما تظهر فاعلية هذا النوع من الصور ‪-‬الزمانية طبعا‪ -‬من كوهنا تعد مبثابة املوشور الضوئي‬
‫الذي يظهر يف النص الشعري متألقا األمر الذي يسمح بالدخول إليه واكتشاف طبيعته‬
‫والشعر الذي يعتمد الصور الزمانية هو «فعل نفاذ وفعل إضاءة لجوهر الوجود والصورة‬

‫(‪ )1‬حممد الويل‪ :‬الصورة الشعرية يف اخلطاب البالغي والنقدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بهذا المعنى رؤية فكرية وعاطفية في لحظة من الزمن إن تجردت من فعلها الرؤيوي‬
‫أغلقت دوننا أبواب الواقع»(‪ ،)1‬فهي ليست منهجا يف بناء القصيدة وإنا هي أسلوب تفكري‬
‫وتعبري وموقف من العامل والوجود‪.‬‬
‫لقد شكلت الزمانية يف شعر "ابن املعتز" شكال آخر من صدقية وجهة النظر الظاهراتية‬
‫من حيث أن الزمان ال ينقسم إىل ماض وحاضر ومستقبل بل هو شبكة من األفعال القصدية‬
‫وجودا‬
‫املتالمحة اليت يباطن بعضها بعضا (التوتر واالستبقاء والرتقب) «ذلك أ ّن الوعي بوصفه ً‬
‫بالزمان وبه‪ ،‬ال ينقسم أل ّن قصديته تعني حضوره الدائم في اآلن بالنسبة إلى ذاته أي أ ّن‬
‫الزمان هو الوعي أو الوجود الذاتي الذي يحيا ارتقاءه المستمر المتواثب»(‪ ،)2‬وبذا فقد‬
‫شكلت ذاتية "ابن املعتز" مثاال آخر عن النوع من الذوات اليت تزمن أو الواعية بالزمان الذي‬
‫يكتنف اآلنية دوما ويقومها‪.‬‬
‫ومن هنا فقد كان كل فعل ينبثق من ذاتية الشاعر هو فعل زماين مبعىن أنه يقوم على‬
‫زمانيتها حتديدا‪ ،‬وإن ما يرتتب على هذا التبئري* اجلمايل للزمان هو يف الوقت نفسه تبئري‬
‫للوجود الذايت احلركي ومقوم للوعي الشعري ولتشكيله لذاته مجاليا‪ ،‬وهذا الزمان اجلمايل يظل‬
‫حيتفظ يكونه آنية قصدية؛ أي أن تشكيل الوعي لوجوده أو ممارسته له ذات طابع انبثاقي‬
‫عياين‪ ،‬وبذا فقد متيز الشكل الشعري عند "ابن املعتز" بكونه حركة تتجسد فضاء لغويا وبذلك‬
‫ينتفي طابعه التجريدي املعهود إذ سيكون أسلوب الوعي الشعري يف الوجود والفعل‪.‬‬

‫(‪ ) 1‬حممد مفتاح‪ :‬يف سيمياء الشعر القدمي‪ ،‬دراسة نظرية وتطبيقية‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪1982 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.35‬‬
‫(‪ )2‬صالح سليم علي‪ :‬الزمان واملكان يف الظاهراتية والصوفية‪ ،‬اجمللة الثقافية ‪-‬العدد ‪ -14‬عمان‪1988 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.100‬‬
‫* التبئير "‪ :"Focalisation‬املقصود به عملية جعل العنصر أو املكون بؤرة يف الكالم‪ ،‬وكثريا ما يستعمل املصطلح يف‬
‫احلقل الروائي‪.‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إن كون عملية التشكيل اجلمايل عند "ابن املعتز" انبثاقا سيحيلنا على إيقاعية الوعي‬
‫الشعري عنده اليت تفصح عن فاعليتها وجوهريتها يف منح الشكل الشعري عيانيته وكيانه‪ ،‬وهذا‬
‫سيؤدي ألن يكون للتشكيل عنده إيقاعه اخلاص الذي يرتبط بقصدية الوعي وزمانيته‪،‬‬
‫واملقصود به هنا أن هذا الشكل الشعري يتضمن تناظرات داللية موحدة على الرغم من حركيته‬
‫وتغري وحداته التشكيلية األساسية‪ ،‬كما أن هذه التناظرات تكفل التعالق اجلذري بني وحدات‬
‫التشكيل كما تكشف عن بنية الوعي الشعري وحركيته‪ ،‬مبعىن أن اإليقاع الداليل يف شعر "ابن‬
‫املعتز" نتاج التناظر بني البنية القصدية للوعي الشعري إذ ينبثق من ذاته‪ ،‬وبني بنية الشكل‬
‫الشعري بوصفه جتسيدا هلذا االنبثاق الذي يصدر عن زمانية الوعي عند الشاعر أو ممارسته‬
‫لوجوده يف الزمان‪ ،‬فلذا فقد متيزت زمانية الشعر عند "ابن املعتز" بأهنا مكثفة إىل أقصى حد‪،‬‬
‫ومن هذا التكثيف استمدت حركيتها مؤكدة فعاليتها يف تطويع وجودها لقدرهتا على تشكيل‬
‫املعىن مجاليا‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس فمن املهم القول أن الزمان اجلمايل عند "ابن املعتز" ونقصد يف شعره‬
‫يتشكل يف القصيدة على ماهية جدلية‪ ،‬فهو مركب من نقائض زمانية هي الزمان اخلارجي ممثال‬
‫بالدهر وحركته املتمثلة باملضي املستمر وكل ما ميثله من أنظمة اجتماعية واقتصادية‪ ،‬والزمان‬
‫الداخلي أو الذايت الذي يتجسد إرادة وفعال وتطلعا حنو املستقبل‪ ،‬ولكن وجب التنبيه إىل أن‬
‫هذه النقائض ليست منفصلة إذ ال ميكن ألحدمها أن يوجد مبنعزل عن اآلخر‪ ،‬فاملركب يوحد‬
‫بينهما ويتكون من جمموعة العالقات اليت تتعقد بينها باستمرار والزمان اجلمايل ينبثق من هذه‬
‫الوحدة اليت متثل منطلق حركيته أو حركية وعيه‪ ،‬ومن هنا فإن التشكيل اجلمايل ال تنفصل فيه‬
‫املاهية من وظيفتها‪.‬‬

‫‪- 179 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لقد آمن "ابن املعتز" إميانا عميقا بأنه يف حاجة دائمة مثل نظرائه من الشعراء إىل‬
‫ختطي السائد املألوف يف فنه‪ ،‬فهو ال يركن إىل الواقعي الصرف إال بقدر ريثما يؤمن لنفسه‬
‫منطلقا أو مرتكزا م يقفز بعد ذلك إىل أجواء االستعارة حملقا بعدة أجنحة‪ ،‬آمال يف ذلك أن‬
‫يقفز وراء املتلقي مرتمسا خطاه‪ ،‬وينشأ هذا التجانس بني "ابن املعتز" واملتلقي بناءا على أمل‬
‫يسكن كل شاعر يف قدرة متلقيه تتبع الظالل اهلاربة وراء اإلحياءات واإلشارات‪ ،‬فالشاعر ال‬
‫يقول كل شيء وإن كان يرغب من أعماقه أن يقول كل شيء بيد أن حدود الشعر املكانية‬
‫والزمانية حتول دون ذلك‪ ،‬فال يبقى أمام الشاعر غري ذلك التواطؤ بينه وبني املتلقي ليمرر من‬
‫خالله تيار التداعي واإلحالة املرجعية‪ ،‬وإذا أحس الشاعر أن الوترية قد ضبطت راح يغرق يف‬
‫عتمات املعىن‪ ،‬وتسربل شعره بالغموض والرمز‪.‬‬
‫ومن املالحظ أن القصيدة عند "ابن املعتز" تبدأ من زمان اآلن املنطوي على حركية الوعي‬
‫الشعري يف متثله لذاته ووجوده‪ ،‬وهذا التمثل يعيش توترا عميقا ينبثق من قصدية الوعي يف‬
‫استحضارها ملاهية املكان الطللي ومبعث هذا التوتر أن املكان الطللي رمز يفيض مبعان‬
‫متداخلة أوهلا أنه يستمد حضوريته املطلقة من حضورية الوعي‪ ،‬لكنه بالنسبة إىل ذاته ليس إال‬
‫غيابا مطلقا فهو خال إال مما يشري إىل الغياب‪ ،‬والثاين أنه ميثل انفصاال زمنيا بني اآلن وبني‬
‫املاضي‪ ،‬فهو يعيش ماضيه فقط على الرغم من تقدم الزمان‪ ،‬وهنا يتوحد املكان الطللي بالدهر‬
‫يف شعر "ابن املعتز"‪ ،‬فكالمها منغلق على املاضي جيسدانه ويتجسدان فيه‪.‬‬
‫وعلى هذا فاملكان الطللي عنده منفصل عن زمانية الوعي وحضوره يف اآلن‪ ،‬أما األمر‬
‫اآلخر فإن هذا املكان الطللي هو الذات اجلماعية اليت مل يعد هلا وجود ألن الدهر غيبها يف‬
‫مضيه فاندثرت‪ ،‬والوعي الشعري "البن املعتز" جيهل مصريها وإن كان يتوقعه فكل الوجود‬
‫اإلنساين ينتهي إىل الفناء‪ ،‬يف ذات السياق فإن حركية الزمن اجلمايل عند "ابن املعتز" تنبثق من‬

‫‪- 180 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التأزم اجلديل بني حضور املكان بأنواعه وحضور الذات الشعرية فهذه األخرية يقرتن مصريها‬
‫مبصري املكان الذي ختاطبه وتنشده مادامت مرتبطة به‪ ،‬ولذلك فإن ذات "ابن املعتز" توضع‬
‫عن طريق وعيه دريئة للذات اجلماعية وجيعل قيمه الذاتية ضمانة لبقائها‪ ،‬ولكن ذلك سيعمق‬
‫انفصال الذاتني ألنه يأيت خارج السياقات اليت أقرها النظام االجتماعي أو يقلب هذه‬
‫السياقات فاملفروض أن تصبح الذات الفردية جزءا متماهيا يف الذات اجلماعية ال العكس‪ ،‬وإن‬
‫الوعي الشعري عنده مبا وفره لذاتيته من مقومات ال يستطيع أن حيقق هذا التماهي أو‬
‫يستجيب له‪ ،‬وليس هذا االنفصال والتأزم إال صورة من تصادم زمانني؛ زمان اآلن املنفتح على‬
‫ممكانته وزمان املضي الدابر املنغلق على شروط بقائه احلدية‪ ،‬وكذلك زمان اآليت وما حيمله من‬
‫هم وجودي غييب‪ ،‬ومن م فإن هذه الذات ستندفع يف متردها واعتدادها بذاتيتها‪.‬‬
‫إذا اسرتسلنا يف ذكر ناذج من الصور الزمانية احلاضرة يف شعر "ابن املعتز" فسنعجب‬
‫من كثرة ولوعه بتصوير وتوصيف الليل والنهار أو الليل والصبح مثلما ورد يف كثري من قصائده‪،‬‬
‫ولننظر قوله مثال(‪:)1‬‬
‫ِ‬
‫األسود المفـ ـ ـ ـ ـ ّر ِج‬ ‫مثل القباء‬ ‫*‬ ‫لما حدا الصبح بليل أدعج‬
‫ؤج ِج‬
‫كالمصطلي باللّهب الم َّ‬ ‫*‬ ‫غره فج ِر مسرج‬
‫والنجم في ّ‬
‫خافقة مثل اللواء المـ ـ ْز ّعـ ـ ـ ـ ـ ِج‬ ‫*‬ ‫وأفق الجوزاء بالصبح شجي‬
‫فيشخص الشاعر الصبح على أنه حاد قد ذهب بليل شديد السواد م جيمعهما ‪-‬الليل‬
‫والصبح‪( -‬يعين الصورة الزمانية) يف صورة الثوب األسود ذي الشقوق وكأن هذه الشقوق‬
‫بياض الصبح الظاهر يف جسم الليل‪ ،‬فالشاعر يوجد داخل هذه الصورة الزمانية روابط‬
‫وعالقات‪ ،‬فاألوىل عالقة احلادي بقطيعه وهي عالقة حلاق وإتباع‪ ،‬والثانية جيعل فيها الليل هو‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.134‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫األصل ومن خالله يربز الصبح ويظهر بل يوجد بينهما شيء من االحتاد؛ فهما ميثالن كال ال‬
‫ينفصل‪.‬‬
‫م يصف الشاعر النجم على أنه غرة بيضاء على جبهة جواد الفجر املسرج القادم‬
‫وياهلا من براعة يف التصوير م جيعل الشاعر هذه الصورة طرفا أوال لصورة أخرى هي أن النجم‬
‫كاملصطلي للهب العظيم املنتشر وهو الصبح‪ ،‬كما وصف اجلوزاء أثارها طلوع الصبح فأصبح‬
‫ضوؤها يظهر وخيتفي‪ ،‬واملالحظ يف التصوير الفين هي الصفات التشخيصية اليت ألبسها الشاعر‬
‫على هذه الظاهرة الزمانية وكأنه يناجي نفسه اهلائمة يف اضطراب وعدم ثبات‪ ،‬فعالقة "ابن‬
‫املعتز" بالليل والنهار (الصبح) هي عالقة تفاضلية يف كثري من الصور احلاضرة يف شعره فهو‬
‫أحيانا يهيم حبب الليل ملا يشكله من سكينة وحلظة وقوف مع الذات وأحيانا ينقم على هذا‬
‫الليل منتصرا للصبح الضياء ومثال ذلك قوله(‪:)1‬‬
‫فر من أصحابـ ِه‬
‫كالحبشي ّ‬ ‫قد أغتدي والليل في مآب ـ ـ ـ ـه *‬
‫كأنّه يضحك من ذه ـ ـ ـ ـابـ ِه‬ ‫والصبح قد كشف عن أنيابه *‬
‫فهو يصور الليل الرابض على صدره وهذا الليل شديد السواد باحلبشي اهلارب‪ ،‬فالكون‬
‫مدى حيتويه نظر الشاعر والصبح يتمثل أمامه بنوره وضوئه مبتسما لقدومه وذهاب الليل‪،‬‬
‫والفرار الذي أراده لليل يعين سرعة اجنالئه وضحك الصبح يعين االنطالق والسعادة والتفاؤل‪،‬‬
‫وألن الدهر والزمان يتشكالن من تعاقب الليل والنهار‪ ،‬فقد شغل هذا الدهر تفكري "ابن‬
‫املعتز" كثريا وهو الدهر الذي طاملا محل إليه يف طياته الكوارث واملصائب وهو الدهر الذي‬
‫جتري حتميته على اجلميع وال يقف أمامه شيء‪ ،‬فراح يشكوه حىت لكأنه يبدو إزاءه يف شيء‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪- 182 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫من الضعف واليأس‪ ،‬ومل حياول "ابن املعتز" إظهار هذا الدهر مبظهر الضعف حيال اإلنسان إال‬
‫مرة واحدة وذلك يف قوله(‪:)1‬‬
‫إنّما الدهر خادم اإلنسـ ِ‬
‫ان‬ ‫*‬ ‫عظمت ِمنّة ا ِ‬
‫إلله علينا‬
‫أما سوى ذلك فالدهر أو الزمن هو القوي املسيطر الذي يلعب باإلنسان ويتحكم‬
‫مبصائره ومقدراته ومنه قوله(‪:)2‬‬
‫السن ِن‬ ‫الس ِ‬
‫ما المرء إالّ كعي ِر َّ‬
‫سوط الزمان وال يمشي على ّ‬
‫ْ‬ ‫وء يضربه *‬
‫فالشاعر هنا جعل من الزمان جالدا لإلنسان حني شبهه بالعري فهو مسلط عليه‬
‫بالسوط ضاربا له ومؤملا بشدة حىت يستقيم هذا اإلنسان إلدراك غاياته الوجودية والنأي عن‬
‫العبثية‪ ،‬ولكن هذا الزمان املدجج بسوطه مل يفلح يف تقومي اإلنسان وجعله ماشيا على السنن‪،‬‬
‫وهي صورة زمانية رائعة ومعربة عن جتربة الشاعر الشخصية يف معاناته األزلية مع الدهر‪ ،‬هناك‬
‫صورة أخرى‪ ،‬من الصميم اإلنساين الساكن داخل نفس كل فنان هي صورة زمانية أفردها‬
‫الشاعر للدهر من حيث أنه سالب أيام اإلنسان ومكدر صفو حياته‪ ،‬إذ يقول(‪:)3‬‬
‫يسير بنفس المرء والمرء جالس‬ ‫*‬ ‫وإني رأيت الدهر في كل ساعة‬
‫ابن املعتز هنا ينغص عليه الدهر حياته حيث إن هذا الدهر يسلبه أيامه املتتالية وهو‬
‫جالس مكبل ال حيسن إال التفرج وتسليم نفسه طائعة ألحكام الدهر‪ ،‬م تأيت احلالة التأزمية‬
‫للشاعر مع الدهر هذه احلالة النفسية املؤرقة يعزيها "ابن املعتز" بضرورة الصرب على أحكام‬
‫الدهر وسلطته على اإلنسان‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر أن معظم الصور الزمانية الواردة يف شعر "ابن‬

‫(‪ )1‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.314‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ ،‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.337‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.264‬‬

‫‪- 183 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫املعتز" حول الزمان أو الدهر رمسها "ابن املعتز" صورا يف معظمها سوداوية مقفرة خالية من‬
‫مظاهر فعالية احلياة‪ ،‬فيقول مثال(‪:)1‬‬
‫كرهت ِ‬
‫فسلمي‬ ‫ِ‬ ‫فهو المليء بما‬ ‫*‬ ‫صبرا للزمان وريبه‬ ‫يا ِ‬
‫نفس ً‬
‫فكما قلنا آنفا فهو حيض نفسه ومن خالله غريه‪ ،‬على التسليم واالستسالم للدهر‬
‫ومآسيه ألن سلطته على اإلنسان قاهرة‪.‬‬
‫كما أن "ابن املعتز" كثريا ما صاحب املوت مع الدهر أو حيمله يف حوادثه ونوائبه فقد‬
‫وقف منه الشاعر أيضا موقف الرهبة والتأمل فهو أمر ال مناص منه ومنهل البد من وروده‪،‬‬
‫وهناية لكل حي فهو يقول يف هذا(‪:)2‬‬
‫حكم الموت علينا فعدل‬ ‫*‬ ‫أين من يسلم من صرف الردى‬
‫كما يقول أيضا(‪:)3‬‬
‫بأ ّن المنايا للبرايا مناهـ ـ ـ ـ ـل‬ ‫*‬ ‫وإنّي على جهلي بدهري لعالم‬
‫إذا ما تخطّته األماني باطل‬ ‫*‬ ‫ولم أر مثل الموت ح ًقا كأنّـه‬
‫ولننظر هنا كيف قرن "ابن املعتز" الدهر (الزمان) بكل ما هو حزين ومورد للفناء‬
‫والعدمية‪ ،‬فهو (املوت) املنهل الذي تستقي منه كل الربايا بال استثناءات وهو أيضا من‬
‫تصاريف الدهر اليت تقضي على اآلمال واألمنيات‪.‬‬
‫م يف موضع آخر يؤكد "ابن املعتز" أن دواء الدهر ومصائبه هو يف الصرب وال شيء غري‬
‫الصرب يف قوله(‪:)4‬‬

‫(‪ )1‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.362‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ ،‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.360‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.413‬‬
‫(‪ )4‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.249‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فصبرا وإالّ أي شيء سوى الصب ِر‬


‫ً‬ ‫*‬ ‫خليلي إ ّن الدهر ماتريانه‬
‫َّ‬
‫وهذا البيت الذي يتناجى فيه مع خليلني له رمبا يف نائبة من نوائب أو يف حلظة شعورية‬
‫مفعمة بالتأمل‪ ،‬هلو بيت حكمي بامتياز وحلظة صدق مع الذات بأن الصرب هو الرتياق األجنع‬
‫ملداواة مصائب الدهر وال شيء غريه‪ ،‬كما أننا نالحظ مرة أخرى كيف جيسد "ابن املعتز"‬
‫عالقته مع الزمان والدهر‪ ،‬فهذا األخري حتول إىل هادم للذات الشاعر ومنكدا عليه العيش يف‬
‫مظلة املتعة اليت عهدها‪ .‬هناك بيت آخر حياول فيه "ابن املعتز" جماراة حلظات الدهر وقلبها‬
‫لصاحله من خالل جعل احلوادث الدهرية تنبض باحملبة والبهجة بعد أن جعلها من قبل عقيمة‬
‫من كل هذه القيم‪ ،‬فيقول مثال(‪:)1‬‬
‫وكل شديد مرةً سيهون‬ ‫*‬ ‫يوما محبة‬
‫وقد يعقب المكروه ً‬
‫وكأن لسان حاله يقول أن ما يف هذه احلياة من ضروب النقم واملكاره واحلوادث البئيسة‬
‫ال ينبغي أن ينظر إليها دائما مبنظار أسود‪ ،‬فقد يعقب احملبة املكروه وقد حيلو هذا املكروه بعد‬
‫مرراته ويرجتى األمر الذي يتقى وخيشى إذ ليس كل ما حتبه النفوس نافعا وال كل ما ختافه ضارا‪،‬‬
‫واملالحظ للنموذجني السابقني أهنما يفتقران نوعا ما للبداعة الفنية اليت طاملا ميزت أشعار "ابن‬
‫املعتز" يف مقابل محلها لقيم إنسانية من صميم الشاعر اإلنسان‪ ،‬أما األمر اآلخر الذي رمبا‬
‫تعزى إليه هذه الضحالة الفنية يف النموذجني السابقني يرجع إىل احلالة النفسية املرتدية كلما‬
‫ذكر الشاعر كلمة دهر أو زمن فهو مبعث مآسيه وأحزانه‪ ،‬مثال أخر عن هذا الطرح ما قاله‬
‫"ابن املعتز" دائما يف وصف وتصوير الدهر وقساوته يف اقتناص آمال الناس واالنقضاض على‬
‫أحالمهم وأمانيهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.422‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يقول الشاعر(‪:)1‬‬
‫أتاه صباح‪ ،‬بعد ذلك مقب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل‬ ‫*‬ ‫إذا المرء أفنى صبح يوم وثانيًا‬
‫فليس له ما عاش في الناس منزل‬ ‫*‬ ‫ويتّبع اآلم ـ ـ ـال موقع ل ـ ـحظ ـ ـ ِه‬
‫وللناس وزن جائر سوف يعدل‬ ‫*‬ ‫سر سوف يظهر أمره‬
‫وللدهر ٌّ‬
‫ذلك هو الدهر عند "ابن املعتز" يسلب الناس أيامهم وصبوحهم املشرقة‪ ،‬وينقض على‬
‫آماهلم‪ ،‬وجيعل من منازهلم طلوال وأرماسا مقفرة‪ ،‬م جيعل للدهر سر سيظهر ولو بعد حني‬
‫وذلك احلني هو كثرة اجلور والظلم وفساد احلياة فينربي هلم سر الدهر الذي هو املوت فيقوم‬
‫مقام العدل بينهم وجيعلهم يعضون األنامل على التفريط يف أمرهم ومنافرهتم لبعضهم‪ ،‬وياهلا‬
‫من حكم ومواعظ تصدر من قرحية شاعر كشر عليه الدهر أنيابه فأصابه من خطوبه ما أصاب‬
‫أسالفه اجلاهليني الذين شغلهم الدهر أو الزمان من حلظة امليالد إىل حلظة الوداع‪ .‬والشاعر يف‬
‫تصويره للزمان يعيد رسم تلك اللحظات الغابرة بأسلوب جديد يف بيئة جديدة وحلظة وجودية‬
‫متجددة‪ ،‬وبعد هذا النموذج نصل لنموذج آخر رائع يستغيث فيه الشاعر طالبا النجاة والنجدة‬
‫من بني براثن الزمان الذي استفرد به مكشرا عن مآسيه ومكارهه‪ ،‬يقول "ابن املعتز"(‪:)2‬‬
‫ِ‬
‫إحسان‬ ‫أسأت معتمدا لي بعد‬ ‫*‬ ‫هل من معين على أحداث أزمانِي‬
‫لقاسم ذات تمكين وسل ـ ـ ـطـ ِ‬
‫ان‬ ‫*‬ ‫كال أليست تقيني للزمان ي ـ ـ ـ ــد‬
‫وم ّد كفيه في ظلم وع ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫دوان‬ ‫*‬ ‫الزاجر ال ّدهر عنّي إذا شحا فمه‬
‫الشاعر يف أوج انكساره واضطرابه النفسي وهو يستنجد اإلعانة على املتتاليات من‬
‫األحداث املزمنة اليت أساءت وأدارت ظهرها له بعد إحسان‪ ،‬وبعد أن استيأس "ابن املعتز" من‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.364‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.433‬‬

‫‪- 186 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أقرانه وأهنم لن ينفعوه مع مآسي دهره هو يطلب التمكن من ذلك عرب مناشدة يد ذات سطوة‬
‫ومتكني وسلطان ولكن هيهات‪ ،‬أما البيت األخري فنرى فيه طيف شخص الشاعر الدهر وجعل‬
‫له فما وكفني مها مصدر الشر الذي أصاب الشاعر من هذا الدهر‪ ،‬فاستحال الدهر إىل صفة‬
‫التغول على يد الشاعر منهكا له وجائرا عليه بلفحات من الظلم والعدوان‪ ،‬م ما يلبث أن يزيد‬
‫الشاعر على هذا التوصيف توصيفا آخر يعضد به رأيه حول وحشية الدهر وقباحة أحكامه‬
‫بأسلوب املنكسر‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫ِ‬
‫واإلخوان‬ ‫وف ِ‬
‫رقة األحباب‬ ‫صبرا على الهموم واألحزان *‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫الزمان‬ ‫فإ ّن هذا خلْق‬
‫رمبا جتسد هذه املقطوعة "ابن املعتز" اإلجابة الشافية عن سبب حنقه وامتعاضه الدائم‬
‫من الدهر وأحكامه فقد سلبه مصادر هبجته ومنفسات أحزانه مع أحبابه وخالنه‪.‬‬
‫نستطيع أن نقول يف خالصة هذه النماذج أن فكرة الزمان أو الدهر وقد وردا مرادفني‬
‫لبعضهما يف شعر "ابن املعتز" تأسست مبدئيا على الكينونة املادية لإلنسان العريب وقتذاك‬
‫وعالقته املباشرة بالبيئة الطبيعية واجملتمعية‪ ،‬تلك البيئة اليت حتاصره بال هنائيتها واحلافلة بالتغريات‬
‫الرتيبة يف احلياة العضوية من الوالدة والنمو واالهنيار م املوت يف دورة ال تنتهي (يتجسد فيها‬
‫الزمان العضوي) أو بالتغريات املفاجئة للظواهر الطبيعية أو االجتماعية اليت جتلب املآسي معها‪،‬‬
‫وملا كان الشاعر يوجد يف هذه البيئة فقد صارت الفضاء الواقعي لكينونته املادية وليس هذا‬
‫الفضاء سوى الدهر نفسه وقد صاغ هذا الفضاء جممل رؤية اإلنسان العباسي لعامله‪ ،‬وشكل‬
‫البعد األنطولوجي املعريف لوعيه ووجوده يف هذا العامل أو بعبارة أخرى إن هذا الفضاء هو املقدم‬
‫األساسي لعامل العريب‪ ،‬فقد رأى فيه حركة متقدمة باطراد حاملة كل مظاهر احلياة مبا فيها‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪:‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.445‬‬

‫‪- 187 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حياته نفسها إىل هاوية الفناء وختيله قوة مهولة تتحكم به وتوجهه إىل مصريه‪ ،‬قوة هلا ما للقدر‬
‫من بطش وسطوة وما للقضاء من حتمية وغموض وال سببية‪ ،‬شعر إزاءها هذا اإلنسان العريب‬
‫ومن خالله شاعرنا "ابن املعتز" هبا مشية وجوده يف الكون وومهيته‪.‬‬
‫لقد شكلت الذات الفردية "البن املعتز" نوذجا للذات املنفتحة على ذاهتا وتستجمع‬
‫الزمان بأبعاده الثالثة يف بؤرة اآلن‪ ،‬وهذا االنفتاح يعرب عن نفسه يف التمسك باللحظة وملئها‬
‫بالفعل اإلنساين‪ ،‬وهكذا يتحول اهلم بالزمان عند الشاعر إىل وجود للحياة بعد ان كان وجودا‬
‫للموت‪ ،‬وهلذا نرى الشاعر يشكل ذاته وهي تعيش نشوهتا بفاعليتها انطالقا من رؤيته ووعيه‬
‫العميق بالتأزم يف فضاء الدهر الذي تتآكل فيه احلياة كل يوم لتجد نفسها يف مواجهة املوت‬
‫يف أي حلظة‪ ،‬ولقد شكل التضاد اجلديل بني مضي الزمان وتكثيفه يف آن يف شعر "ابن املعتز"‬
‫التضاد نفسه بني جدلية الوجود للموت والوجود للحياة اليت تتظاهر وتتجسد يف التشكيل‬
‫اجلمايل للقصيدة عنده‪ ،‬بوصفها متوضعا للوعي الشعري خاصته وهو يف أقصى حاالت تفتحه‬
‫وتبئريه لذاته فعال يؤسس املعىن والقيمة ومينحهما الدميومة يف فضاء الدهر الذي يستلب الشاعر‬
‫اإلنسان كل شيء‪.‬‬
‫لقد كان الليل يف شعر "ابن املعتز" صاحب حظوة كبرية من ناحية التصوير فقد مثل‬
‫الليل يف قصائده صاحب هيمنة قوية تقتحم الكون اإلنساين فتثري داخله قضايا شىت تسعى‬
‫لوضع تصورات عن طبيعة التأمالت الداخلية والدالالت املرافقة‪ ،‬وللنظر قوله مثال(‪:)1‬‬
‫* وسام ْرت نجوى فؤاد سقيم‬ ‫أقول وقد طال ليل الهموم‬
‫هذا الليل الذي طال على الشاعر باهلموم فبدل أن يكون مصدرا للسكينة والراحة‬
‫حتول إىل ليل متعب طويل مشبع باهلموم والكدر‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.412‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ويقول أيضا يف وصف الليل(‪:)1‬‬


‫ِ‬
‫وأحزان‬ ‫كم ليلة قد نفى عني الرقاد بها * ما يعلم اهلل من هم‬
‫هذا هو الليل عند "ابن املعتز" منغصه ومذكار مهومه وأحزانه‪ ،‬وقوله "كم ليلة" هنا‬
‫دليل على الكثرة وعلى الرتاجيديا النفسية اليت يعيشها "ابن املعتز" مع هذه القطعة املتعاقبة من‬
‫الدهر وهي الليل‪ ،‬م جيمع "ابن املعتز" يف مقطوعة أخرى بني الليل والدهر يف وصف بديع‬
‫لنفسه الساهدة املتأملة‪ ،‬يقول(‪:)2‬‬
‫ضته للدهر أنياب وأفـ ـ ـ ـواه‬
‫عّ‬ ‫*‬ ‫سه ـ ـد في ظـ ـ ـ ـ ـالم الليـل ّأواه‬
‫م ّ‬
‫فليس يخطئ ما قد َّ‬
‫قدر اهلل‬ ‫*‬ ‫إن كان يخطى سمعي ما أق ّدره‬
‫فهو نفسه الساهدة اليت برك عليها ظالم الليل املشبع بوحشية الدهر القاضي عليه‬
‫باآلهات واآلالم‪ ،‬وذلك بعد أن شخص هذا الدهر باألنياب واألفواه ليكتمل تصويره الفين له‬
‫حميال إياه إىل وحش أزيل مرتبص به املنون‪.‬‬
‫فإذن فقد شكل الليل يف هذه النماذج احليز الزمين الذي تكتنفه التحوالت والصور‪،‬‬
‫ويف هذه اللحظة كانت الصور املنبثقة باعثة للخوف والقلق‪ ،‬وقد كان الليل استنادا ملا سبق‬
‫زمنا للرعب الرتباطه بصور مرعبة تتماشى وطبيعته‪ ،‬ويعد الزمان الليلي هنا بناءا نفسيا يتبادل‬
‫عملية اخللق الفين مع الشاعر حىت يكاد يتحول على الزمن احلقيقي الذي حيياه‪ ،‬لقد تفاعلت‬
‫نفسية "ابن املعتز" مع الزمن تفاعال مبهرا أنتج صورا زمانية بدائعية قل نظريها‪ .‬ولننظر مثال‬
‫لقوله هذا وكنموذج للتفاعل النفسي مع الدهر(‪:)3‬‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.413‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.453‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.418‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فمـا أقـ ـول ل ـ ـدهر شتت ي ـ ـ ـ ـده * شملي وأخلى من األحباب أوطانِي‬
‫سرعـ ـ ـ ـا فيه ـ ـ ـ ـا فعـ ـ ـ ـ ـ ّرانِي‬
‫وما أتاني بنعمى ظ ْلت البسها * إالّ انثنـ ـ ـى م ً‬
‫يا هلا من صورة رائعة تنبض عربا وأحكاما وخماطبة لأللباب والعقول بأن الدهر ال يؤمتن‬
‫جانبه‪ ،‬فهو من قضى على الشاعر حبكم الوحدة احلياتية بعد سلبه مشله وتفريق أحبابه وذلك‬
‫بعد أن عمرت هبم بيئته املكانية وفضاءه الزماين‪ ،‬م يوضح حقيقة الزمن معه بأنه ما منحه يوما‬
‫نعمة إال وانربى إليها بعد حلظة زمنية جمردا إياه منها‪ ،‬وهو هنا يوضح الصيغة األقسوية واحلدية‬
‫األزلية اليت يوجد عليها هذا الدهر غرمي الشاعر األنطولوجي‪.‬‬
‫إن الشاعر مل يقصد هبذه الصور الزمانية وحركيتها التشخيص فقط‪ ،‬بل قصد منها‬
‫التعريف مبوقع الذات والقوى اليت تسلط عليها (الذات) واآللية اليت حتكم حركة عناصر الصور‬
‫اليت يتم الرتكيز فيها على غياب الفعالية اإلرادية للذات يف مواجهة الزمن‪ ،‬فإذا هبذه الذات‬
‫تنفلت من قيود املعقول لتشكل حسبها توجيه حركة التجربة اإلبداعية يف فضائها النفسي‬
‫األبعد واألقصى‪.‬‬
‫إن البعد النفسي للصور الزمانية عند "ابن املعتز" هلو كفيل بإضاءة بنيتها العميقة اليت‬
‫تغور داخل النفس لذا جاء التشخيص هنا للدهر كتعويض عن الشعور القاسي بالزمن يقوم‬
‫بإلغاء التناقض من احلي واجلامد‪ ،‬املتحرك والساكن‪ ،‬وهبذا يكون الشعور دافعا خللق صور‬
‫قاسية ومؤثرة تعمل على خرق املألوف‪ ،‬ولذا فإن تلك الصور الزمانية اليت أبدعها الشاعر يف‬
‫تصويره للدهر تكشف جليا أنه كان عارفا بسر هذه اللعبة أال وهي الشد احلاصل بني الذات‬
‫والسنني اليت متضي وهي تعدو مسرعة بسلبياهتا أكثر من إجيابياهتا‪ ،‬هذا الشد تشعر به الذات‬
‫كابوسا ثقيال يتأرجح يف فضائها فهي نظرة (صوفية وجودية) إن صح القول باملعىن اجملازي‬
‫«إنّها صوفية اإلصغاء إلى وقع خطى الزمان بما يعنيه ذلك من استبصار عال وعدم‬

‫‪- 190 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫انخداع بمظاهر اللعبة وبما يوفره من رباطة جأش وقوة وقدرة على تحمل العناء»(‪ ،)1‬ومن‬
‫هنا يظهر اكتشاف الشاعر حلقيقة احلياة والقوانني اخلفية اليت حتكم لعبتها اليت ظلت تزداد‬
‫تشابكا وتعقيدا يوما بعد يوم‪ ،‬وهكذا تكون حركات الزمن وحتوالته ما بني جدلية السليب‬
‫واالجيايب وعرب التزايد يف األفعال نفسها واالستمرارية تعطي حركة وتغيريا يف الزمن والتنقل ما‬
‫بني الذي ميضي والذي يأيت‪ ،‬واستخدام الصور وتشكيالهتا احلركية عرب سرد يساعد يف تسريع‬
‫حركة الزمن‪.‬‬
‫إن "ابن املعتز" عاش وعيه ويقينه باملوت يف فضاء الدهر‪ ،‬ولكن هذا اليقني جيعله حييا‬
‫قيمه واملعىن حىت يف حلظة املواجهة احلقيقية مع املوت ورعبها وهو بذلك إنا حيفظها وحيفظ‬
‫ذاتيته من املوت‪ ،‬وجدلية الوجود للموت والوجود للحياة وتأزمها يف اآلن الشعري تصبح البؤرة‬
‫اليت ينكشف فيها مستقبل الوجود اإلنساين وحقيقته‪ .‬ويكشف وعي القصيدة الزماين يف شعر‬
‫"ابن املعتز" عن مأساويته احلادة وهي متارس بطولتها املستحيلة يف كفاح األطر املغلقة اليت‬
‫يفرضها النظام االجتماعي‪ ،‬حماولة إعادة صياغتها وبناؤها على أسس دينامية منطلقة من‬
‫وجودها للدهر واملوت‪ ،‬وهو احلقيقة الكلية املطلقة اليت أدت بالوعي هبا ومهية املعىن وفنائية‬
‫الوجود يف إطار اجملتمع وقيمه العملية ووعيه اجلماعي املغلق‪ ،‬وقد كان على الوعي الشعري‬
‫"البن املعتز"أن يتضاد مع هذا الوعي النثري ويؤسس ذاتيته وقيمه خارج نطاق وسياق اجملتمع‬
‫ومنطقه‪ ،‬والتضاد بني الوعيني يتأتى من خضوع الوعي النثري خلطية الزمان اخلارجي ومضيه إىل‬
‫هوة الفناء‪ ،‬بينما الوعي الشعري يعي مضيه إىل هذه اهلاوية أو اهلوة لكنه ال ينتظرها مستسلما‪،‬‬
‫فهو يكثف املضي يف آنيته ويستشرف ممكناهتا حماوال التغلب على قدره‪.‬‬

‫(‪ ) 1‬عزيز السيد جاسم‪ :‬االلتزام والتصوف يف شعر عبد الوهاب البيايت‪ ،‬دار الشروق الثقافية‪ ،‬ط‪ ،1‬بغداد‪1990 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.234‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لقد كان التشكيل اجلمايل للزمان عند "ابن املعتز" وفق ما تبني آنفا نوذجا عاما لتيار‬
‫شعري له خصائصه الفنية ورؤيته الذاتية املتفردة‪ ،‬وذلك يف صور خمتلفة يف تفاصيل الرؤية‬
‫والفعل الشعري‪ ،‬حيث أن أساس إبداعية كل شاعر وتفرده عن غريه هي يف رؤيته لذاته ولعامله‬
‫وللفضاء الزماين الذي يعيش فيه وبه‪.‬‬

‫‪- 192 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -3‬البعد الجمالي النفسي‪:‬‬

‫إن الفنون اإلنسانية ومبا فيها الشعر الذي دائما ما كان وال زال وسيظل لسان حال‬
‫صاحبه والناطق باسم حاالته النفسية‪ ،‬فليس معقول أن يكون هناك شاعر أو فنان يقصى‬
‫نفسانيته ومشاعره من عملية اخللق الفين خاصته‪ ،‬وهنا تربز أمهية علم النفس والتحليل النفسي‬
‫للعمل اإلبداعي‪ ،‬فعلم النفس صار من العمد اليت يقوم عليها النقد األديب حيث تتناول‬
‫بالبحث املادة األدبية اليت هي من عمل النفس اإلنسانية وإذا كان األثر السيكولوجي بارزا يف‬
‫التلقي‪ ،‬فإن القراءة النفسية تستشرف اجلوانب املكونة للنص من قضايا الالشعور والكبت‬
‫واملوضوعات النفسية األخرى‪ ،‬إال أن هذه املالمسة قائمة أساسا على مجلة من املنظومات‬
‫النفسية املتقنة وال يستطيع القارئ النفسي أن خيمن مسبقا املؤثرات املرجعية اليت ميكن أن‬
‫يعتمد عليها يف أثناء القراءة؛ إذ أن الالوعي يقوم بالقراءة اعتمادا على نفسه من جهة واستنادا‬
‫إىل خربات متقنة من جهة أخرى‪ ،‬فيدخل إىل عامل النص الذي هو نسيج من الرموز‬
‫والدالالت املتمركزة يف الشعوره ويف نظام من التكثيف اللغوي املكون للنص‪.‬‬
‫إن العالقة بني التحليل النفسي واألدب عالقة عضوية‪ ،‬باعتبار أن التحليل النفسي‬
‫لألدب يكشف عن الالوعي يف األخري وأن األدب يكشف عن املكنونات النفسية وكالمها‬
‫يفيد من اآلخر ويسهم يف فهم العالقات الناشئة بينهما منذ حلظة اإلبداع‪ ،‬ومما ال شك فيه أن‬
‫األهم يف تلك العالقة هي الصالت اخلفية بني الرغبات والدوافع الالشعورية واللغة حيث أن‬
‫الرغبات املكبوتة أساسية يف تكوين شخصية الشاعر أو الفنان وهي أيضا منطلق مهم يف فهم‬
‫األعمال اإلبداعية لصاحبها‪ ،‬األمر األخر املسلم به أن املوهبة الشعرية تتلخص أساسا بوجود‬
‫حساسية خاصة يف اجلهاز العصيب‪ ،‬والسيما يف منطقة اللغة والكالم واليت تتمركز أساسا يف‬

‫‪- 193 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الفص الصدغي من الدماغ‪ ،‬إضافة لقدرات التذوق الفين واجلمايل يف املناطق الدماغية األخرى‬
‫و يكون هنا التدريب وله دور كبري يف صقل املوهبة الشعرية وتنميتها‪.‬‬
‫كما أن اإلنتاج الشعري ال ميكنه أن يكون صناعة لفظية متعمدة إال يف حاالت الشعر‬
‫اهلابط‪ ،‬فالشاعر املبدع جيد نفسه متفاعال ومتأثرا مبوضوع معني مما خيلق تواترا خاصا يستدعي‬
‫صياغة الكلمات الشعرية اليت متتثل يف ذهنه أو لسانه أو قلمه وتلح على الظهور بشكل تلقائي‬
‫ومن م ميكن للشاعر أن يراجع كلماته أو يعدل فيها‪ ،‬وهكذا فإن حالة التوتر اإلبداعي وما‬
‫يرافقها من إبداع تتحكم فيها عوامل الشعورية بشكل أساسي‪ ،‬ويأيت دور التفكري واملراقبة‬
‫والوعي مكمال ومتابعا وموجها للدفقة اللغوية الشاعرية واليت تتضمن يف بنيتها مزجيا من‬
‫االنفعاالت والصور الذهنية اليت تتفاعل يف شخصية الشاعر ويف أعصابه وتكوينه‪.‬‬
‫واحلقيقة أن حالة "التوتر اإلبداعي" ليست حمددة متاما وال يزال يكتنفها كثري من‬
‫الغموض يشبه غموض العقل البشري نفسه‪ ،‬ويف أبسط التحليالت ميكننا القول أن التوتر‬
‫اإلبداعي هو حالة من أحوال النفس وفيها متناقضات‪ ،‬أو حالة من اإلثارة واحلركة تستدعي‬
‫احلل والتوازن مما يؤدي إىل تشكل الكلمات بطريقة معينة تؤدي إىل إعادة التوازن واالنضباط‬
‫للحالة النفسية وهي بالطبع ليست حالة مرضية‪ ،‬وحياول البعض الوصول إليها عن عمد‬
‫باستعمال بعض املواد ذات التأثري النفسي العصيب أو من خالل التعرض ملشاهد ومثريات‬
‫خاصة وحماولة التفاعل معها‪ ،‬أو من خالل ترتيب األجواء املناسبة الطبيعية أو غري الطبيعية‬
‫مثل اختيار الزمان واملكان واألشخاص واألشياء احمليطة اليت تثري مثل هذه احلاالت التوترية‬
‫اإلبداعية‪.‬‬
‫واحلقيقة أن الكتابة الشعرية وغريها من األلوان اإلبداعية ال ميكنها أن تعطي وتنتج كل‬
‫الوقت وكل يوم‪ ،‬فيمر املبدع مبراحل وحلظات منتجة وأخرى عاطلة ومن املعروف أن الشاعر‬

‫‪- 194 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حيتاج لإلهلام وليس بالضرورة أن يكون ذلك هو احلبيب امللهم‪ ،‬بل ميكن أن يكون قضية أو‬
‫فكرة أو معاناة خاصة‪ ،‬فاحلب مثال ميكن أن يكون مصدرا شعريا هاما ملا ميثله من أشواق‬
‫وأفراح وسعادة‪ ،‬وأيضا مبا فيه من عذاب وإحباط ومعاناة‪ ،‬وختتلف أنواع املعاناة وأشكاهلا ولكن‬
‫األهم يف كل هذا أن األمل حمرك للنفس ومثري للتوتر اإلبداعي والكتابة أو اإلبداع عموما خيفف‬
‫األمل ويشكله وحيوله ‪ ...‬مما يعطي خلقا جديدا ومجاال وأثرا‪.‬‬
‫لقد اهتم النقاد القدامى كثريا بدراسة عالقة النص األديب بنفسية صاحبه من خالل‬
‫«البحث في صحة المعاني أو فسادها في الداللة على حالة الشاعر ومالءمتها لمزاجه‬
‫وطبعه‪ ،‬وفي العناية بتقديم المحسنات وأساليب الجمال الفني»(‪ ،)1‬فاختالف اإلنتاج‬
‫األديب له عالقة وطيدة بتباين األمزجة والطباع من حيث أن الفروق يف تركيب البنية النفسية‬
‫للشعراء له دور مهم يف االستجابة لدوافع الرغبة والنفور من جهة ودواعي التميز والتفرد من‬
‫جهة ثانية‪ ،‬كما أنه توجد إشارات نقدية إال عالقة األساليب األدبية والبالغية والتشكيالت‬
‫اجلمالية بنفسية مستعمليها وذلك مثلما يوضح "ابن قتيبة" يف كتابه "الشعر والشعراء" حيث‬
‫يقول‪« :‬أ ّن للشعر تارات يبعد فيها قريبة ويستصعب فيها ريّضه‪ ،‬وللشعر أوقات يسرع‬
‫فيها أتيه‪ ،‬ويسمع فيها أبهن منها أول الليل ومنها صدر النهار ومنها الخلوة»(‪.)2‬‬
‫كما أكد "عبد القاهر اجلرجاين" هذه العالقة بني النفس والشعر حني قال‪...« :‬‬
‫فاعلم أ ّن ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف أو إلى ظاهر الوعي اللغوي‪،‬‬
‫بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده‪ ،‬وفضل يقترحه العقل في زناده»(‪ ،)3‬وهذا تأكيد‬

‫(‪ )1‬إبراهيم طه‪ :‬تاريخ النقد األديب عند العرب‪ ،‬دار الفيصلية‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬السعودية‪2004 ،‬م‪ ،‬ص ‪72‬‬
‫(‪ )2‬ابن قتيبة‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬تح‪:‬أمحد حممد شاكر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪84‬‬
‫(‪ )3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار البالغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.03‬‬

‫‪- 195 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫صريح على أثر النفس الشاعرية على النتاج الشعري للمبدع وقد قفا هذا النهج الكثري من‬
‫النقاد التابعني مثل "ابن طباطبا"‪" ،‬قدامة بن جعفر"و"حازم القرطاجين" وغريهم ممن تنبهوا إىل‬
‫العالقة بني النص األديب ومزاج وطباع املبدع له‪ ،‬فلذلك فقد اهتمت دراسات املتقدمني من‬
‫النقاد مبعرفة أحاسيس الشعراء وانفعاالت مشاعرهم وحتديد املؤثرات البيئية واالجتماعية اليت‬
‫توجه سلوكهم وميوالهتم الفطرية والغريزية‪ ،‬ووصف تعاملهم مع األلفاظ بأوصاف تنسجم‬
‫وطبيعة كل منهم‪.‬‬
‫إن بعض اإلبداعات األدبية والشعرية خاصة مثل إبداع املعتز الشاخص أمامنا‪ ،‬حتمل‬
‫دالالت قد تكون بالنسبة للناقد عقبة كأداء ال يستطيع جتاوزها بدون تدخالت أو لنقل‬
‫تقنيات التحليل النفسي «أل ّن العمل األدبي موقع أثري له طبقات متراكمة من الداللة‬
‫والبد من كشف غوامضه وأسراره»(‪ ،)1‬هذه األسرار مثلما عند "ابن املعتز" تعرب يف الواقع‬
‫عن الالشعور الفردي الذي تربز فيه تفاعالت الذات وصراعاهتا الداخلية وجمموعة من‬
‫األوصاف يف مقدمتها التكثيف واإلزاحة والرمز «حيث سرعان ما تأكد "فرويد" وتالميذه أ ّن‬
‫أيضا طبيعة‬
‫هذه القوانين ذاتها المتمثلة في التكثيف واإلزاحة والرمز هي التي تحكم ً‬
‫األعمال الفنية واألدبية على وجه الخصوص»(‪.)2‬‬
‫وهكذا إذن فإن مجالية التشكيل الشعري‪ ،‬ال تتضح أو تتجلى إال عندما يكون هناك‬
‫تالقح بني األدب والتحليل النفسي‪ ،‬فهذين األخريين يلتقيان يف العديد من التصورات بل‬
‫وخيدم بعضها بعضا حيث يقول "جون بلمان نويل" «لقد أعطى األدب الكثير إلى التحليل‬

‫(‪ )1‬ميجان الرويلي‪ ،‬سعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬إضاءة ألكثر من سبعني تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا‪ ،‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬د‪.‬ط‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫(‪ )2‬صالح فضل‪ :‬مناهج النقد املعاصر‪ ،‬مرييت للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪.56-55‬‬

‫‪- 196 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أيضا ‪ ...‬حين يجتمع اإلثنان فإنهما يقدمان‬


‫رد إليه الكثير ً‬
‫النفسي غير أ ّن هذا العلم ّ‬
‫مساعدة قيّمة إلى الكائن اإلنساني في محاولته القلقة لكي يفهم نفسه واآلخرين على‬
‫وجه أفضل وذلك من أجل أن يحترم ويقدر خصوصيتهم‪ ،‬إ ّن ذلك يعتبر عامالً من أجل‬
‫التقدم ال يمكن إنكاره»(‪ ،)1‬وهلذا ال يعقل أن نغفل ميدانا معرفيا مهما مثل التحليل النفسي‬
‫للكشف عن القيمة اجلمالية اليت يزخر هبا شعر "ابن املعتز"‪ ،‬فالدراسة النفسانية لشعر "ابن‬
‫املعتز" ختدم الباحث واملتلقي على السواء وتزيد من قدرهتما على الفهم وبالتايل تزيد من‬
‫تعمقهما وكذلك املقدرة على استطالع مجالية شعره‪.‬‬
‫الواقع أن االستجابة اجلمالية عند "ابن املعتز" هي نتاج عدة مؤثرات وهي حالة‬
‫سيكولوجية هلا هويتها املتميزة وطبيعتها املتفردة وهي ظاهرة قابلة للقياس يف النقد‪ ،‬وإن أهم‬
‫األبعاد املؤثرة يف االستجابة اجلمالية عند الشاعر هي أساسا ترتكز يف البعد الوجداين الذي‬
‫يتضمن القيم الشخصية واالجتاهات وامليول والدوافع وخصائص الشخصية اليت تلعب دورا كبريا‬
‫وأساسيا يف تشكيل خلفية وجدانية يقبل مبوجبها الشاعر أو يرفض ما يعرض عليه أو يتعرض‬
‫له من ناذج قابلة للتذوق والتقدمي‪ ،‬لذلك فدراسة الشخصية ميكن أن تكون املدخل األساس‬
‫يف فهم السلوك اإلنساين للذات الشاعرية "البن املعتز" وإن من أفضل املداخل لدراستها هو‬
‫تصنيفها على وفق السمات اليت تكوهنا‪.‬‬
‫لقد مثلت العالقة بني نفسية "ابن املعتز" واجلمال الرؤية املوضوعية اليت تؤمن بأن‬
‫اجلمال قائم بذاته وموجود خارج النفس الشاعرة به‪ ،‬وهذا الرأي يستند إىل إحساس "ابن‬
‫املعتز" باجلمال احلسي (الواقعي) وذلك جلي يف أغلب نتاجه الشعري رمبا ألن اجلمال كثريا ما‬

‫(‪ ) 1‬جان بيلمان نويل‪ :‬التحليل النفسي واألدب‪ ،‬تر‪:‬حسن املودن‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.09‬‬

‫‪- 197 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ارتبط يف عصره على األقل بإدراكه عن طريق اإلحساس املباشر‪ ،‬فاأللوان واألصوات وامللمس‬
‫وغريها من املوضوعات احلسية كان هلا سبق اهليمنة من أن تكون موضوعات مجالية‪ ،‬وقد‬
‫تكون هذه النظرة املوضوعية يف جوانبها الكثري من احلقيقة لكننا ال نستطيع أن ننفي أن لذاتية‬
‫الشاعر أفضال كربى على االستجابة اجلمالية عنده‪ ،‬فاجلمال عنده أيضا ظاهرة نفسية وخربة‬
‫ذاتية ولذلك فاجلمال الذي سكن وعي الشاعر هو مجال ميثل حقيقة موضوعية متناسقة توجد‬
‫يف الطبيعة وتوجد يف بيئة معينة‪ ،‬وتدرك من قبل الشاعر يف ظروف نفسية خاصة تثري الشعور‬
‫بالرضا واالرتياح‪.‬‬
‫لذلك فاجلمال الذي سكن روح الشاعر جسد عالقة بني املوضوع اخلارجي املتناسق‬
‫والبيئة احمليطة والنفس املدركة‪ ،‬فإعجاب الشاعر بذات املوضوع ينفصل عن عالقاته املتبادلة‬
‫باألشياء األخرى وجيعله يشعر كأنا احلياة قد توقفت فجأة ويتوحد مع املوضوع اجلمايل دون‬
‫أن يتطلع لغرض آخر‪ ،‬أو يهتم باألمور املاضية أو املستقبلية فهو خيوض التجربة اجلمالية مركزا‬
‫انتباهه على املوضوع اجلمايل فقط عن طريق االندماج باملوضوع وإعطاءه مزيدا من احليوية‬
‫والداللة‪ ،‬إن الشاعر عند استجابته للجمال يتفتح الستقبال الشعور ويكون مركزا على املوضوع‬
‫اجلمايل وعندما يتذوق اجلمال يكون حتت وطأة االنفعال‪ ،‬فالتجربة اجلمالية جتربة انفعالية يف‬
‫األساس فالشاعر الذي يتمتع بسمة اتزان انفعايل عالية يستطيع أن يستجيب للجمال بشكل‬
‫أكثر ممن يفتقد هذه السمة ولذلك فالنفسية تتكون من عدد السمات املستقرة اليت تكشف‬
‫ميل الشاعر إىل االستجابة اجلمالية بطرائق منسقة يف املواقف املختلفة‪.‬‬
‫إن أحسن توصيف لالستجابة اجلمالية عند "ابن املعتز" هي أهنا والدة جديدة تتجدد مع‬
‫كل خربة مجالية جديدة‪ ،‬هي نشوة حلظية فورية تغمر الشاعر بعد أن يكون قد قطع الصلة بني‬
‫اللحظة الراهنة وبني املاضي‪ ،‬فلذا فإن جوهر اخلربة اجلمالية عند "ابن املعتز" يتجلى يف‬

‫‪- 198 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الكشف السريع جلوهر الوجود قبل أن متزقه احلواس وتشتته‪ ،‬وقبل أن حيبسه العقل يف العالقات‬
‫املنطقية‪ ،‬وقبل أن يضمه يف الرتكيبات العلمية‪.‬‬
‫ونستطيع أن نقول أن "ابن املعتز" حتقق فيه شرط "بول فالريي" حني قال «شرط‬
‫الشاعر الحق ما يفرق بينه وبين حالة الحلم ولست أرى غير محاوالت إرادية‪ ،‬محاوالت‬
‫لترويض الفكر ‪ ...‬وانتصار دائم للتضحية ‪ ...‬إ ّن من يتكلم عن الضبط واألسلوب إنما‬
‫يعني ما يضاد الحلم»(‪ ،)1‬فنفسية الشاعر مرهتنة مبا تضبطه األطر العامة لإلبداع فحىت ترمجة‬
‫احللم إىل شكل إبداعي ال يتم إال وفق األطر‪ ،‬وعلى هذا فاإلبداعية الشعرية عند "ابن املعتز"‬
‫تراوحت بني املظهر السيكولوجي التلقائي واآلخر اإلرادي‪ ،‬فهو إذ يبدع القصيدة مير بلحظات‬
‫تلق أو انطالق يكاد خيتفي فيها كل أثر لبذل اجلهد م مير بلحظات أخرى ملؤها املقاومة‬
‫والتنقيب‪ ،‬ولذلك فقد اعترب "دي الكروا" »‪ «Delacroix‬أن لإلهلام وجوده ولكنه ال يكفي‬
‫لتفسري اإلبداع‪ ،‬فليست من ميزة الشاعر أن يقف مسلوب اإلرادة أمام اإلهلام هذا الذي عرفه‬
‫‪ «Félix‬قائال‪« :‬إننا نطلق كلمة اإللهام على لحظات اإلبداع‬ ‫»‪Clay‬‬ ‫"فيلكس كالي"‬
‫الفجائية‪ ،‬وهي لحظات تنتابنا مصحوبة بأزمات انفعالية‪ ،‬وتبدو بعيدة عن العمليات‬
‫العادية للعقل والشعور بعيدة عن حكم اإلرادة وسيطرتها‪ ،‬تأتي غير متوقعة ومجيئها غير‬
‫مرهون بدعائنا‪ ،‬كالنوم واألحالم»(‪ ،)2‬ولذلك فإن العمل الفين عند "ابن املعتز" يؤلف بني‬
‫عناصر عقلية وعناصر حسية‪ ،‬ومن م فهو يستعني بعقل إجيايب نشط وحساسية حية عميقة‬

‫‪(1) Delacroix, H: Psychologie de l’Art, Alcan, Paris, 1927, P 127‬‬


‫‪(Adapted).‬‬
‫‪(2) Clay. F: The Origin of The Sense of Beauty, J. Murray, London, 1917,‬‬
‫‪P 244 (Adapted).‬‬

‫‪- 199 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ولو أغفل التأمل الذي يعرف كيف مييز ويفرق ويتخري‪ ،‬لعجز "ابن املعتز" عن السيطرة على‬
‫موضوعه الذي يريد أن يضمنه هذا العمل فقد كان "ابن املعتز" حيلم ولكن يف اليقظة‪.‬‬
‫إن جل أشعار "ابن املعتز" مرتبطة حبياته تقريبا ومتصلة اتصاال وثيقا هبا‪ ،‬وهذا ال‬
‫يستلزم أن تكون حياته حبوادثها كلها مصورة يف شعره ولكنه حني حياول النظم يف موضوع أو‬
‫غرض ما فإنه ينظر إليه من خالل نفسه فهو ال يعدم الصلة بينه وبني حياته أو أفكاره اليت هي‬
‫جزء منه فإذا خال بنفسه استعدادا للنظم كان غري مقيد مبنهج خاص أو خطة مرسومة‪ ،‬فإذا ما‬
‫أراد البدء بالقصيدة انكشفت أمام ناظريه صور حياته كلها‪ ،‬فينتقل من واحدة ألخرى حىت‬
‫يبلغ أشدها مساسا مبوضوعه فيقف عندها الشاعر وتشرق ساحتها إشراقا تاما ويتضاءل ما‬
‫عداها فال يظهر إال مبقدار ما يساندها ويتمها كجزء من حياة غري منفصل عن الكل‪ ،‬وكثريا ما‬
‫أحس "ابن املعتز" أن التعبري يقصر عما حيمل وما يشاهد‪ ،‬فيكتفي مبا يأتيه من طبع واألخذ‬
‫من التكلف مبا ال غىن عنه الستكمال الصورة‪.‬‬
‫إن حياة "ابن املعتز" ال ميكن إال أن تكون مليئة بألوان الصراع ألن يف داخله قوتان‬
‫تتصارعان مها‪ :‬امليل البشري للسعادة واإلرضاء والطمأنينة يف احلياة من جهة‪ ،‬وشوق جارف‬
‫إىل اإلبداع قد يذهب إىل حد أن يتغلب على كل رغبة شخصية تسكنه من جهة أخرى‪ ،‬فقد‬
‫جتسد عمله اإلبداعي يف أن السببية اليت تدفع إليه هي اليت تدفع إىل احللم عنده وحيقق هذا‬
‫العمل من الرغبات املكبوتة عند الشاعر ما حيققه احللم‪ ،‬وهو كذلك يتخذ من الرموز‬
‫واإلشارات والصور ما ينفس به عن هذه الرغبات‪ ،‬وخيلق بني هذه الصور أو الرموز عالقات‬
‫بعيدة وغريبة يف الوقت نفسه‪ ،‬ومن هنا تأيت املتعة اليت جيدها الشاعر يف إخراج عمله الفين إىل‬
‫الوجود‪.‬‬

‫‪- 200 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إن العوامل النفسية يف "ابن املعتز" من شعوره بالنقص‪ ،‬ووجود زخم كبري من العقد‬
‫النفسية داخله وخوفه األزيل من نوائب الدهر وخاصة املوت وما يتصل هبما من الفراق‬
‫واملشيب‪ ،‬كان هلا عملها يف أسلوبه من إسراف يف البديع وحترره يف التعبري‪ ،‬حىت كان‬
‫التشخيص "‪ "Personnification‬واضحا يف شعره وكان هلا أثرا يف غموض بعض معانيه‪ ،‬وتراوح‬
‫ألفاظه بني الغرابة واجلزالة وكذا نظرته إىل اجلمال وتذبذبه يف عقيدته أو رأيه‪ ،‬وهنا يظهر أثر‬
‫العامل النفسي "فابن املعتز" كان يشعر شعورا قويا بنقص فدفعه هذا الشعوريا إىل جتميل كل‬
‫ما متتد إليه يده‪.‬‬
‫ولقد أغرم "ابن املعتز" بألوان مميزة من احملسنات البديعية واليت هي من ضروب التجميل‪،‬‬
‫فعزز هبما الشاعر نقاط ضعفه مساوقا سنة الوجود ومسايرا طبيعة األشياء‪ ،‬وهذه العقيدة هي‬
‫اليت أوجدت يف "ابن املعتز" إرهاف حس وحدة شعور‪ ،‬فأسبغ على الطبيعة حياة وبث يف‬
‫اجلماد روحا يف الصورة اليت يطلق عليها يف البالغة الغربية "التشخيص" واليت توجد يف بالغتنا‬
‫العربية مبفهوم االستعارة املكنية‪ ،‬إن نفسية "ابن املعتز" عموما تتميز باستمرارية ارتكازها بشكل‬
‫كبري على حتقيق التوازن النفسي عرب التقمص املرتبط أصال حبلم اليقظة‪ ،‬فحىت لو ازداد معدل‬
‫النشاط الواقعي عرب ممارسة العمل يف حياة الشاعر فهو لن يتخلى عن اخليال يف إدارة شؤون‬
‫شخصيته ولكي حيقق الشاعر االحرتام الذايت فإنه حياول التعويض باستخدام العملية اإلبداعية‬
‫بدال من حلم اليقظة‪ ،‬فهنا تصبح احلالة الشعرية عند الشاعر هي اإلطار نفسه الذي كان حييط‬
‫سابقا حبلم اليقظة لكن اآلن الشاعر يصر على مشاركة هذا احللم مع حميطه املتلقي الذي يوجه‬
‫إليه نتاجه الشعري‪.‬‬
‫إن متاهي نفسية "ابن املعتز" مع الطبيعة وصفا وتصويرا هلو احلقيقة الكامنة وراء سعيه‬
‫الدؤوب وراء تغطية الرتوق النفسية داخله‪ ،‬فهو عندما يتحدث عن الطبيعة تغلب عليه الصفة‬

‫‪- 201 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫النفسية واالعرتاف غري املباشر‪ ،‬فكأنه ال يتحدث عن الطبيعة كشيء مستقل منفصل له وجود‬
‫ذايت حمدود بل يغلب أن ينتمي إليها أو يضفي عليها ما يعتمل يف نفسه من انعكاسات‪،‬‬
‫أشاعت هويتها الظاهرة وتقنعت مبظهر طبيعي لذلك فإن هذا النوع من الوصف هو يف الواقع‬
‫امتداد لنفس الشاعر ومأساته أو فرحته عرب الطبيعة‪ ،‬ولعلنا ال نفهم هذا الواقع على حقيقته إال‬
‫إذا تصدينا له من خالل نفسية الشاعر اليت جترعت من املآسي ما تنوء حبمله اجلبال‪.‬‬
‫ورمبا كان نزوع "ابن املعتز" حنو الطبيعة هو نزوع نفساين بالدرجة األوىل بعد أن استيأس‬
‫من نفعية معاصرة الناس لتخفيف وطأ الكتل احلزينة الرابضة على نفسيته‪ ،‬فقد أطبقت عليه‬
‫احلياة جبدار من اليأس وأناطت به شعورا بتفاهة احلياة وعقمها فارتد إىل نفسه‪ ،‬يتمضغ قنوطها‬
‫وعبثية مصريها‪ ،‬وعندئذ أخذ يتحرى وحشته وختاذله‪ ،‬فإذا هو يف هذا يشبه "بريون" أو‬
‫"كيتس" وغريهم من الرومنسيني يرمتي يف أحضان الطبيعة‪ ،‬أحضان احلياة السالية يتعوض‬
‫بالطبيعة احملبة الكرمية عن اإلنسان األناين املاكر‪ ،‬ولقد جعل يشعر يف تأملها واخنطافه عربها أنه‬
‫حييا ويتصل حبياة سوية حية يف جودها متحدثة يف صمتها مؤنسة يف وحشتها‪.‬‬
‫لقد عرب "ابن املعتز" عن قابلياته احلسية والعقلية تعبريا يستحوذ االهتمام ويستأثر‬
‫االنتباه‪ ،‬فهو تسامى يف شعره أحيانا وعرب عن اعتداد بالنفس يف مواقف وأعرب عن تالؤمه مع‬
‫احلياة يف مواطن وتشكى من جورها يف مواطن‪ ،‬وأوضح شيئا من التناقض النفسي يف كثري من‬
‫مظان شعره‪ ،‬وال ينكر أن قوة شعره وقوة شخصيته إنا ينعكسان يف القوة اإلبداعية اليت طاوعته‬
‫فوظفها حبيث راح يؤكد ذاته بألفاظ تنسال من ينبوع عبقريته‪ ،‬ومن هنا تتبدى لنا شخصية‬
‫ونفسية "ابن املعتز" وأثر ذلك على إبداعه‪ ،‬ويف هذا الصدد يقول العقاد‪« :‬الشاعر الذي ال‬
‫نعرفه بشعره ال يستحق أن يعرف‪ ،‬أل ّن كالم الشاعر هو الصلة الكبرى التي بيننا وبينه‬
‫معبرا عن نفسه‪ ،‬واص ًفا لها ممثالً لشعورها فليس هو بطائل‪ ،‬وإن‬
‫وإ ْن لم يكن هذا الكالم ً‬

‫‪- 202 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مستجمعا لصفاتها وأطوارها فهو حسبنا من معرفة بالشاعر وترجمة‬


‫ً‬ ‫معبرا عن النفس‬
‫كان ً‬
‫لحياته‪ ،‬ال يزيد عليها التاريخ إالّ من قبيل التفصيل والتفسير أو من قبيل الحشر‬
‫والفضول»(‪ ،)1‬هذا الرأي النقدي للعقاد يثبت لنا أن "ابن املعتز" ينطلق يف شعره من جتربة‬
‫شعورية واعية ومتالقحة مع املؤثر اخلارجي‪ ،‬وال غرابة أنه أكثر يف شعره من التوكيد على نوازع‬
‫نفسية بواعثها حصيلة تفاعل نفسي وتربوي واجتماعي كونته مؤثرات بيئية خمتلفة‪ ،‬إذ أنه قد‬
‫تقلب يف دنياه يف بيئات طبيعية ومادية وبشرية تفاوتت مكوناهتا فانعكست آثارها عليه على‬
‫حنو شعوري أو الشعوري‪ ،‬وعلى هذا فقد تواءمت شخصية "ابن املعتز" مع وجهة نظر علم‬
‫النفس واليت ترى بوجوب أن يكون اإلنسان متوازنا مع نفسه (ذاته) وبيئته وهذا الرأي ينسجم‬
‫مع الصورة اليت يكوهنا الفرد عن العامل وحيدد تفكريه وعاطفته وإرادته ونشاطه‪.‬‬
‫وهكذا من هذا املنطلق نشأ الفعل اإلرادي اإلبداعي عند "ابن املعتز" مزاوجا بني دافع‬
‫تأكيد الذات‪ ،‬ومغزى السلوك اخلارجي الذي ي نم عما يعتمل داخل الذات‪ ،‬عموما لقد‬
‫حفلت أشعار "ابن املعتز" بالكثري من الصور الشعرية امللونة باملشاعر واألحاسيس اليت ترتجم‬
‫دخائل الشاعر‪ ،‬وتنقل للمتلقي صدى املرئيات يف إحساسه الشعري ويف خميلته‪ ،‬ومن هنا‬
‫فالنماذج اآلتية من شعره ال ختلو من جوانب نفسية جتلت خاصة يف موضوعات معينة مثل‬
‫الطبيعة مثلما سبق ذكره وكذلك اخلمر والرحلة للصيد‪.‬‬
‫أما الطبيعة فقد مثلت مسرحا واسعا جتول الشاعر يف أعطافه ووصف مظاهره ومتثل‬
‫املشاعر اإلنسانية من خالهلا‪ ،‬فالليل والنجوم والصبح مجعتها اهلموم واملصاعب‪ ،‬كما ضمتها‬
‫الطبيعة والسحابة املاطرة والرتاب الذي تسقيه ضمتها صورة أخرى بني حائم وهائم‪ ،‬ومها‬
‫صفتان نفسيتان مبا هلما من أسباب ودواع‪ ،‬فالنرجس وعليه الندى يضمهما إطار تصويري‪،‬‬

‫(‪ )1‬عباس حممود العقاد‪ :‬ساعات بني الكتب‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بريوت‪1970 ،‬م‪ ،‬ص ‪.34‬‬

‫‪- 203 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فالنرجس ناظر عاتب مسرور‪ ،‬والندى حمب حمزون مهجور‪ ،‬والليل هو احلرية واهلم‪ ،‬وهو‬
‫األحزان واآلالم اليت تنتاب النفس احملزونة‪ ،‬ومما يصاحب ذلك طول ساعاته وامتدادها حىت‬
‫حيسبها املهموم دهرا‪ ،‬فالطبيعة عند "ابن املعتز" نابضة باألحاسيس واملشاعر وبعض املظاهر‬
‫الطبيعية من حوله هلا أسباب نفسية‪ ،‬فالشاعر الذي تعود تأمل النجوم كثريا ما يراها المعة‬
‫مضيئة‪ ،‬مل يلفتها مجاهلا وال ضياؤها الرباق وأشكاهلا اليت توحي له هبيئات خمتلفة‪ ،‬بل رآها تلك‬
‫الليلة مالزمة مكاهنا مل تغادره ومل يضعف ضوؤها إيذانا بأفوهلا ألن الغرب قد أغلق أبوابه دوهنا‪،‬‬
‫وتركها مجاعات (النجوم) منتظمة تنتظر‪ ،‬وينتظر معها املهموم رحيلها وانقضاء الليل فحاله هنا‬
‫كحال امرئ القيس حني قال(‪:)1‬‬
‫أال أيها الليل الطويل أال انجلي * بصبح وما الصباح منك بأمثل‬
‫م يكمل الشاعر الصورة النفسية للكون‪ ،‬فالفجر مل يتأخر يف الظهور إال لقسوة هذه‬
‫الليلة وازدحام اآلالم واهلموم هبا‪ ،‬فهذه األبعاد الثالثة للكون الليل والنجوم والفجر‪ ،‬تشارك‬
‫البعد الرابع اإلنسان مهومه وأحزانه‪ ،‬بل ومتتصها منه لتجرتها وحدها فتجتمع األضالع األربعة‬
‫لشكل الطبيعة ليمثل اإلنسان ضلعا منها‪ ،‬يقول ابن املعتز(‪:)2‬‬
‫وقراك اله ـ ـم أوصـ ـ ـ ـاب ـ ـ ـ ـا‬ ‫*‬ ‫جار هذا الدهر أو أبا‬
‫ال ترى في الغرب أبوابا‬ ‫*‬ ‫ووفـ ـود النجم واقـفـ ـ ـ ـة‬
‫لـيل ـ ـةً ق ـ ـ ـ ـاسيـ ـ ـ ـ ـة هابـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫*‬ ‫وكأ ّن الفجر حين رأى‬
‫ويف تصوير بديع تربز نفسية الشاعر املتعطشة لالرتواء من نعيم اللذة فيقول(‪:)3‬‬

‫(‪ )1‬الزوزوين‪ :‬شرح املعلقات السبع‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت لبنان‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫(‪ )2‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.412‬‬

‫‪- 204 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مكظوظةً مس ِو ّدة ال ـ ـق ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫وادم‬ ‫ِ‬
‫الحائم *‬ ‫جاءت تهادي كالغراب‬
‫حتى شفت غلّة ترب هائ ـ ـ ِم‬ ‫*‬ ‫تضج بالتهتان والهم ـ ـ ـ ـائـ ـ ـ ـ ـ ِم‬
‫فهذا الرتاب اهلائم باملطر يشفي غليله كرمز للحاجة يف أبسط صورها يف الطبيعة‪ ،‬م العطاء‬
‫املتدافق الذي حيقق اإلشباع واالرتواء‪ ،‬ويف مواضع أخرى من شعره يصف الشاعر أيضا زهر‬
‫النرجس من خالل إحساسه به‪ ،‬وفيض مشاعره‪ ،‬ويقول(‪:)1‬‬
‫أما ترى النرجس الميّاس يلحظنا * ألحاظ ذي فرج بالعتب مسـروِر‬
‫كأ ّن أحداقها في حسن صورتها * مداهـن التّب ـ ِر في أوراق ك ـ ـ ـافـ ـ ـوِر‬
‫فهو يشخص النرجس وجيعل له عواطف الفرح والسرور‪ ،‬وإحساس الشاعر هبذا النرجس انربى‬
‫لوصفه فجمال األحداق دعاه إىل تشبيهها بلون الذهب‪ ،‬فهو أخاذ يسلب اللب وميلك النفس‬
‫بربيقه ورونقه‪ ،‬ويستشري الشاعر انتباه القارئ والسامع بصياغته املعىن بأسلوب االستفهام‬
‫التقريري‪ ،‬ويف صورة بدائعية أخرى يف وصف النرجس يقول ابن املعتز(‪:)2‬‬
‫ض ـ ـ ــر‬
‫عيون لجين فوقها حدق صفر * يزينها من تحتها عمد خـ ْ‬
‫أضر به الهجر‬
‫الطل في جنباتها * دموع محب قد ّ‬
‫كأ ّن انحدار ّ‬
‫يتحدث الشاعر يف هذه املقطوعة عن بداعة الندى فوق زهر النرجس من خالل وصفه له‬
‫ولأللوان اليت تضمها‪ ،‬ومن أسباب مجاله أيضا أهنا عيون حملب آمله وأوجعه اهلجر فاهنمرت‬
‫دموعه‪ ،‬ومن أهم أسباب اجلمال أيضا اتصال الندى بالزهرة اتصاال جيعل الندى نابعا منها‬
‫على اعتباره دمعها‪ ،‬فإجياد الشاعر هلذه الصلة بينهما أعطاها كونا جديدا مل يكن هلا يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬فاملادة األساسية للموصوف أو املصور هو النرجس وعليه قطرات الندى وأما الوصف‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.254‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.202‬‬

‫‪- 205 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فهو العني تذرف الدمع‪ ،‬فأضاف الشاعر إىل الصورة احلب واهلجر فأعطاها لونا جديدا‪،‬‬
‫فالنرجس هبذه العبارات إىل عامل اإلنسان أقرب منه إىل عامل الطبيعة اليت تتسم بالعفوية‬
‫واإلرادية‪ ،‬ولكن متاهي نفسية "ابن املعتز" ال تنتهي هنا فهو جيعل منها معادال لشخصه‪،‬‬
‫حساسة بأطواره النفسية العميقة ولننظر قوله مثال(‪:)1‬‬
‫الزه ِر‬
‫حتى بكت بدموعي أعين ّ‬ ‫*‬ ‫بالروض أبكي فقد مشبهـ ـ ِه‬
‫ِ‬ ‫وقفت‬
‫لـرحمتي الستع ـ ـ ـارته من ال ـ ـمـط ِر‬ ‫*‬ ‫لو لم تعرها جفوني الدمع تسفحه‬
‫صورة رائعة عن ذلك االنسجام والوحدة اليت خلقها الشاعر لنفسه مع مظهر طبيعي‬
‫جعله مؤثرا ومتأثرا يف الوقت نفسه‪ ،‬فصفة البكاء هنا صفة إنسانية أضفاها الشاعر على‬
‫الروض تبيانا على الوشائجية السيكولوجية اليت حتكم شخصه بالطبيعة‪ ،‬فعندما تأثر الشاعر‬
‫باكيا ملوقفه وحال املؤثر الواقعي انربى الزهر ليجاريه يف بكائه ومشاطرته آالمه‪ ،‬فحىت لو مل‬
‫تعرها أجفانه الدمع‪ ،‬يقسم الشاعر أن هذا الزهر سيستعري العربات من املطر حىت حيزن حلزن‬
‫خليله الذي هو الشاعر‪ ،‬فابن املعتز أخذ ينفخ الروح يف مظاهر الطبيعة؛ أي راح يتعامل معها‬
‫وظواهرها على أهنا كائنات حية تشعر مبا يشعر به كل ذي روح‪ ،‬ولكنها ال تشبه اإلنسان‬
‫األناين القاسي يف تصرفاته مع أهله وخالنه‪ ،‬ويف موضع آخر يذهب "ابن املعتز" بعيدا يف‬
‫التماهي النفسي مع الطبيعة حيث ينفث فيها ومن خالهلا لواعجه ومآسيه يقول مثال(‪:)2‬‬
‫فيا رب يوم لم أكن فيه منكرا‬ ‫*‬ ‫فإما تريني بال ـذي قد نكـ ـ ـرته‬
‫ّ‬
‫وه َّز بأنفاس ضعاف وأ ْمط ـ ـ ـ ـرا‬ ‫*‬ ‫أروح كغصن البان بيّته الندى‬
‫تغلغل فيها مـ ـاؤهـ ـا وتحيّـ ـ ـ ـ ـ ـرا‬ ‫*‬ ‫فمال على ميثاء ناعمة الثرى‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.195‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫‪- 206 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إهنا صورة فنية تثبت لنا أن الشاعر مأزوم نفسيا ومبا أنه شاعر رومنطيقي فهو يلوذ إىل أمه‬
‫الرؤوم وهي الطبيعة‪ ،‬فشبه نفسه هنا بغصن البان الذي أثقله الندى وهو يريد بالندى هنا‬
‫الدموع‪ ،‬هذا الغصن الذي هز بأنفاس واليت هي نسمات اهلواء‪ ،‬هذه األنفاس اليت جعلها‬
‫الشاعر ضعافا وهنا يستكين الشاعر عن نفسه م أمطر هذا الغصن‪ ،‬فالشاعر بعد أن خنقته‬
‫وهزته أنفاسه الضعاف انسال دمعه يف حلظة ارتباك شعوري وجراح نفسي‪ ،‬م يكمل "ابن‬
‫املعتز" تصويره هلذا الغصن ‪-‬وهو يريد هبذا الغصن نفسه كما سبقت اإلشارة إليه‪ -‬الذي مال‬
‫على ميثاء وهي األرض اللينة السهلة من غري رمل‪ ،‬والداللة هنا أن الشاعر مل يستطع حتمل‬
‫األسى فلم جيد سوى هذه األرض امللساء الناعمة الحتضانه واللجوء إليها يف أوج حلظات‬
‫إنكساره النفسي‪ ،‬وإذن فقد شكلت الطبيعة املالذ املريح الذي جيد فيه "ابن املعتز" وداعته‬
‫ويشاركها "‪ "Share‬نكبات دهره فيبوح هلا بضره ويتنفس معها مآسيه‪ ،‬م يعود الشاعر يف‬
‫صورة نفسية أخرى ليجعل من نفسه والطبيعة يف خانة واحدة من موجهة الدهر اللئيم الذي‬
‫جسده هذه املرة وككثري من املرات يف الليل السرمدي احلافل ببواعث الفوضى الشعورية داخل‬
‫األحياء يقول(‪:)1‬‬
‫هم وال ـ ـفك ِر‬
‫* أرعى النجوم حليف الـ ـ ّ‬ ‫السهر‬
‫يا ليلةً بت فيها دائم َّ‬
‫الصبا في مصطلى خض ِر‬
‫* جمر جلته ّ‬ ‫ذر الليل ظلمته‬
‫كأنها‪ ،‬حين ّ‬
‫تستمر النكبة السيكولوجية للشاعر مع غرميه الليل الذي ما إن حل عليه حىت انربى له‬
‫بالسهر وجفاه النوم حىت لكأنه يرعى النجوم‪ ،‬وهنا شخص الشاعر النجوم وبث فيها احلياة‬
‫وجعل نفسه من نفسه راعيا هلا أو عليها‪ ،‬وهو يريد هبذا التصوير الفين طول املعاناة واستمرارها‬
‫دون أن جيد هلا ترياقا يغنيه عنها ‪-‬احلالة الوجودية والوحدوية‪ -‬بالراحة والطمأنينة وهناء العيش‪،‬‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬

‫‪- 207 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فهذا الليل الذي هتجع فيه اخلالئق للتخلص من عناء مكابدة يوم طويل باملشاق وجتديد‬
‫هرمونات الراحة الشعورية‪ ،‬يتحالف فيه الشاعر مع اهلم والفكر اللذين يتخريان الليل ملنادمته‬
‫وتقويض رغبته وآماله يف حلظات ليلية يغازل فيها الراحة اجلسدية على األقل‪ ،‬م يتم الشاعر‬
‫تصويره عرب تشبيه هذه النجوم باجلمر أو حتوهلا إىل مجر قذى بعد أن كانت يف عليائها تنبض‬
‫إشراقا ونورا يسر الناظر‪ ،‬وهذا التحول يأيت مباشرة بعد انبساط الليل وفرض جربوته وسواده‬
‫الكاحل املهيب‪ ،‬وبذا فالشاعر والنجوم اليت متثل الطبيعة هنا باعتبارها مظهرا من مظاهرها يف‬
‫بوتقة مصريية واحدة يف مواجهة هذا احلاجز الزمين القاضي عليهما باهليجان النفسي حسب‬
‫تصوير الشاعر‪.‬‬
‫ملا كان "ابن املعتز" يهرب إىل الطبيعة مستجريا هبا من سطوة الدهر فإن هلذا اهلروب له‬
‫ماله من حمفزات ودوافع كانت يف أغلبها نفسية مأساوية وليس أكثر مأساوية من مقتل أبيه‬
‫أمامه فمأساته مبصري أبيه املؤمل جسد عمليا مأساة أكرب وأشد لوعة هي مأساته ومأساة قومه‬
‫بضياع ملك عريض‪ ،‬ومن هنا ندرك عمق احلسرة عند هذا الشاعر الذي قد يكون صدر يف‬
‫القصيدة عن جتريب مأساة مضاعفة يف مستوييها الفردي واجلماعي يف آن‪ ،‬ولننظر تلك احلالة‬
‫النفسية الذاوية املنكسرة واألسى العميق يف رثاءه أبيه(‪:)1‬‬
‫وبعيـ ـ ـ ـد ل ـم ينـ ـ ـم لـ ـي ثـ ـ ـ ـ ـار‬ ‫*‬ ‫لو به أقتل كل قريـ ـ ـ ــب‬
‫لم تصل بـي فخطاها قصار‬ ‫*‬ ‫مطلته النصر مني سـ ـ ـ ــن‬
‫ذل للملك ج ـ ـ ـ ـ ـ ـار‬
‫مدة مـ ـا ّ‬ ‫*‬ ‫ولعمري لو تمطّت بجسمي‬
‫إن هذه األبيات متنح القارئ قدرا وافرا من اإلحياءات اليت تعزز إحياءات األمل املضاعف يف‬
‫بعض أبيات القصيدة‪ ،‬ومن هنا يتبدى األسى العميق الذي جتسد يف نفسيته بأكثر مما كان‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.202‬‬

‫‪- 208 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يتخيل‪ ،‬لسبب تلك العالقة الضدية بني زمانني؛ يف دار امللك اليت انتهت بتدمري وجهها‬
‫احلسن‪ ،‬وكذا الفاجعة اليت انطلقت من بشاعة مصري أبيه عرب تعرضه للقتل‪ ،‬لذلك هو يتحسر‬
‫على الزمن فهو لو طال به العهد النتصر للملك والنتصر ألبيه‪ ،‬لكن اخلذالن طاله وطال دار‬
‫امللك معه‪ ،‬فقد جتسدت املأساوية النفسية هنا يف اجلمع بني نكبتني توحدتا داخل الشاعر‪،‬‬
‫لكن ذلك اخلذالن ممن رجاهم للنصرة زاد مهه وجعا على وجع‪ ،‬فرسم هلموم قلبه صورتني‬
‫للفاجعة جيسدان أعلى درجات األمل والوجع يقول(‪:)1‬‬
‫لو ك ّن في صخر لكان صدوعا‬ ‫*‬ ‫أفنى العزاء هموم قلب موجـ ـ ــع‬
‫فاحزن فلست بمثله مفج ـ ـ ـ ـوعـا‬ ‫يا قلب ليس إلى الصبى من مرجع *‬
‫حبل الهوى ونزعني عنك نزوعا‬ ‫*‬ ‫حرمتك آرام الصريم وقطـ ـ ــعت‬
‫جتسدت صورتا قلبه املهموم يف عبارة أفىن العزاء واليت جتسد هليب اهلموم‪ ،‬والثانية صدمة‬
‫القلب اليت رمسها فنيا لتصدع الصخر‪ ،‬يثرينا هذا الرتكيب للصورة اجملسمة اليت أنسن فيها‬
‫املعنويات وأدخلها يف نزاع كنزاع البشر املاحق‪ ،‬فاختياره كلمة أفىن بدال من أي مرادف أقل‬
‫حدة‪ ،‬إيهام منه بأن أزمته النفسية تنامت شدهتا إىل أقصى مدى‪ ،‬ويتم هذه الصورة املهولة يف‬
‫عبارة تصدع الصخر‪ ،‬ألنه حيتاج إىل قوة عظمى تفعل يف داخله فعل التفجري اهلائل‪ ،‬فكيف‬
‫ميكن أن يكون وقع القوة يف قلبه؟! هي طاقة اهلموم ترتاءى ملن يعانيها مبثل هذا الشعور‬
‫املدمر‪ ،‬إن هذا نفسه هو املعادل املوضوعي للهموم‪ ،‬الذي تراءى للشاعر وهو يتحسس أمل‬
‫تلك اهلموم داخل قلبه‪ ،‬ومن املالحظ أيضا يف هذه األبيات أن عمق املأساة يف غياب النجاة‬
‫أوصلت الشاعر حد اليأس وجتسد هذا يف خماطبته قلبه بالتحسر على أيام الصبا‪ ،‬كما أن‬
‫الشاعر قد جسم يف البيت األخري كال من املاضي واحلاضر ليحدث بينهما عالقة وحوارا‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.300‬‬

‫‪- 209 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مضمرا رفض فيه املاضي أي اتصال مع احلاضر‪ ،‬فالفعل "صرم" يعين قطع‪ ،‬ويريد به الشاعر‬
‫القطيعة املعتادة مع تكرار فراق األحبة‪.‬‬
‫الواقع أن نفسية "ابن املعتز" ورغم أنه جسدها يف كثري من األحوال نفسية مأزومة‪،‬‬
‫منكسرة‪ ،‬حمبطة‪ ،‬ولكنه أحيانا جسد مقولة األزمة تلد اهلمة‪ ،‬فمن احملنة إىل القدرة املفارقة‬
‫العجيبة تتجسد كيفية انتفاض الشاعر على ذاته‪ ،‬فلقد وصل يف هناية املقطع السابق أعلى‬
‫درجات اليأس وهو هنا يبدأ من أعلى درجات القوة‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫ونهز أحشاء ِ‬
‫البالد جموعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫*‬ ‫إنّا لننت ـ ـ ـاب ِ‬
‫العداة وإن نـ ْأوا‬
‫عجبًا من القول المصيب بديعا‬ ‫*‬ ‫ونق ـ ـ ـ ـول فوق أسرة ومنـ ـ ـ ـابر‬
‫جروا الحديد أزجة ودروعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫قوم إذا غضبوا على أعدائهم *‬
‫ض ْربًا يفجر من دم ينبوعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫هم أجسامهم *‬
‫حتى تفارق هام ْ‬
‫والواقع أن هذا من ذاك؛ فهو ال يستطيع االستمرار يف حالة اليأس إىل ما الهناية وإنا هو‬
‫حباجة إىل أن تكسر هذه احلال وإىل أن تتحول إىل ما يشكل معها توازنا نفسيا يعيد لذاته‬
‫الثقة يف مكسب ما‪ ،‬كي يعادل تلك اخلسارة اليت غدت واقعا مقضيا‪ ،‬وما دام احلاضر لن‬
‫مينحه ذاك املكسب فإن اخليال هو البديل النقيض اجلاهز لالنطالق وإحداث التوازن حىت لو‬
‫كان تعلة‪ ،‬فعزوف الشاعر عن صيغة املاضي الذي جتسدت فيه هذه القوى اخلارقة ألهله‬
‫وأجداده‪ ،‬إىل صيغة احلاضر الذي ترهلت فيه اخلالفة وصارت عبارة عن تناحرات وتنافسات‬
‫سلطوية‪ ،‬هو عزوف له دافع داخلي له مسوغاته الوجدانية ال العقلية الواعية‪ ،‬فلو جلأ إىل‬
‫املاضي لكان كمن يصف حدثا مضى وانتهى أمره‪ ،‬لكن نفسية الشاعر الضمآنة ملثل هكذا‬
‫اجنازات ترفض قبول هذا وتصر على أن قدرة القوم ومن خالهلم هو‪ ،‬تنحو على الطبع والشيمة‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.300‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أقرب منها إىل احلدث فالطبع له دوام الثبات أما احلدث فهو وقيت آين متغري‪ ،‬إن يف هذا‬
‫املنحى انتفاضة على االستكانة اليت أصابته بانكسار كبري يف املقطع األول مثلما رأينا‪ ،‬ولكنها‬
‫يف واقع احلال انتفاضة زائفة‪ ،‬ولذلك اقرتنت بتصوير مبالغ فيه لتلك القدرة اليت كمن ضعفها‬
‫فيها‪ ،‬وملا آن حان وقت حضور ذلك الضعف حضر فاهنار كل شيء‪.‬‬
‫وباعتبار أن "ابن املعتز" طاملا التصقت به صفة أمري التشبيه يف النقد القدمي‪ ،‬فإن هلذا‬
‫التشبيه تأويل نفسي مميز عند الشاعر لذلك فإن الدوافع النفسية تنفرد يف جتسيد األحاسيس‬
‫واملشاعر يف نتاج الشاعر من خالل رؤيته لتلك احلالة‪ ،‬فتسهم يف صورة املقارنة يف التشبيه‬
‫فتبعث يف املتلقي حالة التأمل واملقارنة بني احلالتني اللتني جتمع بني مكوناهتا صفة واحدة‬
‫فتصل إىل حالة التالحم ويكون ذلك باعثا لرسم صورة التشبيه املعربة واملؤثرة يف املتلقي‪ ،‬لذلك‬
‫فإن الصورة اليت يرمسها الشاعر من خالل نصه تبدو ذات عالقة بتكوين الشاعر النفسي من‬
‫حيث كوهنا تركز على عاطفة الشاعر املستقاة من العامل البيئي الذي حييا فيه‪ ،‬وجند هذا األمر‬
‫حاضرا بقوة يف فخريات الشاعر أو يف وصف اخليل‪ ،‬أو حىت االعتداد بنفسه حني خروجه يف‬
‫الرحلة الطردية‪.‬‬
‫فاعتماد الباعث النفسي لدى الشاعر على العوامل املؤثرة واليت هلا الدور األكرب يف إجناح‬
‫عملية رسم لوحة التشبيه ألهنا تنبع من التأثر والتأثري فتكون الصورة املرسومة يف شعر "ابن‬
‫املعتز" ذات مالمح تعبريية متمثلة يف نقل دوافعه النفسية املتأثرة يف العوامل احمليطة به‪ ،‬ومن‬
‫خالل قراءة جمملة للنصوص التشبيهية يف خمتلف األغراض عند "ابن املعتز" يالحظ أهنا بنيت‬
‫أساسا على دوافع نفسية نقلتها صورة التشبيه ومن املالحظ كذلك أن الفنون البالغية ذات‬
‫األداء الصويت تشكل حضورا ملموسا يف النصوص الشعرية اليت حتمل صورة التشبيه‪ ،‬وجتسد‬
‫الدالالت النفسية بشكل مكثف ومعرب‪ ،‬مما يعطي دورا للباعث النفسي لينسجم مع التوقعات‬

‫‪- 211 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بأن هذا الباعث يؤثر بشكل كبري يف صورة التشبيه يف شعر "ابن املعتز"‪ ،‬ولذلك فمن املنطقي‬
‫القول بأن الباعث النفسي ميثل الدافع احلقيقي يف رسم التشبيه املؤثر‪ ،‬ولذلك فقد تفنن "ابن‬
‫املعتز" يف خطاباته الشعرية من رسم ممتع ال يقف عند حدود الصورة الواحدة باستخدام‬
‫التشبيه بل يولد الشاعر منها صورا متتالية تشهد له بالبالغة والرباعة‪.‬‬
‫ورغم أن الطبيعة كانت له ندميا ومتنفسا نفسيا غري أهنا مل تكن وحدها يف هذا اجملال‪،‬‬
‫فهو حني يلجأ إىل اخلمر رجل يريد أن ينسى ما بداخله من اهلموم واألحزان ومن ذلك قوله‬
‫عنها(‪:)1‬‬
‫وأنفدا في السرور المال والعمرا‬ ‫*‬ ‫صاحبي دعا الع َّذال في شغب‬
‫َّ‬ ‫يا‬
‫الهم واألحزان والفكرا‬
‫تستأصل ّ‬ ‫*‬ ‫راحـ ـ ـ ـ ـ ـا معتَّقـ ـ ـ ـ ــة‬ ‫ِّ‬
‫وسقيا واشرب ـ ـ ـا ً‬
‫فهو يدعو إىل بذل املال والعمر يف سبيل اخلمر‪ ،‬فهي السرور ذاته وهي أيضا تقتطع اهلم‬
‫واحلزن واألمل وللتأكيد على هذه القدرة اليت تتميز هبا اخلمر على إزالة اهلم ومنح السرور‪،‬‬
‫وجلب البهجة على القلب يقول(‪:)2‬‬
‫السـ ـ ـ ـ ـ ّر ِاء‬
‫وتعير قلبك حلّة ّ‬ ‫صفراء تنسيـ ـك الهم ـ ـ ـوم إذا ب ـ ـ ـ ـ ْدت *‬
‫سر ِاء‬
‫كل ّ‬ ‫تج ِزل عطيَّته من ِّ‬ ‫تلك التي إن تصادف قلب ذي حز ِن *‬
‫م إن مرافقته هلا يف الواقع أو يف اخليال ال يتفتق عندها اإلبداع وال تصقل معها العبقرية‪،‬‬
‫فالشاعر يف وصفه هلا إنا هو يهرب إليها من باب درء اهلموم عن نفسيته املستقاة من جحيم‬
‫الواقع‪.‬‬

‫(‪ )1‬أبو بكر الصويل‪ :‬كتاب شعر ابن املعتز‪ ،‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪- 212 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إن "ابن املعتز" شكل ظاهرة نفسية معقدة ومتداخلة تبعا ملسارات حياته وانعكاسات‬
‫الواقعية اجملتمعية على هذه النفسية‪ ،‬وقد مثل "ابن املعتز" ذلك النوع من الشعراء الذي ما إن‬
‫سيطر عليه فكرة ما حىت ينفعل هبا‪ ،‬فتنفتح أمام عينيه رؤيته يتحسسها ويشغف هبا‪ ،‬فتتحفز‬
‫امللكة اإلبداعية ناهلة من الثروة اللغوية عنده حىت خترج هذه الكلمات واملفردات موقعة‬
‫موسيقيا حىت ينتظم له القول فتأخذ القصيدة جمراها عنده‪ ،‬وإن كان العمل بدأ على هذا النحو‬
‫الشعوريا فإنه يصبح شعوريا عند السري يف العمل الشعري(‪ ،)1‬ألن بداية األمر كله ‪-‬نقصد‬
‫اإلبداع عند ابن املعتز‪ -‬يتم وفق معادلة بيولوجية حيث إن أمر اإلبداع يبدأ اضطرابا بيولوجيا‬
‫يؤثر على أعصاب الشاعر‪.‬‬
‫م يشتد التأزم مع التدفقات الكيميائية يف عقله وجسده وتستمر هذه احلالة النفسية‬
‫والعقلية واجلسدية حىت يستفرغ الشاعر كل نداءاته الداخلية مستفيدا يف ذلك من خرباته‬
‫الثقافية والعملية واحلضارية‪ ،‬ومما يتمتع به من قدرة على احلدس واستشراف املستقبل‪ ،‬فهو‬
‫يتنقل من خالل هذه احلالة األنطولوجية إىل ما وراء الواقع وخيرج بواسطتها عن احمليط املادي‬
‫ليتعامل مباشرة مع انبثاقات ضوئية ترتسم يف عقله‪ ،‬وتعرب أمام عينيه متخذة شكل شريط من‬
‫األفكار والصور واملفردات اليت تتكيف على يديه لتصبح قصيدة من القصائد اخلالدة ومن هنا‬
‫تربز قيمة التشكيل اجلمايل النفسي عند "ابن املعتز"‪.‬‬
‫إن "ابن املعتز" كان يسعى من خالل خياله اخلصب إىل إرواء ظمأه النفسي املشبع‬
‫برغباته وطموحاته‪ ،‬وحىت آالمه وانكساراته‪ ،‬ويف هذه احلاالت جند أن "ابن املعتز" قد تسامى‬
‫"‪ "Transcendence‬يف شعره يف مواطن كثرية وتأمل يف مواطن كثرية وندب ذاته يف مواقف وإن‬
‫ما جاء به من خلق يف شعره كأنه أراد أن يعوض به ضحالة احلياة‪ ،‬وكأنه كان يرمي إىل إطالق‬

‫‪(1) C.M. Bowra: Inspiration, Macmillan, London, 1955, P 04 (Adapted).‬‬

‫‪- 213 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫شحنات نفسية حبيسة ترتامى متأججة حبيث جند الصياغة من القوة املتناهية مما يعكس قوة‬
‫شخصية "ابن املعتز"‪ ،‬ذلك ألن التحليل النفسي يقول أن قوة األثر األديب والفين والفكري إنا‬
‫يعكس شخصية صاحبه‪ ،‬وقد أراد "ابن املعتز" بشعره أن خيفف على ذاته شقاء احلياة واألزلية‬
‫النكدية للزمان‪ ،‬فلقد جعل "ابن املعتز" من شعره إطالله ينفذ من خالهلا إىل معرتك احلياة وهلذا‬
‫فهو مازج بني اعتقاداته النفسية وبني العنت الذي القاه يف احلياة‪ ،‬وكثريا ما جند األنا العليا عند‬
‫"ابن املعتز" متفاعلة على حنو يكاد ينطقه بالشعور باهلجر من اآلخرين وبالالأمان من احلياة‪.‬‬
‫إن الكشف عن منازع األنا املتقلبة هذه عند "ابن املعتز" يوحي بأنه يعيش حياة نفسية قد‬
‫يتمثل فيها التجانس واالنسجام أحيانا وقد يبدو عليها شيء من الصراع النفسي الذي ينعكس‬
‫على عالقته االجتماعية وعلى صلته باحلياة من جهة أخرى‪ ،‬ورب وجوه من احلياة النفسية‬
‫يصورها مبدع مثل "ابن املعتز" ويتجاوز فيها املدى أو يقصر به الشوط‪ ،‬ولكن "ابن املعتز" كان‬
‫دائما من حيث اخليال والطموح أبعد من املرامي اليت كان يتوقعها‪ ،‬وهلذا جاء شعره مصداقا‬
‫النطالقات نفسية وهنا جند أن علم النفس يعرب عن مكنونات دفينة قد حياول الشاعر أو‬
‫األديب أن يرمسها رمسا باللفظ ولكنه لفظ رمزي‪ ،‬وهذا ما جنده متاما عند "ابن املعتز" إذ أنه‬
‫صرح أطوارا وملح أحيانا‪ ،‬وهلذا فإنه كان يفرط أحيانا يف الفاعلية وأحيانا يف االنفعالية بعيدا عن‬
‫الالفعالية وهذا النوع من املنحى الشعوري السلوكي إنا هو يكشف عن إحباطات لكنها‬
‫إحباطات جاءت تعبريا عن إبداع‪ ،‬وكان حيلم يف حياته يف أن يتبوء ما كان يرمي إليه ولكن‬
‫سعيه املتعجل أحيانا قد يكون سببا يف قتل احللم‪ ،‬هذا هو إذن البعد اجلمايل النفسي عند‬
‫"ابن املعتز" يف أقصى حاالته االستاطيقية‪ ،‬فأشعار "ابن املعتز" تكاد تكون كلها بؤرا نفسية‬
‫محلت يف طياهتا تلكم البواعث الوجودية والوجدانية لإلبداع عنده‪.‬‬

‫‪- 214 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فالبعد اجلمايل النفسي عند "ابن املعتز" يستبينه القارئ الذي يروم إعطاء صورة إيقاعية‬
‫للحالة الشعورية اليت تنبجس معان تكاد كلها مسة طاغية على الفن الشعري عند "ابن املعتز"‪،‬‬
‫وهو صورة مؤثرة وصادقة لتكوينه الوجداين العام وقد مكنته اللغة العربية وهو من أبنائها حبكم‬
‫طبيعتها أن يؤثر يف قارئيه ويكاد يستدرجهم ليعاشروه يف نفس العصر وهذه القدرة قلما تأتت‬
‫لشاعر غريه حبيث يؤثر فيمن يقرأ شعره حيس بأحاسيسه‪ ،‬وشعر "ابن املعتز" يف هذه احلالة هو‬
‫يف صورة إيقاعية ترسم مالمح شخصيته وحتدد معامل سجاياه إذ هو متكن من أن يعكس‬
‫دواخله النفسية مصوغة بألفاظ هي غاية يف الدقة والتحدد‪.‬‬

‫‪- 215 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -4‬البعد الجمالي التشخيصي‪:‬‬

‫لطاملا كان التشخيص مسة أسلوبية انتشرت والزالت يف الشعر العريب قدميه وحديثه‬
‫مبختلف مذاهبه‪ ،‬وهي الظاهرة اليت بفضلها تنقل كل العوامل إىل العامل اإلنساين فتستعري منه كل‬
‫خيصه لتغدو يف قالب إنساين حي‪ ،‬فأسلوب التشخيص يعد من األساليب التصويرية املهمة‬
‫نظرا لفاعليته التعبريية والتأثريية‪ ،‬والقيمة اجلمالية اليت حيدثها يف األثر األديب حيث تعتمد‬
‫الصورة من خالل هذا األسلوب على إضفاء الصفات اإلنسانية على ظواهر الواقع اخلارجي‬
‫ببث احلياة فيها فيجعلها حتس كما حيس اإلنسان‪ ،‬فيمنح األشياء املعنوية أو اجلامدة صفات‬
‫حيوية إنسانية‪ ،‬وقد اهتم الشعراء هبذا األسلوب الفين مما يشي بإمكاناته التعبريية وقدرته على‬
‫إعطاء الكالم الشعري قوة وحيوية وجدة خترج عن نطاق ما هو مألوف وشائع‪ ،‬وهو ما مييز‬
‫لغة الشعر اليت جتنح إىل اخلصوصية من ناحية واإلحيائية من ناحية أخرى‪.‬‬
‫إن أمهية التشخيص تنبع من كونه ملمحا أسلوبيا بارزا يف الشعر العريب ومن أكثر‬
‫تشكيالت الصورة الشعرية قدرة على التعبري الداخلي عامل املشاعر واألحاسيس‪ ،‬وذلك حني‬
‫يسقط الشاعر ذاته على مظاهر الطبيعة من حوله‪ ،‬وخيلع احلياة اإلنسانية والشعورية على ما ال‬
‫يعقل‪ ،‬وينقل الصورة من جمرد اإلخبار إىل ختيل مشاهدها وتفصيالهتا حية يف حلظة من حلظات‬
‫التفاعل العميق‪ ،‬باإلضافة إىل ضرورة إعطاء هذه الوسيلة التعبريية واإلحيائية الفاعلة حقها من‬
‫االهتمام النقدي واألديب‪ ،‬إن التشخيص هلو من دون جماملة أحد أهم الوسائل الفنية اليت‬
‫يتوسل هبا الشاعر بناء صوره الفنية مثلما ي عد أحد أهم املرتكزات اليت يرتكز عليها إليصال‬
‫معانيه وأفكاره بصور فنية تشعر وحتس‪ ،‬تسمع وتتكلم‪ ،‬فيبث احلياة فيما ال حياة فيه‬
‫والتشخيص «إلقاء رداء من الذات على الوجود ومنحه القدرة على التحسس والشعور‪،‬‬

‫‪- 216 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فالوجود جزء من كيان الشاعر وامتداد من خياله‪ ،‬فتمنح الكائنات وعيًا إنسانيًا يتحسس‬
‫ويشعر‪ ،‬فيتحول الوجود من صورة واقعية جامدة دقيقة األصباغ إلى قطعة من حياة ناطقة‬
‫المالمح»(‪ ،)1‬ويرى "ناصف مصطفى" يف «التشخيص قدرة على التكثيف واالقتصاد‬
‫واإليجاز»(‪ ،)2‬إن مسلك التشخيص يف الشعر حتسسه الشعراء قدميا كلما أحسوا بضرورة‬
‫احملاورة والتخاطب وإضفاء احلياة على اجلماد ولكن التشخيص ال يلجأ فقط إىل احملاورة بل إىل‬
‫احلركة‪ ،‬فينقلب الشخص إىل كائن حييا حياة خاصة تتواله املخيلة وصفا مركزة على بعض‬
‫هيئاته وأحواله‪.‬‬
‫إن التشخيص يف مفهومه العام يتمثل يف خلع احلياة على املواد اجلامدة والظواهر الطبيعية‬
‫واالنفعاالت الوجدانية‪ ،‬هذه احلياة اليت قد ترتقي فتصبح إنسانية هتب هلذه األشياء عواطف‬
‫آدمية و خلجات إنسانية وكأن التشخيص حركة حتويلية ذات مدرج واحد فقط ترتقي باجلماد‬
‫إىل احلي بغاية تعبريية م تتوقف عند هذا احلد من اجلهد واالجتهاد‪ ،‬غري أن الصورة الناشئة عن‬
‫هذا االرتقاء مل تعد ملكا للتشخيص وال حكرا عليه‪ ،‬فالتشخيص ليس عملية وحسب إهنا‬
‫تقنية ختضع لتحويل رمزي معني‪ ،‬فإذا متت على الوجه السليم استحالت "صورة" وقد درج‬
‫البعض على اختزال الصورة يف االستعارة من حيث اجلوهر‪ ،‬بيد أن الصورة تكوين آخر أكثر‬
‫تعقيدا مما يتصور حني تقرن باالستعارة‪ ،‬ذلك أن الصورة تشكيل للعناصر املنظورة واحملسوسة يف‬
‫إطار حمدد وفق رؤية خاصة ومسافة مدروسة لغاية تعبريية تتجاوز األسلبة لفضاء املعىن‪.‬‬
‫إن الصورة وهي تقوم على التشكيل ختضع أوال هلندسة مبيتة خدمة ملقصد بعيد فهي‬
‫من هذه الناحية عمل واع هبدفه وعندما يلجأ الشاعر إىل التشخيص فهو ال يفعل ذلك طلبا‬

‫(‪ )1‬عيسى الناعوري‪ :‬أدب املهجر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬مصر‪1967 ،‬م‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫(‪ )2‬مصطفى ناصف‪ :‬الصورة األدبية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫‪- 217 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫خللع احلياة على اجلماد وحسب‪ ،‬وإنا خللق صورة ال يقف القصد عندها هي األخرى‪ ،‬بل‬
‫الصورة تكتيل تعبريي من نوع خاص تتعامد فيه حركتا النسق والسياق‪ ،‬لذلك فالتشخيص‬
‫مرتبط بعالقة وطيدة مع مفهوم الصورة الفنية‪ ،‬ذلك أن الشاعر سباق إىل التعبري عن العوامل‬
‫الشعورية اجملردة فيقوم بإعادة تشكيل مدركات العامل اخلارجي وأشياؤه احلسية وفق تصوره‬
‫وخياله‪ ،‬وبالتايل حيول املدركات اجملردة إىل مدركات حمسوسة عن طريق التشخيص‪ ،‬حيث يقع‬
‫تصادم بني املقصود اجلديد للفظة واملوقف اجلديد الذي استدعاه ومن هنا ميكن اعتبار‬
‫التشخيص «أداة الشاعر المعرفية التي بها يتمكن من التعرف على العوامل المجهولة‬
‫والضاربة في الغموض ما وراء العالم المرئي والمحسوس في عالم النفس والالشعور‬
‫الحسي بالتجريدي والشعور بالالشعور‪ ،‬والخارج‬
‫ّ‬ ‫والتعبير عنها من خالل امتزاج‬
‫(‪)1‬‬
‫فالقوة السحرية للتشخيص هي قوة اخللق؛ خلق عامل جديد مركب من عناصر‬ ‫بالداخل»‬
‫خمتلفة كل االختالف عن املرجع اخلارجي الذي ينبثق عنه‪.‬‬
‫وعند تتبع الصورة التشخيصية يف شعر "ابن املعتز" فسيالحظ أهنا قائمة على الفعل‬
‫والتجسيد‪ ،‬أي قائمة على احلركة ويرجع ذلك إىل إميانه بوجود احلياة ‪-‬واحلركة رمز هلا‪-‬‬
‫وبراعتها تكمن يف قدرة اخليال على رصدها وإدراكها‪ ،‬ويف شعر "ابن املعتز" يتسع عامل هذا‬
‫األخري وراء التشخيص فهو رائد يف حتريك السواكن أو اجلوامد لوضع صورة يف احلركة املشهدية‬
‫عرب تفعيلها ليسبغ على الصورة الوصفية حركة من خالل اللفظة‪ ،‬فتفيض باحليوية واحلركة وتأيت‬
‫كأهنا صورة مشهدية متحركة‪ ،‬والصورة التشخيصية هي حتريك ماال حركة له يف املخيلة ويعرفها‬
‫أحد النقاد أهنا‪« :‬صور ناتجة عن حركة في الخيال‪ ،‬فهي تحريك الموضوع الذي ال‬

‫(‪ ) 1‬داليا أمحد موسى‪ :‬اإلحالة يف شعر أدونيس‪ ،‬دار التكوين للتأليف والرتمجة والنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪2010 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.165‬‬

‫‪- 218 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يملك حركة في الواقع»(‪ ،)1‬ويعتمد هذا النوع من الصور على قوة اخليال والدور الذي يلعبه‬
‫«والحركة ركن هام من أركان تكون الصورة الفنية‪ ،‬إضافة إلى التعامل مع اللون‪ ،‬ألنها‬
‫بأبعادها التي تعتمد على المخيلة واإلحساس وتغيير تركيب األشياء المحيطة بتفكيكها‬
‫وإعادة تركيبها كما يحس الشاعر بما يجب أن تكون‪ ،‬ال كما هي عليه تسهم في إيجاد‬
‫صورة مدهشة للنفس»(‪.)2‬‬
‫والواقع أن الصورة التشخيصية يف شعر "ابن املعتز" تذكرنا بالتفجع الرومنسي املتسربل‬
‫بالغنائية احلزينة والشاعر حياول بصوره احلركية املنهالة من أعماق نفسه ختطي الواقع وجتاوزه‬
‫وإحياء ماال حياة له يف إطار من االنفعالية‪ ،‬فهو يستقطب املظاهر ويبصرها حبدقة نفسه‬
‫وخياله والشك أن هذه احلال هي دوما تالزم نفس الشاعر وهي اليت جعلته يكتشف من‬
‫أسرار النفس والطبيعة ما عجز عنه الكثري من أقرانه الشعراء‪ ،‬إنه التشخيص أو الصورة احلركية‬
‫اليت حتيا باخليال فتسري اجلماد وتوقف احلياة‪ ،‬وتشخص اجملرد «وهي هنا وهناك ال تقوم‬
‫المتحولة‬
‫ّ‬ ‫بطبيعتها المادية فحسب بل بطبيعتها النامية المتطورة التي تنبع أصالً من الرؤية‬
‫والمغيّرة»(‪.)3‬‬
‫فإذن فإن للتشخيص دورا يف جتسيد التجربة الفنية والتعبري عن اجملردات فهي طاقة خالقة‬
‫«تستمد قدرتها من سعة الشعور حينًا‪ ،‬أو من دقة الشعور حينًا آخر‪ ،‬فالشعور الواسع هو‬
‫الذي يستوعب كل ما في األراضين والسموات من األجسام والمعاني‪ ،‬فإذا هي حية كلها‬

‫(‪ ) 1‬نعيم اليايف‪ :‬تطور الصورة الفنية يف الشعر العريب احلديث‪ ،‬منشورات إحتاد الكتاب العرب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬دمشق‪2008 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.168‬‬
‫(‪ ) 2‬وليد مشوح‪ :‬الصورة الشعرية عند عبد اهلل الربدوين‪ ،‬منشورات إحتاد الكتاب العرب‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪1996 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.219‬‬
‫(‪ )3‬نعيم اليايف‪ :‬تطور الصورة الفنية يف الشعر العريب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.169‬‬

‫‪- 219 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ألنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة»(‪ ،)1‬فالتشخيص كصورة حركية يقوم على‬
‫إعطاء احلركة واحلياة إىل الشيء اجلامد غري العاقل فريتد حيًّا متحركا‪« ،‬وهذا الميل على‬
‫ينم عن شوق إلى استحضار ما هو غائب والقبض على‬
‫المجردات وتشخيصها ّ‬
‫ّ‬ ‫تجسيم‬
‫زمن مراوغ يفلت من اإلنسان وعلى عوالم ورؤى تعذب خياله فيحاول أن يقتنصها‬
‫ويودعها أقفاص المادة المحسوسة»(‪ ،)2‬وتؤكد هاته الصور املشخصنة عند "ابن املعتز" مبدأ‬
‫احلركة والتكثيف من أجل بلورة املعىن املراد توصيله‪ ،‬وألجل بلوغ هذا يلجأ الشاعر إىل خرق‬
‫املألوف بواسطة التشخيص ويساعد الشاعر العديد من األدوات والعناصر البالغية األخرى‬
‫ألجل خرق هذا املألوف فتتضافر مع التشخيص ملرام بلوغ هذه الغاية وخاصة االستعارات‪،‬‬
‫حيث ينتقي الشاعر مفرداته لتحقيق هبا القدر الكبري من الشعرية أثناء اجتماعها يف بنية‬
‫واحدة‪ ،‬ولعل "ابن املعتز" من الشعراء الناجحني يف التعبري عن التجربة اإلنسانية بال منازع عن‬
‫طريق االستعارة «فاالستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى‪ ،‬إنما تغير في طبيعة أو‬
‫نمط المعنى‪ ،‬انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى االنفعالي‪ ،‬ولهذا لم تكن كل‬
‫استعارة وكيفما كانت شعرية»(‪.)3‬‬
‫إن نط الصورة التشخيصية يف التصوير الفين مل يكن فتحا على أيدي "ابن املعتز" إنا‬
‫أساسا على‬
‫استخدم من قبله «كوسيلة فنية عرفها شعرنا العربي منذ أقدم عصوره‪ ،‬وتقوم ً‬
‫المجردة ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات حية تحس‬
‫ّ‬ ‫أساس تشخيص المعاني‬

‫(‪ )1‬عباس حممود العقاد‪ :‬ابن الرومي‪ ،‬حياته من شعره‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬ط‪ ،6‬لبنان‪1967 ،‬م‪ ،‬ص ‪.305‬‬
‫(‪ )2‬خالدة سعيد‪ :‬حركية اإلبداع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫(‪ )3‬جان كوهن‪ :‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.205‬‬

‫‪- 220 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وتتحرك وتنبض بالحياة»(‪ ،)1‬لذلك فإن اعتماد أسلوب التشخيص يف بناء الصورة الفنية جيعل‬
‫من املتلقي أكثر تأثرا بالشعر وأكثر انفعاال بالقوة السحرية الكامنة يف مثل هذا الشعر‪ ،‬تلك‬
‫القوة اليت جتعل املتلقي أكثر تأثرا وانفعاال بالشعر‪ ،‬وهذا ال يتحقق إذا كانت القصيدة تقريرية‬
‫مباشرة ال تستعني باألدوات والعناصر الفنية اليت جتذب املتلقي وجتعله ينفعل بالقصيدة كما‬
‫انفعل الشاعر من قبله بالتجربة الشعورية اليت تزامنت مع كتابة القصيدة‪ ،‬كما أن الصورة‬
‫التشخيصية تنوعت يف حضورها يف شعر "ابن املعتز" حىت جند فيها ضربا من ضروهبا‪ ،‬تشخص‬
‫فيه خصائص اإلنسان اجلسمانية واالنفعالية بأشياء من مكونات الطبيعة اليت تناظر تلك‬
‫اخلصائص على حنو ما‪ ،‬هذا الضرب يطبع اإلنسان بدال من أن يؤنس الطبيعة وله جذور‬
‫عميقة يف الشعر العريب القدمي‪.‬‬
‫فاعتماد "ابن املعتز" على التشخيص يف تشكيل صوره الفنية جعله من أحد أهم دعائم‬
‫هذه الصورة لديه بتعدد صوره وأناطه ووسائله‪ ،‬فقد خاطب الطلل وحيا الرسم‪ ،‬واستنطق‬
‫الربع‪ ،‬وبث احلياة فيما الحياة فيه‪ ،‬كما أسند صفات اإلنسان إىل اجلوامد وأسند إليها أعضاءه‬
‫وأفعاله‪ ،‬فأظهر عالقات بني األشياء مل تكن موجودة‪ ،‬وهذا يشي بأن "ابن املعتز" شاعر‬
‫مطبوع قادر على حنت صوره وتلوينها‪ ،‬ومل تكن صوره حماكية للطبيعة وحسب‪ ،‬بل أعمل خياله‬
‫الواسع واستعان مبخزونه الرتاثي الثقايف لريسم هذه اللوحات الفنية الناطقة واملفعمة باحليوية‬
‫واحلياة‪.‬‬
‫كما أن التشخيص عند "ابن املعتز" اتصل وظيفيا حبضور التجسيد والتجسيم باعتبارمها‬
‫من ركائز الصورة التشخيصية عنده‪ ،‬أما التجسيم فهو إكساب املعنويات صفات حمسوسة أو‬

‫(‪ )1‬علي عشري زايد‪ :‬عن بناء القصيدة العربية احلديثة‪ ،‬دار الفصحى للطباعة والنشر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬القاهرة‪1978 ،‬م‪،‬‬
‫ص ‪.79‬‬

‫‪- 221 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫جعل الذهين غري املدرك باحلواس حقائق مادية ملموسة‪ ،‬والتجسيد هو جتريد األلفاظ من‬
‫طبيعتها املعجمية اجلافة وإبعاد املعاين عن مدلوالهتا العقلية‪ ،‬وإذابة الفوارق وحتطيم احلواجز بني‬
‫املعنوي واحلسي حبيث تنفتح األبواب أمام املتلقي كي يدمج احلسي باملعنوي ويصهر ذلك كله‬
‫يف بوتقة واحدة‪ .‬فقد استطاع "ابن املعتز" حبضور هاتني الركيزتني يف الصورة التشخيصية أن‬
‫ينقل عربمها ومن خالهلما املعنوي إىل احلسي‪ ،‬فجسم اجملردات وأضفى عليها صفات حمسوسة‪،‬‬
‫وجعل غري املدرك حم ًّسا أو مدركا بإلباسه ثوبا ماديا ملموسا‪ ،‬فاستطاع بذلك أن يفتح للمتلقي‬
‫نوافذ ينفذ من خالهلا إىل عامل من التصورات واألخيلة اليت تعينه على فهم املعىن وإدراكه‪،‬‬
‫ويبقى أن نقول أن الصورة التشخيصية أو البعد اجلمايل التشخيصي جتسد يف جوانب ثالثة‪،‬‬
‫أوهلا اجلانب اخلارجي أو الرباين ويشمل الصورة احلسية واملظهر العام والسلوك الظاهري‬
‫للشخصية‪ ،‬اجلانب الداخلي أو اجلواين ويشمل املالمح النفسية والفكرية والسلوك املنبثق‬
‫عنهما‪ ،‬وأخريا اجلانب االجتماعي ويشمل املركز الذي تشغله الشخصية يف اجملتمع وظروفها‬
‫االجتماعية والواقعية بوجه عام‪.‬‬
‫إن من أبرز خصائص شعر "ابن املعتز" الفنية وأكثرها شيوعا يف شعره إجياد أواصر‬
‫وروابط قوية تصل بني الطبيعة مبظاهرها املختلفة وبني اإلنسان خبصائص وصفاته‪ ،‬بأن جيعل‬
‫للجماد ما لإلنسان م يكثف الصورة تارة ويعرضها يف ألوان شعورية خمتلفة‪ ،‬فتحظى الطبيعة‬
‫منه بالتأمل وخاصة العلوية منها فهي مسرح خلياله الشعري يصول فيه وجيول‪ ،‬ومن األمهية‬
‫مبكان القول بأن الولوج إىل شعر "ابن املعتز" عرب رصد فاعلية التشخيص فيه واملواضع اليت‬
‫حضر فيها واكتشاف القيمة اجلمالية هلذا املسار الفين يستوجب من الباحث االعتماد على‬
‫منهج إحصائي دقيق وحبث مستقل لتطبيق آلياته اإلجرائية وهو ماال يتاح لنا يف هذا املقام‬
‫واالكتفاء بنماذج شعرية تبيانا ملا سبق ذكره‪ ،‬ولعلنا نبدأ يف هذا بنماذج من الطبيعة طاملا أهنا‬

‫‪- 222 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫كانت مناط اهتمام "ابن املعتز" وجمال براعته الفنية‪ ،‬ولننظر لقصيدة "السحابة الباكية"‬
‫لنكتشف جزالة الصورة التشخيصية فيها ومدى إشراقها يف شعره عامة‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫دمعها في خ ـ ـدود الث ـ ـرى‬
‫جرى ْ‬ ‫*‬ ‫وساري ـ ـ ـ ـة ال تم ـ ـ ـ ـ ـل ال ـ ـ ـبك ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫بب ـ ـ ـرق كـ ـ ـهن ـ ـديـ ـ ـ ـ ـة تـنـ ـت ـ ـض ـ ـ ـ ـ ـى‬ ‫*‬ ‫رت تقدح الصبح في ليله ـ ـا‬
‫س ْ‬
‫جر الـرح ـ ـ ـى‬ ‫ِ‬
‫ش كـ ـ ـ ّ‬
‫ء رعـ ـ ـ ًدا أج ـ ـ ّ‬ ‫*‬ ‫فلما دنت جلجلت في السما‬
‫ِع بأنواره ـ ـ ـ ـ ـا‪ ،‬واعـ ـتج ـ ـ ـ ـاز الـربـ ـ ـ ـى‬ ‫*‬ ‫ضمـ ـ ـان عل ـ ـيها ارت ـ ـ ـداع اليفـا‬
‫ع ـلى الترب حتى اكتسى ما اكتسى‬ ‫*‬ ‫فمـا زال مدمع ـ ـ ـها ب ـ ـ ـ ـ ـاكيً ـ ـ ـا‬
‫وجـ ـ ـ ّن الـ ـنـ ـب ـ ـ ـ ـات به ـ ـ ـ ـ ـا والت ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـى‬ ‫*‬ ‫فأضحت سواءا وجوه ِ‬
‫البالد‬ ‫ْ ً‬
‫واملتأمل هلذا النص الشعري سيعاود اكتشاف دوائره اليت جعلها "ابن املعتز" متداخلة‬
‫متكاملة‪ ،‬الدائرة األوىل فيه تناولت اهنمار املطر وخصوبة األرض وازدهار النبات‪ ،‬وكأنا هذه‬
‫الدائرة مدخل عضوي لصحوة اإلنسان املرتبطة بصحوة الوجود واخلصوبة معىن كبري يتألق يف‬
‫هذه الدائرة‪ ،‬فالشاعر يف هذه الصورة يذكر الطبيعة بصفتها املناسبة يف األبيات وهي إنزال‬
‫املطر وقت الليل‪ ،‬فيجتمع يف هذه الصفة بني تشخيصه هلا وحتديده لوقت إنزاهلا املطر‪ ،‬م ينزع‬
‫الشاعر لباس الطبيعة ويلبسها اللباس اإلنساين‪ ،‬فتختفي اخلاصية األوىل هلا‪ ،‬وال تبقى يف‬
‫األبيات إال ألفاظا معدودة تبقي للمعىن صلته بأصله‪.‬‬
‫وكما شخص الشاعر الطبيعة شخص األرض ومجعهما يف إطار واحد فإذا مها متقاربان إىل‬
‫حد التالزم فمن السحابة الدموع ومن األرض اخلدود‪ ،‬لقد شغفت السماء وما اشتملت عليه‬
‫من مظاهر وظواهر "ابن املعتز" وكانت مهبط إهلامه‪ ،‬ومصدرا واسعا من مصادر فنه فانطلق‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪- 223 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫انطالقا واسعا وراء رقعتها وجهد أن يعرض ما اشتملت عليه عرضا دقيقا فائقا‪ ،‬ومن ذلك‬
‫النجوم اللماعة يف السماء اليت تفنن يف تصويرها وابتداع الصور التشخيصية هلا‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫عيون إلى الكاسات ترنو وتطرف‬ ‫كأ ّن نجوم الليل وهي طوالع *‬
‫وقوله أيضا(‪:)2‬‬

‫كأ ّن نجومه ـ ــا حـ ـ ـدق ال ـ ـ ـ ـ ـ ِم ِ‬


‫ـالح‬ ‫وأسفر بعد ذلك عن سماء *‬
‫وقوله أيضا(‪:)3‬‬
‫زرقاء تنظر من نقاب ِ‬
‫أسود‬ ‫*‬ ‫ِ‬
‫الفردقان كما رنت‬ ‫ورنا إل َّي‬
‫فالنجوم هنا شبهها "ابن املعتز" بالعيون (تشخيص) م حبدق املالح والثالث بزرقاء‬
‫العينني من خالل نقاهبا‪ ،‬واجلامع بني هذه الصور الثالثة هي صفة النظر أو حاسة النظر وهي‬
‫املكتسبة للكائنات احلية فقط‪ ،‬فشخص "ابن املعتز" النجوم يف هذه األبيات متحريا أسلوب‬
‫التشبيه يف ذلك وملا ننظر إىل املثال األخري سنرى أن الشاعر بعد أن نقل النجم إىل عامل‬
‫اإلنسان بإثبات صفة إنسانية له وهي صفة إدامة النظر يف سكون الطرف‪ ،‬عاد يربط الفردقني‬
‫بوشائج أخرى بعامل اإلنسان‪ ،‬فشبههما بذات العينان الزرقاوتان بدت عيوهنا من نقاب أسود‪،‬‬
‫ومن النجوم إىل الربق مظهر مساوي آخر شخصنه "ابن املعتز" يف صورة تشبيهية بدائعية‬
‫يقول(‪:)4‬‬
‫ِ‬
‫باألزند‬ ‫نساء يقاتلن‬ ‫*‬ ‫كأ ّن الغمام ولمع البروق‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.318‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫(‪ )4‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪- 224 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وقوله أيضا(‪:)1‬‬
‫كشاطر بالسماط يعتور‬ ‫*‬ ‫سحابة والبروق تخرقها‬
‫وواضح من هذه الصور أهنا تعكس ذوق "ابن املعتز" الثري املستمد من واقعه اخلاص‬
‫الذي ميده هبا‪ ،‬فقد كان هذا الربق اخلاطف لألبصار نابضا باحلركة واحلياة‪ ،‬وإن كان أتى به يف‬
‫صورة طريفة (نساء يقاتلن باألزند) فالغمام والربوق أفرد هلما صفات شخصانية وهي القتال بل‬
‫وشبههما بالنساء رمبا لشدة مقارعة النساء لبعضهن البعض باجللبة وكثرة الكالم من دون‬
‫طائل‪.‬‬
‫ومن مظاهر الطبيعة اليت صورها الشاعر أيضا‪ ،‬تناول املظاهر املصاحبة لطلوع الفجر‬
‫فتخري الشاعر لكل جزء منها وما يالئمه يقول(‪:)2‬‬
‫مؤي ـ ـديـ ـن لعزم غير منك ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫وث‬ ‫*‬ ‫وفتية ال يخوض الشك أنفسه ـ ـ ـ ـم‬
‫ّ‬
‫حبل السرى بذميـل غير ِ‬
‫تلبيث‬ ‫لما طفا النجم في بحر الدجى وصلوا *‬
‫ِ‬
‫مبثوث‬ ‫بعسكر من جنود النور‬ ‫*‬ ‫حتى إذا هزم األصب ـ ـاح ليلهـ ـ ـ ـ ــم‬
‫فهو يتحدث عن الليل يف هدوءه وظالمه‪ ،‬ويصور النجوم تطفو فيه والفجر حركة‬
‫وضجيج وحياة مليئة باحليوية‪ ،‬فيصور الصبح عسكرا جنوده النور وقد هزموا جنود الليل‪ ،‬فقد‬
‫صور الشاعر الصبح والليل جيشني متقاتلني‪ ،‬وإذا املعىن واحد له وجهان النصر واهلزمية النصر‬
‫للصبح واهلزمية لليل‪ ،‬فاخلصائص اإلنسانية (التشخيص) احلاضرة هنا تتجلى خاصة يف‬
‫(العسكر‪ ،‬اجلنود‪ ،‬اهلزمية‪ ،‬الطفو ‪ )...‬وهناك صورة بدائعية أخرى مستقاة من الطبيعة تتجلى يف‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.253‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.125‬‬

‫‪- 225 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وصف الشاعر لشجرة النارنج وهي شجرة مثمرة من الفصيلة السذابية دائمة اخلضرة‪ ،‬وهلا‬
‫اصفرار وصفه الشاعر وصفا طريفا يقول(‪:)1‬‬
‫ب‬
‫صفرتـ ـ ـ ـ ـ ـه في حمـرة كاللهيـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫*‬ ‫دت‬
‫لما ب ْ‬
‫كأنّمـا النـارنج ّ‬
‫الرقيب‬
‫ْ‬ ‫احمر خوف‬
‫فاصفر‪ ،‬ثم ّ‬
‫ّ‬ ‫*‬ ‫وجنة معشوق رأى عاش ًقا‬
‫فقد اختار الشاعر هلذا الوصف مشاعر خاصة ملواقف اإلنسان‪ ،‬فصبغ وجنتيه بلونني‬
‫متعاقبني يظهر نتيجة انفعال داخلي‪ ،‬فالتشخيص هنا يتبدى من خالل صفرة النارنج املائلة‬
‫للحمرة فهي كوجنة املعشوق يف اصفرارها من اخلجل عند رؤية احلبيب وامحرارها خوف الرقيب‬
‫‪ ،‬فطرافة الصورة هنا تتبدى من خالل تعليله للحمرة والصفرة يف النارنج ومها ظاهرتان طبيعيتان‬
‫ثابتتان بظاهرة أخرى إنسانية بيولوجية متغرية تتصل بأحاسيس ومشاعر داخلية‪.‬‬
‫مظهر طبيعي آخر يتفنن يف تصويره الشاعر ووصفه وصفا راقيا بديعا‪ ،‬هو النرجس‬
‫الذي أحبه الشاعر وعىن بتصويره عناية فائقة‪ ،‬يقول(‪:)2‬‬
‫مدامعهـ ـ ـا من فـوق أجف ـ ـ ـ ـانِها در‬ ‫*‬ ‫عيون إذا عاينتهـا فكـأنّما‬
‫وأجس ـ ـ ـامها خضر وأنفـاسها ِعطر‬ ‫محاجرها بيض وأحداقها صفر *‬
‫تقنّع وشيًـ ـا حي ــتن بـ ـ ـاكره القط ـ ـ ـ ـر‬ ‫*‬ ‫لدى روض بستان كأن نباته‬
‫فالشاعر هنا حريص على تصوير قطرات الندى على الزهرة الواحدة بدموع العني‪،‬‬
‫ويشبهها أيضا حببات اللؤلؤ الالمعة ويشبه رائحتها واليت جعلها أنفاس بالعطر يف انتشارها‪،‬‬
‫وصفات التشخيص اليت جاءت يف هذه املقطوعة الشعرية جتلت خاصة يف كلمات (عيون‪،‬‬
‫مدامعها‪ ،‬أجفاهنا‪ ،‬حماجرها‪ ،‬أحداقها‪ ،‬أجسامها‪ ،‬أنفاسها‪ ،‬تقنع) ومل يقتصر التشخيص يف‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.255‬‬

‫‪- 226 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة على الطبيعة ومظاهرها رغم أنه كان األكثر شيوعا فيها‪ ،‬فللخمرة نصيبها من هذا‬
‫األسلوب حيث عندما يصفها الشاعر ال يكاد خيلو وصفه وتصويره هلا من التشخيص أو مبا‬
‫خيتص هلا من أواين‪ ،‬وكل موضع للصورة ال يكاد خيلو تقريبا من خفايا معنوية أو نفسية أو‬
‫فنية‪ ،‬محلت الشاعر على التشخيص‪ ،‬فيقول مثال(‪:)1‬‬
‫ت من دنِّها استبدلت به * قميص زجاج من جميع المالبس‬
‫إذا ع ِّري ْ‬
‫فخروجها من الدن يرى فيه الشاعر تعرية هلا‪ ،‬م تستبدل بقمصان من الزجاج املختلف‬
‫األلوان وكأن الشاعر يسلخها متاما من أصلها ليجعلها يف عامل اإلنسان إال أنه يضعف صفة‬
‫اإلرادة والتحكم يف الذات لديها ليبعد الصورة عن حيز املبالغة املرفوضة‪ ،‬فالصورة احلركية جتلت‬
‫خاصة يف الفعلني (عريت‪ ،‬استبدلت)‪ ،‬ولدنان اخلمر أيضا يف خيال الشاعر صورة مجيلة تفيض‬
‫باحلياة واحلركة‪ ،‬يقول(‪:)2‬‬
‫ص ِّففوا حولي قِياما‬ ‫*‬ ‫ِخلتها في ِ‬
‫البيت جن ًدا‬
‫فهذه الدنان تشبه اجلنود واصطفوا قائمني حوله وللجنود صفات من قبيل الصمت‬
‫الطويل‪ ،‬والوقوف يف هيئة اعتدال اجلسم‪ ،‬كل هذه الصفات للدن يف اهليئة والشكل جعلت‬
‫الشاعر يربط بينه وبني اجلنود وجتلى التشخيص هنا يف كلمات معينة (جندا‪ ،‬اصطفوا‪ ،‬قياما)‬
‫م يف صورة تشخيصية أخرى يتفنن الشاعر يف وصف هذه الدنان يقول(‪:)3‬‬
‫فـ َّرغ بين الندامى‬ ‫*‬ ‫وتراها وهي ص ْرعى‬
‫قتلوا فيها ك ـ ـراما‬ ‫*‬ ‫مثـ ـل أبط ـ ـال حروب‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.275‬‬


‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.406‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.410‬‬

‫‪- 227 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فهو يربط هنا بني الدنان الفارغة امللقاة على األرض وبني اإلنسان فهي ‪-‬أي الدنان‪-‬‬
‫تشبه قتلى حرب ماتوا بعد قتال شديد وجهد عظيم‪ ،‬ويقصد من ذلك أن الدنان خلت من‬
‫احلياة وفقدت مقوماهتا حني أفرغ ما هبا من مخر‪ ،‬فالدنان امللقاة على األرض ذكرت الشاعر‬
‫بقتلى احلرب كراما ماتوا بعد صراع شديد وكان يقصد بذكر الندامى أن جيعلهم الطرف املقابل‬
‫لصرعى احلرب الذين سلبوهم أرواحهم‪ ،‬ويعمق الشاعر املعىن بعمق إحساسه به فيأيت يف‬
‫استخدامه األلفاظ باجلمع من احلرب‪ ،‬يدل ذلك على شغف تفكريه هبا وإن مل ميارسها‪ ،‬وعلى‬
‫قرب صورها من خياله وسرعة استدعائه إياها‪.‬‬
‫حقيقة لقد حفل شعر "ابن املعتز" بالتشخيص وما اتصل به ففي الكثري من املواضع‬
‫جيمع تصويره بني الطبيعة واحليوان بعيدا عن اإلنسان فيحضر التشخيص يف مكنونات الطبيعة‬
‫نفسها‪ ،‬واملثال احلاضر أمامنا هو حني يصف الطبيعة من خالل مرور اخليل هبا‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫من الدهر لم يعلم به الدهر سالف‬ ‫*‬ ‫ومن عجب اللَّذات يوم سرقته‬
‫تسي ـ ـل بنا قود الجي ـ ِ‬
‫اد الخوانـ ـ ـ ـ ـف‬ ‫*‬ ‫غدونا ولما ترتق الشمس أفقها‬
‫ْ‬
‫وبلّلهـ ـا دم ـ ـ ـع من ال ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـزن ذراف‬ ‫*‬ ‫اضا قد تي ـ ـ َّقظ نورهـ ـ ـ ـ ـا‬
‫تشق ري ـ ً‬
‫يفتحهـ ـا أيـدي الريـاح الـ ـ ـلطائـ ـ ـ ـ ـف‬ ‫*‬ ‫كأ ّن عياب المسك بين بقاعها‬
‫فاأللفاظ اليت جتلى فيها التشخيص هنا جتلت خاصة يف (يعلم‪ ،‬تيقظ‪ ،‬دمع‪ ،‬أيدي‬
‫الرياح) فيقوم الشاعر بذكر يوم اللذات الذي تسرقه من الدهر وهو ما يدل على قلة اللذات‬
‫عنده وندرهتا‪ ،‬فالدهر مل مينحه الكثري مما يتمناه وتطلبه نفسه‪ ،‬وما تتمناه نفسه ال يستطيع أن‬
‫يبوح به يف شعره‪ .‬م يفصل يف ذكر اللذات فإذا هي خروجهم مبكرين والشمس مل تأخذ بعد‬
‫مكاهنا يف األفق‪ ،‬سارت هبم جيادهم السريعة ووصف سريها بسري السيل‪ ،‬وكأن هبا سرعة ال‬

‫(‪ ) 1‬ديوان أشعار األمري أيب العباس‪ :‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪138‬‬

‫‪- 228 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تظهر فيها حركة القوائم‪ ،‬فتقطع اجلياد يف سريها الرياض والبساتني اليت انتهت أزهارها حني‬
‫بللتها دموع السحاب املتساقط عليها‪.‬‬
‫واملالحظ من هذه النماذج املذكورة أهنا اتسمت خباصية وصل املوصوف خبصائص‬
‫اإلنسان (التشخيص) وقد متيزت جممل هذه الصور بالبساطة والوضوح‪ ،‬م قرب املشبه من‬
‫املشبه به يف املصدر‪.‬‬
‫ويف نوذج بدائعي آخر يصف فيه الشاعر أو لنقل يصور فيه الشاعر الربيع ويضفي‬
‫عليه الكثري من الصفات التشخيصية‪ ،‬يقول(‪:)1‬‬
‫بغي تبرجـ ـت ل ـ ـزن ـ ـ ـاة‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫وانظر إلى دني ـا ربيع أقبلت *‬
‫ّ‬
‫وتلبسـ ـت فتعـ ـطّـرت ب ـنبـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ات‬ ‫*‬ ‫جاءتـك زائـرة كعـام ِ‬
‫أول‬
‫نطقت صنـ ـوف طيـ ـورها ِ‬
‫بلغات‬ ‫وإذا تعرى الصبح من كـافورهِ *‬
‫فـ ـ ـ ـديت وآذن حب ـ ـها بمم ـ ـ ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬
‫نرجس*‬ ‫والورد يضحك من نواظ ِر‬
‫ِ‬
‫الشعرات‬ ‫غض المكاسر أخضر‬
‫ّ‬ ‫*‬ ‫الزرع الفـتى بسنبـل‬
‫فتتـوج ّ‬
‫حياول الشاعر يف هذه املقطوعة أن حياكي البحرتي يف وصفه للربيع إال أنه مل يوفق إىل‬
‫حد ما‪ ،‬فعلى الرغم مما جند من تشخيص يف هذه األبيات إال أنه ال جمال للمقارنة أما عن‬
‫التشخيص فقد حضر تقريبا يف كل ثنايا هذه املقطوعة الشعرية بألفاظ وصفات متنوعة مما‬
‫أضفى على الصورة التشخيصية تلونا لفظيا ومعنويا حمققا جلمالية شعرية وظيفية‪ ،‬ومن تلك‬
‫األلفاظ نذكر خاصة (البغي‪ ،‬تربجت‪ ،‬تلبست‪ ،‬تعطرت‪ ،‬تعرى‪ ،‬نطقت‪ ،‬يضحك‪ ،‬نواظر‪،‬‬
‫تتوج‪ ،‬الفىت‪ ،‬املكاسر‪ ،‬شعرات) ويالحظ هنا احلضور القوي للتشخيص يف هذا املقطع‬

‫(‪ )1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬

‫‪- 229 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الشعري‪ ،‬لكن عموما متيزت هذه املقطوعة بنوع من الضعف الفين وهو أمر ال يعد معيبا فهذا‬
‫موجود عند أي شاعر مهما بلغت درجة إجادته‪.‬‬
‫أما مكمن الضعف فإنه ال أثر لوجود الربيع يف نفسية الشاعر بل نراه يفسد الصورة‬
‫اجلمالية للربيع حني يشبهه بالبغي اليت تربجت لزناة‪ ،‬فمهما كانت هذه البغي مجيلة وأيا كانت‬
‫زينتها‪ ،‬فإن كوهنا بغيا جيعل النفوس تعافها وتنفر منها رغم هذا الضعف فإن التشخيص كان له‬
‫حضور مشع يف هذه األبيات حيث ماهى الشاعر الربيع بشخص البغي وجعلهما واحد يف‬
‫إطار حماولته تصوير مجال الربيع وأثره يف النفوس ولكن رمبا لطبيعة حياة "ابن املعتز"‬
‫األرستقراطية صادفه هذا التعبري أو الوصف للربيع مستقي إياه من حياته الواقعية وأحداثها‬
‫املعاشة‪ ،‬ولكن ما يالحظ هنا هو عناية "ابن املعتز" جبزئيات الصورة و خصوصا ما اتصل منها‬
‫بالتشبيه‪.‬‬
‫ويف احلقيقة إن احلياة واجلمال والفن تشيع يف الصور التشخيصية عند "ابن املعتز" على‬
‫الرغم من كثرهتا وازدحامها يف شعره ويرجع ذلك الحتفائه هلا وتأنقه هبا وأيضا لسعة مداركه‬
‫ودقة مالحظته وثقوب ذهنه‪ ،‬فالدارس لشعره حيتار يف اجتباء ما ميثل به له من ضروب الصور‬
‫وفنون التشخيص حني جيدها كلها متماثلة يف اللطف واإلحسان‪ ،‬إن هذا التشكيل اجلمايل‬
‫التشخيصي عند "ابن املعتز" يعيد فهم الوجود الطبيعي وتأويله مبا هو إنساين وثقايف ومينحه‬
‫هوية جديدة‪ ،‬وسيظل على مستوى الوعي والرؤية يف األقل عالمة على وجود اإلنسان واخرتاقه‬
‫لعامل الطبيعة باملعرفة اجلمالية وهذا ما يعززه ارتقاء الذات الشعرية إىل رؤية مديات أوسع من‬
‫عامل الطبيعة واستكشافه‪ ،‬ومن م لتبدأ بامتالكه معرفيا ومجاليا وهكذا تنطلق الخرتاق جمهولية‬
‫الكون الذي يرتاجع البشر أمام الهنائيته كلال وإعياءا‪ ،‬ومرة أخرى يعيد وعي الشاعر تشكيله‬
‫حني جيعل السراب الذي يلفه أقمشة بيضاء وهذا حبد ذاته امتالك وتأسيس‪.‬‬

‫‪- 230 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إن املسألة األساسية اليت يثريها التشكيل بالتشخيص يف شعر "ابن املعتز" هي أن‬
‫اهتمام الوعي الشعري عنده بعواطف املوجودات الطبيعية وخماوفها وآالمها وبتفصيالت حياهتا‬
‫الدقيقة يدل على توحده مع الطبيعي يشاركه يف الوجود اجلمايل ويظاهره من خالله وذلك‬
‫يتضمن جانبا من انفتاح الذاتية وتعمقها يف ذاهتا وهذا يعين أن الوعي الشعري يريد من‬
‫اإلنسان أن يعيد رؤية الطبيعي ويبحث فيه عن األويل بوصفه إمكانية متفتحة على املعىن‬
‫املتجدد هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى إن الوعي بالطبيعي اهتمام إسقاطي؛ فاملوجودات‬
‫الطبيعية ال تفكر وال تعاين وتقول ولكن الوعي ينقلها من وجودها إىل حيث يفكر هبا ويعاين‬
‫وإىل حيث تقول ذاتيته وتؤسس عامله وهذا معىن التناسخ اجلمايل للوعي يف هذه املوجودات‪،‬‬
‫إنه يرى ويري ذاته وعامله بأوليتها وشعريتها ويستخلص منها قيمه اليت ستؤسس اإلنسان‬
‫اجلمايل‪.‬‬
‫ومثة مسألة غاية يف األمهية للتشخيص يف شعر "ابن املعتز" تتصل بالتأسيس اجلمايل‬
‫للعامل الشعري بالطبيعة وهي أن وعيه الشعري ال يركز رؤيته التشكيلية على البؤرة ‪-‬املوجودات‬
‫الطبيعية‪ -‬وإنا يوزعها على اجلزئيات احمليطة هبا‪ ،‬فينتبه إىل النباتات واملياه واملطر والريح وطبيعة‬
‫األرض والشمس والليل واحلركة وغري ذلك من التشكيالت األمر الذي يشري إىل أنه يهيئ‬
‫اخللفية ويعىن هبا عناية تامة ألهنا متنح البؤرة وجودا عينيا متكامال‪ ،‬فضال عن اشرتاكها يف‬
‫تأديته للمعىن تأويليا‪ ،‬وعليه واستنتاجا مما سبق وبناءا عليه نالحظ أن مثة تفصيالت تشخيصية‬
‫حتتفظ بأمهيتها التشكيلية تضاف إىل العناصر األساسية فتعيد تأويلها‪ ،‬وليست هذه اإلضافات‬
‫اعتباطية ألهنا تنبثق من رؤية القصيدة ككل وتعرب عنها ومع ذلك فإن العناصر التشكيلية‬
‫للتشخيص تكتسب أمهيتها وفاعليتها من أهنا جتسد احلاجة اجلمالية عند "ابن املعتز"‬

‫‪- 231 -‬‬


‫األبعاد الجمالية في شعر ابن المعتز‬ ‫الفصل الثاني‬

‫خبصوصيتها وفرادهتا وأصالتها‪ ،‬فما كان بإمكان الشاعر أن يؤسس عاملا شعريا إال مبكونات‬
‫وعناصر عامله الواقعي البيئي ‪-‬ثقافة وطبيعة‪ -‬وتنويع زوايا رؤيته إليها‪.‬‬
‫عن وظيفتني كبريتني‬ ‫»‪«Etienne Souriau‬‬ ‫ويف هذا الصدد يكشف "إتيان سوريو"‬
‫للفن العريب ‪-‬يف إطار احلاجة اجلمالية‪ -‬األوىل هي إثارة التأمل والتخيل‪ ،‬والثانية التأثري ال عن‬
‫طريق اجلدة والغرابة يف أفكار واملشاعر‪ ،‬بل عن طريق التنوع البارع يف معاجلة موضوعات هي‬
‫على قلة عددها أساسية ونوذجية املثال(‪ ،)1‬وهذا ما جيعلنا نعتقد أن جانبا من خصوصية‬
‫الوعي الشعري عند "ابن املعتز" يكمن هنا‪ ،‬فقد استطاع أن يبين عاملا خصبا للمعىن الكلي‬
‫وللقيمة اإلنسانية العليا من تأويله جلزئيات وعناصر تبدو حمدودة جدا‪.‬‬
‫واإلشارة الثانية للبعد الفلسفي لألسلوب التشخيص عند "ابن املعتز" هي العالقة اليت‬
‫يقيمها الوعي الشعري بني وجوده الذايت ومجاليه الطبيعي‪ ،‬والقيمة األخالقية‪ ،‬فكلها تنبثق من‬
‫موقف واحد وأصيل جيعل الطبيعة معربا للذاتية والقيم‪ ،‬فكان تأويل الوعي للطبيعي وتأسيس‬
‫العامل به نوع من الرتبية له وتلك فكرة تتصل بالدور احلضاري للفن‪ ،‬وهذه الوظيفة احلضارية‬
‫يف شعر "ابن املعتز" تتأصل يف أن الوعي الشعري يعيد بناء الطبيعي ويكشف عن األويل‬
‫الشعري الذي يكمن فيه ويستنتج منه دينامية املعىن‪ ،‬فلقد أعار الوعي الشعري عند "ابن‬
‫املعتز" صوته للطبيعي ليتكلم إنسانه اجلمايل العريب وليقول عامله وقيمه احلضارية‪.‬‬

‫(‪ )1‬إتيان سوريو‪ :‬اجلمالية عرب العصور‪ ،‬تر‪:‬ميشال عاصي‪ ،‬منشورات دار عويدات‪ ،‬بريوت‪1974 ،‬م‪ ،‬ص ‪.186‬‬

‫‪- 232 -‬‬


‫خـامت ـة‬
‫لقد عكفت هذه الدراسة ضمن فصوهلا الثالثة على البحث والتمحيص وفق منهج‬
‫تشكيلي مجايل يف اتريخ إبداع شاعر ال ميكن أن يكون إالّ من الفحول‪ ،‬وبعد أن عاش‬
‫الباحث زمنًا ليس ابلقصري مع "ابن املعتز" وهو الشاعر حمط هذه الدراسة‪ ،‬كان من البديهي‬
‫أن يصل إىل نتيجة حتمية آمن هبا "ابن املعتز"‪ ،‬وهي النتيجة اليت تنبع حقيقتها من واقعية أ ّن‬
‫تبعا لعوامل ذاتية وأخرى خارجية تتحكم يف‬
‫أغراض النفوس هي اليت حتدد مقصدية القراءة ً‬
‫تبعا لعوامل ثقافية‪ ،‬إدراكية‬
‫القراء متساوين يف ذلك ً‬
‫هذه الرغبة من قراءة الشعر‪ ،‬فليس مجيع ّ‬
‫ونفسية وحىت مبدى تذوق اجلمال الشعري‪.‬‬
‫من جهة أخرى فإنّه من اجلدير التنويه إىل أ ّن فكرة الوجود للقيمة كان جوهر ما أسس‬
‫للوعي اجلمايل عند "ابن املعتز" حيث محلت كل املوجودات يف رؤيته قيمة روحية كانت يف‬
‫طالئعية أتسيس الكون الشعري اجلمايل عنده‪ ،‬ومن هنا فإ ّن الرؤية الذاتية "البن املعتز" ملوضوع‬
‫اجلمال على ما فيها من عمق وغىن‪ ،‬فهي حبق تكتنز داخلها مشكالت غاية يف التعقيد تتأصل‬
‫منوذجا لذلك الشاعر الذي يستطيع‬
‫يف عمق ماهية الوجود للدهر العريب‪ ،‬ولقد اتصف بكونه ً‬
‫معا‪ ،‬انطالقًا من إميانه بنفسه واعتداده بذاتيته‪.‬‬
‫مثايل‪-‬واقعي يف آن ً‬
‫أن يبتكر من القيم ما هو ي‬
‫املطول فسيوردها الباحث على شكل‬
‫ّأما وصوالً إىل النتائج املستقاة من هذا البحث ّ‬
‫نقاط وهي وليست ابلطبع نتائج هنائية أل ّن شعر "ابن املعتز" حيتاج إىل إيغال كبري يف الدراسة‬
‫والبحث مسرتعية ال ّدقة الرايضياتية حىت يصل صاحب دفة البحث إىل أكثر من نتائج عامة‬
‫ولكن إىل نتائج تطبيقية ولعل جممل نتائج البحث جتسدت يف اآليت‪:‬‬
‫‪ -‬إ ّن التشكيل اجلمايل الذي اتسم به شعر "ابن املعتز" كان متساوقًا يف عمقه وفق ثالثة مناح‬
‫كربى ش ّكلت املعامل الكربى له‪ ،‬وهي الصورة الفنية بوصفها روح العمل الفين وقلبه النابض‬

‫‪- 234 -‬‬


‫ولقد أبدع فيها "ابن املعتز" أميا إبداع حىت خيال لقارئ قصيدته أنّه أمام لوحة تشكيلية تتجسد‬
‫فيها الرباعة الفنية‪ّ ،‬أما العنصر اآلخر أو املنحى اآلخر هو اخليال الذي من ضلعه تكونت‬
‫منوذجا‬
‫ً‬ ‫وخلقت الصورة الفنية عند "ابن املعتز"‪ ،‬ولقد ش ّكل اخليال يف بناء الكون الشعري‬
‫ُ‬
‫لعالئقية اخلالق ابملخلوق؛ أي عالقة املبدع إببداعه‪ ،‬مث ابحتاد اخليال والصورة الفنية يتولد عربمها‬
‫بديعا وسام ًقا يف‬
‫معمارا فنيًا ً‬
‫ً‬ ‫يف عملية تشبه إىل حد بعيد التالقح البيولوجي‪ ،‬بناءًا فنيًا أو‬
‫إشعاعه اجلمايل‪ ،‬فوفق هذا املعطى املعريف سار إبداعُ "ابن املعتز" ومتظهر فنيًا ومجاليًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫نساًن مجاليًا ما‬
‫‪ -‬إ ّن كل القيم اجلمالية اليت ابتكرها الوعي الشعري عند "ابن املعتز" وش ّكلها إ ً‬
‫هي إالّ تعبريي عن النزوع احلضاري؛ فهو يبين ويشيد ويعمق دنياه اجلديدة املنفتحة على‬
‫املستقبل من خالل املدح أو الفخر أو الراثء‪ ،‬ويهدم عن طريق اهلجاء دنيا الدهر بقيمها‬
‫اجلامدة اليت تزيد من عزلة الذات اإلنسانية وتبدد طاقتها وتشدها إىل اهلروب‪ .‬واملالحظ أ ّن‬
‫اعا مر ًيرا بني‬
‫التوتر الذي متتاز به بنية احلرية يف الوعي الشعري عند "ابن املعتز" يعكس صر ً‬
‫دائما أن يعزز‬
‫العوامل السلبية واإلجيابية‪ ،‬إالّ أ ّن النزوع احلضاري لرتكيبته السيكولوجية حياول ً‬
‫اإلجيايب ومينحه طاقة متفوقة على الوجود والفعل والتحقق‪.‬‬
‫‪ -‬لقد كشف شعر "ابن املعتز" عن تلكم التقاطعية بني "ابن املعتز" الناقد مع "ابن املعتز"‬
‫الشاعر من خالل تطبيقه آلرائه النقدية النظرية فيما يتعلق ببناء النص الشعري يضاف إىل ذلك‬
‫ثقافته املوسوعية يف مواضع شعره والثروة اللغوية الزامخة داخل خزانته العقلية‪.‬‬
‫‪ -‬وخبصوص املستوحى من املعجم اللغوي الشعري "البن املعتز" فهو معجم ّنوع فيه الشاعر‬
‫حسب ما يقتضيه املوضوع‪ ،‬فقد كانت لغته يف األغلب األعم بسيطة بعيدة عن اإلغراب‬
‫املوحش فيها الكثري من اجل ّدة والطرافة‪ّ ،‬أما األسلوب فهو ال يبتعد من جهته عن الوضوح‬
‫واجلزالة‪ ،‬كما أ ّن الشاعر اعتمد بكثرة تكاد تكون غالبة على نظام املقطوعات الشعرية‪،‬‬

‫‪- 235 -‬‬


‫مسرتعيًا يف ذلك حداثة العصر املعاش وتواف ًقا مع رؤيته أو قناعته من أ ّن النفس اإلنسانية‬
‫متل النمط الواحد من النظام األسلويب الرتكييب‪ ،‬حيث أنّه محّل كل مقطع شعري تالوين‬
‫تضيق و ّ‬
‫مصدرا للجمال‪ ،‬وهو ما سار عليه يف نصه الشعري‬
‫ً‬ ‫خمتلفة من األحاسيس‪ ،‬فهو يرى يف التنويع‬
‫عموما‪.‬‬
‫ً‬
‫لح عليها‬
‫‪ -‬يتفوق "ابن املعتز" يف جمال الصورة‪ ،‬فهو عندما يتناول الظاهرة ًأاي كانت طبيعتها يُ ُّ‬
‫حني يُظهرها أمام خيال القارئ وإحساسه وخرباته فيعمقها بطرق فنية عدة ويربط بني مظاهر‬
‫الطبيعة بصالت وثيقة بعضها مادي واآلخر نفسي‪ ،‬وهو شديد العناية ابلصورة‪ ،‬فتحظى منه‬
‫ابهتمام فكري ونفسي وأتملي فيمنحها قيمة فنية عالية‪.‬‬
‫‪ -‬لقد استقى واستوحى "ابن املعتز" مادة صورته من مصادر خمتلفة‪ ،‬من اإلنسان وخصائصه‬
‫ومن الطبيعة بنوعيها‪ ،‬مث من خرباته الشخصية املختلفة فاحلرب واملكان والشعائر الدينية‬
‫املختلفة تثري خياله فيستمد منها بعض صوره‪.‬‬
‫أيضا يف شعر "ابن املعتز" مثلما تناولته هذه الدراسة جنوحه الكبري حنو اجلانب‬
‫‪ -‬يُالحظ ً‬
‫احلسي من املوجودات‪ ،‬لكن هذا مل مينع من بثه الكثري من خطرات نفسه ورسم مالمح‬
‫أحاسيسه الشاعرة‪ ،‬فكان شعره يف الكثري من األحيان لسان حال نفسيته والناطق الرمسي ابسم‬
‫ذاتيته املتخبطة داخل عبثية احلياة‪.‬‬
‫مفهوما‬
‫ً‬ ‫‪ -‬لقد أظهر البحث من خالل التحري داخل شعر "ابن املعتز" أ ّن اجلمال ليس‬
‫فلسفيًا نظرًاي وإمنا هو ممارسة‪ ،‬ومن مث فإنّه ال ميكن التفكري فيه على حنو مثمر‪ ،‬مبعزل عن‬
‫حتققه العيين امللموس أنطولوجياً كأشكال اإلبداع الفين ابعتبارها أحد النماذج اجلمالية‪ ،‬ولذا‬
‫فاجلمال ومثلما استنتجنا من سرب أغوار شعر "ابن املعتز" ومبا أنه ممارسة‪ ،‬فهو فعل أو وجود‬

‫‪- 236 -‬‬


‫ينطوي على املعرفة يف ذاته‪ ،‬فهو ظاهرة معرفية قائمة على التشكيل واإلبداع وتنطوي على‬
‫الوعي بوصفه ماهية هلا واملبدأ الضروري لتلك املعرفة‪.‬‬
‫‪ -‬إ ّن اجلمال كما فهمه "ابن املعتز" هو فعل تشكيل وأتسيس للمعىن‪ ،‬وهو ما يقتضي‬
‫قائما على القياس والتفسري والتأويل اإلبداعي الذي يؤسس الوعي ويكشف عن‬
‫استنباطًا ً‬
‫جسده "ابن املعتز" هو ذو طابع‬
‫إمكانياته أو بعبارة أخرى إ ّن التشكيل اجلمايل الشعري الذي ّ‬
‫معريف بصورة كلية وأنّه حبث إبداعي عن املعىن والوجود‪.‬‬
‫‪ -‬لقد كان اخلطاب الشعري عند "ابن املعتز" واعيًا وعيًا عمي ًقا إبخراج هذا البناء اإلبداعي‬
‫قدرا كب ًريا من األُنس‬
‫مكسو بكثري من أسرار اجلمال اليت تشيع يف نصوصه الشعرية ً‬
‫ي‬ ‫وهو‬
‫واإلطراب‪ ،‬فرأى بضرورة اتصال أجزاء القصيدة واملقطوعات الشعرية وجتاور مواضعها يف جو‬

‫من التآلف النفسي حىت خترج وقد أُحكم نسيجها وتالمحت أجزاؤها‪ ،‬وهذا عم ً‬
‫وما ال يبتعد‬
‫عما دعا إليه النقد اجلمايل حيث كان ال يقيم وزًًن لغري القيم اجلمالية‪ ،‬فاجلمال الفين وحده‬
‫ّ‬
‫أساس املتعة الفنية إذ ال ميكن أن يقبح العمل الفين إال لنقص وحدته وانفصال أجزائه بعضها‬
‫عن بعض‪.‬‬
‫‪ -‬لقد شكلت األبعاد اجلمالية األربعة يف شعر "ابن املعتز" (املكانية‪ ،‬الزمانية‪ ،‬النفسية‪،‬‬
‫وًن شعرًاي مل يُقص فيه "ابن‬
‫التشخيصية) اللبنة األساسية للبناء االستاطيقي الذي أنتج لنا ك ً‬
‫أحدا من املوجودات اليت صادفت حياته‪ ،‬فحفل يف شعره ابجلميع سواء أكانوا معنويني‬
‫املعتز" ً‬
‫مثل الدهر وأحكامه وخلجات نفسه‪ ،‬أم كانوا حمسوسني وهي الطبيعة بشقيها‪.‬‬
‫‪ -‬مل يكن "ابن املعتز" يعيد إنتاج عامل الدهر أو أنه كان لسان حال النظام االجتماعي‪ ،‬بل‬
‫على العكس‪ ،‬كان يصنع عاملا آخر هو عامل اإلنسان العريب اجلمايل بوصفه قيمة‪ ،‬فهو مل يكن‬
‫ً‬
‫يعرب عن عصره بل كان يصنعه ويشكل روحيته احلضارية ابلكفاح واملعاًنة والبطولة‪.‬‬
‫يف عموميته ّ‬

‫‪- 237 -‬‬


‫‪ -‬لقد منح تعامد الوعي مع الزمان واملكان يف الفضاء الشعري عند "ابن املعتز" ماهية إيقاعية‬
‫تظاهرت أوالً يف اإليقاع الشعري الذي كان تكيي ًفا للزمان اخلارجي (الدهر) والزمان الداخلي‬
‫الذايت‪ ،‬فهو يعكس موقف الوعي الشعري من فكرة الوجود يف الزمكانية ورؤيته هلا وسعيه إىل‬
‫السيطرة على امتداد هذه املتالزمة الالهنائية‪ ،‬كما يعكس حرصه على اشتقاق املعىن من‬
‫الالمعىن والنظام من الفوضى وأتسيس الوجود اإلنساين يف عدميته وكينونته‪.‬‬
‫مياًن منه أب ّن‬
‫‪ -‬إ ّن اعتماد "ابن املعتز" على أسلوب التشبيه كخاصية مميزة يف كثري من شعره‪ ،‬إ ً‬
‫هذا األسلوب ميثل إسرتاتيجية الوعي العريب اخلاصة يف أتسيس املعرفة واملعىن وتشكيلهما‬
‫مجاليًا‪ ،‬فهو النظام املعريف الذي ميتاز برؤية خاصة مقوماهتا األساسية هي إحساس األصيل‬
‫ابلوجود وابلظواهر وابألشياء‪.‬‬
‫‪ -‬لقد أدت العالقة بني التشكيل اللغوي واخليال يف شعر "ابن املعتز" د ًورا كب ًريا يف أتسيس‬
‫تكشفية عالية‪ ،‬وتتضح املعامل اجلمالية‬
‫مجالية الصورة عنده إذ منحتها هذه العالقة قدرة إحيائية ُّ‬
‫يف الصورة من جانبها اللغوي وفعل اخليال فيها من خالل ما محلته من فوارق وصياغات‬
‫جديدة وعالئق مبتكرة ورموز وسيمياء مكنّت الشاعر من نقل أحاسيسه للقارئ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد نبع إحساس "ابن املعتز" بروعة الطبيعة من جتربته الشخصية ورؤيته املباشرة جلربوت‬
‫خمتربا حيًا لتجليات إحساسه بقيمة‬
‫مظاهر الطبيعة اليت عاش يف أحضاهنا‪ ،‬فجعل من الطبيعة ً‬
‫اجلميل‪ ،‬فقد ش ّكل "ابن املعتز" أحاسيسه اجلمالية مبظاهرها‪ ،‬ومحّلها جتاربه اجلمالية والنفسية‬
‫والثقافية‪.‬‬
‫‪ -‬إ ّن اإلنسان اجلمايل العريب الذي مثّله "ابن املعتز" كان جتس ًدا للحرية‪ ،‬نظًرا الرتباط احلرية‬
‫ابجلمال‪ ،‬ألهنا حتقق التوحد الكامل بني الوعي واإلرادة والفعل‪ ،‬وتُستمد من الوجود الذايت‬
‫املتعايل الذي ُّ‬
‫يشد آنيته ابستمرار إىل كماهلا‪.‬‬

‫‪- 238 -‬‬


‫ط هذه الدراسة عصا الرتحال بعد رحلة اكتشاف وسرب‬
‫ومن هنا وهبذه النتائج العامة حت ّ‬
‫ألغوار التشكيل اجلمايل‪ ،‬وعناصره الغائرة يف بناء العامل الشعري عند "ابن املعتز" الذي طبقت‬
‫عليه هذه الدراسة أطوارها وال ريب من تقصريها أل ّن الكمال ضالةي صعبة املنال إن مل تكن‬
‫وفتحا لباب يدخل منه حبث‬
‫نصيب ً‬
‫ي‬ ‫مستحيلة‪ ،‬ولكن يبقى األمل أن يكون هلذا االجتهاد‬
‫جديد‪.‬‬

‫‪- 239 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫القرآن الكرمي‬
‫‪ -I‬املصادر‪:‬‬
‫‪ -1‬أبو بكر حممد بن حيىي الصويل‪ :‬شعر ابن املعتز‪ ،‬دراسة وحتقيق‪ :‬يونس السامرائي‪( ،‬الديوان)‪ ،‬القسم‬
‫األول‪ ،‬ج‪ ، 2‬سلسة كتب الرتاث‪ ،‬وزارة الثقافة والفنون العراقية‪ ،‬دار احلرية للطباعة‪( ،‬د ط)‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪1978‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬ديوان أشعار األمري العباس‪ :‬دراسة وحتقيق‪ :‬حممد بديع شريف‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪ ،‬مصر‪( ،‬د‬
‫ت)‪.‬‬
‫‪ -3‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬دار بريوت للطباعة والنشر‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1961 ،‬م‪.‬‬
‫العربية‪:‬‬ ‫‪ -II‬املعاجم والقواميس ابللغة‬
‫‪ -1‬مجيل صليبا‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬الشركة العاملية للكتاب‪ ،‬ج‪ ،1‬بريوت لبنان‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬أبو عبد هللا شهاب الدين ايقوت احلموي‪ :‬معجم األدابء‪ ،‬تح‪ :‬أمحد فريد الرفاعي‪ ،‬دار املعارف‪،‬‬
‫ج‪( ،4‬د ط)‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -3‬جمدي وهبة‪ :‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬دار الطليعة‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1975 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬جمدي وهبة‪ :‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬مكتبة لبنان‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1974 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬جممع اللغة العربية‪ :‬املعجم الوسيط‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬ج‪.‬م‪.‬ع‪ ،‬ط‪2004 ،4‬م‪.‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1975 ،25‬‬ ‫‪ -6‬املجنجد ي اللغة واأللام‪ :‬دار املشرق‬
‫‪ -7‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬كورنيش النيل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪( ،‬د ط)‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫العربية‪:‬‬ ‫‪ -III‬املراجع ابللغة‬
‫‪ -1‬إ‪.‬نوكس‪ :‬الجنظرايت اجلمالية‪ :‬كانط‪ ،‬هيجل‪ ،‬شوبجنهاور‪ ،‬تر‪ :‬حممد شفيق شيا‪ ،‬منشورات حبسون‬
‫الثقافية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم زكراي‪ :‬هيغل واملثالية املطلقة‪ ،‬دار مصر للطباعة‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬إبراهيم طه‪ :‬اتريخ الجنقد األديب لجند العرب‪ ،‬دار الفيصلية‪( ،‬د ط)‪ ،‬اململكة العربية السعودية‪،‬‬
‫‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬إتيان سوريو‪ :‬اجلمالية لرب العصور‪ ،‬تر‪ :‬ميشال عاصي‪ ،‬منشورات عويدات‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1974‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬إحسان عباس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1959 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬إحسان عباس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،4‬عمان‪1987 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 241 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -7‬أمحد خليل‪ :‬الكون الشعري‪ ،‬مدارات ومسارات ي التذوق اجلمايل‪ ،‬راجعه‪ :‬علي القيم‪ ،‬مديرية‬
‫إحياء وتسيري الرتاث يف وزارة الثقافة السورية‪ ،‬اهليئة السورية للكتاب‪( ،‬د ط)‪ ،‬دمشق‪2007 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬أمحد درويش‪ :‬الجنص الباغي ي الرتاث العريب واألوريب‪ ،‬دار غريب‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪.‬‬
‫مجنهجا وتطبي ًقا‪ ،‬دار طالس‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫‪ -9‬أمحد علي دمهان‪ :‬الصورة الباغية لجند لبد القاهر اجلرجاين‪ً ،‬‬
‫ط‪ ،1‬دمشق‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -10‬أمحد قاسم سيزا‪ :‬بجناء الرواية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬أمحد كمال زكي‪ :‬ابن املعتز العباسي‪ ،‬سلسلة أعالم العرب‪ ،‬املؤسسة املصرية للتأليف‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫القاهرة‪1964 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -12‬أمحد حممود خليل‪ :‬ي الجنقد اجلمايل‪ ،‬رؤية يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬أرسطو طاليس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬تح‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬دار النهضة املصرية‪( ،‬د ط)‪ ،‬مصر ‪1953‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬أرسطو طاليس‪ :‬كتاب الجنفس‪ ،‬تر‪ :‬أمحد فؤاد األهواين‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪1962 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -15‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬تر‪ :‬حممد شكري عياد‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -16‬ألفت كمال الرويب‪ :‬نظرية الشعر العريب لجند الفاسفة املسلمني‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫بريوت‪1983،‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬أمرية حلمي مطر‪ :‬فلسفة اجلمال –ألامها ومذهبها‪ ،-‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫القاهرة‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬أمرية حلمي مطر‪ :‬فلسفة اجلمال‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة ج‪.‬م‪.‬ع‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -19‬أمرية حلمي مطر‪ :‬مقدمة ي للم اجلمال وفلسفة الفن‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪.‬م‪.‬ع‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬أندريه الالند‪ :‬العقل واملعايري‪ ،‬تر‪ :‬نظمي لوقا‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1979‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬اميانويل كانط‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬تر‪ :‬موسى وهبة‪ ،‬مركز اإلمناء القومي‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬بدوي طبانة‪ :‬قدامة بن جعفر والجنقد األديب‪ ،‬الدار األجنلومصرية‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -23‬بشرى موسى صاحل‪ :‬الصورة الشعرية ي الجنقد العريب احلديث‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار‬
‫البيضاء‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬أبو بكر بن حيىي الصويل‪ :‬كتاب األوراق –قسم أشعار أوالد اخللفاء‪ -‬تح‪ :‬ج‪ .‬هيورت‪ ،‬اهليئة‬
‫املصرية العامة لقصور الثقافة‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -25‬بيري جريو‪ :‬السيميولوجيا‪ ،‬للم اإلشارة‪ ،‬تر‪ :‬منذر عياشي‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‪ ،‬ط‪ ،3‬حلب‪،‬‬
‫‪2007‬م‪.‬‬

‫‪- 242 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -26‬جابر عصفور‪ :‬الصورة الفجنية ي الرتاث الباغي ‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1974‬م‪.‬‬
‫‪ -27‬اجلاحظ أبو عثمان عمرو بن حبر‪ :‬احليوان‪ ،‬تح‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬نصطفى البايل احلليب‪،‬‬
‫القاهرة‪1948 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬جاستون ابشالر‪ :‬مجاليات الصورة‪ ،‬تر‪ :‬غادة اإلمام‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫بريوت لبنان‪2010 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -29‬جان برتليمي‪ :‬حبث ي للم اجلمال ‪ ،‬تر‪ :‬الدكتور أنور عبد العزيز‪ ،‬دار هنضة مصر‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫‪1970‬م‪.‬‬
‫‪ -30‬جان بيلمان نويل‪ :‬التحليل الجنفسي واألدب‪ ،‬تر‪ :‬حسن املودن‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ -31‬جان كوهن‪ :‬بجنية اللغة الشعرية ‪ ،‬تر‪ :‬حممد الويل وحممد العمري‪ ،‬سلسلة املعرفة األدبية‪ ،‬دار توبقال‬
‫للنشر‪ ،‬ط‪1986 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -32‬مجهورية أفاطون ‪ :‬تر‪ :‬فؤاد زكراي‪ ،‬املؤسسة املصرية العامة للتأليف والنشر‪ ،‬دار الكتاب العريب‪،‬‬
‫القاهرة‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -33‬جون بول سارتر‪ :‬ما األدب‪ ،‬تر‪ :‬حممد غنيمي هالل‪ ،‬دار العودة‪( ،‬د ط)‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -34‬احلامتي‪ :‬حلية احملاضرة ي صجنالة الشعر‪ ،‬تح‪ :‬جعفر الطيار الكتاين‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬ج‪ ،1‬جامعة‬
‫القاهرة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬حازم القرطاجين‪ :‬مجنهاج البلغاء وسراج األدابء‪ ،‬تح‪ :‬احلبيب بن خوجة‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬
‫(د ط)‪ ،‬تونس‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -36‬احلسني احلايل‪ :‬اخليال أداة لإلبداع‪ ،‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ ،‬ط‪ ،1‬اململكة املغربية‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -37‬حسني يوسف بكار‪ :‬بجناء القصيدة العربية‪ ،‬دار الثقافة‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -38‬خالد حسني حسني‪ :‬شعرية املكان ي الرواية اجلديدة‪ ،‬مؤسسة اليمامة الصحفية‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫الرايض‪2006 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -39‬خالدة سعيد‪ :‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات ي األدب العريب احلديث‪ ،‬دار العودة‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1982‬م‪.‬‬
‫‪-40‬ابن خلكان‪ :‬وفيات األليان‪ ،‬تح‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -42‬داليا أمحد موسى‪ :‬اإلحالة ي شعر أدونيس‪ ،‬دار التكوين للتأليف والرتمجة والنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪،‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬

‫‪- 243 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -43‬دنيس هويسمان‪ :‬للم اجلمال‪- ،‬االستيطيقا‪ -‬تر‪ :‬أمرية حلمي مطر‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪،‬‬
‫(د ط)‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -44‬دنيس هويسمان‪ :‬للم اجلمال‪ ،‬تر‪ :‬حسن ظافر‪ ،‬منشورات عويدات‪( ،‬د ط)‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -45‬الراغب األصفهاين‪ :‬املفردات ي غريب القرآن‪ ،‬تح‪ :‬صفوت عدانن الداودي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الدار‬
‫الشامية‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق بريوت‪1412 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -46‬ابن رشيق‪ :‬العمدة ي حماسن الشعر وآدابه‪ ،‬تح‪ :‬حممد قرقزان‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -47‬روز غريب‪ :‬الجنقد اجلمايل وأثره ي الجنقد العريب‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -48‬الزوزوين‪ :‬شرح املعلقات السبع‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت لبنان‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -49‬ساسني عساف‪ :‬الصورة الشعرية ومناذجها ي إبداع أيب نواس‪ ،‬دار الثقافة اجلامعية للنشر‬
‫والتوزيع‪( ،‬د ط)‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -50‬سعد إمساعيل شليب‪ :‬ابن املعتز صورة لعصره‪ ،‬دار الفكر العريب‪( ،‬د ط)‪ ،‬مصر‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -51‬سعيد بنكراد‪ :‬السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاهتا‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديدة‪( ،‬د‬
‫ط)‪ ،‬الدار البيضاء‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -52‬سليم جريدي املنصوري‪ :‬شالرية املكان‪ ،‬مطابع شركة دار العلم للطباعة والنشر‪( ،‬د ط)‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -53‬سيد نوفل‪ :‬شعر الطبيعة ي األدب العريب‪ ،‬دار املعارف للنشر‪ ،‬ط‪1978 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -54‬سري موريس بورا‪ :‬اخليال الرومانسي‪ ،‬تر‪ :‬إبراهيم الصرييف‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫‪1977‬م‪.‬‬
‫‪ -55‬ابن سينا‪ :‬الجنجاة ي احملكمة املجنطقية والطبيعية واإلهلية‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪1938 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -56‬شاكر عبد احلميد‪ :‬التفضيل اجلمايل‪ ،‬دراسة ي سيكولوجية التذوق الفين‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪،‬‬
‫العدد ‪ ،267‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪( ،‬د ط)‪ ،‬الكويت‪2001 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -57‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه ي الشعر العريب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،11‬القاهرة ج‪.‬م‪.‬ع‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -58‬الشيخ الرئيس ابن سينا‪ :‬الجنفس من كتاب الشفاء‪ ،‬تح‪ :‬آية هللا حسن زادة اآلملي‪ ،‬مركز النشر‬
‫ملكتب اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،1‬قم‪ ،‬إيران‪1417 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -59‬صالح عبد الصبور‪ :‬حيايت ي الشعر‪ ،‬ديوان صالح عبد الصبور‪( ،‬د ط)‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1969‬م‪.‬‬
‫‪ -60‬صالح فضل‪ :‬مجناهج الجنقد املعاصر‪ ،‬مرييت للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -61‬الصويل‪ :‬كتاب األوراق‪ ،‬أشعار أوالد اخللفاء وأخبارهم‪ ،‬نشره‪ :‬ج‪ .‬هريوت‪ ،‬دار املسرية للنشر‪،‬‬
‫ط‪ ،9‬بريوت‪1982 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 244 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -62‬طه حسني‪ :‬حديث الشعر والجنثر‪ ،‬دار املعارف مبصر‪ ،‬ط‪1953 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -63‬عاطف جودة نصر‪ :‬اخليال‪ ،‬مفهوماته ووظائفه‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪( ،‬د ط)‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -64‬عباس حممود العقاد‪ :‬ابن الرومي‪ ،‬حياته من شعره‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬ط‪ ،6‬بريوت لبنان‪،‬‬
‫‪1967‬م‪.‬‬
‫‪ -65‬عباس حممود العقاد‪ :‬سالات بني الكتب‪ ،‬دار الكتاب العريب‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫نقداي‪ ،‬مجنحى تطبيقي للى شعر األلشى الكبري‪ ،‬دار‬
‫معيارا ً‬
‫‪ -66‬عبد اإلله الصائغ‪ :‬الصورة الفجنية ً‬
‫الشؤون الثقافية‪( ،‬د ط)‪ ،‬بغداد‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -67‬عبد اجلليل منقور‪ :‬املقاربة السيميائية للجنص األديب‪ ،‬أدوات ومناذج‪ ،‬ضمن كتاب السيمياء والنص‬
‫األديب (حماضرات امللتقى الوطين األول)‪ ،‬منشورات جامعة حممد خيضر‪ ،‬بسكرة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -68‬عبد الرمحن بدوي‪ :‬فلسفة اجلمال والفن لجند هيغل‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -69‬عبد الرمحن صاحل نصرت‪ :‬الصورة الفجنية ي الشعر اجلاهلي ي ضوء الدراسات الجنقدية احلديثة‪،‬‬
‫مكتبة األقصى‪ ،‬ط‪ ،2‬عمان‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -70‬عبد الصمد زايد‪ :‬مفهوم الزمن ودالالته‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪( ،‬د ط)‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -71‬عبد العزيز بومسهويل‪ :‬الشعر والتأويل‪ ،‬قراءة ي جتربة أدونيس‪ ،‬مطبعة إفريقيا الشرق‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫املغرب‪1998 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -72‬عبد الغافر مكاوي‪ :‬قصيدة وصورة‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،119‬اجمللس الوطين للثقافة‬
‫والفنون‪ ،‬الكويت‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -73‬عبد القادر القط‪ :‬االجتاه الوجداين ي الشعر العريب املعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية للطباعة والنشر‪،‬‬
‫ط‪1981 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -74‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار الباغة‪ ،‬تح‪ :‬حممد الفاضلي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -75‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار الباغة‪ ،‬تح‪ :‬هـ‪ .‬ريرت‪ ،‬مطبعة وزارة املعارف‪ ،‬ط‪1951 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -76‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬أسرار الباغة‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬ط‪1991 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -78‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإللجاز ‪ ،‬تح‪ :‬حممود حممد شاكر أبو فهر‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬مطبعة‬
‫املدين‪ ،‬ط‪1992 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -79‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإللجاز‪ ،‬تعليق وشرح‪ :‬عبد املنعم خفاجي‪ ،‬مكتبة القاهرة‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫القاهرة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -80‬عبد هللا الطيب‪ :‬املرشد لفهم أشعار العرب وصجنالتها‪ ،‬دار الفكر العريب‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1970‬م‪.‬‬

‫‪- 245 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -81‬عبد املنعم خفاجي‪ :‬ابن املعتز وتراثه ي األدب والجنقد والبيان‪ ،‬مكتبة احلسني التجارية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1949‬م‪.‬‬
‫‪ -82‬عز الدين إمساعيل‪ :‬األدب وفجنونه –دراسة ونقد‪ ،-‬دار الفكر العريب‪ ،‬ط‪2007 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ -83‬عز الدين إمساعيل‪ :‬التفسري الجنفسي لألدب‪ ،‬دار الغريب للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،4‬مصر‪،‬‬
‫(د ت)‪.‬‬
‫‪ -84‬عز الدين إمساعيل‪ :‬الشعر العريب املعاصر‪ ،‬قضاايه وظواهره الفجنية واملعجنوية‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1969‬م‪.‬‬
‫‪ -85‬عزيز السيد جاسم‪ :‬اإللتزام والتصوف ي شعر لبد الوهاب البيايت‪ ،‬دار الشؤون الثقافية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫بغداد‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -86‬علي أبو ملحم‪ :‬ي اجلماليات‪ ،‬حنو رؤية جديدة إىل فلسفة الفن‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات‬
‫النشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -87‬علي عشريي زايد‪ :‬لن بجناء القصيدة العربية احلديثة‪ ،‬دار الفصحى للطباعة والنشر‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫القاهرة‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -88‬عيسى الناعوري‪ :‬أدب املهجر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬مصر‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -89‬غادة املقدم عدرة‪ :‬فلسفات الجنظرايت اجلمالية‪ ،‬دار جروس برس‪ ،‬ط‪ ،1‬طرابلس لبنان‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -90‬الفارايب‪ :‬رسالة ي قوانني صجنالة الشعر للمعلم الثاين ‪،‬لن فن الشعر ألرسطو طاليس‪ ،‬دار‬
‫الثقافة‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت لبنان‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -91‬أبو فرج علي بن احلسني األصفهاين ‪ :‬األغاين‪ ،‬تح‪ :‬علي السباعي وآخرين‪ ،‬اهليئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬ج‪( ،10‬د ط)‪1973 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -92‬فرايل حسن فرايل خليفة‪ :‬نقد فلسفة هيغل‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪2006‬م‪.‬‬
‫‪ -93‬فريديرك شيلر‪ :‬ي الرتبية اجلمالية‪ ،‬تر‪ :‬وفاء حممد إبراهيم‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1991‬م‪.‬‬
‫‪ -94‬فريديريك هيغل‪ :‬فكرة اجلمال‪ ،‬تر‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -95‬فؤاد املرعي‪ :‬اجلمال واجلال‪ ،‬دار طالس‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -96‬ابن قتيبة‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬تح‪ :‬أمحد حممد شاكر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -97‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر ‪ ،‬تح‪ :‬حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫(د ت)‪.‬‬

‫‪- 246 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -98‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬تح و تع‪ :‬كمال مصطفى‪ ،‬مكتبة اخلاجني للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫ط‪ ،2‬القاهرة‪1963 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -99‬القرطيب‪ :‬اجلامع ألحكام القرآن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1413 ،‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫الفوائد‪ ،‬دار الرتاث‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪1973 ،‬م‬ ‫‪ -100‬ابن القيم اجلوزيه‪ :‬بدائع‬
‫‪ -101‬ليوانردو دافنشي‪ :‬نظرية التصوير‪ ،‬تر‪ :‬عادل السيوي‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫القاهرة‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -102‬م‪ .‬روزنتال‪ ،‬ب‪.‬بودين‪ :‬املوسولة الفلسفية‪ ،‬ترمجة وحتقيق‪ :‬مسري كرم‪ ،‬دار الطليعة للطباعة‬
‫والنشر‪( ،‬د ط)‪ ،‬بريوت‪1997 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -103‬ماركوز‪ :‬البعد اجلمايل‪ ،‬تر‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -104‬جماهد عبد املنعم جماهد‪ :‬جدل اجلمال واإلغرتاب‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫(د ت)‪.‬‬
‫‪ -105‬جمموعة من املؤلفني‪ :‬اجلمال ي تفسريه املاركسي‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪( ،‬د ط)‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪1968‬م‪.‬‬
‫‪ -106‬حماورات أفاطون‪ ،‬تر‪ :‬زكي جنيب حممود‪ ،‬مكتبة األسرة‪( ،‬د ط)‪ ،‬ج‪.‬م‪.‬ع‪2001 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -107‬حممد اخلضر احلسني التونسي‪ :‬اخليال ي الشعر العريب‪ ،‬املطبعة الرمحانية يف دمشق‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬أبريل ‪1922‬م‪.‬‬
‫‪ -108‬حممد املعزوز‪ :‬للم اجلمال ي الفكر العريب القدمي‪ ،‬منشورات إحتاد كتاب املغرب‪ ،‬ط‪ ،1‬الرابط‪،‬‬
‫‪2003‬م‪.‬‬
‫‪ -109‬حممد الويل‪ :‬الصورة الشعرية ي اخلطاب الباغي والجنقدي‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪،‬‬
‫‪1990‬م‪.‬‬
‫‪ -110‬حممد بن عبد هللا التربيزي‪ :‬مشكاة املصابيح‪ ،‬تح‪ :‬انصر الدين األلباين‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫ط‪ ،3‬بريوت‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -111‬حممد حسن عبد هللا‪ :‬الصورة والبجناء الشعري ‪ ،‬مكتبة الدراسات األدبية‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫مصر ‪1982‬م‪.‬‬
‫‪ -112‬حممد حسن عبد هللا‪ :‬اللغة الفجنية‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة ‪1985‬م‪.‬‬
‫‪ -113‬حممد زكي العشماوي‪ :‬دراسات ي الجنقد األديب املعاصر‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪1994 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -114‬حممد عبد العزيز الكفراوي‪ :‬لبد هللا ابن املعتز العباسي‪ ،‬حياته وإنتاجه‪ ،‬مكتبة هنضة مصر‪،‬‬
‫ط)‪1957 ،‬م‪.‬‬ ‫القاهرة‪( ،‬د‬

‫‪- 247 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -115‬حممد غنيمي هالل‪ :‬الجنقد األديب احلديث‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬مصر‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -116‬حممد مصطفى بدوي‪ :‬كولردج‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة مصر‪1958 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -117‬حممد مفتاح‪ :‬ي سيمياء الشعر القدمي‪ ،‬دراسة نظرية وتطبيقية‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫‪1982‬م‪.‬‬
‫‪ -118‬املسعودي‪ :‬مروج الذهب ومعادن اجلواهر‪ ،‬تح‪ :‬حممد حمي الدين عبد احلميد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ج‪،4‬‬
‫ط‪( ،5‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -119‬مصطفى الشكعة‪ :‬الشعر والشعراء ي العصر العباسي‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪،‬‬
‫‪1979‬م‪.‬‬
‫‪ -120‬مصطفى سويف‪ :‬األسس الجنفسية لإلبداع الفين ي الشعر خاصة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،4‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1969‬م‪.‬‬
‫‪ -121‬مصطفى انصف‪ :‬الصورة األدبية‪ ،‬دار األندلس للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -122‬مصطفى انصف‪ :‬مشكلة املعىن ي الجنقد احلديث‪ ،‬مكتبة الشباب‪( ،‬د ط)‪1960 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -123‬معن زايدة‪ :‬املوسولة الفلسفية العربية‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬جملد‪( ،01‬د ط)‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫ومصطلحا‬
‫ً‬ ‫تيارا‬
‫‪ -124‬ميجان الرويلي‪ ،‬سعد البازغي‪ :‬دليل الجناقد األديب‪ ،‬إضاءة ألكثر من سبعني ً‬
‫معاصرا‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬د ط)‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫ً‬ ‫نقداي‬
‫ً‬
‫‪ -125‬نبيل منصر‪ :‬اخلطاب املوازي للقصيدة العربية املعاصرة‪ ،‬دار توبقال للنشر‪( ،‬د ط)‪2007 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -126‬جنيب حممد البهييت‪ :‬اتريخ الشعر العريب حىت آخر القرن الثالث اهلجري‪ ،‬دار الثقافة‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫الدار البيضاء اململكة املغربية‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -127‬ابن الندمي‪ :‬الفهرست‪ ،‬ضبط وشرح‪ :‬يوسف علي الطويل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪،‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫‪ -128‬نعيم اليايف‪ :‬تطور الصورة الفجنية ي الشعر العريب احلديث‪ ،‬منشورات إحتاد الكتاب العرب‪( ،‬د‬
‫ط)‪ ،‬دمشق‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -129‬أبو هالل العسكري‪ :‬الفروق اللغوية‪ ،‬تح‪ :‬حممد إبراهيم سليم‪ ،‬دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫(د ط)‪ ،‬مصر‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ -130‬والرت‪ .‬ج‪ .‬أونج‪ :‬الشفاهية والكتابية ‪ ،‬تر‪ :‬حسن البنا عز الدين‪ ،‬مراجعة حممد عصفور‪ ،‬سلسلة‬
‫عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪( ،‬د ط)‪ ،‬الكويت‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -131‬وليد مشوح‪ :‬الصورة الشعرية لجند لبد هللا الربدوين‪ ،‬منشورات إحتاد الكتاب العرب‪( ،‬د ط)‪،‬‬
‫دمشق‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 248 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -132‬ايسني النصري‪ :‬إشكالية املكان ي الجنص األديب ‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪( ،‬د ط)‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪1986‬م‪.‬‬
‫‪ -133‬يعقوب ابن إسحاق الكندي‪ :‬رسائل الكجندي الفلسفية‪ ،‬تح‪ :‬حممد عبد اهلادي أبو ريدة‪ ،‬دار‬
‫الفكر العريب‪( ،‬د ط)‪ ،‬القاهرة‪1955 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -134‬يوري لومتان‪ :‬حتليل الجنص الشعري‪ ،‬بجنية القصيدة ‪ ،‬تر‪ :‬حممد فتوح‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د ط)‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫(د ت)‪.‬‬
‫‪ -IV‬جمات ودورايت‪:‬‬
‫‪ -1‬إبراهيم زكراي‪ :‬فريدريش شيلر‪ ،‬لامل اجلمال وفيلسوف احلضارة‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬العدد الرابع‪،‬‬
‫‪1974‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬أمل طاهر نصري‪ :‬فاللية املكان ي بجناء القصيدة‪ ،‬جملة جامعة امللك سعود‪ ،‬جامعة امللك سعود‪،‬‬
‫عدد ‪ ،15‬اململكة العربية السعودية‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬سعد الدين كليب‪ :‬الظاهرة اجلمالية بني الواقع والفن‪ ،‬جملة املوقف األديب‪ ،‬عدد ‪ ،234‬دمشق‪،‬‬
‫(دت)‪.‬‬
‫‪ -4‬سهري عبد احلميد‪ :‬املرجع ي العمارة‪ ،‬حبث يف جملة العراقية للهندسة املعمارية‪ ،‬عدد ‪ ،14‬بغداد‪،‬‬
‫‪2005‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬صالح سليم علي‪ :‬الزمان واملكان ي الظاهراتية والصوفية‪ ،‬اجمللة الثقافة‪ ،‬العدد ‪ ،14‬عمان‪،‬‬
‫‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬عدانن املبارك‪ :‬آراء هيغل اجلمالية‪ ،‬جملة آفاق عربية‪ ،‬العدد ‪ ،9‬السنة السادسة‪ ،‬بغداد‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬حمسن حممد إمساعيل‪ :‬الصورة الشعرية لجند حيىي الغزال‪ ،‬جملة الرتاث العريب‪ ،‬جملة فصلية تصدر عن‬
‫إحتاد الكتاب العرب‪ ،‬العدد ‪ ،75‬السنة ‪ ،19‬ابريل ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬ميشال سليمان‪ :‬السمو ي الشعر بوصفه مقولة مجالية‪ ،‬جملة الفكر العريب املعاصر‪ ،‬العدد ‪،10‬‬
‫بريوت لبنان‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫األججنبية‪:‬‬ ‫‪ -V‬املعاجم والقواميس ابللغات‬
‫‪-‬االجنليزية‪:‬‬
‫‪1- Collins English Dictionary, Complete and Unabridged, Harper Collins publishers,‬‬
‫‪2000.‬‬
‫‪2- The American heritage Dictionary of the English language, Editor by Houghton‬‬
‫‪Mifflin Company, fourth edition, 2000.‬‬
‫‪-‬الفرنسية‪:‬‬

‫‪- 249 -‬‬


‫قائمة املصادر واملراجع‬
1- Patrik Bacry, Hélène Houssemaine : Larousse de la langue Français, Libraire,
tom1, 1977.
2- Paul Robert: dictionnaire Alphabétique, analogique de la langue Française du
nouveau Littré le robert, Parie XI, tom3, France, 1977.
:‫األججنبية‬ ‫ املراجع ابللغات‬-VI
:‫االجنليزية‬-
1- C. Day Lewis : The poetic image , J. Cape, 8eme edition, 2006.
2- C.M. Bowra: Inspiration, Macmillan, London, 1955.
3- Clay. F : The origin of the sense of Beauty, J. Murray, London, 1917.
4- Franklin R. Rogers, Mary Ann Rogers : From Metaphor and the language of
literature, 1st edition, bucknell, university press, 1985.
5- G.F. Hegel : Aesthetics, Lectures on philosophy of Art, Tran by : T.M Knox, two
volumes, oxford university press, 1975.
6- Jack Kaminsky : Hegel on Art interpretation of Hegel’s, Aesthetics, Univ New
York press, 1970.
7- Paul Guyer : Kant and the claimes of taste, Cambridge, mass, Harvard university
press.
:‫االسبانية‬-
1- Aristotle : Retorica, Edit par Aguilar, Madrid, 1967.
:‫الفرنسية‬-
1- Antonin Artaud : Œuvrés complétés, Tom 3, Gallimard, Paris, 1978.
2- Daniel Charles : Esthétique, Encylopeadia universalise corpus 7, Paris, 1996.
3- Delacroix : Psychologie de L’Art, Alcalin, Paris, 1927.
4- François Pire : De L’imagination peotique, dans l’œuvre de Gaston Bachlard,
librairie José corti, 1967.
5- Gaston Bachlard : La Poétique de la rêverie, Puf, Quadrige, Paris, 4eme édition,
1993.
6- Gastone Bachlard : L’air et les songs, José corti, Paris, 1990.
7- Heidegger. M : Kant et le problème de la Métaphysique, Ed, Gallimard, 1953.
8- Hélène Védrine : Les grand conception de L’imaginaire, Biblio, Essais, Paris,
1990.
9- Jean Pierre Vernant : Religions, Histoires, Raisons, Petit Collection, Maspero, Paris,
1979.
10- Kant :La Raison Pure, Editor : Florence Khodoss, Presses Universitaire de France,
Paris, 1954.
11- Paul Ricœur : Temps et Récit, l’intrigue et le récit historique, collection l’ordre
philosophique seuil, Paris, 1983.

:‫األكادميية‬ ‫ الرسائل واألطروحات‬-VII


‫ قسم‬،‫ رسالة ماجستري‬،‫ الجنظرية والتطبيق‬،‫ التجديد ي العمارة‬:‫ آمنة عبد اجلبار عبد الفتاح العماري‬-1
.‫م‬1997 ،‫ بغداد‬،‫ اجلامعة التكنولوجية‬،‫اهلندسة املعمارية‬

- 250 -
‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪ -2‬جليل رشيد فاحل‪ :‬الصورة اجملازية ي شعر املتجنيب‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة بغداد‪،‬‬
‫‪1985‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬مها عبد احلميد البستاين‪ :‬حماكاة التقاليد ي لمارة ما بعد احلداثة‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬قسم اهلندسة‬
‫املعمارية‪ ،‬اجلامعة التكنولوجية‪ ،‬بغداد‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪- 251 -‬‬


‫الصفحة‬ ‫احملت ــوى‬
‫أ‬ ‫مقدمة‬
‫الفصل التمهيدي‪ :‬مفاهيم نظرية‬
‫‪09‬‬ ‫‪ -1‬التشكيــل‬
‫‪09‬‬ ‫أ‪ -‬املفهوم اللغوي‬
‫‪11‬‬ ‫ب‪ -‬املفهوم املعريف‬
‫‪22‬‬ ‫‪ -2‬اجلمــال‬
‫‪22‬‬ ‫أ‪ -‬املفهوم اللغوي‬
‫‪25‬‬ ‫ب‪ -‬املفهوم املعريف‬
‫‪50‬‬ ‫‪ -3‬اخليــال‬
‫‪50‬‬ ‫أ‪ -‬املفهوم اللغوي‬
‫‪53‬‬ ‫ب‪ -‬املفهوم املعريف‬
‫‪70‬‬ ‫‪ -4‬الصورة الفنية‬
‫‪70‬‬ ‫أ‪ -‬املفهوم اللغوي‬
‫‪72‬‬ ‫ب‪ -‬املفهوم املعريف‬
‫‪82‬‬ ‫‪ -5‬املعمار الفين‬
‫الفصل األول‪ :‬الشاعر واجلمال‬
‫‪94‬‬ ‫‪ -1‬الشاعر بني اليفاع والنضوج‬

‫‪- 253 -‬‬


‫‪99‬‬ ‫‪ -2‬مجالية الصورة الفنية وأمناطها يف شعر ابن املعتز‬
‫‪113‬‬ ‫‪ -3‬األثر اجلمال للخيال يف شعر ابن املعتز‬
‫‪125‬‬ ‫‪ -4‬اجلمال بني الوعي والتشكيل عند الشاعر‬
‫الفصل الثاين‪ :‬األبعاد اجلمالية يف شعر ابن املعتز‬
‫‪149‬‬ ‫‪ -1‬البعد اجلمايل املكاين‬
‫‪170‬‬ ‫‪ -2‬البعد اجلمايل الزماين‬
‫‪192‬‬ ‫‪ -3‬البعد اجلمايل النفسي‬
‫‪215‬‬ ‫‪ -4‬البعد اجلمايل التشخيصي‬

‫‪234‬‬ ‫خامتة‬
‫‪241‬‬ ‫قائمة املصادر واملراجع‬
‫‪253‬‬ ‫فهرس‬

‫‪- 254 -‬‬


‫م ـلخ ـص عـ ـ ـ ـام ل ـلبح ـث‬
‫هتدف هذه املقاربة البحثية إىل تسليط الضوء على اجلانب التشكيلي اجلمايل الذي طبع شعر‬
‫"ابن املعتز"‪ ،‬يف حماولة للكشف عن الصور املتصلة هبذا اجلانب ومظاهرها وبنيتها‪ ،‬ومدى ارتباطها‬
‫أيضا بذاتية الشاعر وتكوينه السيكولوجي‪ ،‬يف حماولة أخرى لتقصي خصائص‬ ‫ببيئتها االجتماعية و ً‬
‫انفعاالت إنساهنا وأحاسيسه‪ ،‬ومن مثة بيان معايري القيم اجلمالية وأسسها التشكيلية اليت انبىن عليها‬
‫الكون الشعري عند "ابن املعتز"‪ ،‬وذلك من خالل دراسة نقدية حتليلية استقصائية تستند إىل القراءة‬
‫الواعية املوضوعية‪.‬‬
‫ض َحت فيها غاية البحث واملنهج املتبع واحملاور الكربى‬ ‫تكون هذا البحث من مقدمة ُو ِّّ‬ ‫وقد ّ‬
‫له‪ ،‬ومن ثالثة فصول تراوحت بني النظري والنظري التطبيقي‪ ،‬مث من ملحق سردان فيه أهم اآلراء اليت‬
‫ض ِّّمنت أهم النتائج اليت توصل‬ ‫قيلت يف "ابن املعتز" وشعره قدميًا وحديثًا‪ ،‬ويف األخري ااخاةمة اليت ُ‬
‫إليها هذا البحث األكادميي‪.‬‬
‫وعموما فإ ّن احلقيقة الكربى اليت وصل إليها الطرح املوضوعي يف هذا البحث‪ ،‬هي يف كون‬ ‫ً‬
‫التشكيل الشعري عند "ابن املعتز" تشكيالً مجاليًا ِّصرفًا‪ ،‬اهتم ابلصورة والشكل وآمن صاحبه أب ّن‬
‫الشعر صناعة فنية‪ ،‬تتمثل قيمتها يف البناء الفين والشكل اللغوي الذي يبدعه الشاعر‪ ،‬وكل ذلك من‬
‫عما دعا إليه‬
‫كثريا َّ‬
‫عموما ال يبتعد ً‬
‫وحي الفكرة اجملردة واليت تعترب املادة ااخام لكل إبداع إنساين‪ ،‬وهذا ً‬
‫رواد اجلماليات الغربية الذين ال يقيمون وزًان سوى للتشكيالت اجلمالية املشبّعة ابلقيم وهو ما ملسناه‬
‫جليًا عند "ابن املعتز"‪.‬‬

‫‪The general Summary of the research‬‬


‫‪This research aims at highlighting the structural and aesthetic side that‬‬
‫‪characterised the poetry of « Ibn El Mu’tazz » attempting to reveal the images‬‬
‫‪that are related to this side, their features and their structure, and to what extent‬‬
‫‪they are related to their social environment, to the subjectivity of the poet and‬‬
‫‪his psychological nature . Attempting also to investigate the characteristics of‬‬
‫‪the emotions and feelings of that man. Then to show the aesthetic standards‬‬
‫‪criteria and their structural basis which form the poetic universe of‬‬
« Ibn El-Mu’tazz » , through an analytical and critical study based on real and
objective reading.
This research contains an introduction which clarifies the aim of the
research, the followed approach and its major axes. It contains also three
chapters ranging between theoretical and applied theoretical, then from the
extension which we talked about the most important perspectives about « Ibn El-
Mu’tazz » and his poetry in ancient and modern times. Finally, it comes the
conclusion which includes the most important results reached in this academic
research.
Generally, the most important thing reached in this research is that the
poetry of « Ibn El-Mu’tazz » is purely aesthetically formed, in a way that « Ibn
El-Mu’tazz » interested in the image and the form, and he believed that poetry is
an artistic production, its value is based on the artistic structure and the linguistic
form created by the poet. All of that is the inspiration of the abstract idea which
is considered as the raw material for every human creation; this is not really far
from what the occidental aesthetic leaders called for – who do care only for
aesthetic structures full of standards- and this is what we have obviously found
in the poetry of « Ibn El-Mu’tazz ».

Le résumé général de la recherche


Cette recherche vise à mettre en évidence le côté structurel et esthétique qui
caractérise la poésie de « Ibn El Mu'tazz » de tenter de révéler les images qui
sont liés à ce côté , leurs caractéristiques et leur structure , et dans quelle mesure
elles sont liées à leur environnement social l'environnement , à la subjectivité du
poète et de sa nature psychologique. Tenter également d'enquêter sur les
caractéristiques des émotions et des sentiments de cet homme . Ensuite, pour
montrer les critères esthétiques de normalisation et leur base structurelle qui
forment l'univers poétique de « Ibn El - Mu'tazz » , grâce à une étude analytique
et critique basée sur la lecture réelle et objective .
Cette recherche contient une introduction qui précise le but de la recherche ,
l'approche suivie et ses grands axes . Il contient également trois chapitres variant
entre théorique et appliquée théorique , puis de l'extension dont nous avons parlé
des perspectives les plus importantes sur « Ibn El - Mu'tazz » et sa poésie dans
les temps anciens et modernes . Enfin, il vient à la conclusion qui comprend les
résultats les plus importants obtenus dans cette recherche académique .
Généralement, la chose la plus importante atteint dans cette recherche est
que la poésie de « Ibn El - Mu'tazz » est purement esthétique formé , d'une
manière qui « Ibn El - Mu'tazz » intéressé par l'image et la forme , et il croit que
la poésie est une production artistique , sa valeur est basée sur la structure
artistique et la forme linguistique créé par le poète . Tout cela est l'inspiration de
l' idée abstraite qui est considéré comme la matière première de toute création
humaine ; ce ne sont pas vraiment loin de ce que les dirigeants occidentaux ont
appelé à esthétiques - qui ne se soucient uniquement pour les structures
esthétiques pleins de normes et à ce que nous avons de toute évidence trouvé
dans la poésie de « Ibn El - Mu’tazz ».

You might also like