Professional Documents
Culture Documents
حسن الظن بالله
حسن الظن بالله
مقدمة
َ
كيف يمكنك -أنت -أن تقلب املحنة إىل منحة؟
ُ
تستمتع بنعمة البالء؟ كيف
كيف يمكنك أن تعيش بسعادة مهما كانت الظروف؟
-أيا كانت -بإجيابي�ة واستبشار؟ كيف يمكنك التعامل مع األمور ًّ
كيف تعلق قلبك باهلل -عز وجل -فال ختاف سواه وال ترجو سواه؟
ً ُ
وروحا ال تقهر؟ كيف تمتلك عزيمة ال تنكسر،
قلبــا سـ ً
ـليما حتــب طهــر قلبــك مــن العتــب علــى القــدر؛ فيصــر قلبــك ً كيــف ُت ّ
أن تلقــى هللا عــز وجــل بــه؟
ًّ
حـــــبا غـــــر مـــشــــروط ال يت�أثــر كيــف حتــب ربــك -ســبحانه وتعــاىل-
با لظــر وف؟
هللا سبحانه وتعاىل ..خالقنا ورازقنا وحبيبن�ا ،وسعت رحمته كل يشء .
خلق عباده ليعبدوه -ليطيعوه وحيبوه.
خلقهم وتودد إليهم بالعطايا والنعم ..فهو الودود سبحانه..
وعمهم برحمته فهو الرحيم.. خلقهم ّ
خلقهــم فلطــف بهــم وحلــم عنهــم علــى الرغــم مــن أخطائهــم ..فهــو اللطيــف
احلليــم..
حيب أن يسمع صوت عبده املؤمن بالشكر يف السراء ،والتضرع يف الضراء..
فإن غفل العبد عن ربه ابتلاه ..لريده إليه فيسمع تضرعه ودعاءه وبكاءه.
وهو يف ابتلائه رحيم حكيم.
ُ
مــررت بظــروف صعبــة ..لكــن هللا وفقــي إىل إحســان الظــن بــه تعــاىل
ً
ـردا وســـ ً وحبكمتــه ورحمتــه .فــكان هللا تعــاىل عند ظــي َّ
ـاما. وحول نار البالء بـــ
كيــف ال وهــــو تعــاىل القائــل يف احلديــث القــديس(( :أنــا عنــد ظن عبــدي يب))
(رواه البخــاري)..
ُّ َ
ـرا وتعمــل َع َمــل مــن هــذا ظنــه ..تــرى
وإي وهللا ،عندمــا تظــن بربــك خـ ً
منــه اخلــر كلــه.
إذا أيقنــت أن هللا تعــاىل قــادر علــى أن يقــذف يف قلبــك الســعادة والرضــا
والطمأنينـ�ة مهمــا كانــت الظــروف فإنــه تعــاىل ســيكون عنــد ظنــك بــه ..فهــو
وحــده القــادر علــى إســعاد اإلنســان وإشــقائه ،إذ هــو القائــل ســبحانهَ { :و َأنَّـ ُ
ـهۥ
ُ َ َ ۡ َ َ ََۡ َ
كـ ٰ
ـى [ }٤٣النجــم.]43 : هــو أضحــك وأب
ًّ
نعــم ،أنعــم هللا عــز وجــل علـ َّـي مــن خــال البــاء بنعــم كثــرة جــدا .كنــت
أكتــب هــذه املنــح الــي أكتشــفها علــى ورقــة علــى شــكل نقــاط ..كــم كنــت
أســتمتع وأنــا أكتبهــا ثــم أراجعهــا وأتأملهــا! وبعدمــا فــرج هللا عــي اكتشــفت
5
ح ّ ۡ
َۡ َّ َ
ــك ف َ َ َ َّ َ
ــدِث [ }١١الضــى .]11 :وكل مــا ســتجدونه يف هــذا {وأمــا بِن ِعمــةِ رب ِ
الكتــاب هــو بسـ ٌـط لبضعــة نقــاط فقــط مــن النقــاط الكثــرة الــي أحصيتهــا.
إخــواين وأخــوايت ،انظــروا إىل حســن ظــن أهــل الكهــف بربهــم عندمــا
ون إلَّا َّ َ َ ۡ ْ َ ۡ َ ۡ ۡ َ َ ُۡ ُ ُ ۡ َ َ َ ۡ ُ ُ َ َ
ـف} [الكهــف..]16 : ٱلل فــأ ُو ٓۥا إِلــى ٱلكهـ ِ قالــوا{ :وِإذِ ٱعتزلتموهــم ومــا يعبــد ِ
(الكهــف) ..مــكان مظلــم موحــش بعيــد طريقــه وعــرة فــــيـــــه
احلـــشـــــرات وربـــــما العـــــقارب واحليات ..ال ماء وال خضراء ..لكن قدرة هللا
َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُّ ُ ّ َّ ۡ َ ۡ َ ُْۡٓ َ ۡ َ ً
ـف ينشــر لكــم ربكــم ِمــن رحمت ِـهِۦ تعــاىل تقلبــه شــيئ�ا آخــر{ :فــأوۥا إِلــى ٱلكهـ ِ
َٗ ََُّ ۡ َ ُ ّ ۡ َ ُ
ـن أ ۡم ِركــم ّم ِۡرفقــا [ }١٦الكهــف ..]16 :حـ َّـول هللا عــز وجل-بقدرتــه ويهيِــئ لكــم ِمـ
ً
ورحمتــه -الكهــف مكانــا لألنــس والرفــق والرحمــة واليســر.
يــا إخــويت ..وهللا إن ربكــم تعــاىل كريــم ..كريــم ..فتعالــوا نتعرف علــى ربن�ا
مــن خــال أفعالــه بعبــاده لــرى عظمــة الــرب الــذي نعبــده ..تعالــوا نتعــرف
َ َ
علــى هللا تعــاىل لنحســن الظــن بــه مهمــا قــدر علين ـ�ا وفعــل بن ـ�ا{ ..ف َع َســ ٰٓى أن
ـرا َكثِيـ ٗ
ـرا [ }١٩النســاء.. ]19 : ٱلل فِيـهِ َخ ۡيـ ٗ َ ۡ َ ُ ْ َ ۡٗ ََ ۡ َ َ
ـل َّ ُ
تكرهــوا شيـٔــا ويجعـ
تعالوا نأنس باهلل ونأوي إىل كنفه وحنيي قلوبن�ا ونعطر مجالسنا بذكره.
تصــور معــي :أنــه جاءتــك هدايــا ،وأنــت تعــرف أنهــا هدايــا عظيمــة
وقيمــة ،لكــن بعــض هــذه الهدايــا جــاء يف غــاف جميــل وبــراق ،والبعــض
اآلخــر جــاء يف غــاف قبيــح ،هــل يهمــك كثـ ً
ـرا شــكل األغلفــة إذا علمــت أن
الهدايــا الــي يف الداخــل هدايــا ثمينــ�ة وقيمــة وعظيمــة؟
لماذا خياف الناس عادة ويقلقون؟ ألن املستقبل مجهول بالنسبة لهم.
هــذا اخلــوف ينغــص علــى أهــل الدنيـ�ا ســعادتهم مهمــا كان عندهــم مــن نعيــم
الدنيـ�ا ألنهــم خيشــون أن يــزول هــذا النعيــم وتتبـ�دل األحــوال.
ً
فصاحــب المــال قــد يفتقــر ..صاحــب الصحــة قــد يمــرض مرضــا
ً ـروع ..املحــب إلنســان ًّ ً
مزمنــا ..الطليــق قــد ُيبــس ..اآلمــن قــد ُيـ َّ
حبــا شــديدا
قــد يمــوت حبيبــ�ه.
الحــظ :الرضــا يقــع بعــد احلــدث ،وهــو نتـ�اج أشــياء تفعلهــا قبــل احلــدث
فيأتيــك الرضــا يف وقــت حاجتــه ..لذلــك كثـ ً
ـرا مــا ُيطــرح التســاؤل( :الرضــا
8
مــن أفعــال القلــوب الــي ال يملــك اإلنســان إيقاعهــا ،ومــع ذلــك فهــو مطلــوب
منــه ..كيــف؟!).
واجلــواب أن الــذي تســتطيعه هــو توطــن نفســك علــى الرضــا ،والعمــل
بطاعــة هللا حبيــث يرزقــك الرضــا عنــد حاجتــك إليــه.
كلمــا جــاءك هاجــس اخلــوف مــن املجهــول جــدد العهــد والوعــد بــأن تــرىض
ـاكرا صابـ ًـرا ..و ِثــق يف معونــة هللا لــك. وتكــون شـ ً
ً
إذا فعلــت ذلــك فلــن ختــاف مــن املســتقبل ألنــه مــا عــاد مجهــول ،بــل
أصبــح صفحــة مكشــوفة لــك! كيــف؟ ببســاطة ،أنــت اآلن بعــد اختــاذ هــذا
القــرار فإنــك علــى يقــن بــأن كل مــا حيصــل هــو خــر لــك .ألــم يقــل النــي صلــى
هللا عليــه وســلم:
ْ َ َ َ َّ ْ ُ ْ َ َ َّ َّ (ع َج ًبــا َأل ْمــر ُ
الم ْؤمــن ،إن ْأم َــر ُه ُكل ُــه خ ْ ٌ َ
ــن ،إنِ مِ ؤ م ل ل
ِ إل ــد
ٍ حأل ذاك وليــس ، ــر ِ ِ ِ
َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ
ـكان َخـ ْ ً ْ َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ
ـكان َخـ ْ ً
ـرا لــه) ـرا لــه ،وإن أصابتـ�ه ضــراء ،صــر فـ أصابتـ�ه ســراء شــكر ،فـ
(رواه مســلم).
ً
أيضــا يعالــج لــك هــذا اخلــوف رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم الــذي
ـر ُيصـ ّ ْ
ـره ُ
هللا) (رواه مســلم). قــال( :ومــن يتصـ َّ ْ
إذن بــادر أنــت واختــذ القــرار وال تقــل قــد ُيقــدر هللا علــي بعــد ذلــك أال
أصــر .فــاهلل أحلــم مــن ذلــك وأرحــم .وقــد جعــل ســبحانه للصــر ُعـ َّـد ًة وأسـ ً
ـبابا
َ َ َّ َ
مــن الزمهــا أمــده ربــه بالصــر والســكين�ة والطمأنينــ�ة ،ف ِب َع َم ِلــك تســتمد
التصبــر مــن هللا ،وليــس هــذا ً
خارجــا عــن مقــدورك.
قــد تقــول( :أحــاول أن أختــذ القــرار بالرضــا ،لكــي أحــس بعــدم الصدق يف
ً
ذلــك ألين أخـــــاف أن يكــون الــبــــاء شــديدا ال يمكنــي حتمله) .ســنتعاون على
ً
التخلــص مــن هــذا اخلــوف أيضــا عندمــا نت�أمــل شــيئ�ا مــن حكمتــه وإعانتـ�ه يف
صفحــات قادمة بــإذن هللا.
قــد تقــول :أنــا اآلن أســتطيع اختــاذ القــرار ألين أحــب هللا تعــاىل .لكــن إذا
ً
عظيمــا فأخــى أن تت�أثــر هــذه املحبــة ..ســنتعاون أيضا إن شــاء ابتــلاين ابتـ ً
ـلاء
هللا علــى إعــادة بن ـ�اء محبتن ـ�ا هلل تعــاىل علــى أســس ســليمة كــي نطمــن إىل
معيت ـ�ه ومعونت ـ�ه مهمــا كانــت الظــروف.
املطلــوب منــك اآلن أن تثــق وتؤمــن وتوقــن حبكمــة هللا ورحمتــه ،فتتخــذ
القــرار بالرضــا ،واملقصــود بالرضــا :الــــرضا الكامــل التــام الــذي ال تشــوبه
10
شــائب�ة ،املنــايف للتســخط على هللا ســبحانه واالعــراض على حكمتــه وأفعاله،
وليــس املقصــود هنــا عــدم التأثــر بمــا يقــع عليــك مــن مكــروه أو محبــة ذلــك
ـاف لفطــرة اإلنســان ،فمــن ابتلــي بمــوت عـزيـــز عليــه فـــمن املكــروه .فهــذا منـ ٍ
الطــبــيــــعي أن حيـــزن ويت�ألــم ،ولكنــه ال يتســخط علــى القــدر ويعــرض علــى
ربــه ســبحانه بمثــل (لمــاذا أبتلــى أنــا) و(مــاذا فعلــت حــى يقــع يل ذلــك) ،علــى
ســبي�ل االعــراض! بــل يـحمـــد ربــــه سبـحـــانه ويصــر ،فينـ�ال األجــر والثــواب
مــع لــذة الرضــا والطمأنينــ�ة ..وقــد كان مــن أدعيــة النــي صلــى هللا عليــه
وســلم( :وأســألك ِّ
الرضـ َ
ـاء بعــد القضــاء) (رواه النســايئ وصححــه األلبــاين).
َّ
املطلــوب منــك عندمــا تضــع رأســك لتن ـ�ام وتقــول الدعــاء الــذي عل َمنــا
نبينـ�ا(( :اللهــم أســلمت نفــي إليــك وفوضــت أمــري إليــك)) .أن تقولها إيــاه ُّ
ً
بيقــن مطلــق وتســليم تــام ،لتكــون مشــمول باخلطــاب الــذي وجهــه الرحــــمن
ّ َ َ َّ َ َ ۡ َ ۡ ۡ ۡ
الرحـــــيم إىل نبيـ�ه حيــث قــالَ { :وٱصبِــر لِحُك ـ ِم َربِــك فإِنــك بِأع ُينِنــاۖ} [الطــور:
.]48أي :ال ختــف ،أنــت يف حفظنــا ورعايتنـ�ا يكتنفــك حلمنــا ولطفنــا.
خيرا!
حين تعلم أن هللا يريد بك ً
وأنــت يف عافيــة مــن أمــرك غــر مبتلــى ،تعيــش حيــاة شــبه كاملــة..
قــد ينعــم هللا عليــك بالنعــم الدنيويــة كلهــا ..فتســأل نفســك( :هــل هــذا مــن
عاجــل إنعــام هللا علــي ،مــع مــا ادخــر يل مــن ِن َعـ ٍـم يف اآلخــرة؟ أم أنــه اســتدراج،
يوفيــي هللا حســايب يف الدنيــ�ا ويعاقبــي يف اآلخــــرة علــى تـــقصريي؟) وقــد
ً
يكــون هــذا الشــك مقلقــا بالنســبة لــك.
ً ً
ال ..أبــدا! هــذا كلــه ليــس دليــا علــى إكــرام هللا لــك وال علــى أنــه أراد بــك
َ َ َّ ۡ َ ٰ ُ َ َ ۡ َ َ ٰ ُ َ ُّ ُ َ َ ۡ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ ُ ً
ـهۥ ف َيقــول خــرا .قــال تعــاىل{ :فأمــا ٱل ِإنســن إِذا مــا ٱبتلىــه ربــهۥ فأكرمــهۥ ونعمـ
ـن }١٦ ـ
ۡ َ ُ َ َُ ُ َ ّ ٓ َ ََٰ
نه أ ـيـ ب ر ـول
ـ ق يف ۥ ـه
ـ قز ر ِ ه ـ ـد َر َعلَ ۡ
ي ك َر َمــن َ ١٥وأَ َّمــا ٓ إ َذا َمــا ۡٱب َتلَىٰـ ُ
ـه َف َقـ َ َّ ٓ َ ۡ
ربِــي أ
ِ ِ ِ ِ ِ
[الفجــر ..]16،15 :يعــي كثــر مــن النــاس َيعتــر أن إعطــاء هللا لــه مــن ِن َعـ ِـم الدنيـ�ا
12
دليــل علــى محبــة هللا لــه ورضــاه عنــه وأن لــه كرامــة عنــد هللا .بينمــا إذا ابتــلاه
بالفقــر يعتــر ذلــك داللــة علــى إهانــة هللا لــه وأن هللا أراد بــه شـ ًـرا .إذن يعتــر
اإلعطــاء واملنــع مــن نعيــم الدنيــ�ا مقيــاس رضــا هللا وســخطه علــى العبــد،
محبتـ�ه وكراهيتـ�ه للعبــد ..إرادتــه اخلــر أو الشــر بالعبــد .فجــاء الــرد مــن هللا
َ َّ
تعــاىل علــى هــذه النظــرة بكلمــة{ :كلاۖ} [الفجــر ..]17 :أي ليــس العطــاء واملنــع
مــن الدني ـ�ا هــو املقيــاس.
فــإن وجــدت البــاء قــد َق َّر َبــك إىل هللا ،فاعلــم أنــه ســبحانه أراد بــك ً
خريا..
ْ
ـدارك َ
نفســك قبل وإن وجــدت البــاء أبعــدك عنــه ســبحانه فاحلــذر احلــذر! تـ
أن تكــون مــن املحجوبــن.
ُ
إذا وجــدت نفســك تبتلــى بمــا لــم يكــن يف حســابك ،ومــع ذلــك ُيــزل هللا
عليــك الســكين�ة ..فقــد أراد بــك خـ ً
ـرا.
13
وع َص َمــك مــن العتــب علــى أقــداره ..فقــد إذا وفقــك هللا إلحســان الظــن بــهَ ،
أراد بــك خـ ً
ـرا.
إذا مـ َّـرت بــك حلــــظات يف بـــائك تـعـــيش فـــيها مـــع القـــرآن بســعادة رغــم كل
يشء وتدمــع عين ـ�اك مــن محبــة هللا واالمتن ـ�ان لــه ..فقــد أراد بــك خـ ً
ـرا.
ُ ْ
إذا َصغ َــرت يف عينــك تهديــدات املخلوقــن وعلمــت أنهــم عبيــ�د مقهــورون
حتــت ســلطان اجلبــار القهــار ســبحانه ،فلــم تعــد ترجــو خـ ً
ـرا إال منــه تعــاىل وال
ختــاف إال منــه تعــاىل ..فهــذا كلــه داللــة علــى أن هللا تعــاىل أراد بــك خـ ً
ـرا.
إذا وفقــك هللا إىل أن تســتغل وقتــك يف بالئــك فيمــا ينفعــك يف دينــك ويقربــك
َ ً
أحــرارا معافيــن ،إال أنهــم مــن ربــك ،بينمــا كثــر مــن النــاس يظهــرون
محبوســون يف أهوائهــم وأوهامهــم وشــهواتهم وشــكوكهم ومــرىض بهــا!..
فإنــه تعــاىل مــا اختــارك مــن بينهــم خلدمــة دينــ�ه إال ألنــه أراد بــك ً
خــرا.
ْ
إذا سـ َـب َحت روحــك يف ملكــوت هللا وطافــت حتــت العــرش مــع أن جـســـمك
ٌ
وراء القـضـــبان أو أثـقـــله مـــرض ..فإنــه تـعـــاىل مــا تركهــا حتلــق وتتحــرر إال ألنه
أراد بــك خـ ً
ـرا.
أيخ ،أختي ..أنـت مـن ختتـار لنفسـك :إن كنـت عندمـا تبتلـى تنشـغل
بطاعـة هللا وال تنطـق شـفتاك إال حبمـده والرضـا عـن قضائه فاهلل قـد أراد بك
خريا ..وحينئ�ذ سـتحقق السلام الداخلي مع نفسـك ،والسلام مع هللا تعاىل. ً
14
ّ
وإن كـنـــت -ال قـــدر هللا -تـسـخـــط أو تـعـتـــب عـلـــى الـقـــــدر أو تنشغل
باألحــزان واملخــاوف والتوجــس مــن املســتقبل والتشــكك يف حكمــة هللا
والعيــاذ بــاهلل ..فقــد اخــرت الطريــق اخلطــأ .قــال ابــن القيــم( :مــن أراد مــن
العمــال أن يعــرف قــدره عنــد الســلطان فلينظــر مــاذا يوليــه مــن العمــل ،وبــأي
شــغل يشــغله).
وأنــت كذلــك ..انظــر بمــاذا يشــغلك هللا ويف أي عمــل يســتعملك لتعــرف
خــرا أم ال .فــإن رأيــت مــن نفســك مــا القــدرك عنــده وإن كان قــد أراد بــك ً
يســر فســارع إىل التوبــة ..فــإن ُو ِّفقــت إليهــا فاعلــم أن هللا قــد أراد بــك خـ ً
bbb
ـرا.
فــإن قــى لــك باملــرض فـــإنما يأتيــك هــذا القضــاء ممــن حيبــك ،وال
تعـ ُ
ـارض ..وإن قــى لــك بوفــاة عزيـ ٍـز عليــك فإنمــا يأتيــك هــذا القضــاء ممــن
حيبــك كذلــك.
َ ُّ
يطمـ ِـن إىل لكــن العبــد املؤمــن ال بــد لــه مــن اخلــوف مــع الرجــاء ..فكيــف
ـت مــن هللا؟
أن هــذه الباليــا ليســت عالمــات مقـ ٍ
15
َّ
إن ردة فعلــك عنــد البــاء هــي الــي حتــدد :فــإن أقبلــت علــى هللا ســبحانه
ورضيــت وصــرت ،فإنــك تســتديم هــذه املحبــة الــي ظهــرت لــك أماراتهــا مــن
ُ ً
قبـ ُـل وتــزداد بهــا وثوقــا .ويكــون حرصــك علــى اســتدامتها واألنـ ِـس ُبطمأنينتهــا
َ ً
معينـ�ا لــك علــى هــذا الصــر والرضــا .لكــن إن بادرتهــا بالتســخط فــا تنـ�ال إال
الســخط! فاجعــل خوفــك مــن تضييــع الــود الــذي بينــك وبــن هللا ،والوقــوع
ً َ
bbb
مــن ثـ َّـم يف الوحشــة ..اجعــل خوفــك هــذا حاجــزا لــك عــن الســخط.
َbbb
جــهـــنـــــــم مـــن قـــــــــد نــــافـــــق وتمـــــــــــارى دركـــــات
ِ إىل ويـــســـــــــــوق
َ َ َََْ َ ْ ُ ْ ُ ُ
ــــــن ْاســـتبتــــــا األنــــــــــــظــــــــارا ِ ــــــتم أ و بــت الســــجن ــــبيــــل ق ور ِزقـــت
ً ُ ُ
بـــصــــــر حــــولـــــــــــي إال قـــــــضـــــــــــبانا وجـــــــــــدارا وإذا يب ال أ ِ
َ ٌ ُ
َّ
ــــــــــــــــوارا حكمـــا َج أللـــــــــــــــقى ً َّ
ــــــــــــلي وأســــــــــــاق وقــــيد فــــــــــي ِر ْج
َّ َ ُ ُ
ـــــــــة إيثـــــــــــــــــارا
ِ والتـــــهمة أنــــــــي قــــــد ســـــــــــاعـــــدت رفــــــاق ِاملــــــل
ُ ُ ْ ْ ُ
َ
إيـــــــايب والـــــــــــدارا حــل ْمـــــت بـأطـــــــفايل وذكـــــــــرت إن ِنمـــــت ِ
َّ َ َ ََ
bbb
خـــــــــوارا ـــك
ــقيــــق ِ يــــــت ش ِ ِ َ
عــــــنائـــي للدنــيــــــــــا لل ِق لـــــو كـــــان
ُ
ــــــرب الرحـــمـــــن ِجـــــــــوارا ِ لكنــــــــــي أرجـــــــــو ِمـــن صـــــري يف ق
ً ْ ـــــــر َب ًوأل ْش َ َ
كافـــــــور أو عســـــــا يــجــــــــري أنــــهــــارا كأســا ِمـــــن
ُ
عبـــــــاده :كــــــونــــــــوا أنصـــــــارا ُّ
الــــــــرب ُوأ َل ِّــب َ
ـــــــي مـــــــا قـــــــــد أمــــــــــــر
بــســتــــــــــان ْيز َخ ُ
ــــــر أزهــــــــــارا
ٌ
لكــــــن يف صــدري ْ ٌ
مســـــجـــــــون
ُ ُ َُ ُ ُ
وأقــــــوم أصـــــلـــي األسـحــــــــارا أقــــــــــــــــرأ و أد ِّون أفــــكـــــــــــارا
َ َ
القــــرآن ِل َك ْ َ ْ ََ
ـــي أكــــتــــــشف األســـــــــــــــرارا أتـــــــــــــــد َّب ُر إذ أتـــــــــلــــــــــــو
ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ
الـــــــــنـــــــاس األقــــــــدارا لـــــريضــــــى الصـــــبــــر
ِ أسبــــــاب
ِ يف ـــــــف وأؤل
ً
آخــــــــــــــــذة مــن ُح ّ َ ُ َ ِّ ُ
ـــــب الرحـــــــمن مــــــــــدارا ِ روحـــــــــي ق وتــــــل
ُ ّ ُ
bbb
يــحـــــــــمــــل أوزارا وعـــــــــدوي أتـــــزود فــــي ِســجين التـــــقــــــوى
َ
ك ُسكـــارى ،مـــــا ُه ْ ُ ـــر ُه ْ كــم مـــــــــن أحــــــرار أ ْبص ُ
ــــــــم ِب ُســكارى ــــــم ٍ ِ
ُذ ًّل ويعـــــيــشــــــوا ْ
أصــــــفـــــارا
ْ َ ْ
لكــن قـــــد د َرجــــــــــوا أن َي ِهـــــــنوا
َْ َ ٍّ
تهتـــــارا اسقـــــد هجــــــروا الديــن ِ ـــجـــــد عبـــــــــــدوا الدينــــــــارا ِوب ِ
َ ْ َ ْ ْإن َغضــــــبوا َ
لكــن مـــــــا ْاســـتـغـــلوا أسعـــــــارا ألجـــــــــل ْ
هللا ِ
ليــس ْ
ِ
17
ْ ْ ــه َّن َ
َولنــــــار َج َ
لــــكن أن َيـ ِ
جـــــــدوا الســـــــــوالرا ُّ
اهــتــمــــوا ــــــم مـــــا ِ ِ
ً َ َ َ ُ
ـــــــدل مــــن كــــرة األرض قـف ْ ً َ َ
ــــــــــــريق يتـــــبــــــارى
ٍ ف كـــــــــرة ِل ــــوا ِ ب
َ ْ ُ
املسجـــــون أنــا ْأم ُه ْ َ َ
bbb
األمـــــــــر اسـتـبــصــــارا إن زدنــــا ـــــــم ــــــن
فـــم ِ
ُ َ َ ً
ــــي شـــــيــــــــئا فشـقـــــيقــــك ْ ْ َ َ َّ ُ َُ
لـــم يــفــــعل عــــارا ِ ختـش ال ة ــي خـــــــ أأ
ََ ْ ُ ُ َ ْ ِّ ٌ ْ َ ْ
ـــــــــة َونغـــــــــارا
ِ ــــــــــرض األ َّم َ
ــــــــــــس ِع فــــــع إن ُدن عــــــار أن نـــــــد هــــــل
ً َ َ
ــشـــينــــا َب ْـطــــشا وإســــــــــارا لـــمــــــــا أسـررنـــــــا اإلنـــكــــــــــارا وخ ِ
ْ َْ َّ
ـــــــدوات َت ْم َتلــــ ُ ُ ُ ُ َّ َّ ْ َ ْ ُ ْ
ــئ فــــخــــــــــارا ِ ٍ ــــتنــــــا ق ـــط النـــــش َء بــأم ِ لـــم نـــع ِ
ــــــــز بطولـتــــــهم َم ْ
ـــــن َج َ َ َّ ّ
ــحـــــــــد هللا كجـــــيـــفارا فاتـخــــــــذوا َر ْم
َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ
ـــمــــثــــــــل جيـــفـــــــــارا أيليـــــــق بنـــــــا أتـــبـــــــــــاع محـــــمــــــــــــــد أن نــت
ـــــه َ َ
الـــق َّ َ َم ْ
ـــار مـــــــا كــــان ُيــــجــــــاري ّ
التيـــــــارا ــــــن َعــــبـــــــــد هللا
ُ َ ِّ ْ ُ َ َ ـــل َْ َ َ
ـــه خــســــارا الرحمـــــــن يبوئ
ِ ســــــــــــوى عنـــــد العـــــــــــــزة ــــب مــــــــن ط
ــــــؤوا ب َدمـــــــــار َي ْ ْ َ َ ُ َ َ َفل َب ْ
ْbbb
ـــرجـــــــون عمـــــــــــارا ٍ ِ ـج ل ــدق عنـــاكب ــــــت
ِ ــي ِ
َ
الرحمــــــن ِجـهــــــارا ُمجـــرمـــــــها حــــاربَ ُ ُ
ــــــت لــــتــــــــون َس إذ َأ َر َأ ْ
ي
(((
ِ
ضـــاء نـــصــــارى ْ
اسـرت ــــل ْ ْ ّ َّ
ـــطــــــــــار ُد كــــل َف ُ
ِ ِمـــن أج ِ ـــــبـــة
ٍ محــــج ِ ي
ّ َّ َ
أحــــذيــــــة الكـــفــــــار غبــــــــــارا
ِ بأســـــفــــــل
ِ َيتـــــمـــــى لـــــو كـــان
احلكــم استـــقرارا يــرجـــــــو فـــــي ْ
يــــوالــــيـــــــهم و ِل ُربـــــع القـــــــرن
ِ
ُ ُ ًّ ْ ُ ْ َ َّ ْ
يتـــــــمـــــلـــــــــق ذل َو َصـــــــغارا الض ِّ
bbb
ــب دخــل إن دخــــــلوا جـحــــر
((( كتبت القصيدة أول عام 2011بعد أحداث تونس وفرار (زين العابدين بن علي) منها.
18
bbb
ــجـــــــار تبــــــــارا قــــــد يــــــــــدافـــــــــع عـــنــــــــا إذ وهللا
حبشرطيا!
ًّ ال تكن
مــاذا تقــول هــذه الطائفــة عــن هللا –عــز وجــل -يف قاموســها؟
تقــول" :هللا -ســبحانه وتعــاىل -هــو الــذي فــرض علينــ�ا الوجــود يف هــذه
احليــاة الدنيــ�ا ،وفــرض علينــ�ا واجبــات ،منعنــا مــن محرمــات ،وبيــ�ده
إســعادنا أو إشــقاؤنا .ولكــن نفوســنا تســتثقل بعــض الواجبــات وتهــوى
بعــض املحرمــات ،لــذا فــإن علين ـ�ا أن نتعامــل مــع هللا بموازنــة ،حبيــث نفعــل
ـدار الــذي يضمــن اســتمرار ِن َعــم هللا علين ـ�ا مــع أقــل قــدر
مــن الواجبــات املقـ َ
ِ
ً
مــن الثقــل يف نفوســنا ،ونفعــل -أيضــا -مــن املحرمــات باملقــدار الــذي حيقــق
رغباتنــ�ا لكــن دون تعريضنــا لقطــع ِن َعــم هللا أو نــزول عقابــه".
ُ
تــرى ،هــل تعريــف الطائفــة احلبشــرطية لعالقــة اإلنســان بربــه تعريــف
ســليم؟
ُ
هل هكذا ينبغي أن يسلم نفسه وعاطفته هلل رب العاملني؟
هل عرفتم من هي الطائفة احلبشرطية؟
إنهــا يف الواقــع كثــر مــن جمــوع العالــم اإلســايم ،ال يقولــون ذلــك بألســنتهم،
لكــن لســان احلــال أبلــغ مــن لســان املقــال!
ً ً
بــل لعلــك -وأنــت تقــرأ هــذه الكلمــات -ســتجد نفســك منتســبا ضمني ـ�ا إىل
هــذه الطائفــة!
صفــات يف نفوســنا تبــ�دو خطورتهــا عندمــا نشــخصها ونعــر ٍ إن هنــاك
عــنــــها بــعـــــبارات ال مــجـــامـــلــــة وال مــــداهنة فيهــا ..قــد نســتنكرها
ونســتغربها لكــن احلقيقــة املــرة أنهــا موجــودة يف نفوســنا وبدرجــات متب�اينـ�ة.
لــذا ،دعونــا نتعمــق يف حتليــل النفســية احلبشــرطية؛ لــرى إن كانــت مختبئ�ة يف
20
َ َ ۡ ََ ً َ َٓ َ َ َ َ َ َّ ۡ َ ٰ َ ُّ ُّ َ َ
ـدا أ ۡو قائ ِ ٗمــا فل َّمــا كشــف َنا
ـر دعَانــا لِجَۢنب ِ ـه ِٓۦ أ ۡو قا ِعـ {وِإذا مــس ٱل ِإنســن ٱلضـ
ـه ۚۥ} [يونــس ..]12 :إذن :دعانــا جلنبـ�ه ـر َّم َّسـ ُ ٰ ُ
ضـ ّ ـى
ـ
َ
ل إ
ٓ
ـا
ـ ن ـر َكأَن لَّـ ۡ
ـم يَ ۡد ُع َ ـرهُۥ َمـ َّ َۡ ُ ُ
ضـ َّ عنــه
ٖ ِ
َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َٰ ً ً
َأو قــاعــــدا أو قائمــا ..دعــاء مــن يريــد عــودة النعــم{ ..وِإذا أنعمنــا علــى ٱل ِإنسـ ِ
ـن
َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ ُ ُ َ ٓ َ ۡ َ َ َََ َ
ـض [ }٥١فصلــت] ..ذو دعــاء ـرض ونـٔــا ِبجانِب ِـهِۦ وِإذا مســه ٱلشــر فــذو دعــا ٍء ع ِريـ ٖ أع ـ
عريــض ..دعــاء مــن يريــد عــودة النعــم.
اســتمرار ِن َع ِمـ ِـه ودفــع نقمــه -يف نظــره -بهــذه «املوازنــة» واملــد واجلــزر ،لذلــك
ً
مــشــــروطا، ســمين�اه (احلبشــرطي( أي :أنــه حيــب هللا -عــز وجــلًّ -
حبــا ّ
ـروطا باســتمرار املصالــح الدنيويــة خاصــة؛ ـروطا باســتمرار النعــم ،مشـ ً مــشــ ً
ّ
فــإن نفســية احلبشــرطي قلمــا تت�ذكــر اآلخــرة!
تصــور معــي اآلن مــاذا حيصــل إن أذنــب احلبشــرطي ذنبــ�ا فابتــلاه هللا
تعــاىل بمــا يكــره ،فتخلــص احلبشــرطي مــن هــذا الذنــب كالعــادة وأعلــن حالــة
االســتنفار القصــوى :تضـ ُّـرع ،دعــاء ،اســتغفار ،طاعــات ..لكــن هللا عــز وجــل
شــاء أن يســتمر البــاء ويشــتد.
ســوف يعتمــل يف نفســية احلبشــرطي تســاؤل( :لقــد أديــت مــا ّ
علــي أن
أفعلــه ،فلمــاذا لــم يفعــل هللا تعــاىل املتوقــع منــه؟(
ً
وفقــا لعــادة «املوازنــة» الــي تكرســت يف نفســية احلبشــرطي فــإن مــن
«حقــه» عندمــا يتخلــص مــن املعصيــة ويجتهــد يف الطاعــات أن ُيرفــع البــاء
ويعــود «املصــروف» اليــويم الــذي يأخــذه مــن هللا -عــز وجــل .-فــإذا حصــل
خــاف املتوقــع فــإن محبتــ�ه املشــروطة هلل -عــز وجــل -ســوف تنهــار! وال
هــار ،و انبنــت علــى فهــم
جــرف ٍٍ عجــب أن تنهــار ألنهــا أسســت علــى شــفا
متشــوه لعالقــة اإلنســان بربــه ســبحانه وتعــاىل.
ً
إذا علــى أي يشء نبــي حبنـ�ا هلل عــز وجــل حــى ال ينهــار هــذا احلــب يف أيــة
حلظــة مــن حلظــات حياتنـ�ا؟
هذا ما سوف نعرفه يف املحطة القادمة بإذن هللا.
ُ َ
يأبــه -مــن ثــم -أعطــي أو ُمنــع.
ْ َ
الرجـ ُـل ُليسـ ِـل ُم
كان َّ يف احلديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم عــن أنــس قــال( :إن
َ َ ُّ
ـب ِإليــه مــن الدنيـ�ا ومــا ـام َأحـ َّ
ـون اإلسـ ُ َ ُ ُ َّ َ َ ُ َّ ُّ
مــا ُيريــد ِإ ل الدنيـ�ا ،فمــا يسـ ِـلم حــى يكـ
ِ
َعليهــا).
ُ َّ ُّ ْ َ
الرجـ ُـل ُليسـ ِـل ُم مــا ُيريــد ِإ ل الدني ـ�ا) :يعــي حبشــرطي صــرف! وإنمــا كان َّ (إن
ُيظهــر اإلســام إلرادتــه الدني ـ�ا..
ـث َبعـ َـد إســامه َّإل َقليـ ًـا حـ َّـى َينشــر َح َصـ ُ
ـدره
َ َ َ ُ
(فمــا يســلم) :يعــي فمــا يلبـ
ِ ِ ِ
ُّ َ َ َ َ َّ َ َ
ـب ِإليــه مـ َـن الدني ـ�ا.تمكـ َـن مــن قلبــه َفيكــون حينئـــذ أحـ َّ
ِ ٍ ِ ِ وي ـان
ِ ـ يم اإل
ِ ـة
ِ ـقيق حب
َ
إذن؛ حتول حبه هلل إىل حب حقيقي مبين على أسس سليمة.
أمــا أن يعيــش اإلنســان حياتــه كلهــا ِعيشــة املؤلفــة قلوبهــم فهــذا وضــع خطــر
غــر مقبــول! ألن محبتـ�ه هلل مهــددة بالــزوال يف أيــة حلظــة.
عندمــا تــويف رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وارتــد طوائــف مــن النــاس ،مــا
الــذي حصل؟
املؤلفــة قلوبهــم مــن أهــل مكــة الذيــن تألفهــم رســول هللا ،لكنهــم بعــد ذلــك
َ َ
بنــوا محبتهــم هلل علــى أســس صحيحــة ،كانــوا هــم أســود اإلســام الذيــن
نافحــوا عنــه أيــام الــردة ،وبذلــوا يف ذلــك أرواحهــم ودماءهــم وأموالهــم.
ً بينمــا ارتــد مــن بقــي (حبشـ ًّ
ـرطيا) متعلقــا بالدنيـ�ا عندمــا تعــرض لفتنـ�ة وفــاة
ـرد الزعمــاء. النــي وتمـ ِ
َّ
إن اســتقرار هــذا املفهــوم يف نفوســنا (-محبــة هللا غــر املشــروطة) -يمنحنــا
فهمــا أعمــق لكثــر مــن حقائــق ديننـ�ا.
فمثــا :عندمــا نقــرأ قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم( :أحــب األعمــال إىل
هللا أدومهــا وإن قــل)
قد يكون من أسباب ذلك:
ً ً
كثــرا مــا تكــون مدافعــة لبــاء حــل أو أن الــطــاعــــة الكثــرة الـمـتـقـطـعـــة
ً ً
ابتهاجــا مؤقتــا بنعمــة جديــدة ،خاصــة إذا تبعهــا فتــور شــديد يف الطاعــة.
26
ً
فتــورا يف مشــاعر ولديــه الشــابني جتاهــه ..فغســان الحــظ أبــو غســان
ورايم أصبحــا يأتيــ�ان كل صبــاح إىل غرفــة أبيهمــا ويمــدان يدهمــا قائلــن :
(املصــروف يــا أيب لــو ســمحت) بشــكل روتيــي رتيــب ..يعطيهمــا املصــروف
فيشــكرانه علــى عجــل وينطلقــان مــن البيــت.
أراد أبــو غســان أن يذكــر ولديــه بــأن عالقته بهما ليســت عالقــة مصروف
فحســب ..فعندمــا جــاءا هــذه املــرة ومــدا يديهمــا لقبــض املصــروف ،قــال لهما
ـدي) .كان أبــو غســان أبوهمــا بلهجــة تنبــض باحلــب الصــادق( :أحبكمــا يــا ولـ َّ
يتمــى أن تلتقــي عينـ�اه بعيــي ولديــه وهــو يقــول هــذه الكلمــات فيقــرأ فيهمــا
البهجــة واالعــزاز بما قــــال لــهــــما ..كان يــريــــد أي مــؤشــــر عـلـــى أن ولـديـــه
حيبانــه لذاتــه ،ال للمصــروف الــذي يأخذانــه منــه.
ً ُ
ــدم األب وانقلبــت ابتســامته ذبــول وأخــرج يــده مــن جيبــ�ه دون ص ِ
املـحـفـظـة ..انـتـبـه الـولـدان لــمـا حــصــل وأدركا عــدم لـبـاقـتـهـما يف التجاوب
مــع كلمــات أبيهمــا الرقيقــة ..قبضــا يدهمــا وأنزالهــا ..حــاوال تــدارك املوقــف..
ً
صامتا .فقال رايم ( :أيب ،رجــــ ً
ـاء أنــــا أحــتــــاج الـمـصــــروف.. لــم يفعــل وبقــي
ً
أعــدك أن أكــون أكــر لباقــة لكــن ال حترمــي مــن املصــروف) .لــم يتجــاوب األب
ً
مغضبــا مــن الغرفــة. فتضايــق رايم وخــرج
َّ
وأمــا غســان ،فقــد هــز املوقــف كيانــه! هــو حيــب أبــاه بالفعــل ،لكــن قلبــه
ُ
كان قــد ذ ِهــل عــن هــذه املحبــة بتعلقــه باملصــروف يف الفــرة الماضيــة .مالمــح
األب الذابلــة العابســة أيقظــت مشــاعر غســان ،فــأدرك كــم كان مقصـ ًـرا يف
ً
كثــرا يف شــعور حــق أبيــ�ه يف الفــرة األخــرة ..أدرك أنــه كان أنانيــ�ا ال يفكــر
أبي ـ�ه وال جيتهــد يف إدخــال البهجــة إىل قلبــه ..اغرورقــت عين ـ�ا غســان بدمــوع
حــارة وقــال بصــوت متهــدج( :آســف يــا أيب احلبيــب ..لقــد غفلــت عنــك
ـرا! ســامحين أرجــوك ..الدنيـ�ا كلهــا ال تســاوي ابتســامة منــك) ..قــال هــذه كثـ ً
ً
الكلمــات وهــو يقلــب عيني ـ�ه الدامعتــن يف وجــه أبي ـ�ه باحثــا عــن أيــة بــادرة
ً انفــراج لعبوســه ..لكــن األب بقــي ً
عابســا صامتــا وخــرج مــن غرفتــه وجلــس
علــى األريكــة ال يتكلــم.
ً ً َ َ
لقــه غســان وحتــرك حــول أبيـ�ه كالقــط ،فتــارة يقبــل يديــه وتــارة يقبــلِ
ً ً
رأســه وتــارة يمســك بي ـ�دي والــده بــن يديــه ودموعــه منهمــرة علــى خديــه
وهــو يقــول( :ســامحين يــا أيب أرجــوك ..أنــا أحبــك ..تعلــم أين أحبــك)..
ً
مناديــا( :أيب أحــس غســان بالضيــاع فلحقــه وقــال مــن وراء البــاب
29
أرجــوك ..ال أطيــق احليــاة دون رضــاك ..ال أســتطيع العيش وأنــا أراك غضبان
ً
حزينـ�ا ..لقــد أخطــأت يــا أيب لكــي أحبــك ..أحبــك يــا أيب ..أرجــوك ســامحين..
أرجــوك ابتســم يف وجهــي ..أرجــوك ضمــي إىل صــدرك) ..وتعــاىل صــوت بــكاء
َّ
ـزع تركتــه أمــه يف صحــراء وتولــت عنــه.
غســان كطفــل فـ ٍ
حينئــ ٍـذ انهــار ســد اجلفــاء يف قلــب األب أمــام دمــوع غســان ..فتــح البــاب
وضمــه إىل صــدره وجعــل يمســح جاثي ـ�ا علــى ركبتي ـ�ه َّ
ورفــع ولــده الــذي كان ً
ـن
ُدموعــه ويقبــل رأســه ..اســتمر بــكاء غســان ،لكنــه اآلن بــكاء فرحــة وحنـ ٍ
أشـ َ
ـبع..
َّ
مــد األب يــده يف جيب ـ�ه ليســتخرج مصــروف غســان ،لكــن غســان أعــاد
املحفظــة إىل جيــب أبيــ�ه وقــال لــه وهــو ملتصــق بصــدره (دعنــا اآلن مــن
ً
راضيــا عــي فالدنيـ�ا كلهــا املصــروف ..أريــدك أنــت يــا أيب احلبيــب ..مــا دمــت
تهــون).
ً
وهلل املثــل األعلــى ..قــد يعلــم هللا تعــاىل مــن عبــاده جفافــا يف محبتهــم له،
ً
وتعلقــا بنعيــم الدنيـ�ا الــذي يمنحهــم إيــاه ..هــو تعــاىل يتــودد إىل عبــاده وحيــب
ً ً منهــم أن يب�ادلــوه الـ ُـو ّد ُو ًّدا ..فــإذا رأى منهــم جفـ ً
ـاء وغفلــة قطــع عنهــم نعمــة
مــن النعــم ليهــز كيانهــم ويوقظهــم مــن غفلتهــم لعلهــم ينتبهــون إىل حقيقــة
ْ
أن النعمــة ألــ َـهتهم عــن املنعــم..
أمــا فقــر املشــاعر كـــ “رايم” ،فــا يفهم هــذه األبعــاد ،بل ال يــزال يف غفلته
قــد ســيطر “املصــروف” علــى تفكــره ..فيســتغفر هللا ويجتهــد يف الطاعــات
ليســرجع “املصــروف” .ليســت مصيبتــ�ه يف عتــاب هللا لــه ،إنمــا مصيبتــ�ه
ٌ
قطــع “املصــروف”! بــادة يف التفكــر وقصــور يف النظــرة وفقــر يف املشــاعر! ال
30
َّ ًّ
يفكــر إال فيمــا يأخــذه ،وال يــرى مــن واجبــه أن يشــكر ويب ـ�ادل الـ ُـود ُودا.
وأمــا صاحــب احلــس املرهــف والقلــب الــي كـــ “غســان” ،فــإن قطــع
“املصــروف” يزيــل عــن عينيــ�ه الغشــاوة ليبصــر املصيبــ�ة احلقيقيــة ،أنــه
قصــر يف حــق هللا تعــاىل وغفــل عنــه ..فــكل مــا يســيطر علــى كيانــه هــو
ّ ًّ
كيــف يســريض هللا تعــاىل ويربهــن لــه علــى أنــه يب�ادلــه الـ ُـود ُودا ..أمــا عــودة
“املصــروف” فتصبــح قضيــة ثانويــة ..ألنــه قــد يعيــش ،ولــو بصعوبــة ،دون
ً
املصــروف ،لكنــه ال يطيــق حلظــة مــن الضيــاع الــذي ســيعاني�ه إن فقد مــعـــ َّـية
هللا تــــعاىل أو أحــس بــأن هللا ال حيبــه.
ُ ّٗ ُّ ُّ َ ٰٓ ُ َ ٓ َ َ ٰٓ ُ َ ٓ
هــؤلا ِء يف النهايــة ،قــد يعــود “املصــروف” لالثنــن{ :كلا ن ِمــد هــؤلا ِء و
ۡ َ َ ِٓ َّ َ ََ َ َ َ َ ُٓ َّ َ
ــك َم ۡح ُظ ً
ــورا [ }٢٠اإلســراء ..]20 :لكــن األول، مِــن عطــاء ربِــكۚ ومــا كان عطــاء رب ِ
ً فقـ َ
ـر الشــعور ،ســيخرج مــن البــاء كمــا دخــل فيــه لــم يســتفد شــيئ�ا ..مــا دام
يــرى عــودة «املصــروف» غايــة اآلمــال ومنتهــى الطموحــات .وأمــا الثــاين فــإن
املحنــة كانــت أكــر منحــة لــه ،حيــث أطـلـــقت روحــه مــن قيــد الغفلــة لتــدور يف
ً َ ۡ َۡ َ َ
ان َم َثــلا ۚ} [هــود.]24 :
فلــك محبــة هللا تعــاىل{ ..هــل يســتوِي ِ
ورد عــن الصاحلــن أن بعضهــم كان يبتلــى بمــرض أو غــره وقــد عــرف
عنــه أنــه مســتجاب الدعــوة ،ومــع ذلــك ال يدعــو هللا تعــاىل بكشــف البــاء..
ســتقول :هــذه املرويــات فيهــا مبالغــة .ربمــا نعــم ،ولكننــ�ا إذا فهمنــا املعــاين
املذكــورة هنــا فــا نســتبعد أن حيصــل ذلــك ..فلعــل هــذا املبتلــى فهــم البــاء
علــى أنــه تذكــرة مــن هللا تعــاىل بأنــك قــد غفلــت عــن خالقــك ،ويريــد ربــك
ً
منــك أن تب�ادلــه التــودد تــوددا ..فيســيطر هــذا التفكــر علــى كيــان املؤمــن
ُ َ ِّ
وينشــط معــاين املحبــة يف املبتلــى ويعيــد حســاباته ليكتشــف مواطــن الغفلــة
قلبــه ويتفــن يف الربهنــة لربــه علــى صــدق محبت ـ�ه لــه ســبحانه..
31
مثــل هــذا التفكــر ال يبعــد أن يشــغل املؤمــن عــن الدعــاء بكشــف البــاء..
بــل قــد يــرى إعطــاء األولويــة للدعــاء بكشــف البــاء ســوء أدب ألنــه يــدل
ُ
علــى عــدم اعتن ـ�اء بالســبب الــذي مــن أجلــه ابتلــي (التذكــرة بمبادلــة التــودد
ً
تــوددا) ،وألنــه يعلــم أن اســتمرار البــاء أدعــى لــرده إىل دائــرة محبــة هللا..
فهــو ينشــغل بإعمــار قلبــه بمعــاين املحبــة مــن جديــد ،ويـ ِـكل أمــر توقيــت رفــع
البــاء إىل هللا ويوقــن حبكمتــه تعــاىل يف ذلــك ورحمتــه.
أرأيــت بعــد ذلــك لمــاذا (هللا يتــودد إلينـ�ا بالبــاء)؟ ألــم تـ َـر أن نبينـ�ا صلى
ـب ً هللا إذا أحـ َّ َّ
(وإن َ
قومــا ابتلاهم). هللا عليــه وســلم قــال:
فانظــر إىل االبتــلاء بإجيابي ـ�ة ،ال علــى أنــه عقوبــة محضــة ،بــل هــو بشــكل مــن
األشــكال تــودد مــن هللا! رأى منــا غفلــة عنــه وجفافــا يف عاطفتنــ�ا جتاهــه،
فابتلــى لرناجــع أنفســنا ،فنســتيح ،فنحــب ،ونتــودد ..هلل رب العاملــن.
32
كــم يتــودد هللا تعــاىل إلينــ�ا وهــو الغــي عنــا! أليــس مــن أســمائه
ٱلل ذ ِۡكـ ٗ
ـرا َكث ِ ٗ َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ ۡ
ٱذ ُكـ ُ
ـروا ْ َّ َ
يرا (الــودود)؟ انظــر إىل قولــه تعــاىل{ :يأيهــا ٱلذِيــن ءامنــوا
ُ ۡ ك ُتـ ُُ َ ّ َ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ ٰٓ َ ُ َ َّ ً ََ ّ ُ ُ ُ ۡ ٗ َ
ـهۥ ل ُِيخ ِر َجكــم صيــلا ٤٢هــو ٱلـذِي يصلِــي عليكــم وملئ ِ ـرة َوأ ِ
٤١وســبحوه بكـ َ
ِ
َ َ َ ۡ
ـو َم يَلق ۡونـ ُ َ
ِيمــا ٤٣تحِ َّي ُت ُهـ ۡ
ـم يَـ ۡ ۡ ۡ َ َ
ٱلنــور َوكان بٱل ُمؤ ِمن ِيـ َ
ـن َرح ٗ َ ُ
ّ َ ُّ َ
ـهۥ َســل ٰ ۚٞم ِ ِۚ
ـت إلــى ُّ
ِمــن ٱلظلمٰـ ِ ِ
َ َ َ َّ َ ُ ۡ َ ۡ ٗ َ
ــرا ك ِر ٗيمــا [ }٤٤األحــزاب.]44-41 : وأعــد لهــم أج
ـرا مــن آيــات األوامــر ببي ـ�ان أنــه حيــب أال تــرى أن هللا تعــاىل ختــم كثـ ً
مــن يفعــل كــذا وكــذا وال حيــب مــن يفعــل كــذا وكــذا ؟ مــاذا نســتفيد مــن هــذه
اخلواتيــم؟ إن كنــا أوفيــاء هلل تعــاىل وصادقــن يف محبت ـ�ه فــإن هــذه اخلاتمــة
ً
(وهللا حيــب كــذا) ينبغــي أن تكــون كافيــة يف تشــجيعنا علــى تنفيــذ األمــر،
محبــة هللا لنــا .كــم تكــررت هــذه ِ لنحصــل علــى هــذه اجلائــزة العظيمــة:
اخلواتيــم يف القــرآن الكريــم:
ۡ ٱلل ُيحِـ ُّ
ـب ٱل ُم َّتقيـ َ ـن}{ ،إ َّن َّ َ َ َّ ُ ُ ُّ َّ سـن َ ٱلل ُيحـ ُّ ۡ ۡ
َّ َّ
ـن}، ِ ِ
ٱلصٰبريـ َ
ِِ ين}{ ،وٱلل يحِــب ـب ٱل ُمح ِ ِ {إِن َ ِ
33
ألــم تقــف عنــد هــذه اخلواتيــم مــن قبــل؟ ألــم تشــعر بالســعادة
الــغــامــــرة إن كنــت مــــن أصــــناف النــاس الذيــن حيبهــم هللا تعــاىل؟ أال تعــي
لــك هــذه املحبــة الــيء الكثــر؟ أال تســتحق محبــة هللا أن تكــون أســى
ّ
األمنيــ�ات وأجــل معــى نعيــش مــن أجلــه؟
إن لم نقف عند هذه اخلواتيم من قبل ،إن لم حنرص على أن نكون من
أهلها ،إن لم تكن محبة هللا كافية يف أن نكون من املحسنني والصابرين واملتقني
واملتطهرين واملتبعني للرسول األمني واملتوكلني ،ويف سبي�ل هللا من املقاتلني..
إن لم تكن محبة هللا كافية يف أن نب�ذل جهدنا يف التخلق بهذه األخالق ..أال يدل
َ ً
ونقص اهتمام بمحبت�ه لنا؟ ذلك على أن هناك جفافا يف محبتن�ا هلل
ويف املقابــل :تــرى أن هللا تعــاىل نهــى عــن أمــور وأتبــع النهــي بأنــه
ٱلل لَا ُي ِح ُّ
ــب يــن}{ ،إ َّن َّ َ
ٱلظٰلِم َ َ َّ ُ َ ُ ُّ َّ
تعــاىل ال حيــب مــن يفعــل كــذا{ :وٱلل لا ي ِحــب
ِ ِ
ۡ
ــب ٱلخَآئن َ َ
ٱلل لا ُيحِ ُّ
ِين}{ ،إ َّن َّ َ ــهۥ لَا ُيحِ ُّ
ــب ٱل ۡ ُم ۡســرف َ ٱل ۡ ُم ۡع َتد َ
ِيــن}{ ،إنَّ ُ
ِيــن}.. ِ ِ ِ ِ
أيخ راجــع نفســك ،هــل كنــت كلمــا قــرأت هذه اآليــات تفكــر بالطريقة
التاليــة( :إن لــم حيبــي هللا فســيعرضين لبــاء أو حيرمــي مــن نعيــم)؟ هــل
ويدفــع البــاء؟ ألــم تشــعر بوخــزهــذا هــو كل مــا يهمــك؟ أن يســتمر النعيــم ُ
ً َّ
وألــم أل حيبــك هللا تعــاىل؟ أليــس هــذا شــيئ�ا مرعبــا وعقوبــة كافيــة يف ذاتهــا
أال حيبن ـ�ا هللا؟ أال تكفــي هــذه العقوبــة يف أن حتــرص كل احلــرص علــى البعــد
عــن الظلــم والعــدوان واإلســراف واخليانــة ألن هللا تعــاىل ال حيــب مــن اتصــف
34
أال تـرى كيـف أن الطفـل الصغير يسـتمد ثقتـه بنفسـه مـن محبـة
َ
والديـه لـه؟ ال يشـعر باالسـتقرار والطمأنينـ�ة إال إذا ّ
عبر والـداه عـن محبتهمـا
لـه ..إذا قـال لـه أبـوه :ال أحبـك ،فـإن هـذا يهـدد اسـتقراره ويدمر ثقته بنفسـه
ويعطيـه نظـرة سـوداوية للحيـاة .ألسـنا حنـن اخللـق عيـال هللا تعـاىل مـا
لنـا معيـل وال ملجـأ إال هـو سـبحانه وتعـاىل ..إذا قـال هللا لـك :ال أحبـك ..أال
يـخـــيفك ذلـك؟ أال جيعلـك ترتعد؟ أال ُي َسـود احلياة يف وجهـك؟ أال يهدد ذلك
اسـتقرارك وطمأنينتـك؟ أال ينبغـي لـك أن حتاسـب نفسـك علـى كل قـول أو
فعـل يمكـن أن جيعلـك مـن هـؤالء الذين ذكـر هللا تعـاىل يف كتابه أنـه ال حيبهم؟
ً
وإحساسا ً
عــظــيما عندما يتشرب قلبك هذا الـمـعـنى فـسـتـجــد ً
وقـــعا
َۡ جديـدا بكثير مـن اآليـات واألحاديـث ،مثـل قولـه تعـاىل{ :يُبَ ّ ِش ُ ُ ُّ ُ ً
ـره ۡم َربهـم ب ِ َرحمةٖ
يـم [ }٢١التوبـة ..]21 :تأمل هـذه اآلية كلمة يم ُّمقِ ٌ ـوٰن َو َج َّنٰت ل َّ ُه ۡم ف َ
ِيهـا نَعِ ٞ ّۡ ُ َ ۡ َ
ٖ مِنـه ورِض ٖ
كلمـة لترى كيـف تنبـع منها محبـة هللا ..ويف الـمــقابل اآليـات واألحاديث اليت
ً
تذكـر أصنافـا مـن النـاس ال يكلمهـم هللا وال ينظر إليهـم ..فكفى بهـا عقوبة أال
قلـب ّ
يح.. ٍ يكلمـك حبيبـك وال ينظـر إليـك إن كنت صاحب
تأمــل معــي كذلــك احلديــث الــذي رواه البخــاري أن هللا يقــول ألهــل
اجلنــة(( :يــا أهــل اجلنــة)) ،فيقولــون :لبيــك وســعديك ،واخلــر يف يديــك،
35
فيقــول(( :هــل رضيتــم؟)) فيقولــون :ومــا لنــا ال نــرىض يــا رب ،وقـــد
ً
أعــطــيــــتن�ا مــــا لــــم تــعــــط أحـــــدا مــــن خـلـقـــك ،فيقــول(( :أال أعطيكــم
أفضــل مــن ذلــك؟)) فيقولــون :يــا رب ،وأي يشء أفضــل مــن ذلــك؟! فيقــول :
ً ُ ّ
((أ ِحل عليكم رضواين ،فال أسخط عليكم بعده أبدا))..
يصعــب علــى جــاف الشــعور أن يفهــم لمــاذا هــذه أعظــم النعــم! فمــا دام
أهــل اجلنــة يف ظــل ممــدود وفاكهــة كثــرة وحــور عــن فمــاذا يضيــف إليهــم
رضــوان هللا يف نظــره؟!
ـم [ }٧٢التوبــة ..]72 :نعــم! رضــوان هللا أكــر مــن النعــم األخــرى ـو ُز ٱلۡ َع ِظيـ ُ
ـو ٱلۡ َفـ ۡ
ُهـ َ
كلهــا ..أكــر مــن اجلنــات واألنهــار واملســاكن الطيبــ�ة ..إنــه رضــا أعظــم
محبــوب ســبحانه وتعــاىل.
َۡ ُ ُ َ ۡ ُ
تــأمــل مـعي كذلك قوله تعاىل{ :فٱذك ُرون ِ ٓي أذك ۡرك ۡم} [البقرة..]152 :
حينئـذ جبائزة ..ما هي هذه ٍ يتودد إلين�ا ربن�ا ويطلب منا أن نذكره ويعدنا
اجلــائــزة؟ أن يــذكرنا تعاىل .ضعيف املشاعر ال يفهم ما املزية يف أن يذكر هللا
العبد .أما صادق املحبة فيكفيه أن يذكره أعظم محبوب :هللا سبحانه وتعاىل.
تأمــل معــي كذلــك احلديــث الــذي يصــور فرحــة هللا تعــاىل بتوبــة
َ ُ َّ ُ
عبده(( :ل أفـــــرح بــتــوبــــة عــبــــده مــن أحــــدكم جيد ضالته بالفالة)) (رواه
مســلم) .فاإلنســان النبيـ�ل املؤمــن يكفيــه ً
دافعــا إىل التوبــة ُ
علمــه بأنهــا ســتفرح
مــن؟ ســتفرح أعظــم محبــوب ..هللا ســبحانه وتعــاىل!
36
ً
بــل هنــاك بعــد آخــر جميــل أيضــا :إذا أهــداك مــن حتــب هديــة،
فبأيهمــا أنــت أفــرح؟ بالهديــة ذاتهــا أم بداللتهــا علــى محبــة مــن أهداهــا لــك؟
بــل تفــرح أكــر بــأن مــن أهداهــا إليــك يعــر بذلــك عــن حبــه .لــذا ففرحــة أهــل
اجلنــة مضاعفــة ،فهــم ليســوا فرحــن بمــا آتاهــم هللا مــن فضلــه فحســب ،بــل
وبداللــة هــذا اإلنعــام علــى حــب هللا لهــم ورضــاه عنهــم كذلــك..
فــا تنــس استشــعار هــذا املعــى كلمــا قــرأت آيــات وأحاديــث اإلنعــام اإللهي..
ـم َّ ُ
ٱلل}.. ٱلل ٱلَّذ َ
ِين َء َام ُنــوا ْ}َ { ،ءاتَى ٰ ُهـ ُ ـد َّ ُ ٱلل ل َ ُهـ ۡ
ـم}َ { ،و َعـ َ ـر ُه ۡم َر ُّب ُهــم}{ ،أَ َعـ َّ
ـد َّ ُ {يُبَ ّ ِشـ ُ
رضــا هللا الــذي يــدل عليــه هــذا النعيــم أهــم مــن النعيــم نفســه.
طبعـا ال يعني مـا تقـدم أن املؤمـن يطيـع هللا تعـاىل ويعبـده محبـة ً
فحسـب دون انتظـار ثواب أو خوف عقاب ،فهذا شـطط تـرده نصوص القرآن
ٗ َۡ ُ َ
ـون َر َّب ُه ۡم َخ ۡوفا َو َط َم ٗعـا} [السـجدة ..]16 :وقوله تعاىل: والسـنة كقولـه تعاىل{ :يدع
ـه ۚ ٓۥ} [اإلسـراء ..]57 :إنمـا املقـــصود التنبي�ه على ون َع َذابَ ُ
َ َۡ ُ َ َ ََۡ ُ َ َ َ ُ َ
{ويرجـون رحمتـهۥ ويخاف
كثريا مــــــا يـغــــيب عن األذهان ينبغي أن حيتف باخلوف والرجاء ،أال مــعــنى ً
حبـا لـه تعـاىل واحلـرص علـى حبـه تعاىل لنـا ورضـاه عنا. وهـو طاعـة هللا ًّ
هــل اقتنعــت اآلن أن هللا تعــاىل يتــودد إلينــ�ا؟ هــل اســتوقفتك هــذه
َّ ًّ ً
حريصــا علــى أن تب ـ�ادل هللا الـ ُـود ُودا؟ أم أنــك اآليــات مــن قبــل؟ هــل كنــت
التهيــت بالنعــم عــن املنعــم؟ إذا كنــت التهيــت فــا تعجــب عندمــا يبتليــك
ً ُ ّ ًّ
الــود ُودا .حــى لــو كان االبتــلاء شــديدا ،فلــن هللا تعــاىل ليذكــرك أن تب�ادلــه
يكــون أشــد مــن جفــاف الــروح وقحــط القلــب خبلــوه مــن تــذوق تــودد هللا لنــا
ّ ًّ
ومبادلــة هــذا الـ ُـود ُودا .فــإذا دفعــك البــاء إىل هــذا التــذوق فقــد ربحــت كل
ً
يشء ،ولــم ختســر شــيئ�ا ،مهمــا كانــت خســارتك كبــرة يف الظاهــر.
37
ذكرنــا أن البــاء يعينــك علــى أن تبــي حبــك هلل علــى أســس ســليمة ،وقلنــا
َ
أن مــن هــذه األســس تأمــل أســماء هللا وصفاتــه .البــاء يعينــك علــى فهــم
هــذه األســماء والصفــات.
-سنتكلم بداية عن صفة احلكمة ..حكمة هللا تعاىل يف االبتلاء.
-ســبحان هللا! ِمــن النــاس َمــن يشــككه البــاء يف حكمــة هللا ،بينمــا املؤمــن
يزيــده البــاء يقين ـ�ا حبكمــة هللا!
مــن جميــل مــا قيــل« :مــى فتــح –أي هللا تعــاىل -لــك بــاب الفهــم يف املنــع،
َ َ
عــاد املنــع عــن العطــاء .مــى أعطــاك أشـ َـهدك بـ ّـره ،ومــى منعــك أشــهدك
متعــرف إليــك ومقبــل بوجــود لطفــه عليــك .إنمــا ّ قهــره ،فهــو يف كل ذلــك
يؤملــك املنــع لعــدم فهمــك عــن هللا فيــه».
ُ
إذن ،قد ترم من نعمة ..فإن وفقك هللا للتفكر يف حكمته عندما حرمك،
فإن هذا التفكر سيعود عليك بعطايا هي أعظم بكثري مما حرمت منه ،وسرتى
عرفك بأسمائه وصفاته من خالل هذا البالء .أما الذي ال يرى أن هللا تعاىل ُي ِّ
َ ً البالء إال ًّ
شرا محضا فمصيبت�ه يف قلة التفكر وقلة فهم ِحكم هللا.
َّ
قــال ابــن القيــم( :ولــو أنصــف العبــد ربــه ،وأن لــه بذلــك ،لعلــم أن فضلــه
َ
عليــه فيمــا َمن َعــه مــن الدني ـ�ا ولذاتهــا ونعيمهــا أعظــم مــن فضلــه عليــه فيمــا
آتــاه مــن ذلــك ،فمــا منعــه إال ليعطيــه) (الفوائــد).
َْ
جتــاوز املفتــاح للتفكــر والفهــم هــو أن توقــن أن هلل يف كل يشء حكمــة.
الشــك يف وجــود احلكمــة .أيقــن حبكمــة هللا ثــم تفكــر :مــا هــي هــذه احلكــم؟
ُْ
وســتفتح لــك حينئ ـ�ذ كنــوز عظيمــة.
38
َ َ َ َ َ ۡ َُ ْ
واملفتــاح اآلخــر أن توقــن جبهلــك يف مقابــل حكمــة هللا{ :وعسـ ٰٓى أن تكرهوا
َ ۡ ٗ َ ُ َ َ ۡ َ ُ َ َ ُ َ ۡ َ ُ َّ َ ۡ ُ َّ ٞ ّ َ َ ُ َ ٗ ۡ َ ْ ُّ ُ َ َ َ َ ۡ ُ َّ ٞ
نت ۡم لا شيـٔــا وهــو خيــر لكــمۖ وعسـ ٰٓى أن تحِبــوا شيـٔــا وهــو شــر لكـ ۚ
ـم وٱلل يعلــم وأ
ََُۡ َ
ـون [ }٢١٦البقــرة.]216 :
تعلمـ
ُ
ـلاء تقيي ـ�د حريــي ..يف كل مرحلــة منــه كنــت أتمــى أن يتوقــف مــررت ببـ ِ
البــاء عنــد هــذا احلــد وأعــود إىل حيــايت كاملعتــاد .ويف كل مرحلــة كنــت أظــن
أن توقــف البــاء عنــد هــذا احلــد هــو األنفــع يل .لكنــي يف كل مرحلــة كنــت
أكتشــف أن اســتمرار البــاء كان أنفــع يل مــن توقفــه! واآلن لــو ســئلت :هــل
تتمــى لــو أن كل هــذا الــذي حــدث لــك لــم حيــدث؟ فجــوايب :ال وهللا! بــل أنــا
ًّ
ســعيد جــدا بــأن هللا تعــاىل لــم حيقــق يل مــا تمنيت ـ�ه ودعــوت بــه مــن العــودة
حليــايت الطبيعيــة ،بــل اختــار يل مــا هــو أفضــل مــن اختي ـ�اري لنفــي.
ْ
أحمــد هللا علــى أن اســتمرت نعمــة البــاء هــذه املــدة كلهــا ألقطــف منهــا
الهدايــا الرباني ـ�ة العظيمــة.
قــال ابــن القيــم( :ومــن اآلفــات اخلفيــة العامــة أن يكــون العبــد يف نعمـ ٍـة
ّ
أنعــم هللا بهــا عليــه واختارهــا لــه فيملهــا العبــد ويطلــب االنتقــال منهــا إىل مــا
يزعــم -جلهلــه -أنــه خــر لــه منهــا .وربــه برحمتــه ال خيرجــه مــن تلــك النعمــة
ويعــذره جبهلــه وســوء اختي ـ�اره لنفســه.)...
ٌ ً ثــم قــال( :فــإذا أراد هللا بعبــده خـ ً
ـرا ُورشــدا أشــهده أن مــا هــو فيــه نعمــة مــن
ّ
نعمــه عليــه َورضــاه بــه وأوزعــه شــكره عليــه) (الفوائــد).
واحلمــد هلل وصلــت إىل هــذه املرحلــة يف أواخــر بــايئ :لــم تعــد املســألة
صـ ً
ـرا فحســب ،بــل أصبحــت أشــكر ريب علــى مــا أنــا فيــه مــن نعمــة البــاء.
ً
قبــل جتربــي تلــك كنــت أتســاءل أحيانــا عــن احلكمــة يف تقديــر البــاء علــى
39
علمــاء ودعــاة يفيــدون النــاس بدعوتهــم وهــم أحــرار ،كاإلمــام أحمــد بــن حنبـ�ل
وابــن تيميــة وابــن القيــم وســيد قطــب وغريهــم .كنــت أفهــم بعــض احلكــم
مــن ذلــك ،لكــي كنــت أتمــى أن يطمــن قلــي أكــر .كنــت أفهــم ً
جانب ـ�ا مــن
احلكمــة نظريــا لكنــي بتجربــة البــاء فهمتهــا ًّ
عمليــا.
ُ َ
إذا ابتليت ووفقك هللا للفهم فسرتى كيف أن من يعمل لإلسالم تبقى
يف شخصيت�ه حلقة مفقودة ال تكتمل إال بالتضحية ،عندما يقدم ثمن دعوته.
فتوحــات مــا كانــت ٍ ســرى كيــف أن هللا يفتــح علــى األســر يف ســبيله
ختطــر بب�الــه خــارج الســجن .ســتفهم كل كلمــة مــن الكلمــات التاليــة العظيمــة
لســيد قطــب رحمــه هللا:
(فــا بــد مــن تربيــ�ة النفــوس بالبــاء ومــن امتحــان التصميــم علــى
معركــة احلــق باملخــاوف والشــدائد وباجلــوع ونقــص األمــوال واألنفــس
ـوع َو َن ۡقــص ّ ِمـ َ ۡ ـن ٱلۡخَـ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ َّ ُ
ـن ٖ ـو ِف َوٱلجُـ ِ كــم ب ِ َشـ ۡ
ـي ٖء ّ ِمـ َ الثمــرات .قــال تعــاىل{ :ولنبلون
ٱلصٰبر َ َّ َ َّ َ َ ٰ َ َ ّ ۡ َۡ َٰ َ ۡ َ ُ
يــن [ }١٥٥البقــرة..]155 : ِِ ــر
ِ ش
ِ ب و ت
ۗ ِ ــر م ٱلثو ــس
ِ نف ٱلأمــو ِل وٱلأ
البــد مــن هــذا البــاء ليــؤدي املؤمنــون تكاليــف العقيــدة كــي تعــز علــى
نفوســهم بمقــدار مــا أدوا يف ســبيلها مــن تكاليــف ،والعقائــد الرخيصــة الــي ال
يــؤدي أصحابهــا تكاليفهــا ال يعــز عليهــم التخلــي عنهــا عنــد الصدمــة األوىل.
فالتكاليــف هنــا هــي الثمــن النفيــس الــذي تعــز بــه العقيــدة يف نفــوس أهلهــا
َ
قبــل أن تعــز يف نفــوس اآلخريــن ،وكلمــا تأملــوا يف ســبيلها وكلمــا بذلــوا مــن
أجلهــا كانــت أعــز عليهــم وكانــوا أضــن بهــا.
كذلــك لــن يــدرك اآلخــرون قيمتهــا إال حــن يــرون ابتــلاء أهلهــا وصربهــم
ُ
علــى بالئهــا .وال بــد مــن البــاء كذلــك َلي ْصلــب عــود أصحــاب العقيــدة
ويقــوى .فالشــدائد تســتجيش مكنــون القــوى ،ومدخــور الطاقــة ،وتفتــح يف
القلــوب منافــذ ومســارب مــا كان ليعلمهــا املؤمــن إال حتــت مطــارق الشــدائد.
والقيــم واملوازيــن والتصــورات مــا كانــت لتصــح وتــدق وتســتقيم إال يف
40
جــو املحنــة الــي تزيــل الغبــش عــن العيــون والـ َّـران عــن القلــوب .وأهــم مــن
هــذا كلــه ،أو القاعــدة لهــذا كلــه :االلتجــاء إىل هللا وحــده حــن تهــز األســناد
كلهــا ،وتتــوارى األوهــام -وهــي شــى -وخيلــو القلــب إىل هللا وحــده ال جيــد
ً
ســندا إال ســنده .ويف هــذه اللحظــة قــد تنجلــي الغشــاوات ،وتنفتــح البصــرة،
ُ
وينجلــي األفــق علــى مــد البصـــــــــــــر :ال يشء إال هللا ،ال قــوة إال قوتــه ،ال
ُ ُ
حــول إال حولــه ،ال إرادة إال إرادتــه ،ال ملجــأ إال إليــه ..لذلــك إن هللا قــد وضــع
االبتــلاء لينكشــف املجاهــدون ويتمــزوا ،وتصبــح أخبارهــم معروفــة ،وال
يقــع االلتب ـ�اس يف الصفــوف ،وال يبقــى مجــال خلفــاء أمــر املنافقــن ،وال أمـ ِـر
الضعــاف اجلزعــن) انتهــى كالمــه رحمــه هللا مــن كتابــه (يف ظــال القــرآن-
تفســره ســورة البقــرة).
إذن هــذه مــن حكــم هللا تعــاىل يف ابتــلاء الدعــاة .صحيــح أنهــم لــو بقــوا
بكامــل حريتهــم لربمــا تمكنــوا مــن مخالطــة النــاس وقــراءة املراجــع وبــث
ْ
املؤلفــات أكــر .لكــن هللا تعــاىل يريــد أن ُيـــخ ِل َص ني�اتهــم ويبــث احليــاة يف
كلماتهــم ..فكمــا قيــل :فعــل رجــل يف ألــف رجــل أبلــغ مــن قــول ألــف رجــل يف
رجــل.
-ال يــعــــي هــــذا أنــك ســتحيط حبكمــة هللا يف البــاء كلهــا أو أن لــك أال حتســن
َ َ ٓ ُ ُ ّ َ ۡ ۡ َّ َ ٗ
الظــن حــى تدركهــا ..فــاهلل تعــاىل قــال{ :ومــا أوت ِيتــم ِمـ
ـن ٱلعِلـ ِم إِلا قل ِيــلا }٨٥
[اإلســراء...]85 :
ً
-فلــن تــدرك إال قليــا مــن حكــم هللا تعــاىل .لكنــه ســبحانه برحمتــه أطلعــك
علــى يشء مــن حكمتــه ليطمــن قلبــك.
ال زلنــا نتكلــم عــن حكمــة هللا عــز وجــل يف االبتــلاء ،وهنــا نضيــف عنصـ ًـرا
ً
جديــدا أال وهــو احلديــث عــن :حكمــة هللا عــز وجــل يف اختي ـ�ار مــدة البــاء.
ً
كان يأتيــي أحيانــا خاطــر يف بــايئ فأقــول يف نفــي( :حــى هــذا احلــد
كثــرا مــن هــذه التجربــة لديــي ،لكــي أخــى إن طــال البــاء أن اســتفدت ً
ًّ
عكســيا)! يصبــح املفعــول
ٌ
ثــم قلــت لنفــي :ومــا شــأنك أنــت؟ أنــت عبــد؛ دع أمــرك هلل عــز وجــل
احلكيــم اخلبــر العليــم ،هــو أعلــم بمــدة البــاء ،وشــدته ،وتوقيت ـ�ه ،ونوعــه،
خيتــار مــا يشــاء ســبحانه وتعــاىل ،وهــو احلكيــم يف اختي ـ�اره.
حىت نفهم هذا املعىن؛ تعال نت�أمل قصة غزوة األحزاب (اخلندق):
وقــع البــاء يف وقتــه ،وارتفــع يف وقتــه ..كانــت األزمــة قــد اســتمرت حــى
وقــع التمايــز التــام بــن املنافقــن والذيــن يف قلوبهــم مــرض واملؤمنــن،
وانكشــفت حقائــق الرجــال..
فمــن حكمــة هللا ورحمتــه أن البــاء اســتمر إىل أن حتققــت هــذه األمــور،
َ
فيأخــذ املؤمنــون حذرهــم مــن املنافقــن ،وال يت�أثــرون بعدهــا بأقوالهــم
وســمومهم الــي ينفثونهــا بمكــر.
ً
ومــن حكمــة هللا ورحمتــه أيضــا أن البــاء لــم يســتمر ويشــتد أكــر مــن
ـدم بعــد ثبوتهــا وينخلــع بعــض املؤمنــن عــن إيمانهــم ويقينهــم. ذلــك فــزل قـ ٌ
ٱلل َو َر ُســول ُ ُهۥ َو َصـ َ
ـد َق َّ ُ َ َ َّ َ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ُ ْ َ ٰ َ
ـذا َمــا َو َع َدنَــا َّ ُ
ٱلل {ولمــا رءا ٱلمؤمِنــون ٱلأحــزاب قالــوا هـ
َ ــم إل َّ ٓا إ َ
يم ٰ ٗنــا َوت ۡســل ِٗيما [ }٢٢األحــزاب..]22 : َ َ ُ ُُ َ َ َ َ ُ ۡ
ورســوله ۚۥ ومــا زاده ِ ِ
42
فاملؤمنــون لمــا رأوا األحــزاب ثبتــوا وصــروا ،و(إنمــا الصــر عنــد الصدمــة
َ
األوىل) ..فنجاهــم هللا عــز وجــل بإيمانهــم وأنطقهــم بــكالم َح ِفــظ عليهــم
دينهــم..
ُ َ
وقولهــمَ { :هٰــذا َمــا َو َع َدنَــا َّ ُ
ٱلل َو َر ُســول ُهۥ} ..قــال املفســرون أنهــم يعنــون بــه
َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ْ ۡ َ َّ َ َ َ َّ َ ۡ ُ
قــول هللا تعــاىل يف ســورة البقــرة{ :أم حسِــبتم أن تدخلــوا ٱلجنــة ولمــا يأت ِكــم
ُ َ ۡ ُ ْ َ ۡ ُ َّ َّ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ٓ ُ َ َّ َّ ٓ َّ َ ُ َّ َ َ َ ۡ ْ
ـرا ُء َو ُزل ِزلــوا َح َّتـ ٰ
ـى َيقــول ـوا ِمــن قبل ِك ـمۖ مســتهم ٱلبأســاء وٱلضـ مثــل ٱلذِيــن خلـ
ٱللِ قَريـ ٞ َّ َ ۡ َ َّ ٓ َ َ َّ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ٰ َ ۡ ُ َّ
ْ
ـب ( }٢١٤قــال ِ ـرـ ص ن نِ إ ا ل أ ِۗ ٱلل ٱلرســول وٱلذِيــن ءامنــوا معــهۥ متــى نصــر
ابــن عاشــور إن هــذه اآليــة نزلــت قبــل وقعــة األحــزاب بعــام).
وبلغــت األمــور ذروتهــا عندمــا علــم املســلمون أن يهــود بــي قريظــة نقضــوا
العهــد وحتالفــوا مــع املشــركني ..واآلن ،يف أيــة حلظــة ،يمكــن ليهــود بــي
َ
قريظــة أن يفتحــوا بواباتهــم ،فينســاح املشــركون يف املدينــ�ة ويعيثــوا فيهــا
ً ً ً
وتعذيبــ�ا وانتهــاكا لألعــراض. قتــا
ُ ۡ ۡ َ َ َۡ ُ ۡ َ ۡ َ ََ ۡ ٓ ُ
ــم َوِإذ زاغ ِ
ــت ِــن أ ۡســفل مِنك قــال هللا تعــاىل{ :إِذ َجا ُءوكــم ّمِــن فوق ِكــم وم
َ ُ َّ ُّ َ ۠ َ َ َُ ۡ ُ ُ ُ َۡ َ َۡۡ َ ٰ ُ ََ
ــر َوتظ ُّنــون بِــٱللِ ٱلظ ُنونــا ١٠ه َنال ِــك ۡٱب ُتلِــ َي ج ــر َو َبلغ ِ
ــت ٱلقلــوب ٱلحنا ِ ٱلأبص
ٗ ُۡ ۡ ُ َ َ ُۡ ُ ْ ۡ َ ٗ َ
ٱلمؤمِنــون وزل ِزلــوا زِلــزالا شــدِيدا [ }١١األحــزاب..]11،10 :
لــو تأخــر النصــر لربمــا اعتمــل الشــك يف قلوب املؤمنــن وحــاك يف صدورهم
ذهب حســناتهم. ُ َ
ما يهــدم ماضيهــم وي ِ
لكــن هللا -عــز وجــل -حبكمتــه ورحمتــه حفــظ عليهــم دينهــم؛ فلــم يت�أخــر
النصــر أكــر مــن ذلــك احلــد؛ ألن هللا يبتلــي املؤمــن علــى قــدر دينـ�ه.
هلل يف ذلـك حكـم ،منهـا -وهللا تعـاىل أعلـم حبكمتـه -أن هللا عز وجـل أراد
َّ أن يصلـب عـود املؤمنين ،فكلما اشـتد البالء صلـب ُ
عودهم وترقـوا يف املنازل.
44
ْ
ومنهــا أن هــذه الزلزلــة الــي حصلــت لهــم كســرتهم أمــام هللا وأشـ َـع َرتهم
بافتقارهــم إىل رحمتــه ســبحانه وضعفهــم يف املقابــل ،فــا يصيبهــم العجــب
بأنفســهم وال يغــروا بهــا ،وال يســندون الفضل إىل أنفســهم يف الصــر والثب�ات،
بــل يســندون الفضــل كلــه إىل هللا عــز وجــل الــذي جناهــم يف اللحظــة احلرجــة.
إذن:
لــم يت�أخــر النصــر إىل حــد يمكــن أن حييــك معــه يف صــدور املؤمنــن مــا يذهــب
بإيمانهــم.
ولــم يــأت يف مرحلــة مبكــرة قبــل أن يشــتد البــاء ويصلــب عودهــم وتــذل
ْ
نفوســهم هلل ويعلمــوا أن ليــس لهــم إال هللا عــز وجــل ويتمايــزوا عــن املنافقــن
وتنكشــف لهــم حقائــق هــؤالء املنافقــن.
مذاقات ال توصف!
-ال زلنــا نتكلــم عــن حكمــة هللا عــز وجــل ..وكيــف أنــك عندمــا تت�أمــل حكمتــه
ً
ســبب�ا يف زيــادة محبــة هللا ،فتنقلــب املحنــة تعــاىل يف االبتــلاء يكــون ذلــك
ُ ً
منحــة ،خبــاف الذيــن ينهــار حبهــم هلل إذا ابتلــوا.
-قبــل نعمــة البــاء الــذي مــررت بــه كنــت أتســاءل :كيــف يصــر املؤمنــون
الذيــن يبتليهــم هللا بابتــلاءات شــديدة .كنــت أومــن بقدرتــه تعــاىل علــى
ُ
تصبريهــم لكــن أتمــى أن يطمــن قلــي .وعندمــا خالطــت نمــاذج مــن هــؤالء
النــاس كان مــن نعمــة هللا علــي أن فهمــت كيــف يصــرون .فأورثــي ذلــك
ســامة صــدر جتــاه أقــدار هللا تعــاىل.
ً
-رأيــت أول أن مــن حكمــة هللا تعــاىل أنــه ال يبتلــي عبــاده املؤمنــن بقواصــم
ظهــر ال يتحملونهــا ..بــل ببــلاء يتن�اســب مــع إيمانهــم.
-روى الرتمــذي عــن ســعد بــن أيب وقــاص قــال :قلــت يــا رســول هللا ،أي الناس
أشــد بــاء؟ قــال(( :األنبيـ�اء ،ثــم األمثــل فاألمثــل؛ يبتلــى الرجــل علــى حســب
ُ دينـ�ه ،فــإن كان يف دينـ�ه ً
صلبــا اشــتد بــاؤه ،وإن كان يف دينـ�ه رقــة ابتلــي علــى
قــدر دينـ�ه ،فمــا يــرح البــاء بالعبــد حــى يرتكــه يمــي علــى األرض ومــا عليــه
خطيئـ�ة)) (رواه الرتمــذي وقــال :حســن صحيــح ،وصححــه األلبــاين وشــعيب األرنــاؤوط)
ثانيــ�ا :رأيــت كيــف يرفــق تعــاىل بعبــاده املؤمنــن فيتــ�درج يف ابتلائهــم.. ً -
َ يبتلــي علــى قــدر اإليمــان ..ثــم يصــر ..فزييــد الصـ ُ
ـر اإليمــان إىل درجـ ٍـة تؤهلــه
َ
لت َح ُّمــل ابتــلاء أشــد ..يبتليــه هللا ذلــك البــاء ..ثــم يصــر ..وهكــذا ..فيبقــى
البــاء يمــزج باإليمــان فريتقيــان بالعبــد يف املنــازل إىل درجــة مــا كان حيلــم بهــا
46
ٌ
وال يتصــور أنــه أهــل لهــا يف بدايــة بالئــه!
ّ ً ً
ثالثــا :حــى علــى فــرض أن بـ ً
ـاء شــديدا حــل باملؤمــن فجــأة ..رأيــت كيــف -
ُ ُ
أنــه تعــاىل يمنــح عبــده املؤمــن مذاقــات تــذاق وال توصــف! ً
تمامــا كطعــم
الفاكهــة وراحئــة العطــور..
-كذلك فإن عباد هللا هؤالء الذين ال تتصور كيف يصربون ،ذاقوا طعم
السكين�ة واألنس باهلل وتعلق القلب به والرضا بقضائه ..هذه املعاين مذاقات:
ً
تذاق وال توصف .ذقت يف جتربيت شيئ�ا منها فعرفت أثرها ..لكين يف نعمة البالء
ً ُ
خالطت أناسا أحسبهم ً
خريا مين وأكرث عيشا لهذه املعاين مين.
-كانــت بالياهــم شــديدة ،أشــد مــن بــايئ بكثــر ،ولكــن وجوههــم مــع ذلــك
كانــت تشــرق بالرضــا والبشــر والســكين�ة ،وألســنتهم تلهــج حبمــد هللا
واســتصغار صربهــم مــا دام لوجــه هللا تعــاىل .بــل إن أحدهــم قــال يل( :إين ،وأنــا
ً
أدعــو هللا بالفــرج ،أكاد أحيانــا أســأل هللا أال يســتجيب دعــايئ ،لمــا أتذكــره مــن
عظيــم أجــري حينئــ ٍـذ يف الــدار اآلخــرة)!
-كنــت أذكــر لهــذا األخ أين أحســن الظــن بــاهلل تعــاىل أنــه ســيجعل يل ً
فرجــا
ومخرجــا ً
قريب ـ�ا ،فــكان يقــول يل( :هــذا جميــل ،ولكــي أريــد لــك مســتوى أرىق ً
مــن ذلــك :أريــدك أن تســتمتع بنعمــة البــاء!).
-تســتمتع بنعمــة البــاء! لــم أفهــم كلمتــه هــذه يف حينهــا لكــي بدأت أعيشــها
بعــد فــرة مــن اســتمرار “نعمــة البالء”.
47
ً ً
-لقـد رأيـت يف جتربتي طرفـا مـن حكمـة هللا يف االبتـلاء ..بـدأ البلاء خفيفـا يف
صبرين هللا واشـتد عـودي فـزاد البلاء.. قريبـ�اَ َّ ..
البدايـة وظننـت أنـه سيزول ً
ُ
وكلمـا اشـتد ،كانـت تزنل مـن هللا سـكين�ة ت َص ِّب .فاحلمـد هلل احلكيـم الرحيم.
-هـذه املذاقـات العجيبـ�ة إن لـم تذقهـا فلـك أن تـرى آثارهـا :سـحرة فرعون ما
ـن ل َ َنا ل َ َأ ۡج ًرا إن ُك َّنـا َن ۡح ُن ٱلۡ َغٰلِب َ
ين [ }٤١الشـعراء ..]41 :كانوا قـــد كان لهـم َه ٌّـم إال{ :أَئ َّ
ِ ِ ِ
عــاشـــوا ســـنني طــويـلة عـلى طلب الـدنــيا بالسحر ومخادعة الناس.
ً
-ثــم مــا هــي إال حلظــة مــن الهــدى واليقــن جعلتهــم جبــال روايس أمــام
َ التهديــد بالتقطيــع والتصليــب ،يقولــون لفرعــون{ :قَالُــوا ْ لَــن نُّ ۡؤثِـ َ
ـر َك عَل ـ ٰى َمــا
َ َۡ َّ َ ٓ َ َ َ َ َ َ ۡ َّ َجا ٓ َءنَــا مِـ َ ۡ َ
ضــي هٰــ ِذه ِ ـاض إِن َمــا تق ِ ۖ ٍ ـ ـت َوٱلــذِي ف َط َرنــاۖ فٱقـ ِ
ـض مــا أنــت ق ـن ٱل َب ّيِنٰـ ِ
ك َر ۡه َت َنــا َعلَ ۡي ـهِ ِمـ َ َّ ٓ َ َ َّ َ ّ َ َ ۡ َ َ َ َ َ ٰ َ ٰ َ َ َ ٓ َ ۡ ۡ َ َ ٰ َ ُّ ۡ ٓ
ـن ٱلدن َيــا ٧٢إِنــا ءامنــا بِربِنــا ل ِيغفِــر لنــا خطينــا ومــا أ ٱلحيــوة
َ ّ ۡ َ َّ ُ َ ۡ َ َۡ
ــى [ }٧٣طــه!!..]73،72 : ٱلسِــح ِرۗ وٱلل خيــر ٞوأبق ٰٓ
-يــا هللا! أنــاس دنيويــون طينيــون ..يف حلظــة ذاقــوا فيهــا هــذه املذاقــات الــي
ال توصــف حتولــوا إىل عمالقــة تعلقــت أرواحهــم بالــدار اآلخــرة ال يرجــون مــن
نفعــا وال خيافــون ضـ ًّـرا !
بشــر ً
ََ
أناســا صاحلــن ُي ْبتلــون باليــا شــديدة ،وثــارت يف صــدرك فــإذا رأيــت ً
ْ ُ
تســاؤالت عــن حكمــة هللا يف ابتلائهــم ،فقــل( :علـ َّـي نفــي .هــم لــم يشــكوا
ربهــم ســبحانه ألحــد .فــإن كانــوا راضــن بقضــاء هللا فمــا شــأين أنا؟ فــاهلل أرحم
طبعــا يف عونهــم ورفــع البــاء عنهــم إن اســتطعت. بهــم مــي) ..مــع ســعيك ً
ابنك ..تنصحه أال يكرث من احللويات وأن ينظف فمه منها كلما أكلها.
ال يســتجيب لنصحــك ..يأكلهــا بكــرة ،يصيــب أســنانه التســوس ،فيأتيــك
ـاكيا( :بابــا أســناين توجعــي). شـ ً
(إذن هيا إىل الطبيب)..
(ال يا بابا أرجوك! سأتألم).
ً
(ال بد من ذلك يا بين ،وإال استفحل التسوس وعانيت ألما أشد).
تذهبــان ،جيلــس علــى كــريس الطبيــب ،يبـ�دأ بإزالــة التســوس ..يصيــح ابنــك
َ َ
مــن اخلــوف واأللــم( :بابــا أرجــوك خلــص)..
تنهره أنت( :اسكت يا بابا! دع الطبيب يعاجلك).
يعود الطبيب للعالج ،يسكت ابنك ثم يصيح( :بابا خلص بيكفي)..
تنهره حبزم( :الطبيب أدرى ،دعه يكمل عمله)..
ً ً
خــال ذلــك ،هــل ينظــر إليــك طفلــك حبقــد؟! أبــدا طبعــا ،فهــو يعلــم أنــك
تريــد مصلحتــه .هــو ال يريــد أن يت�ألــم ،لكــن يعلــم أن معاجلــة الطبيــب توفــر
عليــه آالمــا أشــد فيمــا بعــد.
أنــت كأب ،تت�ألــم وأنــت تــرى ابنــك يت�ألــم ،حــى أنــك قــد ختــرج مــن الغرفــة
ألنــك ال تطيــق ســماع أنين ـ�ه.
ينتهــي العــاج يف الوقــت املناســب .يقــوم ابنــك عــن الكــريس،
وتنصرفــان ..يف طريــق العــودة ،ينظــر ابنــك لــك بمحبــة وإجــال( :أيب يريــد
مصلحــي يف كل مــا يفعلــه .هــا قــد ذهــب األلــم وأتمتــع أنــا اآلن بأســنان
صحيــة)..
وهلل املثــل األعلــى ..ينهانــا هللا تعــاىل عــن «حلويــات» املعــايص ويأمرنــا
أن نتطهــر منهــا كلمــا تن�اولناهــا..
49
ُ َّ
نعــم ،لــك أن تدعــو هللا مــع ذلــك أن خيرجــك مــن البــاء وت ِلــح عليــه،
لكنــك مهمــا طــال العــاج تبقــى تنظــر إليــه ســبحانه نظــرة ذلــك الطفــل
الــذي يعلــم أن أبــاه يريــد مصلحتــه ،فتحســن الظــن بربــك عــز وجــل وتوقــن أن
اختي ـ�اره لــك خــر مــن اختي ـ�ارك لنفســك ،وال يمكــن للحظــة أن تــيء الظــن
بــه ،بــل تبقــى ترجــوه وحتبــه.
ًّ
مهــم جــدا أن تعلــم :هللا تعــاىل ال حيــب أن يــراك تت�ألــم ،لكــن حيــب أن
يــراك تتطهــر ،ألنــه تعــاىل يعلــم خطــر الذنــوب وأمــراض القلــوب عليــك.
ً
تصــور أنــك رأيــت إنســانا ال تعرفــه ،فتبســمت يف وجهــه ،ثــم نســيت
املوقــف .فــإذا بهــذا الشــخص يهديــك ســيارة ويقــول لــك :لــن أنىس بســمتك.
لقــد أحسســت فيهــا بمحبتــك الصادقــة يل .ثــم بقــي يتصــل بك يشــكرك على
ابتســامتك .وقعــت يف مــأزق فســاعدك وســعى معــك بوقتــه وجهــده ومالــه.
مرضــت فــزارك وأطعمــك بي ـ�ده .اســتحييت منــه وقلــت لــه أنــك ال تســتحق
منــه هــذا كلــه ..فقــال لــك :ال ..لــن أنــى لــك تبســمك يف وجهــي .وبقــي يظهــر
لــك املحبــة الصادقــة الــي ال تشــوبها املصالــح الدنيويــة.
ً
مــاذا تســي إنســانا كهــذا؟ (ودود) ..أليــس كذلــك؟ أال حتــس باحليــاء
الشــديد مــن تــودد مثــل هــذا اإلنســان؟ خاصــة إن لــم تســتطع ســداد معروفــه
وجميلــه؟
وهلل املثــل األعلــى! هللا ســبحانه وتعــاىل ،الــودود ،يــرىض عــن عبــده وحيبه
ًّ
ويكرمــه علــى أفعــال بســيطة جــدا ال يلقــي لهــا العبــد بــاال ..بشــرط واحــد :أن
ً
خالصــا لوجــه هللا. يكــون هــذا الفعــل أو القــول أو الشــعور
انظــر إىل قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :إن أحدكم ليتكلــم بالكلمة
مــن رضــوان هللا مــا يظــن أن تبلــغ مــا بلغــت فيكتــب هللا لــه بهــا رضوانــه إىل
يــوم يلقــاه)) (صحيــح رواه الرتمــذي) .كلمــة لعــل العبــد نســيها ومــا تصــور أن تبلــغ
هــذا املبلــغ عنــد هللا ،لكنــه تعــاىل يــرىض بهــا عــن العبــد إىل األبــد ألنــه :الــودود.
َ ْ ََْ ُ
ــت َر ُج ًــا َي َت َق َّل ُ
ــب يف يف احلديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم(( :لقــد رأي
َ َّ َ ْ ُ ْ
الط ِريـ ِـق ،كانــت تــؤ ِذي النــاس)) ..عمــل ـج َرة َق َط َعهــا مــن َظ ْهــر َّ
َ َ َ َّ
ِ ِ اجلنـ ِـة ،يف شـ ٍ
ًّ
بســيط جــدا ،لكنن ـ�ا نتعامــل مــع :الــودود ســبحانه وتعــاىل.
51
هللا تعــاىل يضاعــف احلســنة إىل عشــرة أمثالهــا إىل ســبعمائة ضعــف إىل
أضعــاف كثــرة ألنــه تعــاىل :الــودود.
َّ ْ َ
تأملــت فيهــا لطــف هللا وكــرم هللا وعظمــة دمــوع تــزل منــك يف حلظــة
هللا وحلــم هللا ..دمــوع ..يظلــك هللا بهــا يف ظلــه وحيــرم عينــك بهــا علــى النــار
َ ْ هللا ً ذكــر َُ ٌ َ
خاليــا ففاضــت عين ـ�اه) (متفــق عليــه).. ألنــه تعــاىل :الــودود( ..ورجــل
ُ ٌ ٌ َّ
النـ ُ (عينـ�ان ال ُّ
هللا ،وعــن باتــت حتــرس يف ـية ِـار عــن بكــت مــن خشـ ِ تمســهما
هللا) (رواه البخــاري).
ســبي ِ�ل ِ
يف احلديــث الــذي رواه البخــاري عــن الرجــل الــذي أشــفق علــى كلــب
هللا لــه فغفــر لــه)). َ
فشــكر ُ فســقاه(( ..
أعمــال بســيطة لكــن هللا يشــكرها ألنــه الشــكور ،ويتــودد إلينــ�ا إذا
ـوا ْ إل َ ۡيـ ۚهِ إ َّن َرب ّــي َرحِيـ ٞ
ـم وبـ ٓ ـم ُثـ َّ
ـم تُ ُ َ ۡ َ ۡ ُ ْ َ َّ ُ
كـ ۡ فعلناهــا ألنــه تعــاىل :الــودود{ ..وٱســتغفِروا رب
ِ ِ ِ
َو ُدود[ }٩٠ ٞهــود..]90 :
يف احلديــث الــذي رواه مســلم يقــول هللا تعــاىل(( :مــن جــاء باحلســنة
فلــه عشــر أمثالهــا وأزيــد .ومــن جــاء بالســيئ�ة ،فجــزاؤه ســيئ�ة مثلهــا ،أو أغفــر.
ذراعا تقربــت منهذراعــا .ومــن تقــرب مــي ً ـرا تقربــت منــه ً ومــن تقــرب مــي شـ ً
باعــا .ومــن أتــاين يمــي ،أتيتـ�ه هرولــة .ومــن لقيــي بقــراب األرض خطيئـ�ة ال ً
ً
يشــرك يب شــيئ�ا ،لقيتـ�ه بمثلهــا مغفــرة)) ..نعــم .ألنــه تعــاىل :الــودود.
52
الــذي يـجـعـــلك تـسـتـــي مــن هللا تعــاىل مــع كرمــه وتــودده أنــك ال
تســتطيع نفعــه تعــاىل بــيء ،ال تســتطيع أن تــرد جميلــه ..وفــوق ذلــك ..هــو
تعــاىل الــذي وفقــك للعمــل .العبــد خيتــار ،صحيــح ،لكــن اختي ـ�ارك اخلــر مــا
هــو إال بتوفيــق هللا لــك .فيوفقــك لعمــل اخلــر ،ثــم يثيبــك علــى اخلــر الــذي
وفقــك هــو لــه !
ثــم هللا إذا ابتــلاك فصــرك أثابــك علــى الصــر الــذي وفقــك هــو لــه!
ُ ّ ً ُيثيبــك ً
ثوابــا عاجــا يف الدنيـ�ا وال ُبــد ،ولــو بنعيــم القلــب وأنســه ،ثــم ُيثيبــك يف
اآلخــرة ..مــا هــذا الكــرم والــود؟ ..ال عجــب فهــو تعــاىل :الــودود.
أال يكفــي هــذا كلــه يف أن حنــب ربنـ�ا تعــاىل بــا شــروط؟ أال يكفــي هــذا كلــه
يف أن حنبــه يف رحــم املعانــاة والبــاء وأن نأنــس بــه ونكتفــي بقربــه مهمــا كانــت
الظروف؟
تأمــل أســماء هللاال زلنــا نبــي حبنــ�ا هلل علــى أســس ســليمة ،أولهــا ُّ
وصفاتــه .قلنــا أنــك إن أتقنــت التعامــل مــع البــاء فإنــك ســتفهم أســماء هللا
تعــاىل وصفاتــه أكــر وأكــر مــن خــال البــاء ،وهــذا ســيفيض يف املحصلــة إىل
حتويــل البــاء إىل ســبب لزيــادة محبــة هللا تعــاىل.
يف املحطــات الماضيــة تأملنــا حكمــة هللا يف البــاء ثــم تــودده لعبــاده
بالبــاء .اليــوم نت�أمــل صفــة أخــرى مــن صفــات هللا تعــاىل ..مــا هــي هــذه
الصفــة؟
ً ً
أحيانــا نعــاين مــن مشــكلة ،ال نعلــم كــم تســتمر وإىل أي مــدى ســتتفاقم..
يشــرق يف نفوســنا األمــل بزوالهــا ..تلهــج ألســنتن�ا بالدعــاء ..لكــن مــا نلبــث أن
يعرتينـ�ا اخلــوف ويــراءى لنــا شــبح اليــأس عندمــا نفكــر يف أن بالءنــا ســيطول َ
ويشــتد..
خنــاف حينئــ ٍـذ ،ألنن ـ�ا ننظــر يف جوانــب أنفســنا وحناياهــا فــا جنــد فيهــا
ــول عليــه أن يصربنــا إذا وصــل البــاء إىل الدرجــة املخوفــة .نتعامــل مــا ُي َع َّ
ً ُ
مــع املســألة بطريقــة رياضيــة :فــإن كانــت املصيب ـ�ة مرضــا يــى أن يــؤدي
ً
إىل العــى مثــا ،فإنــا نعقــد املعادلــة التاليــة لتخيــل املســتقبل :أنــا -بصــر=
إنســان تعيــس.
وإن كان ابنــك يف غرفــة العنايــة املركــزة بــن احليــاة واملــوت فاملعادلــة:
احليــاة -ابــي = حــزن مســتمر ..وهكــذا
اعتبـ�ار املعــن مــن أســماء هللا ،لكنــه بــا شــك مــن صفاتــه تعــاىل.
تمامــا كمــا يــزل النصــر ..يــزل إذن فالصــر يــزل مــن عنــد ربن ـ�ا املعــن ً
الصــر مــن عنــد هللا لينصــرك يف معركتــك ضــد اليــأس واحلــزن ..و{إِن
ك ۡ َ َ ُ َ ُ ۡ ُ ُ َّ ُ َ َ َ
ــمۖ} [آل عمــران..]160 : ٱلل فــلا غال ِــب ل ينصركــم
َّ َّ
ــر إلا م ۡ َّ ۡ ُ ََ
ِــن عِنــ ِد ٱللِ} [آل الحــــــظ :كــــما أن هللا تعــاىل قــال{ :ومــا ٱلنص ِ
َّ َ ۡ ۡ َ َ َ ۡ ُ َّ
ـٱللِۚ} [النحــل ..]127 :فرتكيــب ـر َك إِلا بِـ عمــران..]126 :فقــد قــال{ :وٱصبِــر ومــا صبـ
اآليتــن متشــابه.
ًّ
إنهــا حقيقــة مهمــة جــدا! الصــر يــزل مــن عنــد هللا وكذلــك األمــان
ُ َّ َ َ َ َ ُ
ـزل َعل ۡيكــم ّ ِم ـ ۢن والســكين�ة ..والشــواهد لذلــك كثــرة كقولــه تعــاىل{ :ثــم أنـ
ــم}ِينة عل ۡيه ۡ َ َ َ ٱلســك َ نــز َل َّــة} [آل عمــران ، ]154 :وقولــه تعــاىل{ :فَأَ َ َۡ ّ َََ ٗ ۡ
َبعــ ِد ٱلغ ِ
ــم أمن
ِ
[الفتــح ، ]18 :وقولــه تعــاىل حكايــة عــن الســحرة الذيــن آمنــوا بمــوىس عليــه
ُ َّ
وي َصلبــوا: الســام وهــم علــى وشــك أن تقطــع أيديهــم وأرجــلــــهم مــن خــاف
غ َعلَ ۡي َنــا َص ۡبـ ٗ
ـرا َوتَ َو َّف َنــا ُم ۡس ـلِم َ َ َّ َ ٓ َ ۡ ۡ
ين [ }١٢٦األعــراف..]126 : ِ ـر
{ربنــا أفـ ِ
تصــور دلــوا يفــرغ بصــب مــا فيــه ..هــم يطلبــون مــن ربهــم أن يصــب ِّ َ ً َّ
عليهــم الصــر ًّ
صبــا..
احلرى فيسكنها ويربدها.. يزنل الصرب كاملطر على القلوب املرجتفة َّ
إنهــا ليســت نفســك البشــرية الضعيفــة الــي يعــول عليهــا أن ختتلــق
ـنٱلل ٱلَّذِيـ َ ـت َّ ُ الصــر وختــوض املعركــة! ..إنــه هللا الــ ُـمعني الــذي يثبــت{ :يُثَ ّبـ ُ
ِ
ْ
َء َام ُنــوا} [إبراهيــم ..]27 :وبــمــــا أنــــه هللا الــــذي يـثـبـــت فليــس هنــاك بــاء أكــر
مــن تثبيــت هللا الــ ُـمعني..
إنــه هللا تعــاىل الــذي يربــط علــى القلــوب املرجتفــة الــي كادت تنخلــع
خوفــا مــن املجهــولَ { ..و َر َب ۡط َنــا عَل َـ ٰى قُلُوبهـ ۡ ً ً
ـم} [الكهــف..]14 : ِِ مــن الصــدر حزنــا أو
وحينئــ ٍـذ فــا يشء خييــف إن كان هللا هــو املعــن.
55
ً أم مــوىس عليــه الســام ..ألقــت ابنهــا يف اليــم ،فــرك وراءه ً
قلبــا فارغــا؛
َ ََ ۡ َ َ ُ َ ُ ُ َ ُ ٍّ
ـىـح فــؤاد أ ِ ّم ُم ـ
وس ٰ قلــب أم فقــدت فلــذة كبدهــا ..فــزل التثبيــت مــن هللا{ :وأصبـ
ـن ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن ِيـ َ َ ۡ َ ٓ َ َّ َ ۡ َ َ َ ٰ َ ۡ َ َ ُ َ َ َ ۡ َ َ ً
ـن }١٠ ف ٰ ِرغــا ۖ إِن كادت ل ُت ۡبـدِي ب ِـهِۦ لــولا أن ربطنــا علـى قلبِهــا ل ِتكـ
ـون ِمـ َ
[القصــص..]10 :
ُ ً
إذن فالصــر يــزل نــزول مــن عنــد هللا الـــمعني .وبالتــايل ،فاملعادلــة لــم
تعــد باجلمــود الــذي كنــا نظنــه ،بــل أصبحــت:
راض. أنا – بصر +صرب من هللا = إنسان ٍ
احلياة -ابين +سكين�ة من هللا = رضا واحتساب وانطالقة جديدة.
-أيخ! لســنا مــن املالحــدة الذيــن ال يؤمنــون إال بالظواهــر الماديــة ،بــل حنــن
نؤمــن أن هللا معنــا .ألســنا نقــرأ يف صالتن ـ�ا يوميــا 17مــرة علــى األقــل{ :إيَّـ َ
ـاك ِ
َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ
ــتع ُ
ين [ }٥الفاحتــة..]5 :؟ هــل خطــر بب�الــك وأنــت مبتلــى أن نع ُبــد َوِإيــاك نس ِ
ُ َ
تت�أمــل هــذه اآليــة عنــد قراءتهــا وتتصــور ق َّوتــك وأنــت تســتمد العــون مــن هللا
تعــاىل أمــام البــاء؟
-ال تــقــــل (لــــن أصــــر)! بل إن استعنت باهلل أعانك .انظر إىل قوله تــعــــاىل:
ۡ َ ّ َ َ ُّ َ َّ ۡ َ ٰ ُ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َ َ ٰ َ َ ُ َ َٰ َ َ ّ ۡ ُ
ـقۗ وربنــا ٱلرحمــن ٱلمســتعان علـى مــا ت ِ
صفــون [ }١١٢األنبيـ�اء: ب ٱحكــم بِٱلحـ ِ {قــل ر ِ
ۡ
َ َّ ُ ُ ۡ َ ُ
ــت َعان ، ]122وإىل مــا حــكاه عــن يعقــوب عليــه الســام أنــه قــال{ :وٱلل ٱلمس
ََ ٰ َ َ ُ َ
ـون [ }١٨يوســف ..]18 :وقــال النــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :وإذا علـى مــا ت ِصفـ
اســتعنت فاســتعن بــاهلل)).
صبهــم قــادر علــى أن يصــرك إذا جلــأت إليــه.. ذلــك مشــركني .فالــذي َّ
-ال تقــل (لــن أصــر)! فــكل مــا عليــك فعلــه هــو أن تســتعني بربــك الرحمــن
املســتعان ..قــال نبينـ�ا عليــه الصــاة والســام يف احلديــث الــذي رواه مســلم:
((ومــن َي َت َصـ َّ ْ
ـر ُي َصـ ِّ ْ
ـر ُه هللا)).
-ال تقــل (لــن أصــر)! بــل إن اســتعنت بــاهلل فســيزنل عليــك الصــر باملقــدار
املناســب ُلي َط ْمــن قلبــك ،مهمــا كان حجــم البــاء ،قــال هللا تعــاىلَ { :مــا ٓ أَ َص َ
اب ِ
ـي ٍء َعل ِيـ َّٞ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ ُ ّ َ ۡ ۡ َّ ُّ َ َّ
ـم شۡ
ٱلل بِــك ِل ـيب ـ ٍة إِلا ب ِ ـإِذ ِن ٱللِۗ َو َمــن يُؤ ِم ـ ۢن بِــٱللِ يه ـ ِد قلبــه ۚۥ وِمــن م ِص
[ }١١التغابــن ..]11 :أي :يهــد قلبــه للخــر والصــر والرضــا عنــد املصيب ـ�ة.
-ال تقــل (لــن أصــر)! بــل انظــر إىل هــذا احلديــث العظيــم الــذي يلخــص
محطتنــ�ا هــذه:
قــال رســول هللا عليــه الصــاة والســام يف احلديــث الــذي صححــه األلبــاين:
((إن املعونــة تــأيت مــن هللا علــى قــدر املؤونــة ،وإن الصــر يــأيت مــن هللا علــى
قــدر املصيب ـ�ة)).
الحــظ ألفــاظ احلديــث(( :إن املعونــة تــأيت مــن هللا علــى قــدر املؤونــة))..
علــى قــدر التكليــف(( ،وإن الصــر يــأيت مــن هللا علــى قــدر املصيبــ�ة))..
الصــر يــأيت مــن هللا تعــاىل املعــن ،ليــس مــن جوانــب نفســك الضعيفــة .بــل
مــن هللا ،وبــأي مقــدار؟ ((علــى قــدر املصيبــ�ة)) ..باملقــدار املناســب.
يف املحطــة الســابقة تأملنــا حكمــة هللا وتــودده لعبــاده وإعانتــ�ه ملــن
اســتعان بــه يف البــاء .ويف هــذه املحطــة ســنت�أمل صفــة جديــدة مــن صفــات
ربن ـ�ا احلبيــب ،عندمــا تت�أملهــا وأنــت يف رحــم املعانــاة يــزداد حبــك خلالقــك
ومــوالك .إنهــا :رحمــة هللا .تعالــوا نت�أمــل جمــال هــذه الرحمــة حــى نطمــع
فيهــا ،ثــم نعــرف كيــف حنصلهــا.
رحمــة هللا ..مصــدر الفــرح األعــــظم! ..أمـــــرنا هللا أن نــفــــرح بهــا فقــال:
َۡ ُ َ ـك فَ ۡل َي ۡف َر ُحــوا ْ ُهـ َ َ ۡ ّ
ـو خيــر ٞم َِّمــا يج َمعــون [ }٥٨يونــس:
َ َٰ َ َۡ َّ
ـل ٱللِ َوب ِ َرحمت ِـهِۦ فبِذلِـ
ُ ۡ َ ۡ
{قــل بِفضـ
َ ِ
َ َٰ َ
ـك} :أســلوب حصــر ألنــه أوىل مــا ُيفــرح بــه ..ألن هــذه الرحمــة هــي { ..]58فبِذلِـ
ُ َْ َ
مصــدر الفــرح احلقيقــي الــذي ال ينضــب وال يت�أثــر بالظــروف ،أوىل مــن متــاع
الدنيـ�ا الفــاين.
عـ َّـرف املفســرون هــذا الفضــل والرحمــة بأنهمــا اإليمــان والقــرآن .هــذان
مصــدر فــرح حتملــه يف صــدرك يف الســراء والضــراء والشــدة والرخــاء .إيمانــك
بــاهلل وتأملــك ألســمائه وصفاتــه وشــوقك إىل لقائــه واطمئن�انــك إىل معيت ـ�ه
َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ۡ َ ُ َ ۡ َ َّ ّ ٞ
ـون} [يونــس..]58 :وانتظــار كرامتــه{ ..فبِذلِــك فليفرحــوا هــو خيــر مِمــا يجمعـ
هــل يملــك أحــد أن يمســك هــذه الرحمــة أو يمنعهــا مــن الوصــول إىل عبــد
مــن عبــاد هللا؟ ال وهللا .قــال الرحمــن الرحيــم ســبحانه وتعــاىلَّ { :مــا َي ۡف َتــحِ َّ ُ
ٱلل
َ َ َۡ َ َ
ـك ل َهــاۖ} [فاطــر..]2 :سـ ل َِّلنـ ِ
ـاس ِمــن َّرحمـةٖ فــلا ُم ۡم ِ
ًّ
ســيد قطــب رحمــه هللا ..لــه تأمــات جميلــة جــدا يف هــذه اآليــة { َّمــا
َ َ َۡ َ َ َي ۡف َتــحِ َّ ُ
ـك ل َهــاۖ} [فاطــر ..]2 :اجلميــل أنــه كتبهــاسـ ٱلل ل َِّلنـ ِ
ـاس ِمــن َّرحم ـةٖ فــلا ُم ۡم ِ
58
وهــو يعــاين مــن املــرض والســجن الطويــل يف ظــروف صعبــة قبــل أن ُيعــدم..
ـرارا ..اكتــب اآليــة يف محــرك البحــث ثــم أنصحكــم إخــواين بقراءتهــا وتأملهــا مـ ً
(يف ظــال القــرآن) ..واقــرأ وتدبــر.
مما جاء يف كلماته -باملعىن:-
ًّ ً ْ ُ
أن هــذه اآليــة حــن تســتقر يف القلــب ت ِــدث حتــول جذريــا يف مشــاعر
َ ُ ِّ
اإلنســان وموازين ـ�ه ،فت َيئ ُســه مــن كل رحمــة يف األرض وتعلقــه برحمــة هللا،
تلــك الرحمــة الــي يستشــعرها قلــب املؤمــن يف كل وضــع ولــو فقــد كل يشء..
فمــن أنعــم هللا عليــه بهــذه الرحمــة ين ـ�ام علــى الشــوك ،فــإذا هــو مهــاد لــن،
ً
بينمــا إذا فقــد رحمــة هللا ين ـ�ام علــى احلريــر فيجــده شــوكا ،ألنــه تعــاىل قــال
ـهۥ ِم ـ ۢن ـل لَـ َُ َ ُۡ َ
ســك} -يعــي مــن الرحمــة{ -فــلا مر ِسـ
ۡ
يف اآليــة نفســهاَ { :و َمــا ُي ۡم ِ
ُ
َب ۡعــ ِدهۚ ِۦ} ..فــإن أمســك هللا رحمتــه عــن عبــد فقــوى األرض كلهــا ال تعــارض
مشــيئ�ة هللا وال تــزل رحمتــه بهــذا العبــد .فمــن أنعــم هللا عليــه بالرحمــة فــإن
ين�ابيــع الســعادة والطمأنينــ�ة تنبــع يف نفســه وإن كان يف غياهــب الســجن
ورحــم املعانــاة.
ثم قال:
ُ
(ومــن رحمــة هللا أن حتــس برحمــة هللا! فرحمــة هللا تضمك وتغمــرك وتفيض
عليــك ،ولكــن شــعورك بوجودهــا هــو الرحمــة ،ورجــاؤك فيهــا وتطلعــك إليهــا
هــو الرحمــة ،وثقتــك بهــا وتوقعهــا يف كل أمــر هــو الرحمــة .والـعــــذاب هــــو
ِّ َ
الـعــــذاب يف احتجابــك عنهــا أو يأســك منهــا أو شــكك فيهــا ،وهــــو عــــذاب
ٱللِ إلَّا ٱلۡ َقـ ۡ
ـو ُم
َّ ۡ ِ َّ
ـس ِمــن روحـهۥ لَا يَاْيۡ َـٔـ ُ
يــصــبــــه هللا عــلــــى مـــــؤمن أبـ ًـدا{ :إنَّـ ُ
ّ ال
ِ ِ
ۡ َٰ ُ َ
ٱلكفِــرون [ }٨٧يوســف ..]87 :ورحمــة هللا ال تعــز علــى طالــب يف أي مــكان وال
يف أي حــال .وجدهــا إبراهيــم عليــه الســام يف النــار ،ووجدهــا يوســف عليــه
الســام يف الــ ُـج ِّب كمــا وجدهــا يف الســجن ،ووجدهــا يونــس عليــه الســام يف
بطــن احلــوت يف ظلمــات ثــاث .ووجدهــا مــوىس عليــه الســام يف اليــم وهــو
طفــل مجــرد مــن كل قــوة ومــن كل حراســة ،كمــا وجدهــا يف قصــر فرعــون وهــو
59
عــدو لــه مرتبــص بــه ويبحــث عنــه .ووجدهــا أصحــاب الكهــف يف الكهــف
ۡ َُْۡٓ َ ۡ َ
حــن افتقدوهــا يف القصــور والــدور ،فقــال بعضهــم لبعــض{ :فأوۥا إِلــى ٱلكه ِف
ۡ َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُّ ُ
كــم ّ ِمــن َّرحمَت ِـهِۦ } [الكهــف ،]16 :ووجدهــا رســول هللا صلــى هللا ينشــر لكــم رب
عليــه وســلم وصاحبــه يف الغــار والقــوم يتعقبونهمــا ويقصون اآلثــار ..ووجدها
يأســا مــن كل مــا ســواها. كل مــن آوى إليهــا ً
أيــة طمأنينــ�ة؟ وأي قــرار؟ وأي وضــوح يف التصــورات واملشــاعر والقيــم
واملوازيــن تقــره هــذه اآليــة يف الضمــر؟! آيــة واحــدة ترســم للحيــاة صــورة
ً جديــدة؛ وتنــئ يف الشــعور ً
قيمــا لهــذه احليــاة ثابتـــة؛ وموازيــن ال تهــز وال
تت�أرجــح وال تت�أثــر باملؤثــرات كلهــا).
إذن أيخ ًّأيا كان بالؤك ،ومهما كانت شدته ..اطلب رحمة هللا ..وستجدها.
قلمــا يقــدر علــى تصويرهــا ،أو نقلهــا لآلخريــن عن طريــق الكتابة .وقد عشــتها
وتذوقتهــا وعرفتهــا .وتــم هــذا كلــه يف أشــد حلظــات الضيــق واجلفــاف الــي
مــرت يب يف حيــايت .وهأنــذا أجــد الفــرج والفــرح والــري واالســرواح واالنطــاق
مــن كل قيــد ومــن كل كــرب ومــن كل ضيــق ،وأنــا يف مــكاين! إنهــا رحمــة هللا
يفتــح هللا بابهــا ويســكب فيضهــا يف آيــة مــن آياتــه) انتهــى مــن كالمــه رحمــه
هللا باختصــار.
ًّ
كالم جميــل جــدا مــن إنســان أحــس فجــأة برحمــة هللا فأغنتـ�ه عــن الدنيـ�ا كلهــا
وهونــت عليــه املصاعــب كلها.
هــذه رحمــة هللا يــا إخــواين وأخــوايت .أرجــو أن تكونــوا قــد طمعتــم فيهــا..
طيــب ،مــاذا نفعــل حــى حنصلهــا؟
َ يـب ّم َ ۡ ۡ
ِـن ٱل ُمحسِـنِين [ }٥٦األعـراف:
ٱللِ قَر ٞ
َّ َ ۡ َ َ َّ
قـال ريب سـبحانه{ :إِن رحمـت
ِ
ً
..]56كـن مـن املحســــنني ..الـــواحــــد منـا عـادة إذا وقـع يف مشـكلة ينشـغل
بنفسـه وبمشـكلته وكيفيـة التخلـص منهـا ،ويتحسـر علـى مـا فاتـه وخيـاف
مـن املسـتقبل ..ننسى يف هـذه اللحظـات احلرجـة أن نكـون مـن املحسـنني
يـب ّم َِن ٱل ۡ ُم ۡحسِـن َ
ين [ }٥٦األعـراف..]56 : ٱللِ قَر ٞ
َّ َ ۡ َ َ َّ
لنسـتأهل رحمـة هللا{ ..إِن رحمـت
ِ ِ
61
ً ًّ
وطبعــا ،فتجــد نفســك حتســن ـجيةمــا أجمــل أن يصبــح اخلــر فيــك سـ
ًّ
تلقائيــ�ا وأنــت يف أحــرج الظــروف ،ألنــك تعــودت أال تعيــش وتفعــل اخلــر
لنفســك بــل تعيــش للنــاس وخلدمــة دينــك.
قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم(( :الراحمــون يرحمهــم الرحمــن.
ارحــمـــوا مــن يف األرض يرحمكــم مــن يف الســماء)) (أخرجــه أبــو داود والرتمــذي
وأحمــد ،وقــال الرتمــذي :حســن صحيــح).
ـرت ً ُ
أناســا فرأيــت منهــم عجائــب! ..أحدهــم قــد تعــود علــى بــذل عاشـ
اخلــر وعلــى أن يعيــش للنــاس ويســعى يف تفريــج كرباتهــم ،وهــو يف منطقتــه
ً ٍّ َ
شــاب قتــل رجــا فحكــم عليــه معــروف بذلــك .تعــرف أثنــ�اء حبســه علــى
ُ
بالســجن املؤبــد ،ثــم إن هــذا الشــاب اســتقام وصلــح أمــره يف الســجن ،فنقــل
إىل القســم الــذي فيــه متدينــون .األخ املحســن الرحيــم تعــرف علــى هــذا
الشــاب مــن وراء اجلــدران ..لــم يلتــق بــه ولــم يــر وجهــه ،لكنــه عــرف أن األخ
القاتــل يمكــن اإلفــراج عنــه إذا تصالــح أهلــه مــع أهــل القتيــ�ل علــى مبلــغ
مــن المــال ..فبــدأ أخونــا بالتنســيق مــع زواره مــن أشــقائه جلمــع المــال لهــذا
الشــاب ليفــرج كربت ـ�ه .لــم يلهــه الســجن عــن فعــل اخلــر ،بــل هــو يســعى-
وهــو أســر -يف تفريــج كــرب الشــاب .كان يــويص -مــن األســر -بإعطــاء مــال
مــن مالــه ألرامــل ومحتاجــن .مثــل هــذا حنســبه حيــس برحمــة هللا أينمــا كان
ويف كل ظــرف ..فالراحمــون يرحمهــم الرحمــن.
أخ آخــر كان قــد مـ َّـر بظــروف صعبــة للغايــة ،لكنــه مــع ذلــك كان ً
رحيمــا
ً َ
بإخوانــه ..مرضــت مــرة فوضــع رأيس يف حجــره وقــرأ علـ َّـي قرآنــا ورقــاين وعينـ�اه
62
تدمعــان لرقــة قلبــه ..وهــو ذاتــه الــذي قــال يل( :أريــدك أن تســتمتع بنعمــة
ً
البــاء)! رضــا وطمأنين ـ�ة ..فالراحمــون يرحمهــم الرحمــن.
ورأيــت مــن كانــوا يعــرون عــن رحمتهــم بوضــع قطــع مــن الطعــام املقــدم
لهــم يف صــرر ورميهــا للقطــط المــارة مــن فــوق شــبك غــرف الســجن!
تريــد رحمــة هللا الــي ال يمســكها أحــد مــن اجلــن أو اإلنــس؟ تريــد رحمــة
هللا الــي بهــا الفــرح احلقيقــي؟ عــود نفســك علــى الرحمــة واإلحســان يف كل
الظــروف .ألــم تــر أن هللا تعــاىل امتــدح مــن يؤ ِثــر إخوانــه علــى الرغــم مــن فقــره
ۡ َ َ َ ٞ ۡ ََ ۡ َ َ َُۡ ُ َ ََ َ ُ
اصة ۚ}[احلشــر ]9 :؟ ـو كان ب ِ ِهــم خص ـرون علـ ٰٓى أنف ِ
سـ ِهم ولـ فقــال يف األنصــار{ :ويؤثِـ
يعانــون مــن بــاء الفقــر ومــع ذلــك حيســنون.
ُّ ْ ُ َ َُْ ً ُ ْ َ َ َّ َ
ب الدن َيـ�ا، ألــم تــر إىل قــول النــي(( :مــن نفــس عــن مؤ ِمـ ٍـن كربــة ِمــن كــر ِ
َ ُ َ َ َّ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ً
الق َي َامـ ِـةَ ،و َمــن َي َّسـ َـر علــى ُم ْع ِسـ ٍـرَ ،ي َّسـ َـر
ـوم ِ ب َيـ ِ
للا عنــه كربــة ِمــن كــر ِ نفــس
َ َ َ ُّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ ً َ َ َ ُ َُّ َ َ ُّ ْ َّ ُ
اآلخــر ِة،اآلخــر ِة ،ومــن ســر مسـ ِـلما ،ســره للا يف الدنيـ�ا و ِ للا عليــه يف الدنيـ�ا و ِ
َ َ َ ُ َو َّ ُ
الع ْبــد يف َعـ ْـو ِن أ ِخيـ ِـه)) (رواه مســلم). الع ْبـ ِـد مــا كان
للا يف َعـ ْـون َ
ِ
لقــد زاد البــاء مــن فهــي ألســماء هللا تعــاىل :الرحمــن ،الرحيــم ..ألبــي
محبــي هلل علــى فهــم ُم َع َّمـ ٍـق ألســمائه وصفاتــه ســبحانه.
ال تكتئب
ََ ٓ ً
أحيانـا نمـر بظـروف صعبـة ،فنت�ذكـر قـول هللا سـبحانه وتعـاىل{ :ومـا
يـر [ }٣٠الشـورى..]30 : ث
ُ ۡ ََُۡ ْ َ َ
ك ن ع ـوا ف ع ي و م ِيك
د ت َأيۡ يبـة فَب َما َك َس َ
ـب ۡ َ َ َٰ ُ
كـم ّمِـن ُّم ِص َ أصب
ٖ ِ ِ ٖ
حينئــذ ..وهـذا نفتـش يف أعمالنـا فنرى أننـ�ا أخطأنـا يف حـق هللا ً
كثيرا ..ننـ�دم
ٍ
النـدم أمـر مطلـوب حتى يدفعنـا إىل التوبة اجلـادة .هـذا الندم ينبغـي أن يكون
ً
مؤقتـا يدفعنـا ً ً
فـورا إىل إصلاح أخطائنـ�ا بإجيابيـ�ة وحسـن ظـن بـاهلل إحساسـا
أنـه سـيعينن�ا ويقبـل منـا توبتنـ�ا ويعطينـ�ا فرصـة أخـرى لتصويـب أوضاعنـا..
ً ً
لكــن أحيانــا تســر األمــور مــع الواحــد منــا بطريقــة مختلفــة! فبــدل
مــن هــذه اإلجيابي ـ�ة وحســن الظــن بــاهلل يتجمــد عنــد مرحلــة النــدم واجــرار
الذكريــات وجلــد الــذات ومقــت النفــس! فتفســد نفســه وتتكــدر .ويبــ�دأ
يشــعر بــأن هــذا البــاء عقوبــة محضــة ال رحمــة فيهــا ،قاصمــة الظهــر الــي
ُ
ليــس بعدهــا قائمــة! ألن هللا تعــاىل بعدمــا أعطــاه ف َر ًصــا يف المــايض فلــم
يســتغلها ،قــد مقتــه وســخط عليــه ولــن يعطيــه فرصــة أخــرى!
ثــم ..يتســرب إليــه الشــعور باجلفــوة بين ـ�ه وبــن ربــه ســبحانه وتعــاىل!
َّ
حيــس بــأن البــاب قــد أغلــق والدعــاء قــد ُرد والشــقاوة قــد ضربــت عليــه مــا
امتــدت بــه احليــاة!
أيخ ،أخــي ..احــذر! هــذه مكيــدة مــن الشــيطان ،بــل هــي مــن أخطــر
مكايــده! فهــو جيعلــك تتوهــم يف البدايــة أن لــوم نفســك بهــذا الشــكل مطلــوب
ألنــه اعــراف بالذنــب ..لكــن الشــيطان أوقفــك عنــد مرحلــة اللــوم والنــدم
64
وجعلــك تب�الــغ فيهــا ليقــودك إىل توهــم يشء خطــر للغايــة! تتوهــم قســوة
َّ
القــدر ومــن قــد َره ســبحانه! ويف هــذه اللحظــة مــن ســوء الظــن ســتحس
بالضيــاع املخيــف!
أنــت عندمــا يشــتد بــاؤك تشــكو بثــك و حزنــك إىل هللا ..عندمــا تـنـقـطـــع
بك الســـبل وتـغـلـــق دونـــك األبـــواب ،فإنك ال تـجـــد ملجأ وال منىج إال إىل هللا.
َّ
فــإذا قنطــك الشــيطان مــن رحمــة هللا وأوهمــك أن بــاءك عقوبــة محضــة
ومقــت مــن هللا ،فــإىل أيــن تفــر؟ و إىل مــن تلتــئ؟ وإىل مــن تتضــرع؟ ومــن
ترجــو؟ ســتحس بالضيــاع املخيــف ..وهــذا مــا يريــده الشــيطان لــك! ُطـ ِـرد
مــن رحمــة هللا فــا حيــب أن يــرى مرحومــن أو طامعــن يف رحمــة هللا!
أيخ ،أخــي ،الحــظ أن الشــيطان لــن يأتيــك مــن بــاب التشــكيك يف مغفــرة
ـورا ً
رحيمــا ..فهــذه محاولــة هللا هكــذا مباشــرة ..لــن يقــول لــك :هللا ليــس غفـ ً
فاشــلة بوضــوح .لكنــه ســيأتيك مــن بــاب آخــر! ســيقول لــك( :هللا غفــور،
لكنــك ال تســتحق مغفرتــه ألنــه أعطــاك فرصــا يف المــايض ولــم تســتغلها .هللا
تــواب ،لكــن أنــت طبيعتــك ســيئ�ة غــر مؤهلــة لإلصــاح .هللا عفــو ..لكــن
أنــت أفشــل مــن أن تفعــل مــا تســتحق بــه عفــوه)!
ُ
ونقــص الدافعيــة (..)lack of motivation (،)worthlessness
إخــواين ،إن الولــد الــذي يعاقبــه أبــوه حيــب أبــاه إذا علــم أن هــذه عقوبــة
ُ
دافعهــا محبــة أبي ـ�ه لــه وحرصــه علــى مصلحتــه ،أمــا إن ظــن أن أبــاه يعاقبــه
بدافــع الكراهيــة ،فــإن قلبــه سيقســو جتــاه أبيــ�ه.
وهلل املثــل األعلــى ..ال تســمح للشــعور بــأن البــاء عقوبــة محضــة ،ال
تســمح لــه أن يغــزو قلبــك .بــل اســتحضر صــورة األب الــذي يفــرك أذن ولــده
املخطــئ فــإذا طأطــأ الولــد رأســه ضمــه أبــوه إىل صــدره وأغــدق عليــه مــن
حنانــه ..وهلل املثــل األعلــى.
فاعتصــم حببــل حســن الظــن بــاهلل التــواب العفــو الغفــور ..إنــه تعــاىل
أرحــم مــن أن يرتبــص بذنــوب عبــاده املؤمنــن فيبطــش بهــم وخيرجهــم مــن
رحمتــه وحيرمهــم فرصــة أخــرى ..يف احلديــث الــذي رواه مســلم عــن النــي
ٌ
صلــى هللا عليــه وســلم فيمــا حيكــي عــن ربــه عــز وجــل قــال(( :أذنــب عبــد
ذنب ـ�ا ،فقــال :اللهــم اغفــر يل ذنــي .فقــال تب ـ�ارك وتعــاىل :أذنــب عـــبدي ً
ذنب ـ�ا، ً
فعلــم أن لــــــه ًّربــا يغــــــفــــر الذنــب ،ويأخــذ بالذنــب .ثــم عــاد فأذنــب .فقــال:
أي رب اغفــر يل ذنــي .فقــال تبـ�ارك وتعــاىل :عبــدي أذنــب ً
ذنبـ�ا .فعلــم أن لــــــه ْ
ًّربــا يغــــــفــــر الذنــب ،ويأخــذ بالذنــب .ثــم عــاد فأذنــب فقــال :أي رب! اغفــر
66
أيخ ،ال تقنــط مــن رحمــة هللا أن يعينــك علــى التقــرب إليــه والتمتــع
باحلظــوة عنــده.
إذا جــاءك الشــيطان فقــال لــك :أنــت ال تســتحق رحمــة هللا .فقــل :نعــم،
أنــا ال أســتحقها لكنــه تعــاىل ســرحمين ألنــه أكــرم مــن أن يعامــل عبــاده بمــا
يســتحقونه! إن قــال لــك الشــيطان :لــن يعطيــك هللا فرصــة أخــرى فقــد
جنــاك مــن قبــل ولــم حتفــظ املعــروف ..فقــل :بلــى ،ســيعطيين وأطمــع أن
ينجيــي ،فهــو العفــو الغفــور .إذا قــال لــك الشــيطان :إن هللا يبتليــك عقوبــة
ألنــه يكرهــك فقــل لــه :بــل يبتليــي ليطهــرين ويربيــي .إذا قــال لــك الشــيطان:
أنــت أحــط مــن أن تســتأهل رحمــة هللا ،فقــل لــه :رحمــة هللا أوســع مــن أن
تضيــق عــي وال تشــملين.
العبــد الفقــر لرحمــة هللا ،والــذي يكتــب لكــم هــذه الســطور ..تفكــر أثن�اء
أســره يف ماضيــه وأيقــن أنــه قصــر يف حــق هللا كثـ ً
ـرا ..كان هللا ســبحانه وتعــاىل
فرصــا وابتــلاه ابتــلاءات أخــف ليصحــو مــن ســهوته ،خاصــة فيمــا قــد أعطــاه ً
يتعلــق برتتيــب األولويــات يف حياتــه وأعمــال القلــوب ..لكــن هــذا العبــد
67
ً ً
عظيمــا قرأتــه مــن قبــل ،لكنــه هــذه املــرة جاء ثــم شــاء هللا تعــاىل أن أقــرأ حديثـ�ا
حبــل جنــاة مــن هللا وبلســما جلــرايح! احلديــث رواه مســلم ،وفيــه أن هللا عــز
ًّ ِّ
وجــل ُيشــفع بعــض خلقــه يف إخــراج أنــاس مــن النــار اخلــر فيهــم قليــل جــدا.
ً
ومــع ذلــك ،رحمــة هللا ستشــمل مــن هــم دونهــم أيضــا! فيقــول هللا عــز وجــل:
((شــفعت املالئكــة ،وشــفع النبيــون ،وشــفع املؤمنــون ،ولــم يبــق إال أرحــم
النــارُ ،في ْخــر ُج م ْنهــا َق ْو ًمــا َلـ ْـم َي ْع َم ُلــوا َخـ ْ ً
ـرا
َ َ ْ ُ َ ْ َ ً َ َّ
الراحمــن .فيق ِبــض قبضــة ِمــن
ِ ِ
َ ُ َ َ ُ ُ َ َّ ْ ََ ِ ْ ُْ َقـ ُّـط قـ ْـد عـ ُ
ـادوا ُح َم ً
ـاة،
ِ ـ ياحل ـر ـه ن ـه: ـ ل ـال ـ ق ي ـةِ ـن اجل ـواه
ِ ـأف يف ـر
ٍ ـه ن يف ـم ـيه ق ِ ل في ـا،
ـ م
ْ َّ َ َّ ُِ َْ ُُ ََ ْ ُ ُ َ
احلبــة يف ح ِميـ ِـل الســي ِل)) ..ســبحان هللا! خيــرج ربن ـ�ا فيخرجــون كمــا تــرج ِ
طــهــرهــــم بالــنــــار ويدخلهــم اجلنــة برحمتــه أناســا بــعــــدما ّ ســبحانه وتعــاىل ً
ال بأعمالهــم.
هــز هــذا املوضــع مــن احلديــث كيــاين وأيقظــي وجنــاين مــن االكتئــ�اب
الــذي كان الشــيطان حيــاول إيقاعــي فيــه!
قلــت لنفــي( :نعــم أخطــأت ..لكـ ْـن أحســب أن هللا جعلــي خـ ً
ـرا مــن هــؤالء ِ
الذيــن أخرجهــم .فــإن كانــت رحمــة هللا شــملتهم فستشــملين يف الدنيــ�ا
واآلخــرة).
فانقذفــت يف قلــي دفعــة كبــرة مــن محبــة هللا واالطمئن ـ�ان إىل رحمتــه،
ُ
وعلمــت أن الصــوت الــذي ظننتـ�ه مــن النفــس اللوامــة كان صوت الشــيطان!
َ
تســرب إيل مــن هــذا البــاب :بــاب محاســبة النفــس! فتجــاوز يب محاســبة
النفــس املحمــودة إىل اإلحبــاط املذمــوم.
68
إخواين وأخوايت..
ُ ۡ
هللا تعــاىل أرحــم بكثــر ممــا قــد يهــئ لنــا الشــيطان يف حلظــات اليــأس{ ..قــل
َّ َّ َّ َ َ ۡ ُ ُّ
ٱلذنُ َ َۡ َ َۡ ْ َ ٰ َ َ َّ َ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ُ
وب سـ ِه ۡم لا تق َن ُطوا ِمــن َّرحمـةِ ٱللِۚ إِن ٱلل يغفِــر
ـرفوا علـ ٰٓى أنف ِيعِبــادِي ٱلذِيــن أسـ
ـم [ }٥٣الزمــر..]53 : ٱلرحِيـ ُ ـو ٱلۡ َغ ُفـ ُ
ـور َّ ـهۥ ُهـ َ َجم ً
ِيع ـا ۚ إنَّـ ُ
ِ
وبهــذا زاد البــاء مــن فهــي ألســماء هللا تعــاىل :التــواب ،العفــو ،الغفــور..
ألبــي محبــي هلل علــى فهــم ُم َع َّمـ ٍـق ألســمائه وصفاتــه ســبحانه.
ال زلنــا نبــي محبتنــ�ا هلل علــى أســس ال تت�أثــر باملتغــرات ،أولهــا تأمــل
أســماء هللا تعــاىل وصفاتــه ،وقلنــا أنــك بهــذا التأمــل حتــول البــاء إىل ســبب
ً
ملحبــة هللا بــدل مــن أن يزعــزع البــاء هــذه املحبــة.
تأملنــا حكمــة هللا وتــودده وإعانتـ�ه ورحمتــه ومغفرتــه ..يف هــذه املحطــة نت�أمل
لطــف ِّربنـ�ا اللطيف ســبحانه.
َ
ٱلل لط ُ ۢ
َّ
يــف بِعِ َبــادِه ِۦ} [الشــورى ..]19 :مهمــا اشــتد قــال ربنــ�ا عــز وجــلِ ُ { :
ً
بــاؤك فــا بــد أن تــرى مــن ربــك تعــاىل لطفــا فيــه إن أحســنت الظــن بــه
تعــاىل ،بــل وكلمــا أحســنت التعامــل مــع بالئــك زادت فيــه مظاهــر اللطــف
وتعمــق لديــك فهــم لطفــه ســبحانه.
تأمــل لطــف هللا بنبي ـ�ه وصفيــه محمــد صلــى هللا عليــه وســلم يف أشــد
ً ً
وإيالمــا ..عندمــا عــاد مــن الطائــف وقــد ســخر منــه حلظــات حياتــه حراجــة
ســاداتها ورمــاه باحلجــارة ســفهاؤها ،وهــو اآلن يف طريــق العــودة إىل مكــة
حيــث تنتظــره الشــماتة والتكذيــب والتضييــق ،وقــد ماتــت الوفيــة العطــوف
خدجيــة ريض هللا عنهــا ،وعمــه أبــو طالــب الــذي كان يـحـــي النــي ويـفـديـــه
ّ
بـنـفـســـه وأوالده ..وزاد األلـ َـم أن أبــا طالــب مــات كافـ ًـرا .لــم يعــد لرســول هللا
يف مكــة مــأوى وال منعــة ..وكان هــذا كلــه بعــد عشــر ســنوات مــن البعثــة،
أصحابــه فيهــا يعذبــون ويشــردون ويقتلــون ،وال يــدري النــي صلــى هللا عليــه
وســلم كــم ســتمتد هــذه املعانــاة..
كانــت ســاعات العــودة مــن الطائــف هــذه أشــق محطــة يف حيــاة النــي
ُ
صلــى هللا عليــه وســلم .وصفهــا النــي بقولــه أل ِّمنــا عائشــة يف احلديــث
70
ْ ُ
املتفــق عليــه(( :فانطلقــت وأنــا مهمــوم علــى وجهــي ،فلــم أســتفق إال وأنــا
بقــرن الثعالــب)) ..قــرن الثعالــب منطقــة تبعــد حــوايل 35كيلومــرا عــن
الطائــف ..ســار النــي هــذه املســافة يف حــر الشــمس ووحشــة الصحــراء دون
أن يشــعر بهــا مــن شــدة الهــم!
ومــع ذلــك ..يــأيت لطــف هللا تعــاىل ليخفــف عــن رســوله صلــى هللا عليــه
وســلم يف أشــد اللحظــات حراجــة ..يف هــذه اللحظــة كأن هللا تعــاىل وضــع
جميعــا يف قفــص االتهــام ،وأعطــى رســوله مطلــق احلريــة يف القضــاء ً الكفــار
لينفــذ فيهــم احلكــم الــذي يشــاء ..ففــي تتمــة احلديــث املتفــق عليــه الــذي
ذكرنــاه قــال عليــه الصــاة والســام(( :فرفعــت رأيس وإذا أنــا بســحابة قــد
أظلتــي ،فنظــرت فــإذا فيهــا جبريــل عليــه الســام فنــاداين فقــال :إن هللا
َ
تعــاىل قــد ســمع قــول قومــك لــك ومــا ردوا عليــك ،وقــد بعــث إليــك ملــك
ّ
اجلبــال لتأمــره بمــا شــئت فيهــم .فنــاداين ملــك اجلبــال فســلم علـ ّـي ثــم قــال:
يــا محمــد إن هللا قــد ســمع قــول قومــك لــك وأنــا ملــك اجلبــال ،وقــد بعثــي ريب
ْ
إليــك لتأمــرين بأمــرك .فمــا شــئت؟ إن شــئت أطبقــت عليهــم األخشـ َـبي)).
ســبحان هللا! نفــس النــي كســرة بمــا لقــي مــن أهــل مكــة والطائــف،
وقدمــاه ال زالتــا تدميــان ..فيجعــل هللا تعــاىل حبيب ـ�ه بهــذا العــرض يف مقــام
احلاكــم نافــذ األمــر ،بينمــا الكفــار جميعــا كأنهــم قيــدوا بالسالســل أذلــة
صاغريــن.
َ
ملــكان ينتظــران كلمــة مــن شــفيت النــي تنهــي املعانــاة وتشــفي الصــدر
وتذهــب غيــظ القلــب ..انظــر كــم هــو محمــد صلــى هللا عليــه وســلم كريــم
ً ً
عظيمــا مــن هللا حببيبـ�ه؟ عندمــا القــدر عنــد ربــه ســبحانه! أليــس هــذا لطفــا
يــرى رســول هللا قــدره عنــد ربــه ومحبــة ربــه لــه وغضبــه مــن أجلــه.
71
َ
فمــا كان منــه صلــى هللا عليــه وســلم إال أن قـــــــــــال للــمــلكـــن -بمنتهــى
الســمو اإلنســاين والعظمــة البشــرية(( :-بــل أرجــو أن خيــرج هللا مــن
ً
أصالبهــم مــن يعبــد هللا وحــده ال يشــرك بــه شــيئ�ا)) (متفــق عليــه) .بــأيب هــو
وأيم صلــى هللا عليــه وســلم.
عندمــا تبتلــى تأمــل كيــف أن بــاءك كان مــن املمكــن أن يــأيت أشــد ،ثــم
تأمــل وجــوه لطــف هللا تعــاىل بــك.
ُ
يف بــاء مــررت بــه جعلــت أتأمــل وجــوه اللطــف ..اســتخرجت ورقــة
وقلمــا وكتبــت قائمــة بعنــوان( :أمــور خففــت البــاء) .وصلــت فيهــا إىل 37 ً
ُ
ـت كثـ ً
ـرا غريهــا بعدهــا .وأنــا أنصــح أمـ ًـرا خفــف هللا بهــا هــذا البــاء! ثــم أضفـ
كل ُمبتلـ ًـى أن يفعــل مثــل ذلــك ،ولينظــر إىل أثرهــا يف نفســه.
ُ
خيفــف هللا عنــك باللقــاء برجــل ابتلــي قبلــك فصــر ،ببســمة تراهــا علــى
وجــه أخيــك ،برعايــة هللا لعيالــك ومــن يهمــك شــأنهم ،بمحبــة أنــاس نبــلاء
ومســاندتهم لــك ،بكتــاب تقــرأه ،بذكــرى جميلــة ،بأمــل يف الفــرج ينبعــث يف
قلبــك ،بصــورة جميلــة للمســتقبل ترتســم يف ذهنــك ،بتوســيع هللا لــك يف
جانــب آخــر مــن حياتــك غــر اجلانــب الــذي ضــاق عليــك ،بتعريضــك قبــل
البــاء الكبــر لبــاء أصغــر يمرنــك ويعــودك علــى الصــر ،بكشــف هللا قبــح
72
ومــن لطائــف اللطــف الربــاين أنــك تكــون يف بــاء تضيــق بــه ثــم يأتيــك
بــاء آخــر جديــد ينغــص عليــك ويزيــد همــك أكــر فأكــر ..فــإذا فــرج هللا هــذا
الهــم اجلديــد انشــرح صــدرك وهــان عليــك بــاؤك األصلــي!
ومــن لطائــف اللطــف الربــاين تلــك الــرؤى الطيب ـ�ة املصــرة الــي رأيــت
مــن نفــي ومــن كثيريــن حــويل مذاقهــا اجلميــل وكــم َّ
صــرت مــن مبتلــى
َّ
وهــدأت نفســه..
ً
قــد تقــول يف نفســك ..لكــن هنــاك باليــا ال نــرى فيهــا لطفــا ..فأيــن
اللطــف فيمــا حيصــل مــع مســلمني يف بلــدان مختلفــة يعذبــون وتنتهــك
ويقتلــون بأســاليب بشــعة؟!حرماتهــم ُ
فاجلــواب :بــل أعظــم مظاهــر اللطــف نراهــا يف بالئهــم! أال وهــو تثبيتهــم
ً
علــى اإليمــان يف حلظــات تعذيبهــم وقتلهــم ،بــدل مــن موتهــم علــى معصيــة.
إنســان علــى وشــك مفارقــة الدنيــ�ا والرحيــل إىل ربــه ..مثــل هــذا ال حيتــاج
ختفيــف البــاء ،بــل مضاعفتــه ليتضاعــف األجــر ،ألنــه علــى وشــك انقطــاع
العمــل وطــي كتــاب احلســنات والســيئ�ات .وعامــة إخواننـ�ا هــؤالء ممــن خلط
ً ً
ً
صاحلــا وآخــر ســيئ�ا كحالتنـ�ا ،وممــن تــراوح إيمانــه بــن نشــاط مــن قبـ ُـل عمــا
وفتــور ..فــأي لطــف أعظــم مــن أن يعصمــه هللا مــن شــؤم ســيئ�اته ويقــذف يف
ً
قلبــه إيمانــا ينطقــه بالشــهادتني وبعبــارات التفويــض إىل هللا (مــا لنــا غــرك
يــا هللا) بينمــا كثــر غــره يمــوت يف بيتـ�ه وقصــره ميتـ�ة ســوء وال يوفــق للنطــق
بهمــا؟!
73
نتحــدث يف هــذه املحطــة عــن ســر هللا علــى عبــاده ..صــح عــن رســول
ِّ ّ َ
حيــ ّـي ِســتري)).
هللا صلــى هللا عليــه وســلم أنــه قــال(( :إن هللا ِ
َ َ
قد تبتلى ،ف َيتعاطف الناس معك و يدافعون عنك ويذكرون أفضل
حينئـذ ،إياك أن تغرت بنفسك! بل تذكر صفاتك ويثنون عليك ثن�اء ً
عطرا..
ٍ
أن هذا كله إنما هو من فضل هللا الذي أظهر اجلميل وسرت القبيح .فلو أظهر
ُ
أقبح ما عندك فلعلهم انفضوا عنك وقالوا عنك( :إنما ابتلي بسوء أعماله)..
مؤلما أن تسمع هذه الكلمة وكم سزتيد همك!وتصور كم سيكون ً
ليــس هــذا الــكالم للعصــاة فقــط ،فليــس منــا أحــد يف قلبــه حيــاة إال
ويعلــم مــن نفســه أشــياء حيــب أن يســرها هللا تعــاىل .فـــ((كل بــي آدم
خطــاء)) .فتــش يف نفســك:
ُ
-إن لــم تكــن تســر معصيــة اآلن فقــد عصيــت هللا يف ماضيــك وال بــد ،وكان
مــن املمكــن أن َّيطلــع عبــاد هللا علــى ذلــك فتهــز صورتــك يف عيونهــم بعــد أن
أحبــوك ،ولكــن هللا ســرك.
-بــل قــد تكــون تســاهلت يف تن�اقــل مــا ينســب إىل أخيــك املســلم مــن نقيصــة
مفــراة عليــه وتقــول :العهــدة علــى الــراوي! فتســببت يف أن َيشــيع عنــه مــا
ليــس فيــه مــع أن هللا ســرك علــى مــا فيــك!
-إن لــم تكــن معصيــة فتقصــر يف طاعــة ،خاصــة إن كان النــاس ينظــرون
إليــك علــى أنــك قــدوة.
75
-أو نقطة ضعف يف شخصيتك يمكن أن يفرح بها خصومك ،لكن هللا سرتها
عليك.
-وكــم مــن مواقــف قــد ال تكــون فيهــا معصيــة لكــن يمكــن أن يســاء تفســرها
فيســوء ظــن النــاس بــك ،لكــن هللا ســرك.
-أعـود فأقـول :يعـرف هـذا مـن نفسـه كل مـن يف قلبه حيـاة .فإن كنـت ال ترى
ستر هللا عليـك فهـذه داللـة خطيرة أن قلبـك قـد قسـا وما عـاد يـرى فضل هللا
بالستر عليـك ..داللـة أن املعصيـة هانـت عليك لهـوان حق هللا عنـدك ..ومما
هونهـا أن هللا لـم يفضحـك بهـا .فلـو أطلـع النـاس عليهـا ورأيـت نفورهم عنك
حينئــذ لندمـت عليهـا وعـظـمــت يف عـيـنــك .لكـن لم
ٍ وسـقوطك مـن عينهـم
ّ
يـطــلع عليهـا إال هللا ،وهـان عنـدك حـق هللا ،فهانـت عليـك معصيتك!
ّ
نــبهنا رسـول هللا إىل الــسـرت الــذي قد ُيكشف من حيث ال حنتسب فقال:
((يا معشر من أسلم بلسانه ،ولم يفض اإليمان إىل قـلبه! ال تؤذوا املسلمني،
وال تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه املسلم؛ تتبع هللا عـــــورته ،ومن
تتبع هللا عـــــورته؛ يـفـضــحه ،ولو يف جوف رحله)) (صححه األلباين).
ِّ ِّ
الستري سبحانه. فكر وتذكر وتدبر ..كم مرة سرتك هللا تعاىل؟ لتحب ربك
عندمــا تكــون يف جنــازة فتســمع ثنـ�اء النــاس علــى امليــت تصــور كــم مــرة
يعــي اإلنســان ربــه يف مــدة حياتــه ..ســتني أو ســبعني ســنة ،ثــم عنــد املــوت
76
بــل انظــر إىل تواصــل ســر هللا علــى عبــاده املؤمنــن يــوم القيامــة ..يف
احلديــث الــذي رواه البخــاري أن رســول هللا صلــى هللا عليه وســلم قــال(( :إن
هللا يــدين املؤمــن-أي :يــوم القيامــة -فيضــع عليــه كنفــه ويســره ،فيقــول:
أي رب .حــى إذا قــــــــ ّـرره
أتعــرف ذنــب كــذا ،أتعــرف ذنــب كــذا؟ فيقــول :نعــم ْ
بــذنــوبــــه ،ورأى يف نــفـــــسه أنــــــــــه هـــلك ،قال :سرتتها عليك يف الدني�ا ،وأنا
أغفرهــا لــك اليــوم ،فيعطــى كتــاب حســناته.))...
تصور ! ..معاص سرتها هللا يف الدني�ا فلم يعلم بها إال هللا ثم صاحبها
واحلفظة من املالئكة ،ثم سرتها هللا بعد وفاة صاحبها ثم ســــرتها يـــوم
الـقــــيامــة فـدفـنت وكأنها ما كانت ،وال ُيظهر هللا إال محاسن صاحبها
ۡ ْ ٓ
فيعطى كتاب حسناته فينطلق ويقولَ { :ها ُؤ ُم ٱق َر ُءوا ك َِتٰب ِ َي ۡه [ }١٩احلاقة..]19 :
كيف أيها العبد لو لم يسرتها هللا؟ أكنت تقول للعاملني هاؤم اقرؤوا كتابي�ه؟
ُ ً
بـل قـد تعمـل عملا هلل تعـاىل تسـر بـه لئلا يدخـل قلبـك الريـاء ..فيقبلـه
ربـك عـز وجـل ،ثـم ُيظهر هـذا العمـل على يـد أعدائك فزييـد محبتـك يف قلوب
ً ً
مدحورا. النـاس ويرفـع قـدرك عندهم أنك أسـررت بـه ،ويعود عـدوك خاسـئا
طــــــــويت أتـــاح لــــها لســان حسود وإذا أراد هللا نـــــــشــــــــــر فضــــــــيلة
مــا كان يعــرف طيــب عــرف العــود لوال اشــتعال الـــنــــار فيما جـــــــاورت
فاشــكر هللا الــذي فعــل هذا حبســناتك ولم يفعلــه بمعاصيك وســيئ�اتك!
َ
وإن أثــى عليــك املثنــون ..وأثنــوا علــى صــرك علــى بالئــك ..فتذكــر علــى
الفــور أن تشــكر هللا الــذي ســرك ،وتصــور لــو أن للمعــايص صغريهــا وكبريهــا
راحئــة تفــوح أو عالمــة تظهــر علــى جبهتــك كيــف ســيكون احلــال؟!
77
مخاطبـا رب العزة عـز وجل: ً وتذكـر قـول أيب محمـد األندلسي القحطـاين
ّ َ
أنت الــــــذي صـــورتين وخـلـقـــــــــتين وهــــــــديتين لــــــشـــــرائع اإليـــــــ ِ
ـمان
َ
اخلذالن
ِ أنت الــــــذي آويــتــــي وحـــبـــــــوتين وهــــــــديتين من حـــــــــــــرة
َ ً َ
وحنان
ِ ـرحمة
ٍ ـوب مــــــودة والعــطــــف مـــنك بـــــــ وزرعــــت يل بـــن القـــلـــ ِ
َ ً َ
ونــشــــــرت يل يف العـــاملـــن محاســنا وســـــــــرت عــن أبـــــصارهم عصياين
ـام علـ ّـي مــن يلقاين وهللا لـــــو علمــوا قــــبــيــــح ســـــريريت ألىب الــــــســــــــــــ َ
ِ
َ ُ َول ُ وأل َعـــــ َـرضوا عــــــــي ومــ ّـلوا ُ َ
بــــــهوان
ِ ـة
ٍ ـ كرامــ ـد ـ بـــعــــ ـؤت ـ ـــــــب ـي ـ حب ص
َُ َ َ
وحلمــت عن ســـقـــطي وعن طغياين لكـ ْـن ســـــــرت مـــعـــــاييب ومــــــثاليب
ُ
فلــك المـــحامـــــد واملــــــــدائــــح كلها بـخـــــــواطــــــري وجــــــواريح ولســاين
ُ ََ َ َ
ختاما ،عرفانا هلل تعاىل باجلميل أن سرتك ،وحىت يستمر سرته عليك.. ً
ً
مسلما اسرت على عباد هللا ..فقد قال النيب صلى هللا عليه وسلم(( :ومن سرت
ً
سرته هللا يف الدني�ا واآلخرة)) (رواه مسلم) ،وقال(( :من غسل ميت�ا فكتم عليه
غفر هللا له أربعني مرة)) (صححه األلباين وقال ابن حجر :حسن غريب) .يعين قد
ً
شيئ�ا يسوؤه لو كان ًّ
حيا أن يطلع عليه الناس ..عالمات سوء ترى من امليت
خاتمة ،مرض ،آثار وشم قبل االلزتام ،حىت على مــــستوى قــــلــة عــــنـــايــــة
بــنــظـــافــة مالبسه أو جسده ..سرتك هللا فاســـرت على عباد هللا .وكلما
دعتك نفسك إىل احلديث عن عيوب الناس فتذكر سرت هللا عليك.
أحبيت الكرام..
تصوروا معي حوارا يدور بني صديقني :زياد ورائد..
-زيــاد :اعــذرين يــا رائــد ..أنــت متن�اقــض! هنــاك خطــأ يف كالمــك .فإمــا أن
ً
صديقــك هــذا ضعيــف محــدود القــدرات ،أو أنــك تدعــي صداقتــه تفاخــرا
ً
ولســت علــى عالقــة بــه أصــا..
ٌ
أيخ ..أخيت ..أليس زياد على حق؟ أليس رائد متن�اقض يف دعواه؟
قبل أن تتحامل على رائد ..انتب�ه ..أخىش أن نكون مثله!
ألســنا نعلــن أننــ�ا نؤمــن بــاهلل وأننــ�ا نعبــده ،فنقــرأ يف صالتنــ�ا يف اليــوم
ــد} ســبع عشــرة مــرة علــى األقــل ونســتعني بــه فنقــرأ ــاك َن ۡع ُب ُ
الواحــد {إيَّ َ
ِ
َ َ َّ َ َ
ــاك ن ۡســتعِين }٥ســبع عشــرة مــرة ،ونعتقــد أن هللا تعــاىل معنــا ونتــوكل
ُ {وِإي
ً
عليــه فنقــول( :بســم هللا توكلــت علــى هللا) ،ونــردد كثــرا( :حســي هللا ونعــم
الوكيــل) ونعلــن أننـ�ا مســلمون قــد أســلمنا أمرنــا هلل تعــاىل فــردد إذا أوينـ�ا إىل
ُفرشــنا -كمــا علمنــا رســول هللا( : -اللهــم أســلمت نفــي إليــك ووجهــت
وجهــي إليــك وفوضــت أمــري إليــك وأجلــأت ظهــري إليــك) (رواه البخــاري)،
ً ً
ونــــردد صـــبــــاح مـــســـاء( :رضيــت باهلل ًّربــا) ،أي خالقــا رازقا مدبـ ًـرا ألمورنا ؟
هــل نعــي مــا نقــول؟ هــل حنــن بالفعــل مؤمنــون بــاهلل تعــاىل مســلمون
أنفســنا وأمورنــا إليــه عابــدون لــه مســتعينون بــه متوكلــون عليــه راضــون بــه َ
مفوضــون أمرنــا إليــه ملجئــون ظهورنــا إليــه؟
إذن..
ـن [ }٦٨آل عمــران ..]68 :ويقــول ســبحانه: ـي ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن ِيـ َ ٱلل َولِـ ُّ فــاهلل تعــاىل يقــولَ { :و َّ ُ
َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ ۡ َ ۡ
ٱلن ِصيـ ُ
ـر [ }٤٠األنفــال ..]40 :ويقــول: ـى َون ِۡعـ َ
ـم َّ ـم ٱل َم ۡولَـ ٰ ـم ن ِعـ {فٱعلمــوا أن ٱلل مولىكـ ۚ
ۡ
نتــم ُّمؤ ِمن ِيـ َ ُ
ـون إن ك ُ َ َ ۡ
ـم ٱلأعلـ ۡ َ ۡ { َولَا تَه ُنــوا ْ َولَا َت ۡح َزنُــوا ْ َوأَ ُ
ـن [ }١٣٩آل عمــران..]139 : نتـ ُ
ِ ِ
ُ َ َ َ َ ۡ َ َّ ُ َ
اف عِباده ۖۥ} [الزمر( ..]36 :قراءة عشرية صحيحة) ويقول{ :أليس ٱلل بِك ٍ
َ َّ َّ ۡ َ
ويقولَ { :و َمن َي َت َوكل عَلى ٱللِ ف ُه َو َح ۡس ُب ُه ٓۥۚ}[الطالق..]3 :
80
َ ُ َ
َ َّ ُ َ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ ٰ ُ َ
ك ۡم [}٣٥محمد].. ويقول{ :وٱلل معكم ولن يتِركم أعمل
َّ َّ َ َ َ َّ
ٱلصٰبر َ
ين [}١٥٣البقرة].. ِِ ويقول{ :إِن ٱلل مع
فكيــف يســمح أحدنــا لنفســه بعــد هــذا كلــه أن حيــس باخلــوف الشــديد
عنــد تعرضــه ملشــكلة؟! كيــف يســمح لنفســه أن حيــس بالضيــاع والقلــق
والوحشــة وبأنــه وحــده أمــام املشــكلة؟! بــل كيــف يســمح لنفســه أن
يبــوح بهــذه األحاســيس أمــام النــاس؟ أيــن إيماننــ�ا بــاهلل وإســام أمرنــا لــه
واســتعانتن�ا بــه وتوكلنــا عليــه واستشــعار معيت ـ�ه؟ أال نســتيح مــن هللا بعــد
ذلــك أن نشــكو الوحــدة والضيــاع والضعــف والقلــق مــن املســتقبل؟! ألســنا
حينئــ�ذ متن�اقضــن مــع أنفســنا؟
َّ
فأي تفسري ختتار أيها «املتوكل» الشاكي؟
أحبيت يف هللا ،دعونا نعرف عظمة الرب الذي نعبده ونستعني به:
81
-إنــه العظيــم العزيــز اجلبــار املهيمــن القــوي املتــن القاهــر املســيطر وهــو
علــى كل يشء قديــر ..فعيــب أن نشــكو الضعــف وهــو معنــا !
-إنــه الرحمــن الرحيــم الــودود الــر الشــكور اللطيــف احلليــم القريــب..
فعيــب أن نشــكو الوحشــة وهــو معنــا !
-إنــه الســميع البصــر الســام مجيــب الدعــاء ..فعيــب أن نشــكو القلــق وهــو
معنــا !
َ َ َّ ۡ َ َ
اف ع ۡب َدهُ ۖۥ}[الزمر ..]36 :بلى وهللا. ُ
إنه هللا! {ألي َس ٱلل بِك ٍ
ِّ
فمــا فــائــــدة إيــمانــــنا بأســماء هللا وصفاتــه إن كان هذا اإليمان ال ُي َســكن
روعنــا ويربــط علــى قلوبنـ�ا يف الباليــا واملحــن؟
َ َ َ َّ َ ْ َ َ
ـالل
ـان مــن ر ِض بـ ِ قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم( :ذاق طعــم اإليمـ ِ
ً ً
ـام ِدينـ�اِ ،وب ُم َح َّمـ ٍـد َرســول) (رواه مســلم) .فمــن ريض بــاهلل ًّربــا يدبــر ْ
وباإلسـ ِ َر ًّبــا،
أمــره ويرعــى شــأنه فســيذوق طعــم اإليمــان وســكينت�ه واطمئن�انــه .ومــن وجد
ً
بــدل مــن ذلــك اجلــزع والفــزع فلــم يــذق طعــم اإليمــان ،ولينظــر حينئــ ٍ�ذ يف
صــدق رضــاه بــاهلل ًّربــا !
تشــك َ ُ
هللا إىل اخللــق أرجــوك! فليســوا ارحــم بــك مــن أيخ املبتلــى ..ال
تشــك َ ُ
هللا إىل اخللــق أرجــوك! لئــا تشــمت بنــ�ا األعــداء الذيــن هللا ..ال
ســيقولون حينهــا :أيــن معونــة ربكــم الــي زعمتــم .كمــا قــال أســافهم فيمــا
َّ ۡ ّ ـؤل َ ٓا ِء د ُ
ِين ُه ۡمۗ}[األنفــال ،]49 :فــرد هللا عليهــم { َو َمن َي َت َوكل
َ َّ َ ٰٓ ُ
حــكاه هللا عنهــم{ :غــر هـ
ٱلل َعزيـ ٌٱللِ فَــإ َّن َّ َ
َّ َ
ـم [}٤٩األنفــال..]49 : ـز َحكِيـ ٞ
ِ ِ عَلــى
كلمــا أردت أن تشــكو الضيــاع والتوجــس مــن املســتقبل واليــأس
82
والقنــوط ونفــاد الصــر ،تصــور أنــه جيلــس جبانبــك ملحــد يســمع مــا تقــول!
مــاذا ســيقول لــك إذا ســمع شــكواك؟( :ألــم تكــن تنصحــي أيهــا املســلم أن
أؤمــن بوجــود رب خلقنــا ويرزقنــا وأن أعبــده وأســتمد العــون منــه ألشــعر
ً
بالطمأنين ـ�ة وخــري الدني ـ�ا واآلخــرة؟ ال أرى مــن ذلــك شــيئ�ا! بــل أراك كأنــك
تقــول :أمــري بيــ�د هللا ،فأنــا اآلن قلــق)!
ُ
ضمــن هــذه املعــاين ُصغــت يف خضــم بــاء مــررت بــه قصيــدة بعنــوان( :حبــب
هللا أتصـ َّـر) كان لهــا أثــر بــإذن هللا يف تثبيــي وانشــراح صــدري إىل أن ِأذن هللا
باجنــاء البــاء ..جتدهــا أيخ/أخــي يف الصفحــات القادمــة ..فتأملهــا وتشــرب
معانيهــا ..نفعنــا هللا بهــا.
83
أتصبر
ّ بحب هللا
ّ
َ
ُ
مستحـــكم فيأســــ ُـه
الرجاء ُ
ُ وخــــــــبا ُ
متجـــهم ـاء فــــوجــــ ُـه ُه
ـال البــــــ ُطـــ
ُ ٌ ٌ ويقـــ ُ
ُ
مظـــلــم ـديد الغم صــــ َ
ـدري قلق شــــ ـول إين ضـــــائـــــ ٌـع مستوحـــش
ُ ٌ ـار ُيـجــــ ُجـــــ ٌ َ
يرحـــــم ـر وال صـديـــــــق ـموم فليـــس يل وحدي يف الهـــــ ِ غرقان
ـر تلفحين الرمــــ ُ
ـال وتلـــ ُ فأســـــــــ ُ َّ َ ُ صحراء ُعسـ َ
ـطم ـري لســت أبــصــ ُـر حدها ُ
ُ ٌ ُ ُ
توهــ ُـمـون ُّ ســـــراب والظــــنـــ فــــــإذا َّإمـــــــا ســــعيت لدوحــــ ٍـة أبصــرتهــــا
ـري والفـــــــــ ُ فأعيـ َـش عمـــ َ وأخـــــاف ْأن تئـ َ�د الــرزايـــــا ُم ْـن َ
bbb
ـؤاد محطم ـــــيـــي ِ
ُ
بلــسم ـرح ّأمـــــــا أنـــــا فـــو ُ
ووصــالهـــــــــا مـــن كل جــــ ٍ داد ليـــــلى بهــجـــــيت ِ
ُ ُ ُ ُ
ـران قــلـــــي مــــن َّ
ـوم تزاحــــ ُـم ٌ
يشء ُيـخـــــــيف وال الهمـــ محـب ِـتـها فـــال عمــــ
ُ ُّ
وأنعــــم ـياس بكـــم أعـــــز عــــــند القـــ ِ إين إذن مــــن بهــــجـــــي يف حــــــــبــــها
ُ ُ ْ
َّ bbb
ـرمتـــــم) ـيت بـــراحــــ ٍـة ُ
وحـ إين حـظـــ ال تســألـــــــــوين أن أديــــن بديـنـــــــكم
َّ
الرقيـــــع مفاخـــــ ًـرا يتهــــك ُم
ُ فمـــى احل َيا وكأنين بــــك قـــــد سكت مـــــــن َ
يرحـم! ُ ـيم لـدى الــــذي ال ـ الرحــ رَقـــ َـد َ َ
ـباد إذا اشــتكوا
ِ يا حســرتاه على العــــــ ِ
ً ُ ً ُ
ُ
تتــــبــــرم؟! مـــولــــيـــا فـيـــراك بـعـــد متضـــرعا ــقــــــبل راجــــ ًـيا
ِ لـــت يبـــــلو
َ َّ َ ُ
ـاد وتـألـــــــ ُـمفـيـــراك تـبـــكي للــعــــبـــ ِ َي ْــبــلــــو ليســــمـــ َـع منـــك أنة مــذنب
ً َ
ـون ترتجـــ ُـم ـوء الظنـــ ِ شكواك عن ســـ ِ هللا ربــــــك كيف تــشــكــــو ضــيـعـــة
فرب الــعـــــــرش َمـــ ْـن ذا أحـــــ ُ ً
ـكم ِ
كال ُّ أتـظــ ُّـن َربـــك يبتلــــيك إذن ســـدى؟!
َ َ ً ْ
ريب أكــــــــــ ُ
ـرم ـنع العــطايـــــا؟ إن َ مـــــــ َ أو إن رفـعــــت يــــدا لـــرتجــــ َـو فــضـل ُه
وحـــد َك؟ بـل إلـــ َ َ ُ ِّ َ َ َ ُ ْ
ُ
أحـــــلم ـهي خـــليت ريب ك ْن مــعــــي ـدق قلــتأو إن بــصـــــ ٍ
لم ُتكــــف مـــــن ٍّ َ
ُ
أعـــظــم شــر؟ فــ َ
ـريب أو قــــلت حســــي َمن عــلــــيه توكـلي
يف مـحـــــنــــة واملــــبتـــــــلى ال يعــــــ ُ ً
ـلم فاهلل أعــــلم كيف يــــزيج مـــــنــــحــة
يــــــؤخــــ َـر أقـــــــ ُ ْ لــــ َّ
ـوم َّ ولـــــــ ُـر َّب أمـــ ٍـر أن تعـــجل
ٍ ـرط ـكن يف اإلنــــســـان فــــ َ
ُ ُ ْ َ ال ُي ِلـــ ُـف ُ
حــــرم إن حنـــــن لم نقبـــــل عليــــ ِـه سن هللا الـــــوعــــــود وإنـــــــــــما
ُ
وجلـــــهم َم ْن يـــــجــــــ ُـم ســــــاع إليه ُ
ٍ ـباد فــمنــــهــــ ُـم ٌ
ريب قـــــريـــــب للعـــــــ ِ
ـرم ُأغــي على جريح ونــاري تـــــضـــــ ُ
ُ َ ُ
كم دمعــــ ٍـة يف محــــنــــــي واريــــتــــها
ٌ ُ َ ً ُ
أن املحــــــبة ُعـــــروة ال تــــــــفـــــصـــ ُـم راضــــيا حىت أعـــــلم مـــــــــن يــــــــراين
ُ ـب مــغــــــــــ ٌ إنــي َل َ
ـــصــــ ٌّ ً
ـان تكـــلفا
َ ُ
ومتــــــيم ـرم ما الـــحب قـولـــك باللـــســـ ِ
85
َ
ُ
فالــــدم وإذا دعــــاك لنــصر ديــنــــك تســليم نفســــك بالـقضاُ حـــبــ ُـه
بـــل ُّ
ـهش والـــــرزايا تــــــ ُُ ُ
ـؤلم واخلطــب ينـــ العــدى أظهرتهاـمة وســــــــط ِ كم بسـ ٍ
ـزم
ُ
أنـــي – وريب حــــــافـــــــ ٌـظ– ال أهــــــ ُ ً ُ ُوأري بصـــــ َ
ـري َمــــ ْـن يـــريـــد شمـاتة
َ
ــــموتـــأل ُ أجــــــ ًـرا إذا هــــم يألـمــــــــون ـر فلــيـــــسوا يــرجتـون وترتىج فاصــــ ْ
ْ ً َّ
أو -إن ُي ِهنهــا -مـــــا لـــنـفـــسك مكرم َّإمــــــــا يـــعــــزك لـــن تـــــذوق مــهانة
ــــم: وكـــــذا بعيــنــيه فقـــــال َيف ِّ
ـــــــه ُ بثــالثــــة ـلى واذكـــــر نبـــ ًّـيا مــــــــبتــــ ً
ٍ
ُ وغ َّ ُ ُ لل بـ ّ َ ّ
إين علمــــت مـــن الــــذي لم تعـــلمــوا ــــــمــــــــي ـي قــــــد شكـــــوت ِ
ُ ـمل مجتــــ ٌ والشـ ُ ّ
ـمع ويوســـــف حاكم فارتد بعد شــديد عـســـ ٍـر مبـــصــــــ ًـرا
ُ ـيف لـما يشــــ ُ ُ َ ريب كـيـــف ُيـــــ ُ ـان َ َ
وحيــكم ـاء فــهــــو اللطـــ أمـــــــره! ـرم سبحـــ
ُ ُ ُ
ــــمـوغ وأنـظــ ُ
ِ وحملت أقـــــايم أصـــ ّربــــــــاه إنــ َـي قـــــد نــــثــــرت ِكنـانــتـي
ُ
األألم
َ
عما قـــــــــــــــــــــد أرادوي َصــــ َّـد َّ
ُ ـريعة من عدا
َ
ـوض الشـ ِ ألذود عــن حــ ِ
َ َ وأقـــــيــــــ َـم يف قلــب يـــ ُ
للــه صـــــرح محـــبـــــ ٍـة ال ُيـــهـــــــــد ُم ـامس أحـــريف
أنت األعــــــ ُّـز األكــــــــ َُ ً َ فاكـــ ْ
bbb
ـرم رؤيـــــــاك إذ ـتب لـعبـــ ٍـد قد أحــــــــبك صادقا
86
أال حتــب أن تســتأثر بصديــق ،حبيــث حتــس أنــه لــك ،وأنــك أعــز النــاس
عليــه فلــن ينشــغل بغــرك عنــك؟ أال حتــس بقيمــة هــذا الصديــق يف المــآزق؟
املتفهم لــك واحلريصِّ أظنــك الحظــت أن مجــرد بــث همومــك لهــذا الصديــق
عليــك يشــعرك بالراحــة وتنفيــس الهــم.
قلــت أليخ األكــر مــرة :هــل معــك ربــع ســاعة ألكلمــك يف مشــكلة؟
ُ َْ ُّ
غمرتــي هــذه الكلمــات وأ ِنســت بهــا. فأجــاب( :أنــا كلــي لــك)!
يف املقابــل ،قــد حتــس بالضيــاع عندمــا يزاحمــك علــى هــذا الصديــق
آخــرون ..ختــى أن يشــغلوه عنــك .قــد يعــرف هــذا الشــعور مــن لــه إخــوة
أب واحــد ،مــن لهــا ضــرة تزاحمهــا علــى زوج واحد ،من كثــرون يزاحمونــه علــى ٍ
لــه زمــاء يزاحمونــه علــى معلــم واحــد ..لــم يعــد األب أو الـــــزوج أو الـمــعــلــــم
نســن يف زحمــة اآلخريــن. ـك أو لــك أنــت وحـــــدك ..فقــد ُتنــى أو ُت َ َ
لـ
ِ
فتش نفسك!
هل تسرب إليك شعور كهذا جتاه:
ربك سبحانه وتعاىل ؟!
ال أســألك عــن قناعاتــك العقليــة ،فهــي تــأىب ذلــك وال شــك ..لكــن
87
ً
اإلنســان قــد خيــزن يف باطــن شــعوره هواجــس تســبب لــه قلقــا فــا يــدري
مصــدره ،ومنهــا هــذا الهاجــس ..أنــك ضعــت أمــام هللا وســط الزحــام!
ٌ
فســبحان مــن ال يشــغله ســائل عــن ســائل ،وال مســتغيث عــن
ََ ۡ َُ ُ ۡ َ ۡ ـن أَ َسـ َّ
ـر ٱلۡ َقـ ۡ
ـو َل َو َمــن َج َهـ َ َ َٓ ُ ّ ٞ
ِنكــم َّمـ ۡ
ـتغيث{ ..ســواء م
ـتخ ِۭف ـر ب ِـهِۦ ومــن هو مسـ مسـ ٍ
ٱلن َهــارِ [ }١٠الرعــد ..]10 :فــا يضيــع عنــده أحــد وســط الزحـــــام. ُۢ
ب ب َّ بٱل َّ ۡيـ َ َ
ـل وســارِ ِ
ِ ِ
لــن تضيــع يف الزحـــــام ..بــل لــك أن تتصــور كمــا لــو أنــك تدعــو هللا وحدك
ـماء مــن أســماء هللا احلســى تتجلــى وأنــه يســمعك وحــدك ..وأن معــاين أسـ ٍ
يف ربوبيتــ�ه لــك أنــت كمــا لــو كنــت وحــدك ..فتظهــر فيــك آثــار رحمــة هللا
ُ ِّ
ووده و هدايتـ�ه ِوبـ ِّـره وقربــه وعفــوه ولطفــه وكرمــه وحلمــه ومغفرتــه وإجابتـ�ه
و رأفتــه ورزقــه و كفايتـ�ه وســره ورفقــه وعطائــه ..يظهــر و ســيظهر فيــك هــذا
كمــا لــو كنــت وحــدك يف هــذا الكــون ..لــذا ،فلــن تضيــع يف الزحــام.
ََ َ َ
(الــداع) يف قولــه { َوِإذا َســألك
ِ الحــظ كيــف أن هللا تعــاىل أفــرد كلمــة
88
ُ
فــادع هللا ُ
وارجــه وأنــس بــه وتأمــل يف نفســك آثــار أســمائه وصفاتــه
واســتحضر َّ
معيتــ�ه كمــا لــو كنــت وحــدك..
وتذكر ً
دوما :لن تضيع وسط الزحـــام.
89
علشاني
أم هيثــم ..كانــت تنســج البلــوزة (الكــزة) الصوفيــة بي�ديهــا البنهــا الــذي
قــال لهــا يف اتصالــه األخــر( :أيم احلبيبـ�ة ،يل عنــدك طلــب :انســي يل بلــوزة
صــوف بي�ديــك واطلــي مــن أيب أن يرســلها مــع صديقــي عمــاد ،فطيارتــه
يــوم اخلميــس بعــد القــادم .أعــرف أنــك ســتتعبني يف نســجها ،لكــي أريــد أن
أتذكــرك وأنــا ألبســها ..ســأحس أنــك نســجت فيهــا حنانــك بعطفــك حببــك
يــا غاليــة ..ســأحس وأنــا ألبســها أنــك تضمينــي إىل صــدرك ..باختصــار يــا
حبيبــي :انســجيها ..علشــاين).
أبــو هيثــم كان يعلــق -شــبه ممــازح -وهــو يــرى زوجتــه منهمكــة يف
النســج( :يعــي يــا ســيد هيثــم مــن قلــة الباليــز! تســتطيع أن تشــري مــن
ُ
عنــدك أحســن بلــوزة بعشــرين دينـ ً�ارا بــدل أن تتعــب أمــك وترهــق عينيهــا يف
الليــل بطلبــك هــذا!).
ً
أمــا أم هيثــم فلــم تت�أثــر أبــدا بمــا يقولــه زوجهــا ..كانــت كلمــة هيثــم:
(علشــاين) تــرن يف مســامعها ..كانــت مــن حــن إىل حــن تقطــع انهماكهــا يف
النســج للحظـ ٍـة ريثمــا تكــف دمعتهــا ،دمعــة الفرحــة بتلبي ـ�ة طلــب هيثــم ،أو
دمعــة الشــوق إليــه.
لقــد كانــت أم هيثــم تنســج البلــوزة باســتمتاع مــع أن بصرهــا وشــيئ�ا
اليبــس يف أصابعهــا لــم يســاعداها ..لكنهــا كانــت تســتجمع قواهــا كلمــا مــن ُ
تذكــرت كلمــة هيثــم (علشــاين) ،وتقــول لزوجهــا( :ال يشء كثــر علــى هيثــم..
مــا دام هيثــم طلــب ســأصرب).
تنقلــب األعمــال الشــاقة متعــة عندمــا يكــون الــذي طلبهــا منــا عزيــزا إىل
90
قلوبن ـ�ا ..وبقــدر حبن ـ�ا لــه ،تــزداد لــذة املعانــاة مــن أجلــه .فكيــف إذا كان الــذي
طلبهــا منــا هــو :هللا ســبحانه وتعــاىل! إن هللا يطلــب منــك أن تصــر ابتغــاء
ـروا ْ ٱبۡت ِ َغــا ٓ َء َو ۡج ـهِ َر ّبهـ ۡ
ـم} [الرعــد..]22 : وجهــه الكريــمَ { :وٱلَّذِيـ َ
ـن َصبَـ ُ
ِِ
َ
َ َّ َ
ـك ف ۡ
ٱصب ِ ۡر [ }٧املدثـر..]7 : وقـال تعـاىل لنبيـ�ه صلـى هللا عليه وسـلم{ :ول ِرب ِ
قـال مفسـرون يف معناهـا :أي اجعـل صبرك هلل ومـن أجلـه .فهـل هنـاك صبر
كثري علـى هللا؟!
ً ُ َ ُّ َّ
قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم(( :لــو أن رج َّــا يــر علــى ِ
وجهــه
َ هرمــا يف َم ْرضــاة هللا تعــاىل حلقـ َـره يـ َ ُ
ـوت ً َ
القيامـ ِـة)) ـوم ِ ِ ـوم ُو ِلــد إىل يـ ِ
ـوم يمـ مــن يـ ِ
(حســنه األلبــاين).
تصــور! لــو أنــك منــذ والدتــك إىل يــوم وفاتــك يف ســن كبــر ً
هرمــا أمضيــت
ً ُ
عامــا تــر علــى وجهــك يف ســبي�ل هللا تعــاىل هــذه الثمانــن أو التســعني
الحتقــرت عملــك هــذا يــوم القيامــة ووجدتــه ال يشء عندمــا تعلــم عظمــة
ُ
الــرب الــذي مــن أجلــه ابتليــت وتــرى إكرامــه لــك علــى صــرك مــن أجلــه!
َ
كلمــا أحسســت بطــول البــاء ونفــاد الصــر قــل( :بمــا أن هللا تعــاىل طلب
أن أصــر ،ســأصرب ..ابتغــاء وجــه هللا .فــاهلل تعــاىل أعظــم محبــوب ،وليــس
يشء كثـ ً
ـرا علــى هللا). ٌ
91
كنــت أتســاءل عــن مصــدر الطمأنينـ�ة يف هــذه اآليــة؟ مــا الــذي يـجـــعلنا
َ َ َ َّ ُ َ ٓ َّ َّ
ٱلل ل َنــا} [التوبــة..]51 :؟ نطمــن حــن نعلــم أنــه {لــن يُ ِصيبَ َنــا إِلا َمــا كتــب
ً ً
تعالــوا نت�أمــل اآليــة كلمــة كلمــة ،ونتصــور حــاالت افرتاضيــة غــر صحيحــة
ونقارنهــا بالواقــع لنعــرف اجلــواب:
.1فلنقــف أوال مــع كلمــة (هللا) يف (كتــب هللا لنــا) :تصــور أنــك مأســور
ُ ُ ًْ
قــاض مــن قضــاة األرض يف جلســة ســتعقد يف موعــد وتنتظــر حكمــا مــن ٍ
قريــب محــدد ،وهــذا احلكــم هــو أنــك إمــا أن تبقــى حتــت تصــرف هللا تعــاىل
أو تنتقــل منــه إىل تصــرف البشــر! إمــا أن تبقــى حتــت تصــرف هللا بصفاتــه
مــن حكمــة ورحمــة وعــدل ولطــف ورأفــة وحلــم ،وإمــا أن تنتقــل إىل تصــرف
مــن ال يشــارك هللا تعــاىل يف صفاتــه هــذه! حينئــ�ذ مــن حقــك أن تقلــق
وختــاف بالفعــل .أمــا حــن توقــن أن كل مــا يصيبــك هــو ممــا كتــب (هللا)
تعــاىل بصفاتــه ،وأنــك تنتقــل مــن تصــرف هللا إىل تصــرف هللا ،وأن البشــر
أدوات ألقــداره تعــاىل،
ٍ الذيــن يظهــرون وكأنهــم متحكمــون بــك ليســوا ســوى
ُ َّ
فحــق لــك حينئــ ٍ�ذ أن تطمــن. مقهــورون حلكمــه ســبحانه،
َ
.2فلنقــف مــع كلمــة (كتــب) :أدركــت أن مــا يصيبــك هــو مــن تصــرف هللا
َ َ
ـابق! تصــور لــو أن املالئكــة
بــك ،لكــن تصــور أن هــذا التصــرف ليــس بقــد ٍر سـ ٍ
يزنلــون كل يــوم بمجموعــة مــن املصائــب فريشــونها علــى أهــل األرض فتصيب
حينئـــذ مــن حقــك أن تقلــق
ٍ مــن تصيــب ،ومجموعــة مــن النعــم كذلــك!
وختــاف بالفعــل .لكــن حــن توقــن أن هللا تعــاىل كتــب مقاديــر كل يشء قبــل أن
خيلــق الســماوات واألرض خبمســن ألــف ســنة (كمــا يف احلديــث الصحيــح)،
عــالـــ ًـما بـــما ســينتج عنهــا ،ال أن تصرفاتــه خبلقــه عــز وجــل ردود أفعــال علــى
92
أحــداث خفيــت عليــه مــن قبــل تعــاىل ســبحانه عــن ذلــك ،وأنــه كتبهــا حبكمــة
ُ َّ
فحــق لــك حينئــ ٍـذ أن تطمــن. ورحمــة،
.3ثــم لنقــف مــع كلمــة (لنــا) :اســتخدام حــرف الــام يف (لنــا) ُمشــعر بــأن
ّ ً
(عجبــا ألمــر املؤمــن ،إن هــذه األقــدار هــي لصاحلنــا ،مهمــا بــدا خــاف ذلــك:
أمــره كلــه لــه خــر ،وليــس ذلــك ألحــد إال للمؤمــن).
ُ َ َ َ َّ َ ۡ َ َ َ َّ ۡ ُ ۡ ُ َ
ـون :}٥١إن آمنــا بــكل مــا ســبق فحــق
.5تتمــة اآليــة{ :وعلــى ٱللِ فليتــوك ِل ٱلمؤمِنـ
ـن.
لنــا أن نتــوكل علــى هللا ،أي نفــوض لــه تدبــر أمورنــا بطمأنينـ�ة وبيقـ ٍ
وهللا تعاىل أعلم..
93
ماذا لو؟؟
مــاذا لــو كانــت املصائــب واملســرات تصيــب النــاس بــا تقديــر ،بــل تــدور
خبــط عشــواء ،فقــد تصيبــك وتــرك غــرك ال حلكمــة وال لســابق علــم؟
مــاذا لــو أن هللا وكل تقديــر األقــدار إىل مالئكــة ال نعلــم عــن رحمتهــم وال
حكمتهــم وال عدلهــم؟
ُ
مــاذا لــو كانــت الباليــا منفكــة عــن اجلــزاء ،حبيــث تبتلــى ُ
وينعــم غــرك،
ثــم تســتويان يف اجلــزاء واملصــر إن اســتوى عملكمــا ،وضــاع صــرك علــى
ً
بالئــك ســدى؟
أســئلة غريبـ�ة ،أليــس كذلــك؟ لكــي وجــدت فيهــا إجابــة لســؤال قديــم
لطالمــا كنــت أتســاءله يف نفــي ،وهــو :مــا املعــى يف أن يصــر هللا أصحــاب
املصائــب بــأن مصائبهــم هــذه مقــدرة مــن قديــم؟ كقولــه تعــاىلَ { :مــا ٓ أَ َصـ َ
ـاب
َ ٰ ّ َ ۡ َ َّ َ َ ٓ َّ َ َ ُ ۡ َّ ََ ٓ َ ُ َۡ
ـل أن ن ۡب َرأهــا ۚ إِن ذٰل ِك
ِ ـ بق ـن
ـ ِ
م ب
ٖ ِت ك ـي
ـ ف
ِ ِ ا ل إ م ـك
ـ س
ِ نف أ ـي
ـ
ِۡف ا لو ِ
ۡرض أ يبـةٖ فِــي ٱلِمــن ُّم ِص َ
َ َ َّ َ َ ُ َّ َ ۡ ُ ٰ َ َ ٓ َ ْ ُ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ َ َ َ َ ْ ۡ َ َ َ ۡ َ ّ ٞ
ٱلل لا ســير ٢٢ل ِكيــلا تأســوا علـ ٰى مــا فاتكــم ولا تفرحــوا بِمــا ءاتىكــمۗ و علــى ٱللِ ي ِ
َ ُ ُ ُّ ُ َّ ُ َۡ
ـور [}٢٣احلديــد..]23،22 : يحِــب كل مختــا ٖل فخـ ٍ
إذن فهــذه املصائــب ليســت خبــط عشــواء ،بــل مقــدرة قبــل ظهورهــا،
ً ً
فــا داعــي لــأىس .وهللا لــم يــوكل أحــدا –ال نعلــم عنــه شــيئ�ا -ليقدرهــا ،بــل:
ۡ َّ
ٱللِۗ}[التغابــن ..]11 :هللا الــذي نعلــم أنــه:
ُّ َ َّ
يبــ ٍة إِلا بِــإِذ ِن { َمــا ٓ أَ َصـ َ
ـاب مِــن م ِص
َ َ ۡ ُ ْ َ ٗ ً
1.عليــم جيعــل يف املحــن ِمنحــا مــن حيــث ال نــدريَ { :و َع َسـ ٰٓى أن تك َرهــوا ش ۡيـٔــا
َ ُ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ َ ُ َ ۡ َ ُ َّ َ ۡ ُ َّ ٞ ّ َ َ ُ َ ٗ ۡ َ ْ ُّ ُ َ َ َ َ ۡ ُ َّ ٞ
ـم لا ـم وٱلل يعلــم وأنتـ وهــو خيــر لكــمۖ وعسـ ٰٓى أن تحِبــوا شيـٔــا وهــو شــر لكـ ۚ
ََُۡ َ
ــون [}٢١٦البقــرة..]216 :تعلم
94
ٱلل لط ُ ۢ
َّ َ
يــف ب ِ ِع َبادِه ِۦ}[الشــورى ..]19 :فيقــدر مــا يقــدره 2.ونعلــم عنــه أنــه { ُ ِ
علينــ�ا بلطــف.
3.ونعلــم عنــه أنــه حكيــم كمــا قــال يوســف عليــه الســام –بعدمــا رأى
ـو ٱلۡ َعل ِيـ ُ
ـم ـف ل ّ َِمــا ي َ َشــا ٓ ُء إنَّـ ُ
ـهۥ ُهـ َ ٞ َّ ّ َ
فتوحــات ربــه عليــه يف البــاء{ :-إِن َربِــي ل ِطيـ
ِۚ
ٱلۡحَك ُ
ِيــم [}١٠٠يوســف..]100 :
إذن فعندمــا نســمع اآليــات الــي تتكلــم عــن القــدر ،واألحاديــث مثــل
((واعلــم أن مــا أصابــك لــم يكــن ليخطئــك ومــا أخطــأك لــم يكــن ليصيبــك))
فلنعلــم أنهــا تذكرنــا حبقيقــة أن هــذه األقــدار إنمــا قدرهــا هللا الــذي نعلــم عــن
علمــه وحكمتــه ولطفــه ورحمتــه وعدلــه ،فلنســلم لــه أنفســنا بطمأنين ـ�ة.
95
مقدمة عن النعم
ال زلنــا نت�أمــل :كيــف حنــب هللا تعــاىل بــا شــروط؟ كيــف نتفــن ،فــا
نمنــع البــاء أن يؤثــر علــى حبنـ�ا هلل فحســب ،بــل حنولــه إىل ســبب لزيــادة حبن�ا
هلل؟ كيــف نبــي حبنـ�ا هلل علــى أســس ســــليمة ال تــهــــز وال تت�أثــر باملتغــرات؟
يف املحطــات الســابقة ركزنــا علــى أول أســاس مــن هــذه األســس ،وهــو
تأمــل أســماء هللا وصفاتــه .تأملنــا بعضهــا ،ونــرك لــك أن تت�أمــل ســائر
أســمائه ســبحانه وصفاتــه..
األســاس الثــاين الــذي ســنت�أمله وحنــاول اكتســابه ،هــو تأمــل نعــم هللا
الــي أنعــم بهــا علين ـ�ا يف ماضين ـ�ا وحاضرنــا ،لنستشــعر أنن ـ�ا ،حــى وإن ُحرمنــا
مــن بعــض النعــم ،فقــد تمتعنــا بنعــم أخــرى كثــرة لكنن ـ�ا نســين�اها ،وال زال
لدين ـ�ا نعــم كثــرة ،لكنن ـ�ا ال نستشــعرها.
عندمــا نعيــش هــذه العبــارات ونديرهــا علــى أذهاننـ�ا فإننـ�ا حنــب أنفســنا
أيضــا وحنرتمهــا! ألنــه َي ُسـ ُّـرنا أن نكــون أوفيــاء ،ودوديــن ،معرتفــن باجلميــل،
رقيقــي القلــوب ،مرهفــي املشــاعر.
َّ َ
أذكـر أنني يف مـرة مـن املـرات تـرددت هـذه العبـارات يف كيـاين جتـاه أيخ
األكبر ،الـذي أحسـن يل طـوال حيـايت ،وعندما وقعـت يف ظرف صعـب أبعدين
عـن عائلتي ،لـم يهـدأ أليخ بال ولم يذق طعم الراحة ونذر نفسـه وسـعى يف كل
اجتـاه حتى يرفـع الظلـم عني .كان يتفنن يف سـد فراغـي عنـد أوالدي .كان يـأيت
ً
لزيـاريت مثقلا بالهمـوم ،لكنـه مع ذلك كان يتمالك نفسـه ويتصنع االبتسـامة
وخيتـار العبـارات ويسـتحضر األخبار السـارة ليحافظ على معنويـايت مرتفعة.
بعــد إحــدى زياراتــه يل وأنــا بعيــد عــن عائلــي ،ابتســم ابتســامة املغــادرة
97
وهــو يقــول يل( :ديــر بالــك علــى حالــك .إن شــاء هللا الفــرج قريــب) ..نظــرت
َ ْ
إليــه وهــو يفارقــي ويذهــب ،وبــدأت تلــك العبــارات تــردد يف صــدري جتــاه
أيخ( :أحبــك ،لقــد غمرتــي بإحســانك ،لــن أنــى لــك جميلــك مــا حييــت،
َ
حــي لــك وصــل مرحلــة الالرجعــة! مهمــا فعلــت يف املســتقبل ســأظل أحبــك،
ال أســتحق منــك ذلــك كلــه! ســأكون وفيــا لــك مــا حييــت).
َ
كــم مــرة ســألت هللا فأعطــاك؟ كــم مــرة وقعــت يف كــرب فنجــاك؟ كــم
ًَ
َســنة ســر قباحئــك عــن النــاس وأظهــر لهــم محاســنك؟ إىل قلــب كــم واحــد
مــن خلقــه حببــك ..كــم مــرة جنــاك مــن شــماتة أعدائــك ..بــل حــى البــاء..
أال َي ُسـ ُّـرك إن ارتضــاك هللا جلــواره يف دار كرامتــه فــأراد تطهــرك لتليــق بهــذه
ً
املزنلــة ،فبــدل مــن التطهــر بالنــار ابتــلاك فطيبــك وطهــرك؟
ُ
أال يكفــي هــذا كلــه يف أن نبقــى أوفيــاء هلل مــا حيينــ�ا؟ أال تشــعرنا هــذه
الرعايــة والتكريــم باحليــاء منــه ســبحانه؟ هــل ســنبقى كلمــا امتحــن هللا حبنـ�ا
لــه ببــلاء دنيــوي يزتعــزع هــذا احلــب ويتعكــر صفــو مودتن ـ�ا؟! هــل ســنبقى
98
نفشــل يف االمتحــان؟!
مــى ســتقول :يــا رب! غمرتــي بإحســانك ،لــن أنــى فضلــك علــي مــا حييــت!
َّ
يــا رب! مهمــا قــدرت علــي ،ومهمــا ابتليتــي ،ســأبقى أحبــك ،بــل ســزيد حــي
لــك ،ولــن أســمح لــيء أن يعكــر صفــو محبــي لــك.
أيخ ،يــا مــن أنعــم هللا عليــك بالكثــر يف ماضيــك وحاضــرك ..لكنــك لــن
ً تت�ذكــر المــايض وتستشــعر احلاضــر إال إن كنــت ًّ
وفيــا معرتفــا باجلميــل..
بعــد هــذا اإلنعــام اإللهــي ،إن لــم تصــل محبتــك هلل مرحلــة الالرجعــة ،فمــى
تصــل؟ وأي يشء يوصلهــا؟!
مــن أهــم احلقائــق الــي تطمئنــك وتصــرك وتزيــد حبــك هلل :ليــس لــك
عنــد هللا يف هــذه الدني ـ�ا «حقــوق»!
يف احلــــديث الــــذي رواه أبــــو داود وصــحــحــــه األلــــباين عن ابن الديليم
قــال :أتيــت أيب بــن كعــب ،فقلــت لــه ( :وقــع يف نفــي يشء مــن القــدر،
فحدثــي بــيء ،لعــل هللا أن ُيذهبــه مــن قلــي) .فقــال( :لــو أن هللا عــذب
أهــل ســماواته ،وأهــل أرضــه عذبهــم وهــو غــر ظالــم لهــم ،ولــو رحمهــم كانــت
ـرا لهــم مــن أعمالهــم .ولــو أنفقــت مثــل ُأ ُحــد ً
ذهبــا يف ســبي�ل هللا مــا رحمتــه خـ ً
ٍ
قبلــه هللا منــك حــى تؤمــن بالقــدر وتعلــم أن مــا أصابــك لــم يكــن ليخطئــك،
وأن مــا أخطــأك لــم يكــن ليصيبــك ،ولــو مــت علــى غــر هــذا لدخلــت النــار).
قــال :ثــم أتيــت عبــد هللا بــن مســعود فقــال مثــل ذلــك ،ثــم أتيــت حذيفــة بــن
اليمــان فقــال مثــل ذلــك ،ثــم أتيــت زيــد بــن ثابــت ،فحدثــي عــن النــي صلــى
هللا عليــه وســلم مثــل ذلــك.
كــم ستســريح يــا أيخ ،وكــم ستســرحيني يــا أخــي ،إذا اســتقر هــذا
املفهــوم يف نفســك واطمــأن إليــه قلبــك :ليــس لــك علــى هللا يف هــذه الدني ـ�ا
ٍّ
يشء هكــذا كحــق تتوقعــه بمجــرد وجــودك! ولــو حرمــك كل يشء فليــس
بظالــم لــك ســبحانه.
فــإذا كان العبــد ال يســتحق اجلنــة والنجــاة مــن العــذاب بعملــه الــذي
يعملــه اال برحمــة مــن هللا وفضــل ،فكيــف يســتحق نعيــم الدنيـ�ا الزائــل ملجــرد
وجــوده فيهــا؟! فللــه علينـ�ا حقــوق ال نــؤدي شــكرها مهمــا عملنــا .وأقــل نعمــه
تســتحق منــا أكــر ممــا نــؤدي مــن طاعــات وقربــات.
100
ُ ۡ َ َٰ َ
ـك َخ ۡيـ ٌ
ـر وإنمــا أوجــب هللا علــى نفســه لعبــاده املؤمنــن اجلنــة{ ..قــل أذلِـ
ـرا ١٥ل َّ ُهـ ۡ
ـزا ٓ ٗء َو َم ِصيـ ٗ ـت ل َ ُهـ ۡ َ ۡ َّ ُ َ
ـون َكانَـ ۡ َ ۡ َ َّ ُ ۡ ُ ۡ َّ
ِيهــا َمــا
ـم ف َ ـم َجـ َ أم جنــة ٱلخل ـ ِد ٱلتِــي ُو ِعــد ٱل ُمتقـ ۚ
ٗ َ َ َ ََ ٰ َّ َ َ ۡ ٗ َ ٓ َ َ
ـدا َّم ۡس ُـٔــولا [}١٦الفرقــان..]16،15 : يَشــا ُءون خٰلِدِيــنۚ كان عل ـى ربِــك وعـ
أمــا أن تفــرض أن لــك عنــد هللا أن يعطيــك ملجــرد وجــودك! فمــا هــذا إال
لعــدم إدراكك مقــام العبوديــة أمــام مالــك امللــك ســبحانه!
عندمــا تســتذكر أنــه ليــس لــك علــى هللا يشء وأن األصــل يف الدنيـ�ا أنهــا
101
ً
دار ابتــلاءات ،فإنــك ســرى املســرات مصــرات بــدل مــن أن تــرى البــاءات
معكــرات.
ً
فمثــا قــد تكــون يف غمــرة التجهــز لالحتفــال بمناســبة ســعيدة ،فيحصــل
حــادث ألحــد العزيزيــن عليــك مــن أهلــك! إن افرتضــت الكمــال يف حياتــك
معكــرا الحتفالــك يفســد بهجتــه .أمــا إن اســتقر يف ً فســرى هــذا احلبــس
نفســك أن هــذا احلــادث بــاء مــن الباليــا املتوقعــة يف الدني ـ�ا -ألن األصــل يف
ِّ
هــذه احليــاة االبتــلاء -فســرى مســرة االحتفــال ُم َصـ ِّـرة ُمنفســة عــن يشء
مــن الهــم الــذي ال بـــد منــه..
ً
فانطلــق يف حياتــك وأنــت متذكــر جيــدا لهــذه احلقيقــة :ليــس لــك عنــد
هللا يف هــذه الدني ـ�ا حقــوق.
102
مــن طبــع النفــس البشــرية أنهــا يضعــف لديها الشــعور بالنعم املســتمرة
فتصبــح فاتــرة باهتــة يف احلــس .و إذا فقــد اإلنســان القناعــة فإنــه ال يفكــر إال
فيمــا ينقصــه مــن نعــم حــى يشــعر أن هــذا الــذي ينقصــه هــو أهــم مقومــات
احليــاة البشــرية ،و أن حياتــه ال طعــم لهــا بــدون هــذا الــذي ينقصــه ،تعــال
نســتعرض أمثلــة مــن ذلــك:
-الفقــر يقــول :مــا قيمــة احليــاة دون مــال؟! إن كنــت ال أســتطيع أن أوفــر
ألوالدي مالبــس جـــديـــــدة يف العـــــــيد ،فينكســر خــاطــــر ابنــي الصغــرة
ً
حســرا عندمــا تــرى بنــ�ات األقربــاء يلبســن اجلديــد الفاخــر و يرتــد بصرهــا
ويمســكن بشــنطة العيــد يف أيديهــن ،وهــي بثيـ�اب وشــنطة قديمــة ..فالمــال
كل يشء.
ً
هــذا الفقــر معــاىف يف جســده مــزوج قــد رزقــه هللا أوالدا لكنــه ال يــرى هــذه
النعــم لــم يعــد يفكــر إال فيمــا ينقصــه.
-املريــض يقــول مــا قيمــة احليــاة دون صحــة ســليمة؟ مــاذا تنفعــي أمــوايل
إن كان الطــب قــد عجــــــز أن جيــد يل شــفاء ملــريض الــذي يــزداد حــدة بمــرور
ً
الســنوات فيخيــم علــى حيــايت كابــوس االرتـــــماء مــــقعدا ال أســتطيع خدمــة
نفــي يومــا مــن األيــام ..أي طعــم للحـــــــــــــــياة مــع ذلــك؟! ليتــي أفقــد مــايل
كلــه وأنعــم بالصحــة ،فالصـــحة هــي كل يشء.
لــم يكــن يل شــريك روح أمــأ عليــه حياتــه ويمــأ علــي حيــايت؟ ليتــي أفقــد كل
يشء وأنعــم بــزوج جيعــل حليــايت معــى.
ُ
-الســجني لفــرات طويلــة يقــول :مــا قيمــة احليــاة دون حريــة؟! إين أدفــن
قبــل مــويت! مــاذا نفعــي مــايل وصحــي وتعليــي؟ احلريــة هــي كل يشء.
ً
صخبــا وبهجــة؟ -العقيــم يقــول :مــا قيمــة احليــاة دون أوالد يملــؤون البيــت
مــاذا نفعــي مــايل صحــي إن كنــت أنــا وزوجــي ال جنــد يف بيتنــ�ا كل ليلــة إال
الصمــت والهــدوء القاتــل؟ مــا قيمــة احليــاة إن كانــت ســتنتهي بمــويت فــا
عقــب يل حيمــل اســي؟ ملــن أعمــل وأجمــع المــال وملــن أتعــب؟
َ
ــة يقــول :مــا قيمــة احليــاة إن كانــت األنظــار تزدريــي؟ مــا -دميــم ِ
اخللق ِ
قيمتهــا إن كنــت أكــره رؤيــة نفــي يف املــرآة كل صبــاح؟! مــاذا نفعــي مــايل
وشــهاديت وصحــي بعــد ذلــك؟ ليتــي أفقــد كل يشء وأنعــم بمظهــر حســن.
وهكــذا؟! يــزدري أكــر النــاس -إال مــن رحــم هللا -نعمــة هللا عليهــم،
ويظــن كل مبتلــى أن مــا ينقصــه هــو أهــم يشء أو كل يشء.
فمــن أصحهــم شــكوى؟ الفقــر أم املريــض أم العزبــاء أم الســجني أم
العـقـــيم أم الـدمــــيم؟ هـــل الـمــــال هـــو كل يشء؟ أم الصــحـــة؟ أم الزواج؟ أم
الذريــة؟ أم اجلمــال؟ أم احلريــة؟ إمــا أن يكــون أحــد هــذه األشــياء هــو أهــم
ً
جميعــا دعــاوى باطلــة. يشء أو كل يشء ،أو أنهــا
َ َۡ َ
ـض} [النســاء ، ]22 :وقــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم (( :انظــروا علـ ٰى بعـ ٖ ۚ
إىل مــن هــو دونكــم وال تنظــروا إىل مــن هــو فوقكــم فإنــه أجــدر أال تــزدروا نعمــة
ُ
هللا عليكــم)) ..فإنــه لنكــران جميـ ٍـل أن تــرى نـعـــم هللا الكثــرة عـلـــيك ال يشء
َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َّ ُ َّ ُ ُ َ
ون َها} بـيـنـــما تـــرى مــا ابــــتالك بفقده هــو كل يشء! {يع ِرفون ن ِعمــت ٱللِ ثم ينكِر
[النحــل ]83 :لــذا فإنــك تــرى آيــات كثــرة يف القــرآن تذكــر بنعمــة هللا وتســتحث
َ َۡ ُُ َ َّ َ ۡ
كثَـ َ
ـر َّ َ
ون [ }٣٨يوســف ]38 :وإن أقبح ٱلنـ ِ
ـاس لا يشــكر كــن أ الشــكر عليهــاَ { ..ول ٰ ِ
َّ َ َ َ َ ۡ َۡ
ٱللِ} ـرت بِأن ُعـ ِم
األوصــاف يف القــرآن ملــن ال يقــدر النعمــة ،لفظــة الكفــر {فكفـ
ً
[النحــل ..]112 :إن هنــاك نــعـــ ًـما عـظـــيمة ال نالحــظ وجــــودها أصــــا وال حتظــى
ببيـ�ان أهميتهــا يف الــدروس واملــــواعظ واخلـــطب ،مــع أنهــا ال تقــل أهميــة عمــا
ذكــر أعــاه مــن نعــم .مثــال ذلــك نعمــة «الدافعيــة».
ســل مريــض االكتئـ�اب كيــف فقــد الدافعيــة للحيــاة ،فــا دافعيــة لــأكل
والشــرب ،وال للتعلــم والعمــل ،وال لعــاج نفســه وال مــن هــو مســؤول عنهــم،
وال ملؤانســه زوجــه ومالعبــة أطفالــه ..احليــاة كلهــا بــا طعــم و ال لــون و ال
ً
راحئــة ! ال يشــتهي وال يتمــى شــيئ�ا إال املــوت!
فيــا مــن تــرى المــال كل يشء ،أتتمــى أن تــؤىت المــال وتفقــد الدافعيــة؟ يــا
مــن تتمنــن أن تفقــدي كل يشء مقابــل أن تعيــي يف عــش الزوجــــــية ،هـــــل
ستكونـــــن ســعـيـــدة إن رزقــت خــر زوج وفقــدت –ال أقــول كل يشء -بــل
فقــدت الدافعيــة فقــط؟
105
لــذا أيخ وأخــي ،علينــ�ا احلــذر مــن ازدراء نعــم هللا علينــ�ا ،علينــ�ا أن
نستشــعر هــذه النعــم و جنــدد االبتهــاج بهــا يف نفوســنا وحنــن نتلــوا مثــل قولــه
ََ ۡ َ َ َۡ َ َ ۡ َ َ ۡ ْ َ َّ َّ َ َ َّ َ َ ُ
كــم َّمــا فــي َّ َ َ
ـبغ ت َو َمــا فِــي ٱلأ ِ
ۡرض وأسـ ٱلســمٰو ٰ ِ ِ تعــاىل { :ألــم تــروا أن ٱلل ســخر ل
ٗ َ َۡ ُ
ــر ٗة َو َباط َِنــة ۗ} [لقمــان.]20 :
ــهۥ َظٰه َ
ِ
ــم ن َِع َم ُ
ك ۡ علي
يبقــى الســؤال املهــم :هــل هنــاك نعمــة غــر مــا ذكــر يمكــن اعتب�ارهــا
كل يشء يف هــذه احليــاة؟ نعــم! إنهــا نعمــة اإليمــان ..فباإليمــان تصــر علــى
ً
مــا ابتليــت بــه مــن فقــد بعــض النعــم ،فقــد يكــون صــرك نعمــة أكــر ممــا
َ َ ً َْ ُ ْ ً
المؤ ِمـ ِـن، فقــدت! مصداقــا لقــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم( :عجبــا ألمـ ِـر
َ َ َ َ َْ ْ َّ ْ ْ َ َ َّإن ْأمـ َـر ُه ُك َّلـ ُـه َخـ ْ ٌ
أصابتـ ُ�ه َسـ َّـر ُاء شــك َر ،فكان ـس ذاك أل َحـ ٍـد إل ِلل ُمؤ ِمـ ِـن ،إن ـر ،وليـ َ
َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ
ـكان َخـ ْ ً ْ َخـ ْ ً
ـرا لــه) (رواه مســلم) ..بينمــا بانعــدام ـرا لــه ،وإن أصابتـ�ه ضــراء ،صــر فـ
ـبب�ا يف طـــــــول احلـــــساب وشدة استدراجـــــا وســــ ً
ً اإليمان تصبح النعم ً
بالء و
َّ ُ َ َ َ ۡ َ َ َّ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ َ َّ َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ ّ َ ُ
سـ ِه ۡ ۚم إِن َمــا ن ۡملِــي
ـم خيــر ٞل ِأنف ِالعــذاب{ :ولا يحســبن ٱلذِيــن كفــروا أنمــا نملِــي لهـ
اب ُّمهيـ ٞ َُ ۡ َ ۡ َ ُ ْٓ ۡٗ َ َُ ۡ َ َ
ـذ ٞ
ـن [ }١٧٨آل عمــران] . ِ لهــم ل ِيــزدادوا إِثمــاۖ ولهــم عـ
نــى هللا يوســف عليــه الســام مــن فتنــ�ة الديــن ،وهــي محاولــة لقــد ّ
النســوة إغــواءه ،وابتــلاه تعــاىل بالســجن ،وهــو بــاء دنيــوي .واعتــر هللا ذلــك
ـر َف َع ۡنـ ُ
ـهۥ فَ َصـ َ اب لَـ ُ
ـهۥ َر ُّبـ ُ ج َـت َ ً
ـتجابة لدعائــه{ :فَ ۡ
ٱسـ َ ً
ـه فضــا علــى يوســف و اسـ
ً ّ يع ٱلۡ َعل ُ ــو َّ
ٱلســ ِم ُ َ ۡ َ ُ َّ
ــن إنَّ ُ
ــهۥ ُه َ
ِيــم [ }٣٤يوســف] ،مــع أنــه قــدر عليــه ســجنا كيده ۚ ِ
طويــا ..نعــم! فــإذا َســل َم الديــن فــإن باليــا الدنيــ�ا تنقلــب م ً ً
نحــا للدنيــ�ا ِ ِ
واآلخــرة ،كمــا حصــل مــع يوســف عليــه الســام.
يف هــذه املحطــات كلهــا كانــوا يقولــون( :ليــس هــذا أبانــا الــذي عرفنــاه..
نريــد أبانــا الــذي عرفنــاه! نريــد أبانــا القــوي النشــيط ..لقــد كان أبونــا يقيــل
عرثاتن ـ�ا ..كان هــو يالطفنــا ويطعمنــا بي ـ�ده علــى المائــدة ..لقــد كان وكان...
أبـــــونـــــا لـــــم يـــهـــــرم بـــعـــــد ..مـــــا زال يف اخلمســين�ات ..أعمامنــا الذيــن
ً
يكربونــه ســنا يف صحــة وعافيــة .لعلهــا ســحابة صيــف ستنقشــع ..لعــل
جميعــا مخطئــون يف التشــخيص ..نريــد أبانــا الــذي كان). ً األطبــاء
كان األب يقــرأ ذلــك كلــه يف عيــون أبن�ائــه وقســمات وجوههــم فيحــزن
همــا أصبــح يتجنــب ض نفســه عــن قــدره وال يــزداد ًّ حلزنهــم ..ولكــي ُي َــر ِّ َ
ً
النظــر يف وجوههــم أصــا! لــم يعــد يتحمــل رؤيــة اإلشــفاق املختلــط باألمــل
الوهــي ..لقــد مــرت ســنوات وال زال األبنـ�اء ينطحــون صخــرة الواقــع ،وتذبــل
زهــرة قلوبهــم وهــم يــرون أباهــم يذبــل.
107
ً
واقعــا جديــدا سيســتمر؛ عــنــــدماإننــ�ا ُنتعــب أنفســنا عندمــا نرفــض ً
نــرفـــض التـعـــايش مــــع هــذا الواقــع ،عندمــا نصــر علــى أننــ�ا ال نريــد أي
«خســائر» يف هــذه احليــاة الدنيــ�ا!
أبنـ�اء هــذا الرجــل املريــض رفضــوا حقيقــة أنهــم قــد ابتلــوا بمــرض أبيهــم
ً ً
احلبيــب مرضــا مزمنــا .أخــذوا باألســباب الماديــة كلهــا ،وهــذا يشء محمــود..
واضحــا أن أباهــم لــن يعــود كمــا كان حبســب ً لكنهــم بــدؤوا خيطئــون عندمــا بــدا
الســن املعهــودة ،فرفضــوا هــذه احلقيقــة ألنهــا ُمـ ّـرة ،لــم يتعايشــوا معهــا ولــم
يتقبلوهــا ..فتعبــوا وأتعبــوا أباهــم معهــم!
ُ
عندمــا نبتلــى ببــلاء فإنــه ال بــأس بــأن نســعى يف كل اجتــاه شــرعه هللا،
ونطــرق كل بــاب ممكــن ،ويف قلوبنــ�ا األمــل بدفــع هــذا البــاء..
ً ًّ
مرحليــا مؤقتــا ..فــإذا بــدا لكــن هــذا الســعي احلثيــث ينبغــي أن يكــون
ٌ َ َ
أن هــذا البــاء قــدر ثابــت مســتمر اختــاره هللا لنــا ،فــإن مــن احلكمــة أن نعيــد
توجيــه جهودنــا مــن مدافعــة هــذا البــاء إىل التعايــش معــه.
ًّ
ضمنيــ�ا أنــه (ليــس ففــي مثالنــا ،بقــاء األمــل بالشــفاء يف ذروتــه يعــي
وي َص ِّعــب
هــذا هــو الوضــع الــذي نريــده ألبينـ�ا) ،وهــذا الهاجــس يزعــزع الصــر ُ
َُ
ويفـ ِّـوت فــرص االســتثمار املجــدي للوقــت واجلهــد. التعايــش
إننــ�ا ننصــح مــن ابتلــي بمــا هــو طويــل األمــد عــادة أن يعتــر الوضــع
اجلديــد هــو األصــل ،والعــودة إىل مــا كان عليــه قبــل البــاء اســتثن ً�اء .فهــذا
َ
أدعــى إىل أن يلتفــت املبتلــى إىل مباهــج جديــدة يف حياتــه تشــغله عــن الشــعور
109
بنقــص النعمــة الــي فقدهــا ..فينطلــق مــن جديــد يف احليــاة بمــا يتوفــر لديــه
َّ
مــن مقومــات .فــإن قــدر هللا خــاف المألــوف وكشــف هــذا البــاء ،كان ذلــك
ً
ـادة وخـ ً
ـرا علــى خــر .أمــا إذا افــرض املبتلــى أن األصــل هــو زوال هــذا البــاء زيـ
فإنــه ســيبقى يشــعر بنقــص يف حياتــه وفجــوة يف قلبــه ،وسيشــغله هــذا
الشــعور عــن مالحظــة املباهــج األخــرى يف حياتــه ،وســيكون حديثـ�ه وتفكــره
ً
منصبــا علــى البــاء فيــدور يف حلقــة القلــق املفرغــة ..وقــد يوصلــه ذلــك إىل
ازدراء نعمــة هللا عليــه!
ُ
بــل وإذا تعايشــت فإنــك ســرى مباهــج يف نفــس مــا ابتليــت بــه ،فأبن ـ�اء
هــذا الرجــل الــذي ذكرنــاه يف املثــال ســينقلب تركزيهــم مــن الضيــق برفــض
ختفيــف
ٍ حقيقــة املــرض املزمــن إىل االنشــراح بنجاحهــم فيمــا حيققونــه مــن
علــى والدهــم وتذليــل العقبــات لــه واحتســاب األجــر يف ذلــك كلــه ..وهــو
خــرا مــن هــؤالء األوالدســر بمــا خفــف هللا بــه عليــه وعوضــه ً
سي ُّ
كذلــك ُ
الذيــن يــرى انشــراحهم وطيــب نفوســهم.
ٌ ُ
ســيقول قائــل :لكــي أعــرف أمثلــة مــن أنــاس خرقــت لهــم العــادة! فــان
َ َّ
قن َطـ ُـه األطبــاء مــن الشــفاء فشــفي ..فقــد حيصــل معــي كمــا حصــل معــه.
فوطـن نفسـك يـا أيخ ويـا هـا قـد قلتهـا« :قـد حيصـل» ..وقـد ال حيصـل! ِّ
أختي علـى مـا يغلـب علـى الظـن حصولـه عـادة ،واحبـث عـن مباهـج أخـرى يف
ُ
حياتـك ،وأولهـا وأعظمهـا مـا لـن ترمـه إذا طلبتـ�ه بصـدق :رحمـة هللا تعـاىل
َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ۡ َ ُ َ ۡ َ َّ ّ ٞ َۡ َّ ُ ۡ َ ۡ
ـون [ }٥٨يونس].. ـل ٱللِ َوب ِ َرحمتِـهِۦ فبِذل ِـك فليفرحـوا هـو خير مِمـا يجمع
ِ {قـل بِفض
ً
نسـا باهلل تعـاىل ورضـا بقضائه وتوكال عليه وحسـن فحينئــذ سـيمتلئ قلبـك ُأ ً
ٍ
ظن بـه..
تمــر ســنوات مــن حياتنـ�ا جتتمــع لنــا فيهــا أســباب كثــرة للســعادة ،لكننـ�ا
ُ
إن ســألنا أنفســنا :هــل حنــن ســعداء؟ فقــد يــأيت اجلــواب مــن أعماقنــا :لســت
ً
متأكــدا!
هنـاك طموحـات وتطلعـات تشـغل بالـك لـم تتحقـق بعـد .تصبـح هـي
حسـكمحـط تركيزك .أمـا مـا اجتمـع لديك من أسـباب السـعادة فقـد َف َ َت يف ّ
وبهتـت ألوانـه وأصبـح كاخللفية اجلامـدة غري املهمـة يف الصورة التي ينقصها
محـط تركيز العدسـة ،وهـو هـذه الطموحـات التي لـم تتحقـق بعد.
كمــا يصــدأ احلديــد فــإن أدوات تــذوق النعــم املركــوزة يف نفوســنا تصــدأ..
لــذا فــإن هللا تعــاىل يذكرنــا يف مواضــع كثــرة بهــذه النعــم الــي فــتــــرت يف
ً
حســنا ولــم تعــد تعــي لنــا شــيئ�ا:
ََ ۡ َ َ َ َۡ ُ َۡ كــم َّمــا فــي َّ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ ْ َ َّ َّ َ َ َّ َ َ ُ
كـ ۡ
ـم ۡرض وأســبغ علي ت َو َمــا فِــي ٱلأ ِ ٱلســمٰو ٰ ِ ِ {ألــم تــروا أن ٱلل ســخر ل
ٗ
ـر ٗة َو َباط َِنــة ۗ} [لقمــان..]20 :
ـهۥ َظٰهـ َ
ِ
ن َِع َمـ ُ
َ ۡرض َوأَنـ ََ َ َ َّ َ ٰ َ ٰ َ ۡ َ َ َّ ُ َّ
ـن ـما ٓ ِء َمــا ٓ ٗء فَأ ۡخـ َ
ـر َج ب ـهِۦ ِمـ َ ٱلسـ َ ـز َل ِمـ َ
ـن َّ ت وٱلأ ٱلل ٱل ـذِي خلــق ٱلســمو ِ {
ِ
َّ
ـرهِۖۦ َو َســخ َر ـك ل َِت ۡجــر َي فــي ٱل ۡ َب ۡحــر بأَ ۡ
ۡ ٗ َّ ُ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ ۡ ُ ۡ َ َّ
ٱلث َمـ َ
ـ م
ِ ِ ِ ِ ِ ت رِزقــا لكــمۖ وســخر لكــم ٱلفلـ ـر ٰ ِ
َ
َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ َ ۡ َ َ َ َ ٓ َ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ َ
ــم ٱل ۡيــل َ ُ ُ ۡ َۡ َ
ــنۖ وســخر لك لكــم ٱلأنهٰــر ٣٢وســخر لكــم ٱلش َــمس وٱلقمــر دائِبي ِ
ُ ّ َ َ ۡ ُ ُ ُ َ َ ُ ُّ ْ ۡ َ َ َّ َ ُ ۡ َ ٓ َّ َ ُ
ـت ٱللِ لا تح ُصوهــا ۗ إِن ـار َ ٣٣و َءاتىٰكــم ّ ِمــن ك ِل مــا ســألتموهۚ وِإن تعــدوا ن ِعمـ
ٱلن َهـ َ
َو َّ
َ َّ ۡ َٰ َ َ ُ
ـن ل َظلــوم ٞكفــار[ }٣٤ ٞإبراهيــم ،]34-32 :وآيــات كثــرة عــن الســمع والبصــر ٱل ِإنسـ
َ
ـث َب ْعــد ُه
واملســكن وامللبــس والطعــام والشــراب والنــار واملعــادن والنــوم والبعـ ِ
واألزواج واألوالد وغريهــا.
آيــات كثــرة ،حــى ال نــزدري نعمــة هللا وننســاها .لكننـ�ا مــع هــذا التذكــر
111
اإللهــي قــد ال نســتمتع بهــذه النعــم .ليــس احلديــث هنــا عــن التفكــر بمشــاكل
املســلمني والتألــم ألملهــم ،فهــذا مطلــوب بالقــدر الــذي يدفــع إىل العمــل
بإجيابيـ�ة ملســاعدتهم ونصرتهــم .وليــس احلديــث عــن تنغــص العيــش بظلــم
ً
الظاملــن الذيــن يفســدون علين ـ�ا حياتن ـ�ا ويســعون يف األرض فســادا ،فهــذا
التنغــص ال بــد منــه ،وينبغــي أن يدفعنــا إىل إصــاح أوضاعنــا بعمـ ٍـل دؤوب،
والقضــاء الواحــد تســخط علــى الظالــم فيــه وتــرىض عــن هللا وتســتعني بــه
علــى مدافعــة هــذا الظلــم..
لكــن احلديــث هنــا عــن فقــدان القــدرة علــى تــذوق النعــم والشــعور
بمنــة هللا علينـ�ا فيهــا ،وهــذا داء يصيــب النفــس بغــض النظــر عــن االهتمــام
للمســلمني والتكــدر بإفســاد الظاملــن.
ْ
إذا لــم يفلــح أحدنــا يف تــذوق نعــم هللا عليــه وقد ِرهــا حــق قدرهــا فقــد
يبتليــه هللا تعــاىل بفقــدان أحــد هــذه النعــم .والســعيد حينئــ�ذ مــن اتعــظ
َ
ون َّبهــه فقــدان هــذه النعمــة إىل أن هنــاك أشــياء كثــرة يف حياتــه ال زال يمتلكهــا
تســتوجب شــكر هللا وتســتحق أن نكــون بهــا ســعداء .يــأيت البالء ليزيــل الصدأ
عــن أدوات استشــعار النعــم املركــوزة يف فطرتــك وينظفهــا ويعيــد للحيــاة
112
ً
رونقهــا ويضفــي عليهــا ألوانــا بهيجــة مــن جديــد ،بعــد أن كانــت خلفيــة باهتــة
رتيب ـ�ة ال لــون فيهــا! بعــد أن كانــت الفلــرة الذهني ـ�ة تشــغلك عنهــا وتغــض
مــن قيمتهــا وتعكــر رونقهــا بالتطلــع إىل مــا لــم يتحقــق بعــد مــن طموحــات..
يــأيت البــاء ليعلــم اإلنســان فــن تـ ُّ
ـذوق النعــم!
كانــت النعــم لديــك وفــرة ،لكــن قدرتــك علــى تذوقهــا ضعيفــة ،فلــم
ً
حتفــل بهــا وتســعد كمــا جيــب .قــد تقــل النعــم بالبــاء الــذي أفقــدك مــال أو
ً ً
جاهــا أو صحــة أو غريهــا ،لكــن إن كنــت مــن أهــل الرضــا وحســن الظــن بــاهلل
َ َ َّ
وتأمـ ِـل حكمتــه فإنــك ســتتن َب ُ�ه بالبــاء إىل الكثــر الــذي بقــي لديــك وتســتيح
ُّ
َْ ُ
مــن هللا أنــك لــم تقــدر نعمتــه عليــك مــن قبــل ،فتكتســب فــن تــذوق النعــم
وتســعد بهــا وتطمــن.
نسأل هللا أن جيعلنا من عباده الذين ُيرزقون العافية ويشكرون..
ال أستحق
عامــا مــن عمــري ..تقلبــت خاللهــا يف نعــم هللا مــرت أربعــة وأربعــون ً
عــز وجــل ..يف حلمــه وكرمــه وســره ورحمتــه ..بمــا يعقــد اللســان ..مــــا مــــن
بــــاء عـانـيـتـــه إال ويـــرفق يب الرحمــن فيــه ،وال ُي َ
ـحـــملين مــا ال طاقــة يل بــه،
وم ِع َّيت ـ�ه ويجعــل يل يف ثن�ايــا البــاء خــرا عظيمــا ،يف ديــي
بــل يشــعرين بقربــه َ
ونعيــم قلــي ودني ـ�اي..
ً ُّ
كانــت عيــي تـ ِـرق أحيانــا ،وأنــا يف داخــل بــايئ ،وأقــول( :مــاذا فعلــت حــى
حيصــل معــي هــذا؟!)( ،لمــاذا أنــا يــا رب؟!)( ،وهللا يــا رب ال أســتحق)..
أعــي :مــاذا فعلــت حــى حتصــل معــي هــذه اللطائــف مــن رحمــة ريب؟! لمــاذا
أنــا ينعــم علــي ريب بهذا الشــكل؟! ال أســتحق هــذا اإلنعــام ،إي وهللا ال أســتحق.
ً
ـتدراجا ،وأنــي يف يوموكانــت تــراودين الهواجــس أن يكــون هــذا اإلنعــام اسـ
ُ ُ َ
مــن األيــام ســوف «أعاقــب» علــى تراكمــات تقصــرايت وأجــرد مــن هــذه النعم
ألعــود إىل حجــي احلقيقــي كإنســان ال يســتحق كــرم ربــه ،وأفقــد اإلحســاس
باحلظــوة عنــده ســبحانه.
ُ َْ َّ
ـأت ،بــل لطــف يتجــدد وكــرم يغمــر
لكــن يــوم العقوبــة القاصمــة هــذا لــم يـ ِ
َ
وإنعــام يــزداد! وإذا جــاء بــاء ف َم َعــه تصبــر ولطف.
ً
ـتدراجا كانبــل وأدركــت أن خــويف غــر املتــوازن مــن أن يكــون اإلنعــام اسـ
ســوء أدب جتــاه ريب عــز وجــل ،فالتعامــل مــع هدايــاه تعــاىل كأنهــا «مســمومة»
ِّ
يعكــر علــى مقــام الشــكر ..فأحمــده عــز وجــل علــى أنــه لــم يعاملــي بســوء
ظــي هــذا !
114
اخلــوف مــن هللا مطلــوب ،لكــن مــع محبــة هلل تغمــر قلــب العبــد..
مطلــوب ،لكــن ليدفعــك إىل إصــاح أوضاعــك ،ال ليعكــر عليــك نعمه ســبحانه
وحيرمــك بلــوغ مقــام الشــكر.
ً
كثريا ما تساءلت:
(ال أســتحق هــذا الكــرم كلــه مــن هللا !!) ،فــكأين أســمع اجلــواب( :صحيــح،
أنــت ال تســتحقه ..لكنــه تعــاىل أكــرم مــن أال يســعك كرمــه)
“(-مــش شــغلي” ،طيــب ..لكــن مــا هــو شــغلي إذن؟ كيــف أعــر لــريب عــن
امتن ـ�اين وأســتديم نعمــه؟)
َ
(-أ ِفــض علــى النــاس معــاين املحبــة وحســن الظــن بــاهلل الــي تعيشــها
(وأحســن كمــا أحســن هللا إليــك) ،وحدثهــم عــن رب ودود حليــم َب ٍّــر
َۡ َّ َ َ َ ّ ۡ َ
ــدِث [ }١١الضــى ،]11:وكــن مــن الشــاكرين). كريــم { َوأ َّمــا بِن ِعمــةِ ربِــك فح
115
أيها الكرام..
ال زلنــا نت�أمــل :كيــف حنــب هللا تعــاىل بــا شــروط؟ كيــف نتفــن ،فــا نمنــع
البــاء أن يؤثــر علــى حبنـ�ا هلل فحســب ،بــل حنولــه إىل ســبب لزيــادة حبنـ�ا هلل؟
كيــف نبــي حبنـ�ا هلل علــى أســس ســليمة ال تــهــــــز وال تت�أثــر باملتغــرات؟
يف املحطــات الســابقة ركزنــا علــى أول أساســن مــن هــذه األســس،
و هــــمــــــــــــــا :
1.تأمل أسماء هللا وصفاته من خالل البالء.
2.التفكر فيما أنعم هللا به علين�ا يف ماضين�ا وحاضرنا.
وإن لــم يــأت الفــرج املرتقــب حــى املمــات فــإن القصــة لــم تنت ـ�ه { َوفِــي
ٱلد ۡن َيــا ٓ إلَّا َم َتٰ ُ
ــع ــوةُ ُّ
ٰ ن َو َمــا ٱلۡحَ َ
ي
ۡ َ ٞ َّ َ ّ ٞ َ ۡ َ َ ٞ
ِــن ٱللِ َورِضــو ٰ ۚ
َ َ َ َ ٞ
اب شــدِيد ومغفِــرة م ٱٓأۡلخِــرة ِ عــذ
ِ
ٱلۡ ُغ ُ
ــرورِ [ }٢٠احلديــد.]20 :
َّ َ
خطــأ هللا تعــاىل النظــرة القاصــرة الــي تعتــر إغــداق النعــم يف الدنيـ�ا وقــد
َ َ
ـن إذا َمــا ۡٱب َتلىٰـ ُ َ ۡ َ َ ً
ـه َر ُّبـ ُ
ـهۥ إكرامــا مــن هللا لإلنســان واالبتــلاء إهانــة{ :فأ َّمــا ٱلإ ٰ ُ
نسـ ِ ِ
َ َ َ َ ۡ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ َ ُ ُ َ ّ ٓ َ ۡ
ك َر َمــن َ ١٥وأَ َّمــا ٓ إ َذا َمــا ۡٱب َتلَى ٰ ُه َف َقـ َ
ـد َر َعل ۡيـهِ رِ ۡزق ُهۥ ِ ِ فأكرمــهۥ ونعمــهۥ فيقــول ربِــي أ
َ َّ َ َُ ُ َ ّ ٓ َ ََٰ
ــن ١٦كلاۖ} [الفجــر ..]17-15 :فإنمــا حقيقــة اإلكــرام واإلهانــة يف فيقــول ربِــي أهن ِ
اآلخــرة ،أمــا الدنيـ�ا فــدار بــاء .
ّ ّ
يف قصــة يوســف عليــه الســام ،بعــد أن بــن هللا تعــاىل أنــه مكــن لــه يف
َ
َ َ ۡ ْ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ ّ ٞ األرض جــزاء إحســانه قــال تعــاىل { َولَأ ۡجـ ُ
ـر ٱٓأۡلخِــرة ِ خيــر ل ِلذِيــن ءامنــوا وكانــوا
َ َّ ُ َ
ـون [ }٥٧يوســف ..]57 :خــر مــن نقلــه مــن ظلمــة الســجن إىل كــريس احلكــم. يتقـ
117
فحــى إن جوزيــت خـ ً
ـرا يف الدني ـ�ا فعلــق قلبــك بأجــر اآلخــرة األعظــم.
يف بيعــة العقبــة الثانيــ�ة أخــذ رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم مــن
ً
الزتامــا يعرضهــم البتــلاءات يف الزتامــا بالتضحيــة بــكل يشء..ً األنصــار
األنفــس واألمــوال واألوالد ..فمــا املقابــل الــذي وعدهم بــه إن قبلــوا؟(( :ولكم
ً
نصوصــا أخــرى وعــدت جبــزاء دنيوي اجلنــة)) ..فاجلــزاء أخــروي ..صحيــح أن
كذلــك (كاآليــة 55مــن ســورة النــور) ..لكــن هــذا اجلــزاء علــى مســتوى جماعة
املؤمنــن أمــا األفــراد فــإن كثيريــن منهــم ماتــوا ولــم يســتمتعوا بــه..
ً ً
ويبقــى نــوع مــن النعيــم يمنحــه هللا لــكل مؤمــن عاجل يف هــذه الدنيـ�ا زادا
يعينـ�ه علــى ســلوك الطريــق بمشــقاته؛ وهــو طمأنينـ�ة النفــس واالستبشــار:
َ َ َُ ْ ََ ُ ْ َّ َ َ ٓ َّ َ ۡ َ ٓ َ َّ َ َ ۡ ٌ َ َ ۡ ۡ َ َ ُ ۡ َ ۡ ُ َ
ــم يح َزنــون ٦٢ٱلذِيــن ءامنــوا وكانــوا {ألا إِن أول ِيــاء ٱللِ لا خــوف علي ِهــم ولا ه
َّ َ َ ٱلد ۡن َيــا َوفــي ٱٓأۡلخـ َ َ َ ۡ َ َ َ ى فــي ٱلۡحَ َيـ ٰ
ـوة ِ ُّ َُ ُ ُۡ ۡ َ َ َّ ُ َ
ـت ٱللِۚ ذٰل ِك
ـرة ِۚ لا تبدِيــل ل ِكل ِمٰـ ِ ِ ِ يتقــون ٦٣لهــم ٱلبشــر ٰ ِ
ـم [ }٦٤يونــس..]64-62 : ـو ُز ٱلۡ َع ِظيـ ُ
ـو ٱلۡ َفـ ۡ
ُهـ َ
إذا لــم يســتقر هــذا املفهــوم يف نفــس املســلم :أنــه (ليســت الدنيــ�ا دار
جــزاء) ،فإنــه ستســوء منــه الظنــون عندمــا يقــارن وضعــه الدنيــوي بأوضــــاع
مـــــن ال يــؤمــــــنون بــاهلل تــــعــــــاىل ..لـــــذا فــقـــــد نهانــا هللا عــن إجــراء هــذه
ـى َمــا َم َّت ۡع َنــا بـه ِٓۦ أَ ۡز َو ٰ ٗجــا ّم ِۡن ُهـ ۡ
ـم َز ۡهـ َ
ـرةَ َ َ َ ُ َّ َّ َ ۡ َ ۡ َ
ـك إِلَـ ٰ املقارنــات الدنيويــة{ :ولا تمــدن عينيـ
ِ َ
ــى [ }١٣١طــه ..]131 :فارفــع ــك َخ ۡيــرَ ٞوأ ۡب َق ٰ َ ُۡ َّ َ ٱلد ۡن َيــا ل َِن ۡفت ِ َن ُه ۡ
ــم فِيــ ۚهِ ورِزق ر ِب ٱلۡحَ َي ٰ
ــوة ِ ُّ
رأســك إىل الســماء أيهــا املؤمــن وتعــرض لنفحــات اجلنــة وال تــزل ببصــرك إىل
مــا فيــه هــؤالء ،فإنمــا هــو فتنـ�ة لهــم واســتدراج ..قــال عليــه الصــاة والســام:
ُّ ْ ُ َ َ َ ْ ٌ ُ ِّ َ ْ
ـت لهـ ْـم َط ِّي َب ُ�ات ُهـ ْـم يف َ
ـاة الدن َي ـ�ا)) (البخــاري). ِ ـياحل َ ((أول ِئــك قــوم عجلـ
َّ
وممــا ورد عــن احلســن البصــري رحمــه هللا( :مــن لــم يتعــز بعــزاء اآلخــرة
118
كن كالمحبوس!
ً
وتــراه إن أمســك جريــدة مثــا أو ســأل عــن األخبــار اهتــم بمــا يتعلــق
باحلبــس واإلفــراج وبمــا خيــدم قضيتــ�ه وينجيــه مــن العقوبــة.
الفلــل الســكني�ة..
ال يتوقــع أن يبحــث عــن موديــات الســيارات وأســعار ِ
فهــذا كلــه ال يعنيـ�ه!
فلنســتحضر أنن ـ�ا يف هــذه الدني ـ�ا محبوســون عــن وطنن ـ�ا األصلــي ،وهــو
اجلنــة ،وأن معاصينـ�ا ُتـــهم حقيقيــة عليهــا ِّبينـ�ات ،فنســتحق عليهــا العقوبــة،
وأن نقطــة دفاعنــا الرئيســية عــن أنفســنا هــي أنن ـ�ا موحــدون ،فــإن تبــن أن
توحيدنــا هــذا مطعــون فيــه فــا تســأل عــن مــدة العقوبــة!
ّ ْ
ولنت�ذكــر أن الــراءة مــن هــذه التهــم تكــون بالتوبــة النصــوح ..وأن مــن
َ َ
احلكــم احلــق :هللا جــل جاللــه. بي ـ�ده القضــاء هــو
حينئــ ٍـذ ،ســنحرص علــى اســرضاء احلكــم احلــق ،والعمــل بمــا ينقلنــا من
ســجن الدني ـ�ا إىل ســعة اآلخــرة .ولــن ننشــغل بسفاســف الدني ـ�ا وملهياتهــا،
فهــي ال تعنينـ�ا .وســتكون قضيــة النجــاة مــن عقوبــة هللا ونـــوال ثوابــه ورضــاه
120
ً ً ً
مســيطرة علــى أذهاننـ�ا حــــــية يف قــلــوبـــــنا ال نغفــل عنــه ســاعة أبــدا.
كله محسوب!
عندمــا يطــول البــاء فــإن النفــس تتكــدر علــى مــا يتســبب فيــه مــن
«ضيــاع» األوقــات واألمــوال وإرهــاق األعصاب وتعكــر املزاج وتأثــر الصحة..
لكــن املؤمــن يت�ذكــر أن ال يشء يضيــع عنــد هللا ،بــل كلــه محســوب.
فلا تـأس علـى يشء أيهـا املبتلـى ،إن صبرت فـإن الصبر هـو خري اسـتثمار
للوقـت والمـال والصحـة ..وال تفكـر فيمـا تب�ذلـه مـن ذلـك علـى أنـه مهـدر ،بل
هـو رصيـد لـك هنـاك يـوم ال درهـم وال دينـ�ار ،إنمـا هي احلسـنات والسـيئ�ات.
122
رت نفسي
خي ُ
عندما ّ
ُ
أثن ـ�اء ابتــلاء مــررت بــه ،عــز علــي أن يطلــع هللا تعــاىل علــى قلــوب أنــاس
ً
مــن أهــل الباطــل والشــهوات فــرى بهــا اســتعدادا للتضحيــة يف ســبي�ل الدنيـ�ا
ونصــرة الباطــل ،ويطلــع علــى قلــي فــراين انشــغلت بهــي وضننــت بنفــي
عــن أن تــؤذى يف ســبي�ل هللا!
ُ
فكانت هذه القصيدة بعنوان (عندما خريت نفيس):
َّ َ ُ َ ّ
نــس تــــــوىل أســــلــــــيها فــــتـــــأىب أن تــــســـــــلى
ت ِئ الـــنـــفـــــس مــــن أ ٍ
تـــنــــوء بـحـــمــــلها وتضـــيق ً
ذرعـــــا وتـخــــــــى مــــــا به األيــــــام ُحــبلى
فــفــــــرق بعد طيب العيش شــــمـال وتــــــزفـــــــر من مصاب حـــــل فـــــين�ا
َ
فرتجع من شـــديـــــد الشـــــوق ذبلـى أشــــاغــــــل حـــزنـــــها جبـــميل ذكـرى
َ ً ُ
وتــــمل مـــــطـال تــــــرد بـــشـــــــــــاريت فــــــــرجا ســــيــأيت وإن واعـــــدتــــــها
مللت لـــــدى ابتــــــغاء املــــــجــد بـذال
ِ أراك يا ذي النــفـــــ ُـس كســلى
عــــام ِ
بأفــــــعـــــــال تــصـــــدق منك قــــــوال أال الــتـــمــــــي الـــراءة من نفــــــــاق
َّ ُ
وتــــرســــــــل يف حــقـــول الزعم ســيال هي األقـــدار تبطل كــــــل دعـــــــــــوى
وقــــــول الــــــزور يبقى مــــــضـــمحال ُفتـنـبـــت مـــــن بـــــــذور الصدق ً
دوحا
bbb
ســـــــوى يا لـــــــيت ،لــــــو أين ،ولـــــوال فـــلــــــم حيصد دينء الـــــعــــــزم فــــيها
َ َ
غـــشـــــوا يف سعيهم ً
صعبا وســهــــا أال فــــلـــــتنـــــــظري لعـــــبي�د دنـــــــيـا
ً ً فمــنـــــهم مـــبـــتـــغ مـــــ ً
يـــــذوق ألجــــلــــــه طــــــــــعنا وقـــتال وذكــــرا ـدحا ٍ
ً َّ
صــغــــارا ُيــــت ًما ،واألم ثكـــــــــــــــــلى ـب كي يـــقــــال له شـــجاع ويــــعـــقــــ ُ
ِ
ُ
123
َ ِّ
يــــــــرى يف ضنه بالـــنـــفـــــــس بـــخال فــــــإن كان الــــذي يـــســـــــعى لــدني�ا
بلى يا نـــفــــ ُـس ،بل أحــــــــــــرى وأوىل الب املــــجـــ ِـد أهــــــا ِّ
ألست لدى اط ِ
ِ
ُ
وربيح إن صـــدقـــــت الــــبـيــــع أغلىَ فـــغـــايــــة مطليب يا نـــفـــــــ ُـس أعلى
ألقـــبــــــض منــه مكرمة وفـــضــــــــا فإين بــــــائـــــــع نفســــــــــــــــــي لــــريب
فـــجــــــاري املصطفى ،وهللا مــــــــوىل وأحــــــظى يف اجلــــــنان بطيــب عيش
َ وأنشــــ َـر يف ديايج الـــظـــــلم نــــــــــ ً
وأنــئ يف نـــفــــــــوس الــنـــــشء نبلا ـورا
ً ّ
طغــى يف األرض إفـــســـــادا وجــــــهال أثـــــــــيم
ٍ ـاك
وأدفـــــــع كـــيـــــــد أفـــــــ ٍ
ـقلت حمال ُ
وجــــائـــــــزيت لـــــما اسـتـثــ ِ النفس أجــــري ـرت يا ذي فـــلــــــو ذاكـ ِ
لعدت خجلىِ على فــــعـــــــل العــــباد عاينت حــــســـــن جــــــــزاء ريب
ِ ولـــــو
ً
تـــــــرى يف العــــــجــــــــز خـــــذالنا وذال فــــهــــــذي هـــــــميت ،والــــــــروح مين
bbb
ذريــــهـــــــــــــــا تـــرتـــــــقي هلل عجلــى فـــخـــــــويض يف مـــســـالـــكـــــها وإال
124
ً َّ
إن مــا حيصــل معنــا عنــد نــزول البــاء هــو أننـ�ا نلجــأ إىل هللا بدايــة ،لكنن�ا ما
َ ً ُّ َّ ُ
نلبــث أن نــدرك أن هــذا اللجــوء حــى يكــون صادقــا ُمثمـ ًـرا ال بــد لــه مــن ت ِبعات؛
ُ
ـب هللا فنصلحــه ،وعــن
َْ َّ َ َ
فمــن ت ِبعاتــه أن نبحــث عــن كل تفريــط فرطنــاه يف جنـ ِ ِ
ُ َّ
كل ثغــر يف حياتنـ�ا فنســده ،وعــن كل ذنبـ�ه فنتــوب منه..
ُ ّ ُ ُّ
ومــن تبعــات هــذا اللجــوء أن نقبــل علــى قلوبن ـ�ا ،ونفتــش عــن أمراضهــا ِ
فنعاجلهــا ،وســنجد حينئـــذ أننـ�ا كنــا قــد أهملنا قلوبنـ�ا لســنوات فعــادت َخ َراباً
ٍ
وصــدق التــوكل َّ ُ ً ََْ ً
هللا ِ
بلقعــا خاويــة غافلــة ،قــد ضعفــت فيهــا معــاين محبــة ِ
َّ َّ ُّ ُّ
عليــه واخلشــوع بــن يديــه والــذل لــه والتعلــق بــه والشــوق إىل لقائــه!
ْ
فنجــد أنــه ال بــد مــن إزالــة أشــواكها وتقليــب أرضهــا َوبــذ ِر آيــات هللا فيهــا،
ــقايتها بمــاء القيــام والصيــام والدعــاء.
وس ِ ِ
نعــم؛ سنكتشــف أن اللجــوء إىل هللا والفــرار إليــه واالعتصــام حببلــه هــذا
ُ
كلــه ِتبعاتــه ولــه ثمنــه.
126
لكنن ـ�ا نريــد التخلــص مــن البــاء بســرعة! وعمليــة تــرك الذنــوب وســد
الثغــور وقلــع األشــواك وبــذر البــذور وســقيها وانتظــار إنب�اتهــا عمليــة حتتــاج
إىل وقــت ،والوقــت يمــر ،وليــس يف صاحلنــا ،فمــا احلــل؟
َّ ً
عــادة هــو َّ
أرضي ٍــة تبــ�دو أســرع الســعي يف أســباب احلــل الــذي خنتــاره
َْ ُّ
نتيجـ ًـة وأخـ َّـف حمـ ًـا مــن عمليــة اللجــوء َّ
الصــادق إىل هللا؛ فننــوي أن نســر يف ِ
َّ ُّ َّ ً
وتبعاتهــا ،وأيتهمــا
ـة اللجـُـوء ُّإىل هللا ِ هــذه األســباب جنب ـ�ا إىل جنــب مــع عمليـ
َ
َسـ َـبقت يف رفــع البــاء فبهــا ونعمــت ،وأمــا تبعــات اللجــوء إىل هللا؛ ففــي ُ
العمــر ِ ِ ِ
ُ ْ ٌ ْ ْ
السـ ِـتك َما ِلها ! فســحة
وكـــأنن�ا بهــذا نتخــذ األســباب «ضمانــات» مــع هللا؛ حبيــث إذا َّ
قصرنــا يف
َ َ
حــق هللا ولــم نضمــن ِمــن ثـ َّـم الفــرج مــن جهتــه أســعفتن�ا األســباب!..
دب إىل قلبــك؟ حينمــا تضــع رأســك ُأتريــد أن تعــرف إن كان هــذا الـ َّـداء َّ
ُّ ِ
ـزل تقلبــات كيانــك خــال يــوم كامــل ،وأنــت للنــوم ..يف هــذه اللحظــة الــي ختـ ِ
ٌّ ً ّ
ـتعدتدعــو بالدعــاء المأثــور ،ركــز جيــدا ،هــل تعــي مــا تقــول؟ هــل أنــت مسـ ِ
مت نفــي إليــكَّ ، َْ َ ُ ُّ َ
وفوضــت ــل ت ِبعــات هــذه الكلمــات« :اللهــم أســل لتحم ِ
أمــري إليــك»..؟
ِّ ٌ
متأمــل معناهــا فاعلــم أن القلــب إذا اضطــرب قلبــك وأنــت تقولهــا وأنــت
ً ُ
ســلم نفســك
يضطــرب وخيــاف عنــد الكــذب! ألنــك ال تريــد حقيقــة أن ت ِ
ُ ُ
بك َّليتهــا إىل هللا ،بــل تريــد ضمانــات األســباب مــع هللا!
ٌ َ ُ َّ
تنتقــل ِمــن
ســتبقى ختــرج مــن القلــب أســباب لتحــل أســباب ،وســتبقى ِ
ـب المــاء فــا مــاء ،وتنقلـ ُ
ـب جبــال األســباب إىل هبــاء! ســراب إىل ســراب ،تطلـ ُ
ِ ٍ
ٌ ُّ
مقــام الـــم ْع َم َعة؛ فاللجــوء إىل هللا
هللا بصــدق خــال هــذه َ
ٍ
ــو َ تدع َ
ولــن ُ
ـارج القلــب ينظــر إىل هــذه األســباب زاحــم ،فيبقــى خـ عزيــز ،يــأىب ْأن ُيزاحـ َـم أو ُي َ
ِ ِ
ُ ُّ ً َ ْ َ َ َ
هللا أن جيتمــع مــع
الــي خلــت عــن هللا فاســتحالت باطــا ،ويــأىب اللجــوء إىل ِ
الباطــل يف قلــب واحــد..
ََ ََ
وع َمــر أرجــاءه وأنبــت خضــراءه
ـأه َ جميعــا ،انقــذف فيــه اللجــوء إىل هللا ،فمـ
َ ِّ ُّ َ
ية ـاق ِ
وجعلــه ينبــض بقــوة مــن جديــد ،فمــا يلبــث الــري أن ي ِفيــض علــى سـ ِ
ُ
وتكتمـ ُـل احللقــة
ِ موعهمــا مــن جديــد بعــد طــول جفــاف، العينــن لتنهمــر ُد ُ
ِ
َ ََ َّ ُ َّ َّ ُ بلســان َي ْل َه ُ
بأدعيــة تت�دفــق عليــه وتتهــدج مــع دقــات القلــب ودفقــات ٍ ــج ٍ
َّ
الدمــع..
ُ
إنها حلظة ..ستعرفها أنها هي عندما تعيشها..
ُ ِّ َّ
كلحظــة الثالثــة الذيــن خلفــوا حــى إذا ضاقــت عليهــم األرض بمــا
ْ َُ ْ
ويئســوا مــن كل يشء ،وأيقنــوا أن ال ملجــأ رحبــت ،وضاقــت عليهــم أنفســهمِ ،
َ َ
مــن هللا إال إليــه ،قــذف هللا يف قلوبهــم وألهمهــم :أن توبــوا فــإين أريــد أن أتــوب
عليكــم..
ْ
إن هي إال حلظة!..
َّ
ســتقول :مــا دامــت حلظــة ُأيعقــل أن قلــي لــم يتعـ َّـرض َطـ َـوال مــا مــى ِمــن
ََ
بــايئ لنف َحــات تلــك اللحظــة؟
ُّ ً
نعــم؛ إنــه الشــيطان عندمــا ملــس منــك تكاســا عــن ِتبعــات اللجــوء إىل هللا
ً َ َ َ َ َ
ه َجــم عليــك ِل َي ْجتالــك عــن طريــق هللا قائــا “ :أيــن تذهــب؟ طريقــك الــذي
َ ْ َ َ ٌ َْ
فأســل ْمت ُه ِلــام قلبــك فارتــع”.. خصـ ٌ
ـب قريــب ُتهـ ُّـم بســلوكه طويــل؛ هاهنــا ْ
َ ْ َّ
اجلــدب ،ولــو عصيت ـ�ه يف أول الطريــق لوصلــت! فنقلــه بــن َم َر ِاتــع
130
إنــه الشــيطان؛ رآك تقــرع بــاب الفــرج احلقيقــي ،فلمــا ملــس منــك
ْ َ ٌ َّ َ ْ ٌ وف ً َ ً ُ
لــز
ِ ه دِ يف ك فقــاد بعــي”.. فات ســهل ــرج خ م “هاهنــا لــك: قــال ا تــور ملــا
َّ َ َ َ
األســباب فأضعــت فيــه وقتــك وجهــدك ،وكلمــا هممــت بالرجــوع إىل بــاب
ـورا” ..وال نــور!؛ إنمــا الفــرج احلقيقــي قــال“ :رويـ ًـداُ ..أبصــر آخــر هــذا النفــق نـ ً
َ َ َ
يصــدك عــن الســبي�ل ويزعــم أنــه هاديــك ،ولــو عصيت ـ ُ�ه َّأول األمـ ِـر ول ِز ْمــت
ُ
قــرع البــاب لفتــح لــك..
َ ُ ِّ
وباملخلوقــن ُلين ُّجونــا
ِ فلمــاذا إذن نبقــى نعلــق قلوبنـ�ا باألســباب األرضيــة
ُّ ُّ مــن َم َضائقنــا؟ وندفــع تكاليــف ذلــك مــن وقــت ُ
وجهـ ٍـد وتمــزق نفس وتشــت ِت ٍ ِ
ْ ُ
ِفكـ ٍـر وغ َّصـ ٍـة وهــم وقهــر وخيبـ�ة أمــل يف املخلوقــن؟!
ٍّ
َّ ُ
لماذا ال نت ِعظ بغرينا؟
ُ
الطبــع البشــري؛ ن ِص ُّــر علــى التجربــة بأنفســنا ،حــى إذا ال بــأس ،إنــه َّ
ِّ ُ َْ
عزمــا يف ّصــد الشــيطان حزمــا وأقــوى ًوذقنــا َم َرارتهــا أصبحنــا أكــر ً َع َركتنــ�ا
ُ ُ ْ
إن حــــاول صـــرفنا عــــن بــاب الفــرج احلقيقــي وقلنــا لــه“ :غ َّــر غــري ..غ َّــر
غــري.”..
َّ ْ
لكـ َّـن املصيب ـ�ة إن لــم يت ِعــظ أحدنــا بتجــارب نفســه وأصـ َّـر علــى خــوض
131
ـل ََ َ ْ
هللا أن يرزقــك حلظــة اليــأس والرجــاء هــذه؛ اليأس مــن املخلوقني، فسـ
والرجــاء يف اخلالق ســبحانه..
َ َّ
إنها حلظة ..لكن ما أعزها من حلظة وأند َرها!
إنهــا حلظــة ..إن عاشــها القلــب انتفــض جببــال الهمــوم املرتاكمــة عليــه
ً ُ
فينســفها ريب نســفا.. ِ
َّ َّ
إنها حلظة ..لكنها تنقل القلب من وادي الضياع السحيق ليتعلق بالعرش..
إنهــا حلظــة ..تنقلــك مــن حضيــض الفشــل إىل قمــة األمــل ،ومــن وحشــة
ُ
اليــأس إىل بهجــة األنــس..
تنشــلك مــن املخــاوف الــي تنهشــك مــن كل جانــب إىل كنــف إنهــا حلظــةِ ..
هللا حيــث األمــان..
َ
إنهــا حلظــة ..ظننــت قبلهــا أنــك فقــدت كل يشء ،لتكتشــف بعدهــا أنــك
وجــدت كل يشء..
َ َْ َ َ َ َّ
إنها حلظة ..وكأنها صيحة يف مقربة القلب أحيت مواته..
ُّ
فرج
ٍ ـرج،
ـ الف ـة
ـ حلظ وهللا ـي
ـ ه وهي ـر،
ـ غ ال ـاهلل
ـ ب ـاهلل،ـ ب ـق
ـ التعل إنهــا حلظــة
ـرج مــن كربــك بالطريقــة الــي يشــاؤها هللا َ َ
عــن قلبــك بإحيائــه بعــد مــوات ،وفـ ٍ
ويرضيــك عنها ..ُ
ٌ َّ
إنهــا حلظــة كلحظــات األنبيـ�اء عليهــم الصالة والســام .صحيــح أن حياة
ُّ
تعلـ ٌـق بــاهلل ،لكـ َّـن هــذا التعلــق كان َّ َّ
ـص ويصفــو ويتجـ َّـرد
يتمحـ ُّ األنبي ـ�اء كلهــا
132
ّ
ويبلــغ الــذروة يف حلظــات فيــأيت الفــرج..
ـوب فَ َ كلحظــة نــوح إذ دعــا ربــه { َأن ّــي َم ۡغلُـ ٞ
ٱنت ِصـ ۡـر [ }١٠القمــر] ،..فأجنــاه هللا ومــن ِ
ُ
معــه يف الفلــك..
ً ـل ُ َ
هللا النــار بــردا كلحظــة إبراهيــم إذ قــال« :حســي هللا ونعــم الوكيــل»؛ فجعـ
ـاما عليــه.. وسـ ً
َ َّ
ٱلظٰلِم َ ك إن ّــي ُك ُ َّ ٓ َ َ َّ ٓ َ َ ُ ۡ َ َ َ
ين }٨٧ ِ نت ِمــن كلحظــة يـونـــس إذ قـــال{ :لا إِلٰــه إِلا أنــت ســبحٰن ِِ
هللا ِمــن الغـ ّـم وأجنــاه مــن بطــن احلــوت.. [األنبيـ�اء] ،فأجنـ ُ
ـاه ُ
فنجــاه هللا وقومه ـي ۡهدِين [ }٦٢الشــعراء]َّ ، َّ َ َ
ـي َرب ّي َسـ َ
ِ كلحظــة مــوىس إذ قــال{ :إِن م ِعـ ِ
مــن حبر أمامــه وعـ ٍّ
ـدو وراءه ..
ُّ ُّ َ َ َ َ َ ٍ
َ َّ ُ َ ۡ َّ َ ّ
كلحظـة أيـوب إذ نـادى رب{ :أنِي مسـنِ َي ٱلضر وأنـت أرحم ٱلر ٰ ِحمِيـن [ }٨٣األنبي�اء]،
ُ
هللا مـا به ِمـن ض ٍّر وآتـاه أهله ومثلهـم معهم.. فكشـف ُ
َ ُ ُّ
وب مـن بامللـك وباخلـروج الــمش ِ كلحظـة يوسـف إذ خلا قلبـه مـن التعلـق ِ
ۡ ۡ ۡ َ ٰ َّ َ َ
ـك ف ۡس َـٔـل ُه} [يوسـف ،]50 :فأجنـاه هللا من السـجن السـجن فقـال{ :ٱر ِ
جـع إِلـى رب ِ
ً
وآتـاه ُملـكا..
َّ ۡ ِ َّ َ َ َ ْۡ َ ُ ْ
ٱللِۖ} [يوســف،]87 : ـسوا مِن روح كلحظــة يعقــوب إذ قـــــــــال لـــبـنـيــــه{ :ولا تايـٔـ
َّ
فــرد هللا عليــه أبنـ�اءه وبصــره ..
ٱلل َم َع َناۖ} [التوبة،]40 :كلحظة محمد صلى هللا عليه وسلم إذ قال{ :لَا َت ۡح َز ۡن إ َّن َّ َ
ِ
فأجناه هللا من سيوف املشركني اليت كانت فوق رأسه يف صحراء ال قرابة فيها
فيدفعون عن رسول هللا وال أتب�اع..
إنهــا حلظــة اليــأس مــن املخلوقــن ،فــا يبقــى إال الرجــاء يف اخلالــق ،فيأيت
َ َّ ٰٓ َ ۡ َ ۡ َ َ ُّ ُ ُ َ َ ُّ ٓ ْ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ْ َ ٓ َ ُ ۡ َ ۡ َ ً
ـم نص ُرنا
الفــرج ســريعا{ ..حتـى إِذا ٱستيـٔــس ٱلرســل وظنــوا أنهــم قد كذِبــوا جاءهـ
ـو ِم ٱل ۡ ُم ۡجرمِيـ َ
ـن [ }١١٠يوســف].. ـر ُّد بَأۡ ُسـ َ
ـنا َعــن ٱلۡ َقـ ۡ ـي َمــن ن َّ َشــا ٓ ُء ۖ َولَا يُـ َ
َف ُن ِّجـ َ
ِ ِ
اللحظــة ،إنمــا حنــن الذيــن نبتعــد عنــه بالدخــول يف دهالــز األســباب اخلاليــة
َ َْ َّ ُّ
عــن هللا والتنقــل بــن َم َر ِات ِعهــا ،عــنـــدما نــ ْـستث ِق ُل -بضعــف بصائرنــا وقلــة
صربنــا -تبعــات اللجــوء إىل هللا!
َّ ُّ
لــذا فالصــر املطلــوب يف البــاء ليــس صــر التجلــد أمــام الهـ ّـم فقــط؛ بــل
األهـ ُّـم منــه الصــر يف أداء ِتبعــات اللجــوء إىل هللا ســبحانه ..
إنهــا حلظــة اليقــن اخلالــص بصــدق هللا ،والثقــة املطلقــة بقدرتــه علــى
َّ ْ ََ
وشــك أن ُيفتــح ُ
ـت األســباب ،وبــأن مــن لـ ِـزم قــرع البــاب ي ِتنجيتنـ�ا مهمــا أمحلـ ِ
لــه ..حلظــة اليقــن بــأن األمــة لــو اجتمعــت علــى أن ينفعــوك بــيء لــن
ينفعــوك إال بــيء قــد كتب ـ�ه هللا لــك..
ِّ
تنشلك من الدهلزي لتضعك أمام باب الفرج من جديد.. حلظة ِ
لــذا فــإذا عشــنا هــذه اللحظــة وأيقنــا فعلنــا بأنــه مــا لنــا إال هللا،
َ َ
إشــهار إفــاس؛ بــل
ِ فيالســعادتن�ا وهنائنــ�ا وراحــة بالنــا! ولــن تكــون عبــارة
ً
إعــان غــى واكتفــاء ..ولــن نقولهــا بضعــف وحــزن وخــوف ،بــل ســنقولها
ـزاز واستبشــار؛ ألن مــن لــم يكــن لــه إال هللا فــاهلل حســبه و ِنعــم �ات واعـ ٍ بثب ـ ٍ
الوكيــل ،و ِنعــم املــوىل و ِنعــم النصــر ،وحينئــ�ذ عندمــا نضــع رأســنا لننــ�ام
ـت أمــري إليــك ،»..سـ ُ ُ ـلمت نفــي إليــكَّ ، ُ
ـرجف وفوضـ ونقــول« :اللهــم أسـ
ُ
قلبنـ�ا؛ لكنــه هــذه املــرة َر َجفــان املحبــة هلل واألنــس بــه بعــد طــول غفلــة عنــه..
ً ُ ُ ُ
ـخصيا هــذه اللحظــة عندمــا غ ِّي ْبــت عــن أهلــي ظلمــا..ً لقــد ِعشــت شـ
َ
ـدي أن يصيــب أحدهمــا شـ ٌّـر يف ؤرقــي أثن ـ�اء تغييــي هــذا خــويف علــى والـ َّ
ِ
كان ُي ِّ
قصــرت معهمــا ِمــن قبــل يف تكريــس الوقــت غيــايب ،واملشــكلة أنــي كنــت قــد َّ
ً ْ
كثــرا مــا كان انشــغايل بالدعــوة وأمــور الكاف َيــن يف إســعادهما.
واجلهــد ِ
134
ّ
نافعــة ،لكـ َّـن عــدم االلــزام باألولويــات هــو يف حــد ذاتــه خطــأ ينبغــي لإلنســان
ُّ
أن يســتغفر منــه؛ فــاهلل عــز وجــل فــرض علينـ�ا بـ َّـر الوالديــن والتفــن يف ذلــك؛
ـنا ۚ} [اإلســراء ،]23 :فــا ُعــذر لــك يف أن تنشــغل عــن بــر والديــك { َوبِٱلۡ َوٰل َِديۡــن إ ِ ۡح َ ٰ
سـ ً
ِ
ُ ََْ
بأمــور أخــرى هــي محبوبــة هلل عــز وجــل ،فالشــيطان قــد يقنــع منــك بــأن
ُيلهيــك بالــ َـمفضول عــن الفاضــل .لذلــك يف تغييــي كانــت تــراودين املخــاوف
َّأل ُأدرك أحــد والـ َّ
ـدي أو كليهمــا.
ٌ َّ
تعلــق قلــي باألســباب األرضيــة ..كان يبـ�دو هنــاك حبــال كثــرة ممــدودة
ُ ُ
ســتنجيين مــن بــايئ ،لكـ َّـن هــذه احلبــال ق ِّطعــت فجــأة ،واألســباب انهــارت
ّ ُ
أريض ،كل فجــأة ،فوجــدت نفــي يف حلظــة مــن اليــأس مــن كل يشء ،كل يشء
ً ُّ ً َّ يشء مـ ّ
صحيحــا.. ـادي ..ويف هــذه اللحظــة تعلــق قلــي بــاهلل عــز وجــل تعلقــا
bbb
بـــــل اســـتـــقـــبلتـــــهم بكثري زجــــــــ ِـر فلم أغـــــــ ِـدق عــــلــــــيهم ِمن حـــناين
bbb
ـــــــسري ح ِســــــرا خ ِ
ُ ُ َّ ْ ُ َّ َ
ـيأس َي ْســــــحق كل ِبــــشـــــ ِـر
وكاد الـــــ ُ ـلما أ ْو َصــــــــــدوا األبــواب دوين فـــــــــ
وأرجــــــو عندكم جـــــ ً ُ ََ ْ ُ
ـرا لــــكــــسـري رب َر ْحــــــــــليـابك ْم يــــــــــا ِّأنت ببـــــ
َّ ُ ْ َ َ ْ ُ ِّ َّ ُ
ــــر
ذخــــــرت ملـــثل ِضــــيــــــقي أي ذخ ِ وقد فــــــــــتشت يف عــــــــــملي لــــعلي
ُ َ ْ بــــفــــعــــــل َخــــــــا لص ترضـــــ ُ
ـفع عندكم يف كش ِف ضـــــ ِّـر فــــيشـــــ َ ـاه ريب ِ ٍ ٍ ِ
ْ ُ َ ْ َ ُ
ولم أقــــــبل عــــــليك ســــــوى ِبوز ِري! ب
فلم أبــــصــــــر ِســوى صحــــراء جد ٍ
136
bbb
فـــــــجر
ِ ـوعوبــــــــــدد لــــيــــــلنا بطلـــــ ِ غــــما ِ
ً ُ
ـخصيا هــذه اللحظــة ،ولكــن مــا أحــوج العالــم اإلســايم أن لقــد ِعشــت شـ
يعيشــها!
مــا أحــوج العالــم اإلســايم اليــوم أن يقطــع األمــل يف كل يشء؛ أن يقطــع
األمــل يف املخلوقــن..
ُ ِّ
مــا أحــوج هــذه الشــعوب حــن ترفــع الشــعارات« :مــا لنــا إال هللا» أن تــدرك
ّ ً ً
معــى هــذا الشــعار؛ فــوهللا لــن آمنت بــه إيمانــا حقــا وقامــت بتبعاتــه وعلقت
ً
ومخرجــا.. قلبهــا بــاهلل فحســب ،وهللا ليجعلـ َّـن هللا لهــا ً
فرجــا
ّ
يــا مســلمون ..يــا مســلمون ..توكلــوا علــى ربكــم ،علقــوا قلوبكــم برحمتــه ،ال
ُ ّ
باملخلوقــن ،ال تلجــأوا إىل غــر ربكــم ســبحانه وتعــاىل ،اصدقــوا
ِ تعلقــوا قلوبكــم
يف اللجــوء إىل هللا ،اطرحــوا أنفســكم علــى عتب�اتــه ســبحانه..
137
َ ُ ُ َ َّ َ ُ ۡ ُ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ ُ ۡ َ
نص ُركــم ّ ِم ـ ۢن ـم ف َمــن ذا ٱل ـذِي ي
{إِن ينصركــم ٱلل فــلا غالِــب لكــمۖ وِإن يخذلكـ
َب ۡعــ ِدهِۗۦ} [آل عمــران..]160 :
إخــواين ،دعــوين أشــارككم اجلــواب الــذي أجبــت بــه نفــي عــن هــذا
ً
عظيمــا يف عالقــي بــاهلل تعــاىل ،وأحســب أنــه مــن الســؤال ،ووجــدت لــه أثـ ًـرا
األســباب العظيمــة الســتجابة الدعــاء.
اجلــواب( :انظــر إىل عالقتــك بــاهلل تعــاىل كعالقــة خاصــة ال تت�أثــر بمــا
حيصــل مــع اآلخريــن) .قــد يكــون كثــرون غــرك وقعــوا يف مثــل بالئــك بــل
ـرا ،ومــع أنهــم أحســن منــك أشــد ،ولــم ُيرفــع عنهــم ،مــع أنهــم دعــوا هللا كثـ ً
ُ
وطمــع يف كــرم هللا وال
ٍ بيقــن
ٍ ادع عبــادة وأكــر تقــوى .ال عالقــة لــك أنــت.
تقــارن بغــرك.
.1املقارنــة باآلخريــن (غــري أفضــل ولــم ُيرفــع بــاؤه فمــن بــاب أوىل أنــا) هــي
َ َّ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ َ َ ٓ ُ َ ۡ
ـاب
ـر حِسـ ٍ نــوع مــن احلســاب .وهللا تعــاىل يقــول{ :إِن ٱلل يــرزق مــن يشــاء بِغيـ ِ
[ }٣٧آل عمــران..]37 :فتفريــج الكربــات وحتقيــق األمنيــ�ات وكل أشــكال
األرزاق مــن اخلــاق ال ختضــع حلســاب.
قــال ابــن عاشــور يف تفســره (التحريــر والتنويــر)( :واحلســاب يف قولــه( :بغــر
139
ّ
حســاب) بمعــى احلصــر ألن احلســاب يقتــي حصــر الــيء املحســوب
ّ
حبيــث ال يزيــد وال ينقــص ،فاملعــى إن هللا يــرزق مــن يريــد رزقــه بمــا ال يعــرف
مقــداره ألنــه موكــول إىل فضــل هللا).
ٓ
ٱللِ يُ ۡؤتِيهِ َمن ي َ َشــا ُء ۗ َو َّ ُ
ٱلل َو ٰ ِسـ ٌ َّ ۡ
ُ ۡ َّ َ ۡ َ
ـع -تـأمــــل قــــول هللا تــــعاىل{ :قــل إِن ٱلفضــل ب ِ َيـ ِد
ۡ َ َ ٓ ُ َ َّ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ُّ َ ۡ َ َ
ـل ٱل َع ِظيــ ِم [ }٧٤آل عمــران: َ
عل ِيــم ٧٣يختــص بِرحمتِــهِۦ مــن يشــاء ۗ وٱلل ذو ٱلفضـ ِ
ٞ
..]74،73
.2ويشــهد ملعــى العالقــة اخلاصــة حديــث رواه البخــاري قــال فيــه نبينــ�ا
ََ ََ ُ َ َُ
كمثـ ِـل رجـ ٍـل ـود والنصــارى، صلــى هللا عليــه وســلم ...( :ومثلكــم ومثــل اليهـ ِ
َ عمـ ُـال ،فقــالَ :مــن َي َ َ َ ُ َّ ً
ـت فعملـ ِـراطِ ،
ـار علــى قـ ٍ ِ ـ النه ـفِ ـ نص إىل يل ـل اســتعمل عمـ
َ ُ َ َ َ ُ
ـت النصارى، فعملـ ِ ـار إىل العصـ ِـرِ ، ـف النهـ ِ اليهــود ،فقــال :مــن يعمــل يل مــن نصـ ِ
بقرياطــن َ َ ـون مـ َـن العصــر إىل َ َ َ َ
ـن. ِ ـقرياط ِ ب
ِ ـر
ِ ـ غ الم ِ ثــم أنتــم (املســلمون) تعملـ
قـــالوا (اليهــــود والنصــارى -مــن مــات علــى التوحيــد منهــم قبل بعثــة النيب):
ِّ ُ ـل َعطـ ً ُّ َُ ً
ـاء؟!) ،قــال( :هــل ظلمتكــم مــن حقكــم؟) قالــوا: ـر عمــا وأقـ (حنــن أكـ
ُ َ َ
(ال) ،قــال( :فــذاك فضلــي أوتي ـ�ه مــن شــئت).
ً
محــل الشــاهد أن هللا ال يظلــم أحــدا ،بــل يعطــي كل محســن أكــر ممــا
ٌ يســتحق ،لكنــه قــد خيتــار ً
أناســا لفضـ ٍـل زائـ ٍـد .الحــظ أن اســمه (فضــل) وليــس
ًّ
حقــا ً
واجبــا عليــه ســبحانه .فللمســلم أن يرجــو أن يكــون مــن الذيــن اختصهــم
هللا تعــاىل بمزيــد فضــل.
أيها الكرام:
-مـن مقاصـد الديـن تطميـع العبـد يف رحمـة هللا وتكويـن رجـاء عظيـم يف
عطائـه .واملقارنـة املذكـورة مع االسـتجابة لآلخرين تن�ايف هـذا املقصد اجلليل.
ً
-وإذا كانــت املقارنــة املذكــورة صحيحــة ،فعلــى مــاذا الدعــاء إذا؟! ســأنظر إىل
140
ُ ً
غــري فأقــارن فيكــون الــرد جاهــزا( :لــم يقــق لهــم مــا دعــوا له فلــن ُيـــحقق يل)
فتتعطــل عبوديــة الدعــاء يف كثــر مــن احلــاالت.
-انظــر إىل بــاء اآلخريــن لتصــر كمــا يصــرون طالمــا أنــك يف بالئــك .لكــن ال
يصــح أن ترهــن التفريــج عنــك بالتفريــج عنهــم.
ً
-لكــن أتعلمــون مــاذا حيصــل؟ أحيانــا ننتظــر الفــرج علــى غرينــا ألنن ـ�ا حنــس
ً
أن يف ذلــك «إثب�اتــا لرحمــة هللا» واســتجابت�ه للدعــاء! مــع أن أدلــة الرحمــة
واالســتجابة متت�ابعــة ال حيدهــا حــد لــوال النســيان وقلــة التأمــل.
-إن الذيــن تراهــم خـ ً
ـرا منــك قــد ال حيقــق هللا لهــم مــا طلبــوه مــن رفــع البــاء
مثــا ألنهــم خــر منــك! فيدخــر لهــم دعاءهــم محــو ســيئ�ات ورفــع درجــات،
ألنــه ســبحانه يعلــم أن إيمانهــم يتحمــل ،ويرزقهــم ســبحانه مــع ذلــك الرضــا
بقضائــه ونعيمــا لقلوبهــم ،ويكــون بذلــك قــد اســتجاب دعاءهــم بمــا هــو
ً
أنفــع لهــم ممــا طلبــوه يف احلقيقــة ،بينمــا قــد يعلــم ســبحانه أن فيــك ضعفــا
(عــودك طــري) فريحــم ضعفــك ،ويجعــل اســتجابة دعائــك برفــع البــاء.
جميعــا ،ادع هللا بيقــن ،واجعــل عالقتــك بــه ســبحانه ً ألجــل مــا ســبق
خاصــة ،واطمــع يف أن تكــون مــن أهــل احلظــوة عنــده ،كأنــك تقــول( :يــا رب،
أنــا ال شــأن يل بفــان وفــان ممــن لــم ُيرفــع بالؤهــم ،أنــت أرحــم بهــم وأعلــم بما
ـرب كريــم ال حــد لعطائــه ،وال رب يليصلحهــم .مــا أعلمــه أنــا هــو أنــي عبــد لـ ٍّ
ســواه فأرجــوه ،يــرزق مــن يشــاء بغــر حســاب ،فاســتجب يــا كريــم).
141
َ َ
بــدأت محنــي احلاليــة يف البعــد عن عائلــي عندمــا كان عمــر التوأ َمتني
مــن أطفــايل (لــن وجلــن) خمســة أشــهر ..وال زالــت إلحداهمــا صــورة عالقــة
بذهــي؛ كنــت أضعهــا علــى ظهرهــا علــى األرض فتنقلــب علــى بطنهــا ثــم
ترفــع صدرهــا بي�دهــا ..فــإذا التقــت عينــ�اي بعينيهــا ابتســمت ابتســامة
االنتصــار ورأســها يهــز لثقلــه علــى جســمها الصغــر!
ـؤلم يف ِح ِّس ..إىل أن قلــت لنفيس( :ال حتزن، كان لهــذا التفكري وخـــ ٌـز مــ ٌ
َ ُّ َ ٓ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ ٗ ّ ۡ َ ٓ ســوف تراهمــا بمبلــغ أكــر ً
إبهاجــا بــإذن هللا)! { َع َسـ ٰ
ـى ربنــا أن يبدِلنا خيــرا مِنها
َّ ٓ َ ٰ َ ّ َ َ ٰ ُ َ
ـون [ }٣٢القلــم..]32 :إِنــا إِلــى ربِنا رغِبـ
َ
قلــت لنفــي :مــاذا تســتفيد إن عايشــت تطــورات حــركات ابنتيــك
هاتــن حــى كربتــا وقاربتـ�ا ســن التكليــف ،ثــم إذا بهمــا تفاجئانــك بالنفــور مــن
ً
ارتــداء احلجــاب مثــا؟! أي ذكــرى جميلــة تبقــى حينئـ�ذ إن كانــت ابنتـ�اك مــن
صلبــك ترفضــان شــعائر ديــن تضــي أنــت مــن أجلــه؟!
142
كثــرا مــا نتحســر علــى نعــم نفقدهــا أو مــراحــــل مــــن حــــياتن�ا ال ً
ُ
نعيشــها كمــا نتمــى ألنن ـ�ا نعتقــد أنهــا ال تعـ َّـوض .أحســن الظــن بربــك يــا أيخ
وارجــه أن يعوضــك خبــر ممــا فقــدت .وتذكــر يف الوقــت ذاتــه أن هــذه الدني ـ�ا
أهــون مــن أن حتــرص علــى التمتــع بــكل مباحاتهــا ..قــال رســول هللا صلــى هللا
ـاب قــوس أحدكــم يف اجلنــة أو موضــع قيــد – أي :ســوط عليــه وســلم(( :و َل َقـ ُ
– خــر مــن الدني ـ�ا ومــا فيهــا))!..
فحســرتن�ا علــى فــوات متــاع دنيــوي أكــر مــن فــوات فــرص عظيمــة
للفــوز باجلنــة ..إن هــذه احلســرة داللــة علــى غفلــة منــا جيــب علين�ا أن نســتيح
منهــا ونســعى إىل تداركهــا.
إن احلــرص علــى التمتــع بــكل حلظــة مــن حلظــات الدني ـ�ا متوقــع ال
منــك أنــت أيهــا املؤمــن ،بــل ممــن ال يؤمــن حبيــاة آخــرة ،فهــو يتحســر علــى مــا
يفــوت منهــا ألنهــا كل يشء يف نظــره.
َ ِّ ْ
ف َعلـق نفسـك يـا أيخ بنعـم اآلخـرة ،وال توسـوس لـك نفسـك بـأن يف
الدنيـ�ا ً
متعـا تفـوت دون أن يكـون لهـا تعويـض من جنسـها يف اآلخرة ..ألسـت
143
إن دخلـت اجلنـة كان بإمكانـك أن تطلـب إعـادة مـا فاتـك مـن نعيـم الدنيـ�ا؟
فاعل! فـإن ًً َ ُ َّ َ َ ٓ ُ َ
نعيما ِنـد َر ّب ِ ِه ۡ ۚم} [الزمـر ..]34 :لكـن ما أظنـك
ون ع َ بلـى {لهـم ما يشـاء
َ َ
ِنـدهُ ٓۥ أ ۡج ٌر ع ِظ ٞ َّ
ٱلل ع َ َّ
وصفـه العظيـم بأنـه عظيم {إن َ
يم [ }٢٢التوبة] ..سيشـغلك ِ
َ
متـاع فـات يف دنيـ�ا ال تـزن عنـد هللا جنـاح بعوضـة ! عـن ٍ
مالحظــة :مــرت الســنوات ولبســت أختهمــا ســارة احلجــاب مــن نفســها وهــي
طفلــة ،ثــم توفيــت خباتمــة حســنة واحلمــد هلل.
144
إن بدايــة احلــل ملشــكلتك واخلــروج مــن أزمتــك أن تعــرف أنهــا مــا
ُ َ َ ٓ َ َ َ ُ ّ ُّ َ َ َ َ َ َ ۡ َ
ِيكـ ۡ
ـم ت أيۡد أصابتــك إال بذنــب منــك { :ومــا أصٰبكــم ِمــن م ِصيبـةٖ فبِمــا كســب
َ َّ ۡ ّ َ َ ٓ َ َ َو َي ۡع ُفــوا ْ َ
ـكۚ} ـر [ }٣٠الشــورىَ { ،]30 :و َمــا أ َصابَــك ِمــن َســي ِ َئةٖ ف ِمــن نف ِ
سـ ٖ ـ يِ ث ك ـن
ـ ع
َ َ َ َّ ٓ َ َ ٰ َ ۡ ُ ُّ َ ۡ ُ َ ٰ َ ٰ َّ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ۡ َ ۡ ّ ُ ۡ َ َ ۡ َ ٞ
[النســاء{ ، ]79 :أولمــا أصبتكــم م ِصيبــة قــد أصبتــم مِثليهــا قلتــم أنــى هــذاۖ قــل
ُ َ ُ ُه َ
ِــك ۡمۗ} [آل عمــران..]165 :ِــن عِنــ ِد أنفســو م ۡ
لــذا فــإن هللا تعــاىل حيــب منــك حينئــ�ذ أن تبــ�ادر بتصويــب أوضاعــك
ۡ َ ۡ َ ٓ َ َّ َّ ٓ َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ َ ََ َ َۡ
ــون }٤٢وبالعــودة إليــه تعــاىل{ :فأخذنٰ ُهــم بِٱلبأســا ِء وٱلضــرا ِء لعلهــم يتضرع
[األنعــام.]42 :
إن عامــة النــاس ال يتفاعلــون مــع البــاء كمــا حيــب هللا تعــاىل .لــذا تــرى
ًّ
أن القــرآن يصــف يف مواضــع كثــرة جــدا ســوء تفاعــل النــاس مــع البــاء:
ۡ َ َ َ ُ ْ َ ََ َۡٓ ۡ َٓ ُ
كن ـولا إِذ جا َءهــم بَأ ُســنا تض َّرعــوا َول ٰ ِ -فمنهــم مــن ال يتفاعــل وال يســتفيد{ :فلـ
َ
ـون [ }٤٣األنعــامَ { ،]43:ول َقـ ۡ َ ُ ْ َ ُ َ َ ۡ ُ ُ ُ ُ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ
ـد ـي َطٰ ُن َمــا كانــوا َي ۡع َملـ
ٱلشـ ۡ قســت قلوبهــم وزيــن لهــم
َََ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ُ ْ َ ّ ۡ َ َ َ َ َ َّ ُ َ أَ َخ ۡذ َنٰ ُ
اب فما ٱســتكانوا ل ِرب ِ ِهــم ومــا يتضرعــون [ }٧٦الـمـؤمــنــــون{ ..]76 :أولا ِ ـذـع ٱلِ ب ـم
ـ ه
َّ َّ ً َ ۡ َ َّ َ ۡ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ُ ۡ َ َّ َّ ُ َ َ ُّ َ َ ۡ َ َ َّ ُ ۡ ُ ۡ َ ُ َ
ـن ثــم لا يتوبــون ولا هــم يذكــرون يــرون أنهــم يفتنــون فِــي ك ِل عــا ٖم مــرة أو مرتيـ ِ
[ }١٢٦التوبــة.]126 :
ۡ َ َّ َ ُ ۡ ُ ۡ َ ّ َ َ َ َّ َ ۡ َ ً
ـم فـإِن ـت أيۡدِي ِهـ -بــل ومنهــم مــن يــزداد كفرانــا! { :وِإن ت ِصبهــم ســيِئُۢة بِمــا قدمـ
ٗ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ّٗ َّ َ ُّ ْ ََ ۡ َ ۡ ۡ َٰ َ َُ
ـرا لظلــوا ِمـ ۢن ـن أ ۡر َســل َنا رِيحــا فــرأوه مصفـ
ـن كفــور[ }٤٨ ٞالشــورى{ ،]48 :ولئِـٱل ِإنسـ
َ ۡ ُ ُ َ
َب ۡعـ ِده ِۦ يكفــرون [ }٥١الــروم.]51 :
ً
عجبــا ألمــرك أيهــا اإلنســان ! إن هــذا الرتكــز القــرآين علــى ظاهــرة ســوء
ً
التفاعــل يســتدعي منــا وقفــة وتأمــا..
إننـ�ا قــد نمــي أوقاتنـ�ا وحنــن نت�أفــف مــن البــاء ونتمــى لــو لــم حيــل بنـ�ا
َ
ونتصــور ســعادتن�ا لــو لــم جيــر مــا جــرى ،ونتلقــط األنبـ�اء مــن هنــا وهنــاك بأيــة
بــادرة انفــراج ،ونطــرق األبــواب األرضيــة ونب�الــغ يف األخــذ باألســباب الماديــة
للتخلــص مــن البــاء ..إىل حــد يصبــح فيــه التفكــر بالبــاء كابــوس يقظــة
ً ُ ً
ووسواســا ال ينفــك عــن أذهانن ـ�ا ..ولكــن هــذا كلــه ال يزيدنــا إال دورانــا ومنـ ٍ
ـام
يف حلقــة مفرغــة ،وســتتولد لدين ـ�ا مصيب ـ�ة جديــدة ،هــي أنن ـ�ا لــم نســتفد مــن
البــاء ولــم نتفاعــل معــه كمــا حيــب هللا تعــاىل بــأن نصــوب أوضاعنــا ونعــود
إليــه ســبحانه.
ً ً
تعظيمــا حلــق هللا أول ،ثــم لينظــر إليــك تعــاىل نظــرة رحمــة ويرفــع عنــك
البــاء .والحــظ يف حتديــد أخطائــك أن البــاء قــد يكــون مــن جنــس املعصيــة،
فمــن قصــد لــذة ال يرتضيهــا هللا فقــد حيــرم الوجــه احلــال منهــا:
ً ُ
-فــإذا ابتليــت مثــا بمشــاكل مــع زوجتــك ففكــر :لعلــك أردت ترطيــب
حياتــك بالتهــاون يف التعامــل مــع نســاء مــن غــر محارمــك بممازحتهــن أو
احلديــث معهــن خــارج حــدود احلاجــة وغــض البصــر ،فحرمــت متعــة الوئــام
الــزويج النقيــة املباحــة.
ُ
-إذا ابتليــت بفقــد يشء مــن مالــك أو بقلــة الربكــة فيــه فتذكــر :هــل تهاونــت
بإدخــال مــال مشــبوه إىل مالــك؟ هــل قصــرت يف صلــة أمــك بمــال تبهجهــا
وتوســع عليهــا بــه؟
ُ
-إذا ابتليــت بســجن فتفكــر :هــل لديــك والــد مريــض محبــوس يف جســمه
ال يســتطيع احلــراك فمــا كانــت تســري عنــه بتنقيلــه يف بيتــ�ه وخارجــه
وماكنــت تؤانســه باحلديــث معــه لتذهــب عنــه الوحشــة ،فابتليــت بوحشــة
كوحشــته؟!
ُ
-إذا ابتليــت بفقــد وظيفتــك فتذكــر :لعلــك كنــت ال ختشــع يف صالتــك ،بــل
تمضيهــا وأنــت تفكــر يف وظيفتــك ومشــاكلها وإرضــاء املديــر و أنــت بــن يــدي
هللا تعــاىل!
-لعلــك أيتهــا الزوجــة املبتــلاة بــزوج ال يراعــي حقــك ..لعلــك رأيت ـ�ه مقصـ ًـرا
يف حــق هللا فلــم تنصحيــه ولــم تعينيـ�ه علــى إرضــاء ربــه ،فلــم يوفقــه هللا ألداء
حقــك عليــه!
147
أيهــا املبتلــى! واجــه احلقيقــة وإن كانــت مــرة! البــد مــن ذنــب جــر عليــك
البــــــاء ،فحــــــدده وختلــص منــه بســرعة ،وبذلــك تنجــح أنــت –بــإذن هللا -يف
قلــب املحنــة يف دنيـ�اك إىل منحــة يف دينــك ،وينطبــق عليــك قــول النــي صلــى
(عجبــا ألمــر املؤمــن ،إن أمــره كلــه لــه خــر ،وليــس ذلــك ً هللا عليــه وســلم :
ألحـ ٍـد إال للمؤمــن) ..ويــرىج لــك حينئــ ٍـذ أن يأتيــك الفــرج ،ألنــك بعودتــك إىل َ
ۡ َّ َ َ ۡ َ َّ ُ َ ۡ َ َ َ َّ
ـهۥ مخ َر ٗجــا َ ٢و َي ۡر ُزق ُه هللا قــد اتقيتـ�ه ،وهللا تعــاىل يقــول{ :ومــن يتـ ِ
ـق ٱلل يجعــل لـ
ـث لَا َي ۡحتَ ِ ُ
ـب} [الطــاق.]3،2 : ۡ َۡ ُ
ِمــن حيـ
سـ ۚ
ً ً
حينئـــذ
ٍ أمــا إن كنــت بطيئــ�ا ضعيفــا يف تصويــب أوضاعــك فتذكــر
ً
أن املعلــم إن رأى مــن التلميــذ ُبطئــا يف تعلــم الــدرس فإنــه قــد يزيــد عــدد
احلصــص ..وهلل املثــل األعلــى.
قـد يأتيـك الفـرج بـزوال مـا آملـك وأهمـك ،وقـد يأتيـك الفـرج بـأن يبقـى
ً
البلاء ولكـن تـرى معيـة هللا لـك فيـه ،وإينـ�اس قلبـك بعد وحشـة ،وثب�اتـا بعد
ً
ووجوهـا مـن اخلري العظيـم يف دينك ودنيـ�اك ً
خريا لك مـن زوال البالء. اهتزاز،
لــذا ،تذكــر وأنــت حتــدد أخطــاءك وتب ـ�دأ بعالجهــا أنــك تريــد التخلــص
منهــا مــدى احليــاة بغــض النظــر انفــرج كربــك أم لــم ينفــرج ،وإال لــم تكــن
ً ً
قاطعــا ألخيــك وتبتلــى بالفقــر، صادقــا يف نيـ�ة التوبــة إىل هللا تعــاىل .قــد تكــون
فتتــودد إىل هللا تعــاىل وتصــل أخــاك مــن جديــد ..ومــع ذلــك قــد يبتليــك هللا
باســتمرار فقــرك واشــتداده ..فهــل أنــت حينئــ ٍـذ عائــد للقطيعــة ألدىن مشــكلة
جديــدة بينكمــا؟! وهــل يف هــذا داللــة أن توبتــك كانــت صادقــة خالصــة لوجــه
هللا تعــاىل؟
ً
ارتكابا ويــا ً
عجبــا ملــن ال يغفــل عــن التوبــة عنــد البــاء فحســب ،بــل يــزداد
148
ً
قرضــا ًّ
ربويــا للمحرمــات حلــل مشــكلته! كتاجــر يتعــرض خلســارة فيقــرض
ً
لينعــش جتارتــه ،ولعلــه يــرر ذلــك يف نفســه قائــا ( :لقــد اضطــرين ريب إىل
اللجــوء لهــذا الطريــق)!
فهــذه أحــوال النــاس مــع البــاء ،منهــم مــن يتخــذه محطــة تنقيــة
وانطالقــة جديــدة يف حياتــه ،ومنهــم مــن ال يتــوب وال يت�ذكــر ،ومنهــم مــن
َ ُ ّ َ َ َ ٰ ْ ُ َ َّ ّ ٞ
يســتجري مــن الرمضــاء بالنــار ..فاخــر لنفســك{ ..ولِــك ٖل درجــت مِمــا ع ِملـ ۚ
ـوا
َ َّ َ ۡ َ ُ َ َ َ َ ُّ َ َ ٰ
ــون [ }١٣٢األنعــام..]132 : ومــا ربــك بِغفِ ٍ
ــل عمــا يعمل
149
مفاتيح التوفيق
أيها األحبة..
هناك مفهوم جييب عن تساؤالت كثرية ختطر بب�النا:
ً
Dتصــدر منــا أحيانــا أفعــال نســتغرب حنــن صدورهــا منــا وال نعــرف كيــف
فعلناهــا! وقــد تؤثــر علــى حياتن ـ�ا بشــكل كبــر ونن ـ�دم عليهــا أشــد النــدم .مــا
ســبب صــدور هــذه األفعــال وكيــف حنــي أنفســنا منهــا؟
Dملـــــــاذا تــــــمر بنــ�ا أوقــــــات حنــس فـــــيها بـفـــــراغ القلــب وهـــبوط
املعنويــات مــع كل مــا حنفظــه مــن آيــات وأحاديــث وأقــوال الســلف وأبي ـ�ات
الشــعر واحلكــم واالســتنب�اطات واملعــاين اجلميلــة؟
Dأصحــاب الباليــا الطويلــة ،مــا الــذي يصربهــم؟ حنــس أننـ�ا لــو كنــا مــكان
أحدهــم فلــن نصــر ،كيــف يمكــن أن حنقــق مثــل صربهــم؟
Dهللا تعاىل ينسب أي خـــــر حيصل لــــنا إىل نفـــــسه ســبــــحانه يف املواطن
كلهــا ،هــل هــذا ألنــه تعــاىل يريــد حفــظ حقــه فقــط ،أم أن هنــاك فائــدة تربويــة
عظيمــة لنــا يف ذلــك؟
Dلمــاذا ذمــت الـــشـــريـــعــــة مــــدحك لآلخــــرين يف وجوههــم؟ ما خطورة
هــذا املــدح؟ ولمــاذا كان الصاحلــون األبــرار خيافــون منــه؟
جواب هذه األسئلة كلها هو يف كلمتني :التربؤ واالستمداد..
ماذا تعني�ان؟ هذا مــــــا سنجيب عنه بإذن هللا يف هذه الصفحات..
البــن القيــم كالم ســأرويه مــع بعــض التحويــر لرتكــز الفكــرة .قــال رحمــه
ّ
هللا مــا معنــاه( :أجمــع العارفــون بــاهلل علــى أن الـــتوفيق هــو يف أل يكلك هللا إىل
نفســك ،وأن اخلــذالن هــو يف أن يكلــك إىل نفســك .وقــد جيتمــع يف العبد خذالن
150
وتوفيــق ،فيقــارن بينهمــا ،ويــدرك أن الــذي يمســك ســماء توفيقــه وهدايت ـ�ه
أن تقــع علــى أرض خذالنــه وضاللــه هــو الــذي يمســك الســماء أن تقــع علــى
حينئـــذ حاجتــه إىل أن يقــول يف كل ركعــة: ٍ األرض إال بإذنــه ،ويــدرك العبــد
ۡ
ــر ٰ َط ٱل ُم ۡس َ
ٱلص َّ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ ُ
ــتقِ َ
يم [ }٦الفاحتــة..]6،5 : {إِيــاك نع ُبــد َوِإيــاك نســتعِين ٥ٱهدِنــا ِ
ََ
ويعلــم العبــد حينئــ ٍـذ شــدة حاجتــه إىل التوفيــق يف كل نفــس وكل حلظـ ٍـة).
ّ
إذن إخــواين ،التوفيــق هــو يف أل يكلــك هللا إىل نفســك .مــا معــى هــذا
ُ
الــكالم؟ تصــور احليــاة واختب�اراتهــا كمجموعــة مــن احلفــر .أنــت قــد تعجــب
بقــدرات نفســك وذكائهــا ألنــك اســتطعت أن تتجــاوز بعــض هــذه احلفــر.
حتــس أن لديــك «قــدرات ذاتيـ�ة» تؤهلــك خلــوض أيــة جتربــة بنجــاح ،وتقول:
«-أنا لست من النوع الذي يضعف أمام الفنت»
ُ
« -أنا لست من النوع الذي يدع بسهولة»
ومثــل هــذه العبــارات مــن الثنـ�اء علــى جوانــب مختلفــة مــن شــخصيتك.
ًّ
شــعوريا بــيء مــن «االســتقاللية» عــن رحمــة هللا وتوفيقــه!: فتحــس ال
َ ۡ َّ
َ
ـن ل َي ۡطغـ ٰٓ
ـى [ }٦العلــق.]6 : { َكلآ إ ِ َّن ٱل ِإ ٰ
َ
نسـ َ
ُفي َع ِّرضـك هللا ِلـ ُـحفرة ،ويدعـك تعتمـد على قدرات نفسـك تلك (خليها
رو ًعا ،ألنك ُوكلت إىل نفسـك .فتعلم
تنفعك!) ،فتسـقط يف احلفرة سـقوطا ُم ّ
أن ال جنـاة وال جنـاح لـك إال بتعلقـك حببـل هللا تعاىل ،حبل رحمتـه وتوفيقه.
151
فتتــرأ مــن قدراتــك ،وتســتمد التوفيــق مــن هللا .وهــذا معــى التــرؤ
واالســتمداد .وتتجنــب ً
تمامــا قــول( :أنــا مــن النــوع) و(لســت مــن النــوع)..
ُ
بــل تــدرك أنن ـ�ا كلنــا بــا اســتثن�اء «مــن النــوع» الــذي ال يســاوي قشــرة
ٍّ َ
بصلــة إن َوكلنــا هللا إىل أنفســنا! فكــم مــن معــز بثب�اتــه أمــام الشــهوات وقــع
يومــا فيمــا لــم يتصــور أن يقــع فيــه ممــا كان يســتقذر فاعليــه! وكــم مــن مغـ ٍّ
ـر
بذكائــه انطلــى عليــه مــا ال ينطلــي علــى بســطاء النــاس..
لــذا ،فإنــا ندعــوا صبــاح مســاء بالدعــاء الثابــت عــن نبينـ�ا صلــى هللا عليــه
َ ُ َّ َ ُ َ
أصلــح يل شــأين كلـ ُـه وال ت ِكلــي إىل
حمتــك أســتغيث ِ
ُّ ُ َ وســلم( :يــا ُّ
يح يــا قيــوم بر ِ
َ َ
ـن). نفــي طرفــة عـ ٍ
قــد يتســاءل أحدنــا( :ال أســتغين عــن توفيــق هللا طرفــة عــن؟) يعــي
بمقــدار رمشــة عــن؟ نعــم ..انــظــــروا إخـــــواين إىل أفـــعــــال قــد ال تســتغرق
أكــر مــن رمشــة عــن ،يكلنــا هللا فيهــا إىل أنفســنا فيصــدر منــا أفعــال تــرك
ً ً
جرحــا عميقــا ســائر حياتن ـ�ا!
-قــد تغضــب فتقتــل برصاصــة أو طعنــة ســكني يف طرفــة عــن ،فيــرك ذلــك
أثـ ًـرا مدمـ ًـرا علــى حياتــك غــر مــا ينتظــرك يف آخرتــك.
ٌ
-زوج طلــق زوجتــه طلقتــن ،ويف طرفــة عــن ُي َطلقهــا الثالثــة فيفرتقــان بــا
عــودة ويتشــتت األوالد.
ً
-تنخــدع ملحتــال فتوقــع لــه علــى ورقــة أو تســلمه مــال يف طرفــة عــن فتفتقــر
بعــد عــز.
ُ
-تغضــب أبــاك أو أخــاك أو صديقــك بكلمــة جارحــة ختــرج يف طرفــة عــن تنــم
ـوء أخفيتـ�ه يف نفســك جتاههــم ،ومــا أصعــب الرتقيــع بعــد ذلك! عــن سـ ٍ
152
-تقــول كلمــة فيهــا اســتخفاف أو ســوء أدب مــع هللا تعــاىل حتبــط عملــك يف
طرفــة عــن.
ـف مريــب يف طرفــة عــن ،يــراك النــاس فيهــا فتســقط مــن -تكــون يف موقـ ٍ
أعينهــم وال يعــودون يتخذونــك قــدوة.
ِ -س ٌّر تبوح به يف طرفة عني جتر به مصيب�ة لغريك وتسلط عليهم بها ظالما.
-تدعــو علــى ولــدك يف طرفــة عــن ،مخالفــا بذلــك نهــي النــي عــن الدعــاء
علــى األبن ـ�اء ،فيقــع بــه مكــروه يالزمــه يف حياتــه.
وغريها الكثري.
تصرفــات تســتغرب أنــت وقوعهــا منــك ،كأنهــا إشــارات مــن هللا تعــاىل:
َ ُ ْ
أن انظــر مــاذا يكــون منــك إن ُوكلــت إىل نفســك وفــر حســك بضــرورة حاجتــك
إىل رحمــة ربــك يف كل طرفــة عــن.
ًّ
روتيني�ا: دعاء َ
لتدعو باضطرار ولهفة ،ال ً تذكر ذلك
(فال ِتكلين إىل نفيس طرفة عني).
وكأنهــا تذكــر مــن هللا تعــاىل ،أنــه حــى هــذه اآليــات واألحاديــث واملعــاين
153
ـرا ًّ
ذاتي ـ�ا ،بــل إن شــاء هللا نــزع أثرهــا فيــك وهــوت ســماء ال تؤثــر بنفســها تأثـ ً
صــرك وانشــراحك علــى أرض ضعفــك وخوفــك .وإن شــاء هللا جعــل آليـ ٍـة
ً جديــدا يف نفســك ً ً ً
عظيمــا كأنــك تســمعها ألول مــرة مــع أنــك وأثــرا وقعــا
ُ قرأتهــا قبــل ذلــك مئــات أو آالف املــرات .هــي َ
رجفــات تشــعرك باقــراب هــوي
ســمائك لــزداد جلـ ً
ـوءا.
وأرى أن ذلــك ممــا يســاعد يف فهــم قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم:
(إنــه ليغــان علــى قلــي ،وإين ألســتغفر هللا يف اليــوم مئــة مــرة) (مســلم)ُ .يغــان
بمعــى يتغــى القلــب مــا يتغشــاه ،وكأنها عــوارض تـعــــرض للنــي (رجفات)
ليت�ذكــر أن ثب�اتــه وطاقتــه ليســت ذاتي ـ�ة ،بــل مظهــر رحمــة ومعيــة مــن هللا
َ
تعــاىل فيتجــدد ت َب ُّصــره حباجتــه إىل ربــه ســبحانه يف كل طرفــة عــن.
وكذلــك صحابــة النــي صلــى هللا عليــه وســلم وصفهــم هللا يف غــزوة
ٗ َُ َ ُۡ َ ُۡ ۡ ُ َ َ ُۡ ُ ْ ۡ َ ٗ َ
ِيدا }١١ــزالا شــد األحــزاب بقولــه تعــاىل{ :هنال ِــك ٱبتلِــي ٱلمؤمِنــون وزل ِزلــوا زِل
[األحــزاب ..]11 :زلزلــة تكشــف لهــم أنهــم –وإن كانــوا خــر النــاس وأقواهــم
وأثبتهــم -فنفوســهم ضعيفــة إذا ُوكلــوا إليهــا.
ً
لــو أنــك كنــت مقبــا علــى تأثيــث بيــت وقــال لــك رجــل ثــري( :اشــر مــا
154
شــئت وال تســأل عــن الثمــن ،أنــا أســدد احلســاب) فستشــري بــا قلــق..
طويلــة كثــرا مــا كنــت أتســاءل( :كيــف يصــر املحبــوس لســنوات ً
ٍ
ُ ً
مثــا؟) وأخــاف أن أبتلــى بمثــل بلواهــم ،ألين أنظــر يف نفــي فــا أجــد فيهــا مــا
ُي َصربهــا كصربهــم.
ُ
أدركــت أن هــؤالء قــوم َّ
بلحظــات عســرة! زلزلــت
ٍ مــن هللا عليهــم ثــم
أركانهــم واســتخرجت كل مــا فيهــم مــن طاقــة فلــم جيدوهــا كافيــة ،فتــرؤوا
مــن قوتهــم واســتمدوا العــون مــن هللا ،أي أنهــم عرفــوا املفتــاح ،وحينئــ ٍـذ فهــم
كهــذا الــذي خيــوض أي غمــار ومعــه «شــيك مفتــوح» مــن غــي ،وهلل املثــل
األعلــى.
َّ
انظـر إىل ثبـ�ات الثابتين وتوفيـق املوفقين علـى أنهـا مظاهـر لرحمـة هللا
وقدرتـه ،وال تنشـغل عنهـا باإلعجـاب بشـخوصهم وبمدحهـم ،فـإن مدحهـم
ً ً ُّ
يغرهـم وينسـيهم شـيئ�ا فشـيئ�ا حقيقة أن مـا بهم هو محض توفيـق من هللا..
ً
بــدل أن تقــول« :مــا أصــر فالنــا» عــود نفســك أن تقــول« :مــا أعظــم
ً رحمــة هللا إذ َّ
صــر فالنــا».
يبـ�دوا كالــ ُـمقرين لنســبة النــاس الفضــل إىل ذواتهــم ،فيكلهم هللا إىل أنفســهم
فيسقطون.
ُ ِّ
كان الرجــل مــن أصحــاب النــي صلــى هللا عليــه وســلم إذا زكــي قــال:
(اللهــم ال تؤاخــذين بمــا يقولــون ،واغفــر يل مــا ال يعلمــون) (أخرجــه البخــاري يف األدب
املفــرد وقــال األلبــاين إســناده صحيــح).
دومــا إىل نفســه .كقولــه كل خــر حيصــل للعبــاد ينســب هللا الفضــل فيــه ً
ســبحانه:
َ
َ َٗ َ ُ ّ َ َُُۡ َ َ َ َ َ ۡ ُ َّ َ ۡ ُ
َ
َ { -ول ۡولا فضل ٱللِ عليك ۡم َو َرحمتهۥ ما زك ٰى مِنكم م ِۡن أح ٍد أبدا} [النور..]21 :
ك َو َر ۡحمَ ُت ُهۥ ل َ َه َّمت َّطآئ َفةّ ٞم ِۡن ُه ۡم أَن يُ ُّ َ
ضلوك} [النساء..]113 :
َ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ
{ -ولولا فضل ٱللِ علي
ِ ِ
خٰ ِسر َ ۡ
ُ ّ َ َ ُ َ ك ۡم َو َر ۡحمَ ُت ُ َ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ ُ
ين [ }٦٤البقرة..]64 : ِ ٱل ِنم م نتك ل ۥ ه { -فلولا فضل ٱللِ علي
فهــل هــذا لتعريــف العبــاد حبقــه ســبحانه فحســب؟ بــل أحســب أنــه
ً
تعــاىل يربينـ�ا أيضــا بذلــك ،فــاهلل تعــاىل غــي عــن العاملــن ،لكنــه تعــاىل يعطينـ�ا
مفاتيــح التوفيــق ويدلنــا علــى مــا ينفعنــا لنســتمد العــون منــه يف كل وقــت
وحــن وال نغــر بأنفســنا وقدراتن ـ�ا الــي لــو ُوكلنــا إليهــا لضللنــا وخســرنا ومــا
زكــت نفوســنا.
قــال ابــن القيــم( :فــإذا قــام العبــد باحلــق علــى غــره وعلــى نفســه أوال،
وكان قيامــه بــاهلل وهلل ،لــم يقــم لــه يشء ،ولــو كادتــه الســماوات واألرض
ً
ومخرجــا) (إعــام املوقعــن) ..انظــر واجلبــال لكفــاه هللا مؤنتهــا ،وجعــل لــه ً
فرجــا
ً
قولــه( :وكان قيامــه بــاهلل) ،أي معتمــدا عليــه وحــده ســبحانه.
156
فــأول ما يــقــــي عليه اجـــــــــــتهاده إذا لم يكن مـــــن هللا عــــون للـفــــــــى
ْ فتذكر:
ّ
تربأ من حولك وقوتك، ّ
ّ ُ ّ
واستمد العون ممن ال حد لق َّوته سبحانه وتعاىل.
157
ً ً
مصابــا بمتالزمــة داون ،فتعاملــت هــي وعائلتهــا ُر زقــت شــقيقيت ولــدا
َ ً ً
معــه تعامــا مليئــ�ا بالــدروس والعــر ..ثــم شــاء هللا أن ُيتــوىف الطفــل عــن
ً
ثــاث ســنني وثالثــة أشــهر .وكنــت بعيــدا عنهــم مقيــد احلريــة .فكتبــت
لشــقيقيت وعائلتهــا الرســالة التاليــة ،والــي أســأل هللا أن ينتفــع بهــا كل مــن
ً ً
ُيــرزق ولــدا مــن ذوي االحتي�اجــات اخلاصــة ،بــل وكل مبتلــى:
أخيت احلبيب�ة نادية ،أيخ احلبيب إياد ،فادي ،يزيد ،براء ،عمر..
وأعظــم هللا أجركمــا يف حبيبنــ�ا حمــوده .علمــت باخلــر أمــس ،فجاشــت يف
ُ
معــان كثــرة أحببــت أن أشــاطركم إياهــا ويف ختامهــا ســأزف لكــم
ٍ صــدري
بشــرى خبصــوص حمــوده.
ال زلــت أذكــر يــا ناديــة تلــك اللحظــة قبــل ثــاث ســنوات وثالثــة شــهور
حــن زرتــك يف املستشــفى ألبلغــك بالتدريــج حقيقــة أن مولــودك اجلديــد
ـت مـتـعـــبة مـــن
مصــاب بمتالزمــة داون ..ال زلــت أذكــر ثب�اتــك وهــدوءك وأنـ ِ
آثــــار العــــملية حــــن فـهـمـــت األمــــــــر فقلــت« :خــر إن شــاء هللا» ثم غريت
َ املوضــوع ،وكان لســان حالــك بعدهــا يقــول« :يــا ِّ
رب إن كنــت رضيتـ�ه يل فقــد
رضيــت بــه».
158
ال زلــت أذكــر يــا إيــاد حــن ســألتين« :هــل هــذا يعتــر ابتـ ً
ـلاء و لنــا عليــه
أجــر إن صربنــا؟» وكأنــك كنــت تقصــد أن مولــودك نعمــة وإن كانــت نعمــة
تامــة فليــس لــك أن تتعامــل مــع األمــر بغــر ذلــك .فأجبتــك :نعــم ،مرضــه غــر َّ
َ
ابتــلاء ولــك علــى الصــر عليــه أجر بــإذن هللا .فهــززت رأســك بصمــت واختذت
ً
أنــت أيضــا قــرار الصــر.
ـرا ً
عاديا، لكــن مــا بــدا منكمــا بعــد ذلــك أيخ و أخــي احلبيبــن لــم يكــن صـ ً
ً ً ً
رضــا وصـ ً
ـرا جميــا ،جميــا بمعــى الكلمة. بــل كان أكمــل وأعلــى ..كان
كان مــن املمكــن أن تصــرا علــى مضــض و تقدمــا حلمــوده احلــد األدىن
َّ
مــن الرعايــة الواجبــة وتتمني ـ�ا يف قلبيكمــا أن «تنتهــي املعانــاة» بوفاتــه ..ولــو
آثـمـني طـالـمـا ال جــــزع وال اعرتاض وال تقصري يف كان هـــذا حـــالكما لـمـــا كنتما َ
ً
حقيقيــا. الرعايــة األساســية .لكنكمــا أحببتمــا مولودكمــا اجلديــد ًّ
حبــا
ً
حــن علــم هللا منكمــا -فيمــا أحســبكما -رضــا بقضائــه ،أوجــد يف
َ ٓ ً
قلبيكمــا مــودة ورحمــة خاصــة لهــذا الطفــل ،مـــصداقا لقـــوله تعــاىل{ :مــا
ـي ٍءشۡ َّ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ ُ ّ َ
ٱلل بِــك ِل ـ
ۡ ۡ َّ ُّ َ َّ
يب ـ ٍة إِلا ب ِـإِذ ِن ٱللِۗ َو َمــن يُؤ ِم ـ ۢن بِــٱللِ يه ـ ِد قلبــه ۚۥ و أَ َصـ َ
ـاب ِمــن م ِص
ـرـم [ }١١التغابــن ،]11 :و قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم( :ومــن يتصـ ّ ْ َعل ِيـ ٞ
َّ
هللا) أحببتمــا حمــوده وتمنيتمــا أن َيعيــش. ّ
يصــره ُ
نادية ،ال زلت أذكر مشهد وأنت ترهشني حلركات حموده وكأنين أسمع
صوتك وأنت تضحكني له من أعماق قلبك وتقولني( :حمودي ..يا حيايت!)
ـت لــه
راحئــة مــن كل أوالد جيلــه ،نشــرت صــوره بفخـ ٍـر علــى الفيســبوك ،صممـ ِ
ـت مــع حمــوده ،فلــم تســتطيعي ً
حبسـ ِ أجمــل فيديــو ..كل هــذا مــع أنــك فعليــا ِ
اخلــروج مــن املــزل للزيــارات والــدروس والرحــات لتعتــي حبمــوده وتنفســه،
وكثــر مــن األيــام ترتدديــن فيهــا حبمــوده بــن األطبــاء واملستشــفيات،
وتت�ابعــن جلســات تعليــم النطــق وحتســن احلركــة حلمــوده.
كثريا حلركات األطفال يف هذا السـن ،لكنك حفلتإيـاد ،لـم تكن ترهـش ً
حبمـوده أكثر مـن غيره ..أنفقـت عليـه بسـخاء دون تـردد :عمليـة القلـب ،ثـم
عمليـة البطاريـة ،ثـم نفقـات العلاج والتأهيـل ..كل هذا بطيـب نفس.
وأنتمــا يف ذلــك كلــه تريــدان حلمــوده أن يعيــش ،أن يكــر ،أن يكــون أقــرب
مــا يمكــن لإلنســان الســوي ،وأن يبقــى بيننـ�ا.
يف حســابات الماديــن“ ،ضــاع” الكثــر مــن الوقــت والمــال واجلهــد علــى
حمــوده ..لكــن يف حســابات أهــل اإليمــان فــإن الوقــت والمــال والعاطفــة مــن
َّ ّ
ِن َعــم للا ،وحمــوده أمانــة اســرعاكما هللا عليهــا ،فأنتمــا ســخرتما نعمــة هللا يف
َ
رعايــة أمانــة هللا عندكمــا ،فلكــم بــكل مــا بذلتــم أجـ ٌـر بــإذن هللا.
لمــا أحببتمــا حمــوده بصــدق أحببنــ�اه كلنــا بصــدق ..لمــا نظرتمــا إليــه
كإنســان مهــم نظرنــا إليــه كلنــا كذلــك ..ثــم لمــا حزنتمــا علــى فقــده حزنــا كلنــا..
160
ً
جميعــا قــدوة ..الــدرس درســا ًّ
عمليــا كنتمــا لنــا فيــه ألنن ـ�ا تعلمنــا منكــم ً
أكــر بكثــر مــن حســن التعامــل مــع األوالد مــن ذوي االحتي�اجــات اخلاصــة،
ً
إنــه درس يف حتويــل األقــدار املؤملــة إىل مظهــر رضــا وتســليم ومزرعــة حســنات
َ
وهــو درس حيتاجــه كل مبتلــى .لقــد رحــل حمــوده ،لكــن درســه ســيبقى.
ُ ً
فاتــرا وأن تريــا فيــه مبســوطني كان يمكــن لعــزاء حمــوده أن يكــون
مســرحيني النتهــاء معاناتكمــا مــع حمــوده لكــن ليــس هــذا الــذي كان.
كــم فخــرت بــك يــا ناديــة حــن أخــرين مــراد أنــك بكيــت عنــد وفــاة حموده
ٌ
بــشــــدة ،ومــــع ذلــك مــــا كان لــــك قــول إال (احلمد هلل ،احلمــد هلل) تتصبرين
بها .
فخــرت بكمــا إيــاد وناديــة حــن عرفــت مــن أيم أن عــزاء حمــوده اســتمر
ً ً
أيامــا ،أكــر ممــا ُيعــزى بــأي طفــل ،و أن عــزاءه كان مشــهودا حضــره خلــق كثري..
أنــا حزيــن علــى حمــوده ،ومشــتاق لــه «حبيــب الشــعب» ،لكــي ســعيد
ًّ
لكمــا جــدا ،وأريــد منكمــا أن تكونــا ســعيدين ألنكمــا ،فيمــا أحســبكما وهللا
حســيبكما ،جنحتمــا يف اختبــ�ار حمــوده ،فأرجــو أنــه بينمــا كانــت الطبيبــ�ة
تكتــب شــهادة وفاتــه ،كانــت املالئكــة تســجل جناحكمــا ،بــل تفوقكمــا ،يف
صفحــة اختبـ�ار حمــوده ،ثــم طويــت هــذه الصحيفــة ،وارتفعــت إىل هللا تعــاىل
ُ
مــع روح حمــوده ..وستنشــر لكمــا هــذه الصحيفــة يــوم القيامــة ..أســأل هللا
ويثقــل موازينكــم.أن ُيبيــض بهــا وجوهكــم ُ
161
فاشــكرا هللا ً
كثــرا علــى أن وفقكمــا يف هــذه التجربــة واســأاله تعــاىل أن
َيتقبــل منكمــا.
َ
عزيز َّي إياد و ناديةً ،
ختاما ،إليكما البشرى:
حمــوده نرجــو أنكــم ســتلقونه يف اجلنــة بــإذن هللا تعــاىل ،فهــو
نفــس بشــرية ،واألنفــس حتيــا يــوم القيامــة وتبقــى مخلــدة ،وهــو مــن ٌ
ــم ،نرجــو أنكــم ســتلقونه يف اجلنــة بــإذن هللا.. أطفــال املســلمني .لــذاَ ،ن َع ْ
ً ً ً
مصابــا بمتالزمــة داون ،بــل ســيكون كامــا جميــا لكنــه لــن يكــون فيهــا
جبــــمال رضـــــاكما عـــــن قـــضـــــاء هللا حـــــن رزقكمــا إيــاه ..لــذا ،فاحرصــا
علــى العمــل الصالــح ونيــ�ل رضــا هللا تعــاىل ُليلحقكمــا بــه برحمتــه.
ً
أخــــــــــــــــــريا:
حموده ..رحل من الدني�ا قبل أن يتعلم النطق ،لكن لسان حاله يقول:
ُ
(بابا و ماما ،جئت يف حياتكما ملهمة:
صرب جميل..أن أستخرج منكما عبادة الرضا وأرسم معكما قصة ٍ
وأحــب أن أقــول لكمــا :أنكمــا جنحتمــا يف االختبــ�ار ..لــذا ،فــإن مهمــي قــد
انتهــت ،وســأرحل اآلن..
لكنن�ا سنلتقي بإذن هللا ..يف اجلنة..
محبكم :حموده).
إيــاد وناديــة ،أنــا فخــور بكمــا ،وأحبكمــا يف هللا علــى هــذا الــدرس العظيــم
الــذي أخجــل مــن نفــي أمامــه ،وأســأل هللا العظيــم أن جيمعنــا وأحبابن ـ�ا يف
اجلنــة مــع حبيــب الــكل حمــوده.
محبكم :إياد
163
y
3 مقدم ة
7 كيف تتخلص من اخلوف من املجهول؟
11 حني تعلم أن هللا يريد بك ً
خريا!
19 ًّ
حبشرطيا! ال تكن
22 ابن حبك هلل على أسس سليمة
27 هللا يتودد إلين�ا بالبالء
32 إن لم تستوقفك هذه اآليات فجدد محبتك!
37 احلمد هلل على أنه لم يعطين ما تمنيت!
41 ستفرج يف اللحظة املناسبة!
45 مذاقات ال توصف!
48 عند طبيب األسنان
50 فلنحب هللا ألنه الودود
53 لن ينبع الصرب من حنايا نفسك
57 الراحمون يرحمهم الرحمن
63 ال تكتئب
69 هللا لطيف بعباده
74 اشكر الذي سرت عيوبك عنهم!
78 يائس ..مستوحش ..قلق ..خائف
83 ّ
أتصب ّ
حبب هللا
86 لن تضيع وسط الزحام
89 علشاين
164
تعريف بالمؤلف