You are on page 1of 168

‫‪3‬‬

‫مقدمة‬
‫َ‬
‫كيف يمكنك ‪-‬أنت‪ -‬أن تقلب املحنة إىل منحة؟‬
‫ُ‬
‫تستمتع بنعمة البالء؟‬ ‫كيف‬
‫كيف يمكنك أن تعيش بسعادة مهما كانت الظروف؟‬
‫‪-‬أيا كانت‪ -‬بإجيابي�ة واستبشار؟‬ ‫كيف يمكنك التعامل مع األمور ًّ‬
‫كيف تعلق قلبك باهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فال ختاف سواه وال ترجو سواه؟‬
‫ً ُ‬
‫وروحا ال تقهر؟‬ ‫كيف تمتلك عزيمة ال تنكسر‪،‬‬
‫قلبــا سـ ً‬
‫ـليما حتــب‬ ‫طهــر قلبــك مــن العتــب علــى القــدر؛ فيصــر قلبــك ً‬ ‫كيــف ُت ّ‬
‫أن تلقــى هللا عــز وجــل بــه؟‬
‫ًّ‬
‫حـــــبا غـــــر مـــشــــروط ال يت�أثــر‬ ‫كيــف حتــب ربــك ‪-‬ســبحانه وتعــاىل‪-‬‬
‫با لظــر وف؟‬

‫‪-‬والكثري غريها‪ -‬ستجدها يف هذا الكتاب‪..‬‬


‫ِ‬ ‫اإلجابات عن هذه األسئلة‬
‫‪4‬‬

‫هللا سبحانه وتعاىل‪ ..‬خالقنا ورازقنا وحبيبن�ا‪ ،‬وسعت رحمته كل يشء ‪.‬‬
‫خلق عباده ليعبدوه ‪-‬ليطيعوه وحيبوه‪.‬‬
‫خلقهم وتودد إليهم بالعطايا والنعم‪ ..‬فهو الودود سبحانه‪..‬‬
‫وعمهم برحمته فهو الرحيم‪..‬‬ ‫خلقهم ّ‬
‫خلقهــم فلطــف بهــم وحلــم عنهــم علــى الرغــم مــن أخطائهــم‪ ..‬فهــو اللطيــف‬
‫احلليــم‪..‬‬
‫حيب أن يسمع صوت عبده املؤمن بالشكر يف السراء‪ ،‬والتضرع يف الضراء‪..‬‬
‫فإن غفل العبد عن ربه ابتلاه‪ ..‬لريده إليه فيسمع تضرعه ودعاءه وبكاءه‪.‬‬
‫وهو يف ابتلائه رحيم حكيم‪.‬‬
‫ُ‬
‫مــررت بظــروف صعبــة‪ ..‬لكــن هللا وفقــي إىل إحســان الظــن بــه تعــاىل‬
‫ً‬
‫ـردا وســـ ً‬ ‫وحبكمتــه ورحمتــه‪ .‬فــكان هللا تعــاىل عند ظــي َّ‬
‫ـاما‪.‬‬ ‫وحول نار البالء بـــ‬
‫كيــف ال وهــــو تعــاىل القائــل يف احلديــث القــديس‪(( :‬أنــا عنــد ظن عبــدي يب))‬
‫(رواه البخــاري)‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ـرا وتعمــل َع َمــل مــن هــذا ظنــه‪ ..‬تــرى‬
‫وإي وهللا‪ ،‬عندمــا تظــن بربــك خـ ً‬
‫منــه اخلــر كلــه‪.‬‬

‫إذا أيقنــت أن هللا تعــاىل قــادر علــى أن يقــذف يف قلبــك الســعادة والرضــا‬
‫والطمأنينـ�ة مهمــا كانــت الظــروف فإنــه تعــاىل ســيكون عنــد ظنــك بــه‪ ..‬فهــو‬
‫وحــده القــادر علــى إســعاد اإلنســان وإشــقائه‪ ،‬إذ هــو القائــل ســبحانه‪َ { :‬و َأنَّـ ُ‬
‫ـهۥ‬
‫ُ َ َ ۡ َ َ ََۡ َ‬
‫كـ ٰ‬
‫ـى ‪[ }٤٣‬النجــم‪.]43 :‬‬ ‫هــو أضحــك وأب‬

‫ًّ‬
‫نعــم‪ ،‬أنعــم هللا عــز وجــل علـ َّـي مــن خــال البــاء بنعــم كثــرة جــدا‪ .‬كنــت‬
‫أكتــب هــذه املنــح الــي أكتشــفها علــى ورقــة علــى شــكل نقــاط‪ ..‬كــم كنــت‬
‫أســتمتع وأنــا أكتبهــا ثــم أراجعهــا وأتأملهــا! وبعدمــا فــرج هللا عــي اكتشــفت‬
‫‪5‬‬

‫هدايــا عظيمــة غريهــا‪.‬‬


‫ُ‬
‫فوجــدت مــن العرفــان واالمتنـ�ان لــريب الرحمن أن أحــدث إخــواين وأخوايت‬
‫معــا فـ َّـن (إحســان الظــن بــاهلل‬
‫عــن يشء مــن هــذه النعــم الكثــرة‪ ،‬حــى نتعلــم ً‬
‫عز وجــل)‪..‬‬

‫ح ّ‬ ‫ۡ‬
‫َۡ َّ َ‬
‫ــك ف َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫ــدِث ‪[ }١١‬الضــى‪ .]11 :‬وكل مــا ســتجدونه يف هــذا‬ ‫{وأمــا بِن ِعمــةِ رب ِ‬
‫الكتــاب هــو بسـ ٌـط لبضعــة نقــاط فقــط مــن النقــاط الكثــرة الــي أحصيتهــا‪.‬‬

‫إخــواين وأخــوايت‪ ،‬انظــروا إىل حســن ظــن أهــل الكهــف بربهــم عندمــا‬
‫ون إلَّا َّ َ َ ۡ ْ َ ۡ َ ۡ‬ ‫ۡ َ َ ُۡ ُ ُ ۡ َ َ َ ۡ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ـف} [الكهــف‪..]16 :‬‬ ‫ٱلل فــأ ُو ٓۥا إِلــى ٱلكهـ ِ‬ ‫قالــوا‪{ :‬وِإذِ ٱعتزلتموهــم ومــا يعبــد ِ‬
‫(الكهــف)‪ ..‬مــكان مظلــم موحــش بعيــد طريقــه وعــرة فــــيـــــه‬
‫احلـــشـــــرات وربـــــما العـــــقارب واحليات‪ ..‬ال ماء وال خضراء‪ ..‬لكن قدرة هللا‬
‫َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُّ ُ ّ َّ ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُْۡٓ َ ۡ َ‬ ‫ً‬
‫ـف ينشــر لكــم ربكــم ِمــن رحمت ِـهِۦ‬ ‫تعــاىل تقلبــه شــيئ�ا آخــر‪{ :‬فــأوۥا إِلــى ٱلكهـ ِ‬
‫َٗ‬ ‫ََُّ ۡ َ ُ ّ ۡ َ ُ‬
‫ـن أ ۡم ِركــم ّم ِۡرفقــا ‪[ }١٦‬الكهــف‪ ..]16 :‬حـ َّـول هللا عــز وجل‪-‬بقدرتــه‬ ‫ويهيِــئ لكــم ِمـ‬
‫ً‬
‫ورحمتــه‪ -‬الكهــف مكانــا لألنــس والرفــق والرحمــة واليســر‪.‬‬

‫يــا إخــويت‪ ..‬وهللا إن ربكــم تعــاىل كريــم‪ ..‬كريــم‪ ..‬فتعالــوا نتعرف علــى ربن�ا‬
‫مــن خــال أفعالــه بعبــاده لــرى عظمــة الــرب الــذي نعبــده‪ ..‬تعالــوا نتعــرف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫علــى هللا تعــاىل لنحســن الظــن بــه مهمــا قــدر علين ـ�ا وفعــل بن ـ�ا‪{ ..‬ف َع َســ ٰٓى أن‬
‫ـرا َكثِيـ ٗ‬
‫ـرا ‪[ }١٩‬النســاء‪.. ]19 :‬‬ ‫ٱلل فِيـهِ َخ ۡيـ ٗ‬ ‫َ ۡ َ ُ ْ َ ۡٗ ََ ۡ َ َ‬
‫ـل َّ ُ‬
‫تكرهــوا شيـٔــا ويجعـ‬

‫تعالوا نأنس باهلل ونأوي إىل كنفه وحنيي قلوبن�ا ونعطر مجالسنا بذكره‪.‬‬

‫أســأل هللا العظيــم رب العــرش الكريــم أن ينفعــي وإياكــم بهــذا الكتــاب‬


‫ويزيــد بــه حبنـ�ا لــه ســبحانه‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫كيف تتخلص من الخوف من المجهول؟‬

‫تصــور معــي ‪ :‬أنــه جاءتــك هدايــا‪ ،‬وأنــت تعــرف أنهــا هدايــا عظيمــة‬
‫وقيمــة‪ ،‬لكــن بعــض هــذه الهدايــا جــاء يف غــاف جميــل وبــراق‪ ،‬والبعــض‬
‫اآلخــر جــاء يف غــاف قبيــح‪ ،‬هــل يهمــك كثـ ً‬
‫ـرا شــكل األغلفــة إذا علمــت أن‬
‫الهدايــا الــي يف الداخــل هدايــا ثمينــ�ة وقيمــة وعظيمــة؟‬

‫كذلــك إذا علمــت أن كل مــا ســيحصل يف املســتقبل بمقــدورك أن جتعلــه‬


‫ملصلحتــك‪ ،‬فلــن يهمــك كثـ ً‬
‫ـرا أن يكــون يف غــاف محنـ ٍـة أو يف غــاف منحــة‪،‬‬
‫فأنــت مــن يقــرر مــا ســيكون عليــه‪.‬‬

‫لماذا خياف الناس عادة ويقلقون؟ ألن املستقبل مجهول بالنسبة لهم‪.‬‬
‫هــذا اخلــوف ينغــص علــى أهــل الدنيـ�ا ســعادتهم مهمــا كان عندهــم مــن نعيــم‬
‫الدنيـ�ا ألنهــم خيشــون أن يــزول هــذا النعيــم وتتبـ�دل األحــوال‪.‬‬

‫ً‬
‫فصاحــب المــال قــد يفتقــر‪ ..‬صاحــب الصحــة قــد يمــرض مرضــا‬
‫ً‬ ‫ـروع‪ ..‬املحــب إلنســان ًّ‬ ‫ً‬
‫مزمنــا‪ ..‬الطليــق قــد ُيبــس‪ ..‬اآلمــن قــد ُيـ َّ‬
‫حبــا شــديدا‬
‫قــد يمــوت حبيبــ�ه‪.‬‬

‫إذن‪ ..‬أتريــد أن تعــرف كيــف تتخلــص مــن اخلــوف مــن مجهــول‬


‫ا ملســتقبل ؟‬
‫ً‬
‫ببساطة‪ :‬اختذ قرارا بالرضا عن فعل هللا سبحانه بك مهما كان‪.‬‬

‫الحــظ‪ :‬الرضــا يقــع بعــد احلــدث‪ ،‬وهــو نتـ�اج أشــياء تفعلهــا قبــل احلــدث‬
‫فيأتيــك الرضــا يف وقــت حاجتــه‪ ..‬لذلــك كثـ ً‬
‫ـرا مــا ُيطــرح التســاؤل‪( :‬الرضــا‬
‫‪8‬‬

‫مــن أفعــال القلــوب الــي ال يملــك اإلنســان إيقاعهــا‪ ،‬ومــع ذلــك فهــو مطلــوب‬
‫منــه‪ ..‬كيــف؟!)‪.‬‬
‫واجلــواب أن الــذي تســتطيعه هــو توطــن نفســك علــى الرضــا‪ ،‬والعمــل‬
‫بطاعــة هللا حبيــث يرزقــك الرضــا عنــد حاجتــك إليــه‪.‬‬

‫كلمــا جــاءك هاجــس اخلــوف مــن املجهــول جــدد العهــد والوعــد بــأن تــرىض‬
‫ـاكرا صابـ ًـرا‪ ..‬و ِثــق يف معونــة هللا لــك‪.‬‬ ‫وتكــون شـ ً‬
‫ً‬
‫إذا فعلــت ذلــك فلــن ختــاف مــن املســتقبل ألنــه مــا عــاد مجهــول‪ ،‬بــل‬
‫أصبــح صفحــة مكشــوفة لــك! كيــف؟ ببســاطة‪ ،‬أنــت اآلن بعــد اختــاذ هــذا‬
‫القــرار فإنــك علــى يقــن بــأن كل مــا حيصــل هــو خــر لــك‪ .‬ألــم يقــل النــي صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ َّ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫(ع َج ًبــا َأل ْمــر ُ‬
‫الم ْؤمــن‪ ،‬إن ْأم َــر ُه ُكل ُــه خ ْ ٌ‬ ‫َ‬
‫ــن‪ ،‬إن‬‫ِ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫إل‬ ‫ــد‬
‫ٍ‬ ‫ح‬‫أل‬ ‫ذاك‬ ‫وليــس‬ ‫‪،‬‬ ‫ــر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ـكان َخـ ْ ً‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ـكان َخـ ْ ً‬
‫ـرا لــه)‬ ‫ـرا لــه‪ ،‬وإن أصابتـ�ه ضــراء‪ ،‬صــر فـ‬ ‫أصابتـ�ه ســراء شــكر‪ ،‬فـ‬
‫(رواه مســلم)‪.‬‬

‫ـرارا بالشــكر يف الســــراء والصــر يف الضــراء ال تقــل‪:‬‬ ‫إذن فبعــد أن تتخــذ قـ ً‬


‫ـص كالم النــي صلــى‬ ‫ـرا أم شـــ ًـرا)‪ .‬فـب َـنــ ّ‬
‫(ال أدري إن كان املســتقبل حيمــل يل خـ ً‬
‫ِ‬
‫هللا عليــه وســلم املســتقبل ال حيمــل لــك يف هــذه احلالــة إال خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫ـدارا مجهولــة تتقاذفــك‬ ‫حســك أقـ ً‬ ‫اجلميــل يف األمــر هنــا أن املســألة لــم تعــد يف ِّ‬
‫يف وديــان الضيــاع‪..‬‬
‫لــم يعــد ُم ِه ًّمــا ظواهــر األمــور‪ :‬فقــر أم غــى‪ ،‬صحــة أم مــرض‪ ،‬بقــاء األحبــاب‬
‫أم وفاتهــم‪..‬‬
‫أنــت! أنــت مــن ســيجعل هــذا كلــه يــؤول إىل مصلحتــك وخــرك بــإذن هللا‪ ..‬مــا‬
‫عليــك إال اختــاذ قــرار الشــكر والصــر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال تقــل (حــى لــو اختــذت قـ ً‬
‫ـرارا بالرضــا والصــر‪ ،‬قــد يقــدر هللا علـ َّـي أال‬
‫‪9‬‬

‫ۡ‬ ‫ُّ َ َّ‬


‫يبـ ٍة إِلا بِـإِذ ِن‬ ‫أصــر)‪ ،‬بــــل تـــذكر أن هللا ســبــحــانــــه قـــال‪َ {:‬ما ٓ أَ َصـ َ‬
‫ـاب ِمــن م ِص‬
‫ـي ٍء َعل ِيـ ‪ٞ‬‬‫َّ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ ُ ّ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬
‫ـم ‪[ }١١‬التغابــن‪ ..]11 :‬هــذه‬ ‫شۡ‬
‫ٱلل بِــك ِل ـ‬ ‫ٱللِۗ َو َمــن يُؤ ِم ـ ۢن بِــٱللِ يه ـ ِد قلبــه ۚۥ و‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫ـان عظيمــة‪ ،‬منهــا أن الــذي ُي َســلم أمــره هلل ســبحانه مؤمنــا بــه‬
‫اآليــة حتمــل معـ ٍ‬
‫ًّ‬
‫حقــا فــإن هللا تعــاىل ســيهدي قلبــه ويثبتــ�ه ويعينــ�ه‪ .‬فالرضــا والصــر آثــار‬
‫المتــاء القلــب باإليمــان بــاهلل تعــاىل والتســليم لــه‪.‬‬

‫ً‬
‫أيضــا يعالــج لــك هــذا اخلــوف رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم الــذي‬
‫ـر ُيصـ ّ ْ‬
‫ـره ُ‬
‫هللا) (رواه مســلم)‪.‬‬ ‫قــال‪( :‬ومــن يتصـ َّ ْ‬
‫إذن بــادر أنــت واختــذ القــرار وال تقــل قــد ُيقــدر هللا علــي بعــد ذلــك أال‬
‫أصــر‪ .‬فــاهلل أحلــم مــن ذلــك وأرحــم‪ .‬وقــد جعــل ســبحانه للصــر ُعـ َّـد ًة وأسـ ً‬
‫ـبابا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫مــن الزمهــا أمــده ربــه بالصــر والســكين�ة والطمأنينــ�ة‪ ،‬ف ِب َع َم ِلــك تســتمد‬
‫التصبــر مــن هللا‪ ،‬وليــس هــذا ً‬
‫خارجــا عــن مقــدورك‪.‬‬

‫قــد تقــول‪( :‬أحــاول أن أختــذ القــرار بالرضــا‪ ،‬لكــي أحــس بعــدم الصدق يف‬
‫ً‬
‫ذلــك ألين أخـــــاف أن يكــون الــبــــاء شــديدا ال يمكنــي حتمله)‪ .‬ســنتعاون على‬
‫ً‬
‫التخلــص مــن هــذا اخلــوف أيضــا عندمــا نت�أمــل شــيئ�ا مــن حكمتــه وإعانتـ�ه يف‬
‫صفحــات قادمة بــإذن هللا‪.‬‬

‫قــد تقــول‪ :‬أنــا اآلن أســتطيع اختــاذ القــرار ألين أحــب هللا تعــاىل‪ .‬لكــن إذا‬
‫ً‬
‫عظيمــا فأخــى أن تت�أثــر هــذه املحبــة‪ ..‬ســنتعاون أيضا إن شــاء‬ ‫ابتــلاين ابتـ ً‬
‫ـلاء‬
‫هللا علــى إعــادة بن ـ�اء محبتن ـ�ا هلل تعــاىل علــى أســس ســليمة كــي نطمــن إىل‬
‫معيت ـ�ه ومعونت ـ�ه مهمــا كانــت الظــروف‪.‬‬

‫املطلــوب منــك اآلن أن تثــق وتؤمــن وتوقــن حبكمــة هللا ورحمتــه‪ ،‬فتتخــذ‬
‫القــرار بالرضــا‪ ،‬واملقصــود بالرضــا‪ :‬الــــرضا الكامــل التــام الــذي ال تشــوبه‬
‫‪10‬‬

‫شــائب�ة‪ ،‬املنــايف للتســخط على هللا ســبحانه واالعــراض على حكمتــه وأفعاله‪،‬‬
‫وليــس املقصــود هنــا عــدم التأثــر بمــا يقــع عليــك مــن مكــروه أو محبــة ذلــك‬
‫ـاف لفطــرة اإلنســان‪ ،‬فمــن ابتلــي بمــوت عـزيـــز عليــه فـــمن‬ ‫املكــروه‪ .‬فهــذا منـ ٍ‬
‫الطــبــيــــعي أن حيـــزن ويت�ألــم‪ ،‬ولكنــه ال يتســخط علــى القــدر ويعــرض علــى‬
‫ربــه ســبحانه بمثــل (لمــاذا أبتلــى أنــا) و(مــاذا فعلــت حــى يقــع يل ذلــك)‪ ،‬علــى‬
‫ســبي�ل االعــراض! بــل يـحمـــد ربــــه سبـحـــانه ويصــر‪ ،‬فينـ�ال األجــر والثــواب‬
‫مــع لــذة الرضــا والطمأنينــ�ة‪ ..‬وقــد كان مــن أدعيــة النــي صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم‪( :‬وأســألك ِّ‬
‫الرضـ َ‬
‫ـاء بعــد القضــاء) (رواه النســايئ وصححــه األلبــاين)‪.‬‬

‫َّ‬
‫املطلــوب منــك عندمــا تضــع رأســك لتن ـ�ام وتقــول الدعــاء الــذي عل َمنــا‬
‫نبينـ�ا‪(( :‬اللهــم أســلمت نفــي إليــك وفوضــت أمــري إليــك))‪ .‬أن تقولها‬ ‫إيــاه ُّ‬
‫ً‬
‫بيقــن مطلــق وتســليم تــام‪ ،‬لتكــون مشــمول باخلطــاب الــذي وجهــه الرحــــمن‬
‫ّ َ َ َّ َ َ ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫الرحـــــيم إىل نبيـ�ه حيــث قــال‪َ { :‬وٱصبِــر لِحُك ـ ِم َربِــك فإِنــك بِأع ُينِنــاۖ} [الطــور‪:‬‬
‫‪ .]48‬أي‪ :‬ال ختــف‪ ،‬أنــت يف حفظنــا ورعايتنـ�ا يكتنفــك حلمنــا ولطفنــا‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫اختذ ً‬
‫قرارا بالرضا عن ربك يف كل أمر‪،‬‬
‫لتتخلص من اخلوف من املجهول إىل األبد بإذن هللا‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫خيرا!‬
‫حين تعلم أن هللا يريد بك ً‬

‫وهللا يــا إخــواين ال أظــن أن هنــاك شـ ً‬


‫ـعورا أجمــل مــن هــذا تعيــش بــه يف‬
‫حياتــك! الشــعور بــأن هللا يريــد بــك خـ ً‬
‫ـرا مهمــا قــدر عليــك وفعــل بــك‪ ..‬فكلــه‬
‫ملصلحتــك‪ ..‬وقــد ال تســتيقن مــن هــذا الشــعور إال مــن خــال الباليــا !‬

‫وأنــت يف عافيــة مــن أمــرك غــر مبتلــى‪ ،‬تعيــش حيــاة شــبه كاملــة‪..‬‬
‫قــد ينعــم هللا عليــك بالنعــم الدنيويــة كلهــا‪ ..‬فتســأل نفســك‪( :‬هــل هــذا مــن‬
‫عاجــل إنعــام هللا علــي‪ ،‬مــع مــا ادخــر يل مــن ِن َعـ ٍـم يف اآلخــرة؟ أم أنــه اســتدراج‪،‬‬
‫يوفيــي هللا حســايب يف الدنيــ�ا ويعاقبــي يف اآلخــــرة علــى تـــقصريي؟) وقــد‬
‫ً‬
‫يكــون هــذا الشــك مقلقــا بالنســبة لــك‪.‬‬

‫ورأيــت عالمــات أن هللا أراد بــك يف هــذا البــاء ً‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬


‫خــرا‪،‬‬ ‫فــإذا ابتليــت‬
‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ‬
‫قصــرت يف حقــه تعــاىل لكنــه احلليــم‪..‬‬ ‫ملتــك البهجــة وقلــت لنفســك‪( :‬لقــد‬
‫ـرا ال ألين أســتحق منــه ذلــك‬‫يعاملــي حبلمــه وكرمــه ال بمــا أســتحقه‪ .‬أراد يب خـ ً‬
‫كلــه ولكــن ألنــه أهــل املغفــرة واللطــف واحللــم والرحمــة والكــرم)‪.‬‬

‫لكن السؤال الذي يطرح نفسه‪:‬‬


‫كيف أعرف إن كان هللا يريد يب ً‬
‫خريا أم ال؟‬
‫هل يا ترى بكمال الصحة وكرثة المال واألمن من املصائب الدنيوية؟‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫ال‪ ..‬أبــدا! هــذا كلــه ليــس دليــا علــى إكــرام هللا لــك وال علــى أنــه أراد بــك‬
‫َ َ َّ ۡ َ ٰ ُ َ َ ۡ َ َ ٰ ُ َ ُّ ُ َ َ ۡ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫ً‬
‫ـهۥ ف َيقــول‬ ‫خــرا‪ .‬قــال تعــاىل‪{ :‬فأمــا ٱل ِإنســن إِذا مــا ٱبتلىــه ربــهۥ فأكرمــهۥ ونعمـ‬
‫ـن ‪}١٦‬‬ ‫ـ‬
‫ۡ َ ُ َ َُ ُ َ ّ ٓ َ ََٰ‬
‫ن‬‫ه‬ ‫أ‬ ‫ـي‬‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ـول‬
‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ي‬‫ف‬ ‫ۥ‬ ‫ـه‬
‫ـ‬ ‫ق‬‫ز‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ـ‬ ‫ـد َر َعلَ ۡ‬
‫ي‬ ‫ك َر َمــن ‪َ ١٥‬وأَ َّمــا ٓ إ َذا َمــا ۡٱب َتلَىٰـ ُ‬
‫ـه َف َقـ َ‬ ‫َّ ٓ َ ۡ‬
‫ربِــي أ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[الفجــر‪ ..]16،15 :‬يعــي كثــر مــن النــاس َيعتــر أن إعطــاء هللا لــه مــن ِن َعـ ِـم الدنيـ�ا‬
‫‪12‬‬

‫دليــل علــى محبــة هللا لــه ورضــاه عنــه وأن لــه كرامــة عنــد هللا‪ .‬بينمــا إذا ابتــلاه‬
‫بالفقــر يعتــر ذلــك داللــة علــى إهانــة هللا لــه وأن هللا أراد بــه شـ ًـرا‪ .‬إذن يعتــر‬
‫اإلعطــاء واملنــع مــن نعيــم الدنيــ�ا مقيــاس رضــا هللا وســخطه علــى العبــد‪،‬‬
‫محبتـ�ه وكراهيتـ�ه للعبــد‪ ..‬إرادتــه اخلــر أو الشــر بالعبــد‪ .‬فجــاء الــرد مــن هللا‬
‫َ َّ‬
‫تعــاىل علــى هــذه النظــرة بكلمــة‪{ :‬كلاۖ} [الفجــر‪ ..]17 :‬أي ليــس العطــاء واملنــع‬
‫مــن الدني ـ�ا هــو املقيــاس‪.‬‬

‫ِيهــا َما ن َ َشــا ٓ ُء ل َِمــن نُّر ُ‬ ‫ـة َع َّج ۡل َنــا لَـ ُ‬


‫ـهۥ ف َ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ ۡ َ َ َ‬
‫يد‬‫ِ‬ ‫جلـ‬ ‫وقـــال تـــعاىل‪{ :‬مــن كان ي ِريــد ٱلعا ِ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫ـم يَ ۡصلَى ٰ َهــا َم ۡذ ُم ٗ‬
‫ومــا َّم ۡد ُحـ ٗ‬ ‫ـم َج َع ۡل َنــا لَـ ُ‬
‫ُثـ َّ‬
‫ـد}‪..‬‬ ‫ـورا ‪[ }١٨‬اإلســراء‪{ ..]18 :‬كلا نمـ ُّ‬
‫ِ‬ ‫ـهۥ َج َه َّنـ َ‬
‫املؤمنــن والكافريــن‪ ،‬األبــرار والفجــار‪ ..‬الــكل ينـ�ال نصيبـ�ه مــن عطــاء ربــك يف‬
‫ََ َ َ َ َ ُٓ َّ َ‬
‫ـك َم ۡح ُظـ ً‬
‫ـورا ‪[ }٢٠‬اإلســراء‪.]20 :‬‬ ‫الدنيـ�ا‪{ ..‬ومــا كان عطــاء ربِـ‬

‫إذن ما هو املقياس لتعرف إن كان هللا يريد بك ً‬


‫خريا؟‬
‫قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬وإن هللا يعطــي الدني ـ�ا مــن حيــب‬
‫ِّ‬
‫ومــن ال حيــب‪ ،‬وال يعطــي الديــن إال ملــن أحــب)) قــال أحمــد شــاكر يف عمــدة‬
‫التفســر‪ :‬إســناده صحيــح)‬

‫نعم! إذن اإليمان هو املقياس‪..‬‬

‫فــإن وجــدت البــاء قــد َق َّر َبــك إىل هللا‪ ،‬فاعلــم أنــه ســبحانه أراد بــك ً‬
‫خريا‪..‬‬
‫ْ‬
‫ـدارك َ‬
‫نفســك قبل‬ ‫وإن وجــدت البــاء أبعــدك عنــه ســبحانه فاحلــذر احلــذر! تـ‬
‫أن تكــون مــن املحجوبــن‪.‬‬

‫ُ‬
‫إذا وجــدت نفســك تبتلــى بمــا لــم يكــن يف حســابك‪ ،‬ومــع ذلــك ُيــزل هللا‬
‫عليــك الســكين�ة‪ ..‬فقــد أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫‪13‬‬

‫وع َص َمــك مــن العتــب علــى أقــداره‪ ..‬فقــد‬ ‫إذا وفقــك هللا إلحســان الظــن بــه‪َ ،‬‬
‫أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫إذا مـ َّـرت بــك حلــــظات يف بـــائك تـعـــيش فـــيها مـــع القـــرآن بســعادة رغــم كل‬
‫يشء وتدمــع عين ـ�اك مــن محبــة هللا واالمتن ـ�ان لــه‪ ..‬فقــد أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫ُ ْ‬
‫إذا َصغ َــرت يف عينــك تهديــدات املخلوقــن وعلمــت أنهــم عبيــ�د مقهــورون‬
‫حتــت ســلطان اجلبــار القهــار ســبحانه‪ ،‬فلــم تعــد ترجــو خـ ً‬
‫ـرا إال منــه تعــاىل وال‬
‫ختــاف إال منــه تعــاىل‪ ..‬فهــذا كلــه داللــة علــى أن هللا تعــاىل أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫إذا وفقــك هللا إىل أن تســتغل وقتــك يف بالئــك فيمــا ينفعــك يف دينــك ويقربــك‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أحــرارا معافيــن‪ ،‬إال أنهــم‬ ‫مــن ربــك‪ ،‬بينمــا كثــر مــن النــاس يظهــرون‬
‫محبوســون يف أهوائهــم وأوهامهــم وشــهواتهم وشــكوكهم ومــرىض بهــا!‪..‬‬
‫فإنــه تعــاىل مــا اختــارك مــن بينهــم خلدمــة دينــ�ه إال ألنــه أراد بــك ً‬
‫خــرا‪.‬‬
‫ْ‬
‫إذا سـ َـب َحت روحــك يف ملكــوت هللا وطافــت حتــت العــرش مــع أن جـســـمك‬
‫ٌ‬
‫وراء القـضـــبان أو أثـقـــله مـــرض‪ ..‬فإنــه تـعـــاىل مــا تركهــا حتلــق وتتحــرر إال ألنه‬
‫أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬

‫فالســكين�ة‪ ،‬والرضــا والصــر واالمتنــ�ان هلل والعرفــان لــه باجلميــل وتعلــق‬


‫القلــب بــه وعــدم اخلــوف والرجــاء إال منــه واألنــس بــه وخدمــة دين ـ�ه‪ ..‬هــذه‬
‫كلهــا مــن معــالــــم اإليمــان‪ ..‬ال يعطيهــا تعــاىل إال ملــن أحــب‪ ..‬فــإن أعطــاك‬
‫إياهــا فاعلــم أنــه أراد بــك خـ ً‬
‫ـرا‪.‬‬
‫فهــل مــن املعقــول أنــه يبتليــك ويرضيــك ألنــه يريــد بــك شـ ًـرا؟! ال وهللا! بــل مــا‬
‫صــرك ورضــاك بالقــدر إال ألنــه يريــد بك خـ ً‬
‫ـرا‪..‬‬

‫أيخ‪ ،‬أختي‪ ..‬أنـت مـن ختتـار لنفسـك‪ :‬إن كنـت عندمـا تبتلـى تنشـغل‬
‫بطاعـة هللا وال تنطـق شـفتاك إال حبمـده والرضـا عـن قضائه فاهلل قـد أراد بك‬
‫خريا‪ ..‬وحينئ�ذ سـتحقق السلام الداخلي مع نفسـك‪ ،‬والسلام مع هللا تعاىل‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪14‬‬

‫ّ‬
‫وإن كـنـــت ‪-‬ال قـــدر هللا‪ -‬تـسـخـــط أو تـعـتـــب عـلـــى الـقـــــدر أو تنشغل‬
‫باألحــزان واملخــاوف والتوجــس مــن املســتقبل والتشــكك يف حكمــة هللا‬
‫والعيــاذ بــاهلل‪ ..‬فقــد اخــرت الطريــق اخلطــأ‪ .‬قــال ابــن القيــم‪( :‬مــن أراد مــن‬
‫العمــال أن يعــرف قــدره عنــد الســلطان فلينظــر مــاذا يوليــه مــن العمــل‪ ،‬وبــأي‬
‫شــغل يشــغله)‪.‬‬

‫وأنــت كذلــك‪ ..‬انظــر بمــاذا يشــغلك هللا ويف أي عمــل يســتعملك لتعــرف‬
‫خــرا أم ال‪ .‬فــإن رأيــت مــن نفســك مــا ال‬‫قــدرك عنــده وإن كان قــد أراد بــك ً‬
‫يســر فســارع إىل التوبــة‪ ..‬فــإن ُو ِّفقــت إليهــا فاعلــم أن هللا قــد أراد بــك خـ ً‬
‫‪bbb‬‬
‫ـرا‪.‬‬

‫ما أجمل أن تعيش بشعور أن هللا حيبك !‬


‫حــن تتخــذ القــرار بالرضــا‪ ،‬ســتلمس أن هللا تعــاىل حيبــك‪ ،‬ألنــه ســبحانه كمــا‬
‫يف احلديــث الــذي ذكرنــاه‪(( :‬ال يعطــي اإليمــان إال ملــن أحــب))‪ .‬فالرضــا‬
‫َْ‬
‫إيمــان‪ ،‬إن ُحزتــه فــإن هــذا مــن عالمــات محبــة هللا لــك‪.‬‬
‫حينئـــذ كيــف ســتنظر بإجيابيــ�ة إىل مــا يقضيــه هللا تعــاىل لــك‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫انظــر‬
‫وم َّرهــا هــو حبيبــك الــذي حيبــك‪ :‬هللا‬‫فالــذي يقــي هــذه األمــور ُح َلوهــا ُ‬
‫ســبحانه وتعــاىل‪.‬‬

‫فــإن قــى لــك باملــرض فـــإنما يأتيــك هــذا القضــاء ممــن حيبــك‪ ،‬وال‬
‫تعـ ُ‬
‫ـارض‪ ..‬وإن قــى لــك بوفــاة عزيـ ٍـز عليــك فإنمــا يأتيــك هــذا القضــاء ممــن‬
‫حيبــك كذلــك‪.‬‬

‫َ ُّ‬
‫يطمـ ِـن إىل‬ ‫لكــن العبــد املؤمــن ال بــد لــه مــن اخلــوف مــع الرجــاء‪ ..‬فكيــف‬
‫ـت مــن هللا؟‬
‫أن هــذه الباليــا ليســت عالمــات مقـ ٍ‬
‫‪15‬‬

‫َّ‬
‫إن ردة فعلــك عنــد البــاء هــي الــي حتــدد‪ :‬فــإن أقبلــت علــى هللا ســبحانه‬
‫ورضيــت وصــرت‪ ،‬فإنــك تســتديم هــذه املحبــة الــي ظهــرت لــك أماراتهــا مــن‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قبـ ُـل وتــزداد بهــا وثوقــا‪ .‬ويكــون حرصــك علــى اســتدامتها واألنـ ِـس ُبطمأنينتهــا‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫معينـ�ا لــك علــى هــذا الصــر والرضــا‪ .‬لكــن إن بادرتهــا بالتســخط فــا تنـ�ال إال‬
‫الســخط! فاجعــل خوفــك مــن تضييــع الــود الــذي بينــك وبــن هللا‪ ،‬والوقــوع‬
‫ً‬ ‫َ‬

‫‪bbb‬‬
‫مــن ثـ َّـم يف الوحشــة‪ ..‬اجعــل خوفــك هــذا حاجــزا لــك عــن الســخط‪.‬‬

‫يف إحــدى زيــارات شــقيقيت يل يف الســجن قالــت يل أنهــا ملســت يف الزيــارة‬


‫وحزنــا‪ .‬فقالــت يل أريــدك أن تكــون ًّ‬ ‫ً‬ ‫الســابقة مــي فتـ ً‬
‫قويــا كمــا عودتنـ�ا وأال‬ ‫ـورا‬
‫(مـ ْـن الــ َـمسجون؟!) أجســد‬ ‫تفــر أو ختــاف‪ .‬فــرددت عليهــا بقصيــدة بعنــوان َ‬
‫فيهــا بعــض املعــاين الســابقة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫أخــــي فــــــــي ِسجــــي تـــــــزدان ثـــبـــــــــاتا َو َوقـــــــــــــارا‬ ‫َ‬ ‫جـــاءتــــي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫قــالـــت قـــد جـئـــتك نــاصـــــحـــة ألزيـــــــــد بـعــــزمـــك إصـــــــــرارا‬
‫ــــلئ ْاسـتـبـــــشارا‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫إيــــــاك فــــــــا تيـــــــأس مــــــلـــا واصــــــــر وامت ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ـــــــــــبــــارا‬‫الــمــجـــــد إذا لــــم تــلـعـــــق َص‬
‫ِ‬ ‫درجــــــات‬
‫ِ‬ ‫لـــن ترقــــــــــى فــــــــــــي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َُ َ ُ‬
‫ــــــك ْيعــرف مــا اخـتـــارا‬ ‫ـــــــي شيـــــــــئا فشـقــيـق ِ‬ ‫ــش ْ‬ ‫خــــ َّــية ال تـخ‬ ‫أأ‬
‫ال بــــــــد لــمـــــن قــــــد حـــــمـــــــل الــــــدعــــــــوة أن يتــحـــــــمل أضـــــــــــرارا‬
‫َ َ َ َّ َ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫ـــــــيـــــز أبــــــــــــــرارا‬‫ــــــركــــــنا حـــــــــى نتم‬ ‫مــــــــــــا كـــــــان هللا ليت‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫َ‪bbb‬‬
‫جــهـــنـــــــم مـــن قـــــــــد نــــافـــــق وتمـــــــــــارى‬ ‫دركـــــات‬
‫ِ‬ ‫إىل‬ ‫ويـــســـــــــــوق‬

‫ـــــــــــد ال أخــــــى فــــــــــيــــــــــــه األكــــــــــــدارا‬


‫ٍ‬ ‫ـــش َرغ‬ ‫كنـــت َل ِفـــي َع ْ‬
‫يـــ ٍ‬
‫ُ‬
‫إن‬
‫ًّ َ َ َ َّ‬ ‫ُ َْ َ‬
‫تــــنـــــــق ُل أســــــــــــفارا‬ ‫ُحـــــــــرا أ‬ ‫الص ْ‬
‫حــب‬ ‫اجل ْيــب كثـــــــر َّ‬
‫ِ‬
‫ــئ َ‬ ‫ممت ِل‬
‫‪16‬‬

‫َ َ‬ ‫َََْ َ ْ‬ ‫ُ ْ ُ ُ‬
‫ــــــن ْاســـتبتــــــا األنــــــــــــظــــــــارا‬ ‫ِ‬ ‫ــــــت‬‫م‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫بــت‬ ‫الســــجن‬ ‫ــــبيــــل‬ ‫ق‬ ‫ور ِزقـــت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بـــصــــــر حــــولـــــــــــي إال قـــــــضـــــــــــبانا وجـــــــــــدارا‬ ‫وإذا يب ال أ ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫ــــــــــــــــوارا‬ ‫حكمـــا َج‬ ‫أللـــــــــــــــقى ً‬ ‫َّ‬
‫ــــــــــــلي‬ ‫وأســــــــــــاق وقــــيد فــــــــــي ِر ْج‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـــــــــة إيثـــــــــــــــــارا‬
‫ِ‬ ‫والتـــــهمة أنــــــــي قــــــد ســـــــــــاعـــــدت رفــــــاق ِاملــــــل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ ُ‬
‫َ‬
‫إيـــــــايب والـــــــــــدارا‬ ‫حــل ْمـــــت بـأطـــــــفايل وذكـــــــــرت‬ ‫إن ِنمـــــت ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬

‫‪bbb‬‬
‫خـــــــــوارا‬ ‫ـــك‬
‫ــقيــــق ِ‬ ‫يــــــت ش ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫عــــــنائـــي للدنــيــــــــــا لل ِق‬ ‫لـــــو كـــــان‬

‫ُ‬
‫ــــــرب الرحـــمـــــن ِجـــــــــوارا‬ ‫ِ‬ ‫لكنــــــــــي أرجـــــــــو ِمـــن صـــــري يف ق‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ـــــــر َب ً‬‫وأل ْش َ‬ ‫َ‬
‫كافـــــــور أو عســـــــا يــجــــــــري أنــــهــــارا‬ ‫كأســا ِمـــــن‬
‫ُ‬
‫عبـــــــاده‪ :‬كــــــونــــــــوا أنصـــــــارا‬ ‫ُّ‬
‫الــــــــرب‬ ‫ُوأ َل ِّــب َ‬
‫ـــــــي مـــــــا قـــــــــد أمــــــــــــر‬
‫بــســتــــــــــان ْيز َخ ُ‬
‫ــــــر أزهــــــــــارا‬
‫ٌ‬
‫لكــــــن يف صــدري‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫مســـــجـــــــون‬
‫ُ ُ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ُ‬
‫وأقــــــوم أصـــــلـــي األسـحــــــــارا‬ ‫أقــــــــــــــــرأ و أد ِّون أفــــكـــــــــــارا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫القــــرآن ِل َك ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ‬
‫ـــي أكــــتــــــشف األســـــــــــــــرارا‬ ‫أتـــــــــــــــد َّب ُر إذ أتـــــــــلــــــــــــو‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ ِّ ُ‬
‫الـــــــــنـــــــاس األقــــــــدارا‬ ‫لـــــريضــــــى‬ ‫الصـــــبــــر‬
‫ِ‬ ‫أسبــــــاب‬
‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ـــــــف‬ ‫وأؤل‬
‫ً‬
‫آخــــــــــــــــذة مــن ُح ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ِّ ُ‬
‫ـــــب الرحـــــــمن مــــــــــدارا‬ ‫ِ‬ ‫روحـــــــــي‬ ‫ق‬ ‫وتــــــل‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬

‫‪bbb‬‬
‫يــحـــــــــمــــل أوزارا‬ ‫وعـــــــــدوي‬ ‫أتـــــزود فــــي ِســجين التـــــقــــــوى‬

‫َ‬
‫ك ُسكـــارى‪ ،‬مـــــا ُه ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـــر ُه ْ‬ ‫كــم مـــــــــن أحــــــرار أ ْبص ُ‬
‫ــــــــم ِب ُســكارى‬ ‫ــــــم‬ ‫ٍ ِ‬
‫ُذ ًّل ويعـــــيــشــــــوا ْ‬
‫أصــــــفـــــارا‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫لكــن قـــــد د َرجــــــــــوا أن َي ِهـــــــنوا‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫تهتـــــارا‬ ‫اس‬‫قـــــد هجــــــروا الديــن ِ‬ ‫ـــجـــــد عبـــــــــــدوا الدينــــــــارا‬ ‫ِوب ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْإن َغضــــــبوا َ‬
‫لكــن مـــــــا ْاســـتـغـــلوا أسعـــــــارا‬ ‫ألجـــــــــل ْ‬
‫هللا‬ ‫ِ‬
‫ليــس ْ‬
‫ِ‬
‫‪17‬‬

‫ْ ْ‬ ‫ــه َّن َ‬
‫َولنــــــار َج َ‬
‫لــــكن أن َيـ ِ‬
‫جـــــــدوا الســـــــــوالرا‬ ‫ُّ‬
‫اهــتــمــــوا‬ ‫ــــــم مـــــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـــــــدل مــــن كــــرة األرض قـف ْ‬ ‫ً‬ ‫َ َ‬
‫ــــــــــــريق يتـــــبــــــارى‬
‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫كـــــــــرة ِل‬ ‫ــــوا‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫املسجـــــون أنــا ْأم ُه ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪bbb‬‬
‫األمـــــــــر اسـتـبــصــــارا‬ ‫إن زدنــــا‬ ‫ـــــــم‬ ‫ــــــن‬
‫فـــم ِ‬

‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫ــــي شـــــيــــــــئا فشـقـــــيقــــك ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َُ‬
‫لـــم يــفــــعل عــــارا‬ ‫ِ‬ ‫ختـش‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ــي‬ ‫خـــــــ‬ ‫أ‬‫أ‬
‫ََ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َ ْ ِّ‬ ‫ٌ ْ َ ْ‬
‫ـــــــــة َونغـــــــــارا‬
‫ِ‬ ‫ــــــــــرض األ َّم‬ ‫َ‬
‫ــــــــــــس ِع‬ ‫فــــــع إن ُدن‬ ‫عــــــار أن نـــــــد‬ ‫هــــــل‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ــشـــينــــا َب ْـطــــشا وإســــــــــارا‬ ‫لـــمــــــــا أسـررنـــــــا اإلنـــكــــــــــارا وخ ِ‬
‫ْ َْ‬ ‫َّ‬
‫ـــــــدوات َت ْم َتلــــ ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫ــئ فــــخــــــــــارا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ــــتنــــــا ق‬ ‫ـــط النـــــش َء بــأم ِ‬ ‫لـــم نـــع ِ‬
‫ــــــــز بطولـتــــــهم َم ْ‬
‫ـــــن َج َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ّ‬
‫ــحـــــــــد هللا كجـــــيـــفارا‬ ‫فاتـخــــــــذوا َر ْم‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـــمــــثــــــــل جيـــفـــــــــارا‬ ‫أيليـــــــق بنـــــــا أتـــبـــــــــــاع محـــــمــــــــــــــد أن نــت‬
‫ـــــه َ‬ ‫َ‬
‫الـــق َّ‬ ‫َ‬ ‫َم ْ‬
‫ـــار مـــــــا كــــان ُيــــجــــــاري ّ‬
‫التيـــــــارا‬ ‫ــــــن َعــــبـــــــــد هللا‬
‫ُ َ ِّ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ـــل َ‬‫ْ َ َ‬
‫ـــه خــســــارا‬ ‫الرحمـــــــن يبوئ‬
‫ِ‬ ‫ســــــــــــوى‬ ‫عنـــــد‬ ‫العـــــــــــــزة‬ ‫ــــب‬ ‫مــــــــن ط‬
‫ــــــؤوا ب َدمـــــــــار َي ْ‬ ‫ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َفل َب ْ‬

‫ْ‪bbb‬‬
‫ـــرجـــــــون عمـــــــــــارا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـج‬ ‫ل‬ ‫ــد‬‫ق‬ ‫عنـــاكب‬ ‫ــــــت‬
‫ِ‬ ‫ــي‬ ‫ِ‬

‫َ‬
‫الرحمــــــن ِجـهــــــارا‬ ‫ُمجـــرمـــــــها‬ ‫حــــارب‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ــــــت لــــتــــــــون َس إذ‬ ‫َأ َر َأ ْ‬
‫ي‬
‫(((‬
‫ِ‬
‫ضـــاء نـــصــــارى‬ ‫ْ‬
‫اسـرت‬ ‫ــــل‬ ‫ْ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ـــطــــــــــار ُد كــــل‬ ‫َف ُ‬
‫ِ‬ ‫ِمـــن أج ِ‬ ‫ـــــبـــة‬
‫ٍ‬ ‫محــــج‬ ‫ِ‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫أحــــذيــــــة الكـــفــــــار غبــــــــــارا‬
‫ِ‬ ‫بأســـــفــــــل‬
‫ِ‬ ‫َيتـــــمـــــى لـــــو كـــان‬
‫احلكــم استـــقرارا‬ ‫يــرجـــــــو فـــــي‬ ‫ْ‬
‫يــــوالــــيـــــــهم‬ ‫و ِل ُربـــــع القـــــــرن‬
‫ِ‬
‫ُ ُ ًّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ َّ‬ ‫ْ‬
‫يتـــــــمـــــلـــــــــق ذل َو َصـــــــغارا‬ ‫الض ِّ‬

‫‪bbb‬‬
‫ــب دخــل‬ ‫إن دخــــــلوا جـحــــر‬

‫(((  كتبت القصيدة أول عام ‪ 2011‬بعد أحداث تونس وفرار (زين العابدين بن علي) منها‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫ّ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َُ‬


‫اجلـــــبـــــــارا‬ ‫ــولــــــــى‬ ‫أخـــــوك ت‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫تـخـــش ْ‬
‫ــــي شيــــــــئا‬ ‫خـــــــ َّــية ال‬‫أأ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وعـــــــد الف َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪bbb‬‬
‫ــجـــــــار تبــــــــارا‬ ‫قــــــد‬ ‫يــــــــــدافـــــــــع عـــنــــــــا إذ‬ ‫وهللا‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫اصرب يف بالئك‪،‬‬
‫وأحسن الظن بربك وحبكمته ورحمته‪..‬‬
‫فإن جنحت يف ذلك فاعلم أن هللا أراد بك ً‬
‫خريا‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫حبشرطيا!‬
‫ًّ‬ ‫ال تكن‬

‫ما رأيك يف الطائفة التالية‪:‬‬


‫إنها طائفة من أبن�اء املسلمني اسمها (الطائفة احلبشرطية)‪..‬‬

‫مــاذا تقــول هــذه الطائفــة عــن هللا –عــز وجــل‪ -‬يف قاموســها؟‬
‫تقــول‪" :‬هللا ‪-‬ســبحانه وتعــاىل‪ -‬هــو الــذي فــرض علينــ�ا الوجــود يف هــذه‬
‫احليــاة الدنيــ�ا‪ ،‬وفــرض علينــ�ا واجبــات‪ ،‬منعنــا مــن محرمــات‪ ،‬وبيــ�ده‬
‫إســعادنا أو إشــقاؤنا‪ .‬ولكــن نفوســنا تســتثقل بعــض الواجبــات وتهــوى‬
‫بعــض املحرمــات‪ ،‬لــذا فــإن علين ـ�ا أن نتعامــل مــع هللا بموازنــة‪ ،‬حبيــث نفعــل‬
‫ـدار الــذي يضمــن اســتمرار ِن َعــم هللا علين ـ�ا مــع أقــل قــدر‬
‫مــن الواجبــات املقـ َ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫مــن الثقــل يف نفوســنا‪ ،‬ونفعــل ‪-‬أيضــا‪ -‬مــن املحرمــات باملقــدار الــذي حيقــق‬
‫رغباتنــ�ا لكــن دون تعريضنــا لقطــع ِن َعــم هللا أو نــزول عقابــه"‪.‬‬
‫ُ‬
‫تــرى‪ ،‬هــل تعريــف الطائفــة احلبشــرطية لعالقــة اإلنســان بربــه تعريــف‬
‫ســليم؟‬
‫ُ‬
‫هل هكذا ينبغي أن يسلم نفسه وعاطفته هلل رب العاملني؟‬
‫هل عرفتم من هي الطائفة احلبشرطية؟‬
‫إنهــا يف الواقــع كثــر مــن جمــوع العالــم اإلســايم‪ ،‬ال يقولــون ذلــك بألســنتهم‪،‬‬
‫لكــن لســان احلــال أبلــغ مــن لســان املقــال!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بــل لعلــك ‪-‬وأنــت تقــرأ هــذه الكلمــات‪ -‬ســتجد نفســك منتســبا ضمني ـ�ا إىل‬
‫هــذه الطائفــة!‬
‫صفــات يف نفوســنا تبــ�دو خطورتهــا عندمــا نشــخصها ونعــر‬ ‫ٍ‬ ‫إن هنــاك‬
‫عــنــــها بــعـــــبارات ال مــجـــامـــلــــة وال مــــداهنة فيهــا‪ ..‬قــد نســتنكرها‬
‫ونســتغربها لكــن احلقيقــة املــرة أنهــا موجــودة يف نفوســنا وبدرجــات متب�اينـ�ة‪.‬‬
‫لــذا‪ ،‬دعونــا نتعمــق يف حتليــل النفســية احلبشــرطية؛ لــرى إن كانــت مختبئ�ة يف‬
‫‪20‬‬

‫ثن�ايانــا‪ ،‬وأليــة درجــة؟‬

‫إن احلبشــرطي يت�ذاكــى ويجــري التجــارب يف تعاملــه مــع ربــه ســبحانه و‬


‫تعــاىل!‪ ..‬حيــاول أن يصــل إىل "نقطــة املوازنــة" الــي يشــبع فيهــا رغباتــه دون‬
‫ُ‬
‫أن تقطــع عنــه النعــم الدنيويــة‪.‬‬
‫"مكتسباته" معصية و ً‬
‫أمرا مما حرم هللا‪،‬‬ ‫إذا ضم إىل حياته وأدخل يف ُ‬
‫ْ‬
‫فإنه يرتقب‪ :‬فإن استمرت نعم هللا ولم يزنل العقاب فإنه يستنتج أنه ما زال‬
‫ضمن نقطة املوازنة‪ ،‬ويعترب هذا املحرم أحد املكتسبات! أشبع رغبت�ه دون‬
‫قطع النعمة‪.‬‬
‫وأما إذا أدت هذه املعصية إىل قطع نعمة من النعم أو نزول عقاب‪ ،‬فإنه‬
‫يستنتج أنه قد جتاوز نقطة املوازنة‪ ،‬فيعود أدراجه ليتخلص من املحرم‪ ،‬ويعلن‬
‫حالة االستنفار القصوى‪ :‬دعاء‪ ،‬بكاء‪ ،‬تضرع‪ ،‬اجتهاد‪ ،‬طاعات‪ ..‬لماذا؟‬
‫ألنه يريد عودة النعم ودفع النقم‪.‬‬

‫َ َ ۡ‬ ‫ََ‬ ‫ً َ َٓ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ َّ ۡ َ ٰ َ ُّ ُّ َ َ‬
‫ـدا أ ۡو قائ ِ ٗمــا فل َّمــا كشــف َنا‬
‫ـر دعَانــا لِجَۢنب ِ ـه ِٓۦ أ ۡو قا ِعـ‬ ‫{وِإذا مــس ٱل ِإنســن ٱلضـ‬
‫ـه ۚۥ} [يونــس‪ ..]12 :‬إذن‪ :‬دعانــا جلنبـ�ه‬ ‫ـر َّم َّسـ ُ‬ ‫ٰ ُ‬
‫ضـ ّ‬ ‫ـى‬
‫ـ‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫إ‬
‫ٓ‬
‫ـا‬
‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـر َكأَن لَّـ ۡ‬
‫ـم يَ ۡد ُع َ‬ ‫ـرهُۥ َمـ َّ‬ ‫َۡ ُ ُ‬
‫ضـ َّ‬ ‫عنــه‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫َأو قــاعــــدا أو قائمــا‪ ..‬دعــاء مــن يريــد عــودة النعــم‪{ ..‬وِإذا أنعمنــا علــى ٱل ِإنسـ ِ‬
‫ـن‬
‫َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ ُ ُ َ ٓ َ‬ ‫ۡ َ َ َََ َ‬
‫ـض ‪[ }٥١‬فصلــت] ‪ ..‬ذو دعــاء‬ ‫ـرض ونـٔــا ِبجانِب ِـهِۦ وِإذا مســه ٱلشــر فــذو دعــا ٍء ع ِريـ ٖ‬ ‫أع ـ‬
‫عريــض‪ ..‬دعــاء مــن يريــد عــودة النعــم‪.‬‬

‫واملصيبــ�ة أن نفســية احلبشــرطي "تتربمــج" مــع مــرور الزمــن علــى‬


‫َ ِّ‬
‫"حقــه"‬ ‫هــذه "املوازنــة " حبيــث يســتقر يف حســه أن النعــم الــي هــو فيهــا مــن‬
‫َ َّ ٓ َ َ َّ ۡ ُ َ َ ُ َ َّ َ ٰ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ َٰ ُ ۡ ٗ‬ ‫ٌ‬
‫ـه َرحمَــة ّم َِّنــا ِمـ ۢن َب ۡعـ ِد ضــراء مســته ليقولن هــذا لِي}‬
‫وأنــه أهــل لهــا‪{ :‬ولئِــن أذقنـ‬
‫[فصلــت‪ .. ]50 :‬يعــي أنــا أســتحق هــذه الرحمــة‪ ،‬أســتحق هــذه النعــم‪.‬‬
‫ً‬
‫وفقــا لهــذه «املوازنــة» فــإن احلبشــرطي حيــب هللا تعــاىل طالمــا أنــه يمكــن‬
‫‪21‬‬

‫اســتمرار ِن َع ِمـ ِـه ودفــع نقمــه ‪-‬يف نظــره‪ -‬بهــذه «املوازنــة» واملــد واجلــزر‪ ،‬لذلــك‬
‫ً‬
‫مــشــــروطا‪،‬‬ ‫ســمين�اه (احلبشــرطي( أي‪ :‬أنــه حيــب هللا ‪-‬عــز وجــل‪ًّ -‬‬
‫حبــا‬ ‫ّ‬
‫ـروطا باســتمرار املصالــح الدنيويــة خاصــة؛‬ ‫ـروطا باســتمرار النعــم‪ ،‬مشـ ً‬ ‫مــشــ ً‬
‫ّ‬
‫فــإن نفســية احلبشــرطي قلمــا تت�ذكــر اآلخــرة!‬
‫تصــور معــي اآلن مــاذا حيصــل إن أذنــب احلبشــرطي ذنبــ�ا فابتــلاه هللا‬
‫تعــاىل بمــا يكــره‪ ،‬فتخلــص احلبشــرطي مــن هــذا الذنــب كالعــادة وأعلــن حالــة‬
‫االســتنفار القصــوى‪ :‬تضـ ُّـرع‪ ،‬دعــاء‪ ،‬اســتغفار‪ ،‬طاعــات‪ ..‬لكــن هللا عــز وجــل‬
‫شــاء أن يســتمر البــاء ويشــتد‪.‬‬
‫ســوف يعتمــل يف نفســية احلبشــرطي تســاؤل‪( :‬لقــد أديــت مــا ّ‬
‫علــي أن‬
‫أفعلــه‪ ،‬فلمــاذا لــم يفعــل هللا تعــاىل املتوقــع منــه؟(‬
‫ً‬
‫وفقــا لعــادة «املوازنــة» الــي تكرســت يف نفســية احلبشــرطي فــإن مــن‬
‫«حقــه» عندمــا يتخلــص مــن املعصيــة ويجتهــد يف الطاعــات أن ُيرفــع البــاء‬
‫ويعــود «املصــروف» اليــويم الــذي يأخــذه مــن هللا ‪-‬عــز وجــل‪ .-‬فــإذا حصــل‬
‫خــاف املتوقــع فــإن محبتــ�ه املشــروطة هلل ‪-‬عــز وجــل‪ -‬ســوف تنهــار! وال‬
‫هــار‪ ،‬و انبنــت علــى فهــم‬
‫جــرف ٍ‬‫ٍ‬ ‫عجــب أن تنهــار ألنهــا أسســت علــى شــفا‬
‫متشــوه لعالقــة اإلنســان بربــه ســبحانه وتعــاىل‪.‬‬

‫ً‬
‫إذا علــى أي يشء نبــي حبنـ�ا هلل عــز وجــل حــى ال ينهــار هــذا احلــب يف أيــة‬
‫حلظــة مــن حلظــات حياتنـ�ا؟‬
‫هذا ما سوف نعرفه يف املحطة القادمة بإذن هللا‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫ًّ‬
‫حبشرطيا‬ ‫انظر يف نفسك إن كنت‬
‫تشرط محبتك هلل باستمرار النعم الدنيوية‪.‬‬
‫‪22‬‬

‫ابن حبك لله على أسس سليمة‬

‫يشــر ُط محبتــ�ه هلل عــز‬


‫ِ‬ ‫ذكرنــا يف املحطــة الســابقة أن (احلبشــرطي)‬
‫وجــل باســتمرار النعــم الدنيويــة‪.‬‬
‫إذن؛ هــو يؤســس هــذا البيــت ‪-‬يعــي )محبــة هللا)‪ -‬يؤسســه علــى أســس‪..‬‬
‫هــذه األســس هــي‪ :‬المــال‪ ،‬الصحــة‪ ،‬احلريــة‪ ،‬االســتقرار األســري‪ ،‬املكانــة‬
‫االجتماعيــة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬الحظ معي‪:‬‬
‫هذه األسس الدنيوية جميعها‪ ..‬أليست قابلة للزوال؟‬
‫أليس هذا (احلبشرطي) مهددا يف أي حلظة‪:‬‬
‫بالفقر= زوال المال‬
‫باملرض= زوال الصحة‬
‫باحلبس= زوال احلرية‬
‫باملشاكل = زوال االستقرار‬
‫ُ‬
‫حينئـذ إذا ابتلي بفقد أحد هذه األسس؟‬ ‫ٍ‬ ‫ماذا سيحصل‬
‫سوف يميل البيت ويسقط وينهار‪.‬‬
‫ســوف تنهــار محبــة هللا املشــروطة يف قلــب هــذا العبــد احلبشــرطي! ألنــه‬
‫أسســها علــى أســس قابلــة للــزوال يف أيــة حلظــة‪.‬‬
‫إذن؛ كيــف أعــرف إن كانــت محبــي هلل عــز وجــل مهــددة بالــزوال يف أيــة‬
‫حلظــة؟‬
‫كيف أعرف إن كنت قد أسستها على أسس دنيوية؟‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫البالء يساعدك يف ذلك جدا‪ ،‬وهذه من نعم هللا عليك يف البالء‪.‬‬ ‫حقيقة‪،‬‬
‫ُ‬
‫عندمــا تبتلــى وتدعــو هللا عــز وجــل وتطلــب منــه أن يرفــع عنــك البــاء ويعيــد‬
‫لــك النعــم‪ ،‬قــد يقــدر هللا عليــك أن يســتمر بــاؤك ويطــول ويشــتد‪ ،‬وحينئــ ٍـذ‬
‫ســوف تعــرف إن كان حبــك هلل مشـ ً‬
‫ـروطا بهــذه املصالــح الدنيويــة‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫واجهــت محنــة ُح ِر ْمــت فيهــا فجــأة مــن‪ :‬حريــي‪ ،‬أهلــي‪ ،‬أوالدي‪ ،‬أصدقــايئ‪،‬‬
‫ً‬
‫مــايل‪ ،‬وظيفــي‪ ..‬فجــأة!‬
‫ُ‬
‫ثم دعوت هللا لكنه قدر أنه يستمر باليئ أطول مما ظننت‪.‬‬
‫ً‬
‫هذا وضعين حقيقة أمام السؤال املهم‪:‬‬
‫ُ‬
‫اآلن‪ ،‬وبعد حرماين من هذه األشياء‪ ،‬هل ما زلت أحب هللا عز جل؟‬
‫هــذا الســؤال ســاعدين يف تشــخيص مقــدار (احلبشــرطية) يف نفــي؛ ألعيــد‬
‫بنـ�اء محبــة هللا علــى األســس الســليمة الصحيحــة‪.‬‬
‫أســألك بــاهلل‪ :‬هــل أنــت مســتعد أن تشــري بيت ـ�ا لتســكنه إذا علمــت أن هــذا‬
‫البيــت مرتكــز علــى أســس واهيــة قابلــة لالنهيــار والــزوال يف أيــة حلظــة؟‬
‫فما ظنك بمحبة هللا عز وجل اليت من أجلها نعيش‪ ،‬بل من أجلها خلقنا؟‬
‫َ‬
‫ف َر ُّبن�ا خلقنا لنعبده‪ ،‬والعبادة محبة وتعظيم وطاعة‪.‬‬
‫فهــل أنــت مســتعد أن تغامــر بمحبــة هللا عــز وجــل‪ ،‬وتبنيهــا علــى أســس قابلــة‬
‫للــزوال يف أيــة حلظــة؟‬
‫ً‬
‫إذا‪ ،‬البد لك أن تبين محبة هللا يف قلبك على أسس صحيحة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ترى‪ ،‬ما هي هذه األسس؟‬
‫كثرية‪ ..‬منها‪:‬‬
‫ُ‬
‫ ‪1.‬اليقــن باســتحقاق هللا ســبحانه للعبــادة لذاتــه العظيمــة‪ ،‬والتفكــر يف‬
‫أســماء هللا وصفاتــه ُّ‬
‫وتأمــل آثارهــا يف الواقــع‪ .‬وهــذا هــو األســاس األعظــم‬
‫يف بن ـ�اء املحبــة هلل‪.‬‬
‫ ‪2.‬تعلق القلب باآلخرة ونعيمها‪.‬‬
‫ ‪3.‬العرفان هلل بنعمة الهداية‪.‬‬
‫ ‪4.‬االمتنــ�ان هلل بمــا أنعــم عليــك يف المــايض بغــض النظــر عــن احلاضــر‬
‫واملســتقبل‪.‬‬
‫ ‪5.‬اســتحضار أن نعــم هللا عليــك ال تعــد وال حتــى مهمــا نــزل بــك مــن بــاء‬
‫ْ َ‬ ‫ومصيبـ�ة ومهمــا فقــدت‪ ،‬فــا زلــت مغمـ ً‬
‫ـورا يف فضلــه لكنــك أ ِلفــت نعمــه‬
‫‪24‬‬

‫الــي أنــت فيهــا اآلن حــى لــم تعــد حتــس بهــا‪.‬‬


‫ــل محطــات رحمــة هللا بــك‪ ،‬صرفــه للشــرور عنــك‪ ،‬تهيئــ�ة أســباب‬ ‫تأم ُ‬
‫ ‪ُّ 6.‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ـاس حيبونــك وكل مــا كان منهــم‬ ‫هدايتــك‪ ،‬ســره عليــك‪ ،‬إحاطتــه إيــاك بأنـ ٍ‬
‫ـر فمــن هللا‪ ..‬تأمــل ذلــك يف محطــات حياتــك‪..‬‬ ‫مــن خـ ٍ‬
‫ََ ْ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬أنــا عــن نفــي اســتعرضتها تب�اعــا يف جــوف بــاء‪ ،‬وتلــوت معهــا ســورة‬
‫وشــعورا َّ‬
‫بمعيــة هللا يل وأنــه‬ ‫ً‬ ‫(الضــى)‪ ،‬فأحدثــت يل لــذة وطمأنينــ�ة‬
‫ســبحانه يريــد يب ً‬
‫خــرا‪.‬‬
‫ ‪7.‬مــا ينعــم هللا بــه عليــك‪ ،‬إن أقبلــت عليــه‪ ،‬مــن أعمــال القلــوب مهمــا كانــت‬
‫الظــروف‪ ،‬كالرضــا والشــوق إىل هللا واألنــس بــاهلل وكالمــه (القرآن)‪.‬‬
‫محطات قادمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بعض من هذه األسس يف‬ ‫وسنتكلم بإذن هللا عن ٍ‬
‫ً‬
‫إذا‪ ،‬هــذه أشــياء ثابت ـ�ة ال تــزول‪ :‬أســماء هللا وصفاتــه‪ ،‬اآلخــرة املرتقبــة‪ ،‬نعــم‬
‫ـورا يف نعــم هللا مهمــا أخــذ منــك‪ ..‬هــذه‬‫المــايض‪ ،‬حقيقــة أنــك ســتبقى مغمـ ً‬
‫أشــياء ال تتغــر‪ ،‬ليســت مهــددة بالــزوال‪ ..‬تبــي عليهــا محبتــك هلل وأنــت واثــق‬
‫مطمــن‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ـدة ورفـ ِـع بــاء؛‬
‫أمــا مــا يســتجد لــك ‪-‬يف احلاضــر واملســتقبل‪ -‬مــن نعـ ٍـم جديـ ٍ‬
‫ـرطا يف وجــود هــذه‬ ‫فهــذه كلهــا تزيــد محبتــك هلل عــز وجــل‪ ،‬ولكنهــا ليســت شـ ً‬
‫املحبــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قــد يقــال‪ :‬لكــن هللا عــز وجــل شــرع تألــف قلــوب النــاس بإعطائهــم شــيئ�ا مــن‬
‫نعيــم الدنيـ�ا‪ .‬فمعلــوم أن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم كان يعطــي قسـ ًـما‬
‫ـار يريــد رســول هللا أن يســتميلهم‬ ‫كبـ ً‬
‫للمؤلفــة قلوبهــم‪ ،‬لكفـ ٍ‬
‫ً‬
‫ـرا مــن الغنائــم‬
‫لإلســام‪ ،‬بــل إن مصرفــا مــن مصــارف الــزكاة هــو (املؤلفــة قلوبهــم)؟‬
‫صحيــح‪ ..‬لكــن هــذا التألــف لقلــوب النــاس بنعيــم دنيــوي هــو مرحلــي مؤقت؛‬
‫ُ‬
‫حــى ينهــار احلاجــز النفــي بــن قلــب الغافــل واإلســام‪ ،‬حــى تــزال الغشــاوة‬
‫عــن بصــره لــرى حقيقــة الديــن فتخالــط بشاشــة اإليمــان قلبــه‪ ،‬فــا يعــود‬
‫‪25‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫يأبــه ‪-‬مــن ثــم‪ -‬أعطــي أو ُمنــع‪.‬‬
‫ْ َ‬
‫الرجـ ُـل ُليسـ ِـل ُم‬
‫كان َّ‬ ‫يف احلديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم عــن أنــس قــال‪( :‬إن‬
‫َ‬ ‫َ ُّ‬
‫ـب ِإليــه مــن الدنيـ�ا ومــا‬ ‫ـام َأحـ َّ‬
‫ـون اإلسـ ُ‬ ‫َ ُ ُ َّ َ َ‬ ‫ُ َّ ُّ‬
‫مــا ُيريــد ِإ ل الدنيـ�ا‪ ،‬فمــا يسـ ِـلم حــى يكـ‬
‫ِ‬
‫َعليهــا)‪.‬‬
‫ُ َّ ُّ‬ ‫ْ َ‬
‫الرجـ ُـل ُليسـ ِـل ُم مــا ُيريــد ِإ ل الدني ـ�ا)‪ :‬يعــي حبشــرطي صــرف! وإنمــا‬ ‫كان َّ‬ ‫(إن‬
‫ُيظهــر اإلســام إلرادتــه الدني ـ�ا‪..‬‬
‫ـث َبعـ َـد إســامه َّإل َقليـ ًـا حـ َّـى َينشــر َح َصـ ُ‬
‫ـدره‬
‫َ َ َ ُ‬
‫(فمــا يســلم)‪ :‬يعــي فمــا يلبـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ‬
‫ـب ِإليــه مـ َـن الدني ـ�ا‪.‬‬‫تمكـ َـن مــن قلبــه َفيكــون حينئـــذ أحـ َّ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وي‬ ‫ـان‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫يم‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬‫قيق‬ ‫حب‬
‫َ‬
‫إذن؛ حتول حبه هلل إىل حب حقيقي مبين على أسس سليمة‪.‬‬
‫أمــا أن يعيــش اإلنســان حياتــه كلهــا ِعيشــة املؤلفــة قلوبهــم فهــذا وضــع خطــر‬
‫غــر مقبــول! ألن محبتـ�ه هلل مهــددة بالــزوال يف أيــة حلظــة‪.‬‬
‫عندمــا تــويف رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وارتــد طوائــف مــن النــاس‪ ،‬مــا‬
‫الــذي حصل؟‬
‫املؤلفــة قلوبهــم مــن أهــل مكــة الذيــن تألفهــم رســول هللا‪ ،‬لكنهــم بعــد ذلــك‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بنــوا محبتهــم هلل علــى أســس صحيحــة‪ ،‬كانــوا هــم أســود اإلســام الذيــن‬
‫نافحــوا عنــه أيــام الــردة‪ ،‬وبذلــوا يف ذلــك أرواحهــم ودماءهــم وأموالهــم‪.‬‬
‫ً‬ ‫بينمــا ارتــد مــن بقــي (حبشـ ًّ‬
‫ـرطيا) متعلقــا بالدنيـ�ا عندمــا تعــرض لفتنـ�ة وفــاة‬
‫ـرد الزعمــاء‪.‬‬ ‫النــي وتمـ ِ‬
‫َّ‬
‫إن اســتقرار هــذا املفهــوم يف نفوســنا ‪(-‬محبــة هللا غــر املشــروطة)‪ -‬يمنحنــا‬
‫فهمــا أعمــق لكثــر مــن حقائــق ديننـ�ا‪.‬‬
‫فمثــا‪ :‬عندمــا نقــرأ قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪( :‬أحــب األعمــال إىل‬
‫هللا أدومهــا وإن قــل)‬
‫قد يكون من أسباب ذلك‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كثــرا مــا تكــون مدافعــة لبــاء حــل أو‬ ‫أن الــطــاعــــة الكثــرة الـمـتـقـطـعـــة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ابتهاجــا مؤقتــا بنعمــة جديــدة‪ ،‬خاصــة إذا تبعهــا فتــور شــديد يف الطاعــة‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫أمــا العمــل املســتمر مــن الطاعــات فعــادة مــا يكــون ً‬


‫نابعــا مــن حــب مســتقر يف‬
‫القلــب ال يت�أثــر باحلــوادث الســارة أو احلزينـ�ة‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا‪ ،‬أيخ وأخيت‪:‬‬
‫إذا وجــدت يف نفســك هــذا الــداء اخلطــر‪( :‬شــرطية محبــة هللا)‪ ،‬فعليــك‬
‫أن تعــرف بــه وتســعى لعالجــه؛ فهــو أخطــر مــن أيــة مصيب ـ�ة دنيويــة؛ ألنــه‬
‫ٌ‬
‫مصيبــ�ة يف الديــن‪ ،‬وخلــل فيمــا نعيــش مــن أجلــه‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫ختلص من مرض (احلبشرطية)‬
‫وابن حبك هلل على أسس سليمة ال تزول باملتغريات‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫هللا يتودد إلينا بالبالء‬

‫ً‬
‫فتــورا يف مشــاعر ولديــه الشــابني جتاهــه‪ ..‬فغســان‬ ‫الحــظ أبــو غســان‬
‫ورايم أصبحــا يأتيــ�ان كل صبــاح إىل غرفــة أبيهمــا ويمــدان يدهمــا قائلــن ‪:‬‬
‫(املصــروف يــا أيب لــو ســمحت) بشــكل روتيــي رتيــب‪ ..‬يعطيهمــا املصــروف‬
‫فيشــكرانه علــى عجــل وينطلقــان مــن البيــت‪.‬‬

‫أراد أبــو غســان أن يذكــر ولديــه بــأن عالقته بهما ليســت عالقــة مصروف‬
‫فحســب‪ ..‬فعندمــا جــاءا هــذه املــرة ومــدا يديهمــا لقبــض املصــروف‪ ،‬قــال لهما‬
‫ـدي) ‪ .‬كان أبــو غســان‬ ‫أبوهمــا بلهجــة تنبــض باحلــب الصــادق‪( :‬أحبكمــا يــا ولـ َّ‬
‫يتمــى أن تلتقــي عينـ�اه بعيــي ولديــه وهــو يقــول هــذه الكلمــات فيقــرأ فيهمــا‬
‫البهجــة واالعــزاز بما قــــال لــهــــما‪ ..‬كان يــريــــد أي مــؤشــــر عـلـــى أن ولـديـــه‬
‫حيبانــه لذاتــه‪ ،‬ال للمصــروف الــذي يأخذانــه منــه‪.‬‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬


‫مخيبــ�ا لآلمــال ! هــزا رأســهما قائلــن يف‬ ‫لكــن جتــاوب الولديــن كان‬
‫َّ‬
‫شــرود ذهــن‪( :‬وحنــن كذلــك)‪ ،‬أي حنــن كذلــك حنبــك‪ ..‬وبقيــا ماديــن يديهمــا‬
‫وأنظارهمــا مثبتــ�ة علــى جيــب والدهمــا‪ ،‬ففيــه املصــروف!‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫ــدم األب وانقلبــت ابتســامته ذبــول وأخــرج يــده مــن جيبــ�ه دون‬ ‫ص ِ‬
‫املـحـفـظـة‪ ..‬انـتـبـه الـولـدان لــمـا حــصــل وأدركا عــدم لـبـاقـتـهـما يف التجاوب‬
‫مــع كلمــات أبيهمــا الرقيقــة‪ ..‬قبضــا يدهمــا وأنزالهــا‪ ..‬حــاوال تــدارك املوقــف‪..‬‬

‫أمــا رايم فقــال ‪( :‬أيب أنــا آســف‪ً ..‬‬


‫طبعــا أنــا أحبــك‪ ..‬أنت أيب الــذي رعيتين‬
‫وأنفقــت علــي وال غــى يل عنــك)‪ ..‬كان رايم يقــول هــذه الكلمــات وذهنــه يف‬
‫املصــروف‪ ،‬يتوقــع أن يمــد والــده يــده يف جيبـ�ه ويعطيــه املصــروف‪ ..‬لكن األب‬
‫‪28‬‬

‫ً‬
‫صامتا‪ .‬فقال رايم ‪( :‬أيب‪ ،‬رجــــ ً‬
‫ـاء أنــــا أحــتــــاج الـمـصــــروف‪..‬‬ ‫لــم يفعــل وبقــي‬
‫ً‬
‫أعــدك أن أكــون أكــر لباقــة لكــن ال حترمــي مــن املصــروف)‪ .‬لــم يتجــاوب األب‬
‫ً‬
‫مغضبــا مــن الغرفــة‪.‬‬ ‫فتضايــق رايم وخــرج‬

‫َّ‬
‫وأمــا غســان‪ ،‬فقــد هــز املوقــف كيانــه! هــو حيــب أبــاه بالفعــل‪ ،‬لكــن قلبــه‬
‫ُ‬
‫كان قــد ذ ِهــل عــن هــذه املحبــة بتعلقــه باملصــروف يف الفــرة الماضيــة‪ .‬مالمــح‬
‫األب الذابلــة العابســة أيقظــت مشــاعر غســان‪ ،‬فــأدرك كــم كان مقصـ ًـرا يف‬
‫ً‬
‫كثــرا يف شــعور‬ ‫حــق أبيــ�ه يف الفــرة األخــرة‪ ..‬أدرك أنــه كان أنانيــ�ا ال يفكــر‬
‫أبي ـ�ه وال جيتهــد يف إدخــال البهجــة إىل قلبــه‪ ..‬اغرورقــت عين ـ�ا غســان بدمــوع‬
‫حــارة وقــال بصــوت متهــدج‪( :‬آســف يــا أيب احلبيــب‪ ..‬لقــد غفلــت عنــك‬
‫ـرا! ســامحين أرجــوك‪ ..‬الدنيـ�ا كلهــا ال تســاوي ابتســامة منــك)‪ ..‬قــال هــذه‬ ‫كثـ ً‬
‫ً‬
‫الكلمــات وهــو يقلــب عيني ـ�ه الدامعتــن يف وجــه أبي ـ�ه باحثــا عــن أيــة بــادرة‬
‫ً‬ ‫انفــراج لعبوســه‪ ..‬لكــن األب بقــي ً‬
‫عابســا صامتــا وخــرج مــن غرفتــه وجلــس‬
‫علــى األريكــة ال يتكلــم‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ‬
‫لقــه غســان وحتــرك حــول أبيـ�ه كالقــط‪ ،‬فتــارة يقبــل يديــه وتــارة يقبــل‬‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رأســه وتــارة يمســك بي ـ�دي والــده بــن يديــه ودموعــه منهمــرة علــى خديــه‬
‫وهــو يقــول‪( :‬ســامحين يــا أيب أرجــوك‪ ..‬أنــا أحبــك‪ ..‬تعلــم أين أحبــك)‪..‬‬

‫ـاعر متب�اين ـ�ة‪ ..‬فهــو ال حيــب رؤيــة ولــده كسـ ً‬


‫ـرا بهــذا‬ ‫تن�ازعــت َ‬
‫األب مشـ ُ‬
‫ً‬
‫مصدومــا مــن جفــاء ولديــه يف أول األمــر‪ ،‬كمــا أنــه يريــد‬ ‫الشــكل‪ ،‬لكنــه مــا زال‬
‫ً‬
‫مزيــدا مــن الضمانــات لصــدق محبــة غســان‪ ..‬انســحب األب وعــاد إىل غرفتــه‬
‫بصمــت وأغلــق البــاب وراءه‪.‬‬

‫ً‬
‫مناديــا‪( :‬أيب‬ ‫أحــس غســان بالضيــاع فلحقــه وقــال مــن وراء البــاب‬
‫‪29‬‬

‫أرجــوك‪ ..‬ال أطيــق احليــاة دون رضــاك‪ ..‬ال أســتطيع العيش وأنــا أراك غضبان‬
‫ً‬
‫حزينـ�ا‪ ..‬لقــد أخطــأت يــا أيب لكــي أحبــك‪ ..‬أحبــك يــا أيب‪ ..‬أرجــوك ســامحين‪..‬‬
‫أرجــوك ابتســم يف وجهــي‪ ..‬أرجــوك ضمــي إىل صــدرك)‪ ..‬وتعــاىل صــوت بــكاء‬
‫َّ‬
‫ـزع تركتــه أمــه يف صحــراء وتولــت عنــه‪.‬‬
‫غســان كطفــل فـ ٍ‬

‫حينئــ ٍـذ انهــار ســد اجلفــاء يف قلــب األب أمــام دمــوع غســان‪ ..‬فتــح البــاب‬
‫وضمــه إىل صــدره وجعــل يمســح‬ ‫جاثي ـ�ا علــى ركبتي ـ�ه َّ‬
‫ورفــع ولــده الــذي كان ً‬
‫ـن‬
‫ُدموعــه ويقبــل رأســه‪ ..‬اســتمر بــكاء غســان‪ ،‬لكنــه اآلن بــكاء فرحــة وحنـ ٍ‬
‫أشـ َ‬
‫ـبع‪..‬‬

‫َّ‬
‫مــد األب يــده يف جيب ـ�ه ليســتخرج مصــروف غســان‪ ،‬لكــن غســان أعــاد‬
‫املحفظــة إىل جيــب أبيــ�ه وقــال لــه وهــو ملتصــق بصــدره (دعنــا اآلن مــن‬
‫ً‬
‫راضيــا عــي فالدنيـ�ا كلهــا‬ ‫املصــروف‪ ..‬أريــدك أنــت يــا أيب احلبيــب‪ ..‬مــا دمــت‬
‫تهــون)‪.‬‬

‫ً‬
‫وهلل املثــل األعلــى‪ ..‬قــد يعلــم هللا تعــاىل مــن عبــاده جفافــا يف محبتهــم له‪،‬‬
‫ً‬
‫وتعلقــا بنعيــم الدنيـ�ا الــذي يمنحهــم إيــاه‪ ..‬هــو تعــاىل يتــودد إىل عبــاده وحيــب‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫منهــم أن يب�ادلــوه الـ ُـو ّد ُو ًّدا‪ ..‬فــإذا رأى منهــم جفـ ً‬
‫ـاء وغفلــة قطــع عنهــم نعمــة‬
‫مــن النعــم ليهــز كيانهــم ويوقظهــم مــن غفلتهــم لعلهــم ينتبهــون إىل حقيقــة‬
‫ْ‬
‫أن النعمــة ألــ َـهتهم عــن املنعــم‪..‬‬

‫أمــا فقــر املشــاعر كـــ “رايم”‪ ،‬فــا يفهم هــذه األبعــاد‪ ،‬بل ال يــزال يف غفلته‬
‫قــد ســيطر “املصــروف” علــى تفكــره‪ ..‬فيســتغفر هللا ويجتهــد يف الطاعــات‬
‫ليســرجع “املصــروف”‪ .‬ليســت مصيبتــ�ه يف عتــاب هللا لــه‪ ،‬إنمــا مصيبتــ�ه‬
‫ٌ‬
‫قطــع “املصــروف”! بــادة يف التفكــر وقصــور يف النظــرة وفقــر يف املشــاعر! ال‬
‫‪30‬‬

‫َّ ًّ‬
‫يفكــر إال فيمــا يأخــذه‪ ،‬وال يــرى مــن واجبــه أن يشــكر ويب ـ�ادل الـ ُـود ُودا‪.‬‬

‫وأمــا صاحــب احلــس املرهــف والقلــب الــي كـــ “غســان” ‪ ،‬فــإن قطــع‬
‫“املصــروف” يزيــل عــن عينيــ�ه الغشــاوة ليبصــر املصيبــ�ة احلقيقيــة‪ ،‬أنــه‬
‫قصــر يف حــق هللا تعــاىل وغفــل عنــه‪ ..‬فــكل مــا يســيطر علــى كيانــه هــو‬
‫ّ ًّ‬
‫كيــف يســريض هللا تعــاىل ويربهــن لــه علــى أنــه يب�ادلــه الـ ُـود ُودا‪ ..‬أمــا عــودة‬
‫“املصــروف” فتصبــح قضيــة ثانويــة‪ ..‬ألنــه قــد يعيــش‪ ،‬ولــو بصعوبــة‪ ،‬دون‬
‫ً‬
‫املصــروف‪ ،‬لكنــه ال يطيــق حلظــة مــن الضيــاع الــذي ســيعاني�ه إن فقد مــعـــ َّـية‬
‫هللا تــــعاىل أو أحــس بــأن هللا ال حيبــه‪.‬‬

‫ُ ّٗ ُّ ُّ َ ٰٓ ُ َ ٓ َ َ ٰٓ ُ َ ٓ‬
‫هــؤلا ِء‬ ‫يف النهايــة‪ ،‬قــد يعــود “املصــروف” لالثنــن‪{ :‬كلا ن ِمــد هــؤلا ِء و‬
‫ۡ َ َ ِٓ َّ َ ََ َ َ َ َ ُٓ َّ َ‬
‫ــك َم ۡح ُظ ً‬
‫ــورا ‪[ }٢٠‬اإلســراء‪ ..]20 :‬لكــن األول‪،‬‬ ‫مِــن عطــاء ربِــكۚ ومــا كان عطــاء رب ِ‬
‫ً‬ ‫فقـ َ‬
‫ـر الشــعور‪ ،‬ســيخرج مــن البــاء كمــا دخــل فيــه لــم يســتفد شــيئ�ا‪ ..‬مــا دام‬
‫يــرى عــودة «املصــروف» غايــة اآلمــال ومنتهــى الطموحــات‪ .‬وأمــا الثــاين فــإن‬
‫املحنــة كانــت أكــر منحــة لــه‪ ،‬حيــث أطـلـــقت روحــه مــن قيــد الغفلــة لتــدور يف‬
‫ً‬ ‫َ ۡ َۡ َ َ‬
‫ان َم َثــلا ۚ} [هــود‪.]24 :‬‬
‫فلــك محبــة هللا تعــاىل‪{ ..‬هــل يســتوِي ِ‬

‫ورد عــن الصاحلــن أن بعضهــم كان يبتلــى بمــرض أو غــره وقــد عــرف‬
‫عنــه أنــه مســتجاب الدعــوة‪ ،‬ومــع ذلــك ال يدعــو هللا تعــاىل بكشــف البــاء‪..‬‬
‫ســتقول‪ :‬هــذه املرويــات فيهــا مبالغــة‪ .‬ربمــا نعــم‪ ،‬ولكننــ�ا إذا فهمنــا املعــاين‬
‫املذكــورة هنــا فــا نســتبعد أن حيصــل ذلــك‪ ..‬فلعــل هــذا املبتلــى فهــم البــاء‬
‫علــى أنــه تذكــرة مــن هللا تعــاىل بأنــك قــد غفلــت عــن خالقــك‪ ،‬ويريــد ربــك‬
‫ً‬
‫منــك أن تب�ادلــه التــودد تــوددا‪ ..‬فيســيطر هــذا التفكــر علــى كيــان املؤمــن‬
‫ُ َ ِّ‬
‫وينشــط معــاين املحبــة يف‬ ‫املبتلــى ويعيــد حســاباته ليكتشــف مواطــن الغفلــة‬
‫قلبــه ويتفــن يف الربهنــة لربــه علــى صــدق محبت ـ�ه لــه ســبحانه‪..‬‬
‫‪31‬‬

‫مثــل هــذا التفكــر ال يبعــد أن يشــغل املؤمــن عــن الدعــاء بكشــف البــاء‪..‬‬
‫بــل قــد يــرى إعطــاء األولويــة للدعــاء بكشــف البــاء ســوء أدب ألنــه يــدل‬
‫ُ‬
‫علــى عــدم اعتن ـ�اء بالســبب الــذي مــن أجلــه ابتلــي (التذكــرة بمبادلــة التــودد‬
‫ً‬
‫تــوددا)‪ ،‬وألنــه يعلــم أن اســتمرار البــاء أدعــى لــرده إىل دائــرة محبــة هللا‪..‬‬
‫فهــو ينشــغل بإعمــار قلبــه بمعــاين املحبــة مــن جديــد‪ ،‬ويـ ِـكل أمــر توقيــت رفــع‬
‫البــاء إىل هللا ويوقــن حبكمتــه تعــاىل يف ذلــك ورحمتــه‪.‬‬

‫أرأيــت بعــد ذلــك لمــاذا (هللا يتــودد إلينـ�ا بالبــاء)؟ ألــم تـ َـر أن نبينـ�ا صلى‬
‫ـب ً‬ ‫هللا إذا أحـ َّ‬ ‫َّ‬
‫(وإن َ‬
‫قومــا ابتلاهم)‪.‬‬ ‫هللا عليــه وســلم قــال‪:‬‬
‫فانظــر إىل االبتــلاء بإجيابي ـ�ة‪ ،‬ال علــى أنــه عقوبــة محضــة‪ ،‬بــل هــو بشــكل مــن‬
‫األشــكال تــودد مــن هللا! رأى منــا غفلــة عنــه وجفافــا يف عاطفتنــ�ا جتاهــه‪،‬‬
‫فابتلــى لرناجــع أنفســنا‪ ،‬فنســتيح‪ ،‬فنحــب‪ ،‬ونتــودد‪ ..‬هلل رب العاملــن‪.‬‬
‫‪32‬‬

‫إن لم تستوقفك هذه اآليات فجدد محبتك!‬

‫كــم يتــودد هللا تعــاىل إلينــ�ا وهــو الغــي عنــا! أليــس مــن أســمائه‬
‫ٱلل ذ ِۡكـ ٗ‬
‫ـرا َكث ِ ٗ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ ۡ‬
‫ٱذ ُكـ ُ‬
‫ـروا ْ َّ َ‬
‫يرا‬ ‫(الــودود)؟ انظــر إىل قولــه تعــاىل‪{ :‬يأيهــا ٱلذِيــن ءامنــوا‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ك ُتـ ُ‬‫ُ َ ّ َ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ ٰٓ َ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫ً‬ ‫ََ ّ ُ ُ ُ ۡ ٗ َ‬
‫ـهۥ ل ُِيخ ِر َجكــم‬ ‫صيــلا ‪ ٤٢‬هــو ٱلـذِي يصلِــي عليكــم وملئ ِ‬ ‫ـرة َوأ ِ‬
‫‪ ٤١‬وســبحوه بكـ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ـو َم يَلق ۡونـ ُ‬ ‫َ‬
‫ِيمــا ‪ ٤٣‬تحِ َّي ُت ُهـ ۡ‬
‫ـم يَـ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱلنــور َوكان بٱل ُمؤ ِمن ِيـ َ‬
‫ـن َرح ٗ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ّ َ ُّ َ‬
‫ـهۥ َســل ٰ ‪ۚٞ‬م‬ ‫ِ‬ ‫ِۚ‬
‫ـت إلــى ُّ‬
‫ِمــن ٱلظلمٰـ ِ ِ‬
‫َ َ َ َّ َ ُ ۡ َ ۡ ٗ َ‬
‫ــرا ك ِر ٗيمــا ‪[ }٤٤‬األحــزاب‪.]44-41 :‬‬ ‫وأعــد لهــم أج‬

‫هللا تعــاىل يتــودد يف هــذه اآليــات إىل املؤمنــن ويســتجيش مشــاعرهم‬


‫بت�ذكريهــم بأنــه يهديهــم ويرحمهــم وســيلقاهم يــوم القيامــة بأجــر كريــم‬
‫يعــر عــن محبتـ�ه لهــم‪ .‬وكأنــه يقــول لهــم‪ :‬مــا دمــت أفعــل ذلــك كلــه لكــم‪ ،‬أال‬
‫ـرا كمــا يذكــر املحــب محبوبــه‪.‬‬ ‫أســتحق منكــم أن حتبــوين فتذكــروين كثـ ً‬

‫ال ينبغــي أن تكــون عالقتنــ�ا بــاهلل تعــاىل محصــورة يف انتظــار النعيــم‬


‫الدنيــوي‪ ،‬بــل وال األخــروي فحســب‪ ..‬البــد أن يكــون رضــا هللا مطلبــا يف ذاتــه‪.‬‬
‫ً‬
‫ال بــد أن حنــب هللا وحنــرص علــى أن حيبنــ�ا هــو أيضــا ســبحانه وتعــاىل‪ ،‬وأال‬
‫نطيــق احليــاة دون هــذه املحبــة ‪.‬‬

‫ـرا مــن آيــات األوامــر ببي ـ�ان أنــه حيــب‬ ‫أال تــرى أن هللا تعــاىل ختــم كثـ ً‬
‫مــن يفعــل كــذا وكــذا وال حيــب مــن يفعــل كــذا وكــذا ؟ مــاذا نســتفيد مــن هــذه‬
‫اخلواتيــم؟ إن كنــا أوفيــاء هلل تعــاىل وصادقــن يف محبت ـ�ه فــإن هــذه اخلاتمــة‬
‫ً‬
‫(وهللا حيــب كــذا) ينبغــي أن تكــون كافيــة يف تشــجيعنا علــى تنفيــذ األمــر‪،‬‬
‫محبــة هللا لنــا‪ .‬كــم تكــررت هــذه‬ ‫ِ‬ ‫لنحصــل علــى هــذه اجلائــزة العظيمــة‪:‬‬
‫اخلواتيــم يف القــرآن الكريــم‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫ٱلل ُيحِـ ُّ‬
‫ـب ٱل ُم َّتقيـ َ‬ ‫ـن}‪{ ،‬إ َّن َّ َ‬ ‫َ َّ ُ ُ ُّ َّ‬ ‫سـن َ‬ ‫ٱلل ُيحـ ُّ ۡ ۡ‬
‫َّ َّ‬
‫ـن}‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٱلصٰبريـ َ‬
‫ِِ‬ ‫ين}‪{ ،‬وٱلل يحِــب‬ ‫ـب ٱل ُمح ِ ِ‬ ‫{إِن َ ِ‬
‫‪33‬‬

‫ُ ُ ۡ ُ ُّ َ َّ َ َ َّ‬ ‫ُ ۡ‬ ‫ـب ٱل ۡ ُم َت َط ّهريـ َ‬ ‫ٱلت َّوٰبيـ َ‬ ‫ٱلل ُي ِحـ ُّ‬


‫{إ َّن َّ َ‬
‫ٱلل فٱتب ِ ُعونِــي‬ ‫ـن}‪{ ،‬قــل إِن كنتــم ت ِحبــون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـن َو ُيحـ ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـب َّ‬
‫ِ‬
‫ـون فــي َس ـبيلِهِۦ َص ّٗفــا َك َأ َّن ُهــم ُب ۡن َيٰــن‪ٞ‬‬
‫َّ َّ َ ُ ُّ َّ َ ُ َ ٰ ُ َ‬
‫يحبِبكــم ٱلل}‪{ ،‬إِن ٱلل يحِــب ٱلذِيــن يقتِلـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ۡ ۡ ُ ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـن}‪.‬‬‫ـب ٱل ۡ ُم َت َو ّكِل ِيـ َ‬‫ٱلل ُي ِحـ ُّ‬
‫ـوص ‪{ ،}٤‬إ َّن َّ َ‬ ‫َّم ۡر ُصـ ‪ٞ‬‬
‫ِ‬

‫ألــم تقــف عنــد هــذه اخلواتيــم مــن قبــل؟ ألــم تشــعر بالســعادة‬
‫الــغــامــــرة إن كنــت مــــن أصــــناف النــاس الذيــن حيبهــم هللا تعــاىل؟ أال تعــي‬
‫لــك هــذه املحبــة الــيء الكثــر؟ أال تســتحق محبــة هللا أن تكــون أســى‬
‫ّ‬
‫األمنيــ�ات وأجــل معــى نعيــش مــن أجلــه؟‬

‫إن لم نقف عند هذه اخلواتيم من قبل‪ ،‬إن لم حنرص على أن نكون من‬
‫أهلها‪ ،‬إن لم تكن محبة هللا كافية يف أن نكون من املحسنني والصابرين واملتقني‬
‫واملتطهرين واملتبعني للرسول األمني واملتوكلني‪ ،‬ويف سبي�ل هللا من املقاتلني‪..‬‬
‫إن لم تكن محبة هللا كافية يف أن نب�ذل جهدنا يف التخلق بهذه األخالق‪ ..‬أال يدل‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ونقص اهتمام بمحبت�ه لنا؟‬ ‫ذلك على أن هناك جفافا يف محبتن�ا هلل‬

‫ويف املقابــل ‪ :‬تــرى أن هللا تعــاىل نهــى عــن أمــور وأتبــع النهــي بأنــه‬
‫ٱلل لَا ُي ِح ُّ‬
‫ــب‬ ‫يــن}‪{ ،‬إ َّن َّ َ‬
‫ٱلظٰلِم َ‬ ‫َ َّ ُ َ ُ ُّ َّ‬
‫تعــاىل ال حيــب مــن يفعــل كــذا‪{ :‬وٱلل لا ي ِحــب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ‬
‫ــب ٱلخَآئن َ‬ ‫َ‬
‫ٱلل لا ُيحِ ُّ‬
‫ِين}‪{ ،‬إ َّن َّ َ‬ ‫ــهۥ لَا ُيحِ ُّ‬
‫ــب ٱل ۡ ُم ۡســرف َ‬ ‫ٱل ۡ ُم ۡع َتد َ‬
‫ِيــن}‪{ ،‬إنَّ ُ‬
‫ِيــن}‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫أيخ راجــع نفســك ‪ ،‬هــل كنــت كلمــا قــرأت هذه اآليــات تفكــر بالطريقة‬
‫التاليــة‪( :‬إن لــم حيبــي هللا فســيعرضين لبــاء أو حيرمــي مــن نعيــم)؟ هــل‬
‫ويدفــع البــاء؟ ألــم تشــعر بوخــز‬‫هــذا هــو كل مــا يهمــك؟ أن يســتمر النعيــم ُ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وألــم أل حيبــك هللا تعــاىل؟ أليــس هــذا شــيئ�ا مرعبــا وعقوبــة كافيــة يف ذاتهــا‬
‫أال حيبن ـ�ا هللا؟ أال تكفــي هــذه العقوبــة يف أن حتــرص كل احلــرص علــى البعــد‬
‫عــن الظلــم والعــدوان واإلســراف واخليانــة ألن هللا تعــاىل ال حيــب مــن اتصــف‬
‫‪34‬‬

‫بهــذه الصفــات؟‪ ..‬أن تفتــش يف أقوالــك وأفعالــك وحتاســب نفســك حسـ ً‬


‫ـابا‬
‫ً‬
‫دقيقــا خشــية أن تفقــد محبــة هللا لــك وأنــت ال تشــعر؟‬

‫اســأل نفســك هــذه األســئلة لتعــرف إن كنــت أقــرب إىل شــخصية‬


‫رايم اجلــاف أم غســان الــذي لــم يطــق أن يــرى العبــوس يف وجــه أبيــ�ه ولــم‬
‫ـاء ونبــ ٍـل يف نفســه‪.‬‬
‫يتصــور العيــش وهــو حيــس بنقــص محبــة أبي ـ�ه لــه‪ ،‬لوفـ ٍ‬

‫أال تـرى كيـف أن الطفـل الصغير يسـتمد ثقتـه بنفسـه مـن محبـة‬
‫َ‬
‫والديـه لـه؟ ال يشـعر باالسـتقرار والطمأنينـ�ة إال إذا ّ‬
‫عبر والـداه عـن محبتهمـا‬
‫لـه‪ ..‬إذا قـال لـه أبـوه‪ :‬ال أحبـك‪ ،‬فـإن هـذا يهـدد اسـتقراره ويدمر ثقته بنفسـه‬
‫ويعطيـه نظـرة سـوداوية للحيـاة‪ .‬ألسـنا حنـن اخللـق عيـال هللا تعـاىل مـا‬
‫لنـا معيـل وال ملجـأ إال هـو سـبحانه وتعـاىل‪ ..‬إذا قـال هللا لـك‪ :‬ال أحبـك‪ ..‬أال‬
‫يـخـــيفك ذلـك؟ أال جيعلـك ترتعد؟ أال ُي َسـود احلياة يف وجهـك؟ أال يهدد ذلك‬
‫اسـتقرارك وطمأنينتـك؟ أال ينبغـي لـك أن حتاسـب نفسـك علـى كل قـول أو‬
‫فعـل يمكـن أن جيعلـك مـن هـؤالء الذين ذكـر هللا تعـاىل يف كتابه أنـه ال حيبهم؟‬

‫ً‬
‫وإحساسا‬ ‫ً‬
‫عــظــيما‬ ‫عندما يتشرب قلبك هذا الـمـعـنى فـسـتـجــد ً‬
‫وقـــعا‬
‫َۡ‬ ‫جديـدا بكثير مـن اآليـات واألحاديـث‪ ،‬مثـل قولـه تعـاىل‪{ :‬يُبَ ّ ِش ُ ُ ُّ ُ‬ ‫ً‬
‫ـره ۡم َربهـم ب ِ َرحمةٖ‬
‫يـم ‪[ }٢١‬التوبـة‪ ..]21 :‬تأمل هـذه اآلية كلمة‬ ‫يم ُّمقِ ٌ‬ ‫ـوٰن َو َج َّنٰت ل َّ ُه ۡم ف َ‬
‫ِيهـا نَعِ ‪ٞ‬‬ ‫ّۡ ُ َ ۡ َ‬
‫ٖ‬ ‫مِنـه ورِض ٖ‬
‫كلمـة لترى كيـف تنبـع منها محبـة هللا‪ ..‬ويف الـمــقابل اآليـات واألحاديث اليت‬
‫ً‬
‫تذكـر أصنافـا مـن النـاس ال يكلمهـم هللا وال ينظر إليهـم‪ ..‬فكفى بهـا عقوبة أال‬
‫قلـب ّ‬
‫يح‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫يكلمـك حبيبـك وال ينظـر إليـك إن كنت صاحب‬

‫تأمــل معــي كذلــك احلديــث الــذي رواه البخــاري أن هللا يقــول ألهــل‬
‫اجلنــة‪(( :‬يــا أهــل اجلنــة))‪ ،‬فيقولــون‪ :‬لبيــك وســعديك ‪ ،‬واخلــر يف يديــك‪،‬‬
‫‪35‬‬

‫فيقــول‪(( :‬هــل رضيتــم؟)) فيقولــون ‪ :‬ومــا لنــا ال نــرىض يــا رب‪ ،‬وقـــد‬
‫ً‬
‫أعــطــيــــتن�ا مــــا لــــم تــعــــط أحـــــدا مــــن خـلـقـــك‪ ،‬فيقــول‪(( :‬أال أعطيكــم‬
‫أفضــل مــن ذلــك؟)) فيقولــون‪ :‬يــا رب‪ ،‬وأي يشء أفضــل مــن ذلــك؟! فيقــول ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ ّ‬
‫((أ ِحل عليكم رضواين‪ ،‬فال أسخط عليكم بعده أبدا))‪..‬‬

‫يصعــب علــى جــاف الشــعور أن يفهــم لمــاذا هــذه أعظــم النعــم! فمــا دام‬
‫أهــل اجلنــة يف ظــل ممــدود وفاكهــة كثــرة وحــور عــن فمــاذا يضيــف إليهــم‬
‫رضــوان هللا يف نظــره؟!‬

‫أمــا صــادق املحبــة فيعلــم أن رضــا املحبــوب أســى األمنيـ�ات ومنتهــى‬


‫َ‬
‫ـت َت ۡجــري ِمــن َت ۡحت ِ َهــا ٱلۡأنۡ َهٰـ ُ‬
‫ـر‬
‫َ َّ‬
‫ـت جنٰـ ٖ‬
‫َ ۡ ۡ َ‬ ‫َ َ َ َّ ُ ۡ ۡ‬
‫ٱلل ٱل ُمؤ ِمن ِيــن َوٱل ُمؤمِنٰـ ِ‬ ‫الطموحــات‪{ :‬وعــد‬
‫ِ‬
‫َ ۡ َ ۡ َ ٰ ‪َ َ ُ َ ۡ َ َّ َ ّ ٞ‬‬ ‫َ َّ‬ ‫ٗ‬ ‫ِيهــا َو َم َ ٰ‬ ‫َخٰلِدِيـ َ‬
‫ـرۚ ذٰلِــك‬ ‫ك َن َط ّي ِ َبــة فِــي جنٰـ ِ‬
‫ـت عــد ٖ ۚن ورِضــون ِمــن ٱللِ أكبـ‬ ‫سـ ِ‬ ‫ـن ف َ‬

‫ـم ‪[ }٧٢‬التوبــة‪ ..]72 :‬نعــم! رضــوان هللا أكــر مــن النعــم األخــرى‬ ‫ـو ُز ٱلۡ َع ِظيـ ُ‬
‫ـو ٱلۡ َفـ ۡ‬
‫ُهـ َ‬
‫كلهــا‪ ..‬أكــر مــن اجلنــات واألنهــار واملســاكن الطيبــ�ة‪ ..‬إنــه رضــا أعظــم‬
‫محبــوب ســبحانه وتعــاىل‪.‬‬

‫َۡ ُ ُ‬ ‫َ ۡ ُ‬
‫تــأمــل مـعي كذلك قوله تعاىل‪{ :‬فٱذك ُرون ِ ٓي أذك ۡرك ۡم} [البقرة‪..]152 :‬‬
‫حينئـذ جبائزة‪ ..‬ما هي هذه‬ ‫ٍ‬ ‫يتودد إلين�ا ربن�ا ويطلب منا أن نذكره ويعدنا‬
‫اجلــائــزة؟ أن يــذكرنا تعاىل‪ .‬ضعيف املشاعر ال يفهم ما املزية يف أن يذكر هللا‬
‫العبد‪ .‬أما صادق املحبة فيكفيه أن يذكره أعظم محبوب‪ :‬هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫تأمــل معــي كذلــك احلديــث الــذي يصــور فرحــة هللا تعــاىل بتوبــة‬
‫َ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫عبده‪(( :‬ل أفـــــرح بــتــوبــــة عــبــــده مــن أحــــدكم جيد ضالته بالفالة)) (رواه‬
‫مســلم)‪ .‬فاإلنســان النبيـ�ل املؤمــن يكفيــه ً‬
‫دافعــا إىل التوبــة ُ‬
‫علمــه بأنهــا ســتفرح‬
‫مــن؟ ســتفرح أعظــم محبــوب‪ ..‬هللا ســبحانه وتعــاىل!‬
‫‪36‬‬

‫ً‬
‫بــل هنــاك بعــد آخــر جميــل أيضــا ‪ :‬إذا أهــداك مــن حتــب هديــة‪،‬‬
‫فبأيهمــا أنــت أفــرح؟ بالهديــة ذاتهــا أم بداللتهــا علــى محبــة مــن أهداهــا لــك؟‬
‫بــل تفــرح أكــر بــأن مــن أهداهــا إليــك يعــر بذلــك عــن حبــه‪ .‬لــذا ففرحــة أهــل‬
‫اجلنــة مضاعفــة‪ ،‬فهــم ليســوا فرحــن بمــا آتاهــم هللا مــن فضلــه فحســب‪ ،‬بــل‬
‫وبداللــة هــذا اإلنعــام علــى حــب هللا لهــم ورضــاه عنهــم كذلــك‪..‬‬

‫فــا تنــس استشــعار هــذا املعــى كلمــا قــرأت آيــات وأحاديــث اإلنعــام اإللهي‪..‬‬
‫ـم َّ ُ‬
‫ٱلل}‪..‬‬ ‫ٱلل ٱلَّذ َ‬
‫ِين َء َام ُنــوا ْ}‪َ { ،‬ءاتَى ٰ ُهـ ُ‬ ‫ـد َّ ُ‬ ‫ٱلل ل َ ُهـ ۡ‬
‫ـم}‪َ { ،‬و َعـ َ‬ ‫ـر ُه ۡم َر ُّب ُهــم}‪{ ،‬أَ َعـ َّ‬
‫ـد َّ ُ‬ ‫{يُبَ ّ ِشـ ُ‬
‫رضــا هللا الــذي يــدل عليــه هــذا النعيــم أهــم مــن النعيــم نفســه‪.‬‬

‫طبعـا ال يعني مـا تقـدم أن املؤمـن يطيـع هللا تعـاىل ويعبـده محبـة‬ ‫ً‬
‫فحسـب دون انتظـار ثواب أو خوف عقاب‪ ،‬فهذا شـطط تـرده نصوص القرآن‬
‫ٗ‬ ‫َۡ ُ َ‬
‫ـون َر َّب ُه ۡم َخ ۡوفا َو َط َم ٗعـا} [السـجدة‪ ..]16 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫والسـنة كقولـه تعاىل‪{ :‬يدع‬
‫ـه ۚ ٓۥ} [اإلسـراء‪ ..]57 :‬إنمـا املقـــصود التنبي�ه على‬ ‫ون َع َذابَ ُ‬
‫َ َۡ ُ َ َ ََۡ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫{ويرجـون رحمتـهۥ ويخاف‬
‫كثريا مــــــا يـغــــيب عن األذهان ينبغي أن حيتف باخلوف والرجاء‪ ،‬أال‬ ‫مــعــنى ً‬
‫حبـا لـه تعـاىل واحلـرص علـى حبـه تعاىل لنـا ورضـاه عنا‪.‬‬ ‫وهـو طاعـة هللا ًّ‬
‫ ‬
‫هــل اقتنعــت اآلن أن هللا تعــاىل يتــودد إلينــ�ا؟ هــل اســتوقفتك هــذه‬
‫َّ ًّ‬ ‫ً‬
‫حريصــا علــى أن تب ـ�ادل هللا الـ ُـود ُودا؟ أم أنــك‬ ‫اآليــات مــن قبــل؟ هــل كنــت‬
‫التهيــت بالنعــم عــن املنعــم؟ إذا كنــت التهيــت فــا تعجــب عندمــا يبتليــك‬
‫ً‬ ‫ُ ّ ًّ‬
‫الــود ُودا‪ .‬حــى لــو كان االبتــلاء شــديدا‪ ،‬فلــن‬ ‫هللا تعــاىل ليذكــرك أن تب�ادلــه‬
‫يكــون أشــد مــن جفــاف الــروح وقحــط القلــب خبلــوه مــن تــذوق تــودد هللا لنــا‬
‫ّ ًّ‬
‫ومبادلــة هــذا الـ ُـود ُودا‪ .‬فــإذا دفعــك البــاء إىل هــذا التــذوق فقــد ربحــت كل‬
‫ً‬
‫يشء‪ ،‬ولــم ختســر شــيئ�ا‪ ،‬مهمــا كانــت خســارتك كبــرة يف الظاهــر‪.‬‬
‫‪37‬‬

‫الحمد لله على أنه لم يعطني ما تمنيت!‬

‫ذكرنــا أن البــاء يعينــك علــى أن تبــي حبــك هلل علــى أســس ســليمة‪ ،‬وقلنــا‬
‫َ‬
‫أن مــن هــذه األســس تأمــل أســماء هللا وصفاتــه‪ .‬البــاء يعينــك علــى فهــم‬
‫هــذه األســماء والصفــات‪.‬‬
‫‪ -‬سنتكلم بداية عن صفة احلكمة‪ ..‬حكمة هللا تعاىل يف االبتلاء‪.‬‬
‫‪ -‬ســبحان هللا! ِمــن النــاس َمــن يشــككه البــاء يف حكمــة هللا‪ ،‬بينمــا املؤمــن‬
‫يزيــده البــاء يقين ـ�ا حبكمــة هللا!‬

‫مــن جميــل مــا قيــل‪« :‬مــى فتــح –أي هللا تعــاىل‪ -‬لــك بــاب الفهــم يف املنــع‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عــاد املنــع عــن العطــاء‪ .‬مــى أعطــاك أشـ َـهدك بـ ّـره‪ ،‬ومــى منعــك أشــهدك‬
‫متعــرف إليــك ومقبــل بوجــود لطفــه عليــك‪ .‬إنمــا‬ ‫ّ‬ ‫قهــره‪ ،‬فهــو يف كل ذلــك‬
‫يؤملــك املنــع لعــدم فهمــك عــن هللا فيــه»‪.‬‬
‫ُ‬
‫إذن‪ ،‬قد ترم من نعمة‪ ..‬فإن وفقك هللا للتفكر يف حكمته عندما حرمك‪،‬‬
‫فإن هذا التفكر سيعود عليك بعطايا هي أعظم بكثري مما حرمت منه‪ ،‬وسرتى‬
‫عرفك بأسمائه وصفاته من خالل هذا البالء‪ .‬أما الذي ال يرى‬ ‫أن هللا تعاىل ُي ِّ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫البالء إال ًّ‬
‫شرا محضا فمصيبت�ه يف قلة التفكر وقلة فهم ِحكم هللا‪.‬‬

‫َّ‬
‫قــال ابــن القيــم‪( :‬ولــو أنصــف العبــد ربــه‪ ،‬وأن لــه بذلــك‪ ،‬لعلــم أن فضلــه‬
‫َ‬
‫عليــه فيمــا َمن َعــه مــن الدني ـ�ا ولذاتهــا ونعيمهــا أعظــم مــن فضلــه عليــه فيمــا‬
‫آتــاه مــن ذلــك‪ ،‬فمــا منعــه إال ليعطيــه) (الفوائــد)‪.‬‬

‫َْ‬
‫جتــاوز‬ ‫املفتــاح للتفكــر والفهــم هــو أن توقــن أن هلل يف كل يشء حكمــة‪.‬‬
‫الشــك يف وجــود احلكمــة‪ .‬أيقــن حبكمــة هللا ثــم تفكــر‪ :‬مــا هــي هــذه احلكــم؟‬
‫ُْ‬
‫وســتفتح لــك حينئ ـ�ذ كنــوز عظيمــة‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫َ َ َ َ َ ۡ َُ ْ‬
‫واملفتــاح اآلخــر أن توقــن جبهلــك يف مقابــل حكمــة هللا‪{ :‬وعسـ ٰٓى أن تكرهوا‬
‫َ ۡ ٗ َ ُ َ َ ۡ ‪َ ُ َ َ ُ َ ۡ َ ُ َّ َ ۡ ُ َّ ٞ ّ َ َ ُ َ ٗ ۡ َ ْ ُّ ُ َ َ َ َ ۡ ُ َّ ٞ‬‬
‫نت ۡم لا‬ ‫شيـٔــا وهــو خيــر لكــمۖ وعسـ ٰٓى أن تحِبــوا شيـٔــا وهــو شــر لكـ ۚ‬
‫ـم وٱلل يعلــم وأ‬
‫ََُۡ َ‬
‫ـون ‪[ }٢١٦‬البقــرة‪.]216 :‬‬
‫تعلمـ‬

‫ُ‬
‫ـلاء تقيي ـ�د حريــي‪ ..‬يف كل مرحلــة منــه كنــت أتمــى أن يتوقــف‬ ‫مــررت ببـ ِ‬
‫البــاء عنــد هــذا احلــد وأعــود إىل حيــايت كاملعتــاد‪ .‬ويف كل مرحلــة كنــت أظــن‬
‫أن توقــف البــاء عنــد هــذا احلــد هــو األنفــع يل‪ .‬لكنــي يف كل مرحلــة كنــت‬
‫أكتشــف أن اســتمرار البــاء كان أنفــع يل مــن توقفــه! واآلن لــو ســئلت‪ :‬هــل‬
‫تتمــى لــو أن كل هــذا الــذي حــدث لــك لــم حيــدث؟ فجــوايب‪ :‬ال وهللا! بــل أنــا‬
‫ًّ‬
‫ســعيد جــدا بــأن هللا تعــاىل لــم حيقــق يل مــا تمنيت ـ�ه ودعــوت بــه مــن العــودة‬
‫حليــايت الطبيعيــة‪ ،‬بــل اختــار يل مــا هــو أفضــل مــن اختي ـ�اري لنفــي‪.‬‬
‫ْ‬
‫أحمــد هللا علــى أن اســتمرت نعمــة البــاء هــذه املــدة كلهــا ألقطــف منهــا‬
‫الهدايــا الرباني ـ�ة العظيمــة‪.‬‬

‫قــال ابــن القيــم‪( :‬ومــن اآلفــات اخلفيــة العامــة أن يكــون العبــد يف نعمـ ٍـة‬
‫ّ‬
‫أنعــم هللا بهــا عليــه واختارهــا لــه فيملهــا العبــد ويطلــب االنتقــال منهــا إىل مــا‬
‫يزعــم ‪-‬جلهلــه‪ -‬أنــه خــر لــه منهــا‪ .‬وربــه برحمتــه ال خيرجــه مــن تلــك النعمــة‬
‫ويعــذره جبهلــه وســوء اختي ـ�اره لنفســه‪.)...‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ثــم قــال‪( :‬فــإذا أراد هللا بعبــده خـ ً‬
‫ـرا ُورشــدا أشــهده أن مــا هــو فيــه نعمــة مــن‬
‫ّ‬
‫نعمــه عليــه َورضــاه بــه وأوزعــه شــكره عليــه) (الفوائــد)‪.‬‬

‫واحلمــد هلل وصلــت إىل هــذه املرحلــة يف أواخــر بــايئ‪ :‬لــم تعــد املســألة‬
‫صـ ً‬
‫ـرا فحســب‪ ،‬بــل أصبحــت أشــكر ريب علــى مــا أنــا فيــه مــن نعمــة البــاء‪.‬‬

‫ً‬
‫قبــل جتربــي تلــك كنــت أتســاءل أحيانــا عــن احلكمــة يف تقديــر البــاء علــى‬
‫‪39‬‬

‫علمــاء ودعــاة يفيــدون النــاس بدعوتهــم وهــم أحــرار‪ ،‬كاإلمــام أحمــد بــن حنبـ�ل‬
‫وابــن تيميــة وابــن القيــم وســيد قطــب وغريهــم‪ .‬كنــت أفهــم بعــض احلكــم‬
‫مــن ذلــك‪ ،‬لكــي كنــت أتمــى أن يطمــن قلــي أكــر‪ .‬كنــت أفهــم ً‬
‫جانب ـ�ا مــن‬
‫احلكمــة نظريــا لكنــي بتجربــة البــاء فهمتهــا ًّ‬
‫عمليــا‪.‬‬
‫ُ َ‬
‫إذا ابتليت ووفقك هللا للفهم فسرتى كيف أن من يعمل لإلسالم تبقى‬
‫يف شخصيت�ه حلقة مفقودة ال تكتمل إال بالتضحية‪ ،‬عندما يقدم ثمن دعوته‪.‬‬

‫فتوحــات مــا كانــت‬ ‫ٍ‬ ‫ســرى كيــف أن هللا يفتــح علــى األســر يف ســبيله‬
‫ختطــر بب�الــه خــارج الســجن‪ .‬ســتفهم كل كلمــة مــن الكلمــات التاليــة العظيمــة‬
‫لســيد قطــب رحمــه هللا‪:‬‬
‫(فــا بــد مــن تربيــ�ة النفــوس بالبــاء ومــن امتحــان التصميــم علــى‬
‫معركــة احلــق باملخــاوف والشــدائد وباجلــوع ونقــص األمــوال واألنفــس‬
‫ـوع َو َن ۡقــص ّ ِمـ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ـن ٱلۡخَـ ۡ‬ ‫َ َ َ ۡ ُ َ َّ ُ‬
‫ـن‬ ‫ٖ‬ ‫ـو ِف َوٱلجُـ ِ‬ ‫كــم ب ِ َشـ ۡ‬
‫ـي ٖء ّ ِمـ َ‬ ‫الثمــرات‪ .‬قــال تعــاىل‪{ :‬ولنبلون‬
‫ٱلصٰبر َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ َ َ ٰ َ َ ّ‬ ‫ۡ َۡ َٰ َ ۡ َ ُ‬
‫يــن ‪[ }١٥٥‬البقــرة‪..]155 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ــر‬
‫ِ‬ ‫ش‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫ۗ‬ ‫ِ‬ ‫ــر‬ ‫م‬ ‫ٱلث‬‫و‬ ‫ــس‬
‫ِ‬ ‫نف‬ ‫ٱلأمــو ِل وٱلأ‬
‫البــد مــن هــذا البــاء ليــؤدي املؤمنــون تكاليــف العقيــدة كــي تعــز علــى‬
‫نفوســهم بمقــدار مــا أدوا يف ســبيلها مــن تكاليــف‪ ،‬والعقائــد الرخيصــة الــي ال‬
‫يــؤدي أصحابهــا تكاليفهــا ال يعــز عليهــم التخلــي عنهــا عنــد الصدمــة األوىل‪.‬‬
‫فالتكاليــف هنــا هــي الثمــن النفيــس الــذي تعــز بــه العقيــدة يف نفــوس أهلهــا‬
‫َ‬
‫قبــل أن تعــز يف نفــوس اآلخريــن‪ ،‬وكلمــا تأملــوا يف ســبيلها وكلمــا بذلــوا مــن‬
‫أجلهــا كانــت أعــز عليهــم وكانــوا أضــن بهــا‪.‬‬
‫كذلــك لــن يــدرك اآلخــرون قيمتهــا إال حــن يــرون ابتــلاء أهلهــا وصربهــم‬
‫ُ‬
‫علــى بالئهــا‪ .‬وال بــد مــن البــاء كذلــك َلي ْصلــب عــود أصحــاب العقيــدة‬
‫ويقــوى‪ .‬فالشــدائد تســتجيش مكنــون القــوى‪ ،‬ومدخــور الطاقــة‪ ،‬وتفتــح يف‬
‫القلــوب منافــذ ومســارب مــا كان ليعلمهــا املؤمــن إال حتــت مطــارق الشــدائد‪.‬‬
‫والقيــم واملوازيــن والتصــورات مــا كانــت لتصــح وتــدق وتســتقيم إال يف‬
‫‪40‬‬

‫جــو املحنــة الــي تزيــل الغبــش عــن العيــون والـ َّـران عــن القلــوب‪ .‬وأهــم مــن‬
‫هــذا كلــه‪ ،‬أو القاعــدة لهــذا كلــه‪ :‬االلتجــاء إىل هللا وحــده حــن تهــز األســناد‬
‫كلهــا‪ ،‬وتتــوارى األوهــام ‪-‬وهــي شــى‪ -‬وخيلــو القلــب إىل هللا وحــده ال جيــد‬
‫ً‬
‫ســندا إال ســنده‪ .‬ويف هــذه اللحظــة قــد تنجلــي الغشــاوات‪ ،‬وتنفتــح البصــرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وينجلــي األفــق علــى مــد البصـــــــــــــر‪ :‬ال يشء إال هللا‪ ،‬ال قــوة إال قوتــه‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حــول إال حولــه‪ ،‬ال إرادة إال إرادتــه‪ ،‬ال ملجــأ إال إليــه‪ ..‬لذلــك إن هللا قــد وضــع‬
‫االبتــلاء لينكشــف املجاهــدون ويتمــزوا ‪ ،‬وتصبــح أخبارهــم معروفــة‪ ،‬وال‬
‫يقــع االلتب ـ�اس يف الصفــوف‪ ،‬وال يبقــى مجــال خلفــاء أمــر املنافقــن ‪ ،‬وال أمـ ِـر‬
‫الضعــاف اجلزعــن) انتهــى كالمــه رحمــه هللا مــن كتابــه (يف ظــال القــرآن‪-‬‬
‫تفســره ســورة البقــرة)‪.‬‬

‫إذن هــذه مــن حكــم هللا تعــاىل يف ابتــلاء الدعــاة‪ .‬صحيــح أنهــم لــو بقــوا‬
‫بكامــل حريتهــم لربمــا تمكنــوا مــن مخالطــة النــاس وقــراءة املراجــع وبــث‬
‫ْ‬
‫املؤلفــات أكــر‪ .‬لكــن هللا تعــاىل يريــد أن ُيـــخ ِل َص ني�اتهــم ويبــث احليــاة يف‬
‫كلماتهــم‪ ..‬فكمــا قيــل‪ :‬فعــل رجــل يف ألــف رجــل أبلــغ مــن قــول ألــف رجــل يف‬
‫رجــل‪.‬‬

‫‪ -‬ال يــعــــي هــــذا أنــك ســتحيط حبكمــة هللا يف البــاء كلهــا أو أن لــك أال حتســن‬
‫َ َ ٓ ُ ُ ّ َ ۡ ۡ َّ َ ٗ‬
‫الظــن حــى تدركهــا‪ ..‬فــاهلل تعــاىل قــال‪{ :‬ومــا أوت ِيتــم ِمـ‬
‫ـن ٱلعِلـ ِم إِلا قل ِيــلا ‪}٨٥‬‬
‫[اإلســراء‪...]85 :‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬فلــن تــدرك إال قليــا مــن حكــم هللا تعــاىل‪ .‬لكنــه ســبحانه برحمتــه أطلعــك‬
‫علــى يشء مــن حكمتــه ليطمــن قلبــك‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫ً‬
‫ثق حبكمة هللا يف ابتلائك‪ ،‬وسيكشف لك كنوزا عظيمة‪.‬‬
‫‪41‬‬

‫ستفرج في اللحظة المناسبة!‬

‫ال زلنــا نتكلــم عــن حكمــة هللا عــز وجــل يف االبتــلاء‪ ،‬وهنــا نضيــف عنصـ ًـرا‬
‫ً‬
‫جديــدا أال وهــو احلديــث عــن‪ :‬حكمــة هللا عــز وجــل يف اختي ـ�ار مــدة البــاء‪.‬‬
‫ً‬
‫كان يأتيــي أحيانــا خاطــر يف بــايئ فأقــول يف نفــي‪( :‬حــى هــذا احلــد‬
‫كثــرا مــن هــذه التجربــة لديــي‪ ،‬لكــي أخــى إن طــال البــاء أن‬ ‫اســتفدت ً‬
‫ًّ‬
‫عكســيا)!‬ ‫يصبــح املفعــول‬

‫ٌ‬
‫ثــم قلــت لنفــي‪ :‬ومــا شــأنك أنــت؟ أنــت عبــد؛ دع أمــرك هلل عــز وجــل‬
‫احلكيــم اخلبــر العليــم‪ ،‬هــو أعلــم بمــدة البــاء‪ ،‬وشــدته‪ ،‬وتوقيت ـ�ه‪ ،‬ونوعــه‪،‬‬
‫خيتــار مــا يشــاء ســبحانه وتعــاىل‪ ،‬وهــو احلكيــم يف اختي ـ�اره‪.‬‬

‫حىت نفهم هذا املعىن؛ تعال نت�أمل قصة غزوة األحزاب (اخلندق)‪:‬‬
‫وقــع البــاء يف وقتــه‪ ،‬وارتفــع يف وقتــه‪ ..‬كانــت األزمــة قــد اســتمرت حــى‬
‫وقــع التمايــز التــام بــن املنافقــن والذيــن يف قلوبهــم مــرض واملؤمنــن‪،‬‬
‫وانكشــفت حقائــق الرجــال‪..‬‬

‫فمــن حكمــة هللا ورحمتــه أن البــاء اســتمر إىل أن حتققــت هــذه األمــور‪،‬‬
‫َ‬
‫فيأخــذ املؤمنــون حذرهــم مــن املنافقــن‪ ،‬وال يت�أثــرون بعدهــا بأقوالهــم‬
‫وســمومهم الــي ينفثونهــا بمكــر‪.‬‬

‫ً‬
‫ومــن حكمــة هللا ورحمتــه أيضــا أن البــاء لــم يســتمر ويشــتد أكــر مــن‬
‫ـدم بعــد ثبوتهــا وينخلــع بعــض املؤمنــن عــن إيمانهــم ويقينهــم‪.‬‬ ‫ذلــك فــزل قـ ٌ‬
‫ٱلل َو َر ُســول ُ ُهۥ َو َصـ َ‬
‫ـد َق َّ ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ُ ْ َ ٰ َ‬
‫ـذا َمــا َو َع َدنَــا َّ ُ‬
‫ٱلل‬ ‫{ولمــا رءا ٱلمؤمِنــون ٱلأحــزاب قالــوا هـ‬
‫َ‬ ‫ــم إل َّ ٓا إ َ‬
‫يم ٰ ٗنــا َوت ۡســل ِٗيما ‪[ }٢٢‬األحــزاب‪..]22 :‬‬ ‫َ َ ُ ُُ َ َ َ َ ُ ۡ‬
‫ورســوله ۚۥ ومــا زاده ِ ِ‬
‫‪42‬‬

‫فاملؤمنــون لمــا رأوا األحــزاب ثبتــوا وصــروا‪ ،‬و(إنمــا الصــر عنــد الصدمــة‬
‫َ‬
‫األوىل)‪ ..‬فنجاهــم هللا عــز وجــل بإيمانهــم وأنطقهــم بــكالم َح ِفــظ عليهــم‬
‫دينهــم‪..‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫وقولهــم‪َ { :‬هٰــذا َمــا َو َع َدنَــا َّ ُ‬
‫ٱلل َو َر ُســول ُهۥ}‪ ..‬قــال املفســرون أنهــم يعنــون بــه‬
‫َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ْ ۡ َ َّ َ َ َ َّ َ ۡ ُ‬
‫قــول هللا تعــاىل يف ســورة البقــرة‪{ :‬أم حسِــبتم أن تدخلــوا ٱلجنــة ولمــا يأت ِكــم‬
‫ُ َ‬ ‫ۡ ُ ْ‬ ‫َ ۡ ُ َّ َّ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ٓ ُ َ َّ َّ ٓ‬ ‫َّ َ ُ َّ َ َ َ ۡ ْ‬
‫ـرا ُء َو ُزل ِزلــوا َح َّتـ ٰ‬
‫ـى َيقــول‬ ‫ـوا ِمــن قبل ِك ـمۖ مســتهم ٱلبأســاء وٱلضـ‬ ‫مثــل ٱلذِيــن خلـ‬
‫ٱللِ قَريـ ‪ٞ‬‬ ‫َّ َ ۡ َ َّ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ٰ َ ۡ ُ َّ‬
‫ْ‬
‫ـب ‪( }٢١٤‬قــال‬ ‫ِ‬ ‫ـر‬‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ۗ‬‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫ٱلرســول وٱلذِيــن ءامنــوا معــهۥ متــى نصــر‬
‫ابــن عاشــور إن هــذه اآليــة نزلــت قبــل وقعــة األحــزاب بعــام)‪.‬‬

‫لكــن البــاء اســتمر واشــتد‪ ..‬ودام احلصــار شـ ً‬


‫ـهرا‪ ،‬ويف هــذا الشــهر‪ :‬جــوع‪،‬‬
‫بــرد‪ ،‬خــوف‪..‬‬

‫حاول املشركون اإلغارة على املسلمني من نقاط ضعف يف اخلندق‪.‬‬

‫وبلغــت األمــور ذروتهــا عندمــا علــم املســلمون أن يهــود بــي قريظــة نقضــوا‬
‫العهــد وحتالفــوا مــع املشــركني‪ ..‬واآلن‪ ،‬يف أيــة حلظــة‪ ،‬يمكــن ليهــود بــي‬
‫َ‬
‫قريظــة أن يفتحــوا بواباتهــم‪ ،‬فينســاح املشــركون يف املدينــ�ة ويعيثــوا فيهــا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتعذيبــ�ا وانتهــاكا لألعــراض‪.‬‬ ‫قتــا‬

‫ُ ۡ ۡ َ َ‬ ‫َۡ ُ ۡ َ ۡ َ ََ‬ ‫ۡ ٓ ُ‬
‫ــم َوِإذ زاغ ِ‬
‫ــت‬ ‫ِــن أ ۡســفل مِنك‬ ‫قــال هللا تعــاىل‪{ :‬إِذ َجا ُءوكــم ّمِــن فوق ِكــم وم‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُّ َ ۠‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ۡ ُ ُ ُ َۡ َ‬ ‫َۡۡ َ ٰ ُ ََ‬
‫ــر َوتظ ُّنــون بِــٱللِ ٱلظ ُنونــا ‪ ١٠‬ه َنال ِــك ۡٱب ُتلِــ َي‬ ‫ج‬ ‫ــر َو َبلغ ِ‬
‫ــت ٱلقلــوب ٱلحنا ِ‬ ‫ٱلأبص‬
‫ٗ‬ ‫ُۡ ۡ ُ َ َ ُۡ ُ ْ ۡ َ ٗ َ‬
‫ٱلمؤمِنــون وزل ِزلــوا زِلــزالا شــدِيدا ‪[ }١١‬األحــزاب‪..]11،10 :‬‬

‫يف هــذه اللحظــة ّ‬


‫نــى هللا املؤمنــن‪ ،‬وأرســل هللا الريــح فاقتلعــت خيــام‬
‫‪43‬‬

‫املشــركني‪ ،‬وكفــأت قدورهــم‪ ،‬وشــردت جموعهــم‪ ،‬وانســحبوا مهزومــن‪.‬‬


‫ُ‬
‫انظــر ‪-‬ســبحان هللا العظيــم!‪ -‬إىل هــذا التوقيــت املناســب‪.‬‬

‫تعال اآلن نت�أمل‪:‬‬


‫ماذا كان سيحصل لو تأخر النصر عن هذا احلد؟‬
‫وماذا كان سيحصل لو جاء النصر قبل هذا التوقيت؟‬
‫ُ‬
‫لــو تأخــر النصــر ‪-‬أكــر فأكــر‪ -‬يــى أن بعــض املؤمنــن كان ســينطق كالمــا‬
‫ً‬
‫أو يفعــل أفعــال كمــا صــدر مــن املنافقــن‪.‬‬
‫املنافقــون كانــوا يقولــون‪ « :‬قــد كان محمــد يعدنــا فتــح فــارس والــروم‪ ،‬وقــد‬
‫حصرنــا هاهنــا‪ ،‬حــى مــا يســتطيع أحدنــا أن يــرز حلاجتــه‪ ،‬مــا وعدنــا هللا‬
‫ً‬
‫غــرورا» (الطــري)‪.‬‬ ‫ورســوله إال‬

‫لــو تأخــر النصــر لربمــا اعتمــل الشــك يف قلوب املؤمنــن وحــاك يف صدورهم‬
‫ذهب حســناتهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما يهــدم ماضيهــم وي ِ‬
‫لكــن هللا ‪-‬عــز وجــل‪ -‬حبكمتــه ورحمتــه حفــظ عليهــم دينهــم؛ فلــم يت�أخــر‬
‫النصــر أكــر مــن ذلــك احلــد؛ ألن هللا يبتلــي املؤمــن علــى قــدر دينـ�ه‪.‬‬

‫طيب‪ ،‬السؤال اآلخر‪:‬‬


‫لماذا لم يأت النصر قبل ذلك؟‬
‫لمــاذا لــم حتســم املعركــة ولــم تــأت الريــح يف اليــوم التــايل مــن احلصــار‪،‬‬
‫األســبوع األول مــن احلصــار‪ ،‬األســبوع الثــاين مــن احلصــار؟‬
‫ً‬ ‫لماذا امتد احلصار ً‬
‫شهرا كامل؟‬

‫هلل يف ذلـك حكـم‪ ،‬منهـا ‪-‬وهللا تعـاىل أعلـم حبكمتـه‪ -‬أن هللا عز وجـل أراد‬
‫َّ‬ ‫أن يصلـب عـود املؤمنين‪ ،‬فكلما اشـتد البالء صلـب ُ‬
‫عودهم وترقـوا يف املنازل‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫ْ‬
‫ومنهــا أن هــذه الزلزلــة الــي حصلــت لهــم كســرتهم أمــام هللا وأشـ َـع َرتهم‬
‫بافتقارهــم إىل رحمتــه ســبحانه وضعفهــم يف املقابــل‪ ،‬فــا يصيبهــم العجــب‬
‫بأنفســهم وال يغــروا بهــا‪ ،‬وال يســندون الفضل إىل أنفســهم يف الصــر والثب�ات‪،‬‬
‫بــل يســندون الفضــل كلــه إىل هللا عــز وجــل الــذي جناهــم يف اللحظــة احلرجــة‪.‬‬

‫إذن‪:‬‬
‫لــم يت�أخــر النصــر إىل حــد يمكــن أن حييــك معــه يف صــدور املؤمنــن مــا يذهــب‬
‫بإيمانهــم‪.‬‬
‫ولــم يــأت يف مرحلــة مبكــرة قبــل أن يشــتد البــاء ويصلــب عودهــم وتــذل‬
‫ْ‬
‫نفوســهم هلل ويعلمــوا أن ليــس لهــم إال هللا عــز وجــل ويتمايــزوا عــن املنافقــن‬
‫وتنكشــف لهــم حقائــق هــؤالء املنافقــن‪.‬‬

‫فانظر إىل حكمة هللا ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ -‬يف مدة البالء‪.‬‬


‫َ‬ ‫فســبحان احلكيــم اخلبــر الــذي ال ُي ّ‬
‫ضيــع عمــل عبــاده املؤمنــن‪ ،‬ويف الوقــت‬
‫ذاتــه يربيهــم ويؤدبهــم‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫أيقن حبكمة هللا يف اختي�ار مدة البالء‪.‬‬
‫‪45‬‬

‫مذاقات ال توصف!‬

‫‪ -‬ال زلنــا نتكلــم عــن حكمــة هللا عــز وجــل‪ ..‬وكيــف أنــك عندمــا تت�أمــل حكمتــه‬
‫ً‬
‫ســبب�ا يف زيــادة محبــة هللا‪ ،‬فتنقلــب املحنــة‬ ‫تعــاىل يف االبتــلاء يكــون ذلــك‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫منحــة‪ ،‬خبــاف الذيــن ينهــار حبهــم هلل إذا ابتلــوا‪.‬‬

‫‪ -‬قبــل نعمــة البــاء الــذي مــررت بــه كنــت أتســاءل‪ :‬كيــف يصــر املؤمنــون‬
‫الذيــن يبتليهــم هللا بابتــلاءات شــديدة‪ .‬كنــت أومــن بقدرتــه تعــاىل علــى‬
‫ُ‬
‫تصبريهــم لكــن أتمــى أن يطمــن قلــي‪ .‬وعندمــا خالطــت نمــاذج مــن هــؤالء‬
‫النــاس كان مــن نعمــة هللا علــي أن فهمــت كيــف يصــرون‪ .‬فأورثــي ذلــك‬
‫ســامة صــدر جتــاه أقــدار هللا تعــاىل‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬رأيــت أول أن مــن حكمــة هللا تعــاىل أنــه ال يبتلــي عبــاده املؤمنــن بقواصــم‬
‫ظهــر ال يتحملونهــا‪ ..‬بــل ببــلاء يتن�اســب مــع إيمانهــم‪.‬‬

‫‪ -‬روى الرتمــذي عــن ســعد بــن أيب وقــاص قــال‪ :‬قلــت يــا رســول هللا‪ ،‬أي الناس‬
‫أشــد بــاء؟ قــال‪(( :‬األنبيـ�اء‪ ،‬ثــم األمثــل فاألمثــل؛ يبتلــى الرجــل علــى حســب‬
‫ُ‬ ‫دينـ�ه ‪ ،‬فــإن كان يف دينـ�ه ً‬
‫صلبــا اشــتد بــاؤه‪ ،‬وإن كان يف دينـ�ه رقــة ابتلــي علــى‬
‫قــدر دينـ�ه‪ ،‬فمــا يــرح البــاء بالعبــد حــى يرتكــه يمــي علــى األرض ومــا عليــه‬
‫خطيئـ�ة)) (رواه الرتمــذي وقــال‪ :‬حســن صحيــح‪ ،‬وصححــه األلبــاين وشــعيب األرنــاؤوط)‬

‫ثانيــ�ا‪ :‬رأيــت كيــف يرفــق تعــاىل بعبــاده املؤمنــن فيتــ�درج يف ابتلائهــم‪..‬‬ ‫‪ً -‬‬
‫َ‬ ‫يبتلــي علــى قــدر اإليمــان‪ ..‬ثــم يصــر‪ ..‬فزييــد الصـ ُ‬
‫ـر اإليمــان إىل درجـ ٍـة تؤهلــه‬
‫َ‬
‫لت َح ُّمــل ابتــلاء أشــد‪ ..‬يبتليــه هللا ذلــك البــاء‪ ..‬ثــم يصــر‪ ..‬وهكــذا‪ ..‬فيبقــى‬
‫البــاء يمــزج باإليمــان فريتقيــان بالعبــد يف املنــازل إىل درجــة مــا كان حيلــم بهــا‬
‫‪46‬‬

‫ٌ‬
‫وال يتصــور أنــه أهــل لهــا يف بدايــة بالئــه!‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ثالثــا‪ :‬حــى علــى فــرض أن بـ ً‬
‫ـاء شــديدا حــل باملؤمــن فجــأة‪ ..‬رأيــت كيــف‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أنــه تعــاىل يمنــح عبــده املؤمــن مذاقــات تــذاق وال توصــف! ً‬
‫تمامــا كطعــم‬
‫الفاكهــة وراحئــة العطــور‪..‬‬

‫‪ -‬لــو طلبــت منــك أن تصــف يل طعــم الربتقــال أو التفــاح أو راحئــة الياســـــمني‬


‫أو الريـحــــان‪ ..‬هــــل تــســتــــطيع؟ هــذه مذاقات تــذاق وال توصف‪.‬‬

‫‪ -‬كذلك فإن عباد هللا هؤالء الذين ال تتصور كيف يصربون‪ ،‬ذاقوا طعم‬
‫السكين�ة واألنس باهلل وتعلق القلب به والرضا بقضائه‪ ..‬هذه املعاين مذاقات‪:‬‬
‫ً‬
‫تذاق وال توصف‪ .‬ذقت يف جتربيت شيئ�ا منها فعرفت أثرها‪ ..‬لكين يف نعمة البالء‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫خالطت أناسا أحسبهم ً‬
‫خريا مين وأكرث عيشا لهذه املعاين مين‪.‬‬

‫‪ -‬كانــت بالياهــم شــديدة‪ ،‬أشــد مــن بــايئ بكثــر‪ ،‬ولكــن وجوههــم مــع ذلــك‬
‫كانــت تشــرق بالرضــا والبشــر والســكين�ة‪ ،‬وألســنتهم تلهــج حبمــد هللا‬
‫واســتصغار صربهــم مــا دام لوجــه هللا تعــاىل‪ .‬بــل إن أحدهــم قــال يل‪( :‬إين‪ ،‬وأنــا‬
‫ً‬
‫أدعــو هللا بالفــرج‪ ،‬أكاد أحيانــا أســأل هللا أال يســتجيب دعــايئ‪ ،‬لمــا أتذكــره مــن‬
‫عظيــم أجــري حينئــ ٍـذ يف الــدار اآلخــرة)!‬

‫‪ -‬كنــت أذكــر لهــذا األخ أين أحســن الظــن بــاهلل تعــاىل أنــه ســيجعل يل ً‬
‫فرجــا‬
‫ومخرجــا ً‬
‫قريب ـ�ا‪ ،‬فــكان يقــول يل‪( :‬هــذا جميــل‪ ،‬ولكــي أريــد لــك مســتوى أرىق‬ ‫ً‬
‫مــن ذلــك‪ :‬أريــدك أن تســتمتع بنعمــة البــاء!)‪.‬‬

‫‪ -‬تســتمتع بنعمــة البــاء! لــم أفهــم كلمتــه هــذه يف حينهــا لكــي بدأت أعيشــها‬
‫بعــد فــرة مــن اســتمرار “نعمــة البالء”‪.‬‬
‫‪47‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬لقـد رأيـت يف جتربتي طرفـا مـن حكمـة هللا يف االبتـلاء‪ ..‬بـدأ البلاء خفيفـا يف‬
‫صبرين هللا واشـتد عـودي فـزاد البلاء‪..‬‬ ‫قريبـ�ا‪َ َّ ..‬‬
‫البدايـة وظننـت أنـه سيزول ً‬
‫ُ‬
‫وكلمـا اشـتد‪ ،‬كانـت تزنل مـن هللا سـكين�ة ت َص ِّب‪ .‬فاحلمـد هلل احلكيـم الرحيم‪.‬‬

‫‪ -‬هـذه املذاقـات العجيبـ�ة إن لـم تذقهـا فلـك أن تـرى آثارهـا‪ :‬سـحرة فرعون ما‬
‫ـن ل َ َنا ل َ َأ ۡج ًرا إن ُك َّنـا َن ۡح ُن ٱلۡ َغٰلِب َ‬
‫ين ‪[ }٤١‬الشـعراء‪ ..]41 :‬كانوا قـــد‬ ‫كان لهـم َه ٌّـم إال‪{ :‬أَئ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عــاشـــوا ســـنني طــويـلة عـلى طلب الـدنــيا بالسحر ومخادعة الناس‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ثــم مــا هــي إال حلظــة مــن الهــدى واليقــن جعلتهــم جبــال روايس أمــام‬
‫َ‬ ‫التهديــد بالتقطيــع والتصليــب‪ ،‬يقولــون لفرعــون‪{ :‬قَالُــوا ْ لَــن نُّ ۡؤثِـ َ‬
‫ـر َك عَل ـ ٰى َمــا‬
‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٓ َ َ َ‬ ‫َ َ َ ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َجا ٓ َءنَــا مِـ َ ۡ َ‬
‫ضــي هٰــ ِذه ِ‬ ‫ـاض إِن َمــا تق ِ‬ ‫ۖ‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ـت َوٱلــذِي ف َط َرنــاۖ فٱقـ ِ‬
‫ـض مــا أنــت ق‬ ‫ـن ٱل َب ّيِنٰـ ِ‬
‫ك َر ۡه َت َنــا َعلَ ۡي ـهِ ِمـ َ‬ ‫َّ ٓ َ َ َّ َ ّ َ َ ۡ َ َ َ َ َ ٰ َ ٰ َ َ َ ٓ َ ۡ‬ ‫ۡ َ َ ٰ َ ُّ ۡ ٓ‬
‫ـن‬ ‫ٱلدن َيــا ‪ ٧٢‬إِنــا ءامنــا بِربِنــا ل ِيغفِــر لنــا خطينــا ومــا أ‬ ‫ٱلحيــوة‬
‫َ‬ ‫ّ ۡ َ َّ ُ َ ۡ َ َۡ‬
‫ــى ‪[ }٧٣‬طــه‪!!..]73،72 :‬‬ ‫ٱلسِــح ِرۗ وٱلل خيــر‪ ٞ‬وأبق ٰٓ‬

‫‪ -‬يــا هللا! أنــاس دنيويــون طينيــون‪ ..‬يف حلظــة ذاقــوا فيهــا هــذه املذاقــات الــي‬
‫ال توصــف حتولــوا إىل عمالقــة تعلقــت أرواحهــم بالــدار اآلخــرة ال يرجــون مــن‬
‫نفعــا وال خيافــون ضـ ًّـرا !‬
‫بشــر ً‬

‫ََ‬
‫أناســا صاحلــن ُي ْبتلــون باليــا شــديدة‪ ،‬وثــارت يف صــدرك‬ ‫فــإذا رأيــت ً‬
‫ْ ُ‬
‫تســاؤالت عــن حكمــة هللا يف ابتلائهــم‪ ،‬فقــل‪( :‬علـ َّـي نفــي‪ .‬هــم لــم يشــكوا‬
‫ربهــم ســبحانه ألحــد‪ .‬فــإن كانــوا راضــن بقضــاء هللا فمــا شــأين أنا؟ فــاهلل أرحم‬
‫طبعــا يف عونهــم ورفــع البــاء عنهــم إن اســتطعت‪.‬‬ ‫بهــم مــي)‪ ..‬مــع ســعيك ً‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫من حكمة هللا تعاىل‬
‫مذاقات ال توصف‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن يمنح أصحاب الباليا الشديدة‬
‫‪48‬‬

‫عند طبيب األسنان‬

‫ابنك‪ ..‬تنصحه أال يكرث من احللويات وأن ينظف فمه منها كلما أكلها‪.‬‬
‫ال يســتجيب لنصحــك‪ ..‬يأكلهــا بكــرة‪ ،‬يصيــب أســنانه التســوس‪ ،‬فيأتيــك‬
‫ـاكيا‪( :‬بابــا أســناين توجعــي)‪.‬‬ ‫شـ ً‬
‫(إذن هيا إىل الطبيب)‪..‬‬
‫(ال يا بابا أرجوك! سأتألم)‪.‬‬
‫ً‬
‫(ال بد من ذلك يا بين‪ ،‬وإال استفحل التسوس وعانيت ألما أشد)‪.‬‬
‫تذهبــان‪ ،‬جيلــس علــى كــريس الطبيــب‪ ،‬يبـ�دأ بإزالــة التســوس‪ ..‬يصيــح ابنــك‬
‫َ َ‬
‫مــن اخلــوف واأللــم‪( :‬بابــا أرجــوك خلــص)‪..‬‬
‫تنهره أنت‪( :‬اسكت يا بابا! دع الطبيب يعاجلك)‪.‬‬
‫يعود الطبيب للعالج‪ ،‬يسكت ابنك ثم يصيح‪( :‬بابا خلص بيكفي)‪..‬‬
‫تنهره حبزم‪( :‬الطبيب أدرى‪ ،‬دعه يكمل عمله)‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خــال ذلــك‪ ،‬هــل ينظــر إليــك طفلــك حبقــد؟! أبــدا طبعــا‪ ،‬فهــو يعلــم أنــك‬
‫تريــد مصلحتــه‪ .‬هــو ال يريــد أن يت�ألــم‪ ،‬لكــن يعلــم أن معاجلــة الطبيــب توفــر‬
‫عليــه آالمــا أشــد فيمــا بعــد‪.‬‬
‫أنــت كأب‪ ،‬تت�ألــم وأنــت تــرى ابنــك يت�ألــم‪ ،‬حــى أنــك قــد ختــرج مــن الغرفــة‬
‫ألنــك ال تطيــق ســماع أنين ـ�ه‪.‬‬
‫ينتهــي العــاج يف الوقــت املناســب‪ .‬يقــوم ابنــك عــن الكــريس‪،‬‬
‫وتنصرفــان‪ ..‬يف طريــق العــودة‪ ،‬ينظــر ابنــك لــك بمحبــة وإجــال‪( :‬أيب يريــد‬
‫مصلحــي يف كل مــا يفعلــه‪ .‬هــا قــد ذهــب األلــم وأتمتــع أنــا اآلن بأســنان‬
‫صحيــة)‪..‬‬

‫وهلل املثــل األعلــى‪ ..‬ينهانــا هللا تعــاىل عــن «حلويــات» املعــايص ويأمرنــا‬
‫أن نتطهــر منهــا كلمــا تن�اولناهــا‪..‬‬
‫‪49‬‬

‫نتغافــل‪ ،‬فتصيبنــ�ا الذنــوب وأمــراض القلــوب‪ .‬يعلــم ربنــ�ا الرحيــم أن‬


‫ُ‬
‫هــذه الذنــوب واألمــراض ســوف تســتفحل إن تركــت وتؤذينـ�ا‪ .‬فيضعنــا علــى‬
‫كــريس البــاء ليطهــر قلوبنـ�ا منهــا‪ .‬نت�ألــم‪ ،‬خنــاف‪ ،‬نرجــوه تعــاىل أن يقيمنــا عــن‬
‫كــريس البــاء‪ ..‬وربنـ�ا‪ ،‬برحمتــه‪ ،‬يعلــم أن العــاج لــم ينتـ ِ�ه بعــد‪ ،‬وأنــه ال زال يف‬
‫قلوبن ـ�ا تســوس‪.‬‬

‫ُ َّ‬
‫نعــم‪ ،‬لــك أن تدعــو هللا مــع ذلــك أن خيرجــك مــن البــاء وت ِلــح عليــه‪،‬‬
‫لكنــك مهمــا طــال العــاج تبقــى تنظــر إليــه ســبحانه نظــرة ذلــك الطفــل‬
‫الــذي يعلــم أن أبــاه يريــد مصلحتــه‪ ،‬فتحســن الظــن بربــك عــز وجــل وتوقــن أن‬
‫اختي ـ�اره لــك خــر مــن اختي ـ�ارك لنفســك‪ ،‬وال يمكــن للحظــة أن تــيء الظــن‬
‫بــه‪ ،‬بــل تبقــى ترجــوه وحتبــه‪.‬‬
‫ًّ‬
‫مهــم جــدا أن تعلــم‪ :‬هللا تعــاىل ال حيــب أن يــراك تت�ألــم‪ ،‬لكــن حيــب أن‬
‫يــراك تتطهــر‪ ،‬ألنــه تعــاىل يعلــم خطــر الذنــوب وأمــراض القلــوب عليــك‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫إذا تعرضت لبالء‪ ،‬فاعلم أن هللا أراد أن يطهرك‪..‬‬
‫ارجه أن يفرج عنك‪ ،‬لكن طوال بقائك يف بالئك‪،‬‬
‫أحسن الظن بربك وازدد له ًّ‬
‫حبا‪،‬‬
‫فهو سبحانه أرحم بك منك بنفسك‪.‬‬
‫‪50‬‬

‫فلنحب هللا ألنه الودود‬

‫ً‬
‫تصــور أنــك رأيــت إنســانا ال تعرفــه‪ ،‬فتبســمت يف وجهــه‪ ،‬ثــم نســيت‬
‫املوقــف‪ .‬فــإذا بهــذا الشــخص يهديــك ســيارة ويقــول لــك‪ :‬لــن أنىس بســمتك‪.‬‬
‫لقــد أحسســت فيهــا بمحبتــك الصادقــة يل‪ .‬ثــم بقــي يتصــل بك يشــكرك على‬
‫ابتســامتك‪ .‬وقعــت يف مــأزق فســاعدك وســعى معــك بوقتــه وجهــده ومالــه‪.‬‬
‫مرضــت فــزارك وأطعمــك بي ـ�ده‪ .‬اســتحييت منــه وقلــت لــه أنــك ال تســتحق‬
‫منــه هــذا كلــه‪ ..‬فقــال لــك‪ :‬ال‪ ..‬لــن أنــى لــك تبســمك يف وجهــي‪ .‬وبقــي يظهــر‬
‫لــك املحبــة الصادقــة الــي ال تشــوبها املصالــح الدنيويــة‪.‬‬

‫ً‬
‫مــاذا تســي إنســانا كهــذا؟ (ودود)‪ ..‬أليــس كذلــك؟ أال حتــس باحليــاء‬
‫الشــديد مــن تــودد مثــل هــذا اإلنســان؟ خاصــة إن لــم تســتطع ســداد معروفــه‬
‫وجميلــه؟‬

‫وهلل املثــل األعلــى! هللا ســبحانه وتعــاىل‪ ،‬الــودود‪ ،‬يــرىض عــن عبــده وحيبه‬
‫ًّ‬
‫ويكرمــه علــى أفعــال بســيطة جــدا ال يلقــي لهــا العبــد بــاال‪ ..‬بشــرط واحــد‪ :‬أن‬
‫ً‬
‫خالصــا لوجــه هللا‪.‬‬ ‫يكــون هــذا الفعــل أو القــول أو الشــعور‬
‫انظــر إىل قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬إن أحدكم ليتكلــم بالكلمة‬
‫مــن رضــوان هللا مــا يظــن أن تبلــغ مــا بلغــت فيكتــب هللا لــه بهــا رضوانــه إىل‬
‫يــوم يلقــاه)) (صحيــح رواه الرتمــذي)‪ .‬كلمــة لعــل العبــد نســيها ومــا تصــور أن تبلــغ‬
‫هــذا املبلــغ عنــد هللا‪ ،‬لكنــه تعــاىل يــرىض بهــا عــن العبــد إىل األبــد ألنــه‪ :‬الــودود‪.‬‬

‫َ ْ ََْ ُ‬
‫ــت َر ُج ًــا َي َت َق َّل ُ‬
‫ــب يف‬ ‫يف احلديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم‪(( :‬لقــد رأي‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫الط ِريـ ِـق‪ ،‬كانــت تــؤ ِذي النــاس))‪ ..‬عمــل‬ ‫ـج َرة َق َط َعهــا مــن َظ ْهــر َّ‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجلنـ ِـة‪ ،‬يف شـ ٍ‬
‫ًّ‬
‫بســيط جــدا‪ ،‬لكنن ـ�ا نتعامــل مــع‪ :‬الــودود ســبحانه وتعــاىل‪.‬‬
‫‪51‬‬

‫هللا تعــاىل يضاعــف احلســنة إىل عشــرة أمثالهــا إىل ســبعمائة ضعــف إىل‬
‫أضعــاف كثــرة ألنــه تعــاىل‪ :‬الــودود‪.‬‬

‫َّ ْ َ‬
‫تأملــت فيهــا لطــف هللا وكــرم هللا وعظمــة‬ ‫دمــوع تــزل منــك يف حلظــة‬
‫هللا وحلــم هللا‪ ..‬دمــوع‪ ..‬يظلــك هللا بهــا يف ظلــه وحيــرم عينــك بهــا علــى النــار‬
‫َ ْ‬ ‫هللا ً‬ ‫ذكــر َ‬‫ُ ٌ َ‬
‫خاليــا ففاضــت عين ـ�اه) (متفــق عليــه)‪..‬‬ ‫ألنــه تعــاىل‪ :‬الــودود‪( ..‬ورجــل‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫النـ ُ‬ ‫(عينـ�ان ال ُّ‬
‫هللا ‪ ،‬وعــن باتــت حتــرس يف‬ ‫ـية ِ‬‫ـار عــن بكــت مــن خشـ ِ‬ ‫تمســهما‬
‫هللا) (رواه البخــاري)‪.‬‬
‫ســبي ِ�ل ِ‬

‫يف احلديــث الــذي رواه البخــاري عــن الرجــل الــذي أشــفق علــى كلــب‬
‫هللا لــه فغفــر لــه))‪.‬‬ ‫َ‬
‫فشــكر ُ‬ ‫فســقاه‪(( ..‬‬

‫أعمــال بســيطة لكــن هللا يشــكرها ألنــه الشــكور‪ ،‬ويتــودد إلينــ�ا إذا‬
‫ـوا ْ إل َ ۡيـ ۚهِ إ َّن َرب ّــي َرحِيـ ‪ٞ‬‬
‫ـم‬ ‫وبـ ٓ‬ ‫ـم ُثـ َّ‬
‫ـم تُ ُ‬ ‫َ ۡ َ ۡ ُ ْ َ َّ ُ‬
‫كـ ۡ‬ ‫فعلناهــا ألنــه تعــاىل‪ :‬الــودود‪{ ..‬وٱســتغفِروا رب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُدود‪[ }٩٠ ٞ‬هــود‪..]90 :‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫قــد يمحــو لــك جبــال مــن اخلطايا وال يبـ�ايل‪ ،‬لكنــه ال يمحــو حســنة واحدة‬
‫سـن َ‬ ‫ـع أَ ۡجـ َ ۡ ۡ‬
‫ضيـ ُ‬ ‫بــا ســبب‪{ :‬إ َّن َّ َ َ ُ‬
‫ين ‪[ }١٢٠‬التوبــة‪ ..]120 :‬ألنــه‪ :‬الــودود‪.‬‬‫ـر ٱل ُمح ِ ِ‬ ‫ٱلل لا ي ِ‬ ‫ِ‬

‫يف احلديــث الــذي رواه مســلم يقــول هللا تعــاىل‪(( :‬مــن جــاء باحلســنة‬
‫فلــه عشــر أمثالهــا وأزيــد‪ .‬ومــن جــاء بالســيئ�ة‪ ،‬فجــزاؤه ســيئ�ة مثلهــا‪ ،‬أو أغفــر‪.‬‬
‫ذراعا تقربــت منه‬‫ذراعــا‪ .‬ومــن تقــرب مــي ً‬ ‫ـرا تقربــت منــه ً‬ ‫ومــن تقــرب مــي شـ ً‬
‫باعــا‪ .‬ومــن أتــاين يمــي‪ ،‬أتيتـ�ه هرولــة‪ .‬ومــن لقيــي بقــراب األرض خطيئـ�ة ال‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫يشــرك يب شــيئ�ا‪ ،‬لقيتـ�ه بمثلهــا مغفــرة))‪ ..‬نعــم‪ .‬ألنــه تعــاىل‪ :‬الــودود‪.‬‬
‫‪52‬‬

‫الــذي يـجـعـــلك تـسـتـــي مــن هللا تعــاىل مــع كرمــه وتــودده أنــك ال‬
‫تســتطيع نفعــه تعــاىل بــيء‪ ،‬ال تســتطيع أن تــرد جميلــه‪ ..‬وفــوق ذلــك‪ ..‬هــو‬
‫تعــاىل الــذي وفقــك للعمــل‪ .‬العبــد خيتــار‪ ،‬صحيــح‪ ،‬لكــن اختي ـ�ارك اخلــر مــا‬
‫هــو إال بتوفيــق هللا لــك‪ .‬فيوفقــك لعمــل اخلــر‪ ،‬ثــم يثيبــك علــى اخلــر الــذي‬
‫وفقــك هــو لــه !‬

‫ثــم هللا إذا ابتــلاك فصــرك أثابــك علــى الصــر الــذي وفقــك هــو لــه!‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُيثيبــك ً‬
‫ثوابــا عاجــا يف الدنيـ�ا وال ُبــد‪ ،‬ولــو بنعيــم القلــب وأنســه‪ ،‬ثــم ُيثيبــك يف‬
‫اآلخــرة‪ ..‬مــا هــذا الكــرم والــود؟‪ ..‬ال عجــب فهــو تعــاىل‪ :‬الــودود‪.‬‬

‫ولطفــا ورحمـ ًـة ورأفـ ًـة ً‬


‫وكرما‬
‫ً‬ ‫يف ثن�ايــا الباليــا رأيــت مــن ريب عــز وجــل ً‬
‫حلمــا‬
‫ـايض وحاضــري ألرى لمــاذا ينعم‬ ‫ـرا وإعانـ ًـة أكــر ممــا تصــورت! حبثــت يف مـ َّ‬ ‫وسـ ً‬
‫هللا علــي بهــذا الشــكل! فلــم أجــد‪ ..‬فبكيــت حيـ ً‬
‫ـاء مــن ريب تعــاىل وقلــت لــه‪:‬‬
‫(وهللا يــا رب مــا بســتاهل‪ ،‬وهللا يــا رب مــا بســتاهل)‪ .‬إي وهللا إين ال أســتحق‪..‬‬
‫ولكنــه تعــاىل‪ :‬الــودود‪.‬‬

‫أال يكفــي هــذا كلــه يف أن حنــب ربنـ�ا تعــاىل بــا شــروط؟ أال يكفــي هــذا كلــه‬
‫يف أن حنبــه يف رحــم املعانــاة والبــاء وأن نأنــس بــه ونكتفــي بقربــه مهمــا كانــت‬
‫الظروف؟‬

‫إخواين وأخوايت‪ ..‬فلنحب هللا ألنه تعاىل‪ :‬الودود‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫لن ينبع الصبر من حنايا نفسك‬

‫تأمــل أســماء هللا‬‫ال زلنــا نبــي حبنــ�ا هلل علــى أســس ســليمة‪ ،‬أولهــا ُّ‬
‫وصفاتــه‪ .‬قلنــا أنــك إن أتقنــت التعامــل مــع البــاء فإنــك ســتفهم أســماء هللا‬
‫تعــاىل وصفاتــه أكــر وأكــر مــن خــال البــاء‪ ،‬وهــذا ســيفيض يف املحصلــة إىل‬
‫حتويــل البــاء إىل ســبب لزيــادة محبــة هللا تعــاىل‪.‬‬
‫يف املحطــات الماضيــة تأملنــا حكمــة هللا يف البــاء ثــم تــودده لعبــاده‬
‫بالبــاء‪ .‬اليــوم نت�أمــل صفــة أخــرى مــن صفــات هللا تعــاىل‪ ..‬مــا هــي هــذه‬
‫الصفــة؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانــا نعــاين مــن مشــكلة‪ ،‬ال نعلــم كــم تســتمر وإىل أي مــدى ســتتفاقم‪..‬‬
‫يشــرق يف نفوســنا األمــل بزوالهــا‪ ..‬تلهــج ألســنتن�ا بالدعــاء‪ ..‬لكــن مــا نلبــث أن‬
‫يعرتينـ�ا اخلــوف ويــراءى لنــا شــبح اليــأس عندمــا نفكــر يف أن بالءنــا ســيطول‬ ‫َ‬
‫ويشــتد‪..‬‬

‫خنــاف حينئــ ٍـذ‪ ،‬ألنن ـ�ا ننظــر يف جوانــب أنفســنا وحناياهــا فــا جنــد فيهــا‬
‫ــول عليــه أن يصربنــا إذا وصــل البــاء إىل الدرجــة املخوفــة‪ .‬نتعامــل‬ ‫مــا ُي َع َّ‬
‫ً ُ‬
‫مــع املســألة بطريقــة رياضيــة‪ :‬فــإن كانــت املصيب ـ�ة مرضــا يــى أن يــؤدي‬
‫ً‬
‫إىل العــى مثــا‪ ،‬فإنــا نعقــد املعادلــة التاليــة لتخيــل املســتقبل ‪ :‬أنــا‪ -‬بصــر=‬
‫إنســان تعيــس‪.‬‬
‫وإن كان ابنــك يف غرفــة العنايــة املركــزة بــن احليــاة واملــوت فاملعادلــة‪:‬‬
‫احليــاة ‪ -‬ابــي = حــزن مســتمر ‪ ..‬وهكــذا‬

‫ًّ‬ ‫إننـ�ا ننــى يف معادلتنـ�ا هــذه عنصـ ًـرا ً‬


‫مهمــا جــدا وهــو أن الصرب لن يــنــبــــع‬
‫مـــــن جــوانـــب نــفــســــك الـضـعــيــفــــة عنــد حلــول املصيبـ�ة أو اشــتدادها‪..‬‬
‫إنمــا هــو يــزل مــن عنــد هللا تعــاىل! املعــن ملــن اســتعان بــه‪ .‬اختلــف العلمــاء يف‬
‫‪54‬‬

‫اعتبـ�ار املعــن مــن أســماء هللا‪ ،‬لكنــه بــا شــك مــن صفاتــه تعــاىل‪.‬‬

‫تمامــا كمــا يــزل النصــر‪ ..‬يــزل‬ ‫إذن فالصــر يــزل مــن عنــد ربن ـ�ا املعــن ً‬
‫الصــر مــن عنــد هللا لينصــرك يف معركتــك ضــد اليــأس واحلــزن‪ ..‬و{إِن‬
‫ك ۡ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ ُ ۡ ُ ُ َّ ُ َ َ َ‬
‫ــمۖ} [آل عمــران‪..]160 :‬‬ ‫ٱلل فــلا غال ِــب ل‬ ‫ينصركــم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ــر إلا م ۡ‬ ‫َّ ۡ ُ‬ ‫ََ‬
‫ِــن عِنــ ِد ٱللِ} [آل‬ ‫الحــــــظ‪ :‬كــــما أن هللا تعــاىل قــال‪{ :‬ومــا ٱلنص ِ‬
‫َّ‬ ‫َ ۡ ۡ َ َ َ ۡ ُ َّ‬
‫ـٱللِۚ} [النحــل‪ ..]127 :‬فرتكيــب‬ ‫ـر َك إِلا بِـ‬ ‫عمــران‪..]126 :‬فقــد قــال‪{ :‬وٱصبِــر ومــا صبـ‬
‫اآليتــن متشــابه‪.‬‬
‫ًّ‬
‫إنهــا حقيقــة مهمــة جــدا! الصــر يــزل مــن عنــد هللا وكذلــك األمــان‬
‫ُ َّ َ َ َ َ ُ‬
‫ـزل َعل ۡيكــم ّ ِم ـ ۢن‬ ‫والســكين�ة‪ ..‬والشــواهد لذلــك كثــرة كقولــه تعــاىل‪{ :‬ثــم أنـ‬
‫ــم}‬‫ِينة عل ۡيه ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٱلســك َ‬ ‫نــز َل َّ‬‫ــة} [آل عمــران‪ ، ]154 :‬وقولــه تعــاىل‪{ :‬فَأَ َ‬ ‫َۡ ّ َََ ٗ‬ ‫ۡ‬
‫َبعــ ِد ٱلغ ِ‬
‫ــم أمن‬
‫ِ‬
‫[الفتــح‪ ، ]18 :‬وقولــه تعــاىل حكايــة عــن الســحرة الذيــن آمنــوا بمــوىس عليــه‬
‫ُ َّ‬
‫وي َصلبــوا‪:‬‬ ‫الســام وهــم علــى وشــك أن تقطــع أيديهــم وأرجــلــــهم مــن خــاف‬
‫غ َعلَ ۡي َنــا َص ۡبـ ٗ‬
‫ـرا َوتَ َو َّف َنــا ُم ۡس ـلِم َ‬ ‫َ َّ َ ٓ َ ۡ ۡ‬
‫ين ‪[ }١٢٦‬األعــراف‪..]126 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ـر‬
‫{ربنــا أفـ ِ‬
‫تصــور دلــوا يفــرغ بصــب مــا فيــه‪ ..‬هــم يطلبــون مــن ربهــم أن يصــب‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫عليهــم الصــر ًّ‬
‫صبــا‪..‬‬
‫احلرى فيسكنها ويربدها‪..‬‬ ‫يزنل الصرب كاملطر على القلوب املرجتفة َّ‬
‫إنهــا ليســت نفســك البشــرية الضعيفــة الــي يعــول عليهــا أن ختتلــق‬
‫ـن‬‫ٱلل ٱلَّذِيـ َ‬ ‫ـت َّ ُ‬ ‫الصــر وختــوض املعركــة!‪ ..‬إنــه هللا الــ ُـمعني الــذي يثبــت‪{ :‬يُثَ ّبـ ُ‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫َء َام ُنــوا} [إبراهيــم‪ ..]27 :‬وبــمــــا أنــــه هللا الــــذي يـثـبـــت فليــس هنــاك بــاء أكــر‬
‫مــن تثبيــت هللا الــ ُـمعني‪..‬‬
‫إنــه هللا تعــاىل الــذي يربــط علــى القلــوب املرجتفــة الــي كادت تنخلــع‬
‫خوفــا مــن املجهــول‪َ { ..‬و َر َب ۡط َنــا عَل َـ ٰى قُلُوبهـ ۡ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ـم} [الكهــف‪..]14 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫مــن الصــدر حزنــا أو‬
‫وحينئــ ٍـذ فــا يشء خييــف إن كان هللا هــو املعــن‪.‬‬
‫‪55‬‬

‫ً‬ ‫أم مــوىس عليــه الســام‪ ..‬ألقــت ابنهــا يف اليــم‪ ،‬فــرك وراءه ً‬
‫قلبــا فارغــا؛‬
‫َ‬ ‫ََ ۡ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫َ ُ ٍّ‬
‫ـى‬‫ـح فــؤاد أ ِ ّم ُم ـ‬
‫وس ٰ‬ ‫قلــب أم فقــدت فلــذة كبدهــا‪ ..‬فــزل التثبيــت مــن هللا‪{ :‬وأصبـ‬
‫ـن ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن ِيـ َ‬ ‫َ ۡ َ ٓ َ َّ َ ۡ َ َ َ ٰ َ ۡ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ۡ َ‬ ‫َ ً‬
‫ـن ‪}١٠‬‬ ‫ف ٰ ِرغــا ۖ إِن كادت ل ُت ۡبـدِي ب ِـهِۦ لــولا أن ربطنــا علـى قلبِهــا ل ِتكـ‬
‫ـون ِمـ َ‬
‫[القصــص‪..]10 :‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫إذن فالصــر يــزل نــزول مــن عنــد هللا الـــمعني‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فاملعادلــة لــم‬
‫تعــد باجلمــود الــذي كنــا نظنــه‪ ،‬بــل أصبحــت‪:‬‬
‫راض‪.‬‬ ‫أنا – بصر‪ +‬صرب من هللا = إنسان ٍ‬
‫احلياة‪ -‬ابين‪ +‬سكين�ة من هللا = رضا واحتساب وانطالقة جديدة‪.‬‬

‫‪ -‬أيخ! لســنا مــن املالحــدة الذيــن ال يؤمنــون إال بالظواهــر الماديــة‪ ،‬بــل حنــن‬
‫نؤمــن أن هللا معنــا‪ .‬ألســنا نقــرأ يف صالتن ـ�ا يوميــا ‪ 17‬مــرة علــى األقــل‪{ :‬إيَّـ َ‬
‫ـاك‬ ‫ِ‬
‫َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ‬
‫ــتع ُ‬
‫ين ‪[ }٥‬الفاحتــة‪..]5 :‬؟ هــل خطــر بب�الــك وأنــت مبتلــى أن‬ ‫نع ُبــد َوِإيــاك نس ِ‬
‫ُ َ‬
‫تت�أمــل هــذه اآليــة عنــد قراءتهــا وتتصــور ق َّوتــك وأنــت تســتمد العــون مــن هللا‬
‫تعــاىل أمــام البــاء؟‬

‫‪ -‬ال تــقــــل (لــــن أصــــر)! بل إن استعنت باهلل أعانك‪ .‬انظر إىل قوله تــعــــاىل‪:‬‬
‫ۡ َ ّ َ َ ُّ َ َّ ۡ َ ٰ ُ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َ َ ٰ َ َ ُ َ‬ ‫َٰ َ َ ّ ۡ ُ‬
‫ـقۗ وربنــا ٱلرحمــن ٱلمســتعان علـى مــا ت ِ‬
‫صفــون ‪[ }١١٢‬األنبيـ�اء‪:‬‬ ‫ب ٱحكــم بِٱلحـ ِ‬ ‫{قــل ر ِ‬
‫ۡ‬
‫َ َّ ُ ُ ۡ َ ُ‬
‫ــت َعان‬ ‫‪ ، ]122‬وإىل مــا حــكاه عــن يعقــوب عليــه الســام أنــه قــال‪{ :‬وٱلل ٱلمس‬
‫ََ ٰ َ َ ُ َ‬
‫ـون ‪[ }١٨‬يوســف‪ ..]18 :‬وقــال النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬وإذا‬ ‫علـى مــا ت ِصفـ‬
‫اســتعنت فاســتعن بــاهلل))‪.‬‬

‫‪ -‬ال تقــل (لــن أصــر)! ال بــاء أكــر مــن إعانــة ُ‬


‫الـــمعني إن اســتعنت بــه‬
‫بصــدق‪ .‬تذكــر أهــل األخــدود وســحرة فرعــون وماشــطة ابنت ـ�ه‪ ..‬كيــف نــزل‬
‫عليهــم صــر عظيــم مقابــل بالئهــم الشــديد بمجــرد أن خالــط اإليمــان قلوبهــم‬
‫فطابــت نفوســهم بالتضحيــة يف ســبي�ل هللا مــع أنهــم عاشــوا حياتهــم قبــل‬
‫‪56‬‬

‫صبهــم قــادر علــى أن يصــرك إذا جلــأت إليــه‪..‬‬ ‫ذلــك مشــركني‪ .‬فالــذي َّ‬
‫‪ -‬ال تقــل (لــن أصــر)! فــكل مــا عليــك فعلــه هــو أن تســتعني بربــك الرحمــن‬
‫املســتعان‪ ..‬قــال نبينـ�ا عليــه الصــاة والســام يف احلديــث الــذي رواه مســلم‪:‬‬
‫((ومــن َي َت َصـ َّ ْ‬
‫ـر ُي َصـ ِّ ْ‬
‫ـر ُه هللا))‪.‬‬

‫‪ -‬ال تقــل (لــن أصــر)! بــل إن اســتعنت بــاهلل فســيزنل عليــك الصــر باملقــدار‬
‫املناســب ُلي َط ْمــن قلبــك‪ ،‬مهمــا كان حجــم البــاء‪ ،‬قــال هللا تعــاىل‪َ { :‬مــا ٓ أَ َص َ‬
‫اب‬ ‫ِ‬
‫ـي ٍء َعل ِيـ ‪ٞ‬‬‫َّ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ ُ ّ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َّ‬ ‫ُّ َ َّ‬
‫ـم‬ ‫شۡ‬
‫ٱلل بِــك ِل ـ‬‫يب ـ ٍة إِلا ب ِ ـإِذ ِن ٱللِۗ َو َمــن يُؤ ِم ـ ۢن بِــٱللِ يه ـ ِد قلبــه ۚۥ و‬‫ِمــن م ِص‬
‫‪[ }١١‬التغابــن‪ ..]11 :‬أي‪ :‬يهــد قلبــه للخــر والصــر والرضــا عنــد املصيب ـ�ة‪.‬‬

‫‪ -‬ال تقــل (لــن أصــر)! بــل انظــر إىل هــذا احلديــث العظيــم الــذي يلخــص‬
‫محطتنــ�ا هــذه‪:‬‬
‫قــال رســول هللا عليــه الصــاة والســام يف احلديــث الــذي صححــه األلبــاين‪:‬‬
‫((إن املعونــة تــأيت مــن هللا علــى قــدر املؤونــة‪ ،‬وإن الصــر يــأيت مــن هللا علــى‬
‫قــدر املصيب ـ�ة))‪.‬‬
‫الحــظ ألفــاظ احلديــث‪(( :‬إن املعونــة تــأيت مــن هللا علــى قــدر املؤونــة))‪..‬‬
‫علــى قــدر التكليــف‪(( ،‬وإن الصــر يــأيت مــن هللا علــى قــدر املصيبــ�ة))‪..‬‬
‫الصــر يــأيت مــن هللا تعــاىل املعــن‪ ،‬ليــس مــن جوانــب نفســك الضعيفــة‪ .‬بــل‬
‫مــن هللا‪ ،‬وبــأي مقــدار؟ ((علــى قــدر املصيبــ�ة))‪ ..‬باملقــدار املناســب‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫كل ما عليك فعله هو أن تتربأ من حولك وقوتك‪،‬‬
‫وتوقن أنه ما لك إال هللا‪ ،‬فتستعني باملعني‪،‬‬
‫وتصلح عالقتك به تعاىل لتكسب معيت�ه‪،‬‬
‫وحينئ�ذ فال بالء أكرب من إعانة هللا املعني‪.‬‬
‫‪57‬‬

‫الراحمون يرحمهم الرحمن‬

‫يف املحطــة الســابقة تأملنــا حكمــة هللا وتــودده لعبــاده وإعانتــ�ه ملــن‬
‫اســتعان بــه يف البــاء‪ .‬ويف هــذه املحطــة ســنت�أمل صفــة جديــدة مــن صفــات‬
‫ربن ـ�ا احلبيــب‪ ،‬عندمــا تت�أملهــا وأنــت يف رحــم املعانــاة يــزداد حبــك خلالقــك‬
‫ومــوالك‪ .‬إنهــا‪ :‬رحمــة هللا‪ .‬تعالــوا نت�أمــل جمــال هــذه الرحمــة حــى نطمــع‬
‫فيهــا‪ ،‬ثــم نعــرف كيــف حنصلهــا‪.‬‬

‫رحمــة هللا‪ ..‬مصــدر الفــرح األعــــظم!‪ ..‬أمـــــرنا هللا أن نــفــــرح بهــا فقــال‪:‬‬
‫َۡ ُ َ‬ ‫ـك فَ ۡل َي ۡف َر ُحــوا ْ ُهـ َ َ ۡ ّ‬
‫ـو خيــر‪ ٞ‬م َِّمــا يج َمعــون ‪[ }٥٨‬يونــس‪:‬‬
‫َ َٰ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬
‫ـل ٱللِ َوب ِ َرحمت ِـهِۦ فبِذلِـ‬
‫ُ ۡ َ ۡ‬
‫{قــل بِفضـ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫َ َٰ َ‬
‫ـك}‪ :‬أســلوب حصــر ألنــه أوىل مــا ُيفــرح بــه‪ ..‬ألن هــذه الرحمــة هــي‬ ‫‪{ ..]58‬فبِذلِـ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫مصــدر الفــرح احلقيقــي الــذي ال ينضــب وال يت�أثــر بالظــروف‪ ،‬أوىل مــن متــاع‬
‫الدنيـ�ا الفــاين‪.‬‬

‫عـ َّـرف املفســرون هــذا الفضــل والرحمــة بأنهمــا اإليمــان والقــرآن‪ .‬هــذان‬
‫مصــدر فــرح حتملــه يف صــدرك يف الســراء والضــراء والشــدة والرخــاء‪ .‬إيمانــك‬
‫بــاهلل وتأملــك ألســمائه وصفاتــه وشــوقك إىل لقائــه واطمئن�انــك إىل معيت ـ�ه‬
‫َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ۡ ‪َ ُ َ ۡ َ َّ ّ ٞ‬‬
‫ـون} [يونــس‪..]58 :‬‬‫وانتظــار كرامتــه‪{ ..‬فبِذلِــك فليفرحــوا هــو خيــر مِمــا يجمعـ‬

‫هــل يملــك أحــد أن يمســك هــذه الرحمــة أو يمنعهــا مــن الوصــول إىل عبــد‬
‫مــن عبــاد هللا؟ ال وهللا‪ .‬قــال الرحمــن الرحيــم ســبحانه وتعــاىل‪َّ { :‬مــا َي ۡف َتــحِ َّ ُ‬
‫ٱلل‬
‫َ َ‬ ‫َۡ َ َ‬
‫ـك ل َهــاۖ} [فاطــر‪..]2 :‬‬‫سـ‬ ‫ل َِّلنـ ِ‬
‫ـاس ِمــن َّرحمـةٖ فــلا ُم ۡم ِ‬

‫ًّ‬
‫ســيد قطــب رحمــه هللا‪ ..‬لــه تأمــات جميلــة جــدا يف هــذه اآليــة { َّمــا‬
‫َ َ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫َي ۡف َتــحِ َّ ُ‬
‫ـك ل َهــاۖ} [فاطــر‪ ..]2 :‬اجلميــل أنــه كتبهــا‬‫سـ‬ ‫ٱلل ل َِّلنـ ِ‬
‫ـاس ِمــن َّرحم ـةٖ فــلا ُم ۡم ِ‬
‫‪58‬‬

‫وهــو يعــاين مــن املــرض والســجن الطويــل يف ظــروف صعبــة قبــل أن ُيعــدم‪..‬‬
‫ـرارا‪ ..‬اكتــب اآليــة يف محــرك البحــث ثــم‬ ‫أنصحكــم إخــواين بقراءتهــا وتأملهــا مـ ً‬
‫(يف ظــال القــرآن)‪ ..‬واقــرأ وتدبــر‪.‬‬
‫مما جاء يف كلماته ‪-‬باملعىن‪:-‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أن هــذه اآليــة حــن تســتقر يف القلــب ت ِــدث حتــول جذريــا يف مشــاعر‬
‫َ ُ ِّ‬
‫اإلنســان وموازين ـ�ه‪ ،‬فت َيئ ُســه مــن كل رحمــة يف األرض وتعلقــه برحمــة هللا‪،‬‬
‫تلــك الرحمــة الــي يستشــعرها قلــب املؤمــن يف كل وضــع ولــو فقــد كل يشء‪..‬‬
‫فمــن أنعــم هللا عليــه بهــذه الرحمــة ين ـ�ام علــى الشــوك‪ ،‬فــإذا هــو مهــاد لــن‪،‬‬
‫ً‬
‫بينمــا إذا فقــد رحمــة هللا ين ـ�ام علــى احلريــر فيجــده شــوكا‪ ،‬ألنــه تعــاىل قــال‬
‫ـهۥ ِم ـ ۢن‬ ‫ـل لَـ ُ‬‫َ َ ُۡ َ‬
‫ســك} ‪-‬يعــي مــن الرحمــة‪{ -‬فــلا مر ِسـ‬
‫ۡ‬
‫يف اآليــة نفســها‪َ { :‬و َمــا ُي ۡم ِ‬
‫ُ‬
‫َب ۡعــ ِدهۚ ِۦ}‪ ..‬فــإن أمســك هللا رحمتــه عــن عبــد فقــوى األرض كلهــا ال تعــارض‬
‫مشــيئ�ة هللا وال تــزل رحمتــه بهــذا العبــد‪ .‬فمــن أنعــم هللا عليــه بالرحمــة فــإن‬
‫ين�ابيــع الســعادة والطمأنينــ�ة تنبــع يف نفســه وإن كان يف غياهــب الســجن‬
‫ورحــم املعانــاة‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫(ومــن رحمــة هللا أن حتــس برحمــة هللا! فرحمــة هللا تضمك وتغمــرك وتفيض‬
‫عليــك‪ ،‬ولكــن شــعورك بوجودهــا هــو الرحمــة‪ ،‬ورجــاؤك فيهــا وتطلعــك إليهــا‬
‫هــو الرحمــة‪ ،‬وثقتــك بهــا وتوقعهــا يف كل أمــر هــو الرحمــة‪ .‬والـعــــذاب هــــو‬
‫ِّ َ‬
‫الـعــــذاب يف احتجابــك عنهــا أو يأســك منهــا أو شــكك فيهــا‪ ،‬وهــــو عــــذاب‬
‫ٱللِ إلَّا ٱلۡ َقـ ۡ‬
‫ـو ُم‬
‫َّ ۡ ِ َّ‬
‫ـس ِمــن روح‬‫ـهۥ لَا يَاْيۡ َـٔـ ُ‬
‫يــصــبــــه هللا عــلــــى مـــــؤمن أبـ ًـدا‪{ :‬إنَّـ ُ‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ َٰ ُ َ‬
‫ٱلكفِــرون ‪[ }٨٧‬يوســف‪ ..]87 :‬ورحمــة هللا ال تعــز علــى طالــب يف أي مــكان وال‬
‫يف أي حــال‪ .‬وجدهــا إبراهيــم عليــه الســام يف النــار‪ ،‬ووجدهــا يوســف عليــه‬
‫الســام يف الــ ُـج ِّب كمــا وجدهــا يف الســجن‪ ،‬ووجدهــا يونــس عليــه الســام يف‬
‫بطــن احلــوت يف ظلمــات ثــاث‪ .‬ووجدهــا مــوىس عليــه الســام يف اليــم وهــو‬
‫طفــل مجــرد مــن كل قــوة ومــن كل حراســة‪ ،‬كمــا وجدهــا يف قصــر فرعــون وهــو‬
‫‪59‬‬

‫عــدو لــه مرتبــص بــه ويبحــث عنــه‪ .‬ووجدهــا أصحــاب الكهــف يف الكهــف‬
‫ۡ‬ ‫َُْۡٓ َ ۡ َ‬
‫حــن افتقدوهــا يف القصــور والــدور‪ ،‬فقــال بعضهــم لبعــض‪{ :‬فأوۥا إِلــى ٱلكه ِف‬
‫ۡ‬ ‫َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُّ ُ‬
‫كــم ّ ِمــن َّرحمَت ِـهِۦ } [الكهــف‪ ،]16 :‬ووجدهــا رســول هللا صلــى هللا‬ ‫ينشــر لكــم رب‬
‫عليــه وســلم وصاحبــه يف الغــار والقــوم يتعقبونهمــا ويقصون اآلثــار‪ ..‬ووجدها‬
‫يأســا مــن كل مــا ســواها‪.‬‬ ‫كل مــن آوى إليهــا ً‬
‫أيــة طمأنينــ�ة؟ وأي قــرار؟ وأي وضــوح يف التصــورات واملشــاعر والقيــم‬
‫واملوازيــن تقــره هــذه اآليــة يف الضمــر؟! آيــة واحــدة ترســم للحيــاة صــورة‬
‫ً‬ ‫جديــدة؛ وتنــئ يف الشــعور ً‬
‫قيمــا لهــذه احليــاة ثابتـــة؛ وموازيــن ال تهــز وال‬
‫تت�أرجــح وال تت�أثــر باملؤثــرات كلهــا)‪.‬‬
‫إذن أيخ ًّأيا كان بالؤك‪ ،‬ومهما كانت شدته‪ ..‬اطلب رحمة هللا‪ ..‬وستجدها‪.‬‬

‫ثم قال سيد رحمه هللا‪ -‬وهنا أنقل قوله باختصار‪:-‬‬


‫(ويبقــى أن أتوجــه أنــا باحلمــد هلل علــى رحمــة منــه خاصــة عرفتها منــه يف هذه‬
‫اآليــة‪ .‬لقــد واجهتــي هــذه اآليــة يف هــذه اللحظــة وأنــا يف عســر وجهــد وضيــق‬
‫ومشــقة‪ .‬واجهتــي يف حلظــة جفــاف رويح‪ ،‬وشــقاء نفــي‪ ،‬وضيــق بضائقــة‪،‬‬
‫وعســر مــن مشــقة‪ ..‬ويســر هللا يل أن أطلــع منهــا علــى حقيقتهــا‪ ،‬وأن تســكب‬
‫حقيقتهــا يف رويح؛ كأنمــا هــي رحيــق أرشــفه وأحــس ســريانه ودبيبـ�ه يف كيــاين‪.‬‬
‫حقيقــة أذوقهــا ال معــى أدركــه‪ ،‬فكانــت رحمــة بذاتهــا ‪-‬أي هــذه اآليــة حبــد‬
‫أحســها رحمــة خاصــة لــه مــن هللا يف حلظــة عســره تلــك‪ -‬وقــد قرأتهــا‬ ‫ذاتهــا َّ‬
‫ـرا‪ ،‬ولكنهــا اللحظــة تســكب رحيقهــا‬ ‫ـرا‪ ،‬ومــررت بهــا مــن قبـ ُـل كثـ ً‬
‫مــن قبـ ُـل كثـ ً‬
‫ً‬
‫نموذجــا مــن رحمة‬ ‫وحتقــق معناهــا‪ ،‬وتــزل حبقيقتهــا املجــردة‪ ،‬وتقــول‪ :‬هأنــذا‪..‬‬
‫هللا حــن يفتحهــا‪ .‬فانظــر كيــف تكــون!‬
‫إنــه لــم يتغــر يشء ممــا حــويل‪ .‬ولكــن لقــد تغــر كل يشء يف حــي! إنهــا نعمــة‬
‫ضخمــة أن يتفتــح القلــب حلقيقــة كــرى مــن حقائــق هــذا الوجــود‪ ،‬كاحلقيقة‬
‫الكــرى الــي تتضمنهــا هــذه اآليــة‪ .‬نعمــة يت�ذوقهــا اإلنســان ويعيشــها؛ ولكنــه‬
‫‪60‬‬

‫قلمــا يقــدر علــى تصويرهــا‪ ،‬أو نقلهــا لآلخريــن عن طريــق الكتابة‪ .‬وقد عشــتها‬
‫وتذوقتهــا وعرفتهــا‪ .‬وتــم هــذا كلــه يف أشــد حلظــات الضيــق واجلفــاف الــي‬
‫مــرت يب يف حيــايت‪ .‬وهأنــذا أجــد الفــرج والفــرح والــري واالســرواح واالنطــاق‬
‫مــن كل قيــد ومــن كل كــرب ومــن كل ضيــق‪ ،‬وأنــا يف مــكاين! إنهــا رحمــة هللا‬
‫يفتــح هللا بابهــا ويســكب فيضهــا يف آيــة مــن آياتــه) انتهــى مــن كالمــه رحمــه‬
‫هللا باختصــار‪.‬‬

‫ًّ‬
‫كالم جميــل جــدا مــن إنســان أحــس فجــأة برحمــة هللا فأغنتـ�ه عــن الدنيـ�ا كلهــا‬
‫وهونــت عليــه املصاعــب كلها‪.‬‬

‫أيخ‪/‬أخــي‪ ،‬أنــت يف األوضــاع االعتي�اديــة عندمــا حتــس بالفــرح فإنــك قــد‬


‫تعــزو هــذا الفــرح إىل األســباب الماديــة‪ ..‬صحتــك‪ ،‬مالــك‪ ،‬مكانتــك‪ ،‬زوجتــك‪،‬‬
‫أوالدك‪ ،‬مــا تتلــذذ بــه مــن طعــام وشــراب‪ ..‬لكــن عندمــا تكــون يف بــاء شــديد‬
‫ـرا مــن األســباب الماديــة ومــع ذلــك حتــس فجــأة بالفــرح‪ ،‬فإنــك‬ ‫وتفقــد كثـ ً‬
‫تــدرك حينئـ�ذ أن هــذه الفرحــة مــا هــي إال مــن رحمــة هللا وبرحمــة هللا‪ ..‬واحــة‬
‫جتدهــا وســط صحــراء العنــاء‪.‬‬

‫هــذه رحمــة هللا يــا إخــواين وأخــوايت‪ .‬أرجــو أن تكونــوا قــد طمعتــم فيهــا‪..‬‬
‫طيــب‪ ،‬مــاذا نفعــل حــى حنصلهــا؟‬

‫َ‬ ‫يـب ّم َ ۡ ۡ‬
‫ِـن ٱل ُمحسِـنِين ‪[ }٥٦‬األعـراف‪:‬‬
‫ٱللِ قَر ‪ٞ‬‬
‫َّ َ ۡ َ َ َّ‬
‫قـال ريب سـبحانه‪{ :‬إِن رحمـت‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫‪ ..]56‬كـن مـن املحســــنني‪ ..‬الـــواحــــد منـا عـادة إذا وقـع يف مشـكلة ينشـغل‬
‫بنفسـه وبمشـكلته وكيفيـة التخلـص منهـا‪ ،‬ويتحسـر علـى مـا فاتـه وخيـاف‬
‫مـن املسـتقبل‪ ..‬ننسى يف هـذه اللحظـات احلرجـة أن نكـون مـن املحسـنني‬
‫يـب ّم َِن ٱل ۡ ُم ۡحسِـن َ‬
‫ين ‪[ }٥٦‬األعـراف‪..]56 :‬‬ ‫ٱللِ قَر ‪ٞ‬‬
‫َّ َ ۡ َ َ َّ‬
‫لنسـتأهل رحمـة هللا‪{ ..‬إِن رحمـت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪61‬‬

‫ً‬ ‫ًّ‬
‫وطبعــا‪ ،‬فتجــد نفســك حتســن‬ ‫ـجية‬‫مــا أجمــل أن يصبــح اخلــر فيــك سـ‬
‫ًّ‬
‫تلقائيــ�ا وأنــت يف أحــرج الظــروف‪ ،‬ألنــك تعــودت أال تعيــش‬ ‫وتفعــل اخلــر‬
‫لنفســك بــل تعيــش للنــاس وخلدمــة دينــك‪.‬‬

‫ماذا عليك أن تفعل حىت تستأهل رحمة هللا؟ ارحم‪..‬‬

‫قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬الراحمــون يرحمهــم الرحمــن‪.‬‬
‫ارحــمـــوا مــن يف األرض يرحمكــم مــن يف الســماء)) (أخرجــه أبــو داود والرتمــذي‬
‫وأحمــد‪ ،‬وقــال الرتمــذي‪ :‬حســن صحيــح)‪.‬‬

‫ـرت ً‬ ‫ُ‬
‫أناســا فرأيــت منهــم عجائــب!‪ ..‬أحدهــم قــد تعــود علــى بــذل‬ ‫عاشـ‬
‫اخلــر وعلــى أن يعيــش للنــاس ويســعى يف تفريــج كرباتهــم‪ ،‬وهــو يف منطقتــه‬
‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫شــاب قتــل رجــا فحكــم عليــه‬ ‫معــروف بذلــك‪ .‬تعــرف أثنــ�اء حبســه علــى‬
‫ُ‬
‫بالســجن املؤبــد‪ ،‬ثــم إن هــذا الشــاب اســتقام وصلــح أمــره يف الســجن‪ ،‬فنقــل‬
‫إىل القســم الــذي فيــه متدينــون‪ .‬األخ املحســن الرحيــم تعــرف علــى هــذا‬
‫الشــاب مــن وراء اجلــدران‪ ..‬لــم يلتــق بــه ولــم يــر وجهــه‪ ،‬لكنــه عــرف أن األخ‬
‫القاتــل يمكــن اإلفــراج عنــه إذا تصالــح أهلــه مــع أهــل القتيــ�ل علــى مبلــغ‬
‫مــن المــال‪ ..‬فبــدأ أخونــا بالتنســيق مــع زواره مــن أشــقائه جلمــع المــال لهــذا‬
‫الشــاب ليفــرج كربت ـ�ه‪ .‬لــم يلهــه الســجن عــن فعــل اخلــر‪ ،‬بــل هــو يســعى‪-‬‬
‫وهــو أســر‪ -‬يف تفريــج كــرب الشــاب‪ .‬كان يــويص ‪-‬مــن األســر‪ -‬بإعطــاء مــال‬
‫مــن مالــه ألرامــل ومحتاجــن‪ .‬مثــل هــذا حنســبه حيــس برحمــة هللا أينمــا كان‬
‫ويف كل ظــرف‪ ..‬فالراحمــون يرحمهــم الرحمــن‪.‬‬

‫أخ آخــر كان قــد مـ َّـر بظــروف صعبــة للغايــة‪ ،‬لكنــه مــع ذلــك كان ً‬
‫رحيمــا‬
‫ً َ‬
‫بإخوانــه‪ ..‬مرضــت مــرة فوضــع رأيس يف حجــره وقــرأ علـ َّـي قرآنــا ورقــاين وعينـ�اه‬
‫‪62‬‬

‫تدمعــان لرقــة قلبــه‪ ..‬وهــو ذاتــه الــذي قــال يل‪( :‬أريــدك أن تســتمتع بنعمــة‬
‫ً‬
‫البــاء)! رضــا وطمأنين ـ�ة‪ ..‬فالراحمــون يرحمهــم الرحمــن‪.‬‬

‫ورأيــت مــن كانــوا يعــرون عــن رحمتهــم بوضــع قطــع مــن الطعــام املقــدم‬
‫لهــم يف صــرر ورميهــا للقطــط المــارة مــن فــوق شــبك غــرف الســجن!‬

‫تريــد رحمــة هللا الــي ال يمســكها أحــد مــن اجلــن أو اإلنــس؟ تريــد رحمــة‬
‫هللا الــي بهــا الفــرح احلقيقــي؟ عــود نفســك علــى الرحمــة واإلحســان يف كل‬
‫الظــروف‪ .‬ألــم تــر أن هللا تعــاىل امتــدح مــن يؤ ِثــر إخوانــه علــى الرغــم مــن فقــره‬
‫ۡ َ َ َ ‪ٞ‬‬ ‫ۡ ََ ۡ َ َ‬ ‫َُۡ ُ َ ََ َ ُ‬
‫اصة ۚ}[احلشــر‪ ]9 :‬؟‬ ‫ـو كان ب ِ ِهــم خص‬ ‫ـرون علـ ٰٓى أنف ِ‬
‫سـ ِهم ولـ‬ ‫فقــال يف األنصــار‪{ :‬ويؤثِـ‬
‫يعانــون مــن بــاء الفقــر ومــع ذلــك حيســنون‪.‬‬

‫ُّ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َُْ ً‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫ب الدن َيـ�ا‪،‬‬ ‫ألــم تــر إىل قــول النــي‪(( :‬مــن نفــس عــن مؤ ِمـ ٍـن كربــة ِمــن كــر ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َّ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ً‬
‫الق َي َامـ ِـة‪َ ،‬و َمــن َي َّسـ َـر علــى ُم ْع ِسـ ٍـر‪َ ،‬ي َّسـ َـر‬
‫ـوم ِ‬ ‫ب َيـ ِ‬
‫للا عنــه كربــة ِمــن كــر ِ‬ ‫نفــس‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ُ ْ ً َ َ َ ُ َُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫اآلخــر ِة‪،‬‬‫اآلخــر ِة‪ ،‬ومــن ســر مسـ ِـلما‪ ،‬ســره للا يف الدنيـ�ا و ِ‬ ‫للا عليــه يف الدنيـ�ا و ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َو َّ ُ‬
‫الع ْبــد يف َعـ ْـو ِن أ ِخيـ ِـه)) (رواه مســلم)‪.‬‬ ‫الع ْبـ ِـد مــا كان‬
‫للا يف َعـ ْـون َ‬
‫ِ‬

‫لقــد زاد البــاء مــن فهــي ألســماء هللا تعــاىل‪ :‬الرحمــن‪ ،‬الرحيــم‪ ..‬ألبــي‬
‫محبــي هلل علــى فهــم ُم َع َّمـ ٍـق ألســمائه وصفاتــه ســبحانه‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫ارحم من يف األرض يرحمك من يف السماء‪..‬‬
‫َّ ۡ َ َ َ ُ ۡ َ َ‬ ‫وحينئـذ‪َّ { :‬ما َي ۡف َتحِ َّ ُ‬
‫ِك ل َهاۖ} [فاطر‪..]2 :‬‬ ‫ٱلل ل َِّلن ِ‬
‫اس مِن رحم ٖة فلا ممس‬ ‫ٍ‬
‫‪63‬‬

‫ال تكتئب‬

‫مــا زلنــا نت�أمــل أســماء ربنـ�ا وصفاتــه لنحبــه ًّ‬


‫حبــا ال يزتعــزع‪ ..‬تعالــوا اليــوم‬
‫نت�أمــل مغفــرة هللا‪ ،‬وعفــو هللا‪ ،‬وتوبــة هللا علــى عبــاده‪.‬‬

‫ََ ٓ‬ ‫ً‬
‫أحيانـا نمـر بظـروف صعبـة‪ ،‬فنت�ذكـر قـول هللا سـبحانه وتعـاىل‪{ :‬ومـا‬
‫يـر ‪[ }٣٠‬الشـورى‪..]30 :‬‬ ‫ث‬
‫ُ ۡ ََُۡ ْ َ َ‬
‫ك‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ـوا‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ِيك‬
‫د‬ ‫ت َأيۡ‬ ‫يبـة فَب َما َك َس َ‬
‫ـب ۡ‬ ‫َ َ َٰ ُ‬
‫كـم ّمِـن ُّم ِص َ‬ ‫أصب‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬
‫حينئــذ‪ ..‬وهـذا‬ ‫نفتـش يف أعمالنـا فنرى أننـ�ا أخطأنـا يف حـق هللا ً‬
‫كثيرا‪ ..‬ننـ�دم‬
‫ٍ‬
‫النـدم أمـر مطلـوب حتى يدفعنـا إىل التوبة اجلـادة‪ .‬هـذا الندم ينبغـي أن يكون‬
‫ً‬
‫مؤقتـا يدفعنـا ً‬ ‫ً‬
‫فـورا إىل إصلاح أخطائنـ�ا بإجيابيـ�ة وحسـن ظـن بـاهلل‬ ‫إحساسـا‬
‫أنـه سـيعينن�ا ويقبـل منـا توبتنـ�ا ويعطينـ�ا فرصـة أخـرى لتصويـب أوضاعنـا‪..‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫لكــن أحيانــا تســر األمــور مــع الواحــد منــا بطريقــة مختلفــة! فبــدل‬
‫مــن هــذه اإلجيابي ـ�ة وحســن الظــن بــاهلل يتجمــد عنــد مرحلــة النــدم واجــرار‬
‫الذكريــات وجلــد الــذات ومقــت النفــس! فتفســد نفســه وتتكــدر‪ .‬ويبــ�دأ‬
‫يشــعر بــأن هــذا البــاء عقوبــة محضــة ال رحمــة فيهــا‪ ،‬قاصمــة الظهــر الــي‬
‫ُ‬
‫ليــس بعدهــا قائمــة! ألن هللا تعــاىل بعدمــا أعطــاه ف َر ًصــا يف المــايض فلــم‬
‫يســتغلها‪ ،‬قــد مقتــه وســخط عليــه ولــن يعطيــه فرصــة أخــرى!‬
‫ثــم‪ ..‬يتســرب إليــه الشــعور باجلفــوة بين ـ�ه وبــن ربــه ســبحانه وتعــاىل!‬
‫َّ‬
‫حيــس بــأن البــاب قــد أغلــق والدعــاء قــد ُرد والشــقاوة قــد ضربــت عليــه مــا‬
‫امتــدت بــه احليــاة!‬

‫أيخ‪ ،‬أخــي‪ ..‬احــذر! هــذه مكيــدة مــن الشــيطان‪ ،‬بــل هــي مــن أخطــر‬
‫مكايــده! فهــو جيعلــك تتوهــم يف البدايــة أن لــوم نفســك بهــذا الشــكل مطلــوب‬
‫ألنــه اعــراف بالذنــب‪ ..‬لكــن الشــيطان أوقفــك عنــد مرحلــة اللــوم والنــدم‬
‫‪64‬‬

‫وجعلــك تب�الــغ فيهــا ليقــودك إىل توهــم يشء خطــر للغايــة! تتوهــم قســوة‬
‫َّ‬
‫القــدر ومــن قــد َره ســبحانه! ويف هــذه اللحظــة مــن ســوء الظــن ســتحس‬
‫بالضيــاع املخيــف!‬

‫أنــت عندمــا يشــتد بــاؤك تشــكو بثــك و حزنــك إىل هللا‪ ..‬عندمــا تـنـقـطـــع‬
‫بك الســـبل وتـغـلـــق دونـــك األبـــواب‪ ،‬فإنك ال تـجـــد ملجأ وال منىج إال إىل هللا‪.‬‬
‫َّ‬
‫فــإذا قنطــك الشــيطان مــن رحمــة هللا وأوهمــك أن بــاءك عقوبــة محضــة‬
‫ومقــت مــن هللا‪ ،‬فــإىل أيــن تفــر؟ و إىل مــن تلتــئ؟ وإىل مــن تتضــرع؟ ومــن‬
‫ترجــو؟ ســتحس بالضيــاع املخيــف‪ ..‬وهــذا مــا يريــده الشــيطان لــك! ُطـ ِـرد‬
‫مــن رحمــة هللا فــا حيــب أن يــرى مرحومــن أو طامعــن يف رحمــة هللا!‬

‫أيخ‪ ،‬أخــي‪ ،‬الحــظ أن الشــيطان لــن يأتيــك مــن بــاب التشــكيك يف مغفــرة‬
‫ـورا ً‬
‫رحيمــا‪ ..‬فهــذه محاولــة‬ ‫هللا هكــذا مباشــرة‪ ..‬لــن يقــول لــك‪ :‬هللا ليــس غفـ ً‬
‫فاشــلة بوضــوح‪ .‬لكنــه ســيأتيك مــن بــاب آخــر! ســيقول لــك‪( :‬هللا غفــور‪،‬‬
‫لكنــك ال تســتحق مغفرتــه ألنــه أعطــاك فرصــا يف المــايض ولــم تســتغلها‪ .‬هللا‬
‫تــواب‪ ،‬لكــن أنــت طبيعتــك ســيئ�ة غــر مؤهلــة لإلصــاح‪ .‬هللا عفــو‪ ..‬لكــن‬
‫أنــت أفشــل مــن أن تفعــل مــا تســتحق بــه عفــوه)!‬

‫مــاذا يريــد الشــيطان مــن هــذا؟ يريــد أن يوقعــك يف االكتئــ�اب!‬


‫�اب الــذي يشــل إرادتــك عــن إصــاح وضعــك والعــودة إىل ربــك؟ هنــاك‬‫االكتئـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مصطلحــات علميــة توصــف بهــا أعــراض االكتئـ�اب الـــمريض جتدهــا مبثوثــة‬
‫حــى يف املراجــع األجنبيــ�ة‪.‬‬

‫منهــا الشــعور العميــق باحلــزن وشــعور مبالــغ فيــه بالذنــب‬


‫ِ‬
‫وانــــعـــــــــــــدام القـــــــــــيمة‬ ‫(‪،)exaggerated sense of guilt‬‬
‫‪65‬‬

‫ُ‬
‫ونقــص الدافعيــة (‪..)lack of motivation‬‬ ‫(‪،)worthlessness‬‬

‫جيمــدك عنــد مرحلــة اإلحســاس بالذنــب ويجعــل التفكــر‬ ‫الشــيطان ّ‬


‫بالذنــب يســيطر عليــك بطريقــة وسواســية‪ُ ،‬‬
‫ويشــعرك أنــك عديــم القيمــة‬
‫غــر قابــل لإلصــاح‪ ،‬غــر قابــل ألن تكــون مــن عبــاد هللا الصاحلــن‪ ..‬ليشــل‬
‫إرادتــك للطاعــة ودافعيتــك للتغيــر وهجـ ِـر املعصيــة‪ ،‬ولتفقد الســعادة والفرح‬
‫بربــك ومــوالك ســبحانه وتعــاىل‪ .‬فهــو ال يريــد لــك أن حتــب ربــك!‬

‫إخــواين‪ ،‬إن الولــد الــذي يعاقبــه أبــوه حيــب أبــاه إذا علــم أن هــذه عقوبــة‬ ‫ ‬
‫ُ‬
‫دافعهــا محبــة أبي ـ�ه لــه وحرصــه علــى مصلحتــه‪ ،‬أمــا إن ظــن أن أبــاه يعاقبــه‬
‫بدافــع الكراهيــة‪ ،‬فــإن قلبــه سيقســو جتــاه أبيــ�ه‪.‬‬

‫وهلل املثــل األعلــى‪ ..‬ال تســمح للشــعور بــأن البــاء عقوبــة محضــة‪ ،‬ال‬
‫تســمح لــه أن يغــزو قلبــك‪ .‬بــل اســتحضر صــورة األب الــذي يفــرك أذن ولــده‬
‫املخطــئ فــإذا طأطــأ الولــد رأســه ضمــه أبــوه إىل صــدره وأغــدق عليــه مــن‬
‫حنانــه‪ ..‬وهلل املثــل األعلــى‪.‬‬

‫فاعتصــم حببــل حســن الظــن بــاهلل التــواب العفــو الغفــور‪ ..‬إنــه تعــاىل‬
‫أرحــم مــن أن يرتبــص بذنــوب عبــاده املؤمنــن فيبطــش بهــم وخيرجهــم مــن‬
‫رحمتــه وحيرمهــم فرصــة أخــرى‪ ..‬يف احلديــث الــذي رواه مســلم عــن النــي‬
‫ٌ‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم فيمــا حيكــي عــن ربــه عــز وجــل قــال‪(( :‬أذنــب عبــد‬
‫ذنب ـ�ا‪ ،‬فقــال‪ :‬اللهــم اغفــر يل ذنــي‪ .‬فقــال تب ـ�ارك وتعــاىل‪ :‬أذنــب عـــبدي ً‬
‫ذنب ـ�ا‪،‬‬ ‫ً‬
‫فعلــم أن لــــــه ًّربــا يغــــــفــــر الذنــب‪ ،‬ويأخــذ بالذنــب‪ .‬ثــم عــاد فأذنــب‪ .‬فقــال‪:‬‬
‫أي رب اغفــر يل ذنــي‪ .‬فقــال تبـ�ارك وتعــاىل‪ :‬عبــدي أذنــب ً‬
‫ذنبـ�ا‪ .‬فعلــم أن لــــــه‬ ‫ْ‬
‫ًّربــا يغــــــفــــر الذنــب‪ ،‬ويأخــذ بالذنــب‪ .‬ثــم عــاد فأذنــب فقــال‪ :‬أي رب! اغفــر‬
‫‪66‬‬

‫ذنبــ�ا‪ .‬فعلــم أن لــه ًّربــا يغفــر‬


‫يل ذنــي ‪ .‬فقــال تبــ�ارك وتعــاىل‪ :‬أذنــب عبــدي ً‬
‫الذنــب‪ ،‬ويأخــذ بالذنــب ‪ ..‬اعمــل مــا شــئت فقــد غفــرت لــك))‪.‬‬

‫عبــد أن أذنــب وســأغفر لــك‪ .‬بــل معــى‬ ‫ً‬


‫طبعــا ال يــويح هللا تعــاىل إىل ٍ‬
‫احلديــث أنــه قــد ســبق يف مشــيئ�ة هللا أن العبــد مهمــا عمــل‪ ،‬إن كان يف كل‬
‫مــرة يتــوب بصــدق ويعــزم علــى عــدم فعــل املعصيــة فــإن هللا تــواب وســيبقى‬
‫يتــوب عليــه‪ ،‬غفــور‪ ،‬ســيغفر لــه‪ ،‬عفــو‪ ،‬ســيعفو عنــه‪ ..‬وهــو يعلــم ســبحانه أن‬
‫هــذا العبــد التائــب ســيذنب يف املســتقبل‪.‬‬

‫أيخ‪ ،‬ال تقنــط مــن رحمــة هللا أن يعينــك علــى التقــرب إليــه والتمتــع‬
‫باحلظــوة عنــده‪.‬‬

‫إذا جــاءك الشــيطان فقــال لــك‪ :‬أنــت ال تســتحق رحمــة هللا‪ .‬فقــل‪ :‬نعــم‪،‬‬
‫أنــا ال أســتحقها لكنــه تعــاىل ســرحمين ألنــه أكــرم مــن أن يعامــل عبــاده بمــا‬
‫يســتحقونه! إن قــال لــك الشــيطان‪ :‬لــن يعطيــك هللا فرصــة أخــرى فقــد‬
‫جنــاك مــن قبــل ولــم حتفــظ املعــروف‪ ..‬فقــل‪ :‬بلــى‪ ،‬ســيعطيين وأطمــع أن‬
‫ينجيــي‪ ،‬فهــو العفــو الغفــور‪ .‬إذا قــال لــك الشــيطان‪ :‬إن هللا يبتليــك عقوبــة‬
‫ألنــه يكرهــك فقــل لــه‪ :‬بــل يبتليــي ليطهــرين ويربيــي‪ .‬إذا قــال لــك الشــيطان‪:‬‬
‫أنــت أحــط مــن أن تســتأهل رحمــة هللا‪ ،‬فقــل لــه‪ :‬رحمــة هللا أوســع مــن أن‬
‫تضيــق عــي وال تشــملين‪.‬‬

‫العبــد الفقــر لرحمــة هللا‪ ،‬والــذي يكتــب لكــم هــذه الســطور‪ ..‬تفكــر أثن�اء‬
‫أســره يف ماضيــه وأيقــن أنــه قصــر يف حــق هللا كثـ ً‬
‫ـرا‪ ..‬كان هللا ســبحانه وتعــاىل‬
‫فرصــا وابتــلاه ابتــلاءات أخــف ليصحــو مــن ســهوته‪ ،‬خاصــة فيمــا‬ ‫قــد أعطــاه ً‬
‫يتعلــق برتتيــب األولويــات يف حياتــه وأعمــال القلــوب‪ ..‬لكــن هــذا العبــد‬
‫‪67‬‬

‫الضعيــف عــاد بعــد النجــاة إىل األخطــاء ذاتهــا‪ ،‬فجــاءه بـ ٌ‬


‫ـاء أشــد‪ .‬نــدم وتألــم‬
‫وخــاف مــن أن هــذه العقوبــة ســتطول وتشــتد ولربمــا تتجــاوز اســتطاعته‬
‫وحتملــه‪ ،‬فــزاد هــذا مــن أملــه وندمــه‪ .‬وبــدأ شــعور ســليب يـ ُّ‬
‫ـدب إىل قلبــه‪..‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫عظيمــا قرأتــه مــن قبــل‪ ،‬لكنــه هــذه املــرة جاء‬ ‫ثــم شــاء هللا تعــاىل أن أقــرأ حديثـ�ا‬
‫حبــل جنــاة مــن هللا وبلســما جلــرايح! احلديــث رواه مســلم‪ ،‬وفيــه أن هللا عــز‬
‫ًّ‬ ‫ِّ‬
‫وجــل ُيشــفع بعــض خلقــه يف إخــراج أنــاس مــن النــار اخلــر فيهــم قليــل جــدا‪.‬‬
‫ً‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬رحمــة هللا ستشــمل مــن هــم دونهــم أيضــا! فيقــول هللا عــز وجــل‪:‬‬
‫((شــفعت املالئكــة‪ ،‬وشــفع النبيــون‪ ،‬وشــفع املؤمنــون‪ ،‬ولــم يبــق إال أرحــم‬
‫النــار‪ُ ،‬في ْخــر ُج م ْنهــا َق ْو ًمــا َلـ ْـم َي ْع َم ُلــوا َخـ ْ ً‬
‫ـرا‬
‫َ َ ْ ُ َ ْ َ ً َ َّ‬
‫الراحمــن‪ .‬فيق ِبــض قبضــة ِمــن‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ ََ ِ ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َقـ ُّـط قـ ْـد عـ ُ‬
‫ـادوا ُح َم ً‬
‫ـاة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬‫احل‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫ـه‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ـة‬‫ِ‬ ‫ـ‬‫ن‬ ‫اجل‬ ‫ـواه‬
‫ِ‬ ‫ـ‬‫أف‬ ‫يف‬ ‫ـر‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫يف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬‫يه‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫في‬ ‫ـا‪،‬‬
‫ـ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُِ‬ ‫َْ ُُ‬ ‫ََ ْ ُ ُ َ‬
‫احلبــة يف ح ِميـ ِـل الســي ِل))‪ ..‬ســبحان هللا! خيــرج ربن ـ�ا‬ ‫فيخرجــون كمــا تــرج ِ‬
‫طــهــرهــــم بالــنــــار ويدخلهــم اجلنــة برحمتــه‬ ‫أناســا بــعــــدما ّ‬ ‫ســبحانه وتعــاىل ً‬
‫ال بأعمالهــم‪.‬‬

‫هــز هــذا املوضــع مــن احلديــث كيــاين وأيقظــي وجنــاين مــن االكتئــ�اب‬
‫الــذي كان الشــيطان حيــاول إيقاعــي فيــه!‬
‫قلــت لنفــي‪( :‬نعــم أخطــأت‪ ..‬لكـ ْـن أحســب أن هللا جعلــي خـ ً‬
‫ـرا مــن هــؤالء‬ ‫ِ‬
‫الذيــن أخرجهــم‪ .‬فــإن كانــت رحمــة هللا شــملتهم فستشــملين يف الدنيــ�ا‬
‫واآلخــرة)‪.‬‬

‫فانقذفــت يف قلــي دفعــة كبــرة مــن محبــة هللا واالطمئن ـ�ان إىل رحمتــه‪،‬‬
‫ُ‬
‫وعلمــت أن الصــوت الــذي ظننتـ�ه مــن النفــس اللوامــة كان صوت الشــيطان!‬
‫َ‬
‫تســرب إيل مــن هــذا البــاب‪ :‬بــاب محاســبة النفــس! فتجــاوز يب محاســبة‬
‫النفــس املحمــودة إىل اإلحبــاط املذمــوم‪.‬‬
‫‪68‬‬

‫إخواين وأخوايت‪..‬‬
‫ُ ۡ‬
‫هللا تعــاىل أرحــم بكثــر ممــا قــد يهــئ لنــا الشــيطان يف حلظــات اليــأس‪{ ..‬قــل‬
‫َّ َّ َّ َ َ ۡ ُ ُّ‬
‫ٱلذنُ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َۡ ْ‬ ‫َ ٰ َ َ َّ َ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫وب‬ ‫سـ ِه ۡم لا تق َن ُطوا ِمــن َّرحمـةِ ٱللِۚ إِن ٱلل يغفِــر‬
‫ـرفوا علـ ٰٓى أنف ِ‬‫يعِبــادِي ٱلذِيــن أسـ‬
‫ـم ‪[ }٥٣‬الزمــر‪..]53 :‬‬ ‫ٱلرحِيـ ُ‬ ‫ـو ٱلۡ َغ ُفـ ُ‬
‫ـور َّ‬ ‫ـهۥ ُهـ َ‬ ‫َجم ً‬
‫ِيع ـا ۚ إنَّـ ُ‬
‫ِ‬

‫وبهــذا زاد البــاء مــن فهــي ألســماء هللا تعــاىل‪ :‬التــواب‪ ،‬العفــو‪ ،‬الغفــور‪..‬‬
‫ألبــي محبــي هلل علــى فهــم ُم َع َّمـ ٍـق ألســمائه وصفاتــه ســبحانه‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫ال تدع الشيطان يوقعك يف االكتئ�اب‪..‬‬
‫حول ندمك‬ ‫بل ّ‬
‫إىل قوة إجيابي�ة للتقرب من هللا التواب العفو الغفور‪.‬‬
‫‪69‬‬

‫هللا لطيف بعباده‬

‫ال زلنــا نبــي محبتنــ�ا هلل علــى أســس ال تت�أثــر باملتغــرات‪ ،‬أولهــا تأمــل‬
‫أســماء هللا تعــاىل وصفاتــه‪ ،‬وقلنــا أنــك بهــذا التأمــل حتــول البــاء إىل ســبب‬
‫ً‬
‫ملحبــة هللا بــدل مــن أن يزعــزع البــاء هــذه املحبــة‪.‬‬
‫تأملنــا حكمــة هللا وتــودده وإعانتـ�ه ورحمتــه ومغفرتــه‪ ..‬يف هــذه املحطــة نت�أمل‬
‫لطــف ِّربنـ�ا اللطيف ســبحانه‪.‬‬

‫َ‬
‫ٱلل لط ُ ۢ‬
‫َّ‬
‫يــف بِعِ َبــادِه ِۦ} [الشــورى‪ ..]19 :‬مهمــا اشــتد‬ ‫قــال ربنــ�ا عــز وجــل‪ِ ُ { :‬‬
‫ً‬
‫بــاؤك فــا بــد أن تــرى مــن ربــك تعــاىل لطفــا فيــه إن أحســنت الظــن بــه‬
‫تعــاىل‪ ،‬بــل وكلمــا أحســنت التعامــل مــع بالئــك زادت فيــه مظاهــر اللطــف‬
‫وتعمــق لديــك فهــم لطفــه ســبحانه‪.‬‬

‫تأمــل لطــف هللا بنبي ـ�ه وصفيــه محمــد صلــى هللا عليــه وســلم يف أشــد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وإيالمــا‪ ..‬عندمــا عــاد مــن الطائــف وقــد ســخر منــه‬ ‫حلظــات حياتــه حراجــة‬
‫ســاداتها ورمــاه باحلجــارة ســفهاؤها‪ ،‬وهــو اآلن يف طريــق العــودة إىل مكــة‬
‫حيــث تنتظــره الشــماتة والتكذيــب والتضييــق‪ ،‬وقــد ماتــت الوفيــة العطــوف‬
‫خدجيــة ريض هللا عنهــا‪ ،‬وعمــه أبــو طالــب الــذي كان يـحـــي النــي ويـفـديـــه‬
‫ّ‬
‫بـنـفـســـه وأوالده‪ ..‬وزاد األلـ َـم أن أبــا طالــب مــات كافـ ًـرا‪ .‬لــم يعــد لرســول هللا‬
‫يف مكــة مــأوى وال منعــة‪ ..‬وكان هــذا كلــه بعــد عشــر ســنوات مــن البعثــة‪،‬‬
‫أصحابــه فيهــا يعذبــون ويشــردون ويقتلــون‪ ،‬وال يــدري النــي صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم كــم ســتمتد هــذه املعانــاة‪..‬‬

‫كانــت ســاعات العــودة مــن الطائــف هــذه أشــق محطــة يف حيــاة النــي‬
‫ُ‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم‪ .‬وصفهــا النــي بقولــه أل ِّمنــا عائشــة يف احلديــث‬
‫‪70‬‬

‫ْ ُ‬
‫املتفــق عليــه‪(( :‬فانطلقــت وأنــا مهمــوم علــى وجهــي‪ ،‬فلــم أســتفق إال وأنــا‬
‫بقــرن الثعالــب))‪ ..‬قــرن الثعالــب منطقــة تبعــد حــوايل ‪ 35‬كيلومــرا عــن‬
‫الطائــف‪ ..‬ســار النــي هــذه املســافة يف حــر الشــمس ووحشــة الصحــراء دون‬
‫أن يشــعر بهــا مــن شــدة الهــم!‬

‫ومــع ذلــك‪ ..‬يــأيت لطــف هللا تعــاىل ليخفــف عــن رســوله صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم يف أشــد اللحظــات حراجــة‪ ..‬يف هــذه اللحظــة كأن هللا تعــاىل وضــع‬
‫جميعــا يف قفــص االتهــام‪ ،‬وأعطــى رســوله مطلــق احلريــة يف القضــاء‬ ‫ً‬ ‫الكفــار‬
‫لينفــذ فيهــم احلكــم الــذي يشــاء‪ ..‬ففــي تتمــة احلديــث املتفــق عليــه الــذي‬
‫ذكرنــاه قــال عليــه الصــاة والســام‪(( :‬فرفعــت رأيس وإذا أنــا بســحابة قــد‬
‫أظلتــي‪ ،‬فنظــرت فــإذا فيهــا جبريــل عليــه الســام فنــاداين فقــال‪ :‬إن هللا‬
‫َ‬
‫تعــاىل قــد ســمع قــول قومــك لــك ومــا ردوا عليــك‪ ،‬وقــد بعــث إليــك ملــك‬
‫ّ‬
‫اجلبــال لتأمــره بمــا شــئت فيهــم‪ .‬فنــاداين ملــك اجلبــال فســلم علـ ّـي ثــم قــال‪:‬‬
‫يــا محمــد إن هللا قــد ســمع قــول قومــك لــك وأنــا ملــك اجلبــال‪ ،‬وقــد بعثــي ريب‬
‫ْ‬
‫إليــك لتأمــرين بأمــرك‪ .‬فمــا شــئت؟ إن شــئت أطبقــت عليهــم األخشـ َـبي))‪.‬‬

‫ســبحان هللا! نفــس النــي كســرة بمــا لقــي مــن أهــل مكــة والطائــف‪،‬‬
‫وقدمــاه ال زالتــا تدميــان‪ ..‬فيجعــل هللا تعــاىل حبيب ـ�ه بهــذا العــرض يف مقــام‬
‫احلاكــم نافــذ األمــر‪ ،‬بينمــا الكفــار جميعــا كأنهــم قيــدوا بالسالســل أذلــة‬
‫صاغريــن‪.‬‬

‫َ‬
‫ملــكان ينتظــران كلمــة مــن شــفيت النــي تنهــي املعانــاة وتشــفي الصــدر‬
‫وتذهــب غيــظ القلــب‪ ..‬انظــر كــم هــو محمــد صلــى هللا عليــه وســلم كريــم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عظيمــا مــن هللا حببيبـ�ه؟ عندمــا‬ ‫القــدر عنــد ربــه ســبحانه! أليــس هــذا لطفــا‬
‫يــرى رســول هللا قــدره عنــد ربــه ومحبــة ربــه لــه وغضبــه مــن أجلــه‪.‬‬
‫‪71‬‬

‫َ‬
‫فمــا كان منــه صلــى هللا عليــه وســلم إال أن قـــــــــــال للــمــلكـــن ‪-‬بمنتهــى‬
‫الســمو اإلنســاين والعظمــة البشــرية‪(( :-‬بــل أرجــو أن خيــرج هللا مــن‬
‫ً‬
‫أصالبهــم مــن يعبــد هللا وحــده ال يشــرك بــه شــيئ�ا)) (متفــق عليــه)‪ .‬بــأيب هــو‬
‫وأيم صلــى هللا عليــه وســلم‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫عظيمــا مــن هللا بنبيــ�ه؟!‪ ..‬أن يســلمه زمــام األمــر‬ ‫أليــس هــذا لطفــا‬
‫ويجعلــه صاحــب القــرار‪ ..‬ثــم النــي مــن نفســه خيتــار الصــر علــى أذاهــم‪ ،‬ال‬
‫عــن عجــز‪ ،‬بــل عــن عظمــة ورحمــة‪ .‬فبــدل أن يشــعر النــي بالقهــر وانعــدام‬
‫احليلــة جتــاه هــؤالء املعانديــن‪ ،‬يصبــح كاألب الــذي اختــار هــو بنفســه الصــر‬
‫علــى هــؤالء األوالد العاقــن‪.‬‬

‫عندمــا تبتلــى تأمــل كيــف أن بــاءك كان مــن املمكــن أن يــأيت أشــد‪ ،‬ثــم‬
‫تأمــل وجــوه لطــف هللا تعــاىل بــك‪.‬‬

‫ُ‬
‫يف بــاء مــررت بــه جعلــت أتأمــل وجــوه اللطــف‪ ..‬اســتخرجت ورقــة‬
‫وقلمــا وكتبــت قائمــة بعنــوان‪( :‬أمــور خففــت البــاء)‪ .‬وصلــت فيهــا إىل ‪37‬‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫ـت كثـ ً‬
‫ـرا غريهــا بعدهــا‪ .‬وأنــا أنصــح‬ ‫أمـ ًـرا خفــف هللا بهــا هــذا البــاء! ثــم أضفـ‬
‫كل ُمبتلـ ًـى أن يفعــل مثــل ذلــك‪ ،‬ولينظــر إىل أثرهــا يف نفســه‪.‬‬

‫ُ‬
‫خيفــف هللا عنــك باللقــاء برجــل ابتلــي قبلــك فصــر‪ ،‬ببســمة تراهــا علــى‬
‫وجــه أخيــك‪ ،‬برعايــة هللا لعيالــك ومــن يهمــك شــأنهم‪ ،‬بمحبــة أنــاس نبــلاء‬
‫ومســاندتهم لــك‪ ،‬بكتــاب تقــرأه‪ ،‬بذكــرى جميلــة‪ ،‬بأمــل يف الفــرج ينبعــث يف‬
‫قلبــك‪ ،‬بصــورة جميلــة للمســتقبل ترتســم يف ذهنــك‪ ،‬بتوســيع هللا لــك يف‬
‫جانــب آخــر مــن حياتــك غــر اجلانــب الــذي ضــاق عليــك‪ ،‬بتعريضــك قبــل‬
‫البــاء الكبــر لبــاء أصغــر يمرنــك ويعــودك علــى الصــر‪ ،‬بكشــف هللا قبــح‬
‫‪72‬‬

‫ظاملــك‪ ..‬وغريهــا الكثــر‪.‬‬

‫ومــن لطائــف اللطــف الربــاين أنــك تكــون يف بــاء تضيــق بــه ثــم يأتيــك‬
‫بــاء آخــر جديــد ينغــص عليــك ويزيــد همــك أكــر فأكــر‪ ..‬فــإذا فــرج هللا هــذا‬
‫الهــم اجلديــد انشــرح صــدرك وهــان عليــك بــاؤك األصلــي!‬

‫ومــن لطائــف اللطــف الربــاين تلــك الــرؤى الطيب ـ�ة املصــرة الــي رأيــت‬
‫مــن نفــي ومــن كثيريــن حــويل مذاقهــا اجلميــل وكــم َّ‬
‫صــرت مــن مبتلــى‬
‫َّ‬
‫وهــدأت نفســه‪..‬‬

‫ً‬
‫قــد تقــول يف نفســك‪ ..‬لكــن هنــاك باليــا ال نــرى فيهــا لطفــا‪ ..‬فأيــن‬
‫اللطــف فيمــا حيصــل مــع مســلمني يف بلــدان مختلفــة يعذبــون وتنتهــك‬
‫ويقتلــون بأســاليب بشــعة؟!‬‫حرماتهــم ُ‬

‫فاجلــواب‪ :‬بــل أعظــم مظاهــر اللطــف نراهــا يف بالئهــم! أال وهــو تثبيتهــم‬
‫ً‬
‫علــى اإليمــان يف حلظــات تعذيبهــم وقتلهــم‪ ،‬بــدل مــن موتهــم علــى معصيــة‪.‬‬
‫إنســان علــى وشــك مفارقــة الدنيــ�ا والرحيــل إىل ربــه‪ ..‬مثــل هــذا ال حيتــاج‬
‫ختفيــف البــاء‪ ،‬بــل مضاعفتــه ليتضاعــف األجــر‪ ،‬ألنــه علــى وشــك انقطــاع‬
‫العمــل وطــي كتــاب احلســنات والســيئ�ات‪ .‬وعامــة إخواننـ�ا هــؤالء ممــن خلط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫صاحلــا وآخــر ســيئ�ا كحالتنـ�ا‪ ،‬وممــن تــراوح إيمانــه بــن نشــاط‬ ‫مــن قبـ ُـل عمــا‬
‫وفتــور‪ ..‬فــأي لطــف أعظــم مــن أن يعصمــه هللا مــن شــؤم ســيئ�اته ويقــذف يف‬
‫ً‬
‫قلبــه إيمانــا ينطقــه بالشــهادتني وبعبــارات التفويــض إىل هللا (مــا لنــا غــرك‬
‫يــا هللا) بينمــا كثــر غــره يمــوت يف بيتـ�ه وقصــره ميتـ�ة ســوء وال يوفــق للنطــق‬
‫بهمــا؟!‬
‫‪73‬‬

‫(مــا ُأحـ ُّ‬


‫ـب‬ ‫روى أبــو نعيــم يف حليــة األوليــاء أن عمــر بــن عبــد العزيــز قــال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َْ ُ َ َ‬
‫أن ت َهـ َّـون َعلـ َّـي َســك َرات ال َمـ ْـو ِت ألن َهــا ِآخـ ُـر َمــا ُيكفـ ُـر ِبـ ِـه َعـ ِـن ال ُم ْسـ ِـل ِم)‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫مهما اشتد البالء‪ ،‬سرتى أشكاال من لطف هللا فيه‪ ..‬فتأملها‪ ،‬وسيتعمق‬
‫حينئـذ فهمك السم هللا (اللطيف)‪،‬‬
‫ٍ‬
‫فتعيد بن�اء حبه سبحانه على أسس سليمة‪.‬‬
‫‪74‬‬

‫اشكر الذي ستر عيوبك عنهم!‬

‫نتحــدث يف هــذه املحطــة عــن ســر هللا علــى عبــاده‪ ..‬صــح عــن رســول‬
‫ِّ‬ ‫ّ َ‬
‫حيــ ّـي ِســتري))‪.‬‬
‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم أنــه قــال‪(( :‬إن هللا ِ‬
‫َ َ‬
‫قد تبتلى‪ ،‬ف َيتعاطف الناس معك و يدافعون عنك ويذكرون أفضل‬
‫حينئـذ‪ ،‬إياك أن تغرت بنفسك! بل تذكر‬ ‫صفاتك ويثنون عليك ثن�اء ً‬
‫عطرا‪..‬‬
‫ٍ‬
‫أن هذا كله إنما هو من فضل هللا الذي أظهر اجلميل وسرت القبيح‪ .‬فلو أظهر‬
‫ُ‬
‫أقبح ما عندك فلعلهم انفضوا عنك وقالوا عنك‪( :‬إنما ابتلي بسوء أعماله)‪..‬‬
‫مؤلما أن تسمع هذه الكلمة وكم سزتيد همك!‬‫وتصور كم سيكون ً‬

‫ليــس هــذا الــكالم للعصــاة فقــط‪ ،‬فليــس منــا أحــد يف قلبــه حيــاة إال‬
‫ويعلــم مــن نفســه أشــياء حيــب أن يســرها هللا تعــاىل‪ .‬فـــ((كل بــي آدم‬
‫خطــاء))‪ .‬فتــش يف نفســك‪:‬‬

‫ُ‬
‫‪ -‬إن لــم تكــن تســر معصيــة اآلن فقــد عصيــت هللا يف ماضيــك وال بــد‪ ،‬وكان‬
‫مــن املمكــن أن َّيطلــع عبــاد هللا علــى ذلــك فتهــز صورتــك يف عيونهــم بعــد أن‬
‫أحبــوك‪ ،‬ولكــن هللا ســرك‪.‬‬

‫‪ -‬بــل قــد تكــون تســاهلت يف تن�اقــل مــا ينســب إىل أخيــك املســلم مــن نقيصــة‬
‫مفــراة عليــه وتقــول‪ :‬العهــدة علــى الــراوي! فتســببت يف أن َيشــيع عنــه مــا‬
‫ليــس فيــه مــع أن هللا ســرك علــى مــا فيــك!‬

‫‪ -‬إن لــم تكــن معصيــة فتقصــر يف طاعــة‪ ،‬خاصــة إن كان النــاس ينظــرون‬
‫إليــك علــى أنــك قــدوة‪.‬‬
‫‪75‬‬

‫‪ -‬أو نقطة ضعف يف شخصيتك يمكن أن يفرح بها خصومك‪ ،‬لكن هللا سرتها‬
‫عليك‪.‬‬

‫‪ -‬وكــم مــن مواقــف قــد ال تكــون فيهــا معصيــة لكــن يمكــن أن يســاء تفســرها‬
‫فيســوء ظــن النــاس بــك‪ ،‬لكــن هللا ســرك‪.‬‬

‫ـب عنــدك وأفــكار ال حتــب أن يطلــع عليهــا النــاس إذ تهــز‬


‫‪ -‬وكــم مــن مــرض قلـ ٍ‬
‫صورتــك لديهــم‪ ،‬لكــن هللا ســرك‪.‬‬

‫‪ -‬أعـود فأقـول‪ :‬يعـرف هـذا مـن نفسـه كل مـن يف قلبه حيـاة‪ .‬فإن كنـت ال ترى‬
‫ستر هللا عليـك فهـذه داللـة خطيرة أن قلبـك قـد قسـا وما عـاد يـرى فضل هللا‬
‫بالستر عليـك‪ ..‬داللـة أن املعصيـة هانـت عليك لهـوان حق هللا عنـدك‪ ..‬ومما‬
‫هونهـا أن هللا لـم يفضحـك بهـا‪ .‬فلـو أطلـع النـاس عليهـا ورأيـت نفورهم عنك‬
‫حينئــذ لندمـت عليهـا وعـظـمــت يف عـيـنــك‪ .‬لكـن لم‬
‫ٍ‬ ‫وسـقوطك مـن عينهـم‬
‫ّ‬
‫يـطــلع عليهـا إال هللا‪ ،‬وهـان عنـدك حـق هللا‪ ،‬فهانـت عليـك معصيتك!‬

‫ّ‬
‫نــبهنا رسـول هللا إىل الــسـرت الــذي قد ُيكشف من حيث ال حنتسب فقال‪:‬‬
‫((يا معشر من أسلم بلسانه‪ ،‬ولم يفض اإليمان إىل قـلبه! ال تؤذوا املسلمني‪،‬‬
‫وال تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه املسلم؛ تتبع هللا عـــــورته‪ ،‬ومن‬
‫تتبع هللا عـــــورته؛ يـفـضــحه‪ ،‬ولو يف جوف رحله)) (صححه األلباين)‪.‬‬

‫ِّ ِّ‬
‫الستري سبحانه‪.‬‬ ‫فكر وتذكر وتدبر‪ ..‬كم مرة سرتك هللا تعاىل؟ لتحب ربك‬

‫عندمــا تكــون يف جنــازة فتســمع ثنـ�اء النــاس علــى امليــت تصــور كــم مــرة‬
‫يعــي اإلنســان ربــه يف مــدة حياتــه‪ ..‬ســتني أو ســبعني ســنة‪ ،‬ثــم عنــد املــوت‬
‫‪76‬‬

‫يذكــره النــاس خبــر ويســره هللا‪.‬‬

‫بــل انظــر إىل تواصــل ســر هللا علــى عبــاده املؤمنــن يــوم القيامــة‪ ..‬يف‬
‫احلديــث الــذي رواه البخــاري أن رســول هللا صلــى هللا عليه وســلم قــال‪(( :‬إن‬
‫هللا يــدين املؤمــن‪-‬أي‪ :‬يــوم القيامــة‪ -‬فيضــع عليــه كنفــه ويســره‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫أي رب‪ .‬حــى إذا قــــــــ ّـرره‬
‫أتعــرف ذنــب كــذا‪ ،‬أتعــرف ذنــب كــذا؟ فيقــول‪ :‬نعــم ْ‬
‫بــذنــوبــــه‪ ،‬ورأى يف نــفـــــسه أنــــــــــه هـــلك‪ ،‬قال ‪ :‬سرتتها عليك يف الدني�ا‪ ،‬وأنا‬
‫أغفرهــا لــك اليــوم‪ ،‬فيعطــى كتــاب حســناته‪.))...‬‬

‫تصور !‪ ..‬معاص سرتها هللا يف الدني�ا فلم يعلم بها إال هللا ثم صاحبها‬
‫واحلفظة من املالئكة‪ ،‬ثم سرتها هللا بعد وفاة صاحبها ثم ســــرتها يـــوم‬
‫الـقــــيامــة فـدفـنت وكأنها ما كانت‪ ،‬وال ُيظهر هللا إال محاسن صاحبها‬
‫ۡ ْ‬ ‫ٓ‬
‫فيعطى كتاب حسناته فينطلق ويقول‪َ { :‬ها ُؤ ُم ٱق َر ُءوا ك َِتٰب ِ َي ۡه ‪[ }١٩‬احلاقة‪..]19 :‬‬
‫كيف أيها العبد لو لم يسرتها هللا؟ أكنت تقول للعاملني هاؤم اقرؤوا كتابي�ه؟‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫بـل قـد تعمـل عملا هلل تعـاىل تسـر بـه لئلا يدخـل قلبـك الريـاء‪ ..‬فيقبلـه‬
‫ربـك عـز وجـل‪ ،‬ثـم ُيظهر هـذا العمـل على يـد أعدائك فزييـد محبتـك يف قلوب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدحورا‪.‬‬ ‫النـاس ويرفـع قـدرك عندهم أنك أسـررت بـه‪ ،‬ويعود عـدوك خاسـئا‬
‫طــــــــويت أتـــاح لــــها لســان حسود‬ ‫وإذا أراد هللا نـــــــشــــــــــر فضــــــــيلة‬
‫مــا كان يعــرف طيــب عــرف العــود‬ ‫لوال اشــتعال الـــنــــار فيما جـــــــاورت‬

‫فاشــكر هللا الــذي فعــل هذا حبســناتك ولم يفعلــه بمعاصيك وســيئ�اتك!‬
‫َ‬
‫وإن أثــى عليــك املثنــون‪ ..‬وأثنــوا علــى صــرك علــى بالئــك‪ ..‬فتذكــر علــى‬
‫الفــور أن تشــكر هللا الــذي ســرك‪ ،‬وتصــور لــو أن للمعــايص صغريهــا وكبريهــا‬
‫راحئــة تفــوح أو عالمــة تظهــر علــى جبهتــك كيــف ســيكون احلــال؟!‬
‫‪77‬‬

‫مخاطبـا رب العزة عـز وجل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫وتذكـر قـول أيب محمـد األندلسي القحطـاين‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫أنت الــــــذي صـــورتين وخـلـقـــــــــتين وهــــــــديتين لــــــشـــــرائع اإليـــــــ ِ‬
‫ـمان‬
‫َ‬
‫اخلذالن‬
‫ِ‬ ‫أنت الــــــذي آويــتــــي وحـــبـــــــوتين وهــــــــديتين من حـــــــــــــرة‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وحنان‬
‫ِ‬ ‫ـرحمة‬
‫ٍ‬ ‫ـوب مــــــودة والعــطــــف مـــنك بـــــــ‬ ‫وزرعــــت يل بـــن القـــلـــ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ونــشــــــرت يل يف العـــاملـــن محاســنا وســـــــــرت عــن أبـــــصارهم عصياين‬
‫ـام علـ ّـي مــن يلقاين‬ ‫وهللا لـــــو علمــوا قــــبــيــــح ســـــريريت ألىب الــــــســــــــــــ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َول ُ‬ ‫وأل َعـــــ َـرضوا عــــــــي ومــ ّـلوا ُ‬ ‫َ‬
‫بــــــهوان‬
‫ِ‬ ‫ـة‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫كرامــ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫بـــعــــ‬ ‫ـؤت‬ ‫ـ‬ ‫ـــ‬‫ــــب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫حب‬ ‫ص‬
‫َُ َ‬ ‫َ‬
‫وحلمــت عن ســـقـــطي وعن طغياين‬ ‫لكـ ْـن ســـــــرت مـــعـــــاييب ومــــــثاليب‬
‫ُ‬
‫فلــك المـــحامـــــد واملــــــــدائــــح كلها بـخـــــــواطــــــري وجــــــواريح ولســاين‬
‫ُ‬ ‫ََ َ َ‬

‫ختاما‪ ،‬عرفانا هلل تعاىل باجلميل أن سرتك‪ ،‬وحىت يستمر سرته عليك‪..‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫مسلما‬ ‫اسرت على عباد هللا‪ ..‬فقد قال النيب صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ومن سرت‬
‫ً‬
‫سرته هللا يف الدني�ا واآلخرة)) (رواه مسلم)‪ ،‬وقال‪(( :‬من غسل ميت�ا فكتم عليه‬
‫غفر هللا له أربعني مرة)) (صححه األلباين وقال ابن حجر‪ :‬حسن غريب)‪ .‬يعين قد‬
‫ً‬
‫شيئ�ا يسوؤه لو كان ًّ‬
‫حيا أن يطلع عليه الناس‪ ..‬عالمات سوء‬ ‫ترى من امليت‬
‫خاتمة‪ ،‬مرض‪ ،‬آثار وشم قبل االلزتام‪ ،‬حىت على مــــستوى قــــلــة عــــنـــايــــة‬
‫بــنــظـــافــة مالبسه أو جسده‪ ..‬سرتك هللا فاســـرت على عباد هللا‪ .‬وكلما‬
‫دعتك نفسك إىل احلديث عن عيوب الناس فتذكر سرت هللا عليك‪.‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫تأمل سرت هللا عليك يف بالئك‪ ..‬وكيف أنه لو أظهر ما سرت لشمت فيك من‬
‫شمت‪ ..‬وانفض عنك بعض من يتعاطف معك‪.‬‬
‫وإن أثىن الناس عليك أو على صربك‪ ،‬فتوجه باحلمد إىل ربك الستري‪.‬‬
‫‪78‬‬

‫يائس‪ ..‬مستوحش‪ ..‬قلق‪ ..‬خائف‬

‫أحبيت الكرام‪..‬‬
‫تصوروا معي حوارا يدور بني صديقني‪ :‬زياد ورائد‪..‬‬

‫زياد‪ :‬سمعت يا رائد أنك مقرب من شخص مهم‪.‬‬


‫رائد‪ :‬صحيح‪ ،‬إنه ثري وذو نفوذ‪ ،‬ال تستعيص عليه مشكلة‪.‬‬
‫زياد‪ :‬وما عالقتك به‬
‫رائــد‪ :‬إنــه صديقــي! علــى اســتعداد أن يقــف معــي يف أيــة مشــكلة‪ .‬يؤكــد علــي‬
‫ً‬
‫دائمــا أال أطلــب املســاعدة مــن غــره‪.‬‬

‫ثم بعد أيام من هذا احلوار‪:‬‬

‫رائد‪ :‬آآآآآآه يا زياد‪ ..‬أنا قلق !‬


‫‪-‬من ماذا ؟‬
‫‪-‬وقعــت يف مشــكلة مــن مــدة‪ ،‬وبــدأ صــري ينفــد‪ .‬أحــس باخلــوف مــن‬
‫املســتقبل‪ ،‬أحــس بالوحشــة‪ ،‬بالضيــاع‪ ،‬أحــس بالضعــف وأنــا أقــف وحــدي‬
‫أمــام هــذه املشــكلة‪.‬‬
‫‪-‬عجيب أمرك يا رائد!‬
‫‪-‬ما العجيب يف األمر ؟‬
‫‪-‬ألــم ختــرين عــن عالقتــك بالرجــل الــري ذي النفــوذ املســتعد حلــل مشــاكلك‬
‫كلها !‬
‫‪-‬بلى‬
‫‪-‬هل ما زلت على عالقة به؟‬
‫‪-‬طبعا‪ ..‬إنه صديقي احلميم وينتظر مين ً‬ ‫ً‬
‫طلبا‪.‬‬
‫‪79‬‬

‫‪-‬زيــاد‪ :‬اعــذرين يــا رائــد‪ ..‬أنــت متن�اقــض! هنــاك خطــأ يف كالمــك‪ .‬فإمــا أن‬
‫ً‬
‫صديقــك هــذا ضعيــف محــدود القــدرات‪ ،‬أو أنــك تدعــي صداقتــه تفاخــرا‬
‫ً‬
‫ولســت علــى عالقــة بــه أصــا‪..‬‬

‫ٌ‬
‫أيخ‪ ..‬أخيت‪ ..‬أليس زياد على حق؟ أليس رائد متن�اقض يف دعواه؟‬
‫قبل أن تتحامل على رائد ‪ ..‬انتب�ه‪ ..‬أخىش أن نكون مثله!‬

‫ألســنا نعلــن أننــ�ا نؤمــن بــاهلل وأننــ�ا نعبــده‪ ،‬فنقــرأ يف صالتنــ�ا يف اليــوم‬
‫ــد} ســبع عشــرة مــرة علــى األقــل ونســتعني بــه فنقــرأ‬ ‫ــاك َن ۡع ُب ُ‬
‫الواحــد {إيَّ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ــاك ن ۡســتعِين ‪ }٥‬ســبع عشــرة مــرة‪ ،‬ونعتقــد أن هللا تعــاىل معنــا ونتــوكل‬
‫ُ‬ ‫{وِإي‬
‫ً‬
‫عليــه فنقــول‪( :‬بســم هللا توكلــت علــى هللا)‪ ،‬ونــردد كثــرا‪( :‬حســي هللا ونعــم‬
‫الوكيــل) ونعلــن أننـ�ا مســلمون قــد أســلمنا أمرنــا هلل تعــاىل فــردد إذا أوينـ�ا إىل‬
‫ُفرشــنا ‪-‬كمــا علمنــا رســول هللا‪( : -‬اللهــم أســلمت نفــي إليــك ووجهــت‬
‫وجهــي إليــك وفوضــت أمــري إليــك وأجلــأت ظهــري إليــك) (رواه البخــاري)‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ونــــردد صـــبــــاح مـــســـاء‪( :‬رضيــت باهلل ًّربــا)‪ ،‬أي خالقــا رازقا مدبـ ًـرا ألمورنا ؟‬
‫هــل نعــي مــا نقــول؟ هــل حنــن بالفعــل مؤمنــون بــاهلل تعــاىل مســلمون‬
‫أنفســنا وأمورنــا إليــه عابــدون لــه مســتعينون بــه متوكلــون عليــه راضــون بــه‬ ‫َ‬
‫مفوضــون أمرنــا إليــه ملجئــون ظهورنــا إليــه؟‬

‫إذن‪..‬‬
‫ـن ‪[ }٦٨‬آل عمــران‪ ..]68 :‬ويقــول ســبحانه‪:‬‬ ‫ـي ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن ِيـ َ‬ ‫ٱلل َولِـ ُّ‬ ‫فــاهلل تعــاىل يقــول‪َ { :‬و َّ ُ‬
‫َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ ۡ َ ۡ‬
‫ٱلن ِصيـ ُ‬
‫ـر ‪[ }٤٠‬األنفــال‪ ..]40 :‬ويقــول‪:‬‬ ‫ـى َون ِۡعـ َ‬
‫ـم َّ‬ ‫ـم ٱل َم ۡولَـ ٰ‬ ‫ـم ن ِعـ‬ ‫{فٱعلمــوا أن ٱلل مولىكـ ۚ‬
‫ۡ‬
‫نتــم ُّمؤ ِمن ِيـ َ‬ ‫ُ‬
‫ـون إن ك ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ـم ٱلأعلـ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫{ َولَا تَه ُنــوا ْ َولَا َت ۡح َزنُــوا ْ َوأَ ُ‬
‫ـن ‪[ }١٣٩‬آل عمــران‪..]139 :‬‬ ‫نتـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َّ ُ َ‬
‫اف عِباده ۖۥ} [الزمر‪( ..]36 :‬قراءة عشرية صحيحة)‬ ‫ويقول‪{ :‬أليس ٱلل بِك ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ۡ َ‬
‫ويقول‪َ { :‬و َمن َي َت َوكل عَلى ٱللِ ف ُه َو َح ۡس ُب ُه ٓۥۚ}[الطالق‪..]3 :‬‬
‫‪80‬‬

‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫َ َّ ُ َ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ ٰ ُ‬ ‫َ‬
‫ك ۡم ‪[}٣٥‬محمد]‪..‬‬ ‫ويقول‪{ :‬وٱلل معكم ولن يتِركم أعمل‬
‫َّ َّ َ َ َ َّ‬
‫ٱلصٰبر َ‬
‫ين ‪[}١٥٣‬البقرة]‪..‬‬ ‫ِِ‬ ‫ويقول‪{ :‬إِن ٱلل مع‬

‫فكيــف يســمح أحدنــا لنفســه بعــد هــذا كلــه أن حيــس باخلــوف الشــديد‬
‫عنــد تعرضــه ملشــكلة؟! كيــف يســمح لنفســه أن حيــس بالضيــاع والقلــق‬
‫والوحشــة وبأنــه وحــده أمــام املشــكلة؟! بــل كيــف يســمح لنفســه أن‬
‫يبــوح بهــذه األحاســيس أمــام النــاس؟ أيــن إيماننــ�ا بــاهلل وإســام أمرنــا لــه‬
‫واســتعانتن�ا بــه وتوكلنــا عليــه واستشــعار معيت ـ�ه؟ أال نســتيح مــن هللا بعــد‬
‫ذلــك أن نشــكو الوحــدة والضيــاع والضعــف والقلــق مــن املســتقبل؟! ألســنا‬
‫حينئــ�ذ متن�اقضــن مــع أنفســنا؟‬

‫إنه ليس لتن�اقضنا هذا تفسري إال واحد من ثالثة‪:‬‬


‫َّ‬
‫‪ .1‬إمــا أن ادعاءنــا اإليمــان والتســليم والتــوكل واالســتعانة ادعــاء باطـــــل‪ ،‬مـــــع‬
‫وحينئـذ فـيـخـىش أن نـكـون كـمـن‬ ‫ٍ‬ ‫أنــــنا نكرره يف الـــيـــــوم عـــــشـــرات املرات!‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ َ َۡ‬
‫ـون بِأل ِســنَت ِ ِهم َّمــا ل ۡي َس فِــي قلوب ِ ِه ۡ ۚم}[الفتــح‪..]11 :‬‬ ‫قــــــــال هللا فــــيــــهـــــم {يقولـ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ .2‬أو أننــ�ا توكلنــا علــى هللا فخذلنــا واســتعنا بــه فرتكنــا وأســلمنا أمرنــا إليــه‬
‫َ َ َ َّ ۡ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬
‫ــوكل‬ ‫فضيعنــا‪ ..‬تعــاىل هللا عــن ذلــك علــوا كبــرا ! فــهــــو الــقــــائل‪َ { :‬و َمــن يت‬
‫ٗ‬ ‫َ َّ‬ ‫ََ ۡ َ ۡ َ ُ‬ ‫ٱللِ َف ُهـ َ‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫ٱللِ قِيــلا ‪[}١٢٢‬النســاء]‪..‬‬ ‫ـدق ِمــن‬ ‫ـب ُه ۚ ٓۥ} [الطــاق‪{ ..]3 :‬ومــن أصـ‬ ‫ـو َح ۡسـ ُ‬ ‫عَلــى‬
‫َ ََُۡ َ‬ ‫َّ َ ۡ‬
‫كثَـ َ‬ ‫َ‬ ‫ـف َّ ُ ۡ َ‬ ‫َ ۡ َ َّ َ ُ ۡ ُ‬
‫ـون ‪[}٦‬الــروم]‪..‬‬ ‫ـاس لا يعلمـ‬ ‫ـر َّ‬
‫ٱلنـ ِ‬ ‫كــن أ‬ ‫ٱلل َوعــدهُۥ َول ٰ ِ‬ ‫{وعــد ٱللِۖ لا يخلِـ‬
‫‪ .3‬والتفســر الثالــث للتن�اقــض أن هــذا الشــاكي املدعــي التــوكل كأنــه يقــول‪:‬‬
‫(لــم يكفــي هللا‪ ،‬فهــو معــي لكــي أحــس بالضيــاع)! وكأنــه ينســب الضعــف‬
‫إىل ربــه! تعــاىل هللا عــن ذلــك‪.‬‬

‫َّ‬
‫فأي تفسري ختتار أيها «املتوكل» الشاكي؟‬
‫أحبيت يف هللا‪ ،‬دعونا نعرف عظمة الرب الذي نعبده ونستعني به‪:‬‬
‫‪81‬‬

‫‪-‬إنــه العظيــم العزيــز اجلبــار املهيمــن القــوي املتــن القاهــر املســيطر وهــو‬
‫علــى كل يشء قديــر‪ ..‬فعيــب أن نشــكو الضعــف وهــو معنــا !‬
‫‪-‬إنــه الرحمــن الرحيــم الــودود الــر الشــكور اللطيــف احلليــم القريــب‪..‬‬
‫فعيــب أن نشــكو الوحشــة وهــو معنــا !‬
‫‪-‬إنــه الســميع البصــر الســام مجيــب الدعــاء‪ ..‬فعيــب أن نشــكو القلــق وهــو‬
‫معنــا !‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اف ع ۡب َدهُ ۖۥ}[الزمر‪ ..]36 :‬بلى وهللا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫إنه هللا! {ألي َس ٱلل بِك ٍ‬

‫ِّ‬
‫فمــا فــائــــدة إيــمانــــنا بأســماء هللا وصفاتــه إن كان هذا اإليمان ال ُي َســكن‬
‫روعنــا ويربــط علــى قلوبنـ�ا يف الباليــا واملحــن؟‬
‫َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـالل‬
‫ـان مــن ر ِض بـ ِ‬ ‫قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪( :‬ذاق طعــم اإليمـ ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ـام ِدينـ�ا‪ِ ،‬وب ُم َح َّمـ ٍـد َرســول) (رواه مســلم)‪ .‬فمــن ريض بــاهلل ًّربــا يدبــر‬ ‫ْ‬
‫وباإلسـ ِ‬ ‫َر ًّبــا‪،‬‬
‫أمــره ويرعــى شــأنه فســيذوق طعــم اإليمــان وســكينت�ه واطمئن�انــه‪ .‬ومــن وجد‬
‫ً‬
‫بــدل مــن ذلــك اجلــزع والفــزع فلــم يــذق طعــم اإليمــان‪ ،‬ولينظــر حينئــ ٍ�ذ يف‬
‫صــدق رضــاه بــاهلل ًّربــا !‬

‫إنه هللا ال خيذل من توكل عليه‪..‬‬


‫إنما حنن الذين قد ال حنسن التوكل‪.‬‬

‫تشــك َ‬ ‫ُ‬
‫هللا إىل اخللــق أرجــوك! فليســوا ارحــم بــك مــن‬ ‫أيخ املبتلــى‪ ..‬ال‬
‫تشــك َ‬ ‫ُ‬
‫هللا إىل اخللــق أرجــوك! لئــا تشــمت بنــ�ا األعــداء الذيــن‬ ‫هللا‪ ..‬ال‬
‫ســيقولون حينهــا‪ :‬أيــن معونــة ربكــم الــي زعمتــم‪ .‬كمــا قــال أســافهم فيمــا‬
‫َّ ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤل َ ٓا ِء د ُ‬
‫ِين ُه ۡمۗ}[األنفــال‪ ،]49 :‬فــرد هللا عليهــم { َو َمن َي َت َوكل‬
‫َ َّ َ ٰٓ ُ‬
‫حــكاه هللا عنهــم‪{ :‬غــر هـ‬
‫ٱلل َعزيـ ٌ‬‫ٱللِ فَــإ َّن َّ َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ـم ‪[}٤٩‬األنفــال‪..]49 :‬‬ ‫ـز َحكِيـ ‪ٞ‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عَلــى‬
‫كلمــا أردت أن تشــكو الضيــاع والتوجــس مــن املســتقبل واليــأس‬
‫‪82‬‬

‫والقنــوط ونفــاد الصــر‪ ،‬تصــور أنــه جيلــس جبانبــك ملحــد يســمع مــا تقــول!‬
‫مــاذا ســيقول لــك إذا ســمع شــكواك؟‪( :‬ألــم تكــن تنصحــي أيهــا املســلم أن‬
‫أؤمــن بوجــود رب خلقنــا ويرزقنــا وأن أعبــده وأســتمد العــون منــه ألشــعر‬
‫ً‬
‫بالطمأنين ـ�ة وخــري الدني ـ�ا واآلخــرة؟ ال أرى مــن ذلــك شــيئ�ا! بــل أراك كأنــك‬
‫تقــول‪ :‬أمــري بيــ�د هللا‪ ،‬فأنــا اآلن قلــق)!‬

‫ُ‬
‫ضمــن هــذه املعــاين ُصغــت يف خضــم بــاء مــررت بــه قصيــدة بعنــوان‪( :‬حبــب‬
‫هللا أتصـ َّـر) كان لهــا أثــر بــإذن هللا يف تثبيــي وانشــراح صــدري إىل أن ِأذن هللا‬
‫باجنــاء البــاء‪ ..‬جتدهــا أيخ‪/‬أخــي يف الصفحــات القادمــة‪ ..‬فتأملهــا وتشــرب‬
‫معانيهــا‪ ..‬نفعنــا هللا بهــا‪.‬‬
‫‪83‬‬

‫أتصبر‬
‫ّ‬ ‫بحب هللا‬
‫ّ‬

‫َ‬
‫ُ‬
‫مستحـــكم‬ ‫فيأســــ ُـه‬
‫الرجاء ُ‬
‫ُ‬ ‫وخــــــــبا‬ ‫ُ‬
‫متجـــهم‬ ‫ـاء فــــوجــــ ُـه ُه‬
‫ـال البــــــ ُ‬‫طـــ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ويقـــ ُ‬
‫ُ‬
‫مظـــلــم‬ ‫ـديد الغم صــــ َ‬
‫ـدري‬ ‫قلق شــــ‬ ‫ـول إين ضـــــائـــــ ٌـع مستوحـــش‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ـار ُيـجــــ ُ‬‫جـــــ ٌ‬ ‫َ‬
‫يرحـــــم‬ ‫ـر وال صـديـــــــق‬ ‫ـموم فليـــس يل‬ ‫وحدي يف الهـــــ ِ‬ ‫غرقان‬
‫ـر تلفحين الرمــــ ُ‬
‫ـال وتلـــ ُ‬ ‫فأســـــــــ ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫صحراء ُعسـ َ‬
‫ـطم‬ ‫ـري لســت أبــصــ ُـر حدها‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫توهــ ُـم‬‫ـون ُّ‬ ‫ســـــراب والظــــنـــ‬ ‫فــــــإذا‬ ‫َّإمـــــــا ســــعيت لدوحــــ ٍـة أبصــرتهــــا‬
‫ـري والفـــــــــ ُ‬ ‫فأعيـ َـش عمـــ َ‬ ‫وأخـــــاف ْأن تئـ َ�د الــرزايـــــا ُم ْـن َ‬

‫‪bbb‬‬
‫ـؤاد محطم‬ ‫ـــــيـــي‬ ‫ِ‬

‫ٌ‬ ‫فأجــــ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ُ‬


‫ـلم‬ ‫ـنيف مـــســـ ُ‬ ‫ـاب‪ :‬بل إين حــــــ‬ ‫فــــســـــألته‪َ :‬أو أنت تنـكــــ ُـر َّربنــــــــا؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫زمــــزم‬ ‫ـاء‬ ‫إن كــــان عنــدك نــبـع مـــــــ ٍ‬ ‫ألمرك هــل تبيت على الظـــــما‬ ‫عجبــا ِ‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ــعـــــد ُم‬ ‫ـار م‬
‫أتقــــول إين ذو افــتـــــقـــــ ٍ‬ ‫إن كان بـــيـــتــــك باجلـــواهــ ِـر زاخــــ ًـرا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قصـــم‬ ‫ُ‬ ‫وظهورها مــــــن َحـــــمل مـــاء ت‬ ‫البيـد يقتلهـــا الظــما‬ ‫ِ‬ ‫كالعيــ ِـر وســـ َـط‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫مــــاذا تـقـــــ ُ‬
‫تكظـ ُـم‬ ‫مــنــــك الشـكــــاة وبـث مـــا ال ِ‬ ‫مــتســــمــع‬
‫ٍ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لـملــحـ‬ ‫ـول‬
‫مع ُ‬ ‫زعــمـــتــــم أن ًّربــــا ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـول‪( :‬هل يا مسـلـمـــون نسيتـــــمُ‬ ‫فيقـ ُ‬
‫كـــم‬ ‫مــــــا قــــد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫سكىن اجلــــنــــان رضـــــيتم وصـــرت ُم‬ ‫وبأنــكــــم إذ مـــــــا ذكــرتــــم وعــــــــده‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وبأن حـــ ّ‬
‫كـفــاكـــــم‬ ‫توكـلــــتـــــم عـلـــيـــ ِـه‬ ‫وإذا‬ ‫أمـركــــم‬ ‫ِ‬ ‫ـة‬ ‫ـب هللا عـــــصــمـــ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫ــواكـم‬ ‫لس‬ ‫حــكــــر عـليــــكم و الشـــــقا ِ‬ ‫حــــى السكــينــــة قــــــد زعمتـــم أنهـا‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫وتشـــــــاؤم‬ ‫مـتـذمـريـــ َـن بكــم أســ ًـى‬ ‫ــــــــن ً‬
‫ـــطــا‬ ‫مــــايل أراكــم بعــــد ذلـــك ق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫سيعصـم‬ ‫ـاء‬
‫وظننتـمــــوه لـــدى البـــ ِ‬ ‫دينكــــم‬ ‫غــــــركــم أتبــــاع أحمد‬ ‫قــــد‬
‫ُ‬ ‫يعصف والوسـ ُ‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تهجم‬ ‫ـاوس‬ ‫واخلــوف‬ ‫نفـــعـها‬ ‫أيـــن املحــــــبــــة قــد زعمـــتم‬
‫‪84‬‬

‫ُ‬
‫بلــسم‬ ‫ـرح‬ ‫ّأمـــــــا أنـــــا فـــو ُ‬
‫ووصــالهـــــــــا مـــن كل جــــ ٍ‬ ‫داد ليـــــلى بهــجـــــيت‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـران قــلـــــي مــــن َّ‬
‫ـوم تزاحــــ ُـم‬ ‫ٌ‬
‫يشء ُيـخـــــــيف وال الهمـــ‬ ‫محـب ِـتـها فـــال‬ ‫عمــــ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫وأنعــــم‬ ‫ـياس بكـــم أعـــــز‬ ‫عــــــند القـــ ِ‬ ‫إين إذن مــــن بهــــجـــــي يف حــــــــبــــها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫َّ ‪bbb‬‬
‫ـرمتـــــم)‬ ‫ـيت بـــراحــــ ٍـة ُ‬
‫وحـ‬ ‫إين حـظـــ‬ ‫ال تســألـــــــــوين أن أديــــن بديـنـــــــكم‬

‫َّ‬
‫الرقيـــــع مفاخـــــ ًـرا يتهــــك ُم‬
‫ُ‬ ‫فمـــى‬ ‫احل َيا‬ ‫وكأنين بــــك قـــــد سكت مـــــــن َ‬

‫يرحـم!‬ ‫ُ‬ ‫ـيم لـدى الــــذي ال‬ ‫ـ‬ ‫الرحــ‬ ‫ر‬‫َقـــ َـد َ‬ ‫َ‬
‫ـباد إذا اشــتكوا‬
‫ِ‬ ‫يا حســرتاه على العــــــ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫تتــــبــــرم؟!‬ ‫مـــولــــيـــا‬ ‫فـيـــراك بـعـــد‬ ‫متضـــرعا‬ ‫ــقــــــبل راجــــ ًـيا‬
‫ِ‬ ‫لـــت‬ ‫يبـــــلو‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫ـاد وتـألـــــــ ُـم‬‫فـيـــراك تـبـــكي للــعــــبـــ ِ‬ ‫َي ْــبــلــــو ليســــمـــ َـع منـــك أنة مــذنب‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ـون ترتجـــ ُـم‬ ‫ـوء الظنـــ ِ‬ ‫شكواك عن ســـ ِ‬ ‫هللا ربــــــك كيف تــشــكــــو ضــيـعـــة‬
‫فرب الــعـــــــرش َمـــ ْـن ذا أحـــــ ُ‬ ‫ً‬
‫ـكم‬ ‫ِ‬
‫كال ُّ‬ ‫أتـظــ ُّـن َربـــك يبتلــــيك إذن ســـدى؟!‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫ْ‬
‫ريب أكــــــــــ ُ‬
‫ـرم‬ ‫ـنع العــطايـــــا؟ إن َ‬ ‫مـــــــ َ‬ ‫أو إن رفـعــــت يــــدا لـــرتجــــ َـو فــضـل ُه‬
‫وحـــد َك؟ بـل إلـــ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫أحـــــلم‬ ‫ـهي‬ ‫خـــليت‬ ‫ريب ك ْن مــعــــي‬ ‫ـدق قلــت‬‫أو إن بــصـــــ ٍ‬
‫لم ُتكــــف مـــــن ٍّ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫أعـــظــم‬ ‫شــر؟ فــ َ‬
‫ـريب‬ ‫أو قــــلت حســــي َمن عــلــــيه توكـلي‬
‫يف مـحـــــنــــة واملــــبتـــــــلى ال يعــــــ ُ‬ ‫ً‬
‫ـلم‬ ‫فاهلل أعــــلم كيف يــــزيج مـــــنــــحــة‬
‫يــــــؤخــــ َـر أقـــــــ ُ‬ ‫ْ‬ ‫لــــ َّ‬
‫ـوم‬ ‫َّ‬ ‫ولـــــــ ُـر َّب أمـــ ٍـر أن‬ ‫تعـــجل‬
‫ٍ‬ ‫ـرط‬ ‫ـكن يف اإلنــــســـان فــــ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ال ُي ِلـــ ُـف ُ‬
‫حــــرم‬ ‫إن حنـــــن لم نقبـــــل عليــــ ِـه سن‬ ‫هللا الـــــوعــــــود وإنـــــــــــما‬
‫ُ‬
‫وجلـــــهم َم ْن يـــــجــــــ ُـم‬ ‫ســــــاع إليه ُ‬
‫ٍ‬ ‫ـباد فــمنــــهــــ ُـم‬ ‫ٌ‬
‫ريب قـــــريـــــب للعـــــــ ِ‬
‫ـرم‬ ‫ُأغــي على جريح ونــاري تـــــضـــــ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كم دمعــــ ٍـة يف محــــنــــــي واريــــتــــها‬
‫ٌ ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أن املحــــــبة ُعـــــروة ال تــــــــفـــــصـــ ُـم‬ ‫راضــــيا‬ ‫حىت أعـــــلم مـــــــــن يــــــــراين‬
‫ُ‬ ‫ـب مــغــــــــــ ٌ‬ ‫إنــي َل َ‬
‫ـــصــــ ٌّ‬ ‫ً‬
‫ـان تكـــلفا‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومتــــــيم‬ ‫ـرم‬ ‫ما الـــحب قـولـــك باللـــســـ ِ‬
‫‪85‬‬

‫َ‬
‫ُ‬
‫فالــــدم‬ ‫وإذا دعــــاك لنــصر ديــنــــك‬ ‫تســليم نفســــك بالـقضا‬‫ُ‬ ‫حـــبــ ُـه‬
‫بـــل ُّ‬
‫ـهش والـــــرزايا تــــــ ُ‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـؤلم‬ ‫واخلطــب ينـــ‬ ‫العــدى أظهرتها‬‫ـمة وســــــــط ِ‬ ‫كم بسـ ٍ‬
‫ـزم‬
‫ُ‬
‫أنـــي – وريب حــــــافـــــــ ٌـظ– ال أهــــــ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُوأري بصـــــ َ‬
‫ـري َمــــ ْـن يـــريـــد شمـاتة‬
‫َ‬
‫ــــم‬‫وتـــأل ُ‬ ‫أجــــــ ًـرا إذا هــــم يألـمــــــــون‬ ‫ـر فلــيـــــسوا يــرجتـون وترتىج‬ ‫فاصــــ ْ‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫أو ‪-‬إن ُي ِهنهــا‪ -‬مـــــا لـــنـفـــسك مكرم‬ ‫َّإمــــــــا يـــعــــزك لـــن تـــــذوق مــهانة‬
‫ــــم‪:‬‬ ‫وكـــــذا بعيــنــيه فقـــــال َيف ِّ‬
‫ـــــــه ُ‬ ‫بثــالثــــة‬ ‫ـلى‬ ‫واذكـــــر نبـــ ًّـيا مــــــــبتــــ ً‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫وغ َّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫لل بـ ّ َ‬ ‫ّ‬
‫إين علمــــت مـــن الــــذي لم تعـــلمــوا‬ ‫ــــــمــــــــي‬ ‫ـي قــــــد شكـــــوت‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ـمل مجتــــ ٌ‬ ‫والشـ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـمع ويوســـــف حاكم‬ ‫فارتد بعد شــديد عـســـ ٍـر مبـــصــــــ ًـرا‬
‫ُ‬ ‫ـيف لـما يشــــ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ريب كـيـــف ُيـــــ ُ‬ ‫ـان َ‬ ‫َ‬
‫وحيــكم‬ ‫ـاء‬ ‫فــهــــو اللطـــ‬ ‫أمـــــــره!‬ ‫ـرم‬ ‫سبحـــ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ــــم‬‫ـوغ وأنـظــ ُ‬
‫ِ‬ ‫وحملت أقـــــايم أصـــ‬ ‫ّربــــــــاه إنــ َـي قـــــد نــــثــــرت ِكنـانــتـي‬
‫ُ‬
‫األألم‬
‫َ‬
‫عما قـــــــــــــــــــــد أراد‬‫وي َصــــ َّـد َّ‬
‫ُ‬ ‫ـريعة من عدا‬
‫َ‬
‫ـوض الشـ ِ‬ ‫ألذود عــن حــ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأقـــــيــــــ َـم يف قلــب يـــ ُ‬
‫للــه صـــــرح محـــبـــــ ٍـة ال ُيـــهـــــــــد ُم‬ ‫ـامس أحـــريف‬
‫أنت األعــــــ ُّـز األكــــــــ ُ‬‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫فاكـــ ْ‬

‫‪bbb‬‬
‫ـرم‬ ‫رؤيـــــــاك إذ‬ ‫ـتب لـعبـــ ٍـد قد أحــــــــبك صادقا‬
‫‪86‬‬

‫لن تضيع وسط الزحام‬

‫أال حتــب أن تســتأثر بصديــق‪ ،‬حبيــث حتــس أنــه لــك‪ ،‬وأنــك أعــز النــاس‬
‫عليــه فلــن ينشــغل بغــرك عنــك؟ أال حتــس بقيمــة هــذا الصديــق يف المــآزق؟‬
‫املتفهم لــك واحلريص‬‫ِّ‬ ‫أظنــك الحظــت أن مجــرد بــث همومــك لهــذا الصديــق‬
‫عليــك يشــعرك بالراحــة وتنفيــس الهــم‪.‬‬

‫قلــت أليخ األكــر مــرة‪ :‬هــل معــك ربــع ســاعة ألكلمــك يف مشــكلة؟‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُّ‬
‫غمرتــي هــذه الكلمــات وأ ِنســت بهــا‪.‬‬ ‫فأجــاب‪( :‬أنــا كلــي لــك)!‬

‫هكــذا حنــن‪ ..‬حنــب أن نســتأثر بمــن يتفهمنــا ويعيــش معنــا آالمنــا‬


‫وآمالنــا‪ ..‬مجــرد وجــوده مصــدر طمأنينـ�ة لنــا‪ ..‬فكيــف إذا كان قـ ً‬
‫ـادرا علــى حــل‬
‫مشــكالتن�ا؟! كــم ستســـــتقر نفوســنا حينئــ�ذ‪..‬‬

‫يف املقابــل‪ ،‬قــد حتــس بالضيــاع عندمــا يزاحمــك علــى هــذا الصديــق‬
‫آخــرون‪ ..‬ختــى أن يشــغلوه عنــك‪ .‬قــد يعــرف هــذا الشــعور مــن لــه إخــوة‬
‫أب واحــد‪ ،‬مــن لهــا ضــرة تزاحمهــا علــى زوج واحد‪ ،‬من‬ ‫كثــرون يزاحمونــه علــى ٍ‬
‫لــه زمــاء يزاحمونــه علــى معلــم واحــد‪ ..‬لــم يعــد األب أو الـــــزوج أو الـمــعــلــــم‬
‫نســن يف زحمــة اآلخريــن‪.‬‬ ‫ـك أو لــك أنــت وحـــــدك‪ ..‬فقــد ُتنــى أو ُت َ‬ ‫َ‬
‫لـ‬
‫ِ‬

‫فتش نفسك!‬
‫هل تسرب إليك شعور كهذا جتاه‪:‬‬
‫ربك سبحانه وتعاىل ؟!‬

‫ال أســألك عــن قناعاتــك العقليــة ‪ ،‬فهــي تــأىب ذلــك وال شــك‪ ..‬لكــن‬
‫‪87‬‬

‫ً‬
‫اإلنســان قــد خيــزن يف باطــن شــعوره هواجــس تســبب لــه قلقــا فــا يــدري‬
‫مصــدره‪ ،‬ومنهــا هــذا الهاجــس‪ ..‬أنــك ضعــت أمــام هللا وســط الزحــام!‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫إليــك حقيقــة مؤنســــة ُم َط ْم ِئنـــة‪ :‬هللا سبحــــانه وتعــاىل مطلــع عليــك‪،‬‬
‫قريــب منــك‪ ،‬يعلــم بهمــك‪ ،‬ويســـمع دعــاءك‪ ،‬ويفــرح بتوبتــك‪ ،‬ويدبــر‬
‫َ‬
‫أمــرك‪ ..‬كل هــذا كمــا لــو كنــت وحــدك يف هــذا الكــون ال يشــركك فيــه إنــس‬
‫ـم إلَّا َك َن ۡفــس َو ٰ ِ َ‬
‫َّ َ ۡ ُ ُ ۡ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ‬ ‫َ َ‬
‫حــد ٍة ۚ‬ ‫ٖ‬ ‫وال جــان! ألــم تــر إىل قولــه تعــاىل‪{ :‬مــا خلقكــم ولا بعثكـ ِ‬
‫ـر ‪[}٢٨‬لقمــان‪ ..]28 :‬قــال ابــن كثــر‪( :‬ســميع ألقوالهــم بصــر‬ ‫يع ۢ بَ ِصيـ ٌ‬ ‫إ َّن َّ َ‬
‫ٱلل َس ـ ِم ُ‬
‫ِ‬
‫بأفعالهــم كســمعه وبصــره بالنســبة إىل نفــس واحــدة)‪.‬‬
‫كذلــك يف احلديــث القــديس ‪( :‬يــا عبــادي لــو أن أولكــم و آخركــم وإنســكم‬
‫و جنكــم قامــوا يف صعيــد واحــد فســألوين فأعطيــت كل واحــد مســألته لــم‬
‫ينقــص ذلــك ممــا عنــدي إال كمــا ينقــص املخيــط إذا أدخــل البحــر)‪.‬‬

‫ٌ‬
‫فســبحان مــن ال يشــغله ســائل عــن ســائل‪ ،‬وال مســتغيث عــن‬
‫ََ ۡ َُ ُ ۡ َ ۡ‬ ‫ـن أَ َسـ َّ‬
‫ـر ٱلۡ َقـ ۡ‬
‫ـو َل َو َمــن َج َهـ َ‬ ‫َ َٓ ‪ُ ّ ٞ‬‬
‫ِنكــم َّمـ ۡ‬
‫ـتغيث‪{ ..‬ســواء م‬
‫ـتخ ِۭف‬ ‫ـر ب ِـهِۦ ومــن هو مسـ‬ ‫مسـ ٍ‬
‫ٱلن َهــارِ ‪[ }١٠‬الرعــد‪ ..]10 :‬فــا يضيــع عنــده أحــد وســط الزحـــــام‪.‬‬ ‫ُۢ‬
‫ب ب َّ‬ ‫بٱل َّ ۡيـ َ َ‬
‫ـل وســارِ ِ‬
‫ِ ِ‬

‫لــن تضيــع يف الزحـــــام‪ ..‬بــل لــك أن تتصــور كمــا لــو أنــك تدعــو هللا وحدك‬
‫ـماء مــن أســماء هللا احلســى تتجلــى‬ ‫وأنــه يســمعك وحــدك‪ ..‬وأن معــاين أسـ ٍ‬
‫يف ربوبيتــ�ه لــك أنــت كمــا لــو كنــت وحــدك‪ ..‬فتظهــر فيــك آثــار رحمــة هللا‬
‫ُ ِّ‬
‫ووده و هدايتـ�ه ِوبـ ِّـره‬ ‫وقربــه وعفــوه ولطفــه وكرمــه وحلمــه ومغفرتــه وإجابتـ�ه‬
‫و رأفتــه ورزقــه و كفايتـ�ه وســره ورفقــه وعطائــه‪ ..‬يظهــر و ســيظهر فيــك هــذا‬
‫كمــا لــو كنــت وحــدك يف هــذا الكــون‪ ..‬لــذا‪ ،‬فلــن تضيــع يف الزحــام‪.‬‬

‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫(الــداع) يف قولــه { َوِإذا َســألك‬
‫ِ‬ ‫الحــظ كيــف أن هللا تعــاىل أفــرد كلمــة‬
‫‪88‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫ع َِبــادِي َع ّنــي فإنــي قريـ ٌ‬ ‫َ ّ‬
‫ـانۖ} [البقــرة‪ ..]186 :‬ففــي‬ ‫َ َ‬ ‫ـد ِ‬ ‫ـب َد ۡعـ َ‬
‫ـوةَ ٱلـ َّ‬ ‫ـبۖ أجيـ ُ‬
‫اع إِذا دعـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫هــذا اإلفــراد مــن اإلشــعار بالعنايــة بدعائــك أنــت مــا قــد ال يكــون يف اجلمــع‬
‫(الداعــن إذا دعــوين)‪ ..‬ليســت اســتجابة مجملــة عامــة ملجمــوع الداعــن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حبيــث جتــزئ اســتجابت�ه ألكرثهــم عــن االســتجابة ألفرادهــم فــردا فــردا‪ ..‬بــل‬
‫جييــب دعوتــك أنــت كمــا لــو كنــت وحــدك‪ ،‬ولــو دعــاه تعــاىل معــك يف اللحظــة‬
‫نفســها مليــارات بــل مــا ال حيــى مــن اإلنــس و اجلــن واملالئكــة‪.‬‬

‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫ــر إِذا َدعَــاهُ} [النمــل‪ ..]62 :‬كل‬ ‫يــب ٱل ُم ۡض َط َّ‬
‫كذلــك قولــه تعــاىل‪{ :‬أ َّمــن يج ُ‬
‫ِ‬
‫َ َ َ َ َ ُّ َ َ ّٗ‬
‫مــضــطــــر عــلــــى حـــــده كــمــــا لــــو كــــان وحـــــده‪{ ..‬ومــا كان ربــك ن ِســيا ‪}٦٤‬‬
‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬
‫ـز ُب َعــن َّر ّبِــك ِمــن ّمِثقــا ِل ذ َّرة ٖ فِــي‬ ‫[مريــم‪ ..]64 :‬ســبحانه فهــذا شــأنه‪َ { :‬و َمــا َي ۡعـ ُ‬
‫ـر إلَّا فــي ك َِتٰــب ُّ‬
‫كبَـ َ‬‫َٰ َ َ َ ٓ َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ٓ َ َ ٓ َ ۡ َ‬ ‫ََ‬ ‫َۡ‬
‫ـن ‪}٦١‬‬ ‫ٖ ِ ٍ‬‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ب‬‫م‬ ‫ِ ِ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬‫ِ‬ ‫ل‬‫ذ‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ـر‬‫ـ‬‫غ‬ ‫ص‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ء‬ ‫ا‬‫ـم‬
‫ـ‬ ‫ٱلس‬ ‫ـي‬
‫ـ‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ۡرض‬‫أ‬ ‫ٱل‬
‫[يونــس‪..]61 :‬‬

‫ُ‬
‫فــادع هللا ُ‬
‫وارجــه وأنــس بــه وتأمــل يف نفســك آثــار أســمائه وصفاتــه‬
‫واســتحضر َّ‬
‫معيتــ�ه كمــا لــو كنــت وحــدك‪..‬‬

‫وتذكر ً‬
‫دوما ‪ :‬لن تضيع وسط الزحـــام‪.‬‬
‫‪89‬‬

‫علشاني‬

‫أم هيثــم‪ ..‬كانــت تنســج البلــوزة (الكــزة) الصوفيــة بي�ديهــا البنهــا الــذي‬
‫قــال لهــا يف اتصالــه األخــر‪( :‬أيم احلبيبـ�ة‪ ،‬يل عنــدك طلــب‪ :‬انســي يل بلــوزة‬
‫صــوف بي�ديــك واطلــي مــن أيب أن يرســلها مــع صديقــي عمــاد‪ ،‬فطيارتــه‬
‫يــوم اخلميــس بعــد القــادم‪ .‬أعــرف أنــك ســتتعبني يف نســجها‪ ،‬لكــي أريــد أن‬
‫أتذكــرك وأنــا ألبســها‪ ..‬ســأحس أنــك نســجت فيهــا حنانــك بعطفــك حببــك‬
‫يــا غاليــة‪ ..‬ســأحس وأنــا ألبســها أنــك تضمينــي إىل صــدرك‪ ..‬باختصــار يــا‬
‫حبيبــي‪ :‬انســجيها‪ ..‬علشــاين)‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫أبــو هيثــم كان يعلــق ‪-‬شــبه ممــازح‪ -‬وهــو يــرى زوجتــه منهمكــة يف‬
‫النســج‪( :‬يعــي يــا ســيد هيثــم مــن قلــة الباليــز! تســتطيع أن تشــري مــن‬
‫ُ‬
‫عنــدك أحســن بلــوزة بعشــرين دينـ ً�ارا بــدل أن تتعــب أمــك وترهــق عينيهــا يف‬
‫الليــل بطلبــك هــذا!)‪.‬‬

‫ً‬
‫أمــا أم هيثــم فلــم تت�أثــر أبــدا بمــا يقولــه زوجهــا‪ ..‬كانــت كلمــة هيثــم‪:‬‬
‫(علشــاين) تــرن يف مســامعها‪ ..‬كانــت مــن حــن إىل حــن تقطــع انهماكهــا يف‬
‫النســج للحظـ ٍـة ريثمــا تكــف دمعتهــا‪ ،‬دمعــة الفرحــة بتلبي ـ�ة طلــب هيثــم‪ ،‬أو‬
‫دمعــة الشــوق إليــه‪.‬‬
‫لقــد كانــت أم هيثــم تنســج البلــوزة باســتمتاع مــع أن بصرهــا وشــيئ�ا‬
‫اليبــس يف أصابعهــا لــم يســاعداها‪ ..‬لكنهــا كانــت تســتجمع قواهــا كلمــا‬ ‫مــن ُ‬
‫تذكــرت كلمــة هيثــم (علشــاين)‪ ،‬وتقــول لزوجهــا‪( :‬ال يشء كثــر علــى هيثــم‪..‬‬
‫مــا دام هيثــم طلــب ســأصرب)‪.‬‬

‫تنقلــب األعمــال الشــاقة متعــة عندمــا يكــون الــذي طلبهــا منــا عزيــزا إىل‬
‫‪90‬‬

‫قلوبن ـ�ا‪ ..‬وبقــدر حبن ـ�ا لــه‪ ،‬تــزداد لــذة املعانــاة مــن أجلــه‪ .‬فكيــف إذا كان الــذي‬
‫طلبهــا منــا هــو‪ :‬هللا ســبحانه وتعــاىل! إن هللا يطلــب منــك أن تصــر ابتغــاء‬
‫ـروا ْ ٱبۡت ِ َغــا ٓ َء َو ۡج ـهِ َر ّبهـ ۡ‬
‫ـم} [الرعــد‪..]22 :‬‬ ‫وجهــه الكريــم‪َ { :‬وٱلَّذِيـ َ‬
‫ـن َصبَـ ُ‬
‫ِِ‬

‫َ‬
‫َ َّ َ‬
‫ـك ف ۡ‬
‫ٱصب ِ ۡر ‪[ }٧‬املدثـر‪..]7 :‬‬ ‫وقـال تعـاىل لنبيـ�ه صلـى هللا عليه وسـلم‪{ :‬ول ِرب ِ‬
‫قـال مفسـرون يف معناهـا‪ :‬أي اجعـل صبرك هلل ومـن أجلـه‪ .‬فهـل هنـاك صبر‬
‫كثري علـى هللا؟!‬

‫ً ُ َ ُّ‬ ‫َّ‬
‫قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬لــو أن رج َّــا يــر علــى ِ‬
‫وجهــه‬
‫َ‬ ‫هرمــا يف َم ْرضــاة هللا تعــاىل حلقـ َـره يـ َ‬ ‫ُ‬
‫ـوت ً‬ ‫َ‬
‫القيامـ ِـة))‬ ‫ـوم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ـوم ُو ِلــد إىل يـ ِ‬
‫ـوم يمـ‬ ‫مــن يـ ِ‬
‫(حســنه األلبــاين)‪.‬‬

‫تصــور! لــو أنــك منــذ والدتــك إىل يــوم وفاتــك يف ســن كبــر ً‬
‫هرمــا أمضيــت‬
‫ً ُ‬
‫عامــا تــر علــى وجهــك يف ســبي�ل هللا تعــاىل‬ ‫هــذه الثمانــن أو التســعني‬
‫الحتقــرت عملــك هــذا يــوم القيامــة ووجدتــه ال يشء عندمــا تعلــم عظمــة‬
‫ُ‬
‫الــرب الــذي مــن أجلــه ابتليــت وتــرى إكرامــه لــك علــى صــرك مــن أجلــه!‬

‫َ‬
‫كلمــا أحسســت بطــول البــاء ونفــاد الصــر قــل‪( :‬بمــا أن هللا تعــاىل طلب‬
‫أن أصــر‪ ،‬ســأصرب‪ ..‬ابتغــاء وجــه هللا‪ .‬فــاهلل تعــاىل أعظــم محبــوب‪ ،‬وليــس‬
‫يشء كثـ ً‬
‫ـرا علــى هللا)‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫‪91‬‬

‫قل لن يصيبنا إال ما كتب هللا لنا‬

‫كنــت أتســاءل عــن مصــدر الطمأنينـ�ة يف هــذه اآليــة؟ مــا الــذي يـجـــعلنا‬
‫َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ٓ َّ‬ ‫َّ‬
‫ٱلل ل َنــا} [التوبــة‪..]51 :‬؟‬ ‫نطمــن حــن نعلــم أنــه {لــن يُ ِصيبَ َنــا إِلا َمــا كتــب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعالــوا نت�أمــل اآليــة كلمــة كلمــة‪ ،‬ونتصــور حــاالت افرتاضيــة غــر صحيحــة‬
‫ونقارنهــا بالواقــع لنعــرف اجلــواب‪:‬‬

‫‪ .1‬فلنقــف أوال مــع كلمــة (هللا) يف (كتــب هللا لنــا)‪ :‬تصــور أنــك مأســور‬
‫ُ‬ ‫ُ ًْ‬
‫قــاض مــن قضــاة األرض يف جلســة ســتعقد يف موعــد‬ ‫وتنتظــر حكمــا مــن ٍ‬
‫قريــب محــدد‪ ،‬وهــذا احلكــم هــو أنــك إمــا أن تبقــى حتــت تصــرف هللا تعــاىل‬
‫أو تنتقــل منــه إىل تصــرف البشــر! إمــا أن تبقــى حتــت تصــرف هللا بصفاتــه‬
‫مــن حكمــة ورحمــة وعــدل ولطــف ورأفــة وحلــم‪ ،‬وإمــا أن تنتقــل إىل تصــرف‬
‫مــن ال يشــارك هللا تعــاىل يف صفاتــه هــذه! حينئــ�ذ مــن حقــك أن تقلــق‬
‫وختــاف بالفعــل‪ .‬أمــا حــن توقــن أن كل مــا يصيبــك هــو ممــا كتــب (هللا)‬
‫تعــاىل بصفاتــه‪ ،‬وأنــك تنتقــل مــن تصــرف هللا إىل تصــرف هللا‪ ،‬وأن البشــر‬
‫أدوات ألقــداره تعــاىل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الذيــن يظهــرون وكأنهــم متحكمــون بــك ليســوا ســوى‬
‫ُ َّ‬
‫فحــق لــك حينئــ ٍ�ذ أن تطمــن‪.‬‬ ‫مقهــورون حلكمــه ســبحانه‪،‬‬

‫َ‬
‫‪ .2‬فلنقــف مــع كلمــة (كتــب)‪ :‬أدركــت أن مــا يصيبــك هــو مــن تصــرف هللا‬
‫َ َ‬
‫ـابق! تصــور لــو أن املالئكــة‬
‫بــك‪ ،‬لكــن تصــور أن هــذا التصــرف ليــس بقــد ٍر سـ ٍ‬
‫يزنلــون كل يــوم بمجموعــة مــن املصائــب فريشــونها علــى أهــل األرض فتصيب‬
‫حينئـــذ مــن حقــك أن تقلــق‬
‫ٍ‬ ‫مــن تصيــب‪ ،‬ومجموعــة مــن النعــم كذلــك!‬
‫وختــاف بالفعــل‪ .‬لكــن حــن توقــن أن هللا تعــاىل كتــب مقاديــر كل يشء قبــل أن‬
‫خيلــق الســماوات واألرض خبمســن ألــف ســنة (كمــا يف احلديــث الصحيــح)‪،‬‬
‫عــالـــ ًـما بـــما ســينتج عنهــا‪ ،‬ال أن تصرفاتــه خبلقــه عــز وجــل ردود أفعــال علــى‬
‫‪92‬‬

‫أحــداث خفيــت عليــه مــن قبــل تعــاىل ســبحانه عــن ذلــك‪ ،‬وأنــه كتبهــا حبكمــة‬
‫ُ َّ‬
‫فحــق لــك حينئــ ٍـذ أن تطمــن‪.‬‬ ‫ورحمــة‪،‬‬

‫‪ .3‬ثــم لنقــف مــع كلمــة (لنــا)‪ :‬اســتخدام حــرف الــام يف (لنــا) ُمشــعر بــأن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫(عجبــا ألمــر املؤمــن‪ ،‬إن‬ ‫هــذه األقــدار هــي لصاحلنــا‪ ،‬مهمــا بــدا خــاف ذلــك‪:‬‬
‫أمــره كلــه لــه خــر‪ ،‬وليــس ذلــك ألحــد إال للمؤمــن)‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ـب َّ ُ‬
‫ٱلل ل َنــا ُهـ َ‬ ‫ٓ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ـو َم ۡولى ٰ َنـا ۚ}‬ ‫‪ .4‬تعالــوا نت�ابــع مــع اآليــة‪{ :‬قــل لــن يُ ِصيبَ َنــا إلا َمــا ك َتـ َ‬
‫ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫ــو َم ۡولى ٰ َنــا ۚ}‪ :‬واملــوىل ال ُيسـ ِـلم وليــه ألعدائــه‪ ،‬واملــوىل ال يــرىض‬ ‫[التوبــة‪{ :]51 :‬ه‬
‫لوليــه الــذل والهــوان‪ ،‬كمــا يف قنــوت النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪( :‬إنــه ال‬
‫يــذل مــن واليــت)‪.‬‬

‫ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ ۡ َ َ َ َّ ۡ ُ ۡ ُ َ‬
‫ـون ‪ :}٥١‬إن آمنــا بــكل مــا ســبق فحــق‬
‫‪ .5‬تتمــة اآليــة‪{ :‬وعلــى ٱللِ فليتــوك ِل ٱلمؤمِنـ‬
‫ـن‪.‬‬
‫لنــا أن نتــوكل علــى هللا‪ ،‬أي نفــوض لــه تدبــر أمورنــا بطمأنينـ�ة وبيقـ ٍ‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪..‬‬
‫‪93‬‬

‫ماذا لو؟؟‬

‫مــاذا لــو كانــت املصائــب واملســرات تصيــب النــاس بــا تقديــر‪ ،‬بــل تــدور‬
‫خبــط عشــواء‪ ،‬فقــد تصيبــك وتــرك غــرك ال حلكمــة وال لســابق علــم؟‬
‫مــاذا لــو أن هللا وكل تقديــر األقــدار إىل مالئكــة ال نعلــم عــن رحمتهــم وال‬
‫حكمتهــم وال عدلهــم؟‬
‫ُ‬
‫مــاذا لــو كانــت الباليــا منفكــة عــن اجلــزاء‪ ،‬حبيــث تبتلــى ُ‬
‫وينعــم غــرك‪،‬‬
‫ثــم تســتويان يف اجلــزاء واملصــر إن اســتوى عملكمــا‪ ،‬وضــاع صــرك علــى‬
‫ً‬
‫بالئــك ســدى؟‬

‫أســئلة غريبـ�ة‪ ،‬أليــس كذلــك؟ لكــي وجــدت فيهــا إجابــة لســؤال قديــم‬
‫لطالمــا كنــت أتســاءله يف نفــي‪ ،‬وهــو‪ :‬مــا املعــى يف أن يصــر هللا أصحــاب‬
‫املصائــب بــأن مصائبهــم هــذه مقــدرة مــن قديــم؟ كقولــه تعــاىل‪َ { :‬مــا ٓ أَ َصـ َ‬
‫ـاب‬
‫َ ٰ ّ َ ۡ َ َّ َ َ ٓ َّ َ َ‬ ‫ُ ۡ َّ‬ ‫ََ ٓ َ ُ‬ ‫َۡ‬
‫ـل أن ن ۡب َرأهــا ۚ إِن ذٰل ِك‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬‫ق‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ب‬
‫ٖ‬ ‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫ف‬
‫ِ ِ‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ـك‬
‫ـ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نف‬ ‫أ‬ ‫ـي‬
‫ـ‬
‫ِۡ‬‫ف‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ۡرض‬ ‫أ‬ ‫يبـةٖ فِــي ٱل‬‫ِمــن ُّم ِص َ‬
‫َ َ َّ َ ‪َ ُ َّ َ ۡ ُ ٰ َ َ ٓ َ ْ ُ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ َ َ َ َ ْ ۡ َ َ َ ۡ َ ّ ٞ‬‬
‫ٱلل لا‬ ‫ســير ‪ ٢٢‬ل ِكيــلا تأســوا علـ ٰى مــا فاتكــم ولا تفرحــوا بِمــا ءاتىكــمۗ و‬ ‫علــى ٱللِ ي ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ُّ ُ َّ ُ َۡ‬
‫ـور ‪[}٢٣‬احلديــد‪..]23،22 :‬‬ ‫يحِــب كل مختــا ٖل فخـ ٍ‬

‫إذن فهــذه املصائــب ليســت خبــط عشــواء‪ ،‬بــل مقــدرة قبــل ظهورهــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فــا داعــي لــأىس‪ .‬وهللا لــم يــوكل أحــدا –ال نعلــم عنــه شــيئ�ا‪ -‬ليقدرهــا‪ ،‬بــل‪:‬‬
‫ۡ َّ‬
‫ٱللِۗ}[التغابــن‪ ..]11 :‬هللا الــذي نعلــم أنــه‪:‬‬
‫ُّ َ َّ‬
‫يبــ ٍة إِلا بِــإِذ ِن‬ ‫{ َمــا ٓ أَ َصـ َ‬
‫ـاب مِــن م ِص‬

‫َ َ ۡ ُ ْ َ ٗ‬ ‫ً‬
‫ ‪1.‬عليــم جيعــل يف املحــن ِمنحــا مــن حيــث ال نــدري‪َ { :‬و َع َسـ ٰٓى أن تك َرهــوا ش ۡيـٔــا‬
‫َ ُ َ َ ۡ ‪َ ۡ ُ َ َ ُ َ ۡ َ ُ َّ َ ۡ ُ َّ ٞ ّ َ َ ُ َ ٗ ۡ َ ْ ُّ ُ َ َ َ َ ۡ ُ َّ ٞ‬‬
‫ـم لا‬ ‫ـم وٱلل يعلــم وأنتـ‬ ‫وهــو خيــر لكــمۖ وعسـ ٰٓى أن تحِبــوا شيـٔــا وهــو شــر لكـ ۚ‬
‫ََُۡ َ‬
‫ــون ‪[}٢١٦‬البقــرة‪..]216 :‬‬‫تعلم‬
‫‪94‬‬

‫ٱلل لط ُ ۢ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫يــف ب ِ ِع َبادِه ِۦ}[الشــورى‪ ..]19 :‬فيقــدر مــا يقــدره‬ ‫ ‪2.‬ونعلــم عنــه أنــه { ُ ِ‬
‫علينــ�ا بلطــف‪.‬‬

‫ ‪3.‬ونعلــم عنــه أنــه حكيــم كمــا قــال يوســف عليــه الســام –بعدمــا رأى‬
‫ـو ٱلۡ َعل ِيـ ُ‬
‫ـم‬ ‫ـف ل ّ َِمــا ي َ َشــا ٓ ُء إنَّـ ُ‬
‫ـهۥ ُهـ َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َّ ّ َ‬
‫فتوحــات ربــه عليــه يف البــاء‪{ :-‬إِن َربِــي ل ِطيـ‬
‫ِۚ‬
‫ٱلۡحَك ُ‬
‫ِيــم ‪[}١٠٠‬يوســف‪..]100 :‬‬

‫ ‪4.‬ونـــعـــلـــــم عـــــن عـــدلـــــه وفـــضـــلــــه إذ –كما قال يوســف عليه الســام‬


‫ــر ٱل ۡ ُم ۡحسِــن َ‬
‫ين ‪}٩٠‬‬ ‫َ‬ ‫ج‬‫يــع أَ ۡ‬
‫ض ُ‬ ‫ــر فَــإ َّن َّ َ َ ُ‬
‫ــهۥ َمــن َي َّتــق َو َي ۡصب ۡ‬ ‫ً‬
‫أيضــا‪{ -‬إنَّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٱلل لا ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[يوســف‪..]90 :‬‬

‫إذن فعندمــا نســمع اآليــات الــي تتكلــم عــن القــدر‪ ،‬واألحاديــث مثــل‬
‫((واعلــم أن مــا أصابــك لــم يكــن ليخطئــك ومــا أخطــأك لــم يكــن ليصيبــك))‬
‫فلنعلــم أنهــا تذكرنــا حبقيقــة أن هــذه األقــدار إنمــا قدرهــا هللا الــذي نعلــم عــن‬
‫علمــه وحكمتــه ولطفــه ورحمتــه وعدلــه‪ ،‬فلنســلم لــه أنفســنا بطمأنين ـ�ة‪.‬‬
‫‪95‬‬

‫مقدمة عن النعم‬

‫ال زلنــا نت�أمــل‪ :‬كيــف حنــب هللا تعــاىل بــا شــروط؟ كيــف نتفــن‪ ،‬فــا‬
‫نمنــع البــاء أن يؤثــر علــى حبنـ�ا هلل فحســب‪ ،‬بــل حنولــه إىل ســبب لزيــادة حبن�ا‬
‫هلل؟ كيــف نبــي حبنـ�ا هلل علــى أســس ســــليمة ال تــهــــز وال تت�أثــر باملتغــرات؟‬

‫يف املحطــات الســابقة ركزنــا علــى أول أســاس مــن هــذه األســس‪ ،‬وهــو‬
‫تأمــل أســماء هللا وصفاتــه‪ .‬تأملنــا بعضهــا‪ ،‬ونــرك لــك أن تت�أمــل ســائر‬
‫أســمائه ســبحانه وصفاتــه‪..‬‬

‫األســاس الثــاين الــذي ســنت�أمله وحنــاول اكتســابه‪ ،‬هــو تأمــل نعــم هللا‬
‫الــي أنعــم بهــا علين ـ�ا يف ماضين ـ�ا وحاضرنــا‪ ،‬لنستشــعر أنن ـ�ا‪ ،‬حــى وإن ُحرمنــا‬
‫مــن بعــض النعــم‪ ،‬فقــد تمتعنــا بنعــم أخــرى كثــرة لكنن ـ�ا نســين�اها‪ ،‬وال زال‬
‫لدين ـ�ا نعــم كثــرة‪ ،‬لكنن ـ�ا ال نستشــعرها‪.‬‬

‫هــذا املوضــوع العظيــم املرقــق للقلــوب‪ :‬نعــم هللا‪ ..‬نســتعرضه يف‬


‫الصفحــات التاليــة‪..‬‬
‫‪96‬‬

‫حب بال رجعة‬

‫هناك عبارات جميلة يقولها البشر لبعضهم‪:‬‬


‫(لقد غمرتين بإحسانك‪ .‬لن أنىس لك جميلك ما حييت)‪.‬‬
‫َ‬
‫(حــي لــك وصــل مرحلــة الالرجعــة! مهمــا فعلــت يف املســتقبل ســأظل أحبك‪،‬‬
‫ولــن أســمح لــيء أن يزعــزع محبــي لك)‪.‬‬
‫(أحــس باحليــاء جتــاه محبتــك الصادقــة يل واهتمامــك يب! ال أســتحق منــك‬
‫ذلــك كلــه! ال أملــك إال أن أعــدك بــأن أكــون وفيــا لــك مــا حييــت)‪.‬‬

‫هــذه العبــارات تــردد يف صدورنــا‪ ،‬تنســاب علــى ألســنتن�ا‪ ،‬ترتســم علــى‬


‫وجوهنــا‪ ..‬جتــاه مــن حيســن إلينــ�ا املــرة بعــد املــرة بغــر دافــع مــن مصالــح‬
‫دنيويــة‪ ،‬وإنمــا ألن مودتــه خالصــة‪ ،‬ونفســه كريمــة‪ ،‬وقلبــه كبــر‪.‬‬

‫عندمــا نعيــش هــذه العبــارات ونديرهــا علــى أذهاننـ�ا فإننـ�ا حنــب أنفســنا‬
‫أيضــا وحنرتمهــا! ألنــه َي ُسـ ُّـرنا أن نكــون أوفيــاء‪ ،‬ودوديــن‪ ،‬معرتفــن باجلميــل‪،‬‬
‫رقيقــي القلــوب‪ ،‬مرهفــي املشــاعر‪.‬‬

‫َّ َ‬
‫أذكـر أنني يف مـرة مـن املـرات تـرددت هـذه العبـارات يف كيـاين جتـاه أيخ‬
‫األكبر‪ ،‬الـذي أحسـن يل طـوال حيـايت‪ ،‬وعندما وقعـت يف ظرف صعـب أبعدين‬
‫عـن عائلتي‪ ،‬لـم يهـدأ أليخ بال ولم يذق طعم الراحة ونذر نفسـه وسـعى يف كل‬
‫اجتـاه حتى يرفـع الظلـم عني‪ .‬كان يتفنن يف سـد فراغـي عنـد أوالدي‪ .‬كان يـأيت‬
‫ً‬
‫لزيـاريت مثقلا بالهمـوم‪ ،‬لكنـه مع ذلك كان يتمالك نفسـه ويتصنع االبتسـامة‬
‫وخيتـار العبـارات ويسـتحضر األخبار السـارة ليحافظ على معنويـايت مرتفعة‪.‬‬

‫بعــد إحــدى زياراتــه يل وأنــا بعيــد عــن عائلــي‪ ،‬ابتســم ابتســامة املغــادرة‬
‫‪97‬‬

‫وهــو يقــول يل‪( :‬ديــر بالــك علــى حالــك‪ .‬إن شــاء هللا الفــرج قريــب)‪ ..‬نظــرت‬
‫َ ْ‬
‫إليــه وهــو يفارقــي ويذهــب‪ ،‬وبــدأت تلــك العبــارات تــردد يف صــدري جتــاه‬
‫أيخ‪( :‬أحبــك‪ ،‬لقــد غمرتــي بإحســانك‪ ،‬لــن أنــى لــك جميلــك مــا حييــت‪،‬‬
‫َ‬
‫حــي لــك وصــل مرحلــة الالرجعــة! مهمــا فعلــت يف املســتقبل ســأظل أحبــك‪،‬‬
‫ال أســتحق منــك ذلــك كلــه! ســأكون وفيــا لــك مــا حييــت)‪.‬‬

‫شــعرت بالســعادة والرضــا عــن النفــس وأنــا أفكــر يف هــذه العبــارات‪..‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ثــم فجــأة‪ ..‬أ لقــي يف روعــي ســؤال‪ :‬مــن األوىل بعبــارات كهــذه؟ مــن األوىل‬
‫بعبــارات كهــذه؟‬

‫أليس هو‪ .....‬هللا سبحانه وتعاىل؟‬


‫ألــم يغمرنــا بإحســانه؟ ألــم يثبــت لنــا عنايتــ�ه بنــ�ا وتكريمــه لنــا أن جعلنــا‬
‫َ‬
‫مســلمني وخاطبنــ�ا بكالمــه ودلنــا علــى ذاتــه وعرفنــا بصفاتــه واكتنفنــا‬
‫بعطايــاه يف كل حلظــة وأخربنــا عــن جنــة أعدهــا لنــا ودلنــا علــى ســبيلها وحتبــب‬
‫إلينــ�ا بكالمــه و ِن َع ِمــه ومغفرتــه لزالتنــ�ا وفرحــه بتوبتنــ�ا؟‬

‫َ‬
‫كــم مــرة ســألت هللا فأعطــاك؟ كــم مــرة وقعــت يف كــرب فنجــاك؟ كــم‬
‫ًَ‬
‫َســنة ســر قباحئــك عــن النــاس وأظهــر لهــم محاســنك؟ إىل قلــب كــم واحــد‬
‫مــن خلقــه حببــك‪ ..‬كــم مــرة جنــاك مــن شــماتة أعدائــك‪ ..‬بــل حــى البــاء‪..‬‬
‫أال َي ُسـ ُّـرك إن ارتضــاك هللا جلــواره يف دار كرامتــه فــأراد تطهــرك لتليــق بهــذه‬
‫ً‬
‫املزنلــة‪ ،‬فبــدل مــن التطهــر بالنــار ابتــلاك فطيبــك وطهــرك؟‬

‫ُ‬
‫أال يكفــي هــذا كلــه يف أن نبقــى أوفيــاء هلل مــا حيينــ�ا؟ أال تشــعرنا هــذه‬
‫الرعايــة والتكريــم باحليــاء منــه ســبحانه؟ هــل ســنبقى كلمــا امتحــن هللا حبنـ�ا‬
‫لــه ببــلاء دنيــوي يزتعــزع هــذا احلــب ويتعكــر صفــو مودتن ـ�ا؟! هــل ســنبقى‬
‫‪98‬‬

‫نفشــل يف االمتحــان؟!‬

‫مــى ســتقول‪ :‬يــا رب! غمرتــي بإحســانك‪ ،‬لــن أنــى فضلــك علــي مــا حييــت!‬
‫َّ‬
‫يــا رب! مهمــا قــدرت علــي‪ ،‬ومهمــا ابتليتــي‪ ،‬ســأبقى أحبــك‪ ،‬بــل ســزيد حــي‬
‫لــك‪ ،‬ولــن أســمح لــيء أن يعكــر صفــو محبــي لــك‪.‬‬

‫أيخ‪ ،‬يــا مــن أنعــم هللا عليــك بالكثــر يف ماضيــك وحاضــرك‪ ..‬لكنــك لــن‬
‫ً‬ ‫تت�ذكــر المــايض وتستشــعر احلاضــر إال إن كنــت ًّ‬
‫وفيــا معرتفــا باجلميــل‪..‬‬
‫بعــد هــذا اإلنعــام اإللهــي‪ ،‬إن لــم تصــل محبتــك هلل مرحلــة الالرجعــة‪ ،‬فمــى‬
‫تصــل؟ وأي يشء يوصلهــا؟!‬

‫جميــل أن نكــون أوفيــاء أصحــاب حيــاء شــكورين ودوديــن معرتفــن‬


‫َ‬
‫باإلحســان واالمتنــ�ان مــع البشــر‪ ..‬لكــن األجمــل واألوىل واألحــق أن نكــون‬
‫كذلــك مــع هللا تعــاىل خالــق البشــر‪ ،‬الذي مــا أحســن إلينـ�ا ُمـــحسن إال بتقديره‬
‫تعــاىل ولطفــه وســره علــى عيوبن ـ�ا وحتبيبن ـ�ا إىل خلقــه‪.‬‬

‫فهكذا كن مع هللا‪ ..‬حب بال رجعة‪..‬‬


‫‪99‬‬

‫ليس لك على هللا في الدنيا حقوق‬

‫مــن أهــم احلقائــق الــي تطمئنــك وتصــرك وتزيــد حبــك هلل‪ :‬ليــس لــك‬
‫عنــد هللا يف هــذه الدني ـ�ا «حقــوق»!‬

‫يف احلــــديث الــــذي رواه أبــــو داود وصــحــحــــه األلــــباين عن ابن الديليم‬
‫قــال‪ :‬أتيــت أيب بــن كعــب‪ ،‬فقلــت لــه ‪( :‬وقــع يف نفــي يشء مــن القــدر‪،‬‬
‫فحدثــي بــيء‪ ،‬لعــل هللا أن ُيذهبــه مــن قلــي)‪ .‬فقــال‪( :‬لــو أن هللا عــذب‬
‫أهــل ســماواته ‪ ،‬وأهــل أرضــه عذبهــم وهــو غــر ظالــم لهــم‪ ،‬ولــو رحمهــم كانــت‬
‫ـرا لهــم مــن أعمالهــم‪ .‬ولــو أنفقــت مثــل ُأ ُحــد ً‬
‫ذهبــا يف ســبي�ل هللا مــا‬ ‫رحمتــه خـ ً‬
‫ٍ‬
‫قبلــه هللا منــك حــى تؤمــن بالقــدر وتعلــم أن مــا أصابــك لــم يكــن ليخطئــك‪،‬‬
‫وأن مــا أخطــأك لــم يكــن ليصيبــك‪ ،‬ولــو مــت علــى غــر هــذا لدخلــت النــار)‪.‬‬
‫قــال‪ :‬ثــم أتيــت عبــد هللا بــن مســعود فقــال مثــل ذلــك ‪ ،‬ثــم أتيــت حذيفــة بــن‬
‫اليمــان فقــال مثــل ذلــك‪ ،‬ثــم أتيــت زيــد بــن ثابــت‪ ،‬فحدثــي عــن النــي صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم مثــل ذلــك‪.‬‬

‫كــم ستســريح يــا أيخ‪ ،‬وكــم ستســرحيني يــا أخــي‪ ،‬إذا اســتقر هــذا‬
‫املفهــوم يف نفســك واطمــأن إليــه قلبــك‪ :‬ليــس لــك علــى هللا يف هــذه الدني ـ�ا‬
‫ٍّ‬
‫يشء هكــذا كحــق تتوقعــه بمجــرد وجــودك! ولــو حرمــك كل يشء فليــس‬
‫بظالــم لــك ســبحانه‪.‬‬

‫فــإذا كان العبــد ال يســتحق اجلنــة والنجــاة مــن العــذاب بعملــه الــذي‬
‫يعملــه اال برحمــة مــن هللا وفضــل‪ ،‬فكيــف يســتحق نعيــم الدنيـ�ا الزائــل ملجــرد‬
‫وجــوده فيهــا؟! فللــه علينـ�ا حقــوق ال نــؤدي شــكرها مهمــا عملنــا‪ .‬وأقــل نعمــه‬
‫تســتحق منــا أكــر ممــا نــؤدي مــن طاعــات وقربــات‪.‬‬
‫‪100‬‬

‫ُ ۡ َ َٰ َ‬
‫ـك َخ ۡيـ ٌ‬
‫ـر‬ ‫وإنمــا أوجــب هللا علــى نفســه لعبــاده املؤمنــن اجلنــة‪{ ..‬قــل أذلِـ‬
‫ـرا ‪ ١٥‬ل َّ ُهـ ۡ‬
‫ـزا ٓ ٗء َو َم ِصيـ ٗ‬ ‫ـت ل َ ُهـ ۡ‬ ‫َ ۡ َّ ُ َ‬
‫ـون َكانَـ ۡ‬ ‫َ ۡ َ َّ ُ ۡ ُ ۡ َّ‬
‫ِيهــا َمــا‬
‫ـم ف َ‬ ‫ـم َجـ َ‬ ‫أم جنــة ٱلخل ـ ِد ٱلتِــي ُو ِعــد ٱل ُمتقـ ۚ‬
‫ٗ‬ ‫َ َ َ ََ ٰ َّ َ َ ۡ ٗ‬ ‫َ ٓ َ َ‬
‫ـدا َّم ۡس ُـٔــولا ‪[}١٦‬الفرقــان‪..]16،15 :‬‬ ‫يَشــا ُءون خٰلِدِيــنۚ كان عل ـى ربِــك وعـ‬

‫فضــا منــه ً‬ ‫ً‬


‫وكرمــا‪،‬‬ ‫نعــم‪ ،‬أوجبهــا هللا علــى نفســه لعبــاده املؤمنــن‬
‫ً ُ ً‬
‫وســنن�ا‪ ،‬مــن أخــذ بهــا نــال‪..‬‬ ‫وجعــل لمــا يطلبــه اإلنســان يف هــذه الدنيـ�ا أســبابا‬
‫وأمــر عبــاده بأوامــر‪ ،‬ووعدهــم إن قامــوا بهــا بوعــود‪ ،‬كالــرزق ملــن اتقــى والنصــر‬
‫ملــن ينصــر ربــه‪ ،‬والتمكــن ملــن آمــن وعمــل الصاحلــات‪ .‬فمــن لــم حيصــل مــن‬
‫ً‬
‫هــذا شــيئ�ا علــم أن القصــور يف توفيتـ�ه أمــر ربــه الــذي عليــه وعــد وعــده‪ ،‬أو أنــه‬
‫َ َ َ ۡ ُ َ َّ ُ‬ ‫ً‬
‫كــم}‪.‬‬ ‫يف ســنة البــاء الــي وعــد هللا بهــا أيضــا‪{ :‬ولنبلون‬

‫أمــا أن تفــرض أن لــك عنــد هللا أن يعطيــك ملجــرد وجــودك! فمــا هــذا إال‬
‫لعــدم إدراكك مقــام العبوديــة أمــام مالــك امللــك ســبحانه!‬

‫إذا اســتقر هــذا يف نفســك فــإن نقطــة االنطــاق يف افرتاضاتــك هــي‬


‫الــايشء‪ .‬فــإن أنعــم هللا عليــك بالصحــة وابتــلاك فيمــا دونهــا مــن مــال وأهــل‬
‫وغريهــا فأنــت تتــ�ذوق نعمــة الصحــة وتعــرف هلل باجلميــل‪.‬‬
‫أمــا إن كانــت نقطــة االنطــاق هــي أن مــن حقــك علــى هللا أن يعطيــك‬
‫كل يشء فإنــك لــن تــرى إال النصــف الفــارغ مــن الــكأس‪ ،‬وســتذهب ُ‬
‫نفســك‬
‫حســرات علــى كل نعمــة فقدتهــا وإن أنعــم هللا عليــك بــكل مــا ســواها‪ .‬وهــذه‬
‫مصيبــ�ة كثيريــن‪ ،‬أنهــم يــرون مــن «حقهــم» علــى هللا أن يعطيهــم المــال‬
‫ً‬
‫والصحة واألمن و‪ ...‬و‪ ...‬و‪ ...‬فإن ُحــــرموا شــــيئ�ا مــــن هــذا حــاك يف صدرهم‬
‫تـجــــاه ربـهـــم تعــاىل مــا ال يليــق!‬

‫عندمــا تســتذكر أنــه ليــس لــك علــى هللا يشء وأن األصــل يف الدنيـ�ا أنهــا‬
‫‪101‬‬

‫ً‬
‫دار ابتــلاءات‪ ،‬فإنــك ســرى املســرات مصــرات بــدل مــن أن تــرى البــاءات‬
‫معكــرات‪.‬‬

‫ً‬
‫فمثــا قــد تكــون يف غمــرة التجهــز لالحتفــال بمناســبة ســعيدة‪ ،‬فيحصــل‬
‫حــادث ألحــد العزيزيــن عليــك مــن أهلــك! إن افرتضــت الكمــال يف حياتــك‬
‫معكــرا الحتفالــك يفســد بهجتــه‪ .‬أمــا إن اســتقر يف‬ ‫ً‬ ‫فســرى هــذا احلبــس‬
‫نفســك أن هــذا احلــادث بــاء مــن الباليــا املتوقعــة يف الدني ـ�ا ‪-‬ألن األصــل يف‬
‫ِّ‬
‫هــذه احليــاة االبتــلاء‪ -‬فســرى مســرة االحتفــال ُم َصـ ِّـرة ُمنفســة عــن يشء‬
‫مــن الهــم الــذي ال بـــد منــه‪..‬‬

‫ً‬
‫فانطلــق يف حياتــك وأنــت متذكــر جيــدا لهــذه احلقيقــة‪ :‬ليــس لــك عنــد‬
‫هللا يف هــذه الدني ـ�ا حقــوق‪.‬‬
‫‪102‬‬

‫ليس ما ينقصك هو أهم شيء‬

‫مــن طبــع النفــس البشــرية أنهــا يضعــف لديها الشــعور بالنعم املســتمرة‬
‫فتصبــح فاتــرة باهتــة يف احلــس‪ .‬و إذا فقــد اإلنســان القناعــة فإنــه ال يفكــر إال‬
‫فيمــا ينقصــه مــن نعــم حــى يشــعر أن هــذا الــذي ينقصــه هــو أهــم مقومــات‬
‫احليــاة البشــرية‪ ،‬و أن حياتــه ال طعــم لهــا بــدون هــذا الــذي ينقصــه‪ ،‬تعــال‬
‫نســتعرض أمثلــة مــن ذلــك‪:‬‬

‫‪-‬الفقــر يقــول ‪ :‬مــا قيمــة احليــاة دون مــال؟! إن كنــت ال أســتطيع أن أوفــر‬
‫ألوالدي مالبــس جـــديـــــدة يف العـــــــيد‪ ،‬فينكســر خــاطــــر ابنــي الصغــرة‬
‫ً‬
‫حســرا عندمــا تــرى بنــ�ات األقربــاء يلبســن اجلديــد الفاخــر‬ ‫و يرتــد بصرهــا‬
‫ويمســكن بشــنطة العيــد يف أيديهــن‪ ،‬وهــي بثيـ�اب وشــنطة قديمــة‪ ..‬فالمــال‬
‫كل يشء‪.‬‬

‫ً‬
‫هــذا الفقــر معــاىف يف جســده مــزوج قــد رزقــه هللا أوالدا لكنــه ال يــرى هــذه‬
‫النعــم لــم يعــد يفكــر إال فيمــا ينقصــه‪.‬‬

‫‪ -‬املريــض يقــول مــا قيمــة احليــاة دون صحــة ســليمة؟ مــاذا تنفعــي أمــوايل‬
‫إن كان الطــب قــد عجــــــز أن جيــد يل شــفاء ملــريض الــذي يــزداد حــدة بمــرور‬
‫ً‬
‫الســنوات فيخيــم علــى حيــايت كابــوس االرتـــــماء مــــقعدا ال أســتطيع خدمــة‬
‫نفــي يومــا مــن األيــام‪ ..‬أي طعــم للحـــــــــــــــياة مــع ذلــك؟! ليتــي أفقــد مــايل‬
‫كلــه وأنعــم بالصحــة‪ ،‬فالصـــحة هــي كل يشء‪.‬‬

‫‪ -‬العزبــاء الــي لــم تــرزق ً‬


‫زوجــا تقــول مــا قيمــة احليــاة دون إشــباع عاطفــي؟‬
‫مــاذا تنفعــي شــهاديت ومــايل وصحــي إن لــم أجــد مــن آنــس لــه ويأنــس يل؟ إن‬
‫‪103‬‬

‫لــم يكــن يل شــريك روح أمــأ عليــه حياتــه ويمــأ علــي حيــايت؟ ليتــي أفقــد كل‬
‫يشء وأنعــم بــزوج جيعــل حليــايت معــى‪.‬‬

‫ُ‬
‫‪ -‬الســجني لفــرات طويلــة يقــول ‪ :‬مــا قيمــة احليــاة دون حريــة؟! إين أدفــن‬
‫قبــل مــويت! مــاذا نفعــي مــايل وصحــي وتعليــي؟ احلريــة هــي كل يشء‪.‬‬

‫ً‬
‫صخبــا وبهجــة؟‬ ‫‪ -‬العقيــم يقــول ‪ :‬مــا قيمــة احليــاة دون أوالد يملــؤون البيــت‬
‫مــاذا نفعــي مــايل صحــي إن كنــت أنــا وزوجــي ال جنــد يف بيتنــ�ا كل ليلــة إال‬
‫الصمــت والهــدوء القاتــل؟ مــا قيمــة احليــاة إن كانــت ســتنتهي بمــويت فــا‬
‫عقــب يل حيمــل اســي؟ ملــن أعمــل وأجمــع المــال وملــن أتعــب؟‬

‫َ‬
‫ــة يقــول‪ :‬مــا قيمــة احليــاة إن كانــت األنظــار تزدريــي؟ مــا‬ ‫‪ -‬دميــم ِ‬
‫اخللق ِ‬
‫قيمتهــا إن كنــت أكــره رؤيــة نفــي يف املــرآة كل صبــاح؟! مــاذا نفعــي مــايل‬
‫وشــهاديت وصحــي بعــد ذلــك؟ ليتــي أفقــد كل يشء وأنعــم بمظهــر حســن‪.‬‬

‫وهكــذا؟! يــزدري أكــر النــاس ‪-‬إال مــن رحــم هللا‪ -‬نعمــة هللا عليهــم‪،‬‬
‫ويظــن كل مبتلــى أن مــا ينقصــه هــو أهــم يشء أو كل يشء‪.‬‬
‫فمــن أصحهــم شــكوى؟ الفقــر أم املريــض أم العزبــاء أم الســجني أم‬
‫العـقـــيم أم الـدمــــيم؟ هـــل الـمــــال هـــو كل يشء؟ أم الصــحـــة؟ أم الزواج؟ أم‬
‫الذريــة؟ أم اجلمــال؟ أم احلريــة؟ إمــا أن يكــون أحــد هــذه األشــياء هــو أهــم‬
‫ً‬
‫جميعــا دعــاوى باطلــة‪.‬‬ ‫يشء أو كل يشء‪ ،‬أو أنهــا‬

‫واحلــق أنهــا دعــاوى باطلــة! منشــؤها نقــص القناعــة‪ ،‬والــذي يضخــم‬


‫ً‬
‫حجــم مــا ينقــص اإلنســان بينمــا جيعــل النعــم العظيمــة الــي يتمتــع بهــا فاتــرة‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ ۡ ْ َ َ َّ َ‬
‫ـل َّ ُ‬ ‫ً‬
‫ٱلل ب ِـهِۦ َب ۡعضك ۡم‬ ‫باهتــة يف حســه‪ .‬و لــذا قــال هللا تعــاىل ‪{ :‬ولا تتمنــوا مــا فضـ‬
‫‪104‬‬

‫َ َۡ‬ ‫َ‬
‫ـض} [النســاء‪ ، ]22 :‬وقــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ‪(( :‬انظــروا‬ ‫علـ ٰى بعـ ٖ ۚ‬
‫إىل مــن هــو دونكــم وال تنظــروا إىل مــن هــو فوقكــم فإنــه أجــدر أال تــزدروا نعمــة‬
‫ُ‬
‫هللا عليكــم))‪ ..‬فإنــه لنكــران جميـ ٍـل أن تــرى نـعـــم هللا الكثــرة عـلـــيك ال يشء‬
‫َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َّ ُ َّ ُ ُ َ‬
‫ون َها}‬ ‫بـيـنـــما تـــرى مــا ابــــتالك بفقده هــو كل يشء! {يع ِرفون ن ِعمــت ٱللِ ثم ينكِر‬
‫[النحــل‪ ]83 :‬لــذا فإنــك تــرى آيــات كثــرة يف القــرآن تذكــر بنعمــة هللا وتســتحث‬
‫َ َۡ ُُ َ‬ ‫َّ َ ۡ‬
‫كثَـ َ‬
‫ـر َّ‬ ‫َ‬
‫ون ‪[ }٣٨‬يوســف‪ ]38 :‬وإن أقبح‬ ‫ٱلنـ ِ‬
‫ـاس لا يشــكر‬ ‫كــن أ‬ ‫الشــكر عليهــا‪َ { ..‬ول ٰ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َ ۡ َۡ‬
‫ٱللِ}‬ ‫ـرت بِأن ُعـ ِم‬
‫األوصــاف يف القــرآن ملــن ال يقــدر النعمــة‪ ،‬لفظــة الكفــر {فكفـ‬
‫ً‬
‫[النحــل‪ ..]112 :‬إن هنــاك نــعـــ ًـما عـظـــيمة ال نالحــظ وجــــودها أصــــا وال حتظــى‬
‫ببيـ�ان أهميتهــا يف الــدروس واملــــواعظ واخلـــطب‪ ،‬مــع أنهــا ال تقــل أهميــة عمــا‬
‫ذكــر أعــاه مــن نعــم‪ .‬مثــال ذلــك نعمــة «الدافعيــة»‪.‬‬

‫ً‬ ‫ُّأينــ�ا ســمع ً‬


‫درســا أو خطبــة أو قــرأ يف كتــاب عــن نعمــة الدافعيــة؟ إذا‬
‫أردت أن تعــرف أهميتهــا فانظــر إىل مريــض االكتئ ـ�اب‪ ،‬ذلــك الـمـــرض الــذي‬
‫ـرا مــا يكــون غــر معــروف الســبب ويتطلــب معاجلــات مكلفــة قــد يت�أخــر‬ ‫كثـ ً‬
‫مفعولهــا‪ ..‬وهــو خيتلــف عــن احلــزن الــذي يعــري أي إنســان بشــكل عــارض‪.‬‬

‫ســل مريــض االكتئـ�اب كيــف فقــد الدافعيــة للحيــاة‪ ،‬فــا دافعيــة لــأكل‬
‫والشــرب‪ ،‬وال للتعلــم والعمــل‪ ،‬وال لعــاج نفســه وال مــن هــو مســؤول عنهــم‪،‬‬
‫وال ملؤانســه زوجــه ومالعبــة أطفالــه‪ ..‬احليــاة كلهــا بــا طعــم و ال لــون و ال‬
‫ً‬
‫راحئــة ! ال يشــتهي وال يتمــى شــيئ�ا إال املــوت!‬

‫فيــا مــن تــرى المــال كل يشء‪ ،‬أتتمــى أن تــؤىت المــال وتفقــد الدافعيــة؟ يــا‬
‫مــن تتمنــن أن تفقــدي كل يشء مقابــل أن تعيــي يف عــش الزوجــــــية‪ ،‬هـــــل‬
‫ستكونـــــن ســعـيـــدة إن رزقــت خــر زوج وفقــدت –ال أقــول كل يشء‪ -‬بــل‬
‫فقــدت الدافعيــة فقــط؟‬
‫‪105‬‬

‫لــذا أيخ وأخــي‪ ،‬علينــ�ا احلــذر مــن ازدراء نعــم هللا علينــ�ا‪ ،‬علينــ�ا أن‬
‫نستشــعر هــذه النعــم و جنــدد االبتهــاج بهــا يف نفوســنا وحنــن نتلــوا مثــل قولــه‬
‫ََ ۡ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ ْ َ َّ َّ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫كــم َّمــا فــي َّ َ َ‬
‫ـبغ‬ ‫ت َو َمــا فِــي ٱلأ ِ‬
‫ۡرض وأسـ‬ ‫ٱلســمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعــاىل ‪{ :‬ألــم تــروا أن ٱلل ســخر ل‬
‫ٗ‬ ‫َ َۡ ُ‬
‫ــر ٗة َو َباط َِنــة ۗ} [لقمــان‪.]20 :‬‬
‫ــهۥ َظٰه َ‬
‫ِ‬
‫ــم ن َِع َم ُ‬
‫ك ۡ‬ ‫علي‬

‫يبقــى الســؤال املهــم‪ :‬هــل هنــاك نعمــة غــر مــا ذكــر يمكــن اعتب�ارهــا‬
‫كل يشء يف هــذه احليــاة؟ نعــم! إنهــا نعمــة اإليمــان‪ ..‬فباإليمــان تصــر علــى‬
‫ً‬
‫مــا ابتليــت بــه مــن فقــد بعــض النعــم‪ ،‬فقــد يكــون صــرك نعمــة أكــر ممــا‬
‫َ َ ً َْ ُ ْ‬ ‫ً‬
‫المؤ ِمـ ِـن‪،‬‬ ‫فقــدت! مصداقــا لقــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪( :‬عجبــا ألمـ ِـر‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّإن ْأمـ َـر ُه ُك َّلـ ُـه َخـ ْ ٌ‬
‫أصابتـ ُ�ه َسـ َّـر ُاء شــك َر‪ ،‬فكان‬ ‫ـس ذاك أل َحـ ٍـد إل ِلل ُمؤ ِمـ ِـن‪ ،‬إن‬ ‫ـر‪ ،‬وليـ َ‬
‫َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ـكان َخـ ْ ً‬ ‫ْ‬ ‫َخـ ْ ً‬
‫ـرا لــه) (رواه مســلم)‪ ..‬بينمــا بانعــدام‬ ‫ـرا لــه‪ ،‬وإن أصابتـ�ه ضــراء‪ ،‬صــر فـ‬
‫ـبب�ا يف طـــــــول احلـــــساب وشدة‬ ‫استدراجـــــا وســــ ً‬
‫ً‬ ‫اإليمان تصبح النعم ً‬
‫بالء و‬
‫َّ ُ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ َّ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ َ َّ َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ ّ َ ُ‬
‫سـ ِه ۡ ۚم إِن َمــا ن ۡملِــي‬
‫ـم خيــر‪ ٞ‬ل ِأنف ِ‬‫العــذاب‪{ :‬ولا يحســبن ٱلذِيــن كفــروا أنمــا نملِــي لهـ‬
‫اب ُّمهيـ ‪ٞ‬‬ ‫َُ ۡ َ ۡ َ ُ ْٓ ۡٗ َ َُ ۡ َ َ‬
‫ـذ ‪ٞ‬‬
‫ـن ‪[ }١٧٨‬آل عمــران] ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لهــم ل ِيــزدادوا إِثمــاۖ ولهــم عـ‬

‫نــى هللا يوســف عليــه الســام مــن فتنــ�ة الديــن‪ ،‬وهــي محاولــة‬ ‫لقــد ّ‬
‫النســوة إغــواءه‪ ،‬وابتــلاه تعــاىل بالســجن‪ ،‬وهــو بــاء دنيــوي‪ .‬واعتــر هللا ذلــك‬
‫ـر َف َع ۡنـ ُ‬
‫ـهۥ فَ َصـ َ‬ ‫اب لَـ ُ‬
‫ـهۥ َر ُّبـ ُ‬ ‫ج َ‬‫ـت َ‬ ‫ً‬
‫ـتجابة لدعائــه‪{ :‬فَ ۡ‬
‫ٱسـ َ‬ ‫ً‬
‫ـه‬ ‫فضــا علــى يوســف و اسـ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يع ٱلۡ َعل ُ‬ ‫ــو َّ‬
‫ٱلســ ِم ُ‬ ‫َ ۡ َ ُ َّ‬
‫ــن إنَّ ُ‬
‫ــهۥ ُه َ‬
‫ِيــم ‪[ }٣٤‬يوســف] ‪ ،‬مــع أنــه قــدر عليــه ســجنا‬ ‫كيده ۚ ِ‬
‫طويــا‪ ..‬نعــم! فــإذا َســل َم الديــن فــإن باليــا الدنيــ�ا تنقلــب م ً‬ ‫ً‬
‫نحــا للدنيــ�ا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واآلخــرة‪ ،‬كمــا حصــل مــع يوســف عليــه الســام‪.‬‬

‫فاللهم ارزقنا اإليمان و القناعة و الصرب‪.‬‬


‫‪106‬‬

‫تعايش مع الوضع الجديد‬

‫أصيــب األب بمــرض يضعــف قدرتــه بالتدريــج‪ ..‬أخــر الطبيــب العائلــة‬


‫أن املــرض مزمــن وأن العالجــات إنمــا هــي إلبطــاء تدهــور احلالــة فقــط‪ .‬رفــض‬
‫ـان وثالــث‪ ،‬أجــروا حتاليــل متقدمة‪،‬‬‫األبنـ�اء هــذه احلقيقــة! ذهبــوا إىل طبيــب ثـ ٍ‬
‫أوصــوا ابــن عمهــم يف كنــدا بإرســال دواء جديــد‪ ،‬طرقوا بــاب العــاج الطبيعي‪،‬‬
‫جربــوا األعشــاب‪ ..‬ولكــن أباهــم يرتاجــع شـ ً‬
‫ـهرا بعــد شــهر‪.‬‬

‫بكــوا عندمــا تعــر أبوهــم للمــرة األوىل إنـ ً‬


‫ـذارا ببـ�دء مرحلــة فقــدان التوازن‪،‬‬
‫احنبســت الدمعــة يف أعينهــم عندمــا فشــل للمــرة األوىل يف رفع اللقمــة إىل فمه‪،‬‬
‫ً‬
‫جتهمــت وجوههــم حزنــا عندمــا بــدأ حيتاج مــن يســاعده يف قضــاء حاجته‪..‬‬

‫يف هــذه املحطــات كلهــا كانــوا يقولــون‪( :‬ليــس هــذا أبانــا الــذي عرفنــاه‪..‬‬
‫نريــد أبانــا الــذي عرفنــاه! نريــد أبانــا القــوي النشــيط‪ ..‬لقــد كان أبونــا يقيــل‬
‫عرثاتن ـ�ا‪ ..‬كان هــو يالطفنــا ويطعمنــا بي ـ�ده علــى المائــدة‪ ..‬لقــد كان وكان‪...‬‬
‫أبـــــونـــــا لـــــم يـــهـــــرم بـــعـــــد‪ ..‬مـــــا زال يف اخلمســين�ات‪ ..‬أعمامنــا الذيــن‬
‫ً‬
‫يكربونــه ســنا يف صحــة وعافيــة‪ .‬لعلهــا ســحابة صيــف ستنقشــع‪ ..‬لعــل‬
‫جميعــا مخطئــون يف التشــخيص‪ ..‬نريــد أبانــا الــذي كان)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األطبــاء‬

‫كان األب يقــرأ ذلــك كلــه يف عيــون أبن�ائــه وقســمات وجوههــم فيحــزن‬
‫همــا أصبــح يتجنــب‬ ‫ض نفســه عــن قــدره وال يــزداد ًّ‬ ‫حلزنهــم‪ ..‬ولكــي ُي َــر ِّ َ‬
‫ً‬
‫النظــر يف وجوههــم أصــا! لــم يعــد يتحمــل رؤيــة اإلشــفاق املختلــط باألمــل‬
‫الوهــي‪ ..‬لقــد مــرت ســنوات وال زال األبنـ�اء ينطحــون صخــرة الواقــع‪ ،‬وتذبــل‬
‫زهــرة قلوبهــم وهــم يــرون أباهــم يذبــل‪.‬‬
‫‪107‬‬

‫ً‬
‫واقعــا جديــدا سيســتمر؛ عــنــــدما‬‫إننــ�ا ُنتعــب أنفســنا عندمــا نرفــض ً‬
‫نــرفـــض التـعـــايش مــــع هــذا الواقــع‪ ،‬عندمــا نصــر علــى أننــ�ا ال نريــد أي‬
‫«خســائر» يف هــذه احليــاة الدنيــ�ا!‬

‫أبنـ�اء هــذا الرجــل املريــض رفضــوا حقيقــة أنهــم قــد ابتلــوا بمــرض أبيهــم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احلبيــب مرضــا مزمنــا‪ .‬أخــذوا باألســباب الماديــة كلهــا‪ ،‬وهــذا يشء محمــود‪..‬‬
‫واضحــا أن أباهــم لــن يعــود كمــا كان حبســب‬ ‫ً‬ ‫لكنهــم بــدؤوا خيطئــون عندمــا بــدا‬
‫الســن املعهــودة‪ ،‬فرفضــوا هــذه احلقيقــة ألنهــا ُمـ ّـرة‪ ،‬لــم يتعايشــوا معهــا ولــم‬
‫يتقبلوهــا‪ ..‬فتعبــوا وأتعبــوا أباهــم معهــم!‬

‫ُ‬
‫عندمــا نبتلــى ببــلاء فإنــه ال بــأس بــأن نســعى يف كل اجتــاه شــرعه هللا‪،‬‬
‫ونطــرق كل بــاب ممكــن‪ ،‬ويف قلوبنــ�ا األمــل بدفــع هــذا البــاء‪..‬‬

‫ً‬ ‫ًّ‬
‫مرحليــا مؤقتــا‪ ..‬فــإذا بــدا‬ ‫لكــن هــذا الســعي احلثيــث ينبغــي أن يكــون‬
‫ٌ‬ ‫َ َ‬
‫أن هــذا البــاء قــدر ثابــت مســتمر اختــاره هللا لنــا‪ ،‬فــإن مــن احلكمــة أن نعيــد‬
‫توجيــه جهودنــا مــن مدافعــة هــذا البــاء إىل التعايــش معــه‪.‬‬

‫كثيرون هـم من سيرفضون هـذا الـكالم باعتب�اره دعـوة لالستسلام أمام‬


‫البلاء‪ ..‬فتعالـوا أيهـا األحبـة نن�اقش األمـر ٍّ‬
‫برتو‪ :‬أيهمـا أفضل؟! أن يقـول أبن�اء‬
‫هـذا الرجـل املبتلـى ألبيهـم‪( :‬اصبر يـا أبانـا‪ ..‬لعـل مرضـك هـذا يكـون ً‬
‫سـبب�ا يف‬
‫دخـول اجلنـة‪ .‬مـاذا يضيرك إن كنـت سـتنىس تعـب الدنيـ�ا كلـه بغمسـة يف‬
‫اجلنـة؟! ثـم حنن أوالدك أجـزاء منك؛ حنن يداك ورجالك وسـمعك وبصرك‪..‬‬
‫مـا عليـك اآلن إال أن تستريح وتأمرنـا بمـا شـئت لنخدمـك بعيوننـ�ا وننـ�ال أجر‬
‫بـرك‪ .‬نسـأل هللا أن يكـون مرضـك داللـة علـى حب هللا لـك‪ ،‬فإن عظـم اجلزاء‬ ‫ِّ‬
‫مـع ع َـظــم الـــبالء‪ ،‬وإن هللا عـز وجـل إذا أحب ً‬
‫قومـا ابتلاهم)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪108‬‬

‫أهذا أفضل‪ ،‬أم أن يدغدغوا عواطف أبيهم بكلمات األمل يف الشفاء‬


‫ً‬
‫فرتتفع معنويات املسكني وتنشط نفسه مؤقتا ثم يتكشف له مع مرور الوقت‬
‫أنه أمل وهيم زائف‪ ،‬فيضمحل التفاؤل ويعظم اليأس وتنتكس النفس؟‬

‫أيهــا أفضــل؟ أن يركــز األبنــ�اء جهودهــم علــى تكييــف حيــاة أبيهــم‬


‫حســب املــرض جبدولــة أوقاتهــم لتقاســم خدمتــه وتوفــر األدوات الالزمــة‬
‫الحتي�اجاتــه الشــخصية اليوميــة بمــا ين�اســب مرضــه‪ ،‬وإدماجــه يف نشــاطات‬
‫تن�اســب مرضــه وتمــأ وقتــه‪ ..‬أم أن ُيبقــوا كل يشء علــى مــا هــو عليــه ألن‬
‫أباهــم «ســيعود كمــا كان» ويذهبــوا بأبيهــم إىل الطبيــب الســادس والســابع‬
‫ويعلقــوا قلبــه بقصــص غــر دقيقــة ســمعوها عــن رجــل شــفي مــن املــرض‬
‫نفســه بعشــبة لــدى املعالــج الفــاين‪ ..‬ويف كل مــرة يذهــب معهــم املســكني‬
‫بأمــل جديــد ويرجــع بانتكاســة‪.‬‬

‫سـيقول قائـل‪( :‬ولماذا ال ُيــجمع بينهما‪ :‬األمـل والتعايـش؟)‪ ..‬إن الواقع‬


‫يشـهد بأنـه ال بـد ألحـد هذيـن اخلياريـن أن يكـون األصـل واآلخـر االسـتثن�اء‪،‬‬
‫وأن النفـس ال جتمـع بين ذروة األمـل بـزوال البلاء والتعايش معه بشـكل كفؤ‬
‫والصبر عليـه‪ .‬ال بـد ألحدهمـا أن حيتـل مسـاحة أكبر مـن التفكير واجلهد‪.‬‬

‫ًّ‬
‫ضمنيــ�ا أنــه (ليــس‬ ‫ففــي مثالنــا‪ ،‬بقــاء األمــل بالشــفاء يف ذروتــه يعــي‬
‫وي َص ِّعــب‬
‫هــذا هــو الوضــع الــذي نريــده ألبينـ�ا)‪ ،‬وهــذا الهاجــس يزعــزع الصــر ُ‬
‫َُ‬
‫ويفـ ِّـوت فــرص االســتثمار املجــدي للوقــت واجلهــد‪.‬‬ ‫التعايــش‬

‫إننــ�ا ننصــح مــن ابتلــي بمــا هــو طويــل األمــد عــادة أن يعتــر الوضــع‬
‫اجلديــد هــو األصــل‪ ،‬والعــودة إىل مــا كان عليــه قبــل البــاء اســتثن ً�اء‪ .‬فهــذا‬
‫َ‬
‫أدعــى إىل أن يلتفــت املبتلــى إىل مباهــج جديــدة يف حياتــه تشــغله عــن الشــعور‬
‫‪109‬‬

‫بنقــص النعمــة الــي فقدهــا‪ ..‬فينطلــق مــن جديــد يف احليــاة بمــا يتوفــر لديــه‬
‫َّ‬
‫مــن مقومــات‪ .‬فــإن قــدر هللا خــاف المألــوف وكشــف هــذا البــاء‪ ،‬كان ذلــك‬
‫ً‬
‫ـادة وخـ ً‬
‫ـرا علــى خــر‪ .‬أمــا إذا افــرض املبتلــى أن األصــل هــو زوال هــذا البــاء‬ ‫زيـ‬
‫فإنــه ســيبقى يشــعر بنقــص يف حياتــه وفجــوة يف قلبــه‪ ،‬وسيشــغله هــذا‬
‫الشــعور عــن مالحظــة املباهــج األخــرى يف حياتــه‪ ،‬وســيكون حديثـ�ه وتفكــره‬
‫ً‬
‫منصبــا علــى البــاء فيــدور يف حلقــة القلــق املفرغــة‪ ..‬وقــد يوصلــه ذلــك إىل‬
‫ازدراء نعمــة هللا عليــه!‬

‫ُ‬
‫بــل وإذا تعايشــت فإنــك ســرى مباهــج يف نفــس مــا ابتليــت بــه‪ ،‬فأبن ـ�اء‬
‫هــذا الرجــل الــذي ذكرنــاه يف املثــال ســينقلب تركزيهــم مــن الضيــق برفــض‬
‫ختفيــف‬
‫ٍ‬ ‫حقيقــة املــرض املزمــن إىل االنشــراح بنجاحهــم فيمــا حيققونــه مــن‬
‫علــى والدهــم وتذليــل العقبــات لــه واحتســاب األجــر يف ذلــك كلــه‪ ..‬وهــو‬
‫خــرا مــن هــؤالء األوالد‬‫ســر بمــا خفــف هللا بــه عليــه وعوضــه ً‬
‫سي ُّ‬
‫كذلــك ُ‬
‫الذيــن يــرى انشــراحهم وطيــب نفوســهم‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ســيقول قائــل‪ :‬لكــي أعــرف أمثلــة مــن أنــاس خرقــت لهــم العــادة! فــان‬
‫َ َّ‬
‫قن َطـ ُـه األطبــاء مــن الشــفاء فشــفي‪ ..‬فقــد حيصــل معــي كمــا حصــل معــه‪.‬‬
‫فوطـن نفسـك يـا أيخ ويـا‬ ‫هـا قـد قلتهـا‪« :‬قـد حيصـل»‪ ..‬وقـد ال حيصـل! ِّ‬
‫أختي علـى مـا يغلـب علـى الظـن حصولـه عـادة‪ ،‬واحبـث عـن مباهـج أخـرى يف‬
‫ُ‬
‫حياتـك‪ ،‬وأولهـا وأعظمهـا مـا لـن ترمـه إذا طلبتـ�ه بصـدق‪ :‬رحمـة هللا تعـاىل‬
‫َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ۡ ‪َ ُ َ ۡ َ َّ ّ ٞ‬‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ۡ َ ۡ‬
‫ـون ‪[ }٥٨‬يونس]‪..‬‬ ‫ـل ٱللِ َوب ِ َرحمتِـهِۦ فبِذل ِـك فليفرحـوا هـو خير مِمـا يجمع‬
‫ِ‬ ‫{قـل بِفض‬
‫ً‬
‫نسـا باهلل تعـاىل ورضـا بقضائه وتوكال عليه وحسـن‬ ‫فحينئــذ سـيمتلئ قلبـك ُأ ً‬
‫ٍ‬
‫ظن بـه‪..‬‬

‫وأبق مع ذلك كله‪ ..‬شمعة األمل مضاءة‪..‬‬


‫ِ‬
‫‪110‬‬

‫لماذا ال نستمتع بالنعم؟‬

‫تمــر ســنوات مــن حياتنـ�ا جتتمــع لنــا فيهــا أســباب كثــرة للســعادة‪ ،‬لكننـ�ا‬
‫ُ‬
‫إن ســألنا أنفســنا‪ :‬هــل حنــن ســعداء؟ فقــد يــأيت اجلــواب مــن أعماقنــا‪ :‬لســت‬
‫ً‬
‫متأكــدا!‬

‫هنـاك طموحـات وتطلعـات تشـغل بالـك لـم تتحقـق بعـد‪ .‬تصبـح هـي‬
‫حسـك‬‫محـط تركيزك‪ .‬أمـا مـا اجتمـع لديك من أسـباب السـعادة فقـد َف َ َت يف ّ‬
‫وبهتـت ألوانـه وأصبـح كاخللفية اجلامـدة غري املهمـة يف الصورة التي ينقصها‬
‫محـط تركيز العدسـة‪ ،‬وهـو هـذه الطموحـات التي لـم تتحقـق بعد‪.‬‬

‫كمــا يصــدأ احلديــد فــإن أدوات تــذوق النعــم املركــوزة يف نفوســنا تصــدأ‪..‬‬
‫لــذا فــإن هللا تعــاىل يذكرنــا يف مواضــع كثــرة بهــذه النعــم الــي فــتــــرت يف‬
‫ً‬
‫حســنا ولــم تعــد تعــي لنــا شــيئ�ا‪:‬‬
‫ََ ۡ َ َ َ َۡ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫كــم َّمــا فــي َّ َ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ ْ َ َّ َّ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫كـ ۡ‬
‫ـم‬ ‫ۡرض وأســبغ علي‬ ‫ت َو َمــا فِــي ٱلأ ِ‬ ‫ٱلســمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ألــم تــروا أن ٱلل ســخر ل‬
‫ٗ‬
‫ـر ٗة َو َباط َِنــة ۗ} [لقمــان‪..]20 :‬‬
‫ـهۥ َظٰهـ َ‬
‫ِ‬
‫ن َِع َمـ ُ‬
‫َ‬ ‫ۡرض َوأَنـ َ‬‫َ َ َ َّ َ ٰ َ ٰ َ ۡ َ َ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫ـن‬ ‫ـما ٓ ِء َمــا ٓ ٗء فَأ ۡخـ َ‬
‫ـر َج ب ـهِۦ ِمـ َ‬ ‫ٱلسـ َ‬ ‫ـز َل ِمـ َ‬
‫ـن َّ‬ ‫ت وٱلأ‬ ‫ٱلل ٱل ـذِي خلــق ٱلســمو ِ‬ ‫{‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫ـرهِۖۦ َو َســخ َر‬ ‫ـك ل َِت ۡجــر َي فــي ٱل ۡ َب ۡحــر بأَ ۡ‬
‫ۡ ٗ َّ ُ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ ۡ ُ ۡ َ‬ ‫َّ‬
‫ٱلث َمـ َ‬
‫ـ‬ ‫م‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت رِزقــا لكــمۖ وســخر لكــم ٱلفلـ‬ ‫ـر ٰ ِ‬
‫َ‬
‫َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ َ ۡ َ َ َ َ ٓ َ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ َ‬
‫ــم ٱل ۡيــل‬ ‫َ ُ ُ ۡ َۡ َ‬
‫ــنۖ وســخر لك‬ ‫لكــم ٱلأنهٰــر ‪ ٣٢‬وســخر لكــم ٱلش َــمس وٱلقمــر دائِبي ِ‬
‫ُ ّ َ َ ۡ ُ ُ ُ َ َ ُ ُّ ْ ۡ َ َ َّ َ ُ ۡ َ ٓ َّ‬ ‫َ ُ‬
‫ـت ٱللِ لا تح ُصوهــا ۗ إِن‬ ‫ـار ‪َ ٣٣‬و َءاتىٰكــم ّ ِمــن ك ِل مــا ســألتموهۚ وِإن تعــدوا ن ِعمـ‬
‫ٱلن َهـ َ‬
‫َو َّ‬
‫َ َّ‬ ‫ۡ َٰ َ َ ُ‬
‫ـن ل َظلــوم‪ ٞ‬كفــار‪[ }٣٤ ٞ‬إبراهيــم‪ ،]34-32 :‬وآيــات كثــرة عــن الســمع والبصــر‬ ‫ٱل ِإنسـ‬
‫َ‬
‫ـث َب ْعــد ُه‬
‫واملســكن وامللبــس والطعــام والشــراب والنــار واملعــادن والنــوم والبعـ ِ‬
‫واألزواج واألوالد وغريهــا‪.‬‬

‫آيــات كثــرة‪ ،‬حــى ال نــزدري نعمــة هللا وننســاها‪ .‬لكننـ�ا مــع هــذا التذكــر‬
‫‪111‬‬

‫اإللهــي قــد ال نســتمتع بهــذه النعــم‪ .‬ليــس احلديــث هنــا عــن التفكــر بمشــاكل‬
‫املســلمني والتألــم ألملهــم‪ ،‬فهــذا مطلــوب بالقــدر الــذي يدفــع إىل العمــل‬
‫بإجيابيـ�ة ملســاعدتهم ونصرتهــم‪ .‬وليــس احلديــث عــن تنغــص العيــش بظلــم‬
‫ً‬
‫الظاملــن الذيــن يفســدون علين ـ�ا حياتن ـ�ا ويســعون يف األرض فســادا‪ ،‬فهــذا‬
‫التنغــص ال بــد منــه‪ ،‬وينبغــي أن يدفعنــا إىل إصــاح أوضاعنــا بعمـ ٍـل دؤوب‪،‬‬
‫والقضــاء الواحــد تســخط علــى الظالــم فيــه وتــرىض عــن هللا وتســتعني بــه‬
‫علــى مدافعــة هــذا الظلــم‪..‬‬

‫لكــن احلديــث هنــا عــن فقــدان القــدرة علــى تــذوق النعــم والشــعور‬
‫بمنــة هللا علينـ�ا فيهــا‪ ،‬وهــذا داء يصيــب النفــس بغــض النظــر عــن االهتمــام‬
‫للمســلمني والتكــدر بإفســاد الظاملــن‪.‬‬

‫هــذا الــداء جــزء مــن ظـــــواهر نفســية يعرفهــا املعاجلــون النفـــســيـــــون‬


‫ُّ‬
‫التشــوه املعــريف‪ ،‬ويســمون هــذه‬ ‫بالــــ (‪ ،)Cognitive Distortion‬أي‪:‬‬
‫الظاهــرة بالــذات‪ ،)Mental Filter( :‬أي‪ :‬الفلــرة الذهنيــ�ة‪ ،‬وهــي عــدم‬
‫قــدرة الفــرد علــى مالحظــة النــوايح اإلجيابيـ�ة يف حياتــه بســبب انشــغال ذهنــه‬
‫ـيطا يف ثــوب جميــل نافــع‪.‬‬ ‫ـبي�ا‪ ،‬كمــن ال يــرى إال خلـ ًـا بسـ ً‬
‫بمعكــر بســيط نسـ ًّ‬
‫هــذه إخــواين ظاهــرة غــر صحيــة حتتــاج ً‬
‫عالجــا‪ ،‬لكنهــا يف الواقــع قــد تكــون‬
‫موجــودة لــدى أكرثنــا‪.‬‬

‫ْ‬
‫إذا لــم يفلــح أحدنــا يف تــذوق نعــم هللا عليــه وقد ِرهــا حــق قدرهــا فقــد‬
‫يبتليــه هللا تعــاىل بفقــدان أحــد هــذه النعــم‪ .‬والســعيد حينئــ�ذ مــن اتعــظ‬
‫َ‬
‫ون َّبهــه فقــدان هــذه النعمــة إىل أن هنــاك أشــياء كثــرة يف حياتــه ال زال يمتلكهــا‬
‫تســتوجب شــكر هللا وتســتحق أن نكــون بهــا ســعداء‪ .‬يــأيت البالء ليزيــل الصدأ‬
‫عــن أدوات استشــعار النعــم املركــوزة يف فطرتــك وينظفهــا ويعيــد للحيــاة‬
‫‪112‬‬

‫ً‬
‫رونقهــا ويضفــي عليهــا ألوانــا بهيجــة مــن جديــد‪ ،‬بعــد أن كانــت خلفيــة باهتــة‬
‫رتيب ـ�ة ال لــون فيهــا! بعــد أن كانــت الفلــرة الذهني ـ�ة تشــغلك عنهــا وتغــض‬
‫مــن قيمتهــا وتعكــر رونقهــا بالتطلــع إىل مــا لــم يتحقــق بعــد مــن طموحــات‪..‬‬
‫يــأيت البــاء ليعلــم اإلنســان فــن تـ ُّ‬
‫ـذوق النعــم!‬

‫كانــت النعــم لديــك وفــرة‪ ،‬لكــن قدرتــك علــى تذوقهــا ضعيفــة‪ ،‬فلــم‬
‫ً‬
‫حتفــل بهــا وتســعد كمــا جيــب‪ .‬قــد تقــل النعــم بالبــاء الــذي أفقــدك مــال أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جاهــا أو صحــة أو غريهــا‪ ،‬لكــن إن كنــت مــن أهــل الرضــا وحســن الظــن بــاهلل‬
‫َ َ َّ‬
‫وتأمـ ِـل حكمتــه فإنــك ســتتن َب ُ�ه بالبــاء إىل الكثــر الــذي بقــي لديــك وتســتيح‬
‫ُّ‬
‫َْ ُ‬
‫مــن هللا أنــك لــم تقــدر نعمتــه عليــك مــن قبــل‪ ،‬فتكتســب فــن تــذوق النعــم‬
‫وتســعد بهــا وتطمــن‪.‬‬
‫نسأل هللا أن جيعلنا من عباده الذين ُيرزقون العافية ويشكرون‪..‬‬

‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ة‬ ‫خ‬


‫�لاص� ه�ه المحط�‪:‬‬
‫البالء وإن كان حيرمك من بعض النعم‪،‬‬
‫لكنك تستطيع حتويله إىل سبب‬
‫لتذوق النعم الباقية اليت بهتت يف حسك‪،‬‬
‫وشكر هللا عليها‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪113‬‬

‫ال أستحق‬

‫عامــا مــن عمــري‪ ..‬تقلبــت خاللهــا يف نعــم هللا‬ ‫مــرت أربعــة وأربعــون ً‬
‫عــز وجــل‪ ..‬يف حلمــه وكرمــه وســره ورحمتــه‪ ..‬بمــا يعقــد اللســان‪ ..‬مــــا مــــن‬
‫بــــاء عـانـيـتـــه إال ويـــرفق يب الرحمــن فيــه‪ ،‬وال ُي َ‬
‫ـحـــملين مــا ال طاقــة يل بــه‪،‬‬
‫وم ِع َّيت ـ�ه ويجعــل يل يف ثن�ايــا البــاء خــرا عظيمــا‪ ،‬يف ديــي‬
‫بــل يشــعرين بقربــه َ‬
‫ونعيــم قلــي ودني ـ�اي‪..‬‬

‫ً‬ ‫ُّ‬
‫كانــت عيــي تـ ِـرق أحيانــا‪ ،‬وأنــا يف داخــل بــايئ‪ ،‬وأقــول‪( :‬مــاذا فعلــت حــى‬
‫حيصــل معــي هــذا؟!)‪( ،‬لمــاذا أنــا يــا رب؟!)‪( ،‬وهللا يــا رب ال أســتحق)‪..‬‬
‫أعــي‪ :‬مــاذا فعلــت حــى حتصــل معــي هــذه اللطائــف مــن رحمــة ريب؟! لمــاذا‬
‫أنــا ينعــم علــي ريب بهذا الشــكل؟! ال أســتحق هــذا اإلنعــام‪ ،‬إي وهللا ال أســتحق‪.‬‬

‫ً‬
‫ـتدراجا‪ ،‬وأنــي يف يوم‬‫وكانــت تــراودين الهواجــس أن يكــون هــذا اإلنعــام اسـ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫مــن األيــام ســوف «أعاقــب» علــى تراكمــات تقصــرايت وأجــرد مــن هــذه النعم‬
‫ألعــود إىل حجــي احلقيقــي كإنســان ال يســتحق كــرم ربــه‪ ،‬وأفقــد اإلحســاس‬
‫باحلظــوة عنــده ســبحانه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫ـأت‪ ،‬بــل لطــف يتجــدد وكــرم يغمــر‬
‫لكــن يــوم العقوبــة القاصمــة هــذا لــم يـ ِ‬
‫َ‬
‫وإنعــام يــزداد! وإذا جــاء بــاء ف َم َعــه تصبــر ولطف‪.‬‬

‫ً‬
‫ـتدراجا كان‬‫بــل وأدركــت أن خــويف غــر املتــوازن مــن أن يكــون اإلنعــام اسـ‬
‫ســوء أدب جتــاه ريب عــز وجــل‪ ،‬فالتعامــل مــع هدايــاه تعــاىل كأنهــا «مســمومة»‬
‫ِّ‬
‫يعكــر علــى مقــام الشــكر‪ ..‬فأحمــده عــز وجــل علــى أنــه لــم يعاملــي بســوء‬
‫ظــي هــذا !‬
‫‪114‬‬

‫اخلــوف مــن هللا مطلــوب‪ ،‬لكــن مــع محبــة هلل تغمــر قلــب العبــد‪..‬‬
‫مطلــوب‪ ،‬لكــن ليدفعــك إىل إصــاح أوضاعــك‪ ،‬ال ليعكــر عليــك نعمه ســبحانه‬
‫وحيرمــك بلــوغ مقــام الشــكر‪.‬‬

‫ً‬
‫كثريا ما تساءلت‪:‬‬

‫(ال أســتحق هــذا الكــرم كلــه مــن هللا !!)‪ ،‬فــكأين أســمع اجلــواب‪( :‬صحيــح‪،‬‬
‫أنــت ال تســتحقه‪ ..‬لكنــه تعــاىل أكــرم مــن أال يســعك كرمــه)‬

‫ ‪(-‬أعمايل قليلة ال توازي نعمة هللا علي!)‬


‫ ‪(-‬صحيح‪ ،‬لكنك تتعامل مع الودود الشكور سبحانه)‪.‬‬

‫ ‪(-‬لكن هناك َمن أحسبهم ً‬


‫خريا مين‪ ،‬فلماذا أنا؟)‬
‫ ‪(-‬ليــس شــأنك‪”-‬مش شــغلك”‪ ،-‬ذلــك فضــل هللا يؤتيــ�ه مــن يشــاء‪.‬‬
‫يؤتيهــم وإيــاك مــن فضلــه وال يظلــم أحــدا)‬

‫ ‪“(-‬مــش شــغلي”‪ ،‬طيــب‪ ..‬لكــن مــا هــو شــغلي إذن؟ كيــف أعــر لــريب عــن‬
‫امتن ـ�اين وأســتديم نعمــه؟)‬
‫َ‬
‫ ‪(-‬أ ِفــض علــى النــاس معــاين املحبــة وحســن الظــن بــاهلل الــي تعيشــها‬
‫(وأحســن كمــا أحســن هللا إليــك)‪ ،‬وحدثهــم عــن رب ودود حليــم َب ٍّــر‬
‫َۡ َّ َ َ َ ّ ۡ‬ ‫َ‬
‫ــدِث ‪[ }١١‬الضــى‪ ،]11:‬وكــن مــن الشــاكرين)‪.‬‬ ‫كريــم { َوأ َّمــا بِن ِعمــةِ ربِــك فح‬
‫‪115‬‬

‫مقدمة عن تعليق القلب باآلخرة‬

‫أيها الكرام‪..‬‬
‫ال زلنــا نت�أمــل‪ :‬كيــف حنــب هللا تعــاىل بــا شــروط؟ كيــف نتفــن‪ ،‬فــا نمنــع‬
‫البــاء أن يؤثــر علــى حبنـ�ا هلل فحســب‪ ،‬بــل حنولــه إىل ســبب لزيــادة حبنـ�ا هلل؟‬
‫كيــف نبــي حبنـ�ا هلل علــى أســس ســليمة ال تــهــــــز وال تت�أثــر باملتغــرات؟‬

‫يف املحطــات الســابقة ركزنــا علــى أول أساســن مــن هــذه األســس‪،‬‬
‫و هــــمــــــــــــــا ‪:‬‬
‫ ‪1.‬تأمل أسماء هللا وصفاته من خالل البالء‪.‬‬
‫ ‪2.‬التفكر فيما أنعم هللا به علين�ا يف ماضين�ا وحاضرنا‪.‬‬

‫األساس الثالث الذي سنت�أمله هو‪ :‬تعليق القلب باآلخرة‪،‬‬


‫وهو موضوع الصفحات القادمة‪.‬‬
‫‪116‬‬

‫ليست الدنيا دار جزاء‬

‫ســتتعب إن قاومــت هــذه احلقيقــة ومهمــا غالبتهــا ســتبقى هــي‬


‫احلقيقــة‪ ..‬ليســت الدنيـ�ا دار جــزاء‪ .‬فلــو كانــت دار جزاء لمــا قتل أنبيـ�اء كزكريا‬
‫وحيــى عليهمــا الســام‪ ،‬ولمــا عــذب عــدد مــن أصحــاب النــي صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم حــى املــوت كياســر وســمية‪ ،‬دون أن يــروا قائمــة تقــوم لإلســام‪ ،‬ولمــا‬
‫حصــل ألهــل األخــدود مــا حصــل‪.‬‬

‫لذا فعندما تتفكر يف فوائد الـــبــــاء فــــا حتصر نــــظـــرتك يف الدنـــيــوية‬


‫َ ۡ ُ ۡ ُ َ ۡ َ َ ٰ َ ُّ ۡ‬ ‫ً‬
‫ٱلدن َيا‬ ‫مــنـــــها‪ ..‬فــالـــنفس تبحــث دومــا عــن ثمــرة عاجلــة‪{ :‬بــل تؤث ِرون ٱلحيــوة‬
‫َ‬
‫ـرةُ َخ ۡيــر‪َ ٞ‬وأ ۡب َقـ ٰٓ‬
‫ـى ‪[ }١٧‬األعلــى‪.]17،16 :‬‬ ‫‪َ ١٦‬وٱٓأۡل ِ‬
‫خـ َ‬

‫وإن لــم يــأت الفــرج املرتقــب حــى املمــات فــإن القصــة لــم تنت ـ�ه { َوفِــي‬
‫ٱلد ۡن َيــا ٓ إلَّا َم َتٰ ُ‬
‫ــع‬ ‫ــوةُ ُّ‬
‫ٰ‬ ‫ن َو َمــا ٱلۡحَ َ‬
‫ي‬
‫ۡ َ ‪ٞ‬‬ ‫‪َّ َ ّ ٞ َ ۡ َ َ ٞ‬‬
‫ِــن ٱللِ َورِضــو ٰ ۚ‬
‫َ َ َ ‪َ ٞ‬‬
‫اب شــدِيد ومغفِــرة م‬ ‫ٱٓأۡلخِــرة ِ عــذ‬
‫ِ‬
‫ٱلۡ ُغ ُ‬
‫ــرورِ ‪[ }٢٠‬احلديــد‪.]20 :‬‬
‫َّ َ‬
‫خطــأ هللا تعــاىل النظــرة القاصــرة الــي تعتــر إغــداق النعــم يف الدنيـ�ا‬ ‫وقــد‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ـن إذا َمــا ۡٱب َتلىٰـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ـه َر ُّبـ ُ‬
‫ـهۥ‬ ‫إكرامــا مــن هللا لإلنســان واالبتــلاء إهانــة‪{ :‬فأ َّمــا ٱلإ ٰ ُ‬
‫نسـ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ َ ُ ُ َ ّ ٓ َ ۡ‬
‫ك َر َمــن ‪َ ١٥‬وأَ َّمــا ٓ إ َذا َمــا ۡٱب َتلَى ٰ ُه َف َقـ َ‬
‫ـد َر َعل ۡيـهِ رِ ۡزق ُهۥ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فأكرمــهۥ ونعمــهۥ فيقــول ربِــي أ‬
‫َ َّ‬ ‫َ َُ ُ َ ّ ٓ َ ََٰ‬
‫ــن ‪ ١٦‬كلاۖ} [الفجــر‪ ..]17-15 :‬فإنمــا حقيقــة اإلكــرام واإلهانــة يف‬ ‫فيقــول ربِــي أهن ِ‬
‫اآلخــرة‪ ،‬أمــا الدنيـ�ا فــدار بــاء ‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يف قصــة يوســف عليــه الســام‪ ،‬بعــد أن بــن هللا تعــاىل أنــه مكــن لــه يف‬
‫َ‬
‫َ َ ۡ ‪ْ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ ّ ٞ‬‬ ‫األرض جــزاء إحســانه قــال تعــاىل { َولَأ ۡجـ ُ‬
‫ـر ٱٓأۡلخِــرة ِ خيــر ل ِلذِيــن ءامنــوا وكانــوا‬
‫َ َّ ُ َ‬
‫ـون ‪[ }٥٧‬يوســف‪ ..]57 :‬خــر مــن نقلــه مــن ظلمــة الســجن إىل كــريس احلكــم‪.‬‬ ‫يتقـ‬
‫‪117‬‬

‫فحــى إن جوزيــت خـ ً‬
‫ـرا يف الدني ـ�ا فعلــق قلبــك بأجــر اآلخــرة األعظــم‪.‬‬

‫يف بيعــة العقبــة الثانيــ�ة أخــذ رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم مــن‬
‫ً‬
‫الزتامــا يعرضهــم البتــلاءات يف‬ ‫الزتامــا بالتضحيــة بــكل يشء‪..‬‬‫ً‬ ‫األنصــار‬
‫األنفــس واألمــوال واألوالد‪ ..‬فمــا املقابــل الــذي وعدهم بــه إن قبلــوا؟‪(( :‬ولكم‬
‫ً‬
‫نصوصــا أخــرى وعــدت جبــزاء دنيوي‬ ‫اجلنــة))‪ ..‬فاجلــزاء أخــروي‪ ..‬صحيــح أن‬
‫كذلــك (كاآليــة ‪ 55‬مــن ســورة النــور)‪ ..‬لكــن هــذا اجلــزاء علــى مســتوى جماعة‬
‫املؤمنــن أمــا األفــراد فــإن كثيريــن منهــم ماتــوا ولــم يســتمتعوا بــه‪..‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫ويبقــى نــوع مــن النعيــم يمنحــه هللا لــكل مؤمــن عاجل يف هــذه الدنيـ�ا زادا‬
‫يعينـ�ه علــى ســلوك الطريــق بمشــقاته؛ وهــو طمأنينـ�ة النفــس واالستبشــار‪:‬‬
‫َ َ َُ ْ ََ ُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ٓ َّ َ ۡ َ ٓ َ َّ َ َ ۡ ٌ َ َ ۡ ۡ َ َ ُ ۡ َ ۡ ُ َ‬
‫ــم يح َزنــون ‪ ٦٢‬ٱلذِيــن ءامنــوا وكانــوا‬ ‫{ألا إِن أول ِيــاء ٱللِ لا خــوف علي ِهــم ولا ه‬
‫َّ َ َ‬ ‫ٱلد ۡن َيــا َوفــي ٱٓأۡلخـ َ َ َ ۡ َ َ َ‬ ‫ى فــي ٱلۡحَ َيـ ٰ‬
‫ـوة ِ ُّ‬ ‫َُ ُ ُۡ ۡ َ‬ ‫َ َّ ُ َ‬
‫ـت ٱللِۚ ذٰل ِك‬
‫ـرة ِۚ لا تبدِيــل ل ِكل ِمٰـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يتقــون ‪ ٦٣‬لهــم ٱلبشــر ٰ ِ‬
‫ـم ‪[ }٦٤‬يونــس‪..]64-62 :‬‬ ‫ـو ُز ٱلۡ َع ِظيـ ُ‬
‫ـو ٱلۡ َفـ ۡ‬
‫ُهـ َ‬

‫إذا لــم يســتقر هــذا املفهــوم يف نفــس املســلم‪ :‬أنــه (ليســت الدنيــ�ا دار‬
‫جــزاء)‪ ،‬فإنــه ستســوء منــه الظنــون عندمــا يقــارن وضعــه الدنيــوي بأوضــــاع‬
‫مـــــن ال يــؤمــــــنون بــاهلل تــــعــــــاىل‪ ..‬لـــــذا فــقـــــد نهانــا هللا عــن إجــراء هــذه‬
‫ـى َمــا َم َّت ۡع َنــا بـه ِٓۦ أَ ۡز َو ٰ ٗجــا ّم ِۡن ُهـ ۡ‬
‫ـم َز ۡهـ َ‬
‫ـرةَ‬ ‫َ َ َ ُ َّ َّ َ ۡ َ ۡ َ‬
‫ـك إِلَـ ٰ‬ ‫املقارنــات الدنيويــة‪{ :‬ولا تمــدن عينيـ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ــى ‪[ }١٣١‬طــه‪ ..]131 :‬فارفــع‬ ‫ــك َخ ۡيــر‪َ ٞ‬وأ ۡب َق ٰ‬ ‫َ ُۡ َّ َ‬ ‫ٱلد ۡن َيــا ل َِن ۡفت ِ َن ُه ۡ‬
‫ــم فِيــ ۚهِ ورِزق ر ِب‬ ‫ٱلۡحَ َي ٰ‬
‫ــوة ِ ُّ‬

‫رأســك إىل الســماء أيهــا املؤمــن وتعــرض لنفحــات اجلنــة وال تــزل ببصــرك إىل‬
‫مــا فيــه هــؤالء‪ ،‬فإنمــا هــو فتنـ�ة لهــم واســتدراج‪ ..‬قــال عليــه الصــاة والســام‪:‬‬
‫ُّ ْ‬ ‫ُ َ َ َ ْ ٌ ُ ِّ َ ْ‬
‫ـت لهـ ْـم َط ِّي َب ُ�ات ُهـ ْـم يف َ‬
‫ـاة الدن َي ـ�ا)) (البخــاري)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬‫ي‬‫احل َ‬ ‫((أول ِئــك قــوم عجلـ‬

‫َّ‬
‫وممــا ورد عــن احلســن البصــري رحمــه هللا‪( :‬مــن لــم يتعــز بعــزاء اآلخــرة‬
‫‪118‬‬

‫تقطعــت نفســه علــى الدنيــ�ا حســرات )‪ ..‬نعــم! سيتحســر علــى كل متــاع‬


‫دنيــوي يفوتــه‪ ،‬خاصــة إذا قــارن نفســه بغريه‪ ..‬أمــــا الـمــؤمــــن فــيــوقــــن بــــأن‬
‫ـل َم َتٰـ ُ‬‫ُ ۡ‬
‫ـع‬ ‫مـــــا يــفــوتــــه يف الــدنــيـــــا قـــــد ادخـــــر لـــــه أضـــعافه يف اآلخــرة‪{ :‬قـ‬
‫ََ ُۡ َُ َ َ ً‬ ‫ِــرةُ َخ ۡيــر‪ ٞ‬ل ّ َ‬ ‫ُّ ۡ َ َ ‪ٞ‬‬
‫ــون فتِيــلا ‪[ }٧٧‬النســاء‪..]77 :‬‬ ‫ــن َّٱت َق ٰ‬
‫ــى ولا تظلم‬ ‫ِ‬ ‫ِم‬ ‫ِيــل َوٱٓأۡلخ َ‬ ‫ٱلدنيــا قل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ـو َم‬
‫ـم يَـ ۡ‬
‫وركـ ۡ‬ ‫ـون أ ُج َ‬
‫وبــأن تــوفــــية األجـــــور ال تكــون إال يــوم القيامــة‪َ { :‬وِإن َمــا ت َوفـ ۡ‬
‫ۡ‬
‫ٱلقِ َيٰ َمــةِۖ} [آل عمــران‪..]185 :‬‬
‫‪119‬‬

‫كن كالمحبوس!‬

‫املحبــوس تســيطر علــى ذهنه مفــردات‪( :‬احلبــس) (اإلفــراج) ُ‬


‫(احلكم)‬
‫(القــايض) (التهمــة) (الدفــاع) (البينـ�ة) (الــراءة) (التخفيــف) (العقوبــة)‬
‫(املدة)‪.‬‬

‫فــراه يفكــر يف هــذه املفــردات يف قيامــه وقعــوده وصحوتــه ومنامــه وأكلــه‬


‫وشــربه وصالتــه ورياضتــه‪.‬‬

‫ً‬
‫وتــراه إن أمســك جريــدة مثــا أو ســأل عــن األخبــار اهتــم بمــا يتعلــق‬
‫باحلبــس واإلفــراج وبمــا خيــدم قضيتــ�ه وينجيــه مــن العقوبــة‪.‬‬

‫الفلــل الســكني�ة‪..‬‬
‫ال يتوقــع أن يبحــث عــن موديــات الســيارات وأســعار ِ‬
‫فهــذا كلــه ال يعنيـ�ه!‬

‫فلنســتحضر أنن ـ�ا يف هــذه الدني ـ�ا محبوســون عــن وطنن ـ�ا األصلــي‪ ،‬وهــو‬
‫اجلنــة‪ ،‬وأن معاصينـ�ا ُتـــهم حقيقيــة عليهــا ِّبينـ�ات‪ ،‬فنســتحق عليهــا العقوبــة‪،‬‬
‫وأن نقطــة دفاعنــا الرئيســية عــن أنفســنا هــي أنن ـ�ا موحــدون‪ ،‬فــإن تبــن أن‬
‫توحيدنــا هــذا مطعــون فيــه فــا تســأل عــن مــدة العقوبــة!‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ولنت�ذكــر أن الــراءة مــن هــذه التهــم تكــون بالتوبــة النصــوح‪ ..‬وأن مــن‬
‫َ َ‬
‫احلكــم احلــق‪ :‬هللا جــل جاللــه‪.‬‬ ‫بي ـ�ده القضــاء هــو‬

‫حينئــ ٍـذ‪ ،‬ســنحرص علــى اســرضاء احلكــم احلــق‪ ،‬والعمــل بمــا ينقلنــا من‬
‫ســجن الدني ـ�ا إىل ســعة اآلخــرة‪ .‬ولــن ننشــغل بسفاســف الدني ـ�ا وملهياتهــا‪،‬‬
‫فهــي ال تعنينـ�ا‪ .‬وســتكون قضيــة النجــاة مــن عقوبــة هللا ونـــوال ثوابــه ورضــاه‬
‫‪120‬‬

‫ً ً‬ ‫ً‬
‫مســيطرة علــى أذهاننـ�ا حــــــية يف قــلــوبـــــنا ال نغفــل عنــه ســاعة أبــدا‪.‬‬

‫قال ابن القيم‪:‬‬


‫مــــنازلك األوىل وفيهــا املخــــــــيم‬ ‫فــح َّ‬
‫ـــــــي علــى جنــات عــدن فإنهــا‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ولكننــ�ا َس ْ ُ‬
‫نـــــعـــــود إىل أوطــــــانن�ا ونــــسلم‬ ‫ـــي الــعــــدو فــــهل تــرى‬
‫‪121‬‬

‫كله محسوب!‬

‫عندمــا يطــول البــاء فــإن النفــس تتكــدر علــى مــا يتســبب فيــه مــن‬
‫«ضيــاع» األوقــات واألمــوال وإرهــاق األعصاب وتعكــر املزاج وتأثــر الصحة‪..‬‬
‫لكــن املؤمــن يت�ذكــر أن ال يشء يضيــع عنــد هللا‪ ،‬بــل كلــه محســوب‪.‬‬

‫سـن َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ـر فـإ َّن َّ َ‬
‫ٱلل لا يُض ُ ۡ‬ ‫َ ۡ ۡ‬
‫ين ‪[ }١١٥‬هــود‪،]115 :‬‬ ‫يع أج َر ٱل ُمح ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قــــال هللا تعــاىل‪{ :‬وٱصبِـ ِ‬
‫الم ْـســ ِـل َم‪ِ ،‬مـــن‬
‫يب ُ‬ ‫وقــــال احلبيب املصطفى عليه الصالة والســام‪( :‬ما ُيص ُ‬
‫ِ‬
‫َ َ ٍّ َ ُ ْ َ ً َ َ ٍّ َّ َّ ْ َ ُ َ ُ َ َّ‬ ‫َن َصـ َ َ‬
‫ـب‪ ،‬ول هــم ول حــز ٍن ول أذى ول غــم‪ ،‬حت الشــوك ِة يشــاكها‪ ،‬إل‬ ‫ـب ول وصـ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َُّ‬
‫كفــر للا بهــا ِمــن خطايــاه) (البخاري)‪.‬‬

‫فلا تـأس علـى يشء أيهـا املبتلـى‪ ،‬إن صبرت فـإن الصبر هـو خري اسـتثمار‬
‫للوقـت والمـال والصحـة‪ ..‬وال تفكـر فيمـا تب�ذلـه مـن ذلـك علـى أنـه مهـدر‪ ،‬بل‬
‫هـو رصيـد لـك هنـاك يـوم ال درهـم وال دينـ�ار‪ ،‬إنمـا هي احلسـنات والسـيئ�ات‪.‬‬
‫‪122‬‬

‫رت نفسي‬
‫خي ُ‬
‫عندما ّ‬

‫ُ‬
‫أثن ـ�اء ابتــلاء مــررت بــه‪ ،‬عــز علــي أن يطلــع هللا تعــاىل علــى قلــوب أنــاس‬
‫ً‬
‫مــن أهــل الباطــل والشــهوات فــرى بهــا اســتعدادا للتضحيــة يف ســبي�ل الدنيـ�ا‬
‫ونصــرة الباطــل‪ ،‬ويطلــع علــى قلــي فــراين انشــغلت بهــي وضننــت بنفــي‬
‫عــن أن تــؤذى يف ســبي�ل هللا!‬

‫ُ‬
‫فكانت هذه القصيدة بعنوان (عندما خريت نفيس)‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ‬
‫نــس تــــــوىل أســــلــــــيها فــــتـــــأىب أن تــــســـــــلى‬
‫ت ِئ الـــنـــفـــــس مــــن أ ٍ‬
‫تـــنــــوء بـحـــمــــلها وتضـــيق ً‬
‫ذرعـــــا وتـخــــــــى مــــــا به األيــــــام ُحــبلى‬
‫فــفــــــرق بعد طيب العيش شــــمـال‬ ‫وتــــــزفـــــــر من مصاب حـــــل فـــــين�ا‬
‫َ‬
‫فرتجع من شـــديـــــد الشـــــوق ذبلـى‬ ‫أشــــاغــــــل حـــزنـــــها جبـــميل ذكـرى‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتــــمل مـــــطـال‬ ‫تــــــرد بـــشـــــــــــاريت‬ ‫فــــــــرجا ســــيــأيت‬ ‫وإن واعـــــدتــــــها‬
‫مللت لـــــدى ابتــــــغاء املــــــجــد بـذال‬
‫ِ‬ ‫أراك يا ذي النــفـــــ ُـس كســلى‬
‫عــــام ِ‬
‫بأفــــــعـــــــال تــصـــــدق منك قــــــوال‬ ‫أال الــتـــمــــــي الـــراءة من نفــــــــاق‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وتــــرســــــــل يف حــقـــول الزعم ســيال‬ ‫هي األقـــدار تبطل كــــــل دعـــــــــــوى‬
‫وقــــــول الــــــزور يبقى مــــــضـــمحال‬ ‫ُفتـنـبـــت مـــــن بـــــــذور الصدق ً‬
‫دوحا‬

‫‪bbb‬‬
‫ســـــــوى يا لـــــــيت‪ ،‬لــــــو أين‪ ،‬ولـــــوال‬ ‫فـــلــــــم حيصد دينء الـــــعــــــزم فــــيها‬

‫َ َ‬
‫غـــشـــــوا يف سعيهم ً‬
‫صعبا وســهــــا‬ ‫أال فــــلـــــتنـــــــظري لعـــــبي�د دنـــــــيـا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫فمــنـــــهم مـــبـــتـــغ مـــــ ً‬
‫يـــــذوق ألجــــلــــــه طــــــــــعنا وقـــتال‬ ‫وذكــــرا‬ ‫ـدحا‬ ‫ٍ‬
‫ً َّ‬
‫صــغــــارا ُيــــت ًما‪ ،‬واألم ثكـــــــــــــــــلى‬ ‫ـب كي يـــقــــال له شـــجاع‬ ‫ويــــعـــقــــ ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫‪123‬‬

‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬


‫بــعــــــزة أو بــــــلـيلى‬ ‫بعبلــــــــــــــــة أو‬ ‫وآخـــــــ ُـر كل مــــطــــلـــــبــــــه وصــال‬
‫َ ْ‬ ‫َّ‬
‫وحيســــــــــــــب أنـــــــها أوفــت ُــه كيال!‬ ‫فــيـــهـــــلك كي يــبــــش الـوجـــه منها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ـال ُ‬
‫يــــفــــــــارق فـــيــــهـــــما وطـــنا وأهال‬ ‫ومـــلــكا‬ ‫وكم مــــــن مـــبـــتـــــغ مــــ‬
‫ٍّ‬ ‫ْ‬
‫لينــــجـــــ َـو مــن هــــــــوان العيش ذيال‬
‫‪bbb‬‬
‫ورأس الـــقـــــوم يـــــؤ ِثـــــــر مــوت عــز‬

‫َ ِّ‬
‫يــــــــرى يف ضنه بالـــنـــفـــــــس بـــخال‬ ‫فــــــإن كان الــــذي يـــســـــــعى لــدني�ا‬
‫بلى يا نـــفــــ ُـس‪ ،‬بل أحــــــــــــرى وأوىل‬ ‫الب املــــجـــ ِـد أهــــــا‬ ‫ِّ‬
‫ألست لدى اط ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫وربيح إن صـــدقـــــت الــــبـيــــع أغلى‬‫َ‬ ‫فـــغـــايــــة مطليب يا نـــفـــــــ ُـس أعلى‬
‫ألقـــبــــــض منــه مكرمة وفـــضــــــــا‬ ‫فإين بــــــائـــــــع نفســــــــــــــــــي لــــريب‬
‫فـــجــــــاري املصطفى‪ ،‬وهللا مــــــــوىل‬ ‫وأحــــــظى يف اجلــــــنان بطيــب عيش‬
‫َ‬ ‫وأنشــــ َـر يف ديايج الـــظـــــلم نــــــــــ ً‬
‫وأنــئ يف نـــفــــــــوس الــنـــــشء نبلا‬ ‫ـورا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫طغــى يف األرض إفـــســـــادا وجــــــهال‬ ‫أثـــــــــيم‬
‫ٍ‬ ‫ـاك‬
‫وأدفـــــــع كـــيـــــــد أفـــــــ ٍ‬
‫ـقلت حمال‬ ‫ُ‬
‫وجــــائـــــــزيت لـــــما اسـتـثــ ِ‬ ‫النفس أجــــري‬ ‫ـرت يا ذي‬ ‫فـــلــــــو ذاكـ ِ‬
‫لعدت خجلى‬‫ِ‬ ‫على فــــعـــــــل العــــباد‬ ‫عاينت حــــســـــن جــــــــزاء ريب‬
‫ِ‬ ‫ولـــــو‬
‫ً‬
‫تـــــــرى يف العــــــجــــــــز خـــــذالنا وذال‬ ‫فــــهــــــذي هـــــــميت‪ ،‬والــــــــروح مين‬

‫‪bbb‬‬
‫ذريــــهـــــــــــــــا تـــرتـــــــقي هلل عجلــى‬ ‫فـــخـــــــويض يف مـــســـالـــكـــــها وإال‬
‫‪124‬‬

‫يف الصفحات التالية‬


‫متفرقات عن الصرب والتعلق باهلل تعاىل‬
‫‪125‬‬

‫إنها لحظة‪ ..‬عندما يشتد اليأس فيعظم الرجاء‬

‫ـارة أصبحــت يف حـ ِّ‬ ‫ٌ‬


‫ـس كثــر منــا مرادفــة لعبــارة‪« :‬ما‬ ‫«مــا لنــا إال هللا»؛ عبـ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫باليــد حيلــة»‪ ،‬عبــارة‪ :‬مــن لــم جيــد غنيتـ�ه عنــد البشــر فاضطر أن خيتــار هللا!‬
‫أصبحت عبارة إشهار إفالس!‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ذلــك مــع أن األصــــــل أن مـــــن لــم يكن لـــــه إال هللا فــــما فقــد شــيئ�ا‪ ،‬وال احتاج‬
‫ــدهُ ۖۥ} [الزمــر‪!..]36 :‬‬‫ٱلل بــكَاف َع ۡب َ‬ ‫ــس َّ ُ‬‫إىل يشء؛ { َألَ ۡي َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ســمن وال‬
‫وأن مــن كان معــه كل يشء إال هللا فمــا معــه إال الباطــل الــذي ال ي ِ‬
‫يغــي مــن جــوع‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يشء ما خال َ‬ ‫ُّ‬
‫باطل‬ ‫هللا‬ ‫أال كل ٍ‬

‫ً َّ‬
‫إن مــا حيصــل معنــا عنــد نــزول البــاء هــو أننـ�ا نلجــأ إىل هللا بدايــة‪ ،‬لكنن�ا ما‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫نلبــث أن نــدرك أن هــذا اللجــوء حــى يكــون صادقــا ُمثمـ ًـرا ال بــد لــه مــن ت ِبعات؛‬
‫ُ‬
‫ـب هللا فنصلحــه‪ ،‬وعــن‬
‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫فمــن ت ِبعاتــه أن نبحــث عــن كل تفريــط فرطنــاه يف جنـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َّ‬
‫كل ثغــر يف حياتنـ�ا فنســده‪ ،‬وعــن كل ذنبـ�ه فنتــوب منه‪..‬‬

‫ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ومــن تبعــات هــذا اللجــوء أن نقبــل علــى قلوبن ـ�ا‪ ،‬ونفتــش عــن أمراضهــا‬ ‫ِ‬
‫فنعاجلهــا‪ ،‬وســنجد حينئـــذ أننـ�ا كنــا قــد أهملنا قلوبنـ�ا لســنوات فعــادت َخ َراباً‬
‫ٍ‬
‫وصــدق التــوكل‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ََْ ً‬
‫هللا ِ‬
‫بلقعــا خاويــة غافلــة‪ ،‬قــد ضعفــت فيهــا معــاين محبــة ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ ُّ‬ ‫ُّ‬
‫عليــه واخلشــوع بــن يديــه والــذل لــه والتعلــق بــه والشــوق إىل لقائــه!‬
‫ْ‬
‫فنجــد أنــه ال بــد مــن إزالــة أشــواكها وتقليــب أرضهــا َوبــذ ِر آيــات هللا فيهــا‪،‬‬
‫ــقايتها بمــاء القيــام والصيــام والدعــاء‪.‬‬
‫وس ِ‬ ‫ِ‬

‫نعــم؛ سنكتشــف أن اللجــوء إىل هللا والفــرار إليــه واالعتصــام حببلــه هــذا‬
‫ُ‬
‫كلــه ِتبعاتــه ولــه ثمنــه‪.‬‬
‫‪126‬‬

‫لكنن ـ�ا نريــد التخلــص مــن البــاء بســرعة! وعمليــة تــرك الذنــوب وســد‬
‫الثغــور وقلــع األشــواك وبــذر البــذور وســقيها وانتظــار إنب�اتهــا عمليــة حتتــاج‬
‫إىل وقــت‪ ،‬والوقــت يمــر‪ ،‬وليــس يف صاحلنــا‪ ،‬فمــا احلــل؟‬

‫َّ‬ ‫ً‬
‫عــادة هــو َّ‬
‫أرضي ٍــة تبــ�دو أســرع‬ ‫الســعي يف أســباب‬ ‫احلــل الــذي خنتــاره‬
‫َْ‬ ‫ُّ‬
‫نتيجـ ًـة وأخـ َّـف حمـ ًـا مــن عمليــة اللجــوء َّ‬
‫الصــادق إىل هللا؛ فننــوي أن نســر يف‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫وتبعاتهــا‪ ،‬وأيتهمــا‬
‫ـة اللجـُـوء ُّإىل هللا ِ‬ ‫هــذه األســباب جنب ـ�ا إىل جنــب مــع عمليـ‬
‫َ‬
‫َسـ َـبقت يف رفــع البــاء فبهــا ونعمــت‪ ،‬وأمــا تبعــات اللجــوء إىل هللا؛ ففــي ُ‬
‫العمــر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ْ ٌ ْ ْ‬
‫السـ ِـتك َما ِلها !‬ ‫فســحة‬

‫ُّ‬ ‫ُّ َ‬ ‫وهنـا يبـ�دأ االحنـراف؛ عندمـا َن ْك ُ‬


‫حتمـل ت ِبعـات اللجـوء إىل هللا‬ ‫سـل عـن‬
‫َّ‬
‫فنبحـث عـن بديل! خندع أنفسـنا بأن هـذا البديل سـبب‪ ،‬وأن هللا أمرنا باألخذ‬
‫ُ ُ َّ ُّ‬ ‫ٌ‬
‫باألسـباب‪ .‬نعـم‪ ..‬األخـذ باألسـباب محمود عندمـا يصدق ِمنـا اللجوء إىل هللا‪،‬‬
‫ُّ ٌ‬ ‫ُ‬
‫ونصبر ونصابـر إلصلاح أنفسـنا‪ ،‬فلا يكـون يف القلـب تعلـق إال بـه تعاىل‪..‬‬ ‫ِ‬
‫َ ُّ‬ ‫ً‬
‫لكــن عندمــا يكــون ســعين�ا يف األســباب نتيجــة السـ ِـتطالتن�ا طريــق اللجوء‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫إىل هللا‪ ،‬ول َك َســلنا عــن ُّ‬
‫حتمــل تبعاتهــا؛ فــإن هــذه األســباب تصبــح يف ِح ِّســنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫بديــا عــن هللا‪ ،‬فتاحــم هــذه األســباب اللجــوء إىل هللا يف قلوبن ـ�ا‪ ،‬وحتتــل مــن‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫مســاحاته‪ ،‬وتصــرف عنــه وقتنـ�ا وجهدنــا وعاطفتنـ�ا وتفكرينــا‪ ،‬فنصبــح نفكــر‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الماديــة أثنـ�اء صالتنـ�ا وقيامنــا وتالوتنـ�ا ودعائنـ�ا؛ فالظواهــر‬ ‫يف هــذه األســباب‬
‫مــع هللا والبواطــن مــع األســباب وطــرق حتصيلهــا واســتكمالها وخــوف فواتهــا‬
‫وموانــع تأثريهــا وبدائلهــا يف حــال فشــلها‪ ،‬وآخــر أخبارهــا‪!..‬‬

‫َّ‬ ‫وكلمــا اكتشــفنا أن هــذه األســباب َّ‬


‫خربــت عمليــة اللجــوء إىل هللا خدرنــا‬
‫َ‬ ‫ُ ٌ‬
‫أنفســنا باملعاذيــر؛ فنقــول ألنفســنا‪« :‬إن هــذه األســباب َم ْوقوتــة بمواقيــت‬
‫‪127‬‬

‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َُ ُ َ‬


‫تفــوت ِبف َو ِاتهــا‪َّ ،‬أمــا بــاب التوبــة فمفتــوح ال ُيســد‪ ..‬إن كان ٌيقلقــي أين ال أبكــي‬
‫مــن خشــية هللا وال أخشــع يف صــايت فهــذا ليــس باجلديــد‪ِ ،‬عشــت علــى ذلــك‬
‫ً‬ ‫َ ْ ً‬
‫حتسـ ٌـن وإن كان بطيئ�ا‪ ،‬وهللا‬
‫ـدي ُّ‬ ‫عة واحدة؛ لـ َّ‬ ‫ســنوات طويلــة‪ ،‬وال يشء يــأيت دف‬
‫َ َ‬
‫رحيــم يــرى مــا يب وهـ ْـول األمــر الــذي يشــغلين فســيعذرين‪ ،‬ثــم إنين لن أســتطيع‬
‫اإلقبــال علــى قلــي ألصلحــه وأنــا مشــغول البــال باألســباب وتقصــري فيهــا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َْ ُ ّ‬
‫فلركــز اآلن علــى األســباب ألريــح بــايل منهــا‪ ،‬حــى أتفـ َّـرغ إلصــاح قلــي» !‬

‫وكـــأنن�ا بهــذا نتخــذ األســباب «ضمانــات» مــع هللا؛ حبيــث إذا َّ‬
‫قصرنــا يف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حــق هللا ولــم نضمــن ِمــن ثـ َّـم الفــرج مــن جهتــه أســعفتن�ا األســباب‪!..‬‬

‫دب إىل قلبــك؟ حينمــا تضــع رأســك‬ ‫ُأتريــد أن تعــرف إن كان هــذا الـ َّـداء َّ‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ـزل تقلبــات كيانــك خــال يــوم كامــل‪ ،‬وأنــت‬ ‫للنــوم‪ ..‬يف هــذه اللحظــة الــي ختـ ِ‬
‫ٌّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـتعد‬‫تدعــو بالدعــاء المأثــور‪ ،‬ركــز جيــدا‪ ،‬هــل تعــي مــا تقــول؟ هــل أنــت مسـ ِ‬
‫مت نفــي إليــك‪َّ ،‬‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ُّ َ‬
‫وفوضــت‬ ‫ــل ت ِبعــات هــذه الكلمــات‪« :‬اللهــم أســل‬ ‫لتحم ِ‬
‫أمــري إليــك‪»..‬؟‬

‫ِّ ٌ‬
‫متأمــل معناهــا فاعلــم أن القلــب‬ ‫إذا اضطــرب قلبــك وأنــت تقولهــا وأنــت‬
‫ً ُ‬
‫ســلم نفســك‬
‫يضطــرب وخيــاف عنــد الكــذب! ألنــك ال تريــد حقيقــة أن ت ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بك َّليتهــا إىل هللا‪ ،‬بــل تريــد ضمانــات األســباب مــع هللا!‬

‫َ ُ ٌَ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫لـن تشـعر ُّ‬


‫تنـو‬
‫ِ‬ ‫لـم‬ ‫ة‬ ‫ـوب‬‫ش‬ ‫م‬ ‫وهـي‬ ‫هللا‬ ‫إىل‬ ‫نفسـك‬ ‫مت‬ ‫بالطمأنينـ�ة إذا أسـل‬
‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫وتـؤدي حقـه‪ ..‬هذه هي اخلطـورة‪ ،‬وهنـا َمك َمن‬ ‫َ‬ ‫بصـدق‬
‫ٍ‬ ‫قبـل علـى هللا‬ ‫بعـد أن ِ‬
‫ت‬
‫ُّ‬ ‫ِّ ً‬ ‫َّ ُّ‬ ‫َّ‬
‫الزلـل؛ عندمـا يكـون التعلق باألسـباب األرضيـة معوضا عن اسـتكمال اللجوء‬
‫ً‬ ‫ٌّ َّ‬ ‫ََْ َ‬
‫فنظـن أن هـذه األســـباب أسـرع مفعـول‪ ،‬أو‬ ‫إىل هللا الـذي ْاسـتثقلنا ت ِبعاتـه‪،‬‬
‫اللجـوء َّ‬
‫الصـادق إىل هللا تعـاىل‪..‬‬
‫َّ‬
‫تـاب أنفسـنا ِمـن‬ ‫لع‬ ‫أضمـن نتيجـة‪ ،‬أو َأ ْد َف ُ‬
‫ـع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪128‬‬

‫ٌ َ ُ َّ‬
‫تنتقــل ِمــن‬
‫ســتبقى ختــرج مــن القلــب أســباب لتحــل أســباب‪ ،‬وســتبقى ِ‬
‫ـب المــاء فــا مــاء‪ ،‬وتنقلـ ُ‬
‫ـب جبــال األســباب إىل هبــاء!‬ ‫ســراب إىل ســراب‪ ،‬تطلـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬

‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫مقــام‬ ‫الـــم ْع َم َعة؛ فاللجــوء إىل هللا‬
‫هللا بصــدق خــال هــذه َ‬
‫ٍ‬
‫ــو َ‬ ‫تدع َ‬
‫ولــن ُ‬
‫ـارج القلــب ينظــر إىل هــذه األســباب‬ ‫زاحــم‪ ،‬فيبقــى خـ‬ ‫عزيــز‪ ،‬يــأىب ْأن ُيزاحـ َـم أو ُي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫هللا أن جيتمــع مــع‬
‫الــي خلــت عــن هللا فاســتحالت باطــا‪ ،‬ويــأىب اللجــوء إىل ِ‬
‫الباطــل يف قلــب واحــد‪..‬‬

‫وتســتوع ُبه‪ ،‬وتــدرك أنــك يف‬ ‫رس‬


‫َّ‬
‫الــد َ‬ ‫ــن فيهــا‬ ‫إنهــا اللحظــة الــي َت ْل َق ُ‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫األرضيــة‬ ‫�أس مــن األســباب‬ ‫الســابق كلــه لــم تكــن علــى يشء‪ ..‬وتي ـ ُ‬ ‫َسـ ْـعيك َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كلهــا‪ ..‬وتيـ�أس مــن نفســك ومــن قدراتهــا وذكا ِئهــا وختطيطهــا‪ ..‬وتــذوق مــرارة‬ ‫ُ‬
‫�أس مــن أهلــك‬ ‫وه َوانــك علــى النــاس‪ ..‬وتيــ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫وقلــة ِحيل ِتــك‬
‫َّ‬ ‫ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫ضعــف قوتــك ِ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫وعشــرتك وأصـدقــــا ِئك ومحبيــك‪ ،‬وتعــــلم أنهــم ‪-‬وإن أرادوا لــك اخلــر‪ -‬ال‬
‫َّ‬
‫األرضيــة‬ ‫�أس مــن كل ِالبــال‬ ‫نفعــا وال َض ًــرا‪ ..‬وتيــ ُ‬ ‫يملكــون ب َذ َواتهــم لــك ً‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫هللا إال مــن ر ِحــم‪ ..‬بــل وتي ـ�أس‬ ‫ْ‬
‫عاصــم ِمــن أمـ ِـر ِ‬‫وقــن أن ال ِ‬ ‫ـدودة إليــك وت ِ‬ ‫املمـ ِ‬
‫ُ ُّ‬ ‫مــن أعمالــك الصاحلــة كلهــا‪ ،‬وتســتيح أن َّ‬
‫تتوســل إىل هللا بهــا ألنــك تشــك يف‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ق ُبولهــا وقــد َصــدرت ِمــن قلبــك الغافــل‪!..‬‬

‫وال ْم َحال ِمن كل يشء‪..‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬


‫إنها حلظة اليأس والقنوط والقح ِط ِ‬
‫حلظة ِّ‬
‫خلو القلب من كل يشء‪..‬‬
‫حلظة انهيار األمل يف كل يشء‪ ..‬كل يشء !‬
‫ََْ‬
‫هي اللحظة املناسبة لشعور اللجوء إىل هللا أن ينق ِذف يف القلب !‬

‫وتنسـ ُـج يف‬ ‫ً َ ُّ َ ْ‬


‫لقــد كان هــذا الشــعور باالنتظــار‪ ..‬يــرى أســبابا ِتــل وتر ِحتــل‪ِ ،‬‬
‫ْ َََْ‬ ‫ً‬ ‫فلمــا َخـ َـا القلـ ُ‬
‫ـوط العنكبــوت‪َّ ،‬‬
‫خــراب القلــب خيـ َ‬
‫واســتنفدها‬ ‫جميعــا‬ ‫ـب منهــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪129‬‬

‫ََ ََ‬
‫وع َمــر أرجــاءه وأنبــت خضــراءه‬
‫ـأه َ‬ ‫جميعــا‪ ،‬انقــذف فيــه اللجــوء إىل هللا‪ ،‬فمـ‬
‫َ‬ ‫ِّ ُّ َ‬
‫ية‬ ‫ـاق ِ‬
‫وجعلــه ينبــض بقــوة مــن جديــد‪ ،‬فمــا يلبــث الــري أن ي ِفيــض علــى سـ ِ‬
‫ُ‬
‫وتكتمـ ُـل احللقــة‬
‫ِ‬ ‫موعهمــا مــن جديــد بعــد طــول جفــاف‪،‬‬ ‫العينــن لتنهمــر ُد ُ‬
‫ِ‬
‫َ ََ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫بلســان َي ْل َه ُ‬
‫بأدعيــة تت�دفــق عليــه وتتهــدج مــع دقــات القلــب ودفقــات‬ ‫ٍ‬ ‫ــج‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫الدمــع‪..‬‬

‫ُ‬
‫إنها حلظة‪ ..‬ستعرفها أنها هي عندما تعيشها‪..‬‬

‫ُ ِّ‬ ‫َّ‬
‫كلحظــة الثالثــة الذيــن خلفــوا حــى إذا ضاقــت عليهــم األرض بمــا‬
‫ْ‬ ‫َُ ْ‬
‫ويئســوا مــن كل يشء‪ ،‬وأيقنــوا أن ال ملجــأ‬ ‫رحبــت‪ ،‬وضاقــت عليهــم أنفســهم‪ِ ،‬‬
‫َ َ‬
‫مــن هللا إال إليــه‪ ،‬قــذف هللا يف قلوبهــم وألهمهــم‪ :‬أن توبــوا فــإين أريــد أن أتــوب‬
‫عليكــم‪..‬‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬


‫قــارع يقــول‪:‬‬
‫ِ‬ ‫فيهــا‬ ‫يانــك‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫يقــرع‬ ‫حلظــة‬ ‫إنهــا حلظــة‪ ..‬ســتعرفها أنهــا هــي؛‬
‫ُ‬ ‫ـاءك‪ ..‬اآلن‪ُ :‬‬ ‫ُ‬
‫ـك‪ ،‬يــا لســان دعـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هللا يريــد‬ ‫“اآلن! يــا قلــب نبضــك‪ ،‬يــا عــن دمعـ ِ‬
‫َ‬
‫يســتجيب دعــاءك”‪..‬‬ ‫أن‬

‫ْ‬
‫إن هي إال حلظة‪!..‬‬
‫َّ‬
‫ســتقول‪ :‬مــا دامــت حلظــة ُأيعقــل أن قلــي لــم يتعـ َّـرض َطـ َـوال مــا مــى ِمــن‬
‫ََ‬
‫بــايئ لنف َحــات تلــك اللحظــة؟‬

‫ُّ‬ ‫ً‬
‫نعــم؛ إنــه الشــيطان عندمــا ملــس منــك تكاســا عــن ِتبعــات اللجــوء إىل هللا‬
‫ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َجــم عليــك ِل َي ْجتالــك عــن طريــق هللا قائــا‪ “ :‬أيــن تذهــب؟ طريقــك الــذي‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ٌ َْ‬
‫فأســل ْمت ُه ِلــام قلبــك‬ ‫فارتــع”‪..‬‬ ‫خصـ ٌ‬
‫ـب قريــب‬ ‫ُتهـ ُّـم بســلوكه طويــل؛ هاهنــا ْ‬
‫َ ْ‬ ‫َّ‬
‫اجلــدب‪ ،‬ولــو عصيت ـ�ه يف أول الطريــق لوصلــت!‬ ‫فنقلــه بــن َم َر ِاتــع‬
‫‪130‬‬

‫إنــه الشــيطان؛ رآك تقــرع بــاب الفــرج احلقيقــي‪ ،‬فلمــا ملــس منــك‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ َّ‬ ‫َ ْ ٌ‬ ‫وف ً‬ ‫َ ً ُ‬
‫لــز‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ك‬ ‫فقــاد‬ ‫بعــي”‪..‬‬ ‫فات‬ ‫ســهل‬ ‫ــرج‬ ‫خ‬ ‫م‬ ‫“هاهنــا‬ ‫لــك‪:‬‬ ‫قــال‬ ‫ا‬ ‫تــور‬ ‫ملــا‬
‫َّ َ َ َ‬
‫األســباب فأضعــت فيــه وقتــك وجهــدك‪ ،‬وكلمــا هممــت بالرجــوع إىل بــاب‬
‫ـورا” ‪ ..‬وال نــور!؛ إنمــا‬ ‫الفــرج احلقيقــي قــال‪“ :‬رويـ ًـدا‪ُ ..‬أبصــر آخــر هــذا النفــق نـ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يصــدك عــن الســبي�ل ويزعــم أنــه هاديــك‪ ،‬ولــو عصيت ـ ُ�ه َّأول األمـ ِـر ول ِز ْمــت‬
‫ُ‬
‫قــرع البــاب لفتــح لــك‪..‬‬

‫ـواك مــن‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬


‫هللا لــه ت ِبعــات‪ ،‬وصحيــح أن قلــع األشـ ِ‬ ‫صحيــح أن اللجــوء إىل ِ‬
‫ـر مــن الوقــت‬ ‫ـ‬ ‫بكث‬
‫ُّ‬
‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫أق‬ ‫ـه‬‫ـ‬
‫َّ‬
‫لكن‬ ‫ا‪،‬‬
‫ً‬
‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وجه‬ ‫ـا‬‫ـ‬
‫ً‬
‫وقت‬ ‫ـاج‬‫ـ‬ ‫حيت‬ ‫ـه‬‫ـ‬ ‫في‬ ‫ـذور‬ ‫ـ‬ ‫القلــب َوبـ ْـذ َر ُ‬
‫الب‬
‫ٍ‬
‫ـاء يف ِدهلــز األســباب اخلاليــة عــن هللا‪..‬‬ ‫نف ُقهما هبـ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫واجلهــد اللذيــن ســت ِ‬
‫ُ ُ‬
‫ـتجد األنــس والطمأنين ـ�ة‪ ،‬ومــع هــذه األســباب ســتجد اخلــوف‬ ‫ومــع هللا سـ ِ‬
‫يهــا‪!..‬‬‫واخلــذالن‪ ،‬ثــم يف األوىل تصــل ويف الثانيــ�ة ال تــزداد إال ت ً‬
‫ِ‬

‫َ‬ ‫ُ ِّ‬
‫وباملخلوقــن ُلين ُّجونــا‬
‫ِ‬ ‫فلمــاذا إذن نبقــى نعلــق قلوبنـ�ا باألســباب األرضيــة‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫مــن َم َضائقنــا؟ وندفــع تكاليــف ذلــك مــن وقــت ُ‬
‫وجهـ ٍـد وتمــزق نفس وتشــت ِت‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ‬
‫ِفكـ ٍـر وغ َّصـ ٍـة وهــم وقهــر وخيبـ�ة أمــل يف املخلوقــن؟!‬
‫ٍّ‬

‫َّ ُ‬
‫لماذا ال نت ِعظ بغرينا؟‬

‫ُ‬
‫الطبــع البشــري؛ ن ِص ُّــر علــى التجربــة بأنفســنا‪ ،‬حــى إذا‬ ‫ال بــأس‪ ،‬إنــه َّ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫عزمــا يف ّصــد الشــيطان‬ ‫حزمــا وأقــوى ً‬‫وذقنــا َم َرارتهــا أصبحنــا أكــر ً‬ ‫َع َركتنــ�ا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫إن حــــاول صـــرفنا عــــن بــاب الفــرج احلقيقــي وقلنــا لــه‪“ :‬غ َّــر غــري‪ ..‬غ َّــر‬
‫غــري‪.”..‬‬

‫َّ‬ ‫ْ‬
‫لكـ َّـن املصيب ـ�ة إن لــم يت ِعــظ أحدنــا بتجــارب نفســه وأصـ َّـر علــى خــوض‬
‫‪131‬‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬


‫نقطعة عــن هللا‪ ،‬دهلــز التعلــق‬
‫الدهلــز ‪-‬دهلــز األســباب األرضيــة الـــم ِ‬
‫حــر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫باملخلوقــن‪ -‬يف كل بــاء جديــد‪ ،‬وال ينبغــي للمؤمــن أن يلــدغ مــن ج ٍ‬
‫مرتــن‪!..‬‬

‫ـل َ‬‫َ َ ْ‬
‫هللا أن يرزقــك حلظــة اليــأس والرجــاء هــذه؛ اليأس مــن املخلوقني‪،‬‬ ‫فسـ‬
‫والرجــاء يف اخلالق ســبحانه‪..‬‬

‫َ‬ ‫َّ‬
‫إنها حلظة‪ ..‬لكن ما أعزها من حلظة وأند َرها!‬
‫إنهــا حلظــة‪ ..‬إن عاشــها القلــب انتفــض جببــال الهمــوم املرتاكمــة عليــه‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فينســفها ريب نســفا‪..‬‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إنها حلظة‪ ..‬لكنها تنقل القلب من وادي الضياع السحيق ليتعلق بالعرش‪..‬‬
‫إنهــا حلظــة‪ ..‬تنقلــك مــن حضيــض الفشــل إىل قمــة األمــل‪ ،‬ومــن وحشــة‬
‫ُ‬
‫اليــأس إىل بهجــة األنــس‪..‬‬
‫تنشــلك مــن املخــاوف الــي تنهشــك مــن كل جانــب إىل كنــف‬ ‫إنهــا حلظــة‪ِ ..‬‬
‫هللا حيــث األمــان‪..‬‬
‫َ‬
‫إنهــا حلظــة‪ ..‬ظننــت قبلهــا أنــك فقــدت كل يشء‪ ،‬لتكتشــف بعدهــا أنــك‬
‫وجــدت كل يشء‪..‬‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫إنها حلظة‪ ..‬وكأنها صيحة يف مقربة القلب أحيت مواته‪..‬‬

‫ُّ‬
‫فرج‬
‫ٍ‬ ‫ـرج‪،‬‬
‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـة‬
‫ـ‬ ‫حلظ‬ ‫وهللا‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫ه‬ ‫وهي‬ ‫ـر‪،‬‬
‫ـ‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫ـاهلل‬
‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـاهلل‪،‬‬‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـق‬
‫ـ‬ ‫التعل‬ ‫إنهــا حلظــة‬
‫ـرج مــن كربــك بالطريقــة الــي يشــاؤها هللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عــن قلبــك بإحيائــه بعــد مــوات‪ ،‬وفـ ٍ‬
‫ويرضيــك عنها ‪..‬‬‫ُ‬

‫ٌ َّ‬
‫إنهــا حلظــة كلحظــات األنبيـ�اء عليهــم الصالة والســام‪ .‬صحيــح أن حياة‬
‫ُّ‬
‫تعلـ ٌـق بــاهلل‪ ،‬لكـ َّـن هــذا التعلــق كان َّ‬ ‫َّ‬
‫ـص ويصفــو ويتجـ َّـرد‬
‫يتمحـ ُّ‬ ‫األنبي ـ�اء كلهــا‬
‫‪132‬‬

‫ّ‬
‫ويبلــغ الــذروة يف حلظــات فيــأيت الفــرج‪..‬‬
‫ـوب فَ َ‬ ‫كلحظــة نــوح إذ دعــا ربــه { َأن ّــي َم ۡغلُـ ‪ٞ‬‬
‫ٱنت ِصـ ۡـر ‪[ }١٠‬القمــر]‪ ،..‬فأجنــاه هللا ومــن‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫معــه يف الفلــك‪..‬‬
‫ً‬ ‫ـل ُ‬ ‫َ‬
‫هللا النــار بــردا‬ ‫كلحظــة إبراهيــم إذ قــال‪« :‬حســي هللا ونعــم الوكيــل»؛ فجعـ‬
‫ـاما عليــه‪..‬‬ ‫وسـ ً‬
‫َ َّ‬
‫ٱلظٰلِم َ‬ ‫ك إن ّــي ُك ُ‬ ‫َّ ٓ َ َ َّ ٓ َ َ ُ ۡ َ َ َ‬
‫ين ‪}٨٧‬‬ ‫ِ‬ ‫نت ِمــن‬ ‫كلحظــة يـونـــس إذ قـــال‪{ :‬لا إِلٰــه إِلا أنــت ســبحٰن ِِ‬
‫هللا ِمــن الغـ ّـم وأجنــاه مــن بطــن احلــوت‪..‬‬ ‫[األنبيـ�اء] ‪ ،‬فأجنـ ُ‬
‫ـاه ُ‬
‫فنجــاه هللا وقومه‬ ‫ـي ۡهدِين ‪[ }٦٢‬الشــعراء]‪َّ ،‬‬ ‫َّ َ َ‬
‫ـي َرب ّي َسـ َ‬
‫ِ‬ ‫كلحظــة مــوىس إذ قــال‪{ :‬إِن م ِعـ ِ‬
‫مــن حبر أمامــه وعـ ٍّ‬
‫ـدو وراءه ‪..‬‬
‫ُّ ُّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫كلحظـة أيـوب إذ نـادى رب‪{ :‬أنِي مسـنِ َي ٱلضر وأنـت أرحم ٱلر ٰ ِحمِيـن ‪[ }٨٣‬األنبي�اء]‪،‬‬
‫ُ‬
‫هللا مـا به ِمـن ض ٍّر وآتـاه أهله ومثلهـم معهم‪..‬‬ ‫فكشـف ُ‬
‫َ ُ‬ ‫ُّ‬
‫وب مـن‬ ‫بامللـك وباخلـروج الــمش ِ‬ ‫كلحظـة يوسـف إذ خلا قلبـه مـن التعلـق ِ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ َ ٰ َّ َ َ‬
‫ـك ف ۡس َـٔـل ُه} [يوسـف‪ ،]50 :‬فأجنـاه هللا من السـجن‬ ‫السـجن فقـال‪{ :‬ٱر ِ‬
‫جـع إِلـى رب ِ‬
‫ً‬
‫وآتـاه ُملـكا‪..‬‬
‫َّ ۡ ِ َّ‬ ‫َ َ َ ْۡ َ ُ ْ‬
‫ٱللِۖ} [يوســف‪،]87 :‬‬ ‫ـسوا مِن روح‬ ‫كلحظــة يعقــوب إذ قـــــــــال لـــبـنـيــــه‪{ :‬ولا تايـٔـ‬
‫َّ‬
‫فــرد هللا عليــه أبنـ�اءه وبصــره ‪..‬‬
‫ٱلل َم َع َناۖ} [التوبة‪،]40 :‬‬‫كلحظة محمد صلى هللا عليه وسلم إذ قال‪{ :‬لَا َت ۡح َز ۡن إ َّن َّ َ‬
‫ِ‬
‫فأجناه هللا من سيوف املشركني اليت كانت فوق رأسه يف صحراء ال قرابة فيها‬
‫فيدفعون عن رسول هللا وال أتب�اع‪..‬‬

‫إنهــا حلظــة اليــأس مــن املخلوقــن‪ ،‬فــا يبقــى إال الرجــاء يف اخلالــق‪ ،‬فيأيت‬
‫َ َّ ٰٓ َ ۡ َ ۡ َ َ ُّ ُ ُ َ َ ُّ ٓ ْ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ْ َ ٓ َ ُ ۡ َ ۡ َ‬ ‫ً‬
‫ـم نص ُرنا‬
‫الفــرج ســريعا‪{ ..‬حتـى إِذا ٱستيـٔــس ٱلرســل وظنــوا أنهــم قد كذِبــوا جاءهـ‬
‫ـو ِم ٱل ۡ ُم ۡجرمِيـ َ‬
‫ـن ‪[ }١١٠‬يوســف]‪..‬‬ ‫ـر ُّد بَأۡ ُسـ َ‬
‫ـنا َعــن ٱلۡ َقـ ۡ‬ ‫ـي َمــن ن َّ َشــا ٓ ُء ۖ َولَا يُـ َ‬
‫َف ُن ِّجـ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫َّإن فــرج هللا قريــب‪ ..‬قريــب جـ ًّـدا؛ ألنــه ال َ ُيـــــ ُ‬


‫ـول بـيـنـــنا وبين ـ�ه إال هــذه‬
‫‪133‬‬

‫اللحظــة‪ ،‬إنمــا حنــن الذيــن نبتعــد عنــه بالدخــول يف دهالــز األســباب اخلاليــة‬
‫َ َْ‬ ‫َّ ُّ‬
‫عــن هللا والتنقــل بــن َم َر ِات ِعهــا‪ ،‬عــنـــدما نــ ْـستث ِق ُل ‪-‬بضعــف بصائرنــا وقلــة‬
‫صربنــا‪ -‬تبعــات اللجــوء إىل هللا!‬

‫َّ ُّ‬
‫لــذا فالصــر املطلــوب يف البــاء ليــس صــر التجلــد أمــام الهـ ّـم فقــط؛ بــل‬
‫األهـ ُّـم منــه الصــر يف أداء ِتبعــات اللجــوء إىل هللا ســبحانه ‪..‬‬

‫إنهــا حلظــة اليقــن اخلالــص بصــدق هللا‪ ،‬والثقــة املطلقــة بقدرتــه علــى‬
‫َّ‬ ‫ْ ََ‬
‫وشــك أن ُيفتــح‬ ‫ُ‬
‫ـت األســباب‪ ،‬وبــأن مــن لـ ِـزم قــرع البــاب ي ِ‬‫تنجيتنـ�ا مهمــا أمحلـ ِ‬
‫لــه‪ ..‬حلظــة اليقــن بــأن األمــة لــو اجتمعــت علــى أن ينفعــوك بــيء لــن‬
‫ينفعــوك إال بــيء قــد كتب ـ�ه هللا لــك‪..‬‬
‫ِّ‬
‫تنشلك من الدهلزي لتضعك أمام باب الفرج من جديد‪..‬‬ ‫حلظة ِ‬

‫لــذا فــإذا عشــنا هــذه اللحظــة وأيقنــا فعلنــا بأنــه مــا لنــا إال هللا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫إشــهار إفــاس؛ بــل‬
‫ِ‬ ‫فيالســعادتن�ا وهنائنــ�ا وراحــة بالنــا! ولــن تكــون عبــارة‬
‫ً‬
‫إعــان غــى واكتفــاء‪ ..‬ولــن نقولهــا بضعــف وحــزن وخــوف‪ ،‬بــل ســنقولها‬
‫ـزاز واستبشــار؛ ألن مــن لــم يكــن لــه إال هللا فــاهلل حســبه و ِنعــم‬ ‫�ات واعـ ٍ‬ ‫بثب ـ ٍ‬
‫الوكيــل‪ ،‬و ِنعــم املــوىل و ِنعــم النصــر‪ ،‬وحينئــ�ذ عندمــا نضــع رأســنا لننــ�ام‬
‫ـت أمــري إليــك‪ ،»..‬سـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـلمت نفــي إليــك‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ـرجف‬ ‫وفوضـ‬ ‫ونقــول‪« :‬اللهــم أسـ‬
‫ُ‬
‫قلبنـ�ا؛ لكنــه هــذه املــرة َر َجفــان املحبــة هلل واألنــس بــه بعــد طــول غفلــة عنــه‪..‬‬

‫ً‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـخصيا هــذه اللحظــة عندمــا غ ِّي ْبــت عــن أهلــي ظلمــا‪..‬‬‫ً‬ ‫لقــد ِعشــت شـ‬
‫َ‬
‫ـدي أن يصيــب أحدهمــا شـ ٌّـر يف‬ ‫ؤرقــي أثن ـ�اء تغييــي هــذا خــويف علــى والـ َّ‬
‫ِ‬
‫كان ُي ِّ‬
‫قصــرت معهمــا ِمــن قبــل يف تكريــس الوقــت‬ ‫غيــايب‪ ،‬واملشــكلة أنــي كنــت قــد َّ‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫كثــرا مــا كان انشــغايل بالدعــوة وأمــور‬ ‫الكاف َيــن يف إســعادهما‪.‬‬
‫واجلهــد ِ‬
‫‪134‬‬

‫ّ‬
‫نافعــة‪ ،‬لكـ َّـن عــدم االلــزام باألولويــات هــو يف حــد ذاتــه خطــأ ينبغــي لإلنســان‬
‫ُّ‬
‫أن يســتغفر منــه؛ فــاهلل عــز وجــل فــرض علينـ�ا بـ َّـر الوالديــن والتفــن يف ذلــك؛‬
‫ـنا ۚ} [اإلســراء‪ ،]23 :‬فــا ُعــذر لــك يف أن تنشــغل عــن بــر والديــك‬ ‫{ َوبِٱلۡ َوٰل َِديۡــن إ ِ ۡح َ ٰ‬
‫سـ ً‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ََْ‬
‫بأمــور أخــرى هــي محبوبــة هلل عــز وجــل‪ ،‬فالشــيطان قــد يقنــع منــك بــأن‬
‫ُيلهيــك بالــ َـمفضول عــن الفاضــل‪ .‬لذلــك يف تغييــي كانــت تــراودين املخــاوف‬
‫َّأل ُأدرك أحــد والـ َّ‬
‫ـدي أو كليهمــا‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫تعلــق قلــي باألســباب األرضيــة‪ ..‬كان يبـ�دو هنــاك حبــال كثــرة ممــدودة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ســتنجيين مــن بــايئ‪ ،‬لكـ َّـن هــذه احلبــال ق ِّطعــت فجــأة‪ ،‬واألســباب انهــارت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أريض‪ ،‬كل‬ ‫فجــأة‪ ،‬فوجــدت نفــي يف حلظــة مــن اليــأس مــن كل يشء‪ ،‬كل يشء‬
‫ً‬ ‫ُّ ً‬ ‫َّ‬ ‫يشء مـ ّ‬
‫صحيحــا‪..‬‬ ‫ـادي‪ ..‬ويف هــذه اللحظــة تعلــق قلــي بــاهلل عــز وجــل تعلقــا‬

‫تعب عن هذه اللحظة‪..‬‬ ‫كتبت يف أثن�اء تغيييب قصيدة ّ‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـول َأ ْ‬
‫ــفـــ َـو َنـــفس طـــ ُ‬ ‫ُ ِّ َ ْ‬
‫ــــري ويــنــقــــي األ َس ويضـــــيق صدري‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫يكدر ص‬
‫ْ ُ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫لــحـــــــجـــري‬ ‫العـــبـــهــــم‪ ،‬أضمهم ِ‬ ‫ِأحــــــــــن إىل ِعــــــــــيــــايل أن أراهـــــــم أ ِ‬
‫ُ‬
‫ـراض قــــد ُبـلـــــيا بض ِّر‬ ‫َ‬ ‫ويل َأ َبــــــــوان قــــــد بــــلــــغــــا َم ً‬
‫ـشـيب�ا ِمـــــــن األمـــــــ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫ـف ُعـــــــ ْـم ِر‬ ‫ُ‬
‫فـــهــــــذا والـــــــدي مـــضــــى قــــعيد تضاءل ِجســمه بـخـــــريـــ ِ‬
‫وقــــهر‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ــ‬ ‫ـــن َك َ‬
‫ــم‬ ‫ـذوب م ْ‬
‫ـاد تـــــ ُ‬‫ـــــــد مـــــــــا ُأعــــــــاين تــكـــ ُ‬
‫ُ‬
‫ــكــاب‬ ‫ت‬
‫ٌّ ُ‬
‫ولـــــي أم‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ُّ‬
‫ــري َبــالــــــها والــدمــــــــع جيـــري‬ ‫ـايل الــتــاعــــت لــفــقــــــــدي ك ِ‬
‫ــس‬ ‫وأم ِعــيـــ‬
‫قــلــبــــها يف مــثــــل َج ْ‬
‫ـــم ِر‬ ‫ُيـــســـائـــلـــــها صــــــغاري عـن غـيايب فـــيـــغـــــلي ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫لـــريمــــــوين بـــشــــ ِّـر‬ ‫ـحت عند الناس رهـــــ ًـنا قد اجـــتـــهـــــدوا ُ‬ ‫ُ‬
‫وقــــد أصــبـــ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫كأين ِمت قــبــــل بـــــلــــوغ حـــتـــفـــــي فــــــ َـو َار ْو ِن ‪-‬ويب رمـــــــــــق‪ -‬بــقـــربي‬
‫‪bbb‬‬
‫‪135‬‬

‫ُ ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬


‫ِّ‬
‫مـــــــــــر‬ ‫وأحــــســــ ُـب ُه خـــل ِمـــــن كل‬ ‫ِ‬ ‫وإن مـــــا ســــلـــكـــــت ســــبــــــيل ريب‬
‫ومــــفـــــــروشا بـــيـــــاقــــــــــــوت ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ودر‬ ‫ٍ‬ ‫ـورد‬
‫أحــــســـــبه مـــحـــفـــــوفا بـــــ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ولم‬
‫ِّ‬ ‫ُ ََ َ َ‬ ‫ُ‬
‫مـــــتــــــــذمـــــ ٍـر أن جــــــــــاء دوري‬ ‫وال‬ ‫الـــبـــليا‬ ‫ولست جبــــاهــــــ ٍـل ســـــن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بــفـــقر‬
‫ِ‬ ‫ـلى‬ ‫ـ‬ ‫بــــ‬‫أ‬ ‫أن‬ ‫ـاف‬ ‫ـ‬ ‫أخـ‬ ‫ـت‬ ‫ولـــســـــ‬ ‫جـــاه‬
‫ولــســــت أخـــاف ِمــن فـــقدان ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ــــــقر‬
‫على أبــــــوي إن فـــــــــجأت ِبــــع ِ‬ ‫ولـــــكـــــنـــــــي أخـــــــاف ِمن املـــــــنايا‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقــــد َّ‬
‫ـاذ ًرا أبــــــــدا ُبعــــذ ِر‬ ‫ولست مـــــعـــــــــ ِ‬ ‫عـــنـــدهــــما بـحــق‬ ‫قـــصـــــرت‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫اكـــتـــنـــفــا ب ِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ـــياع أمـــري!‬ ‫ِ‬ ‫ض‬ ‫و‬ ‫ـايت‬ ‫ـ‬ ‫مـــ‬ ‫ــد‬ ‫فـــيــــالـــن‬ ‫ـــبي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فـــإن َمـــــاتا ومـــــا‬
‫ــســـ ً‬ ‫َ‬
‫وك ْ‬ ‫ً‬ ‫كـــر ُهم ُجــــ ً‬
‫ســـيــــبقى ذ ُ‬
‫جــــــرب‬
‫ِ‬ ‫ـر‬
‫ـ‬ ‫بغـــــ‬ ‫ـؤاد‬‫ـ‬ ‫الفــــــ‬ ‫يف‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـرحا عمــــيقا‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـــغـــــلت بـــنـــيـــــل فخـــــــــ ِـر‬ ‫ولكين ش ِ‬ ‫وكــنــــت ًأبا ألوالدي ُمـــــــحــــــــــــــ ًّـبا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪bbb‬‬
‫بـــــل اســـتـــقـــبلتـــــهم بكثري زجــــــــ ِـر‬ ‫فلم أغـــــــ ِـدق عــــلــــــيهم ِمن حـــناين‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫قــــلـــــب نـــاظـــــري وأج ُ‬ ‫ُ ِّ‬


‫لعلـ َـي أســـتـــعــــــــن لرفــع جـــــــــــ ْـو ِر‬ ‫ـــــيل ِفكري‬ ‫ِ‬ ‫أ‬
‫َْ َ ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـند لظهري‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ســـ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫فــــــما أ لـــفـــــــي ِ‬
‫ت‬ ‫لـــجــــــأت إىل العـــــــــباد لينـــقـــذوين‬
‫َّ‬ ‫ـوان قد َجهـ ُـدوا َ‬ ‫َ‬
‫ولكن مــــــا اســــتـــــطاعوا فك أســري‬ ‫جلهدي‬ ‫ِ‬ ‫ســــــــوى إخــــ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً َ‬
‫فلم يــــرجــــــع بـــــــما عـــي ُي‬ ‫ــاســــــئا قد َعــــــاد بصري‬ ‫َ‬

‫‪bbb‬‬
‫ـــــــسري‬ ‫ح ِســــــرا خ ِ‬

‫ُ ُ َّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ‬
‫ـيأس َي ْســــــحق كل ِبــــشـــــ ِـر‬
‫وكاد الـــــ ُ‬ ‫ـلما أ ْو َصــــــــــدوا األبــواب دوين‬ ‫فـــــــــ‬
‫وأرجــــــو عندكم جـــــ ً‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫ـرا لــــكــــسـري‬ ‫رب َر ْحــــــــــلي‬‫ـابك ْم يــــــــــا ِّ‬‫أنت ببـــــ‬
‫َّ ُ ْ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ ُ‬
‫ــــر‬
‫ذخــــــرت ملـــثل ِضــــيــــــقي أي ذخ ِ‬ ‫وقد فــــــــــتشت يف عــــــــــملي لــــعلي‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫بــــفــــعــــــل َخــــــــا لص ترضـــــ ُ‬
‫ـفع عندكم يف كش ِف ضـــــ ِّـر‬ ‫فــــيشـــــ َ‬ ‫ـاه ريب‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ولم أقــــــبل عــــــليك ســــــوى ِبوز ِري!‬ ‫ب‬
‫فلم أبــــصــــــر ِســوى صحــــراء جد ٍ‬
‫‪136‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإين نـــــــــ ٌ‬


‫وأنــــــوي تــــــوبة مــــا ِعـــــشت ُعمري‬ ‫ـادم يـــــــــــــا رب حــــــــــــــقا‬
‫ُ ْ َ ُّ َ َ ُ َ ْ‬ ‫ُ َ َ ْ َ‬
‫تكر ًما ونــــشــ ْـرت غد ِري‬ ‫فــــجــــــدت‬ ‫ــــبــــــل هـــــــذا‬‫وإين قد وعــــدتــــــك ق‬
‫ــــعـري‬ ‫ـغت ب ُو ِّد ُكم َنـــــ ْـري وش ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وصـــــ‬ ‫ولــــكــــــي أحــــــــــــــبك يــــــــا إلـــهي‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ ْ‬
‫فــــعــــــادت ِمــن عــــطايـــــاكم ِب ِصف ِر‬ ‫ولم أمــــــــــدد إلــــيــــــك يــــدا إلــــهي‬
‫ـر‬‫ألــــــــــــــ ْـذ إال بــــــــ َ ِّ‬
‫فــــــــــإين لــــــــــم ُ‬ ‫رب ً‬
‫خيـرا‬
‫ُ‬
‫بعــــفوكم يــــــا ِّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬
‫ظــــنــــــنت‬
‫وأســــعـــــ ْـد ُه ُ‬ ‫َ‬
‫بــــيــــســـــ ٍـر بعــد ُعــ ْـس ِر‬ ‫ِ‬ ‫فار َحــــــم ضــــعــــــيفك يـا إلـــــهي‬ ‫أال ْ‬
‫لــــتنـــــ ُـظ َر كيف إحــــســــــاين وب ّ‬ ‫ــــيب‬ ‫ــــش‬ ‫ْ َ‬
‫ـــري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وأرجــــعــــــي إىل أبــــــوي م ِ‬ ‫ِ‬
‫اك إعـــــــــــاين وس ّ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ‬
‫ــــري‬ ‫ِ‬ ‫فــــــا يــــــف‬ ‫ـدق قــويل‬ ‫ِأجــــــبين إن ع ِلمت بــــصـــــ ِ‬
‫ـر‬ ‫ــــــيـــــــفي بــــــــ ِّ‬
‫وأعــــلـــــ ُـم أنــــــه َس َ‬ ‫الــرحــــــمن ُأقسم كل َج ْ‬
‫ــــهــ ِـدي‬ ‫على َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ـوي ًّ‬ ‫أزل عــــــي وعــــــــن أخـــــــــ َّ‬

‫‪bbb‬‬
‫فـــــــجر‬
‫ِ‬ ‫ـوع‬‫وبــــــــــدد لــــيــــــلنا بطلـــــ ِ‬ ‫غــــما‬ ‫ِ‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫ـخصيا هــذه اللحظــة‪ ،‬ولكــن مــا أحــوج العالــم اإلســايم أن‬ ‫لقــد ِعشــت شـ‬
‫يعيشــها!‬
‫مــا أحــوج العالــم اإلســايم اليــوم أن يقطــع األمــل يف كل يشء؛ أن يقطــع‬
‫األمــل يف املخلوقــن‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫مــا أحــوج هــذه الشــعوب حــن ترفــع الشــعارات‪« :‬مــا لنــا إال هللا» أن تــدرك‬
‫ّ‬ ‫ً ً‬
‫معــى هــذا الشــعار؛ فــوهللا لــن آمنت بــه إيمانــا حقــا وقامــت بتبعاتــه وعلقت‬
‫ً‬
‫ومخرجــا‪..‬‬ ‫قلبهــا بــاهلل فحســب‪ ،‬وهللا ليجعلـ َّـن هللا لهــا ً‬
‫فرجــا‬

‫ّ‬
‫يــا مســلمون‪ ..‬يــا مســلمون‪ ..‬توكلــوا علــى ربكــم‪ ،‬علقــوا قلوبكــم برحمتــه‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫باملخلوقــن‪ ،‬ال تلجــأوا إىل غــر ربكــم ســبحانه وتعــاىل‪ ،‬اصدقــوا‬
‫ِ‬ ‫تعلقــوا قلوبكــم‬
‫يف اللجــوء إىل هللا‪ ،‬اطرحــوا أنفســكم علــى عتب�اتــه ســبحانه‪..‬‬
‫‪137‬‬

‫َ ُ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ُ ۡ ُ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ ُ ۡ َ‬
‫نص ُركــم ّ ِم ـ ۢن‬ ‫ـم ف َمــن ذا ٱل ـذِي ي‬
‫{إِن ينصركــم ٱلل فــلا غالِــب لكــمۖ وِإن يخذلكـ‬
‫َب ۡعــ ِدهِۗۦ} [آل عمــران‪..]160 :‬‬

‫وهللا تعاىل أعلم وأحكم‪..‬‬


‫وصلى هللا على نبين�ا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪..‬‬
‫‪138‬‬

‫عالقة خاصة مع هللا تعالى‬

‫أمــرا مســتبعد احلصــول‪ ،‬فــإن‬‫عندمــا نمــر بظــرف صعــب‪ ،‬أو نتمــى ً‬


‫هنــاك تفكــرا جيعــل أملنــا يف حتقيــق مــا ندعــو بــه ضعيفــا‪ ،‬فندعــو هللا بفتــور‪.‬‬
‫هــذا التفكــر هــو‪( :‬كثــرون غــري مــروا بظــرف مشــابه‪ ،‬وأراهــم خــرا مــي‪،‬‬
‫وقــد دعــوا هللا فلــم َيســتجب لهــم‪ .‬فــا يتوقــع أن يســتجيب يل مــن بــاب‬
‫أوىل)‪.‬‬

‫إخــواين‪ ،‬دعــوين أشــارككم اجلــواب الــذي أجبــت بــه نفــي عــن هــذا‬
‫ً‬
‫عظيمــا يف عالقــي بــاهلل تعــاىل‪ ،‬وأحســب أنــه مــن‬ ‫الســؤال‪ ،‬ووجــدت لــه أثـ ًـرا‬
‫األســباب العظيمــة الســتجابة الدعــاء‪.‬‬

‫اجلــواب‪( :‬انظــر إىل عالقتــك بــاهلل تعــاىل كعالقــة خاصــة ال تت�أثــر بمــا‬
‫حيصــل مــع اآلخريــن)‪ .‬قــد يكــون كثــرون غــرك وقعــوا يف مثــل بالئــك بــل‬
‫ـرا‪ ،‬ومــع أنهــم أحســن منــك‬ ‫أشــد‪ ،‬ولــم ُيرفــع عنهــم‪ ،‬مــع أنهــم دعــوا هللا كثـ ً‬
‫ُ‬
‫وطمــع يف كــرم هللا وال‬
‫ٍ‬ ‫بيقــن‬
‫ٍ‬ ‫ادع‬ ‫عبــادة وأكــر تقــوى‪ .‬ال عالقــة لــك أنــت‪.‬‬
‫تقــارن بغــرك‪.‬‬

‫ما األدلة على هذا؟‬

‫‪ .1‬املقارنــة باآلخريــن (غــري أفضــل ولــم ُيرفــع بــاؤه فمــن بــاب أوىل أنــا) هــي‬
‫َ‬ ‫َّ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ َ َ ٓ ُ َ ۡ‬
‫ـاب‬
‫ـر حِسـ ٍ‬ ‫نــوع مــن احلســاب‪ .‬وهللا تعــاىل يقــول‪{ :‬إِن ٱلل يــرزق مــن يشــاء بِغيـ ِ‬
‫‪[ }٣٧‬آل عمــران‪..]37 :‬فتفريــج الكربــات وحتقيــق األمنيــ�ات وكل أشــكال‬
‫األرزاق مــن اخلــاق ال ختضــع حلســاب‪.‬‬
‫قــال ابــن عاشــور يف تفســره (التحريــر والتنويــر)‪( :‬واحلســاب يف قولــه‪( :‬بغــر‬
‫‪139‬‬

‫ّ‬
‫حســاب) بمعــى احلصــر ألن احلســاب يقتــي حصــر الــيء املحســوب‬
‫ّ‬
‫حبيــث ال يزيــد وال ينقــص ‪ ،‬فاملعــى إن هللا يــرزق مــن يريــد رزقــه بمــا ال يعــرف‬
‫مقــداره ألنــه موكــول إىل فضــل هللا)‪.‬‬
‫ٓ‬
‫ٱللِ يُ ۡؤتِيهِ َمن ي َ َشــا ُء ۗ َو َّ ُ‬
‫ٱلل َو ٰ ِسـ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬
‫ُ ۡ َّ َ ۡ َ‬
‫ـع‬ ‫‪ -‬تـأمــــل قــــول هللا تــــعاىل‪{ :‬قــل إِن ٱلفضــل ب ِ َيـ ِد‬
‫ۡ‬ ‫َ َ ٓ ُ َ َّ ُ ُ ۡ َ ۡ‬ ‫َ ۡ َ ُّ َ ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ـل ٱل َع ِظيــ ِم ‪[ }٧٤‬آل عمــران‪:‬‬ ‫َ‬
‫عل ِيــم ‪ ٧٣‬يختــص بِرحمتِــهِۦ مــن يشــاء ۗ وٱلل ذو ٱلفضـ ِ‬
‫‪ٞ‬‬
‫‪..]74،73‬‬

‫‪ .2‬ويشــهد ملعــى العالقــة اخلاصــة حديــث رواه البخــاري قــال فيــه نبينــ�ا‬
‫ََ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َُ‬
‫كمثـ ِـل رجـ ٍـل‬ ‫ـود والنصــارى‪،‬‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم‪ ...( :‬ومثلكــم ومثــل اليهـ ِ‬
‫َ‬ ‫عمـ ُ‬‫ـال‪ ،‬فقــال‪َ :‬مــن َي َ‬ ‫َ َ ُ َّ ً‬
‫ـت‬ ‫فعملـ ِ‬‫ـراط‪ِ ،‬‬
‫ـار علــى قـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫النه‬ ‫ـف‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫نص‬ ‫إىل‬ ‫يل‬ ‫ـل‬ ‫اســتعمل عمـ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـت النصارى‪،‬‬ ‫فعملـ ِ‬ ‫ـار إىل العصـ ِـر‪ِ ،‬‬ ‫ـف النهـ ِ‬ ‫اليهــود‪ ،‬فقــال‪ :‬مــن يعمــل يل مــن نصـ ِ‬
‫بقرياطــن َ‬ ‫َ‬ ‫ـون مـ َـن العصــر إىل َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ـن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬‫قرياط‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ـر‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫غ‬ ‫الم‬ ‫ِ‬ ‫ثــم أنتــم (املســلمون) تعملـ‬
‫قـــالوا (اليهــــود والنصــارى ‪-‬مــن مــات علــى التوحيــد منهــم قبل بعثــة النيب)‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ـل َعطـ ً‬ ‫ُّ‬ ‫َُ ً‬
‫ـاء؟!)‪ ،‬قــال‪( :‬هــل ظلمتكــم مــن حقكــم؟) قالــوا‪:‬‬ ‫ـر عمــا وأقـ‬ ‫(حنــن أكـ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(ال)‪ ،‬قــال‪( :‬فــذاك فضلــي أوتي ـ�ه مــن شــئت)‪.‬‬

‫ً‬
‫محــل الشــاهد أن هللا ال يظلــم أحــدا‪ ،‬بــل يعطــي كل محســن أكــر ممــا‬
‫ٌ‬ ‫يســتحق‪ ،‬لكنــه قــد خيتــار ً‬
‫أناســا لفضـ ٍـل زائـ ٍـد‪ .‬الحــظ أن اســمه (فضــل) وليــس‬
‫ًّ‬
‫حقــا ً‬
‫واجبــا عليــه ســبحانه‪ .‬فللمســلم أن يرجــو أن يكــون مــن الذيــن اختصهــم‬
‫هللا تعــاىل بمزيــد فضــل‪.‬‬

‫أيها الكرام‪:‬‬
‫‪ -‬مـن مقاصـد الديـن تطميـع العبـد يف رحمـة هللا وتكويـن رجـاء عظيـم يف‬
‫عطائـه‪ .‬واملقارنـة املذكـورة مع االسـتجابة لآلخرين تن�ايف هـذا املقصد اجلليل‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬وإذا كانــت املقارنــة املذكــورة صحيحــة‪ ،‬فعلــى مــاذا الدعــاء إذا؟! ســأنظر إىل‬
‫‪140‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫غــري فأقــارن فيكــون الــرد جاهــزا‪( :‬لــم يقــق لهــم مــا دعــوا له فلــن ُيـــحقق يل)‬
‫فتتعطــل عبوديــة الدعــاء يف كثــر مــن احلــاالت‪.‬‬
‫‪ -‬انظــر إىل بــاء اآلخريــن لتصــر كمــا يصــرون طالمــا أنــك يف بالئــك‪ .‬لكــن ال‬
‫يصــح أن ترهــن التفريــج عنــك بالتفريــج عنهــم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لكــن أتعلمــون مــاذا حيصــل؟ أحيانــا ننتظــر الفــرج علــى غرينــا ألنن ـ�ا حنــس‬
‫ً‬
‫أن يف ذلــك «إثب�اتــا لرحمــة هللا» واســتجابت�ه للدعــاء! مــع أن أدلــة الرحمــة‬
‫واالســتجابة متت�ابعــة ال حيدهــا حــد لــوال النســيان وقلــة التأمــل‪.‬‬
‫‪ -‬إن الذيــن تراهــم خـ ً‬
‫ـرا منــك قــد ال حيقــق هللا لهــم مــا طلبــوه مــن رفــع البــاء‬
‫مثــا ألنهــم خــر منــك! فيدخــر لهــم دعاءهــم محــو ســيئ�ات ورفــع درجــات‪،‬‬
‫ألنــه ســبحانه يعلــم أن إيمانهــم يتحمــل‪ ،‬ويرزقهــم ســبحانه مــع ذلــك الرضــا‬
‫بقضائــه ونعيمــا لقلوبهــم‪ ،‬ويكــون بذلــك قــد اســتجاب دعاءهــم بمــا هــو‬
‫ً‬
‫أنفــع لهــم ممــا طلبــوه يف احلقيقــة‪ ،‬بينمــا قــد يعلــم ســبحانه أن فيــك ضعفــا‬
‫(عــودك طــري) فريحــم ضعفــك‪ ،‬ويجعــل اســتجابة دعائــك برفــع البــاء‪.‬‬

‫جميعــا‪ ،‬ادع هللا بيقــن‪ ،‬واجعــل عالقتــك بــه ســبحانه‬ ‫ً‬ ‫ألجــل مــا ســبق‬
‫خاصــة‪ ،‬واطمــع يف أن تكــون مــن أهــل احلظــوة عنــده‪ ،‬كأنــك تقــول‪( :‬يــا رب‪،‬‬
‫أنــا ال شــأن يل بفــان وفــان ممــن لــم ُيرفــع بالؤهــم‪ ،‬أنــت أرحــم بهــم وأعلــم بما‬
‫ـرب كريــم ال حــد لعطائــه‪ ،‬وال رب يل‬‫يصلحهــم‪ .‬مــا أعلمــه أنــا هــو أنــي عبــد لـ ٍّ‬
‫ســواه فأرجــوه‪ ،‬يــرزق مــن يشــاء بغــر حســاب‪ ،‬فاســتجب يــا كريــم)‪.‬‬
‫‪141‬‬

‫إبهاجا بإذن هللا!‬


‫ً‬ ‫سوف تراهما بمنظر أكثر‬

‫كتبت هذه اخلاطرة عام ‪ 1431‬هجري‪ 2010 ،‬م‪:‬‬

‫َ َ‬
‫بــدأت محنــي احلاليــة يف البعــد عن عائلــي عندمــا كان عمــر التوأ َمتني‬
‫مــن أطفــايل (لــن وجلــن) خمســة أشــهر‪ ..‬وال زالــت إلحداهمــا صــورة عالقــة‬
‫بذهــي؛ كنــت أضعهــا علــى ظهرهــا علــى األرض فتنقلــب علــى بطنهــا ثــم‬
‫ترفــع صدرهــا بي�دهــا‪ ..‬فــإذا التقــت عينــ�اي بعينيهــا ابتســمت ابتســامة‬
‫االنتصــار ورأســها يهــز لثقلــه علــى جســمها الصغــر!‬

‫مبهجــا يف حين ـ�ه فقــد أصبــح ً‬


‫مؤلمــا يل اآلن‬ ‫ً‬ ‫بقــدر مــا كان هــذا املنظــر‬
‫وأنــا يف الغربــة بعيــد عــن أوالدي‪ ،‬أتمــى أن أرى الصغريتــن وهمــا تكــران‬
‫يومــا بعــد يــوم‪ ،‬أن أرى تطــور حركاتهمــا مرحلــة مرحلــة؛ تتقلبــان ثــم حتبــوان‬ ‫ً‬
‫ثــم تمشــيان وهمــا تمســكان بأطــراف األثــاث ثــم تمشــيان مســافات قصــرة‬
‫َْ‬ ‫َْ‬
‫خبطــوات ســريعة ُمنت ِشـ َـيتي بتشــجيع احلاضريــن‪ ..‬هــذه املرحلــة تمــر اآلن‬
‫ً‬
‫وأنــا بعيــد عنهمــا‪ ،‬فاقــدا بذلــك متعــة لــن تعــود!‬

‫ـؤلم يف ِح ِّس‪ ..‬إىل أن قلــت لنفيس‪( :‬ال حتزن‪،‬‬ ‫كان لهــذا التفكري وخـــ ٌـز مــ ٌ‬
‫َ ُّ َ ٓ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ ٗ ّ ۡ َ ٓ‬ ‫ســوف تراهمــا بمبلــغ أكــر ً‬
‫إبهاجــا بــإذن هللا)! { َع َسـ ٰ‬
‫ـى ربنــا أن يبدِلنا خيــرا مِنها‬
‫َّ ٓ َ ٰ َ ّ َ َ ٰ ُ َ‬
‫ـون ‪[ }٣٢‬القلــم‪..]32 :‬‬‫إِنــا إِلــى ربِنا رغِبـ‬

‫َ‬
‫قلــت لنفــي‪ :‬مــاذا تســتفيد إن عايشــت تطــورات حــركات ابنتيــك‬
‫هاتــن حــى كربتــا وقاربتـ�ا ســن التكليــف‪ ،‬ثــم إذا بهمــا تفاجئانــك بالنفــور مــن‬
‫ً‬
‫ارتــداء احلجــاب مثــا؟! أي ذكــرى جميلــة تبقــى حينئـ�ذ إن كانــت ابنتـ�اك مــن‬
‫صلبــك ترفضــان شــعائر ديــن تضــي أنــت مــن أجلــه؟!‬
‫‪142‬‬

‫ارج هللا تعــاىل الــذي ابتليــت يف ســبيله أن يعوضــك ال يف اآلخــرة‬ ‫ُ‬


‫فحســب‪ ،‬بــل ويف الدنيــ�ا كذلــك‪ ،‬بــأن تــرى ابنتيــك هاتــن تســعيان حنــوك‬
‫يومــا وقــد ارتديت ـ�ا احلجــاب مــن تلقــاء نفســهما اســتعدادا للخــروج معــك يف‬ ‫ً‬
‫ـأت عين�اهمــا سـ ً‬ ‫ْ‬
‫ـرورا بمــا فعلتــا‪ ،‬وارتســمت علــى وجهيهمــا‬ ‫مشــوار‪ ،‬وقــد امتـ‬
‫الربيئــن ابتســامة رضــا‪ ..‬ســيكون حينئ ـ�ذ منظــر أجمــل وأنقــى وأبهــى وأكــر‬
‫فقدتـ ُـه ببعــدك عنهمــا {إن َي ۡعلَـ ِم َّ ُ‬ ‫َ‬
‫ٱلل‬ ‫ِ‬ ‫إشــاعة للبهجــة يف نفســك مــن أي منظــر‬
‫ـم} [األنفــال‪..]70 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ـم َخ ۡي ٗرا ّم َِّمــا ٓ أُخِذ مِنكـ ۡ‬
‫ـم َو َيغفِـ ۡ‬
‫ـر لكـ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ َۡ ٗ ُۡ ُ‬
‫ِكـ ۡ‬ ‫ُُ‬
‫فِــي قلوبِكــم خيــرا يؤت‬
‫ۚ‬

‫كثــرا مــا نتحســر علــى نعــم نفقدهــا أو مــراحــــل مــــن حــــياتن�ا ال‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫نعيشــها كمــا نتمــى ألنن ـ�ا نعتقــد أنهــا ال تعـ َّـوض‪ .‬أحســن الظــن بربــك يــا أيخ‬
‫وارجــه أن يعوضــك خبــر ممــا فقــدت‪ .‬وتذكــر يف الوقــت ذاتــه أن هــذه الدني ـ�ا‬
‫أهــون مــن أن حتــرص علــى التمتــع بــكل مباحاتهــا‪ ..‬قــال رســول هللا صلــى هللا‬
‫ـاب قــوس أحدكــم يف اجلنــة أو موضــع قيــد – أي ‪ :‬ســوط‬ ‫عليــه وســلم‪(( :‬و َل َقـ ُ‬
‫– خــر مــن الدني ـ�ا ومــا فيهــا))!‪..‬‬

‫فحســرتن�ا علــى فــوات متــاع دنيــوي أكــر مــن فــوات فــرص عظيمــة‬
‫للفــوز باجلنــة‪ ..‬إن هــذه احلســرة داللــة علــى غفلــة منــا جيــب علين�ا أن نســتيح‬
‫منهــا ونســعى إىل تداركهــا‪.‬‬

‫إن احلــرص علــى التمتــع بــكل حلظــة مــن حلظــات الدني ـ�ا متوقــع ال‬
‫منــك أنــت أيهــا املؤمــن‪ ،‬بــل ممــن ال يؤمــن حبيــاة آخــرة‪ ،‬فهــو يتحســر علــى مــا‬
‫يفــوت منهــا ألنهــا كل يشء يف نظــره‪.‬‬

‫َ ِّ ْ‬
‫ف َعلـق نفسـك يـا أيخ بنعـم اآلخـرة‪ ،‬وال توسـوس لـك نفسـك بـأن يف‬
‫الدنيـ�ا ً‬
‫متعـا تفـوت دون أن يكـون لهـا تعويـض من جنسـها يف اآلخرة‪ ..‬ألسـت‬
‫‪143‬‬

‫إن دخلـت اجلنـة كان بإمكانـك أن تطلـب إعـادة مـا فاتـك مـن نعيـم الدنيـ�ا؟‬
‫فاعل! فـإن ً‬‫ً‬ ‫َ ُ َّ َ َ ٓ ُ َ‬
‫نعيما‬ ‫ِنـد َر ّب ِ ِه ۡ ۚم} [الزمـر‪ ..]34 :‬لكـن ما أظنـك‬
‫ون ع َ‬ ‫بلـى {لهـم ما يشـاء‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِنـدهُ ٓۥ أ ۡج ٌر ع ِظ ‪ٞ‬‬ ‫َّ‬
‫ٱلل ع َ‬ ‫َّ‬
‫وصفـه العظيـم بأنـه عظيم {إن َ‬
‫يم ‪[ }٢٢‬التوبة]‪ ..‬سيشـغلك‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫متـاع فـات يف دنيـ�ا ال تـزن عنـد هللا جنـاح بعوضـة !‬ ‫عـن ٍ‬

‫فلتطب نفسك بالتضحية يف سبي�ل هللا‪.‬‬


‫ِ‬

‫مالحظــة‪ :‬مــرت الســنوات ولبســت أختهمــا ســارة احلجــاب مــن نفســها وهــي‬
‫طفلــة‪ ،‬ثــم توفيــت خباتمــة حســنة واحلمــد هلل‪.‬‬
‫‪144‬‬

‫عجل أنت بالفرج على نفسك!‬


‫ّ‬

‫إن بدايــة احلــل ملشــكلتك واخلــروج مــن أزمتــك أن تعــرف أنهــا مــا‬
‫ُ‬ ‫َ َ ٓ َ َ َ ُ ّ ُّ َ َ َ َ َ َ ۡ َ‬
‫ِيكـ ۡ‬
‫ـم‬ ‫ت أيۡد‬ ‫أصابتــك إال بذنــب منــك ‪{ :‬ومــا أصٰبكــم ِمــن م ِصيبـةٖ فبِمــا كســب‬
‫َ‬ ‫َّ ۡ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ َ‬ ‫َ‬ ‫َو َي ۡع ُفــوا ْ َ‬
‫ـكۚ}‬ ‫ـر ‪[ }٣٠‬الشــورى‪َ { ،]30 :‬و َمــا أ َصابَــك ِمــن َســي ِ َئةٖ ف ِمــن نف ِ‬
‫سـ‬ ‫ٖ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ث‬ ‫ك‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫ع‬
‫َ َ َ َّ ٓ َ َ ٰ َ ۡ ُ ُّ َ ‪ۡ ُ َ ٰ َ ٰ َّ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ۡ َ ۡ ّ ُ ۡ َ َ ۡ َ ٞ‬‬
‫[النســاء‪{ ، ]79 :‬أولمــا أصبتكــم م ِصيبــة قــد أصبتــم مِثليهــا قلتــم أنــى هــذاۖ قــل‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُه َ‬
‫ِــك ۡمۗ} [آل عمــران‪..]165 :‬‬‫ِــن عِنــ ِد أنفس‬‫ــو م ۡ‬

‫لــذا فــإن هللا تعــاىل حيــب منــك حينئــ�ذ أن تبــ�ادر بتصويــب أوضاعــك‬
‫ۡ َ ۡ َ ٓ َ َّ َّ ٓ َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ََ َ َۡ‬
‫ــون ‪}٤٢‬‬‫وبالعــودة إليــه تعــاىل‪{ :‬فأخذنٰ ُهــم بِٱلبأســا ِء وٱلضــرا ِء لعلهــم يتضرع‬
‫[األنعــام‪.]42 :‬‬

‫إن عامــة النــاس ال يتفاعلــون مــع البــاء كمــا حيــب هللا تعــاىل ‪ .‬لــذا تــرى‬
‫ًّ‬
‫أن القــرآن يصــف يف مواضــع كثــرة جــدا ســوء تفاعــل النــاس مــع البــاء‪:‬‬

‫ۡ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ََ َۡٓ ۡ َٓ ُ‬
‫كن‬ ‫ـولا إِذ جا َءهــم بَأ ُســنا تض َّرعــوا َول ٰ ِ‬ ‫‪ -‬فمنهــم مــن ال يتفاعــل وال يســتفيد‪{ :‬فلـ‬
‫َ‬
‫ـون ‪[ }٤٣‬األنعــام‪َ { ،]43:‬ول َقـ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ۡ ُ ُ ُ ُ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ‬
‫ـد‬ ‫ـي َطٰ ُن َمــا كانــوا َي ۡع َملـ‬
‫ٱلشـ ۡ‬ ‫قســت قلوبهــم وزيــن لهــم‬
‫َََ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ُ ْ َ ّ ۡ َ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫أَ َخ ۡذ َنٰ ُ‬
‫اب فما ٱســتكانوا ل ِرب ِ ِهــم ومــا يتضرعــون ‪[ }٧٦‬الـمـؤمــنــــون‪{ ..]76 :‬أولا‬ ‫ِ‬ ‫ـذ‬‫ـ‬‫ع‬ ‫ٱل‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ـم‬
‫ـ‬ ‫ه‬
‫َّ َّ ً َ ۡ َ َّ َ ۡ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ُ ۡ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َ ۡ َ َ َّ ُ ۡ ُ ۡ َ ُ َ‬
‫ـن ثــم لا يتوبــون ولا هــم يذكــرون‬ ‫يــرون أنهــم يفتنــون فِــي ك ِل عــا ٖم مــرة أو مرتيـ ِ‬
‫‪[ }١٢٦‬التوبــة‪.]126 :‬‬

‫ـن ِمــن ُدعَــا ٓ ِء ٱلۡخَ ۡيــر َوِإن َّم َّسـ ُ‬


‫ـه‬ ‫نسـ ُ‬
‫ٰ‬ ‫َّ َ ۡ َ ٔ ُ ۡ َ‬
‫ومنهــم مــن ييـ�أس ويقنــط ‪{ :‬لا يســـم ٱل ِإ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ـت أيۡدِيهـ ۡ‬ ‫ـي َئُۢة ب َمــا قَ َّد َمـ ۡ‬‫َ ُ ُۡ ۡ َ ّ‬ ‫َّ ُّ َ َ ُ ‪ٞ ُ َ ٞ‬‬
‫ـم‬ ‫ِ‬ ‫ٱلشــر فيـٔــوس قنــوط ‪[ }٤٩‬فصلــت‪{ ،] 49:‬وِإن ت ِصبهــم سـ ِ ِ‬
‫َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ۡ ۡ‬
‫ـوسا ‪[ }٨٣‬اإلســراء‪.]83:‬‬ ‫ان يَ ُـٔـ ٗ‬ ‫ـم َيق َن ُطــون ‪[ }٣٦‬الــروم‪{ ،]36 :‬وِإذا مســه ٱلشــر ك‬
‫إِذا هـ‬
‫‪145‬‬

‫ۡ َ َّ‬ ‫َ ُ ۡ ُ ۡ َ ّ َ َ َ َّ َ ۡ َ‬ ‫ً‬
‫ـم فـإِن‬ ‫ـت أيۡدِي ِهـ‬‫‪ -‬بــل ومنهــم مــن يــزداد كفرانــا! ‪{ :‬وِإن ت ِصبهــم ســيِئُۢة بِمــا قدمـ‬
‫ٗ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ّٗ َّ َ ُّ ْ‬ ‫ََ ۡ َ ۡ‬ ‫ۡ َٰ َ َُ‬
‫ـرا لظلــوا ِمـ ۢن‬ ‫ـن أ ۡر َســل َنا رِيحــا فــرأوه مصفـ‬
‫ـن كفــور‪[ }٤٨ ٞ‬الشــورى‪{ ،]48 :‬ولئِـ‬‫ٱل ِإنسـ‬
‫َ ۡ ُ ُ َ‬
‫َب ۡعـ ِده ِۦ يكفــرون ‪[ }٥١‬الــروم‪.]51 :‬‬

‫ً‬
‫عجبــا ألمــرك أيهــا اإلنســان ! إن هــذا الرتكــز القــرآين علــى ظاهــرة ســوء‬
‫ً‬
‫التفاعــل يســتدعي منــا وقفــة وتأمــا‪..‬‬

‫إننـ�ا قــد نمــي أوقاتنـ�ا وحنــن نت�أفــف مــن البــاء ونتمــى لــو لــم حيــل بنـ�ا‬
‫َ‬
‫ونتصــور ســعادتن�ا لــو لــم جيــر مــا جــرى‪ ،‬ونتلقــط األنبـ�اء مــن هنــا وهنــاك بأيــة‬
‫بــادرة انفــراج‪ ،‬ونطــرق األبــواب األرضيــة ونب�الــغ يف األخــذ باألســباب الماديــة‬
‫للتخلــص مــن البــاء‪ ..‬إىل حــد يصبــح فيــه التفكــر بالبــاء كابــوس يقظــة‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ووسواســا ال ينفــك عــن أذهانن ـ�ا‪ ..‬ولكــن هــذا كلــه ال يزيدنــا إال دورانــا‬ ‫ومنـ ٍ‬
‫ـام‬
‫يف حلقــة مفرغــة‪ ،‬وســتتولد لدين ـ�ا مصيب ـ�ة جديــدة‪ ،‬هــي أنن ـ�ا لــم نســتفد مــن‬
‫البــاء ولــم نتفاعــل معــه كمــا حيــب هللا تعــاىل بــأن نصــوب أوضاعنــا ونعــود‬
‫إليــه ســبحانه‪.‬‬

‫ُّ ً‬ ‫قــد يكــون البــاء ً‬


‫تغيظــا مــن‬ ‫ظلمــا وقــع عليــك‪ ،‬فتمــي األوقــات‬
‫ظاملك‪ ..‬لكن مــــن احلـكـمـــة أن تــــدرك أن هـــــذا مــــا ســلــــط عليك إال بذنب‬
‫ك ۡ‬ ‫َ َ ۡ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ َ ُ ُّ ُ‬
‫ــم‬ ‫منــك‪ ،‬فمــا هــو إال أداة لقــدر هللا تعــاىل‪{ ..‬وِإن تصبِــروا وتتقــوا لا يضر‬
‫َك ۡي ُد ُهـ ۡ‬
‫ـم َش ۡي ًـٔــاۗ} [آل عمــران‪ ..]120 :‬فينبغــي لــك‪ ،‬مــع مدافعــة هــذا الظلم والســعي‬
‫ً‬
‫يف حتصيــل حقــك بــكل ســبب شــرعه هللا‪ ،‬أن تســعى أيضــا يف التخلــص مــن‬
‫راجيــا أن يكــف هللا األذى عنــك‪.‬‬ ‫ذنبــك ً‬

‫إن نــزل بــك بــاء فبــادر ً‬


‫فــورا بكتابــة قائمــة بأخطائــك الــي حتتــاج إىل‬
‫تصويــب‪ ،‬وابــدأ بالتخلــص منهــا وقــد وضعــت نصــب عينيــك أن تفعــل ذلــك‬
‫‪146‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫تعظيمــا حلــق هللا أول‪ ،‬ثــم لينظــر إليــك تعــاىل نظــرة رحمــة ويرفــع عنــك‬
‫البــاء‪ .‬والحــظ يف حتديــد أخطائــك أن البــاء قــد يكــون مــن جنــس املعصيــة‪،‬‬
‫فمــن قصــد لــذة ال يرتضيهــا هللا فقــد حيــرم الوجــه احلــال منهــا‪:‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬فــإذا ابتليــت مثــا بمشــاكل مــع زوجتــك ففكــر ‪ :‬لعلــك أردت ترطيــب‬
‫حياتــك بالتهــاون يف التعامــل مــع نســاء مــن غــر محارمــك بممازحتهــن أو‬
‫احلديــث معهــن خــارج حــدود احلاجــة وغــض البصــر‪ ،‬فحرمــت متعــة الوئــام‬
‫الــزويج النقيــة املباحــة‪.‬‬

‫ُ‬
‫‪ -‬إذا ابتليــت بفقــد يشء مــن مالــك أو بقلــة الربكــة فيــه فتذكــر ‪ :‬هــل تهاونــت‬
‫بإدخــال مــال مشــبوه إىل مالــك؟ هــل قصــرت يف صلــة أمــك بمــال تبهجهــا‬
‫وتوســع عليهــا بــه؟‬

‫ُ‬
‫‪ -‬إذا ابتليــت بســجن فتفكــر ‪ :‬هــل لديــك والــد مريــض محبــوس يف جســمه‬
‫ال يســتطيع احلــراك فمــا كانــت تســري عنــه بتنقيلــه يف بيتــ�ه وخارجــه‬
‫وماكنــت تؤانســه باحلديــث معــه لتذهــب عنــه الوحشــة‪ ،‬فابتليــت بوحشــة‬
‫كوحشــته؟!‬

‫ُ‬
‫‪ -‬إذا ابتليــت بفقــد وظيفتــك فتذكــر ‪ :‬لعلــك كنــت ال ختشــع يف صالتــك‪ ،‬بــل‬
‫تمضيهــا وأنــت تفكــر يف وظيفتــك ومشــاكلها وإرضــاء املديــر و أنــت بــن يــدي‬
‫هللا تعــاىل!‬

‫‪ -‬لعلــك أيتهــا الزوجــة املبتــلاة بــزوج ال يراعــي حقــك‪ ..‬لعلــك رأيت ـ�ه مقصـ ًـرا‬
‫يف حــق هللا فلــم تنصحيــه ولــم تعينيـ�ه علــى إرضــاء ربــه‪ ،‬فلــم يوفقــه هللا ألداء‬
‫حقــك عليــه!‬
‫‪147‬‬

‫أيهــا املبتلــى! واجــه احلقيقــة وإن كانــت مــرة! البــد مــن ذنــب جــر عليــك‬
‫البــــــاء‪ ،‬فحــــــدده وختلــص منــه بســرعة‪ ،‬وبذلــك تنجــح أنــت –بــإذن هللا‪ -‬يف‬
‫قلــب املحنــة يف دنيـ�اك إىل منحــة يف دينــك‪ ،‬وينطبــق عليــك قــول النــي صلــى‬
‫(عجبــا ألمــر املؤمــن‪ ،‬إن أمــره كلــه لــه خــر‪ ،‬وليــس ذلــك‬ ‫ً‬ ‫هللا عليــه وســلم ‪:‬‬
‫ألحـ ٍـد إال للمؤمــن)‪ ..‬ويــرىج لــك حينئــ ٍـذ أن يأتيــك الفــرج‪ ،‬ألنــك بعودتــك إىل‬ ‫َ‬
‫ۡ‬ ‫َّ َ َ ۡ َ َّ ُ َ ۡ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫ـهۥ مخ َر ٗجــا ‪َ ٢‬و َي ۡر ُزق ُه‬ ‫هللا قــد اتقيتـ�ه‪ ،‬وهللا تعــاىل يقــول‪{ :‬ومــن يتـ ِ‬
‫ـق ٱلل يجعــل لـ‬
‫ـث لَا َي ۡحتَ ِ ُ‬
‫ـب} [الطــاق‪.]3،2 :‬‬ ‫ۡ َۡ ُ‬
‫ِمــن حيـ‬
‫سـ ۚ‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫حينئـــذ‬
‫ٍ‬ ‫أمــا إن كنــت بطيئــ�ا ضعيفــا يف تصويــب أوضاعــك فتذكــر‬
‫ً‬
‫أن املعلــم إن رأى مــن التلميــذ ُبطئــا يف تعلــم الــدرس فإنــه قــد يزيــد عــدد‬
‫احلصــص‪ ..‬وهلل املثــل األعلــى‪.‬‬

‫قـد يأتيـك الفـرج بـزوال مـا آملـك وأهمـك‪ ،‬وقـد يأتيـك الفـرج بـأن يبقـى‬
‫ً‬
‫البلاء ولكـن تـرى معيـة هللا لـك فيـه‪ ،‬وإينـ�اس قلبـك بعد وحشـة‪ ،‬وثب�اتـا بعد‬
‫ً‬
‫ووجوهـا مـن اخلري العظيـم يف دينك ودنيـ�اك ً‬
‫خريا لك مـن زوال البالء‪.‬‬ ‫اهتزاز‪،‬‬

‫لــذا‪ ،‬تذكــر وأنــت حتــدد أخطــاءك وتب ـ�دأ بعالجهــا أنــك تريــد التخلــص‬
‫منهــا مــدى احليــاة بغــض النظــر انفــرج كربــك أم لــم ينفــرج‪ ،‬وإال لــم تكــن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قاطعــا ألخيــك وتبتلــى بالفقــر‪،‬‬ ‫صادقــا يف نيـ�ة التوبــة إىل هللا تعــاىل‪ .‬قــد تكــون‬
‫فتتــودد إىل هللا تعــاىل وتصــل أخــاك مــن جديــد‪ ..‬ومــع ذلــك قــد يبتليــك هللا‬
‫باســتمرار فقــرك واشــتداده‪ ..‬فهــل أنــت حينئــ ٍـذ عائــد للقطيعــة ألدىن مشــكلة‬
‫جديــدة بينكمــا؟! وهــل يف هــذا داللــة أن توبتــك كانــت صادقــة خالصــة لوجــه‬
‫هللا تعــاىل؟‬

‫ً‬
‫ارتكابا‬ ‫ويــا ً‬
‫عجبــا ملــن ال يغفــل عــن التوبــة عنــد البــاء فحســب‪ ،‬بــل يــزداد‬
‫‪148‬‬

‫ً‬
‫قرضــا ًّ‬
‫ربويــا‬ ‫للمحرمــات حلــل مشــكلته! كتاجــر يتعــرض خلســارة فيقــرض‬
‫ً‬
‫لينعــش جتارتــه‪ ،‬ولعلــه يــرر ذلــك يف نفســه قائــا ‪( :‬لقــد اضطــرين ريب إىل‬
‫اللجــوء لهــذا الطريــق)!‬

‫فهــذه أحــوال النــاس مــع البــاء‪ ،‬منهــم مــن يتخــذه محطــة تنقيــة‬
‫وانطالقــة جديــدة يف حياتــه‪ ،‬ومنهــم مــن ال يتــوب وال يت�ذكــر‪ ،‬ومنهــم مــن‬
‫َ ُ ّ َ َ َ ٰ ‪ْ ُ َ َّ ّ ٞ‬‬
‫يســتجري مــن الرمضــاء بالنــار‪ ..‬فاخــر لنفســك‪{ ..‬ولِــك ٖل درجــت مِمــا ع ِملـ ۚ‬
‫ـوا‬
‫َ َّ َ ۡ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ ٰ‬
‫ــون ‪[ }١٣٢‬األنعــام‪..]132 :‬‬ ‫ومــا ربــك بِغفِ ٍ‬
‫ــل عمــا يعمل‬
‫‪149‬‬

‫مفاتيح التوفيق‬

‫أيها األحبة‪..‬‬
‫هناك مفهوم جييب عن تساؤالت كثرية ختطر بب�النا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ D‬تصــدر منــا أحيانــا أفعــال نســتغرب حنــن صدورهــا منــا وال نعــرف كيــف‬
‫فعلناهــا! وقــد تؤثــر علــى حياتن ـ�ا بشــكل كبــر ونن ـ�دم عليهــا أشــد النــدم‪ .‬مــا‬
‫ســبب صــدور هــذه األفعــال وكيــف حنــي أنفســنا منهــا؟‬
‫‪ D‬ملـــــــاذا تــــــمر بنــ�ا أوقــــــات حنــس فـــــيها بـفـــــراغ القلــب وهـــبوط‬
‫املعنويــات مــع كل مــا حنفظــه مــن آيــات وأحاديــث وأقــوال الســلف وأبي ـ�ات‬
‫الشــعر واحلكــم واالســتنب�اطات واملعــاين اجلميلــة؟‬
‫‪ D‬أصحــاب الباليــا الطويلــة‪ ،‬مــا الــذي يصربهــم؟ حنــس أننـ�ا لــو كنــا مــكان‬
‫أحدهــم فلــن نصــر‪ ،‬كيــف يمكــن أن حنقــق مثــل صربهــم؟‬
‫‪ D‬هللا تعاىل ينسب أي خـــــر حيصل لــــنا إىل نفـــــسه ســبــــحانه يف املواطن‬
‫كلهــا‪ ،‬هــل هــذا ألنــه تعــاىل يريــد حفــظ حقــه فقــط‪ ،‬أم أن هنــاك فائــدة تربويــة‬
‫عظيمــة لنــا يف ذلــك؟‬
‫‪ D‬لمــاذا ذمــت الـــشـــريـــعــــة مــــدحك لآلخــــرين يف وجوههــم؟ ما خطورة‬
‫هــذا املــدح؟ ولمــاذا كان الصاحلــون األبــرار خيافــون منــه؟‬
‫جواب هذه األسئلة كلها هو يف كلمتني‪ :‬التربؤ واالستمداد‪..‬‬
‫ماذا تعني�ان؟ هذا مــــــا سنجيب عنه بإذن هللا يف هذه الصفحات‪..‬‬

‫ ‪«1.‬خلي قدراتك تنفعك»!‬

‫البــن القيــم كالم ســأرويه مــع بعــض التحويــر لرتكــز الفكــرة‪ .‬قــال رحمــه‬
‫ّ‬
‫هللا مــا معنــاه‪( :‬أجمــع العارفــون بــاهلل علــى أن الـــتوفيق هــو يف أل يكلك هللا إىل‬
‫نفســك‪ ،‬وأن اخلــذالن هــو يف أن يكلــك إىل نفســك‪ .‬وقــد جيتمــع يف العبد خذالن‬
‫‪150‬‬

‫وتوفيــق‪ ،‬فيقــارن بينهمــا‪ ،‬ويــدرك أن الــذي يمســك ســماء توفيقــه وهدايت ـ�ه‬
‫أن تقــع علــى أرض خذالنــه وضاللــه هــو الــذي يمســك الســماء أن تقــع علــى‬
‫حينئـــذ حاجتــه إىل أن يقــول يف كل ركعــة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫األرض إال بإذنــه‪ ،‬ويــدرك العبــد‬
‫ۡ‬
‫ــر ٰ َط ٱل ُم ۡس َ‬
‫ٱلص َ‬‫ّ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َّ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ ُ‬
‫ــتقِ َ‬
‫يم ‪[ }٦‬الفاحتــة‪..]6،5 :‬‬ ‫{إِيــاك نع ُبــد َوِإيــاك نســتعِين ‪ ٥‬ٱهدِنــا ِ‬
‫ََ‬
‫ويعلــم العبــد حينئــ ٍـذ شــدة حاجتــه إىل التوفيــق يف كل نفــس وكل حلظـ ٍـة)‪.‬‬

‫ّ‬
‫إذن إخــواين‪ ،‬التوفيــق هــو يف أل يكلــك هللا إىل نفســك‪ .‬مــا معــى هــذا‬
‫ُ‬
‫الــكالم؟ تصــور احليــاة واختب�اراتهــا كمجموعــة مــن احلفــر‪ .‬أنــت قــد تعجــب‬
‫بقــدرات نفســك وذكائهــا ألنــك اســتطعت أن تتجــاوز بعــض هــذه احلفــر‪.‬‬
‫حتــس أن لديــك «قــدرات ذاتيـ�ة» تؤهلــك خلــوض أيــة جتربــة بنجــاح‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫‪«-‬أنا لست من النوع الذي يضعف أمام الفنت»‬
‫ُ‬
‫‪« -‬أنا لست من النوع الذي يدع بسهولة»‬

‫ويعزز هذه النظرة مدحي الناس لك‪:‬‬


‫‪« -‬فالن أسد»‬
‫‪« -‬فالن مدرسة يف الصرب والثب�ات»‬
‫‪« -‬فالن ناجح يف كل ما يفعل»‬

‫ومثــل هــذه العبــارات مــن الثنـ�اء علــى جوانــب مختلفــة مــن شــخصيتك‪.‬‬
‫ًّ‬
‫شــعوريا بــيء مــن «االســتقاللية» عــن رحمــة هللا وتوفيقــه!‪:‬‬ ‫فتحــس ال‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫ـن ل َي ۡطغـ ٰٓ‬
‫ـى ‪[ }٦‬العلــق‪.]6 :‬‬ ‫{ َكلآ إ ِ َّن ٱل ِإ ٰ‬
‫َ‬
‫نسـ َ‬

‫ُفي َع ِّرضـك هللا ِلـ ُـحفرة‪ ،‬ويدعـك تعتمـد على قدرات نفسـك تلك (خليها‬
‫رو ًعا‪ ،‬ألنك ُوكلت إىل نفسـك‪ .‬فتعلم‬
‫تنفعك!)‪ ،‬فتسـقط يف احلفرة سـقوطا ُم ّ‬
‫أن ال جنـاة وال جنـاح لـك إال بتعلقـك حببـل هللا تعاىل‪ ،‬حبل رحمتـه وتوفيقه‪.‬‬
‫‪151‬‬

‫فتتــرأ مــن قدراتــك‪ ،‬وتســتمد التوفيــق مــن هللا‪ .‬وهــذا معــى التــرؤ‬
‫واالســتمداد‪ .‬وتتجنــب ً‬
‫تمامــا قــول‪( :‬أنــا مــن النــوع) و(لســت مــن النــوع)‪..‬‬

‫ُ‬
‫بــل تــدرك أنن ـ�ا كلنــا بــا اســتثن�اء «مــن النــوع» الــذي ال يســاوي قشــرة‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫بصلــة إن َوكلنــا هللا إىل أنفســنا! فكــم مــن معــز بثب�اتــه أمــام الشــهوات وقــع‬
‫يومــا فيمــا لــم يتصــور أن يقــع فيــه ممــا كان يســتقذر فاعليــه! وكــم مــن مغـ ٍّ‬
‫ـر‬
‫بذكائــه انطلــى عليــه مــا ال ينطلــي علــى بســطاء النــاس‪..‬‬

‫لــذا‪ ،‬فإنــا ندعــوا صبــاح مســاء بالدعــاء الثابــت عــن نبينـ�ا صلــى هللا عليــه‬
‫َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫أصلــح يل شــأين كلـ ُـه وال ت ِكلــي إىل‬
‫حمتــك أســتغيث ِ‬
‫ُّ ُ َ‬ ‫وســلم‪( :‬يــا ُّ‬
‫يح يــا قيــوم بر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ـن)‪.‬‬ ‫نفــي طرفــة عـ ٍ‬

‫قــد يتســاءل أحدنــا‪( :‬ال أســتغين عــن توفيــق هللا طرفــة عــن؟) يعــي‬
‫بمقــدار رمشــة عــن؟ نعــم‪ ..‬انــظــــروا إخـــــواين إىل أفـــعــــال قــد ال تســتغرق‬
‫أكــر مــن رمشــة عــن‪ ،‬يكلنــا هللا فيهــا إىل أنفســنا فيصــدر منــا أفعــال تــرك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جرحــا عميقــا ســائر حياتن ـ�ا!‬

‫‪ -‬قــد تغضــب فتقتــل برصاصــة أو طعنــة ســكني يف طرفــة عــن‪ ،‬فيــرك ذلــك‬
‫أثـ ًـرا مدمـ ًـرا علــى حياتــك غــر مــا ينتظــرك يف آخرتــك‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬زوج طلــق زوجتــه طلقتــن‪ ،‬ويف طرفــة عــن ُي َطلقهــا الثالثــة فيفرتقــان بــا‬
‫عــودة ويتشــتت األوالد‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تنخــدع ملحتــال فتوقــع لــه علــى ورقــة أو تســلمه مــال يف طرفــة عــن فتفتقــر‬
‫بعــد عــز‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬تغضــب أبــاك أو أخــاك أو صديقــك بكلمــة جارحــة ختــرج يف طرفــة عــن تنــم‬
‫ـوء أخفيتـ�ه يف نفســك جتاههــم‪ ،‬ومــا أصعــب الرتقيــع بعــد ذلك!‬ ‫عــن سـ ٍ‬
‫‪152‬‬

‫‪ -‬تقــول كلمــة فيهــا اســتخفاف أو ســوء أدب مــع هللا تعــاىل حتبــط عملــك يف‬
‫طرفــة عــن‪.‬‬
‫ـف مريــب يف طرفــة عــن‪ ،‬يــراك النــاس فيهــا فتســقط مــن‬ ‫‪ -‬تكــون يف موقـ ٍ‬
‫أعينهــم وال يعــودون يتخذونــك قــدوة‪.‬‬
‫‪ِ -‬س ٌّر تبوح به يف طرفة عني جتر به مصيب�ة لغريك وتسلط عليهم بها ظالما‪.‬‬
‫‪ -‬تدعــو علــى ولــدك يف طرفــة عــن‪ ،‬مخالفــا بذلــك نهــي النــي عــن الدعــاء‬
‫علــى األبن ـ�اء‪ ،‬فيقــع بــه مكــروه يالزمــه يف حياتــه‪.‬‬

‫وغريها الكثري‪.‬‬

‫تصرفــات تســتغرب أنــت وقوعهــا منــك‪ ،‬كأنهــا إشــارات مــن هللا تعــاىل‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫أن انظــر مــاذا يكــون منــك إن ُوكلــت إىل نفســك وفــر حســك بضــرورة حاجتــك‬
‫إىل رحمــة ربــك يف كل طرفــة عــن‪.‬‬

‫ًّ‬
‫روتيني�ا‪:‬‬ ‫دعاء‬ ‫َ‬
‫لتدعو باضطرار ولهفة‪ ،‬ال ً‬ ‫تذكر ذلك‬
‫(فال ِتكلين إىل نفيس طرفة عني)‪.‬‬

‫ ‪2.‬لماذا أشعر أحيا ًنا بفراغ قلبي وهبوط معنوياتي؟‬

‫أحدنــا قــد حيفظ القــرآن واألحاديث املتعلقــة بالصرب والرضا واإلجيــابــــية‬


‫َ‬
‫وقــصــص الــصـاحلــني وأبــيات الــشــعــر واحلــكــم واالستنب�اطات واملعاين‬
‫اجلميلــة‪ ..‬ومــع ذلــك تــأيت أوقــات ال ينتفــع بــأي منهــا! فيحــس بضعــف‬
‫إيمانــه‪ ،‬فــراغ قلبــه‪ ،‬هبــوط معنوياتــه‪ ،‬قلــة صــره!‬

‫وكأنهــا تذكــر مــن هللا تعــاىل‪ ،‬أنــه حــى هــذه اآليــات واألحاديــث واملعــاين‬
‫‪153‬‬

‫ـرا ًّ‬
‫ذاتي ـ�ا‪ ،‬بــل إن شــاء هللا نــزع أثرهــا فيــك وهــوت ســماء‬ ‫ال تؤثــر بنفســها تأثـ ً‬
‫صــرك وانشــراحك علــى أرض ضعفــك وخوفــك‪ .‬وإن شــاء هللا جعــل آليـ ٍـة‬
‫ً‬ ‫جديــدا يف نفســك ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عظيمــا كأنــك تســمعها ألول مــرة مــع أنــك‬ ‫وأثــرا‬ ‫وقعــا‬
‫ُ‬ ‫قرأتهــا قبــل ذلــك مئــات أو آالف املــرات‪ .‬هــي َ‬
‫رجفــات تشــعرك باقــراب هــوي‬
‫ســمائك لــزداد جلـ ً‬
‫ـوءا‪.‬‬

‫وأرى أن ذلــك ممــا يســاعد يف فهــم قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪:‬‬
‫(إنــه ليغــان علــى قلــي‪ ،‬وإين ألســتغفر هللا يف اليــوم مئــة مــرة) (مســلم)‪ُ .‬يغــان‬
‫بمعــى يتغــى القلــب مــا يتغشــاه‪ ،‬وكأنها عــوارض تـعــــرض للنــي (رجفات)‬
‫ليت�ذكــر أن ثب�اتــه وطاقتــه ليســت ذاتي ـ�ة‪ ،‬بــل مظهــر رحمــة ومعيــة مــن هللا‬
‫َ‬
‫تعــاىل فيتجــدد ت َب ُّصــره حباجتــه إىل ربــه ســبحانه يف كل طرفــة عــن‪.‬‬

‫وكذلــك صحابــة النــي صلــى هللا عليــه وســلم وصفهــم هللا يف غــزوة‬
‫ٗ‬ ‫َُ َ ُۡ َ ُۡ ۡ ُ َ َ ُۡ ُ ْ ۡ َ ٗ َ‬
‫ِيدا ‪}١١‬‬‫ــزالا شــد‬ ‫األحــزاب بقولــه تعــاىل‪{ :‬هنال ِــك ٱبتلِــي ٱلمؤمِنــون وزل ِزلــوا زِل‬
‫[األحــزاب‪ ..]11 :‬زلزلــة تكشــف لهــم أنهــم –وإن كانــوا خــر النــاس وأقواهــم‬
‫وأثبتهــم‪ -‬فنفوســهم ضعيفــة إذا ُوكلــوا إليهــا‪.‬‬

‫أضعــف؟)‪ ..‬اجلــواب‪:‬‬ ‫ــن يتســاءل‪( :‬مــاذا أفعــل عندمــا ُ‬ ‫لذلــك َفل َم ْ‬


‫ِ‬
‫اعــرف بضعفــك وتــرأ مــن حولــك وقوتــك‪ ،‬واســتغفر هللا عــن كل حلظــة‬
‫ُ‬
‫أعجبــت فيهــا بنفســك وقلــت فيهــا كقــول قــارون (إنمــا أوتيت ـ�ه علــى علــم‬
‫عنــدي)! واستـــمدد العــزم والقــوة مــن ربــك عــز وجــل‪.‬‬

‫ ‪3.‬أصحاب الباليا الطويلة‪ ،‬ما الذي يصبرهم؟‬

‫ً‬
‫لــو أنــك كنــت مقبــا علــى تأثيــث بيــت وقــال لــك رجــل ثــري‪( :‬اشــر مــا‬
‫‪154‬‬

‫شــئت وال تســأل عــن الثمــن‪ ،‬أنــا أســدد احلســاب) فستشــري بــا قلــق‪..‬‬

‫طويلــة‬ ‫كثــرا مــا كنــت أتســاءل‪( :‬كيــف يصــر املحبــوس لســنوات‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مثــا؟) وأخــاف أن أبتلــى بمثــل بلواهــم‪ ،‬ألين أنظــر يف نفــي فــا أجــد فيهــا مــا‬
‫ُي َصربهــا كصربهــم‪.‬‬

‫ُ‬
‫أدركــت أن هــؤالء قــوم َّ‬
‫بلحظــات عســرة! زلزلــت‬
‫ٍ‬ ‫مــن هللا عليهــم‬ ‫ثــم‬
‫أركانهــم واســتخرجت كل مــا فيهــم مــن طاقــة فلــم جيدوهــا كافيــة‪ ،‬فتــرؤوا‬
‫مــن قوتهــم واســتمدوا العــون مــن هللا‪ ،‬أي أنهــم عرفــوا املفتــاح‪ ،‬وحينئــ ٍـذ فهــم‬
‫كهــذا الــذي خيــوض أي غمــار ومعــه «شــيك مفتــوح» مــن غــي‪ ،‬وهلل املثــل‬
‫األعلــى‪.‬‬

‫قــل قلقــي بــإدراك ذلــك‪ ،‬ألن ســقفي مــن ُ‬ ‫َّ‬


‫قبــل كان نفــي‪ ،‬ونفــي‬
‫محــدودة وصربهــا محــدود‪ .‬أمــا املــدد مــن هللا فــا حــد لــه وال عــد‪ ،‬وإنمــا علينـ�ا‬
‫َّ‬ ‫َ ۡ ۡ َ َ َ ۡ ُ َّ‬
‫ـٱللِۚ} [النحــل‪( ،]127 :‬واســتعن‬ ‫ـر َك إِلا بِـ‬
‫أن حنســن االســتمداد‪{ :‬وٱصبِــر ومــا صبـ‬
‫بــاهلل وال تعجــز) (رواه مســلم)‪.‬‬

‫َّ‬
‫انظـر إىل ثبـ�ات الثابتين وتوفيـق املوفقين علـى أنهـا مظاهـر لرحمـة هللا‬
‫وقدرتـه‪ ،‬وال تنشـغل عنهـا باإلعجـاب بشـخوصهم وبمدحهـم‪ ،‬فـإن مدحهـم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫يغرهـم وينسـيهم شـيئ�ا فشـيئ�ا حقيقة أن مـا بهم هو محض توفيـق من هللا‪..‬‬

‫ً‬
‫بــدل أن تقــول‪« :‬مــا أصــر فالنــا» عــود نفســك أن تقــول‪« :‬مــا أعظــم‬
‫ً‬ ‫رحمــة هللا إذ َّ‬
‫صــر فالنــا»‪.‬‬

‫ولــذا كان الصاحلــون األبــرار خيافــون أن ُيمدحــوا يف وجوههــم‪ ،‬خيافــون أن‬


‫‪155‬‬

‫يبـ�دوا كالــ ُـمقرين لنســبة النــاس الفضــل إىل ذواتهــم‪ ،‬فيكلهم هللا إىل أنفســهم‬
‫فيسقطون‪.‬‬

‫ُ ِّ‬
‫كان الرجــل مــن أصحــاب النــي صلــى هللا عليــه وســلم إذا زكــي قــال‪:‬‬
‫(اللهــم ال تؤاخــذين بمــا يقولــون‪ ،‬واغفــر يل مــا ال يعلمــون) (أخرجــه البخــاري يف األدب‬
‫املفــرد وقــال األلبــاين إســناده صحيــح)‪.‬‬

‫ ‪4.‬لماذا ينسب هللا الفضل إلى نفسه؟ مفاتيح التوفيق‬

‫دومــا إىل نفســه‪ .‬كقولــه‬ ‫كل خــر حيصــل للعبــاد ينســب هللا الفضــل فيــه ً‬
‫ســبحانه‪:‬‬
‫َ‬
‫َ َٗ‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َُُۡ َ َ‬ ‫َ َ َ ۡ ُ َّ َ ۡ ُ‬
‫َ‬
‫‪َ { -‬ول ۡولا فضل ٱللِ عليك ۡم َو َرحمتهۥ ما زك ٰى مِنكم م ِۡن أح ٍد أبدا} [النور‪..]21 :‬‬
‫ك َو َر ۡحمَ ُت ُهۥ ل َ َه َّمت َّطآئ َفة‪ّ ٞ‬م ِۡن ُه ۡم أَن يُ ُّ َ‬
‫ضلوك} [النساء‪..]113 :‬‬
‫َ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ‬
‫‪{ -‬ولولا فضل ٱللِ علي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خٰ ِسر َ‬ ‫ۡ‬
‫ُ ّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ك ۡم َو َر ۡحمَ ُت ُ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ ُ‬
‫ين ‪[ }٦٤‬البقرة‪..]64 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫م‬ ‫نت‬‫ك‬ ‫ل‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫‪{ -‬فلولا فضل ٱللِ علي‬

‫فهــل هــذا لتعريــف العبــاد حبقــه ســبحانه فحســب؟ بــل أحســب أنــه‬
‫ً‬
‫تعــاىل يربينـ�ا أيضــا بذلــك‪ ،‬فــاهلل تعــاىل غــي عــن العاملــن‪ ،‬لكنــه تعــاىل يعطينـ�ا‬
‫مفاتيــح التوفيــق ويدلنــا علــى مــا ينفعنــا لنســتمد العــون منــه يف كل وقــت‬
‫وحــن وال نغــر بأنفســنا وقدراتن ـ�ا الــي لــو ُوكلنــا إليهــا لضللنــا وخســرنا ومــا‬
‫زكــت نفوســنا‪.‬‬

‫قــال ابــن القيــم‪( :‬فــإذا قــام العبــد باحلــق علــى غــره وعلــى نفســه أوال‪،‬‬
‫وكان قيامــه بــاهلل وهلل‪ ،‬لــم يقــم لــه يشء‪ ،‬ولــو كادتــه الســماوات واألرض‬
‫ً‬
‫ومخرجــا) (إعــام املوقعــن)‪ ..‬انظــر‬ ‫واجلبــال لكفــاه هللا مؤنتهــا‪ ،‬وجعــل لــه ً‬
‫فرجــا‬
‫ً‬
‫قولــه‪( :‬وكان قيامــه بــاهلل)‪ ،‬أي معتمــدا عليــه وحــده ســبحانه‪.‬‬
‫‪156‬‬

‫يف املقابــل‪ ،‬قال‪ ‬ابــن تيميــة يف بعــض طوائــف املبت�دعــة‪( :‬إذا نظــرت‬


‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫إليهــم بعــن القــدر‪ ،‬واحلــرة مســتولية عليهــم‪ ،‬والشــيطان مســتحوذ عليهــم‪،‬‬
‫ً‬ ‫زكاء (أي ُط ً‬
‫ذكاء ومــا أوتــوا ً‬ ‫َ‬
‫ورفقــت عليهــم‪ :‬أوتــوا ً‬ ‫َ‬
‫هــرا وبركــة)‪،‬‬ ‫رحمتهــم‬
‫فهومــا ومــا أعطــوا ً‬
‫علومــا‪.)...‬‬ ‫وأعطــوا ً‬

‫فــأول ما يــقــــي عليه اجـــــــــــتهاده‬ ‫إذا لم يكن مـــــن هللا عــــون للـفــــــــى‬

‫ْ فتذكر‪:‬‬
‫ّ‬
‫تربأ من حولك وقوتك‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫واستمد العون ممن ال حد لق َّوته سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫‪157‬‬

‫ولدا من ذوي االحتياجات الخاصة‬


‫من ُيرزق ً‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫مصابــا بمتالزمــة داون‪ ،‬فتعاملــت هــي وعائلتهــا‬ ‫ُر زقــت شــقيقيت ولــدا‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معــه تعامــا مليئــ�ا بالــدروس والعــر‪ ..‬ثــم شــاء هللا أن ُيتــوىف الطفــل عــن‬
‫ً‬
‫ثــاث ســنني وثالثــة أشــهر‪ .‬وكنــت بعيــدا عنهــم مقيــد احلريــة‪ .‬فكتبــت‬
‫لشــقيقيت وعائلتهــا الرســالة التاليــة‪ ،‬والــي أســأل هللا أن ينتفــع بهــا كل مــن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ُيــرزق ولــدا مــن ذوي االحتي�اجــات اخلاصــة‪ ،‬بــل وكل مبتلــى‪:‬‬

‫أخيت احلبيب�ة نادية‪ ،‬أيخ احلبيب إياد‪ ،‬فادي‪ ،‬يزيد‪ ،‬براء‪ ،‬عمر‪..‬‬

‫السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته‪،‬‬

‫وأعظــم هللا أجركمــا يف حبيبنــ�ا حمــوده‪ .‬علمــت باخلــر أمــس‪ ،‬فجاشــت يف‬
‫ُ‬
‫معــان كثــرة أحببــت أن أشــاطركم إياهــا ويف ختامهــا ســأزف لكــم‬
‫ٍ‬ ‫صــدري‬
‫بشــرى خبصــوص حمــوده‪.‬‬

‫ً‬ ‫إيــاد وناديــة‪ ،‬لقــد تعلمــت منكمــا ً‬


‫درســا بليغــا ممــا ال يمكــن أن أتعلمــه‬
‫َ‬ ‫مــن الكتــب‪ً :‬‬
‫درســا يف الرضــا ومحبــة قــدر هللا تعــاىل‪.‬‬

‫ال زلــت أذكــر يــا ناديــة تلــك اللحظــة قبــل ثــاث ســنوات وثالثــة شــهور‬
‫حــن زرتــك يف املستشــفى ألبلغــك بالتدريــج حقيقــة أن مولــودك اجلديــد‬
‫ـت مـتـعـــبة مـــن‬
‫مصــاب بمتالزمــة داون‪ ..‬ال زلــت أذكــر ثب�اتــك وهــدوءك وأنـ ِ‬
‫آثــــار العــــملية حــــن فـهـمـــت األمــــــــر فقلــت‪« :‬خــر إن شــاء هللا» ثم غريت‬
‫َ‬ ‫املوضــوع‪ ،‬وكان لســان حالــك بعدهــا يقــول‪« :‬يــا ِّ‬
‫رب إن كنــت رضيتـ�ه يل فقــد‬
‫رضيــت بــه»‪.‬‬
‫‪158‬‬

‫ال زلــت أذكــر يــا إيــاد حــن ســألتين‪« :‬هــل هــذا يعتــر ابتـ ً‬
‫ـلاء و لنــا عليــه‬
‫أجــر إن صربنــا؟» وكأنــك كنــت تقصــد أن مولــودك نعمــة وإن كانــت نعمــة‬
‫تامــة فليــس لــك أن تتعامــل مــع األمــر بغــر ذلــك‪ .‬فأجبتــك‪ :‬نعــم‪ ،‬مرضــه‬ ‫غــر َّ‬
‫َ‬
‫ابتــلاء ولــك علــى الصــر عليــه أجر بــإذن هللا‪ .‬فهــززت رأســك بصمــت واختذت‬
‫ً‬
‫أنــت أيضــا قــرار الصــر‪.‬‬

‫ـرا ً‬
‫عاديا‪،‬‬ ‫لكــن مــا بــدا منكمــا بعــد ذلــك أيخ و أخــي احلبيبــن لــم يكــن صـ ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رضــا وصـ ً‬
‫ـرا جميــا‪ ،‬جميــا بمعــى الكلمة‪.‬‬ ‫بــل كان أكمــل وأعلــى‪ ..‬كان‬

‫كان مــن املمكــن أن تصــرا علــى مضــض و تقدمــا حلمــوده احلــد األدىن‬
‫َّ‬
‫مــن الرعايــة الواجبــة وتتمني ـ�ا يف قلبيكمــا أن «تنتهــي املعانــاة» بوفاتــه‪ ..‬ولــو‬
‫آثـمـني طـالـمـا ال جــــزع وال اعرتاض وال تقصري يف‬ ‫كان هـــذا حـــالكما لـمـــا كنتما َ‬
‫ً‬
‫حقيقيــا‪.‬‬ ‫الرعايــة األساســية‪ .‬لكنكمــا أحببتمــا مولودكمــا اجلديــد ًّ‬
‫حبــا‬

‫ً‬
‫حــن علــم هللا منكمــا ‪-‬فيمــا أحســبكما‪ -‬رضــا بقضائــه‪ ،‬أوجــد يف‬
‫َ ٓ‬ ‫ً‬
‫قلبيكمــا مــودة ورحمــة خاصــة لهــذا الطفــل‪ ،‬مـــصداقا لقـــوله تعــاىل‪{ :‬مــا‬
‫ـي ٍء‬‫شۡ‬ ‫َّ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ ُ ّ َ‬
‫ٱلل بِــك ِل ـ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َّ‬ ‫ُّ َ َّ‬
‫يب ـ ٍة إِلا ب ِـإِذ ِن ٱللِۗ َو َمــن يُؤ ِم ـ ۢن بِــٱللِ يه ـ ِد قلبــه ۚۥ و‬ ‫أَ َصـ َ‬
‫ـاب ِمــن م ِص‬
‫ـر‬‫ـم ‪[ }١١‬التغابــن‪ ،]11 :‬و قــول النــي صلــى هللا عليــه وســلم‪( :‬ومــن يتصـ ّ ْ‬ ‫َعل ِيـ ‪ٞ‬‬
‫َّ‬
‫هللا) أحببتمــا حمــوده وتمنيتمــا أن َيعيــش‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يصــره ُ‬

‫نادية‪ ،‬ال زلت أذكر مشهد وأنت ترهشني حلركات حموده وكأنين أسمع‬
‫صوتك وأنت تضحكني له من أعماق قلبك وتقولني‪( :‬حمودي‪ ..‬يا حيايت!)‬

‫اشــريت لــه أجمــل املالبــس‪ ،‬حرصــت علــى أن يكــون (أكــر واحــد‬


‫مشــخص) يف كل عيــد‪ ،‬لــم أره ً‬
‫يومــا عــر الســنوات الثالثــة إال أنظــف وأطيــب‬
‫‪159‬‬

‫ـت لــه‬
‫راحئــة مــن كل أوالد جيلــه‪ ،‬نشــرت صــوره بفخـ ٍـر علــى الفيســبوك‪ ،‬صممـ ِ‬
‫ـت مــع حمــوده‪ ،‬فلــم تســتطيعي‬ ‫ً‬
‫حبسـ ِ‬ ‫أجمــل فيديــو‪ ..‬كل هــذا مــع أنــك فعليــا ِ‬
‫اخلــروج مــن املــزل للزيــارات والــدروس والرحــات لتعتــي حبمــوده وتنفســه‪،‬‬
‫وكثــر مــن األيــام ترتدديــن فيهــا حبمــوده بــن األطبــاء واملستشــفيات‪،‬‬
‫وتت�ابعــن جلســات تعليــم النطــق وحتســن احلركــة حلمــوده‪.‬‬

‫واستعنت باهلل لتكون حياة جميلة‪.‬‬


‫ِ‬ ‫أصبح حموده هو حياتك‪،‬‬

‫كثريا حلركات األطفال يف هذا السـن‪ ،‬لكنك حفلت‬‫إيـاد‪ ،‬لـم تكن ترهـش ً‬
‫حبمـوده أكثر مـن غيره‪ ..‬أنفقـت عليـه بسـخاء دون تـردد‪ :‬عمليـة القلـب‪ ،‬ثـم‬
‫عمليـة البطاريـة‪ ،‬ثـم نفقـات العلاج والتأهيـل‪ ..‬كل هذا بطيـب نفس‪.‬‬

‫وأنتمــا يف ذلــك كلــه تريــدان حلمــوده أن يعيــش‪ ،‬أن يكــر‪ ،‬أن يكــون أقــرب‬
‫مــا يمكــن لإلنســان الســوي‪ ،‬وأن يبقــى بيننـ�ا‪.‬‬

‫يف حســابات الماديــن‪“ ،‬ضــاع” الكثــر مــن الوقــت والمــال واجلهــد علــى‬
‫حمــوده‪ ..‬لكــن يف حســابات أهــل اإليمــان فــإن الوقــت والمــال والعاطفــة مــن‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ِن َعــم للا‪ ،‬وحمــوده أمانــة اســرعاكما هللا عليهــا‪ ،‬فأنتمــا ســخرتما نعمــة هللا يف‬
‫َ‬
‫رعايــة أمانــة هللا عندكمــا‪ ،‬فلكــم بــكل مــا بذلتــم أجـ ٌـر بــإذن هللا‪.‬‬

‫أوالدكمــا جنحــوا معكمــا حــن تعاملــوا حبفــاوة واهتمــام مــع حمــوده‪،‬‬


‫ً‬
‫خصوصــا بــراء‪ ،‬الصديــق املقــرب مــن حبيــب الشــعب‪.‬‬

‫لمــا أحببتمــا حمــوده بصــدق أحببنــ�اه كلنــا بصــدق‪ ..‬لمــا نظرتمــا إليــه‬
‫كإنســان مهــم نظرنــا إليــه كلنــا كذلــك‪ ..‬ثــم لمــا حزنتمــا علــى فقــده حزنــا كلنــا‪..‬‬
‫‪160‬‬

‫ً‬
‫جميعــا قــدوة‪ ..‬الــدرس‬ ‫درســا ًّ‬
‫عمليــا كنتمــا لنــا فيــه‬ ‫ألنن ـ�ا تعلمنــا منكــم ً‬
‫أكــر بكثــر مــن حســن التعامــل مــع األوالد مــن ذوي االحتي�اجــات اخلاصــة‪،‬‬
‫ً‬
‫إنــه درس يف حتويــل األقــدار املؤملــة إىل مظهــر رضــا وتســليم ومزرعــة حســنات‬
‫َ‬
‫وهــو درس حيتاجــه كل مبتلــى‪ .‬لقــد رحــل حمــوده‪ ،‬لكــن درســه ســيبقى‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫فاتــرا وأن تريــا فيــه مبســوطني‬ ‫كان يمكــن لعــزاء حمــوده أن يكــون‬
‫مســرحيني النتهــاء معاناتكمــا مــع حمــوده لكــن ليــس هــذا الــذي كان‪.‬‬

‫كــم فخــرت بــك يــا ناديــة حــن أخــرين مــراد أنــك بكيــت عنــد وفــاة حموده‬
‫ٌ‬
‫بــشــــدة‪ ،‬ومــــع ذلــك مــــا كان لــــك قــول إال (احلمد هلل‪ ،‬احلمــد هلل) تتصبرين‬
‫بها ‪.‬‬

‫فخــرت بكمــا إيــاد وناديــة حــن عرفــت مــن أيم أن عــزاء حمــوده اســتمر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيامــا‪ ،‬أكــر ممــا ُيعــزى بــأي طفــل‪ ،‬و أن عــزاءه كان مشــهودا حضــره خلــق كثري‪..‬‬

‫كأنكمــا فتحتمــا بالعــزاء للنــاس مدرســة يتعلمــون فيهــا ً‬


‫عمليــا الرضــا‬
‫واحــرام اإلنســان وتقديــر نعمــة هللا تعــاىل‪.‬‬

‫أنــا حزيــن علــى حمــوده‪ ،‬ومشــتاق لــه «حبيــب الشــعب»‪ ،‬لكــي ســعيد‬
‫ًّ‬
‫لكمــا جــدا‪ ،‬وأريــد منكمــا أن تكونــا ســعيدين ألنكمــا‪ ،‬فيمــا أحســبكما وهللا‬
‫حســيبكما‪ ،‬جنحتمــا يف اختبــ�ار حمــوده‪ ،‬فأرجــو أنــه بينمــا كانــت الطبيبــ�ة‬
‫تكتــب شــهادة وفاتــه‪ ،‬كانــت املالئكــة تســجل جناحكمــا‪ ،‬بــل تفوقكمــا‪ ،‬يف‬
‫صفحــة اختبـ�ار حمــوده‪ ،‬ثــم طويــت هــذه الصحيفــة‪ ،‬وارتفعــت إىل هللا تعــاىل‬
‫ُ‬
‫مــع روح حمــوده‪ ..‬وستنشــر لكمــا هــذه الصحيفــة يــوم القيامــة‪ ..‬أســأل هللا‬
‫ويثقــل موازينكــم‪.‬‬‫أن ُيبيــض بهــا وجوهكــم ُ‬
‫‪161‬‬

‫فاشــكرا هللا ً‬
‫كثــرا علــى أن وفقكمــا يف هــذه التجربــة واســأاله تعــاىل أن‬
‫َيتقبــل منكمــا‪.‬‬

‫َ‬
‫عزيز َّي إياد و نادية‪ً ،‬‬
‫ختاما‪ ،‬إليكما البشرى‪:‬‬
‫حمــوده نرجــو أنكــم ســتلقونه يف اجلنــة بــإذن هللا تعــاىل‪ ،‬فهــو‬
‫نفــس بشــرية‪ ،‬واألنفــس حتيــا يــوم القيامــة وتبقــى مخلــدة‪ ،‬وهــو مــن‬ ‫ٌ‬
‫ــم‪ ،‬نرجــو أنكــم ســتلقونه يف اجلنــة بــإذن هللا‪..‬‬ ‫أطفــال املســلمني‪ .‬لــذا‪َ ،‬ن َع ْ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مصابــا بمتالزمــة داون‪ ،‬بــل ســيكون كامــا جميــا‬ ‫لكنــه لــن يكــون فيهــا‬
‫جبــــمال رضـــــاكما عـــــن قـــضـــــاء هللا حـــــن رزقكمــا إيــاه‪ ..‬لــذا‪ ،‬فاحرصــا‬
‫علــى العمــل الصالــح ونيــ�ل رضــا هللا تعــاىل ُليلحقكمــا بــه برحمتــه‪.‬‬

‫ً‬
‫أخــــــــــــــــــريا‪:‬‬
‫حموده‪ ..‬رحل من الدني�ا قبل أن يتعلم النطق‪ ،‬لكن لسان حاله يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫(بابا و ماما‪ ،‬جئت يف حياتكما ملهمة‪:‬‬
‫صرب جميل‪..‬‬‫أن أستخرج منكما عبادة الرضا وأرسم معكما قصة ٍ‬
‫وأحــب أن أقــول لكمــا‪ :‬أنكمــا جنحتمــا يف االختبــ�ار‪ ..‬لــذا‪ ،‬فــإن مهمــي قــد‬
‫انتهــت‪ ،‬وســأرحل اآلن‪..‬‬
‫لكنن�ا سنلتقي بإذن هللا‪ ..‬يف اجلنة‪..‬‬
‫محبكم ‪:‬حموده)‪.‬‬

‫إيــاد وناديــة‪ ،‬أنــا فخــور بكمــا‪ ،‬وأحبكمــا يف هللا علــى هــذا الــدرس العظيــم‬
‫الــذي أخجــل مــن نفــي أمامــه‪ ،‬وأســأل هللا العظيــم أن جيمعنــا وأحبابن ـ�ا يف‬
‫اجلنــة مــع حبيــب الــكل حمــوده‪.‬‬

‫محبكم‪ :‬إياد‬
‫‪163‬‬

‫‪y‬‬
‫‪3‬‬ ‫مقدم ة‬
‫‪7‬‬ ‫كيف تتخلص من اخلوف من املجهول؟ ‬
‫‪11‬‬ ‫حني تعلم أن هللا يريد بك ً‬
‫خريا! ‬
‫‪19‬‬ ‫ًّ‬
‫حبشرطيا! ‬ ‫ال تكن‬
‫‪22‬‬ ‫ابن حبك هلل على أسس سليمة ‬
‫‪27‬‬ ‫هللا يتودد إلين�ا بالبالء ‬
‫‪32‬‬ ‫إن لم تستوقفك هذه اآليات فجدد محبتك! ‬
‫‪37‬‬ ‫احلمد هلل على أنه لم يعطين ما تمنيت! ‬
‫‪41‬‬ ‫ستفرج يف اللحظة املناسبة! ‬
‫‪45‬‬ ‫مذاقات ال توصف! ‬
‫‪48‬‬ ‫عند طبيب األسنان ‬
‫‪50‬‬ ‫فلنحب هللا ألنه الودود ‬
‫‪53‬‬ ‫لن ينبع الصرب من حنايا نفسك ‬
‫‪57‬‬ ‫الراحمون يرحمهم الرحمن ‬
‫‪63‬‬ ‫ال تكتئب ‬
‫‪69‬‬ ‫هللا لطيف بعباده ‬
‫‪74‬‬ ‫اشكر الذي سرت عيوبك عنهم! ‬
‫‪78‬‬ ‫يائس‪ ..‬مستوحش‪ ..‬قلق‪ ..‬خائف ‬
‫‪83‬‬ ‫ّ ‬
‫أتصب‬ ‫ّ‬
‫حبب هللا‬
‫‪86‬‬ ‫لن تضيع وسط الزحام ‬
‫‪89‬‬ ‫علشاين ‬
‫‪164‬‬

‫‪91‬‬ ‫قل لن يصيبن�ا إال ما كتب هللا لنا ‬


‫‪93‬‬ ‫ماذا لو؟؟ ‬
‫‪95‬‬ ‫مقدمة عن النعم ‬
‫‪96‬‬ ‫حب بال رجعة ‬
‫‪99‬‬ ‫ليس لك على هللا يف الدني�ا حقوق ‬
‫‪102‬‬ ‫ليس ما ينقصك هو أهم يشء ‬
‫‪106‬‬ ‫تعايش مع الوضع اجلديد ‬
‫‪110‬‬ ‫لماذا ال نستمتع بالنعم؟ ‬
‫‪113‬‬ ‫ال أستحق ‬
‫‪115‬‬ ‫مقدمة عن تعليق القلب باآلخرة ‬
‫‪116‬‬ ‫ليست الدني�ا دار جزاء ‬
‫‪119‬‬ ‫كن كاملحبوس! ‬
‫‪121‬‬ ‫كله محسوب! ‬
‫ّ ُ‬
‫‪122‬‬ ‫خيت نفيس ‬ ‫عندما‬
‫‪125‬‬ ‫إنها حلظة‪ ..‬عندما يشتد اليأس فيعظم الرجاء ‬
‫‪138‬‬ ‫عالقة خاصة مع هللا تعاىل ‬
‫‪141‬‬ ‫سوف تراهما بمنظر أكرث ً‬
‫إبهاجا بإذن هللا! ‬
‫‪144‬‬ ‫عجل أنت بالفرج على نفسك! ‬ ‫ّ‬
‫‪149‬‬ ‫مفاتيح التوفيق ‬
‫ً‬
‫‪157‬‬ ‫من ُيرزق ولدا من ذوي االحتي�اجات اخلاصة ‬
‫‪166‬‬

‫تعريف بالمؤلف‬

‫‪ -‬الدكتور إياد عبد احلافظ قنييب‬


‫‪ -‬دكتــور يف علــم األدويــة اجلزيــي‪ ،‬حاصــل علــى الدكتــوراه مــن جامعــة‬
‫هيوســن األمريكيــة‪.‬‬
‫‪ -‬مارس حبث الدكتوراه يف مركز تكساس الطيب‪.‬‬
‫‪ -‬مشــارك يف بــراءيت اخــراع يف مجــال التئــ�ام اجلــروح وعــدد مــن األحبــاث‬
‫العالجيــة املنشــورة يف مجــاالت عــدة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أحــد ثــاث مراجعــن أكاديميــن ألكــر كتــب علــم األدويــة انتشــارا يف‬
‫العالــم‪ ،‬وهــو كتــاب‬
‫‪Lippincott Illustrated Reviews: Pharmacology‬‬
‫يف الطبعة الثامنة من الكتاب والصادرة عام ‪.2018‬‬
‫‪ -‬يعمل ًّ‬
‫حاليا يف كلية الصيدلة جبامعة جرش يف األردن‪.‬‬
‫‪ -‬تلقى العلوم الشرعية جبهد ذايت عن عدد من العلماء‪.‬‬
‫‪ -‬لــه محاضــرات ومقــاالت يف مجــاالت متنوعــة‪ ،‬مثــل بنــ�اء اإليمــان علــى‬
‫أســس منهجيــة والــرد علــى الشــبهات ومناقشــات علميــة متخصصــة يف‬
‫سلســلة بعنــوان (رحلــة اليقــن)‪ ،‬وسالســل يف التأمــات القرآنيــ�ة‪.‬‬

You might also like