Professional Documents
Culture Documents
غرقت نظراته الخبيرة في عينيَّ المرهقتين المسكونتين باإلعياء ،وبعد طول تأمل قال لي البروفسور ط,,بيب
العيون" :أريد منك إجراء تحليل لدموعك"!
كانت هذه أول مرة أسمع فيها عن "تحليل الدموع" .سمعت عن "تحليل الدم" وغير الدم ...أما الدمع فال!
في الطريق نحو المختبر كنت خائفة .ماذا سيكشف لهم تحليل دموعي؟
بل وكيف يحصلون على الدمع مني ،وأنا البخيلة به حتى في ُج ُزر وحدتي؟! لقد انهار شيء في أعماقي من,,ذ
زمن ما ،وسد درب الدمع وطمس معالمه ،فكيف أبكي في مختبر التحليل إذا طلب إليَّ ذلك؟
ولكن ،لِ َم ال؟
إنها فرص,,ة رائع,,ة للبك,,اء بع,,د ط,,ول احتب,,اس لمط,,ر القلب ،وس,,أبكي دون أن أحمّل ض,,ميري أو إرادتي أي
وزر .تخيلت المشهد على الوجه التالي :سيقول لي الممرض "خذي ه,ذا األنب,,وب ،ابكي في,ه واملئي,ه دمعً ,ا".
سأنتهز الفرصة؛ وسأبكي طوياًل طوياًل ...فهنالك لحظات في عمري مررت بها راكضة وقد أشحت بوجهي
عنها :وهي التي كانت تستحق مني أعوامًا من البكاء – بكاء فرح أو بكاء حزن – فألب,,كِ ألجلها دق,,ائق على
األقل؛ وبأمر من الطبيب! سأبكي ...وحتى حينما يأتي المم,,رض ويق,,ول لي إن األنب,,وب ال,,ذي مألت,ه بال,,دمع
طاف ،فلن أرد عليه وسأمأل له إبري ًقا من الدمع (ت,,رى ه,,ل س,يعطونني أنبوبً,ا ملو ًن,,ا مزخر ًف,,ا كتل,ك الم,,دامع
األثرية القديمة ،كتلك التي أهداني إياها صديقي الشاعر المرحوم توفيق صايغ ذات م,,رة ،ولم,,ا س,,ألته لم,,اذا،
قال" :كي تبكي من أجلي ...سيأتي يوم تبكين فيه ألجلي" .وضحكت منه طويال يومئ,,ذ ...وح,,تى ي,,وم س,,رقه
الموت ،ظلت "المدمعة" الهدية جافة ،فقد كان الدمع قد غاض في رمال قلبي المقفرة.
. . .
ولكن األمر كان أكثر بس,,اطة في المخت,,بر .لم يطلب إليَّ أح,,د البك,,اء ،ج,,اؤوا فق,,ط بقطع,,ة قطن ،وحك,,وا به,,ا
جفني فانهمر الدمع .نقطة واحدة كانت تكفيهم ،ولكنها لم تكن تكفيني! وحين غادرت المخت,,بر ،ف,,رحت ألنه,,ا
كانت تمطر ولم يكن في وسعي أن أوقف مطر الدمع في حنجرتي المالحة كمغارة محشوة بالشوك...
. . .
قال لي الرجل" :تعالي بعد أيام من أجل نتيجة التحليل".
وعشت أيا ًم ا شبه قلقة ...ترى هل سيقرأون ،في دموعي ،تاريخي كله؟! تاريخ أحزاني كلها؟ ..هل سيقرأون
ضا أسماء ...وتواريخ؟ ...وهل ستتراءى للمحلل ،تحت المجهر ،وجوه ووجوه ،وجوه أمسكت بها ،ووجوه أي ً
راحت مني في زحام ذلك الزمن الحزين الهارب؟..
هل سيقرأ في دموعي اسم دمشق ،مدينتي التي منحتي الصبا والعناد يوم ودعتها وق,,ذفت بنفس,,ي في مس,,تنقع
الغربة؟
ذلك الرجل المكب بوجهه اآلن فوق عدسة المجه,,ر ،ه,ل س,يقرأ في دم,,وعي حك,,ايتي؟ وه,ل يرتج,,ف جس,,ده
ض,,حكا م,,ني ،من غب,,اء أس,,ميته "ح ًب,,ا" ،وانهي,,ارات أس,,ميتها تج,,ارب؟! ت,,رى ه,,ل ينبت ال,,ذين نحبهم داخ,,ل
دموعنا؟ وهل يسبحون في بحرها المالح كما األسماك تسبح في أعماق المحي,,ط؟ ..ت,,رى ه,,ل تس,,جل دموعن,,ا
زالزل أعماقنا وفواجعنا ،بحيث تبقى دوائرها مرتسمة ،هادئة حي ًنا وصاخبة حي ًنا :كما يم,,زق الزل,,زال وج,,ه
مياه البحر ويترك فيها بصماته ...وهل! وهل؟
وإذا زرع المحلل دموعي (كما يزرعون الدم ويحللونه) ،فوجه من س,,ينبت في,,ه؟ ..اس,,م من؟ ..اس,,م "أين"؟..
اسم أية مدينة غير دمشق؟ ما لون الدمع تحت المجهر؟ ..المحزون,,ون مثلي ،ه,,ل يمكن ل,,دمعهم أن يك,,ون ل,ه
غير لون الدم؟..
ترى هل سيكون لدمعي صوت تحت المجهر؟ ..صوت شالل التمرد وصرخة الحرية والشهية إلى الحي,,اة؟..
وح َي,,وات وجن,,ون
ذلك المحلل المسكين ،ألن تخيفه قطرة دم,,ع واح,,دة من عي,,ني بك,,ل م,,ا تختزن,,ه من أه,,وال َ
وأهواء ونزوات؟ ...بكل ما فيها من لون النزف وصوت االحتضار والوالدة في آن واح,,د ...ورائح,,ة لحظ,,ة
التقاء الشروق بالغروب ،ساعة الذئب؟
ً
راكض,ا في الش,,وارع وإذا كانت دمعة واحدة تختصرني وتكتشفني تحت المجه,,ر :ألن ينطل,,ق المحل,,ل هار ًب,,ا
وقد نبشت بجراحي جرحه؟
. . .
في اليوم الموعود ذهبت إلحضار نتيجة التحليل .تخيلت أنه سيدفع إليَّ بعدة مجلدات فيها حكايا عمري ،التي
ال يعرفها أحد غير دمعي!..
وفوجئت بصفحة بيضاء ،وعبارة واحدة تتوسطها:
خال من كل شيء"!!!
"الدمع ٍ
لم تذكر الورقة ،التي تحمل نتيجة تحليل دموعي ،أي شيء غير حساسيتي ألح,د المركب,ات الكيميائي,ة ...أم,ا
بقية "حساسيات عمري" فلم تلحظها.
ما أشد قصور العلم والمجهر والتكنولوجيا وأهله أمام قطرة دمع إنساني واحدة هي بحر من األس,,رار! ال ،لم
تذكر نتيجة التحليل أية أسماء...
أية حكايا ...أي توق ...أي هذيان ...أي جنون ...أية سكينة .لم تذكر أية تواريخ،
حى وال تواريخ كهذه مثاًل :
5حزيران .١٩٦٧
وغيرها.