You are on page 1of 2

‫‪1973 /12 /5‬‬

‫كتابات على دمعة‬

‫غرقت نظراته الخبيرة في عينيَّ المرهقتين المسكونتين باإلعياء‪ ،‬وبعد طول تأمل قال لي البروفسور ط‪,,‬بيب‬
‫العيون‪" :‬أريد منك إجراء تحليل لدموعك"!‬
‫كانت هذه أول مرة أسمع فيها عن "تحليل الدموع"‪ .‬سمعت عن "تحليل الدم" وغير الدم‪ ...‬أما الدمع فال!‬
‫في الطريق نحو المختبر كنت خائفة‪ .‬ماذا سيكشف لهم تحليل دموعي؟‬
‫بل وكيف يحصلون على الدمع مني‪ ،‬وأنا البخيلة به حتى في ُج ُزر وحدتي؟! لقد انهار شيء في أعماقي من‪,,‬ذ‬
‫زمن ما‪ ،‬وسد درب الدمع وطمس معالمه‪ ،‬فكيف أبكي في مختبر التحليل إذا طلب إليَّ ذلك؟‬
‫ولكن‪ ،‬لِ َم ال؟‬
‫إنها فرص‪,,‬ة رائع‪,,‬ة للبك‪,,‬اء بع‪,,‬د ط‪,,‬ول احتب‪,,‬اس لمط‪,,‬ر القلب‪ ،‬وس‪,,‬أبكي دون أن أحمّل ض‪,,‬ميري أو إرادتي أي‬
‫وزر‪ .‬تخيلت المشهد على الوجه التالي‪ :‬سيقول لي الممرض "خذي ه‪,‬ذا األنب‪,,‬وب‪ ،‬ابكي في‪,‬ه واملئي‪,‬ه دمعً‪ ,‬ا"‪.‬‬
‫سأنتهز الفرصة؛ وسأبكي طوياًل طوياًل ‪ ...‬فهنالك لحظات في عمري مررت بها راكضة وقد أشحت بوجهي‬
‫عنها‪ :‬وهي التي كانت تستحق مني أعوامًا من البكاء – بكاء فرح أو بكاء حزن – فألب‪,,‬كِ ألجلها دق‪,,‬ائق على‬
‫األقل؛ وبأمر من الطبيب! سأبكي‪ ...‬وحتى حينما يأتي المم‪,,‬رض ويق‪,,‬ول لي إن األنب‪,,‬وب ال‪,,‬ذي مألت‪,‬ه بال‪,,‬دمع‬
‫طاف‪ ،‬فلن أرد عليه وسأمأل له إبري ًقا من الدمع (ت‪,,‬رى ه‪,,‬ل س‪,‬يعطونني أنبوبً‪,‬ا ملو ًن‪,,‬ا مزخر ًف‪,,‬ا كتل‪,‬ك الم‪,,‬دامع‬
‫األثرية القديمة‪ ،‬كتلك التي أهداني إياها صديقي الشاعر المرحوم توفيق صايغ ذات م‪,,‬رة‪ ،‬ولم‪,,‬ا س‪,,‬ألته لم‪,,‬اذا‪،‬‬
‫قال‪" :‬كي تبكي من أجلي‪ ...‬سيأتي يوم تبكين فيه ألجلي"‪ .‬وضحكت منه طويال يومئ‪,,‬ذ‪ ...‬وح‪,,‬تى ي‪,,‬وم س‪,,‬رقه‬
‫الموت‪ ،‬ظلت "المدمعة" الهدية جافة‪ ،‬فقد كان الدمع قد غاض في رمال قلبي المقفرة‪.‬‬

‫‪. . .‬‬
‫ولكن األمر كان أكثر بس‪,,‬اطة في المخت‪,,‬بر‪ .‬لم يطلب إليَّ أح‪,,‬د البك‪,,‬اء‪ ،‬ج‪,,‬اؤوا فق‪,,‬ط بقطع‪,,‬ة قطن‪ ،‬وحك‪,,‬وا به‪,,‬ا‬
‫جفني فانهمر الدمع‪ .‬نقطة واحدة كانت تكفيهم‪ ،‬ولكنها لم تكن تكفيني! وحين غادرت المخت‪,,‬بر‪ ،‬ف‪,,‬رحت ألنه‪,,‬ا‬
‫كانت تمطر ولم يكن في وسعي أن أوقف مطر الدمع في حنجرتي المالحة كمغارة محشوة بالشوك‪...‬‬

‫‪. . .‬‬
‫قال لي الرجل‪" :‬تعالي بعد أيام من أجل نتيجة التحليل"‪.‬‬
‫وعشت أيا ًم ا شبه قلقة‪ ...‬ترى هل سيقرأون‪ ،‬في دموعي‪ ،‬تاريخي كله؟! تاريخ أحزاني كلها؟‪ ..‬هل سيقرأون‬
‫ضا أسماء‪ ...‬وتواريخ؟‪ ...‬وهل ستتراءى للمحلل‪ ،‬تحت المجهر‪ ،‬وجوه ووجوه‪ ،‬وجوه أمسكت بها‪ ،‬ووجوه‬ ‫أي ً‬
‫راحت مني في زحام ذلك الزمن الحزين الهارب؟‪..‬‬
‫هل سيقرأ في دموعي اسم دمشق‪ ،‬مدينتي التي منحتي الصبا والعناد يوم ودعتها وق‪,,‬ذفت بنفس‪,,‬ي في مس‪,,‬تنقع‬
‫الغربة؟‬
‫ذلك الرجل المكب بوجهه اآلن فوق عدسة المجه‪,,‬ر‪ ،‬ه‪,‬ل س‪,‬يقرأ في دم‪,,‬وعي حك‪,,‬ايتي؟ وه‪,‬ل يرتج‪,,‬ف جس‪,,‬ده‬
‫ض‪,,‬حكا م‪,,‬ني‪ ،‬من غب‪,,‬اء أس‪,,‬ميته "ح ًب‪,,‬ا"‪ ،‬وانهي‪,,‬ارات أس‪,,‬ميتها تج‪,,‬ارب؟! ت‪,,‬رى ه‪,,‬ل ينبت ال‪,,‬ذين نحبهم داخ‪,,‬ل‬
‫دموعنا؟ وهل يسبحون في بحرها المالح كما األسماك تسبح في أعماق المحي‪,,‬ط؟‪ ..‬ت‪,,‬رى ه‪,,‬ل تس‪,,‬جل دموعن‪,,‬ا‬
‫زالزل أعماقنا وفواجعنا‪ ،‬بحيث تبقى دوائرها مرتسمة‪ ،‬هادئة حي ًنا وصاخبة حي ًنا‪ :‬كما يم‪,,‬زق الزل‪,,‬زال وج‪,,‬ه‬
‫مياه البحر ويترك فيها بصماته‪ ...‬وهل! وهل؟‬
‫وإذا زرع المحلل دموعي (كما يزرعون الدم ويحللونه)‪ ،‬فوجه من س‪,,‬ينبت في‪,,‬ه؟‪ ..‬اس‪,,‬م من؟‪ ..‬اس‪,,‬م "أين"؟‪..‬‬
‫اسم أية مدينة غير دمشق؟ ما لون الدمع تحت المجهر؟‪ ..‬المحزون‪,,‬ون مثلي‪ ،‬ه‪,,‬ل يمكن ل‪,,‬دمعهم أن يك‪,,‬ون ل‪,‬ه‬
‫غير لون الدم؟‪..‬‬
‫ترى هل سيكون لدمعي صوت تحت المجهر؟‪ ..‬صوت شالل التمرد وصرخة الحرية والشهية إلى الحي‪,,‬اة؟‪..‬‬
‫وح َي‪,,‬وات وجن‪,,‬ون‬
‫ذلك المحلل المسكين‪ ،‬ألن تخيفه قطرة دم‪,,‬ع واح‪,,‬دة من عي‪,,‬ني بك‪,,‬ل م‪,,‬ا تختزن‪,,‬ه من أه‪,,‬وال َ‬
‫وأهواء ونزوات؟‪ ...‬بكل ما فيها من لون النزف وصوت االحتضار والوالدة في آن واح‪,,‬د‪ ...‬ورائح‪,,‬ة لحظ‪,,‬ة‬
‫التقاء الشروق بالغروب‪ ،‬ساعة الذئب؟‬
‫ً‬
‫راكض‪,‬ا في الش‪,,‬وارع‬ ‫وإذا كانت دمعة واحدة تختصرني وتكتشفني تحت المجه‪,,‬ر‪ :‬ألن ينطل‪,,‬ق المحل‪,,‬ل هار ًب‪,,‬ا‬
‫وقد نبشت بجراحي جرحه؟‬

‫‪. . .‬‬
‫في اليوم الموعود ذهبت إلحضار نتيجة التحليل‪ .‬تخيلت أنه سيدفع إليَّ بعدة مجلدات فيها حكايا عمري‪ ،‬التي‬
‫ال يعرفها أحد غير دمعي!‪..‬‬
‫وفوجئت بصفحة بيضاء‪ ،‬وعبارة واحدة تتوسطها‪:‬‬
‫خال من كل شيء"!!!‬
‫"الدمع ٍ‬
‫لم تذكر الورقة‪ ،‬التي تحمل نتيجة تحليل دموعي‪ ،‬أي شيء غير حساسيتي ألح‪,‬د المركب‪,‬ات الكيميائي‪,‬ة‪ ...‬أم‪,‬ا‬
‫بقية "حساسيات عمري" فلم تلحظها‪.‬‬
‫ما أشد قصور العلم والمجهر والتكنولوجيا وأهله أمام قطرة دمع إنساني واحدة هي بحر من األس‪,,‬رار! ال‪ ،‬لم‬
‫تذكر نتيجة التحليل أية أسماء‪...‬‬
‫أية حكايا‪ ...‬أي توق‪ ...‬أي هذيان‪ ...‬أي جنون‪ ...‬أية سكينة‪ .‬لم تذكر أية تواريخ‪،‬‬
‫حى وال تواريخ كهذه مثاًل ‪:‬‬
‫‪ 5‬حزيران ‪.١٩٦٧‬‬
‫وغيرها‪.‬‬

You might also like