You are on page 1of 844

‫‪http://www.shamela.

ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب ‪ :‬تفسري آايت األحكام‬


‫املؤلف ‪ :‬حممد علي السايس‬
‫الناشر‪ :‬املكتبة العصرية للطباعة والنشر اتريخ النشر‪2002/10/01 :‬‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]‬

‫الرحيم‬
‫الرمحن ّ‬
‫الل ّ‬
‫بسم ّ‬
‫الكتاب ‪ :‬تفسري آايت األحكام‬
‫املؤلف ‪ :‬حممد علي السايس‬
‫الناشر ‪ :‬املكتبة العصرية للطباعة والنشر‬
‫اتريخ النشر ‪2002/10/01 :‬‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]‬

‫املقدمة‬
‫أما بعد ‪ .....‬ص ‪5 :‬‬
‫وعملنا يف الكتاب ‪ .....‬ص ‪7 :‬‬
‫معىن االستعاذة‬
‫سوره الفاحتة‬
‫[سورة الفاحتة(‪ : )1‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]2‬ص ‪11 :‬‬
‫القول يف البسملة ‪ .....‬ص ‪11 :‬‬
‫شرح املفردات ‪ .....‬ص ‪15 :‬‬
‫شرح املفردات ‪ .....‬ص ‪17 :‬‬
‫[سورة الفاحتة(‪ : )1‬اآلايت ‪ 4‬اىل ‪ ..... ]7‬ص ‪17 :‬‬
‫حكم قراءة فاحتة الكتاب يف الصالة ‪ .....‬ص ‪20 :‬‬
‫األحكام اليت تؤخذ من الفاحتة ‪ .....‬ص ‪22 :‬‬
‫من سورة البقرة‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 102‬اىل ‪ ..... ]103‬ص ‪23 :‬‬
‫ما يؤخذ من اآلية من األحكام ‪ .....‬ص ‪30 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 106‬اىل ‪ ..... ]108‬ص ‪32 :‬‬
‫أقسام النسخ ‪ .....‬ص ‪35 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬آية ‪ ..... ]144‬ص ‪39 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪41 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 158‬اىل ‪ ..... ]160‬ص ‪45 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪46 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬آية ‪ ..... ]173‬ص ‪49 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪51 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 178‬اىل ‪ ..... ]203‬ص ‪56 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 215‬اىل ‪ ..... ]242‬ص ‪125 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪130 :‬‬
‫املرتد ‪ .....‬ص ‪130 :‬‬
‫ما هي اخلمر؟ ‪ .....‬ص ‪133 :‬‬
‫حترمي امليسر ‪ .....‬ص ‪135 :‬‬
‫االحكام ‪ .....‬ص ‪138 :‬‬
‫[سورة البقرة(‪ : )2‬اآلايت ‪ 275‬اىل ‪ ..... ]283‬ص ‪174 :‬‬
‫سبب حترمي الراب ‪ .....‬ص ‪176 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪179 :‬‬
‫من سورة آل عمران‬
‫[سورة آل عمران(‪ : )3‬آية ‪ ..... ]28‬ص ‪190 :‬‬
‫[سورة آل عمران(‪ : )3‬اآلايت ‪ 96‬اىل ‪ ..... ]97‬ص ‪193 :‬‬
‫[سورة آل عمران(‪ : )3‬اآلايت ‪ 130‬اىل ‪ ..... ]132‬ص ‪201 :‬‬
‫من سورة النساء‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]36‬ص ‪203 :‬‬
‫خامتة ‪ .....‬ص ‪227 :‬‬
‫آايت املواريث ‪ .....‬ص ‪228 :‬‬
‫مرياث األوالد ‪ .....‬ص ‪229 :‬‬
‫مرياث األبوين ‪ .....‬ص ‪230 :‬‬
‫مسألة العمريتني ‪ .....‬ص ‪231 :‬‬
‫مرياث األزواج والزوجات ‪ .....‬ص ‪233 :‬‬
‫مرياث الكاللة ‪ .....‬ص ‪234 :‬‬
‫ما حيرم من النساء ‪ .....‬ص ‪249 :‬‬
‫السبع الاليت حرمن من النسب ‪ .....‬ص ‪252 :‬‬
‫السبع احملرمات بغري النسب ‪ .....‬ص ‪253 :‬‬
‫حترمي ذوات األزواج ‪ .....‬ص ‪259 :‬‬
‫شرح املفردات ‪ .....‬ص ‪278 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬آية ‪ ..... ]43‬ص ‪290 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬اآلايت ‪ 58‬اىل ‪ ..... ]59‬ص ‪300 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬اآلايت ‪ 92‬اىل ‪ ..... ]94‬ص ‪304 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬اآلايت ‪ 101‬اىل ‪ ..... ]106‬ص ‪314 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬اآلايت ‪ 127‬اىل ‪ ..... ]130‬ص ‪328 :‬‬
‫[سورة النساء(‪ : )4‬آية ‪ ..... ]176‬ص ‪336 :‬‬
‫من سورة املائدة‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]8‬ص ‪339 :‬‬
‫شرح املفردات ‪ .....‬ص ‪339 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪341 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪349 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪354 :‬‬
‫وهاهنا أمور ‪ .....‬ص ‪362 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪364 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪365 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 33‬اىل ‪ ..... ]35‬ص ‪366 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 38‬اىل ‪ ..... ]39‬ص ‪371 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 42‬اىل ‪ ..... ]45‬ص ‪376 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 87‬اىل ‪ ..... ]97‬ص ‪383 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬آية ‪ ..... ]103‬ص ‪405 :‬‬
‫[سورة املائدة(‪ : )5‬اآلايت ‪ 106‬اىل ‪ ..... ]108‬ص ‪405 :‬‬
‫من سورة األنعام‬
‫[سورة األنعام(‪ : )6‬اآلايت ‪ 118‬اىل ‪ ..... ]121‬ص ‪412 :‬‬
‫[سورة األنعام(‪ : )6‬آية ‪ ..... ]141‬ص ‪415 :‬‬
‫[سورة األنعام(‪ : )6‬آية ‪ ..... ]145‬ص ‪416 :‬‬
‫من سورة األعراف‬
‫[سورة األعراف(‪ : )7‬اآلايت ‪ 204‬اىل ‪ ..... ]206‬ص ‪420 :‬‬
‫من سورة األنفال‬
‫[سورة األنفال(‪ : )8‬آية ‪ ..... ]1‬ص ‪429 :‬‬
‫ما يستنبط من اآلية ‪ .....‬ص ‪431 :‬‬
‫[سورة األنفال(‪ : )8‬اآلايت ‪ 15‬اىل ‪ ..... ]16‬ص ‪432 :‬‬
‫[سورة األنفال(‪ : )8‬آية ‪ ..... ]41‬ص ‪433 :‬‬
‫[سورة األنفال(‪ : )8‬اآلايت ‪ 72‬اىل ‪ ..... ]75‬ص ‪436 :‬‬
‫ما يستفاد من اآلايت ‪ .....‬ص ‪440 :‬‬
‫من سورة التوبة‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬اآلايت ‪ 6‬اىل ‪ ..... ]7‬ص ‪441 :‬‬
‫يؤخذ من اآلية ما أييت ‪ .....‬ص ‪442 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬اآلايت ‪ 17‬اىل ‪ ..... ]18‬ص ‪444 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬اآلايت ‪ 28‬اىل ‪ ..... ]29‬ص ‪447 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬اآلايت ‪ 36‬اىل ‪ ..... ]37‬ص ‪451 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬آية ‪ ..... ]60‬ص ‪455 :‬‬
‫بيان األصناف الثمانية ‪ .....‬ص ‪458 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬آية ‪ ..... ]84‬ص ‪468 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬آية ‪ ..... ]103‬ص ‪470 :‬‬
‫سبب النزول ‪ .....‬ص ‪471 :‬‬
‫[سورة التوبة(‪ : )9‬اآلايت ‪ 122‬اىل ‪ ..... ]123‬ص ‪474 :‬‬
‫من سورة النحل‬
‫[سورة النحل(‪ : )16‬آية ‪ ..... ]67‬ص ‪478 :‬‬
‫[سورة النحل(‪ : )16‬آية ‪ ..... ]98‬ص ‪479 :‬‬
‫[سورة النحل(‪ : )16‬آية ‪ ..... ]106‬ص ‪480 :‬‬
‫[سورة النحل(‪ : )16‬اآلايت ‪ 125‬اىل ‪ ..... ]128‬ص ‪482 :‬‬
‫من سورة اإلسراء‬
‫[سورة اإلسراء(‪ : )17‬اآلايت ‪ 78‬اىل ‪ ..... ]79‬ص ‪486 :‬‬
‫من سورة احلج‬
‫[سورة احلج(‪ : )22‬اآلايت ‪ 27‬اىل ‪ ..... ]39‬ص ‪492 :‬‬
‫ما يف اآلايت من األحكام ‪ .....‬ص ‪496 :‬‬
‫ما يف اآلية من األحكام وأقوال العلماء يف ذلك ‪ .....‬ص ‪504 :‬‬
‫وملن أجاز مطلقا حجج ‪ ..... :‬ص ‪504 :‬‬
‫[سورة احلج(‪ : )22‬اآلايت ‪ 77‬اىل ‪ ..... ]78‬ص ‪519 :‬‬
‫من سورة النور‬
‫[سورة النور(‪ : )24‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]10‬ص ‪529 :‬‬
‫حد الزىن ‪ .....‬ص ‪531 :‬‬
‫أدلة اخلوارج والرد عليها ‪ .....‬ص ‪533 :‬‬
‫دليل الظاهرية والرد عليهم ‪ .....‬ص ‪534 :‬‬
‫أقوال الفقهاء يف النفي ‪ .....‬ص ‪536 :‬‬
‫أقوال الفقهاء يف حد الذمي احملصن ‪ .....‬ص ‪537 :‬‬
‫الكالم فيمن يلي احلد ‪ .....‬ص ‪538 :‬‬
‫حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم ‪ .....‬ص ‪539 :‬‬
‫صفة اجللد ‪ .....‬ص ‪541 :‬‬
‫حترمي الشفاعة يف احلدود ‪ .....‬ص ‪541 :‬‬
‫حضور احلد ‪ .....‬ص ‪542 :‬‬
‫الكالم يف نكاح الزانة واملشركني ‪ .....‬ص ‪543 :‬‬
‫حد القذف ‪ .....‬ص ‪549 :‬‬
‫اللعان ‪ .....‬ص ‪559 :‬‬
‫سبب نزول آايت اللعان ‪ .....‬ص ‪560 :‬‬
‫شروط املتالعنني ‪ .....‬ص ‪562 :‬‬
‫كيفية اللعان ‪ .....‬ص ‪564 :‬‬
‫ما يرتتب على اللعان ‪ .....‬ص ‪565 :‬‬
‫االستئذان يف دخول البيوت ‪ .....‬ص ‪569 :‬‬
‫[سورة النور(‪ : )24‬اآلايت ‪ 27‬اىل ‪ ..... ]34‬ص ‪569 :‬‬
‫حكم النظر وإبداء الزينة ‪ .....‬ص ‪579 :‬‬
‫الرتغيب يف النكاح ‪ .....‬ص ‪593 :‬‬
‫مكاتبة األرقاء ‪ .....‬ص ‪598 :‬‬
‫اإلكراه على البغاء ‪ .....‬ص ‪601 :‬‬
‫[سورة النور(‪ : )24‬اآلايت ‪ 58‬اىل ‪ ..... ]61‬ص ‪604 :‬‬
‫الكالم يف بلوغ الصيب ‪ .....‬ص ‪610 :‬‬
‫من سورة لقمان‬
‫[سورة لقمان(‪ : )31‬اآلايت ‪ 14‬اىل ‪ ..... ]15‬ص ‪620 :‬‬
‫من سورة األحزاب‬
‫[سورة األحزاب(‪ : )33‬اآلايت ‪ 4‬اىل ‪ ..... ]6‬ص ‪624 :‬‬
‫[سورة األحزاب(‪ : )33‬اآلايت ‪ 49‬اىل ‪ ..... ]59‬ص ‪633 :‬‬
‫األحكام ‪ .....‬ص ‪644 :‬‬
‫من سورة سبأ‬
‫[سورة سبإ(‪ : )34‬آية ‪ ..... ]13‬ص ‪670 :‬‬
‫من سورة ص‬
‫[سورة ص(‪ : )38‬آية ‪ ..... ]44‬ص ‪678 :‬‬
‫من سورة األحقاف‬
‫[سورة األحقاف(‪ : )46‬اآلايت ‪ 15‬اىل ‪ ..... ]16‬ص ‪686 :‬‬
‫من سورة حممد صلى هللا عليه وسلم‬
‫[سورة حممد(‪ : )47‬آية ‪ ..... ]4‬ص ‪688 :‬‬
‫[سورة حممد(‪ : )47‬آية ‪ ..... ]33‬ص ‪693 :‬‬
‫من سورة احلجرات‬
‫[سورة احلجرات(‪ : )49‬اآلايت ‪ 6‬اىل ‪ ..... ]12‬ص ‪695 :‬‬
‫من سورة الواقعة‬
‫[سورة الواقعة(‪ : )56‬اآلايت ‪ 75‬اىل ‪ ..... ]80‬ص ‪714 :‬‬
‫من سورة اجملادلة‬
‫[سورة اجملادلة(‪ : )58‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]4‬ص ‪728 :‬‬
‫[سورة اجملادلة(‪ : )58‬اآلايت ‪ 9‬اىل ‪ ..... ]13‬ص ‪742 :‬‬
‫من سورة احلشر‬
‫[سورة احلشر(‪ : )59‬اآلايت ‪ 6‬اىل ‪ ..... ]7‬ص ‪751 :‬‬
‫من سورة املمتحنة‬
‫[سورة املمتحنة(‪ : )60‬اآلايت ‪ 8‬اىل ‪ ..... ]11‬ص ‪756 :‬‬
‫من سورة اجلمعة‬
‫[سورة اجلمعة(‪ : )62‬اآلايت ‪ 9‬اىل ‪ ..... ]11‬ص ‪765 :‬‬
‫من سورة الطالق‬
‫[سورة الطالق(‪ : )65‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]7‬ص ‪772 :‬‬
‫من سورة التحرمي‬
‫[سورة التحرمي(‪ : )66‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]2‬ص ‪799 :‬‬
‫من سورة املزمل‬
‫[سورة املزمل(‪ : )73‬اآلايت ‪ 1‬اىل ‪ ..... ]8‬ص ‪805 :‬‬
‫[سورة املزمل(‪ : )73‬آية ‪ ..... ]20‬ص ‪819 :‬‬

‫ص‪5:‬‬
‫[املقدمة]‬
‫الرحيم‬
‫الرمحن ّ‬
‫الل ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫مفصلة‬
‫احلمد ّلل الذي أظهر شعائر الشرع وأحكامه ‪ ،‬فتناولت جوانب احلياة كافة ‪ ،‬فجاءت ّ‬
‫الل وسالمه‬
‫لكل شيء وتبياان ‪ ،‬فأرسل رسال وأنبياء مبيّنني وكاشفني للشريعة الرابنية ‪ ،‬فصلوات ّ‬
‫ّ‬
‫عليهم أمجعني ‪ ،‬وأخلفهم بعلماء يف النهج متبعني ‪ ،‬يسلكون فيما مل يؤثر عنهم مسلك االجتهاد‬
‫فخص أولئك املستنبطني ابلتوفيق ‪ ،‬فكانت احلوادث والنوازل معهم موضع البحث والتدقيق‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬
‫فأصبحت متشعبة‪.‬‬
‫ّأما بعد‬
‫‪ :‬فإ ّن علم التفسري هو الكنز الدفني ‪ ،‬وملجأ لكل طالب معرفة يف تبيان أحكام الشريعة ‪ ،‬وقول‬
‫ومبني حكم ‪ ،‬ومظهر للّفظ رونقه وللحكم معناه‪.‬‬
‫فصل يف املتنازع فيه ‪ ،‬وكاشف حق ‪ّ ،‬‬
‫وإ ّن فن التفسري هو حمض توفيق ‪ ،‬وصاحبه ذو ذوق رفيع ‪ ،‬إذ أنّه كلما خاض فيه ازداد معرفة‬
‫وإحاطة به ‪ ،‬وأخرج منه لطائفه ‪ ،‬فال ميكن ألحد أن يتناول جوانبه كافة‪.‬‬
‫ولذا فإ ّن املتتبع لفن التفسري جيد بعدا يف منهجية املفسرين أو طابعا خمتلفا ما بني الواحد‬
‫واآلخر‪.‬‬
‫مث إ ّن كتب التفسري تبلورت حتت عناوين صنّفت يف مناهج ع ّدة ‪ :‬منها ما هو متصف ابملأثور ‪،‬‬
‫مفسر فنون‬
‫ومنه ابللغة وآخر ابألحكام ‪ ،‬وآخر ابلبالغة وآخر ابلتنزيل ‪ ...‬أي أنّه مل حيو ّ‬
‫املفسر هبذا املنهج الذي سلكه أو ابحملتوى الذي ارتسم عنده ‪ ،‬ولذلك‬
‫التفسري مجلة ‪ ،‬فاتّصف ّ‬
‫جند علم التفسري أنواع ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬التفسري ابملأثور فهو مما ال دخل لالستنباط العقلي فيه أو االجتهاد ‪ ،‬وال ميكن اعتبار‬
‫التفسري ابملأثور إال إذا استند على مصادر هي ‪ :‬تفسري القرآن ابلقرآن ‪ ،‬القرآن ابلسنة ‪ ،‬القرآن‬
‫مبأثور الصحايب ‪ ،‬أو التابعي ‪ ،‬ومن أشهر املفسرين يف هذا النهج ‪ :‬ابن جرير الطربي ‪ ،‬وأبو‬
‫الليث السمرقندي ‪ ،‬والثعليب ‪ ،‬والنيسابوري ‪ ،‬والبغوي ‪ ،‬وابن كثري ‪ ،‬والسيوطي‪.‬‬
‫اثنيا ‪ :‬التفسري ابلرأي ‪ ،‬فهو الذي يبىن على أسس النظر واالستدالل العقلي واالستنباط ومن‬
‫أشهر هؤالء يف هذا النهج ‪ :‬الفخر الرازي ‪ ،‬والبيضاوي ‪ ،‬والنسفي ‪ ،‬واخلازن ‪ ،‬واجلالالن وأبو‬
‫السعود واأللوسي‪.‬‬

‫ص‪6:‬‬
‫اثلثا ‪ :‬التفسري الصويف فهو الذي ينسب ألرابب الكشف واحلقيقة واملشاهدة ‪ ،‬ومن أشهر‬
‫هؤالء يف هذا النهج ‪ :‬التسرتي صاحب كتاب تفسري القرآن العظيم ‪ ،‬والسلمي صاحب كتاب‬
‫حقائق التفسري ‪ ،‬والشريازي صاحب كتاب عرائس البيان يف حقائق القرآن ‪ ،‬وابن عريب‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التفسري الكالمي فهو الذي يتناول موضوعات علم الكالم يف اإلهليات والنبوات ومن‬
‫أشهر هؤالء يف هذا النهج ‪ :‬القاضي عبد اجلبار صاحب كتاب تنزيه القرآن عن املطاعن ‪،‬‬
‫والشريف املرتضى صاحب كتاب أمايل الشريف املرتضى ‪ ،‬والزخمشري صاحب الكشاف‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬التفسري الفقهي وهو تفسري شبه متأخر ألنّه حيمل وجهة نظر املذاهب فعلى سبيل‬
‫املثال ‪:‬‬
‫من احلنفية ‪ :‬ألف أبو بكر الرازي املعروف ابجلصاص كتابه أحكام القرآن‪.‬‬
‫ومن الشافعية ‪ :‬ما مجعه عن اإلمام الشافعي أبو بكر البيهقي وأبو احلسن الطربي املعروف‬
‫ابلكيااهلراس (‪ 504‬ه) وكتابه أحكام القرآن‪.‬‬
‫ومن املالكية ‪ :‬ألف أبو بكر بن العريب كتابه أحكام القرآن وكذلك اإلمام القرطيب صاحب كتاب‬
‫اجلامع ألحكام القرآن‪.‬‬
‫والكتاب الذي بني أيدينا «كتاب آايت األحكام للسايس» يعترب من املراجع املهمة يف كتب‬
‫جل آايت األحكام فتناول املؤلف من خالل اآلية استعراض األحكام فيها ‪-‬‬
‫األحكام إذ حوى ّ‬
‫هذا ابختصار ‪. -‬‬
‫وأما ابلتفصيل لقد اعتمد منهجية التفسري كافة ‪ ،‬فنجده ‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أوال ‪ :‬يسلك املعىن ابملأثور ويعتمد ابلدرجة األوىل ‪ -‬وحيد عصره ‪ -‬ابن جرير الطربي‬
‫صاحب كتاب (جامع البيان يف تفسري القرآن) والذي يعترب من أقوم التفاسري وأشهرها ‪ ،‬وكذلك‬
‫يعتمد على تفسري اإلمام السيوطي صاحب كتاب الدر املنثور يف التفسري ابملأثور‪.‬‬
‫‪ -‬اثنيا ‪ :‬يسلك املعىن ابلرأي ويعتمد يف ذلك على الفخر الرازي صاحب كتاب مفاتيح الغيب ‪،‬‬
‫وكذلك على الزخمشري ‪ ،‬والذي يغلب عند األخري املنحى اللغوي والعقدي ‪ ،‬وأيضا اإلمام أبو‬
‫السعود صاحب كتاب إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي ‪ ،‬إضافة إىل األلوسي‬
‫صاحب كتاب روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين‪.‬‬
‫‪ -‬اثلثا ‪ :‬من انحية األحكام فنجده يعتمد على كتاب اإلمام القرطيب وعلى اإلمام اجلصاص‬
‫إضافة إىل ابن العريب‪.‬‬

‫ص‪7:‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬من الناحية الفقهية املذهبية فإنه يسرد آراء املذاهب ويصرح يف كثري من األحيان‬
‫ابملراجع اليت اعتمدها‪.‬‬
‫‪ -‬خامسا ‪ :‬من الناحية العقدية فقد يتطرق لألمر إن وجد حاجة ترتتب على هذا اخلالف‪.‬‬
‫وأخريا من الناحية اللغوية فكثريا ما يعىن هبذا األمر ويستشهد ملا يقوله من كالم العرب‪ .‬وإضافة‬
‫إىل أوجه القراءة‪.‬‬
‫فكان كتااب شافيا يف حكمه ‪ ،‬وعوان ألهل العلم بتنوع اآلراء مع االستدالل ‪ ،‬يرجع إليه يف‬
‫موضع احلاجة‪.‬‬
‫وعملنا يف الكتاب‬
‫لقد حوى الكتاب كثريا من اآلايت واألحاديث واألقوال من آراء املفسرين والفقهاء واللغويني‬
‫وأوجه القراءة وسرد احلوادث وذكر األعالم‪.‬‬
‫املفسرين‬
‫جل األقوال من ّ‬
‫فتناولت فيه ختريج اآلايت واألحاديث ابلتفصيل ‪ ،‬مثّ تناولت ختريج ّ‬
‫والفقهاء وخاصة مذهب احلنفية‪.‬‬
‫مث تناولت احلوادث إبثبات املراجع هلا‪.‬‬
‫وكذلك قمت برتاجم األعالم من فقهاء ومؤلفني وشعراء وأدابء‪.‬‬
‫الل أن أكون موفقا بعملي هذا ‪ ،‬كما أتوجه ابلشكر اجلزيل إىل كل من ق ّدم يل عوان‬
‫مث إين أرجو ّ‬
‫يف هذا العمل املتواضع ‪ ،‬كما أتوجه ابلشكر إىل دار النشر على هذا العمل البناء يف خدمة‬
‫الشريعة يف نشر العلم وتقدمي العون لطلبة العلم يف مواصلة املسري يف ركاب املعرفة والثقافة‪.‬‬
‫واحلمد ّلل يف األول واآلخر فإنّه خري مسؤول ومأمول‪.‬‬
‫وكتبه انجي سويدان‬

‫ص‪8:‬‬

‫ص‪9:‬‬
‫معىن االستعاذة‬
‫الرجيم أعوذ ‪ :‬أستجري‪.‬‬
‫شيطان ّ‬
‫ابلل من ال ّ‬
‫أعوذ ّ‬
‫ِ‬ ‫اجلن والدواب ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل ‪َ :‬وَكذلِ َ‬
‫ك َج َعلْنا ل ُك ِّل نَِ ٍّّ‬
‫يب َع ُد ًّوا‬ ‫املتمرد من اإلنس و ّ‬
‫الشيطان ‪ّ :‬‬
‫الل عنه وقد ركب برذوان‬ ‫س َوا ْجلِ ِّن ‪[ ...‬األنعام ‪ ]112 :‬وقول «‪ »1‬عمر رضي ّ‬ ‫ني ِْ‬
‫اإلنْ ِ‬ ‫ِ‬
‫َشياط َ‬
‫والل لقد أنكرت نفسي»‪ .‬وإمنا أطلق الشيطان‬
‫«‪ »2‬فتبخرت به ‪« :‬لقد محلتموين على شيطان ‪ّ ،‬‬
‫املتمرد ألنه مأخوذ من شطن ‪ ،‬وهي مبعىن بعد ‪ ،‬يقال ‪ :‬شطنت داري عن دارك أي بعدت‬
‫على ّ‬
‫‪ ،‬قال الشاعر «‪: »3‬‬
‫أنت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد هبا رهني‬
‫واملتمرد قد بعدت أخالقه عن اخلري ‪ ،‬وأنى عن جنسه فناسب إطالق‬
‫ّ‬ ‫أي وجهة بعيدة‪.‬‬
‫الشيطان عليه‪.‬‬
‫الرجيم ‪ :‬فعيل مبعىن مرجوم‪ .‬ككحيل مبعىن مكحول ‪ ،‬ورهني مبعىن مرهون ‪ ،‬وهو من الرجم مبعىن‬
‫الرمي ‪ ،‬سواء أكان بقول أم حصى ‪ ،‬والشيطان مرجوم إذ هو مرمي ابللعن والسب‪.‬‬
‫ابلل من الشيطان امللعون املذموم أن يغويين ويضلّين‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬أستجري ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اتريخ اإلسالم للذهيب بريوت ‪ ،‬دار الكتاب العريب ‪( )269 /2( 1987 ،‬عهد‬
‫اخللفاء الراشدين) بلفظ ‪« :‬ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان ‪ ،‬هاتوا مجلي»‪.‬‬
‫(‪ )2‬الربذون ‪ :‬دابة خاصة من اخليل ‪ ،‬الغليظ األعضاء اجلايف اخللقة وهو من اخليل غري العربية‬
‫انظر اتج العروس للزبيدي (‪.)54 /18‬‬
‫(‪ ) 3‬األعشى انظر احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندلسي (‪.)59 /1‬‬

‫ص ‪10 :‬‬

‫ص ‪11 :‬‬
‫سوره الفاحتة‬
‫الرحيم‬
‫الرمحن ّ‬
‫الل ّ‬‫بسم ّ‬
‫القول يف البسملة‬
‫أمجع العلماء على أن البسملة بعض آية [‪ ]30‬من سورة النمل ‪ ،‬مث اختلف القراء والعلماء فيها‬
‫أهي آية من أول الفاحتة ومن أول كل سورة‪ .‬أم ال؟ وسنذكر أقوال املختلفني ‪ ،‬ومأخذ كل فريق‪.‬‬
‫كتب املصحف اإلمام ‪ ،‬وكتبت فيه البسملة يف أول الفاحتة ‪ ،‬ويف أول كل سورة عدا سورة براءة‬
‫‪ ،‬وكتبت كذلك يف مصاحف األمصار املنقولة عنه ‪ ،‬وتواتر كتبها يف أوائل السور ‪ ،‬مع العلم‬
‫أبهنم كانوا ال يكتبون يف املصحف ما ليس من القرآن ‪ ،‬وكانوا يتشددون يف ذلك ‪ ،‬حىت إهنم‬
‫منعوا من كتابة التعشري ومن أمساء السور ومن اإلعجام ‪ ،‬وما وجد من ذلك أخريا فقد كتب بغري‬
‫يتسرب إليه ما ليس منه‪.‬‬
‫خط املصحف ومبداد غري املداد ‪ ،‬حفظا للقرآن أن ّ‬
‫الل‬
‫روى عبد احلميد بن جعفر ‪ ،‬عن نوح بن أيب بالل ‪ ،‬عن سعيد املقربي ‪ ،‬عن أيب هريرة رضي ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه كان يقول ‪« :‬احلمد ّلل رب العاملني سبع آايت إحداهن‬
‫عنه ‪ ،‬عن النيب صلّى ّ‬
‫الل الرمحن الرحيم»‬
‫بسم ّ‬
‫الل‬
‫وحديث أيب هريرة روي مرفوعا وموقوفا ‪ ،‬وفيه اضطراب يف السند ‪ ،‬ويف رفعه إىل رسول ّ‬
‫الل صلّى‬
‫الل عليه وسلّم «‪ .»1‬وأخرج ابن خزمية يف «صحيحه» عن أم سلمة أن رسول ّ‬ ‫صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم قرأ البسملة يف أول الفاحتة يف الصالة وغريها آية‬
‫ّ‬
‫‪ .‬ويف إسناده عمر بن هارون البلخي ‪ ،‬وفيه ضعف «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم كان‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنهما أن رسول ّ‬
‫روى الرتمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي ّ‬
‫الل الرمحن الرحيم‬
‫يفتتح الصالة ببسم ّ‬
‫‪ .‬قال الرتمذي ‪ :‬وليس إسناده بذلك «‪.»3‬‬
‫الل عليه وسلّم فقال‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنه أنه سئل عن قراءة رسول ّ‬
‫وأخرج البخاري عن أنس رضي ّ‬
‫‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬رواه البيهقي يف السنن الكربى ‪ ،‬بريوت دار الكتب العلمية ‪.)67 /2( 1994‬‬
‫(‪ )2‬انظر نصب الراية ختريج أحاديث اهلداية للزيلعي ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية‬
‫‪ .1996‬كتاب الصالة ابب املواقيت (‪ )427 /1‬خترجيا مفصال للحديث‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )297 /1‬كتاب الصالة ‪ - 25 ،‬ابب من مل ير اجلهر حديث‬
‫رقم (‪ ، )783‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )14 /2‬حديث رقم (‪.)245‬‬

‫ص ‪12 :‬‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬مي ّد بسم ّ‬
‫الل ‪ ،‬ومي ّد الرمحن ‪ ،‬ومي ّد‬ ‫«كانت قراءته مدا ‪ ،‬مث قرأ ‪ :‬بِ ْس ِم ه‬
‫الرحيم» «‪.»1‬‬
‫وكان ذلك يوجب أن يقول األئمة اآلخرون مبثل ما قال الشافعي ‪ ،‬ألن ذلك هو الطريق الذي‬
‫علمت به قرآنية ما بني دفيت املصحف ‪ ،‬وأن هذه اآلية من هذه السورة ‪ ،‬وتلك من تلك‪.‬‬
‫الل رأي ‪ :‬أن أهل املدينة ال يقرؤون البسملة يف صالهتم يف مسجد‬
‫ولكن عرض ملالك رمحه ّ‬
‫الل عليه وسلّم إىل أايم اإلمام مالك‬
‫املدينة ‪ ،‬وجرى العمل على ذلك يف الصالة من أايمه صلّى ّ‬
‫الل عنه ‪ ،‬مع قيام الدليل عنده على وجوب قراءة الفاحتة يف الصالة ‪ ،‬فلو كانت آية من‬
‫رضي ّ‬
‫الفاحتة لوجبت قراءهتا معها يف الصالة‪.‬‬
‫وقوى ذلك عنده عدة أحاديث يفهم منها أهنا ليست آية من الفاحتة وال من أوائل السور ‪،‬‬
‫ّ‬
‫وإليك بعض هذه األحاديث ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنها قالت ‪ :‬كان رسول ّ‬
‫جاء يف «صحيح مسلم» عن عائشة رضي ّ‬
‫يفتتح الصالة ابلتكبري ‪ ،‬والقراءة ابحلمد ّلل رب العاملني «‪»2‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وأيب بكر وعمر‬
‫‪ .‬ويف «الصحيحني» عن أنس قال ‪ :‬صليت خلف النيب صلّى ّ‬
‫وعثمان ‪ ،‬فكانوا يستفتحون ابحلمد ّلل رب العاملني‪.‬‬
‫الل الرمحن الرحيم يف أول قراءة وال آخرها «‪.»3‬‬
‫ورواه مسلم بلفظ ‪ :‬ال يذكرون بسم ّ‬
‫ومن الدليل على أهنا ليست آية من الفاحتة‬
‫حديث سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن العالء بن عبد الرمحن ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أيب هريرة أن النيب صلّى‬
‫الل تعاىل ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬قال ّ‬
‫ّ‬
‫ِِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫ني‬ ‫قسمت الصالة بيين وبني عبدي نصفني ‪ ،‬ولعبدي ما سأل ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬ا ْحلَ ْم ُد هلل َر ِّ‬
‫(‪ )2‬قال ‪ :‬محدين عبدي ‪ ،‬وإذا قال ‪ :‬ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )3‬قال ّ‬
‫الل تعاىل ‪:‬‬
‫ك يَ ْوِم ال ِّدي ِن (‪ )4‬قال ‪ :‬جمدين عبدي ‪ ،‬وقال مرة ‪:‬‬ ‫أثىن علي عبدي ‪ ،‬وإذا قال ‪ :‬مالِ ِ‬
‫ّ‬
‫ني (‪ )5‬قال ‪ :‬هذا بيين وبني عبدي ‪ ،‬ولعبدي‬ ‫ِ‬
‫إيل عبدي فإذا قال ‪ :‬إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد َوإِ هاي َك نَ ْستَع ُ‬
‫فوض ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)6‬‬ ‫ط ال ُْم ْستَق َ‬ ‫الصرا َ‬‫ما سأل ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬ا ْهد َان ِّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 66 ، )136 /6‬كتاب فضائل القرآن ‪ - 29 ،‬ابب مد‬
‫القراءة حديث رقم (‪.)5046‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )357 /1‬كتاب الصالة ‪ - 46 ،‬ابب ما جيمع صفة‬
‫الصالة حديث رقم (‪.)498 /240‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )203 /1‬كتاب األذان ‪ - 89 ،‬ابب ما يقول بعد‬
‫التكبري حديث رقم (‪ ، )743‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )299 /1‬كتاب الصالة ‪- 13 ،‬‬
‫ابب حجة من قال ال جيهر ابلبسملة حديث رقم (‪.)000 /52‬‬

‫ص ‪13 :‬‬
‫ِ‬ ‫صرا َ ِ‬
‫ِ‬
‫ني (‪ .)7‬قال ‪ :‬هذا لعبدي ولعبدي‬ ‫ض ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضهالّ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم غَ ِْري ال َْمغْ ُ‬ ‫ط الهذ َ‬
‫ين أَنْ َع ْم َ‬
‫ما سأل» «‪.»1‬‬
‫الل عنه من هذه األحاديث أ ّن البسملة ليست آية من الفاحتة ‪ ،‬واحتمل‬
‫هكذا فهم مالك رضي ّ‬
‫عنده أن يكون كتبها يف أوائل السور امتثاال لألمر بطلبها والبدء هبا يف أوائل األمور ‪ ،‬وهي وإن‬
‫تواتر كتبها يف أوائل السور فلم يتواتر كوهنا قرآان فيها‪.‬‬
‫وأما احلنفية ‪ :‬فقد رأوا أن كتبها يف املصحف يدل على أهنا قرآن ‪ ،‬ولكن ال يدل على أهنا بعض‬
‫السورة ‪ ،‬واألحاديث اليت تدل على عدم قراءهتا جهرا يف الصالة مع الفاحتة تدل على أهنا‬
‫ليست منها ‪ ،‬فحكموا أبهنا آية من القرآن اتمة يف غري سورة النمل [‪ ]30‬أنزلت للفصل بني‬
‫السور ‪ ،‬وإىل هذا يشري‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫احلديث الذي أخرجه أبو داود إبسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول ّ‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬وأخرجه احلاكم يف‬
‫كان ال يعرف فصل السورة حىت أنزل عليه بِ ْس ِم ه‬
‫«املستدرك» «‪.»2‬‬
‫وهذا املذهب قريب ‪ ،‬ألن كتبها يف املصحف ‪ ،‬وتواتر ذلك دون نكري من أحد مع العلم أبهنم‬
‫جيردون املصحف من كل ما ليس قرآان ‪ ،‬يدل على أهنا قرآن‪.‬‬
‫كان ّ‬
‫تبني أهنا ما كانت تقرأ مع الفاحتة يف الصالة جهرا تدل على أهنا ليست من‬
‫واألحاديث اليت ّ‬
‫الفاحتة ‪ ،‬وكذلك ما‬
‫الل عليه وسلّم من قوله ‪« :‬سورة من القرآن ‪ ،‬هي ثالثون آية شفعت لقارئها‬ ‫ورد عن النيب صلّى ّ‬
‫ْك» «‪»3‬‬‫بار َك اله ِذي بِيَ ِدهِ ال ُْمل ُ‬
‫وهي ‪ :‬تَ َ‬
‫القراء والع ّدادون على أهنا ثالثون آية عدا البسملة ‪ ،‬وكذلك سورة الكوثر اتفقوا‬
‫‪ ،‬وقد أمجع ّ‬
‫على أهنا ثالث آايت ليست البسملة منها «‪.»4‬‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬ليست إحدى آايت هاتني السورتني ‪ ،‬وال فارق‬
‫وذلك يدل على أن بِ ْس ِم ه‬
‫بني سورة وأخرى ‪ ،‬فال تكون آية من الفاحتة وال من غريها من السور‪ .‬ويؤكد أهنا ليست من‬
‫أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب يف الكالم ‪ ،‬والعرب كانت ترى التفنن يف البالغة‬
‫‪ ،‬ال سيما يف افتتاحاهتا ‪ ،‬فال يظن ابلقرآن أن أييت آبية بعينها ‪ ،‬وجيعلها ّأول كل سورة‪.‬‬
‫وقول املالكية ‪ :‬مل يتواتر كوهنا قرآان ‪ ،‬فليست بقرآن ‪ ،‬غري ظاهر ‪ ،‬ألنه ليس‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )296 /1‬كتاب الصالة ‪ - 11 ،‬ابب وجوب قراءة‬
‫الفاحتة حديث رقم (‪.)395 /38‬‬
‫(‪ )2‬انظر كتاب املستدرك على الصحيحني للحاكم النيسابوري يف كتاب الصالة ‪ ،‬ابب من جهر‬
‫هبا حديث رقم (‪.)788‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )151 /5‬كتاب الفضائل ‪ ،‬ابب ما جاء يف فضل‬
‫سورة تبارك حديث رقم (‪.)2891‬‬
‫(‪ )4‬لكن هذا خالف ما رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )300 /1‬كتاب الصالة ‪- 14 ،‬‬
‫ابب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة حديث رقم (‪.)400 /53‬‬
‫ص ‪14 :‬‬
‫بالزم أن يقال يف كل آية هي قرآن ويتواتر ذلك ‪ ،‬بل قرائن األحوال تكفي يف مثل ذلك ‪ ،‬فإذا‬
‫الل عليه وسلّم كاتب الوحي ‪ ،‬وطلب منه أن يكتب يف املصحف كذا ‪ ،‬وأن‬
‫استدعى النيب صلّى ّ‬
‫يضع كذا يف موضع كذا ‪ ،‬كان ذلك دليال على أن ما أمر بكتبه قرآن ‪ ،‬وإن مل يصرح أبنه من‬
‫القرآن ‪ ،‬وهل البسملة ّإال كذلك «اجعلوها يف أول كل سورة»‪.‬‬
‫الل إىل منع قراءهتا يف الصالة‬
‫واختلفوا يف حكم قراءة البسملة يف الصالة ‪ ،‬فذهب مالك رمحه ّ‬
‫سرا ‪ ،‬ال يف استفتاح أم القرآن ‪ ،‬وال يف غريها من السور‪ .‬وأجاز قراءهتا‬
‫املكتوبة ‪ ،‬جهرا كانت أو ّ‬
‫سرا مع أم القرآن يف كل ركعة ‪ ،‬وروي‬
‫الل عنه ‪ :‬يقرؤها ّ‬
‫يف النافلة وقال أبو حنيفة «‪ »1‬رضي ّ‬
‫عنه أنه يقرؤها يف األوىل فقط وقال الشافعي وأمحد ‪ :‬يقرؤها وجواب ‪ ،‬يف اجلهر جهرا ‪ ،‬ويف السر‬
‫سرا‪.‬‬
‫ّ‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬أهي آية من أول الفاحتة ومن أول كل‬
‫وسبب اخلالف ما قدمناه يف بِ ْس ِم ه‬
‫سورة أم ال؟ وشيء آخر وهو اختالف اآلاثر يف هذا الباب ‪ ،‬فمن ذهب إىل أهنا آية من الفاحتة‬
‫‪ ،‬ومن كل سورة كالشافعي أوجب قراءهتا مع الفاحتة ‪ ،‬ومن ذهب إىل أهنا ليست آية من الفاحتة‬
‫‪ ،‬واعتمد األحاديث الدالّة على عدم قراءهتا يف الصالة منع من قراءهتا كاإلمام مالك‪ .‬ومن رأى‬
‫سرا طلب‬
‫أهنا ليست من فاحتة الكتاب ‪ ،‬ولكنه صحت عنده األحاديث اليت تدل على قراءهتا ّ‬
‫الل‪ .‬فأما اآلاثر اليت تدل على إسقاط البسملة ‪ :‬فمنها‬ ‫سرا كأيب حنيفة رمحه ّ‬
‫قراءهتا ّ‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬فقال ‪ :‬اي بين! إايك‬
‫حديث ابن مغفل قال ‪ :‬مسعين أيب وأان أقرأ بِ ْس ِم ه‬
‫الل عليه وسلّم وأيب بكر وعمر ‪ ،‬فلم أمسع رجال‬
‫الل صلّى ّ‬
‫واحلدث ‪ ،‬فإين صليت مع رسول ّ‬
‫منهم يقرؤها‬
‫الرب ‪ :‬ابن مغفل هذا رجل جمهول «‪ .»2‬ومنها ما رواه مالك من حديث‬ ‫‪ .‬قال أبو عمر ابن عبد ّ‬
‫اللِ‬
‫الل عنهم فكلهم كان ال يقرأ بِ ْس ِم ه‬
‫أنس أنه قال ‪ :‬قمت وراء أيب بكر وعمر وعثمان رضي ّ‬
‫ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬إذا افتتح الصالة «‪ .»3‬ويف بعض الرواايت ‪ :‬أنه قام خلف النيب صلّى ّ‬
‫الل‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪.)1‬‬
‫عليه وسلّم فكان ال يقرأ بِ ْس ِم ه‬
‫قال أبو عمر ‪ :‬إن أهل احلديث قالوا يف حديث أنس هذا ‪ :‬إن النقل فيه مضطرب اضطرااب ال‬
‫ومرة مل يرفع‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ّ ،‬‬ ‫مرة روي عنه مرفوعا إىل النيب صلّى ّ‬ ‫تقوم به حجة ‪ ،‬وذلك أنه ّ‬
‫اللِ ‪ ...‬ومنهم من يقول‬ ‫ومرة ذكر عثمان ومرة مل يذكر ‪ ،‬ومنهم من يقول ‪ :‬فكانوا يقرؤون بِ ْس ِم ه‬ ‫ّ‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ ، )1‬ومنهم من يرويه بلفظ ‪ :‬فكانوا ال جيهرون بِ ْس ِم‬
‫فكانوا ال يقرؤون بِ ْس ِم ه‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪.)1‬‬
‫ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪1990 ،‬‬
‫(‪].....[ .)52 /2 - 1‬‬
‫الل الرمحن الرحيم‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )12 /2‬من ابب ترك اجلهر ببسم ّ‬
‫حديث رقم (‪.)244‬‬
‫(‪ )3‬رواه اإلمام مالك يف املوطأ صفحة (‪ ، )45‬ابب العمل يف القراءة حديث رقم (‪.)175‬‬

‫ص ‪15 :‬‬
‫وأما األحاديث املعارضة هلذا منها ‪:‬‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪)1‬‬
‫الل اجملمر قال ‪ :‬صليت خلف أيب هريرة فقرأ بِ ْس ِم ه‬
‫حديث نعيم بن عبد ّ‬
‫الل‬
‫كرب يف اخلفض ‪ ،‬والرفع‪ .‬وقال ‪ :‬إين ألشبهكم صالة برسول ّ‬
‫قبل أم القرآن ‪ ،‬وقبل السورة ‪ ،‬و ّ‬
‫الل عليه وسلّم «‪»1‬‬
‫صلّى ّ‬
‫‪ .‬ومنها‬
‫الل الرمحن الرحيم «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم كان جيهر ببسم ّ‬
‫حديث ابن عباس أن النيب صلّى ّ‬
‫ومنها‬
‫اللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم‬
‫الل عليه وسلّم يقرأ بِ ْس ِم ه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫حديث أم سلمة أهنا قالت ‪ :‬كان رسول ّ‬
‫ِِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫ني (‪.»3« )2‬‬ ‫(‪ )1‬ا ْحلَ ْم ُد هلل َر ِّ‬
‫شرح املفردات‬
‫االسم ‪ :‬هو اللفظ املوضوع على اجلوهر والعرض ‪ ،‬وهو مشتق من السمو ‪ ،‬وهو الرفعة ‪ ،‬ألن‬
‫ابملسمى ‪ ،‬فهو حمذوف الالم ‪ :‬ك ‪( :‬يد ‪ ،‬ودم) وأصله (مسو) بدليل تصغريه على‬
‫ّ‬ ‫التسمية تنويه‬
‫(مسي) ومجعه على (أمساء) وجميء فعله (مسيت)‪.‬‬
‫ّ‬
‫الل ‪ :‬علم على واجب الوجود ‪ ،‬وأصله اإلله ‪ ،‬حذفت اهلمزة ‪ ،‬وأدغم أحد املثلني يف اآلخر‬
‫ّ‬
‫كقول القائل ‪:‬‬
‫لكن ّإايك ال أقلي‬
‫وترمينين ابلطرف أي أنت مذنب وتقلينين ّ‬
‫األصل (لكن أان) حذفت اهلمزة ‪ ،‬وأدغم أحد املثلني يف اآلخر ‪ ،‬وهو مأخوذ من أله أيله إهلة أي‬
‫معرب عن السراينية‬
‫عبد‪ .‬وقال اخلليل «‪ : »4‬إنه اسم جامد ال اشتقاق له ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬إنه ّ‬
‫عرب حبذف األلف ‪ ،‬وتعويض الالم‪.‬‬
‫أصله فيها (إالها) ابأللف ‪ّ ،‬‬
‫الرمحن ‪ :‬فعالن من رحم ‪ ،‬وهو الذي وسعت رمحته كل شي ء ‪ ،‬كغضبان للممتلىء غضبا‪.‬‬
‫تدل على‬
‫الرحيم ‪ :‬فعيل منه‪ .‬ويف (الرمحن) من املبالغة ما ليس يف (الرحيم) ‪ ،‬ألن زايدة املبىن ّ‬
‫زايدة املعىن ‪ ،‬ويف (الرمحن) زايداتن ‪ ،‬ويف (الرحيم) زايدة واحدة‪.‬‬
‫وقد وقال بعضهم ‪( :‬الرمحن) ‪ :‬املنعم جبالئل النعم ‪ ،‬و(الرحيم) املنعم بدقائقها‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪( :‬الرمحن) ‪ :‬املنعم بنعم عامة تشمل املؤمنني والكافرين ‪ ،‬و(الرحيم) ‪:‬‬
‫املنعم بنعم خاصة ابملؤمنني ‪ ،‬وهذا قول يف اللغة بال دليل ‪ ،‬وكأن الذي محلهم على‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر تفصيله يف نصب الراية للزيلعي ‪ ،‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب صفة الصالة (‪.)400 /1‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه صفحة ‪.14‬‬
‫(‪ )3‬سبق خترجيه صفحة ‪.14‬‬
‫(‪ ) 4‬هو اخلليل بن أمحد الفراهيدي ‪ :‬من أئمة اللغة واألدب ‪ ،‬واضع علم العروض وسيبويه‬
‫تلميذه وانقل علمه تويف (‪ 170‬ه) يف البصرة‪ .‬انظر األعالم للزركلي ط ‪ ، 7‬بريوت ‪ ،‬دار العلم‬
‫للماليني ‪.)314 /2( 1986 ،‬‬

‫ص ‪16 :‬‬
‫هذا تلك القاعدة ‪ :‬زايدة املبىن تدل على زايدة املعىن‪ .‬ولكن الزايدة تدل على زايدة الوصف‬
‫مطلقا ‪ ،‬فصفة الرمحن تدل على كثرة اإلحسان الذي يعطيه سواء أكان جليال أم دقيقا ‪ ،‬وليس‬
‫املعىن أن أفراد اإلحسان اليت يدل عليها لفظ (الرمحن) أكثر من أفراد اإلحسان اليت يدل عليها‬
‫فرق ابن القيم «‪ »1‬بينهما بفرق حسن ‪،‬‬
‫لفظ (الرحيم) ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬إهنما مرتادفان‪ .‬وقد ّ‬
‫دال على تعلقها ابملرحوم ‪ ،‬وكأ ّن‬ ‫دال على الصفة القائمة به سبحانه ‪ ،‬والرحيم ّ‬ ‫فذكر أن الرمحن ّ‬
‫ِ‬ ‫األول الوصف والثاين الفعل ‪ ،‬لذلك ورد وكا َن ِابلْم ْؤِمنِ ِ‬
‫ني َرحيماً [األحزاب ‪ِ ]43 :‬ابل ُْم ْؤمنِ َ‬
‫ني‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ابلل ال يطلق‬ ‫خاص ّ‬ ‫رُؤ ٌ ِ‬
‫يم [التوبة ‪ ]128 :‬مل جيئ مطلقا رمحن هبم ‪ -‬أه والرمحن وصف ّ‬ ‫ف َرح ٌ‬ ‫َ‬
‫على غريه خبالف رحيم‪.‬‬
‫واجلار يف بِ ْس ِم متعلق مبحذوف يق ّدر هاهنا (أقرأ)‪ .‬فإن قيل ‪ :‬إن املتعلق هنا كون خاص وهو ال‬
‫حيذف‪ .‬قيل ‪ :‬إنه جيوز حذفه لدليل ‪ ،‬وهو هنا حايل ‪ ،‬إذ حينما يقرأ البسملة ‪ ،‬وأيخذ بعد ذلك‬
‫الل) علم املتعلّق‬
‫حل أو ارحتل فقال (بسم ّ‬
‫يف القراءة يعلم املتعلّق ‪ ،‬وإنه (أقرأ)‪ .‬وكذا املسافر إذا ّ‬
‫الل) يضمر ما جعل التسمية مبدأ له‬
‫‪ ،‬وهو (أحل) أو (أرحتل) وكذا كل فاعل فعل يقول ‪( :‬بسم ّ‬
‫‪ ،‬ويعلم السامع ذلك من داللة احلال‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬وهنا حمل حبث ‪ ،‬وهو أنه إذا كان األمر‬ ‫واملعىن ‪ :‬ومعىن أقرأ بِس ِم هِ‬
‫الل أقرأ مستعينا ابسم ّ‬ ‫ْ‬
‫ابلل ال‬
‫الل) ‪ ،‬ألن االستعانة إمنا هي ّ‬
‫(ابلل) ال (ابسم ّ‬
‫على ما وصفنا ‪ ،‬فكان ينبغي أن يقال ‪ّ :‬‬
‫ابمسه‪ .‬وقد اختلف الناس يف اخلروج من هذا ‪ ،‬فذهب بعضهم إىل أن لفظ (اسم) مقحم كقول‬
‫الشاعر «‪: »2‬‬
‫إىل احلول مث اسم السالم عليكما ومن يبك حوال كامال فقد اعتذر‬
‫املسمى‪.‬‬
‫أي ‪ :‬مث السالم عليكما‪ .‬وذهب آخرون إىل أن االسم عني ّ‬
‫اللِ املراد به احلدث ‪ ،‬أي بذكر ّ‬
‫الل أقرأ ‪،‬‬ ‫وذهب ابن جرير الطربي «‪ »3‬إىل أن اسم يف بِ ْس ِم ه‬
‫وقد عمل وإن كان ليس جاراي على حروف فعله كقوله ‪:‬‬
‫عين وبعد عطائك املائة الراتعا «‪»4‬‬
‫أكفرا بعد ر ّد املوت ّ‬
‫الل يف القراءة تربكا ‪،‬‬
‫وقال املتأخرون ‪ :‬الباء للمصاحبة ‪ ،‬والغرض مصاحبة اسم ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬حممد بن أيب بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي ‪ ،‬تلميذ ابن تيمية وهو الذي ه ّذب‬
‫كتبه ونشر علمه ‪ ،‬وسجن معه ‪ ،‬انظر الدر الكامنة البن حجر (‪ )243 /3‬ترمجة (‪.)3700‬‬
‫(‪ )2‬هو لبيد بن ربيعة انظر احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندلسي (‪/1‬‬
‫‪.)62‬‬
‫(‪ )3‬حممد بن جرير الطربي نسبة إىل طربستان تويف يف بغداد (‪ 310‬ه) ‪ ،‬انظر شذرات الذهب‬
‫البن عماد احلنبلي ‪ ،‬بريوت دار الفكر ‪.)260 /2( 1994‬‬
‫الراتع ‪ :‬الرعي يف اخلصب ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬بريوت دار صادر ‪،‬‬
‫(‪ّ )4‬‬
‫‪.)113 /8( 1955‬‬

‫ص ‪17 :‬‬
‫وقال أبو بكر اجلصاص «‪ : »1‬إن املتعلق حيتمل أن يكون خربا ‪ ،‬وأن يكون أمرا ‪ ،‬فإذا كان‬
‫الل‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬وإذا كان أمرا كان معناه ‪ :‬ابدؤوا ابسم ّ‬ ‫خربا كان معناه ‪ :‬أبدأ ابسم ّ‬
‫ك يَ ْوِم ال ِّدي ِن (‪)4‬‬
‫ني (‪ )2‬ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )3‬مالِ ِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫ِِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ا ْحلَ ْم ُد هلل َر ِّ‬
‫قال ّ‬
‫شرح املفردات‬
‫احلمد ‪ :‬الثناء ابللسان على اجلميل من نعمة وغريها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬محدت الرجل على إنعامه ‪،‬‬
‫خاصة ‪ ،‬ويكون ابلقلب‬
‫ومحدته على شجاعته ‪ ،‬وهو كاملدح يف ذلك ‪ ،‬وأما الشكر فعلى النعمة ّ‬
‫واللسان واجلوارح ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫احملجبا‬
‫مين ثالثة يدي ولساين والضمري ّ‬
‫أفادتكم النّعماء ّ‬
‫رب ‪ :‬يطلق يف اللغة على معان ‪ :‬منها السيد املطاع ‪ ،‬ومنها املصلح للشي ء ‪ ،‬ومنها املالك‬
‫ّ‬
‫للشي ء ‪ ،‬يقال ‪ :‬رب الضيعة ‪ ،‬ورب املال ‪ ،‬قال صفوان أليب سفيان ‪ :‬ألن يربّين رجل من‬
‫إيل من أن يربين رجل من هوازن‪.‬‬
‫ب ّ‬ ‫قريش ‪ ،‬أح ّ‬
‫العاملني ‪ :‬مجع عامل ‪ ،‬والعامل مجع ال واحد له من لفظه ‪ ،‬كالرهط ‪ ،‬وهو اسم ألصناف األمم ‪،‬‬
‫فكل صنف منها عامل ‪ ،‬وأهل كل قرن منها عامل ذلك القرن ‪ ،‬واألنس عامل ‪ ،‬وكل أهل زمان فهم‬
‫كل جنس منها عامل زمانه‪ .‬لذلك مجع‬
‫عامل ذلك الزمان ‪ ،‬واجلن عامل ‪ ،‬وكذا سائر أجناس اخللق ‪ّ ،‬‬
‫فقيل ‪ :‬عاملون ‪ ،‬ليشمل أصناف األمم يف كل زمان‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هو اسم لذوي العلم من املالئكة والثقلني‪ .‬وقيل ‪ :‬كل ما علم به اخللق من األجسام‬
‫واألعراض‪.‬‬
‫الدين ‪ :‬اجلزاء ‪ ،‬ومنه قوهلم ‪ :‬كما تدين تدان ‪ ،‬وقول الشاعر «‪: »2‬‬
‫ومل يبق سوى العدوا ن د ّانهم كما دانوا‬
‫وقرئ ‪ :‬مالك «‪ »3‬وملك «‪ .»4‬وإضافته إىل (يوم) على التوسع ‪ ،‬كقوله ‪ :‬اي سارق الليلة أهل‬
‫الدار‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أمحد بن علي أبو بكر الرازي اإلمام الكبري املعروف ابجلصاص من أهل الري تويف سنة‬
‫(‪ 370‬ه) انظر شذرات الذهب يف أخبار من ذهب البن عماد احلنبلي دار الفكر ‪ ،‬بريوت‬
‫(‪.)71 /3‬‬
‫(‪ ) 2‬هو شهل بن شيبان احلنفي (الفند الزماين) انظر احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن‬
‫عطية األندلسي (‪.)71 /1‬‬
‫(‪ )3‬قراءة عاصم ويعقوب والكسائي‪.‬‬
‫(‪ )4‬قراءة السبعة الباقيني‪].....[ .‬‬

‫ص ‪18 :‬‬
‫املعىن ‪ :‬مالك األمر يف يوم الدين‪.‬‬
‫معىن اآلايت ‪ :‬الثناء والشكر ّلل ‪ -‬دون ما يعبد من دونه ‪ -‬مبا أنعم على عباده من اخللق‬
‫والرزق وسالمة اجلوارح ‪ ،‬وهدايتهم إىل سعادة الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫أي معىن من معانيه الثالثة املتقدمة‪ .‬فهو السيد الذي ال يبلغ سؤدده‬
‫وجيوز أن يراد من الرب ّ‬
‫أحد ‪ ،‬واملصلح أمر خلقه مبا أودع يف هذا العامل من نظام يرجع كلّه ابملصلحة على عامل احليوان‬
‫والنبات‪ .‬فمن مشس لوالها ما وجدت حياة وال موت ‪ ،‬ومن مياه هبا حياة احليوان والنبات ‪ ،‬ومن‬
‫أعضاء للغداء الذي به قوام الفرد ‪ ،‬وأخرى للتناسل الذي به قوام النوع ‪ ،‬وأخرى للسمع‬
‫واألبصار ‪ ،‬ومعىن ملك يوم الدين (‪ )4‬أن ّلل امللك خالصا يوم الدين دون هؤالء امللوك اجلبابرة‬
‫اللِ‬
‫الذين كانوا ينازعونه العزة واجلربوت يف الدنيا ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ :‬يَ ْو َم ُه ْم اب ِر ُزو َن ال ََيْفى َعلَى ه‬
‫ْواح ِد الْ َقهها ِر (‪[ )16‬غافر ‪.]16 :‬‬ ‫ْك الْي وم ِهللِ ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُه ْم َش ْيءٌ ل َم ِن ال ُْمل ُ َ ْ َ‬
‫وأما أتويل قراءة ملك يوم الدين (‪ )4‬فكما قال ابن عباس ‪ :‬ال ميلك أحد يف ذلك اليوم معه‬
‫ت‬‫ش َع ِ‬
‫صواابً [النبأ ‪َ ]38 :‬و َخ َ‬ ‫قال َ‬ ‫حكما كملكهم يف الدنيا ال يَتَ َكله ُمو َن إِهال َم ْن أ َِذ َن لَهُ ال هر ْمح ُن َو َ‬
‫َهساً [طه ‪.]108 :‬‬ ‫ت لِل هر ْمح ِن فَال تَ ْس َم ُع إِهال َ ْ‬
‫َصوا ُ‬
‫ْاأل ْ‬
‫الل نفسه؟ وأثىن عليها؟‬ ‫وقد َيطر سؤال عند قراءة الفاحتة ‪ ،‬وهو ‪ :‬أمحد ّ‬
‫الل عليه وسلّم أو جربيل؟ فإن كان األول ‪ ،‬فما معىن‬ ‫وعلّمنا ذلك؟ أم ذلك من قبل النيب صلّى ّ‬
‫الل معبود ال عابد؟ فإن كان الثاين فقد بطل أن تكون الفاحتة كالم‬ ‫إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد َوإِ هاي َك نَ ْستَعِ ُ‬
‫ني (‪ )5‬و ّ‬
‫الل ‪ ،‬وهي على معىن قولوا ‪:‬‬
‫الل ‪ ،‬واجلواب ‪ :‬أن الفاحتة من كالم ّ‬ ‫ّ‬
‫ا ْحلَ ْم ُد ِهللِ ‪ ...‬وقولوا ‪ :‬إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد ‪ ....‬فإن قيل ‪ :‬وأين قوله قولوا؟ قيل ‪:‬‬
‫إن العرب من شأهنا إذا عرف السامع مكان الكلمة حذفها‪ .‬واكتفت بداللة ما ظهر من منطقها‬
‫على ما حذف ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫وأعلم أنين سأكون رمسا إذا سار النواعج «‪ »1‬ال يسري‬
‫فقال السائلون ‪ :‬ملن حفرمت؟ فقال املخربون هلم ‪ :‬وزير‬
‫أي امليت وزير ‪ ،‬فأسقط امليت إذ قد أتى الكالم مبا يدل عليه‪ .‬وإمنا قال ‪:‬‬
‫الل أو محدا ّلل ‪ ،‬ألنه لو قال ذلك لدل على محد التايل ّلل ‪ ،‬مع أن الغرض‬
‫احلمد ّلل دون أمحد ّ‬
‫أن مجيع احملامد والشكر الكامل ّلل ‪ ،‬وهذا هو ما يؤديه احلمد ّلل‪.‬‬
‫وقال صاحب «الكشاف» «‪ : »2‬عدل هبا عن النصب إىل الرفع على االبتداء ‪ ،‬مع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬اخلفاف من اإلبل ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)380 /2‬‬
‫(‪ )2‬حممود بن عمر الزخمشري اخلوارزمي ‪ ،‬ولد بزخمشر تويف سنة (‪ 538‬ه) انظر سري أعالم‬
‫النبالء للذهيب (‪ )115 /20‬ترمجة (‪.)91‬‬

‫ص ‪19 :‬‬
‫قال‬
‫أن األصل النصب ‪ ،‬للداللة على ثبات املعىن واستقراره‪ .‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬قالُوا َسالماً َ‬
‫َسالمٌ [هود ‪ ]69 :‬رفع السالم الثاين للداللة على أن إبراهيم حياهم بتحية أحسن من حتيتهم ‪،‬‬
‫دال على ثبات السالم هلم دون جتدده وحدوثه‪.‬‬ ‫ألن الرفع ّ‬
‫نذل وخنشع ونستكني ‪ ،‬ألن العبودية معناها‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد َوإِ هاي َك نَ ْستَعِ ُ‬
‫ني (‪ )5‬نعبد ‪ّ :‬‬ ‫قال ّ‬
‫الذلّة ‪ ،‬ومنها قوهلم ‪ :‬طريق معبّد ‪ ،‬أي ‪ :‬مذلل وطئته األقدام ‪ ،‬وذللته السابلة‪ .‬وقوهلم ‪ :‬بعري‬
‫معبّد ‪ ،‬أي مذلل ابلركوب يف احلوائج ‪ ،‬ومسّي العبد عبدا لذلته ملواله‪ .‬وقال صاحب «الكشاف»‬
‫‪:‬‬
‫العبادة أقصى غاية اخلضوع والتذلل ‪ ،‬ومنه ثوب ذو عبدة ‪ ،‬إذا كان يف غاية الصفاقة وقوة‬
‫النسج‪ .‬ولذلك مل يستعمل إال يف اخلضوع ّلل تعاىل ‪ ،‬ألنه موىل أعظم النعم ‪ ،‬فكان حقيقا أبقصى‬
‫غاية اخلضوع‪.‬‬
‫نستعني ‪ :‬نطلب املعونة ‪ ،‬وقدم املفعول فيها ليفيد احلصر‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬لك اللهم نذل وخنضع ال لسواك ‪ ،‬وإايك ربنا نستعني على طاعتك وعبادتك ‪ ،‬ويف‬
‫أموران كلها ‪ ،‬ال أحدا سواك ‪ ،‬إذ كان من يكفر بك يستعني بسواك ‪ ،‬وقد جرى يف أول السورة‬
‫على الغيبة ‪ ،‬مث عدل إىل اخلطاب ‪ ،‬وهو نوع من االلتفات ليكون أدعى إىل نشاط السامع ‪ ،‬أل ّن‬
‫نقل الكالم من أسلوب إىل أسلوب يوقظ النشاط ‪ ،‬وحيرك اهلمة لالستماع‪.‬‬
‫صرا َ ِ‬
‫ط الْمستَ ِقيم (‪ِ )6‬‬ ‫ِ‬
‫ض ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم غَ ِْري ال َْمغْ ُ‬ ‫ط الهذ َ‬
‫ين أَنْ َع ْم َ‬ ‫الصرا َ ُ ْ َ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ا ْهد َان ِّ‬
‫قال ّ‬
‫اجتَباهُ َو َهداهُ إِىل‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ )7‬اهدان ‪ :‬وفقنا ‪ ،‬وهو يتعدى إبىل وابلالم ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ْ :‬‬ ‫َوَال الضهالّ َ‬
‫اط ُم ْستَ ِق ٍّيم [النحل ‪ ]121 :‬وقوله ‪َ :‬وقالُوا ا ْحلَ ْم ُد ِهللِ اله ِذي َهداان ِهلذا [األعراف ‪]43 :‬‬ ‫صر ٍّ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ط ‪ ...‬على حد قوله ‪:‬‬ ‫وقد حيذف احلرف كقوله ‪ :‬ا ْهد َان ِّ‬
‫الصرا َ‬
‫رب العباد إليه الوجه والعمل‬
‫الل ذنبا لست حمصيه ّ‬ ‫أستغفر ّ‬
‫السراط ‪ :‬اجلادة ‪ ،‬من سرط الشيء إذا ابتلعه ‪ ،‬ألنه يسرط السابلة إذا سلكوه ‪ ،‬كما مسّي لقما‬
‫تشم الصاد صوت الزاي ‪ ،‬وقرئ هبن‬
‫ألنه يلتقمهم ‪ ،‬وقد تقلب سينها صادا ألجل الطاء ‪ ،‬وقد ّ‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫والعرب تستعري الصراط لكل قول أو عمل وصف ابستقامة أو اعوجاج ‪ ،‬واملراد به هنا طريق‬
‫احلق وهو ملة اإلسالم‪.‬‬
‫والضال ‪ :‬احلائد عن قصد السبيل ‪ ،‬والسالك غري املنهج القومي‪ .‬واملراد ابملغضوب عليهم‬
‫والضالني ‪ :‬كل حائد عن صراط اإلسالم‪ .‬وقيل ‪ :‬املراد ابملغضوب‬

‫ص ‪20 :‬‬
‫ك َمثُوبَةً ِع ْن َد ه‬
‫اللِ َم ْن ل ََعنَهُ ه‬
‫اللُ‬ ‫ش ٍّّر ِم ْن ذلِ َ‬
‫عليهم ‪ :‬اليهود ‪ ،‬لقوله تعاىل يف وصفهم قُ ْل َه ْل أُنَبِّئُ ُك ْم بِ َ‬
‫اخلَنا ِز َير [املائدة ‪ ]60 :‬واملراد ابلضالني ‪ :‬النصارى ‪ ،‬لقوله‬ ‫ب َعلَْيهِ َو َج َع َل ِم ْن ُه ُم ال ِْق َر َدةَ َو ْ‬ ‫ِ‬
‫َوغَض َ‬
‫ٍّ‬ ‫ِِ‬ ‫تعاىل يف وصفهم ‪ :‬قُ ْل اي أَ ْهل الْكِ ِ‬
‫ضلوا‬‫ري ا ْحلَِّق َوال تَتهبِعُوا أَ ْهواءَ قَ ْوم قَ ْد َ‬
‫تاب ال تَغْلُوا ِيف دين ُك ْم غَ ْ َ‬ ‫َ‬
‫يل (‪[ )77‬املائدة ‪.]77 :‬‬ ‫سبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ضلوا َع ْن َسواء ال ه‬ ‫ضلوا َكثِرياً َو َ‬ ‫ِم ْن قَ ْب ُل َوأَ َ‬
‫آمني ‪ :‬اسم صوت مسي به الفعل الذي هو استجب ‪ ،‬وفيه لغتان ‪ :‬القصر واملد يف األلف ‪،‬‬
‫الل ما بيننا بعدا املعىن ‪:‬‬
‫الل عبدا قال آمينا ‪ ،‬وقوله «‪ : »2‬أمني فزاد ّ‬
‫كقوله «‪ : »1‬ويرحم ّ‬
‫ط‬
‫صرا َ‬‫ط الْمستَ ِقيم (‪ ) 6‬أي اهدان إىل دينك احلق الذي ال يقبل من العباد غريه ‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْهد َان ِّ‬
‫الصرا َ ُ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم بطاعتك وعبادتك ‪ :‬من مالئكتك ‪ ،‬وأنبيائك ‪ ،‬والصديقني ‪ ،‬والشهداء‬ ‫الهذ َ‬
‫ين أَنْ َع ْم َ‬
‫الذين هم ال مغضوب عليهم ‪ ،‬وال هم ضالون‪.‬‬
‫ومعىن طلب اهلداية إىل الدين احلق والداعي مهتد إليه طلب زايدة اهلدى أو الثبات وغَ ِْري‬
‫وب إما أن تكون صفة للذين ‪ ،‬وإما أن تكون بدال منها ‪ ،‬وإمنا جاز كوهنا صفة مع أهنا‬ ‫ض ِ‬ ‫ال َْمغْ ُ‬
‫أمر على اللئيم‬
‫نكرة واملوصوف معرفة ألن الذين أنعمت عليهم ال توقيت فيه كقوله ‪ :‬ولقد ّ‬
‫يسبّين‪.‬‬
‫وأل ّن املغضوب عليهم والضالني خالف املنعم عليهم ‪ ،‬فليس يف غَ ِْري يف هذا املوضوع اإلهبام‬
‫ني ملا يف غَ ِْري من معىن النفي ‪،‬‬‫ِ‬
‫الذي أىب أن تتعرف ابإلضافة ‪ ،‬ودخلت َال يف قوله ‪َ :‬وَال الضهالّ َ‬
‫كأنه قيل ‪ :‬ال املغضوب عليهم وال الضالني‪ .‬ويدل على أن غَ ِْري يف معىن َال أنه جيوز أن تقول أان‬
‫زيدا غري ضارب ‪ ،‬مع امتناع أان زيدا مثل ضارب ‪ ،‬وإمنا جاز األول ‪ ،‬ألنه مبنزلة أان زيدا ال‬
‫ضارب‪.‬‬
‫حكم قراءة فاحتة الكتاب يف الصالة‬
‫اختلف العلماء يف قراءة فاحتة الكتاب يف الصالة فذهب بعضهم إىل وجوهبا ‪ ،‬وذهب بعضهم إىل‬
‫عدم وجوهبا ‪ ،‬بل الواجب مطلق قراءة‪ .‬وممن قال بذلك أبو حنيفة ‪ ،‬وقد ح ّد أصحابه ما جيب‬
‫قراءته فقالوا ‪ :‬الواجب ثالث آايت قصار أو آية طويلة‪ .‬والقائلون بوجوب قراءة الفاحتة يف‬
‫الصالة اختلفوا فمنهم من قال بوجوهبا يف كل ركعة ‪ ،‬وقيل بوجوهبا يف أكثر الصالة‪ .‬وممن قال‬
‫ابألول اإلمام الشافعي واإلمام مالك يف أشهر الرواايت عنه ‪ ،‬وقد روي عنه أنه «إن قرأها يف‬
‫ركعتني من الرابعية أجزأته»‪ .‬وذهب احلسن البصري إىل أهنا جتزئ يف ركعة واحدة من الصالة‪.‬‬
‫وسبب‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬صدر البيت ‪ :‬اي رب ال تسلبين حبها أبدا‪ .‬والقائل هو قيس بن امللوح املشهور مبجنون‬
‫ليلى‪.‬‬
‫(‪ )2‬جبري بن األضبط ‪ ،‬انظر احملرر الوجيز (‪.)80 /1‬‬

‫ص ‪21 :‬‬
‫اخلالف تعارض اآلاثر بعضها مع بعض ‪ ،‬ومعارضة ظاهر الكتاب لبعضها‪.‬‬
‫أما اآلاثر اليت تدل على وجوب قراءهتا ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة‬
‫فحديث عبادة بن الصامت ‪ ،‬وهو قوله صلّى ّ‬
‫الكتاب» «‪»1‬‬
‫أبم‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬من صلّى صالة مل يقرأ فيها ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫‪ ،‬وحديث أيب هريرة أن رسول ّ‬
‫الكتاب فهي خداج «‪ - »2‬ثالاث ‪ -‬غري متام» «‪.»3‬‬
‫تيسر من القرآن‬
‫يدل على عدم وجوهبا ‪ ،‬بل على قراءة ما ّ‬
‫أما ما ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫فحديث أيب هريرة أن رجال دخل املسجد فصلّى ‪ ،‬مث جاء فسلّم على النيب صلّى ّ‬
‫تصل» فصلى ‪ ،‬مث جاء ‪ ،‬فأمره ابلرجوع إىل‬
‫فصل ‪ ،‬فإنّك مل ّ‬
‫السالم وقال ‪« :‬ارجع ّ‬
‫‪ ،‬فر ّد عليه ّ‬
‫فعل ذلك ‪ ،‬ثالث مرات ‪ ،‬فقال ‪ :‬والذي بعثك ابحل ّق ما أحسن غريه ‪ ،‬فقال عليه الصالة‬
‫والسالم ‪:‬‬
‫فكرب ‪ ،‬مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن‬
‫«إذا قمت إىل الصالة فأسبع الوضوء ‪ ،‬مث استقبل القبلة ّ‬
‫تطمئن ساجدا ‪ ،‬مث ارفع‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬مث اركع حىت تطمئن راكعا ‪ ،‬مث ارفع حىت تعتدل قائما ‪ ،‬مث اسجد حىت‬
‫حىت تطمئن جالسا ‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجدا ‪ ،‬مث ارفع حىت تستوي قائما ‪ ،‬مث افعل ذلك‬
‫يف صالتك كلّها» «‪.»4‬‬
‫س َر ِمنْهُ [املزمل ‪ ]20 :‬فهذا يدل على أ ّن الواجب أن‬
‫وأما الكتاب فقوله تعاىل ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه‬
‫تيسر من القرآن ‪ ،‬فهو يعارض حديث عبادة ‪ ،‬ويعضد حديث أيب هريرة األخري ‪،‬‬ ‫أي شيء ّ‬ ‫يقرأ ّ‬
‫وم أَ ْدىن ِم ْن ثُلُثَ ِي اللهْي ِل إىل‬ ‫ألن اآلية يف القراءة يف الصالة بدليل قوله ‪ :‬إِ هن َربه َ‬
‫ك يَ ْعلَ ُم أَنه َ‬
‫ك تَ ُق ُ‬
‫آن [املزمل ‪ ]20 :‬ومل َيتلف األئمة يف أ ّن ذلك يف شأن الصالة‬ ‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫قوله ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫يف الليل ‪ ،‬وقد اعتمد املالكية والشافعية‬
‫حديث عبادة ‪« :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب»‬
‫املعني ‪ ،‬واملبهم حيمل‬
‫ومحلوا النفي على نفي احلقيقة ‪ ،‬وكأهنّم رأوا اآلية من املبهم واحلديث من ّ‬
‫املعني‪.‬‬
‫على ّ‬
‫أي شيء‬
‫أما احلنفية فرأوا أن اآلية تفيد التخيري ‪ ،‬وليست من ابب املطلق ‪ ،‬فإ ّن معىن (ما تيسر) ّ‬
‫تيسر ‪ ،‬فاآلية دلت على التخيري ‪ ،‬فإذا جاء بعد ذلك معني يكون انسخا وال نسخ هنا‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫ضدا ملا ذهبنا إليه‪.‬‬
‫وقد جاء حديث أيب هريرة يف تعليم الرجل صالته مع ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )294 /1‬كتاب الصالة ‪ - 11 ،‬ابب وجوب قراءة‬
‫الفاحتة حديث رقم (‪.)394 /34‬‬
‫(‪ )2‬اخلداج أي النقصان ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)248 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )296 /1‬كتاب الصالة ‪ - 11 ،‬ابب وجوب قراءة‬
‫الفاحتة حديث رقم (‪.)395 /38‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )207 /1‬كتاب األذان ‪ - 95 ،‬ابب وجوب القراءة‬
‫لإلمام حديث رقم (‪.)757‬‬

‫ص ‪22 :‬‬
‫أما حديث عبادة بن الصامت فقد محلوه على نفي الكمال ‪،‬‬
‫كقوله ‪« :‬ال صالة جلار املسجد إال يف املسجد» «‪.»1‬‬
‫وأما‬
‫حديث ‪« :‬فهي خداج»‬
‫يدل لنا ‪ ،‬ألن اخلداج ‪ :‬الناقصة ‪ ،‬وهذا يدل على جوازها مع النقصان ‪ ،‬ألهنّا‬
‫فقالوا فيه ‪ :‬هو ّ‬
‫لو مل تكن جائزة ملا أطلق عليها اسم النقصان ‪ ،‬أل ّن إثباهتا انقصة ينفي بطالهنا ‪ ،‬إذ ال جيوز‬
‫الوصف ابلنقصان ملا مل يثبت منه شيء‪.‬‬
‫أما سبب اختالف من أوجب قراءهتا يف الكل أو يف البعض فما يف الضمري يف قوله ‪« :‬ال صالة‬
‫ملن مل يقرأ فيها» من احتمال عوده على كل أجزاء الصالة أو بعضها‪.‬‬
‫األحكام اليت تؤخذ من الفاحتة‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫ني (‪ )2‬بدليل‬ ‫ب الْعال َِم َ‬
‫ني (‪ )2‬على أتويل قولوا ‪ :‬ا ْحلَ ْم ُد هلل َر ِّ‬ ‫قد أسلفنا أن ا ْحلَ ْم ُد هلل َر ِّ‬
‫قوله ‪ :‬إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد فإنه على أتويل قولوا ‪ :‬إِ هاي َك نَ ْعبُ ُد حتما ‪ ،‬فعلمنا أن األمر وهو (قولوا) مضمر‬
‫الل أمران بفعل احلمد ‪ ،‬وعلمنا كيف حنمده ‪ ،‬وكيف‬ ‫يف ابتداء السورة أيضا ‪ ،‬وذلك يقضي أن ّ‬
‫نثين عليه ‪ ،‬وكيف ندعوه‪.‬‬
‫الل والثناء عليه ‪ ،‬ليكون ذلك أدعى‬ ‫ومما يؤخذ منها من آداب الدعاء أنه ينبغي أن يبدأ حبمد ّ‬
‫ك يَ ْوِم ال ِّدي ِن (‪ )4‬على‬
‫الل ق ّدم محده والثناء عليه بقوله ‪ :‬ا ْحلم ُد ِهللِ إىل مالِ ِ‬
‫َْ‬ ‫إىل اإلجابة ‪ ،‬إذ إن ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )6‬ا‪ .‬ه‪.‬‬ ‫ط ال ُْم ْستَق َ‬ ‫الدعاء وهو قوله ‪ :‬ا ْهد َان ِّ‬
‫الصرا َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الدار قطين يف سننه (‪ )321 /1‬وهو ضعيف‪.‬‬

‫ص ‪23 :‬‬
‫من سورة البقرة‬
‫ني‬ ‫ْك سلَيما َن وما َك َفر سلَيما ُن ولكِ هن ال ه ِ‬ ‫ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬واتهب عوا ما تَ ْت لُوا ال ه ِ‬
‫شياط َ‬ ‫ني َعلى ُمل ُ ْ َ َ ُ ْ َ‬ ‫شياط ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫قال ّ‬
‫مان ِم ْن أَ َح ٍّد‬ ‫وت وما ي علِّ ِ‬
‫مار َ َ ُ َ‬ ‫وت َو ُ‬ ‫هار َ‬ ‫ني بِبابِ َل ُ‬
‫ِ‬
‫الس ْح َر َوما أُنْ ِز َل َعلَى ال َْملَ َك ْ ِ‬
‫هاس ّ‬
‫ِ‬
‫َك َف ُروا يُ َعلّ ُمو َن الن َ‬
‫ني ال َْم ْرِء َوَزْو ِجهِ َوما ُه ْم‬ ‫ِ‬
‫َح هىت يَ ُقوال إِ همنا َْحن ُن فِْت نَةٌ فَال تَ ْك ُف ْر فَيَ تَ َعله ُمو َن م ْن ُهما ما يُ َف ِّرقُو َن بِهِ بَ َْ‬
‫ضار ِ ِ‬
‫ضر ُه ْم َوال يَ ْن َفعُ ُه ْم َولَ َق ْد َعلِ ُموا ل ََم ِن ا ْش َرتاهُ ما لَهُ‬ ‫اللِ َويَتَ َعله ُمو َن ما يَ ُ‬‫َح ٍّد إِهال إبِِ ْذ ِن ه‬
‫ين بِه م ْن أ َ‬ ‫بِ ِّ َ‬
‫ِِ‬ ‫ٍّ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫آمنُوا َواته َق ْوا‬‫س ُه ْم ل َْو كانُوا يَ ْعلَ ُمو َن (‪َ )102‬ول َْو أَ ههنُ ْم َ‬ ‫س ما َش َرْوا به أَنْ ُف َ‬ ‫يف ْاآلخ َرة م ْن َخالق َولَب ْئ َ‬
‫اللِ َخ ْريٌ ل َْو كانُوا يَ ْعلَ ُمو َن (‪)103‬‬ ‫ل ََمثُوبَةٌ ِم ْن ِعنْ ِد ه‬
‫الس ْح َر ‪ :‬يف اللغة ‪ :‬كل ما لطف مأخذه ‪ ،‬وخفي سببه ‪ ،‬ومنه سحره ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫خدعه ‪ ،‬والسحر الرئة‪( .‬الفتنة) ‪ :‬االختبار واالبتالء ‪ ،‬ومنه قوهلم ‪ :‬فتنت الذهب يف النار إذا‬
‫امتحنته لتعرف جودته من رداءته‪( .‬و اخلالق) ‪ :‬النصيب‪َ .‬ش َرْوا ‪:‬‬
‫ابعوا ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫وشريت بردا ليتين من بعد برد كنت هامه‬
‫قبل اخلوض يف تفسري اآلية نذكر نبذة عن السحر ‪ :‬أله حقيقة أم ال؟ فنقول ‪:‬‬
‫اختلف الناس يف السحر ‪ ،‬فذهب مجهور العلماء إىل أن للسحر حقيقة ‪ ،‬وأنه تقتدر به النفوس‬
‫البشرية على التأثري يف عامل العناصر ‪ ،‬إما بغري معني ‪ ،‬أو مبعني من األمور السماوية ‪ ،‬ويرون أ ّن‬
‫النفوس الساحرة على ثالث مراتب ‪:‬‬
‫أوهلا ‪ :‬املؤثرة ابهلمة فقط من غري آلة وال معني‪.‬‬
‫خواص األعداد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واثنيتها ‪ :‬مبعني من مزاج األفالك أو العناصر ‪ ،‬أو‬
‫واثلثها ‪ :‬أتثري القوى املتخيلة ‪ ،‬فيعمد صاحب هذه املرتبة إىل القوة املتخيلة ‪ ،‬فيلقي فيها أنواعا‬
‫من اخلياالت والصور ‪ ،‬مث ينزهلا إىل احلس من الرائني بقوة نفسه املؤثرة ‪ ،‬فينظر الراؤون كأهنا يف‬
‫اخلارج ‪ ،‬وليس هناك شيء من ذلك ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إن هذه املراتب تنال ابلرايضة ‪ ،‬ورايضة‬
‫السحر ابلتوجه إىل األفالك والكواكب والعوامل العلوية والشياطني أبنواع التعظيم والعبادة ‪ ،‬فهي‬
‫الل كفر ‪ ،‬فلهذا كان السحر كفرا ‪ ،‬ويرون أن‬
‫الل ‪ ،‬والوجهة لغري ّ‬
‫لذلك وجهة وسجود لغري ّ‬
‫الساحر يقدر على األفعال‬

‫ص ‪24 :‬‬
‫ويصور املرء بغري‬
‫الغريبة فيطري يف اهلواء ‪ ،‬ويركب املكانس وغريها يذهب هبا إىل أماكن بعيدة ‪ّ ،‬‬
‫صورته‪.‬‬
‫ويرى املعتزلة وبعض أهل السنة أن السحر ال حقيقة له ‪ ،‬وإمنا هو خداع ومتويه وختيّل ‪ ،‬وإىل هذا‬
‫ذهب أبو جعفر االسرتاابذي «‪ »1‬من الشافعية ‪ ،‬وأبو بكر الرازي من احلنفية ‪ ،‬وابن حزم‬
‫الظاهري «‪ »2‬وطائفة‪ .‬ويرون أ ّن السحر هبذا املعىن ضروب‪.‬‬
‫فمن ضروبه كثري من التخيّالت اليت مظهرها على خالف حقائقها ‪ ،‬كما يفعله بعض املشعوذين‬
‫‪ ،‬من أنه يريك أنه ذبح عصفورا ‪ ،‬مث يريكه وقد طار بعد ذحبه وإابنة رأسه ‪ ،‬وذلك خلفة حركته ‪،‬‬
‫واملذبوح غري الذي طار ‪ ،‬ألنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدَها ‪ -‬وهو املذبوح ‪ -‬وأظهر اآلخر‪.‬‬
‫وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع‪ .‬فقد قيل إن عصيهم كانت عصيا جموفة ‪ ،‬قد ملئت‬
‫زئبقا وكذلك احلبال كانت من أدم حمشوة زئبقا ‪ ،‬وقد حفروا قبل ذلك حتت املواضع أسرااب‬
‫وملؤوها انرا‪ .‬فلما طرحت عليها ومحي الزئبق حركها ‪ ،‬ألن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن‬
‫صي ُه ْم َُيَيه ُل إِلَيْهِ ِم ْن ِس ْح ِرِه ْم أَ ههنا تَ ْسعى‬
‫الل عن ذلك بقوله ‪ :‬فَِإذا ِحبا ُهلُم و ِع ِ‬
‫َْ‬ ‫يطري ‪ ،‬وقد أخرب ّ‬
‫[طه ‪.]66 :‬‬
‫وضرب آخر ‪ ،‬وهو ما يدعونه من حديث اجلن والشياطني ‪ ،‬وطاعتهم هلم ابلرقى والعزائم‬
‫ويتوصلون إىل ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ‪ ،‬ومواطأة قوم ‪ ،‬قد أعدوهم لذلك‪.‬‬
‫وعلى ذلك كان جيري أمر الكهان من العرب يف اجلاهلية ‪ ،‬وكثري ممن ي ّدعون السحر يوّكلون‬
‫أانسا ابالطالع على أسرار الناس ‪ ،‬حىت إذا جاء أصحاهبا أخربوهم هبا ‪ ،‬فيعتقدون فيهم أن‬
‫الشياطني ختربهم ابملغيبات‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬إ ّن خماريق احلالج كانت كلها ابملواطأة ‪ ،‬فكان يواطئ أقواما يضعون له خبزا وحلما ‪،‬‬
‫وفاكهة يف مواضع بعينها ‪ ،‬مث ميشي مع أصحابه يف الربية ‪ ،‬مث أيمر حبفر هذه املواضع ‪ ،‬فيخرج‬
‫ما خبّأ من اخلبز واللحم والفاكهة ‪ ،‬فيعدوهنا من الكرامات‪.‬‬
‫وضرب آخر من السحر ‪ :‬هو السعي ابلنميمة والوشاية واإلفساد من وجوه خفيّة لطيفة ‪ ،‬كما‬
‫تزوج امرأة على أخرى‪ .‬فعظم ذلك على األوىل ‪ ،‬فاستعانت برجل ‪ ،‬فتوصل إىل‬
‫حكي أ ّن رجال ّ‬
‫أن قال للثانية ‪ :‬إن أردت أن تنغرس حمبتك يف قلب‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أمحد بن حممد من أصحاب ابن السريج وكبار الفقهاء واملدرسني ‪ ،‬انظر هتذيب األمساء‬
‫واللغات للنووي (‪.)237 /2‬‬
‫(‪ ) 2‬علي بن أمحد بن سعيد بن حزم بن صاحل ‪ ،‬الفارسي األصل مث األندلسي القرطيب ‪ ،‬انظر‬
‫سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )184 /18‬ترمجة (‪.)99‬‬

‫ص ‪25 :‬‬
‫الزوج فخذي موسى ‪ ،‬فاقطعي ثالث شعرات من حليته مما يقارب احللق ‪ ،‬وألقى يف روع الزوج‬
‫قربت املوسى منه مل يشك أن األمر على ما قال الرجل من‬
‫أ ّن هذه املرأة ستختانه ابلقتل ‪ ،‬فلما ّ‬
‫أهنا قصدت قتله ‪ ،‬فقام إليها وقتلها ‪ ،‬وكان ذلك تفريقا بني املرء وزوجه‪.‬‬
‫فأنت ترى أهنم يرجعون السحر ‪ :‬إما إىل متويه وخفة يف اليد ‪ ،‬وإما إىل مواطأة وإما إىل سعي‬
‫ومنيمة‪ .‬وال يرون الساحر يقدر على شيء مما يثبته له اآلخرون من التأثري يف األجسام األخرى ‪،‬‬
‫مماسة‪ .‬ومن قطع املسافات البعيدة يف الزمن الوجيز‪ .‬وقد قال أبو بكر الرازي ‪ :‬وحكمة‬
‫دون ّ‬
‫املعزم لو قدرا‬
‫تبني لك أن هذا كله خماريق وحيل ال حقيقة ملا ي ّدعون هلا‪ .‬إ ّن للساحر و ّ‬
‫كافية ّ‬
‫على ما ي ّدعيانه من النفع والضر من الوجوه اليت ي ّدعون ‪ ،‬وأمكنهما الطريان والعلم ابلغيوب ‪،‬‬
‫وأخبار البلدان النائية ‪ ،‬واخلبيئات والسرقة واإلضرار ابلناس من غري الوجوه اليت ذكران ‪ ،‬لقدروا‬
‫إىل إزالة املمالك ‪ ،‬واستخراج الكنوز ‪ ،‬والغلبة على البلدان بقتل امللوك ‪ ،‬حبيث ال يبدؤوهم‬
‫مبكروه‪ .‬وال ستغنوا عن الطلب ملا يف أيدي الناس‪.‬‬
‫فإذا مل يكن كذلك ‪ ،‬وكان امل ّدعون لذلك أسوأ الناس حاال ‪ ،‬وأظهرهم فقرا وإمالقا ‪ ،‬علمت‬
‫اجلهال من العامة من أسرع الناس إىل‬
‫أهنم ال يقدرون على شيء من ذلك‪ .‬ورؤساء احلشو و ّ‬
‫املعزمني ‪ ،‬وأشدهم نكريا على من جحدها ‪ ،‬ويروون يف ذلك أخبارا مفتعلة‬
‫تصديق السحرة و ّ‬
‫متخرصة يعتقدون صحتها‪ .‬كاحلديث الذي يروونه أن امرأة أتت عائشة فقالت ‪ :‬إين ساحرة فهل‬
‫ّ‬
‫يل من توبة؟ فقالت ‪ :‬وما سحرك؟ قالت ‪ :‬سرت إىل املوضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل‬
‫الل! ال ختتاري عذاب اآلخرة أبمر الدنيا‪ .‬فأبيت‪ .‬فقاال يل‬
‫لطلب علم السحر‪ .‬فقاال يل ‪ :‬اي أمة ّ‬
‫‪:‬‬
‫اذهيب فبويل على ذلك الرماد ‪ ،‬فذهبت ألبول عليه ‪ ،‬ففكرت يف نفسي فقلت ‪ :‬ال فعلت ‪،‬‬
‫وجئت إليهما وقلت ‪ :‬قد فعلت‪ .‬فقاال ‪ :‬ما رأيت؟ قلت مل أر شيئا ‪ ،‬فقاال ‪ :‬ما فعلت ‪ ،‬اذهيب‬
‫فبويل عليه ‪ ،‬فذهبت وفعلت ‪ ،‬فرأيت كأ ّن فارسا قد خرج من فرجي مقنّعا ابحلديد حىت صعد‬
‫إىل السماء ‪ ،‬فجئتهما فأخربهتما فقاال ‪ :‬ذلك إميانك قد خرج عنك ‪ ،‬وقد أحسنت السحر‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬وما هو؟ فقاال ‪ :‬ال تريدين شيئا فتصورينه يف وَهك إال كان ‪ ،‬فصورت يف نفسي حبا‬
‫من حنطة ‪ ،‬فإذا إان ابحلب ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬انزرع ‪ ،‬فانزرع‪.‬‬
‫فخرج من ساعته سنبال‪ .‬فقلت له ‪ :‬انطحن واخنبز ‪ ،‬إىل آخر األمر ‪ ،‬حىت صار خبزا ‪ ،‬وإين‬
‫أصور يف نفسي شيئا إال كان ‪ ،‬فقالت هلا عائشة ‪ :‬ليست لك توبة‪.‬‬
‫كنت ال ّ‬
‫القصاص واحملدثون اجلهال مثل هذا للعامة فتصدقه ‪ ،‬وتستعيده ‪ ،‬وتسأله أن حيدثها‬
‫ويروي ّ‬
‫فأقرت له ابلسحر ‪ ،‬فدعا‬
‫حبديث ساحرة ابن هبرية‪ .‬فيقول هلا ‪ :‬إن ابن هبرية أخذ ساحرة ّ‬
‫الفقهاء ‪ ،‬فسأهلم عن حكمها‪ .‬فقالوا ‪ :‬القتل ‪ ،‬فقال ابن‬

‫ص ‪26 :‬‬
‫هبرية ‪ :‬لست أقتلها إال تغريقا‪ .‬قال ‪ :‬فأخذ رحى البزار ‪ ،‬فش ّدها يف رجلها ‪ ،‬وقذفها يف الفرات‬
‫‪ ،‬فقامت فوق املاء مع احلجر ‪ ،‬فجعلت تنحدر مع املاء ‪ ،‬فخافوا أن تفوهتم ‪ ،‬فقال ابن هبرية ‪:‬‬
‫من ميسكها ‪ ،‬وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله‪ .‬فقال ‪ :‬أعطوين‬
‫قدح زجاج فيه ماء ‪ ،‬فجاؤوه به ‪ ،‬فعقد على القدح ‪ ،‬ومضى إىل احلجر ‪ ،‬فشق احلجر ابلقدح ‪،‬‬
‫فتقطّع احلجر قطعة قطعة ‪ ،‬فغرقت الساحرة فيصدقونه‪.‬‬
‫ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ‪ ،‬وال أيمن أن تكون معجزات األنبياء عليهم السالم من هذا‬
‫ث أَتى [طه ‪ ]69 :‬وقد‬ ‫سِ‬
‫اح ُر َح ْي ُ‬ ‫ح ال ه‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وال يُ ْفل ُ‬
‫النوع ‪ :‬وأهنم كانوا سحرة‪ .‬وقال ّ‬
‫أجازوا من سحر الساحر ما هو أعظم من هذا وأفظع‪ .‬وذلك أهنم زعموا أن النيب عليه الصالة‬
‫السحر عمل فيه حىت‬
‫والسالم سحر ‪ ،‬وأن ّ‬
‫قال ‪« :‬إنه َييل إيل أين أقول الشيء وأفعله ‪ ،‬ومل أقله ومل أفعله»‬
‫جف «‪ »1‬طلعة خنل ذكر ومشط ومشاقة «‪ ، »2‬حىت أاته جربيل‬
‫وأن امرأة يهودية سحرته يف ّ‬
‫عليه السالم فأخربه أهنا سحرته يف جف طلعة ‪ ،‬وهو حتت راعونة البئر «‪ ، »3‬فاستخرج ‪ ،‬وزال‬
‫الل تعاىل مك ّذاب للكفار فيما ادعوه‬
‫الل عليه وسلّم ذلك العارض «‪ .»4‬وقد قال ّ‬
‫عن النيب صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم فقال جل من قائل ‪:‬‬ ‫من ذلك للنيب صلّى ّ‬
‫و َ ِ‬
‫قال الظهال ُمو َن إِ ْن تَتهبِعُو َن إِهال َر ُج ًال َم ْس ُ‬
‫حوراً [الفرقان ‪.]8 :‬‬ ‫َ‬
‫تلعبا ابحلشوية الطغام‪ .‬واستجرارا هلم إىل القول إببطال‬
‫ومثل هذه األخبار من وضع امللحدين ّ‬
‫معجزات األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬والقدح فيها‪ .‬وأنه ال فرق بني معجزات األنبياء وفعل السحرة‬
‫‪ ،‬وأن مجيعه من نوع واحد‪.‬‬
‫والعجب ممن جيمع بني تصديق األنبياء عليهم السالم وإثبات معجزاهتم ‪ ،‬وبني التصديق مبثل هذا‬
‫ث أَتى [طه ‪ ]69 :‬فص ّدق هؤالء من‬ ‫سِ‬
‫اح ُر َح ْي ُ‬ ‫ح ال ه‬ ‫ِ‬
‫من فعل السحرة مع قوله تعاىل ‪َ :‬وال يُ ْفل ُ‬
‫الل ‪ ،‬وأخرب ببطالن دعواه وانتحاله‪.‬‬ ‫ك ّذبه ّ‬
‫النيب‬
‫وجائز أن تكون املرأة اليهودية جبهلها ظنا منها أبن ذلك يعمل يف األجساد قصدت به ّ‬
‫الل نبيّه على موضع سحرها ‪ ،‬وأظهر جهلها‪ .‬فيما ارتكبت وظنت‪.‬‬ ‫الل عليه وسلّم‪ .‬فأطلع ّ‬
‫صلّى ّ‬
‫ضره وخلّط عليه أمره‪ .‬ومل يقل كل الرواة ‪ :‬إنه اختلط‬
‫ليكون ذلك من دالئل نبوته ‪ ،‬ال أ ّن ذلك ّ‬
‫عليه أمره ‪ ،‬وإمنا هذا اللفظ زيد يف احلديث وال أصل له‪.‬‬
‫والفرق بني معجزات األنبياء عليهم السالم وبني ما ذكران من وجوه التخييالت ‪،‬‬
‫__________‬
‫اجلف ‪ :‬الغشاء الذي يكون على الطلع ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)28 /9‬‬
‫(‪ّ )1‬‬
‫(‪ )2‬املشاقة ‪ :‬هي املشاطة ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)345 /10‬‬
‫(‪ )3‬راعونة هو حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه املستقي‪].....[ .‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 76 ، )38 /7‬كتاب الطب ‪ - 49 ،‬ابب هل يستخرج‬
‫السحر حديث رقم (‪ )5765‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 39 ، )1719 /4‬كتاب السالم ‪17 ،‬‬
‫‪ -‬ابب السحر حديث رقم (‪.)2189 /43‬‬

‫ص ‪27 :‬‬
‫أن معجزات األنبياء عليهم السالم هي على حقائقها ‪ ،‬وبواطنها كظواهرها ‪ ،‬وكلّما أتملتها‬
‫ازددت بصرية يف صحتها‪.‬‬
‫ولو جهد اخللق كلّهم على مضاهاهتا ومقابلتها أبمثاهلا ‪ ،‬ظهر عجزهم عنها‪.‬‬
‫وخماريق السحرة وختييالهتم إمنا هي ضرب من احليلة والتلطف إلظهار أمور ال حقيقة هلا ‪ ،‬وما‬
‫يظهر منها على غري حقيقتها ‪ ،‬يعرف ذلك ابلتأمل والبحث ‪ ،‬ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه‬
‫مبلغ غريه ‪ ،‬وأييت مبثل ما أظهره سواه «‪ »1‬ا‪ .‬ه‪.‬‬
‫ولنرجع إىل تفسري اآلية ‪:‬‬
‫َواتهبَ عُوا أي اليهود ‪ ،‬قيل ‪ :‬الذين كانوا يف زمن النيب صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الذين يف زمن‬
‫سليمان عليه السالم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أعم ‪ ،‬أل ّن متبعي السحر من اليهود مل يزالوا من عهد سليمان إىل‬
‫الل عليه وسلّم‪.‬‬
‫الل نبيه حممدا صلّى ّ‬
‫أن بعث ّ‬
‫ني أي تقرأ وخترب‬ ‫الل وراء ظهورهم واتهب عوا ما تَ ْت لُوا ال ه ِ‬
‫شياط ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫الل عن اليهود أهنم نبذوا كتاب ّ‬
‫فأخرب ّ‬
‫عن ملك سليمان ‪ ،‬قيل ‪ :‬على عهده ‪ ،‬وقيل تكذب عليه ‪ ،‬ألن اخلرب إذا كان كذاب قيل ‪ :‬تال‬
‫عليه ‪ ،‬وإن كان صادقا قيل ‪ :‬تال عنه‪.‬‬
‫وكان كذهبم َعلى مل ِ‬
‫ْك ُسلَْيما َن أهنم كانوا يزعمون أ ّن سليمان كان ساحرا ‪ ،‬وأنه ما س ّخرت له‬ ‫ُ‬
‫اجلن إال بسحره‪.‬‬
‫قال حممد بن إسحاق ‪ :‬قال بعض أحبار اليهود ‪ :‬أال تعجبون من حممد يزعم أن سليمان كان‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وما َك َف َر ُسلَْيما ُن‪.‬‬
‫الل ما كان إال ساحرا! فأنزل ّ‬
‫نبيا؟ و ّ‬
‫الل سليمان مما قذفوه به من السحر‪ .‬فقال ‪:‬‬ ‫واملراد ابلشياطني شياطني اإلنس واجلن ‪ ،‬وقد برأ ّ‬
‫ني َك َف ُروا بنسبة السحر إىل سليمان على وجه الكذب وجحدهم‬ ‫وما َك َفر سلَيما ُن ولكِ هن ال ه ِ‬
‫شياط َ‬ ‫َ َ ُْ َ‬
‫ِ‬
‫الس ْح َر على وجه اإلضرار ‪َ ،‬وما أُنْ ِز َل عَلَى‬ ‫ِ‬
‫هاس ّ‬
‫نبوته ‪ ،‬مث وصف الشياطني بقوله ‪ :‬يُ َعلّ ُمو َن الن َ‬
‫ني بِبابِ َل‪.‬‬
‫ال َْملَ َك ْ ِ‬
‫قيل ‪ :‬هو عطف على ما تتلو الشياطني ‪ ،‬أي اتبعوا هذا وذاك‪ .‬وقد علم من هذا أن السحر‬
‫فيتحرزوا من ضرره ‪ ،‬ألن تعريف‬
‫ّ‬ ‫ليعرفاه الناس ‪،‬‬
‫الل عليهما ّ‬
‫أنزل على امللكني ببابل ‪ ،‬وقد أنزله ّ‬
‫يصح االحرتاز‪ .‬وقد كان أهل اببل قوما صابئني ‪ ،‬يعبدون الكواكب ‪،‬‬
‫الشر حسن ‪ ،‬ومعه ّ‬
‫ويسموهنا آهلة ‪ ،‬ويعتقدون أن حوادث العامل كلها من أفعاهلا ‪ ،‬وكانت علومهم احليل والنريجنيات‬
‫ّ‬
‫رقى ابلنبطية ‪،‬‬
‫وأحكام النجوم ‪ ،‬وكانت هلم ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن للجصاص (‪.)50 - 49 /1‬‬

‫ص ‪28 :‬‬
‫مماسة وال‬
‫فيها تعظيم الكواكب ‪ ،‬ويزعمون أهنم هبذه الرقى يفعلون ما يشاؤون يف غريهم من غري ّ‬
‫متوه على العامة إىل اعتقاد صحته ‪ ،‬ومعتقد ذلك يكفر من‬
‫مالمسة ‪ ،‬وكانت السحرة حتتال حبيل ّ‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آهلة‪.‬‬
‫اثنيها ‪ :‬االعتقاد أبن الكواكب تقدر على الضرر والنفع‪.‬‬
‫اثلثها ‪ :‬أن السحرة تزعم أهنا تقدر على معجزات األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫الل ملكني يبيّنان للناس حقيقة ما ي ّدعون بطالنه ‪ ،‬ويكشفان هلم عن وجوه احليل اليت‬ ‫فبعث ّ‬
‫َيدعون هبا الناس ‪ ،‬وينهياهنم عن العمل هبا ‪ ،‬يقوالن إِهمنا َْحن ُن فِْت نَةٌ فَال تَ ْك ُف ْر فكاان يعلّماهنم‬
‫الل عنه ‪ :‬فالن ال يعرف‬
‫للتحرز ال للعمل ‪ ،‬وما يف ذلك أبس ‪ ،‬قيل لعمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫ّ‬
‫الشر ‪ ،‬قال ‪ :‬أجدر أن يقع فيه ‪ ،‬وقد قيل ‪:‬‬
‫للشر لكن لتوقّيه‬
‫الشر ال ّ‬
‫عرفت ّ‬
‫ومن ال يعرف الش ّر من النّاس يقع فيه‬
‫ليضر به ‪ ،‬ال ليتوقى‬ ‫مث قال ‪ :‬فَي تَ علهمو َن ِم ْن ُهما ما ي َف ِرقُو َن بِهِ ب َْ ِ ِ ِ‬
‫ني ال َْم ْرء َوَزْوجه وهذا ذم ملن يتعلم ّ‬‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َُ‬
‫به ‪ ،‬والتفريق بني املرء وزوجه ابلسعاية والنميمة والوجوه اخلفية اليت من جنس ما ذكر يف احلكاية‬
‫املتقدمة‪.‬‬
‫وقد روي عن احلسن «‪ »1‬أنه كان يقرأ ‪َ :‬وما أُنْ ِز َل عَلَى ال َْملَ َك ْ ِ‬
‫ني بكسر الالم ‪ ،‬ويقول ‪ :‬كاان‬
‫علجني أقلفني ‪ ،‬أيمران ابلسحر ويتمسكان به ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن (ما) للجحد واملعىن ‪ :‬ومل ينزل على‬
‫امللكني ببابل‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّن «ما أنزل» عطف على ملك سليمان ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬واتّبعوا ما تكذب به‬
‫الشياطني على ملك سليمان ‪ ،‬وما أنزل على امللكني ‪ ،‬فكما كذبوا على ملك سليمان كذبوا‬
‫أيضا على ما أنزل على امللكني ‪ ،‬ال أهنما أنزال ليعلّمان الناس السحر ‪ ،‬ويكون قوله ‪ :‬فَيَ تَ َعله ُمو َن‬
‫ني َك َف ُروا يتضمن الكفر ‪ ،‬فريجع إليهما‪.‬‬ ‫ِم ْن هما أي من السحر والكفر ‪ ،‬ألن قوله ‪ :‬ولكِ هن ال ه ِ‬
‫شياط َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قوله ‪َ :‬سيَ هذ هك ُر َم ْن ََيْشى (‪َ )10‬ويَتَ َجنهبُ َها ْاألَ ْش َقى (‪[ )11‬األعلى ‪ ]11 ، 10 :‬أي الذكرى‪.‬‬
‫َح ٍّد‪ .‬معناه أن امللكني ال يعلمان ذلك أحدا ‪ ،‬ومع ذلك ال يقتصران على أال‬ ‫ِ ِِ‬
‫َوما يُ َعلّمان م ْن أ َ‬
‫الل أنزل‬ ‫يعلماه حىت يبالغا يف هنيه ‪ ،‬فيقوالن ‪ :‬إِ همنا َْحن ُن فِْت نَةٌ فَال تَ ْك ُف ْر وكل هذا للفرار من أ ّن ّ‬
‫على امللكني السحر مع ذمه السحر والساحر ‪ ،‬وقد علمت أنه أنزل عليهما ليعلم الناس حيل‬
‫السحرة وخدعهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬احلسن بن يسار البصري ‪ ،‬سيد التابعني ‪ ،‬ولد يف املدينة كان إماما تويف سنة (‪ 110‬ه)‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)226 /2‬‬

‫ص ‪29 :‬‬
‫اللِ اإلذن هنا ‪ :‬العلم دون األمر ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫َح ٍّد إِهال إبِِ ْذ ِن ه‬ ‫ضار ِ ِ‬
‫ين بِه م ْن أ َ‬
‫َوما ُه ْم بِ ِّ َ‬
‫الل منعه ‪ ،‬فال يضره السحر ‪ ،‬ومن شاء خلّى بينه‬
‫املراد ابإلذن التخلية ‪ ،‬قال احلسن ‪ :‬من شاء ّ‬
‫فضره‪.‬‬
‫وبينه ّ‬
‫ضرهم وال ي ْن َفعهم ألهنم يقصدون به الشر ولََق ْد عَلِموا لَم ِن ا ْش َرتاهُ ما لَهُ ِيف ْاآل ِخرةِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ َ‬ ‫َويَتَ َعله ُمو َن ما يَ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ ْ‬
‫الل ما له يف‬ ‫الق أي لقد علم هؤالء اليهود أ ّن من استبدل ما تتلو الشياطني بكتاب ّ‬ ‫ِمن َخ ٍّ‬
‫ْ‬
‫اآلخرة من نصيب‪.‬‬
‫الل أثبت هلم‬ ‫س ُه ْم ل َْو كانُوا يَ ْعلَ ُمو َن أي ابعوها‪ .‬ولعل قائال يقول ‪ :‬إ ّن ّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫س ما َش َرْوا به أَنْ ُف َ‬‫َولَبئْ َ‬
‫العلم مؤكدا بقوله ‪َ :‬ولَ َق ْد عَلِ ُموا ل ََم ِن ا ْش َرتاهُ مث نفاه عنهم بقوله ‪ :‬ل َْو كانُوا يَ ْعلَ ُمو َن‪.‬‬
‫واجلواب ‪ :‬أ ّن املراد لو كانوا يعملون بعلمهم ‪ ،‬جعلهم حني مل يعملوا به كأهنّم غري عاملني‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫علم يقيين متسلط على النفس فال تعلم إال مبقتضاه ‪ ،‬وعلم ليست له هذه‬ ‫إن العلم علمان ‪ّ :‬‬
‫السلطة على النفس ‪ ،‬فتتصرف النفس على خالفه ‪ ،‬واملنفي عنهم هو األول ‪ ،‬واملثبت هلم هو‬
‫الثاين ‪ ،‬فال منافاة‪.‬‬
‫آمنُوا َواته َق ْوا ل ََمثُوبَةٌ ِم ْن ِع ْن ِد ه‬
‫اللِ َخ ْريٌ ل َْو كانُوا يَ ْعلَ ُمو َن (‪ )103‬املثوبة ‪ :‬مصدر من قول‬ ‫َول َْو أَ ههنُ ْم َ‬
‫القائل ‪ :‬أثبتك إاثبة ‪ ،‬وثوااب ومثوبة‪ .‬وأصل ذلك اثب الشيء مبعىن رجع‪ .‬مث يقال ‪ :‬أثبته إليك‬
‫رجعته ورددته ‪ ،‬وكان معىن إاثبة الرجل على اهلدية وغريها أن يرجع إليه منها بدال ‪ ،‬وأن ير ّد‬
‫أي ّ‬
‫معوض غريه من عمله ‪ ،‬أو هديته‪ .‬أو يد سلفت منه إليه ‪ ،‬مثيبا‬ ‫عليه منها عوضا ‪ ،‬مث جعل كل ّ‬
‫الل عباده على أعماهلم ‪ ،‬مبعىن إعطائه إايهم العوض واجلزاء حىت يرجع إليهم‬
‫له ‪ :‬ومنه ثواب ّ‬
‫بدل عملهم الذي عملوه‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬ولو أهنم آمنوا مبحمد والقرآن ‪ ،‬واتقوا رهبم فخافوا عقابه فأطاعوه أبداء فرائضه ‪،‬‬
‫الل إايهم ‪ ،‬وثوابه هلم على إميانه به وتقواهم خريا هلم من السحر‬
‫وجتنبوا معاصيه ‪ ،‬لكان جزاء ّ‬
‫ومما اكتسبوا‪ .‬ويقال يف نفي العلم عنهم هنا كما قيل هناك‪.‬‬
‫الل إمياهنم واختيارهم‬
‫وقد أجاز الزخمشري «‪ »1‬أن تكون (لو) للتمين على سبيل اجملاز عن إرادة ّ‬
‫له‪ .‬كأنه قيل ‪ :‬وليتهم آمنوا‪ .‬مث ابتدئ ‪ :‬ل ََمثُوبَةٌ ِم ْن ِعنْ ِد ه‬
‫اللِ َخ ْريٌ‪.‬‬
‫اللِ َخ ْريٌ ليس هو اجلواب ‪ ،‬وإمنا هو ّ‬
‫دال على‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬إن قوله تعاىل ل ََمثُوبَةٌ ِم ْن ِع ْن ِد ه‬
‫اجلواب ‪ ،‬واجلواب حمذوف تقديره ‪ :‬ألثيبوا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري الكشاف للزخمشري (‪.)174 /1‬‬

‫ص ‪30 :‬‬
‫وقد ذكر أهل األخبار ونقلة املفسرين أخبارا يف تفسري هذه اآلية مؤداها أن هاروت وماروت‬
‫الل بني‬
‫أنزال ليحكما بني الناس ‪ ،‬وركبت فيهما الشهوة ‪ ،‬فزنيا ‪ ،‬وشراب اخلمر ‪ ،‬وكفرا ‪ ،‬فخريَها ّ‬
‫عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة ‪ ،‬فاختارا عذاب الدنيا ‪ ،‬فعلّقا ببابل يعلمان الناس السحر‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وإمنا هي من كتب‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وهذه األخبار مل يرد منها شيء صحيح عن رسول ّ‬
‫اليهود ومن افرتائهم ‪ ،‬فكما افرتوا على سليمان ‪ ،‬كذلك افرتوا على امللكني‪.‬‬
‫وهذه األخبار قد انطوت على عدم عصمة املالئكة ‪ ،‬وجلة العلماء على عصمتهم لقوله تعاىل ‪:‬‬
‫اللَ ما أ ََم َر ُه ْم َويَ ْف َعلُو َن ما يُ ْؤَم ُرو َن [التحرمي ‪ ]6 :‬وقوله ‪َ :‬وَم ْن ِع ْن َدهُ ال يَ ْستَكِْربُو َن َع ْن‬
‫صو َن ه‬
‫ال يَ ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِع َ ِ ِ‬
‫ههار ال يَ ْف ُرتُو َن (‪[ )20‬األنبياء ‪ ]20 ، 19 :‬وغري‬ ‫حو َن اللهْي َل َوالن َ‬ ‫سبِّ ُ‬ ‫بادته َوال يَ ْستَ ْحس ُرو َن يُ َ‬
‫ذلك من اآلايت ‪ ،‬ومما يدل على عدم صحة هذه األخبار أن أصحاهبا يزعمون أن هاروت‬
‫الل عنها‬
‫وماروت قد اختارا عذاب الدنيا فعلّقا ببابل ‪ ،‬وأن امرأة يف زمن السيدة عائشة رضي ّ‬
‫قد ذهبت إليهما ‪ ،‬وتعلمت منهما السحر ‪ ،‬وجاءت تستفيت هل هلا توبة؟ واببل بلدة قدمية‬
‫كانت يف سواد الكوفة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الكوفة على قول املفسرين ‪ ،‬أو هي بلدة يف اجلانب الشرقي‬
‫من هنر الفرات ‪ ،‬بعيدة عنه على قول علماء التاريخ‪ .‬وهذه اجلهات ليست من األماكن اجملهولة‬
‫اليت مل تطرق ‪ ،‬بل هي أماكن معروفة قد طرقها الناس يف القدمي واحلديث ‪ ،‬ومل يعثر أحد على‬
‫هذين امللكني هناك‪.‬‬
‫وقد رأيت أن ما جاء يف اآلية من ذكرَها ال يلزم أن حيمل على ما جاء يف هذه األخبار ‪ ،‬بل‬
‫يصح أن حيمل على ما محلنا ومحله مجلة من املفسرين عليه‪.‬‬
‫ما يؤخذ من اآلية من األحكام‬
‫ني َعلى مل ِ‬
‫ْك ُسلَْيما َن‬ ‫يؤخذ من اآلية أ ّن عمل السحر كفر‪ .‬لقوله تعاىل ‪ :‬واتهب عوا ما تَ ْت لُوا ال ه ِ‬
‫ُ‬ ‫شياط ُ‬ ‫َ َُ‬
‫ني َك َف ُروا أي به وبتعليمه‬ ‫أي ‪ :‬من السحر ‪ ،‬وما َك َفر سلَيما ُن أي بعمل السحر ولكِ هن ال ه ِ‬
‫شياط َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ‬
‫وهاروت وماروت يقوالن ‪ :‬إِ همنا َْحن ُن فِْت نَةٌ فَال تَ ْك ُف ْر‪ .‬وهذا كله يدل على أ ّن السحر كفر ‪ ،‬وهو‬
‫أضر هبا‬
‫الشافعي إىل أن السحر معصية ‪ :‬إن قتل هبا قتل‪ .‬وإن ّ‬
‫ّ‬ ‫قول مالك وأيب حنيفة‪ .‬وذهب‬
‫الل‬
‫أ ّدب على قدر الضرر‪ .‬واحلق األول ملا تدل عليه اآلية ‪ ،‬وألن السحر كالم يعظّم به غري ّ‬
‫تعاىل ‪ ،‬وتنسب إليه املقادير والكائنات‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬وكان فيه إسناد احلوادث‬
‫واعلم أنه إذا جعل السحر ضراب واحدا ‪ ،‬وكان كله تعظيما لغري ّ‬
‫للكواكب ‪ ،‬جاز إطالق القول بكفر الساحر ‪ ،‬وهو قول اجلمهور‪.‬‬
‫أما إذا كان السحر ضرواب ‪ ،‬ومن ضروبه السعي ابلنميمة واإلفساد ابحليل ‪ -‬كما‬

‫ص ‪31 :‬‬
‫هو قول الرازي واملعتزلة ‪ -‬فال يصح القول إبطالق الكفر على الساحر ‪ ،‬أل ّن من يستعمل من‬
‫ضروبه السعي ابلنميمة ال يكفر بذلك‪ .‬وقد فطنوا لذلك فلم يك ّفروا من السحرة إال من يعظّم‬
‫الكواكب ‪ ،‬ويسند احلوادث إليها ‪ ،‬أو يزعم أنه يقدر على اخلوارق للعادة ‪ ،‬فيكفر ألنه يدعي‬
‫أنه يقدر على مثل ما يكون لألنبياء من معجزات ‪ ،‬ويف ذلك طعن يف معجزاهتم‪ .‬وس ّد لباب‬
‫داللة املعجزة على نبوهتم‪ .‬أما من يستعمل يف ضروبه اإلفساد ابلنميمة ‪ ،‬أو خ ّفة اليد ‪ ،‬دون‬
‫ادعاء ما ذكر ‪ ،‬فال يكون بذلك كافرا‪ .‬واآلية حممولة على سحر أهل اببل ‪ ،‬وهو كان تعظيما‬
‫للكواكب كما تقدم‪.‬‬
‫وإذا كان السحر كفرا‪ .‬كان املسلم إذا عمل السحر مرتدا بذلك ‪ ،‬فيحكم عليه ابلقتل ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من ب ّدل دينه فاقتلوه» «‪»1‬‬
‫لقوله صلّى ّ‬
‫على هذا اتفق علماء األمصار ‪ ،‬ما عدا الشافعي ومن تبعه‪.‬‬
‫استدل األولون مبا‬
‫ّ‬ ‫وقد‬
‫روي عن ابن قانع قال ‪ :‬حدثنا بشر بن موسى قال ‪:‬‬
‫حدثنا ابن األصبهاين قال ‪ :‬حدثنا أبو معاوية عن إمساعيل بن مسلم عن احلسن عن مسرة بن‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬ح ّد الساحر ضربه ابلسيف» «‪ »2‬وقد روي هذا‬
‫جندب أن النيب صلّى ّ‬
‫الل عليهم أمجعني منهم ‪ :‬عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعلي‬
‫عن كثري من الصحابة رضوان ّ‬
‫‪ ،‬والرواايت يف ذلك كثرية عن السلف الصاحل‪.‬‬
‫الل راعى ذلك األصل ‪ ،‬وهو أنه يقتل لكفره ‪ ،‬فإن كان جماهرا به قتل‪ .‬وماله يفء‪.‬‬
‫ومالك رمحه ّ‬
‫وإن كان َيفيه أجراه جمرى الزنديق ‪ ،‬فلم يقبل توبته ‪ ،‬كما مل يقبل توبة الزنديق ‪ ،‬ومل يقتل ساحر‬
‫أهل الذمة ‪ ،‬ألنه غري مستحق للقتل بكفره ‪ ،‬ألننا قد أقررانه عليه ‪ ،‬فال يقتل إال أن يضر‬
‫ابملسلمني ‪ ،‬فيكون ذلك عنده نقضا للعهد ‪ ،‬فيقتل كما يقتل احلريب‪.‬‬
‫الل فلم يراع ذلك األصل دائما ‪ ،‬فحكم على الساحر ابلقتل سواء أكان‬
‫وأما أبو حنيفة رمحه ّ‬
‫مسلما أم ذميا ‪ ،‬فلو كان قتل الساحر لكفره ‪ ،‬ملا قتل الذمي الساحر ألنه كافر أصال ‪ ،‬وقد‬
‫أقررانه على كفره‪.‬‬
‫وقد علّل أصحابه لذلك فقالوا ‪ :‬الساحر مجع إىل كفره السعي يف األرض ابلفساد ‪ ،‬فأشبه‬
‫احملارب ‪ ،‬فلذلك قتل الساحر سواء أكان ذميا أم مسلما ‪ ،‬فلم يفرق بني الساحر من أهل الذمة‬
‫واملسلمني ‪ ،‬كما ال َيتلف حكم احملارب من أهل الذمة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 56 ، )27 /4‬كتاب اجلهاد ‪ - 149 ،‬ابب ال يعذب‬
‫الل حديث رقم (‪.)3017‬‬
‫بعذاب ّ‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )49 /4‬يف كتاب احلدود ‪ ،‬ابب ما جاء يف قتل‬
‫الساحر حديث رقم (‪.)1460‬‬

‫ص ‪32 :‬‬
‫واإلسالم فيما يستحقونه من حكم القتل ‪ ،‬ولذلك مل تقتل املرأة الساحرة ‪ ،‬ألن املرأة من احملاربني‬
‫عندهم ال تقتل حدا‪ .‬وإمنا تقتل قودا‪.‬‬
‫وقد ذكروا وجها آخر يف قتل الذمي الساحر ‪ ،‬مع أننا أقررانه على كفره وهو ‪:‬‬
‫أن الكفر الذي صار إليه بسحره مل نقره عليه ‪ ،‬ومل نعطه الذمة عليه ‪ ،‬إمنا أقررانه على كفره‬
‫الظاهر ‪ ،‬أال ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر يف نظري اجلزية مل جنبه إليه‪.‬‬
‫يظن ظا ّن أن أاب حنيفة إمنا يقتل الساحر حلرابته ال لكفره ‪ ،‬ألنه لو كان كذلك ألجراه جمرى‬
‫وال ّ‬
‫احملارب قاطع الطريق عنده ‪ ،‬فلم يقتله إال إذا قتل‪.‬‬
‫اللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍّء‬ ‫ْت ِخبَ ٍّْري ِم ْنها أ َْو ِمثْلِها أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ما نَ ْنس ْخ ِمن آيةٍّ أَو نُ ْن ِسها َأن ِ‬
‫َ ْ َ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫ون هِ ِ‬ ‫ض وما لَ ُكم ِمن ُد ِ‬ ‫ْك ال ه ِ‬ ‫قَ ِد ٌير (‪ )106‬أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫يل َوال‬ ‫الل م ْن َوٍِّّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫سماوات َو ْاأل َْر ِ َ‬ ‫اللَ لَهُ ُمل ُ‬
‫هل الْ ُك ْفر ِاب ِْإل ِ‬
‫ميان‬ ‫ص ٍّري (‪ )107‬أ َْم تُ ِري ُدو َن أَ ْن تَسئَ لُوا َر ُسولَ ُك ْم َكما ُسئِل ُموسى ِم ْن قَ ْبل وَم ْن يَتَ بَد ِ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سبِ ِ‬
‫يل (‪)108‬‬ ‫ض هل َسواءَ ال ه‬
‫فَ َق ْد َ‬
‫ت ِخبَ ٍّْري هو اجلزاء‪.‬‬
‫وأنْ ِ‬
‫س ْخ (ما) شرطية ‪ ،‬و(ننسخ) فعل الشرط‪َ .‬‬
‫ما نَ ْن َ‬
‫والنسخ يطلق يف اللغة إبطالقني ‪ :‬يطلق اترة ‪ ،‬ويراد منه اإلبطال واإلزالة ‪ ،‬ومنه نسخت‬
‫الظل ‪ ،‬أزالته ‪ ،‬ونسخت الريح آاثر القوم أعدمتها‪ .‬وقال تعاىل ‪ :‬إِهال إِذا متََ هىن أَلْ َقى‬ ‫الشمس ّ‬
‫ش ْيطا ُن [احلج ‪ ]52 :‬أي يزيله ويبطله‪ .‬ويقال اترة‬ ‫اللُ ما يُل ِْقي ال ه‬
‫خ ه‬‫سُ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ش ْيطا ُن ِيف أ ُْمنيهته فَيَ ْن َ‬
‫ال ه‬
‫ويراد منه النقل والتحويل ‪ ،‬ومنه نسخت الكتاب ‪ ،‬أي نقلته من كتاب آخر ‪ ،‬ومنه تناسخ‬
‫األرواح ‪ ،‬وتناسخ القرون قران بعد قرن ‪ ،‬وتناسخ املواريث‪.‬‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪ :‬هذا كِتابُنا يَنْ ِط ُق عَلَيْ ُك ْم ِاب ْحلَِّق إِ هان ُكنها نَ ْستَ نْ ِس ُ‬
‫خ ما ُك ْن تُ ْم تَ ْع َملُو َن (‪[ )29‬اجلاثية‬
‫‪ ]29 :‬ويف «صحيح مسلم» «‪ »1‬مل تكن نبوة قط إال تناسخت‪.‬‬
‫فأنت ترى أنه قد ورد النسخ ابملعنيني مجيعا فقال اجلمهور ‪ :‬إنه حقيقة يف األول جماز يف الثاين ‪،‬‬
‫وقال الق ّفال ابلعكس ‪ ،‬وزعم قوم االشرتاك ‪ ،‬قال العضد «‪ »2‬يف «شرحه البن احلاجب» ‪ :‬وال‬
‫يتعلق هبذا النزاع غرض علمي‪.‬‬
‫وأما النسخ يف اصطالح الفقهاء واألصوليني فقد ذكروا له تعريفات كثرية ‪ ،‬خنتار منها اآلن ما‬
‫اختاره ابن احلاجب «‪ ، »3‬وندع التحقيق فيه إىل موضعه يف األصول فنقول ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬نسبه القرطيب يف تفسريه ‪ ،‬اجلامع ألحكام القرآن ‪ ،‬ط ‪ ، 2‬بريوت ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬إىل‬
‫صحيح مسلم (‪.)62 /2‬‬
‫(‪ )2‬عبد الرمحن بن أمحد بن عبد الغفار ‪ ،‬متكلم أصويل تويف (‪ 757‬ه) انظر طبقات الشافعية‬
‫للسبكي (‪ .)108 /6‬واألعالم للزركلي (‪.)295 /3‬‬
‫(‪ )3‬عثمان بن عمر بن أيب بكر ‪ ،‬فقيه أصويل ‪ ،‬تويف سنة (‪ 646‬ه) انظر وفيات األعيان (‪/3‬‬
‫‪.)248‬‬
‫واألعالم للزركلي (‪.)211 /4‬‬

‫ص ‪33 :‬‬
‫النسخ ‪ :‬هو رفع احلكم الشرعي بدليل شرعي متأخر‪ .‬فقولنا ‪( :‬رفع احلكم الشرعي) َيرج املباح‬
‫حبكم األصل ‪ ،‬فإ ّن رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ ‪ ،‬وقولنا ‪:‬‬
‫(بدليل شرعي) َيرج رفعه ابملوت ‪ ،‬والنوم ‪ ،‬والغفلة ‪ ،‬واجلنون ‪ ،‬فإ ّن الرفع فيها من طريق العقل‬
‫‪ ،‬وإن جاء الشرع موافقا له يف مثل ‪:‬‬
‫«رفع القلم عن ثالث» «‪.»1‬‬
‫ِ‬
‫يام إِ َىل اللهْي ِل‬ ‫صل عند كل زوال إىل آخر الشهر ‪ ،‬وحنو مثُه أَمتوا ِّ‬
‫الص َ‬ ‫وقولنا ‪( :‬متأخر) َيرج حنو ّ‬
‫[البقرة ‪ ]187 :‬وقد ال حيتاج إىل مثل هذا ‪ ،‬أل ّن احلكم مل يثبت إال آبخر الكالم ‪ ،‬فال يقال ‪:‬‬
‫إنه رفع‪ .‬والنسخ جائز عقال إبمجاع أهل الشرائع طرا ‪ ،‬ومل َيالف يف ذلك إال اليهود ‪ ،‬مث هو‬
‫واقع إبمجاع املسلمني ‪ ،‬مل َيالف فيه إال أبو مسلم األصفهاين «‪.»2‬‬
‫أما اجلواز فأمر مفروغ منه ‪ ،‬أل ّان نقطع به ‪ ،‬ألنه لو وقع مل يرتتب على فرض وقوعه حمال ‪ ،‬وال‬
‫معىن للجواز إال هذا ‪ ،‬ذلك بفرض أ ّان مل نعترب املصاحل يف التشريع ‪ ،‬أما لو راعينا أ ّن التشريع‬
‫قائم على أساس املصاحل ‪ ،‬فاملصاحل ختتلف ابختالف األوقات ‪ ،‬فما يكون صاحلا يف وقت قد ال‬
‫يكون صاحلا يف كل األوقات ‪ ،‬كشرب دواء يف وقت دون وقت ‪ ،‬فال بد يف أن تكون املصلحة‬
‫يف وقت تقتضي شرع حكم ‪ ،‬مث رفعه بعد ذلك الوقت ‪ ،‬واألمثلة يف ذلك كثرية ومشاهدة‪ .‬وأما‬
‫الوقوع فقد حصل النسخ يف الشرائع السابقة ‪ ،‬ويف نفس شريعة اليهود ‪ ،‬فإنه جاء يف التوراة ‪:‬‬
‫حرم ذلك ابتفاق‪.‬‬
‫أن آدم عليه السالم أمر بتزويج بناته من بنيه ‪ ،‬وقد ّ‬
‫وأما الرد على األصفهاين ‪ ،‬فقد أمجعت األمة على أ ّن شريعتنا انسخة ملا َيالفها من األحكام‬
‫اليت كانت يف الشرائع السابقة ‪ ،‬وقد وقع النسخ يف نفس شريعتنا ‪ ،‬فقد كانت القبلة يف الصالة‬
‫أوال إىل بيت املقدس ‪ ،‬مث حتولت إىل الكعبة ‪ ،‬وكانت الوصية للوالدين واألقربني واجبة ‪ ،‬وقد‬
‫نسخت آبايت املواريث ‪ ،‬وابحلديث «ال وصيّة لوارث» «‪»3‬‬
‫ري إِ ْخر ٍّ‬ ‫ِ‬
‫اج [البقرة ‪ .]240 :‬مث نسخت آبية ‪:‬‬ ‫وعدة املتوىف عنها زوجها كانت َمتاعاً إِ َىل ا ْحلَْول غَ ْ َ‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍّر َوعَ ْشراً [البقرة ‪.]234 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن منْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يَ َرتَبه ْ‬
‫وإذا ثبت أن النسخ جائز وواقع فلنرجع إىل تفسري اآلية‪ِ .‬م ْن آيَةٍّ ‪ :‬ختصيص ملا يف اسم الشرط‬
‫من العموم ‪ ،‬آية مفرد وقع موقع اجلمع ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬أي شيء من اآلايت ننسخ ‪ ،‬وهي يف األصل‬
‫الدليل والعالمة ‪ ،‬وشاع استعماهلا يف طائفة من القرآن معلومة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ )130 /4‬يف كتاب احلدود ‪ ،‬ابب يف اجملنون يسرق حديث رقم‬
‫(‪.)4398‬‬
‫(‪ )2‬حممد بن حبر تويف سنة ‪ 322‬ه‪ .‬من أهل أصفهان معتزيل كان عاملا ابلتفسري ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)50 /6‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف السنن (‪ )337 /4‬يف كتاب الوصااي ‪ ،‬ابب ما جاء ال وصية لوارث‬
‫حديث رقم (‪.)2120‬‬

‫ص ‪34 :‬‬
‫البدء والنهاية ‪ ،‬وقد شاع استعماهلا يف القرآن ابملعىن العام ‪ ،‬وهو كثري‪.‬‬
‫وجوزوا أن تكون (من) زائدة (و آية) حاال ‪ ،‬قال أبو حيان «‪ : »1‬وهو فاسد ‪ ،‬أل ّن احلال ال‬
‫ّ‬
‫جير مبن «‪.»2‬‬
‫أو ننسها ‪ :‬ننس فعل مضارع من أنسى ‪ ،‬وهو ‪ :‬إما من النسيان ضد الذكر واملعىن ‪ :‬أو ننسها‬
‫أي جنعلك تنساها ‪ ،‬وإما مبعىن الرتك ‪ ،‬فاملعىن ‪ :‬أنمر برتكها ‪ ،‬يقال ‪ :‬أنسيته الشي ء ‪ ،‬أمرته‬
‫برتكه ‪ ،‬ونسيته تركته‪.‬‬
‫الل عليه‬
‫وقد أنكر بعضهم أن حتمل اآلية على النسيان ضد الذكر ‪ ،‬ألن هذا مل يكن للنيب صلّى ّ‬
‫الل جلّت قدرته أبن يقرئه فال ينسى؟‬
‫وسلّم‪ .‬وال نسي قرآان ‪ ،‬وكيف هذا وقد تكفل ّ‬
‫َسنُ ْق ِرئُ َ‬
‫ك فَال تَ ْنسى (‪[ )6‬األعلى ‪.]6 :‬‬
‫ومن محلها عليه قال ‪ :‬إنه ينساها بعد نسخ لفظها ‪ ،‬وإبعادها من القرآن من طريق الوحي إن‬
‫الل ذلك‪.‬‬
‫شاء ّ‬
‫الل‬
‫الل عليه وسلّم ملا أراد ّ‬
‫وقد قال ابن عطية «‪ : »3‬والصحيح يف هذا أن نسيان النيب صلّى ّ‬
‫أن ينساه جائز ‪ ،‬وأما النسيان الذي هو آفة البشر فالنيب معصوم منه قبل التبليغ وبعده ‪ ،‬حىت‬
‫حيفظه بعض الصحابة ‪ ،‬ومن هذا ما‬
‫الل!‬
‫روي أنه أسقط آية يف الصالة ‪ ،‬فلما فرغ منها قال ‪« :‬أيف القوم أيب»؟ قال ‪ :‬نعم اي رسول ّ‬
‫قال ‪« :‬فلم مل تذ ّكرين» قال ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬مل ترفع ‪ ،‬ولكين نسيتها» «‪»4‬‬
‫خشيت أهنا رفعت ‪ ،‬فقال النيب صلّى ّ‬
‫اه كالم ابن عطية‪.‬‬
‫س ْخ بضم النون وكسر السني‪ .‬والباقون بفتحها ‪ ،‬وتفسري اآلية على‬
‫قرأ ابن عامر «‪ : »5‬ما نَ ْن َ‬
‫قراءة ابن عامر حيتمل وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬أن يكون نسخ وأنسخ مبعىن واحد‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أن يكون أنسخ مبعىن جعله ذا نسخ ‪ ،‬كما يف قول احلجاج أقربوا الرجل ‪ ،‬هبمزة القطع‪.‬‬
‫أي اجعلوه ذا قرب ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬مثُه أَماتَهُ فَأَق َْربَهُ (‪[ )21‬عبس ‪ ]21 :‬أي جعله ذا قرب‪.‬‬
‫__________‬
‫مفسر حنوي ‪ ،‬تويف سنة (‪ 745‬ه)‪ .‬من كبار العلماء ابلعربية‬
‫(‪ )1‬حممد بن يوسف بن علي ‪ّ ،‬‬
‫والتفسري واحلديث انظر األعالم للزركلي (‪.)152 /7‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفسري البحر احمليط أليب حيان األندلسي (‪].....[ .)343 /1‬‬
‫مفسر تويف سنة (‪ 542‬ه) انظر قضاة‬
‫(‪ )3‬عبد احلق بن غالب بن عبد الرمحن الغرانطي ّ‬
‫األندلس ص (‪ .)109‬واألعالم للزركلي (‪.)282 /3‬‬
‫(‪ )4‬رواه أمحد يف املسند (‪.)407 /3‬‬
‫الل بن عامر بن يزيد اليحصيب أحد القراء السبعة ‪ ،‬وإمام أهل الشام تويف (‪ 118‬ه)‬
‫(‪ )5‬عبد ّ‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)95 /4‬‬
‫ص ‪35 :‬‬
‫وقرأ ابن كثري «‪ »1‬وأبو عمرو «‪ : »2‬ننسأها بفتح النون واهلمزة ‪ ،‬وهو جمزوم ابلشرط ‪ ،‬وهو‬
‫ايدةٌ ِيف الْ ُك ْف ِر [التوبة ‪ ]37 :‬ومنه بيع‬ ‫من النسء مبعىن التأخري ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬إِ همنَا الن ِ‬
‫هسي ءُ ِز َ‬
‫الزايدة يف‬
‫سره النسء يف األجل ‪ ،‬و ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من ّ‬
‫النسيئة أي بيع األجل ‪ ،‬وقال صلّى ّ‬
‫الرزق فليصل رمحه» «‪.»3‬‬
‫ّ‬
‫وقال الفخر الرازي ‪ :‬وقد جاء النسيان مبعىن الرتك يف قوله تعاىل ‪ :‬فَنَ ِس َي َوَملْ َجنِ ْد لَهُ َع ْزماً [طه ‪:‬‬
‫‪ ]115‬أي فرتك ‪ ،‬وقال تعاىل ‪ :‬الْيَ ْو َم نَ ْنسا ُك ْم َكما نَ ِسيتُ ْم لِقاءَ يَ ْوِم ُك ْم هذا [اجلاثية ‪ ]34 :‬وقال‬
‫ك الْيَ ْو َم تُنْسى (‪[ )126‬طه ‪.]126 :‬‬ ‫ك آايتُنا فَنَ ِسيتَها َوَكذلِ َ‬ ‫قال َكذلِ َ‬
‫ك أَتَتْ َ‬ ‫تعاىل ‪َ :‬‬
‫أخف يف التكليف ‪ ،‬وقد تكون‬ ‫ْت ِخبَ ٍّْري ‪ :‬جواب الشرط ‪ ،‬واخلربية قد تكون أبن يكون البدل ّ‬ ‫َأن ِ‬
‫برعاية املصلحة مع املشقة وكثرة الثواب‬
‫«أفضل األعمال أمحزها» «‪»4‬‬
‫أي أشقها ‪ ،‬وقد تكون اخلريية إبسقاط التكليف ال إىل بدل ‪ ،‬على رأي من أجازه‪ .‬أ َْو ِمثْلِها ‪ :‬يف‬
‫احلكم ‪ ،‬واحلكمة يف جميء البدل مثال رعاية املصلحة حبسب الوقت ‪ ،‬وذلك كنسخ التوجه إىل‬
‫بيت املقدس ابلتوجه إىل الكعبة ‪ ،‬ومثال النسخ إىل أثقل نسخ حبس الزانة يف البيوت «‪ »5‬إىل‬
‫اجللد والرجم «‪ ، »6‬ونسخ وجوب صوم يوم عاشوراء بوجوب صيام شهر رمضان ‪ ،‬وفرضت‬
‫الصالة ركعتني ركعتني فزيدت يف احلضر وأقرت يف السفر «‪ ، »7‬عند بعضهم‪ .‬وأما النسخ إىل‬
‫أخف فكنسخ عدة املتوىف عنها زوجها من حول إىل أربعة أشهر وعشر على رأي اجلمهور‪.‬‬
‫أقسام النسخ‬
‫الل عنه أنه‬
‫النسخ يكون بنسخ التالوة مع بقاء احلكم كما ورد عن عمر رضي ّ‬
‫__________‬
‫الل بن كثري الداري ‪ ،‬إمام املكيني يف القراءة تويف سنة (‪ 120‬ه) انظر األعالم‬
‫(‪ )1‬عبد ّ‬
‫للزركلي (‪.)115 /4‬‬
‫(‪ )2‬زابن بن عمار أبو عمرو بن العالء مقرئ أهل البصرة تويف سنة (‪ 154‬ه) يف الكوفة انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)41 /3‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 78 ، )96 /7‬كتاب األدب ‪ - 12 ،‬ابب من بسط له يف‬
‫الرزق حديث رقم (‪.)5986‬‬
‫(‪ ) 4‬انظر كشف اخلفا ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث على ألسنة الناس ‪ ،‬للعجلوين‬
‫بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية (‪ )141 /1‬حديث رقم (‪ .)459‬حيث قال ‪ :‬قال ابن القيم ‪ :‬ال‬
‫أصل له ‪ ،‬وقال القاري معناه صحيح ملا يف الصحيحني عن عائشة ‪ :‬األجر على قدر التعب‪.‬‬
‫(‪ )5‬كما يف اآلية (‪ )15‬من سورة النساء‪.‬‬
‫(‪ )6‬كما يف اآلية (‪ )2‬من سورة النور‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 18 ، )45 /2‬كتاب تقصري الصالة ‪ - 5 ،‬ابب يقصر ‪،‬‬
‫إذا خرج حديث رقم (‪ )1090‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )478 /1‬كتاب صالة املسافرين‬
‫‪ - 1 ،‬ابب صالة املسافرين حديث رقم (‪.)685 /1‬‬

‫ص ‪36 :‬‬
‫شيخة إذا زنيا فارمجوَها» «‪ »1‬وقد نسخت التالوة‬
‫شيخ وال ّ‬
‫قال ‪« :‬كان فيما نزل من القرآن ال ّ‬
‫وبقي احلكم‪.‬‬
‫وقد يكون النسخ للحكم مع بقاء التالوة ‪ ،‬وهو كثري‪ .‬كآية الوصية ‪ ،‬وآية العدة وتقدمي الصدقة‬
‫الل عليه وسلّم‪.‬‬
‫عند مناجاة الرسول صلّى ّ‬
‫الل عنها «كان فيما نزل من‬
‫وقد يكون النسخ للحكم والتالوة معا ‪ ،‬كما روي عن عائشة رضي ّ‬
‫حيرمن» «‪ »2‬واجلزء‬
‫حيرمن مث نسخ خبمس رضعات معلومات ّ‬
‫القرآن عشر رضعات معلومات ّ‬
‫األول منسوخ احلكم والتالوة ‪ ،‬واجلزء الثاين وهو اخلمس منسوخ التالوة ابقي احلكم عند‬
‫الشافعية‪.‬‬
‫مث إ ّن اخلالف يف أ ّن القرآن ينسخ بغري ابلقرآن ‪ ،‬واخلرب املتواتر بغري املتواتر أو ال؟‬
‫ْت ِخبَ ٍّْري ِم ْنها‬
‫الل عنه نسخ القرآن بغري القرآن مستدال هبذه اآلية َأن ِ‬ ‫فقد منع الشافعي رضي ّ‬
‫وداللتها من وجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أنه قال (أنت) وأسند اإلتيان إىل نفسه ‪ ،‬وهو ال يكون إال إذا كان الناسخ قرآان‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أنه قال ‪( :‬خبري) وال يكون الناسخ خريا إال إذا كان قرآان‪.‬‬
‫اللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍّء قَ ِد ٌير ويدخل يف ذلك النسخ ‪ ،‬بل إمنا سيقت‬
‫والثالث ‪ :‬أنه قال ‪ :‬أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫اآلية له ‪ ،‬فالنسخ ال بد أن يكون ّلل‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬وهو أقوى أدلته قوله تعاىل ‪َ :‬وإِذا بَ هدلْنا آيَةً َمكا َن آيَةٍّ إىل آخر اآلية [النحل ‪]101 :‬‬
‫حيث أسند التبديل إىل نفسه وجعله يف اآلايت‪.‬‬
‫وهو استدالل غري واضح ‪ ،‬فإنّه ال معىن ألن يكون لفظ اآلية خريا من لفظ آية أخرى ‪ ،‬إمنا‬
‫الل‬
‫اخلريية تكون بني األحكام ‪ ،‬فيكون احلكم الناسخ خريا من احلكم املنسوخ حبسب ما علم ّ‬
‫من اشتماله على مصاحل العباد حبسب أوقاهتا ومالبساهتا ‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك فاملدار على أن‬
‫الل ‪َ ،‬وما يَنْ ِط ُق عَ ِن‬
‫يكون احلكم الناسخ خريا ‪ّ ،‬أاي كان الناسخ قرآان أو سنة ‪ ،‬والكل من عند ّ‬
‫ا ْهلَوى (‪[ )3‬النجم ‪.]3 :‬‬
‫على أنه قد وقع نسخ القرآن يف آية الوصية‬
‫حبديث «ال وصية لوارث»‬
‫‪ ،‬ومتام البحث مستوىف يف علم األصول‪.‬‬
‫بقي أن يقال ‪ :‬إن تعريف النسخ الذي ذكرمتوه ال يتناول نسخ التالوة فنقول ‪ :‬إن التعبد‬
‫ابلتالوة حكم من األحكام‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مالك يف املوطأ (‪.)168 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1075 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 6 ،‬ابب التحرمي خبمس‬
‫حديث رقم (‪.)1452 /24‬‬

‫ص ‪37 :‬‬
‫اللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍّء قَ ِد ٌير [البقرة ‪ ]106 :‬االستفهام قيل ‪ :‬للتقرير ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وخطابه خطاب ألمته ‪ ،‬وقيل ‪ :‬لكل‬
‫لإلنكار ‪ ،‬واملخاطب هو الرسول صلّى ّ‬
‫من بلغه هذا اخلطاب على حد‬
‫شر املشائني إىل املساجد» «‪.»1‬‬
‫«ب ّ‬
‫وقيل اخلطاب ملن أنكر النسخ ‪ ،‬واملراد االستشهاد بعلم املخاطب مبا ذكر على قدرته تعاىل على‬
‫النسخ ‪ ،‬واإلتيان مبا هو خري أو مماثل ‪ ،‬أل ّن ذلك من مجلة األشياء الداخلة حتت قدرته تعاىل ‪،‬‬
‫الل صاحب القدرة التامة والسلطان الشامل‪ .‬على قدرته على ذلك قطعا‪.‬‬ ‫فمن علم أن ّ‬
‫ض [البقرة ‪ ]107 :‬أي قد علمت أيّها املخاطب أن‬ ‫س ِ‬
‫ماوات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ْك ال ه‬ ‫أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫اللَ لَهُ ُمل ُ‬
‫الل تعاىل له السلطان القاهر ‪ ،‬واالستيالء الباهر ‪ ،‬املستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي‬
‫ّ‬
‫‪ ،‬إجيادا ‪ ،‬وإعداما ‪ ،‬وأمرا ‪ ،‬وهنيا ‪ ،‬حسبما تقتضيه مشيئته ‪ ،‬ال معارض ألمره ‪ ،‬وال معقب‬
‫حلكمه ‪ ،‬فمن هذا شأنه كيف َيرج عن قدرته شيء من األشياء؟‬
‫والكالم على هذا النحو مبثابة الدليل ملا قبله يف إفادة البيان ‪ ،‬ولذلك ترك العطف‪.‬‬
‫ص ٍّري [البقرة ‪ ]107 :‬عطف على اجلملة الواقعة خربا ‪ ،‬وفيه‬‫اللِ ِمن وٍِّيل وال نَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوما لَ ُك ْم م ْن ُدون ه ْ َ ّ َ‬
‫إشارة إىل دخول األمة يف اخلطاب بقوله ‪ :‬أََملْ تَ ْعلَ ْم‪ .‬و(من) األوىل ابتدائية ‪ ،‬والثانية زائدة‪ .‬والويل‬
‫‪ :‬املالك ‪ ،‬والنصري ‪ :‬املعني‪ .‬والفرق بينهما أن املالك قد ال يقدر على النصر ‪ ،‬وقد يقدر وال‬
‫يفعل‪ .‬واملعني قد ال يكون مالكا ‪ ،‬بل قد يكون أجنبيا ‪ ،‬فجمع بينهما لذلك‪ .‬واملراد من اآلية‬
‫جمرد‬
‫الل مبا ذكر من اإلتيان مبا هو خري من املنسوخ أو مبثله‪ .‬فإ ّن ّ‬
‫االستشهاد على تعلق إرادة ّ‬
‫قدرته تعاىل على ذلك ال يستدعي حصوله‪ .‬وإمنا الذي يستدعيه مع ذلك كونه وليا نصريا‪ .‬فمن‬
‫ويل له وال نصري سواه ‪ ،‬يعلم قطعا أنه ال يفعل به إال ما هو خري ‪،‬‬
‫علم أنه وليّه ونصريه ‪ ،‬وأنه ال ّ‬
‫فيفوض أمره ‪ ،‬وال َيطر بباله ريبة يف أمر النسخ وغريه أصال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ضله‬
‫ميان فَ َق ْد َ‬ ‫أ َْم تُ ِري ُدو َن أَ ْن تَسئَ لُوا َر ُسولَ ُك ْم َكما ُسئِل ُموسى ِم ْن قَ ْبل وَم ْن يََت بَد ِ‬
‫هل الْ ُك ْفر ِاب ِْإل ِ‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سبِ ِ‬
‫يل (‪[ )108‬البقرة ‪ ]108 :‬زعم بعضهم أ ّن (أم) هنا متصلة‪ .‬وقطع بعضهم أبهنا‬ ‫َسواءَ ال ه‬
‫الل عليه وسلّم يف اخلطاب السابق ‪ ،‬وعدم دخوله يف هذا‬
‫منقطعة بناء على دخول الرسول صلّى ّ‬
‫خمل ابالتصال ‪ ،‬وذهب بعضهم إىل أهنا جملرد االستفهام‪ .‬واملراد عليه ‪ :‬أتريدون‬
‫اخلطاب ‪ ،‬وذلك ّ‬
‫إخل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )222 /1‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب ما جاء يف املشي إىل الصالة‬
‫حديث رقم (‪ ، )561‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )433 /1‬يف كتاب الصالة ‪ ،‬ابب ما جاء‬
‫يف فضل العشاء حديث رقم (‪.)221‬‬

‫ص ‪38 :‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وترك‬
‫وعلى التقديرين األولني املراد توصية املسلمني ابلثقة ابلرسول صلّى ّ‬
‫االقرتاح بعد رد ظن املشركني واليهود يف النسخ ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬ال تكونوا فيما أنزل إليكم من‬
‫القرآن كاليهود يف ترك الثقة ابآلايت البينات ‪ ،‬واقرتاح غريها ‪ ،‬فتضلّوا ‪ ،‬وتكفروا بعد اإلميان ‪،‬‬
‫ويف هذه التوصية كمال املبالغة والبالغة ‪ ،‬حىت كأهنّم بصدد اإلرادة ‪ ،‬فنهوا عنها ‪ ،‬فضال عن‬
‫السؤال‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر بعض املفسرين «‪ »1‬أ ّن الصحابة اقرتحوا على الرسول أشياء بعينها‬
‫اج َع ْل لَنا إِهلاً‬
‫الل! هذا كما قال قوم موسى ‪ْ :‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬سبحان ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فقال رسول ّ‬
‫كنب سنن من قبلكم ‪ »...‬احلديث «‪.»2‬‬ ‫َكما َهلم ِ‬
‫آهلَةٌ [األعراف ‪ ]138 :‬والذي نفسي بيده لرت ّ‬ ‫ُْ‬
‫ينزل عليهم كتاب من‬
‫زعم بعضهم أن اخلطاب فيها لليهود ‪ ،‬وأن اآلية نزلت فيهم حني سألوا أن ّ‬
‫السماء مجلة كما نزلت التوراة على موسى مجلة ‪ ،‬ويكون الفعل املضارع مرادا منه املاضي‪.‬‬
‫واختاره اإلمام الرازي‪ .‬قال ‪ :‬إنه األصح‪ .‬ألن السورة من أول قوله ‪:‬‬
‫يت الهِيت أَنْ َع ْم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وحماجة‬
‫ت َعلَْي ُك ْم [البقرة ‪ ]40 :‬حكاية عن اليهود ‪ّ ،‬‬ ‫يل اذْ ُك ُروا ن ْع َم ِ َ‬
‫اي بَِين إ ْسرائ َ‬
‫معهم ‪ ،‬وأل ّن املؤمن ابلرسول ال يكاد يسأل ما يكون متبدال به الكفر ابإلميان‪.‬‬
‫وذهب قوم إىل أهنا نزلت يف أهل مكة ‪ ،‬حني سألوا املصطفى أن جيعل هلم الصفا ذهبا ‪ ،‬وأن‬
‫يفجر األهنار خالهلا تفجريا ‪ ،‬وال مانع من جعل الكل أسبااب‪.‬‬ ‫يوسع هلم أرض مكة ‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ّ‬
‫كلي‬ ‫سبِ ِ‬ ‫هل الْ ُك ْفر ِاب ِْإل ِ‬
‫وَم ْن يَتَ بَد ِ‬
‫يل مجلة مستقلة مشتملة على حكم ّ‬ ‫ضله َسواءَ ال ه‬
‫ميان فَ َق ْد َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أخرجت خمرج النهي جيء هبا لتأكيد النهي عن االقرتاح املفهوم من قوله ‪ :‬أ َْم تُ ِري ُدو َن‪.‬‬
‫و(سواء) مبعىن وسط أو مستو ‪ ،‬واإلضافة من إضافة الصفة للموصوف ‪ ،‬والباء داخلة على‬
‫العوض املرتوك ‪ ،‬نظريها يف قوله تعاىل ‪ :‬أَتَ ْستَ ْب ِدلُو َن اله ِذي ُه َو أَ ْدىن ِابله ِذي ُه َو َخ ْريٌ [البقرة ‪:‬‬
‫‪.]61‬‬
‫وحاصل اآلية ‪ :‬أن من يرتك الثقة ابآلايت البينات املنزلة حبسب املصاحل ‪ ،‬اليت من مجلتها‬
‫اآلايت الناسخات ‪ ،‬اليت ما جاءت إال حملض اخلري ‪ ،‬واقرتاح غريها ‪ ،‬فقد حاد من حيث ال‬
‫يدري عن الطريق املستقيم ‪ ،‬املوصل إىل معامل احلق واهلدى‪.‬‬
‫س ْخ ِم ْن آيَةٍّ ال يراد منها‬
‫هذا وقد زعم بعضهم أن (آية) يف قوله تعاىل ‪ :‬ما نَنْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري ابن جرير الطربي املسمى جامع البيان يف تفسري القرآن (‪ ، )139 /6‬وتفسري‬
‫ابن كثري املسمى تفسري القرآن العظيم (‪].....[ .)243 /2‬‬
‫الل‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح ‪ - 96 ،‬كتاب االعتصام ‪ - 10 ،‬ابب قول النيب صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم حديث رقم (‪.)7319‬‬

‫ص ‪39 :‬‬
‫الل معجزة الرسول‬
‫اآلية القرآنية ‪ ،‬بل املراد املعجزات ال ّدالّة على صدق الرسل ‪ ،‬حيث يب ّدل ّ‬
‫السابق ابملعجزة اليت أييت هبا الرسول الذي بعده ‪ ،‬وإمنا جلأ إىل ذلك فرارا من تفسري اإلنساء‬
‫اللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍّء قَ ِد ٌير ومن علم ما ذكروه يف‬
‫وحنوه ‪ ،‬ومتشيا كما يزعم مع قوله ‪ :‬أََملْ تَ ْعلَ ْم أَ هن ه‬
‫أسباب النزول من أن اآلية جاءت للتمهيد يف حتويل القبلة ‪ ،‬ونسخ التوجه إليها ابلتوجه إىل‬
‫الكعبة ‪ :‬علم أنه ال داعي إىل ما زعمه‪.‬‬
‫ك َشط َْر‬ ‫س ِ‬
‫ماء فَلَنُ َولِّيَ ن َ‬
‫هك قِْب لَةً تَ ْرضاها فَ َو ِّل َو ْج َه َ‬ ‫ك ِيف ال ه‬‫ب َو ْج ِه َ‬‫الل تعاىل ‪ :‬قَ ْد نَرى تَ َقل َ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َو َح ْي ُ‬
‫تاب لَيَ ْعلَ ُمو َن أَنههُ ا ْحلَق‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫وه ُك ْم َشط َْرهُ َوإِ هن الهذ َ‬ ‫ث ما ُك ْن تُ ْم فَ َولوا ُو ُج َ‬
‫اللُ بِغافِ ٍّل عَ هما يَ ْع َملُو َن (‪)144‬‬ ‫ِم ْن َرّهبِِ ْم َوَما ه‬
‫ول‬
‫اختلف العلماء يف نزول هذه اآلية ‪ ،‬فقال قوم ‪ :‬هي متقدمة يف النزول على قوله تعاىل ‪َ :‬سيَ ُق ُ‬
‫هاس ما َوهال ُه ْم َع ْن قِْب لَتِ ِه ُم الهِيت كانُوا َعلَْيها [البقرة ‪ ]142 :‬وهو‬ ‫الس َفهاءُ ِم َن الن ِ‬
‫الل عنه ‪ ،‬ويؤيده ما رواه البخاري «‪ »1‬عن الرباء بن عازب قال ‪:‬‬
‫مروي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫الل عليه وسلّم املدينة ‪ ،‬فصلّى حنو بيت املقدس ستة عشر شهرا أو سبعة‬
‫الل صلّى ّ‬
‫قدم رسول ّ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬قَ ْد‬
‫الل عليه وسلّم حيب أن يتوجه حنو الكعبة فأنزل ّ‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫عشر شهرا وكان رسول ّ‬
‫والهم عن قبلتهم‬
‫ماء‪ .‬فقال السفهاء من الناس ‪ ،‬وهم اليهود ‪ :‬ما ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬
‫ك ِيف ال ه‬ ‫نَرى تَ َقل َ‬
‫ِِ‬
‫اليت كانوا عليها؟ فقال تعاىل ‪ :‬قُ ْل هلل ال َْم ْش ِر ُق َوال َْمغْ ِر ُ‬
‫ب‪.‬‬
‫وذهب الزخمشري «‪ »2‬وغريه إىل أ ّن هذه اآلية متأخرة يف النزول والتالوة عن قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ول الس َفهاءُ مستقبال أريد به اإلخبار مبغيّب يكون‬
‫ول الس َفهاءُ ‪ ...‬ويكون قوله تعاىل ‪َ :‬سيَ ُق ُ‬
‫َسيَ ُق ُ‬
‫من اليهود عند نزول األمر ابستقبال الكعبة ‪ ،‬ليكون ذلك معجزا مبا فيه من اإلخبار ابلغيب ‪،‬‬
‫ولتتوطن النفس على ما يرد من األعداء ‪ ،‬وتستعد له ‪ ،‬فيكون أقل أتثريا منه عند املفاجأة ‪،‬‬
‫ِِ‬
‫وليكون اجلواب حاضرا للرد عليهم عند ذلك ‪ ،‬وهو قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل هلل ال َْم ْش ِر ُق َوال َْمغْ ِر ُ‬
‫ب‪.‬‬
‫متشوقا للوحي ‪،‬‬ ‫ك ِيف ال ه ِ‬‫ب َو ْج ِه َ‬
‫سماء أي كثريا ما نرى تر ّدد وجهك يف جهة السماء ّ‬ ‫قَ ْد نَرى تَ َقل َ‬
‫الل عليه وسلّم يقع يف قلبه ‪ ،‬ويتوقع من ربه أن حيوله إىل الكعبة ‪ ،‬ملا أن‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وكان رسول ّ‬
‫اليهود كانوا يقولون ‪َ :‬يالفنا حممد ويتّبع قبلتنا ‪ ،‬وألهنا قبلة أبيه إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬وأدعى إىل‬
‫إميان العرب‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم مل يسأل ذلك ‪ ،‬بل كان ينتظره فقط ‪ ،‬إذ لو وقع السؤال‬
‫والظاهر أن النيب صلّى ّ‬
‫لكان الظاهر ذكره ‪ ،‬ويف ذلك ‪ :‬داللة على كمال أدبه عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وقال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سيأيت خترجيه ال حقا‪.‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)98 /1‬‬

‫ص ‪40 :‬‬
‫الل عليه وسلّم يقلب وجهه يف الدعاء إىل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫قتادة «‪ »1‬والسدي وغريَها ‪ :‬كان رسول ّ‬
‫حيوله إىل الكعبة ‪ ،‬وعلى هذا يكون السؤال واقعا ‪ ،‬وإمنا مل يذكر ‪ ،‬أل ّن تقلّب الوجه حنو‬
‫الل أن ّ‬
‫ّ‬
‫السماء وهي قبلة الدعاء يشري إليه‪.‬‬
‫الل تعاىل شيئا من غري أن‬
‫ولعل ذلك بعد حصول اإلذن له ابل ّدعاء ‪ ،‬ملا أن األنبياء ال يسألون ّ‬
‫الل ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم استأذن جربيل يف أن يدعو ّ‬
‫أيذن هلم فيه‪ .‬وقد ورد يف بعض اآلاثر أنه صلّى ّ‬
‫الل قد أذن له ‪ ،‬على أنه ال مانع من السؤال ابتداء ملصلحة أهلمها ‪ ،‬ومنفعة‬
‫فأخربه جربيل أن ّ‬
‫دينية فهمها ‪ ،‬وال يتوقف ذلك على االستئذان واإلذان‪.‬‬
‫وليس يف اآلية ما يدل صرحيا على أنه سأل أو مل يسأل ‪ ،‬وقد أخرج البخاري ومسلم يف‬
‫الل عليه وسلّم بعد‬
‫الل صلّى ّ‬
‫«صحيحيهما» «‪ »2‬عن الرباء بن عازب قال ‪ :‬صلينا مع رسول ّ‬
‫الل علمه برغبة نبيه عليه الصالة‬
‫قدومه املدينة ستة عشر شهرا حنو بيت املقدس ‪ ،‬مث أظهر ّ‬
‫ك وقد يفهم من هذا أن السؤال مل يقع‪.‬‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬
‫والسالم ‪ ،‬فنزلت اآلية قَ ْد نَرى تَ َقل َ‬
‫قال الزخمشري «‪ : »3‬إ ّن (قد) هنا مبعىن (رمبا) وهي للتكثري ‪ ،‬وقال أبو حيان «‪: »4‬‬
‫بل التكثري مستفاد من لفظ التقلّب ‪ ،‬ألنه مطاوع التقليب ‪ ،‬ومن نظر مرة أو ردد بصره مرتني أو‬
‫ثالاث ال يقال ‪ :‬إنه قلب ‪ ،‬فال يقال قلّب إال حيث الرتديد كثري‪ .‬و(نرى) هنا مبعىن املاضي ‪ ،‬وقد‬
‫ذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب املضارع ماضيا ‪ ،‬ومنه ما هنا ‪ ،‬ومنه قوله ‪:‬‬
‫كي ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْد ُر َك [احلجر ‪ ]97 :‬قَ ْد يَ ْعلَ ُم ه‬
‫اللُ‬ ‫يق َ‬
‫ض ُ‬ ‫قَ ْد يَ ْعلَ ُم ما أَنْ تُ ْم َعلَْيه [النور ‪َ ]64 :‬ولََق ْد نَ ْعلَ ُم أَنه َ َ‬
‫ني [األحزاب ‪ ]18 :‬واملعىن قد رأينا إخل‪.‬‬ ‫ال ُْم َع ِّوقِ َ‬
‫هك قِْب لَةً أي لنمكنّنك من استقباهلا ‪ ،‬من قولك ‪ :‬وليته كذا إذا جعلته واليا له ‪ ،‬والفاء‬ ‫فَلَنُ َولِّيَ ن َ‬
‫لسببية ما قبلها يف الذي بعدها‪.‬‬
‫تَ ْرضاها حتبها ‪ ،‬ومتيل إليها ألغراض صحيحة أضمرهتا يف نفسك تريد هبا أن جيتمع الناس على‬
‫قبلة واحدة ‪ ،‬فتتحد قلوهبم ‪ ،‬ويكون من وراء ذلك خري عظيم‪.‬‬
‫ك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام الفاء لتفريع األمر على الوعد السابق ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬فاصرف‬
‫فَ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫فسران التولية هنا مبعىن الصرف ‪ ،‬ألهنّا ابملعىن السابق تكون‬
‫وجهك شطر املسجد احلرام ‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫متعدية إىل مفعولني ‪ ،‬وهي هنا مع ّداة إىل واحد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬قتادة بن دعامة بن قتادة أبو اخلطاب ‪ ،‬السدوسي البصري ‪ ،‬عامل ابحلديث والتفسري تويف‬
‫سنة (‪ 118‬ه) مات بواسط يف الطاعون ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)189 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 2 ، )18 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 31 ،‬ابب الصالة حديث‬
‫رقم (‪ ، )40‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )374 /1‬كتاب املساجد ‪ - 2 ،‬ابب حتويل القبلة‬
‫حديث رقم (‪.)525 /11‬‬
‫(‪ )3‬انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف حماسن التأويل للزخمشري (‪/1‬‬
‫‪.)201‬‬
‫(‪ )4‬يف تفسريه البحر احمليط (‪.)427 /1‬‬

‫ص ‪41 :‬‬
‫و َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام حنوه وقبله وتلقاؤه ‪ ،‬ويف ذكر املسجد احلرام الذي هو حميط الكعبة دون‬
‫مصرحا به يف األحاديث إشارة إىل أنه يكفي للبعيد‬
‫الكعبة مع أهنا القبلة ال املسجد على ما جاء ّ‬
‫حماذاة جهة القبلة ‪ ،‬قاله األلوسي‪.‬‬
‫وه ُك ْم‬
‫ث ما ُك ْن تُ ْم فَ َولوا ُو ُج َ‬
‫وذكر غريه أن حماذاة اجلهة مفهومة من قوله شطر املسجد ‪َ ،‬و َح ْي ُ‬
‫َشط َْرهُ هذا تصريح بعموم احلكم املستفاد من فَ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫ك‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم خطاب ألمته ‪ -‬االهتمام بشأن‬ ‫والفائدة من ذكره ‪ -‬مع أن خطاب النيب صلّى ّ‬
‫توهم أ ّن الكعبة قبلة املدينة وحدها ‪ ،‬أل ّن األمر ابلصرف كان فيها ‪ ،‬فرمبا‬
‫قبلة الكعبة ‪ ،‬ودفع ّ‬
‫فهم أن قبلة بيت املقدس ال تزال ابقية‪ .‬فدفعا هلذا اإليهام كان التصريح بعموم احلكم يف عموم‬
‫وه ُك ْم َشط َْرهُ‪.‬‬
‫ث ما ُك ْن تُ ْم فَ َولوا ُو ُج َ‬
‫األمكنة ‪َ :‬و َح ْي ُ‬
‫تاب لَيَ ْعلَ ُمو َن أَنههُ ا ْحلَق ِم ْن َرّهبِِ ْم َوَما ه‬
‫اللُ بِغافِ ٍّل عَ هما يَ ْع َملُو َن [البقرة ‪]144 :‬‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬
‫ِ‬
‫َوإِ هن الهذ َ‬
‫الل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫إن اليهود والنصارى مبا أنزل إليهم يف التوراة واإلجنيل يف شأن النيب حممد صلّى ّ‬
‫والبشارة به ‪ ،‬وأنه سيصلي إىل القبلتني ‪ :‬بيت املقدس ‪ ،‬وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتّبع‬
‫ملّته ‪ ،‬ليجزمون أن حتويل القبلة برتك التوجه إىل بيت املقدس والتوجه إىل الكعبة حق ال مرية فيه‬
‫اللُ بِغافِ ٍّل َع هما يَ ْع َملُو َن اعرتاض بني الكالمني جيء به لوعد الفريقني‬
‫‪ ،‬وأن ذلك أمر رهبم ‪َ ،‬وَما ه‬
‫ووعيدهم ‪ ،‬وقرأ ابن عامر والكسائي «‪ »1‬تعلمون ابلتاء ‪ ،‬فهو وعد للمؤمنني‪.‬‬
‫األحكام‬
‫ال خالف بني املسلمني أ ّن استقبال القبلة ال بد منه يف صحة الصالة إال ما جاء يف اخلوف‬
‫والفزع ‪ ،‬ويف صالة النافلة على الدابة أو السفينة ‪ ،‬فإن القبلة يف احلال األوىل جهة أمنه ‪ ،‬ويف‬
‫الثانية قبلته حيث توجهت به دابته أو سفينته‪.‬‬
‫إمنا الكالم يف القبلة ما هي ‪ ،‬أهي عني الكعبة ‪ :‬أم هي جهة الكعبة؟ ابألول قالت الشافعية‪.‬‬
‫الل عنهما ‪ :‬الكعبة قبلة من يف املسجد ‪ ،‬واملسجد‬
‫وابلثاين قال احلنفية ‪ ،‬وقال ابن عباس رضي ّ‬
‫قبلة من خارجه يف مكة ‪ ،‬ومكة قبلة سائر األقطار ‪ ،‬ونسبه الفخر الرازي وأبو حيان إىل املالكية‬
‫حنب أن نقول ‪ :‬إن املسجد احلرام قد أطلق اترة وأريد منه‬
‫كل مذهب ّ‬
‫‪ ،‬وقبل الكالم على مأخذ ّ‬
‫الكعبة فقط ‪ ،‬واترة أريد به املسجد وحوله معه ‪ ،‬وقد يراد به مكة كلها‪ .‬وقد يراد مكة مع احلرم‬
‫حوهلا بكماله‪ .‬وقد جاءت نصوص الشرع هبذه اإلطالقات األربعة‪.‬‬
‫ك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام‪.‬‬
‫فمن األول ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫__________‬
‫الل األسدي أبو احلسن ‪ ،‬أحد القراء السبعة ‪ ،‬ينتسب إىل مدرسة‬
‫(‪ )1‬علي بن محزة بن عبد ّ‬
‫الكوفة ابلنحو ‪ ،‬تويف سنة (‪ )189‬انظر األعالم للزركلي (‪.)283 /4‬‬

‫ص ‪42 :‬‬
‫ومن الثاين ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬صالة يف مسجدي هذا أفضل من ألف صالة فيما سواه إال‬
‫قول النيب صلّى ّ‬
‫املسجد احلرام» «‪»1‬‬
‫وقوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال تشد الرحال إال إىل ثالثة مساجد ‪»2« »...‬‬
‫إخل‪.‬‬
‫َسرى بِ َع ْب ِدهِ ل َْي ًال‬ ‫ِ‬
‫وأما الثالث ‪ :‬وهو مكة فقال املفسرون هو املراد يف قوله تعاىل ‪ُ :‬س ْبحا َن الهذي أ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الل‬
‫ْصى [اإلسراء ‪ ]1 :‬وكان اإلسراء من دور مكة ‪ ،‬وقول ّ‬ ‫م َن ال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام إِ َىل ال َْم ْسجد ْاألَق َ‬
‫ك لِمن َمل ي ُكن أَ ْهلُهُ ِ‬
‫حاض ِري ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام [البقرة ‪.]196 :‬‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬ذل َ َ ْ ْ َ ْ‬
‫واإلطالق الرابع ‪ :‬دليله قوله تعاىل ‪ :‬إِ همنَا الْم ْش ِرُكو َن َجنَس فَال ي ْقربوا الْمس ِج َد ا ْحلرام ب ع َد ِ‬
‫عام ِه ْم‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ٌ َ َُ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫هذا [التوبة ‪ ، ]28 :‬والشطر أيضا يطلق إبطالقني ‪ :‬يطلق ويراد منه النصف وقد قاله اجلبّائي‬
‫فرعوا عليه أن من‬ ‫والقاضي ‪ :‬أنه املراد هنا ‪ ،‬ألن املراد الكعبة ‪ ،‬والكعبة وسط املسجد‪ .‬وقد ّ‬
‫كان خارج املسجد ‪ ،‬وصلّى إىل جانب املسجد ومل يكن يف منتصفه ‪ ،‬فقد صلّى إىل غري الكعبة‬
‫‪ ،‬فتكون صالته ابطلة لعدم االستقبال‪ .‬كذا نقل الفخر الرازي عنهما‪ .‬ومستندَها يف الذي رأاي‬
‫أنه لو كان املراد من الشطر اجلانب مل يكن لذكر الشطر فائدة ‪ ،‬ولقيل فول وجهك املسجد‬
‫فول وجهك املسجد‬
‫احلرام ‪ ،‬وقد قيل يف رد هذا ‪ :‬إن الفائدة موجودة ‪ ،‬وهي أنه لو قال ‪ّ :‬‬
‫يويل وجهه‬
‫احلرام لزم تكليف ما ال يطاق ‪ ،‬أل ّن من يف أقصى املشرق أو املغرب ال ميكن أن ّ‬
‫املسجد ‪ ،‬خبالف ما إذا ذكر الشطر وأريد منه ‪ :‬اجلانب‪.‬‬
‫بعد هذا نرجع إىل بيان اخلالف يف القبلة ‪:‬‬
‫قلنا إ ّن املالكية يرون أن القبلة للمسامت هي الكعبة ‪ ،‬ولغري املسامت اجلهة ‪ ،‬ويشهد هلم ما‬
‫الل عنهما أنه قال ‪« :‬البيت قبلة ألهل‬
‫حكي يف كتاب «شرح السنة» «‪ »3‬عن ابن عباس رضي ّ‬
‫املسجد ‪ ،‬واملسجد قبلة ألهل احلرم ‪ ،‬واحلرم قبلة ألهل املشرق واملغرب»‪.‬‬
‫وقال غريهم ‪ :‬القبلة هي الكعبة ‪ ،‬والدليل عليه ما‬
‫ورد يف «الصحيحني» «‪ : »4‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )1013 /2‬كتاب احلج ‪ - 94 ،‬ابب فضل الصالة‬
‫مبسجد مكة واملدينة حديث رقم (‪.)1395 /509‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 20 ، )71 /2‬كتاب فضل الصالة ‪ - 1 ،‬ابب فضل‬
‫الصالة يف مسجد مكة حديث رقم (‪ ، )1189‬ومسلم يف الصحيح (‪- 15 ، )1014 /2‬‬
‫كتاب احلج ‪ - 95 ،‬ابب ال تشد الرحال حديث رقم (‪.)1397 /511‬‬
‫(‪ )3‬انظر ‪ :‬شرح السنة للبغوي حممد احلسني بن مسعود ( ‪ 516 -‬ه) ط ‪ ، 1‬بريوت ‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية ‪.)101 /2( ، 1992‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 8 ، )119 /1‬كتاب الصالة ‪ - 30 ،‬ابب قوله تعاىل ‪( :‬و‬
‫اختذوا) حديث رقم (‪ ، )398‬ومسلم يف الصحيح كتاب احلج حديث رقم (‪.)395‬‬

‫ص ‪43 :‬‬
‫الل‬
‫ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ‪ :‬أخربين أسامة بن زيد قال ‪« :‬ملا دخل النيب صلّى ّ‬
‫يصل حىت خرج منه ‪ ،‬فلما خرج صلّى ركعتني يف قبل‬
‫عليه وسلّم البيت دعا يف نواحيه كلّها ومل ّ‬
‫الكعبة ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذه القبلة»‪.‬‬
‫قال القفال ‪ :‬وقد وردت األخبار الكثرية يف صرف القبلة إىل الكعبة ‪،‬‬
‫حيب أن يتوجه إىل الكعبة» «‪»1‬‬
‫ففي خرب الرباء بن عازب «مث صرف إىل الكعبة؟ وكان ّ‬
‫حول إىل الكعبة» «‪»2‬‬
‫الل عليه وسلّم ّ‬
‫ويف خرب ابن عمر ‪« :‬أن النيب صلّى ّ‬
‫حولت إىل‬
‫الل عليه وسلّم فنادى ‪ :‬إ ّن القبلة ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ويف خرب مثامة ‪« :‬جاء منادي رسول ّ‬
‫الكعبة» «‪»3‬‬
‫يتحصل إال إذا أصاب عينها ‪ ،‬فاملشاهد ال ب ّد له من إصابة العني ‪ ،‬والغائب ال بد له من‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬ال‬
‫قصد اإلصابة مع التوجه إىل اجلهة‪.‬‬
‫والفريق الثاين ‪ :‬احلنفية «‪ »4‬واملالكية على ما هو منصوص عليه يف كتبهم ‪ ،‬يرون أن القبلة‬
‫للمكي املشاهد إصابة العني ‪ ،‬ولغري املشاهد اجلهة فحسب‪.‬‬
‫الل عنه القرآن والسنة والقياس ‪:‬‬
‫حجة الشافعي رضي ّ‬
‫أما القرآن ‪ :‬فظاهر اآلية اليت حنن بصددها‪ .‬وذلك أن املراد من شطر املسجد احلرام جانبه‪.‬‬
‫وجانب الشيء هو الذي يكون حماذاي له وواقعا يف مسته‪.‬‬
‫وأما احلديث فما ورد من‬
‫حديث أسامة «أنه ركع ركعتني يف قبل الكعبة ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫هذه القبلة»‬
‫وهي مجلة حاضرة للقبلة يف الكعبة‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم يف تعظيم الكعبة بلغت مبلغا عظيما ‪،‬‬
‫وأما القياس ‪ :‬فهو أ ّن مبالغة النيب صلّى ّ‬
‫والصالة من أعظم شعائر الدين ‪ ،‬وتوقيف صحتها على استقبال عني الكعبة يوجب مزيد‬
‫الشرف ‪ ،‬فوجب أن يكون مشروعا ‪ ،‬وأيضا ‪ :‬كون الكعبة قبلة أمر معلوم ‪ ،‬وكون غريها قبلة‬
‫صحة الصالة على‬
‫أمر مشكوك ‪ ،‬ورعاية االحتياط يف الصالة أمر واجب‪ .‬فوجب توقيف ّ‬
‫استقبال عني الكعبة‪.‬‬
‫وأما احلنفية واملالكية ‪ ،‬فقد احتجوا أبمور ‪:‬‬
‫وىل وجهه شطر‬
‫األول ظاهر هذه اآلية ‪ ،‬فإ ّن من استقبل اجلانب الذي فيه املسجد احلرام ‪ ،‬فقد ّ‬
‫املسجد احلرام ‪ ،‬سواء أصاب عني الكعبة أم ال ‪ ،‬وهذا هو املأمور به ‪ ،‬فوجب أن َيرج من‬
‫العهدة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬و(‪ )3‬احلديث رواه البخاري ‪ -‬يف غري هذا اللفظ ‪ -‬يف الصحيح (‪- 65 ، )178 /5‬‬
‫كتاب تفسري القرآن ‪ - 18 ،‬ابب (‪( )20519‬من حيث خرجت) حديث رقم (‪، 4493‬‬
‫‪ ، )4494‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )375 /1‬كتاب املساجد ‪ - 2 ،‬ابب حتويل القبلة‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)526 /13‬‬
‫(‪ )4‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي ‪ ،‬للمرغيناين ط ‪ ، 1‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪1990 ،‬‬
‫(‪.)48 /1‬‬
‫ص ‪44 :‬‬
‫الثاين‬
‫الل عنه أنه عليه الصالة والسالم قال ‪« :‬ما بني املشرق‬
‫ورد يف احلديث عن أيب هريرة رضي ّ‬
‫واملغرب قبلة» «‪.»1‬‬
‫الثالث فعل الصحابة‪ .‬وهو من وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬أن أهل مسجد قباء كانوا يف صالة الصبح مستقبلني لبيت املقدس مستدبرين للكعبة ‪،‬‬
‫حولت إىل الكعبة ‪ ،‬فاستداروا يف الصالة من‬
‫أل ّن املدينة بينهما ‪ ،‬فقيل هلم ‪ :‬أال إ ّن القبلة قد ّ‬
‫غري طلب دليل على القبلة ‪ ،‬ومل ينكر النيب عليه الصالة والسالم عملهم «‪ .»2‬ومسي مسجدهم‬
‫بذي القبلتني ‪ ،‬وال يعقل أن العني تستقبل عني الكعبة إال بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول‬
‫النظر فيها ‪ ،‬ومل يتعلّموها ‪ ،‬وال ميكن أن يدركوها على البديهة يف أثناء الصالة وظلمة الليل‪.‬‬
‫والوجه الثاين ‪ :‬أ ّن الناس من عهد النيب عليه السالم بنوا املساجد يف مجيع بالد اإلسالم ‪ ،‬ومل‬
‫حيضروا مهندسا عند تسوية احملراب ‪ ،‬ومقابلة العني ال تدرك إال بدقيق نظر اهلندسة‪.‬‬
‫الدليل الرابع من أدلة احلنفية القياس ‪ :‬هو أن حماذاة عني الكعبة لو كانت واجبة وال سبيل إليها‬
‫إال مبعرفة الطرق اهلندسية لوجب أن يكون تعلم الدالئل اهلندسية واجبا ‪ ،‬ألنه ال يتم الواجب إال‬
‫ولكن تعلّم الدالئل اهلندسية غري واجب ‪ ،‬فعلمنا أ ّن‬
‫يتم الواجب إال به واجب ‪ّ ،‬‬
‫به ‪ ،‬وما ال ّ‬
‫الل عليهم ‪ ،‬وأنت ترى أنه رمبا‬
‫استقبال عني الكعبة غري واجب ‪ ،‬هذا جممل أدلة األئمة رضوان ّ‬
‫يرجحان أدلة احلنفية واملالكية‪.‬‬
‫كان لفظ اآلية ‪ ،‬وكون (الشطر) مبعىن اجلهة شاهدين ّ‬
‫وكأ ّن الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إىل عني الكعبة خصوصا من غري املشاهد‪.‬‬
‫حسا ‪ ،‬وفرض غري املشاهد إصابته قصدا‪ .‬وبعد أن نراهم‬
‫فقالوا ‪ :‬فرض املشاهد إصابة العني ّ‬
‫يصرحون بذلك يكاد اخلالف عدمي الفائدة ‪ ،‬فإ ّن الكل يعتقد أن التوجه إىل القبلة أاي كانت فيه‬
‫شعور بقصد الكعبة‪.‬‬
‫هذا وقد انبىن على هذا اخلالف خالف آخر يف حكم الصالة فوق الكعبة ‪ ،‬فمشى احلنفية على‬
‫مذهبهم من أن القبلة اجلهة ‪ ،‬من قرار األرض إىل عنان السماء ‪ ،‬فأجازوا الصالة فوقها مع‬
‫الكراهية ‪ ،‬ملا يف االستعالء عليها من سوء األدب ‪ ،‬ومنع غريهم من صحة الصالة فوقها ‪ ،‬ألن‬
‫املستعلي عليها ال يستقبلها ‪ ،‬إمنا يستقبل شيئا غريها ‪ ،‬وبقية الفروع تعرف يف الفقه ‪ ،‬فال نطيل‬
‫بذكرها ‪ ،‬غري‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )173 - 171 /2‬يف كتاب الصالة ‪ ،‬ابب ما جاء أن‬
‫ما بني املشرق واملغرب قبلة ‪ ،‬حديث رقم (‪.)244 ، 343 ، 342‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫ص ‪45 :‬‬
‫أن هناك فرعا واحدا نذكره ملا له من العالقة بتفسري اآلية ‪:‬‬
‫ك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام أن هذا ميتنع معه أن يوجه‬
‫فهم بعضهم من قوله تعاىل ‪ :‬فَ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫املصلّي نظره إىل موضع سجوده قائما ‪ ،‬وإىل قدميه راكعا ‪ ،‬وإىل أرنبة أنفه ساجدا ‪ ،‬وإىل حجره‬
‫توجه إىل غري شطر املسجد احلرام ‪ ،‬وأنت ترى أنه فهم عجيب ‪ ،‬فإن‬
‫جالسا ‪ ،‬ألن هذا فيه ّ‬
‫احلنفية مثال مل يقولوا هذا إال بعد حتقق االستقبال والتوجه شطر املسجد احلرام‪ .‬وإمنا قالوا ذلك‬
‫منعا للمصلّي أن يتشاغل يف الصالة بغريها إذا مل حيصر بصره يف هذه اجلهات اليت عينوها لنظره‪.‬‬
‫ناح عَلَيْهِ أَ ْن‬
‫ت أَ ِو ا ْعتَ َم َر فَال ُج َ‬ ‫صفا َوال َْم ْرَوةَ ِم ْن َشعائِ ِر ه‬
‫اللِ فَ َم ْن َح هج الْبَ يْ َ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن ال ه‬ ‫قال ّ‬
‫يم (‪)158‬‬ ‫ع َخ ْرياً فَِإ هن ه ِ ِ‬ ‫ف هبِِما َوَم ْن تَطَهو َ‬
‫يَطه هو َ‬
‫اللَ شاك ٌر َعل ٌ‬
‫صفى قال الراجز ‪:‬‬ ‫الصفا ‪ :‬مجع صفاة ‪ ،‬وهي الصخرة امللساء ‪ ،‬وقد أييت واحدا وجيمع على ّ‬
‫الصفي‬
‫كأن متنيه من النّقي مواقع الطّري على ّ‬
‫املروة ‪ :‬احلصاة الصغرية ‪ ،‬وجتمع على مرو قال الشاعر «‪: »1‬‬
‫كل يوم تقرع‬
‫كأين للحوادث مروة بصفا املش ّقر ّ‬
‫حىت ّ‬‫ّ‬
‫الل تعاىل ابلصفا واملروة هنا اجلبلني املسلمني هبذين االمسني اللذين َها مبكة‪.‬‬
‫وقد عىن ّ‬
‫الل اليت جعلها للنّاس معلما‬
‫شعائر ‪ :‬مجع شعرية ‪ :‬من اإلشعار وهو اإلعالم ‪ ،‬أي َها من معامل ّ‬
‫ومشعرا يعبدونه عندَها‪.‬‬
‫احلج ‪ :‬القصد ‪ ،‬وقيل هو ‪ :‬كثرة الرتدد ‪ ،‬وقيل للحاج حاج ‪ :‬ألنه أييت البيت قبل الذهاب إىل‬
‫عرفة ‪ ،‬مث يعود إليه لطواف يوم النحر بعد الوقوف بعرفة‪ .‬مث ينصرف إىل مىن ‪ ،‬مث يعود إليه‬
‫لطواف الصدر ‪ ،‬ففيه كثرة الرتدد‪.‬‬
‫االعتمار الزايرة‪.‬‬
‫خص ابمليل إىل اإلمث‪.‬‬
‫اجلناح ‪ :‬يف اللغة عبارة عن امليل كيفما كان ‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫الل اليت جعلها معلما ومشعرا يعبده عباده‬
‫املعىن ‪ :‬إن الصفا واملروة أي هذين اجلبلني من معامل ّ‬
‫عندَها ابلدعاء ‪ ،‬أو الذكر ‪ ،‬أو السعي والطواف‪ .‬فمن حج البيت احلرام أو اعتمره فال إمث عليه‬
‫يطوف هبما‪.‬‬
‫أن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬هو أبو ذؤيب اهلذيل انظر احملرر الوجيز (‪.)229 /1‬‬

‫ص ‪46 :‬‬
‫تطوعه ‪ ،‬جماز به‪ .‬عليم‬
‫الل شاكر له على ّ‬
‫تطوع ابحلج والعمرة بعد أداء حجته الواجبة‪ .‬فإ ّن ّ‬
‫ومن ّ‬
‫بقصده وإرادته‪ .‬وقد اختلف يف سبب نزول هذه اآلية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن الشعيب «‪ »2‬أن وثنا كان يف اجلاهلية على الصفا يسمى إساف‬
‫يسمى انئلة ‪ ،‬وكان أهل اجلاهلية إذا طافوا ابلبيت مسحوا الوثنني ‪ ،‬فلما جاء‬
‫‪ ،‬ووثنا على املروة ّ‬
‫كسرت األواثن‪ .‬قال املسلمون ‪ :‬إن الصفا املروة إمنا كان يطاف هبما من أجل الوثنني‬
‫اإلسالم و ّ‬
‫الل أهنما من الشعائر‪.‬‬
‫‪ ،‬وليس الطواف هبما من الشعائر قال ‪ :‬فأنزل ّ‬
‫الل تبارك وتعاىل ‪:‬‬
‫الل عنها ‪ :‬أرأيت قول ّ‬
‫‪ - 2‬وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضي ّ‬
‫الل ما على أحد جناح أن ال يطّوف هبما‪ .‬قالت عائشة‬ ‫صفا َوال َْم ْرَوةَ ِم ْن َشعائِ ِر ه‬
‫اللِ فو ّ‬ ‫إِ هن ال ه‬
‫الل عنها ‪ :‬بئسما قلت اي ابن أخيت ‪ ،‬إهنا لو كانت على ما أتولتها لكان ‪ :‬فال جناح عليه‬
‫رضي ّ‬
‫إال يطوف هبما ‪ ،‬إمنا كان هذا من األنصار قبل أن يسلموا ‪ ،‬يهلّون ملناة الطاغية اليت كانوا‬
‫أهل ملناة ‪ ،‬يتحرج أ ّن يطوف ابلصفا واملروة ‪ ،‬فلما أسلموا‬
‫يعبدوهنا عند املشلل ‪ ،‬فكان من ّ‬
‫الل عليه وسلّم عن ذلك ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫سألوا رسول ّ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن ال ه‬
‫صفا َوال َْم ْرَوةَ ‪ ...‬مثّ‬ ‫نطوف ابلصفا واملروة‪ .‬فأنزل ّ‬
‫الل إان كنّا نتحرج أن ّ‬
‫اي رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم الطواف بينهما ‪ ،‬فليس ألحد أن يدع الطواف بينهما‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫سن رسول ّ‬
‫ّ‬
‫قال ابن شهاب ‪ :‬فذكرت ذلك أليب بكر ابن عبد الرمحن ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّه العلم ‪ ،‬أي ما مسعت به‬
‫«‪.»3‬‬
‫األحكام‬
‫اختلف العلماء يف حكم السعي بني الصفا واملروة على أقوال ‪:‬‬
‫‪ - 1‬فقيل ‪ :‬إنه ركن ‪ ،‬وبه قال الشافعي وأمحد ‪ ،‬وهو مشهور مذهب مالك ‪ ،‬فمن مل يسع كان‬
‫عليه حج قابل‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقيل ‪ :‬ليس بركن ‪ ،‬بل هو سنة‪ .‬وبه قال أبو حنيفة ‪ ،‬وهو قول يف مذهب مالك ‪ ،‬قال يف‬
‫«العتبية» «‪ »4‬جيزئ اتركه الدم‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقيل هو تطوع ‪ ،‬وال شيء على اتركه‪.‬‬
‫احتج من جعله ركنا مبا‬
‫ّ‬
‫الل كتب‬
‫الل عليه وسلّم كان يسعى ويقول ‪« :‬اسعوا فإ ّن ّ‬
‫روي أنه صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابن جرير الطربي ‪ ،‬جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)28 /2‬‬
‫(‪ )2‬عامر بن شراحيل احلمريي من كبار التابعني تويف سنة (‪ )103‬يف الكوفة انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)251 /3‬‬
‫(‪ ) 3‬رواه البخاري يف الصحيح كتاب احلج ابب وجوب الصفا واملروة حديث رقم (‪.)1643‬‬
‫(‪ )4‬مؤلف يف فقه املالكية حملمد بن أمحد العتييب‪.‬‬
‫ص ‪47 :‬‬
‫الل بن املزمل «‪.»1‬‬
‫عليكم السعي» رواه الشافعي عن عبيد ّ‬
‫واحتج من مل يره ركنا ‪:‬‬
‫تطوف هبما ‪ ،‬ووصف ذلك ابلتطوع‪ .‬فقال ‪َ :‬وَم ْن تَطَهوعَ‬
‫عمن ّ‬
‫بظاهر اآلية ‪ ،‬فقد رفعت اإلمث ّ‬
‫يعين ابلتطوع بينهما ‪ ،‬ومبا‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫مضرس الطائي قال ‪ :‬أتيت رسول ّ‬
‫الشعيب عن عروة بن ّ‬
‫ّ‬ ‫روي من حديث‬
‫الل جئت من جبل طي ء ‪ ،‬ما تركت جبال إال وقفت عليه ‪،‬‬
‫وسلّم ابملزدلفة ‪ ،‬فقلت اي رسول ّ‬
‫فهل يل من حج؟ فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬من صلّى معنا هذه الصالة ‪ ،‬ووقف معنا هذا‬
‫املوقف ‪ ،‬وقد أدرك عرفة قبل ‪ -‬ليال أو هنارا ‪ -‬فقد متّ حجه ‪ ،‬وقضى تفثه» «‪»2‬‬
‫‪ ،‬قالوا ‪ :‬فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬إخباره بتمام حجته ‪ ،‬وليس فيها السعي‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أنه لو كان من أركانه لبيّنه للسائل ‪ ،‬لعلمه جبهله احلكم ‪ ،‬فإن قيل ‪:‬‬
‫مقتضى ذلك أال يكون الطواف ابلبيت فرضا ‪ ،‬فإنّه مل يذكره أيضا‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬ظاهر اللفظ يقتضي ذلك ‪ ،‬وإمنا أثبتناه بدليل آخر‪.‬‬
‫والظاهر أن اآلية ال تشهد ألحد املختلفني ‪ ،‬ألننا علمنا السبب يف أهنا عرضت لرفع اجلناح على‬
‫تطوف هبما ‪ ،‬وهو أهنم كانوا يتحرجون من السعي بينهما ‪ ،‬ألنه كان عليهما يف اجلاهلية‬
‫من ّ‬
‫صنمان‪ .‬وقالوا ‪ :‬كان يطاف هبما من أجل الوثنني‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬وأهنما من شعائره ‪ ،‬فال يتحرجون من السعي بينهما ‪،‬‬
‫الل أنه يطاف هبما من أجل ّ‬
‫فبني ّ‬
‫ّ‬
‫ابلتطوف هبما ‪ ،‬حيتمل ‪ :‬ومن تطوع ابلزايدة على‬
‫ّ‬ ‫ع َخ ْرياً كما حيتمل ومن تطوع‬
‫وقوله ‪َ :‬وَم ْن تَطَهو َ‬
‫التطوف هبما ‪ ،‬أو من احلج ‪ ،‬فلم يبق من مستند يف هذه املسألة إال السنّة ‪ ،‬وقد‬
‫الفرض من ّ‬
‫روي يف ذلك آاثر خمتلفة ‪ ،‬فريجع إىل الرتجيح بني هذه اآلاثر ‪ ،‬ابلسند والداللة‪.‬‬
‫نات َوا ْهلُدى ِم ْن بَ ْع ِد ما بَيه نهاهُ لِلن ِ‬
‫هاس ِيف‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن اله ِذين يكْتُمو َن ما أَنْ َزلْنا ِمن الْب يِّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫قال ّ‬
‫حوا َوبَيه نُوا فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫الل وي لْعنُهم ه ِ‬ ‫تاب أُولئِ َ‬ ‫الْكِ ِ‬
‫ك‬ ‫َصلَ ُ‬
‫ين اتبُوا َوأ ْ‬ ‫الالعنُو َن (‪ )159‬إِهال الهذ َ‬ ‫ك يَل َْعنُ ُه ُم هُ َ َ َ ُ ُ‬
‫يم (‪ )160‬نزلت هذه اآلية الكرمية يف أهل الكتاب حني سئلوا من‬ ‫ِ‬ ‫وب عَلَيْ ِه ْم َوأَ َان الت ه‬
‫اب ال هرح ُ‬
‫هو ُ‬ ‫أَتُ ُ‬
‫الل عليه وسلّم ‪،‬‬ ‫عما جاء يف كتبهم يف أمر النيب صلّى ّ‬ ‫بعض الصحابة ّ‬
‫عما يف «التوراة» من ذكر النيب صلّى‬ ‫الل عنهما أن معاذا سأل اليهود ّ‬ ‫روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫الل هذه اآلية‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم فكتموه إايه‪ .‬فأنزل ّ‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪.)422 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )147 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب من يدرك عرفة ‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ، )1950‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )238 /3‬يف كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما جاء فيمن‬
‫أدرك اإلمام حديث رقم (‪.)891‬‬

‫ص ‪48 :‬‬
‫والكتمان ‪ :‬ترك إظهار الشيء مع احلاجة إليه وحصول الداعي إىل إظهاره ‪ ،‬ألنّه ما مل يكن‬
‫كذلك ال يع ّد كتماان‪.‬‬
‫الل من البينات واهلدى ما أنزل إال خلري األمم ‪ ،‬وهدايتهم إىل الطريق املستقيم‪.‬‬
‫وملا كان ما أنزله ّ‬
‫وهم لن يصل إليهم اخلري ‪ ،‬ولن يهتدوا إذا كتم عنهم ما أنزل ‪ ،‬وهم من أجل ذلك أحوج ما‬
‫الل النكري على الكامتني ‪ ،‬ملا ينشأ عن هذا الكتمان من‬
‫يكونون إىل إظهاره وتعليمه ‪ ،‬ش ّدد ّ‬
‫املرجوة منها‪.‬‬
‫الضرر اجلسيم ‪ ،‬وتعطيل الكتب السماوية أن تؤيت الثمرة ّ‬
‫الل على األنبياء من الكتب‬ ‫واملراد يف قوله تعاىل ‪ :‬ما أَنْ َزلْنا ِمن الْب يِّ ِ‬
‫نات َوا ْهلُدى كل ما أنزله ّ‬ ‫َ َ‬
‫والوحي ‪ ،‬ومن الدالئل اليت هتتدي هبا العقول يف ظلمات احلرية‪.‬‬
‫واآلية عامة يف كل كامت ومكتوم حيتاج الناس إىل معرفته يف أمر معاشهم ومعادهم‪ .‬وال عربة‬
‫خبصوص السبب الذي نزلت فيه‪.‬‬
‫أما قوله ‪ِ :‬م ْن بَ ْع ِد ما بَيه نهاهُ لِلن ِ‬
‫هاس ِيف الْكِ ِ‬
‫تاب فقد قيل ‪ :‬املراد ابلكتاب «التوراة» و«اإلجنيل» ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم واألحكام‪ .‬وقيل ‪ :‬أراد ابملنزل األول‬
‫واملكتوم ما جاء فيهما من صفة حممد صلّى ّ‬
‫ما يف كتب املتقدمني‪ .‬والثاين القرآن‪.‬‬
‫واللعن يف اللغة ‪ :‬اإلبعاد مطلقا‪ .‬ويطلق على الذم‪ .‬ويف الشرع ‪ :‬اإلبعاد من الثواب‪.‬‬
‫ار أُولئِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك عَلَيْ ِه ْم‬ ‫و(اللعنون) قد بينوا يف آية أخرى هي قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َك َف ُروا َوماتُوا َو ُه ْم ُك هف ٌ‬
‫ني (‪[ )161‬البقرة ‪ ]161 :‬وقد قيل املراد ابلالعنني ‪:‬‬ ‫َمجَعِ َ‬ ‫اللِ َوال َْمالئِ َكةِ َوالن ِ‬
‫هاس أ ْ‬ ‫ل َْعنَةُ ه‬
‫دواب األرض وهوامها ‪ ،‬فإهنّا تقول ‪ :‬منعنا القطر من بين آدم ‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وأنت قد رأيت أن اللعن قد جاء مرتبا على الكتمان ‪ ،‬فال مانع من أن يراد ابلالعنني كل من‬
‫ِ‬ ‫حوا َوبَيه نُوا فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬
‫يم‬
‫اب ال هرح ُ‬ ‫وب عَلَيْ ِه ْم َوأَ َان الت ه‬
‫هو ُ‬ ‫ك أَتُ ُ‬ ‫َصلَ ُ‬ ‫يلحقه أثر الكتمان ‪ ،‬إِهال الهذ َ‬
‫ين اتبُوا َوأ ْ‬
‫(‪.)160‬‬
‫التوبة ‪ :‬عبارة عن الندم على فعل القبيح ‪ ،‬ال لغرض سوى أنه قبيح ‪ ،‬واإلصالح ‪:‬‬
‫ضد اإلفساد ‪ ،‬والتبيني ‪ :‬اإلظهار‪.‬‬
‫عين القرآن الكرمي عناية خاصة بتشديد النكري على من يكتم العلم‪ .‬فهذه اآلية دالّة داللة‬
‫وذم الناس‬
‫الل ‪ّ ،‬‬ ‫صرحية على أن الكتمان جرم عظيم ‪ :‬يستح ّق مرتكبه اللعن واإلبعاد من رمحة ّ‬
‫ِ‬ ‫إايه ‪ ،‬ومقتهم وغضبهم ‪ ،‬وذكر يف آية أخرى قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ ه ِ‬
‫اللُ ميثا َق الهذ َ‬
‫ين أُوتُوا‬ ‫َ‬
‫تاب لَتُ بَ يِّنُ نههُ لِلن ِ‬
‫هاس َوال تَكْتُ ُمونَهُ [آل عمران ‪ ]187 :‬وقال تعاىل ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الْك َ‬
‫تاب َويَ ْش َرتُو َن بِهِ َمثَناً قَلِ ًيال [البقرة ‪ ]174 :‬وقال يف احلث‬ ‫اللُ ِم َن الْكِ ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ هن الهذ َ‬
‫ين يَكْتُ ُمو َن ما أَنْ َز َل ه‬
‫على بيان العلم وإن مل يذكر الوعيد ‪ :‬فَلَ ْو ال نَ َف َر ِم ْن ُك ِّل فِ ْرقَةٍّ ِم ْن ُه ْم طائَِفةٌ لِيَ تَ َف هق ُهوا‬

‫ص ‪49 :‬‬
‫ِيف ال ِّدي ِن َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِذا َر َجعُوا إِل َْي ِه ْم ل ََعله ُه ْم َْحي َذ ُرو َن‬
‫يقل عن هذا روى شعبة عن قتادة يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْذ‬ ‫[التوبة ‪ ]122 :‬وقد ورد يف السنة ما ال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَ َخ َذ ه ِ‬
‫الل على أهل العلم ‪ ،‬فمن علم‬ ‫تاب قال ‪ :‬فهذا ميثاق أخذه ّ‬ ‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫اللُ ميثا َق الهذ َ‬
‫علما فليعلّمه ‪ ،‬وإايكم وكتمان العلم‪ .‬فإنّه هلكة ‪ ،‬وروى حجاج عن عطاء ‪ ،‬عن أيب هريرة ‪ ،‬عن‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬من كتم علمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من انر» «‪.»1‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الرسالة ‪ ،‬وإحلاق الضرر ابلناس ‪ ،‬ومن أجل‬
‫وقد أشران آنفا إىل ما يف الكتمان من تعطيل وظيفة ّ‬
‫ذلك كان الوزر كبريا‪ .‬واآلية صرحية يف أ ّن الكتمان إفساد ‪ ،‬وأنه ال يكفي من فاعله الندم على‬
‫ما فعل من الكتمان ‪ ،‬بل ال بد من اإلصالح والتبيني ‪ ،‬وقد ذكروا أن اآلية تدل على عدم جواز‬
‫أخذ األجر على التعليم ‪ ،‬ألهنا تدل على لزوم إظهار العلم ‪ ،‬وترك كتمانه ‪ ،‬ولن يستحق إنسان‬
‫ِ‬
‫مصرحا به يف آية ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين يَكْتُ ُمو َن ما أَنْ َز َل‬ ‫أجرا على عمل يلزمه أداؤه ‪ ،‬وقد جاء هذا احلكم ّ‬
‫اللُ ِم َن الْكِ ِ‬
‫تاب َويَ ْش َرتُو َن بِهِ مثََناً قَلِ ًيال [البقرة ‪.]174 :‬‬ ‫ه‬
‫فثبت بذلك بطالن أخذ األجر على تعليم القرآن وعلوم الدين ‪ ،‬غري أن املتأخرين ملا رأوا هتاون‬
‫الناس ‪ ،‬وعدم اكرتاثهم ألمر التعليم الديين ‪ ،‬وانصرافهم إىل االشتغال مبتاع احلياة الدنيا ‪ ،‬ورأوا‬
‫أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم القرآن والعلوم الدينية فينعدم حفظة القرآن ‪ ،‬وتضيع‬
‫العلوم ‪ ،‬وليس يف الناس مع كثرة مشاغل احلياة ما يلجئهم إىل االنقطاع هلذه املهام أابحوا أخذ‬
‫اخلريون إال لتحقيق‬ ‫األجور ‪ ،‬بل حتمه بعضهم ‪ ،‬وما هذه احلبوس «‪ »2‬واألرصاد اليت حبسها ّ‬
‫الل به من حفظ القرآن يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ هان‬ ‫صيانة القرآن والعلوم الدينية ‪ ،‬وسبيل لتنفيذ ما وعد ّ‬
‫َْحن ُن نَ هزلْنَا ال ِّذ ْك َر َوإِ هان لَهُ حلَافِظُو َن (‪[ )9‬احلجر ‪.]9 :‬‬
‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها اله ِذين آمنُوا ُكلُوا ِمن طَيِّ ِ‬
‫بات ما َرَزقْنا ُك ْم َوا ْش ُك ُروا ِهللِ إِ ْن ُك ْن تُ ْم إِ هايهُ تَ ْعبُ ُدو َن‬ ‫قال ّ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ابغ َوال‬‫ري ٍّ‬ ‫ضطُهر غَ ْ َ‬ ‫اللِ فَ َم ِن ا ْ‬
‫اخلِْن ِزي ِر َوما أ ُِه هل بِهِ لِغَ ِْري ه‬ ‫(‪ )172‬إِ همنا َح هرَم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةَ َوالد َ‬
‫هم َو َحلْ َم ْ‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍّ‬
‫يم (‪)173‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫عاد فَال إِ ْمثَ َعلَْيه إِ هن هَ ٌ‬
‫اللِ أصل اإلهالل ‪ :‬رفع الصوت واجلهر به‪ .‬ومن ذلك قيل للمليب يف حجة أو عمرة‬ ‫أ ُِهله بِهِ لِغَ ِْري ه‬
‫استهل الصيب ‪ ،‬إذا صاح‬
‫ّ‬ ‫مهل لرفع صوته ابلتلبية ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )318 /3‬كتاب العلم ‪ ،‬ابب كراهية منع العلم حديث رقم‬
‫(‪ ، )3658‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )29 /5‬يف كتاب العلم ابب ما جاء يف كتمان العلم‬
‫حديث رقم (‪.)2649‬‬
‫(‪ )2‬أي الوقف‪.‬‬

‫ص ‪50 :‬‬
‫عند والدته ‪ ،‬وكان العرب إذا أرادوا ذبح ما قربوه ألصنامهم مسّوا ابسم أصنامهم ‪ ،‬وجهروا‬
‫يسم ‪ ،‬جهر أو مل جيهر‪.‬‬
‫مهل‪ .‬مسّى أو مل ّ‬
‫بذلك ‪ ،‬وجرى ذلك من أمرهم ‪ ،‬حىت قيل لكل ذابح ّ‬
‫اللِ ما ذبح لغري ّ‬
‫الل‪.‬‬ ‫فمعىن َوما أ ُِهله بِهِ لِغَ ِْري ه‬
‫ضطُهر افتعل ‪ ،‬من الضرورة ‪ :‬أي حلت به الضرورة إىل أكل ما حرم‪.‬‬ ‫اْ‬
‫املعىن ‪ :‬اي أيها الذين ص ّدقوا اب ّلل ‪ :‬أطعموا من حالل الرزق الذي أحللناه لكم ‪ ،‬فطاب بذلك‬
‫التحليل ‪ ،‬وكنتم حرمتموه على أنفسكم ‪ ،‬ومل أحرمه عليكم ‪ :‬من البحائر ‪ ،‬والسوائب ‪ ،‬وما‬
‫الل من أجل النعم اليت رزقكموها ‪ ،‬وأحلّها لكم إن كنتم منقادين له ‪،‬‬
‫إليها ‪ ،‬وأثنوا على ّ‬
‫ومطيعني إايه‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬وما ذكر‬ ‫إِ همنا َح هر َم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةَ‪ .‬مل ّ‬
‫حيرم عليكم إال امليتة والدم وحلم اخلنزير وما ذبح لغري ّ‬
‫احملرمات ‪ ،‬ال ابغيا وال عاداي ‪،‬‬
‫الل ‪ ،‬فمن حلّت به ضرورة إىل أكل شيء من هذه ّ‬
‫عليه اسم غري ّ‬
‫الل ‪،‬‬
‫حرم عليه ‪ ،‬وال عاد يف أكله ‪ ،‬أبال تكون له مندوحة بوجود ما أحلّه ّ‬
‫أي غري ابغ أبكله ما ّ‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم يغفر لكم ما كان منكم يف اجلاهلية من حترمي ما مل‬ ‫فال تبعة عليه يف األكل ‪ ،‬إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫الل‪.‬‬
‫حيرمه ّ‬
‫وقد ورد التحرمي يف هذه اآلية مسندا إىل أعيان امليتة والدم إخل‪ .‬وقد اختلف يف مثله ‪ :‬أيكون‬
‫جممال أم ال؟ فذهب الكرخي «‪ »1‬إىل أنه يكون جممال ‪ ،‬وحجته فيه أ ّن األعيان ليست من فعل‬
‫العبد ‪ ،‬والتحرمي ال يتعلّق إال مبا هو من فعله ‪ ،‬فال ب ّد أن تق ّدر فعال ‪ ،‬وليس بعض األفعال أوىل‬
‫من بعض ابلتقدير ‪ ،‬فلذلك يكون جممال‪.‬‬
‫يعني الفعل املراد فيما ورد من ذلك‬
‫وذهب غريه من العلماء إىل أنه ال يكون جممال ‪ ،‬أل ّن العرف ّ‬
‫‪ ،‬وقد ذهب كثري من العلماء إىل أ ّن الفعل املراد هنا هو االنتفاع ‪ ،‬فيفيد حرمة مجيع التصرفات‬
‫يستدل هبذه اآلية على حرمة وجوه من‬
‫ّ‬ ‫إال ما أخرجه الدليل‪ .‬ولذلك جتد كثريا من العلماء‬
‫حرم عليكم‬ ‫االنتفاع هبا‪ .‬والذي ينساق إليه الذهن أن الفعل املراد هنا هو األكل ‪ ،‬فاملعىن إمنا ّ‬
‫أكل امليتة‪ .‬بدليل أن الكالم فيه ‪ ،‬ففي سابقه اي أَي َها اله ِذين آمنُوا ُكلُوا ِمن طَيِّ ِ‬
‫بات ما َرَزقْنا ُك ْم ويف‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫عاد ويدعم هذا ما‬‫ابغ وال ٍّ‬ ‫الحقه فَ َم ِن ا ْ‬
‫ري ٍّ َ‬
‫ضطُهر غَ ْ َ‬
‫الل عليه وسلّم يف خرب شاة ميمونة «إمنا حرم من امليتة أكلها» «‪»2‬‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫ورد عن رسول ّ‬
‫تدل على حرمة وجوه أخرى من االنتفاع ابمليتة كانت احلرمة مأخوذة من‬ ‫فإذا وردت أحاديث ّ‬
‫تلك األحاديث ال من هذه اآلية‪.‬‬
‫__________‬
‫دالل ‪ ،‬شيخ احلنفية ومفيت العراق أصيب يف الفاجل‪ .‬تويف سنة‬
‫الل بن احلسني بن ّ‬
‫(‪ )1‬عبيد ّ‬
‫(‪ )340‬انظر سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )88 /12‬ترمجة (‪)3085‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 3 ، )276 /1‬كتاب احليض ‪ - 27 ،‬ابب طهارة جلود امليتة‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)363 /100‬‬

‫ص ‪51 :‬‬
‫واآلية تفيد احلصر ‪ ،‬فظاهرها إثبات التحرمي ملا ذكر من احليوان ‪ ،‬ونفيه عما عداه ويؤكد ذلك ما‬
‫يل ُحمَ هرماً َعلى ِ‬
‫طاع ٍّم يَط َْع ُمهُ إِهال أَ ْن يَ ُكو َن َم ْي تَةً‬ ‫َج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َه‬ ‫جاء يف آية األنعام قُل ال أ ِ‬
‫ْ‬
‫[األنعام ‪ ، ]145 :‬وهذا الظاهر تعارضه أحاديث كثرية وردت يف حترمي السباع ‪ ،‬والطري ‪،‬‬
‫واحلمر اإلنسية ‪ ،‬والبغال‪.‬‬
‫كل ذي‬
‫الل عليه وسلّم عن أكل ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ين أنه قال ‪« :‬هنى رسول ّ‬
‫فقد ورد عن أيب ثعلبة اخلش ّ‬
‫السباع» رواه البخاري ومسلم «‪.»1‬‬
‫انب من ّ‬
‫كل ذي انب من‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬أكل ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروى مالك عن أيب هريرة أن رسول ّ‬
‫كل ذي خملب من الطّري حرام» ذكره أبو داود «‪.»2‬‬
‫السباع ‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬
‫الل عليه وسلّم يوم خيرب عن حلوم احلمر األهليّة‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروي عن جابر أنه قال ‪« :‬هنى رسول ّ‬
‫‪ ،‬وأذن يف حلوم اخليل» «‪.»3‬‬
‫األحكام‬
‫وملا كان هذا التعارض بني ظاهر اآلية وهذه اآلاثر اختلف الفقهاء اختالفا كثريا فروي عن مالك‬
‫حيرموهنا‪ .‬وروي ذلك عن مالك أيضا ‪،‬‬
‫أنه يكره حلوم السباع‪ .‬والشافعي ‪ ،‬وأبو حنيفة وأمحد ّ‬
‫وحرمها آخرون‪.‬‬
‫وجوز قوم أكل سباع الطري ‪ّ ،‬‬
‫وذهب اجلمهور إىل حترمي احلمر اإلنسية ‪ ،‬وروي ذلك عن مالك ‪ ،‬وروي عنه أيضا أنه يكرهها ‪،‬‬
‫وحرم اجلمهور البغال ‪ ،‬وكرهها قوم ‪ ،‬وهو مروي عنه‪.‬‬
‫ّ‬
‫وذهب أبو حنيفة ومالك إىل حترمي اخليل ‪ ،‬وذهب الشافعي وأمحد وأبو يوسف وحممد ‪ :‬إىل‬
‫إابحتها ‪ ،‬فالذي يذهب إىل حل شيء مما ذكر يستند إىل اآلية ‪ ،‬ويذهب إىل عمومها ‪ ،‬وحيمل‬
‫احلديث على هني الكراهة ‪ ،‬أو يبطله ملكان معارضته لآلية‪.‬‬
‫والذي يذهب إىل حترمي شيء مما ذكر يستند إىل احلديث الوارد يف التحرمي ‪ ،‬وينسخ به اآلية ‪ ،‬أو‬
‫يرى أنه ال معارضة ‪ ،‬ويرى أن احلصر يف هذه اآلية وآية األنعام إضايف ‪ ،‬ابإلضافة إىل ما كانوا‬
‫يعتقدون حرمته من البحائر‪ .‬والسوائب ‪ ،‬وما إليها‪.‬‬
‫وكان مقتضى النظر أن من يذهب إىل أن احلصر يف اآلية حقيقي ‪ -‬ومل يشأ أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )286 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 29 ،‬ابب أكل كل ذي‬
‫انب حديث رقم (‪ )5530‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1533 /3‬كتاب الصيد ‪- 3 ،‬‬
‫ابب حترمي أكل كل ذي انب حديث رقم (‪.)1932 /12‬‬
‫(‪ )2‬هذا احلديث رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1534 /3‬كتاب الصيد ‪ - 3 ،‬ابب‬
‫حترمي أكل كل ذي انب حديث رقم (‪.)1934 /16‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )285 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 28 ،‬ابب حلوم احلمر‬
‫اإلنسية حديث رقم (‪ ، )5524‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1541 /3‬كتاب الصيد ‪6 ،‬‬
‫‪ -‬ابب يف أكل حلوم اخليل حديث رقم (‪.)1941 /36‬‬

‫ص ‪52 :‬‬
‫ينسخها حبديث ‪ -‬أن يعمل ذلك يف كل حديث َيالف هذه اآلية ‪ ،‬ويذهب إىل إابحة كل حيوان‬
‫مل ترد بتحرميه ‪ ،‬ولكنّا رأينا من يتمسك ابآلية وير ّد هبا حديثا أيخذ حبديث آخر ‪ ،‬مع أن اآلية‬
‫تعارضه أيضا‪.‬‬
‫ولعل املالكية أقرب إىل مقتضى النظر ‪ ،‬ألنه روي عنهم كراهة كثري مما ذكر حترميه يف هذه‬
‫الل ‪:‬‬
‫األحاديث ‪ ،‬وقد تضمنت اآلية حترمي امليتة والدم وحلم اخلنزير ‪ ،‬وما أهل به لغري ّ‬
‫فأما امليتة ‪ :‬فهي ما مات من احليوان حتف أنفه من غري قتل ‪ ،‬أو مقتوال بغري ذكاة‪ .‬وكان العرب‬
‫الل كما يرى يف سورة األنعام‪.‬‬
‫فحاجهم ّ‬
‫الل جادلوا يف ذلك ّ‬
‫حرمها ّ‬
‫يف اجلاهلية يستبيحوهنا‪ .‬فلما ّ‬
‫وقد وردت أحاديث كثرية تفيد ختصيص امليتة ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬أحلّت لنا ميتتان ودمان ‪ ،‬فامليتتان السمك‬
‫روي عن النيب صلّى ّ‬
‫واجلراد ‪ ،‬والدمان الكبد والطحال»‪ .‬ذكره الدار قطين‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬أنه خرج مع أيب عبيدة بن اجلراح يتلقى‬
‫وورد يف «الصحيحني» «‪ »1‬عن جابر بن عبد ّ‬
‫عريا لقريش قال ‪ :‬وزودان جرااب من متر‪ .‬فانطلقنا على ساحل البحر ‪ ،‬فرفع لنا على ساحل‬
‫البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه‪ .‬فإذا هي دابة تدعى العنرب ‪ ،‬قال أبو عبيدة ميتة‪ .‬مث قال ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وقد اضطررمت ‪ ،‬فكلوا‪.‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫بل حنن رسل رسول ّ‬
‫الل صلّى‬
‫قال فأقمنا عليه شهرا حىت مسنا‪ .‬وذكر احلديث‪ .‬قال ‪ :‬فلما قدمنا املدينة‪ .‬أتينا رسول ّ‬
‫الل لكم ‪ ،‬فهل معكم من حلمه شيء‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم فذكران ذلك له‪ .‬فقال ‪« :‬هو رزق أخرجه ّ‬
‫ّ‬
‫الل عليه وسلّم منه‪ .‬فأكله‪.‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فتطعموننا؟» قال ‪ :‬فأرسلنا إىل رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال يف شأن البحر ‪« :‬هو الطهور ماؤه احلل‬
‫وروى مالك عن النيب صلّى ّ‬
‫ميتته» «‪.»2‬‬
‫األول ‪ ،‬وأحلّوا السمك واجلراد‬
‫فذهب الشافعية واحلنفية إىل ختصيص امليتة يف اآلية ابحلديث ّ‬
‫حرموا الطايف من السمك‪ .‬وأحلوا ما جزر عنه البحر ‪ ،‬لورود‬
‫امليّتني بغري ذكاة‪ .‬إال أن احلنفية ّ‬
‫َيصص هذا احلديث املتقدم وهو ‪:‬‬
‫حديث ّ‬
‫عن جابر بن‬
‫__________‬
‫الل تعاىل‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )277 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 12 ،‬ابب قول ّ‬
‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر حديث رقم (‪ )5494‬ومسلم يف الصحيح (‪- 34 ، )1535 /3‬‬ ‫ِ‬
‫‪ :‬أُحله لَ ُك ْم َ‬
‫كتاب الصيد ‪ - 4 ،‬ابب إابحة ميتات البحر حديث رقم (‪.)1935 /17‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )45 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب الوضوء مباء البحر حديث رقم‬
‫(‪ ، )83‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )100 /1‬يف كتاب الطهارة ابب ما جاء يف ماء البحر‬
‫أنه طهور حديث رقم (‪.)69‬‬

‫ص ‪53 :‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ‪ ،‬وما‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫عبد ّ‬
‫مات فيه ‪ ،‬وطفا ‪ ،‬فال أتكلوه» «‪.»1‬‬
‫أما املالكية فقد رأوا أن‬
‫حديث «أحلت لنا ميتتان»‬
‫ضعيف ‪ ،‬ومهما اختلفوا يف جواز ختصيص القرآن ابلسنة فقد اتفقوا على أنه ال جيوز ختصيصه‬
‫فخصصوا هبما الكتاب ‪ ،‬وأحلوا‬
‫حبديث ضعيف ‪ ،‬ورأوا أن احلديث الثاين والثالث صحيحان ‪ّ ،‬‬
‫هبما السمك ‪ ،‬وبقي اجلراد امليت على حترمي امليتة ‪ ،‬ألنه مل يصح فيه شيء عندهم‪.‬‬
‫ومن ال جييز ختصيص القرآن ابلسنة يرى أن الذي خصص ميتة السمك قوله تعاىل ‪ :‬أ ُِح هل لَ ُك ْم‬
‫عامهُ [املائدة ‪ ]96 :‬فأما صيده فهو ما أخذ بعالج ‪ ،‬وأما طعامه فهو ما وجد‬ ‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر َوطَ ُ‬
‫َ‬
‫طافيا أو جزر عنه البحر‪.‬‬
‫وقد ذهب أبو حنيفة إىل حترمي اجلنني الذي ذحبت ّأمه وخرج ميتا استنادا إىل أنّه ميتة ‪ ،‬وحرمت‬
‫والشافعي وأمحد ‪ ،‬وذهبوا إىل حله ‪ ،‬ألنه مذكى بذكاة‬
‫ّ‬ ‫اآلية امليتة ‪ ،‬وقد خالفه يف ذلك صاحباه‬
‫أمه‪.‬‬
‫وذهب مالك إىل أنه إن متّ خلقه ونبت شعره ‪ ،‬أكل ‪ ،‬وإال مل يؤكل‪.‬‬
‫واحلجة هلم ما ورد من‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ذكاة اجلنني ذكاة أمه»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫وهو يفيد أن ذكاة أمه تنسحب عليه‪.‬‬
‫وقد قال من ينتصر أليب حنيفة ‪ :‬إ ّن احلديث كما حيتمل ما ذهبتم إليه ‪ ،‬حيتمل معىن آخر ‪ ،‬هو ‪:‬‬
‫أن ذكاته كذكاة أمه ‪ ،‬فيكون على ح ّد قوله ‪:‬‬
‫الساق منك دقيق‬
‫ولكن عظم ّ‬
‫فعيناك عيناها وجيدك جيدها ّ‬
‫َيصص اآلية‪.‬‬
‫وإذا احتمل ذلك فال ّ‬
‫ويبعد هذا أ ّن احلديث ورد يف سياق سؤال ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم سئل عن اجلنني َيرج ميتا ‪ ،‬فقال ‪« :‬إن شئتم‬
‫فقد ورد عن أيب سعيد ‪ ،‬أنه صلّى ّ‬
‫فكلوه ‪ ،‬إ ّن ذكاته ذكاة ّأمه» «‪.»2‬‬
‫وقد اختلف يف االنتفاع بدهن امليتة يف غري األكل ‪ ،‬كطالء السفن ودبغ اجللود ‪ ،‬فذهب‬
‫اجلمهور إىل حترميه ‪ ،‬واستدلوا ابآلية ‪ ،‬ألهنم يرون أن الفعل املقدر هو االنتفاع أبكل أو غريه ‪،‬‬
‫ومبا‬
‫الل عليه وسلّم مكة ‪ ،‬أاته أصحاب الصليب ‪-‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روي عن جابر ‪ ،‬قال ‪ :‬ملا قدم رسول ّ‬
‫الل ‪ ،‬إ ّان‬
‫وهو الودك الذي يستخرج من العظم ‪ -‬الذين جيمعون األوداك ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫جنمع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )370 /3‬كتاب األطعمة ‪ ،‬ابب يف الطايف من السمك حديث‬
‫رقم (‪.)3815‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )18 /3‬يف كتاب األضاحي ‪ ،‬ابب ما جاء يف ذكاة اجلنني‬
‫حديث رقم (‪ ، )2827‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )60 /4‬كتاب األطعمة ‪ ،‬ابب ما جاء‬
‫يف ذكاة اجلنني حديث رقم (‪.)1476‬‬

‫ص ‪54 :‬‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫هذه األوداك ‪ ،‬وهي من امليتة ‪ ،‬وعكرها إمنا هي لألدم والسفن؟ فقال رسول ّ‬
‫حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أمثاهنا»‬
‫الل اليهود ‪ّ ،‬‬
‫وسلّم ‪« :‬قاتل ّ‬
‫الل إايها على اإلطالق يفيد حترمي بيعها‪.‬‬
‫فنهاهم عن ذلك «‪ ، »1‬وهذا يفيد أن حترمي ّ‬
‫وقد ذهب عطاء إىل أنه يدهن بشحوم امليتة ظهور السفن ‪ ،‬ولعل حجته أن اآلية إمنا هي يف حترمي‬
‫األكل ‪ ،‬بدليل سابقها ‪ ،‬وأن حديث شاة ميمونة «‪ »2‬يعارض حديث جابر ‪ ،‬فوجب أن يرجح‬
‫‪ ،‬ألنه موافق لظاهر التنزيل‪.‬‬
‫وأما الدم فقد ورد هنا مطلقا ‪ ،‬وورد يف سورة األنعام [‪ ]145‬مقيّدا ابملسفوح ومحل العلماء‬
‫الل عنها أهنا‬
‫حيرموا منه إال ما كان مسفوحا ‪ ،‬وورد عن عائشة رضي ّ‬
‫املطلق على املقيد ‪ ،‬ومل ّ‬
‫الل قال ‪ :‬أ َْو َدماً َم ْس ُفوحاً لتتبّع الناس ما يف العروق‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬لو ال أن ّ‬
‫وقد ذهب احلنفية والشافعية إىل ختصيص الدم احملرم‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬و أحلت لنا ميتتان ودمان»‬
‫بقوله صلّى ّ‬
‫وذكر الكبد والطحال‪ .‬واحلق ما ذهب إليه مالك من أنه ال ختصيص ألن الكبد والطحال ليسا‬
‫حلما وال دما ابلعيان والعرف‪.‬‬
‫الل قال ‪َ :‬و َحلْ َم‬
‫وأما اخلنزير فقد ذهب بعض الظاهرية إىل أن احملرم حلمه ‪ ،‬ال شحمه ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫اخلِْن ِزي ِر وقال اجلمهور ‪ :‬إ ّن شحمه حرام أيضا ‪ ،‬وهو الصحيح ‪ ،‬ألن اللحم يشمل الشحم‪.‬‬ ‫ْ‬
‫الل‪ .‬فقد نقل ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا فيه‪ .‬فمنهم من قال ‪ :‬ما‬ ‫أهل به لغري ّ‬
‫فأما ما ّ‬
‫الل‪ .‬ونقله عن قتادة وجماهد «‪ »3‬وابن عباس ‪ ،‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫ذبح لغري ّ‬
‫الل ‪ ،‬ونقله عن الربيع «‪ »4‬وابن زيد «‪.»5‬‬
‫ما ذكر عليه غري اسم ّ‬
‫وفيه خالف آخر وهو ‪ :‬أهذا يشمل ذابئح النصارى اليت ذكروا عليها اسم املسيح فتكون حمرمة‬
‫‪ ،‬أم ال يشملها فال تكون حمرمة ‪ ،‬بل هو خاص مبا ذكر عليه اسم األصنام؟‬
‫ابألول قال أبو حنيفة وأبو يوسف ‪ ،‬وحممد ‪ ،‬وزفر ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬ونقل عنه الكراهة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )54 /3‬كتاب البيوع ‪ - 103 ،‬ابب ال يذاب شحم‬
‫امليتة حديث رقم (‪ ، )2224‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1207 /3‬كتاب املساقاة ‪13 ،‬‬
‫‪ -‬ابب حترمي بيع اخلمر وامليتة حديث رقم (‪.)1581 /71‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫املفسر أخذ التفسري عن ابن عباس تويف (‪104‬‬
‫(‪ )3‬جماهد بن جرب أبو احلجاج املكي املقرئ ّ‬
‫ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)278 /5‬‬
‫(‪ ) 4‬الربيع بن أنس بن زايد املروزي انظر سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )379 /6‬ترمجة (‪.)910‬‬
‫(‪ )5‬عبد الرمحن بن زيد بن اخلطاب العدوي القرشي تويف (‪ 63‬ه) ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/3‬‬
‫‪.)307‬‬

‫ص ‪55 :‬‬
‫وابلثاين قال عطاء «‪ ، »1‬ومكحول «‪ ، »2‬واحلسن والشعيب ‪ ،‬وسعيد بن املسيّب ‪ ،‬وأشهب‬
‫«‪ »3‬من املالكية‪.‬‬
‫تاب ِحلٌّ لَ ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عام الهذ َ‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫وسبب اختالفهم ‪ :‬أنه وردت هذه اآلية ‪ ،‬ووردت اآلية َوطَ ُ‬
‫ختصص األخرى ‪ ،‬فيصح أن يكون املعىن ‪:‬‬ ‫[املائدة ‪ ]5 :‬وكالَها يصح أن ّ‬
‫اللِ‬
‫الل عليه ‪ ،‬بدليل ‪َ :‬وما أ ُِه هل بِهِ لِغَ ِْري ه‬‫وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ما مل يذكر اسم غري ّ‬
‫ِ‬
‫عام الهذ َ‬
‫ين‬ ‫الل إال ما كان من أهل الكتاب‪ .‬بدليل قوله ‪َ :‬وطَ ُ‬ ‫ويصح أن يقال ‪ :‬وما أهل به لغري ّ‬
‫ّ‬
‫حرم ذبيحة الكتايب إذا ذكر عليها اسم املسيح ‪،‬‬ ‫أُوتُوا الْكِ ِ‬
‫تاب حلٌّ لَ ُك ْم‪ .‬فمن ذهب إىل األول ّ‬
‫َ‬
‫يرجح الثاين أبن اآلية نزلت يف حترمي ما كان تذحبه العرب‬
‫ومن ذهب إىل الثاين أجازها ‪ ،‬وميكن أن ّ‬
‫صِ‬
‫ب [املائدة ‪.]3 :‬‬ ‫ألواثهنا ‪ ،‬وتكون يف معىن قوله ‪َ :‬وما ذُبِ َح َعلَى الن ُ‬
‫عاد فَال إِ ْمثَ عَلَيْهِ‪.‬‬
‫ابغ وال ٍّ‬
‫ري ٍّ َ‬ ‫فَ َم ِن ا ْ‬
‫ضطُهر غَ ْ َ‬
‫الباغي يف اللغة ‪ :‬الطالب خلري أو لشر ‪ ،‬وخص هنا بطالب الشر‪.‬‬
‫العادي ‪ :‬اجملاوز ما جيوز إىل ما ال جيوز ‪ ،‬وقد اختلف ابملراد ابلباغي والعادي هنا ‪ :‬فذهب جماهد‬
‫وابن جبري «‪ » 4‬إىل أن الباغي هنا ‪ :‬اخلارج على اإلمام ‪ ،‬املفارق للجماعة‪ .‬والعادي ‪ :‬قاطع‬
‫السبيل‪ .‬وقال قتادة واحلسن وعكرمة «‪ : »5‬إ ّن الباغي ‪ :‬آكل امليتة فوق احلاجة ‪ ،‬والعادي ‪:‬‬
‫آكلها مع وجود غريها‪ .‬فعلى القول األول ‪ :‬ال جيوز للخارج على اإلمام وال لقاطع السبيل إن‬
‫اضطرا أن أيكال من امليتة‪ .‬ولكن يعرتض على ذلك أبن بغي الباغي وعدوانه ال يبيحان له قتل‬
‫نفسه برتك أكل احملرم عند االضطرار‪.‬‬
‫وقد اختلفوا يف املضطر ‪ ،‬أأيكل من امليتة حىت يشبع‪ .‬أم أيكل على قدر سد الرمق؟‬
‫ذهب مالك إىل األول ‪ ،‬ألن الضرورة ترفع التحرمي فتعود امليتة مباحة‪ .‬ومقدار الضرورة من حالة‬
‫عدم القوت إىل حالة وجوده‪ .‬وهو حينئذ ال حيمل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابن أسلم بن صفوان بن أيب رابح اتبعي ‪ ،‬ولد يف اليمن وتويف يف مكة ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)235 /4‬‬
‫الل ‪ ،‬من حفاظ احلديث وتويف بدمشق ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي‬
‫(‪ )2‬ابن أيب مسلم ‪ ،‬أبو عبد ّ‬
‫(‪].....[ .)284 /7‬‬
‫(‪ ) 3‬أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري املصري ‪ ،‬املالكي فقيه الداير املصرية ‪ ،‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)333 /1‬‬
‫(‪ )4‬سعيد بن جبري الكويف قتله احلجاج سنة (‪ 95‬ه)‪ .‬اتبعي وهو حبشي األصل ‪ ،‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)93 /3‬‬
‫الل الرببري املدين موىل ابن عباس اتبعي كان من أعلم الناس ابلتفسري واملغازي ‪،‬‬
‫(‪ )5‬ابن عبد ّ‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)244 /4‬‬

‫ص ‪56 :‬‬
‫ابغ وال ٍّ‬
‫عاد على أن املراد غري ابغ يف األكل ‪ ،‬وال متعد حد الضرورة ‪ ،‬بل حيمله على‬ ‫ري ٍّ َ‬
‫غَ ْ َ‬
‫البغي والعدوان على اإلمام‪.‬‬
‫وذهب غريه إىل الثاين ‪ ،‬أل ّن اإلابحة ضرورة ‪ ،‬فتقدر بقدر الضرورة‪.‬‬
‫واحلكمة يف حترمي ما ذكر يف اآلية ‪ :‬أما امليتة فال ستقذارها ‪ ،‬وملا فيها من ضرر ‪ ،‬ألهنا ّإما أن‬
‫تكون قد ماتت ملرض قد أفسد تركيبها‪ .‬وجعلها ال تصلح للبقاء‪.‬‬
‫وإما لسبب طارئ‪.‬‬
‫فأما األوىل ‪ :‬فقد خبث حلمها‪ .‬وتلوث جبراثيم املرض ‪ ،‬فيخاف من عدواها ونقل مرضها إىل‬
‫آكليها‪.‬‬
‫ضارة يف جسمها‪.‬‬
‫وأما الثانية ‪ :‬فأل ّن املوت الفجائي يقتضي بقاء املواد ال ّ‬
‫وأما الدم املسفوح ‪ ،‬فلقذارته وضرره أيضا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأما حلم اخلنزير ‪ ،‬فألن غذاءه من القاذورات والنجاسات ‪ ،‬فيقذر لذلك وألن فيه ضررا ‪ ،‬فقد‬
‫استكشف األطباء أ ّن حلم اخلنزير حيمل جراثيم شديدة الفتك ‪ ،‬ويظهر أيضا أن املتغذي من حلم‬
‫اخلنزير قد يكتسب من طباع ما أيكله ‪ ،‬واخلنزير فيه كثري من الطباع اخلبيثة‪.‬‬
‫الل فتحرميه حلكمة مرجعها إىل صيانة الدين والتوحيد‪.‬‬ ‫وأما ما أهل به لغري ّ‬
‫صاص ِيف الْ َقتْلى ا ْحلُر ِاب ْحلُِّر َوال َْع ْب ُد ِابل َْع ْب ِد‬ ‫ِ‬
‫ب عَلَْي ُك ُم الْق ُ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫يف ِم ْن‬
‫ك َختِْف ٌ‬ ‫سان ذلِ َ‬ ‫وف وأَداء إِل َْيهِ إبِِ ْح ٍّ‬ ‫ِ‬
‫ع ِابل َْم ْع ُر َ ٌ‬
‫و ْاألُنْثى ِاب ْألُنْثى فَمن عُ ِفي لَه ِمن أ ِ‬
‫َخيهِ َش ْيءٌ فَاتِّبا ٌ‬ ‫َْ َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫يم (‪)178‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َربّ ُك ْم َوَر ْمحَةٌ فَ َم ِن ا ْعتَدى بَ ْع َد ذل َ‬
‫ذاب أَل ٌ‬‫ك فَلَهُ َع ٌ‬
‫يام [البقرة ‪ ]183 :‬ومنه الصلوات‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬
‫الص ُ‬
‫ِ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم فرض عليكم ‪ ،‬كقوله ‪ُ :‬كت َ‬
‫ِ‬
‫ُكت َ‬
‫املكتوابت ‪ ،‬وقول الشاعر «‪: »1‬‬
‫جر ال ّذيول‬
‫كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات ّ‬
‫الل‬
‫صاص ‪ :‬أن يفعل به مثل ما فعل‪ .‬من قوهلم ‪ :‬اقتص أثر فالن إذا فعل مثل فعله‪ .‬قال ّ‬ ‫ِ‬
‫الْق ُ‬
‫ِ‬
‫صصاً [الكهف ‪.]64 :‬‬ ‫تعاىل ‪ :‬فَ ْارتَدها َعلى آاث ِرَها قَ َ‬
‫الْ َقتْلى ‪ :‬مجع قتيل ‪ ،‬كالصرعى مجع صريع‪ .‬وإمنا يكون (فعلى) مجعا (لفعيل) إذا كان وصفا داال‬
‫على الزمانة‪.‬‬
‫العفو ‪ :‬يطلق يف اللغة على معان املناسب منها هنا اثنان ‪ :‬العطاء واإلسقاط ‪ ،‬فمن األول ‪ :‬جاد‬
‫ف َعنها [البقرة ‪]286 :‬‬
‫ابملال عفوا صفوا ‪ :‬أي مبذوال ‪ ...‬ومن الثاين ‪َ :‬وا ْع ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الشاعر هو عمر بن أيب ربيعة‪.‬‬

‫ص ‪57 :‬‬
‫و«عفوت لكم عن صدقة اخليل والرقيق» واختلفوا يف سبب نزول هذه اآلية‪.‬‬
‫فروي عن قتادة أنه كان يف أهل اجلاهلية بغي وطاعة الشيطان ‪ ،‬فكان احلي إذا كان فيهم عدة‬
‫حرا ‪ ،‬اعتزازا أبنفسهم على غريهم‬
‫ومنعة ‪ ،‬فقتل عبد قوم آخرين عبدا هلم قالوا ‪ :‬ال نقتل به إال ّ‬
‫الل هذه اآلية‪َ .‬يربه أن العبد ابلعبد‬
‫‪ ،‬وإن قتلت هلم امرأة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال نقتل هبا إال رجال ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫الل تعاىل ذكره يف سورة املائدة بعد ذلك َوَكتَ ْبنا‬ ‫‪ ،‬واألنثى ابألنثى ‪ ،‬فنهاهم عن البغي‪ .‬مث أنزل ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الس هن ِاب ّ‬
‫لس ِّن‬ ‫ف ِاب ْألَنْف َو ْاألُذُ َن ِاب ْألُذُن َو ّ‬ ‫ني ِابل َْع ْ ِ‬
‫ني َو ْاألَنْ َ‬ ‫س ِابلنه ْف ِ‬
‫س َوال َْع َْ‬ ‫َعلَْيه ْم فيها أَ هن النه ْف َ‬
‫صاص [املائدة ‪ ]45 :‬وروي مثل ذلك عن الشعيب ومجاعة من التابعني‪.‬‬ ‫وا ْجلر ِ‬
‫وح ق ٌ‬ ‫َ ُُ َ‬
‫وروي عن السدي أنه قال يف هذه اآلية ‪ :‬اقتتل أهل ملتني من العرب أحدَها مسلم ‪ ،‬واآلخر‬
‫الل عليه وسلّم وقد‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫معاهد يف بعض ما يكون بني العرب من األمر ‪ ،‬فأصلح بينهم ّ‬
‫كانوا قتلوا األحرار والعبيد والنساء ‪ ،‬على أن يؤدي احلر دية احلر ‪ ،‬والعبد دية العبد ‪ ،‬واألنثى‬
‫دية األنثى‪ .‬فقاصهم بعضهم من بعض‪.‬‬
‫ويكون معىن اآلية على األول ‪ :‬اي أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله ‪،‬‬
‫احلر فاقتلوه فقط ‪ ،‬وإذا قتل العبد العبد فاقتلوه به‪.‬‬
‫احلر ّ‬
‫يبغني بعضكم على بعض‪ .‬فإذا قتل ّ‬
‫وال ّ‬
‫وإذا قتلت األنثى األنثى فاقتلوها هبا ‪ :‬مثال مبثل‪ .‬ودعوا الظلم الذي كان بينكم ‪ ،‬فال تقتلوا‬
‫ابحلر أحرارا ‪ ،‬وال ابلعبد حرا ‪ ،‬وال ابألنثى رجال‪.‬‬
‫فمن ترك له شيء من القصاص إىل الدية‪ .‬فليحسن الطالب يف الطلب ‪ :‬من غري إرهاق وال‬
‫تعنيف ‪ ،‬وليحسن املؤدي األداء من غري مطل وال تسويف ‪ ،‬ذلك الذي شرعته من العفو إىل‬
‫الدية ختفيف من ربكم ورمحة‪.‬‬
‫حمرما على اليهود أخذ الدية ‪ ،‬ومل يكن ألولياء املقتول إال القصاص ‪ ،‬فمن جتاوز بعد‬
‫وقد كان ّ‬
‫أخذ الدية وقتل القاتل ‪ ،‬فله عذاب أليم ‪ ،‬أو فمن جتاوز ما شرعته ‪ ،‬وعاد إىل أمر اجلاهلية فله‬
‫عذاب أليم‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن صدر اآلية يوجب القصاص ‪ ،‬وعجزها جييز العفو عنه إىل الدية‪.‬‬
‫فكيف جيمع بينهما؟ قيل ‪ :‬إن صدر اآلية أوجب القصاص واملماثلة إذا أريد قتل القاتل ‪ ،‬ومنع‬
‫العدوان والظلم‪ .‬فال منافاة بني صدرها وعجزها‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف نظم اآلية وما يفهم منها‪ .‬وبناء على ذلك اختلفوا فيما يؤخذ منها من‬
‫األحكام ‪ ،‬فمن ذلك اختالفهم ‪ :‬أيقتل احلر ابلعبد أم ال؟ أو يقتل املسلم ابلذمي أم ال؟ فذهبت‬
‫احلنفية إىل األول ‪ ،‬واملالكية والشافعية واحلنابلة إىل الثاين ‪ ،‬وحنن سنشري هنا إىل األساس الذي‬
‫بين عليه اخلالف‪.‬‬
‫األساس الذي بين عليه اخلالف هو ‪ :‬أصدر اآلية كالم مكتف بنفسه؟ أم هو غري‬

‫ص ‪58 :‬‬
‫مكتف بنفسه ‪ ،‬بل حمتاج إىل العجز؟ وال يتم الكالم إىل عند قوله ‪َ :‬و ْاألُنْثى ِاب ْألُنْثى ذهب احلنفية‬
‫إىل األول ‪ ،‬واآلخرون إىل الثاين‪.‬‬
‫كل قاتل ‪ :‬سواء كان حرا قتل‬
‫الل أوجب قتل القاتل بصدر اآلية‪ .‬وهذا يعم ّ‬
‫قال احلنفية ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫عبدا أم غريه‪ .‬وسواء كان مسلما قتل ذميا أم غريه‪.‬‬
‫وأما قوله ‪ :‬ا ْحلُر ِاب ْحلُِّر فإمنا هو بيان ملا تق ّدم ذكره على وجه التأكيد ‪ ،‬وذكر احلال اليت خرج‬
‫عليها الكالم ‪ ،‬وهي ما كان يفعله بعض القبائل ‪ ،‬من أهنم أيبون أن يقتلوا يف عبدهم إال حرا ‪،‬‬
‫ويف امرأهتم إال رجال‪ .‬على ما جاء يف حديث الشعيب‪.‬‬
‫فأبطل ما كان من الظلم ‪ ،‬وأ ّكد فرض القصاص على القاتل دون غريه ‪ ،‬وإذا كان ذلك كذلك‬
‫فليس يف اآلية داللة على أنه ال يقتل احلر ابلعبد ‪ ،‬كما أهنا مل تدل ابتفاق على أنه ال يقتل الرجل‬
‫ابملرأة ‪ ،‬وكما أهنا تدل على أنه ال يقتل العبد ابحلر ‪ ،‬وال املرأة ابلرجل ابتفاق أيضا ‪ ،‬فمناط‬
‫عام ‪ ،‬وذكر احلر ابحلر وما بعده ليس تقييدا ‪ ،‬بل هو إبطال‬
‫االستدالل عندهم ‪ :‬أن صدر اآلية ّ‬
‫ملا كانوا يفعلونه من الظلم‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬يف معىن اآلية قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن قُتِ َل َمظْلُوماً فَ َق ْد َج َعلْنا لِ َولِيِّهِ ُسلْطاانً فَال يُ ْس ِر ْ‬
‫ف ِيف الْ َق ْت ِل‬
‫[اإلسراء ‪ ]33 :‬فانتظم مجيع املقتولني ظلما ‪ ،‬عبيدا كانوا أو أحرارا ‪ ،‬مسلمني أو ذميني ‪،‬‬
‫وجعل لوليهم سلطاان ‪ ،‬وهو القود‪.‬‬
‫س ِابلنه ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫س [املائدة ‪ ]45 :‬وهو عموم يف إجياب القصاص يف‬ ‫وقوله ‪َ :‬وَكتَ ْبنا َعلَْيه ْم فيها أَ هن النه ْف َ‬
‫سائر املقتولني ‪ ،‬وشرع من قبلنا شرع لنا ما مل يرد انسخ ‪ ،‬ومل جند انسخا‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬فَ َم ِن ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا عَلَيْهِ ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم [البقرة ‪ ]194 :‬وقوله ‪:‬‬
‫َوإِ ْن عاقَ ْب تُ ْم فَعاقِبُوا ِمبِثْ ِل ما عُوقِْب تُ ْم بِهِ [النحل ‪.]126 :‬‬
‫وقد جاءت السنة أيضا مبا يفيد هذا العموم يف العبيد ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬املسلمون تتكافأ دماؤهم ‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدانهم ‪ ،‬وهم يد‬
‫فقال النيب صلّى ّ‬
‫على من سواهم» «‪»1‬‬
‫فقال ‪« :‬املسلمون تتكافأ دماؤهم»‬
‫وحر يف ذلك‪.‬‬‫يفرق بني عبد ّ‬ ‫ومل ّ‬
‫َخيهِ [البقرة ‪ ]178 :‬يفيد أن اآلية يف املسلمني ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬ ‫فإن قيل ‪ :‬إن قوله ‪ :‬فَمن عُ ِفي لَه ِمن أ ِ‬
‫َْ َ ُ ْ‬
‫إ ّن هذا حكم ‪ ،‬وهذا حكم ‪ ،‬وخصوص الثاين ال يفيد خصوص األول‪.‬‬
‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍّ‬
‫وء [البقرة ‪ ]228 :‬وهذا عموم يف‬ ‫ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬
‫قال ّ‬
‫ٍّ‬
‫وه هن‬ ‫َجلَ ُه هن فَأ َْم ِس ُك ُ‬
‫وه هن ِمبَ ْع ُروف أ َْو َس ِّر ُح ُ‬ ‫املطلّقة ثالاث وما دوهنا ‪ ،‬مث عطف قوله تعاىل ‪ :‬فَبَ لَغْ َن أ َ‬
‫صالحاً [البقرة ‪:‬‬ ‫ادوا إِ ْ‬ ‫َحق بَِر ِّد ِه هن ِيف ذلِ َ‬
‫ك إِ ْن أَر ُ‬ ‫ٍّ‬
‫ِمبَ ْع ُروف [البقرة ‪ ]231 :‬وقوله ‪َ :‬وبُعُولَتُ ُه هن أ َ‬
‫‪.]228‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )179 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب إيقاد املسلم ابلكافر حديث‬
‫رقم (‪ ، )4530‬والنسائي يف السنن (‪ )392 /8 - 7‬حديث رقم (‪.)4759‬‬

‫ص ‪59 :‬‬
‫خاص يف املطلقة دون الثالث ‪ ،‬فخصوص هذا مل يبطل عموم اللفظ يف األول‪.‬‬ ‫وهذا ّ‬
‫صاص ِيف الْ َق ْتلى وإمنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم الْق ُ‬
‫وقالت املالكية والشافعية ‪ :‬إن الكالم ال يتم عند قوله ‪ُ :‬كت َ‬
‫فبني أن‬
‫فالل قد أوجب املساواة ‪ ،‬مث ّبني املساواة املعتربة ‪ّ ،‬‬ ‫ينقضي عند قوله ‪َ :‬و ْاألُنْثى ِاب ْألُنْثى ّ‬
‫احلر ‪ ،‬والعبد يساويه العبد ‪ ،‬واألنثى تساويها األنثى ‪ ،‬وقد كان التقسيم يوجب أال‬
‫احلر يساويه ّ‬
‫ّ‬
‫يقتل الرجل ابملرأة ‪ ،‬ولكن جاء اإلمجاع على أ ّن الرجل يقتل ابملرأة‪.‬‬
‫الل أوجب املساواة واملماثلة يف القتل ‪ ،‬مث جاء ابألصناف ليبني‬
‫فمناط االستدالل عندهم أن ّ‬
‫املساواة املعتربة ‪ ،‬فكأنه كتب أن يقتل القاتل إذا كان مساواي للمقتول يف احلرية‪.‬‬
‫وإذا كان احلر ال يقتل ابلعبد ‪ ،‬فاملسلم ال يقتل ابلذمي ‪ ،‬ألن نقص العبد برقّه الذي هو من آاثر‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال يقتل مؤمن بكافر ‪ ،‬وال ذو‬
‫الكفر ‪ ،‬فال يقتل به املسلم ‪ ،‬ويدل له صلّى ّ‬
‫عهد يف عهده» «‪.»1‬‬
‫قالوا ‪ :‬وقد كان ظاهر اآلية يفيد ّأال يقتل العبد ابحلر ‪ ،‬ولكنا نظران إىل املعىن ‪ ،‬فرأينا أن العبد‬
‫لتبني من هم أقل يف املساواة ‪ ،‬فال‬
‫يقتل ابلعبد ‪ ،‬فأوىل أن يقتل ابحلر ‪ ،‬وإذن فاآلية قد جاءت ّ‬
‫ضد هذا ما ذهب‬
‫يقتل هبم من هو أعلى منهم ‪ ،‬فال ينايف ذلك أن يقتل األنقص ابألزيد ‪ ،‬ويع ّ‬
‫إليه أبو حنيفة من أنه ال مساواة بني طرف احلر وطرف العبد ‪ ،‬وال جيري القصاص بينهما يف‬
‫األطراف ‪ ،‬فكذلك ال جيب أن جيري يف األنفس‪.‬‬
‫والعقل مييل إىل أتييد قول أيب حنيفة يف هذه املسألة ‪ ،‬أل ّن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله‬
‫الشافعية واملالكية مبثابة بيان املساواة املعتربة قد أخرجوا منه طردا وعكسا األنثى ابلرجل ‪،‬‬
‫فذهبوا إىل أن الرجل يقتل ابألنثى ‪ ،‬واألنثى تقتل ابلرجل ‪ ،‬وذهبوا إىل أن احلر ال يقتل ابلعبد ‪،‬‬
‫ولكنهم أجازوا قتل العبد ابحلر ‪ ،‬فهذا كلّه يضعف مسلكهم يف اآلية‪.‬‬
‫أما مسلك أيب حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف ‪ ،‬وحينئذ يكون العبد مساواي للحر ‪ ،‬ويكون‬
‫املسلم مساواي للذمي يف احلرمة ‪ ،‬حمقون الدم على التأييد ‪ ،‬وكالَها قد صار من أهل دار‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ضد هذا أ ّن مال الذمي قد ساوى مال املسلم يف احلرمة ‪ ،‬فإن سرقه مسلم قطع فيه ‪ ،‬فإذا‬
‫ويع ّ‬
‫كان ملاله حرمة مال املسلم فوجب أن يكون لدمه حرمة دم املسلم ‪ ،‬إذ حرمة ماله إمنا هي تبع‬
‫ضد ما ذهب إليه أبو حنيفة من شرع قتل‬
‫حلرمة دمه ‪ ،‬ويع ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )888 /2‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب ال يقتل مسلم بكافر حديث‬
‫رقم (‪.)2660‬‬

‫ص ‪60 :‬‬
‫املسلم ابلذمي ما رواه الطحاوي عن حممد بن املنكدر ‪ ،‬أن النيب عليه الصالة والسالم أقاد‬
‫وىف بذمته» «‪»1‬‬
‫مسلما بذمي ‪ ،‬وقال ‪« :‬أان أحق من ّ‬
‫وقد روي عن عمر وعلي قتل املسلم ابلذمي‬
‫‪ ،‬وقال علي ‪ :‬إ ّان أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤهم كدمائنا ‪ ،‬ودايهتم كدايتنا‪.‬‬
‫وأما‬
‫حديث ‪« :‬ال يقتل مؤمن بكافر ‪ ،‬وال ذو عهد يف عهده» «‪»2‬‬
‫فله ضروب من التأويل أحسنها ‪ :‬أن رجال من خزاعة قتل رجال من هذيل بذحل «‪ »3‬اجلاهلية‪.‬‬
‫قدمي هاتني ‪ ،‬ال‬
‫كل دم كان يف اجلاهلية فهو موضوع حتت ّ‬
‫فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬أال إ ّن ّ‬
‫يقتل مؤمن بكافر ‪ ،‬وال ذو عهد يف عهده»‬
‫يعين ابلكافر الذي قتل يف اجلاهلية ‪ ،‬فيكون ذلك تفسريا‬
‫«كل دم كان يف اجلاهلية فهو موضوع حتت قدمي هاتني»‬
‫لقوله ‪ّ :‬‬
‫ويكون‬
‫قوله ‪« :‬و ال ذو عهد يف عهده»‬
‫يف معىن قوله ‪ :‬فَأَِمتوا إِل َْي ِه ْم َع ْه َد ُه ْم إِىل ُمدههتِِ ْم [التوبة ‪ ]4 :‬وقد ذكر علماء األصول أتويالت‬
‫مينعنا خوف اإلطالة من ذكرها‪.‬‬
‫عامة يف كل قاتل قتل عمدا ‪ ،‬ولكن وردت أحاديث تفيد ختصيصها ‪ ،‬فمن‬
‫وآايت القصاص ّ‬
‫ترجحت عنده واشتهرت ‪ ،‬خصص هبا اآلية‪.‬‬
‫ّ‬
‫فمن ذلك ما‬
‫الل عليه وسلّم يقول ‪« :‬ال يقتل والد بولده»‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روي عن عمر قال ‪ :‬مسعت رسول ّ‬
‫‪ .‬ويف رواية عنه أيضا «ال يقاد األب اببنه» «‪»4‬‬
‫‪ ،‬وقد حكم بذلك عمر أمام مجع من الصحابة من غري نكري ‪ ،‬فكان يف منزلة اخلرب املستفيض ‪،‬‬
‫َيصص اآلية ‪ ،‬وقد أخذ به أبو حنيفة والشافعي‪.‬‬
‫فجاز أن ّ‬
‫وروي عن مالك أنه إذا ظهر منه قصد القتل كأن أضجعه وذحبه قتل به ‪ ،‬وإن رماه بسالح أداب ‪،‬‬
‫أو خنقه مل يقتل به‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء ‪ :‬أتقتل اجلماعة ابلواحد إذا اشرتكوا يف قتله أم ال؟ فذهب أكثر فقهاء‬
‫األمصار ‪ :‬مالك وأبو حنيفة والشافعي وأمحد والثوري وأبو ثور «‪ »5‬وغريهم إىل أنه تقتل‬
‫اجلماعة ابلواحد قلّت اجلماعة ‪ ،‬أو كثرت‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الطحاوي يف شرح معاين اآلاثر ط ‪ ، 2‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪/3( 1987‬‬
‫‪.)195‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )3‬الذحل ‪ :‬الثأر ‪ ،‬العداوة واحلقد ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)256 /11‬‬
‫(‪ )4‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )12 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب ما جاء يف الرجل يقتل‬
‫ابنه حديث رقم (‪.)1401 ، 1400‬‬
‫(‪ ) 5‬إبراهيم بن خالد بن أيب اليمان الكليب ‪ ،‬الفقيه صاحب اإلمام الشافعي تويف (‪ 240‬ه)‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)37 /1‬‬

‫ص ‪61 :‬‬
‫الل عنه أنه قال ‪ :‬لو متاأل عليه أهل صنعاء لقتلهم مجيعا «‪.»1‬‬
‫وروي عن عمر رضي ّ‬
‫وقال داود «‪ »2‬وأهل الظاهر ‪ :‬ال تقتل اجلماعة ابلواحد ‪ ،‬واستند إىل ظاهر اآلية ‪ ،‬ألهنا‬
‫شرطت املساواة واملماثلة ‪ ،‬وال مساواة بني واحد واجلماعة‪ .‬وإىل قوله ‪:‬‬
‫س ِابلنه ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫س [املائدة ‪.]45 :‬‬ ‫َوَكتَ ْبنا َعلَْيه ْم فيها أَ هن النه ْف َ‬
‫ومجهور الفقهاء نظروا إىل املعىن ‪ :‬وهو أ ّن الشارع شرع القصاص حلفظ األنفس ‪َ ،‬ولَ ُك ْم ِيف‬
‫صاص َحياةٌ ولو علم الناس أن اجلماعة ال تقتل ابلواحد لتماأل األعداء على قتل عدوهم ‪،‬‬ ‫ال ِْق ِ‬
‫وبلغوا مرادهم من قتله ‪ ،‬وجنوا من القود ابالجتماع‪ .‬واآلية ال تدل على أن اجلماعة ال تقتل‬
‫ابلواحد ‪ ،‬ألهنا جاءت يف منع محيّة اجلاهلية اليت كانت تدعو القبيلة إىل أن تقتل بقتيلها من قتل‬
‫ومن مل يقتل افتخارا ‪ ،‬بل قد يؤخذ من اآلية ما يدل للجمهور ‪ ،‬ألن املراد ابلقصاص قتل من‬
‫قتل كائنا من كان ‪ ،‬واحدا ‪ ،‬أو مجاعة‪.‬‬
‫صاص يقتضي املماثلة يف كيفية القتل ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب عَلَيْ ُك ُم الْق ُ‬
‫وقد ذهب مالك والشافعي إىل أ ّن ُكت َ‬
‫فيقتص من القاتل على الصفة اليت قتل هبا‪ .‬فمن قتل تغريقا ‪ ،‬قتل تغريقا ‪ ،‬ومن رضخ رأس‬
‫إنسان حبجر فقتله ‪ ،‬قتل برضخ رأسه ابحلجر‪ .‬واحتجوا‬
‫النيب رأسه حبجر» «‪.»3‬‬
‫حبديث أنس «أ ّن يهوداي رضخ رأس امرأة حبجر ‪ ،‬فرضخ ّ‬
‫وذهب أبو حنيفة وأصحابه إىل أن املطلوب ابلقصاص إتالف نفس بنفس ‪ ،‬واآلية ال تقضي‬
‫أي وجه قتله مل يقتل إال ابلسيف‪ .‬واستدلوا‬
‫أكثر من ذلك‪ .‬فعلى ّ‬
‫ابلسيف»‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال قود إال ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫حبديث النعمان بن بشري قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫«‪»4‬‬
‫وقالوا ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬هنى عن املثلة» «‪»5‬‬
‫قد ورد عن عمران بن حصني وغريه أن النيب صلّى ّ‬
‫الل صلّى‬
‫وقتله مبا قتل به قد يؤدي إىل املثلة ‪ ،‬وقد ورد عن شداد بن أوس قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذحبتم‬
‫الل كتب اإلحسان على ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫فأحسنوا ال ّذحبة» «‪»6‬‬
‫فأوجب عموم لفظه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 88 ، )53 /8‬كتاب الدايت ‪ - 21 ،‬ابب إذا أصاب قوم‬
‫من رجل حديث رقم (‪.)6896‬‬
‫(‪ ) 2‬داود بن علي بن خلف األصبهاين أبو سليمان امللقب ابلظاهري تويف (‪ 270‬ه) انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)333 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )215 /6‬كتاب الطالق ‪ - 24 ،‬ابب اإلشارة يف‬
‫الطالق حديث رقم (‪ ، )5295‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 28 ، )1299 /3‬كتاب القسامة ‪3 ،‬‬
‫‪ -‬ابب ثبوت القصاص يف القتل حديث رقم (‪].....[ .)1672 /15‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )889 /2‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب ال قود إال ابلسيف حديث‬
‫رقم (‪.)2667‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )284 /6‬كتاب الصيد ‪ ،‬ابب ما يكره من املثلة‬
‫حديث رقم (‪.)5516‬‬
‫(‪ )6‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1548 /3‬كتاب الصيد ‪ - 11 ،‬ابب األمر إبحسان‬
‫الذبح حديث رقم (‪.)1955 /57‬‬

‫ص ‪62 :‬‬
‫على من له قتل على جان ‪ ،‬ورغب يف القصاص أن يقتله أبحسن وجوه القتل‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إذا ثبت حديث أنس ‪ ،‬كان منسوخا ابلنهي عن املثلة ‪ ،‬وحكي عن القاسم بن معن أنه‬
‫الل «‪ »1‬عند بعض السالطني ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما تقول فيمن رمى رجال‬
‫حضر مع شريك بن عبد ّ‬
‫بسهم فقتله؟‬
‫قال ‪ :‬يرمى فيقتل ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن مل ميت ابلرمية األوىل؟‬
‫قال ‪ :‬يرمى اثنية‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم أن يتّخذ شيء من احليوان‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫قال ‪ :‬أفتتّخذونه غرضا وقد هنى رسول ّ‬
‫ِ‬
‫وف وأَداء إِل َْيهِ إبِِ ْح ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫سان‪.‬‬ ‫غرضا «‪»2‬؟ فَ َم ْن عُف َي لَهُ م ْن أَخيه َش ْيءٌ فَاتّباعٌ ِابل َْم ْع ُر َ ٌ‬
‫قد ذكران أن املناسب من معاين العفو هنا ‪ :‬اإلسقاط ‪ ،‬أو العطاء‪ .‬فذهب الشافعي إىل أن املراد‬
‫فأي قاتل ترك له من أخيه شيء من القصاص فاتبعه أيها القاتل ‪ ،‬وأ ّد‬
‫هنا اإلسقاط ‪ ،‬واملعىن ‪ّ :‬‬
‫إليه إبحسان ‪ ،‬وبناء على ذلك يكون موجب القتل العمد عنده أحد أمرين ‪ّ :‬إما القصاص ‪ ،‬وإما‬
‫العفو إىل الدية ‪ ،‬فأيهما اختار الويل أجرب اجلاين عليه‪ .‬وهو رواية أشهب عن مالك‪ .‬وروي عن‬
‫ابن عباس ‪ :‬العفو أن تقبل الدية يف العمد‪ .‬وحنوه عن قتادة ‪ ،‬وجماهد وعطاء ‪ ،‬والسدي‪.‬‬
‫وذهب غريهم إىل أن العفو العطاء ‪ ،‬أي فمن أعطي له من أخيه شيء من املال فليتبعه ابملعروف‬
‫‪ ،‬وليؤد إليه اجلاين ‪ ،‬وحينئذ ال يكون يف اآلية ما يدل على إلزام القاتل ابلدية إذا رضيها الويل‪.‬‬
‫وبناء على ذلك ذهبوا إىل أن موجب القتل العمد القصاص فقط‪ .‬فإذا عفا الويل إىل الدية ‪ ،‬ومل‬
‫يقبل اجلاين مل جيرب ‪ ،‬وإىل ذلك ذهب أبو حنيفة وهو رواية القاسم عن مالك‪.‬‬
‫ويدل للمذهب األول ما‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬من قتل له قتيل فهو خبري النظرين ّإما أن يفدى وإما‬
‫روي من أنه صلّى ّ‬
‫أن يقتل» «‪.»3‬‬
‫ْباب ل ََعله ُك ْم تَته ُقو َن (‪ )179‬بعد أن ّبني ّ‬
‫الل‬ ‫ُويل ْاألَل ِ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ولَ ُك ْم ِيف ال ِْق ِ‬
‫صاص َحياةٌ اي أ ِ‬ ‫قال ّ‬
‫ُويل ْاألَل ِ‬
‫ْباب‬ ‫صاص َحياةٌ اي أ ِ‬‫شرع القصاص ذكر احلكمة فيه ‪ ،‬فقال ‪َ :‬ولَ ُك ْم ِيف ال ِْق ِ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬ابن احلارث النخعي فقيه ‪ ،‬القاضي الكويف أدرك زمن عمر بن عبد العزيز تويف سنة (‪177‬‬
‫ه) يف الكوفة ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)163 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1549 /3‬كتاب الصيد ‪ - 12 ،‬ابب النهي عن صرب‬
‫البهائم حديث رقم (‪ ، )1957 /58‬ورواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )60 /4‬كتاب‬
‫األطعمة ‪ ،‬ابب ما جاء يف كراهية أكل املصبور حديث رقم (‪.)1475‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 88 ، )49 /8‬كتاب الدايت ‪ - 8 ،‬ابب من قتل له قتيل‬
‫حديث رقم (‪ )6880‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )988 /2‬كتاب احلج ‪ - 82 ،‬ابب‬
‫حترمي مكة وصيدها حديث رقم (‪.)1355 /447‬‬

‫ص ‪63 :‬‬
‫أي ولكم اي أويل العقول فيما شرعت لكم من القصاص حياة وبقاء ‪ ،‬لعلكم تتقون القصاص ‪،‬‬
‫فتنتهوا عن القتل‪.‬‬
‫كف بعضهم عن‬
‫وإمنا كان يف شرع القصاص حياة ‪ ،‬أل ّن الناس إذا علموا أن من قتل يقتل ّ‬
‫فكف عن القتل ‪ ،‬فكان يف ذلك‬
‫هم أحد بقتل أخيه أوجس خيفة من القصاص ‪ّ ،‬‬
‫بعض‪ .‬فإذا ّ‬
‫حياة له وحياة ملن أراد قتله وحياة لغريَها من الناس ‪ ،‬فرمبا وقعت الفتنة ابلقتل ‪ ،‬فيقتل فيها‬
‫خلق كثري ‪ ،‬وشرع القصاص حاجز لذلك كله ‪ ،‬وهذا على أ ّن املراد ابلقصاص شرع القصاص‬
‫وميكن أن يراد منه القصاص نفسه ‪ ،‬ويكون املعىن أن يف القصاص نفسه حياة ‪ ،‬أل ّن القاتل إذا‬
‫يهمون ابلقتل ‪ ،‬فال يقتلون وال يقتلون ‪ ،‬فكان القصاص‬
‫اقتص منه كان عربة لغريه ‪ ،‬فريتدع من ّ‬
‫ّ‬
‫سببا للحياة ‪ ،‬وهناك وجه آخر ذكره السدي فقال ‪ :‬ولكم يف القصاص حياة أي بقاء ‪ ،‬ال يقتل‬
‫إال القاتل جبنايته‪.‬‬
‫الل هبذه اآلية العقوابت من معىن إىل معىن سام جليل ‪ :‬فقد كانت العقوابت انتقاما يف‬ ‫وقد نقل ّ‬
‫الل الغرض منها االستصالح َولَ ُك ْم ِيف‬
‫األزمنة السالفة ‪ ،‬ينتقم هبا اجملتمع من اجملرمني ‪ ،‬فجعل ّ‬
‫صاص َحياةٌ ومل يقل انتقام ‪ ،‬ولقد رقت قلوب قوم من رجال التشريع الوضعي!! فاستفظعوا‬ ‫ال ِْق ِ‬
‫قتل القاتل ‪ ،‬ورمحوه من القتل!! ولقد كان املقتول ظلما أوىل برمحتهم وعطفهم ‪ ،‬وإذا رمحوا‬
‫الفساد ‪ ،‬ولعمران إهنم نظروا نظرة ضيقة ‪ ،‬ولو‬
‫القاتل فمن يرحم اجملتمع الذي يكثر فيه اجملرمون ّ‬
‫نظروا نظرة عامة شاملة لكانت رمحتهم هذه هي اليت تدعوهم إىل القصاص والقسوة فيه ‪ ،‬فإ ّن‬
‫من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم ‪ ،‬وكف عادية املعتدين‪.‬‬
‫فقسا ليزدجروا ‪ ،‬ومن يك حازما فليقس أحياان على من يرحم‬
‫عربت العرب عن هذا املعىن بعبارات خمتلفة ‪ ،‬منها قوهلم ‪ :‬قتل البعض إحياء للجميع ‪،‬‬
‫ولقد ّ‬
‫ليقل القتل ‪ ،‬وأجود ما قالوه يف ذلك قوهلم ‪:‬‬
‫وقوهلم ‪ :‬أكثروا القتل ّ‬
‫القتل أنفى للقتل‪.‬‬
‫والنظم الكرمي َولَ ُك ْم ِيف ال ِْق ِ‬
‫صاص َحياةٌ قد فاق تلك مبراحل ‪ ،‬ويدل على ذلك أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أهنا أخص‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن قوهلم ‪ :‬القتل أنفى للقتل ظاهره أن القتل سبب يف نفي القتل ‪ ،‬وهو حمال ‪ ،‬خبالف‬
‫اآلية ‪ ،‬فإهنّا جعلت القصاص ‪ ،‬وهو نوع من القتل ‪ ،‬فيه نوع من احلياة ‪ ،‬بدليل التنكري ‪ ،‬وال‬
‫إحالة يف أن يكون نوع من القتل سببا لنوع من احلياة‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن القتل ظلما قتل ‪ ،‬وليس انفيا للقتل ‪ ،‬بل هو أدعى للقتل ‪ ،‬فيكون ذلك مبطال لظاهر‬
‫عموم قوهلم‪ .‬ومثّ وجوه أخرى مل نشأ اإلطالة هبا‪.‬‬

‫ص ‪64 :‬‬
‫ت إِ ْن تَر َك َخ ْرياً الْو ِ ِ ِ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِذا َح َ‬ ‫ِ‬
‫صيهةُ للْوال َديْ ِن َو ْاألَقْ َربِ َ‬
‫ني‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ض َر أ َ‬ ‫الل تعاىل ‪ُ :‬كت َ‬‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫ب عَلَيْ ُك ْم فرض عليكم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ُ )180‬كت َ‬ ‫ِابل َْم ْع ُروف َح ًّقا عَلَى ال ُْمت ِهق َ‬
‫اخلري ‪ :‬ضد الشر ‪ ،‬واملراد به هنا ‪ :‬املال ‪ ،‬وقد ورد يف القرآن كثريا مبعىن املال ‪ ،‬قال تعاىل ‪َ :‬وما‬
‫ش ِدي ٌد (‪[ )8‬العادايت ‪ ]8 :‬إِِّين لِما أَنْ َزل َ‬
‫ْت إِ َه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يل‬ ‫اخلَ ِْري لَ َ‬
‫ب ْ‬ ‫تُ ْنف ُقوا م ْن َخ ٍّْري [البقرة ‪َ ]272 :‬وإِنههُ حلُ ِّ‬
‫ِم ْن َخ ٍّْري فَ ِقريٌ [القصص ‪.]24 :‬‬
‫الوصية ‪ :‬القول املبني ملا يستأنف عمله‪ .‬وهي هنا خمصوصة مبا بعد املوت وهي كذلك يف‬
‫العرف‪.‬‬
‫ت وقت حضور املوت‬
‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫املعروف ‪ :‬ضد املنكر ‪ ،‬وليس املراد بقوله ‪ :‬إِذا َح َ‬
‫ض َر أ َ‬
‫ومعاينته ‪ ،‬أل ّن هذا الوقت ال يعي فيه املرء ما يقول ‪ ،‬بل املراد عالمات املوت وأماراته ‪ ،‬وذلك‬
‫كاملرض املخوف‪.‬‬
‫وقد اختلف يف ذلك املال الذي كتبت فيه الوصية‪ .‬فقيل ‪ :‬هو الكثري ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫أي مال قليال كان أو كثريا‪ .‬واألولون اختلفوا ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هو الكثري غري حمدود‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبعضهم ح ّدده‪ .‬واختلفوا يف التحديد ‪ ،‬فعن ابن عباس ‪ :‬إذا ترك سبعمائة درهم ‪ ،‬فال يوصي ‪،‬‬
‫فإن بلغ مثامنائة درهم أوصى‪.‬‬
‫وعن قتادة ‪ :‬ألف درهم ‪ ،‬وعن عائشة ‪ :‬أن رجال قال هلا ‪ :‬إين أريد أن أوصي‪.‬‬
‫الل إِ ْن تَ َر َك‬
‫قالت ‪ :‬كم مالك؟ قال ‪ :‬ثالثة آالف‪ .‬قالت ‪ :‬كم عيالك؟ قال ‪ :‬أربعة‪ .‬قالت ‪ :‬قال ّ‬
‫َخ ْرياً وإ ّن هذا الشيء يسري ‪ ،‬فاتركه لعيالك ‪ ،‬فهو أفضل ‪ ،‬والظاهر قول من قال ‪ :‬إن املراد‬
‫الل منه‬ ‫َيص ّ‬ ‫املال مطلقا ‪ ،‬قليال ‪ ،‬كان أو كثريا‪ .‬ألن اسم اخلري يقع على قليل املال وكثريه ‪ ،‬ومل ّ‬
‫شيئا دون شيء‪.‬‬
‫وهذه اآلية قد دلّت على وجوب الوصية ‪ ،‬واختلف العلماء فيها ‪ :‬أهي منسوخة أم حمكمة مل‬
‫الل تعاىل‬
‫تنسخ؟ ومجهور العلماء على أهنا منسوخة‪ .‬قال الشافعي رضي ا ّلل عنه ما معناه ‪ :‬إن ّ‬
‫أنزل آية الوصية ‪ ،‬وأنزل آية املواريث ‪ ،‬فاحتمل أن تكون الوصية ابقية مع املرياث ‪ ،‬واحتمل أن‬
‫يرجح أحد االحتمالني ‪ ،‬فوجدوه يف سنّة‬
‫تكون املواريث انسخة للوصااي‪ .‬وقد طلب العلماء ما ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫فقد روى عنه أصحاب املغازي أنه قال عام الفتح ‪« :‬ال وصيّة لوارث» «‪»1‬‬
‫وهو وإن كان خرب آحاد إال أن العلماء تلقته ابلقبول ‪ ،‬وأمجعت العامة على القول به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪65 :‬‬
‫مث إن القائلني ابلنسخ اختلفوا ‪ :‬فذهب طاوس «‪ »1‬وقوم معه ‪ :‬إىل أن الوصية للوالدين‬
‫واألقربني الوارثني نسخت ‪ ،‬وبقيت للقرابة غري الوارثني ‪ ،‬فمن أوصى لغري قرابة مل جتز ‪ ،‬وذهب‬
‫غريهم إىل أهنا منسوخة يف ح ّق من يرث ‪ ،‬وحق من ال يرث‪ .‬وحجة األولني ‪ :‬أن الوصية ملن‬
‫يرث ومن ال يرث من األقربني كانت واجبة ابآلية ‪ ،‬فنسخت منها الوصية للوارثني ‪ ،‬وبقيت‬
‫لألقربني غري الوارثني على الوجوب‪.‬‬
‫ويؤكد هذا‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ما ح ّق امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتني إال ووصيته مكتوبة‬
‫عنده» «‪»2‬‬
‫‪ .‬وحجة اآلخرين ما‬
‫الل عليه وسلّم حكم يف ستة مملوكني‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رواه الشافعي عن عمران بن احلصني أن رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم ثالثة‬
‫كانوا لرجل ال مال له غريهم فأعتقهم عند املوت ‪ ،‬فجزأهم النيب صلّى ّ‬
‫أجزاء ‪ ،‬فأعتق اثنني ‪ ،‬وأر ّق أربعة «‪»3‬‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫فلو كانت الوصية واجبة لألقربني وإذا جعلت يف غريهم بطلت ملا أجازها صلّى ّ‬
‫يف العبدين ‪ ،‬ألن عتقهما وصية هلما ‪ ،‬وَها غري قريبني ‪ ،‬وقد ذهب أبو مسلم األصفهاين إىل أ ّن‬
‫آية الوصية حمكمة غري منسوخة ‪ ،‬نقل ذلك عنه الفخر الرازي ‪ ،‬وقرر مذهبه بوجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أ ّن هذه اآلية ليست خمالفة آلية املواريث ‪ ،‬بل هي مقررة هلا ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ُك ْم [النساء ‪:‬‬ ‫الل به من توريث الوالدين واألقربني يف قوله ‪ :‬يُوصي ُك ُم هُ ْ‬
‫كتب ما أوصى ّ‬
‫الل به هلم عليهم‪.‬‬
‫‪ ]11‬إذا كتب على احملتضر أن يوصي للوالدين ‪ ،‬واألقربني بتوفري ما أوصى ّ‬
‫اثنيا ‪ :‬أنه ال منافاة بني ثبوت الوصية لألقرابء وثبوت املرياث ‪ ،‬فالوصية عطية من حضره املوت‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬فالوارث مجع له بني الوصية واملرياث حبكم اآليتني‪.‬‬
‫‪ ،‬واملرياث عطية من ّ‬
‫خمصصة‬
‫اثلثا ‪ :‬لو ق ّدر حصول املنافاة بني آية املرياث وآية الوصية لكان ميكن جعل آية املرياث ّ‬
‫لكل قريب ‪ ،‬وآية املواريث أخرجت‬
‫آلية الوصية ألن هذه اآلية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة ّ‬
‫القريب الوارث ‪ ،‬فبقيت آية الوصية مرادا هبا القريب الذي ال يرث ‪ّ ،‬إما ملانع من اإلرث ككفر‬
‫ورق ‪ ،‬وإما ألنه حمجوب أبقرب منه ‪ ،‬وإما ألنه من ذوي األرحام‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬طاوس بن كيسان اخلوالين اليماين من أئمة التابعني تويف سنة (‪ 106‬ه) أصله من الفرس ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)224 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 55 ، )245 /3‬كتاب الوصااي ‪ - 1 ،‬ابب الوصااي حديث‬
‫رقم (‪ ، )2738‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 25 ، )1249 /3‬كتاب الوصية حديث رقم (‪/1‬‬
‫‪.)1627‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 27 ، )1288 /3‬كتاب اإلميان حديث رقم (‪.)1668 /56‬‬

‫ص ‪66 :‬‬
‫وابن جرير الطربي ذهب يف «تفسريه» «‪ »1‬إىل هذا القول فقال يف تفسري اآلية ‪ :‬فرض عليكم‬
‫ِ ِ‬
‫ت إِ ْن تَ َر َك َخ ْرياً واخلري ‪ :‬املال للْوال َديْ ِن َو ْاألَق َْربِ َ‬
‫ني‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫أيها املؤمنون الوصيّة إِذا َح َ‬
‫ض َر أ َ‬
‫الل فيه وأجازه يف الوصية ‪ ،‬ما مل جياوز الثلث ‪ ،‬ومل‬
‫وف وهو الذي أذن ّ‬ ‫الذين ال يرثون ِابلْمعر ِ‬
‫َُْ‬
‫ني يعين بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقا‬ ‫يتعمد املوصي ظلم ورثته َح ًّقا َعلَى ال ُْمت ِهق َ‬
‫ّ‬
‫الل فأطاعه أن يعمل به‪.‬‬
‫واجبا على من اتقى ّ‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬أو فرض على الرجل ذي املال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين ال يرثون؟ قيل ‪:‬‬
‫الضحاك «‪ »2‬فقد كان يقول ‪ :‬من مات‬
‫ّ‬ ‫نعم‪ .‬وقد نقل مثل ذلك عن مجاعة من العلماء منهم ‪:‬‬
‫ومل يوص لذي قرابته فقد ختم عمله مبعصية ‪ ،‬ومنهم مسروق «‪ »3‬فقد حضر رجال فأوصى‬
‫الل قسم بينكم فأحسن القسم ‪ ،‬وإنه من يرغب برأيه‬
‫أبشياء ال تنبغي ‪ ،‬فقال له مسروق ‪ :‬إن ّ‬
‫الل عليه‪.‬‬‫الل يضلّه ‪ ،‬أوص لذي قرابتك ممن ال يرثك ‪ ،‬مث دع املال على ما قسمه ّ‬ ‫عن رأي ّ‬
‫وقد ذهب القائلون أبهنا منسوخة إىل أهنا تندب ‪ ،‬وتكون يف ثلث ماله ‪ ،‬ومعىن قوله ‪ِ :‬ابلْمعر ِ‬
‫وف‬‫َُْ‬
‫الل عليه وسلّم بقوله ملن أراد‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ابلعدل الذي ال وكس فيه وال شطط ‪ ،‬وقد بيّنه رسول ّ‬
‫أن يوصي ‪« :‬الثلث والثلث كثري» «‪»4‬‬
‫الل أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زايدة لكم‬
‫الل أنه قال ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫وقد روي عنه عليه صلوات ّ‬
‫يف أعمالكم»‪.‬‬
‫الل َِمس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )181‬ملا‬ ‫يع َعل ٌ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن بَ هدلَهُ بَ ْع َد ما َمس َعهُ فَِإ همنا إِ ْمثُهُ َعلَى الهذ َ‬
‫ين يُبَ ّدلُونَهُ إِ هن هَ ٌ‬ ‫قال ّ‬
‫غريها وب ّدهلا فقال ‪ :‬فَ َم ْن بَ هدلَهُ بَ ْع َد‬
‫الل تعاىل الوصية وجعلها حقا على املتقني ‪ ،‬تو ّعد من ّ‬ ‫أوجب ّ‬
‫غري ما أوصى به املوصي بعد ما مسع الوصية فليس على املوصي إمث ‪ ،‬بل اإلمث‬ ‫ما َِمس َعهُ أي فمن ّ‬
‫الل َِمس ِ‬
‫يم أي مسيع للوصية ‪ ،‬عليم مبا أوصيتم به ‪ ،‬فال ختفى عليه‬ ‫يع َعل ٌ‬ ‫على مب ّدل الوصية ‪ ،‬إِ هن هَ ٌ‬
‫خافية من التغيري الواقع فيها ‪ ،‬وعلى ذلك يكون املنهي عن التغيري هو ‪ :‬الشاهد ‪ ،‬فال يكتم‬
‫حيور فيها‪ .‬والورثة فال مينعون من أوصي هلم‬
‫يغريها ‪ ،‬والوصي فال يغري الوصية ‪ ،‬وال ّ‬
‫شهادة وال ّ‬
‫من ح ّقهم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنه هو الوصي ‪ ،‬وذلك أن العرب يف اجلاهلية كانوا يوصون لألابعد ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)68 /2‬‬
‫(‪ )2‬ابن مزاحم البلخي اخلراساين ‪ ،‬تويف (‪ 105‬ه) مفسر ‪ ،‬كان يؤدب األطفال انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)215 /3‬‬
‫(‪ )3‬ابن األجدع بن مالك اهلمداين تويف (‪ 63‬ه) اتبعي ‪ ،‬شهد حروب اإلمام علي بن أيب‬
‫الل عنه ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)215 /7‬‬
‫طالب رضي ّ‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 23 ، )102 /2‬كتاب اجلنائز ‪ - 34 ،‬ابب راثء النيب‬
‫الل عليه وسلّم سعد بن خولة حديث رقم (‪ ، )1295‬ومسلم يف الصحيح (‪)1250 /3‬‬
‫صلّى ّ‬
‫‪ - 25 ،‬كتاب الوصية ‪ - 1 ،‬ابب الوصية ابلثلث حديث رقم (‪].....[ .)1628 /5‬‬
‫ص ‪67 :‬‬
‫الل عن ذلك ‪ ،‬وجعل الوصية للوالدين واألقربني‬
‫ويرتكون ذوي القرىب يف ضنك وشدة ‪ ،‬فنهاهم ّ‬
‫ابملعروف ‪ ،‬مث أوعد املوصني الذين َيالفون ما أمر به‪ .‬وجيعلوهنا يف غري املواضع اليت أمرهم هبا ‪،‬‬
‫أو يوصون بغري معروف ‪ ،‬كأن يعطوا األغنياء من أقارهبم ‪ ،‬ويرتكوا الفقراء ‪ ،‬وعلى هذا يكون‬
‫الضمري يف قوله ‪ :‬فَ َم ْن بَ هدلَهُ راجعا إىل احلكم الذي علم من اآلية السابقة‪.‬‬
‫أما على القول األول فالضمري راجع إىل الوصية‪ .‬وإمنا أتى به مذ ّكرا والوصية مؤنثة نظرا إىل املعىن‬
‫‪ ،‬فإهنا مبعىن اإليصاء ‪ ،‬كقوله ‪ :‬فَ َم ْن جاءَهُ َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّهِ [البقرة ‪ ]275 :‬أي وعظ ‪ ،‬وقد دلت‬
‫اآلية على أن املرء ال يؤخذ جبريرة غريه‪ .‬فامليت ال يؤخذ ببكاء أهله إال أن يكون له دخل يف‬
‫البكاء ‪ ،‬كأن يكون أوصى به‪.‬‬
‫فقصروا يف القضاء ‪ ،‬وهي يف معىن ‪َ :‬وال‬ ‫ولذلك ال يع ّذب امليت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه ‪ّ ،‬‬
‫صاحلاً فَلِنَ ْف ِسهِ‬
‫س إِهال َعلَْيها وال تَ ِزر وا ِزرةٌ ِو ْزر أُ ْخرى [األنعام ‪ ]164 :‬من َع ِمل ِ‬
‫ب ُكل نَ ْف ٍّ‬ ‫ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫تَكْس ُ‬
‫ت [البقرة ‪.]286 :‬‬‫سبَ ْ‬
‫ت َوعَلَْيها َما ا ْكتَ َ‬
‫سبَ ْ‬
‫َوَم ْن أَساءَ فَ َعلَْيها [فصلت ‪ ]46 :‬هلَا ما َك َ‬
‫ه ذا وقد طعن قوم يف أحكام الوصية واملرياث يف الشريعة اإلسالمية‪ .‬وقالوا ‪:‬‬
‫إهنا ال تلني لرغبات املالكني ‪ ،‬وقد تكون هذه الرغبات حمرتمة أما أهنا ال تلني لرغبات املالكني‬
‫يغري فيها ‪ ،‬وقد منعت‬
‫فألن املرياث قد فرضت فروضه ‪ ،‬وعيّنت أنصباؤه ‪ ،‬وليس ألحد أن ّ‬
‫الوصية للوارث ‪ ،‬فليس ألحد أن يوصي لوارثه‪.‬‬
‫أبر‬
‫وأما أن رغبة املالكني قد تكون حمرتمة فألنه رمبا أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه ‪ ،‬ألنه يراه ّ‬
‫به من غريه ‪ ،‬أو ألنه أحوج ‪ ،‬قالوا ‪ :‬والشريعة اإلسالمية قد خالفت ما عند األمم األخرى من‬
‫تذرعت أمة إسالمية بذلك فرتكت أحكام الشريعة يف املرياث‬
‫احرتام رغبات املالكني‪ .‬وقد ّ‬
‫والوصااي ‪ ،‬واستبدلت هبا القانون السويسري‪.‬‬
‫وحنن نرى أنه ال موجب هلذه الغارة على أحكام الشريعة ‪ ،‬فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من‬
‫رأي أيب مسلم األصفهاين يف الوصية ‪ ،‬وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث ابقية مل تنسخ ‪،‬‬
‫وال منافاة بينها وبني املرياث‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬والوصية عطية من املالك للوارث ‪ ،‬فإذا كانت هذه األمة قد اضطرت‬
‫فاملرياث عطية من ّ‬
‫الحرتام إرادة املالكني ‪ ،‬ومل تبال مبا يصحبها من جور غالبا‪.‬‬
‫ففي الشريعة اإلسالمية متسع هلذا‪ .‬فلنا األخذ برأي أيب مسلم األصفهاين يف الوصية وهو جييز‬
‫الوصية للوارث ‪ ،‬وحيرتم رغبة املالكني‪ .‬فمن شاء أن يوصي البن ابر ‪ ،‬أو وارث أشد حاجة ‪:‬‬
‫فله ذلك عنده‪ .‬وما دام يف الشريعة غىن ‪ ،‬فليس هلم أن يستبدلوا هبا قانوان آخر‪ .‬وإن األخذ‬
‫بقول من أقواهلا مهما كان ضعيفا خري من اخلروج عنها مجلة‪.‬‬
‫َصلَ َح بَ ْي نَ ُه ْم فَال إِ ْمثَ َعلَْيهِ إِ هن ه‬
‫اللَ‬ ‫خاف ِم ْن ُم ٍّ‬
‫وص َجنَفاً أ َْو إِ ْمثاً فَأ ْ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن َ‬
‫ص ‪ 68 :‬قال ّ‬
‫يم (‪ ) 182‬اجلنف ‪ :‬امليل يف األمور ‪ ،‬وأصله العدول عن االستواء‪ .‬والفرق بني اجلنف‬ ‫غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫ٌ‬
‫واإلمث هنا ‪ :‬أن اجلنف اخلطأ يف الوصية من حيث ال يعلم ‪ ،‬واإلمث اجلور عن عمد‪.‬‬
‫غري‬
‫الل من ّ‬
‫خاف هنا علم ‪ ،‬وملا توعّد ّ‬
‫وقد اختلف يف أتويل اآلية‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬إن معىن َ‬
‫غريها جورا‪.‬‬
‫الوصية ّبني أن هذا الوعيد ملن ّ‬
‫فبني الفرق بني‬
‫أما من علم من املوصي اجلور فال إمث عليه يف تغيريها إىل عدل وصلح ‪ّ ،‬‬
‫التبديلني‪ .‬فأوجب اإلمث يف األول‪ .‬ونفاه عن الثاين‪.‬‬
‫خاف هنا على معناها ‪ ،‬واملراد ‪ :‬أن من حضر املوصي وهو يوصي فخاف‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إن َ‬
‫تعمد اجلور فيها فال حرج عليه أن يصلح بني املوصي وبني ورثته ‪ :‬أبن‬
‫منه اخلطأ يف وصيته ‪ ،‬أو ّ‬
‫أيمره ابلعدل يف وصيته‪ .‬فال يتعمد إضرار الورثة‪ .‬وال حيرم مستحقا ‪ ،‬ويعطي غري مستحق ‪ :‬يفعل‬
‫ذلك مشورة وإصالحا ‪ ،‬والضمري يف قوله ‪ :‬بَ ْي نَ ُه ْم يعود على املوصى هلم ‪ ،‬وهم وإن كانوا مل‬
‫وص ألنّه يستلزم موصى هلم‪.‬‬ ‫يذكروا ‪ ،‬إال أهنم علموا من قوله ‪ُ :‬م ٍّ‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا املصلح قد أتى بطاعة إبصالحه يستحق عليها الثواب اجلزيل‪ .‬وكان املنتظر أن‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬
‫يم؟‬ ‫يقال ‪ :‬فله أجر‪ .‬فكيف قيل ‪ :‬فَال إِ ْمثَ َعلَْيه وقيل ‪ :‬إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫الل املب ّدلني ‪ ،‬أراد أن يبني خمالفته لألول برفع اإلمث عنه ‪،‬‬
‫أمث ّ‬
‫فاجلواب ‪ :‬أنه ملا كان تبديال ‪ ،‬وقد ّ‬
‫ألنه ر ّد الوصية إىل العدل‪.‬‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم فإنه من ابب التنبيه ابألدىن على األعلى ‪ ،‬كأنه قال ‪ :‬أان الغفور‬ ‫وأما قوله ‪ :‬إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫الرحيم ملن أذنب وعصى فألن أوصل الرمحة واملغفرة هلذا املصلح أوىل‪.‬‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم هلذا الوصي الذي أوصى مبا فيه جنف أو إمث إذا أصلحت وصيته‪.‬‬ ‫أو يقال ‪ :‬إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫وهذه اآلية تدل على جواز الصلح بني املتنازعني‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم ل ََعله ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَى الهذ َ‬
‫ِ‬
‫يام َكما ُكت َ‬
‫الص ُ‬‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ودات فَ َم ْن كا َن ِم ْن ُك ْم َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر فَعِ هدةٌ ِم ْن أَ هايٍّم أُ َخ َر َو َعلَى‬
‫تَته ُقو َن (‪ )183‬أَ هايماً م ْع ُد ٍّ‬
‫َ‬
‫وموا َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُكْن تُ ْم‬
‫ص ُ‬‫ع َخ ْرياً فَ ُه َو َخ ْريٌ لَهُ َوأَ ْن تَ ُ‬ ‫عام ِم ْسكِ ٍّ‬
‫ني فَ َم ْن تَطَهو َ‬ ‫ِ‬ ‫اله ِذ ِ‬
‫ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ ُ‬
‫َ‬
‫تَ ْعلَ ُمو َن (‪.)184‬‬
‫يام ‪ :‬مصدر صام‪ .‬كالقيام مصدر قام ‪ ،‬وهو يف اللغة ‪ :‬اإلمساك عن الشي ء ‪ ،‬والرتك له ‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫الص ُ‬
‫ومنه قيل للصمت ‪ :‬صوم ‪ ،‬ألنه إمساك عن الكالم ‪ ،‬قال تعاىل يف‬

‫ص ‪69 :‬‬
‫ص ْوماً فَلَ ْن أُ َكلِّ َم الْيَ ْو َم إِنْ ِسيًّا [مرمي ‪ ]26 :‬ومنه قوهلم ‪:‬‬ ‫قصة مرمي إِِّين نَ َذر ُ ِ‬
‫ت لل هر ْمح ِن َ‬ ‫ْ‬
‫صامت الريح ‪ ،‬إذا ركدت وسكنت ‪ ،‬وصامت الفرس ‪ ،‬إذا أمسكت عن العلف ‪ ،‬قال النابغة ‪:‬‬
‫خيل صيام وخيل غري صائمة حتت العجاج وأخرى تعلك اللّجما‬
‫ويف الشرع ‪ :‬هو اإلمساك عن شهويت البطن والفرج ‪ ،‬بنيّة من أهله من طلوع الفجر إىل غروب‬
‫الشمس‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَبْلِ ُك ْم قيل ‪ :‬إن وجه الشبه هو وجوب الصوم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مقداره ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ب عَلَى الهذ َ‬
‫ِ‬
‫َكما ُكت َ‬
‫وقيل ‪ :‬كيفيته‪ .‬من الكف عن األكل والشرب ‪ ،‬وقد ذكر القائلون ابألخريين رواايت تؤيد ما‬
‫ذهبوا إليه ‪ ،‬منها أنه كان املفروض على اليهود والنصارى صوم شهر رمضان هذا ‪ ،‬الذي كلّف‬
‫الل املسلمني بصومه ‪ ،‬وزعموا أن اليهود تركت هذا الشهر إىل صوم يوم زعموا أنه الذي غرق‬
‫ّ‬
‫فيه فرعون‪.‬‬
‫حرا ‪ ،‬مث قالوا عند‬
‫حرا شديدا ‪ ،‬فحولوه إىل وقت ال يكون ّ‬
‫أما النصارى فقد صادفوا يف رمضان ّ‬
‫التحويل ‪ :‬نزيد فيه عشرا ‪ ،‬مث اشتكى ملكهم فزادوا سبعا ‪ ،‬مث اشتكى امللك الذي بعده فقال ‪:‬‬
‫فتم هلم صوم مخسني يوما ‪ ،‬وهناك رواايت غري هذه ‪ ،‬كلّها تفتقر إىل اإلثبات‬
‫ما ابل هذه الثالثة ّ‬
‫وعلم حقيقة ما كتب على الذين من قبلنا ‪ ،‬وما دام التشبيه ال حيتاج ألكثر من وجه من وجوه‬
‫الل عليهم الصيام ‪ ،‬فما حاجتنا ابجلري وراء‬
‫املماثلة ‪ ،‬وحنن نقطع أبن من كان قبلنا قد أوجب ّ‬
‫أخبار حتتاج يف إثباهتا إىل عناء وجهد قد ال تصل بعدَها إىل ما يثبت املدعى؟‬
‫حنن ال ننكر هذه األخبار ‪ ،‬أو ما اشتملت عليه ‪ ،‬بل نقول ‪ :‬إهنا تفتقر إىل اإلثبات ‪ ،‬وفهم اآلية‬
‫الل قد كتب صوما ما على الذين من قبلنا ‪،‬‬
‫غري متوقّف عليها ‪ ،‬إذ يكفي يف فهم اآلية أن يكون ّ‬
‫وتلك حقيقة يسلّم هبا مجيع أهل األداين ‪ ،‬وهم يتعبدون هبا إىل اليوم ‪ ،‬واملطّلعون على التاريخ‬
‫القدمي يقولون ‪ :‬إن التاريخ يدل على أنه مل ختل شريعة من الشرائع من فرض الصوم ‪ ،‬وإمنا‬
‫الل مل يبني لنا ماهية‬
‫اختلف الصوم يف األمم السابقة يف ماهيته ‪ ،‬وكيفيته ‪ ،‬ومقداره ‪ ،‬وما دام ّ‬
‫الل يف بيانه‬
‫الصوم عند الذين من قبلنا وكيفيته ومقداره فما حاجتنا إىل البحث وراءه ‪ ،‬ولو علم ّ‬
‫خريا لبينه؟‬
‫قال الزجاج «‪ : »1‬إن َكما هنا يف موضع نصب على املصدر ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫فرض عليكم الصيام كفرضه على الذين من قبلكم‪ .‬وقال أبو علي «‪ : »2‬هو صفة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق عامل ابلنحو واللغة ولد ومات يف بغداد ‪ ،‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)40 /1‬‬
‫(‪ ) 2‬احلسن بن أمحد الفارسي ‪ ،‬أحد األئمة يف علم العربية تويف يف بغداد سنة (‪ 377‬ه) انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)179 /2‬‬
‫ص ‪70 :‬‬
‫ملصدر حمذوف ‪ ،‬أي كتابته مثل كتابته على الذين من قبلكم‪ .‬وقيل ‪ :‬غري هذا‪.‬‬
‫ل ََعله ُك ْم تَته ُقو َن ذكروا يف معناها يف هذا املوضع وجوها ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن الصوم يورث التقوى ‪ ،‬ألنه يكسر الشهوة ‪ ،‬ويقمع اهلوى ‪ ،‬ويردع عن األشر والبطر‬
‫ويهون لذات الدنيا‪.‬‬
‫والفواحش ‪ّ ،‬‬
‫الثاين ‪ :‬أن املعىن ‪ :‬ينبغي لكم ابلصوم أن يقوى رجاؤكم يف التقوى‪.‬‬
‫الل بصومكم وترككم للشهوات ‪ ،‬وأنت ترى أن املعاين‬
‫الثالث ‪ :‬أن املعىن ‪ :‬لعلكم تتقون ّ‬
‫متقاربة‪.‬‬
‫أَ هايماً م ْع ُد ٍّ‬
‫ودات منصوب على الظرفية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬غري هذا ‪ ،‬وقد اختلف العلماء يف هذه األايم ‪:‬‬ ‫َ‬
‫أهي رمضان أم غريه؟ قيل ‪ :‬إهنا غري رمضان ‪ ،‬وأنه كان قد وجب صوم قبل رمضان ‪ ،‬مث نسخ‬
‫ص ْمهُ [البقرة ‪ ]185 :‬وهو مذهب‬ ‫آبية ‪َ :‬ش ْه ُر َرَمضا َن إىل قوله ‪ :‬فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر فَلْيَ ُ‬
‫ومروي عن ابن عباس ‪ ،‬مث اختلف هؤالء ‪ ،‬فقال عطاء ‪ :‬هي ثالثة أايم‬
‫ّ‬ ‫معاذ‪ .‬وقتادة‪ .‬وعطاء‪.‬‬
‫من كل شهر ‪ ،‬وقال قتادة ‪ :‬بل هي ثالثة أايم من كل شهر وصوم يوم عاشوراء‪.‬‬
‫مث إن هؤالء اختلفوا أيضا‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬إن هذا الصوم كان تطوعا ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬بل واجبا‬
‫‪ ،‬واتفقوا على أن هذا الصوم ‪ -‬على اخلالف يف أنه تطوع أو فرض‪ .‬وعلى اخلالف يف مقداره ‪-‬‬
‫منسوخ بصوم رمضان ‪ ،‬واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بوجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ما‬
‫كل صوم»‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أ ّن صوم رمضان نسخ ّ‬
‫روي عن النيب صلّى ّ‬
‫فدل هذا على أن صوما كان قبل رمضان ونسخ به‪.‬‬
‫الل تعاىل ذكر حكم املريض واملسافر هنا وذكره يف آية فَ َم ْن َش ِه َد ِمنْ ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر‬ ‫الثاين ‪ :‬أن ّ‬
‫ينزه عنه القرآن‪.‬‬ ‫ص ْمهُ فلو مل تكن اآلية األوىل منسوخة ابلثانية لكان تكرارا ّ‬ ‫فَلْيَ ُ‬
‫يدل على أن هذا الصوم واجب على التخيري‬ ‫ين يُ ِطي ُقونَهُ ّ‬ ‫ِ‬
‫الثالث ‪ :‬أ ّن قوله تعاىل هنا ‪َ :‬و َعلَى الهذ َ‬
‫‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر ‪ ،‬وأعطى الفدية‪ .‬وصوم رمضان واجب على التعيني‪ .‬فواجب‬
‫أن يكون صوم هذه األايم غري صوم رمضان‪ .‬ذلك مبلغ ما قالوا يف التدليل ملذهبهم‪.‬‬
‫وذهب أكثر احمل ققني إىل أن املراد هبذه األايم املعدودات شهر رمضان ‪ ،‬وهو مذهب ابن عباس ‪،‬‬
‫الل سبحانه ّبني أوال أنه فرض علينا صوما كالذي فرضه‬
‫واحلسن ‪ ،‬وأيب مسلم ‪ ،‬وحاصله ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫على الذين من قبلنا ‪ ،‬فاحتمل هذا أن يكون يوما ‪ ،‬أو يومني ‪ ،‬أو غري ذلك ‪ ،‬فبيّنه بعض البيان‬
‫بقوله ‪ :‬أَ هايماً م ْع ُد ٍّ‬
‫ودات وكان ذلك أيضا‬ ‫َ‬
‫ص ‪71 :‬‬
‫الل تعاىل بقوله ‪َ :‬ش ْه ُر َرَمضا َن إخل‪.‬‬
‫حمتمال ألن يكون فوق ثالثة أايم إىل أكثر من شهر ‪ ،‬فبينه ّ‬
‫وإذا كان ذلك ميكننا يف فهم اآلية فال وجه حلملها على غريه ‪ ،‬وإثبات النسخ فيه ‪ ،‬وهو فوق‬
‫ذلك خارج عن مدلول اللفظ‪.‬‬
‫أما ما متسكتم به من‬
‫كل صوم»‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬صوم رمضان نسخ ّ‬
‫قول النيب صلّى ّ‬
‫كل صوم كان يف الشرائع السابقة؟ ومعروف أن شرع من قبلنا شرع لنا ما‬
‫فلم ال جيوز أن يراد ‪ّ :‬‬
‫كل صوم كان عندان فأين احنصار أدلة‬
‫مل يرد انسخ ‪ ،‬فليكن هو الناسخ‪ .‬ولئن سلّم أن املراد ّ‬
‫الوجوب يف هذه اآلية؟ ومل ال جيوز أن يكون صوما قد ثبت أبدلة غري هذه؟‬
‫وأما قولكم ‪ :‬لو كان عني شهر رمضان لكان قوله ‪ :‬فَ َم ْن كا َن ِم ْن ُك ْم َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر ‪ ...‬إخل‬
‫مكررا‪.‬‬
‫ّ‬
‫خمريا فيه املكلّف بني الصيام ‪ ،‬وبني الفدية‬
‫فلنا أن نقول ‪ :‬إن صوم رمضان ثبت يف أول األمر ّ‬
‫يظن أن عليه‬
‫دون القضاء ‪ ،‬فلما كان كذلك ‪ ،‬ورخص للمسافر يف الفطر ‪ ،‬كان من اجلائز أن ّ‬
‫الفدية دون القضاء ‪ ،‬وجيوز أنه ال فدية عليه وال قضاء ملكان العذر الذي يفارق به املقيم‪.‬‬
‫الل تعاىل أن إفطار املريض واملسافر يف احلكم خالف التخيري يف‬
‫وملا مل يكن ذلك بعيدا ‪ّ ،‬بني ّ‬
‫الل ذلك عن املقيم‬
‫حق املقيم ‪ ،‬فإنه جيب عليهما القضاء يف عدة من أايم أخر ‪ ،‬فلما نسخ ّ‬
‫الصحيح وألزمه ابلصوم حتما ‪ ،‬كان جائزا أن يظن أن انتقال احلكم من واسع إىل ضيق رمبا يعم‬
‫الكل فيساوي املريض واملسافر الصحيح املقيم‪ .‬أو على األقل يبقى حكم املريض واملسافر‬
‫ّ‬
‫جمهوال ‪ :‬فكانت هناك حاجة إىل البيان ‪ ،‬فجيء به لدفع هذه احلاجة ‪ ،‬وحيث قد ذهبنا إىل‬
‫خمريا ‪ ،‬فلم تعد بنا حاجة إىل االعتذار عن حجتهم الثالثة‪.‬‬
‫القول أبن صوم رمضان كان يف البدء ّ‬
‫وأنت ترى أن اآلية على القولني قد دخلها النسخ ‪ :‬أما األول فظاهر ‪ ،‬وأما الثاين ‪ ،‬فألنّه يقضي‬
‫خمريا ‪ ،‬مث نسخ ابلتعيني ‪ ،‬ولعل احلكمة يف شرعه هكذا سنة‬
‫أبن صوم رمضان ثبت يف البدء ّ‬
‫التدرج يف التشريع‪.‬‬
‫فَ َم ْن كا َن ِمنْ ُك ْم َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر فَعِ هدةٌ ِم ْن أَ هايٍّم أُ َخ َر املراد منه ّ‬
‫والل أعلم أن فرض الصيام يف‬
‫األايم املعدودات إمنا يلزم األصحاء املقيمني‪ .‬فأما من كان مريضا أو مسافرا فله أتخري الصوم‬
‫عن هذه األايم إىل أايم أخر‪.‬‬
‫الل سبحانه يف أول اآلية أن‬
‫الل ‪ ،‬وسعة رمحته بعباده ‪ ،‬فقد ّبني ّ‬
‫وقد دلّت اآلية على عظيم فضل ّ‬
‫شريعة الصيام فيكم مل تكن بدعا من الشرع ‪ ،‬بل لكم فيها أسوة ‪ ،‬فقد كانت مكتوبة على من‬
‫قبلكم من األمم ‪ ،‬مث ّبني فيها اثنيا ‪ :‬وجه احلكمة يف إجياب الصوم ‪ ،‬وهو أنه سبب قوي يف‬
‫حصول التقوى ‪ ،‬واثلثا ‪ :‬أنه مل يكلفنا مبا يشق ‪ ،‬بل‬
‫ص ‪72 :‬‬
‫خص هذه األايم‬
‫كلفنا أايما معدودات ‪ ،‬وهي وإن قلّت فجزاؤها جزيل ‪ ،‬مث ّبني جل شأنه أنه ّ‬
‫خاص مبن قدر عليه ‪ ،‬حيث‬
‫ابلشهر الذي أنزل فيه القرآن ملزيد الشرف مث بني أن هذا التكليف ّ‬
‫أابح أتخريه ملن يشق عليه من املرضى واملسافرين إىل وقت يقدرون عليه فيه‪.‬‬
‫وقد اختلفوا يف املرض املبيح للفطر على ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫وأي سفر‬
‫فأي مرض ّ‬
‫ذهب احلسن وابن سريين «‪ »1‬إىل أ ّن املدار على حتقق وصف املرض ‪ّ ،‬‬
‫ابلغني ما بلغا يرت ّخص هبما املسافر واملريض يف الفطر يف رمضان ‪ ،‬وقد روي أ ّن مجاعة دخلوا‬
‫على ابن سريين فوجدوه أيكل ‪ ،‬فاعتل بوجع إصبعه‪.‬‬
‫وذهب األصم إىل أ ّن املراد املريض واملسافر اللذان ال يقدران على الصوم مع املرض والسفر إال‬
‫جبهد ومشقة‪.‬‬
‫وذهب أك ثر الفقهاء إىل أن املرض املبيح للفطر هو الذي يؤدي إىل ضرر يف النفس ‪ ،‬أو زايدة‬
‫يف العلة ‪ ،‬وهذا هو الذي يتقبله العقل بقبول حسن ‪ ،‬فإن احلكمة اليت من أجلها ر ّخص‬
‫يظن العسر ‪ ،‬وإن من األمراض ما يكون‬
‫للمريض هي إرادة اليسر ‪ ،‬وال يراد اليسر إال حيث ّ‬
‫الل سبحانه إال على‬
‫شفاؤه ابلصوم ‪ ،‬فكيف يباح الفطر ملن كان مرضه كذلك ‪ ،‬ومل يكلفنا ّ‬
‫حسب ما يكون يف غالب الظن ‪ ،‬فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببا للمرض ‪ ،‬أو يزيد يف‬
‫العلة ‪ ،‬أما اإلطالق فيه أو التضييق فأمر يتناىف مع إرادة اليسر ابملكلفني‪.‬‬
‫وكذلك اختلفوا يف السفر املبيح للفطر‪.‬‬
‫فقال داود الظاهري ‪ :‬الرخصة حاصلة يف كل سفر ‪ ،‬ولو كان فرسخا ‪ ،‬وحجته أن احلكم علّق‬
‫يف اآلية بكونه مسافرا ‪ ،‬وهو مؤذن بعلية ما اشتق منه ‪ ،‬فحيث حت ّقق السفر حتقق احلكم وهو‬
‫الرخصة ‪ ،‬وقال ‪ :‬كل ما يف الباب أنكم تروون خربا آحاداي ‪ ،‬وختصيص عموم الكتاب خبرب‬
‫اآلحاد غري جائز‪.‬‬
‫وقال األوزاعي ‪ » 2« :‬السفر املبيح للفطر مسافة يوم ‪ ،‬وذلك ألن أقل من هذا قد يتفق للمقيم‬
‫‪ ،‬وكأنه يعترب يف املسافر عدم التمكن من الرجوع إىل أهله يف اليوم‪.‬‬
‫كل بريد أربعة فراسخ ‪ ،‬كل‬
‫الل عنه إىل أن السفر املبيح مق ّدر أبربعة برد ‪ّ ،‬‬
‫وذهب الشافعي رضي ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وهو الذي قدر أميال‬
‫فرسخ مق ّدر بثالثة أميال مبيل هاشم جد النيب صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬حممد بن سريين البصري األنصاري ابلوالء ‪ ،‬اشتهر بتعبري الرؤاي ينسب له كتاب تعبري الرؤاي‬
‫‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)154 /6‬‬
‫(‪ )2‬عبد الرمحن بن عمرو ‪ ،‬إمام الشام ولد يف بعلبك ‪ ،‬سكن بريوت وتويف هبا ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)320 /3‬‬
‫ص ‪73 :‬‬
‫البادية ‪ ،‬كل ميل اثنا عشر ألف قدم ‪ ،‬كل قدم ثلث خطوة ‪ ،‬وهو مذهب مالك ‪ ،‬وأمحد‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬ال يتحقق سفر يبيح الرتخيص حىت يكون قدر ثالث مراحل ‪ ،‬قدرها أربعة‬
‫وعشرون فرسخا ‪ ،‬وهي مقدرة يف كتب احلنفية مبسري ثالثة أايم سريا وسطا ‪ ،‬وهو سري اإلبل‬
‫واألقدام يف الرب ‪ ،‬وسري السفن الشراعية يف البحر ‪ ،‬ويكتفون بسري معظم اليوم ‪ ،‬واحتج‬
‫الل عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬اي أهل مكة ال تقصروا يف أدىن من‬
‫الشافعي مبا رواه عن ابن عباس رضي ّ‬
‫ثالث برد من مكة إىل عسفان «‪.»1‬‬
‫وقد قال أهل اللغة ‪ :‬إن كل بريد أربعة فراسخ ‪ ،‬فتكون ستة عشر فرسخا ‪ ،‬وهو الذي قلنا‪.‬‬
‫ص ْمهُ يوجب الصوم ‪ ،‬ولكنا‬ ‫واحتج أبو حنيفة ‪ :‬أبن قوله تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر فَلْيَ ُ‬
‫تركناه يف الثالثة األايم لإلمجاع على الرخصة فيها‪ .‬أما فيما دوهنا فمختلف فيه ‪ ،‬فوجب الصوم‬
‫احتياطا‪.‬‬
‫واحتجوا أيضا‬
‫بقوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ميسح املقيم يوما وليلة ‪ ،‬واملسافر ثالثة أايم ولياليها» «‪»2‬‬
‫‪ .‬وال يكون كذلك حىت تكون مدة السفر ثالثة أايم ‪ ،‬ألن الشارع جعل علّة االمتداد إىل الثالثة‬
‫السفر ‪ ،‬والرخص ال تعلم إال من الشرع‪ .‬وأما ما رويتم عن ابن عباس فلعله مذهبه واجتهاده ‪،‬‬
‫الل إىل مذهب أحد واجتهاده‪.‬‬
‫وال نرتك حديث رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم اعتبار الثالثة األايم سفرا ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫وأيضا ورد عن الرسول صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬و أنه هنى أن تسافر املرأة ثالثة أايم إال مع‬
‫حديث ابن عمر عن النيب صلّى ّ‬
‫ذي حمرم» «‪.»3‬‬
‫نعم قد روي عن أيب سعيد «‪ ، »4‬وأيب هريرة «‪ »5‬أخبار يف هذا املعىن ‪ ،‬تفيد من منعها السفر‬
‫يومني ‪ ،‬ولكنّهما روي عنهما أيضا النهي عن سفرها ثالثة أايم ‪ ،‬ويوما‪.‬‬
‫عولنا على حديث ابن عمر ‪ ،‬ألنه‬
‫فلما كان هذا االضطراب ولالحتياط يف إسقاط الفرائض ّ‬
‫متفق عليه ‪ ،‬ورواايت غريه مضطربة فرتكناها ‪ ،‬فتبني أن الثالثة قد تعلّق هبا حكم شرعي ‪ ،‬وغريها‬
‫مل يعلّق به ‪ ،‬فوجب تقديرها يف إابحة الفطر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬قال عنه احلافظ ابن حجر ‪ :‬إسناده صحيح ‪ ،‬انظر تلخيص احلبري يف ختريج أحاديث‬
‫الرافعي الكبري البن حجر العسقالين ط ‪ ، 1‬بريوت دار الكتب العلمية ‪.)117 /2( 1998‬‬
‫(‪ ) 2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب املسح على اخلفني حديث رقم‬
‫(‪.)95‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )975 /2‬كتاب احلج ‪ - 74 ،‬ابب سفر املرأة حديث‬
‫رقم (‪.)1338 /413‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )976 /2‬كتاب احلج ‪ - 74 ،‬ابب سفر املرأة حديث‬
‫رقم (‪.)000 /416‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )977 /2‬كتاب احلج ‪ - 74 ،‬ابب سفر املرأة حديث‬
‫رقم (‪.)1339 /419‬‬

‫ص ‪74 :‬‬
‫مث إ ّن العلماء قد اختلفوا يف املسافر واملريض ‪ :‬ماذا يلزمهما يف رمضان؟‬
‫الل عليهم ‪ :‬إىل أن الواجب عليهما الفطر وصيام عدة‬
‫ذهب مجاعة من علماء الصحابة رضوان ّ‬
‫من أايم أخر ‪ ،‬وهو قول ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬حىت روي عنه ‪:‬‬
‫أن املسافر إذا صام يف السفر قضى يف احلضر‪.‬‬
‫وحجة األولني‬
‫وذهب أكثر الفقهاء إىل أن اإلفطار رخصة ‪ ،‬فإن شاء صام وإن شاء أفطر ‪ّ ،‬‬
‫ظاهر‬
‫السفر» «‪»1‬‬
‫الصيام يف ّ‬
‫الرب ّ‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ليس من ّ‬
‫السفر كاملفطر يف احلضر»‪.‬‬
‫«الصائم يف ّ‬
‫‪ ،‬وقوله عليه الصالة والسالم ‪ّ :‬‬
‫وأما اجلمهور فقد قالوا ‪ :‬إن يف اآلية إضمارا تقديره ‪ :‬فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر‬
‫ت ‪..‬‬ ‫ب بِ َع َ‬
‫صاك ا ْحلَ َج َر فَانْ َف َج َر ْ‬ ‫ض ِر ْ‬‫‪ ،‬فعليه ع ّدة من أايم أخر ‪ ،‬وهو نظري قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُقلْنَا ا ْ‬
‫ص ٍّ‬
‫يام‬ ‫[البقرة ‪ ]60 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬وال َحتْلِ ُقوا رُؤس ُكم إىل قوله ‪ :‬أَو بِهِ أَذى ِمن رأ ِْسهِ فَ ِف ْديةٌ ِمن ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ً ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َ‬
‫األول (فضرب) فانفجرت ‪ ،‬والثاين (فحلق)‬ ‫ص َدقَةٍّ أَو نُ ٍّ‬
‫سك [البقرة ‪ ]196 :‬التقدير يف ّ‬ ‫ْ ُ‬ ‫أ َْو َ‬
‫ففدية‪.‬‬
‫وأيضا‬
‫فقد روى أبو داود يف «سننه» عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ‪ :‬أن محزة األسلمي سأل‬
‫الل ‪ ،‬أفأصوم يف السفر؟ فقال عليه الصالة والسالم‬
‫الل عليه وسلّم فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫‪« :‬صم إن شئت ‪ ،‬وأفطر إن شئت» «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم ابخلرب املستفيض «‪»3‬‬
‫وقد ثبت عن النيب صلّى ّ‬
‫الل ‪،‬‬
‫أنه صام يف السفر رواه ابن عباس ‪ ،‬وأبو سعيد اخلدري ‪ ،‬وأنس بن مالك ‪ ،‬وجابر بن عبد ّ‬
‫وأبو الدرداء ‪ ،‬وسلمة بن احملنّف‪.‬‬
‫وأما ما‬
‫السفر»‬
‫الصيام يف ّ‬
‫الرب ّ‬
‫روي من قوله ‪« :‬ليس من ّ‬
‫فإنّه كالم خرج على حال خمصوصة ‪ ،‬وذلك ما‬
‫الل عليه وسلّم أنه رأى رجال يظلّل عليه‬
‫الل عن النيب صلّى ّ‬
‫رواه شعبة من حديث جابر بن عبد ّ‬
‫والزحام عليه شديد ‪ ،‬فقال ‪« :‬ليس من الرب الصيام يف السفر» «‪»4‬‬
‫ّ‬
‫‪ .‬فمن مسع وذكر احلديث ذكره مع سببه ‪ ،‬وبعضهم اقتصر على ذكر احلديث‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سيأيت خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 30 ، )291 /2‬كتاب الصوم ‪ - 33 ،‬ابب الصوم يف‬
‫السفر حديث رقم (‪ ، )1943‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )790 /2‬كتاب الصيام ‪17 ،‬‬
‫‪ -‬ابب التخيري يف الصوم حديث رقم (‪ )1121 /107‬وأبو داود يف السنن كتاب الصوم ‪،‬‬
‫ابب الصوم حديث رقم (‪.)2402‬‬
‫(‪ )3‬انظر ما رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )787 - 784 /2‬كتاب الصيام ‪- 15 ،‬‬
‫ابب جواز الصوم والفطر حديث رقم (‪ )1113 /88‬و(‪ )1114 /90‬و(‪)1116 /93‬‬
‫و(‪.)1118 /98‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 30 ، )292 /2‬كتاب الصوم ‪ - 36 ،‬ابب قول النيب‬
‫الل عليه وسلّم حديث رقم (‪ ، )1946‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )786 /2‬كتاب‬
‫صلّى ّ‬
‫الصيام ‪ - 15 ،‬ابب جواز الصوم والفطر حديث رقم (‪.)1115 /92‬‬

‫ص ‪75 :‬‬
‫الل عليه وسلّم عام الفتح يف‬
‫وقد ذكر أبو سعيد اخلدري يف حديثه أهنم صاموا مع النيب صلّى ّ‬
‫عدوكم ‪ ،‬والفطر أقوى لكم فأفطروا» «‪»1‬‬
‫رمضان ‪ ،‬مث إنه قال هلم ‪« :‬إنّكم قد دنومت من ّ‬
‫الل عليه وسلّم قال أبو سعيد ‪ :‬مث لقد رأيتين أصوم مع النيب‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فكانت عزمية من رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم قبل ذلك وبعد ذلك ‪ ،‬وأما‬
‫صلّى ّ‬
‫السفر كاملفطر يف احلضر»‬
‫«الصائم يف ّ‬
‫حديث ‪ّ :‬‬
‫فحديث مقطوع ال يثبت عند كثري من الناس‪.‬‬
‫واحلنفية بعد ذلك يرون الصوم أفضل من الفطر‪ .‬ويقول املالكية كذلك ملن قوي عليه‪.‬‬
‫فَعِ هدةٌ ِم ْن أَ هايٍّم أُ َخ َر ‪ :‬أي من كان منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه صيام أايم أخر بعد ما‬
‫األصلي الصوم ‪ ،‬وير ّخص له‬
‫ّ‬ ‫أفطر ‪ ،‬وهذا أتويل اجلمهور ‪ ،‬فكان املريض واملسافر عندهم واجبه‬
‫يف الفطر ‪ ،‬فإذا أفطر فليقض أايما مكان األايم اليت أفطر فيها‪.‬‬
‫وأما غري اجلمهور فتأويل اآلية عندهم ‪ :‬فمن كان مريضا أو مسافرا فليفطر ‪ ،‬والواجب عليه‬
‫ابتداء صوم أايم أخر ‪ ،‬وصيامه يف رمضان ال يعت ّد به‪.‬‬
‫وأنت بعد الذي بينا من أدلة الطرفني إذا رجعت إىل النظم الكرمي وجدت أ ّن النظم قد مشل‬
‫يام مث ملّا كان بعض الناس قد يكون له من العذر ما‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬
‫الص ُ‬
‫ِ‬
‫اخلطاب فيه مجيع املؤمنني ُكت َ‬
‫الل حال املعذورين بقوله ‪ :‬فَ َم ْن كا َن ِم ْن ُك ْم َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر فَعِ هدةٌ ِم ْن‬ ‫يقتضي التخفيف ّبني ّ‬
‫ِ‬ ‫أَ هايٍّم أُ َخر وقال ‪ :‬و َعلَى اله ِذ ِ‬
‫وموا َخ ْريٌ‬
‫ص ُ‬ ‫ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ على ما أييت بيانه بعد ‪ ،‬مث قال ‪َ :‬وأَ ْن تَ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لَ ُك ْم‪.‬‬
‫مسوغا ألن تفهم من اآلية أ ّن الفطر واجب على من ال يضره الصوم من‬ ‫فهل جتد بعد هذا ّ‬
‫اللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوال يُ ِري ُد‬
‫الرخص؟ مث انظر إىل قوله تعاىل يف اآلية اليت بعد هذه ‪ :‬يُ ِري ُد ه‬
‫أصحاب ّ‬
‫األصلي على الناس مجيعا يف‬ ‫ّ‬ ‫بِ ُك ُم الْعُ ْس َر [البقرة ‪ ]185 :‬فإنّك ال ب ّد فاهم منها أن الواجب‬
‫رمضان هو الصوم ‪ ،‬وأن التأخر عنه ترخيص‪.‬‬
‫يضره حتصيال للثواب الكثري فنقول له ‪ :‬إن‬
‫فهل إذا التزم العبد أن يقوم مبا هو أشق عليه وال ّ‬
‫هذا ال جيزيك؟ ما نظن‪.‬‬
‫ين يُ ِطي ُقونَهُ فِ ْديَةٌ ظاهر العبارة يفيد أ ّن القادر على الصوم له أن يرتك الصوم إىل الفدية‬ ‫ِ‬
‫َو َعلَى الهذ َ‬
‫وال يلزمه القضاء‪ .‬وقد تق ّدم القول أب ّن بعض العلماء يرى أن هذه اآلية من أوهلا منسوخة هلذا‬
‫ولغريه ‪ ،‬وبعضهم يرى أنه ال نسخ إال يف هذا اجلزء ‪ ،‬ويرى أن صوم رمضان كان قد شرع ابتداء‬
‫على التخيري ‪ ،‬مث نسخ بقوله ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، 789 /2‬كتاب الصيام ‪ - 16 ،‬ابب أجر املفطر يف‬
‫السفر حديث رقم (‪].....[ .1 /1120 /102‬‬

‫ص ‪76 :‬‬
‫ص ْمهُ وهذا كله على قراءة يُ ِطي ُقونَهُ مضارع من اإلطاقة‪ .‬وسنعود إليها‬ ‫فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر فَلْيَ ُ‬
‫بعد الكالم على القراءات األخرى‪ .‬فقد قرئ يُ ِطي ُقونَهُ بتشديد الياء بعد الطاء‪.‬‬
‫يتحملونه مبشقة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬املراد هبم‬
‫شمونه ‪ ،‬أي ‪ّ :‬‬
‫وقرئ يطوقونه ابلواو بدل الياء ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬جي ّ‬
‫الشيخ والشيخة الفانيان يفطران ويفداين وال يقضيان‪.‬‬
‫واآلية على هاتني القراءتني ال نسخ فيها أصال فالناس ثالثة أحوال ‪:‬‬
‫‪ - 1‬األصحاء املقيمون ‪ ،‬ويلزمهم الصوم عينا يف رمضان‪.‬‬
‫‪ - 2‬واملرضى واملسافرون ‪ ،‬وهلم الفطر إن أرادوا ‪ ،‬وعليهم إن أفطروا أايم أخر‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقوم ال يقدرون على الصوم ‪ ،‬وفيه ضرر ‪ ،‬فهؤالء يفدون‪.‬‬
‫ولنرجع إىل القراءة األوىل يُ ِطي ُقونَهُ ‪ :‬ملا كان الظاهر منها ما ذكران‪ .‬قال بعض املفسرين ‪ :‬إن اآلية‬
‫والل أعلم ‪ -‬وعلى الذين ال يطيقونه فدية ‪ ،‬وتكون اآلية‬
‫على إضمار حرف النفي ‪ ،‬وتقديره ‪ّ -‬‬
‫حينئذ يف معىن القراءتني األخريني‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أن هذا يف شأن املرضى واملسافرين فهم قسمان ‪:‬‬
‫القسم األول ال يقدر على الصيام ‪ ،‬وهذا جيب عليه الفطر والقضاء يف أايم يقدر على الصوم‬
‫فيها‪.‬‬
‫والقسم الثاين يقدر على الصوم ‪ ،‬فهؤالء ير ّخص هلم يف الفطر ملكان السفر واملرض ‪ ،‬وعليهم‬
‫الفدية‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إهنّا نزلت يف حق الشيخ الفاين ‪ ،‬وتقريره من وجهني ‪:‬‬
‫أح دَها ‪ :‬أن الوسع فوق الطاقة ‪ ،‬فالوسع اسم للقدرة على الشيء مع السهولة ‪ ،‬يقال ‪ :‬يف‬
‫وسع فالن أن يفعل كذا وفالن يسعه أن يفعل كذا إذا كان يقدر عليه مع السهولة‪ّ .‬أما الطاقة‬
‫فهي اسم للقدرة على الشيء مع الشدة واملشقة ‪ ،‬يقال ‪ :‬فالن يطيق كذا ‪ ،‬أي أنه آخر ما يف‬
‫ين يُ ِطي ُقونَهُ الذين يقدرون عليه مع الشدة واملشقة ‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫ِ‬
‫طوقه وقدرته ‪ ،‬فمعىن َو َعلَى الهذ َ‬
‫فال نسخ يف اآلية ‪ ،‬وحكمها ابق ‪ ،‬قاله الفخر الرازي‪.‬‬
‫األول ‪ ،‬وأصحاب هذا‬
‫الوجه الثاين ‪ :‬محل هذه القراءة على القراءة الشاذّة ‪ ،‬وهو قريب من ّ‬
‫الرأي قد اختلفوا ‪ ،‬فقال مجاعة منهم السدي ‪ :‬إهنّا يف الشيخ اهلرم ‪ ،‬أي الذي ال يرجى أن أييت‬
‫عليه يف عمره أايم يقدر فيها على الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إهنّا تتناول الشيخ اهلرم واحلامل واملرضع ‪ ،‬سئل احلسن البصري عن احلامل‬
‫أي مرض أش ّد من احلمل؟ تفطر وتقضي‪.‬‬
‫واملرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما ‪ ،‬فقال ‪ّ :‬‬
‫مث إهنم أمجعوا على أ ّن الواجب على الشيخ اهلرم الفدية ‪ ،‬أما احلامل واملرضع‬

‫ص ‪77 :‬‬
‫الل عنه ‪ :‬عليهما الفدية مع القضاء‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ليس عليهما إال‬
‫فقال الشافعي رضي ّ‬
‫القضاء‪.‬‬
‫ين يُ ِطي ُقونَهُ فِ ْديَةٌ ألهنما ال يطيقان فتجب‬ ‫ِ‬
‫وحجة الشافعية أهنما داخالن يف منطوق اآلية َو َعلَى الهذ َ‬
‫عليهما الفدية‪.‬‬
‫وأبو حنيفة جعلهما يف حكم املريض ‪ ،‬انظر إىل قول احلسن البصري ‪ :‬أي مرض أش ّد من‬
‫احلمل؟ يفطران ويقضيان ‪ ،‬مث قال أبو حنيفة ‪ :‬فرق بينهما وبني الشيخ الفاين ‪ ،‬ألنه ال ميكن‬
‫إجياب القضاء عليه ‪ ،‬ألنه إمنا سقط عنه الصوم إىل الفدية لشيخوخته وزمانته ‪ ،‬فلن أييت عليه‬
‫يوم يكون أقدر على الصوم من أايم رمضان اليت أفطر فيها‪.‬‬
‫أما احلامل واملرضع فهما من أصحاب األعذار الطارئة املنتظرة الزوال ‪ ،‬فإن زال عذرَها فعليهما‬
‫عدة من أايم أخر ‪ ،‬وإن مل يزل كاان كاملريض الذي مل تزل علته ‪ ،‬على أهنما ال ميكن إجياب الفدية‬
‫عليهما مع إجياب القضاء ‪ ،‬ألنّه يكون مجعا بني البدل واملبدل ‪ ،‬وهو غري جائز ‪ ،‬ألن الفدية‬
‫بدل الصوم‪.‬‬
‫عام ِم ْسكِ ٍّ‬
‫ني هو نصف صاع من ّبر «‪ ، »1‬أو صاع «‪ »2‬من غريه عند أيب حنيفة ‪ ،‬وليس عليه‬ ‫طَ ُ‬
‫عنده غري ذلك ‪ ،‬قال الثوري «‪ : »3‬يطعم ‪ ،‬ومل يذكر مقدارا‪.‬‬
‫وروى املزين «‪ »4‬عن إمامه الشافعي أن الفدية م ّد ‪ ،‬وقال ربيعة «‪ »5‬ومالك ‪ :‬ال أرى عليه‬
‫اإلطعام ‪ ،‬وإن فعل فحسن‪.‬‬
‫تطوع ابلزايدة على‬
‫ع َخ ْرياً فَ ُه َو َخ ْريٌ لَهُ اختلف يف أتويله ‪ ،‬قال بعضهم ‪ :‬معناه من ّ‬
‫فَ َم ْن تَطَهو َ‬
‫تطوع ابلزايدة يف مقدار الفدية على املسكني‬
‫مسكني واحد فهو خري له ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬من ّ‬
‫تطوع ابلصيام مع الفدية فهو خري له‪.‬‬
‫الذي أعطاه وقال الزهري «‪ : »6‬من ّ‬
‫وموا َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن [البقرة ‪ ]184 :‬قيل ‪ :‬إنّه خطاب مع الذين‬
‫ص ُ‬
‫َوأَ ْن تَ ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الرب ‪ :‬القمح‪.‬‬
‫(‪ )2‬الصاع ‪ :‬أربعة أمداد‪.‬‬
‫(‪ ) 3‬سفيان بن سعيد بن مسروق من مضر ‪ ،‬أمري املؤمنني يف احلديث ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي‬
‫(‪.)104 /3‬‬
‫(‪ ) 4‬إمساعيل بن حيىي تلميذ الشافعي ‪ ،‬وأحد املصنفني يف مذهبه من أهل مصر ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)329 /1‬‬
‫(‪ )5‬ربيعة بن فروخ املعروف بربيعة الرأي ‪ ،‬فقيه من املدينة كان بصريا ابلرأي ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)17 /3‬‬
‫دون احلديث اتبعي من أهل املدينة‬
‫الل بن شهاب الزهري أول من ّ‬
‫(‪ )6‬حممد بن مسلم بن عبد ّ‬
‫‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)97 /7‬‬

‫ص ‪78 :‬‬
‫يطيقونه وال يصومونه ‪ ،‬أي يتحملونه مبشقة ‪ ،‬فهو خري هلم من الفدية‪ .‬وقيل ‪ :‬إنه خطاب مع‬
‫ذوي األعذار من املرضى واملسافرين والشيوخ الفانني‪ .‬قال الفخر الرازي ‪ :‬هو أوىل لعموم‬
‫اللفظ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬آخر اآلية معطوف على ّأوهلا ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬كتب عليكم الصيام ‪..‬‬
‫وأن تصوموا خري لكم إن كنتم تعلمون ما يف الصيام من احلكم اإلهلية ‪ ،‬اليت شرع من أجلها‬
‫والرب ابلضعفاء ومواساة‬
‫الصيام ‪ ،‬وهي تعويد النفس الصرب واجلوع ‪ ،‬وعدم اتباع اهلوى والشهوة ّ‬
‫احملتاجني‪.‬‬
‫نات ِمن ا ْهلُدى والْ ُفر ِ‬
‫هاس وب يِّ ٍّ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ش ْهر رمضا َن اله ِذي أُنْ ِز َل فِيهِ الْ ُقرآ ُن ه ِ‬
‫قان‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫دى للن ِ َ َ‬
‫ْ ُ ً‬ ‫ُ ََ‬ ‫قال ّ‬
‫ص ْمهُ َوَم ْن كا َن َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر فَعِ هدةٌ ِم ْن أَ هايٍّم أُ َخ َر يُ ِري ُد ه‬
‫اللُ بِ ُك ُم‬ ‫فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر فَلْيَ ُ‬
‫اللَ َعلى ما َهدا ُك ْم َول ََعله ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن‬ ‫ْملُوا الْعِ هدةَ َولِتُ َكِّربُوا ه‬
‫الْيسر وال ي ِري ُد بِ ُكم الْعُسر ولِتُك ِ‬
‫ُ َْ َ‬ ‫ُ َْ َ ُ‬
‫(‪ ) 185‬الشهر ‪ :‬مأخوذ من الشهرة ‪ ،‬يقال ‪ :‬شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا ‪ ،‬إذا ظهر ‪،‬‬
‫ومسي الشهر شهرا لشهرة أمره ‪ ،‬وذلك أن الناس بسبب حاجتهم إىل التوقيت يف العبادات‬
‫واملعامالت حيتاجون إىل معرفته‪ .‬ومسي اهلالل شهرا لشهرته وبيانه‪ .‬بل قال بعضهم ‪ :‬إمنا مسّي‬
‫الشهر شهرا ابسم اهلالل‪.‬‬
‫َرَمضا َن هو املدة من الزمان بني شعبان وشوال ‪ ،‬وقد قيل يف سبب تسميته بذلك أقوال كثرية ‪،‬‬
‫منها أنه مأخوذ من الرمض ‪ ،‬وهو حر احلجارة من شدة حر الشمس‪ .‬وكانوا ‪ :‬يصومون فيه‪.‬‬
‫فكان يكون قاسيا عليهم كقسوة أشعة الشمس املنعكسة عن احلجر األبيض ‪ ،‬وأقرب األقوال‬
‫ما قيل ‪ :‬إهنم ملا نقلوا األمساء عن اللغات القدمية مسّوها حبسب ما يقع هلا من املناسبات اليت‬
‫وقعت فيها ‪ ،‬فوافق هذا الشهر رمض احلر‪.‬‬
‫َش ْهر رمضا َن خرب ملبتدأ حمذوف بدل عن األايم املعدودة يف قوله ‪ :‬أَ هايماً م ْع ُد ٍّ‬
‫ودات وقيل ‪ :‬بل هو‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ‬
‫مبتدأ حمذوف اخلرب ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬شهر رمضان املكتوب عليكم صومه‪ .‬وقيل غري هذا‪.‬‬
‫اله ِذي أُنْ ِز َل فِيهِ الْ ُق ْرآ ُن ‪ :‬بيان ملزية اختصاصه ابلصوم فيه من بني الشهور ‪ ،‬ومعىن أنزل القرآن‬
‫تؤرخ‬
‫فيه ‪ ،‬وقد أنزل القرآن يف غريه أيضا ‪ :‬أنه ابتدأ إنزاله يف رمضان ‪ ،‬واحلوادث اجلسام ّ‬
‫وتنسب إىل ّأول أوقاهتا‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬مث‬
‫وقيل ‪ :‬إنه نزل إىل مساء الدنيا مجلة واحدة يف رمضان حلكمة يعلمها ّ‬

‫ص ‪79 :‬‬
‫منجما‪ .‬وال منافاة بني إنزاله يف رمضان ‪ ،‬وإنزاله يف ليلة القدر والليلة املباركة‪ .‬أل ّن‬ ‫ّنزل بعد ذلك ّ‬
‫ليلة القدر والليلة املباركة كانتا يف رمضان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬معىن أُنْ ِز َل فِيهِ الْ ُق ْرآ ُن أنزل يف شأنه القرآن‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وقد اختلف يف اشتقاقه ‪ ،‬فقيل‬ ‫الل املنزل على حممد صلّى ّ‬‫والْ ُق ْرآ ُن اسم لكالم ّ‬
‫‪ :‬إنه مشتق من القراءة ‪ :‬بل قد جاء مبعناها ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬وقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر إِ هن قُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر‬
‫كا َن َم ْش ُهوداً [اإلسراء ‪.]78 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬من القران ‪ ،‬أل ّن آايته قد قرن بعضها ببعض‪ .‬وقيل من القرء مبعىن اجلمع‪ .‬وقيل غري‬
‫ذلك‪.‬‬
‫هاس ‪ :‬هاداي هلم مبا اشتمل عليه من احلكم واملواعظ اليت هي شفاء ورمحة ‪ ،‬وهو‬ ‫دى لِلن ِ‬
‫ُه ً‬
‫منصوب على احلال ‪ ،‬أي ‪ :‬أُنْ ِز َل فِيهِ الْ ُق ْرآ ُن هاداي للناس إىل طريق اخلري ‪ ،‬ومبينا وكاشفا عن‬
‫نات ِم َن ا ْهلُدى‬
‫وجه احلق ‪ ،‬مبا اشتمل عليه من اآلايت الواضحات ‪ ،‬وفارقا بني احلق والباطل وب يِّ ٍّ‬
‫ََ‬
‫والْ ُفر ِ‬
‫قان‪.‬‬ ‫َ ْ‬
‫دى لِلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍّ ِ‬
‫هاس؟‬ ‫قد يقال ‪ :‬ما احلكمة يف إيراد َوبَيِّنات م َن ا ْهلُدى َوالْ ُف ْرقان بعد قوله ‪ُ :‬ه ً‬
‫وجوابه ‪ :‬أنه تعاىل ذكر أوال أنه هدى للناس ‪ ،‬مث هذا اهلدى نوعان ‪ :‬اترة يكون اهلدى بينا‬
‫خواص الناس‪ .‬وال شك أن األول أكثر‬
‫ّ‬ ‫واضحا تنساق إليه العقول انسياقا‪ .‬واترة ال يدركه إال‬
‫فائدة ‪ ،‬فكان ذكره بعد األول للميزة اخلاصة بعد امليزة العامة‪.‬‬
‫وهو على هذا يف منتهى البالغة‪.‬‬
‫وقيل يف اجلواب ‪ :‬إن املراد ابهلدى األول أصول الدين‪ .‬والثاين فروعه‪.‬‬
‫ص ْمهُ قال بعضهم ‪ :‬إن الفاء هنا زائدة ‪ ،‬ألهنا إما للعطف وإما للجزاء‬ ‫فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال ه‬
‫ش ْه َر فَلْيَ ُ‬
‫ِ‬
‫ت اله ِذي تَ ِفرو َن منْهُ فَِإنههُ‬
‫وَها ال يصلحان هنا ‪ ،‬فكانت زائدة كزايدهتا يف قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل إِ هن ال َْم ْو َ‬
‫ُمالقِي ُك ْم [اجلمعة ‪ ]8 :‬وقال الفخر الرازي ‪ :‬وميكن أن يقال ‪ :‬إن الفاء هنا ليست زائدة ‪ ،‬بل‬
‫خمتصا ابلشرف العظيم ‪ ،‬وهو إنزال القرآن فيه ‪،‬‬ ‫هي للجزاء ‪ ،‬فإنه تعاىل ملا ّبني كون رمضان ّ‬
‫وهو شرف ال يشاركه فيه سائر الشهور ‪ ،‬فهو لذلك يناسبه أن َيتص هبذه العبادة ‪ ،‬ولذلك‬
‫تق ّدم وصفه خباصة إنزال القرآن فيه ‪ ،‬كأنه قيل ‪:‬‬
‫فخصوه أنتم هبذه العبادة‪.‬‬
‫وإذا كان رمضان خمتصا هبذه الفضيلة ّ‬
‫َش ِه َد ‪ :‬حضر ‪ ،‬والشهود احلضور‪ .‬مث هنا قوالن ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬أ ّن مفعول شهد حمذوف ‪ ،‬ألن املعىن ‪ :‬فمن شهد البلد يف الشهر مبعىن أنه مل يكن‬
‫مسافرا‪ .‬ويكون الشهر منصواب على الظرفية‪.‬‬

‫ص ‪80 :‬‬
‫والقول الثاين ‪ :‬أن مفعول شهد هو الشهر ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬فمن شهد الشهر وشاهده بعقله ومبعرفته‬
‫فليصمه ‪ ،‬وهو كما يقال شهدت عصر فالن وأدركته ‪ ،‬وهو تفسري ال غبار عليه بعد أن تعرف‬
‫تتوجه إىل املكلفني ‪ ،‬فال عربة مبا قيل ‪ :‬إنه كاألول فيه خمالفة للظاهر‬
‫الل مجيعا ّ‬
‫أن خطاابت ّ‬
‫الحتياجه للتخصيص ‪ ،‬إذ يقال ‪ :‬للصيب اجملنون إنه أدرك الشهر ‪ ،‬نعم هم مدركون ‪ ،‬ولكنّهم ال‬
‫يدخلون حتت قوله ‪ِ :‬منْ ُك ُم إذ إ ّن كون كل خطاابت الشارع متوجهة إىل من أييت تكليفهم قد فرغ‬
‫صالةَ َوآتُوا ال هزكاةَ [البقرة ‪ ]110 ، 83 ، 43 :‬على أنه على فرض‬
‫يموا ال ه‬ ‫ِ‬
‫منه ‪ ،‬فمثله مثل َوأَق ُ‬
‫دخول هؤالء ‪ ،‬فاآلية تكون خمصوصة على هذا الوجه‪ .‬وعلى الوجه األول فيها تقدير حمذوف‪.‬‬
‫تعني املصري إىل التخصيص ‪،‬‬
‫وقد تقرر يف األصول أنه إذا تعارض التخصيص واإلضمار ‪ّ ،‬‬
‫وبدهي أن القول األول يلزمه أن اآلية ال توجب الصوم إال على املقيم ‪ ،‬فال يكون صوم املسافر‬
‫مسقطا للواجب ‪ ،‬بل يكون الواجب يف حقه الفطر ‪ ،‬وهذا كالم قد نسب إىل اإلمام علي ‪-‬‬
‫الل وجهه ‪ -‬القول به‪ .‬واجلمهور يرون اآلية عامة يف املكلفني ‪ ،‬وهي تشمل املسافر واملقيم‬
‫كرم ّ‬
‫‪ ،‬غري أن املسافر يرت ّخص ابلفطر كاملريض ‪ ،‬وعليهما عدة من أايم أخر‪.‬‬
‫متأت ‪ ،‬إذ إ ّن شهود‬
‫هذا وظاهر اآلية يفيد أن الصيام إمنا جيب بشهود مجيع الشهر ‪ ،‬وذلك غري ّ‬
‫مجيع الشهر ال يتأتّى إال بعد انقضائه ‪ ،‬وبعد انقضائه ال يتأتى ألحد أن يصوم ما مضى ‪ ،‬فمن‬
‫هنا قالوا ‪ :‬إنه يتعني أن يكون املعىن فمن شهد بعض الشهر فليصمه ‪ ،‬غري أهنم اختلفوا ‪ ،‬فقال‬
‫بعضهم ‪ :‬املراد ابلبعض ّأول الشهر‪ .‬وهو منسوب لإلمام علي ‪ ،‬وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم‬
‫أن يكون احلكم يف حق من كان مسافرا ّأول الشهر أنه ال جيب عليه صيام الشهر ‪ ،‬بل جيب‬
‫عليه الفطر‪.‬‬
‫أي بعض يكفي يف وجوب الصوم ‪ ،‬غري أهنم اختلفوا ‪ ،‬فاحلنفية يرون أن صوم‬
‫ويرى اجلمهور أن ّ‬
‫أي جزء منه ‪ ،‬ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك‬
‫مجيع الشهر جيب بشهود ّ‬
‫اجلزء على الراجح من مذهبهم‪.‬‬
‫جن يف رمضان ‪ ،‬وال بد أن‬
‫الل عليهم قد اختلفوا فيمن ّ‬
‫بعد هذا نقول ‪ :‬إ ّن األئمة رضوان ّ‬
‫كل رمضان ال جيب عليه الصوم يف احلال ‪،‬‬
‫جن ّ‬
‫نعرض هلذا اخلالف فنقول ‪ :‬اتفقوا على أ ّن من ّ‬
‫توجه اخلطاب إليه حاال ‪ ،‬واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان ‪ ،‬قال املالكية ومجاعة‬
‫لعدم إمكان ّ‬
‫جن سنني‪ .‬وقال غريهم ‪:‬‬
‫‪ :‬إنه يقضي ما مضى ولو ّ‬
‫إنه ال قضاء عليه ملا مضى ‪ ،‬كالصيب إذا بلغ ‪ ،‬والكافر إذا أسلم‪.‬‬

‫ص ‪81 :‬‬
‫أصح األقوال عندهم أنه‬
‫وأما من كان جمنوان يف رمضان ‪ ،‬وأفاق بعضا منه ‪ ،‬فالشافعية على ّ‬
‫يصوم ما شهد فقط ‪ ،‬وال قضاء عليه لغريه ‪ ،‬ومن أفاق يف أثناء النهار اختلف يف تكليفه ابلقضاء‬
‫عندهم‪.‬‬
‫وترى احلنفية أن شهود أي جزء من الشهر موجب صيامه كلّه‪.‬‬
‫وقد قالوا ‪ :‬إ ّن اآلية تشهد هلم ‪ ،‬ألنّك قد علمت أ ّن إجراءها على ظاهرها حمال ‪ ،‬فال ب ّد من‬
‫تقديره البعض ‪ ،‬فيكون املعىن عندهم فمن شهد بعض الشهر فليصمه مجيعه‪.‬‬
‫فإن قيل هلم ‪ :‬ملا ذا ق ّدرمت البعض يف األول ‪ ،‬ومل تقدروه يف الثاين؟‬
‫قالوا ‪ :‬إان جلأان لإلضمار للضرورة ‪ ،‬والضرورة تق ّدر بقدرها ‪ ،‬وقد اندفعت إبضمار يف األول ‪،‬‬
‫مع بقاء الثاين على حاله‪.‬‬
‫ص ْمهُ راجع إىل ما قبله ‪ ،‬فإن كان ما‬
‫ولكن لقائل أن يقول هلم ‪ :‬إن الضمري يف قوله تعاىل ‪ :‬فَلْيَ ُ‬
‫قبله مراد منه اجلميع ‪ ،‬كان هو مرادا منه اجلميع ‪ ،‬وإن كان البعض كان مرادا منه البعض ‪ ،‬أما‬
‫إن أريد ابملرجع شيئا وابلضمري غريه فهو غري ظاهر‪.‬‬
‫وقد أورد على احلنفية ما أييت ‪ :‬معقول أنه إذا أفاق أثناء الشهر أن نوجب عليه ما بقي يف الشهر‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬لكن غري معقول أن نوجب عليه صوم ما مضى ‪ ،‬أل ّن شهود اجلزء ال يتأتّى أن يكون‬
‫سببا لصوم ما قبله ‪ ،‬وإال كنا قد كلفناه الصوم قبل وقته‪.‬‬
‫وقد أجابوا عن هذا أب ّان نوجب عليه قضاء األايم املاضية ال صومها هي ‪ ،‬وجائز إلزامه القضاء‬
‫مع امتناع خطابه وقت األداء ‪ ،‬كاملغمى عليه والناسي والنائم‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء أيضا يف الصيب يبلغ والكافر يسلم يف بعض رمضان ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ‪،‬‬
‫الل بن حسن «‪ ، »1‬والليث‬
‫وأبو يوسف ‪ ،‬وحممد ‪ ،‬وزفر ‪ ،‬ومالك بن أنس يف «املوطأ» وعبد ّ‬
‫«‪ ، » 2‬والشافعي ‪ :‬إهنما يصومان ما بقي ‪ ،‬وليس عليهما قضاء ما مضى وال اليوم الذي حصل‬
‫فيه البلوغ واإلسالم‪.‬‬
‫إيل أن يقضياه‪.‬‬
‫أحب ّ‬
‫وقال ابن وهب «‪ »3‬عن مالك ‪ّ :‬‬
‫وقال األوزاعي يف الغالم يبلغ يف النصف من رمضان ‪ :‬إنه يقضي ما مضى ‪ ،‬فإنه كان يطيق‬
‫الصوم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أبو حممد املدين اهلامشي اتبعي ‪ ،‬من أهل املدينة ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)78 /4‬‬
‫(‪ )2‬الليث بن سعد أبو احلارث ‪ ،‬فقيه مصر تويف (‪ 175‬ه) أصله من خراسان ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)248 /5‬‬
‫الل بن وهب بن مسلم الفهري القرشي تويف (‪ 196‬ه) يف مصر انظر ‪ ،‬األعالم‬
‫(‪ )3‬عبد ّ‬
‫للزركلي (‪.)144 /4‬‬

‫ص ‪82 :‬‬
‫وقد علمت أن شرط التكليف ابلصوم البلوغ والعقل واإلسالم ‪ ،‬والصيب والكافر مل يكوان‬
‫مكلفني قبل البلوغ واإلسالم‪ .‬فال معىن إللزامهما به على أن الكافر إذا أسلم فهو معفى من‬
‫ين َك َف ُروا إِ ْن يَ ْن تَ ُهوا يُغْ َف ْر َهلُ ْم ما قَ ْد َسلَ َ‬ ‫ِِ‬
‫ف [األنفال ‪:‬‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬قُ ْل للهذ َ‬
‫التكاليف املاضية ‪ ،‬قال ّ‬
‫‪.]38‬‬
‫ولعلك تقول ‪ :‬كيف يكون شهود الشهر؟ فنقول ‪ :‬إن شهوده يكون برؤية هالله ‪ ،‬أو ابلعلم أنه‬
‫قد رئي ‪ ،‬وال عربة ابحلساب وعلم النجوم عند احلنفية‪.‬‬
‫واعتمد بعضهم احلساب ‪ ،‬وقد روي يف ذلك أحاديث كثرية ‪ ،‬بعضها يؤيد هذا ‪ ،‬وبعضها يؤيد‬
‫هذا ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬الشهر تسع وعشرون‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فقد روي عن ابن عمر أنه قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫غم عليكم فاقدروا له» «‪»1‬‬
‫‪ ،‬وال تصوموا حىت تروه ‪ ،‬وال تفطروا حىت تروه ‪ ،‬فإن ّ‬
‫وكان ابن عمر إذا كان تسعا وعشرين نظر إليه ‪ ،‬فإن رؤي فذاك ‪ ،‬وإن مل ير ‪ ،‬ومل حيل دون‬
‫منظره سحاب أصبح مفطرا ‪ ،‬وإن مل ير وحال دون رؤيته سحاب أو قرتة أصبح صائما ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وكان ابن عمر يفطر مع الناس ‪ ،‬وال أيخذ هبذا احلساب‪ .‬فأنت ترى أنه قد اعتمد الرؤية ‪ ،‬ومل‬
‫يت لِلن ِ‬
‫هاس‬ ‫ك َع ِن ْاأل َِهلهةِ قُ ْل ِه َي َمواقِ ُ‬
‫يعتمد تقديره‪ .‬وهذا هو املوافق لظاهر قوله تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫َوا ْحلَ ِّج [البقرة ‪.]189 :‬‬
‫وقد اختلفوا يف معىن‬
‫غم عليكم فاقدروا»‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬فإن ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫فقال بعضهم ‪ :‬اعتبار منازل القمر فإن كان يف موقع القمر ‪ -‬ولو مل حيل دونه سحاب وقرت لرئي‬
‫‪ -‬ومل ير ‪ ،‬حيكم له حبكم الرؤية‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬فاقدروا له «فعدوا شعبان ثالثني يوما» وقد جاءت أحاديث ابلصيغة األخرية‬
‫«‪ .» 2‬ولو أوردانها لطال بنا القول ‪ ،‬وموضعها علم الفقه ‪ ،‬وكما يرجع إليه يف هذا يرجع إليه يف‬
‫اعتبار اختالف املطالع وعدمه يف إلزام مجيع املسلمني الصوم‪.‬‬
‫َوَم ْن كا َن َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍّر فَعِ هدةٌ ِم ْن أَ هايٍّم أُ َخ َر‪.‬‬
‫قد تقدم شرح هذه اآلية ‪ ،‬غري أهنم قالوا ‪ :‬إن يف اآلية ما يدل على أ ّن قضاء رمضان ال جيب‬
‫مفرقا ‪ ،‬وأيضا فقد‬
‫معني ‪ ،‬وذلك يقتضي جوازه ّ‬ ‫فيه التتابع ‪ ،‬وذلك ألن (عدة) جاء من ّكرا غري ّ‬
‫اللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر والتيسري ال يكون إبلزامه أن يصوم كله‬
‫قال تعاىل ‪ :‬يُ ِري ُد ه‬
‫ْملُوا الْعِ هدةَ فدل‬ ‫دفعة‪ .‬أيضا قال تعاىل ‪ :‬ولِتُك ِ‬
‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )759 /2‬كتاب الصيام ‪ - 2 ،‬ابب وجوب صوم‬
‫رمضان حديث رقم (‪.)1080 /3‬‬
‫الل عليه وسلّم إذا‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 11 ، )280 /2‬ابب قول النيب صلّى ّ‬
‫رأيتم اهلالل حديث رقم (‪.)1907‬‬

‫ص ‪83 :‬‬
‫على أن املراد يف القضاء هو صوم العدة ‪ ،‬ولو غري متتابعة ‪ ،‬ولو كان التتابع مشروطا لبينه كما‬
‫بينه يف الكفارة‪.‬‬
‫ْملُوا الْعِ هدةَ َولِتُ َكِّربُوا ه‬
‫اللَ َعلى ما َهدا ُك ْم َول ََعله ُك ْم‬ ‫اللُ بِ ُكم الْيسر وال ي ِري ُد بِ ُكم الْعُسر ولِتُك ِ‬
‫ُ َْ َ‬ ‫يُ ِري ُد ه ُ ُ ْ َ َ ُ‬
‫تَ ْش ُك ُرو َن‪.‬‬
‫الل تعاىل فيما تقدم أ ّن شرع الصيام لنا هو شرعة يف األمم ‪ ،‬وأان مل نكن بدعا فيه ‪ ،‬وهو مع‬ ‫ّبني ّ‬
‫ودات هي شهر رمضان ‪ ،‬ومع ذلك فقد ر ّخص فيه ألويل األعذار‬ ‫ذلك يف زمن قليل أَ هايماً م ْع ُد ٍّ‬
‫َ‬
‫ومن ال يقدرون على صومه إىل عدة من أايم أخر ‪ ،‬وإىل الفدية‪.‬‬
‫الل تعاىل أنه فعل ذلك تيسريا وتسهيال علينا يف التكاليف ‪ ،‬فهو مل يكلفنا ما‬
‫يبني ّ‬
‫ويف هذه اآلية ّ‬
‫فيه إعنات لنا ومشقة علينا ‪ ،‬فهل جيب يف مقابلة ذلك إال الشكر؟‬
‫وأصل اليسر يف اللغة السهولة‪ .‬معناه السهولة ومنه يقال للغين والسعة اليسار ‪ ،‬ألنه يسهل به‬
‫صعب من األمور‪ .‬والعسر ما يقابله‪.‬‬
‫ْملُوا الْعِ هدةَ ‪ :‬علّة حملذوف ‪ ،‬وللعلماء يف هذا احملذوف وجهان ‪:‬‬ ‫ولِتُك ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الفراء «‪ »1‬من أن التقدير ‪َ :‬ولتُكْملُوا الْع هدةَ َولتُ َكِّربُوا ه‬
‫اللَ َعلى ما َهدا ُك ْم‬ ‫األول ‪ :‬ما ذهب إليه ّ‬
‫َول ََعله ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن فعل مجلة ما ذكر ‪ ،‬وهو األمر بصوم العدة ‪ ،‬وتعليم كيفية القضاء ‪ ،‬والرخصة‬
‫الل ملا ذكر هذه األمور الثالثة ذكر عقبها ثالثة ألفاظ ‪ ،‬فقوله ‪:‬‬ ‫إبابحة الفطر‪ .‬وذلك أن ّ‬
‫ْملُوا الْعِ هدةَ علّة لألمر مبراعاة العدة ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬ولِتُ َكِّربُوا علّة تعليم كيفية القضاء ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ولِتُك ِ‬
‫َ‬
‫ك نُ ِري‬ ‫ِ‬
‫ل ََعله ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن علة الرتخيص والتسهيل‪ .‬واحلذف يف هذا نظري احلذف يف قوله ‪َ :‬وَكذل َ‬
‫ِ‬ ‫ات و ْاألَر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪[ )75‬األنعام ‪ ]75 :‬أي أريناه‬ ‫ض َوليَ ُكو َن م َن ال ُْموقِنِ َ‬‫سماو َ ْ‬
‫وت ال ه ِ‬
‫يم َملَ ُك َ‬‫إِبْراه َ‬
‫الفراء على هذا يق ّدر احملذوف متأخرا ‪ ،‬وجيعل العلل مرتبة على سبيل‬ ‫ليكون‪ .‬وأنت ترى أن ّ‬
‫اللف‪.‬‬
‫والوجه الثاين ‪ :‬ما ذهب إليه الزجاج من أن التقدير ‪ :‬أن الذي تقدم ذكره من تكليف املقيم‬
‫الصحيح ‪ ،‬والرخصة للمريض ‪ ،‬واملسافر ‪ ،‬إمنا هو إلكمال العدة ‪ ،‬ألنه مع الطاقة يسهل عليه‬
‫إكمال العدة ‪ ،‬ومع الرخصة يف املرض والسفر يسهل إكمال العدة ابلقضاء ‪ ،‬فال يكون عسرا ‪،‬‬
‫الل تعاىل أنه كلّف الكل على وجه ال يكون إكمال العدة عسريا ‪ ،‬بل يكون سهال يسريا‪.‬‬ ‫فبني ّ‬ ‫ّ‬
‫َولِتُ َكِّربُوا ه‬
‫اللَ َعلى ما َهدا ُك ْم قيل ‪ :‬إن املراد منه التكبري ليلة الفطر‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬ح ّق على‬
‫املسلمني إذا رأوا هالل شوال أن يكربوا‪.‬‬
‫يكرب يوم الفطر إذا خرج إىل‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أنه كان ّ‬
‫وروي عن الزهري عن النيب صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬حيىي بن زايد ‪ ،‬عامل الكوفة ابلنحو واللغة واألدب تويف (‪ 207‬ه) ‪ ،‬انظر الوفيات (‪/6‬‬
‫‪.)176‬‬

‫ص ‪84 :‬‬
‫املصلّى ‪ ،‬وإذا قضى الصالة قطع التكبري» «‪»1‬‬
‫وقد روي ذلك عن كثري من الصحابة‪.‬‬
‫وقد اختلف فقهاء األمصار يف التكبري يوم الفطر يف الطريق إىل املصلّى ‪ ،‬فروى املعلى «‪ »2‬عن‬
‫يكرب الذي يذهب إىل العيد يوم األضحى‪.‬‬
‫أيب يوسف عن أيب حنيفة قال ‪ّ :‬‬
‫يكرب يومي عيد األضحى والفطر‪.‬‬ ‫يكرب يوم الفطر ‪ ،‬وقال أبو يوسف ّ‬ ‫وجيهر ابلتكبري‪ .‬وال ّ‬
‫وليس فيه شيء مؤقت لقوله تعاىل ‪َ :‬ولِتُ َكِّربُوا ه‬
‫اللَ َعلى ما َهدا ُك ْم‪.‬‬
‫وقال احلسن بن زايد «‪ »3‬عن أيب حنيفة ‪ :‬إن التكبري يف العيدين ليس بواجب يف الطريق ‪ ،‬وال‬
‫يف املصلّى ‪ ،‬وإمنا التكبري الواجب يف صالة العيد‪.‬‬
‫وذكر الطحاوي «‪ »4‬أن ابن أيب عمران «‪ »5‬كان حيكي عن أصحاب أيب حنيفة مجيعا أن السنة‬
‫يكربوا يف الطريق إىل املصلّى ‪ ،‬حىت أيتوه ‪ ،‬ومل نكن نعرف ما حكاه‬
‫عندهم يف يوم الفطر أن ّ‬
‫املعلى عنهم‪.‬‬
‫يكرب يف خروجه إىل املصلّى يف العيدين مجيعا‪.‬‬
‫وقال مالك واألوزاعي ‪ّ :‬‬
‫أحب إظهار التكبري ليلة الفطر وليلة النحر‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ّ :‬‬
‫الل هو تعظيمه‪ .‬والصيغة املأثورة فيه معروفة‪.‬‬ ‫وتكبري ّ‬
‫وسهلت لكم يف أدائها‪.‬‬ ‫َول ََعله ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن على ما شرعت من األحكام‪ّ .‬‬
‫عان فَلْيَ ْستَ ِجيبُوا ِيل‬ ‫َك ِع ِ‬
‫بادي َع ِّين فَِإِّين قَ ِريب أ ُِجيب َد ْعوةَ الدها ِع إِذا َد ِ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِذا َسأَل َ‬
‫قال ّ‬
‫ُ َ‬ ‫ٌ‬
‫َولْيُ ْؤِمنُوا ِيب ل ََعله ُه ْم يَ ْر ُش ُدو َن (‪ )186‬قد ذكروا يف سبب هذه اآلية وجوها ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم فقال ‪ :‬أقريب ربنا فنناجيه ‪ ،‬أو بعيد فنناديه؟‬ ‫منها أ ّن أعرابيا جاء إىل النيب صلّى ّ‬
‫الل تعاىل هذه اآلية‪.‬‬
‫فأنزل ّ‬
‫ومنها ما روي أنه عليه الصالة والسالم كان يف غزوة ‪ ،‬وقد رفع أصحابه أصواهتم ابلتكبري‬
‫أصم وال غائبا ‪ ،‬إمنا تدعون‬
‫والتهليل والدعاء ‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬إنكم ال تدعون ّ‬
‫مسيعا قريبا» «‪.»6‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬قال احلافظ ‪ :‬مرسل ‪ ،‬انظر تلخيص احلبري يف ختريج أحاديث الرافعي الكبري البن حجر‬
‫(‪.)190 /2‬‬
‫(‪ ) 2‬معلى بن منصور الرازي ‪ ،‬أيب منصب القضاء أايم املأمون ‪ ،‬تويف (‪ 211‬ه) انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪].....[ .)271 /7‬‬
‫(‪ )3‬اللؤلؤي قاض وفقيه ‪ ،‬من أصحاب أيب حنيفة تويف (‪ 204‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪/2‬‬
‫‪.)191‬‬
‫(‪ )4‬أمحد بن حممد بن سالم األزدي ‪ ،‬فقيه حنفي ‪ ،‬مصري تويف (‪ 321‬ه) تويف يف القاهرة ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)206 /1‬‬
‫الل ‪ ،‬أصله من الشام ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/1‬‬
‫(‪ )5‬أمحد بن أيب عمران بن سالمة أبو عبد ّ‬
‫‪.)189‬‬
‫(‪ )6‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 56 ، )19 /4‬كتاب اجلهاد ‪ - 31 ،‬ابب ما يكره رفع‬
‫الصوت حديث‬
‫ص ‪85 :‬‬
‫الل هذه اآلية‬
‫الل؟ فأنزل ّ‬
‫ومنها ما روي عن قتادة أن الصحابة قالوا ‪ :‬كيف ندعو ربنا اي نيب ّ‬
‫«‪.»1‬‬
‫يام فهموا منها حترمي األكل بعد النوم ‪ ،‬مث إهنم‬ ‫ب عَلَيْ ُك ُم ِّ‬
‫الص ُ‬
‫ِ‬
‫ومنها ما روي أنه ملا نزلت آية ُكت َ‬
‫الل تعاىل توبتنا؟ فنزلت‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ :‬هل يقبل ّ‬
‫أكلوا وندموا واتبوا وسألوا النيب صلّى ّ‬
‫وليس املراد ابلقريب هنا قرب املكان‪ .‬بل املراد القرب ابلعلم ‪ ،‬وما تقتضيه إجابة الدعاء‪.‬‬
‫هذا وقد قال بعضهم ‪ :‬إ ّن الدعاء ال فائدة فيه ‪ ،‬وذلك أن األمر الذي يصدر بشأنه الدعاء‪ّ .‬إما‬
‫الل واقعا أوال‪ .‬فإن كان األول فهو ال بد واقع ‪ ،‬وإن كان الثاين فهو غري واقع‬
‫أن يكون يف علم ّ‬
‫ال حمالة!! واجلمهور من العقالء على أن الدعاء أهم مقامات العبودية ‪ ،‬واألدلة النقلية على ذلك‬
‫كثرية‪.‬‬
‫ب لَ ُك ْم [غافر ‪ ]60 :‬ولوال أ ّن‬ ‫منها هذه اآلية اليت معنا‪ .‬ومنها قوله تعاىل ‪ :‬ا ْدعُ ِوين أ ْ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫الل تعاىل ّبني يف آية أخرى أنه إذا مل يسأل غضب ‪،‬‬ ‫الل منا ‪ ،‬بل إ ّن ّ‬ ‫الدعاء فضله عظيم ما طلبه ّ‬
‫ِ‬
‫ت قُلُو ُهبُ ْم َوَزيه َن َهلُ ُم ال ه‬
‫ش ْيطا ُن ما كانُوا يَ ْع َملُو َن‬ ‫س ْ‬‫ض هرعُوا َولك ْن قَ َ‬ ‫فقال ‪ :‬فَلَ ْو ال إِ ْذ جاءَ ُه ْم َأب ُ‬
‫ْسنا تَ َ‬
‫(‪[ )43‬األنعام ‪.]43 :‬‬
‫ومنها ما روي عن النيب عليه الصالة والسالم أنه قال ‪« :‬الدعاء م ّخ العبادة» «‪.»2‬‬
‫وعن النعمان بن بشري أنه عليه الصالة والسالم قال ‪« :‬الدعاء هو العبادة» «‪ »3‬وقرأ ا ْدعُ ِوين‬
‫ب لَ ُك ْم [غافر ‪.]60 :‬‬ ‫أْ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫وأما ما قالوا ‪ :‬من أنه إن كان األمر معلوم الوقوع فهو واقع إخل ‪ :‬فنقول ‪ ،‬إمنا يكون ذلك لو‬
‫علمت كيفية قضائه‪ .‬أما وَها مغيّبان عنا ‪ ،‬واحلكمة اإلهلية تقتضي أن يكون العبد بني الرجاء‬
‫صح‪.‬‬
‫واخلوف‪ .‬ولوال ذلك ملا كان له فائدة ‪ ،‬بل ملا ّ‬
‫__________‬
‫رقم (‪ ، )2992‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 48 ، )2076 /4‬كتاب الذكر ‪ - 13 ،‬ابب‬
‫استحباب خفض الصوت حديث رقم (‪.)2704 /44‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪، )93 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )425 /5‬كتاب الدعوات ‪ ،‬ابب ما جاء يف فضل‬
‫الدعاء حديث رقم (‪.)3371‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ )549 /1‬يف كتاب الصالة ‪ ،‬ابب الدعاء حديث رقم (‪)1479‬‬
‫‪ ،‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )426 /5‬كتاب الدعوات ابب ما جاء يف فضل الدعاء‬
‫حديث رقم (‪.)3372‬‬
‫ص ‪86 :‬‬
‫مث إ ّن الدعاء ي قتضي أن يكون الداعي عارفا بربه متام املعرفة ‪ ،‬وأنه القادر على كل شي ء ‪،‬‬
‫والقاهر فوق عباده‪ .‬وهل العبادة إال املعرفة؟‬
‫فَلْيَ ْستَ ِجيبُوا ِيل َولْيُ ْؤِمنُوا ِيب معناه فليطلبوا إجابيت هلم أبن جييبوا ما دعوهتم إليه من العبادة أجبهم‬
‫إىل ما يطلبون ‪ ،‬واالستجابة هنا ‪ :‬عبارة عن االستسالم واالنقياد‪.‬‬
‫وقوته إال بتقدمي الطاعة؟ ق ّدم‬
‫واإلميان ‪ :‬اإلذعان القليب ‪ ،‬وملا كان العبد ال يصل إىل نور اإلميان ّ‬
‫الل األمر ابالستجابة اهتماما بشأهنا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ل ََعله ُه ْم يَ ْر ُش ُدو َن يهتدون يف أمر دينهم ودنياهم‪ .‬ومعىن اآلية ‪ :‬أهنم إذا استجابوا يل وآمنوا فقد‬
‫اهتدوا ‪ ،‬ألن الرشيد من كان كذلك‪.‬‬
‫باس َهلُ هن َعلِ َم ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يام ال هرفَ ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اللُ‬ ‫ث إِىل نسائ ُك ْم ُه هن ل ٌ‬
‫باس لَ ُك ْم َوأَنْ تُ ْم ل ٌ‬ ‫الص ِ‬‫الل تعاىل ‪ :‬أُح هل لَ ُك ْم لَْي لَةَ ِّ‬ ‫قال ّ‬
‫ب ه‬
‫اللُ لَ ُك ْم‬ ‫تاب َعلَْي ُك ْم َو َعفا َع ْن ُك ْم فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن َوابْ تَ غُوا ما َكتَ َ‬ ‫س ُك ْم فَ َ‬ ‫أَنه ُك ْم ُكْن تُ ْم َختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫ِ‬ ‫اخلَي ِط ْاأل ِ ِ‬ ‫ط ْاألَب ي ِ‬
‫يام إِ َىل‬
‫الص َ‬‫َس َود م َن الْ َف ْج ِر مثُه أَمتوا ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ض م َن ْ ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬‫َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح هىت يَتَ بَ ه َ‬
‫ني ه‬
‫اللُ‬ ‫اللِ فَال تَ ْق َربُوها َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬ ‫ود ه‬ ‫ْك ُح ُد ُ‬ ‫ساج ِد تِل َ‬
‫وه هن وأَنْ تُم عاكِ ُفو َن ِيف الْم ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اللهْي ِل َوال تُبَاش ُر ُ َ ْ‬
‫ث أصله قول الفحش ‪ :‬أنشد الزجاج ‪:‬‬ ‫هاس ل ََعله ُه ْم يَته ُقو َن (‪ )187‬ال هرفَ ُ‬ ‫آايتِهِ لِلن ِ‬
‫ورب أسراب حجيج كظّم عن اللّغا ورفث التّكلّم‬ ‫ّ‬
‫سو َق َوال‬ ‫ث َوال فُ ُ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَال َرفَ َ‬ ‫ويقال ‪ :‬رفث يف كالمه ‪ ،‬وأرفث ‪ :‬إذا تكلم ابلقبيح‪ .‬قال ّ‬
‫دال ِيف ا ْحلَ ِّج [البقرة ‪ .]197 :‬مث نقل منه إىل ما كان منه حبضرة النساء مما ينم عن معىن‬ ‫ِج َ‬
‫اإلفضاء ‪ ،‬مث جعل كناية عن معىن اجلماع ‪ ،‬وما يتعلق به‪.‬‬
‫كال من الزوجني ابللباس‪ .‬أل ّن كال منهما يسرت اآلخر ‪،‬‬
‫باس َهلُ هن ‪ :‬شبه ّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باس لَ ُك ْم َوأَنْ تُ ْم ل ٌ‬
‫ُه هن ل ٌ‬
‫فكان منه مبثابة اللباس‪.‬‬
‫س ُك ْم يقال خانه َيونه خوان وخيانة إذا مل يف له ‪ ،‬والسيف إذا نبا عن الضربة فقد‬
‫َختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫شر‪ .‬وخان الرجل الرجل إذا غدر به ‪ ،‬أو مل يؤد إليه أمانته‬ ‫خان ‪ ،‬وخانه الدهر إذا تغري حاله إىل ّ‬
‫‪ ،‬وخائن العهد انقضه ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ هما َختافَ هن ِم ْن قَ ْوٍّم ِخيانَةً ‪[ ..‬األنفال ‪ ]58 :‬قال‬
‫صاحب «الكشاف» ‪ :‬واالختيان اسم من اخليانة ‪ ،‬كاالكتساب اسم مبعىن الكسب ‪ ،‬وفيه زايدة‬
‫وشدة‪.‬‬
‫ذهب مجهور املفسرين إىل أنه يف أول شريعة حممد صلّى ا ّلل عليه وسلّم كان الصوم عبارة عن‬
‫اإلمساك عن املفطرات هنارا ‪ ،‬ال يقرب شيئا منها بعد النوم وال بعد صالة العشاء‬

‫ص ‪87 :‬‬
‫الل هذا‬
‫حمرما‪ .‬ونسخ ّ‬
‫اآلخرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صالة العشاء فقد ارتكب ّ‬
‫احلكم هبذه اآلية‪.‬‬
‫والل‬
‫وقال أبو مسلم األصفهاين ‪ :‬ما كانت هذه احلرمة يف شرعنا ‪ ،‬بل كانت يف شرع النصارى ‪ّ ،‬‬
‫تعاىل نسخ هبذه اآلية ما كان يف شرع النصارى‪.‬‬
‫وقد استدل اجلمهور ملذهبهم بوجوه ‪:‬‬
‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَى الهذ َ‬
‫ِ‬
‫منها ‪ :‬التمسك ابلتشبيه يف قوله تعاىل ‪َ :‬كما ُكت َ‬
‫ِ‬
‫ث فإنه يقتضي سابق احلرمة‪.‬‬ ‫لص ِ‬
‫يام ال هرفَ ُ‬ ‫ومنها قوله ‪ :‬أُح هل لَ ُك ْم ل َْي لَةَ ا ِّ‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم َو َعفا َع ْن ُك ْم وقوله تعاىل ‪ :‬فَ ْاآل َن‬
‫س ُك ْم فَ َ‬ ‫ومنها قوله ‪َ :‬علِ َم ه‬
‫اللُ أَنه ُك ْم ُك ْن تُ ْم َختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫حمرما ما كان هناك معىن لتخوينهم‬ ‫وه هن فإ ّن األكل بعد النوم ‪ ،‬وكذا الوقاع ‪ ،‬لو مل يكن ّ‬ ‫َاب ِش ُر ُ‬
‫الل عليهم ‪ ،‬وال لعفوه ‪ ،‬مث إن قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن يقتضي أ ّن‬ ‫أنفسهم ‪ ،‬وال لتوبة ّ‬
‫املباشرة كانت حمظورة ‪ ،‬وأبيحت بقوله ‪ :‬فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن‪.‬‬
‫وقد ر ّد أبو مسلم هذه احلجج مبا جنمله فيما أييت ‪:‬‬
‫سبق أنه قال ‪ :‬إن هذه احلرمة كانت يف شرع النصارى ‪ ،‬وقد فهم الصحابة بقاء احلكم ‪ ،‬فكانوا‬
‫الل هبذه اآلية أنه قد خفف عن‬
‫فبني ّ‬
‫ميتنعون من األكل والوقاع بعد النوم وبعد الصالة األخرية ‪ّ ،‬‬
‫هذه األمة وعفا عنها ‪ ،‬فلم يوجب عليها ما أوجبه على األمم السابقة ‪ ،‬وأذن هلا يف تناول ما‬
‫كان حمظورا يف األمم السابقة‪.‬‬
‫وأنت تعلم أن ذلك يتوقف إىل حد كبري على ثبوت أن يكون ذلك كان شريعة للنصارى ‪ ،‬وهو‬
‫يتأوهلا‬
‫س ُك ْم وإن كان هو ّ‬
‫ما مل يثبت بعد ‪ ،‬مث هو مع ذلك خمالف لظاهر قوله ‪َ :‬ختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫حمرما لكان خيانة‬
‫بتنقيص شهواهتا ‪ ،‬بدليل إضافتها إىل النفس ‪ ،‬وهو يقول ‪ :‬لو كان ذلك ّ‬
‫للشرع ال للنفس ‪ ،‬ولكن ‪ ،‬أليست خمالفة أحكام الشرع خيانة للنفس ‪ ،‬ألهنّا تستوجب هبا‬
‫العذاب يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم َو َعفا َع ْن ُك ْم مهما أتوله ابلتخفيف ‪ ،‬فإنه ظاهر يف أنه ال يقال ‪:‬‬
‫مث إ ّن ظاهر قوله ‪ :‬فَ َ‬
‫خففت عن فالن إال ما كان ثقيال عليه‪.‬‬
‫نعم إ ّن له أن يقول ‪ :‬إ ّن من شأن هذا التكليف أن يكون ثقيال علينا لو شرع ‪ ،‬فإسقاطه عنا‬
‫ختفيف‪.‬‬
‫ولكن نقول ‪ :‬هو احتمال ‪ ،‬ولكن املتبادر خالفه ‪ ،‬وحنن نقول بظاهر اآلية ال بنصها‪.‬‬
‫مث إ ّن األسباب اليت ذكرت يف نزول اآلية تعاضد الذي ذهب إليه اجلمهور ‪:‬‬
‫منها ما‬
‫الل عليه وسلّم عشية ‪ ،‬وقد‬
‫روي أ ّن رجال ‪ -‬ويف امسه خالف ‪ -‬من األنصار جاء إىل النيب صلّى ّ‬
‫الل ‪-‬‬
‫أجهده الصوم ‪ ،‬فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫ص ‪88 :‬‬
‫عملت يف النخل هناري أمجع ‪ ،‬حىت أمسيت ‪ ،‬فأتيت أهلي لتطعمين شيئا فأبطأت ‪ ،‬فنمت ‪،‬‬
‫الل أعتذر إليك من مثله ‪ ،‬رجعت إىل‬
‫حرم األكل ‪ ،‬فقام عمر فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫فأيقظوين وقد ّ‬
‫أهلي بعد ما صليت العشاء اآلخرة فأتيت امرأيت ‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬مل تكن جديرا‬
‫ِ‬
‫ث إِىل‬ ‫اي عمر» وقام رجال فاعرتفوا ابلذي صنعوا‪ .‬فنزل قوله تعاىل ‪ :‬أُح هل لَ ُك ْم ل َْي لَةَ ِّ‬
‫الص ِ‬
‫يام ال هرفَ ُ‬
‫نِسائِ ُك ْم «‪»1‬‬
‫أي اإلفضاء إليهن‪.‬‬
‫ول َْي لَةَ نصب على الظرفية‪.‬‬
‫تسرون ابملعصية يف اجلماع بعد‬
‫الل أنكم كنتم ّ‬
‫س ُك ْم أي علم ّ‬ ‫َعلِ َم ه‬
‫اللُ أَنه ُك ْم ُك ْن تُ ْم َختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫العتمة ‪ ،‬واألكل بعد النوم ‪ ،‬وترتكبون احملرم من ذلك ‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد خان نفسه ‪ ،‬وخان‬
‫الل ورسوله‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأنت ترى أن فهم اآلية على هذا الوجه يفيد أ ّن اجلماع واألكل قد وقعا ولو من بعضهم ‪،‬‬
‫ويؤيده ما رويناه يف سبب النزول‪.‬‬
‫وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب ‪،‬‬
‫واجلماع ‪ ،‬وروى مثله الضحاك وابن أيب ليلى «‪.»2‬‬
‫ض ِم َن ْ‬
‫اخلَيْ ِط‬ ‫ط ْاألَبْ يَ ُ‬
‫اخلَيْ ُ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬ ‫ب ه‬
‫اللُ لَ ُك ْم َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح هىت يَتَ بَ ه َ‬ ‫فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن َوابْ تَ غُوا ما َكتَ َ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر أمر بفعل ما كان حمظورا وقد قالوا ‪ :‬إ ّن األمر الوارد بعد احلظر لإلابحة ‪،‬‬ ‫ْاأل ْ‬
‫واإلابحة ظاهرة هنا ‪ ،‬ألنه ال معىن إلجياب املباشرة ‪ ،‬املباشرة هنا املراد منها اجلماع ‪ ،‬وهي‬
‫مشتقة من مالصقة البشرة البشرة ‪ ،‬ومنه ما‬
‫الل عليه وسلّم عن أن «يباشر الرجل الرجل ‪ ،‬واملرأة املرأة» «‪»3‬‬
‫ورد من هني النيب صلّى ّ‬
‫وهو من أجل ذلك ح ّقه أن يتناول املباشرة غري الفاحشة ‪ ،‬لكن سياق اآلية وما أييت بعد هذا‬
‫ث إِىل نِسائِ ُك ْم واملراد منه اجلماع ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫قرينة على أ ّن املراد هنا اجلماع أُح هل لَ ُك ْم لَْي لَةَ ِّ‬
‫الص ِ‬
‫يام ال هرفَ ُ‬
‫ساج ِد‪.‬‬
‫وه هن وأَنْ تُم عاكِ ُفو َن ِيف الْم ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فكان الكالم فيه ‪ ،‬وسنتكلم عليه عند قوله ‪َ :‬وال تُبَاش ُر ُ َ ْ‬
‫ب ا هللُ لَ ُك ْم ‪ ،‬قيل ‪ :‬هو الولد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ليلة القدر ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬ ‫َوابْ تَ غُوا ما َكتَ َ‬
‫الكل ‪،‬‬
‫الكل حمتمال فاألوىل أن ينتظم اللفظ ّ‬
‫الرخصة‪ .‬قال أبو بكر الرازي «‪ : »4‬فلما كان ّ‬
‫ويكون الكل مرادا حيث ال مانع ‪ ،‬ويكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر يف رمضان ‪ ،‬ولفعل‬
‫الرخصة ‪ ،‬وللولد ‪ ،‬فإذا فعل العبد واحدا منها أو الكل قاصدا الثواب كان مأجورا على ما‬
‫يقصده من ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)91 /2‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفسري الطربي املسمى جامع البيان (‪.)98 - 95 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪.)304 /1‬‬
‫(‪ )4‬انظر أحكام القرآن أليب بكر الرازي (‪.)228 /1‬‬

‫ص ‪89 :‬‬
‫صالةُ فَانْ تَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫ضي ِ‬
‫ت ال ه‬ ‫ِ‬
‫َوُكلُوا َوا ْش َربُوا ‪ :‬إطالق من حظر ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪ :‬فَِإذا قُ َ‬
‫ني لَ ُك ُم‬ ‫الل [اجلمعة ‪َ ]10 :‬وإِذا َحلَلْتُ ْم فَ ْ‬
‫اصطادُوا [املائدة ‪َ ]2 :‬ح هىت يَتَ بَ ه َ‬ ‫َوابْ تَ غُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل هِ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر املراد منه ‪ :‬حىت يستبني النهار من الليل ‪ ،‬وذلك‬ ‫ط ْاألَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫يكون بظهور الفجر الصادق ‪ ،‬وقد روي أ ّن رجاال منهم أخذوا اللفظ على ظاهره ‪ ،‬ومحلوه على‬
‫وتبني أحدَها من اآلخر‪ .‬قال ‪ :‬كما‬ ‫حقيقة اخليط األبيض واخليط األسود ‪ّ ،‬‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر‬ ‫ط ْاألَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَيْط ْاأل ْ‬ ‫اخلَيْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫روي عن عدي بن حامت ‪ ،‬ملا نزلت ‪َ :‬ح هىت يَتَ بَ ه َ‬
‫أخذت عقاال أبيض وعقاال أسود فوضعتهما حتت وساديت ‪ ،‬فنظرته فلما أتبني ‪ ،‬فذكرت ذلك‬
‫الل عليه وسلّم فضحك ‪ ،‬وقال ‪« :‬إ ّن وسادك لعريض ‪ ،‬إمنا هو اللّيل والنّهار»‬
‫الل صلّى ّ‬
‫لرسول ّ‬
‫«‪.»1‬‬
‫وقال عثمان ‪ :‬إمنا هو الليل وبياض النهار‪.‬‬
‫وقد استبعد الفخر الرازي هذه الرواية على رجل مثل عدي بن حامت ‪ ،‬فإنه يبعد على أي رجل‬
‫أن يفهم من هذا اللفظ أ ّن املراد اخليط األسود حقيقة مع قوله ‪ِ :‬م َن الْ َف ْج ِر خصوصا ‪ ،‬وقد كان‬
‫هذا التعبري مألوفا عند العرب ‪ ،‬وكان ذلك عندهم امسا لسواد الليل وبياض النهار يف اجلاهلية‬
‫قبل اإلسالم‪ .‬قال أبو دؤاد اإلايدي ‪:‬‬
‫الصبح خيط أانرا‬
‫وملّا أضاءت لنا ظلمة والح من ّ‬
‫ووجه تشبيه الليل والنهار ابخليطني أن الصبح أول ما يستبني ‪ ،‬وتنجاب ظلمة الليل ‪ ،‬يبدو‬
‫الصبح رفيعا كاخليط‪ .‬ومبقدار ما يظهر من خيط الصبح ينجاب خيط من الليل األسود‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ما يفيد حتديد مدة الصيام ‪ :‬من الفجر إىل غروب‬
‫وقد روي عن النيب صلّى ّ‬
‫الشمس ‪ ،‬كالذي‬
‫الل بن سوادة القشريي عن أبيه قال ‪ :‬مسعت مسرة بن جندب َيطب وهو يقول ‪:‬‬
‫روي عن عبد ّ‬
‫الل ‪« :‬ال مينعكم من سحوركم أذان بالل ‪ ،‬وال بياض األفق الذي هكذا ‪ ،‬حىت‬
‫قال رسول ّ‬
‫يستطري» «‪.»2‬‬
‫وهبذا يتبني بطالن ما زعمه األعمش من أن للصائم أن أيكل وجيامع بعد الفجر ‪ ،‬وقبل طلوع‬
‫الشمس ‪ ،‬وهو غريب جدا‪ .‬يزعم يف توجيهه أنه ملا كان الليل بغروب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )183 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 28 ،‬ابب قوله‬
‫تعاىل ‪َ :‬وُكلُوا َوا ْش َربُوا حديث رقم (‪ )4509‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )766 /2‬كتاب‬
‫الصيام ‪ - 8‬ابب بيان أن الدخول يف الصوم حديث رقم (‪.)1090 /33‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 13 ، )769 /2‬كتاب الصيام ‪ - 8 ،‬ابب بيان أن الدخول‬
‫يف الصوم حديث رقم (‪ )1094 /41‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )290 /2‬كتاب الصوم ابب‬
‫وقت السحور حديث رقم (‪].....[ .)2346‬‬

‫ص ‪90 :‬‬
‫القرص يكون النهار بطلوع القرص ‪ ،‬ويزعم أن املراد من اخليط األبيض النهار ‪ ،‬ومن اخليط‬
‫األسود الليل‪ .‬وال ندري ما احلكمة إذا من اختيار لفظ اخليط ‪ ،‬وهل النهار عند طلوع الشمس‬
‫يقال ‪ :‬إن بياضه كاخليط األبيض! إن هذا لعجيب حقا؟‬
‫وأعجب منه زعم من زعم أ ّن املراد من اخليط األبيض طلوع الفجر حقيقة ‪ ،‬ولكنه يرى أنه ال‬
‫ِ‬
‫يام‬ ‫حيل الفطر إال بعد وجود عتمة الليل وظلمته وظهور النجوم ‪ ،‬ألنه فهم من قوله ‪ :‬أَمتوا ِّ‬
‫الص َ‬
‫إِ َىل اللهْي ِل أن املراد الظلمة ‪ ،‬وكأنّه ال يرى أن ما بني غروب الشمس وجميء الظلمة من الليل‪.‬‬
‫واحلمد ّلل ‪ ،‬انقرضت هذه املذاهب ‪ ،‬وانعقد اإلمجاع على عدم العمل هبا ‪ ،‬فإنّه على فرض أن‬
‫الل عليه وسلّم وعمله وعمل أصحابه ما‬
‫اآلية حتتمل ما زعموا ‪ ،‬فقد جاء يف بيان الرسول صلّى ّ‬
‫فصل به الليل عن النهار ‪ ،‬واستبان به وضح الصبح من ظلمة الليل‪.‬‬
‫الشاك يف الفجر ‪ ،‬فذكر أبو يوسف يف «اإلمالء» أن أاب‬
‫ّ‬ ‫هذا وقد اختلف أهل العلم يف حكم‬
‫إيل ‪ ،‬فإن تسحر فصومه اتم وهو‬
‫حنيفة قال ‪ :‬إن يدع الرجل السحور إذا شك يف الفجر أحب ّ‬
‫قوهلم مجيعا يف «األصل» وقال ‪ :‬إذا أكل فال قضاء عليه‪.‬‬
‫وحكى حممد بن مساعة «‪ »1‬عن أيب يوسف عن أيب حنيفة ‪ :‬إن أكل وهو شاك قضى يوما مكانه‬
‫الشك قضاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬وقال أبو يوسف ‪ :‬ليس عليه يف‬
‫وقال احلسن بن زايد عن أيب حنيفة ‪ :‬إنّه إن كان يف موضع يستبني به الفجر ‪ ،‬ويرى مطلعه من‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وُكلُوا‬
‫حيث يطلع ‪ ،‬وليس هناك علّة ‪ ،‬فليأكل ما مل يستنب له الفجر ‪ ،‬وهو قول ّ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر ‪ ،‬وإن كان يف موضع ال يرى‬ ‫ط ْاألَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ َ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫َوا ْش َربُوا َح هىت يَتَ بَ ه َ‬
‫فيه الفجر ‪ ،‬أو كانت ليلة مقمرة ‪ ،‬وهو شاك ‪ ،‬فال أيكل ‪ ،‬وإن أكل فقد أساء ‪ ،‬وإن كان أكرب‬
‫وإال مل يقض ‪ :‬وهذا قول زفر وأيب يوسف‪ .‬قال أبو بكر‬
‫رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى ‪ّ ،‬‬
‫الرازي «‪ : »2‬وبه أنخذ ‪ ،‬وقال ‪ :‬ينبغي أن تكون رواية «األصل» ورواية «اإلمالء» يف كراهيتهم‬
‫فسر ما أمجلوه ‪ ،‬وألهنا موافقة‬
‫األكل مع الشك حممولتني على ما رواه احلسن بن زايد ‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫لظاهر الكتاب‪.‬‬
‫وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلني لينظرا له طلوع الفجر ‪ ،‬فقال أحدَها ‪:‬‬
‫طلع ‪ ،‬وقال اآلخر ‪ :‬مل يطلع ‪ ،‬فقال ‪ :‬اختلفتما وأكل ‪ ،‬وكذلك روي عن ابن عمر‪.‬‬
‫ابلتبني ‪ ،‬وهو حصول العلم احلقيقي ‪ ،‬ومعلوم‬
‫حل األكل ملغيّا ّ‬
‫واألصل يف ذلك أ ّن اآلية جعلت ّ‬
‫أ ّن ذلك إمنا يكون عند عدم وجود املانع من حصوله ‪ ،‬وذلك إذا كان يف مكان يستطيع معه‬
‫التبني ‪ ،‬أما إذا كان يف ليلة مقمرة ‪ ،‬أو غيم أو يف موضع‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحد تالميذ أيب يوسف وحممد ‪ ،‬كتب النوادر عن حممد تويف (‪ 233‬ه) انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)153 /6‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن أليب بكر الرازي (‪.)230 /1‬‬

‫ص ‪91 :‬‬
‫ال يستطيع معه حتصيل العلم احلقيقي فهو مأمور ابالحتياط للصوم ‪ ،‬فالواجب عليه اإلمساك‬
‫استرباء لدينه‪.‬‬
‫روى الشعيب قال ‪ :‬مسعت النعمان بن بشري ‪ -‬وال أمسع أحدا بعده ‪ -‬يقول ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم يقول ‪« :‬إ ّن احلالل ّبني ‪ ،‬واحلرام ّبني ‪ ،‬وبينهما أمور‬
‫الل صلّى ّ‬
‫مسعت رسول ّ‬
‫مشتبهات ‪ ،‬ال يعلمها كثري من النّاس ‪ ،‬فمن اتقى الشبهات فقد استربأ لعرضه ودينه ‪ ،‬ومن وقع‬
‫يف الشبهات وقع يف احلرام» «‪.»1‬‬
‫اك ‪ ،‬وإن أكل فعليه القضاء ‪ ،‬وقال الشافعي ‪ :‬إن أكل شا ّكا يف‬
‫وقال ‪ :‬أكره أن أيكل وهو ش ّ‬
‫الفجر فال شيء عليه‪.‬‬
‫حل‬
‫تدل على جواز اإلصباح جنبا يف الصوم ‪ ،‬وأن اجلنابة ال تنايف الصوم ‪ ،‬ألهنّا تفيد ّ‬
‫هذا واآلية ّ‬
‫األكل والشرب حىت الفجر ‪ ،‬واجلماع كذلك ‪ ،‬فلو لزمه غسل من اجلنابة قبل الفجر ملا كان‬
‫الل إبمتامه صومه إىل الليل ‪ ،‬فلو مل يكن الصوم صحيحا‬ ‫هناك حل إىل طلوع الفجر ‪ ،‬وقد أمره ّ‬
‫ملا أمره إبمتامه ‪ ،‬وقد أمجعوا على أن الغاية هنا إلسقاط ما بعدها ‪ ،‬وهي كذلك يف قوله ‪ :‬مثُه أَِمتوا‬
‫يام إِ َىل اللهْي ِل وقد دخلت الغاية يف حكم ما قبلها يف بعض النصوص ‪ ،‬كقوله ‪ :‬إِهال عابِ ِري‬ ‫ِّ‬
‫الص َ‬
‫يل َح هىت تَغْتَ ِسلُوا [النساء ‪ ]43 :‬ويف قوله ‪ :‬إِ َىل ال َْمرافِ ِق وقوله ‪َ :‬وأ َْر ُجلَ ُك ْم إِ َىل الْ َك ْعبَ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫َسبِ ٍّ‬
‫واملعول عليه يف إثبات دخوهلا أو خروجها الدليل والقرينة‪.‬‬ ‫[املائدة ‪ّ ]6 :‬‬
‫ِ‬
‫ب ه‬
‫اللُ لَ ُك ْم‬ ‫يام إِ َىل اللهيْ ِل مرتبط مبا قبله يف قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن َوابْ تَ غُوا ما َكتَ َ‬ ‫مثُه أَمتوا ِّ‬
‫الص َ‬
‫والل أعلم ‪:‬‬‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر واملعىن ّ‬ ‫ط ْاألَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ َ‬‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح هىت يَتَ بَ ه َ‬
‫افعلوا كل هذه األشياء من املباشرة واألكل والشرب إىل الفجر ‪ ،‬فإذا جاء الفجر فأمسكوا ‪،‬‬
‫وأمتوا هذا اإلمساك إىل الليل‪.‬‬
‫وقد أخذ احلنفية من هذه اآلية لزوم ما شرع فيه من صوم التطوع ‪ ،‬ووجه داللتها عليه عندهم ‪:‬‬
‫الل سبحانه أمر‬
‫كل صوم ‪ ،‬فكل صوم شرع فيه لزمه إمتامه ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫عام يتناول ّ‬
‫أن لفظ الصيام ّ‬
‫إبمتام الصوم إىل الليل ‪ ،‬واألمر للوجوب ‪ ،‬فإن مل يتمه لزمه قضاؤه‪.‬‬
‫شروع فيه ‪ ،‬وعليه إعادته‬
‫الصيام جيب ابل ّ‬
‫احلج و ّ‬
‫الصالة و ّ‬
‫وهكذا سبيل مجيع النفل عندهم من ّ‬
‫وفصل املالكية فقالوا ‪ :‬إن أبطله فعليه القضاء ‪ ،‬وإن‬
‫مطلقا ‪ ،‬سواء كان معذورا أو غري معذور ‪ّ ،‬‬
‫كان طرأ عليه ما يفسده فال قضاء عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 2 ، )22 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 40 ،‬ابب فضل من استربأ‬
‫لدينه حديث رقم (‪ )52‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1219 /3‬كتاب املساقاة ‪- 20 ،‬‬
‫ابب أخذ احلالل حديث رقم (‪.)1599 /107‬‬

‫ص ‪92 :‬‬
‫حج النفل عند‬
‫تطوع فال قضاء عليه إال يف ّ‬
‫وقال الشافعية واحلنابلة ‪ :‬إن أفسد ما دخل فيه من ّ‬
‫احلنابلة ‪ ،‬فيجب إمتامه‪.‬‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وال تُبْ ِطلُوا أَ ْعمالَ ُك ْم [حممد ‪]33 :‬‬
‫وقد استدل احلنفية بغري هذه اآلية ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قال ّ‬
‫والنفل الذي شرع فيه عمل من األعمال ‪ ،‬فوجب عليه عدم إبطاله ‪ ،‬فإذا بطل أو أبطله فقد‬
‫ذمته إال إبعادته ‪ ،‬وورد يف السنة ما يؤيده ‪ ،‬وهو ما‬
‫ترك واجبا ‪ ،‬وال تربأ ّ‬
‫الل بن عمر ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة أهنا قالت ‪ :‬أصبحت أان‬
‫روى عبيد ّ‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وحفصة صائمتني متطوعتني ‪ ،‬فأهدي إلينا طعام ‪ ،‬فأفطران ‪ ،‬فسألت حفصة رسول ّ‬
‫عليه وسلّم فقال ‪« :‬اقضيا يوما مكانه» «‪.»1‬‬
‫ني ِم ْن َسبِ ٍّ‬
‫يل [التوبة ‪ ]91 :‬وبقوله‬ ‫واستدل الشافعية ومن معهم بقوله تعاىل ‪ :‬ما َعلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ّ‬
‫املتطوع أمري نفسه» «‪»2‬‬
‫«الصائم ّ‬
‫عليه الصالة السالم ‪ّ :‬‬
‫يهمنا هو ‪ :‬هل يف هذه اآلية داللة ألحد من املختلفني أو‬
‫‪ ،‬واملسألة خالفية كما ترى ‪ ،‬والذي ّ‬
‫كل صوم شرع فيه ‪ ،‬وقد أمر إبمتامه ‪ ،‬وإببطاله فات‬
‫ال؟ يرى احلنفية أ ّن لفظ الصيام يتناول ّ‬
‫يغري من عموم اللفظ‬
‫الواجب ‪ ،‬وال جيرب إال ابإلعادة ‪ ،‬وكون اآلية وردت يف صوم الفرض ال ّ‬
‫شيئا‪.‬‬
‫والذي يظهر أن اآلية ليست بصدد بيان وجوب إمتام ما شرع فيه فرضا أو نفال ‪ ،‬بل بصدد‬
‫حيل ‪ ،‬فقالت يف األول ‪ :‬أ ُِح هل لَ ُك ْم ل َْي لَةَ‬ ‫حيل فيه تناول املفطرات ‪ ،‬والذي ال ّ‬ ‫حتديد الزمن الذي ّ‬
‫اخلَْي ِط‬‫ض ِم َن ْ‬ ‫ط ْاألَبْ يَ ُ‬
‫اخلَْي ُ‬ ‫ث إِىل نِسائِ ُك ْم إىل قوله ‪َ :‬وُكلُوا َوا ْش َربُوا َح هىت يَتَ بَ ه َ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬ ‫ِّ‬
‫الص ِ‬
‫يام ال هرفَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ْاأل ِ ِ‬
‫حيل لكم أن‬ ‫يام إ َىل الل ْي ِل أي أنه بعد الفجر ال ّ‬
‫الص َ ِ ه‬ ‫َس َود م َن الْ َف ْج ِر وقالت يف الثاين ‪ :‬مثُه أَمتوا ِّ‬ ‫ْ‬
‫تعرض فيها لنفل شرع فيه مث فسد ‪ ،‬وال لفرض شرع‬
‫أحل لكم تناوله ليال‪ .‬وال ّ‬
‫تتناولوا شيئا مما ّ‬
‫فيه مث فسد ‪ ،‬بل لذلك حكم آخر يستفاد من دليل مستقل‪.‬‬
‫وقد فهم احلنفية من هذه اآلية أيضا أن تبييت النية غري الزم ‪ ،‬ووجهه عندهم أن لفظ (مث) يفيد‬
‫الرتاخي ‪ ،‬واإلمجاع قائم على وجوب اإلمساك من الفجر ‪ ،‬ووجوب اإلمساك من الفجر مدلول‬
‫عليه بذكر الغاية إىل الْ َف ْج ِر ‪ ،‬فإ ّن معناه أن ما كان حالال قبله حيرم مبجيئه ‪ ،‬وذلك ابإلمساك من‬
‫الفجر ‪ ،‬فإذا أمسكنا فعلينا اإلمتام ‪ ،‬واإلمتام إمنا يكون بقصد ‪ ،‬فكأ ّن النية اليت هي القصد مل‬
‫تطلب إال بعد حت ّقق الصيام ‪ ،‬فكان ذلك دليال على أ ّن النية تكون بعد الصيام ‪ ،‬فال يلزم تبييتها‬
‫‪ ،‬وهو املطلوب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ )328 /2‬يف كتاب الصوم ابب من رأى عليه القضاء حديث رقم‬
‫(‪.)2457‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )109 /3‬يف الصوم ‪ ،‬ابب ما جاء يف إفطار الصائم‬
‫حديث رقم (‪.)732‬‬

‫ص ‪93 :‬‬
‫ِ‬
‫صريوه‬
‫ام ّ‬ ‫تدل على التبييت ‪ ،‬وذلك أن معىن أَمتوا ِّ‬
‫الصي َ‬ ‫وذهب الشافعية واحلنابلة إىل أ ّن اآلية ّ‬
‫اتما من الفجر ‪ ،‬وهو ال يكون اتما من الفجر إال ابلنية ‪ ،‬وهذا هو الظاهر ‪ ،‬أل ّن إمتام الشيء ال‬
‫يكون إال لشيء قد شرع فيه ‪ ،‬وهو هنا الصوم ‪ ،‬وقد علمت أن الصوم ال يكون صوما إال ابلنية‬
‫‪ ،‬متييزا للعادة من العبادة ‪ ،‬إذ قد ميسك اإلنسان عن األكل محية ‪ ،‬مث ال يكون صوما ‪ ،‬ألنه مل‬
‫ينو ‪ ،‬فإن كان هناك دليل غري اآلية فهو الذي يدل على عدم تبييت النية‪.‬‬
‫وقد عرض املفسرون هنا ألحكام الصائم إذا نسي وأكل ماذا يكون؟ أيلزمه اإلمتام ‪ ،‬أم له‬
‫اإلفطار إخل ‪ ،‬أو يلزمه القضاء ‪ ،‬أم ال؟ وترى أن كل ذلك جيب أن يبحث عنه يف غري هذه اآلية‪.‬‬
‫الل آايتِهِ‬ ‫اللِ فَال تَ ْق َربُوها َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬
‫ني هُ‬ ‫ساج ِد تِل َ‬
‫ْك ُح ُدودُ ه‬ ‫وه هن وأَنْ تُم عاكِ ُفو َن ِيف الْم ِ‬
‫َ‬ ‫َوال تُبَاش ُر ُ َ ْ‬
‫ِ‬
‫لِلن ِ‬
‫هاس ل ََعله ُه ْم يَته ُقو َن‪.‬‬
‫يل الهِيت أَنْ تُ ْم هلَا عاكِ ُفو َن [األنبياء ‪]52 :‬‬ ‫ِِ ِ‬
‫االعتكاف يف اللغة ‪ :‬اللبث‪ .‬قال تعاىل ‪ :‬ما هذه التهماث ُ‬
‫وقال الشاعر ‪:‬‬
‫بينهن صريع‬
‫فباتت بنات الليل حويل ع ّكفا عكوف البواكي ّ‬
‫مث زيد عليه يف الشرع قيود ‪ :‬منها ‪ :‬العكوف يف املسجد ‪ ،‬ومنها ‪ :‬ترك اجلماع ‪ ،‬ومنها ‪ :‬نية‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬فأما العكوف يف املسجد فهو يف حق الرجال فقط ‪ ،‬وأما النساء فيعكفن‬
‫التقرب إىل ّ‬
‫يف مصلّى البيت دفعا للفتنة ‪ ،‬واملسجدية مستفادة من قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ساج ِد قاله أبو بكر الرازي «‪: »1‬‬
‫وه هن وأَنْ تُم عاكِ ُفو َن ِيف الْم ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َوال تُبَاش ُر ُ َ ْ‬
‫وقد وقع االختالف يف املسجد الذي يكون فيه االعتكاف ‪ :‬فقد روى إبراهيم النخعي «‪ »2‬أن‬
‫حذيفة قال ‪ :‬ال اعتكاف إال يف املساجد الثالثة ‪ ،‬املسجد احلرام ‪ ،‬واملسجد األقصى ‪ ،‬ومسجد‬
‫الل عليه وسلّم‪.‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الل‬
‫الل عنه ‪ :‬أنه ال اعتكاف إال يف املسجد احلرام ‪ ،‬ومسجد النيب صلّى ّ‬
‫وروي عن علي رضي ّ‬
‫عليه وسلّم‪.‬‬
‫الل بن مسعود ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وسعيد بن جبري‪ .‬وأبو جعفر «‪.»3‬‬
‫وقال مجاعة منهم عبد ّ‬
‫وعروة بن الزبري ‪ :‬ال اعتكاف ّإال يف مسجد مجاعة‪.‬‬
‫فأنت ترى السلف قد أمجعوا على أ ّن االعتكاف ال يكون إال يف مسجد على ما بينهم من‬
‫يصح فيه االعتكاف‪.‬‬
‫االختالف يف تعيني املسجد الذي ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن أليب بكر الرازي (‪.)245 /1‬‬
‫(‪ )2‬إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي الفقيه الكويف تويف (‪ 96‬ه) خمتفيا من احلجاج‬
‫‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)80 /1‬‬
‫الل عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬هو حممد الباقر رضي ّ‬

‫ص ‪94 :‬‬
‫ومل َيتلف فقهاء األمصار يف جواز االعتكاف يف املساجد اليت تقام فيها الصلوات ‪ ،‬وظاهر اآلية‬
‫ساج ِد ففهم منها أن‬
‫اليت معنا عدم التفرقة بني املساجد ‪ ،‬إذ قال ‪ :‬وأَنْ تُم عاكِ ُفو َن ِيف الْم ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫االعتكاف يكون يف املساجد ‪ ،‬وتعيني أحدها حيتاج إىل الدليل ‪ ،‬وكذا ختصيصه مبسجد اجلماعة‬
‫حيتاج إىل الدليل‪.‬‬
‫وغاية ما يدل عليه‬
‫الرحال ّإال إىل ثالثة مساجد» «‪»1‬‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال تش ّد ّ‬
‫يدل على تفضيل هذه الثالثة عما عداها ‪ ،‬أو عدم ش ّد الرحال إال إليها ‪ ،‬وهل االعتكاف ال‬
‫أنه ّ‬
‫يكون إال بش ّد الرحال؟ وقد تق ّدم القول أب ّن العكوف يف املسجد إمنا هو يف حق الرجال‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف معتكف النساء فذهب احلنفية ومجاعة إىل أنه يكون يف مسجد بيتها كما‬
‫تقدم ‪ ،‬وقال الشافعي ‪ :‬املسافر ‪ ،‬والعبد ‪ ،‬واملرأة يعتكفون حيث شاؤوا‪ .‬واملدار يف إثبات هذا‬
‫أو غريه على السنة‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء أيضا يف املدة اليت تلزم يف االعتكاف ‪ :‬فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ‪،‬‬
‫وحممد ‪ ،‬وزفر ‪ ،‬والشافعي ‪ :‬له أن يعتكف يوما أو ما يشاء‪ .‬وقد اختلفت الرواية عن احلنفية‬
‫فيمن دخل ونوى االعتكاف‪ .‬هل يكون معتكفا أوال؟‬
‫يف رواية ‪ :‬يكون معتكفا ‪ ،‬وله أن َيرج مىت شاء بعد أن يكون صائما يف مقدار لبثه ‪ ،‬ويف الرواية‬
‫يتمه يوما ‪ ،‬هكذا نقله أبو بكر الرازي «‪.»2‬‬
‫األخرى ‪ :‬عليه أن ّ‬
‫واملعروف عندهم يف املتون والكتب أن االعتكاف ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫مندوب ‪ ،‬وهو ‪ :‬يتحقق مبجرد النية‪.‬‬
‫وسنة ‪ ،‬وهو ‪ :‬يف العشر األواخر من رمضان‪.‬‬
‫وواجب ‪ :‬وال بد فيه من الصوم وهو ‪ :‬املنذور‪.‬‬
‫وقال مالك يف رواية عنه ‪« :‬ال اعتكاف يف أقل من عشرة أايم ‪ ،‬وعنه يوم وليلة» ‪ ،‬قال أبو بكر‬
‫يصح إال بتوقيف ‪ ،‬أو اتفاق ‪ ،‬وَها معدومان هنا ‪ ،‬وقد‬
‫الرازي ‪ :‬تقييد مدة االعتكاف ال ّ‬
‫اختلف السلف يف أنه هل يلزم فيه الصوم أم ال؟‬
‫فروى عطاء عن ابن عباس وعائشة قالوا ‪ :‬املعتكف عليه الصوم‪ .‬وقال سعيد بن املسيّب عن‬
‫علي قال ‪ :‬ال اعتكاف إال بصوم‪.‬‬
‫عائشة ‪ :‬من سنة املعتكف الصوم‪ .‬وعن ّ‬
‫وقال آخرون ‪:‬‬
‫يصح بغري صوم ‪ ،‬روي عن علي‬
‫ّ‬
‫الل ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫‪ ،‬وعبد ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن أليب بكر الرازي (‪.)245 /1‬‬

‫ص ‪95 :‬‬
‫هذا وقد اتفق العلماء على أ ّن املراد من املباشرة يف قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْاآل َن َاب ِش ُر ُ‬
‫وه هن اجلماع ‪،‬‬
‫وتدخل الدواعي يف اإلابحة من طريق األولوية‪.‬‬
‫وكذا اتفقوا هنا على أن املعتكف ممنوع من اجلماع ما دام معتكفا‪.‬‬
‫واختلفوا يف أن الدواعي هلا حكم اجلماع ابلنسبة للمعتكف ‪ ،‬فتكون حراما عليه ‪ ،‬وتفسد‬
‫االعتكاف ‪ ،‬أو ليس هلا هذا احلكم؟‬
‫قال الشافعية ومن معهم ابألول ‪ ،‬وذهب احلنفية إىل الثاين‪.‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬إ ّن اآلية تشهد لنا ‪ ،‬وذلك أن املباشرة حقيقة يف وضع البشرة على البشرة ‪،‬‬
‫فيعم كل ما يتحقق فيه هذا املعىن ‪ ،‬وال َيرج عنه شيء إال بدليل ‪ ،‬وقد قام الدليل يف قوله ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللُ أَنه ُك ْم ُك ْن تُ ْم َختْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫س ُك ْم ومل يقم الدليل‬ ‫وه هن من سبب النزول ومن قوله ‪َ :‬عل َم ه‬
‫فَ ْاآل َن َابش ُر ُ‬
‫هنا ‪ ،‬فوجب أن يبقى اللفظ على عمومه ‪ ،‬ومن هنا نقل ابن القاسم «‪ »1‬عن مالك أنه إن قبّل‬
‫امرأته فسد اعتكافه ‪ ،‬وقال املزين عن الشافعي ‪ :‬إن ابشر فسد اعتكافه‪.‬‬
‫وأما احلنفية فرأوا أن اآلية األوىل قد أريد منها املباشرة ابجلماع اتفاقا ‪ ،‬والثانية ذكرت املباشرة‬
‫أعم ‪،‬‬
‫أيضا ‪ ،‬فيحتمل أن يكون املراد هبا غري ما أريد ابألوىل ‪ ،‬وحيتمل أن يكون املراد ما هو ّ‬
‫فكان جممال ‪ ،‬وقد جاء عمل الصحابة مؤيدا لفهم معىن اجلماع فحسب‪ .‬نقل ذلك عن ابن‬
‫عباس وغريه‪.‬‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ترجل رأس رسول ّ‬
‫وقد روي عن الزهري ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬أن عائشة «كانت ّ‬
‫وسلّم وهو معتكف»‬
‫فدل ذلك على أن املباشرة اجملردة عن الشهوة ال تفسد االعتكاف‬
‫متس بدنه ‪ّ ،‬‬
‫فكانت ال حمالة ّ‬
‫‪ ،‬ومن هنا أخذ احلنفية أنه إن ابشر بغري مجاع ال يفسد اعتكافه إال إذا أنزل ‪ ،‬وإن فعل بشهوة‬
‫ومل ينزل فقد أساء «‪.»2‬‬
‫وهم يرون أيضا أ ّن املباشرة اخلالية عن اجلماع ال متنع من الصوم ‪ ،‬فكذا ال متنع االعتكاف ‪،‬‬
‫هذا وقد ذكر املفسرون هنا أحكاما تتعلّق ابالعتكاف ال نرى هلا تعلقا ابآلية ‪ ،‬فلم نشأ ذكرها‪.‬‬
‫اللُ آايتِهِ لِلن ِ‬
‫هاس ل ََعله ُه ْم يَته ُقو َن‪.‬‬ ‫اللِ فَال تَ ْق َربُوها َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬
‫ني ه‬ ‫ود ه‬ ‫تِل َ‬
‫ْك ُح ُد ُ‬
‫ح ّد الشي ء ‪ :‬مقطعه ومنتهاه‪ .‬وح ّد الدار ‪ :‬ما مينع غريها من الدخول فيها‪.‬‬
‫الل ‪ :‬حمدوداته ومق ّدراته اليت ق ّدرها مبقادير خمصوصة وصفات مضبوطة‪.‬‬
‫وحدود ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عبد الرمحن بن القاسم بن خالد املصري ‪ ،‬صحب اإلمام مالك ‪ ،‬وصنّف املدونة تويف‬
‫(‪ 191‬ه) يف مصر ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)323 /3‬‬
‫(‪ )2‬انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (‪.)247 /1‬‬

‫ص ‪96 :‬‬
‫وقد استشكل قوله بعد ذلك ‪ :‬فَال تَ ْق َربُوها ‪ ،‬ألن األشياء اليت ترجع إليها اإلشارة يف قوله ‪:‬‬
‫ْك بعضها مباح ‪ ،‬وبعضها حمظور ‪ ،‬فكيف مجعها يف قوله ‪:‬‬ ‫تِل َ‬
‫فَال تَ ْق َربُوها؟‬
‫الل‬
‫تتعرضوا هلا ابلتغيري ‪ ،‬وقيل يف اجلواب ‪ :‬إ ّن من كان يف طاعة ّ‬
‫قيل يف اجلواب ‪ :‬املراد ‪ :‬ال ّ‬
‫متصرف يف حيّز احلق ‪ ،‬فنهي عن أن يتع ّداه ‪ ،‬أل ّن من تع ّداه وقع يف حيز‬
‫وعمل بشرائعه فهو ّ‬
‫الضالل ‪ ،‬مث بولغ يف ذلك‪ .‬فنهي أن يقرب احلد الذي هو احلاجز بني حيز احلق وحيز الضالل ‪،‬‬
‫لئال يداين الباطل فيقع فيه ‪ ،‬فطلب منه أن يكون بعيدا عن الطرف ‪ ،‬فهو على حد قوله عليه‬
‫الل حمارمه ‪ ،‬فمن حام حول احلمى يوشك أن‬
‫لكل ملك محى ‪ ،‬وإ ّن محى ّ‬
‫الصالة والسالم ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫يقع فيه» «‪.»1‬‬
‫الل آايته ويوضحها‬
‫يبني ّ‬ ‫اللُ آايتِهِ لِلن ِ‬
‫هاس ل ََعله ُه ْم يَته ُقو َن أي مثل هذا البيان الشايف ّ‬ ‫َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬
‫ني ه‬
‫الل فيعملوا على حسب البيان الذي جاءهم‪.‬‬ ‫ليتقي الناس الوقوع يف خالفها ‪ ،‬أو ليتقوا ّ‬
‫ْباط ِل وتُ ْدلُوا ِهبا إِ َىل ا ْحلُ هك ِام لِتَأْ ُكلُوا فَ ِريقاً ِم ْن أ َْم ِ‬
‫وال‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬وال َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابل ِ‬
‫ْ ْ َْ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫هاس ِاب ِْإل ِْمث َوأَنْ تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن (‪.)188‬‬
‫الن ِ‬
‫الباطل ‪ :‬الزائل الذاهب ‪ ،‬واملراد منه غري وجه احلق‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬ال أيكل بعضكم أموال بعض بغري وجه مشروع‪.‬‬
‫وأكل املال ابلباطل ينتظم وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب ‪ ،‬وما جرى جمراه‪ .‬واآلخر ‪:‬‬
‫حرمها الشارع‪.‬‬
‫أخذه من جهة حمظورة كالقمار وأجر الغناء ‪ ،‬وسائر الوجوه اليت ّ‬
‫كل هذه الوجوه ‪ ،‬وهي كلّها داخلة حتت قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫وقد انتظمت اآلية حترمي ّ‬
‫وال َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابل ِ‬
‫ْباط ِل‪.‬‬ ‫ْ ْ َْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا ال َأتْ ُكلُوا أ َْموالَ ُك ْم‬
‫ين َ‬ ‫الل هذا النهي يف مواضع من القرآن ‪ ،‬فقال ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫كرر ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وال الْيَتامى‬ ‫ارةً [النساء ‪ ، ]29 :‬وقال ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َ‬ ‫بَ ْي نَ ُك ْم ِابلْباط ِل إِهال أَ ْن تَ ُكو َن جت َ‬
‫ظُلْماً [النساء ‪ ]10 :‬إخل‪.‬‬
‫وليس املراد النهي عن خصوص األكل ‪ ،‬أل ّن غري األكل من التصرفات كاألكل يف هذا ‪ ،‬ولكن‬
‫ملّا كان املقصود األعظم من املال هو األكل ووقع التعارف فيمن ينفق ماله أنه أكله ‪ ،‬فمن مثّ‬
‫الل عنه ابألكل‪.‬‬
‫عرب ّ‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪97 :‬‬
‫َوتُ ْدلُوا ِهبا إِ َىل ا ْحلُ هك ِام ‪ ،‬اإلدالء مأخوذ من أدىل الدلو إذا أرسلها يف البئر لالستسقاء‪ .‬قال ّ‬
‫الل‬
‫كل إلقاء قول أو فعل إدالء‪ .‬ومنه قيل للمحتج أدىل‬‫تعاىل ‪ :‬فَأَ ْدىل َدل َْوهُ [يوسف ‪ ]19 :‬مثّ جعل ّ‬
‫حبجته ‪ ،‬كأنّه أرسلها ليحصل على مطلوبه ‪ ،‬كمن ألقى دلوه يف البئر‪.‬‬
‫والذي هنا من هذا املعىن ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬وال تلقوا ابألموال إىل احلكام لتأكلوا فريقا من أموال‬
‫الناس ابإلمث وأنتم تعلمون‪ .‬وهو يشمل وجهني ‪:‬‬
‫تقدمي األموال رشوة للحكام ‪ ،‬ليقضوا هلم أبكل أموال الناس ابإلمث ‪ ،‬ورفع القضااي للحاكم‬
‫ارتكاان على احلجة الداحضة ‪ ،‬وذرابة اللسان ‪ ،‬وشهادة الزور ‪ ،‬وما شاكل ذلك من وجوه‬
‫الباطل ‪ ،‬وكل ذلك حمرم ابآلية الكرمية‪ .‬فإهنا تقضي بتحرمي كل ما يرفع إىل احلاكم فيحكم به يف‬
‫الظاهر ليحلها ‪ ،‬مع علم احملكوم له أنه غري مستحق له‪.‬‬
‫ويف املعىن الثاين ‪ -‬وهو رفع األموال للحاكم ليقضي فيها ارتكاان على احلجة الداحضة ‪ -‬جاء‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنها قالت ‪« :‬كنت عند رسول ّ‬
‫يف احلديث الذي روي عن أم سلمة رضي ّ‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم فجاء رجالن َيتصمان يف مواريث وأشياء قد درست»‪ .‬فقال رسول ّ‬
‫علي فيه ‪ ،‬فمن قضيت له حبجة أراها فاقتطع‬
‫عليه وسلّم ‪« :‬إ ّمنا أقضي بينكما برأيي فيما مل ينزل ّ‬
‫هبا قطعة ظلما ‪ ،‬فإمنا يقتطع قطعة من النار ‪ »1« »..‬وجاء يف معىن هذا احلديث اآلخر «إ ّمنا أان‬
‫حبجته ‪ »2« »..‬احلديث‪.‬‬
‫ولعل أحدكم يكون أحلن ّ‬
‫إيل ‪ّ ،‬‬
‫بشر ‪ ،‬وإنّكم ختتصمون ّ‬
‫وقد اتفقت األئمة على هذا احلكم فيمن ا ّدعى حقا يف يد رجل وأقام بيّنة فقضي له هبا ‪ ،‬حيث‬
‫قالوا ‪ :‬إنه ال جيوز له أخذه ‪ ،‬وإ ّن حكم احلاكم ال يبيح له ما كان قبل حمظورا عليه‪.‬‬
‫واختلفوا يف حكم احلاكم بعقد أو فسخ عقد ‪ ،‬بشهادة شهود إذا علم احملكوم له أهنم شهود‬
‫زور‪ .‬فقال أبو حنيفة ‪ :‬إذا حكم احلاكم ببينة بعقد ‪ ،‬أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ ‪ ،‬فهو انفذ‬
‫‪ ،‬ويكون كعقد عقداه ابتداء بينهما ‪ ،‬وإن كان الشهود شهود زور‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ‪ ،‬وحممد ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وغريهم ‪ :‬ينفذ احلكم ظاهرا ‪ ،‬وال ينفذ ابطنا ‪ ،‬على‬
‫معىن أ ّن حكم احلاكم ميضي ظاهرا ‪ ،‬وال يسع من يعلم بطالنه أن يعمل به ‪ ،‬وقال أبو يوسف ‪:‬‬
‫إذا قضى احلاكم بفرقة على هذا الوجه بني الزوجني مل حيل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )292 /3‬كتاب األقضية ‪ ،‬ابب يف قضاء القاضي حديث رقم‬
‫(‪].....[ .)3583‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 52 ، )216 /3‬كتاب الشهادات ‪ - 27 ،‬ابب من أقام‬
‫البينة حديث رقم (‪ )2680‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 30 ، )1337 /3‬كتاب األقضية ‪- 3 ،‬‬
‫ابب احلكم ابلظاهر حديث رقم (‪، )1713 /4‬‬

‫ص ‪98 :‬‬
‫للمرأة أن تتزوج ‪ ،‬ألهنا تعلم أهنا ال تزال يف عصمة الزوج ‪ ،‬وال يقرهبا الزوج احرتاما لسلطة‬
‫القضاء الظاهرة «‪.»1‬‬
‫الل وجهه مبا يوافق رأي أيب حنيفة ‪ ،‬حيث جاءه رجل ادعى زواجا على‬
‫وقد قضى علي كرم ّ‬
‫زوجك الشاهدان‬
‫امرأة وهي تنكر ‪ ،‬وجاء بشاهدين ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إين مل أتزوجه ‪ ،‬فقال هلا ّ‬
‫الل عليه وسلّم ابلفرقة بينهما‬
‫‪ ،‬وكذلك قصة لعان هالل بن أميّة مع امرأته ‪ ،‬وقضى النيب صلّى ّ‬
‫‪ ،‬وكان ذلك بعد أن‬
‫قال ‪« :‬إن جاء الولد على صفة كذا فهو هلالل ‪ ،‬وإن جاءت به على صفة كذا ‪ ،‬فهو لشريك‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬لو ال ما مضى‬
‫بن مسحاء» فجاءت به على الصفة املكروهة فقال النيب صلّى ّ‬
‫الل لكان يل وهلا شأن» «‪.»2‬‬
‫من كتاب ّ‬
‫واستيفاء الكالم على أدلة الطرفني وترجيح الراجح منها يطلب يف موضع غري هذا‪.‬‬
‫واآلية صرحية يف أ ّن اإلمث على من أكل وهو يعلم أنه ظامل يف األكل ‪ ،‬وأما غريه فال إمث عليه‪.‬‬
‫س الِْرب ِأبَ ْن َأتْتُوا الْبُ يُ َ‬
‫وت‬ ‫يت لِلن ِ‬
‫هاس َوا ْحلَ ِّج َولَيْ َ‬ ‫ك عَ ِن ْاأل َِهلهةِ قُ ْل ِه َي َمواقِ ُ‬‫الل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫قال ّ‬
‫حو َن (‪)189‬‬ ‫ِ‬ ‫وت ِم ْن أَبْو ِاهبا َواته ُقوا ه‬
‫اللَ ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬ ‫ِم ْن ظُ ُهو ِرها َولكِ هن الِ ه‬
‫ْرب َم ِن اتهقى َوأْتُوا الْبُ يُ َ‬
‫يسمى هالال لظهوره بعد خفائه ‪ ،‬ومنه‬
‫اهلالل هو هذا الكوكب املخصوص املضيء ليال ‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫اإلهالل ابحلج لظهور الصوت ابلتلبية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل إمنا مسي هالال ‪ ،‬أل ّن اإلهالل رفع الصوت ‪،‬‬
‫والناس عند ظهور اهلالل يرفعون أصواهتم بذكره عند رؤيته‪.‬‬
‫يسمى هالال لليلتني‬
‫يسمى فيه هالال ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ّ :‬‬
‫وقد اختلف أهل اللغة يف الوقت الذي ّ‬
‫يسمى قمرا ‪ ،‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫من الشهر ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬لثالث ‪ ،‬مث ّ‬
‫يسمى هالال حىت يبهر ضوؤه سواد الليل ‪ ،‬وذلك يف الليلة السابعة‪.‬‬
‫ّ‬
‫روي يف سبب نزول هذه اآلية ‪ ،‬أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم ‪ -‬وكاان من األنصار ‪ -‬قاال ‪:‬‬
‫الل ‪ ،‬ما ابل اهلالل يبدو دقيقا مثل اخليط ‪ ،‬مث يزيد حىت ميتلئ ويستوي ‪ ،‬مث ال يزال‬
‫اي رسول ّ‬
‫ينقص حىت يعود كما بدأ ‪ ،‬ال يكون على حالة واحدة كالشمس ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية «‪.»3‬‬
‫ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن األهلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (‪.)253 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )5 /6‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 2 ،‬ابب (و يدرأ عنها‬
‫العذاب) حديث رقم (‪.)4747‬‬
‫(‪ )3‬قال السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪ : )203 /1‬رواه ابن عساكر بسند‬
‫ضعيف‪.‬‬

‫ص ‪99 :‬‬
‫ومل يذكر يف اآلية حتديد املسئول عنه يف األهلة‪ .‬أهو حقائقها ‪ ،‬أم أحواهلا؟‬
‫يت لِلن ِ‬
‫هاس َوا ْحلَ ِّج مشعر أبن السؤال كان عن احلكمة يف‬ ‫لكن اجلواب ووروده بقوله ‪ِ :‬ه َي َمواقِ ُ‬
‫تغريها ‪ ،‬وقد جاء اخلرب أبن السؤال كان عن هذا ‪ ،‬فاخلرب و«القرآن» متطابقان ‪ ،‬وعلى هذا فال‬
‫ّ‬
‫مفارقة بني السؤال واجلواب‪.‬‬
‫يت مجع ميقات مبعىن الوقت‪ .‬كامليعاد مبعىن الوعد ‪ ،‬وقال بعضهم ‪:‬‬ ‫َمواقِ ُ‬
‫ني ل َْي لَةً [األعراف ‪.]142 :‬‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَتَ هم ِميقا ُ‬
‫ت َربِّهِ أ َْربَعِ َ‬ ‫امليقات منتهى الوقت ‪ ،‬قال ّ‬
‫احلل‪.‬‬
‫واهلالل ميقات الشهر‪ .‬ومواضع اإلحرام مواقيت ‪ ،‬ألهنا اليت ينتهي عندها ّ‬
‫وقد قال أبو بكر الرازي ‪ :‬إ ّن هذه اآلية تدل على جواز اإلحرام ابحلج يف مجيع شهور السنة ‪،‬‬
‫الل أهنا مواقيت للحج ‪ ،‬وهو استدالل غري ظاهر‪ .‬ألننا قد بينّا أ ّن‬‫عام‪ .‬وقد ّبني ّ‬
‫أل ّن األهلة لفظ ّ‬
‫تغري األهلة ابلزايدة والنقص أن يؤقت الناس هبا يف معامالهتم وعباداهتم‬
‫املعىن أن احلكمة يف ّ‬
‫وحجهم ‪ ،‬وليس الكالم يف بيان ما يكون يف الشهر من العبادات وغريها «‪.»1‬‬
‫وت ِمن أَبْ ِ‬
‫واهبا َواته ُقوا ه‬ ‫وت ِم ْن ظُ ُهو ِرها َولكِ هن الِ ه‬
‫س الِْرب ِأبَ ْن َأتْتُوا الْبُ يُ َ‬
‫اللَ‬ ‫ْرب َم ِن اتهقى َوأْتُوا الْبُ يُ َ ْ‬ ‫َول َْي َ‬
‫ِ‬
‫حو َن قيل ‪ :‬كان الناس من األنصار إذا أهلّوا ابلعمرة التزموا أال حيول بينهم وبني‬ ‫ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫أهل ابلعمرة وبدت له حاجة يف بيته ال يدخل‬ ‫ويتحرون يف ذلك‪ .‬حىت إن من ّ‬ ‫ّ‬ ‫السماء شي ء ‪،‬‬
‫إىل البيت من الباب خشية أن حيول السقف بني السماء وبينه‪ .‬فنزلت هذه اآلية «‪ .»2‬وقيل‬
‫غري ذلك‪.‬‬
‫الل به ‪ ،‬وليس هناك ما مينع‬
‫الل تعاىل هلم أبن أيتوا الرب من وجهه الذي أمر ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إنه مثل ضربه ّ‬
‫الل تعاىل وال‬
‫من إرادة الكل ‪ ،‬فتكون اآلية دالّة على أن إتيان البيوت من ظهورها ليس قربة إىل ّ‬
‫هو من شرعه وال ندب إليه ‪ ،‬ويكون مع ذلك مثال أرشدان به إىل أن أنيت األمور من مأاتها الذي‬
‫الل َواته ُقوا ه‬
‫اللَ ابمتثال أوامره ‪ ،‬واجتناب نواهيه رجاء‬ ‫الل تعاىل َولكِ هن الِ ه‬
‫ْرب ّبر من اتقى حمارم ّ‬ ‫أمران ّ‬
‫أن يكون يف ذلك فالح‪.‬‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫اللِ اله ِذين يقاتِلُونَ ُكم وال تَ ْعتَ ُدوا إِ هن ه ِ‬ ‫يل ه‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫اللَ ال ُحيب ال ُْم ْعتَد َ‬ ‫َْ‬ ‫َُ‬ ‫قال ّ‬
‫ث أَ ْخ َر ُجوُك ْم َوال ِْف ْت نَةُ أَ َشد ِم َن الْ َقتْ ِل َوال‬
‫وه ْم ِم ْن َحيْ ُ‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم َوأَ ْخ ِر ُج ُ‬ ‫وه ْم َحيْ ُ‬
‫(‪َ )190‬واقْتُلُ ُ‬
‫ِ‬ ‫وه ْم َكذلِ َ‬ ‫تُقاتِلُ ِ‬
‫ك َجزاءُ الْكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫وه ْم ع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َح هىت يُقاتِلُوُك ْم فِيهِ فَِإ ْن قاتَلُوُك ْم فَاقْتُلُ ُ‬
‫ُ‬
‫الل غَ ُفور رِحيم (‪ )192‬وقاتِلُوهم ح هىت ال تَ ُكو َن فِْت نَةٌ وي ُكو َن ال ِّدين ِهللِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫(‪ )191‬فَِإن انْ تَ َه ْوا فَِإ هن هَ ٌ َ ٌ‬
‫ش ْه ِر ا ْحلر ِام وا ْحلرما ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫صاص‬
‫تق ٌ‬ ‫َ َ ُُ‬ ‫ش ْه ُر ا ْحلَر ُام ِابل ه‬
‫ني (‪ )193‬ال ه‬ ‫فَِإ ِن انْ تَ َه ْوا فَال عُ ْدوا َن إِهال َعلَى الظهال ِم َ‬
‫اللَ َم َع ال ُْمت ِهق َ‬
‫ني‬ ‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬ ‫فَ َم ِن ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا عَلَيْهِ ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم َواته ُقوا ه‬
‫(‪)194‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب أحكام القرآن أليب بكر الرازي (‪.)254 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)109 /2‬‬

‫ص ‪100 :‬‬
‫اللَ ُِحيب ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫َح ِسنُوا إِ هن ه‬ ‫اللِ وال تُلْ ُقوا ِأبَي ِدي ُكم إِ َىل الت ْ ِ‬ ‫َوأَنْ ِف ُقوا ِيف َسبِ ِ‬
‫ني (‪)195‬‬ ‫ههلُ َكة َوأ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫يل ه َ‬
‫وردت هذه اآلايت يف اإلذن ابلقتال للمحرمني يف األشهر احلرام إذا فوجئوا ابلقتال بغيا وعدواان‬
‫‪ ،‬فهي متصلة مبا قبلها ‪ ،‬أل ّن اآلية السابقة بيّنت أ ّن األهلة مواقيت للنّاس واحلج ‪ ،‬واحلج يف‬
‫حمرما يف اجلاهلية‪.‬‬
‫أشهر هاللية خمصوصة ‪ ،‬كان القتال فيها ّ‬
‫ومل ختتلف األمة يف أ ّن القتال مل يكن مشروعا قبل اهلجرة ‪ ،‬بل كان حمظورا بقوله تعاىل ‪ :‬ا ْدفَ ْع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ُن فَِإذَا اله ِذي بَ ْي نَ َ‬ ‫ِ‬
‫ص َربُوا َوما‬ ‫يم َوما يُلَ هقاها إِهال الهذي َن َ‬ ‫داوةٌ َكأَنههُ َوِيلٌّ َمح ٌ‬ ‫ك َوبَ ْي نَهُ َع َ‬ ‫ِابلهِيت ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫اص َف ْح [املائدة ‪:‬‬ ‫ف َع ْن ُه ْم َو ْ‬ ‫ظ َع ِظ ٍّيم (‪[ )35‬فصلت ‪ ]35 ، 34 :‬وقوله ‪ :‬فَا ْع ُ‬ ‫يُلَ هقاها إِهال ذُو َح ٍّّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ُن [النحل ‪ ]125 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫َح َ‬‫‪ ]13‬وقوله ‪َ :‬وجاد ْهلُ ْم ِابلهِيت ه َي أ ْ‬
‫ِ‬
‫ني (‪[ )92‬املائدة ‪ ]92 :‬وقوله ‪َ :‬وإِذا خاطَبَ ُه ُم‬ ‫فَِإ ْن تَ َولهْي تُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَهمنا َعلى َر ُسولنَا الْبَالغُ ال ُْمبِ ُ‬
‫يموا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْاهلُو َن قالُوا سالماً [الفرقان ‪ ]63 :‬وقوله ‪ :‬أََمل تَر إِ َىل اله ِذ ِ‬ ‫اجل ِ‬
‫يل َهلُ ْم ُكفوا أَيْديَ ُك ْم َوأَق ُ‬ ‫ين ق َ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫هاس [النساء ‪ ]77 :‬وقوله‬ ‫ش ْو َن الن َ‬ ‫تال إِذا فَ ِري ٌق ِم ْن ُه ْم ََيْ َ‬‫ب َعلَْي ِه ُم ال ِْق ُ‬ ‫ِ‬
‫صالةَ َوآتُوا ال هزكاةَ فَلَ هما ُكت َ‬ ‫ال ه‬
‫ار [ق ‪ ]45 :‬وقوله‬ ‫ت عَلَيْ ِه ْم ِجبَبه ٍّ‬‫صيْ ِط ٍّر (‪[ )22‬الغاشية ‪ ]22 :‬وقوله ‪َ :‬وما أَنْ َ‬ ‫ت عَلَيْ ِه ْم ِمبُ َ‬‫َس َ‬
‫‪:‬لْ‬
‫اللِ [اجلاثية ‪.]14 :‬‬ ‫ين ال يَ ْر ُجو َن أَ هاي َم ه‬ ‫ِ ِِ‬
‫آمنُوا يَغْف ُروا للهذ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِِ‬
‫‪ :‬قُ ْل للهذ َ‬
‫وه ْم [التوبة ‪]5 :‬‬ ‫ث َو َج ْدمتُُ ُ‬ ‫ني َح ْي ُ‬ ‫فلما حتولوا للمدينة نسخ هذا كله بقوله تعاىل ‪ :‬فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ين ال يُ ْؤِمنُو َن ِاب هللِ َوال ِابلْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر [التوبة ‪.]29 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وقوله ‪ :‬قاتلُوا الهذ َ‬
‫وقد اختلف السلف يف أول آية نزلت يف اإلذن ابلقتال‪ .‬فروي عن الربيع بن أنس وغريه أن أول‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم وروي عن مجاعة من الصحابة ‪:‬‬ ‫يل هِ ِ‬ ‫آية نزلت يف قوله تعاىل ‪َ :‬وقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫الل الهذ َ‬
‫ين يُقاتَلُو َن ِأبَ ههنُ ْم ظُلِ ُموا‬ ‫ِ ِِ‬
‫الل عنه أ ّن أول آية نزلت يف القتال أُذ َن للهذ َ‬ ‫منهم أبو بكر الصديق رضي ّ‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن ِداي ِرِه ْم بِغَ ِْري َح ٍّّق إِهال أَ ْن يَ ُقولُوا َرب نَا ه‬
‫اللُ‬
‫ِ‬ ‫الل َعلى نَ ْ ِ ِ‬
‫ص ِره ْم لَ َقد ٌير (‪ )39‬الهذ َ‬ ‫َوإِ هن هَ‬
‫[احلج ‪.]40 ، 39 :‬‬
‫وقد أخرج الواحدي «‪ » 1‬من طريق الكليب ‪ ،‬عن أيب صاحل ‪ ،‬عن ابن عباس أن هذه اآلية نزلت‬
‫الل عليه وسلّم ملا ص ّد عن البيت ‪ ،‬مث صاحله‬
‫الل صلّى ّ‬
‫يف صلح احلديبية ‪ ،‬وذلك أن رسول ّ‬
‫املشركون ‪ ،‬على أن يرجع عامه مث أييت القابل وَيلوا له مكة ثالثة أايم فيطوف ابلبيت ويفعل ما‬
‫يشاء فلما كان العام املقبل جتهز هو وأصحابه لعمرة القضاء ‪ ،‬وخافوا أن ال تفي هلم قريش‬
‫بذلك ‪ ،‬وأن يصدوهم عن املسجد احلرام ويقاتلوهم ‪ ،‬وكره أصحابه قتاهلم يف الشهر احلرام يف‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم اآلية‪.‬‬ ‫يل هِ ِ‬ ‫الل هذه اآلية َوقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫الل الهذ َ‬ ‫احلرم ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أسباب النزول لإلمام أيب احلسن علي بن أمحد الواحدي النيسابوري صفحة (‪.)49‬‬

‫ص ‪101 :‬‬
‫الل واالعتمار فيه‬
‫املعىن ‪ :‬اي أيها املؤمنون الذين َيافون أن مينعهم مشركو مكة عن زايرة بيت ّ‬
‫نكثا منهم للعهد ‪ ،‬ويكرهون أن يدافعوا عن أنفسهم يف احلرم ويف الشهر احلرام ‪ :‬اعلموا أنين قد‬
‫الل للتم ّكن من عبادته ‪،‬‬
‫أذنت لكم يف القتال ‪ ،‬وأنتم إذ تقاتلوهنم فإمنا تفعلون ذلك يف سبيل ّ‬
‫وفوق ذلك فإمنا تفعلون هذا مع من نكثوا عهد الصلح ‪ ،‬فقاتلوا يف هذه السبيل الشريفة من‬
‫يقاتلونكم ‪ ،‬وال تعتدوا ابلقتال فتبدؤوهم ‪ ،‬وال يف القتال فتقتلوا من مل يقاتل كالنساء والصبيان‬
‫كف عن حربكم‪.‬‬ ‫والشيوخ واملرضى الذين ال يستطيعون قتاال ‪ ،‬أو من ألقى إليكم السلم و ّ‬
‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم‪.‬‬ ‫وه ْم َح ْي ُ‬
‫َواقْتُلُ ُ‬
‫الثقف ‪ :‬األخذ واإلدراك والظفر ‪ ،‬يقال ‪ :‬ثقفه ‪ :‬أخذه أو وجده أو ظفر به ‪ ،‬أو أدركه‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬اقتلوا هؤالء الذين يقاتلونكم يف أي مكان مت ّكنتم منهم ‪ ،‬وال يصدنّكم عنهم أهنم يف‬
‫أرض احلرم‪.‬‬
‫وه ْم ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث أَ ْخ َر ُجوُك ْم أجلوهم عن مكة كما أجلوكم عنها ‪ ،‬فقد كان املشركون يرتبّصون‬ ‫َوأَ ْخ ِر ُج ُ‬
‫اضطر هؤالء أن َيرجوا فرارا أبنفسهم ودينهم ‪ ،‬ومع ذلك منعوهم من‬
‫ّ‬ ‫ابملؤمنني الدوائر ‪ ،‬حىت‬
‫الل وأخرجوا من دايرهم إذا قابلوا‬ ‫دخول مكة للعبادة‪ .‬فماذا على املؤمنني الذين أوذوا يف سبيل ّ‬
‫ض‬‫ض ُه ْم بِبَ ْع ٍّ‬
‫هاس بَ ْع َ‬ ‫العدوان مبثله؟ وهل يعيب أحد الدفاع عن النفس؟ كال‪ .‬ولَو ال َدفْع هِ‬
‫الل الن َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ني [البقرة ‪.]251 :‬‬ ‫ض ٍّل َعلَى الْعال َِم َ‬ ‫ض َولكِ هن ه‬
‫اللَ ذُو فَ ْ‬ ‫لََفس َد ِ‬
‫ت ْاأل َْر ُ‬ ‫َ‬
‫َوال ِْف ْت نَةُ أَ َشد ِم َن الْ َقتْ ِل الفتنة يف األصل مصدر فنت الصائغ الذهب والفضة إذا أذاهبما يف النار‬
‫ليستخرج منهما الزغل ‪ ،‬مث استعملت الفتنة يف كل اختبار ‪ ،‬وهذا مبالغة يف التحريض على‬
‫أقل مما يتصفون به من الفتنة‪.‬‬
‫املقاتلة ‪ ،‬أي أ ّن ما تفعلونه معهم من القتل يف احلرم ّ‬
‫مث قيل ‪ :‬إن الفتنة هنا الكفر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد هبا ما كان يقع من املشركني من صنوف اإليذاء‬
‫يفرون بدينهم ‪ ،‬ولوال ذلك ملا أمكنهم البقاء على الدين مع‬
‫واإلعنات ‪ ،‬اليت جعلت املؤمنني ّ‬
‫اإلقامة على االضطهاد والعسف ‪ ،‬وتقرير اآلية اليت معنا على هذا الوجه مطابق لقوله تعاىل يف‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫الل َعلى نَ ْ ِ ِ‬
‫ص ِره ْم لَ َقد ٌير (‪ )39‬الهذ َ‬
‫ِ‬
‫ين يُقاتَلُو َن ِأبَ ههنُ ْم ظُل ُموا َوإِ هن هَ‬
‫ِ ِِ‬
‫آايت احلج أُذ َن للهذ َ‬
‫اللُ [احلج ‪.]40 ، 39 :‬‬ ‫ِداي ِرِه ْم بِغَ ِْري َح ٍّّق إِهال أَ ْن يَ ُقولُوا َرب نَا ه‬
‫تقرر يف اآلية‬ ‫وه ْم اآلية انسخ ملا ّ‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم َحيْ ُ‬
‫فسر الفتنة ابلشرك ا ّدعى أن قوله ‪َ :‬واقْتُلُ ُ‬ ‫ومن ّ‬
‫األوىل من قتال املقاتلني فقط‪ .‬مث احتاج بعد هذا إىل أن يقول ‪ :‬وهذه اآلية أيضا منسوخة بقوله‬
‫وه ْم ِع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام ‪ ،‬وهكذا ادعوا يف هذه اآلية نسخا متتاليا‪.‬‬
‫تعاىل ‪َ :‬وال تُقاتِلُ ُ‬

‫ص ‪102 :‬‬
‫وملا كنا نرى أنه ال حاجة بنا يف فهم هذه اآلايت إىل القول ابلنسخ ‪ ،‬وملّا مل يكن يعرف أن هذه‬
‫اآلايت مقرتنة يف النزول ‪ ،‬أو مفصولة عن بعضها ‪ ،‬وكنا نرى أهنا مجيعها إىل قوله تعاىل ‪َ :‬وأَِمتوا‬
‫لل ملتئمة مع ما ذكران يف سبب النزول ‪ ،‬وكان القول ابلنسخ على هذا الوجه قد‬ ‫ا ْحل هج والْعمرةَ ِهِ‬
‫َ َ َُْ‬
‫يؤدي إىل القول ابلنسخ قبل التمكن ‪ ،‬وهو غري جائز عند البعض ‪ ،‬كان من رأينا أ ّن األوىل‬
‫الذهاب إىل القول بعدم النسخ‪.‬‬
‫على أنه إذا كان الداعي إىل القول ابلنسخ هو عموم شرع القتال ابلنظر للمشركني فنحن جنده‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف قوله تعاىل ‪َ :‬وقاتِلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َكافهةً َكما يُقاتلُونَ ُك ْم َكافهةً [التوبة ‪ ]36 :‬وقوله ‪ :‬قاتلُوا الهذ َ‬
‫ين‬
‫يَلُونَ ُك ْم ِم َن الْ ُك هفا ِر َولْيَ ِج ُدوا فِي ُك ْم ِغلْظَةً [التوبة ‪ ]123 :‬وقوله ‪:‬‬
‫ين ال يُ ْؤِمنُو َن ِاب هللِ َوال ِابلْيَ ْوِم‬ ‫ِ ِ‬
‫وه ْم [التوبة ‪ ]5 :‬وقوله ‪ :‬قاتلُوا الهذ َ‬ ‫ث َو َج ْدمتُُ ُ‬ ‫ني َح ْي ُ‬ ‫فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ْاآل ِخ ِر [التوبة ‪ ]29 :‬فليس هناك ما يدعو إىل تفكيك آايت هي متصلة ببعضها متام االتصال‬
‫بغري موجب‪.‬‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم مع تسليم أهنا يف وجوب‬ ‫يل هِ ِ‬ ‫على أن الفخر الرازي يرى أن آية َوقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫الل الهذ َ‬
‫وه ْم بفرض عموم‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم َح ْي ُ‬
‫قتال املقاتلني فقط ال يلزم أن تكون منسوخة بقوله ‪َ :‬واقْتُلُ ُ‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم داال على قتال‬ ‫يل هِ ِ‬ ‫هذه ‪ ،‬أل ّن غاية ما يلزم أن يكون قوله ‪َ :‬وقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫الل الهذ َ‬
‫تعرض لقتال غريهم ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬ ‫املقاتلني فحسب ‪ ،‬من غري ّ‬
‫اخلاص يثبت‬‫ّ‬ ‫العام بعد‬
‫وه ْم يفيد تعميم احلكم بعد التخصيص ‪ ،‬وذكر ّ‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم َح ْي ُ‬ ‫َواقْتُلُ ُ‬
‫اخلاص من غري أن ينسخه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫زايدة حكم على حكم‬
‫وأما قوله ‪َ :‬وال تَ ْعتَ ُدوا فهذا حيتمل أن يكون معناه ‪ :‬وال تبدءوا يف احلرم ‪ ،‬أو ال تعتدوا بقتال من‬
‫وادعوكم ‪ ،‬وألقوا إليكم السلم ‪ ،‬وكان بينكم وبينهم عهد‪.‬‬
‫إىل أن قال ‪ :‬وحتقيق القول ‪ :‬إنه تعاىل أمر ابجلهاد يف اآلية األوىل بشرط إقدام الكفار على‬
‫وه ْم زاد يف التكليف ‪ ،‬فأمر ابجلهاد معهم ‪ ،‬سواء‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم َح ْي ُ‬
‫املقاتلة ‪ ،‬ويف هذه اآلية َواقْتُلُ ُ‬
‫أقاتلوا أو مل يقاتلوا ‪ ،‬واستثىن منه املقاتلة عند املسجد احلرام‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وه ْم َكذلِ َ‬ ‫وال تُقاتِلُ ِ‬
‫ك َجزاءُ الْكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫وه ْم ع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َح هىت يُقاتِلُوُك ْم فِيهِ فَِإ ْن قاتَلُوُك ْم فَاقْتُلُ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يم (‪.)192‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَإن انْ تَ َه ْوا فَإ هن ه‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫اللَ غَ ُف ٌ‬
‫وه ْم ِعنْ َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام مث‬
‫الل منسوخة بقوله ‪َ :‬وال تُقاتِلُ ُ‬
‫يل هِ‬ ‫روي عن مقاتل أ ّن آية َوقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫ين ِهللِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َح هىت ال تَ ُكو َن ف ْت نَةٌ َويَ ُكو َن ال ّد ُ‬ ‫تلك منسوخة أيضا بقوله ‪َ :‬وقاتِلُ ُ‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم‬ ‫يل هِ ِ‬ ‫وقال الفخر الرازي ‪ :‬وهو ضعيف ‪ ،‬أما أن قوله تعاىل ‪َ :‬وقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫الل الهذ َ‬
‫وه ْم ِع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد‬
‫منسوخ فقد تقدم إبطاله‪ .‬وأما قوله ‪ :‬إن هذه اآلية منسوخة بقوله ‪َ :‬وال تُقاتِلُ ُ‬
‫ا ْحلَر ِام فهو ختصيص ال نسخ‪ .‬وأما قوله ‪ :‬إ ّن قوله تعاىل ‪َ :‬وال تُقاتِلُ ُ‬
‫وه ْم‬

‫ص ‪103 :‬‬
‫ِعنْ َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام‬
‫وه ْم َح هىت ال تَ ُكو َن فِْت نَةٌ فهو خطأ أيضا ‪ ،‬ألنه ال جيوز االبتداء ابلقتال يف‬
‫منسوخ بقوله ‪َ :‬وقاتِلُ ُ‬
‫احلرم ‪ ،‬وهذا احلكم ابق مل ينسخ ‪ ،‬فثبت أن قوله ضعيف ‪ ،‬قال ‪ :‬وألنه يبعد من احلكيم أن‬
‫جيمع بني آايت متتاليات تكون كل واحدة منهما انسخة لألخرى‪.‬‬
‫متسك احلنفية هبذه اآلية يف عدم قتل الكافر الالجئ للحرم ما دام مل يقاتل يف احلرم‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫تفرق بني من قتل ومن مل‬
‫وحيتج بعمومها فيمن قتل مث جلأ إىل احلرم يف أنه ال يقتل ‪ ،‬ألن اآلية مل ّ‬
‫ّ‬
‫يقتل يف حظر قتل اجلميع ‪ ،‬فلزم مبضمون اآلية أال نقتل من وجدانه يف احلرم ‪ ،‬سواء كان قاتال‬
‫آمناً [آل عمران ‪:‬‬ ‫أو غري قاتل ‪ ،‬إال إذا قتل يف احلرم ‪ ،‬فإنه يقتل بقوله تعاىل ‪ :‬ومن َد َخلَه كا َن ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫هاس َوأ َْمناً واملسألة مبسوطة يف كتب الفقه‪.‬‬ ‫ت َمثابَةً لِلن ِ‬
‫‪ ]97‬وقوله ‪َ :‬وإِ ْذ َج َعلْنَا الْبَ يْ َ‬
‫ين أي ما قدمناه من قتل الكافرين املقاتلني على ما وصفنا ‪ ،‬وبشروطه اليت‬ ‫ِ‬
‫ك َجزاءُ الْكاف ِر َ‬ ‫َكذلِ َ‬
‫ذكران‪.‬‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬
‫الل‬
‫يم (‪ )192‬أي فإن كفوا عن قتالكم ‪ ،‬ورجعوا عن الكفر ‪ ،‬فإ ّن ّ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫فَِإن انْ تَ َه ْوا فَِإ هن هَ ٌ‬
‫ين َك َف ُروا إِ ْن يَ ْن تَ ُهوا يُغْ َف ْر َهلُ ْم ما قَ ْد‬ ‫ِِ‬
‫يغفر هلم ما تق ّدم منهم ويرمحهم ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل للهذ َ‬
‫ف [األنفال ‪.]38 :‬‬ ‫َسلَ َ‬
‫وقد ذهب ابن عباس إىل أن معىن اآلية ‪ :‬فإن انتهوا عن القتال‪.‬‬
‫وذهب احلسن إىل أن املعىن ‪ :‬فإن انتهوا عن الشرك ‪ ،‬ألنه ال غفران هلم إال إذا انتهوا عن‬
‫اللَ ال يَغْ ِف ُر أَ ْن يُ ْش َر َك بِهِ‪.‬‬
‫الشرك إِ هن ه‬
‫ين ِهللِ فَِإ ِن انْ تَ َه ْوا فَال عُ ْدوا َن إِهال َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َح هىت ال تَ ُكو َن ف ْت نَةٌ َويَ ُكو َن ال ّد ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وقاتِلُ ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫ني (‪ )193‬أي اقصدوا بقتاهلم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع اإليذاء والضرر اليت تلحق‬ ‫الظهال ِم َ‬
‫املسلمني بوجودهم يف مكة ‪ ،‬وقد ورد‬
‫يبقني يف جزيرة العرب دينان» «‪.»1‬‬ ‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال ّ‬ ‫عن النيب صلّى ّ‬
‫ين ِهللِ ولو أ ّن املسلمني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واحلكمة يف هذا تشري إليها اآلية الكرمية َح هىت ال تَ ُكو َن ف ْت نَةٌ َويَ ُكو َن ال ّد ُ‬
‫ساروا على مقتضى هذه احلكمة يف قواعد ملكهم اليت أنشئوها يف غري‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ومبعناه رواه البخاري (‪ - 64 ، 159 /5‬كتاب املغازي ‪ - 84 ،‬ابب مرض النيب صلّى‬
‫الل عليه وسلّم حديث رقم (‪ )4431‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 25 ، )1257 /3‬كتاب الوصية‬
‫ّ‬
‫‪ - 5 ،‬ابب ترك الوصية حديث رقم (‪.)1637 /20‬‬

‫ص ‪104 :‬‬
‫جزيرة العرب لكان احلال غري ما ترى اليوم ‪ ،‬فإ ّن املنع من أن يبقى يف جزيرة العرب دينان إمنا‬
‫كان اجتثااث لبذور الفنت ‪ ،‬وأشد الفنت خطرا ما يكون يف قواعد امللك‪.‬‬
‫الل هو املعبود وحده ‪ ،‬وكأ ّن املعىن ‪ :‬وقاتلوهم‬ ‫لل فاملعىن ‪ :‬أن يكون ّ‬ ‫أما قوله ‪ :‬وي ُكو َن ال ِّدين ِهِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حىت يزول الكفر ‪ ،‬ويثبت اإلسالم ‪ ،‬ونظريه قوله تعاىل ‪ :‬تُقاتلُو َهنُ ْم أ َْو يُ ْسل ُمو َن [الفتح ‪.]16 :‬‬
‫ِ‬
‫ني حيتمل أن يكون املعىن ‪:‬‬ ‫فَِإ ِن انْ تَ َه ْوا عما أوجب قتاهلم فَال عُ ْدوا َن إِهال َعلَى الظهال ِم َ‬
‫فال قتل إال على الذين ال ينتهون عن الكفر ‪ ،‬فإهنّم إبصرارهم على الكفر ظاملون ألنفسهم إِ هن‬
‫يم [لقمان ‪.]13 :‬‬ ‫شر َك لَظُل ِ‬‫ِ‬
‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ال ّ ْ‬
‫صح إطالق اسم العدوان عليه ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬ ‫وملا كان القتل هنا جزاء العدوان ّ‬
‫فَ َم ِن ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا َعلَْيهِ ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم‪.‬‬
‫وحيتمل أن يكون املعىن ‪ :‬أهنم إن انتهوا ‪ ،‬واعتديتم عليهم بعد ذلك ‪ :‬كنتم ظاملني ‪ ،‬فنسلط‬
‫عليكم من يعتدي عليكم ‪ ،‬ويكون املعىن طلب الكف عنهم بعد انتهائهم‪.‬‬
‫ت قِصاص فَم ِن ا ْعتَدى َعلَْي ُكم فَا ْعتَ ُدوا َعلَْيهِ‬ ‫ش ْه ِر ا ْحلَر ِام َوا ْحلُُرما ُ‬
‫ام ِابل ه‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ال ه‬
‫ْ‬ ‫ٌ َ‬ ‫ش ْه ُر ا ْحلَر ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ني (‪.)194‬‬ ‫اللَ َم َع ال ُْمت ِهق َ‬
‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬‫ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم َواته ُقوا ه‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الضحاك أن رسول ّ‬
‫روي عن ابن عباس ‪ ،‬والربيع بن أنس وجماهد وقتادة و ّ‬
‫وسلّم خرج عام احلديبية للعمرة ‪ ،‬وكان ذلك يف ذي القعدة سنة ست من اهلجرة ‪ ،‬فص ّده أهل‬
‫مكة عن ذلك ‪ ،‬مث صاحلوه على أن ينصرف ‪ ،‬ويعود يف العام القابل ‪ ،‬حىت يرتكوا له مكة ثالثة‬
‫الل عليه وسلّم يف العام القابل ‪ :‬وهو يف ذي القعدة سنة سبع ‪،‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫أايم ‪ ،‬فرجع رسول ّ‬
‫الل هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫ودخل مكة واعتمر ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫الل عليكم ابلدخول إليها يف هذا‬
‫فمن ّ‬
‫واملعىن ‪ :‬أهنم ص ّدوك يف العام الفائت يف هذا الشهر‪ّ .‬‬
‫الشهر من هذا العام ‪ ،‬فهذا الشهر بذاك الشهر‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم أن يقاتل يف‬
‫الل تعاىل هنى الرسول صلّى ّ‬
‫وروي عن احلسن أن الكفار مسعوا أن ّ‬
‫األشهر احلرم ‪ ،‬فأرادوا مقاتلته ‪ ،‬لظنهم أنه ميتنع عن املقاتلة يف هذه األشهر احلرم ‪ ،‬وذلك قوله‬
‫اللِ وُك ْفر بِهِ‬ ‫ص ٌّد َع ْن َسبِ ِ‬ ‫تال فِيهِ قُل قِ ٌ ِ ِ‬
‫ش ْه ِر ا ْحلَر ِام قِ ٍّ‬
‫يل ه َ ٌ‬ ‫تال فيه َكبِريٌ َو َ‬ ‫ْ‬ ‫ك َع ِن ال ه‬‫تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫َوال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام‬
‫الل هذه اآلية لبيان احلكم يف هذه الواقعة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫فأنزل ّ‬
‫ش ْه ِر ا ْحلَر ِام «‪ »2‬أي من استحل دمكم يف الشهر احلرام فاستحلوا دمه فيه‪.‬‬ ‫ام ِابل ه‬ ‫ال ه‬
‫ش ْه ُر ا ْحلَر ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)114 /2‬‬
‫(‪ )2‬انظر ما ذكره اجلصاص يف كتابه أحكام القرآن (‪ ، )261 /1‬والقرطيب يف تفسريه اجلامع‬
‫ألحكام القرآن (‪.)333 /2‬‬

‫ص ‪105 :‬‬
‫صاص إن جرينا على ما روي عن ابن عباس يكون املراد ابحلرمات ‪:‬‬ ‫وا ْحلرما ُ ِ‬
‫تق ٌ‬ ‫َ ُُ‬
‫الشهر احلرام ‪ ،‬والبلد احلرام ‪ ،‬وحرمة اإلحرام ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬أهنم ملا أضاعوا هذه احلرمات يف سنة‬
‫الل عنها يف سنة سبع‪.‬‬
‫عوضكم ّ‬
‫ست ‪ ،‬فقد ّ‬
‫وإن جرينا على ما روي عن احلسن فيكون املعىن ‪ :‬إن أقدموا على مقاتلتكم ومل يراعوا حرمة‬
‫األشهر احلرم فقاتلوهم‪ .‬فَ َم ِن ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا َعلَْيهِ ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم أي ‪ :‬فمن‬
‫ني ابملعونة والنصر‪.‬‬ ‫اللَ َم َع ال ُْمت ِهق َ‬
‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬
‫اعتدى عليكم فقابلوه ابعتداء مثله َواته ُقوا ه‬
‫َح ِسنُوا إِ هن ه‬
‫اللَ ُِحيب‬ ‫اللِ وال تُلْ ُقوا ِأبَي ِدي ُكم إِ َىل الت ْ ِ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وأَنْ ِف ُقوا ِيف َسبِ ِ‬
‫ههلُ َكة َوأ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫يل ه َ‬ ‫قال ّ‬
‫ني (‪.)195‬‬ ‫ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ملا كان الكالم يف القتال ‪ :‬وهو كما حيتاج إىل األنفس حيتاج إىل األموال ‪ -‬ورمبا كان من عنده‬
‫الل األغنياء أن ينفقوا يف سبيل‬
‫مال ال يقدر على النزال ‪ ،‬وقد يكون الشجاع ال مال له ‪ -‬أمر ّ‬
‫الل على الفقراء الذين ال جيدون ما حيملون أنفسهم عليه يف القتال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫صاص قال رجل من‬ ‫ش ْه ِر ا ْحلر ِام وا ْحلرما ُ ِ‬
‫ام ِابل ه‬ ‫ويروى أنه ملا نزل قوله تعاىل ‪ :‬ال ه‬
‫تق ٌ‬ ‫َ َ ُُ‬ ‫ش ْه ُر ا ْحلَر ُ‬
‫الل ما لنا زاد ‪ ،‬وليس أحد يطعمنا‪ .‬فأمر عليه الصالة والسالم أن‬ ‫والل اي رسول ّ‬
‫احلاضرين ‪ّ :‬‬
‫الل ‪ ،‬وأن يتص ّدقوا ‪ ،‬وال يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق مترة حتمل يف سبيل‬ ‫ينفقوا يف سبيل ّ‬
‫الل‪.‬‬
‫الل‪ .‬فنزلت اآلية على وفق ما قال رسول ّ‬
‫ّ‬
‫واإلنفاق ‪ :‬هو صرف املال يف وجوه املصاحل ‪ ،‬ولذلك ال يقال للمضيّع إنه منفق ‪ ،‬وإذا قيّد‬
‫الل دينه‪.‬‬
‫الل فاملراد به يف طريق الدين ‪ ،‬ألن السبيل هي الطريق ‪ ،‬وسبيل ّ‬
‫بكونه يف سبيل ّ‬
‫فاللفظ يتناول كل القرابت‪ .‬من جهاد وحج وغري ذلك ‪ ،‬إال أ ّن األقرب محل اآلية على االنفاق‬
‫يف اجلهاد ‪ ،‬ألن الكالم فيه‪.‬‬
‫ههلُ َكةِ قيل ‪ :‬الباء يف قوله ‪ِ :‬أبَيْ ِدي ُك ْم زائدة ‪ ،‬ويكون املعىن ‪:‬‬
‫َوال تُلْ ُقوا ِأبَيْ ِدي ُك ْم إِ َىل الت ْ‬
‫ال تلقوا أيديكم ‪ ،‬وهو كقول القائل ‪ :‬أخذت القلم ‪ ،‬وأخذت ابلقلم ‪ ،‬مبعىن واحد ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫املراد ابأليدي األنفس ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ال تلقوا أبنفسكم إىل التهلكة ‪ ،‬وقد جاء استعمال اليد يف‬
‫ت أَيْ ِدي ُك ْم [الشورى ‪ ]30 :‬وقال‬
‫سبَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ت يَداهُ [الكهف ‪ ]57 :‬فَبما َك َ‬
‫هم ْ‬
‫النفس يف قوله ‪ :‬ما قَد َ‬
‫آخرون ‪ :‬إ ّن يف الكالم حذفا ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬وال تلقوا أنفسكم أبيديكم إىل التهلكة ‪ ،‬والتهلكة ‪:‬‬
‫اهلالك ‪ ،‬يقال ‪ :‬هلك يهلك هالكا وهلكا وهتلكة‪.‬‬

‫ص ‪106 :‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬وال أعلم مصدرا جاء يف لغة العرب على تفعلة بضم العني إال هذا ‪ ،‬قال أبو علي‬
‫‪ :‬حكاه سيبويه «‪ »1‬يف التّبصرة وقال صاحب الكشاف «‪ : »2‬وجيوز أن يكون أصله التّهلكة‬
‫بكسر الالم ‪ ،‬كالتجربة ‪ ،‬والتبصرة ‪ ،‬فأبدلت الكسرة ضمة ‪ ،‬كما جاء اجلوار يف اجلوار‪.‬‬
‫ويعجبنا قول الفخر الرازي يف هذا املقام ‪ :‬إين ألتعجب هلؤالء النحويني يف أمثال هذه املواضع ‪،‬‬
‫وذلك أهنم لو وجدوا من الشعر جمهوال يشهد ملا أرادوا طاروا به فرحا ‪ ،‬واختذوه حجة قوية ‪،‬‬
‫الل املشهود له أبنه يف أعلى درجات البالغة ‪ -‬أوىل أبن‬
‫أفال يكون ورود هذا اللفظ يف كالم ّ‬
‫يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها؟‬
‫وقد اختلف املفسرون يف املراد ابلتهلكة هنا ‪ -‬فمنهم من قال ‪ :‬التهلكة أال ينفقوا يف مهمات‬
‫الل ملا أمرهم‬
‫عدوهم ‪ ،‬ويهلكهم وهناك وجه آخر ‪ :‬وهو أن ّ‬
‫اجلهاد أمواهلم ‪ ،‬فيستويل عليهم ّ‬
‫الل ‪ ،‬وهذا قد يؤدي إىل هالكه قال ‪َ :‬وال‬ ‫ابإلنفاق ‪ ،‬وكان الرجل رمبا استنفد ماله يف مرضاة ّ‬
‫ههلُ َكةِ أي ال جتهزوا على املال ابلنفقة ‪ ،‬بل أبقوا بعضه ‪ ،‬وأنفقوا بعضه ‪،‬‬ ‫تُلْ ُقوا ِأبَيْ ِدي ُك ْم إِ َىل الت ْ‬
‫ك قَواماً‬ ‫ني ذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫وهو حينئذ يف معىن قوله تعاىل ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين إِذا أَنْ َف ُقوا َملْ يُ ْس ِرفُوا َوَملْ يَ ْق ُرتُوا َوكا َن بَ َْ‬
‫سطْها ُك هل الْبَ ْس ِط فَتَ ْقعُ َد‬ ‫ك َوال تَ ْب ُ‬ ‫(‪[ )67‬الفرقان ‪ ]67 :‬وقوله ‪َ :‬وال َجتْ َع ْل يَ َد َك َمغْلُولَةً إِىل عُنُ ِق َ‬
‫سوراً (‪[ )29‬اإلسراء ‪.]29 :‬‬
‫َملُوماً َْحم ُ‬
‫وقيل بل هي هني عن اإلخالل مبا يتطلبه اجلهاد ‪ ،‬فيتعرضوا للهالك الذي هو عذاب ‪ ،‬وقيل غري‬
‫اللَ ُِحيب ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ني أي وأحسنوا يف االنفاق أبن جتعلوه وسطا ال إسراف فيه‬ ‫َح ِسنُوا إِ هن ه‬
‫هذا ‪َ ،‬وأ ْ‬
‫وال تقتري‪.‬‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي َوال َحتْلِ ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم‬ ‫ُح ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫استَ ْي َ‬
‫ص ْر ُْمت فَ َما ْ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وأَمتوا ا ْحلَ هج َوالْعُ ْم َرةَ هلل فَِإ ْن أ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫ص َدقَةٍّ أ َْو‬ ‫ص ٍّ‬ ‫ح هىت ي ْب لُ َغ ا ْهلَ ْدي َِحملههُ فَمن كا َن ِمنْ ُكم م ِريضاً أَو بِهِ أَذى ِمن رأ ِْسهِ فَ ِف ْديةٌ ِمن ِ‬
‫يام أ َْو َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نُ ٍّ‬
‫ام ثَالثَة أَ هايٍّم‬ ‫س َر م َن ا ْهلَ ْد ِي فَ َم ْن َملْ َِجي ْد فَصي ُ‬ ‫هع ِابلْعُ ْم َرة إِ َىل ا ْحلَ ِّج فَ َما ْ‬
‫استَ ْي َ‬ ‫سك فَِإذا أَم ْن تُ ْم فَ َم ْن متََت َ‬ ‫ُ‬
‫ك لِمن َمل ي ُكن أَ ْهلُهُ ِ‬
‫حاض ِري الْ َم ْس ِج ِد ا ْحلَرامِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍّ‬
‫ِيف ا ْحلَ ِّج َو َس ْب َعة إذا َر َج ْعتُ ْم تل َ‬
‫ش َرةٌ كاملَةٌ ذل َ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫ْك َع َ‬
‫قاب (‪َ )196‬وأَِمتوا ا ْحلَ هج َوالْعُ ْم َرةَ اختلف العلماء يف إمتام‬ ‫اللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬ ‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬ ‫َواته ُقوا ه‬
‫احلج والعمرة ما هو؟‬
‫فقيل ‪ :‬أداؤَها ‪ ،‬واإلتيان هبما من غري أن يفعل يف أثنائهما شيئا من احملظورات ‪ ،‬وقد جييء‬
‫اإلمتام مبعىن أصل الفعل ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬عمرو بن عثمان بن قنرب احلارثي ‪ ،‬عامل النحو ‪ ،‬صنف كتااب مساه الكتاب ‪ ،‬أخذ عن اخلليل‬
‫‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)81 /5‬‬
‫(‪ ) 2‬انظر تفسري ‪ :‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ‪،‬‬
‫للزخمشري (‪.)238 /1‬‬

‫ص ‪107 :‬‬
‫ِ‬ ‫اهيم ربهُ بِ َكلِ ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يام إِ َىل اللهْي ِل أي‬ ‫مات فَأََمتهُه هن أي فعلها ‪ ،‬وكما يف قوله ‪ :‬مثُه أَمتوا ِّ‬
‫الص َ‬ ‫َوإِذ ابْ تَلى إِبْر َ َ‬
‫أدوه ‪ ،‬وقد علمت ما فيه سابقا‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ :‬إمتامهما أن خترج هلما ال لغريَها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إمتامهما فعل كل واحد منهما‬
‫منفردا ‪ ،‬من غري متتع وال قران ‪ ،‬قال ابن حبيب «‪ : »1‬وقيل إمتامهما أن ال يستحل فيهما ما ال‬
‫ينبغي‪ .‬وقيل ‪ :‬إمتامهما أن حيرم هلما من دويرة أهله‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫أن ينفق يف سفرَها احلالل الطيب‪.‬‬
‫وقد ذكر يف أسباب النزول رواايت كثرية يرجع إليها هذا اخلالف ‪ ،‬وأيخذ منها املختلفون ما‬
‫يؤيّد مذهبهم ‪ ،‬ال نريد اإلطالة بذكرها ‪ ،‬وقد اتفق العلماء على فرضية احلج ‪ ،‬واختلفوا يف‬
‫جمردا‬
‫احلج جاء ذكره فيها ّ‬ ‫العمرة ‪ ،‬وذلك أن كثريا من اآلايت ‪ ،‬بل كل اآلايت اليت طلب فيها ّ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال [آل عمران ‪َ ]97 :‬وأَ ِذّ ْن ِيف‬ ‫هاس ِحج الْب ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫عن ذكر العمرة َو ِهللِ َعلَى الن ِ‬
‫َ‬
‫جاال و َعلى ُك ِل ِ‬ ‫هاس ِاب ْحلَ ِّج َأيْتُ َ‬
‫ضام ٍّر [احلج ‪.]27 :‬‬ ‫ّ‬ ‫وك ِر ً َ‬ ‫الن ِ‬
‫واألحاديث الصحيحة اليت بيّنت قواعد اإلسالم مل يرد فيها ذكر العمرة ‪ ،‬نعم جاء ذكر العمرة‬
‫ت أَ ِو‬ ‫صفا َوال َْم ْرَوةَ ِم ْن َشعائِ ِر ه‬
‫اللِ فَ َم ْن َح هج الْبَ يْ َ‬ ‫مع احلج عند بيان الكيفيات ‪ ،‬كقوله ‪ :‬إِ هن ال ه‬
‫ف هبِِما وقوله ‪َ :‬وأَِمتوا ا ْحلَ هج َوالْعُ ْم َرةَ ِهللِ إىل قوله ‪:‬‬ ‫ناح َعلَْيهِ أَ ْن يَطه هو َ‬‫ا ْعتَ َم َر فَال ُج َ‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هع ِابلْعُ ْم َرة إِ َىل ا ْحلَ ِّج فَ َما ْ‬
‫استَ ْي َ‬ ‫فَ َم ْن متََت َ‬
‫احلج فريضة‪.‬‬
‫فقال بعض العلماء ‪ :‬إ ّن ذلك يقتضي أن ال يكوان سواء يف احلكم ‪ ،‬فالعمرة سنّة و ّ‬
‫الشافعي وأمحد وابن اجلهم من املالكية ‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫كاحلج وبه أخذ‬ ‫ّ‬ ‫وذهب مجاعة إىل أ ّن العمرة واجبة‬
‫مذهب علي ‪ ،‬وابن عمر وابن عباس ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ ،‬والنخعي ‪ ،‬وأبو حنيفة ‪( :‬و روي عنه الوجوب) إن ‪ :‬العمرة سنة ‪ ،‬وهو مذهب‬
‫الل ‪ ،‬ولنذكر طرفا من مجلة ما استدل به الفريقان ‪:‬‬
‫ابن مسعود وجابر بن عبد ّ‬
‫استدل األولون ‪ :‬مبا‬
‫فليهل‬
‫ّ‬ ‫الل عليه وسلّم أنه قال ألصحابه «من كان معه هدي‬
‫الصحيح عن النيب صلّى ّ‬
‫روي يف ّ‬
‫حبج وعمرة» «‪.»2‬‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬عبد امللك بن حبيب بن سليمان أبو مروان القرطيب ‪ ،‬صاحب كتاب الواضحة يف الفقه ‪،‬‬
‫عامل األندلس وفقيهها ‪ ،‬زار مصر كان عاملا ابلتاريخ تويف بقرطبة ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/4‬‬
‫‪.)157‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )870 /2‬كتاب احلج ‪ ، 17 ،‬ابب بيان وجوه اإلحرام‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)1211 /111‬‬

‫ص ‪108 :‬‬
‫احلج إىل يوم القيامة» «‪.»1‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬دخلت العمرة يف ّ‬
‫الصحيح أيضا قال صلّى ّ‬
‫ويف ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وأخرج ال ّدار قطين واحلاكم من حديث زيد بن اثبت قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫يضرك أبيهما بدأت» «‪.»2‬‬
‫احلج والعمرة فريضتان ال ّ‬
‫‪« :‬إ ّن ّ‬
‫واستدل اآلخرون ‪:‬‬
‫ّ‬
‫مبا أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أيب شيبة وعبد بن محيد عن أيب صاحل احلنفي قال ‪ :‬قال‬
‫تطوع» وأخرج ابن ماجه مثله «‪»3‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬احلج جهاد والعمرة ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم عن العمرة‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وصححه ‪ ،‬عن جابر أن رجال سأل رسول ّ‬
‫‪ ،‬وأخرج الرتمذي ّ‬
‫‪ ،‬أواجبة هي؟ قال ‪« :‬ال‪ .‬وأن تعتمروا خري لكم» «‪»4‬‬
‫صرح فيها بلفظ الفريضة أبن ذلك بعد الشروع فيها ‪ ،‬وهي‬
‫‪ ،‬وأجاب هؤالء عن األحاديث اليت ّ‬
‫حينئذ واجبة بال خالف ‪ ،‬وهذا وإن كان فيه بعد ‪ ،‬لكنه جيب املصري إليه مجعا بني األدلة ‪ ،‬قاله‬
‫الشوكاين‪ .‬وقال ‪ :‬وعلى هذا حيمل سائر ما فيه داللة على وجوهبا ‪ ،‬كالذي أخرجه الشافعي يف‬
‫«األم» ‪ :‬أ ّن العمرة هي احلج األصغر‪.‬‬
‫كذلك جيب محل األحاديث اليت قرن فيها احلج والعمرة على أهنما من أفضل األعمال ‪ ،‬وأهنما‬
‫كفارة ملا بينهما «‪ ، »5‬وأهنما يهدمان ما قبلهما وحنو ذلك اه‪.‬‬
‫وأما اآلية اليت معنا فالتعبري ابإلمتام مشعر أبهنما كان قد شرع فيهما ‪ ،‬وقد علمت سابقا أ ّن‬
‫تسمى‬
‫آايت القتال كانت يف صلح احلديبية ‪ ،‬وأهنم كانوا شرعوا يف العمرة وص ّدوا عنها ‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫العمرة اليت وقعت يف سنة سبع عمرة القضاء ‪ ،‬فالتعبري ابإلمتام ظاهر النكتة ‪ ،‬ال حيتاج إىل احلمل‬
‫على أصل الفعل‪.‬‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي‪.‬‬
‫استَ ْي َ‬
‫ُح ِ‬
‫ص ْرُْمت فَ َما ْ‬ ‫فَِإ ْن أ ْ‬
‫احلصر ‪ :‬احلبس ‪ ،‬قال أبو عبيدة «‪ »6‬والكسائي ‪ ،‬واخلليل ‪ :‬يقال أحصر ابملرض ‪ ،‬وحصر‬
‫ابلعدو ‪ ،‬ويف «اجململ» البن فارس «‪ »7‬ابلعكس ‪ ،‬يقال ‪ :‬أحصر ابلعدو وحصر‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )886 /2‬كتاب احلج ‪ - 19 ،‬ابب حجة النيب صلّى‬
‫الل عليه وسلّم حديث رقم (‪.)2118 /147‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )2‬سننه ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬بريوت دار املعرفة ‪.)284 /2( 1986‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )995 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب العمرة حديث رقم‬
‫(‪.)2989‬‬
‫(‪ )4‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )270 /3‬يف كتاب احلج ابب ما جاء يف العمرة حديث‬
‫رقم (‪.)931‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 26 ، )240 /2‬كتاب العمرة ‪ - 1 ،‬ابب العمرة حديث‬
‫رقم (‪.)1773‬‬
‫(‪ )6‬معمر بن مثىن أبو عبيدة البصري النحوي ‪ ،‬له مصنفات بلغت املائتني تويف سنة (‪ 209‬ه)‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)272 /7‬‬
‫(‪ )7‬أمحد بن فارس القزويين اللغوي تويف (‪ 395‬ه) يف الري ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/1‬‬
‫‪.)193‬‬

‫ص ‪109 :‬‬
‫الزجاج ‪:‬‬
‫ورجح األول ابن العريب «‪ »1‬وقال ‪ :‬رأي أكثر أهل اللغة «‪ ، »2‬وقال ّ‬
‫ابملرض ‪ّ ،‬‬
‫الفراء ‪َ :‬ها مبعىن واحد يف املرض والعدو ‪ ،‬ووافقه على‬
‫إنّه كذلك عند مجيع أهل اللغة‪ .‬وقال ّ‬
‫ذلك أبو عمرو الشيباين «‪.»3‬‬
‫وبسبب هذا االختالف بني أهل اللغة اختلف أئمة الفقه ‪ ،‬فذهب احلنفية إىل أ ّن احملصر من‬
‫عدو ‪ ،‬أو غريه ‪ ،‬وذهب الشافعية إىل أن‬
‫يصري ممنوعا من دخول مكة بعد اإلحرام مبرض ‪ ،‬أو ّ‬
‫اإلحصار معناه ‪ :‬املنع ابلعدو‪.‬‬
‫وقال الفخر الرازي ‪ :‬وفائدة هذا اخلالف تظهر يف مسألة فقهية ‪ ،‬وهي أهنم اتفقوا على أ ّن حكم‬
‫اإلحصار يف احلصر ابلعدو اثبت ‪ ،‬وهل يثبت ابملرض وسائر املوانع أو ال؟‬
‫قال أبو حنيفة ‪ :‬يثبت ‪ ،‬وقال الشافعي ‪ :‬ال يثبت ‪ ،‬وحجة أيب حنيفة ظاهرة على مذهب أهل‬
‫اللغة ‪ ،‬وذلك ألن أهل اللغة رجالن ‪:‬‬
‫نصا فيه‪.‬‬
‫خمتص ابملرض‪ .‬فتكون اآلية ّ‬
‫أحدهم ‪ :‬الذي قال ‪ :‬اإلحصار ّ‬
‫والثاين ‪ :‬الذي قال ‪ :‬إ ّن اإلحصار اسم ملطلق احلبس ‪ ،‬سواء كان حاصال بسبب املرض ‪ ،‬أو‬
‫مسمى‬
‫الل تعاىل علّق احلكم على ّ‬
‫بسبب العدو‪ .‬وحجة أيب حنيفة على هذا ظاهرة أيضا ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫اإلحصار ‪ ،‬وهو عام ‪ ،‬فتناول الكل‪.‬‬
‫نعم إ ّن هناك قوال اثلثا ‪ ،‬وهو أن اإلحصار يف احلصر ابلعدو‪ .‬قال الفخر ‪ :‬وهو ابطل ابتفاق‬
‫أهل اللغة ‪ ،‬وبتقدير ثبوته‪ .‬فنحن نقيس املرض على العدو جبامع احلرج ‪ ،‬وهو قياس جلي ‪ ،‬وقد‬
‫مروي‬
‫استدل الشافعية ملذهبهم بوجوه منها أ ّن رأينا وإن كان َيالف رواايت أهل اللغة إال أنه ّ‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وَها أوىل ‪ ،‬ألهنّما من أهل اللغة‪ .‬وأدرى بتفسري «القرآن»‪.‬‬
‫على أان نقول ‪ :‬إ ّن احلصر عبارة عن املنع ‪ ،‬وال يقال ‪ :‬إ ّن اإلنسان ممنوع عن كذا إال إذا كان‬
‫ص ْر ُْمت معناها ‪ :‬منعتم ‪ ،‬واملنع‬ ‫ُح ِ‬‫متم ّكنا منه قادرا عليه ‪ ،‬وذلك يف العدو ‪ ،‬ال يف املرض ‪ ،‬وأيضا أ ْ‬
‫ال ب ّد له من مانع ‪ ،‬وال يسند الفعل إىل املرض عقال ‪ ،‬ألنّه مرض ال يبقى زمانني ‪ ،‬فكيف يقال ‪:‬‬
‫إنه مانع؟ وأنت ترى أهنم يف هذا يستعملون القياس يف اللغة‪.‬‬
‫س َر ِم َن‬ ‫ِ‬
‫هع ِابلْعُ ْم َرة إِ َىل ا ْحلَ ِّج فَ َما ْ‬
‫استَ يْ َ‬
‫ِ‬
‫الل تعاىل قال يف اآلية ‪ :‬فَِإذا أَم ْن تُ ْم فَ َم ْن متََت َ‬
‫وقالوا أيضا إن ّ‬
‫ا ْهلَ ْد ِي‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬هو حممد بن عبد هللا بن حممد املعافري اإلشبيلي املالكي تويف (‪ 543‬ه) يف فاس ‪ ،‬من‬
‫حفاظ احلديث ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)230 /6‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن البن العريب ط ‪ ، 2‬بريوت ‪ ،‬دار الفكر ‪- 119 /1( 1967 ،‬‬
‫‪.)124‬‬
‫(‪ )3‬إسحاق بن مرار الشيباين ابلوالء النحوي اللغوي سكن بغداد وتويف فيها سنة (‪ 206‬ه) ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)296 /1‬‬

‫ص ‪110 :‬‬
‫ولفظ األمن إمنا يستعمل يف اخلوف من العدو ‪ ،‬ال يف املرض ‪ ،‬وقد أورد عليه أننا مننع أن يكون‬
‫األمن قاصرا على األمن من العدو ‪ ،‬ولئن سلّم ‪ :‬فخصوص بعض أفراد العام حبكم ذكر يف آخر‬
‫اآلية ال يذهب بعموم أوهلا يف حكم غري هذا اخلاص‪.‬‬
‫س َر تيسر ‪ ،‬كاستعظم تعظم ‪ ،‬واستكرب تكرب‪.‬‬‫استَ يْ َ‬
‫ْ‬
‫ا ْهلَ ْد ِي مجع هدية كما تقول ‪ :‬متر ومترة ‪ ،‬ويف اهلدي تشديد للياء وختفيفها ‪ ،‬واهلدي ما يهدى إىل‬
‫الل ‪ ،‬وقد روي عن علي ‪ ،‬وابن عباس واحلسن‪ .‬وقتادة ‪ :‬اهلدي‬
‫وجل تقراب إىل ّ‬
‫عز ّ‬‫الل ّ‬
‫بيت ّ‬
‫أعاله بدنة ‪ ،‬وأوسطه بقرة ‪ ،‬وأخسه شاة ‪ ،‬فعليه ما تيسر من هذه األجناس‪ .‬وهو مذهب مالك‬
‫‪ ،‬وأيب حنيفة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأمحد ‪ ،‬وابن شربمة «‪ ، »1‬غري أنه جعل البدن خاصة ابإلبل ‪ ،‬وهم‬
‫جعلوها يف اإلبل والبقر ‪ ،‬واخلالف يف السن اجملزئ يعرف يف الفقه ‪ ،‬مث إن حقيقة احلج والعمرة‬
‫املفسرون هنا أقسام احلج ‪ :‬اإلفراد ‪ ،‬والقران ‪ ،‬والتمتع ‪ ،‬وحقائقها‬
‫معروفة يف الفقه ‪ ،‬وقد ذكر ّ‬
‫أيضا معروفة يف الفقه‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف أيها أفضل؟ فقال الشافعي ‪ :‬أفضلها اإلفراد ‪ ،‬مث التمتع مث القرآن ‪،‬‬
‫الل عنه‪.‬‬
‫وعنه ‪ :‬إ ّن التمتع أفضل من اإلفراد ‪ ،‬وهو مروي عن مالك رضي ّ‬
‫إن التمتع جاء ذكره يف القران‪ .‬ومل جيئ القران‪.‬‬
‫وللشافعي‬
‫قوله عليه الصالة السالم ‪« :‬القرآن رخصة» «‪»2‬‬
‫وأل ّن يف اإلفراد زايدة التلبية والسفر ‪ ،‬واحللق‪.‬‬
‫واحلنفية احتجوا مبا‬
‫حبج وعمرة معا» «‪»3‬‬
‫الل عليه وسلّم «اي آل حممد! أهلّوا ّ‬
‫روي عن النيب صلّى ّ‬
‫والذي يعنينا هو ‪ :‬هل يف اآلية ما يؤيّد واحدا من هذه املذاهب؟ ترى أن اآلية ليس فيها ما‬
‫يصلح حجة لواحد من اآلراء‪ .‬فليس فيها إال األمر ابإلمتام ‪ ،‬وهو ال يقتضي شيئا منها ‪ ،‬فاملدار‬
‫يف إثبات املذاهب على السنة والرتجيح فيها‪.‬‬
‫الل تعاىل يقول ‪:‬‬
‫مث إن اإلحصار كما يكون عن احلج يكون عن العمرة ‪ ،‬ألن ّ‬
‫ص ْرُْمت ومعناه منعتم ‪ ،‬وهو إبطالقه ينصرف إىل املنع مما تقدم‪ .‬والذي تقدم هو قوله ‪:‬‬ ‫ُح ِ‬
‫فَِإ ْن أ ْ‬
‫َوأَِمتوا ا ْحلَ هج َوالْعُ ْم َرةَ ِهللِ فيكون املنع منهما سواء‪.‬‬
‫ي َِحملههُ قد اختلف السلف يف املكان الذي يذبح فيه‬ ‫ِ‬
‫َوال َحتْل ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم َح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫__________‬
‫الل بن شربمة ‪ ،‬فقيه العراق ‪ ،‬أبو شربمة ‪ ،‬قاضي الكوفة وكان شاعرا تويف سنة (‪144‬‬
‫(‪ )1‬عبد ّ‬
‫ه) انظر سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )500 /6‬ترمجة (‪.)980‬‬
‫(‪ ) 2‬قال الزيلعي ‪ :‬غريب جدا انظر نصب الراية يف ختريج أحاديث اهلداية للزيلعى (‪.)115 /3‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪.)298 /6‬‬

‫ص ‪111 :‬‬
‫الل بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس وجماهد واحلسن وابن سريين ‪ :‬هو‬
‫اهلدي ‪ ،‬فقال عبد ّ‬
‫احلرم ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية «‪ »1‬والثوري‪.‬‬
‫وقال مالك والشافعي ‪ :‬حمله املوضع الذي أحصر فيه ‪ ،‬فيذحبه وحيل ‪ ،‬وذلك أ ّن معىن قوله تعاىل‬
‫ي َِحملههُ ال حتلوا من إحرامكم حىت تعلموا أ ّن اهلدي الذي‬ ‫ِ‬
‫‪َ :‬وال َحتْل ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم َح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫بعثتموه إىل احلرم قد بلغ حمله ‪ ،‬والكالم يف هذا احملل ‪ ،‬ألنه حيتمل أن يراد منه الوقت الذي‬
‫يذبح فيه ‪ ،‬وحيتمل أن يراد منه املوضع‪.‬‬
‫فذهب الشافعية وأهل املدينة إىل أن املراد منه الوقت الذي يذبح فيه ‪ ،‬إذا جاء يف موضع‬
‫الل عليه وسلّم ذبح فيه حيث أحصر يف عام احلديبية‪.‬‬
‫اإلحصار ‪ ،‬ألن النيب صلّى ّ‬
‫حمل ال ّدين ‪ :‬أي وقته ‪،‬‬
‫وذهب احلنفية إىل أنه احلرم ‪ ،‬ألن احملل وإن كان حيتمل الوقت ‪ ،‬ومنه ّ‬
‫ي َِحملههُ فلو كان هدي اإلحصار يذبح يف موضع‬
‫الل تعاىل يقول ‪َ :‬ح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫غري أن ّ‬
‫اإلحصار لكان اهلدي ابلغا حمله ‪ ،‬وحينئذ يكون قوله حىت يبلغ اهلدي حمله الغيا‪.‬‬
‫عام إِهال ما يُ ْتلى َعلَْي ُك ْم إىل أن قال ‪:‬‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وأ ُِحله ْ‬
‫ت لَ ُك ُم ْاألَنْ ُ‬ ‫وقد قال ّ‬
‫يق (‪[ )33‬احلج ‪ ]33 - 30 :‬والظاهر‬ ‫لَ ُكم فِيها منافِع إِىل أَج ٍّل مس ًّمى مثُه َِحملها إِ َىل الْب يْ ِ‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ي َحملههُ فقد‬
‫أ ّن ذلك يف كل اهلدااي بال فرق‪ .‬وكأ ّن اآلية بيان لإلمجال يف قوله ‪َ :‬ح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫الل حمل اهلدي البيت العتيق ‪ ،‬فليس ألحد أن جيعله يف غريه‪.‬‬ ‫جعل ّ‬
‫فبني أن الشرط يف اهلدي‬ ‫الل يف جزاء الصيد ‪َ :‬ه ْدايً ابلِ َغ الْ َك ْعبَةِ [املائدة ‪ّ ]95 :‬‬ ‫وأيضا فقد قال ّ‬
‫تغري هذه الصفة ‪ ،‬كما مل يصح تغيري التتابع يف‬ ‫أن يكون على صفة بلوغ الكعبة ‪ ،‬فال يصح أن ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫صوم ك ّفارة الظهار‪ .‬هذا جممل أدلة احلنفية ‪ ،‬وقد أجابوا عن فعل النيب صلّى ّ‬
‫وأصحابه يف عام احلديبية فقالوا ‪ :‬إن الذبح يف طرف احلرم من جهة احلديبية‪.‬‬
‫ِ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وأيضا قوله تعاىل ‪ُ :‬ه ُم الهذ َ‬
‫ين‬ ‫والشافعية وأهل املدينة استدلوا بفعل النيب صلّى ّ‬
‫ي َم ْع ُكوفاً أَ ْن يَ ْب لُ َغ َِحملههُ ّ‬ ‫ِِ‬
‫يدل عليه ‪ ،‬بل إنه لو كان‬ ‫صدوُك ْم َع ِن ال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام َوا ْهلَ ْد َ‬
‫َك َف ُروا َو َ‬
‫الذبح يف احلرم ملا قال ‪َ :‬م ْع ُكوفاً أَ ْن يَ ْب لُ َغ َِحملههُ أي احلرم ‪ ،‬فيكون النيب صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم قد‬
‫ذبح يف احلل ‪ ،‬ال يف احلرم‪.‬‬
‫يستحب أن يكون الذبح عند املروة مبىن ‪ ،‬فلما منع املشركون اهلدي أن‬
‫ّ‬ ‫واحلنفية يقولون ‪ :‬إنه‬
‫يبلغ هذا احملل ‪ ،‬كان اهلدي معكوفا أن يبلغ احملل األفضل ‪ ،‬وإن كان الذبح واقعا يف احلرم ‪ ،‬هذا‬
‫جممل األدلة والشبه من الفريقني‪.‬‬
‫مث إ ّن العلماء مل َيتلفوا يف أن هدي العمرة غري مؤقّت بزمن خمصوص ‪ ،‬بل له أن يذبح‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪].....[ .)196 /1‬‬

‫ص ‪112 :‬‬
‫مىت شاء ‪ ،‬وحيل ‪ ،‬واختلفوا يف هدي اإلحصار يف احلج ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي ‪ :‬له‬
‫أن يذحبه مىت شاء وحيل‪ .‬وقال أبو يوسف والثوري وحممد ‪ :‬ال يذحبه قبل يوم النحر‪.‬‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي عام يف كل األوقات مىت حصل اإلحصار ‪،‬‬
‫استَ ْي َ‬
‫وجه األولني أن قوله ‪ :‬فَ َما ْ‬
‫فتخصيصه بوقت إخراج للعام عن عمومه من غري دليل ‪ ،‬وأيضا فإن االتفاق حاصل بني اجلميع‬
‫أن حكم اإلحصار ابلعمرة ال توقيت فيه ‪ ،‬وهو مستفاد من قوله ‪:‬‬
‫ي َِحملههُ وهذا دم إحصار وذلك دم إحصار الفرق حت ّكم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َوال َحتْل ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم َح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫على أن املعقول يف دم اإلحصار أن ال يتوقت بزمن غري زمن اإلحصار ملا قد ينشأ عن بقاء‬
‫اإلحرام ‪ -‬حىت جييء يوم النحر ‪ -‬من الضرر‪ .‬نعم قد يعقل أن َيتص ذبح دم اإلحصار ابملكان‬
‫ملعىن يف املكان ‪ :‬كسد حاجة فقراء احلرم ‪ ،‬أو ما شاكل ذلك ‪ ،‬وال جند هذا املعىن يف التخصيص‬
‫ابلزمان بعد وجود اإلحصار وعدم التمكن من الوصول إىل احلرم‪.‬‬
‫ص َدقَةٍّ أَو نُس ٍّ‬
‫ك ‪ ،‬املراد ابملرض‬ ‫ص ٍّ‬‫فَمن كا َن ِمنْ ُكم م ِريضاً أَو بِهِ أَذى ِمن رأ ِْسهِ فَ ِف ْديةٌ ِمن ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫يام أ َْو َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬
‫هنا أدىن ما يصدق عليه اسم املرض‪ .‬أل ّن املرض الشديد الذي مينع من متام النسك يثبت به‬
‫اإلحصار عند احلنفية ‪ ،‬وهذا أحد الشبه اليت للشافعية أن يستدلوا هبا على أن املرض ال يثبت‬
‫به اإلحصار ‪ ،‬ألنّه قد ّبني حكمه ‪ ،‬هنا ‪ ،‬وإن كان للحنفية أن يقولوا ‪:‬‬
‫دال على أن هذا حكم املرض اليسري الذي‬
‫إ ّن وجود الصوم بني هذه األشياء اليت جرب فيها ّ‬
‫يقدر صاحبه على الصوم معه ‪ ،‬وهذا ال نقول له حتلل ابهلدي ‪ ،‬بل عليه إمتام النسك ‪ ،‬مث إن‬
‫َذى ِم ْن َرأ ِْسهِ مشري إليه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قوله ‪ :‬أ َْو بِه أ ً‬
‫َذى ِم ْن َرأ ِْسهِ فحلق فالواجب فدية ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويف اآلية حذف تقديره ‪ :‬فَ َم ْن كا َن م ْن ُك ْم َم ِريضاً أ َْو بِه أ ً‬
‫ي َِحملههُ ‪ ،‬وعلى كل حال ‪ -‬فاملراد‬ ‫ِ‬
‫وكأ ّن هذا استثناء من قوله ‪َ :‬وال َحتْل ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم َح هىت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ‬
‫‪ :‬ابملرض واألذى ما حيتاج معه إىل أن يفعل شيئا من حمظورات اإلحرام ‪:‬‬
‫كلبس املخيط ‪ ،‬أو تغطية الرأس ‪ ،‬أو احللق‪ .‬ومل تبني اآلية مقدار الصيام ‪ ،‬وال مقدار الصدقة ‪،‬‬
‫السنّة وكتب الفقه‪.‬‬
‫وال مقدار النسك‪ .‬وإ ّمنا ذلك جنده يف ّ‬
‫وقد ذهب اجلمهور إىل أن الصوم ثالثة أايم ‪ ،‬وهو قول مجاعة السلف ‪ :‬إال ما يروى عن احلسن‬
‫‪ ،‬وعكرمة ‪ :‬أن الصيام عشرة أايم كصوم التمتع ‪ ،‬والعمدة يف هذا الباب حديث كعب بن عجرة‬
‫‪ ،‬وهو ما‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الل بن مغ ّفل أن كعب بن عجرة ح ّدثه «أنه خرج مع ّ‬
‫روي عن عبد ّ‬
‫الل عليه وسلّم فدعا حبالق فحلق رأسه» ‪،‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫فقمل رأسه وحليته ‪ ،‬فبلغ ذلك ّ‬
‫حمرما ّ‬
‫وقال ‪« :‬هل جتد نسكا»؟ فقال ‪ :‬ما أقدر عليه ‪ ،‬فأمره أن يصوم ثالثة أايم ‪ ،‬أو أن يطعم ستّة‬
‫مساكني ‪ ،‬لكل مسكني صاعا «‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن للجصاص (‪.)281 /1‬‬

‫ص ‪113 :‬‬
‫فمرة روي عنه الصدقة بستة صيعان كما رأيت ‪ ،‬على ستة‬
‫واختلفت الرواايت عنه يف الصدقة ‪ّ ،‬‬
‫مساكني ‪ ،‬ومرة بثالثة آصع «‪ ، »1‬على ستة مساكني ‪ ،‬فاضطر اجلمهور إىل اجلمع بينهما ‪،‬‬
‫فحملوا رواية الثالثة آصع ‪ ،‬على طعام القمح ‪ ،‬ألنه املعهود فيه يف سائر الصدقات ‪ ،‬ومحلوا‬
‫رواية الستة آصع على التمر ‪ ،‬وأما النسك فال خالف أنه جتزئ فيه الشاة ‪ ،‬وقد ورد يف أخبار‬
‫كعب بعضها ‪ :‬أنسك نسيكة ‪ ،‬وبعضها ‪ :‬شاة ‪ ،‬فهو إن شاء ذبح شاة وإن شاء ذبح بدنة‪.‬‬
‫خمري بني فعل أي واحد من الثالثة ‪ ،‬يفعل أيها شاء‪ .‬أل ّن هذا ما تقضيه (أو) من‬
‫وال خالف أنه ّ‬
‫التخيري‪.‬‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هع ِابلْعُ ْم َرة إِ َىل ا ْحلَ ِّج فَ َما ْ‬
‫استَ ْي َ‬
‫ِ‬
‫فَِإذا أَم ْن تُ ْم فَ َم ْن متََت َ‬
‫هبذه تعلّق الشافعية أيضا فيما ذهبوا إليه من اإلحصار هو من العدو فحسب ‪ ،‬وقال احلنفية ‪:‬‬
‫هع ِابلْعُ ْم َرةِ إِ َىل ا ْحلَ ِّج ينتظم‬
‫إن األمن كما يكون من العدو يكون من غريه ‪ ،‬مث إ ّن قوله ‪ :‬فَ َم ْن متََت َ‬
‫معنيني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬اإلحالل ‪ ،‬واملتعة ابلنساء‪.‬‬
‫واآلخر ‪ :‬مجع احلج والعمرة يف أشهر احلج ‪ ،‬ومعناه حينئذ ‪ :‬االرتفاق هبما ‪ ،‬وترك إنشاء سفرين‬
‫هلما‪.‬‬
‫وقد كانت العرب تكره العمرة يف أشهر احلج ‪ ،‬وتع ّدها من أفجر الفجور‪ .‬روي عن ابن عباس‬
‫أنه قال ‪ :‬كانوا يرون العمرة يف أشهر احلج من أفجر الفجور يف األرض ‪ ،‬وجيعلون احملرم صفر‪.‬‬
‫ويقولون ‪ :‬إذا برأ ال ّدبر وعفى األثر ‪ ،‬وانسلخ صفر ‪ ،‬حلّت العمرة ملن اعتمر «‪.»2‬‬
‫فاملتعة ابحلج حتتمل املعنيني ‪:‬‬
‫استباحة التمتع ابلنساء ابإلحالل ‪ ،‬واملعىن الثاين ‪ :‬االرتفاق جبمعهما يف أشهر احلج ‪ ،‬بعد أن‬
‫كان ذلك ممنوعا‪.‬‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هع ِابلْعُ ْم َرة إِ َىل ا ْحلَ ِّج فَ َما ْ‬
‫استَ ْي َ‬ ‫وقد اختلف يف قوله تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن متََت َ‬
‫س َر ِم َن ا ْهلَ ْد ِي‬
‫استَ ْي َ‬
‫ُح ِ‬
‫ص ْر ُْمت فَ َما ْ‬ ‫فقال ابن مسعود وعلقمة «‪ : »3‬هو عطف على قوله ‪ :‬فَِإ ْن أ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )185 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 32 ،‬ابب فَ َم ْن‬
‫كا َن ِم ْن ُك ْم َم ِريضاً حديث رقم (‪ ، )4517‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )859 /2‬كتاب‬
‫احلج ‪ - 10 ،‬ابب جواز حلق الرأس حديث رقم (‪.)1201 /80‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 25 ، )185 /2‬كتاب احلج ‪ - 34 ،‬ابب التمتع واإلقران‬
‫واإلفراد ابحلج حديث رقم (‪.)1564‬‬
‫الل النخعي ‪ ،‬أبو شبل ‪ ،‬اتبعي ‪ ،‬كان فقيه العراق ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫(‪ )3‬علقمة بن قيس بن عبد ّ‬
‫للزركلي (‪.)248 /4‬‬

‫ص ‪114 :‬‬
‫فحل من إحرامه هبدي يذحبه ‪ :‬فعليه قضاء عمرة وحجة ‪ ،‬فإن هو‬
‫احلاج إذا أحصر ّ‬
‫واملعىن ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫متتع هبما ‪ ،‬ومجع بينهما يف أشهر احلج يف سفر واحد ‪ :‬فعليه دم آخر للتمتع‪.‬‬
‫حج من عامه ‪ ،‬فال دم عليه للتمتع‪.‬‬
‫وإن اعتمر يف أشهر احلج ‪ ،‬مث رجع إىل أهله‪ .‬مث ّ‬
‫الل بن مسعود ‪ :‬هداين وسفر أو سفران وهدي ‪ ،‬يعين أن من مجع بينهما يف سفر‬
‫قال عبد ّ‬
‫واحد بعد اإلحصار فعليه هداين ‪ :‬هدي اإلحصار ‪ ،‬وهدي التمتع ‪ ،‬وإن فعلهما يف سفرين‬
‫فليس عليه إال هدي اإلحصار‪.‬‬
‫كل مجع بينهما يف سفر واحد‪ .‬سواء أكان حمصرا‪ .‬أم ال‪ .‬ويرى‬
‫ويرى ابن عباس أ ّن اآلية تشمل ّ‬
‫ابن مسعود أن اآلية يف احملصرين فقط‪ .‬ملكان العطف ‪ ،‬وإن كان احلكم واحدا فيمن مجع بينهما‬
‫اإلحصار ‪ ،‬أو لغري اإلحصار‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم رواايت ظاهرها اختالف يف إابحة التمتع ‪،‬‬
‫وقد روي عن أصحاب النيب صلّى ّ‬
‫مبعىن مجع العمرة واحلج يف أشهر احلج ‪:‬‬
‫الل عنه‪ .‬وروي أن‬
‫الل عنه ‪ ،‬وعثمان بن عفان رضي ّ‬
‫فمن روي عنه النهي عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫والضحاك بن قيس عام‬
‫ّ‬ ‫الل بن احلارث بن نوفل ح ّدث أنه مسع سعد بن أيب وقاص‬
‫حممد بن عبد ّ‬
‫حج معاوية وَها يتذاكران التمتع ابلعمرة إىل احلج‪ .‬فقال الضحاك ‪ :‬ال يصنع ذلك إال من جهل‬
‫الضحاك ‪ :‬فإن عمر قد هنى عنه‪ .‬قال‬
‫ّ‬ ‫الل تعاىل‪ .‬قال سعد ‪ :‬بئسما قلت اي ابن أخي! فقال‬
‫أمر ّ‬
‫الل عليه وسلّم وصنعناها معه‪.‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫سعد ‪ :‬صنعها رسول ّ‬
‫وروي عن قتادة أنه قال مسعت جريّر بن كليب يقول ‪ :‬رأيت عثمان ينهى عن املتعة «‪ .»1‬وعلي‬
‫لشرا ‪ ،‬أنت أتمر هبا ‪ ،‬وعثمان ينهى عنها! فقال ‪ :‬ما‬
‫أيمر هبا ‪ ،‬فأتيت عليّا ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إن بينكما ّ‬
‫بيننا إال خري‪ .‬ولكن خريان أتبعنا هلذا الدين «‪.»2‬‬
‫وقد روي عن عثمان وعمر ‪ -‬أهنما ما كاان يقصدان النهي ‪ ،‬وإمنا كاان يقصدان تفريق النسكني ‪،‬‬
‫من أجل أن تستمر عمارة البلد احلرام يف غري أشهر احلج ‪ ،‬وأن يدوم نفع الفقراء طول العام‬
‫ابختالف الناس إىل احلرم يف أشهر احلج ابحلج ‪ ،‬ويف غريها ابلعمرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذكره اجلصاص يف كتابه أحكام القرآن (‪.)284 /1‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)285 /1‬‬

‫ص ‪115 :‬‬
‫فدل ذلك على أن النهي إمنا كان‬
‫الل عنه اختيار املتعة على غريها ‪ّ ،‬‬
‫ولقد روي عن عمر رضي ّ‬
‫خاص ‪ ،‬ال لعدم اجلواز‪.‬‬ ‫ملعىن ‪ّ ،‬‬
‫شرةٌ ِ‬
‫ك لِ َم ْن َملْ يَ ُك ْن أَ ْهلُهُ‬
‫كاملَةٌ ذلِ َ‬ ‫يام ثَالثَةِ أَ هايٍّم ِيف ا ْحلَ ِّج َو َس ْب َعةٍّ إِذا َر َج ْعتُ ْم تِل َ‬
‫ْك َع َ َ‬
‫ِ‬
‫فَ َم ْن َملْ َِجي ْد فَص ُ‬
‫اللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬
‫قاب‪.‬‬ ‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬ ‫حاض ِري ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َواته ُقوا ه‬‫ِ‬
‫أي ‪ :‬فمن مل جيد اهلدي ‪ -‬إما لعدم املال ‪ ،‬أو لعدم احليوان ‪ -‬صام ثالثة أايم يف احلج ‪ :‬وهي‬
‫من عند شروعه يف اإلحرام إىل يوم النحر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يصوم قبل يوم الرتوية يوما ‪ ،‬ويوم الرتوية ‪،‬‬
‫ويوم عرفة‪ .‬وقيل ‪ :‬ما بني أن حيرم إىل يوم عرفة‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫يصومها من أول عشر ذي احلجة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما دام مبكة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬غري ذلك‪.‬‬
‫َو َس ْب َعةٍّ إِذا َر َج ْعتُ ْم املراد ابلرجوع الرجوع إىل األهل ‪ ،‬وقال أمحد ‪ ،‬وإسحاق ‪:‬‬
‫جيزئه أن يصوم يف الطريق ‪ ،‬وال يتضيّق عليه الوجوب إال ابلرجوع إىل الوطن ‪ ،‬وهو مذهب‬
‫الشافعي‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬إذا رجع إىل مىن فال أبس أن يصوم‪.‬‬
‫وقال الشوكاين ‪ :‬واألول أرجح ‪ ،‬فقد ثبت يف «الصحيح» «‪ »1‬من‬
‫احلج‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬فمن مل جيد هداي فليصم ثالثة ّأايم يف ّ‬ ‫حديث ابن عمر أنه صلّى ّ‬
‫وسبعة إذا رجع إىل أهله»‪.‬‬
‫كل أحد يعلم أ ّن الثالثة والسبعة عشرة كاملة لدفع‬ ‫ْك َع َ ِ‬ ‫وإمنا قال سبحانه ‪ :‬تِل َ‬
‫ش َرةٌ كاملَةٌ مع أ ّن ّ‬
‫الزجاج‪.‬‬
‫خمري بني الثالثة يف احلج ‪ ،‬وبني السبعة إذا رجع إىل أهله ‪ ،‬قاله ّ‬ ‫أن يتوهم متوهم أنه ّ‬
‫يتوهم بقاء شيء وراء السبعة ‪،‬‬
‫ليدل على انقضاء العدد ‪ ،‬حىت ال ّ‬
‫وقال املربد ‪ :‬إمنا قال ذلك ّ‬
‫وقيل ‪ :‬هو توكيد ‪ ،‬كما تقول كتبت بيدي ‪ ،‬وقد جاء مثل هذا يف كالم العرب ‪ ،‬قال الشاعر‬
‫«‪: »2‬‬
‫فهن مخس وسادسة متيل إىل مشام‬
‫ثالث واثنتان ّ‬
‫وكذا قول اآلخر ‪:‬‬
‫وست حني يدركين العشاء‬
‫ثالث ابلغداء وذاك حسيب ّ‬
‫الري داء‬
‫فذلك تسعة يف اليوم ريّي وشرب املرء فوق ّ‬
‫وقوله ‪ِ :‬‬
‫كاملَةٌ توكيد آخر ‪ ،‬لزايدة العناية بشأهنا ‪ ،‬حىت ال ينقص منها شيء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 25 ، )219 /2‬كتاب احلج ‪ - 104 ،‬ابب من ساق‬
‫البدن حديث رقم (‪ ، )1691‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )901 /2‬كتاب احلج ‪- 24 ،‬‬
‫ابب وجوب الدم على املتمتع حديث رقم (‪.)1227 /174‬‬
‫(‪ )2‬هو الفرزدق كما يف زاد املسري يف علم التفسري البن اجلوزي (‪.)178 /1‬‬

‫ص ‪116 :‬‬
‫ك لِمن َمل ي ُكن أَ ْهلُهُ ِ‬
‫حاض ِري ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام قيل ‪ :‬اإلشارة إىل التمتع ‪ ،‬وعلى ذلك فال متتع‬ ‫ِ‬
‫ذل َ َ ْ ْ َ ْ‬
‫للمكي ‪ ،‬وإن فعل فعليه دم جناية ال أيكل منه ‪ ،‬وهو منقول عن احلنفية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫للمكي متتع ‪ ،‬وال يكون منه إال‬
‫ّ‬ ‫وقيل اإلشارة إىل حكم الصوم ‪ ،‬وما إليه ‪ ،‬وعلى هذا يكون‬
‫اهلدي ‪ ،‬ونقل عن الشافعي‪ .‬واملراد مبن مل يكن أهله حاضري املسجد احلرام ‪ :‬من مل يكن ساكنا‬
‫يف احلرم ‪ ،‬ومن مل يكن ساكنا يف املواقيت فما دوهنا فيه خالف‪ .‬قال عطاء ومكحول ‪ :‬حاضر‬
‫املسجد احلرام هم من دون املواقيت إىل مكة ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية غري أهنم جعلوا من يف‬
‫املواقيت مبنزلة من دوهنا‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ‪ ،‬وجماهد ‪ :‬هم أهل احلرم‪ .‬وقال احلسن ‪ ،‬وطاوس «‪ ، »1‬وانفع ‪ ،‬وعبد الرمحن‬
‫األعرج «‪ : »2‬هم أهل مكة‪ .‬وهو قول مالك‪ .‬وقال الشافعي فيما رواه اجلصاص عنه ‪ :‬هم من‬
‫كان أهلهم دون ليلتني ‪ ،‬وهم حينئذ أقرب إىل املواقيت ‪ ،‬واألدلة تعرف يف الفروع‪.‬‬
‫اللَ فيما فرضه عليكم يف هذه األحكام‪ .‬وقيل ‪ :‬هو أمر بعموم التقوى ‪ ،‬وحتذير من شدة‬ ‫َواته ُقوا ه‬
‫اللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬
‫قاب‪.‬‬ ‫الل سبحانه أَ هن ه‬ ‫عقاب ّ‬
‫سو َق َوال ِج َ‬
‫دال ِيف‬ ‫ث َوال فُ ُ‬‫ض فِي ِه هن ا ْحلَ هج فَال َرفَ َ‬
‫ومات فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ا ْحلَج أَ ْش ُه ٌر َم ْعلُ ٌ‬ ‫قال ّ‬
‫ُويل ْاألَل ِ‬ ‫الل وتَزهو ُدوا فَِإ هن َخ ْري الز ِ‬
‫هاد الته ْقوى واته ُق ِ‬ ‫ِ‬
‫ْباب‬ ‫ون اي أ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا ْحلَ ِّج َوما تَ ْف َعلُوا م ْن َخ ٍّْري يَ ْعلَ ْمهُ هُ َ َ‬
‫(‪.)197‬‬
‫ومات فيه حذف تقديره ‪ :‬وقت احلج أشهر معلومات ‪ ،‬أي وقت أعمال احلج‪.‬‬
‫ا ْحلَج أَ ْش ُه ٌر َم ْعلُ ٌ‬
‫وقيل ‪ :‬التقدير ‪ :‬احلج يف أشهر معلومات ‪ ،‬قال الشوكاين ‪ :‬وفيه أنه كان يلزم نصب األشهر‬
‫على نزع اخلافض‪.‬‬
‫وقال الفراء ‪ْ :‬األَ ْش ُه ُر رفع أل ّن معناه وقت احلج أشهر معلومات ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫حج أشهر معلومات‪.‬‬
‫احلج ّ‬
‫التقدير ّ‬
‫وقد اختلف يف األشهر املعلومات ‪ ،‬فقال ابن مسعود ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬وجماهد ‪،‬‬
‫والزهري ‪ :‬هي شوال وذو القعدة وذو احلجة كله ‪ ،‬وبه قال مالك‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والشعيب ‪ ،‬والنخعي هي ‪ :‬شوال وذو القعدة وعشر من ذي احلجة‬
‫‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأمحد ‪ ،‬وغريهم ‪ ،‬وروي أيضا عن مالك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬طاوس بن كيسان اخلوالين ‪ ،‬من كبار التابعني أصله من الفرس ‪ ،‬ولد يف اليمن وتويف حاجا ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)224 /3‬‬
‫(‪ )2‬اتبعي وامسه عبد الرمحن بن هرمز أبو داود ‪ ،‬حافظ قارئ ‪ ،‬مات سنة (‪ 117‬ه)‬
‫ابإلسكندرية ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)340 /3‬‬

‫ص ‪117 :‬‬
‫وفا ئدة اخلالف تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال احلج بعد يوم النحر ‪ ،‬فمن قال ‪ :‬إن ذا احلجة‬
‫كله من أشهر احلج‪ .‬قال ‪ :‬مت حجه ‪ ،‬وال يلزمه دم ابلتأخري‪ .‬ومن قال ‪ :‬إىل عشر ذي احلجة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يلزمه دم ابلتأخري‪ .‬ذكره الشوكاين‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الرازي ‪ :‬وقال قائلون ‪ :‬وجائز أال يكون ذلك اختالفا يف احلقيقة ‪ ،‬وأن يكون مراد‬
‫من قال ‪ :‬وذو احلجة أنه بعضه ‪ ،‬أل ّن احلج ال حمالة يف بعض األشهر ‪ ،‬ال يف مجيعها ‪ ،‬ألنّه ال‬
‫خالف أنه ليس يبقى بعد أايم مىن شيء من مناسك احلج‪.‬‬
‫أتوله على ذي احلجة كله مراده أهنّا ملا كانت هذه هي أشهر احلج‬
‫وقالوا ‪ :‬وحيتمل أن يكون من ّ‬
‫كان االختيار عنده أال يؤتى ابلعمرة فيها ‪ ،‬كما روي عن عمر وغريه من استحباهبم لفعل العمرة‬
‫يف غري أشهر احلج كما ق ّدمنا‪.‬‬
‫هذا وقد حكى احلسن بن أيب مالك عن أيب يوسف قال ‪ :‬شوال ‪ ،‬وذو القعدة ‪ ،‬وعشر ليال من‬
‫حجه‪.‬‬
‫ذي احلجة ‪ ،‬أل ّن من مل يدرك عرفة حىت طلع فجر يوم النحر فقد فات ّ‬
‫بقي أنه كيف يقال للشهرين وبعض الثالث ‪ :‬إهنا أشهر؟ نقول ‪ :‬إن اللغة ال متنع من ذلك‪ .‬وقد‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أايم مىن ثالثة»‬
‫قال صلّى ّ‬
‫وهي اثنان وبعض الثالث ‪ ،‬ويقال ‪ :‬حججت عام كذا ‪ ،‬واملراد بعضه‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الرازي ‪ :‬ولقول من يقول ‪ :‬إهنا شوال ‪ ،‬وذو القعدة ‪ ،‬وذو احلجة وجه آخر ‪ ،‬وهو‬
‫ينتظم القولني مجيعا ‪ ،‬وهو أ ّن اآلية سيقت لبيان أ ّن هذه هي األشهر اليت يكون فيها احلج دون‬
‫تبديل وال تغيري ‪ ،‬على حنو ما كان يفعله أهل اجلاهلية من التغيري والتبديل‪ .‬فكانوا يغريون يف‬
‫ومات أن أعمال احلج تقع يف هذه األشهر ‪،‬‬
‫أشهر احلج ‪ ،‬فمعىن قوله تعاىل ‪ :‬ا ْحلَج أَ ْش ُه ٌر َم ْعلُ ٌ‬
‫على مقتضى بيان السنة ‪ ،‬دون ما كان يفعله أهل اجلاهلية من تبديل الشهور وأتخري احلج ‪،‬‬
‫وتقدميه‪.‬‬
‫وقد اختلف السلف يف إيقاع اإلحرام ابحلج قبل أشهر احلج ‪ ،‬فروى مقسم عن ابن عباس أنه‬
‫قال ‪ :‬من سنة احلج أال حيرم ابحلج قبل أشهر احلج‪ .‬وروي عن جابر أنه قال ‪ :‬ال حيرم الرجل‬
‫ابحلج قبل أشهر احلج ‪ ،‬وروي مثله عن طاوس وعطاء ‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬وغريهم ‪ ،‬وقال عطاء ‪ :‬من‬
‫أحرم ابحلج قبل أشهر احلج فليجعلها عمرة‪.‬‬
‫ويف مقابل ذلك‬
‫الل وجهه أنه قال يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأَِمتوا ا ْحلَ هج‪َ .‬والْعُ ْم َرةَ ِهللِ ‪ :‬إن إمتامهما أن‬
‫روي عن علي كرم ّ‬
‫حترم هبما من دويرة أهلك‪.‬‬
‫وروي عن إبراهيم النخعي وأيب نعيم جواز اإلحرام ابحلج قبل أشهر احلج ‪ ،‬وهو قول احلنفية ‪،‬‬
‫حيىي «‪ : »1‬إذا أحرم ابحلج قبل‬
‫ومالك والثوري ‪ ،‬والليث بن سعد‪ .‬وقال احلسن بن صاحل بن ّ‬
‫أشهر احلج‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬اهلمداين الثوري الكويف أبو عبد تويف (‪ 169‬ه) كان فقيها متكلما ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي‬
‫(‪.)193 /2‬‬

‫ص ‪118 :‬‬
‫جيعلها عمرة ‪ ،‬وإذا أدركته أشهر احلج قبل أن جيعلها عمرة مضى يف احلج وأجزأه‪.‬‬
‫يهل ابحلج قبل أشهر احلج ‪ ،‬وهو قول أمحد واآلية بظاهرها‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬ال جيوز ألحد أن ّ‬
‫تشهد له ‪ ،‬ألهنّا قد جعلت وقت احلج هذه األشهر املعلومات ‪ ،‬واإلحرام للعبادة عنه‪.‬‬
‫احلج أبن‬ ‫سو َق َوال ِج َ‬
‫دال ِيف ا ْحلَ ِّج املعىن ‪ :‬فمن ألزم نفسه ّ‬ ‫ض فِي ِه هن ا ْحلَ هج فَال َرفَ َ‬
‫ث َوال فُ ُ‬ ‫فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫حيرم به‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف العمل الذي يصري به احملرم حمرما ‪ ،‬فقال الشافعي ‪ :‬إنه يصري حمرما مبجرد‬
‫النية‪.‬‬
‫يليب‪ .‬أو يسوق اهلدي‪ .‬وإثبات هذا أو هذا إمنا يكون من‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬ال يكون حمرما حىت ّ‬
‫احلج فليرتك الرفث والفسوق واجلدال أما‬
‫السنّة ‪ ،‬أل ّن اآلية ليس فيها أزيد من أ ّن من ألزم نفسه ّ‬
‫تتعرض له اآلية ‪ ،‬فليلتمس بيانه من السنّة‪.‬‬ ‫أن اإللزام يكون مباذا؟ فلم ّ‬
‫سو َق َوال ِج َ‬
‫دال ِيف ا ْحلَ ِّج‪.‬‬ ‫ث َوال فُ ُ‬
‫فَال َرفَ َ‬
‫الرفث ‪ :‬تق ّدم بيانه يف آية الصوم والفسوق ‪ ،‬والفسق ‪ :‬مصدران مبعىن واحد ‪ ،‬وهو اخلروج عن‬
‫الل إىل املعصية ‪ ،‬وهو وإن كان قد أطلق يف بعض املواضع مرادا منه نوع خاص ‪ ،‬إال أنه‬
‫طاعة ّ‬
‫عام جيب أن يبقى على عمومه ‪ ،‬ال َيرج منه شيء إال ما َيرجه الدليل‪ .‬والدليل هنا غري‬
‫اسم ّ‬
‫موجود‪.‬‬
‫واجلدال «‪ »1‬فعال من اجملادلة ‪ ،‬وأصله من اجلدل الذي هو الفتل ‪ ،‬يقال ‪ :‬زمام جمدول ‪،‬‬
‫مفتول ‪ ،‬واجلديل ‪ :‬الزمام ‪ ،‬ألنه ال يكون إال مفتوال ‪ ،‬ومسّيت املخاصمة جداال ‪ ،‬أل ّن كال من‬
‫املفسرون وجوها كثرية يف تفسري هذه‬
‫اخلصمني يو ّد لو يقدر على فتل صاحبه ‪ ،‬وقد ذكر ّ‬
‫احلث‬
‫الكلمات ‪ ،‬وكلها خترجها عن عمومها ‪ ،‬وخريها ما ذكره القاضي من أن املراد من اآلية ّ‬
‫والرتغيب على األخالق الفاضلة ‪ ،‬فهي خرب لفظا ‪ ،‬هني معىن ‪ ،‬ويراد من الرفث ‪ :‬اجلماع‬
‫ومقدماته ‪ ،‬وقول الفحش‪ .‬ومن الفسوق مجيع أنواع املعاصي ‪ ،‬ومن اجلدال مجيع أنواع اخلصام‪.‬‬
‫ُويل ْاألَل ِ‬
‫ْباب أعدوا عدتكم بسفركم ملالقاة ربّكم يوم‬ ‫ون اي أ ِ‬ ‫وتَزهو ُدوا فَِإ هن َخ ْري الز ِ‬
‫هاد الته ْقوى واته ُق ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫وتزودوا من التقوى ‪ ،‬فإهنّا خري زاد يبلغ بكم السالمة والعافية‪.‬‬
‫العرض عليه ‪ّ ،‬‬
‫قال األعشى ‪:‬‬
‫تزودا‬
‫إذا أنت مل ترحل بزاد من التّقى وال قيت بعد املوت من قد ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬اجلدال ‪ :‬املراء واخلصومة انظر ‪ ،‬لسان العرب البن منظور (‪.)105 /11‬‬

‫ص ‪119 :‬‬
‫ندمت على أال تكون كمثله وأنّك مل ترصد ملا كان أرصدا‬
‫مقرهم‪.‬‬ ‫ُويل ْاألَل ِ‬ ‫ون اي أ ِ‬ ‫واته ُق ِ‬
‫مفرهم إىل ّ‬ ‫ْباب فإ ّن اجلدير أبصحاب العقول أن يتسلّحوا ابلتقوى من ّ‬ ‫َ‬
‫ضتُم ِمن عَر ٍّ‬ ‫ناح أَ ْن تَ ْب تَ غُوا فَ ْ ِ ِ‬
‫فات فَاذْ ُك ُروا ه‬
‫اللَ‬ ‫ض ًال م ْن َربّ ُك ْم فَِإذا أَفَ ْ ْ ْ َ‬ ‫س عَلَيْ ُك ْم ُج ٌ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬لَيْ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ضوا ِم ْن‬‫ني (‪ )198‬مثُه أَفِي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ع ْن َد ال َْم ْش َع ِر ا ْحلَر ِام َواذْ ُك ُروهُ َكما َهدا ُك ْم َوإِ ْن ُكْن تُ ْم م ْن قَ ْبلهِ ل َِم َن الضهالّ َ‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫استَ غْ ِف ُروا ه‬
‫الل تعاىل قد منع اجلدال يف‬ ‫يم (‪ )199‬ملا كان ّ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫اللَ إِ هن هَ ٌ‬ ‫هاس َو ْ‬
‫َفاض الن ُ‬ ‫ثأ َ‬ ‫َح ْي ُ‬
‫احلج ‪ ،‬وكانت املعامالت التجارية تفضي إىل اجلدال واملخاصمة ‪ ،‬فكانت التجارة مظنّة املنع ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وأيضا ملا حظر لبس املخيط ‪ ،‬واإلنسان قد يكون شديد احلاجة ‪ ،‬وكانت التجارة مظنّة احلظر ‪،‬‬
‫ض ًال ِم ْن َربِّ ُك ْم‪.‬‬
‫ناح أَ ْن تَ ْب تَ غُوا فَ ْ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ل َْي َ‬ ‫فمن أجل ذلك قال ّ‬
‫وقد روى عطاء أن ابن مسعود وابن الزبري كاان يقرءان (أن تبتغوا فضال من ربّكم يف مواسم‬
‫ض ِربُو َن‬
‫احلج) ومن هنا قال بعض املفسرين ‪ :‬الفضل هنا التجارة ‪ ،‬ونظريه قوله تعاىل ‪َ :‬وآ َخ ُرو َن يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫اللِ [املزمل ‪.]20 :‬‬ ‫ض يَ ْب تَ غُو َن ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ه‬ ‫ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫وقد روي يف سبب النزول عن ابن عباس «‪ »1‬أنه قال ‪ :‬كان انس من العرب حيرتزون من‬
‫التجارة يف أايم احلج ‪ ،‬وإذا دخل العشر ابلغوا يف ترك البيع والشراء ابلكلية‪ .‬وابلغوا يف االحرتاز‬
‫وبني أن ال جناح يف‬
‫الل هذا الوهم ‪ّ ،‬‬
‫من األعمال ‪ ،‬إىل أن امتنعوا من إغاثة امللهوف ‪ ،‬فأزال ّ‬
‫التجارة‪.‬‬
‫هذا هو الذي محل مجهور املفسرين على أن يذهبوا إىل أ ّن املراد التجارة يف أايم احلج‪.‬‬
‫كل‬
‫وذهب أبو مسلم إىل أن املراد التجارة بعد انقضاء أعمال احلج ‪ ،‬والتقدير عنده ‪ :‬فاتقون يف ّ‬
‫ِ‬
‫ضي ِ‬
‫صالةُ‬
‫ت ال ه‬ ‫أعمال احلج ‪ ،‬مث بعد ذلك ال جناح عليكم ‪ ،‬وهو نظري قوله تعاىل ‪ :‬فَِإذا قُ َ‬
‫اللِ [اجلمعة ‪.]10 :‬‬ ‫ض َوابْ تَ غُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ه‬ ‫فَانْ تَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ضتُم ِمن َعر ٍّ‬
‫فات ابلفاء ‪ ،‬وهو يدل على‬ ‫وظاهر اآلية أيىب هذا ‪ ،‬فإنه قال بعد هذه اآلية ‪ :‬فَِإذا أَفَ ْ ْ ْ َ‬
‫احلج‪.‬‬
‫أن ابتغاء الفضل سابق على ذلك ‪ ،‬وقبل عرفات مل يتم ّ‬
‫مث إهنم اتفقوا على أن التجارة املباحة هي اليت ال يرتتب عليها نقصان يف الطاعة وال تشغله عن‬
‫أعمال احلج‪ .‬وأما تلك فهي غري مباحة‪.‬‬
‫__________‬
‫س‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )186 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 34 ،‬ابب ل َْي َ‬
‫ناح حديث رقم (‪.)4519‬‬
‫عَلَيْ ُك ْم ُج ٌ‬

‫ص ‪120 :‬‬
‫اللَ ِعنْ َد ال َْم ْش َع ِر ا ْحلَر ِام‪.‬‬ ‫ضتُم ِمن عَر ٍّ‬
‫فات فَاذْ ُك ُروا ه‬‫فَِإذا أَفَ ْ ْ ْ َ‬
‫جبرته ‪ :‬ألقاها منبثة ‪ ،‬وأفاض األقداح يف‬
‫اإلفاضة ‪ :‬االندفاع يف السري بكثرة ‪ ،‬منه ‪ :‬أفاض البعري ّ‬
‫امليسر ‪ :‬مجعها ‪ ،‬مث ألقاها متفرقة‪ .‬وإفاضة املاء من هذا‪.‬‬
‫وتصرف يف وجوهه‪.‬‬
‫واإلفاضة يف احلديث ‪ :‬االندفاع فيه بكثرة ‪ّ ،‬‬
‫ضتُم دفعتم أنفسكم بكثرة ِمن عَر ٍّ‬
‫فات مجع عرفة ‪ ،‬هي اسم ملوضع واحد ‪،‬‬ ‫ْ َ‬ ‫فمعىن قوله ‪ :‬فَِإذا أَفَ ْ ْ‬
‫ولكنه لسعته ‪ ،‬ووقوف الناس فيه مجاعات وأفرادا ‪ ،‬وموضع كل فرد ومجاعة منه ابلنسبة إليها يف‬
‫حجها عرفة ‪ ،‬قيل له عرفات من أجل ذلك‪.‬‬
‫واليوم التاسع من ذي احلجة يقال له ‪ :‬يوم عرفة ‪ ،‬ألنه يوم الوقوف بعرفة‪.‬‬
‫احلج إال من أدركه ‪ ،‬وال نعلم خالفا بني العلماء يف ذلك ‪ ،‬إال ما‬
‫والوقوف بعرفة ركن ‪ ،‬ال يدرك ّ‬
‫روي عن احلسن أنه قال ‪ :‬إنه واجب ‪ ،‬من أدركه فقد أ ّداه ‪ ،‬ومن ال ‪ ،‬فيكفيه الوقوف جبمع‪.‬‬
‫ويف اآلية داللة على أ ّن الوقوف بعرفة ال ب ّد منه ‪ ،‬ألنه قد رتّب عليه األمر ابلذكر عند املشعر‬
‫احلرام ‪ ،‬وهو واجب مشروط ابإلفاضة من عرفات ‪ ،‬واإلفاضة من عرفات تستدعي الوجود يف‬
‫يتم الواجب أال بوجوده فهو واجب ‪ ،‬واملشعر احلرام املراد منه ‪ :‬املزدلفة‪.‬‬
‫عرفات ‪ ،‬وما ال ّ‬
‫والوقوف هبا قيل ‪ :‬سنة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬واجب‪ .‬وعن علقمة وقتادة أهنما قاال ‪ :‬إن الوقوف هبا ركن‪.‬‬
‫وقد اختلف يف الذكر املطلوب عند املشعر احلرام ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬املراد منه اجلمع بني صالة‬
‫املغرب ‪ ،‬وصالة العشاء مبزدلفة ‪ ،‬ولعل يف‬
‫الل عليه وسلّم ملن سأله أن يصلّي يف الطريق «الصالة أمامك» «‪»1‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫إشارة إليه‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬بل املراد الذكر ابللسان ‪ :‬من التسبيح ‪ ،‬والتحميد ‪ ،‬والتهليل والتلبية ‪ ،‬وقد ورد‬
‫عن ابن عباس أنه نظر إىل الناس وقال ‪ :‬كان الناس يف هذه الليلة ال ينامون‪.‬‬
‫َواذْ ُك ُروهُ َكما َهدا ُك ْم أي واذكروه هلدايته إايكم ‪ ،‬على ح ّد قوله ‪َ :‬كما َعله َم ُك ْم ما َملْ تَ ُكونُوا‬
‫تَ ْعلَ ُمو َن‪.‬‬
‫كرر‬
‫األول ذكر لساين ‪ ،‬واآلخر قليب ‪ ،‬وحيتمل أنه ّ‬
‫الل أل ّن األمر ّ‬
‫كرر األمر بذكر ّ‬
‫وقد قيل ‪ :‬إنه ّ‬
‫األمر ابلذكر للحث على مواصلة الذكر ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬واذكروه واذكروه ‪ ،‬أي اذكروه ذكرا بعد‬
‫ذكر ‪ ،‬ويرجع يف املعىن إىل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )934 /2‬كتاب احلج ‪ - 47 ،‬ابب اإلفاضة من‬
‫عرفات حديث رقم (‪].....[ .)1280 /276‬‬

‫ص ‪121 :‬‬
‫اللَ ِذ ْكراً َكثِرياً (‪[ )41‬األحزاب ‪ ]41 :‬وقد قيل ‪ :‬إن املراد ابهلداية ‪:‬‬‫آمنُوا اذْ ُك ُروا ه‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اي أَي َها الهذ َ‬
‫هدايتهم إىل سنة إبراهيم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل هي عامة‪.‬‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫استَ غْ ِف ُروا ه‬ ‫ضوا ِم ْن َح ْي ُ‬
‫مثُه أَفِي ُ‬
‫يم (‪ )199‬اجلمهور على أ ّن‬ ‫اللَ إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫هاس َو ْ‬
‫َفاض الن ُ‬
‫ثأ َ‬
‫املراد من هذه اإلفاضة اإلفاضة من عرفات ‪ ،‬ويؤيدهم ما روي يف أسباب النزول ‪ :‬من أ ّن اآلية‬
‫أمر لقبيلة قريش ‪ ،‬ومن دان دينها وهم احلمس ‪ ،‬كانوا ال يتجاوزون املزدلفة ‪ ،‬ألهنّا من احلرم‬
‫«‪ ، »1‬وعرفة يف احلل ‪ ،‬واحلرم معظّم عندهم ‪ ،‬وقصر الوقوف على عرفة رمبا أشعر مبزيتها على‬
‫الل هذه اآلية ليقفوا حيث يقف الناس ‪ ،‬ويفيضوا من حيث يفيضون ‪ ،‬ال يش ّذون‬
‫احلرم ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫عنهم‪.‬‬
‫ضحاك إىل أن املأمور به هنا هو اإلفاضة من املزدلفة إىل مىن يوم النحر قبل طلوع‬
‫وذهب ال ّ‬
‫الشمس للرمي والنحر‪.‬‬
‫وقد استشكل الفخر الرازي كال من القولني ‪:‬‬
‫هاس يدل بظاهره على إفاضة غري‬
‫َفاض الن ُ‬
‫ثأ َ‬ ‫ضوا ِم ْن َح ْي ُ‬
‫أما األول ‪ :‬فأل ّن قوله تعاىل ‪ :‬مثُه أَفِي ُ‬
‫بثم ‪ ،‬هي للرتتيب ‪ ،‬ولو كانت هي‬ ‫اإلفاضة املذكورة يف قوله ‪ :‬فَِإذا أَفَ ْ‬
‫ضتُ ْم ألهنا معطوفة عليها ّ‬
‫للعطف ‪ ،‬لكان ذلك عطفا للشيء على نفسه‪.‬‬
‫وقد أجيب عنه أبجوبة كثرية ‪:‬‬
‫منها أن مثّ مبعىن الواو‪.‬‬
‫ومنها أن مثّ للرتتيب الذكري‪.‬‬
‫ون ‪ ،‬وقد أجاز بعضهم أن تكون هذه اآلية متقدمة‬ ‫ضوا معطوف على قوله ‪ :‬واته ُق ِ‬
‫َ‬ ‫ومنها أن مثُه أَفِي ُ‬
‫على تلك‪ .‬ولكنه جمرد احتمال‪.‬‬
‫هاس‬
‫َفاض الن ُ‬
‫ثأ َ‬ ‫الضحاك أبن الذي ذهب إليه يتمشى إذا أريد بقوله ‪ِ :‬م ْن َحيْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫واستشكل قول‬
‫ث أيىب هذا ‪ ،‬ألهنا للمكان ال للزمان‪.‬‬ ‫الزمان الذي يفيضون فيه ‪ِ ،‬م ْن َح ْي ُ‬
‫الدال على‬
‫وقد أجاب عنه أبن التوقيت ابلزمان كالتوقيت ابملكان ‪ ،‬فال يبعد استعارة اللفظ ّ‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫استَ غْ ِف ُروا ه‬
‫يم‪.‬‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫اللَ إِ هن هَ ٌ‬ ‫أحدَها للداللة على اآلخر َو ْ‬
‫اللَ َك ِذ ْك ِرُك ْم آابءَ ُك ْم أ َْو أَ َش هد ِذ ْكراً فَ ِم َن الن ِ‬
‫هاس َم ْن‬ ‫ض ْي تُم م ِ‬
‫ناس َك ُك ْم فَاذْ ُك ُروا ه‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَِإذا قَ َ ْ َ‬ ‫قال ّ‬
‫الق (‪)200‬‬ ‫ول ربهنا آتِنا ِيف الدنْيا وما لَهُ ِيف ْاآل ِخرةِ ِمن َخ ٍّ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫يَ ُق ُ َ‬
‫__________‬
‫ضوا ِم ْن‬‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )186 /5‬كتاب تفسري ‪ - 35 ،‬ابب مثُه أَفِي ُ‬
‫هاس حديث رقم (‪ ، )4520‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )893 /2‬كتاب‬ ‫َفاض الن ُ‬ ‫ثأ َ‬ ‫َحيْ ُ‬
‫احلج ‪ - 21 ،‬ابب يف الوقوف حديث رقم (‪.)1219 /151‬‬

‫ص ‪122 :‬‬
‫ذاب النها ِر (‪ )201‬أُولئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ُق ُ‬
‫ك َهلُ ْم‬ ‫سنَةً َوِيف ْاآلخ َرة َح َ‬
‫سنَةً َوقنا َع َ‬ ‫ول َربهنا آتنا ِيف الدنْيا َح َ‬
‫يع ا ْحلِ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ِ‬
‫ساب (‪ )202‬ملا كانت أعمال احلج كثرية ‪ ،‬وهي ال ختلو عن‬ ‫اللُ َس ِر ُ‬ ‫يب ممها َك َ‬
‫سبُوا َو ه‬ ‫نَ ٌ‬
‫تقصري ‪ ،‬أمرهم ابالستغفار ‪ ،‬وقد يكون فيه إشارة إىل ترجيح أن اإلفاضة املأمور هبا هي من‬
‫عرفات ‪ ،‬على حنو ما ورد يف سبب النزول ‪ ،‬فكأ ّن ما وقع من احلمس يؤاخذ عليه ‪ ،‬فلذلك‬
‫طلب منهم االستغفار‪.‬‬
‫اللَ َك ِذ ْك ِرُك ْم آابءَ ُك ْم أ َْو أَ َش هد ِذ ْكراً‪ .‬روى ابن عباس أ ّن العرب كانوا‬ ‫ض ْي تُم م ِ‬
‫ناس َك ُك ْم فَاذْ ُك ُروا ه‬ ‫فَِإذا قَ َ ْ َ‬
‫عند الفراغ من حجتهم يع ّد الواحد منهم أايم آابئه يف السماحة واحلماسة وصلة الرحم‬
‫الل عليهم بنعمة اإلسالم أمرهم أبن يذكروه كذكرهم آلابئهم‪.‬‬
‫ويتناشدون فيها األشعار‪ .‬فلما أنعم ّ‬
‫الل عليه وسلّم على راحلته القصواء يوم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروى القفال عن ابن عمر قال ‪ :‬طاف رسول ّ‬
‫الل ‪ ،‬وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال ‪« :‬أما بعد أيها الناس!‬
‫الفتح ‪ ،‬يستلم الركن مبحجنه «‪ ، »1‬مث محد ّ‬
‫الل‬
‫الل قد أذهب عنكم عبية اجلاهلية وتعاظمها آبابئها! إمنا النّاس رجالن ‪ّ :‬بر تقي كرمي على ّ‬
‫إ ّن ّ‬
‫الل آدم من تراب ‪ ،‬مث تال ‪:‬‬ ‫الل ‪ ،‬والنّاس بنو آدم ‪ ،‬وخلق ّ‬ ‫هني على ّ‬ ‫‪ ،‬وفاجر شقي ّ‬
‫هاس إِ هان َخلَ ْقنا ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍّر َوأُنْثى َو َج َعلْنا ُك ْم ُشعُوابً َوقَبائِ َل ‪[ ..‬احلجرات ‪ ]13 :‬مث قال ‪:‬‬
‫اي أَي َها الن ُ‬
‫الل يل ولكم» «‪.»2‬‬ ‫«أقول قويل هذا وأستغفر ّ‬
‫واملراد من قضاء املناسك الفراغ منها ‪ ،‬واملناسك مجع منسك ‪ ،‬وهو مصدر ‪ ،‬مبعىن النسك ‪،‬‬
‫اللَ َك ِذ ْك ِرُك ْم آابءَ ُك ْم‬
‫أي العبادة ‪ ،‬واملعىن فإذا فرغتم من عبادتكم اليت أمرمت هبا يف احلج فَاذْ ُك ُروا ه‬
‫أ َْو أَ َش هد ِذ ْكراً‪.‬‬
‫اختلفوا يف هذا الذكر املأمور به ‪ ،‬فمنهم من محله على الذكر على الذبيحة ‪ ،‬ومنهم من محله‬
‫الصالة يف يوم النحر وأايم التشريق ‪ ،‬ألنّه مل يعرف يف هذه‬
‫على الذكر الذي هو التكبري بعد ّ‬
‫األايم ذكر خاص إال هذا الذكر‪ .‬وقيل ‪ :‬بل كان القوم يف اجلاهلية اعتادوا ذكر مفاخرهم ‪،‬‬
‫ليحوهلم عن هذه العادة القبيحة ‪ ،‬وقيل غري هذا‪.‬‬
‫الل هذا ّ‬ ‫وتعداد مناقبهم ‪ ،‬وآابئهم ‪ ،‬فأمرهم ّ‬
‫احلج أن‬
‫الل عليكم بشهود ّ‬ ‫َك ِذ ْك ِرُك ْم آابءَ ُك ْم أ َْو أَ َش هد ِذ ْكراً معناه ‪ :‬أ ّن األجدر بكم ‪ ،‬وقد أنعم ّ‬
‫تتوفرون على ذكرهم ‪،‬‬
‫الل ‪ ،‬ال بذكر آابئكم ‪ ،‬يعين تتوفّروا على ذكره ‪ ،‬كما كنتم ّ‬
‫تشتغلوا بذكر ّ‬
‫بل هذا أوىل ‪ ،‬ألن ذكركم وثناءكم على آابئكم قد يكون كذاب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عصا معوجة ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)108 /13‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )363 /5‬كتاب التفسري ابب ومن سورة احلجرات‬
‫حديث رقم (‪.)3270‬‬

‫ص ‪123 :‬‬
‫الل ‪ ،‬ألنه قد تركز يف طبيعة اإلنسان أن‬ ‫وذهب أبو مسلم إىل أنه مثل يف املداومة على ذكر ّ‬
‫يذكر آابءه وال ينساهم ‪ ،‬وقوله ‪ :‬أ َْو أَ َش هد معناه بل أشد‪.‬‬
‫الق َوِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ُق ُ‬
‫ول َربهنا آتِنا ِيف‬ ‫ول ربهنا آتِنا ِيف الدنْيا وما لَهُ ِيف ْاآل ِخرةِ ِمن َخ ٍّ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ ِم َن الن ِ‬
‫هاس َم ْن يَ ُق ُ َ‬
‫ص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذاب النها ِر (‪ )201‬أُولئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اللُ َس ِر ُ‬
‫يع‬ ‫يب ممها َك َ‬
‫سبُوا َو ه‬ ‫ك َهلُ ْم نَ ٌ‬ ‫سنَةً َوقنا عَ َ‬ ‫سنَةً َوِيف ْاآلخ َرة َح َ‬
‫الدنْيا َح َ‬
‫ساب (‪.)202‬‬ ‫ا ْحلِ ِ‬
‫الل تعاىل ابلذكر ذكر عقبه ما يكون من الناس يف الدعاء ‪ ،‬ليأخذوا أبحسن األحوال ‪،‬‬ ‫ملا أمر ّ‬
‫فقسم الناس يف الدعاء إىل قسمني ‪:‬‬
‫ول ‪ ..‬اآلية ّ‬ ‫ويرتكوا غريه ‪ ،‬فقال ‪ :‬فَ ِم َن الن ِ‬
‫هاس َم ْن يَ ُق ُ‬
‫قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا ‪ ،‬واالستزادة من خرياهتا ‪ ،‬ويسكت عن اآلخرة ‪ ،‬وكأهنّا ال‬
‫الق اخلالق ‪ :‬النصيب‪.‬‬ ‫ختطر له على ابل ‪ ،‬وال يعنيه من أمورها شي ء ‪ ،‬ما لَهُ ِيف ْاآل ِخرةِ ِمن َخ ٍّ‬
‫َ ْ‬
‫الل نصيبهم غري منقوص أُولئِ َ‬
‫ك‬ ‫وقسم حيرص على طلب خريى الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وهؤالء سيؤتيهم ّ‬
‫ص ِ‬ ‫ِ‬
‫يب ممها َك َ‬
‫سبُوا‪.‬‬ ‫َهلُ ْم نَ ٌ‬
‫وقد قيل ‪ :‬إن اإلشارة يف قوله ‪ :‬أُولئِ َ‬
‫ك راجع إىل الفريقني ‪ :‬يعين الذين طلبوا الدنيا فقط ‪،‬‬
‫والذين طلبوَها معا‪.‬‬
‫الل ذكر حكم الفريق األول بقوله ‪ :‬ما‬ ‫وقيل ‪ :‬بل هو راجع للقسم الثاين فقط ‪ ،‬والدليل عليه أن ّ‬
‫لَهُ ِيف ْاآل ِخرةِ ِمن َخ ٍّ‬
‫الق‪.‬‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب ممها َك َ‬
‫سبُوا إىل الفريق الثاين ‪ ،‬مع أنه مشعر‬ ‫ك َهلُ ْم نَص ٌ‬
‫قد يقال ‪ :‬كيف رجع قوله تعاىل ‪ :‬أُولئ َ‬
‫بتحقري اجلزاء؟‬
‫وجياب عنه أب ّن املراد ‪ :‬هلم نصيب يف الدنيا واآلخرة يبتدئ من كسبهم ‪ ،‬فمن البتداء الغاية ‪ ،‬ال‬
‫للتبعيض ‪ ،‬والكسب يطلق على ما يناله املرء بعمله ‪ ،‬وقد يكون نفعا ‪ ،‬وقد يكون ضررا ‪ ،‬وقد‬
‫ول َربهنا آتِنا ِيف الدنْيا َوما لَهُ ِيف‬ ‫اختلف يف املراد ابلفريق املقصود بقوله ‪ :‬فَ ِم َن الن ِ‬
‫هاس َم ْن يَ ُق ُ‬
‫الق فقيل ‪ :‬هم الكفار ‪ ،‬كانوا يقولون إذا وقفوا ‪ :‬اللهم ارزقنا إبال وبقرا وغنما‬ ‫ْاآل ِخرةِ ِمن َخ ٍّ‬
‫َ ْ‬
‫الل أن من كان من هذا القبيل فال خالق له يف‬ ‫وعبيدا ‪ ،‬وما كانوا يطلبون التوبة واملغفرة ‪ ،‬فأخرب ّ‬
‫اآلخرة‪.‬‬
‫الل لدنياهم ال ألخراهم ‪ ،‬وهو سؤال يع ّد‬
‫وقيل ‪ :‬هؤالء قد يكونون مؤمنني ‪ ،‬ولكنهم يسألون ّ‬
‫ذنبا يف هذه املواقف العظيمة ‪ ،‬حيث يسألون فيها حطام الدنيا ‪ ،‬ويعرضون عن سؤال النعيم‬
‫الدائم يف اآلخرة‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬احلسنة يف الدنيا عبارة عن ‪ :‬الصحة واألمن والكفاية والولد الصاحل‬

‫ص ‪ 124 :‬والزوج الصاحلة والنصرة على األعداء‪ .‬وأما احلسنة يف اآلخرة فهي ‪ :‬الفوز ابلثواب‬
‫‪ ،‬واخلالص من العقاب‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫سنَةً َوِيف ْاآلخ َرة َح َ‬
‫سنَةً كلمة جامعة جلميع مطالب الدنيا‬ ‫وابجلملة ‪ ،‬فقوله ‪َ :‬ربهنا آتنا ِيف الدنْيا َح َ‬
‫الل آت ال حمالة ‪ ،‬وما دام حمقق الوقوع ‪ ،‬فهو قريب‬ ‫ساب حساب ّ‬ ‫يع ا ْحلِ ِ‬ ‫اللُ َس ِر ُ‬
‫واآلخرة ‪َ :‬و ه‬
‫سريع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الل ِيف أَ هايٍّم م ْع ُد ٍّ‬
‫هر فَال‬ ‫ني فَال إِ ْمثَ عَلَيْه َوَم ْن َأتَخ َ‬‫ودات فَ َم ْن تَ َع هجل ِيف يَ ْوَم ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬واذْ ُك ُروا هَ‬ ‫قال ّ‬
‫ش ُرو َن (‪ )203‬وقد ورد الذكر يف احلج يف‬ ‫إِ ْمثَ َعلَْيهِ لِ َم ِن اتهقى َواته ُقوا ه‬
‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم إِل َْيهِ ُحتْ َ‬
‫اللَ ِيف أَ هايٍّم‬
‫األايم مرتني ‪ ،‬فمرة يف سورة البقرة بلفظ املعدودات ‪ ،‬وهي اآلية اليت معنا َواذْ ُك ُروا ه‬
‫اللِ ِيف‬
‫اس َم ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ودات ومرة يف سورة احلج بلفظ معلومات يف قوله ‪ :‬ليَ ْش َه ُدوا َمناف َع َهلُ ْم َويَ ْذ ُك ُروا ْ‬ ‫م ْع ُد ٍّ‬
‫َ‬
‫الل عنه إىل أ ّن املعلومات هي العشرة‬ ‫الشافعي رضي ّ‬ ‫ومات [احلج ‪ ]28 :‬فذهب‬ ‫أَ هايٍّم م ْعلُ ٍّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫األوائل من ذي احلجة ‪ ،‬آخرها النحر ‪ ،‬وأما املعدودات فهي ثالثة بعد يوم النحر ‪ ،‬وهي أايم‬
‫التشريق‪.‬‬
‫«احلج‬
‫ّ‬ ‫الل عليه وسلّم أمر مناداي ينادي ‪:‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وقد أكد الق ّفال هذا مبا رواه يف تفسريه أن ّ‬
‫تعجل يف‬
‫احلج‪ .‬وأايم مىن ثالثة أايم ‪ ،‬فمن ّ‬
‫عرفة ‪ ،‬من جاء ليلة مجع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ّ‬
‫يومني فال إمث عليه» «‪»1‬‬
‫وهذا يدل على أن األايم املعدودات هي ‪ :‬أايم التشريق‪.‬‬
‫األايم الثالثة مع يوم النحر‬
‫قال الواحدي «‪ : »2‬أايم التشريق ثالثة أايم بعد يوم النحر ‪ ،‬وهذه ّ‬
‫كلّها أايم حنر ‪ ،‬وأايم رمي اجلمار هذه األايم األربعة ‪ ،‬وهي مع يوم عرفة أايم التكبري عقيب‬
‫الصلوات على ما سنذكره ‪ ،‬مث إن املراد ابلذكر يف هذه األايم الذكر عند اجلمرات ‪ ،‬والذكر أدابر‬
‫الصلوات ‪ ،‬مل َيالف أحد يف ذلك ‪ ،‬إمنا اخلالف يف بدء هذه الصلوات وانتهائها‪.‬‬
‫فقيل ‪ :‬إهنا تبدأ من ظهر يوم النحر إىل ما بعد الصبح من آخر أايم التشريق ‪ ،‬فتكون الصلوات‬
‫يكرب عقبها مخس عشرة صالة ‪ ،‬وهو قول ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وبه قال مالك ‪،‬‬
‫اليت ّ‬
‫والشافعي يف أحد قوليه‪.‬‬
‫وعن الشافعي ‪ :‬أنه يبدأ ابلتكبري من صالة املغرب ليلة النحر ‪ ،‬وعنه أنّه يبدأ به من صالة‬
‫الفجر يوم عرفة ‪ ،‬ويقطع بعد صالة العصر من يوم النحر ‪ ،‬وهي رواية عن أيب حنيفة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )147 /2‬كتاب املناسك ابب من مل يدرك عرفة حديث رقم‬
‫(‪ ، )1949‬والنسائي يف السنن (‪ ، )292 /6 - 5‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب فيمن مل يدرك الصبح‬
‫يف مزدلفة حديث رقم (‪ ، )3044‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )237 /3‬كتاب احلج ابب‬
‫فيمن أدرك اإلمام حديث رقم (‪.)889‬‬
‫مفسر عامل ابألدب تويف سنة‬
‫(‪ )2‬علي بن أمحد بن حممد أبو احلسن الواحدي النيسابوري‪ّ .‬‬
‫(‪ 468‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)255 /4‬‬

‫ص ‪125 :‬‬
‫وعن الشافعي أيضا ‪ :‬أنه يبدأ التكبري من صالة الفجر يوم عرفة ‪ ،‬وينقطع بعد صالة العصر من‬
‫آخر أايم التشريق ‪ ،‬فتكون الصلوات ثالاث وعشرين صالة ‪ ،‬وهو قول أكابر الصحابة ‪ :‬كعلي‬
‫وعمر وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ومن الفقهاء ‪ :‬الثوري وأبو يوسف ‪ ،‬وحممد وأمحد وإسحاق ‪،‬‬
‫واملزين ‪ ،‬وابن سريج «‪ ، »1‬وعليه عمل الناس يف البلدان‪.‬‬
‫الصبح يوم عرفة ‪ ،‬مث أقبل علينا فقال ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ :‬أنه صلّى ّ‬
‫وروى جابر عن النيب صلّى ّ‬
‫«الل أكرب» وم ّد التكبري إىل العصر من آخر أايم التشريق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ني فَال إِ ْمثَ َعلَْيهِ ومن َأتَخهر فَال إِ ْمثَ َعلَْيهِ‬
‫وأما عدد التكبريات فيعرف يف الفقه فَ َم ْن تَ َع هجل ِيف يَ ْوَم ْ ِ‬
‫ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫لِ َم ِن اتهقى ‪.‬‬
‫تعجل يف اإلتيان ابملطلوب يف الثالثة ‪ ،‬أبن جعله يف يومني فال إمث عليه ‪ ،‬ومن أت ّخر‬ ‫معناه ‪ :‬من ّ‬
‫أبن أوقعهن يف الثالثة ‪ ،‬أبن ترك رخصة التعجل ‪ ،‬فال إمث عليه‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن املعىن فَ َم ْن تَ َع هج َل أبن نفر من مىن يف اليوم الثاين فال إمث عليه ‪ ،‬ومن أتخر عن الثالثة‬
‫أبن بقي إىل الرابع فال إمث عليه ‪ ،‬وقد قيل غري هذا ‪ ،‬فارجع إليه يف الفقه إن شئت‪.‬‬
‫لِ َم ِن اتهقى املعىن ‪ :‬أ ّن هذه املغفرة إمنا تكون للمتقني الذين مل يلبسوا حجهم ابملظامل واملآمث ‪ ،‬كما‬
‫الل تعاىل ‪ :‬إِهمنا ي ت َقبهل ه ِ‬
‫ني [املائدة ‪.]27 :‬‬ ‫اللُ م َن ال ُْمت ِهق َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ش ُرو َن أتكيد لألمر ابلتقوى ‪ ،‬ومحل على التشديد فيه ‪ ،‬واحلشر ‪ :‬اسم يقع‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم إِل َْيهِ ُحتْ َ‬
‫س لِنَ ْف ٍّ‬
‫س َش ْيئاً‬ ‫ك نَ ْف ٌ‬ ‫على ابتداء خروجهم من األجداث إىل انتهاء املوقف‪ .‬وذلك يَ ْو َم ال متَْلِ ُ‬
‫َو ْاأل َْم ُر يَ ْوَمئِ ٍّذ ِهللِ (‪[ )19‬االنفطار ‪.]19 :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني َوالْيَتامى‬‫ك ما ذا يُ ْن ِف ُقو َن قُ ْل ما أَنْ َف ْقتُ ْم م ْن َخ ٍّْري فَللْوال َديْ ِن َو ْاألَق َْربِ َ‬‫الل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ّ‬
‫يل وما تَ ْفعلُوا ِمن َخ ٍّْري فَِإ هن ه ِ ِ‬ ‫َوال َْمساكِ ِ‬
‫يم (‪)215‬‬ ‫اللَ بِه َعل ٌ‬ ‫سبِ ِ َ َ ْ‬ ‫ني َوابْ ِن ال ه‬
‫َخ ٍّْري ‪ :‬املراد به هنا املال‪.‬‬
‫اليتيم ‪ :‬من فقد والده وهو صغري ‪ ،‬فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم‪.‬‬
‫املسكني ‪ :‬من عجز عن كسب ما يكفيه ‪ ،‬وسكن إىل الرضا ابلقليل‪.‬‬
‫ابن السبيل ‪ :‬املسافر ‪ ،‬ومسّي به ملالزمته إايه ‪ ،‬كما يقال للرجل الذي أتت عليه الدهور ‪ :‬ابن‬
‫األايم والليايل‪.‬‬
‫الل تعاىل ‪ :‬يسألك أصحابك اي حممد أي شيء ينفقونه من أمواهلم يف الصدقة؟ وعلى من‬
‫يقول ّ‬
‫ينفقون؟‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أمحد بن عمر بن سريج البغدادي أبو العباس من كبار فقهاء الشافعية ولد وتويف يف بغداد ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)185 /1‬‬

‫ص ‪126 :‬‬
‫فقل هلم ‪ :‬ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه آلابئكم ‪ ،‬وأمهاتكم وأقرابئكم واليتامى منكم ‪ ،‬الذين‬
‫مات كافلهم ‪ ،‬واملساكني الذين عجزوا عن الكسب واملسافرين الذين انقطعت هبم السبل وما‬
‫الل به عليم ‪ ،‬فيجازيكم عليه‪ .‬وقد اختلف يف هذه اآلية‪.‬‬ ‫أتتوا من خري فإ ّن ّ‬
‫ت لِلْ ُف َقر ِاء َوال َْمساكِ ِ‬
‫ني [التوبة ‪.]60 :‬‬ ‫‪ - 1‬فقيل ‪ :‬إهنا منسوخة آبية الزكاة إِ همنَا ال ه‬
‫ص َدقا ُ‬
‫‪ - 2‬وقيل ‪ :‬إهنا غري منسوخة ‪ ،‬وهو األوىل وهي لبيان صدقة التطوع ‪ ،‬فإنّه مىت أمكن اجلمع‬
‫فال نسخ‪.‬‬
‫وقد بينت اآلية أ ّن صدقة التطوع يف الوالدين واألقربني أفضل ‪ ،‬ويدل على ذلك ما‬
‫كن»‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬اي معشر النّساء ‪ ،‬تص ّدقن ولو من حليّ ّ‬
‫روي عن صدقة النيب صلّى ّ‬
‫عين فيك‬
‫الل بن مسعود لزوجها ‪ :‬أراك خفيف ذات اليد فإن أجزأت ّ‬
‫فقالت زينب امرأة عبد ّ‬
‫الل عليه وسلّم فسألته فقالت ‪ :‬أجتزئ الصدقة على زوجي‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫صرفتها إليك ‪ ،‬فأتت ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬نعم ‪ ،‬ولك أجران ‪:‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وأيتام يف حجري؟ فقال هلا ّ‬
‫أجر الصدقة وأجر القرابة» «‪.»1‬‬
‫ويف رواية ‪« :‬زوجك وولدك أح ّق من تص ّدقت عليه» «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬يد املعطي العليا‪ .‬أابك ‪ ،‬و ّأمك‬
‫وروى النّسائي وغريه أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫وأختك ‪ ،‬وأخاك ‪ ،‬وأدانك أدانك» «‪.»3‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬ابدأ بنفسك فتص ّدق عليها»‬
‫وروى مسلم عن جابر أن النيب صلّى ّ‬
‫«‪.»4‬‬
‫قال قيل ‪ :‬إهنم سألوا عن املنفق ‪ ،‬وأجيبوا ببيان املنفق عليهم ‪ ،‬فلم يتطابقا؟‬
‫قيل ‪ :‬إن ذلك على أسلوب احلكيم‪ .‬فقد سألوا عن شي ء ‪ ،‬وأجاهبم عما هو أهم منه ‪ ،‬وهو‬
‫بيان مواطن اإلنفاق ‪ ،‬أل ّن اإلنفاق ال حيدث اخلري الذي يؤدي إليه حىت يصادف موقعه‪ .‬قال‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫حىت يصاب هبا طريق املصنع‬
‫الصنيعة ال تكون صنيعة ّ‬
‫إ ّن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )155 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 48 ،‬ابب الزكاة على‬
‫الزوج حديث رقم (‪ ، )1466‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )694 /2‬كتاب الزكاة ‪- 14‬‬
‫ابب فضل النفقة حديث رقم (‪.)1000 /45‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )154 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 44 ،‬ابب الزكاة على‬
‫األقارب حديث رقم (‪.)146 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪.)226 /2‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )692 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 13 ،‬ابب االبتداء يف النفقة‬
‫حديث رقم (‪.)997 /41‬‬

‫ص ‪127 :‬‬
‫ومن نظر إىل أحوال مصر وجد اإلحسان فيها فوضى ‪ ،‬وما أحوجها إىل عمل ينتظم به اإلحسان‬
‫‪ ،‬ليقع موقعه ‪ ،‬ويصيب أهله‪.‬‬
‫ْر ُهوا َش ْيئاً َو ُه َو َخ ْريٌ لَ ُك ْم َو َعسى‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ال ِْق ُ‬
‫تال َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم َو َعسى أَ ْن تَك َ‬
‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪ُ :‬كت َ‬ ‫قال ّ‬
‫أَ ْن ُِحتبوا َش ْيئاً َو ُه َو َش ٌّر لَ ُك ْم َو ه‬
‫اللُ يَ ْعلَ ُم َوأَنْ تُ ْم ال تَ ْعلَ ُمو َن (‪.)216‬‬
‫كتب ‪ :‬فرض‪.‬‬
‫الكره ابلضم ‪ :‬ما محل الرجل نفسه عليه من غري إكراه أحد إايه عليه‪ .‬والكره ابلفتح ‪ :‬ما محله‬
‫عليه غريه ‪ ،‬قال معاذ بن مسلم «‪ »1‬الكره ‪ :‬املشقة ‪ ،‬والكره ‪ :‬اإلجبار ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬الكره‬
‫والكره لغتان مبعىن واحد ‪ ،‬كالغسل والغسل ‪ ،‬والضعف والضعف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو بفتح الكاف‬
‫اسم ‪ ،‬وابلضم مصدر‪ .‬وهو إما على حذف مضاف‪ .‬أي ذو كره ‪ ،‬أو من ابب الوصف ابملصدر‬
‫مبالغة كقوهلا ‪:‬‬
‫فإ ّمنا هي إقبال وإدابر وقيل ‪ :‬إن املصدر أقيم مقام اسم املفعول‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬فرض عليكم أيها املسلمون قتال الكفار ‪ ،‬وهو كره لكم ‪ ،‬ولعلّكم تكرهون شيئا وهو‬
‫شر لكم ‪ ،‬إذ هم يكرهون القتال وفيه الفتح والغنيمة‬
‫خري لكم ‪ ،‬ولعلكم حتبون شيئا وهو ّ‬
‫الل يعلم ما هو خري لكم مما هو شر‬
‫الذل واالستعباد ‪ ،‬و ّ‬
‫والشهادة والقوة‪ .‬وحيبون القعود ‪ ،‬وفيه ّ‬
‫لكم‪ .‬فال تكرهوا ما فرض عليكم من القتال‪ .‬فإنّه يعلم أنه خري لكم يف عاجلكم ‪ ،‬وال حتبوا‬
‫الل ‪ ،‬وقد‬
‫القعود ‪ ،‬فإنّه شر لكم ‪ ،‬فإ ّن الدنيا بنيت على التدافع ‪ ،‬وأنتم ال تعلمون ما يعلمه ّ‬
‫اختلف يف الذين كتب عليهم القتال يف هذه اآلية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال األوزاعي ‪ :‬نزلت يف الصحابة ‪ ،‬فهم الذين كتب عليهم اجلهاد ‪ ،‬وبه قال عطاء‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال غريَها ‪ :‬إ ّن القتال قد كتب على مجيع املسلمني ‪ ،‬لكن ختتلف احلال ‪ ،‬فإن كان‬
‫حىت‬
‫اإلسالم ظاهرا فهو فرض على الكفاية ‪ ،‬وإن كان العدو ظاهرا فهو فرض على األعيان ‪ّ ،‬‬
‫الل ما هبم ‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪.‬‬
‫يكشف ّ‬
‫الل عليه وسلّم أان وأخي ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ابيعين‬
‫وقد روى البخاري عن جماشع ‪ :‬قال أتيت النيب صلّى ّ‬
‫على اهلجرة ‪ ،‬فقال ‪« :‬مضت اهلجرة ألهلها» «‪.»2‬‬
‫قلت ‪ :‬عالم تبايعنا؟‬
‫__________‬
‫اهلراء النحوي أديب معمر ‪ ،‬من أهل الكوفة ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/7‬‬
‫(‪ )1‬أبو مسلم ّ‬
‫‪.)258‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 56 ، )11 /4‬كتاب اجلهاد ‪ - 110 ،‬ابب البيعة يف‬
‫احلرب حديث رقم (‪ ، )2963 ، 2962‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1487 /3‬كتاب‬
‫اإلمارة حديث رقم (‪.)1863 /83‬‬

‫ص ‪128 :‬‬
‫قال ‪ :‬على اإلسالم ‪ ،‬واجلهاد‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬ال هجرة بعد الفتح ‪ ،‬ولكن جهاد ونيّة ‪ ،‬وإذا‬
‫وقد روي أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫استنفرمت فانفروا» «‪.»1‬‬
‫اللِ َوُك ْف ٌر‬
‫يل ه‬ ‫ص ٌّد َع ْن َسبِ ِ‬ ‫تال فِيهِ قُل قِ ٌ ِ ِ‬
‫تال فيه َكبِريٌ َو َ‬ ‫ْ‬
‫ش ْه ِر ا ْحلَر ِام قِ ٍّ‬ ‫ك َع ِن ال ه‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ّ‬
‫اللِ َوال ِْف ْت نَةُ أَ ْك َربُ ِم َن الْ َق ْت ِل َوال يَزالُو َن يُقاتِلُونَ ُك ْم‬
‫اج أَ ْهلِهِ ِم ْنهُ أَ ْك َربُ ِع ْن َد ه‬ ‫ِِ‬
‫بِه َوال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام َوإِ ْخر ُ‬
‫ِ‬
‫ك‬‫ت َو ُه َو كافٌِر فَأُولئِ َ‬ ‫استَطاعُوا َوَم ْن يَ ْرتَ ِد ْد ِمنْ ُك ْم َع ْن ِدينِهِ فَيَ ُم ْ‬ ‫ِ‬
‫َح هىت يَ ُردوُك ْم َع ْن دينِ ُك ْم إِ ِن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حاب النها ِر ُه ْم فيها خال ُدو َن (‪ )217‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين‬ ‫َص ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ت أَ ْعما ُهلُ ْم ِيف الدنْيا َو ْاآل ِخ َرةِ َوأُولئِ َ‬ ‫َحبِطَ ْ‬
‫الل غَ ُف ِ‬ ‫ت هِ‬ ‫اللِ أُولئِ َ‬ ‫جاه ُدوا ِيف َسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪.)218‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫الل َو هُ ٌ‬ ‫ك يَ ْر ُجو َن َر ْمحَ َ‬ ‫يل ه‬ ‫هاج ُروا َو َ‬ ‫ين َ‬ ‫آمنُوا َوالهذ َ‬‫َ‬
‫تال بدل من الشهر‪.‬‬ ‫قِ ٍّ‬
‫َكبِريٌ عظيم‪.‬‬
‫اللِ مبتدأ وخربه أكرب عند ّ‬
‫الل‪.‬‬ ‫يل ه‬ ‫ص ٌّد عَ ْن َسبِ ِ‬
‫َو َ‬
‫اج أَ ْهلِهِ ِم ْنهُ عطف عليه‪َ .‬وال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام عطف على سبيل ّ‬
‫الل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َوُك ْف ٌر بِه َوإِ ْخر ُ‬
‫َوال ِْف ْت نَةُ الشرك‪.‬‬
‫يَ ْرتَ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َع ْن ِدينِهِ يرجع عنه‪.‬‬
‫ت بطلت ‪ ،‬وبطالهنا ذهاب ثواهبا‪.‬‬ ‫َحبِطَ ْ‬
‫الل بن جحش ‪-‬‬
‫الل عليه وسلّم بعث عبد ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ذكر يف أسباب نزول هذه اآلية أن رسول ّ‬
‫وهو ابن عمته ‪ -‬يف مثانية من املهاجرين يف رجب ‪ ،‬مقفله من بدر األوىل ‪ ،‬ليأتوه أبخبار قريش ‪،‬‬
‫فأضل سعد بن أيب وقاص وعتبة بن غزوان بعريا‬
‫ّ‬ ‫ومل أيمرهم بقتال ‪ ،‬فمضوا ‪ ،‬حىت كانوا بنجران ‪،‬‬
‫حىت نزلوا خنلة ‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ مرت هبم‬
‫هلما كاان يعتقبانه ‪ ،‬فتخلّفا يطلبانه ‪ ،‬ومضى القوم ّ‬
‫الل بن املغرية ‪،‬‬
‫عري لقريش فيهم عمرو بن احلضرمي ‪ ،‬واحلكم بن كيسان ‪ ،‬وعثمان بن عبد ّ‬
‫الل بن جحش ‪ ،‬وكان قد حلق‬
‫وأخوه نوفل‪ .‬وأشرف هلم ع ّكاشة بن حمصن من أصحاب عبد ّ‬
‫الل‬
‫عمار فليس عليكم منهم أبس ‪ ،‬وأمتر هبم أصحاب رسول ّ‬
‫رأسه ‪ ،‬فلما رأوه حليقا قالوا ‪ّ :‬‬
‫الل عليه وسلّم فقالوا ‪:‬‬
‫صلّى ّ‬
‫فليمتنعن‬
‫ّ‬ ‫ليدخلن يف هذه الليلة احلرم ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لئن قتلتموهم لنقتلنهم يف الشهر احلرام ‪ ،‬ولئن تركتموهم‬
‫منكم ‪ ،‬فأمجع القوم على قتلهم ‪ ،‬فرمى واقد بن عبد امللك التميمي عمرو بن احلضرمي بسهم‬
‫فقتله ‪ ،‬واستأسر عثمان واحلكم بن كيسان ‪ ،‬وأفلت نوفل ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 33 ، )1488 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 20 ،‬ابب املبايعة بعد‬
‫الفتح حديث رقم (‪.)1866 /88‬‬

‫ص ‪129 :‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فقال هلم ‪« :‬ما أمرتكم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫واستاقوا العري ‪ ،‬فقدموا هبا على رسول ّ‬
‫الل األسريين والعري ‪ ،‬فسقط يف أيديهم ‪ ،‬وظنّوا أن قد‬
‫شهر احلرام» فوقّف رسول ّ‬
‫ابلقتال يف ال ّ‬
‫استحل‬
‫ّ‬ ‫الرجال ‪ ،‬و‬
‫هلكوا ‪ ،‬وقالت قريش ‪ :‬قد سفك حممد الدم احلرام ‪ ،‬وأخذ املال ‪ ،‬وأسر ّ‬
‫ش ْه ِر ا ْحلَر ِام اآلية ‪ ،‬فأخذ النيب العري ‪ ،‬وفدى‬
‫ك َع ِن ال ه‬
‫الشهر احلرام ‪ ،‬فنزل قوله تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫األسريين «‪.»1‬‬
‫الل عليه وسلّم فقالوا ‪:‬‬
‫ويف بعض الرواايت أن قريشا ملا بلغهم اخلرب أرسلوا وفدا إىل النيب صلّى ّ‬
‫أحيل القتال يف الشهر احلرام فنزلت‪.‬‬
‫ّ‬
‫الل ‪:‬‬
‫وقال بعض املسلمني ‪ :‬إن مل يكونوا أصابوا وزرا فليس هلم أجر ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هاج ُروا ‪ ..‬اآلية‪.‬‬
‫ين َ‬‫آمنُوا َوالهذ َ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫ين َ‬
‫املعىن ‪ :‬يسألك اي حممد أصحابك عن القتال يف الشهر احلرام ‪ ،‬وهو رجب ‪ ،‬قل ‪ :‬قتال فيه إمث‬
‫ابلل ‪ ،‬وإخراجكم من املسجد‬
‫الل وعن املسجد احلرام ‪ ،‬وكفرهم ّ‬
‫كبري وص ّد قريش عن سبيل ّ‬
‫الل من قتل من قتلتم منهم وقد كانوا يفتنون املسلم‬
‫كل أولئك أكرب إمثا عند ّ‬
‫احلرام وأنتم أهله ‪ّ ،‬‬
‫الل من القتل ‪ ،‬أي أنكم أيها‬
‫عن دينه ‪ ،‬حىت يردوه إىل الكفر بعد إميانه ‪ ،‬وذلك أكرب عند ّ‬
‫أقل منه‪.‬‬
‫أخف الضررين ‪ ،‬وأهون الشرين ‪ ،‬وتزيلون إمثا كبريا مبا هو ّ‬ ‫املسلمون ترتكبون ّ‬
‫ِ‬
‫استَطاعُوا أي ‪ :‬هم مقيمون على الشر واملنكر ‪،‬‬ ‫َوال يَزالُو َن يُقاتِلُونَ ُك ْم َح هىت يَ ُردوُك ْم َع ْن دينِ ُك ْم إِ ِن ْ‬
‫ومن يرجع منكم عن دينه ‪ ،‬فيمت وهو كافر قبل أن يتوب ‪ ،‬فهم الذين بطلت أعماهلم ‪،‬‬
‫وذهب ثواهبا واألجر عليها ‪ ،‬وهم أهل النار املخلّدون فيها ‪ ،‬املاكثون فيها من غري أمد وال‬
‫هناية‪.‬‬
‫ابلل ‪ ،‬والذين هاجروا مساكنة املشركني فيها يف دايرهم ‪ ،‬وكرهوا سلطان‬
‫إ ّن الّذين ص ّدقوا ّ‬
‫الل ‪ ،‬أولئك يطمعون‬
‫فتحولوا عنه خوفا من أن يفتنهم املشركون ‪ ،‬وحاربوهم يف دين ّ‬
‫املشركني ‪ّ ،‬‬
‫الل بن جحش وأصحابه‬
‫والل ساتر ذنوب عباده ‪ ،‬ورحيم هبم ‪ ،‬ومن املهاجرين عبد ّ‬
‫الل ‪ّ ،‬‬
‫يف رمحة ّ‬
‫‪ ،‬فنزلت هذه لتطمينهم‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم عن القتال يف‬
‫وعلى الرواية الثانية ‪ -‬وهي أ ّن وفدا من املشركني سأل النيب صلّى ّ‬
‫يتمسكون حبرمة الشهر احلرام ‪ ،‬ويفعلون‬
‫الشهر احلرام ‪ -‬يكون املعىن ‪ :‬إن املشركني متناقضون ‪ّ ،‬‬
‫الل ‪ ،‬ومع الكفر به ‪ ،‬واملسجد احلرام وإخراج أهله‬
‫ما هو أكرب من ذلك ‪ :‬من الصد عن سبيل ّ‬
‫الل ‪ ،‬فهم كمن يبصر القذاة يف‬
‫منه والفتنة اليت فتنوا هبا بعض املسلمني عن دينهم أكرب إمثا عند ّ‬
‫عني أخيه ‪ ،‬ويغفل عن اخلشبة املعرتضة يف عينه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذكره اإلمام الواحدي النيسابوري يف كتابه أسباب النزول صفحة (‪].....[ .)64‬‬

‫ص ‪130 :‬‬
‫األحكام‬
‫دلت هذه اآلية على حرمة القتال يف الشهر احلرام ‪ ،‬وهل بقيت احلرمة أم نسخت؟‬
‫املفسرون ‪ :‬فذهب عطاء إىل أن هذه اآلية مل تنسخ ‪ ،‬وكان حيلف على ذلك ‪،‬‬
‫اختلف يف ذلك ّ‬
‫اخلاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ولعل ذلك أل ّن اآلية اليت أتمر ابلقتال عامة يف األزمنة ‪ ،‬وهذه خاصة ‪ ،‬والعام ال ينسخ‬ ‫ّ‬
‫ني َكافهةً‬ ‫وقال سائر العلماء ‪ :‬إهنا منسوخة‪ .‬وقد اختلف يف الناسخ ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هو َوقاتِلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ين ال يُ ْؤِمنُو َن ِاب هللِ َوال ِابلْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َكما يُقاتلُونَ ُك ْم َكافهةً [التوبة ‪ ]36 :‬وقيل ‪ :‬هو ‪ :‬قاتلُوا الهذ َ‬
‫[التوبة ‪.]29 :‬‬
‫الل عليه وسلّم غزا هوازن حبنني ‪ ،‬وثقيفا‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وإمنا ذهب العلماء إىل نسخها ‪ ،‬أل ّن رسول ّ‬
‫ابلطائف ‪ ،‬وأرسل أاب عامر إىل أوطاس ليحارب من فيها من املشركني ‪ ،‬وكان ذلك يف بعض‬
‫الل عليه وسلّم قال ابن العريب ‪:‬‬
‫األشهر احلرم ‪ ،‬ولو كان القتال فيهن حراما ملا فعله النيب صلّى ّ‬
‫والصحيح أن هذه اآلية ر ّد على املشركني حني أعظموا على النيب القتال يف الشهر احلرام‪ .‬فقال‬
‫اج أَ ْهلِهِ ِم ْنهُ أَ ْك َربُ ِع ْن َد ه‬
‫اللِ َوال ِْف ْت نَةُ وهي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الل َوُك ْف ٌر بِه َوال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام َوإِ ْخر ُ‬
‫يل هِ‬
‫ص ٌّد َع ْن َسبِ ِ‬
‫تعاىل ‪َ :‬و َ‬
‫ِ‬
‫تعني قتالكم فيه‪.‬‬ ‫الكفر يف الشهر احلرام أَ ْك َربُ م َن الْ َقتْ ِل فإذا فعلتم ذلك كله يف الشهر احلرام ّ‬
‫املرتد‬
‫ت‬‫ك َحبِطَ ْ‬ ‫ت َو ُه َو كافٌِر فَأُولئِ َ‬ ‫وأخذ الشافعي من قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن يَ ْرتَ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َع ْن ِدينِهِ فَيَ ُم ْ‬
‫أَ ْعما ُهلُ ْم أن إحباط الردة العمل مشروط ابلوفاة كافرا ‪ ،‬وذهب مالك إىل أن الردة نفسها حمبطة‬
‫ك [الزمر ‪.]65 :‬‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ هن عَ َملُ َ‬ ‫للعمل اعتمادا على قوله ‪ :‬لَئِ ْن أَ ْش َرْك َ‬
‫احلج ‪ ،‬أل ّن ردته‬
‫حج مسلما ‪ ،‬مث ارتد ‪ ،‬مث أسلم ‪ ،‬فقال مالك ‪ :‬عليه ّ‬
‫ويظهر أثر اخلالف فيمن ّ‬
‫حج عليه ‪ ،‬أل ّن حجه قد سبق ‪ ،‬والردة ال حتبطه إال إذا‬
‫حجه ‪ ،‬وقال الشافعي ‪ :‬ال ّ‬
‫أحبطت ّ‬
‫مات على كفره‪.‬‬
‫وقد رأى املالكية أ ّن هذه اآلية رتبت حكمني ‪:‬‬
‫احلبوط‪ .‬اخللود يف النار ‪ ،‬ومن شرط اخللود أن ميوت على كفره ‪ ،‬ولذلك شرطه‪.‬‬
‫ك فهي يف الردة فقط ‪ ،‬وقد علّق احلبوط مبجرد الشرك ‪،‬‬ ‫أما آية لَئِ ْن أَ ْش َرْك َ‬
‫ت لَيَ ْحبَطَ هن َع َملُ َ‬
‫الل عليه وسلّم فهو مراد به أمته ‪ ،‬الستحالة الشرك عليه‪.‬‬ ‫واخلطاب وإن كان للنيب صلّى ّ‬
‫الل‬
‫ك من ابب التغليظ على النيب صلّى ّ‬ ‫أما الشافعية فريون أن آية لَئِ ْن أَ ْش َرْك َ‬
‫ت لَيَ ْحبَطَ هن عَ َملُ َ‬
‫عليه وسلّم‬

‫ص ‪131 :‬‬
‫شةٍّ ُمبَ يِّنَةٍّ يُ َ‬ ‫ْت ِم ْن ُك هن بِ ِ‬‫هيب من أي ِ‬ ‫ِ‬
‫ذاب‬
‫ف َهلَا ال َْع ُ‬ ‫ضاع ْ‬ ‫فاح َ‬ ‫كما غلظ على نسائه يف قوله ‪ :‬اي نساءَ النِ ِّ َ ْ َ‬
‫ني [األحزاب ‪.]30 :‬‬ ‫ِ‬
‫ض ْع َف ْ ِ‬
‫هاس َوإِ ْمث ُُهما أَ ْك َربُ ِم ْن‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر قُ ْل فِي ِهما إِ ْمثٌ َكبِريٌ َوَمنافِ ُع لِلن ِ‬
‫ك َع ِن ْ‬‫الل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫قال ّ‬
‫الل لَ ُكم ْاآل ِ‬
‫ايت ل ََعله ُك ْم تَتَ َف هك ُرو َن‬ ‫ني هُ ُ‬ ‫ك ما ذا يُ ْن ِف ُقو َن قُ ِل ال َْع ْف َو َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬ ‫نَ ْفعِ ِهما َويَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫(‪.)219‬‬
‫اخلمر ‪ :‬مادة (خ م ر) تدل على السرت ‪ ،‬ومنه مخار املرأة ‪ ،‬ألنّه يسرت رأسها‪.‬‬
‫وقوهلم للضبع ‪ :‬خامري أم عامر ‪ :‬أي استرتي‪.‬‬
‫ومسيت اخلمر مخرا ألهنا تسرت العقل ‪ ،‬وهي ما أسكر من عصري العنب ‪ ،‬أو ما أسكر من عصري‬
‫العنب ومن غريه على اخلالف يف ذلك‪.‬‬
‫جزأته ‪ ،‬ويطلق على اجلزور ‪ ،‬ألنّه موضع التجزئة ‪ ،‬ويقال‬
‫امليسر ‪ :‬مفعل‪ .‬من يسرت الشيء إذا ّ‬
‫للجازر ‪ :‬ايسر ‪ ،‬ويسر‪ .‬ويقال للضاربني ابلقداح املتقامرين على اجلزور ‪ :‬أيسرون ‪ ،‬ألهنّم أيضا‬
‫وحرمه هو ضرب القداح على أجزاء‬
‫الل ّ‬
‫جازرون إذا كانوا سببا لذلك ‪ ،‬وامليسر الذي ذكره ّ‬
‫اجلزور قمارا ‪ ،‬مث قد يقال للنّرد ميسر على طريق التشبيه ‪ ،‬ألنّه يضرب عليها بفصني ‪ ،‬كما‬
‫يضرب على اجلزور ابلقداح ‪ ،‬وألنّه قمار ‪ ،‬كما أن امليسر قمار ‪ ،‬قال جماهد ‪ :‬كل القمار من‬
‫امليسر ‪ ،‬حىت لعب الصبيان ابخلرز‪.‬‬
‫اإلمث ‪ :‬الذنب ‪ ،‬وقد أمث ابلكسر إمثا‪ .‬ومأمثا ‪ ،‬إذا وقع يف اإلمث ‪ ،‬فهو آمث ‪ ،‬وأثيم ‪ ،‬وأثوم ‪ ،‬املراد‬
‫به هنا ‪ :‬كل ما ينقص من الدين عند من يشرهبا ‪ ،‬وما فيها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد‬
‫الل‪.‬‬
‫عن ذكر ّ‬
‫املعىن ‪ :‬يسألك أصحابك اي حممد عن شرب اخلمر ‪ ،‬ولعب امليسر‪ .‬قل ‪:‬‬
‫فِي ِهما إِ ْمثٌ َكبِريٌ أما إمث اخلمر ‪ ،‬فإ ّن اجلماعة تشرب فتسكر ‪ ،‬فتؤذي الناس ‪ ،‬وتقع العداوة‬
‫والبغضاء ‪ ،‬أما إمث امليسر ‪ ،‬فهو أن يقامر الرجل فيمنع احل ّق ‪ ،‬ويظلم ‪ ،‬فتقع العداوة والبغضاء‪.‬‬
‫وفيهما منافع للناس ‪ ،‬أما منفعة اخلمر ‪ ،‬فهي االجتار هبا ‪ ،‬وما يصلون إليه من اللذة والنشوة ‪،‬‬
‫وبسط يد البخيل ‪ ،‬وتقوية قلب اجلبان ‪ ،‬كما قال حسان ‪:‬‬
‫ونشرهبا فترتكنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء‬
‫ومنفعة امليسر ما يصيبهم من أنصباء اجلزور‪ .‬وذلك أهنم كانوا يياسرون على اجلزور ‪ ،‬إذا فلج‬
‫الرجل منهم صاحبه حنره ‪ ،‬مث اقتسموه أعشارا على عدد القداح‪.‬‬
‫َوإِ ْمث ُُهما أَ ْك َربُ ِم ْن نَ ْفعِ ِهما ألهنم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض ‪ ،‬وقاتل بعضهم بعضا ‪،‬‬
‫وإذا قامروا وقع بينهم الشر ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪:‬‬

‫ص ‪132 :‬‬
‫اللِ‬
‫ص هد ُك ْم َع ْن ِذ ْك ِر ه‬ ‫ِ‬ ‫داوةَ َوالْبَ غْضاءَ ِيف ْ‬ ‫ِ‬ ‫إِ همنا يُ ِري ُد ال ه‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْيس ِر َويَ ُ‬ ‫ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َ‬
‫صالةِ فَ َه ْل أَنْ تُ ْم ُم ْن تَ ُهو َن (‪[ )91‬املائدة ‪.]91 :‬‬ ‫َو َع ِن ال ه‬
‫الل‬
‫سبب نزول هذه اآلية ‪ :‬اختلف العلماء يف سبب نزوهلا ‪ ،‬فروى الرتمذي «‪ »1‬أن عمر رضي ّ‬
‫اخلَ ْم ِر‬
‫ك َع ِن ْ‬ ‫اللهم ّبني لنا يف اخلمر بيان شفاء ‪ ،‬فنزلت اآلية اليت يف البقرة يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫عنه قال ‪ّ :‬‬
‫َوال َْم ْي ِس ِر ‪ ..‬اآلية فدعي عمر فقرئت عليه‪ .‬فقال ‪ :‬اللهم ّبني لنا يف اخلمر بيان شفاء ‪ ،‬فنزلت‬
‫ِ‬
‫صالةَ َوأَنْ تُ ْم ُسكارى [النساء ‪ ]43 :‬فدعي عمر‬ ‫آمنُوا ال تَ ْق َربُوا ال ه‬‫ين َ‬ ‫اليت يف النساء اي أَي َها الهذ َ‬
‫الل عنه فقرئت عليه ‪ ،‬مث قال ‪ :‬اللهم ّبني لنا يف اخلمر بيان شفاء‪ .‬فنزلت اليت يف املائدة‬ ‫رضي ّ‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر إىل قوله ‪ :‬فَ َه ْل أَنْ تُ ْم‬
‫داوةَ َوالْبَ غْضاءَ ِيف ْ‬ ‫ِ‬ ‫إِ همنا يُ ِري ُد ال ه‬
‫ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َ‬
‫الل عنه فقرئت عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬انتهينا انتهينا‪.‬‬
‫ُم ْن تَ ُهو َن فدعي عمر رضي ّ‬
‫وجل يف اخلمر ثالث مرات ‪ ،‬فأول ما‬ ‫عز ّ‬ ‫الل ّ‬ ‫وروى ابن جرير «‪ »2‬عن زيد بن علي قال ‪ :‬أنزل ّ‬
‫هاس َوإِ ْمث ُُهما أَ ْك َربُ ِم ْن‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْميْ ِس ِر قُ ْل فِي ِهما إِ ْمثٌ َكبِريٌ َوَمنافِ ُع لِلن ِ‬
‫ك عَ ِن ْ‬
‫الل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫أنزل قال ّ‬
‫الل منهم على ذلك ‪ ،‬حىت شرب رجالن ‪ ،‬فدخال يف‬ ‫نَ ْفعِ ِهما قال ‪ :‬فشرهبا من املسلمني من شاء ّ‬
‫الصالة ‪ ،‬فجعال يهجران كالما ‪ ،‬ال يدري عوف ما هو‪.‬‬
‫ِ‬
‫صالةَ َوأَنْ تُ ْم ُسكارى َح هىت تَ ْعلَ ُموا ما‬
‫آمنُوا ال تَ ْق َربُوا ال ه‬ ‫وجل فيهما ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬
‫ين َ‬ ‫عز ّ‬‫الل ّ‬
‫فأنزل ّ‬
‫تَ ُقولُو َن فشرهبا من شرهبا منهم وجعلوا يتقوهنا عند الصالة ‪ ،‬حىت شرهبا فيما زعم أبو القموص‬
‫فجعل ينوح على قتلى بدر أببيات منها ‪:‬‬
‫أم عمرو وهل لك بعد رهطك من سالم ذريين أصطبح بكرا فإين رأيت املوت‬
‫ابلسالمة ّ‬
‫حتيّي ّ‬
‫الل‬
‫ن ّقب عن هشام وو ّد بنو املغرية لو فدوه أبلف من رجال أو سوام قال ‪ :‬فبلغ ذلك رسول ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فجاء فزعا جير رداءه من الفزع ‪ ،‬حىت انتهى إليه ‪ ،‬فلما عاينه الرجل ‪،‬‬
‫صلّى ّ‬
‫الل‬
‫ابلل من غضب ّ‬ ‫الل عليه وسلّم شيئا كان بيده ليضربه قال ‪ :‬أعوذ ّ‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫رفع رسول ّ‬
‫اخلَ ْم ُر َوال َْم ْي ِس ُر‬
‫آمنُوا إِ همنَا ْ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫الل حترميها ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬
‫الل ال أطعمها أبدا ‪ ،‬فأنزل ّ‬ ‫ورسوله ‪ ،‬و ّ‬
‫س [املائدة ‪ ]90 :‬إىل قوله ‪ :‬فَ َه ْل أَنْ تُ ْم ُم ْن تَ ُهو َن فقال عمر بن اخلطاب ‪:‬‬ ‫الم ِر ْج ٌ‬
‫صاب َو ْاألَ ْز ُ‬
‫َو ْاألَنْ ُ‬
‫انتهينا ‪ ،‬انتهينا‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض العلماء إىل أن آية البقرة ال تقتضي التحرمي ‪ ،‬ولذلك شرهبا بعض الصحابة بعد‬
‫نزوهلا ‪ ،‬كما هو ظاهر الرواايت‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )236 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪.)3049‬‬
‫(‪ ) 2‬رواه ابن جرير الطربي ‪ ،‬جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)211 /2‬‬

‫ص ‪133 :‬‬
‫الل قال ‪ :‬فِي ِهما إِ ْمثٌ َكبِريٌ ‪ :‬وقد حرم ّ‬
‫الل اإلمث بقوله ‪:‬‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬إهنا تقتضي التحرمي ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫اإل ْمثَ [األعراف ‪ ]33 :‬وإمنا شرهبا من شرهبا‬ ‫ش ما ظَ َه َر ِم ْنها َوما بَطَ َن َو ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِه‬
‫إمنا َح هر َم َرَِّ‬
‫يب الْ َفواح َ‬
‫متأوال‪.‬‬
‫ّ‬
‫ما هي اخلمر؟‬
‫اختلف العلماء فيما هي اخلمر ‪ ،‬فذهب مالك والشافعي ‪ ،‬وأمحد ‪ ،‬وأهل احلجاز ومجهور‬
‫احمل ّدثني إىل أهنا الشراب املسكر من عصري العنب وغريه ‪ ،‬فالشراب املسكر من عصري التمر ‪،‬‬
‫الرب مخر‪.‬‬
‫والشعري ‪ ،‬و ّ‬
‫وقال العراقيون ‪ :‬أبو حنيفة ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬وسفيان الثوري ‪ ،‬وابن أيب ليلى «‪ ، »1‬وشريك‬
‫وابن شربمة ‪ :‬اخلمر من الشراب املسكر من عصري العنب فقط ‪ ،‬أما املسكر من غريه كالشراب‬
‫يسمى نبيذا‪.‬‬
‫يسمى مخرا ‪ ،‬بل ّ‬
‫من التمر أو الشعري فال ّ‬
‫وملّا ذهب احلجازيون إىل أن اخلمر اسم لكل ما أسكر ‪ -‬سواء أكان من عصري العنب أم من‬
‫التمر ‪ ،‬أم من الشعري أم من غريه ‪ -‬كانت هذه كلّها حراما ‪ ،‬ابآلايت اليت وردت يف حترمي اخلمر‪.‬‬
‫وكانت كلّها سواء يف التحرمي ‪ ،‬قليلها وكثريها‪.‬‬
‫وملّا ذهب الكوفيون إىل أن اخلمر اسم ملا ّاختذ من عصري العنب فقط ‪ -‬كان احملرم ابآلايت ما‬
‫يطلق عليه اسم اخلمر ‪ ،‬وهو املسكر من عصري العنب ‪ ،‬أما ما اختذ من غريها ‪ -‬وهو املسمى‬
‫نبيذا ‪ -‬فليس بداخل عندهم يف حترمي اخلمر ‪ ،‬وقد حبثوا له عن حكم يف السنة ‪ ،‬فوجدوا أ ّن‬
‫القليل الذي ال يسكر من األنبذة حالل ‪ ،‬وأ ّن املسكر منها هو الثالث دون الكأسني‪.‬‬
‫يسمى مخرا‬
‫يدالن على أ ّن املسكر من األنبذة ّ‬
‫وقد استدل احلجازيون ملذهبهم أب ّن اللغة والشرع ّ‬
‫يرجحه‪ .‬وهو أهنا مسّيت مخرا ملخامرهتا العقل ‪ ،‬وهذه األنبذة‬
‫‪ ،‬أما اللغة فأل ّن االشتقاق اللغوي ّ‬
‫ختامر العقل ‪ ،‬وهذا ضعيف ‪ ،‬ألن اللغة ال تثبت قياسا‪.‬‬
‫وأما الشرع‬
‫كل‬
‫«كل مسكر مخر ‪ ،‬و ّ‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪ّ :‬‬
‫فقد روى مسلم عن ابن عمر أن النيب صلّى ّ‬
‫مسكر حرام» «‪»2‬‬
‫‪__________.‬‬
‫(‪ )1‬عبد الرمحن بن أيب ليلى األنصاري الكويف ‪ ،‬الفقيه احلافظ ‪ ،‬قتل يف وقعة اجلماجم ‪ ،‬انظر‬
‫سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )245 /5‬ترمجة (‪.)463‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 36 ، )1587 /3‬كتاب األشربة ‪ - 7 ،‬ابب بيان أن كل‬
‫مسكر مخر حديث رقم (‪.)2003 /73‬‬

‫ص ‪134 :‬‬
‫شجرتني ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬اخلمر من هاتني ال ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروي عن أيب هريرة أن رسول ّ‬
‫النخلة والعنبة» «‪.»1‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬إ ّن من العنب مخرا ‪ ،‬وإ ّن من‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروي عن ابن عمر أن رسول ّ‬
‫كل مسكر» «‪.»2‬‬
‫الزبيب مخرا ‪ ،‬ومن احلنطة مخرا ‪ ،‬وأان أهناكم عن ّ‬
‫العسل مخرا ‪ ،‬ومن ّ‬
‫تسمى مخرا فتكون حراما ‪ ،‬ويدل على حرمتها ‪ -‬قليلها‬
‫فذلك مجيعه يدل على أن األنبذة ّ‬
‫وكثريها ‪ -‬ما‬
‫الل عليه وسلّم عن البتع وعن نبيذ العسل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روي عن عائشة أهنا قالت ‪ :‬سئل رسول ّ‬
‫«كل شراب أسكر فهو حرام» «‪ »3‬أخرجه البخاري‬
‫الل عليه وسلّم ‪ّ :‬‬
‫فقال صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ما أسكر كثريه فقليله حرام» «‪.»4‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫‪ ،‬وما روي عن رسول ّ‬
‫يسمى مخرا إال الشيء املشت ّد من ماء‬
‫تسمى مخرا ‪ ،‬وال ّ‬
‫احتج العراقيون على أ ّن األنبذة ال ّ‬
‫وقد ّ‬
‫العنب ابللغة وابلسنة أيضا‪.‬‬
‫أما السنة فما‬
‫الل عليه وسلّم بنشوان فقال له ‪:‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫روي عن أيب سعيد اخلدري قال ‪ :‬أيت ّ‬
‫الل ورسوله‪ .‬قال ‪« :‬فما شربت؟» قال ‪:‬‬
‫حرمها ّ‬
‫«أشربت مخرا؟» فقال ‪ :‬ما شربتها منذ ّ‬
‫الل اخلليطني «‪»5‬‬
‫فحرم رسول ّ‬
‫اخلليطني‪ .‬قال ‪ّ :‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬ومل ينكره عليه‪.‬‬
‫‪ .‬فنفى الشارب اسم اخلمر عن اخلليطني حبضرة النيب صلّى ّ‬
‫أقره عليه ‪ ،‬إذ كان يف نفي االسم الذي علّق به حكم نفي‬
‫يسمى مخرا ملا ّ‬
‫قالوا ‪ :‬ولو كان ذلك ّ‬
‫يقر أحدا على حظر مباح ‪ ،‬أو إابحة حمظور‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ال ّ‬
‫احلكم ‪ ،‬والنيب صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬اخلمر بعينها‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وقد روي عن أنس بن مالك حي ّدث عن رسول ّ‬
‫كل شراب» «‪.»6‬‬
‫والسكر من ّ‬
‫حرام ‪ّ ،‬‬
‫وأما اللغة فقول أيب األسود الدؤيل وهو حجة يف اللغة ‪:‬‬
‫دع اخلمر تشرهبا الغواة فإنّين رأيت أخاها مغنيا مبكاهنا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - )1573 /3‬كتاب األشربة ‪ - 4 ،‬ابب بيان أن مجيع ما ينبذ‬
‫حديث رقم (‪.)1985 /13‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف املسند (‪ ، )273 /4‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )325 /3‬كتاب األشربة ابب‬
‫اخلمر حديث رقم (‪ ، )3676‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )262 /4‬كتاب األشربة ‪ ،‬ابب‬
‫يف احلبوب حديث رقم (‪.)1873‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 74 ، )302 /6‬كتب األشربة ‪ - 4 ،‬ابب اخلمر من‬
‫العسل حديث رقم (‪.)5585‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )326 /3‬كتاب األشربة ابب النهي عن املسكر حديث رقم‬
‫(‪ ، )3681‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )258 /4‬كتاب األشربة ابب ما أسكر كثريه‬
‫حديث رقم (‪.)1865‬‬
‫(‪ )5‬ذكره اجلصاص يف كتابه أحكام القرآن (‪.)324 /1‬‬
‫(‪ )6‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )718 /6 - 5‬كتاب األشربة ‪ ،‬ابب األخبار حديث رقم‬
‫(‪.)5683‬‬

‫ص ‪135 :‬‬
‫فإن ال تكنه أو يكنها فإنّه أخوها غذته ّأمه بلباهنا‬
‫ضعفوا بعض أحاديث احلجازيني ‪ ،‬ومحلوا األخرى على أ ّن األنبذة مسّيت مخرا فيها جمازا‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫يدل على أنه ال حيرم من األنبذة إال ما أسكر ما‬
‫قالوا ‪ّ :‬‬
‫الل عليه وسلّم أان ومعاذ إىل اليمن‬
‫الل صلّى ّ‬
‫أخرجه الطحاوي عن أيب موسى قال ‪ :‬بعثين رسول ّ‬
‫املز ‪ ،‬واآلخر‬
‫شعري أحدَها يقال له ‪ّ :‬‬
‫الرب وال ّ‬
‫الل ‪ ،‬إ ّن هبا شرابني يصنعان من ّ‬
‫‪ ،‬فقلنا ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫يقال له ‪ :‬البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬اشراب وال تسكرا» «‪.»1‬‬
‫الل ذكر يف علّة حترمي‬ ‫ويدل من جهة النظر ملا ذكرانه من أن قليل األنبذة ليس حبرام أ ّن ّ‬ ‫قالوا ‪ّ :‬‬
‫ص هد ُك ْم َع ْن‬ ‫ِ‬ ‫داوةَ َوالْبَ غْضاءَ ِيف ْ‬ ‫ِ‬ ‫اخلمر قوله ‪ :‬إِ همنا يُ ِري ُد ال ه‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْيس ِر َويَ ُ‬ ‫ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َ‬
‫صالةِ فوجب هلذه العلة أال حيرم من املسكرات إال القدر املسكر ‪ ،‬ألنه هو‬ ‫اللِ َو َع ِن ال ه‬
‫ِذ ْك ِر ه‬
‫الذي توجد فيه هذه العلة ‪ ،‬ولكن انعقد اإلمجاع على حترمي قليل اخلمر وكثريها ‪ ،‬فوجب أن‬
‫يبقى قليل األنبذة على اإلابحة‪.‬‬
‫ترجح عندان قول احلجازيني ‪ ،‬أل ّن‬
‫وحنن إذا أتملنا يف أدلّة الفريقني ما ذكر منها وما مل يذكر ّ‬
‫الصحابة ملّا مسعوا حترمي اخلمر فهموا منه حترمي األنبذة ‪ ،‬وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب‬
‫حرمت اخلمر‬
‫شارع‪ .‬وقد ثبت ذلك من حديث أنس «‪ »2‬قال ‪ :‬كنت ساقي القوم حني ّ‬
‫ومراد ال ّ‬
‫يف منزل أيب طلحة ‪ ،‬وما كان مخران يومئذ إال الفضيخ ‪ ،‬فحني مسعوا حترمي اخلمر أهرقوا األواين‬
‫كسروها ‪ ،‬والفضيخ نقيع البسر‪.‬‬
‫و ّ‬
‫للسكر ‪ ،‬والقليل ‪ ،‬ألنّه‬
‫الل حرم من عصري العنب الكثري ّ‬‫وقد اتفقوا مع احلجازيني على أ ّن ّ‬
‫ذريعة إىل الكثري ‪ ،‬فوجب أن يكون كذلك يف سائر األنبذة ‪ ،‬حيث ال فارق‪.‬‬
‫حترمي امليسر‬
‫الل امليسر مع اخلمر هنا ‪ ،‬كما ذكره معها يف آية املائدة [‪ ، ]90‬فما قلناه يف داللة‬
‫قد ذكر ّ‬
‫اآلية على حترمي اخلمر يقال أيضا يف امليسر‪.‬‬
‫وقد ذكران أصل امليسر واشتقاقه ‪ ،‬وأنه كان يطلق على ضرب القداح على أجزاء اجلزور قمارا ‪،‬‬
‫نبني صفة امليسر عند العرب ابختصار‪.‬‬
‫مث أطلق على النرد وكل ما فيه قمار‪ .‬ونريد هنا أن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر شرح معاين اآلاثر للطحاوي (‪.)220 /4‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )225 /5‬كتاب التفسري ‪ - 10 ،‬ابب قوله ‪ :‬إِ همنَا‬
‫اخلَ ْم ُر َوال َْم ْي ِس ُر حديث رقم (‪ ، )4617‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 36 ، )1570 /3‬كتاب‬
‫ْ‬
‫األشربة ‪ - 1 ،‬ابب حترمي اخلمر حديث رقم (‪.)1980 /3‬‬

‫ص ‪136 :‬‬
‫قد كانت للقداح اليت يضربوهنا على اجلزور عشرة ‪ ،‬ذوات احلظوظ منها سبعة ‪:‬‬
‫الرقيب ‪ ،‬احللس ‪ ،‬النافس ‪ ،‬املسبل ‪ ،‬املعلّى‪.‬‬
‫أمساؤها ‪ :‬الف ّذ ‪ ،‬التّوأم ‪ّ ،‬‬
‫السفيح ‪ ،‬املنيح ‪ ،‬الوغد‪.‬‬
‫ظ هلا ثالثة ‪ ،‬وأمساؤها ‪ّ :‬‬
‫واألغفال اليت ال ح ّ‬
‫وكانت القداح ذوات احلظوظ خمتلفة احلظوظ ‪ ،‬فكان للفذ منها نصيب ‪ ،‬وللتوأم نصيبان ‪،‬‬
‫تدل عليه وعلى‬
‫وهكذا إىل السابع املعلّى ‪ ،‬فله سبعة أنصباء وكانت على كل قدح منها عالمة ّ‬
‫حظه ‪ ،‬فعلى الف ّذ فرض ‪ ،‬وعلى التوأم فرضان ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫والفرض ‪ :‬احلز‪.‬‬
‫لكل واحد قدح ‪ ،‬وكانوا يضعون القداح يف خريطة ‪،‬‬
‫وكان األيسار سبعة على عدد القداح ‪ّ ،‬‬
‫وجيلجلوهنا فيها حىت ختتلط ‪ ،‬مث َيرج واحد من فم اخلريطة ‪ ،‬فإن كان الذي خرج الف ّذ فلصاحبه‬
‫حىت منتهى أقسام اجلزور‪ .‬فالفائزون هم من‬
‫نصيب واحد أيخذه ‪ ،‬ويعتزل القوم‪ .‬مث جييل اثنية ‪ّ ،‬‬
‫يغرمون مثن البعري على حسب نصيب‬
‫خرجت قداحهم‪ .‬والغارمون من مل خترج قداحهم ‪ ،‬وهم ّ‬
‫الل ذلك‪.‬‬
‫القداح ‪ ،‬وقد حرم ّ‬
‫وحرم النرد وسائر أنواع القمار ملا فيها من أكل أموال الناس ابلباطل ‪ ،‬ومن جلب العداوة‬
‫ّ‬
‫والبغضاء ‪ ،‬ومن تعويد املقامرين على الكسل‪ .‬وانتظار الربح من القمار دون ك ّد وعمل ‪ ،‬وأل ّن‬
‫املقامرين يف قمارهم ليسوا ينتجون لألمة شيئا ‪ ،‬فليس ربح الفائز منهم يف مقابلة إخراج املوا ّد‬
‫األولية ‪ ،‬وال صنعها ‪ ،‬وال نقلها ‪ ،‬وال توزيعها ‪ ،‬وال أتدية عمل من األعمال اليت حتتاج إليها األمة‬
‫وتستفيد منها ‪ ،‬فهم حيواانت طفيلية تستفيد من دم اجملموع وال تفيده‪.‬‬
‫ولسنا ندري ‪ :‬أكان العرب يف زمن التنزيل ال يطلقون اسم امليسر إال على ما ذكرانه من ضرب‬
‫القداح على أجزاء اجلزور؟ فتكون اآلية يف ذلك فقط ‪ ،‬ويكون حترمي ضروب القمار ابلقياس‪ .‬أم‬
‫كان اسم امليسر يطلق على ذلك وعلى سائر ضروب القمار؟ فيكون حترمي ضروب القمار‬
‫حرمت امليسر ‪ ،‬وأاي ما كان فقد اتفق العلماء على حترمي ضروب القمار‪.‬‬
‫ابآلايت اليت ّ‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬اجتنبوا هذه الكعاب املوسومة‬
‫وقد روي عن أيب موسى عن النيب صلّى ّ‬
‫اليت يزجر هبا زجرا ‪ ،‬فإهنّا من امليسر» «‪»1‬‬
‫الل ورسوله» «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬من لعب ابلنّرد فقد عصى ّ‬
‫‪ .‬وروي عن النيب صلّى ّ‬
‫وذكر العلماء أ ّن املخاطرة من القمار ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬املخاطرة قمار ‪ ،‬وأ ّن أهل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذكره اجلصاص يف كتابه أحكام القرآن (‪.)329 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )310 /4‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب يف النهي عن اللعب ابلنرد‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)4938‬‬

‫ص ‪137 :‬‬
‫اجلاهلية كانوا َياطرون على املال والزوجة ‪ ،‬وقد كان ذلك مباحا ‪ ،‬إىل أن ورد حترميه ‪ ،‬وقد‬
‫وم (‪[ )2‬الروم ‪ ]2 ، 1 :‬وقال النيب صلّى‬ ‫خاطر أبو بكر املشركني حني نزلت امل (‪ )1‬غُلِب ِ‬
‫ت الر ُ‬ ‫َ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬زد يف اخلطر وأبعد يف األجل» «‪»1‬‬‫ّ‬
‫‪ .‬مث حظر ذلك ‪ ،‬ونسخ بتحرمي القمار‪.‬‬
‫وقد ر ّخص يف السبق يف الدواب والنصال بشروط تطلب من كتب الفروع‪.‬‬
‫الل لَ ُكم ْاآل ِ‬
‫ايت ل ََعله ُك ْم تَتَ َف هك ُرو َن ِيف الدنْيا‬ ‫ني هُ ُ‬ ‫ك ما ذا يُ ْن ِف ُقو َن قُ ِل ال َْع ْف َو َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬ ‫َويَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫َو ْاآل ِخ َرةِ‪.‬‬
‫ال َْع ْف َو يف كالم العرب ‪ :‬الزايدة‪ .‬ومن ذلك قوله تعاىل ‪َ :‬ح هىت َع َف ْوا [األعراف ‪ ]95 :‬زادوا ‪ ،‬ومنه‬
‫قول الشاعر «‪: »2‬‬
‫نعض السيف منّا أبسوق عافيات الشحم كوم‬
‫ولكنّا ّ‬
‫أي كثريات الشحوم ‪ ،‬واملراد ابلعفو هنا ‪ :‬الفضل ‪ ،‬أي ما فضل وزاد عن احلاجة ‪ ،‬كقوهلم ‪ :‬خذ‬
‫ما عفا لك من أخيك ‪ ،‬أي ما فضل عن جهده‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬العفو ‪ :‬ما فضل عن أهلك ‪،‬‬
‫ونقل عن قتادة وعطاء وابن زيد‪.‬‬
‫ني ه‬
‫اللُ‬ ‫املعىن ‪ :‬يسألك أصحابك ‪ :‬ماذا ينفقون؟ قل ‪ :‬أنفقوا ما فضل عن حاجتكم َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬
‫ايت ل ََعله ُك ْم تَتَ َف هك ُرو َن ِيف الدنْيا َو ْاآل ِخ َرةِ ‪ ،‬هبذا البيان العجيب الذي تق ّدم من أول السورة‬
‫لَ ُكم ْاآل ِ‬
‫ُ‬
‫من حججه ‪ ،‬وبيناته ‪ ،‬وفرائضه ‪ ،‬وحدوده ‪ ،‬وما فيه جناتكم من عذابه ‪ :‬يبني لكم يف سائر كتابه‬
‫‪ :‬آايته ‪ ،‬وحججه ‪ ،‬لتتف ّكروا يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فتعلموا زوال األوىل وحقارهتا ‪ ،‬وبقاء الثانية‬
‫وجالهلا‪ .‬وقد ورد يف معىن اآلية أحاديث كثرية ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم رجل ببيضة من‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل قال ‪ :‬أتى رسول ّ‬
‫روى ابن جرير عن جابر بن عبد ّ‬
‫الل ما أصبحت‬
‫الل ‪ :‬خذ هذه مين صدقة ‪ ،‬فو ّ‬
‫ذهب أصاهبا يف بعض املعادن ‪ ،‬فقال اي رسول ّ‬
‫أملك غريها ‪ ،‬فأعرض عنه ‪ ،‬فأاته من ركنه األمين ‪ ،‬فقال له مثل ذلك ‪ ،‬فأعرض عنه ‪ ،‬مث قال‬
‫مثل ذلك ‪ ،‬فأعرض عنه ‪ ،‬مث قال مثل ذلك ‪ ،‬فقال ‪« :‬هاهتا» مغضبا ‪ ،‬فأخذها فحذفه هبا‬
‫حذفة لو أصابه شجه أو عقره ‪ ،‬مث قال ‪« :‬جييء أحدكم مباله كلّه يتص ّدق به ‪ ،‬وجيلس يتك ّفف‬
‫الصدقة عن ظهر غىن» «‪.»3‬‬
‫الناس إ ّمنا ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ارضخ من الفضل ‪ ،‬وابدأ مبن تعول ‪ ،‬وال تالم‬
‫وروي عن النيب صلّى ّ‬
‫على كفاف» «‪»4‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬إذا كان أحدكم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫‪ .‬وعن جابر بن عبد ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬قال السيوطي ‪ :‬رواه أبو يعلى وابن عساكر انظر الدر املنثور يف التفسري املأثور للسيوطي‬
‫(‪.)150 /5‬‬
‫(‪ )2‬لبيد بن أيب ربيعة ‪ ،‬انظر هتذيب اللغة لألزهري (‪.)229 /3‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )51 /1‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب الرجل َيرج ماله حديث رقم‬
‫(‪.)1673‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم (بغري هذا اللفظ) يف الصحيح (‪ - 12 ، )718 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 32 ،‬ابب‬
‫بيان أن اليد العليا خري من السفلى حديث رقم (‪.)1036 /97‬‬

‫ص ‪138 :‬‬
‫فقريا فليبدأ بنفسه ‪ ،‬فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه مبن يعول ‪ ،‬مث إن وجد فضال بعد ذلك‬
‫فليتص ّدق على غريه» «‪.»1‬‬
‫تدل على‬
‫وقد زعم أانس أن هذه اآلية منسوخة ‪ ،‬نسختها الزكاة املفروضة ‪ ،‬وكأهنّم ظنّوا أ ّن اآلية ّ‬
‫وجوب إنفاق ما فضل عن األهل‪ .‬والظاهر ما قاله اآلخرون من أهنا اثبتة احلكم ‪ ،‬وليس يف اآلية‬
‫فبني هلم فيه‬
‫ما يدل على وجوب إنفاق الفضل ‪ ،‬بل اآلية نزلت جوااب ملن سألوا ماذا ينفقون ‪ّ ،‬‬
‫ما فيه ّلل رضا من الصدقات ‪ ،‬وذكر هلم أنه ال يلزمهم أن ينفقوا اجلهد يف الصدقة‪.‬‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم َو ه‬ ‫ِ‬
‫اللُ يَ ْعلَ ُم‬ ‫الح َهلُ ْم َخ ْريٌ َوإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫ص ٌ‬ ‫ك َع ِن الْيَتامى قُ ْل إِ ْ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ويَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫صلِ ِح َول َْو شاءَ ه‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )220‬العنت ‪ :‬املشقة‪َ .‬ع ِز ٌيز‬ ‫اللَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫اللُ َألَ ْعنَ تَ ُك ْم إِ هن ه‬ ‫ال ُْم ْف ِس َد م َن ال ُْم ْ‬
‫َعلَْيهِ ما َعنِت ْم [التوبة ‪ ]128 :‬ما شق عليكم‪ .‬وأعنته ‪:‬‬
‫صريه ذا مشقة‪.‬‬ ‫أي ّ‬
‫ِ‬
‫ال الْيَتامى ظُلْماً [النساء ‪، ]10 :‬‬ ‫روي يف سبب نزول اآلية أنّه ملا نزلت إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْمو َ‬
‫الل هذه اآلية‪.‬‬
‫حترج النّاس عن خمالطتهم يف األموال ‪ ،‬واعتزلوهم‪ .‬فأنزل ّ‬ ‫ّ‬
‫الح َهلُ ْم َخ ْريٌ «‪.»2‬‬
‫ص ٌ‬ ‫ك َع ِن الْيَتامى قُ ْل إِ ْ‬
‫املعىن ‪َ :‬ويَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫يعين قصد إصالح أمواهلم خري من اعتزاهلم ‪ ،‬وإن ختالطوهم ومل جتانبوهم فهم إخوانكم يف الدين‬
‫‪ ،‬واألخ َيالط أخاه ويداخله ‪ ،‬وال حرج يف ذلك ‪ ،‬فكانت هذه اآلية إذان يف املخالطة مع صحة‬
‫ويضر ابليتيم ‪ ،‬وال جتعلوا خمالطتكم إايهم‬
‫القصد ‪ ،‬ال مع قصد أن ينفع نفسه هبذه اخللطة ‪ّ ،‬‬
‫فالل يعلم من خالطهم بقصد أكل أمواهلم ‪ ،‬وإفسادها عليهم‬
‫ذريعة إىل أكل أمواهلم بغري حق ‪ّ ،‬‬
‫حلرم ما أحلّه لكم من خمالطة‬
‫الل ّ‬‫ممن خالطهم ‪ ،‬وكان قصده إصالح أمواهلم وتثمريها ‪ ،‬ولو شاء ّ‬
‫ِ‬ ‫أموالكم أبموال اليتامى ‪ ،‬فجهدكم وش ّق عليكم إِ هن ه‬
‫يم غالب يقدر أن يش ّق على‬ ‫اللَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم ولكنه ال يكلفهم إال ما فيه طاقتهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عباده وحيرجهم َحك ٌ‬
‫االحكام‬
‫دلت هذه اآلية على جواز التصرف يف أموال اليتامى على وجه اإلصالح ‪ ،‬فيجوز لويل اليتيم أن‬
‫يبيع ماله ‪ ،‬وأن يشرتي له ‪ ،‬وأن يقسم له ‪ ،‬وأن يدفع ماال له ملن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (بغري هذا اللفظ) يف الصحيح (‪ - 12 ، )692 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 13 ،‬ابب‬
‫االبتداء يف النفقة حديث رقم (‪.)997 /41‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )36 /3‬كتاب الوصااي ‪ ،‬ابب املخالطة حديث رقم (‪، )2871‬‬
‫والنسائي يف السنن (‪ ، )567 /6 - 5‬كتاب الوصااي ‪ ،‬ابب ما للوصي حديث رقم (‪.)3671‬‬

‫ص ‪139 :‬‬
‫الويل نفسه قراضا ‪ ،‬وأن َيلط ماله مباله إذا كان ذلك‬
‫يعمل فيه قراضا ومضاربة ‪ ،‬وأن يعمل فيه ّ‬
‫صالحا‪.‬‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم يدل على أن لويل اليتيم أن َيالط‬ ‫ِ‬
‫قال أبو بكر الرازي «‪ : »1‬وقوله ‪َ :‬وإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫يزوجه بنته ‪ ،‬أو يزوج اليتيمة بعض ولده ‪ ،‬فيكون قد‬
‫اليتيم بنفسه يف الصهر واملناكحة ‪ ،‬وأن ّ‬
‫خلط اليتامى بنفسه وعياله ‪ ،‬واختلط هو هبم‪.‬‬
‫وإذا كانت اآلية قد دلّت على جواز خلط مال اليتيم مباله يف مقدار ما يظن أن اليتيم أيكله على‬
‫ما روي عن ابن عباس ‪ :‬فقد دلّت على جواز املناهدة اليت يفعلها الناس يف األسفار ‪ ،‬فيخرج‬
‫كل واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه مث ينفقونه ‪ ،‬وقد َيتلف أكل الناس‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الح َهلُ ْم َخ ْريٌ على أن التجارة يف مال اليتيم وتزوجيه ليس بواجب على الوصي‬
‫ص ٌ‬ ‫وقد دل قوله ‪ :‬إِ ْ‬
‫يدل على أ ّن مراده الندب واإلرشاد‪.‬‬ ‫‪ ،‬أل ّن ظاهر اللفظ ّ‬
‫كات َح هىت يُ ْؤِم هن َوَأل ََمةٌ ُم ْؤِمنَةٌ َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِرَكةٍّ َول َْو أَ ْع َجبَ ْت ُك ْم‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬وال تَ ْنكِحوا الْم ْش ِر ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫قال ّ‬
‫ك يَ ْدعُو َن إِ َىل‬ ‫ني َح هىت يُ ْؤِمنُوا َول ََع ْب ٌد ُم ْؤِم ٌن َخ ْريٌ ِم ْن ُم ْش ِر ٍّك َول َْو أَ ْع َجبَ ُك ْم أُولئِ َ‬ ‫حوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬ ‫ِ‬
‫َوال تُ ْنك ُ‬
‫هاس ل ََعله ُه ْم يَتَ َذ هك ُرو َن (‪ )221‬املعىن ‪ :‬وال‬ ‫ني آايتِهِ لِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫اللُ يَ ْدعُوا إِ َىل ا ْجلَنهةِ َوال َْمغْ ِف َرة إبِِ ْذنِهِ َويُبَِّ ُ‬
‫النها ِر َو ه‬
‫ابلل ورسوله أفضل‬
‫ابلل وابليوم اآلخر ‪ ،‬وألمة مؤمنة ّ‬
‫تتزوجوا أيها املؤمنون املشركات حىت يؤمن ّ‬
‫تزوجوا‬
‫حرة مشركة وإن كرم أصلها ‪ ،‬وإن أعجبتكم املشركة يف اجلمال واحلسب واملال‪ .‬وال ّ‬
‫من ّ‬
‫ابلل‬
‫تزوجوهن من عبد مؤمن ّ‬
‫ّ‬ ‫ابلل ورسوله ‪ ،‬وألن‬
‫املشركني من نسائكم املؤمنات حىت يؤمنوا ّ‬
‫تزوجوهن من حر مشرك وإن أعجبكم يف احلسب والنسب والشرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ورسوله خري لكم من أن‬
‫حرمت عليكم مناكحتهم من الرجال املشركني والنساء املشركات يدعونكم إىل‬
‫هؤالء الذين ّ‬
‫العمل مبا يو ّدي بكم إىل النار ‪ ،‬فال ختالطوهم ‪ ،‬وال تصاهروهم ‪ ،‬إذ املصاهرة توجب املداخلة‬
‫الل يدعو إىل العمل الذي يوجب اجلنة وسرت الذنوب‬
‫والنصيحة ‪ ،‬وهؤالء ال أيلونكم خباال ‪ ،‬و ّ‬
‫ضح حججه وأدلته للناس ليتذ ّكروا فيميّزوا بني اخلري والشر‪.‬‬
‫إبعالمه إايكم السبيل احلق ‪ ،‬ويو ّ‬
‫كل مشركة ‪ ،‬سواء‬
‫يعم ّ‬
‫وقد اختلف العلماء يف هذه اآلية ‪ ،‬فذهب بعضهم إىل أن لفظ املشركات ّ‬
‫حرم على‬
‫فيكن مجيعا قد ّ‬
‫َيص منها شي ء ‪ّ ،‬‬
‫أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية ‪ ،‬ومل ينسخ أو ّ‬
‫زواجهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املسلم‬
‫هلن من اجملوس‬
‫وذهب بعضهم على أن املراد ابملشركات من ال كتاب ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام الرازي (‪.)331 /1‬‬

‫ص ‪140 :‬‬
‫عام يف مجيع من ذكرن ‪ ،‬إال‬
‫والعرب دون الكتابيات ‪ ،‬وذهب بعضهم إىل أن املراد ابملشركات ّ‬
‫تاب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم [املائدة ‪.]5 :‬‬ ‫ِ‬ ‫أنه نسخ بقوله ‪ :‬والْم ْحصنا ُ ِ ِ‬
‫ت م َن الهذ َ‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫الل عنهما أنه كره‬
‫كل كافر ابحلقيقة مشرك ‪ ،‬ولذلك يروى عن ابن عمر رضي ّ‬ ‫وسبب اخلالف أ ّن ّ‬
‫الل؟ تعاىل‬
‫الل ‪ ،‬أو ولد ّ‬
‫أي شرك أعظم ممّن يقول ‪ :‬عيسى ّ‬
‫نكاح اليهودية والنصرانية ‪ ،‬وقال ‪ّ :‬‬
‫عما يقولون علوا كبريا‪.‬‬
‫الل ّ‬
‫ّ‬
‫الل ‪:‬‬‫والعرف قد خصص املشرك مبن ال كتاب له من الوثنيني واجملوس‪ .‬وقال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َك َف ُروا ِم ْن أَ ْه ِل الْكِ ِ‬
‫هل عَلَيْ ُك ْم م ْن َخ ٍّْري م ْن َربِّ ُك ْم وقال ‪َ :‬ملْ‬ ‫تاب َوَال ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني أَ ْن يُنَ ز َ‬ ‫ِ‬
‫ما يَ َود الهذ َ‬
‫ني [البينة ‪ ]1 :‬وقد ورد يف سورة املائدة‬ ‫ني ُم ْن َف ّكِ َ‬ ‫ين َك َف ُروا ِم ْن أَ ْه ِل الْكِ ِ‬
‫تاب َوال ُْم ْش ِركِ َ‬ ‫ِ‬
‫يَ ُك ِن الهذ َ‬
‫ت‬‫صنا ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وطَعام اله ِذين أُوتُوا الْكِتاب ِحلٌّ لَ ُكم وطَعام ُكم ِحلٌّ َهلم والْمحصنا ُ ِ‬
‫ت م َن ال ُْم ْؤمنات َوال ُْم ْح َ‬ ‫ُْ َ ُ ْ َ‬ ‫َْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫تاب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم [املائدة ‪ ]5 :‬فبعضهم محل لفظ املشركات على عمومه ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م َن الهذي َن أُوتُوا الْك َ‬
‫كل مشركة ولو كتابية‪.‬‬ ‫فحرم ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمن ‪،‬‬‫تاب م ْن قَ ْبل ُك ْم مقيّد بقيد وهو إذا ّ‬ ‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫ت م َن الهذ َ‬ ‫صنا ُ‬
‫وزعم أ ّن قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُْم ْح َ‬
‫خمصصة ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬هي انسخة ‪،‬‬
‫وبعضهم محل املشركات على عمومه وقال ‪ :‬آية املائدة ّ‬
‫ألهنّا أخرجت الكتابيات من احلرمة‪.‬‬
‫وبعضهم محله على العرف اخلاص ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال نسخ وال ختصيص‪ .‬وهذه اآلية أفادت حكما ‪،‬‬
‫حل نكاح‬
‫وهو حرمة نكاح الوثنيات واجملوسيات ‪ ،‬وآية املائدة أفادت حكما آخر ‪ ،‬وهو ّ‬
‫الكتابيات ‪ ،‬فلم تتعارضا‪.‬‬
‫وممّن روي عنه القول حبرمة الكتابيات عمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫الل بن عباس يقول ‪ :‬هنى‬
‫فقد أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن شهر بن حوشب‪ .‬قال ‪ :‬مسعت عبد ّ‬
‫الل عليه وسلّم عن أصناف النساء إال ما كان من املؤمنات املهاجرات كل ذات‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫دين غري اإلسالم‬
‫ط عَ َملُهُ [املائدة ‪.]5 :‬‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ومن ي ْك ُفر ِاب ِْإل ِ‬
‫ميان فَ َق ْد َحبِ َ‬ ‫‪ .‬وقال ّ‬
‫ََ ْ َ ْ‬
‫الل يهودية ‪ ،‬ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ‪ ،‬فغضب عمر بن‬
‫وقد نكح طلحة بن عبيد ّ‬
‫هم أبن يسطو عليهما ‪ ،‬فقاال ‪ :‬حنن نطلّق اي أمري املؤمنني ‪ ،‬وال‬
‫اخلطاب غضبا شديدا ‪ ،‬حىت ّ‬
‫نكاحهن ‪ ،‬ولكن أنتزعن عنكما حقرة «‪ »2‬قمئة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حل‬
‫طالقهن لقد ّ‬
‫ّ‬ ‫حل‬
‫تغضب ‪ ،‬فقال ‪ :‬لئن ّ‬
‫وقد قال ابن جرير بعد ذلك ‪ :‬وأما القول الذي روى شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر‬
‫الل عنه من تفريقه بني طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتني‬
‫رضي ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)222 /2‬‬
‫(‪ )2‬ذلة ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪.)207 /4‬‬

‫ص ‪141 :‬‬
‫الل ‪ -‬تعاىل ذكره ‪-‬‬
‫كانتا كتابيتني فقول ال معىن له ‪ ،‬ملخالفته ما األمة جممعة على حتليله بكتاب ّ‬
‫الل عنه من القول‬
‫الل عليه وسلّم وقد روي عن عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وخرب رسول ّ‬
‫أصح منه إسنادا ‪ ،‬وروى بسنده عن عمر ‪:‬‬
‫خبالف ذلك ما هو ّ‬
‫الل عنهما ‪ ،‬نكاح اليهودية‬
‫املسلم يتزوج املسلمة ‪ ،‬وإمنا كره عمر لطلحة وحذيفة رضي ّ‬
‫والنصرانية حذرا من أن يقتدي هبما الناس ‪ ،‬فيزهدوا يف املسلمات‪ .‬أو غري ذلك من املعاين‪.‬‬
‫الل عمر بن اخلطاب‪ .‬فقد كان ينظر إىل مصاحل املسلمني ‪ ،‬نسائهم ورجاهلم ‪ ،‬ويسوسهم‬
‫ورحم ّ‬
‫ابلنظر واملصلحة ‪ ،‬وما أحوجنا إىل مثل هذه السياسة ‪ ،‬فإ ّن كثريا من الشباب املسلمني يف مصر‬
‫رغبوا عن الزواج من احملصنات املسلمات إىل الزواج ابلكتابيات األجنبيات‪.‬‬
‫وه هن‬
‫يض َوال تَ ْق َربُ ُ‬ ‫َذى فَا ْعتَ ِزلُوا النِّساءَ ِيف ال َْم ِح ِ‬
‫ض قُ ْل ُه َو أ ً‬ ‫ك عَ ِن ال َْم ِحي ِ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ويَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ّ‬
‫هوابِ َ ِ‬
‫ني َوُحيب ال ُْمتَطَ ِّه ِر َ‬
‫ين‬ ‫اللَ ُِحيب الت ه‬ ‫اللُ إِ هن ه‬ ‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث أ ََم َرُك ُم ه‬ ‫َح هىت يَط ُْه ْر َن فَِإذا تَطَه ْهر َن فَأْتُ ُ‬
‫(‪ )222‬احمليض ‪ :‬هنا احليض ‪ ،‬كاملعيش ‪ :‬أي العيش‪ .‬قال رؤبة ‪:‬‬
‫ومر أعوام نتفن ريشي‬
‫إليك أشكو ش ّدة املعيش ّ‬
‫َذى األذى ما يؤذي به من مكروه فيه ‪ ،‬ومسي احمليض أذى لنتنه وقذره وجناسته ‪ ،‬وقال السدي‬
‫أ ً‬
‫وقتادة ‪ :‬أذى قذر‪.‬‬
‫سبب نزول هذه اآلية ‪:‬‬
‫قال قتادة ‪ :‬إ ّن أهل اجلاهلية كانوا ال تساكنهم حائض يف بيت ‪ ،‬وال تؤاكلهم يف إانء ‪ ،‬فسألوا‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫أحل ما سوى ذلك أن تصبغ رأسك‪ .‬وتؤاكلك ‪ ،‬وأن‬
‫فحرم فرجها ما دامت حائضا ‪ ،‬و ّ‬
‫‪ّ ،‬‬
‫تضاجعك يف فراشك إذا كان عليها إزار حمتجزة به دونك «‪.»1‬‬
‫فَا ْعتَ ِزلُوا النِّساءَ ِيف ال َْم ِح ِ‬
‫يض اختلف أهل العلم فيما جيب على الرجل اعتزاله من املرأة وهي‬
‫حائض على أقوال ‪:‬‬
‫الل أمر ابعتزال النساء ‪ ،‬ومل‬
‫‪ - 1‬إن الذي جيب اعتزاله مجيع بدن املرأة ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك أن ّ‬
‫َيصص من ذلك شيئا دون شيء‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ - 2‬الذي جيب اعتزاله موضع األذى ‪ ،‬وذلك خمرج الدم‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »2‬عن مسروق بن األجدع قال ‪ :‬قلت لعائشة ‪ :‬ما حيل للرجل من امرأته إذا‬
‫كل شيء إال فرجها ‪ ،‬وحجتها ما ثبت يف األخبار‬
‫كانت حائضا؟ قالت ‪ّ :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)224 /2‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)226 /2‬‬

‫ص ‪142 :‬‬
‫وهن حيّض «‪ .»1‬فعلم من ذلك أن الذي‬
‫الل عليه وسلّم كان يباشر نساءه ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫أن رسول ّ‬
‫طلب اعتزاله بعض جسدها دون بعض‪.‬‬
‫وملا أمجعوا على حرمة اجلماع ‪ ،‬واختلفوا يف غريه ‪ ،‬أخذوا ابجملمع عليه ‪ ،‬وتركوا املختلف فيه‪.‬‬
‫‪ - 3‬إن الذي أمر ابعتزاله ما بني السرة إىل الركبة ‪ ،‬وله ما فوق ذلك ودونه‪.‬‬
‫الل عليه‬
‫وحجتهم ما ثبت عن عائشة قالت ‪ :‬كانت إحداان إذا كانت حائضا أمرها النيب صلّى ّ‬
‫وسلّم أن أتتزر ‪ ،‬مث يباشرها «‪.»2‬‬
‫وه هن َح هىت يَط ُْه ْر َن يف هذه املسألة ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫َوال تَ ْق َربُ ُ‬
‫‪ - 1‬قال أبو حنيفة ‪ :‬جيب أن تؤتى املرأة إذا انقطع دم احليض ولو مل تغتسل ابملاء‪ .‬إال أنه إذا‬
‫حىت ميضي وقت‬
‫انقطع دمها ألكثر احليض حلّت حينئذ ‪ ،‬وإن انقطع دمها ألقل احليض مل حتل ّ‬
‫صالة كامل‪.‬‬
‫‪ - 2‬قال مالك ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والليث ‪ ،‬وربيعة ‪ ،‬وأمحد ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وأبو ثور ‪ :‬ال حتل حىت‬
‫ينقطع احليض ‪ ،‬وتغتسل ابملاء غسل اجلنابة‪.‬‬
‫للصالة‪ .‬قاله طاوس ‪ ،‬وجماهد‪.‬‬ ‫‪ - 3‬يكفي يف حلها أن تتوضأ ّ‬
‫الل قال ‪َ :‬ح هىت يَط ُْه ْر َن فَِإذا تَطَه ْهر َن األوىل ابلتخفيف ‪ ،‬والثانية‬
‫وسبب اخلالف بني األولني أن ّ‬
‫تطهر‬
‫ابلتشديد ‪ ،‬وطهر يستعمل فيما ال كسب فيه لإلنسان ‪ ،‬وهو انقطاع دم احليض‪ .‬وأما ّ‬
‫فيستعمل فيما يكتسبه اإلنسان ‪ ،‬وهو االغتسال ابملاء‪.‬‬
‫وه هن َح هىت يَط ُْه ْر َن على انقطاع دم احليض ‪ ،‬وقوله ‪ :‬فَِإذا تَطَه ْهر َن على‬
‫فحمل أبو حنيفة َوال تَ ْق َربُ ُ‬
‫معىن ‪ :‬فإذا انقطع دم احليض ‪ ،‬فاستعمل املش ّدد مبعىن املخفف‪.‬‬
‫وقالت املالكية ابلعكس ‪ ،‬إنه استعمل املخ ّفف مبعىن املش ّدد ‪ ،‬واملراد ‪ :‬وال تقربوهن حىت‬
‫فأتوهن ‪ ،‬بدليل قراءة بعضهم َح هىت يَط ُْه ْر َن ابلتشديد ‪ ،‬وبدليل قوله‬
‫ّ‬ ‫يغتسلن ابملاء ‪ ،‬فإذا اغتسلن‬
‫هوابِ َ ِ‬‫اللَ ُِحيب الت ه‬
‫‪ :‬إِ هن ه‬
‫ين أو يستعمل كل واحدة يف معناها ‪ ،‬ويؤخذ من جمموع‬ ‫ني َو ُحيب ال ُْمتَطَ ِّه ِر َ‬
‫احلل على شيئني ‪:‬‬
‫الل علّق ّ‬
‫الكالمني أ ّن ّ‬
‫كاح فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِمْن ُه ْم‬‫ِ‬
‫انقطاع الدم‪ .‬والتطهر ابملاء ‪ ،‬كقوله ‪َ :‬وابْ تَ لُوا الْيَتامى َح هىت إِذا بَلَغُوا النّ َ‬
‫ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم [النساء ‪]6 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 6 ، )90 /1‬كتاب احليض ‪ - 6 ،‬ابب مباشرة احلائض‬
‫حديث رقم (‪ ، )303‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 3 ، )243 /1‬كتاب احليض ‪ - 1 ،‬ابب‬
‫مباشرة احلائض حديث رقم (‪.)294 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 6 ، )90 /1‬كتاب مباشرة احلائض ‪ - 6 ،‬ابب مباشرة‬
‫احلائض حديث رقم (‪ ، )302‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 3 ، )242 /1‬كتاب احليض ‪- 1 ،‬‬
‫ابب مباشرة احلائض حديث رقم (‪.)293 /1‬‬

‫ص ‪143 :‬‬
‫فعلّق احلكم وهو جواز دفع املال على شرطني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬بلوغ النكاح‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬إيناس الرشد‪.‬‬
‫ورجع احلنفية ما ذهبوا إليه أب ّن استعمال املش ّدد مبعىن املخ ّفف ال حيتاج إىل إضمار شيء‪ .‬أما‬
‫مذهب املالكية فيحتاج إىل إضمار (ابملاء)‪.‬‬
‫وقالوا على الثاين ‪ :‬إ ّن ما ذهبتم إليه َيل حبكم الغاية ‪ّ ،‬أما ما ذهبنا إليه فيحفظ حكم الغاية ‪،‬‬
‫ويقرها على أصلها ‪ ،‬ويوافق ما يفهمه العرب من مثله ‪ ،‬فإذا قلت ‪ :‬ال تعط زيدا حىت يدخل‬
‫الدار ‪ ،‬فإذا دخل الدار فأعطه درَها‪ .‬كان املفهوم منه أن ما ذكر يف الشرط هو املذكور يف الغاية‬
‫‪ ،‬وليس ذلك جتديد شرط زائد‪.‬‬
‫أحل لكم‬ ‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث أ ََم َرُك ُم ه‬
‫اللُ ابلنكاح ال ابلسفاح ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من حيث ّ‬ ‫فَِإذا تَطَه ْهر َن فَأْتُ ُ‬
‫الل ابعتزاهلن ‪ ،‬وهذا‬
‫اإلتيان ال صائمات وال حمرمات وال معتكفات‪ .‬وقيل ‪ :‬من حيث أمركم ّ‬
‫األمر لإلابحة‪ .‬ال للوجوب ‪ ،‬ألنّه بعد احلظر ‪ ،‬وقد اختلف فيه ‪ ،‬واحلق أنه ال يقتضي الوجوب ‪،‬‬
‫وذهب ابن حزم إىل أنه جيب غشياهنن بعد الطهر‪.‬‬
‫هوابِ َ ِ‬ ‫اللَ ُِحيب الت ه‬
‫إِ هن ه‬
‫ني َو ُحيب ال ُْمتَطَ ِّه ِر َ‬
‫ين‪.‬‬
‫الل ‪ :‬هي إرادته ثواب العبد‪.‬‬
‫حمبة ّ‬
‫والتوبة ‪ :‬هي رجوع العبد عن حالة املعصية عن إتيان النساء يف غري موضع احلرث ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم‬
‫الرجوع إىل املعصية ‪ ،‬واألول هو املنعطف على‬
‫طهروا أنفسهم بعدم ّ‬
‫الذين ال ينقضون التوبة ‪ّ ،‬‬
‫سابق اآلية‪ .‬املنتظم معها‪.‬‬
‫َىن ِش ْئ تُ ْم َوقَ ِّد ُموا ِألَنْ ُف ِس ُك ْم َواته ُقوا ه‬
‫اللَ َوا ْعلَ ُموا‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬نِسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم أ ه‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫أَنه ُك ْم ُمالقُوهُ َوبَ ِّ‬
‫ث ‪ :‬احلرث يف اللغة الزرع‪ .‬وهو على حذف مضاف ‪،‬‬ ‫ني (‪َ )223‬ح ْر ٌ‬ ‫ش ِر ال ُْم ْؤمنِ َ‬
‫ّن‬
‫أي موضع حرثكم ‪ ،‬أو احلرث مبعىن احملرتث واملزدرع وإمنا كانت النساء حمرتاث ومزدرعا ‪ ،‬ألهن ّ‬
‫مكان نبات الولد‪.‬‬
‫َىن ِش ْئ تُ ْم على أي وجه‬
‫املعىن ‪ :‬نساؤكم مزدرع لكم ‪ ،‬تثمر لكم األوالد ‪ ،‬فأتوا هذا املزدرع ‪ ،‬أ ه‬
‫شئتم مقبلة ‪ ،‬أو مدبرة مضطجعة أو قائمة أو منحرفة ‪ ،‬بعد أن يكون املأتى يف موضع احلرث‪.‬‬
‫وقد روى جماهد قال ‪ :‬عرضت املصحف على ابن عباس ثالث عرضات من فاحتته إىل خامتته ‪،‬‬
‫أو قفه عند كل آية ‪ ،‬وأسأله عنها ‪ ،‬حىت انتهى إىل هذه اآلية نِسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم‬
‫احلي من قريش كانوا‬ ‫أه ِ‬
‫َىن ش ْئ تُ ْم فقال ابن عباس ‪ :‬إ ّن هذا ّ‬

‫ص ‪144 :‬‬
‫تزوجوا يف األنصار‬
‫هبن مقبالت ومدبرات‪ .‬فلما قدموا املدينة ّ‬
‫يشرحون النساء مبكة ‪ ،‬ويتلذذون ّ‬
‫هبن كما كانوا يفعلون ابلنساء مبكة ‪ ،‬فأنكرن ذلك ‪ ،‬وقلن ‪ :‬هذا شيء مل نكن‬
‫‪ ،‬فذهبوا يفعلون ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فأنزل يف ذلك‬
‫الل صلّى ّ‬‫نؤتى عليه ‪ :‬فانتشر احلديث حىت انتهى إىل رسول ّ‬
‫َىن ِش ْئ تُ ْم‬ ‫نِسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم أ ه‬
‫إن شئت فمقبلة ‪ ،‬وإن شئت فمدبرة ‪ ،‬وإن شئت فباركة ‪ ،‬وإمنا يعين بذلك موضع الولد للحرث‬
‫‪ ،‬يقول ‪ :‬ائت احلرث حيث شئت «‪.»1‬‬
‫أي‬
‫أىن لك هذا املال ‪ ،‬أي من ّ‬
‫و(أىن) يف كالم العرب للسؤال عن الوجوه واملذاهب ‪ ،‬يقال ‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫الل تعاىل ‪:‬‬
‫الوجوه واملذاهب؟ فيقال ‪ :‬من وجه كذا وكذا ‪ ،‬قال ّ‬
‫َت ُه َو ِم ْن ِعنْ ِد ه‬
‫اللِ [آل عمران ‪.]37 :‬‬ ‫َىن ل ِ‬
‫َك هذا قال ْ‬ ‫أه‬
‫وقال الشاعر ‪:‬‬
‫أىن ومن أين انبك الطّرب من حيث ال صبوة وال ريب‬
‫ّ‬
‫يصح أن يفهم‬
‫جترد عن معىن االستفهام ككيف ‪ ،‬ويبقى هلا معىن الوجوه واملذاهب ‪ ،‬وال ّ‬
‫وقد ّ‬
‫غري هذا ‪ ،‬وقد وردت أحاديث تؤيّد هذا الفهم ‪ ،‬وتبطل ما عداه ‪ ،‬فقد ورد عن عكرمة قال ‪:‬‬
‫ث‬‫الل ‪ :‬نِسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫جاء رجل إىل ابن عباس ‪ ،‬وقال ‪ :‬كنت آيت امرأيت يف دبرها ‪ ،‬ومسعت قول ّ‬
‫َىن ِش ْئ تُ ْم فظننت أ ّن ذلك يل حالل؟‬ ‫لَ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم أ ه‬
‫َىن ِش ْئ تُ ْم قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة ‪ ،‬يف أقباهلن‪ .‬ال‬
‫فقال ‪ :‬اي لكع وإمنا قوله ‪ :‬فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم أ ه‬
‫تعدو ذلك إىل غريه «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬الذي أييت‬
‫وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النيب صلّى ّ‬
‫املرأة يف دبرها هي اللوطية الصغرى» «‪.»3‬‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنه أن رسول ّ‬
‫وروى اإلمام أمحد وأهل «السنن» أيضا عن أيب هريرة رضي ّ‬
‫وسلّم قال ‪« :‬من أتى حائضا ‪ ،‬أو امرأة يف دبرها ‪ ،‬أو كاهنا فصدقه مبا يقول ‪ ،‬فقد كفر مبا أنزل‬
‫حممد» «‪.»4‬‬ ‫على ّ‬
‫َوقَ ِّد ُموا ِألَنْ ُف ِس ُك ْم اخلري ‪ ،‬والصاحل من األعمال ‪ ،‬ع ّدة لكم يوم احلساب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )219 /2‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب يف جامع النكاح حديث رقم‬
‫(‪].....[ .)2164‬‬
‫(‪ ) 2‬قال السيوطي ‪ :‬رواه عبد بن محيد ‪ ،‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور ‪ ،‬للسيوطي (‪/1‬‬
‫‪.)263‬‬
‫(‪ ) 3‬قال السيوطي ‪ :‬رواه أبو داود الطيالسي وأمحد والبيهقي ‪ ،‬انظر الدر املنثور يف التفسري‬
‫ابملأثور ‪ ،‬للسيوطي (‪.)263 /1‬‬
‫(‪ )4‬رواه أمحد يف املسند (‪ ، )408 /2‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )398 /3‬كتاب الطب ابب يف‬
‫الكاهن حديث رقم (‪ )3904‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )243 /1‬كتاب الطهارة ابب‬
‫كراهية إتيان احلائض حديث رقم (‪.)135‬‬

‫ص ‪145 :‬‬
‫اللَ يف معاصيه أن تقربوها ‪ ،‬ويف حدوده أن تضيّعوها ‪َ ،‬وا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم ُمالقُوهُ فيجازي‬ ‫َواته ُقوا ه‬
‫ِ‬ ‫احملسن إبحسانه‪ .‬واملسيء إبساءته َوبَ ِّ‬
‫ني ابلفوز والكرامة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫ش ِر ال ُْم ْؤمنِ َ‬
‫ضةً ِأل َْميانِ ُكم أَ ْن تَربوا وتَته ُقوا وتُ ْ ِ‬
‫اللُ َِمس ٌ‬
‫يع‬ ‫ني الن ِ‬
‫هاس َو ه‬ ‫حوا بَ َْ‬‫صل ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وال َجتْ َعلُوا ه‬
‫اللَ عُ ْر َ‬ ‫قال ّ‬
‫يتصرف على معان مرجعها إىل املنع ‪ ،‬أل ّن كل شيء اعرتض‬ ‫ِ‬
‫ضةً ‪ -‬ع ر ض ‪ّ -‬‬ ‫يم (‪ )224‬عُ ْر َ‬ ‫َعل ٌ‬
‫فقد منع‪ .‬ويقال للحساب ‪ :‬عارض ‪ ،‬ألنه منع من رؤية السماء والقمرين والكواكب‪.‬‬
‫يعن لك‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬هذا عرضة لك ‪ ،‬أي ‪ :‬ع ّدة ‪ ،‬فتبتذله يف كل ما ّ‬
‫وال جتعلوين عرضة للّوائم‬
‫وكان الرجل حيلف على أن ال يفعل بعض اخلري ‪ :‬من صلة رحم ‪ ،‬أو إصالح بني الناس ‪ ،‬أو‬
‫الل إن حنثت يف مييين ‪ ،‬فقيل ‪:‬‬ ‫إحسان ‪ ،‬أو عبادة‪ .‬مث يقول ‪ :‬أخاف ّ‬
‫ضةً ِأل َْميانِ ُك ْم أي ال جتعلوا ّ‬
‫الل جمازا ومانعا ملا حلفتم عليه من الرب والتقوى‬ ‫َوال َجتْ َعلُوا ه‬
‫اللَ عُ ْر َ‬
‫واإلصالح بني الناس ‪ ،‬فيكون املراد ابألميان احمللوف عليه ‪ ،‬ومسّي ميينا لتلبّسه ابليمني ‪ ،‬ويكون‬
‫أَ ْن تَ َربوا بدال من أميانكم ‪ ،‬ويكون حاصل املعىن ‪:‬‬
‫الل مانعا من الرب والتقوى إذا حلفتم به‪ .‬بل افعلوا الرب والتقوى ‪ ،‬وك ّفروا عن أميانكم‬
‫وال جتعلوا ّ‬
‫ويكون هذا يف معىن‬
‫الل عليه وسلّم لعبد الرمحن بن مسرة ‪« :‬إذا حلفت على ميني ‪ ،‬ورأيت غريها خريا منها‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫‪ ،‬فأت الذي هو خري ‪ ،‬وك ّفر عن ميينك» «‪.»1‬‬
‫الل معرضا ألميانكم ‪ ،‬تبتذلونه بكثرة احللف‬
‫ومعىن اآلية على املعىن اآلخر (لعرضة) ‪ :‬وال جتعلوا ّ‬
‫احلالف جمرتئ على‬
‫به‪ .‬ويكون أَ ْن تَ َربوا علة للنهي ‪ ،‬أي إرادة أن تربوا وتتقوا وتصلحوا ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫الل ‪ ،‬غري معظّم له ‪ ،‬فال يكون برا متقيا ‪ ،‬وال يثق به الناس ‪ ،‬فال يدخلونه يف وساطتهم ‪،‬‬
‫ّ‬
‫الل‬
‫ابلل ‪ ،‬وابتذاله يف األميان ‪ ،‬قال ّ‬ ‫وإصالح ذات بينهم ‪ ،‬ويكون ذلك هنيا عن كثرة احللف ّ‬
‫فذم كثرة احللف‪.‬‬ ‫تعاىل ‪ :‬وال تُ ِطع ُك هل ح هال ٍّ‬
‫ف َم ِه ٍّ‬
‫ني (‪[ )10‬القلم ‪ّ ]10 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫ور‬ ‫ت قُلُوبُ ُك ْم َو ه‬
‫اللُ غَ ُف ٌ‬ ‫اللُ ِابللغْ ِو ِيف أ َْميان ُك ْم َولك ْن يُؤاخ ُذ ُك ْم مبا َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ال يُؤاخ ُذ ُك ُم ه‬ ‫قال ّ‬
‫يم (‪( )225‬اللغو) الساقط الذي ال يعت ّد به ‪ :‬كالما كان أو غريه ‪ ،‬أما وروده يف الساقط من‬ ‫ِ‬
‫َحل ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 83 ، )275 /7‬كتاب اإلميان ‪ - 3 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ ، )6622‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 27 ، )1273 /3‬كتاب األميان ‪ - 3 ،‬ابب ندب من‬
‫حلف ميينا حديث رقم (‪.)1652 /19‬‬

‫ص ‪146 :‬‬
‫ضوا َعنْهُ [القصص ‪ ]55 :‬وقوله ‪ :‬ال يَ ْس َمعُو َن فِيها‬
‫الكالم فكقوله تعاىل ‪َ :‬وإِذا َِمسعُوا اللهغْ َو أَ ْع َر ُ‬
‫الغيَةً (‪[ )11‬الغاشية ‪.]11 :‬‬ ‫لَغْواً وال َأتْثِيماً (‪[ )25‬الواقعة ‪ ]25 :‬وقوله ‪ :‬ال تَسمع فِيها ِ‬
‫َُْ‬ ‫َ‬
‫وأما وروده يف الساقط من غري الكالم فكقول جرير ‪:‬‬
‫يع ّد الناسبون بين متيم بيوت اجملد أربعة كبارا‬
‫وَيرج منهم املرئي لغوا كما ألغيت يف ال ّدية احلوارا‬
‫وكانوا يقولون ملا ال يعت ّد به من أوالد اإلبل ‪ :‬لغو‪.‬‬
‫الل أنه ال يؤاخذان به وما هي‬
‫وقد اختلف أهل التأويل يف املراد من لغو اليمني الذي ذكر ّ‬
‫املؤاخذة ‪ ،‬على أقوال ‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن اللغو يف اليمني ‪ :‬ما جيري به اللسان من غري قصد احللف ‪ ،‬كقول القائل ‪:‬‬
‫والل ‪ ،‬وإن عدم املؤاخذة به هو عدم إجياب الكفارة به ‪ ،‬وهو قول ‪:‬‬
‫والل ‪ ،‬بلى ّ‬
‫ال ّ‬
‫عائشة ‪ ،‬والشعيب ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأمحد‪.‬‬
‫‪ - 2‬إن لغو اليمني هو أن حيلف على شيء أنه كان فيظهر أنه مل يكن ‪ ،‬أو شيء يعتقد أنه مل‬
‫يكن فيظهر أنه كان‪ .‬ومعىن عدم املؤاخذة به أنه ال جيب تكفريه ‪ ،‬وهو قول ابن عباس ‪ ،‬واحلسن‬
‫‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬والنخعي ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وأيب حنيفة ‪ ،‬ومالك‪ .‬وهؤالء ال يوجبون الكفارة يف اليمني اليت‬
‫ظن فيتبني خالفه ‪ ،‬ويوجبون الكفارة فيما جيري على اللسان من غري قصد‬
‫حيلفها صاحبها على ّ‬
‫‪ ،‬وأصحاب القول األول ابلعكس‪.‬‬
‫‪ - 3‬أنه ميني الغضب‪.‬‬
‫‪ - 4‬أنه اليمني على املعصية‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن دعاء اإلنسان على نفسه كقوله ‪ :‬إن مل أفعل كذا فأصاب بكذا‪.‬‬
‫‪ - 6‬أنه اليمني املكفرة‪.‬‬
‫‪ - 7‬أنه ميني الناسي‪.‬‬
‫قسم اليمني‬
‫الل ّ‬
‫ولعل أظهر األقوال ما ذهب إليه األولون ‪ ،‬واحلجة فيه ‪ :‬أن ّ‬
‫وهي كلها حمتملة ‪ّ ،‬‬
‫إىل قسمني ‪ :‬ما كسبه القلب ‪ ،‬واللغو‪ .‬وما كسب القلب ‪ :‬هو ما قصد إليه‪ .‬وحيث جعل اللغو‬
‫مقابله‪ .‬فيعلم أنه هو الذي مل يقصد إليه وذلك هو ما قلناه من أنه هو ما جيري به اللسان من‬
‫غري قصد إليه‪.‬‬
‫الل ابألميان اليت جتري على ألسنتكم من غري قصد احللف ‪ ،‬ولكن يؤاخذكم‬‫املعىن ‪ :‬ال يؤاخذكم ّ‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم ولذلك مل يؤاخذهم بلغو اليمني‬ ‫مبا قصدمت إليه ‪ ،‬وعقدمت القلب عليه من األميان َو هُ ٌ‬
‫ور َحل ٌ‬
‫‪ ،‬ولو شاء آلخذهم هبا‪.‬‬

‫ص ‪147 :‬‬
‫ور َرِحي ٌم (‪)226‬‬ ‫ص أ َْربَ َعةِ أَ ْش ُه ٍّر فَِإ ْن فا ُؤ فَِإ هن ه‬
‫اللَ غَ ُف ٌ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬للهذ َ‬
‫ين يُ ْؤلُو َن م ْن نسائ ِه ْم تَ َرب ُ‬ ‫قال ّ‬
‫الل َِمس ِ‬
‫يم (‪ )227‬يُ ْؤلُو َن ‪ :‬يقسمون ‪ ،‬واألليّة ‪ :‬احللف ‪ ،‬يقال ‪ :‬آىل‬ ‫َوإِ ْن عَ َزُموا الطهال َق فَِإ هن هَ ٌ‬
‫يع عَل ٌ‬
‫كثري ‪:‬‬
‫يويل إيالء وأليّة ‪ ،‬قال ّ‬
‫قليل األالاي حافظ ليمينه فإن سبقت منه األليّة ّبرت‬
‫وإما أل ّن يف‬
‫ضمن يؤلون معىن يعتزلون ‪ّ ،‬‬
‫وإ ّمنا ع ّديت يؤلون مبن ‪ ،‬وهي إمنا تع ّدى بعلى ‪ :‬إما ألنه ّ‬
‫الكالم حذفا ‪ ،‬وتقديره ‪ :‬للّذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم ‪ ،‬فرتك ذكر يعتزلون اكتفاء بداللة‬
‫ما ظهر من الكالم عليه‪.‬‬
‫الرتبص ‪ :‬النظر ‪ ،‬أو التوقف‪.‬‬
‫فا ُؤ رجعوا ‪ ،‬من الفيء مبعىن الرجوع من حال إىل حال ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اللِ [احلجرات ‪ ]9 :‬وقول الشاعر ‪:‬‬
‫َح هىت تَ ِفيءَ إِىل أ َْم ِر ه‬
‫ففاءت ومل تقض الّذي أقبلت له ومن حاجة اإلنسان ما ليس قاضيا‬
‫الزوال ‪ :‬يف ء ‪ ،‬ألنّه رجع بعد أن تقلّص ‪ ،‬وهااتن اآليتان يف حكم اإليالء ‪،‬‬
‫ويقال للظّل بعد ّ‬
‫وهو أن يقسم الرجل على أن يعتزل امرأته ‪ ،‬وذلك إضرار ابملرأة ‪ ،‬ألنه يرتكها معلقة ‪ ،‬فال هي‬
‫مطلقة جيوز هلا أن جتد زوجا ‪ ،‬وال هي ذات بعل جتد منه ما جتد النساء من بعولتهن‪.‬‬
‫وقد اخ تلف أهل التأويل يف صفة اليمني اليت يكون املرء هبا موليا ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬ال يكون‬
‫موليا إال إذا حلف على ترك غشياهنا إضرارا هبا ‪ ،‬أما إذا حلف ال على وجه اإلضرار فال يكون‬
‫الل عنه ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن شهاب‪.‬‬
‫موليا ‪ ،‬ونسب هذا إىل علي رضي ّ‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن أيب عطية أنه تويف أخوه ‪ ،‬وترك ابنا له صغريا ‪ ،‬فقال أبو عطية المرأته‬
‫‪ :‬أرضعيه ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إين أخشى أن تغيلهما‪ .‬فحلف أال يقرهبا حىت تفطمهما ‪ ،‬ففعل حىت‬
‫فطمتهما ‪ ،‬فخرج ابن أخي أيب عطية إىل اجمللس ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫حلسن ما غ ّذي أبو عطية ابن أخيه ‪ ،‬قال ‪ :‬كال ‪ ،‬زعمت أم عطية أين أغيلهما ‪ ،‬فحلفت أال‬
‫الل عنه‬
‫حرمت عليك امرأتك ‪ ،‬فذكرت ذلك لعلي رضي ّ‬
‫أقرهبا حىت تفطمهما ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬قد ّ‬
‫فقال علي ‪ :‬إمنا أردت اخلري ‪ ،‬وإمنا اإليالء يف الغضب‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إنه يكون موليا سواء أحلف على ترك غشياهنا إضرارا هبا ‪ ،‬أم ملصلحة‪.‬‬
‫كل ميني منعت مجاعا حىت متضي أربعة أشهر ‪ ،‬فهي إيالء‪.‬‬
‫قال الشعيب ‪ّ :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)250 /2‬‬

‫ص ‪148 :‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن القعقاع قال ‪ :‬سألت احلسن عن رجل ترضع امرأته صبيا ‪ ،‬فحلف أال‬
‫يطأها حىت تفطم ولدها ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أرى هذا بغضب ‪ ،‬إمنا اإليالء يف الغضب‪ .‬قال ‪ :‬وقال ابن‬
‫ين يُ ْؤلُو َن ِم ْن نِسائِ ِه ْم ‪ ...‬إىل فَِإ هن ه‬
‫اللَ‬
‫سريين ‪ :‬ما أدري ما هذا الذي حي ّدثون ‪ ،‬إمنا قال ّ ِ ِ‬
‫الل ‪ :‬للهذ َ‬
‫ِِ‬ ‫َِمس ِ‬
‫الل قال ‪ :‬للهذ َ‬
‫ين يُ ْؤلُو َن‬ ‫يم إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها ‪ ،‬فحجتهم أن ّ‬ ‫يع َعل ٌ‬
‫ٌ‬
‫َيصص‪.‬‬
‫‪ ..‬ومل ّ‬
‫الل جعل م ّدة اإليالء خمرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته ‪ ،‬فإذا مل يكن‬
‫وحجة األولني أ ّن ّ‬
‫االمتناع عن مضارة ‪ ،‬بل عن قصد الصالح واخلري ‪ ،‬مل يكن بذلك موليا ‪ ،‬فال يكون هناك معىن‬
‫لضرب األجل ‪ ،‬فتخرج من مساءته ‪ ،‬إذ ال مساءة ‪ ،‬وذهب قوم إىل أن ميني اإليالء ليست‬
‫مقصورة على احللف برتك الوطء ‪ ،‬بل تكون ابحللف على غريه أيضا ‪ ،‬كأن حيلف ليغضبنّها ‪ ،‬أو‬
‫ليسوءهنّا ‪ ،‬أو ليحرمنّها أو ليخاصمنّها ‪ :‬كل ذلك إيالء‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »2‬عن أيب ذئب العامري أن رجال من أهله قال المرأته ‪ :‬إن كلمتك سنة‬
‫تكلمها‬
‫فأنت طالق ‪ ،‬واستفىت القاسم وساملا فقاال ‪ :‬إن كلمتها قبل سنة فهي طالق ‪ ،‬وإن مل ّ‬
‫فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر ‪ ،‬ونقل ذلك عن الشعيب أيضا‪.‬‬
‫الل جعل مدة اإليالء خمرجا للمرأة من سوء عشرة الرجل ‪ ،‬وليست اليمني على‬
‫وحجة هؤالء أن ّ‬
‫ترك الوطء أبوىل أن تكون من معاين سوء العشرة من اليمني على أن يضرهبا ‪ ،‬أو ال يكلمها ‪،‬‬
‫أل ّن كل ذلك ضرر عليها وسوء عشرة‪.‬‬
‫وظاهر هذه األقوال كلها أن اإليالء ال ب ّد فيه من اليمني ‪ ،‬وقالت املالكية ‪ :‬إذا امتنع الرجل من‬
‫الوطء قصد اإلضرار من غري عذر ‪ ،‬ومل حيلف ‪ ،‬كان حكمه حكم املويل ‪ ،‬أل ّن اإليالء مل يرد‬
‫ضارها دون ميني‪.‬‬
‫لعينه ‪ ،‬وإمنا أريد ملعىن سوء العشرة والضرر ‪ ،‬وهذا حاصل إذا ّ‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم فقال بعضهم ‪:‬‬ ‫الل بقوله ‪ :‬فَِإ ْن فا ُؤ فَِإ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫وقد اختلف الفقهاء يف الفيء الذي عناه ّ‬
‫هو غشيان املرأة الذي امتنع عنه ‪ ،‬ال فيئة له إال ذلك ‪ ،‬وإذا عرض عذر من مرض أو سفر ‪،‬‬
‫فلم يغش لذلك ‪ ،‬ومضت مدة اإليالء ‪ ،‬ابنت منه ‪..‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬هو املراجعة ابللسان ‪ ،‬أو القلب يف حال العذر ‪ ،‬ويف غري حال العذر الغشيان‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬هو املراجعة ابللسان مقام الغشيان يف حالة العذر ‪ ،‬ألنّه ال يصري مضارا برتك‬
‫الشيء إال إذا كان قادرا على اإلتيان به وتركه طواعية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)251 /2‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)251 /2‬‬

‫ص ‪149 :‬‬
‫الل َِمس ِ‬
‫يم (‪ )227‬اختلف الصحابة والتابعون واألئمة اجملتهدون يف‬ ‫َوإِ ْن َع َزُموا الطهال َق فَِإ هن هَ ٌ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫الطالق الذي يكون عن ترك الفيء يف اإليالء ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ ،‬وهو مذهب أيب حنيفة ‪ :‬إذا‬
‫مضت األربعة أشهر دون فيئة وقع الطالق‪.‬‬
‫وقال آخرون وهو مذهب مالك ‪ :‬إن مضى األجل ال يقع به طالق ‪ ،‬وإمنا تقفه بعد أمام احلاكم‬
‫‪ :‬فإما فاء وإما طلق‪.‬‬
‫ين يُ ْؤلُو َن ِم ْن نِسائِ ِه ْم‬ ‫ِِ‬
‫ومنشأ هذا اخلالف اختالفهم يف أتويل اآلية ‪ ،‬فتأويلها عند األولني للهذ َ‬
‫يم (‪َ )226‬وإِ ْن عَ َزُموا الطهال َق برتك الفيئة ‪ ...‬فَِإ هن‬ ‫الل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ص أ َْربَ َعة أَ ْش ُه ٍّر فَِإ ْن فا ُؤ فَِإ هن هَ ٌ‬
‫تَ َرب ُ‬
‫الل َِمس ِ‬
‫يم‪.‬‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫هَ ٌ‬
‫ص أ َْربَ َعةِ أَ ْش ُه ٍّر فَِإ ْن فا ُؤ ‪ ..‬بعد انقضائها ‪..‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫وأتويلها عند اآلخرين للهذ َ‬
‫ين يُ ْؤلُو َن م ْن نسائ ِه ْم تَ َرب ُ‬
‫الل َِمس ِ‬ ‫الل غَ ُف ِ‬
‫يم (‪.)227‬‬ ‫يع َعل ٌ‬‫يم َوإِ ْن َع َزُموا الطهال َق فَِإ هن هَ ٌ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫فَِإ هن هَ ٌ‬
‫وقد شبّه األولون مدة اإليالء ابلعدة الرجعية ‪ ،‬وشبهوا اإليالء ابلطالق الرجعي ‪ ،‬وقد نقلوا أن‬
‫اإليالء كان طالقا يف اجلاهلية ‪ ،‬فأقره الشرع طالقا ‪ ،‬وزاد فيه األجل‪.‬‬
‫وشبه اآلخرون أجل اإليالء ابألجل الذي يضرب يف العنة ‪ ،‬ألن اليمني على ترك الوطء ضرر‬
‫حادث ابلزوجة ‪ ،‬فضرب للزوج مدة يف رفعه ‪ ،‬فإن رفعه وإال رفعه الشرع عنها ابلطالق ‪ ،‬كما‬
‫يكون ذلك يف كل ضرر يتعلّق ابلوطء ‪ ،‬كالعنة‪.‬‬
‫وء َوال َِحيل َهلُ هن أَ ْن يَكْتُ ْم َن ما َخلَ َق ه‬‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍّ‬
‫اللُ ِيف‬ ‫ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬ ‫قال ّ‬
‫َحق بَِر ِّد ِه هن ِيف ذلِ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالحاً َوَهلُ هن‬ ‫ادوا إِ ْ‬
‫ك إِ ْن أَر ُ‬ ‫أ َْرحام ِه هن إِ ْن ُك هن يُ ْؤم هن ِاب هلل َوالْيَ ْوم ْاآلخ ِر َوبُعُولَتُ ُه هن أ َ‬
‫الل تعاىل‬
‫يم (‪ )228‬ذكر ّ‬ ‫ِ‬
‫اللُ عَ ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫لر ِ‬
‫جال عَلَيْ ِه هن َد َر َجةٌ َو ه‬ ‫وف َولِ ِّ‬
‫ِمثْل اله ِذي عَلَي ِه هن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أحكام عدة الطالق ‪:‬‬
‫ليستدل هبا على براءة الرحم من الولد ‪ ،‬فيؤمن اختالط‬
‫ّ‬ ‫أوهلا ‪ :‬وجوب العدة ‪ ،‬وإمنا وجبت العدة‬
‫األنساب ‪ ،‬والعدة للمطلقة ثالثة قروء‪.‬‬
‫عليهن ع ّدة ‪ ،‬قال‬ ‫ّ‬ ‫وقد أخرج من حكم اآلية املطلقات الالئي طلّقن قبل الدخول ‪ ،‬فلم جيعل‬
‫نات مثُه طَله ْقتُموه هن ِمن قَب ِل أَ ْن متََسوه هن فَما لَ ُكم َعلَي ِه هن ِمن ِعدهةٍّ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬إِذا نَ َك ْحتُم الْم ْؤِم ِ‬ ‫ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ْ ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫َمح ِ‬
‫ال‬ ‫ت ْاأل ْ‬‫عدهتن وضع محلهن ‪ ،‬قال ‪َ :‬وأُوال ُ‬ ‫ّ‬ ‫تَ ْعتَدوهنَا [األحزاب ‪ ]49 :‬واحلوامل ‪ ،‬فجعلت‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن [الطالق ‪.]4 :‬‬ ‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬
‫أَ‬
‫وكذلك أخرج الاليت يئسن من احمليض لصغر أو كرب ‪ ،‬فجعلت عدهتن ثالثة أشهر ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم فَعِ هد ُهتُ هن ثَالثَةُ أَ ْش ُه ٍّر [الطالق ‪ ]4 :‬فصارت‬
‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫َو ه‬
‫العدة املذكورة يف اآلية اليت هنا للنساء غري احلوامل املدخول هبن املمكنات احمليض‪.‬‬

‫ص ‪150 :‬‬
‫والقروء ‪ :‬مجع قرء ‪ ،‬ويطلق يف كالم العرب على الطهر وعلى احليض حقيقة ‪ ،‬فهو من‬
‫األضداد‪.‬‬
‫وأصل القرء االجتماع ‪ ،‬ومسّي احليض قرءا الجتماع الدم يف الرحم ‪ ،‬ومسّي الطهر قرءا الجتماع‬
‫الدم يف البدن‪.‬‬
‫وقد يطلق القرء أيضا على الوقت ‪ ،‬جمليء الشيء املعتاد جميئة لوقت معلوم ‪ ،‬وإلدابر الشيء‬
‫املعتاد إدابره لوقت معلوم‪ .‬يقال ‪ :‬أقرأت حاجة فالن عندي ‪ ،‬أي ‪ :‬جاء وقت قضائها ‪ ،‬وأقرأ‬
‫النجم ‪ ،‬إذا جاء وقت أفوله ‪ ،‬وأقرأت الريح ‪ :‬إذا هبت لوقتها ‪ ،‬قال اهلذيل «‪: »1‬‬
‫الرايح أي هبت لوقتها ‪ ،‬وملّا كان احليض معتادا جميئه يف وقت معلوم ‪ ،‬مسّت‬
‫إذا هبّت لقارئها ّ‬
‫العرب وقت جميئة قرءا ‪ ،‬ومن جميء القرء مبعىن احليض‬
‫الصالة أايم أقرائك» «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم لفاطمة بنت أيب حبيش «دعي ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫ومن جميئه مبعىن الطهر قول األعشى ‪:‬‬
‫كل عام أنت جاشم عزوة تش ّد ألقصاها عزمي عزائكا‬
‫ويف ّ‬
‫مورثة جمدا ويف الذّكر رفعة ملا ضاع فيها من قروء نسائكا‬
‫ّ‬
‫وقد اختلف يف املراد من القروء يف اآلية ‪ ،‬فذهب مالك والشافعي وابن عمر وزيد وعائشة‬
‫والفقهاء السبعة «‪ ، »3‬وربيعة وأمحد إىل أهنا األطهار‪.‬‬
‫وذهب علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري واألوزاعي ‪ :‬وابن أيب ليلى وابن شربمة إىل‬
‫أهنّا احليض‪.‬‬
‫وفائدة اخلالف أنه إذا طلّقها يف طهر خرجت عن عدهتا عند األولني مبجيء احليضة الثالثة ‪،‬‬
‫ألهنّا حيتسب هلا الطهر الذي طلقت فيه ‪ ،‬وال خترج من عدهتا إال ابنقضاء احليضة الثانية عند‬
‫اآلخرين ‪ ،‬وقد روي عن عمر بن اخلطاب وعلي أهنما قاال ‪ :‬ال حتل لزوجها الرجعة إليها حىت‬
‫تغتسل من احليضة الثالثة‪.‬‬
‫وقد احتجوا لرتجيح املذهب األول أبمور منها ‪ :‬أنه أثبت التاء يف العدد (ثالثة) فدل ذلك على‬
‫أن املعدود مذ ّكر ‪ ،‬وهو ال يكون مذ ّكرا إال إذا كان املراد الطهر ‪ ،‬وإذا كان املراد احليضة كان‬
‫ولكن‬ ‫مؤنثا‪ .‬ومنها قوله تعاىل ‪ :‬فَطَلِّ ُق ُ ِ ِ ِِ‬
‫وه هن لعدههت هن [الطالق ‪ ]1 :‬ومعناه ‪ :‬يف وقت عدهتن ‪ّ ،‬‬
‫منهي عنه ‪ ،‬فوجب أن يكون زمان العدة غري زمان احليض‪.‬‬ ‫الطالق يف زمان احليض ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مالك بن احلارث اهلذيل ‪ ،‬انظر زاد املسري يف علم التفسري البن اجلوزي (‪.)217 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )131 /2 - 1‬كتاب الطهارة حديث رقم (‪.)211‬‬
‫الل ‪ ،‬عروة ‪ ،‬القاسم ‪ ،‬وخارجة‪.‬‬
‫(‪ )3‬وهم ‪ :‬سعيد ‪ ،‬سليمان ‪ ،‬أبو بكر ‪ ،‬عبيد ّ‬

‫ص ‪151 :‬‬
‫وأجيب أبن معىن اآلية ‪ :‬مستقبالت لعدهتن‪.‬‬
‫وقد احتجوا لرتجيح املذهب الثاين أبمور ‪ :‬منها ‪ :‬أننا أمجعنا على أن االسترباء يف شراء اجلواري‬
‫يكون ابحليضة ‪ ،‬فكذا العدة تكون ابحليضة ‪ ،‬ألن الغرض منها واحد‪ .‬ومنها أن العدة شرعت‬
‫لرباءة الرحم ‪ ،‬والذي يدل على براءة الرحم إ ّمنا هو احليض ال الطهر‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬طالق األمة تطليقتان ‪ ،‬وع ّدهتا حيضتان» «‪»1‬‬
‫ومنها قوله صلّى ّ‬
‫ومن املعلوم أ ّن عدة األمة نصف عدة احلرة ‪ ،‬فإذا اعتربت ع ّدة األمة ابحليض ‪ ،‬كانت عدة احلرة‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ولكن مذهب الفريق الثاين أرجح من جهة املعىن‪.‬‬ ‫واملسألة كما ترى حمتملة ‪ّ ،‬‬
‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍّ‬
‫وء خرب يف معىن األمر ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقد زعم بعضهم أ ّن قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬
‫لئال يلزم الكذب يف خربه تعاىل إذا مل ترتبص بعض املطلقات‪.‬‬
‫الل أخرب عن حكم الشرع ‪ ،‬فإن وجدت امرأة ال ترتبّص مل يكن ذلك‬
‫وهذا غري الزم ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫حكما شرعيا‪.‬‬
‫حام ِه هن إِ ْن ُك هن يُ ْؤِم هن ِاب هللِ َوالْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر‪.‬‬
‫الل ِيف أَر ِ‬ ‫ِ‬
‫َوال َحيل َهلُ هن أَ ْن يَكْتُ ْم َن ما َخلَ َق هُ ْ‬
‫الل يف أرحامهن احليض ‪ ،‬وقيل ‪ :‬احلمل‪ .‬وقيل ‪َ :‬ها معا‪ .‬وهذا دليل على‬ ‫قيل ‪ :‬املراد مبا خلق ّ‬
‫الل أن‬
‫حرم ّ‬
‫أن املرأة مؤمتنة على ما يف رمحها ‪ ،‬يقبل قوهلا فيه ‪ ،‬ألنّه ال يعلم إال من قبلها ‪ ،‬وإ ّمنا ّ‬
‫للرجل ‪ ،‬وعدم اختالط األنساب ‪ ،‬وإذا مل‬
‫أرحامهن ‪ ،‬ألنّه يتعلق بذلك حق الرجعة ّ‬
‫ّ‬ ‫يكتمن ما يف‬
‫حتافظ املرأة على ذلك ‪ ،‬فرمبا حرمت الرجل من ح ّقه يف الرجعة ‪ ،‬ورمبا ا ّدعت انقضاء العدة‬
‫الرحم ابحلمل من املطلّق ‪ ،‬مث تزوجت ‪ ،‬فأ ّدى ذلك إىل اختالط األنساب‪.‬‬
‫وهي مشغولة ّ‬
‫ابلل واليوم اآلخر‬
‫يؤمن ّ‬
‫بكوهنن ّ‬
‫ّ‬ ‫حل الكتمان‬
‫الل شرط عدم ّ‬
‫ولعل قائال يقول ‪ :‬إ ّن ظاهر اآلية أ ّن ّ‬
‫هلن أن يكتمن؟‬
‫يكن كذلك ‪ ،‬فهل جيوز ّ‬
‫‪ ،‬فإذا مل ّ‬
‫فنقول ‪ :‬إ ّن هذا كقول القائل ‪ :‬إن كنت مؤمنا فال تظلم ‪ ،‬على معىن ‪ :‬إن كنت مؤمنا فإمياك‬
‫كتماهنن ما يف‬
‫ّ‬ ‫ابلل واليوم اآلخر ينبغي أن مينع‬
‫مينعك من الظلم‪ .‬وكذلك هنا ‪ :‬إن اإلميان ّ‬
‫أرحامهن ‪ ،‬وهذا وعيد شديد‪.‬‬
‫ّ‬
‫ابلل‬
‫حيل له أن َيون فيه ‪ ،‬وهذا مقتضى اإلميان ّ‬
‫واآلية تدل على أن من ائتمن على شيء فال ّ‬
‫واليوم اآلخر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف اجلامع الصحيح (‪ ، )230 /2‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب يف سنة الطالق‬
‫حديث رقم (‪ ، )2189‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )488 /1‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب ما‬
‫جاء أن طالق األمة حديث رقم (‪ ، )1182‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )672 /1‬كتاب الطالق‬
‫ابب يف طالق األمة حديث رقم (‪.)2080‬‬

‫ص ‪152 :‬‬
‫ادوا إِ ْ‬
‫صالحاً‪.‬‬ ‫َحق بَِر ِّد ِه هن ِيف ذلِ َ‬
‫ك إِ ْن أَر ُ‬ ‫َوبُعُولَتُ ُه هن أ َ‬
‫هذا هو احلكم الثاين من أحكام الطالق ‪ ،‬وهو ارجتاع الرجل املرأة ما دامت يف عدهتا‪.‬‬
‫وبعولة ‪ :‬مجع (بعل) وهو الزوج ‪ ،‬ويطلق على املرأة ‪ :‬بعلة ‪ ،‬وَها ‪ :‬بعالن ‪ ،‬وهو يف األصل مبعىن‬
‫رهبا؟‬
‫السيد املالك ‪ ،‬يقال ‪ :‬من بعل هذه الناقة؟ أي من ّ‬
‫مضارة املرأة ‪،‬‬
‫املعىن ‪ :‬وأزواج املطلقات أحق برجعتهن يف مدة الرتبص إن أرادوا إصالحا ‪ ،‬ال ّ‬
‫املضارة فليس له ح ّق الرجعة ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الل يشرتط يف الرجعة إرادة اإلصالح ‪ ،‬فإذا أراد‬
‫وظاهر اآلية أن ّ‬
‫الل‬
‫واألمر كذلك ‪ ،‬ولكن ملا كانت هذه اإلرادة ال اطالع لنا عليها عاملناه بظاهر أمره ‪ ،‬وجعل ّ‬
‫ثالث التطليقات علما عليها ‪ ،‬ولو حتققنا من ذلك لطلقنا عليه‪.‬‬
‫وفيما بينه وبني نفسه ال جيوز له أن يراجع إن قصد الضرر ال اإلصالح‪.‬‬
‫وحق الرجعة مقصور على املطلقة طالقا رجعيا‪.‬‬
‫واختلف العلماء فيها يف مدة الرتبّص ‪ :‬أحكمها حكم الزوجة ‪ ،‬أم ليست كذلك؟ فذهب أبو‬
‫حنيفة إىل أهنا حكمها حكم الزوجة ‪ ،‬وذهب مالك إىل أهنا ليست كالزوجة ‪ ،‬وابتين على هذا‬
‫اخلالف أ ّن أاب حنيفة جييز مباشرهتا م ّدة الرتبص ‪ ،‬ومالك مينعه قبل الرجعة‪.‬‬
‫الل بعولة ‪ ،‬وهذا يقتضي أهنن‬ ‫ويظهر أن منشأ اخلالف اختالف الفهم يف هذه اآلية ‪ ،‬فقد مسّاه ّ‬
‫َحق بَِر ِّد ِه هن وهذا يقتضي أهنن لسن بزوجات ‪ ،‬إذ الر ّد إمنا يكون لشيء قد‬ ‫زوجات ‪ ،‬وقال ‪ :‬أ َ‬
‫انفصم ‪ ،‬فذهب احلنفية واحلنابلة إىل أن الرجعية زوجة ‪ ،‬وفائدة الطالق نقص العدد ‪ ،‬وأولوا‬
‫َحق بَِر ِّد ِه هن فقالوا ‪ :‬إهنّن كن سائرات يف طريق لو وصلن إىل هنايته خلرجن عن الزوجية ‪،‬‬ ‫قوله ‪ :‬أ َ‬
‫هلن عن التمادي يف ذلك الطريق‪.‬‬ ‫فاالرجتاع ر ّد ّ‬
‫َحق بَِر ِّد ِه هن ردهن إىل‬
‫واملالكية ّأولوا قوله ‪َ :‬وبُعُولَتُ ُه هن فقالوا ‪ :‬مساهم بعولة ابعتبار ما كان ومعىن أ َ‬
‫الزوجية‪.‬‬
‫جال َعلَْي ِه هن َد َر َجةٌ‪.‬‬‫وف َولِ ِّ‬
‫لر ِ‬ ‫وَهل هن ِمثْل اله ِذي َعلَي ِه هن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ ُ‬
‫هذه كلمة وجيزة بيّنت نظر الشارع إىل عقد الزواج ‪ ،‬فليس الزواج يف الشريعة اإلسالمية عقد‬
‫اسرتقاق ومتليك ‪ ،‬إمنا هو عقد يوجب على الزوج حقوقا للمرأة‪ .‬كما يوجب على املرأة حقوقا‬
‫للزوج ‪ ،‬فما من ح ّق للزوج على املرأة إال ويف نظريه حق هلا عليه ‪َ ،‬وَهلُ هن ِمثْ ُل اله ِذي َعلَْي ِه هن‬
‫جال َعلَْي ِه هن َد َر َجةٌ والدرجة املنزلة ‪ ،‬وأصلها من‬ ‫وف واملعروف ضد املنكر‪ .‬مث قال ‪َ :‬ولِ ِّ‬
‫لر ِ‬ ‫ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬
‫درجت الشيء أي طويته ‪ ،‬والدرجة قارعة الطريق ‪ ،‬ألهنّا تطوي منزال بعد منزل ‪ ،‬والدرجة املنزلة‬
‫من منازل الطريق ‪ ،‬ومنه‬

‫ص ‪153 :‬‬
‫الل للرجال على النساء هي ما أشار إليها‬ ‫الدرجة اليت يرتقى فيها ‪ ،‬وهذه الدرجة اليت جعلها ّ‬
‫ض َوِمبا أَنْ َف ُقوا ِم ْن أ َْمواهلِِ ْم‬
‫ض ُه ْم َعلى بَ ْع ٍّ‬ ‫هل ه‬
‫اللُ بَ ْع َ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫بقوله ‪ِّ :‬‬
‫جال قَ هو ُامو َن َعلَى النّساء مبا فَض َ‬
‫الر ُ‬
‫[النساء ‪.]34 :‬‬
‫وحنن نعلم أن كثريا من الزاندقة الذين يريدون أن يفتنوا النساء عن دينهن ‪ ،‬أيتون إليهن من جهة‬
‫أتمل نساء اإلسالم يف هذه اآلية‬
‫وجعلهن إماء عند الرجال ‪ ،‬ولو ّ‬
‫ّ‬ ‫حقوقهن ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن اإلسالم غمط‬
‫الل إليها ‪ ،‬ومل ترفعهن إليها احلضارات القدمية ‪ ،‬وال احلضارات‬
‫رفعهن ّ‬
‫ّ‬ ‫لرأين هذه املنزلة اليت‬
‫ابرة هبا ‪،‬‬
‫ضوهنن يف شريعة كانت شفيقة ابملرأة ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫احلديثة ‪ ،‬ولعلمن أ ّن هؤالء خمادعون ‪ ،‬يبغّ‬
‫أعتقتها من رق العبودية ‪ ،‬وف ّكت عنها األغالل والقيود اليت كانت ترسف فيها يف القدمي ‪ ،‬وأ ّن‬
‫الل هنا أ ّن هلن‬
‫شريعة هذا نظرها إىل املرأة جلديرة أبن حترتم وتق ّدس من النساء مجيعا ‪ ،‬وإمنا ذكر ّ‬
‫الرجعة إرادة اإلصالح ‪،‬‬
‫ليبني أنه شرط يف ّ‬
‫وللرجال عليهن درجة ‪ّ ،‬‬
‫عليهن ابملعروف ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مثل الذي‬
‫للرجل ح ّق الرجعة ألنه يزيد عليها درجة‪.‬‬
‫أل ّن للمرأة حقوقا مثل ما عليها ‪ ،‬وجعل ّ‬
‫ِ‬
‫فرط يف حقوق الزواج ‪ ،‬وهو حكيم فيما شرع ‪ ،‬يعلم‬ ‫اللُ عَ ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم فال يغالبه من ّ‬ ‫مث قال ‪َ :‬و ه‬
‫املصلحة ‪ ،‬ويضع األشياء يف مواضعها‪.‬‬
‫سان َوال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن َأتْ ُخ ُذوا ِممها‬
‫وف أَو تَس ِريح إبِِ ْح ٍّ‬
‫ساك ِمبَ ْع ُر ْ ْ ٌ‬
‫ٍّ‬ ‫اتن فَِإ ْم ٌ‬‫الل تعاىل ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫َ‬ ‫قال ّ‬
‫ناح َعلَْي ِهما‬
‫الل فَال ُج َ‬
‫ود هِ‬‫اللِ فَِإ ْن ِخ ْفتُ ْم أ هَال يُِقيما ُح ُد َ‬
‫ود ه‬‫وه هن َش ْيئاً إِهال أَ ْن ََيافا أ هَال يُِقيما ُح ُد َ‬
‫آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫ك ُه ُم الظهالِ ُمو َن (‪)229‬‬ ‫اللِ فَأُولئِ َ‬ ‫اللِ فَال تَ ْعتَ ُدوها َوَم ْن يَتَ َع هد ُح ُد َ‬
‫ود ه‬ ‫ْك ُح ُدودُ ه‬ ‫ت بِهِ تِل َ‬ ‫يما افْتَ َد ْ‬
‫فَ‬
‫ِ‬
‫أخرج ابن جرير الطربي «‪ ، »1‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬كان الرجل يطلّق ما شاء ‪،‬‬
‫مث إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدهتّا كانت امرأته ‪ ،‬فغضب رجل من األنصار على امرأته ‪،‬‬
‫فقال هلا ‪ :‬ال أقربك وال حتلني مين ‪ ،‬قالت له ‪ :‬كيف؟ قال ‪:‬‬
‫أطلقك ‪ ،‬حىت إذا دان أجلك راجعتك ‪ ،‬مث أطلقك ‪ ،‬فإذا دان أجلك راجعتك‪.‬‬
‫الل تعاىل ذكره ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫اتن‬ ‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فنزل ّ‬
‫قال ‪ :‬فنقلت ذلك إىل النيب صلّى ّ‬
‫َ‬
‫ساك ِمبَعر ٍّ‬
‫وف اآلية‬ ‫فَِإ ْم ٌ ْ ُ‬
‫‪ .‬فعلى هذا تكون اآلية نزلت لبيان عدد الطالق الذي للرجل فيه الرجعة ‪ ،‬والعدد الذي إذا‬
‫انتهى إليه فال رجعة له عليها ‪ ،‬وقد كان أهل اجلاهلية وأهل اإلسالم قبل نزول هذه اآلية ال ح ّد‬
‫للطالق عندهم ‪ ،‬وكان ذلك قد يؤدي إىل اإلضرار ابملرأة ‪ ،‬فترتك ال هي بذات زوج ‪ ،‬وال هي‬
‫خليّة حت ّل لألزواج‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬نزلت هذه اآلية لتعريف الناس سنّة طالقهم ‪ ،‬وكيف يطلّقون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)276 /2‬‬

‫ص ‪154 :‬‬
‫ٍّ‬
‫وف أَو تَس ِريح إبِِ ْح ٍّ‬ ‫الل يف قوله ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫سان‬ ‫ساك ِمبَ ْع ُر ْ ْ ٌ‬
‫اتن فَِإ ْم ٌ‬ ‫َ‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن عبد ّ‬
‫قال ‪ :‬يطلقها بعد ما تطهر ‪ ،‬من قبل مجاع ‪ ،‬مث يدعها حىت تطهر مرة أخرى ‪ ،‬مث يطلقها إن شاء‬
‫تتم ثالث حيض ‪ ،‬وتبني منه‬
‫مث إن أراد أن يراجعها راجعها ‪ ،‬مث إن شاء طلقها ‪ ،‬وإال تركها حىت ّ‬
‫به‪.‬‬
‫الل سنّة الطالق يف هذه اآلية ‪ ،‬وبني أ ّن من سنته تفريق الطالق ومنع‬‫وعلى هذا يكون قد ّبني ّ‬
‫ِ‬
‫االجتماع ‪ ،‬وألنّه قال ‪ :‬الطهال ُق َم هراتن وهذا يقتضي أن يكون طلقتني ّ‬
‫مفرقتني ‪ ،‬ألهنّا إن كانتا‬
‫جمتمعتني ‪ ،‬مل يكن مرتني‪ .‬ويدل عليه أن الشارع قد طلب أن يسبّح املرء وحيمد ويكرب دبر كل‬
‫مرة ‪ ،‬وال يكفيه أن يقول ‪:‬‬
‫صالة ثالاث وثالثني ‪ ،‬وال ينفعه إال أن يفعل ذلك ثالاث وثالثني ّ‬
‫الل ويتبعها بلفظ ثالاث وثالثني ‪ ،‬وأنه إذا فعل ذلك يكون مسبحا مرة واحدة ال ثالاث‬
‫سبحان ّ‬
‫وثالثني‪.‬‬
‫وقد ثبت أن اآلية دلت على طلب التفريق يف إيقاع الطالق ‪ ،‬فإذا خالف املطلّق ومجع الثالث‬
‫يف لفظ واحد ‪ ،‬فقد اختلف العلماء يف ذلك ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬إنه ال يقع ّإال واحدة ‪ ،‬قال‬
‫يدل على اشتمال املنهي عنه على مفسدة راجحة ‪،‬‬
‫الفخر الرازي ‪ :‬وهو األقيس ‪ ،‬ألن النهي ّ‬
‫والقول ابلوقوع سعي يف إدخال تلك املفسدة يف الوجود ‪ ،‬وهذا غري جائز ‪ ،‬فوجب أن حيكم‬
‫بعدم الوقوع‪.‬‬
‫وقالت األئمة األربعة وغريهم ‪ :‬تقع الثالثة إما مع احلرمة ‪ ،‬وإما مع الكراهة ‪ ،‬على حسب‬
‫اختالفهم يف ذلك‪.‬‬
‫استدل األولون من السنة مبا رواه أمحد ومسلم «‪ »2‬من حديث طاوس عن ابن عباس قال‬
‫ّ‬ ‫وقد‬
‫الل عليه وسلّم وأيب بكر ‪ ،‬وسنتني من خالفة عمر‬
‫الل صلّى ّ‬
‫‪ :‬كان الطالق على عهد رسول ّ‬
‫طالق الثالث واحدة ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬إ ّن الناس قد استعجلوا يف أمر قد كانت فيه أانة ‪ ،‬فلو‬
‫أمضيناه عليهم ‪ ،‬فأمضاه عليهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وإمضاء الثالث إبطال للرخصة الشرعية والرفق املشار‬
‫ث بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫ك أ َْمراً [الطالق ‪.]1 :‬‬ ‫اللَ ُْحي ِد ُ‬
‫إليه بقوله تعاىل ‪ :‬ل ََعله ه‬
‫ولألئمة أحاديث أخرى ذكرت يف كتب السنة ‪ ،‬واستقصاء اخلالف واألدلة يف هذه املسألة‬
‫يطلب من «نيل األوطار» «‪« »3‬و إعالم املوقعني» «‪ »4‬البن القيم‪.‬‬
‫ومنشأ اخلالف يف الطالق ‪ -‬ما ذكرانه وما مل نذكره ‪ -‬االختالف يف أسباب النزول ويف اآلية هل‬
‫هي متعلقة مبا قبلها ‪ ،‬أم مستقلة عنها؟ وحنن جنمل ذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)277 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف املسند (‪ )314 /1‬ومسلم يف الصحيح كتاب الطالق حديث رقم (‪.)1472‬‬
‫[‪].....‬‬
‫(‪ )3‬نيل األوطار لإلمام ابن القيم اجلوزية (‪.)198 - 193 /6‬‬
‫(‪ )4‬إعالم املوقعني عن رب العاملني البن القيم اجلوزية (‪.)41 /3‬‬

‫ص ‪155 :‬‬
‫عرف الطالق أبل ‪ ،‬فذهب بعضهم إىل أن التعريف للعهد ‪ ،‬أي الطالق‬
‫الل قد ّ‬
‫فنقول ‪ :‬إن ّ‬
‫املشروع مراتن ‪ ،‬فما جاء على غري هذا فليس مبشروع ‪ ،‬وهذا مروي عن الرافضة واحلجاج بن‬
‫أرطاة «‪ ، »1‬وعلى هذا تكون اآلية مستقلة عما قبلها‪.‬‬
‫فالل ملا‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬معناه أ ّن الطالق الذي فيه الرجعة مراتن ‪ ،‬فتكون اآلية مرتبطة مبا قبلها ‪ّ ،‬‬
‫يبني الطالق الذي فيه الرجعة ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬معناه‬
‫بردهن أراد أن ّ‬
‫ّ‬ ‫بعولتهن أح ّق‬
‫ّ‬ ‫ذكر أ ّن‬
‫الطالق املسنون مراتن ‪ ،‬وهذا مذهب مالك ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬معناه الطالق اجلائز مراتن ‪ ،‬وهذا‬
‫مذهب أيب حنيفة‪.‬‬
‫والقول األول يناسبه يف سبب النزول ما روي عن عروة ‪ ،‬وبقية األقوال يناسبها يف سبب النزول‬
‫الل‪.‬‬
‫ما روي عن عبد ّ‬
‫وحنن نرى أن الطالق هدم لألسرة ‪ ،‬ومتزيق للمنزل ‪ ،‬وضرره يتعدى إىل األوالد‪ .‬فإ ّن األوالد يف‬
‫حضن أمهاهتم يكونون موضعا للرعاية وحسن الرتبية‪.‬‬
‫خبالف ما إذا كانوا يف حضن أجنبية عنهم ‪ ،‬والشريعة تنظر إليه هذا النظر‪ .‬ويدل على هذا‬
‫الل الطالق» «‪»2‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أبغض احلالل إىل ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫والشريعة أجازته مع هذا الضرر لدفع ضرر أشد ‪ ،‬وحتصيل مصلحة أكثر‪ .‬وهي التفريق بني‬
‫يفرق ابلطّالق بني متحابني من‬
‫متباغضني ليس من املصلحة اجلمع بينهما ‪ ،‬وقد أراد الشارع أال ّ‬
‫اخلري أن جيتمعا ‪ ،‬وأال يفرق به إال بني متباغضني من اخلري أن يفرتقا ‪ ،‬فجعل الطالق املشروع‬
‫مرتني متفرقتني يف طهرين كما دلت على ذلك السنة ‪ ،‬فإن شاء أمسك ‪ ،‬وإن شاء طلّق ‪،‬‬
‫وأمضى الطالق ‪ ،‬فيكون الزوج على بينة مما أييت وما يذر ‪ ،‬ولن يتفرق ابلطالق بعد هذه الروية‬
‫متفرقان طبعا ‪ ،‬من اخلري أال جيتمعا‪.‬‬
‫وهذه األانة إال ّ‬
‫وإذا كانت حكمة الطالق ما ذكرانه سقط قول الناقمني على الشريعة من أهنا مل حترتم عقد‬
‫الزوجية ‪ ،‬وتعطه ما جيب له من احليطة والرعاية‪.‬‬
‫وليس عندان من املراجع ما نعلم منه حقيقة مذهب احلجاج والرافضة‪ .‬ونتبني أهنم يرون الذي‬
‫سار يف الطالق على هذا السنن وطلق اثنتني ‪ ،‬مث مل يطلق الثالثة ‪ ،‬وعاشر إبحسان قد بقيت له‬
‫واحدة فقط ‪ ،‬فإذا أراد أن يطلق مل تكن له إال واحدة أم هم يرون أنّه قد هدم الطالق ‪ ،‬وإذا‬
‫أراد أن يطلّق كان له الثالث من جديد ‪ ،‬وأ ّن هذا شرع الطالق ‪ ،‬فال يطلق إال هبذه الصفة‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫وف أَو تَس ِريح إبِِ ْح ٍّ‬
‫سان‪.‬‬ ‫ساك ِمبَ ْع ُر ْ ْ ٌ‬
‫فَِإ ْم ٌ‬
‫وسرح املاشية تسرحيا إذا‬
‫اإلمساك خالف اإلطالق ‪ ،‬والتسريح اإلرسال ‪ّ ،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابن ثور النخعي قاضي البصرة تويف (‪ 147‬ه) يف خراسان ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪/2‬‬
‫‪.)168‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )226 /2‬كتاب الطالق ابب كراهية الطالق حديث رقم‬
‫(‪.)2178‬‬
‫ص ‪156 :‬‬
‫أرسلها إمساك مبعروف ‪ ،‬إن وجد نفسه ال تطيق فراقها ‪ ،‬أو رأى املصلحة يف بقائها زوجة ‪ ،‬وإما‬
‫تسريح إبحسان إن أعطته جتربة هذه املرأة أنه مل يتعلّق هبا قلبه ‪ ،‬ورأى الفراق خريا له ‪ ،‬وتلك‬
‫هي حكمة الرجعة ‪ ،‬وجعل الطالق مرتني ‪ ،‬فإ ّن األشياء تعرف أبضدادها ‪ ،‬وال جيد املرء لذة‬
‫النعمة حىت يذوق طعم النّقمة ‪ ،‬وما دام مع صاحبه ال يدري أتش ّق عليه الفرقة أم ال؟ فجعل‬
‫مرة‬
‫الطالق مرتني ‪ ،‬وجعل له حق الرجعة ‪ ،‬ليعلم أتش ّق عليه فرقتها أم ال؟ ولو جعل الطالق ّ‬
‫واحدة ال رجعة فيها لوقع الناس يف بالء عظيم‪.‬‬
‫املضارة ‪ ،‬والتسريح‬
‫ّ‬ ‫ومعىن اإلمساك مبعروف أن يراجعها قصد املعاشرة احلسنة ‪ ،‬ال قصد‬
‫إبحسان أال يذكر عيوهبا ‪ ،‬وأن حيسن فراقها‪.‬‬
‫وقد اختلف يف املراد ابلتسريح ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هو أن يرتكها دون مراجعة حىت تنقضي عدهتا‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫هو أن يطلّقها الثالثة‪.‬‬
‫رجح األول أب ّن محل اآلية عليه جيعلها مستوفية لألقسام ‪ ،‬أل ّن املطلّق اثنتني ‪:‬‬ ‫وقد ّ‬
‫إما أن يراجع ‪ ،‬وهو اإلمساك مبعروف ‪ ،‬وإما أن يطلق الثالثة وهو قوله ‪ :‬فَِإ ْن طَله َقها فَال َِحتل لَهُ‬
‫ِم ْن بَ ْع ُد ‪ : ..‬وإما أن يسكت فال يطلّق الثالثة‪ .‬وال يراجع ‪ ،‬وهو التسريح إبحسان‪.‬‬
‫ورجح الثاين مبا‬ ‫ّ‬
‫الل عليه وسلّم فأين الثالثة؟ فقال صلّى‬ ‫اتن قيل له صلّى ّ‬ ‫روي أنه ملا نزل قوله تعاىل ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫َ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ :‬هو قوله ‪ :‬أَو تَس ِريح إبِِ ْحسانٍّ‬ ‫ّ‬
‫ْ ْ ٌ‬
‫‪ :‬ويكون قوله ‪ :‬فَِإ ْن طَله َقها فَال َِحتل لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد إن طلقها الطلقة الثالثة املذكورة يف قوله ‪ :‬أ َْو‬
‫تَس ِريح إبِِ ْح ٍّ‬
‫سان‪.‬‬ ‫ْ ٌ‬
‫اللِ فَِإ ْن‬ ‫وه هن َشيْئاً إِهال أَ ْن ََيافا أ هَال يُِقيما ُح ُد َ‬ ‫ِ‬
‫ود ه‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن َأتْ ُخ ُذوا ممها آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫قال ّ‬
‫اللِ فَال تَ ْعتَ ُدوها َوَم ْن‬
‫ود ه‬
‫ْك ُح ُد ُ‬ ‫ت بِهِ تِل َ‬ ‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ِهما ف َ‬
‫يما افْتَ َد ْ‬ ‫الل فَال ُج َ‬
‫ود هِ‬‫ِخ ْفتُ ْم أ هَال يُِقيما ُح ُد َ‬
‫ك ُه ُم الظهالِ ُمو َن‪.‬‬ ‫اللِ فَأُولئِ َ‬
‫ود ه‬‫يَتَ َع هد ُح ُد َ‬
‫الل عند تسريح املرأة أن يكون إبحسان ‪ ،‬وهنى أن أيخذوا شيئا مما آتوهن من املهر أو‬ ‫طلب ّ‬
‫الل ‪ ،‬فإذا حصل اخلوف جاز‬
‫غريه ‪ ،‬مث ّبني أنه ال حيل األخذ إال يف حالة اخلوف أال يقيما حدود ّ‬
‫للمرأة أن تفتدي ‪ ،‬وجاز للرجل أن أيخذ ‪ ،‬وطالق املرأة على هذا الوجه هو املعروف عند‬
‫العلماء ابخللع‪.‬‬
‫الل بن أيب ‪،‬‬
‫ذكر ابن جرير «‪ »1‬أن ابن عباس قال ‪ :‬إ ّن أول خلع كان يف اإلسالم أخت عبد ّ‬
‫الل! ال جيمع رأسي ورأسه شيء‬
‫الل عليه وسلّم‪ .‬فقالت ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫أهنّا أتت رسول ّ‬
‫أبدا‪ .‬إين رفعت جانب اخلباء ‪ ،‬فرأيته أقبل يف عدة ‪ ،‬فإذا هو أش ّدهم سوادا ‪ ،‬وأقصرهم قامة ‪،‬‬
‫وأقبحهم وجها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)280 /2‬‬

‫ص ‪157 :‬‬
‫علي حديقيت‪.‬‬
‫الل! إين أعطيتها أفضل مايل حديقة ‪ ،‬فلرتد ّ‬
‫قال زوجها ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫ففرق بينهما‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ما تقولني؟» قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬وإن شاء زدته‪ .‬قال ‪ّ :‬‬
‫قال صلّى ّ‬
‫‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫إن هذه اآلية نزلت يف شأهنما‪ .‬وقد ذهب مجاعة من العلماء إىل أنه ال جيوز أخذ الفداء إال إذا‬
‫كان النشوز من قبلها‪.‬‬
‫الل منهما مجيعا ‪،‬‬
‫وذهب آخرون إىل أن الذي يبيح أخذ الفداء أن يكون خوف أال يقيما حدود ّ‬
‫كل منهما صحبة اآلخر ‪ ،‬والظاهر أ ّن نشوزها كاف يف جواز أخذ الفداء‪.‬‬
‫لكراهة ّ‬
‫الل‪ .‬قيل ‪ :‬إهنا إذا نشزت خيف أن‬
‫الل علّق ذلك على خوف أال يقيما حدود ّ‬
‫فإن قيل ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫الل‪.‬‬
‫يعاملها الرجل بقسوة ‪ ،‬فال يقيم هو أيضا حدود ّ‬
‫وقد ذهب أكثر األئمة إىل أن اخللع جائز ‪ ،‬سواء كان يف حالة اخلوف أم يف غري حالة اخلوف ‪،‬‬
‫ضد مذهب غري اجلمهور‪.‬‬ ‫وظاهر اآلية يع ّ‬
‫نب لَ ُك ْم َع ْن َش ْي ٍّء ِم ْنهُ نَ ْفساً فَ ُكلُوهُ َهنِيئاً َم ِريئاً [النساء ‪]4 :‬‬ ‫ِ‬
‫وحجة اجلمهور قوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن ط َْ‬
‫حتصل لنفسها طالقا ‪ ،‬فألن جيوز ذلك لتملك أمر نفسها‬ ‫فإذا جاز هلا أن هتب مهرها من غري أن ّ‬
‫أوىل‪.‬‬
‫ولألولني أن يقولوا ‪ :‬إن هذه اآلية حممولة على البذل يف حال العشرة ‪ ،‬وأما البذل للطالق فقد‬
‫منعته اآلية اليت حنن بصددها إال بشرط‪.‬‬
‫تدل على أن اخللع إمنا هو فيما أعطى ‪ ،‬ال يف أزيد منه ‪ ،‬أل ّن اآلية يف صدد األخذ مما‬ ‫واآلية ّ‬
‫أعطى الرجال النساء‪ .‬مث قال ‪ :‬فَال جناح َعلَْي ِهما فِيما افْتَ َد ْ ِ‬
‫ت بِه أي مما آتيتمو ّ‬
‫هن ‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫مذهب الشعيب ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬واحلسن البصري‪.‬‬
‫وذهب مجهور الفقهاء إىل أنه جيوز اخللع أبزيد مما أعطاها ‪ ،‬ألنّه عقد معاوضة يوجب أال يتقيّد‬
‫مبقدار معني‪.‬‬
‫ولكن يعارض هذا أنه استباحها مبا أعطاها من مهر ‪ ،‬فلو أخذ منها أزيد لكان إجحافا هبا‪.‬‬
‫الل قال ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫اتن مث ذكر اخللع ‪ ،‬مث‬ ‫وقد ذهب مجاعة إىل أن اخللع فسخ الطالق ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫َ‬
‫يدل على أن للرجل أربع‬ ‫قال ‪ :‬فَِإ ْن طَله َقها فَال َِحتل لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد فلو كان طالقا لكان ذلك ّ‬
‫تطليقات‪.‬‬
‫الل قال ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫اتن مث ّبني أنه ال جيوز أخذ مال على‬ ‫وحنن نرى أنه ال حجة يف هذا ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫َ‬
‫الطالق إال يف احلال اليت ذكران ‪ ،‬وسواء كان ذلك عند الطلقة األوىل أم الثانية أم الثالثة؟‬

‫ص ‪158 :‬‬
‫مث ّبني الطلقة الثالثة بقوله ‪ :‬فَِإ ْن طَله َقها فَال َِحتل لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد اآلية ‪ ،‬وقد استدلوا أيضا مبا روى أبو‬
‫داود «‪ »1‬يف «سننه» عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة اثبت بن قيس ملا اختلعت منه جعل‬
‫الل ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم عدهتا حيضة ‪ ،‬ولو كان طالقا لكانت عدهتا كما قال ّ‬ ‫النيب صلّى ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫ص َن ِأبَنْ ُفس ِه هن ثَالثَةَ قُ ُروء‪.‬‬ ‫َوال ُْمطَلهقا ُ‬
‫ت يَ َرتَبه ْ‬
‫وذهب اجلمهور إىل أ ّن اخللع طالق ‪ ،‬وحجتهم أن اخللع ‪ :‬إما فسخ ‪ ،‬أو طالق ‪ ،‬وقد أبطلوا‬
‫كونه فسخا ‪ ،‬أبنّه لو كان فسخا ملا جاز أبكثر من املهر ‪ ،‬كاإلقالة يف البيع ‪ ،‬مع أنه جيوز‬
‫تعني كونه طالقا ‪ ،‬وقد علمت ما فيه‪.‬‬
‫ابألكثر ‪ ،‬وإذا بطل كونه فسخا ‪ّ ،‬‬
‫واستدلوا أيضا مبا‬
‫الل عليه وسلّم قال له ‪« :‬اقبل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ورد عن ابن عباس يف امرأة اثبت بن قيس أن رسول ّ‬
‫احلديقة ‪ ،‬وطلّقها طلقة واحدة» أخرجه هبذا اللفظ البخاري ‪ ،‬وأبو داود والنسائي «‪.»2‬‬
‫الظن ‪ ،‬أل ّن اخلوف حالة‬
‫ََيافا اخلوف ‪ :‬اإلشفاق مما يكره وقوعه ‪ ،‬وميكن أن يراد منه هنا ‪ّ -‬‬
‫ظن أن سيحصل مكروه ‪ ،‬فيطلق املسبب على السبب‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫نفسية ‪ ،‬وسبب حصوهلا ّ‬
‫تروي عظامي بعد مويت عروقها‬
‫مت فادفين إىل جنب كرمة ّ‬
‫إذا ّ‬
‫مت أال أذوقها‬
‫تدفنين يف الفالة فإنّين أخاف إذا ما ّ‬
‫وال ّ‬
‫قال الرازي «‪ : »3‬فإن قيل ‪ :‬ملن اخلطاب يف قوله ‪َ :‬وال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن َأتْ ُخ ُذوا ‪..‬‬
‫اللِ وإن قلت ‪ :‬لألئمة واحلكام ‪،‬‬ ‫ود ه‬‫فإن كان لألزواج مل يطابقه قوله ‪ :‬فَِإ ْن ِخ ْفتُ ْم أ هَال يُِقيما ُح ُد َ‬
‫فهؤالء ال أيخذون منهن شيئا؟‬
‫قلنا ‪ :‬األمران جائزان ‪ ،‬فيجوز أن يكون أول اآلية خطااب لألزواج ‪ ،‬وآخرها خطااب لألئمة‬
‫واحلكام ‪ ،‬وذلك غري غريب يف «القرآن» وجيوز أن يكون اخلطاب كلّه لألئمة واحلكام ‪ ،‬ألهنّم‬
‫الذين أيمرون ابألخذ واإليتاء عند الرتافع إليهم ‪ ،‬فكأهنّم هم اآلخذون واملؤتون‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن طَله َقها فَال َحتل لَهُ م ْن بَ ْع ُد َح هىت تَ ْنك َح َزْوجاً غَ ْريَهُ فَِإ ْن طَله َقها فَال ُج َ‬
‫ناح‬ ‫قال ّ‬
‫اللِ يُبَ يِّنُها لِ َق ْوٍّم يَ ْعلَ ُمو َن (‪.)230‬‬
‫ود ه‬ ‫اللِ َوتِل َ‬
‫ْك ُح ُد ُ‬ ‫ود ه‬‫اجعا إِ ْن ظَنها أَ ْن يُِقيما ُح ُد َ‬
‫َعلَْي ِهما أَ ْن يَ َرت َ‬
‫يعلمون احلقائق‪ .‬ويعلمون املصاحل املرتتبة على العمل هبا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أيب داود (‪ ، )245 /2‬كتاب الطالق ابب يف اخللع حديث رقم (‪، )2229‬‬
‫والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )491 /3‬كتاب الطالق ابب يف اخللع حديث رقم (‪.)1185‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )481 /6 - 5‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب ما جاء يف اخللع حديث‬
‫رقم (‪.)3463‬‬
‫(‪ ) 3‬يف تفسريه مفاتيح الغيب واملسمى أيضا التفسري الكبري (‪.)99 /6‬‬

‫ص ‪159 :‬‬
‫وقد اختلف يف ذلك النكاح الذي اشرتط حلل املطلقة ثالاث ‪ ،‬فذهب سعيد بن املسيب إىل أنه‬
‫لألول مبجرد العقد على الثاين‪.‬‬
‫العقد ‪ ،‬فتحل املطلقة ثالاث ّ‬
‫وذهب سائر العلماء إىل أن املراد به الوطء ‪ ،‬واحتجوا أبن النكاح قد ورد يف القرآن ابملعنيني ‪،‬‬
‫واحتمل أن يكون املراد هنا العقد أو الوطء ‪ ،‬فجاءت السنة ‪ ،‬وبينت أن املراد به الوطء وذلك‬
‫ما‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رواه ابن جرير «‪ »1‬عن عائشة ‪ ،‬قالت ‪ :‬جاءت امرأة رفاعة القرظي إىل رسول ّ‬
‫فبت طالقي ‪ ،‬فتزوجت عبد الرمحن بن الزبري‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬قالت ‪ :‬كنت عند رفاعة ‪ ،‬فطلقين ‪ّ ،‬‬
‫حىت تذوقي‬
‫‪ ،‬وإن ما معه مثل هدبة الثّوب‪ .‬فقال ‪« :‬لعلّك تريدين أن ترجعي إىل رفاعة؟ ال ‪ّ ،‬‬
‫عسيلته ويذوق عسيلتك» «‪»2‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إن اآلية نفسها فيها داللة على أن املراد به الوطء ‪ ،‬وبيانه أ ّن أاب الفتح عثمان‬
‫فرقت العرب‬
‫بن جين قال ‪ :‬سألت أاب علي الفارسي عن قوهلم ‪ :‬نكح املرأة ‪ ،‬فقال ‪ّ :‬‬
‫ابالستعمال ‪ ،‬فإذا قالوا ‪:‬‬
‫نكح فالن فالنة‪ .‬أرادوا أنّه عقد عليها ‪ ،‬وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته ‪ ،‬أرادوا به اجملامعة‪.‬‬
‫الل ‪َ :‬ح هىت تَنْكِ َح َزْوجاً غَ ْريَهُ فاملراد منه اجملامعة‪.‬‬
‫وهنا قد قال ّ‬
‫يتزوج املبتوتة بقصد أن حيلها للزوج األول ‪،‬‬‫وقد اختلف النّاس يف نكاح احمللّل ‪ ،‬وهو الذي ّ‬
‫حتل‬
‫فذهب مالك ‪ ،‬وأمحد ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وأهل الظاهر ‪ ،‬وغريهم ‪ :‬إىل أ ّن ذلك النكاح ابطل ‪ ،‬ال ّ‬
‫حتل حىت ينكحها الثاين نكاح رغبة يقصد به ما يقصد من كل نكاح من‬
‫لألول وال للثاين ‪ ،‬وال ّ‬
‫به ّ‬
‫الدوام والبقاء ‪ ،‬ودليلهم ما‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬أال أخربكم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنه أن رسول ّ‬
‫روي عن عقبة بن عامر رضي ّ‬
‫ابلتّيس املستعار؟»‪.‬‬
‫الل احمللّل واحمللّل له» «‪.»3‬‬
‫الل قال ‪« :‬هو احمللّل ‪ ،‬لعن ّ‬
‫قالوا ‪ :‬بلى اي رسول ّ‬
‫قال الرتمذي «‪ : »4‬والعمل على ذلك عند أهل العلم ‪ ،‬منهم ‪ :‬عمر ‪ ،‬وابنه ‪ ،‬وعثمان رضي‬
‫الل عنهم ‪ ،‬وهو قول الفقهاء من التابعني‪.‬‬
‫ّ‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عنهما قال ‪ :‬سئل رسول ّ‬‫وروى أبو إسحاق اجلوزجاين عن ابن عباس رضي ّ‬
‫وجل‬
‫عز ّ‬ ‫الل ّ‬
‫عليه وسلّم عن احمللّل ‪ ،‬فقال ‪« :‬ال ‪ :‬إال نكاح رغبة ‪ ،‬ال دلسة وال استهزاء بكتاب ّ‬
‫مث تذوق العسيلة»‪.‬‬
‫الل عنه ‪ :‬ال أوتى مبحلّل وال‬
‫وروى ابن املنذر وابن أيب شيبة عن عمر رضي ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه اجلامع ألحكام القرآن ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)291 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )222 /6‬كتاب الطالق ‪ - 35 ،‬ابب إذا طلقها‬
‫ثالاث حديث رقم (‪ )5317‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 16 ، )1055 /2‬كتاب النكاح ‪- 17 ،‬‬
‫ابب ال حتل املطلقة حديث رقم (‪.)1433 /111‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )623 /1‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب احمللل حديث رقم (‪.)1936‬‬
‫(‪ )4‬اجلامع الصحيح كتاب النكاح ابب ما جاء يف احمللل حديث رقم (‪.)1120‬‬

‫ص ‪160 :‬‬
‫عمن طلّق‬
‫مبحلّل له إال رمجتهما ‪ ،‬فسئل ابنه عن ذلك قال ‪ :‬كالَها زان ‪ ،‬وسئل ابن عباس ّ‬
‫الل فأندمه ‪ ،‬وأطاع الشيطان فلم جيعل له خمرجا ‪،‬‬
‫امرأته ثالاث مث ندم ‪ ،‬فقال ‪ :‬هو رجل عصى ّ‬
‫الل َيدعه‪.‬‬
‫فقيل له ‪ :‬فكيف ترى يف رجل حيلّها له؟ فقال ‪ :‬من َيادع ّ‬
‫هذا ويف التحليل مفاسد كثرية عقد ابن القيم يف «إعالم املوقعني» «‪ »1‬فصوال يف بياهنا‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫وقد طعن قوم يف الشريعة اإلسالمية ألهنّا أجازته ‪ ،‬وقد علمت ما قاله النيب صلّى ّ‬
‫فيه ‪ ،‬وعلمت رأي الصحابة والتابعني فيه‪ .‬فالصواب أال ينسب إليها حلّه‪.‬‬
‫وف َوال‬‫وف أَو س ِرحوه هن ِمبَعر ٍّ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬وإِذا طَله ْقتُم النِّساء فَب لَغْن أَجلَه هن فَأَم ِس ُك ِ ٍّ‬
‫وه هن مبَ ْع ُر ْ َ ّ ُ ُ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قال ّ‬
‫اللِ ُه ُزواً َواذْ ُك ُروا‬ ‫هخ ُذوا ِ‬
‫آايت ه‬ ‫َ َ َ‬ ‫ضراراً لِتَ ْعتَ ُدوا َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬
‫ك فَ َق ْد ظَلَم نَ ْفسهُ وال تَت ِ‬ ‫متُْ ِس ُك ُ‬
‫وه هن ِ‬
‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬‫ْمةِ يَعِظُ ُك ْم بِهِ َواته ُقوا ه‬ ‫اللِ َعلَْي ُكم وما أَنْ َز َل َعلَْي ُكم ِمن الْكِ ِ ِ‬ ‫ت ه‬ ‫نِ ْع َم َ‬
‫اللَ‬ ‫تاب َوا ْحلك َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ٍّ ِ‬
‫يم (‪ ) 231‬األجل يطلق على املدة كلها ‪ ،‬وعلى آخرها ‪ ،‬يقال لعمر اإلنسان أجل‬ ‫بِ ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫أجلهن ‪ -‬هنا ‪ -‬شارفن‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،‬وللموت الذي ينتهي به أجل‪ .‬واملراد هنا ‪ :‬آخر عدهتن ‪ ،‬ومعىن بلغن‬
‫يتجوز يف البلوغ‪ .‬فيقال ‪ :‬بلغ البلد إذا شارفه وداانه ‪ ،‬وإمنا محلناه على اجملاز ‪،‬‬ ‫منتهاها ‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫وف وهي إذا انقضت عدهتا فال‬ ‫الل قال ‪ :‬وإِذا طَله ْقتُم النِّساء فَب لَغْن أَجلَه هن فَأَم ِس ُكوه هن ِمبَعر ٍّ‬ ‫ألن ّ‬
‫ُ ُْ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سبيل له عليها‪.‬‬
‫وف ‪ :‬إما أن يراجعها من غري طلب ضرر ابملراجعة ‪ ،‬وإما‬ ‫وف أَو س ِرحوه هن ِمبَعر ٍّ‬
‫فَأَم ِس ُك ِ ٍّ‬
‫وه هن مبَْع ُر ْ َ ّ ُ ُ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫لتظلموهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ضراراً لِتَ ْعتَ ُدوا‬ ‫حىت تنقضي عدهتا من غري إضرار هبا َوال متُْ ِس ُك ُ‬
‫وه هن ِ‬ ‫أن يرتكها ّ‬
‫عن السدي قال ‪ :‬نزلت يف رجل من األنصار يدعى اثبت بن يسار طلّق امرأته ‪ ،‬حىت إذا‬
‫انقضت عدهتا إال يومني أو ثالثة راجعها ‪ ،‬مث طلقها ‪ ،‬ففعل هبا ذلك حىت مضت هلا تسعة أشهر‬
‫ك «‪»2‬‬‫ضراراً لِتَ ْعتَ ُدوا َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬ ‫الل تعاىل ذكره ‪َ :‬وال متُْ ِس ُك ُ‬
‫وه هن ِ‬ ‫مضارة يضارها ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫‪ّ :‬‬
‫الل‪.‬‬
‫سهُ إذ عرضها لعذاب ّ‬ ‫أي إمساك املرأة ضرارا فَ َق ْد ظَلَ َم نَ ْف َ‬
‫اللِ ُه ُزواً أي جدوا يف األخذ هبا ‪ ،‬والعمل مبا فيها ‪ ،‬وإن مل تفعلوا فقد‬ ‫هخ ُذوا ِ‬
‫آايت ه‬ ‫وال تَت ِ‬
‫َ‬
‫اختذمتوها هزوا ‪ ،‬ويقال ملن مل جيد يف األمر ‪ :‬إمنا أنت هازل‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وقال احلسن ‪ :‬كان الناس على عهد رسول ّ‬
‫‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من طلّق العبا أو‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ما صنعت؟ فيقول ‪ :‬إمنا كنت ال عبا ‪ ،‬قال رسول ّ‬
‫أعتق‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬إعالم املوقعني عن رب العاملني ‪ ،‬لإلمام ابن القيم اجلوزية (‪.)209( )208( )185 /3‬‬
‫(‪ ) 2‬رواه ابن جرير وابن املنذر ‪ ،‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)285 /1‬‬
‫[‪].....‬‬

‫ص ‪161 :‬‬
‫اللِ ُه ُزواً‪.‬‬ ‫العبا فقد جاز عليه» «‪ »1‬قال احلسن ‪ :‬وفيه نزلت وال تَت ِ‬
‫هخ ُذوا ِ‬
‫آايت ه‬ ‫َ‬
‫الل عليه وسلّم أنّه قال ‪« :‬مل يقول أحدكم المرأته ‪:‬‬ ‫وروى أبو موسى األشعري عن النيب صلّى ّ‬
‫قد طلّقتك ‪ ،‬قد راجعتك ‪ ،‬ليس هذا بطالق املسلمني ‪ ،‬طلّقوا املرأة قبل ع ّدهتا»‪.‬‬
‫ْمةِ يَعِظُ ُك ْم بِهِ‪.‬‬ ‫اللِ َعلَْي ُكم وما أَنْ َز َل َعلَْي ُكم ِمن الْكِ ِ ِ‬ ‫ت ه‬ ‫َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫تاب َوا ْحلك َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬
‫تاب القرآن‬ ‫اللِ َعلَْي ُك ْم ابإلسالم وسائر نعمه ‪ ،‬واذكروا ما أنزل عليكم من الْكِ ِ‬ ‫ت ه‬ ‫َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫الل عليه وسلّم ‪:‬‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫ْمةِ السنن اليت علمكموها رسول ّ‬ ‫ِ‬
‫وو ا ْحلك َ‬
‫يَعظُ ُك ْم َ‬
‫ِ‬
‫ٍّ ِ‬ ‫يَعِظُ ُك ْم بِهِ أي مبا أنزل عليكم َواته ُقوا ه‬
‫يم فيعلم ما‬ ‫اللَ بِ ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫اللَ أي خافوه َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬
‫علمتم من تع ّدي حدوده ‪ ،‬وتضييع أوامره ‪ ،‬فيجازيكم على ما عملتم‪.‬‬
‫واج ُه هن إِذا تَرا َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ْوا‬ ‫وه هن أَ ْن يَنْك ْح َن أَ ْز َ‬ ‫ضلُ ُ‬ ‫َجلَ ُه هن فَال تَ ْع ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِذا طَله ْقتُ ُم النّساءَ فَبَ لَغْ َن أ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ظ بِهِ َم ْن كا َن ِمنْ ُك ْم يُ ْؤِم ُن ِاب هللِ َوالْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر ذلِ ُك ْم أَ ْزكى لَ ُك ْم َوأَط َْه ُر‬‫ك يُوعَ ُ‬ ‫وف ذلِ َ‬‫ب ي نَ هم ِابلْمعر ِ‬
‫َْ ُ ْ َ ْ ُ‬
‫وه هن العضل ‪ :‬احلبس والتضييق ‪ ،‬ومنه عضلت‬ ‫ضلُ ُ‬ ‫اللُ يَ ْعلَ ُم َوأَنْ تُ ْم ال تَ ْعلَ ُمو َن (‪ )232‬فَال تَ ْع ُ‬ ‫َو ه‬
‫الدجاجة إذا نشب بيضها فلم َيرج ‪ ،‬ومنه قول عمر ‪ :‬وقد أعضل يف أهل العراق ‪ ،‬ال يرضون‬
‫عن وال وال يرضى عنهم وال ‪ ،‬يعين بذلك ‪ ،‬محلوين على أمر ضيّق شديد‪ .‬قال أوس «‪: »2‬‬
‫وىل ويرضيك مقبال‬
‫يذمك إن ّ‬
‫وليس أخوك الدائم العهد ابلّذي ّ‬
‫ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا وصاحبك األدىن إذا األمر أعضال‬
‫وبلوغ األجل هنا على احلقيقة ‪ ،‬قال الشافعي ‪ :‬دل سياق الكالمني على افرتاق البلوغني‪.‬‬
‫وهذه اآلية هنت أولياء املرأة على أن يعضلوها‪ .‬أي مينعوها ح ّق الزواج إذا خطبها الكف ء ‪،‬‬
‫وتراضت املرأة واخلاطب به‪.‬‬
‫نزلت يف معقل بن يسار‪ .‬روى ابن جرير «‪ »3‬عن احلسن ‪ ،‬عن معقل بن يسار أن أخته طلّقها‬
‫الل تعاىل ذكره ‪َ :‬وإِذا طَله ْقتُ ُم النِّساءَ فَبَ لَغْ َن‬
‫زوجها ‪ ،‬مث أراد أن يراجعها ‪ ،‬فمنعها معقل ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫واج ُه هن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وه هن أَ ْن يَنْك ْح َن أَ ْز َ‬
‫ضلُ ُ‬
‫َجلَ ُه هن فَال تَ ْع ُ‬
‫أَ‬
‫ويف هذه اآلية داللة على صحة قول من قال ‪ :‬ال نكاح إال بويل ‪ ،‬ألنه لو كان‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬قال السيوطي ‪ :‬رواه الطرباين ‪ ،‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)286 /1‬‬
‫(‪ )2‬أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح شاعر متيم يف اجلاهلية ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي‬
‫(‪.)31 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 37 ، )162 /6‬ابب من قال ‪ :‬ال نكاح إال بويل حديث‬
‫رقم (‪ )5130‬ويف تفسري ابن جرير الطربي ‪ ،‬جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)297 /2‬‬

‫ص ‪162 :‬‬
‫للمرأة أن تتزوج دون رضى وليها ‪ ،‬ومل يكن للويل شأن ملا كان معىن لنهي األولياء عن أن يعضلوا‬
‫النساء‪.‬‬
‫ك‬‫كان مقتضى الظاهر أن يقال ‪( :‬ذلكم يوعظ به) ‪ ،‬ألنه َياطب اجلماعة ‪ ،‬وإمنا قال ‪ :‬ذلِ َ‬
‫ظ بِهِ لكثرة جري ذلك على ألسن العرب يف منطقها وكالمها ‪ ،‬حىت صارت الكاف مبنزلة‬ ‫وع ُ‬
‫يُ َ‬
‫حرف من حروف الكلمة‪ .‬أي ما ذكرته من هني األولياء عن عضل النساء عظة مين ملن كان‬
‫ابلل واليوم اآلخر ذلِ ُك ْم أَ ْزكى لَ ُك ْم َوأَط َْه ُر من أدانس اآلاثم‪ .‬وقيل ‪ :‬أَ ْزكى لَ ُك ْم َوأَط َْه ُر ‪:‬‬ ‫يؤمن ّ‬
‫اللُ يَ ْعلَ ُم ما يف ذلك من الزكاة والطّهر َوأَنْ تُ ْم ال تَ ْعلَ ُمو َن‪.‬‬ ‫أفضل وأطيب ‪َ ،‬و ه‬
‫اد أَ ْن يُتِ هم ال هر َ‬
‫ضاعةَ َو َعلَى‬ ‫ني لِ َم ْن أَر َ‬ ‫َني ِ‬
‫كاملَ ْ ِ‬ ‫الد ُه هن َح ْول ْ ِ‬ ‫ت ير ِ‬
‫ض ْع َن أ َْو َ‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬والْوالدا ُ ُ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫َدها َوال‬ ‫ضا هر والِ َدةٌ بِول ِ‬
‫س إِهال ُو ْس َعها ال تُ َ‬ ‫وف ال تُ َكله ُ‬‫ُود لَهُ ِر ْزقُه هن وكِسو ُهتُ هن ِابلْمعر ِ‬‫الْمول ِ‬
‫َ‬ ‫ف نَ ْف ٌ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َْ‬
‫صاال عَن تَر ٍّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِمثْ ُل ذلِ َ‬ ‫َدهِ وعَلَى الْوا ِر ِ‬
‫ِ‬
‫شاو ٍّر فَال ُج َ‬
‫ناح‬ ‫اض م ْن ُهما َوتَ ُ‬ ‫ك فَِإ ْن أَرادا ف ً ْ‬ ‫َم ْولُو ٌد لَهُ بَِول َ‬
‫ضعوا أَوالدَ ُكم فَال جناح َعلَي ُكم إِذا سلهمتُم ما آتَي تُم ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬
‫وف َواته ُقوا‬ ‫ْ ْ َ ُْ‬ ‫ُ َ ْ ْ َ ْ ْ‬ ‫َعلَْي ِهما َوإِ ْن أ ََر ْد ُْمت أَ ْن تَ ْس َ ْرت ُ ْ ْ‬
‫الل ِمبا تَ ْعملُو َن ب ِ‬
‫وبني أن به الفراق ‪ ،‬وملا‬ ‫الل الطالق ‪ّ ،‬‬ ‫صريٌ (‪ )233‬ملا ذكر ّ‬ ‫َ َ‬ ‫اللَ َوا ْعلَ ُموا أَ هن هَ‬
‫ه‬
‫ضع ‪ ،‬ورمبا ضاعوا بني كراهة األزواج وعنت املطلقات ‪،‬‬ ‫كانت املطلّقات قد يكون هلن أوالد ر ّ‬
‫يرضعنهن حولني كاملني ملن أراد أن يتم‬
‫ّ‬ ‫فجعلهن‬
‫ّ‬ ‫الل لألوالد فأوصى هبم الوالدات ‪،‬‬
‫احتاط ّ‬
‫ونفقتهن م ّدة الرضاع ابملعروف ال يكلف اآلابء إال‬
‫ّ‬ ‫الرضاعة ‪ ،‬وجعل على اآلابء كسوة الوالدات‬
‫تضار الوالدة الوالد بسبب ولدها ‪ ،‬وهو أن تعنته به ‪ ،‬وتطلب منه ما ليس‬
‫وسعهم ‪ ،‬وهنى أن ّ‬
‫الصيب ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫من النفقة والكسوة ‪ ،‬وأن تشغل قلبه ابلتفريط يف شأن الولد ‪ ،‬وأن تقول بعد ما ألفها‬
‫اطلب له ظئرا «‪ ، »1‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫يضار الوالد الوالدة بسبب ولده ‪ ،‬وذلك أن مينعها شيئا مما وجب عليه من رزقها‬
‫وهنى أيضا أن ّ‬
‫وكسوهتا ‪ ،‬وأن أيخذه منها ‪ ،‬وهي تريد إرضاعه ‪ ،‬وأن يكرهها على اإلرضاع‪.‬‬
‫واح تاط ‪ ،‬فجعل أقرابء الصيب يقومون مقام الوالد عند فقد الوالد يف العناية بشأن الصيب‪.‬‬
‫مث ّبني أ ّن الوالدين إن أرادا فطام الصيب قبل العامني عن تراض منهما وتشاور فال جناح عليهما ‪،‬‬
‫بعد أن يكون ذلك نظرا ملصلحة الصيب‪ .‬مث أجاز أن يسرتضعوا أوالدهم املرضعات ‪ ،‬وملا كانت‬
‫الل ‪،‬‬
‫ضع حالة يكثر فيها النزاع والشقاق ‪ ،‬أمر بتقوى ّ‬
‫حالة الفراق مع وجود األوالد الر ّ‬
‫الل بصري مبا يعملون ‪ ،‬فيجازيهم عليهم‪.‬‬
‫وأعلمهم أ ّن ّ‬
‫للصيب ‪ ،‬ألنه عاجز عن حتصيل النفع لنفسه ‪ ،‬ودفع الضرر عنها‪ .‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫الل‬
‫وهذا كله نظر من ّ‬
‫الل ورمحته ‪ ،‬وقد اخرتان أن تكون الوالدات مرادا هبن‬
‫من متام لطف ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬العاطفة على غري ولدها أو املرضعة غري ولدها ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪/4‬‬
‫‪.)514‬‬

‫ص ‪163 :‬‬
‫الل قال ‪ :‬و َعلَى الْمول ِ‬
‫ُود لَهُ ِر ْزقُ ُه هن ولو كانت الزوجية ابقية لوجب على الزوج‬ ‫املطلقات ‪ ،‬ألن ّ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ذلك ابلزوجية ال ابلرضاع ‪ ،‬وأيضا فهذه اآلية ذكرت عقب آايت الطالق ‪ ،‬فهي من تتمتها‪.‬‬
‫وذكر بعضهم أن املراد ابلوالدات كل والدة مطلّقة أو زوجة ‪ ،‬وقد تعلّق بعموم اللفظ ‪ ،‬وذهب‬
‫كن مطلقات لكان‬
‫كسوهتن ‪ ،‬ولو ّ‬
‫ّ‬ ‫رزقهن و‬
‫ّ‬ ‫هلن‬
‫هبن الزوجات ‪ ،‬ألنّه جعل ّ‬
‫الواحدي إىل أن املراد ّ‬
‫ّ‬
‫هلن أجرة‪.‬‬
‫الد ُه هن أذلك ح ّق هلا أم ح ّق عليها؟‬ ‫ت ير ِ‬
‫ض ْع َن أ َْو َ‬ ‫ِ‬
‫واختلف العلماء يف قوله ‪َ :‬والْوالدا ُ ُ ْ‬
‫واآلية حمتملة‪.‬‬
‫وذهب مالك إىل أنه ح ّق عليها إذا كانت زوجة أو إذا مل يقبل الصيب ثدي غريها ‪ ،‬أو إذا عدم‬
‫كل‬
‫فكأهنن فهموا من الوالدات ّ‬
‫ّ‬ ‫األب ‪ ،‬واستثنوا من ذلك الشريفة ‪ ،‬فلم جيعلوه حقا عليها ‪،‬‬
‫والدة زوجة أو غريها ‪ ،‬وجعلوه حقا عليها ‪ ،‬واستثنوا من ذلك الشريفة ابلعرف‪.‬‬
‫وذهب كثري إىل أن ذلك مندوب ‪ ،‬إال عند الضرورة ‪ ،‬إال أن يقبل غريها ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل يف‬
‫آية أخرى ‪ :‬وإِ ْن تَعاسرُْمت فَس ُرت ِ‬
‫ض ُع لَهُ أُ ْخرى [الطالق ‪ ]6 :‬وإمنا ندب ذلك ‪ ،‬ألن لنب األم‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫أصلح للطفل ‪ ،‬وشفقة األم عليه أكثر‪.‬‬
‫الل‬
‫واحلول ‪ :‬من حال الشيء حيول ‪ :‬إذا انقلب ‪ ،‬فاحلول من الوقت األول إىل الثاين ‪ ،‬وإ ّمنا قال ّ‬
‫يتوهم أنّه أراد حوال وبعض الثاين ‪ ،‬فقد يقولون يومني ‪ ،‬وهم يريدون ذلك‬‫ني لئال ّ‬ ‫َني ِ‬
‫كاملَ ْ ِ‬ ‫‪َ :‬ح ْول ْ ِ‬
‫توسعا واملقصود من حتديد م ّدة الرضاع حبولني كاملني ليس وجوب ذلك ‪ ،‬ألنه قال ‪ :‬فَِإ ْن أَرادا‬ ‫ّ‬
‫ناح َعلَْي ِهما وإ ّمنا املقصود بيان املدة اليت يرجعان إليها عند‬ ‫صاال َعن تَر ٍّ ِ‬ ‫ِ‬
‫شاو ٍّر فَال ُج َ‬
‫اض م ْن ُهما َوتَ ُ‬ ‫ف ً ْ‬
‫االختالف‪.‬‬
‫الشافعي وأمحد من ذلك أن م ّدة الرضاع اليت حي ّرم الرضاع فيها هي حوالن‪ .‬فالرضاع‬
‫ّ‬ ‫وقد أخذ‬
‫حيرم‪.‬‬
‫ما مل يقع فيهما ال ّ‬
‫وذهب أبو حنيفة «‪ »1‬إىل أن مدة الرضاع ثالثون شهرا ‪ ،‬وقال زفر ‪ :‬ثالث سنني ‪ ،‬وذهب‬
‫املالكية إىل أن ذلك كله حت ّكم ‪ ،‬وأن الصحيح أن ما قرب من زمن الفطام عرفا حلق به ‪ ،‬وما بعد‬
‫عنه خرج عنه ‪ ،‬من غري تقدير‪ .‬فلم يعتربوا هم وال احلنفية أ ّن اآلية جاءت لتحديد مدة الرضاع‬
‫احملرم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َعلَى ال َْم ْولُود لَهُ ِر ْزقُ ُه هن َوك ْس َو ُهتُ هن ِابل َْم ْع ُروف أي على قدر حال األب من ّ‬
‫السعة والضيق ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)243 /2 - 1‬‬

‫ص ‪164 :‬‬
‫كما قال تعاىل ‪ :‬لِيُ نْ ِف ْق ذُو َس َعةٍّ ِم ْن َس َعتِهِ َوَم ْن قُ ِد َر عَلَيْهِ ِر ْزقُهُ فَلْيُ نْ ِف ْق ِممها آاتهُ ه‬
‫اللُ [الطالق ‪]7 :‬‬
‫الل أوجب نفقة املطلّقة على الوالد يف زمن‬
‫وأخذ من ذلك وجوب نفقة الولد على الوالد ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫الرضاع ألجل الولد ‪ ،‬وإمنا وجبت لضعف الولد واحتياجه ‪ ،‬والوالد أقرب الناس إليه‪.‬‬
‫َدهِ حيتمل أن يكون كال الفعلني مبنيا للفاعل ‪ ،‬ومبنيا‬ ‫َدها وال مولُو ٌد لَهُ بِول ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ال تُ َ ِ‬
‫ضا هر وال َدةٌ بَِول َ َ ْ‬
‫ك املراد ابلوارث وارث األب ‪،‬‬ ‫ث ِمثْ ُل ذلِ َ‬
‫للمفعول ‪ ،‬واملعىن قريب بعضه من بعض وعَلَى الْوا ِر ِ‬
‫َ‬
‫وعليه مثل ذلك من رزقهن وكسوهتن وترك الضرار ‪ ،‬ويف ذلك دليل على أ ّن أقارب الصيب جتب‬
‫عليهم نفقته عند عدم الوالد ‪ ،‬وهو أصل يف وجوب نفقة األقارب بعضهم على بعض ‪ ،‬وهو‬
‫مذهب أيب حنيفة‪.‬‬
‫والشافعي ‪ ،‬فرياين أ ّن نفقة الولد على أبيه ‪ ،‬فإن مات ‪ ،‬ففي مال الصيب إن كان له‬
‫ّ‬ ‫أما مالك‬
‫مال ‪ ،‬وإال فعلى األم ‪ ،‬وليسا يوجبان نفقة إال على الوالدين ‪ ،‬واآلية ترد عليهما‪ .‬إال أن حيمل‬
‫ك على ترك اإلضرار فقط ‪ ،‬أو يريدان من الوارث الولد نفسه ‪ ،‬وقد ذهب‬ ‫ث ِمثْ ُل ذلِ َ‬
‫و َعلَى الْوا ِر ِ‬
‫َ‬
‫صاال َعن تَر ٍّ ِ‬‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ِهما‪.‬‬
‫شاو ٍّر فَال ُج َ‬
‫اض م ْن ُهما َوتَ ُ‬ ‫املفسرين فَِإ ْن أَرادا ف ً ْ‬
‫إىل ذلك بعض ّ‬
‫الفصل ‪ :‬الفطام ‪ ،‬ومسي بذلك ألن الولد ينفصل عن االغتذاء بلنب أمه إىل غريه من األقوات‪.‬‬
‫الصيب قبل احلولني إن اتفقا على ذلك ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الل أن يفطم‬
‫التّشاور ‪ :‬استجماع الرأي ‪ ،‬وقد أجاز ّ‬
‫وشاورا أهل املعرفة فيه ‪ ،‬ومل يكن يف ذلك ضرر ابلصيب وإِ ْن أَر ْد ُْمت أَ ْن تَس َرت ِ‬
‫ضعُوا أ َْوالدَ ُك ْم فَال‬ ‫ْْ‬ ‫َ َ‬
‫جناح َعلَي ُكم إِذا سلهمتُم ما آتَي تُم ِابلْمعر ِ‬
‫وف‪.‬‬ ‫ْ ْ َ ُْ‬ ‫ُ َ ْ ْ َ ْ ْ‬
‫الصيب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصيب واسرتضعتها‬
‫ّ‬ ‫اسرتضع ‪ :‬قال الزخمشري ‪ :‬فعل ‪ ،‬من أرضع‪ .‬يقال أرضعت املرأة‬
‫فتعديه إىل مفعولني كما تقول ‪ :‬أجنح احلاجة‪ .‬واستنجحه احلاجة‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أن تسرتضعوا املراضع أوالدكم ‪ ،‬حذف أحد املفعولني ‪ ،‬لالستغناء عنه ‪:‬‬
‫كما نقول ‪ :‬استنجحت احلاجة ‪ ،‬وال تذكر من استنجحته ‪ ،‬وكذلك حكم كل مفعولني مل يكن‬
‫الل أن يسرتضع اآلابء املراضع أوالدهم‪.‬‬
‫أحدَها عبارة عن األول‪ .‬وقد أجاز ّ‬
‫وهذا عند أيب حنيفة خلوف الضيعة على الولد عند األم ‪ ،‬والتقصري أو اإلضرار ابلوالد يف‬
‫للصيب ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اشتغال األم عن حقه بولدها ‪ ،‬أو اإلضرار ابلولد يف الغيل وحنوه‪ .‬فإن اختلفوا ‪ -‬نظر‬
‫فإن أوجب أن يسرتضع له اسرتضع‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬إِذا سلهمتُم ما آتَي تُم ِابلْمعر ِ‬
‫وف أي ما أردمت إيتاءه ‪ ،‬وليس هذا شرطا جلواز االسرتضاع ‪،‬‬ ‫ْ ْ َُْ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫وإمنا هو ندب إىل األوىل ‪ ،‬لتكون املرضع طيبة النفس راضية ‪ ،‬فيعود ذلك على الصيب ابلنفع‪.‬‬
‫وبقوله ‪ِ :‬ابلْمعر ِ‬
‫وف متعلق بسلمتم ‪ :‬أمروا أبن يكونوا عند‬ ‫َُْ‬

‫ص ‪165 :‬‬
‫تفريطهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تسليم األجرة مستبشري الوجوه ‪ ،‬انطقني ابلقول اجلميل ‪ ،‬حىت يؤمن‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍّر َوعَ ْشراً فَِإذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال ا ّلل تعاىل ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن منْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يََرتَبه ْ‬
‫اللُ ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِريٌ (‪)234‬‬ ‫وف َو ه‬ ‫ب لَغْن أَجلَه هن فَال جناح َعلَي ُكم فِيما فَعلْن ِيف أَنْ ُف ِس ِه هن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ْ ْ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ِ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن وترك اخلرب عنهم إىل اخلرب عن أزواجهم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫ذكر َوالهذ َ‬
‫ص َن وقد اختلف يف توجيه ذلك ‪ ،‬فذهب ابن جرير «‪ »1‬إىل أن ذلك جائز ‪ ،‬ألنه مل يقصد‬ ‫يَ َرتَبه ْ‬
‫اخلرب عنهم ‪ ،‬وإمنا يقصد اخلرب عن الواجب على املعت ّدات ‪ ،‬فصرف اخلرب عن الذين ابتدأ‬
‫بذكرهم إىل أزواجهن كقول الشاعر ‪:‬‬
‫زاين أن يتن ّدما‬
‫الريح ميلة على ابن أيب ّ‬
‫لعلّي إن مالت يب ّ‬
‫فقال ‪ :‬لعلي ‪ ،‬مث صرف اخلرب عن نفسه إىل ابن أيب زاين فقال ‪ :‬أن يتندما‪.‬‬
‫وقال الزخمشري ‪ :‬إنه حذف املضاف ‪ ،‬واألصل ‪ :‬وزوجات الذين يتوفون منكم يرتبصن ‪ ،‬أو أراد‬
‫يرتبصن بعدهم ‪ ،‬كقوهلم ‪ :‬السمن منوان بدرهم‪ .‬أي منه ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫َو َع ْشراً واملراد ‪ :‬األايم ‪ ،‬ذهااب إىل الليايل ‪ ،‬واألايم داخلة ‪ ،‬قال الزخمشري ‪ :‬وال تراهم قط‬
‫يستعملون التذكري فيه ذاهبني إىل األايم‪ .‬تقول ‪ :‬صمت عشرا‪ .‬ولو ذكرت خرجت من كالمهم ‪:‬‬
‫ومن البني فيه قوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن لَبِثْ تُ ْم إِهال عَ ْشراً [طه ‪ ]103 :‬مث إِ ْن لَبِثْ تُ ْم إِهال يَ ْوماً [طه ‪]104 :‬‬
‫الل هنا ع ّدة املتوىف عنها زوجها ‪ ،‬وهي تربّص أربعة أشهر وعشر ‪ ،‬إال أن تكون حامال ‪،‬‬
‫ّبني ّ‬
‫فعدهتا وضع محلها ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪:‬‬
‫خمصصة هلذه اآلية‪.‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن [الطالق ‪ ]4 :‬فآية احلمل ّ‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬ ‫َمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫َوأُوال ُ‬
‫وقد اختلف العلماء يف الذي يرتبّص عنه هذه املدة ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬يرتبصن عن النكاح ‪،‬‬
‫والطيب والزينة والنقلة من املسكن الذي كن يسكنّه مع أزواجهن‪.‬‬
‫النيب‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »2‬عن أم سلمة أ ّن امرأة تويف عنها زوجها ‪ ،‬واشتكت عينها ‪ ،‬فأتت ّ‬
‫شر‬
‫إحداكن تكون يف اجلاهلية يف ّ‬
‫ّ‬ ‫الل عليه وسلّم تستفتيه يف الكحل ‪ ،‬فقال ‪« :‬لقد كانت‬
‫صلّى ّ‬
‫فيمر عليها الكلب فرتميه ابلبعرة ‪ ،‬أفال‬
‫تويف عنها زوجها ‪ّ ،‬‬
‫أحالسها فتمكث يف بيتها حوال إذا ّ‬
‫أربعة أشهر وعشرا»‪.‬‬
‫حيل‬
‫الل عليه وسلّم حت ّدث عن النيب قال ‪« :‬ال ّ‬ ‫وروي عن حفصة بنت عمر زوج النيب صلّى ّ‬
‫ابلل واليوم اآلخر أن حت ّد فوق ثالث إال على زوج ‪ ،‬فإهنّا حت ّد عليه أربعة أشهر‬
‫المرأة تؤمن ّ‬
‫وعشرا» «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)316 /2‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)317 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح كتاب الطالق حديث رقم (‪.)1490‬‬

‫ص ‪166 :‬‬
‫قال حيىي ‪ :‬واإلحداد عندان أال تتطيب ‪ ،‬وال تلبس ثواب مصبوغا بورس وال زعفران ‪ ،‬وال تكتحل‬
‫وال تتزيّن‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »1‬عن الفريعة بنت مالك أخت أيب سعيد اخلدري قالت ‪ ،‬قتل زوجي وأان يف‬
‫الل يف النّقلة فأذن يل ‪ ،‬مث انداين بعد أن توليت ‪ ،‬فرجعت إليه فقال ‪:‬‬
‫داره ‪ ،‬فاستأذنت رسول ّ‬
‫حىت يبلغ الكتاب أجله»‪.‬‬
‫«اي فريعة ّ‬
‫الل ذكر الرتبص ‪ ،‬والرسول ّبني ما يرتبّص عنه‪.‬‬
‫فحجتهم أن ّ‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إمنا ع ّدة املتوىف عنها زوجها أن ترتبص بنفسها عن األزواج خاصة ‪ ،‬فأما عن‬
‫الطيب والزينة والنقلة من املنزل ‪ ،‬فلم تنه عن ذلك‪ .‬واحتجوا مبا‬
‫الل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روي عن أمساء بنت عميس قالت ‪ :‬ملّا أصيب جعفر قال يل رسول ّ‬
‫«تسلّيب ثالاث‪ .‬مث اصنعي ما شئت» «‪»2‬‬
‫وليس يف هذا احلديث حجة هلم ‪ ،‬إذ حيتمل أن يكون أمرها ابلتسلّب ثالاث ‪ ،‬مث لبس ما شاءت‬
‫من الثياب اليت جيوز للمعت ّدة لبسها ‪ ،‬مما مل يكن زينة وال تطيبا ‪ ،‬ألنه قد يكون من الثياب ما‬
‫ليس بزينة وال ثياب تسلب‪.‬‬
‫املتوىف ‪ ،‬فمنع نكاح املعت ّدة حىت متضي مدة‬
‫الرحم من ماء الزوج ّ‬
‫واحلكمة يف هذه العدة استرباء ّ‬
‫تزوجت وولدت ‪ ،‬أحلق‬
‫ابلزوج املتوىف؟ أو حائل ‪ ،‬فإذا ّ‬
‫تتبني فيها ‪ :‬أحامل هي ‪ ،‬فيلحق ولدها ّ‬
‫ّ‬
‫ابلزوج الثاين؟‬
‫الولد ّ‬
‫ومنعت الطّيب والزينة ألهنّا من دواعيه والذرائع إليه ومنعت اخلروج من البيت الذي كانت‬
‫تسكنه ‪ ،‬ألن هذه الرقابة أدعى إىل الصيانة ‪ ،‬ومنع العقد عليها ‪ ،‬واخلطبة يف العدة ‪ ،‬أل ّن ذلك‬
‫ْن ِيف أَنْ ُف ِس ِه هن‬ ‫ِ‬
‫ناح عَلَيْ ُك ْم فيما فَ َعل َ‬ ‫َجلَ ُه هن فَال ُج َ‬ ‫ذريعة ‪ ،‬ور ّخص يف التعريض فَِإذا بَلَغْ َن أ َ‬
‫ْن ِيف أَنْ ُف ِس ِه هن من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ُك ْم أيها األولياء فيما فَ َعل َ‬ ‫هتن فَال ُج َ‬ ‫ِابل َْم ْع ُروف أي ‪ :‬فإذا انقضت ع ّد ّ‬
‫اختيار األزواج ‪ ،‬وتقدير الصداق ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫اللُ ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِريٌ فيعلم من يعضل النساء فيجازيه‪.‬‬ ‫هلن فيه َو ه‬ ‫ِابلْمعر ِ‬
‫الل ّ‬ ‫وف معناه على ما أذن ّ‬ ‫َ ُْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضتُ ْم بِهِ م ْن خطْبَةِ النِّساء أ َْو أَ ْكنَ ْن تُ ْم ِيف أَنْ ُف ِس ُك ْم عَلِ َم‬ ‫ناح عَلَيْ ُك ْم فِيما عَ هر ْ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وال ُج َ‬ ‫قال ّ‬
‫وه هن ِس ًّرا إِهال أَ ْن تَ ُقولُوا قَ ْوًال َم ْع ُروفاً َوال تَ ْع ِزُموا عُ ْق َدةَ النِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫كاح‬ ‫اللُ أَنه ُك ْم َستَ ْذ ُك ُرو َهنُ هن َولكِ ْن ال تُواع ُد ُ‬
‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور‬ ‫اح َذ ُروهُ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬
‫اللَ غَ ُف ٌ‬ ‫اللَ يَ ْعلَ ُم ما ِيف أَنْ ُفس ُك ْم فَ ْ‬
‫َجلَهُ َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬
‫تاب أ َ‬
‫َح هىت يَ ْب لُ َغ الْك ُ‬
‫يم (‪)235‬‬ ‫ِ‬
‫َحل ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان (‪ ، )319 /2‬ورواه أبو داود يف السنن (‪ ، )273 /2‬كتاب الطالق‬
‫ابب املتوىف عنها حديث رقم (‪ ، )2300‬والنسائي يف السنن (‪ ، )501 /6 - 5‬كتاب الطالق‬
‫‪ ،‬ابب مقام املتوىف عنها زوجها حديث رقم (‪ ، )3528‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪/3‬‬
‫‪ ، )508‬كتاب الطالق ابب أين تعتد حديث رقم (‪ )1204‬وابن ماجه يف السنن (‪، )654 /1‬‬
‫كتاب الطالق حديث رقم (‪.)2031‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطربي يف تفسريه جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)318 /2‬‬

‫ص ‪167 :‬‬
‫ضتُ ْم التعريض ‪ :‬هو القول املفهم للمقصود ‪ ،‬وليس بنص فيه‪.‬‬
‫َع هر ْ‬
‫أَ ْكنَ ْن تُ ْم سرتمت‪.‬‬
‫السر ‪ :‬الوطء ‪ ،‬قال األعشى ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫س ًّرا ّ‬
‫سرها عليك حرام فانكحن أو أتبّدا‬ ‫تقربن جارة إ ّن ّ‬
‫وال ّ‬
‫الل من خطبة املرأة صرحيا يف العدة ‪ ،‬وأجاز التعريض ابخلطبة هلا أو لوليها يف العدة ‪ ،‬كأن‬
‫منع ّ‬
‫الل يل امرأة صاحلة ‪ ،‬أو حنو ذلك ‪ ،‬حىت حتبس نفسها‬
‫ييسر ّ‬
‫يقول ‪ :‬إنك جلميلة ‪ ،‬أو عسى أن ّ‬
‫يصرح ابخلطبة‪.‬‬
‫عليه إن رغبت فيه ‪ ،‬وال ّ‬
‫الل بن حنظلة قالت ‪ :‬دخل علي أبو‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن سكينة بنت حنظلة بن عبد ّ‬
‫الل‬
‫جعفر حممد بن علي وأان يف عديت ‪ ،‬فقال ‪ :‬اي ابنة حنظلة أان من علمت قرابيت من رسول ّ‬
‫الل لك اي أاب‬
‫علي ‪ ،‬وقدمي يف اإلسالم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬غفر ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وحق جدي ّ‬ ‫صلّى ّ‬
‫جعفر! أختطبين يف عديت ‪ ،‬وأنت يؤخذ عنك؟ فقال ‪ :‬أو قد فعلت؟ إمنا أخربتك بقرابيت برسول‬
‫أم سلمة ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم على ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم وموضعي ‪ ،‬قد دخل رسول ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫الل عليه وسلّم يذكر هلا‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فتويف عنها ‪ ،‬فلم يزل رسول ّ‬
‫وكانت عند ابن عمها أيب سلمة ّ‬
‫الل ‪ ،‬وهو متحامل على يده حىت أثّر احلصري يف يده من شدة حتامله على يده ‪ ،‬فما‬
‫منزلته من ّ‬
‫كانت تلك خطبة‪.‬‬
‫أ َْو أَ ْكنَ ْن تُ ْم ِيف أَنْ ُف ِس ُك ْم أي سرتمت ‪ ،‬وأضمرمت يف أنفسكم فلم تذكروه تصرحيا َعلِ َم ه‬
‫اللُ أَنه ُك ْم‬
‫سرا ‪ ،‬اختار ابن جرير «‪ »2‬أن السر هنا هو الزىن‬ ‫اعدوهن ّ‬
‫ّ‬ ‫َستَ ْذ ُك ُرو َهنُ هن فاذكروهن ‪ ،‬ولكن ال تو‬
‫والسر يف األصل يطلق على الوطء‬ ‫ّ‬ ‫توعدوهن فاحشة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إ ّن املراد به العقد ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬فاملعىن ال‬
‫‪ ،‬فأطلق على العقد الذي هو سببه‪.‬‬
‫تواعدوهن إال لتقولوا قوال معروفا ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إِهال أَ ْن تَ ُقولُوا قَ ْوًال َم ْع ُروفاً ابلتعريض دون التصريح ‪ ،‬أي ‪ :‬ال‬
‫تواعدوهن إال ابلتعريض‪.‬‬‫ّ‬ ‫أي ‪ :‬ال‬
‫َجلَهُ هنى عن العزم مبالغة يف النهي عن عقد النكاح‬ ‫ِ‬ ‫َوال تَ ْع ِزُموا عُ ْق َدةَ النِّ ِ‬
‫تاب أ َ‬
‫كاح َح هىت يَ ْب لُ َغ الْك ُ‬
‫‪ ،‬ألنه إذا هنى عن العزم على العقد ‪ ،‬كان عن العقد أش ّد هنيا ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫َجلَهُ أي املكتوب‬ ‫ِ‬
‫تاب أ َ‬
‫معناه ال تقطعوا عقد عقدة النكاح ‪ ،‬أل ّن العزم القطع َح هىت يَ ْب لُ َغ الْك ُ‬
‫واملفروض من الع ّدة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ابلكف‬
‫ّ‬ ‫اللَ يَ ْعلَ ُم ما ِيف أَنْ ُفس ُك ْم من العزم على ما ال جيوز فَ ْ‬
‫اح َذ ُروهُ‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أَ هن ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)322 /2‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)325 /2‬‬

‫ص ‪168 :‬‬
‫الل غَ ُف ِ‬
‫يعجل العقوبة ‪ ،‬فال تغرتّوا إبمهاله‪.‬‬
‫يم فال ّ‬ ‫عن ذلك َوا ْعلَ ُموا أَ هن هَ ٌ‬
‫ور َحل ٌ‬
‫الل عنه ‪ ،‬وأتبد حترميها عليه ‪ ،‬فال‬
‫وإذا عقد عليها يف العدة ‪ ،‬وبىن هبا ‪ ،‬فسخ النكاح ‪ ،‬لنهي ّ‬
‫حيل ‪ ،‬فعوقب‬
‫حيل نكاحها أبدا عند مالك وأمحد والشافعي وبه قضى عمر ‪ ،‬ألنه استحل ما ال ّ‬
‫ّ‬
‫حبرمانه ‪ ،‬كالقاتل يعاقب حبرمانه مرياث من قتله‪.‬‬
‫وقال غريهم ‪ :‬يفسخ النكاح ‪ ،‬فإذا خرجت من العدة كان خاطبا من اخلطاب ‪ ،‬ومل يتأب ّد التحرمي‬
‫‪ ،‬أل ّن األصل أهنا ال حترم ‪ ،‬إال أن يقوم دليل على احلرمة من كتاب أو سنة أو إمجاع من األمة ‪،‬‬
‫علي على عمر‬
‫الصحايب ليس حجة ‪ ،‬وهناك إنكار من ّ‬
‫ّ‬ ‫وليس يف املسألة شيء من هذا ‪ ،‬ورأي‬
‫يف هذا القضاء ‪ ،‬وروي أ ّن عمر رجع عنه‪.‬‬
‫ضةً َوَمتِّعُ ُ‬
‫وه هن‬ ‫ضوا َهلُ هن فَ ِري َ‬ ‫ناح َعلَْي ُك ْم إِ ْن طَله ْقتُ ُم النِّساءَ ما َملْ متََس ُ‬
‫وه هن أ َْو تَ ْف ِر ُ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ال ُج َ‬
‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫ني (‪ )236‬املس هنا‬ ‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ال ُْم ْقِ ِرت قَ َد ُرهُ َمتاعاً ِابل َْم ْع ُروف َح ًّقا َعلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫َعلَى الْم ِ‬
‫ُ‬
‫ضةً الفرض يف اللغة التقدير ‪ ،‬واملراد ‪ :‬أو تقدروا هلا مقدارا‬ ‫ضوا َهلُ هن فَ ِري َ‬ ‫كناية عن اجلماع أ َْو تَ ْف ِر ُ‬
‫من املهر يوجبه على نفسه‪.‬‬
‫وظاهر اآلية يفيد أ ّن رفع اجلناح مشروط بعدم املسيس ‪ ،‬وهو مشكل عند الفقهاء ‪ ،‬ألنّه ال‬
‫جناح عليه يف الطالق بعد املسيس أيضا ‪ ،‬ولذلك أجابوا جبملة أجوبة ليس منها التزام هذا‬
‫احلكم ‪ ،‬وأقرب هذه األجوية أن املراد ‪ :‬ال تبعة عليكم من إجياب مهر إن طلقتم النساء ما مل‬
‫متسوهن ‪ ،‬وال شك أ ّن رفع املهر عنه مشروط بعدم املسيس ‪ ،‬وعدم فرض مهر هلا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫قالوا ‪ :‬والدليل على أن اجلناح هنا تبعة املهر قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن طَله ْقتُ ُم ُ‬
‫وه هن م ْن قَبْ ِل أَ ْن متََس ُ‬
‫وه هن‬
‫ضوا‬‫ضتُ ْم فأوجب نصف املهر يف مقابله ‪ ،‬وقوله ‪ :‬أ َْو تَ ْف ِر ُ‬ ‫ف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَنِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫ضتُ ْم َهلُ هن فَ ِري َ‬
‫َوقَ ْد فَ َر ْ‬
‫حىت تفرضوا ‪ ،‬وقال بعضهم ‪:‬‬ ‫ضةً مبعىن إال أن تفرضوا ‪ ،‬أو ّ‬ ‫َهلُ هن فَ ِري َ‬
‫عمن طلّق قبل الدخول وقبل ‪:‬‬
‫إن (أو) مبعىن الواو ‪ ،‬وابجلملة فإ ّن اآلية رفعت املهر ّ‬
‫تسمية املهر ‪ ،‬وطلبت املتعة هلا‪.‬‬
‫وه هن َعلَى الْم ِ‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ال ُْم ْقِ ِرت قَ َد ُرهُ وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم‬ ‫َوَمتِّعُ ُ‬
‫ُ‬
‫‪ ،‬ومنازلكم من الغىن واإلقتار‪.‬‬
‫واملوسع ‪ :‬الذي له سعة‪.‬‬
‫واملقرت ‪ :‬الضيق احلال‪.‬‬
‫وقدره ‪ :‬مقداره الذي يطيقه ‪ ،‬وكان ابن عباس يقول ‪ :‬متعة الطالق أعالها اخلادم ‪ ،‬ودون ذلك‬
‫الورق ‪ ،‬ودون ذلك الكسوة‪.‬‬
‫وقد اختلف يف هذه املتعة املطلوبة للمطلّقة قبل املسيس وقبل الفرض ‪ :‬أواجبة‬

‫ص ‪169 :‬‬
‫هي أم غري واجبة؟ فذهب قوم منهم أبو حنيفة «‪ »1‬إىل أهنا واجبة ‪ ،‬لظاهر قوله ‪:‬‬
‫وه هن ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬ح ًّقا عَلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫َوَمتِّعُ ُ‬
‫ني ‪ ،‬ولو كانت واجبة لكانت‬ ‫الل قال ‪َ :‬ح ًّقا َعلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫وذهب مالك إىل أهنا مستحبة ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫الل جعل هلا املتعة يف‬
‫حقا على اخللق أمجعني ‪ ،‬والظاهر القول ابلوجوب لظاهر األمر ‪ ،‬وكأ ّن ّ‬
‫الصداق ‪ ،‬وأما قوله ‪:‬‬ ‫للمسمى هلا من نصف ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقابل ما جعل‬
‫فليبني أن مقتضى اإلحسان يوجب ذلك‪.‬‬ ‫ني ّ‬ ‫َح ًّقا عَلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ملتعوهن ‪ ،‬أي متعوهن متتيعا ابملعروف ابلوجه الذي حيسن يف‬ ‫وف مصدر مؤّكد‬ ‫متاعاً ِابلْمعر ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫ني ح ّق ذلك حقا على احملسنني‪.‬‬ ‫الشرع واملروءة َح ًّقا َعلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬وإِ ْن طَله ْقتم ِ‬
‫ضتُ ْم‬
‫ف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَنِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫ضتُ ْم َهلُ هن فَ ِري َ‬ ‫وه هن م ْن قَ ْب ِل أَ ْن متََس ُ‬
‫وه هن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َ‬ ‫قال ّ‬
‫كاح وأَ ْن تَع ُفوا أَقْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َل‬
‫س ُوا الْ َف ْ‬
‫ب للته ْقوى َوال تَ ْن َ‬
‫َُ‬ ‫إِهال أَ ْن يَ ْع ُفو َن أ َْو يَ ْع ُف َوا اله ِذي بِيَ ِده عُ ْق َدةُ النِّ ِ َ ْ‬
‫الل ِمبا تَ ْعملُو َن ب ِ‬
‫صريٌ (‪ )237‬هذا هو القسم الثاين ‪ ،‬أل ّن املطلقة قبل املسيس ‪ :‬إما‬ ‫َ َ‬ ‫بَ ْي نَ ُك ْم إِ هن هَ‬
‫أن ال يكون قد فرض هلا مهر ‪ ،‬أو يكون قد فرض‪.‬‬
‫الل هلا شيئا من املهر ‪ ،‬وجعل هلا املتعة‪.‬‬
‫األوىل ‪ :‬مل جيعل ّ‬
‫الصداق‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬جعل هلا نصف ّ‬
‫وقد بقيت املطلّقة بعد الدخول ‪ ،‬وهذه فيها قسمان ‪ ،‬ألهنا ‪ :‬إما أن يكون قد مسّي هلا مهر ‪ ،‬أو‬
‫املسمى ‪ ،‬وللثانية مهر مثلها‪.‬‬ ‫ال يكون ‪ ،‬ولألوىل مجيع ّ‬
‫وقوله ‪ :‬إِهال أَ ْن يَ ْع ُفو َن أي املطلقات أ َْو يَ ْع ُف َوا اله ِذي بِيَ ِدهِ عُ ْق َدةُ النِّ ِ‬
‫كاح أي الويل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو‬
‫الزوج ويكون املعىن على املعىن األول إال أن تسقط املطلقات ما وجب هلن من نصف الصداق ‪،‬‬
‫يكن كذلك ‪ :‬وذلك األب يف ابنته البكر ‪ ،‬أو‬
‫كن مالكات ألنفسهن ‪ ،‬أو يسقط الويل إن مل ّ‬
‫إن ّ‬
‫الصداق فيجعل‬
‫السيد يف أمته ‪ ،‬وعلى الثاين إال أن تعفو املطلقات ‪ ،‬أو يعفو الزوج عن نصف ّ‬
‫املهر كله هلا‪.‬‬
‫األول ذهب ابن عباس واحلسن وعكرمة وطاوس وعطاء وزيد بن أسلم وربيعة وهو مذهب‬
‫وإىل ّ‬
‫مالك‪.‬‬
‫وإىل الثاين ذهب علي ‪ ،‬وشريح «‪ »2‬وسعيد بن املسيب وجبري بن مطعم وجماهد والثوري‪.‬‬
‫واختاره أبو حنيفة والشافعي يف أصح قوليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)222 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬شريح بن احلارث بن قيس الكندي ‪ ،‬كان قاضيا يف زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية ‪ ،‬كان‬
‫ثقة يف احلديث ‪ ،‬مات ابلكوفة سنة (‪ 78‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪].....[ .)161 /3‬‬

‫ص ‪170 :‬‬
‫ض َل بَ ْي نَ ُك ْم وليس إعطاء املرء مال غريه‬
‫س ُوا الْ َف ْ‬
‫الل قال ‪َ :‬وال تَنْ َ‬
‫وحجة القائلني أبنه الزوج أ ّن ّ‬
‫فضال ‪ ،‬فال ينطبق على الويل‪.‬‬
‫وحجة من قال ‪ :‬إنه الويل ‪ ،‬أ ّن اخلطاب يف أول اآلية لألزواج ‪ ،‬فلو أراد الزوج لقال ‪ :‬أن يعفو ‪،‬‬
‫وال موجب ملخالفة مقتضى الظاهر‪ .‬واثنيا ‪ :‬أن يَ ْع ُفو َن مبعىن يسقطن ‪ ،‬والثاين أن يَ ْع ُف َوا الثانية‬
‫مبعىن يسقط أيضا ‪ ،‬وال يكون كذلك إال إذا كان الذي بيده عقدة النكاح هو الويل ‪ ،‬أما إذا كان‬
‫هو الزوج فيكون مبعىن يعطي‪.‬‬
‫يتقرر ابخللوة الصحيحة ‪ ،‬ومشهور مذهب مالك أنه‬
‫ومذهب أيب حنيفة ‪ ،‬وأمحد أن املهر مجيعه ّ‬
‫ال يتقرر املهر ابخللوة ‪ ،‬إال إذا اقرتن هبا مسيس ‪ ،‬وظاهر القرآن يعضده‪.‬‬
‫الل املطلقة إىل قسمني ‪ -‬مطلقة مل يفرض هلا ‪ ،‬ومطلقة فرض هلا ‪ -‬أن نكاح‬
‫ويؤخذ من تقسيم ّ‬
‫الصداق ‪ ،‬وال خالف فيه‪.‬‬
‫التفويض جائز ‪ ،‬وهو كل نكاح عقد من غري ذكر ّ‬
‫املسمى هلا‬
‫الصداق ‪ ،‬فإن فرض بعد العقد وقبل الطالق فهل تكون من ّ‬
‫ويفرض بعد ذلك ّ‬
‫يسم هلا فال يكون هلا النصف؟ ذهب مالك أىل األول‪.‬‬
‫املسمى‪ .‬أو ممن مل ّ‬
‫فيكون هلا نصف ّ‬
‫فأحلق من مسّي هلا بعد العقد مبن مسّي هلا يف العقد‪.‬‬
‫يسم هلا يف العقد‪.‬‬
‫وذهب أبو حنيفة إىل الثاين نظرا إىل أهنا مل ّ‬
‫وإذا مات الزوج قبل أن يفرض هلا ‪ :‬أفيكون حكمها حكم املطلقة ‪ ،‬فال صداق هلا؟ أم ال يكون‬
‫‪ ،‬فيكون هلا الصداق؟ ذهب مالك إىل األول ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة والشافعي إىل الثاين‪.‬‬
‫وحجة مالك أنّه فراق يف نكاح قبل الفرض ‪ ،‬فلم جيب فيه صداق أصله الطالق‪.‬‬
‫وحجة الشافعي وأيب حنيفة ما‬
‫الل عليه وسلّم قضى يف بروع بنت واشق وقد مات زوجها‬
‫رواه النسائي وأبو داود أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫قبل أن يفرض هلا ابملهر واملرياث والعدة «‪.»1‬‬
‫ض َل بَ ْي نَ ُك ْم قيل ‪ :‬املخاطبون بذلك األزواج والزوجات‬
‫س ُوا الْ َف ْ‬ ‫وأَ ْن تَع ُفوا أَقْر ِ‬
‫ب للته ْقوى َوال تَ ْن َ‬
‫َُ‬ ‫َ ْ‬
‫مجيعا ‪ ،‬أي ‪ :‬وأن تعفوا ‪ -‬أيها الناس ‪ -‬بعضكم عما وجب له قبل حاجته من الصداق أقرب له‬
‫خاصة ‪ ،‬فتكون اآلية انتظمت عفو الزوجات ‪،‬‬
‫الل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املخاطبون بذلك األزواج ّ‬
‫إىل تقوى ّ‬
‫ض َل بَ ْي نَ ُك ْم وال تغفلوا أيها الناس التفضل بينكم فترتكوه وتستقصوا‬
‫س ُوا الْ َف ْ‬
‫والويل ‪ ،‬والزوج َوال تَنْ َ‬
‫الل ِمبا تَ ْعملُو َن ب ِ‬
‫صريٌ فيعلم من عفا وعامل ابإلحسان ‪ ،‬ومن مل يفعل ذلك ‪ ،‬وحيصيه‪ .‬وجيازي‬ ‫َ َ‬ ‫إِ هن هَ‬
‫عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )202 /2‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب فيمن تزوج حديث رقم‬
‫(‪ ، )2114‬والنسائي يف السنن (‪ ، )430 /6 - 5‬كتاب النكاح حديث رقم (‪، )3354‬‬
‫والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )450 /3‬كتاب النكاح ابب تزوج املرأة حديث رقم (‪)1145‬‬
‫‪ ،‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )450 ، )609 /1‬كتاب النكاح ابب تزوج املرأة حديث رقم‬
‫(‪ ، )1145‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )609 /1‬كتاب النكاح ابب الرجل يتزوج حديث رقم‬
‫(‪.)1891‬‬

‫ص ‪171 :‬‬
‫ني (‪ )238‬حافِظُوا‬ ‫صالةِ الْوسطى وقُ ِ ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬حافِظُوا َعلَى ال ه ِ‬
‫وموا هلل قانِتِ َ‬
‫صلَوات َوال ه ُ ْ َ ُ‬ ‫قال ّ‬
‫احملافظة هي املداومة على الشيء واملواظبة ‪ ،‬ومعىن احملافظة على الصلوات املواظبة عليها ‪،‬‬
‫صالةِ ال ُْو ْسطى الوسطى من الوسط ‪ ،‬وهو العدل واخليار والفضل َوَكذلِ َ‬
‫ك‬ ‫وعدم تضييعها‪َ .‬وال ه‬
‫َج َعلْنا ُك ْم أُهمةً َو َسطاً أي خيارا وعدوال ‪ ،‬فالصالة الوسطى أي الفضلى ‪ ،‬وحيتمل أهنا وسط يف‬
‫العدد‪ .‬ألهنّا مخس صلوات ‪ ،‬تكتنفها اثنتان من كل جهة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إهنا وسط من الوقت‪.‬‬
‫روى القاسم عن مالك أ ّن الصبح هي الوسطى ألن الظهر والعصر يف النهار ‪ ،‬واملغرب والعشاء‬
‫يف الليل ‪ ،‬والصبح فيما بني ذلك‪ .‬وقد اختلف يف الصالة الوسطى ‪ :‬ما هي؟ على سبعة أقوال ‪:‬‬
‫فما من صالة إال قيل إهنا الوسطى ‪ ،‬فتلك مخسة‪ .‬وقيل ‪ :‬إهنا اجلمعة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إهنا غري معروفة‪.‬‬
‫الل ليحافظ على الصلوات كلّها طلبا للصالة الوسطى ‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪ .‬وكل دليل‬
‫وقد أهبمها ّ‬
‫قام على تعيينها ال َيلو من ضعف «‪.»1‬‬
‫خصها ابلذكر تنبيها على شرفها يف جنسها ‪ ،‬كما‬ ‫والصالة الوسطى داخلة يف الصلوات‪ .‬وإمنا ّ‬
‫ين (‪.)98‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫يل َوِم َ‬
‫يكال فَِإ هن ه‬
‫اللَ َع ُد ٌّو للْكاف ِر َ‬
‫ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ‬
‫قال تعاىل ‪َ :‬م ْن كا َن َع ُد ًّوا هلل َوَمالئ َكته َوُر ُسله َوج ِْرب َ‬
‫وقُ ِ ِ‬
‫ني قال ابن عباس ‪ :‬القنوت الطاعة ‪ ،‬وقال ابن عمر ‪ :‬هو القيام ‪ ،‬واستدل عليه‬ ‫وموا هلل قانِتِ َ‬
‫َ ُ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أفضل الصالة طول القنوت» «‪»2‬‬ ‫بقوله صلّى ّ‬
‫قال جماهد ‪ :‬إنّه السكوت‪.‬‬
‫ويف «الصحيح» «‪ »3‬قال زيد بن أرقم ‪ :‬كنا نتكلّم يف الصالة حىت نزلت هذه اآلية وقُوموا ِهللِ‬
‫َ ُ‬
‫ني فأمران ابلسكوت‪ .‬وقيل ‪ :‬هو اخلشوع ‪ ،‬والصحيح ما قاله جماهد ‪ ،‬بدليل ما رواه زيد ‪،‬‬ ‫قانِتِ َ‬
‫يصح (و قوموا ّلل قائمني)‪.‬‬
‫ويبعد جدا أن يراد به القيام هنا ألنه ال ّ‬
‫وإذا كان املراد ابلقنوت السكوت هنا كانت اآلية آمرة ابلسكوت يف الصالة ‪ ،‬وقد ذكرت‬
‫املالكية أ ّن من تكلّم يف الصالة ‪ ،‬إما أن يكون ساهيا أو عامدا ‪ ،‬والعامد ‪ :‬إما أن يتكلّم‬
‫إلصالحها ‪ ،‬أو عبثا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّن من تكلّم ساهيا ال تبطل صالته ‪ ،‬أل ّن السهو ال يدخل حتت‬
‫التكليف ‪ ،‬ومن تكلّم إلصالحها ال تبطل صالته خالفا للشافعية واحلنابلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬لكن ورد يف الصحيح كما رواه مسلم يف صحيحه (‪ - 5 ، )437 /1‬كتاب املساجد ‪،‬‬
‫‪ - 36‬ابب الدليل ملن قال الصالة الوسطى هي صالة العصر حديث رقم (‪.)628 /206‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )520 /1‬كتاب صالة املسافرين ‪ - 22 ،‬ابب أفضل‬
‫الصالة حديث رقم (‪.)756 /164‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )191 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 43 ،‬ابب قوله ‪:‬‬
‫وقُ ِ ِ‬
‫وموا هلل قانِتِ َ‬
‫ني حديث رقم (‪.)4534‬‬ ‫َ ُ‬

‫ص ‪172 :‬‬
‫واستدل املالكية بقصة ذي اليدين «‪ »1‬وهي‬
‫الل عليه وسلّم سلّم من ركعتني ‪ ،‬فقال له ذو اليدين ‪ :‬أقصرت الصالة أم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫أ ّن رسول ّ‬
‫الل؟ فقال ‪« :‬كل ذلك مل يكن» فقال ‪ :‬بل بعض ذلك قد كان ‪ -‬فقال النيب ‪:‬‬
‫نسيت اي رسول ّ‬
‫«أ صحيح ما يقول ذو اليدين» قالوا ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صالته‪.‬‬
‫جاال أ َْو ُرْكباانً فَِإذا أَِم ْن تُ ْم فَاذْ ُك ُروا ه‬
‫اللَ َكما عَله َم ُك ْم ما َملْ تَ ُكونُوا‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن ِخ ْفتُ ْم فَ ِر ً‬
‫قال ّ‬
‫جاال مجع راجل ‪ ،‬وهو خالف الراكب ‪ ،‬كقائم وقيام ‪ ،‬أو مجع رجل ‪ ،‬يقال ‪:‬‬ ‫تَ ْعلَ ُمو َن (‪ )239‬فَ ِر ً‬
‫رجل رجل ‪ ،‬أي راجل‪.‬‬
‫عدو أو غريه فصلوا رجاال أو ركباان فَِإذا أ َِم ْن تُ ْم أي زال اخلوف‬
‫املعىن ‪ :‬فإن كان بكم خوف من ّ‬
‫اللَ َكما عَله َم ُك ْم ما َملْ تَ ُكونُوا تَ ْعلَ ُمو َن من صالة اآلمن ‪ ،‬أو فإذا أمنتم فاذكروا ّ‬
‫الل‬ ‫عنكم فَاذْ ُك ُروا ه‬
‫واعبدوه كما أحسن إليكم مبا علّمكم من الشرائع ما مل تكونوا تعلمون‪.‬‬
‫وهذه اآلية دلّت بظاهرها على جواز الصالة حال القتال ‪ ،‬راجال أو راكبا وال تبطل ابلقتال ‪،‬‬
‫ويسقط استقبال القبلة ‪ ،‬وهو مذهب مالك والشافعي وأمحد ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة إىل أن الصالة‬
‫تبطل ابلقتال ‪ ،‬وظاهر اآلية حجة عليه‪ .‬وقد أيد ما روي يف «الصحيح» «‪ »2‬عن ابن عمر‬
‫حال اخلوف «فإن كان خوف هو أش ّد من ذلك صلوا رجاال قياما على أقدامهم أو ركباان‬
‫مستقبلي القبلة ‪ ،‬وغري مستقبليها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري إِ ْخر ٍّ‬
‫اج‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن منْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً َوصيهةً ألَ ْزواج ِه ْم َمتاعاً إِ َىل ا ْحلَْول غَ ْ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫فَِإ ْن َخرجن فَال جناح عَلَي ُكم ِيف ما فَعلْن ِيف أَنْ ُف ِس ِه هن ِمن معر ٍّ‬
‫يم (‪ )240‬قرئ‬ ‫اللُ عَ ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫وف َو ه‬ ‫ْ َُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ْ ْ‬ ‫َْ َ‬
‫فالرفع على أنه مرفوع بفعل حمذوف تقديره ‪ :‬كتبت والنصب على أنه‬
‫برفع الوصية ونصبها ‪ّ ،‬‬
‫مفعول لفعل حمذوف تقديره‪ .‬كتب ‪ ،‬و(متاعا) نصب ابلوصية ‪ ،‬و(غري إخراج) نعت متاعا‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »3‬عن َهّام بن حيىي قال ‪ :‬سألت قتادة عن قوله ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 22 ، )83 /2‬كتاب السهو ‪ - 5 ،‬ابب يكرب يف سجديت‬
‫السهو حديث رقم (‪ ، )1229‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )403 /1‬كتاب املساجد ‪19 ،‬‬
‫‪ -‬ابب السهو حديث رقم (‪.)573 /97‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )191 /5‬كتاب التفسري ‪ - 44 ،‬ابب فَِإ ْن ِخ ْفتُ ْم‬
‫حديث رقم (‪.)4535‬‬
‫(‪ )3‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)360 /2‬‬

‫ص ‪173 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري إِ ْخر ٍّ‬
‫اج فقال ‪ :‬كانت‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن م ْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً َوصيهةً ألَ ْزواج ِه ْم َمتاعاً إِ َىل ا ْحلَْول غَ ْ َ‬
‫تويف عنها زوجها كان هلا السكىن والنفقة حوال يف مال زوجها ‪ ،‬ما مل خترج‪ .‬مث نسخ‬ ‫املرأة إذا ّ‬
‫ذلك بعد يف سورة النساء ‪ ،‬فجعل هلا فريضة معلومة ‪ :‬الثمن إن كان له ولد ‪ ،‬والربع إن مل يكن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫له ولد ‪ ،‬وعدهتا أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬فقال تعاىل ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن م ْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يََرتَبه ْ‬
‫ص َن‬
‫ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍّر َو َع ْشراً فنسخت هذه اآلية ما كان قبلها من أمر احلول‪ .‬وذهب بعضهم إىل‬
‫أن هذه اآلية اثبتة احلكم مل ينسخ منها شيء‪.‬‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫روى ابن جرير «‪ »1‬عن جماهد يف قوله ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن م ْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يََرتَبه ْ‬
‫أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍّر َو َع ْشراً قال ‪ :‬كانت هذه للمعتدة ‪ ،‬تعت ّد عند أهل زوجها واجبا ذلك عليها ‪ ،‬فأنزل‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج إىل قوله‬ ‫ري إِ ْخر ٍّ‬ ‫الل ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن م ْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً َوصيهةً ألَ ْزواج ِه ْم َمتاعاً إِ َىل ا ْحلَْول غَ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫الل هلم متام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ‪ ،‬إن شاءت سكنت‬ ‫وف قال ‪ :‬جعل ّ‬ ‫‪ :‬من معر ٍّ‬‫ِ‬
‫ْ َُْ‬
‫اج فَِإ ْن َخ َر ْج َن فَال ُج َ‬
‫ناح‬ ‫ري إِ ْخر ٍّ‬
‫الل تعاىل ذكره ‪ :‬غَ ْ َ‬ ‫يف وصيتها وإن شاءت خرجت‪ .‬وهو قول ّ‬
‫َعلَْي ُك ْم قال والعدة كما هي واجبة‪.‬‬
‫وقد ذهب أبو حنيفة إىل أنه ال جيب هلا السكن يف مال زوجها ‪ ،‬وتعتد حيث شاءت‪.‬‬
‫وذهب مالك إىل أن السكىن مدة العدة واجبة هلا ‪ ،‬ملا يثبته حديث الفريعة املتقدم‪.‬‬
‫فَِإ ْن َخرجن فَال جناح َعلَي ُكم ِيف ما فَعلْن ِيف أَنْ ُف ِس ِه هن ِمن معر ٍّ‬
‫وف ما يفعلنه أبنفسهن من التزيّن‬ ‫ْ َُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ْ ْ‬ ‫َْ َ‬
‫ِ‬
‫يم [البقرة ‪.]240 :‬‬ ‫اللُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫للخطّاب من معروف ال ينكره الشرع َو ه‬
‫ِ‬
‫يم يف قضاايه اليت شرعها لكم‪.‬‬ ‫اللُ َع ِز ٌيز يف انتقامه ممّن خالف أمره وهنيه ال َحك ٌ‬ ‫َو ه‬
‫ني (‪ )241‬ذهب سعيد بن جبري إىل‬ ‫ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ولِلْمطَله ِ‬
‫قات َمتاعٌ ِابل َْم ْع ُروف َح ًّقا عَلَى ال ُْمت ِهق َ‬ ‫قال ّ‬
‫َ ُ‬
‫أ ّن هذه اآلية أثبتت املتعة لكل مطلّقة ‪ ،‬سواء أكانت مدخوال هبا ‪ ،‬أو مل تكن مدخوال هبا؟‬
‫لكل مطلقة ‪ ،‬وقال‬ ‫وعم هنا املتعة ّ‬ ‫فيكون قد ذكر أوال املتعة ‪ ،‬وأثبتها ملن طلّقت قبل املسيس ‪ّ ،‬‬
‫وس ِع قَ َدرهُ و َعلَى الْم ْقِ ِرت قَ َدرهُ متاعاً ِابلْمعر ِ‬
‫وه هن َعلَى الْم ِ‬
‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ابن زيد ‪ :‬ملا نزل قوله تعاىل ‪َ :‬وَمتِّعُ ُ‬
‫الل تعاىل‬
‫ني قال رجل ‪ :‬فإن أحسنت فعلت ‪ ،‬وإن مل أرد ذلك مل أفعل ‪ ،‬فأنزل ّ‬ ‫َح ًّقا عَلَى ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ني (‪.»2« )241‬‬ ‫ِ‬
‫ع ِابل َْم ْع ُروف َح ًّقا َعلَى ال ُْمت ِهق َ‬ ‫‪ :‬ولِلْمطَله ِ‬
‫قات َمتا ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫فتكون هذه اآلية فيمن طلّقت قبل املسيس ‪ ،‬ومل تعط حكما زائدا‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫املراد ابملتعة متعة العدة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)63 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطربي يف تفسريه جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)364 /2‬‬

‫ص ‪174 :‬‬
‫اللُ لَ ُك ْم آايتِهِ ل ََعله ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن (‪ )242‬كما بينت لكم ما لكم على‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬كذلِ َ‬
‫ك يُبَِّ ُ‬
‫ني ه‬ ‫قال ّ‬
‫أبني لكم سائر األحكام ‪ ،‬لتعقلوا حدودي وفرائضي ‪،‬‬
‫أزواجكم ‪ ،‬وما ألزواجكم عليكم ‪ ،‬كذلك ّ‬
‫وتعلموا ما فيه الصالح لكم من األحكام‪.‬‬
‫إ ّن بعض األزواج يطلّقون نساءهم ظلما منهم ‪ ،‬أو ملال وسآمة ‪ ،‬وال يبالون مبا يصيب املرأة من‬
‫هلن‬
‫اجهن إىل احملاكم الشرعية مبصر ‪ ،‬يطلنب تعويضا ‪ ،‬فال حتكم ّ‬
‫ضرر هبذا الطالق ‪ ،‬فتذهب أزو ّ‬
‫هلن ابلتعويض ‪ ،‬فلو أخذ مبذهب سعيد بن جبري يف‬
‫به ‪ ،‬فيلجأن إىل احملاكم األهلية فتحكم ّ‬
‫لكل مطلقة ‪ ،‬ويكون بقدر حال الزوج من عسر ويسر ‪ ،‬لكان يف ذلك تعويض‬
‫إثبات املتعة ّ‬
‫يكف عن‬
‫عما فاهتا ابلطالق من جهة ‪ ،‬وتقليل للطالق من جهة أخرى‪ .‬أل ّن الزوج قد ّ‬
‫للمرأة ّ‬
‫يغرمها للزوجة‪.‬‬ ‫الطالق إذا علم أ ّن وراءه متعة ّ‬
‫ِ‬ ‫وم اله ِذي يَتَ َخبهطُهُ ال ه‬ ‫ِ‬
‫شيْطا ُن م َن ال َْم ِّ‬
‫س‬ ‫ومو َن إِهال َكما يَ ُق ُ‬ ‫ين َأيْ ُكلُو َن ِّ‬
‫الراب ال يَ ُق ُ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫الراب فَ َم ْن جاءَهُ َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّهِ فَانْ تَهى‬
‫اللُ الْبَ ْي َع َو َح هرَم ِّ‬
‫َح هل ه‬ ‫ك ِأبَ ههنُ ْم قالُوا إِ همنَا الْبَ ْي ُع ِمثْ ُل ِّ‬
‫الراب َوأ َ‬ ‫ذلِ َ‬
‫حاب النها ِر ُه ْم فِيها خالِ ُدو َن (‪ )275‬ميَْ َح ُق ه‬
‫اللُ‬ ‫َص ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫اللِ َوَم ْن َ‬
‫عاد فَأُولئِ َ‬ ‫ف َوأ َْم ُرهُ إِ َىل ه‬ ‫فَلَهُ ما َسلَ َ‬
‫ار أَثِ ٍّيم (‪)276‬‬ ‫اللُ ال ُِحيب ُكله َك هف ٍّ‬‫قات َو ه‬ ‫ص َد ِ‬ ‫الراب َويُ ْرِيب ال ه‬ ‫ِّ‬
‫ومو َن أكثر املفسرين على أن املراد ‪ :‬القيام يوم القيامة ‪ ،‬وقال بعضهم ‪:‬‬ ‫ال يَ ُق ُ‬
‫املراد القيام من القرب ‪ ،‬والظاهر مشوله لألمرين‪.‬‬
‫يَتَ َخبهطُهُ التخبط الضرب على غري استواء ‪ ،‬وختبّطه الشيطان إذا مسه خببل أو جنون‪.‬‬
‫ِ‬
‫م َن ال َْم ِّ‬
‫س املراد به اجلنون ‪ ،‬وأصل املس إلصاق اليد ‪ ،‬مث مسّي اجلنون مسا ‪ ،‬أل ّن الشيطان إذا‬
‫مسه بيده اعتداء عليه أفقده أعظم قواه ‪ ،‬وهو العقل‪.‬‬
‫ميَْ َح ُق احملق نقصان الشيء حاال بعد حال ‪ ،‬ومنه احملاق يف اهلالل‪.‬‬
‫ِّ‬
‫الراب يف اللغة الزايدة ‪ ،‬يقال ‪ :‬راب الشيء يربو ‪ :‬أي يزيد ‪ ،‬ويف الشريعة هو ‪:‬‬
‫فضل مال دون عوض ‪ ،‬يف معاوضة مال مبال‪.‬‬
‫والراب قسمان ‪ :‬راب النسيئة ‪ ،‬وراب الفضل‪.‬‬
‫فراب النسيئة ‪ :‬هو الذي كان معروفا بني العرب يف اجلاهلية ‪ ،‬ال يعرفون غريه ‪ ،‬وهو أهنم كانوا‬
‫حل األجل طولب املدين برأس املال‬
‫كل شهر قدرا معينا ‪ ،‬فإذا ّ‬
‫يدفعون املال على أن أيخذوا ّ‬
‫كامال ‪ ،‬فإن تع ّذر األداء زادوا يف احلق واألجل‪.‬‬
‫وراب الفضل أن يباع من احلنطة منّا مبنوين منها ‪ ،‬أو درَها بدرَهني ‪ ،‬أو دينارا بدينارين ‪ ،‬أو رطال‬
‫من العسل برطلني‪.‬‬

‫ص ‪175 :‬‬
‫جيوز راب الفضل ‪ ،‬اعتمادا‬
‫حيرم إال القسم األول ‪ ،‬وكان ّ‬
‫الل عنهما ال ّ‬
‫وقد كان ابن عباس رضي ّ‬
‫على ما‬
‫الراب يف النّسيئة» «‪»1‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬إمنا ّ‬
‫روي أن النيب صلّى ّ‬
‫ولكن ملا تواتر عنده اخلرب أبن‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬احلنطة ابحلنطة مثال مبثل ‪ ،‬يدا بيد»‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫وذكر األصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغريه ‪ ،‬رجع عن قوله‪ .‬وأما‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬إمنا الراب يف النسيئة»‬
‫فمحمول على اختالف اجلنس ‪ ،‬فإ ّن النسيئة حينئذ حترم ‪ ،‬ويباح التفاضل ‪ ،‬كبيع احلنطة ابلشعري‬
‫‪ :‬حترم فيه النسيئة ‪ ،‬ويباح التفاضل‪ .‬ولذلك وقع االتفاق على حترمي الراب يف القسمني ‪:‬‬
‫أما األول ‪ :‬فقد ثبت حترميه ابلقرآن‪.‬‬
‫وأما الثاين ‪ :‬فقد ثبت حترميه ابخلرب الصحيح «‪ : »2‬كما‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬ال ّذهب‬
‫الل عنه أن النيب صلّى ّ‬
‫روي عن عبادة بن الصامت رضي ّ‬
‫شعري ‪ ،‬والتّمر ابلتّمر ‪ ،‬وامللح ابمللح ‪ ،‬مثال‬
‫شعري ابل ّ‬
‫ابلرب ‪ ،‬وال ّ‬
‫الرب ّ‬‫ضة ‪ ،‬و ّ‬
‫ضة ابلف ّ‬
‫ابل ّذهب ‪ ،‬والف ّ‬
‫مبثل ‪ ،‬سواء بسواء ‪ ،‬يدا بيد ‪ ،‬فإذا اختلفت هذه األصناف فبيعوا كيف شئتم ‪ ،‬إذا كان يدا‬
‫بيد»‬
‫حىت كانت مسلّمة عند اجلميع‪.‬‬
‫واشتهرت روايته هذه ّ‬
‫مث اختلف العلماء بعد ذلك ‪ ،‬فقال نفاة القياس ‪ :‬إ ّن احلرمة مقصورة على هذه األشياء الستة‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬والشافعي وأمحد ومجهور الفقهاء ‪ :‬إ ّن احلرمة غري مقصورة على هذه‬
‫األشياء الستة ‪ ،‬بل تتعداها إىل غريها ‪ ،‬وإ ّن احلرمة ثبتت يف هذه الستة لعلّة ‪ ،‬فتتعدى احلرمة إىل‬
‫كل ما توجد فيه العلّة‪.‬‬
‫مث اختلفوا يف هذه العلة ‪ ،‬فقال احلنفية «‪ : »3‬إ ّن العلة هي احتاد هذه األشياء الستة يف اجلنس‬
‫والقدر ‪ ،‬أي الكيل والوزن ‪ ،‬فمىت ّاحتد البدالن يف اجلنس والقدر ‪ ،‬حرم الراب بقسميه ‪ ،‬كبيع‬
‫حل التفاضل والنسيئة ‪ :‬كبيع احلنطة ابلدراهم إىل أجل ‪ ،‬وإذا‬
‫احلنطة ابحلنطة ‪ ،‬وإذا عدما معا ّ‬
‫حل الفضل دون النسيئة ‪:‬‬
‫عدم القدر ‪ ،‬واحتد اجلنس ّ‬
‫حل الفضل دون النسيئة أيضا ‪ :‬كبيع احلنطة‬
‫كبيع عبد بعبدين ‪ ،‬وإذا عدم اجلنس واحتد القدر ّ‬
‫ابلشعري‪.‬‬
‫وقال املالكية ‪ :‬إ ّن العلّة هي احتاد اجلنس مع االقتيات ‪ ،‬أو ما يصلح به االقتيات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1218 /3‬كتاب املساقاة ‪ - 18 ،‬ابب بيع الطعام‬
‫حديث رقم (‪.)1596 /102‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1210 /3‬كتاب املساقاة ‪ - 15 ،‬ابب العرف وبيع‬
‫الذهب حديث رقم (‪.)1587 /80‬‬
‫(‪ )3‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)67 /4 - 3‬‬
‫ص ‪176 :‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬إ ّن العلة يف الذهب والفضة هي احتاد اجلنس مع الثمنيّة‪ .‬ويف األشياء األربعة‬
‫الباقية احتاد اجلنس مع الطعم ‪ ،‬والتفاصيل يف أمر الراب تعلم من كتب الفقه‪.‬‬
‫سبب حترمي الراب‬
‫‪ - 1‬إنّه يقتضي أخذ مال اإلنسان من غري عوض ‪ ،‬وهو شنيع ممنوع ‪ ،‬أل ّن املال شقيق الروح ‪،‬‬
‫فكما حيرم إزهاق الروح من غري ح ّق ‪ ،‬حيرم أخذ املال من غري حق‪.‬‬
‫حتمل املشا ّق يف الكسب والتجارة والصناعة ‪ ،‬وهو يؤدي‬
‫‪ - 2‬إنّه يفضي إىل امتناع الناس عن ّ‬
‫إىل انقطاع مصاحل اخللق‪.‬‬
‫‪ - 3‬إنّه يفضي إىل انقطاع املعروف بني الناس من القرض احلسن ‪ ،‬ومي ّكن الغين من أخذ مال‬
‫الفقري الضعيف من غري مقابل ‪ ،‬وهو ال جيوز برمحة الرحيم‪.‬‬
‫وال وجه للتمسك مبا يقال ‪ :‬إن رأس املال لو بقي يف يد صاحبه الستفاد منه رحبا بسبب التجارة‬
‫رب املال ماال زائدا عوضا عن‬
‫فيه ‪ ،‬فما تركه يف يد املدين مل يكن هناك أبس يف أن يدفع إىل ّ‬
‫انتفاعه مباله ‪ ،‬ألنّه ميكن دفعه أبن الذي يذكرونه أمر موهوم ‪ ،‬قد حيصل وقد ال حيصل ‪ ،‬واملال‬
‫الزائد ملك للفقري على وجه اليقني ‪ ،‬فتفويت املتي ّقن ألمر موهوم إضرار ابلضعيف ‪ ،‬وهو ال‬
‫جيوز‪.‬‬
‫املعىن ‪ :‬الذين أيخذون الراب ويقتطعونه من أموال الناس بغري حق ال يقومون من القبور يوم القيامة‬
‫املس ‪ ،‬أي اجلنون‬
‫إال قياما كقيام الشخص الذي يضربه الشيطان على غري اعتدال ‪ ،‬بسبب ّ‬
‫الذي أصابه ‪ ،‬وهذا التمثيل وارد على ما يزعم العرب من أ ّن الشيطان َيبط اإلنسان فيصرعه ‪،‬‬
‫وميسه َيتلط عقله ‪ ،‬وذلك السوء الذي يعرتيهم عند قيامهم بسبب أهنم تعاملوا ابلراب ‪ ،‬وابلغوا‬
‫ّ‬
‫يف استباحته حىت قالوا ‪ :‬إمنا البيع مثل الراب ‪ ،‬قد اعتربوا الراب أصال يف اإلابحة يقاس عليه البيع ‪:‬‬
‫فيجوز بيع درهم بدرَهني ‪ ،‬كما جيوز بيع ما قيمته درهم بدر َهني ‪ ،‬مع وضوح الفرق بينهما ‪،‬‬
‫فإ ّن أحد الدرَهني يف األول ضائع حتما ‪ ،‬والثاين منجرب ابالحتياج إىل السلعة ‪ ،‬أو يتوقّع‬
‫رواجها‪.‬‬
‫الراب ملا يف األول من وجوه اجلابر ‪ ،‬ويف الثاين ‪ :‬من اإلضرار احملتّم‪.‬‬ ‫اللُ الْبَ يْ َع َو َح هرَم ِّ‬
‫َحله ه‬
‫َوأ َ‬
‫فَ َم ْن جاءَهُ َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّهِ أي تذكرة يذ ّكره فيها حبكمه تعاىل فاتعظ بال تراخ ‪ ،‬واتبع النهي الوارد‬
‫الل‪.‬‬
‫‪ ،‬فله ما تعامل به فيما سلف ‪ ،‬وال يسرت ّد منه ‪ ،‬وأمر جزائه موكول إىل ّ‬
‫حاب النها ِر ُه ْم فِيها خالِ ُدو َن ماكثون أبدا‪.‬‬
‫َص ُ‬ ‫عاد إىل استحالله فَأُولئِ َ‬
‫كأ ْ‬ ‫َوَم ْن َ‬

‫ص ‪177 :‬‬
‫الل تعاىل ‪ -‬يف هذه اآلية ‪ -‬يف الزجر عن الراب ‪ ،‬وكان قد‬ ‫ص َد ِ‬
‫قات ابلغ ّ‬ ‫اللُ ِّ‬
‫الراب َويُ ْرِيب ال ه‬ ‫ميَْ َح ُق ه‬
‫ابلغ يف اآلايت السابقة يف األمر ابلصدقات ‪ ،‬وكان النّاس يرون حبسب الظاهر أن الراب يوجب‬
‫زايدة اخلريات ‪ ،‬وأ ّن الصدقات توجب نقصان اخلريات ‪ ،‬فأراد سبحانه وتعاىل أن يدفع هذه‬
‫وبني أنه تعاىل كفيل بعكس ذلك ‪ ،‬وأ ّن الراب وإن كان زايدة يف املال ظاهرا ‪ ،‬إال أنه‬
‫الشبهة ‪ّ ،‬‬
‫نقصان يف احلقيقة ‪ ،‬وأ ّن الصدقات وإن كانت نقصاان يف املال إال أهنا زايدة يف املعىن ‪ ،‬فالالئق‬
‫يعول على ما ندبه إليه الشارع ‪ ،‬فإنّه بذلك يضمن خريي الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وهو‬
‫ابملسلم أن ّ‬
‫املشار إليه بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص َد ِ‬
‫قات‪.‬‬ ‫اللُ ِّ‬
‫الراب َويُ ْرِيب ال ه‬ ‫ميَْ َح ُق ه‬
‫وإرابء الصدقات يكون يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬أما يف الدنيا فلما أييت ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬يزداد جاهه وذكره اجلميل ‪ ،‬وميل القلوب إليه ‪ ،‬واطمئنان النفوس إليه ‪ ،‬ويف ذلك من‬
‫كل خبري‪.‬‬
‫أسباب تيسري أموره ما يشهد به ّ‬
‫جتر إىل معاونته يف كثري من معامالته‪ .‬وقضاء مصاحله ‪ ،‬فتفتح له أبواب‬
‫اثنيا ‪ :‬إ ّن حمبة الناس له ّ‬
‫اخلريات ‪ ،‬وتتسع أرزاقه‪.‬‬
‫كل يوم ‪ :‬اللّهم‬
‫الل له‪ .‬وقد روي يف احلديث الشريف ‪« :‬أ ّن ملكا ينادي ّ‬
‫اثلثا ‪ :‬من كان ّلل كان ّ‬
‫لكل منفق خلفا ‪ ،‬وملمسك تلفا» «‪.»1‬‬
‫يسر ّ‬
‫ّ‬
‫وأما يف اآلخرة فلما‬
‫حىت‬
‫الصدقة ‪ ،‬وأيخذها بيمينه ‪ ،‬فريبّيها ألحدكم كما يريب أحدكم مهره ‪ّ ،‬‬ ‫الل ‪ ،‬يقبل ّ‬ ‫ورد ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫إ ّن اللقمة لتصري مثل أحد» «‪»2‬‬
‫اللِ َك َمثَ ِل َحبهةٍّ أَنْ بَ تَ ْ‬
‫ت َس ْب َع َسنابِ َل‬ ‫ين يُ ْن ِف ُقو َن أ َْموا َهلُ ْم ِيف َسبِ ِ‬
‫يل ه‬ ‫ِ‬
‫وملا ورد يف القرآن الكرمي َمثَ ُل الهذ َ‬
‫ضاع ُ ِ‬‫الل ي ِ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ ِ‬
‫الراب يكون يف الدنيا‬ ‫ف ل َم ْن يَشاءُ [البقرة ‪ .]261 :‬وحمق ّ‬ ‫ِيف ُك ِّل ُس ْن بُلَة مائَةُ َحبهة َو هُ ُ‬
‫واآلخرة ‪:‬‬
‫أما يف الدنيا فلما أييت ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أل ّن الغالب يف املرايب وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته يف الفقر والدمار ‪ ،‬كما‬
‫قل»‪.‬‬
‫«الراب وإن كثر فإ ّن عاقبته تصري إىل ّ‬
‫روي عنه عليه الصالة والسالم أنه قال ‪ّ :‬‬
‫اثنيا ‪ :‬أن الذين تؤخذ أمواهلم بسبب الراب يبغضون املرايب ‪ ،‬ويقصدونه ابألذى عند غفلته ‪،‬‬
‫ويسلبون أمواله عند التمكن ‪ ،‬وكل ذلك يؤ ّدي إىل احملق والدمار وإن طال الزمان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (بغري هذا اللفظ) يف الصحيح (‪ - 24 ، )147 /2‬كتاب الزكاة ‪- 27 ،‬‬
‫ابب قوله تعاىل ‪:‬‬
‫فَأَ هما َم ْن أَ ْعطى حديث رقم (‪ ، )1442‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )700 /2‬كتاب الزكاة ‪،‬‬
‫‪ - 17‬ابب يف املنفق حديث رقم (‪.)1010 /57‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )138 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 8 ،‬ابب الصدقة حديث‬
‫رقم (‪ ، )1410‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )702 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 19 ،‬ابب قبول‬
‫الصدقة حديث رقم (‪].....[ .)1014 /63‬‬

‫ص ‪178 :‬‬
‫اثلثا ‪ :‬أنه حيبب إليه التعامل ابملقامرات وأنواع املعامالت اخلطرة ‪ ،‬ويف الغالب يؤول أمره إىل‬
‫احملق والدمار‪.‬‬
‫وأما اآلخرة فلما أييت ‪:‬‬
‫الل تعاىل ال يقبل منه‬
‫الل عنهما أنه قال ‪ :‬معىن هذا احملق أ ّن ّ‬
‫أوال ‪ :‬ملا روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫صدقة وال جهادا وال حجا وال صلة رحم‪.‬‬
‫اثنيا ‪ :‬أل ّن مال الدنيا ال يبقى عند املوت ‪ ،‬وتبقى التبعات والعقوابت ‪ ،‬وهذه هي اخلسارة‬
‫الكربى‪.‬‬
‫يصر على حتليل ‪ -‬أي ارتكاب ‪ -‬احملرمات أَثِ ٍّيم‬
‫كل من ّ‬ ‫اللُ ال ُِحيب ُك هل َك هف ٍّ‬
‫ار أي ال يرضى عن ّ‬ ‫َو ه‬
‫منهمك يف ارتكاب املعاصي اليت توجب اإلمث‪ .‬فاآلية يف املسلمني الذين يرتكبون املعاصي‬
‫وهاهنا أمور ‪:‬‬
‫تفعل‬
‫تفعل ‪ -‬غري متعد ‪ ،‬ولكنّه عداه هنا نظرا أل ّن ّ‬
‫األول ‪ :‬التخبط ‪ -‬مصدر (يتخبط) بوزن ّ‬
‫تقسم املال ‪ :‬أي قسمه‪.‬‬ ‫أييت كثريا مبعىن فعل ‪ ،‬حنو ّ‬
‫ِ‬
‫وم وهو علة ملا تعلق‪.‬‬
‫ومو َن ‪ ،‬أو بقوله ‪ :‬يَ ُق ُ‬ ‫الثاين ‪ :‬قوله ‪ :‬م َن ال َْم ِّ‬
‫س يصح تعلّقه بقوله ‪ :‬يَ ُق ُ‬
‫وميسه ويصرعه ‪ ،‬وبذلك قال‬
‫الثالث ‪ :‬هذه اآلية ظاهرة يف أ ّن الشيطان يتخبط اإلنسان ويضربه ّ‬
‫مبين على أنه ال يوجد مانع من القول أبن الشيطان جسم كثيف‪.‬‬
‫أهل السنة ‪ ،‬وهو ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إن الشيطان ضعيف ال قدرة له على الضرب والصرع واألعمال الشاقة ‪ ،‬ألنه جسم‬
‫لطيف كاهلواء ‪ ،‬ليس فيه صالبة وال قوة ‪ ،‬فيمتنع أن يكون قادرا على أن يضرب اإلنسان‬
‫الصرع والقتل واإليذاء ‪،‬‬ ‫ويصرعه ‪ ،‬وألن القرآن الكرمي يدل على أنه ليس للشيطان قدرة على ّ‬
‫حيث يقول حكاية عن الشيطان ‪ :‬وما كا َن ِيل َعلَْي ُكم ِمن سل ٍّ‬
‫ْطان إِهال أَ ْن َد َع ْوتُ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ َجْب تُ ْم ِيل‬ ‫ْ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫[إبراهيم ‪ ]22 :‬فأفسد أحواهلم ‪ ،‬وأفشى أسرارهم وأزال عقوهلم ‪ ،‬وكل ذلك ابطل‪.‬‬
‫وأما ما ورد يف القرآن الكرمي ‪ :‬من أهنم كانوا يعملون لسليمان بن داود عليهما السالم ما يشاء‬
‫الل على هذه األفعال‬
‫من حماريب ومتاثيل وجفان كاجلواب وقدور راسيات ‪ ،‬فإمنا كان إبقدار من ّ‬
‫معجزة لسليمان عليه السالم‪.‬‬
‫املس يف هذه اآلية بوسوسة الشيطان املؤذية اليت حيدث‬
‫وأتول أصحاب هذا القول التخبط و ّ‬
‫ّ‬
‫عندها الصرع‪.‬‬
‫وإمنا حتدث الوسوسة الصرع بسبب ضعف الطباع وغلبة السوداء على اإلنسان ‪ ،‬فيعرتيه من‬
‫اخلوف وال ّذعر عند الوسوسة ما يصرعه ‪ ،‬كما يصرع اجلبان يف‬

‫ص ‪179 :‬‬
‫املوضع اخلايل بسبب وسوسته ‪ ،‬وهلذا يوجد هذا املعىن فيمن به نقص يف املزاج ‪ ،‬وخلل يف‬
‫الدماغ ‪ ،‬وال يوجد عند أهل الكمال والفضل واحلزم والعقل‪ .‬ويستأنس لذلك مبا يظهر من قوله‬
‫طان تَ َذ هكروا فَِإذا ُهم مبْ ِ‬
‫ص ُرو َن (‪)201‬‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬ ‫ف ِم َن ال ه‬
‫شيْ ِ‬ ‫س ُه ْم طائِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين اته َق ْوا إِذا َم ه‬
‫[األعراف ‪ ]201 :‬فأهل التقوى والقلوب املطمئنة إذا وسوس هلم الشيطان تذ ّكروا أوامره‬
‫ونواهيه ‪ ،‬فتستنري قلوهبم ‪ ،‬وتندفع عنهم الوساوس الشيطانية ‪ ،‬ومل يكن للشيطان عليهم‬
‫سلطان‪.‬‬
‫وأما الضعفاء ‪ :‬أهل القلوب اليت مل تكن مطمئنة ‪ ،‬فيدعوهم الشيطان إىل طلب اللذات‬
‫الل تعاىل اترة ‪ ،‬ويدعوهم ابعث احلق والدين إىل الدين والعمل‬
‫والشهوات ‪ ،‬ولالشتغال بغري ّ‬
‫الصاحل اترة أخرى فتحدث عندهم حركات مضطربة ‪ ،‬وأفعال خمتلفة ‪ ،‬وهذا بعينه هو اخلبط‬
‫احلاصل بفعل الشيطان‪.‬‬
‫فآكل الراب ال شك أنه متهالك على حب الدنيا ولذاهتا وشهواهتا ‪ ،‬فإذا مات على ذلك ‪ ،‬وجاء‬
‫يوم البعث خرج الناس من األجداث سراعا إال أكلة الراب ‪ ،‬فإهنم يتخبّطون ‪ ،‬يقومون ويسقطون‬
‫املس‪.‬‬
‫‪ ،‬كالذي يتخبطه الشيطان من أجل ّ‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ما أييت ‪:‬‬
‫الراب الذي كان معروفا بني العرب يف اجلاهلية ‪ ،‬وهو راب النسيئة‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬حرمة ّ‬
‫اثنيا ‪ :‬حرمة راب الفضل ‪ ،‬كأن يبيع منّا من احلنطة مبنوين منها‪.‬‬
‫اثلثا ‪ :‬حرمة الصلح على مخسمائة حالّة مثال مع من عليه ألف مؤجلة ‪ ،‬فإ ّن هذا يف معىن راب‬
‫الل‬
‫اجلاهلية الذي كان قرضا مؤجال بزايدة مشروطة ‪ ،‬فكانت الزايدة بدال من األجل ‪ ،‬فأبطله ّ‬
‫بتحرمي الراب‪.‬‬
‫معجل ‪ ،‬فالدائن قد انتفع‬
‫رب املال على بعض منه ّ‬
‫مؤجل صاحله ّ‬
‫ويف مسألة الصلح على قرض ّ‬
‫بباقي الدين مقابل إسقاط األجل ‪ ،‬واملدين قد انتفع بفضل من املال دون عوض مايل ‪،‬‬
‫وجزئيات الراب كثرية ‪ ،‬يعلم حكمها من انطباق ضابطه عليها‪.‬‬
‫َج ُر ُه ْم ِع ْن َد‬
‫صالةَ َوآتَ ُوا ال هزكاةَ َهلُ ْم أ ْ‬
‫َقاموا ال ه‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن اله ِذين آمنُوا و َع ِملُوا ال ه ِ ِ‬
‫صاحلات َوأ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫قال ّ‬
‫الل يف كتابه الكرمي أنّه مهما ذكر وعيدا ذكر‬ ‫َرّهبِِ ْم َوال َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم َْحي َزنُو َن (‪ )277‬سنة ّ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا أي ص ّدقوا‬ ‫ين َ‬ ‫بعده وعدا ‪ ،‬فلما ابلغ هاهنا يف وعيد املرايب أتبعه هبذا الوعد فقال ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫صالةَ َوآتَ ُوا ال هزكاةَ َهلُ ْم أ ْ‬
‫َج ُر ُه ْم حال كونه‬ ‫َقاموا ال ه‬ ‫ابلل ورسوله ‪ ،‬ومبا جاءهم به و َع ِملُوا ال ه ِ ِ‬
‫صاحلات َوأ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم من مكروه يصيبهم َوال ُه ْم َْحي َزنُو َن من أجل حمبوب يفوهتم‪.‬‬ ‫ِع ْن َد َرّهبِِ ْم َوال َخ ْو ٌ‬

‫ص ‪180 :‬‬
‫خص الصالة والزكاة ابلذكر مع اندراجهما يف الصاحلات ‪ ،‬لإلشعار أب ّن هلما من املنزلة يف‬
‫وإمنا ّ‬
‫مرات عديدة كما جاءت اآلاثر بفضلهما‬
‫اإلسالم ما ليس لغريَها ‪ ،‬ولذلك ورد ذكرَها يف القرآن ّ‬
‫‪ ،‬وتفوقهما على غريَها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اللَ َوذَ ُروا ما بَِقي ِم َن ِّ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ )278‬فَِإ ْن‬ ‫الراب إِ ْن ُك ْن تُ ْم ُم ْؤمنِ َ‬ ‫َ‬ ‫آمنُوا اته ُقوا ه‬ ‫ين َ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫س أ َْموالِ ُك ْم ال تَظْلِ ُمو َن َوال تُظْلَ ُمو َن‬ ‫ِِ‬ ‫ب ِمن هِ‬ ‫ِ‬
‫الل َوَر ُسوله َوإِ ْن تُ ْب تُ ْم فَلَ ُك ْم ُرُؤ ُ‬ ‫َملْ تَ ْف َعلُوا فَأْذَنُوا حبَ ْر ٍّ َ‬
‫ص هدقُوا َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن (‪)280‬‬ ‫(‪ )279‬وإِ ْن كا َن ذُو عُسرةٍّ فَنَ ِظرةٌ إِىل مي ٍّ‬
‫س َرة َوأَ ْن تَ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫الل‬
‫ت َو ُه ْم ال يُظْلَ ُمو َن (‪ )281‬يبني ّ‬ ‫سبَ ْ‬‫س ما َك َ‬ ‫اللِ مثُه تُ َو هىف ُكل نَ ْف ٍّ‬‫َواته ُقوا يَ ْوماً تُ ْر َجعُو َن فِيهِ إِ َىل ه‬
‫يظن أنّه ال فرق بني املقبوض‬‫تعاىل يف اآلية السابقة أن من انتهى عن الراب فله ما سلف ‪ ،‬فرمبا ّ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا اته ُقوا ه‬
‫اللَ ‪ :‬أي اختذوا وقاية‬ ‫ين َ‬‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬
‫منه ‪ ،‬وبني الباقي يف ذمة القوم ‪ ،‬فقال ّ‬
‫الراب أي ما كان لكم يف ذمة القوم‬ ‫من عذاب ابمتثال أوامره ‪ ،‬واجتناب نواهيه َوذَ ُروا ما بَِقي ِم َن ِّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ني أي متّصفني ابإلميان الذي الشأن فيمن اتّصف به االنقياد‬ ‫من الزايدة احملرمة إِ ْن ُك ْن تُ ْم ُم ْؤمنِ َ‬
‫واالستسالم‪ .‬أي إن كنتم عاملني مبقتضى إميانكم‪.‬‬
‫اللِ َوَر ُسولِهِ أي‬
‫ب ِم َن ه‬
‫فَِإ ْن َملْ تَ ْف َعلُوا ما أمرتكم به من االتقاء ‪ ،‬وترك ما بقي من الراب فَأْذَنُوا ِحبَ ْر ٍّ‬
‫عقاب شديد من نوع احلروب ‪ ،‬فإ ّن اإلصرار على عمل الراب إن كان من شخص يقدر اإلمام‬
‫الل ‪ :‬من التعزير واحلبس ‪ ،‬إىل أن تظهر منه التوبة‪.‬‬
‫عليه قبض عليه وأجري عليه حكم ّ‬
‫الل‬
‫وإن كان له عسكر وشوكة حاربه اإلمام كما حيارب الفئة الباغية ‪ ،‬وكما حارب أبو بكر رضي ّ‬
‫عنه مانعي الزكاة ‪ ،‬وال عجب يف ذلك ‪ ،‬فإ ّن الفقهاء نصوا على أنه لو اجتمع أهل بلد على ترك‬
‫الل عنهما أنه‬
‫األذان أو ترك دفن املوتى ‪ :‬فإنه حيارهبم اإلمام‪ .‬وقد روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫قال ‪ :‬من عامل ابلراب يستتاب‪ .‬فإن اتب وإال ضربت عنقه‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬التعبري ابحلرب للتهديد والتخويف بعقابه الشديد ‪ ،‬فإنّه قد عهد التعبري ابحلرب يف معىن‬
‫العقاب الشديد ‪ ،‬كما‬
‫ورد «من أهان يل وليا فقد ابرزين ابحملاربة» «‪.»1‬‬
‫وقوله ‪ :‬فَأْذَنُوا فاعلموا وأيقنوا حبرب ‪ :‬من أذن أيذن‪ .‬من ابب (طرب)‪.‬‬
‫الل تعاىل فليس لكم إال رؤوس أموالكم ال تَظْلِ ُمو َن احملتاجني أبخذ‬
‫َوإِ ْن تُ ْب تُ ْم أي ‪ :‬امتثلتم أمر ّ‬
‫أمواهلم من غري عوض َوال تُظْلَ ُمو َن أنتم بضياع رؤوس أموالكم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 81 ، )243 /7‬كتاب الرقاق ‪ - 38 ،‬التواضع حديث‬
‫رقم (‪.)6502‬‬

‫ص ‪181 :‬‬
‫قيل ‪ :‬نزلت هذه اآلية يف أربعة إخوة من ثقيف ‪ :‬مسعود ‪ ،‬وعبد ايليل ‪ ،‬وحبيب ‪ ،‬وربيعة ‪ :‬بنو‬
‫الل عليه وسلّم أسلم‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫عمرو بن عمري الثقفي ‪ ،‬كانوا يداينون بين املغرية ‪ ،‬فلما ظهر ّ‬
‫األخوة ‪ ،‬مث طالبوا برابهم بين املغرية ‪ ،‬فنزلت «‪.»1‬‬
‫وإن وجد شخص ذو عسرة فعاملوه ابحلسىن والرمحة ‪ ،‬وأنظروه إىل ميسرة ‪ ،‬أو َوإِ ْن كا َن ذُو‬
‫عُسرةٍّ غرميا لكم فَنَ ِظرةٌ إِىل ميسرةٍّ‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫بكل يوم‬
‫حيل لكم دين رجل مسلم فيؤ ّخره إال كان ّ‬
‫فإنه عليه الصالة والسالم يقول ‪« :‬و ال ّ‬
‫صدقة» «‪.»2‬‬
‫فلفظ كا َن يف اآلية حيتمل أن تكون اتمة ‪ ،‬وحيتمل أن تكون انقصة‪.‬‬
‫يتعسر فيها وجود املال‪.‬‬
‫والعسرة ‪ :‬اسم من اإلعسار ‪ ،‬وهي احلالة اليت ّ‬
‫والنظرة ‪ :‬اسم للتأخري والتأجيل‪.‬‬
‫وامليسرة ‪ :‬مصدر مبعىن اليسر وهو الغىن‪.‬‬
‫وقرأ انفع بضم السني ‪ ،‬والباقون بفتحها‪.‬‬
‫ص هدقُوا على الغرماء املعسرين ابإلبراء فهو َخ ْريٌ لَ ُك ْم من اإلنظار ‪ ،‬وأكثر ثوااب ‪ ،‬أو هو َخ ْريٌ‬ ‫َوأَ ْن تَ َ‬
‫لَ ُك ْم مما أتخذونه إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن فضل التص ّدق على اإلنظار أو األخذ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬سبب نزول هذه اآلية أن األخوة الثقفيني طالبوا بين املغرية برؤوس أمواهلم ‪ ،‬فشكوا إليهم‬
‫العسرة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أخروان إىل أن تدرك الغالت ‪ ،‬فأبوا أتخريهم ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪.‬‬
‫ويؤخذ من اآلية أن رب املال مىت علم أ ّن غرمية معسر وجب عليه إنظاره ‪ ،‬وإذا ال حظنا أ ّن‬
‫العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ‪ :‬نعلم أن اإلنظار واجب عند العسر يف كل دين ‪ ،‬ال يف‬
‫خصوص دين الراب‪.‬‬
‫اللِ ملا كان الذين يعاملون ابلراب من العظماء أصحاب الثروة واجلالل‬
‫َواته ُقوا يَ ْوماً تُ ْر َجعُو َن فِيهِ إِ َىل ه‬
‫واألنصار واألعوان ‪ :‬كانت احلالة داعية إىل مزيد من الزجر والوعيد ‪ ،‬حىت ميتنعوا عن الراب وأخذ‬
‫الل وه ّددهم هبذه اآلية أيضا فقال ‪َ :‬واته ُقوا يَ ْوماً أي تشت ّد‬
‫أموال الناس ابلباطل‪ .‬وهلذا تو ّعدهم ّ‬
‫الل‬
‫فيه األهوال ‪ ،‬وتعظم اخلطوب ‪ ،‬حىت ورد أنه جيعل الولدان شيبا ‪ ،‬وهلول ما يقع فيه أمر ّ‬
‫ابتّقاء نفس اليوم ‪ ،‬للمبالغة يف التحذير عما فيه‪.‬‬
‫اللِ أي لتوقيع اجلزاء ‪:‬‬
‫وقال ‪ :‬تُ ْر َجعُو َن فِيهِ إِ َىل ه‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر تفسري الطربي املسمى جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)71 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف املسند (‪.)351 /5‬‬

‫ص ‪182 :‬‬
‫قال ذَ هرةٍّ َخ ْرياً يَ َرهُ (‪َ )7‬وَم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َ‬
‫قال ذَ هرةٍّ َش ًّرا يَ َرهُ (‪[ )8‬الزلزلة ‪ ]8 ، 7 :‬كما‬ ‫فَ َم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َ‬
‫ت أي جزاء ما عملت من خري أو شر َو ُه ْم ال يُظْلَ ُمو َن يف هذه‬ ‫سبَ ْ‬
‫س ما َك َ‬ ‫قال ‪ :‬مثُه تُ َو هىف ُكل نَ ْف ٍّ‬
‫العقوابت ‪ ،‬ألهنّا مناسبة ألسباهبا الواقعة منهم‪ .‬وهاهنا أمور ‪:‬‬
‫األول ‪:‬‬
‫اللِ ‪ ..‬آخر آية‬ ‫الل عنهما أ ّن قوله تعاىل ‪َ :‬واته ُقوا يَ ْوماً تُ ْر َجعُو َن فِيهِ إِ َىل ه‬
‫نقل عن ابن عباس رضي ّ‬
‫اللُ يُ ْفتِي ُك ْم‬
‫ك قُ ِل ه‬ ‫حج نزلت يَ ْستَ ْفتُونَ َ‬ ‫الل عليه وسلّم «‪ ، »1‬ألنه ملا ّ‬ ‫الل صلّى ّ‬
‫نزلت على رسول ّ‬
‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم‬
‫ِيف الْ َكاللَةِ ‪[ »2« ..‬النساء ‪ ]176 :‬مث نزلت وهو واقف بعرفة الْيَ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫اللِ ‪..‬‬‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َم ِيت ‪[ »3« ..‬املائدة ‪ ]3 :‬مث نزل ‪َ :‬واته ُقوا يَ ْوماً تُ ْر َجعُو َن فِيهِ إِ َىل ه‬
‫َوأَ ْمتَ ْم ُ‬
‫فقال جربيل عليه السالم ‪« :‬اي حممد ضعها على رأس مثانني آية ومائيت آية من البقرة» «‪.»4‬‬
‫والثاين ‪ :‬قرأ أبو عمرو تُ ْر َجعُو َن بفتح التاء ‪ ،‬والباقون بضمها ‪ ،‬فبالفتح من رجع رجوعا ‪ ،‬وهو‬
‫يصح بناؤه للمفعول‪.‬‬
‫الزم‪ .‬وابلضم من رجعه إليه رجعا ‪ ،‬وهو متعد ‪ّ ،‬‬
‫الل أهنم يرجعون إىل ما أع ّد هلم من ثواب أو عقاب وقيل ‪ :‬معناه أهنم‬
‫الثالث ‪ :‬معىن رجوعهم إىل ّ‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬خبالف حالتهم يف الدنيا‬
‫يتصرف فيهم ظاهرا وابطنا ّإال ّ‬
‫يكونون يف يوم البعث حبالة ال ّ‬
‫‪ ،‬فإنه يتصرف بعضهم يف بعض حبسب الظّاهر‪.‬‬
‫ِ‬
‫ب بَ ْي نَ ُك ْم‬
‫س ًّمى فَا ْكتُ بُوهُ َولْيَكْتُ ْ‬ ‫آمنُوا إِذا تَدايَ ْن تُ ْم بِ َديْ ٍّن إِىل أ َ‬
‫َج ٍّل ُم َ‬ ‫ين َ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ب َولْيُ ْملِ ِل اله ِذي َعلَْيهِ ا ْحلَق َولْيَ ت ِهق‬ ‫ب َكما َعله َمهُ ه‬
‫اللُ فَلْيَكْتُ ْ‬ ‫ب أَ ْن يَكْتُ َ‬
‫كاتِب ِابلْع ْد ِل وال أي ِ‬
‫ْب كات ٌ‬ ‫ٌ َ َ َ َ‬
‫يع أَ ْن ُميِ هل ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫الل ربههُ وال ي ْب َخس ِم ْنهُ َش ْيئاً فَِإ ْن كا َن اله ِذي َعلَْيهِ ا ْحلق س ِفيهاً أَو َ ِ‬
‫ضعيفاً أ َْو ال يَ ْستَط ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫هَ َ َ َ ْ‬
‫َاتن ِممه ْن‬
‫ني فَرجل و ْامرأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َش ِهي َديْ ِن م ْن ِرجال ُك ْم فَِإ ْن َملْ يَ ُكوان َر ُجلَ ْ ِ َ ُ ٌ َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫فَلْيُ ْمل ْل َوليهُ ِابل َْع ْد ِل َو ْ‬
‫ْب الش َهداءُ إِذا ما دُعُوا َوال‬ ‫داَها فَتُ َذ ّكِ َر إِ ْح ُ‬ ‫ضله إِ ْح ُ‬ ‫ضو َن ِمن الشه ِ‬
‫داء أَ ْن تَ ِ‬
‫داَهَا ْاألُ ْخرى َوال َأي َ‬ ‫تَ ْر َ ْ َ َ‬
‫هادةِ َوأَ ْدىن أ هَال تَ ْراتبُوا‬ ‫ش َ‬ ‫ط ِع ْن َد ه‬
‫اللِ َوأَق َْو ُم لِل ه‬ ‫ْس ُ‬ ‫تَسئَموا أَ ْن تَكْتُ بوهُ صغِرياً أَو َكبِرياً إِىل أ ِ ِ ِ‬
‫َجله ذل ُك ْم أَق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ناح أ هَال تَكْتُ بُوها َوأَ ْش ِه ُدوا إذا تَبايَ ْعتُ ْم‬ ‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬ ‫ارةً حاض َرةً تُد ُيروهنَا بَ ْي نَ ُك ْم فَلَْي َ‬ ‫إِهال أَ ْن تَ ُكو َن جت َ‬
‫اللُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍّء‬
‫اللُ َو ه‬ ‫اللَ َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ه‬
‫سو ٌق بِ ُك ْم َواته ُقوا ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َوال َش ِهي ٌد َوإ ْن تَ ْف َعلُوا فَإنههُ فُ ُ‬
‫وال ي َ ِ‬
‫ضا هر كات ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫يم (‪ )282‬التداين ‪ :‬تفاعل ‪ ،‬مأخوذ من ال ّدين ‪ ،‬وهو ‪ :‬التبايع ابلدين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور التفسري املأثور للسيوطي (‪.)369 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )220 /5‬كتاب التفسري ‪ - 27 ،‬ابب (يستفتونك)‬
‫حديث رقم (‪.)4605‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 2 ، )19 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 32 ،‬ابب حسن إسالم املرء‬
‫حديث رقم (‪.)45‬‬
‫(‪ ) 4‬انظر اجلامع ألحكام القرآن لإلمام القرطيب ‪ ،‬بريوت دار الفكر (‪.)61 /1‬‬

‫ص ‪183 :‬‬
‫ِ‬
‫َولْيُ ْمل ِل أي ميلي ‪ ،‬يقال ّ‬
‫أمل إمالال إذا كان أملى إمالء‪.‬‬
‫الل فيها حكم التعامل ابلراب ‪ ،‬وش ّدد يف منعه ‪ ،‬فأراد‬
‫مناسبة هذه اآلية ‪ :‬إ ّن اآلايت السابقة ّبني ّ‬
‫يبني حالة املداينة الواقعة يف املعاوضات اجلارية فيما بينهم ببيع السلع ابلدين املؤجل‬
‫هنا أن ّ‬
‫بطريقة حتفظ األموال ‪ ،‬وتصوهنا عن الضياع‪.‬‬
‫الل مطلوب ‪ ،‬وهو يوجب‬
‫وميكن أن يقال يف املناسبة ‪ :‬إنّه ملا ّبني فيما سبق أ ّن اإلنفاق يف سبيل ّ‬
‫يبني كيفية حفظ املال‬
‫حمرم ‪ ،‬وهو يوجب نقص املال أيضا ‪ ،‬أراد هنا أن ّ‬
‫نقص املال ‪ ،‬وإن الراب ّ‬
‫احلالل ‪ ،‬وطريق صونه عن الضياع فقال ‪:‬‬
‫ِ‬
‫يصح فيه األجل ‪ ،‬كبيع سلعة‬ ‫آمنُوا إِذا تَدايَ ْن تُ ْم تبايعتم وتعاملتم نسيئة بِ َديْ ٍّن مبا ّ‬ ‫اي أَي َها الهذ َ‬
‫ين َ‬
‫س ًّمى مع‬ ‫حاضرة بنقود مؤجلة ‪ ،‬أو بسلعة أخرى مؤجلة ‪ ،‬وكبيع سلعة مؤجلة أي إِىل أ َ‬
‫َج ٍّل ُم َ‬
‫حال ‪ ،‬وهو السلم ‪ ،‬أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل فَا ْكتُ بُوهُ‬ ‫معرفة اجلنس والنوع والقدر بثمن ّ‬
‫يدل على هذا التعامل ‪ ،‬مع بيان األجل ابألايم أو األشهر أو غريَها ‪ ،‬بطريقة ترفع‬ ‫فاكتبوا ما ّ‬
‫اجلهالة ‪ ،‬ال مبثل احلصاد والدايس مما ال يرفعها ‪ ،‬أل ّن الكتابة أوثق يف ضبط الواقع ‪ ،‬وأرفع‬
‫للنزاع‪.‬‬
‫ب أي مأمون يكتب‬ ‫ِ‬
‫ب بَ ْي نَ ُك ْم كات ٌ‬
‫ويعني من يتوالها فقال ‪َ :‬ولْيَكْتُ ْ‬
‫يبني كيفية الكتابة ‪ّ ،‬‬
‫مث أراد أن ّ‬
‫ِابل َْع ْد ِل ‪ :‬وهذا أمر للمتداينني ابختيار كاتب فقيه متديّن يقظ ‪ ،‬ليكتب ابحلق ‪ ،‬ويتحاشى‬
‫ضح املعاين ‪ ،‬ويتجنّب خالف الفقهاء‪.‬‬ ‫األلفاظ احملتملة للمعاين الكثرية واأللفاظ املشرتكة ‪ ،‬ويو ّ‬
‫ب أي ال ميتنع أحد من الكتاب عن أَ ْن‬ ‫مث أوصى الكاتب ‪ ،‬وهناه عن اإلابء‪ .‬فقال ‪ :‬وال أي ِ‬
‫ْب كات ٌ‬ ‫َ َ َ‬
‫الل يف كتابة الواثئق ‪ ،‬أي يكتب كتابة‬ ‫اللُ على الطريقة اليت علّمه ّ‬ ‫ب وثيقة الدين َكما َعله َمهُ ه‬ ‫يَكْتُ َ‬
‫الل ‪ ،‬فالكاف صفة ملوصوف حمذوف‪.‬‬ ‫كاليت علمه ّ‬
‫الل بتعلّم الكتابة ‪ ،‬كما يف قوله‬ ‫أو املعىن ‪ :‬وال أيب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته ‪ ،‬كما نفعه ّ‬
‫ك [القصص ‪.]77 :‬‬ ‫اللُ إِلَيْ َ‬
‫س َن ه‬ ‫تعاىل ‪ :‬وأ ِ‬
‫َح َ‬
‫َحس ْن َكما أ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫ْب كات ٌ‬
‫ب أي تلك الكتابة املعلّمة ‪ ،‬فهو توكيد لألمر املستفاد من قوله َوال َأي َ‬ ‫مث قال ‪ :‬فَلْيَكْتُ ْ‬
‫ب بَْي نَ ُك ْم إخل‪.‬‬
‫إخل‪ .‬وجيوز أن يكون توكيدا لألمر الصريح يف قوله ‪َ :‬ولْيَكْتُ ْ‬
‫الل تعاىل إىل أن الذي ميلي على الكاتب هو املدين ‪ ،‬فإنّه املكلّف أبداء مضمون الكتابة‬
‫مث أرشد ّ‬
‫الل ‪ ،‬وأبال ينقص من احلق الذي‬ ‫‪ ،‬فالالزم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه ‪ ،‬مث أوصاه بتقوى ّ‬
‫س أي ال ينقص ِم ْنهُ َش ْيئاً‪.‬‬ ‫عليه شيئا حيث قال ‪َ :‬ولْيُ ْملِ ِل اله ِذي َعلَْيهِ ا ْحلَق َولْيَ ت ِهق ه‬
‫اللَ َربههُ َوال يَ ْب َخ ْ‬
‫مث ّبني أنه فَِإ ْن كا َن اله ِذي َعلَْيهِ ا ْحلَق َس ِفيهاً أي انقص العقل ‪ ،‬مبذرا يف ماله ‪ ،‬أ َْو‬

‫ص ‪184 :‬‬
‫ضعِيفاً أبن يكون صبيا أو جمنوان ‪ ،‬أو شيخا كبريا ال تساعده قواه العقلية على ضبط األمور أ َْو ال‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫يع أَ ْن ُميِله أي ميلي بنفسه ‪ ،‬أبن كان أخرسا ‪ ،‬أو جاهال أو مصااب ابلعمى فَلْيُ ْملِ ْل َوليهُ القيم‬ ‫ِ‬
‫يَ ْستَط ُ‬
‫عليه ‪ ،‬أو وكيله ِابل َْع ْد ِل أي من غري زايدة وال نقص‪.‬‬
‫يتصور منه الزايدة والنقص‬ ‫وعرب هنا بصيغة العدل الشاملة لرتك الزايدة والنقص ‪ ،‬أل ّن اململي هنا ّ‬
‫املتصور منه النقص فقط‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مبحاابة هذا أو هذا ‪ ،‬خبالف ما إذا كان اململي املدين ‪ ،‬فإ ّن‬
‫الل تعاىل املتداينني إىل أمر آخر مفيد يف ضبط الوقائع ‪ ،‬وحفظ األموال فقال ‪:‬‬ ‫مث أرشد ّ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َش ِهي َديْ ِن ِم ْن ِرجالِ ُك ْم أي اطلبوا شهيدين ليحمال الشهادة ‪ ،‬وحيفظا الواقع‪.‬‬
‫َو ْ‬
‫وقوله ‪ِ :‬م ْن ِرجالِ ُك ْم متعلق ابستشهدوا ‪ ،‬و(من) ابتدائية ‪ ،‬أو متعلّق مبحذوف صفة لشهيدين ‪،‬‬
‫و(من) تبعيضية ‪ :‬أي من رجالكم املسلمني األحرار ‪ ،‬فإ ّن الكالم يف معامالهتم‪ .‬فَِإ ْن َملْ يَ ُكوان‬
‫ني فليشهد رجل وامرأاتن ‪ ،‬أو فَرجل و ْامرأ ِ‬
‫َاتن يكفون يف الشهادة‪.‬‬ ‫الشهيدان َر ُجلَ ْ ِ‬
‫َُ ٌ َ َ‬
‫وشهادة النساء مع الرجال جتوز عند احلنفية يف األموال والطالق والنكاح والرجعة والعتق ‪ ،‬وكل‬
‫شيء إال احلدود والقصاص‪.‬‬
‫وعند املالكية جتوز يف األموال وتوابعها خاصة ‪ ،‬وال تقبل يف أحكام األبدان مثل احلدود ‪،‬‬
‫ضو َن ِمن الشه ِ‬ ‫ِ‬
‫داء‪.‬‬ ‫والقصاص والنكاح والطالق ‪ ،‬والرجعة ‪ ،‬والعتق‪ .‬ممه ْن تَ ْر َ ْ َ َ‬
‫اجلار األول ‪ ،‬متعلق مبحذوف صفة لرجل وامرأاتن ‪ :‬أي كائنون مرضيني عندكم بعدالتهم ‪ ،‬وهذا‬
‫الوصف وإن كان يف مجيع الشهود ‪ ،‬لكنه ذكره هنا للتشدد يف اعتباره ‪ ،‬أل ّن اتصاف النساء به‬
‫قليل‪.‬‬
‫واجلار الثاين متعلق مبحذوف حال من الضمري املفعول املق ّدر يف ترضون ‪ ،‬العائد إىل املوصول ‪:‬‬
‫أي ممن ترضوهنم حال كوهنم من بعض الشهداء ‪ ،‬لعلمكم بعد التّهم ‪ ،‬وثقتكم هبم ‪ ،‬وإدراج‬
‫النساء يف الشهداء للتغليب‪.‬‬
‫وتدل اآلية على أن الشهادة نوعان ‪ :‬شهادة رجلني ‪ ،‬وشهادة رجل وامرأتني ‪ ،‬وال اثلث هلما ‪،‬‬
‫الل يف هذه اآلية ‪ ،‬ومل يذكر الشاهد واليمني‬
‫وهلذا قال احلنفية ‪ :‬الشهادة قسمان فقط كما ذكرها ّ‬
‫الل مل‬
‫فال جيوز القضاء عندهم ابلشاهد واليمني ‪ ،‬ألنه حينئذ يكون قسما اثلثا للشهادة ‪ ،‬مع أن ّ‬
‫يذكر هلا إال قسمني‪.‬‬
‫ص ‪185 :‬‬
‫وقال املالكية والشافعية ‪ :‬جيوز القضاء بشاهد وميني ‪ ،‬ال ابعتبار أن هذا قسم اثلث للشهادة ‪،‬‬
‫وإمنا هو ابعتبار أن القضاء ابليمني وإسقاط الشاهد ترجيح جلانب امل ّدعي ‪ ،‬وأما عدم ذكر ذلك‬
‫يف القرآن فال مينع مشروعيته والعمل به‪ .‬يدل على ذلك أن القضاء عند احلنفية جيوز ابلنكول ‪،‬‬
‫وهو قسم اثلث ‪ ،‬ليس له يف القرآن ذكر‪.‬‬
‫والضمري يف قوله ‪ِ :‬م ْن ِرجالِ ُك ْم يعود إىل املخاطبني املسلمني ‪ ،‬وهو دليل على أنه ال بد من‬
‫إسالم الشهود ‪ ،‬وهو مذهب مالك والشافعي ‪ ،‬وأمحد وأجاز احلنفية قبول شهادة الكفار‬
‫بعضهم على بعض‪ .‬ملا‬
‫روي أنه عليه الصالة والسالم رجم يهوديني بشهادة اليهود عليهما ابلزىن «‪.»1‬‬
‫داَها فَتُ َذ ّكِ َر إِ ْح ُ‬
‫داَهَا ْاألُ ْخرى أي إمنا‬ ‫مث أراد تعليل اعتبار العدد يف النساء فقال ‪ :‬أَ ْن تَ ِ‬
‫ض هل إِ ْح ُ‬
‫تضل إحداَها ‪ ،‬فتذكر إحداَها األخرى‪ .‬والعلّة يف‬ ‫اعترب التع ّدد يف شهادة النساء ملا عسى أن ّ‬
‫احلقيقة هي التذكري ‪ ،‬ولكن الضالل ملا كان سببا يف التذكري ‪ ،‬وكان الشأن يف النساء الغفلة‬
‫والنسيان ‪ّ ،‬نزل منزلة العلة ‪ ،‬كما يف قوهلم ‪:‬‬
‫أعددت السالح أن جييء عدو فأدفعه ‪ ،‬فإن العلّة هي الدفاع ‪ ،‬وملا كان جميء العدو سببا فيه‬
‫ّنزل منزلته ‪ ،‬فهو علة حذف منها الم التعليل‪.‬‬
‫داَها فَتُ َذ ّكِ َر إخل‪.‬‬ ‫ويصح أن يكون مفعوال ألجله‪ .‬أي إرادة أَ ْن تَ ِ‬
‫ضله إِ ْح ُ‬
‫ويقال يف العلة احلقيقية هنا ما قيل يف الوجه األول ‪ ،‬والضالل مبعىن النسيان‪.‬‬
‫داَها فَتُ َذ ّكِ َر إِ ْح ُ‬
‫داَهَا ْاألُ ْخرى بكسر أَ ْن وجعلها شرطية مع رفع فتذكر ‪،‬‬ ‫وقرأ محزة ‪ :‬أَ ْن تَ ِ‬
‫ض هل إِ ْح ُ‬
‫ضله فعل الشرط‪ .‬وقوله ‪ :‬فَتُ َذ ّكِ َر مرفوع ابلضمة ‪ ،‬واجلملة يف حمل جزم جواب الشرط‪.‬‬ ‫وتَ ِ‬
‫مث أوصى الشهود ‪ ،‬وهناهم عن اإلابء عن الشهادة ‪ ،‬كما هنى الكاتب عن االمتناع عن الكتابة‬
‫ورجحوا احلمل هنا على‬ ‫ْب الش َهداءُ إِذا ما ُدعُوا ألداء الشهادة ‪ ،‬أو ّ‬
‫لتحملها ‪ّ ،‬‬ ‫فقال ‪َ :‬وال َأي َ‬
‫التحمل ألنه منهي عن كتمان الشهادة ‪ ،‬أي ابالمتناع عن األداء بقوله ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ومن يكْتمها فَِإنهه ِ‬
‫آمثٌ قَلْبُهُ وما زائدة مث عاد إىل أمر الكتابة فأ ّكد طلبها حيث قال ‪َ :‬وال تَ ْسئَ ُموا‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ ُْ‬
‫أَ ْن تَكْتُ بُوهُ أي ال متلّوا من كتابة ال ّدين ‪ ،‬أو احل ّق مهما كثرت معامالتكم ‪ ،‬سواء كان الدين أو‬
‫َجلِهِ أي حال كون الدين أو احلق مستقرا يف الذمة‬ ‫احلق ِ‬
‫صغرياً أ َْو َكبِرياً فال تسأموا من كتابته إِىل أ َ‬
‫َ‬
‫أقر به املدين ذلِ ُك ْم الذي أمرتكم به من الكتابة ‪،‬‬
‫إىل أجله ‪ ،‬أي إىل وقت حلول األجل الذي ّ‬
‫واإلشهاد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 87 ، )38 /8‬كتاب احملاربني ‪ - 24 ،‬ابب أحكام أهل‬
‫الذمة حديث رقم (‪ ، )6841‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1327 /3‬كتاب احلدود ‪- 6 ،‬‬
‫ابب رجم اليهود حديث رقم (‪.)1700 /28‬‬

‫ص ‪186 :‬‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬ألنّه مىت كتب كان إىل اليقني أقرب ‪ ،‬وعن‬ ‫ط ِع ْن َد ه‬
‫اللِ أي أعدل يف إصابة حكم ّ‬ ‫ْس ُ‬
‫أَق َ‬
‫الل‪.‬‬
‫الكذب أبعد ‪ ،‬فكان أعدل عند ّ‬
‫والقسط ‪ :‬اسم ‪ ،‬واإلقساط مصدر ‪ ،‬يقال ‪ :‬أقسط يقسط إقساطا إذا عدل ‪ ،‬فهو مقسط ‪،‬‬
‫ِ‬
‫ني [املائدة ‪.]42 :‬‬ ‫اللَ ُِحيب ال ُْم ْق ِسط َ‬ ‫ومنه إِ هن ه‬
‫هم َحطَباً (‪)15‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأما قسط فهو مبعىن جار كما قال تعاىل ‪ :‬أَهما الْقاسطُو َن فَكانُوا جلََهن َ‬
‫[اجلن ‪.]15 :‬‬
‫هادةِ أي أثبت هلا ‪ ،‬وأعون على إقامتها َوأَ ْدىن أَهال تَ ْراتبُوا أي‬ ‫ش َ‬ ‫ط ِعنْ َد ه‬
‫اللِ َوأَق َْو ُم لِل ه‬ ‫ْس ُ‬ ‫ِ‬
‫ذل ُك ْم أَق َ‬
‫أقرب إىل ارتفاع ريبكم يف جنس ال ّدين ونوعه وقدره وأجله‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ناح أ هَال تَكْتُ بُوها أي أنكم مأمورون‬ ‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬‫ارةً حاض َرةً تُد ُيروهنَا بَ ْي نَ ُك ْم فَلَْي َ‬ ‫إِهال أَ ْن تَ ُكو َن جت َ‬
‫حاض َرةً حبضور البدلني ‪،‬‬ ‫ابلكتابة إذا كان التعامل ابلدين ‪ ،‬لكن إن كانت معامالتكم ِجتارةً ِ‬
‫َ‬
‫ناح إمث يف عدل الكتابة لبعده‬ ‫ِ‬
‫س عَلَيْ ُك ْم ُج ٌ‬‫تُد ُيروهنَا بَ ْي نَ ُك ْم أي تتعاملون ابلبدلني يدا بيد فَلَيْ َ‬
‫حينئذ عن التنازع‪.‬‬
‫َوأَ ْش ِه ُدوا إِذا تَبايَ ْعتُ ْم ‪ :‬أي إذا كان التعامل يدا بيد فال أبس من عدم الكتابة ‪ ،‬ولكن ينبغي‬
‫اإلشهاد على هذا التعامل ‪ ،‬فإ ّن اليد الظاهرة رمبا ال تكون حم ّقة ‪ ،‬فاإلشهاد أحوط‪.‬‬
‫ب َوال َش ِهي ٌد أي ال يضارر ‪ -‬ابلكسر ‪ -‬كاتب وال شهيد برتك اإلجابة ‪ ،‬أو ابلتغيري‬ ‫وال ي َ ِ‬
‫ضا هر كات ٌ‬‫َ ُ‬
‫والتحريف يف الكتابة والشهادة ‪ ،‬أو ال يضار ‪ -‬ابلفتح ‪ -‬كاتب إخل‪.‬‬
‫أي ال جيوز للطالب أن يضارر ‪ -‬ابلكسر ‪ -‬الكاتب والشهيد ‪ ،‬أبن يقهرَها على االحنراف يف‬
‫الكتابة والشهادة ‪ ،‬ويضغط عليهما للخروج عما ح ّد هلما ‪َ ،‬وإِ ْن تَ ْف َعلُوا ما هنيتم عنه من الضرار‬
‫سو ٌق بِ ُك ْم وخروج عن الطاعة ‪ ،‬ملتبس بكم ‪ ،‬أو وإن تفعلوا شيئا مما‬ ‫ِ‬
‫‪ ،‬فَإنههُ أي فعلكم هذا فُ ُ‬
‫هنيتم عنه على اإلطالق فإنه فسوق إخل‪.‬‬
‫اللَ فيما حذركم منه من الضرار ‪ ،‬أو من ارتكاب شيء مما هناكم عنه َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ه‬
‫اللُ ما‬ ‫َواته ُقوا ه‬
‫ٍّ ِ‬
‫يم ال َيفى عليه‬ ‫اللُ بِ ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يصلح لكم أمر الدنيا ‪ ،‬كما يعلّمكم ما يصلح أمر الدين َو ه‬
‫حالكم الظاهر والباطن ‪ ،‬فهو جيازيكم بذلك وكرر لفظ اجلاللة يف اجلمل الثالثة لرتبية املهابة يف‬
‫نفس السامع ‪ ،‬ولإلشارة إىل استقالل كل منهما مبا هو مقصود منه‪.‬‬
‫وهاهنا أمور ‪:‬‬
‫املؤجلة واجبان بقوله فَا ْكتُ بُوهُ ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ذهب قوم إىل أن الكتابة والشهادة على الديون ّ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َش ِهي َديْ ِن ‪ ،‬مث نسخ الوجوب بقوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن أ َِم َن بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضاً فَلْيُ َؤ ِّد اله ِذي ْاؤ ُمتِ َن‬ ‫َو ْ‬
‫أَمانَتَهُ [البقرة ‪.]283 :‬‬

‫ص ‪187 :‬‬
‫واجلمهور على أن الكتابة واإلشهاد مندوابن ‪ ،‬وأ ّن األمر هبما للندب ‪ ،‬فإنه مل ينقل عن الصحابة‬
‫والتابعني وفقهاء األمصار أهنّم كانوا يتش ّددون فيهما ‪ ،‬بل كانت تقع املداينات واملبايعات بينهم‬
‫من غري كتابة وال إشهاد ‪ ،‬ومل يقع نكري منهم ‪ ،‬فدل ذلك على أ ّن األمر للندب ‪ ،‬وهو مذهب‬
‫احلنفية ‪ ،‬واملالكية ‪ ،‬واحلنابلة‪.‬‬
‫الل تعاىل إىل الكتابة واإلشهاد يف الديون املؤجلة ‪ ،‬حلفظ ما يقع بني املتعاقدين إىل‬
‫وإمنا ندب ّ‬
‫حلول األجل ‪ ،‬ألن النسيان يقع كثريا يف املدة اليت بني العقد وحلول األجل ‪ ،‬وكذلك قد تطرأ‬
‫الل الكتابة واإلشهاد حلفظ املال وضبط الواقع‪.‬‬
‫العوارض ‪ :‬من موت أو غريه ‪ ،‬فشرع ّ‬
‫الثاين ‪ :‬قال أكثر املفسرين ‪ :‬إن املبيعات على أربعة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬بيع العني ابلعني ‪ :‬كبيع الكتاب احلاضر ابلنقد احلاضر‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬بيع الدين ابلدين ‪ :‬كبيع أردب من القمح مثال واجب يف ذمته لزيد إبردبني من الشعري‬
‫منهي عنه ‪ ،‬وكالَها غري داخل يف اآلية‪.‬‬
‫واجبني على زيد هذا للبائع األول ‪ ،‬وهذا البيع ابطل ّ‬
‫مؤجل‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬هو بيع العني ابلدين ‪ :‬كبيع كتاب حاضر بثمن ّ‬
‫والرابع ‪ :‬بيع الدين ابلعني ‪ ،‬وهو السلم ‪ ،‬وكالَها داخل يف اآلية‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَا ْكتُ بُوهُ ليس املراد أن يكتبه املتعاقدان أبيديهما‪ .‬وإمنا املراد توصلوا إىل‬
‫ب ِابل َْع ْد ِل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ب بَ ْي نَ ُك ْم كات ٌ‬
‫كتابة ما وقع ‪ ،‬كما يدل عليه قوله ‪َ :‬ولْيَكْتُ ْ‬
‫وقد اختلفوا يف كتابة الكاتب ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إهنا فرض كفاية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬فرض عني على الكاتب مىت‬
‫طلب منه ‪ ،‬وكان يف حال فراغه ‪ :‬وقيل ‪ :‬إنه ندب‪ .‬والصحيح أنه أمر إرشاد ‪ ،‬فيجوز له أن‬
‫يتخلّف عن الكتابة حىت أيخذ أجره‪.‬‬
‫ِ‬
‫ارةً منقطع ‪ :‬كما يدل عليه التقرير املتقدم ‪ ،‬وجيوز أن يكون‬ ‫واالستثناء يف قوله ‪ :‬إِهال أَ ْن تَ ُكو َن جت َ‬
‫متصال إن جعل استثناء من قوله إِذا تَدايَ ْن تُ ْم إىل قوله ‪ :‬فَا ْكتُ بُوهُ أي إال أن تكون جتارة حاضرة ‪،‬‬
‫أي األجل فيها قصري ‪ ،‬ال مبعىن حضور البدلني‪.‬‬
‫أو جعل استثناء من قوله ‪َ :‬وال تَ ْسئَ ُموا أَ ْن تَكْتُ بُوهُ إخل أي إال أن تكون جتارة حاضرة ‪ ،‬أي األجل‬
‫فيها قصري‪.‬‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضاً فَلْيُ َؤ ِّد‬ ‫ضةٌ فَِإ ْن أ َِم َن بَ ْع ُ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم َعلى َس َف ٍّر َوَملْ َِجت ُدوا كاتِباً فَ ِرها ٌن َم ْقبُو َ‬ ‫قال ّ‬
‫اللُ ِمبا تَ ْع َملُو َن‬ ‫شهادةَ ومن يكْتمها فَِإنهه ِ‬ ‫اله ِذي ْاؤ ُمتِ َن أَمانَتَهُ َولْيَ ت ِهق ه‬
‫آمثٌ قَلْبُهُ َو ه‬ ‫ُ‬ ‫اللَ َربههُ َوال تَكْتُ ُموا ال ه َ َ َ ْ َ ُ ْ‬
‫يم (‪.)283‬‬‫ِ‬
‫َعل ٌ‬
‫اآلية املتقدمة ترشد إىل االحتياط يف املبايعات الواقعة ابلديون املؤجلة بكتابتها‬

‫ص ‪188 :‬‬
‫واإلشهاد عليها ‪ ،‬والتم ّكن من ذلك يف الغالب يكون يف احلضر‪.‬‬
‫أما يف السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك ‪ ،‬فأرشد إىل االحتياط يف حالة السفر ابلرهان ‪،‬‬
‫اليت يستوثق هبا يف احلصول على املؤجل فقال ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم عَلى َس َف ٍّر أي مسافرين ‪ ،‬ومل جتدوا‬
‫كاتبا يكتب الدين ‪ ،‬فالذي يستوثق به رهان مقبوضة ‪ ،‬وتعليق الرهان على السفر ليس لكون‬
‫السفر شرطا يف صحة الرهان ‪ ،‬فإ ّن التعامل ابلرهان مشروع حضرا وسفرا ‪ ،‬كما‬
‫ورد أنه عليه الصالة والسالم رهن درعه يف املدينة من يهودي بثالثني صاعا من شعري أخذه‬
‫ألهله»‬
‫‪ .‬وإمنا علّق هنا على السفر إلقامة التوثق ابلرهان مقام التوثق ابلكتابة يف السفر الذي هو مظنّة‬
‫تعسرها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ووصف الرهن بكونه مقبوضا ظاهر يف أنه ما مل يقبض ال يظهر وجه للتوثّق به ‪ ،‬وكونه مقبوضا‬
‫يستلزم كونه معينا مفرزا ‪ ،‬وهلذا قال احلنفية ‪ :‬ال جيوز رهن املشاع بناء على هذا‪.‬‬
‫وقال املالكية ‪ :‬الرهن كالبيع ‪ ،‬وبيع املشاع جائز ‪ ،‬فرهن املشاع جائز أيضا ‪ ،‬وقد اختلف األئمة‬
‫متسكا‬
‫يف أن القبض شرط لصحة الرهن أم لتمامه ‪ ،‬فقال احلنفية والشافعية ‪ :‬إنه شرط صحة ‪ّ ،‬‬
‫بقوله تعاىل ‪ :‬فَ ِرها ٌن َم ْقبُو َ‬
‫ضةٌ ومبا يظهر من مشروعية الرهن للتوثق ‪ ،‬وال توثق إال ابلقبض‪.‬‬
‫مبجرد العقد ‪ ،‬وجيرب الراهن على‬
‫وقال املالكية واحلنابلة ‪ :‬إنه شرط متام ‪ ،‬مبعىن أ ّن الرهن يلزم ّ‬
‫مبجرد العقد‪ .‬والرهان مجع‬ ‫اإلقباض ‪ ،‬ومىت قبض متّ وكمل قياسا على سائر العقود ‪ ،‬فإهنا تلزم ّ‬
‫رهن ‪ :‬مبعىن املرهون‪ .‬وقرئ ‪ :‬فَ ِرها ٌن بضمتني ‪ ،‬وهو مجع رهن أيضا‪.‬‬
‫فَِإ ْن أ َِم َن بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضاً أي إن أمن بعض الدائنني بعض املدينني فَلْيُ َؤ ِّد اله ِذي ْاؤُمتِ َن أَمانَتَهُ يف‬
‫عول على أمانته ‪ ،‬ومل‬
‫رعاية حقوق األمانة فال جيحدها ‪ ،‬وال يتأخر عن دفعها‪ .‬فحيث إن الدائن ّ‬
‫يطالبه بوثيقة وال برهان ‪ ،‬ينبغي للمدين أن يعامله ابحلسىن‪.‬‬
‫وعرب ابلذي أؤمتن بدل التعبري‬
‫وبَ ْعضاً مفعول ألمن ‪ ،‬يقال ‪ :‬أمن فالن غريه إذا مل َيف خيانته‪ّ .‬‬
‫ابملدين للحث على األداء ‪ ،‬فإ ّن التعبري عنه هبذه الصيغة مما يورطه ويدفعه إىل حسن األداء‬
‫ومجيل املعاملة ‪ ،‬ومجع بني األلوهية وصفة الربوبية يف قوله ‪َ :‬ولْيَ ت ِهق ه‬
‫اللَ َربههُ للمبالغة يف التحذير‬
‫من اخليانة اليت تغضب إهله املعبود حبق ‪ ،‬وربّه الذي يربيه ‪ ،‬ويلي شؤونه ‪ ،‬ويدير مصاحله‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 56 ، )303 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 89 ،‬ابب ما قيل يف درع‬
‫الل عليه وسلّم حديث رقم (‪ ، )2916‬ومسلم يف الصحيح (‪- 22 ، )1226 /3‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫كتاب املساقاة ‪ - 24 ،‬ابب الرهن حديث رقم (‪.)1603 /124‬‬

‫ص ‪189 :‬‬
‫فالل تعاىل جعل يف هذه اآلايت املبايعات على ثالثة أقسام ‪ :‬بيع بكتابة وشهود ‪ ،‬وبيع برهان‬
‫ّ‬
‫مقبوضة ‪ ،‬وبيع ابألمانة ‪ ،‬فلما أمر يف اآلية األوىل ابلكتابة واإلشهاد ‪ ،‬أشار يف اآلية الثانية إىل‬
‫أنه رمبا يتع ّذر أمر الكتابة واإلشهاد يف حالة السفر ‪ ،‬فذكر نوعا آخر من االستيثاق ‪ :‬وهو الرهن‬
‫الذي هو أبلغ يف االحتياط من الكتابة واإلشهاد ‪ ،‬وأوصي يف النوع الثالث مبا يليق به مث قال ‪:‬‬
‫شهادةَ ومن يكْتمها فَِإنهه ِ‬
‫آمثٌ قَلْبُهُ بعض املفسرين يرى أن هذه اجلملة كالتأكيد لقوله‬ ‫ُ‬ ‫َوال تَكْتُ ُموا ال ه َ َ َ ْ َ ُ ْ‬
‫ْب الش َهداءُ إِذا ما ُدعُوا مع ما فيها من زايدة تزعج الشاهد ‪ ،‬وحتمله على أداء الشهادة‬ ‫‪َ :‬وال َأي َ‬
‫وهي قوله ‪َ :‬وَم ْن يَكْتُ ْمها إخل‪.‬‬
‫وأسند اإلمث إىل القلب ‪ ،‬ألن الكتمان مما اقرتفه ‪ ،‬كما يسند الزىن إىل العني واألذن مبثل هذا‬
‫االعتبار‪.‬‬
‫يصحح ارتباط هذه اجلملة بقوله ‪ :‬فَِإ ْن أ َِم َن بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضاً على معىن‬ ‫وبعض آخر من املفسرين ّ‬
‫أنه إذا أمن الدائن املدين ‪ ،‬ومل يكتب ‪ ،‬ومل يشهد ‪ ،‬ومل أيخذ رهنا حلسن ظنه به ‪ ،‬كان من اجلائز‬
‫ظن الدائن ‪ ،‬وكان من اجلائز الذي يقع كثريا أن يطّلع بعض الناس‬
‫أن جيحد املدين ‪ ،‬وأن َيلف ّ‬
‫الل تعاىل من يطّلع على هذه املعاملة ليشهد للدائن حبقه ‪ ،‬وح ّذره‬
‫على هذه املعاملة‪ .‬فهنا ندب ّ‬
‫من كتمان الشهادة ‪ ،‬سواء أعرف صاحب احلق تلك الشهادة أم مل يعرف ‪ ،‬وش ّدد فيه أبن جعله‬
‫آمث القلب إن كتمها ‪ ،‬ويدل لصحة هذا املعىن ما‬
‫شهود من شهد قبل أن يستشهد» «‪»1‬‬ ‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬خري ال ّ‬
‫روي عنه صلّى ّ‬
‫وآمثٌ خرب إ ّن ‪ ،‬وقَلْبه مرفوع به ‪ ،‬وجيوز أن يكون قلبه مبتدأ ‪ِ ،‬‬
‫وآمثٌ خربا مقدما ‪ ،‬واجلملة خرب‬ ‫‪ِ .‬‬
‫ُُ‬
‫ِ‬
‫يم فيجازيكم به إن خريا فخري ‪ ،‬وإن شرا فشر ‪ ،‬فاحذروا من اإلقدام على‬ ‫اللُ ِمبا تَ ْع َملُو َن َعل ٌ‬
‫إ ّن َو ه‬
‫الل على حممد وآله وصحبه ‪،‬‬ ‫والل سبحانه أعلم‪ .‬وصلّى ّ‬
‫هذا الكتمان ‪ ،‬وامتثلوا ما أمركم به ‪ّ ،‬‬
‫وعلى مجيع األنبياء واملرسلني ‪ ،‬واحلمد ّلل رب العاملني‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 30 ، )1344 /3‬كتاب األقضية ‪ - 9 ،‬ابب بيان خري‬
‫الشهود حديث رقم (‪ )1719 /19‬بلفظ خمتلف ورواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )792 /2‬كتاب‬
‫األحكام ‪ ،‬ابب الرجل عنده الشهادة حديث رقم (‪.)2264‬‬

‫ص ‪190 :‬‬
‫من سورة آل عمران‬
‫س ِم َن‬
‫ك فَلَْي َ‬ ‫ني َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬ ‫هخ ِذ الْم ْؤِمنُو َن الْكافِ ِرين أَولِياء ِمن ُد ِ ِ‬
‫ون ال ُْم ْؤمنِ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ال ي ت ِ‬
‫َ‬ ‫قال ّ‬
‫صريُ (‪)28‬‬ ‫اللِ الْم ِ‬
‫سهُ َوإِ َىل ه َ‬ ‫اللِ ِيف َش ْي ٍّء إِهال أَ ْن تَته ُقوا ِم ْن ُه ْم تُقاةً َو ُحيَ ِّذ ُرُك ُم ه‬
‫اللُ نَ ْف َ‬ ‫ه‬
‫املذل ‪ ،‬القادر على مجيع األشياء يف‬ ‫املعز ّ‬
‫الل سبحانه وتعاىل أنه واهب امللك ‪ّ ،‬‬ ‫بعد أن ّبني ّ‬
‫ك الْمل ِ‬ ‫ِ‬
‫ْك َم ْن تَشاءُ َوتَنْزِعُ‬ ‫ْك تُ ْؤِيت ال ُْمل َ‬ ‫جل شأنه ‪ :‬قُ ِل الله ُه هم مال َ ُ‬ ‫الدنيا واآلخرة ‪ ،‬حيث قال ّ‬
‫ْك ِممه ْن تَشاءُ َوتُعِز َم ْن تَشاءُ [آل عمران ‪ ]26 :‬إىل آخره نبّه املؤمنني إىل أنّه ال ينبغي هلم أن‬ ‫ال ُْمل َ‬
‫يوالوا أعداءه ‪ ،‬أو يستظهروا هبم لقرابة أو صداقة قدمية ‪ ،‬بل ينبغي أن تكون الرغبة فيما عند‬
‫الل تعاىل وعند أوليائه دون أعدائه‪.‬‬
‫ّ‬
‫نزلت هذه اآلية يف قوم من املؤمنني كانوا يوالون رجاال من اليهود ‪ ،‬فقال هلم رفاعة بن املنذر‬
‫وابن جبري وسعد بن خيثمة ‪ :‬اجتنبوا هؤالء اليهود ‪ ،‬واحذروا لزومهم ومباطنتهم ال يفتنوكم عن‬
‫دينكم ‪ ،‬فأبوا النصيحة «‪.»1‬‬
‫وقيل نزلت يف عباد ة بن الصامت البدري النقيب ‪ ،‬فقد كان له حلفاء من اليهود ‪ ،‬فلما خرج‬
‫الل إن معي مخسمائة من اليهود ‪،‬‬ ‫الل عليه وسلّم يوم األحزاب قال له عبادة ‪ :‬اي نيب ّ‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫هخ ِذ ال ُْم ْؤِمنُو َن‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ال ي ت ِ‬
‫َ‬ ‫وقد رأيت أن َيرجوا معي ‪ ،‬فاستظهر هبم على العدو ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫ين أ َْولِياءَ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الْكاف ِر َ‬
‫ال انهية ‪ ،‬فالفعل جمزوم ‪ ،‬أو انفية فالفعل مرفوع ‪ ،‬وتكون اجلملة خربية يف معىن النهي‪.‬‬
‫أ َْولِياءَ مجع ويل ‪ ،‬وهو الناصر واملعني ‪ ،‬فال يركن املؤمنون إىل الكفار ‪ ،‬ويستعينوا هبم لقرابة أو‬
‫جتر إىل استحسان‬ ‫منهي عنه ‪ ،‬أل ّن املواالة قد ّ‬ ‫حمبة مع اعتقاده بطالن دينهم ‪ ،‬فإ ّن ذلك ّ‬
‫طريقتهم‪.‬‬
‫هخ ُذوا بِطانَةً ِم ْن ُدونِ ُك ْم [آل عمران ‪ ]118 :‬ال َجتِ ُد قَ ْوماً‬ ‫ويف هذا املعىن نزلت آايت كثرية ال تَت ِ‬
‫الل ورسولَهُ [اجملادلة ‪ ]22 :‬ال تَت ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ود‬
‫هخ ُذوا الْيَ ُه َ‬ ‫يُ ْؤمنُو َن ِاب هلل َوالْيَ ْوم ْاآلخ ِر يُوادو َن َم ْن َحا هد هَ َ َ ُ‬
‫هخ ُذوا َع ُد ِّوي َو َع ُد هوُك ْم أ َْولِياءَ [املمتحنة ‪]1 :‬‬
‫والنهصارى أَولِياء [املائدة ‪ ]51 :‬ال تَت ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)152 /2‬‬

‫ص ‪191 :‬‬
‫ض ُه ْم أ َْولِياءُ بَ ْع ٍّ‬
‫ض [التوبة ‪.]71 :‬‬ ‫َوال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنا ُ‬
‫ت بَ ْع ُ‬
‫وأما املواالة مبعىن املعاشرة اجلميلة يف الدنيا حبسب الظاهر ‪ ،‬مع عدم الرضا عن حاهلم فذلك‬
‫منهي عنه ‪ ،‬واملواالة هلم مبعىن الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر ‪ ،‬أل ّن الرضا ابلكفر‬
‫غري ّ‬
‫كفر ‪ ،‬فال يبقى املرء مؤمنا ‪ ،‬مع كونه هبذه الصفة‪.‬‬
‫ِمن ُد ِ ِ‬
‫ني حال من الفاعل ‪ ،‬أي متجاوزين املؤمنني إىل الكفار استقالال أو اشرتاكا‪.‬‬ ‫ون ال ُْم ْؤمنِ َ‬ ‫ْ‬
‫فالظرف ال مفهوم له ‪ ،‬ألنّه لبيان الواقع ‪ ،‬فقد ورد يف قوم خمصوصني حصلت منهم املواالة‬
‫للكفار دون املؤمنني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الظرف يف حيّز الصفة ألولياء‪.‬‬
‫عرب ابلفعل لالختصار ‪ ،‬أو إلهبام االستهجان بذكره ‪ ،‬وجواب‬ ‫ك االختاذ ‪ ،‬وإمنا ّ‬ ‫َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬
‫اللِ ِيف َش ْي ٍّء أو‬
‫س ِم َن والية ه‬ ‫ٍّ‬ ‫الشرط فَلَيْس ِم َن هِ ِ‬
‫الل يف َش ْيء ويف الكالم حذف مضاف ‪ ،‬أي فَلَيْ َ‬ ‫َ‬
‫ٍّ‬
‫الل ‪ ،‬وتنوين َش ْيء للتحقري ‪ ،‬وذلك أل ّن مواالة املتضادين ال تكاد توجد‪.‬‬ ‫من دين ّ‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫عدوي مثّ تزعم أنّين صديقك ‪ ،‬ليس النّوك عنك بعازب‬ ‫تو ّد ّ‬
‫هخ ِذ فال تتخذوهم أولياء يف حال‬
‫إِهال أَ ْن تَته ُقوا استثناء مفرغ من أعم األحوال ‪ ،‬والعامل فيه ال ي ت ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من األحوال إال حال اتقائكم‪.‬‬
‫مفرغ من املفعول ألجله ‪ ،‬فاملعىن ال يتخذ املؤمنون الكافرين أولياء لشيء من‬ ‫وقيل ‪ :‬استثناء ّ‬
‫األشياء إال للتقية ِم ْن ُه ْم من جهتهم ‪ ،‬تُقاةً مفعول به ‪ ،‬أي شيئا يتّقى منه ‪ ،‬فاجلار واجملرور حال‬
‫من تقاة ‪ ،‬حيث تق ّدم عليها ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫إال أن تتقوا شيئا يتّقى منه حاصال من جهتهم ‪ ،‬كالقتل وسلب املال مثال أو تُقاةً مبعىن اتقاء ‪،‬‬
‫فتكون مفعوال مطلقا ‪ ،‬وتُقاةً متعلقة به يف مكان املفعول األول ‪ ،‬واملفعول الثاين حمذوف للعلم به‬
‫‪ ،‬وع ّدي مبن ‪ ،‬ألنه مبعىن خاف ‪ ،‬فاملعىن إال أن ختافوا منهم ضررا خوفا‪.‬‬
‫سهُ إي عقاب نفسه ‪ ،‬ويف ذلك هتديد عظيم مشعر بتناهي االختاذ يف القبح ‪،‬‬ ‫َو ُحيَ ِّذ ُرُك ُم ه‬
‫اللُ نَ ْف َ‬
‫الل ‪ ،‬فإنه ال يفيد صدور العقاب‬ ‫حيث ربط التحذير بنفسه ‪ ،‬ألنه لو حذف وقيل ‪ :‬وحيذركم ّ‬
‫سهُ علم أنّه صادر‬
‫فلما قال ‪ :‬نَ ْف َ‬
‫الل ‪ ،‬بل حيتمل أن يكون منه تعاىل ‪ ،‬وأن يكون من غريه‪ّ .‬‬ ‫من ّ‬
‫منه تعاىل ‪ ،‬وذلك أعظم أنواع العقاب لكونه تعاىل قادرا على ما ال هناية له ‪ ،‬وال قدرة ألحد على‬
‫رفعه أو منعه مما أراد‪.‬‬
‫اللِ الْم ِ‬
‫صريُ املرجع ‪ ،‬واإلظهار لرتبية الروعة واملهابة يف النفوس ‪ ،‬واجلملة مقررة ملضمون ما‬ ‫َوإِ َىل ه َ‬
‫قبلها‪.‬‬

‫ص ‪ 192 :‬ويف اآلية دليل على أنه ال جيوز االستعانة ابلكفار يف الغزو ‪ ،‬وإليه ذهب بعض‬
‫املالكية ‪ ،‬وقالت احلنفية والشافعية ابجلواز ‪ ،‬وأنه يسهم هلم يف الغنيمة ‪ ،‬لكن بشرط أن تكون‬
‫الل عنها من رد النيب صلّى‬
‫االستعانة على قتال املشركني ال البغاة ‪ ،‬وما ورد عن عائشة رضي ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل عليه وسلّم لرجل مشرك كان ذا جرأة وجندة أراد أن حيارب مع النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫يوم بدر وقال له ‪« :‬ارجع فلن أستعني مبشرك» «‪»1‬‬
‫الل عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه هلم ‪ ،‬واستعانته بصفوان بن‬
‫فمنسوخ ‪ ،‬بدليل استعانته صلّى ّ‬
‫أمية يف هوازن «‪.»2‬‬
‫وذكر بعضهم أ ّن جواز االستعانة مشروط ابحلاجة والوثوق ‪ ،‬أما بغريَها فال جيوز ‪ ،‬وهو الراجح‪.‬‬
‫وعلى ذلك حيمل خرب السيدة عائشة ‪ ،‬وما كان من السبب الثاين للنزول ‪ ،‬وحيصل به أيضا‬
‫اجلمع بني أدلة املنع وأدلة اجلواز‪.‬‬
‫عماال وال خدما ‪ ،‬وال جيوز التعظيم والتوقري‬
‫استدل ابآلية على أنه ال جيوز جعلهم ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن الناس من‬
‫هلم يف اجملالس ‪ ،‬والقيام عند قدومهم ‪ ،‬فإ ّن داللته على التعظيم واضحة قوية‪.‬‬
‫وعرفوها ‪ :‬ابحملافظة على النفس أو العرض أو املال‬
‫ويف اآلية أيضا دليل على مشروعية التقيّة ‪ّ ،‬‬
‫شر األعداء‪.‬‬
‫من ّ‬
‫العدو نوعني ‪ :‬عدوا كان االختالف يف الدين سببا لعدوانه ‪ ،‬والثاين ما ثبتت عداوته‬
‫وملا كان ّ‬
‫على األغراض الدنيوية كاملال واملتاع واإلمارة ‪ ،‬كانت التقية قسمني ‪:‬‬
‫أما القسم األول ‪ :‬فكل مؤمن وجد يف مكان ال يقدر فيه على إظهار دينه ‪ ،‬فهذا جتب عليه‬
‫اهلجرة من ذلك املكان إىل مكان يستطيع إظهار دينه ‪ ،‬بشرط أال يكون من الصبيان أو النساء‬
‫اه ُم ال َْمالئِ َكةُ ظالِ ِمي أَنْ ُف ِس ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل هلم فقال ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين تَ َوفه ُ‬ ‫أو العجزة ‪ ،‬فهؤالء قد ر ّخص ّ‬
‫هاج ُروا فِيها‬‫واسعةً فَتُ ِ‬‫ض هِ ِ‬ ‫ض َع ِف َ‬
‫ني ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫الل َ‬ ‫ض قالُوا أََملْ تَ ُك ْن أ َْر ُ‬ ‫يم ُك ْن تُ ْم قالُوا ُكنها ُم ْستَ ْ‬
‫قالُوا ف َ‬
‫ساء والْ ِول ِ‬ ‫ضع ِفني ِمن ِ ِ ِ ِ‬ ‫اهم ج َهنهم وساء ْ ِ‬ ‫فَأُولئِ َ‬
‫ْدان ال‬ ‫الرجال َوالنّ َ‬ ‫ت َمصرياً (‪ )97‬إِهال ال ُْم ْستَ ْ َ َ َ ّ‬ ‫ك َمأْو ُ ْ َ ُ َ َ‬
‫يَ ْستَ ِطيعُو َن ِحيلَةً َوال يَ ْهتَ ُدو َن َسبِ ًيال (‪[ )98‬النساء ‪.]98 ، 97 :‬‬
‫خوفوا به‬ ‫يظن منهم أهنم يفعلون ما ّ‬ ‫فإن كان من املستضعفني ‪ :‬وكان التخويف ابلقتل وحنوه ممن ّ‬
‫‪ ،‬جاز املكث واملوافقة ظاهرا بقدر الضرورة ‪ ،‬مع السعي يف حيلة للخروج والفرار بدينه‪.‬‬
‫واملوافقة حينئذ رخصة ‪ ،‬وإظهار ما يف قلبه عزمية ‪ ،‬فلو مات فهو شهيد قطعا ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )1449 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 51 ،‬ابب كراهة االستعانة‬
‫يف الغزو بكافر حديث رقم (‪.)1817 /150‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )285 /3‬كتاب البيوع ‪ ،‬ابب تضمني العارية حديث رقم‬
‫(‪ )3562‬وأمحد يف املسند (‪.)222 /4‬‬

‫ص ‪193 :‬‬
‫بدليل ما‬
‫الل عليه وسلّم فقال‬
‫الل صلّى ّ‬
‫يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلني من أصحاب رسول ّ‬
‫الل؟‬
‫الل؟ قال ‪ :‬نعم نعم نعم ‪ ،‬مث قال له ‪ :‬أتشهد أين رسول ّ‬
‫ألحدَها ‪ :‬أتشهد أ ّن حممدا رسول ّ‬
‫الل؟‬
‫قال ‪ :‬نعم‪ .‬فرتكه‪ .‬مث دعا الثاين وقال ‪ :‬أتشهد أ ّن حممدا رسول ّ‬
‫أصم ‪ ،‬قاهلا ثالاث ‪ ،‬فضرب عنقه ‪ ،‬فبلغ‬
‫الل؟ قال ‪ :‬إين ّ‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال له أتشهد أين رسول ّ‬
‫«أما هذا املقتول فقد مضى على صدقه ويقينه ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم فقال ‪ّ :‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ذلك رسول ّ‬
‫الل فال تبعة عليه» «‪.»1‬‬
‫وأخذ بفضيلة فهنيئا له ‪ ،‬و ّأما اآلخر ‪ ،‬فقبل رخصة ّ‬
‫والقسم الثاين ‪ :‬من كانت عداوته بسبب املال واإلمارة ‪ ،‬وقد اختلف العلماء يف وجوب هجرة‬
‫ههلُ َكةِ [البقرة ‪]195 :‬‬
‫صاحبه ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬جتب ‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ :‬وال تُلْ ُقوا ِأبَيْ ِدي ُك ْم إِ َىل الت ْ‬
‫وبدليل النهي عن إضاعة املال‪ .‬وبدليل‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من قتل دون ماله فهو شهيد» «‪»2‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫ولكن‬
‫‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬ال جتب ‪ ،‬ألهنّا ملصلحة دنيوية ‪ ،‬وال يعود من تركها نقصان يف الدين ‪ّ ،‬‬
‫املنصف يرى أن اهلجرة قد جتب هنا أيضا إذا خاف هالك نفسه أو أقاربه ‪ ،‬أو هتك عرضه‬
‫ابإلفراط‪.‬‬
‫ني (‪ )96‬فِيهِ ٌ‬ ‫هاس لَله ِذي بِب هكةَ مباركاً وه ِ‬ ‫ض َع لِلن ِ‬
‫توِ‬
‫آايت‬ ‫دى للْعال َِم َ‬
‫َ ُ َ َُ ً‬
‫ٍّ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن أَ هو َل بَ ْي ُ‬‫قال ّ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال َوَم ْن‬ ‫هاس ِحج الْب ْي ِ‬ ‫اهيم ومن َد َخلَه كا َن ِ‬
‫آمناً َو ِهللِ َعلَى الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫بَيِّ ٌ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قام إِبْر َ َ َ ْ‬ ‫نات َم ُ‬
‫ني (‪)97‬‬ ‫ين عَ ِن الْعال َِم َ‬ ‫َك َف َر فَِإ هن ه‬
‫اللَ غَِ ٌّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬مع إثبات‬ ‫كان الكالم من أول السورة إىل هنا يف إثبات نبوة حممد صلّى ّ‬
‫وحماجة أهل الكتاب يف ذلك ‪ ،‬ويف بعض ما استحدثوا يف دينهم‪.‬‬ ‫التوحيد ‪ّ ،‬‬
‫الل شبهتني من شبههم‪.‬‬
‫ويف هذه اآلايت وما قبلها يدفع ّ‬
‫حمرما عليه‬
‫قالوا ‪ :‬إذا كنت اي حممد على ملة إبراهيم والنبيني من بعده فكيف تستحل ما كان ّ‬
‫وعليهم كلحم اإلبل؟ أما وقد استبحت ما كان حمرما عليهم فما يكون لك أن ت ّدعي أنك‬
‫مص ّدق هلم ‪ ،‬وموافق يف الدين ‪ ،‬وال أن تقول إنك أوىل الناس إببراهيم‪.‬‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ه ِ‬
‫حيرم‬
‫يل [آل عمران ‪ ]93 :‬وأنه مل ّ‬ ‫الل هذه الشبهة بقوله ‪ُ :‬كل الطعام كا َن ح ًّال لبَِين إ ْسرائ َ‬ ‫فرد ّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫عليهم شيئا إال ما كان عقوبة هلم ‪ ،‬كما جاء يف قوله ‪ :‬فَبظُل ٍّْم م َن الهذ َ‬
‫ين هادُوا َح هرْمنا عَلَيْ ِه ْم‬
‫بات أ ُِحله ْ‬
‫ت َهلُ ْم [النساء ‪.]160 :‬‬ ‫طَيِّ ٍّ‬
‫الل وعد إبراهيم أن تكون الربكة يف‬ ‫وأما الشبهة الثانية ‪ :‬فهي أهنم قالوا ‪ :‬إن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬قال السيوطي رواه ابن أيب شيبة ‪ ،‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪/4‬‬
‫‪].....[ .)133‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )124 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 62 ،‬ابب الدليل على أن من‬
‫قصد ‪ ،‬حديث رقم (‪.)141 /226‬‬

‫ص ‪194 :‬‬
‫نسل ولد إسحاق ‪ ،‬ومجيع األنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت املقدس ‪ ،‬ويصلّون إليه ‪،‬‬
‫حتولت عن بيت املقدس ‪ ،‬وعظّمت مكاان‬
‫فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا ‪ ،‬وملا ّ‬
‫آخر اختذته مصلّى وقبلة ‪ ،‬وهو الكعبة ‪ ،‬فخالفت اجلميع‪.‬‬
‫هاس لَله ِذي بِب هكةَ مباركاً وه ِ‬ ‫ض َع لِلن ِ‬ ‫توِ‬
‫ني (‪ )96‬وتقريره‬ ‫دى للْعال َِم َ‬
‫َ ُ َ َُ ً‬
‫ٍّ‬
‫فر ّد عليهم بقوله ‪ :‬إِ هن أَ هو َل بَ ْي ُ‬
‫الل فيه ‪ ،‬بناه‬ ‫أ ّن البيت احلرام الذي نستقبله يف صالتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه ‪ ،‬ويتعبدون ّ‬
‫خاصة ‪ ،‬وقد قال إبراهيم ‪َ :‬ربهنا إِِّين‬ ‫إبراهيم وولده إمساعيل عليهما الصالة والسالم ألجل العبادة ّ‬
‫اج َع ْل أَفْئِ َدةً ِم َن‬ ‫ِ ِِ‬ ‫واد غَ ِْري ِذي َز ْر ٍّع ِع ْن َد بَ ْيتِ َ‬
‫ت ِمن ذُ ِريهِيت بِ ٍّ‬
‫صالةَ فَ ْ‬ ‫يموا ال ه‬
‫ك ال ُْم َح هرم َربهنا ليُق ُ‬ ‫َس َك ْن ُ ْ ّ‬
‫أْ‬
‫هاس َهتْ ِوي إِل َْي ِه ْم [إبراهيم ‪.]37 :‬‬ ‫الن ِ‬
‫مث بىن سليمان بن داود عليهما السالم بيت املقدس بعد ذلك بعدة قرون‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم غري أن امتثل أمر ربّه ‪ ،‬فرجع إىل قبلة أبيه إبراهيم ‪،‬‬
‫فماذا فعل النيب صلّى ّ‬
‫وأولية البيت قيل ‪ :‬أولية شرف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أولية زمان ‪ ،‬وال مانع من أن يكون كل‬
‫واختذها مصلّى‪ّ .‬‬
‫احملرم للعبادة ‪ ،‬مث جاء سليمان‬
‫مر أن إبراهيم وإمساعيل َها اللذان بنيا البيت ّ‬
‫منهما مرادا ‪ ،‬فقد ّ‬
‫وبىن بيت املقدس ‪ ،‬فاألولية زمانية ‪ ،‬وهي تستلزم أولية الشرف‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض املفسرين إىل أنه أول بيت وضع على األرض ابلنسبة للبيوت مطلقا ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫إن املالئكة بنته قبل خلق آدم ‪ ،‬وأن بيت املقدس بين بعده أبربعني سنة‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم عن أول‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روى البخاري ومسلم من حديث أيب ذر قال ‪ :‬سئل رسول ّ‬
‫بيت وضع للناس؟ فقال ‪« :‬املسجد احلرام ‪ ،‬مث بيت املقدس» فقيل ‪ :‬كم بينهما؟ قال ‪:‬‬
‫«أربعون سنة» «‪.»1‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ ّن هناك تعارضا بني ما ذكران من أ ّن بناء الكعبة كان قبل بناء بيت املقدس بعدة‬
‫قرون ‪ ،‬وأن الذي بناه إبراهيم ‪ ،‬وبني ما روي من أن الذي وضعها املالئكة قبل بيت املقدس‬
‫أبربعني سنة ‪ ،‬وقد أجيب أب ّن الوضع غري البناء ‪ ،‬وأبنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان‬
‫إعادة ‪ ،‬ومعلوم أن بني إبراهيم وسليمان عدة قرون فال منافاة‪.‬‬
‫لَله ِذي بِبَ هكةَ بكة اسم ملكة كما روي عن جماهد ‪ ،‬وإبدال امليم ابء كثري يف كالمهم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو‬
‫بطن مكة حيث احلرم‪.‬‬
‫مباركاً وه ِ‬
‫دى للْعال َِم َ‬
‫ني بيان حلاله احلسية احلسنة ‪ ،‬واملعنوية الشريفة ‪ ،‬وأما األوىل فهي ما ساق‬ ‫ُ َ َُ ً‬
‫الل إليه من بركات األرض ‪ ،‬ومن مثار كل شي ء ‪ ،‬ومن مجيع األقطار ‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 60 ، )164 /4‬كتاب أحاديث األنبياء ‪ - 40 ،‬ابب قول‬
‫الل تعاىل ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫داو َد ُسلَْيما َن حديث رقم (‪ ، )3425‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )370 /1‬كتاب‬‫ِ‬
‫َوَو َه ْبنا ل ُ‬
‫املساجد ‪ ،‬حديث رقم (‪.)520 /1‬‬
‫ص ‪195 :‬‬
‫كونه بواد غري ذي زرع ‪ ،‬وأما الثانية فهي جعل أفئدة الناس هتوي إليه ‪ ،‬وتتعلّق به ‪ ،‬وأيتون‬
‫أي‬
‫للحج والعمرة رجاال ‪ ،‬وعلى كل ضامر من كل فج ‪ ،‬وتولية وجوههم شطره يف الصالة ‪ ،‬و ّ‬
‫متر ليال أو هنارا وليس فيها من يتجه إىل ذلك البيت يصلي!! فقد أجيبت دعوة إبراهيم‬ ‫ساعة ّ‬
‫اد غَ ِْري ِذي َز ْر ٍّع‪.‬‬ ‫ت ِمن ذُ ِريهِيت بِو ٍّ‬
‫َس َك ْن ُ ْ ّ‬ ‫على أمتّ وجه َربهنا إِِّين أ ْ‬
‫وقد أشري إىل هاتني احلالتني يف قوله تعاىل حكاية عن املشركني ‪َ :‬وقالُوا إِ ْن نَتهبِ ِع ا ْهلُدى َم َع َ‬
‫ك‬
‫ت ُك ِّل َش ْي ٍّء ِر ْزقاً ِم ْن لَ ُد هان َولكِ هن‬ ‫ضنا أَو َمل منَُ ّكِن َهلم حرماً ِ‬
‫آمناً ُْجيىب إِل َْيهِ َمثَرا ُ‬ ‫ف م ْن أ َْر َ ْ ْ ُ ْ َ َ‬
‫نُتَ َخطه ْ ِ ِ‬
‫أَ ْكثَ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُمو َن (‪[ )57‬القصص ‪.]57 :‬‬
‫ِ‬ ‫فِيهِ ٌ‬
‫آايت بَيِّ ٌ‬
‫يم فيه ‪ :‬أي البيت دالئل وعالمات ظاهرة ال ختفى على أحد ‪ :‬منها‬ ‫قام إِبْراه َ‬
‫نات َم ُ‬
‫فأي دليل أبني من هذا على كون هذا البيت‬ ‫مقام إبراهيم أي موضع قيامه للصالة والعبادة ‪ّ ،‬‬
‫رهبم؟ وإبراهيم هو أبو األنبياء الذين بقي يف األرض أثرهم‪.‬‬ ‫أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ّ‬
‫آمناً آية اثنية على أ ّن البيت احلرام حقيق ابلتعظيم ‪ ،‬فقد اتفقت قبائل العرب‬ ‫ومن َد َخلَه كا َن ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫الل ‪ ،‬وقد اشت ّدت مبالغة العرب يف ذلك ‪ ،‬حىت‬ ‫طرا على احرتام هذا البيت وتعظيمه بنسبته إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫إن من كان قاتال ‪ ،‬واستباح حرماهتم ‪ ،‬وجلأ إىل البيت فإنه يصري آمنا ما دام فيه‪.‬‬
‫مضى على هذا عمل اجلاهلية مع ما بني أهلها من اختالف املنازع ‪ ،‬وتباين األهواء واملشارب ‪،‬‬
‫أقر اإلسالم هذه امليزة للبيت احلرام ‪ ،‬وأما ما‬
‫وتع ّدد املعبودات ‪ ،‬وكثرة األضغان واألحقاد ‪ ،‬وقد ّ‬
‫الل وحده ‪،‬‬
‫كان من املسلمني يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهريه من الشرك ‪ ،‬وألجل أن يعبد ّ‬
‫ومع ذلك‬
‫الل عليه وسلّم إهنا حلّت له ساعة من النهار ‪ ،‬ومل حتل ألحد قبله ‪ ،‬ولن حتل‬
‫فقد قال النيب صلّى ّ‬
‫ألحد بعده «‪.»1‬‬
‫على أ ّن فتح مكة مل يؤثّر على أمر احلرم شيئا ‪ ،‬أل ّن‬
‫الل عليه وسلّم أمر مناديه أن ينادي ‪« :‬من دخل داره ‪ ،‬وأغلق اببه فهو آمن ‪ ،‬ومن‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫دخل دار أيب سفيان فهو آمن» «‪.»2‬‬
‫هذا وقد اتفق الفقهاء على أ ّن من جىن يف احلرم فهو مأخوذ جبنايته ‪ ،‬سواء أكانت يف النفس أم‬
‫فيما دوهنا‪.‬‬
‫واختلفوا فيمن جىن يف غري احلرم ‪ ،‬مث الذ إليه فقال أبو حنيفة وأصحابه واحلسن بن زايد إذا قتل‬
‫يقتص منه ما دام فيه ‪،‬‬
‫يف غري احلرم مث دخل احلرم مل ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 28 ، )260 /2‬كتاب جزاء الصيد ‪ - 9 ،‬ابب ال ينفر‬
‫صيد احلرم حديث رقم (‪.)1833‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفسري ابن جرير الطربي ‪ ،‬املسمى جامع البيان (‪.)332 - 331 /2‬‬

‫ص ‪196 :‬‬
‫فيقتص منه ‪ ،‬وإن كانت جنايته فيما‬
‫ّ‬ ‫ولكنه ال جيالس ‪ ،‬وال يعامل ‪ ،‬وال يؤاكل إىل أن َيرج منه ‪،‬‬
‫اقتص منه‪.‬‬
‫دون النفس يف غري احلرم ‪ ،‬مث دخل احلرم ّ‬
‫يقتص منه يف احلرم لذلك كله ‪ ،‬وقد روي عن ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪،‬‬
‫وقال مالك والشافعي ‪ّ :‬‬
‫الل بن عمري ‪ ،‬وسعيد بن جبري ‪ ،‬وطاووس ‪ ،‬والشعيب ‪ ،‬فيمن قتل مث جلأ إىل احلرم أنه ال‬
‫وعبيد ّ‬
‫يقتل‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬ولكنه ال جيالس ‪ ،‬وال يؤوى ‪ ،‬وال يبايع حىت َيرج من احلرم ‪ ،‬فيقتل ‪ ،‬وإن فعل‬
‫ذلك يف احلرم أقيم عليه احل ّد‪.‬‬
‫وروى قتادة عن احلسن أنه قال ‪ :‬ال مينع احلرم من أصاب فيه أو يف غريه أن يقام عليه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وكان احلسن يقول ‪ :‬ومن َد َخلَه كا َن ِ‬
‫آمناً كان هذا يف اجلاهلية ‪ ،‬لو أ ّن رجال جر كل جريرة مث جلأ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫يتعرض له حىت َيرج من احلرم‪ .‬أما اإلسالم فلم يزده إال شدة ‪ ،‬من أصاب احلد يف‬ ‫إىل احلرم مل ّ‬
‫غريه مث جلأ إليه أقيم عليه احلد‪.‬‬
‫وروى هشام عن احلسن وعطاء قاال ‪ :‬إذا أصاب حدا يف غري احلرم ‪ ،‬مث جلأ إىل احلرم أخرج عن‬
‫احلرم ‪ ،‬حىت يقام عليه ‪ ،‬وروي مثل هذا عن جماهد ‪ ،‬وهذا حيتمل أن يراد به أن يقاطع ‪ ،‬فال‬
‫جيالس ‪ ،‬وال يعامل ‪ ،‬حىت يضطر إىل اخلروج ‪ ،‬فيقام عليه احلد‪.‬‬
‫وفيما عدا رواية احلسن فاالتفاق حاصل بني السلف من الصحابة والتابعني أن من دخله الجئا‬
‫حىت َيرج فيقتص منه‪.‬‬ ‫إليه ‪ ،‬وكان قد جىن يف غريه أنه يقاطع ّ‬
‫آمناً قوله تعاىل ‪ :‬أَو َمل ي روا أَ هان جعلْنا حرماً ِ‬
‫آمناً َويُتَ َخطه ُ‬
‫ف‬ ‫ومثل قوله تعاىل ‪ :‬ومن َد َخلَه كا َن ِ‬
‫ََ ََ‬ ‫َ ْ ََ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫آمناً [القصص ‪ ]57 :‬وقوله‬ ‫النهاس ِمن حوهلِِم [العنكبوت ‪ ]67 :‬وقوله ‪ :‬أَو َمل منَُ ّكِن َهلم حرماً ِ‬
‫َ ْ ْ ُْ َ َ‬ ‫ُ ْ َْ ْ‬
‫ت َمثابَةً لِلن ِ‬
‫هاس َوأ َْمناً [البقرة ‪.]125 :‬‬ ‫‪َ :‬وإِ ْذ َج َعلْنَا الْبَ يْ َ‬
‫الل اترة ابحلرم واترة ابلبيت علم أ ّن حكم احلرم حكم البيت‬ ‫عرب ّ‬‫قال أبو بكر الرازي «‪ : »1‬وملا ّ‬
‫يف ابب األمن ومنع قتل من جلأ إليه‪.‬‬
‫الل وصفه ابألمن فيه ‪ ،‬وجب مثله يف احلرم‬
‫وملّا مل َيتلفوا أنه ال يقتل من جلأ إىل البيت ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫فيمن جلأ إليه‪.‬‬
‫فسر بعض العلماء األمن هنا ابألمن يف اآلخرة من العذاب ‪ ،‬وروى يف ذلك آاثرا‬
‫هذا وقد ّ‬
‫يفسر ابألمن يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫صحيحة ‪ ،‬وال مانع من إرادة العموم ‪ ،‬أبن ّ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال‪.‬‬ ‫هاس ِحج الْب ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫َو ِهللِ َعلَى الن ِ‬
‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام الرازي (‪.)23 - 20 /2‬‬

‫ص ‪197 :‬‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال وجوه من‬ ‫الل فضائل البيت أردفه بذكر إجياب احلج ‪ ،‬ويف قوله ‪َ :‬م ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫ملا ذكر ّ‬
‫اإلعراب ال نتعرض لذكرها‪.‬‬
‫تيسر هلم الوصول إليه ‪،‬‬
‫الل جلت قدرته أوجب على عباده أن حيجوا إىل بيته مىت ّ‬
‫واملعىن ‪ :‬أن ّ‬
‫ومل مينعهم من الوصول إليه مانع ‪ ،‬سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا معا‪.‬‬
‫فالبدين كاملرض واخلوف على النفس من العدو ومن السباع ‪ ،‬وعلى اجلملة أال يكون الطريق‬
‫مأموان‪.‬‬
‫يتعسر عليهم الوصول إىل البيت إال بزاد وراحلة ‪ ،‬والذي‬
‫واملايل كفقد الزاد والراحلة إذا كان ممن ّ‬
‫جيمعها فاقد الزاد والراحلة ‪ ،‬واملريض ‪ ،‬أو الذي ال أيمن الطريق‪.‬‬
‫وقد اتفق األكثرون على أ ّن الزاد والراحلة شرطان داخالن يف االستطاعة ‪ ،‬ويؤيد شرطيتهما ما‬
‫فسر استطاعة السبيل ابلزاد‬
‫الل عليه وسلّم أنه ّ‬
‫رواه مجاعة من الصحابة عن النيب صلّى ّ‬
‫والراحلة‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬من ملك‬
‫فقد روى أبو إسحاق عن احلارث عن علي عن النيب صلّى ّ‬
‫حيج ‪ ،‬فال عليه أن ميوت يهوداي أو نصرانيا» «‪»1‬‬ ‫الل ‪ ،‬ومل ّ‬‫زادا وراحلة تبلغه بيت ّ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال‪.‬‬ ‫هاس ِحج الْب ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫الل تعاىل يقول يف كتابه ‪َ :‬و ِهللِ َعلَى الن ِ‬
‫وذلك أن ّ‬
‫َ‬
‫الل عليه وسلّم عن قوله تعاىل ‪ :‬قال ‪َ :‬و ِهللِ عَلَى‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وروي عن ابن عمر قال سئل رسول ّ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال قال ‪« :‬السبيل الزاد والراحلة» «‪.»2‬‬ ‫هاس ِحج الْب ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫الن ِ‬
‫َ‬
‫وروى عطاء عن ابن عباس قال ‪ :‬السبيل الزاد والراحلة ‪ ،‬ومل حيل بينه وبينه أحد‪.‬‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬ومن شرائط‬
‫فأنت ترى من هذه األخبار أن الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره ّ‬
‫وجوب احلج‪.‬‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال وقد ّبني النيب صلّى ّ‬
‫الل عليه وسلّم‬ ‫الل تعاىل يقول ‪َ :‬م ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫وقد يقول قائل ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫السبيل أنه الزاد والراحلة ‪ ،‬فيلزم أال جيب احلج على من كان بينه وبني البيت مسافة يسرية ‪،‬‬
‫وميكنه الذهاب إىل البيت ماشيا‪.‬‬
‫عام يف القريب‬ ‫هاس ِحج الْب يْ ِ‬
‫ت وهو ّ‬ ‫الل سبحانه وتعاىل ملا قال ‪َ :‬و ِهللِ عَلَى الن ِ‬ ‫ولكنا نقول ‪ :‬إن ّ‬
‫َ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيال أي أ ّن‬ ‫يتيسر له احلج ‪ ،‬قال ‪َ :‬م ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫والبعيد ‪ ،‬قد ال ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )176 /3‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما جاء يف التغليظ‬
‫حديث رقم (‪.)812‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )177 /3‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما جاء يف إجياب احلج‬
‫حديث رقم (‪ )813‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )967 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب ما يوجب احلج‬
‫حديث رقم (‪.)2896‬‬

‫ص ‪198 :‬‬
‫الل عليه وسلّم يف البيان على الزاد والراحلة إمنا‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الوجوب على املستطيع ‪ ،‬واقتصار ّ‬
‫كان للرد على من يزعم أنه جيب احلج على الناس مطلقا ‪ ،‬ولو كانوا يف بالد انئية ‪ ،‬ويقدرون‬
‫على ا ملشي ‪ ،‬بدليل أنه مل يذكر عدم املرض وأمن الطريق مثال ‪ ،‬مع أهنما شرطان من شروط‬
‫الل عليه وسلّم اقتصر على بيان بعض احلاالت ‪ ،‬واحلاالت‬ ‫فالنيب صلّى ّ‬
‫االستطاعة اتفاقا ‪ّ ،‬‬
‫اللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر‬
‫األخرى تؤخذ من عمومات أخرى ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬يُ ِري ُد ه‬
‫[البقرة ‪ ]185 :‬وقوله ‪َ :‬وما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِيف ال ِّدي ِن ِم ْن َح َر ٍّج [احلج ‪.]78 :‬‬
‫ومعلوم أ ّن شرط الزاد والراحلة إمنا هو لئال يش ّق عليه ‪ ،‬ويناله ما يضره من املشي ‪ ،‬فإذا كان من‬
‫احلج‪.‬‬
‫أهل مكة ‪ ،‬أو ما قارهبا ‪ ،‬وميكنه الوصول إليه دون مشقة ‪ ،‬فهذا مستطيع ‪ ،‬وجيب عليه ّ‬
‫الل عنه ‪ ،‬ومل يلزمه الفرض حىت يكون‬
‫وإذا كان ال يصل إليه إال مبشقة فهذا الذي خ ّفف ّ‬
‫مستطيعا إليه سبيال ‪ :‬زادا وراحلة‪.‬‬
‫احلج مستدال مبا‬
‫ويرى بعض العلماء أ ّن وجود احملرم للمرأة من شرائط وجوب ّ‬
‫ابلل واليوم اآلخر أن تسافر‬
‫حيل المرأة تؤمن ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ال ّ‬
‫روي عن النيب صلّى ّ‬
‫سفرا فوق ثالث إال مع ذي رحم حمرم أو زوج» «‪.»1‬‬
‫الل عليه وسلّم فقال ‪« :‬ال تسافر امرأة ّإال‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وروي عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬خطب ّ‬
‫ومعها ذو حمرم»‪.‬‬
‫حتج‪.‬‬
‫الل إين قد اكتتبت يف غزوة كذا ‪ ،‬قد أرادت امرأيت أن ّ‬
‫فقال رجل ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬احجج مع امرأتك» «‪.»2‬‬
‫احلج ليس هلا أن حتج إال مع زوج ‪ ،‬أي ذي رحم حمرم ‪ ،‬من‬
‫وهذا يدل على أن املرأة إذا أرادت ّ‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن السائل فهم من قوله ‪:‬‬
‫ال تسافر ‪...‬‬
‫إخل ذلك ‪ ،‬ولذلك سأله عن امرأته اليت تريد احلج ماذا يفعل ‪ ،‬وقد اكتتب يف الغزو؟ ومل ينكر‬
‫النيب عليه ذلك‪.‬‬
‫واثنيها ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪ :‬حج مع امرأتك‬
‫أن النيب صلّى ّ‬
‫ويف ذلك داللة على أنه حني‬
‫قال ‪« :‬ال تسافر امرأة ‪...‬‬
‫إخل أراد ما يعم سفر احلج‪.‬‬
‫اثلثها ‪ :‬أنه أمره برتك الغزو وهو فرض للحج مع امرأته ‪ ،‬ولو جاز هلا احلج بغري حمرم أو زوج ملا‬
‫أمره برتك الغزو‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )977 /2‬كتاب احلج ‪ - 74 ،‬ابب سفر املرأة حديث‬
‫رقم (‪.)1340 /423‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف املسند (‪.)222 /1‬‬

‫ص ‪199 :‬‬
‫تطوع دليل على‬
‫الل عليه وسلّم للرجل عن حج امرأته أفرض هو أم ّ‬
‫ويف عدم سؤال النيب صلّى ّ‬
‫أنه ال فرق بني أن يكون احلج فرضا أو تطوعا‪.‬‬
‫وقد ورد يف السنة ما يؤخذ منه ابقي شروط االستطاعة ‪ ،‬كاستمساك من جيد الراحلة عليها‪.‬‬
‫هذا وقد اختلف يف حج الفقري البعيد عن البيت الذي ال جيد الزاد والراحلة‪ .‬إذا أمكنه املشي ‪،‬‬
‫فقال الشافعية واحلنفية ‪ :‬ال حج عليه ‪ ،‬وإن حج أجزأه ذلك عن حجة اإلسالم‪.‬‬
‫وحكي عن مالك أن عليه احلج إذا أمكنه املشي ‪ ،‬وروي عن ابن الزبري واحلسن أن االستطاعة‬
‫ما تبلّغه كائنا ما كان‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬االستطاعة الزاد والراحلة»‬
‫وأنت ترى أن اآلية بظاهرها ‪ ،‬وقوله صلّى ّ‬
‫يدالن على أ ّن ال حج عليه ‪ ،‬غري أنه مىت وصل إىل هناك يف أشهر احلج ‪ ،‬فكأنه صار من أهل‬
‫مكة ‪ ،‬فيكون حكمه كحكمهم ‪ ،‬فإذا فعله أغناه ذلك عن الفرض‪.‬‬
‫حج ‪ ،‬هل جيزئه أم ال؟‬
‫وقد حكى اجلصاص «‪ »1‬اخلالف بني احلنفية والشافعية يف العبد إذا ّ‬
‫الشافعي بقياس العبد على الفقري ‪ ،‬فإذا قلتم ‪ :‬إن الفقري إذا‬
‫ّ‬ ‫استدل‬
‫قال الشافعية ‪ :‬جيزئه ‪ ،‬و ّ‬
‫حج فقد أجزأه ذلك ‪ ،‬وهو ال جيب عليه ‪ ،‬فكذا العبد وأيضا العبد ال جتب عليه اجلمعة ‪ ،‬وإذا‬
‫ّ‬
‫احلج‪.‬‬
‫فعلها أجزأته عن الظهر ‪ ،‬فكذا إذا فعل ّ‬
‫واستدل احلنفية مبا‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من ملك‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روى أبو إسحاق عن احلارث عن علي قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫حيج فال عليه أن ميوت يهوداي أو نصرانيا» «‪»2‬‬
‫الل ‪ ،‬مثّ مل ّ‬
‫زادا وراحلة تبلغه إىل بيت ّ‬
‫فعلم من ذلك أن شرط احلج ملك الزاد والراحلة ‪ ،‬والعبد ليس أهال للملك حبال ‪ ،‬فال يكون‬
‫الصيب ‪ ،‬فإنه إذا بلغ مستكمال‬
‫ّ‬ ‫حجه ‪ ،‬كما إذا حج‬
‫أهال للخطاب ابحلج حبال ‪ ،‬فلم جيزئه ّ‬
‫الشروط وجب عليه احلج‪.‬‬
‫وأجابوا عن القياس على الفقري أبن الفقري أهل ألن ميلك ‪ ،‬وقد يعرض امللك له يف الطريق ‪ ،‬فهو‬
‫هبذه العرضية أهل يف اجلملة ‪ ،‬فإذا وصل إىل مكة وهو ال ميلك ‪ ،‬فقد سقط هذا الشرط يف حقه‬
‫‪ ،‬ألنه صار من أهل مكة‪ .‬وأما العبد فاملانع من خطابه رقّه ‪ ،‬وهو إمنا يفارقه ابلعتق‪.‬‬
‫واستدلوا أيضا مبا‬
‫حج عشر حجج ‪ ،‬لكانت‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬لو أن صبيا ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫روي عن جابر قال رسول ّ‬
‫عليه حجة إن استطاع إليها سبيال»‬
‫‪__________.‬‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)26 /2‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪200 :‬‬
‫اجلصاص‪.‬‬
‫هذا مل ّخص كالم ّ‬
‫حج مل جتزئه حجته عن حجة اإلسالم إذا عتق‪.‬‬
‫ولكن املعروف يف مذهب الشافعي أ ّن العبد إذا ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل خالف الشافعي فيمن أحرم ابحلج ‪ ،‬مث عتق وهو واقف بعرفة ‪ ،‬أو قبل الوقوف هبا فإن‬
‫ّ‬
‫الل عنهما‪ .‬أما إذا كان العتق بعد‬
‫حجه جيزئه عن حجة اإلسالم ‪ ،‬خالفا أليب حنيفة ومالك رضي ّ‬
‫فوات احلج ‪ ،‬فإنه ال جيزئه ‪ ،‬قال النووي من الشافعية ‪:‬‬
‫وهذا ال خالف فيه عندان ‪ ،‬وبه قال العلماء كافة‪.‬‬
‫مث إ ّن احلج ال جيب إال مرة واحدة ‪ ،‬ألنّه ليس يف اآلية ما يوجب التكرار ‪ ،‬وقد روي عن ابن‬
‫احلج يف كل‬
‫الل ّ‬‫الل عليه وسلّم فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫عباس أ ّن األقرع بن حابس سأل ّ‬
‫مرة ‪ ،‬فمن زاد فتطوع» «‪.»1‬‬ ‫سنة أو مرة واحدة فقال ‪« :‬بل ّ‬
‫لكل‬
‫مستقل بنفسه ‪ ،‬وهو وعيد عام ّ‬
‫ّ‬ ‫ين عَ ِن الْعال َِم َ‬
‫ني قيل ‪ :‬إ ّن هذا الكالم‬ ‫َوَم ْن َك َف َر فَِإ هن ه‬
‫اللَ غَِ ٌّ‬
‫ابلل ‪ ،‬وال تعلّق له مبا قبله‪.‬‬ ‫من كفر ّ‬
‫احلج ‪ ،‬ومنهم من محله على‬
‫وقيل ‪ :‬إنه متعلّق مبا قبله ‪ ،‬ومن القائلني هبذا من محله على اترك ّ‬
‫من مل يعتقد وجوبه‪.‬‬
‫احلج ‪ ،‬مث أتبعه‬
‫الل ّ‬‫عولوا على ظاهر اآلية ‪ ،‬حيث أوجب ّ‬ ‫فأما الذين محلوه على اترك احلج فقد ّ‬
‫ين َع ِن الْعال َِم َ‬
‫ني ففهم منه أ ّن هذا الكفر هو ترك ما تقدم ‪ ،‬واستندوا‬ ‫بقوله ‪َ :‬وَم ْن َك َف َر فَِإ هن ه‬
‫اللَ غَِ ٌّ‬
‫إىل ما‬
‫حيج فليمت إن شاء يهوداي ‪ ،‬وإن‬
‫السالم ‪« :‬من استطاع ومات ومل ّ‬
‫ورد من قوله عليه الصالة و ّ‬
‫شاء نصرانيا»‪.‬‬
‫أصل عليه‪.‬‬
‫حيج مل ّ‬
‫وعن سعيد بن جبري ‪ :‬لو مات جار يل وله ميسرة ‪ ،‬ومل ّ‬
‫احلج ‪ ،‬والتغليظ على‬
‫وأتويل هذه األخبار عند اجلمهور أ ّن الغرض منها التنفري من ترك ّ‬
‫املستطعني ‪ ،‬حىت يؤ ّدوا الفريضة ‪ ،‬فهو نظري‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬من أتى امرأة حائضا يف دبرها فقد كفر مبا أنزل على حممد»‪.‬‬
‫واستدل األكثرون ملذهبهم مبا‬
‫ّ‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫احلج ‪ ،‬مجع رسول ّ‬
‫روي عن الضحاك يف سبب النزول قال ‪ :‬ملا نزلت آية ّ‬
‫الل كتب‬
‫وسلّم أهل امللل مشركي العرب والنصارى واليهود واجملوس والصابئني وقال ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫احلج فحجوا البيت»‬
‫عليكم ّ‬
‫فلم يقبله ّإال املسلمون ‪ ،‬وكفرت به مخس ملل قالوا ‪ :‬ال نؤمن به وال نصلي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )68 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب فرض احلج حديث رقم‬
‫(‪ ، )1721‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )963 /2‬كتاب املناسك ابب اخلروج حديث رقم‬
‫(‪.)2886‬‬

‫ص ‪201 :‬‬
‫ين َع ِن الْعال َِم َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫إليه وال نستقبله فأنزل قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن َك َف َر فَِإ هن ه‬
‫اللَ غَِ ٌّ‬
‫قال الفخر الرازي ‪ :‬هذا القول هو األقوى‪.‬‬
‫قُ ْل ُموتُوا بِغَيْ ِظ ُك ْم دعاء عليهم بدوام الغيظ وزايدته ابزدايد قوة اإلسالم ونصرة أهله حىت يهلكوا‬
‫الل َعلِيم بِ ِ‬
‫ذات الص ُدو ِر أي مبا خفي فيها‪.‬‬ ‫به إِ هن هَ ٌ‬
‫الل عليم مبا هو أخفى من عض‬‫وهو حيتمل أن يكون من تتمة املقول هلم‪ .‬أي قل هلم ‪ :‬إن ّ‬
‫األانمل إذا خلومت ‪ ،‬فيجازي به‪.‬‬
‫وحيتمل أن يكون خارجا عن املقول هلم ‪ :‬أي قل هلم ما تقدم ‪ ،‬وال تتعجب من اطالعي إايك‬
‫على أسرارهم ‪ ،‬فإين عليم مبا خفي يف ضمائرهم‪.‬‬
‫املس هنا واإلصابة مبعىن واحد واملراد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫س ْؤ ُه ْم َوإ ْن تُص ْب ُك ْم َسيّئَةٌ يَ ْف َر ُحوا هبا ّ‬
‫سنَةٌ تَ ُ‬
‫س ْس ُك ْم َح َ‬
‫إ ْن متَْ َ‬
‫ابحلسنة هنا النفع الدنيوي ‪ :‬كالصحة ‪ ،‬واخلصب ‪ ،‬واأللفة ‪ ،‬واجتماع الكلمة ‪ ،‬والظفر‬
‫ابألعداء‪ .‬واملراد ابلسيئة ‪ :‬احملنة كإصابة العدو من املسلمني واختالف الكلمة فيما بينهم‪.‬‬
‫َوإِ ْن تَ ْ‬
‫صِربُوا َوتَته ُقوا ال يَ ُ‬
‫ضرُك ْم َك ْي ُد ُه ْم َش ْيئاً الكيد هو أن حيتال اإلنسان ليوقع غريه يف مكروه ‪،‬‬
‫وفسره ابن عباس هنا ابلعداوة‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬فال يضره كيد‬
‫الل عنه كان يف حفظ ّ‬
‫واملعىن ‪ :‬أن من صرب على الطاعة واتّقى ما هنى ّ‬
‫الل سبحانه وتعاىل إمنا خلق اخللق للعبادة كما‬ ‫الكائدين ‪ ،‬وال حيل احملتالني ‪ ،‬وحتقيق ذلك أ ّن ّ‬
‫اإلنْس إِهال لِي ْعب ُد ِ‬ ‫قال ‪ :‬وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫وىف بعهده العبودية‬ ‫ون (‪[ )56‬الذارايت ‪ ]56 :‬فمن ّ‬ ‫ت ا ْجل هن َو ِْ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫فالل أكرم من أن ال يفي بعهد الربوبية يف حفظه من كل مكروه ‪َ :‬وَم ْن يَت ِهق ه‬
‫اللَ َْجي َع ْل لَهُ‬ ‫يف ذلك ّ‬
‫ب [الطالق ‪.]3 ، 2 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َخمَْرجاً َويَ ْرُزقْهُ ِم ْن َحيْ ُ‬
‫ث ال َْحيتَس ُ‬
‫الل تعاىل جماز ‪ ،‬ألن اإلحاطة ابلشيء من صفات‬ ‫ط إطالق لفظ حميط على ّ‬ ‫اللَ ِمبا يَ ْع َملُو َن ُِحمي ٌ‬
‫إِ هن ه‬
‫األجسام ‪ ،‬لكنه تعاىل ملا كان عاملا بكل األشياء ‪ ،‬قادرا على كل املمكنات جاز يف جماز اللغة أنّه‬
‫حميط هبا‪.‬‬
‫واملراد أن مجيع أعماهلم معلومة ّلل تعاىل ‪ ،‬وسيجازيهم عليها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللَ ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫حو َن‬ ‫ضاع َفةً َواته ُقوا ه‬
‫ضعافاً ُم َ‬ ‫آمنُوا ال َأتْ ُكلُوا ِّ‬
‫الربَوا أَ ْ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬
‫ين َ‬ ‫قال ّ‬
‫(‪.)130‬‬
‫وعرب به ملا أنّه معظم ما يقصد به ‪ ،‬ولشيوعه يف املأكوالت ‪،‬‬
‫املراد من أكل الراب أخذه ‪ّ ،‬‬
‫واألضعاف مجع ضعف ‪ ،‬وضعف الشيء مثله معه ‪ ،‬وضعفاه مثاله معه‪ .‬فإذا قيل ‪ :‬ضعف‬
‫العشرة لزم أن جتعلها عشرين ‪ ،‬أل ّن العشرين أول مراتب تضعيفها‪ .‬ولو قال ‪:‬‬

‫ص ‪202 :‬‬
‫له عندي ضعف درهم لزمه درَهان ‪ ،‬وله عندي ضعفا درهم لزمه ثالثة دراهم‪.‬‬
‫كان الرجل يف اجلاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إىل أجل ‪ ،‬فإذا حل األجل ‪ ،‬ومل يكن‬
‫املدين واجدا لذلك املال ‪ ،‬قال ‪ :‬زد يف املال وأزيدك يف األجل ‪ ،‬فرمبا جعله مائتني ‪ ،‬مث إذا حل‬
‫األجل الثاين ‪ ،‬فعل مثل ذلك ‪ ،‬إىل آجال كثرية ‪ ،‬فيأخذ بسبب تلك املائة أضعافها‪ .‬فهذا هو‬
‫املنهي عنه ‪ :‬حىت يكون أصل‬
‫ضاع َفةً وليست هذه احلال لتقييد ّ‬
‫ضعافاً ُم َ‬
‫املراد من قوله تعاىل ‪ :‬أَ ْ‬
‫الراب غري منهي عنه ‪ ،‬بل ملراعاة الواقع ‪ ،‬وللتشنيع عليهم ‪ ،‬أبن يف هذه املعاملة ظلما صارخا ‪،‬‬
‫احتج هبذا نفاة مفهوم املخالفة ‪ ،‬القائلون أبن املخصوص ابلذكر ال يدل على‬
‫وعدواان مبينا ‪ ،‬و ّ‬
‫نفي ما عداه‪.‬‬
‫وأجيب أب ّن من شرط مفهوم املخالفة أال يكون للمذكور فائدة غري التخصيص ابحلكم ‪ ،‬ومىت‬
‫ظهرت له فائدة سوى التخصيص ابحلكم بطل وجه داللته عليه ‪ ،‬والوصف ابلتضعيف قد ذكر‬
‫هنا لبيان الواقع كما تقدم ‪ ،‬فظهرت له فائدة غري التخصيص ابحلكم ‪ ،‬فانتفى شرط العمل‬
‫مبفهوم املخالفة هنا لذلك‪.‬‬
‫ِ‬
‫اللَ فيما هنيتم عنه ‪ ،‬ومن مجلته أكل الراب ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫حو َن لكي تفلحوا ‪ ،‬أو راجني الفالح‬ ‫َواته ُقوا ه‬
‫الل ال يرجى فالحه ‪ ،‬وهذا تنصيص على أن الراب من الكبائر ال من‬
‫‪ ،‬فمن أكل الراب ومل يتق ّ‬
‫الصغائر‪.‬‬
‫ابلتحرز عن أكل الراب املفضي إىل دخول النار ‪ ،‬الهِيت أ ُِعد ْ‬
‫هت هيئت‬ ‫ّ‬ ‫َواته ُقوا الن َ‬
‫هار أي احذروها‬
‫ِ ِ‬
‫ين النار خملوقة للكافرين مع ّدة هلم أوال وابلذات وغريهم من عصاة املؤمنني يدخلها على‬‫للْكاف ِر َ‬
‫وجه التبع ‪ ،‬ويف ذلك إشارة إىل أن أكلة الراب على شفا حفرة الكافرين‪ .‬روي عن أيب حنيفة‬
‫الل املؤمنني‬
‫الل عنه أنه كان يقول ‪ :‬إن هذه اآلية هي أخوف آية يف القرآن ‪ ،‬حيث أوعد ّ‬
‫رضي ّ‬
‫ابلنار املع ّدة للكافرين إن مل يتقوه يف اجتناب حمارمه‪.‬‬
‫وتدل هذه اآلية على أن النار خملوقة اآلن ‪ ،‬أل ّن قوله تعاىل ‪ :‬أ ُِعد ْ‬
‫هت إخبار عن املاضي ‪ ،‬فال بد‬
‫أن يكون ذلك الشيء املع ّد قد دخل يف الوجود‪.‬‬
‫ول ل ََعله ُك ْم تُ ْر َمحُو َن (‪ )132‬ملّا ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة‬ ‫وأ ِ‬
‫َطيعُوا ه‬
‫اللَ َوال هر ُس َ‬ ‫َ‬
‫املستمرة يف القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ص ‪203 :‬‬
‫من سورة النساء‬
‫واح َدةٍّ َو َخلَ َق ِم ْنها َزْو َجها َوبَ ه‬
‫ث‬ ‫س ِ‬ ‫هاس اته ُقوا َربه ُك ُم اله ِذي َخلَ َق ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍّ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الن ُ‬
‫قال ّ‬
‫اللَ كا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيباً (‪)1‬‬‫حام إِ هن ه‬ ‫ِ‬ ‫جاال َكثِرياً ونِساء واته ُقوا ه ِ‬
‫اللَ الهذي تَسائَلُو َن بِه َو ْاأل َْر َ‬ ‫َ ًَ‬ ‫ِم ْن ُهما ِر ً‬
‫وفرق منهما على سبيل التناسل والتوالد‪ .‬وقوله ‪:‬‬ ‫قوله جل شأنه ‪ :‬وب ه ِ‬
‫ث م ْن ُهما معناه ‪ :‬نشر ‪ّ ،‬‬ ‫ََ‬ ‫ّ‬
‫الل ‪ ،‬واملفاعلة على‬ ‫ابلل ‪ ،‬وأنشدك ّ‬ ‫تَسائَلُو َن بِه معناه ‪ :‬يسأل بعضكم بعضا به ‪ ،‬مثل ‪ :‬أسألك ّ‬ ‫ِ‬
‫ظاهرها ‪ ،‬أو مبعىن تسألون كثريا‪ .‬الرقيب ‪ :‬احلفيظ املطلع العامل‪.‬‬
‫الل املكلّفني مجيعا ابمتثال ما أمر به ‪ ،‬واجتناب ما هنى عنه ‪ ،‬مما يتعلّق حبقوقه ‪ ،‬وحقوق‬
‫أيمر ّ‬
‫عباده ‪ ،‬ويتناول ذلك بعمومه ما سيذكر يف السورة بعد من صلة األرحام ‪ ،‬ورعاية حال األيتام‬
‫والعدل يف النكاح واملرياث ‪ ،‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫الل األمر ابلتقوى مبا حيمل املخاطبني على االمتثال ‪ ،‬فذكر امسه بعنوان الربوبية مع‬
‫ولقد أ ّكد ّ‬
‫اإلضافة إىل ضمري املخاطبني ‪ ،‬ووصف نفسه أبنه خالقهم ‪ ،‬وأ ّن مبدأ خلقهم نفس واحدة ‪ ،‬وأنه‬
‫كل ذلك مبا يؤيد األمر ‪ ،‬ويؤّكد إجياب‬
‫خلق منها زوجها ‪ ،‬ونشر من الزوجني رجاال كثريا ونساء ‪ّ ،‬‬
‫االمتثال ‪ ،‬فإ ّن االستعمال جار على أن الوصف الذي علّق به احلكم علة موجبة له ‪ ،‬وداعية إليه‬
‫يدل على القدرة القاهرة ‪ ،‬والنعمة اجلسيمة ‪ ،‬واملنة العظيمة ‪ ،‬والقدرة‬
‫‪ ،‬وال شك أ ّن ما ذكر ّ‬
‫توجب التقوى حذرا من العقاب ‪ ،‬والنعمة تدعو إليها طلبا للمزيد ‪ ،‬ووفاء ابلشكر الواجب‪.‬‬
‫جل شأنه‬
‫ويف االمتنان خبلقنا من نفس واحدة ما يوجب احلرص على امتثال األوامر اآلتية ‪ ،‬فإنه ّ‬
‫ذكر عقيب األمر ابلتقوى األمر ابإلحسان إىل اليتامى والنساء والضعفاء ‪ ،‬وكون الناس أبسرهم‬
‫خملوقني من نفس واحدة له أثر يف هذا املعىن بليغ ‪ ،‬ذلك أل ّن األقارب ال بد أن يكون بينهم نوع‬
‫مواصلة وخمالطة توجب مزيد احملبة ‪ ،‬أال ترى أن اإلنسان يفرح مبدح أقاربه وأسالفه ‪ ،‬وحيزن‬
‫مين يؤذيين ما آذاها ‪،‬‬
‫بذمهم والطعن فيهم ‪ ،‬وقد قال عليه الصالة والسالم ‪« :‬إمنا فاطمة بضعة ّ‬
‫وينصبين ما أنصبها» «‪»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )656 /5‬كتاب املناقب ‪ ،‬ابب فضل فاطمة حديث‬
‫رقم (‪.)3869‬‬

‫ص ‪204 :‬‬
‫واحلنو على اليتامى‬
‫وإذا كان األمر كذلك فال جرم إن كان ذكر هذا املعىن سببا يف زايدة الشفقة ّ‬
‫والنساء وذوي األرحام‪.‬‬
‫واملراد من النفس الواحدة آدم عليه السالم ‪ ،‬والذي عليه اجلماعة من الفقهاء واحملدثني أنه ليس‬
‫حواء ‪ ،‬وقد خلقت من ضلع آدم عليه‬
‫سوى آدم واحد ‪ ،‬وهو أبو البشر ‪ ،‬واملراد من الزوج ّ‬
‫السالم ‪ ،‬وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع ‪ ،‬ألنه سبحانه وتعاىل قادر على خلقها من الرتاب ‪،‬‬
‫فأي فائدة يف خلقها من الضلع ‪ ،‬وزعم أ ّن معىن ِم ْنها من جنسها ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪َ :‬ج َع َل‬
‫لَ ُك ْم ِم ْن أَنْ ُف ِس ُك ْم أَ ْزواجاً [الشورى ‪ ]11 :‬وهو ابطل ‪ ،‬إذ لو كان األمر كما قال‪ .‬لكان الناس‬
‫خملوقني من نفسني ال من نفس واحدة ‪ ،‬وهو خالف النص‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وهو أيضا خالف ما نطقت به األخبار الصحيحة عن رسول ّ‬
‫فإهنن خلقن من ضلع ‪ ،‬وإ ّن أعوج شيء من الضلع‬
‫روى الشيخان ‪« :‬استوصوا ابلنساء خريا ‪ّ ،‬‬
‫أعاله ‪ ،‬فإن ذهبت تقيمه كسرته ‪ ،‬وإن تركته مل يزل أعوج ‪ ،‬فاستوصوا ابلنّساء خريا» «‪»1‬‬
‫الل على خلق حواء من تراب ال متنع عن خلقها من غريه‪ .‬فقد خلق الناس بعضهم من‬
‫وقدرة ّ‬
‫ولعل الفائدة يف خلق حواء من ضلع آدم ‪-‬‬
‫بعض ‪ ،‬مع القدرة على خلقهم كآدم من تراب ‪ّ ،‬‬
‫سوى احلكمة اليت خفيت علينا ‪ -‬إظهار أنه سبحانه قادر على أن َيلق حيا من حي ‪ ،‬ال على‬
‫والل أعلم‪.‬‬‫سبيل التوالد ‪ ،‬كما أنه قادر على أن َيلق حيا من مجاد كذلك ‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫الل األمر ابلتقوى ‪ ،‬وكرره بقوله جل شأنه ‪ :‬واته ُقوا ه ِ‬
‫اللَ الهذي تَسائَلُو َن بِه َو ْاأل َْر َ‬
‫حام ويف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مث أكد ّ‬
‫تعليق احلكم مبا يف حيز الصلة إشارة إىل نوع آخر من موجبات االمتثال ‪ ،‬فإ ّن قول الرجل‬
‫ابلل على سبيل االستعطاف يقتضي االتقاء واحلذر من خمالفة أوامره ونواهيه‪.‬‬
‫لصاحبه أسألك ّ‬
‫الل تعاىل واتقوا‬
‫حام ابلنصب ‪ ،‬واملعىن على هذه القراءة ‪ ،‬واتقوا ّ‬
‫قرأ غري محزة من السبعة َو ْاأل َْر َ‬
‫األرحام وصلوها وال تقطعوها ‪ ،‬فإن قطعها مما جيب أن يتّقى‪.‬‬
‫وخرجت يف املشهور على العطف على الضمري اجملرور ‪ ،‬والعطف‬ ‫حام ابجلر ‪ّ ،‬‬
‫وقرأ محزة َو ْاأل َْر َ‬
‫اجلار أجازه مجاعة من النحاة وأنشد سيبويه يف ذلك ‪:‬‬
‫على الضمري اجملرور دون إعادة ّ‬
‫بت هتجوان وتشتمنا فاذهب فما بك واألايم من عجب‬
‫فاليوم قد ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 67 ، )178 /6‬كتاب النكاح ‪ - 81 ،‬ابب الوصاة‬
‫ابلنساء حديث رقم (‪ ، )5186‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1091 /2‬كتاب الرضاع ‪،‬‬
‫‪ - 18‬ابب الوصية ابلنساء حديث رقم (‪].....[ .)1468 /65‬‬

‫ص ‪205 :‬‬
‫اللَ كا َن عَلَيْ ُك ْم َرقِيباً يف موضع التعليل لألمر ووجوب االمتثال يؤخذ من هذه اآلية جواز‬
‫إِ هن ه‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ابلل تعاىل ‪ ،‬وقد روى الليث عن جماهد عن ابن عمر قال رسول ّ‬
‫املسألة ّ‬
‫ابلل فأعطوه وإن شئتم فدعوه»‪.‬‬
‫‪« :‬من سأل ّ‬
‫الل األرحام ابمسه‬ ‫الرحم ‪ ،‬وأتكيد النهي عن قطعها ‪ ،‬إذ قرن ّ‬ ‫ويؤخذ منها أيضا تعظيم ح ّق ّ‬
‫ض َوتُ َق ِطّعُوا‬
‫س ْي تُ ْم إِ ْن تَ َولهْي تُ ْم أَ ْن تُ ْف ِس ُدوا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫سبحانه ‪ ،‬وقال يف موضع آخر ‪ :‬فَ َه ْل عَ َ‬
‫حام ُك ْم (‪[ )22‬حممد ‪ ]22 :‬فقرن قطع الرحم إىل الفساد يف األرض ‪ ،‬وأخرج الشيخان عن‬ ‫أ َْر َ‬
‫حىت إذا فرغ‬ ‫الل تعاىل خلق اخللق ّ‬ ‫الل عليه وسلّم ‪« :‬إ ّن ّ‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫الرحم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هذا مقام العائذ بك من القطيعة ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أما ترضني أ ّن‬ ‫منهم ‪ ،‬قامت ّ‬
‫أصل من وصلك ‪ ،‬وأقطع من قطعك؟ قالت ‪ :‬بلى ‪ ،‬قال ‪ :‬فذلك لك» «‪.»1‬‬
‫وتدل اآلية أيضا على تقدير التساؤل ابألرحام ‪ ،‬ال سيما على قراءة محزة ‪:‬‬
‫واعرتض على ذلك ابن عطية ‪ ،‬وزعم أن احلديث الصحيح ير ّده ‪،‬‬
‫ابلل أو ليصمت»‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬من كان حالفا فليحلف ّ‬
‫فقد أخرج الشيخان عنه صلّى ّ‬
‫«‪»2‬‬
‫وأنت تعلم أ ّن قول الرجل لصاحبه ‪ :‬أسألك ابلرحم أن تفعل كذا ‪ ،‬ليس الغرض منه سوى‬
‫تضمنه األمر‬
‫االستعطاف والتأكيد ‪ ،‬فهو إذا ليس بيمني ‪ ،‬فال يكون من متعلّق النهي الذي ّ‬
‫ابلل» يف شيء‪.‬‬
‫«فليحلف ّ‬
‫ب َوال َأتْ ُكلُوا أ َْموا َهلُ ْم إِىل أ َْموالِ ُك ْم‬ ‫اخلَبِ َ‬
‫يث ِابلطهيِّ ِ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم َوال تَتَ بَ هدلُوا ْ‬
‫قال ّ‬
‫الل فيه ‪ ،‬واخلطاب لألوصياء ‪ ،‬ما‬ ‫إِنههُ كا َن ُحوابً َكبِرياً (‪ )2‬هذا شروع يف تفصيل ما جتب تقوى ّ‬
‫دام املال أبيديهم ‪ ،‬واليتامى يف حجورهم ‪ ،‬واليتيم من اإلنسان من مات أبوه ‪ ،‬من اليتم وهو‬
‫لكن الشرع والعرف خصصاه‬
‫االنفراد ‪ ،‬واالشتقاق يقتضي صحة إطالقه على الصغار والكبار ‪ّ ،‬‬
‫ابلصغار ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ال يتم بعد‬
‫الل عن النيب صلّى ّ‬
‫الل وجهه وجابر بن عبد ّ‬
‫روى علي كرم ّ‬
‫احتالم» «‪.»3‬‬
‫لكن ظاهر قوله‬
‫ال خالف بني أهل العلم يف أ ّن اليتيم ال يعطى ماله قبل البلوغ ‪ّ ،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 78 ، )96 /7‬كتاب األدب ‪ - 13 ،‬ابب من وصل وصله‬
‫الل حديث رقم (‪ ، )5987‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 45 ، )1981 /4‬كتاب الرب ‪ - 6 ،‬ابب‬
‫ّ‬
‫صلة الرحم حديث رقم (‪.)2554 /16‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 52 ، )216 /3‬كتاب الشهادات ‪ - 26 ،‬ابب كيف‬
‫يستحلف حديث رقم (‪ ، )2679‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 27 ، )1267 /3‬كتاب األميان ‪،‬‬
‫الل تعاىل حديث رقم (‪.)1646 /3‬‬
‫‪ - 1‬ابب النهي عن احللف بغري ّ‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )37 /3‬كتاب الوصااي ‪ ،‬ابب ما جاء مىت ينقطع اليتم حديث‬
‫رقم (‪.)2873‬‬

‫ص ‪206 :‬‬
‫تعاىل ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم يوجب إعطاءهم أمواهلم قبل البلوغ ‪ ،‬فكان ذلك مشكال ‪،‬‬
‫وللعلماء فيه حممالن ‪:‬‬
‫يتعرض هلا بسوء ‪ ،‬فاإليتاء‬
‫األول ‪ :‬أن جيعل إيتاء األموال جمازا عن تركها ساملة من غري أن ّ‬
‫مستعمل يف الزم معناه ‪ ،‬وتبقى كلمة الْيَتامى على حقيقتها ‪ ،‬كما هو املتبادر منها شرعا وعرفا‪.‬‬
‫واحململ الثاين ‪ :‬أن يكون اإليتاء مستعمال يف حقيقته مبعىن اإلعطاء ابلفعل ‪ ،‬وتكون كلمة الْيَتامى‬
‫ابلصغر ‪ ،‬ولإلشارة إىل‬
‫جمازا ابعتبار ما كان ‪ ،‬وأوثر التعبري عن الكبار ابليتامى لقرب العهد ّ‬
‫وجوب املسارعة واملبادرة بدفع أمواهلم إليهم ‪ ،‬حىت كأ ّن اسم اليتم ابق غري زائل ‪ ،‬وهذا املعىن‬
‫يسمى يف األصول إبشارة النص‪.‬‬
‫ولكل من احململني ما يؤيده ‪:‬‬
‫فحجة األول ‪ :‬قوله تعاىل بعد آايت َوابْ تَ لُوا الْيَتامى إخل فإنه كالدليل على اآلية األوىل يف احلث‬
‫على حفظ أموال اليتامى ‪ ،‬لتدفع إليهم عند بلوغهم ورشدهم ‪ ،‬وأ ّن اآلية الثانية يف احلث على‬
‫الدفع احلقيقي عند حصول البلوغ والرشد ‪ ،‬ولو كان اإليتاء يف اآلية األوىل ابقيا على حقيقته‬
‫لكان مؤدى اآليتني كالشيء الواحد‪.‬‬
‫وحجة احململ الثاين ‪ :‬ما أخرجه ابن أيب حامت عن سعيد بن جبري أن رجال من غطفان كان معه‬
‫الل عليه‬
‫مال كثري البن أخ له يتيم ‪ ،‬فلما بلغ طلب املال فمنعه عمه ‪ ،‬فخاصمه إىل النيب صلّى ّ‬
‫يدل على أن املراد ابإليتاء اإلعطاء ابلفعل ‪ ،‬وال سيما‬
‫وسلّم‪ .‬فنزلت َوآتُوا الْيَتامى إخل فإن ذلك ّ‬
‫الل‬
‫العم ملا مسعها قال ‪ :‬أطعنا ّ‬
‫أنه قد روى الثعليب «‪ »1‬والواحدي عن مقاتل والكليب «‪ »2‬أن ّ‬
‫ابلل من احلوب الكبري «‪.»3‬‬ ‫ورسوله ‪ ،‬نعوذ ّ‬
‫األول بدل الثاين ‪ ،‬بعد‬
‫ب تب ّدل الشيء ابلشي ء ‪ ،‬واستبدله ‪ ،‬إذا أخذ ّ‬ ‫اخلَبِ َ‬
‫يث ِابلطهيِّ ِ‬ ‫َوال تَتَ بَ هدلُوا ْ‬
‫أن كان حاصال له ‪ ،‬أو على شرف احلصول ‪ ،‬ويتع ّداين أبدا إىل الزائل ابلباء ‪ ،‬وإىل بدله‬
‫ميان [البقرة ‪ ]108 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫هل الْ ُك ْفر ِاب ِْإل ِ‬
‫أبنفسهما كما هنا ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬وَم ْن يَتَ بَد ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أَتَ ْستَ ْب ِدلُو َن اله ِذي ُه َو أَ ْدىن ِابله ِذي ُه َو َخ ْريٌ [البقرة ‪.]61 :‬‬
‫وأما التبديل أو اإلبدال فهو التغيري مطلقا ‪ ،‬وقد يتع ّدى إىل مفعول واحد ‪ ،‬فَ َم ْن بَ هدلَهُ بَ ْع َد ما‬
‫الل سيِّئاهتِِم حس ٍّ‬ ‫َِمسعهُ [البقرة ‪ ]181 :‬وإىل مفعولني بنفسه فَأُولئِ َ ِ‬
‫نات [الفرقان ‪]70 :‬‬ ‫ك يُبَ ّد ُل هُ َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أمحد بن حممد بن إبراهيم الثعليب أبو إسحاق املفسر تويف (‪ )427‬من أهل نيسابور له‬
‫اشتغال ابلتاريخ ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)212 /1‬‬
‫(‪ )2‬حممد بن السائب بن بشر الكليب تويف (‪ )146‬نسابة ‪ ،‬عامل ابلتفسري ‪ ،‬من أهل الكوفة ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)133 /6‬‬
‫(‪ )3‬معامل التنزيل للبغوي املعروف بتفسري البغوي (‪.)396 /1‬‬

‫ص ‪207 :‬‬
‫فَأ ََر ْدان أَ ْن يُ ْب ِد َهلُما َرهبُما َخ ْرياً ِم ْنهُ [الكهف ‪ ]81 :‬وإىل أحد املفعولني بنفسه والثاين ابلباء سواء‬
‫ني [سبأ ‪.]16 :‬‬ ‫ْناه ْم ِجبَنهتَ يْ ِه ْم َجنهتَ ْ ِ‬
‫يف ذلك الزائل وبدله ‪َ ،‬وبَ هدل ُ‬
‫وقال طفيل الغنوي ملا أسلم ‪:‬‬
‫وبدل طالعي حنسي بسعدي‬
‫واملراد ابخلبيث والطيب ‪ :‬احلرام واحلالل ‪ ،‬أي ال ترتكوا مالكم احلالل ‪ ،‬وأتكلوا احلرام من‬
‫أمواهلم ‪ ،‬أو ال ترتكوا العمل احلالل ‪ ،‬وهو حفظ أمواهلم ‪ ،‬وتركبوا احلرام ‪ ،‬وهو أكل أمواهلم ‪،‬‬
‫والعمل على اختزاهلا ‪ ،‬وأاي ما كان األمر فالتعبري عن احلرام واحلالل ابخلبيث والطيب للتنفري من‬
‫أكل أموال اليتامى ‪ ،‬والرتغيب يف حفظها وإمنائها‪.‬‬
‫وقد قال بعض املفسرين ‪ :‬املراد ابخلبيث والطيب الرديء واجليّد ‪ ،‬وإىل ذلك ذهب النخعي ‪،‬‬
‫والزهري ‪ ،‬وابن املسيب ‪ ،‬والسدي ‪ :‬فقد أخرج ابن جرير «‪ »1‬عنه أنه قال ‪ :‬كان أحدهم‬
‫أيخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ‪ ،‬وجيعل مكاهنا الشاة املهزولة ويقول ‪ :‬شاة بشاة ‪ ،‬وأيخذ‬
‫الدرهم اجليد ‪ ،‬ويضع مكانه الزائف ‪ ،‬ويقول ‪ :‬درهم بدرهم‪ .‬وختصيص هذه املعاملة ابلنهي‬
‫خلروجها خمرج العادة ‪ ،‬ال إلابحة ما عداها ‪ ،‬فال مفهوم لعدم توفّر شرطه عند القائل به‪.‬‬
‫َوال َأتْ ُكلُوا أ َْموا َهلُ ْم إِىل أ َْموالِ ُك ْم واملراد من األكل مطلق االنتفاع ‪ّ ،‬‬
‫وعرب عنه ابألكل ألنه أغلب‬
‫أحواله‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬وال أتكلوا أمواهلم مضمومة إىل أموالكم ‪ ،‬أي ال تس ّووا بينهما ‪ ،‬وتنفقوَها معا ‪ ،‬وهذا‬
‫حالل وذاك حرام ‪ ،‬وورد النهي على هذا األسلوب يدل على تقبيح فعلهم ‪ ،‬والتشنيع عليهم ‪،‬‬
‫حيث كانوا أيكلون أموال اليتامى مع الغىن عنها‪.‬‬
‫وإذا ال يلزم القائل مبفهوم املخالفة جواز أكل أمواهلم وحدها ‪ ،‬وظاهر النهي عدم جواز أكل‬
‫الوصي فقريا ‪ ،‬لقوله‬
‫ّ‬ ‫شيء من أموال اليتامى ‪ ،‬وقد خص من ذلك مقدار أجر املثل إذا كان‬
‫وف [النساء ‪ ]6 :‬وسيأيت‬‫ف ومن كا َن فَ ِقرياً فَلْيأْ ُكل ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ُْ‬ ‫تعاىل ‪َ :‬وَم ْن كا َن غَنيًّا فَلْيَ ْستَ ْعف ْ َ َ ْ‬
‫الكالم فيه‪.‬‬
‫والضمري يف قوله تعاىل ‪ :‬إِنههُ كا َن ُحوابً َكبِرياً لألكل املفهوم من قوله جل شأنه ‪:‬‬
‫َوال َأتْ ُكلُوا أ َْموا َهلُ ْم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬للتبدل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هلما ‪ ،‬ويكون حينئذ ّ‬
‫منزال منزلة اسم اإلشارة ‪،‬‬
‫املنهي عنه ‪ ،‬والتنصيص على أنه من‬
‫واحلوب ‪ :‬اإلمث ‪ ،‬ويف تنوينه ووصفه أبنه كبري هتويل ألمره ّ‬
‫كبائر الذنوب العظيمة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)153 /4‬‬

‫ص ‪208 :‬‬
‫واحتج اجلصاص «‪ »1‬بقوله تعاىل ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم على وجوب دفع املال إىل اليتيم إذا‬
‫ّ‬
‫بلغ مخسا وعشرين سنة ‪ ،‬قال ‪ :‬مل يشرتط يف هذه اآلية إيناس الرشد يف دفع املال إليهم ‪،‬‬
‫وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ ‪ ،‬سواء آنسنا منهم الرشد ‪ ،‬أو مل أننس ‪ ،‬إال أنه‬
‫قد شرطه يف قوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم [النساء ‪ ]6 :‬فكان‬
‫ذلك مستعمال عند أيب حنيفة ما بني بلوغ احللم وبني مخس وعشرين سنة ‪ ،‬فإذا بلغها ‪ ،‬ومل أينس‬
‫منه رشد ‪ ،‬وجب دفع املال إليه ‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم فيستعمله بعد مخس‬
‫وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره ‪ ،‬وفيما قبل ذلك ال يدفعه إال مع إيناس الرشد ‪ ،‬التّفاق‬
‫أهل العلم على أ ّن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع املال إليه ‪ ،‬يعين وال‬
‫إمجاع على هذا الشرط بعد بلوغ هذه السن ‪ ،‬مث قال ‪ :‬وهذا وجه سائغ من قبل أ ّن فيه‬
‫كل واحدة من اآليتني على فائدهتا ‪ ،‬ومقتضى ظاهرها ‪ ،‬ولو اعتربان إيناس الرشد على‬
‫استعمال ّ‬
‫سائر األحوال لكان فيه إسقاط حكم اآلية األخرى رأسا ‪ ،‬ومعلوم أنّه مىت أمكننا استعمال‬
‫اآليتني على فائدهتما مل جيز االقتصار هبما على إحداَها وإسقاط فائدة األخرى‪.‬‬
‫وأنت تعلم أ ّن هذا االستدالل متوقف على أ ّن املراد ابإليتاء اإلعطاء والدفع ابلفعل ‪ ،‬وأ ّن املراد‬
‫ابليتامى اليتامى ابعتبار ما كان ‪ ،‬وهو أحد احتمالني يف اآلية على ما سبق ‪ ،‬وحنن نقول ‪ :‬مل ال‬
‫جيوز أن يكون املراد من اآلية االحتمال الثاين ‪ ،‬وهو أ ّن اإليتاء مستعمل يف احلفظ والصيانة ‪،‬‬
‫كل من اآليتني على فائدهتا ‪،‬‬
‫واليتامى ابق على حقيقته ‪ ،‬وحينئذ يكون يف هذا التأويل إعمال ّ‬
‫ولو سلمنا قصر اآلية على االحتمال األول ‪ ،‬فالتعارض بينها وبني قوله تعاىل ‪َ :‬وابْ تَ لُوا الْيَتامى‬
‫اخلاص مع العام ‪ ،‬أل ّن اآلية األوىل‬
‫ّ‬ ‫إخل وقوله جل شأنه ‪َ :‬وال تُ ْؤتُوا الس َفهاءَ أ َْموالَ ُك ُم تعارض‬
‫حترمان دفع املال إليهم إذا كانوا سفهاء ‪،‬‬
‫توجب دفع املال إىل اليتامى كلهم ‪ ،‬واآليتان بعدها ّ‬
‫العام ‪ ،‬وسيأيت الكالم يف وجه اختيار هذه السن عند قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫شك أ ّن اخلاص مق ّدم على ّ‬ ‫وال ّ‬
‫فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِلَيْ ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم [النساء ‪.]6 :‬‬
‫طاب لَ ُك ْم ِم َن النِّس ِاء َمثْىن َوثُ َ‬
‫الث‬ ‫حوا ما َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن خ ْفتُ ْم أ هَال تُ ْقسطُوا ِيف الْيَتامى فَانْك ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ك أَ ْدىن أ هَال تَعُولُوا (‪ )3‬املراد من‬ ‫ت أ َْميانُ ُك ْم ذلِ َ‬ ‫ابع فَِإ ْن ِخ ْفتم أ هَال تَع ِدلُوا فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫َوُر َ‬
‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫عرب عنه بذلك إيذاان بكون املعلوم خموفا حمذورا ‪ ،‬واإلقساط ‪ :‬اإلنصاف والعدل‬ ‫اخلوف العلم ‪ّ ،‬‬
‫‪ ،‬أقسط أزال القسوط ‪ :‬وهو الظلم واحليف ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬
‫أقسط ‪ :‬أي صار ذا قسط ‪ ،‬والقسط العدل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)49 /2‬‬

‫ص ‪209 :‬‬
‫ني ِابل ِْق ْس ِط [النساء ‪ ]135 :‬ما طاب ‪ :‬ما مالت إليه نفوسكم واستطابته‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُكونُوا قَ هوام َ‬
‫ويف قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن ِخ ْفتم أَهال تُ ْق ِسطُوا ِيف الْيتامى فَانْكِحوا ما طاب لَ ُكم ِمن النِّ ِ‬
‫ساء أتويالت‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي يف «سننه» وغريهم عن عروة بن الزبري أنه‬ ‫ّ‬ ‫منها ‪ :‬ما رواه‬
‫الل عنها ‪ ،‬عن هذه اآلية فقالت ‪ :‬اي ابن أخيت هذه اليتيمة تكون يف حجر‬
‫سأل عائشة رضي ّ‬
‫وليها تشركه يف ماله ‪ ،‬ويعجبه ماهلا ومجاهلا ‪ ،‬فرييد وليّها أن يتزوجها بغري أن يقسط يف صداقها ‪،‬‬
‫فيعطيها مثل ما يعطيها غريه ‪ ،‬فنهوا أن ينكحوهن إال أن يقسطوا هلن ‪ ،‬ويبلغوا هبن أعلى سنتهن‬
‫سواهن «‪.»1‬‬
‫ّ‬ ‫الصداق ‪ ،‬وأمروا أن ينكحوا ما طاب هلم من النساء‬
‫يف ّ‬
‫الل عنها ‪ :‬مث إن الناس استفتوا‬ ‫ويف بعض الرواايت «‪ »2‬هذه الزايدة ‪ :‬قالت عائشة رضي ّ‬
‫ك ِيف النِّ ِ‬
‫ساء قُ ِل‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ويَ ْستَ ْفتُونَ َ‬‫الل عليه وسلّم بعد هذه اآلية فيهن فأنزل ّ‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫رسول ّ‬
‫ِ‬ ‫تاب ِيف يتامى النِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه ِ ِ‬
‫ساء ه‬
‫الالِيت ال تُ ْؤتُو َهنُ هن ما ُكت َ‬
‫ب َهلُ هن‬ ‫اللُ يُ ْفتي ُك ْم في ِه هن َوما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم ِيف الْك ِ َ َ‬
‫وه هن [النساء ‪ ]127 :‬قالت ‪ :‬وقوله تعاىل ‪َ :‬وما يُ ْتلى َعلَْي ُك ْم ِيف الْكِ ِ‬
‫تاب ِيف‬ ‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫َوتَ ْرغَبُو َن أَ ْن تَ ْنك ُ‬
‫طاب لَ ُك ْم ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫حوا ما َ‬ ‫تامى النّساء املراد منه هذه اآلية ‪َ :‬وإِ ْن خ ْفتُ ْم أ هَال تُ ْقسطُوا ِيف الْيَتامى فَانْك ُ‬ ‫يَ َ‬
‫النِّ ِ‬
‫ساء‪.‬‬
‫تلوهنن ‪ ،‬فانكحوا ما‬
‫ّ‬ ‫واملعىن على هذه الرواية ‪ :‬وإن علمتم أال تعدلوا يف نكاح اليتامى الاليت‬
‫غريهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مالت إليه نفوسكم من النساء‬
‫واملقصود يف احلقيقة النهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل ‪ ،‬إال أنه أوثر التعبري عنه‬
‫ابألمر بنكاح األجنبيات كراهة النهي الصريح عن نكاح اليتيمات ‪ ،‬وملا فيه من مزيد اللطف يف‬
‫صرف املخاطبني عن نكاح اليتامى حال العلم بعدم العدل ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬وإن خفتم أال تقسطوا‬
‫يف نكاح اليتامى فال تنكحوهن ‪ ،‬ولكم يف غريهن من النساء متسع ‪ ،‬فانكحوا ما طاب لكم‪.‬‬
‫حترج األولياء من واليتهم ‪ ،‬مع أهنّم كانوا ال‬
‫ومنها أنه ملا نزلت آية َوآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم ّ‬
‫يتحرجون من ترك العدل يف حقوق النساء ‪ ،‬حيث إن حتت الرجل عشر منهن ال يعدل بينهن‬
‫ّ‬
‫فقيل هلم ‪ :‬إن خفتم ترك العدل يف حقوق اليتامى فتحرجتم ‪ ،‬فخافوا أيضا ترك العدل بني‬
‫حترج من ذنب وهو مرتكب مثله فهو غري‬
‫النساء ‪ ،‬وقلّلوا عدد املنكوحات منهن ‪ ،‬أل ّن من ّ‬
‫متحرج‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )209 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 1 ،‬ابب (إن‬
‫خفتم) حديث رقم (‪ ، )4574‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 54 ، )2313 /4‬كتاب التفسري‬
‫حديث رقم (‪.)3018 /6‬‬
‫(‪ )2‬انظر ختريج احلديث السابق نفسه‪.‬‬

‫ص ‪210 :‬‬
‫يتحرجون من والية اليتامى ‪ ،‬فقيل ‪:‬‬
‫يتحرجون من الزىن ‪ ،‬وهم ّ‬
‫وقيل ‪ :‬كانوا ال ّ‬
‫إن خفتم احلوب يف حق اليتامى فخافوا الزىن فانكحوا ما طاب إخل‪.‬‬
‫يزوج الصغرية أو يتزوجها ‪،‬‬
‫واآلية على أتويل عائشة تشهد ملن قال ‪ :‬إ ّن لغري األب واجلد أن ّ‬
‫ألهنا ‪ -‬على هذا التأويل ‪ -‬نزلت يف اليتيمة تكون يف حجر وليها ‪ ،‬فريغب يف ماهلا ومجاهلا ‪ ،‬وال‬
‫يقسط هلا يف الصداق‪.‬‬
‫تضمنت اآلية جواز أن‬
‫ويل تكون اليتيمة يف حجره وجيوز له تزوجها هو ابن العم ‪ ،‬فقد ّ‬
‫وأقرب ّ‬
‫فإما أن يلي هو النكاح بنفسه‬
‫يتزوج ابن العم اليتيمة اليت يف حجره ‪ ،‬وإذا جاز له أن يتزوجها ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يزوج الصغرية‪.‬‬
‫وإما أن يزوجه إايها أخوها مثال ‪ ،‬وأاي ما كان األمر فلغري األب واجلد أن ّ‬
‫‪ّ ،‬‬
‫يزوج الصغرية إال األب أو اجلد ‪ ،‬حيمل اآلية على أحد التأويلني‬
‫ومن قال من األئمة ‪ :‬ال ّ‬
‫عنهن ابليتامى ابعتبار ما كان ‪،‬‬
‫منهن ‪ ،‬ويكون التعبري ّ‬
‫اآلخرين ‪ ،‬أو حيمل اليتامى على الكبار ّ‬
‫لقرب عهدهن ابليتم‪.‬‬
‫حوا لإلابحة ‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪ُ :‬كلُوا َوا ْش َربُوا [البقرة ‪ ]60 :‬وقيل ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫واألمر يف قوله تعاىل ‪ :‬فَانْك ُ‬
‫الث َوُرابعَ ال‬
‫للوجوب ‪ ،‬أي وجوب االقتصار على العدد املأخوذ من قوله تعاىل ‪َ :‬مثْىن َوثُ َ‬
‫وجوب أصل النكاح ‪ ،‬ومتسك الظاهرية هبذه اآلية يف وجوب أصل النكاح ‪ ،‬وهم حمجوجون‬
‫ِ‬
‫بقوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع م ْن ُك ْم طَْوًال إىل قوله تعاىل ‪َ :‬وأَ ْن تَ ْ‬
‫صِربُوا َخ ْريٌ لَ ُك ْم [النساء ‪]25 :‬‬
‫فدل ذلك على أنه ليس مبندوب‬
‫فحكم تعاىل أب ّن ترك النكاح يف هذه الصورة خري من فعله ‪ّ ،‬‬
‫فضال عن أنه واجب‪.‬‬
‫طاب أو من مرجعه ‪ ،‬أو بدل منه ‪ ،‬والكلمات‬
‫ابع حال من فاعل َ‬
‫الث َوُر َ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ :‬مثْىن َوثُ َ‬
‫املكرر من نوعها ‪ ،‬ف َمثْىن تدل على اثنني‬
‫وتدل واحدة منها على ّ‬
‫الثالث من ألفاظ العدد ‪ّ ،‬‬
‫ورابعَ تدل على أربعة أربعة‪ .‬واملراد منها هنا اإلذن لكل‬
‫الث تدل على ثالثة ثالثة ‪ُ ،‬‬
‫اثنني ‪ ،‬وثُ َ‬
‫من يريد اجلمع أن ينكح ما شاء من العدد املذكور متفقني فيه وخمتلفني‪.‬‬
‫ولو أفردت كان املعىن جتويز اجلمع بني هذه األعداد دون التوزيع ‪ ،‬ولو ذكرت (أبو) لذهب‬
‫جتويز االختالف يف العدد ‪ ،‬ويف هذه اآلية داللة على جواز تعدد الزوجات إىل أربع ‪ ،‬وعلى أنه‬
‫التزوج أبكثر من أربعة جمتمعات ‪ ،‬أل ّن هذا العدد قد ذكر يف مقام التوسعة على‬
‫ال جيوز ّ‬
‫املخاطبني كما علمت ‪ ،‬فلو كان وراء هذا العدد مباح ال قتضى املقام ذكره‪.‬‬
‫وقد أمجع فقهاء األمصار على أنه ال جيوز الزايدة على األربع ‪ ،‬وال يقدح يف هذا اإلمجاع ما‬
‫التزوج أبي عدد ‪ ،‬فإ ّن اإلمجاع قد‬
‫ذهب إليه بعض املبتدعة من جواز ّ‬

‫ص ‪211 :‬‬
‫شذاذ املخالفني‪.‬‬
‫وقع ‪ ،‬وانقضى عصر اجملمعني قبل ظهور هؤالء ال ّ‬
‫ومتسك اإلمام مالك بظاهر هذه اآلية يف مشروعية نكاح األربع لألحرار والعبيد ‪ ،‬فالعبيد‬‫ّ‬
‫طاب لَ ُك ْم إخل‪ .‬فيجوز هلم أن ينكحوا أربعا‬ ‫ِ‬
‫حوا ما َ‬
‫داخلون يف اخلطاب بقوله تعاىل ‪ :‬فَانْك ُ‬
‫كاألحرار ‪ ،‬وال يتوقف نكاحهم على اإلذن ‪ ،‬ألهنم ميلكون الطالق ‪ ،‬فيملكون النكاح‪.‬‬
‫وذهب احلنفية والشافعية إىل أن العبد ال جيمع من النساء فوق اثنتني ‪ ،‬ملا روى الليث عن احلكم‬
‫الل عليه وسلّم على أن العبد ال جيمع من النساء فوق‬ ‫الل صلّى ّ‬ ‫قال ‪ :‬أمجع أصحاب رسول ّ‬
‫اثنتني ‪ ،‬قالوا ‪ :‬واخلطاب يف قوله تعاىل ‪ :‬فَانْكِحوا ما طاب لَ ُكم ِمن النِّ ِ‬
‫ساء ال يتناول العبيد ‪،‬‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ألنه إمنا يتناول إنساان مىت طابت له امرأة قدر على نكاحها ‪ ،‬والعبد ليس كذلك ‪ ،‬ألنه ال جيوز‬
‫نكاحه إال إبذن مواله ‪،‬‬
‫تزوج بغري إذن مواله فهو عاهر» «‪»1‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أ ّميا عبد ّ‬
‫لقوله صلّى ّ‬
‫‪ ،‬وألن يف تنفيذ نكاحه تعييبا له ‪ ،‬فال ميلكه دون إذن املوىل‪.‬‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم ال ميكن أن يدخل فيه‬ ‫وأيضا قوله تعاىل بعد ‪ :‬فَِإ ْن ِخ ْفتم أ هَال تَع ِدلُوا فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫العبيد ‪ ،‬لعدم امللك ‪ ،‬فحيث مل يدخلوا يف هذا اخلطاب مل يدخلوا يف اخلطاب األول ‪ ،‬ألن هذه‬
‫اخلطاابت وردت متتالية على نسق واحد ‪ ،‬فبعيد أن يدخل يف اخلطاب السابق ما ال يدخل يف‬
‫الالحق‪.‬‬
‫نب لَ ُك ْم َع ْن َش ْي ٍّء ِم ْنهُ نَ ْفساً فَ ُكلُوهُ َهنِيئاً َم ِريئاً‬ ‫ِ‬
‫وكذلك ال ميكن دخوهلم يف قوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن ط َْ‬
‫[النساء ‪ ]4 :‬والعبد ال أيكل ما طابت عنه نفس امرأته من املهر ‪ ،‬بل يكون لسيده فيكون‬
‫اآلكل السيّد ال العبد‪.‬‬
‫ك أَ ْدىن أهَال تَعُولُوا املراد ابلعدل هنا العدل‬‫ت أ َْميانُ ُك ْم ذلِ َ‬ ‫فَِإ ْن ِخ ْفتم أ هَال تَع ِدلُوا فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫بني الزوجات املتعددات ‪ ،‬كما صرح بذلك يف قوله تعاىل ‪ :‬ولَن تَست ِطيعوا أَ ْن تَع ِدلُوا بني النِّ ِ‬
‫ساء‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ ْ َْ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫طاب لَ ُك ْم م َن‬ ‫ِ‬
‫حوا ما َ‬ ‫وسع عليهم بقوله ‪ :‬فَانْك ُ‬ ‫الل تعاىل ملا ّ‬ ‫صتُ ْم [النساء ‪ ]129 :‬كأن ّ‬ ‫َول َْو َح َر ْ‬
‫ابع أنبأهم أنه قد يلزم من االتساع خوف امليل ‪ ،‬فالواجب حينئذ أن‬ ‫النِّ ِ‬
‫الث َوُر َ‬
‫ساء َمثْىن َوثُ َ‬
‫حيرتزوا ابلتقليل ‪ ،‬فيقتصروا على الواحدة ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬فإن خفتم أال تعدلوا بني النساء املتعددات‬
‫يف عصمتكم ‪ ،‬كما خفتموه يف حق اليتامى ‪ ،‬فاختاروا أو فالزموا واحدة ‪ ،‬أو أي عدد شئتم من‬
‫فيهن‪.‬‬
‫مؤونتهن ‪ ،‬وعدم وجوب القسم ّ‬
‫ّ‬ ‫تبعتهن ‪ ،‬وخ ّفة‬
‫ّ‬ ‫السراري من غري حصر ‪ ،‬لقلّة‬
‫التسري ‪ ،‬ال‬
‫وعلى هذا التأويل ‪ :‬يكون املراد من اختيار اإلماء اختيارهن بطريق ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )190 /2‬كتاب النكاح حديث رقم (‪ ، )2078‬والرتمذي يف‬
‫اجلامع الصحيح (‪ ، )419 /3‬كتاب النكاح حديث رقم (‪.)1111‬‬

‫ص ‪212 :‬‬
‫بطريق النكاح ‪ ،‬ويشهد له أن الظاهر احتاد املخاطبني يف املعطوف واملعطوف عليه يف قوله تعاىل‬
‫خري بني احلرة الواحدة والعدد من اإلماء هو‬ ‫‪ :‬فَ ِ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم وعليه يكون الذي ّ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫حرة واحدة ‪ ،‬أو يتزوج من شاء من‬‫مالك اإلماء ال غري ‪ ،‬ولو كان التخيري واقعا بني أن يتزوج ّ‬
‫ميلكهن القتضى ذلك ورود النكاح على ملك اليمني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلماء الاليت‬
‫يتزوج املوىل أمته ‪ ،‬وال املوالة عبدها ‪ ،‬أل ّن للزوجية لوازم تنايف لوازم ملك‬
‫وقد قالوا ‪ :‬ال جيوز أن ّ‬
‫اليمني ‪ ،‬أال ترى أ ّن من لوازم الزوجية ح ّق اإلخدام على الزوج لزوجته ‪ ،‬ومن لوازم امللك حق‬
‫االستخدام عليها لسيدها وملن شاء ‪ ،‬ومعلوم أن اإلخدام واالستخدام ال جيتمعان ‪ -‬وأنه مىت‬
‫تنافت اللوازم تنافت امللزومات ‪ ،‬فال جيتمع ملك اليمني والزوجية ‪ ،‬واآلية هنا جارية يف اخلطاب‬
‫على خالف ما جرت عليه اآلية اآلتية ‪ ،‬وهي قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع ِمنْ ُك ْم طَْوًال أَ ْن يَنْكِ َح‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم [النساء ‪ ]25 :‬فإن املأمورين ابلنكاح هنا غري‬ ‫نات الْم ْؤِم ِ‬
‫نات فَ ِم ْن ما َملَ َك ْ‬ ‫الْم ْحص ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫املخاطبني مبلك اليمني‪.‬‬
‫وه هن إبِِ ْذ ِن أَ ْهلِ ِه هن [النساء ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ح ُ‬ ‫وذلك ظاهر بشهادة قوله ‪َ :‬وَم ْن َملْ يَ ْستَط ْع منْ ُك ْم وقوله بعد ‪ :‬فَانْك ُ‬
‫الل‪.‬‬
‫‪ ]25‬وسيأيت عما قريب إيضاح ذلك إن شاء ّ‬
‫ت‬ ‫وقد حاول اجلصاص «‪ »1‬االستدالل بقوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن ِخ ْفتم أ هَال تَع ِدلُوا فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫التزوج ابألمة مع وجود الطول إىل احلرة ‪ ،‬وسلك ابآلية طريقا مل يرتضه مجهور‬
‫أ َْميانُ ُك ْم على جواز ّ‬
‫املفسرين‪.‬‬
‫ت أ َْميانُ ُكم معطوف على كلمة النِّ ِ‬
‫ساء يف قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫وذلك أنه يرى أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫ْ‬
‫ساء وبذلك يكون التخيري واقعا‬‫وإِ ْن ِخ ْفتم أ هَال تُ ْق ِسطُوا ِيف الْيتامى فَانْكِحوا ما طاب لَ ُكم ِمن النِّ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫بني أربع حرائر وأربع إماء ‪ :‬بعقد النكاح ‪ ،‬فيوجب ذلك ختيريه بني تزوج احلرة واألمة ‪ ،‬وهذا‬
‫بعيد كل البعد كما ترى‪.‬‬
‫ت‬ ‫ويرى أيضا عدم احتاد املخاطبني يف قوله تعاىل ‪ :‬فَانْكِحوا وقوله تعاىل ‪ :‬فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫ُ‬
‫أ َْميانُ ُك ْم قال ‪ :‬ملا أضاف ملك اليمني إىل اجلماعة كان املراد نكاح ملك ميني الغري ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪:‬‬
‫َوَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع ِم ْن ُك ْم طَْوًال إخل ‪ ،‬وقد علمت ما فيه آنفا‪.‬‬
‫ك أَ ْدىن أ هَال تَعُولُوا اإلشارة إىل اختيار الواحدة و ّ‬
‫التسري‪.‬‬ ‫ذلِ َ‬
‫أَ ْدىن معناه أقرب‪ .‬والعول يف األصل امليل احملسوس ‪ ،‬يقال ‪ :‬عال امليزان عوال إذا مال ‪ ،‬مث نقل‬
‫إىل امليل املعنوي ‪ ،‬وهو اجلور ‪ ،‬يقال عال احلاكم إذا جار ‪ ،‬واملراد هنا امليل احملظور املقابل‬
‫للعدل ‪ ،‬املعىن أن ما ذكر من اختيار الواحدة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)157 /2‬‬

‫ص ‪213 :‬‬
‫والتسري أقرب ابلنسبة إىل ما عداَها من أال مييلوا ميال حمظورا ‪ ،‬فإ ّن من اختار واحدة فقد‬
‫ّ‬
‫تسرى فقد انتفى عنه خطر اجلور وامليل ‪ ،‬أما من اختار عددا‬
‫انتفى عنه امليل واجلور رأسا ‪ ،‬ومن ّ‬
‫من احلرائر فامليل احملظور متوقّع منه ال حمالة‪.‬‬
‫الل عنه أنه فسر أ هَال تَعُولُوا أبال تكثر عيالكم ‪ ،‬وخطّأه يف‬
‫وقد حكي عن اإلمام الشافعي رضي ّ‬
‫ذلك اجلصاص تبعا للمربّد «‪ ، »1‬وزعما أنه ال يقال ‪ :‬عال مبعىن كثرت عياله ‪ ،‬وإمنا يقال ‪:‬‬
‫ولكن صاحب «الكشاف» «‪ ، »2‬قال ‪ :‬نقل الكسائي عن فصحاء العرب ‪ :‬عال‬
‫أعال يعيل ‪ّ ،‬‬
‫يعول إذا كثرت عياله ‪ ،‬وممن نقله األصمعي «‪ »3‬واألزهري «‪ ، »4‬وهذا التفسري نقله ابن أيب‬
‫حامت عن زيد بن أسلم ‪ ،‬وهو من جلة التابعني ‪ ،‬وقراءة طاووس أال تعيلوا مؤيدة له ‪ ،‬فال وجه‬
‫لتشنيع من شنّع على اإلمام جاهال ابللغات واآلاثر ا ه‪.‬‬
‫نب لَ ُك ْم َع ْن َش ْي ٍّء ِم ْنهُ نَ ْفساً فَ ُكلُوهُ َهنِيئاً َم ِريئاً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُدقاهتِِ هن ْحنلَةً فَِإ ْن ط َْ‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وآتُوا النّساءَ َ‬
‫قال ّ‬
‫يعم املناولة وااللتزام‪.‬‬ ‫(‪ )4‬املراد ابإليتاء ‪ :‬ما ّ‬
‫و(الصدقات) ‪ :‬مجع صدقة بفتح الصاد وضم الدال ‪ ،‬وهي كالصداق مبعىن املهر‪.‬‬
‫ّ‬
‫الل تعاىل ‪،‬‬
‫والنّحلة ‪ :‬العطية من غري عوض ‪ ،‬ومن ذلك النّحلة مبعىن الداينة ‪ ،‬ألهنا عطية من ّ‬
‫وكذلك النحل ملا يعطي من العسل ‪ ،‬والناحل املهزول ‪ ،‬كأنه أعطى حلمه حاال بعد حال بال‬
‫فسر النّحلة هنا ابلفريضة نظر إىل أ ّن‬
‫شعر املنسوب لغري قائله ‪ ،‬ومن ّ‬
‫عوض ‪ ،‬واملنحول من ال ّ‬
‫ضةً ِم َن ه‬
‫اللِ [النساء ‪:‬‬ ‫الل حمتومة ‪ ،‬كما قال تعاىل بعد آايت املواريث فَ ِري َ‬
‫هذه العطية مفروضة من ّ‬
‫‪.]11‬‬
‫ص ُدقاهتِِ هن لألزواج ‪ ،‬وكان الرجل‬ ‫ِ‬
‫ذهب ابن عباس إىل أن اخلطاب يف قوله تعاىل ‪َ :‬وآتُوا النّساءَ َ‬
‫يتزوج بال مهر ‪ ،‬يقول ‪ :‬أرثك وترثينين ‪ ،‬فتقول ‪ :‬نعم ‪ ،‬فأمروا أن يسرعوا إىل إيتاء املهور ‪ ،‬وقيل‬
‫ّ‬
‫‪ :‬اخلطاب لألولياء ‪ :‬أخرج ابن محيد وابن أيب حامت عن أيب صاحل قال ‪ :‬كان الرجل إذا زوج أ ّميا ‪،‬‬
‫الل عن ذلك ونزلت ‪َ :‬وآتُوا النِّساءَ اآلية «‪.»5‬‬
‫أخذ صداقها دوهنا ‪ ،‬فنهاهم ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬حممد بن يزيد بن عبد األكرب الثمايل ‪ ،‬إمام العربية واألدب يف بغداد تويف سنة (‪ )286‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)144 /7‬‬
‫(‪ ) 2‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل لإلمام الزخمشري (‪/1‬‬
‫‪].....[ .)469‬‬
‫(‪ )3‬عبد امللك بن قريب بن علي تويف سنة (‪ 216‬ه) يف البصرة ‪ ،‬أحد أئمة اللغة والشعر ‪،‬‬
‫انظر األعالم للزركلي (‪.)162 /4‬‬
‫(‪ ) 4‬حممد بن أمحد بن األزهر اهلروي أحد أئمة اللغة واألدب تويف (‪ )370‬يف خراسان ‪ ،‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)311 /5‬‬
‫(‪ )5‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)119 /2‬‬

‫ص ‪214 :‬‬
‫ٍّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الصدقات ‪،‬‬ ‫والضمري اجملرور مبن يف قوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن ط َْ‬
‫نب لَ ُك ْم عَ ْن َش ْيء منْهُ نَ ْفساً عائد على ّ‬
‫وذكر إلجرائه جمرى اإلشارة ‪ ،‬وكثريا ما يشار ابملفرد إىل املتعدد ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬طنب لكم عن شيء‬
‫من ذلك املذكور ‪ ،‬وهو الصدقات ‪ ،‬كما قال رؤبة ‪:‬‬
‫فيها خطوط من سواد وبلق كأنّه يف اجللد توليع البهق‬
‫حل التصرف‬
‫أراد ‪ :‬كأ ّن ذلك ‪ ،‬وليس املراد من قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوهُ خصوص األكل ‪ ،‬إمنا املراد ّ‬
‫وخص األكل ابلذكر ‪ ،‬ألنه معظم وجوه التصرفات املالية ‪ ،‬وتق ّدم نظريه يف قوله تعاىل ‪َ :‬وال‬ ‫ّ‬ ‫فيه ‪،‬‬
‫َأتْ ُكلُوا أ َْموا َهلُ ْم إِىل أ َْموالِ ُك ْم [النساء ‪ ]2 :‬واهلينء واملريء صفتان من هنؤ الطعام يهنؤ هناءة ‪،‬‬
‫فهو هين ء ‪ ،‬ومرؤ ميرؤ مراء ‪ ،‬فهو مريء‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬معناَها واحد ‪ ،‬وهو خفة الطعام على املعدة ‪ ،‬واحنداره عنها بال ضرر‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬اهلينء الذي يلذه اآلكل ‪ ،‬واملريء ما حتمد عاقبته ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما ينساغ يف جمراه ‪ ،‬وهو‬
‫املريء كأمري ‪ ،‬وهو رأس املعدة الالصق ابحللقوم ‪ ،‬مسّي بذلك ملرور الطعام فيه أي انسياغه‪.‬‬
‫دلت هذه اآلية على أمور منها ‪ ،‬أن الفروج ال تستباح إال بصداق ملزم ‪ ،‬سواء مسّي ذلك يف‬
‫يسم‪.‬‬
‫العقد أو مل ّ‬
‫الل تعاىل جعل منافع النكاح ‪:‬‬
‫وأن الصداق ليس يف مقابلة االنتفاع ابلبضع ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫من قضاء الشهوة ‪ ،‬والتوالد ‪ ،‬مشرتكة بني الزوجني ‪ ،‬مث أمر الزوج أبن يؤيت الزوجة املهر ‪ ،‬فكان‬
‫الل ابتداء‪.‬‬
‫ذلك عطية من ّ‬
‫وأنه جيوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها ‪ ،‬أو جزءا منه ‪ ،‬سواء أكان مقبوضا معينا ‪ ،‬أم كان يف‬
‫الذمة ‪ ،‬فشمل ذلك اهلبة واإلبراء ‪ ،‬وأنه ينبغي لألزواج االحتياط فيما أعطت نساؤهم ‪ ،‬حيث‬
‫ِ‬
‫بين الشرط على طيب النفس ‪ ،‬فقال ‪ :‬فَِإ ْن ط َْ‬
‫نب ومل يقل ‪ :‬فإن وهنب إعالما أب ّن املراعى يف ذلك‬
‫هو جتافيها عن املعطى طيّبة به نفسها ‪ ،‬من غري أن يكون السبب فيه شراسة خلق الزوج ‪ ،‬أو‬
‫سوء معاشرته‪.‬‬
‫حيل للزوج أخذ ما وهب زوجته ابلشرط السابق من غري أن يكون عليه تبعة يف الدنيا‬
‫وأنه ّ‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ص ُدقاهتِِ هن ِ ْحنلَةً على إجياب املهر كامال للمخلو هبا‬ ‫ِ‬
‫واحتج اجلصاص بقوله تعاىل ‪َ :‬وآتُوا النّساءَ َ‬
‫خلوة صحيحة ‪ ،‬ولو طلّقت قبل املساس ‪ ،‬وأنت تعلم أ ّن هذه اآلية عامة يف كل النساء بسواء‬
‫املخلو هبا وغريها ‪ّ ،‬إال أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن طَله ْقتم ِ‬
‫ضتُ ْم َهلُ هن‬ ‫وه هن م ْن قَ ْب ِل أَ ْن متََس ُ‬
‫وه هن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫للمخلو هبا إال نصف املهر ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ضتُ ْم [البقرة ‪ ]237 :‬يدل على أنه ال جيب‬ ‫ف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَنِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫فَ ِري َ‬
‫تقرر املهر كلّه‪.‬‬
‫اخلاص مقدم على العام ‪ ،‬فاخللوة الصحيحة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫خاصة ‪ ،‬وال شك أن‬
‫وهذه اآلية ّ‬

‫ص ‪215 :‬‬
‫الل لَ ُكم قِياماً وارُزقُ ُ ِ‬
‫وه ْم‬
‫س ُ‬‫وه ْم فيها َوا ْك ُ‬ ‫َْ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وال تُ ْؤتُوا الس َفهاءَ أ َْموالَ ُك ُم الهِيت َج َع َل هُ ْ‬
‫قال ّ‬
‫َوقُولُوا َهلُ ْم قَ ْوًال َم ْع ُروفاً (‪ )5‬أصل السفه ‪ :‬اخلفة واحلركة‪ .‬يقال تس ّفهت الريح الشجر إذا أمالته ‪،‬‬
‫واملراد به هنا خ ّفة األحالم ‪ ،‬واضطراب اآلراء ‪ ،‬ومن معاين القيام االنتصاب على القدمني ‪،‬‬
‫واالعتدال ‪ ،‬وما يعاش به ‪ ،‬وهذا األخري هو املناسب هنا‪.‬‬
‫املفسرون يف تعيني املخاطبني بقوله تعاىل ‪َ :‬وال تُ ْؤتُوا الس َفهاءَ أ َْموالَ ُك ُم كما اختلفوا يف‬
‫واختلف ّ‬
‫املراد من السفهاء على أقوال أشهرها ‪ :‬أن املخاطبني هم أولياء اليتامى ‪ ،‬والسفهاء هم اليتامى‬
‫مطلقا ‪ ،‬أو املبذرون ابلفعل ‪ ،‬واألموال أمواهلم ‪ ،‬ال أموال األولياء ‪ ،‬وعليه يكون ذكر هذه اآلية‬
‫الكرمية رجوعا لبيان شيء من األحكام املتعلقة أبموال اليتامى ‪ ،‬وتفصيال ملا أمجل فيما سبق ‪،‬‬
‫وهبتهن استطرادا ‪ ،‬وإمنا أضيفت‬
‫ّ‬ ‫ومهورهن‬
‫ّ‬ ‫ويكون ذكر األحكام املتعلقة بنكاح األجنبيات‬
‫األموال إىل ضمري األولياء املخاطبني مع أهنا أموال اليتامى للمبالغة يف محلهم على احملافظة عليها‬
‫‪ ،‬بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال األولياء ‪ ،‬ملا بني الويل واليتيم من االحتاد يف اجلنس والنسب ‪،‬‬
‫س ُك ْم [النساء ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ونظريه قوله تعاىل ‪ :‬فَ ِ‬
‫سلّ ُموا َعلى أَنْ ُفس ُك ْم [النور ‪ ]61 :‬وقوله ‪َ :‬وال تَ ْقتُلُوا أَنْ ُف َ‬
‫َ‬
‫عرب عن نوعهم أبنفسهم مبالغة يف الزجر عن‬ ‫‪ ]29‬فإ ّن املراد ال يقتل بعضكم بعضا ‪ّ ،‬إال أنّه ّ‬
‫اللُ لَ ُك ْم قِياماً‬
‫القتل ‪ ،‬حىت كأ ّن قتلهم قتل أنفسهم ‪ ،‬وعلى هذا القياس قوله تعاىل ‪ :‬الهِيت َج َع َل ه‬
‫عرب عن جعل األموال مناطا ملعاش اليتامى جبعلها مناطا ملعاش األولياء ‪ ،‬وإىل تفسري اآلية مبا‬ ‫إذ ّ‬
‫ذكران ذهب عكرمة وابن جبري وكثري من متأخري املفسرين‪.‬‬
‫لكل عاقل من الناس مجيعا ‪ ،‬وأ ّن‬
‫الل عنهم أ ّن اخلطاب ّ‬‫وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي ّ‬
‫املراد من السفهاء النساء والصبيان ‪ ،‬واملقصود النهي عن إيتاء املال ملن ال رشد له من هؤالء ‪،‬‬
‫وعليه تكون إضافة األموال إىل ضمري املخاطبني على حقيقتها‪.‬‬
‫أكن أزواجا أم أمهات أم بنات‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬املراد من السفهاء النساء خاصة ‪ ،‬سواء ّ‬
‫كل من ليس له عقل يفي حبفظ املال وحسن التصرف فيه ‪ ،‬ويدخل‬
‫عام يف ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن السفهاء ّ‬
‫الصيب واجملنون واحملجور عليه للتبذير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيه‬
‫اللُ لَ ُك ْم قِياماً داللة‬
‫وعلى أي أتويل ترى يف قوله تعاىل ‪َ :‬وال تُ ْؤتُوا الس َفهاءَ أ َْموالَ ُك ُم الهِيت َج َع َل ه‬
‫على النهي عن تضييع املال ‪ ،‬ووجوب حفظه وتدبريه ‪ ،‬وحسن القيام عليه ‪ ،‬حيث قد جعله‬
‫تعاىل سببا يف إصالح املعاش وانتظام األمور ‪ ،‬وكان السلف يقولون ‪ :‬املال سالح املؤمن‪.‬‬

‫الل عليه خري من أن أحتاج إىل الناس‪.‬‬


‫ص ‪ 216 :‬وقال بعضهم ‪ :‬ألن أترك ماال حياسبين ّ‬
‫وقال قيس بن سعد ‪ :‬اللهم ارزقين محدا وجمدا فإنّه ال محد إال بفعال ‪ ،‬وال جمد إال مبال‪.‬‬
‫وقيل أليب الزاند ‪ :‬مل حتب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال ‪ :‬هي إن أدنتين منها فقد‬
‫صانتين عنها ‪ ،‬ويف منثور احلكم ‪ :‬من استغىن فقد كرم على أهله ‪ ،‬وكانوا يقولون ‪ّ :‬اجتروا‬
‫واكتسبوا ‪ ،‬فإنكم يف زمان إذا احتاج أحدكم فيه كان أول ما أيكل دينه‪.‬‬
‫وه ْم أي اجعلوا أموالكم مكاان لرزقهم وكسوهتم أبن تتّجروا فيها حىت تكون‬
‫س ُ‬ ‫وارُزقُ ُ ِ‬
‫وه ْم فيها َوا ْك ُ‬ ‫َْ‬
‫نفقتهم من الربح ال من صلب املال ‪ ،‬لئال أيكله اإلنفاق ‪ ،‬وهذا ما يقتضيه جعل األموال نفسها‬
‫ظرفا للرزق والكسوة ‪ ،‬ولو قيل (منها) لكان اإلنفاق من نفس املال‪.‬‬
‫ويف اآلية داللة على وجوب احلجر على املب ّذرين من وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬منعهم من أمواهلم ‪:‬‬
‫والثاين ‪ :‬إجازة تصرفنا عليهم يف اإلنفاق عليهم من أمواهلم ‪ ،‬وشراء أقواهتم وكسوهتم‪.‬‬
‫َوقُولُوا َهلُ ْم قَ ْوًال َم ْع ُروفاً كل ما سكنت إليه النفس حلسنه شرعا أو عقال من قول أو عمل فهو‬
‫معروف ‪ ،‬وكل ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقال فهو منكر ‪ ،‬فاملراد ابلقول املعروف هنا‬
‫الكالم الذي تطيب به نفوسهم ‪ ،‬كأن يقول الويل لليتيم ‪ :‬مالك عندي ‪ ،‬وأان أمني عليه ‪ ،‬فإذا‬
‫بلغت ورشدت أعطيتك مالك‪.‬‬
‫وعن جماهد وابن جريج أهنما فسرا القول املعروف بعدة مجيلة يف الرب والصلة ‪ ،‬وقال القفال ‪ :‬إن‬
‫كان صبيا فالويل يعرفه أ ّن املال ماله‪ .‬وهو خازن له ‪ ،‬وأنه إذا كرب ر ّد إليه ماله ‪ ،‬وإن كان سفيها‬
‫وعرفه أ ّن عاقبة اإلتالف فقر‬
‫وعظه ونصحه ‪ ،‬وحثّه على الطاعة ‪ ،‬وهناه عن التبذير واإلسراف ‪ّ ،‬‬
‫واحتياج‪.‬‬
‫كاح فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِلَيْ ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وابْ تَ لُوا الْيَتامى َح هىت إِذا بَلَغُوا النّ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ف َوَم ْن كا َن فَِقرياً فَلْيَأْ ُك ْل‬ ‫ْربُوا َوَم ْن كا َن غَنِيًّا فَلْيَ ْستَ ْع ِف ْ‬
‫أ َْموا َهلُ ْم َوال َأتْ ُكلُوها إِ ْسرافاً َوبِداراً أَ ْن يَك َ‬
‫وف فَِإذا َدفَ ْعتُ ْم إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم فَأَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه ْم َوَكفى ِاب هللِ َح ِسيباً (‪ )6‬االبتالء ‪ :‬االختبار‪.‬‬ ‫ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬
‫ْفال ِم ْن ُك ُم ا ْحلُلُ َم [النور‬
‫املراد ببلوغ النكاح هنا وبلوغ احللم املذكور يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِذا بَلَ َغ ْاألَط ُ‬
‫‪ ] 59 :‬الوصول إىل حد البلوغ ‪ ،‬وهو حد التكليف ‪ ،‬والتزام األحكام ‪ ،‬وذلك إما أن يكون‬
‫ابالحتالم أو احليض أو ابلسن كما هو معروف يف كتب الفقه‪.‬‬

‫ص ‪217 :‬‬
‫وأصل اإليناس النظر إىل ما يؤنس به من بعد مع وضع اليد على العني ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫التبني ‪ :‬أي علم الرشد بيّنا ‪،‬‬
‫أصله اإلبصار مطلقا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬اإلحساس ‪ ،‬وعلى كل فاملراد به هنا ّ‬
‫والرشد االهتداء إىل وجوه اخلري ‪ ،‬واملراد به هنا االهتداء إىل حفظ األموال فقط ‪ ،‬أو مع صالح‬
‫الدين ‪ ،‬وإذا متمحضة للظرفية أو شرطية وجواهبا اجلملة الشرطية بعدها‪.‬‬
‫الل إبيتاء أمواهلم على اإلطالق بقوله ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم شرع يف تعيني وقت تسليمهم‬
‫ملّا أمر ّ‬
‫حىت إذا‬
‫أمواهلم ‪ ،‬وبيان شرط ذلك الدفع ‪ ،‬فأمر األولياء ابختبار اليتامى يف عقوهلم وأحواهلم ّ‬
‫علموا منهم بعد البلوغ أ ّن هلم فهما وعقال وقدرة يف معرفة املصاحل واملفاسد دفعوا إليهم أمواهلم‪.‬‬
‫واتفق اإلمامان أبو حنيفة والشافعي على أ ّن هذا االختبار يكون قبل البلوغ وتشهد هلما الغاية ‪،‬‬
‫وقال اإلمام مالك ‪ :‬إنه بعد البلوغ‪.‬‬
‫وفرع أبو حنيفة على ذلك أ ّن تصرفات الصيب العاقل املميز إبذن الويل صحيحة ‪ ،‬أل ّن ذلك‬
‫ّ‬
‫االختبار إمنا حيصل إذا أذن له الويل يف البيع والشراء مثال ‪ ،‬وذلك يقتضي صحة التصرف ‪،‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬االختبار ال يقتضي اإلذن يف التصرف ‪ ،‬وال يتوقف عليه ‪ ،‬بل يكون االختبار‬
‫دون التصرف ‪ ،‬على حسب ما يليق حبال الصيب ‪ ،‬فابن التاجر مثال َيترب يف البيع والشراء إىل‬
‫حيث يتوقف األمر على العقد ‪ ،‬وحينئذ يعقد الويل إن أراد ‪ ،‬وعلى هذا القياس‪.‬‬
‫وأنت خبري أبنّه لو جاز إذن الصيب يف التصرف ابلفعل جلاز دفع املال إليه وهو صيب ‪ ،‬أل ّن‬
‫املعىن الذي من أجله منع عنه ماله هو بعينه يقتضي عدم صحة تصرفه‪.‬‬
‫وأيضا تصرف الصيب يف ماله يتوقف على دفعه إليه ‪ ،‬ودفعه إليه موقوف على شرطني ‪ :‬بلوغه ‪،‬‬
‫مث رشده‪.‬‬
‫كاح فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم أنه ال‬‫ِ‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪َ :‬ح هىت إِذا بَلَغُوا النّ َ‬
‫تدفع أمواهلم إليهم ‪ ،‬ولو بلغوا ‪ ،‬ما مل يؤنس منهم الرشد ‪ ،‬وهو مذهب الشافعي ‪ ،‬وقول‬
‫الصاحبني «‪ ، »1‬وبه قال جماهد ‪ ،‬فقد أخرج ابن املنذر وغريه عنه أنه قال ‪ :‬ال يدفع إىل اليتيم‬
‫ماله وإن مشط ‪ ،‬ما مل يؤنس منه رشد ‪ ،‬ونسب هذا القول للشعيب‪.‬‬
‫وقال اإلمام أبو حنيفة ‪ :‬إذا بلغ مخسا وعشرين سنة دفع إليه ماله ‪ ،‬وإن مل يؤنس منه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وَها ‪ :‬يعقوب بن إبراهيم بن حبيب األنصاري الكويف ‪ ،‬البغدادي ‪ ،‬وهو أول من نشر‬
‫مذهب أيب حنيفة ‪ ،‬كان من حفاظ احلديث تويف سنة (‪ )182‬انظر األعالم للزركلي (‪)193 /8‬‬
‫الل ولد بواسط ونشأ ابلكوفة ‪ ،‬مات يف الري سنة‬
‫‪ ،‬وحممد بن احلسن بن فرقد ‪ ،‬أبو عبد ّ‬
‫(‪ 189‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)80 /6‬‬

‫ص ‪218 :‬‬
‫رشد ‪ ،‬وتقدم احتجاجه على ذلك عند الكالم على قوله تعاىل ‪َ :‬وآتُوا الْيَتامى أ َْموا َهلُ ْم‪.‬‬
‫ونزيد على ما تق ّدم أن اجلصاص وصاحب «الكايف» قاال يف االحتجاج ملذهب اإلمام ‪ :‬إ ّن‬
‫الشرط (رشد) نكرة ‪ ،‬فإذا صار الشرط يف حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه ‪ ،‬و ّأول أحوال‬
‫البلوغ قد يقارنه السفه ابعتبار أثر الصبا ‪ ،‬وإذا امت ّد الزمان وظهرت اخلربة والتجربة مل يبق أثر‬
‫الصبا ‪ ،‬وحدث ضرب من الرشد ال حمالة‪.‬‬
‫وأنت تعلم أنّه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كان الدفع حينئذ عن إيناس الرشد ‪ -‬وهو مذهب‬
‫يصح أن يقال ‪ :‬إ ّن مذهب اإلمام وجوب دفع املال إىل اليتيم بعد‬
‫الشافعي والصاحبني ‪ -‬فال ّ‬
‫اخلمس والعشرين سنة ‪ ،‬سواء أونس منه رشد أم ال ‪ ،‬بل يكون اخلالف بني اإلمام وغريه يف‬
‫تعيني الرشد الذي اعترب شرطا للدفع يف اآلية ماذا هو؟‬
‫وذلك أمر آخر وراء ما نقل عن اإلمام يف هذه املسألة ‪ :‬على أنه إن أريد هبذا الضرب من الرشد‬
‫الرشد يف مصلحة املال ‪ ،‬فكونه ال بد أن حيصل يف سن مخس وعشرين سنة يف حيز املنع ‪ ،‬وإن‬
‫أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو يكاد يكون مصادمة لآلية ‪ ،‬ألهنا كالصرحية يف اشرتاط‬
‫الرشد يف ضبط األموال ورعايتها ‪ ،‬أال ترى أن االبتالء املأمور به يف أول اآلية هو ابتالؤهم فيما‬
‫الل تعاىل بعد ذلك األمر ‪ :‬فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا‬
‫يتعلق حبفظ املال ورعايته ‪ ،‬وقد قال ّ‬
‫إخل فيجب أن يكون املراد فإن آنستم منهم رشدا يف رعاية مصاحل املال ‪ ،‬ال ضراب من الرشد‬
‫كيفما كان ‪ ،‬وإال تفكك النّظم ‪ ،‬وضاع انسجام الكالم‪.‬‬
‫الصيب إمنا منع منه‬
‫ّ‬ ‫يقوي االستدالل ابآلية على مذهبه ابلقياس اجللي ‪ ،‬وذلك أن‬
‫وخمالف اإلمام ّ‬
‫ماله لفقدان العقل اهلادي إىل حفظ املال وكيفية االنتفاع به ‪ ،‬فإذا كان هذا املعىن قائما ابلشيخ‬
‫والشاب كاان يف حكم الصيب ‪ ،‬فوجب أن مينع دفع املال إليهما ما مل يؤنس منهما الرشد‪.‬‬
‫قال صاحب «روح املعاين» «‪ »1‬من احلنفية ‪ :‬ولقوة كالم املخالف يف هذه املسألة شنّع ابن‬
‫الل عنه ‪ ،‬مع أ ّن من تدبر ما ذهب‬
‫حزم ‪ -‬ودأبه التشنيع على األئمة ‪ -‬على أيب حنيفة رضي ّ‬
‫إليه اإلمام علم أن نظره يف ذلك دقيق ‪ ،‬ألن اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال ‪ ،‬واعترب إميانه وكفره ‪،‬‬
‫الل إليه نفسه يتصرف فيها حسب اختياره ‪ ،‬كان منع ماله عنه أشبه شيء ابلظلم ‪ ،‬وهذا‬
‫وسلّم ّ‬
‫وإن اقتضى دفع املال إليه بعد البلوغ فورا ‪ ،‬إال أنّنا أ ّخران الدفع إىل هذه املدة للتأديب ‪ ،‬ورجاء‬
‫الرشد والكف عن السفه ‪ ،‬وما فيه من تبذير املال وفساده‪.‬‬
‫وسن البلوغ مثانية عشر سنة زيد عليها سبع سنوات ‪ ،‬ألهنا مدة معتربة شرعا يف‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ‪ ،‬لإلمام األلوسي (‪.)307 /4‬‬

‫ص ‪219 :‬‬
‫تغيري األحوال ‪ ،‬إذ الطفل مييّز بعدها ‪ ،‬ويؤمر ابلصالة كما يف احلديث «‪ ، »1‬وابنضمامها إىل‬
‫سن البلوغ يكمل لبّه ‪ ،‬ويبلغ أش ّده ‪ ،‬أال ترى أنه قد يصري جدا صحيحا يف هذه السن ‪ ،‬فإذا‬
‫بلغ هذه السن ‪ ،‬ومل يتأدب ‪ :‬انقطع عنه الرجاء غالبا‪.‬‬
‫ف َوَم ْن كا َن فَ ِقرياً فَلْيَأْ ُك ْل‬
‫ْربُوا َوَم ْن كا َن غَنِيًّا فَلْيَ ْستَ ْع ِف ْ‬
‫َوال َأتْ ُكلُوها إِ ْسرافاً َوبِداراً أَ ْن يَك َ‬
‫ِابلْمعر ِ‬
‫وف‪.‬‬ ‫َ ُْ‬
‫اإلسراف ‪ :‬جماوزة احل ّد املباح إىل ما مل يبح‪.‬‬
‫والبدار ‪ :‬املسارعة ‪ ،‬واملفاعلة مبعىن أصل الفعل ‪ ،‬أو على أهنا أبن يبادر الويل أخذ مال اليتيم ‪،‬‬
‫واليتيم يبادر نزعه‪.‬‬
‫كرب ‪ :‬يكرب كعلم يعلم ‪ ،‬يستعمل يف السن ‪ ،‬وكرب يكرب كعظم يعظم يف القدر والشرف‪.‬‬
‫واستعف عن الشيء كف عنه ‪ ،‬وتركه ‪ ،‬وهو أبلغ من عف ‪ ،‬كأنه طلب زايدة العفة‪.‬‬
‫الل ينهى األولياء واألوصياء أن أيكلوا أموال اليتامى مسرفني ومبادرين كربهم ‪،‬‬
‫املعىن ‪ :‬أن ّ‬
‫الل ‪ ،‬ومن‬
‫فليكف نفسه عن مال اليتيم ‪ ،‬ولينتفع مبا آاته ّ‬
‫ّ‬ ‫ويرشدهم إىل أ ّن من كان منهم ذا مال‬
‫كان منهم فقريا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية ‪ ،‬من سد اجلوعة ‪ ،‬وسرت العورة‪.‬‬
‫ومجلة ‪َ :‬وال َأتْ ُكلُوها إخل ‪ ،‬معطوفة على مجلة َوابْ تَ لُوا الْيَتامى وال يصح عطفها على جواب‬
‫الشرط قبلها ‪ ،‬لفساد املعىن ‪ ،‬أل ّن جواب الشرط وهو فَا ْدفَعُوا إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم يكون بعد البلوغ ‪،‬‬
‫واألكل إسرافا وبدارا أن يكربوا يكون قبل البلوغ ‪ ،‬والنهي عن األكل ‪ -‬الذي هو أساس‬
‫منهي عنه بطريق األوىل‪.‬‬
‫يدل على أن غريه من سائر االنتفاعات ّ‬ ‫االنتفاع ‪ ،‬وتكثر احلاجة إليه ‪ّ -‬‬
‫استدل اجلصاص بقوله تعاىل ‪َ :‬وال َأتْ ُكلُوها إِ ْسرافاً َوبِداراً أَ ْن يَك َ‬
‫ْربُوا على أنه ال جيوز للويل‬ ‫ّ‬ ‫وقد‬
‫إمساك مال اليتيم بعد ما يصري يف حد الكرب ‪ ،‬قال ‪ :‬ولو ال ذلك ملا كان لذكر الكرب هاهنا معىن‬
‫يدل على أنه إذا صار يف حد‬
‫‪ ،‬إذ كان الويل عليه هو املستحق ملاله قبل الكرب وبعده ‪ ،‬فهذا ّ‬
‫الكرب استحق دفع املال إليه‪.‬‬
‫وجعل أبو حنيفة حد الكرب يف ذلك مخسا وعشرين سنة ‪ ،‬أل ّن مثله يكون جدا ‪ ،‬وحمال أن يكون‬
‫جدا وال يكون يف حد الكبار‪.‬‬
‫ْربُوا أن يبلغوا راشدين ‪ ،‬عمال بقوله تعاىل ‪َ :‬ح هىت إِذا‬ ‫ويقول الشافعية ‪ :‬إ ّن املراد من قوله ‪ :‬أَ ْن يَك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وعرب عن ذلك ابلكرب أل ّن الغالب أ ّن‬‫كاح فَِإ ْن آنَ ْستُ ْم مْن ُه ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم ّ‬
‫بَلَغُوا النّ َ‬
‫من بلغ ح ّد الرجال كان رشيدا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )197 /1‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب مىت يؤمر الفالح حديث رقم‬
‫(‪ ، )494‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )259 /2‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب ما جاء مىت يؤمر‬
‫الصيب حديث رقم (‪.)407‬‬

‫ص ‪220 :‬‬
‫للوصي الفقري يف أن ينتفع‬ ‫وف يدل على اإلذن‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬ومن كا َن فَ ِقرياً فَلْيأْ ُكل ِابلْمعر ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ْ َ ُْ‬ ‫ََ ْ‬
‫من مال اليتيم مبقدار احلاجة ‪ ،‬ويشهد لذلك قوله تعاىل ‪َ :‬وال َأتْ ُكلُوها إِ ْسرافاً فإنّه مشعر أب ّن له‬
‫ِ‬
‫ال الْيَتامى ظُلْماً [النساء ‪، ]10 :‬‬ ‫أن أيكل بقدر احلاجة ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْمو َ‬
‫إنه يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغري ظلم ‪ ،‬واألكل الذي ال يعد ظلما هو األكل‬
‫ابملعروف وما أخرجه أمحد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه من‬
‫ويل يتيم‬
‫حديث ابن عمرو أن رجال سأل النيب صلّى ا ّلل عليه وسلّم فقال ‪ :‬ليس يل مال ‪ ،‬وإين ّ‬
‫‪ ،‬أفآكل من ماله؟ فقال «كل من مال يتيمك غري مسرف ‪ ،‬وال متأثّل ماال ‪ ،‬ومن غري أن تقي‬
‫مالك مباله» «‪»1‬‬
‫يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغري ظلم ‪ ،‬واألكل الذي ال يع ّد ظلما هو األكل‬
‫فإنّه ّ‬
‫ابملعروف ‪ ،‬وإىل هذا الظاهر ذهب عطاء وقتادة ‪ ،‬وهو إحدى الرواايت عن ابن عباس ‪ ،‬فقد‬
‫أخرج ابن املنذر والطرباين عنه أنه قال ‪ :‬أيكل الفقري إذا ويل مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ‪،‬‬
‫ومنفعته له ‪ ،‬ما مل يسرف أو يب ّذر «‪.»2‬‬
‫بقي النظر يف هذا الذي أيخذه الويل من مال اليتيم ‪ ،‬أيع ّد أجرة أم ال؟ حكى صاحب «روح‬
‫يفرق بني الغين‬
‫املعاين» «‪ »3‬أ ّن مذهب احلنفية أنه ليس أبجرة ‪ ،‬ومن ذهب إىل أنه أجرة مل ّ‬
‫والفقري كما هو القياس يف كل عمل يقابل أبجر ‪ ،‬ال فرق فيه بني العامل الغين والعامل الفقري ‪،‬‬
‫ف حمموال على الندب ‪ ،‬كما هو‬ ‫وحينئذ يكون األمر يف قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن كا َن غَنِيًّا فَلْيَ ْستَ ْع ِف ْ‬
‫الالئق مبحاسن العادات ‪ ،‬وال تزال يف جمال االجتهاد والنظر هذه األجرة أهي مقدرة بكفاية الويل‬
‫أم هي أجرة املثل؟ مقتضى القواعد الفقهية أهنا تكون مقدرة أبجر املثل ‪ ،‬سواء أكفت الويل أم‬
‫ال‪.‬‬
‫ويل أن ينتفع من مال اليتيم بشي ء ‪ ،‬وافرتق هؤالء يف‬
‫وذهب مجاعة من العلماء إىل أنه ليس لل ّ‬
‫أتويل قوله تعاىل ‪ :‬ومن كا َن فَ ِقرياً فَلْيأْ ُكل ِابلْمعر ِ‬
‫وف إىل طائفتني ‪:‬‬ ‫َ ْ َ ُْ‬ ‫ََ ْ‬
‫األوىل تقول ‪ :‬إن له أن أيخذ من مال اليتيم قرضا بقدر ما حيتاج إليه ‪ ،‬مث إذا أيسر قضاه ‪ ،‬وهذا‬
‫قول سعيد بن جبري ‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬وأيب العالية «‪ ، »4‬وأكثر الرواايت عن ابن عباس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أمحد يف املسند (‪ ، )186 /2‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )36 /3‬كتاب الوصااي ابب ما جاء‬
‫يف ما لويل اليتيم حديث رقم (‪ ، )2872‬والنسائي يف السنن (‪ ، )567 /6 - 5‬كتاب الوصااي‬
‫‪ ،‬ابب ما للوصي من مال اليتيم حديث رقم (‪ )3678‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )907 /2‬كتاب‬
‫الوصااي حديث رقم (‪.)2718‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)122 /2‬‬
‫(‪ )3‬روح املعاين لإلمام األلوسي (‪.)208 /4‬‬
‫(‪ ) 4‬رفيع بن مهران الرايحي البصري ‪ ،‬اإلمام املقرئ ‪ ،‬احلافظ املفسر تويف سنة (‪ 93‬ه) انظر‬
‫سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )207 /5‬ترمجة (‪.)452‬‬

‫ص ‪221 :‬‬
‫والطائفة الثانية ‪ :‬ذهبت إىل أن ذلك حق اليتيم ‪ ،‬ينفق عليه من ماله حبسب حاله ‪ ،‬وحكي ذلك‬
‫عن حيىي بن سعيد ‪ ،‬ومييل إليه كالم اجلصاص ‪ ،‬وهو كما ترى أتويل بعيد كل البعد ‪ ،‬ال ينتظم‬
‫ف‪.‬‬‫مع قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن كا َن غَنِيًّا فَلْيَ ْستَ ْع ِف ْ‬
‫ِ‬
‫ومن هذه الطائفة من ا ّدعى نسخ هذه اآلية بقوله تعاىل بعدها ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َ‬
‫وال الْيَتامى‬
‫الل عنهما أنه قال ‪:‬‬ ‫ظُلْماً فقد أخرج أبو داود وابن املنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وال الْيَتامى ظُلْماً إخل‪.‬‬ ‫َوَم ْن كا َن فَقرياً فَلْيَأْ ُك ْل ِابل َْم ْع ُروف نسختها إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َ‬
‫فَِإذا َدفَ ْعتُ ْم إِل َْي ِه ْم أ َْموا َهلُ ْم فَأَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه ْم َوَكفى ِاب هللِ َح ِسيباً من معاين احلسيب الكايف واحملاسب ‪،‬‬
‫وكالَها حمتمل هنا‪.‬‬
‫الل تعاىل األولياء واألوصياء أن يشهدوا على اليتامى حني يدفعون إليهم أمواهلم ‪ ،‬بعد رعاية‬
‫أيمر ّ‬
‫الشرطني السابقني ‪ :‬البلوغ ‪ ،‬مث الرشد ‪ ،‬أل ّن ذلك اإلشهاد أبعد عن التهمة ‪ ،‬وأنفى للخصومة ‪،‬‬
‫وأدخل يف األمانة‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف أ ّن الوصي إذا ا ّدعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يص ّدق؟‬
‫وكذلك إذا قال ‪ :‬أنفقت عليه يف صغره ‪ ،‬هل هو مص ّدق؟‬
‫فقال اإلمامان مالك والشافعي ‪ :‬ال يصدق ‪ ،‬وقال اإلمام أبو حنيفة وأصحابه ‪:‬‬
‫يص ّدق‪.‬‬
‫واحتج مالك والشافعي هبذه اآلية ‪ ،‬فإ ّن قوله تعاىل ‪ :‬فَأَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه ْم أمر ‪ ،‬وظاهر األمر‬
‫الوجوب ‪ ،‬وليس معىن الوجوب هنا أنه أيمث إذا مل يشهد ‪ ،‬بل املراد أ ّن اإلشهاد ال بد منه يف‬
‫براءة ذمته ظاهرا ‪ ،‬حىت إذا دفع املال ومل يشهد ‪ ،‬مث طالبه اليتيم ‪ ،‬فالقول قول اليتيم بيمينه‪.‬‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬إ ّن األمر للندب ‪ ،‬وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمني ‪ ،‬واألمني إذا ا ّدعى الر ّد‬
‫على من ائتمنه ص ّدق ‪ ،‬وقالوا إن قوله تعاىل ‪َ :‬وَكفى ِاب هللِ َح ِسيباً يشهد هلم يف عدم لزوم البينة ‪،‬‬
‫الل تعاىل فيما بينكم وبينهم ‪ ،‬روي ذلك عن سعيد بن جبري‪.‬‬
‫فإ ّن معناه أنه ال شاهد أفضل من ّ‬
‫ابلل حماسبا لكم ‪ ،‬فال ختالفوا ما أمرمت به ‪ ،‬وال تتجاوزوا‬
‫املفسرين أن املعىن وكفى ّ‬
‫واختار مجهور ّ‬
‫ما ح ّد لكم‪ .‬وال َيفى موقع احملاسب هنا ‪ ،‬وما فيه من اإلشارة إىل أن الوصي سيحاسب على ما‬
‫يف يده من مال اليتيم ‪ ،‬مث جيزى على عمله اجلزاء األوىف‪.‬‬

‫ص ‪222 :‬‬
‫ِِ ِ ِ‬
‫صيب ِممها تَر َك الْوالِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫لر ِ ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬لِ ِّ‬
‫دان‬ ‫يب ممها تَ َر َك الْوالدان َو ْاألَق َْربُو َن َوللنّساء نَ ٌ َ‬
‫جال نَ ٌ‬ ‫قال ّ‬
‫صيباً َم ْف ُروضاً (‪.)7‬‬ ‫و ْاألَقْربو َن ِممها قَله ِمنْهُ أَو َكثُر نَ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َُ‬
‫هذا شروع يف بيان أحكام املواريث بعد بيان األحكام املتعلقة أبموال اليتامى اليت آلت إليهم‬
‫ابملرياث‪.‬‬
‫يورثوا النساء وال الصغار ‪ ،‬يقولون ‪ :‬إمنا يرث من حيارب وحيمي‬
‫كان من عادهتم يف اجلاهلية أال ّ‬
‫احلوزة وجيوز الغنيمة‪ .‬وللرد عليهم نزلت هذه اآلية ‪ ،‬قال ابن جبري وغريه «‪.»1‬‬
‫وروي أ ّن أوس بن اثبت مات ‪ ،‬وخلّف بنتني وابنا صغريا وزوجة ‪ ،‬فجاء ابنا عمه ‪ ،‬فزواي مرياثه‬
‫عن أوالده وزوجه ‪ ،‬على سنتهم يف اجلاهلية ‪ ،‬فقالت امرأته هلما ‪:‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فشكت إليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫تزوجا البنتني ‪ ،‬وكانت هبما دمامة ‪ ،‬فأبيا ‪ ،‬فأتت رسول ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬‫يب اآلية ‪ ،‬فأرسل رسول ّ‬ ‫لر ِ ِ‬
‫جال نَص ٌ‬ ‫الل ‪ ،‬فنزلت ‪ :‬لِ ِّ‬
‫ارجعي حىت أنظر ما حيدث ّ‬
‫علي فيه شي ء ‪ ،‬أخربت‬ ‫يفرقا من مال أوس شيئا ‪ ،‬فإنّه قد أنزل ّ‬ ‫عليه وسلّم إىل ابين العم أن ال ّ‬
‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ُك ْم [النساء ‪ ]11 :‬إىل قوله ‪:‬‬ ‫أ ّن للذكر واألنثى نصيبا ‪ ،‬مث نزل ‪ :‬يُوصي ُك ُم هُ ْ‬
‫الل عَلِ ِ‬
‫الل عليه وسلّم ابملرياث ‪ ،‬فأعطى املرأة‬
‫الل صلّى ّ‬ ‫يم [النساء ‪ ]12 :‬فدعا رسول ّ‬ ‫َو هُ ٌ‬
‫يم َحل ٌ‬
‫الثمن ‪ ،‬وقسم ما بقي بني األوالد ‪ ،‬للذكر مثل حظ األنثيني ‪ ،‬ومل يعط ابين العم شيئا «‪.»2‬‬
‫الل عليه وسلّم‬
‫الل صلّى ّ‬
‫ويف بعض طرقه أن امليت خلّف زوجه وبنتني وابين عم ‪ ،‬فأعطى رسول ّ‬
‫الزوجة الثمن ‪ ،‬والبنتني الثلثني ‪ ،‬وابين العم الباقي‪.‬‬
‫وللعلماء يف تفسري هذه اآلية أقوال ‪:‬‬
‫فمن ا لناس من أبقاها على ظاهرها ‪ ،‬فجعل املراد من الرجال الذكور البالغني ‪ ،‬ومن الوالدين‬
‫األب واألم بال واسطة ‪ ،‬ومن النساء اإلانث البالغات‪ .‬يكون املعىن حينئذ ‪:‬‬
‫للذكور البالغني نصيب مما ترك آابؤهم وأمهاهتم وأقارهبم ‪ ،‬كإخوهتم وأخواهتم ‪ ،‬وأعمامهم‬
‫وعماهتم ‪ ،‬ولإلانث البالغات كذلك نصيب مما ترك آابؤهن إخل‪.‬‬
‫خمتص ابلرجال كما هو عادهتم يف اجلاهلية ‪،‬‬
‫الل تعاىل قد ّبني يف هذه اآلية أن اإلرث غري ّ‬
‫ويكون ّ‬
‫بل هو أمر مشرتك بني الرجال والنساء ‪ ،‬وال مانع من االقتصار يف اآلية على هذا القدر جراي‬
‫الل يف التشريع اإلسالمي من التدرج يف األحكام ‪ ،‬إذ كان من عادة القوم توريث‬
‫على سنة ّ‬
‫الل سبحانه أن ينقلهم عن تلك‬
‫الكبار من الرجال دون الصغار والنساء كما علمت ‪ ،‬فأراد ّ‬
‫العادة قليال على التدريج ‪ ،‬أل ّن االنتقال من العادة شا ّق ثقيل على الطبع ‪ ،‬فإذا كان دفعة عظم‬
‫وخف على‬
‫وقعه ‪ ،‬وصعب على النفوس تلقيه ابلقبول ‪ ،‬وإذا كان على التدريج سهل أمره ‪ّ ،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)123 /2‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)122 /2‬‬

‫ص ‪223 :‬‬
‫الل تعاىل هذا اجململ أوال مث أردفه ابلتفصيل‪.‬‬
‫النفوس تعاطيه ‪ ،‬فلهذا املعىن ذكر ّ‬
‫ويف اختيار هذا األسلوب التفصيلي ‪ -‬مع أنه كان يكفي أن يقال ‪ :‬للرجال والنساء نصيب إخل‬
‫‪ -‬اعتناء بشأن النساء ‪ ،‬وإيذان أبصالتهن يف استحقاق اإلرث ‪ ،‬ومبالغة يف إبطال حكم اجلاهلية‬
‫‪ ،‬إبلغاء ما كانوا يعتربونه من األوصاف اخلاصة ابلرجال سببا مضموما إىل القرابة يف استحقاق‬
‫فالل قد أهدر وصف الرجولة يف مرياث اإلنسان من والديه وأقاربه ‪ ،‬وجعل سبب هذا‬
‫املرياث ‪ّ ،‬‬
‫التوارث القرابة فحسب ‪ ،‬والرجال والنساء سواء يف ذلك ‪ ،‬فكما يكون للرجال نصيب مما ترك‬
‫الوالدان واألقربون ‪ ،‬يكون للنساء نصيب مما ترك الوالدان واألقربون‪.‬‬
‫عمم يف الرجال والنساء ‪ ،‬فجعل املراد من الرجال الذكور مطلقا ‪ ،‬سواء أكانوا‬
‫ومن العلماء من ّ‬
‫كبارا أم صغارا ‪ ،‬واملراد من النساء اإلانث كذلك ‪ ،‬ويكون املراد التسوية بني الذكور واإلانث يف‬
‫أ ّن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان واألقربون ‪ ،‬ومنهم من محل الرجال على الصغار من‬
‫الذكور ‪ ،‬ومحل النساء على الصغار من اإلانث كذلك ‪ ،‬وعلل هذا االقتصار أبن فيه اعتناء‬
‫بشأن اليتامى ‪ ،‬ور ّدا صرحيا على طريقة اجلاهلية يف التوريث‪.‬‬
‫وعلى كل حال فظاهر اآلية يشهد للحنفية القائلني بتوريث ذوي األرحام ‪ ،‬أل ّن العمات‬
‫واخلاالت وأوالد البنات من األقربني ‪ ،‬فوجب دخوهلم حتت قوله سبحانه ‪:‬‬
‫صيب ِممها تَر َك الْوالِ ِ‬
‫دان َو ْاألَق َْربُو َن إخل فثبت كوهنم مستحقني ألصل النصيب هبذه اآلية‬ ‫لِ ِ ِ ِ‬
‫لرجال نَ ٌ َ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬وأما املقدار فمستفاد من دالئل أخر كما هو احلال يف غريهم‪.‬‬
‫وحاول اإلمام الرازي «‪ »1‬الر ّد على احلنفية ‪ ،‬فادعى أ ّن املراد من األقربني الوالدان واألوالد ‪،‬‬
‫وحينئذ ال يدخل فيهم ذوو األرحام ‪ ،‬وعليه يكون عطف األقربني على الوالدين من عطف العام‬
‫على اخلاص ‪ ،‬وهو أتويل ظاهر التكلف‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ِ :‬ممها قَ هل ِم ْنهُ أ َْو َكثُ َر بدل من (ما) الثانية ‪ ،‬إبعادة العامل ‪ ،‬ويق ّدر مثل هذا يف اجلملة‬
‫األوىل ‪ ،‬والفائدة منه التنصيص على أن التوريث يكون يف الرتكات الضئيلة ‪ ،‬كما يكون يف‬
‫الرتكات العظيمة ‪ ،‬وفيه أيضا دفع توهم اختصاص بعض األموال ببعض الورثة ‪ ،‬وبذلك تنقطع‬
‫طماعية الكبار من الورثة يف أن َيتصوا مبثل السيف واخلامت واملصحف واللباس البدين‪.‬‬
‫وكلمة نَ ِ‬
‫صيباً َم ْف ُروضاً مصدر مؤكد بتأويله مبعىن العطاء ‪ ،‬أو حال ‪ ،‬وأصل الفرض احلز يف الشي‬
‫توسع فيه ‪ ،‬فاستعمل مبعىن القطع والتقدير ‪ ،‬وما‬
‫ويسمى احلز يف سية القوس فرضا ‪ ،‬مث ّ‬ ‫ء‪ّ ،‬‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬وأوىل املعاين هنا يف كلمة َم ْف ُروضاً أهنا مبعىن مق ّدرا‪.‬‬
‫أوجبه ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف كتابه ‪ :‬مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)195 /9‬‬

‫ص ‪224 :‬‬
‫وه ْم ِم ْنهُ َوقُولُوا َهلُ ْم قَ ْوًال‬ ‫ض َر ال ِْق ْس َمةَ أُولُوا الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى َوال َْمساكِ ُ‬
‫ني فَ ْارُزقُ ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِذا َح َ‬
‫قال ّ‬
‫َم ْع ُروفاً (‪ ) 8‬املراد ابلقسمة ‪ :‬الرتكة بني الورثة ‪ ،‬وأولوا القرىب ‪ :‬من ال يرثون ‪ ،‬لكوهنم حمجوبني ‪،‬‬
‫أو لكوهنم من ذوي األرحام‪.‬‬
‫الل إبعطاء من حضر القسمة من هؤالء ما جيرب خاطرهم ‪ ،‬وتطيب به نفوسهم ‪ ،‬وقد‬
‫أيمر ّ‬
‫اختلف العلماء يف هذه اآلية ‪ ،‬أهي حمكمة أم منسوخة؟ فذهب ابن املسيّب والضحاك وابن‬
‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ُك ْم إخل‪.‬‬ ‫عباس يف رواية عطاء عنه إىل أهنا منسوخة آبية املواريث يُوصي ُك ُم هُ ْ‬
‫وذهب ابن عباس يف رواية عكرمة عنه ومجهور املفسرين إىل أهنا حمكمة ‪ ،‬مث اختلفوا يف ذلك‬
‫متسك بظاهر األمر ‪ ،‬وأوجب على‬
‫اإلعطاء ‪ ،‬أهو واجب أم مندوب؟ فمن ذهب إىل الوجوب ّ‬
‫الوارث الكبري وعلى ويل الصغري أن يرضخا ملن حضر القسمة شيئا من املال بقدر ما تطيب به‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬على الوارث الكبري الدفع ‪ ،‬وعلى ويل الصغري القول املعروف أبن يعتذر إليهم‬
‫ويعرفهم أن أصحاب املال صغار ال يق ّدرون ما عليهم من احلق ‪ ،‬وإن يكربوا فسيعرفون‬
‫‪ّ ،‬‬
‫حقهم‪.‬‬
‫وذهب فقهاء األمصار إىل أ ّن هذا اإلعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة ‪ ،‬وحجتهم يف‬
‫يبني ‪ ،‬علمنا‬
‫الل تعاىل ‪ ،‬كما ّبني سائر احلقوق ‪ ،‬وحيث مل ّ‬
‫معني لبينه ّ‬
‫ذلك أنه لو كان هلؤالء ح ّق ّ‬
‫أنه غري واجب ‪ ،‬وأيضا لو كان واجبا لتوفّرت الدواعي على نقله ‪ ،‬لشدة حرص الفقراء‬
‫واملساكني ‪ ،‬ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر ‪ ،‬وملا مل يكن األمر كذلك علمنا أنه ليس‬
‫بواجب‪.‬‬
‫وه ْم ِم ْنهُ يرجع إىل ما ترك الوالدان واألقربون ‪ ،‬أو إىل‬
‫والضمري اجملرور يف قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْارُزقُ ُ‬
‫استَ ْخ َر َجها ِم ْن‬
‫القسمة مبعىن املقسوم ابعتبار معناها ‪ ،‬ال ابعتبار لفظها ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪ :‬مثُه ْ‬
‫َخيهِ [يوسف ‪.]76 :‬‬ ‫ِو ِ‬
‫عاء أ ِ‬
‫مفسر كما تقدم ابلع ّدة اجلميلة ‪ ،‬وأبال يتبع العطية ابملن واألذى ابلقول ‪ ،‬وأبن‬
‫والقول املعروف ّ‬
‫يعتذر ملن ال يعطيه شيئا‪.‬‬
‫الل تعاىل ‪ :‬ولْي ْخش اله ِذين لَو تَرُكوا ِمن َخل ِْف ِهم ذُ ِريهةً ِ‬
‫ضعافاً خافُوا َعلَْي ِه ْم فَلْيَ ته ُقوا ه‬
‫اللَ‬ ‫ْ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫قال ّ‬
‫الل عنهما أنه قال يف اآلية‬ ‫َولْيَ ُقولُوا قَ ْوًال َس ِديداً (‪ )9‬أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس رضي ّ‬
‫‪ :‬يعين بذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪].....[ .)183 /4‬‬

‫ص ‪225 :‬‬
‫الرجل ميوت وله أوالد صغار ضعاف ‪َ ،‬ياف عليهم العيلة والضيعة ‪ ،‬وَياف بعده أال حيسن‬
‫إليهم من يليهم‪ .‬يقول ‪ :‬فإن ويل مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ‪ ،‬وال أيكل أمواهلم‬
‫إسرافا وبدارا أن يكربوا ‪ ،‬واآلية على هذا أمر لألوصياء أن َيشوا رهبم ‪ ،‬ويتقوه يف اليتامى ‪،‬‬
‫الذين يلوهنم ‪ ،‬فيعاملوهنم مبثل ما حيبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاهتم ‪ ،‬واملقصود‬
‫حث األولياء ‪ ،‬وبعثهم على حفظ أموال اليتامى بتنبيههم على حال أنفسهم وذرايهتم من بعدهم‬
‫ّ‬
‫شك أن ذلك من أقوى البواعث والدواعي يف هذا‬
‫ليتصوروها ‪ ،‬ويعرفوا مكان العربة فيها‪ .‬وال ّ‬
‫املقصود‪.‬‬
‫يب إخل يف معىن األمر‬ ‫لر ِ ِ‬
‫جال نَص ٌ‬‫واآلية على هذا املعىن مرتبطة مبا قبلها ‪ ،‬أل ّن قوله تعاىل ‪ :‬لِ ِّ‬
‫للورثة ‪ ،‬أي أعطوهم حقهم ‪ ،‬وليحفظ األوصياء ما أعطوه ‪ ،‬وَيافوا عليهم كما َيافون على‬
‫أوالدهم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال يف اآلية ‪ :‬يعين الرجل حيضره املوت ‪،‬‬
‫الل ‪ ،‬فنهوا أن أيمروا بذلك ‪ ،‬يعين أ ّن‬
‫فيقال ‪ :‬تص ّدق من مالك ‪ ،‬وأعتق ‪ ،‬وأعط منه يف سبيل ّ‬
‫من حضر منكم مريضا عند املوت ‪ ،‬فال أيمره أن ينفق من ماله يف العتق ‪ ،‬أو يف الصدقة أو يف‬
‫يبني ماله وما عليه من مال ‪ ،‬ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين ال‬
‫الل ‪ ،‬ولكن أيمره أن ّ‬
‫سبيل ّ‬
‫يرثون ‪ ،‬يوصي هلم ابخلمس أو الربع‪ .‬يقول ‪ :‬أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ‪ ،‬أي صغار‬
‫‪ ،‬ال يرضى أن يرتكهم بغري مال ‪ ،‬فيكونوا عياال على الناس ‪ ،‬فال ينبغي لكم أن أتمروا مبا ال‬
‫ترضون به ألنفسكم وألوالدكم ‪ ،‬ولكن قولوا احلق من ذلك ‪ ،‬وعلى هذه الرواية تكون اآلية أمرا‬
‫العواد عند اإليصاء أبن َيشوا رهبم ‪ ،‬أو َيشوا أوالد املريض ‪ ،‬ويشفقوا‬
‫ملن حضر املريض من ّ‬
‫عليهم شفقتهم على أوالدهم ‪ ،‬فال أيمروه مبا يضر ورثته‪.‬‬
‫ومل خترج اآلية هبذا التأويل عن أهنا واردة يف حفظ مال اليتيم والتوصية به ‪ ،‬وعلى هذا يكون أول‬
‫الكالم لألوصياء ‪ ،‬وما بعده للورثة ‪ ،‬وهذه اآلية لألجانب ‪ ،‬أمروا أال يرتكوا املريض يضرهم ‪،‬‬
‫وأال أيمروه مبا يضرهم ‪ ،‬فاآلية مرتبطة مبا قبلها أمتّ االرتباط‪.‬‬
‫حىت ال‬
‫وعلى كال القولني ترى املقصود من األمر أال يؤذوا اليتامى ‪ ،‬وال يضيّعوا حقوقهم ‪ّ ،‬‬
‫الل يف ذريتهم من بعدهم ‪ ،‬فيسلّط عليهم من يؤذيهم ‪ ،‬ويضيّع حقوقهم ‪ ،‬ويف ذلك‬
‫يعاقبهم ّ‬
‫الل ذريتهم من‬
‫الل أوالدهم ‪ ،‬ورمز إىل أهنم إن راعوا األمر حفظ ّ‬
‫هتديد هلم أبهنم إن فعلوه أضاع ّ‬
‫بعدهم‪.‬‬
‫والقول السديد يف قوله تعاىل ‪َ :‬ولْيَ ُقولُوا قَ ْوًال َس ِديداً الصواب العدل املوافق للشرع أبن يقول‬
‫وسين اخلصال ‪ ،‬ويقول‬
‫الويل لليتيم ما يقول لولده من القول اجلميل اهلادي إىل حماسن اآلداب ‪ّ ،‬‬
‫ابلل ‪ ،‬وما يصده عن اإلسراف يف‬
‫عائد املريض ما يذ ّكره التوبة والنطق الشهادتني وحسن الظن ّ‬
‫الوصية وتضييع الورثة‪.‬‬

‫ص ‪226 :‬‬
‫صلَ ْو َن َسعِرياً‬
‫ال الْيَتامى ظُلْماً إِ همنا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهنِِ ْم انراً َو َسيَ ْ‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْمو َ‬ ‫قال ّ‬
‫حرها ‪ ،‬سواء ابلقرب منها أو ابلدخول فيها‬ ‫(‪ )10‬يقال ‪ :‬صلي النار كرضي يصالها ‪ ،‬إذا قاسى ّ‬
‫‪ ،‬واملراد هنا سيدخلون سعريا‪.‬‬
‫سعرت النار إذا أوقدهتا وأهلبتها‪.‬‬
‫والسعري ‪ :‬فعيل ‪ ،‬مبعىن مفعول ‪ ،‬من ّ‬
‫واآلية مسوقة لتأكيد األوامر والنواهي فيما سبق وتقريرها‪ .‬ويف تقييد األكل حبالة الظّلم داللة‬
‫على أن مال اليتيم قد يؤكل على وجه االستحقاق ‪ ،‬كاألجرة والقرض مثال ‪ ،‬فال يكون ذلك‬
‫ظلما ‪ ،‬وال اآلكل ظاملا‪.‬‬
‫وذكر البطون مع أن األكل ال يكون إال فيها ‪:‬‬
‫إما ألنه قد شاع يف استعماهلم أن يقولوا ‪ :‬أكل فالن يف بطنه ‪ ،‬يريدون ملء بطنه ‪ ،‬فكأنه قيل ‪:‬‬
‫إمنا أيكلون ملء بطوهنم انرا ‪ ،‬حىت يبشموا هبا‪.‬‬
‫س ِيف قُلُوهبِِ ْم [آل عمران ‪:‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫وإما للتأكيد واملبالغة كما يف قوله تعاىل ‪ :‬يَ ُقولُو َن أبَفْواهه ْم ما ل َْي َ‬
‫وب الهِيت ِيف الص ُدوِر [احلج ‪]46 :‬‬ ‫ِ‬
‫‪ ]167‬والقول ال يكون إال ابلفم ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬ولك ْن تَ ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬
‫ناح ْيهِ [األنعام ‪ ]38 :‬والطري ال‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫والقلوب ال تكون إال يف الصدور ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬وال طائ ٍّر يَطريُ جبَ َ‬
‫يطري إال جبناحني ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬إ ّن الغرض من ذلك كله التأكيد واملبالغة ‪ ،‬وفيه على كل حال‬
‫تبشيع ألكل مال اليتيم يف حالة الظلم ‪ ،‬وتنفري منه‪.‬‬
‫اختلف املفسرون يف كلمة انراً أهي ابقية على معناها ‪ ،‬أم جماز مبعىن ما يفضي إىل النار؟ ذهب‬
‫الل بن أيب جعفر ‪ ،‬فقد روي عنه أنه قال ‪ :‬من أكل مال اليتيم ‪ ،‬فإنه يؤخذ‬
‫إىل األول عبيد ّ‬
‫السعري‬
‫مبشفره يوم القيامة فيمأل فمه مجرا ‪ ،‬ويقال له ‪ :‬كل ما أكلته يف الدنيا ‪ ،‬مث يدخل ّ‬
‫الكربى‪.‬‬
‫الل عليه‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »1‬وابن أيب حامت عن أيب سعيد اخلدري قال ‪ :‬ح ّدثين النيب صلّى ّ‬
‫وسلّم عن ليلة أسري به ‪ ،‬قال ‪« :‬نظرت فإذا أان بقوم هلم مشافر كمشافر اإلبل ‪ ،‬وقد وّكل هبم‬
‫حىت َيرج من‬
‫من أيخذ مبشافرهم ‪ ،‬مث جيعل يف أفواههم صخرا من انر ‪ ،‬فيقذف يف أفواههم ّ‬
‫أسافلهم ‪ ،‬وهلم خوار وصراخ ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي جربيل من هؤالء؟ قال ‪:‬‬
‫الذين أيكلون أموال اليتامى ظلما»‪.‬‬
‫واجلمهور من املفسرين على أ ّن كلمة انراً جماز مرسل من ذكر املسبب وإرادة السبب ‪ ،‬وحجتهم‬
‫ال الْيَتامى ظُلْماً إِ همنا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهنِِ ْم انراً اإلشارة فيه إىل‬ ‫ِ‬
‫يف ذلك قوله تعاىل ‪ :‬الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْمو َ‬
‫أكل واحد ‪ ،‬فكان محله على التوسع أوىل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)284 /4‬‬

‫ص ‪227 :‬‬
‫لكن ابن‬
‫عام لكل من أيكل مال اليتيم ‪ ،‬سواء كان مؤمنا أم كافرا ‪ّ ،‬‬
‫وظاهر اآلية أ ّن هذا احلكم ّ‬
‫جرير «‪ »1‬أخرج عن زيد بن أسلم أنه قال ‪ :‬هذه اآلية ألهل الشرك حني كانوا ال ّيورثون‬
‫خاص أبهل الشرك فهو غري‬
‫اليتامى ‪ ،‬وأيكلون أمواهلم ‪ ،‬وال َيفى أنّه إن أراد أ ّن حكم اآلية ّ‬
‫مسلم ‪ ،‬وإن أراد أهنا نزلت فيهم فال أبس ‪ ،‬ألن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪.‬‬
‫ويف بعض األخبار أنه ملا نزلت هذه اآلية ثقل ذلك على الناس واحرتزوا من خمالطة اليتامى حىت‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم «‪[ »2‬البقرة ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫ش ّق ذلك على اليتامى أنفسهم ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫‪.]220‬‬
‫ِ‬
‫وال الْيَتامى إخل منسوخ بقوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن‬ ‫وزعم بعض اجلهال أن قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن الهذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َ‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم وهو قول ابطل ‪ ،‬أل ّن اآلية اليت معنا يف النهي عن الظلم ‪ ،‬وهذا ال يصري‬ ‫ِ‬
‫ُختالطُ ُ‬
‫منسوخا حبال ‪ ،‬بل املقصود أ ّن خمالطة اليتامى ‪ ،‬إن كانت على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب‬
‫الرب‬
‫اإلمث ‪ ،‬كما يف اآلية اليت معنا ‪ ،‬وإن كانت على سبيل الرتبية واإلحسان فهو من أعظم أبواب ّ‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫خامتة‬
‫الل أ ّن اليتامى قد فقدوا مبوت آابئهم من يعوهلم ‪ ،‬ويقوم بكفالتهم ‪ ،‬وأهنم لصغرهم عاجزين‬
‫علم ّ‬
‫جل شأنه هبم ‪ ،‬وكمال عنايته أبمرهم ‪ :‬أن أنزل فيهم تسع‬
‫عن القيام مبصاحلهم ‪ ،‬فكان من رمحته ّ‬
‫قرر فيها مجيعا األمر حبفظ‬
‫آايت تتلى متتابعات من أول سورة النساء إىل آخر اآلية السابقة ‪ّ ،‬‬
‫مال اليتيم ورعايته ‪ ،‬وأ ّكد فيها النهي عن أكل ماله ‪ ،‬وتضييع حقه ‪ ،‬كما أنه أنزل فيهم آايت‬
‫متفرقات ‪ ،‬كلها تدل على العناية هبم ‪ ،‬وحتث على حفظ ماهلم ‪ ،‬وحسن القيام بشؤوهنم ‪ :‬فمنها‬
‫ِ‬
‫س ُن‬ ‫مال الْيَتِي ِم إِهال ِابلهِيت ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫قوله تعاىل ‪َ :‬وال تَ ْق َربُوا َ‬
‫ِ ِ‬ ‫[األنعام ‪ ]152 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬وأَ ْن تَ ُق ِ‬
‫جل شأنه‬ ‫وموا للْيَتامى ِابلْق ْسط [النساء ‪ ]127 :‬وقوله ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يم فَال تَ ْق َه ْر (‪[ )9‬الضحى ‪ ]9 :‬وقوله سبحانه ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫فَأَ هما الْيَت َ‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم َوا هللُ يَ ْعلَ ُم‬ ‫ِ‬
‫الح َهلُ ْم َخ ْريٌ َوإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫ص ٌ‬ ‫ك َع ِن الْيَتامى قُ ْل إِ ْ‬ ‫ِيف الدنْيا َو ْاآل ِخ َرةِ َويَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫صلِ ِح [البقرة ‪ ]220 :‬وكذلك ورد التنويه بشأن من أحسن يف كفالتهم‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْف ِس َد م َن ال ُْم ْ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬أان وكافل اليتيم كهاتني ‪ ،‬وأشار أبصبعيه السبابة والوسطى»‬
‫بقوله صلّى ّ‬
‫«‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)184 /4‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )36 /3‬كتاب الوصااي ‪ ،‬ابب املخالطة حديث رقم (‪.)2871‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )218 /6‬كتاب الطالق ‪ - 25 ،‬ابب اللعان‬
‫حديث رقم (‪ ، )5304‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )283 /4‬كتاب الرب ابب ما جاء يف‬
‫رمحة اليتيم حديث رقم (‪.)1918‬‬

‫ص ‪228 :‬‬
‫الل ابلضعفاء وعظيم فضله عليهم!‬
‫أدل هذا على سعة رمحة ّ‬
‫فما ّ‬
‫آايت املواريث‬
‫ني فَِإ ْن ُك هن نِساءً فَ ْو َق اثْ نَ تَ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫الد ُك ْم لِل هذ َك ِر ِمثْ ُل َح ِّ‬
‫ظ ْاألُنْ ثَيَ ْ ِ‬ ‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬يُوصي ُك ُم هُ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫س ِممها تَ َر َك إِ ْن‬ ‫ِ ٍّ ِ‬ ‫ص ُ ِ ِِ‬
‫ف َوألَبَ َويْه ل ُك ِّل واحد م ْن ُه َما الس ُد ُ‬
‫فَلَه هن ثُلُثا ما تَر َك وإِ ْن كانَ ْ ِ‬
‫ت واح َدةً فَلَ َها النِّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫س م ْن بَ ْع ِد‬ ‫ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫كا َن لَهُ َولَ ٌد فَِإ ْن َملْ يَ ُك ْن لَهُ َولَ ٌد َوَوِرثَهُ أَبَواهُ فَِأل ُّمهِ الث لُ ُ‬
‫ث فَِإ ْن كا َن لَهُ إِ ْخ َوةٌ فَأل ُّمه الس ُد ُ‬
‫اللِ إِ هن ه‬
‫اللَ‬ ‫ضةً ِم َن ه‬ ‫ب لَ ُك ْم نَ ْفعاً فَ ِري َ‬ ‫ِ ٍّ ِ‬
‫َوصيهة يُوصي ِهبا أ َْو َديْ ٍّن آاب ُؤُك ْم َوأَبْنا ُؤُك ْم ال تَ ْد ُرو َن أَي ُه ْم أَق َْر ُ‬
‫كا َن َعلِيماً َحكِيماً (‪ )11‬قد ذكران لك فيما تقدم بعض الرواايت يف أسباب نزول آايت‬
‫املواريث ‪ ،‬ونذكر لك رواية أخرى فنقول ‪:‬‬
‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ُك ْم أنه‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬يف سبب نزول آايت املواريث عن السدي يُوصي ُك ُم هُ ْ‬
‫يورثون اجلواري وال الصغار من الغلمان ‪ ،‬ال يرث الرجل من ولده إال‬
‫قال ‪ :‬كان أهل اجلاهلية ال ّ‬
‫كجة ‪،‬‬
‫من أطاق القتال ‪ ،‬فمات عبد الرمحن أخو حسان الشاعر ‪ ،‬وترك امرأة يقال هلا ‪ :‬أم ّ‬
‫الل‬
‫كجة ذلك إىل النيب صلّى ّ‬ ‫وترك مخس أخوات ‪ ،‬فجاءت الورثة أيخذون ماله ‪ ،‬فشكت أم ّ‬
‫ني فَلَ ُه هن ثُلُثا ما تَ َر َك‬ ‫الل تبارك وتعاىل هذه اآلية ‪ :‬فَِإ ْن ُك هن نِساءً فَ ْو َق اثْ نَ تَ ْ ِ‬‫عليه وسلّم ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫كجة ‪َ :‬وَهلُ هن الربُ ُع ِممها تَ َرْكتُ ْم إِ ْن َملْ يَ ُك ْن لَ ُك ْم َولَ ٌد فَِإ ْن‬
‫ف مث قال ىف أم ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫وإِ ْن كانَ ْ ِ‬
‫ت واح َدةً فَلَ َها النِّ ْ‬ ‫َ‬
‫كا َن لَ ُك ْم َولَ ٌد فَلَ ُه هن الث ُم ُن‪.‬‬
‫من ذلك يعلم الباحث أ ّن الشريعة اإلسالمية جاءت والعرب تظلم النساء ‪ ،‬وال تعطيهن من‬
‫فقررت‬
‫العدو ‪ ،‬وال حيزن الغنيمة ‪ّ ،‬‬
‫أهنن ال يقاتلن ّ‬
‫مرياث أزواجهن وآابئهن شيئا ‪ ،‬بدعوى ّ‬
‫الشريعة هبذه اآلية هلن حقا يف املرياث ‪ ،‬وكرب ذلك على العرب ‪ ،‬فكانوا يو ّدون أن ينسخ ذلك‬
‫احلكم ‪ ،‬أو ينسى ‪ ،‬ملا أنه كان َيالف ما ألفوه ‪ ،‬فقد روى ابن جرير «‪ »2‬عن ابن عباس قال ‪:‬‬
‫الل فيها ما فرض للولد ‪ ،‬الذكر واألنثى واألبوين ‪ ،‬كرهها الناس‬
‫إنه ملا نزلت الفرائض اليت فرض ّ‬
‫أو بعضهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬تعطى املرأة الربع والثمن ‪ ،‬وتعطى االبنة النصف ‪ ،‬ويعطى الغالم الصغري ‪،‬‬
‫الل‬
‫لعل رسول ّ‬‫وليس من هؤالء أحد يقاتل القوم ‪ ،‬وال جيوز الغنيمة ‪ ،‬اسكتوا عن هذا احلديث ّ‬
‫ينساه ‪ ،‬أو نقول له فيغريه ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬اي رسول ا ّلل أنعطي اجلارية نصف ما ترك أبوها ‪،‬‬
‫الصيب املرياث ‪ ،‬وليس يغين شيئا؟ وكانوا‬
‫ّ‬ ‫وليست تركب الفرس ‪ ،‬وال تقاتل القوم ‪ ،‬ونعطي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)185 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)185 /4‬‬

‫ص ‪229 :‬‬
‫يفعلون ذلك يف اجلاهلية ال يعطون املرياث إال من قاتل ‪ ،‬ويعطونه األكرب فاألكرب‪.‬‬
‫ورثها بعد أن مل تكن ترث ‪،‬‬
‫هذا شأن اإلسالم مع املرأة أخذ بضبعيها ‪ ،‬وأانف هبا على اليفاع‪ّ .‬‬
‫وجعل هلا نصيبا مفروضا على كره من الرجال ‪ ،‬ولكن نبتت انبتة يف هذا الزمان يقولون ‪ :‬إن‬
‫اإلسالم خبس املرأة حقها يف املرياث ‪ ،‬وجعلها على النصف من حظ الرجل ‪ ،‬ويريدون تسوية‬
‫املرأة ابلرجل يف املرياث‪.‬‬
‫ومن نظر وجد أ ّن الشريعة عاملت املرأة ابلرأفة ‪ ،‬فهي حني أعطتها نصف حظ الرجل جعلت‬
‫نفقتها ونفقة خدمها وأوالدها على الرجل ‪ ،‬وحني أعطت الرجل ضعف املرأة كلّفت الرجل‬
‫فأي ّبر‬
‫ابلنفقة على زوجته وأوالدها ‪ ،‬فنصيب الرجل يشركه فيه الكثري ‪ ،‬ونصيبها هلا خاصة ‪ّ ،‬‬
‫وأي رفق هبا أكثر من هذا الرفق ‪ ،‬هذا إىل ما منحتها إايه من حق‬
‫ابملرأة أعظم من هذا الرب ‪ّ ،‬‬
‫املرياث ‪ ،‬وقد كانت حمرومة هذا احلق‪.‬‬
‫مرياث األوالد‬
‫الل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ُك ْم أي يعهد إليكم يف مرياث أوالدكم ‪ ،‬وهذا إمجال بيانه ما‬ ‫الل ‪ :‬يُوصي ُك ُم هُ ْ‬ ‫يقول ّ‬
‫ني إخل أي إذا مات امليت ‪ ،‬وترك أوالدا ذكورا وإاناث ‪ ،‬فللذكر مثل‬ ‫بعده لِل هذ َك ِر ِمثْ ُل َح ِّ‬
‫ظ ْاألُنْ ثَيَ ْ ِ‬
‫ني أي وإن كان‬‫ظ املرأة فَِإ ْن ُك هن نِساءً فَ ْو َق اثْ نَ تَ ْ ِ‬
‫ظ الذّكر ضعف ح ّ‬ ‫حظ األنثيني ‪ ،‬فيكون ح ّ‬
‫الل ‪:‬‬
‫املرتوكات نساء فوق اثنتني فَلَ ُه هن ثُلُثا ما تَ َر َك يقول ّ‬
‫فإن ترك النساء ليس معهن ذكور ‪ ،‬فإن كن ثالاث فأكثر فلهن الثلثان ‪ ،‬وإن كانت واحدة ‪ ،‬أي‬
‫وإن كانت املرتوكة واحدة فلها النصف‪.‬‬
‫الل حكم البنت إذا مل يكن معها أخ ذكر ‪ ،‬وحكم البنات إذا انفردن أيضا ‪ ،‬ومل يذكر‬
‫وقد ذكر ّ‬
‫الل حكم البنتني إذا انفردات عن أخ ذكر ‪ ،‬وقد اختلف العلماء يف حكمهما ‪ ،‬فأحلقهما ابن‬ ‫ّ‬
‫الل تعاىل قال ‪ :‬فَِإ ْن ُك هن نِساءً فَ ْو َق‬
‫عباس ابلبنت الواحدة ‪ ،‬وأعطاَها النصف ‪ ،‬ووجهه أ ّن ّ‬
‫اثْ نَ تَ ْ ِ‬
‫ني فَلَ ُه هن ثُلُثا ما تَ َر َك فجعل الثلثني للنساء إذا كن فوق اثنتني ‪ ،‬فال نعطيهما إذا كانتا اثنتني‪.‬‬
‫وقال اجلمهور ‪ :‬البنتان الحقتان ابلبنات ‪ ،‬فلهما الثلثان كما هلن الثلثان ‪ ،‬وهذا أوىل ألمور ‪:‬‬
‫ثان ِممها تَ َر َك‬
‫ني فَلَ ُهما الث لُ ِ‬
‫الل فيهما ‪ :‬فَِإ ْن كانَتَا اثْ نَ تَ ْ ِ َ‬
‫أوهلا ‪ :‬قياس البنتني على األختني ‪ ،‬وقد قال ّ‬
‫‪ ،‬والبنات أقرب للميت من األختني ‪ ،‬فإذا كان لألختني الثلثان فأوىل أن يكوان للبنتني‪.‬‬
‫اثنيهما ‪ :‬أن البنت أتخذ مع أخيها الثلث ‪ ،‬فأوىل أن أتخذه مع أختها ‪ ،‬ويكون هلما الثلثان‪.‬‬

‫ص ‪230 :‬‬
‫اثلثها ‪ :‬أنه‬
‫الل عليه وسلّم أنه قضى يف بنت‬
‫روي عن ابن مسعود يف «الصحيح» «‪ »1‬عن النيب صلّى ّ‬
‫وبنت ابن وأخت ‪ :‬ابلسدس لبنت االبن ‪ ،‬والنصف للبنت تكملة الثلثني ‪ ،‬فجعل لبنت االبن‬
‫مع البنت الثلثني ‪ ،‬فباألحرى يكون للبنتني الثلثان‪.‬‬
‫كن نساء اثنتني فما فوق ‪ ،‬كقوله‬ ‫وقد جيوز أن يكون معىن قوله ‪ :‬فَِإ ْن ُك هن نِساءً فَ ْو َق اثْ نَ تَ ْ ِ‬
‫ني فإن ّ‬
‫ناق [األنفال ‪ ]12 :‬أي اضربوا األعناق فما فوقها‪.‬‬ ‫ض ِربوا فَو َق ْاألَ ْع ِ‬
‫‪ :‬فَا ْ ُ ْ‬
‫الل ذكر لألوالد يف املرياث ثالث أحوال ‪:‬‬ ‫حتصل أ ّن ّ‬
‫وقد ّ‬
‫‪ - 1‬أن يرتك امليت أوالدا ذكورا وإاناث ‪ ،‬فهم يرثون املال ‪ ،‬للذكر ضعف األنثى‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يرتك امليت بنتني فما فوق ‪ ،‬وليس معهما أخ ذكر ‪ ،‬فلهما أو هلن الثلثان‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن يرتك امليت بنتا واحدة ‪ ،‬وليس معها أخ ذكر ‪ ،‬فلها النصف‪.‬‬
‫وقد ذكرت السنّة حالة أخرى ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن يرتك امليت بنتا ‪ ،‬وبنت ابن ‪ ،‬فللبنت النصف ‪،‬‬
‫ولبنت االبن السدس‪.‬‬
‫وقال العلماء ‪ :‬إن أوالد االبن وأوالدهم يقومون مقام األوالد إذا عدموا ‪ ،‬وإ ّن الطبقة العليا‬
‫حتجب الطبقة السفلى ‪ ،‬فإن كان الولد األعلى ذكرا سقط األسفل ‪ ،‬وإن كان الولد األعلى أنثى‬
‫أخذت األنثى حقها ‪ ،‬وبقي الباقي لولد الولد ‪ ،‬إن كان ذكرا ‪ ،‬وإن كان ولد الولد أنثى أعطيت‬
‫العليا النصف ‪ ،‬وأعطيت السفلى السدس ‪ ،‬تكملة الثلثني ‪ ،‬ألان نقدرَها بنتني متفاوتتني يف الرتبة‬
‫‪ ،‬فاشرتكتا يف الثلثني حبكم البنتية ‪ ،‬وتفاوتتا يف القسمة بتفاوت الدرجة ‪ ،‬وهبذه احلكمة جاءت‬
‫السنة‪.‬‬
‫وإن كان الولد األعلى بنتني أخذات الثلثني ‪ ،‬فإن كان الولد األسفل أنثى مل يكن هلا شيء إال أن‬
‫يكون إبزائها أو أسفل منها ذكر ‪ ،‬فإ ّهنا أتخذ معه ما بقي ‪ ،‬للذكر مثل حظ األنثيني‪.‬‬
‫مرياث األبوين‬
‫واح ٍّد ِم ْن ُهما الس ُدس ِممها تَر َك إِ ْن كا َن لَهُ ولَ ٌد فَِإ ْن َمل ي ُكن لَهُ ولَ ٌد ووِرثَهُ أَبواهُ فَِأل ُِمهِ‬‫وِألَب ويهِ لِ ُك ِل ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ َ ْ َ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ ّ‬
‫ِ ِِ‬
‫س‪.‬‬‫ث فَِإ ْن كا َن لَهُ إِ ْخ َوةٌ فَأل ُّمه الس ُد ُ‬
‫الث لُ ُ‬
‫يقول ‪ :‬ولكل واحد من أبوي امليت السدس إن كان له ولد ‪ ،‬ذكرا أو أنثى ‪ ،‬واحدا كان أو‬
‫مجاعة ‪ ،‬فإن مل يكن ولد ذكر وال أنثى ‪ ،‬وورثه أبواه ‪ ،‬فألمه الثلث‪.‬‬
‫األم من الثلث إىل‬
‫فإن كان له إخوة ‪ ،‬فألمه السدس ‪ ،‬فإخوة امليت ينقصون ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 85 ، )7 /8‬كتاب الفرائض ‪ - 8 ،‬ابب مرياث ابنة ابن مع‬
‫ابنة حديث رقم (‪.)6736‬‬

‫ص ‪231 :‬‬
‫الل يف حجبها من الثلث إىل السدس اجلماعة من األخوة علم أ ّن األخ‬
‫السدس ‪ ،‬وإذا شرط ّ‬
‫الواحد ال حيجبها عن الثلث ‪ ،‬فلها معه الثلث‪.‬‬
‫أما األخوان فقد اختلف فيهما العلماء ‪ ،‬أيكوانن كاألخوة فهما حيجبان األم من الثلث إىل‬
‫السدس ‪ ،‬أم يكوانن كاألخ الواحد فال حيجباهنا! ابألول قال مجهور الصحابة والعلماء اجملتهدين‬
‫الل قال ‪ :‬إِ ْخ َوةٌ واجلمع خالف التثنية ‪ ،‬فمن حيجب من‬
‫‪ ،‬وابلثاين قال ابن عباس ‪ ،‬وحجته أ ّن ّ‬
‫اإلخوة اجلمع ال االثنان‪.‬‬
‫الل عنهم فقال ‪ :‬مل صار‬
‫وقد أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي ّ‬
‫الل ‪ :‬فَِإ ْن كا َن لَهُ إِ ْخ َوةٌ واألخوان يف لسان قومك‬
‫األخوان ير ّدان األم إىل السدس ‪ ،‬وإمنا قال ّ‬
‫الل عنه ‪ :‬هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ‪،‬‬
‫وكالم قومك ليسا إبخوة؟ فقال عثمان رضي ّ‬
‫وتوارثه الناس ‪ ،‬ومضى يف األمصار؟‬
‫وحجة اجلمهور أن اإلخوة تفيد معىن اجلمعية املطلقة بغري كمية ‪ ،‬واألخوان مجع واحد إىل واحد‬
‫ت قُلُوبُ ُكما‬
‫صغَ ْ‬
‫الل تعاىل ‪ :‬فَ َق ْد َ‬
‫وضم له ‪ ،‬وقد ورد يف اللغة إطالق اجلمع على االثنني ‪ ،‬قال ّ‬ ‫‪ّ ،‬‬
‫اب (‪[ )21‬ص ‪ ]21 :‬مث قال ‪:‬‬ ‫س هو ُروا ال ِْم ْحر َ‬ ‫اخلَ ْ ِ‬
‫ص ِم إ ْذ تَ َ‬ ‫َاتك نَبَأُ ْ‬
‫[التحرمي ‪ ]4 :‬وقال ‪َ :‬و َه ْل أ َ‬
‫ض [ص ‪ ]22 :‬وهذا سائغ إذا قام الدليل ‪ ،‬والدليل أهنم ملا رأوا‬ ‫ضنا َعلى بَ ْع ٍّ‬ ‫ص ِ‬
‫مان بَغى بَ ْع ُ‬ ‫َخ ْ‬
‫الشارع جعل األختني كالثالث يف املرياث ‪ ،‬والبنتني كالثالث ‪ ،‬جعل األخوين كالثالثة يف احلجب‬
‫‪ ،‬وال فرق يف اإلخوة بني أن يكونوا ذكورا أو إاناث ‪ ،‬أو ذكورا وإاناث ‪ ،‬والذكر من األخوة كاألنثى‬
‫يف هذا الباب‪.‬‬
‫وقد علمنا مما تقدم أن لألم الثلث ‪ ،‬وال حيجبها عنه إىل السدس إال الفرع الوارث ‪ ،‬أو اثنان‬
‫فصاعدا من اإلخوة أو األخوات‪.‬‬
‫وأن لألب السدس مع الفرع الوارث ‪ ،‬فإن كان الفرع الوارث بنتا أخذت النصف ‪ ،‬وورث األب‬
‫ابلفرض والتعصيب‪.‬‬
‫مسألة العمريتني‬
‫نورث األم على حسب ما مضى كان هلا الثلث‬
‫‪ - 1‬ماتت امرأة وتركت زوجا وأبوين‪ .‬لو ذهبنا ّ‬
‫‪ ،‬ومعلوم أ ّن للزوج النصف ‪ ،‬فيكون الباقي ‪ -‬وهو السدس ‪ -‬لألب ‪ ،‬وحينئذ أتخذ األم ‪-‬‬
‫وهي أنثى ‪ -‬ضعف األب ‪ ،‬وهو ذكر‪ .‬وهذا مل يعهد يف الفرائض ‪ ،‬فإنه إذا اجتمع ذكر أو أنثى‬
‫يف طبقة كاالبن والبنت ‪ ،‬واجلد واجلدة واألب واألم ‪ ،‬واألخ واألخت فإما أن أيخذ الذكر‬
‫ضعف ما أتخذ األنثى ‪ ،‬أو يساويها ‪ ،‬وإما أن أتخذ األنثى ضعف الذكر ‪ ،‬فهذا خالف قاعدة‬
‫الفرائض‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)188 /4‬‬

‫ص ‪232 :‬‬
‫وقد وقعت هذه املسألة للصحابة ‪ ،‬فقال فيها عمر وعثمان وابن مسعود وزيد بن اثبت ومجهور‬
‫الصحابة ‪ :‬إن لألم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج ‪ ،‬وهو السدس ‪ ،‬ولألب الثلث‪.‬‬
‫وقد خالف فيها ابن عباس ‪ ،‬فقال ‪ :‬لألم ثلث املال ‪ ،‬وانظر فيها زيد بن اثبت ‪ ،‬وقال ‪ :‬أين يف‬
‫الل إعطاؤها الثلث كله مع الزوجني ‪ ،‬وقد‬
‫الل ثلث ما بقي؟ فقال زيد ‪ :‬وليس يف كتاب ّ‬
‫كتاب ّ‬
‫الل أعطاها الثلث إن مل يكن ولد ‪ ،‬وورثه األبوان فقط ‪،‬‬ ‫أشار زيد إىل جواب املسألة ‪ ،‬وهو أ ّن ّ‬
‫ث فلو كانت تستح ّق الثلث مطلقا ولو مع‬‫ألنه قال ‪ :‬فَِإ ْن َملْ يَ ُك ْن لَهُ َولَ ٌد َوَوِرثَهُ أَبَواهُ فَِأل ُِّمهِ الث لُ ُ‬
‫وارث آخر لكان قوله ‪َ :‬وَوِرثَهُ أَبَواهُ عدمي الفائدة ‪ ،‬فعلم أهنا تستح ّق الثلث إذا مل يكن معهما‬
‫وارث‪.‬‬
‫بقيت حالة وهي أال يكون ولد ومل ينفرد األبوان ابملرياث ‪ ،‬وذلك ال يكون إال مع الزوج والزوجة‬
‫والل مل‬
‫السدس ‪ّ ،‬‬
‫‪ ،‬فإما أن تعطى الثلث كامال ‪ ،‬وهو خالف معهود الفرائض ‪ ،‬وإما أن تعطى ّ‬
‫جيعلها هلا فرضا إال يف موضعني ‪ ،‬مع الولد ‪ ،‬ومع األخوة ‪ ،‬وإذا امتنع هذا وهذا ‪ ،‬كان الباقي‬
‫بعد فرض الزوجني هو املال الذي يستحقه األبوان ‪ ،‬وال يشاركهما فيه مشارك ‪ ،‬فهو مبنزلة املال‬
‫كله إذا مل يكن زوج وال زوجة ‪ ،‬فإذا تقامساه أثالاث كان الواجب أن يتقامسا الباقي بعد فرض‬
‫الزوجني كذلك‪.‬‬
‫‪ - 2‬مات رجل ‪ ،‬وترك زوجة وأبوين ‪ ،‬هذه اثنية العمريتني ‪ ،‬وفيها أيضا أتخذ األم ثلث الباقي‬
‫يف بعد فرض الزوجة ‪ ،‬والكالم فيها مثل الكالم يف سابقتها سواء بسواء‪.‬‬
‫فَِإ ْن كا َن لَهُ إِ ْخوةٌ فَِأل ُِمهِ الس ُد ِ ِ ِ‬
‫صيهةٍّ ي ِ‬
‫وصي ِهبا أ َْو َديْ ٍّن قال الزخمشري «‪: »1‬‬‫س م ْن بَ ْعد َو ُ‬
‫ُ‬ ‫َ ّ‬
‫متعلق مبا تقدم من قسمة املواريث كلها ‪ ،‬ال مبا يليه وحده ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬قسمة هذه األنصبة من‬
‫بعد وصية يوصى هبا‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم أن الدين مق ّدم على الوصية ‪،‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وقد روي عن رسول ّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫صيهةٍّ ي ِ‬
‫وصي ِهبا أ َْو‬‫الل عنه أنكم تقرءون هذه اآلية م ْن بَ ْعد َو ُ‬
‫روى ابن جرير «‪ »2‬عن علي رضي ّ‬
‫الل عليه وسلّم قضى ابلدين قبل الوصية ‪ ،‬فليس ألحد من الورثة ‪ ،‬وال‬ ‫الل صلّى ّ‬‫َديْ ٍّن إ ّن رسول ّ‬
‫املوصى هلم ح ّق يف الرتكة إال بعد قضاء الدين ‪ ،‬ولو استغرق ال ّدين الرتكة فليس ألحد شيء‪.‬‬
‫من ّ‬
‫وهذا ال ّدين الذي ق ّدم على الوصية واملرياث تق ّدم عليه مؤونة جتهيز امليت ‪ ،‬فكما أنه ال سبيل‬
‫للغرماء إىل قوته وكسوته يف حياته ‪ ،‬كذلك ال سبيل هلم إىل مؤونة جتهيزه يف وفاته‪.‬‬
‫وإمنا ق ّدم الدين على الوصية واملرياث ‪ ،‬ألن ذمته مرهتنة به ‪ ،‬وأداء الدين أوىل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)483 /1‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)190 /4‬‬

‫ص ‪233 :‬‬
‫يتقرب به ‪ ،‬والوصية إمنا تق ّدم على املرياث يف بعض املال ‪ ،‬وهو الثلث ‪،‬‬
‫من فعل اخلري الذي ّ‬
‫وإمنا كان كذلك ألنه لو منع من الوصية البتة لفاته ابب من اخلري عظيم‪ .‬ولو سلّط عليه مجيعه‬
‫الل له عند موته أن يوصي ابلثلث فقط‬
‫لرمبا أخرجه كله ابلوصية ‪ ،‬ومل يبق لورثته شي ء ‪ ،‬فجعل ّ‬
‫‪ ،‬ليجمع بني خريه وخري ورثته‪.‬‬
‫الل الوصية على الدين يف الذكر ‪ ،‬مع أنه مق ّدم عليها ‪ ،‬وأوىل منها ‪ ،‬وال وصية ّإال بعد‬
‫وإمنا ق ّدم ّ‬
‫يقوي من شأن الوصية ‪ ،‬فقدمها‬
‫وفاء الدين ‪ ،‬أل ّن الدين معلوم قوته ‪ ،‬ق ّدم أو مل يق ّدم ‪ ،‬فأراد أن ّ‬
‫يف الذكر‪.‬‬
‫على أن أ َْو ال تقتضي الرتتيب ‪ ،‬وأ َْو هاهنا لإلابحة ‪ ،‬كما يف قولك ‪:‬‬
‫جالس احلسن أو ابن سريين‪ .‬واملعىن ‪ :‬من بعد أحدَها ‪ ،‬ومن بعدَها إذا اجتمعا‪.‬‬
‫الل فيهم‬
‫الل تعاىل ‪ :‬هؤالء الذين أوصاكم ّ‬
‫ب لَ ُك ْم نَ ْفعاً يقول ّ‬
‫آاب ُؤُك ْم َوأَبْنا ُؤُك ْم ال تَ ْد ُرو َن أَي ُه ْم أَق َْر ُ‬
‫‪ ،‬وح ّد أنصباءهم ‪ ،‬هم آابؤكم وأبناؤكم ال تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فحد أنصباءهم ومل يكل‬
‫ذلك إليكم ‪ ،‬ألنكم ال تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا‪.‬‬
‫اللِ نصب املصدر املؤكد ‪ ،‬أي فرض ّ‬
‫الل ذلك فريضة‪.‬‬ ‫ضةً ِم َن ه‬‫فَ ِري َ‬
‫قسم من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِ هن ه‬
‫اللَ كا َن َعليماً َحكيماً يعلم مبا يصلح خلقه ‪ ،‬وهو ذو حكمة يف تدبريه ‪ ،‬وفيما ّ‬
‫مرياث بعضكم من بعض ‪ ،‬وفيما يقضي بينكم من األحكام ‪ ،‬فسلموا قسمته يف املواريث ‪،‬‬
‫وسلّموا ما قضى به من إعطاء النساء والضعفاء ‪ -‬وقد كنتم حترموهنم ‪ -‬ألنّه قضاء من ال ختفى‬
‫عليه مواضع املصلحة‪.‬‬
‫مرياث األزواج والزوجات‬
‫اج ُك ْم إِ ْن َملْ يَ ُك ْن َهلُ هن َولَ ٌد فَِإ ْن كا َن َهلُ هن َولَ ٌد فَلَ ُك ُم الربُ ُع‬ ‫ف ما تَ َر َك أَ ْزو ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬ولَ ُك ْم نِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ني ِهبا أ َْو َديْ ٍّن َوَهلُ هن الربُ ُع ِممها تَ َرْكتُ ْم إِ ْن َملْ يَ ُك ْن لَ ُك ْم َولَ ٌد فَِإ ْن كا َن لَ ُك ْم‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫صيهةٍّ ي ِ‬
‫وص َ‬ ‫ممها تَ َرْك َن م ْن بَ ْعد َو ُ‬
‫ِ‬
‫وصو َن ِهبا أ َْو َديْ ٍّن الورثة املذكورون يف قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ ٍّ‬ ‫ِ‬
‫َولَ ٌد فَلَ ُه هن الث ُم ُن ممها تَ َرْكتُ ْم م ْن بَ ْعد َوصيهة تُ ُ‬
‫الل َعلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِ‬
‫يم‪ .‬أقسام ثالثة ‪ ،‬أل ّن الوارث إما أن يكون‬ ‫يم َحل ٌ‬ ‫اللُ ِيف أ َْوالد ُك ْم إىل قوله ‪َ :‬و هُ ٌ‬ ‫وصي ُك ُم ه‬ ‫ُ‬
‫متصال ابمليت بواسطة ‪ ،‬أو بغري واسطة‪ .‬فاألول هو الكاللة ‪ ،‬والثاين إما أن يكون السبب‬
‫النسب أو الزوجية ‪ ،‬فتلك أقسام ثالثة ‪ ،‬وأعلى هذه األقسام وأشرفها ما كان االتصال فيه‬
‫فالل تعاىل قدم حكم هذا القسم‬
‫حاصال ابتداء من جهة النسب ‪ ،‬وذلك هو األوالد والوالدان ‪ّ ،‬‬
‫لذلك ‪ ،‬مث ع ّقبه ابلقسم الثاين ‪ ،‬وهو ما كان االتصال فيه حاصال ابتداء من جهة الزوجية ‪،‬‬
‫وهذا القسم متأخر يف الشرف عن القسم األول ‪ ،‬أل ّن القسم األول أصلي ‪ ،‬والثاين طارئ ‪،‬‬
‫ويلي ذلك القسم‬

‫ص ‪234 :‬‬
‫الثالث وهو الكاللة ‪ ،‬ألن االتصال فيه ليس ابتداء ‪ ،‬بل بواسطة ‪ ،‬وألن القسمني األولني ال‬
‫يعرض هلما السقوط حبال ‪ ،‬خبالف القسم الثالث ‪ ،‬فإنه قد يعرض له السقوط ابلكلية‪.‬‬
‫للزوج النصف من زوجته إن مل يكن هلا ولد ‪ ،‬وجعل له الربع منها إن كان هلا ولد ‪،‬‬
‫الل ّ‬
‫وقد جعل ّ‬
‫سواء أكان ذلك الولد منه أم من غريه ‪ ،‬وسواء يف ذلك الذكر واألنثى ‪ ،‬والواحد واملتعدد ‪،‬‬
‫واملباشر وولد الولد‪.‬‬
‫وجعل مرياث الزوجة من زوجها الربع إن مل يكن للزوج ولد ‪ ،‬وجعل هلا الثمن إن كان له ولد‬
‫على التعميم السابق ‪ ،‬فإن تعددت زوجات امليت اشرتكن يف الربع ‪ ،‬أو يف الثمن‪.‬‬
‫وهذا كله من بعد الوصية وال ّدين كما تقدم‪.‬‬
‫مرياث الكاللة‬
‫ِ ٍّ ِ‬ ‫خ أَو أُ ْخ ٌ ِ‬
‫ت فَل ُك ِّل واحد مْن ُه َما الس ُد ُ‬
‫س‬ ‫ث َكاللَةً أَ ِو ْام َرأَةٌ َولَهُ أَ ٌ ْ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن كا َن َر ُج ٌل يُ َ‬
‫ور ُ‬ ‫قال ّ‬
‫ار و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ٍّ‬ ‫فَِإ ْن كانُوا أَ ْكثَ َر ِم ْن ذلِ َ‬
‫صيهةً‬ ‫ض ٍّّ َ‬ ‫ك فَ ُه ْم ُش َركاءُ ِيف الث لُث م ْن بَ ْعد َوصيهة يُوصى هبا أ َْو َديْ ٍّن غَ ْ َ‬
‫ري ُم َ‬
‫الل عَلِ ِ‬ ‫ِمن هِ‬
‫يم‪.‬‬
‫يم َحل ٌ‬ ‫الل َو هُ ٌ‬ ‫َ‬
‫الل عليهم يف الكاللة‪ .‬فذهب أبو بكر إىل أهنّا من عدا الوالد والولد ‪،‬‬ ‫اختلف الصحابة رضوان ّ‬
‫الل عنه ‪ :‬إين رأيت يف الكاللة رأاي‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن الشعيب ‪ ،‬قال ‪ :‬قال أبو بكر رضي ّ‬
‫والل منه‬
‫الل وحده ال شريك له ‪ ،‬وإن يكن خطأ فمين ومن الشيطان ‪ّ ،‬‬
‫‪ ،‬فإن كان صوااب فمن ّ‬
‫بريء‪ .‬إن الكاللة ما خال الوالد والولد‪.‬‬
‫وذهب عمر إىل أهنا من عدا الولد ‪ ،‬وروي أ ّن عمر رجع عن ذلك بعد أن طعن ‪ ،‬وقال ‪ :‬كنت‬
‫أرى أن الكاللة من ال ولد له ‪ ،‬وأان أستحيي أن أخالف أاب بكر ‪ ،‬الكاللة من عدا الوالد والولد‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم لنا‬
‫وروي عنه أيضا التوقف ‪ ،‬وكان يقول ‪ :‬ثالثة ألن يكون بيّنها الرسول صلّى ّ‬
‫الل عنه‬‫إيل من الدنيا وما فيها ‪ :‬الكاللة ‪ ،‬واخلالفة ‪ ،‬والراب ‪ ،‬ويظهر أ ّن حجة عمر رضى ّ‬ ‫أحب ّ‬
‫اللُ يُ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َكاللَةِ إِ ِن ْام ُرٌؤ َهلَ َ‬
‫ك‬ ‫ك قُ ِل ه‬
‫الل ذكر الكاللة يف آخر السورة فقال ‪ :‬يَ ْستَ ْفتُونَ َ‬
‫أن ّ‬
‫س لَهُ َولَ ٌد تفسري للكاللة ‪ ،‬والراجح قول‬
‫س لَهُ َولَ ٌد [النساء ‪ ]176 :‬والظاهر أن قوله ‪ :‬ل َْي َ‬
‫ل َْي َ‬
‫(كل) تدل على‬
‫ويدل على ذلك اشتقاق الكلمة فإ ّن مادة ّ‬
‫الل تعاىل عنه ‪ّ ،‬‬
‫أيب بكر رضي ّ‬
‫يكل كالال وكاللة إذا أعيا ‪ ،‬وذهبت قوته ‪ ،‬مث استعاروا هذا اللفظ‬
‫كل الرجل ّ‬
‫الضعف ‪ ،‬يقال ‪ّ :‬‬
‫للقرابة ‪ ،‬ال من جهة الوالدة أي القرابة الضعيفة ‪ ،‬وقد علمت أ ّن القرابة ابلوالدة قوية ‪ ،‬فال‬
‫الل حكم بتوريث‬
‫يطلق عليها كاللة ‪ ،‬ويدل على ذلك أ ّن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)192 /4‬‬

‫ص ‪235 :‬‬
‫شك أ ّن اإلخوة واألخوات ال يرثون عند وجود األب ‪،‬‬
‫األخوة واألخوات إذا ورث كاللة ‪ ،‬وال ّ‬
‫فوجب أال يكون الوالد من الكاللة‪.‬‬
‫الكاللة ترد وصفا للميت ‪ ،‬ويراد هبا من ال يرثه والد وال ولد ‪ ،‬وقد ترد وصفا للوارث ‪ ،‬ويراد هبا‬
‫األول قول الشاعر «‪: »1‬‬
‫من عدا الوالد‪ .‬فمن ّ‬
‫ورثتم قناة اجملد ال عن كاللة عن ابين مناف عبد مشس وهاشم ومن الثاين ما يف حديث جابر قال‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي رسول‬
‫‪ :‬مرضت مرضا أشفيت منه على املوت ‪ ،‬فأاتين النيب صلّى ّ‬
‫الل إين رجل ال يرثين إال كاللة ‪ ،‬وأراد به أنه ليس له والد وال ولد «‪.»2‬‬
‫ّ‬
‫والظاهر أهنا يف اآلية وصف للميت ‪ ،‬ألهنّا حال من انئب فاعل يورث ‪ ،‬وهو ضمري امليت ‪ ،‬مث‬
‫إذا كانت مصدرا ق ّدر مضافا ‪ ،‬أي ذا كاللة ‪ ،‬وإن كانت صفة كاهلجاجة والفقاقة لألمحق مل حيتج‬
‫األمر إىل مضاف‪.‬‬
‫واملراد ابألخوة هنا األخوة لألم ‪ ،‬دون األخوة األشقاء ‪ ،‬ودون اإلخوة لألب ‪ ،‬بدليل قراءة سعد‬
‫الل ذكر‬
‫بن أيب وقاص (و له أخ أو أخت من أم) «‪ »3‬ويدل عليه أيضا غري هذه القراءة أن ّ‬
‫مرياث اإلخوة مرتني هاهنا ‪ ،‬ومرة يف آخر هذه السورة ‪ ،‬فجعل هاهنا للواحد السدس ‪ ،‬ولألكثر‬
‫الثلث شركة ‪ ،‬وجعل يف آخر السورة لألخت الواحدة النصف ‪ ،‬ولالثنتني الثلثني ‪ ،‬وللذكر املال‬
‫فتعني أن يكون املراد هنا اإلخوة ألم ‪ ،‬ويرجحه‬
‫‪ ،‬فوجب أن يكون اإلخوة ألب وأم أو ألب ‪ّ ،‬‬
‫أ ّن الفرض هنا الثلث أو السدس ‪ ،‬وهو فرض األم ‪ ،‬فناسب أن يكون فرض اإلخوة الذين‬
‫يدلون هبا ‪ ،‬وهم اإلخوة ألم‪.‬‬
‫وقد تبني أ ّن اإلخوة ألم هلم حالتان ‪:‬‬
‫ألم منفرد ‪ ،‬أو أخت ألم منفردة ‪ ،‬وله أو هلا السدس‪.‬‬
‫‪ - 1‬أخ ّ‬
‫يقسم بينهما‬
‫‪ - 2‬أن يتعدد األخ ألم أو األخت ألم ويف هذه احلالة يكونون شركاء يف الثلث ‪ّ ،‬‬
‫يدل عليه‪.‬‬
‫ابلسوية ‪ ،‬ألنثاهم مثل ذكرهم ‪ ،‬ألن مطلق التشريك ّ‬
‫الل جعل هلما ذلك النصيب إذا كان امليت‬
‫ألم من املرياث الوالد والولد ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫ومينع اإلخوة ّ‬
‫يورث كاللة ‪ ،‬وقد ذكران أهنّا من يرثه غري الوالد والولد‪.‬‬
‫ث َكاللَةً أَ ِو ْام َرأَةٌ مث قال ‪َ :‬ولَهُ أَ ٌ‬
‫خ‬ ‫الل تعاىل قال ‪َ :‬وإِ ْن كا َن َر ُج ٌل يُ َ‬
‫ور ُ‬ ‫وهنا حبث لفظي ‪ ،‬وهو أن ّ‬
‫يكن عن املرأة ‪ ،‬وهذا يف العطف‬ ‫فكىن عن الرجل ‪ ،‬ومل ّ‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الفرزدق ‪ ،‬انظر البحر احمليط أليب حيان األندلسي (‪.)197 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)193 /4‬‬
‫(‪ )3‬رواه القرطيب يف اجلامع ألحكام القرآن (‪].....[ .)78 /5‬‬

‫ص ‪236 :‬‬
‫تكين عنهما معا ‪ ،‬قال الفراء «‪: »1‬‬
‫تكين عن املرأة أو ّ‬
‫أبو جائز ‪ ،‬وجيوز يف مثل هذا الكالم أن ّ‬
‫إذا جاء حرفان يف معىن أبو جاز إسناد التفسري إىل أيهما أريد ‪ ،‬وجيوز إسناده إليهما أيضا ‪،‬‬
‫تقول ‪ :‬من كان له أخ أو أخت فليصله ‪ ،‬يذهب إىل األخ ‪ ،‬أو فليصلها يذهب إىل األخت ولو‬
‫قلت ‪ :‬فليصلهما جاز أيضا‪.‬‬
‫الل َعلِ ِ‬ ‫صيهةً ِمن هِ‬
‫ار و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍّ‬
‫يم‪.‬‬ ‫الل َو هُ ٌ‬
‫يم َحل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ض ٍّّ َ‬ ‫م ْن بَ ْعد َوصيهة يُوصى هبا أ َْو َديْ ٍّن غَ ْ َ‬
‫ري ُم َ‬
‫الل ‪ :‬هذه القسمة لإلخوة لألم من بعد وصية يوصي هبا امليت ‪ ،‬أو دين وهو غري مضار‬ ‫يقول ّ‬
‫الورثة بوصيته أو دينه ‪ ،‬واملضارة ابلوصية أن يوصي أبكثر من الثلث ‪ ،‬أو به فأقل ‪ ،‬قاصدا‬
‫يقر بدين ملن ليس له عليه دين ‪ ،‬وعن قتادة‬
‫املضارة يف الدين أن ّ‬
‫الل ‪ ،‬و ّ‬
‫ضرار الورثة دون وجه ّ‬
‫الل الضرار يف احلياة وعند املمات وهنى عنه‪.‬‬
‫كره ّ‬
‫وتفيد اآلية أن الوصية والدين اللذين قصد هبما الضرار ال جيب تنفيذَها ‪ ،‬ألنه شرط يف‬
‫إخراجهما قبل التوريث عدم املضارة‪.‬‬
‫اللِ مصدر مؤكد ‪ ،‬انصبه يوصيكم ‪ ،‬أي يوصيكم بذلك وصية ‪ ،‬أي يعهد إليكم به‬ ‫صيهةً ِم َن ه‬
‫وِ‬
‫َ‬
‫الل ذو علم مبصاحل عباده ومبضارهم ‪ ،‬ومبن يستحق املرياث ومن‬
‫يم يقول ‪ :‬و ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عهدا َو ه‬
‫يم َحل ٌ‬
‫اللُ َعل ٌ‬
‫يعجل ابلعقوبة على من عصاه فظلم عباده ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يم ال ّ‬
‫ال يستحق ‪ ،‬ومبقدار ما يستحقه املستحق َحل ٌ‬
‫وأعطى املرياث ألهل اجللد والقوة ‪ ،‬وحرم الضعفاء من النساء والصغار ‪ ،‬فهو معاقبهم ‪ ،‬ولكنه‬
‫حيلم عليهم ‪ ،‬فال يعاجلهم ابلعقوبة ‪ ،‬فال يظنوا أهنم سيفلتون فال يعاقبون‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫اللِ َوَم ْن يُ ِط ِع ه‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬تِل َ‬
‫اللَ َوَر ُسولَهُ يُ ْدخلْهُ َجنهات َجتْ ِري م ْن َحتْت َها ْاأل َْهن ُ‬
‫ار‬ ‫ود ه‬‫ْك ُح ُد ُ‬ ‫قال ّ‬
‫يم (‪ )13‬ح ّد كل شيء ما فصل بينه وبني غريه ‪ ،‬ومنه حدود‬ ‫ِ‬ ‫ين فِيها َوذلِ َ‬ ‫ِِ‬
‫ك الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ‬ ‫خالد َ‬
‫الدار ‪ ،‬وحدود األرضني ‪ ،‬لفصلها بني ما حد هبا وبني غريه‪.‬‬
‫فاملعىن ‪ :‬هذه القسمة اليت قسمها لكم ربكم ‪ ،‬واألنصباء اليت جعلها ألحيائكم من أموال‬
‫مواتكم فصول ما بني طاعته ومعصيته ‪ ،‬فالكالم على حذف مضاف ‪ ،‬أي حدود طاعته ‪ ،‬وإمنا‬
‫الل ورسوله ابلتزام ما ح ّد من املواريث يدخله جنات جتري من‬
‫ترك لعلمه من الكالم‪ .‬ومن يطع ّ‬
‫حتت أشجارها وزرعها األهنار ‪ ،‬ابقني فيها ‪ ،‬ال ميوتون وال يفنون ‪ ،‬ودخول اجلنة الباقية هو الفوز‬
‫العظيم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتابه يف معاين القرآن (‪.)257 /1‬‬

‫ص ‪237 :‬‬
‫ِ‬ ‫الل ورسولَه وي ت ع هد ح ُد َ ِ‬
‫ني‬ ‫ودهُ يُ ْدخلْهُ انراً خالداً فِيها َولَهُ َع ٌ‬
‫ذاب ُم ِه ٌ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وَم ْن يَ ْع ِ‬
‫ص هَ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ‬ ‫قال ّ‬
‫الل ورسوله ويتع ّد حدود ما ح ّد من املواريث يدخله انرا ابقيا فيها ‪،‬‬ ‫الل ‪ :‬ومن يعص ّ‬ ‫(‪ )14‬يقول ّ‬
‫عذب به ‪ ،‬وهذا حيمل على الذين تع ّدوا حدوده‬
‫ال ميوت وال يفىن ‪ ،‬وله عذاب مذل ‪ ،‬خمز من ّ‬
‫مكذبني بصالحها‪.‬‬
‫وهنا مسائل ال بد من ذكرها لتعلقها آبايت املواريث ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ي ِ‬
‫اللُ ِيف أ َْوالد ُك ْم إخل ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يعم أوالد املسلمني والكافرين ‪،‬‬ ‫وصي ُك ُم ه‬‫ُ‬ ‫‪ - 1‬قال ّ‬
‫واألحرار واألرقاء ‪ ،‬والقاتلني عمدا وغري القاتلني ‪ ،‬وكذلك يقال فيما بعده ‪ ،‬ولكن السنة‬
‫خصصت البعض من هذا العموم ‪ ،‬فأخرجت الكافر ‪،‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال يرث املسلم الكافر وال‬
‫فقد ورد يف «الصحيح» «‪ »1‬عن النيب صلّى ّ‬
‫الكافر املسلم»‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬ال يتوارث أهل ملتني» «‪»2‬‬
‫وورد أيضا قوله صلّى ّ‬
‫يورثوا مسلما من كافر ‪ ،‬وال كافرا من مسلم‪.‬‬
‫‪ ،‬وقد أخذ اجلمهور بظاهر هذين احلديثني ‪ ،‬فلم ّ‬
‫ولكن املسلم يرث الكافر ‪ ،‬قال الشعيب ‪ :‬قضى‬
‫وذهب بعضهم إىل أ ّن الكافر ال يرث املسلم ّ‬
‫معاوية بذلك ‪ ،‬وكتب به إىل زايد «‪ ، »3‬فأرسل ذلك زايد إىل شريح القاضي وأمره به ‪ ،‬وكان‬
‫شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث ‪ ،‬فلما أمره زايد بذلك كان يقضي به ‪ ،‬ويقول ‪ :‬هكذا‬
‫قضى أمري املؤمنني ‪ ،‬وحجتهم ما‬
‫روي أن معاذا كان ابليمن ‪ ،‬فذكروا له أن يهوداي مات وترك أخا مسلما ‪ ،‬فقال ‪ :‬مسعت النيب‬
‫الل عليه وسلّم يقول ‪:‬‬
‫صلّى ّ‬
‫وورثه» «‪»4‬‬
‫«اإلسالم يزيد وال ينقص ‪ّ ،‬‬
‫خصص احلديثني األولني هبذا احلديث األخري ‪ ،‬مث خصص هبما اآلية‪.‬‬
‫فكأنه ّ‬
‫وأنت تعلم أن‬
‫حديث «اإلسالم يزيد وال ينقص»‬
‫َيصص به ‪ ،‬وكما أن الكافر ال يرث املسلم ال حيجبه‬
‫ليس نصا يف إرث املسلم من الكافر ‪ ،‬فال ّ‬
‫‪ ،‬وقال ابن مسعود ‪ :‬حيجب ‪ ،‬وهذا ليس بظاهر ‪ ،‬أل ّن الشريعة جعلته يف ابب اإلرث كالعدم ‪،‬‬
‫فكذلك يف ابب احلجب ‪ ،‬ألنه أحد حكمي املرياث ‪ ،‬وكما أن الكافر مل يدخل يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 85 ، )14 /8‬كتاب الفرائض ‪ - 26 ،‬ابب ال يرث املسلم‬
‫الكافر حديث رقم (‪ ، )6764‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 23 ، )1233 /3‬كتاب الفرائض‬
‫حديث رقم (‪.)1614 /1‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )370 /4‬كتاب الفرائض ‪ ،‬ابب ال يتوارث حديث‬
‫رقم (‪ ، )2108‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )53 /3‬كتاب الفرائض ابب هل يرث املسلم الكافر‬
‫حديث رقم (‪ ، )2911‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )912 /2‬كتاب الفرائض ابب مرياث أهل‬
‫اإلسالم حديث رقم (‪.)2731‬‬
‫(‪ )3‬أي زايد بن أبيه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )53 /2‬كتاب الفرائض ‪ ،‬ابب هل يرث املسلم الكافر حديث‬
‫رقم (‪ )2912‬وأمحد يف املسند (‪.)236 /5‬‬

‫ص ‪238 :‬‬
‫الل ِيف أَو ِ‬
‫الد ُك ْم كذلك مل يدخل يف قوله ‪ :‬إِ ْن كا َن لَهُ َولَ ٌد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬يُوصي ُك ُم هُ ْ‬
‫احلر والعبد ال يتواراثن ‪ ،‬ألن العبد ال ميلك ‪ ،‬وأن القاتل عمدا ال يرث من‬
‫وقد رأوا أيضا أ ّن ّ‬
‫قتله ‪ ،‬معاملة له بنقيض مقصوده‪.‬‬
‫‪ - 2‬قد يرتك امليت أصحاب فروض ال تستغرق فروضهم املرياث ‪ ،‬ومعهم عاصب ‪ ،‬كأن يرتك‬
‫يبني يف آايت املواريث ملن يكون الباقي ‪ ،‬وقد‬
‫وعما ‪ ،‬فللبنتني الثلثان ‪ ،‬ويبقى الثلث ‪ ،‬ومل ّ‬
‫بنتني ّ‬
‫بيّنت السنة حكم ذلك‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬أحلقوا الفرائض أبهلها‬
‫الل صلّى ّ‬
‫فقد ورد يف «الصحيح» «‪ »1‬أن رسول ّ‬
‫‪ ،‬فما أبقت فألوىل رجل ذكر»‬
‫وألجل ذلك قدم األقرب يف العصبة على األبعد ‪ ،‬كاألخ الشقيق يقدم على األخ ألب ‪ ،‬وابن‬
‫األخ الشقيق يقدم على ابن األخ ألب ‪ ،‬ويقدم األخ لألب على ابن األخ الشقيق‪.‬‬
‫‪ - 3‬قد حيدث أن جيتمع أصحاب فروض ال تستغرق فروضهم املرياث ‪ ،‬وليس معهم عاصب ‪،‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف الباقي بعد أنصباء ذوي الفروض ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬ير ّد على ذوي‬
‫الفروض بقدر حقوقهم‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ال يرد عليهم ‪ ،‬بل هو لبيت مال املسلمني ‪ ،‬وعلى القول األول عامة الصحابة‪.‬‬
‫لكن احملققني من الشافعية قالوا‬
‫وابلثاين قال زيد بن اثبت ‪ ،‬وبه أخذ عروة والزهري والشافعي ‪ّ ،‬‬
‫‪ :‬إذا مل ينتظم بيت املال ير ّد على ذوي الفروض بنسبة فروضهم ‪ ،‬وإال كان لبيت املال‪.‬‬
‫والقائلون ابلرد اختلفوا فيمن ير ّد عليه ‪ ،‬فاألكثرون على أنه ير ّد على مجيع ذوي الفروض إال‬
‫الزوجني ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية والشافعية‪.‬‬
‫الل عنه ‪ :‬يرد على ذوي الفروض‬
‫وأحلق ابن عباس ابلزوجني اجلدة يف املنع ‪ ،‬وقال عثمان رضي ّ‬
‫مجيعا حىت الزوجني‪.‬‬
‫الل تعاىل ق ّدر نصيب أصحاب الفرائض ابلنص الظاهر ‪ ،‬فال جيوز أن يزاد‬ ‫احتج من أىب الر ّد أبن ّ‬
‫اللَ َوَر ُسولَهُ َويَتَ َع هد‬
‫ص ه‬‫الل تعاىل ‪َ :‬وَم ْن يَ ْع ِ‬
‫الل يف املرياث ‪ ،‬وقد قال ّ‬
‫عليه ‪ ،‬ألن الزايدة تع ّد حلدود ّ‬
‫ِ‬ ‫ح ُد َ ِ‬
‫ني (‪.)14‬‬ ‫ودهُ يُ ْدخلْهُ انراً خالداً فِيها َولَهُ َع ٌ‬
‫ذاب ُم ِه ٌ‬ ‫ُ‬
‫وأب ّن الفاضل عن فروضهم مال ال مستحق له فيكون لبيت املال ‪ ،‬كما إذا مل يرتك واراث أصال ‪،‬‬
‫اعتبارا للبعض ابلكل‪.‬‬
‫اللِ [األحزاب ‪:‬‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬
‫تاب ه‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍّ‬ ‫واحتج القائلون ابلرد بقوله تعاىل ‪َ :‬وأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫‪]6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 85 ، )6 /8‬كتاب الفرائض ‪ - 5 ،‬ابب مرياث الولد‬
‫حديث رقم (‪ ، )6732‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 23 ، )1233 /3‬كتاب الفرائض ‪- 1 ،‬‬
‫ابب أحلقوا الفرائض أبهلها حديث رقم (‪.)1615 /2‬‬
‫ص ‪239 :‬‬
‫أي بعضهم أوىل مبرياث بعض بسبب الرحم ‪ ،‬فهذه اآلية دلّت على استحقاقهم مجيع املرياث‬
‫بصلة الرحم ‪ ،‬وآية املواريث أوجبت استحقاق جزء معلوم من املال لكل واحد منهم ‪ ،‬فوجب‬
‫العمل ابآليتني ‪ ،‬أبن جيعل لكل واحد فرضه بتلك اآلية ‪ ،‬مث جيعل ما بقي مستحقا هلم للرحم‬
‫هبذه اآلية ‪ ،‬وهلذا ال يرد على الزوجني بوصف الزوجية ‪ ،‬النعدام الرحم يف حقهما ‪ ،‬إذا مل يكوان‬
‫من ذوي األرحام‪.‬‬
‫الل ‪ ،‬فإذا ذهبنا نعطيهم فروضهم املق ّدرة ضاقت‬
‫‪ - 4‬قد جيتمع ذوو فروض مق ّدرة يف كتاب ّ‬
‫الرتكة عن أنصبائهم ‪ ،‬كزوج ‪ ،‬وأخت شقيقة ‪ ،‬وأم ‪ ،‬فلو أخذت األخت النصف ‪ ،‬والزوج‬
‫واألم الثلث ‪ ،‬استغرق النصفان الرتكة ‪ ،‬ومل يبق فيها ثلث ‪ ،‬ومل حتدث مسألة كهذه يف‬
‫النصف ‪ّ ،‬‬
‫الل عنه‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم ‪ ،‬وإمنا أول ما حدثت يف عهد عمر رضي ّ‬
‫عهده صلّى ّ‬
‫وقد اختلف رأيه ورأي ابن عباس ‪ ،‬فكان رأي عمر العول ‪ ،‬وهو أول من حكم ابلعول يف‬
‫قسم الرتكة على سهامهم ‪ ،‬فأدخل النقص عليهم مجيعا ‪ ،‬تشبيها ابلغرماء‬
‫اإلسالم ‪ ،‬وذلك أنّه ّ‬
‫يتحاصون بقدر ديوهنم ‪ ،‬وذهب ابن عباس إىل أنه يق ّدم ما‬
‫ّ‬ ‫إذا ضاق املال عن ديوهنم ‪ ،‬فإهنم‬
‫الل ‪ ،‬ويؤ ّخر ما أخر ‪ ،‬وهذا األثر الذي سنتلوه عليك يشرح لك املسألة‪.‬‬
‫قدم ّ‬
‫ذكر «شارح السراجية» «‪ »1‬أن أول من حكم ابلعول عمر ‪ ،‬فإنه وقعت يف عهده صورة ضاق‬
‫خمرجها عن فروضها ‪ ،‬فشاور الصحابة فيها ‪ ،‬فأشار العباس ابلعول ‪ ،‬وقال ‪ :‬أعيلوا الفرائض ‪،‬‬
‫فتابعوه على ذلك ‪ ،‬ومل ينكره أحد إال ابنه بعد موته ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬هال أنكرته زمن عمر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫هبته ‪ ،‬وكان مهيبا‪.‬‬
‫وسأله رجل كيف تصنع ابلفريضة العائلة؟ فقال أدخل الضرر على من هو أسوأ حاال ‪ ،‬وهن‬
‫فإهنن ينقلن من فرض مق ّدر إىل فرض غري مق ّدر ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬ما تغنيك‬
‫البنات واألخوات ‪ّ ،‬‬
‫يقسم بني ورثتك على غري رأيك فغضب وقال ‪ :‬هال جتتمعون حىت‬
‫فتواك شيئا ‪ ،‬فإ ّن مرياثك ّ‬
‫الل على الكاذبني ‪ ،‬إ ّن الذي أحصى رمل عاجل عددا مل جيعل يف مال نصفني‬
‫نبتهل ‪ ،‬فنجعل لعنة ّ‬
‫وثلثا‪.‬‬
‫وحنن نرى أن هنا أصلني ميكن أن تقاس هذه املسألة على كل منهما ‪:‬‬
‫األصل األول ‪ :‬إن الرتكة يقدم فيها األهم ك (التجهيز) على املهم ك (الدين) ويقدم الدين على‬
‫الوصية ‪ ،‬فكذلك هذه املسألة ‪ ،‬وإىل هذا ذهب ابن عباس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬علي بن حممد بن علي املعروف ابلشريف اجلرجاين فيلسوف من كبار العلماء ابلعربية ‪ ،‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)7 /5‬‬
‫ص ‪240 :‬‬
‫يتحاصون على قدر ماهلم ‪ ،‬فيمكن أن‬
‫ّ‬ ‫األصل الثاين ‪ :‬الغرماء ‪ ،‬إذا ضاق املال عن ديوهنم فإهنم‬
‫تشبه هذه املسألة هبا ‪ ،‬وإليه ذهب عمر والصحابة ونرى أنه أعدل‪.‬‬
‫استَ ْش ِه ُدوا عَلَيْ ِه هن أ َْربَ َعةً ِمنْ ُك ْم فَِإ ْن َش ِه ُدوا‬ ‫ْفاح َ ِ‬
‫شةَ م ْن نِسائِ ُك ْم فَ ْ‬
‫الالِيت أيْتِني ال ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬و ه َ َ‬ ‫قال ّ‬
‫اللُ َهلُ هن َسبِ ًيال (‪ )15‬الاليت ‪ :‬مجع اليت ‪،‬‬ ‫ت أ َْو َْجي َع َل ه‬ ‫وت َح هىت يَتَ َوفه ُ‬
‫اه هن ال َْم ْو ُ‬ ‫ُُ‬ ‫فَأ َْم ِس ُك ُ‬
‫وه هن ِيف الْب ي ِ‬
‫وهي تستعمل يف مجع من يعقل ‪ ،‬أما إذا أريد مجع ما ال يعقل من املؤنث فإنه يقال اليت ‪ ،‬فتقول‬
‫يسوي بينهما ‪ ،‬فيقول يف اجلمع‬
‫‪ :‬النسوة الاليت خرجن ‪ ،‬واألثواب اليت لبست ‪ ،‬وبعضهم ّ‬
‫املؤنث ملن يعقل ‪ :‬اليت ‪ ،‬واألول هو املختار‪.‬‬
‫والفاحشة ‪ :‬الفعلة القبيحة ‪ ،‬وهي مصدر عند أهل اللغة ‪ ،‬كالعافية ‪ ،‬يقال ‪ :‬فحش الرجل‬
‫يفحش فحشا وفاحشة ‪ ،‬وأفحش إذا جاء ابلقبيح من القول أو الفعل ‪ ،‬واتفقوا على أ ّن املراد‬
‫هبا هنا الزىن ‪ ،‬واإلتيان الفعل واملباشرة ‪ ،‬يقال ‪ :‬أتى الفاحشة وأتى هبا مبعىن‪.‬‬
‫زانهن أربعة من رجالكم ‪ ،‬فإن‬
‫الل ‪ :‬والنساء الاليت يزنني من نسائكم ‪ ،‬فأشهدوا على ّ‬
‫يقول ّ‬
‫الل هلن خمرجا مما أتني‬
‫يتوفاهن ملك املوت ‪ ،‬أو جيعل ّ‬
‫ّ‬ ‫شهدوا بذلك ‪ ،‬فاحبسوهن يف البيوت حىت‬
‫به‪.‬‬
‫الل هلن سبيال ‪ :‬اجللد والرجم‪.‬‬ ‫وقد كان ذلك يف أول األمر ‪ ،‬مث جعل ّ‬
‫شةَ ِم ْن نِسائِ ُك ْم إىل قوله‬ ‫الالِيت أيْتِني ال ِ‬
‫ْفاح َ‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس قوله تعاىل ‪َ :‬و ه َ َ‬
‫اللُ َهلُ هن َسبِ ًيال فكانت املرأة إذا زنت حبست يف البيت حىت متوت مث أنزل ّ‬
‫الل‬ ‫تعاىل أ َْو َْجي َع َل ه‬
‫اح ٍّد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َجلْ َدةٍّ [النور ‪ ]2 :‬فإن كاان‬
‫هاين فَاجلِ ُدوا ُك هل و ِ‬
‫تبارك وتعاىل بعد ذلك ‪ :‬الزهانِيَةُ َوالز ِ ْ‬
‫الل هلما‪.‬‬
‫حمصنني رمجا ‪ ،‬فهذا سبيلهما الذي جعل ّ‬
‫الل عليه وسلّم ‪« :‬خذوا عين‬
‫الل صلّى ّ‬
‫وأخرج «‪ »2‬أيضا عن عبادة بن الصامت قال ‪ :‬قال نيب ّ‬
‫الل هلن سبيال ‪ ،‬الثيب ابلثيب جتلد مائة وترجم ابحلجارة‪ .‬والبكر جلد مائة ونفي سنة»‪.‬‬
‫قد جعل ّ‬
‫وقد ذهبت العلماء إىل أ ّن السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون اجللد ‪ ،‬لصحة اخلرب عن‬
‫الل‬
‫الل عليه وسلّم أنه رجم ومل جيلد ‪ ،‬فاستدلوا مبا صح من فعل النيب صلّى ّ‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫عليه وسلّم «‪ »3‬على قوله ‪ :‬وهو خرب عبادة بن الصامت‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)198 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)198 /4‬‬
‫(‪ )3‬انظر حديث بريدة يف صحيح مسلم (‪ - 29 ، )321 /3‬كتاب احلدود ‪ - 5 ،‬ابب من‬
‫اعرتف على نفسه ابلزىن حديث رقم (‪.)1695 /22‬‬
‫ص ‪241 :‬‬
‫ضوا َع ْن ُهما إِ هن ه‬
‫اللَ كا َن تَ هواابً‬ ‫ياهنا ِم ْن ُك ْم فَآذُ ُ‬
‫وَها فَِإ ْن اتاب َوأ ْ‬
‫َصلَحا فَأَ ْع ِر ُ‬ ‫ذان أيْتِ ِ‬
‫ِ‬
‫الل تعاىل ‪َ :‬واله َ‬
‫قال ّ‬
‫وعريوَها ‪،‬‬ ‫الل ‪ :‬الرجل واملرأة اللذان أيتيان الفاحشة منكم فآذوَها ابلقول ‪ّ ،‬‬ ‫َرِحيماً (‪ )16‬يقول ّ‬
‫الل كان توااب على‬
‫ووخبوَها على ما أتيا من الفاحشة ‪ ،‬وإن اتاب وأصلحا فاتركوا إيذاءَها ‪ ،‬إن ّ‬
‫عباده ‪ ،‬رحيما هبم ‪ ،‬وقد اختلف يف املراد ابللذين أيتيان الفاحشة على أقوال ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أهنما الرجل واملرأة البكران ‪ ،‬وهو قول السدي وابن زيد‪.‬‬
‫‪ - 2‬أهنما الرجالن الزانيان ‪ ،‬وهو قول جماهد‪.‬‬
‫‪ - 3‬أهنما الرجل واملرأة ال فرق بني بكر وثيب ‪ ،‬وهو قول عطاء‪.‬‬
‫واملختار أهنما الرجل واملرأة البكران ‪ ،‬أما أنه مل يرد الرجلني فألنه قال ‪:‬‬
‫تعرب يف مثل هذا إما ابملفرد ‪ ،‬وإما ابجلمع ‪ ،‬وال تعرب ابلتثنية إال إذا كان الفعل‬
‫واللذان ‪ ،‬والعرب ّ‬
‫ال يكون إال من اثنني ‪ ،‬كالزىن‪ .‬وأرادت أن تبني حكم الفاعل واملفعول‪.‬‬
‫الل ذكر حكمني ‪ :‬أحدَها ‪ :‬احلبس يف البيوت ‪ ،‬والثاين ‪:‬‬
‫وأما أهنما بكران دون الثيبني فألن ّ‬
‫اإليذاء ‪ ،‬وال شك أن من حكم عليه ابألول خالف من حكم عليه ابلثاين ‪ ،‬والشرع َيفف يف‬
‫البكر ‪ ،‬ويشدد على الثيّب ‪ ،‬ولذلك ملا نسخ هذا احلكم ‪ ،‬جعل للثيب الرجم ‪ ،‬وللبكر اجللد ‪،‬‬
‫فجعلنا احلكم الشديد وهو احلبس على الثيب ‪ ،‬واحلكم األخف وهو اإليذاء على البكر‪.‬‬
‫وقد نسخ حكم هذه اآلية آبية النور ‪ ،‬فجعل حكم الزانيني البكرين جلد مائة‪.‬‬
‫ياهنا ِم ْن ُك ْم‬
‫ذان أيْتِ ِ‬
‫ِ‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن احلسن البصري وعكرمة قاال ‪ :‬يف قوله تعاىل ‪َ :‬واله َ‬
‫واح ٍّد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َجلْ َدةٍّ‪.‬‬
‫هاين فَاجلِ ُدوا ُك هل ِ‬
‫وَها اآلية نسخ ذلك آبية اجللد فقال ‪ :‬الزهانِيَةُ َوالز ِ ْ‬ ‫فَآذُ ُ‬
‫الل بعد هذا ‪ :‬الزهانِيَةُ‬ ‫وَها فأنزل ّ‬ ‫ياهنا ِمنْ ُك ْم فَآذُ ُ‬
‫ذان أيْتِ ِ‬
‫ِ‬
‫وأخرج أيضا «‪ »2‬عن ابن عباس قوله ‪َ :‬واله َ‬
‫الل‬
‫الل صلّى ّ‬ ‫اح ٍّد ِمْن ُهما ِمائَةَ َجلْ َدةٍّ فإن كاان حمصنني رمجا يف سنّة رسول ّ‬
‫هاين فَاجلِ ُدوا ُكله و ِ‬
‫َوالز ِ ْ‬
‫عليه وسلّم‪.‬‬
‫الل ذكر يف آييت النساء حكم الزانيات الثيّبات ‪ ،‬وحكم الزاين‬
‫وقد علمت من القول املختار أ ّن ّ‬
‫والزانية البكرين ‪ ،‬ومل يذكر حكم الزاين الثيب ‪ ،‬ولعلّه تركه لعلمه ابلقياس على املرأة الثيب ‪ ،‬هذا‬
‫تفسري السلف يف اآليتني‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)202 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)202 /4‬‬

‫ص ‪242 :‬‬
‫وأليب مسلم األصفهاين تفسري آخر بناه على مذهبه من عدم نسخ شيء من القرآن ‪ ،‬وهو أ ّن‬
‫فبني يف‬
‫املراد ابلاليت أيتني الفاحشة السحاقات ‪ ،‬وابللذين أيتياهنا اللوطيان ‪ ،‬أما حكم الزىن ّ‬
‫سورة النور ‪ ،‬ويرى أ ّن هذا أوىل لوجوه ‪:‬‬
‫كل آية على حكمها ‪ ،‬فال ينسخ منها شيء‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬أنه يبقي ّ‬
‫واثنيا ‪ :‬أ ّن اآلية األوىل خاصة ابلنساء ‪ ،‬والثانية خاصة ابلذكور ‪ ،‬فيعلم أنه أراد فاحشة تكون‬
‫من النساء يف األوىل وهي السحاق ‪ ،‬وفاحشة تكون من الذكور يف الثانية وهي اللواط ‪ ،‬ولو أراد‬
‫الزىن لذكر حكم الزاين والزانية يف آية واحدة ‪ ،‬كما يف سورة النور‪.‬‬
‫واثلثا ‪ :‬أنه على هذا التفسري ال يكون يف اآليتني تكرار ‪ ،‬أما على القول اآلخر فتكون اآليتان يف‬
‫الزىن فيفضي إىل تكرار الشيء يف املوضع الواحد مرتني ‪ ،‬وقد علمت مما تلوانه عليك من تفسري‬
‫السلف أنه ال قائل هبذا القول من السلف ‪ ،‬وأنه ال تكرار ‪ ،‬إذا احلكم األول يف الثيب ‪ ،‬واحلكم‬
‫الثاين يف البكر‪.‬‬
‫وقد زعم الرازي أ ّن جماهدا من السلف قد قال هبذا القول ‪ ،‬ولعله قد ظن أن جماهدا يريد من‬
‫الرواية اليت تقدمت يف الرجلني اللواط ‪ ،‬وقد نظران فوجدان أنه يريد الزانيني ‪ ،‬بدليل أنه رأى أن‬
‫آية النور نسختها‪.‬‬
‫ك‬‫يب فَأُولئِ َ‬‫ين يَ ْع َملُو َن السوءَ ِجبَهالَةٍّ مثُه يَتُوبُو َن ِم ْن قَ ِر ٍّ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬إِهمنَا التهوبةُ َعلَى هِ ِ ِ‬
‫الل للهذ َ‬ ‫َْ‬ ‫قال ّ‬
‫الل يف اآلية السابقة أ ّن توبة اللذين أتيا‬ ‫اللُ َعلِيماً َحكِيماً (‪ )17‬ملا ذكر ّ‬ ‫اللُ َعلَْي ِه ْم َوكا َن ه‬
‫وب ه‬‫يَتُ ُ‬
‫هوبَةُ ‪ ...‬إخل‪.‬‬ ‫يبني بعد شروط التوبة ووقتها فقال ‪ :‬إِ همنَا الت ْ‬ ‫الفاحشة تفيدَها ‪ ،‬انسب أن ّ‬
‫ين يَ ْع َملُو َن السوءَ ِجبَهالَةٍّ مثُه يَتُوبُو َن ِم ْن‬ ‫ِِ‬
‫الل ألحد من خلقه إال للهذ َ‬ ‫يعين ليس قبول التوبة على ّ‬
‫يب ‪ ،‬وظاهر اآلية أ ّن من عمل السوء عاملا به ال تقبل توبته ‪ ،‬وهذا خمالف ملا علم من الشريعة‬ ‫قَ ِر ٍّ‬
‫اللِ [الزمر ‪:‬‬ ‫َس َرفُوا َعلى أَنْ ُف ِس ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِم ْن َر ْمحَةِ ه‬‫ين أ ْ‬
‫باد ِ‬
‫ي الهذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫‪ ،‬ومن مثل قوله ‪ :‬قُ ْل اي ع َ‬
‫‪.]53‬‬
‫وإن من عمل السوء عن جهل مؤاخذ ‪ ،‬ويف حاجة إىل التوبة ‪ ،‬مع أنّه مل يذنب وملكان هذا ذهب‬
‫الل مسّي جاهال ‪ ،‬ومسّي فعله‬ ‫كل من عصى ّ‬ ‫العلماء إىل أتويل اجلهالة مذاهب شىت ‪ ،‬أقرهبا أ ّن ّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ب إِل َْي ِه هن َوأَ ُك ْن م َن اجلْاهل َ‬
‫ني‬ ‫ف َع ِّين َك ْي َد ُه هن أ ْ‬
‫َص ُ‬ ‫الل حكاية عن يوسف ‪َ :‬وإِهال تَ ْ‬
‫ص ِر ْ‬ ‫جهالة ‪ ،‬قال ّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫[يوسف ‪ ]33 :‬وقال ‪ :‬قالُوا أَتَت ِ‬
‫ني [البقرة ‪]67 :‬‬ ‫قال أَعُوذُ ِاب هلل أَ ْن أَ ُكو َن م َن اجلْاهل َ‬ ‫هخ ُذان ُه ُزواً َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َك بِهِ ِعلْم إِِّين أ ِ‬
‫ني [هود ‪.]46 :‬‬ ‫ك أَ ْن تَ ُكو َن م َن اجلْاهل َ‬ ‫َعظُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫سل َ‬ ‫وقال ‪ :‬فَال تَ ْسئَ لْ ِن ما ل َْي َ‬
‫ووجه تسمية العاصي جاهال ‪ -‬وإن عصى عن علم ‪ -‬أنه لو استعمل ما معه من العلم ابلثواب‬
‫والعقاب ملا عصى ربّه فلما مل يستعمل هذا العلم صار كأنّه ال علم له ‪،‬‬

‫ص ‪243 :‬‬
‫فسمي العاصي جاهال لذلك ‪ ،‬سواء أتى ذلك مع العلم بكوهنا معصية ‪ ،‬أم مع اجلهل بذلك ‪،‬‬
‫وإىل ذلك ذهب كثري من السلف‪.‬‬
‫ين يَ ْع َملُو َن السوءَ ِجبَهالَةٍّ قال ‪ :‬اجتمع أصحاب‬ ‫ِِ‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن قتادة قوله ‪ :‬للهذ َ‬
‫الل عليه وسلّم فرأوا أ ّن كل شيء عصي به فهو جهالة ‪ ،‬عمدا كان أو غريه‪.‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫الل فذاك منه جبهل حىت يرجع عنه‪.‬‬
‫وأخرج «‪ »2‬أيضا عن جماهد قال ‪ :‬كل من عمل مبعصية ّ‬
‫وذهب الفخر الرازي إىل أ ّن اجلهالة على معناها ‪ ،‬وأ ّن اآلية عرضت ملن جيب قبول توبته وجوب‬
‫تفضل ‪ ،‬وذلك ليس إال ملن عمل السوء عن جهالة ‪ ،‬أما من فعل السوء عن علم فليس جيب‬
‫الل ‪ ،‬والتزم أن بعض من يعملون السوء عن جهل مذنبون كاليهودي الذي ال‬
‫قبول توبته على ّ‬
‫يعلم بطالن مذهبه‪.‬‬
‫وإمنا أوخذ ألنه متمكن من أن يعلم ‪ ،‬وهذا فرق بينه وبني الناسي ‪ ،‬قوله ‪ :‬مثُه يَتُوبُو َن ِم ْن قَ ِر ٍّ‬
‫يب‬
‫ئات َح هىت إِذا‬‫سيِّ ِ‬ ‫ت الت ِ ِ‬ ‫معىن القرب فيه يعلم من مقابله ‪ ،‬وهو قوله ‪ :‬ول َْيس ِ‬
‫هوبَةُ للهذ َ‬
‫ين يَ ْع َملُو َن ال ه‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ت ْاآل َن‪ .‬فكل ما كان قبل حضور املوت فهو قريب ‪ ،‬وحضور‬ ‫قال إِِّين تُ ْب ُ‬
‫ت َ‬ ‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ض َر أ َ‬
‫َح َ‬
‫املوت هو وصوهلم إىل حالة يغلبون فيها على عقوهلم ‪ ،‬ويشتغلون بكرب احلشرجة‪.‬‬
‫وم ْن فيه للتبعيض ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬مث يتوبون بعد وقت قريب ‪ ،‬ومسّى ما بني وجود املعصية وبني‬ ‫ِ‬
‫حضور املوت زمنا قريبا ففي أي جزء من هذا أوقع توبته فهو اتئب من قريب ‪ ،‬وإال فهو اتئب‬
‫من بعيد‪.‬‬
‫يبني أن ما أوجبه على‬ ‫اللِ أن ّ‬ ‫هوبَةُ عَلَى ه‬ ‫اللُ عَلَيْ ِه ْم وفائدة هذه بعد قوله ‪ :‬إِ همنَا الت ْ‬ ‫وب ه‬ ‫ك يَتُ ُ‬‫فَأُولئِ َ‬
‫نفسه سيفي به ‪ ،‬فهذا وعد منه تعاىل بذلك‪.‬‬
‫اللُ َعلِيماً بضعف اإلنسان أمام الشهوة والغضب َحكِيماً يف قبول توبة ذلك الضعيف‪.‬‬ ‫َوكا َن ه‬
‫قال إِِّين‬ ‫ئات َح هىت إِذا َح َ‬‫سيِّ ِ‬ ‫ت الت ِ ِ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬ول َْيس ِ‬
‫ت َ‬ ‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ض َر أ َ‬ ‫ين يَ ْع َملُو َن ال ه‬‫هوبَةُ للهذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫قال ّ‬
‫الل أنه ال توبة‬‫ك أَ ْعتَ ْدان َهلُ ْم عَذاابً أَلِيماً (‪ )18‬أخرب ّ‬ ‫ار أُولئِ َ‬‫ين ميَُوتُو َن َو ُه ْم ُك هف ٌ‬
‫ِ‬
‫ت ْاآل َن َوَال الهذ َ‬‫تُبْ ُ‬
‫ت ْاآل َن ‪ ،‬وهذا املعىن قد‬ ‫قال إِِّين تُ ْب ُ‬
‫ت َ‬ ‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ض َر أ َ‬ ‫للذين يعملون السيئات ‪َ ،‬ح هىت إِذا َح َ‬
‫نطقت به آايت عدة‪.‬‬
‫ْسنا [غافر ‪ ]85 :‬وقال حكاية عن‬ ‫ك يَ ْن َفعُ ُه ْم إِميا ُهنُ ْم لَ هما َرأ َْوا َأب َ‬‫قال تعاىل ‪ :‬فَلَ ْم يَ ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)202 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪].....[ .)203 /4‬‬

‫ص ‪244 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فرعون ملا أدركه الغرق ‪ :‬آمنَ ْ ِ ِ ِ ِ‬
‫ت قَ ْب ُل‬
‫ص ْي َ‬
‫آآل َن َوقَ ْد َع َ‬ ‫ني (‪ْ )90‬‬ ‫يل َوأَ َان م َن ال ُْم ْسل ِم َ‬
‫ت به بَنُوا إ ْسرائ َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫وُكنْ َ ِ‬
‫قال َر ِّ‬
‫ب‬ ‫ت َ‬ ‫ين (‪[ )91‬يونس ‪ ]91 ، 90 :‬وقال ‪َ :‬ح هىت إِذا جاءَ أ َ‬
‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫ت م َن ال ُْم ْفسد َ‬ ‫َ‬
‫ت َك هال إِ ههنا َكلِ َمةٌ ُه َو قائِلُها (‪[ )100‬املؤمنون ‪، 99 :‬‬ ‫ون (‪ )99‬لَعلِّي أَ ْعمل ِ‬
‫صاحلاً فِيما تَ َرْك ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫ارِجع ِ‬
‫ْ ُ‬
‫‪.]100‬‬
‫ِ‬
‫َوَال الهذ َ‬
‫ين ميَُوتُو َن َو ُه ْم ُك هف ٌار عطف على الذين يعملون السيئات ‪ ،‬وهذا حيتمل وجهني ‪:‬‬
‫أحدَها ‪ :‬أن املراد هبم الذين قرب موهتم ‪ ،‬فيكون ّبني هبذا أن اإلميان ال يقبل من الكافر عند‬
‫حضور املوت‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أن يكون املراد أ ّن الكفار إذا ماتوا على الكفر ال تقبل توبتهم‪.‬‬
‫ك أَ ْعتَ ْدان َهلُ ْم َعذاابً أَلِيماً ‪ ،‬أَ ْعتَ ْدان ‪ :‬أعددان وهيأان ‪ ،‬واإلشارة أبولئك إىل الفريقني‪.‬‬ ‫أُولئِ َ‬
‫ضلُ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْهبُوا‬ ‫آمنُوا ال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن تَ ِرثُوا النِّساءَ َك ْرهاً َوال تَ ْع ُ ُ‬
‫وه هن لتَذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الل تعاىل ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫شةٍّ مب يِنَةٍّ و ِ‬ ‫ِ‬
‫وه هن ِابل َْم ْع ُروف فَِإ ْن َك ِر ْهتُ ُم ُ‬
‫وه هن فَ َعسى أَ ْن‬ ‫عاش ُر ُ‬ ‫ني بِفاح َ َُ ّ َ‬ ‫وه هن إِهال أَ ْن َأيْتِ َ‬
‫ض ما آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫بِبَ ْع ِ‬
‫اللُ فِيهِ َخ ْرياً َكثِرياً (‪ )19‬كانت املرأة قبل اإلسالم مهضومة احل ّق ‪ ،‬يعتدى‬ ‫ْر ُهوا َش ْيئاً َوَْجي َع َل ه‬
‫تَك َ‬
‫عليها أبنواع من االعتداء ‪ ،‬فكان ذلك من أنعم الشريعة اإلسالمية على املرأة ‪:‬‬
‫النعمة األوىل ‪ :‬كان الرجل يف اجلاهلية إذا مات وجاء ابنه أو بعض ورثته وألقى ثوبه على امرأته ‪:‬‬
‫أحب ‪،‬‬
‫كان أح ّق هبا من نفسها ‪ ،‬فإن شاء تزوجها ‪ ،‬ومل يدفع هلا مهرا ‪ ،‬وإن شاء زّوجها من ّ‬
‫ملورثهم مبا أصدقها من صداق‬ ‫وأخذ مهرها ‪ ،‬فكانوا يرثوهنا كما يرثون املال ‪ ،‬كأهنّم يظنوهنا ملكا ّ‬
‫آمنُوا ال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن‬ ‫ِ‬
‫ين َ‬ ‫الل هذه اآلية انهيا عن تلك العادة الذميمة فقال ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬ ‫‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫تَ ِرثُوا النِّساءَ َك ْرهاً فبني بذلك أهنا ليست متاعا يورث‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ال َحيل لَ ُك ْم أَ ْن تَ ِرثُوا النّساءَ‬‫ين َ‬‫روى ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس يف قوله ‪ :‬اي أَي َها الهذ َ‬
‫وه هن قال ‪ :‬كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أح ّق‬ ‫ْهبُوا بِبَ ْع ِ‬ ‫ضلُ ِ‬
‫ض ما آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫وه هن لتَذ َ‬
‫َك ْرهاً َوال تَ ْع ُ ُ‬
‫يزوجوها ‪ ،‬وهم أح ّق هبا‬ ‫زوجوها ‪ ،‬وإن شاؤوا مل ّ‬ ‫تزوجها ‪ ،‬وإن شاؤوا ّ‬ ‫ابمرأته ‪ ،‬إن شاء بعضهم ّ‬
‫من أهلها ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪.‬‬
‫وأخرج «‪ »2‬أيضا عن السدي قال ‪ :‬أما قوله ‪ :‬ال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن تَ ِرثُوا النِّساءَ َك ْرهاً فإن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)207 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)208 /4‬‬

‫ص ‪245 :‬‬
‫الرجل يف اجلاهلية كان ميوت أبوه أو أخوه أو ابنه ‪ ،‬فإذا مات وترك امرأته ‪ ،‬فإن سبق وارث‬
‫امليت فألقى عليها ثوبه ‪ ،‬فهو أح ّق هبا أن ينكحها مبهر صاحبه ‪ ،‬أو ينكحها فيأخذ مهرها ‪ ،‬وإن‬
‫سبقته فذهبت إىل أهلها فهم أح ّق بنفسها‪.‬‬
‫وعلى ذلك يكون املعىن ‪ :‬ال حيل لكم أن ترثوا آابءكم وأقاربكم نكاح نسائهم وهن لذلك‬
‫كارهات‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »1‬عن الزهري يف قوله ‪ :‬ال َِحيل لَ ُك ْم أَ ْن تَ ِرثُوا النِّساءَ َك ْرهاً قال ‪ :‬نزلت يف‬
‫انس من األنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس المرأته وليّه ‪ ،‬فيمسكها حىت متوت‬
‫فريثها ‪ ،‬فنزلت فيهم‪.‬‬
‫على هذا يكون املعىن ‪ :‬ال حيل لكم إذا مات أولياؤكم أن متسكوا نساءهم حىت مينت فرتثوهن‪.‬‬
‫والظاهر األول ‪ ،‬ألن مآل الثاين بيان أهنم ليسوا من ورثتها ‪ ،‬وذلك معلوم من آايت املرياث ‪،‬‬
‫فإهنا بيّنت من ترث ‪ ،‬خبالف محله على املعىن األول ‪ ،‬فإنه يؤدي معىن جديدا‪.‬‬
‫وقرئ كرها وكرها ابلفتح والضم ومعناَها واحد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الكره ابلضم املشقة وابلفتح اإلكراه‪.‬‬
‫النعمة الثانية من نعم الشريعة اإلسالمية على النساء ‪ :‬كانوا إذا تزوج أحدهم امرأة وكرهها‬
‫حبسها وعضلها ‪ ،‬حىت تفتدي منه ‪ ،‬فنهوا عن ذلك إال أن أتيت بفاحشة مبينة ‪ ،‬فيجوز حبسها ‪،‬‬
‫والفاحشة قيل ‪ :‬هي الزىن ‪ ،‬وقيل النشوز ‪ ،‬واألوىل أن تعم كل ذلك‪.‬‬
‫ْهبُوا بِبَ ْع ِ‬
‫ض‬ ‫ِ‬
‫وه هن يقول ‪ :‬ال تقهروهن لتَذ َ‬
‫ضلُ ُ‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »2‬عن ابن عباس قوله ‪َ :‬وال تَ ْع ُ‬
‫وه هن يعين ‪ :‬الرجل تكون له املرأة وهو كاره لصحبتها ‪ ،‬وهلا عليه مهر ‪ ،‬فيضرهبا‬
‫ما آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫لتفتدي‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إ ّن الذين هنوا عن العضل هم أولياء امليت الذين يرثون وقال آخرون ‪ :‬إهنم أولياء‬
‫والل يقول ‪ :‬لتذهبوا ببعض ما‬
‫املرأة ‪ ،‬وهذا ليس بظاهر ‪ ،‬أل ّن أولياءها مل يؤتوها شيئا ‪ّ ،‬‬
‫آتيتموهن‪.‬‬
‫وه هن حيتمل أن يكون جمزوما على النهي ‪ ،‬وحيتمل أن يكون معطوفا على تَ ِرثُوا‪.‬‬
‫ضلُ ُ‬
‫وقوله ‪َ :‬وال تَ ْع ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)209 /4‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)210 /2‬‬

‫ص ‪246 :‬‬
‫والعضل ‪ :‬احلبس والتضييق ‪ ،‬وقرئ مبيّنة ابلكسر والفتح فأما الكسر فقد أسند البيان إليها على‬
‫اجملاز‪ .‬وأما الفتح فعلى معىن أنه بينها غريها‪.‬‬
‫الل‬
‫ويضاروهن ‪ ،‬فقال ّ‬
‫ّ‬ ‫هلن القول ‪،‬‬
‫النعمة الثالثة ‪ :‬كان الرجال يسيئون عشرة النساء ‪ ،‬فيغلظون ّ‬
‫عاشروه هن ِابلْمعر ِ‬
‫وف قال الزجاج ‪ :‬هو النّصفة ابمليت والنفقة ‪ ،‬واإلمجال يف القول‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪َ :‬و ُ ُ َ ْ ُ‬
‫ولو عمل املسلمون هبذا األمر لسعدت األسر ومشلتها السعادة ‪ ،‬أل ّن أسباب شقاء األسر ترجع‬
‫إىل سوء العشرة ‪ ،‬وافتئات الرجل على املرأة يف حقوقها ‪ ،‬كأن َيادن عليها ‪ ،‬أو يهجرها إىل‬
‫اخلاانت والرفقة ‪ ،‬ويغلظ هلا يف القول ‪ ،‬فيفسد ما بينهما ‪ ،‬وتسوء أخالق أوالدَها من طول‬
‫النزاع وسوء األسوة‪.‬‬
‫الل عليه وسلّم قال ‪« :‬اي أيها الناس إ ّن النساء عندكم عوان ‪،‬‬
‫الل صلّى ّ‬
‫عن ابن عمر أ ّن رسول ّ‬
‫الل ‪ ،‬ولكم عليهن ح ّق ‪ ،‬وهلن عليكم ح ّق ‪،‬‬
‫الل ‪ ،‬واستحللتم فروجهن بكلمة ّ‬
‫أخذمتوهن أبمانة ّ‬
‫فلهن‬
‫ومن ح ّقكم عليهن أال يوطئن فرشكم أحدا ‪ ،‬وال يعصينكم يف معروف ‪ ،‬وإذا فعلن ذلك ّ‬
‫رزقهن وكسوهتن ابملعروف» «‪.»1‬‬ ‫ّ‬
‫اللُ فِيهِ َخ ْرياً َكثِرياً‬
‫ْر ُهوا َش ْيئاً َو َْجي َع َل ه‬ ‫فَِإ ْن َك ِر ْهتُ ُم ُ‬
‫وه هن فال تفارقوهن للكراهة وحدها فَ َعسى أَ ْن تَك َ‬
‫منهن أبوالد صاحلني ‪،‬‬
‫منهن لكم زوجات رضيات ‪ ،‬أو يرزقكم ّ‬
‫كأن يعطفكم عليهن ‪ ،‬فيجعل ّ‬
‫فالضمري فيه يرجع إىل َشيْئاً‪.‬‬
‫داه هن قِ ْنطاراً فَال َأتْ ُخ ُذوا ِم ْنهُ َش ْيئاً‬ ‫استِْب َ‬
‫دال َزْو ٍّج َمكا َن َزْو ٍّج َوآتَ ْي تُ ْم إِ ْح ُ‬ ‫الل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن أ ََر ْد ُمتُ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫ض َوأَ َخ ْذ َن ِم ْن ُك ْم‬
‫ض ُك ْم إِىل بَ ْع ٍّ‬
‫ف َأتْ ُخ ُذونَهُ َوقَ ْد أَفْضى بَ ْع ُ‬ ‫أ ََأتْ ُخ ُذونَهُ ُهبْتاانً َوإِ ْمثاً ُمبِيناً (‪َ )20‬وَك ْي َ‬
‫ِميثاقاً غَلِيظاً (‪ )21‬النعمة الرابعة ‪ :‬كان من ظلم الرجال للنساء أن الرجل إذا أراد طالق امرأته‬
‫الل‬
‫توسل إىل ذلك برميها ابلفاحشة ‪ ،‬أو هتديدها بذلك ‪ ،‬فنهى ّ‬ ‫اسرت ّد ما دفعه من مهر ‪ ،‬ورمبا ّ‬
‫ووخبهم على ذلك بعد‬ ‫عن ذلك يف هاتني اآليتني ‪ ،‬وجعله هبتاان وإمثا مبينا ‪ ،‬وأنكر عليهم أخذه ‪ّ ،‬‬
‫أن أفضوا إليهن ‪ ،‬وأخذن منهم ميثاقا غليظا‪.‬‬
‫داه هن قِنْطاراً ومنع أن‬
‫الل قال ‪َ :‬وآتَ ْي تُ ْم إِ ْح ُ‬
‫وقد أخذ من هذه اآلية جواز اإلغالء يف املهور ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫الل عليه وسلّم وأصحابه‬
‫أيخذوا منه شيئا ‪ ،‬والقنطار ‪ :‬املال الكثري الوزن ‪ ،‬وإن كان النيب صلّى ّ‬
‫كانوا يقلّلونه‪.‬‬
‫وقد روي عن عمر أنه قال ‪ -‬وهو على املنرب ‪ -‬أال ال تغالوا يف صدقات النساء ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)212 /4‬‬

‫ص ‪247 :‬‬
‫الل عليه‬
‫الل صلّى ّ‬
‫الل ‪ ،‬لكان أوالكم هبا رسول ّ‬
‫فإهنّا لو كانت مكرمة يف الدنيا أو تقوى عند ّ‬
‫وسلّم ‪ ،‬ما أصدق قط امرأة من نسائه وال من بناته فوق اثنيت عشرة أوقية ‪ ،‬فقامت إليه امرأة‬
‫داه هن قِ ْنطاراً فَال‬
‫الل سبحانه يقول ‪َ :‬وآتَ ْي تُ ْم إِ ْح ُ‬
‫الل وحترمنا أنت ‪ ،‬أليس ّ‬
‫فقالت ‪ :‬اي عمر يعطينا ّ‬
‫َأتْ ُخ ُذوا ِمنْهُ َش ْيئاً؟ فقال عمر ‪ :‬امرأة أصابت وأمري أخطأ «‪.»1‬‬
‫تقرر املهر قال ‪ :‬وذلك أل ّن‬ ‫وقد احتج أبوبكر الرازي «‪ »2‬هبذه اآلية على أ ّن اخللوة الصحيحة ّ‬
‫الل تعاىل منع الزوج أن أيخذ منها شيئا من املهر ‪ ،‬وهذا املنع مطلق ‪ ،‬ترك العمل به قبل اخللوة‬
‫ّ‬
‫‪ ،‬فوجب أن يبقى معموال به بعد اخللوة‪ .‬قال ‪ :‬وال جيوز أن يقال ‪ :‬إنه خمصوص بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫وإِ ْن طَله ْقتم ِ‬
‫ضتُ ْم [البقرة ‪:‬‬
‫ف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَنِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫ضتُ ْم َهلُ هن فَ ِري َ‬ ‫وه هن م ْن قَ ْب ِل أَ ْن متََس ُ‬
‫وه هن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َ‬
‫‪.]237‬‬
‫وذلك أ ّن الصحابة اختلفوا يف تفسري املسيس فقال عمر وعلي املراد من املسيس اخللوة ‪ ،‬وقال‬
‫خمصصا لعموم هذه اآلية‪.‬‬
‫الل ‪ :‬هو اجلماع ‪ ،‬وإذا صار خمتلفا فيه امتنع جعله ّ‬
‫عبد ّ‬
‫يتقرر ابخللوة ‪ ،‬وذهب الشافعية إىل أنّه‬
‫وهذه املسألة خالفية ‪ ،‬فقد ذهب احلنفية إىل أن املهر ّ‬
‫يتقرر ابجلماع ال ابخللوة ‪ ،‬وملالك يف ذلك ثالث رواايت ‪:‬‬
‫ّ‬
‫إحداهن ‪ :‬يتقرر املهر ابخللوة‪.‬‬
‫يتقرر املهر إال ابلوطء‪.‬‬
‫واثنيتهن ‪ :‬ال ّ‬
‫تقرره ابخللوة مطلقا ‪ ،‬وقد علمت حجة‬
‫واثلثتهن ‪ :‬يتقرر ابخللوة يف بيت اإلهداء ‪ ،‬واألصح ‪ّ :‬‬
‫القائلني بتقريره ابخللوة‪.‬‬
‫ف‬
‫وقد رأى القائلون أبنّه ال يتقرر ابخللوة أ ّن هذه اآلية خمتصة مبا بعد اجلماع ‪ ،‬بدليل قوله ‪َ :‬وَك ْي َ‬
‫ض وإفضاء بعضهم إىل بعض هو اجلماع ‪ ،‬ألدلة ستذكر بعد‪.‬‬ ‫ض ُك ْم إِىل بَ ْع ٍّ‬
‫َأتْ ُخ ُذونَهُ َوقَ ْد أَفْضى بَ ْع ُ‬
‫وأفضى ‪ :‬من الفضاء الذي هو السعة ‪ ،‬يقال فضا يفضو فضوا وفضاء ‪ :‬إذا اتسع‪.‬‬
‫قال الليث ‪ :‬أفضى فالن إىل فالن أي وصل إليه ‪ ،‬وأصله أنه صار يف فرجته وفضائه‪.‬‬
‫وقد اختلف يف املراد إبفضاء بعضهم إىل بعض ‪ ،‬فذهب احلنفية وآخرون إىل أنه اخللوة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫وذهب الشافعية إىل أنه كناية عن اجلماع ‪ ،‬وهو قول ابن عباس وجماهد ‪ ،‬وقد استدل الشافعية‬
‫الل ذكر هذا يف معرض التعجب فقال ‪:‬‬
‫ملذهبهم أ ّن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)133 /2‬‬
‫(‪ )2‬يف كتاب أحكام القرآن (‪.)110 /2‬‬

‫ص ‪248 :‬‬
‫ض ُك ْم إِىل بَ ْع ٍّ‬
‫ض والتعجب إمنا يتم إذا كان هذا اإلفضاء سببا قواي‬ ‫ف َأتْ ُخ ُذونَهُ َوقَ ْد أَفْضى بَ ْع ُ‬
‫َوَكيْ َ‬
‫يف حصول األلفة واحملبة ‪ ،‬وهو اجلماع‪ .‬وقد ذكر الفخر الرازي وجوها عدة أخرى وأطال فيها‬
‫«‪.»1‬‬
‫وحنن نرى أن هذه اآلية مل تنزل يف تقرر الصداق وعدمه ‪ ،‬فنزلت فيه آية ‪:‬‬
‫وإِ ْن طَله ْقتم ِ‬
‫ضتُ ْم [البقرة ‪]237 :‬‬
‫ف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَنِ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫ضتُ ْم َهلُ هن فَ ِري َ‬ ‫وه هن م ْن قَبْ ِل أَ ْن متََس ُ‬
‫وه هن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َ‬
‫فجعل التنصيف ابلطالق قبل املسيس ‪ ،‬فينبغي أن يعلم ما املراد ابملسيس أهو اخللوة أم‬
‫الدخول وقد تقدم ذلك يف سورة البقرة‪.‬‬
‫أما قوله تعاىل ‪ :‬أ ََأتْ ُخ ُذونَهُ ُهبْتاانً َوإِ ْمثاً ُمبِيناً فهذا إنكار وتوبيخ لألزواج على ذلك الغصب‪.‬‬
‫والبهتان يف اللغة ‪ :‬الكذب الذي يواجه اإلنسان به صاحبه على جهة املكابرة‪ .‬وأصله من هبت‬
‫حتري ‪ ،‬فالبهتان كذب حيري اإلنسان لعظمه ‪ ،‬وكان مقتضى الظاهر أال يؤتى بوصف‬
‫الرجل إذا ّ‬
‫البهتان هنا لعدم ظهور الكذب فيه ‪ ،‬بل كان يوصف ابلظلم مثال ‪ ،‬ولذلك اختلف العلماء يف‬
‫هذه اللفظة ‪ ،‬وتقرير مناسبتها ‪ ،‬فقال بعضهم ‪:‬‬
‫يتحري من بطالنه هبتان‪.‬‬
‫إنه أطلق على كل ابطل ّ‬
‫الل مل يبح ذلك إال يف حالة إتياهنا ابلفاحشة‬
‫وقيل ‪ :‬إنه إذا طلقها وأخذ منها ما آاتها ‪ -‬مع أن ّ‬
‫‪ -‬أشعر ذلك أهنا قد أتت بفاحشة ‪ ،‬فكان أخذ املال طعنا فيها من وجه ‪ ،‬وظلما هلا من وجه‬
‫آخر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد أنه رمى امرأته بتهمة ليتوصل إىل أخذ املهر ‪ ،‬ووصف اإلمث أبنه مبني ‪ ،‬ألنه‬
‫مبني أمر صاحبه أنه ظامل‪.‬‬
‫ض َوأَ َخ ْذ َن ِم ْن ُك ْم ِميثاقاً غَلِيظاً (‪ )21‬فهو‬
‫ض ُك ْم إِىل بَ ْع ٍّ‬
‫ف َأتْ ُخ ُذونَهُ َوقَ ْد أَفْضى بَ ْع ُ‬‫وأما قوله ‪َ :‬وَك ْي َ‬
‫حوا ما نَ َك َح‬ ‫ِ‬
‫إنكار ‪ ،‬وامليثاق الغليظ الذي أخذته قال جماهد وقتادة وغريَها ‪ :‬هو قوله ‪َ :‬وال تَ ْنك ُ‬
‫ف إِنهه كا َن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شةً َوَم ْقتاً َوساءَ َسبِ ًيال [النساء ‪ ]22 :‬وهذا وإن‬ ‫فاح َ‬ ‫آاب ُؤُك ْم م َن النِّساء إِهال ما قَ ْد َسلَ َ ُ‬
‫الل فإنه ينسب إليهن ‪ ،‬ألهنن السبب‪.‬‬ ‫كان ميثاقا من ّ‬
‫الل عن النيب صلّى‬ ‫وقيل ‪ :‬هو كلمة النكاح ‪ ،‬وهي قوله ‪ :‬نكحت ‪ ،‬وقد ثبت عن جابر بن عبد ّ‬
‫الل ‪ ،‬واستحللتم‬
‫الل يف النساء ‪ ،‬فإنّكم أخذمتوهن أبمانة ّ‬
‫الل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬اتقوا ّ‬
‫ّ‬
‫الل» «‪.»2‬‬
‫فروجهن بكلمة ّ‬
‫ّ‬
‫وقيل ‪ :‬هو الصحبة والعشرة‪.‬‬
‫ووصفه ابلغلظة لقوته وعظمته‪ .‬وقد قالوا ‪ :‬صحبة عشرين يوما قرابة ‪ ،‬فكيف مبا جيري بني‬
‫الزوجني من االحتاد واالمتزاج؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه ‪ :‬مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)15 /10‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح حديث رقم (‪ )1557‬ومسلم يف الصحيح (‪ ، )889 /2‬كتاب‬
‫احلج حديث رقم (‪.)1218‬‬
‫‪http://www.shamela.ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب ‪ :‬تفسري آايت األحكام‬


‫املؤلف ‪ :‬حممد علي السايس‬
‫الناشر‪ :‬املكتبة العصرية للطباعة والنشر اتريخ النشر‪2002/10/01 :‬‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]‬

‫ص ‪249 :‬‬
‫ما حيرم من النساء‬
‫ف إِناه كا َن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شةً َوَم ْقتاً‬
‫فاح َ‬ ‫حوا ما نَ َك َح آاب ُؤُك ْم م َن النهِساء إِاال ما قَ ْد َسلَ َ ُ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال تَ ْنك ُ‬
‫قال ه‬
‫اّلل عن ذلك ‪ ،‬وعفا‬ ‫َوساءَ َسبِ ًيًل (‪ )22‬كانوا يف اجلاهلية خيلفون آابءهم على نسائهم ‪ ،‬فنهاهم ه‬
‫هلم عما قد سلف قبل التحرمي ‪ ،‬فًل يؤاخذهم ‪ ،‬ووصفه أبنه فاحشة ‪ ،‬ألن امرأة األب تشبه األم‬
‫‪ ،‬وأبنه مقت ‪ ،‬واملقت بغض مقرون ابستحقار ‪ ،‬ووصف به العقد ألنهه سبب إىل املقت ‪ ،‬وكانت‬
‫العرب تسمي هذا النكاح املقت ‪ ،‬وتسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا‪.‬‬
‫وقال ‪َ :‬وساءَ َسبِ ًيًل وهو معطوف على اخلرب ‪ ،‬بتقدير مقوال فيه ‪ ،‬ألنه إنشاء‪.‬‬
‫حيرمون ما حيرم إال امرأة األب‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان أهل اجلاهلية ه‬
‫اّلل ‪ :‬وال تَ ْن ِكحوا ما نَ َكح آاب ُؤُكم ِمن النهِ ِ‬
‫ساء إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ف َوأَ ْن‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫واجلمع بني األختني ‪ ،‬فأنزل ه َ‬
‫ف‪.‬‬ ‫ني إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ني ْاألُ ْختَ ْ ِ‬
‫ََتْ َمعُوا بَ َْ‬
‫ف استثناء منقطع ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬لكن ما قد سلف فًل تثريب‬ ‫واالستثناء يف قوله ‪ :‬إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬
‫عليكم فيه ‪ ،‬كقوله ‪ :‬ال تلق فًلان إال ما لقيت ‪ ،‬أو هو استثناء متصل مما يستلزمه النهي ‪،‬‬
‫ويستوجبه مباشرة املنهي عنه ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬وال تنكحوا ما نكح آابؤكم من النساء ‪ ،‬فإنه معاقب‬
‫عليه إال ما قد سلف‪.‬‬
‫ت إِاال ال َْم ْوتَةَ ْاألُوىل [الدخان ‪]56 :‬‬ ‫وقيل ‪ :‬إن إِاال هنا مبعىن (بعد) كقوله ‪ :‬ال يَ ُذوقُو َن فِ َ‬
‫يها ال َْم ْو َ‬
‫أي بعد املوتة األوىل‪.‬‬
‫وكا َن هنا قيل ‪ :‬إهنا زائدة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ليست زائدة ولكنها منسلخة عن خصوص املاضي ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫اّللُ غَ ُفوراً َرِحيماً [النساء ‪.]96 :‬‬
‫َوكا َن ا‬
‫وقد علمت مما تق هدم أن ما هنا عبارة عن النساء ‪ ،‬فقد وقعت على العاقل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إهنا مصدرية‬
‫‪ ،‬واملعىن ‪ :‬وال تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آابؤكم من أنكحة اجلاهلية الفاسدة‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء فيمن زىن هبا األب أحترم على ولده كما حرمت عليه زوجته ‪ ،‬أم ال حترم ‪،‬‬
‫فيكون الوطء احلرام غري انشر للحرمة كالوطء احلًلل ‪ ،‬وكذلك اختلفوا يف الزىن أبم الزوجة أو‬
‫أحيرم الزوجية أم ال حيرمها ‪ ،‬وإىل األول ذهب أبو حنيفة والصاحبان والثوري واألوزاعي‬
‫بنتها ‪ :‬ه‬
‫وقتادة واحلسن ‪ ،‬وإىل الثاين ذهب الشافعي والليث والزهري وربيعة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)212 /4‬‬

‫ص ‪250 :‬‬
‫واختلفت الرواية عن مالك ‪ ،‬ففي «املوطأ» عنه مثل قول الشافعي ‪ ،‬وروى عنه ابن القاسم مثل‬
‫أيب حنيفة ‪ ،‬وقال سحنون «‪ : »1‬أصحاب مالك خيالفون ابن القاسم فيها ويذهبون إىل ما يف‬
‫«املوطأ»‪.‬‬
‫وسبب اخلًلف االشرتاك يف اسم النكاح ‪ ،‬فهو يطلق على الوطء ‪ ،‬وعلى العقد ‪ ،‬فمن قال ‪ :‬إ هن‬
‫حيرم ابلزىن‪.‬‬
‫حرم من وطئت ولو بزىن ‪ ،‬ومن قال ‪ :‬املراد به العقد مل ه‬
‫املراد به يف اآلية الوطء ه‬
‫وحنن سنشرح املسألة بعض الشرح فنقول ‪:‬‬
‫حصلناه عن ثعلب عن الكوفيني‬
‫نقل اجلصاص «‪ »2‬عن أيب عمر غًلم ثعلب قال ‪ :‬الذي ه‬
‫واملربهد عن البصريني أ هن النكاح يف أصل اللغة هو اسم للجمع بني الشيئني ‪ ،‬تقول العرب ‪:‬‬
‫أنكحنا الفرا فسنرى ‪ ،‬هو مثل ضربوه لألمر ‪ ،‬يتشاورون فيه ‪ ،‬وجيتمعون عليه ‪ ،‬مث ينظر عماذا‬
‫يصدرون فيه ‪ ،‬معناه مجعنا بني احلمار وأاتنه ‪ ،‬ومسهى الوطء نكاحا ‪ ،‬ألنهه مجع بني الرجل واملرأة ‪،‬‬
‫وأطلق على العقد نكاح ‪ ،‬ألنهه سبب له‪.‬‬
‫وليس خيتلف أنه قد أطلق يف القرآن ولسان العرب على الوطء مرة ‪ ،‬وعلى العقد أخرى ‪ ،‬فمن‬
‫ح إِاال زانِيَةً أ َْو‬ ‫ِ‬ ‫إطًلقه على الوطء ‪ ،‬قوله ‪َ :‬ح اَّت تَنْكِ َح َزْوجاً غَ ْريَهُ [البقرة ‪ ]230 :‬الز ِ‬
‫ااين ال يَنْك ُ‬
‫ُم ْش ِرَكةً [النور ‪ ]3 :‬إذ لو كان العقد للزم الكذب‪.‬‬
‫ِ‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪:‬‬ ‫كاح [النساء ‪ ]6 :‬وقوله صلهى ه‬ ‫وقوله ‪َ :‬وابْ تَ لُوا الْيَتامى َح اَّت إِذا بَلَغُوا النه َ‬
‫«انكح اليد ملعون»‬
‫وقول األعشى ‪:‬‬
‫ومنكوحة غري ممهورة وأخرى يقال له فادها‬
‫يقصد املسبية املوطوءة بغري مهر وال عقد‪.‬‬
‫وقول اآلخر ‪:‬‬
‫تلهف‬
‫عم وخال ه‬ ‫ومن هأمي قد أنكحتها رماحنا وأخرى على ه‬
‫وه ان‬
‫س ُ‬‫وه ان ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن َتََ ُّ‬ ‫ومن إطًلقه على العقد قوله تعاىل ‪ :‬إِذا نَ َك ْحتُم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات مثُا طَلا ْقتُ ُم ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫حوا ْاألَايمى ِمنْ ُك ْم [النور ‪ ]32 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫[األحزاب ‪ ]49 :‬وقوله ‪َ :‬وأَنْك ُ‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬النكاح من سنهيت» «‪»3‬‬ ‫طاب لَ ُك ْم [النساء ‪ ]3 :‬وقوله صلهى ه‬ ‫ِ‬
‫حوا ما َ‬ ‫فَانْك ُ‬
‫أي العقد ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عبد السًلم بن سعيد بن حبيب التنوخي امللقب بسحنون قاض فقيه ولد يف القريوان ‪،‬‬
‫انظر األعًلم للزركلي (‪.)5 /4‬‬
‫(‪ )2‬يف كتابه أحكام القرآن (‪.)112 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )592 /1‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب ما جاء يف فضل النكاح‬
‫حديث رقم (‪.)1846‬‬

‫ص ‪251 :‬‬
‫«أان من نكاح ولست من سفاح»‬
‫وإمنا اخلًلف فيما هو الراجح ‪ ،‬أهو الوطء أم العقد؟‬
‫أن يكون املراد ابلنكاح يف اآلية الوطء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ألنه فيه حقيقة ‪ ،‬ويف العقد جماز ‪ ،‬واحلمل على‬
‫احلقيقة أوىل ‪ ،‬حَّت يقوم الدليل على احلمل على اجملاز ‪ ،‬وإذا كان املراد به الوطء فًل فرق بني‬
‫الوطء احلًلل والوطء احلرام‪.‬‬
‫ويدل عليه من جهة النظر أ هن الوطء آكد يف إجياب التحرمي من العقد ‪ ،‬أل هان مل جند وطأ‬
‫قالوا ‪ :‬ه‬
‫مباحا إال وهو موجب للتحرمي ‪ ،‬كالوطء مبلك اليمني ‪ ،‬ونكاح الشبهة ‪ ،‬وقد وجدان عقدا‬
‫صحيحا ال يوجب التحرمي ‪ ،‬وهو العقد على األم ال يوجب حترمي البنت ‪ ،‬ولو وطئها حرمت ‪،‬‬
‫فعلمنا أ هن وجود الوطء ‪ ،‬أل هن التحرمي مل خيرجه من أن يكون وطأ صحيحا‪.‬‬
‫وللشافعية أن يقولوا النكاح ‪ ،‬وإن كان جمازا يف العقد ‪ :‬ولكنه اشتهر فيه حَّت صار حقيقة ‪،‬‬
‫كالعقيقة ‪ ،‬كانت امسا لشعر املولود ‪ ،‬مث أطلقت على الشاة اليت تذبح عند حلقه جمازا ‪ ،‬واشتهر‬
‫ذلك ‪ ،‬حَّت صارت حقيقة فيها ‪ ،‬تفهم منها عند اإلطًلق‪.‬‬
‫ت نِسائِ ُك ْم‪.‬‬
‫اّلل جبانب هذه احملرمات مبا يفيد الزوجية كقوله ‪َ :‬و َحًلئِ ُل أَبْنائِ ُك ُم َوأُامها ُ‬
‫عرب ه‬
‫وقد ه‬
‫اّلل جعلها حمرما ابملصاهرة تكرميا هلا ‪ ،‬كما جعلها حمرما من النسب‬
‫ويدل هلم من جهة النظر أ هن ه‬
‫ه‬
‫تكرميا للنسب ‪ ،‬فكيف جيعل هذه احلرم للزىن وهو فاحشة ومقت ‪ ،‬وإمنا جعل زوجة األب حمرما‬
‫‪ ،‬وكذلك زوجة االبن وأم الزوجة وبنتها لشدة االختًلط بني األصهار ‪ ،‬فجعلن حمارم ‪ ،‬لتنقطع‬
‫طماعية املرء منهن ‪ ،‬فيقل الفساد ‪ ،‬أل هن الطمع داعية الفساد ‪ ،‬وبذلك تسهل اخللطة على‬
‫األصهار ‪ ،‬وأيمنون مغبتها ‪ ،‬وهذا املعىن ليس موجودا يف الزىن ‪ ،‬وهذا الذي ذكرانه يفهم من‬
‫كًلم الشافعي يف «األم» فقد قال ‪:‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وال حترم عليه امرأته ‪ ،‬وال على أبيه ‪ ،‬وال‬
‫فإن زىن ابمرأة أبيه وابنه أو أم امرأته فقد عصى ه‬
‫حرم حبرمة احلًلل تعزيزا حلًلله ‪،‬‬
‫وجل إمنا ه‬
‫عز ه‬‫اّلل ه‬
‫على ابنه امرأته ‪ ،‬لو زىن بواحدة منهما ‪ ،‬ألن ه‬
‫وزايدة يف نعمته مبا أابح منه ‪ ،‬أبن أثبت به احلرمة اليت مل تكن قبله ‪ ،‬وأوجب هبا احلقوق ‪،‬‬
‫واحلرام خًلف احلًلل‪.‬‬
‫والظاهر ما ذهب إليه الشافعية والقول الراجح عند املالكية عن عدم التحرمي ابلزىن للعلة اليت‬
‫ذكرت ‪ ،‬ويكون مقيسا على النسب ‪ ،‬فكما أن النسب ال يثبت ابلزىن ‪ ،‬كذلك التحرمي ال يثبت‬
‫ابلزىن‪.‬‬
‫َخ‬
‫ت ْاأل ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ُ :‬ح هِرَم ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم أُامهاتُ ُك ْم َوبَناتُ ُك ْم َوأَ َخواتُ ُك ْم َو َع اماتُ ُك ْم َوخاالتُ ُك ْم َوبَنا ُ‬ ‫قال ه‬
‫ت نِسائِ ُك ْم‬ ‫ض ْعنَ ُك ْم َوأَ َخواتُ ُك ْم ِم َن ال ار َ‬
‫ضاعةِ َوأُامها ُ‬ ‫ت َوأُامهاتُ ُك ُم ا‬
‫الًلِِت أ َْر َ‬ ‫ت ْاألُ ْخ ِ‬‫َوبَنا ُ‬

‫ص ‪252 :‬‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫الًلِِت َد َخلْتُ ْم هب ان فَِإ ْن َملْ تَ ُكونُوا َد َخلْتُ ْم هب ان فًَل ُج َ‬
‫ناح‬ ‫جوِرُك ْم ِم ْن نِسائِ ُك ُم ا‬
‫الًلِِت ِيف ُح ُ‬‫َوَرابئِبُ ُك ُم ا‬
‫عَلَي ُكم وحًلئِل أَبنائِ ُكم الا ِذ ِ‬
‫ف إِ ان ا‬
‫اّللَ كا َن‬ ‫ني إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬ ‫َصًلبِ ُك ْم َوأَ ْن ََتْ َمعُوا بَ َْ‬
‫ني ْاألُ ْختَ ْ ِ‬ ‫ين م ْن أ ْ‬
‫ْ ْ ََ ُ ْ ُ َ‬
‫غَ ُفوراً َرِحيماً (‪)23‬‬
‫حرم نكاحهن ‪ ،‬وحذف لداللة الكًلم عليه ‪ ،‬كما يفهم من حترمي‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم أُامهاتُ ُك ْم أي ه‬ ‫ُح هِرَم ْ‬
‫اخلمر حترمي شرهبا ‪ ،‬ومن حترمي امليتة حترمي أكلها ‪ ،‬وأل هن قوله ‪:‬‬
‫ساء يدل عليه‪.‬‬ ‫وال تَنْكِحوا ما نَ َكح آاب ُؤُكم ِمن النهِ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس قال ‪ :‬حيرم من النسب سبع ‪ ،‬ومن الصهر سبع ‪ ،‬مث قرأ ‪:‬‬
‫ساء إِاال ما َملَ َك ْ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم‪.‬‬ ‫ت ِمن النهِ ِ‬ ‫ُح هِرَم ْ‬
‫صنا ُ َ‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم أُامهاتُ ُك ْم إىل قوله ‪َ :‬وال ُْم ْح َ‬
‫وأخرج «‪ »2‬أيضا عنه قال ‪ :‬حرم من النسب سبع ‪ ،‬ومن الصهر سبع ‪ ،‬مث قرأ ‪:‬‬
‫ف قال ‪ :‬والسابعة ‪َ :‬وال‬ ‫ني إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ني ْاألُ ْختَ ْ ِ‬ ‫ُح هِرَم ْ‬
‫ت عَلَيْ ُك ْم أُامهاتُ ُك ْم حَّت بلغ َوأَ ْن ََتْ َمعُوا بَ َْ‬
‫تَ ْنكِحوا ما نَ َكح آاب ُؤُكم ِمن النهِ ِ‬
‫ساء‪.‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حرمن من النسب‬ ‫السبع الًلِت ه‬
‫‪ - 1‬األم ‪ :‬وهي كل امرأة هلا عليك والدة ‪ ،‬ويرتفع نسبك إليها ابلبنوه ‪ ،‬سواء أكانت منك‬
‫على عمود األب أو على عمود األم ‪ ،‬فتحرم عليك أمك وجداتك وإن علون من جهة األب ‪،‬‬
‫أو من جهة األم‪.‬‬
‫‪ - 2‬البنت ‪ :‬وهي كل امرأة لك عليها والدة سواء أكانت بنتا مباشرة أو بواسطة ‪ ،‬فتشمل‬
‫البنات ‪ ،‬وبنات األوالد وإن سفلن‪.‬‬
‫‪ - 3‬األخت ‪ :‬وهي كل امرأة شاركتك يف أصليك أبيك وأمك ‪ ،‬أو يف أحدمها ‪ ،‬وال حترم أخت‬
‫أختك إذا مل تكن أختا لك ‪ ،‬كأن تكون لك أخت من أبيك هلا أخت ألمها من رجل آخر‪.‬‬
‫‪ - 4‬العمة ‪ :‬كل امرأة شاركت أابك ما عًل يف أصليه أو يف أحدمها‪.‬‬
‫‪ - 5‬اخلالة ‪ :‬كل امرأة شاركت أمك مهما علت يف أصليها أو يف أحدمها‪.‬‬
‫‪ - 6‬بنت األخ ‪ :‬كل امرأة ألخيك عليها والدة‪.‬‬
‫‪ - 7‬بنت األخت ‪ :‬كل امرأة ألختك عليها والدة‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬حترمي اجل هدات وبنات األوالد ‪ ،‬هل أخذ من اآلية أم من دليل آخر؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪].....[ .)220 /4‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)220 /4‬‬

‫ص ‪253 :‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن األم إذا كانت حقيقة يف األم املباشرة جمازا يف األم غري املباشرة فتحرمي األم من اآلية ‪،‬‬
‫واجلدات من اإلمجاع‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إ هن إطًلق األم على األم املباشرة واجلدة من ابب املشرتك املعنوي ‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫يكون حترمي اجلدات من اآلية ‪ ،‬وكذا القول فيما ماثله‪.‬‬
‫وقد اختلف يف البنت من الزىن أهي داخلة يف قوله ‪َ :‬وبَناتُ ُك ْم فتكون حراما ‪ ،‬وهلا حرمة البنت‬
‫الشرعية ‪ ،‬أم ليست داخلة ‪ ،‬فًل تكون حراما ‪ ،‬وليس هلا حرمة البنت الشرعية؟‬
‫ابألول قال أبو حنيفة ‪ ،‬وابلثاين قال الشافعي‪.‬‬
‫ولعل أاب حنيفة نظر إىل احلقيقة ‪ ،‬وأهنا خمتلقة من مائه ‪ ،‬وبضعة منه فحرمها عليه‪.‬‬
‫يورثها منه ‪ ،‬ومل يبح اخللوة هبا ‪ ،‬ومل‬
‫أما الشافعي فنظر إىل أن الشارع مل يعطها حكم البنتية ‪ ،‬فلم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬الولد للفراش ‪،‬‬
‫جيعل له عليها والية ‪ ،‬وليس له أن يستلحقها ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫وللعاهر احلجر» «‪.»1‬‬
‫والوجه ما ذهب إليه أبو حنيفة من احلرمة قياسا على ولد الزىن ‪ ،‬فإنهه حترم عليه أمه ‪ ،‬وليس‬
‫بينهما إال أنه متخلق منها ‪ ،‬وبضعة منها ‪ ،‬فكذلك بنت الزىن مع أبيها ‪ ،‬ونفي بعض لوازم البنت‬
‫عنها للعقوبة ال يقتضي نفي البقية ‪ ،‬وجواز نكاحها‪.‬‬
‫السبع احملرمات بغري النسب‬
‫‪ - 1‬األم من الرضاع ‪ :‬وهي كل امرأة أرضعتك ‪ ،‬وكذلك كل امرأة انتسبت إىل تلك املرضعة‬
‫ابألمومة ‪ ،‬إما من جهة النسب ‪ ،‬أو من جهة الرضاع‪.‬‬
‫‪ - 2‬األخت من الرضاع ‪ :‬وهي ثًلث ‪:‬‬
‫أخت ألبيك وأمك ‪ ،‬وهي املرأة اليت رضعت من أمك بلنب أبيك‪.‬‬
‫أخت ألبيك ‪ ،‬وهي املرأة اليت أرضعتها امرأة أبيك رضاعا بلبنه‪.‬‬
‫أخت ألمك ‪ ،‬وهي املرأة اليت أرضعتها أمك بلنب غري لنب أبيك‪.‬‬
‫احملرم ابلرضاع يف القرآن سوى األمهات واألخوات ‪ ،‬واألم أصل ‪ ،‬واألخت فرع ‪،‬‬
‫ومل يذكر من ه‬
‫فنبه بذلك على مجيع األصول والفروع‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )6 /3‬كتاب البيوع ‪ - 3 ،‬ابب تفسري املشبهات‬
‫حديث رقم (‪ ، )2053‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1080 /2‬كتاب الرضاع ‪- 10 ،‬‬
‫ابب الولد للفراش حديث رقم (‪.)1457 /36‬‬

‫ص ‪254 :‬‬
‫وأيضا ملا مسى املرضعة أما ‪ ،‬واملرضعة أختا ‪ ،‬فقد نبه بذلك على أنه أجرى الرضاع جمرى النسب‬
‫‪ ،‬وقد جاءت السنهة مؤكدة بصريح العبارة هلذا املفهوم ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬حيرم من الرضاعة ما حيرم من النسب» «‪.»1‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫فقد ثبت أن ه‬
‫تنوق يف قريش وتدعنا؟‬
‫اّلل مالك ه‬
‫وثبت يف «الصحاح» «‪ »2‬عن علي أنه قال ‪ :‬قلت اي رسول ه‬
‫قال ‪« :‬و عندكم شي ء»؟‬
‫حتل يل إهنها ابنة أخي من‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إهنا ال ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬ابنة محزة فقال رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫والنيب صلهى ه‬ ‫الرضاعة» وذلك أل هن ثويبة أرضعت محزة ه‬
‫حمرم ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وظاهر قوله ‪َ :‬وأُامهاتُ ُك ُم ا‬
‫الًلِِت أ َْر َ‬
‫ض ْعنَ ُك ْم َوأَ َخواتُ ُك ْم م َن ال ارضاعَة يقتضي أ هن مطلق الرضاع ه‬
‫وبذلك قال مالك وأبو حنيفة‪.‬‬
‫حترم إال مخس رضعات ‪ ،‬واستدل مبا‬
‫وذهب الشافعي إىل أنه ال ه‬
‫حترم املصة وال املصتان» «‪»4‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬ال ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫رواه مسلم «‪ »3‬وغريه أن ه‬
‫حترم اإلمًلجة وال اإلمًلجتان» «‪»5‬‬
‫«ال ه‬
‫ومبا رواه مالك وغريه عن عائشة قالت ‪ :‬كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ‪،‬‬
‫وهن مما يقرأ من القرآن‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فنسخن خبمس معلومات ‪ ،‬فتويف رسول ه‬
‫يصح االستدالل به ‪ ،‬التفاق اجلميع أنه ال جيوز نسخ تًلوة شيء من‬
‫وهذا احلديث األخري ال ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وال إسقاط شيء منه ‪ ،‬وهذا احلديث يفيد أنه‬
‫القرآن بعد وفاة الرسول صلهى ه‬
‫سقط شيء من القرآن بعد وفاته‪.‬‬
‫حيرم مبا زاد على الرضعتني ‪ ،‬ألنه يقول‬
‫وأما احلديث األول ‪ ،‬فكان مقتضى مذهب الشافعي أن ه‬
‫ابملفهوم‪.‬‬
‫وقد رأى احلنفية أنه ال جيوز تصيص آية التحرمي هذه خبرب الواحد ‪ ،‬ألهنا حمكمة ‪ ،‬ظاهرة املعىن ‪،‬‬
‫بينة املراد ‪ ،‬مل يثبت خصوصها ابالتفاق ‪ ،‬وما كان هذا وصفه ‪ ،‬فغري جائز تصيصه خبرب الواحد‬
‫وال ابلقياس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 52 ، )201 /3‬الشهادات ‪ - 7 ،‬ابب الشهادة على‬
‫األنساب حديث رقم (‪.)2645‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1071 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 3 ،‬ابب حترمي ابنة األخ‬
‫من الرضاعة حديث رقم (‪.)1446 /11‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1073 /2‬كتاب الرضاع ‪ ،‬ابب يف املصة واملصتان‬
‫حديث رقم (‪.)1450 /17‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1074 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 5 ،‬ابب يف املصة‬
‫واملصتان حديث رقم (‪.)1451 /18‬‬
‫(‪ ) 5‬رواه مالك يف املوطأ كتاب الرضاع ‪ ،‬ابب ما جاء يف الرضاعة حديث رقم (‪.)17‬‬

‫ص ‪255 :‬‬
‫وقد أخرج أبو بكر الرازي «‪ »1‬عن طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت ‪ :‬إن‬
‫حترم الرضعة وال الرضعتان ‪ ،‬قال ‪ :‬قد كان ذاك ‪ ،‬أما اليوم فالرضعة الواحدة‬
‫الناس يقولون ‪ :‬ال ه‬
‫حترم‪.‬‬
‫فقد عرف ابن عباس خرب العدد يف الرضاع ‪ ،‬وأنه منسوخ ابلتحرمي ابلرضعة الواحدة‪.‬‬
‫حيرم؟ وصورته ‪ :‬أن يتزوج رجل امرأتني ‪ ،‬فتلدا منه ‪،‬‬
‫أحيرم أم ال ه‬
‫اختلف العلماء يف لنب الفحل ه‬
‫حرم الصبية على‬
‫حيرم ه‬
‫وترضع إحدامها صبية ‪ ،‬واألخرى غًلما ‪ ،‬فمن ذهب إىل أن لنب الفحل ه‬
‫املتصور ‪ ،‬ملا‬
‫ه‬ ‫الغًلم ‪ ،‬ألهنما أخوان من الرضاع ألب ‪ ،‬وهذا هو‬
‫ثبت يف البخاري «‪ »2‬عن عائشة أن أفلح أخا أيب القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فإن‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل ال آذن ألفلح حَّت أسأل رسول ه‬
‫احلجاب ‪ ،‬فقالت عائشة ‪ :‬و ه‬
‫اّلل‬
‫أاب القعيس ليس هو الذي أرضعين ‪ ،‬إمنا أرضعتين املرأة ‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬فلما دخل رسول ه‬
‫علي فأبيت أن‬
‫اّلل! إن أفلح أخا أيب القعيس جاء يستأذن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم قلت ‪ :‬اي رسول ه‬
‫صلهى ه‬
‫آذن له حَّت أستأذنك ‪ ،‬فقال ‪« :‬إنه عمك فليلج عليك»‬
‫وهو مذهب أكثر األئمة‪.‬‬
‫حيرم ولو يف سن الكرب ‪ ،‬إال أن قوله‬
‫ض ْعنَ ُك ْم أ هن الرضاع ه‬ ‫يقتضي قوله تعاىل ‪َ :‬وأُامهاتُ ُك ُم ا‬
‫الًلِِت أ َْر َ‬
‫ني [البقرة ‪ ]233 :‬هبني زمن الرضاعة ‪ ،‬فذهب‬ ‫َني ِ‬
‫كاملَ ْ ِ‬ ‫الد ُه ان َح ْول ْ ِ‬ ‫ت ير ِ‬
‫ض ْع َن أ َْو َ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪َ :‬والْوالدا ُ ُ ْ‬
‫العلماء إىل أ هن من أرضع خارج احلولني ال يكون ابنا من الرضاعة ‪ ،‬وأكد هذا ما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال حيرم من الرضاعة إال ما فتق‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روي عن عائشة قالت ‪ :‬قال رسول ه‬
‫األمعاء من الثدي ‪ ،‬وكان قبل الفطام» رواه الرتمذي والنسائي «‪.»3‬‬
‫حمرم ‪،‬‬
‫وقد رأت عائشة أ هن رضاع الكبري ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫للحديث الصحيح «‪ »4‬عنها قالت ‪ :‬جاءت سهلة بنت سهيل إىل رسول ه‬
‫اّلل إان كنا نرى ساملا ولدا ‪ ،‬وكان أيوي معي ومع أيب حذيفة يف بيت‬
‫وسلهم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬اي رسول ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل فيهم ما علمت ‪ ،‬فكيف ترى اي رسول ه‬
‫واحد ‪ ،‬ويراين فضًل ‪ ،‬وقد أنزل ه‬
‫فيهم؟‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬أرضعيه مخس رضعات حيرم هبا ‪ ،‬فكانت تراه ابنا من الرضاعة‬
‫فقال النيب صلهى ه‬
‫‪ ،‬فبذلك كانت عائشة أتخذ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف كتابه أحكام القرآن (‪.)125 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 67 ، )153 /6‬كتاب النكاح ‪ - 23 ،‬ابب لنب الفحل‬
‫حديث رقم (‪.)5103‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )458 /3‬كتاب الرضاع ‪ ،‬ابب ما ذكر أن الرضاع‬
‫حديث رقم (‪.)1152‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1076 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 7 ،‬ابب رضاعة الكبري‬
‫حديث رقم (‪.)1453 /26‬‬

‫ص ‪256 :‬‬
‫اّلل‬
‫واّلل ما نرى ذلك إال رخصة من رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وقلن ‪ :‬ه‬
‫وأابه سائر أزواج النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم لسهلة‪.‬‬
‫صلهى ه‬
‫وهن أمهات الزوجات‪.‬‬
‫‪ - 3‬أمهات نسائكم ‪ :‬ه‬
‫‪ - 4‬رابئبكم ‪ :‬الًلِت يف حجوركم من نسائكم الًلِت دخلتم هبن ‪:‬‬
‫توىل أمرها ‪ ،‬وهي بنت‬
‫يرهبا ‪ ،‬إذا ه‬
‫رهبا ه‬
‫والرائب مجع ربيبة ‪ ،‬فعيلة مبعىن مفعولة ‪ ،‬من قولك ه‬
‫يتوىل أمرها‪ .‬ومقتضى ظاهر التًلوة أن‬
‫الزوجة من غريك ‪ ،‬ومسيت بذلك أل هن زوج أمها يف الغالب ه‬
‫الربيبة ال حترم على زوج أمها إال بشرطني ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬كوهنا يف حجره‪.‬‬
‫اثنيهما ‪ :‬أن يكون دخل أبمها‪.‬‬
‫أما األول ‪ :‬فلم يشرتطه مجهرة العلماء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إنه خرج خمرج الغالب ‪ ،‬ال أنه قيد يف التحرمي‪.‬‬
‫والربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت يف حجره أو مل تكن يف حجره‪.‬‬
‫وروى مالك بن أوس عن علي أهنا ال حترم حَّت تكون يف حجره ‪،‬‬
‫أخذا بظاهر القرآن‪.‬‬
‫ولكن سائر الصحابة وعامة الفقهاء على القول األول‪.‬‬
‫ه‬
‫وأما الثاين فهو متفق عليه ‪ ،‬إال أهنم اختلفوا يف الدخول فقال الطربي والشافعي ‪:‬‬
‫إنه اجلماع ‪ ،‬وقال مالك وأبو حنيفة ‪ :‬هو التمتع من اللمس والقبلة ‪ ،‬وقال عطاء وعبد امللك‬
‫بن مروان ‪ :‬هو النظر إليها بشهوة‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف الدخول ‪ :‬أهو شرط يف حترمي أمهات النساء ‪ ،‬كما هو شرط يف الربيبة ‪،‬‬
‫أم ليس شرطا فيهن؟‬
‫فروي عن علي ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬وابن الزبري ‪ ،‬وزيد بن اثبت ‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬أنه شرط فيهن ‪ ،‬فًل حترم هأم‬
‫الزوجة ابلعقد ‪ ،‬بل ابلدخول هبا‪.‬‬
‫قال سائر العلماء ‪ :‬إنه ليس شرطا فيهن‪.‬‬
‫الًلِِت َد َخلْتُ ْم هبِِ ان أهو وصف لنسائكم من قوله ‪ِ :‬م ْن‬
‫وسبب اخلًلف اختًلفهم يف قوله ‪ :‬ا‬
‫ت نِسائِ ُك ْم‪.‬‬
‫نِسائِ ُك ُم فقط أم هو وصف هلا ولنسائكم من قوله ‪َ :‬وأُامها ُ‬
‫احتج األولون أبنه لو كان هلما للزم أن يكون وصفا ملعمويل عاملني خمتلفني ‪ ،‬أل هن إحدامها‬ ‫وقد ه‬
‫العامل فيها اإلضافة ‪ ،‬واألخرى العامل فيها حرف اجلر ‪ ،‬وذلك منعه البصريون كالعطف على‬
‫معمويل عاملني خمتلفني ‪ ،‬وهذا االستدالل ال يصح ‪ ،‬أل هن هذا أجازه الكوفيون‪.‬‬

‫ص ‪257 :‬‬
‫واألوىل أن يقال ‪ :‬إنه حيتمل أن يكون ذلك شرطا يف حترمي الربيبة فقط ‪ ،‬وأن يكون شرطا يف‬
‫حتل الفروج ابالحتمال ‪ ،‬فاالحتياط يقضي أن جيعل شرطا يف‬
‫حترمي أمهات النساء أيضا ‪ ،‬وال ه‬
‫الربيبة فقط‪.‬‬
‫‪ - 5‬حًلئل أبنائكم الذين من أصًلبكم ‪:‬‬
‫احلًلئل مجع حليلة ‪ ،‬فعيلة مبعىن مفعلة أي حملة‪.‬‬
‫حوا ما نَ َك َح آاب ُؤُك ْم ِم َن‬ ‫ِ‬
‫اّلل على األب زوجة ابنه ‪ ،‬كما حرم على االبن زوجة أبيه َوال تَ ْنك ُ‬
‫حرم ه‬
‫النهِ ِ‬
‫ساء‪.‬‬
‫اّلل فلم يقيدها ابلدخول ‪ ،‬فيعلم أهنا حترم على األب مبجرد عقد االبن عليها ‪ ،‬وقيد‬ ‫وقد أرسلها ه‬
‫الدعي ‪ ،‬فهذا حتل حليلته ملن تبناه ‪ ،‬وذلك فائدة‬
‫ه‬ ‫اّلل األبناء ابلذين من أصًلبكم ليخرج االبن‬
‫ه‬
‫التقييد‪.‬‬
‫النيب صلهى‬
‫وتزوج ه‬
‫حترم زوجة االبن ابلتبين على من تبنهاه ‪ ،‬فأحلهها اإلسًلم ‪ ،‬ه‬
‫وقد كانت العرب ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي تبناه رسول ه‬
‫ه‬
‫تزوج حممد امرأة ابنه ‪ ،‬فنزل ‪ :‬فَلَ اما قَضى َزيْ ٌد‬ ‫‪ ،‬تزوجها بعد أن طلقها زيد ‪ ،‬فقالت العرب ‪ :‬ه‬
‫واج أَ ْد ِعيائِ ِه ْم [األحزاب ‪]37 :‬‬
‫ج ِيف أَ ْز ِ‬
‫ني َح َر ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫منْها َوطَراً َزاو ْجنا َكها ل َك ْي ال يَ ُكو َن َعلَى ال ُْم ْؤمنِ َ‬
‫اّللِ [األحزاب ‪ ]5 :‬ونزل يف ذلك أيضا ‪:‬‬ ‫ط ِعنْ َد ا‬ ‫ْس ُ‬ ‫وقوله ‪ :‬ا ْدعُ ُ ِ ِ‬
‫وه ْم آلابئ ِه ْم ُه َو أَق َ‬
‫َصًلبِ ُك ْم‪.‬‬ ‫وحًلئِل أَبنائِ ُكم الا ِذ ِ‬
‫ين م ْن أ ْ‬ ‫ََ ُ ْ ُ َ‬
‫فإن قيل ‪ :‬إ هن هذا القيد خيرج االبن من الرضاع كما خيرج االبن ابلتبين‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬إن االبن ابلرضاع حرمت حليلته‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬حيرم من الرضاعة ما حيرم من النسب»‪.‬‬
‫بقوله صلهى ه‬
‫حتل ‪ ،‬فقوله‬
‫وقد رأى الفخر الرازي أ هن اسم احلليلة كما يشمل الزوجة يشمل األمة ‪ ،‬ألهنا أيضا ه‬
‫‪َ :‬و َحًلئِ ُل أَبْنائِ ُك ُم يفيد حرمة أمة االبن أيضا‪.‬‬
‫خص عرفا ابلزوجة ‪ ،‬فًل تكون داخلة يف اآلية ‪ ،‬وال حترم على‬
‫وذهب احلنفية إىل أن اسم احلليلة ه‬
‫األب مبجرد ملك االبن إايها ‪ ،‬بل ابلوطء‪.‬‬
‫‪ - 6‬وأن َتمعوا بني األختني ‪:‬‬
‫اّلل أن جيمع الرجل بني األختني يف النكاح ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬وأَ ْن ََتْ َمعُوا ‪...‬‬
‫حرم ه‬
‫ه‬
‫يف أتويل مصدر معطوف على أُامهاتُ ُك ْم‪.‬‬
‫وق د رأى علي يف بعض الرواايت عنه أنه حيرم اجلمع بينهما مبلك اليمني أو إحدامها بنكاح‬
‫اّلل حرم اجلمع بني األختني ‪ ،‬وهذا يشمل اجلمع بينهما مبلك‬
‫واألخرى مبلك اليمني ‪ ،‬وحجته أن ه‬
‫اليمني‪.‬‬

‫ص ‪258 :‬‬
‫وذهب الفقهاء إىل جواز اجلمع بينهما مبلك اليمني ‪ ،‬أو بزواج من إحدامها وملك األخرى ‪ ،‬وال‬
‫جيوز له إال وطء إحدامها ‪ ،‬فإذا وطئها حرمت عليه األخرى ‪ ،‬وحجتهم أ هن اجلمع املذكور هنا هو‬
‫اجلمع يف النكاح‪.‬‬
‫ذهب مالك والشافعي إىل أنه إذا طلهق األخت طًلقا ابئنا حلهت له أختها ‪ ،‬ولو مل ترج من‬
‫حتل له أختها حَّت ترج األوىل من عدهتا‪.‬‬
‫عدهتا ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة إىل أنه ال ه‬
‫اّلل قد حرم اجلمع ‪ ،‬وال مجع إذا أابن األوىل ‪ ،‬ألهنا إبابنتها انتفت الزوجية ‪،‬‬
‫ودليل األولني أ هن ه‬
‫بدليل أنه ال يصح له وطؤها ‪ ،‬وإذا وطئها ح هد‪.‬‬
‫ودليل أيب حنيفة أن األوىل حمبوسة عليه للعدة ‪ ،‬والثانية حمبوسة عليه أيضا ابلزوجية ‪ ،‬فقد مجع‬
‫بينهما يف احلبس‪.‬‬
‫حرم اجلمع يف الزوجية ‪ ،‬وال زوجية‬
‫اّلل ه‬
‫والظاهر ما ذهب إليه اإلمامان مالك والشافعي ‪ ،‬أل هن ه‬
‫للبائن‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬إِاال ما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ف يقال فيه ما قلناه يف مثلها قريبا‪.‬‬
‫اّللَ كا َن غَ ُفوراً َرِحيماً ولذلك مل يؤاخذهم مبا كان منهم من اجلمع بني األختني فيما سلف يف‬
‫إِ ان ا‬
‫ميهن‪ .‬إما من النسب ‪ ،‬فإنهه ملا اقتضت طبيعة الوجود‬
‫حرمن وأبهد حتر ه‬
‫اجلاهلية ‪ ،‬وحكمة حترمي من ه‬
‫تكوين األسرة ‪ ،‬وكانت األسرة حمتاجة إىل اخللطة واملعاشرة ‪ ،‬فلو أبيح من ذكران من احملارم ‪،‬‬
‫فيهن طمع ‪ ،‬واخللطة تسهل السبيل ‪ ،‬فيكثر الوقوع يف‬
‫حمارمهن ‪ ،‬وكان ه‬
‫ه‬ ‫إليهن نفوس‬
‫لتطلعت ه‬
‫الفاحشة ‪ ،‬والطبائع جبلت على الغرية ‪ ،‬فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته ‪ ،‬ووقوع الفاحشة‬
‫يدعو للمنازعات واملخاصمات والشغب وحدوث القتل ‪ ،‬وحجز بعض احملارم عن بعض فيه‬
‫اّلل حترمي الزواج ابحملرمات من النسب ليسد ابب الطمع ‪ ،‬وإذا س هد‬
‫مشقة وغري متيسر ‪ ،‬فأبهد ه‬
‫ابب الطمع انتفت خواطر السوء ‪ ،‬فًل يقع الفسوق الداعي إىل النزاع واخلصام‪.‬‬
‫حرمت احملرمات من الصهر ‪ ،‬فإ هن املرأة حتتاج هأمها وبنتها أن تزورها يف بيت‬
‫وملثل هذه العلة ه‬
‫إليهن نفس الزوج وكان ما يرتتب على ذلك من املفاسد‪.‬‬
‫الزواج ‪ ،‬لو مل جيعًل حمارم لتطلعت ه‬
‫وأيضا الضرورة داعية إىل أن يتزوج األابعد من األابعد ‪ ،‬ألنهه ليس لكل امرأة قريب ذكر يتزوج‬
‫هبا ‪ ،‬فلو مل تكن هذه احلرمة مؤبدة لشغلت اخلطيب الوساوس أن يكون أبوها أو أخوها هتك‬
‫عفتها ‪ ،‬وهلذه احلرمة املؤبدة يتزوج الرجل امرأة وهو مطمئن إىل عفافها ‪ ،‬وآمن من أن يكون‬
‫أبوها أو أخوها أو من هو شديد اخللطة هبا من أبناء إخوهتا سلب عفتها‪.‬‬

‫ص ‪259 :‬‬
‫حرم اجلمع بني األختني أل هن الضرائر يكون بينهن من الكراهة والبغضاء ما هو معلوم ‪ ،‬فلم‬
‫وإمنا ه‬
‫يعرض أرحام األختني للقطيعة بتجويز كوهنما ضرتني ‪ ،‬يتغايران ويتباغضان ‪ ،‬وكذلك‬
‫اّلل أن ه‬
‫يشأ ه‬
‫حرمت على‬
‫القول يف املرأة واخلالة ‪ ،‬واملرأة والعمة ‪ ،‬وكذلك كل امرأتني لو جعلت إحدامها ذكرا ه‬
‫األخرى‪.‬‬
‫حترمي ذوات األزواج‬
‫اّللِ َعلَْي ُك ْم َوأ ُِح ال لَ ُك ْم ما‬
‫تاب ا‬ ‫ِ‬ ‫ساء إِاال ما َملَ َك ْ‬ ‫ت ِمن النهِ ِ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم ك َ‬ ‫صنا ُ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال ُْم ْح َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫وراء ذلِ ُكم أَ ْن تَ ْب تَ غُوا ِأب َْموالِ ُكم ُْحم ِ‬
‫ور ُه ان‬
‫ُج َ‬
‫وه ان أ ُ‬‫استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهِ مْن ُه ان فَآتُ ُ‬ ‫ري ُمسافِ ِح َ‬
‫ني فَ َما ْ‬ ‫صنِ َ‬
‫ني غَ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫اّللَ كا َن َعلِيماً َحكِيماً (‪)24‬‬ ‫ضةِ إِ ان ا‬‫ض ْي تُ ْم بِهِ ِم ْن بَ ْع ِد الْ َف ِري َ‬
‫ناح َعلَْي ُك ْم فِيما تَرا َ‬ ‫ضةً َوال ُج َ‬ ‫فَ ِري َ‬
‫فهن من احملرمات‪.‬‬ ‫احملصنات عطف على أُامهاتُ ُك ْم ه‬
‫تدل على املنع ‪ ،‬ومنه احلصن ‪ ،‬ألنه مينع من فيه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬أحصن الرجل إذا‬
‫مادة (ح ص ن) ه‬
‫حرا ‪ ،‬وأحصن إذا عف ‪ ،‬ويف مجيع ذلك معىن‬
‫تزوج ‪ ،‬وأحصن إذا أسلم ‪ ،‬وأحصن إذا صار ه‬
‫ه‬
‫تزوج منع نفسه من الزىن ‪ ،‬وإذا أسلم منع نفسه من القتل ‪ ،‬وإذا عتق فقد‬
‫املنع ‪ ،‬فالرجل إذا ه‬
‫منع نفسه من االستيًلء ‪ ،‬والعفيف مينع نفسه من الفحش‪.‬‬
‫فمن وروده مبعىن تزوج‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أحصنت؟» يعين تزوجت‪.‬‬
‫قوله صلهى ه‬
‫قال ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أقيموا احلدود على ما ملكت أميانكم من أحصن منهم ومن مل‬
‫وقال صلهى ه‬
‫حيصن» «‪.»1‬‬
‫شةٍ ومن وروده مبعىن احلرية قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫ص ان فَِإ ْن أَتَني بِ ِ‬
‫ُح ِ‬
‫فاح َ‬ ‫َْ‬ ‫ومن وروده مبعىن أسلم قوله ‪ :‬فَِإذا أ ْ‬
‫نات ِم َن ال َْع ِ‬
‫ذاب‪.‬‬ ‫ف ما عَلَى الْم ْحص ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫فَ َعلَيْ ِه ان نِ ْ‬
‫نات مثُا َملْ َأيْتُوا ِأب َْربَ َعةِ ُش َهداءَ [النور‬
‫ومن وروده مبعىن العفاف قوله تعاىل ‪ :‬والا ِذين ي رمو َن الْم ْحص ِ‬
‫َ َ َْ ُ ُ َ‬
‫‪.]4 :‬‬
‫حترم ذوات األزواج ‪ ،‬واستثىن اململوكات ‪ ،‬وقد‬
‫واملراد ابحملصنات يف اآلية املتزوجات ‪ ،‬فهي ه‬
‫كن من إمائه حمرمات على مالكيهن ‪ ،‬وألجل‬
‫استشكل هذا االستثناء ‪ ،‬فإ هن ذوات األزواج إذا ه‬
‫حرمت‬
‫هذا اختلف يف أتويل اآلية ‪ :‬فذهب بعضهم إىل أن ذلك يف بيع األمة ‪ ،‬فهو يقول ‪ :‬ه‬
‫عليكم ذوات األزواج إال ما طرأ على ملكهن ببيع ‪ ،‬فيحللن ‪ ،‬وذلك أل هن بيع األمة طًلقها ‪،‬‬
‫فمن ابع أمة متزوجه كان ذلك البيع طًلقا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود كتاب السنن (‪ ، )157 /4‬ابب إقامة احلد على املريض حديث رقم‬
‫(‪ )4473‬وأمحد يف املسند (‪.)95 /1‬‬

‫ص ‪260 :‬‬
‫هلا ‪ ،‬وهذا ليس براجح ‪ ،‬أل هن الزواج كما جامع امللك السابق جيامع امللك الطارئ ‪ ،‬وقد ورد أن‬
‫خري بريرة ملا بيعت «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫ه‬
‫خريها‪.‬‬
‫‪ ،‬ولو كان بيعها طًلقها ملا ه‬
‫وحرم‬
‫كن ذوات أزواج ‪ ،‬فهو يقول ‪ :‬ه‬
‫وقيل ‪ -‬وهو املختار ‪ -‬إ هن ذلك يف حق املسبيات إذا ه‬
‫إايهن هادم لنكاحهن‪.‬‬
‫عليكم ذوات األزواج إال ما ملكتموهن بسيب ‪ ،‬فسباؤكم ه‬
‫ويؤيد هذا ما ذكر يف سبب نزول اآلية‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه أن رسول ه‬
‫روى مسلم يف «صحيحه» «‪ »2‬عن أيب سعيد اخلدري رضي ه‬
‫عليه وسلهم بعث جيشا إىل أوطاس ‪ ،‬فلقوا عدوا ‪ ،‬فقاتلوهم ‪ ،‬فظهروا عليهم ‪ ،‬وأصابوا هلم سبااي‬
‫أزواجهن‬
‫ه‬ ‫حترجوا من غشياهنن من أجل‬ ‫اّلل عليه وسلهم ه‬ ‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ ،‬وكأ هن انسا من أصحاب رسول ه‬
‫ت ِمن النهِ ِ‬
‫ساء إِاال ما َملَ َك ْ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم‬ ‫صنا ُ َ‬‫وجل يف ذلك ‪َ :‬وال ُْم ْح َ‬
‫عز ه‬
‫اّلل ه‬
‫من املشركني ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫فهن حًلل لكم إذا انقضت عدهتن‪.‬‬
‫أي ه‬
‫فتضمن هذا احلكم إابحة وطء املسبية ابمللك ‪ ،‬وإن كان هلا زوج من الكفار‪.‬‬ ‫ه‬
‫ملكتموهن بعقد زواج‬
‫ه‬ ‫وقيل ‪ :‬إ هن املراد ابحملصنات احلرائر ‪ ،‬وقوله ‪ :‬إِاال ما َملَ َك ْ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم إال ما‬
‫اّلل قال ‪ :‬والا ِذين ُهم لُِفر ِ‬
‫وج ِه ْم حافِظُو َن (‪ )5‬إِاال عَلى‬ ‫صحيح ‪ ،‬وهذا ليس بظاهر ‪ ،‬أل هن ه‬
‫َ َ ْ ُ‬
‫ت أ َْميا ُهنُ ْم [املؤمنون ‪ ]6 ، 5 :‬فجعل ما ملكت أمياهنم مقابًل لألزواج ‪،‬‬ ‫أَ ْز ِ‬
‫واج ِه ْم أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫يفسر بعضه بعضا‪.‬‬ ‫والقرآن ه‬
‫حرم عليكم ‪ -‬كتااب ‪،‬‬
‫اّلل ذلك ‪ -‬وهو حترميه ما ه‬
‫(كتب هللا عليكم) مصدر مؤهكد أي ‪ :‬كتب ه‬
‫وفرضه فرضا‪.‬‬
‫استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهِ ِم ْن ُه ان‬
‫ني فَ َما ْ‬ ‫ري ُمسافِ ِح َ‬ ‫صنِ َ‬
‫ني غَ ْ َ‬
‫وأ ُِح ال لَ ُكم ما وراء ذلِ ُكم أَ ْن تَ ْب تَ غُوا ِأب َْموالِ ُكم ُْحم ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫اّللَ كا َن َعليماً‬ ‫ضة إ ان ا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ْي تُ ْم به م ْن بَ ْعد الْ َف ِري َ‬ ‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ُك ْم فيما تَرا َ‬ ‫ور ُه ان فَ ِري َ‬
‫ضةً َوال ُج َ‬ ‫ُج َ‬
‫وه ان أ ُ‬
‫فَآتُ ُ‬
‫َحكِيماً‪.‬‬
‫ت عَلَْي ُك ْم ومن قرأها ابلبناء للفاعل عطفها على‬ ‫َوأ ُِحلا لَ ُك ْم ما َوراءَ ذلِ ُك ْم عطف على قوله ‪ُ :‬ح هِرَم ْ‬
‫كتب املقدر‪.‬‬
‫حمصنني ‪ :‬أع هفاء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )210 /6‬كتاب الطًلق ‪ - 14 ،‬ابب ال يكون بيع‬
‫األمة طًلقا حديث رقم (‪ ، )5279‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 20 ، )1141 /2‬كتاب العتق ‪،‬‬
‫‪ - 2‬ابب إ همنا الوالء حديث رقم (‪.)1504 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 17 ، )1079 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 9 ،‬ابب جواز وطء‬
‫املسبية ‪ ،‬حديث رقم (‪].....[ .)1456 /33‬‬

‫ص ‪261 :‬‬
‫مسافحني ‪ :‬زانة ‪ ،‬من السفاح وهو الزىن ‪ ،‬مأخوذ من السفح ‪ ،‬وهو صب املاء ‪ ،‬أل هن الزاين ال‬
‫غرض له من فعلته إال ذلك‪.‬‬
‫أَ ْن تَ ْب تَ غُوا مفعول ألجله ‪ ،‬أي ‪َ :‬وأ ُِح ال لَ ُك ْم ما َوراءَ ذلِ ُك ْم إرادة أَ ْن تَ ْب تَ غُوا السناء ِأب َْموالِ ُك ْم حالة‬
‫كونكم أع هفاء غري زانة ‪ ،‬فًل تضيهعوا أمولكم يف الزىن ‪ ،‬فتذهب أموالكم ‪ ،‬وتفتقروا ‪ ،‬وجيوز أن‬
‫يكون قوله ‪ :‬أَ ْن تَ ْب تَ غُوا ِأب َْموالِ ُك ْم بدال من قوله ‪ :‬ما َوراءَ ذلِ ُك ْم ‪ ،‬واسم اإلشارة يف قوله ‪ :‬ذلِ ُك ْم‬
‫احملرمات املذكورة قبل ‪ ،‬وقد اعرتض على ذلك أب هن هذا يقتضي أ هن احملرمات هي من‬ ‫يرجع إىل ه‬
‫ذكرن ‪ ،‬وأ هن من عداهن حًلل ‪ ،‬مع أنه قد ثبت حرمة نساء غري من ذكرن ‪ ،‬وذلك كاملبتوتة ‪،‬‬
‫وما زاد على الرابعة ‪ ،‬واملًلعنة ‪ ،‬واجلمع بني املرأة وعمتها ‪ ،‬واملرأة وخالتها‪.‬‬
‫ني ْاألُ ْختَ ْ ِ‬
‫ني بطريق القياس ‪،‬‬ ‫أما اجلمع بني املرأة وعمتها فقد فهم حترميه من قوله ‪َ :‬وأَ ْن ََتْ َمعُوا بَ َْ‬
‫فكل من بينهما قرابة قريبة حرم اجلمع بينهما ‪،‬‬ ‫أل هن العلة يف حترمي اجلمع هي القرابة القريبة ‪ ،‬ه‬
‫فجاز أن يقال ‪َ :‬وأ ُِحلا لَ ُك ْم ما َوراءَ ذلِ ُك ْم أي من ذكرن أي إما بطريق النص ‪ ،‬أو بطريق القياس‪.‬‬
‫خصصت‬ ‫احلل ه‬ ‫جيوز تصيص القرآن خبرب الواحد املشهور يقول ‪ :‬إ هن آية ه‬ ‫ومن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال تنكح املرأة على عمتها ‪ ،‬وال املرأة على خالتها» «‪.»1‬‬ ‫بقوله صلهى ه‬
‫خصصت آايت حترميهن آية َوأ ُِح ال لَ ُك ْم ما َوراءَ ذلِ ُك ْم‪.‬‬‫وأما البقية ‪ :‬غري املًلعنة فقد ه‬
‫خصص اآلية‬
‫وأما املًلعنة فقد ه‬
‫تفرقا ال جيتمعان قبل موته»‪.‬‬ ‫قوله صلهى ا هّلل عليه وسلهم فيها ‪« :‬املتًلعنان إذا ه‬
‫ِ‬
‫ضةً (ما) واقعة على االستمتاع ‪ ،‬والعائد يف اخلرب‬ ‫ور ُه ان فَ ِري َ‬ ‫ُج َ‬
‫وه ان أ ُ‬ ‫استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهِ م ْن ُه ان فَآتُ ُ‬
‫فَ َما ْ‬
‫ك ل َِم ْن َع ْزِم ْاأل ُُموِر (‪)43‬‬
‫رب َوغَ َف َر إِ ان ذلِ َ‬
‫ص ََ‬
‫حمذوف ‪ ،‬أي فآتوهن أجورهن عليه‪ .‬كقوله ‪َ :‬ول ََم ْن َ‬
‫[الشورى ‪ ]43 :‬أي منه ‪ ،‬وجيوز أن تكون واقعة على النساء ‪ ،‬وأعاد الضمري يف (به) عليها‬
‫ضةً معمول لفرض حمذوف ‪ ،‬واملراد‬ ‫ابعتبار اللفظ ‪ ،‬ويف ِم ْن ُه ان ابعتبار املعىن ‪ ،‬وقوله ‪ :‬فَ ِري َ‬
‫ابألجور املهور ‪ ،‬ألهنا يف مقابلة االستمتاع ‪ ،‬فسميت أجرا‪.‬‬
‫ط لكله أو بعضه ‪ ،‬أو زايدة عليه‪.‬‬ ‫ضةِ من ح ه‬ ‫ض ْي تُ ْم بِهِ ِم ْن بَ ْع ِد الْ َف ِري َ‬
‫ناح َعلَْي ُك ْم فِيما تَرا َ‬‫َوال ُج َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ ، )1028 /2‬كتاب النكاح ‪ - 4 ،‬ابب حترمي املرأة وعمتها‬
‫وخالتها حديث رقم (‪.)1408 /33‬‬

‫ص ‪262 :‬‬
‫أمر إبيتاء األزواج مهورهن ‪ ،‬وأجاز احلط بعد االتفاق برضا الزوجني وعلى ذلك تكون اآلية‬
‫نزلت يف النكاح املتعارف‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت يف املتعة ‪ ،‬وهي أن يستأجر الرجل املرأة مبال معلوم إىل أجل معني ‪ ،‬وكان الرجل‬
‫ينكح امرأة وقتا معلوما ليلة ‪ ،‬أو ليلتني ‪ ،‬أو أسبوعا بثبوت أو غري ثبوت ‪ ،‬ويقضي منها وطرا ‪،‬‬
‫مث يرتكها‪.‬‬
‫واتفق العلماء على أهنا كانت جائزة ‪ ،‬مث اختلفوا ‪ ،‬فذهب اجلمهور إىل أهنا نسخت ‪ ،‬وذهب ابن‬
‫عباس إىل أهنا مل تنسخ ‪ ،‬وهناك رواية عنه أهنا نسخت ‪ ،‬وروي أنه رجع عن القول هبا قبل موته‪.‬‬
‫أحل‬
‫احملرمات يف النكاح املتعارف ‪ ،‬مث ذكر أنه ه‬
‫اّلل ذكر ه‬
‫والراجح أ هن اآلية ليست يف املتعة ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ما وراء ذلكم ‪ ،‬أي يف هذا النكاح نفسه‪.‬‬
‫والراجح أ هن حكم املتعة الثابت ابلسنة قد نسخ ‪ ،‬ملا أخرج مالك «‪ »1‬عن علي أ هن الرسول‬
‫اّلل عليه وسلهم هنى عن متعة النساء يوم خيرب ‪ ،‬وعن أكل حلوم احلمر اإلنسية‪.‬‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فإذا‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروى الربيع بن سربة اجلهين عن أبيه قال ‪ :‬غدوت على رسول ه‬
‫هو قائم بني الركن واملقام مسندا ظهره إىل الكعبة ‪ ،‬يقول ‪« :‬اي أيها الناس إين أمرتكم‬
‫حرمها عليكم إىل يوم القيامة ‪ ،‬فمن كان عنده‬
‫اّلل قد ه‬
‫ابالستمتاع من هذه النساء ‪ ،‬أال وإ هن ه‬
‫فليخل سبيلها ‪ ،‬ال أتخذوا مما آتيتموهن شيئا» «‪.»2‬‬
‫ه‬ ‫منه هن شيء‬
‫تزوج امرأة إىل أجل هإال رمجتهما ابحلجارة‪.‬‬ ‫وروي عن عمر ‪ :‬ال أوتى برجل ه‬
‫ِ ِ‬
‫وج ِهم حافِظُو َن (‪ )5‬إِاال َعلى أَ ْز ِ‬ ‫ِ‬
‫واج ِه ْم أ َْو ما‬ ‫ويدل على حترمي املتعة قوله تعاىل ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين ُه ْم ل ُف ُر ْ‬
‫ت أ َْميا ُهنُ ْم واملستمتع هبا ليست ملك ميني ابالتفاق ‪ ،‬وليست زوجة النتفاء خصائص الزوجية‬
‫َملَ َك ْ‬
‫عنها ‪ ،‬ألهنا ال ترثه ‪ ،‬وال يلحق به ولدها‪.‬‬
‫اّللَ كا َن َعلِيماً مبصاحل عباده َحكِيماً فيما شرع لكم من األحكام ‪ ،‬ولذلك شرع لكم هذه‬ ‫إِ ان ا‬
‫األحكام الًلئقة حبالكم‪.‬‬
‫ت‬‫نات فَ ِم ْن ما َملَ َك ْ‬ ‫نات الْم ْؤِم ِ‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬ومن َمل يستَ ِط ْع ِم ْن ُكم طَوًال أَ ْن ي ْنكِح الْم ْحص ِ‬ ‫قال ه‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ََ ْ ْ َ ْ‬
‫وه ان إبِِ ْذ ِن أَ ْهلِ ِه ان‬ ‫ض ُكم ِمن ب ْع ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ َْميانُ ُكم ِمن فَتَياتِ ُكم الْم ْؤِم ِ‬
‫ح ُ‬ ‫ض فَانْك ُ‬ ‫اّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِميان ُك ْم بَ ْع ُ ْ ْ َ‬
‫نات َو ا‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُحص ان فَِإ ْن أَتَ َْ‬
‫ني‬ ‫ري ُمسافحات َوال ُمتاخذات أَ ْخدان فَِإذا أ ْ‬ ‫صنات غَ ْ َ‬ ‫ُجو َر ُه ان ِابل َْم ْع ُروف ُْحم َ‬
‫وه ان أ ُ‬‫َوآتُ ُ‬
‫ت ِم ْن ُك ْم َوأَ ْن‬ ‫ك لِ َم ْن َخ ِش َي ال َْعنَ َ‬ ‫نات ِم َن ال َْع ِ‬
‫ذاب ذلِ َ‬ ‫ف ما َعلَى الْم ْحص ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫شةٍ فَ َعلَْي ِه ان نِ ْ‬
‫بِ ِ‬
‫فاح َ‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬
‫يم (‪)25‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫صِربُوا َخ ْريٌ لَ ُك ْم َو اُ ٌ‬ ‫تَ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬رواه مالك يف املوطأ ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب املتعة حديث رقم (‪.)542‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 16 ، )1025 /2‬كتاب النكاح ‪ - 3 ،‬ابب نكاح املتعة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)1406 /21‬‬

‫ص ‪263 :‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬ومن َمل يستَ ِط ْع ِمنْ ُكم طَوًال إىل قوله ‪ِ :‬من فَتَياتِ ُكم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات‪.‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ََ ْ ْ َ ْ‬
‫والسعة‪.‬‬
‫أصل الطهول الفضل والزايدة ‪ ،‬واملراد به هنا الزايدة يف املال ه‬
‫واملراد ابحملصنات ‪ :‬احلرائر ‪ ،‬بدليل مقابلتهن ابململوكات‪.‬‬
‫اّلل من ال حيل من النساء ومن حيل منهن ‪ ،‬هبني لنا فيمن حيل أنه مَّت حيل؟ وعلى أي وجه‬ ‫ملا هبني ه‬
‫حيل؟ فقال ‪َ :‬وَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع ِمنْ ُك ْم طَْوًال إخل يقول ‪ :‬ومن مل يستطع منكم زايدة يف املال ‪ ،‬وسعة‬
‫احلرة ‪ :‬فلينكح أمة من اإلماء املؤمنات ‪ ،‬وإذا ضممت إىل هذا القدر قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫يبلغ هبا نكاح ه‬
‫اّلل شرط يف نكاح اإلماء شرائط‬
‫يدل على أ هن ه‬‫ت ِم ْن ُك ْم كان ظاهر اآلية ه‬ ‫ك لِ َم ْن َخ ِش َي ال َْعنَ َ‬
‫ذلِ َ‬
‫ثًلثة ‪:‬‬
‫حرة‪.‬‬
‫يتزوج به ه‬
‫األول ‪ :‬أال جيد الناكح ماال ه‬
‫والثاين ‪ :‬أن خيشى العنت ‪ ،‬وسيأِت بيانه‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن تكون األمة اليت يريد نكاحها مؤمنة ‪ ،‬ال كافرة‪.‬‬
‫اّلل يف نكاح اإلماء ابشرتاط هذه الشروط ملا يف نكاحهم من أضرار ‪ ،‬أمههها تعريض‬
‫وإمنا ضيهق ه‬
‫األم يف الرق واحلرية ‪ ،‬فإذا كانت األم رقيقة علقت ابلولد رقيقا ‪،‬‬
‫الولد للرق ‪ ،‬ألن الولد يتبع ه‬
‫وذلك يوجب النقص يف ح هق الوالد وولده ‪ -‬وسنذكر بعض األضرار عند قوله تعاىل ‪َ :‬وأَ ْن‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وهو أيضا قول ابن عباس‬ ‫الشافعي رضي ه‬
‫ه‬ ‫صِربُوا َخ ْريٌ لَ ُك ْم ‪ -‬وهبذا الظاهر َتسك‬
‫تَ ْ‬
‫وجابر وسعيد بن جبري ومكحول وآخرين‪.‬‬
‫والشعيب قاال ‪ :‬نكاح األمة مبنزلة امليتة والدم وحلم اخلنزير ‪ ،‬ال حيل إال‬
‫ه‬ ‫وروي أ هن مسروقا‬
‫للمضطر‪.‬‬
‫وروي عن علي وأيب جعفر وجماهد وسعيد بن املسيهب وآخرين أهنم قالوا ‪:‬‬
‫ينكح األمة وإن كان موسرا‪.‬‬
‫حرة ‪ ،‬سواء أكان‬
‫اّلل عنه إىل جواز نكاح األمة ملن ليس حتته ه‬
‫وذهب اإلمام أبو حنيفة رضي ه‬
‫واجدا طول حرة أم ال ‪ ،‬وسواء أخشي العنت أم ال ‪ ،‬وسواء أكانت األمة مسلمة أم ال ‪ ،‬واحتج‬
‫ساء [النساء‬‫احلنفية على ذلك ابلعمومات الكثرية ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬فَانْكِحوا ما طاب لَ ُكم ِمن النهِ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ني ِمن ِع ِ‬
‫باد ُك ْم َوإِمائِ ُك ْم [النور ‪ ]32 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫‪ ]3 :‬وقوله ‪ :‬وأَنْكِحوا ْاألَايمى ِمنْ ُكم وال ا ِِ‬
‫صاحل َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬
‫نات والْم ْحصنا ُ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وأ ُِحلا لَ ُكم ما وراء ذلِ ُكم وقوله ‪ :‬والْمحصنا ُ ِ‬
‫ت م َن الاذ َ‬
‫ين أُوتُوا‬ ‫ت م َن ال ُْم ْؤم َ ُ َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫تاب م ْن قَ ْبل ُك ْم [املائدة ‪ ، ]5 :‬ومجيع ذلك يتناول اإلماء الكتابيات ‪ ،‬ومل يشرتط فيه عدم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الْك َ‬
‫الطول ‪ ،‬وال خوف العنت ‪ ،‬فًل خيرج منه شيء إال مبا يوجب‬

‫خمصصة! أما أوال ‪ :‬فألهنها ما‬


‫ص ‪ 264 :‬التخصيص ‪ ،‬ومل تنتهض هذه اآلية اليت معنا حجة ه‬
‫دلت على ما ذهب إليه املخالف إال مبفهوم الشرط ‪ ،‬ومفهوم الصفة ‪ ،‬ومها ليسا حبجة عند‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫اإلمام رضي ه‬
‫اختل الشرط أو عدمت‬
‫احلجيهة يكون مقتضى املفهومني عدم اإلابحة إذا ه‬
‫وأما اثنيا ‪ :‬فعلى تقدير ه‬
‫أعم من ثبوت احلرمة أو الكرامة ‪ ،‬وال داللة لألعم على ما خص‬
‫الصفة ‪ ،‬وعدم اإلابحة ه‬
‫خبصوصه ‪ ،‬فيجوز ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط ‪ ،‬كما جيوز ثبوت احلرمة سواء بسواء ‪،‬‬
‫أقل يف خمالفة العمومات ‪ ،‬فتعيهنت ‪ ،‬فقلنا هبا‪.‬‬ ‫والكراهة ه‬
‫ت ِمنْ ُك ْم ‪ :‬إنه ليس بشرط ‪ ،‬وإمنا هو إرشاد‬
‫ك لِ َم ْن َخ ِش َي ال َْعنَ َ‬
‫وقالوا يف قوله تعاىل ‪ :‬ذلِ َ‬
‫لإلصًلح ‪ ،‬لعموم مقتضى اآلايت‪.‬‬
‫العام للخاص ‪،‬‬
‫وأجاب الشافعية ‪ :‬أبن هذه العمومات ال تعارض اآلية اليت معنا إال معارضة ه‬
‫واخلاص مق هدم على العام ‪ ،‬وأبن احلنفية خصصوا عموم هذه اآلايت فيما إذا كان حتته حرة ‪،‬‬
‫خصصت لصون الولد عن اإلرقاق ‪ ،‬وهذا املعىن قائم يف‬
‫فقالوا ‪ :‬ال جيوز له نكاح األمة ‪ ،‬وإمنا ه‬
‫حمل النزاع ‪ ،‬فيجب أن يعطى حكمه ‪ ،‬وهو عدم اجلواز ‪ ،‬وأبن صون الولد عن اإلرقاق مينع من‬
‫نكاح األمة ‪ ،‬ولكن اآلية أابحته لضرورة من خشي العنت ‪ ،‬وفقد الطهول إىل احلرة ‪ ،‬وشرطت أن‬
‫تكون األمة مسلمة ‪ ،‬ففيما عدا ذلك يرجع إىل األصل وهو املنع من النكاح‪.‬‬
‫أتول قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن َملْ يَ ْستَ ِط ْع ِم ْن ُك ْم طَْوًال على عدم وجود‬
‫اّلل أنه ه‬
‫روي عن أيب يوسف رمحه ه‬
‫احلرة يف عصمته ‪ ،‬وأن وجود الطول هو كون احلرة حتته ‪ ،‬وعليه يكون املراد ابلنكاح يف قوله ‪:‬‬
‫نات الوطء ‪ ،‬ويكون التقدير ‪ :‬ومن مل يستطع منكم وطء احلرة‪ .‬إخل‪ .‬والذي ال‬ ‫أَ ْن ي ْنكِح الْم ْحص ِ‬
‫َ َ ُ َ‬
‫يستطيع وطء احلرة هو من ال يكون حتته حرة ‪ ،‬فيكون منطوق اآلية مساواي لقولنا ‪ :‬ومن ليس‬
‫حتته حرة فلينكح أمة ‪ ،‬وبذلك تنقلب اآلية حجة للحنفية‪.‬‬
‫قال الفخر الرازي ‪ :‬وجوابه أن أكثر املفسرين فسروا الطول ابلغىن ‪ ،‬وعدم الغىن أتثريه يف عدم‬
‫القدرة على العقد ‪ ،‬ال يف عدم القدرة على الوطء‪ .‬اه‪.‬‬
‫اّلل مع خمالفته رأي اجلمهور من املفسرين مل ينه اإلشكال‬ ‫نزيد على ذلك أتويل أيب يوسف رمحه ه‬
‫نات حمل خًلف ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬ ‫بتمامه ‪ ،‬إذ ال يزال الوصف يف قوله تعاىل ‪ِ :‬من فَتَياتِ ُكم الْم ْؤِم ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ت ِم ْن ُك ْم ال يزال أيضا حمل خًلف‪ .‬أهلما مفهوم يعمل به أم ليس هلما‬ ‫ك لِ َم ْن َخ ِش َي ال َْعنَ َ‬
‫ذلِ َ‬
‫مفهوم؟ ويعود الكًلم من أوله ‪ ،‬وتعود الشبهة جذعة ‪:‬‬
‫وللحنفية دليل خاص جبواز نكاح األمة الكتابية ‪ ،‬وهو قياسها على احلرة واململوكة الكتابيتني‪.‬‬

‫ص ‪265 :‬‬
‫تزوج احلرة الكتابية ‪ ،‬أو وطئ مملوكته الكتابية ‪ ،‬فهناك نقص واحد ‪،‬‬
‫وأجاب الشافعي أبنه إذا ه‬
‫تزوج األمة الكتابية فهناك نقصان الرق والكفر ‪ ،‬فظهر الفرق‪.‬‬ ‫أما إذا ه‬
‫اّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِميانِ ُك ْم معناه اعملوا على الظاهر يف اإلميان ‪ ،‬فإنكم مكلفون بظواهر األمور ‪ ،‬و ه‬
‫اّلل‬ ‫َو ا‬
‫يتوىل السرائر ‪ ،‬فاإلميان الظاهر كاف يف صحة نكاح األمة ‪ ،‬وال يشرتط فيه العلم ابإلميان علما‬
‫يقينيا ‪ ،‬إذ ال سبيل لكم إليه‪.‬‬
‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬
‫ض فيه أتويًلن ‪:‬‬ ‫بَ ْع ُ‬
‫األول ‪ :‬أنكم وفتياتكم من جنس واحد ‪ ،‬وكلكم أوالد آدم ‪ ،‬فًل تستنكفوا أن تنكحوا اإلماء‬
‫عند الضرورة‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنكم مشرتكون يف اإلميان ‪ ،‬واإلميان أعظم الفضائل ‪ ،‬فالتفاوت فيما وراءه ال ينبغي‬
‫يقوي قول الشافعي‬ ‫االلتفات إليه‪ .‬إِ ان أَ ْكرم ُكم ِع ْن َد اِ‬
‫اّلل أَتْقا ُك ْم [احلجرات ‪ ]13 :‬وهذا التأويل ه‬ ‫ََ ْ‬
‫إن اإلميان شرط يف نكاح األمة ‪ ،‬وعلى كًل التأويلني اجلملة معرتضة لتأنيس قلوهبم ‪ ،‬وإزالة النفرة‬
‫عن نكاح اإلماء ‪ ،‬وكانوا يف اجلاهلية يفتخرون ابألنساب ‪ ،‬ويضعون من شأن االبن اهلجني ‪،‬‬
‫اّلل هبذه الكلمة أنهه ال فضل ألحد على أحد إال ابل هدين ‪ ،‬وأنه ال ينبغي التخلهق أبخًلق‬
‫فأعلمهم ه‬
‫اجلاهلية األوىل‪.‬‬
‫وه ان إبِِ ْذ ِن أَ ْهلِ ِه ان أعيد فيه األمر ‪ -‬مع فهمه مما قبله ‪ -‬لزايدة الرتغيب يف نكاح اإلماء ‪،‬‬
‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫فَانْك ُ‬
‫واملراد ابإلذن هنا الرضا ‪ ،‬وابألهل أهل املوىل‪.‬‬
‫اتفق العلماء على أ هن نكاح األمة بغري إذن سيدها غري جائز ‪ ،‬عمًل بظاهر هذه اآلية ‪ ،‬فإ هن قوله‬
‫وه ان إبِِ ْذ ِن أَ ْهلِ ِه ان يقتضي كون اإلذن شرطا يف جواز النكاح ‪ ،‬وإن مل يكن النكاح‬
‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬فَانْك ُ‬
‫واجبا‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬من أسلف فليسلف يف كيل معلوم إىل أجل معلوم» «‪»1‬‬
‫كقوله صلهى ه‬
‫فالسلم ليس بواجب ‪ ،‬لكنهه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط‪.‬‬
‫وكذلك اتفقوا على أ هن نكاح العبد بغري إذن سيده غري جائز إال قوال حكيناه فيما سبق عن‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫اإلمام مالك ‪ ،‬ونفى بعض علماء املالكية نسبة هذا القول إىل اإلمام رضي ه‬
‫وقد روينا لك‬
‫حديث جابر ‪« :‬أميا عبد تزوج بغري إذن مواله فهو عاهر»‬
‫وقلنا ‪:‬‬
‫إن يف تنفيذ نكاح الرقيق تعييبا له ‪ ،‬فًل ميلكه إال إبذن مواله‪.‬‬
‫واملراد بعدم جواز نكاح الرقيق بغري إذن مواله عند الشافعي أنه نكاح ابطل غري صحيح ‪،‬‬
‫ويشهد له ظاهر اآلية واحلديث‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 35 ، )59 /3‬كتاب السلم ‪ - 2 ،‬ابب السلم يف وزن‬
‫معلوم حديث رقم (‪ ، )2240‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1226 /3‬كتاب املساقاة ‪،‬‬
‫‪ - 25‬ابب السلم حديث رقم (‪.)1604 /127‬‬

‫ص ‪266 :‬‬
‫واملراد بعدم اجلواز عند احلنفية عدم النفاذ ‪ ،‬ال عدم الصحة ‪ ،‬بل هو موقوف كعقد الفضويل ‪،‬‬
‫وإىل هذا ذهب مالك ‪ ،‬وهو رواية عن أمحد كما قال صاحب «روح املعاين» «‪.»1‬‬
‫تدل على أ هن لإلماء أن يباشرن العقد أبنفسهن ‪ ،‬ألنهه اعترب فيها‬
‫وا هدعى بعض احلنفية أ هن اآلية ه‬
‫إذن املوايل ال عقدهم ‪ ،‬وهو غري سديد لوجهني ‪:‬‬
‫هأما أوال ‪ :‬فأل هن اآلية دلت على أن رضا املوىل ال بد منه ‪ ،‬فأما أنه كاف يف النكاح فليس يف‬
‫اآلية دليل عليه ‪ ،‬ألن عدم االعتبار ال يوجب اعتبار العدم ‪ ،‬فلعل العاقد يكون هو املوىل أو‬
‫الوكيل ‪ ،‬فًل يلزم جواز مباشرهتن العقد أبنفسهن‪.‬‬
‫وأما اثنيا ‪ :‬فألنهه وإن يكن املراد من األهل املوايل ‪ ،‬لكن الفقهاء محلوا ذلك على من له والية‬
‫للتزويج ‪ ،‬وذلك إما املوىل إن كان رجًل ‪ ،‬أو ويل مواله إن كان مواله امرأة‪.‬‬
‫ولو سلهم أن املراد ابألهل املوايل ال غري فهو عام يتناول الذكور واإلانث ‪ ،‬والدالئل الدالة على‬
‫أن املرأة ال تنكح نفسها خاصة ‪ ،‬واخلاص مق هدم على العام‪.‬‬
‫وآتُوه ان أُجوره ان ِابلْمعر ِ‬
‫وف أكثر املفسرين على أن املراد ابألجور املهور ‪ ،‬وعلى هذا التأويل‬‫َ ُ ُ َُ َ ْ ُ‬
‫يسم ‪،‬‬
‫تكون اآلية دالهة على وجوب مهر األمة إذا نكحها ‪ ،‬سواء أمسي املهر يف العقد أم مل ه‬
‫ويكون قوله ‪ِ :‬ابلْمعر ِ‬
‫وف مرادا منه مهر املثل ‪ ،‬أو إيصال املهر إليها على العادة عند املطالبة من‬‫َُْ‬
‫غري مطل وال أتخري‪.‬‬
‫واآلية على ظاهرها تؤيهد ما حكاه بعض العلماء عن اإلمام مالك أن مهر األمة هلا‪ .‬وهذا يوجب‬
‫كون األمة مالكة ‪ ،‬مع أنه ال ملك للقن ‪ ،‬فلعله أراد أهنا مالكة ملهرها يدا ‪ ،‬كالعبد املأذون له يف‬
‫التجارة ‪ ،‬ألن اإلذن يف نكاحها إذن هلا يف أن تضع يدها على املهر ‪ ،‬فيجب التسليم إليها كما‬
‫هو ظاهر اآلية‪.‬‬
‫وأكثر األئمة على أ هن املهر للسيهد ‪ ،‬ألنهه وجب عوضا عن منافع البضع اململوكة للسيد ‪ :‬وهو‬
‫الذي أابحها للزوج بعقد النكاح ‪ ،‬فوجب أن يكون هو املستحق لبدهلا ‪ ،‬وألنه ال ملك للقن ‪،‬‬
‫اّللُ َمثًًَل َع ْبداً ممَْلُوكاً ال يَ ْق ِد ُر َعلى َش ْي ٍء [النحل ‪ ]75 :‬وهذا ينفي كون‬
‫ب ا‬ ‫ض َر َ‬
‫لقوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬العبد وما يف يده ملواله»‪.‬‬ ‫اململوك مالكا لشيء أصًل‪ .‬ولقوله صلهى ه‬
‫وأجاب اجلمهور عن ظاهر اآلية أبن املراد ‪ :‬وآتوهن مهورهن إبذن أهلهن ‪ ،‬وهذا القيد مق هدر يف‬
‫الكًلم ‪ ،‬لتقدم ذكره ‪ ،‬أو أ هن املراد وآتوا ‪ :‬أهلهن مهورهن ‪ ،‬وإمنا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬روح املعاين (‪.)10 /5‬‬

‫ص ‪267 :‬‬
‫أضاف إيتاء املهور إليهن لتأكيد إجياب املهر ‪ ،‬والتنبيه على أنه ح هقهن من جهة أنه مثن بضعهن ‪،‬‬
‫وإمنا أتخذه املوايل جبهة ملك اليمني‪.‬‬
‫واختار بعض العلماء أ هن املراد من أجورهن النفقة عليهن ‪ ،‬فكأنهه تعاىل هبني أن كوهنا أمة ال يقدح‬
‫يف وجوب نفقتها وكفايتها إذا سلمت إليه كاحلرة ‪ ،‬وحصلت التخلية من املوىل بينه وبينها ‪،‬‬
‫وف هنا معناه آتوهن نفقتهن ابملعتاد املتعارف فيما بينكم ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪:‬‬ ‫ويكون قوله ‪ِ :‬ابلْمعر ِ‬
‫َُْ‬
‫وف [البقرة ‪ ]233 :‬وعلى هذا التأويل ال يكون يف‬ ‫ُود لَهُ ِر ْزقُه ان وكِسو ُهتُ ان ِابلْمعر ِ‬
‫و َعلَى الْمول ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫اآلية داللة على ما حكي عن اإلمام مالك أن املهر لألمة ال لسيدها‪.‬‬
‫ذات أَ ْخ ٍ‬
‫دان‪.‬‬ ‫اخ ِ‬ ‫حات وال مت ِ‬‫نات غَ ْري مسافِ ٍ‬ ‫ُْحمص ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫احملصنات هنا العفائف‪.‬‬
‫واملرأة املسافحة هي اليت تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها‪ .‬واليت تتخذ اخلدن هي اليت تتخذ‬
‫صاحبا معينا‪.‬‬
‫وكان أهل اجلاهلية يفصلون بني القسمني ‪ ،‬وما كانوا حيكمون على ذات اخلدن أبهنا زانية ‪ ،‬فلما‬
‫ونص على‬ ‫اّلل كل واحد من هذين القسمني ابلذكر ‪ ،‬ه‬ ‫كان هذا الفرق معتربا عندهم ‪ ،‬أفرد ه‬
‫ش ما ظَ َه َر ِم ْنها َوما بَطَ َن‬ ‫ِ‬ ‫ِا‬
‫حرمتهما معا ‪ ،‬ونظري ذلك قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل إمنا َح ار َم َرِهَ‬
‫يب الْ َفواح َ‬
‫ش ما ظََه َر ِم ْنها َوما بَطَ َن [األنعام ‪.]151 :‬‬ ‫ِ‬
‫[األعراف ‪ ]33 :‬وقوله ‪َ :‬وال تَ ْق َربُوا الْ َفواح َ‬
‫وه ان وظاهر ذلك مينع من نكاح األمة‬ ‫وه ان أو َوآتُ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫وهذه الكلمات واقعة حاال من مفعول فَانْك ُ‬
‫الزانية ‪ ،‬لكنه‬
‫اّلل عليه وسلهم سئل عن نكاح الزانية فقال ‪« :‬أوله سفاح وآخره نكاح»‬
‫النيب صلهى ه‬
‫روي أ هن ه‬
‫حيرم احلًلل محل العلماء هذه اآلية على الندب واالستحباب‪.‬‬ ‫لذلك ‪ ،‬وأل هن احلرام ال ه‬
‫ح إِاال زانِيَةً [النور ‪.]3 :‬‬ ‫ِ‬ ‫وسيأِت حكم نكاح الزانية عند قوله تعاىل ‪ :‬الز ِ‬
‫ااين ال يَنْك ُ‬
‫اّلل ‪ :‬فإذا‬ ‫نات ِم َن ال َْع ِ‬
‫ذاب ‪ ،‬يقول ه‬ ‫ف ما َعلَى الْم ْحص ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ص ُ‬‫شةٍ فَ َعلَْي ِه ان نِ ْ‬
‫ص ان فَِإ ْن أَتَني بِ ِ‬
‫فاح َ‬ ‫َْ‬ ‫ُح ِ‬
‫فَِإذا أ ْ‬
‫هن نصف ح هد احلرائر ‪ ،‬وظاهر هذا أ هن األمة ال حت هد إذا زنت ما مل‬
‫أحصن ابلتزوج فإن زنني فح هد ه‬
‫ه‬
‫املزوجة حمدودة يف القرآن ‪،‬‬
‫تتزوج ‪ ،‬وحكي هذا الظاهر مذهبا جملاهد وطاووس‪ .‬قال الزهري ‪ :‬ه‬
‫ه‬
‫وغريها ابلسنة ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم سئل عن‬
‫روى الشيخان «‪ »1‬عن أيب هريرة وزيد بن خالد اجلهين أن النيب صلهى ه‬
‫األمة إذا زنت ومل حتصن فقال ‪:‬‬
‫«إن زنت اجلدوها ‪ ،‬مث إن زنت فاجلدوها ‪ ،‬مث إن زنت فبيعوها ولو بضفري»‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )36 /3‬كتاب البيوع ‪ - 66 ،‬ابب بيع العبد حديث‬
‫رقم (‪ ، )2154 ، 2153‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1328 /3‬كتاب احلدود ‪- 6 ،‬‬
‫ابب رجم اليهود حديث رقم (‪.)1703 /30‬‬

‫ص ‪268 :‬‬
‫ُح ِ‬
‫ص ان مل جير جمرى الشرط ‪ ،‬بل جيء به لدفع‬ ‫دل على أ هن قوله ‪ :‬فَِإذا أ ْ‬
‫فهذا احلديث الشريف ه‬
‫فتوهم أ هن التزويج يزيد يف ح هدهن ‪ ،‬فًل مفهوم له‪.‬‬
‫يتنصف ‪ ،‬فًل يكون مرادا هنا ‪ ،‬وح هد احلرائر‬
‫ومعلوم أ هن ح هد احلرائر الثيبات الرجم ‪ ،‬وهو ال ه‬
‫األبكار جلد مئة ‪ ،‬ونصفه مخسون جلدة ‪ ،‬فهو حد األمة مطلقا كما علمت‪.‬‬
‫ت ِمنْ ُك ْم اإلشارة إىل نكاح اإلماء ‪ ،‬وأصل العنت انكسار العظم بعد اجلرب ‪،‬‬
‫ك لِ َم ْن َخ ِش َي ال َْعنَ َ‬
‫ذلِ َ‬
‫توسع فيه ‪ ،‬فاستعمل يف كل جهد ومشقة ‪ ،‬واملراد به هنا الزان ‪ ،‬وقد علمت أ هن خشية الزىن‬
‫مث ه‬
‫اّلل عنه ال‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وأن أاب حنيفة رضي ه‬
‫شرط آخر يف جواز نكاح اإلماء عند الشافعي رضي ه‬
‫جيعل ذلك شرطا ‪ ،‬وإمنا هو إرشاد لألصلح‪.‬‬
‫صِربُوا َخ ْريٌ لَ ُك ْم يقول ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬وصربكم عن نكاح اإلماء خري لكم من نكاحهن ‪ ،‬وإن‬ ‫َوأَ ْن تَ ْ‬
‫فإهنن‬
‫رخص لكم فيه بشروطه السابقة ‪ :‬ذلك ملا فيه من إضرار بعد تعريض الولد للرق ‪ ،‬ه‬
‫ذل ومهانة ال يكاد يتحملها غيور ‪ ،‬وأل هن حق‬
‫خراجات والجات ‪ ،‬وذلك ه‬
‫ممتهنات مبتذالت ه‬
‫املوايل فيهن أقوى من حق الزوجية ‪ ،‬فقد يستخدموهنن أكثر األوقات ‪ ،‬وال يسلموهنن ألزواجهن‬
‫إال قليًل ‪ ،‬وقد يسافرون هبن ‪ ،‬أو يبيعوهنن حلاضر أو ابد ‪ ،‬ويف ذلك مشقة عظيمة على األزواج‬
‫منهن أوالد‪.‬‬
‫ال سيما إذا كان هلم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬احلرائر صًلح‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ويف مسند الديلمي عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫البيت ‪ ،‬واإلماء هًلك البيت»‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪« :‬إذا نكح العبد احلرة فقد أعتق نصفه ‪،‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي ه‬
‫وإذا نكح األمة فقد أر هق نصفه» وعن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ما تزحف انكح األمة عن الزىن إال‬
‫قليًل ‪ ،‬وعن أيب هريرة وابن جبري مثله‪.‬‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬
‫واّلل واسع املغفرة ‪ ،‬كثريها ‪ ،‬فيغفر ملن مل يصرب عن نكاحهن ‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫يم أي ‪ :‬ه‬ ‫َو اُ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫تنفري عنه حَّت كأنه ذنب ‪ ،‬وهو واسع الرمحة كثريها ‪ ،‬فلذلك رخص لكم يف نكاحهن‪.‬‬
‫اّلل لِي ب ِهني لَ ُكم وي ْه ِدي ُكم سنَن الا ِذين ِمن قَبلِ ُكم وي تُوب َعلَي ُكم و ا ِ‬
‫يم‬
‫اّللُ َعل ٌ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬يُ ِري ُد اُ ُ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ َ ْ ْ َ‬ ‫قال ه‬
‫وات أَ ْن ََتِيلُوا َم ْي ًًل َع ِظيماً‬
‫ش َه ِ‬
‫ين يَتابِعُو َن ال ا‬ ‫ِ‬
‫وب َعلَْي ُك ْم َويُ ِري ُد الاذ َ‬
‫اّللُ يُ ِري ُد أَ ْن يَتُ َ‬
‫يم (‪َ )26‬و ا‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫ضعِيفاً (‪ )28‬مثل هذا الرتكيب ي ِري ُد ا ِ‬ ‫ف َعنْ ُك ْم َو ُخلِ َق ِْ‬
‫اّللُ أَ ْن ُخيَهِف َ‬
‫اّللُ ليُ بَِه َ‬
‫ني‬ ‫ُ‬ ‫اإلنْسا ُن َ‬ ‫(‪ )27‬يُ ِري ُد ا‬
‫لَ ُك ْم وقع يف كًلم العرب قدميا ‪ ،‬ومعلوم أنهه ميتنع أو يضعف دخول الًلم على املفعول املتأخر‬
‫خرجه النحاة على مذاهب ‪ ،‬فمذهب سيبويه ومجهور البصريني أن‬ ‫عن فعله املتعدي ‪ ،‬وقد ه‬
‫مفعول يُ ِري ُد حمذوف ‪ ،‬والًلم للتعليل‪ .‬والتقدير ‪ :‬يريد ه‬
‫اّلل حتليل ما أحل ‪ ،‬وحترمي ما حرم ‪ ،‬ليبني‬
‫لكم‪.‬‬

‫ص ‪269 :‬‬
‫مؤول مبصدر من غري سابك ‪ ،‬على حد «تسمع ابملعيدي‬
‫وذهب بعض البصريني إىل أ هن الفعل ه‬
‫اّلل كائنة للتبيني‪.‬‬
‫خري من أن تراه» والتقدير ‪ :‬إرادة ه‬
‫وذهب الكوفيون إىل أ هن الًلم انصبة للفعل ‪ ،‬وأهنا تقوم مقام أن يف فعل اإلرادة واألمر ‪ ،‬فيقال ‪:‬‬
‫أردت أن تذهب ‪ ،‬وأردت لتذهب ‪ ،‬وأمرتك أن تقوم ‪ ،‬وأمرتك لتقوم ‪ ،‬وعليه قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ي ِري ُدو َن لِيط ِْف ُؤا نُور اِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫ني‬ ‫اّلل [الصف ‪ ]8 :‬يعين يريدون أن يطفئوا ‪ ،‬ومثله َوأُم ْران لنُ ْسل َم ل َر ِه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫[األنعام ‪ ]71 :‬أي أمران أن نسلم‪.‬‬
‫يبني لكم التكاليف ‪ ،‬ومييهز فيها احلًلل من احلرام‬
‫اّلل إبنزال هذه اآلايت أن ه‬
‫واملعىن ‪ :‬يريد ه‬
‫واحلسن من القبيح‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَبْلِ ُك ْم أي يهديكم مناهج من تق هدمكم من األنبياء الصاحلني ‪ ،‬لتقفوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َويَ ْهديَ ُك ْم ُسنَ َن الاذ َ‬
‫أثرهم ‪ ،‬وهتتدوا هبداهم ‪ ،‬وليس املراد أ هن مجيع ما شرع لنا من احلًلل كان مشروعا بعينه لألمم‬
‫اّلل كما قد شرع لألمم السابقني من األحكام ما هبم حاجة إليه ‪،‬‬
‫السابقني كذلك ‪ ،‬بل املراد أ هن ه‬
‫وما اقتضته مصاحلهم ‪ ،‬كذلك شرع لنا ما بنا احلاجة إليه ‪ ،‬وما تدعو إليه مصاحلنا ‪ ،‬فإ هن الشرائع‬
‫والتكاليف وإن كانت خمتلفة يف أنفسها إال أهنا متفقة يف ابب املصاحل‪.‬‬
‫وب َعلَْي ُك ْم التوبة ترك الذنب ‪ ،‬مع الندم والعزم على عدم العود ‪ ،‬وذلك مما يستحيل إسناده‬
‫َويَتُ َ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فًل بد من أتويل فيه ‪ ،‬فإما أن يراد من التوبة املغفرة جمازا لتسببها عنها ‪ ،‬وذلك‬
‫إىل ه‬
‫وب َعلَْي ُك ْم يقبل توبتكم ‪ ،‬وإما أن يراد من التوبة اإلرشاد إىل ما مينع عن‬
‫مراد من قال ‪ :‬معىن َويَتُ َ‬
‫املعاصي أو اإلرشاد إىل ما يك هفرها‪.‬‬
‫اّلل‬
‫واختار احملققون من العلماء أن اخلطاب ليس عاما جلميع املكلفني ‪ ،‬بل لطائفة معيهنة قد اتب ه‬
‫عليهم يف نكاح األمهات والبنات ‪ ،‬وسائر املنهيات املذكورة يف هذه اآلايت ‪ ،‬وحصلت هلم هذه‬
‫التوبة ابلفعل‪.‬‬
‫والذي دعاهم إىل تصيص هذا اخلطاب أنه لو كان عاما لعارضه تلف املراد عن اإلرادة ‪ ،‬وهي‬
‫علهة اتمة ‪ ،‬فًل يدفع هذا التعارض إىل تصيص اخلطاب‪.‬‬
‫واّلل ذو علم شامل جلميع األشياء ‪ ،‬فيعلم ما شرع لكم من األحكام ‪،‬‬
‫يم يعين ه‬ ‫ِ‬ ‫وا ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫اّللُ َعل ٌ‬ ‫َ‬
‫وما سلكه املهتدون من األمم قبلكم ‪ ،‬وما ينفع عباده املؤمنني وما يضرهم ‪ ،‬وهو حكيم يراعي‬
‫فيبني ملن يشاء ‪ ،‬ويهدي من يشاء ‪ ،‬ويتوب على من يشاء‪.‬‬ ‫يف مجيع أفعاله احلكمة واملصلحة ‪ ،‬ه‬
‫وات أَ ْن ََتِيلُوا َم ْي ًًل َع ِظيماً‬
‫ش َه ِ‬
‫ين يَتابِعُو َن ال ا‬ ‫ِ‬
‫وب َعلَْي ُك ْم َويُ ِري ُد الاذ َ‬
‫اّللُ يُ ِري ُد أَ ْن يَتُ َ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬و ا‬
‫قال ه‬
‫وب َعلَْي ُك ْم واملراد ابلذين يتبعون‬ ‫(‪ )27‬اجلملة األوىل مؤهكدة لقوله تعاىل ‪َ :‬ويَتُ َ‬

‫ص ‪270 :‬‬
‫الشهوات الفسقة املنهمكون يف املعاصي‪ .‬وقيل ‪ :‬هم اليهود والنصارى ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم اجملوس‬
‫اّلل تعاىل قالوا ‪ :‬إنكم حتلون بنت‬
‫مهن ه‬
‫حر ه‬
‫كانوا حيلهون األخوات وبنات اإلخوة واألخوات ‪ ،‬فلما ه‬
‫اخلالة والعمة ‪ ،‬مع أ هن اخلالة والعمة عليكم حرام ‪ ،‬فانكحوا أيضا بنات األخ واألخت ‪ ،‬فكانوا‬
‫يريدون أن يضل املؤمنون فنزلت هذه اآلية‪.‬‬
‫شك أنه عظيم ابلنسبة إىل ميل من اقرتف‬
‫وامليل العظيم هو االحنراف عن احلق إىل الباطل ‪ ،‬وال ه‬
‫خطيئة على ندرة ‪ ،‬واعرتف أبهنها خطيئة ‪ ،‬ومل يستحلهها‪.‬‬
‫ض ُع َع ْن ُه ْم‬
‫ف َع ْن ُك ْم يف مجيع التكاليف إحساان منه إليكم ‪ ،‬ونظريه قوله تعاىل ‪َ :‬ويَ َ‬ ‫اّللُ أَ ْن ُخيَهِف َ‬
‫يُ ِري ُد ا‬
‫ت َعلَْي ِه ْم [األعراف ‪ ]157 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫ًلل الاِيت كانَ ْ‬ ‫إِ ْ‬
‫ص َر ُه ْم َو ْاألَغْ َ‬
‫اّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر [البقرة ‪ ]185 :‬وقوله ‪َ :‬وما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِيف ال هِدي ِن ِم ْن‬
‫يُ ِري ُد ا‬
‫َح َر ٍج [احلج ‪ ]78 :‬وقوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬جئتكم ابحلنيفية السمحة» «‪»1‬‬
‫حرم علينا ما ذكر حترميه من النساء ‪ ،‬فقد أابح لنا غريهن من سائر النساء ‪ ،‬اترة‬
‫وذلك ألنه وإن ه‬
‫ابلنكاح ‪ ،‬واترة مبلك اليمني ‪ ،‬وكذلك مجيع احملرمات ‪ ،‬قد أابح لنا من جنسها أضعاف ما حظر‬
‫‪ ،‬فجعل لنا مندوحة عن احلرام مبا أابح من احلًلل‪.‬‬
‫وسوغوا فيه االجتهاد ‪،‬‬
‫حيتج هبا يف املصري إىل التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء ‪ ،‬ه‬
‫وهذه اآلايت ه‬
‫خري بني أمرين إال اختار أيسرمها ما مل يكن إمثا «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه ما ه‬
‫ومن مشائله صلهى ه‬
‫ضعِيفاً يستميله هواه وشهوته ‪ ،‬ويستشيطه خوفه وحزنه ‪ ،‬فهو عاجز عن خمالفة‬ ‫َو ُخلِ َق ِْ‬
‫اإلنْسا ُن َ‬
‫اّلل عنه يف التكاليف ‪ ،‬ور هخص له يف كثري من‬
‫وحتمل مشاق الطاعة ‪ ،‬فلذلك خ هفف ه‬
‫اهلوى ‪ ،‬ه‬
‫األحكام‪.‬‬
‫وروي عن ابن عباس «‪ »3‬أنه قال ‪ :‬مثاين آايت يف سورة النساء هي خري هلذه األمة مما طلعت‬
‫ف َع ْن ُك ْم إِ ْن‬ ‫اّللُ أَ ْن ُخيَهِف َ‬ ‫عليه الشمس وغربت ي ِري ُد ا ِ‬
‫وب َعلَْي ُك ْم يُ ِري ُد ا‬
‫اّللُ يُ ِري ُد أَ ْن يَتُ َ‬
‫ني لَ ُك ْم َو ا‬‫اّللُ ليُ بَِه َ‬ ‫ُ‬
‫اّللَ ال يَظْلِ ُم ِمثْ َ‬
‫قال ذَ ارةٍ َوَم ْن يَ ْع َم ْل‬ ‫اّللَ ال يَغْ ِف ُر أَ ْن يُ ْش َر َك بِهِ إِ ان ا‬‫ََتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُ ْن َه ْو َن َعنْهُ إِ ان ا‬
‫سهُ‬ ‫ِ‬
‫ُسوءاً أ َْو يَظْل ْم نَ ْف َ‬
‫اّللُ بِ َعذابِ ُك ْم‪.‬‬
‫ما يَ ْف َع ُل ا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪ )266 /5‬و(‪.)116 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 61 ، )201 /4‬كتاب املناقب ‪ - 23 ،‬ابب صفة النيب‬
‫اّلل عليه وسلهم حديث رقم (‪ ، )3560‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 43 ، )1813 /4‬كتاب‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم لآلاثم حديث رقم (‪.)2327 /77‬‬
‫الفضائل ‪ - 20 ،‬ابب مباعدته صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم حديث‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح كتاب املناقب ‪ ،‬ابب صفة النيب صلهى ه‬
‫رقم (‪.)3560‬‬

‫ص ‪271 :‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّها الا ِذين آمنُوا ال َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابل ِ‬
‫ْباط ِل إِاال أَ ْن تَ ُكو َن َِت َارةً َع ْن‬ ‫قال ه‬
‫ْ ْ َْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ك عُ ْدواانً َوظُلْماً‬ ‫اّللَ كا َن بِ ُك ْم َرِحيماً (‪َ )29‬وَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬‫س ُك ْم إِ ان ا‬ ‫تَر ٍ ِ‬
‫اض م ْن ُك ْم َوال تَ ْقتُلُوا أَنْ ُف َ‬
‫اّلل كل أحد من املؤمنني عن أكل مال‬ ‫اّللِ يَ ِسرياً (‪ )30‬ينهى ه‬ ‫ك َعلَى ا‬ ‫صلِيهِ انراً َوكا َن ذلِ َ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫س ْو َ‬
‫فَ َ‬
‫غريه ابلباطل ‪ ،‬وعن أكل مال نفسه ابلباطل ‪ ،‬أل هن قوله تعاىل ‪ :‬أ َْموالَ ُك ْم يقع على مال نفسه‬
‫ومال غريه ‪ ،‬وأكل مال نفسه ابلباطل إنفاقه يف املعاصي ‪ ،‬وأكل مال غريه ابلباطل فيه وجهان ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬ما قاله السدي ‪ :‬وهو أن أيكل ابلراب والقمار والبخس والظلم‪ .‬فالباطل ما خيالف‬
‫الشرع‪.‬‬
‫واثنيهما ‪ :‬ما قاله ابن عباس واحلسن وهو أن أيكل بغري عوض ‪ ،‬فالباطل كل ما يؤخذ بغري‬
‫عوض‪.‬‬
‫وقد تضمن األكل ابلباطل أكل أبدال العقود الفاسدة ‪ ،‬كبيع ما ال ميلك ‪ ،‬وكمن اشرتى شيئا‬
‫من املأكول فوجده فاسدا ال ينتفع به ‪ ،‬كاجلوز والبيض والبطيخ ‪ ،‬فيكون أكل مثنه أكل مال‬
‫ابلباطل‪ .‬وكذلك مثن كل ما ال قيمة له وال ينتفع به كالقردة واخلنازير والذابب والزانبري وامليتة‬
‫واخلمر ‪ ،‬وكذلك أجرة النائحة وآلة اللهو‪.‬‬
‫يدل على أ هن من ابع بيعا فاسدا وأخذ مثنه أنه منهي عن أكل مثنه ‪ ،‬وعليه رده‪.‬‬ ‫هذا ه‬
‫ِ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِاال أَ ْن تَ ُكو َن َت َ‬
‫ارةً االستثناء فيه منقطع‪.‬‬
‫وقرأ الكوفيون بنصب َتارة ‪ ،‬وعليها يكون اسم تَ ُكو َن عائدا على األموال ‪ ،‬أي ‪ :‬إال أ هن تكون‬
‫األموال املتداولة بينكم َتارة صادرة عن تراض منكم‪.‬‬
‫وقرأ الباقون برفع َتارة ‪ ،‬وحاصل املعىن ‪ :‬ال تقصدوا أكل األموال ابلباطل ‪ ،‬لكن اقصدوا كون‬
‫األموال َتارة عن تراض ‪ ،‬أو لكن اقصدوا وقوع َتارة عن تراض‪.‬‬
‫وخصها ابلذكر من بني‬
‫والتجارة اسم يقع على عقود املعاوضات ‪ ،‬املقصود هبا طلب األرابح ‪ ،‬ه‬
‫سائر أسباب امللك لكوهنا أغلب وقوعا ‪ ،‬وأوفق لذي املروءات‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إ هن أطيب‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أخرج األصبهاين عن معاذ بن جبل ‪ :‬قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫الكسب كسب التجار ‪ :‬الذين إذا حدثوا مل يكذبوا ‪ ،‬وإذا ائتمنوا مل خيونوا ‪ ،‬وإذا وعدوا مل خيلفوا‬
‫‪ ،‬وإذا اشرتوا مل يذموا ‪ ،‬وإذا ابعوا مل يطروا ‪ ،‬وإذا كان عليهم مل ميطلوا ‪ ،‬وإذا كان هلم مل‬
‫يعسروا»‪.‬‬
‫اض ِم ْن ُك ْم على إابحة مجيع أنواع التجارات‬ ‫ِ‬
‫دل ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬إِاال أَ ْن تَ ُكو َن َت َ‬
‫ارةً َع ْن تَر ٍ‬ ‫وقد ه‬
‫بنص الكتاب ‪ ،‬وأشياء بسنة‬
‫ما حصل الرتاضي بني املتعاقدين ‪ ،‬إال أنه قد خص منها أشياء ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬فاخلمر وامليتة وحلم اخلنزير‬
‫الرسول صلهى ه‬

‫ص ‪ 272 :‬وسائر احملرمات يف الكتاب ال جيوز االَتار فيها ‪ ،‬أل هن إطًلق لفظ التحرمي يقتضي‬
‫اّلل عليه وسلهم جعل النهي عن الشحوم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حمرمة ‪ ،‬وأل هن رسول ه‬
‫أ هن سائر وجوه االنتفاع ه‬
‫هنيا عن أكل مثنها ‪،‬‬
‫حرم عليهم الشحوم فباعوها ‪ ،‬فأكلوا مثنها» «‪.»1‬‬
‫اّلل اليهود ه‬
‫ففي احلديث ‪« :‬لعن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم عن بيع املنابذة ‪ ،‬واملًلمسة «‪ ، »2‬وبيع احلصاة وبيع‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وهنى رسول ه‬
‫الغرر ‪ »3« ،‬وبيع العبد اآلبق «‪ ، »4‬وبيع ما مل يقبض «‪ ، »5‬وبيع ما ليس عند اإلنسان «‪»6‬‬
‫‪ ،‬وحنوها من البيوعات اجملهولة واملعقودة على غرر‪ .‬كل ذلك وحنوه خمصوص من ظاهر قوله‬
‫اض ِمنْ ُك ْم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬إِاال أَ ْن تَ ُكو َن َت َ‬
‫ارةً َع ْن تَر ٍ‬
‫حل التصرف يف‬
‫وظاهر اآلية يشهد للحنفية واملالكية ومن نفى خيار اجمللس ‪ ،‬أل هن اآلية تقتضي ه‬
‫تفرق املتبايعان أم مل يتفرقا ‪ ،‬فإ هن الذي يسمى َتارة يف عقد‬
‫املبيع بوقوع البيع عن تراض ‪ ،‬سواء ه‬
‫التفرق واالجتماع من التجارة يف شيء‪.‬‬
‫البيع إمنا هو اإلجياب والقبول‪ .‬وليس ه‬
‫والقائلون خبيار اجمللس ومنهم الشافعي والثوري والليث وغريهم يقولون ‪ :‬إن اآلية خمصوصة مبا‬
‫رواه البخاري «‪ »7‬وغريه من‬
‫كل واحد منهما ابخليار على صاحبه ما مل يتفرقا ‪ ،‬إال بيع‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬البيهعان ه‬
‫قوله صلهى ه‬
‫اخليار»‬
‫كما خصصت أبحاديث النهي عن البيوع الباطلة ‪ ،‬فيما تقدم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )57 /3‬كتاب البيوع ‪ - 112 ،‬ابب بيع امليتة‬
‫حديث رقم (‪( )2236‬بلفظ خمتلف) ومسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )1207 /3‬كتاب‬
‫املساقاة ‪ - 13 ،‬ابب حترمي اخلمر وامليتة حديث رقم (‪( )1581 /71‬بلفظ خمتلف)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )34 /3‬كتاب البيوع ‪ - 63 ،‬ابب بيع املنابذة‬
‫حديث رقم (‪ ، )2146‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 21 ، )1151 /3‬كتاب البيوع ‪ - 1 ،‬ابب‬
‫إبطال بيع املًلمسة حديث رقم (‪.)1511 /1‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 21 ، )1153 /3‬كتاب البيوع ‪ - 2 ،‬ابب بطًلن بيع‬
‫احلصاة حديث رقم (‪.)1513‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه (‪ ، )740 /2‬كتاب التجارات ‪ ،‬ابب النهي عن شراء ما يف بطون األنعام‬
‫حديث رقم (‪.)2196‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 21 ، )1159 /3‬كتاب البيوع ‪ - 8 ،‬ابب بطًلن بيع املبيع‬
‫قبل القبض حديث رقم (‪].....[ .)1525 /29‬‬
‫(‪ )6‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )737 /2‬كتاب التجارات ‪ ،‬ابب النهي عن بيع ما ليس عندك‬
‫حديث رقم (‪.)2187‬‬
‫(‪ )7‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )24 /3‬كتاب البيوع ‪ - 44 ،‬ابب البيعان ابخليار‬
‫حديث رقم (‪ ، )2111‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 21 ، )1163 /3‬كتاب البيوع ‪ - 10 ،‬ابب‬
‫ثبوت خيار اجمللس حديث رقم (‪.)1531 /43‬‬
‫ص ‪273 :‬‬
‫س ُك ْم ملا كان املال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها ‪ ،‬وبه صًلحها ‪ ،‬حسن‬
‫َوال تَ ْقتُلُوا أَنْ ُف َ‬
‫اجلمع بني التوصية حبفظ املال ‪ ،‬والتوصية حبفظ النفس‪.‬‬
‫س ُك ْم النهي عن أن يقتل املؤمن نفسه ‪ ،‬وعلى هذا الظاهر‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪َ :‬وال تَ ْقتُلُوا أَنْ ُف َ‬
‫اقتصر البلخي فقال ‪ :‬املراد النهي عن قتل اإلنسان نفسه يف حال غضب أو ضجر‪.‬‬
‫ونظري ذلك‬
‫يتوجأ هبا يف بطنه يف انر‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬من قتل نفسه حبديدة فحديدته يف يده ه‬
‫قوله صلهى ه‬
‫جهنم» «‪.»1‬‬
‫ولكن مجهور املفسرين على أن املعىن ‪ :‬ال يقتل بعضكم بعضا ‪ ،‬وإمنا قال ‪:‬‬
‫س ُك ْم مبالغة يف الزجر ‪ ،‬وقد ورد يف احلديث ‪« :‬املؤمنون كالنفس الواحدة» «‪»2‬‬
‫أَنْ ُف َ‬
‫وأل هن العرب يقولون ‪ :‬قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ‪ ،‬ألن قتل بعضهم جيري جمرى قتلهم‪.‬‬
‫وأنكر بعض الناس قول البلخي ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن املؤمن مع إميانه ال جيوز أن ينهى عن قتل نفسه ‪،‬‬
‫ألنه ملجأ إىل أال يقتل نفسه ‪ ،‬وذلك أل هن الصارف عنه يف الدنيا قائم ‪ ،‬وهو األمل الشديد والذم‬
‫العظيم ‪ ،‬والصارف عنه أيضا يف اآلخرة قائم ‪ ،‬وهو استحقاق العذاب الشديد‪.‬‬
‫وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يقتل نفسه ‪ ،‬وإذا كان كذلك مل يكن للنهي عنه فائدة‪.‬‬
‫وهذا غري سديد ‪ ،‬أل هن قتل النفس ما مل ينه عنه ال يعلم أنه يوجب العذاب األليم يف اآلخرة ‪،‬‬
‫ورمبا تيهل اإلنسان أن نفسه ملكه ‪ ،‬فإذا خبع نفسه فًل عقوبة عليه ‪ ،‬إذ هو مل يعتد على غريه‪.‬‬
‫يظن معه أن القتل عليه أسهل ‪ ،‬وإذا‬
‫ابّلل واليوم اآلخر يلحقه من الغم واألذية ما ه‬
‫وكم من مؤمن ه‬
‫كان كذلك كان يف النهي عن قتل اإلنسان نفسه فائدة أي فائدة ‪ ،‬ال سيما يف عصران احلاضر ‪،‬‬
‫حب الدنيا ‪ ،‬واستهوهتم الشهوات ‪ ،‬وسرت إليهم‬
‫حيث ضعف إميان الناس ‪ ،‬وغلب عليهم ه‬
‫ضل أن يقتل نفسه لدريهمات خسرها يف َتارته ‪ ،‬أو‬
‫عدوى االنتحار ‪ ،‬فرتى الواحد منهم يف ه‬
‫خلًلف بينه وبني زوجته ‪ ،‬أو لضيق ذات‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 76 ، )41 /7‬كتاب الطب ‪ - 56 ،‬ابب شرب السم‬
‫حديث رقم (‪ ، )5778‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )103 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 47 ،‬ابب‬
‫غلظ حترمي اإلنسان نفسه حديث رقم (‪.)109 /175‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 45 ، )200 /4‬كتاب الصلة ‪ - 17 ،‬ابب تراحم املؤمنني‬
‫حديث رقم (‪( )2586 /67‬بلفظ خمتلف)‪.‬‬
‫ص ‪274 :‬‬
‫يده أو أل هن فًلان رفض خطبته أو ما أشبه ذلك من توافه األمور‪.‬‬
‫وال مانع من أن تكون اآلية هنيا عن قتل أنفسهم ‪ ،‬وعن قتل بعضهم بعضا ‪ ،‬وعما يؤدي إىل‬
‫ذلك ‪ :‬كتناول املخدرات ‪ ،‬واستعمال السموم الضارة ابجلسم ‪ ،‬واجملازفة فيما خيشى منه اهلًلك‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬ملا بعثين النيب‬
‫أخرج اإلمام أمحد وأبو داود «‪ »1‬عن عمرو بن العاص رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم عام ذات السًلسل احتلمت يف ليلة ابردة شديدة الربد ‪ ،‬فأشفقت إن‬
‫صلهى ه‬
‫اغتسلت أن أهلك ‪ ،‬فتيممت ‪ ،‬مث صليت أبصحايب صًلة الصبح ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما قدمنا على‬
‫اّلل عليه وسلهم ذكر ذلك له ‪ ،‬فقال ‪« :‬اي عمرو صليت أبصحابك وأنت‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫جنب»؟‬
‫اّلل ‪ ،‬إين احتلمت يف ليلة ابردة شديدة الربد ‪ ،‬فأشفقت إن اغتسلت أن‬
‫قلت ‪ :‬نعم اي رسول ه‬
‫س ُك ْم اآلية فتيممت ‪ ،‬مث صليت ‪ ،‬فضحك رسول‬
‫أهلك ‪ ،‬وذكرت قوله تعاىل ‪َ :‬وال تَ ْقتُلُوا أَنْ ُف َ‬
‫اّلل عليه وسلهم ومل يقل شيئا‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل عنه أ هن اآلية تتناول بعمومها مثل حالته ‪ ،‬وأقره النيب صلهى ه‬
‫ففهم عمرو رضي ه‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫اّللَ كا َن بِ ُك ْم َرِحيماً تعليل للنهي ‪ ،‬أي إمنا ينهاكم عن أكل احلرام وإهًلك‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِ ان ا‬
‫األنفس ‪ ،‬ألنه مل يزل بكم رحيما‪.‬‬
‫اّللِ يَ ِسرياً (‪.)30‬‬ ‫ك َعلَى ا‬‫صلِيهِ انراً َوكا َن ذلِ َ‬
‫ف نُ ْ‬
‫س ْو َ‬ ‫َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬
‫ك عُ ْدواانً َوظُلْماً فَ َ‬
‫املشار إليه أقرب مذكور ‪ ،‬وهو قتل النفس‪ .‬روي ذلك عن عطاء ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو وما قبله‪.‬‬
‫آمنُوا ال َِحيلُّ لَ ُك ْم أَ ْن تَ ِرثُوا‬ ‫ِ‬
‫احملرمات من قوله تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫وقيل ‪ :‬جمموع ما تقدم من ه‬
‫النهِساءَ َك ْرهاً [النساء ‪ ]19 :‬إىل هنا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من أول السورة إىل هنا‪.‬‬
‫والعدوان ‪ :‬اإلفراط يف جماوزة احلد ‪ ،‬وأصل الظلم النقص واجلور وجماوزة احلد ‪ ،‬فقيل ‪ :‬املراد‬
‫اّلل ‪ ،‬وهو كفر‪.‬‬
‫ابلظلم هنا قصد التعدي على حدود ه‬
‫وقيل املراد ‪ :‬ابلعدوان والظلم معىن واحد ‪ ،‬ودفع التكرار أبن املراد ابلعدوان التعدي على الغري‬
‫‪ ،‬وابلظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب‪.‬‬
‫اّلل على ذلك يف اآلخرة‬
‫واملعىن ‪ :‬أن من يفعل ذلك احملرم حال كونه ذا عدوان وظلم عاقبه ه‬
‫اّلل ‪ ،‬ال مينعه منه مانع‪.‬‬
‫هني على ه‬
‫إبدخاله انرا شديدة اإلحراق ‪ ،‬وإدخاله النار أمر ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )140 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب إذا خاف اجلنب حديث رقم‬
‫(‪ ، )334‬وأمحد يف املسند (‪.)203 /4‬‬
‫ص ‪275 :‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ْن ََتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُ ْن َه ْو َن َع ْنهُ نُ َك هِف ْر َع ْن ُك ْم َسيهِئاتِ ُك ْم َونُ ْد ِخلْ ُك ْم ُم ْد َخ ًًل َك ِرمياً‬
‫قال ه‬
‫(‪ )31‬واجتناب الشيء تركه واالبتعاد عنه ‪ ،‬كأنه ترك جانبه وانحيته‪.‬‬
‫والتكفري الغفر واحملو‪.‬‬
‫واملراد ابلسيئات ‪ :‬الصغائر لوقوعها يف مقابلة الكبائر‪.‬‬
‫واملدخل الكرمي ‪ :‬اجلنة‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف الذنوب أهي متفاوتة ‪ ،‬فيها كبائر وفيها صغائر ‪ ،‬أم ال؟‬
‫اّلل به فهو كبرية‪ .‬وهذا القول ضعيف ‪،‬‬
‫فروى سعيد بن جبري عن ابن عباس أ هن كل شيء عصي ه‬
‫ألن هذه اآلية قد فصلت بني الكبائر وما يك هفر ابجتناب الكبائر‪ .‬فلو كانت الذنوب أبسرها‬
‫كبائر مل يصح هذا الفصل‪.‬‬
‫واجلمهور على أن الذنوب متفاوتة منقسمة إىل كبائر وصغائر ‪ ،‬قال العًلمة ابن حجر اهليتمي ‪:‬‬
‫إنه ال خًلف بني الفريقني يف املعىن ‪ ،‬وإمنا اخلًلف يف التسمية واإلطًلق ‪ ،‬إلمجاع الكل على أ هن‬
‫من املعاصي ما يقدح يف العدالة ‪ ،‬ومنها ما ال يقدح فيها ‪ ،‬وإمنا األولون فروا من التسمية ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وشدة عقابه ‪ ،‬وإجًلله عن‬
‫اّلل تعاىل صغرية نظرا إىل عظمة ه‬
‫فكرهوا تسمية معصية ه‬
‫أي كبرية ‪ ،‬ومل ينظر اجلمهور إىل ذلك ‪ ،‬ألنه‬
‫تسمية معصيته صغرية ‪ ،‬ألهنا إىل ابهر عظمته كبرية ه‬
‫قسموها إىل قسمني كما تقتضيه صرائح اآلايت واألخبار ‪ ،‬وال سيما هذه اآلية اه‪.‬‬
‫معلوم ‪ ،‬بل ه‬
‫والقائلون ابنقسام الذنوب إىل كبائر وصغائر فريقان ‪:‬‬
‫فريق يقول ‪ :‬الكبرية تتميز عن الصغرية يف نفسها وذاهتا‪.‬‬
‫فرب ذنب يكون صغرية ابلنسبة‬
‫وفريق يقول ‪ :‬هذا االمتياز إمنا يكون حبسب حال فاعليها ‪ ،‬ه‬
‫لشخص وكبرية ابلنسبة آلخر ‪ ،‬ولذلك قيل ‪ :‬حسنات األبرار سيئات املقربني‪.‬‬
‫والذين ذهبوا إىل أ هن الكبرية َتتاز يف نفسها عن الصغرية اختلفوا يف ضبط الكبرية اختًلفا شديدا‬
‫‪ ،‬فمنهم من ضبطها ابلعد ‪ ،‬ومنهم من ضبطها ابحلد‪.‬‬
‫اّلل من أول هذه السورة إىل هنا‬
‫فقيل يف عدها عن ابن عباس يف إحدى الرواايت ‪ :‬إهنها ما ذكره ه‬
‫‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي سبع كما‬
‫يف «الصحيحني» «‪»1‬‬
‫«اجتنبوا السبع املوبقات»‪.‬‬
‫اّلل إال ابحلق ‪ ،‬وأكل مال اليتيم ‪،‬‬
‫حرم ه‬
‫ابّلل ‪ ،‬والسحر ‪ ،‬وقتل النفس اليت ه‬
‫«الشرك ه‬
‫__________‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ان‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ ، )256 /3‬كتاب الوصااي ‪ - 2 ،‬ابب قول ه‬
‫ِ‬
‫الاذ َ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َ‬
‫وال الْيَتامى ظُلْماً حديث رقم (‪ ، )2766‬ومسلم يف الصحيح (‪1 ، )92 /1‬‬
‫‪ -‬كتاب اإلميان ‪ - 38 ،‬ابب بيان الكبائر حديث رقم (‪.)89 /145‬‬

‫ص ‪276 :‬‬
‫التويل يوم الزحف ‪ ،‬وقذف احملصنات املؤمنات الغافًلت»‪.‬‬
‫وأكل الراب ‪ ،‬و ه‬
‫وقيل تسع ‪ ،‬وقيل عشر ‪ ،‬وقيل أكثر ‪ ،‬فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أيضا أنه قيل له ‪:‬‬
‫هل الكبائر سبع؟ فقال ‪ :‬هي إىل السبعني أقرب ‪ ،‬وروى ابن جبري أنه قال ‪:‬‬
‫إىل السبعمائة أقرب‪.‬‬
‫والذين ضبطوا الكبرية ابحلد ذكروا هلا ع هدة تعاريف ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬هي كل معصية أوجبت‬
‫احلد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي كل ذنب قرن ابلوعيد الشديد يف الكتاب أو السنة‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هي كل معصية أوجبت احلد أو قرنت ابلوعيد الشديد‪ .‬وقيل ‪ :‬هي كل ما نص الكتاب‬
‫على حترميه بلفظ التحرمي ‪ ،‬إىل غري ذلك من األقوال الكثرية‪.‬‬
‫قال الواحدي ‪ :‬الصحيح أن الكبرية ليس هلا ح هد يعرفها العباد به ‪ ،‬وإال القتحم الناس الصغائر‬
‫املنهي عنه رجاء أن‬
‫اّلل تعاىل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا يف اجتناب ه‬
‫ولكن ه‬
‫واستباحوها ‪ ،‬ه‬
‫َتتنب الكبائر ‪ ،‬ونظري ذلك إخفاء ليلة القدر والصًلة الوسطى وساعة اإلجابة اه‪.‬‬
‫اّلل تعاىل لو هبني لنا أ هن الكبائر ليست إال كذا وكذا عدا أو حدا ‪ ،‬وانضم إىل ذلك ما‬
‫يريد أ هن ه‬
‫عرفناه من هذه اآلية أنه مَّت احرتزان عن الكبائر صارت صغائران مك هفرة ‪ ،‬لكانت اآلية إغراء لنا‬
‫يبني يف بعض الذنوب أنه‬
‫ابإلقدام على الصغائر ‪ ،‬واإلغراب ابلقبيح ال يليق‪ .‬ولكن جيوز أن ه‬
‫يبني مجيع الكبائر ال ع هدا وال ح هدا‪.‬‬
‫كبرية وال يكون يف ذلك إغراء إذ مل ه‬
‫وبعد فقد استشكلت اآلية مع ما رواه مسلم «‪ »1‬من‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬الصلوات اخلمس مكفرات ملا بينهن إذا اجتنبت الكبائر»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫ووجه اإلشكال أ هن الصلوات إذا ك هفرت مل يبق ما يكفره غريها ‪ ،‬فلم يتحقق مضمون اآلية ‪ ،‬وأن‬
‫اجتناب الكبائر إذا ك هفر مل يبق ما تكفره الصلوات ‪ ،‬فلم يتحقق مضمون احلديث‪.‬‬
‫وأجيب عنه أبجوبة أصحها أن اآلية واحلديث مبعىن واحد ‪ ،‬فمضمون احلديث أ هن من اجتنب‬
‫ترك الصًلة ‪ ،‬واجتنب الكبائر ك هفرت سيئاته الصغائر ‪ ،‬وهذا هو معىن اآلية ‪ ،‬فيكون احلديث‬
‫بياان وتنبيها على أ هن ترك الصًلة من الكبائر فتدبهر‪.‬‬
‫ص ِ‬ ‫لر ِ ِ‬ ‫ض لِ هِ‬ ‫اّللُ بِهِ بَ ْع َ‬
‫يب مماا ا ْكتَ َ‬
‫سبُوا‬ ‫جال نَ ٌ‬ ‫ض ُك ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ال ا‬‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال تَتَ َمن ْاوا ما فَض َ‬
‫قال ه‬
‫اّللَ كا َن بِ ُك ِهل َش ْي ٍء َعلِيماً (‪ )32‬التمين ‪:‬‬ ‫اّللَ ِم ْن فَ ْ‬
‫ضلِهِ إِ ان ا‬ ‫نب َو ْسئَ لُوا ا‬ ‫ص ِ‬
‫يب مماا ا ْكتَ َ‬
‫س َْ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫َوللنهساء نَ ٌ‬
‫طلب ما يعلم أو يظن أنه ال يكون‪.‬‬
‫ليطهر ابطنهم‪ .‬بعد‬
‫اّلل املؤمنني عن فعل من أفعال القلوب ‪ ،‬وهو احلسد ‪ ،‬ه‬
‫ينهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه يف الصحيح (‪ - 2 ، )209 /1‬كتاب الطهارة ‪ - 5 ،‬ابب الصلوات اخلمس حديث‬
‫رقم (‪.)233 /16‬‬

‫ص ‪277 :‬‬
‫ليطهر ظاهرهم‪.‬‬
‫أن هناهم عن أكل األموال ابلباطل ‪ ،‬وقتل النفس ‪ ،‬وذلك من أفعال اجلوارح ه‬
‫وقد ذكر املفسرون يف سبب نزول هذه اآلية وجوها أشهرها ما روي عن جماهد أ هن أم سلمة‬
‫اّلل يغزو الرجال وال نغزو ‪ ،‬وهلم من املرياث ضعفنا ‪ ،‬فليتنا كنا رجاال فنزلت‬
‫قالت ‪ :‬اي رسول ه‬
‫اآلية «‪.»1‬‬
‫روي عن ابن عباس يف معىن اآلية ‪ :‬ال يقل أحدكم ليت ما أعطي فًلن من املال والنعمة واملرأة‬
‫احلسناء كان عندي ‪ ،‬فإ هن ذلك يكون حسدا ‪ ،‬ولكن ليقل ‪ :‬اللهم أعطين مثله‪.‬‬
‫اّلل به بعضكم‬
‫وعلى هذا التأويل تكون اآلية على ظاهرها ‪ ،‬ويكون معناها ‪ ،‬وال تتمنوا ما ميهز ه‬
‫من املال واجلاه ‪ ،‬وكل ما جيري فيه التنافس ‪ ،‬فإ هن هذا التفضيل قسمة صادرة من حكيم خبري‬
‫ض َدر ٍ‬
‫جات [الزخرف ‪]32 :‬‬ ‫ض ُه ْم فَ ْو َق بَ ْع ٍ َ‬ ‫شتَ ُه ْم ِيف ا ْحلَياةِ ُّ‬
‫الدنْيا َوَرفَ ْعنا بَ ْع َ‬ ‫س ْمنا بَ ْي نَ ُه ْم َمعِي َ‬
‫َْحن ُن قَ َ‬
‫اّلل له ‪ ،‬وال حيسد غريه ‪ ،‬أل هن احلسد‬
‫وعلى من كان حظه من الدنيا قليًل أن يرضى مبا قسم ه‬
‫أشبه شيء ابالعرتاض على من أتقن كل شيء وأحكمه‪.‬‬
‫وق هدر بعضهم يف الكًلم مضافا ينساق إليه الذهن ‪ ،‬ويقتضيه املقام فقال ‪ :‬املعىن وال تتمنوا مثل‬
‫اّلل به بعضكم على بعض ‪ ،‬أل هن املقام ليس مقام طلب زوال النعمة عن الغري ‪ ،‬بل إمنا‬
‫ما فضل ه‬
‫خاصة أن تكون له ‪ ،‬وأما أن تزول عن غريه أو ال تزول فليس من القصد يف‬
‫هو طلب نعمة ه‬
‫شيء‪.‬‬
‫وعلى هذا التأويل يكون َتين مثل ما للغري منهيا عنه ‪ ،‬ألنه قد يكون ذريعة إىل احلسد ‪ ،‬وأل هن‬
‫تلك النعمة اليت َتناها خبصوصها رمبا كانت مفسدة له يف دينه ‪ ،‬ومضرة عليه يف دنياه ‪ ،‬فًل جيوز‬
‫أن يقول ‪ :‬اللهم أعطين دارا مثل دار فًلن ‪ ،‬وال ولدا مثل ولده ‪ ،‬بل ينبغي أن يقول ‪ :‬اللهم‬
‫يتعرض ملن فضل عليه‪.‬‬
‫أعطين ما يكون صًلحا يل يف ديين ودنياي ومعادي ومعاشي ‪ ،‬وال ه‬
‫ويؤيد أتويل ابن عباس يف اآلية ما‬
‫يتمن أحد مال أخيه ‪ ،‬ولكن ليقل اللهم ارزقين ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬ال ه‬
‫روي عنه صلهى ه‬
‫اللهم أعطين مثله»‪.‬‬
‫ص ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬لِ هِ‬
‫لر ِ ِ‬
‫نب تعليل للنهي السابق ‪ ،‬أي‬ ‫يب مماا ا ْكتَ َ‬
‫س َْ‬ ‫يب مماا ا ْكتَ َ‬
‫سبُوا َوللنهساء نَ ٌ‬ ‫جال نَ ٌ‬
‫ظ مق هدر يف األزل من نعيم الدنيا يف التجارات والزراعات ‪،‬‬
‫لكل من فريقي الرجال والنساء ح ه‬
‫يتمن أحد خًلف ما قسم له‪.‬‬
‫وغري ذلك من املكاسب ‪ ،‬فًل ه‬
‫اّللَ ِم ْن فَ ْ‬
‫ضلِهِ‪ .‬حذف منه مفعوله إلفادة العموم ‪ ،‬أي ‪:‬‬ ‫وقوله تعاىل ‪َ :‬و ْسئَ لُوا ا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )221 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪.)3022‬‬

‫ص ‪278 :‬‬
‫واسألوا ما شئتم من إحسانه الزائد ‪ ،‬وإنعامه املتكاثر ‪ ،‬فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء‪.‬‬
‫اّلل حيب أن يسأل ‪،‬‬
‫اّلل من فضله ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬سلوا ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وعن رسول ه‬
‫وإ هن من أفضل العبادة انتظار الفرج» «‪.»1‬‬
‫وقال سفيان بن عيينة ‪ :‬مل أيمر سبحانه ابملسألة إال ليعطي‪.‬‬
‫اّللَ كا َن بِ ُك ِهل َش ْي ٍء َعلِيماً ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب استعدادهم وتفاوت‬
‫إِ ان ا‬
‫درجاهتم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ولِ ُك ٍل جعلْنا م ِ ِ‬
‫وه ْم‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم فَآتُ ُ‬ ‫وايل مماا تَ َر َك الْوالدان َو ْاألَق َْربُو َن َوالاذ َ‬
‫ين َع َق َد ْ‬ ‫َ ه ََ َ َ‬ ‫قال ه‬
‫اّللَ كا َن َعلى ُك ِهل َش ْي ٍء َش ِهيداً (‪)33‬‬ ‫نَ ِ‬
‫صيبَ ُه ْم إِ ان ا‬
‫شرح املفردات‬
‫التنوين يف كلمة ُك ِهل عوض عن مضاف إليه مفرد ‪ ،‬سيأِت بيانه‪.‬‬
‫واملوايل مجع موىل ‪ ،‬لفظ مشرتك بني معان ‪ ،‬فيقال للسيد املعتق ‪ :‬موىل ‪ ،‬ألنه ويل النعمة يف‬
‫ويسمى موىل النعمة ‪ ،‬ويقال للعبد املعتق ‪ :‬موىل ‪ ،‬ويقال للحليف ‪ :‬موىل ‪ ،‬ويقال‬
‫عتقه ‪ ،‬ه‬
‫للناصر ‪ :‬موىل ‪ ،‬ويقال للعصبة ‪ ،‬موايل ‪ ،‬وهذا األخري هو األليق هبذه اآلية الكرمية ‪ ،‬ويؤيده ما‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬أان أوىل الناس ابملؤمنني ‪ ،‬من مات‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روي عن أيب هريرة أن رسول ه‬
‫وترك ماال فماله للموايل العصبة ‪ ،‬ومن ترك كًل أو ضياعا فأان وليه» «‪.»2‬‬
‫واألميان مجع ميني ‪ ،‬ومعناه هنا اليد اليمىن ‪ ،‬وإسناد العقد إىل األميان جماز ‪ ،‬ألنه كان من عادهتم‬
‫أن أيخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك ابلعهد‪.‬‬
‫وايل ِمماا تَر َك الْوالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫دان َو ْاألَق َْربُو َن فذكروا‬ ‫واختلف املفسرون يف أتويل قوله تعاىل ‪َ :‬ول ُك ٍهل َج َعلْنا َم ِ َ َ‬
‫لذلك أوجها جنملها لك فيما يلي ‪:‬‬
‫ولكل إنسان موروث جعلنا واراث من املال الذي ترك ‪ ،‬وهنا مته الكًلم ويكون قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫‪ -1‬ه‬
‫الْوالِ ِ‬
‫دان َو ْاألَق َْربُو َن جوااب عن سؤال مق هدر نشأ من اجلملة السابقة ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬ومن الوارث؟‬
‫فقيل ‪ :‬الوالدان واألقربون ‪ ،‬أو قيل ‪ :‬ومن هذا اإلنسان املوروث؟ فقيل ‪ :‬الوالدان واألقربون ‪،‬‬
‫فالوالدان واألقربون إما أن يكونوا الوارثني أو املورثني ‪ ،‬وعلى كل فالكًلم مجلتان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )528 /5‬كتاب الدعوات ابب يف انتظار الفرج ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)3571‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 43 ، )116 /3‬كتاب االستقراض ‪ - 11 ،‬ابب الصًلة‬
‫على من ترك دينا حديث رقم (‪ ، )2399‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 23 ، )1238 /3‬كتاب‬
‫الفرائض ‪ - 4 ،‬ابب من ترك ماال ‪ ،‬حديث رقم (‪.)1619 /14‬‬

‫ص ‪279 :‬‬
‫‪ - 2‬ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان واألقربون جعلنا موروثني ‪ ،‬فاجلار واجملرور يف قوله ‪:‬‬
‫ِمماا تَ َر َك متعلق مبحذوف صفة للمضاف إليه ‪ ،‬و(ما) مبعىن من ‪ ،‬والكًلم مجلة واحدة‪.‬‬
‫‪ - 3‬ولكل قوم جعلناهم واراث نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ‪ ،‬فيكون يف الكًلم مبتدأ‬
‫حمذوف ‪ ،‬ويكون قوله ‪ِ :‬مماا تَ َر َك صفة ذلك املبتدأ ‪ ،‬وقوله ‪ :‬لِ ُك ٍهل خربه ‪ ،‬والكًلم مجلة واحدة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ولكل مال من األموال اليت تركها الوالدان واألقربون جعلنا ورثة يلونه وحيوزونه ‪ ،‬وعليه‬
‫يكون لِ ُك ٍهل متعلقا جبعلنا ‪ِ ،‬مماا تَ َر َك صفة املضاف إليه ‪ ،‬والكًلم مجلة واحدة أيضا‪.‬‬
‫وهم نَ ِ‬ ‫ِ‬
‫صيبَ ُه ْم فالراجح فيه أنه مجلة مستقلة عن‬ ‫ت أ َْميانُ ُك ْم فَآتُ ُ ْ‬ ‫وأما قوله تعاىل ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين َع َق َد ْ‬
‫سابقتها ‪ ،‬مؤلهفة من مبتدأ وخرب ‪ ،‬وزيدت الفاء يف اخلرب لتضمن املبتدأ معىن الشرط‪.‬‬
‫وقد اختلف املفسرون يف أتويل هذه اجلملة على وجوه نذكرها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أ هن املراد ابلذين عقدت أميانكم احللفاء ‪ ،‬وهم موايل املواالة ‪ ،‬وكان هلم نصيب من املرياث‬
‫‪ ،‬مث نسخ‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬وغريه عن قتادة قال ‪ :‬كان الرجل يعاقد الرجل يف اجلاهلية فيقول هدمي‬
‫هدمك ‪ ،‬ودمي دمك ‪ ،‬وترثين وأرثك ‪ ،‬وتطلب يب وأطلب بك ‪ ،‬فجعل له السدس من مجيع‬
‫يقسم أهل املرياث مرياثهم ‪ ،‬مث نسخ ذلك بعد يف سورة األنفال بقوله سبحانه ‪َ :‬وأُولُوا‬ ‫املال ‪ ،‬مث ه‬
‫ض [األنفال ‪ ]8 :‬وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغريه‪.‬‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫‪ - 2‬أن املراد هبم األدعياء ‪ ،‬وهم األبناء ابلتبين ‪ ،‬وكانوا يتوارثون بذلك السبب ‪ ،‬مث نسخ آبية‬
‫األنفال‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يؤاخي بني الرجلني من‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ - 3‬أن املراد هبم إخوان املؤاخاة ‪ ،‬وقد كان ه‬
‫أصحابه ‪ ،‬وكانت تلك املؤاخاة سببا يف التوارث ‪ ،‬مث نسخ ذلك مبا تلوان «‪.»2‬‬
‫‪ - 4‬يرى أبو مسلم األصفهاين أن املراد هبم األزواج ‪ ،‬والنكاح يسمى عقدا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم‬ ‫‪ - 5‬يرى اجلبائي أ هن املراد هبم املوايل ‪ ،‬وأ هن قوله تعاىل ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين عَ َق َد ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)34 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )211 /5‬كتاب التفسري ‪ - 7 ،‬ابب َولِ ُك ٍهل َج َعلْنا‬
‫وايل ِمماا تَر َك الْوالِ ِ‬
‫دان حديث رقم (‪.)4580‬‬ ‫َم ِ َ َ‬

‫ص ‪280 :‬‬
‫معطوف على الْوالِ ِ‬
‫دان َو ْاألَق َْربُو َن وخيتار الوجه الرابع يف أتويل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ايل إخل أي ولكل شيء مما تركه الوالدان واألقربون ‪ ،‬والذين عقدت أميانكم موايل‬ ‫َول ُك ٍهل َج َعلْنا َمو ِ َ‬
‫‪ ،‬أي وا راث ‪ ،‬فآتوا املوايل نصيبهم ‪ ،‬وال تدفعوا املال إىل احلليف ‪ ،‬بل إىل املوىل الوارث‪.‬‬
‫‪ - 6‬أ هن املراد هبم احللفاء ‪ ،‬يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة‪.‬‬
‫أخرج البخاري وغريه عن ابن عباس ‪ ،‬فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة والنصيحة ‪ ،‬وقد‬
‫ذهب املرياث ويوصي هلم ‪ ،‬وروي عن جماهد مثله‪.‬‬
‫‪ - 7‬يرى األصم أن املراد هبم احللفاء ‪ ،‬يؤتون من الرتكة على سبيل التحفة واهلدية ابلشيء‬
‫القليل ‪ ،‬كما أمر تعاىل ملن حضر القسمة أي أن يعطى شيئا‪.‬‬
‫وبعد فقد اختلف فقهاء األمصار يف توريث موايل املواالة ‪ ،‬فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وحممد‬
‫وزفر ‪ :‬من أسلم على يدي رجل ووااله وعاقده مث مات وال وارث له غريه فمرياثه له‪.‬‬
‫وقال مالك وابن شربمة والثوري واألوزاعي والشافعي ‪ :‬مرياثه للمسلمني‪.‬‬
‫احتج احلنفية هبذه اآلية وابحلديث ‪ ،‬أما وجه الداللة يف اآلية فهو أ هن قوله تعاىل ‪:‬‬
‫وهم نَ ِ‬ ‫ِ‬
‫صيبَ ُه ْم يقتضي ظاهره نصيبا اثبتا هلم ‪ ،‬والنصرة والنصيحة‬ ‫ت أ َْميانُ ُك ْم فَآتُ ُ ْ‬ ‫َوالاذ َ‬
‫ين َع َق َد ْ‬
‫والوصية ليست بنصيب اثبت ‪ ،‬فتأويل اآلية على النصيب الثابت املسمى يف عقد احملالفة أوىل‬
‫وأشبه مبفهوم اخلطاب من أتويل اآلخرين ‪ ،‬فقد عقلنا من ذلك أ هن ملوىل املواالة نصيبا من‬
‫ض مل ينسخ هذا احلكم ‪ ،‬إمنا حدث‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫املرياث ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪َ :‬وأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫وارث آخر هو أوىل من موىل املواالة ‪ ،‬كحدوث ابن ملن له أخ ‪ ،‬مل خيرج األخ عن أن يكون من‬
‫أهل املرياث إال أن االبن أوىل منه ‪ ،‬وكذلك أولوا األرحام أوىل من احلليف ‪ ،‬فإذا مل يكن رحم‬
‫وال عصبة فاملرياث ملن حالفه وجعله له‪.‬‬
‫وأما‬
‫اّلل ما السنة يف الرجل يسلم على يدي‬
‫احلديث فهو ما روي عن َتيم الداري أنه قال ‪ :‬اي رسول ه‬
‫الرجل من املسلمني؟ قال ‪« :‬هو أوىل الناس مبحياه ومماته» «‪ »1‬فقوله ‪« :‬هو أوىل الناس‬
‫مبماته»‬
‫يقتضي أن يكون أوالهم مبرياثه ‪ ،‬إذ ليس بعد املوت بينهما والية إال يف املرياث‪.‬‬
‫وقال املالكية والشافعية ‪ :‬ال داللة يف اآلية على أ هن احلليف يرث ‪ ،‬ألن داللتها على ذلك‬
‫موقوفة على ثًلثة أمور‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )48 /3‬كتاب الفرائض ‪ ،‬ابب يف الرجل يسلم على يدي‬
‫الرجل حديث رقم (‪.)2902‬‬

‫ص ‪281 :‬‬
‫أن يكون املراد ابلذين عقدت أميانكم احللفاء‪.‬‬
‫وأن يكون املراد ابلنصيب النصيب يف املرياث‪.‬‬
‫وأن تكون اآلية حمكمة غري منسوخة‪.‬‬
‫وقد علمت اختًلف املفسرين من السلف يف أتويل اآلية ‪ ،‬وأن الذين هأولوا املوصول ابحللفاء‬
‫قالوا بنسخ احلكم ‪ ،‬أو محل النصيب على غري املرياث ‪ ،‬على أ هن اآلية يف بعض وجوه التأويل‬
‫تدل على عدم توريثهم ‪ ،‬كما تقدم قريبا عن اجلبائي‪.‬‬
‫وحديث َتيم الداري ليس نصا يف املرياث ‪ ،‬فإنهه حيتمل أنه أوىل مبعونته وحفظه يف حمياه ومماته ‪،‬‬
‫ومعونته وحفظه بعد موته يكوانن حبفظ أوالده ورعاية مصاحلهم ومعونتهم ‪ ،‬ومع ذلك فهو‬
‫معارض مبا‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬ال حلف يف اإلسًلم ‪ ،‬وأميا‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رواه جبري بن مطعم عن رسول ه‬
‫حلف كان يف اجلاهلية مل يزده اإلسًلم إال شدة» «‪»1‬‬
‫فهذا احلديث يقتضي بطًلن حلف اإلسًلم ‪ ،‬ومنع التوارث به ‪ ،‬فإذا كان احلديثان متعارضني‬
‫واآلية حمتملة لعدة وجوه فاألشبه الرجوع هبا إىل ما قاله أئمة التفسري من الصحابة والتابعني مثل‬
‫ابن عباس وجماهد وقتادة وغريهم ‪ ،‬فإهنهم أعرف منا ابلناسخ واملنسوخ ‪ ،‬وقد قالوا ‪ :‬إهنا منسوخة‬
‫آبية األنفال ‪ ،‬وظاهر قول ابن عباس ‪« :‬و قد ذهب املرياث» أن احلليف كان له على حليفه‬
‫النصرة والنصيحة ‪ ،‬وكان له نصيب يف تركته ‪ ،‬فلما نزلت آية األنفال نسخت نصيبه من املرياث‬
‫وبقي ما كان له من النصرة واملشورة‪.‬‬
‫اّللَ كا َن عَلى ُك ِهل َش ْي ٍء َش ِهيداً أي أنه سبحانه مل يزل عاملا جبميع األشياء ‪ ،‬مطلعا على جليها‬
‫إِ ان ا‬
‫كًل من املؤِت واملانع على‬
‫وخفيها ‪ ،‬فيعلم من آتى الوارثني حقهم ومن منعهم ‪ ،‬وسيجازي ه‬
‫حسب ما عمل ‪ ،‬فهي يف هذه احلالة وعد للطائعني ووعيد للعاصني‪.‬‬
‫ض َوِمبا أَنْ َف ُقوا ِم ْن‬
‫ض ُه ْم َعلى بَ ْع ٍ‬ ‫ال ا‬
‫اّللُ بَ ْع َ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬هِ‬
‫جال قَ او ُامو َن َعلَى النهساء مبا فَض َ‬ ‫الر ُ‬ ‫قال ه‬
‫وز ُه ان فَعِظُ ُ‬
‫وه ان‬ ‫شَ‬‫الًلِِت َتافُو َن نُ ُ‬ ‫اّللُ َو ا‬
‫ظ ا‬ ‫ب ِمبا َح ِف َ‬ ‫ظات لِلْغَيْ ِ‬
‫تات حافِ ٌ‬ ‫ت قانِ ٌ‬ ‫صِ‬
‫احلا ُ‬ ‫أ َْمواهلِِ ْم فَال ا‬
‫اّللَ كا َن َعلِيًّا َكبِرياً‬‫وه ان فَِإ ْن أَطَ ْعنَ ُك ْم فًَل تَ ْب غُوا َعلَْي ِه ان َسبِ ًيًل إِ ان ا‬
‫ض ِربُ ُ‬ ‫وه ان ِيف الْم ِ‬
‫ضاج ِع َوا ْ‬ ‫َ‬ ‫ج ُر ُ‬ ‫َوا ْه ُ‬
‫قوام على امرأته ‪،‬‬ ‫قوام ‪ :‬صيغة مبالغة من القيام على األمر مبعىن حفظه ورعايته ‪ ،‬فالرجل ه‬ ‫(‪ )34‬ه‬
‫كما يقوم الوايل على رعيته ابألمر والنهي واحلفظ والصيانة‪.‬‬
‫والقنوت ‪ :‬دوام الطاعة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 44 ، )1961 /4‬كتاب فضائل الصحابة ‪ - 50 ،‬ابب‬
‫اّلل عليه وسلهم حديث رقم (‪].....[ .)2530 /206‬‬
‫مؤاخاة النيب صلهى ه‬

‫ص ‪282 :‬‬
‫توسع فيه ‪،‬‬
‫وأصل النشز بسكون الشني وفتحها املكان املرتفع ‪ ،‬فالنشوز الرتفع احلسي ‪ ،‬مث ه‬
‫فاستعمل يف الرتفع مطلقا ‪ ،‬واملراد ابلنشوز هنا العصيان والرتفع عن املطاوعة‪.‬‬
‫والعظة ‪ :‬النصيحة والزجر‪.‬‬
‫املضاجع ‪ :‬مواضع االضطجاع‪.‬‬
‫وروى مقاتل أن سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته ‪ ،‬فلطمها ‪ ،‬فانطلق أبوها معها إىل النيب صلهى‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬لتقتص من‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪ :‬أفرشته كرمييت فلطمها! فقال النيب صلهى ه‬
‫ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬ارجعوا ‪ ،‬هذا جربيل‬
‫زوجها ‪ ،‬فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ‪ ،‬فقال النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫اّلل هذه اآلية ‪ ،‬وتًلها النيب صلهى ه‬
‫أاتين وأنزل ه‬
‫اّلل للرجال ح هق القيام على النساء ابلتأديب والتدبري واحلفظ والصيانة ‪ ،‬وعلهل ذلك‬
‫جعل ه‬
‫بسببني ‪:‬‬
‫خص الرجال‬
‫اّلل به الرجل على املرأة يف العقل والرأي والعزم والقوة ‪ ،‬ولذلك ه‬
‫أوهلما ‪ :‬ما فضل ه‬
‫ابلرسالة ‪ ،‬والنبوة ‪ ،‬واإلمامة الكربى والصغرى ‪ ،‬وإقامة الشعائر ‪:‬‬
‫كاألذان ‪ ،‬واإلقامة ‪ ،‬واخلطبة ‪ ،‬واجلمعة ‪ ،‬واجلهاد ‪ ،‬وجعل هلم االستبداد ابلفراق والرجعة وإليهم‬
‫االنتساب ‪ ،‬وأابح هلم تعدد األزواج ‪ ،‬وخصهم ابلشهادة يف أمهات القضااي ‪ ،‬وزايدة النصيب يف‬
‫املرياث ‪ ،‬والتعصيب ‪ ،‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫اّلل إايه من املهر والسكىن والنفقة‪.‬‬
‫واثنيهما ‪ :‬ما ألزمه ه‬
‫وقد دلت اآلية على أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬تفضيل الرجل على املرأة يف املنزلة والشرف‪.‬‬
‫‪ - 2‬أ هن للزوج أتديب زوجته ومنعها من اخلروج‪.‬‬
‫قواما‬
‫اّلل جعله ه‬
‫‪ - 3‬أن له حق احلجر على زوجته يف ماهلا ‪ ،‬فًل تتصرف فيه إال إبذنه ‪ ،‬ألن ه‬
‫والقوام الناظر على الشي ء ‪ ،‬احلافظ له ‪ ،‬واملالكية يقولون هبذا املبدأ‬
‫عليها بصيغة املبالغة ‪ ،‬ه‬
‫على تفصيل فيه ‪ ،‬حملهه كتب الفروع‪.‬‬
‫‪ - 4‬وجوب النفقة على الزوج لزوجته‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ويف اخلرب ‪« :‬لو أمرت أحدا أن يسجد‬
‫‪ - 5‬أ هن على الزوجة طاعة زوجها إال يف معصية ه‬
‫ألحد ألمرت املرأة أن تسجد لزوجها» «‪.»1‬‬
‫‪ - 6‬أ هن هلا حق املطالبة بفسخ النكاح عند إعسار الزوج ابلنفقة أو الكسوة ‪ ،‬ألنه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )595 /1‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب حق الزوج حديث رقم‬
‫(‪.)1852‬‬

‫ص ‪283 :‬‬
‫إذا خرج عن كونه قواما عليها ‪ ،‬فقد خرج عن الغرض املقصود ابلنكاح ‪ ،‬وهذا مذهب املالكية‬
‫والشافعية‪.‬‬
‫أما احلنفية فيقولون ‪ :‬ليس هلا حق الفسخ لقوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن كا َن ذُو عُسرةٍ فَنَ ِظرةٌ إِىل ميسرةٍ‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫[البقرة ‪.]280 :‬‬
‫اّللُ هذا شروع يف تفصيل أحوال النساء ‪ ،‬وكيفية‬ ‫ظ ا‬ ‫ظات لِلْغَْي ِ‬
‫ب ِمبا َح ِف َ‬ ‫تات حافِ ٌ‬
‫ت قانِ ٌ‬ ‫صِ‬
‫احلا ُ‬ ‫فَال ا‬
‫اّلل قسمني ‪:‬‬
‫قسمهن ه‬
‫القيام عليهن ‪ ،‬حبسب اختًلف أحواهلن ‪ ،‬وقد ه‬
‫طائعات ‪ ،‬وانشزات‪.‬‬
‫فاملرأة القانتة اليت تطيع رهبا ‪ ،‬وتطيع زوجها ‪ ،‬وحتفظه يف نفسها وعفتها ‪ ،‬ويف ماله وولده يف حال‬
‫غيبته ‪ -‬وهي يف حضوره أحفظ ‪ -‬مثل هذه يقال هلا امرأة صاحلة وكفى‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫وأما املرأة الناشز فطريق القيام عليها ابلتأديب والتقومي هو ما قال ه‬
‫وز ُه ان فَعِظُ ُ‬
‫وه ان إخل‪.‬‬ ‫ش َ‬ ‫َو ا‬
‫الًلِِت َتافُو َن نُ ُ‬
‫ت قانِ ٌ‬
‫تات إخل أنه خرب ‪ ،‬وبعض العلماء يقول املراد به األمر ابلطاعة‬ ‫صِ‬
‫احلا ُ‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فَال ا‬
‫‪ ،‬فاملعىن ‪ :‬لتطع املرأة زوجها ‪ ،‬ولتحفظه يف نفسها ويف ماله ‪ ،‬حَّت تكون امرأة صاحلة للحياة‬
‫الزوجية ‪ ،‬تستحق مجيع حقوق الزوجة الصاحلة‪.‬‬
‫ظ ا‬
‫اّللُ فإ هن معناه ‪ ،‬أ هن عليهن أن يطعن أزواجهن ‪ ،‬وحيفظنهم ‪ ،‬يف‬ ‫ويؤيد ذلك قوله تعاىل ‪ِ :‬مبا َح ِف َ‬
‫اّلل هلن من حقوق قبل األزواج من مهر ونفقة ومعاشرة ابملعروف ‪ ،‬فهو جار‬
‫مقابلة ما حفظه ه‬
‫جمرى قوهلم ‪ :‬هذا بذاك ‪ ،‬أي هذا يف مقابلة ذاك ‪ ،‬وعليه تكون (ما) اسم موصول‪.‬‬
‫اّلل هلن ‪،‬‬
‫اّللُ إن السبب يف طاعتهن وحفظهن أزواجهن هو حفظ ه‬ ‫وقيل ‪ :‬معىن ِمبا َح ِف َ‬
‫ظ ا‬
‫اّلل حفظهن وعصمهن ما حفظن أزواجهن ‪ ،‬وعليه تكون (ما)‬
‫وعصمته إايهن ‪ ،‬ولو ال أ هن ه‬
‫مصدرية‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وقد أخرج البيهقي وابن جرير وغريمها عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫خري النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ‪ ،‬وإذا أمرهتا أطاعتك ‪ ،‬وإذا غبت عنها حفظتك يف‬
‫جال قَ اوامو َن علَى النهِ ِ‬
‫ساء إىل قوله‬ ‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬هِ‬
‫الر ُ ُ َ‬ ‫اّلل صلهى ه‬
‫مالك ونفسها ‪ ،‬مث قرأ رسول ه‬
‫تعاىل ‪:‬‬
‫ظات لِلْغَْي ِ‬
‫ب‪.‬‬ ‫حافِ ٌ‬
‫ويف «الصحيح» «‪»1‬‬
‫«نساء قريش خري نساء ركنب اإلبل ‪ ،‬أحناه على ولد ‪ ،‬وأرعاه على زوج يف ذات يده»‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 44 ، )1958 /4‬كتاب فضائل الصحابة ‪ - 49 ،‬ابب من‬
‫فضائل نساء قريش ‪ ،‬حديث رقم (‪.)2527 /200‬‬

‫ص ‪284 :‬‬
‫ض ِربُ ُ‬
‫وه ان‪.‬‬ ‫وه ان ِيف الْم ِ‬
‫ضاج ِع َوا ْ‬ ‫َ‬ ‫ج ُر ُ‬ ‫وز ُه ان فَعِظُ ُ‬
‫وه ان َوا ْه ُ‬ ‫ش َ‬ ‫َو ا‬
‫الًلِِت َتافُو َن نُ ُ‬
‫اّلل للرجال حق القيام عليهن ‪ ،‬كما سبق ‪،‬‬ ‫هذا هو القسم الثاين من قسمي النساء الًلِت جعل ه‬
‫وهو خطاب لألزواج ‪ ،‬وإرشاد هلم إىل طريق القيام عليهن‪.‬‬
‫وأصل اخلوف فزع القلب عند الشعور حبدوث أمر مكروه يف املستقبل ‪ ،‬وقد يتوسع فيه ‪،‬‬
‫فيستعمل مبعىن العلم ‪ ،‬أل هن خوف الشيء إمنا يكون للعلم مبوقعه ‪ ،‬وقد علمت أ هن النشوز هو‬
‫العصيان ‪ ،‬وظاهر اآلية ترتب العقوابت املذكورة على خوف النشوز ‪ ،‬وإن مل يقع النشوز ابلفعل‬
‫فسر اخلوف ابلعلم ‪،‬‬
‫‪ ،‬وهو بعيد ‪ ،‬لذلك هأول العلماء هذه اآلية عدة أتويًلت ‪ ،‬فمنهم من ه‬
‫ومنهم من قدر مضافا ‪ :‬تافون دوام نشوزهن ‪ ،‬أو أقصى مراتب نشوزهن‪.‬‬
‫ومنهم من قدر معطوفا حمذوفا ‪ :‬تافون نشوزهن ونشزن‪.‬‬
‫ومنهم من أبقى اخلوف على أصله ‪ ،‬وجعل جزاءه الوعظ فقط ‪ ،‬تافون نشوزهن بظهور أماراته ‪،‬‬
‫كخشونة بعد لني ‪ ،‬وتعبيس بعد طًلقة ‪ ،‬وإدابر بعد إقبال ‪ ،‬ومَّت ظهرت هذه األمارات كان‬
‫وخيوفها عقوبة الدنيا وعقوبة اآلخرة ‪ ،‬فإن مل َتتثل كان ذلك نشوزا حمققا‬
‫للزوج أن يعظها فقط ‪ ،‬ه‬
‫‪ ،‬وله فيه الوعظ واهلجران والضرب‪.‬‬
‫اّلل! فإ هن يل عليك حقا ‪ ،‬وارجعي عما أنت عليه ‪،‬‬
‫واملراد ابلوعظ أن يقول هلا مثًل ‪ :‬اتقي ه‬
‫واعلمي أن طاعيت فرض عليك وحنو ذلك‪.‬‬
‫كهن‬
‫واختلفوا يف معىن اهلجران يف املضاجع ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنه كناية عن ترك مجاعهن ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد تر ه‬
‫حجرهن وحمل مبيتهن ‪ ،‬فيكون يف ذلك ترك مجاعهن وترك مكاملتهن ‪ ،‬وال يزيد يف‬
‫ه‬ ‫منفردات يف‬
‫هجر الكًلم عن ثًلثة أايم‪.‬‬
‫وفسر العلماء الضرب املباح أبنه الضرب غري املربح ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه خطب بعرفات يف‬
‫اّلل عن النيب صلهى ه‬
‫أخرج اجلصاص «‪ »1‬عن جابر بن عبد ه‬
‫فروجهن‬
‫ه‬ ‫اّلل ‪ ،‬واستحللتم‬
‫أخذَتوهن أبمانة ه‬
‫ه‬ ‫اّلل يف النساء فإنكم‬
‫بطن الوادي فقال ‪« :‬اتقوا ه‬
‫عليهن أال يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ‪ ،‬فإن فعلن فاضربوهن ضراب غري‬
‫ه‬ ‫اّلل ‪ ،‬وأن لكم‬
‫بكلمة ه‬
‫هلن عليكم رزقهن وكسوهتن ابملعروف»‪.‬‬
‫مربح ‪ ،‬و ه‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »2‬حنوه ‪ ،‬وروى ابن جريج عن عطاء قال ‪ :‬الضرب غري املربح ابلسواك‬
‫وحنوه ‪ ،‬ومثله عن ابن عباس ‪ ،‬وقال سعيد عن قتادة ‪ :‬ضراب غري شائن «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أبو بكر اجلصاص يف كتابه أحكام القرآن (‪.)189 /2‬‬
‫(‪ ) 2‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)44 /5‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه (‪.)44 /5‬‬

‫ص ‪285 :‬‬
‫وقال العلماء ‪ :‬ينبغي أال يوايل الضرب يف حمل واحد ‪ ،‬وأن يتقي الوجه فإنه جممع احملاسن ‪ ،‬وال‬
‫يضرهبا بسوط وال بعصا ‪ ،‬وأن يراعي التخفيف يف هذا التأديب على أبلغ الوجوه‪.‬‬
‫ومع أ هن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أ هن تركه أفضل‪.‬‬
‫اّلل عنه قالت ‪ :‬كان الرجال هنوا عن‬
‫أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فخلى بينهم وبني ضرهبن ‪ ،‬مث‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫شكوهن إىل رسول ه‬
‫ه‬ ‫ضرب النساء ‪ ،‬مث‬
‫قال ‪« :‬و لن يضرب خياركم» «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم وفيه ‪« :‬و ال َتدون أولئكم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروي حنوه عن عمر بن اخلطاب عن رسول ه‬
‫خياركم» «‪»2‬‬
‫ومعناه أن الذين يضربون أزواجهم ليسوا خريا ممن مل يضربوا ‪ ،‬فدل احلديث على أن األوىل ترك‬
‫الضرب‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف هذه العقوابت أهي مشروعة على الرتتيب أم ال؟ ومنشأ اخلًلف اختًلفهم يف‬
‫فهم اآلية ‪ ،‬فمن رأى عدم الرتتيب يقول ‪ :‬الواو ال تقتضيه ‪ ،‬والفاء يف قوله ‪ :‬فَعِظُ ُ‬
‫وه ان ال داللة‬
‫هلا على أكثر من ترتيب اجملموع على النشوز ‪ ،‬فله أن يقتصر على إحدى العقوابت أاي كانت ‪،‬‬
‫وله أن جيمع من غري ترتيب بينها‪.‬‬
‫دل على مطلق اجلمع ‪ ،‬فإ هن فحوى‬
‫ومن ذهب إىل وجوب الرتتيب يرى أن ظاهر اللفظ وإن ه‬
‫اآلية تدل على الرتتيب ‪ ،‬إذ الواو داخلة على جزاءات خمتلفة متفاوتة واردة على سبيل التدرج‬
‫من الضعيف إىل القوي إىل األقوى ‪ ،‬فإنهه تعاىل ابتدأ ابلوعظ ‪ ،‬مث ترقى منه إىل اهلجران يف‬
‫املضاجع ‪ ،‬مث ترقى منه إىل الضرب ‪ ،‬وذلك جار جمرى التصريح أبنه مهما حصل الغرض ابلطريق‬
‫األخف وجب االكتفاء به ‪ ،‬ومل جيز اإلقدام على الطريق األشد‪.‬‬
‫اّلل عنه ما يؤيد ذلك فإنه قال ‪ :‬يعظها بلسانه ‪ ،‬فإن انتهت فًل سبيل له‬
‫وروي عن علي رضي ه‬
‫عليها ‪ ،‬فإن أبت هجر مضجعها ‪ ،‬فإن أبت ضرهبا ‪ ،‬فإن مل تتعظ ابلضرب بعث احلكمني‪.‬‬
‫فَِإ ْن أَطَ ْعنَ ُك ْم فًَل تَ ْب غُوا َعلَْي ِه ان َسبِ ًيًل‪.‬‬
‫تبغوا ‪ :‬تطلبوا ‪ ،‬أي ‪ :‬فإن رجعن إىل طاعتكم بعد هذا التأديب فًل تطلبوا سبيًل وطريقا إىل‬
‫التع هدي عليهن‪ .‬أو ‪ :‬فًل تظلموهن بطريق من طرق التعذيب والتأديب‪.‬‬
‫اّللَ كا َن َعلِيًّا َكبِرياً قيل ‪ :‬املقصود منه هتديد األزواج على ظلم النساء ‪ ،‬واملعىن أنه تعاىل قاهر‬
‫إِ ان ا‬
‫كبري قادر ينتصف هلن ‪ ،‬ويستويف حقهن ‪ ،‬فًل ينبغي أن تغرتوا بكونكم أعلى يدا منهن ‪ ،‬وأكرب‬
‫درجة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)155 /2‬‬

‫ص ‪286 :‬‬
‫حث األزواج ‪ ،‬وبعثهم على قبول توبة النساء ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫وقيل ‪ :‬املقصود منه ه‬
‫أنه تعاىل مع علوه وكربايئه ال يؤاخذ العاصي إذا اتب ‪ ،‬بل يغفر له ‪ ،‬فإذا اتبت املرأة عن نشوزها‬
‫فأنتم أوىل أبن تقبلوا توبتها ‪ ،‬وترتكوا معاقبتها‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ِخ ْفتُ ْم ِشقا َق بَيْنِ ِهما فَابْ َعثُوا َح َكماً ِم ْن أَ ْهلِهِ َو َح َكماً ِم ْن أَ ْهلِها إِ ْن يُ ِريدا‬ ‫قال ه‬
‫اّللَ كا َن َعلِيماً َخبِرياً (‪ )35‬املراد ابخلوف هنا ‪ :‬العلم‪.‬‬ ‫صًلحاً يُ َوفِه ِق ا‬
‫اّللُ بَ ْي نَ ُهما إِ ان ا‬ ‫إِ ْ‬
‫كًل من املتخالفني يكون يف‬
‫والشقاق ‪ :‬اخلًلف والعداوة ‪ ،‬وأصله من الشق ‪ ،‬وهو اجلانب ‪ ،‬أل هن ه‬
‫شق غري شق اآلخر‪.‬‬
‫توسع ‪ ،‬واألصل شقاقا بينهما‬
‫و(بني) من الظروف املكانية غري املتصرفة ‪ ،‬وإضافة الشقاق إليها ه‬
‫‪ ،‬فللمًلبسة بني الظرف واملظروف هنزل الظرف منزلة الفاعل أو املفعول ‪ ،‬وشبه أبحدمها مث‬
‫عومل معاملته يف اإلضافة إليه ‪ ،‬فقيل ِشقا َق بَ ْينِ ِهما‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬اإلضافة مبعىن (يف) والضمري يف (بينهما) للزوجني لداللة النشوز ‪ -‬وهو عصيان املرأة‬
‫زوجها ‪ -‬عليهما‪.‬‬
‫واخلطاب هنا للحكام ‪ ،‬فإنه تعاىل ملا ذكر نشوز املرأة ‪ ،‬وأ هن للزوج أن يعظها ‪ ،‬ويهجرها يف‬
‫املضجع ‪ ،‬ويضرهبا ‪ ،‬هبني أنه مل يبق بعد الضرب إال احملاكمة إىل من ينصف املظلوم من الظامل‬
‫منهما ‪ ،‬ويتوجه حكمه عليهما‪.‬‬
‫وظاهر األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬فَابْ َعثُوا أنه للوجوب ‪ ،‬وبه قال الشافعي ‪ ،‬ألنه من ابب رفع‬
‫الظًلمات ‪ ،‬وهو من الفروض العامة واملتأكدة على القاضي‪.‬‬
‫وظاهر وصف احلكمني أبن أحدمها يكون من أهله ‪ ،‬والثاين يكون من أهلها أن ذلك شرط على‬
‫لكن العلماء محلوه على وجه االستحباب ‪ ،‬وقالوا ‪:‬‬
‫سبيل الوجوب ‪ ،‬ه‬
‫إذا بعث القاضي حكمني من األجانب جاز ‪ ،‬وذلك أل هن فائدة بعث احلكمني استطًلع حقيقة‬
‫احلال بني الزوجني ‪ ،‬وإجراء الصلح بينهما ‪ ،‬والشهادة على الظامل منهما ‪ ،‬وهذا الغرض يؤديه‬
‫األجنيب كما يؤديه القريب ‪ ،‬إال أن األقارب أعرف حبال الزوجني من األجانب ‪ ،‬وأش هد طلبا‬
‫لإلصًلح ‪ ،‬وأبعد عن الظنهة ابمليل إىل أحد الزوجني ‪ ،‬وأقرب إىل أن تسكن إليهم النفس ‪،‬‬
‫كل من حب وبغض ‪ ،‬وإرادة صحبة أو فرقة ‪ ،‬لذلك كان األوىل‬
‫فيطلعوا على ما يف ضمري ه‬
‫واألوفق أن يكون أحد احلكمني من أهل الزوج والثاين من أهل الزوجة‪.‬‬
‫واختلف العلماء فيما يليه احلكمان ‪ :‬أيليان اجلمع والتفريق دون إذن الزوجني ‪ ،‬أم ليس هلما‬
‫تنفيذ أمر يلزم الزوجني دون إذن منهما؟‬

‫ص ‪287 :‬‬
‫فذهب علي وابن عباس والشعيب ومالك إىل أن هلما أن يلزما الزوجني دون إذهنما ما يراين فيه‬
‫املصلحة ‪ ،‬مثل أن يطلق الرجل ‪ ،‬أو تفتدي املرأة بشيء من ماهلا‪.‬‬
‫فهما عندهم حاكمان موليان من قبل اإلمام‪.‬‬
‫يفرقا إال برضا الزوجني ‪ ،‬فهما عندهم‬
‫وقال احلسن وأبو حنيفة وأصحابه ‪ :‬ليس للحكمني أن ه‬
‫وكيًلن للزوجني‪.‬‬
‫وللشافعي يف املسألة قوالن‪.‬‬
‫لكل من الرأيني ‪:‬‬
‫وليس يف اآلية ما يرجح أحد الرأيني على اآلخر ‪ ،‬بل فيها ما يشهد ه‬
‫اّلل تعاىل مسهى كًل منهما حكما ‪ ،‬واحلكم هو احلاكم ‪ ،‬وإذا جعلهما‬
‫فالشهادة للرأي األول أ هن ه‬
‫اّلل حاكمني فقد م هكنهما من احلكم‪.‬‬
‫ه‬
‫والشهادة للرأي الثاين أنه تعاىل مل يضف إليهما إال اإلصًلح ‪ ،‬وهذا يقتضي أن يكون ما وراء‬
‫يصح يف املسألة شيء عنه‬
‫مفوض إليهما ‪ ،‬وملا كانت اآلية حمتملة للرأيني ‪ ،‬ومل ه‬
‫اإلصًلح غري ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كانت املسألة اجتهادية ‪ ،‬وكًلم أحد اجملتهدين ال يقوم حجة على اآلخر ‪،‬‬
‫صلهى ه‬
‫فالرتجيح للرأي والقياس ‪ ،‬والذي يظهر لنا أ هن القياس يقتضي ترجيح الرأي الثاين ‪ ،‬ألنه ال‬
‫خًلف أ هن الزوج لو أقر قبل التحكيم ابإلساءة إليها مل جيربها احلاكم على الطًلق ‪ ،‬وأ هن الزوجة‬
‫لو أقرت كذلك قبل التحكيم ابلنشوز مل جيربها احلاكم على االفتداء ‪ ،‬فإذا كان ذلك حكمهما‬
‫قبل بعث احلكمني ‪ ،‬فكذلك يكون احلكم بعد بعثهما ‪ ،‬ال جيوز إيقاع الطًلق من غري رضا‬
‫الزوج وتوكيله ‪ ،‬وال إخراج املال عن ملكها من غري رضاها‪.‬‬
‫صًلحاً جيوز أن يكون للحكمني ‪ ،‬وجيوز أن يكون للزوجني ‪،‬‬ ‫والضمري يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن يُ ِريدا إِ ْ‬
‫وكذلك الضمري يف قوله تعاىل يُ َوفِه ِق ا‬
‫اّللُ بَ ْي نَ ُهما واألوفق جعل الضمري األول للحكمني ‪ ،‬والثاين‬
‫للزوجني ‪ ،‬أي إن يقصد احلكمان إصًلح ذات البني بنية صحيحة ‪ ،‬مع إخًلص النصيحة لوجه‬
‫اّلل بني الزوجني ابأللفة واحملبة ‪ ،‬ويلقي يف نفسيهما املوافقة‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬إن يقصدا ذلك يوفق ه‬
‫ه‬
‫وحسن العشرة‪.‬‬
‫اّللَ كا َن َعلِيماً َخبِرياً املراد منه الوعيد للزوجني وللحكمني يف سلوك ما خيالف طريق احلق ‪،‬‬
‫إِ ان ا‬
‫كل واحد منهم ‪ ،‬وسيجازيهم على‬
‫فإنه سبحانه عليم بظواهر األمور وبواطنها ‪ ،‬فيعلم ما يريده ه‬
‫حسب ما علم‪.‬‬
‫اّللَ َوال تُ ْش ِرُكوا بِهِ َش ْيئاً َوِابلْوالِ َديْ ِن إِ ْحساانً َوبِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وا ْعبُ ُدوا ا‬ ‫قال ه‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم‬
‫يل َوما َملَ َك ْ‬ ‫سبِ ِ‬ ‫ب ِاب ْجلَْن ِ‬
‫ب َوابْ ِن ال ا‬ ‫صِ‬
‫اح ِ‬ ‫ب َوال ا‬ ‫ني َوا ْجلا ِر ِذي الْ ُق ْرىب َواجلْا ِر ا ْجلُنُ ِ‬‫َوال َْمساكِ ِ‬
‫اّلل كًل من الزوجني إىل املعاملة احلسنة ‪،‬‬ ‫خوراً (‪ )36‬ملا أرشد ه‬ ‫تاال فَ ُ‬
‫ب َم ْن كا َن ُخمْ ً‬ ‫اّللَ ال ُِحي ُّ‬
‫إِ ان ا‬
‫وندب احل هكام إىل إزالة ما‬

‫وبني هلم أنواعا‬


‫ص ‪ 288 :‬بينهما من اخلصومة ‪ ،‬أرشد الناس مجيعا إىل طائفة من خًلل اخلري ‪ ،‬ه‬
‫من األخًلق احلسنة اليت تعلمهم كيف يعامل بعضهم بعضا ‪ ،‬وقد ذكر من ذلك يف هذه اآلية‬
‫ثًلثة عشر نوعا ما بني مأمور به ومنهي عنه ‪:‬‬
‫اّلل به جملرد أنه‬
‫‪ - 1‬أمران أن نعبده ‪ ،‬والعبادة ‪ :‬املبالغة يف اخلضوع ‪ ،‬ويكون ذلك بفعل ما أمر ه‬
‫أمر به ‪ ،‬وترك ما هنى عنه جملرد أنه هنى عنه ‪ ،‬سواء يف ذلك أعمال القلوب ‪ -‬ومنها التوحيد ‪-‬‬
‫وأعمال اجلوارح‪.‬‬
‫‪ - 2‬وهناان أن نشرك به شيئا ‪ :‬واإلشراك ضد التوحيد ‪ ،‬فيفهم من النهي عن اإلشراك األمر‬
‫ابلتوحيد ‪ ،‬فالعطف من قبيل عطف اخلاص على العام ‪ ،‬وقدم يف هذه التكاليف ما يتعلهق حبقه‬
‫تعاىل ألمرين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أ هن هذا الذي تعلق حبقه تعاىل وهو العبادة واإلخًلص فيها أساس الدين ‪ ،‬ومداره‬
‫اّلل من العبد عمًل ما‪.‬‬
‫األعظم ‪ ،‬ومن دونه ال يقبل ه‬
‫والثاين ‪ :‬أن يف ذلك إمياء إىل ارتفاع شأن األمور اآلتية وإن كانت متعلقة حبقوق العباد ‪ ،‬ألن‬
‫اّلل‪.‬‬
‫قرهنا ابلعبادة والتوحيد يكسبها رفعة شأن وعظم قدر عند ه‬
‫اّلل تعاىل إلزام هبر الوالدين بعبادته وتوحيده يف‬ ‫‪ - 3‬وأمران ابإلحسان إىل الوالدين ‪ :‬وقد قرن ه‬
‫ك أ اَال تَ ْعبُ ُدوا إِاال إِ اايهُ َوِابلْوالِ َديْ ِن‬
‫مواضع من القرآن منها هذه اآلية ‪ ،‬ومنها قوله تعاىل ‪َ :‬وقَضى َربُّ َ‬
‫صريُ [لقمان ‪]14 :‬‬ ‫يل الْم ِ‬
‫ك إِ َا َ‬ ‫َن ا ْش ُك ْر ِيل َولِوالِ َديْ َ‬
‫إِ ْحساانً [اإلسراء ‪ ]23 :‬وقوله جل شأنه ‪ :‬أ ِ‬
‫ه‬
‫وكفى هبذا داللة على تعظيم حقهما ‪ ،‬ووجوب برمها ‪ ،‬واإلحسان إليهما‪.‬‬
‫وقد ورد يف وجوب بر الوالدين آايت كثرية ‪ ،‬وأحاديث مشهورة ‪ ،‬وبر الوالدين طاعتهما يف‬
‫معروف ‪ ،‬والقيام خبدمتهما ‪ ،‬والسعي يف حتصيل مطالبهما ‪ ،‬والبعد عن كل ما يؤذيهما‪.‬‬
‫اّللَ الا ِذي‬
‫‪ - 4‬وإىل ذي القرىب ‪ :‬وهو صلة الرحم ‪ ،‬على حنو ما ذكر يف أول السورة َواتا ُقوا ا‬
‫ِ‬
‫تَسائَلُو َن بِه َو ْاأل َْر َ‬
‫حام واإلحسان إىل األقارب يكون مبودهتم ومواساهتم‪.‬‬
‫وصى يف أول السورة ويف غريها ‪ ،‬قال ابن عباس ‪:‬‬
‫‪ - 5‬وإىل اليتامى ‪ :‬كما ه‬
‫يرفق هبم يربيهم ‪ ،‬وإن كان وصيا فليبالغ يف حفظ أمواهلم‪.‬‬
‫‪ - 6‬وإىل املساكني ‪ :‬واإلحسان إىل املسكني إما ابلتصدق عليه ‪ ،‬وإما برده ردا مجيًل ‪ ،‬كما قال‬
‫سائِ َل فًَل تَ ْن َه ْر (‪[ )10‬الضحى ‪.]10 :‬‬
‫تعاىل ‪َ :‬وأَاما ال ا‬
‫‪ - 7‬وإىل اجلار ذي القرىب ‪ :‬وهو الذي قرب جواره ‪ ،‬أو من له مع اجلوار قرب واتصال بنسب‬
‫أو دين‪.‬‬

‫ص ‪289 :‬‬
‫‪ - 8‬وإىل اجلار اجلنب ‪ :‬وهو الذي بعد جواره ‪ ،‬أو من ليس له مع اجلوار قرابة‪.‬‬
‫اّلل بن عمرو أنه ذحبت له شاة ‪ ،‬فجعل يقول‬
‫أخرج البخاري «‪ »1‬يف «األدب املفرد» عن عبد ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫لغًلمه ‪ :‬أهديت جلاران اليهودي ‪ ،‬أهديت جلاران اليهودي؟ مسعت رسول ه‬
‫سيورثه»‪.‬‬
‫وسلهم يقول ‪« :‬ما زال جربيل يوصيين ابجلار حَّت ظننت أنه ه‬
‫ابّلل واليوم اآلخر‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬من كان يؤمن ه‬
‫وأخرج الشيخان «‪ »2‬أنه صلهى ه‬
‫فليحسن إىل جاره»‪.‬‬
‫وحتديد اجلوار موكول إىل العرف ‪ ،‬واإلحسان إىل اجلار يكون من وجوه ‪ :‬منها مواساته إن كان‬
‫فقريا ‪ ،‬ومنها حسن العشرة ‪ ،‬وكف األذى عنه ‪ ،‬واحملاماة دونه ممن حياول ظلمه ‪ ،‬وقد عد بعض‬
‫العلماء من حق اجلوار الشفعة ملن بيعت دار إىل جنبه‪.‬‬
‫‪ - 9‬وإىل الصاحب ابجلنب ‪ :‬وهو الرفيق يف كل أمر حسن كالتعلم والسفر والصناعة ‪ ،‬وكمن‬
‫جلس جبنبك يف مسجد ‪ ،‬أو جملس ‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫اّلل وجهه ‪ :‬الصاحب ابجلنب املرأة‪.‬‬
‫وعن علي كرم ه‬
‫‪ - 10‬وإىل ابن السبيل ‪ :‬وهو املنقطع عن ماله ‪ ،‬أو الضعيف ‪ ،‬ومعىن ابن السبيل صاحب‬
‫الطريق ‪ ،‬كما يقال لطري املاء ابن ماء ‪ ،‬فاملسافر للزومه الطريق مسهي ابن السبيل ‪ ،‬والضيف‬
‫فسمي ابن السبيل تشبيها ابملسافر‪.‬‬
‫كاجملتاز غري املقيم ‪ ،‬ه‬
‫‪ - 11‬وإىل ما ملكت أمياننا ‪ :‬قال قتادة ‪ :‬هم العبيد واإلماء ‪ ،‬أخرج أمحد والبيهقي عن أنس‬
‫اّلل عليه وسلهم حني حضره املوت الصًلة ‪ ،‬وما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قال ‪« :‬كانت عامة وصية رسول ه‬
‫ملكت أميانكم ‪ ،‬حَّت جعل يغرغر هبا يف صدره ‪ ،‬وما يفيض هبا لسانه» «‪.»3‬‬
‫كل حيوان فهو مملوك ‪ ،‬واإلحسان إىل الكل مبا يليق به طاعة عظيمة‪.‬‬ ‫وقال بعض العلماء ‪ :‬ه‬
‫خوراً معناه ‪ :‬أنه‬
‫تاال فَ ُ‬ ‫اّللَ ال ُِحي ُّ‬
‫ب َم ْن كا َن ُخمْ ً‬ ‫‪ - 12‬وهناان عن االختيال ‪ :‬فإ هن قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان ا‬
‫يكره املختال الفخور ‪ ،‬أي أنه يعاقبه على خيًلئه وفخره ‪ ،‬واملختال ‪ :‬ذو اخليًلء والكرب ‪ ،‬قال‬
‫الزجاج ‪ :‬إمنا ذكر االختيال هاهنا ألن املختال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر األدب املفرد لإلمام البخاري ‪ ،‬صفحة (‪ ، )50‬ابب يبدأ ابجلار حديث رقم (‪)105‬‬
‫‪ ،‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )377 /4‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب يف حق اجلوار حديث رقم (‪)5152‬‬
‫والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )294 /3‬يف كتاب الرب ‪ ،‬ابب ما جاء يف حق اجلوار حديث رقم‬
‫(‪.)1943‬‬
‫ابّلل واليوم‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ - 78 ، )104 /7‬كتاب األدب ‪ - 31 ،‬ابب من كان يؤمن ه‬
‫اآلخر حديث رقم (‪ ، )6018‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )68 /1‬كتاب اإلميان ‪- 19 ،‬‬
‫ابب احلث على إكرام اجلار حديث رقم (‪.)48 /77‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪ ، )117 /3‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )900 /2‬كتاب الوصااي ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم حديث رقم (‪.)2697‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ابب هل أوصى رسول ه‬

‫ص ‪290 :‬‬
‫أنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ‪ ،‬ومن جريانه إذا كانوا ضعفاء ‪ ،‬فًل حيسن عشرهتم‪.‬‬
‫‪ - 13‬وهناان عن الفخر ‪ :‬والفخور هو الذي يع هدد مناقبه على الناس تطاوال وتعاظما‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فقرأ‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أخرج الطرباين عن اثبت بن قيس بن مشاس قال ‪ :‬كنت عند رسول ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬ ‫هذه اآلية ‪ :‬إِ ان ا‬
‫اّللَ إخل ‪ ،‬فذكر الكرب ‪ ،‬وعظهمه ‪ ،‬فبكى اثبت‪ .‬فقال له رسول ه‬
‫ألحب اجلمال حَّت إنه ليعجبين أن حيسن شراك‬
‫ه‬ ‫اّلل إين‬
‫وسلهم ‪« :‬ما يبكيك»؟ فقال ‪ :‬اي رسول ه‬
‫نعلي‪.‬‬
‫قال ‪« :‬فأنت من أهل اجلنة ‪ ،‬إنه ليس ابلكرب أن حتسن راحلتك ورحلك ‪ ،‬ولكن الكرب من سفه‬
‫احل هق ‪ ،‬وغمط الناس» «‪.»1‬‬
‫ِ‬
‫صًلةَ َوأَنْ تُ ْم ُسكارى َح اَّت تَ ْعلَ ُموا ما تَ ُقولُو َن َوال‬
‫آمنُوا ال تَ ْق َربُوا ال ا‬ ‫ين َ‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫قال ه‬
‫َح ٌد ِمنْ ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط‬ ‫ِ‬ ‫ُجنُباً إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫يل َح اَّت تَغْتَسلُوا َوإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أ َْو عَلى َس َف ٍر أ َْو جاءَ أ َ‬
‫أَو المستُم النهِساء فَلَم ََِت ُدوا ماء فَتَ ي امموا صعِيداً طَيِباً فَامسحوا بِوج ِ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُك ْم إِ ان ا‬
‫اّللَ كا َن‬ ‫ه ْ َ ُ ُُ‬ ‫ً َ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َْ ُ‬
‫َع ُف ًّوا غَ ُفوراً (‪)43‬‬
‫وحسنه والنسائي واحلاكم وصححه ‪،‬‬ ‫اختلف يف سبب نزول اآلية ‪ ،‬فأخرج أبو داود والرتمذي ه‬
‫اّلل عنه طعاما ‪ ،‬فدعاان ‪،‬‬
‫اّلل وجهه قال ‪ :‬صنع لنا عبد الرمحن بن عوف رضي ه‬
‫عن علي كرم ه‬
‫وسقاان من اخلمر ‪ ،‬فأخذت اخلمر منا ‪ ،‬وحضرت الصًلة فقدموين ‪ ،‬فقرأت ‪ :‬قُ ْل اي أَيُّ َها‬
‫الْكافِ ُرو َن (‪[ )1‬الكافرون ‪ ]1 :‬أعبد ما تعبدون ‪ ،‬وحنن نعبد ما تعبدون فنزلت «‪.»2‬‬
‫اّلل وجهه أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرمحن‬ ‫ويف رواية ابن جرير «‪ »3‬وابن املنذر عن علي كرم ه‬
‫بن عوف ‪ ،‬وكانت الصًلة صًلة املغرب ‪ ،‬كان ذلك ملا كانت اخلمر مباحة‪.‬‬
‫السكر ‪ ،‬فكانوا‬
‫وقد فهم الصحابة من النهي يف أول األمر أن املمنوع هو قرابن الصًلة يف حال ه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬اللهم بني لنا يف‬
‫ال يتناولون مسكرا حَّت إذا صلهوا العشاء شربوا ‪ ،‬فقال عمر رضي ه‬
‫اخلمر بياان شافيا فنزلت آية املائدة فرتكوا الشراب كله‪.‬‬
‫اّلل‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن سبب النزول هو ما رواه ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال ‪ :‬انل أصحاب رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم جراحة ‪ ،‬ففشت فيهم ‪ ،‬مث ابتلوا ابجلنابة ‪ ،‬فشكوا ذلك إىل‬
‫صلهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري املأثور للسيوطي (‪.)162 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )323 /3‬كتاب األشربة ‪ ،‬ابب حترمي اخلمر حديث رقم‬
‫(‪ ، )3671‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )222 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪.)3026‬‬
‫(‪ )3‬جامع البيان املشهور بتفسري الطربي يف تفسريه رواه ابن جرير (‪.)61 /5‬‬

‫ص ‪291 :‬‬
‫عرس «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فنزلت ‪ ،‬واجلمهور على أهنا نزلت يف غزوة املريسيع حني ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ليلة ‪ ،‬فسقطت عن عائشة قًلدة كانت ألمساء ‪ ،‬فبعث رجلني يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫طلبها ‪ ،‬فنزلوا ينتظروهنما ‪ ،‬فأصبحوا وليس معهم ماء ‪ ،‬فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم واملسلمني على غري ماء فنزلت «‪.»2‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حبست رسول ه‬
‫أبول بركتكم‬
‫فلما صلوا ابلتيمم جاء أسيد بن احلضري إىل مضرب عائشة ‪ ،‬فجعل يقول ‪ :‬ما هي ه‬
‫اّلل فيه‬
‫اّلل اي عائشة ‪ ،‬ما نزل بك أمر تكرهينه إال جعل ه‬
‫اي آل أيب بكر ‪ ،‬ويف رواية ‪ :‬يرمحك ه‬
‫يدل على أن سبب النزول كان يف فقد املاء يف السفر‪.‬‬
‫للمسلمني فرجا ‪ ،‬وهذا ه‬
‫والسكر املذكور يف اآلية هو السكر من الشراب ‪ ،‬بدليل ما ورد يف سبب النزول ‪ ،‬وبدهي أن‬
‫النهي موجه إىل مجاعة املؤمنني أن يقربوا الصًلة ‪ ،‬وهم على هذا احلال ‪ ،‬فإهنا قد َترهم إىل ما‬
‫يضرهم يف دينهم من حيث ال يشعرون ‪ ،‬ولقد أثهر فيهم النهي أثره ‪ ،‬فكانوا ميتنعون من الشراب‬
‫إىل ما بعد صًلة العشاء ‪ ،‬وال معىن ال دعاء نسخ اآلية ‪ ،‬إذ املؤمنون ما زالوا منهيني أن يقربوا‬
‫الصًلة وهم سكارى‪ .‬ومل تؤثر آية املائدة يف هذا النهي شيئا حَّت يقال ‪ :‬إهنا نسخته‪.‬‬
‫صًلةَ َوأَنْ تُ ْم ُسكارى فذهب‬
‫وقد اختلف العلماء يف معىن الصًلة يف قوله تعاىل ‪ :‬ال تَ ْق َربُوا ال ا‬
‫مجاعة إىل أن املراد منها موضعها وهو املسجد ‪ ،‬وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود واحلسن‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬والكًلم إذا على حذف مضاف ‪ ،‬وهو جماز شائع ‪ ،‬وقد‬ ‫‪ ،‬وإليه ذهب الشافعي رضي ه‬
‫تص ِ‬
‫وام ُع َوبِيَ ٌع‬ ‫ِ‬
‫عهد استعمال هذا اللفظ يف هذا املعىن يف القرآن ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬هلُهد َم ْ َ‬
‫ساج ُد [احلج ‪ ]40 :‬فقد فسرها ابن عباس أبهنا كنائس اليهود‪.‬‬ ‫وات وم ِ‬
‫صلَ ٌ َ َ‬
‫َو َ‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪ :‬ال تَ ْق َربُوا والقرب والبعد أوىل به أن‬
‫ويؤيد محل الصًلة على هذا املعىن أن ه‬
‫يكون يف احملسات ‪ ،‬فحملناه على املسجد ‪ ،‬وأل هان لو محلناه على الصًلة مل يصح االستثناء يف‬
‫يل حَّت لو محلنا عابر السبيل على املسافر ‪ ،‬أل هن هذا احلكم حينئذ ليس‬‫قوله ‪ :‬إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫خاصا ابملسافر ‪ ،‬أل هن كل من عجز عن استعمال املاء ‪ ،‬سواء لفقده ‪ ،‬أو عدم القدرة على‬
‫يدل على أ هن عابر السبيل ليس له أن يقرب الصًلة‬
‫استعماله كذلك ‪ ،‬وأيضا فإ هن ظاهر النهي ه‬
‫جنبا إال بعد اغتسال ‪ ،‬وهو إذا مل جيد املاء يقرب الصًلة كغريه ابلتيمم‪.‬‬
‫اّلل يف اآلية حكم املسافر يف قوله ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أ َْو َعلى َس َف ٍر‬
‫وأيضا فقد ذكر ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬التعريس ‪ :‬النزول آخر الليل ‪ ،‬انظر لسان العرب (‪.)136 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن جرير يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪].....[ .)69 - 68 /5‬‬

‫ص ‪292 :‬‬
‫إخل‪ .‬فيكون ذلك تكرارا ‪ ،‬فمن أجل ذلك محلنا لفظ الصًلة على املسجد‪.‬‬
‫وذهب األكثرون إىل أن الصًلة ابقية على حقيقتها ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ال تصلوا وأنتم سكارى ‪ ،‬وال أنتم‬
‫جنب ‪ ،‬إال يف حال كونكم مسافرين حَّت تغتسلوا ‪ ،‬ويكون ذكر هذا احلكم قبل قوله ‪َ :‬وإِ ْن‬
‫ُك ْن تُ ْم َم ْرضى تشويقا إىل بيان احلكم عند فقد املاء ‪ ،‬فكأنه قيل ‪:‬‬
‫مبني حكم ذلك بقويل ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى إىل آخره‪.‬‬‫فإن مل تقدروا على استعمال املاء فإين ه‬
‫اّلل يقول ‪َ :‬ح اَّت تَ ْعلَ ُموا ما تَ ُقولُو َن فإنهه يدل على أ هن املراد ال‬
‫ويقرب هلؤالء ما ذهبوا إليه أن ه‬
‫تقربوا نفس الصًلة ‪ ،‬إذ املسجد ليس فيه قول مشروع مينع السكر منه ‪ ،‬أما الصًلة ففيها‬
‫أقوال مشروعة مينع السكر منها ‪ ،‬وهي القراءة والدعاء والذكر ‪ ،‬فكان محلها على ما يقتضيه‬
‫ظاهر اللفظ أوىل‪.‬‬
‫وقد ترتب على هذا خًلفهم يف حكم اجتياز املسجد للجنب ‪ ،‬فمن ذهب إىل أن املراد من‬
‫الصًلة موضعها ‪ ،‬وهو املسجد ‪ ،‬أخذ من االستثناء أن اجلنب ممنوع من املسجد إال يف حال‬
‫العبور ‪ ،‬فإنه جيوز له أن يعرب دون أن ميكث‪.‬‬
‫وأما على القول الثاين فيكون معىن اآلية ال تقربوا الصًلة يف حال السكر ‪ ،‬وال يف حال اجلنابة‬
‫حَّت تغتسلوا ‪ ،‬إال إذا كنتم مسافرين ‪ ،‬وحكم ذلك سأقصه عليكم ‪ ،‬أما حرمة دخول املسجد‬
‫للجنب فيستدل عليها مبثل ما‬
‫اّلل عليه وسلهم ووجوه بيوت أصحابه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنها قالت جاء رسول ه‬
‫روت عائشة رضي ه‬
‫«وجهوا هذه البيوت عن املسجد ‪ ،‬مث دخل ومل يصنع القوم شيئا‬
‫شارعة يف املسجد ‪ ،‬فقال ‪ :‬ه‬
‫أحل املسجد‬
‫وجهوا هذه البيوت فإين ال ه‬
‫رجاء أن تنزل هلم رخصة ‪ ،‬فخرج إليهم بعد وقال ‪ :‬ه‬
‫جلنب وال حائض» «‪»1‬‬
‫وغري هذا من األدلة‪.‬‬
‫بقي أ هن بعض املفسرين يريد أن أيخذ من قوله ‪َ :‬ح اَّت تَ ْعلَ ُموا ما تَ ُقولُو َن وجوب القراءة يف الصًلة‬
‫‪ ،‬ألن اآلية تنهى عن قرب الصًلة يف حال السكر حَّت يعلم املصلهي ما يقول ‪ :‬فًل بد أن يكون‬
‫الذي يقول شيئا مينع منه السكر ‪ ،‬وال شيء سوى القراءة‪.‬‬
‫ولكنا إذا عرفنا أ هن الصًلة مناجاة ووقوف بني يدي مالك يوم الدين ‪ ،‬العزيز القهار ‪ ،‬كان معىن‬
‫وتؤهلكم للوقوف بني يدي‬
‫النهي ال تصلحوا حَّت تكونوا على درجة من العلم والفهم َت هكنكم ه‬
‫ملك امللوك ‪ ،‬وليس بنا حاجة ألن نلتمس دليًل على وجوب القراءة يف الصًلة ‪ ،‬ألن ذلك أمر‬
‫متفق عليه ‪ ،‬وأدلته كثرية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )97 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب يف اجلنب حديث رقم (‪، )232‬‬
‫ورواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )212 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب ما جاء يف اجتناب احلائض حديث‬
‫رقم (‪.)645‬‬

‫ص ‪293 :‬‬
‫واجلنب ‪ :‬اسم يستوي يف الواحد واجلمع ‪ ،‬واملذكر واملؤنث ‪ ،‬وأصل اجلنابة البعد ‪ ،‬ويقال للذي‬
‫جيب عليه الغسل من حدث اجلنابة ‪ :‬جنب ‪ ،‬أل هن جنابته تبعده عن الصًلة وعن املسجد وقراءة‬
‫القرآن حَّت يتطههر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وإِ ْن ُكْن تم مرضى أَو عَلى س َف ٍر أَو جاء أ ِ ِ‬
‫الم ْستُ ُم النهساءَ فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً‬
‫َح ٌد منْ ُك ْم م َن الْغائط أ َْو َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حوا بِ ُو ُجوه ُك ْم َوأَيْدي ُك ْم إِ ان ا‬
‫اّللَ كا َن َع ُف ًّوا غَ ُفوراً‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سُ‬‫صعيداً طَيهباً فَ ْام َ‬‫فَتَ يَ ام ُموا َ‬
‫صًلةِ فَاغْ ِسلُوا‬ ‫آمنُوا إِذا قُ ْمتُ ْم إِ َىل ال ا‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫ذكرت هذه اآلية واآلية اليت يف املائدة ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫وه ُك ْم [املائدة ‪ ]6 :‬اآلية للتيمم أسبااب أربعة ‪ :‬املرض ‪ ،‬والسفر ‪ ،‬واجمليء من الغائط ‪،‬‬ ‫ُو ُج َ‬
‫ومًلمسة النساء ‪ ،‬ورتبت عليها تيمم الصعيد الطيهب عند عدم وجود املاء فهما بظاهرمها تفيدان‬
‫أ هن كًل من هذه األسباب مبجرده يبيح التيمم عند عدم املاء‪.‬‬
‫فالسفر عند عدم املاء مبيح للتيمم ‪ ،‬واملرض أاي كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم املاء ‪ ،‬وكذلك‬
‫مًلمسة النساء ‪ ،‬واجمليء من الغائط ‪ ،‬وقد جاء بيان السنة العملية كذلك موافقا ملا يفيده النظم‬
‫الكرمي ‪ ،‬حيث أجاز التيمم عند فقد املاء حقيقة لكل هؤالء ‪ ،‬غري أنهه زاد أن املريض إذا كان‬
‫اّلل‬
‫مرضه مينعه من استعمال املاء جاز له التيمم ‪ ،‬كما روي يف حديث عمرو بن العاص رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ومل ينكر ‪ ،‬وقد اتفقوا‬
‫النيب صلهى ه‬
‫عنه أنه تيمم مع وجود املاء خلوف الربد فأجازه ه‬
‫على جوازه‪.‬‬
‫بقي أنه ما الفائدة إذا يف ذكر السفر واملرض يف مجلة األسباب ما دام املسافر واملريض واملقيم‬
‫والصحيح سواء ‪ ،‬ال يباح هلم التيمم إال عند فقد املاء؟‬
‫قال املفسرون يف هذا ‪ :‬أما املسافر فلما كان غالب حاله عدم وجود املاء جاء ذكره كأنه فاقد‬
‫املاء وأما املريض فإ هن تعليق احلكم به مشعر أبن مرضه له مدخل يف السببية ‪ ،‬ولذلك ترى ابن‬
‫اّلل عنهما ومجاعة من التابعني يقولون يف قوله ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أنه اجملدور ‪ ،‬ومن‬
‫عباس رضي ه‬
‫يضره املاء ‪ ،‬وذلك أ هن املريض الذي ال يضره املاء ال معىن للرتخيص له يف التيمم ‪ ،‬فذكر ليدل‬
‫على أن مرضه حينئذ يقوم مقام عدم وجود املاء حقيقة ‪ ،‬فلم يبق حينئذ إال اجلنب وما يف معناه‬
‫‪ ،‬واجلائي من الغائط وما يف معناه من غري املسافرين واملرضى ‪ ،‬فهو إمنا يباح هلم التيمم إذا‬
‫فقدوا املاء‪.‬‬
‫وعلى هذا يكون قوله تعاىل ‪ :‬فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً فَتَ يَ ام ُموا راجعا إىل األخريين فقط ‪ ،‬ومها اجمليء من‬
‫الغائط ‪ ،‬ومًلمسة النساء ‪ ،‬وتكون أسباب التيمم املذكورة يف اآلية ثًلثة على احلقيقة ‪ :‬املرض ‪،‬‬
‫والسفر ‪ ،‬وفقد املاء يف حال اإلقامة والصحة‪.‬‬
‫غري أ هن عطف هذه األسباب بعضها على بعض أبو يقتضي أهنا متقابلة ‪ ،‬ومن قضية تقابلها أن‬
‫يكون املسافر غري املريض ‪ ،‬وكل منهما غري اجلائي من الغائط‬

‫ص ‪294 :‬‬
‫واملًلمس ‪ ،‬وذلك يقتضي أ هن السفر مبيح للتيمم ‪ ،‬ولو من غري حدث ‪ ،‬وكذلك املرض ‪ ،‬مع أن‬
‫التيمم ال يطلب إال من احملدث‪.‬‬
‫وأجاب عن ذلك بعض العلماء أبن السبب يف عدم ذكر احلدث مع املرض والسفر أ هن الكًلم يف‬
‫يل َح اَّت تَغْتَ ِسلُوا فحال اجلنابة معهما‬
‫اجلنابة يف السفر ‪ ،‬حيث قال ‪َ :‬وال ُجنُباً إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫ملحوظ ‪ ،‬حيث هذا بيان للحكم إذا مل يتيسر الغسل من اجلنابة لفقد املاء ‪ ،‬وأما احلدث‬
‫األصغر فيهما فيعلم حكمه من حكم اجلنابة لداللة النص‪.‬‬
‫ومن العلماء من اختار يف أتويل اآلية رأاي آخر ‪ :‬فذهب إىل أ هن أ َْو يف قوله ‪:‬‬
‫َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط مبعىن الواو ‪ ،‬ويكون املعىن عليه ‪َ :‬وإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أ َْو َعلى َس َف ٍر‬
‫أ َْو جاءَ أ َ‬
‫الم ْستُ ُم النهِساءَ فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً فَتَ يَ ام ُموا ويكون ذلك يف معىن‬ ‫ِِ‬ ‫أَو جاء أ ِ ِ‬
‫َح ٌد م ْن ُك ْم م َن الْغائط أ َْو َ‬‫ْ َ َ‬
‫قولك ‪ :‬إن كنتم مرضى أو مسافرين حمدثني حداث أصغر أو أكرب ‪ ،‬وفقدمت املاء حقيقة أو حكما‬
‫‪ ،‬أبن مل تقدروا على استعماله مع وجوده ‪ ،‬فتيمموا صعيدا طيبا‪.‬‬
‫وقد جاءت أ َْو مبعىن الواو كثريا كما يف قوله تعاىل ‪ :‬وأ َْر َسلْناهُ إِىل ِمائَةِ أَل ٍ‬
‫ْف أ َْو يَ ِزي ُدو َن (‪)147‬‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[الصافات ‪ ]147 :‬فإن معناه ويزيدون ‪ ،‬وكقوله ‪ :‬إ ْن يَ ُك ْن غَنيًّا أ َْو فَقرياً فَ ا‬
‫اّللُ أ َْوىل هبما [النساء‬
‫فاّلل أوىل هبما‪.‬‬
‫‪ ]135 :‬معناه إن يكن غنيا وفقريا ه‬
‫ونقل صاحب «روح املعاين» «‪ »1‬عن بعضهم أن يف اآلية تقدميا وأتخريا والتقدير ‪ :‬ال تقربوا‬
‫الصًلة وأنتم سكارى ‪ ،‬وال جنبا وال جائيا أحد منكم من الغائط أو المسا ‪ ،‬يعين وال حمدثني ‪،‬‬
‫مث قيل ‪ :‬وإن كنتم مرضى أو على سفر ‪ :‬فتيمموا وفيه الفصل بني الشرط واجلزاء واملعطوف‬
‫عليه من غري نكتة‪.‬‬
‫وأقرب هذه التأويًلت هو ما محلنا عليه اآلية يف أول األمر ‪ ،‬وما ورد عليه ‪ -‬من أن ذلك‬
‫يقتضي أن السفر بنفسه سبب ‪ ،‬وكذا املرض ولو من غري حدث ‪ -‬يندفع مَّت روعي الكًلم يف‬
‫أمر الطهارة من األحداث ‪ ،‬وأهنا الغسل ‪ ،‬انظر إىل قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُجنُباً إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫يل َح اَّت‬
‫مقرر مفروغ منه ‪ ،‬إمنا الكًلم يف األعذار املبيحة للتيمم ‪ ،‬وال سبب يف‬ ‫ِ‬
‫تَغْتَسلُوا فأمر احلدث أمر ه‬
‫احلقيقة إال فقد املاء ‪ ،‬وفقد املاء له مظاهر ‪ ،‬فمن مظاهره السفر ‪ ،‬وعدم املاء فيه غالب ‪ ،‬وإن‬
‫وجد فأغلب أمره أن يكون حمتاجا إليه ‪ ،‬ومن مظاهره املرض ‪ ،‬وجعل املرض من أسباب التيمم‬
‫مشعر أبن ذلك إمنا يكون يف مرض ال ميكن معه استعمال املاء ‪ ،‬واملظهر احلقيقي لفقد املاء أن‬
‫يكون خاليا من هذه األعذار ‪ ،‬مث ال َتد املاء وأنت حمدث حداث أصغر أو أكرب‪.‬‬
‫على هذا الوجه يصح أن تفهم اآلية ‪ ،‬وال شيء يف فهمها حينئذ من التكلف ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين لإلمام األلوسي (‪.)42 /5‬‬

‫ص ‪295 :‬‬
‫َح ٌد ِمنْ ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط مبعىن الواو ‪ ،‬واملعىن عليه قد عرفته‪.‬‬
‫ويليه أن تكون أ َْو يف قوله ‪ :‬أ َْو جاءَ أ َ‬
‫ولنرجع إىل تفسري مفردات اآلية ‪:‬‬
‫يل َح اَّت تَغْتَ ِسلُوا فإن املعىن أنه ال‬
‫َوإِ ْن ُكْن تُ ْم َم ْرضى تفصيل ملا أمجل يف قوله تعاىل ‪ :‬إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫حيل لكم القرب من الصًلة وأنتم جنب إال أبن تكونوا عابري سبيل ‪ ،‬وإال أن تغتسلوا ‪ ،‬وملا كان‬
‫الغسل قد ال ميكن ‪ ،‬شرع يف بيان الطهارة الواجبة حينئذ ‪ ،‬واألعذار اليت تبيحها‪.‬‬
‫يل مبعىن إال معذورين بعذر شرعي ‪ ،‬وقد تقدم أن املراد‬ ‫وفسر بعضهم قوله تعاىل ‪ :‬إِاال عابِ ِري َسبِ ٍ‬
‫ابملرض ما مينع من استعمال املاء مطلقا ‪ ،‬سواء كان لتعذر الوصول إليه أم لتعذر استعماله‪.‬‬
‫وقد أخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال ‪ :‬املريض الذي رخص له يف التيمم الكسري‬
‫واجلريح ‪ ،‬فإذا أصابته اجلنابة ال حيل جراحته إال جراحة ال خيشى عليها‪.‬‬
‫أ َْو عَلى َس َف ٍر أو مسافرين ‪ ،‬والسفر الطويل هنا كالقصري ‪ ،‬فإنهك عرفت أن ذكر السفر هنا ال‬
‫داللة له على شي ء ‪ ،‬إذ املدار على فقد املاء ‪ ،‬وإمنا ذكر ألن فقد املاء معه غالب‪.‬‬
‫يستدل من ذهب إىل أ هن املراد ابلصًلة املسجد ‪ ،‬وقد تقدم ‪ ،‬وهو ظاهر ‪،‬‬
‫ه‬ ‫وبذكر املسافر هنا‬
‫ومن ذهب إىل أن املراد الصًلة حبقيقتها الشرعية يقول ‪ :‬إنه إمنا ذكر هنا مع فهمه مما تقدم لبناء‬
‫احلكم الشرعي عليه ‪ ،‬وبيان أن املريض مثله ومساو له يف ذلك‪.‬‬
‫َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط الغائط هو املكان املطمئن من األرض ‪ ،‬واجمليء منه كناية عن‬
‫أ َْو جاءَ أ َ‬
‫احلدث ‪ ،‬أل هن العادة كانت أ هن من يريد قضاء احلاجة يذهب إليه ليواري شخصه عن أعني الناس‪.‬‬
‫الم ْستُ ُم النهِساءَ اختلف السلف رضوان ه‬
‫اّلل عليهم أمجعني يف املراد من املًلمسة هنا ‪ ،‬فقال‬ ‫أ َْو َ‬
‫علي وابن عباس وأبو موسى واحلسن وعبيدة والشعيب ‪ :‬هي كناية عن اجلماع ‪ ،‬وكانوا ال يوجبون‬
‫الوضوء وال التيمم ملن مس امرأة‪.‬‬
‫املس ابليد ‪ ،‬وكاان يوجبان على من مس امرأة‬
‫وقال عمر وابن مسعود ‪ :‬املراد من املًلمسة ه‬
‫الوضوء‪.‬‬
‫وقد اختلف فقهاء األمصار يف ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري واألوزاعي ‪:‬‬
‫مس امرأة ‪ ،‬سواء أكان املس بشهوة ‪ ،‬أو بغري شهوة‪.‬‬
‫ال وضوء على من ه‬
‫وقال مالك ‪ :‬إن مسها بشهوة تل هذذا فعليه الوضوء ‪ ،‬وكذا إن مسته بشهوة تلذذا‪.‬‬

‫ص ‪ 296 :‬وقال احلسن بن صاحل ‪ :‬إن قبل بشهوة فعليه الوضوء ‪ ،‬وإن كان بغري شهوة فًل‬
‫وضوء عليه‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬إذا مس جسدها فعليه الوضوء ‪ ،‬سواء أكان املس لشهوة أو لغري شهوة‪.‬‬
‫املس ليس حبدث مبا‬
‫استدل القائلون أب هن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كان يقبل نساءه مث يصلي وال‬
‫النيب صلهى ه‬
‫روي عن عائشة من طرق خمتلفة أ هن ه‬
‫يتوضأ «‪ .»1‬وكان يقبلهن وهو صائم‬
‫‪ .‬ومن ذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم ليلة‪ .‬قالت ‪ :‬فوقعت يدي على أمخص‬
‫النيب صلهى ه‬
‫حديث عائشة أهنا طلبت ه‬
‫قدمه وهو ساجد ‪ ،‬يقول ‪« :‬أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك» «‪»2‬‬
‫فثبت بذلك أن املس ليس حبدث‪.‬‬
‫مث إن ظاهر مادة املفاعلة فيما يكون فيه الفعل من اجلانبني مقصودا ‪ ،‬وذلك يف اجلماع دون‬
‫اللمس ابليد ‪ ،‬وأيضا فإ هن اللمس وإن كان حقيقة يف اللمس ابليد ‪ ،‬إال أنه قد عهد يف القرآن‬
‫وه ان [البقرة ‪:‬‬
‫س ُ‬‫وه ان ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن َتََ ُّ‬
‫إطًلقه كناية عن اجلماع ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن طَلا ْقتُ ُم ُ‬
‫‪ ]237‬بل هذا اللفظ قد اشتهر يف هذا املعىن ‪ ،‬تسمعهم يقولون يف املرأة البغي ‪ ،‬ال تر هد يد ال‬
‫مس «‪ ، »3‬يريدون أهنا ليست عفيفة‪.‬‬
‫وأيضا فالظاهر أن املراد يف هذه اآلية من املًلمسة أو اللمس يف القراءة األخرى اجلماع ‪ ،‬ألجل‬
‫َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط واألكرب يف قوله ‪ :‬أ َْو‬
‫أن تكون شاملة للحدثني األصغر يف قوله ‪ :‬أ َْو جاءَ أ َ‬
‫الم ْستُ ُم أما إذا أريد منه اللمس ابليد مثًل ‪ ،‬فإنه يكون قليل الفائدة ‪ ،‬إذ اجمليء من الغائط‬ ‫َ‬
‫واللمس حينئذ من واد واحد‪.‬‬
‫وأما من يرى أن املًلمسة هي ملس البدن فهو يقول ‪ :‬إ هن اللمس حقيقة يف املس ابليد ‪،‬‬
‫واملًلمسة مفاعلة ‪ ،‬وهو يف اجلماع جماز أو كناية ‪ ،‬وال يعدل عن احلقيقة إىل غريها إال عند تعذر‬
‫احلقيقة‪.‬‬
‫والواقع أ هن اللمس حقيقة يف املس ابليد كما يف قوله ‪:‬‬
‫ملست بكفي ك هفه أبتغي الغىن ولكنه قد تعورف عند إضافته إىل النساء يف معىن اجلماع ‪ ،‬ويكاد‬
‫يكون ظاهرا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )78 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب الوضوء حديث رقم (‪)178‬‬
‫والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )133 /1‬كتاب الطهارة ابب ما جاء يف ترك الوضوء حديث‬
‫رقم (‪ ، )86‬والنسائي يف السنن (‪ ، )112 /2 - 1‬كتاب الطهارة ابب ترك الوضوء حديث‬
‫رقم (‪.)170‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )352 /1‬كتاب الصًلة ‪ - 42 ،‬ابب ما يقال يف الركوع‬
‫والسجود حديث رقم (‪.)486 /222‬‬
‫(‪ ) 3‬رواه النسائي يف السنن كتاب النكاح ‪ ،‬ابب تزويج الزانية حديث رقم (‪.)3229‬‬

‫ص ‪297 :‬‬
‫فيه ‪ ،‬كما أن الوطء حقيقته املشي ابلقدم ‪ ،‬فإذا أضيف إىل النساء مل يفهم منه غري اجلماع‪.‬‬
‫وروى ابن جرير «‪ »1‬عن سعيد بن جبري قال ‪ :‬ذكروا اللمس ‪ ،‬فقال انس من املوايل ليس‬
‫اجلماع ‪ ،‬وقال انس من العرب ‪ :‬اللمس اجلماع ‪ ،‬قال ‪ :‬فأتيت ابن عباس ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إن انسا من‬
‫املوايل والعرب اختلفوا يف اللمس ‪ ،‬فقالت املوايل ‪:‬‬
‫ليس ابجلماع ‪ ،‬وقالت العرب ‪ :‬اجلماع! فقال ‪ :‬من أي فريق كنت؟‬
‫اّلل‬
‫املس واللمس واملباشرة اجلماع ‪ ،‬ولكن ه‬ ‫فقال ‪ :‬كنت من املوايل ‪ ،‬قال ‪ :‬غلب فريق املوايل إن ه‬
‫ويعف‪.‬‬
‫اّلل يكين ه‬‫ولكن ه‬
‫يكين ما شاء مبا شاء‪ .‬ويف رواية ‪ ،‬ه‬
‫نص عبارته ‪ ،‬قال أبو جعفر ‪ :‬وأوىل‬ ‫وقد اختار ابن جرير «‪ »2‬أن املًلمسة يف اجلماع ‪ ،‬وإليك ه‬
‫الم ْستُ ُم النهِساءَ اجلماع دون غريه‬
‫اّلل بقوله ‪ :‬أ َْو َ‬
‫القولني يف ذلك ابلصواب قول من قال ‪ :‬عىن ه‬
‫من معاين اللمس ‪ ،‬لصحة‬
‫اّلل عليه وسلهم أنهه قبل بعض نسائه مث صلهى ومل يتوضأ «‪»3‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اخلرب عن رسول ه‬
‫‪ ،‬وساق يف ذلك أخبارا كثرية بنحو ما قلناه آنفا‪.‬‬
‫صعِيداً طَيهِباً‪.‬‬
‫فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً فَتَ يَ ام ُموا َ‬
‫أي إذا أصابكم ما تق هدم من موجبات الطهارة ‪ ،‬فطلبتم املاء لتتطهروا به فلم َتدوه ‪ ،‬أبن‬
‫عدمتموه ‪ ،‬أو وجدَتوه ولكن بثمن ال تقدرون على دفعه ‪ ،‬أو وجدَتوه ولكنكم حتتاجون إليه ‪،‬‬
‫وال تقدرون على استعماله فتيمموا ‪ :‬أي اقصدوا صعيدا طيبا‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد ابلصعيد ما هو؟ فقال بعضهم ‪ :‬هو األرض امللساء اليت ال نبات‬
‫فيها وال غراس ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬إنه األرض املستوية ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬بل الصعيد الرتاب ‪ ،‬وقال‬
‫آخرون ‪ :‬هو وجه األرض ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬هو األرض ذات الرتاب والغبار‪.‬‬
‫ومعىن الطيب ‪ :‬احلًلل الطاهر‪.‬‬
‫ومعىن اآلية ‪ :‬وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو ال مستم النساء‬
‫فأردمت أن تصلهوا ‪ ،‬ففقدمت املاء ‪ ،‬فاعمدوا إىل األرض الطاهرة ‪ ،‬فامسحوا بوجوهكم وأيديكم‪.‬‬
‫وظاهر اآلية يفيد أ هن وجود ماء أي ماء ال يصح معه التيمم ‪ ،‬إذ قد رتبت اآلية األمر ابلتيمم‬
‫على نفي وجود ماء‪.‬‬
‫وذلك يقتضي أنه لو وجد ماء ‪ ،‬وكان يف حاجة شديدة إليه ‪ ،‬أو ال يقدر على‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)65 /5‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)67 /5‬‬
‫(‪ )3‬سبق ترجيه‪.‬‬

‫ص ‪298 :‬‬
‫اّللُ لِيَ ْج َع َل عَلَيْ ُك ْم ِم ْن َح َر ٍج َولكِ ْن يُ ِري ُد‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما يُ ِري ُد ا‬
‫استعماله أنه ال يتيمم ‪ ،‬ولكن ملا قاله ه‬
‫اّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر [البقرة ‪ ]185 :‬فهم‬ ‫لِيُطَ هِه َرُك ْم [املائدة ‪ ]6 :‬وقال ‪ :‬يُ ِري ُد ا‬
‫منه أن الغرض من شرع التيمم هو التيسري على الناس ‪ ،‬والتيسري على الناس ال يكون إبلزامهم‬
‫جراء العطش أو اجلوع‪.‬‬
‫أن يفقدوا ما معهم من املاء يف الطهارة ليقعوا يف العطب من ه‬
‫وكذلك فهم من ترتيب التيمم على عدم املاء أن املراد ماء يكفي للطهارة ‪ ،‬وأما ما ال يكفي هلا‬
‫فوجوده غري معت هد به‪.‬‬
‫فجوزه‬
‫وقد اختلف فقهاء األمصار يف جواز التيمم ابحلجر وما ماثله من كل ما كان من األرض ‪ ،‬ه‬
‫يتيمم ابحلصا‬
‫أبو حنيفة ‪ ،‬واشرتط أبو يوسف أن يكون املتيمم به ترااب أو رمًل وقال مالك ‪ :‬ه‬
‫واجلبل ‪ :‬وحكي عن أصحابه عنه أنه أجاز التيمم ابلزرنيخ والنهورة وحنومها ‪ ،‬وروى أشهب عنه أنه‬
‫جييز التيمم ابلثلج‪.‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬إمنا التيمم من الرتاب‪.‬‬
‫وقال الشافعي رضي ه‬
‫كل ما كان من جنس األرض‬
‫ومنشأ اخلًلف يف فهم الطيهب ‪ ،‬فمن محله على الطاهر قال ‪ :‬املراد ه‬
‫‪ ،‬بشرط الطهارة‪.‬‬
‫وقد أطلق الطيب وأريد به احلًلل الطاهر ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪ُ :‬كلُوا ِمن طَيهِ ِ‬
‫بات ما َرَزقْنا ُك ْم‬ ‫ْ‬
‫[البقرة ‪.]57 :‬‬
‫ومن فهم أنه ينبت قال ‪ :‬إ هن املراد األرض الصاحلة لإلنبات ‪ ،‬وهي ذات الرتاب ‪ ،‬وقد أطلق‬
‫ج نَباتُهُ إبِِ ْذ ِن َربِههِ [األعراف ‪، ]58 :‬‬ ‫الطيب وأريد منه ذلك كما يف قوله ‪َ :‬والْبَ لَ ُد الطايهِ ُ‬
‫ب َخيْ ُر ُ‬
‫ب‬‫لألولني أن يقولوا ‪ :‬إ هن هذا اإلطًلق غري مراد هنا ‪ ،‬أل هن املراد ابلطيهب يف قوله ‪َ :‬والْبَ لَ ُد الطايهِ ُ‬
‫البلد الذي ليست أرضه سبخة ‪ ،‬وحنن جممعون على جواز التيمم برتاب األرض السبخة ‪ ،‬فعلمنا‬
‫أ هن الطيهب هبذا املعىن غري مراد هنا‪.‬‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُك ْم ِم ْنهُ [املائدة ‪ ]6 :‬ه‬
‫يدل‬ ‫وهذا وظاهر قوله تعاىل يف سورة املائدة ‪ :‬فَامسحوا بِوج ِ‬
‫ْ َ ُ ُُ‬
‫على أ هن املراد ابلصعيد ‪ :‬شيء يصل أثر منه إىل الوجه واليدين عند املسح‪.‬‬
‫املس على احلجر األملس يصل منه شيء إىل الوجه واليدين؟‬
‫وهل ه‬
‫فنحن نرى أ هن الظاهر قول من قال ‪ :‬أبن املراد ابلصعيد تراب األرض ‪ ،‬والسنة تؤيهد هذا ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم من طرق صحيحة «‪ ، »1‬جعلت يل األرض مسجدا ‪،‬‬
‫فقد روي عن النيب صلهى ه‬
‫وتربتها طهورا‬
‫‪ ،‬وروي و«تراهبا طهورا»‬
‫نعم‬
‫قد ورد يف هذا املعىن «جعلت يل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )371 /1‬كتاب املساجد حديث رقم (‪.)522 /4‬‬

‫ص ‪299 :‬‬
‫األرض مسجدا وطهورا» «‪»1‬‬
‫ولكن هذا جيب أن حيمل على ما جاء يف الروايتني األخريني مجعا بني الرواايت‪.‬‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حوا بِ ُو ُجوه ُك ْم َوأَيْدي ُك ْم إِ ان ا‬
‫اّللَ كا َن َع ُف ًّوا غَ ُفوراً‪.‬‬ ‫سُ‬‫فَ ْام َ‬
‫هذا بيان لكيفية التيمم ‪ ،‬وقد اختلف فيها فقهاء األمصار ‪ ،‬فذهب احلنفية واملالكية والشافعية‬
‫والثوري والليث إىل أن التيمم ضربتان ‪ ،‬ضربة للوجه ميسحه هبا ‪ ،‬وضربة لليدين ميسحهما هبا إىل‬
‫مروي عن جابر وابن عمر‪.‬‬
‫املرفقني ‪ ،‬وهو ه‬
‫وقال األوزاعي ‪َ :‬تزئ ضربة واحدة للوجه والكوعني‪.‬‬
‫وقال الزهري ‪ :‬وميسح يديه إىل اإلبط‪.‬‬
‫وقال ابن أيب ليلى واحلسن بن صاحل ‪ :‬يتيمم بضربتني ‪ ،‬ميسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه‬
‫ومرفقيه ‪ ،‬وقد نقل أبو جعفر الطحاوي فيما رواه اجلصاص عنه أ هن هذا الرأي مل يعرف عن‬
‫غريمها‪.‬‬
‫وقد جاء يف السنة ما يؤيد ما ذهب إليه اجلمهور ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يف صفة التيمم أنه‬
‫فقد روي عن ابن عمر «‪ »2‬وابن عباس «‪ »3‬عن النيب صلهى ه‬
‫ضربتان ‪ :‬ضربة للوجه ‪ ،‬وضربة لليدين إىل املرفقني‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ هن ظاهر قوله ‪ :‬فَامسحوا بِوج ِ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُك ْم يقتضي مسح البعض كما ه‬
‫دل على‬ ‫ْ َ ُ ُُ‬
‫حوا بِ ُرُؤ ِس ُك ْم [املائدة ‪ ]6 :‬إذ الباء تقتضي التبعيض ‪ ،‬إال أن‬
‫سُ‬‫ذلك قوله يف الوضوء ‪َ :‬و ْام َ‬
‫الفقهاء قد اتفقوا على أنه ال جيوز له االقتصار على القليل ‪ ،‬وأن عليه مسح الكثري ‪ ،‬بل ذكر‬
‫الكرخي من احلنفية أنه إن ترك شيئا قليًل أو كثريا مل جيزئه ‪ ،‬وقد جاءت الباء يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يق [احلج ‪ ]29 :‬وال جيوز االقتصار يف الطواف على بعض البيت فما هنا‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫ولْيطا اوفُوا ِابلْب ْي ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫من هذا القبيل‪.‬‬
‫هذا وقد عرض املفسرون هنا إىل أ هن التيمم هل يكفي لصلوات متعددة ما دام فاقدا للماء أم‬
‫ال؟‬
‫وحنن نرى أ هن اآلية اليت حنن بصدد تفسريها ال يستفاد منها شيء من هذا ال نفيا وال إثباات ‪ ،‬وإمنا‬
‫ذلك يستفاد من أدلة أخرى تطلب يف كتب الفقه‪.‬‬
‫إِ ان ا‬
‫اّللَ كا َن عَ ُف ًّوا غَ ُفوراً يعفو عما كان منكم من قيامكم للصًلة وأنتم سكارى ‪ ،‬ويسرت ذنوبكم ‪،‬‬
‫فًل تعودوا ملثلها فيعود عليكم إمثه وعذابه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)523 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطحاوي يف شرح معاين اآلاثر (‪.)114 /1‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه (‪.)113 /1‬‬

‫ص ‪300 :‬‬
‫ِ‬ ‫اّلل أيْمرُكم أَ ْن تُ َؤ ُّدوا ْاأل ِ‬
‫َماانت إِىل أَ ْهلها َوإِذا َح َك ْمتُ ْم بَ َْ‬
‫ني الن ِ‬
‫ااس أَ ْن َحتْ ُك ُموا‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ان اَ َ ُ ُ ْ‬
‫قال ه‬
‫اّلل كا َن َِمسيعاً ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِابلْع ْد ِل إِ ان ا ِِ ِ‬
‫صرياً (‪)58‬‬ ‫َ‬ ‫اّللَ نع اما يَعظُ ُك ْم بِه إِ ان اَ‬ ‫َ‬
‫األمانة مصدر مسهي به املفعول وهو ما يؤَتن عليه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ملا دخل مكة يوم الفتح أغلق‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روي يف سبب نزول هذه اآلية أ هن رسول ه‬
‫عثمان بن طلحة بن عبد الدار ابب الكعبة ‪ ،‬وكان سادهنا‪ .‬وصعد إىل السطح ‪ ،‬وأىب أن يدفع‬
‫اّلل مل أمنعه ‪ ،‬فلوى علي بن أيب طالب يده ‪ ،‬وأخذ‬
‫املفتاح إليه ‪ ،‬وقال ‪ :‬لو علمت أنه رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وصلهى ركعتني ‪ ،‬فلما خرج سأله‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫منه املفتاح ‪ ،‬وفتح ‪ ،‬ودخل رسول ه‬
‫النيب عليا أن‬
‫العباس أن يعطيه املفتاح ‪ ،‬وجيمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه اآلية ‪ ،‬فأمر ه‬
‫يرده إىل عثمان ‪ ،‬ويعتذر إليه ‪ ،‬فقال عثمان لعلي ‪ :‬أكرهت وآذيت مث جئت ترفق! فقال ‪ :‬لقد‬
‫اّلل وأ هن حممدا‬
‫اّلل يف شأنك قرآان ‪ ،‬وقرأ عليه اآلية ‪ ،‬فقال عثمان ‪ :‬أشهد أن ال إله إال ه‬
‫أنزل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أ هن السدانة يف أوالد‬
‫اّلل ‪ ،‬فهبط جربيل عليه السًلم وأخرب النيب صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫عثمان أبدا «‪.»1‬‬
‫نزلت اآلية على هذا السبب اخلاص ‪ ،‬وليس ذلك مبخرج اللفظ عن عمومه ‪ ،‬فهو عام يتناول‬
‫كل ما يؤَتن عليه اإلنسان ‪ ،‬سواء أكان ذلك يف حق نفسه أم يف حق غريه من العباد ‪ ،‬أم يف‬
‫اّلل أن َتتثل‬
‫فكل ذلك جيب رعاية األمانة فيه ‪ ،‬فرعاية األمانة فيما هو من حقوق ه‬
‫حق ربه ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عنه ‪:‬‬
‫أوامره‪ .‬وَتتنب نواهيه ‪ ،‬قال ابن مسعود رضي ه‬
‫األمانة يف كل شيء الزمة ‪ ،‬يف الوضوء واجلنابة والصًلة والزكاة والصوم‪.‬‬
‫اّلل فرج اإلنسان وقال ‪ :‬هذا أمانة خبأهتا عندك ‪ ،‬فاحفظها‬
‫اّلل عنه ‪ :‬خلق ه‬
‫وقال ابن عمر رضي ه‬
‫إال حبقها‪.‬‬
‫وأما رعاية األمانة يف ح هق النفس ‪ ،‬فهو أال يقدم اإلنسان إال على ما ينفعه يف الدنيا واآلخرة ‪،‬‬
‫ويف هذا‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬كلكم راع وكلهكم مسؤول عن رعيته» «‪.»2‬‬
‫يقول الرسول صلهى ه‬
‫وأما رعاية األمانة يف ح هق الغري فهو رد الودائع والعارية ‪ ،‬وعدم غش الناس يف كل ما يتصل‬
‫ابملعاملة ‪ ،‬من بيع وشراء ‪ ،‬وجهاد ونصيحة ‪ ،‬وأال يفشي عيوب الناس ‪ ،‬وينشر الفاحشة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذكره البغوي يف تفسريه معامل التنزيل املشهور بتفسري البغوي ط ‪ ، 3‬بريوت ‪ ،‬دار املعرفة‬
‫‪.)444 - 443 /1( 1992‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 11 ، )242 /1‬كتاب اجلمعة ‪ - 11 ،‬ابب اجلمعة حديث‬
‫رقم (‪ ، )893‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1459 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 5 ،‬ابب فضيلة‬
‫اإلمام حديث رقم (‪].....[ .)1829 /20‬‬

‫ص ‪301 :‬‬
‫وبني خطرها وعظيم قدرها يف مواضع كثرية ‪ ،‬فقال ‪ :‬إِ اان َع َر ْ‬
‫ضنَا‬ ‫وقد اعتىن القرآن بشأن األمانة ‪ ،‬ه‬
‫ني أَ ْن َحيْ ِملْنَها َوأَ ْش َف ْق َن ِمنْها َو َمحَلَ َها ِْ‬
‫اإلنْسا ُن‬ ‫ض وا ْجلِ ِ‬
‫بال فَأَبَ َْ‬ ‫ْاألَمانَةَ عَلَى ال ا ِ‬
‫سماوات َو ْاأل َْر ِ َ‬
‫ين ُه ْم ِألَماانهتِِ ْم َو َع ْه ِد ِه ْم راعُو َن (‪[ )8‬املؤمنون ‪ ]8 :‬وقال ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫[األحزاب ‪ ]72 :‬وقال ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ول َوَتُونُوا أَماانتِ ُك ْم [األنفال ‪ ]27 :‬وقال عليه الصًلة‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ال َتُونُوا ا‬
‫اّللَ َوال ار ُس َ‬ ‫اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬
‫والسًلم ‪« :‬ال إميان ملن ال أمانة له» «‪»1‬‬
‫اّلل يوم القيامة وال ينظر إليهم وال يزكيهم ‪ :‬من إذا حدث كذب ‪،‬‬
‫وقال ‪« :‬ثًلثة ال يكلمهم ه‬
‫وإذا وعد أخلف ‪ ،‬وإذا أؤَتن خان»‪.‬‬
‫قد رأيت أ هن األماانت عامة واجبة األداء ‪ ،‬ال فرق بني واحدة منها وواحدة ‪ ،‬وال ب هد من دفعها‬
‫إىل أهلها عند طلبهم إايها ‪ ،‬وأما حكم األمانة يف حال اهلًلك ‪ ،‬وأهنا مضمونة أو غري مضمونة ‪،‬‬
‫أو بعضها مضمون وبعضها اآلخر غري مضمون ‪ ،‬فنحن ال نعرض له ‪ ،‬أل هان نراه ال يتصل ابآلية ‪،‬‬
‫ومر هده إىل أدلته يف كتب الفقه‪.‬‬
‫ااس أَ ْن َحتْ ُك ُموا ِابل َْع ْد ِل‪.‬‬ ‫َوإِذا َح َك ْمتُ ْم بَ َْ‬
‫ني الن ِ‬
‫إقامة العدل بني الناس أمر تقتضيه طبيعة العمران ‪ ،‬وتشهد به بداية العقول ‪ ،‬وال بد للمجتمع‬
‫ويستتب األمن والنظام بني النهاس‪.‬‬ ‫ه‬ ‫حَّت أيمن الضعيف سطوة القوي ‪،‬‬ ‫اإلنساين منه ‪ ،‬ه‬
‫ومن أجل هذا َتد الشرائع السماوية تنادي بوجوب إقامة العدل ‪ ،‬قال تعاىل يف كتابه احلكيم ‪:‬‬
‫سان [النحل ‪:‬‬ ‫اإل ْح ِ‬
‫اّللَ َأي ُْم ُر ِابل َْع ْد ِل َو ِْ‬
‫ااس أَ ْن َحتْ ُك ُموا ِابل َْع ْد ِل وقال ‪ :‬إِ ان ا‬‫ني الن ِ‬‫َوإِذا َح َك ْمتُ ْم بَ َْ‬
‫‪ ]90‬وقال ‪َ :‬وإِذا قُلْتُ ْم فَا ْع ِدلُوا َول َْو كا َن ذا قُ ْرىب‬
‫داو ُد إِ اان َج َعل َ‬
‫ْناك‬ ‫[األنعام ‪ ]152 :‬وقال ‪ :‬ا ْع ِدلُوا هو أَقْر ِ‬
‫ب للتا ْقوى [املائدة ‪ ]8 :‬وقال ‪ :‬اي ُ‬ ‫َُ َ ُ‬
‫ااس ِاب ْحلَِهق [ص ‪.]26 :‬‬ ‫ني الن ِ‬ ‫اح ُك ْم بَ َْ‬
‫ض فَ ْ‬ ‫َخلِي َفةً ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫اّلل عليه وسلهم فيما رواه أنس عنه ‪« :‬ال تزال هذه األمة خبري ما إذا قالت‬ ‫قال النيب صلهى ه‬
‫صدقت ‪ ،‬وإذا حكمت عدلت‪ .‬وإذا اسرتمحت رمحت»‪.‬‬
‫ِ‬
‫اج ُه ْم [الصافات ‪:‬‬ ‫ش ُروا الاذ َ‬
‫ين ظَلَ ُموا َوأَ ْزو َ‬ ‫اح ُ‬
‫اّلل الظلم والظاملني يف آايت كثرية قال ‪ْ :‬‬ ‫ذم ه‬
‫وقد ه‬
‫اّللَ غافِ ًًل َع اما يَ ْع َم ُل الظاالِ ُمو َن [إبراهيم ‪ ]42 :‬وقال يف عاقبة الظلم ‪:‬‬
‫نب ا‬ ‫س َا‬ ‫‪ ]22‬وقال ‪َ :‬وال َحتْ َ‬
‫ْك بُيُو ُهتُ ْم خا ِويَةً ِمبا ظَلَ ُموا [النمل ‪ ]52 :‬ومن الظلم احلكم بغري ما أنزل ه‬
‫اّلل‪.‬‬ ‫فَتِل َ‬
‫ااس مشعر أبنهه ال ب هد للناسي أن يوجد فيهم من حيكم بينهم‪.‬‬ ‫ني الن ِ‬‫وقوله تعاىل ‪َ :‬وإِذا َح َك ْمتُ ْم بَ َْ‬
‫وقد دلت األدلة على أ هن احلكم إلمام املسلمني ‪ ،‬يقضي بني الناس مبا يراه موافقا للشرع فًَل‬
‫ت‬ ‫وك فِيما َش َج َر بَ ْي نَ ُه ْم مثُا ال َجيِ ُدوا ِيف أَنْ ُف ِس ِه ْم َح َرجاً ِمماا قَ َ‬
‫ض ْي َ‬ ‫ك ال يُ ْؤِمنُو َن َح اَّت ُحيَ هكِ ُم َ‬
‫َوَربِه َ‬
‫سلِه ُموا تَ ْسلِيماً (‪[ )65‬النساء ‪.]65 :‬‬ ‫َويُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪.)135 /3‬‬

‫ص ‪302 :‬‬
‫اّللَ نِعِ اما يَعِظُ ُك ْم بِهِ أي نعم شيء يعظكم ‪ ،‬أو نعم الذي يعظكم به ‪ ،‬واملخصوص ابملدح‬
‫إِ ان ا‬
‫حمذوف ‪ ،‬يرجع إىل املأمور به من أداء األماانت ‪ ،‬واحلكم بني الناس ابلعدل‪.‬‬
‫اّلل كا َن َِمسيعاً ب ِ‬
‫صرياً يبصر ما يكون منكم من أداء األماانت وخيانتها فيحاسبكم عليه ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إِ ان اَ‬
‫ويسمع ما يكون من حكمكم بني الناس فيجازيكم به‪.‬‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر ِم ْن ُك ْم فَِإ ْن تَ َ‬
‫ناز ْعتُ ْم ِيف‬ ‫ول َوأ ِ‬‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫اّلل وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا أَطيعُوا اَ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫س ُن َأتْ ِو ًيًل (‪)59‬‬ ‫َح َ‬ ‫ك َخ ْريٌ َوأ ْ‬ ‫ول إِ ْن ُك ْن تُ ْم تُ ْؤِمنُو َن ِاب اّللِ َوالْيَ ْوم ْاآل ِخ ِر ذلِ َ‬‫اّللِ وال ار ُس ِ‬
‫َش ْيء فَ ُردُّوهُ إِ َىل ا َ‬
‫اّلل الوالة أبن يسريوا يف حكمهم بني الناس على مقتضى العدل ‪ ،‬وكان العدل ال يتح هقق‬ ‫ملها أمر ه‬
‫اّلل وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُويل ْاألَ ْم ِر‬
‫ول َوأ ِ‬
‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫آمنُوا أَطيعُوا اَ َ‬ ‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫إال أن يلتزمه الناس ‪ ،‬قال ه‬
‫املفسرون يف املراد أبويل األمر ‪ ،‬فذهب بعضهم إىل أهنم أمراء املسلمني ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُك ْم إخل وقد اختلف ه‬
‫فيدخل فيهم اخللفاء الراشدون ‪ ،‬وامللوك والسًلطني ‪ ،‬والقضاة وغريهم ‪ ،‬وذهب بعضهم ‪ :‬إىل‬
‫أهنهم أمراء السرااي ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬إهنهم العلماء الذين يفتون يف األحكام الشرعية ‪ ،‬ويعلمون‬
‫الناس دينهم‪.‬‬
‫وذهب الروافض إىل أهنم األئمة املعصومون ‪ ،‬بل لقد غلت طائفة منهم وزعمت أن املراد من‬
‫أويل األمر علي بن أيب طالب وحده‪.‬‬
‫وحنن نرى أنه ليس ما مينع أن يكون اجلميع مرادا عدا ما ذهب إليه اخلوارج ‪ ،‬فاخللفاء واجبو‬
‫الطاعة ‪ ،‬وأمراء السرااي واجبو الطاعة ‪ ،‬والعلماء واجبو الطاعة ‪ ،‬كل ذلك واجب ‪ ،‬ما مل يكن‬
‫إملام مبعصية ‪ ،‬وإال فًل طاعة ملخلوق يف معصية اخلالق‪.‬‬
‫ويرى الفخر الرازي أ هن املراد من أويل األمر أهل احلل والعقد ‪ ،‬ويريد من ذلك أن يستدل ابآلية‬
‫اّلل ‪ ،‬ورسوله ‪،‬‬
‫اّلل ذكر ثًلثة ‪ ،‬واجبة طاعتهم ‪ :‬ه‬
‫على حجية اإلمجاع ‪ ،‬وهو يدعم رأيه هذا أب هن ه‬
‫اّلل ورسوله مقطوع بعصمتهم ‪ ،‬فوجب أن يكون أولوا األمر كذلك ‪ ،‬وال جند من‬
‫وأولو األمر ‪ ،‬و ه‬
‫أويل األمر على ما ذكره املفسرون من هو واجب العصمة إال أهل احلل والعقد عند اجتماعهم‬
‫على أمر من األمور ‪،‬‬
‫«لن َتتمع أميت على ضًللة»‬
‫فينبغي أن يكون املراد من أويل األمر أهل احلل والعقد ‪ ،‬ويكون ذلك دليًل على حجية اإلمجاع‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل واألمر بطاعة الرسول وأويل األمر ‪ ،‬مث أمر برد ما يتنازع فيه إىل ه‬
‫اّلل األمر بطاعة ه‬
‫وقد ذكر ه‬
‫ابّلل ورسوله واليوم اآلخر ‪ ،‬ووصفه أبنه خري وأحسن مآال ‪،‬‬
‫والرسول ‪ ،‬جعل ذلك حم هققا لإلميان ه‬
‫اّلل والرسول ‪ ،‬وإال كان ذلك تكرارا‬
‫اّلل والرسول غري طاعة ه‬
‫وذلك يقتضي أن يكون الر هد إىل ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل والرسول وأويل األمر ‪ ،‬فإن تنازعتم يف شيء فأطيعوا ه‬
‫حمضا ‪ ،‬إذ يؤول الكًلم إىل أطيعوا ه‬
‫ينزه القرآن عن‬
‫والرسول وذلك لغو ه‬

‫ُويل ْاأل َْم ِر ِم ْن ُك ْم لفهم‬


‫ول َوأ ِ‬ ‫اّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫ِ‬
‫ص ‪ 303 :‬مثله إذ لو اقتصر على قوله ‪ :‬أَطيعُوا اَ َ‬
‫األمر ابلطاعة يف كل األحوال‪.‬‬
‫اّلل ورسوله نصا فيه؟ إن ذلك يكون خروجا عما‬
‫وأيضا فإنهه كيف يتأتهى النزاع يف أمر علم حكم ه‬
‫اّلل ورسوله فيما‬
‫يقضي به األمر ابلطاعة ‪ ،‬ومن أجل ذلك قيل ‪ :‬إنه جيب أن يكون األمر بطاعة ه‬
‫ينص فيهما على حكمه فهذا‬
‫اّلل يف كتابه أو سنة رسوله ‪ ،‬فأما ما مل ه‬
‫ثبت نصا عنهما أنه حكم ه‬
‫نصا يلزمهم طاعته ‪ ،‬ومبا أنه ال ميكن أن‬
‫يصح أن يتنازع الناس يف حكمه ‪ ،‬ألهنم ال جيدون ه‬
‫الذي ه‬
‫حيوي الكتاب وال أن حتوي السنة نصوص األحكام يف أشخاص املسائل ‪ ،‬إذ أشخاص املسائل‬
‫اّلل‬
‫ال تتناهى‪ .‬فجاز أن تكون حوادث ال جند هلا حكما يف كتاب وال سنة ‪ ،‬فهذه هي اليت قال ه‬
‫لنا فيها ‪:‬‬
‫اّللِ وال ار ُس ِ‬ ‫ٍ‬
‫ول أي فارجعوا فيه إىل ما يف الكتاب والسنة من أحكام‬ ‫ناز ْعتُ ْم ِيف َش ْيء فَ ُردُّوهُ إِ َىل ا َ‬
‫فَِإ ْن تَ َ‬
‫‪ -‬حيث يكون احلكم قد ورد من أجل حكمة انط الشارع هبا احلكم ‪ ،‬ورتهبه عليها ‪ ،‬وحيث‬
‫َتدون هذه احلكمة فيما ج هد لديكم من احلوادث ‪ -‬تعلموا أ هن هذا احلكم الذي يف الكتاب أو‬
‫اّلل يف كتابه أو سنة رسوله فيما ج هد من احلوادث‪.‬‬
‫السنة مرتبا على هذه العلة هو حكم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم إىل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه حني بعثه رسول ه‬
‫وهذا هو القياس الذي فهمه معاذ رضي ه‬
‫أقره الرسول عليه ‪ ،‬حيث‬
‫اليمن ‪ ،‬و ه‬
‫روي أنه قال ‪« :‬كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟»‪.‬‬
‫اّلل»‪.‬‬
‫قال ‪« :‬أقضي بكتاب ه‬
‫اّلل؟»‪.‬‬
‫قال ‪« :‬فإن مل يكن يف كتاب ه‬
‫اّلل»‪.‬‬
‫قال ‪« :‬أقضي بسنة نيب ه‬
‫اّلل؟»‪.‬‬
‫اّلل وسنة رسول ه‬
‫قال ‪« :‬فإن مل يكن يف كتاب ه‬
‫قال ‪« :‬أجتهد رأيي ال آلو»‪.‬‬
‫اّلل إىل ما يرضي رسول‬
‫قال ‪ :‬فضرب على صدره وقال ‪« :‬احلمد هّلل الذي وفهق رسول رسول ه‬
‫اّلل» «‪.»1‬‬
‫ه‬
‫وإذا جرينا على ما رآه الفخر الرازي من تفسري أويل األمر ‪ :‬أبهل احلل والعقد تكون اآلية دالهة‬
‫على حجية الكتاب والسنة واإلمجاع والقياس‪.‬‬
‫اّللِ وال ار ُس ِ‬
‫ول ما يشعر بكون املتنازع فيه مما ال نص فيه ‪ ،‬وإال كان واجب‬ ‫ويف قوله ‪ :‬فَ ُردُّوهُ إِ َىل ا َ‬
‫الطاعة ‪ ،‬غري حمل للنزاع كما قدمنا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )295 /1‬كتاب األقضية ‪ ،‬ابب اجتهاد الرأي حديث رقم‬
‫(‪ ، )3592‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )616 /3‬كتاب األحكام ‪ ،‬ابب القاضي حديث‬
‫رقم (‪ ، )1327‬وأمحد يف املسند (‪.)230 /5‬‬
‫ص ‪304 :‬‬
‫اّلل َم ْن يُ ِط ِع ال ار ُس َ‬
‫ول‬ ‫ول وطاعة رسوله هي طاعة ه‬ ‫اّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫ِ‬
‫وقد يقال ‪ :‬كيف قال ‪ :‬أَطيعُوا اَ َ‬
‫َطاع ا‬
‫اّللَ؟ [النساء ‪.]80 :‬‬ ‫فَ َق ْد أ َ‬
‫الكل‬
‫اّلل ‪ ،‬والسنة إىل الرسول ‪ ،‬وإن كان ه‬ ‫قيل ‪ :‬ذلك إمياء إىل الكتاب والسنة ‪ ،‬فالكتاب إىل ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫من عند ه‬
‫اّللِ وال ار ُس ِ‬ ‫ٍ‬
‫ول التنازع ‪ :‬االختًلف مأخوذ من النزع ‪ ،‬الذي هو‬ ‫ناز ْعتُ ْم ِيف َش ْيء فَ ُردُّوهُ إِ َىل ا َ‬
‫فَِإ ْن تَ َ‬
‫اجلذب ‪ ،‬أل هن كًل من املتنازعني جيذب احلجة من صاحبه‪.‬‬
‫ِ‬
‫اّلل ورسوله ‪ ،‬والر هد‬ ‫اّلل لكل من حاد عن طاعة ه‬ ‫إِ ْن ُك ْن تُ ْم تُ ْؤِمنُو َن ِاب اّللِ َوالْيَ ْوم ْاآل ِخ ِر وعيد من ه‬
‫وك فِيما َش َج َر‬‫ك ال يُ ْؤِمنُو َن َح اَّت ُحيَ هكِ ُم َ‬
‫إليهما عند االختًلف ‪ ،‬وهو يف معىن قوله تعاىل ‪ :‬فًَل َوَربِه َ‬
‫بَ ْي نَ ُه ْم [النساء ‪.]65 :‬‬
‫اّلل ورسوله ‪ ،‬والر هد إليهما‬ ‫س ُن َأتْ ِو ًيًل ‪ ،‬اسم اإلشارة يرجع إىل ما أمروا به من طاعة ه‬ ‫َح َ‬
‫ك َخ ْريٌ َوأ ْ‬ ‫ذلِ َ‬
‫عند املنازعة‪.‬‬
‫والتأويل ‪ :‬املآل والعاقبة‪.‬‬
‫قد يؤخذ من اآلية اليت معنا أ هن أدلة األحكام الشرعية أربعة ال غري ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫يصح التعويل عليه يف إثبات األحكام ‪ ،‬وال‬
‫الكتاب والسنة واإلمجاع والقياس ‪ ،‬وإ هن غريها ال ه‬
‫الر هد إليه عند النزاع ‪ ،‬أل هن األحكام إما منصوصة يف كتاب أو سنة ‪ ،‬وذلك قوله ‪ :‬أ ِ‬
‫َطيعُوا ا‬
‫اّللَ‬
‫ول وإما جممع عليها من أويل األمر بعد استنادهم إىل دليل علموه ‪ ،‬وذلك قوله ‪:‬‬ ‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫وأ ِ‬
‫َ‬
‫اّلل‬ ‫ِ‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر م ْن ُك ْم وإما غري منصوص وال جممع عليها ‪ ،‬وهذه سبيلها االجتهاد ‪ ،‬والرد إىل ه‬
‫َوأ ِ‬
‫والرسول وذلك هو القياس ‪ ،‬فما أثبته الفقهاء واألصوليون غري هذه األربعة كاالستحسان الذي‬
‫يراه احلنفية دليًل ‪ ،‬وإثبات األحكام الشرعية َتشيا مع املصاحل املرسلة الذي يقول به املالكية ‪،‬‬
‫كل ذلك إن كان غري األربعة فمردود بظاهر هذه اآلية ‪،‬‬
‫واالستصحاب الذي يقول به الشافعية ه‬
‫وإن كان راجعا إليها ‪ ،‬فقد ثبت أ هن األدلة أربعة‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬وما كا َن لِم ْؤِم ٍن أَ ْن ي ْقتُل م ْؤِمناً إِاال َخطَأً ومن قَتَل م ْؤِمناً َخطَأً فَتَ ْح ِرير رقَبةٍ م ْؤِمنَةٍ‬ ‫قال ه‬
‫ُ ََ ُ‬ ‫ََ ْ َ ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ص ادقُوا فَِإ ْن كا َن ِمن قَوٍم عَ ُد ٍو لَ ُكم و ُهو م ْؤِمن فَتَ ْح ِرير رقَبةٍ م ْؤِمنَةٍ‬ ‫سلا َمةٌ إِىل أَ ْهلِهِ إِاال أَ ْن يَ ا‬ ‫ِ‬
‫ُ ََ ُ‬ ‫ْ ْ ه َْ َ ُ ٌ‬ ‫َوديَةٌ ُم َ‬
‫سلا َمةٌ إِىل أَ ْهلِهِ َوَحتْ ِر ُير َرقَبَةٍ ُم ْؤِمنَةٍ فَ َم ْن َملْ َِجي ْد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َوإ ْن كا َن م ْن قَ ْوم بَ ْي نَ ُك ْم َوبَ ْي نَ ُه ْم ميثا ٌق فَديَةٌ ُم َ‬
‫اّللُ َعلِيماً َحكِيماً (‪)92‬‬ ‫ني تَ ْوبَةً ِم َن ا‬
‫اّللِ َوكا َن ا‬ ‫يام َش ْه َريْ ِن ُمتَتابِ َع ْ ِ‬
‫فَص ُ‬
‫ِ‬
‫احلر يف األصل اخلالص ‪ ،‬وإمنا مسي به من ليس‬ ‫حترير رقبة ‪ :‬التحرير عبارة عن جعل العبد حرا ‪ ،‬و ه‬
‫رقيقا ألنهه خالص مما يكدر إنسانيته‪.‬‬
‫ص ‪305 :‬‬
‫الدية ‪ :‬قال الواحدي ‪ :‬الدية من الودي كالشية من الوشي ‪ ،‬واألصل ودية ‪ ،‬فحذفت الواو ‪،‬‬
‫خصص هذا اللفظ مبا يؤ هدى يف بدل‬
‫يقال ودى فًلن فًلان أدى ديته إىل وليه ‪ ،‬مث إ هن الشرع ه‬
‫النفس دون ما يؤ هدى يف بدل املتلفات ‪ ،‬ودون ما يؤ هدى يف بدل األطراف‪.‬‬
‫وقوله ‪َ :‬وما كا َن لِ ُم ْؤِم ٍن أَ ْن يَ ْقتُ َل ُم ْؤِمناً إِاال َخطَأً‪.‬‬
‫معناه ‪ :‬وما كان جائزا ملؤمن قتل مؤمن إال خطأ ‪ ،‬واالستثناء فيه قيل ‪ :‬إنه منقطع مبعىن لكن ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ارةً [النساء ‪ ]29 :‬وقيل ‪ :‬إنه متصل‬‫كقوله ‪ :‬ال َأتْ ُكلُوا أ َْموالَ ُك ْم بَ ْي نَ ُك ْم ِابلْباط ِل إِاال أَ ْن تَ ُكو َن َت َ‬
‫‪ ،‬وهو مستثىن مما يستلزمه وقوع املنهي عنه من اإلمث ‪ ،‬كأنهه قيل ‪ :‬ال يقتل املؤمن املؤمن فإنه إمث‬
‫‪ ،‬إال اخلطأ فًل إمث عليه‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن يف الكًلم تقدميا وأتخريا ‪ ،‬واألصل ‪ :‬وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا إال خطأ ‪ ،‬كقوله ‪ :‬ما‬
‫اخ َذ ِمن ول ٍ‬
‫َد ُس ْبحانَهُ [مرمي ‪ ]35 :‬وقوله ‪ :‬ما كا َن لَ ُك ْم أَ ْن تُ ْنبِتُوا َش َج َرها [النمل ‪:‬‬ ‫كا َن ِاّللِ أَ ْن ي ت ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫‪.]60‬‬
‫اّلل ال حيرم عليه شي ء ‪ ،‬وإمنا ينفى عنه ما‬
‫وإمنا محلت هااتن اآليتان على خًلف الظاهر ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اّلل مل حي هرم عليهم أن ينبتوا شجرها ‪ ،‬وإمنا ينفي عنهم إمكان أن ينبتوا شجرها‬
‫ال يليق به ‪ ،‬وأل هن ه‬
‫‪ ،‬والذي حدا ابلقائلني إنه استثناء منقطع إىل القول به أنه لو كان متصًل ‪ ،‬وما قبله نفي جلواز‬
‫القتل ‪ ،‬لكان مقتضيا أ هن القتل خطأ جائز‪.‬‬
‫وانتصاب خطأ إما على أنه مفعول ألجله ‪ ،‬أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إال للخطأ ‪ ،‬أو‬
‫على أنهه صفة ملصدر حمذوف ‪ ،‬أي قتًل خطأ ‪ ،‬أو على أنه حال بتأويله مبخطئ‪.‬‬
‫سلا َمةٌ‬ ‫ٍ ٍِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل قتل اخلطأ هبني حكمه فقال ‪َ :‬وَم ْن قَتَ َل ُم ْؤمناً َخطَأً فَتَ ْح ِر ُير َرقَبَة ُم ْؤمنَة َوديَةٌ ُم َ‬
‫مث ملا ذكر ه‬
‫إِىل أَ ْهلِهِ أي فعليه حترير رقبة ‪ ،‬ودية مسلمة إىل أهله ‪ ،‬إال أن يصدقوا ابلدية ‪ ،‬أي إال أن يعفوا ‪،‬‬
‫«كل معروف صدقة»‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬ه‬
‫ومسي العفو صدقة ‪ ،‬ألنه معروف ‪ ،‬وقال النيب صلهى ه‬
‫«‪.»1‬‬
‫وسبب نزول هذه اآلية ما كان من عيهاش بن أيب ربيعة ‪ ،‬أخرج ابن جرير «‪ »2‬عن السدي َوما‬
‫كا َن لِ ُم ْؤِم ٍن أَ ْن يَ ْقتُ َل ُم ْؤِمناً إِاال َخطَأً قال ‪ :‬نزلت يف عيهاش بن أيب ربيعة املخزومي ‪ ،‬وكان أخا‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أليب جهل بن هشام ألمه ‪ ،‬وإنه أسلم وهاجر يف املهاجرين األولني قبل قدوم رسول ه‬
‫عليه وسلهم ‪ ،‬فطلبه أبو جهل واحلارث بن هشام ‪ ،‬ومعهما رجل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )697 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 16 ،‬ابب بيان أن اسم‬
‫الصدقة حديث رقم (‪.)1005 /52‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)129 /5‬‬
‫ص ‪306 :‬‬
‫أحب إخوته إىل أمه ‪ ،‬فكلهموه وقالوا ‪ :‬إ هن‬
‫من بين عامر بن لؤي ‪ ،‬فأتوه ابملدينة ‪ ،‬وكان عياش ه‬
‫أمك قد حلفت أال يظلهها بيت حَّت تراك ‪ ،‬وهي مضطجعة يف الشمس ‪ ،‬فإهنا لتنظر إليك ‪ ،‬مث‬
‫اّلل ال حيجزونه حَّت يرجع إىل املدينة ‪ ،‬فأعطاه بعض أصحابه بعريا له‬
‫أرجع وأعطوه موثقا من ه‬
‫جنيبا ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن خفت منهم شيئا فاقعد على النجيب ‪ ،‬فلما أخرجوه من املدينة أخذوه‬
‫العامري ‪ ،‬فلم يزل حمبوسا مبكة حَّت خرج يوم الفتح‬
‫ه‬ ‫فأوثقوه ‪ ،‬وجلده العامري ‪ ،‬فحلف ليقتلن‬
‫اّلل َوما كا َن‬
‫‪ ،‬فاستقبله العامري ‪ ،‬وقد أسلم ‪ ،‬وال يعلم عياش إبسًلمه ‪ ،‬فضربه فقتله ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫لِم ْؤِم ٍن أَ ْن ي ْقتُل م ْؤِمناً إِاال َخطَأً يقول ‪ :‬وهو ال يعلم أنه مؤمن ومن قَتَل م ْؤِمناً َخطَأً فَتَ ْح ِرير رقَبةٍ‬
‫ُ ََ‬ ‫ََ ْ َ ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫ُ‬
‫ص ادقُوا فيرتكوا الدية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سلا َمةٌ إِىل أَ ْهله إِاال أَ ْن يَ ا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْؤمنَة َوديَةٌ ُم َ‬
‫صاص ِيف الْ َق ْتلى [البقرة ‪]178 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم الْق ُ‬
‫اّلل القصاص يف القتل يف آية البقرة ُكت َ‬ ‫قد أوجب ه‬
‫وأوجب الدية والكفارة يف القتل اخلطأ يف اآلية اليت معنا ‪ ،‬فيعلم أن الذي وجب فيه القصاص‬
‫هو القتل العمد ‪ ،‬ال ما يشمل اخلطأ ‪ ،‬وقد رأى مالك يف بعض الرواايت عنه أ هن القتل إما عمد‬
‫وإما خطأ ‪ ،‬وال اثلث هلما ‪ ،‬ألنهه إما أن يقصد القتل فيكون عمدا ‪ ،‬أو ال يقصده فيكون خطأ ‪،‬‬
‫وال واسطة ‪ ،‬والكتاب يساعده‪.‬‬
‫أما سائر فقهاء األمصار فقد أثبتوا واسطة بني العمد واخلطأ ‪ ،‬وهو شبه العمد ‪ ،‬وإىل ذلك ذهب‬
‫عمر وعلي وعثمان وزيد بن اثبت وأبو موسى األشعري واملغرية ‪ ،‬وال خمالف هلم من الصحابة ‪،‬‬
‫وحجتهم يف إثباته أن النيات مغيهبة عنا ‪ ،‬ال اطًلع لنا عليها ‪ ،‬وإمنا احلكم مبا ظهر ‪ ،‬فمن قصد‬
‫ضرب آخر آبلة تقتل غالبا حكمنا أبنه عامد ‪ ،‬أل هن الغالب أ هن من يضرب آبلة تقتل يكون قصده‬
‫القتل ‪ ،‬ومن قصد ضرب رجل آبلة ال تقتل غالبا كان مرتددا بني العمد واخلطأ ‪ ،‬فأطلقنا عليه‬
‫شبه العمد ‪ ،‬وهذا ابلنسبة إلينا ال ابلنسبة إىل الواقع ونفس األمر ‪ ،‬إذ هو يف الواقع إما عمد‬
‫وإما خطأ ‪ ،‬وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب ‪ ،‬وقد أشبه اخلطأ من جهة أ هن اآللة ال تقتل‬
‫غالبا‪.‬‬
‫وقد استدلوا أيضا مبا‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪ :‬أال إ هن قتل اخلطأ شبه العمد ما كان ابلسوط والعصا‬
‫روي أ هن النيب صلهى ه‬
‫واحلجر ديته مغلظة مائة من اإلبل ‪ ،‬منها أربعون يف بطوهنا أوالدها‬
‫‪ ،‬وهو حديث مضطرب عند أهل احلديث «‪ ، »1‬ذكر أبو عمر بن عبد الرب «‪ »2‬أنه ال يثبت‬
‫اّلل يرى أ هن ما يسمى شبه عمد هو عمد جيب‬
‫من جهة اإلسناد‪ .‬ومالك رمحه ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )199 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب الدية حديث رقم (‪، )4588‬‬
‫والنسائي يف السنن (‪ ، )409 /8 - 7‬كتاب القسامة ابب كم دية شبه العمد حديث رقم‬
‫(‪ ، )4805‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )877 /2‬كتاب الدايت ابب شبه العمد حديث رقم‬
‫(‪.)2627‬‬
‫اّلل بن حممد بن عبد الرب القرطيب صاحب كتاب التمهيد ملا يف املوطأ من املعاين‬
‫(‪ )2‬هو عبد ه‬
‫واملسانيد‪.‬‬

‫ص ‪307 :‬‬
‫فيه القصاص ‪ ،‬وقد روي عنه أيضا أنه يثبت شبه العمد ‪ ،‬والذين أثبتوا شبه العمد اختلفوا فيما‬
‫هو عمد وما هو شبه عمد على أقوال كثرية ‪ ،‬أشهرها ثًلثة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال أبو حنيفة ‪ :‬العمد ما كان ابحلديد ‪ ،‬وكل ما عدا احلديد من القضيب أو النار وما‬
‫يشبه ذلك فهو شبه العمد‪.‬‬
‫‪ - 2‬قال أبو يوسف وحممد ‪ :‬شبه العمد ما ال يقتل مثله‪.‬‬
‫‪ - 3‬قال الشافعي ‪ :‬شبه العمد ما كان عمدا يف الضرب خطأ يف القتل ‪ ،‬أي ما كان ضراب مل‬
‫يقصد به القتل ‪ ،‬فتولهد عنه القتل ‪ ،‬واخلطأ مبا كان خطأ فيهما مجيعا ‪ ،‬والعمد ما كان عمدا‬
‫فيهما مجيعا‪.‬‬
‫كل قتل بغري احلديد شبه عمد ضعيف ‪ ،‬فإ هن من‬
‫اّلل من جعل ه‬
‫وما ذهب إليه أبو حنيفة رمحه ه‬
‫ضرب رأس إنسان بنحو حجر رحى فقتله ‪ ،‬وادعى أنه ليس عامدا كان مكابرا ‪ ،‬واملصلحة‬
‫اّلل شرع القصاص صوان لألرواح عن اإلهدار ‪ ،‬ولو كان القتل‬
‫تقتضي ابلقصاص يف مثله ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ابملث هقل ال قصاص فيه الرتكبه الناس ‪ ،‬فشفوا نفوسهم بقتل أعدائهم ‪ ،‬وجنوا من القصاص‪.‬‬
‫والفقهاء يعتمدون يف إثبات العمد وشبهه واخلطأ على اآللة اليت هبا القتل وأشياء أخرى ذكرت‬
‫يف الفروع ‪ ،‬وكان مقتضى النظر أن يبحث يف ظروف القتل ‪ ،‬وما أحاط به من مًلبسات ‪ ،‬ويف‬
‫قرائن األحوال لنعلم نية القاتل ‪ :‬أهو عامد أم خمطئ ‪ ،‬إال أهنم رأوا أ هن نية القاتل ال اطًلع لنا‬
‫عليها ‪ ،‬فاكتفوا ابلنظر يف اآللة اليت كان هبا القتل ‪ ،‬وحنن نوافق على أ هن نية القاتل ال اطًلع لنا‬
‫عليها‪.‬‬
‫لكن ينبغي أن ننظر نظرا أوسع يف مجيع املًلبسات احمليطة لنعلم نيته ‪ ،‬ولعلهه لو قيل بذلك مل‬
‫يكن بعيدا من الشريعة‪.‬‬
‫اّلل يف القتل اخلطأ أمرين ‪ :‬عتق رقبة مؤمنة ‪ ،‬ودية مسلمة إىل أهله ‪ ،‬فأما الرقبة‬
‫وقد أوجب ه‬
‫املؤمنة فقد قال ابن عباس واحلسن والشعيب فيها ‪ :‬ال َتزئ الرقبة إال إذا صامت وصلهت‪ .‬وقال‬
‫الصيب إذا كان أحد أبويه مسلما‪.‬‬
‫ه‬ ‫مالك والشافعي وأبو حنيفة ‪ :‬جيزئ‬
‫والصيب مل يتحقق منه‪.‬‬
‫ه‬ ‫اّلل شرط اإلميان فًل بد من حتققه ‪،‬‬ ‫حجة األولني أن ه‬
‫الصيب ‪ ،‬فكذلك يدخل يف قوله ‪:‬‬
‫ه‬ ‫اّلل قال َوَم ْن قَتَ َل ُم ْؤِمناً فيدخل فيه‬
‫وحجة اآلخرين ‪ :‬أ هن ه‬
‫فَتَ ْح ِر ُير َرقَبَةٍ ُم ْؤِمنَةٍ والرقبة قد ذكروا أهنا على القاتل ‪ ،‬فأما الدية فهي على العاقلة ‪ ،‬وقد وردت‬
‫تدل على أ هن الدية على العاقلة «‪ ، »1‬والعاقلة قال احلجازيون ‪ :‬هم قرابته من‬
‫أحاديث كثرية ه‬
‫جهة أبيه ‪ ،‬وهم عصبته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )879 /2‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب الدية على العاقلة حديث رقم‬
‫(‪.)2633‬‬

‫ص ‪308 :‬‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬العاقلة هم أهل ديوانه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ويف زمن أيب بكر ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وحجة احلجازيني أنه تعاقل الناس يف زمن رسول ه‬
‫ومل يكن هناك ديوان ‪ ،‬وإمنا كان الديوان يف زمن عمر بن اخلطاب ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬كيف جيين اجلاين‬
‫س إِاال َعلَْيها َوال تَ ِز ُر وا ِزَرةٌ‬
‫ب ُك ُّل نَ ْف ٍ‬ ‫ِ‬
‫اّلل يقول ‪َ :‬وال تَكْس ُ‬
‫وتؤخذ عاقلته جبريرته فيحملون الدية ‪ ،‬و ه‬
‫ِو ْزَر أُ ْخرى [األنعام ‪ ]164 :‬وقال النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال يؤخذ الرجل جبريرة أبيه ‪،‬‬
‫وال جبريرة أخيه»‬
‫وقال أليب رمثة وابنه ‪« :‬إنه ال جيين عليك وال َتين عليه» «‪.»1‬‬
‫قلنا ‪ :‬إ هن هذا ليس من ابب حتميل الرجل وزر غريه ‪ ،‬أل هن الدية على القاتل ابتداء‪.‬‬
‫وحتميل العاقلة إايها من ابب املعاونة ‪ ،‬وكما تعاونه العاقلة فتدي عنه ‪ ،‬يعاوهنا هو فيدي عنها ‪،‬‬
‫العدو املغري ‪ ،‬تتعاون مباهلا ‪ ،‬فيدي بعضها عن‬
‫وكما تتعاون القبيلة يف النهصرة ‪ ،‬فتدفع بنفسها ه‬
‫حتمل العاقلة الدية معروفا عند العرب ‪ ،‬وكانوا يع هدونه من مكارم األخًلق ‪،‬‬
‫بعض ‪ ،‬وقد كان ه‬
‫وحتمل املغارم مما‬
‫ليتمم مكارم األخًلق ‪ ،‬واملعاونة والتناصر ه‬
‫اّلل عليه وسلهم بعث ه‬
‫والنيب صلهى ه‬
‫يدل على أ هن العاقلة حتمل الدية‪.‬‬
‫يقوي األلفة ‪ ،‬ويزيد يف احملبة ‪ ،‬وقد ورد من األحاديث ما ه‬
‫ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروى املغرية أ هن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول ه‬
‫ابلغرة ‪ ،‬فقام محل بن مالك فقال ‪ :‬كيف ندي من ال شرب وال أكل ‪،‬‬
‫وسلهم على عاقلة الضاربة ه‬
‫وال صاح وال استهل ‪ ،‬ومثل ذلك بطل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬هذا من سجع اجلاهلية» «‪.»2‬‬
‫فقال النيب صلهى ه‬
‫علي أبن يعقل عن موايل صفية بنت عبد املطلب‬
‫اّلل عنه قضى على ه‬
‫وقد ورد أ هن عمر رضي ه‬
‫وعلي كان ابن أخي صفية ‪ ،‬وقضى للزبري مبرياثها «‪.»3‬‬
‫حني جىن موالها ‪ ،‬ه‬
‫وقد ذهب أبو بكر األصم ومجهور اخلوارج إىل أن الدية على القاتل ال على العاقلة ‪ ،‬اعتمادا‬
‫سلا َمةٌ إِىل أَ ْهلِهِ يقتضي‬ ‫ٍ ٍِ ِ‬
‫على ما ذكرانه من العمومات ‪ ،‬وعلى أ هن قوله ‪ :‬فَتَ ْح ِر ُير َرقَبَة ُم ْؤمنَة َوديَةٌ ُم َ‬
‫أ هن من جيب عليه هو القاتل ‪ ،‬والذي يناسب أن يكون كذلك يف الدية ‪ ،‬وقد علمت أ هن اآلاثر‬
‫جممعة على أ هن الدية على العاقلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )165 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب النفس حديث رقم (‪، )4495‬‬
‫والنسائي يف السنن (‪ ، )423 /8 - 7‬كتاب القسامة ابب هل يؤخذ أحد جبريرة أحد حديث‬
‫رقم (‪ ، )4847‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )255 /5‬كتاب التفسري حديث رقم‬
‫(‪.)3087‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 28 ، )1311 /3‬كتاب القسامة ‪ - 11 ،‬ابب دية اجلنني‬
‫حديث رقم (‪ )1682 /37‬واللفظ عنده «أسجع كسجع األعراب»‪.‬‬
‫(‪ ) 3‬انظر تلخيص احلبري يف تريج أحاديث الرافعي الكبري للرافعي ‪ ،‬كتاب الدايت ‪/4( ،‬‬
‫‪.)103‬‬

‫ص ‪309 :‬‬
‫بقي أن يقال ‪ :‬إذا اختلف النظام االجتماعي عما كان عليه يف زمن العرب ‪ ،‬وفقدت عصبية‬
‫القبيلة بعضهم لبعض ‪ ،‬وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون قبيلته ‪ ،‬كما يف النظام احلاضر ‪،‬‬
‫يكون األوفق األخذ برأي األصم واخلوارج أم برأي اجلمهور؟‬
‫فوت على أهل القتيل منفعتهم به ‪،‬‬
‫اّلل الدية أن القاتل قد ه‬
‫هذا حمل اجتهاد ‪ ،‬واحلكمة يف إجياب ه‬
‫اّلل الدية ماال يدفع لورثة املقتول عوضا عما فاهتم‬
‫يتعمد قتله حَّت يكون القصاص ‪ ،‬فأوجب ه‬
‫ومل ه‬
‫من منافعه ‪ ،‬وتطييبا خلواطرهم ‪ ،‬فًل تتطلع نفوسهم لًلنتقام‪.‬‬
‫خممسة ‪ -‬عشرون بنت‬
‫ومقدار دية اخلطأ خمتلف فيها فأما على أهل اإلبل فمائة ‪ ،‬منها ‪ -‬وهي ه‬
‫خماض ‪ ،‬وعشرون بنت لبون ‪ ،‬وعشرون ابن لبون ذكرا ‪ ،‬وعشرون حقة ‪ ،‬وعشرون جذعة ‪ ،‬عند‬
‫مالك والشافعي‪.‬‬
‫تؤجل ‪ ،‬تؤخذ جنوما على ثًلث‬
‫وكذلك عند أيب حنيفة إال أنه جيعل ابن اللبون ابن خماض ‪ ،‬وهي ه‬
‫سنني ‪ ،‬وأما دية شبه العمد فهي مثلثة ‪ :‬منها أربعون خلفة ‪ ،‬وثًلثون حقة ‪ ،‬وثًلثون جذعة‪.‬‬
‫ومالك ال يقول بشبه العمد إال يف قتل الوالد لولده‪.‬‬
‫وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أيب حنيفة ومالك على املشهور من قوله‪.‬‬
‫وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد ‪ ،‬وأما على أهل الذهب فألف دينار ‪ ،‬وعلى أهل الورق‬
‫اثنا عشر ألف درهم عند مالك ‪ ،‬وعند العراقيني على أهل الورق عشرة آالف درهم‪.‬‬
‫قال الشافعي مبصر ‪ :‬ال تؤخذ من أهل الذهب وال من أهل الورق إال قيمة اإلبل ابلغة ما بلغت‬
‫‪ ،‬وقوله ابلعراق مثل قول مالك‪.‬‬
‫ويدل للشافعي يف قوله األول ما روي «‪ »1‬عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم مثامنائة دينار ومثانية آالف درهم ‪ ،‬ودية‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫كانت الدايت على عهد رسول ه‬
‫أهل الكتاب على النصف من دية املسلمني‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فكان ذلك حَّت استخلف عمر ‪ ،‬فقام خطيبا فقال ‪ :‬إن اإلبل قد غلت ‪ ،‬ففرضها عمر‬
‫على أهل الورق اثين عشر ألف درهم ‪ ،‬وعلى أهل الذهب ألف دينار ‪ ،‬وعلى أهل البقر مائيت‬
‫بقرة ‪ ،‬وعلى أهل الشاة ألفي شاة ‪ ،‬وعلى أهل احللل مائيت حلة ‪ ،‬وترك دية أهل الذمة مل يرفع‬
‫فيها شيئا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إن دية املعاهد نصف دية‬
‫وقد روى أهل السنن األربعة «‪ »2‬عنه صلهى ه‬
‫املسلم»‬
‫ولفظ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )183 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب الدية كم هي؟ حديث رقم‬
‫(‪.)4542‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )197 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب دية الذمي حديث رقم‬
‫(‪ ، )4583‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )18 /4‬كتاب الدايت حديث رقم (‪.)1413‬‬

‫ص ‪310 :‬‬
‫ابن ماجه «‪ : » 1‬قضى أن عقل أهل الكتابني نصف عقل املسلمني ‪ ،‬وهم اليهود والنصارى‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء يف ذلك ‪ ،‬فقال مالك ‪ :‬ديتهم نصف دية املسلمني يف اخلطأ والعمد ‪ ،‬وقال‬
‫الشافعي ‪ :‬ثلثها يف اخلطأ والعمد ‪ ،‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬بل كدية املسلم يف اخلطأ والعمد ‪ ،‬وحجة‬
‫مالك حديث عمرو بن شعيب ‪ ،‬وحجة الشافعي أ هن عمر جعل ديته أربعة آالف ‪ ،‬وهي ثلث‬
‫سوى‬
‫دية املسلم ‪ ،‬وراعى أبو حنيفة أصله وهو جراين القصاص بني املسلم والذمي ‪ ،‬فكما ه‬
‫سوى بينهما يف الدية‪.‬‬
‫بينهما يف القصاص ه‬
‫وتقسم‬
‫والدية أتخذها ورثة املقتول ‪ ،‬وهي كمرياث يقضى منها الدين ‪ ،‬وتن هفذ منها الوصية ‪ ،‬ه‬
‫على الورثة‪.‬‬
‫روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر ‪ :‬ال أعلم لك شيئا ‪ ،‬إمنا الدية‬
‫اّلل عليه وسلهم أمره أن‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫للعصبة الذين يعقلون عنه ‪ ،‬فشهد بعض الصحابة أ هن رسول ه‬
‫يورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك‪.‬‬ ‫ه‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫فَِإ ْن كا َن م ْن قَ ْوم َع ُد هٍو لَ ُك ْم َو ُه َو ُم ْؤم ٌن فَتَ ْح ِر ُير َرقَبَة ُم ْؤمنَة أوجب ه‬
‫اّلل يف املؤمن الساكن بدار‬
‫احلرب إذا قتله مؤمن حترير رقبة مؤمنة ‪ ،‬دون الدية ‪ ،‬وإمنا محلنا اآلية على ذلك ‪ ،‬ومل حتملها‬
‫على املؤمن الذي يتهصل نسبه بقوم عدو ‪ ،‬وهو ساكن ببًلد اإلسًلم ‪ ،‬النعقاد اإلمجاع على‬
‫وجوب الدية فيه‪.‬‬
‫ِ ٍ‬
‫سلا َمةٌ إِىل أَ ْهلِهِ َوَحتْ ِر ُير َرقَبَةٍ ُم ْؤِمنَةٍ جعل ه‬
‫اّلل يف قتل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوإ ْن كا َن م ْن قَ ْوم بَ ْي نَ ُك ْم َوبَ ْي نَ ُه ْم ميثا ٌق فَديَةٌ ُم َ‬
‫املعاهد ما جعله يف قتل املسلم من الدية وحترير الرقبة‪.‬‬
‫ومحل بعضهم اآلية على املسلم الذي هو يف قوم معاهدين ‪ ،‬وليس بظاهر ‪ ،‬ألنهه يكون تكرارا ‪،‬‬
‫إذ حكمه داخل يف قوله ‪َ :‬وَم ْن قَتَ َل ُم ْؤِمناً َخطَأً‪.‬‬
‫وال معىن إلفراده ‪ ،‬ألنه مل خيالف حكمه خبًلف املؤمن الذي هو يف قوم عدو ‪ ،‬فإنه أفرده ‪ ،‬أل هن‬
‫حكمه خيالف األول‪.‬‬
‫اّللُ عَلِيماً َحكِيماً يقول ه‬
‫اّلل ‪ :‬فمن مل ميلك‬ ‫ني تَ ْوبَةً ِم َن ا‬
‫اّللِ َوكا َن ا‬ ‫يام َش ْه َريْ ِن ُمتَتابِ َع ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫فَ َم ْن َملْ َجيِ ْد فَص ُ‬
‫اّلل ‪ ،‬أي قبوال ورمحة منه من‬
‫رقبة ‪ ،‬وال ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعني توبة من ه‬
‫اّلل عليه إذا قبل توبته ‪ ،‬والعامل فيه حمذوف‪ .‬إما (شرع) أو (نقلكم) من العتق عند العجز‬
‫اتب ه‬
‫إىل الصوم‪.‬‬
‫اّلل يف‬
‫يتحرى ‪ ،‬وقد أوجب ه‬
‫ويف التعبري ابلتوبة إشارة إىل أ هن القاتل ملوم ‪ ،‬وأنه كان ينبغي له أن ه‬
‫صيامه الشهرين التتابع ‪ ،‬فلو أفطر يوما وجب االستئناف ‪ ،‬إال أن يكون الفطر حبيض أو نفاس‬
‫أو مرض ميتنع معه الصوم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )883 /2‬كتاب الدايت ابب دية الكافر حديث رقم‬
‫(‪.)2644‬‬

‫ص ‪311 :‬‬
‫فوت‬ ‫ِ‬ ‫وكا َن ا ِ‬
‫يتعمد ‪ ،‬فلذلك مل يؤاخذه ‪ ،‬وعلم أنه ه‬
‫اّللُ َعليماً َحكيماً فقد علم أ هن القاتل خطأ مل ه‬ ‫َ‬
‫على ورثة املقتول مصلحتهم بقتله ‪ ،‬ففرض الدية تعويضا هلم ‪ ،‬وهذا غاية يف احلكمة واملصلحة‪.‬‬
‫اّللُ َعلَْيهِ َول ََعنَهُ َوأ َ‬
‫َع اد‬ ‫ب ا‬ ‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ومن ي ْقتُل م ْؤِمناً متَ ع ِمداً فَجزا ُؤهُ ج َهن ِ ِ‬
‫ام خالداً فيها َوغَض َ‬
‫َ ُ‬ ‫ََ ْ َ ْ ُ ُ َه َ‬ ‫قال ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ومن يقتل مؤمنا عامدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنهم‬ ‫لَهُ عَذاابً عَ ِظيماً (‪ )93‬يقول ه‬
‫اّلل عليه ملا ارتكبه من هذا اجلرم الفظيع ‪ ،‬وأخزاه وأع هد له عذااب عظيما‪.‬‬
‫ابقيا فيها ‪ ،‬وغضب ه‬
‫اّلل حكم من قتل املسلم خطأ ‪ ،‬ذكر هنا حكم من قتله عامدا ‪ ،‬واقتصر على ذكر‬ ‫بعد أن ذكر ه‬
‫ب َعلَْي ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫عقوبته يف األخرى ‪ ،‬ألنهه ذكر عقوبته يف الدنيا وهي القصاص يف قوله تعاىل ‪ُ :‬كت َ‬
‫صاص ِيف الْ َقتْلى [البقرة ‪.]178 :‬‬ ‫ِ‬
‫الْق ُ‬
‫الفساق ‪ ،‬وخلودهم يف النار ‪ ،‬إن مل يتوبوا ‪،‬‬‫استدل املعتزلة هبذه اآلية على القطع بعذاب ه‬ ‫ه‬ ‫وقد‬
‫شَّت‪ .‬منها أ هن هذه اآلية نزلت يف كافر قتل مسلما ‪ ،‬ويرد‬
‫وقد أجاب العلماء عن ذلك أبجوبة ه‬
‫عليه أ هن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ‪ ،‬وأيضا قد ثبت يف األصول أن ترتيب احلكم‬
‫يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك احلكم ‪ ،‬وبذلك علمنا من‬ ‫على الوصف املناسب له ه‬
‫سا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَ ُهما [املائدة ‪ ]38 :‬إن السرقة علة القطع‪.‬‬
‫سا ِر ُق َوال ا‬
‫قوله ‪َ :‬وال ا‬
‫ومنها أ هن هذا وعيد أبنه سيفعل ذلك يف املستقبل ‪ ،‬واخللف يف الوعيد كرم ‪ ،‬وهذا مردود ‪ ،‬أل هن‬
‫جوز عليه الكذب ‪ ،‬وهو ابطل‪.‬‬‫اّلل اخللف فيه ‪ ،‬فقد ه‬
‫جوز على ه‬‫الوعيد قسم من اخلرب ‪ ،‬فإذا ه‬
‫يدل على أنه سيوصل‬
‫ومنها أن هذه اآلية دلهت على أن جزاء القاتل هو ما ذكر ‪ ،‬وليس فيها ما ه‬
‫هذا اجلزاء إليه ‪ ،‬وهذا مثل ما يقول السيد لعبده ‪ ،‬جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا ‪ ،‬ولكن ال‬
‫اّلل ذكر يف هذه اآلية أ هن جزاءه ما ذكر ‪ ،‬وذكر يف آايت أخرى‬ ‫أفعله‪ .‬وهذا ضعيف أيضا ‪ ،‬أل هن ه‬
‫أنه سيوصل جزاء عاملي السوء إليهم ‪ ،‬قال ‪َ :‬م ْن يَ ْع َم ْل ُسوءاً ُْجي َز بِهِ [النساء ‪ ]123 :‬وقال ‪:‬‬
‫َوَم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َ‬
‫قال ذَ ارةٍ َش ًّرا يَ َرهُ (‪[ )8‬الزلزلة ‪.]8 :‬‬
‫خصصت يف موضعني ‪:‬‬ ‫واختار الرازي يف اجلواب أ هن هذه اآلية قد ه‬
‫أحدمها ‪ :‬القتل العمد ‪ ،‬إذا مل يكن عدواان ‪ ،‬كقتل القصاص‪.‬‬
‫خنصص‬
‫والثاين ‪ :‬القتل الذي اتب عنه القتل وإذا دخلها التخصيص يف هاتني املسألتني فنحن ه‬
‫ك لِ َم ْن يَشاءُ [النساء ‪:‬‬
‫هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعاىل ‪َ :‬ويَغْ ِف ُر ما ُدو َن ذلِ َ‬
‫‪.]48‬‬

‫ص ‪312 :‬‬
‫وقد ذهب ابن عباس إىل أ هن املؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا ال تقبل له توبة‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن سامل قال ‪ :‬كنت جالسا مع ابن عباس ‪ ،‬فسأله رجل فقال ‪:‬‬
‫أرأيت رجًل قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟‬
‫اّلل عليه ‪ ،‬ولعنه ‪ ،‬وأع هد له عذااب عظيما‪.‬‬
‫قال ‪ :‬جهنم خالدا فيها ‪ ،‬وغضب ه‬
‫قال ‪ :‬أفرأيت إن هو اتب ‪ ،‬وآمن ‪ ،‬وعمل صاحلا ‪ ،‬مث اهتدى‪.‬‬
‫وأىن له اهلدى ثكلته هأمه والذي نفسي بيده‬
‫قال ‪ :‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« : -‬جييء يوم القيامة معلهقا رأسه إبحدى يديه‬
‫لسمعته يقول ‪ -‬يعين النيب صلهى ه‬
‫‪ ،‬إما بيمينه أو بشماله ‪ ،‬آخذا صاحبه بيده األخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرمحن ‪ ،‬يقول‬
‫رب سل عبدك هذا عًلم قتلين» «‪»2‬‬
‫‪ :‬اي ه‬
‫نيب بعد نبيكم ‪ ،‬وال نزل كتاب بعد كتابكم‪.‬‬
‫فما جاء ه‬
‫وقال مجهور العلماء ‪ :‬إ هن توبة القاتل تقبل ‪ ،‬ويدل له أن الكفر أعظم من هذا القتل ‪ ،‬والتوبة‬
‫عن الكفر تقبل ‪ ،‬فالتوبة عن القتل أوىل ابلقبول‪.‬‬
‫اّللِ إِهلاً آ َخ َر َوال‬ ‫ِ‬
‫وأيضا آايت الفرقان تدل على قبول توبته ‪ ،‬وهي قوله ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين ال يَ ْدعُو َن َم َع ا‬
‫ف لَهُ‬
‫ضاع ْ‬‫ْق أَاثماً (‪ )68‬يُ َ‬ ‫ك يَل َ‬‫اّللُ إِاال ِاب ْحلَِهق َوال يَ ْزنُو َن َوَم ْن يَ ْف َع ْل ذلِ َ‬
‫س الاِيت َح ارَم ا‬
‫يَ ْقتُلُو َن النا ْف َ‬
‫الْعذاب ي وم ال ِْقيامةِ و َخيْلُ ْد فِيهِ مهاانً (‪ )69‬إِاال من اتب وآمن و َع ِمل َعم ًًل ِ‬
‫صاحلاً [الفرقان ‪68 :‬‬ ‫َْ َ َ ََ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َْ َ َ َ‬
‫‪.]70 -‬‬
‫وأاي ما كان األمر ‪ ،‬فاآلية تع هد قتل املؤمن من الكبائر ‪ ،‬وهت هدد القاتل أبنواع من التهديد‬
‫والعقاب‪.‬‬
‫وقد ورد يف األحاديث من التغليظ يف قتل املسلم ما هو قريب مما يف اآلية ‪:‬‬
‫اّلل من قتل امرئ مسلم» «‪.»3‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬لزوال الدنيا أهون على ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫وقال أيضا ‪« :‬لو أ هن رجًل قتل ابملشرق ‪ ،‬وآخر رضي ابملغرب ألشرك يف دمه»‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪« :‬إن هذا اإلنسان بنيان ا هّلل ‪ ،‬ملعون من هدم بنيانه»‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪« :‬من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة ‪ ،‬جاء يوم القيامة مكتواب بني عينيه آيس من‬
‫اّلل» «‪.»4‬‬
‫رمحة ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪].....[ .)138 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )224 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪، )3029‬‬
‫والنسائي يف السنن (‪ )95 /8 - 7‬يف حترمي الدم حديث رقم (‪ ، )3999‬وابن ماجه يف السنن‬
‫(‪ ، )874 /2‬كتاب الدايت حديث رقم (‪.)2621‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )10 /4‬كتاب الدايت ‪ ،‬ابب ما جاء يف تشديد قتل‬
‫املؤمن حديث رقم (‪ ، )1395‬والنسائي يف السنن (‪ )93 /8 - 7‬حديث رقم (‪.)3987‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )874 /2‬كتاب الدايت ابب التغليظ يف قتل مسلم ظلما‬
‫حديث رقم (‪.)2620‬‬

‫ص ‪313 :‬‬
‫فعلى من ينشد احليطة لنفسه يف آخرته ‪ ،‬أال يقتل مسلما ‪ ،‬وال يعني على قتل مسلم بشهادة‬
‫ابطلة وحنوها‪.‬‬
‫اّلل فَتَ بَ يا نُوا َوال تَ ُقولُوا لِ َم ْن أَلْقى إِل َْي ُك ُم‬
‫يل اِ‬‫ض َربْ تُ ْم ِيف َسبِ ِ‬
‫آمنُوا إِذا َ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫قال ه‬
‫ك ُك ْن تُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل فَ َم ان‬ ‫اّللِ م ِ‬
‫غاِنُ َكثِريَةٌ َكذلِ َ‬ ‫ض ا ْحلياةِ ُّ ِ‬ ‫سًلم لَس َ ِ‬
‫الدنْيا فَع ْن َد ا َ‬ ‫ت ُم ْؤمناً تَ ْب تَ غُو َن َع َر َ َ‬ ‫ال ا َ ْ‬
‫ض َربْ تُ ْم له معان منها السفر ‪ ،‬وكأنه مسي‬ ‫اّللَ كا َن ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِرياً (‪َ )94‬‬
‫اّللُ َعلَْي ُك ْم فَتَ بَ يا نُوا إِ ان ا‬
‫ا‬
‫كل مسافر ‪ ،‬أو ألنه يضرب‬
‫به ‪ ،‬أل هن املسافر يضرب دابهته بعصاه ليصرفها كما يريد ‪ ،‬مث مسي به ه‬
‫برجليه األرض يف سريه‪.‬‬
‫فَتَ بَ يا نُوا وقرئ فتثبتوا ومها من التفعل مبعىن االستفعال ‪ ،‬أي اطلبوا بيان األمر وثباته ‪ ،‬وال‬
‫تتعجلوا فيه من غري روية‪.‬‬
‫ًلم وقرئ السلم ومها االستسًلم ‪ ،‬وقيل اإلسًلم ‪ ،‬وقيل التسليم أي حتية أهل السًلم‪.‬‬
‫س َ‬ ‫ال ا‬
‫ابّلل ورسوله إذا سرمت سريا هّلل تعاىل يف جهاد الكفار ‪ ،‬ورأيتم من‬
‫معىن اآلية ‪ :‬اي أيها الذين آمنوا ه‬
‫تعجلوا بقتله ‪ ،‬وال تقولوا ملن استسلم‬
‫تش هكون أهو سلم لكم أم حرب ‪ ،‬فاطلبوا بيان أمره ‪ ،‬وال ه‬
‫لكم لست مؤمنا ‪ ،‬أو ملن أظهر إليكم اإلسًلم لست مؤمنا ‪ ،‬تبتغون متاع احلياة الدنيا ‪ ،‬فإ هن‬
‫اّلل مغاِن كثرية من رزقه ونعمته ‪ ،‬فالتمسوها بطاعته ‪ ،‬فهي خري لكم‪.‬‬
‫عند ه‬
‫ك ُك ْن تُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل أي كهذا الذي كان مستخفيا ابإلسًلم من قومه ‪ -‬وملا وجدكم أظهر لكم‬ ‫َكذلِ َ‬
‫اّلل عليكم إبعزاز دينه ‪ ،‬وتقوية‬ ‫فمن ه‬
‫دينه ‪ -‬كنتم من قبل مستخفني بدينكم من كفار قريش ‪ ،‬ه‬
‫اّللَ كا َن ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِرياً‬
‫شوكة اإلسًلم ‪ ،‬فأظهرمت دينكم ‪ ،‬فتبينوا أمر من أشكل عليكم أمره إِ ان ا‬
‫يتبني لكم شأنه ابتغاء عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاين‪.‬‬ ‫ومنه تعجيلكم بقتل من مل ه‬
‫ك ُك ْن تُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل أول ما دخلتم يف اإلسًلم مسعت من أفواهكم كلمة‬
‫وقال الزخمشري «‪َ : »1‬كذلِ َ‬
‫الشهادة ‪ ،‬فحصنت دماءكم وأموالكم من غري انتظار االطًلع على مواطأة قلوبكم أللسنتكم‬
‫فَ َم ان ا‬
‫اّللُ عَلَْي ُك ْم ابالستقامة ‪ ،‬واالشتهار ابإلميان ‪ ،‬وإن صرمت أعًلما فعليكم أن تفعلوا ابلداخلني‬
‫يف اإلسًلم كما فعل بكم ‪ ،‬وأن تعتربوا ظاهر اإلسًلم يف املكانة ‪ ،‬وال تقولوا ‪ :‬إن هتليل هذا‬
‫اّلل‪.‬‬
‫التقاء القتل ال لصدق النية ‪ ،‬فتجعلوه سلهما إىل استباحة دمه وماله ‪ ،‬وقد حرمهما ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسريه يف الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)553 /1‬‬

‫ص ‪314 :‬‬
‫سبب نزول هذه اآلية ‪ :‬قد اختلف فيه ‪ ،‬وحنن نقتصر هنا‬
‫على رواية واحدة «‪ : »1‬قيل ‪ :‬إ هن مرداس بن هنيك رجل من أهل فدك أسلم ‪ ،‬ومل يسلم من‬
‫اّلل عليه وسلهم كان عليها غالب بن فضالة الليثي ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قومه غريه ‪ ،‬فغزهتم سرية لرسول ه‬
‫فهربوا ‪ ،‬وبقي مرداس لثقته إبسًلمه ‪ ،‬فلما رأى اخليل أجلأ غنمه إىل عاقول من اجلبل ‪ ،‬وصعد ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬السًلم عليكم ‪ ،‬فقتله‬
‫اّلل حممد رسول ه‬
‫كربوا ‪ ،‬كرب ونزل ‪ ،‬وقال ‪ :‬ال إله إال ه‬
‫فلما تًلحقوا و ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فوجد وجدا شديدا ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أسامة بن زيد ‪ ،‬واستاق غنمه ‪ ،‬فأخربوا رسول ه‬
‫اّلل استغفر يل ‪ ،‬فقال‬
‫وقال ‪« :‬قتلتموه إرادة ما معه» مث قرأ اآلية على أسامة ‪ ،‬فقال ‪ :‬اي رسول ه‬
‫اّلل» قال أسامة ‪ :‬فما زال يعيدها حَّت وددت أن مل أكن أسلمت إال يومئذ‬
‫‪« :‬فكيف بًل إله إال ه‬
‫‪ ،‬مث استغفر يل ‪ ،‬وقال ‪ :‬أعتق رقبة‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬حرم قتله ‪ ،‬ألنهه قد اعتصم بعصام اإلسًلم‬
‫ويؤخذ مما تقدم أ هن الكافر إذا قال ‪ :‬ال إله إال ه‬
‫املانع من دمه وماله وأهله‪.‬‬
‫وقد قال الفقهاء ‪ :‬إذا قتله يف هذه احلالة قتل به ‪ ،‬وإمنا مل يقتل أسامة ألنهه كان يف صدر اإلسًلم‬
‫متعوذا ‪ ،‬وأ هن العاصم قوهلا مطمئنا‪.‬‬
‫وأتول أنه قاهلا ه‬
‫‪ ،‬ه‬
‫اّلل عاصم كيفما كان ‪،‬‬
‫وقد ورد احلديث الصحيح «‪ »2‬مبينا أ هن قول ال إله إال ه‬
‫اّلل ‪ ،‬فإذا‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حَّت يقولوا ال إله إال ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫اّلل»‪.‬‬
‫اّلل عصموا مين دماءهم وأمواهلم إال حبقها ‪ ،‬وحساهبم على ه‬ ‫قالوا ال إله إال ه‬
‫صًلةِ إِ ْن ِخ ْفتُ ْم أَ ْن‬
‫ص ُروا ِم َن ال ا‬ ‫ناح أَ ْن تَ ْق ُ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬‫ض فَلَْي َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِذا َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫قال ه‬
‫ين كانُوا لَ ُك ْم َع ُد ًّوا ُمبِيناً (‪)101‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يَ ْفتنَ ُك ُم الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا إِ ان الْكاف ِر َ‬
‫ض [املزمل ‪.]20 :‬‬ ‫ض ِربُو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وآ َخ ُرو َن يَ ْ‬
‫الضرب يف األرض ‪ :‬السري فيها ‪ -‬قال ه‬
‫اّللِ فَتَ بَ يا نُوا [النساء ‪.]94 :‬‬ ‫يل ا‬ ‫ض َربْ تُ ْم ِيف َسبِ ِ‬
‫آمنُوا إِذا َ‬ ‫ِ‬
‫وقال ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬
‫القصر ‪ :‬من الشيء احل هد منه وجعله أنقص مما كان ‪ ،‬وهو هبذا املعىن يف الصًلة حيتمل النقص‬
‫من عددها ‪ ،‬وحيتمل النقص من صفتها وهيئتها ‪ ،‬فاألول أن تصري الرابعية ثنتني ‪ ،‬والثاين‬
‫التخفيف يف هيئتها كأن تكون ذات ركوع وسجود ‪ ،‬ميتنع املشيء فيها ‪ ،‬فتصري ذات إمياء يباح‬
‫االنتقال فيها ‪ ،‬وكأن يصلي املأموم خلف اإلمام الصًلة كاملة فيقتصر على جزء منها مع اإلمام‬
‫‪ ،‬مث ينتظر حَّت جييء مأموم آخر فيصلي مع اإلمام ما بقي من صًلة اإلمام مث ينصرف ‪ ،‬ويتم‬
‫كل من املأمومني صًلته‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)141 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )52 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 8 ،‬ابب األمر بقتال الناس‬
‫حديث رقم (‪.)21 /33‬‬

‫ص ‪315 :‬‬
‫ط من الصًلة ‪ ،‬ونقص هلا ‪ ،‬وتفيف على فاعلها‪.‬‬
‫كل ذلك ح ه‬
‫منفردا ‪ ،‬ه‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد ابلقصر هنا ‪ ،‬أهو القصر يف عدد ركعات الصًلة أم هو القصر من‬
‫هيئتها ‪ ،‬والقائلون أب هن القصر نقص عدد الركعات اختلفوا يف املراد من الصًلة أهي صًلة‬
‫املسافر أم هي الصًلة يف حال اخلوف من العدو ‪ ،‬فعلى األول يكون القصر للصًلة يف السفر‬
‫ابلنظر ملا كانت عليه يف احلضر‪.‬‬
‫اّلل صًلة احلضر أربعا‬
‫اّلل إىل الثاين ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬فرض ه‬
‫وذهب ابن عباس وجابر بن عبد ه‬
‫وصًلة السفر ركعتني ‪ ،‬وصًلة اخلوف ركعة على لسان نبيكم ‪ ،‬وهذا القول ليس بظاهر ‪ ،‬أل هن‬
‫القرآن صريح يف أن كيفية صًلة اخلوف أن يقسم القوم أنفسهم طائفتني ‪ ،‬يصلهي اإلمام بطائفة‬
‫منهما شيئا من الصًلة ‪ ،‬مث أتِت طائفة أخرى مل يصلهوا فيصلون مع اإلمام ‪ ،‬وحنن متفقون على‬
‫أ هن املأموم عليه أن يؤدي مثل ما يؤدي اإلمام ‪ ،‬فما معىن قوهلم ‪ :‬إن صًلة اخلوف ركعة؟ إن‬
‫أرادوا أهنا ركعة جبماعة مع اإلمام ابلنظر لكل من الطائفتني فهو مسلم ‪ ،‬وال يثبت هلم ما قالوا‬
‫من أ هن صًلة اخلوف ركعة ‪ ،‬وإن قالوا ‪ :‬إن كل طائفة ليس عليها إال الذي صلت مع اإلمام ‪،‬‬
‫فهو خمالف ملا حكينا من االتفاق على أن املأموم عليه أن يفعل مثل ما فعل اإلمام ‪ ،‬وقد دلهت‬
‫اّلل عليه وسلهم لصًلة اخلوف أهنا ركعتان ‪ ،‬يصلهي‬
‫كل األخبار اليت رويت يف صًلة النيب صلهى ه‬
‫ه‬
‫اّلل تعاىل عنهما أن‬
‫بكل طائفة ركعة ‪ ،‬وعلى هذا جيب أن حيمل قول ابن عباس وجابر رضي ه‬
‫صًلة اخلوف ركعة ‪ ،‬أهنا ركعة لكل طائفة مع اإلمام ‪ ،‬وتقضي كل منهما ركعة دون االقتصار‬
‫على ركعة واحدة‪.‬‬
‫استدل القائلون أب هن القصر قصر عدد الركعات مبا‬
‫ه‬ ‫وقد‬
‫اّلل ‪:‬‬
‫روي عن يعلى بن أمية أنه قال ‪ :‬قلت لعمر بن اخلطاب ‪ :‬كيف تقصر وقد هأمنا ‪ ،‬وقد قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَلَيس َعلَي ُكم جناح أَ ْن تَ ْقصروا ِمن ال ا ِ ِ‬
‫صًلة إِ ْن خ ْفتُ ْم أَ ْن يَ ْفتنَ ُك ُم الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا فقال عمر ‪:‬‬ ‫ُُ َ‬ ‫ْ َ ْ ْ ُ ٌ‬
‫اّلل هبا‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪« :‬صدقة تص هدق ه‬ ‫النيب صلهى ه‬
‫عجبت مما عجبت منه ‪ ،‬فسألت ه‬
‫عليكم ‪ ،‬فاقبلوا صدقته» «‪.»1‬‬
‫يدل على أ هن املراد ابلقصر يف اآلية القصر يف عدد الركعات ‪ ،‬أل هن السائل فهم أ هن ذلك ال‬
‫وهذا ه‬
‫يكون إال يف اخلوف ‪ ،‬وقد فعل يف األمن‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬هو صدقة»‬
‫فقال النيب صلهى ه‬
‫فدل على أ هن القصر الذي يف اآلية من جنس القصر الذي يكون يف األمن ‪ ،‬وذلك نقص يف‬
‫ه‬
‫الركعات دون الصفة ‪ ،‬وأيضا فإ هن القصر أن تقتصر من الشيء على بعضه ‪ ،‬والقصر يف الصفة‬
‫تغيري ‪ ،‬ال إتيان ابلبعض ‪ ،‬ألنه جعل اإلمياء بدل الركوع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )478 /1‬كتاب املسافرين ‪ - 1 ،‬ابب صًلة املسافرين‬
‫حديث رقم (‪.)686 /4‬‬

‫ص ‪316 :‬‬
‫والسجود مثًل‪ .‬وأيضا ‪ :‬فإ هن (من) يف قوله ‪ِ :‬م َن ال ا‬
‫صًلةِ للتبعيض ‪ ،‬وذلك يف االقتصار على‬
‫بعض الركعات أظهر‪.‬‬
‫وأما دليل الذين قالوا ‪ :‬إ هن املراد بقصر الصًلة يف اآلية قصر الصفة واهليئة دون نقصان أعداد‬
‫ض وقد روي عن‬ ‫الركعات فهو أ هن اآلية يف صًلة السفر‪ .‬أليس ا هّلل يقول ‪َ :‬وإِذا َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫عبد الرمحن بن أيب ليلى عن عمر قال ‪« :‬صًلة السفر ركعتان ‪ ،‬وصًلة الفطر واألضحى ركعتان‬
‫‪َ ،‬تام غري قصر على لسان نبيكم عليه الصًلة والسًلم» «‪ »1‬فقد أخرب أ هن صًلة السفر سواء‬
‫أكانت صًلة أمن أم خوف َتام غري قصر‪.‬‬
‫فإذا معىن القصر يف اآلية قصر الصفة ال قصر عدد الركعات ‪ ،‬وهم حيملون قول عمر ‪:‬‬
‫«عجبت مما عجبت منه» على أنه لعله كان قد ظن يف ابدئ األمر أ هن القصر يف صًلة اخلوف‬
‫قصر عدد الركعات ‪ ،‬فلما مسع‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬صًلة السفر ركعتان َتام غري قصر»‬
‫من النيب صلهى ه‬
‫علم أن القصر يف اآلية إمنا هو يف الصفة‪.‬‬
‫خمري بني‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف أ هن فرض املسافر يف الظهر والعصر والعشاء أهو ثنتان ‪ ،‬أم هو ه‬
‫القصر واإلَتام ‪ ،‬فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وحممد ‪ :‬فرض املسافر ركعتان إال يف املغرب ‪ ،‬فإهنا‬
‫ثًلث ‪ :‬فإن صلهى املسافر أربعا ومل يقعد على رأس الركعتني فسدت صًلته ‪ ،‬وإن قعد بعدمها‬
‫مقدار التشهد َتت صًلته مع الكراهية ‪ ،‬لرتكه السًلم ‪ ،‬مبنزلة من صلهى الفجر أربعا بتسليمة ‪،‬‬
‫وقال محاد بن سليمان ‪ :‬إذا صلهى أربعا أعاد‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬إذا صلهى املسافر أربعا أعاد ما دام يف الوقت ‪ ،‬فإذا مضى الوقت فًل إعادة عليه‪.‬‬
‫احتج الشافعي رمحه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬القصر رخصة ‪ ،‬فإن شاء قصر وإن شاء أمته‪ .‬ه‬
‫وقال الشافعي رضي ه‬
‫اّلل أبن ظاهر اآلية نفي اجلناح عنهم يف القصر ‪ ،‬وهذا اللفظ مشعر أبنهه رفع عنهم لزوم اإلَتام‬
‫ه‬
‫اّلل وأمته»‪.‬‬
‫من غري إلزام هلم ابلقصر‪ .‬وأيضا فقد روي عن عائشة أهنا قالت ‪« :‬قصر رسول ه‬
‫اّلل عنه يتم ويقصر ومل ينكر عليه أحد من الصحابة ‪ ،‬وأيضا فقد جرى الشرع‬
‫وكان عثمان رضي ه‬
‫يف رخص السفر على التخيري كالصوم والفطر فالقصر كذلك‪.‬‬
‫واحتج احلنفية مبا روي عن عمر أنه قال ‪ :‬صًلة السفر َتام غري قصر على لسان نبيكم ‪ ،‬وأبن‬
‫ه‬
‫اّلل عليه وسلهم التزم القصر يف أسفاره كلها‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل‬
‫فقد روي عن ابن عباس رضي ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )203 /4 - 3‬كتاب صًلة العيدين ‪ ،‬ابب عدد صًلة العيدين‬
‫حديث رقم (‪ ، )1565‬وأمحد يف املسند (‪.)37 /1‬‬

‫ص ‪317 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم إذا خرج مسافرا صلهى ركعتني حَّت يرجع‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عنهما قال ‪ :‬كان رسول ه‬
‫«‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فكان يصلي ركعتني حَّت‬
‫وروي عن عمران بن حصني حججت مع النيب صلهى ه‬
‫يرجع إىل املدينة ‪ ،‬وقال ألهل مكة ‪« :‬صلوا أربعا فإ هان قوم سفر» «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يف السفر ‪ ،‬فلم يزد على ركعتني ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وقال ابن عمر ‪ :‬صحبت رسول ه‬
‫اّلل عنهم يف السفر ‪ ،‬فلم يزيدوا على ركعتني ‪ ،‬حَّت‬
‫وصحبت أاب بكر وعمر وعثمان رضي ه‬
‫سنَةٌ [األحزاب ‪:‬‬ ‫ول اِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬لََق ْد كا َن لَ ُك ْم ِيف َر ُس ِ‬
‫ُس َوةٌ َح َ‬ ‫اّلل أ ْ‬ ‫اّلل «‪ ، »3‬وقد قال ه‬ ‫قبضهم ه‬
‫ايب ْاأل ِهُم هِي الا ِذي يُ ْؤِم ُن ِاب اّللِ َوَكلِماتِهِ َواتابِعُوهُ ل ََعلا ُك ْم َهتْتَ ُدو َن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫‪ ]21‬وقال ‪ :‬فَآمنُوا اب اّلل َوَر ُسوله النِ ِه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬صلوا كما رأيتموين أصلي» «‪»4‬‬ ‫[األعراف ‪ ]158 :‬وقال النيب صلهى ه‬
‫وقد كانت صًلته يف السفر ركعتني فوجب اتباعه ‪ ،‬وذلك ألننا متفقون على أن لفظ الصًلة يف‬
‫الرسول أو قوله ‪ ،‬وهذا فعله ‪ ،‬وهذا قوله‪.‬‬
‫القرآن جممل يلتحق به البيان ‪ ،‬والبيان فعل ه‬
‫لبني ذلك كما بينه يف الصوم ‪ ،‬وأما ما ورد عن‬
‫اّلل التخيري بني القصر واإلَتام ه‬
‫وأيضا لو كان مراد ه‬
‫أتهل ‪ ،‬فإنهه حني أمت مبىن أنكر عليه الصحابة ‪ ،‬قال ‪ :‬إمنا أَتمت‬
‫عثمان فقد اعتذر عنه أبنه قد ه‬
‫أتهل ببلد فهو‬
‫اّلل عليه وسلهم يقول ‪« :‬من ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ألين أتهلت هبذا البلد ‪ ،‬وقد مسعت رسول ه‬
‫من أهله» «‪.»5‬‬
‫وقد قالت عائشة فيما روي عنها ‪ :‬أول ما فرضت الصًلة وأمته فيحمله احلنفية على قصر الفعل‬
‫يتأولون القصر‬
‫ناح فهم ه‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬
‫‪ ،‬وإَتام احلكم مجعا بني الرواايت‪ .‬وأما ظاهر قوله ‪ :‬فَلَْي َ‬
‫على قصر الصفة‪.‬‬
‫ناح فقال ‪ :‬إهنم ملا‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬
‫وقد ذكر صاحب «الكشاف» «‪ »6‬وجها آخر يف قوله ‪ :‬فَلَْي َ‬
‫ألفوا اإلَتام فرمبا خطر بباهلم أهنم نقصوا يف قصر الصًلة ‪ ،‬فنفي اجلناح من أجل ذلك‪.‬‬
‫يدل على القصر يف مطلق السفر ‪ ،‬سواء يف ذلك‬
‫وظاهر تعليق القصر على الضرب يف األرض ه‬
‫السفر للحج واجلهاد والتجارة وغريها ‪ ،‬وأيضا قوله ‪« :‬صًلة السفر ركعتان» يدل على ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه اجلصاص يف أحكام القرآن (‪.)254 /2‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)254 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه اجلصاص يف أحكام القرآن (‪.)254 /2‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )175 /1‬كتاب األذان ‪ - 18 ،‬ابب األذان‬
‫للمسافر حديث رقم (‪.)631‬‬
‫(‪ )5‬رواه أمحد يف املسند (‪.)62 /1‬‬
‫(‪ )6‬اإلمام الزخمشري يف كتابه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪].....[ .)558 /1‬‬

‫ص ‪318 :‬‬
‫اّلل بن مسعود قال ‪« :‬ال تقصر إال يف حج أو جهاد»‪.‬‬
‫وقد روي عن عبد ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫وعن عطاء قال ‪ :‬ال أرى أن يقصر الصًلة إال من كان يف سبيل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يقصر إال‬
‫النيب صلهى ه‬
‫لكن هذا خمالف لظاهر اآلية ‪ ،‬وال َتسك هلم مبا روي أن ه‬
‫يف حج أو جهاد ‪ ،‬فإمنا ذلك ألنهه مل يسافر إال يف حج أو جهاد‪.‬‬
‫وقد َتسك داود الظاهري هبذا الظاهر ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن قليل السفر وكثريه سواء يف جواز القصر ‪،‬‬
‫فاملدار يف حتقيق القصر عندهم على حتقق شرطه ‪ ،‬وهو الضرب يف األرض‪.‬‬
‫وأما اجلمهور فقد قالوا ‪ :‬إ هن الضرب يف األرض حقيقته االنتقال من مكان إىل مكان‪ .‬وظاهر أ هن‬
‫جمرد االنتقال من مكان إىل مكان ال يكون سببا يف الرخصة ‪ ،‬فًل ب هد أن يكون الضرب املر هخص‬
‫ضراب خمصوصا ‪ ،‬وملا كان ذلك ال يعرف إال ببيان السنة ملقدار االنتقال املر هخص ‪ ،‬ومل يرد يف‬
‫بيان السنة ترخيص يف القصر يف أقل من سفر يوم ‪ ،‬وذلك أنه حصل يف املسألة رواايت ‪:‬‬
‫اتم ‪ ،‬وبه قال الزهري واألوزاعي‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬يقصر يف يوم ه‬
‫‪ - 1‬روي عن عمر رضي ه‬
‫‪ - 2‬قال ابن عباس ‪ :‬إذا زاد على يوم وليلة قصر‪.‬‬
‫‪ - 3‬قال أنس بن مالك ‪ :‬املعترب مخسة فراسخ‪.‬‬
‫‪ - 4‬قال احلسن ‪ :‬مسرية ليلتني‪.‬‬
‫النخعي وسعيد بن جبري ‪ :‬من الكوفة إىل املدائن ‪ ،‬وهي مسرية ثًلثة أايم ‪،‬‬
‫ه‬ ‫الشعيب و‬
‫ه‬ ‫‪ - 5‬قال‬
‫وهو قول أيب حنيفة وأصحابه ‪ ،‬وعنهم ‪ :‬يومان وأكثر الثالث‪.‬‬
‫‪ - 6‬قال مالك والشافعي ‪ :‬أربعة برد ‪ ،‬كل بريد أربعة فراسخ‪.‬‬
‫تدل على إمجاعهم على أ هن السفر املر هخص مق هدر بقدر‬
‫فهذه األقوال على ما بينها من االختًلف ه‬
‫خمصوص هو الذي فيه االختًلف‪.‬‬
‫وقد عول احلنفية يف مذهبهم على‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ميسح املقيم يوما وليلة ‪ ،‬واملسافر ثًلثة أايم «‪ ، »1‬وعلى ما ورد‬
‫يف منع املرأة من السفر فوق ثًلث إال مع زوج أو حمرم»‬
‫فدل هذا على أ هن ما دون الثًلث ليس سفرا ‪ ،‬بل هو يف حكم اإلقامة ‪ ،‬حيث جعل الثًلث‬
‫ه‬
‫فاصًل بني اخلروج دون حمرم وعدمه‪.‬‬
‫عولوا يف مذهبهم على ما‬
‫وأما الشافعية فإهنم ه‬
‫روي عن جماهد وعطاء عن ابن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 2 ، )232 /1‬كتاب الطهارة ‪ - 24 ،‬ابب التوقيت يف املسح‬
‫حديث رقم (‪.)276 /85‬‬

‫ص ‪319 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬اي أهل مكة ال تقصروا يف أدىن من أربعة برد ‪ ،‬من‬
‫النيب صلهى ه‬
‫عباس أن ه‬
‫مكة إىل عسفان»‪.‬‬
‫وقد تقدم الكًلم على أدلة احلنفية والشافعية يف الصوم ‪ ،‬إمنا الذي يعنينا اآلن هو ما ذهب إليه‬
‫الظاهرية ‪ ،‬فنحن نقول هلم ‪ :‬إن اآلية جمملة ‪ ،‬وقد أمجع السلف على أن السفر مق هدر ‪ ،‬وقد‬
‫بينت السنة أنه مقدر على خًلف يف الرواايت مرجعه إىل الرتجيح ‪ ،‬فهو عند الرتجيح يثبت أحد‬
‫األقوال يف التقدير ‪ ،‬وهو خًلف ما ي هدعون‪.‬‬
‫وقد زعم الظاهرية أيضا أ هن القصر يف السفر إمنا يكون عند اخلوف َتسكا ابلشرط يف قوله ‪ :‬إِ ْن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َف ُروا إذ هو يفيد أن القصر إمنا حيصل عند اخلوف ‪ ،‬فما مل يكن خوف مل‬‫خ ْفتُ ْم أَ ْن يَ ْفتنَ ُك ُم الاذ َ‬
‫يكن قصر ‪ ،‬ولكنها نقول ‪ :‬إ هن اآلية ال تدل على أكثر من أنه عند اخلوف يصح القصر ‪ ،‬أما يف‬
‫حال عدم اخلوف فهل يصح أم ال؟ ذلك ما مل تعرض له اآلية ‪ ،‬بل هي ساكتة عنه ‪ ،‬وهذا‬
‫السكوت عنه قد بينته السنة ‪ ،‬وفائدة التقييد ابخلوف يف اآلية بيان حال السفر الذي كانوا عليه‬
‫وقتئذ إذ غالب أسفارهم إمنا كان يف حرب العدو ‪ ،‬على أ هن لنا أن نقول إ هن القصر الذي يف اآلية‬
‫الصًلة يف حال اخلوف‪.‬‬ ‫هو قصر صفة يف إحدى صلوات السفر ‪ ،‬وهي ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مث ماذا يقول الظاهرية يف قوله ‪ :‬إِ ْن خ ْفتُ ْم أَ ْن يَ ْفتنَ ُك ُم الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا هل يقولون ‪ :‬السفر املر هخص‬
‫إمنا يكون يف حال اخلوف من الكفار فقط وأما من العدو مطلقا فًل ‪ ،‬ما نظنهم يقولون ابلتزامه ‪،‬‬
‫إذ املعقول أن الذي يصلح أن يكون علة هو خوف الفتنة مطلقا ‪ ،‬وحيث كان األمر كذلك فهم‬
‫حمجوجون مبا احتجوا به‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ ْن خ ْفتُ ْم أَ ْن يَ ْفتنَ ُك ُم الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا أي إن خفتم أن يتخذ أعداؤكم اشتغالكم ابلصًلة وطوهلا فرصة‬
‫ويصح أن‬
‫ه‬ ‫لتغلهبهم عليكم فتفتنون وتغلبون‪ .‬فًل َتكنوهم من هذا ‪ ،‬بل اقصروا من الصًلة ‪،‬‬
‫يكون املراد إن خفتم أن يفتنكم الكافرون يف حال الركوع والسجود حيث ال ترون حركاهتم‬
‫فصلوا راجلني أو راكبني آمنني‪.‬‬
‫والفتنة ‪ :‬الشدة واحملنة والبلية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتتم هلم الغلبة‬ ‫إِ ان الْكاف ِر َ‬
‫ين كانُوا لَ ُك ْم عَ ُد ًّوا ُمبيناً فهم يرتبهصون بكم الدوائر ليوقعوا بكم ‪ ،‬ه‬
‫عليكم ‪ ،‬وقد سهلت لكم الطريق يف قتاهلم ‪ ،‬فًل تدعوا هلم فرصة لينفذوا منها إىل غرضهم ‪ ،‬ولو‬
‫كانت تلك الفرصة هي الصًلة اليت ال ترتك حبال ‪ ،‬فقد جعلت لكم أن تقصروا منها‪.‬‬
‫َسلِ َحتَ ُه ْم‬
‫ك َولْيَأْ ُخ ُذوا أ ْ‬ ‫صًلةَ فَلْتَ ُق ْم طائَِفةٌ ِم ْن ُه ْم َم َع َ‬ ‫ت فِي ِه ْم فَأَقَ ْم َ‬
‫ت َهلُ ُم ال ا‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِذا ُكنْ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫صلُّوا َم َع َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك َولْيَأْ ُخ ُذوا حذ َ‬
‫ْر ُه ْم‬ ‫صلُّوا فَلْيُ َ‬ ‫فَِإذا َس َج ُدوا فَلْيَ ُكونُوا م ْن َورائ ُك ْم َولْتَأْت طائ َفةٌ أُ ْخرى َملْ يُ َ‬
‫َسلِ َحتِ ُك ْم َوأ َْمتِ َعتِ ُك ْم فَيَ ِميلُو َن َعلَْي ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫وأ ِ‬
‫َسل َحتَ ُه ْم َو اد الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا ل َْو تَغْ ُفلُو َن َع ْن أ ْ‬ ‫َ ْ‬

‫ص ‪320 :‬‬
‫َسلِ َحتَ ُك ْم‬ ‫َذى ِم ْن َمطَ ٍر أ َْو ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أَ ْن تَ َ‬
‫ضعُوا أ ْ‬ ‫ناح َعلَْي ُك ْم إِ ْن كا َن بِ ُك ْم أ ً‬
‫ِ‬
‫َم ْي لَةً واح َدةً َوال ُج َ‬
‫اّلل أ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َعذاابً ُم ِهيناً (‪)102‬‬ ‫َع اد للْكاف ِر َ‬ ‫ْرُك ْم إِ ان اَ‬
‫َو ُخ ُذوا حذ َ‬
‫هذا شروع يف بيان كيفية صًلة اخلوف‪.‬‬
‫وقبل الكًلم على معىن اآلية نقول ‪ :‬قد ذهب اإلمام أبو يوسف صاحب أيب حنيفة يف إحدى‬
‫النيب‬
‫الرواايت عنه واحلسن بن زايد إىل أ هن ما اشتملت عليه اآلية من األحكام كان خاصا بوجود ه‬
‫ت فِي ِه ْم مث هو يقول ‪ :‬إن هذا‬
‫اّلل عليه وسلهم يف اجليش أخذا من ظاهر قوله ‪َ :‬وإِذا ُكنْ َ‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كان معقول املعىن ‪ ،‬مراعاة لوجوب التسوية بني‬ ‫احلكم يف حال وجود النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ولذلك اغتفر هلم يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫أفراد اجليش يف إحراز فضيلة الصًلة مع ه‬
‫الصًلة ما مل يغتفر يف غريها من الصلوات ‪ ،‬من إابحة املشي ‪ ،‬والسري مع اإلمام ‪ ،‬مث مفارقته‬
‫النيب فًل داعي إىل أعمال من‬
‫قبل َتام الصًلة معه ‪ ،‬ومحل السًلح إىل غري ذلك‪ .‬وأما بعد زمن ه‬
‫شأهنا أن تفسد الصًلة يف غري ضرورة ‪ ،‬إذ من املمكن أن تتعدد األئمة يف اجليش ‪ ،‬فيصلهي بكل‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فرقة إمام يف أوقات خمتلفة ‪ ،‬مع بقاء العدة واحلذر من العدو ‪ ،‬وبعد رسول ه‬
‫وسلهم ال يفضل إمام إماما ‪ ،‬ويف اإلمكان اختيار أئمة على سواء ‪ ،‬فالضرورة اليت كانت يف إحراز‬
‫اّلل عليه وسلهم قد زالت ‪ ،‬فًل حاجة إىل صًلة اخلوف بكيفية‬
‫فضل الصًلة مع الرسول صلهى ه‬
‫من كيفياهتا اليت وردت وذهب إليها الفقهاء‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقهاء على خًلف هذا ‪ ،‬وأن صًلة اخلوف ال تزال مشروعة ‪ ،‬وهم خمتلفون فيما‬
‫ه‬
‫اّلل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫تقرر عندهم أن خطاب ه‬
‫بينهم على الكيفية اليت تصلهى هبا صًلة اخلوف ‪ ،‬وقد ه‬
‫عليه وسلهم خطاب ألمته ‪ :‬فًل مستمسك أليب يوسف ابخلطاب‪.‬‬
‫وأما الشرط (إذا) فهو ال يدل على أكثر من ترتب وجود قسمة املصلني طائفتني على وجوده‬
‫فيهم ‪ ،‬ولكن ال داللة على أنه إذا عدم الوجود فيهم انعدمت هذه القسمة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قد صلهى صًلة اخلوف على هيئات خمتلفة‬
‫النيب صلهى ه‬
‫بعد هذا نقول ‪ :‬إنه ورد أ هن ه‬
‫كل مرة على هيئة تالف ما صًلها عليه يف املرات‬
‫‪ ،‬يف مواضع خمتلفة ‪ ،‬وقد يكون صًلها يف ه‬
‫األخرى ‪ ،‬وقد اتذ الفقهاء من هذه الرواايت على هذه األوضاع املختلفة أدلة على مذاهبهم‬
‫اّلل عليه وسلهم بني األوضاع ويف األماكن املختلفة ‪ :‬ما‬
‫املختلفة وقد يكون يف خمالفة النيب صلهى ه‬
‫يصح أن يكون دليًل على أن األمر فيها مرتوك إلمام اجليش ‪ ،‬يصلهي ابلناس حسبما تقضي‬
‫كل من أيب بكر الرازي وابن جرير الطربي‬
‫املصلحة احلربية ‪ ،‬وقد قال هذا أو ما يقرب من هذا ه‬
‫«‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو بكر الرازي يف كتابه أحكام القرآن (‪ ، )258 /2‬وابن جرير الطربي يف تفسريه‬
‫جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)165 /5‬‬

‫ص ‪321 :‬‬
‫كل قول منها من الرواايت اليت رويت‬
‫ولنذكر أقوال الفقهاء يف كيفية صًلة اخلوف مع ما يوافق ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فيها حبسب االستطاعة فنقول ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عن رسول ه‬
‫اّلل إىل أن كيفية صًلة اخلوف أن يقسم اإلمام القوم‬
‫‪ - 1‬ذهب أبو حنيفة وحممد رمحهما ه‬
‫طائفتني ‪ ،‬تقوم طائفة مع اإلمام ‪ ،‬وطائفة إزاء العدو ‪ ،‬فيصلهي هبم ركعة وسجدتني ‪ ،‬مث ينصرفون‬
‫إىل مقام أصحاهبم ‪ ،‬مث أتِت الطائفة األخرى اليت إبزاء العدو ‪ ،‬فيصلهي هبم اإلمام ركعة وسجدتني‬
‫‪ ،‬ويسلهم هو ‪ ،‬وينصرفون إىل أصحاهبم ‪ ،‬مث أتِت الطائفة اليت إبزاء العدو ‪ ،‬وتقضي ركعة بغري‬
‫قراءة وتتشهد ‪ ،‬وتسلم ‪ ،‬وتذهب إىل وجه العدو ‪ ،‬وأتِت الطائفة األخرى فيقضون ركعة بقراءة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم صًلها على هذا الوجه‪.‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫فقد جاء يف السنة ما يدل على أن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم صلهى إبحدى الطائفتني ركعة ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روى الزهري عن سامل عن أبيه أ هن رسول ه‬
‫والطائفة األخرى مواجهة للعدو ‪ ،‬مث انصرفوا ‪ ،‬وقاموا يف مقام أولئك‪ .‬وجاء أولئك ‪ ،‬فصلهى هبم‬
‫ركعة أخرى ‪ ،‬مث سلهم ‪ ،‬مث قام هؤالء فقضوا ركعتهم ‪ ،‬وهؤالء فقضوا ركعتهم «‪.»1‬‬
‫وروي مثله عن انفع وابن عمر وابن عباس‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال عبد الرمحن بن أيب ليلى ‪ :‬إذا كان العدو بينهم وبني القبلة جعل الناس طائفتني ‪،‬‬
‫فيكرب ويكربون مجيعا ‪ ،‬ويركع ويركعون مجيعا معه ‪ ،‬ويسجد اإلمام والصف األول ‪ ،‬ويقوم‬
‫الصف اآلخر يف وجه العدو ‪ ،‬فإذا قاموا من السجود سجد الصف اآلخر ‪ ،‬فإذا فرغوا من‬
‫سجودهم قاموا وتقدم الصف املؤخر ‪ ،‬وأتخر الصف املقدم ‪ ،‬فيصلهي هبم اإلمام الركعة األخرى‬
‫كذلك‪.‬‬
‫صف مستقبل القبلة ‪ ،‬والصف اآلخر يستقبل‬
‫وإذا كان العدو يف دبر القبلة قام اإلمام ومعه ه‬
‫العدو ‪ ،‬فيكرب ويكربون مجيعا ‪ ،‬ويركع ويركعون مجيعا ‪ ،‬مث يسجد الصف الذي مع اإلمام‬
‫ه‬
‫سجدتني ‪ ،‬مث ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ‪ ،‬مث جييء اآلخرون ‪ ،‬فيسجدون ‪ ،‬ويصلهي هبم‬
‫اإلمام الركعة الثانية ‪ ،‬فريكعون مجيعا ‪ ،‬ويسجد الصف الذي معه ‪ ،‬مث ينقلبون إىل وجه العدو ‪،‬‬
‫وجييء اآلخرون ‪ ،‬فيسجدون معه ‪ ،‬ويفرغون ‪ ،‬مث يسلم اإلمام وهم مجيعا‪.‬‬
‫اّلل روايتان غري اليت ذكرانها يف مفتتح الكًلم إحدامها يوافق فيها أاب حنيفة‬
‫وعن أيب يوسف رمحه ه‬
‫‪ ،‬واألخرى يوافق فيها ابن أيب ليلى إذا كان العدو يف القبلة ‪ ،‬ويوافق فيها أاب حنيفة إذا كان‬
‫العدو دبر القبلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )64 /5‬كتاب املغازي ‪ - 32 ،‬ابب غزوة ذات‬
‫الرقاع حديث رقم (‪ ، )4133‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )574 /1‬كتاب صًلة املسافرين‬
‫‪ - 57‬ابب صًلة اخلوف حديث رقم (‪.)839 /305‬‬
‫ص ‪322 :‬‬
‫وقد روي يف السنة ما يوافق قول ابن أيب ليلى‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يف غزاة فلقي املشركني‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روى عكرمة عن ابن عباس قال ‪ :‬خرج رسول ه‬
‫بعسفان ‪ ،‬فلما صلهى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه ‪ ،‬قال بعضهم لبعض يومئذ ‪ :‬كان‬
‫فرصة لكم ‪ ،‬لو أغرمت عليه ما علموا بكم حَّت تواقعوهم ‪ ،‬قال قائل منهم ‪ :‬فإ هن هلم صًلة أخرى‬
‫وجل ‪َ :‬وإِذا‬
‫عز ه‬‫اّلل ه‬‫أحب إليهم من أهلهم وأمواهلم ‪ ،‬فاستعدوا حَّت تغريوا عليهم فيها ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬ ‫ت فِي ِه ْم اآلية ‪ ،‬وأعلمه ما ائتمر به املشركون‪ .‬فلما صلهى رسول ه‬
‫اّلل صلهى ه‬ ‫ُك ْن َ‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫العصر ‪ ،‬وكانوا قبالته يف القبلة ‪ ،‬فجعل املسلمني خلفه صفني ‪ ،‬فكرب رسول ه‬
‫وسلهم فكربوا مجيعا ‪ ،‬مث ركع وركعوا معه مجيعا ‪ ،‬فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه ‪ ،‬وقام‬
‫اّلل عليه وسلهم من سجوده‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫الصف الذين خلفهم مقبلني على العدو ‪ ،‬فلما فرغ رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وتقدم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ ،‬وقام ‪ ،‬سجد الصف الثاين ‪ ،‬مث قاموا وأتخر الذين يلون رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فلما ركع ركعوا معه مجيعا ‪ ،‬مث رفع‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اآلخرون ‪ ،‬فكانوا يلون رسول ه‬
‫فرفعوا معه ‪ ،‬مث سجد فسجد معه الذين يلونه ‪ ،‬وقام الصف الثاين مقبلني على العدو ‪ ،‬فلما‬
‫اّلل عليه وسلهم من سجوده ‪ ،‬وقعد الذين يلونه ‪ ،‬سجد الصف املؤ هخر ‪ ،‬مث‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فرغ رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مجيعا فلما سلهم سلهم عليهم مجيعا ‪ ،‬فلما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قعدوا فتشهدوا مع رسول ه‬
‫نظر إليهم املشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم قالوا ‪ :‬قد أخربوا مبا أردان‪.‬‬
‫العدو ‪ ،‬فيصلهي ابليت معه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬يتقدم اإلمام بطائفة ‪ ،‬وطائفة إبزاء ه‬
‫‪ - 3‬وقال مالك رضي ه‬
‫وتتم الطائفة اليت معه ألنفسها ركعة أخرى ‪ ،‬مث يتشهدون ‪،‬‬
‫ركعة وسجدتني ‪ ،‬ويقوم قائما ‪ ،‬ه‬
‫تصل ‪ ،‬فيقومون مكاهنم ‪ ،‬وأتِت الطائفة األخرى‬
‫ويسلهمون ‪ ،‬مث يذهبون إىل مكان الطائفة اليت مل ه‬
‫فيتمون ألنفسهم الركعة اليت‬
‫‪ ،‬فيصلهي هبم ركعة وسجدتني ‪ ،‬مث يتشهدون ‪ ،‬ويسلهم ‪ ،‬ويقومون ‪ ،‬ه‬
‫بقيت‪.‬‬
‫تتم الطائفة‬
‫اّلل عنه مثل قول مالك إال أنه قال ‪ :‬ال يسلهم اإلمام حَّت ه‬
‫‪ - 4‬وقال الشافعي رضي ه‬
‫الثانية ألنفسها ‪ ،‬مث يسلهم معهم ‪ ،‬قال ابن القاسم ‪ :‬وكان مالك يقول هبذا حلديث رومان ‪ ،‬مث‬
‫رجع عنه إىل حديث القاسم ‪ ،‬وفيه أ هن اإلمام يسلهم ‪ ،‬مث تقوم الطائفة الثانية فيقضون‪.‬‬
‫خوات مرسًل عن‬
‫أما حديث رومان الذي أشران إليه فهو ما روى يزيد عن رومان عن صاحل بن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم «‪ ، »1‬وذكر فيه أ هن الطائفة األوىل صلت الركعة الثانية قبل أن‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫يصليها ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )62 /5‬كتاب املغازي ‪ - 32 ،‬ابب غزوة ذات‬
‫الرقاع حديث رقم (‪ ، )4129‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )575 /1‬كتاب صًلة املسافرين ‪،‬‬
‫‪ - 57‬ابب صًلة اخلوف حديث رقم (‪.)842 /310‬‬

‫ص ‪323 :‬‬
‫وأما‬
‫اّلل‬
‫خوات عن سهل بن أيب حثمة أ هن رسول ه‬
‫حديث القاسم فهو ما روى ابنه عنه عن صاحل بن ه‬
‫مصاف العدو ‪ ،‬فصلهى‬
‫ه‬ ‫فصف ص هفا خلفه ‪ ،‬وصف‬
‫ه‬ ‫اّلل عليه وسلهم صلهى هبم صًلة اخلوف‬
‫صلهى ه‬
‫هبم ركعة ‪ ،‬مث ذهب هؤالء ‪ ،‬وجاء أولئك فصلهى هبم ركعة ‪ ،‬مث قاموا فقضوا ركعة ركعة ‪ ،‬وقد كان‬
‫ذلك يف غزوة ذات الرقاع‪.‬‬
‫وقد رويت رواايت أخرى بغري هذه األوضاع ال نطيل بذكرها‪ .‬فأنت ترى الرواايت عن الرسول‬
‫ولعل السبب يف االختًلف ما أشران إليه سابقا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم خمتلفة ‪ ،‬ه‬
‫صلهى ه‬
‫واآلية اليت حنن بصددها ميكن إرجاعها إىل هذه الرواايت على تفاوت بينها ‪ ،‬وسرتى شيئا من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫النيب مع املؤمنني‬
‫ك أي إذا كنت أيها ه‬‫صًلةَ فَلْتَ ُق ْم طائَِفةٌ ِم ْن ُه ْم َم َع َ‬ ‫ت فِي ِه ْم فَأَقَ ْم َ‬
‫ت َهلُ ُم ال ا‬ ‫َوإِذا ُك ْن َ‬
‫يف غزواهتم وخوفهم ‪ ،‬فأقمت هلم الصًلة ‪ ،‬فاجعلهم طائفتني ‪ ،‬تقوم طائفة منهم معك يف الصًلة‬
‫‪ ،‬وظاهر هذا خيالف مذهب ابن أيب ليلى ‪ ،‬أل هن نص اآلية مشعر أب هن قيام طائفة منهم معه يكون‬
‫حال قيامه هو يف الصًلة ‪ ،‬أبن تفتتح الصًلة بعد افتتاحه ‪ ،‬ومن مقتضى قوله ‪ :‬فَلْتَ ُق ْم طائَِفةٌ‬
‫ك أ هن الطائفة األخرى ال تقوم معه ‪ ،‬وابن أيب ليلى يقول ‪ :‬يكربون مجيعا ‪ ،‬ويركعون‬ ‫ِم ْن ُه ْم َم َع َ‬
‫مجيعا ‪ ،‬مث تنفرد طائفة منهم ابلسجود معه‪.‬‬
‫َسلِ َحتَ ُه ْم فاعل األخذ إما املصلون ‪ ،‬وإما غريهم ‪ ،‬فإن كان ضمري الفاعل للمصلني‬ ‫َولْيَأْ ُخ ُذوا أ ْ‬
‫فإ هن املراد من السًلح املأخوذ حينئذ ما ال يشغلهم عن الصًلة كالسيف واخلنجر ‪ ،‬واألمر أبخذ‬
‫ذلك حينئذ لًلحتياط ودفع الطوارئ ‪ ،‬وأما إن كان ضمري الفاعل لغري املصلني ‪ ،‬فاألمر ابألخذ‬
‫ألهنم الذين يكونون يف قبالة العدو‪.‬‬
‫فَِإذا َس َج ُدوا فَلْيَ ُكونُوا ِم ْن َورائِ ُك ْم أي إذا سجد املصلون مع اإلمام فليكن غري املصلني من‬
‫العدو إذا أراد اإليقاع هبم ‪ ،‬ورمبا تعلهق هبذا ابن أيب ليلى حيث ترتهب‬
‫ورائهم ‪ ،‬يدفعون عنهم ه‬
‫فدل ذلك على أنه قبل السجود ال يطلب منهم أن‬ ‫األمر ابلكون من ورائهم على السجود ‪ ،‬ه‬
‫يكونوا من ورائهم ‪ ،‬وما ذلك إال ألهنم مشرتكون معهم يف الصًلة ‪ ،‬ولكننا نقول ‪ :‬إن ذلك غري‬
‫خص األمر ابلكون من ورائهم حبال‬
‫تسمى الصًلة سجودا ‪ ،‬أو نقول ‪ :‬ه‬
‫الزم ‪ ،‬إذ كثريا ما ه‬
‫العدو فيها‬
‫يظن ه‬ ‫السجود تنبيها على وجوب اليقظة واالحرتاس يف هذه احلال ‪ ،‬ألهنها اليت ه‬
‫انشغاهلم ابلصًلة ‪ ،‬ورمبا كانت مباغتة هلم فيها‪.‬‬
‫صلُّوا َم َع َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك هذا ظاهر أيضا يف أ هن الطائفة الثانية مل تكن مع‬ ‫صلُّوا فَلْيُ َ‬
‫َولْتَأْت طائ َفةٌ أُ ْخرى َملْ يُ َ‬
‫األوىل ‪ ،‬بدليل أنه أمرها ابإلتيان ‪ ،‬وعلى مذهب ابن أيب ليلى ال يكون إتيان ‪ ،‬بل أت هخر من اليت‬
‫سجدت مع اإلمام أوال ‪ ،‬وليس يف هذا اللفظ دليل على أ هن الطائفة األوىل تقضي يف مكاهنا قبل‬
‫مبارحته ‪ ،‬أو على أهنا تذهب قبالة العدو قبل‬

‫ص ‪324 :‬‬
‫القضاء ‪ ،‬وال على أ هن الطائفة الثانية تقضي يف مكاهنا ‪ ،‬بل اللفظ صاحل للجميع ‪ ،‬وليس فيه‬
‫دليل أيضا على أ هن اإلمام يسلهم مبجرد انتهائه من الركعة الثانية ‪ ،‬وال أنه ينتظر حَّت تفرغ الثانية‬
‫من قضاء ما فاهتا‪.‬‬
‫وإمنا يطلب ذلك من السنة ‪ ،‬وأنت تعلم أ هن السنة قد جاءت ابجلميع‪.‬‬
‫َسلِ َحتَ ُه ْم هذا أمر للجميع بعد انتهاء الصًلة ‪ ،‬وضم هذا األمر أبخذ احلذر‬ ‫ِ‬
‫َولْيَأْ ُخ ُذوا حذ َ‬
‫ْر ُه ْم َوأ ْ‬
‫وهو التيقظ إىل األمر أبخذ السًلح فقط عقب الركعة األوىل ‪ ،‬أل هن العدو يف أول الصًلة ال‬
‫يقوى عنده ابعث املباغتة ‪ ،‬ألهنم كانوا قياما يف أوهلا ‪ ،‬وإمنا يقوى عنده ذلك يف آخرها حني‬
‫يتكرر منهم السجود ‪ ،‬فمن أجل ذلك أمر يف األول أبخذ األسلحة فقط ‪ ،‬وهنا أبخذها وأخذ‬
‫احلذر‪.‬‬
‫و اد الا ِذين َك َفروا لَو تَغْ ُفلُو َن َعن أَسلِحتِ ُكم وأَمتِعتِ ُكم فَي ِميلُو َن َعلَي ُكم مي لَةً ِ‬
‫واح َدةً‪.‬‬ ‫ْ ْ َْ‬ ‫ْ ْ َ ْ ََْ ْ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫أي أ هن أعداءكم يرتبهصون بكم الدوائر ‪ ،‬ويتحيهنون لقتالكم الفرصة ‪ ،‬ويودون لو َتكنوا منكم ‪،‬‬
‫فتغفلون عن عدتكم وما تقاتلوهنم به ‪ ،‬فتكون حرهبم إايكم وغلبتهم عليكم سهلة ميسورة ‪ ،‬ولن‬
‫مينعكم منهم إال احلذر والرابط وإعداد العدة ‪ ،‬فاحذروهم ‪ ،‬وأعدوا هلم ما استطعتم من قوة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ضعوا أ ِ‬ ‫وال جناح َعلَي ُكم إِ ْن كا َن بِ ُكم أ ِ‬
‫ْرُك ْم‬ ‫َذى م ْن َمطَ ٍر أ َْو ُكْن تُ ْم َم ْرضى أَ ْن تَ َ ُ ْ‬
‫َسل َحتَ ُك ْم َو ُخ ُذوا حذ َ‬ ‫ْ ً‬ ‫َ ُ َ ْ ْ‬
‫أي أنهه ال مينعكم من عدوكم إال االستعداد له ‪ ،‬فإن تع هذر عليكم محل املرية والسًلح للمطر أو‬
‫املرض أو غري ذلك من األعذار ‪ ،‬فليس عليكم إمث يف أن تضعوا أسلحتكم اليت حالت الضرورة‬
‫بينكم وبني محلها ‪ ،‬ولكن جيب أن تكونوا على حذر وتيقظ من مباغتة العدو ومفاجأته ‪ ،‬فبثوا له‬
‫العيون واألرصاد ‪ ،‬واتذوا من فنون الدفاع يف احلرب وأساليبه ما ال جيعل عدوكم على علم مبا‬
‫أنتم عليه من ضرورة حَّت ال يفاجئكم ‪ ،‬فتتم اهلزمية عليكم‪.‬‬
‫اّلل أ َ ِ ِ‬
‫ين َعذاابً ُم ِهيناً إمنا ع هقب ه‬
‫اّلل تعاىل األمر أبخذ احلذر والسًلح هبذا الوعيد ‪،‬‬ ‫َع اد للْكاف ِر َ‬ ‫إِ ان اَ‬
‫يتوهم منه أ هن العدو شديد ‪ ،‬وذلك قد يعقب ومها يف النفوس ‪ ،‬فإزالة هلذا الوهم‬ ‫أل هن األمر قد ه‬
‫اّلل أ َ ِ ِ‬
‫ين َعذاابً ُم ِهيناً إذا كان ذلك خربا منه تعاىل أبنه مهينهم‬
‫َع اد للْكاف ِر َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ان اَ‬
‫قال ه‬
‫اّلل‬
‫وخاذهلم وغري انصرهم البتة ‪ ،‬ليعلم املؤمنون أ هن األمر ابحلذر منهم ‪ ،‬إمنا هو ملا جرت به سنة ه‬
‫من إتباع املسببات األسباب حَّت ال يتهاونوا ويرتكوا األسباب جانبا‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف كيفية صًلة اخلوف يف املغرب ‪ ،‬فقال احلنفية ومالك واحلسن بن صاحل‬
‫واألوزاعي والشافعية ‪ :‬يصلهي ابلطائفة األوىل ركعتني ‪ ،‬وابلطائفة الثانية ركعة ‪ ،‬غري أن املالكية‬
‫تتم الطائفة‬
‫والشافعية يقولون ‪ :‬إ هن اإلمام ينتظر قائما حَّت ه‬

‫ص ‪325 :‬‬
‫األوىل لنفسها ‪ ،‬وَتيء الثانية على ما بينهما من خًلف يف سًلم اإلمام‪.‬‬
‫واختلفوا أيضا يف الصًلة حال اشتباك القتال أَتوز أم ال؟ فقال احلنفية ‪ :‬ال صًلة حال اشتباك‬
‫القتال ‪ ،‬فإن قاتل فيها فسدت صًلته‪ .‬وقال مالك ‪ :‬يصلي ابإلمياء إذا مل يقدر على الركوع‬
‫والسجود‪ .‬وقال الشافعي ‪ :‬ال أبس أن يضرب الضربة ‪ ،‬ويطعن الطعنة ‪ ،‬فإن اتبع الضرب‬
‫والطعن فسدت صًلته ‪ ،‬واألدلة تلتمس يف غري اآلية‪.‬‬
‫اّللَ قِياماً َوقُعُوداً َوعَلى ُجنُوبِ ُك ْم فَِإذَا اط َْمأْنَ ْن تُ ْم‬
‫صًلةَ فَاذْ ُك ُروا ا‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَِإذا قَ َ‬
‫ض ْي تُ ُم ال ا‬ ‫قال ه‬
‫ني كِتاابً َم ْوقُواتً (‪ )103‬يقول ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فإذا فرغتم‬ ‫ت َعلَى الْ ُم ْؤمنِ َ‬
‫صًلةَ كانَ ْ‬ ‫صًلةَ إِ ان ال ا‬
‫يموا ال ا‬
‫فَأَق ُ‬
‫اّلل قياما وقعودا ومضطجعني على‬ ‫أيها املؤمنون من صًلتكم اليت بينا لكم كيفيتها ‪ ،‬فاذكروا ه‬
‫جنوبكم ‪ ،‬واذكروه معظمني خاشعني ‪ ،‬سائليه النصر والظفر ‪ ،‬فإنه الذي بيده النصر ‪ ،‬وهو‬
‫اّللَ قِياماً َوقُعُوداً‪.‬‬
‫القادر على كل شي ء ‪ ،‬ومثل هذا يف املعىن قوله تعاىل ‪ :‬فَاذْ ُك ُروا ا‬
‫اّلل تعاىل من عباده أن يذكروه دائما ‪ ،‬والذكر أداة الفًلح ‪ ،‬إذ هو وسيلة اخلشية ‪،‬‬
‫وقد طلب ه‬
‫ومَّت وجدت اخلشية وجدت الطاعة ‪ ،‬واجتنبت املعصية ‪ ،‬وذلك هو الفوز والسعادة‪.‬‬
‫اّللَ قِياماً َوقُعُوداً أنه كان يقول ‪ :‬ال‬
‫روى ابن جرير «‪ »1‬عن ابن عباس يف قوله تعاىل ‪ :‬فَاذْ ُك ُروا ا‬
‫اّلل على عباده فريضة إال جعل هلا جزاء معلوما ‪ ،‬مث عذر أهلها يف حال غري الذكر ‪ ،‬فإ هن‬ ‫يفرض ه‬
‫اّلل مل جيعل له حدا ينتهي إليه‪ .‬ومل يعذر أحدا يف تركه إال مغلواب على عقله ‪ ،‬فقال ‪ :‬فَاذْ ُك ُروا ا‬
‫اّللَ‬ ‫ه‬
‫قِياماً َوقُعُوداً َو َعلى ُجنُوبِ ُك ْم ابلليل والنهار ‪ ،‬يف الرب والبحر ‪ ،‬ويف السفر واحلضر ‪ ،‬والغىن والفقر‬
‫‪ ،‬والسقم والصحة ‪ ،‬والسر والعًلنية ‪ ،‬وعلى كل حال‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن معىن اآلية ‪ :‬إن أردمت أداء الصًلة ‪ ،‬واشتد اخلوف إذا اشتبكتم يف القتال ‪ ،‬فصلوا‬
‫اّلل عنه من وجوب الصًلة حال احملاربة ‪،‬‬
‫الشافعي ‪ ،‬رضي ه‬
‫ه‬ ‫كيفما كان‪ .‬وهذا يوافق ما ذهب إليه‬
‫صًلةَ‪.‬‬
‫ض ْي تُ ُم ال ا‬
‫وعدم جواز أتخريها عن الوقت ‪ ،‬وأنت ترى أ هن ذلك بعيد من لفظ قَ َ‬
‫ض مسيت اإلقامة طمأنينة ملا‬ ‫فَِإذَا اط َْمأْنَ ْن تُ ْم أي أقمتم ‪ ،‬وهو مقابل لقوله ‪َ :‬وإِذا َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاألَ ْر ِ‬
‫فيها من السكون واالستقرار ‪ ،‬ويصح أن يكون املراد فإذا أمنتم وزال عنكم اخلوف الذي ترتب‬
‫عليه قصر صفة الصًلة وهيئتها‪.‬‬
‫صًلةَ أدوها على وجهها الذي كانت عليه قبل هذا ‪ ،‬وأَتوها ‪ ،‬وع هدلوا أركاهنا ‪ ،‬وراعوا‬
‫يموا ال ا‬‫ِ‬
‫فَأَق ُ‬
‫شروطها ‪ ،‬وحافظوا على حدودها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)166 /5‬‬

‫ص ‪326 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن معىن ذلك فإذا اطمأننتم ‪ ،‬وأمنتم يف اجلملة ‪ :‬فاقضوا ما صليتم يف تلك األحوال اليت‬
‫هي حال القلق واالنزعاج ‪ ،‬ونسب ذلك إىل اإلمام الشافعي قال صاحب «روح املعاين» ‪:‬‬
‫وليست هذه النسبة صحيحة‪.‬‬
‫ني كِتاابً َم ْوقُواتً فرضا حمدودا أبوقات ال َتوز جماوزهتا ‪ ،‬بل ال بد من‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَى ال ُْم ْؤمنِ َ‬ ‫إِ ان ال ا‬
‫صًلةَ كانَ ْ‬
‫أدائها يف أوقاهتا سفرا وحضرا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املعىن كانت عليهم أمرا مفروضا مق هدرا يف احلضر أبربع‬
‫كل وقت حسبما ق هدر فيه ‪ ،‬وقد ورد القرآن‬
‫ركعات ‪ ،‬ويف السفر بركعتني ‪ ،‬فًل ب هد أن تؤ هدى يف ه‬
‫هكذا يف توقيتها جممًل ‪ ،‬ومرجع البيان فيه إىل السنة ‪ ،‬فما ذكرت السنة أنه وقت وحد للصًلة‬
‫وجب اتباعه‪.‬‬
‫َمو َن َوتَ ْر ُجو َن ِم َن‬ ‫ا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َمو َن فَِإهنُ ْم َأيْل ُ‬
‫َمو َن َكما َأتْل ُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال َهتنُوا ِيف ابْتغاء الْ َق ْوم إِ ْن تَ ُكونُوا َأتْل ُ‬
‫قال ه‬
‫اّلل تعاىل ما جيب أن يكون عليه‬ ‫اّللُ َعلِيماً َحكِيماً (‪ )104‬بعد أن هبني ه‬ ‫اّللِ ما ال يَ ْر ُجو َن َوكا َن ا‬
‫ا‬
‫املؤمنون يف قتال عدوهم من أخذ احلذر أثناء الصًلة عاد إىل بعث املؤمنني على حنو آخر من‬
‫املذهب الكًلمي ‪ ،‬وسوق الدعوى حيدوها الدليل‪.‬‬
‫ا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َمو َن فَِإهنُ ْم َأيْل ُ‬
‫َمو َن َكما َأتْل َُمو َن ال تضعفوا يف قتاهلم ‪ ،‬وال‬ ‫َوال َهتنُوا ِيف ابْتغاء الْ َق ْوم إِ ْن تَ ُكونُوا َأتْل ُ‬
‫تتواكلوا ‪ ،‬وال مينعكم منه ما يظن أن يصيبكم يف قتال أعدائكم من أمل القتل واجلرح ‪ ،‬فإ هن ذلك‬
‫أمر مشرتك من شأنه أن يقع بكم ‪ ،‬ويقع أبعدائكم ما دام مل ينثن أعداؤكم عن قتالكم ‪ ،‬فما‬
‫ابلكم تافونه دوهنم‪.‬‬
‫َوتَ ْر ُجو َن ِم َن ا‬
‫اّللِ ما ال يَ ْر ُجو َن بل إ هن أعداءكم إذا جاز هلم أن خيافوا فهم حقيقون أبن خيافوا ‪،‬‬
‫فإهنهم ال حجة هلم يف اإلقدام على أمر هو مظنة هًلكهم ‪ ،‬فإهنهم على الباطل ‪ ،‬والباطل مهما م هد‬
‫اّلل‬
‫اّلل له يف األجل فهو يف النهاية مدفوع‪ .‬بل نقذف ابحلق على الباطل فيدمغه ‪ ،‬ومل يعدهم ه‬ ‫ه‬
‫ابلنصر كما وعدكم ‪ ،‬وال مثرة تعود عليهم من قتاهلم هذا ‪ ،‬فإهنم وإن َتهت هلم الغلبة أمامهم‬
‫جهنم مفتحة األبواب ‪ ،‬عميقة الغور ‪ ،‬أعدت للكافرين املعاندين لكم ‪ ،‬وقد وعدكم نصره ‪،‬‬
‫اّلل وتوحدونه ال تشركون به شيئا‬
‫وضمن لكم اجلنة ‪ ،‬وأنتم الفائزون يف احلالني ‪ ،‬وأنتم مبا تعبدون ه‬
‫‪ ،‬تطمعون يف نصره ورمحته ‪ ،‬وهم مبا يعبدون من األصنام ‪ ،‬وما هم عليه من العناد ‪ :‬ليس‬
‫عندهم مثل هذا الطمع ‪ ،‬أليس يكفي هذا وحده ابعثا لكم على القتال دوهنم؟‬
‫اّللُ َعلِيماً َحكِيماً ال يكلفكم شيئا إال ما فيه صًلحكم يف دينكم ودنياكم على مقتضى‬
‫َوكا َن ا‬
‫علمه وحكمته‪.‬‬
‫ااس ِمبا أَر َ‬ ‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ اان أَنْزلْنا إِل َْي َ ِ‬
‫اك ا‬
‫اّللُ َوال تَ ُك ْن‬ ‫تاب ِاب ْحلَِهق لتَ ْح ُك َم بَ َْ‬
‫ني الن ِ‬ ‫ك الْك َ‬ ‫َ‬ ‫ص ‪ 327 :‬قال ه‬
‫اّللَ كا َن غَ ُفوراً َرِحيماً (‪)106‬‬ ‫استَ غْ ِف ِر ا‬
‫اّللَ إِ ان ا‬ ‫صيماً (‪َ )105‬و ْ‬ ‫ني َخ ِ‬ ‫ِ‬
‫للْخائِنِ َ‬
‫روي يف أسباب نزول اآلية أخبار كثرية ‪ ،‬كلها متفقة على أهنا نزلت يف شأن رجل يقال له طعمة‬
‫بن أبريق ‪ ،‬على خًلف فيما وقع منه ‪ ،‬قال الفخر الرازي ‪ :‬إ هن طعمة سرق درعا ‪ ،‬فلما طلبت‬
‫الدرع منه رمى واحدا من اليهود بسرقتها ‪ ،‬وملا اشتدت اخلصومة بني قومه وبني قوم اليهودي‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وطلبوا منه أن يعينهم على مقصودهم ‪ ،‬وأن‬
‫جاء قوم طعمة إىل النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم بذلك فنزلت اآلية «‪»1‬‬
‫فهم الرسول صلهى ه‬
‫يلحق اخليانة ابليهودي ‪ ،‬ه‬
‫‪ .‬وقيل ‪ :‬إ هن واحدا وضع عند طعمة درعا على سبيل الوديعة ‪ ،‬ومل يكن هناك شاهد ‪ ،‬فلما‬
‫طلبها منه جحدها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إ هن املودع ملا طلب الوديعة زعم طعمة أن اليهودي سرق الدرع‪.‬‬
‫وقد قال العلماء ‪ :‬إ هن ذلك يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقني ‪ ،‬وإال ملا طلبوا من الرسول‬
‫اّلل عليه وسلهم أن يلحق السرقة ابليهودي على سبيل التخرص والبهتان ‪ ،‬انظر إىل قوله‬ ‫صلهى ه‬
‫وك َوما‬ ‫ت طائَِفةٌ ِم ْن ُهم أَ ْن ي ِ‬
‫ضلُّ َ‬ ‫اّللِ عَلَْي َ‬
‫ك َوَر ْمحَتُهُ َهلَام ْ‬ ‫ض ُل ا‬ ‫تعاىل يف اآلايت اليت بعد هذه َول َْو ال فَ ْ‬
‫ْ ُ‬
‫ك ِم ْن َش ْي ٍء‬‫ض ُّرونَ َ‬ ‫ِ ُّ ِ‬
‫يُضلو َن إ اال أَنْ ُف َ‬
‫س ُه ْم َوما يَ ُ‬
‫‪.‬‬
‫وقد روي أن طعمة هرب بعد احلادثة إىل مكة وارتد ‪ ،‬وسقط عليه حائط كان يثقبه للسرقة‬
‫فمات‪.‬‬
‫اّلل يف كتابه ‪ ،‬وأنزله إليك بوحيه ‪ ،‬ويصح أن يكون‬ ‫اك ا‬
‫اّللُ أي مبا أعلمك ه‬ ‫ااس ِمبا أَر َ‬
‫ني الن ِ‬ ‫ِ‬
‫لتَ ْح ُك َم بَ َْ‬
‫اّلل رأاي لك ‪ ،‬إما من طريق الوحي ‪ ،‬أو االجتهاد ‪ ،‬وليس يلزم من أتويل اآلية‬ ‫املراد مبا جعله ه‬
‫على العلم بطًلن القياس ‪ ،‬ألنهك قد عرفت أ هن القياس راجع إىل الكتاب والسنة ‪ ،‬والعلم به‬
‫اّلل عليه وسلهم له أن جيتهد ‪ ،‬أو ليس له‬
‫اّلل ‪ ،‬وقد اختلف العلماء يف أن النيب صلهى ه‬
‫عمل أبمر ه‬
‫ذلك ‪ ،‬واملسألة هلا موضع غري هذا يف األصول جيمع أدلة الطرفني‪.‬‬
‫غري أن الذي يلزم التنبيه إليه أن الذي يقول ‪ :‬إنه جيوز له االجتهاد يقول ‪ :‬إنه جيوز عليه اخلطأ ‪،‬‬
‫يقر على اخلطأ ‪ ،‬ويستشهد مبثل احلادثة اليت حنن بصددها ‪ ،‬فإنه قد هبني له احلكم ‪،‬‬
‫لكنهه ال ه‬
‫ومبثل ما حدث يف أسارى بدر‪.‬‬
‫ني َخ ِ‬ ‫ِ‬
‫صيماً اخلائنون هو طعمة وقومه ومن يعنيه أمره منهم ‪ ،‬والًلم للتعليل ‪ ،‬أي‬ ‫َوال تَ ُك ْن للْخائِنِ َ‬
‫ال تكن ألجل اخلائنني خماصما ملا يستعدونك عليه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إ هن الًلم مبعىن عن أي ال تكن‬
‫استَ غْ ِف ِر ا‬
‫اّللَ مما‬ ‫خماصما ومدافعا عنهم ضد الرباءة َو ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )228 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪، )3036‬‬
‫وابن جرير (‪.)170 /5‬‬
‫ص ‪328 :‬‬
‫مهمت به يف أمر طعمة وبراءته اليت مل تتثبهت يف شأهنا ‪ ،‬واألمر ابالستغفار يف هذا وما ماثله ال‬
‫يقدح يف عصمة األنبياء ‪ ،‬ألنه مل يكن منه إال اهلم ‪ ،‬واهلم ال يوصف أبنه ذنب فضًل عن املعصية‬
‫‪ ،‬بل إ هن ذلك من قبيل إن حسنات األبرار سيئات املقربني ‪ ،‬وما أمره ابالستغفار إال لزايدة‬
‫الثواب ‪ ،‬وإرشاده وإرشاد أمته إىل وجوب التثبت يف القضاء ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن املراد استغفر ألولئك‬
‫الذين زعموا عندك براءة اخلائن‪.‬‬
‫اّللَ كا َن غَ ُفوراً َرِحيماً يغفر ملن استغفره ‪ ،‬ويرحم من اسرتمحه‪.‬‬ ‫إِ ان ا‬
‫اّللُ يُ ْفتِي ُك ْم فِي ِه ان َوما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم ِيف الْكِ ِ‬
‫تاب ِيف‬ ‫ك ِيف النهِ ِ‬
‫ساء قُ ِل ا‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬ويَ ْستَ ْفتُونَ َ‬
‫قال ه‬
‫ني ِمن الْ ِول ِ‬ ‫وه ان والْمستَ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يتامى النهِ ِ‬
‫ساء ا‬
‫ْدان‬ ‫ض َعف َ َ‬ ‫ح ُ َ ُْ‬ ‫الًلِِت ال تُ ْؤتُو َهنُ ان ما ُكت َ‬
‫ب َهلُ ان َوتَ ْرغَبُو َن أَ ْن تَ ْنك ُ‬ ‫َ َ‬
‫اّللَ كا َن بِهِ َعلِيماً (‪)127‬‬ ‫وموا لِلْيَتامى ِابل ِْق ْس ِط َوما تَ ْف َعلُوا ِم ْن َخ ٍْري فَِإ ان ا‬
‫َوأَ ْن تَ ُق ُ‬
‫االستفتاء ‪ :‬طلب اإلفتاء ‪ ،‬واإلفتاء ‪ :‬إظهار املشكل من األحكام وتبينه ‪ ،‬كأ هن املفيت ملا هبني‬
‫وصريه فتيا‪.‬‬
‫قواه ه‬
‫املشكل قد ه‬
‫سبب النزول ‪:‬‬
‫أخرج ابن جرير وابن املنذر عن سعيد بن جبري قال ‪ :‬ملا نزلت املواريث يف سورة النساء ش هق‬
‫ذلك على الناس وقالوا ‪ :‬أيرث الصغري الذي ال يعمل يف املال وال يقوم فيه ‪ ،‬واملرأة اليت هي‬
‫كذلك ‪ ،‬فرياثن كما يرث الرجل الذي يعمل يف املال؟ فرجوا أن أيِت يف ذلك حدث من السماء‬
‫‪ ،‬فانتظروا ‪ ،‬فلما رأوا أنه ال أيِت حدث ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لئن مته هذا إنه لواجب ما عنه بد‪ .‬مث قالوا ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فأنزلت هذه اآلية «‪ .»1‬وروي مثل ذلك عن ابن‬
‫سلوا ‪ ،‬فسألوا النيب صلهى ه‬
‫عباس وجماهد‪.‬‬
‫وعن عائشة أهنا نزلت يف توفية الصداق هلن‪ .‬وكانت اليتيمة تكون عند الرجل ‪ ،‬فإذا كانت مجيلة‬
‫تزوج هبا وأكل ماهلا ‪ ،‬وإذا كانت دميمة منعها من األزواج حَّت َتوت فريثها‪ .‬فأنزل‬
‫‪ ،‬وهلا مال ‪ ،‬ه‬
‫اّلل هذه اآلية «‪.»2‬‬
‫ه‬
‫معلوم أ هن الصحابة مل يطلبوا اإلفتاء عن ذوات النساء ‪ ،‬وإمنا طلبوا اإلفتاء عن حال من أحواهلن‬
‫‪ ،‬وشيء يتعلهق هبن ‪ ،‬فًل بد من تقدير حمذوف يف الكًلم ‪ ،‬فبعض املفسرين ق هدر ذلك احملذوف‬
‫أمرا خاصا ‪ ،‬وجعل سبب النزول قرينة على تعيني ذلك احملذوف املسئول عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬املراد‬
‫يستفتونك يف مرياثهن ‪ ،‬أو يف توفية صداقهن ‪ ،‬أو يف نكاحهن‪.‬‬
‫خيصص ‪ ،‬وأل هن تقدير العام أمته‬
‫واختار بعضهم التعميم يف املسئول عنه ‪ ،‬أل هن سبب النزول ال ه‬
‫اّلل صلهى‬
‫فائدة وأمشل ‪ ،‬فقال ‪ :‬املراد يستفتونك فيما جيب هلن وعليهن مطلقا ‪ ،‬وقد كان رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يسأل عن أحكام كثرية تتعلهق ابلنساء‪.‬‬
‫ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور لإلمام السيوطي (‪.)231 /2‬‬

‫ص ‪329 :‬‬
‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ا‬
‫الًلِِت ال تُ ْؤتُو َهنُ ان ما ُكت َ‬
‫ب َهلُ ان فقيل ‪:‬‬ ‫هلن يف قول ه‬
‫وكذلك اختلفوا يف املراد مبا كتب ه‬
‫ما فرض هلن من املرياث ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من الصداق ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من النكاح ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما يعم ذلك كله‬
‫وغريه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ :‬وما يُ ْتلى َعلَْي ُك ْم ِيف الْكِ ِ‬
‫تاب قد ذهب فيه املعربون مذاهب شَّت ‪ ،‬وأوىل وجوه‬
‫اإلعراب أن تكون (ما) اسم موصول مبتدأ ‪ ،‬واخلرب حمذوف ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬والذي يتلى عليكم يف‬
‫القرآن كذلك ‪ ،‬أي يفتيكم فيهن أيضا‪ .‬وذلك املتلو يف الكتاب هو قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ِخ ْفتُ ْم أ اَال‬
‫تُ ْق ِسطُوا ِيف الْيَتامى [النساء ‪ ]3 :‬إخل‪.‬‬
‫مبني‬
‫وحاصل املعىن ‪ :‬أهنم كانوا يسألون عن أحوال كثرية من أحوال النساء ‪ ،‬فما كان منها غري ه‬
‫مبني احلكم يف اآلايت املتقدمة‬ ‫اّلل يفتيهم فيه‪ .‬وما كان منها ه‬
‫احلكم قبل نزول هذه اآلية ذكر أن ه‬
‫أحاهلم فيه إىل تلك اآلايت املتقدمة وذكر أهنا تفتيهم فيما عنه يسألون‪.‬‬
‫وقد جعل داللة الكتاب على األحكام إفتاء من الكتاب ‪ ،‬أال ترى أنه يقال يف اجملاز املشهور إن‬
‫اّلل هبني لنا هذا احلكم ‪ ،‬وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال ‪:‬‬
‫كتاب ه‬
‫اّلل أفَّت بكذا‪.‬‬
‫كتاب ه‬
‫وقوله تعاىل ‪ِ :‬يف يتامى النهِ ِ‬
‫ساء صلة يُ ْتلى أي يتلى عليكم يف شأهنن‪.‬‬ ‫َ َ‬
‫واإلضافة يف يتامى النساء من إضافة الصفة للموصوف عند الكوفيني ‪ ،‬والبصريون مينعون ذلك‬
‫‪ ،‬وجيعلون اإلضافة هنا على معىن (من) أو (الًلم) أي يف اليتامى من النساء ‪ ،‬أو يف أوالدهن‬
‫اليتامى‪.‬‬
‫وه ان أي يف أن تنكحوهن ‪ ،‬أو عن أن تنكحوهن ‪ ،‬فقد ورد يف أخبار كثرية أن‬
‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫َوتَ ْرغَبُو َن أَ ْن تَنْك ُ‬
‫هلن وإال كانوا يعضلوهنن طمعا يف‬
‫فيهن إن كن مجيًلت ‪ ،‬وأيكلون ما ه‬
‫أولياء اليتامى كانوا يرغبون ه‬
‫مرياثهن‪.‬‬
‫وحذف اجلار هنا ال يع هد لبسا ‪ ،‬بل إمجال ‪ ،‬فكل من احلرفني مراد على سبيل البدل‪.‬‬
‫وه ان على أنه جيوز لغري األب واجلد تزويج‬
‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫واحتج بعض احلنفية بقوله تعاىل ‪َ :‬وتَ ْرغَبُو َن أَ ْن تَنْك ُ‬
‫اّلل ذكر الرغبة يف نكاحها ‪ ،‬فاقتضى جوازه‪.‬‬ ‫الصغرية ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اّلل ذكر يف هذه اآلية ما كانت تفعله اجلاهلية على طريق الذم ‪ ،‬فًل داللة‬
‫والشافعية يقولون ‪ :‬إ هن ه‬
‫فيها على ذلك‪ .‬على أنه ال يلزم من الرغبة يف نكاحهن فعله يف حال الصغر‪.‬‬
‫ني ِمن الْ ِول ِ‬
‫ْدان عطف على يتامى النساء ‪ ،‬وكانوا ‪ -‬كما علمت ‪ -‬ال يورثوهنم كما ال‬ ‫والْمستَ ْ ِ‬
‫ض َعف َ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫يورثون النساء‪.‬‬

‫ص ‪330 :‬‬
‫وموا لِلْيَتامى ِابل ِْق ْس ِط أي قل ه‬
‫اّلل يفتيكم إخل وأيمركم أن تقوموا لليتامى ابلقسط‪ .‬أو هو‬ ‫َوأَ ْن تَ ُق ُ‬
‫معطوف على (يتامى النساء) والتقدير وما يتلى عليكم يف يتامى النساء ‪ ،‬ويف املستضعفني من‬
‫الولدان ‪ ،‬ويف أن تقوموا لليتامى ابلقسط‪.‬‬
‫َوما تَ ْف َعلُوا ِم ْن َخ ٍْري فَِإ ان ا‬
‫اّللَ كا َن بِهِ َعلِيماً أي وما تفعلوه من خري يتعلهق هبؤالء املذكورين أو‬
‫اّلل جيازيكم عليه وال يضيع عنده منه شيء‪.‬‬ ‫بغريهم فإ هن ه‬
‫صلِحا بَ ْي نَ ُهما‬ ‫شوزاً أ َْو إِ ْعراضاً فًَل ُج َ‬
‫ناح َعلَْي ِهما أَ ْن يُ ْ‬ ‫ت ِم ْن بَ ْعلِها نُ ُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِ ِن ْام َرأَةٌ خافَ ْ‬
‫قال ه‬
‫الش اح َوإِ ْن ُحتْ ِسنُوا َوتَتا ُقوا فَِإ ان ا‬
‫اّللَ كا َن ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِرياً‬ ‫س ُّ‬ ‫الصلْح َخ ْري وأ ْ ِ ِ‬
‫ُحض َرت ْاألَنْ ُف ُ‬ ‫صلْحاً َو ُّ ُ ٌ َ‬ ‫ُ‬
‫اّلل تعاىل أنه يفتيهم هبا يف النساء مما مل يتقدم ذكره‪.‬‬ ‫(‪ )128‬هذا من األحكام اليت أخرب ه‬
‫واخلوف هنا مستعمل يف حقيقته ‪ ،‬إال أنهه ال يكون إال بعد ظهور األمارات تدل عليه‪ .‬مثل أن‬
‫يقول الرجل المرأته ‪ :‬إنك قد كربت ‪ ،‬وإين أريد أن أتزوج شابهة مجيلة‪.‬‬
‫واألصل يف البعل أنه السيد ‪ ،‬ومسهي الزوج بعًل لكونه كالسيد لزوجته‪.‬‬
‫والنشوز ‪ -‬وتقدم معناه ‪ -‬يكون وصفا للمرأة ملا تقدم ويكون وصفا للرجل كما هنا ‪ ،‬واملراد به‬
‫هنا ترفهع الرجل بنفسه عن املرأة ‪ ،‬وَتافيه عنها ‪ :‬أبن مينعها نفسه ومودته‪.‬‬
‫واإلعراض االنصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه اليت كانت هلا منه‪ .‬مثل أن يقلل حمادثتها ‪ ،‬أو‬
‫مؤانستها لطعن يف سن ‪ ،‬أو دمامة ‪ ،‬أو شني يف خلق أو مًلل‪.‬‬
‫واإلعراض أخف من النشوز‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنها أن يطلهقها رسول ه‬
‫وحسنه عن ابن عباس قال ‪ :‬خشيت سودة رضي ه‬ ‫أخرج الرتمذي ه‬
‫اّلل ال تطلقين ‪ ،‬واجعل يومي لعائشة ‪ ،‬ففعل ‪ ،‬ونزلت‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬اي رسول ه‬
‫صلهى ه‬
‫هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫وأخرج الشافعي عن ابن املسيب أن ابنة حممد بن مسلمة كانت حتت رافع بن خديج ‪ ،‬فكره‬
‫منها أمرا إما كربا أو غريه ‪ ،‬فأراد طًلقها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ال تطلقين واقسم يل ما بدا لك ‪ ،‬فاصطلحا‬
‫على صلح ‪ ،‬فجرت السنة بذلك ‪ ،‬ونزل القرآن «‪.»2‬‬
‫وروي عن عائشة أهنها نزلت يف املرأة تكون عند الرجل ‪ ،‬فتطول صحبتها ‪ ،‬فرييد أن يطلهقها ‪،‬‬
‫فتقول ‪ :‬أمسكين وتزوج بغريي ‪ ،‬وأنت يف حل من النفقة والقسم «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )232 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪.)3040‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدر املنثور السيوطي يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)232 /1‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )634 /1‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب املرأة حديث رقم (‪.)1974‬‬

‫ص ‪331 :‬‬
‫ت ِم ْن بَ ْعلِها نُ ُ‬
‫شوزاً أ َْو إِ ْعراضاً واملقصود إن خافت امرأة من‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِ ِن ْام َرأَةٌ خافَ ْ‬
‫يقول ه‬
‫زوجها َتافيا أو انصرافا عنها فًل إمث عليهما يف أن جيراي بينهما صلحا ‪ ،‬أبن ترتك املرأة له يومها‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬أو تضع عنه بعض ما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنها مع رسول ه‬
‫كما فعلت سودة رضي ه‬
‫جيب هلا من نفقة أو كسوة ‪ ،‬أو هتب له شيئا من مهرها ‪ ،‬أو تعطيه ماال لتستعطفه وتستدمي املقام‬
‫معه‪.‬‬
‫ناح َعلَْي ِهما دفع ملا يتوهم من أن ما أيخذه الزوج كالرشوة فًل حيل‪.‬‬
‫ويف قوله تعاىل ‪ :‬فًَل ُج َ‬
‫ْح َخ ْريٌ معرتضة ‪ ،‬أي والصلح بني الزوجني أكثر خريا من الفرقة وسوء العشرة ‪،‬‬
‫الصل ُ‬
‫ومجلة َو ُّ‬
‫على معىن أنه إن يكن يف الفرقة أو سوء العشرة خري فالصلح خري من ذلك‪ .‬أو والصلح خري‬
‫من اخليور وليس بشر‪.‬‬
‫األول الرتغيب يف املصاحلة‪ .‬وفائدة‬ ‫س ُّ‬ ‫وأ ْ ِ ِ‬
‫الش اح اعرتاض اثن ‪ ،‬وفائدة االعرتاض ه‬ ‫ُحض َرت ْاألَنْ ُف ُ‬ ‫َ‬
‫املشاحة‪.‬‬
‫االعرتاض الثاين َتهيد العذر يف املماكسة و ه‬
‫وحضر ‪ :‬متعد لواحد ‪ ،‬واهلمزة تعديه إىل مفعول اثن كما هنا‪ .‬فاملفعول األول انئب الفاعل ‪،‬‬
‫اّلل األنفس‬
‫الشح ‪ ،‬وجيوز العكس‪ .‬والشح ‪ :‬البخل مع احلرص ‪ ،‬واملراد وأحضر ه‬
‫والثاين كلمة ه‬
‫اّلل النفوس على الشح ‪ ،‬فًل تكاد املرأة تسمح حبقها ‪ ،‬وال يكاد الرجل جيود‬
‫الشح أي جبل ه‬
‫ه‬
‫ابإلنفاق وحسن املعاشرة على اليت ال يريدها‪.‬‬
‫َوإِ ْن ُحتْ ِسنُوا َوتَتا ُقوا فَِإ ان ا‬
‫اّللَ كا َن ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِرياً هذا خطاب لألزواج بطريق االلتفات ‪ ،‬قصد به‬
‫استمالتهم وترغيبهم يف حسن املعاملة ‪ ،‬والصرب على ما يكرهون ‪ ،‬أي وإن حتسنوا معاشرة‬
‫اّلل جيازيكم على ذلك أحسن‬
‫النساء ‪ ،‬وتتقوا النشوز ‪ ،‬واإلعراض مهما تضافرت أسباهبما ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫اجلزاء ‪ ،‬ويثيبكم عليه خري املثوبة‪.‬‬
‫يؤخذ من هذه اآلية أن الرجل إذا قضى وطرا من امرأته ‪ ،‬وكرهتها نفسه ‪ ،‬أو عجز عن حقوقها‬
‫خيريها إن شاءت أقامت عنده وال حق هلا يف القسم والوطء والنفقة ‪،‬‬
‫‪ ،‬فله أن يطلقها ‪ ،‬وله أن ه‬
‫أو يف بعض ذلك حبسب ما يصطلحان عليه ‪ ،‬فإذا رضيت بذلك لزم وليس هلا املطالبة بشيء‬
‫مضى من ذلك على الرضا‪.‬‬
‫وهل هلا يف املستقبل الرجوع يف ذلك الصلح؟‬
‫من العلماء من قال ‪ :‬إ هن حقها يف القسم والنفقة يتجدد ‪ ،‬فلها الرجوع يف ذلك مَّت شاءت‪.‬‬
‫اّلل صلحا ‪ ،‬فيلزم كما يلزم ما‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إ هن هذا الصلح خرج خمرج املعاوضة ‪ ،‬وقد مسهاه ه‬
‫تصاحل عليه الناس من احلقوق واألموال ‪ ،‬فليس هلا حق الرجوع فيه‬

‫ص ‪332 :‬‬
‫أبي حال ‪ ،‬ولو م هكنت من ذلك مل يكن صلحا ‪ ،‬بل يكون من أكرب أسباب املعاداة والشريعة‬
‫ه‬
‫منزهة عن ذلك‪.‬‬
‫وهنا أحباث ‪:‬‬
‫حيل له أن أيخذ من مال امرأته شيئا ‪ ،‬أفًل يتخذ‬
‫األول ‪ :‬رب قائل يقول إذا كان نشوز الرجل ه‬
‫بعض األزواج النشوز ‪ -‬بل التهديد به ‪ -‬وسيلة ألخذ مال املرأة ‪ ،‬وانتقاصها حقها ‪ ،‬وهًل يع هد‬
‫أخذ املال هبذه الوسيلة أخذا بسيف اإلكراه ‪ ،‬وأكًل ألموال الناس ابلباطل‪.‬‬
‫وحنن نقول ‪ :‬إذا كان الرجل يرغب يف زوجته حقيقة ‪ ،‬ويود بقاءها يف عصمته ‪ ،‬ولكنه تظاهر‬
‫ابلنشوز واإلعراض اجتًلاب ملاهلا ‪ ،‬واستدرارا خلريها ‪ ،‬كان ذلك حراما ‪ ،‬وكان أخذ املال هبذه‬
‫وحرم مشاقة‬
‫اّلل أكل أموال الناس ابلباطل ‪ ،‬ه‬
‫حرم ه‬
‫الوسيلة أكًل ألموال الناس ابلباطل ‪ ،‬وقد ه‬
‫الرجل زوجته لغرض أخذ شيء من ماهلا ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫وه ان [النساء ‪ ]19 :‬إىل أمثال ذلك‪.‬‬ ‫ْهبُوا بِبَ ْع ِ‬ ‫ضلُ ِ‬
‫ض ما آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫وه ان لتَذ َ‬
‫َوال تَ ْع ُ ُ‬
‫ليس يف مثل هذا النشوز واإلعراض املصطنعني نزلت اآلية ‪ ،‬إمنا اآلية يف رجل يرغب حقيقة يف‬
‫وأحل يف‬
‫اّلل للرجل حق الطًلق ‪ ،‬واستبدال زوج مكان زوج ه‬
‫فراق زوجته لسبب ما ‪ ،‬وقد جعل ه‬
‫هذه اآلية الصلح بني الزوجني إذا كاان على ما وصفنا ‪ ،‬رجل يريد الفراق لسبب من األسباب ‪،‬‬
‫وامرأة تريد املقام معه ‪ ،‬وإذا تراضيا على شيء من حق املرأة تنزل عنه يف مقابلة أن ينزل الرجل‬
‫اّلل تعاىل‬
‫عن شيء من حقه وهو الطًلق ‪ ،‬مل يكن ذلك من أكل أموال الناس ابلباطل ‪ ،‬على أ هن ه‬
‫أرشد الرجل إىل ترك النشوز مهما تكاثرت أسبابه ‪ ،‬ووعده على ذلك األجر واملثوبة ‪ ،‬يف قوله ‪:‬‬
‫َوإِ ْن ُحتْ ِسنُوا َوتَتا ُقوا فَِإ ان ا‬
‫اّللَ كا َن ِمبا تَ ْع َملُو َن َخبِرياً‪.‬‬
‫وه ان ِيف الْم ِ‬
‫ضاج ِع‬ ‫َ‬ ‫ج ُر ُ‬ ‫وز ُه ان فَعِظُ ُ‬
‫وه ان َوا ْه ُ‬ ‫شَ‬ ‫اّلل تعاىل يف نشوز املرأة َو ا‬
‫الًلِِت َتافُو َن نُ ُ‬ ‫الثاين ‪ :‬قال ه‬
‫ت ِم ْن بَ ْعلِها نُ ُ‬
‫شوزاً أ َْو إِ ْعراضاً‬ ‫وه ان [النساء ‪ ]34 :‬وقال يف نشوز الرجل ‪َ :‬وإِ ِن ْام َرأَةٌ خافَ ْ‬ ‫ض ِربُ ُ‬‫َوا ْ‬
‫صلْحاً فجعل لنشوز املرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها‬ ‫فًَل جناح َعلَي ِهما أَ ْن ي ْ ِ‬
‫صلحا بَ ْي نَ ُهما ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ْ‬
‫يف املضجع ويضرهبا‪ .‬ومل جيعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته ‪ ،‬بل جعل له ترضية وتلطفا‪ .‬فما‬
‫معىن ذلك؟‬
‫اجلواب عن ذلك من وجوه ‪:‬‬
‫اّلل جعل الرجال قوامني على النساء ‪ ،‬فالرجل راعي املرأة ورئيسها املهيمن‬
‫‪ - 1‬قد علمت أ هن ه‬
‫عليها ‪ ،‬ومن قضية ذلك أال يكون للمرؤوس معاقبة رئيسه ‪ ،‬وإال انقلب األمر ‪ ،‬وضاعت هيمنة‬
‫الرئيس‪.‬‬
‫اّلل فضل الرجال على النساء يف العقل والدين ‪ ،‬ومن قضية ذلك أال‬
‫‪ - 2‬أ هن ه‬

‫ص ‪333 :‬‬
‫يكون نشوز من الرجل إال لسبب قاهر ‪ ،‬ولكن املرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز‬
‫وحيسن حاهلن‪.‬‬
‫ه‬ ‫اّلل لنشوزهن عقوبة حَّت يرتدعن ‪،‬‬
‫ألقل شي ء ‪ ،‬وتتومهه سببا ‪ ،‬فًل جرم جعل ه‬
‫وأ هن يف مساق اآليتني ما يرشد إىل أ هن النشوز يف النساء كثري ‪ ،‬ويف الرجال قليل ‪ ،‬ففي نشوز‬
‫املرأة عرب ابسم املوصول اجملموع إشارة إىل أ هن النشوز حمقق يف مجاعتهن‪ .‬ويف نشوز الرجل عرب‬
‫إبن اليت للشك ‪ ،‬وبصيغة اإلفراد ‪ ،‬وجعل الناشز بعًل وسيدا مهما كان‪ .‬كل ذلك يشري إىل أ هن‬
‫مبين على الفرض والتقدير ‪ ،‬وأنه إذا فرض وقوعه فإمنا يكون‬
‫النشوز يف الرجال غري حمقق ‪ ،‬وأنه ه‬
‫من واحد ال من مجاعة ‪ ،‬وأن ذلك الواحد على كل حال سيد زوجته‪.‬‬
‫اّلل قد جعل له حق‬
‫‪ - 3‬أ هن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة ‪ ،‬وإذا كان ه‬
‫الفرقة ومل جيعل للمرأة عليه سبيًل إذا هو أراد فرقتها ‪ ،‬فأوىل أال جيعل هلا عليه سبيًل إذا بدت‬
‫منه أمارات هذه الفرقة‪.‬‬
‫ْح َخ ْريٌ إنهه جائز أن يكون عموما يف جواز‬
‫الصل ُ‬
‫اجلصاص «‪ »1‬يف قوله تعاىل ‪َ :‬و ُّ‬
‫الثالث ‪ :‬قال ه‬
‫يدل على جواز الصلح عن إنكار ‪،‬‬
‫خصه الدليل ‪ ،‬وذلك ه‬
‫الصلح يف سائر األشياء إال ما ه‬
‫والصلح من اجملهول ‪ ،‬وانزعه يف ذلك الفخر الرازي فقال ‪ :‬إ هن الصلح يف اآلية مفرد دخل عليه‬
‫حرف التعريف ‪ ،‬واملفرد الذي دخل عليه حرف التعريف خمتلف يف إفادته العموم ‪ ،‬ولو سلهم أنهه‬
‫يفيد العموم ‪ ،‬فإمنا ذلك إذا مل يكن هناك معهود سابق ‪ ،‬أما إذا كان هناك معهودا سابقا كما يف‬
‫اآلية ‪ ،‬فاألصح أ هن محله على املعهود السابق أوىل من محله على العموم ‪ ،‬وذلك ألان إمنا محلناه‬
‫على العموم واالستغراق ضرورة أ هان لو مل نقل ذلك لصار جممًل ‪ ،‬وخيرج عن اإلفادة ‪ ،‬وإذا‬
‫حصل هناك معهود سابق اندفع هذا احملذور ‪ ،‬فوجب محله عليه ‪ ،‬وبذلك يندفع استدالل‬
‫اجلصاص ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬والصلح املعهود ‪ -‬وهو الصلح بني الزوجني ‪ -‬خري‪.‬‬
‫ه‬
‫وأنت تعلم أ هن اجلصاص مل جيزم أبن اللفظ عام ‪ ،‬بل قال ‪ :‬إنه جيوز أن يكون عاما ‪ ،‬كما جيوز أن‬
‫خاصا ابلصلح بني الزوجني ‪ ،‬على أ هن وقوع اجلملة اعرتاضا ‪ ،‬وجرايهنا جمرى األمثال مما‬
‫يكون ه‬
‫يرجح كون اللفظ عاما ‪ ،‬فتدبر ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صتُ ْم فًَل ََتِيلُوا ُكلا ال َْميْ ِل فَتَ َذ ُروها‬ ‫َن تَ ْستَطيعُوا أَ ْن تَ ْع ِدلُوا بَ َْ‬
‫ني النهِساء َول َْو َح َر ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬ول ْ‬ ‫قال ه‬
‫اّللُ ُك ًًّل ِم ْن‬
‫اّللَ كا َن غَ ُفوراً َرِحيماً (‪َ )129‬وإِ ْن يَتَ َف ارقا يُغْ ِن ا‬ ‫حوا َوتَتا ُقوا فَِإ ان ا‬ ‫َكالْمعلا َقةِ وإِ ْن تُ ْ ِ‬
‫صل ُ‬ ‫َُ َ‬
‫اّلل هنا أب هن العدل بني النساء غري مستطاع ‪ ،‬ويف آية‬ ‫واسعاً َحكِيماً (‪ )130‬خيرب ه‬ ‫اّلل ِ‬ ‫ِِ‬
‫َس َعته َوكا َن اُ‬
‫سابقة قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)283 /2‬‬

‫ص ‪334 :‬‬
‫ت أ َْميانُ ُك ْم [النساء ‪ ]3 :‬فشرط يف جواز اجلمع بني‬ ‫فَِإ ْن ِخ ْفتم أ اَال تَع ِدلُوا فَ ِ‬
‫واح َدةً أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫النساء الوثوق من العدل بينهن‪ .‬والعدل غري مستطاع ‪ ،‬فكأن اجلمع بني النساء غري جائز ‪ ،‬ألنه‬
‫اّلل أنه ال يتحقق ولن يكون ‪ ،‬من أجل ذلك ترى أئمة التفسري من‬
‫مشروط بشرط قد أخرب ه‬
‫السلف الصاحل كابن عباس واحلسن وقتادة وجماهد وأيب عبيدة وغريهم يقولون ‪:‬‬
‫اّلل عنه أنه غري مستطاع هو التسوية بني الزوجات يف احلب القليب ‪ ،‬وميل‬
‫إن العدل الذي أخرب ه‬
‫الطباع ‪ ،‬ومعلوم أ هن ذلك غري مقدور‪.‬‬
‫وأما العدل الذي جعل شرطا يف جواز اجلمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه املكلف‬
‫وميلكه ‪ ،‬مثل التسوية بينهن يف القسم والنفقة والكسوة والسكىن وما يتبع ذلك من كل ما ميلك‬
‫ويقدر عليه‪.‬‬
‫اّلل عنها ‪ ،‬وكان‬
‫وأخرج ابن أيب شيبة وابن جرير عن أيب مليكة أ هن اآلية نزلت يف عائشة رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم حيبها أكثر من غريها‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروى الشافعي وأمحد وأبو داود والرتمذي عن عائشة أهنا قالت ‪ :‬كان رسول ه‬
‫وسلهم يقسم بني نسائه ‪ ،‬فيعدل ‪ ،‬مث يقول ‪« :‬اللهم هذا قسمي فيما أملك ‪ ،‬فًل تلمين فيما‬
‫َتلك وال أملك» «‪»1‬‬
‫اّلل ‪ :‬احملبة وميل القلب غري‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬مبا ال ميلكه هو ‪ ،‬وميلكه ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وعىن رسول ه‬
‫االختياري‪.‬‬
‫ومعىن اآلية إنكم لن تقدروا على التسوية بني النساء يف احلب وميل الطباع ‪ ،‬فالتفاوت بينهن يف‬
‫فاّلل قد عفا لكم عنه ‪،‬‬
‫الود واحملبة حاصل وال حمالة ‪ ،‬وليس يف استطاعتكم جلبه وال دفعه ‪ ،‬ه‬
‫ولستم مكلفني به وال منهيني عنه ‪ ،‬ولكن ذلك التفاوت يف احلب له نتائج تظهر يف األقوال‬
‫واألفعال اليت َتلكوهنا ‪ ،‬وتقدرون عليها ‪ ،‬ويصح تعلق األحكام هبا ‪ ،‬فأنتم منهيون عن إظهار‬
‫التفاوت يف القول والفعل املقدورين لكم‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء ‪ :‬حقيقة العدل بني النساء التسوية بينهن يف كل شي ء ‪ ،‬حبيث ال يقع ميل‬
‫ما إىل جانب يف شأن من الشؤون ‪ ،‬كالقسم والنفقة والتعهد والنظر واإلقبال واملماحلة واملفاكهة‬
‫واملؤانسة وغريها ما ال يكاد حيصر‪ .‬والعدل هبذا املعىن غري مقدور للمكلف البتة‪ .‬ولو حرص‬
‫على إقامته وابلغ فيه ‪ ،‬والعجز عن حقيقة العدل ال مينع عن تكليفكم أيها األزواج مبا دوهنا من‬
‫املراتب اليت تستطيعوهنا ‪ ،‬فإ هن امليسور ال يسقط ابملعسور ‪ ،‬وما ال يدرك كله ال يرتك كله‪.‬‬
‫ِ‬
‫فًَل ََتيلُوا ُك ال الْ َم ْي ِل فًل َتوروا على املرغوب عنها ه‬
‫كل اجلور ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )209 /2‬كتاب النكاح ابب القسم بني النساء حديث رقم‬
‫(‪ ، )2134‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )446 /3‬كتاب النكاح حديث رقم (‪، )1140‬‬
‫وابن ماجه يف السنن (‪ ، )633 /1‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب القسمة بني النساء حديث رقم‬
‫(‪ ، )1971‬وأمحد يف املسند (‪.)144 /6‬‬

‫ص ‪335 :‬‬
‫فتمنعوها حقها من غري رضا منها ‪ ،‬واعدلوا ما استطعتم ‪ ،‬فإ هن عدم العدل بينهن يوقد انر الغرية‬
‫واحلقد يف نفوسهن ‪ ،‬ويغريهن ابلشر والفساد‪ .‬ويف ذلك من املفاسد ما يربو على مصلحة تعدد‬
‫الزوجات يف نظر الشارع احلكيم‪.‬‬
‫ويف قوله تعاىل ‪ :‬فَتَ َذ ُروها َكال ُْم َعلا َقةِ ضرب من التوبيخ لألزواج ‪ ،‬أي ال ينبغي وال يليق بكم أن‬
‫َتوروا على الضرائر ‪ ،‬فتدعوها كاملعلقة ال هي ذات بعل وال مطلقة ‪ ،‬فإما أن تعدلوا بينهن ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وف أَو تَس ِريح إبِِ ْح ٍ‬
‫سان [البقرة ‪.]229 :‬‬ ‫ساك ِمبَ ْع ُر ْ ْ ٌ‬
‫وإال فالفرقة أوىل ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ :‬فَِإ ْم ٌ‬
‫اّلل عنه قال ‪:‬‬
‫أخرج أمحد وأبو داود والرتمذي والنسائي عن أيب هريرة رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬من كان له امرأاتن فمال مع إحدامها جاء يوم القيامة‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫وأحد ش هقيه ساقط» «‪»1‬‬
‫وكان السلف الصاحل يستحبون أن يسووا بني الضرائر حَّت يف الطيب ‪ ،‬يتطيهب هلذه كما يتطيب‬
‫هلذه‪ .‬وعن ابن سريين يف الذي له امرأاتن يكره أن يتوضأ يف بيت إحدامها دون األخرى‪.‬‬
‫اّللَ كا َن غَ ُفوراً َرِحيماً أي وإن تصلحوا ما كنتم تفسدون من أمورهن‬
‫حوا َوتَتا ُقوا فَِإ ان ا‬ ‫وإِ ْن تُ ْ ِ‬
‫صل ُ‬ ‫َ‬
‫اّلل يغفر‬
‫فيما مضى مبيلكم إىل إحداهن ‪ ،‬وتتداركوه ابلتوبة ‪ ،‬وتتقوا ابجلور فيما يستقبل ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫لكم ما مضى من احليف ‪ ،‬ويتفضل عليكم برمحته وإحسانه‪.‬‬
‫ظاهر هذه اآلية يوجب التسوية يف القسم بني احلرة واألمة‪ .‬وهو قول أهل الظاهر ‪ ،‬ورواية عن‬
‫املزوجة على النصف من احلرة يف القسم‬
‫لكن مجهور األئمة على أ هن األمة ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬ه‬
‫مالك رضي ه‬
‫اّلل عنه قضى بذلك ‪ ،‬وال يعرف له يف الصحابة خمالف‬
‫حمتجني على ذلك أبن اإلمام عليا رضي ه‬
‫يسو بني احلرة‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل مل ه‬
‫مع انتشار هذا القضاء وظهوره ‪ ،‬وموافقته للقياس ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫واألمة ال يف الطًلق وال يف العدة وال يف احلد وال يف امللك وال يف املرياث وال يف احلج وال يف مدة‬
‫الكون عند الزوج ليًل وهنارا ‪ ،‬وال يف أصل النكاح ‪ ،‬بل جعل نكاحها مبنزلة الضرورة ‪ ،‬فاقتضى‬
‫يسوي بينها وبني احلرة يف القسم‪.‬‬
‫ذلك أال ه‬
‫ومن هذه اآلية يعلم أنه ال َتب التسوية بني النساء يف احملبة ‪ ،‬فإهنا ال َتلك ‪ ،‬وكانت عائشة‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وأخذ من هذا أنهه ال‬
‫أحب نسائه إليه صلهى ه‬
‫اّلل عنها ‪ -‬كما علمت ‪ -‬ه‬
‫رضي ه‬
‫َتب التسوية بينهن يف الوطء ‪ ،‬ألنهه موقوف على احملبة وامليل ‪ ،‬وهي بيد مقلهب القلوب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )209 /2‬كتاب النكاح حديث رقم (‪ ، )2133‬والرتمذي يف‬
‫اجلامع الصحيح (‪ ، )447 /3‬كتاب النكاح حديث رقم (‪ ، )1141‬والنسائي يف السنن (‪- 7‬‬
‫‪ ، )74 /8‬كتاب يف عشرة النساء حديث رقم (‪ ، )3952‬وابن ماجه يف السنن (‪، )633 /1‬‬
‫كتاب النكاح حديث رقم (‪.)1969‬‬

‫ص ‪336 :‬‬
‫وفصل بعض العلماء يف ذلك فقال ‪ :‬إن تركه لعدم الداعي إليه فهو معذور ‪ ،‬وإن تركه مع‬
‫ه‬
‫الداعي إليه ‪ ،‬ولكن داعيه إىل الضرر أقوى ‪ ،‬فهذا مما يدخل حتت قدرته وملكه ‪ ،‬فإن أ هدى‬
‫الواجب عليه منه مل يبق هلا حق ‪ ،‬ومل يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها املطالبة به‪.‬‬
‫وحث عليه ذكر يف‬
‫اّلل يف الصلح بني الزوجني ه‬‫اّللُ ُك ًًّل ِم ْن َس َعتِهِ بعد أن رغهب ه‬
‫َوإِ ْن يَتَ َف ارقا يُغْ ِن ا‬
‫هذه اآلية جواز الفرقة إذا مل يكن منها بد ‪ ،‬وسلهى كًل من الزوجني ‪ ،‬ووعد كل واحد منهما أبنه‬
‫اّلل اليت أوجبها‪.‬‬ ‫توفا من ترك حقوق ه‬ ‫سيغنيه عن اآلخر إذا قصد الفرقة ه‬
‫اّلل وال يزال غنيا كافيا للخلق ‪ ،‬حكيما متقنا يف أفعاله‬ ‫واسعاً َحكِيماً‪ .‬أي وكان ه‬ ‫وكا َن ا اّلل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأحكامه‪.‬‬
‫ت فَلَها‬‫س لَهُ َولَ ٌد َولَهُ أُ ْخ ٌ‬ ‫اّللُ يُ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َكًللَةِ إِ ِن ْام ُرٌؤ َهلَ َ‬
‫ك ل َْي َ‬ ‫ك قُ ِل ا‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬يَ ْستَ ْفتُونَ َ‬
‫قال ه‬
‫ثان ِمماا تَ َر َك َوإِ ْن كانُوا‬
‫ني فَلَ ُهما الثُّلُ ِ‬
‫ف ما تَ َر َك َو ُه َو يَ ِرثُها إِ ْن َملْ يَ ُك ْن هلَا َولَ ٌد فَِإ ْن كانَتَا اثْ نَ تَ ْ ِ َ‬‫ص ُ‬ ‫نِ ْ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اّلل لَ ُكم أَ ْن تَ ِ‬ ‫جاال َونِساءً فَلِل اذ َك ِر ِمثْ ُل َح ِه‬
‫اّللُ بِ ُك ِهل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم‬ ‫ضلُّوا َو ا‬ ‫ني اُ ْ‬ ‫ظ ْاألُنْ ثَيَ ْ ِ‬
‫ني يُبَِه ُ‬ ‫إِ ْخ َوةً ِر ً‬
‫(‪)176‬‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫اّلل رضي ه‬
‫أخرج ابن أيب حامت أ هن هذه اآلية نزلت يف جابر بن عبد ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وأان مريض ال‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫علي رسول ه‬
‫وأخرج الشيخان عن جابر أنه قال دخل ه‬
‫اّلل ‪ :‬إنه ال يرثين إال كًللة فكيف املرياث‬
‫علي فعقلت فقلت اي رسول ه‬
‫صب ه‬‫أعقل ‪ ،‬فتوضأ ‪ ،‬مث ه‬
‫‪ ،‬فنزلت آية الفرائض «‪»1‬‬
‫وهذه اآلية آخر آايت األحكام نزوال‪.‬‬
‫اّلل يف سورة النساء يف‬
‫اّلل عنه قال يف خطبة له ‪ :‬أال إن اآلية اليت أنزهلا ه‬
‫وروي أ هن أاب بكر رضي ه‬
‫الفرائض [‪ ، ]12‬فأوهلا يف الولد والوالد ‪ ،‬واثنيها يف الزوج والزوجة ‪ ،‬واإلخوة من األم ‪ ،‬واآلية‬
‫اليت ختم هبا سورة النساء [‪ ]176‬أنزهلا يف اإلخوة واألخوات من األب واألم‪ .‬أو من األب ‪،‬‬
‫واآلية اليت ختم هبا سورة األنفال [‪ ]75‬أنزهلا يف أويل األرحام ‪ ،‬وقد أمجع العلماء على أ هن هذه‬
‫اآلية يف مرياث اإلخوة واألخوات من األب واألم ‪ ،‬أو من األب‪ .‬وأما اإلخوة واألخوات ألم‬
‫ث َكًللَةً إخل وتق هدم لك بيان ذلك‬ ‫ففيهم نزلت اآلية السابقة يف صدر السورة َوإِ ْن كا َن َر ُج ٌل يُ َ‬
‫ور ُ‬
‫مستوىف‪.‬‬
‫س لَهُ َولَ ٌد وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫واختلف العلماء يف املراد ابلولد يف قوله تعاىل ‪ :‬لَيْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )210 /5‬كتاب تفسري القرآن ‪ - 4 ،‬ابب ي ِ‬
‫وصي ُك ُم‬‫ُ‬
‫اّللُ حديث رقم (‪ ، )4577‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )1234 /3‬كتاب الفرائض ‪- 2 ،‬‬ ‫ا‬
‫ابب مرياث الكًللة حديث رقم (‪].....[ .)1616 /5‬‬

‫ص ‪337 :‬‬
‫إِ ْن َملْ يَ ُك ْن هلَا َولَ ٌد فقال بعضهم ‪ :‬إن املراد به الذكر ‪ ،‬ألنهه املتبادر ‪ ،‬وألنهه لو أريد به ما يشتمل‬
‫الذكر واألنثى لكان مقتضى مفهومه أن األخت ال ترث النصف مع وجود البنت ‪ ،‬مع أهنا ترثه‬
‫معها عند مجيع العلماء غري ابن عباس ‪ ،‬ولكان مقتضاه أيضا أ هن األخ ال يرث أخته مع وجود‬
‫بنتها ‪ ،‬والعلماء متفقون على أنه يرث الباقي بعد فرض البنت وهو النصف‪.‬‬
‫عام يف الذكر واألنثى ‪ ،‬أل هن الكًلم يف الكًللة وهو من‬
‫واملختار الذي عليه احملققون أن الولد هنا ه‬
‫ليس له ولد أصًل ‪ ،‬ال ذكر وال أنثى ‪ ،‬وليس له والد أيضا ‪ ،‬إال أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة‬
‫معنوي وقع نكرة يف سياق النفي ‪ ،‬فيعم االبن والبنت ‪ ،‬وما‬
‫ه‬ ‫بظهور األمر‪ .‬وأل هن الولد مشرتك‬
‫ورد على املفهوم ليس بقادح‪.‬‬
‫أما أوال ‪ :‬فألن األخت ال يكون هلا فرض النصف مع وجود الولد مطلقا ‪ ،‬أما مع االبن فألنهه‬
‫حيجبها‪ .‬وأما مع البنت فألهنا تصريها عصبة ‪ ،‬فًل يتعني هلا فرض ‪ ،‬نعم يكون نصيبها مع بنت‬
‫واحدة النصف حبكم العصوبة ال الفرضية ‪ ،‬فًل حاجة إىل تصيص الولد ابالبن ال منطوقا وال‬
‫مفهوما‪.‬‬
‫وأما اثنيا ‪ :‬فألن األخ ال يرث أخته مع وجود بنتها‪ .‬أل هن املتبادر من قوله تعاىل ‪َ :‬و ُه َو يَ ِرثُها إِ ْن َملْ‬
‫يَ ُك ْن هلَا َولَ ٌد أنه يرث مجيع تركتها عند عدم الولد ‪ ،‬ومفهومه أنهه عند وجود الولد ال يرث مجيع‬
‫فصح أن‬
‫تركتها ‪ ،‬أما مع االبن فألنه حيجبه ‪ ،‬وأما مع البنت فألنه يرث الباقي بعد فرضها ‪ ،‬ه‬
‫األخ ال يرث أخته مع وجود بنتها ‪ ،‬تدبهر ذلك فإنهه دقيق‪.‬‬
‫وبعد فإ هن اآلية ق هدرت يف مرياث اإلخوة واألخوات من امليت الكًللة صورا أربعا ‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬أن ميوت امرؤ وترثه أخت واحدة ‪ ،‬فلها النصف ابلفرض ‪ ،‬والباقي للعصبة إن كانوا ‪،‬‬
‫وإال فلها ابلرد‪.‬‬
‫وكما ترث األخت الواحدة من أخيها النصف ‪ ،‬كذلك ترثه من أختها ‪ ،‬أل هن مقدار املرياث ال‬
‫خيتلف ابختًلف امليت ذكورة وأنوثة ‪ ،‬وإمنا خيتلف ابختًلف الوارث‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن يكون األمر ابلعكس َتوت امرأة ويرثها أخ واحد فله مجيع الرتكة ‪ ،‬وكما يرث األخ‬
‫الواحد مجيع تركة أخته كذلك يرث مجيع تركة أخيه‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أن يكون امليت أخا أو أختا وورثه أختاه ‪ ،‬فلهما الثلثان‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬أن يكون امليت أخا أو أختا ‪ ،‬والورثة عدد من اإلخوة واألخوات ‪ ،‬فللذكر مثل حظ‬
‫األنثيني‪.‬‬
‫وظاهر اآلية يف هذه الصورة الرابعة عدم التفرقة بني اإلخوة األشقاء واإلخوة ألب‬

‫ص ‪338 :‬‬
‫لكن السنهة خصصت هذا العموم ‪ ،‬فقدمت األشقاء‬
‫يف أهنم يشرتكون يف الرتكة إذا اجتمعوا ‪ ،‬ه‬
‫على اإلخوة ألب ‪ ،‬فإذا اجتمع الصنفان حجب اإلخوة األشقاء اإلخوة ألب‪.‬‬
‫بقي من الصور احملتملة يف املرياث ابألخوة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون للميت الكًللة عدد من اإلخوة الذكور ‪ ،‬فاحلكم أهنم حيوزون مجيع الرتكة ‪ ،‬أل هن‬
‫الواحد منهم إذا انفرد حاز الرتكة كلها ‪ ،‬فأوىل إذا اجتمعوا أن حيوزوها‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يكون للميت الكًللة أكثر من أختني ‪ ،‬فاحلكم أهنن أيخذن الثلثني ابلفرض ‪ ،‬أل هن أكثر‬
‫من بنتني ال يزدن عن الثلثني ‪ ،‬فأوىل أال يزيد األكثر من أختني عن الثلثني ‪ ،‬وقد تقدم ذلك‪.‬‬
‫ضلُّوا مفعول ه‬ ‫اّلل لَ ُكم أَ ْن تَ ِ‬ ‫يُبَِه ُ‬
‫يبني حمذوف ‪ ،‬واملصدر املنسبك مفعول ألجله بتقدير مضاف ‪،‬‬ ‫ني اُ ْ‬
‫اّلل لكم احلًلل واحلرام ‪ ،‬ومجيع األحكام كراهة أن تضلوا‪.‬‬
‫أي ‪ :‬يبني ه‬
‫اّلل لكم ضًللكم ‪ ،‬لتجتنبوه ‪ ،‬فإن الشر‬
‫(يبني) أي يبني ه‬
‫وجيوز أن يكون املصدر هو مفعول ه‬
‫يعرف ليتقى ‪ ،‬واخلري يعرف ليؤتى‪.‬‬
‫اّللُ بِ ُك ِهل َش ْي ٍء من األشياء اليت من مجلتها أحوالكم وما يصلح لكم منها وما ال يصلح‪.‬‬
‫َو ا‬
‫فيبني لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم‪.‬‬
‫يم ذو علم شامل حميط ‪ ،‬ه‬ ‫ِ‬
‫َعل ٌ‬

‫ص ‪339 :‬‬
‫من سورة املائدة‬
‫عام إِاال ما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم‬
‫يمةُ ْاألَنْ ِ‬‫ِ‬ ‫ود أ ُِحلا ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الا ِذين آمنُوا أَوفُوا ِابلْع ُق ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫قال ه‬
‫اّللَ َْحي ُك ُم ما يُ ِري ُد (‪)1‬‬ ‫ري ُِحملِهي ال ا‬
‫ص ْي ِد َوأَنْ تُ ْم ُح ُرٌم إِ ان ا‬ ‫غَ ْ َ‬
‫شرح املفردات‬
‫ووىف (بتشديد الفاء) مبعىن أ هدى ما التزمه ‪ ،‬مع املبالغة يف‬ ‫يقال أوىف ووىف (بفتح الفاء خمففة) ه‬
‫ود َوَم ْن أ َْوىف بِ َع ْه ِدهِ ِم َن ا‬
‫اّللِ [التوبة ‪]111 :‬‬ ‫حالة التشديد ‪ ،‬والكل ورد يف القرآن أَوفُوا ِابلْع ُق ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫يم الا ِذي َو اىف (‪[ )37‬النجم ‪.]37 :‬‬ ‫ِ‬
‫َوإِبْراه َ‬
‫وا لعقود ‪ :‬مجع عقد ‪ ،‬وهو يف األصل الربط ‪ ،‬تقول عقدت احلبل ابحلبل إذا ربطته به ‪ ،‬وعقدت‬
‫البناء ابجلص إذا ربطته به ‪ ،‬وتقول ‪ :‬عقدت البيع لفًلن إذا ربطته ابلقول ‪ ،‬واليمني يف املستقبل‬
‫تسمى عقدا أل هن احلالف ربط نفسه ابحمللوف عليه وألزمها به‪.‬‬
‫ه‬
‫املراد ابلعقود هنا ما يشمل العهود اليت عقدها هللا علينا ‪ ،‬وألزمنا هبا من الفرائض والواجبات‬
‫واملباحثات من معامًلهتم ومناكحاهتم‪.‬‬
‫واألنعام ‪ :‬مجع نعم (بفتحتني) وأكثر ما يطلق على اإلبل ‪ ،‬ولكن املراد به هنا ما يشمل اإلبل‬
‫والبقر والغنم‪.‬‬
‫واحلرم ‪ :‬مجع حرام ‪ ،‬مبعىن حمرم ‪ ،‬كعناق وهي األنثى من ولد املعز وعنق ابلضم‪.‬‬
‫اّلل املؤمنني وانداهم بوصف اإلميان ‪ ،‬ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به ‪ ،‬فإ هن الشأن يف‬
‫دعا ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وطالبهم ابلوفاء ابلعقود أي التكاليف اليت‬
‫املؤمنني االنقياد ملا يكلهفون به من قبل ه‬
‫تعهدا منهم ابلعمل مببادئه ‪ ،‬والوقوف عند‬
‫أعلمهم هبا ‪ ،‬والتزموها بقبوهلم اإلميان الذي يعترب ه‬
‫حدوده ‪ ،‬ومن هذه التكاليف ما يعقد الناس بعضهم مع بعض من األماانت واملعامًلت‪.‬‬
‫يمةُ ْاألَنْ ِ‬
‫عام أي من اإلبل والبقر‬ ‫ِ‬ ‫للنيب عن بعض حمرمات اإلحرام أ ُِحلا ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬ ‫مث قال تعاىل َتهيدا ه‬
‫والضأن واملعز‪.‬‬

‫حي ال مييهز ‪ ،‬مسهي بذلك ألنه أهبم عن أن مييز أي حجب ‪،‬‬


‫كل ه‬
‫ص ‪ 340 :‬والبهيمة يف األصل ه‬
‫أي‬
‫فهو عام يشمل األنعام وغريها ‪ ،‬سواء أكانت من ذوات األربع أم ال ‪ ،‬وإضافته للبيان ‪ ،‬ه‬
‫هبيمة هي األنعام ‪ ،‬وخرج هبا غري األنعام ‪ ،‬سواء كان من ذوات احلوافر كاخليل والبغال واحلمري‬
‫أم من غريها مثل األسد والنمر والذئب‪.‬‬
‫خاص بذوات األربع ‪ ،‬وقال ابن عباس ‪ :‬املراد ابلبهيمة هنا أجنة األنعام ‪ ،‬فهي‬
‫وقيل ‪ :‬البهيمة ه‬
‫حًلل مَّت ذ هكيت أمهاهتا ‪ ،‬وهو مذهب الشافعية ‪ ،‬وإمنا مل يقل أحلهت لكم األنعام ليشري إىل أ هن‬
‫يدل الدليل على حرمته‪.‬‬
‫ما مياثل األنعام مثلها يف احلل كالظباء وبقر الوحش ما مل ه‬
‫دل على‬
‫ملا كان اإلحًلل ال يتعلق إال ابألفعال كان من الًلزم إضمار فعل يناسب الكًلم ‪ ،‬وقد ه‬
‫فءٌ َوَمنافِ ُع َوِم ْنها َأتْ ُكلُو َن (‪[ )5‬النحل ‪ ]5 :‬أي‬
‫عام َخلَ َقها لَ ُك ْم فِيها ِد ْ‬
‫هذا بقوله تعاىل ‪َ :‬و ْاألَنْ َ‬
‫أحل لكم االنتفاع ببهيمة األنعام ‪ ،‬وهو يشمل االنتفاع‬ ‫لتنتفعوا هبا يف الدفء وغريه ‪ ،‬فاملراد ه‬
‫بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫ِ‬
‫حل هبيمة األنعام ما يتلى عليكم يف آية حترميه ‪ :‬من‬ ‫مث قال ‪ :‬إ اال ما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم أي يستثىن من ه‬
‫حي ابلتفصيل الذي أيِت‪.‬‬‫كل هذا حرام ما مل تدرك ذكاته ‪ ،‬وهو ه‬ ‫امليتة واملنخنقة إخل فإ هن ه‬
‫يمةُ ْاألَنْ ِ‬
‫عام‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ص ْي ِد حال من الكاف يف أ ُِحلا ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬ ‫ري ُِحملِهي ال ا‬
‫وقوله ‪ :‬غَ ْ َ‬
‫اّللَ َْحي ُك ُم ما يُ ِري ُد أي يشرع ما يشاء من حتليل وحترمي حبسب ما تقتضيه حكمته البالغة ‪،‬‬ ‫إِ ان ا‬
‫فأابح هبيمة األنعام يف مجيع األحوال ‪ ،‬وأابح الصيد يف بعض األحوال دون بعض ‪ ،‬وال اعرتاض‬
‫عليه ‪ ،‬ألنهه مالك األشياء وخالقها ‪ ،‬فيتصرف فيها كما يشاء حبكمته وحسن تدبريه‪.‬‬
‫وينبغي أن يعلم أ هن العقود اليت جيب الوفاء هبا ال تشمل التعاقد على احملرمات ‪ ،‬فًل جيب الوفاء‬
‫به ‪ ،‬ومثله حلف اجلاهلية على الباطل ‪ ،‬كحلفهم على التناصر واملرياث ‪ ،‬أبن يقول أحد الطرفني‬
‫لآلخر إذا حالفه ‪ :‬دمي دمك وهدمي هدمك ‪ ،‬وترثين وأرثك ‪ ،‬فيتعاقدان بذلك على النهصرة‬
‫واحلماية سواء أكانت حبق أم بباطل ‪ ،‬فأبطل اإلسًلم التناصر على الباطل بقوله تعاىل ‪َ :‬وال‬
‫اإل ِْمث والْع ْد ِ‬
‫وان وقوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ال ضرر وال ضرار» «‪»1‬‬ ‫عاونُوا َعلَى ِْ َ ُ‬
‫تَ َ‬
‫وبنهيه عن العصبية العمية كما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 13 ، )784 /2‬كتاب األحكام ‪ - 16 ،‬ابب من بىن يف‬
‫حقه حديث رقم (‪ )2340‬و(‪ ، )2341‬ومالك يف املوطأ (‪ - 36 ، )745 /2‬كتاب األقضية‬
‫‪ - 26 ،‬ابب القضاء حديث رقم (‪ ، )31‬وأمحد يف املسند (‪.)672 /1‬‬

‫ص ‪341 :‬‬
‫رواه مسلم والنسائي «‪ »1‬من‬
‫عمية يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتلة‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬من قتل حتت راية ه‬
‫جاهلية»‬
‫ض ِيف كِ ِ‬
‫تاب‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫وأبطل هذا التوارث آبية املواريث ‪ ،‬وبقوله تعاىل ‪َ :‬وأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫اّللِ [األحزاب ‪.]6 :‬‬
‫ا‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ‪ :‬وجوب الوفاء ابلتكاليف اإلسًلمية ‪ ،‬وابلعقود اليت جيريها الناس بعضهم مع‬
‫بعض فيما هو مأذون فيه ‪ ،‬كالقيام أبداء املهور والنفقات يف ابب النكاح ‪ ،‬واحملافظة على مال‬
‫املستأمن ونفسه يف ابب األمان ‪ ،‬واحملافظة على الوديعة والعارية والعني املرهونة وردها على‬
‫حل ذابئح األنعام من جهة االنتفاع بلحومها‬
‫أصحاهبا ساملة ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬ويؤخذ منها أيضا ه‬
‫وجلودها وعظامها وأصوافها وحرمة الصيد يف حال اإلحرام‪.‬‬
‫ي َوَال الْ َقًلئِ َد‬‫ام َوَال ا ْهلَ ْد َ‬ ‫اّللِ َوَال ال ا‬
‫ش ْه َر ا ْحلَر َ‬ ‫آمنُوا ال ُِحتلُّوا َشعائَِر ا‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫اصطادُوا َوال َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن‬ ‫ضواانً َوإِذا َحلَلْتُ ْم فَ ْ‬ ‫ض ًًل ِم ْن َرههبِِ ْم َوِر ْ‬
‫ام يَ ْب تَ غُو َن فَ ْ‬
‫ت ا ْحلَر َ‬
‫ني الْبَ يْ َ‬ ‫ِ‬
‫آم َ‬
‫َوَال ه‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬
‫عاونُوا َعلَى ِْ‬
‫اإل ِْمث‬ ‫ْرب َوالتا ْقوى َوال تَ َ‬ ‫عاونُوا َعلَى الِ ِه‬‫صدُّوُك ْم َع ِن ال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام أَ ْن تَ ْعتَ ُدوا َوتَ َ‬ ‫قَ ْوم أَ ْن َ‬
‫قاب (‪ )2‬الشعائر ‪ :‬مجع شعرية ‪ ،‬وهي يف األصل ما جعل‬ ‫اّللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬
‫اّللَ إِ ان ا‬ ‫ان َواتا ُقوا ا‬ ‫والْع ْدو ِ‬
‫َ ُ‬
‫شعارا على الشيء وعًلمة عليه ‪ ،‬مأخوذ من اإلشعار مبعىن اإلعًلم من جهة اإلحساس ‪ ،‬ويقال‬
‫‪ :‬شعرت بكذا أي علمته ‪ ،‬ومنه مسهي الشاعر ‪ ،‬ألنه بفطنته يشعر مبا ال يشعر به غريه واملراد‬
‫اّلل اليت حدها‬
‫ابلشعائر هنا قيل ‪ :‬مناسك احلج ‪ ،‬وهو مروي عن ابن عباس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬فرائض ه‬
‫لعباده ‪ ،‬وهو قول عطاء ‪ ،‬وقيل ‪ :‬األحكام اإلسًلمية كلها ‪ ،‬فإ هن أداءها أمارة على اإلسًلم‬
‫املعول عليه‪.‬‬
‫والتعبد أبحكامه ‪ ،‬وهو ه‬
‫وإحًلل الشعائر استباحتها واإلخًلل أبحكامها ‪ ،‬وعدم املباالة حبرمتها ‪ ،‬والشهر احلرام رجب‬
‫وذو القعدة وذو احلجة واحملرم فًلمه للجنس ‪ ،‬ومسهي الشهر حراما ابعتبار أ هن إيقاع القتال فيه‬
‫حرام‪.‬‬
‫واهلدي ما يتقرب به املرء من النهعم ليذبح يف احلرم‪.‬‬
‫والقًلئد ‪ :‬مجع قًلدة وهي تطلق على ما يعلهق يف عنق املرأة للزينة ‪ ،‬وعلى ما يعلهق يف عنق‬
‫يتعرض له‪.‬‬
‫البعري أو غريه من النعم من جلد أو قشر شجر ليعلم أنهه هدي فًل ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1478 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 13 ،‬ابب وجوب مًلزمة‬
‫مجاعة املسلمني حديث رقم (‪ ، )1850 /57‬والنسائي يف السنن (‪ ، )139 /8 - 7‬كتاب‬
‫التحرمي ‪ ،‬ابب التغليظ حديث رقم (‪.)4125‬‬

‫ص ‪342 :‬‬
‫واآلمون ‪ :‬مجع آم مبعىن قاصد من أم يؤم مبعىن قصد ‪ ،‬والرضوان مصدر مبعىن الرضا ‪ ،‬والشنآن‬
‫ه‬
‫مصدر مبعىن البغض يقال شنئته ابلكسر أشنؤه بفتح النون شنئا بسكوهنا وشنآان بفتح النون‬
‫وسكوهنا أي أبغضته‪.‬‬
‫اّللِ أي أحكام دينه على الوجه العام أو أعمال‬
‫اّلل املؤمنني وينهاهم بقوله ‪ :‬ال ُِحتلُّوا َشعائَِر ا‬
‫ينادي ه‬
‫احلج ومناسكه كاإلحرام والطواف والوقوف بعرفة وبقية أعمال احلج ‪ ،‬ومعىن إحًلهلا اإلخًلل‬
‫أبحكامها كاستعمال الطيب ولبس املخيط والصيد والقرب من النساء فإن ذلك خيل بواجبات‬
‫اإلحرام وكطواف الزايرة حمداث أو جنبا فإن ذلك خيل بواجب الطهارة يف الطواف والوقوف بعرفة‬
‫حداث أو جنبا أو بعد قرابن النساء فإن ذلك خيل بواجب الطهارة وحرمة قرابن النساء ابلنسبة‬
‫للوقوف مث قال ‪ :‬وال الشهر احلرام أي ال حتلوه ابلقتال فيه وعدم املباالة حبرمته وقد نسخ هذا‬
‫احلكم‪.‬‬
‫وه ْم [التوبة ‪ ]5 :‬فإنه‬
‫ث َو َج ْدَتُُ ُ‬ ‫سلَ َخ ْاألَ ْش ُه ُر ا ْحلُُرُم فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َحيْ ُ‬ ‫ِ‬
‫بقوله تعاىل ‪ :‬فَإذَا انْ َ‬
‫اّلل قتاهلم فيها وضرهبا أجًل‬
‫ليس املراد ابألشهر احلرم أشهر احلج وإمنا املراد هبا األشهر اليت حرم ه‬
‫هلم يسيحون فيها يف األرض ويفكرون يف أمر اإلسًلم مع الرتوي والنظر فإن اعتنقوا اإلسًلم يف‬
‫أثنائها فقد جنوا وإال عاملهم مبا عامل به غريهم من القتل واألسر ويدل على أن هذا احلكم‬
‫منسوخ اإلمجاع على جواز قتال أهل الشرك يف األشهر احلرم مث قال ‪:‬‬
‫اّلل تعاىل لتذبح يف احلرم وإحًلهلا هو التعرض هلا‬
‫وال اهلدى أي ال حتلوا النعم اليت يتقرب هبا إىل ه‬
‫وسلبها أو االنتفاع هبا يف غري ما سيقت له من التقرب إليه تعاىل وأخذوا من ذلك عدم جواز‬
‫األكل من اهلدااي اليت تقدم للذبح يف احلرم إال أهنم استثنوا من ذلك هدى التطوع والقرآن‬
‫والتمتع وحسا من املرقة فيبقى غريها على عدم اجلواز ألهنا دماء خمالفات وكفارات وعقوابت فًل‬
‫جيوز االنتفاع بشيء منها وقال ‪:‬‬
‫َوَال الْ َقًلئِ َد‪ .‬أي ال حتلوا ال قًلئد أي اهلدااي ذوات القًلئد واهلدااي اليت تقلد هي ما كانت للتطوع‬
‫أو النذر أو القرآن أو التمتع أما اهلدااي اليت َتب بسبب اجلناايت فًل تقلد‪ .‬القًلئد أعًلم تقام‬
‫للمسرات وذلك ظاهر إذا كانت للتطوع أمثاله أما إذا كانت بسبب اجلناايت كانت عقوابت‬
‫للمخالفات فًل وجه إلعًلهنا والتنويه هبا‪.‬‬
‫وتفسري القًلئد ابهلدااي ذوات القًلئد يدل على أهنا نوع من اهلدى السابق فكأنه قال ال حتلوا‬
‫اهلدى وخصوصا اهلدااي ذوات القًلئد وحيتمل أن يراد ابلقًلئد نفسها ويكون املراد النهى عن‬
‫سلبها وَتريد اهلدااي عنها فإن ذلك مما يعرض اهلدااي للضياع‪.‬‬
‫ت ا ْحلَر َام أي ال حتلوا قوما قاصدين إىل البيت احلرام لزايرته أبن تصدوهم‬
‫ني الْبَ ْي َ‬ ‫ِ‬
‫آم َ‬
‫وقوله ‪َ :‬وَال ه‬
‫عنه أبي وجه كان أبن تقاتلوهم أو تسلبوا أمواهلم أو تزعجوهم وتوفوهم‪.‬‬

‫ص ‪343 :‬‬
‫آمني أي ال تتعرضوا هلم‬ ‫ض ًًل ِم ْن َرههبِِ ْم َوِر ْ‬
‫ضواانً حال من الضمري املسكن يف ه‬ ‫وقوله ‪ :‬يَ ْب تَ غُو َن فَ ْ‬
‫حال كوهنم يطلبون من رهبم ثوااب ورضواان لتعبدهم يف بيته احلرام‪.‬‬
‫اّلل للتعبد فيه وحينئذ يكون التعرض لعنوان‬
‫ابآلمني املسلمني الذين يقصدون بيت ه‬
‫قيل املراد ه‬
‫الربوبية مع اإلضافة إىل ضمريهم للتشريف ‪ ،‬ويكون ابتغاء الفضل والرضوان ظاهرا ‪ ،‬وتكون‬
‫اآلية على هذا حمكمة ال نسخ فيها‪.‬‬
‫وقيل املراد ابآلمني املشركني ‪ ،‬ويؤيده ما قيل من أن اآلية نزلت يف احلطم بن ضبعة البكري ‪،‬‬
‫اّلل عليه‬
‫حني قدم املدينة خبيله وأصحابه ‪ ،‬ولكنه دخلها وحده حَّت كان بني يدي النيب صلهى ه‬
‫النيب عليه السًلم أبن أيِت مع أصحابه ليسلموا ‪ ،‬وانصرف‬
‫وسلهم ‪ ،‬ومسع منه ‪ ،‬مث قام وقد وعد ه‬
‫مر به وهرب ‪ ،‬فلما كان موسم احلج ‪ ،‬خرج احلطم‬
‫مع أصحابه ‪ ،‬فمر بسرح املدينة ‪ ،‬فاستاق ما ه‬
‫اّلل عليه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫حاجا يف حجاج بين بكر بن وائل ‪ ،‬ومعه َتارة عظيمة ‪ ،‬فسأل املسلمون ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬مث نزل قوله تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها‬
‫وسلهم أن أيذن هلم يف التعرض له فأىب النيب صلهى ه‬
‫يفسر ابتغاء الفضل بطلب الرزق ابلتجارة ‪ ،‬وابتغاء‬ ‫الا ِذين آمنُوا ال ُِحتلُّوا َشعائِر اِ‬
‫اّلل إخل‪ .‬وحينئذ ه‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬مث‬
‫احلج يقرهبم إىل ه‬
‫الرضوان أبهنهم كانوا يزعمون أهنم على سداد يف دينهم ‪ ،‬وأن ه‬
‫نسخت إابحة حجهم بعد ذلك‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬املراد ابآلمني ما يشمل املسلمني واملشركني فإهنم كانوا حيجون مجيعا ‪ ،‬مث نسخت إابحة‬
‫حج املشركني بقوله تعاىل ‪ :‬إِ امنَا الْم ْش ِرُكو َن َجنَس فًَل ي ْقربوا الْمس ِج َد ا ْحلرام ب ع َد ِ‬
‫عام ِه ْم هذا‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ٌ َ َُ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫اّللِ [التوبة ‪ ]17 :‬ويكون ابتغاء‬ ‫ني أَ ْن ي ْعمروا م ِ‬
‫ساج َد ا‬ ‫ْم ْش ِرك َ َ ُ ُ َ‬
‫[التوبة ‪ ]28 :‬وقوله ‪ :‬ما كا َن لِل ِ‬
‫ُ‬
‫الفضل والرضوان عاما للدنيوي واألخروي ولو يف زعم املشركني‪.‬‬
‫اّلل تعاىل املسلمني يف صدر هذه اآلية عن أمور مخسة ‪:‬‬
‫فقد هنى ه‬
‫حرمت ألجل اإلحرام من استعمال الطيب ‪،‬‬
‫منها ما ترغب النفوس يف التمتع به كاملباحات اليت ه‬
‫ولبس املخيط ‪ ،‬والقرب من النساء ‪ ،‬واصطياد الطيور واحليواانت‪.‬‬
‫ومنها ما ترغب فيه النفوس مبقتضى شهواهتا الغضبية كاالنتقام ممن عاداها ‪ ،‬وحال بينها وبني‬
‫رغباهتا‪.‬‬
‫اّلل تعاىل إىل أ هن هذه الرغبة‬
‫ومنها ما ترغب فيه النفوس الضعيفة كالتعرض للهدااي ‪ ،‬فأرشدهم ه‬
‫اصطادُوا أي إذا خرجتم‬ ‫اّلل تعاىل ‪ ،‬مث قال ‪َ :‬وإِذا َحلَلْتُ ْم فَ ْ‬
‫تغري شيئا من أحكام ه‬
‫مهما عظمت ال ه‬
‫حيل لكم أيضا كل ما كان مباحا قبل اإلحرام‪.‬‬
‫من اإلحرام أبيح لكم الصيد ‪ ،‬وابلطبع ه‬
‫وإمنا خص الصيد ابلذكر ألهنهم كانوا يرغبون فيه كثريا كبريهم وصغريهم وعظيمهم وحقريهم ‪،‬‬
‫ولإلشارة إىل أ هن الذي ينبغي احلرص عليه ما يعد قوات تندفع به‬

‫ص ‪ 344 :‬احلاجة فقط ‪ ،‬ال ما يكون من الكماليات ‪ ،‬وما يكون إرضاء لشهوة الغضب‪.‬‬
‫صدُّوُك ْم َع ِن ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام أَ ْن تَ ْعتَ ُدوا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َوال َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن قَ ْوم أَ ْن َ‬
‫جرم تتعدى إىل مفعول واحد ‪ ،‬كقولك جرم ذنبا ‪ ،‬وإىل مفعولني كما يف اآلية ‪ ،‬أي ال يكسبنكم‬
‫بغض قوم ألجل أهنم صدوكم عن املسجد احلرام عام احلديبية أن تعتدوا عليهم لًلنتقام منهم ‪،‬‬
‫وهذا هني عن إحًلل قوم من اآلمني خصوا به مع اندراجهم يف النهي عن إحًلل الكل ‪،‬‬
‫يتوهم أهنا مصححة إلحًلهلم ‪ ،‬وداعية إليه ‪..‬‬
‫الستقًلهلم أبمور رمبا ه‬
‫والشنآن مصدر أضيف إىل مفعوله ‪ ،‬وأن صدوكم متعلق ابلشنئان ‪ ،‬إبضمار الم العلة ‪ ،‬وإمنا قدم‬
‫ِ‬
‫ني لإلشارة إىل أ هن‬
‫آم َ‬
‫طادوا على هذه اجلملة مع تعلقها بقوله ‪َ :‬وَال ه‬
‫اص ُ‬‫قوله ‪َ :‬وإِذا َحلَلْتُ ْم فَ ْ‬
‫يصحح هلم التعدي على اآلمني بل جيب عدم التعرض هلم إىل أن خيرجوا‬
‫التحلل من اإلحرام ال ه‬
‫من هذه العبادة فإهنهم مل خيرجوا عن أهنم يبتغون فضًل من رهبم ورضواان ‪ ،‬فالواجب أن يذ هكر‬
‫اّلل ‪ ،‬وأن تتعاونوا على الرب وأعمال اخلري اليت منها‬
‫بعضكم بعضا بوجوب احملافظة على شعائر ه‬
‫اإلغضاء عن سيئات القوم احرتاما للمسجد احلرام ‪ ،‬وعلى التقوى أي تعاونوا على اتاذ وقاية‬
‫اإل ِْمث والْع ْدو ِ‬
‫ان أي ال‬ ‫عاونُوا َعلَى ِْ َ ُ‬
‫تقيكم من متابعة اهلوى ‪ ،‬والتمسك أبسباب العذاب األليم َوال تَ َ‬
‫اّلل ابالعتداء على القوم وهم يبتغون‬ ‫تتعاونوا على اجلرائم اليت أيمث فاعلها ‪ ،‬وعلى جماوزة حدود ه‬
‫اّللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬
‫قاب ملن ال‬ ‫اّللَ بفعل ما أمركم به ‪ ،‬واجتناب ما هناكم عنه إِ ان ا‬
‫فضًل من رهبم َواتا ُقوا ا‬
‫يتقيه ‪ ،‬وإظهار اسم اجلًللة هنا إلدخال الروعة وتربية املهابة يف القلوب‪.‬‬
‫اّللِ بِهِ َوال ُْمنْ َخنِ َقةُ‬
‫اخلِنْ ِزي ِر َوما أ ُِهلا لِغَ ِْري ا‬
‫ام َو َحلْ ُم ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم الْ َم ْي تَةُ َوالد ُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ُ :‬ح هِرَم ْ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َوأَ ْن‬‫ُّص ِ‬ ‫سبُ ُع إِاال ما ذَاك ْي تُ ْم َوما ذُبِ َح عَلَى الن ُ‬ ‫يحةُ َوما أَ َك َل ال ا‬ ‫َوال َْم ْوقُوذَةُ َوال ُْم َرتَ هديَةُ َوالناط َ‬
‫ش ْو ِن الْيَ ْو َم‬‫ش ْو ُه ْم َوا ْخ َ‬ ‫ين َك َف ُروا ِم ْن ِدينِ ُك ْم فًَل َتْ َ‬ ‫ِ‬
‫س الاذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫تَ ْستَ ْقس ُموا اب ْألَ ْزالم ذل ُك ْم ف ْس ٌق الْيَ ْو َم يَئ َ‬
‫ري‬ ‫ضطُار ِيف َخمْم ٍ‬ ‫ًلم ِديناً فَ َم ِن ا ْ‬ ‫يت لَ ُك ُم ِْ‬ ‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعم ِيت ور ِ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأَ َْتَ ْم ُ‬
‫صة غَ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫اإل ْس َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫أَ ْك َمل ُ‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫ُمتَجانِ ٍ‬
‫احملرمات اليت أشري إىل شيء منها بقوله ‪:‬‬ ‫يم (‪ )3‬شروع يف ذكر ه‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ف ِِإل ٍْمث فَِإ ان اَ ٌ‬
‫فحرم امليتة خلبث حلمها ببقاء بعض املواد الضارة يف جسمها‪ .‬وهي احليوان‬ ‫إِاال ما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم ه‬
‫الذي مات دون ذكاة شرعية ‪ ،‬فيحرم أكلها ابالتفاق ‪ ،‬وأما شعرها وعظمها فقال احلنفية ‪:‬‬
‫طاهران جيوز استعماهلما ‪ ،‬وقال الشافعية ‪ :‬جنسان ال جيوز استعماهلما ‪ ،‬وقد استثين من امليتة‬
‫احملرمة نوعان ‪ :‬السمك واجلراد عند اجلميع ‪ ،‬ويدل على هذا االستثناء ما ورد من‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬أحلت لنا ميتتان ودمان ‪،‬‬

‫ص ‪345 :‬‬
‫فامليتتان السمك واجلراد ‪ ،‬والدمان الكبد والطحال» ذكره الدارقطين «‪.»1‬‬
‫وحرم الدم أي املسفوح أي السائل من احليوان عند التذكية ‪ ،‬وأما الدم السائل من احليوان احلي‬
‫اّلل ‪ ،‬ألنه‬
‫فحرمه ه‬
‫فقليله وكثريه حرام ‪ ،‬وكانوا ميلؤون األمعاء من الدم ‪ ،‬ويشوونه ‪ ،‬وأيكلونه ‪ ،‬ه‬
‫قذر يضر األجسام‪.‬‬
‫خص اللحم ابلذكر ألنه املقصود األهم ‪،‬‬
‫وحرم حلم اخلنزير وكذلك شحمه وجلده ابتفاق ‪ ،‬وإمنا ه‬
‫وأما شعره فقال قوم جبواز استعماله يف اخلرز ‪ ،‬واحل هق أن إابحة استعماله كانت للضرورة ‪ ،‬وقد‬
‫اندفعت الضرورة ابخرتاع اآلالت واألدوات اليت تؤدي هذا املعىن بيسر‪.‬‬
‫اّلل بسببه أي عند‬
‫اّلل به ‪ ،‬أي حرم احليوان الذي أهل أي رفع الصوت لغري ه‬
‫وحرم ما أهل لغري ه‬
‫اّلل كقوله عند الذبح ‪ :‬ابسم املسيح ‪ ،‬أو ابسم فًلن ‪ ،‬أو‬
‫ذحبه ‪ ،‬سواء اقتصر على ذكر غري ه‬
‫اّلل واسم فًلن ‪ ،‬أما بدون العطف كقوله‬
‫اّلل وذكر غريه ابلعطف عليه كقوله ابسم ه‬
‫مجع بني ذكر ه‬
‫اّلل ‪ ،‬فقال احلنفية ‪ :‬حتل الذبيحة ‪ ،‬ويعترب‬
‫اّلل حممد رسول ه‬
‫اّلل ‪ ،‬أو ابسم ه‬
‫ابسم ا هّلل املسيح نيب ه‬
‫ذكر غريه كًلما مبتدأ ‪ ،‬ولكنه يكره الوصل صورة خبًلف العطف ‪ :‬فإنهه يكون نصا يف ذكر غري‬
‫اّلل‪.‬‬
‫ه‬
‫وحرم املنخنقة أي اليت خنقت أو اخننقت ابلشبكة أو بغريها حَّت ماتت‪.‬‬
‫وحرم املوقوذة أي اليت ضربت ابخلشب أو ابحلجر حَّت ماتت‪.‬‬
‫وحرم املرتدية أي اليت سقطت من علو إىل أسفل ‪ ،‬أو وقعت يف بئر فماتت‪.‬‬
‫وحرم النطيحة اليت نطحتها أخرى فماتت ابلنطح‪.‬‬
‫وحرم ما أكل السبع بعضه ومات جبرحه‪.‬‬
‫تذك ذكاة شرعية ‪ ،‬ومل يسل‬
‫وهذه اخلمسة أتخذ حكم امليتة اليت ماتت حتف أنفها ‪ ،‬ألهنا مل ه‬
‫دمها حبيث خيرج مجيعه منها ‪ ،‬مث قال ‪ :‬إِاال ما ذَ اك ْي تُ ْم أي إال ما أدركتموه حيا فذكيتموه‪.‬‬
‫وتفصيل الكًلم يف ذلك ‪ :‬أهنم اتفقوا على أن اخلنق وما معه إذا مل يبلغ ابحليوان إىل درجة اليأس‬
‫من حياته أبن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه احلالة كانت الذكاة حمللة له ‪ ،‬أما إذا غلب‬
‫على الظن أنه يهلك مبا حصل ‪ ،‬فقال قوم ‪ :‬تعمل فيه الذكاة ‪ ،‬وهو املشهور من مذهب‬
‫الشافعي ‪ ،‬واملنقول عن الزهري وابن عباس ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية ‪ ،‬فإهنم يقولون يف كتبهم ‪ :‬مَّت‬
‫كانت عينه تطرف ‪ ،‬أو ذنبه يتحرك ‪ ،‬أو رجله تركض ‪ ،‬مث ذ هكي فهو حًلل ‪ ،‬وقال قوم ‪ :‬ال‬
‫اّلل عنهم أمجعني‪.‬‬
‫تعمل فيه الذكاة ‪ ،‬وروي الوجهان عن اإلمام مالك رضي ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪.)97 /2‬‬

‫ص ‪346 :‬‬
‫ومنشأ اخلًلف يف أن الذكاة تعمل أو ال تعمل اختًلفهم يف أن االستثناء متصل أو منقطع ‪ ،‬فمن‬
‫رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من اجلنس بعض ما تناوله اللفظ ‪ ،‬فما قبل كلمة االستثناء حرام ‪،‬‬
‫وما بعدها خرج منه ‪ ،‬فيكون حًلال ‪ ،‬ومن رأى أنه منقطع يرى أنه ال أتثري لًلستثناء يف اجلملة‬
‫املتقدمة ‪ ،‬وكأنه قال ما ذكيتموه من غري احليواانت املتقدمة فهو حًلل تتمتعون به كما تشاؤون‪.‬‬
‫ويؤيد القول أبن االستثناء متصل إمجاع العلماء على أن الذكاة حتلهل ما يغلب على الظن أنه‬
‫يعيش ‪ ،‬فيكون خمرجا لبعض ما يتناوله املستثىن منه فيكون االستثناء فيه متصًل‪.‬‬
‫واحتج من قال ‪ :‬إن االستثناء منقطع أبن التحرمي إمنا يتعلق هبذه احليواانت بعد املوت وهي بعد‬
‫املوت ال تذكى ‪ ،‬فيكون االستثناء منقطعا ‪ ،‬وأجيب عن ذلك أبن االستثناء متصل ابعتبار ظاهر‬
‫احلال ‪ ،‬فإن ظاهر هذه احليواانت أهنا َتوت مبا أصيبت به ‪ ،‬فتكون حراما حبسب الظاهر إال ما‬
‫أدرك حيا وذ هكي ‪ ،‬فإنه يكون حًلال ‪ ،‬والتحرمي وإن كان ال يتعلق هبا حقيقة إال بعد املوت كما‬
‫يقولون ‪ ،‬إال أن اتصال االستثناء يكفي فيه هذا الظاهر ‪ ،‬خصوصا إذا لوحظ أهنا إذا ذكيت‬
‫وهي حية كانت مساوية لغريها من بقية احليواانت املذكاة ‪ ،‬فًل وجه للقول بعدم حلها‪.‬‬
‫واالستثناء املتصل على ما تقدم يرجع إىل األصناف اخلمسة من املنخنقة وما بعدها ‪ ،‬وهو قول‬
‫سبُ ُع واألول هو الظاهر‪.‬‬
‫علي وابن عباس واحلسن ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه خاص بقوله ‪َ :‬وما أَ َك َل ال ا‬
‫ب ‪ :‬مجع نصاب كحمار ومحر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مجع نصب بفتح وسكون ‪،‬‬ ‫وحرم َوما ذُبِ َح َعلَى الن ُ‬
‫ُّص ِ‬
‫كل فهي حجارة كانوا‬
‫كسقف وسقف ‪ ،‬وقيل مفرد ‪ ،‬ومجعه أنصاب ‪ ،‬كطنب وأطناب ‪ ،‬وعلى ه‬
‫يتقربون هبا إىل معبوداهتم عليها ‪ ،‬ويعظهموهنا ‪،‬‬
‫ينصبوهنا حول الكعبة ‪ ،‬ويذحبون قرابينهم اليت ه‬
‫ويعتربون الذبح آلهلتهم قربة ‪ ،‬وكون الذبح على النصب قربة أخرى ‪ ،‬وهلذا كانوا يلطهخون‬
‫النصب بدم الذابئح ‪ ،‬كأهنم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة‪.‬‬
‫وليست النصب هي األواثن ‪ ،‬فإهنا حجارة غري منقوشة ‪ ،‬خبًلف األواثن فإهنها حجارة منقوشة‪.‬‬
‫وحرم االستقسام ابألزالم أي حماولة معرفة ما قسم وقدر يف األمر من اخلري أو الشر ابألزالم ‪،‬‬
‫مجع زمل بفتحتني ‪ ،‬وهو السهم قبل أن يتصل ويراش ‪ ،‬وهي سهام ثًلثة ‪ ،‬كتب على أحدها أمرين‬
‫ريب ‪ ،‬وعلى الثاين هناين ريب ‪ ،‬ومل يكتب على الثالث شي ء ‪ ،‬فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو‬
‫َتارة أو نكاحا أو غري ذلك يعمد إىل هذه‬

‫ص ‪347 :‬‬
‫السهام ‪ ،‬وكانت موضوعة يف حقيبة حول الكعبة ‪ ،‬فيخرج منها واحدا فإن خرج اآلمر مضى‬
‫حلاجته ‪ ،‬وإن خرج الناهي أمسك ‪ ،‬وإن خرج الغفل أعاد التناول ‪ ،‬ومسيت هذه السهام أزالما‬
‫سويت ‪ ،‬فلم يكن نتوء أو اخنفاض ‪ ،‬وإمنا ذكر هذا النوع هنا مع‬
‫أل ههنا زملت بضم فكسر ‪ ،‬أي ه‬
‫أنه ليس من املطعوم ‪ ،‬ألنه ملا كان يعمل حول الكعبة ذكر جبانب ما ذبح على النصب اليت حول‬
‫الكعبة‪.‬‬
‫مث قوله تعاىل ‪ :‬ذلِ ُك ْم فِ ْس ٌق حيتمل أن يكون راجعا إىل كل ما تقدم ‪ ،‬أي أ هن التلبس مبا تقدم ذكره‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وحيتمل أن يكون راجعا إىل االستقسام ابألزالم ‪ ،‬واملعىن أهنهم‬
‫َترد وخروج على أحكام ه‬
‫ه‬
‫فسقوا وخرجوا عن احلد ابالستقسام ابألزالم ‪ ،‬ألهنهم إن أرادوا ابلرب يف قوهلم ‪ :‬أمرين وهناين ريب‬
‫اّلل ‪ ،‬وافرتوا عليه ‪ ،‬وإن أرادوا األصنام كان ذلك شركا‬
‫اّلل تعاىل كانوا قد كذبوا على ه‬
‫جانب ه‬
‫كل فقد فسقوا وَتردوا ‪ ،‬وخرجوا عن احلد‪.‬‬
‫وجهالة ‪ ،‬وعلى ه‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن االستقسام ابألزالم مل خيرج عن أنه من مجلة الفأل ‪ ،‬وكان عليه السًلم حيب الفأل‬
‫«‪ »1‬فلم صار فسقا؟‬
‫أجيب ابلفرق بني الفأل وبني االستقسام ابألزالم ‪ ،‬فإ هن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس‬
‫وتنشرح للعمل مع رجاء اخلري منه ‪ ،‬خبًلف االستقسام ابألزالم فإ هن القوم كانوا يعملون ابألزالم‬
‫عند األصنام ‪ ،‬ويعتقدون أن ما خيرج من األمر والنهي على تلك األزالم إبرشاد األصنام وإعانتها‬
‫‪ ،‬فلهذا كان االستقسام هبا فسقا وكفرا‪.‬‬
‫اّلل تعاىل املؤمنني من تعاطي احملرمات اليت ذكرها حرضهم على التمسك مبا شرعه هلم ‪،‬‬ ‫وملا ح هذر ه‬
‫س‬ ‫ِ‬
‫ويريب فيهم الشجاعة والشهامة فقال ‪ :‬الْيَ ْو َم يَئ َ‬
‫يقوي عزميتهم ه‬
‫وثبته يف قلوهبم ‪ ،‬وبشرهم مبا ه‬
‫ش ْو ُه ْم أي ال تافوا من أن‬ ‫ين َك َف ُروا ِم ْن ِدينِ ُك ْم أي من إبطال دينكم وغلبتكم عليه فًَل َتْ َ‬ ‫ِ‬
‫الاذ َ‬
‫اّلل تعاىل فقط ‪ ،‬أي استمروا على خشيته ‪ ،‬واإلخًلص له‪.‬‬ ‫يظهروا عليكم ‪ ،‬واخشوا جانب ه‬
‫واملراد ابليوم الزمان احلاضر ‪ ،‬وما يتصل به من املاضي واآلِت‪ .‬وقيل املراد يوم نزول هذه اآلية ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم واقف بعرفات على‬
‫وهو يوم عرفة بعد العصر يف حجة الوداع ‪ ،‬والنيب صلهى ه‬
‫انقته العضباء‪.‬‬
‫ًلم ِديناً ليس املراد إبكمال‬ ‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫اإل ْس َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأََْتَ ْم ُ‬
‫ت عَلَيْ ُكم نِ ْعم ِيت ور ِ‬ ‫الْيَ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫الدين أنه كان انقصا قبل اليوم مث أكمله ‪ ،‬وإمنا املراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتا يف‬
‫اّلل ‪ ،‬قابًل للنسخ ‪ ،‬ولكنها اليوم قد كملت ‪ ،‬وصارت مؤبهدة صاحلة لكل زمان ومكان ‪،‬‬
‫علم ه‬
‫واملراد إبكماله إَتامه يف نفسه ويف ظهوره ‪ ،‬أما إَتامه يف نفسه فكان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪.)332 /2‬‬

‫ص ‪348 :‬‬
‫ابشتماله على الفرائض املقدسة ‪ ،‬واحلًلل واحلرام ابلتنصيص على أصول العقائد ‪ ،‬والتوقيف‬
‫اّلل أَح ٌد (‪[ )1‬اإلخًلص ‪ ]1 :‬ل َْيس َك ِمثْلِهِ‬
‫َ‬ ‫على أساس التشريع وقوانني االجتهاد ‪ ،‬حنو ‪ :‬قُ ْل ُه َو اُ َ‬
‫ض [سبأ ‪:‬‬ ‫س ِ‬
‫ماوات َوال ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ب َع ْنهُ ِمثْ ُ‬
‫قال ذَ ارةٍ ِيف ال ا‬ ‫ب ال يَ ْع ُز ُ‬‫عامل الْغَْي ِ‬
‫َشيءٌ [الشورى ‪ِ ]11 :‬‬
‫ْ‬
‫سان [النحل ‪ ]90 :‬وأَوفُوا بِع ْه ِد اِ‬ ‫اإل ْح ِ‬‫اّللَ َأي ُْم ُر ِابل َْع ْد ِل َو ِْ‬
‫عاه ْد ُْمت [النحل ‪:‬‬‫اّلل إِذا َ‬ ‫َْ َ‬ ‫‪ ]3‬وحنو إِ ان ا‬
‫‪َ ]91‬وشا ِو ْر ُه ْم ِيف ْاأل َْم ِر [آل عمران ‪ ]159 :‬وحنو َو َجزاءُ َسيهِئَةٍ َسيهِئَةٌ ِمثْ لُها [الشورى ‪.]40 :‬‬
‫اإل ِْمث والْع ْدو ِ‬
‫ان‪.‬‬ ‫عاونُوا َعلَى ِْ َ ُ‬ ‫رب َوالتا ْقوى َوال تَ َ‬ ‫عاونُوا َعلَى الِْ ِه‬
‫َوتَ َ‬
‫وأما إَتامه يف ظهوره فكان إبعًلء كلمته ‪ ،‬وغلبته على األداين كلها ‪ ،‬وموافقته للمصاحل العامة ‪،‬‬
‫حَّت إ هن كثريا ممن مل يعتنقوا الدين اإلسًلمي يقتبسون منه ما يصلح أحواهلم ‪ ،‬ويعني على ضبط‬
‫أمورهم ‪ ،‬وتدبري شؤوهنم‪.‬‬
‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم يف نفي القياس ‪ ،‬وبطًلن العمل به ‪،‬‬
‫َتسك بعضهم بقوله تعاىل ‪ :‬الْيَ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫وقد ه‬
‫يبني‬
‫نص على أحكام مجيع الوقائع ‪ ،‬إذ لو بقي بعض مل ه‬
‫أل هن إكمال الدين يقتضي أنه تعاىل ه‬
‫حكمه مل يكن ال هدين كامًل‪.‬‬
‫اّلل تعاىل قد أابن الطريق جلميع األحكام ‪،‬‬
‫وأجيب أب هن غاية ما يقتضيه كمال الدين أن يكون ه‬
‫اّلل ابلقياس ‪ ،‬وتعبهد املكلفني به يف مثل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫وقد أمر ه‬
‫ُويل ْاألَبْصا ِر [احلشر ‪ ]2 :‬فكان هذا مع النصوص الصرحية بياان ه‬
‫لكل أحكام الوقائع‬ ‫فَا ْعتَِربُوا اي أ ِ‬
‫اّلل تعاىل إىل‬
‫اّلل تعاىل على حكمه وقسم أرشد ه‬
‫غاية األمر أ هن الوقائع صارت قسمني ‪ :‬قسم نص ه‬
‫أنهه ميكن استنباط احلكم فيه من القسم األول ‪ ،‬فلم تصلح اآلية متمسكا هلم‪.‬‬
‫اّلل عليكم من دخول مكة آمنني‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َم ِيت ابإلكمال يف الدين والشريعة مبا فتح ه‬
‫َوأَ َْتَ ْم ُ‬
‫ًلم ِديناً أي اخرتته لكم دينا ‪ ،‬أتَترون‬ ‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫اإل ْس َ‬ ‫ض ُ‬‫مطمئنني ‪ ،‬ومن انقياد الناس لكم ور ِ‬
‫ََ‬
‫أبوامره ‪ ،‬وتنتهون بنواهيه ‪ ،‬حبيث ال أقبل منكم غريه كما قال تعاىل ‪:‬‬
‫ًلم ِديناً فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِم ْنهُ [آل عمران ‪.]85 :‬‬
‫اإل ْس ِ‬
‫ري ِْ‬
‫َوَم ْن يَ ْب تَ ِغ غَ ْ َ‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫صةٍ غَ ْري ُمتَجانِ ٍ‬
‫يم املخمصة اجملاعة قال أهل اللغة ‪:‬‬ ‫ف ِِإل ٍْمث فَِإ ان اَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ضطُار ِيف َخمْ َم َ َ‬ ‫فَ َم ِن ا ْ‬
‫اخلمص واملخمصة خلو البطن من الطعام عند اجلوع ‪ ،‬وأصله من اخلمص الذي هو ضمور‬
‫احملرمات ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫البطن ‪ ،‬وهذه اجلملة متصلة بذكر ه‬
‫ذلِ ُك ْم فِ ْس ٌق إىل قوله ‪ِ :‬ديناً اعرتاض أ هكد به معىن التحرمي ‪ ،‬فإ هن منع الناس عن هذه اخلبائث من‬
‫اّلل تعاىل فَ َم ِن‬
‫مجلة الدين الكامل ‪ ،‬والنعمة التامة ‪ ،‬واإلسًلم الذي هو الدين املرضي عند ه‬
‫ري‬ ‫ضطُار أجلأه االضطرار وأصابه الضر ِيف َخمْم ٍ‬
‫صة أي جماعة ‪ ،‬فتناول من احملرمات شيئا غَ ْ َ‬‫َ َ‬ ‫اْ‬
‫ُمتَجانِ ٍ‬
‫ف ِِإل ٍْمث أي غري مائل إلمث ‪ ،‬وغري‬

‫ص ‪349 :‬‬
‫راغب يف التمتع مبا يوجب اإلمث ‪ ،‬مبعىن أنه يتناول منها ليدفع الضرورة ال للتلذذ ‪ ،‬وال يتجاوز‬
‫ٍِ ِ‬
‫ري ُمتَجانف ِإل ٍْمث مبنزلة قوله يف سورة البقرة ‪ :‬غَ ْ َ‬
‫ري اب ٍغ َوال‬ ‫احلد الذي يس هد الرمق فقوله هنا ‪ :‬غَ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يم بعباده‬‫ور يغفر هلم تناول ما كان حمرما إذا اضطروا إليه َرح ٌ‬ ‫عاد [البقرة ‪ ]173 :‬فَِإ ان ا اّللَ غَ ُف ٌ‬
‫حمرما‪.‬‬
‫حيث أحسن إليهم إبابحة ما يدفع عنهم الضرر ولو كان ه‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت ‪:‬‬
‫‪ - 1‬حرمة امليتة وما ذكر معها يف اآلية‪.‬‬
‫حل البهيمة املذكاة من املنخنقة وما معها مَّت ذ هكيت وهبا حياة‪.‬‬
‫‪ -2‬ه‬
‫‪ - 3‬إابحة هذه احملرمات عند االضطرار إليها لدفع الضرر‪.‬‬
‫‪ - 4‬أ هن حل التناول من هذه احملرمات مقيهد أبمرين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن يقصد ابلتناول دفع الضرر فقط‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أن ال يتجاوز ما يس هد الرمق ‪ ،‬أما إذا قصد التلذذ وإرضاء الشهوة ‪ ،‬أو َتاوز املقدار‬
‫الذي يدفع الضرر ‪ ،‬كان واقعا يف احملرم على خًلف يف ذلك تقدم تفصيله يف سورة البقرة‪.‬‬
‫ت وما َعلامتُم ِمن ا ْجلوار ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِح ُم َكلهبِ َ‬
‫ني‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ك ما ذا أُح ال َهلُ ْم قُ ْل أُح ال لَ ُك ُم الطايهِبا ُ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ه‬
‫اّللِ َعلَْيهِ َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ إِ ان ا‬ ‫ِ‬ ‫تُ َعلِه ُمو َهنُ ان ِمماا َعلا َم ُك ُم ا‬
‫اّللَ َس ِر ُ‬
‫يع‬ ‫اس َم ا‬
‫ْن َعلَْي ُك ْم َواذْ ُك ُروا ْ‬
‫سك َ‬ ‫اّللُ فَ ُكلُوا مماا أ َْم َ‬
‫ساب (‪ )4‬كلمة (ماذا) جيوز أن َتعل امساء واحدا لًلستفهام يف حمل رفع ابالبتداء ومجلة‬ ‫ا ْحلِ ِ‬
‫(أحل لكم) خرب‪.‬‬
‫ه‬
‫(أحل لكم)‬
‫وجيوز أن َتعل (ما) وحدها اسم استفهام مبتدأ ولفظ (ذا) مبعىن الذي خرب ‪ ،‬ومجلة ه‬
‫وضمن السؤال معىن القول ‪ ،‬فصح أن ينصب اجلملة يف قوله (ماذا أحل هلم)‪.‬‬
‫صلة (لذا) ه‬
‫والطيبات مجع طيب ‪ ،‬وهو يف اللغة املستل هذ ‪ ،‬ويسمى احلًلل املأذون فيه طيهبا تشبيها له مبا هو‬
‫ولكن املراد به هنا املستلذ ال احلًلل ‪ ،‬ألنهه ال معىن‬
‫املضرة ‪ ،‬ه‬
‫مستل هذ ‪ ،‬ألهنما اجتمعا يف انتفاء ه‬
‫ألن يقولوا ‪ :‬ماذا أحل هلم؟ فيقال ‪ :‬أحل لكم احلًلل ‪ ،‬فإنهه غري مفيد‪.‬‬
‫واجلوارح ‪ ،‬مجع جارحة ‪ ،‬وهي الكواسب من الطيور والسباع ‪ ،‬من (جرح) إذا كسب كما قال‬
‫سيهِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ئات‬ ‫اج َرتَ ُحوا ال ا‬ ‫تعاىل ‪َ :‬ويَ ْعلَ ُم ما َج َر ْحتُ ْم ِابلناها ِر [األنعام ‪ ]60 :‬أي كسبتم وقال ‪ :‬الاذ َ‬
‫ين ْ‬
‫[اجلاثية ‪ ]21 :‬أي اكتسبوا‪.‬‬

‫ص ‪350 :‬‬
‫واملكلبون مجع مكلهب ‪ ،‬وهو الذي يؤ هدب الكًلب وغريها ‪ ،‬ويعلمها أن تصيد ألصحاهبا ‪ ،‬وإمنا‬
‫اشتق االسم من الكلب مع أنه يعلهم الكًلب والبزاة وغريها ‪ ،‬أل هن التأديب أكثر ما يكون يف‬
‫فكل ما يصاد به من السبع والكلب والصقر والبازي حيل أكل صيوده ‪ ،‬وإن مل تدرك‬
‫الكًلب ‪ ،‬ه‬
‫َتسكا بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ذكاهتا ‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ال حيل إال ما صاده الكًلب ه‬
‫ِ‬
‫ُم َكلهبِ َ‬
‫ني‪.‬‬
‫ِح فإنه يشمل الكًلب وغريها ‪ ،‬غاية‬ ‫وَتسك اجلمهور بعموم قوله تعاىل ‪َ :‬وما َعلا ْمتُ ْم ِم َن ا ْجلَوار ِ‬
‫ِ‬
‫ني وقد علمت النكتة مما تقدم على أ هن كل سبع قد‬ ‫األمر أنه حيتاج إىل نكتة للتعبري بقوله ‪ُ :‬م َكلهبِ َ‬
‫يسمى كلبا ‪ ،‬كما‬
‫ه‬
‫ورد أنه عليه الصًلة والسًلم قال يف ابن أيب هلب «اللهم سلهط عليه كلبا من كًلبك» «‪»1‬‬
‫فأكله األسد يف طريقه إىل الشام‪.‬‬
‫حرمه عليهم من خبيثات‬
‫هذه اآلية وردت لذكر احمللًلت بعد ذكر احملرمات ‪ ،‬كأنه ملا تًل هلم ما ه‬
‫أحل هلم فنزلت اآلية ‪ ،‬وروي أنه قدم عدي بن حامت ‪ ،‬وزيد بن املهلهل‬
‫املآكل ‪ ،‬سألوا عما ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وقاال ‪ :‬إان قوم نصيد ابلكًلب والبزاة فما حيل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫الطائيان على رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أن أقتل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فنزلت اآلية‪ .‬وروي أيضا عن أيب رافع أنه قال أمرين رسول ه‬
‫اّلل ما الذي أحل لنا من هذه األمة اليت أمرت بقتلها؟ فنزلت‬
‫الكًلب‪ .‬فقال الناس ‪ :‬اي رسول ه‬
‫«‪.»2‬‬
‫أحل لنا ‪ ،‬فقل هلم ابلنسبة‬
‫واملعىن ‪ :‬يقول لك قومك مع تع هدد فرقهم واختًلف مقاصدهم ‪ :‬ماذا ه‬
‫للطائفة األوىل ‪ :‬أحل لكم الطيبات ‪ ،‬أي كل ما يستلذ وتشتهيه النفوس املعتدلة ‪ ،‬فاملراد‬
‫االستطابة عند أهل املروءة والرزانة واألخًلق اجلميلة اهلادئة ‪ ،‬ال ما يعم ممن سقطت مروءهتم‬
‫وقست قلوهبم ‪ ،‬وَتردوا يف أفكارهم ‪ ،‬فإ هن أهل البادية ومن سقطت مروءهتم يستطيبون أكل‬
‫مجيع احليواانت ‪ ،‬فًل عربة هبم ‪ ،‬والذي يستطاب عند أهل املروءة حًلل مَّت اقرتن بشرطه ‪،‬‬
‫اّلل عليه ‪ ،‬ولو زعم بعض الناس حترميه كالبحرية والسائبة والوصيلة واحلام‬
‫كالذكاة وذكر اسم ه‬
‫فهي مما يستطاب وحيل‪.‬‬
‫وقل هلم ابلنسبة للطائفتني الثانية والثالثة ‪ :‬أحل لكم ما علهمتم من اجلوارح ‪ ،‬واحلل هنا يتعلق‬
‫ابحليواانت املعلهمة نفسها أي حيل لكم اقتناؤها ‪ ،‬وبيعها ‪ ،‬وهبتها يؤيد ذلك رواية أيب رافع ‪،‬‬
‫لكن يستثىن من احلل أكلها ‪ ،‬فإ هن الدليل ورد بتحرميه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ْن َعلَْي ُك ْم ورواية عدي بن حامت‬ ‫ويتعلق أيضا بصيودها ‪ ،‬يؤيد ذلك قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوا مماا أ َْم َ‬
‫سك َ‬
‫وزيد بن املهلهل املتقدمة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه احلاكم يف املستدرك على الصحيحني (‪.)539 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)57 /6‬‬

‫ص ‪351 :‬‬
‫وقوله ‪( :‬مكلهبني) حال من فاعل علهمتم ‪ ،‬أي وما علمتم من اجلوارح حال كونكم معلمني‬
‫ومؤدبني‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬تُ َعلِه ُمو َهنُ ان حال من فاعل علمتم ‪ ،‬أو من الضمري يف (مكلهبني) أي وحال كونكم‬
‫اّلل ‪ ،‬فًل بد من أمور ثًلث‪.‬‬
‫تعلموهنن مما علمكم ه‬
‫أن تكون اجلوارح معلمة‪.‬‬
‫مدراب فيه‪.‬‬
‫وأن يكون من يعلمها ماهرا يف التعليم ه‬
‫اّلل أبن تقصد الصيد إبرسال صاحبها ‪ ،‬وأن تنزجر بزجره ‪ ،‬وأن‬
‫وأن يعلم اجلوارح مما علمه ه‬
‫ميسك الصيد‪.‬‬
‫وال أيكل منه إذا كان كلبا وحنوه ‪ ،‬وأن يعود إىل صاحبه مَّت دعاه إذا كان مثل البازي ‪ ،‬فإ هن‬
‫الفقهاء يقولون ‪ :‬يعرف تعليم الكلب برتك األكل ثًلاث‪ .‬ويعرف تعليم البازي ابلرجوع إىل صاحبه‬
‫إذا دعاه‪ .‬وبيهنوا الفرق أب هن تعليم احليوان يكون برتك ما أيلفه ويعتاده ‪ ،‬وعادة الكلب السلب‬
‫والنهب ‪ ،‬فإذا ترك األكل ثًلاث عرف أنهه تعلم ‪ ،‬وعادة البازي النفرة فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه‬
‫عرف أنهه تعلهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ْن َعلَْي ُك ْم يقال أمسك الكلب على صاحبه إذا أمسك الصيد ومل أيكل منه ‪ ،‬أما‬ ‫فَ ُكلُوا مماا أ َْم َ‬
‫سك َ‬
‫إذا أكل منه فإنه مل ميسك على صاحبه ‪ ،‬وكلمة (من) يف قوله ‪( :‬مما أمسكن) حيتمل أن تكون‬
‫بيانية أي فكلوا الصيد ‪ ،‬وهو ما أمسكن عليكم ‪ ،‬واملراد ما جرحه الكلب مثًل ومات من جرحه‬
‫‪ ،‬أو أدركه الصائد حيها وذ هكاه‪ .‬وحيتمل أن تكون (من) للتبعيض أي كلوا بعض ما أمسكن عليكم‬
‫‪ ،‬وهو ما جرحه ومات من جرحه ‪ ،‬أو أدركه الصائد حيا وذكاه ال ما جرحه ومل ميت من جرحه‬
‫ولكنه افرتسه سبع فمات منه ‪ ،‬وعلى هذا تكون البعضية يف اجلزئيات ‪ ،‬وجيوز أن تكون البعضية‬
‫يف األجزاء ابعتبار أن املأكول هو البعض وهو اللحم دون اجللد والريش والدم والعظم‪.‬‬
‫اّللِ َعلَْيهِ أي على الكلب مثًل عند إرساله ‪ ،‬فيكون الضمري عائدا إىل ما علمتم ‪،‬‬
‫اس َم ا‬
‫َواذْ ُك ُروا ْ‬
‫اّلل على الصيد عند اإلمساك أي إذا أدركتم ذكاته فيكون الضمري عائدا إىل ما‬ ‫أو اذكروا اسم ه‬
‫أمسكن‪.‬‬
‫َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ أي احذروا خمالفة أمره فيما أرشدكم إليه ‪ ،‬واتذوا وقاية من عذابه ابمتثال ما أمر به ‪،‬‬
‫واجتناب ما هنى عنه‪.‬‬
‫يع ا ْحلِ ِ‬
‫ساب حياسبكم على ما تعملون من غري توان وال إمهال ‪ ،‬وملا ذكر فيما سبق‬ ‫إِ ان ا‬
‫اّللَ َس ِر ُ‬
‫شيئا من احملرمات واحمللًلت انسب هنا ذكر احلساب كأنهه يقول بعد بيان احلًلل واحلرام وما‬
‫يرضيه وما يغضبه ‪ :‬ينبغي التنبه إىل أنه تعاىل سيحاسب العاملني على أعماهلم من غري توان مَّت‬
‫جاء يوم احلساب‪.‬‬

‫ص ‪352 :‬‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت ‪:‬‬
‫‪ - 1‬إابحة الطيبات أي املطعومات اليت تستطيبها النفوس الكرمية دون اخلبائث اليت أرشدت‬
‫الشريعة إىل حترميها‪.‬‬
‫‪ - 2‬إابحة الصيد ابجلوارح بشرط كوهنا معلمة ‪ ،‬وكون معلمها مؤداب (بكسر الدال) ماهرا ‪،‬‬
‫دونه الفقهاء وفصلوه تفصيًل‪.‬‬
‫اّلل مما ه‬
‫وكونه يعلمها مما علمه ه‬
‫ِ‬
‫ْن‬ ‫‪ - 3‬إابحة ما جرحته اجلوارح وقتلته وأدركه الصائد ميتا إلطًلق قوله ‪ :‬فَ ُكلُوا مماا أ َْم َ‬
‫سك َ‬
‫عَلَيْ ُك ْم‪.‬‬
‫اّلل عند اإلرسال كما‬
‫‪ - 4‬وجوب ذكر ه‬
‫اّلل فكل» «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إذا أرسلت كلبك املعلهم وذكرت اسم ه‬
‫ورد من قوله صلهى ه‬
‫أما عند إدراكه حيها فتجب التسمية عند ذكاته على خًلف يف ذلك‪.‬‬
‫عام ُك ْم ِحلٌّ َهلُ ْم‬
‫تاب حلٌّ لَ ُك ْم َوطَ ُ‬
‫ت وطَعام الا ِذين أُوتُوا الْكِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬الْيَ ْو َم أُحلا لَ ُك ُم الطايهِبا ُ َ ُ َ‬‫قال ه‬
‫ت ِمن الا ِذين أُوتُوا الْكِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫والْمحصنا ُ ِ‬
‫تاب م ْن قَ ْبل ُك ْم إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫وه ان‬ ‫َ‬ ‫صنا ُ َ َ‬ ‫ت م َن ال ُْم ْؤمنات َوال ُْم ْح َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ط َع َملُهُ َو ُه َو ِيف‬ ‫دان ومن ي ْك ُفر ِاب ِْإل ِ‬
‫ميان فَ َق ْد َحبِ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ري ُمسافِ ِح َ‬ ‫صنِ َ‬
‫أُجور ُه ان ُْحم ِ‬
‫ني َوال ُمتاخذي أَ ْخ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ني غَ ْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫ْاآل ِخرةِ ِمن ْ ِ‬
‫ين (‪ )5‬طعام الذين أوتوا الكتاب هو الذابئح ‪ ،‬وقيل ‪ :‬اخلبز والفاكهة ‪ ،‬وقيل‬ ‫اخلاس ِر َ‬ ‫َ َ‬
‫املعول عليه األول ‪ ،‬واحملصنات مجع حمصنة ‪ ،‬وهي احلرة‪.‬‬ ‫‪ :‬مجيع املطعومات ‪ ،‬و ه‬
‫وعرب عنه ابألجر للداللة على أ هن عني‬
‫وقيل ‪ :‬العفيفة ‪ ،‬واألجور مجع أجر ‪ ،‬واملراد به املهر ‪ ،‬ه‬
‫احملصنة ال َتلك ابملهر‪.‬‬
‫حمصنني بكسر الصاد أي متعففني ابلزواج ‪ ،‬يقال أحصن الرجل فهو حمصن ‪ ،‬أي تعفف فهو‬
‫متعفف ‪ ،‬وأحصن الزواج الرجل حمصن بفتح الصاد ‪ ،‬أي أع هفه الزواج ‪ ،‬فهو معف بفتح العني‪.‬‬
‫حتري األسرار‬
‫مسافحني ‪ :‬مجع مسافح ‪ ،‬يقال ‪ :‬سافح الرجل املرأة إذا جامعها يف الزىن من غري ه‬
‫‪ ،‬ومسي مسافحا ألنه سفح ماءه ‪ ،‬أي صبهه ضائعا‪.‬‬
‫واألخدان ‪ :‬مجع خدن بكسر اخلاء وسكون الدال ‪ ،‬وهو الصديق ‪ ،‬يطلق على الذكر واألنثى ‪،‬‬
‫سرا‪.‬‬
‫البغي اليت خيادهنا الرجل ‪ ،‬أي يصادقها ليفجر هبا وحده ه‬
‫واملراد ابخلدن هنا ه‬
‫أحل الطيبات ‪ ،‬وكان املقصود بيان احلكم‬
‫اّلل تعاىل يف اآلية السابقة أبنهه ه‬
‫أخرب ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )271 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 2 ،‬ابب صيد املعراض‬
‫حديث رقم (‪ ، )5476‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1529 /3‬كتاب الصيد ‪ - 1 ،‬ابب‬
‫الصيد ابلكًلب حديث رقم (‪.)1929 /1‬‬

‫ص ‪353 :‬‬
‫واإلخبار ‪ ،‬وأعاده يف هذه اآلية للداللة على أنهه تعاىل كما أكمل الدين وأمته النعمة فيه أكمل‬
‫النعمة فيما يتعلق ابلدنيا اليت منها إحًلل الطيبات ‪ ،‬وطعام أهل الكتاب ‪ ،‬واحملصنات املؤمنات‬
‫‪ ،‬واحملصنات الكتابيات‪.‬‬
‫واملراد ابلطيبات ما يستطاب ويشتهى عند أهل النفوس الكرمية‪.‬‬
‫واملراد بطعام أهل الكتاب ذابئحهم عند اجلمهور ‪ ،‬وهو الراجح ‪ ،‬ال اخلبز والفاكهة ‪ ،‬وال مجيع‬
‫املطعومات ‪ ،‬أل هن الذابئح هي اليت تصري طعاما بفعلهم ‪ ،‬وأما اخلبز والفاكهة واملطعومات فهي‬
‫مباحة للمؤمنني قبل أن تكون ألهل الكتاب ‪ ،‬وبعد أن تكون هلم فًل وجه لتخصيصها أبهل‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وخص هذا احلكم أبهل الكتاب أل هن اجملوس ال حيل أكل ذابئحهم ‪ ،‬وال التزوج بنسائهم ‪ ،‬وإمنا‬ ‫ه‬
‫عام ُك ْم ِحلٌّ َهلُ ْم أي حيل لكم أن تطعموهم من طعامكم ‪ ،‬للتنبيه على أ هن احلكم خمتلف‬
‫قال ‪َ :‬وطَ ُ‬
‫يف الذابئح واملناكحة ‪ ،‬فإ هن إابحة الذابئح حاصلة من اجلانبني ‪ ،‬خبًلف إابحة املناكحات‪ .‬فإهنا‬
‫يف جانب واحد ‪ ،‬والفرق واضح ‪ ،‬ألنهه لو أبيح ألهل الكتاب التزوج ابملسلمات ‪ ،‬لكان‬
‫واّلل تعاىل مل جيعل للكافرين على املؤمنني سبيًل شرعيا ‪،‬‬
‫ألزواجهن الكفار والية شرعية عليهن ‪ ،‬ه‬
‫خبًلف إابحة الطعام من اجلانبني فإهنا ال تستلزم حمظورا‪.‬‬
‫وأحل لكم احملصنات املؤمنات أي احلرائر أو العفائف ‪ ،‬أو املراد املصوانت ‪ ،‬فيعم احلرائر‬
‫والعفيفات ‪ ،‬وتصيصهن ابلذكر للحث على ما هو األوىل يف عقدة النكاح ‪ ،‬ال لنفي ما عداهن‬
‫‪ ،‬فإ هن نكاح اإلماء لغري املالكني صحيح بشرطه ‪ ،‬وكذا نكاح غري العفيفات‪.‬‬
‫أحل لكم‬
‫وأحل لكم احملصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى ‪ ،‬أي ه‬
‫أكن ذميات أم حربيات ‪ ،‬وتصيص احلرائر العفيفات‬
‫احلرائر والعفيفات من أهل الكتاب ‪ ،‬سواء ه‬
‫ابلذكر للحث على ما هو األوىل ‪ ،‬كما سبق ‪ ،‬ال لنفي ما عداهن ‪ ،‬وقيهد احلل إبيتاء املهور يف‬
‫ور ُه ان للداللة على أت هكد وجوب املهر حَّت كأنهه إذا مل يؤ هد املهر ال حتل له‬
‫ُج َ‬ ‫قوله ‪ :‬إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫وه ان أ ُ‬
‫وللحث على ما هو األوىل ‪ ،‬وهو إيتاء الصداق قبل الدخول‪.‬‬‫ه‬ ‫الزوجة ‪،‬‬
‫صنِ َ‬
‫ني حال من فاعل آتَ ْي تُ ُمو ُه ان أي أحل لكم حمصنات أهل الكتاب إذا آتيتموهن‬ ‫وقوله ‪ُْ :‬حم ِ‬

‫صنِ َ‬
‫ني‬ ‫أجورهن حال كونكم حمصنني ‪ ،‬أي متعففني ابلزواج هبن (غري مسافحني) حال من ضمري ُْحم ِ‬
‫مسرين ‪ ،‬وهو إما‬
‫أو صفة حملصنني ‪ ،‬أي غري جماهرين ابلزىن ‪ ،‬وال متخذي أخدان ‪ ،‬أي وال ه‬
‫ري ُمسافِ ِح َ‬
‫ني زيدت فيه (ال) لتأكيد النفي املستفاد من (غري) أو منصوب‬ ‫جمرور معطوف على غَ ْ َ‬
‫ري ُمسافِ ِح َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫معطوف على غَ ْ َ‬

‫ص ‪354 :‬‬
‫ومن ي ْك ُفر ِاب ِْإل ِ‬
‫ميان فَ َق ْد َحبِ َ‬
‫ط َع َملُهُ سيقت هذه اجلملة للتحذير من املخالفات وللرتغيب فيما‬ ‫ََ ْ َ ْ‬
‫اّلل وتكاليفه فقد خاب يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫تقدم من األحكام ‪ ،‬أي ومن يكفر بشرائع ه‬
‫معرض‬
‫أما يف الدنيا فباعتبار أن مجيع أعماله حابطة والغية ‪ ،‬ال فائدة فيها ‪ ،‬وهو يف ذلك ه‬
‫لإلذالل ابلسيف حَّت يسلم ‪ ،‬أو يعطي اجلزية عن يد وهو صاغر ‪ ،‬وأما يف اآلخرة فهو هالك‬
‫بنريان حامية مشتعلة ‪ ،‬ال طاقة ألحد هبا‪.‬‬
‫أطلق اإلميان وأراد املؤمن به جمازا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد ومن يكفر برب اإلميان ‪ ،‬فهو جماز ابحلذف‪.‬‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت ‪:‬‬
‫‪ - 1‬إابحة الطيبات من الرزق‪.‬‬
‫‪ - 2‬إابحة األكل من ذابئح أهل الكتاب‪.‬‬
‫‪ - 3‬إابحة إطعام أهل الكتاب من طعام املسلمني‪.‬‬
‫‪ - 4‬إابحة نكاح احملصنات املؤمنات واحملصنات الكتابيات‪.‬‬
‫اّلل وشرائعه‪.‬‬ ‫‪ - 5‬عدم االعتداد ابألعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام ه‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم إِ َىل الْ َمرافِ ِق‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّها الا ِذين آمنُوا إِذا قُمتُم إِ َىل ال ا ِ‬
‫صًلة فَاغْ ِسلُوا ُو ُج َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫قال ه‬
‫اروا َوإِ ْن ُك ْن تُ ْم َم ْرضى أ َْو َعلى َس َف ٍر‬ ‫حوا بِ ُرُؤ ِس ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم إِ َىل الْ َك ْعبَ ْ ِ‬
‫ني َوإِ ْن ُك ْن تُ ْم ُجنُباً فَاطاه ُ‬ ‫سُ‬‫َو ْام َ‬
‫حوا‬ ‫ِ‬ ‫أَو جاء أَح ٌد ِمنْ ُكم ِمن الْغائِ ِط أَو المستُم النهِساء فَلَم ََتِ ُدوا ماء فَتَ ي امموا ِ‬
‫سُ‬ ‫صعيداً طَيهباً فَ ْام َ‬ ‫ً َ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َْ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِوج ِ‬
‫اّللُ ليَ ْج َع َل َعلَْي ُك ْم م ْن َح َر ٍج َولك ْن يُ ِري ُد ليُطَ هِه َرُك ْم َوليُت ام ن ْع َمتَهُ‬ ‫وه ُك ْم َوأَيْدي ُك ْم م ْنهُ ما يُ ِري ُد ا‬ ‫ُُ‬
‫َعلَْي ُك ْم ل ََعلا ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن (‪ )6‬لإلنسان شهوات جيب أن يتمتع هبا ‪ ،‬وعليه واجبات يتحتم أن‬
‫اّلل تعاىل على اإلنسان‬
‫يؤديها ‪ ،‬وأغلب شهواته منحصرة يف املطعومات واملناكحات ‪ ،‬وملها تفضل ه‬
‫حرمه من املطاعم واملناكح شرع يف بيان ما جيب عليه أداؤه هّلل تعاىل ‪ ،‬ليكون‬ ‫ببيان ما أحلهه وما ه‬
‫ِ‬
‫آمنُوا إخل‪.‬‬
‫ين َ‬‫القيام مبا وجب عليه شكرا له تعاىل على ما أنعم به عليه فقال ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫واملراد ابلقيام إىل الصًلة إرادة القيام إليها من إطًلق املسبب وإرادة السبب ‪ ،‬وإمنا وجب أتويل‬
‫القيام إبرادته ألنه لو بقي على حقيقته لزم أتخري الوضوء ووجوبه عن القيام إىل الصًلة ‪،‬‬
‫واالشتغال هبا ‪ ،‬وهو ابطل ابإلمجاع ‪ ،‬وليس املراد ابلقيام انتصاب القامة ‪ ،‬وإمنا املراد به‬
‫االشتغال أبعمال الصًلة ‪ ،‬أي إذا أردمت ذلك فاغسلوا إىل آخره‪.‬‬

‫ص ‪ 355 :‬وإجياب الوضوء عند إرادة الصًلة ال ينايف أنه جيب أيضا إذا ضاق الوقت ‪ ،‬فإ هن‬
‫كل منهما ‪،‬‬‫وقت الصًلة إذا ضاق وجب الوضوء والصًلة وجواب مضيقا ‪ ،‬مبعىن أنهه أيمث برتك ه‬
‫وإمنا ربط األمر ابلوضوء حبالة إرادة الصًلة لإلشارة إىل أن الشأن يف املؤمنني إقامتها وعدم‬
‫اإلمهال يف أدائها‪.‬‬
‫وظاهر اآلية يوجب الوضوء على كل قائم إليها وإن مل يكن حمداث ‪ ،‬واإلمجاع على خًلفه ‪ ،‬وهلذا‬
‫قالوا ‪ :‬إن اخلطاب للمحدثني لإلمجاع على أ هن الوجوب مل يكن إال عليهم ‪ ،‬وأل هن يف اآلية ما يدل‬
‫عليه ‪ ،‬فإ هن التيمم بدل عن الوضوء ‪ ،‬وقائم مقامه ‪ ،‬وقد قيهد وجوب التيمم يف اآلية بوجود‬
‫احلدث ‪ ،‬وهو يدل على أ هن األصل مقيهد بوجوب احلدث ليتأتهى أن يكون البدل قائما مقام‬
‫األصل ‪ ،‬وألن األمر ابلوضوء نظري األمر ابالغتسال ‪ ،‬وهو مقيهد ابحلدث األكرب يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َوإِ ْن ُكْن تُ ْم ُجنُباً فَاطاه ُ‬
‫اروا فيكون نظريه ‪ ،‬وهو األمر ابلوضوء مقيهدا ابحلدث األصغر‪.‬‬
‫الصًلة وأنتم حمدثون» وأما ما‬
‫ويستأنس العتبار هذا القيد مبا جاء يف قراءة شاذة «إذا قمتم إىل ه‬
‫ورد من أنه عليه الصًلة والسًلم وخلفاؤه كانوا يتوضؤون لكل صًلة فلم يكن ذلك بطريق‬
‫الوجوب ‪ ،‬يدل عليه ما‬
‫ورد من قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» «‪»1‬‬
‫مع ما‬
‫ورد من أنه عليه الصًلة والسًلم يوم الفتح صلهى الصلوات اخلمس بوضوء واحد فقال له عمر‬
‫اّلل عنه ‪:‬‬
‫بن اخلطاب رضي ه‬
‫اّلل صنعت شيئا مل تكن تصنعه ‪ ،‬فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬عمدا صنعته اي عمر»‬
‫اي رسول ه‬
‫«‪»2‬‬
‫يعين يريد بيان اجلواز فيكون الوضوء على طهر مندواب فقط ال واجبا‪.‬‬
‫والوجه مأخوذ من املواجهة ‪ ،‬وهي تقع مبا كان من مبدأ سطح اجلبهة إىل منتهى الذقن طوال ‪،‬‬
‫ومن األذن إىل األذن عرضا ‪ ،‬فيجب غسل كل ما يف هذه الدائرة فإن كان له حلية خفيفة وجب‬
‫غسل الشعر والبشرة اليت حتته ‪ ،‬وإن كانت غزيرة وجب غسل ظاهرها فقط ‪ ،‬ولكن ال جيب‬
‫إيصال املاء إىل داخل العني ملا يف التزامه من احلرج ‪ ،‬وقد قال تعاىل يف آخر اآلية ‪ :‬ما يُ ِري ُد ا‬
‫اّللُ‬
‫لِيَ ْج َع َل َعلَْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍج‪ .‬وأما الفم واألنف فأخذ حكمهما من دليل آخر‪.‬‬
‫ني تدل على أن ما بعدها غاية ملا قبلها فقط ‪ ،‬وأما‬ ‫و(إىل) يف قوله ‪ :‬إِ َىل ال َْمرافِ ِق وإِ َىل الْ َك ْعبَ ْ ِ‬
‫دخول الغاية يف احلكم أو خروجها عنه فًل داللة هلا عليه ‪ ،‬وإمنا هو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )37 /1‬كتاب الطهارة ابب الرجل جيدد الوضوء حديث رقم‬
‫(‪ ، )62‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )87 /1‬كتاب الطهارة ابب من جاء يف الوضوء‬
‫حديث رقم (‪.)59‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 2 ، )232 /1‬كتاب الطهارة ‪ - 25 ،‬ابب جواز الصلوات‬
‫حديث رقم (‪.)277 /86‬‬

‫ص ‪356 :‬‬
‫أمر يدور مع الدليل اخلارجي ‪ ،‬ففي مثل قولنا حفظت القرآن من أوله إىل آخره ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ْصى [اإلسراء ‪ ]1 :‬ما بعد (إىل) داخل يف حكم ما قبلها ‪،‬‬ ‫م َن ال َْم ْسجد ا ْحلَر ِام إِ َىل ال َْم ْسجد ْاألَق َ‬
‫أل هن الغرض يف املثال األول للداللة على حفظ كل القرآن ‪ ،‬وللعلم العادي يف املثال الثاين أبنه‬
‫عليه الصًلة والسًلم ال يسرى به وهو زعيم ديين من املسجد احلرام إىل املسجد األقصى ‪-‬‬
‫وهو من أعظم بيوت العبادة ‪ -‬من غري أن يدخله ويتعبد فيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ويف مثل قوله تعاىل ‪ :‬فَنَ ِظرةٌ إِىل مي ٍ‬
‫يام إِ َىل اللاْي ِل [البقرة ‪:‬‬ ‫س َرة [البقرة ‪ ]280 :‬وقوله ‪ :‬أََتُّوا ِه‬
‫الص َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫‪ ]187‬ما بعد (إىل) غري داخل يف حكم ما قبلها ‪ ،‬أل هن اإلعسار يف املثال األول علة يف اإلنظار‬
‫‪ ،‬وابمليسرة تزول العلة ‪ ،‬فيطالب ابلدين ‪ ،‬وال يثبت اإلنظار معها ‪ ،‬وألنه يف املثال الثاين لو‬
‫دخل الليل يف حكم الصيام للزم الوصال ‪ ،‬وهو غري مشروع يف حقنا ‪ ،‬وقوله ‪ :‬إِ َىل ال َْمرافِ ِق إِ َىل‬
‫ني ال دليل فيه على أحد األمرين ‪ ،‬فقال اجلمهور ‪ :‬بوجوب غسل املرفقني والكعبني‬ ‫الْ َك ْعبَ ْ ِ‬
‫احتياطا يف العبادات ‪ ،‬خصوصا إذا لوحظ أن األيدي واألرجل تتناول يف االستعمال املرفقني‬
‫والكعبني وما وراءمها ‪ ،‬فيكون ذكرمها إلسقاط ما وراءمها ال غري ‪ ،‬فيجب غسل املرفقني‬
‫والكعبني لذلك ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية والشافعية‪ .‬وقال زفر من احلنفية ‪ :‬ال جيب غسلهما أل هن‬
‫(إىل) النتهاء الغاية ‪ ،‬وما جيعل غاية للحكم يكون خارجا عنه‪.‬‬
‫حوا بِ ُرُؤ ِس ُك ْم اتفق الفقهاء على أ هن مسح الرأس من فرائض الوضوء ‪ ،‬ولكنهم اختلفوا يف‬
‫سُ‬‫َو ْام َ‬
‫مقدار املسح ‪ ،‬فقال املالكية ‪ :‬جيب مسح الكل أخذا ابالحتياط‪.‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬يكفي مسح أقل ما يطلق عليه اسم املسح أخذا ابليقني‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم كما روي عن‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬يفرتض مسح ربع الرأس أخذا ببيان النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كان يف سفر ‪ ،‬فنزل حلاجته ‪ ،‬مث جاء فتوضأ‬
‫النيب صلهى ه‬
‫املغرية بن شعبة أ هن ه‬
‫ومسح على انصيته «‪.»1‬‬
‫ومنشأ اخلًلف هنا اعتبار الباء يف قوله ‪ :‬بِ ُرُؤ ِس ُك ْم زائدة أو أصلية فقال املالكية واحلنابلة ‪ ،‬إن‬
‫الباء كما تكون أصلية تكون زائدة لتقوية تعلق العامل ابملعمول ‪ ،‬واعتبارها هنا زائدة أوىل ‪ ،‬أل هن‬
‫الرتكيب حينئذ يدل على وجوب مسح كل الرأس ‪ ،‬والبعض داخل فيه ‪ ،‬فيكون ماسح الكل‬
‫آتيا ابلفرص بيقني ‪ ،‬فيجب مسح الكل احتياطا‪.‬‬
‫وقال احلنفية والشافعية ‪ :‬إ هن هذه األدوات اليت منها الباء موضوعة للداللة على معان ‪ ،‬فمَّت‬
‫أمكن استعماهلا دالة على هذه املعاين وجب استعماهلا على هذا النحو‪.‬‬
‫والباء موضوعة للتبعيض ‪ ،‬وميكن استعماهلا هنا فيه ‪ ،‬فإننا جند فرقا يف املعىن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 2 ، )230 /1‬كتاب الطهارة ‪ - 23 ،‬ابب املسح على‬
‫الناصية حديث رقم (‪.)273 /83‬‬

‫ص ‪357 :‬‬
‫بني وجودها يف مثل هذا الرتكيب وعدم وجودها ‪ ،‬ألنهك إذا قلت مسحت يدي ابحلائط كان‬
‫املفهوم مسح اليد ببعض احلائط ال جبميعه ‪ ،‬وإذا قلت مسحت احلائط بيدي كان املفهوم مسح‬
‫مجيع احلائط ‪ ،‬ومَّت ظهر الفرق بني إدخال الباء وبني إسقاطها وجب أن حيمل قوله ‪:‬‬
‫حوا بِ ُرُؤ ِس ُك ْم على بعض الرأس وفاء حبق احلرف‪.‬‬
‫سُ‬‫َو ْام َ‬
‫إال أن احلنفية استندوا يف تقدير البعض بثًلث أصابع على رأي ‪ ،‬وبربع الرأس على رأي آخر إىل‬
‫ما رواه املغرية بن شعبة كما تقدم‪.‬‬
‫وأما الشافعية فقالوا ‪ :‬إن أقل ما ينطبق عليه اسم املسح داخل بيقني ‪ ،‬وما عداه ال يقني فيه ‪،‬‬
‫فًل يكون فرضا‪.‬‬
‫وقوله ‪َ :‬وأ َْر ُجلَ ُك ْم ابلنصب معطوف على وجوهكم ‪ ،‬فيجب غسل األرجل إىل الكعبني ‪ ،‬يؤيهد‬
‫اّلل عليه وسلهم وعمل أصحابه يف حياته وبعد مماته ‪ ،‬فكان احلكم جممعا‬ ‫ذلك عمل النيب صلهى ه‬
‫عليه‪.‬‬
‫ذاب يَ ْوٍم‬
‫َخاف َعلَْي ُك ْم َع َ‬ ‫وأما قراءة اجلر فمحمولة على اجلوار ‪ ،‬كما يف قوله يف سورة هود إِِهين أ ُ‬
‫أَلِي ٍم [هود ‪ ]26 :‬جبر امليم جملاورة يوم اجملرور ‪ ،‬وفائدة اجلر للجوار هنا يف قوله ‪َ :‬وأ َْر ُجلَ ُك ْم‬
‫التنبيه على أنه ينبغي االقتصاد يف صب املاء على األرجل ‪ ،‬وخص األرجل بذلك ألهنا مظنة‬
‫اإلسراف ‪ ،‬ملا يعلق هبا من األدران‪.‬‬
‫والكعبان تثنية الكعب ‪ ،‬وهو العظم الناتئ بني الساق والقدم ‪ ،‬ولكل رجل كعبان جيب غسلهما‪.‬‬
‫تطهروا ‪ ،‬أدغمت التاء يف الطاء فسكنت ‪ ،‬فأتى ابهلمزة ‪،‬‬ ‫َوإِ ْن ُكْن تُ ْم ُجنُباً فَاطاه ُ‬
‫اروا أصل الفعل ه‬
‫أي فاغسلوا ابملاء أبدانكم مجيعها ‪ ،‬فإ هن األمر ابلتطهري ملا مل يتعلق بعضو دون عضو كان أمرا‬
‫اّلل‬
‫بتحصيل الطهارة يف كل البدن ‪ ،‬يدل على ذلك أ هن الوضوء ملا تعلهق بعضو دون عضو نص ه‬
‫تعاىل يف األمر به على تلك األعضاء اليت أوجب غسلها ‪ ،‬وإمنا محلت الطهارة ابملاء أل هن املاء هو‬
‫األصل فيها ‪ ،‬كما يشري قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س ِ‬
‫ماء ماءً لِيُطَ هِه َرُك ْم بِهِ [األنفال ‪.]11 :‬‬ ‫َويُنَ هِز ُل َعلَْي ُك ْم ِم َن ال ا‬
‫واجلنابة معىن شرعي يستلزم اجتناب الصًلة وقراءة القرآن ومس املصحف ودخول املسجد إىل‬
‫اّلل عليه وسلهم حلصول اجلنابة سببني ‪:‬‬
‫أن يغتسل اجلنب‪ .‬وقد هبني النيب صلهى ه‬
‫األول ‪ :‬نزول املين ‪،‬‬
‫فإنه عليه الصًلة والسًلم يقول يف هذا الشأن «املاء من املاء» «‪»1‬‬
‫أي جيب استعمال املاء للغسل من أجل املاء ‪ ،‬أي املين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 3 ، )269 /1‬كتاب احليض ‪ - 21 ،‬ابب إ همنا املاء من املاء‬
‫حديث رقم (‪.)343 /80‬‬

‫ص ‪358 :‬‬
‫والثاين ‪ :‬التقاء اخلتانني ‪،‬‬
‫فإنه عليه الصًلة والسًلم يقول ‪« :‬إذا التقى اخلتاانن وجب الغسل» «‪.»1‬‬
‫وه ان‬
‫وكما جيب الغسل للجنابة جيب عند انقطاع حيض ونفاس ‪ ،‬لقوله تعاىل يف احليض ‪َ :‬وال تَ ْق َربُ ُ‬
‫َح اَّت يَط ُْه ْر َن [البقرة ‪ ]222 :‬وحلديث فاطمة بنت أيب حبيش أنه عليه الصًلة والسًلم قال هلا ‪:‬‬
‫«إذا أقبلت احليضة فدعي الصًلة ‪ ،‬وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري «‪»2‬‬
‫‪ .‬ولإلمجاع على أن النفاس كاحليض‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء يف املضمضة واالستنشاق يف الغسل ‪ ،‬فقال املالكية والشافعية ‪:‬‬
‫ال جيبان فيه ‪ ،‬وقال احلنفية واحلنابلة ‪ :‬جيبان‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حجة املالكية والشافعية ‪ :‬ما ورد من أ هن قوما كانوا يتحدثون يف جملس رسول ه‬
‫كل يبني ما يعمل ‪،‬‬
‫وسلهم يف أمر الغسل و ه‬
‫فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬أما أان فأحثي على رأسي ثًلث حثيات ‪ ،‬فإذا أان قد طهرت»‬
‫«‪.»3‬‬
‫ولكن الباطنة‬
‫يعم مجيع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة ‪ ،‬ه‬
‫وحجة احلنفية واحلنابلة أ هن األمر ابلتطهري ه‬
‫اليت ال ميكن غسلها سقطت للحرج ‪ ،‬فبقيت الطهارة متعلقة ابلظاهرة والباطنة اليت ميكن غسلها‬
‫‪ ،‬وهي الفم واألنف ‪ ،‬فكانت املضمضة واالستنشاق من الواجبات يف الغسل ‪ ،‬وأيضا رأينا أنه‬
‫تدل على اعتبارمها من‬
‫تدل على اعتبارمها من األعضاء الظاهرة ‪ ،‬وأحكام ه‬
‫تعلقت هبما أحكام ه‬
‫األعضاء الباطنة ‪ ،‬فمن األول ما قالوه من أنه إذا َتضمض الصائم أو استنشق ال يفسد صومه ‪،‬‬
‫وهو دليل اعتبارمها من الظاهرة ‪ ،‬ومن الثاين ما قالوه من أنهه إذا خرج القيء من اجلوف إىل الفم‬
‫مث عاد ‪ ،‬ال يفسد صومه وهو دليل اعتبارمها من الباطنة ‪ ،‬وحيث اجتمع فيه شبه األعضاء‬
‫الظاهرة والباطنة كان االحتياط يف ابب الطهارات يف وجوب غسلهما‪.‬‬
‫وأجيب عما َتسك به املالكية والشافعية أبن الغرض من احلديث بيان أنهه ال جيب الوضوء بعد‬
‫فبني عليه الصًلة والسًلم أ هن الواجب الغسل فقط ‪،‬‬
‫الغسل كما فهم ذلك كثري من الصحابة ه‬
‫وأ هن الطهارة الصغرى تدخل يف الطهارة الكربى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وإِ ْن ُكْن تم مرضى أَو َعلى س َف ٍر أَو جاء أ ِ ِ‬
‫الم ْستُ ُم النهساءَ فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً‬
‫َح ٌد م ْن ُك ْم م َن الْغائط أ َْو َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َْ‬ ‫َ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُك ْم ِم ْنهُ‪.‬‬
‫فَتَ ي امموا صعِيداً طَيِباً فَامسحوا بِوج ِ‬
‫ه ْ َ ُ ُُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف املسند (‪.)229 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 60 ، )91 /1‬كتاب احليض ‪ - 9 ،‬ابب االستحاضة‬
‫حديث رقم (‪.)306‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (بلفظ خمتلف) يف الصحيح (‪ - 3 ، )258 /1‬كتاب احليض ‪ - 11 ،‬ابب‬
‫استحباب اإلفاضة ‪ ،‬حديث رقم (‪].....[ .)327 /54‬‬

‫ص ‪359 :‬‬
‫اّلل تعاىل وجوب استعمال املاء يف الوضوء والغسل عند إرادة الصًلة هبني هنا أ هن‬ ‫بعد أن هبني ه‬
‫وجوب استعمال املاء مقيهد أبمرين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬وجود املاء‪ .‬والثاين ‪ :‬القدرة على استعماله من غري ضرر‪.‬‬
‫ولكن مريد الصًلة مريض يضره املاء ‪ ،‬فالوجوب ينتقل من استعمال‬
‫أما إذا انعدم املاء أو وجد ه‬
‫املاء إىل التيمم يف حاليت احلدث األصغر واألكرب‪.‬‬
‫فالتيمم رخصة مبنية على أعذار العباد ‪ ،‬وهو حكم سقط به حكم آخر هو وجوب استعمال‬
‫املاء لعذر ‪ ،‬وهو عدم القدرة على استعمال املاء ‪ ،‬فهو رخصة إسقاط يف احملل ‪ ،‬القتصاره على‬
‫الوجه واليدين ‪ ،‬ويف اآللة لقيامة مقام املاء عند عدم القدرة على استعمال املاء‪.‬‬
‫وظاهر النص جواز التيمم للمريض مطلقا ‪ ،‬ولكنهه مقيهد مبن يضره املاء ‪ ،‬كما روي عن ابن عباس‬
‫ومجاعة من التابعني من أ هن املراد ابملريض اجملدور ‪ ،‬ومن يضره املاء كما تقدم يف سورة النساء ‪،‬‬
‫ولذلك رأى الفقهاء أ هن املرض أنواع ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ما يؤدي استعمال املاء فيه إىل التلف يف النفس أو العضو بغلبة الظن ‪ ،‬أو إبخبار‬
‫الطبيب املسلم احلاذق ‪ ،‬ويف هذه احلالة جيوز التيمم ابتفاق‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬ما يؤدي استعمال املاء معه إىل زايدة العلة ‪ ،‬أو بطء املرض ‪ ،‬ويف هذه احلالة جيوز‬
‫اّلل أنه قال ‪:‬‬
‫التيمم عند احلنفية واملالكية ‪ ،‬وهو أصح قويل الشافعي ملا روي عن جابر بن عبد ه‬
‫فشجه ‪ ،‬مث احتلم ‪ ،‬فخاف من زايدة العلة إن‬
‫خرجنا يف سفر فأصاب رجًل منا حجر يف رأسه ه‬
‫استعمل املاء ‪ ،‬فقال ألصحابه ‪ :‬هل َتدون يل رخصة يف التيمم؟ قالوا ‪ :‬ما جند لك رخصة وأنت‬
‫اّلل صلهى‬
‫تقدر على استعمال املاء‪ .‬فاغتسل ‪ ،‬مث ازدادت علته ومات ‪ ،‬فلما قدمنا على رسول ه‬
‫ا هّلل عليه وسلهم علم مبا حصل‬
‫العي السؤال ‪ ،‬إمنا كان‬
‫فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬قتلوه ‪ ،‬أال سألوا إذ مل يعلموا ‪ ،‬فإمنا شفاء ه‬
‫يكفيه أن يتيمم» «‪.»1‬‬
‫الثالث ‪ :‬ما ال خياف معه تلفا وال بطأ ‪ ،‬وال زايدة يف العلة من استعمال املاء ‪ ،‬ويف هذه احلالة ال‬
‫جيوز التيمم عند احلنفية والشافعية ‪ ،‬ألنهه مل خيرج عن كونه قادرا على استعمال املاء ‪ ،‬فًل ير هخص‬
‫له يف التيمم وعند املالكية جيوز التيمم إلطًلق النص‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن يكون املرض حاصًل لبعض األعضاء ‪ ،‬فإن كان األكثر صحيحا وجب غسل‬
‫الصحيح ومسح اجلريح ‪ ،‬وال جيوز التيمم ‪ ،‬وإن كان األكثر جرحيا جيوز التيمم ‪ ،‬وهذا مذهب‬
‫احلنفية‪ .‬وعند الشافعية ‪ :‬يغسل الصحيح ‪ ،‬مث يتيمم مطلقا‪ .‬وعند املالكية ‪ :‬جاز له التيمم‬
‫مطلقا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )141 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب اجملروح يتيمم حديث رقم‬
‫(‪.)336‬‬

‫ص ‪360 :‬‬
‫يتبني أن املريض يرت هخص ابلتيمم ‪ ،‬ولو كان املاء موجودا ‪ ،‬خبًلف املسافر كما سيأِت ‪،‬‬
‫ومن ذلك ه‬
‫فإ هن تر هخصه مقيهد بعدم املاء‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬أ َْو َعلى َس َف ٍر وإن كنتم مستقرين على سفر ال َتدون معه املاء وكنتم حمدثني فَتَ يَ ام ُموا أي‬
‫فيلزمكم التيمم إخل‪ .‬وليس املراد سفر القصر وإمنا املراد السري خارج العمران ‪ ،‬سواء وصل إىل‬
‫مسافة القصر أم ال ‪ ،‬خبًلفه يف قوله تعاىل يف سورة البقرة فَ َم ْن كا َن ِمنْ ُك ْم َم ِريضاً أ َْو عَلى َس َف ٍر‬
‫فَعِ ادةٌ ِم ْن أَ اايٍم أُ َخ َر [البقرة ‪ ]184 :‬فإ هن املراد به سفر القصر‪.‬‬
‫وإمنا قيد األمر هنا ابلسفر مع أن املنظور إليه عدم املاء ‪ ،‬أل هن السفر هو الذي يغلب فيه عدم‬
‫املاء ‪ ،‬خبًلف احلضر ‪ ،‬ولو فرض عدم املاء يف احلضر وجب التيمم على احملدث عند إرادة‬
‫الصًلة عند احلنفية واملالكية والشافعية‪.‬‬
‫َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن الْغائِ ِط وتقدم يف [النساء ‪ ]43 :‬أ هن هذه كناية يف قضاء احلاجة ‪ ،‬وكل ما‬
‫أ َْو جاءَ أ َ‬
‫خيرج من السبيلني ملحق بقضاء احلاجة بداللة األحاديث الواردة عليه ‪ ،‬و(أو) هذه مبعىن الواو ‪،‬‬
‫فإ هن األمر ابلتيمم للوجوب ‪ ،‬وال جيب التيمم يف املرض أو السفر إال عند احلدث مع إرادة‬
‫الصًلة أو وجوهبا ‪ ،‬وألهنا إذا مل تكن مبعىن الواو لزم أن تكون قسما اثلثا مغايرا للمريض‬
‫واملسافر ‪ ،‬فًل يكون وجوب الطهارة عليهما متعلقا ابحلدث ‪ ،‬مع أ هن الوجوب ال يتعلق هبما إال‬
‫إذا كاان حمدثني ‪ ،‬فوجب أن تكون (أو) مبعىن الواو ‪ ،‬ولذلك نظائر كما تقدم‪.‬‬
‫الم ْستُ ُم النهِساءَ تقدم الكًلم على تفسري هذه اجلملة مستوىف [النساء ‪ ]43 :‬ومل هخصة أ هن‬
‫أ َْو َ‬
‫املًلمسة هنا حيتمل أن يراد هبا اجلماع ‪ ،‬كما أتوهلا علي وابن عباس وغريمها من السلف ‪ ،‬وكانوا‬
‫مس امرأة ابليد ‪ ،‬وحيتمل أن يراد هبا املس ابليد ‪ ،‬كما أتوهلا بذلك‬
‫ال يوجبون الوضوء على من ه‬
‫اّلل بن مسعود من السلف ‪ ،‬وكاان يوجبان الوضوء على من مس امرأة‬
‫عمر بن اخلطاب وعبد ه‬
‫ابليد ‪ ،‬وقد تق هدم ترجيح القول أبن املراد هبا اجلماع ‪ ،‬كما تقدم تفصيل اخلًلف بني الفقهاء يف‬
‫ذلك أيضا‪.‬‬
‫فَلَ ْم ََتِ ُدوا ماءً املراد بعدم وجدان املاء عدم القدرة على استعماله ‪ ،‬سواء كان لعدم وجوده ‪ ،‬كما‬
‫يف السفر ‪ ،‬أو للضرر الذي خيشى من استعماله كما يف حالة املرض ‪ ،‬أو ملانع مينع من استعماله‬
‫كما إذا وجد املاء ‪ ،‬ولكنه خياف عطشا أو سبعا ‪ ،‬أو وجده أبكثر من قيمته ‪ ،‬فمثل هذا ال يعد‬
‫واجدا للماء عند احلنفية واملالكية والشافعية‪.‬‬
‫وقد وقع اخلًلف بني األئمة يف املراد من وجود املاء الذي مينع من التيمم ‪ ،‬فقال املالكية ‪ :‬املراد‬
‫بوجود املاء الوجود احلكمي ‪ ،‬مبعىن أن الشخص يتمكن شرعا من استعماله من غري ضرر ‪،‬‬
‫واحلنفية يقولون ابملراد الوجود احلسي ‪ ،‬مبعىن أنه يتمكن‬

‫ص ‪361 :‬‬
‫َتكنا حسيا من استعماله من غري ضرر ‪ ،‬وينبين على هذا اخلًلف أ هن من وجد املاء وهو يف‬
‫الصًلة يتمادى وال يقطع الصًلة عند املالكية ‪ ،‬ألنه ال يتمكن شرعا من استعماله من غري‬
‫إبطال الصًلة ‪ ،‬وهو ال جيوز له أن يبطل الصًلة ‪ ،‬وعند احلنفية يبطل تيممه ‪ ،‬فتبطل الصًلة‬
‫وجيب استعمال املاء‪.‬‬
‫تغري بطول املكث ‪ ،‬فإنه مل خيرج‬
‫وإطًلق املاء يدل على عدم جواز التيمم عند وجود املاء الذي ه‬
‫عن أنه ماء‪.‬‬
‫واملراد مل َتدوا ماء كافيا للوضوء أو للغسل ‪ ،‬فلو وجد ماء كافيا لبعض الوضوء أو للغسل يتيمم‬
‫عند احلنفية واملالكية ‪ ،‬وال يستعمل املاء يف شيء من أعضائه‪.‬‬
‫وعند الشافعية واحلنابلة ‪ :‬يستعمل املاء يف بعض األعضاء ‪ ،‬مث يتيمم ‪ ،‬ألنه ال يع هد فاقدا للماء‬
‫مع وجود هذا القدر‪.‬‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُك ْم ِمنْهُ تق هدم أ هن الصعيد ‪ :‬هو الرتاب على القول‬
‫فَتَ ي امموا صعِيداً طَيِباً فَامسحوا بِوج ِ‬
‫ه ْ َ ُ ُُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫املختار الظاهر‪.‬‬
‫والتيمم املطلوب شرعا هو استعمال الصعيد يف عضوين خمصوصني على قصد التطهري ‪،‬‬
‫والعضوان مها ‪ :‬الوجه واليدان إىل املرفقني عند احلنفية ‪ ،‬وهو أرجح القولني عند الشافعية وإىل‬
‫الرسغني عند املالكية واحلنابلة‪.‬‬
‫وحجة احلنفية أن األيدي يف قوله ‪َ :‬وأَيْ ِديَ ُك ْم تشمل العضو كله إال أ هن التيمم بدل عن الوضوء ‪،‬‬
‫والبدل ال خيالف األصل إال بدليل ‪ ،‬وقد جعل املرفق غاية يف األصل ‪ ،‬فليكن غاية يف البدل‬
‫بداللة النص ‪ ،‬وأنه‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬التيمم ضربتان ‪ ،‬ضربة للوجه ‪،‬‬
‫اّلل أ هن النيب صلهى ه‬
‫روى جابر بن عبد ه‬
‫وضربة لل هذراعني إىل املرفقني»‪.‬‬
‫وه ُك ْم جواز مسح بعض الوجه كما سبق مثله‬‫وكان مقتضى التعبري ابلباء يف قوله ‪ :‬فَامسحوا بِوج ِ‬
‫ْ َ ُ ُُ‬
‫حوا بِ ُرُؤ ِس ُك ْم إال أن احلنفية والشافعية أوجبوا االستيعاب ملا روي عن عبد ه‬
‫اّلل بن عمر ‪،‬‬ ‫سُ‬‫يف َو ْام َ‬
‫اّلل أهنما حكيا تيممه عليه الصًلة والسًلم ‪ ،‬وفيه استيعاب الوجه واليدين إىل‬‫وجابر بن عبد ه‬
‫املرفقني ‪ ،‬وأل هن التيمم بدل عن الوضوء ‪ ،‬واالستيعاب يف األصل واجب ‪ ،‬فيكون البدل كذلك‬
‫ما مل يدل دليل على خًلفه ‪ ،‬ومل يوجد‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء يف لزوم إيصال الرتاب إىل الوجه واليدين وعدمه ‪ ،‬فقال احلنفية واملالكية ‪ :‬ال‬
‫يلزم ‪ ،‬وقال الشافعية ‪ :‬يلزم ‪ ،‬وسبب اختًلفهم االشرتاك الواقع يف حرف (من) يف قوله ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حوا بِ ُو ُجوه ُك ْم َوأَيْدي ُك ْم منْهُ فإهنها ترد للتبعيض ‪ ،‬وترد لًلبتداء ‪ ،‬وَتييز اجلنس ‪ ،‬ه‬
‫فرجح‬ ‫سُ‬‫فَ ْام َ‬
‫الشافعية محلها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء ‪ ،‬ويف الوضوء جيب استعمال‬
‫بعض املاء ‪ ،‬فيجب يف التيمم استعمال بعض الرتاب‪.‬‬

‫ص ‪ 362 :‬ورجح احلنفية واملالكية محلها على االبتداء ‪ ،‬وَتييز اجلنس ‪ ،‬ملا ورد يف األحاديث‬
‫الكثرية اليت ترشد إىل آداب التيمم من أ هن املتيمم ينفض يديه ‪ ،‬ليتناثر الرتاب ‪ ،‬فيمسح وجهه‬
‫ويديه من غري تلويث ‪ ،‬وملا‬
‫ورد من أنه عليه الصًلة والسًلم تيمم على حائط بضربتني للوجه واليدين «‪»1‬‬
‫والظاهر أنه ال يعلق على يديه شيء من الرتاب‪.‬‬
‫اّللُ لِيَ ْج َع َل َعلَْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍج‪.‬‬
‫ما يُ ِري ُد ا‬
‫اّلل تعاىل فيما سبق أنه مَّت مل يتمكن املتطهر من استعمال املاء جاز له‬
‫احلرج ‪ :‬الضيق ‪ ،‬وملا هبني ه‬
‫أن يتيمم ‪ ،‬وكان يف هذا تيسري عظيم على املسلمني ‪ ،‬أعقبه هبذه اآلية ليدل على فضله تعاىل‬
‫وسع عليكم فأمركم ابلطهارة ابملاء عند وجوده‬
‫اّلل ه‬
‫وعظيم إحسانه بطريق الصراحة ‪ ،‬واملعىن أ هن ه‬
‫‪ ،‬وابلطهارة ابلرتاب عند عدمه ‪ ،‬ألنهه تعاىل مل يرد أن يضيهق عليكم ابلتزام حال واحدة يف حال‬
‫اليسر والعسر ‪َ ،‬ولكِ ْن يُ ِري ُد هذه التكاليف لِيُطَ هِه َرُك ْم من األدران ‪ ،‬وينظفكم من الضعف والكسل‬
‫والفتور الذي يعرتي اجلسم من حني آلخر ‪ ،‬كالذي يكون عند القيام من النوم ‪ ،‬وعند اندفاع‬
‫اخلبث وسيًلن الدم والقي ء ‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ .‬وينظفكم أيضا من األدران النفسية ‪ ،‬كالتمرد‬
‫وعدم االمتثال ‪ ،‬فإ هن املتمرد رمبا يزعم أ هن أعضاء الوضوء مثًل نظيفة مل تصب بشيء من‬
‫ملواث ‪ ،‬فًل ينقاد هلذه األوامر‪.‬‬
‫اّلل ه‬
‫مطهرا ‪ ،‬وإمنا خلقه ه‬
‫النجاسات ‪ ،‬أو أ هن الرتاب مل خيلق ه‬
‫اّلل تعاىل فًل يسعه عند عدم إدراك حكمة التشريع‬
‫أما الذي يشعر ابلعبودية ‪ ،‬ويستحضر جًلل ه‬
‫اّلل يريد هذه التكاليف ليطهركم من األدانس احلسية‬
‫إال االنقياد واالمتثال ألمره تعاىل‪ .‬فإ هن ه‬
‫واملعنوية‪.‬‬
‫َولِيُتِ ام نِ ْع َمتَهُ عَلَْي ُك ْم ابليسر يف الدين ‪ ،‬وإبرشادكم إىل التمتع بنعمة األعمال الدينية بعد إرشادكم‬
‫إىل التمتع بنعمة الدنيا إبابحة الطيبات من املطاعم واملناكح ل ََعلا ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن أي كي تشكروه‬
‫إلنعامه عليكم ‪ ،‬فلعل للتعليل ‪ ،‬أو املعىن ليتم نعمته عليكم حال كونكم متلبسني حبالة ترجون‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فتكون (لعل) للرتجي الواقع من املخاطبني‪.‬‬
‫معها شكر ه‬
‫وهاهنا أمور‬
‫األول ‪ :‬يؤخذ من اآلية أن الطهارة شرط لصحة الصًلة ‪ ،‬ألنهه تعاىل أوجب الطهارة ابملاء عند‬
‫وبني أنه إذا انعدم املاء وجب التيمم ‪ ،‬فدل ذلك على أن املأمور به أداء الصًلة‬
‫إرادة الصًلة ‪ ،‬ه‬
‫مع الطهارة ‪ ،‬فأداؤها دون الطهارة ال يكون أداء للمأمور به ‪ ،‬فًل يسقط الفرض به ‪ ،‬فتكون‬
‫الطهارة شرطا لصحة الصًلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (بلفظ خمتلف) (‪ - 3 ، )281 /1‬كتاب احليض ‪ - 28 ،‬ابب التيمم حديث‬
‫رقم (‪ ، )369 /114‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )138 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب التيمم حديث‬
‫رقم (‪.)330‬‬

‫ص ‪363 :‬‬
‫الثاين ‪ :‬التيمم بدل عن الوضوء يف احلدث األصغر ابتفاق ‪ ،‬وأما كونه بدال عن الغسل يف احلدث‬
‫علي وابن عباس واحلسن وأيب موسى والشعيب‬
‫األكرب فهو حمل خًلف بني السلف ‪ ،‬فاملروي عن ه‬
‫‪ ،‬وهو قول أكثر الفقهاء أنه بدل عنه أيضا ‪ ،‬فيجوز التيمم لرفع احلدث األكرب‪.‬‬
‫واملروي عن عمر وابن مسعود أنه ليس بدال عن الغسل ‪ ،‬فًل جيوز التيمم له لرفع احلدث‬
‫ه‬
‫األكرب‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬يؤخذ من اآلية أ هن الطهارة ال َتب إال عند احلدث ‪ ،‬ألهنا تضمنت أن التيمم بدل عن‬
‫اّلل على مريد الصًلة مَّت جاء من الغائط ‪ ،‬أو المس النساء ‪ ،‬ومل‬
‫الوضوء والغسل ‪ ،‬وقد أوجبه ه‬
‫يدل على أن الطهارة ابملاء واجبة على مريد الصًلة مَّت جاء من الغائط أو‬
‫جيد املاء ‪ ،‬وهو ه‬
‫المس النساء أيضا ‪ ،‬أل هن البدل ال خيالف األصل إال بدليل ‪ ،‬ومل يوجد فًل َتب الطهارة إال عند‬
‫احلدث‪.‬‬
‫ودلت اآلاثر الصحيحة على أ هن الريح واملذي والودي ينقض الوضوء كالبول والغائط‪.‬‬
‫اّللِ عَلَيْ ُك ْم َوِميثاقَهُ الا ِذي واثَ َق ُك ْم بِهِ إِ ْذ قُلْتُ ْم َِمس ْعنا َوأَطَ ْعنا َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬واذْ ُك ُروا نِ ْع َمةَ ا‬
‫قال ه‬
‫اّلل َعلِيم بِ ِ‬
‫اّلل فيما سبق التكاليف اليت كلهف هبا املؤمنني أردفه مبا‬ ‫الص ُدو ِر (‪ )7‬ملا ذكر ه‬ ‫ذات ُّ‬ ‫إِ ان اَ ٌ‬
‫يوجب عليهم القبول والثبات ‪ ،‬عليه ‪ ،‬وهو منحصر حبسب ما ذكره يف أمرين ‪:‬‬
‫اّلل عليهم‪.‬‬
‫األول ‪ :‬نعمة ه‬
‫والثاين ‪ :‬امليثاق الذي أخذ عليهم ابلسمع والطاعة لكل ما يلقى عليهم ‪ ،‬والتزموا قبوله والعمل‬
‫به‪.‬‬
‫أما األول ‪ :‬فأل هن اإلنعام يوجب على املنعم عليه تعظيم املنعم ‪ ،‬وإجًلله ‪ ،‬والتودد إليه بفعل ما‬
‫يرضيه ‪ ،‬واجتناب ما يغضبه ‪ ،‬خصوصا إذا كان اإلنعام وافرا ‪ ،‬واإلحسان مجا‪.‬‬
‫وحد النعم ليشري إىل أ هن التأمل يف جنس النعم كالنظر إىل احلياة والصحة والعقل واهلداية‬
‫وإمنا ه‬
‫اّلل تعاىل ‪،‬‬
‫وحسن التدبري والصون عن اآلفات والعاهات ‪ ،‬فجنس هذه النعم ال يقدر عليه غري ه‬
‫فيكون وجوب االشتغال بشكرها أمت وأكمل‪.‬‬
‫اّللِ وهو يشعر بنسياهنا ‪ ،‬مع أن مثلها ال ينسى ‪ ،‬خصوصا إذا لوحظ‬ ‫وإمنا قال ‪َ :‬واذْ ُك ُروا نِ ْع َمةَ ا‬
‫أهنا متواترة يف مجيع األزمان ‪ ،‬لإلشارة إىل أنه لكثرة هذه النعم وتعاقبها صارت كاألمر املعتاد‬
‫الذي لكثرة وجوده قد يغفل املرء عنه‪.‬‬

‫ص ‪364 :‬‬
‫وأما الثاين ‪ :‬فالظاهر أن املراد ابمليثاق املواثيق اليت جرت بينه عليه السًلم وبني املؤمنني ليكونوا‬
‫على السمع والطاعة يف احملبوب واملكروه ‪ ،‬مثل مبايعته األنصار ليلة العقبة ‪ ،‬ومبايعته عامة‬
‫املؤمنني حتت الشجرة ‪ ،‬وهي بيعة الرضوان ‪ ،‬وغريمها من املواثيق اليت أعطى فيها املؤمنون العهد‬
‫ابلسمع والطاعة يف حاليت اليسر والعسر ‪ ،‬وإمنا أضيف امليثاق إليه تعاىل مع أنه كان الرسول‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل هو املرجع ‪ ،‬كما أشري إىل ذلك بقوله تعاىل ‪ :‬إِ ان الاذ َ‬
‫ين‬ ‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬أل هن ه‬ ‫صلهى ه‬
‫اّللَ [النساء ‪:‬‬‫َطاع ا‬ ‫اّللَ [الفتح ‪ ]10 :‬وبقوله ‪َ :‬م ْن يُ ِط ِع ال ار ُس َ‬
‫ول فَ َق ْد أ َ‬ ‫ك إِ امنا يُبايِعُو َن ا‬
‫يُبايِعُونَ َ‬
‫‪.]80‬‬
‫مث إنهه تعاىل أكد على املؤمنني وجوب العمل هبذه املواثيق ‪ ،‬فذهكرهم أبهنم التزموها وقبلوها ‪،‬‬
‫وقالوا ‪ :‬مسعنا وأطعنا ‪ ،‬مث حذرهم من نقضها ونسيان النعم بقوله ‪:‬‬
‫اّلل الذي أع هده ملن نقض العهد أو جحد النعم ومل يشكر‬
‫اّللَ أي اتذوا وقاية من عذاب ه‬ ‫َواتا ُقوا ا‬
‫اّلل عَلِيم بِ ِ‬
‫الص ُدو ِر أي خبفيات األمور الكامنة يف الصدور ‪ ،‬املستقرة فيها‬
‫ذات ُّ‬ ‫اّلل عليها إِ ان اَ ٌ‬
‫ه‬
‫اّلل خفيات األمور يعلم جليات األمور‬
‫استقرارا يصحح إطًلق اسم الصاحب عليها ‪ ،‬وكما يعلم ه‬
‫من ابب أوىل ‪ ،‬وهذه اجلملة تعليل لقوله ‪َ :‬واتا ُقوا ا‬
‫اّللَ‪.‬‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت ‪:‬‬
‫اّلل وحمض إحسانه ‪ ،‬لينشط‬
‫اّلل اليت يتمتع هبا املرء مع اعتقاد أهنا بتيسري ه‬
‫‪ - 1‬وجوب تذ هكر نعم ه‬
‫يف واجب الشكر عليها‪.‬‬
‫‪ - 2‬وجوب الوفاء ابلعهود واملواثيق اليت يفيد تنفيذها يف الصاحل العام وخري اجملتمع‪.‬‬
‫اّلل فيما أمر به وهنى عنه‪.‬‬ ‫‪ - 3‬وجوب تقوى ه‬
‫ني ِاّللِ ُش َهداءَ ِابل ِْق ْس ِط َوال َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن قَ ْوٍم َعلى‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُكونُوا قَ اوام َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫قال ه‬
‫اّللَ َخبِريٌ ِمبا تَ ْع َملُو َن (‪ )8‬ملا ذكر ه‬
‫اّلل تعاىل‬ ‫ب لِلتا ْقوى َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ إِ ان ا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ اَال تَ ْعدلُوا ا ْعدلُوا ُه َو أَق َْر ُ‬
‫املؤمنني يف اآلية السابقة مبا يوجب عليهم االنقياد ألوامره ونواهيه أقبل عليهم خياطبهم ‪،‬‬
‫ويطالبهم ابالنقياد لتكاليفه ‪ ،‬سواء منها ما تعلق جبانبه تعاىل وما تعلق جبانب عباده فقال ‪ :‬اي‬
‫ني ِاّللِ أي قوموا قياما كثري العد هّلل تعاىل ابحلق يف كل ما يلزمكم القيام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُكونُوا قَ اوام َ‬ ‫أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬
‫به من األمر ابملعروف والعمل به ‪ ،‬والنهي عن املنكر واجتنابه‪.‬‬
‫وكونوا ُش َهداءَ ِابل ِْق ْس ِط أي أدوا الشهادات يف حقوق الناس ابلعدل كما يف قوله تعاىل ‪ُ :‬كونُوا‬
‫ني ِابل ِْق ْس ِط أي ُش َهداءَ ِاّللِ َول َْو عَلى أَنْ ُف ِس ُك ْم [النساء ‪.]135 :‬‬ ‫ِ‬
‫قَ اوام َ‬

‫ص ‪365 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬املراد الشهادة على الناس مبعاصيهم يوم القيامة كما يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اّلل أبهنم‬
‫ااس [البقرة ‪ ]143 :‬أي كونوا من أهل العدالة الذين حكم ه‬ ‫لِتَ ُكونُوا ُش َهداءَ َعلَى الن ِ‬
‫اّلل أبنهه احلق ‪ ،‬والظاهر األول ‪،‬‬
‫يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل املراد الشهادة ألمر ه‬
‫وإن كان الثاين أنسب بكون اآلية نزلت يف يهود بين النضري ‪ ،‬ومعىن كونه يشهد هّلل أنه ال حيايب‬
‫بشهادته أهل وده وقرابته ‪ ،‬وال مينع شهادته عن أعدائه َوال َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن قَ ْوٍم عَلى أ اَال تَ ْع ِدلُوا‬
‫أي ال حيملنهكم بغض قوم على أن َتوروا عليهم يف معاملتهم ‪ ،‬وأن تظلموهم يف حماكمتكم هلم ‪،‬‬
‫وأن تعتدوا عليهم يف أنفسهم وأوالدهم‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قيل ‪ :‬نزلت هذه اآلية يف يهود بين النضري حني ائتمروا على الفتك برسول ه‬
‫اّلل إليه بذلك ‪ ،‬وجنهاه من كيدهم ‪ ،‬فأرسل عليه الصًلة والسًلم إليهم أيمرهم‬
‫وسلهم ‪ ،‬فأوحى ه‬
‫ابلرحيل من جوار املدينة ‪ ،‬فامتنعوا وحتصنوا حبصوهنم ‪ ،‬فخرج عليه الصًلة والسًلم إليهم جبمع‬
‫اّلل عليه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫ست ليال ‪ ،‬اشتد األمر فيها عليهم ‪ ،‬فسألوا ه‬
‫من أصحابه ‪ ،‬وحاصرهم ه‬
‫يكف عن دمائهم ‪ ،‬وأن يكون هلم ما محلت اإلبل‪.‬‬
‫وسلهم أن يكتفي منهم ابجلًلء ‪ ،‬وأن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم هبم ‪ ،‬ويكثر من الفتك فيهم‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وكان البعض من املؤمنني يرى لو ميثل ه‬
‫فنزلت اآلية لنهيهم عن اإلفراط يف املعاملة ابلتمثيل والتشويه ‪ ،‬فقبل النيب عليه الصًلة والسًلم‬
‫من اليهود ما اقرتحوه «‪.»1‬‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت يف املشركني الذين صدوا املسلمني عن املسجد احلرام عام احلديبية ‪ ،‬كأنه تعاىل‬
‫أبي نوع من أنواع‬
‫أعاد النهي هنا ليخ هفف من حدة املسلمني ورغبتهم يف الفتك ابملشركني ه‬
‫الفتك‪.‬‬
‫صرح هلم‬ ‫ا ْع ِدلُوا هو أَقْر ِ‬
‫ب للتا ْقوى هناهم أوال عن أن حتملهم البغضاء على ترك العدل ‪ ،‬مث ه‬ ‫َُ َ ُ‬
‫ب لِلتا ْقوى أي العدل يف‬
‫ابألمر ابلعدل ‪ ،‬للتأكيد ‪ ،‬مث ذكر علة األمر ابلعدل بقوله ‪ُ :‬ه َو أَق َْر ُ‬
‫معاملة األعداء أقرب إىل اتقاء املعاصي على الوجه العام ‪ ،‬أو املعىن ‪ :‬أن العدل يف معاملة‬
‫اّلل على الوجه العام أيضا ‪ ،‬وبه يندفع ما قد يقال ‪ :‬إن العدل‬
‫األعداء أقرب إىل اتقاء عذاب ه‬
‫من التقوى ‪ ،‬فكيف يقال هو أقرب للتقوى‪.‬‬
‫مث أمر ابلتقوى على الوجه العام فقال ‪َ :‬واتا ُقوا ا‬
‫اّللَ أي اتذوا وقاية من عذابه يف مجيع أعمالكم ‪،‬‬
‫اّلل خبري مبا تعملون ‪ ،‬ال خيفى عليه شيء من أعمالكم‪.‬‬
‫فإ هن ه‬
‫األحكام‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت ‪:‬‬
‫‪ - 1‬وجوب القيام هّلل تعاىل بكل التكاليف اليت وجهها إلينا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)91 /6‬‬

‫ص ‪366 :‬‬
‫‪ - 2‬وجوب أداء الشهادات على وجهها من غري حماابة وال ظلم‪.‬‬
‫‪ - 3‬وجوب العدل يف معاملة األعداء واألحباب‪.‬‬
‫اّلل على الوجه العام‪.‬‬ ‫‪ - 4‬وجوب تقوى ه‬
‫ِ‬
‫ض فَساداً أَ ْن يُ َقتا لُوا أ َْو‬ ‫اّللَ َوَر ُسولَهُ َويَ ْس َع ْو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِامنا َجزاءُ الاذ َ‬
‫ين ُحيا ِربُو َن ا‬ ‫قال ه‬
‫ي ِيف ُّ‬
‫الدنْيا َوَهلُ ْم‬ ‫ض ذلِ َ ِ‬ ‫ًلف أ َْو يُْن َف ْوا ِم َن ْاأل َْر ِ‬
‫يصلابوا أَو تُ َقطاع أَي ِدي ِهم وأَرجلُهم ِمن ِخ ٍ‬
‫ك َهلُ ْم خ ْز ٌ‬ ‫َ ْ ْ َ ُْ ُْ ْ‬ ‫َُُ ْ‬
‫ور‬
‫اّللَ غَ ُف ٌ‬‫ين اتبُوا ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ ْق ِد ُروا َعلَْي ِه ْم فَا ْعلَ ُموا أَ ان ا‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )33‬إِاال الاذ َ‬
‫ِ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫ِيف ْاآلخ َرة َع ٌ‬
‫يم (‪)34‬‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫اّلل تعاىل يف اآلية السابقة على تغليظ اإلمث يف قتل النفس بغري قتل نفس وال فساد يف‬ ‫نص ه‬
‫وبني يف هذه اآلية أ هن الفساد الذي يوجب القتل ما‬ ‫مجيعاً ه‬ ‫األرض حيث قال ‪ :‬فَ َكأَامنا قَتَل النااس َِ‬
‫َ َ‬
‫هو؟ فإن بعض ما يكون فسادا يف األرض ال يوجب القتل كشهادة الزور والسرقات وهتك‬
‫ِ‬
‫األعراض من غري احملصن ‪ ،‬فقال ‪ :‬إِ امنا َجزاءُ الاذ َ‬
‫ين ُحيا ِربُو َن ا‬
‫اّللَ إخل‪.‬‬
‫كًل منهما إذا اتب قبلت‬
‫نزلت هذه اآلية يف قطهاع الطريق ال يف املشركني وال يف املرتدين ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫توبته ‪ ،‬سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها ‪ ،‬هأما قطهاع الطريق فيسقط عنهم احلد إذا‬
‫اتبوا قبل القدرة عليهم ‪ ،‬وال يسقط عنهم إذا اتبوا بعد القدرة عليهم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قيل ‪ :‬نزلت يف قوم هًلل بن عومير األسلمي ‪ ،‬وكان بينه وبني رسول ه‬
‫النيب‬
‫مر عليه من يقصد ه‬ ‫عهد على أنه ال يعينه وال يعني عليه ‪ ،‬وأنه إن أاته أحد من املسلمني أو ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ال يتعرض له بسوء ‪ ،‬فمر قوم من بين كنانة يريدون اإلسًلم بقوم من بين‬ ‫صلهى ه‬
‫هًلل ‪ ،‬وكان هًلل غائبا ‪ ،‬فقطعوا عليهم الطريق ‪ ،‬وقتلوا منهم ‪ ،‬وأخذوا أمواهلم‪.‬‬
‫اّلل عهد ‪ ،‬فنقضوا العهد ‪ ،‬وقطعوا‬ ‫وقيل ‪ :‬نزلت يف قوم من أهل الكتاب بينهم وبني رسول ه‬
‫اّللَ َوَر ُسولَهُ َويَ ْس َع ْو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض فَساداً يتناول‬ ‫كل فقوله ‪ُ :‬حيا ِربُو َن ا‬
‫الطريق على املسلمني‪ .‬وعلى ه‬
‫كل من اتصف هبذه الصفة سواء أكان كافرا أم مسلما ‪ ،‬غاية األمر أن يقال ‪ :‬إ هن اآلية نزلت يف‬
‫ه‬
‫ولكن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪.‬‬
‫الكفار ‪ ،‬ه‬
‫وحماربة الناس هّلل على وجه احلقيقة غري ممكنة ‪ ،‬لتنزهه عن أن يكون من اجلواهر واألجسام اليت‬
‫منزه عن‬
‫اّلل ه‬
‫كل من املتحاربني يف جهة ومكان ‪ ،‬و ه‬
‫تقاتل أو تقاتل ‪ ،‬وأل هن احملاربة تستلزم أن يكون ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فيكون جمازا ‪ ،‬إما من املخالفة واإلغضاب مع التلبس حبالة تشبه حالة احملاربني ‪ ،‬فإ هن‬
‫اّلل‬
‫قطهاع الطريق خيرجون ممتنعني جماهرين إبظهار السًلح وقطع الطريق ‪ ،‬أو املعىن حياربون أولياء ه‬

‫ص ‪367 :‬‬
‫ِ‬
‫ورسوله ‪ ،‬فيكون نظري قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان الاذ َ‬
‫ين يُ ْؤذُو َن ا‬
‫اّللَ َوَر ُسولَهُ [األحزاب ‪.]57 :‬‬
‫واحملاربون هم الذين جيتمعون بقوة وشوكة حيمي بعضهم بعضا ‪ ،‬ويقصدون املسلمني ‪ ،‬أو أهل‬
‫الذمة يف أرواحهم وأمواهلم‪.‬‬
‫والسعي يف األرض ابلفساد عبارة عن إخافة الطرق حبمل السًلح ‪ ،‬وإزعاج الناس ‪ ،‬سواء‬
‫أصحبه قتل النفوس وأخذ األموال أم ال‪.‬‬
‫واتفق العلماء على أ هن هذه احلالة إذا حصلت يف الصحراء كانوا قطهاع الطريق ‪ ،‬وأما إذا حصلت‬
‫يف املصر ففيها اخلًلف ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ‪ :‬ال يكون قاطعا للطريق ‪ ،‬أل هن اجملين عليه يلحقه‬
‫الغوث يف الغالب ‪ ،‬فًل يتمكن اجملتمعون من املقاتلة ‪ ،‬وروي عن مالك أنه ال يكون حماراب حَّت‬
‫يقطع على ثًلثة أميال من القرية ‪ ،‬وروي عنه أيضا إذا كابر يف املصر ابللصوصية كان حماراب ‪،‬‬
‫َتري عليه أحكام قطاع الطريق ‪ ،‬وهو مذهب اإلمام الشافعي ‪ ،‬إلطًلق قوله تعاىل ‪ :‬إِ امنا َجزاءُ‬
‫ِ‬
‫الاذ َ‬
‫ين ُحيا ِربُو َن ا‬
‫اّللَ َوَر ُسولَهُ إخل‪.‬‬
‫واختلفوا يف احلكم املستفاد من هذه اآلية ‪ ،‬فقال قوم من السلف ‪ :‬اآلية تدل على التخيري بني‬
‫أي نوع‬
‫خري بني أن جيري عليهم ه‬
‫هذه األجزية ‪ ،‬فمَّت خرجوا لقطع الطريق وقدر عليهم اإلمام ه‬
‫من هذه األحكام ‪ ،‬وإن مل يقتلوا ومل أيخذوا ماال ‪ ،‬وإىل هذا ذهب سعيد بن املسيب وجماهد‬
‫واحلسن وعطاء بن أيب رابح وهو مذهب املالكية‪.‬‬
‫وقال قوم آخرون من السلف ‪ :‬اآلية تدل على ترتيب األحكام وتوزيعها على ما يليق هبا من‬
‫اجلناايت ‪ ،‬فمن قتل وأخذ املال قتل وصلب ‪ ،‬ومن اقتصر على أخذ املال قطهعت يده ورجله‬
‫السبل ومل يقتل ومل أيخذ ماال نفي من األرض ‪ ،‬وهو ما رواه عطاء عن‬
‫من خًلف ‪ ،‬ومن أخاف ه‬
‫ابن عباس ‪ ،‬وذهب إليه قتادة واألوزاعي ‪ ،‬وهو مذهب الشافعية والصاحبني من احلنفية وأكثر‬
‫العلماء‪.‬‬
‫وأبو حنيفة حيمل اآلية على التخيري ‪ ،‬لكن ال يف مطلق احملارب ‪ ،‬بل يف حمارب خاص ‪ ،‬وهو‬
‫خمري يف أمور أربعة ‪:‬‬
‫الذي قتل النفس وأخذ املال ‪ ،‬فاإلمام ه‬
‫إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خًلف وقتلهم‪.‬‬
‫وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم‪.‬‬
‫وإن شاء صلبهم فقط‪.‬‬
‫وإن شاء قتلهم فقط‪ .‬وال جيوز إفراد القطع يف هذه احلالة ‪ ،‬بل ال ب هد من انضمام القتل أو‬
‫الصلب إليه ‪ ،‬أل هن اجلناية قتل وأخذ مال ‪ ،‬والقتل وحده فيه القتل ‪ ،‬وأخذ املال وحده فيه‬
‫القطع ‪ ،‬ففيهما مع اإلخافة واإلزعاج ال يعقل القطع وحده ‪ ،‬هذا مذهب اإلمام أيب حنيفة‪.‬‬
‫وقال صاحباه ‪ :‬يف هذه الصورة يصلهبون ويقتلون وال يقطعون ‪ ،‬واتفق أبو حنيفة‬

‫ص ‪368 :‬‬
‫مع أصحابه على أهنم إذا قتلوا فقط يقتلون ‪ ،‬وإذا أخذوا املال فقط تقطهع أيديهم وأرجلهم من‬
‫خًلف ال غري ‪ ،‬وإن أخافوا الطريق ومل أيخذوا ماال ومل يقتلوا نفسا ينفون من األرض‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ذكر هذه األجزية بكلمة (أو) وهي موضوعة للتخيري ‪،‬‬
‫حجة املالكية ظاهر اآلية ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫كما يف كفارة اليمني ‪ ،‬وكفارة جزاء الصيد ‪ ،‬فيجب العمل حبقيقة هذا احلرف ما مل يدل الدليل‬
‫على خًلفه ‪ ،‬ومل يوجد ‪ ،‬فيثبت التخيري‪.‬‬
‫حجة الشافعية والصاحبني وأكثر العلماء ‪ :‬أ هن اآلية ال ميكن إجراؤمها على ظاهر التخيري يف‬
‫مطلق احملارب ألمرين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن العقل يقضي أن يكون اجلزاء مناسبا للجناية ‪ ،‬يزداد ابزدايدها ‪ ،‬وينقص بنقصها ‪،‬‬
‫وقد وردت الشريعة هبذا الذي يراه العقل حيث قال تعاىل ‪َ :‬و َجزاءُ َسيهِئَةٍ َسيهِئَةٌ ِمثْ لُها [الشورى ‪:‬‬
‫‪ ]40‬فالتخيري يف جزاء اجلناية القاصرة مبا يشمل جزاء اجلناية الكاملة ‪ ،‬ويف اجلناية الكاملة مبا‬
‫يشمل جزاء القاصرة خًلف املشروع ‪ ،‬يؤيهد هذا إمجاع األمة على أ هن قطاع الطريق إذا قتلوا‬
‫وأخذوا املال ال يكون جزاؤهم املعقول النفي وحده ‪ ،‬وهو يدل على أنهه ال ميكن العمل بظاهر‬
‫التخيري‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أن التخيري الوارد يف األحكام املختلفة حبرف التخيري إمنا جيري على ظاهره إذا كان‬
‫سبب الوجوب واحدا ‪ ،‬كما يف كفارة اليمني ‪ ،‬وكفارة جزاء الصيد ‪ ،‬أما إذا كان السبب خمتلفا ‪،‬‬
‫فإنهه خيرج التخيري عن ظاهره ‪ ،‬ويكون الغرض بيان احلكم لكل واحد يف نفسه ‪ ،‬وقطع الطريق‬
‫متنوع ‪ ،‬وبني أنواعه تفاوت يف اجلرمية ‪ ،‬فقد يكون أبخذ املال فقط ‪ ،‬وقد يكون ابلقتل ال غري ‪،‬‬
‫وقد يكون ابجلمع بني األمرين ‪ ،‬وقد يكون ابلتخويف ال غري ‪ ،‬فكان سبب العقاب خمتلفا ‪ ،‬فًل‬
‫حيمل ظاهر النص على التخيري ‪ ،‬بل حيمل على بيان احلكم لكل نوع ‪ ،‬فيقتلون ويصلبون إن‬
‫قتلوا وأخذوا ‪ ،‬وتقطع أيديهم وأرجلهم من خًلف إن أخذوا املال ال غري ‪ ،‬وينفون من األرض‬
‫إن أخافوا الطريق ومل يقتلوا نفسا ومل أيخذوا ماال‪.‬‬
‫اخ َذ فِي ِه ْم ُح ْسناً [الكهف ‪:‬‬
‫ني إِ اما أَ ْن تُع هِذب وإِ اما أَ ْن تَت ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ونظري ذلك قوله تعاىل ‪ :‬قُلْنا اي ذَا الْ َق ْرنَ ْ ِ‬
‫‪ ]86‬فإنهه ليس الغرض التخيري ‪ ،‬وإمنا املعىن ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم ‪،‬‬
‫واإلحسان إىل من آمن وعمل صاحلا ‪ ،‬فلما اختلف السبب مل حتمل اآلية على التخيري ‪ ،‬بل على‬
‫بيان احلكم لكل نوع‪.‬‬
‫ويؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة أ هن اآلية ال ميكن صرفها إىل ظاهر التخيري يف مطلق احملارب ‪ ،‬فإما‬
‫أن حتمل على ترتيب األحكام ويضمر يف كل حكم ما يناسبه من اجلناايت ‪ ،‬وفيه إلغاء حرف‬
‫التخيري ابملرة ‪ ،‬وإما أن يعمل بظاهر التخيري بني‬

‫ص ‪369 :‬‬
‫األجزية الثًلثة ‪ ،‬لكن ال يف مطلق احملارب ‪ ،‬بل يف حمارب خاص ‪ ،‬وهو الذي قتل النفس وأخذ‬
‫املال ‪ ،‬وهذا هو األقرب واألوىل ‪ ،‬ألن فيه عمًل حبقيقة حرف التخيري ‪ ،‬ومبا هو املعقول املؤيد‬
‫مبا وردت به الشريعة‪.‬‬
‫وقوله ‪َ :‬ويَ ْس َع ْو َن معطوف على ُحيا ِربُو َن وقوله ‪ :‬فَساداً حال من فاعل يَ ْس َع ْو َن بتأويله ابسم‬
‫الفاعل ‪ ،‬أو هو مصدر مؤهكد ل يَ ْس َع ْو َن فإنهه مبعىن يفسدون إفسادا ‪ ،‬فهو مصدر حذفت زوائده‬
‫‪ ،‬أو هو اسم مصدر مؤكد‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬أَ ْن يُ َقتا لُوا خرب عن املبتدأ الذي هو (جزاء) واملراد يقتلون حدا ‪ ،‬أي من غري صلب إن‬
‫أفردوا القتل ‪ ،‬وال يسقط القتل حينئذ بعفو األولياء ‪ ،‬وال فرق بني أن يكون القتل آبلة جارحة أو‬
‫بغريها ‪ ،‬واإلتيان بصيغة التفعيل ملا يف القتل هنا من الزايدة ابعتبار أنه حمتوم ال يسقط ‪ ،‬ولو عفا‬
‫األولياء‪.‬‬
‫صلابُوا أي مع القتل إن قتلوا النفس وأخذوا املال‪.‬‬ ‫وقوله ‪ :‬أ َْو يُ َ‬
‫ًلف أي إن أخذوا املال ال غري ‪ ،‬أ َْو يُْن َف ْوا ِم َن ْاأل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫وقوله ‪ :‬أَو تُ َقطاع أَي ِدي ِهم وأَرجلُهم ِمن ِخ ٍ‬
‫َ ْ ْ َ ُْ ُْ ْ‬ ‫ْ‬
‫إن أخافوا الطريق ‪ ،‬ومل يقتلوا نفسا ‪ ،‬ومل أيخذوا ماال‪.‬‬
‫وكيفية الصلب أن يصلب حيا على الطريق العام يوما واحدا ‪ ،‬أو ثًلثة أايم لينزجر األشقياء ‪ ،‬مث‬
‫مروي عن أيب يوسف ‪ ،‬وذكره الكرخي أيضا‪.‬‬
‫يطعن برمح حَّت ميوت ‪ ،‬وهو ه‬
‫وقيل ‪ :‬يقتل ويصلهى عليه ‪ ،‬مث يصلب ‪ ،‬وهو مذهب الشافعية ‪ ،‬والنفي من األرض هو احلبس‬
‫عند احلنفية ‪ ،‬والعرب تستعمل النفي هبذا املعىن كثريا ‪ ،‬أل هن الشخص إذا نفي فارق بيته وأهله ‪،‬‬
‫فكأنهه نفي من األرض ‪ ،‬وقيل ‪ :‬النفي هو طلبهم عند الفرار ‪ ،‬وعدم َتكينهم من اإلقامة يف‬
‫مكان خاص ‪ ،‬مبعىن أنه إذا طلبهم اإلمام ‪ ،‬فإن قدر عليهم أقام عليهم احلد ‪ ،‬وإن هربوا طلبهم‬
‫يف البلدة اليت ينزلون هبا ‪ ،‬فإن هربوا إىل بلدة أخرى طلبهم أيضا ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وكيفية القطع أن تقطع اليد اليمىن والرجل اليسرى ‪ ،‬سواء أكانوا أخذوا املال من مسلم أم من‬
‫ذمي ‪ ،‬بشرط أن يكون املال حبيث لو قسم خيص كل واحد ‪ :‬قدر عشرة دراهم عند احلنفية ‪ ،‬أو‬
‫ربع دينار عند الشافعية كما يف السرقة ‪ ،‬ومل يعترب اإلمام مالك هذا الشرط ‪ ،‬ألنهه يرى إجراء‬
‫احلكم عليهم أبي نوع من أنواعه مبجرد اخلروج ‪ ،‬ولو مل يقتلوا نفسا ومل أيخذوا ماال‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذلِ َ‬
‫الدنْيا أي ذل وفضيحة َوَهلُ ْم ِيف ْاآلخ َرة َع ٌ‬
‫ذاب‬ ‫ي كائن ِيف ُّ‬
‫ك الذي فصل من األحكام َهلُ ْم خ ْز ٌ‬
‫يم لعظم جناايهتم ‪ ،‬واقتصر يف الدنيا على اخلزي مع أ هن هلم فيها عذااب أيضا ‪ ،‬ويف اآلخرة‬ ‫ِ‬
‫َعظ ٌ‬
‫على العذاب مع أن هلم فيها خزاي أيضا ‪ ،‬ألن‬

‫ص ‪370 :‬‬
‫اخلزي يف الدنيا أعظم من عذاهبا ‪ ،‬والعذاب يف اآلخرة أشد من خزيها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم‬ ‫ويؤخذ من اآلية أن احلدود ال تسقط العقوبة يف اآلخرة حيث قال ‪َ :‬وَهلُ ْم ِيف ْاآلخ َرة َع ٌ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬
‫فاحلدود من الزواجر ال من اجلوابر ‪ ،‬كما هو صريح اآلية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن احلدود َترب الذنوب‬
‫وتكفرها ‪ ،‬بدليل‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم يف احلديث الصحيح «من أصاب من هذه املعاصي شيئا فعوقب به‬
‫اّلل ‪ ،‬إن شاء عفا عنه ‪ ،‬وإن‬
‫اّلل فهو إىل ه‬
‫يف الدنيا فهو كفارة له ‪ ،‬ومن أصاب منها شيئا فسرته ه‬
‫شاء عاقبه» «‪.»1‬‬
‫وأجيب عن احلديث أبن اآلية قطعية فيجب أن يقيهد احلديث الذي هو ظين مبا ال يتناىف مع اآلية‬
‫‪ ،‬وقد قالوا ‪ :‬جيب محل احلديث على ما إذا اتب عن الذنب ‪ ،‬فتوبته تك هفر إمث اجلرمية ‪ ،‬وإمنا‬
‫أضاف الكفارة إىل العقاب يف احلديث ابعتبار أ هن الظاهر أن من يقع يف يد احلاكم ‪ ،‬ويرى أ هن‬
‫اّلل عنه إمث اجلرمية ‪ ،‬فيكون‬
‫احلد واقع عليه ال حمالة يندم على ما فعل ‪ ،‬ويتوب منه ‪ ،‬فيك هفر ه‬
‫العقاب سببا يف الكفارة بواسطة‪.‬‬
‫ين اتبُوا ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ ْق ِد ُروا َعلَْي ِه ْم استثناء إلخراج بعض ما تناول اللفظ ‪ ،‬ولكنهه خمصوص‬ ‫ِ‬
‫إِاال الاذ َ‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬
‫يم أما ما هو من‬ ‫اّلل تعاىل كما يدل عليه قوله تعاىل ‪ :‬فَا ْعلَ ُموا أَ ان اَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫مبا هو من حقوق ه‬
‫حقوق األولياء من قصاص أو مظلمة يف مال أو غريه فهو اثبت هلم ‪ ،‬إن شاؤوا عفوا ‪ ،‬وإن‬
‫شاؤوا استوفوا‪.‬‬
‫واملراد أ هن التوبة قبل القدرة عليهم ال تسقط عنهم القتل حدا ‪ ،‬الذي من آاثره أنه ين هفذ عليهم‬
‫مفوض إىل رأي األولياء ‪ ،‬إن‬
‫ولو عفا األولياء ‪ ،‬وال تسقط عنهم القتل قصاصا ‪ ،‬الذي أمره ه‬
‫شاؤوا عفوا ‪ ،‬وإن شاؤوا استوفوا‪.‬‬
‫واملراد أ هن التوبة قبل القدرة عليهم ال تسقط عنهم القتل حدا ‪ ،‬الذي من آاثره أنه ين هفذ عليهم‬
‫مفوض إىل رأي األولياء ‪ ،‬إن‬
‫ولو عفا األولياء ‪ ،‬وال تسقط عنهم القتل قصاصا ‪ ،‬الذي أمره ه‬
‫شاؤوا عفوا ‪ ،‬وإن شاؤوا استوفوا‪.‬‬
‫جاه ُدوا ِيف َسبِيلِهِ ل ََعلا ُك ْم‬
‫اّلل واب تَ غُوا إِلَيهِ الْو ِسيلَةَ و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫آمنُوا اتا ُقوا اَ َ ْ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫قال ه‬
‫حو َن (‪ )35‬سبق هذه اآلية بيان خطر القتل والفساد وحكمهما ‪ ،‬واإلشارة إىل الغفران‬ ‫ِ‬
‫تُ ْفل ُ‬
‫اّلل املؤمنني أن يتقوه يف كل ما أيتون وما يذرون ‪ ،‬فيرتكوا‬ ‫للتائبني ‪ ،‬فكان من املناسب أن أيمر ه‬
‫املعاصي ومن مجلتها القتل والفساد ‪ ،‬ويفعلوا الطاعات ومنها السعي يف إحياء النفوس ‪ ،‬ودفع‬
‫جل شأنه ‪:‬‬
‫الفساد ‪ ،‬واملسارعة إىل التوبة واالستغفار‪ .‬فقال ه‬
‫ِ‬
‫آمنُوا اتا ُقوا ا‬
‫اّللَ‪.‬‬ ‫اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬
‫مث قال ‪َ :‬وابْ تَ غُوا أي اطلبوا ألنفسكم إِل َْيهِ أي إىل ثوابه ورضاه ال َْو ِسيلَةَ أي افعلوا الطاعات ‪،‬‬
‫واتركوا ما هناكم عنه ‪ ،‬فذلكم وحده هو الطريق‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 86 ، )20 /8‬كتاب احلدود ‪ - 9 ،‬ابب احلدود حديث‬
‫رقم (‪ ، )6784‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1333 /3‬كتاب احلدود ‪ - 10 ،‬ابب‬
‫احلدود حديث رقم (‪.)1709 /41‬‬

‫ص ‪371 :‬‬
‫املقربة من رضاه ‪ ،‬املوصلة إىل ثوابه‪ .‬والوسيلة فعلية مبعىن ما يتوسل به ‪ ،‬أي يتقرب ‪ ،‬وليست‬
‫ه‬
‫مصدرا ‪ ،‬ولذا تعلهق هبا ما قبلها ‪ ،‬وهو (إليه)‪.‬‬
‫ولعل املراد هبا االتقاء املأمور به ‪ ،‬فإنهه مًلك األمر كله ‪ ،‬كما‬
‫قال العًلمة أبو السعود «‪ : »1‬ه‬
‫أشري إليه ‪ ،‬وذريعة لنيل كل خري ‪ ،‬ومنجاة من كل ضري‪ .‬فاجلملة حينئذ جارية مما قبلها جمرى‬
‫البيان والتأكيد ‪ ،‬أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخوال أولياء‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬اجلملة األوىل أمر برتك املعاصي ‪ ،‬والثانية أمر بفعل الطاعات‪.‬‬
‫وملا كان فعل احلسنات وترك السيئات شاقا على النفس الداعية إىل اللذات احلسية ‪ ،‬املخالفة‬
‫اّلل تعاىل هذا التكليف بقوله ‪:‬‬
‫للعقل الداعي إىل الفضائل أردف ه‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َوجاه ُدوا ِيف َسبِيله ل ََعلا ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫حو َن‪.‬‬
‫قال اإلمام فخر الدين «‪ : »2‬وهذه اآلية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية ‪ ،‬وحنن نشري‬
‫اّلل تعاىل فريقان ‪ :‬منهم من يعبد ا هّلل ال لغرض سوى‬
‫هاهنا إىل واحد منها ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن من يعبد ه‬
‫اّلل ‪ ،‬ومنهم من يعبده لغرض آخر ‪ ،‬واملقام األول هو املقام الشريف العايل ‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله‬ ‫ه‬
‫جاه ُدوا ِيف َسبِيلِهِ أي يف سبيل عبوديته وطريق اإلخًلص يف معرفته وخدمته ‪ ،‬واملقام الثاين‬ ‫‪:‬و ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫حو َن والفًلح اسم جامع للخًلص من املكروه ‪،‬‬ ‫دون األول ‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله ‪ :‬ل ََعلا ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫والفوز ابحملبوب‪.‬‬
‫ِ‬
‫اّللُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم‬ ‫كاال ِم َن ا‬
‫اّللِ َو ا‬ ‫سبا نَ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْديَ ُهما َجزاءً مبا َك َ‬ ‫سا ِر ُق َوال ا‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال ا‬
‫قال ه‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)39‬‬ ‫وب َعلَْيه إِ ان اَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫اتب م ْن بَ ْع ِد ظُل ِْمهِ َوأ ْ‬
‫َصلَ َح فَِإ ان ا اّللَ يَتُ ُ‬ ‫(‪ )38‬فَ َم ْن َ‬
‫وبني‬
‫اّلل تعاىل يف اآلية السابقة قطع األيدي واألرجل عند أخذ املال على سبيل احملاربة ‪ ،‬ه‬ ‫أوجب ه‬
‫يف هذه اآلية أ هن أخذ املال على سبيل السرقة يوجب القطع أيضا ‪ ،‬وإن كان بينهما اختًلف ما‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬نزلت هذه اآلية يف طعمة بن أبريق حني سرق درع جار له ‪ ،‬يدعى قتادة بن النعمان يف‬
‫جراب دقيق ‪ ،‬به خرق ‪ ،‬وخبأها عند زيد بن السمني اليهودي ‪ ،‬فتناثر الدقيق من بيت قتادة إىل‬
‫بيت زيد ‪ ،‬فلما تنبه قتادة للسرقة التمسها عند طعمة فلم توجد ‪ ،‬وحلف ما أخذها ‪ ،‬وما له هبا‬
‫علم ‪ ،‬مث تنبهوا إىل الدقيق املتناثر ‪ ،‬فتتبعوه حَّت وصل إىل بيت زيد ‪ ،‬فأخذوها منه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أن جيادل‬ ‫اّلل صلهى ه‬ ‫وهم رسول ه‬ ‫إيل طعمة ‪ ،‬وشهد انس من اليهود بذلك ‪ ،‬ه‬ ‫دفعها ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ُه ْم‬ ‫عن طعمة ‪ ،‬أل هن الدرع وجد عند غريه ‪ ،‬فنزل قوله تعاىل ‪َ ،‬وال َُتاد ْل َع ِن الاذ َ‬
‫ين َخيْتانُو َن أَنْ ُف َ‬
‫وفر طعمة ‪ ،‬ومات أثناء فراره‪.‬‬
‫[النساء ‪ ]107 :‬مث نزلت هذه اآلية لبيان حكم السرقة ‪ ،‬ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي (‪.)32 /3‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)220 /11‬‬

‫ص ‪372 :‬‬
‫سا ِر ُق مبتدأ خربه حمذوف ‪ ،‬واملعىن حكم السارق والسارقة مما يتلى عليكم ‪ ،‬وقوله ‪ :‬فَاقْطَعُوا‬
‫َوال ا‬
‫وحسن‬
‫مجلة مبينة حلكمهما ‪ ،‬فهما مجلتان ‪ ،‬وحيتمل أن تكون مجلة فَاقْطَعُوا خربا عن املبتدأ ‪ ،‬ه‬
‫اقرتاهنا ابلفاء أ هن األلف والًلم يف املبتدأ قائمة مقام االسم املوصول ‪ ،‬وخربه يقرتن ابلفاء كثريا ‪،‬‬
‫خصوصا إذا روعي أنه جزاء ‪ ،‬واجلزاء يقرتن ابلفاء‪.‬‬
‫صرح ابلسارقة للزجر ‪ ،‬ومزيد العناية ابلبيان‬
‫وملا كانت السرقة معهودة كثريا من النساء كالرجال ه‬
‫‪ ،‬وإن كان املعهود إدراج النساء يف األحكام الواردة يف شأن الرجال‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫والسرقة يف اللغة ‪ :‬أخذ املال مطلقا يف خفاء وحيلة ‪ ،‬ولكنه ورد عن النيب صلهى ه‬
‫معني مقدارا معينا من‬
‫يبني أ هن قطع األيدي ال يكون يف مطلق السرقة ‪ ،‬بل يف سرقة شخص ه‬
‫ما ه‬
‫حرز املثل ‪ ،‬ولذلك عرف الفقهاء السرقة أبهنا ‪ :‬أخذ العاقل البالغ مقدارا خمصوصا خفية من‬
‫حرز مبكان ‪ ،‬أو حافظ ‪ ،‬ودون شبهة‪.‬‬
‫أما العقل والبلوغ فأل هن السرقة جناية ‪ ،‬وهي ال تتحقق دوهنما‪.‬‬
‫وأما املقدار فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري ‪ :‬ال قطع إال يف عشرة دراهم فصاعدا ‪ ،‬أو قيمتها‬
‫من غريها ‪ ،‬وروي عن الصاحبني أنه ال قطع إال فيما يساوي عشرة دراهم مضروبة‪.‬‬
‫وقال مالك والشافعي واألوزاعي ‪ :‬ال قطع إال يف ربع دينار‪.‬‬
‫حجة احلنفية ما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫قطع فيما دون عشرة دراهم» «‪.»1‬‬
‫اّلل بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأمين احلبشي وأيب جعفر وعطاء وإبراهيم‬
‫وما روي عن عبد ه‬
‫من أهنم كانوا يقولون ‪ :‬ال قطع إال يف عشرة دراهم‪.‬‬
‫اّلل عنها أهنها قالت ‪« :‬تقطع يد السارق يف‬
‫وحجة املالكية والشافعية ‪ :‬ما روي عن عائشة رضي ه‬
‫ربع دينار فصاعدا» وما‬
‫السارق إال يف ربع دينار‬
‫روي عن عائشة أيضا من أنه عليه الصًلة والسًلم قال ‪« :‬ال تقطع يد ه‬
‫فصاعدا» «‪ »2‬وهذا القول منقول عن أيب بكر وعمر وعثمان وعلي‪.‬‬
‫وإذا لوحظ أن احلدود تدرأ ابلشبهات ‪ ،‬وأ هن االحتياط أمر ال جيوز اإلغضاء عنه ‪ ،‬وأ هن احلظر‬
‫اجملن املسروق يف عهده‬
‫مق هدم على اإلابحة أمكن ترجيح مذهب احلنفية ‪ ،‬أل هن ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )455 /8 - 7‬كتاب قطع السارق حديث رقم (‪.)4956‬‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 86 ، )21 /8‬كتاب احلدود ‪ - 14 ،‬ابب قول ه‬
‫سا ِرقَةُ حديث رقم (‪.)6789‬‬
‫سا ِر ُق َوال ا‬
‫َوال ا‬
‫ص ‪373 :‬‬
‫عليه الصًلة والسًلم الذي قطعت فيه يد السارق ‪ ،‬وهو األصل الذي تقطع يف مثله يد السارق‬
‫ق هدره بعضهم بثًلثة دراهم ‪ ،‬وبعضهم أبربعة ‪ ،‬وبعضهم خبمسة ‪ ،‬وبعضهم بربع دينار ‪ ،‬وبعضهم‬
‫بعشرة دراهم ‪ ،‬واألخذ ابألكثر أرجح ‪ ،‬أل هن األقل فيه شبهة عدم اجلناية ‪ ،‬والشبهة تدرأ احلدود‬
‫‪ ،‬وأل هن التقدير ابألقل يبيح احلد يف أقل من العشرة ‪ ،‬والتقدير ابلعشرة حيظر احلد فيما هو أقل‬
‫منها ‪ ،‬واحلاظر مق هدم على املبيح‪.‬‬
‫فاالحتياط يف عقوبة القطع يقضي أب هن اليد ال تقطع إال يف سرقة عشرة دراهم فما فوقها‪.‬‬
‫وأما اعتبار احلرز ‪ ،‬فلما‬
‫ورد من أنه عليه الصًلة والسًلم سئل عن حريسة اجلبل فقال ‪« :‬فيها غرامة مثلها ‪ ،‬وجلدات‬
‫نكاال ‪ ،‬فإذا آواها املراح ‪ ،‬وبلغ مثن اجملن ‪ ،‬ففيها القطع» «‪»1‬‬
‫‪ .‬وملا‬
‫ورد من أنه عليه السًلم قال ‪« :‬ليس يف الثمر املعلهق قطع حَّت يؤويه اجلرين ‪ ،‬فإذا آواه اجلرين‬
‫ففيه القطع إذا بلغ مثن اجملن» «‪»2‬‬
‫ومنه يعلم أ هن اإلحراز شرط يف القطع‪.‬‬
‫واحلرز قد يكون مبا بين للسكىن وحفظ األموال ‪ ،‬ومثله املضارب واخليم والفسطاط مما يسكن‬
‫الناس فيه ‪ ،‬وحيفظون به أمتعتهم‪.‬‬
‫وقد يكون احلرز ابحلافظ يف الصحراء واملساجد والرحاب والطرقات أما النوع األول من احلرز‬
‫فهو ظاهر ‪ ،‬وأما الثاين فاألصل يف كون احلافظ حرزا‬
‫وتوسد رداءه ‪ ،‬فاستل اللص الرداء من‬
‫حديث صفوان بن أمية حني دخل املسجد وانم فيه ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فأمر‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حتت رأسه ‪ ،‬واستيقظ صفوان ‪ ،‬فأدرك اللص وساقه إىل رسول ه‬
‫اّلل ‪ ،‬هو عليه صدقة‪.‬‬
‫عليه الصًلة والسًلم بقطعه ‪ ،‬فقال صفوان ‪ :‬مل أرد هذا اي رسول ه‬
‫فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬فهًل قبل أن أتتيين به» «‪.»3‬‬
‫وأما اعتبار عدم الشبهة ‪ ،‬فلما روي واشتهر من‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ادرؤوا احلدود ابلشبهات ما استطعتم» «‪»4‬‬
‫‪ .‬فًل يقطع من سرق من مال له فيه شركة أو سرق من مدينة مثل دينه ‪ ،‬وال يقطع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )456 /8 - 7‬كتاب قطع السارق ‪ ،‬ابب التمر املعلق حديث‬
‫رقم (‪.)4957‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)4958‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )128 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب فيمن يسرق حديث رقم‬
‫(‪ )4394‬والنسائي يف السنن (‪ ، )438 /8 - 7‬كتاب السرقة ‪ ،‬ابب الرجل يتجاوز للسارق‬
‫حديث رقم (‪ ، )4893‬وابن ماجه يف السنن (‪ ، )865 /2‬كتاب احلدود ابب من سرق حديث‬
‫رقم (‪.)2595‬‬
‫(‪ )4‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )25 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب ما جاء من درء احلدود‬
‫حديث رقم (‪.)1424‬‬

‫ص ‪374 :‬‬
‫العبد إذا سرق من مال سيده ‪ ،‬وال األب من مال ابنه ‪ ،‬وما أشبه ذلك لوجود الشبهة ‪ ،‬وال‬
‫قطع معها‪.‬‬
‫مرة ‪ ،‬وبشهادة رجلني على السرقة للقطع ‪ ،‬فإن شهد رجل وامرأاتن على‬
‫وتثبت السرقة ابإلقرار ه‬
‫السرقة ال تقبل للقطع ‪ ،‬ولكنهها تقبل لضمان املسروق ‪ ،‬وهذا مذهب احلنفية واملالكية‬
‫الشافعية‪.‬‬
‫وإطًلق السارق يشمل األحرار والعبيد ‪ ،‬والذكور واإلانث ‪ ،‬واملسلمني والذميني‪.‬‬
‫ويف قوله ‪ :‬فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَ ُهما مقابلة اجلمع ابجلمع ‪ ،‬وهي تقتضي القسمة آحادا ‪ ،‬ه‬
‫فيدل الرتكيب‬
‫على أ هن كل سارق تقطع منه يد واحدة ‪ ،‬واليد اليت تقطع هي اليمىن لإلمجاع على ذلك ‪،‬‬
‫اّلل عنه (فاقطعوا أمياهنما)‪.‬‬
‫اّلل بن مسعود رضي ه‬
‫ولقراءة عبد ه‬
‫واليد تطلق على العضو املخصوص إىل املنكب ‪ ،‬وعلى هذا العضو إىل مفصل الكف ‪ ،‬كما يف‬
‫ك َتْرج ب يضاء ِمن غَ ِري س ٍ‬ ‫ِ‬
‫وء‬ ‫قوله تعاىل ملوسى عليه الصًلة والسًلم ‪َ :‬وأَ ْدخ ْل يَ َد َك ِيف َج ْيبِ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ْ ُ‬
‫الكف ‪ ،‬وال خًلف بني السلف من الصدر األول ‪،‬‬
‫[النمل ‪ ]12 :‬واملراد ما كان إىل مفصل ه‬
‫الكف ال إىل املرفق وال إىل‬
‫وال بني فقهاء األمصار يف أ هن قطع يد السارق يكون إىل مفصل ه‬
‫املنكب ‪ ،‬وقال اخلوارج ‪ ،‬تقطع إىل املنكب ‪ ،‬وقال قوم ‪ :‬تقطع األصابع فقط‪.‬‬
‫حجة اجلمهور ما‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنهم أ هن رسول ه‬
‫رواه حممد بن عبد الرمحن بن ثوابن عن أيب هريرة رضي ه‬
‫وسلهم قطع يد السارق من الرسغ‬
‫‪ ،‬وما‬
‫اّلل عنهما أهنما كاان يقطعان يد السارق من‬
‫روي عن علي بن أيب طالب وعمر بن اخلطاب رضي ه‬
‫الرسغ‬
‫مفصل ه‬
‫املعول عليه‪.‬‬
‫‪ ،‬فكان هو ه‬
‫وإذا عاد السارق إىل السرقة اثنيا قطعت رجله اليسرى ابتفاق احلنفية واملالكية والشافعية ملا‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قطع الرجل بعد اليد‪.‬‬
‫رواه ابن عباس عن النيب صلهى ه‬
‫وملا‬
‫روي عن علي وعمر أن كًل منهما كان يقطع يد السارق اليمىن ‪ ،‬وملا عاد السارق إىل السرقة‬
‫قطع كل منهما رجله اليسرى‬
‫‪ ،‬وكان ذلك مبحضر من الصحابة ‪ ،‬ومل ينكر على كل منهما أحد ‪ ،‬فكان إمجاعا‪.‬‬
‫وملا‬
‫رواه الدار قطين من أنه عليه الصًلة والسًلم قال ‪« :‬إذا سرق السارق فاقطعوا يده ‪ ،‬مث إن عاد‬
‫فاقطعوا رجله» «‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر نصب الراية يف تريج أحاديث اهلداية للزيلعي ‪ ،‬كتاب السرقة ‪ ،‬ابب ما يقطع فيه وما‬
‫ال يقطع (‪.)562 /3‬‬

‫ص ‪375 :‬‬
‫وإذا عاد إىل السرقة اثلثا وقف القطع عند احلنفية ‪ ،‬فًل يقطع منه عضو بعد ذلك ‪ ،‬ولكنهه‬
‫ويعزر ابحلبس حَّت تظهر توبته ‪ ،‬ملا‬
‫يضمن املسروق ‪ ،‬ه‬ ‫ه‬
‫فبأي‬
‫روي عن علي بن أيب طالب أنه أِت بسارق للمرة الثالثة فقال ‪ :‬ال أقطع ‪ ،‬إن قطعت يده ه‬
‫اّلل‬
‫فبأي شيء ميشي ‪ ،‬إين ألستحيي من ه‬
‫شيء أيكل ‪ ،‬وأبي شيء يستنجي ‪ ،‬وإن قطعت رجله ه‬
‫‪ ،‬مث ضربه خبشبة وحبسه «‪.»1‬‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وعند املالكية والشافعية ‪:‬‬
‫وروي مثل ذلك عن عمر بن اخلطاب رضي ه‬
‫تقطع يده اليسرى ‪ ،‬وإن عاد إىل السرقة رابعا تقطع رجله اليمىن‪.‬‬
‫مرة‬
‫وإذا كانت العني املسروقة قائمة ‪ ،‬ور هدت إىل مالكها ‪ ،‬وقطعت يد السارق مث عاد إىل سرقتها ه‬
‫اثنية فًل يقطع فيها عند احلنفية ‪ ،‬وأما املالكية والشافعية فيقولون ابلقطع ‪ ،‬وهو رواية عن أيب‬
‫يوسف إلطًلق‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬فإن عاد فاقطعوه»‪.‬‬
‫َتسك احلنفية مبا يؤخذ من‬
‫ه‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ال غرم على السارق بعد ما قطعت ميينه» «‪»2‬‬
‫يدل على أ هن املال أصبح غري معصوم يف حق السارق بعد قطع يده ‪ ،‬ألنهه‬
‫فإ هن عدم ضمان املال ه‬
‫تبني أن املال غري معصوم‬
‫لو كان معصوما مع قطع يده لوجب ضمانه ‪ ،‬وحيث مل جيب الضمان ه‬
‫يف حقه ‪ ،‬فإذا كانت العني املسروقة قائمة ‪ ،‬وردت إىل املالك ‪ ،‬فًل نزاع يف أ هن العصمة عادت‬
‫إليها ‪ ،‬ولكن مع هذا ال زالت شبهة سقوط العصمة قائمة ‪ ،‬فأشبهت املباح يف حقه ‪ ،‬فًل تقطع‬
‫يده يف سرقتها اثنية فإ هن احلدود تدرأ ابلشبهات‪.‬‬
‫وإذا قطعت يد السارق ‪ ،‬وكانت العني املسروقة قائمة وجب ردها إىل صاحبها ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫يضمنها إن كان موسرا ‪ ،‬وال‬
‫هالكة أو مستهلكة فًل ضمان عليه عند احلنفية ‪ ،‬وقال املالكية ‪ :‬ه‬
‫شيء عليه إن كان معسرا‪.‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬يضمنها مطلقا ‪ ،‬أما ردها وهي قائمة فلما ورد من أنه عليه الصًلة السًلم ر هد‬
‫رداء صفوان إليه حني قطع يد السارق ‪ ،‬وأما عدم الضمان عند عدمها‬
‫فلقوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ال غرم على السارق بعد ما قطعت ميينه»‪.‬‬
‫وحجة القائلني ابلضمان قياسه على سائر األموال الواجبة ‪ ،‬فإهنهم أمجعوا على رد العني املسروقة‬
‫إذا كانت موجودة ‪ ،‬وهو يستلزم أهنا إذا مل تكن موجودة تكون يف ضمانه ‪ ،‬كما يف سائر األموال‬
‫الواجبة ‪ ،‬ترد بنفسها إن كانت قائمة ‪ ،‬ويرد مثلها إن‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر نصب الراية يف تريج أحاديث اهلداية للزيلعي ‪ ،‬كتاب السرقة ‪ ،‬فصل يف كيفية القطع‬
‫وإثباته (‪].....[ .)570 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )462 /8 - 7‬كتاب السرقة ‪ ،‬ابب تعليق يد السارق حديث‬
‫رقم (‪.)4984‬‬

‫ص ‪376 :‬‬
‫ويدل على ذلك أيضا ما ورد من‬
‫كانت هالكة ‪ ،‬ه‬
‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬على اليد ما أخذت حَّت تؤدي» «‪.»1‬‬
‫وقوله ‪َ :‬جزاءً مفعول له ‪ ،‬أو مصدر مؤكد لفعله الدال عليه قوله ‪:‬‬
‫سبا متعلق (جبزاء) على اإلعراب األول ‪ ،‬وبقوله ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫فَاقْطَعُوا أي فجازومها جزاء وقوله ‪ :‬مبا َك َ‬
‫فَاقْطَعُوا على اإلعراب الثاين ‪ ،‬و(ما) مصدرية ‪ ،‬أي بسبب كسبهما ‪ ،‬أو موصولة ‪ ،‬أي بسبب‬
‫الذي كسباه‪.‬‬
‫كاال مفعول له لإلشعار أب هن القطع للجزاء‪ .‬واجلزاء للنكال فيكون مفعوال له متداخًل‬
‫وقوله ‪ :‬نَ ً‬
‫كاحلال املتداخلة‪.‬‬
‫والنكال ‪ :‬اإلهانة والتحقري للمنع من العودة‪.‬‬
‫وقوله ‪ِ :‬م َن ا‬
‫اّللِ متعلق مبحذوف صفة لنكاال‪.‬‬
‫ِ‬
‫اّللُ عَ ِز ٌيز أي غالب يف تنفيذ أوامره ‪ ،‬ميضيها كيف يشاء من غري منازع وال ممانع ‪ ،‬وهو َحك ٌ‬
‫يم‬ ‫َو ا‬
‫السراق من بعد ظلمه مبا وقع منه من‬
‫يف تشريعه ‪ ،‬مل يشرع إال ما فيه املصلحة ‪ ،‬فمن اتب من ه‬
‫السرقة ‪ ،‬وأصلح يف توبته أبن تكون التوبة عند اجلمهور ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تسقطه ‪ ،‬ألن ذكر الغفور‬
‫الرحيم يدل على سقوط العقوبة ‪ ،‬والعقوبة املذكورة هي القطع‪.‬‬
‫ض َع ْن ُه ْم َوإِ ْن‬ ‫ت فَِإ ْن جا ُؤ َك فَ ْ‬
‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم أ َْو أَ ْع ِر ْ‬ ‫ب أَ اكالُو َن لِ ُّ‬
‫لس ْح ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬مسااعُو َن لِلْ َك ِذ ِ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم ِابل ِْق ْس ِط إِ ان ا‬
‫ب ال ُْم ْق ِسط َ‬
‫ني‬ ‫اّللَ ُِحي ُّ‬ ‫ت فَ ْ‬‫وك َش ْيئاً َوإِ ْن َح َك ْم َ‬
‫ض ُّر َ‬
‫ض َع ْن ُه ْم فَلَ ْن يَ ُ‬‫تُ ْع ِر ْ‬
‫(‪)42‬‬
‫السحت ‪ :‬االستئصال من سحته إذا استأصله ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬فَيُ ْس ِحتَ ُك ْم بِ َع ٍ‬
‫ذاب [طه ‪:‬‬
‫يعري به اإلنسان ‪ ،‬ألنهه‬
‫السحت على احلرام اخلسيس الذي ه‬
‫‪ ]61‬أي يستأصلكم ‪ ،‬ويطلق ه‬
‫يستأصل فضيلة اإلنسان وشرفه ‪ ،‬ويستأصل جسده يف النار يف اآلخرة ‪ ،‬ويطلق أيضا على شدة‬
‫اجلوع ‪ ،‬أل هن من كان شديد اجلوع يستأصل ما يصل إليه من الطهعام‪.‬‬
‫وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأيب هريرة وجماهد أ هن السحت الرشوة‬
‫‪ ،‬وأجر البغي وعسب الفحل ‪ ،‬ومثن اخلمر ‪ ،‬ومثن امليتة ‪ ،‬وحلوان الكاهن ‪ ،‬واالستئجار يف‬
‫يعري به اإلنسان وخيفيه‪.‬‬
‫املعصية ‪ ،‬ويرجع أصل ذلك كله إىل احلرام اخلسيس الذي ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )284 /3‬كتاب البيوع ‪ ،‬ابب تضمني العارية حديث رقم‬
‫(‪ ، )3561‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )566 /3‬كتاب البيوع ‪ ،‬ابب العارية حديث رقم‬
‫(‪ ، )1266‬وابن ماجه يف السن (‪ ، )802 /2‬كتاب الصدقات ‪ ،‬ابب العارية حديث رقم‬
‫(‪.)2400‬‬

‫ص ‪377 :‬‬
‫ونزلت «‪ »1‬هذه اآلية يف اليهود ‪ ،‬كان احلاكم منهم إذا أاته من كان مبطًل يف دعواه برشوة مسع‬
‫السحت ‪ ،‬ويسمع الكذب ‪ ،‬وكان‬
‫وعول عليه ‪ ،‬وال يلتفت خلصمه ‪ ،‬فكان أيكل ه‬
‫كًلمه ‪ ،‬ه‬
‫الفقراء منهم أيخذون من أغنيائهم ماال ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية ‪ ،‬ويسمعوا منهم‬
‫األكاذيب لرتويج اليهودية والطعن على اإلسًلم ‪ ،‬فالفقراء كانوا أيكلون السحت الذي أيخذونه‬
‫ت‬ ‫ب أَ اكالُو َن لِ ُّ‬
‫لس ْح ِ‬ ‫منهم ‪ ،‬ويسمعون الكذب ‪ ،‬فهذا هو املشار إليه بقوله تعاىل ‪َ :‬مسااعُو َن لِلْ َك ِذ ِ‬
‫ت للراب ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪:‬‬ ‫ب الذي كانوا ينسبونه إىل التوراة أَ اكالُو َن لِ ُّ‬
‫لس ْح ِ‬ ‫وقيل ‪َ :‬مسااعُو َن لِلْ َك ِذ ِ‬
‫َوأَ ْخ ِذ ِه ُم هِ‬
‫الربَوا َوقَ ْد ُهنُوا َع ْنهُ [النساء ‪.]161 :‬‬
‫والرشوة قد تكون يف احلكم ‪ ،‬وهي حمرمة على الراشي واملرتشي ‪ ،‬وقد روي أنه عليه الصًلة‬
‫والسًلم لعن الراشي واملرتشي والرائش يعين الذي ميشي بينهما «‪، »2‬‬
‫أل هن احلاكم حينئذ إن حكم له مبا هو حقه كان فاسقا من جهة أنهه قبل الرشوة على أن حيكم مبا‬
‫يفرتض عليه احلكم به ‪ ،‬وإن حكم ابلباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة ‪ ،‬ومن جهة أنه‬
‫حكم ابلباطل‪.‬‬
‫حمرمة‬
‫وقد تكون الرشوة يف غري احلكم ‪ ،‬مثل أن يرشو احلاكم ليدفع ظلمه عنه ‪ ،‬فهذه الرشوة ه‬
‫على آخذها ‪ ،‬غري حمرمة على معطيها ‪ ،‬كما روي عن احلسن قال ‪ :‬ال أبس أن يدفع الرجل من‬
‫ماله ما يصون به عرضه ‪ ،‬وكما روي عن جابر بن زيد والشعيب ‪:‬‬
‫أهنما قاال ‪ :‬ال أبس أبن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم‪.‬‬
‫وقد ورد أنه عليه الصًلة والسًلم حني قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطااي اجلزيلة أعطى‬
‫العباس بن مرداس أقل من غريه ‪ ،‬فلم يرق ذلك يف نظره فقال شعرا يتضمن التعجب من هذا‬
‫التصرف فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬اقطعوا لسانه» فزادوه حَّت رضي‬
‫‪ ،‬فهذا نوع من الرشوة ر هخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه ‪ ،‬يدفعه إىل من يريد ظلمه أو‬
‫انتهاك عرضه‪.‬‬
‫فَِإ ْن جا ُؤ َك فَ ْ‬
‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم أ َْو أَ ْع ِر ْ‬
‫ض َع ْن ُه ْم‬
‫قيل ‪ :‬نزلت هذه اآلية يف أمر خاص هو رجم اليهوديني اللذين زنيا ‪ ،‬وأراد اليهود الرتخيص هلما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فبحث عليه الصًلة والسًلم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ ،‬فأنكروا الرجم ‪ ،‬وحتاكموا إىل رسول ه‬
‫اّلل ‪ ،‬مث رجم اليهوديني‬
‫وبني هلم كذهبم وحتريفهم يف كتاب ه‬
‫يف كتبهم ‪ ،‬وأطلعهم على آية الرجم ‪ ،‬ه‬
‫وقال ‪« :‬اللهم إين أول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)154 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )622 /3‬كتاب األحكام ‪ ،‬ابب ما جاء يف الراشي‬
‫واملرتشي حديث رقم (‪ ، )1336‬وأمحد يف املسند (‪.)279 /5‬‬

‫ص ‪378 :‬‬
‫من أحيا سنة أماتوها» «‪»1‬‬
‫وإمنا حبث عليه الصًلة والسًلم يف هذه احلادثة يف كتبهم أل هن احلدود اإلسًلمية مل تكن نزلت ‪،‬‬
‫فأقام الرجم على شريعة موسى عليه الصًلة والسًلم ‪ ،‬وأما ما نزل حكمه يف الشريعة اإلسًلمية‬
‫فًل جيوز للمسلم احمل هكم أن حيكم فيه بغري حكم اإلسًلم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت يف أمر خاص هو الدية بني بين قريظة وبين النضري ‪ ،‬فكان بنو النضري يرون أ هن هلم‬
‫اّلل‬
‫شرفا يقضي أبن دية النضريي ضعف دية القرظي فغضب بنو قريظة ‪ ،‬وحتاكموا إىل رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فحكم بينهم ابحلق وجعل الدية سواء ‪ ،‬وإذا لوحظ أن العربة بعموم اللفظ‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫ال خبصوص السبب أمكن القول أب هن اآلية عامة يف كل من جاء إىل الرسول صلهى ه‬
‫يتحاكم إليه‪.‬‬
‫ولكن‬
‫خمري بني أن حيكم بينهم وبني أن يعرض عنهم ‪ ،‬ه‬ ‫وظاهر اآلية أنهه عليه الصًلة والسًلم ه‬
‫املتقدمني اختلفوا فقال النخعي والشعيب وقتادة وعطاء وأبو بكر األصم وأبو مسلم أ هن حكم‬
‫التخيري الذي تدل اآلية عليه اثبت غري منسوخ‪.‬‬
‫وقال ابن عباس واحلسن وجماهد وعكرمة ‪ :‬إن هذا احلكم منسوخ بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ وبعضهم وفق بني املختلفني أب هن التخيري ورد يف أهل العهد الذين‬ ‫وأ ِ‬
‫َن ْ‬ ‫َ‬
‫ليسوا من أهل الذمة كبين قريظة والنضري ‪ ،‬فًل جيب على احلاكم املسلم أن جيري عليهم أحكام‬
‫خمريا بني أن حيكم بينهم أو أن يعرض عنهم ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬وأ ِ‬
‫َن‬ ‫املسلمني ‪ ،‬وإن ترافعوا إليه كان ه‬
‫َ‬
‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ ورد يف أهل الذمة الذين هلم ما لنا وعليهم ما علينا ‪ ،‬وعلى هذا فًل‬ ‫ْ‬
‫نسخ يف اآلية ‪ ،‬وهذا هو أساس قول احلنفية ‪:‬‬
‫إن أهل الذمة واملسلمني سواء يف إجراء األحكام اإلسًلمية عليهم ‪ ،‬كعقود املعامًلت‬
‫والتجارات واملواريث واحلدود ‪ ،‬إال أهنم ال يرمجون ‪ ،‬ألهنهم غري حمصنني ‪ ،‬وجيوز هلم االَتار يف‬
‫اخلمر واخلنزير دون املسلمني‪.‬‬
‫وق د ورد أنه عليه الصًلة والسًلم قال يف كتابه إىل أهل جنران ‪« :‬إما أن تذروا الراب وإما أن‬
‫اّلل ورسوله»‬
‫أتذنوا حبرب من ه‬
‫فجعلهم كاملسلمني يف حترمي الراب عليهم‪.‬‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬إ هن أهل الذمة إذا حتاكموا إلينا وجب على احلاكم أن حيكم بينهم مبا أنزل ه‬
‫خمري بني احلكم بينهم وبني‬
‫وأما املعاهدون فًل جيب عليه ذلك إذا حتاكموا إلينا ‪ ،‬بل هو ه‬
‫اإلعراض عنهم‪.‬‬
‫وك َش ْيئاً الغرض من هذه اجلملة بيان حال األمرين‬
‫ض ُّر َ‬ ‫َوإِ ْن تُ ْع ِر ْ‬
‫ض َع ْن ُه ْم فَلَ ْن يَ ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1327 /3‬كتاب احلدود ‪ - 6 ،‬ابب رجم اليهود‬
‫حديث رقم (‪.)1700 /28‬‬

‫ص ‪379 :‬‬
‫خري فيهما عليه الصًلة والسًلم ‪ ،‬وكانوا ال يتحاكمون إليه إال لطلب األسهل واألخف ‪،‬‬
‫اللذين ه‬
‫كاجللد بدل الرجم ‪ ،‬فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم ‪ ،‬وتغيظوا منه ‪ ،‬ورمبا يقصدونه ابألذى ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل أبنه إن رأى اإلعراض عنهم فًل أبس عليه ‪ ،‬فإهنهم ال يضرونه بشيء أبدا ‪ ،‬وقدم‬ ‫فأخربه ه‬
‫حال اإلعراض للمسارعة إىل أنه ال ضرر عليه فيه ‪ ،‬وإن كان مظنة الغيظ واحلقد ‪ ،‬مث قال ‪َ :‬وإِ ْن‬
‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم ِابل ِْق ْس ِط أي ابلعدل الذي جاءت به الشرائع ‪ ،‬أو جاء به اإلسًلم إِ ان ا‬
‫اّللَ‬ ‫ت فَ ْ‬‫َح َك ْم َ‬
‫ِ‬
‫ني أي العادلني الذين حياربون املظامل‪.‬‬ ‫ب ال ُْم ْق ِسط َ‬
‫ُِحي ُّ‬
‫وهاهنا أمور ‪:‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫األول ‪ :‬أ هن احمل هكم ينفذ حكمه فيما ح هكم فيه ‪ ،‬فإ هن اليهود ح هكموا رسول ه‬
‫وسلهم ‪ ،‬ونفذ حكمه فيهم‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أنه عليه الصًلة والسًلم حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصًلة والسًلم ‪ ،‬ولكن كان‬
‫اّلل الدين ‪ ،‬وتقررت الشريعة ‪ ،‬فًل جيوز‬
‫ذلك قبل أن تنزل عليه احلدود ‪ ،‬أما اآلن وقد أكمل ه‬
‫ألي حم هكم أن حيكم بغري األحكام اإلسًلمية ‪ ،‬ال فرق بني املسلمني وغريهم‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬قال اإلمام الشافعي ‪ :‬التحكيم جائز ‪ ،‬ولكن احلكم غري الزم ‪ ،‬وإمنا هو فتوى ‪ ،‬فإن‬
‫شاء املستفيت عمل هبا أو تركها‪.‬‬
‫اّللِ مثُا يَتَ َولا ْو َن ِم ْن بَ ْع ِد ذلِ َ‬
‫ك َوما‬ ‫ْم ا‬ ‫ك و ِع ْن َد ُهم الت ِ‬
‫اوراةُ فيها ُحك ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬وَك ْي َ ِ‬
‫ف ُحيَ هك ُمونَ َ َ‬ ‫َ‬ ‫قال ه‬
‫ف ُحيَ هكِ ُمونَ َ‬ ‫ِ‬
‫اّلل‬
‫اّلل لرسوله صلهى ه‬ ‫ك تعجيب من ه‬ ‫ني (‪ )43‬قال النيسابوري ‪َ :‬وَكيْ َ‬ ‫ك ِابل ُْم ْؤمنِ َ‬
‫أُولئِ َ‬
‫عليه وسلهم من حتكيمهم لوجوه ‪:‬‬
‫منها عدوهلم عن حكم كتاهبم‪.‬‬
‫ومنها رجوعهم إىل حكم من كانوا يعتقدونه مبطًل‪.‬‬
‫ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن ح هكموه ‪ ،‬وهذا غاية اجلهالة وهناية العناد‪.‬‬
‫والواو يف قوله ‪َ :‬و ِع ْن َد ُه ُم للحال من التحكيم والعامل ما يف االستفهام من التعجيب‪.‬‬
‫اّللِ فإما أن ينتصب حاال من التوراة على ضعف وهي مبتدأ ‪ ،‬خربه‬ ‫ْم ا‬ ‫ِ‬
‫أما قوله ‪ :‬فيها ُحك ُ‬
‫ِعنْ َد ُه ُم‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬فيكون ِعنْ َد ُه ُم متعلقا‬‫اوراةُ انطقة حبكم ه‬ ‫ِ‬
‫وإما أن يرتفع خربا عنها ‪ ،‬والتقدير َوعنْ َد ُه ُم الت ْ‬
‫ابخلرب‪.‬‬

‫ص ‪ 380 :‬وإما أال يكون له حمل ‪ ،‬ويكون مجلة مبينة ألن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ‪،‬‬
‫كقولك ‪ :‬عندك زيد ينصحك ويشري عليك ابلصواب ‪ ،‬فما تصنع بغريه‪.‬‬
‫وأنهثت التوراة ملا فيها من صورة اتء التأنيث‪.‬‬
‫مثُا يَتَ َولا ْو َن عطف على ُحيَ هكِ ُمونَ َ‬
‫ك و(مث) لرتاخي الرتبة ‪ ،‬أي مث يعرضون من بعد حتكيمك عن‬
‫حكمك املوافق ملا يف كتاهبم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ك ِابل ُْم ْؤمنِ َ‬
‫ني إخبار أبهنم ال يؤمنون أبدا ‪ ،‬أو املراد أهنم غري مؤمنني بكتاهبم كما يدعون‬ ‫َوما أُولئِ َ‬
‫اه‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ اان أَنْزلْنَا الت ِ‬
‫هادوا‬
‫ين ُ‬ ‫َسلَ ُموا للاذ َ‬ ‫ور َْحي ُك ُم هبَا النابيُّو َن الاذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫دى َونُ ٌ‬
‫اوراةَ فيها ُه ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫قال ه‬
‫ش ْو ِن‬
‫ااس َوا ْخ َ‬
‫ش ُوا الن َ‬‫اّللِ َوكانُوا عَلَيْهِ ُش َهداءَ فًَل َتْ َ‬
‫تاب ا‬ ‫استُ ْح ِفظُوا ِم ْن كِ ِ‬ ‫بار ِمبَا ْ‬ ‫َح ُ‬ ‫َوال اراابنِيُّو َن َو ْاأل ْ‬
‫اّلل هبذه‬‫ك ُه ُم الْكافِ ُرو َن (‪ )44‬نبه ه‬ ‫ايِت مثََناً قَلِ ًيًل َوَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ فَأُولئِ َ‬ ‫َوال تَ ْش َرتُوا ِآب ِ‬
‫اآلية اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتاهبم من مثل وجوب رجم الزاين واالقتصاص من القاتل‬
‫املعتدي ‪ ،‬ووخبهم على خمالفة األحبار املتقدمني ‪ ،‬واألنبياء املبعوثني إليهم‪.‬‬
‫اّلل‬
‫واملراد (ابهلدى) بيان األحكام والتكاليف ‪ ،‬واملراد (ابلنور) بيان ما ينبغي أن يعتقد من توحيد ه‬
‫وأمور النبوة واملعاد‪.‬‬
‫والنابِيُّو َن من بعثهم ه‬
‫اّلل يف بين إسرائيل من بعد موسى إلقامة التوراة ‪ ،‬ومعىن إسًلمهم انقيادهم‬
‫حلكم التوراة ‪ ،‬وعن قتادة ‪ :‬حيتمل أن يكون املراد ابلنبيني الذين أسلموا حممدا عليه الصًلة‬
‫والسًلم ‪ ،‬فقد حكم على من زىن من اليهود ابلرجم ‪ ،‬وكان هذا حكم التوراة ‪ ،‬وذكر بلفظ‬
‫ِ‬
‫اجلمع تعظيما ‪ ،‬ونظريه قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان إِبْراه َ‬
‫يم كا َن أُامةً [النحل ‪.]120 :‬‬
‫وقال ابن األنباري ‪ :‬هذا رد على اليهود والنصارى ‪ ،‬وتقرير أ هن األنبياء ما كانوا موصوفني‬
‫ابليهودية وال ابلنصرانية كما زعموا ‪ ،‬بل كانوا مسلمني هّلل منقادين لتكاليفه‪.‬‬
‫ِِ‬
‫هادوا أي اتبوا من الكفر متصل ب (حيكم) يعين أن النبيني إمنا حيكمون ابلتوراة للذين‬ ‫ين ُ‬‫وللاذ َ‬
‫هادوا ‪ ،‬أي ألجلهم ‪ ،‬وفيما بينهم ‪ ،‬أو هو مؤ هخر من تقدمي ‪ ،‬فيكون التقدير ‪ :‬فيها هدى ونور‬
‫للذين هادوا حيكم هبا النبيون الذين أسلموا‪.‬‬
‫َوال اراابنِيُّو َن العلماء احلكماء البصراء بسياسة الناس ‪ ،‬وتدبري أمورهم ‪ ،‬والقيام مبصاحلهم‪.‬‬
‫بار مجع حرب ‪ ،‬بكسر احلاء أو فتحها ‪ ،‬واملراد العلماء املتقنون الصاحلون‪.‬‬ ‫َح ُ‬ ‫َو ْاأل ْ‬

‫ص ‪381 :‬‬
‫اّللِ معناه مبا استودعوا من علمه ‪ ،‬وقد أخذ ه‬
‫اّلل على العلماء‬ ‫استُ ْح ِفظُوا ِم ْن كِ ِ‬
‫تاب ا‬ ‫وقوله ‪ِ :‬مبَا ْ‬
‫حفظ كتابه على وجهني ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬أن حيفظوه يف صدورهم ويدرسوه أبلسنتهم‪.‬‬
‫استُ ْح ِفظُوا ابألحبار على معىن‬
‫والثاين ‪ :‬أال يضيعوا أحكامه وال يهملوا شرائعه‪ .‬ويتعلق قوله ‪ِ :‬مبَا ْ‬
‫العلماء أو (حيكم)‪.‬‬
‫اّلل عليه‬ ‫ش ْو ِن خطاب لليهود الذين كانوا يف عصر رسول ه‬
‫اّلل صلهى ه‬ ‫اس َوا ْخ َ‬
‫ش ُوا النا َ‬
‫وقوله ‪ :‬فًَل َتْ َ‬
‫وسلهم ‪ ،‬وقد أقدموا على حتريف التوراة خائفني أو طامعني ‪ ،‬وملا كان اخلوف أقوى أتثريا من‬
‫ش ْو ِن واملعىن ‪:‬‬
‫ااس َوا ْخ َ‬
‫ش ُوا الن َ‬
‫اّلل ذكره فقال ‪ :‬فًَل َتْ َ‬
‫الطمع ق هدم ه‬
‫إايكم أن حترفوا كتايب خوفا من الناس وامللوك واألشراف ‪ ،‬فتسقطوا عنهم احلدود الواجبة عليهم‬
‫اّلل تعاىل عنهم ‪ ،‬فإمنا خيشى العاقل عقاب ربهه وحده‪.‬‬ ‫‪ ،‬وتستخرجوا احليل يف سقوط تكاليف ه‬
‫ايِت مثََناً قَلِ ًيًل أي كما هنيتكم عن‬
‫مث أتبع أمر اخلوف أبمر الطمع والرغبة فقال ‪َ :‬وال تَ ْش َرتُوا ِآب ِ‬
‫تغيري أحكامي من أجل الرهبة أهناكم عن التغيري للطمع يف املال أو اجلاه ‪ ،‬فمتاع الدنيا قليل ‪،‬‬
‫والرشوة اليت أتخذوهنا سحت ‪ ،‬ال بقاء هلا ‪ ،‬وال منفعة ‪ ،‬فًل ينبغي أن تضيهعوا هبا ال هدين والثواب‬
‫الدائم‪.‬‬
‫ك ُه ُم الْكافِ ُرو َن وعيد شديد ‪ ،‬املقصود منه هتديد اليهود‬
‫اّللُ فَأُولئِ َ‬
‫وقوله ‪َ :‬وَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّلل يف الزاين احملصن واالقتصاص من القاتل املعتدي ‪ ،‬ومعناه‬
‫الذين أقدموا على حتريف حكم ه‬
‫اّلل املنصوص عليه يف التوراة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنهه غري واجب ‪ ،‬أصبحوا كافرين ‪،‬‬
‫أهنم ملا أنكروا حكم ه‬
‫ال يستحقون اسم اإلميان ال مبوسى والتوراة ‪ ،‬وال مبحمد والقرآن‪.‬‬
‫هذا وقد احتج مجاعة هبذه اآلية على أ هن شرع من قبلنا الزم علينا إال إذا قام الدليل على‬
‫ور واملراد بيان أصول الشرع وفروعه ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫دى َونُ ٌ‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪ :‬فيها ُه ً‬
‫صريورته منسوخا ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ولو كانت التوراة منسوخة غري معتربة احلكم ابلكلية ملا كان فيها هدى ونور ‪ ،‬وال ميكن أن حيمل‬
‫اهلدى والنور على ما يتعلق أبصول الدين فقط للزوم التكرار ‪ ،‬على أن هذه اآلية إمنا نزلت يف‬
‫مسألة الرجم ‪ ،‬فًل بد أن تكون األحكام الشرعية داخلة فيها ‪ ،‬ألان ‪ -‬وإن اختلفنا يف أ هن غري‬
‫سبب نزول اآلية هل يدخل فيها أم ال ‪ -‬غري خمتلفني يف أ هن سبب نزول اآلية جيب أن يكون‬
‫داخًل فيها‪.‬‬
‫اّلل فهو كافر ‪ ،‬فقالوا إهنا نص يف أ هن‬
‫كل من عصى ه‬
‫وأيد اخلوارج أيضا آبخر هذه اآلية قوهلم ‪ :‬ه‬
‫اّلل‪ .‬ومل‬
‫اّلل فهو كافر ‪ ،‬وكل من أذنب فقد حكم بغري ما أنزل ه‬
‫كل من حكم بغري ما أنزل ه‬
‫يوافقهم مجهور األئمة ‪ ،‬بل دفعوا شبهتهم أبن قوله تعاىل ‪:‬‬

‫ص ‪382 :‬‬
‫َوَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ إمنا يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ‪ ،‬أما من عرف بقلبه وأقر‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬ولكنه اترك له ‪ ،‬فًل‬
‫اّلل إال أنه أتى مبا يضاده فهو حاكم مبا أنزل ه‬
‫بلسانه كونه حكم ه‬
‫تتناوله اآلية‪.‬‬
‫ف ِاب ْألَنْ ِ‬ ‫ني ِابل َْع ْ ِ‬ ‫س ِابلنا ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف َوا ْألُذُ َن‬ ‫ني َو ْاألَنْ َ‬ ‫س َوال َْع َْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وَكتَ بْنا عَلَيْه ْم فيها أَ ان النا ْف َ‬
‫قال ه‬
‫ص اد َق بِهِ فَ ُه َو َك اف َارةٌ لَهُ َوَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ‬ ‫صاص فَ َم ْن تَ َ‬
‫وح ق ٌ‬
‫لس ِن وا ْجلر ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ان ِاب ه ه َ ُُ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ِاب ْألُذُن َو ه‬
‫ك ُه ُم الظاالِ ُمو َن (‪ )45‬ملا جعل اليهود ديهة النضريي أكثر من دية القرظي ‪ ،‬ومنعوا أن يقتل‬ ‫فَأُولئِ َ‬
‫اّلل عليه وسلهم حني سألوه ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫به ‪ ،‬خمالفني يف هذا ما يف التوراة ‪ ،‬وما حكم به رسول ه‬
‫نزلت هذه اآلية‪.‬‬
‫ومعىن (كتبنا) فرضنا‪ .‬وقد أخذ أبو حنيفة من اآلية أن يقتل املسلم ابلذمي‪.‬‬
‫وقالت الشافعية ‪ :‬اآلية خرب عن شرع من قبلنا ‪ ،‬وشرعهم ليس شرعا لنا‪.‬‬
‫الكل ما عدا اجلروح فقد‬
‫وقرأ البعض (النفس) ومجيع ما عطف عليه منصواب ‪ ،‬ونصب فريق ه‬
‫رفعه على القطع ‪ ،‬ورفع آخرون ما سوى (النفس) على جعل ذلك ابتداء الكًلم‪.‬‬
‫ني‬
‫وتدل اآلية على جراين القصاص يف مجيع ما ذكر فيها ‪ ،‬ويرى العلماء أ هن املراد بقوله ‪َ :‬وال َْع َْ‬
‫ه‬
‫ني استيفاء ما مياثل فعل اجلاين منه ‪ ،‬فًل جيوز التعدي ‪ ،‬وعليه فتؤخذ العني اليمىن ابليمىن‬ ‫ِابل َْع ْ ِ‬
‫عند وجودها ‪ ،‬وال تؤخذ اليسرى ابليمىن وإن رضي املقتص منه‪ .‬وقالوا ‪ :‬إمنا تؤخذ العني ابلعني‬
‫متعمدا ‪ ،‬فإن أصاهبا خطأ ففيها نصف الدية ‪ ،‬فإن أصاب العينني معا خطأ‬
‫إذا فقأها اجلاين ه‬
‫ففيهما الدية كاملة ‪ ،‬ورأى البعض أن يف عني األعور الدية كلهها ‪ ،‬أل هن منفعته هبا كمنفعة ذي‬
‫العينني أو قريبة منها‪.‬‬
‫وإذا فقأ األعور عني الصحيح فعليه القصاص عند أيب حنيفة والشافعي ‪ ،‬وقال مالك ‪ :‬إن شاء‬
‫اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عني األعور ‪ ،‬وقال أمحد بن حنبل ‪:‬‬
‫ال قود عليه ‪ ،‬وعليه الدية كاملة‪.‬‬
‫ني ِابل َْع ْ ِ‬
‫ني واألخذ بعموم القرآن أوىل ‪ ،‬فإنهه‬ ‫اّلل تعاىل قال ‪َ :‬وال َْع َْ‬
‫واختار ابن العريب األول ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ومتمسك مالك‬
‫ه‬ ‫اّلل ‪ ،‬والقصاص بني صحيح العني واألعور كهيئته بني سائر الناس ‪،‬‬ ‫أسلم عند ه‬
‫خري اجملين عليه‪ .‬وحجة ابن حنبل أ هن يف القصاص من األعور أخذ مجيع‬
‫أ هن األدلة ملا تعارضت ه‬
‫البصر ببعضه ‪ ،‬وذلك ليس مبساواة‪.‬‬
‫والقصاص من األنف إذا كانت اجلناية عمدا كالقصاص من سائر األعضاء ‪ ،‬وكذلك يقتص من‬
‫صامل األذن وقالع السن‪.‬‬
‫صاص معناه أهنا ذات مقاصة ‪ ،‬وهو تعميم للحكم‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬وا ْجلر ِ‬
‫وح ق ٌ‬
‫َ ُُ َ‬

‫ص ‪383 :‬‬
‫بعد ذكر بعض التفاصيل ‪ ،‬واملراد منه ‪ :‬كل ما َتكن املساواة فيه من األطراف كالقدمني واليدين‬
‫‪ ،‬ومن اجلراحات املضبوطة كاملوضحة ‪ -‬مثًل ‪ -‬وهي اليت توضح العظم ‪ ،‬أي تكشفه‪ .‬أما الذي‬
‫ال ميكن القصاص فيه كرض يف حلم ‪ ،‬أو كسر يف عظم ففيه حكومة‪.‬‬
‫ص اد َق بِهِ الضمري يف (به) يعود إىل القصاص وقوله ‪ :‬فَ ُه َو راجع إىل‬
‫ويف قوله تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن تَ َ‬
‫التصدق الدال عليه الفعل ‪ ،‬والضمري يف (له) حيتمل أن يعود إىل العايف املتصدق‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬من تصدق من جسده‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روى عبادة بن الصامت أن رسول ه‬
‫اّلل تعاىل عنه مثل ما تص هدق»‬
‫يشيء ك هفر ه‬
‫اّلل تعاىل بعد ذلك العفو ‪ ،‬وأما املتصدق‬
‫املعفو عنه ‪ ،‬أي ال يؤاخذه ه‬
‫وحيتمل رجوعه إىل اجلاين ه‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫فأجره على ه‬
‫اّلل تعاىل هذه األحكام مبا يوجب العمل هبا ‪ ،‬وهو قوله ‪َ :‬وَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِمبا أَنْ َز َل ا‬
‫اّللُ‬ ‫مث ذيل ه‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫اّلل من األحكام والشرائع فقد تع هدى حدود ه‬ ‫ك ُه ُم الظاالِ ُمو َن أي ومن مل حيكم مبا أنزل ه‬
‫فَأُولئِ َ‬
‫ووضع الشيء يف غري موضعه‪ .‬قال الرازي ‪ :‬وفيه سؤال ‪ ،‬وهو أنه تعاىل قال أوال ‪ :‬فَأُولئِ َ‬
‫ك ُه ُم‬
‫الْكافِ ُرو َن واثنيا ُه ُم الظاالِ ُمو َن والكفر أعظم من الظلم ‪ ،‬فلما ذكر أعظم التهديدات أوال فأي‬
‫فائدة يف ذكر األخف بعده‪.‬‬
‫وجوابه ‪ :‬أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة املوىل ‪ ،‬وجحود هلا ‪ ،‬فهو كفر ‪ ،‬ومن حيث إنه‬
‫اّلل‬
‫يقتضى إبقاء النفس يف العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس ‪ ،‬ففي اآلية األوىل ذكر ه‬
‫ما يتعلق بتقصريه يف حق اخلالق سبحانه ‪ ،‬ويف هذه اآلية ذكر ما يتعلق ابلتقصري يف حق نفسه‬
‫«‪ »1‬اه‪.‬‬
‫اّللَ ال ُِحي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫اّللُ لَ ُك ْم َوال تَ ْعتَ ُدوا إِ ان ا‬
‫َحلا ا‬‫آمنُوا ال ُحتَهِرُموا طَيهِبات ما أ َ‬
‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫قال ه‬
‫اّللَ الا ِذي أَنْ تُ ْم بِهِ ُم ْؤِمنُو َن (‪)88‬‬
‫ًلال طَيهِباً َواتا ُقوا ا‬ ‫ين (‪َ )87‬وُكلُوا ِمماا َرَزقَ ُك ُم ا‬
‫اّللُ َح ً‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْعتَد َ‬
‫اّلل تعاىل يف أول السورة إبيفاء العقود ‪ ،‬وقد قالوا يف تفسريه ‪ :‬إ هن ذلك شامل للوقوف‬ ‫قد أمر ه‬
‫اّلل ‪ ،‬واجتناب ما حرمه ‪ ،‬وعدم تع هدي تلك احلدود ‪ ،‬وقد نص‬ ‫اّلل ‪ ،‬والتزام ما أحله ه‬
‫عند حدود ه‬
‫ام إخل‪ .‬وهو‬ ‫اّللِ َوَال ال ا‬
‫ش ْه َر ا ْحلَر َ‬ ‫اّلل يف قوله ‪ :‬ال ُِحتلُّوا َشعائَِر ا‬
‫بعد ذلك على عدم إحًلل ما حرم ه‬
‫ِ‬
‫َح ال ا‬
‫اّللُ لَ ُك ْم وهو‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال ُحتَهِرُموا طَيهِبات ما أ َ‬‫نوع من إيفاء العقود ‪ ،‬ويف هذه اآلية يقول ه‬
‫اّلل أهناكم عن حترمي ما أحل‬ ‫حرم ه‬ ‫بيان للنوع املقابل ملا ذكر أوال‪ .‬أي كما هنيتكم عن إحًلل ما ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري مفاتيح الغيب لإلمام الرازي (‪.)8 /12‬‬

‫ص ‪384 :‬‬
‫والطيبات اللذائذ اليت تشتهيها النفوس ‪ ،‬وال تعافها الطباع ‪ ،‬ال شتماهلا على ما ينفع ‪ ،‬وَتردها‬
‫عما يضر‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم جلس إىل أصحابه يوما يف بيت‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وقد روي يف سبب نزول هذه اآلية أن ه‬
‫عثمان بن مظعون يعظهم ‪ ،‬فوصف هلم يوم القيامة ‪ ،‬وابلغ ‪ ،‬وأشبع الكًلم يف اإلنذار والتحذير‬
‫وحيرموا على أنفسهم املطاعم الطيبة ‪ ،‬واملشارب اللذيذة ‪ ،‬وأن‬
‫‪ ،‬فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ‪ ،‬ه‬
‫يصوموا النهار ‪ ،‬ويقوموا الليل ‪ ،‬وأن ال يناموا يف فراش النساء ‪ ،‬بل لقد عزم بعضهم على أن‬
‫اّلل عليه‬
‫جيب مذاكريه ‪ ،‬ويلبسوا املسوح ‪ ،‬ويسيحوا يف األرض فوصل خربهم إىل النيب صلهى ه‬
‫ه‬
‫وسلهم فسأهلم فقالوا ‪ :‬ما أردان إال خريا ‪ ،‬فقال هلم ‪« :‬إين مل أومر بذلك ‪ ،‬إن ألنفسكم عليكم‬
‫حقا ‪ ،‬فصوموا وأفطروا ‪ ،‬وقوموا وانموا ‪ ،‬فإين أقوم وأانم ‪ ،‬وأصوم وأفطر ‪ ،‬وآكل اللحم والدسم‬
‫‪ ،‬وآِت النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنيت فليس مين» «‪.»1‬‬
‫وليس يف ذلك شيء من احلض على االستزادة من أسباب الشهوات ‪ ،‬بل ذلك هني عن الرهبانية‬
‫املوصلة إىل هدم األجسام ‪ ،‬واحنًلل القوى ‪ ،‬ومَّت اهندمت األجسام ‪ ،‬واحنلت القوى ‪ ،‬تسرب‬
‫اخلراب واالضمحًلل إىل األمة ‪ ،‬قًل تقوى على العمل‪.‬‬
‫وأىن هلم ذلك وقد اهندمت‬
‫وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقوهلم يف مصلحة اجملتمع ‪ ،‬ه‬
‫فاّلل ملا هناان عن حترمي‬
‫أجسامهم فضاعت عقوهلم‪ .‬والعقل السليم يف اجلسم السليم ‪ ،‬ومع ذلك ه‬
‫الطيبات هناان عن االعتداء ‪ ،‬وقال ‪َ :‬وُكلُوا ِمماا َرَزقَ ُك ُم ا‬
‫اّللُ فهو أيمران أن نكون وسطا ‪ ،‬وأن نلتزم‬
‫التوسط يف األمور‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقد ذهب املفسرون مذاهب يف املراد من قوله تعاىل ‪ :‬ال ُحتَهِرُموا طَيهِبات ما أ َ‬
‫َحلا ا‬
‫اّللُ لَ ُك ْم فمنهم‬
‫اّلل‪.‬‬
‫من ذهب إىل أن املراد ال تعتقدوا حترمي ما أحل ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬ال تظهروا ابللسان حترمي ما أحل ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫اّلل اجتنااب يشبه اجتنابكم ملا حرم ه‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬ال َتتنبوا ما أحل ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫حترموا على غريكم ابلتقوى ما أحل ه‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬ال ه‬
‫حترموا على أنفسكم بنذر أو ميني ‪ ،‬وهو حينئذ يف معىن قوله تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها‬‫ومنهم من قال ‪ :‬ال ه‬
‫النِ ِ‬
‫َك [التحرمي ‪.]1 :‬‬
‫اّللُ ل َ‬ ‫ايب ملَ ُحتَهِر ُم ما أ َ‬
‫َح ال ا‬ ‫ُّ‬
‫ومنهم من يرى أن املراد النهي عن أن يغصب شيئا وخيلطه مباله فيحرم ماله ‪ ،‬لعسر َتييزه عن‬
‫املخلوط به‪.‬‬
‫وأنت ترى أنه ال مانع من إرادة كل هذه الوجوه من اآلية ‪ ،‬فهي حتتملها مجيعا ‪ ،‬وال داعي‬
‫لتخصيصها ابلبعض‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)7 /7‬‬

‫ص ‪385 :‬‬
‫ين‪ .‬أي ‪ :‬ال تعتدوا بتحرمي الطيبات ‪ ،‬وحيتمل أن يكون املعىن‬ ‫ِ‬ ‫اّللَ ال ُِحي ُّ‬
‫َوال تَ ْعتَ ُدوا إِ ان ا‬
‫ب ال ُْم ْعتَد َ‬
‫ال حيملنكم النهي عن حترمي الطيبات إىل استعماهلا على وجه اإلسراف ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا [األعراف ‪ ]31 :‬وحيتمل أن يكون املراد ‪ :‬اقتصروا على ما أحل ه‬
‫اّلل‬
‫حرم عليكم‪.‬‬ ‫لكم من الطيبات ‪ ،‬وال َتاوزوها إىل ما ه‬
‫أحل لكم‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ًلال طَيِباً واتا ُقوا ا ا ِ‬ ‫َوُكلُوا ِمماا َرَزقَ ُك ُم ا‬
‫اّللَ الذي أَنْ تُ ْم به ُم ْؤمنُو َن (‪ )88‬أي كلوا ما ه‬ ‫اّللُ َح ً ه َ‬
‫اّلل) حال منه ‪ ،‬وسوغ جميئها من‬
‫اّلل‪( .‬فحًلال) مفعول (لكلوا) و(مما رزقكم ه‬ ‫وطاب مما رزقكم ه‬
‫النكرة تق هدمها عليها‪.‬‬
‫ويستدل ابآلية على أن الرزق اسم يتناول احلًلل واحلرام ‪ ،‬ولو كان خاصا ابحلًلل ملا كان‬
‫لوصفه به كبري فضل‪.‬‬
‫وتذييل اآلية بقوله ‪َ :‬واتا ُقوا ا‬
‫اّللَ بعث على احملافظة على ما أوصاهم به ‪ ،‬واملداومة عليه ‪ ،‬وقد أمر‬
‫اّلل ابلتقوى عقب النهي عن حترمي الطيبات ‪ ،‬واألمر ابألكل من الرزق الطيب احلًلل ‪ ،‬ليشعران‬
‫ه‬
‫اّلل رائدان‬
‫أنه ال منافاة بني التلذذ ابلطيبات من الرزق وبني‪ .‬التقوى ‪ ،‬غري أنهه جيب أن تكن تقوى ه‬
‫نضار أحدا‪.‬‬
‫فيما نقدم عليه من عمل ‪ ،‬فًل نسرف ‪ ،‬وال نقرت ‪ ،‬وال ه‬
‫واآلية بعمومها دليل على حرمة الرهبانية‪.‬‬
‫وقد جاء النهي عنها صرحيا يف «القرآن» ويف السنة ‪ ،‬فقد صرح «القرآن» أبن الرهبانية مبتدعة‪.‬‬
‫وجاء يف السنة من طرق كثرية‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬من كان موسرا ألن ينكح فلم ينكح فليس مين»‬ ‫عن النيب صلهى ه‬
‫بات ِم َن هِ‬
‫الر ْز ِق‬ ‫بادهِ والطايهِ ِ‬
‫اّللِ الاِيت أَ ْخر ِ ِ ِ‬
‫ج لع َ‬ ‫ََ‬ ‫واآلية على هذا يف معىن قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل َم ْن َح ارَم ِزينَةَ ا‬
‫[األعراف ‪.]32 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال يؤ ِ‬
‫ارتُهُ إِط ُ‬
‫ْعام‬ ‫اّللُ ِابللاغْ ِو ِيف أ َْميان ُك ْم َولك ْن يُؤاخ ُذ ُك ْم ِمبا َع اق ْد ُمتُ ا ْأل َْميا َن فَ َك اف َ‬
‫اخ ُذ ُك ُم ا‬ ‫ُ‬ ‫قال ه‬
‫صيام ثًَلثَةِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫شرةِ مساكِ ِ‬
‫ني م ْن أ َْو َسط ما تُطْع ُمو َن أَ ْهلي ُك ْم أ َْو ك ْس َو ُهتُ ْم أ َْو َحتْ ِر ُير َرقَبَة فَ َم ْن َملْ َجيِ ْد فَ ُ‬ ‫عَ َ َ َ َ‬
‫اّللُ لَ ُك ْم آايتِهِ ل ََعلا ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن‬ ‫ني ا‬ ‫اح َفظُوا أ َْميانَ ُك ْم َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِه ُ‬ ‫أَ اايٍم ذلِ َ‬
‫ك َك اف َارةُ أ َْميانِ ُك ْم إِذا َحلَ ْفتُ ْم َو ْ‬
‫حرموا‬ ‫اّلل عنهما أهنم ملا ه‬ ‫(‪ )89‬قيل يف سبب نزول هذه اآلية ما روي عن ابن عباس رضي ه‬
‫اّلل تعاىل هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫الطيبات من املآكل واملناكح واملًلبس‪ .‬حلفوا على ذلك فأنزل ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)10 /7‬‬

‫ص ‪386 :‬‬
‫واللغو من القول الساقط الذي ال يعت هد به ‪ ،‬وهو يف اليمني الذي ال يتعلق به حكم‪.‬‬
‫وقد اختلف السلف يف تعيينه شرعا ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬هو كًلم الرجل يف بيته ‪ ،‬ال‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فعن عائشة أهنا قالت ‪ :‬إن رسول ه‬
‫اّلل» «‪.»1‬‬
‫واّلل ‪ ،‬وبلى ه‬
‫ه‬
‫واّلل «‪.»2‬‬
‫واّلل ‪ ،‬بلى ه‬
‫وروي عنها أهنها قالت ‪ :‬لغو اليمني ال ه‬
‫روي عن ابن عباس يف لغو اليمني أن حيلف على األمر أنه كذلك‪.‬‬
‫وروي عنه أنه قال ‪ :‬لغو اليمني أن حتلف وأنت غضبان‪.‬‬
‫وذهب بعض العلماء إىل أن اللغو يف اليمني هو الغلط من غري قصد بسبق اللسان‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أ هن اللغو أن حتلف على املعصية تفعلها ‪ ،‬فينبغي أال تفعلها ‪ ،‬وال كفارة فيه ‪،‬‬
‫واستدل له‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬من حلف على ميني فرأى غريها خريا منها‪.‬‬
‫حبديث عن النيب صلهى ه‬
‫فليرتكها ‪ ،‬فإ هن تركها كفارة» «‪.»3‬‬
‫واختلف فقهاء األمصار فيها أيضا فذهب احلنفية إىل أن اللغو هو ‪ :‬احللف على شيء مضى‬
‫وأغلب ظنه الصدق‪ .‬وحكى اجلصاص أ هن ذلك مذهب مالك والليث واألوزاعي‪.‬‬
‫ونقل عن الربيع عن الشافعي أ هن من حلف على شيء أنهه وقع وهو يظنه كذلك فعليه كفارة ‪،‬‬
‫اّلل عنه ال يرى اليمني يف مثل هذا املثال لغوا ‪ ،‬بل يراها ميينا معقودة‪.‬‬
‫وكأن الشافعي رضي ه‬
‫وقد تقدم الكًلم يف سورة البقرة يف بيان مذاهب الفقهاء يف اليمني اللغو والغموس واملنعقدة ‪،‬‬
‫وهي أيضا معروفة يف الفقه ‪ ،‬وكذلك أحكامها ‪ ،‬حيث جيعل احلنفية األقسام الثًلثة متباينة يف‬
‫احلكم ‪ ،‬فاللغو ال شيء فيه ‪ ،‬وكذلك يقول مجيع الفقهاء‪.‬‬
‫إمنا الكًلم عندهم فيما هو حكم اللغو والغموس ‪:‬‬
‫يرى احلنفية أن جزاء الغموس الغمس يف جهنم ‪ ،‬وأهنها ال تكفر‪ .‬والشافعية يقولون ‪ :‬إ هن الغموس‬
‫تعمد الكذب يف ميينه فقد‬
‫اّلل يقول ‪ :‬ولكن يؤاخذكم مبا كسبت قلوبكم ‪ ،‬ومن ه‬
‫تك هفر ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اّلل‬
‫كسب بقلبه إمثا ‪ ،‬وهو مؤاخذ به ‪ ،‬ألنهه عقد قلبه على الكذب يف اليمني ‪ ،‬وقد قال ه‬
‫فَ َك اف َ‬
‫ارتُهُ إخل‪.‬‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم‬ ‫سبَ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫واحلنفية يقولون ‪ :‬إ هن اليمني الغموس هي املذكورة يف قوله ‪َ :‬ولك ْن يُؤاخ ُذ ُك ْم مبا َك َ‬
‫[البقرة ‪]225 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)241 /2‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)241 - 240 /2‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪.)185 /2‬‬

‫ص ‪387 :‬‬
‫واملؤاخذة هبا هو عقاب اآلخرة‪ .‬ويدل له قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ال َخًل َق َهلُ ْم ِيف ْاآل ِخ َرةِ [آل عمران ‪]77 :‬‬
‫اّللِ َوأ َْمياهنِِ ْم مثََناً قَلِ ًيًل أُولئِ َ‬
‫ين يَ ْش َرتُو َن بِ َع ْه ِد ا‬ ‫ِ‬
‫إِ ان الاذ َ‬
‫فذكر الوعيد فيها ومل يذكر الكفارة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬من حلف بيمني آمثة على منربي هذا‬
‫وقد روى جابر عن النيب صلهى ه‬
‫فليتبوأ مقعده من النار» «‪»1‬‬
‫ومل يذكر الكفارة‪.‬‬
‫واملسألة مبسوطة يف كتب الفروع‪ .‬ولكِن يؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُك ْم ِمبا َع اق ْد ُمتُ ْاأل َْميا َن حيتمل أن تكون (ما)‬ ‫َ ُْ‬
‫مصدرية ‪ ،‬أي بتعقيدكم األميان ‪ ،‬وتوثيقها ابلقصد والنية‪.‬‬
‫وحيتمل أن تكون (ما) موصولة ‪ ،‬والعائد حمذوف ‪ ،‬أي مبا عقدمت األميان عليه‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬لكن يؤاخذكم بنكث ما عقدمت األميان عليه ‪ ،‬أو بنكث تعقيدكم اليمني‪.‬‬
‫وحيتمل أن يكون املعىن ‪ :‬ولكن يؤاخذكم مبا عقدمت اليمني إذ حنثتم ‪ ،‬وحذف الشرط للعلم به ‪،‬‬
‫وقد عرفت أ هن الشافعية يدخلون الغموس يف اليمني املعقودة ‪ ،‬ففيها الكفارة عندهم ‪ ،‬واحلنفية‬
‫يقولون ‪ :‬ال كفارة يف الغموس‪.‬‬
‫فَ َك افارتُهُ أي فكفارة ميينكم إذا حنثتم ‪ ،‬أو فكفارة نكثه إِطْعام َع َ ِ‬
‫ش َرة َمساكِ َ‬
‫ني ذهب الشافعية إىل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جواز إخراج الكفارة قبل احلنث إذا كانت ماال ‪ ،‬وأما إذا كانت صوما فًل ‪ ،‬حَّت يتح هقق السبب‬
‫ابحلنث ‪ ،‬واستدلوا بظاهر هذه اآلية ‪ ،‬حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمني ‪ ،‬من غري ذكر‬
‫ارةُ أ َْميانِ ُك ْم إِذا َحلَ ْفتُ ْم وقاسوها أيضا على إخراج الزكاة قبل‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ذلِ َ‬
‫ك َك اف َ‬ ‫احلنث ‪ ،‬وقال ه‬
‫احلول‪ .‬وأما الصوم فًل ينتقل إليه إال بعد العجز عن اخلصال الثًلثة قبله ‪ ،‬وال يتحقق العجز إال‬
‫بعد احلنث ووجوب التكفري‪.‬‬
‫متعني ‪ ،‬إذ مل يقل أحد وال الشافعية بوجوب‬
‫واحلنفية يرون أ هن اآلية فيها إضمار احلنث ‪ ،‬وهو ه‬
‫الكفارة قبل احلنث ‪ ،‬فاحلنث وإن مل يذكر إال أنه معلوم ‪ ،‬فهي على حد قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن كا َن‬
‫َم ِريضاً أ َْو َعلى َس َف ٍر فَعِ ادةٌ ِم ْن أَ اايٍم أُ َخ َر [البقرة ‪ ]185 :‬حيث كان وجوب العدة مرتبا على‬
‫اإلفطار املق هدر‪.‬‬
‫وحنن نرى أ هن اآلية ال تصلح شاهدا لواحد من الطرفني‪.‬‬
‫ِم ْن أ َْو َس ِط ما تُطْعِ ُمو َن أَ ْهلِي ُك ْم ال من جيده فيقع احليف عليكم ‪ ،‬وال من رديئه فتبخسوا املسكني‬
‫حقه ‪ ،‬وجيوز أن يكون املراد من أوسطه يف املقدار ‪ ،‬أي ‪ :‬إذا كان فرد أيكل كثريا ‪ ،‬أو فرد أيكل‬
‫قليًل فتوسطوا بني املقدارين ‪ ،‬وأطعموا املسكني هذا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ ، )779 /1‬كتاب األحكام ‪ ،‬ابب اليمني حديث رقم‬
‫(‪.)2325‬‬

‫ص ‪388 :‬‬
‫الوسط‪ .‬وق هدره الشافعية مب هد لكل مسكني ‪ ،‬واحلنفية ق هدروه مبا جيب يف صدقة الفطر‪.‬‬
‫واجلار واجملرور ِم ْن أ َْو َس ِط متعلهق مبحذوف صفة ملصدر حمذوف ‪ ،‬أي إطعاما كائنا من أوسط‪.‬‬
‫أ َْو كِ ْس َو ُهتُ ْم عطف على (إطعام) إما ابعتبار أن الكسوة مصدر ‪ ،‬أو على إضمار مصدر‪.‬‬
‫أ َْو َحتْ ِر ُير َرقَبَةٍ وقد اشرتط الشافعية فيها اإلميان ‪ ،‬أل هن النص مل يقيهد هنا ‪ ،‬وقيهد يف مواضع أخر‬
‫كالقتل مثًل ‪ ،‬فدل ذلك على أ هن القيد حيث وجد فهو مقصود‪.‬‬
‫واحلنفية ال يرون هذا‪.‬‬
‫نصت اآلية الكرمية على أ هن كفارة اليمني اإلطعام ‪ ،‬أو الكسوة ‪ ،‬أو التحرير‪.‬‬
‫إىل هنا ه‬
‫وقد اختلف العلماء يف متعلهق خطاب التكليف ‪ ،‬فذهب بعض املعتزلة إىل أ هن الواجب اجلميع ‪،‬‬
‫ويسقط ابلبعض‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ويتعني بفعل املكلف ‪ ،‬فيختلف ابلنسبة للمكلفني‪.‬‬ ‫وقيل ‪ :‬الواجب واحد بعينه عند ه‬
‫يام ثًَلثَةِ أَ اايٍم واشرتط احلنفية‬ ‫ِ‬
‫وقيل غري هذا ‪ ،‬واملسألة معروفة يف علم األصول ‪ ،‬فَ َم ْن َملْ َجيِ ْد فَص ُ‬
‫فيها التتابع ‪ ،‬وهو مذهب ابن عباس وجماهد ‪ ،‬وأخرج احلاكم وابن جرير وغريهم من طريق‬
‫صحيح أ هن أيب بن كعب كان يقرأ اآلية هكذا (ثًلثة أايم متتابعات) «‪ »1‬وروي هذا أيضا عن‬
‫ابن مسعود ‪ ،‬وقال سفيان ‪ :‬نظرت يف مصحف الربيع فرأيت فيه ‪( :‬فمن مل جيد فصيام ثًلثة أايم‬
‫متتابعات)‪.‬‬
‫حيتج هبا ‪ ،‬ولعلها مل تثبت‬
‫وأما الشافعي فًل يشرتط التتابع ‪ ،‬ألنه يرى أن هذه قراءات شاذهة ال ه‬
‫عنده‪.‬‬
‫ك َك اف َارةُ أ َْميانِ ُك ْم إِذا َحلَ ْفتُ ْم وحنثتم‪َ .‬و ْ‬
‫اح َفظُوا أ َْميانَ ُك ْم أي احفظوا أنفسكم من احلنث فيها ‪ ،‬أو‬ ‫ذلِ َ‬
‫ال تبذلوها وأقلوا من احللف ‪ ،‬فإ هن ذلك مسقط هليبتكم ‪ ،‬وهو حينئذ يف معىن قوله ‪َ :‬وال ََتْ َعلُوا‬
‫ضةً ِأل َْميانِ ُك ْم [البقرة ‪ ]224 :‬ومنه قول الشاعر ‪:‬‬ ‫ا‬
‫اّللَ عُ ْر َ‬
‫قليل األالاي حافظ ليمينه إذا بدرت منه األليهة هبرت‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن معىن ذلك راعوها حَّت ال حتنثوا فيها ‪ ،‬فتلزمكم الكفارة‪.‬‬
‫اّللُ لَ ُك ْم آايتِهِ ل ََعلا ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن أي مثل هذا البيان الشايف هبني ه‬
‫اّلل لكم أحكامه ‪،‬‬ ‫ني ا‬ ‫َكذلِ َ‬
‫ك يُبَِه ُ‬
‫لتشكروه على ما أنعم عليكم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه احلاكم يف املستدرك على الصحيحني (‪.)539 /2‬‬

‫ص ‪389 :‬‬
‫س ِم ْن َع َم ِل‬
‫الم ِر ْج ٌ‬
‫صاب َو ْاألَ ْز ُ‬
‫ِ‬ ‫آمنُوا إِامنَا ْ‬
‫اخلَ ْم ُر َوال َْم ْيس ُر َو ْاألَنْ ُ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫حو َن (‪ )90‬إِ امنا يُ ِري ُد ال ا‬ ‫ِ‬ ‫طان فَ ْ ِ‬ ‫شيْ ِ‬
‫داوةَ َوالْبَ غْضاءَ ِيف‬
‫شيْطا ُن أَ ْن يُوق َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َ‬ ‫اجتَنبُوهُ ل ََعلا ُك ْم تُ ْفل ُ‬ ‫ال ا‬
‫صًلةِ فَ َه ْل أَنْ تُ ْم ُمْن تَ ُهو َن (‪ )91‬اخلمر ‪ :‬اسم ملا‬ ‫اّللِ َو َع ِن ال ا‬‫ص اد ُك ْم َع ْن ِذ ْك ِر ا‬ ‫ِ‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْيس ِر َويَ ُ‬
‫ْ‬
‫خاص مبا كان من ماء العنب النيهئ‬
‫خامر العقل وغطهاه من األشربة ‪ ،‬أاي كان نوعها ‪ ،‬أو هو ه‬
‫الذي غلى واشتد وقذف ابلزبد‪.‬‬
‫حرمت ‪ ،‬ومل يكن العرب يعرفون اخلمر يف غري املأخوذ من ماء العنب ‪،‬‬
‫يرى احلنفية أ هن اخلمر ه‬
‫فاخلمر عندهم اسم هلذا النوع فقط ‪ ،‬وما وجد فيه خمامرة العقل من غري هذا النوع ال يسمى‬
‫مخرا ‪ ،‬أل هن اللغة ال تثبت من طريق القياس ‪ ،‬واحلرمة عندهم تتعدى إىل املسكر ألهنا معلولة‬
‫ابإلسكار ‪ ،‬ال ألن املسكر مخر‪.‬‬
‫ويرى غريهم أ هن اخلمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه ‪ ،‬فغري ماء العنب حرام ابلنص إِ امنَا ْ‬
‫اخلَ ْم ُر‬
‫َوال َْم ْي ِس ُر إخل‪.‬‬
‫والواقع ‪ :‬أنه قد وردت آاثر خمتلفة يف معاين اخلمر ‪ ،‬فقد روي عن ابن عمر أنهه قال ‪« :‬حرمت‬
‫اخلمر وما ابملدينة منها شيء ‪.»..‬‬
‫ولقد كان ابملدينة من املسكرات نقيع التمر والبسر ‪ ،‬فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عريب ما‬
‫كان يرى أ هن اسم اخلمر يتناول هذين ‪...‬‬
‫ويف مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال ‪ :‬نزل حترمي اخلمر وهو الفضيخ نقيع البسر ‪،‬‬
‫وهذا يدل على أ هن ابن عباس يرى أ هن غري العنب يسمى مخرا‪.‬‬
‫حرمت وما جند مخور األعناب إال القليل ‪،‬‬
‫وروى اثبت عن أنس قال ‪ :‬حرمت علينا اخلمر يوم ه‬
‫وعامة مخوران البسر والتمر‪.‬‬
‫حرمت اخلمر وهي من العنب والتمر والعسل واحلنطة‬
‫وروي عنه أنهه سئل عن األشربة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ه‬
‫والشعري والذرة ‪ ،‬فكان عنده أ هن ما أسكر من هذه األشربة فهو مخر‪.‬‬
‫حرمت وهي من مخسة أشياء من ‪ :‬العنب والتمر والعسل‬
‫وروي عن عمر أنه قال ‪ :‬إ هن اخلمر ه‬
‫واحلنطة والشعري ‪ ،‬واخلمر ما خامر العقل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬إن من احلنطة مخرا ‪ ،‬وإن من الشعري مخرا ‪،‬‬
‫وروي عن النيب صلهى ه‬
‫وإن من الزبيب مخرا ‪ ،‬وإن من التمر مخرا ‪ ،‬وإن من العسل مخرا» «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬اخلمر من هاتني الشجرتني النخلة والعنب» «‪.»2‬‬
‫وروي عنه صلهى ه‬
‫ولقد أطلنا بذكر هذه اآلاثر ملعرفة منشأ اخلًلف ‪ ،‬واحلنفية يقولون فيما خالف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬سبق ترجيه‪].....[ .‬‬

‫ص ‪390 :‬‬
‫مذهبهم من هذه األخبار ‪ :‬إهنا لبيان احلكم الشرعي ‪ ،‬واحلرمة ابلقياس لتحقيق علة احلرمة ‪،‬‬
‫وهي اإلسكار يف القدر املسكر من هذه األشياء‪.‬‬
‫وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا يف التسمية ‪ ،‬والكًلم إمنا هو يف احلكم ‪،‬‬
‫اّلل متفقون يف احلكم من حيث احلرمة إال شيئا يروى عن أيب حنيفة يف‬
‫واملسلمون مجيعا حبمد ه‬
‫حل القليل من غري األصناف األربعة ‪ ،‬وهو ما مل يبلغ ح هد اإلسكار ‪ ،‬وقد نص بعض املتأخرين‬
‫من احلنفية على أ هن هذه الرواية ال جيوز العمل هبا وال الفتوى ‪ ،‬حَّت يف خاصة النفس ‪ ،‬وأ هن‬
‫احلكم أ هن ما أسكر كثريه فقليله حرام‪.‬‬
‫غري أنهه يتبع الكًلم يف احلرمة كًلم يف األحكام األخرى كالنجاسة واحل هد ‪ ،‬فمن يرى أ هن هذه‬
‫األشياء مخر ‪ ،‬وأهنا يشملها اسم اخلمر يقول ‪ :‬إهنا جنسة بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِر ْج ٌ‬
‫س وأ هن فيها احلد الذي ثبت بدليله املعروف يف الفقه‪.‬‬
‫ومن يرى أهنا حرام من طريق القياس إلسكارها‪ .‬هل يرى أ هن النجاسة ووجوب احلد ثبت للخمر‬
‫لإلسكار وخمامرة العقل ‪ ،‬فينقل احلكم ‪ ،‬وهو النجاسة ووجوب احلد ‪ ،‬كما نقل احلرمة ابلقياس‬
‫لإلسكار ‪ ،‬أم هو يرى أ هن الذي ثبت بعلة اإلسكار إمنا هو احلرمة فقط ‪ ،‬فًل يعدي النجاسة‬
‫ووجوب احلد إىل غري ماء العنب واألشربة املعدودة عنده‪.‬‬
‫وهل يورث اخلًلف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط احلد؟ ذلك جيب الرجوع فيه إىل الفقه‬
‫وقواعده ‪ ،‬فإ هن ذلك ال ارتباط له ابآلية اليت معنا‪.‬‬
‫وامليسر ‪ :‬أصله من تيسري أمر اجلزور ابالجتماع على القمار يف توزيعه‪ .‬وقد هبني ذلك عند تفسري‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر [البقرة ‪.]219 :‬‬
‫ك َع ِن ْ‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫وقد روي عن اإلمام علي أنهه الشطرنج‪.‬‬
‫وعن عثمان ومجاعة أنهه النرد ‪ ،‬وقال مجاعة من أهل العلم ‪ :‬القمار كله من امليسر‪ .‬ويراد منه ‪:‬‬
‫َتليك املال ابملخاطرة ‪ ،‬فكل خماطرة ابملال قمار ‪ ،‬وهو من امليسر ‪ ،‬وهو حرام‪.‬‬
‫س أي قذر تعافه العقول‪ .‬وعن الزجاج ‪ :‬الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح ‪ ،‬وقد يطلق‬ ‫ِر ْج ٌ‬
‫الرجس على النجس‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طان من تسويله وتزيينه‪ .‬فَ ْ ِ‬
‫اجتَنبُوهُ أي اجتنبوا الرجس ل ََعلا ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫حو َن راجني‬ ‫ِم ْن عَ َم ِل ال ا‬
‫ش ْي ِ‬
‫الفًلح هبذا االجتناب‪.‬‬
‫اّلل يف اآلية الكرمية أمر اخلمر وامليسر تشديدا يصرف النفوس عنه إىل غري عود ‪،‬‬
‫ولقد شدد ه‬
‫فص هدرت اجلملة (إبمنا) وقران ابألصنام واألزالم ومها ما مها من الشناعة ‪ ،‬ومسيا رجسا من عمل‬
‫الشيطان ‪ ،‬وذاك غاية القبح ‪ ،‬مث أمر ابجتناهبما ‪ ،‬وأضاف‬

‫ص ‪391 :‬‬
‫يفر منهما ‪ ،‬مث جعل اجتناهبما سببا للفًلح والفوز ‪ ،‬فهل‬
‫االجتناب إىل أعياهنما ‪ ،‬حَّت كأهنم مما ه‬
‫اّلل ذلك ببيان املضار اليت تنجم‬
‫مع هذا كله يعود الناس إليهما ‪ ،‬إن ذلك حلسرة؟! ولقد أردف ه‬
‫من جراء اخلمر وامليسر ‪ ،‬عسى أن يكون يف ذلك ذكرى ملن ألقى السمع فقال ‪:‬‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر أي بسبب تعاطيهما ‪ ،‬أما‬
‫داوةَ َوالْبَ غْضاءَ ِيف ْ‬ ‫ِ‬ ‫إِ امنا يُ ِري ُد ال ا‬
‫ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَ ْي نَ ُك ُم ال َْع َ‬
‫اخلمر فإهنها تذهب العقل ‪ ،‬ومَّت ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال اجملانني ‪ ،‬ولو كان جمنوان‬
‫لغفر الناس له ما يكون منه من أذى ‪ ،‬فيتأذى الناس منه ويبغضونه ملا يلحقهم من شره ‪ ،‬وال‬
‫عذر له ‪ ،‬فيغرس يف قلوهبم الغل والضغينة ‪ ،‬وما جر عليه ذلك إال اخلمر‪ .‬وأما امليسر فإنه يف‬
‫حال انشغاله ابلقمار يكون فاقد اإلحساس والشعور ‪ ،‬ال يبايل ابملال خيرج من يده إىل غري رجعة‬
‫‪ ،‬طمعا يف أن ينال أكثر منه ‪ ،‬فإذا رجع خاسرا أكل قلبه احلسد ‪ ،‬وامتألت نفسه حقدا وحفيظة‬
‫‪ ،‬ورمبا أداه ذلك إىل قتل من ظن أنهه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة ‪ ،‬وإن مل َتكنه رجع إىل‬
‫نفسه ابلقتل ‪ ،‬أو ابهلم واالكتئاب ‪ ،‬وإن صادفه احلظ وكان راحبا امتأل قلب صاحبه عليه غًل‬
‫وضغينة‪ .‬واحلوادث منا يف السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد‪ .‬دع ما يتخذه كل املتقامرين من‬
‫وسائل خسيسة ‪ ،‬وأميان كاذبة يستعملوهنا يف سبيل حتقيق أطماعهم ‪ ،‬وكثريا ما أودت تلك‬
‫الوسائل أبصحاهبا‪.‬‬
‫صًلةِ بعد أن هبني األضرار اليت تعود على املتقامرين واملخمورين يف‬
‫اّللِ َو َع ِن ال ا‬
‫ص اد ُك ْم َع ْن ِذ ْك ِر ا‬
‫َويَ ُ‬
‫الدنيا هبني أ هن ضررمها ليس قاصرا على الدنيا فقط ‪ ،‬بل مها ضا هران ابلدين أيضا ‪ ،‬فإهنهما مينعان‬
‫من الذكر ومن الصًلة ‪ ،‬ومَّت منعا من الذكر والصًلة فقد صار الشخص فاجرا ‪ ،‬ال يرقب يف‬
‫اّلل إال وال ذمة ‪ ،‬فهو مستهرت ‪ ،‬ال يبايل ما يرتكب من اآلاثم ‪ ،‬فماذا مينعه ‪ ،‬وقد بعد من‬
‫ه‬
‫الصًلة اليت تنهى عن الفحشاء واملنكر‪.‬‬
‫فَ َه ْل أَنْ تُ ْم ُم ْن تَ ُهو َن يف هذه اجلملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية ‪ ،‬وأ هن األمر من الشدة‬
‫واهلول حبيث ال مينعه إال انتظار اجلواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حني مسعها ‪ ،‬وقد كان‬
‫طلب البيان الشايف بعد آية البقرة قولة اخلائف الوجل ‪ :‬انتهينا اي رب‪ .‬ولقد سبق القول يف سورة‬
‫البقرة أن آية اخلمر [‪ ]219‬اليت فيها ‪ ،‬كانت أول ما نزل يف اخلمر ‪ ،‬مث نزلت آية النساء ‪ ،‬مث‬
‫هذه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إن ربكم يقدم يف‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وأخرج الربيع أنه ملا نزلت آية البقرة قال رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إن ربكم يقدم يف حترمي‬
‫حترمي اخلمر» مث نزلت آية النساء‪ .‬فقال النيب صلهى ه‬
‫فحرمت اخلمر عند ذلك‪.‬‬
‫اخلمر» مث نزلت آية املائدة ه‬

‫ص ‪392 :‬‬
‫اح َذ ُروا فَِإ ْن تَ َولاْي تُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَامنا َعلى َر ُسولِنَا الْبًَلغُ‬
‫ول َو ْ‬
‫اّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا ال ار ُس َ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وأَطيعُوا اَ َ‬
‫قال ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ويدخل فيه ما‬ ‫اّلل والرسول صلهى ه‬ ‫ني (‪ )92‬أمر ابلطاعة يف كل ما جاء عن ه‬ ‫ال ُْمبِ ُ‬
‫جاء يف اخلمر وامليسر دخوال أوليا ‪ ،‬وحتذير عن املخالفة ‪ ،‬فإهنها موقعة يف املهالك فَِإ ْن تَ َولاْي تُ ْم‬
‫ِ‬
‫ني وقد بلهغكم فانقطعت‬ ‫أعرضتم ومل تعملوا مبا أمرمت به فَا ْعلَ ُموا أَامنا َعلى َر ُسولنَا الْبًَلغُ ال ُْمبِ ُ‬
‫حجتكم ‪ ،‬وانسد أمامكم سبيل االعتذار ‪ ،‬ومل يعد لكم مطمع يف التعلهة ‪ ،‬وإن ذلك لتهديد‬
‫شديد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ات ج ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ل َْيس َعلَى الا ِذين آمنُوا و َع ِملُوا ال ا ِ ِ‬
‫ناح فيما طَع ُموا إِذا َما اتا َق ْوا َو َ‬
‫آمنُوا‬ ‫صاحل ُ ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫قال ه‬
‫ني (‪ )93‬روي عن ابن‬ ‫ب ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫اّللُ ُِحي ُّ‬
‫سنُوا َو ا‬ ‫آمنُوا مثُا اتا َق ْوا َوأ ْ‬
‫َح َ‬
‫و َع ِملُوا ال ا ِ ِ‬
‫صاحلات مثُا اتا َق ْوا َو َ‬ ‫َ‬
‫حرمت‬
‫عباس وجابر والرباء بن عازب وأنس بن مالك وغريهم يف سبب نزول هذه اآلية ‪ :‬أنه ملا ه‬
‫اّلل تعاىل هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫اخلمر قالت الصحابة ‪ :‬كيف مبن ماتوا وهم يشربوهنا؟ فأنزل ه‬
‫وقد فهم عمر بن اخلطاب هذا املعىن من اآلية‪ .‬وقد أراد أن يقيم احلد على قدامة بن مظعون‬
‫حني شهد عليه الشهود أبنه شرهبا‪ .‬روى الزهري أن اجلارود سيد بين عبد القيس وأاب هريرة‬
‫شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب اخلمر ‪ ،‬وأراد عمر أن جيلده‪.‬‬
‫ناح‬ ‫اّلل يقول ‪ :‬ل َْيس َعلَى الا ِذين آمنُوا و َع ِملُوا ال ا ِ ِ‬
‫صاحلات ُج ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫فقال قدامة ‪ :‬ليس لك ذلك ‪ ،‬ألن ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫حرم ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فيما طَع ُموا فقال عمر ‪ :‬إنك أخطأت التأويل اي قدامة ‪ ،‬إذا اتقيت اجتنبت ما ه‬
‫والطعم يطلق يف اللغة على التذوق والتلذذ مبا يؤكل ويشرب وهو هنا هبذا املعىن‪.‬‬
‫ابّلل واتقاه وعمل‬
‫وحبسب ما ذكران من سبب النزول يكون معىن اآلية ‪ :‬ليس على من آمن ه‬
‫اّلل يف حمارمه ‪ ،‬وآمن به ‪ ،‬وعمل‬
‫صاحلا جناح فيما تناوله من احملرمات قبل حترميها إذا ما اتقى ه‬
‫اّلل فيما أحل له ‪،‬‬
‫صاحلا ‪ ،‬مث استمر على هذه التقوى وهذا اإلميان يف املستقبل ‪ ،‬مث اتقى ه‬
‫وأحسن يف استعماله‪.‬‬
‫املكررين يف اآلية ‪ ،‬وتعرف معىن اإلحسان الذي‬
‫ومن هذا الذي قلنا تعرف معىن التقوى واإلميان ه‬
‫املفسرون لبيان أنه ال تكرار يف اآلية ‪ ،‬ولنذكر بعضا‬
‫زيد فيها ‪ ،‬وهو وجه من وجوه كثرية أوردها ه‬
‫منها ‪ ،‬فقد قال بعضهم ‪ :‬إن التقوى واإلميان األولني يراد هبما حصول أصل التقوى ‪ ،‬وأصل‬
‫اإلميان ‪ ،‬والثانيني يراد منهما الثبات والدوام ‪ ،‬والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم اإلحسان‬
‫إليه‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أن التقوى األوىل تقوى احملرمات قبل نزول هذه اآلية ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)171 /3‬‬

‫ص ‪393 :‬‬
‫والثانية ‪ :‬اتقاء اخلمر وامليسر ‪ ،‬والثالثة اتقاء ما حيدث بعد هذه اآلية‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أ هن التقوى األوىل اتقاء الكفر ‪ ،‬والثانية اتقاء الكبائر ‪ ،‬والثالثة اتقاء الصغائر‪.‬‬
‫احلث على اإلميان والتقوى‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أ هن املراد من هذا التأكيد يف ه‬
‫اّلل يف رفع اجلناح عن املطعومات واملشروابت اإلميان والتقوى مع أ هن‬
‫يبقى أن يقال ‪ :‬كيف شرط ه‬
‫اجلناح مرفوع عن املباح من املطعومات حَّت عن الكافرين ‪ ،‬ولكن مَّت عرف أن ذلك كان جوااب‬
‫عن سؤال بشأن مؤمنني خيف أن يناهلم شيء من اإلمث على ما تناولوا من احملرمات قبل التحرمي ‪،‬‬
‫وأن اآلية بصدد طمأنة السائل على أصحابه ‪ ،‬وأهنم ممن ال خوف عليهم وال هم حيزنون‪ .‬وأهنها‬
‫يع إِميانَ ُك ْم [البقرة ‪:‬‬ ‫اّلل تعاىل يف شأن من مات قبل الصًلة إىل الكعبة وما كا َن ا ِ ِ‬
‫اّللُ ليُض َ‬ ‫َ‬ ‫مثل قول ه‬
‫ب ال ُْم ْح ِسنِ َ‬
‫ني‬ ‫اّللُ ُِحي ُّ‬
‫‪ ]143‬مَّت عرف ذلك ظهرت فائدة الشرط وتذييل اآلية بقوله تعاىل ‪َ :‬و ا‬
‫لإلشادة بشأن اإلحسان يف ذاته ‪ ،‬وشأن هؤالء الذين نزلت اآلية فيهم‪.‬‬
‫ش ْي ٍء ِم َن ال ا‬
‫ص ْي ِد تَنالُهُ أَيْ ِدي ُك ْم َوِرما ُح ُك ْم لِيَ ْعلَ َم‬ ‫اّللُ بِ َ‬
‫آمنُوا لَيَ ْب لُ َونا ُك ُم ا‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫قال ه‬
‫يم (‪ )94‬تق هدم الكًلم غري مرة يف معىن‬ ‫ِ‬ ‫ب فَ َم ِن ا ْعتَدى بَ ْع َد ذلِ َ‬ ‫اّللُ َم ْن َخيافُهُ ِابلْغَْي ِ‬
‫ا‬
‫ذاب أَل ٌ‬
‫ك فَلَهُ َع ٌ‬
‫االبتًلء ‪ ،‬وأ هن املراد منه يف مثل هذا املقام أن يعامل العباد معاملة املبتلي املخترب ‪ ،‬ليتعرف حاهلم‬
‫وهل يثبتون على احملن والشدائد أو ال يثبتون‪.‬‬
‫أخرج ابن أيب حامت يف سبب نزول هذه اآلية عن مقاتل أهنا نزلت يف عمرة احلديبية حيث ابتًلهم‬
‫اّلل ابلصيد وهم حمرمون ‪ ،‬فكانت الوحوش تغشاهم يف رحاهلم ‪ ،‬وكانوا متمكنني من صيدها أخذا‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫ماح ُك ْم فهموا أبخذها ‪ ،‬فنزلت‬ ‫أبيديهم ‪ ،‬وطعنا ‪ ،‬برماحهم ‪ ،‬وذلك قوله تعاىل ‪ :‬تَنالُهُ أَيْدي ُك ْم َوِر ُ‬
‫هذه اآلية ‪ ،‬وخص األيدي والرماح ‪ ،‬ألن الصيد يكون هبما غالبا‪.‬‬
‫ش ْي ٍء للتحقري ‪ ،‬وإمنا امتحنوا هبذا الشيء احلقري تنبيها على أ هن من مل‬ ‫والتنكري يف قوله تعاىل ‪ :‬بِ َ‬
‫يثبت أمام هذه األشياء التافهة كيف يثبت عند شدائد احملن ‪ ،‬وميكن أن يقال ‪ :‬إ هن التنوين‬
‫صيْ ِد للتبعيض ‪ ،‬إما‬‫للتعظيم ‪ ،‬ابعتبار جزاء االعتداء عليه فإنهه عظيم ‪ ،‬و(من) يف قوله ‪ِ :‬م َن ال ا‬
‫ابعتبار أن املراد صيد الرب ال صيد البحر ‪ ،‬أو صيد احلرم دون صيد احلل‪.‬‬
‫ب أي ليظهر ما علمه أزال من أهل طاعته ومعصيته حاصًل منهم فيما ال‬ ‫لِيَ ْعلَ َم ا‬
‫اّللُ َم ْن َخيافُهُ ِابلْغَْي ِ‬
‫اّلل يف الصيد بعد هذا التنبيه فله‬ ‫يم أي فمن َتاوز ح هد ه‬ ‫ِ‬ ‫يزال فَ َم ِن ا ْعتَدى بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫ذاب أَل ٌ‬
‫ك فَلَهُ َع ٌ‬
‫عذاب أليم ‪ ،‬أل هن املخالفة بعد اإلنذار مكابرة وعدم مباالة ‪ ،‬واملراد‬

‫ص ‪394 :‬‬
‫ابلعذاب عذاب اآلخرة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل وعذاب الدنيا ‪ ،‬فقد روي عن ابن عباس‪ .‬قال ‪ :‬هو أن‬
‫يوسع ظهره وبطنه جلدا ‪ ،‬ويسلب ثيابه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْي َد َوأَنْ تُ ْم ُح ُرٌم َوَم ْن قَتَ لَهُ م ْن ُك ْم ُمتَ َع همداً فَ َجزاءٌ‬
‫آمنُوا ال تَ ْقتُلُوا ال ا‬
‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عام َمساكِ َ‬
‫ني أ َْو َع ْد ُل‬ ‫ارةٌ طَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ِم َْحي ُك ُم بِه ذَوا َع ْد ٍل منْ ُك ْم َه ْدايً ابل َغ الْ َك ْعبَة أ َْو َك اف َ‬
‫مثْ ُل ما قَتَ َل م َن الن َ‬
‫اّللُ ِمنْهُ َو ا‬
‫اّللُ عَ ِز ٌيز ذُو انْتِ ٍ‬
‫قام‬ ‫عاد فَيَ ْن تَ ِق ُم ا‬
‫ف َوَم ْن َ‬ ‫ابل أ َْم ِرهِ عَ َفا ا‬
‫اّللُ عَ اما َسلَ َ‬ ‫صياماً لِيَ ُذو َق َو َ‬ ‫ك ِ‬‫ذلِ َ‬
‫ِ‬
‫يدل على حترمي إزهاق‬ ‫ص ْي َد َوأَنْ تُ ْم ُح ُرٌم النهي عن القتل ه‬ ‫آمنُوا ال تَ ْقتُلُوا ال ا‬‫ين َ‬ ‫(‪ )95‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫روح الصيد مطلقا ‪ ،‬سواء كان من طريق الفعل أو من طريق التسبب ‪ ،‬كاإلشارة والداللة مثًل ‪،‬‬
‫ويؤيد هذا املعىن‬
‫قوله عليه الصًلة والسامل لبعض أصحابه ‪« :‬هل أشرمت ‪ ،‬هل دللتم» ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال‪ .‬قال ‪« :‬إذن‬
‫فكلوا» «‪»1‬‬
‫‪ .‬فدل هذا على أ هن لإلشارة والداللة مدخًل يف التحرمي ‪ ،‬وأهنهما مما يتناوله النهي يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ْي َد فكان النهي متناوال للقتل من طريق املباشرة والتسبب‪ .‬واملراد ابلصيد املصيد ‪،‬‬
‫ال تَ ْقتُلُوا ال ا‬
‫وقد اختلف يف املراد مبدلوله ‪ ،‬فذهب بعضهم إىل أ هن املراد منه احليوان املتوحش مطلقا سواء‬
‫وابألول قال احلنفية ‪ ،‬وابلثاين قال‬
‫وخصه بعضهم ابملأكول ‪ ،‬ه‬
‫أكان مأكوال أم غري مأكول ‪ ،‬ه‬
‫الشافعية ‪ ،‬وانبىن على هذا اخلًلف أن من قتل سبعا وهو حمرم فهل جيب عليه اجلزاء أو ال جيب‬
‫‪ ،‬قال احلنفية ‪ :‬جيب ‪ ،‬وقال الشافعية ‪ :‬ال جيب‪.‬‬
‫استدل احلنفية ملذهبهم أبن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من املأكول ومن غري املأكول ‪،‬‬
‫وهو اسم عريب واضح الداللة على معناه ‪ ،‬وقد كانت العرب تصطاد ‪ ،‬وتطلق اسم الصيد على‬
‫كل ما تناولته أيديهم ورماحهم‪.‬‬
‫ومل تنحصر فائدة حل االصطياد يف األكل ‪ ،‬بل قد تكون الفوائد اليت هي غري األكل أجدى من‬
‫األكل ‪ ،‬ومغرية ابلصيد أكثر منه ‪ ،‬كصيد الفيلة لًلنتفاع بسنها مثًل ‪ ،‬فيبقى اسم الصيد عاما يف‬
‫احلًلل واحلرام ‪ ،‬ال خيرج منه شيء إال ما أخرجه الدليل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يف اخلمس‬
‫وقد فهم الصحابة هذا فامتنعوا من فعله مطلقا ‪ ،‬حَّت أذن هلم صلهى ه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬صيد‬
‫الفواسق ‪ ،‬فهي خارجة من هذا العام هبذا اإلذن‪ .‬وقد قال اإلمام علي رضي ه‬
‫امللوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي األبطال‬
‫فسمى الثعلب ‪ ،‬صيدا ‪ ،‬وهو مما ال يؤكل ‪ ،‬إذ هو من السباع ذات الناب‪.‬‬
‫وذكر الفخر الرازي حجة الشافعية فقال ‪ :‬حجة الشافعي القرآن واخلرب‪ .‬أما القرآن فهو أ هن‬
‫الذي حيرم أكله ليس بصيد ‪ ،‬فوجب أن ال يضمن‪ .‬إمنا قلنا ‪ :‬إنه ليس‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )851 /2‬كتاب احلج ‪ - 8 ،‬ابب حترمي الصيد حديث‬
‫رقم (‪.)1196 /56‬‬

‫ص ‪395 :‬‬
‫ِ‬
‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر َوطَ ُ‬
‫عامهُ‬ ‫بصيد ‪ ،‬ألن الصيد ما حيل أكله لقوله تعاىل ‪ :‬بعد هذه اآلية ‪ :‬أُحلا لَ ُك ْم َ‬
‫متاعاً لَ ُكم ولِل ا ِ‬
‫ْرب ما دُ ْمتُ ْم ُح ُرماً فهذا يقتضي حل صيد البحر ابلكلية‬ ‫صيْ ُد ال َِه‬
‫سيا َارة َو ُح هِر َم عَلَيْ ُك ْم َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬وحل صيد الرب خارج وقت اإلحرام ‪ ،‬فثبت أ هن الصيد ما حيل أكله ‪ ،‬والسبع ال حيل أكله ‪،‬‬
‫فوجب أن ال يكون صيدا ‪ ،‬وإذا ثبت أنه ليس بصيد ‪ ،‬وجب أن ال يكون مضموان ‪ ،‬أل هن األصل‬
‫عدم الضمان‪ .‬تركنا العمل به يف ضمان الصيد حبكم هذه اآلية‪.‬‬
‫فبقي ما ليس بصيد على وفق األصل‪.‬‬
‫هذه عبارة الفخر الرازي أوردانها بنصها‪ .‬وحنن ال نظن أن اإلمام الشافعي وهو من هو يسلك‬
‫ِ‬
‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر َوطَ ُ‬
‫عامهُ َمتاعاً‬ ‫هذا الطريق يف احلجاج ‪ ،‬فإنه يقال ‪ :‬ما الذي تدل عليه آية أُح ال لَ ُك ْم َ‬
‫ارةِ إهنا إن دلت على شيء فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو املأكول‪ .‬إذ هي قد‬ ‫لَ ُك ْم َولِل ا‬
‫سيا َ‬
‫وخاص ‪ ،‬فاألول الصيد مطلقا ‪ ،‬والثاين طعامه ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫عام‬
‫أحلت شيئني صيدا وطعاما ‪ ،‬فهما شيئان ه‬
‫فهي تبيح الصيد انتفاعا وطعاما‪.‬‬
‫أعم من أن يكون من طريق األكل أو طريق احللية مثًل ‪ ،‬وأما‬ ‫انظر إىل َمتاعاً لَ ُك ْم أي نفعا ‪ ،‬وهو ه‬
‫ص ْي ُد ال َِه‬
‫ْرب ما ُد ْمتُ ْم ُح ُرماً فهو كقوله تعاىل ‪:‬‬ ‫قوله تعاىل ‪َ :‬و ُح هِر َم َعلَْي ُك ْم َ‬
‫ص ْي َد َوأَنْ تُ ْم ُح ُرٌم فإن دلت هذه على حل صيد غري املأكول دلت األخرى ‪ ،‬فنحن‬
‫ال تَ ْقتُلُوا ال ا‬
‫نرى أ هن هذه اآلية اليت ساقها الفخر دليًل ال تنهض دليًل على الدعوى‪.‬‬
‫قال الفخر بعد ذلك ‪ :‬وأما اخلرب فهو احلديث املشهور ‪ ،‬وهو‬
‫يقتلهن يف احلل واحلرم ‪:‬‬
‫ه‬ ‫قوله عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬مخس فواسق ال جناح على احملرم أن‬
‫الغراب ‪ ،‬واحلدأة ‪ ،‬واحلية ‪ ،‬والعقرب ‪ ،‬والكلب العقور» «‪»1‬‬
‫ويف رواية أخرى ‪« :‬السبع العادي» «‪»2‬‬
‫قال واالستدالل به من وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن قوله ‪« :‬و السبع العادي» نص يف املسألة‪.‬‬
‫حبل قتلها ‪ ،‬واحلكم املذكور‬
‫اثنيها ‪ :‬أنه عليه الصًلة والسًلم وصفها بكوهنا فواسق ‪ ،‬مث حكم ه‬
‫عقيب الوصف املناسب مشعر بكون احلكم معلهًل بذلك الوصف‪.‬‬
‫وهذا يدل على أ هن كوهنا فواسق علة حلل قتلها ‪ ،‬وال معىن لكوهنا فواسق إال كوهنا مؤذية ‪ ،‬وصفة‬
‫اإليذاء يف السباع أقوى ‪ ،‬فوجب جواز قتلها‪.‬‬
‫مث أتى بوجه اثلث ال خيرج يف املعىن عن الثاين وهو أن الشارع خصها هبذا احلكم ال ختصاصها‬
‫مبزيد اإليذاء ‪ ،‬وصفة اإليذاء يف السباع أمت ‪ ،‬فوجب القول جبواز قتلها ‪ ،‬وإذا ثبت جواز قتلها‬
‫وجب أن ال تكون مضمونة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )856 /2‬كتاب احلج ‪ - 9 ،‬ابب ما يندب للمحرم‬
‫حديث رقم (‪.)1198 /66‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )113 /2‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما يقتل من الدواب حديث رقم‬
‫(‪.)1848‬‬

‫ص ‪396 :‬‬
‫وما ندري إذا أراد الفخر أن يستدل للحنفية فماذا يقول ‪ :‬إنه ال يقول وال يفعل أكثر من أن‬
‫يقول ‪ :‬وحجة احلنفية ‪ ،‬مث يذكر هذا الدليل ‪ ،‬فإنك قد عرفت أن احلنفية يقولون ‪ :‬إن الصيد‬
‫اسم عام يتناول املأكول وغري املأكول ال خيرج عنه شيء إال ما أخرج الدليل ‪ ،‬وقد أخرج الدليل‬
‫اخلمس الفواسق ‪ ،‬ألهنا فواسق ‪ ،‬ال ألهنا ليست بصيد ‪ ،‬أو ألهنا غري مأكولة ‪ ،‬فهذا دليل‬
‫للحنفية ال عليهم‪ .‬وأما ما ذكر من الرواية األخرى اليت صرح فيها ابسم «السبع العادي»‬
‫فاحلنفية هلم أن يقولوا ‪ :‬بل هم قد قالوا فعًل ‪ :‬إن صح هذا احلديث فنحن نقول مبوجبه ‪ ،‬فقد‬
‫جاء يف احلديث وصف السبع ابلعادي ‪ ،‬والعادي معناه الضاري ‪ ،‬وهم يقولون بقتل كل ما يكون‬
‫منه عدوان دفعا لعدوانه ‪ ،‬وإضافة هذا الوصف دليل على أنه من غري الفواسق ‪ ،‬ويف ذلك دليل‬
‫على أنه إمنا حيل قتله يف حال ضراوته وعدوانه‪ .‬واحلنفية يقولون ‪ :‬إن السبع لو قتل يف هذه‬
‫احلال ال جزاء فيه ‪ ،‬فأنت ترى أ هن هذه احلجة اليت ساقها الفخر الرازي للتدليل على مذهب‬
‫الشافعية ال تصلح دليًل على الدعوى‪.‬‬
‫خاص ابملأكول ‪ ،‬فإن ثبت هذا كانت اآلية‬
‫وإمنا يصلح دليًل هلم أن يقوم الدليل على أ هن الصيد ه‬
‫حجة هلم ‪ ،‬وإال فهي ظاهرة يف العموم حَّت يقوم الدليل على اخلصوص ‪ ،‬وقد قال الفخر الرازي‬
‫يف الرد على بيت اإلمام علي الذي استدل به احلنفية ‪ :‬إنه غري وارد ‪ ،‬ألن الثعلب مأكول ‪ ،‬فهو‬
‫صيد ‪ ،‬وحنن نقول به ‪ ،‬والرد من هذه اجلهة مقبول له أنه ثبت أنه إمنا مساه صيدا ألنه مأكول ‪،‬‬
‫وهذه هي حمل النزاع «‪.»1‬‬
‫وعلى أي حال فاآلية ظاهرها العموم حَّت يقوم الدليل على اخلصوص‪.‬‬
‫َوأَنْ تُ ْم ُح ُرٌم حرم مجع حرام ‪ ،‬وقد قيل ‪ :‬إن املراد وأنتم حمرمون ابحلج ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل املراد وقد‬
‫تدل على أ هن‬
‫دخلتم ابحلرم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مها مرادان ابآلية ‪ ،‬وعلى هذا املعىن األخري فهذه اآلية ه‬
‫احملرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل احلرم وخارجه ‪ ،‬وعلى أ هن احلًلل ممنوع من الصيد داخل‬
‫احلرم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوَم ْن قَتَ لَهُ م ْن ُك ْم ُمتَ َع هِمداً فَ َجزاءٌ مثْ ُل ما قَتَ َل م َن الن َ‬
‫اع ِم ظاهر اآلية ترتيب اجلزاء املخصوص على‬
‫القتل العمد ‪ ،‬وقد اختلف السلف يف ذلك على ثًلثة أقوال ‪ :‬فاجلمهور على أ هن اجلزاء يرتتب‬
‫تعمد القاتل قتله أو أخطأ فيه ‪ ،‬وسواء كان ذاكرا إلحرامه أو‬
‫على قتل الصيد مطلقا ‪ ،‬سواء ه‬
‫انسيا‪.‬‬
‫خص العمد ابلذكر ألجل أن يرتهب عليه االنتقام عند العود ‪ ،‬أل هن العمد هو الذي يرتتب‬
‫وإمنا ه‬
‫عليه ذلك ‪ ،‬دون اخلطأ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري مفاتيح الغيب لإلمام الرازي (‪.)87 /12‬‬

‫ص ‪397 :‬‬
‫بقي أن يقال ‪ :‬هذا حكم العمد قد عرف من اآلية وأ هن فيه اجلزاء ‪ ،‬فمن أين اجلزاء يف اخلطأ‪.‬‬
‫يقرر التسوية يف ضمان املتلفات‪ .‬إذ إ هن من قتل‬
‫قيل ‪ :‬إن جزاء اخلطأ معروف من الدليل الذي ه‬
‫صيد إنسان عمدا أو خطأ يف غري احلرم ‪ ،‬أو أتلف ماال مملوكا إلنسان عمدا أو خطأ فعليه‬
‫جزاؤه ‪ ،‬فهذا حكم عام يف مجيع املتلفات‪ .‬بل قد عرف يف ابب جناايت اإلحرام بوجه خاص أنه‬
‫ال فرق بني معذور وغري معذور يف وجوب الفدية ‪ ،‬وما اخلطأ إال عذر من األعذار ‪ ،‬غاية ما يؤثر‬
‫يف العقوبة األخروية فيسقطها‪.‬‬
‫وإذا ثبت أن جناية اإلحرام يستوي فيها املعذور وغري املعذور علمنا أن القتل العمد واخلطأ يف‬
‫وجوب اجلزاء سواء ‪ ،‬وليس ذلك إثباات للك هفارة ابلقياس ‪ ،‬بل مبا ثبت به أن ضمان املتلفات‬
‫يستوي فيه العمد واخلطأ‪.‬‬
‫وذهب ابن عباس فيما رواه قتادة عنه ‪ :‬أنه ال شيء يف اخلطأ ‪ ،‬وهو قول طاوس وعطاء وجماهد‬
‫يف إحدى الروايتني عنه‪.‬‬
‫والرواية األخرى أنهه إن قتله عامدا انسيا إلحرامه ‪ ،‬أو قتله خطأ ذاكرا إلحرامه فهذا الذي حيكم‬
‫عليه ابجلزاء‪ .‬أما من قتله عامدا ذاكرا إلحرامه فهذا ال ينفعه اجلزاء‪.‬‬
‫فقد أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن ابن أيب جنيح عن جماهد ‪ :‬ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم ‪ ،‬ومن قتله‬
‫منكم متعمدا غري انس حلرمه ‪ ،‬وال مريد غريه ‪ ،‬فقد حل ‪ ،‬وليس له رخصة ‪ ،‬ومن قتله انسيا‬
‫إحرامه ‪ ،‬أو أراد غريه ‪ ،‬فذلك العمد املكفر‪.‬‬
‫متعمدا لقتله ‪ ،‬فذلك‬
‫وروى ابن أيب جنيح عنه أيضا يف هذا املعىن قال ‪ :‬من قتله انسيا إلحرامه ه‬
‫حج له‪.‬‬
‫متعمدا قتله ال حيكم عليه ‪ ،‬وال ه‬
‫الذي حيكم عليه ‪ ،‬فإن قتله ذاكرا إلحرامه ه‬
‫أجل من أن حيكم عليه‪ .‬وقال ابن زيد ‪:‬‬
‫ويف رواية ‪ :‬هذا ال حيكم عليه‪ .‬هذا ه‬
‫حمرم ‪ ،‬فهؤالء الذين حيكم عليهم‪.‬‬
‫يتعمد فيه ‪ ،‬وهو انس حلرمه ‪ ،‬أو جاهل أن قتله غري ه‬
‫أما الذي ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وهو يعلم أنهه حمرم ‪ ،‬وأنه حرام ‪ ،‬فذلك يوكل إىل نقمة ه‬
‫فأما من قتله متعمدا بعد هني ه‬
‫األول وعلمت وجهه‪ .‬فَ َجزاءٌ‬
‫فهذه أقوال ثًلثة يف قتل الصيد ‪ ،‬وقد علمت أن اجلمهور على ه‬
‫اع ِم قرئ فَ َجزاءٌ ابلرفع والتنوين ‪ ،‬واملعىن على هذه القراءة فالواجب جزاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مثْ ُل ما قَتَ َل م َن الن َ‬
‫مماثل للمقتول‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)27 /7‬‬

‫ص ‪398 :‬‬
‫وقرئ فجزآء مثل برفع جزاء مضافا إىل ِمثْ ُل ما قَتَ َل وظاهر هذه القراءة أ هن اجلزاء إمنا هو جزاء‬
‫مثل املقتول ال جزاء املقتول‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬إن ذلك خارج خمرج ‪ :‬مثلك جدير ابإلكرام ‪ ،‬واملعىن أنت جدير ابإلكرام ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ااس َكمن مثَلُهُ ِيف الظُّلُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫مات‬ ‫َحيَ ْيناهُ َو َج َعلْنا لَهُ نُوراً ميَْشي بِه ِيف الن ِ َ ْ َ‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬أ ََو َم ْن كا َن َم ْيتاً فَأ ْ‬
‫[األنعام ‪ ]122 :‬إذ املعىن كمن هو يف الظلمات ‪ ،‬وجيوز أن تكون اإلضافة على معىن (من)‬
‫واملعىن فجزاء من مثل ما قتل‪.‬‬
‫اع ِم حيتمل أن يكون حاال من اجلزاء ‪ ،‬واملعىن فجزاء مماثل للمقتول حال كون اجلزاء من‬ ‫ِ‬
‫وم َن الن َ‬
‫وجوز بعضهم أن يكون بياان ملا يف قوله ‪ :‬ما قَتَ َل واملعىن عليه ‪ :‬فجزاء مماثل للمقتول‬
‫النعم ‪ ،‬ه‬
‫حال كون املقتول من النعم ‪ ،‬وأنت تعلم أن ذلك إمنا يتم على رأي أيب عبيد واألصمعي اللذين‬
‫يقوالن ‪ :‬إن النعم كما يكون من األهلي يكون من الوحشي ‪ ،‬وهو خًلف املشهور ‪ ،‬إذ إ هن‬
‫املشهور أن النعم يطلق على اإلبل وحدها ‪ ،‬وعلى البقر والغنم مضمومة إىل اإلبل ‪ ،‬ويصح أن‬
‫يكون حاال من الضمري يف (قتل) وهو قريب من هذا املعىن‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد ابملثل ‪ ،‬فقد روي عن ابن عباس أن املثل النظري ‪ ،‬ففي الظبية شاة‬
‫‪ ،‬ويف النعامة بعري ‪ ،‬وكذا كل صيد قتل جيب فيه نظريه يف املنظر ‪ ،‬وهو مذهب حممد بن احلسن‬
‫اّلل أوجب مثل املقتول مقيهدا بكونه من النعم ‪ ،‬فًل بد‬
‫والشافعي ومالك واإلمامية ‪ ،‬وحجتهم أن ه‬
‫أن يكون اجلزاء مثًل من النعم ‪ ،‬وذلك ال يكون إال أبن يكون من احليواانت اليت َتاثل املقتول ‪،‬‬
‫فًل َتب القيمة ألهنها ليست من النعم‪.‬‬
‫اّلل بن مسعود وغريهم يف النعامة بدنة‬
‫اّلل عليهم كعلي وعمر وعبد ه‬
‫وقد أوجب الصحابة رضوان ه‬
‫‪ ،‬ويف محار الوحش بقرة ‪ ،‬إىل غري ذلك‪ .‬وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إىل أن الواجب هو قيمة‬
‫يقوم يف املكان الذي صيد فيه ‪ ،‬أو يف أقرب‬
‫الصيد املقتول ابعتبار كونه صيدا قبل الصيد ‪ ،‬ه‬
‫األماكن إليه ‪ ،‬ويف زمان الصيد ‪ ،‬أل هن القيمة تتفاوت ابعتبار املكان والزمان ‪ ،‬وخًلف حممد إمنا‬
‫هو فيما له مثل ‪ ،‬أما ما ال مثل له فالواجب القيمة عنده كما هي عند أيب حنيفة وأيب يوسف‪.‬‬
‫وأما الشافعي فقد روي عنه أنه يعترب املماثلة ولو يف الصفات ‪ ،‬فأوجب يف احلمامة شاة ‪ ،‬أل هن‬
‫احلمامة تشبه الشاة يف عب املاء ويف اهلدير‪.‬‬
‫اّلل أوجب مثل املقتول مطلقا ‪ ،‬واملطلق ينصرف إىل الفرد‬
‫احتج أبو حنيفة وأبو يوسف ‪ :‬أبن ه‬
‫الكامل منه ‪ ،‬وذلك يكون فيما هو مماثل يف الصورة واملعىن ‪ ،‬وذلك طنما هو من املشارك يف‬
‫النوع ‪ ،‬وإجياب ذلك متعذر ‪ ،‬أل هن نوع الصيد صيد ‪ ،‬وهو حمذور ‪ ،‬فننتقل منه إىل ما يقاربه ‪،‬‬
‫وهو املثل يف املعىن ‪ ،‬فوجب املصري إليه ‪،‬‬

‫ص ‪399 :‬‬
‫وذلك ألنهه قد عهد يف الشرع عند إطًلق املثل أن يراد املشارك يف النوع أو القيمة ‪ ،‬فقد قال‬
‫اّلل تعاىل يف ضمان العدوان ‪ :‬فَ َم ِن ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا عَلَيْهِ ِمبِثْ ِل َما ا ْعتَدى عَلَيْ ُك ْم واملراد‬
‫ه‬
‫من املثل النظري ابلنوع يف املثليات ‪ ،‬والقيمة يف القيميات ‪ ،‬فهو مشرتك معنوي ‪ ،‬واحليواانت قد‬
‫اعتربها الشارع من القيميات لًلختًلف الباطين يف أبناء النوع الواحد ‪ ،‬فأوىل أن يراد ابملثل‬
‫القيمة فيما اختلف نوعه‪.‬‬
‫وقد أهدر الشارع يف ضمان املتلفات املماثلة احلاصلة يف الصورة الظاهرة يف أبناء النوع الواحد ‪،‬‬
‫فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر ‪ ،‬ولسنا نقول إننا نعترب القيمة ونصرفها نقدا ‪ ،‬بل حنن‬
‫نعتربها معيارا تعرف هبا قيمة الصيد ‪ ،‬مث يشرتى هبا ما يساويها من النعم إن بلغت هداي ‪ ،‬وإال‬
‫أطعم هبا مساكني ‪ ،‬أو صام مبقدارها‪ .‬فاملدار يف اجلزاء على املثل الذي هو القيمة ‪ ،‬ليمكن أن‬
‫يلجأ احلكمان إليها يف تعيني الواجب من النعم‪.‬‬
‫ويستشهد احلنفية ملذهبهم بقوله تعاىل ‪َْ :‬حي ُك ُم بِهِ ذَوا َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم فإن االلتجاء إىل حكمني اثنني‬
‫من عدول املسلمني إمنا يكون يف شيء تتلف أنظار الناس فيه ‪ ،‬وذلك ليس إال القيمة‪ .‬فإ هن‬
‫العب واهلدير قد ال تفى على أحد‪.‬‬
‫مقابلة الصفات الظاهرة من ه‬
‫اّلل يف ضمان‬
‫اّلل عنهما أن يقوال ‪ :‬بل األمر على العكس ‪ ،‬فلم يوجب ه‬
‫وللشافعي وحممد رضي ه‬
‫سائر املتلفات غري الصيد االلتجاء إىل احلكمني ‪ ،‬أل هن الوقوف على القيمة سهل ‪ ،‬فأما الوقوف‬
‫على املضاهاة واملشاكلة يف صفات احليواانت وهيئاهتا وطبائعها مما ال يهتدي إليه إال اخلبري هبذه‬
‫الصفات والطبائع ‪ ،‬واخلبري هبذه األشياء يف الناس قليل‪ .‬وما نظن أحدا يشعر أ هن بني احلمامة‬
‫والشاة شبها يف العب واهلدير إال من درس طبائع احليوان وخواصه ‪ ،‬فمن أجل ذلك احتجنا إىل‬
‫احلكمني‪.‬‬
‫َْحي ُك ُم بِهِ ذَوا َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َه ْدايً ابلِ َغ الْ َك ْعبَةِ أي أ هن اجلزاء الواجب حيكم به حكمان عدالن من‬
‫ني أي من قتل صيدا‬ ‫عام َمساكِ َ‬ ‫املسلمني حال كون احملكوم به هداي ابلغ الكعبة‪ .‬أ َْو َك اف َ‬
‫ارةٌ طَ ُ‬
‫ك‬‫فالواجب عليه جزاء مثله من النعم يبينه احلكمان ‪ ،‬أو كفارة هي طعام مساكني أ َْو َع ْد ُل ذلِ َ‬
‫صياماً أو ما يساوي ذلك ‪ ،‬أي اجلزاء املماثل صياما يقدر لكل ما يساوي طعام مسكني صوم‬ ‫ِ‬
‫يوم ‪ ،‬وما قل عن طعام املسكني يصوم عنه يوما ‪ ،‬أل هن الصيام مل يعهد يف أقل من يوم‪.‬‬
‫وأنت ترى يف اآلية (أو) اليت للتخيري ‪ ،‬فأين التخيري اي ترى ‪ :‬أهو ملن وجب عليه اجلزاء ‪ ،‬أم هو‬
‫للحكمني ‪ ،‬ومَّت حكما بشيء التزمه قاتل الصيد ال يتعداه‪.‬‬
‫قال أبو حنيفة وأبو يوسف ‪ :‬إن احلكمني يقدران قيمة اجلزاء ‪ ،‬وأنه يساوي كذا من اهلدي ‪،‬‬
‫خمري بني أيهها يفعل‪.‬‬
‫وكذا من طعام املساكني ‪ ،‬وكذا من الصيام ‪ ،‬وقاتل الصيد ه‬

‫ص ‪400 :‬‬
‫حمكي عن الشافعي أيضا ‪ :‬بل اخليار للحكمني ‪ ،‬ومَّت حكما بشيء والتزمه‬
‫وقال حممد وهو ه‬
‫القاتل ال يتعداه‪.‬‬
‫ويريد أبو حنيفة ‪ :‬أن أيخذ من قوله ‪( :‬هداي) دليًل على أ هن الواجب يف اجلزاء القيمة ‪ ،‬ألن‬
‫اهلدي مل يعرف إال فيما َتوز به الضحااي ‪ ،‬وهو اجلذع من الضأن ‪ ،‬والثين من غريه ‪ ،‬أل هن مطلق‬
‫اسم اهلدي ينصرف إليه ‪ ،‬كما يف هدي املتعة والقران‪.‬‬
‫وحملمد والشافعي أن يقوال ‪ :‬إن اسم اهلدي قد يطلق على كل ما يهدى ‪ ،‬وقد أتيهد هذا املعىن‬
‫عندمها مبا روي من أن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة‪.‬‬
‫وأبو حنيفة جييب عما ورد من فعل الصحابة ‪ :‬أبهنم إمنا أوجبوه طعاما ال هداي ‪ ،‬وأبو حنيفة جييز‬
‫أن يكون اإلطعام من الصغار اليت ال تصلح للضحااي على أهنا طعام ال هدي‪.‬‬
‫هذا وقد دلت اآلية الكرمية على أنهه إذا كان اجلزاء هداي فًل ب هد أن يبلغ الكعبة ‪ ،‬فيذبح هناك‪.‬‬
‫خصت ابلذكر للتعظيم ‪ ،‬فلو ذحبه يف غري احلرم‬
‫قال العلماء ‪ :‬واملراد من الكعبة احلرم ‪ ،‬وإمنا ه‬
‫كان إطعاما‪ .‬واإلطعام كما يكون يف احلرم يكون يف غريه ‪ ،‬وقد نقل عن الشافعي أ هن اإلطعام‬
‫كذلك اعتبارا ابهلدي‪.‬‬
‫وحمل إثبات ذلك أو نفيه يف الفقه ‪ ،‬أل هن اآلية مل تقيهد اإلطعام بكونه ابلغ الكعبة‪.‬‬
‫ه‬
‫ِ‬
‫ابل أ َْم ِره أي شرعنا ما شرعنا من اجلزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وابل أمره‪.‬‬ ‫لِيَ ُذو َق َو َ‬
‫والوابل يف األصل الثقل ‪ ،‬ومنه الوابل للمطر الكثري ‪ ،‬والوبيل للطعام الثقيل الذي يعسر هضمه‬
‫‪ ،‬واملرعى الوخيم‪.‬‬
‫واملعىن شرعنا ذلك ليذوق من قتل الصيد ثقل فعله وسوء عاقبته‪.‬‬
‫ف لكم من الصيد وأنتم حمرمون ‪ ،‬فلم جيعل فيه إمثا ‪ ،‬ومل يوجب فيه جزاء ‪ ،‬ومل‬ ‫َع َفا ا‬
‫اّللُ َع اما َسلَ َ‬
‫يؤاخذكم على ما كان منكم يف اجلاهلية من ذلك ‪ ،‬مع أنه ذنب عظيم ‪ ،‬حيث كنتم على شريعة‬
‫حمرما‪.‬‬
‫إمساعيل ‪ ،‬وقد كان الصيد فيها ه‬
‫فاّلل‬
‫قام أي ومن عاد إىل قتل الصيد بعد ورود النهي ه‬ ‫اّللُ ِم ْنهُ َو ا‬
‫اّللُ َع ِز ٌيز ذُو انْتِ ٍ‬ ‫عاد فَيَ ْن تَ ِق ُم ا‬
‫َوَم ْن َ‬
‫ينتقم منه ‪ ،‬وهو العزيز الذي ال يغالب ‪ ،‬املنتقم الذي ال يدفع انتقامه‪.‬‬
‫واملراد ابالنتقام االنتقام يف اآلخرة‪.‬‬
‫وأما الكفارة فقد أوجبها اجلمهور على العائد ‪ ،‬فيتكرر اجلزاء عندهم بتكرر القتل ‪ ،‬وهو مذهب‬
‫عطاء والنخعي واحلسن وابن جبري‪.‬‬

‫ص ‪401 :‬‬
‫وروي عن ابن عباس وشريح أنه إن عاد مل حيكم عليه بكفارة ‪ ،‬حَّت إهنما كاان يسأالن املستفيت‬
‫هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬مل حيكم عليه ‪ ،‬وإن قال ‪ :‬ال ‪ ،‬حكم عليه‪ .‬وهم يف هذا‬
‫الذي ذهبوا إليه يتمسكون بظاهر اآلية‪.‬‬
‫ينص‬
‫واجلمهور يقولون ‪ :‬إن عذابه واالنتقام منه يف اآلخرة ال ينايف وجوب اجلزاء عليه ‪ ،‬وإمنا مل ه‬
‫عليه لعلمه مما تقدم‪.‬‬
‫سيا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْي ُد ال َِه‬
‫ْرب ما‬ ‫ارة َو ُح هِر َم َعلَْي ُك ْم َ‬ ‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر َوطَ ُ‬
‫عامهُ َمتاعاً لَ ُك ْم َولل ا َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬أُح ال لَ ُك ْم َ‬ ‫قال ه‬
‫ش ُرو َن (‪ )96‬أي أحل لكم أيها احملرمون ما يصاد من املاء حبرا‬ ‫اّللَ الا ِذي إِل َْيهِ ُحتْ َ‬
‫ُد ْمتُ ْم ُح ُرماً َواتا ُقوا ا‬
‫كان أو هنرا ‪ ،‬أو غريه ‪ ،‬واملراد به احليوان الذي يكون توالده ومثواه يف املاء ‪ ،‬سواء أكان مأكوال‬
‫‪ ،‬أم غري مأكول‪.‬‬
‫عامهُ املراد‬
‫خاص ابلسمك ‪ ،‬أما طري البحر فًل يتناوله الرتخيص َوطَ ُ‬
‫وقد قيل ‪ :‬إ هن هذا الرتخيص ه‬
‫منه ما يطعم منه وحيل أكله ‪ ،‬فهو من عطف اخلاص على العام ‪ ،‬ويكون احلل الواقع على الصيد‬
‫املراد منه حل االنتفاع مطلقا ‪ ،‬مث عطف عليه ما يفيد حل األكل خاصة امتناان ابإلنعام مبا هو‬
‫قوام احلياة ‪ ،‬وهو األكل‪.‬‬
‫شك أ هن الصيد من البحر قد يقصد ملنافع أخرى غري األكل ‪ ،‬كأخذ زيته ‪ ،‬وما حيويه بعض‬
‫وال ه‬
‫حيوان البحر من العظم والسن والعنرب وغري ذلك‪.‬‬
‫وذهب ابن أيب ليلى إىل أ هن املراد من الصيد والطعام املعىن املصدري ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬أحل لكم‬
‫االصطياد من البحر ‪ ،‬وأن تطعموا ما صدَتوه ‪ ،‬ومن أجل ذلك ذهب هو إىل أ هن مجيع حيوان‬
‫البحر مأكول‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل املراد بصيد البحر ما أخذ حبيلة ‪ ،‬وبطعامه ما ألقاه البحر أو جزر عنه املاء‪.‬‬
‫غري أ هن هذا رمبا يع هكر على احلنفية الذين يقولون حبرمة ما طفا على وجه املاء من السمك امليت‬
‫‪ ،‬وإن كان هلم أن يقولوا يف اجلواب ‪ :‬إن ما طفا ليس مما ألقاه البحر ‪ ،‬بل هو ميت لعلة أخرى‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫غري الصيد وغري إلقاء البحر واحنسار املاء عنه ‪ ،‬وهو حينئذ ميتة يشملها قول ه‬
‫ُح هِرَم ْ‬
‫ت عَلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةُ [املائدة ‪ ]3 :‬وقد تق هدم الكًلم فيه يف سورة البقرة‪.‬‬
‫ومسي طعاما ألنه ي هدخر‬
‫وقيل ‪ :‬املراد بصيد البحر السمك الطري ‪ :‬وبطعامه السمك اململوح ‪ ،‬ه‬
‫ص ْي ُد الْبَ ْح ِر ألنهه قبل أن ميلهح كان طراي‪.‬‬
‫لًلقتيات؟ قالوا ‪ :‬وهذا بعيد ‪ ،‬ألنه داخل حتت قوله ‪َ :‬‬
‫سيا َارةِ أي أحللنا لكم ذلك لتتمتعوا به مقيمني ومسافرين ‪ ،‬وال‬ ‫َمتاعاً لَ ُك ْم َولِل ا‬

‫ص ‪402 :‬‬
‫شك أ هن صيود البحر فيها متعة ومنفعة يف السفر واحلضر ‪ ،‬سواء ابألكل أو ابالدخار ‪ ،‬أو مبا‬
‫ه‬
‫خيرج منه مما ينتفع به‪.‬‬
‫فالطري منه للمقيمني ‪ ،‬والقديد للمسافرين‪َ .‬و ُح هِر َم‬
‫ه‬ ‫ويرى بعضهم أ هن التمتع به على التوزيع ‪،‬‬
‫ْرب هو ما يكون توالده ومثواه يف الرب مما هو متوحش أبصل خلقته ‪ ،‬والتحرمي هنا‬ ‫ص ْي ُد ال َِه‬
‫َعلَْي ُك ْم َ‬
‫منصب على ذات املصيد ‪ ،‬أو على الفعل ‪ ،‬فإن كان الثاين فاآلية إمنا تدل على حرمة‬ ‫ه‬ ‫إما‬
‫االصطياد فقط ‪ ،‬وأما األكل منه أبن ما يصيده حًلل فًل تدل اآلية على منعه ‪ ،‬فمن يرى منعه‬
‫فليلتمس له دليًل من غري اآلية‪ .‬وأما إذا كان التحرمي منصبا على ذات املصيد فهو يقتضي حترمي‬
‫تقرر يف األصول ‪ ،‬فيشمل حترمي‬
‫مجيع وجوه االنتفاع ابلصيد ‪ ،‬إال ما خيرجه الدليل على ما ه‬
‫الصيد واألكل وغريمها ‪ ،‬وقد عرفت أن قتل الصيد خيرج منه أشياء كالكلب العقور والذئب‬
‫والسبع الضاري ‪ ،‬ألهنا من اخلمس الفواسق ‪:‬‬
‫أما الذئب فألنه ع هد نصا يف بعض الرواايت من اخلمس الفواسق ‪ ،‬ويف بعضها قيل ‪ :‬إنهه املراد‬
‫من الكلب العقور ‪ ،‬وأما السبع الضاري فلضراوته ‪ ،‬والشافعي خيرج هذه الثًلثة ‪ ،‬ألهنا ليست‬
‫بصيد ‪ ،‬أل هن الصيد عنده ما يؤكل على ما تق هدم‪.‬‬
‫كل الصيد على احملرم ‪ ،‬سواء أصاده هو أم حمرم‬
‫ما ُد ْمتُ ْم ُح ُرماً أي حمرمني ‪ ،‬وظاهر اآلية حترمي ه‬
‫آخر أم حًلل ‪ ،‬سواء كان للمحرم دخل يف صيده ‪ ،‬أم مل يكن له دخل‪.‬‬
‫واملسألة خًلفية عند السلف ‪ ،‬فمذهب ابن عباس وابن عمر ومجاعة أ هن الصيد مطلقا حرام على‬
‫احملرم عمًل بظاهر اآلية ‪ ،‬وأيضا‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فقد أخرج مسلم «‪ »1‬عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول ه‬
‫محارا وحشيا ‪ ،‬أو بعضه ‪ ،‬أو بعض حلمه ‪ ،‬أو عضوا من حلم صيد على اختًلف يف الرواايت ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما رأى‬
‫وهو عليه الصًلة والسًلم ابألبواء أو بودان ‪ ،‬فر هده صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ما يف وجهي قال ‪« :‬إان مل نرده عليك إال أان حرم»‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫ويرى أبو هريرة وعطاء وجماهد وابن جبري وعمر وطلحة وعائشة أنه حيل له أكل ما صاده احلًلل‬
‫‪ ،‬وإن صاده ألجله ما دام مل يدل عليه ‪ ،‬ومل يشر إليه ‪ ،‬ومل أيمره بصيده «‪ ، »2‬وهو رواية‬
‫الطحاوي عن أيب حنيفة ‪ ،‬ووجهه أ هن اخلطاب للمحرمني ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬وحرم عليكم ما صدمت ‪،‬‬
‫واملراد ما يصيدونه حقيقة أو حكما أبن يدلهوا عليه ‪ ،‬أو يشريوا إليه ‪ ،‬أو أيمروا به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )850 /2‬كتاب احلج ‪ - 8 ،‬ابب حترمي الصيد حديث‬
‫رقم (‪.)1193‬‬
‫(‪ )2‬سبق ترجيه‪.‬‬

‫ص ‪403 :‬‬
‫اّلل تذاكران حلم الصيد أيكله‬
‫وقد روى حممد عن أيب حنيفة عن ابن املنكدر عن طلحة بن عبيد ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم انئم ‪ ،‬فارتفعت أصواتنا ‪ ،‬فاستيقظ رسول ه‬
‫احملرم والنيب صلهى ه‬
‫وسلهم فقال ‪« :‬فيم تتنازعون»‪.‬‬
‫فقلنا ‪ :‬يف حلم الصيد أيكله احملرم ‪ ،‬فأمران أبكله‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل بن أيب قتادة عن أبيه قال ‪ :‬خرج رسول ه‬
‫وروى مسلم عن عبد ه‬
‫حاجا ‪ ،‬وخرجنا معه ‪ ،‬فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة ‪ ،‬فقال ‪« :‬خذوا ساحل البحر‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حَّت تلقوين»‪ .‬قال ‪ :‬فأخذوا ساحل البحر ‪ ،‬فلما انصرفوا قبل رسول ه‬
‫أحرموا كلهم إال أاب قتادة ‪ ،‬فإنهه مل حيرم ‪ ،‬فبينما هم يسريون إذ رأوا محر وحش ‪ ،‬فحمل عليها‬
‫أبو قتادة ‪ ،‬فأصاب منها أاتان ‪ ،‬فنزلوا فأكلوا من حلمها قال ‪ :‬فقالوا ‪ :‬أكلنا حلما وحنن حمرمون‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪« :‬هل معكم أحد أمره أو‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫إخل القصة ‪ ،‬وفيها أهنم استفتوا رسول ه‬
‫أشار عليه بشي ء»‪ .‬قالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬قال ‪« :‬فكلوا» «‪»1‬‬
‫اّلل أنه ال يباح ما صيد له ملا‬
‫‪ .‬وعن مالك والشافعي وأمحد وداود رمحهم ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫رواه أبو داود والرتمذي والنسائي عن جابر رضي ه‬
‫وسلهم ‪« :‬صيد الرب لكم حًلل وأنتم حمرمون ‪ ،‬ما مل تصيدوه ‪ ،‬أو يصاد لكم» «‪.»2‬‬
‫اّللَ الا ِذي إِل َْيهِ ُحتْ َ‬
‫ش ُرو َن اتقوه فيما هناكم عنه من الصيد ويف مجيع املعاصي فإنكم‬ ‫َواتا ُقوا ا‬
‫ستعرضون عليه يوم احلشر ‪ ،‬وحياسبكم حسااب عسريا‪.‬‬
‫ك‬‫ي َوالْ َقًلئِ َد ذلِ َ‬
‫ام َوا ْهلَ ْد َ‬
‫ش ْه َر ا ْحلَر َ‬ ‫ام قِياماً لِلن ِ‬
‫ااس َوال ا‬ ‫ت ا ْحلَر َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬ج َع َل ا‬
‫اّللُ الْ َك ْعبَةَ الْبَ ْي َ‬ ‫قال ه‬
‫ٍ ِ‬ ‫سماو ِ‬ ‫لِتَ ْعلَ ُموا أَ ان ا‬
‫يم (‪ )97‬مسهي البيت‬ ‫اّللَ بِ ُك ِهل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫ض َوأَ ان ا‬‫ات َوما ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫اّللَ يَ ْعلَ ُم ما ِيف ال ا‬
‫لعلوه ‪ ،‬وارتفاع شأنه ‪ ،‬ومن ذلك الكعبان ‪ ،‬للعظمني الناتئني جبانيب القدمني ‪ ،‬ويقال‬ ‫احلرام كعبة ه‬
‫ام بيان الكعبة على جهة التمدح ‪ ،‬فإنهه معظهم عندهم‬ ‫ت ا ْحلَر َ‬
‫‪ :‬كعب ثدي املرأة إذا نتأ وبرز الْبَ يْ َ‬
‫ااس مفعول جعل الثاين ‪ ،‬ومعىن كون البيت احلرام قياما للناس أ هن به‬ ‫منذ القدم ‪ ،‬حلرمته وقِياماً لِلن ِ‬
‫اّلل مثابة للناس وأمنا ‪ ،‬فيه أيمن اخلائف ‪،‬‬
‫قوامهم يف صًلح أمورهم دينا ودنيا‪ .‬حيث جعله ه‬
‫اّلل يف احلج من مناسك هبا عمارة واد غري‬
‫وينجو الًلجئ ‪ ،‬وبه يطعم البائس الفقري ‪ ،‬مما جعل ه‬
‫ذي زرع ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )853 /2‬كتاب احلج ‪ - 8 ،‬ابب حترمي الصيد للمحرم‬
‫‪ ،‬حديث رقم (‪.)1196 /59‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )113 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب حلم الصيد حديث رقم‬
‫(‪ ، )1851‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )204 /3‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما جاء يف أكل‬
‫الصيد حديث رقم (‪ ، )846‬والنسائي يف السنن (‪ ، )205 /6 - 5‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب إذا‬
‫أشار إىل الصيد حديث رقم (‪.)2826‬‬

‫ص ‪404 :‬‬
‫اّلل الدعاء فيه‬
‫اّلل من احلج والنهسك ما استطاع أحد أن يقيم فيه ‪ ،‬وقد جعل ه‬
‫ولو ال ما فرض ه‬
‫مقبوال ‪ ،‬واحلسنات فيه مضاعفة ‪ ،‬لتشتد رغبة الناس فيه ‪ ،‬فيزيد اخلري ‪ ،‬وتعم الربكة‪ .‬هذا إىل ما‬
‫يف اجتماع الناس وجميئهم من البًلد النائية ‪ ،‬واألقطار املختلفة من منافع دوهنا منافع املؤَترات‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وأَ ِذه ْن ِيف‬ ‫لتعرف وجوه مصلحة اجملتمع ‪ ،‬انظر كيف قال ه‬ ‫اليت يلجأ إليها الناس اليوم ه‬
‫ني ِم ْن ُك ِهل فَ ٍهج َع ِم ٍ‬
‫يق (‪ )27‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنافِ َع َهلُ ْم‬ ‫ِ‬
‫جاال َو َعلى ُك ِهل ضام ٍر َأيْتِ َ‬ ‫ااس ِاب ْحلَ ِهج َأيْتُ َ‬
‫وك ِر ً‬ ‫الن ِ‬
‫[احلج ‪ ]28 ، 27 :‬وال تنس ما يف أعمال احلج من منافع ‪ ،‬حيث يتجرد الناس عن أمور الدنيا‬
‫اّلل ‪ ،‬واملبادرة إىل امتثال أمره‪ .‬يتذكرون ابجتماعهم‬
‫‪ ،‬ال حيملهم شيء على هذا التجرد هإال تقوى ه‬
‫وَت هردهم هول احملشر ‪ ،‬والوقوف بني يدي رهبم ‪ ،‬فتشتد خشيتهم ‪ ،‬ويعظم خوفهم ‪ ،‬فيتجنبون‬
‫املوبقات واآلاثم‪.‬‬
‫قال سعيد بن جبري ‪ :‬من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا واآلخرة أصابه‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ » 1‬عن ابن زيد قال ‪ :‬كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ‪،‬‬
‫اّلل هلم البيت احلرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض‪.‬‬
‫ومل يكن يف العرب ملوك كذلك‪ .‬فجعل ه‬
‫فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله‪.‬‬
‫اّلل يف قلوب الناس منذ القدم ‪،‬‬
‫وتعظيم البيت وجعله أمنا للخائف وملجأ للعائذ ‪ ،‬أمر أودعه ه‬
‫اّلل يف القلوب من اهليبة واجلًلل ‪ ،‬وتعظيم‬
‫وليس هناك ما مينع الناس من االعتداء غري ما أودعه ه‬
‫اّلل‪ .‬وبذلك‬
‫البيت‪ .‬وقد طبع الناس على الشر ‪ ،‬فًل يكبح مجاحهم يف نفوسهم إال امتثال أمر ه‬
‫أمكن أن يعيش الناس يف هذه األرض اجلرداء‪.‬‬
‫فسبحان املدبر احلكيم‪.‬‬
‫ام معطوف على الكعبة ‪ ،‬واملعىن وجعل الشهر احلرام قياما للناس ‪ ،‬واملراد منه‬ ‫َوال ا‬
‫ش ْه َر ا ْحلَر َ‬
‫الشهر الذي يؤ هدى فيه احلج ‪ ،‬أو اجلنس فيشمل األشهر األربعة ‪ ،‬وقد عرفت أ هن املراد من‬
‫شك أ هن الشهر احلرام كذلك حيث يقوم فيها احلاج ممتثًل‬
‫القيام الصًلح يف الدنيا واآلخرة‪ .‬وال ه‬
‫أمر ربه ‪ ،‬ويقدم النسك ‪ ،‬فينتفع ‪ ،‬وينتفع الناس ‪ ،‬وأيمن اخلائف ‪ ،‬حيث إهنم كانوا أيمنون فيها‬
‫ي َوالْ َقًلئِ َد معطوف على ما قبله أيضا‬ ‫‪ ،‬ويتصرفون يف معايشهم ‪ ،‬فهو قيام للناس أيضا َوا ْهلَ ْد َ‬
‫ي ما يهدى إىل احلرم وال شك أنهه قيام للناس ‪ ،‬به يقيم الفقر صلبه َوالْ َقًلئِ َد مجع قًلدة‬ ‫َوا ْهلَ ْد َ‬
‫واملراد هبا ما يقلهد به البعري ‪ ،‬وما كانوا يفعلونه من تقليد أنفسهم ومطيههم بلحاء الشجر ‪ ،‬حَّت‬
‫ال يتعرض هلم أحد بسوء ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل املراد من القًلئد ذوات القًلئد ‪ ،‬وخصت ابلذكر أل هن هبا‬
‫يتعرض له أحد بسوء حَّت يبلغ حملهه ‪ ،‬فيؤدي الغرض‬
‫يعرف كون اهلدي هداي ‪ ،‬فًل ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)50 /7‬‬

‫ص ‪405 :‬‬
‫سماو ِ‬
‫ات َوما ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض فإ هن شرع احلج‬ ‫ك لِتَ ْعلَ ُموا أَ ان ا‬
‫اّللَ يَ ْعلَ ُم ما ِيف ال ا‬ ‫الذي من أجله شرع ذلِ َ‬
‫وما فيه من مناسك ومنافع يقتضي حكمة وتدبريا يستلزمان العلم بتفاضل األشياء ‪ ،‬وما ينطوي‬
‫ٍ ِ‬
‫اخلاص كالدليل على‬
‫ه‬ ‫اخلاص ليكون‬
‫ه‬ ‫العام بعد‬
‫يم وذكر ه‬ ‫اّللَ بِ ُك ِهل َش ْيء َعل ٌ‬
‫عليه من األسرار ‪َ ،‬وأَ ان ا‬
‫العام‪.‬‬
‫صيلَةٍ وال ٍ ِ ِ‬ ‫اّلل ِمن َِحبريةٍ وال سائِبةٍ وال و ِ‬
‫حام َولك ان الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا يَ ْف َرتُو َن‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما َج َع َل اُ ْ َ َ‬ ‫قال ه‬
‫ب َوأَ ْكثَ ُر ُه ْم ال يَ ْع ِقلُو َن (‪)103‬‬ ‫َعلَى اِ ِ‬
‫اّلل الْ َكذ َ‬
‫(البحرية) ‪ :‬فعيلة مبعىن مبحورة ‪ ،‬أي مشقوقة ‪ ،‬قال الزجاج ‪ :‬كان أهل اجلاهلية إذا نتجت الناقة‬
‫مخسة أبطن آخرها ذكر حبروا أذنيها ‪ ،‬وشقوها ‪ ،‬وامتنعوا من حنرها ‪ ،‬وال تطرد من ماء وال مرعى‬
‫‪ ،‬وقيل فيها غري ذلك‪.‬‬
‫و(السائبة) ‪ :‬فاعلة من سيبته فساب ‪ ،‬إذا تركته فهو سائب ‪ ،‬روي عن ابن عباس أهنا اليت‬
‫تسيهب لألصنام ‪ ،‬فتعطى للسدنة ‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬
‫و(الوصيلة) ‪ :‬قال الزجاج ‪ :‬هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان آلهلتهم ‪ ،‬وإذا ولدت أنثى كانت هلم‬
‫‪ ،‬وإن ولدت ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فلم يذحبوا الذكر آلهلتهم ‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬
‫و(احلامي) ‪ :‬قال أبو عبيدة والزجاج ‪ :‬إنه الفحل يضرب يف مال صاحبه عشر سنني ‪ ،‬وقيل غري‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ب َوأَ ْكثَ ُر ُه ْم ال‬ ‫اّلل هذه األشياء ولكِ ان الا ِذين َك َفروا ي ْف َرتو َن عَلَى اِ ِ‬
‫اّلل الْ َكذ َ‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫واملعىن ‪ :‬ما شرع ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وهم ال يعقلون أ هن ذلك افرتاء‬ ‫يَ ْع ِقلُو َن حيث كانوا يفعلون ما يفعلون وينسبونه إىل شرع ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وهو تنديد هبم لتعطيلهم العقل والنظر ‪ ،‬إذ لو نظروا لعلموا أ هن هذه وثنية وشرك‪.‬‬ ‫على ه‬
‫واّلل ال أيمر ابلكفر ‪ ،‬وال يرضاه لعباده‪.‬‬ ‫ه‬
‫صياةِ اثْ ِ‬ ‫ني الْو ِ‬ ‫ضر أَح َد ُكم الْمو ُ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الا ِذين آمنُوا َش َ ِ‬
‫نان ذَوا‬ ‫تح َ َ‬ ‫هادةُ بَ ْين ُك ْم إِذا َح َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫قال ه‬
‫سو َهنُما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض فَأَصابَ ْت ُك ْم ُمصيبَةُ ال َْم ْوت َحتْب ُ‬ ‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم إِ ْن أَنْ تُ ْم َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫َع ْد ٍل ِم ْن ُكم أَو آ َخر ِ‬
‫ْ ْ‬
‫اّللِ‬
‫هادةَ ا‬ ‫مان ِاب اّللِ إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم ال نَ ْش َِرتي بِهِ َمثَناً َول َْو كا َن ذا قُ ْرىب َوال نَكْتُ ُم َش َ‬ ‫صًلةِ فَي ْق ِس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْن بَ ْعد ال ا ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قام ُهما م َن الاذ َ‬
‫ين‬ ‫استَ َح اقا إِ ْمثاً فَآ َخران يَ ُقومان َم َ‬ ‫ني (‪ )106‬فَِإ ْن عُثِ َر َعلى أَ اهنَُما ْ‬ ‫إِ اان إِذاً ل َِم َن ْاآلمثِ َ‬
‫هادهتِِما َوَما ا ْعتَ َديْنا إِ اان إِذاً ل َِم َن‬‫َح ُّق ِم ْن َش َ‬ ‫هادتُنا أ َ‬
‫ش َ‬ ‫مان ِاب اّللِ لَ َ‬
‫َيان فَي ْق ِس ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ َح اق عَلَيْ ِه ُم ْاأل َْول ُ‬ ‫ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هادة َعلى َو ْج ِهها أ َْو َخيافُوا أَ ْن تُ َر اد أ َْميا ٌن بَ ْع َد أ َْمياهن ْم‬ ‫ش َ‬ ‫ك أَ ْدىن أَ ْن َأيْتُوا ِابل ا‬ ‫ني (‪ )107‬ذل َ‬ ‫الظاال ِم َ‬
‫ني (‪)108‬‬ ‫ْفاس ِق َ‬‫اّلل ال ي ْه ِدي الْ َقوم ال ِ‬
‫َْ‬ ‫امسَعُوا َو اُ َ‬ ‫َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ َو ْ‬
‫هادةُ بَ ْينِ ُك ْم ‪ :‬جيوز أن يكون مبتدأ وخربه اثنان ‪ ،‬على حذف مضاف أي شهادة بينكم شهادة‬ ‫َش َ‬
‫اثنني ‪ ،‬وجيوز أن يكون خرب املبتدأ حمذوفا ‪ ،‬أي فيما أمرمت أن‬

‫ص ‪406 :‬‬
‫هادةُ ابلنصب والتنوين ‪ ،‬أي ليقم شهادة‬
‫يشهدوا اثنان ‪ ،‬ويكون اثنان فاعًل ابلشهادة ‪ ،‬وقرئ َش َ‬
‫بينكم اثنان ‪ ،‬وعلى القراءة األوىل تكون إضافة شهادة إىل الظرف ‪ ،‬وهو بينكم على التوسع‪.‬‬
‫صياةِ‬
‫ني الْو ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِذا َح َ‬
‫ت ‪ :‬شارفه ‪ ،‬وظهرت أمارته ‪ ،‬وهو ظرف متعلهق بشهادة وح َ َ‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ض َر أ َ‬
‫بدل منه ‪ ،‬ويف هذا اإلبدال تنبيه على أ هن الوصية ال ينبغي أن نتهاون فيها‪.‬‬
‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم عطف على اثنان ‪ ،‬وظاهر اآلية أ هن املراد‬
‫ذَوا عَ ْد ٍل ِمنْ ُكم صفتان الثنان أَو آ َخر ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وجه اخلطاب للمؤمنني مجيعا ‪ ،‬فإذا قال‬ ‫اّلل ه‬
‫اثنان من املؤمنني ‪ ،‬أو آخران من غري املؤمنني ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم فهما من غري املؤمنني‪.‬‬
‫‪ :‬أَو آ َخر ِ‬
‫ْ‬
‫وقال بعضهم ‪ِ :‬منْ ُك ْم أي من قبيلتكم ‪ ،‬ومن غريكم ‪ ،‬أي من غري قبيلتكم إِ ْن أَنْ تُ ْم َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف‬
‫ت أي قاربتم األجل ‪ ،‬فليس املراد املوت ابلفعل ‪،‬‬ ‫صيبةُ الْمو ِ‬
‫ِ‬ ‫ْاأل َْر ِ‬
‫ض أي سافرمت فيها فَأَصابَ ْت ُك ْم ُم َ َ ْ‬
‫سو َهنُما تقفوهنما ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تعرب ابلفعل عن مقاربته ومشارفته َحتْب ُ‬‫وإمنا املراد مشارفته ‪ ،‬والعرب قد ه‬
‫صًلةِ صًلة العصر ‪ ،‬وإمنا فهمت صًلة العصر مع أن الصًلة‬ ‫وتصربوهنما ‪ ،‬للحلف ِم ْن بَ ْع ِد ال ا‬
‫مطلقة ‪ ،‬ألهنها كانت معهودة للحلف عندها ‪ ،‬وكان أهل احلجاز يقعدون للحكومة بعدها ‪ ،‬وقيل‬
‫‪ :‬أي صًلة كانت ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫دل عليه ما قبله ‪ ،‬أي إن أنتم ضربتم يف األرض‬
‫ض جوابه حمذوف ه‬ ‫إِ ْن أَنْ تُ ْم َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫فآخران من غريكم ‪ ،‬ومجلة الشرط وجوابه اعرتاضية ‪ ،‬فائدهتا التنبيه على أ هن شهادة اثنني من غري‬
‫سو َهنُما إما صفة آلخران ‪ ،‬أو مستأنفة جواب سؤال‬ ‫ِ‬
‫املسلمني إمنا هي عند الضرورة ‪ ،‬وقوله ‪َ :‬حتْب ُ‬
‫مق هدر ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬ماذا نفعل هبما ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫حتبسوهنما من بعد الصًلة‪.‬‬
‫مان ِاب اّللِ إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم أي شككتم يف أمرمها ‪ ،‬وجوابه حمذوف علم مما قبله ‪ ،‬أي فحلهفومها ال‬
‫فَي ْق ِس ِ‬
‫ُ‬
‫نَ ْش َِرتي بِهِ مثََناً الضمري يف به يرجع إىل القسم املفهوم من فَي ْق ِس ِ‬
‫مان واملعىن ال نشرتي بصحة‬ ‫ُ‬
‫القسم مثنا َول َْو كا َن ذا قُ ْرىب أي لو كان املقسم له ذا قرىب ‪ ،‬قال الزخمشري «‪ : »1‬أي ال حنلف‬
‫ابّلل كاذبني ألجل املال ‪ ،‬ولو كان املقسم له قريبا على معىن أ هن هذه عادهتم يف صدقهم وأمانتهم‬ ‫ه‬
‫ني ِابل ِْق ْس ِط ُش َهداءَ ِاّللِ َول َْو َعلى أَنْ ُف ِس ُك ْم أَ ِو‬ ‫ِ‬
‫أبدا ‪ ،‬وأهنم داخلون حتت قوله تعاىل ‪ُ :‬كونُوا قَ اوام َ‬
‫ِ‬
‫ني [النساء ‪.]135 :‬‬ ‫الْوال َديْ ِن َو ْاألَق َْربِ َ‬
‫ِ‬ ‫هادةَ اِ‬
‫اّلل حبفظها‪.‬‬ ‫اّلل ‪ ،‬أي الشهادة اليت أمر ه‬ ‫ني ال نكتم شهادة ه‬ ‫اّلل إِ اان إِذاً ل َِم َن ْاآلمثِ َ‬ ‫َوال نَكْتُ ُم َش َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل لإلمام الرازي (‪.)688 /1‬‬

‫ص ‪407 :‬‬
‫اّللِ مبد اهلمزة وأتويلها أنه حذف حرف القسم ‪،‬‬
‫هادةُ وابتدأ ا‬
‫وروي عن الشعيب أنه وقف على َش َ‬
‫اّللِ بدون مد على القسم أيضا ‪ ،‬وقد‬
‫وعوض عنه مهزة االستفهام ‪ ،‬واملعىن على القسم‪ .‬وقرئ ا‬ ‫ه‬
‫اّلل‬
‫ذكر سيبويه أن من العرب من يطرح حرف القسم وال يعوض منه حرف االستفهام ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ه‬
‫لقد كان كذا‪.‬‬
‫فَِإ ْن عُثِ َر َعلى أَ اهنَُما ْ‬
‫استَ َح اقا إِ ْمثاً أي اطهلع على أهنما فعًل ما أوجب إمثا ‪ ،‬واستوجبا أن يقال ‪:‬‬
‫إهنما من اآلمثني‪.‬‬
‫استَح اق َعلَْي ِهم ْاألَول ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َيان قرئ استح هق على البناء للمفعول ‪،‬‬ ‫ُ ْ‬ ‫ين ْ َ‬‫قام ُهما م َن الاذ َ‬
‫فَآ َخران يَ ُقومان َم َ‬
‫واملعىن فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم اإلمث ‪ ،‬أي من الذين جين‬
‫َيان خرب ملبتدأ حمذوف‪.‬‬ ‫واألَول ِ‬
‫عليهم ‪ ،‬وهم أهل امليت وعشريته ‪ْ ْ ،‬‬
‫َيان أو بدل من الضمري يف يقومان ‪ ،‬ومعىن‬ ‫َيان كأنهه قيل ‪ :‬من مها؟ فقيل ‪ْ :‬األَول ِ‬ ‫أي مها ْاألَول ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َيان األحقان ابلشهادة لقرابتهما ومعرفتهما أبحوال امليت ‪ ،‬وجيوز أن يكون ْاألَول ِ‬
‫َيان انئب‬ ‫ْاألَول ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫استَ َح اق على حذف مضاف ‪ ،‬أي استحق عليهم انتداب األولني‪.‬‬ ‫فاعل ْ‬
‫جيرد ومها للشهادة ‪،‬‬ ‫وقرئ على البناء للفاعل واملعىن من الذين استحق عليهم األوليان أو ه‬
‫َح ُّق ِم ْن َش َ‬
‫هادهتِِما َوَما‬ ‫هادتُنا أ َ‬
‫ش َ‬ ‫مان ِاب اّللِ لَ َ‬‫ويقدمومها هلا ‪ ،‬ويظهروا هبما كذب الكاذبني فَي ْق ِس ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ني أي ما اعتدينا يف طلب هذا املال ويف نسبتهما إىل اخليانة ‪ ،‬إان إذا‬ ‫ا ْعتَ َديْنا إِ اان إِذاً ل َِم َن الظاال ِم َ‬
‫وخوانمها ومها ليسا خائنني ملن الظاملني!‪.‬‬ ‫اعتدينا ه‬
‫هادةِ عَلى َو ْج ِهها أ َْو َخيافُوا أَ ْن تُ َر اد أ َْميا ٌن بَ ْع َد أ َْمياهنِِ ْم أي ما تقدم من‬
‫ش َ‬ ‫ك أَ ْدىن أَ ْن َأيْتُوا ِابل ا‬ ‫ذلِ َ‬
‫حتملوها عليه‬ ‫احلكم أقرب أن أيِت الشهداء على حنو تلك احلادثة ابلشهادة على وجهها الذي ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وهذه حكمة شرعية التحليف ابلتغليظ املتقدم‪.‬‬ ‫خوفا من عذاب ه‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬أ َْو َخيافُوا أَ ْن تُ َر اد أ َْميا ٌن بَ ْع َد أ َْمياهنِِ ْم بيان حلكمة ر هد اليمني على الورثة ‪ ،‬وهو معطوف‬
‫على مق هدر ينبئ عنه املقام ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬ذلك أدىن أن أيتوا ابلشهادة على وجهها وخيافوا عذاب‬
‫اآلخرة ‪ ،‬أو خيافوا أن تر هد أميان على الورثة بعد أمياهنم ‪ ،‬فيظهر كذهبم على رؤوس األشهاد ‪،‬‬
‫فيكون ذلك اخلوف داعيا إىل أن ينزجروا عن اخليانة اليت تؤدي إليه ‪ ،‬فأي اخلوفني كان وجد‬
‫املطلوب ‪ ،‬وهو أتدية الشهادة دون حتريف وال تبديل‪.‬‬
‫ْفاس ِق َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫اّلل ال ي ْه ِدي الْ َقوم ال ِ‬
‫َْ‬ ‫امسَعُوا مسع إجابة َو اُ َ‬ ‫َواتا ُقوا ا‬
‫اّللَ َو ْ‬
‫اّلل طلب أن يشهد املوصي على وصيته اثنني عدلني من املؤمنني فإن كان يف‬ ‫يؤخذ من اآلية أ هن ه‬
‫سفر ‪ ،‬وأشرف على املوت ‪ ،‬ومل جيد من املؤمنني ‪ ،‬أشهد من غري املؤمنني على وصيته ‪ ،‬فإذا أداي‬
‫الشهادة ‪ ،‬واراتب ورثة امليت يف شهادهتما حلف‬

‫ص ‪ 408 :‬الشاهدان بعد صًلة العصر على أهنما صادقان فيما شهدا به‪ .‬فإن اطهلع على‬
‫ابّلل على كذهبما ‪،‬‬
‫خيانة من هذين الشاهدين ‪ ،‬فليقم اثنان من ورثة امليت املوصي ‪ ،‬ويقسمان ه‬
‫اّلل ‪ ،‬أو خوفا من العار‪.‬‬
‫وهذا احلكم أقرب إىل أن يؤتى ابلشهادة على وجهها ‪ ،‬خوفا من ه‬
‫سبب نزول هاتني اآليتني أ هن َتيم بن أوس الداري وعدي بن زيد خرجا إىل الشام للتجارة ‪ ،‬وكاان‬
‫حينئذ نصرانيني ‪ ،‬ومعهما بديل بن أيب مرمي موىل عمرو بن العاص ‪ ،‬وكان مسلما مهاجرا ‪ ،‬فلما‬
‫قدموا الشام مرض بديل ‪ ،‬فكتب كتااب فيه مجيع ما معه ‪ ،‬وطرحه يف متاعه ‪ ،‬ومل خيربمها بذلك ‪،‬‬
‫وأوصى إليهما أبن يدفعا متاعه إىل أهله ‪ ،‬ومات ‪ ،‬ففتشاه ‪ ،‬فوجدا فيه إانء من فضة منقوشا‬
‫ابلذهب ‪ ،‬فأخفياه ‪ ،‬ودفعا املتاع إىل أهله ‪ ،‬فأصابوا فيه الكتاب ‪ ،‬فطلبوا منهما اإلانء ‪ ،‬فقاال ‪:‬‬
‫ما ندري ‪ ،‬إمنا أوصى إلينا بشي ء ‪ ،‬وأمران أن ندفعه إليكم ‪ ،‬ففعلنا ‪ ،‬وما لنا ابإلانء من علم ‪،‬‬
‫ِ‬
‫آمنُوا اآلية ‪ ،‬واستحلفهما بعد‬ ‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فنزل اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫اّلل صلهى ه‬
‫فرفعومها إىل رسول ه‬
‫ابّلل الذي ال إله إال هو أهنما مل أيخذا شيئا مما دفع إليهما ‪ ،‬وال كتما ‪،‬‬
‫صًلة العصر عند املنرب ه‬
‫فحلفا على ذلك ‪ ،‬فخلهى عليه الصًلة والسًلم سبيلهما ‪ ،‬مث إ هن اإلانء وجد مبكة ‪ ،‬فقال من‬
‫بيده اإلانء ‪ :‬اشرتيته من َتيم وعدي ‪ ،‬وقيل ملا طالت املدة أظهراه ‪ ،‬فبلغ ذلك بين سهم فطلبوه‬
‫منهما ‪ ،‬فقاال ‪ :‬كما اشرتيناه من بديل‪ .‬فقالوا ‪ :‬أمل نقل لكما هل ابع صاحبنا من متاعه شيئا؟‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫نقر به ‪ ،‬فرفعومها إىل رسول ه‬
‫فقلتما ‪ :‬ال‪ .‬قاال ‪ :‬ما كان لنا بينة فكرهنا أن ه‬
‫وجل ‪ :‬فَِإ ْن عُثِ َر‬
‫عز ه‬‫وسلهم ‪ ،‬فنزل قوله ه‬
‫ابّلل بعد العصر أهنما كذاب‬
‫اآلية ‪ ،‬فقام عمرو بن العاص واملطلب بن أيب وداعة السهميان فحلفا ه‬
‫وخاان فدفع اإلانء إليهما «‪ ، »1‬ويف اآلية سؤاالت ‪:‬‬
‫أ‪ -‬يؤخذ من ظاهر اآلية أ هن غري املسلم َتوز شهادته على املسلم‪.‬‬
‫تدل بعمومها على عدم صحة شهادة‬ ‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم واآلايت األخرى ه‬
‫نان ذَوا َع ْد ٍل ِم ْن ُكم أَو آ َخر ِ‬
‫ْ ْ‬
‫اثْ ِ‬
‫الشه ِ‬ ‫غري املسلمني‪ .‬وأَ ْش ِه ُدوا ذَوي َع ْد ٍل ِم ْن ُكم [الطًلق ‪ِ ]2 :‬ممان تَر َ ِ‬
‫داء [البقرة ‪:‬‬ ‫ض ْو َن م َن ُّ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫‪ ]282‬وغري املسلمني ليسوا بعدول‪ .‬وملكان هذا السؤال اختلف العلماء يف اجلواب عنه ‪،‬‬
‫فذهب بعضهم إىل أ هن املراد ذوا عدل منكم ‪ ،‬أو آخران من غريكم من غري قبيلتكم ‪ ،‬ويبني‬
‫عامة يف أول اآلية‪ .‬فإذا قال ‪ِ :‬م ْن ُك ْم أو ِم ْن غَ ِْريُك ْم كان‬
‫اّلل خاطب املؤمنني ه‬
‫فساد هذا اجلواب أ هن ه‬
‫الظاهر من املؤمنني أو من غري املؤمنني‪.‬‬
‫وذهب آخرون إىل أ هن هذه اآلية قد نسخت وبطل حكمها ‪ ،‬ويبعد هذا اجلواب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )240 /5‬كتاب التفسري ابب ومن سورة املائدة‬
‫حديث رقم (‪.)3059‬‬

‫ص ‪409 :‬‬
‫جمرد الدعوى ‪ ،‬كيف وقد‬
‫أن دعوى النسخ ال تقبل إال حبجة ‪ ،‬وليس مع القائلني ابلنسخ إال ه‬
‫اّلل عليه وسلهم بعده‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عمل هبا أصحاب رسول ه‬
‫روي أنه شهد رجًلن من أهل دقوقا على وصية مسلم فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر ما‬
‫اّلل إان إذا ملن اآلمثني ‪ ،‬مث قال ‪ :‬إن هذه القضية ما قضي هبا من‬
‫اشرتينا به مثنا وال كتمنا شهادة ه‬
‫اّلل إىل اليوم‪.‬‬
‫زمان رسول ه‬
‫اّلل عنها ‪ :‬إنه ال منسوخ يف املائدة‪.‬‬
‫وقد قالت السيدة عائشة رضي ه‬
‫وحرموا حرامها‪.‬‬
‫وروي أيضا ‪ :‬املائدة من آخر القرآن نزوال ‪ ،‬فأحلهوا حًلهلا ‪ ،‬ه‬
‫وذهب آخرون إىل أن املراد من الشهادة أميان األوصياء للورثة ‪ ،‬فما يف اآلية ليس شهادة ‪ ،‬بل‬
‫ِ‬
‫اج ُه ْم َوَملْ يَ ُك ْن‬ ‫هو وصية ‪ ،‬ويذهب إىل أ هن األميان قد مسيت شهادة يف القرآن َوالاذ َ‬
‫ين يَ ْرُمو َن أَ ْزو َ‬
‫هادات ِاب اّللِ [النور ‪.]6 :‬‬
‫هادةُ أَح ِد ِهم أَربع َش ٍ‬
‫ش َ َ ْ َْ ُ‬ ‫ِ‬
‫َهلُ ْم ُش َهداءُ إ اال أَنْ ُف ُ‬
‫س ُه ْم فَ َ‬
‫نان ‪ ،‬واليمني ال تتص ابالثنني ‪ ،‬وقال ‪:‬‬‫وهذا اجلواب أيضا بعيد عن ظاهر اآلية ألنه قال ‪ :‬اثْ ِ‬
‫ذَوا َع ْد ٍل واليمني ال يشرتط فيها ذلك ‪ ،‬وقال ‪َ :‬وإِذا َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض [النساء ‪ ]101 :‬هو‬
‫ليس شرطا أيضا يف اليمني‪.‬‬
‫وأحسن األجوبة عن ذلك ما ذهب إليه علماء احلديث ‪ ،‬وقاله اإلمام أمحد ‪ :‬من أنه أجيزت‬
‫شهادة الكفار يف السفر للضرورة ‪ ،‬قال صاحل بن أمحد قال أيب ‪ :‬ال َتوز شهادة أهل الذمة إال‬
‫ض‬ ‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم إِ ْن أَنْ تُ ْم َ‬
‫ض َربْ تُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬أَو آ َخر ِ‬
‫ْ‬ ‫يف مواضع ‪ :‬يف السفر الذي قال ه‬
‫فأجازها أبو موسى األشعري‪.‬‬
‫ان ِم ْن غَ ِْريُك ْم من أهل الكتاب ‪ ،‬وهذا موضع ضرورة ألنهه يف‬
‫وقد روي عن ابن عباس أَو آ َخر ِ‬
‫ْ‬
‫سفر ‪ ،‬وال جند من يشهد من املسلمني ‪ ،‬وإمنا جاءت يف هذا املعىن وهو مذهب شريح ‪ ،‬وقول‬
‫سعيد بن املسيب ‪ ،‬وحكاه عن ابن عباس‪.‬‬
‫وبقي يف املسألة حبث ‪ ،‬وهو أَتوز شهادهتم عند أمحد يف كل ضرورة أم ال َتوز إال يف ضرورة‬
‫السفر؟ قال ابن تيمية ‪ :‬وقول اإلمام أمحد يف قبول شهادهتم يف هذا املوضوع هو ضرورة يقتضي‬
‫هذا التعبري قبوهلا يف كل ضرورة حضرا وسفرا ‪ ،‬ولو قيل ‪ :‬تقبل شهادهتم مع أمياهنم يف كل شيء‬
‫عدم فيه املسلمون لكان له وجه‪.‬‬
‫هذا يف شهادة الكفار على املسلمني ‪ ،‬وأما شهادة بعضهم على بعض فذهب كثري من العلماء‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه ان أ َْربَ َعةً ِم ْن ُك ْم [النساء ‪:‬‬
‫إىل منعها ‪ ،‬واحتجوا بظواهر من القرآن مثل قوله ‪ :‬فَ ْ‬
‫‪ ]15‬وقوله ‪َ :‬وأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم [الطًلق ‪ ]2 :‬وقوله ‪:‬‬
‫الشه ِ‬ ‫ِممان تَر َ ِ‬
‫داء [البقرة ‪.]282 :‬‬ ‫ض ْو َن م َن ُّ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫وذهب آخرون إىل جوازها ‪ ،‬وأجابوا عن هذه اآلايت أب هن هذا إمنا هو يف احلكم بني املسلمني ‪،‬‬
‫الًلِِت أيْتِني ال ِ‬
‫شةَ‬‫ْفاح َ‬ ‫اّلل تعاىل قال ‪َ :‬و ا َ َ‬ ‫فإ هن السياق كله يف ذلك ‪ ،‬فإن ه‬

‫ص ‪410 :‬‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه ان أ َْربَ َعةً ِم ْن ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫م ْن نِسائِ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َش ِهي َديْ ِن ِم ْن ِرجالِ ُك ْم فًل تعرض يف شيء من ذلك حلكم أهل الكتاب‬ ‫إىل قوله ‪َ :‬و ْ‬
‫البتة‪.‬‬
‫ك [آل عمران ‪]75 :‬‬ ‫تاب َم ْن إِ ْن َأت َْمنْهُ بِ ِقنْطا ٍر يُ َؤ ِهدهِ إِلَيْ َ‬‫واحتجوا بقوله تعاىل ‪َ :‬وِم ْن أَ ْه ِل الْكِ ِ‬
‫فأخرب أ هن منهم األمني على مثل هذا القدر من املال ‪ ،‬فكونه أمينا على قرابته وأهل ملته أوىل ‪،‬‬
‫ض [األنفال ‪ ]73 :‬فأثبت هلم الوالية بعضهم على‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِياءُ بَ ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫وبقوله تعاىل ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا بَ ْع ُ‬
‫يزوج ابنته‬
‫بعض‪ .‬وهي أعلى رتبة من الشهادة وغاية الشهادة أن تشبهه هبا ‪ ،‬فإذا كان له أن ه‬
‫وأخته ‪ ،‬ويلي مال ولده ‪ :‬فقبول شهادته عليه أوىل وأحرى‪.‬‬
‫واحتجوا أيضا مبا‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنهما أ هن اليهود جاؤوا إىل رسول ه‬
‫اّلل رضي ه‬
‫روي عن جابر بن عبد ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ائتوين أبربعة منكم يشهدون»‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول ه‬
‫ومبا‬
‫اّلل عليه وسلهم بيهودي وقد محم فقال ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫مر على رسول ه‬
‫ثبت يف «الصحيح» «‪ : »1‬ه‬
‫«ما شأن هذا»؟ فقالوا ‪ :‬زىن ‪ ،‬فقال ‪« :‬ما َتدون يف كتابكم» إخل‪.‬‬
‫فأقام احلد بقوهلم ‪ ،‬ومل يسأل اليهودي واليهودية ‪ ،‬وال طلب اعرتافهما ‪ ،‬وهذا هو الفقه‪ .‬فإ هن‬
‫أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم ابلبيع واإلجارة واملداينة ‪ ،‬وتقع بينهم اجلناايت ‪ ،‬ويتع هدى بعضهم‬
‫على بعض ‪ ،‬وال يكون هلم شهداء إال من أنفسهم ‪ ،‬ويتخاصمون إىل قضاء املسلمني ‪ ،‬فإذا مل‬
‫حيكموا بينهم بشهودهم املرضيني عندهم ضاعت حقوقهم ‪ ،‬وأ هدى ذلك إىل الظلم والفساد ‪،‬‬
‫يتحرى‬
‫ماسة إىل قبول شهادة بعضهم على بعض ‪ ،‬وقد يكون بينهم الصادق الذي ه‬‫فاحلاجة ه‬
‫الصدق يف أخباره ‪ ،‬فيطمئن القاضي إىل قبول قوله‪.‬‬
‫وإذا كان القصد من الشهادة احلكم بينهم ابلعدل ‪ ،‬ورفع التظامل ‪ ،‬وإيصال كل ذي حق منهم إىل‬
‫حقه ‪ :‬فكل شهادة منهم أوقعت يف نفس القاضي ظنها بصدقها وجب العمل هبا للعدل واحلق‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إ هن هذه اآلية َتيز شهادة املدعني ألنفسهم واستحقاقهم مبجرد أمياهنم ‪ ،‬وهذا خيالف ما‬
‫علم من الشريعة من أ هن‬
‫«البينة على من ادعى واليمني على من أنكر» «‪»2‬‬
‫وما علم من الشريعة هو حمض العدل ‪ ،‬ألنه‬
‫«لو يعطى الناس بدعواهم ال هدعى قوم دماء قوم وأمواهلم» «‪»3‬‬
‫أما جواب اجلمهور عن هذا فمعروف وهو أن هذه اآلية منسوخ حكمها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1327 /3‬كتاب احلدود ‪ - 6 ،‬ابب رجم اليهود‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)1700 /28‬‬
‫(‪ )2‬و(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 30 ، )1336 /3‬كتاب األقضية ‪ ،‬ابب اليمني على‬
‫املدعى عليه حديث رقم (‪.)1711 /1‬‬

‫ص ‪411 :‬‬
‫وأما على ما ارتضيناه من أنه ال نسخ فيها فاجلواب هو ما أيِت ‪ :‬إ هن اليمني جعلت يف جانب‬
‫امل هدعى عليه بقوة جانبه ‪ ،‬أبن األصل يشهد له ‪ ،‬فإذا قوي جانب امل هدعي بشاهد حلف معه‬
‫فاليمني تكون جبانب أقوى املتداعيني شبهة‪ .‬وهنا قد قوي جانب املدعي ابلعثور على أهنما‬
‫استحقا إمثا ‪ ،‬فًل جرم كانت اليمني يف جانبهم ‪ ،‬فليس هذا خمالفا لألصول ‪ ،‬وإمنا هو متفق معها‬
‫‪ ،‬فقوة جانبهم ابلعثور على اخليانة ‪ ،‬كقوة جانب املدعي ابلشاهد ‪ ،‬وقوة جانبه بنكول خصمه‬
‫عن اليمني ‪ ،‬وقوة جانبه ابللوث ‪ ،‬وقوة جانبه بشهادة العرف يف تداعي الزوجني وغري ذلك‪.‬‬
‫ب َوال َش ِهي ٌد [البقرة‬ ‫ج ‪ -‬هذه اآلية تقتضي بتحليف الشاهد ‪ ،‬والشاهد ال حيلف وال ي َ ِ‬
‫ضا ار كات ٌ‬‫َ ُ‬
‫‪ ]282 :‬واجلواب أ هن هذه الشهادة بدل عن شهادة املسلم للضرورة ‪ ،‬فطلب االحتياط فيها‪.‬‬
‫على أ هن بعض السلف ذهب إىل حتليف الشاهد املسلم إذا اراتب فيه احلاكم ‪ ،‬وقد حلهف ابن‬
‫عباس املرأة اليت شهدت ابلرضاع‪.‬‬

‫ص ‪412 :‬‬
‫من سورة األنعام‬
‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوا ِمماا ذُكِر اسم اِ‬
‫ني (‪َ )118‬وما لَ ُك ْم أ اَال َأتْ ُكلُوا‬ ‫اّلل َعلَْيهِ إِ ْن ُك ْن تُ ْم ِآبايتِهِ ُم ْؤمنِ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫قال ه‬
‫ضطُ ِرر ُْمت إِل َْيهِ وإِ ان َكثِرياً لَي ِ‬
‫ضلُّو َن‬ ‫اّللِ َعلَْيهِ َوقَ ْد فَ ا‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ص َل لَ ُك ْم ما َح ارَم َعلَْي ُك ْم إِاال َما ا ْ ْ‬ ‫اس ُم ا‬ ‫مماا ذُك َر ْ‬
‫ين (‪)119‬‬ ‫ِ‬ ‫ِأبَ ْهوائِ ِه ْم بِغَ ِْري ِعلْ ٍم إِ ان َربا َ‬
‫ك ُه َو أَ ْعلَ ُم ِابل ُْم ْعتَد َ‬
‫ملا قال املشركون ‪ :‬اي حممد أخربان عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال عليه الصًلة والسًلم ‪:‬‬
‫«اّلل قتلها» ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فتزعم أ هن ما قتلت أنت وأصحابك حًلل ‪ ،‬وما قتل الصقر والكلب‬ ‫ه‬
‫اّللِ َعلَْيهِ إخل‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫اّلل قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوا مماا ذُك َر ْ‬
‫اس ُم ا‬ ‫اّلل حرام فأنزل ه‬
‫حًلل ‪ ،‬وما قتله ه‬
‫املفسرين على أ هن يف اآلية األوىل حصرا مستفادا من عدم اتباع املضلني املشار إليه بقوله‬ ‫ومجهور ه‬
‫اّللِ ومستفاد أيضا من‬
‫يل ا‬‫وك عَ ْن َسبِ ِ‬ ‫ضي ِ‬
‫ضلُّ َ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل قبل هذه اآلية ‪َ :‬وإِ ْن تُط ْع أَ ْكثَ َر َم ْن ِيف ْاأل َْر ِ ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل عليه ‪،‬‬
‫ني فيكون املعىن ‪ :‬اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم ه‬ ‫الشرط إِ ْن ُكْن تُ ْم ِآبايتِهِ ُم ْؤمنِ َ‬
‫وال تتعدوه إىل امليتة ‪ ،‬ولوال هذا القصر مل يًلق اجلواب االعرتاض ‪ ،‬ويكون الكًلم متعرضا ملا ال‬
‫حيتاج إليه ‪ ،‬وساكتا عما حيتاج إليه‪.‬‬
‫اّللِ عَلَيْهِ إنكار ألن يكون هلم شيء يدعوهم إىل ترك األكل مما‬ ‫ِ ِ‬
‫َوما لَ ُك ْم أ اَال َأتْ ُكلُوا مماا ذُك َر ْ‬
‫اس ُم ا‬
‫اّلل عليه من البحائر والسوائب وحنوها‪ .‬ويف ذلك إشارة إىل أنه ال ينبغي أن يعولوا على‬ ‫ذكر اسم ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وال أن يعولوا على اعرتاضاهتم وشبههم الواهية‪.‬‬
‫حيرمه ه‬‫عوائد اجلاهلية يف حترمي ما مل ه‬
‫ص َل لَ ُك ْم ما َح ار َم َعلَْي ُك ْم حال مؤكدة لإلنكار ‪ ،‬أي أنه ليس هناك سبب مينعكم‬ ‫وقوله ‪َ :‬وقَ ْد فَ ا‬
‫اّلل عليه ‪ ،‬واحلال أنه قد هبني احملرم عليكم يف قوله تعاىل ‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫َج ُد‬ ‫من أن أتكلوا مما ذكر اسم ه‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫يل ُحمَارماً َعلى إخل فبقي ما عدا ذلك على احلل‪.‬‬ ‫ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َا‬
‫ِ‬
‫حمرم عليكم حًلل‬ ‫ضطُ ِر ْر ُْمت إِل َْيه معناه لكن الذي اضطررمت إىل أكله مما هو ه‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِاال َما ا ْ‬
‫لكم حال الضرورة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ضلُّو َن ِأبَ ْهوائِ ِه ْم بِغَ ِْري ِعلْ ٍم إِ ان َربا َ‬
‫ك ُه َو أَ ْعلَ ُم ِابل ُْم ْعتَد َ‬
‫ين معناه أن كثريا من الكفار‬ ‫وإِ ان َكثِرياً لَي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ليضلون الناس بتحرمي احلًلل وحتليل احلرام كما حرموا البحرية والسائبة ‪،‬‬

‫ص ‪ 413 :‬وأحلوا امليتة أبهوائهم وشهواهتم الباطلة ‪ ،‬وبغري علم أصًل ‪ ،‬إمنا هو حمض اهلوى ‪،‬‬
‫اّلل على هذا االعتداء ال حمالة‪.‬‬ ‫وسيجازيهم ه‬
‫اإل ْمثَ َسيُ ْج َزْو َن ِمبا كانُوا يَ ْق َِرتفُو َن‬ ‫اإل ِْمث و ِ‬
‫ابطنَهُ إِ ان الا ِذين يك ِ‬
‫ْسبُو َن ِْ‬ ‫ِ‬
‫ََ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وذَ ُروا ظاه َر ِْ َ‬
‫قال ه‬
‫(‪ ) 120‬قيل ‪ :‬املراد اتركوا مجيع املعاصي ما أعلنتم وما أسررمت‪ .‬وقيل ‪ :‬ما عملتم وما نويتم‪.‬‬
‫ابطنَهُ أفعال القلوب‪.‬‬ ‫اإل ِْمث أفعال اجلوارح و ِ‬ ‫وقيل ‪ِ :‬‬
‫ظاه َر ِْ‬
‫َ‬
‫وقيل ‪ :‬اتركوا الزىن يف احلوانيت واتاذ األخدان‪.‬‬
‫وقد روي أ هن أهل اجلاهلية كانوا يرون أ هن الزىن إذا ظهر كان إمثا ‪ ،‬وإذا استرت فًل إمث فيه‪ .‬مث أخرب‬
‫اّلل أنه ال ب هد سيجازي مرتكيب املعاصي على عصياهنم‪.‬‬ ‫ه‬
‫وحو َن إِىل‬ ‫اّللِ َعلَيهِ وإِناهُ ل َِفس ٌق وإِ ان ال ا ِ‬ ‫ِ‬
‫ني لَيُ ُ‬
‫شياط َ‬ ‫ْ َ‬ ‫اس ُم ا ْ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال َأتْ ُكلُوا مماا َملْ يُ ْذ َك ِر ْ‬
‫قال ه‬
‫أَولِيائِ ِهم لِي ِ‬
‫َم ْش ِرُكو َن (‪ )121‬املتبادر من املقام تصيص ما مل يذكر‬ ‫وه ْم إِنا ُك ْم ل ُ‬
‫جادلُوُك ْم َوإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬‫ْ ْ ُ‬
‫اّلل عليه ‪،‬‬
‫اّلل عليه ابحليوان ‪ ،‬فيكون ذلك هنيا عن األكل من احليوان الذي مل يذكر اسم ه‬ ‫اسم ه‬
‫اّلل ومرتوك التسمية عمدا كان تركها أم سهوا ‪ ،‬وإىل ذلك‬ ‫فتحرم امليتة وما ذكر عليه اسم غري ه‬
‫ذهب داود ‪ ،‬وروي عن احلسن وابن سريين‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬مرتوك التسمية حًلل مطلقا ‪ ،‬وهو رواية عن مالك‪.‬‬
‫وذهب احلنفية إىل التفرقة بني العمد والنسيان ‪ ،‬فحرموا مرتوك التسمية عمدا ‪ ،‬وأحلهوا مرتوك‬
‫التسمية نسياان‪ .‬وهذا هو الصحيح من مذهب مالك‪ .‬وعن أمحد ثًلث رواايت أصحها عندهم‬
‫وهي املشهورة عنه ‪ :‬أن التسمية شرط لإلابحة ‪ ،‬فإن تركها عمدا أو سهوا يف صيد فهو ميتة ‪،‬‬
‫ويف الذبيحة إن تركها سهوا حلهت ‪ ،‬وإن تركها عمدا فعنه روايتان‪.‬‬
‫وحجة داود ومن قال بقوله هذه اآلية الكرمية ‪ ،‬وهي ظاهرة يف ذلك‪.‬‬
‫وللحنفية يف تقرير مذهبهم من اآلية طريقان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن ظاهر اآلية يقتضي مشوهلا ملرتوك التسمية نسياان ‪ ،‬إال أ هن الشارع جعل الناسي ذاكرا‬
‫‪ ،‬لعذر من جهته ‪ ،‬ويف ذلك رفع للحرج ‪ ،‬فإ هن اإلنسان كثري النسيان ‪ ،‬فيكون مرتوك التسمية‬
‫سهوا خمصوصا من حكم اآلية‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أ هن الناسي ليس بتارك التسمية ‪ ،‬بل هي يف قلبه على ما‬
‫اّلل على كل مسلم»‬ ‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬تسمية ه‬ ‫روي عنه صلهى ه‬
‫ام [املائدة ‪:‬‬ ‫وحينئذ يكون مرتوك التسمية عمدا أو سهوا بقوله تعاىل ‪ُ :‬ح هِرَم ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةُ َوالد ُ‬
‫‪ ]3‬إىل قوله تعاىل ‪ :‬إِاال ما ذَ اك ْي تُ ْم‬
‫ص ‪414 :‬‬
‫[املائدة ‪ ]3 :‬فأابح املذكى ‪ ،‬ومل يذكر التسمية ‪ ،‬وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة ‪ ،‬فإ هن‬
‫الذكاة لغة الشق والفتح وقد وجدا‪ .‬وحبديث البخاري وأيب داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة‬
‫اّلل إن قومنا حديثو عهد ابجلاهلية أيتون بلحمان ال‬
‫اّلل عنها قالت ‪ :‬إهنم قالوا ‪ :‬اي رسول ه‬
‫رضي ه‬
‫اّلل عليه أم مل يذكروا أفنأكل منها؟‬
‫ندري أذكروا اسم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬مسوا وكلوا» «‪»1‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فقال رسول ه‬
‫قال أصحاب الشافعي هذه التسمية املستحبة عند أكل كل طعام ‪ ،‬وشرب كل شراب‪.‬‬
‫وأجابوا عن هذه اآلية أب هن املراد فيها ما ذبح لألصنام ‪ ،‬يدل على ذلك وجوه ‪:‬‬
‫اّلل ‪َ :‬وإِناهُ ل َِف ْس ٌق‪.‬‬
‫األول ‪ :‬أ هن من أكل مرتوك التسمية ليس بفاسق ‪ ،‬وقد قال ه‬
‫وه ْم إِنا ُك ْم ل ُ‬
‫َم ْش ِرُكو َن يدل على أن املراد ما ذبح على اسم‬ ‫والثاين ‪ :‬أن قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬
‫األصنام ‪ ،‬فإن معناه إنهكم لو رضيتم هبذه الذبيحة اليت ذحبت على اسم األصنام فقد رضيتم‬
‫أبلوهيتها ‪ ،‬وذلك يوجب الشرك‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن قوله تعاىل ‪َ :‬وإِناهُ ل َِف ْس ٌق ال جيوز أن يكون معطوفا على النهي قبله ‪ ،‬أل هن عطف‬
‫اخلرب على اإلنشاء ضعيف إن مل يكن ممنوعا ‪ ،‬فكان قوله ‪َ :‬وإِناهُ ل َِف ْس ٌق قيدا يف النهي ‪ ،‬فصار‬
‫اّلل تعاىل أنه مَّت يكون األكل‬ ‫هذا النهي خمصوصا مبا إذا كان األكل فسقا ‪ ،‬مث طلبنا يف كتاب ه‬
‫فسقا فوجدانه مفسرا يف آية أخرى ‪ ،‬وهي قوله تعاىل ‪ :‬قُل ال أَ ِج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َا‬
‫يل ُحمَ ارماً عَلى‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫مفسرا مبا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طاع ٍم يَط َْع ُمهُ إىل أن قال ‪ِ :‬ر ْجس أ َْو ف ْسقاً أُه ال لغَ ِْري ا ِ‬
‫اّلل به فصار الفسق يف هذه اآلية ه‬ ‫ٌ‬
‫اّلل ‪ ،‬وإذا كان كذلك كان قوله ‪:‬‬ ‫أهل به لغري ه‬ ‫ه‬
‫وال َأتْ ُكلُوا ِمماا َمل ي ْذ َك ِر اسم اِ ِ ِ ِ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫أهل به لغري ه‬ ‫اّلل َعلَْيه َوإناهُ لَف ْس ٌق خمصوصا مبا ه‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫وأجاب بعض الشافعية جبواب آخر وهو محل النهي على كراهة التنزيه مجعا بني األدلة‪ .‬ومع هذا‬
‫فاألوىل ابملسلم أن جيتنب مرتوك التسمية ‪ ،‬أل هن ظاهر هذا النص قوي‪.‬‬
‫ني لَيوحو َن إِىل أَولِيائِ ِهم لِي ِ‬
‫جادلُوُك ْم أي وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إىل أوليائهم من‬ ‫وإِ ان ال ا ِ‬
‫ْ ْ ُ‬ ‫شياط َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫املشركني ليجادلوا حممدا وأصحابه يف أكل امليتة ‪ ،‬كما سبق‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬املراد ابلشياطني مردة اجملوس من أهل فارس ‪ ،‬وكانوا قد كتبوا إىل قريش أ هن حممدا‬
‫اّلل حرام ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬مث يزعمون أن ما يذحبونه حًلل ‪ ،‬وما يذحبه ه‬
‫وأصحابه يزعمون أهنم يتهبعون أمر ه‬
‫اّلل هذه اآلية «‪.»2‬‬
‫فوقع يف أنفس املسلمني من ذلك شيء فأنزل ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )281 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 21 ،‬ابب ذبيحة‬
‫األعراب حديث رقم (‪ ، )5507‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )19 /3‬كتاب األضاحي ‪ ،‬ابب ما‬
‫جاء يف أكل اللحم حديث رقم (‪ ، )2829‬والنسائي يف السنن (‪ ، )272 /8 - 7‬كتاب‬
‫الضحااي ‪ ،‬ابب ذبيحة من مل يعرف حديث رقم (‪ ، )4448‬وابن ماجه يف السنن (‪)1059 /2‬‬
‫‪ ،‬كتاب الذابئح ‪ ،‬ابب التسمية حديث رقم (‪.)3174‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)12 /8‬‬

‫ص ‪415 :‬‬
‫وه ْم يف حتليل امليتة ‪ ،‬أو يف حتليل ما‬ ‫َم ْش ِرُكو َن يعين َوإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬
‫وه ْم إِنا ُك ْم ل ُ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬
‫اّلل يف دينه كان‬ ‫َم ْش ِرُكو َن وفيه دليل على أ هن من استحل احلرام واتبع غري ه‬ ‫اّلل إِنا ُك ْم ل ُ‬
‫أهل به لغري ه‬ ‫ه‬
‫اّلل‪ .‬وهذا الكًلم على تقدير القسم‬ ‫ابّلل غريه ‪ ،‬بل آثر حكمه على حكم ه‬ ‫كافرا ‪ ،‬ألنه أشرك ه‬
‫وحذف الًلم املوطئة ‪ ،‬أي ولئن أطعتموهم إنهكم جواب القسم أغىن عن جواب الشرط ‪ ،‬وأجاز‬
‫املربهد أن يكون اجلواب للشرط بلفظ املاضي‪.‬‬
‫وشات َوالنا ْخ َل َوالز ْارعَ ُخمْتَلِفاً أُ ُكلُهُ‬
‫وشات وغَ ْري م ْعر ٍ‬
‫َ ََ ُ‬
‫اات م ْعر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شأَ َجن َ ُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬و ُه َو الا ِذي أَنْ َ‬ ‫قال ه‬
‫صادهِ َوال تُ ْس ِرفُوا‬‫شاهباً وغَ ْري متَشابِهٍ ُكلُوا ِمن َمثَ ِرهِ إِذا أَْمثَر وآتُوا ح اقهُ ي وم ح ِ‬ ‫الراما َن متَ ِ‬
‫َ َ َ َْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َوالزايْ تُو َن َو ُّ ُ‬
‫ني (‪)141‬‬ ‫ب ال ُْم ْس ِرفِ َ‬
‫إِناهُ ال ُِحي ُّ‬
‫املعروشات من الكرم ‪ :‬ما حيمل على العريش ‪ ،‬وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ‪ ،‬ويوضع الكرم‬
‫عليها‪.‬‬
‫وغري املعروشات ‪ :‬امللقيات على وجه األرض من الكرم أيضا‪ .‬وقيل املعروش ما حيتاج إىل عريش‬
‫حيمل عليه من الكرم وما جيري جمراه‪ .‬وغري املعروش ‪ :‬الشجر املستغين ابستوائه على سوقه عن‬
‫التعريش‪ .‬واألكل ‪ :‬الثمر املأكول‪.‬‬
‫واحلصاد ‪ :‬حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه‪.‬‬
‫س ِ‬
‫ماء ماءً فَأَ ْخ َر ْجنا‬ ‫سيقت هذه اآلية هي ومثيلتها السابقة يف قوله تعاىل ‪َ :‬و ُه َو الا ِذي أَنْ َز َل ِم َن ال ا‬
‫بات ُك ِهل َش ْي ٍء اآلية إلقامة الدالئل على تقرير التوحيد‪.‬‬
‫بِهِ نَ َ‬
‫اّلل وحده هو الذي خلق وأظهر هذه اجلنات من غري أن يكون معه شريك‪.‬‬ ‫املعىن ‪ :‬أ هن ه‬
‫وقوله ‪ُ :‬كلُوا ِم ْن َمثَ ِرهِ أمر إابحة ‪ ،‬وفائدة التقييد بقوله ‪ :‬إِذا أَ ْمث ََر الرتخيص للمالك يف األكل منه‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬ ‫قبل أداء ح هق ه‬
‫صادهِ فعن‬
‫واختلف العلماء يف احلق الواجب يف الثمر املفهوم من قوله تعاىل ‪ :‬وآتُوا ح اقهُ ي وم ح ِ‬
‫َ َ َْ َ َ‬
‫ابن عباس أنه الزكاة الواجبة ‪ ،‬وهي العشر ‪ ،‬أو نصفه‪ .‬ويف رواية أخرى على اخلرب أيضا أنه ما‬
‫كان يتصدق به يوم احلصاد بطريق الوجوب من غري تعيني املقدار ‪ ،‬مث نسخ ابلزكاة ‪ ،‬واختار‬
‫هذه الرواية بعض العلماء ‪ ،‬أل هن الزكاة فرضت ابملدينة ‪ ،‬وهذه السورة مكية‪.‬‬
‫وأجاب اإلمام الرازي «‪ »1‬عن ذلك أب هان ال نسلهم أ هن الزكاة مل تكن واجبة مبكة ‪ ،‬وكون آيتها‬
‫يدل على ذلك‪ .‬على أنه قد قيل ‪ :‬إ هن هذه اآلية من سورة األنعام مدنية‪َ .‬وال تُ ْس ِرفُوا‬
‫مدنية ال ه‬
‫ب ال ُْم ْس ِرفِ َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫إِناهُ ال ُِحي ُّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري مفاتيح الغيب لإلمام الرازي (‪.)213 /13‬‬

‫ص ‪416 :‬‬
‫اّلل تعاىل فيه هنى عن اإلسراف يف األكل‬
‫اّلل للمالك أن أيكل من الثمر قبل أداء حق ه‬
‫ملا أابح ه‬
‫املر هخص فيه قبل احلصاد ‪ ،‬كيًل يؤدي إىل خبس حق الفقراء ‪ ،‬وقال الزهري ‪ :‬املعىن ال تنفقوا يف‬
‫اّلل ‪ ،‬ويروى حنوه عن جماهد ‪ ،‬فقد أخرج ابن أيب حامت عنه أنه قال ‪ :‬لو كان أبو قبيس‬
‫معصية ه‬
‫اّلل تعاىل كان‬
‫اّلل تعاىل مل يكن مسرفا ‪ ،‬ولو أنفق درمها يف معصية ه‬
‫ذهبا فأنفقه رجل يف طاعة ه‬
‫مسرفا‪.‬‬
‫ومن هنا قال بعض احلكماء ‪ :‬ال سرف يف اخلري ‪ ،‬وال خري يف السرف‪ .‬وقال مقاتل ‪ :‬ال تشركوا‬
‫اّلل ال حيب املسرفني» بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويع هذهبم‬
‫األصنام يف احلرث واألنعام «إ هن ه‬
‫عليه إن شاء‪.‬‬
‫يل ُحمَ ارماً َعلى ِ‬
‫طاع ٍم يَط َْع ُمهُ إِاال أَ ْن يَ ُكو َن َم ْي تَةً أ َْو َدماً‬ ‫َج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َا‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬قُل ال أ ِ‬ ‫قال ه‬
‫ْ‬
‫ضطُار غَ ْري اب ٍغ وال ٍ‬
‫عاد فَِإ ان‬ ‫اّللِ بِهِ فَ َم ِن ا ْ‬
‫س أ َْو فِ ْسقاً أ ُِهلا لِغَ ِْري ا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َم ْس ُفوحاً أ َْو َحلْ َم خن ِزي ٍر فَإناهُ ِر ْج ٌ‬
‫يم (‪)145‬‬ ‫ك غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َربا َ ٌ‬
‫اّلل تعاىل هذه‬ ‫روي عن طاوس أ هن أهل اجلاهلية كانوا يستحلهون أشياء ‪ ،‬وحيرمون أشياء ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫اآلية «‪.»1‬‬
‫وذمهم على حترمي ما أحله ‪ ،‬وعنهفهم ‪،‬‬
‫اّلل قبل هذه اآلية ما كانوا حيرمون من األنعام ‪ ،‬ه‬
‫وقد ذكر ه‬
‫اّلل ‪ ،‬مث أتبع ذلك البيان الصحيح فقال ‪ :‬قُ ْل ال‬
‫حرموا بغري وحي من ه‬ ‫وأابن عن جهلهم ‪ ،‬ألهنهم ه‬
‫ِ‬ ‫أِ‬
‫كل منهما إال ابلوحي‪.‬‬ ‫َج ُد ِيف ما أُوح َي إخل ه‬
‫فبني بذلك أ هن التحليل والتحرمي ال يثبت ه‬
‫حمرم غري أربعة أشياء ‪ :‬امليتة ‪ ،‬والدم املسفوح ‪ ،‬وحلم اخلنزير ‪ ،‬والفسق الذي‬
‫وإذ ليس يف الوحي ه‬
‫اّلل به ‪ :‬ثبت أنه ال حيرم إال هذه األربعة‪.‬‬
‫أهل لغري ه‬
‫واستشكلت هذه اآلية أبهنا حصرت احملرمات يف هذه األربعة ‪ ،‬وال شك أهنا أكثر من ذلك‪.‬‬
‫وأجيب عن ذلك أبجوبة ‪:‬‬
‫حيرمونه من البحائر والسوائب كما يشري إىل‬
‫حمرما مما كان أهل اجلاهلية ه‬
‫األول ‪ :‬أن املعىن ال أجد ه‬
‫ذلك سبب النزول واآلايت السابقة على هذه اآلية‪ .‬وعلى هذا املعىن يكون االستثناء منقطعا ‪،‬‬
‫حمرمة ‪ ،‬واالستثناء املنقطع ليس كاملتصل يف إفادة‬
‫حرموه ‪ ،‬لكن أجد األربعة ه‬
‫أي ال أجد ما ه‬
‫احلصر ‪ ،‬كما نبهوا على ذلك‪.‬‬
‫حمرما على طاعم يطعمه إال األربعة ‪ ،‬ومل يرتض اإلمام‬
‫واجلواب الثاين ‪ :‬أن املعىن ال أجد إىل اآلن ه‬
‫الرازي «‪ »2‬هذين اجلوابني ‪ ،‬ألنهه ورد يف القرآن الكرمي غري‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)50 /8‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفسري مفاتيح الغيب لإلمام الرازي (‪.)219 /13‬‬

‫ص ‪417 :‬‬
‫هذه اآلية ثًلث آايت كلهها تفيد حصر احملرمات يف هذه األربعة ففي سورة النحل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اّللِ بِهِ [النحل ‪ ]115 :‬ويف سورة البقرة‬ ‫اخلِْن ِزي ِر َوما أ ُِه ال لِغَ ِْري ا‬ ‫إِ امنا َح ار َم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةَ َوالد َ‬
‫ام َو َحلْ َم ْ‬
‫اّللِ [البقرة ‪ ]173 :‬وإمنا‬ ‫اخلِْن ِزي ِر َوما أ ُِه ال بِهِ لِغَ ِْري ا‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬إِامنا َح ار َم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةَ َوالد َ‬
‫ام َو َحلْ َم ْ‬
‫عام إِاال‬
‫يمةُ ْاألَنْ ِ‬‫ِ‬ ‫تفيد احلصر ‪ ،‬فاآليتان تفيدان احلصر ويف سورة املائدة قوله تعاىل ‪ :‬أُ ِحلا ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬
‫اّلل مبا يتلى‬ ‫ما يُتْلى عَلَيْ ُك ْم [املائدة ‪ ]2 :‬وهذه مجلة حاصرة ‪ ،‬وأمجع املفسرون على أ هن مراد ه‬
‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْي تَةُ [املائدة ‪ ]3 :‬إخل‪ .‬وليس فيه إال األربعة ‪ ،‬وأما املنخنقة وما‬ ‫هو قوله ‪ُ :‬ح هِرَم ْ‬
‫وخصت ابلذكر ألهنهم كانوا يستحلهوهنا ‪ ،‬وإذ كانت اآلايت‬
‫معها فإمنا هي من أقسام امليتة ‪ ،‬ه‬
‫الثًلث تدل على حصر احملرم يف األربعة وجب القول بداللة اآلية اليت معنا على احلصر ‪ ،‬لتطابق‬
‫اآلايت اليت ذكران ‪ ،‬ألهنها كلها يف موضوع واحد ‪ ،‬وإن من هذه اآلايت ما نزل بعد استقرار‬
‫حيرمون من البحائر والسوائب ‪ ،‬وكذلك‬
‫الشريعة ‪ ،‬فآية البقرة مدنية ‪ ،‬وليس قبلها ذكر ما كانوا ه‬
‫آية املائدة مدنية ‪ ،‬وهي من آخر القرآن نزوال ‪ ،‬وال شيء قبلها يقتضي تقييدها ‪ ،‬واألصل عدم‬
‫التقييد ‪ ،‬فيدل ذلك على أ هن احلكم الثابت يف الشريعة من أوهلا إىل آخرها ليس إال حصر‬
‫احملرمات يف هذه األشياء‪.‬‬
‫واجلواب الثالث ‪ :‬وهو املرضي أ هن اآلية وإن دلت على احلصر خمصوصة ابآلايت واألخبار الدالهة‬
‫ث [األعراف ‪]157 :‬‬ ‫اخلَبائِ َ‬
‫حرم من غري األربعة ‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪َ :‬و ُحيَهِر ُم َعلَْي ِه ُم ْ‬
‫على حترمي ما ه‬
‫كل اخلبائث املستقذرة ‪ ،‬كالنجاسات وهوام األرض ‪ ،‬ومثل ما‬
‫فذلك يقتضي حترمي ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬هنى رسول ه‬
‫رواه البخاري ومسلم يف «صحيحيهما» عن جابر رضي ه‬
‫عليه وسلهم يوم خيرب عن حلوم احلمر األهلية «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم هنى عن أكل كل ذي انب‬
‫‪ .‬وما روايه «‪ »2‬عن أيب ثعلبة اخلشين أ هن النيب صلهى ه‬
‫من السباع‪.‬‬
‫ويف رواية ابن عباس ‪ :‬وأكل كل ذي خملب من الطري «‪ .»3‬وما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬مخس من الدواب‬
‫روايه «‪ »4‬عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلهى ه‬
‫كلههن فاسق يقتلن يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )285 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 27 ،‬ابب حلوم اخليل ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )5524‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1541 /3‬كتاب الصيد ‪ - 6 ،‬ابب‬
‫يف أكل حلوم اخليل حديث رقم (‪.)1941 /36‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )286 /6‬كتاب الذابئح ‪ - 29 ،‬ابب أكل كل ذي‬
‫انب حديث رقم (‪ ، )5530‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1533 /3‬كتاب الصيد ‪- 3 ،‬‬
‫ابب حترمي أكل كل ذي انب حديث رقم (‪.)1932 /12‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1534 /3‬كتاب الصيد ‪ - 3 ،‬ابب حترمي أكل ذي‬
‫انب حديث رقم (‪.)1934 /16‬‬
‫(‪ )4‬سبق ترجيه‪.‬‬

‫ص ‪418 :‬‬
‫احلرم ‪ :‬الغراب ‪ ،‬واحلدأة ‪ ،‬والعقرب والفأر ‪ ،‬والكلب العقور»‬
‫أكلهن ‪ ،‬ألهنها لو كانت مما يؤكل ألمر ابلتوصل إىل دفع أذاها‬
‫ه‬ ‫بقتلهن داللة على حترمي‬
‫ه‬ ‫ففي األمر‬
‫بذكاهتا ‪ ،‬فلما أمر بقتلها ‪ ،‬والقتل إمنا يكون ال على وجه الذكاة ‪ ،‬ثبت أهنا غري مأكولة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم عن قتله ‪ ،‬أل هن ما يؤكل ال ينهى عن قتله‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وكذلك ما هنى رسول ه‬
‫خيصصوهنا أيضا مبا‬
‫والشافعية ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪ :‬ما استخبثته العرب فهو حرام‪.‬‬
‫روي عنه صلهى ه‬
‫وشنع عليهم اإلمام الرازي «‪ »1‬يف ذلك ‪ ،‬ولكن كًلمه ال خيلو عن وهن ‪ ،‬ورأي الشافعية يف‬
‫نص ابلتحليل أو ابلتحرمي ‪ ،‬ومل يؤمر بقتله ‪ ،‬ومل ينه‬
‫ذلك أن احليوان الذي مل يرد فيه خبصوصه ه‬
‫عن قتله ‪ ،‬فإن استطابته العرب فهو حًلل ‪ ،‬وإن استخبثته فهو حرام‪ .‬ومعتمدهم يف ذلك قوله‬
‫ك ما‬ ‫اخلَبائِ َ‬
‫ث [األعراف ‪ ]157 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫تعاىل ‪ :‬و ُِحي ُّل َهلُم الطايهِ ِ‬
‫بات َو ُحيَ هِرُم َعلَْي ِه ُم ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت [املائدة ‪ ]4 :‬قالوا ‪ :‬وليس املراد ابلطيب هنا احلًلل ‪ ،‬ألنهه‬ ‫ذا أ ُِحلا َهلُ ْم قُ ْل أ ُِحلا لَ ُك ُم الطايهِبا ُ‬
‫لو كان املراد احلًلل لكان تقديره أحل لكم احلًلل ‪ ،‬وليس فيه بيان ‪ ،‬وإمنا املراد ابلطيبات ما‬
‫يستطيبه العرب ‪ ،‬وابخلبائث ما يستخبثونه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وال يرجع يف ذلك إىل طبقات الناس ‪ ،‬وينزل‬
‫كل قوم على عادهتم يف االستطياب واالستخباث ‪ ،‬ألنه يؤدي إىل اختًلف األحكام يف احلًلل‬
‫واحلرام واضطراهبا ‪ ،‬وذلك خيالف قواعد الشرع ‪ ،‬فيجب اعتبار العرب ‪ ،‬فهم أوىل األمم أبن‬
‫يؤخذ ابستطياهبم واستخباثهم ‪ ،‬ألهنم املخاطبون أوال ‪ ،‬وهم جيل معتدل ال يغلب فيهم االهنماك‬
‫على املستقذرات ‪ ،‬وال العفافة املتولدة من التنعم‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وإمنا يرجع إىل العرب الذين هم سكان القرى والريف ‪ ،‬دون سكان البوادي الذين‬
‫أيكلون ما دب ودرج من غري َتييز ‪ ،‬وتعترب عادة أهل اليسار والثروة ‪ ،‬وحال اخلصب والرفاهية‪.‬‬
‫َج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إخل كثري من السلف فأابحوا ما عدا‬ ‫وبعد فقد احتج بظاهر اآلية ‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫املذكور فيها‪.‬‬
‫اّلل عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ اآلية‪.‬‬
‫فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي ه‬
‫وأخرج ابن أيب حامت وغريه بسند صحيح عن عائشة أهنا كانت إذا سئلت عن كل ذي انب من‬
‫َج ُد إخل‪.‬‬ ‫السباع وخملب من الطري قالت ‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫ْ‬
‫اّلل تعاىل يف كتابه ‪ :‬قُ ْل ال‬
‫حرم ه‬
‫وعن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ليس من الدواب شيء حرام إال ما ه‬
‫أِ‬
‫َج ُد اآلية‪.‬‬
‫ِ‬
‫هذا واستدل بقوله سبحانه ‪ :‬عَلى طاع ٍم يَط َْع ُمهُ على أنه إمنا ه‬
‫حرم من امليتة ما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب أحكام القرآن لإلمام الرازي (‪.)21 /3‬‬

‫ص ‪419 :‬‬
‫اّلل عليه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫يتأتى فيه األكل منها ‪ ،‬فلم يتناول اجللد املدبوغ والشعر وحنوه ‪ ،‬وقد فهم ه‬
‫وسلهم من النظم الكرمي ذلك‪.‬‬
‫أخرج أمحد «‪ »1‬وغريه عن ابن عباس قال ‪ :‬ماتت شاة لسودة بنت زمعة ‪ -‬ويف بعض الرواايت‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬لو أخذمت مسكها» فقالت ‪:‬‬ ‫اّلل صلهى ه‬ ‫أهنا كانت مليمونة ‪ -‬فقال رسول ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫َج ُد ِيف ما‬ ‫أنخذ مسك شاة قد ماتت! فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬إمنا قال ه‬
‫ْ‬
‫يل ُحمَ ارماً َعلى ِ‬
‫طاع ٍم يَط َْع ُمهُ إِاال أَ ْن يَ ُكو َن َم ْي تَةً‬ ‫أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َا‬
‫وإنكم ال تطعمونه ‪ ،‬إن تدبغوه تنتفعوا به»‪.‬‬
‫يدل على أ هن احملرم من الدم ما كان سائًل‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬يريد‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬أ َْو َدماً َم ْس ُفوحاً ه‬
‫ما خرج من األنعام وهي أحياء ‪ ،‬وما خيرج من األوداج عند الذبح ‪ ،‬فًل يدخل فيه الكبد‬
‫والطحال جلمودمها ‪ ،‬وال الدم املختلط ابللحم يف املذبح ‪ ،‬وال ما يبقى يف العروق من أجزاء الدم‬
‫‪ ،‬فإ هن ذلك كله ليس بسائل‪.‬‬
‫ِ‬
‫واستدل الشافعية بقوله سبحانه ‪ :‬فَإناهُ ِر ْج ٌ‬
‫س على جناسة اخلنزير بناء على عود الضمري على‬
‫خنزير ‪ ،‬ألنهه أقرب مذكور‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف املسند (‪ ، )334 /6‬والنسائي يف السنن (‪ ، )193 /8 - 7‬حديث رقم (‪/4245‬‬
‫‪.)000‬‬

‫ص ‪420 :‬‬
‫من سورة األعراف‬
‫استَ ِمعوا لَهُ وأَنْ ِ‬
‫صتُوا ل ََعلا ُك ْم تُ ْر َمحُو َن (‪)204‬‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِذا قُ ِر َ‬
‫َ‬ ‫ئ الْ ُق ْرآ ُن فَ ْ ُ‬ ‫قال ه‬
‫أي قارئ غريكم فاستمعوا له مساع تدبر وتذكر‪.‬‬
‫أي إذا قرأ ه‬
‫والًلم يف قوله لَهُ قيل ‪ :‬إهنا الم األجل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إهنها صلة ‪ ،‬واملعىن فاستمعوه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إهنها مبعىن‬
‫(إىل)‪.‬‬
‫واإلنصات السكوت يقال ‪ :‬نصت وأنصت إذا سكت َول ََعلا ُك ْم تُ ْر َمحُو َن أي لكي تفوزوا ابلرمحة‬
‫اليت هي أقصى ما تبتغون‪.‬‬
‫وقد وردت اآلية هكذا عامة يف وجوب االستماع واإلنصات عند قراءة القرآن يف كل األحوال ‪،‬‬
‫كل ذلك جيب فيه االستماع واإلنصات للقرآن‬
‫وعلى مجيع األوضاع خارج الصًلة وداخلها ‪ ،‬ه‬
‫الكرمي إذا قرئ‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف احلكم إذا كان الناس خلف اإلمام هل جيب عليهم االستماع واإلنصات‬
‫‪ ،‬ويسقط عنهم فرض القراءة ‪ ،‬أم ال جيب عليهم؟ بل عليهم أن يقرؤوا سواء يف ذلك جهريهة‬
‫وسريته ‪ ،‬أو ذلك خاص ابلسرية دون اجلهرية‪.‬‬
‫اإلمام ه‬
‫ذهب احلنفية إىل أ هن املأموم ال يقرأ خلف اإلمام مطلقا جهرا كان يقرأ اإلمام أو سرا‪.‬‬
‫أسر اإلمام ‪ ،‬وال يقرأ إذا جهر ‪ ،‬وهو قول عروة بن الزبري‬
‫وذهب مجاعة إىل أ هن املأموم يقرأ إذا ه‬
‫والقاسم بن حممد والزهري ومالك وابن املبارك وأمحد‪.‬‬
‫أسر اإلمام أو جهر‬
‫اّلل عنه فيما رواه املزين عنه إىل أن املأموم يقرأ مطلقا ه‬
‫وذهب الشافعي رضي ه‬
‫أم القرآن ‪ ،‬ويضم السورة ‪ ،‬ويف اجلهرية هأم القرآن فقط‪.‬‬
‫‪ ،‬وروى البويطي عنه أنهه يقرأ يف السرية ه‬
‫قال اآللوسي ‪ :‬واملشهور عند الشافعي أنهه ال سورة للمأموم الذي يسمع اإلمام يف جهرية ‪ ،‬بل‬
‫سريهة قرأ يف األصح‪.‬‬
‫يستمع ‪ ،‬فإن بعد أبن مل يسمع ‪ ،‬أو مسع صوات ال مييز حرفه ‪ ،‬أو كانت ه‬
‫تلك هي آراء العلماء يف قراءة املأموم خلف اإلمام ‪ ،‬واحلنفية حيتجون بظاهر‬

‫ص ‪421 :‬‬
‫اّلل تعاىل طلب ممن قرئ القرآن مبحضر منه شيئني ‪ :‬االستماع‬
‫هذه اآلية ‪ ،‬يقولون ‪ :‬إن ه‬
‫واإلنصات ‪ ،‬وذلك عام يف كل األحوال واألوقات ‪ ،‬ال خيرج منه شيء إال ما أخرجه الدليل ‪،‬‬
‫فإن أخرج الدليل مثًل ما إذا كان املصلي يصلي وآخر ليس معه يف الصًلة يقرأ ‪ ،‬كان ذلك‬
‫خارجا ‪ ،‬وبقي ما عداه على وجوب االستماع والسكوت ‪ ،‬وإذا كانت سرية اكتفينا منه‬
‫ابإلنصات ‪ ،‬ألنه املمكن ‪ ،‬وهو يعلم أ هن اإلمام يقرأ ‪ ،‬فعليه أن يلزم الصمت عمًل هبذه اآلية‪.‬‬
‫اّلل عليهم ‪ ،‬فهو‬
‫واحلنفية يف هذا الذي ذهبوا إليه يشاركون كثريا من جلة الصحابة رضوان ه‬
‫مذهب علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وسعد ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وأيب الدرداء ‪ ،‬وأيب سعيد ‪ ،‬وابن‬
‫عمر ‪ ،‬وزيد بن اثبت ‪ ،‬وأنس‪.‬‬
‫ذم من قرأ خلف اإلمام ‪،‬‬
‫بل لقد روي عن بعضهم ه‬
‫اّلل وجهه قال ‪ :‬من قرأ خلف اإلمام فقد أخطأ‬
‫فقد روى عبد الرمحن بن أيب ليلى عن علي كرم ه‬
‫الفطرة‪.‬‬
‫وعن زيد بن اثبت قال ‪ :‬من قرأ خلف اإلمام ملئ فوه ترااب‪.‬‬
‫وروي عنه أ هن من قرأ خلف اإلمام فًل صًلة له‪.‬‬
‫وقال الشعيب ‪ :‬أدركت سبعني بدراي كلهم مينعون املقتدي عن القراءة خلف اإلمام‪.‬‬
‫ويروي احلنفية أتييدا ملذهبهم أخبارا كثرية بعضها مرفوع ويف رفعه مقال ‪ ،‬وبعضها مرسل‪.‬‬
‫من ذلك ما أخرج عبد بن محيد وابن أيب حامت والبيهقي يف «سننه» عن جماهد قال ‪ :‬قرأ رجل‬
‫اّلل عليه وسلهم يف الصًلة فنزلت ‪َ :‬وإِذا قُ ِر َ‬
‫ئ الْ ُق ْرآ ُن إخل‪.‬‬ ‫اّلل صلهى ه‬
‫من األنصار خلف رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إ همنا جعل اإلمام‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وأخرج ابن أيب شيبة عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫كرب فكربوا ‪ ،‬وإذا قرأ فأنصتوا» «‪.»1‬‬
‫ليؤمته به ‪ ،‬فإذا ه‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬من كان له إمام فقراءته له قراءة»‪.‬‬
‫وأخرج أيضا عن جابر أ هن النيب صلهى ه‬
‫وكل ما قيل يف هذا احلديث أنهه مرسل ‪ ،‬واحلنفية حيتجون ابملراسيل‪.‬‬
‫على أنه قد رواه أبو حنيفة مرفوعا بسند صحيح‪.‬‬
‫روى حممد بن احلسن يف «موطئه» قال ‪ :‬أنبأان أبو حنيفة حدثنا أبو احلسن موسى ابن أيب عائشة‬
‫اّلل بن‬
‫عن عبد ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )201 /1‬كتاب األذان ‪ - 82 ،‬ابب إجياب التكبري‬
‫حديث رقم (‪ ، )734‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )309 /1‬كتاب الصًلة ‪ - 19 ،‬ابب‬
‫ائتمام املأموم حديث رقم (‪.)414 /86‬‬

‫ص ‪422 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬من صلهى خلف إمام فإ هن‬
‫اّلل ‪ ،‬عن النيب صلهى ه‬
‫شداد ‪ ،‬عن جابر بن عبد ه‬
‫قراءته له قراءة»‬
‫والرواايت يف ذلك كثرية ‪ ،‬ويف بعضها عن أيب حنيفة أ هن رجًل قرأ خلف النيب يف الصًلة فنهاه‬
‫آخر فتنازعا ‪ ،‬وكان ذلك يف الظهر أو العصر ‪ ،‬فذكرا ذلك للنيب فقال الذي قدمنا لك‪.‬‬
‫هذا طرف مما حيتج به احلنفية ملذهبهم‪.‬‬
‫وأما حجة املالكية ومن يرى رأيهم ‪ :‬فما‬
‫اّلل عليه وسلهم انصرف من‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رواه مالك وأبو داود والنسائي عن أيب هريرة أن رسول ه‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫صًلة جهر فيها ابلقراءة فقال ‪« :‬هل قرأ أحد منكم آنفا» ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬نعم اي رسول ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬‫فقال ‪« :‬إين أقول ما يل أانزع يف القرآن» قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عليه وسلهم فيما جهر فيه من الصلوات ابلقراءة حني مسعوا ذلك من رسول ه‬
‫وسلهم «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم بنا صًلة‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروى مسلم «‪ »2‬عن عمران بن حصني قال ‪ :‬صلهى رسول ه‬
‫الظهر أو العصر ‪ ،‬فقال ‪« :‬أيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك األعلى»؟ فقال رجل ‪ :‬أان ‪ ،‬فقال‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬قد علمت أ هن بعضكم خاجلنيها»‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم الصبح ‪ ،‬فثقلت عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروي عن عبادة بن الصامت قال ‪ :‬صلهى رسول ه‬
‫واّلل‬
‫اّلل إي ه‬
‫«إين ألراكم تقرءون وراء إمامكم» قال قلنا ‪ :‬اي رسول ه‬
‫القراءة ‪ ،‬فلما انصرف قال ‪ :‬ه‬
‫أبم القرآن» «‪»3‬‬
‫‪ ،‬قال ‪« :‬فًل تفعلوا إال ه‬
‫وأنت ترى أن هذين احلديثني يدالن على مذهب الشافعية ال على مذهب املالكية‪.‬‬
‫والشافعية يستدلون هبذين احلديثني ومبا ثبت من أنهه ال صًلة إال بقراءة ‪ ،‬وال صًلة إال بفاحتة‬
‫س َر ِمنْهُ وقد مجع البخاري يف املسألة جزءا كامًل ‪ ،‬وكان رأيه‬
‫الكتاب ‪ ،‬وبقوله ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ا‬
‫اّلل أ هن املأموم يقرأ الفاحتة خلف اإلمام يف الصًلة اجلهرية ‪ ،‬وهو مذهب الشافعي ورواية‬ ‫رمحه ه‬
‫كل إمام طريقا‬
‫كل حال فإ هن أدلة هذه املسألة متعارضة ‪ ،‬وقد سلك ه‬ ‫اّلل ‪ ،‬وعلى ه‬ ‫عن مالك رمحه ه‬
‫يف اجلمع بينها ‪ ،‬وموضع ذلك كتب الفقه‪.‬‬
‫ض ُّرعاً و ِخي َفةً ودُو َن ا ْجلَْه ِر ِمن الْ َق ْو ِل ِابلْغُ ُد هِو و ْاآل ِ‬
‫صال َوال‬ ‫ك ِيف نَ ْف ِس َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك تَ َ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬واذْ ُك ْر َربا َ‬
‫قال ه‬
‫ك ال يستَكِْربو َن َعن ِع َ ِ ِ‬ ‫تَ ُكن ِمن الْغافِلِني (‪ )205‬إِ ان الا ِذ ِ‬
‫ج ُدو َن‬ ‫سبهِ ُ‬
‫حونَهُ َولَهُ يَ ْس ُ‬ ‫بادته َويُ َ‬ ‫ين ع ْن َد َربِه َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫كل ذكر ‪ ،‬أل هن اإلخفاء‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وهو أمر إبخفاء ه‬
‫(‪ )206‬قيل ‪ :‬اخلطاب للنيب صلهى ه‬
‫أدخل يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )313 /1‬كتاب الصًلة ‪ ،‬ابب من كره القراءة حديث رقم‬
‫(‪ ، )826‬والنسائي يف السنن (‪ ، )478 /2 - 1‬كتاب االفتتاح ‪ ،‬ابب ترك القراءة حديث رقم‬
‫(‪].....[ .)918‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )298 /1‬كتاب الصًلة ‪ - 12 ،‬ابب هني املأموم‬
‫حديث رقم (‪.)398 /47‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )311 /1‬كتاب الصًلة ‪ ،‬ابب من ترك القراءة حديث رقم‬
‫(‪.)823‬‬

‫ص ‪423 :‬‬
‫اإلخًلص ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد ابلذكر يف النفس أن يكون عارفا مبعاين األذكار اليت ير هددها على لسانه‬
‫‪ ،‬مستحضرا لصفات الكمال والعظمة واجلًلل ‪ ،‬وذلك أل هن املراد من الذكر أثره ‪ ،‬وهو اخلشية‬
‫‪ ،‬فما مل يكن ذاكرا بقلبه فكيف خيشى‪.‬‬
‫سرا بعد فراغ اإلمام من قراءته‬
‫وقيل ‪ :‬اخلطاب ملستمع القرآن ‪ ،‬واملراد أمر املأموم ابلقراءة ه‬
‫ض ُّرعاً َو ِخي َفةً أي متضرعا خائفا َودُو َن ا ْجلَْه ِر ِم َن الْ َق ْو ِل أي ذاكرا متكلما بكًلم هو دون اجلهر‬
‫تَ َ‬
‫من القول‪.‬‬
‫قال ابن عباس هو أن يسمع نفسه‪ .‬وقيل ‪ :‬املراد أن يقع الذكر متوسطا بني اجلهر واملخافتة ‪،‬‬
‫ك َوال ُتافِ ْ‬
‫ت ِهبا [اإلسراء ‪.]110 :‬‬ ‫صًلتِ َ‬
‫على ح هد قوله تعاىل ‪َ :‬وال ََتْ َه ْر بِ َ‬
‫ِابلْغُ ُد هِو و ْاآل ِ‬
‫صال‪.‬‬ ‫َ‬
‫الغدو مجع غدوة ‪ ،‬وهي ما بني صًلة الغداة إىل طلوع الشمس‪.‬‬
‫واآلصال ‪ :‬مجع اجلمع ألصيل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬غري هذا ‪ ،‬وهو ما بني العصر إىل غروب الشمس ‪ ،‬وإمنا‬
‫خص هذين الوقتني ابلذكر ‪ ،‬قيل ‪ :‬ألهنما وقتا هجوع وسكون ‪ ،‬فيكون الذكر فيهما ألصق‬ ‫ه‬
‫ك ال يَ ْستَكِْربُو َن عَ ْن ِع َ‬
‫بادتِهِ‬ ‫ين ِعنْ َد َربِه َ‬ ‫ِ‬
‫اّلل إِ ان الاذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ابلقلب َوال تَ ُك ْن م َن الْغافِل َ‬
‫ني عن ذكر ه‬
‫وخيصونه بغاية العبودية‪.‬‬ ‫ينزهونه ‪ ،‬ه‬ ‫ج ُدو َن (‪ )206‬هم املًلئكة ‪ ،‬فهم ه‬ ‫سبهِ ُ‬
‫حونَهُ َولَهُ يَ ْس ُ‬ ‫َويُ َ‬
‫وهذه آية من آايت السجدة املعدودة يف القرآن ‪ ،‬طلب السجود ممن قرأها ‪ ،‬أو مسعها ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إذا قرأ ابن آدم السجدة‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روي عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫فسجد اعتزل الشيطان يبكي ‪ ،‬يقول اي ويله ‪ ،‬أمر ابن آدم ابلسجود فسجد فله اجلنة ‪ ،‬وأمرت‬
‫ابلسجود فأبيت فلي النار» «‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )87 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 35 ،‬ابب بيان إطًلق اسم‬
‫الكفر على من ترك الصًلة حديث رقم (‪.)81 /133‬‬

‫ص ‪424 :‬‬

‫ص ‪425 :‬‬
‫حممد علي السايس حتقيق انجي إبراهيم سويدان اجمللهد‬
‫تفسري آايت االحكام لفضيلة الشيخ ه‬
‫الثاين املكتبة العصريهة‬

‫ص ‪426 :‬‬

‫ص ‪427 :‬‬
‫الرحيم‬
‫الرمحن ه‬
‫اّلل ه‬
‫بسم ه‬
‫ص ‪428 :‬‬

‫ص ‪429 :‬‬
‫الرحيم‬
‫الرمحن ه‬‫اّلل ه‬
‫بسم ه‬
‫من سورة األنفال‬
‫ذات بَ ْينِ ُك ْم‬ ‫اّلل وأ ِ‬ ‫فال ِاّللِ وال ار ُس ِ‬ ‫ِ‬
‫حوا َ‬ ‫َصل ُ‬‫ول فَاتا ُقوا اَ َ ْ‬ ‫ك َع ِن ْاألَنْفال قُ ِل ْاألَنْ ُ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫وأ ِ‬
‫ني (‪)1‬‬ ‫اّللَ َوَر ُسولَهُ إِ ْن ُك ْن تُ ْم ُم ْؤمنِ َ‬
‫َطيعُوا ا‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين َك َف ُروا ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬ ‫ك الاذ َ‬
‫هذه السورة كلهها مدنية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي مدنية إال قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْذ ميَْ ُك ُر بِ َ‬
‫اّللُ وبعضهم استثىن مخس آايت بعد آية َوإِ ْذ ميَْ ُك ُر‪.‬‬ ‫ك ا‬ ‫يب َح ْسبُ َ‬ ‫إال قوله تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الناِ ُّ‬
‫اّلل عليه وسلهم مع قومه ‪ ،‬وسورة‬
‫ومناسبتها لسورة األعراف ‪ :‬أهنا يف بيان حال الرسول صلهى ه‬
‫األعراف مبينة ألحوال أشهر الرسل مع أقوامهم‪.‬‬
‫وسبب نزول هذه اآلية ما‬
‫اّلل عنه أ هن املسلمني‬
‫الصامت رضي ه‬
‫أخرجه أمحد وابن حبهان واحلاكم من حديث عبادة بن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كيف تقسم ‪ ،‬وملن‬
‫اختلفوا يف غنائم بدر ‪ ،‬ويف قسمتها ‪ ،‬فسألوا الرسول صلهى ه‬
‫احلكم فيها ‪ ،‬أهي للمهاجرين أم لألنصار أم هلم مجيعا؟ فنزلت «‪.»1‬‬
‫والسؤال هإما الستدعاء معىن يف نفس املسئول ‪ ،‬وهذا يتع هدى بنفسه اترة ‪ ،‬وبعن أخرى ‪ ،‬كما يف‬
‫هذه اآلية‪ .‬وإما القتضاء مال ‪ ،‬فيتع هدى الثنني بنفسه ‪ ،‬حنو سألت زيدا ماال ‪ ،‬وقد يتع هدى مبن ‪،‬‬
‫وفاعل السؤال يعود على معلوم ‪ ،‬وهو من حضر بدرا‪.‬‬
‫واألنفال مجع نفل كسبب وأسباب ‪ ،‬وهو يف أصل اللغة من النهفل بفتح فسكون ‪ -‬أي الزايدة‬
‫وتسمى‬
‫‪ -‬ولذا مسي التطوع وولد الولد انفلة ‪ ،‬مث صار حقيقة يف العطية لكوهنا تربعا غري الزم‪ .‬ه‬
‫ضلوا هبا على سائر األمم‬
‫اّلل من غري وجوب ‪ ،‬أو ألن املسلمني ف ه‬
‫الغنيمة نفًل ألهنها منحة من ه‬
‫يسمى‬
‫اّلل ‪ :‬كذلك ه‬
‫حتل هلم ‪ ،‬أو ألهنا زايدة على ما شرع اجلهاد له ‪ ،‬وهو إعًلء كلمة ه‬
‫اليت مل ه‬
‫فرق بني الغنيمة والنفل ابلعموم‬
‫ابلنفل ما يشرتطه اإلمام للغازي زايدة على سهمه‪ .‬وبعضهم ه‬
‫واخلصوص ‪ :‬فالغنيمة ما حصل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري ابن جرير الطربي املسمى جامع البيان (‪.)116 /9‬‬

‫ص ‪430 :‬‬
‫مستغنما ببعث كان أو بغري بعث ‪ ،‬قبل الظفر أو بعده‪ .‬والنفل ما كان قبل الظفر أو ما كان بغري‬
‫قتال ‪ ،‬وهو الفي ء ‪ ،‬أو ما يفضل عن القسم‪.‬‬
‫إذا تبني هذا فاعلم أن الراجح هنا كون السؤال سؤال استفتاء ال استعطاء ‪ ،‬وأ هن املراد ابألنفال‬
‫الغنائم ال املشروط للغازي زايدة على سهمه ‪ ،‬ويؤيد ذلك الراجح أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أ هن هذا أول تشريع للغنيمة‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما تق هدم من سبب النزول‪.‬‬
‫‪ - 3‬قوله تعاىل ‪ :‬فَاتا ُقوا ا‬
‫اّللَ فإنهه لو كان السؤال طلبا للمشروط ملا كان هناك حمذور جيب‬
‫اتقاؤه‪.‬‬
‫ومن ذهب إىل املرجوح وهو أن السؤال سؤال استعطاء ‪ ،‬وأن النفل ما يشرتط للغازي فقد التزم‬
‫زايدة (عن) أو جعلها مبعىن (من) وهو تكلهف ال ضرورة إليه‪.‬‬
‫فال ِاّللِ وال ار ُس ِ‬
‫ول فإ هن املراد به اختصاص أمرها وحكمها‬ ‫ويبعده أيضا اجلواب بقوله تعاىل ‪ :‬قُ ِل ْاألَنْ ُ َ‬
‫اّلل تعاىل من غري أن يدخل‬
‫ابّلل تعاىل ورسوله ‪ ،‬فيقسمها النيب عليه الصًلة والسًلم كما أيمره ه‬ ‫ه‬
‫فيه رأي أحد ‪ ،‬ولو كان السؤال سؤال استعطاء ‪ ،‬و(عن) زائدة ملا كان هذا جوااب له ‪ ،‬فإ هن‬
‫ابّلل ورسوله ال ينايف إعطاءه إايهم ‪ ،‬بل حيققه ‪ ،‬ألهنهم إمنا يسألون‬
‫اختصاص حكم ما شرط هلم ه‬
‫اّلل ‪ ،‬ال حبكم سبق أيديهم إليه مما‬
‫مبوجب شرط الرسول عليه الصًلة والسًلم الصادر عنه إبذن ه‬
‫خيل ابالختصاص املذكور‪.‬‬
‫فال ِاّللِ وال ار ُس ِ‬
‫ول‬ ‫واملعىن ‪ :‬يسألونك اي حممد عن غنائم بدر كيف تقسم وملن احلكم فيها قُ ِل ْاألَنْ ُ َ‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬ ‫أي قل هلم ‪ :‬األنفال هّلل حيكم فيها حبكمه ‪ ،‬وللرسول يقسمها حبسب حكم ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وآية َوا ْعلَ ُموا أَامنا غَنِ ْمتُ ْم إخل‬
‫مفوض لرسول ه‬
‫وهذه اآلية حمكمة هبني فيها إمجاال أ هن األمر ه‬
‫اّللَ أي وإذا كان أمر‬ ‫فصلت هذا اإلمجال ببيان مصارف الغنيمة ‪ ،‬فًل تكون انسخة هلا فَاتا ُقوا ا‬ ‫ه‬
‫الغنائم هّلل ورسوله فاتقوه سبحانه ‪ ،‬واجتنبوا ما أنتم فيه من املشاجرة فيها واالختًلف املوجب‬
‫لشق العصا وسخطه تعاىل ‪ ،‬أو فاتقوه يف كل ما أتتون وتذرون ‪ ،‬فيدخل ما هم فيه دخوال أوليا‬
‫ذات بَيْنِ ُك ْم أي أصلحوا نفس ما بينكم ‪ ،‬وهي احلال والصلة اليت بينكم تربط بعضكم‬ ‫حوا َ‬ ‫وأ ِ‬
‫َصل ُ‬
‫َ ْ‬
‫ببعض ‪ ،‬وهي رابطة اإلسًلم ‪ ،‬وإصًلحها يكون ابلوفاق والتعاون واملواساة وترك األثرة والتفوق‬
‫‪ ،‬وابإليثار أيضا ‪ ،‬فذات مبعىن حقيقة الشيء ونفسه مفعول به ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إ هن (ذات) مبعىن صاحبة‬
‫‪ ،‬صفة ملفعول حمذوف ‪ ،‬أي أحواال ذات بينكم ‪ ،‬وملا كانت‬

‫ص ‪431 :‬‬
‫األحوال مًلبسة للبني أضيفت إليه ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬اسقين ذا إانئك أي ما فيه ‪ ،‬جعل كأنه‬
‫صاحبه‪.‬‬
‫والبني يف أصل اللغة يطلق على االتصال واالفرتاق ‪ ،‬وكل ما بني طرفني كما قال تعاىل ‪ :‬لََق ْد‬
‫تَ َقطا َع بَ ْي نَ ُك ْم [األنعام ‪ ]94 :‬برفع بني مبعىن الوصل ‪ ،‬وبنصبه على الظرفية مبعىن وقع التقطع‬
‫بينكم‪ .‬ومن استعمال البني مبعىن االفرتاق والوصل قول الشاعر ‪:‬‬
‫حن للبني آلف‬‫اّلل لو ال البني مل يكن اهلوى ولو ال اهلوى ما ه‬
‫فو ه‬
‫وأ ِ‬
‫َطيعُوا ا‬
‫اّللَ َوَر ُسولَهُ يف الغنائم ‪ ،‬ويف كل أمر وهني ‪ ،‬وقضاء وحكم ‪ ،‬وذكر االسم اجلليل يف‬ ‫َ‬
‫اّلل تعاىل أوال وآخرا لتعظيم شأنه ‪ ،‬وإظهار‬
‫األمرين لرتبية املهابة وتعليل احلكم‪ .‬وذكر الرسول مع ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬وتوسيط األمر إبصًلح ذات‬
‫شرفه ‪ ،‬واإليذان أب هن طاعته عليه الصًلة والسًلم طاعة ه‬
‫البني بني األمر ابلتقوى ‪ ،‬واألمر ابلطاعة إلظهار كمال العناية ابإلصًلح ‪ ،‬وليندرج األمر به‬
‫ِ‬
‫بعينه حتت األمر ابلطاعة إِ ْن ُكْن تُ ْم ُم ْؤمنِ َ‬
‫ني متعلق ابألوامر الثًلثة ‪ ،‬واجلواب حمذوف لداللة ما‬
‫تق هدم عليه ‪ ،‬أي فامتثلوا األوامر الثًلثة فإ هن اإلميان يقتضي ذلك كله ‪ ،‬أو اجلواب نفس ما تقدم‬
‫على اخلًلف‪.‬‬
‫وأاي ما كان ‪ ،‬فاملراد بيان ترتب ما ذكر عليه ‪ ،‬ال التشكيك يف إمياهنم ‪ ،‬وهو يكفي يف التعليق‬
‫ابلشرط‪.‬‬
‫واملراد ابإلميان التصديق ‪ ،‬وال خفاء يف اقتضائه ما ذكر على معىن أن من شأنه ذلك ‪ ،‬ال أنه‬
‫الزم له حقيقة‪.‬‬
‫وقد يراد ابإلميان اإلميان الكامل ‪ ،‬واألعمال شرط فيه ‪ ،‬أو شطر ‪ ،‬فاملعىن إن كنتم كاملي اإلميان‬
‫اّلل تعاىل ورسوله‬
‫فإ هن كمال اإلميان يدور على تلك اخلصال الثًلثة ‪ :‬االتقاء واإلصًلح وإطاعة ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫صلهى ه‬
‫ما يستنبط من اآلية‬
‫يستفاد منها أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمر دينهم‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ورسوله ‪ ،‬ال إىل غريمها‪.‬‬
‫‪ - 2‬إ هن األحكام مرجعها إىل ه‬
‫‪ - 3‬اهتمام الشارع إبصًلح ذات البني ‪ ،‬فهو واجب شرعا لتوقف قوة األمة عليه وعزهتا‬
‫ومنعتها ‪ ،‬وحلفظ وحدهتا به‪.‬‬
‫واّلل أعلم‪.‬‬
‫‪ - 4‬إن امتثال ما أمر به الشارع من مثرات اإلميان‪ .‬ه‬

‫ص ‪432 :‬‬
‫ين َك َف ُروا َز ْحفاً فًَل تُ َولُّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ُم ْاألَ ْد َ‬
‫ابر (‪َ )15‬وَم ْن‬ ‫آمنُوا إِذا لَقيتُ ُم الاذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫س‬
‫ام َوبئْ َ‬
‫ُ‬ ‫ب ِم َن ا‬
‫اّللِ َوَمأْواهُ َج َهن ِ‬ ‫ضٍ‬ ‫يُوههلِِ ْم يَ ْوَمئِ ٍذ ُدبُرهُ إِاال ُمتَ َح ِرفاً لِِق ٍ‬
‫تال أ َْو ُمتَ َحيهِزاً إِىل فِئَةٍ فَ َق ْد ابءَ بِغَ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صريُ (‪)16‬‬ ‫الْم ِ‬
‫َ‬
‫(الزحف) قال األزهري ‪ :‬أصل الزحف للصيب ‪ ،‬وهو أن يزحف على استه قبل أن يقوم‪ .‬وشبهه‬
‫كل‬
‫بزحف الصيب مشي الطائفتني اللتني تذهب كل واحدة منهما إىل صاحبتها للقتال ‪ ،‬فتمشي ه‬
‫ضراب‪.‬‬
‫فئة مشيا إىل الفئة األخرى قبل التداين لل ه‬
‫يدب دبيبا ‪،‬‬
‫وقال الزخمشري «‪ : »1‬الزحف اجليش الدهم الذي يرى لكثرته كأنهه يزحف ‪ ،‬أي ه‬
‫دب على استه قليًل ‪ ،‬مسي ابملصدر ‪ ،‬واجلمع زحوف‪.‬‬ ‫من زحف الصيب إذا ه‬
‫ابر أي ال َتعلوا ظهوركم مما يليهم‪.‬‬ ‫فًَل تُ َولُّ ُ‬
‫وه ُم ْاألَ ْد َ‬
‫يفر مومها قرنه أنه منهزم ‪ ،‬فإذا تبعه عطف عليه‬ ‫إِاال ُمتَ َح ِرفاً لِِق ٍ‬
‫املتحرف للقتال هو الذي ه‬ ‫ه‬ ‫تال‬ ‫ه‬
‫مفرغ ‪ ،‬أو‬ ‫ِِ‬
‫فقتله ‪ ،‬وهو ابب من خدع احلرب ومكايدها ‪ ،‬وهو حال من فاعل يُ َوههل ْم واالستثناء ه‬
‫منصوب على االستثناء أي َوَم ْن يُ َوههلِِ ْم إال رجًل متحرفا لقتال‪.‬‬
‫أ َْو ُمتَ َحيهِزاً إِىل فِئَةٍ التحيهز التنحي‪ .‬والفئة ‪ :‬اجلماعة‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وأ هن مقره يف‬
‫اّلل عن الفرار ‪ ،‬وتوعهد عليه أش هد الوعيد ‪ ،‬وهو أن يرجع بغضب من ه‬ ‫هنى ه‬
‫جهنم ‪ ،‬ومل يبح الفرار إال الثنني ‪:‬‬
‫يكر مكيدة منه وخدعة‪.‬‬
‫يفر ‪ ،‬مث ه‬
‫املتحرف للقتال ‪ ،‬وهو الذي ه‬
‫ه‬ ‫أحدمها ‪:‬‬
‫والثاين ‪ :‬الرجل الذي يرى أنهه كاملنفرد ‪ ،‬ويرى مجاعة من املسلمني حتميه إذا احناز إليها‪.‬‬
‫اّلل عنهما أنه قال ‪ :‬خرجت سرية وأان فيهم ‪ ،‬ففروا ‪ ،‬فلما رجعوا إىل‬
‫روي عن ابن عمر رضي ه‬
‫الفرارون؟ فقال ‪« :‬بل أنتم‬
‫اّلل حنن ه‬
‫املدينة استحيوا ‪ ،‬فدخلوا البيوت ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي رسول ه‬
‫الكرارون العطهافون‪.‬‬
‫العكارون وأان فئتكم» «‪ »2‬والعكارون ه‬
‫اّلل عنه فقال ‪ :‬اي أمري املؤمنني! هلكت‬
‫واهنزم رجل من القادسية فأتى املدينة إىل عمر رضي ه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬أان فئتك‪.‬‬
‫فررت من الزحف ‪ ،‬فقال عمر رضي ه‬
‫حرمت الفرار من القتال ‪ ،‬وأما كم عدد العدو الذي حيرم الفرار منه فقد بينته آية‬ ‫وهذه اآلية ه‬
‫ف ا‬
‫اّللُ َع ْن ُك ْم [األنفال ‪.]66 :‬‬ ‫ْاآل َن َخ اف َ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية (‪.)199 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح حديث رقم (‪.)1770‬‬

‫ص ‪433 :‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬وا ْعلَموا أَامنا غَنِ ْمتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَأَ ان ِاّللِ ُمخُسهُ ولِل ار ُس ِ‬
‫ول َولِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى‬ ‫قال ه‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫قان ي وم الْتَ َقى ا ْجلم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سبِ ِ‬ ‫َوال َْمساكِ ِ‬
‫عان‬ ‫َْ‬ ‫يل إِ ْن ُك ْن تُ ْم َ‬
‫آم ْن تُ ْم ِاب اّلل َوما أَنْ َزلْنا َعلى َع ْبدان يَ ْو َم الْ ُف ْر َ ْ َ‬ ‫ني َوابْ ِن ال ا‬
‫اّللُ عَلى ُك ِهل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير (‪)41‬‬
‫َو ا‬
‫تمس ‪ ،‬فيجعل مخس هّلل وللرسول ولذي القرىب واليتامى‬
‫هذه اآلية بيهنت أن غنائم احلرب ه‬
‫تقسم على اجليش ‪ ،‬للراجل‬
‫واملساكني وابن السبيل ‪ ،‬وأربعة األمخاس الباقية بينت السنة أهنها ه‬
‫سهم ‪ ،‬وللفارس ثًلثة أسهم ‪ ،‬أو سهمان على خًلف يف الرواايت‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء فيما هي الغنيمة والفيء‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬الغنيمة ما أخذ عنوة من الكافرين‬
‫يف احلرب ‪ ،‬والفيء ما أخذ عن صلح ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬الغنيمة ما أخذ من مال منقول ‪ ،‬والفيء‬
‫األرضون‪ .‬وقال آخرون ‪ :‬الغنيمة والفيء مبعىن واحد ‪ ،‬وزعموا أن هذه اآلية انسخة آلية احلشر‬
‫‪ ،‬فإ هن آية احلشر [‪ ]7‬جعلت الفيء كلهه هّلل وللرسول ولذي القرىب واليتامى واملساكني وابن‬
‫السبيل ‪ ،‬وهذه اآلية جعلت هلم اخلمس فقط ‪ ،‬فتكون هذه انسخة لتلك ‪ ،‬والظاهر أن الغنيمة‬
‫والفيء خمتلفان وال نسخ‪.‬‬
‫وقد ذكرت اآلية أ هن اخلمس لستة ‪:‬‬
‫وجل ‪ ،‬وقد اختلف املفسرون فيه على قولني ‪:‬‬ ‫عز ه‬ ‫اّلل ه‬
‫أوهلا ‪ :‬ه‬
‫ِِ‬
‫اّلل ‪ ،‬فللهه‬
‫سهُ مفتاح كًلم مل يقصد به أ هن اخلمس يقسم على ستة منها ه‬‫‪ - 1‬أن قوله ‪ :‬اّلل ُمخُ َ‬
‫يقسم اخلمس على مخسة للرسول ولذي القرىب إخل‪ .‬ويكون الغرض من ذكر‬ ‫الدنيا واآلخرة ‪ ،‬بل ه‬
‫اّلل تعليمنا التربك بذكره ‪ ،‬وافتتاح األمور ابمسه‪.‬‬
‫ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫أو يكون معناه أ هن اخلمس مصروف يف وجوه القرب إىل ه‬
‫فصل‪.‬‬
‫مث هبني تلك الوجوه فقال ‪ :‬للرسول ولذي القرىب ‪ ،‬فأمجل أوال ‪ ،‬مث ه‬
‫فإن قيل ‪ :‬لو أراد ذلك لقال ‪ :‬فإ هن هّلل مخسه للرسول دون (واو)‪.‬‬
‫ْجبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫َسلَما َوتَلاهُ لل َ‬
‫قيل ‪ :‬إن العرب قد تذكر الواو واملراد إلغاؤها ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ :‬فَلَ اما أ ْ‬
‫(‪[ )103‬الصافات ‪ ]103 :‬واملراد فلما أسلما تله للجبني ‪ ،‬ألنه جواب ملا‪.‬‬
‫وكما قال الشاعر ‪:‬‬
‫يل شيء يوافق بعض شيء وأحياان ‪ ،‬وابطله كثري‬
‫واملعىن يوافق بعض شيء أحياان‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬فسهم ا هّلل يصرف يف الكعبة نقل عن أيب العالية والظاهر القول األول‬
‫‪ - 2‬إ هن املراد لبيت ه‬
‫إلمجاع احلجة عليه‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬والغنيمة تقسم على‬
‫اّلل ‪ ،‬وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كًلم كما قالوه يف ه‬
‫اثنيها ‪ :‬رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫أربعة‪ .‬وقال األكثرون ‪ :‬إن الغنيمة تقسم على مخسة أوهلا سهم الرسول صلهى ه‬
‫يضعه حيث رأى‪.‬‬

‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وقد اختلف يف‬


‫اّلل صلهى ه‬
‫ص ‪ 434 :‬اثلثها ‪ :‬ذوو القرىب واملراد هبا قرابة رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم من بين هاشم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم قريش‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ذوي القرىب ‪ :‬فقيل ‪ :‬هم قرابة رسول ه‬
‫كلها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم بنو هاشم وبنو املطلب وهو الراجح ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فقد أخرج ابن جرير «‪ »1‬عن جبري بن مطعم قال ‪ :‬ملا قسم رسول ه‬
‫اّلل‬
‫سهم ذوي القرىب من خيرب على بين هاشم وبين املطلب مشيت أان وعثمان بن عفان رضي ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل! هؤالء إخوتك بنو هاشم ‪ ،‬ال ننكر فضلهم ملكانك الذي جعلك ه‬ ‫عنه فقلنا ‪ :‬اي رسول ه‬
‫به منهم ‪ ،‬أرأيت إخواننا بين املطلب أعطيتهم وتركتنا ‪ ،‬وإمنا حنن وهم منك مبنزلة واحدة ‪ ،‬فقال‬
‫‪« :‬إهنم مل يفارقوان يف جاهلية وال إسًلم إمنا بنو هاشم وبنو املطلب شيء واحد» مث شبهك رسول‬
‫اّلل يديه إحدامها ابألخرى‪.‬‬
‫ه‬
‫اّلل حيا ‪ -‬فأما بعد‬
‫اّلل ‪ -‬هذا كله إذا كان رسول ه‬
‫وقيل ‪ :‬إن سهم ذوي القرىب طعمة لرسول ه‬
‫وفاته ‪ ،‬فقد اختلف العلماء يف سهمه وسهم ذوي قرابه ‪ ،‬فقيل ‪ :‬يصرفان يف معونة اإلسًلم‬
‫وأهله ويف اخليل والسًلح‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬مها لإلمام من بعده روي عن قتادة أنه سئل عن سهم ذوي القرىب ‪ ،‬فقال ‪ :‬كان طعمة‬
‫اّلل عليه وسلهم ما كان حيها فلما تويف جعل لويل األمر من بعده‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫لرسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مردود يف اخلمس ‪ ،‬واخلمس مقسوم على‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وقال العراقيون ‪ :‬سهم رسول ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ثًلثة أسهم على اليتامى واملساكني وابن السبيل ‪ ،‬ويقال هلم ‪ :‬سهم رسول ه‬
‫وسلهم سقط مبوته فما الذي أسقط سهم ذوي القرىب وال يلزم من سقوط حق أحد املستحقني‬
‫سقوط اآلخرين‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وقال قائلون ‪ :‬سهم القرابة لقرابة‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬سهم النيب لقرابة ه‬
‫اّلل ‪ ،‬فكاان على‬
‫اخلليفة ‪ ،‬مث اجتمع رأيهم أن جيعلوا هذين السهمني يف اخليل والعدة يف سبيل ه‬
‫اّلل عنهما‪ .‬وكأهنهما كاان يراين أ هن سهم ذوي القرىب كان‬
‫ذلك يف خًلفة أيب بكر وعمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يف حياته ‪ ،‬وهو ال يورث «‪ »2‬فجعًل هذين السهمني يف‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫طعمة لرسول ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫سبيل ه‬
‫رابعها ‪ :‬اليتامى ‪ ،‬وهم أطفال املسلمني الذين هلك آابؤهم‪.‬‬
‫خامسها ‪ :‬املساكني ‪ ،‬وهم أهل الفاقة واحلاجة من املسلمني‪.‬‬
‫سادسها ‪ :‬ابن السبيل ‪ ،‬وهو اجملتاز سفرا قد انقطع به‪.‬‬
‫وقد خالفت املالكية هذه األقوال املتقدمة مجيعها ‪ ،‬ورأوا أ هن مخس الغنيمة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)5 /10‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )1380 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 16 ،‬ابب قول النيب‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال نورث» حديث رقم (‪ ، )1752‬والبخاري يف الصحيح (‪، )4 /8‬‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال نورث» حديث رقم‬
‫‪ - 85‬كتاب الفرائض ‪ - 2 ،‬ابب قول النيب صلهى ه‬
‫(‪.)6725‬‬
‫ص ‪435 :‬‬
‫جيعل يف بيت املال ‪ ،‬ينفق منه على من ذكر ‪ ،‬وعلى غريهم ‪ ،‬حبسب ما يراه اإلمام ‪ ،‬وكأهنهم رأوا‬
‫أن ذكر هذه األصناف على سبيل املثال ‪ ،‬وهو من ابب اخلاص أريد به العام‪ .‬وأصحاب األقوال‬
‫واملتقدمة رأوا أنه من ابب اخلاص أريد به اخلاص‪.‬‬
‫روى ابن القاسم وأشهب وعبد امللك «‪ »1‬عن مالك أن الفيء واخلمس جيعًلن يف بيت املال ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم منهما‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ويعطى اإلمام قرابة رسول ه‬
‫وروى ابن القاسم عن مالك أ هن الفيء واخلمس واحد‪ .‬والذي جعل املالكية يذهبون هذا املذهب‬
‫أخبار ثبتت يف املغازي والسري ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم بعث سرية قبل جند فأصابوا يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ - 1‬روي يف «الصحيح» «‪ »2‬أن ه‬
‫سهماهنم اثين عشر بعريا ‪ ،‬ونفلوا بعريا بعريا‪.‬‬
‫‪-2‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال يف أسارى بدر ‪ :‬لو كان املطعم بن عدي حيها وكلهمين يف‬
‫ثبت عنه صلهى ه‬
‫هؤالء النتىن لرتكتهم له «‪.»3‬‬
‫‪-3‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ر هد سيب هوازن وفيه اخلمس «‪.»4‬‬
‫ثبت أنهه صلهى ه‬
‫‪-4‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يوم‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل بن مسعود قال ‪ :‬آثر ه‬
‫روي يف «الصحيح» «‪ »5‬عن عبد ه‬
‫حنني أانسا يف الغنيمة ‪ ،‬فأعطى األقرع بن حابس مئة من اإلبل ‪ ،‬وأعطى عيينة مئة من اإلبل ‪،‬‬
‫واّلل إ هن هذه القسمة ما‬
‫وأعطى أانسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ يف القسمة ‪ ،‬فقال رجل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فأخربته ‪،‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل ألخرب هن ه‬
‫اّلل‪ .‬فقلت ‪ :‬و ه‬
‫عدل فيها أو ما أريد هبا وجه ه‬
‫اّلل أخي موسى لقد أوذي أبكثر من هذا فصرب»‪.‬‬
‫فقال ‪« :‬يرحم ه‬
‫‪-5‬‬
‫اّلل عليكم إال اخلمس واخلمس مردود‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ما يل مما أفاء ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫فيكم» «‪.»6‬‬
‫فمن هذه األحاديث تعلم أنه قد أعطي من اخلمس للمؤلفة قلوهبم وليسوا ممن‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬فقيه مالكي ‪ ،‬ومؤرخ ‪ ،‬أندلسي ‪ ،‬صاحب كتاب الواضحة ‪ ،‬انظر األعًلم للزركلي (‪/4‬‬
‫‪.)157‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )68 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 12 ،‬ابب األنفال حديث‬
‫رقم (‪ ، )1749‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 57 ، )66 /4‬كتاب اخلمس ‪ - 15 ،‬ابب ومن‬
‫الدليل على أن اخلمس حديث رقم (‪.)3134‬‬
‫من النيب‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 57 ، )67 /4‬كتاب اخلمس ‪ - 16 ،‬ابب ما ه‬
‫اّلل عليه وسلهم على أسارى حديث رقم (‪.)3139‬‬
‫صلهى ه‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 57 ، )67 /4‬كتاب اخلمس ‪ - 15 ،‬ابب من الدليل على‬
‫أن اخلمس حديث رقم (‪.)3134( ، )3131‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )738 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 46 ،‬ابب إعطاء املؤلفة‬
‫حديث رقم (‪.)1062 /139‬‬
‫(‪ )6‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )1376 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 14 ،‬ابب التنفيل حديث‬
‫رقم (‪].....[ .)1756 /47‬‬

‫ص ‪436 :‬‬
‫اّلل يف التقسيم ‪ ،‬وأنه قد ر هده على اجملاهدين أبعياهنم ‪ ،‬وأنه قد أعطى بعضه وكله ‪ :‬وهذا‬
‫ذكر ه‬
‫يدل على أ هن ذكر هذه األصناف يف اآلية بيان لبعض املصارف ‪ ،‬ال بيان استحقاق وملك إذ لو‬
‫اّلل عليه وسلهم يف بعض األحيان يف غريهم إِ ْن‬ ‫اّلل صلهى ه‬ ‫كان استحقاقا وملكا ملا جعله رسول ه‬
‫اّللُ عَلى ُك ِهل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير‪.‬‬ ‫قان ي وم الْتَ َقى ا ْجلم ِ‬
‫عان َو ا‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آم ْن تُ ْم ِاب اّلل َوما أَنْ َزلْنا عَلى عَبْدان يَ ْو َم الْ ُف ْر َ ْ َ‬
‫ُك ْن تُ ْم َ‬
‫اّلل ‪ :‬أيقنوا أمنا غنمتم من شيء فقسمه كما بيهنت لكم ‪ ،‬فاقطعوا أطماعكم عما ليس لكم‬ ‫يقول ه‬
‫فرقنا بني‬ ‫اّلل عليه وسلهم يوم ه‬ ‫ابّلل ومبا أنزلنا على عبدان حممد صلهى ه‬ ‫من اخلمس إن كنتم آمنتم ه‬
‫احلق والباطل ببدر ‪ ،‬فأدلنا للمؤمنني من الكافرين ‪ ،‬وذلك يوم التقى اجلمعان ‪ ،‬مجع املؤمنني‬
‫واّلل على ذلك وغريه قدير ال ميتنع عليه شيء أراده‪.‬‬ ‫ومجع املشركني ‪ ،‬ه‬
‫يل اِ ِ‬ ‫جاه ُدوا ِأب َْمواهلِِ ْم َوأَنْ ُف ِس ِه ْم ِيف َسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آوْوا‬
‫ين َ‬ ‫اّلل َوالاذ َ‬ ‫هاج ُروا َو َ‬ ‫آمنُوا َو َ‬ ‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ان الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫هاج ُروا ما لَ ُك ْم ِم ْن َواليَتِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َح اَّت‬ ‫ض والا ِذين آمنُوا وَمل ي ِ‬
‫ض ُه ْم أ َْولياءُ بَ ْع ٍ َ َ َ َ ْ ُ‬
‫ك بع ُ ِ‬
‫ص ُروا أُولئِ َ َ ْ‬ ‫َونَ َ‬
‫اص ُر إِاال َعلى قَ ْوٍم بَ ْي نَ ُك ْم َوبَ ْي نَ ُه ْم ِميثا ٌق َوا اّللُ ِمبا‬
‫ص ُروُك ْم ِيف ال هِدي ِن فَ َعلَْي ُك ُم الن ْ‬ ‫هاج ُروا َوإِ ِن ْ‬
‫استَ نْ َ‬
‫ي ِ‬
‫ُ‬
‫ض َوفَسا ٌد‬ ‫ض إِاال تَ ْف َعلُوهُ تَ ُك ْن فِْت نَةٌ ِيف ْاأل َْر ِ‬‫ض ُه ْم أ َْولِياءُ بَ ْع ٍ‬
‫ين َك َف ُروا بَ ْع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْع َملُو َن بَصريٌ (‪َ )72‬والاذ َ‬
‫ص ُروا أُولئِ َ‬ ‫يل اِ ِ‬ ‫جاه ُدوا ِيف َسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫آوْوا َونَ َ‬ ‫ين َ‬ ‫اّلل َوالاذ َ‬ ‫هاج ُروا َو َ‬ ‫آمنُوا َو َ‬ ‫ين َ‬ ‫َكبريٌ (‪َ )73‬والاذ َ‬
‫جاه ُدوا َم َع ُك ْم فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫هاج ُروا َو َ‬ ‫آمنُوا م ْن بَ ْع ُد َو َ‬ ‫ين َ‬ ‫ال ُْم ْؤمنُو َن َح ًّقا َهلُ ْم َمغْف َرةٌ َو ِر ْز ٌق َك ِرميٌ (‪َ )74‬والاذ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اّللِ إِ ان ا‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬ ‫ِمنْ ُك ْم َوأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫يم (‪)75‬‬ ‫اّللَ بِ ُك ِهل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫تاب ا‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫اّلل عليه وسلهم أربعة أصناف ‪:‬‬ ‫كان املؤمنون يف عصر النيب صلهى ه‬
‫األول ‪ :‬املهاجرون األولون أصحاب اهلجرة األوىل قبل غزوة بدر ‪ ،‬ورمبا َتتد أو ميتد حكمها إىل‬
‫صلح احلديبية سنة ست‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬األنصار‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬املؤمنون الذين مل يهاجروا‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬املؤمنون الذين هاجروا بعد صلح احلديبية‪.‬‬
‫ِ‬
‫جاه ُدوا‬
‫هاج ُروا َو َ‬
‫آمنُوا َو َ‬ ‫وقد بني يف هذه اآلايت حكم كل منها ومكانتها فقال ‪ :‬إِ ان الاذ َ‬
‫ين َ‬
‫اّللِ هذا هو الصنف األول وهو األفضل األكمل‪ .‬وقد وصفهم‬ ‫ِأب َْمواهلِِ ْم َوأَنْ ُف ِس ِه ْم ِيف َسبِ ِ‬
‫يل ا‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ووصفهم ابملهاجرة‬
‫ابإلميان ‪ -‬واملراد به التصديق ‪ -‬بكل ما جاء به حممد صلهى ه‬
‫اّلل عليه‬
‫من دايرهم وأوطاهنم فرارا بدينهم من فتنة املشركني إرضاء هّلل تعاىل ونصرا لرسوله صلهى ه‬
‫اّلل أبمواهلم وأنفسهم‪ .‬فاجلهاد بذل اجلهد بقدر الوسع‬
‫وسلهم ‪ ،‬ووصفهم ابجلهاد يف سبيل ه‬
‫والطاقة ومصارعة املشاق‪.‬‬
‫فأما ما كان منه ابألموال فهو قسمان ‪ :‬إجيايب ‪ :‬وهو إنفاقها يف التعاون‬

‫اّلل كصرفها للكراع والسًلح ‪ ،‬وعلى احملاويج من‬


‫ص ‪ 437 :‬واهلجرة ‪ ،‬مث يف الدفاع عن دين ه‬
‫املسلمني ‪ ،‬وسليب ‪ :‬وهو سخاء النفس برتك ما تركوه يف وطنهم عند خروجهم منه وأما ما كان‬
‫منه ابلنفس فهو قسمان أيضا ‪:‬‬
‫قتال األعداء وعدم املباالة بكثرة عددهم وعددهم ‪ ،‬وما كان قبل إجياب القتال من مغالبة‬
‫الشدائد ‪ ،‬والصرب على االضطهاد ‪ ،‬واهلجرة من البًلد‪.‬‬
‫اّللِ قيل ‪ :‬هو متعلق جباهدوا قيد لنوعي اجلهاد ‪ ،‬وجيوز أن يكون من ابب‬
‫يل ا‬‫وقوله ‪ِ :‬يف َسبِ ِ‬
‫التنازع يف العمل بني هاجروا وجاهدوا‪ .‬ولعل تقدمي األموال على األنفس ملا أن اجملاهدة ابألموال‬
‫أكثر وقوعا وأمت دفعا للحاجة حيث ال يتصور اجملاهدة ابلنفس بًل جماهدة ابملال‪.‬‬
‫ِ‬
‫ص ُروا هذا هو الصنف الثاين يف الفضل كالذكر‪ .‬ووصفهم أبهنم الذين آووا الرسول‬ ‫آوْوا َونَ َ‬ ‫َوالاذ َ‬
‫ين َ‬
‫اّلل عليه وسلهم ومن هاجر إليهم من أصحابه ‪ ،‬ونصروهم ‪ ،‬ولوال ذلك مل حتصل فائدة‬ ‫صلهى ه‬
‫اهلجرة ‪ ،‬ومل يكن مبدأ القوة والسيادة ‪ ،‬فاإليواء يتضمن معىن التأمني من املخافة ‪ ،‬إذ املأوى هو‬
‫ف [الكهف ‪ ]10 :‬آوى إِل َْيهِ أَخاهُ [يوسف ‪:‬‬ ‫امللجأ واملأمن ‪ ،‬ومنه إِ ْذ أَوى ال ِْف ْت يَةُ إِ َىل الْ َك ْه ِ‬
‫َ‬
‫‪ ]69‬وقد كانت يثرب مأوى وملجأ للمهاجرين ‪ ،‬شاركهم أهلها يف أمواهلم ‪ ،‬وآثروهم على‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬يقاتلون من قاتله ‪ ،‬ويعادون من عاداه‬ ‫اّلل صلهى ه‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وكانوا أنصارا لرسول ه‬
‫ض أي‬‫ض ُه ْم أ َْولِياءُ بَ ْع ٍ‬ ‫اّلل حكمهم وحكم املهاجرين واحدا يف قوله ‪ :‬أُولئِ َ‬
‫ك بَ ْع ُ‬ ‫‪ ،‬ولذلك جعل ه‬
‫يتوىل بعضهم من أمر اآلخرين أفرادا أو مجاعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند احلاجة من‬
‫تعاون وتناصر يف القتال ‪ ،‬وما يتعلق به من الغنائم ‪ ،‬وغري ذلك ‪ ،‬أل هن حقوقهم ومصاحلهم‬
‫مشرتكة ‪ ،‬حَّت إن املسلمني يرثون من ال وارث له من األقارب‪.‬‬
‫وقال بعض املفسرين ‪ :‬إن الوالية هنا خاصة بوالية اإلرث ‪ ،‬أل هن املسلمني كانوا يتوارثون يف أول‬
‫األمر ابإلسًلم ‪ ،‬واهلجرة دون القرابة ‪ ،‬مبعىن أ هن املسلم املقيم يف البادية أو يف مكة أو غريها من‬
‫بًلد الشرك مل يكن يرث املسلم الذي يف املدينة وما يف حكمها إال إذا هاجر إليها ‪ ،‬فريث ممن‬
‫بينه وبينه مؤاخاة من األنصار ‪ ،‬وذلك أ هن املهاجري كان يرثه أخوه األنصاري إذا مل يكن له‬
‫ابملدينة ويل مهاجري ‪ ،‬وال توارث بينه وبني قريبه املسلم غري املهاجري ‪ ،‬واستمر ذلك إىل أن‬
‫فتحت مكة ‪ ،‬وزال وجوب اهلجرة ‪ ،‬وغلب حكم اإلسًلم ‪ ،‬فنسخ التوارث ابإلسًلم املصاحب‬
‫للهجرة ‪ ،‬وهذا التخصيص ابطل ‪ ،‬واملتعني أن يكون لفظ األولياء عاما يشمل كل معىن حيتمله‬
‫كما تقدم‪.‬‬
‫واملقام الذي نزلت فيه هذه اآلية ‪ -‬بل السورة كلها ‪ -‬أيىب أن يكون املراد به حكما مدنيا من‬
‫أحكام األموال فقط ‪ ،‬فهي يف احلرب ‪ ،‬وعًلقة املؤمنني بعضهم ببعض ‪،‬‬

‫ص ‪438 :‬‬
‫وعًلقتهم ابلكفار‪ .‬وكل ما يصح يف مسألة التوارث أهنا داخلة يف عموم هذه الوالية‪.‬‬
‫وقال األصم ‪ :‬اآلية حمكمة ‪ ،‬واملراد ‪ :‬الوالية ابلنصرة واملظاهرة ‪ ،‬والا ِذين آمنُوا وَمل ي ِ‬
‫هاج ُروا ما‬‫َ َ َ َُْ‬
‫هاج ُروا هذا هو الصنف الثالث من أصناف املؤمنني ‪ ،‬وهم‬ ‫لَ ُكم ِمن واليتِ ِهم ِمن َشي ٍء ح اَّت ي ِ‬
‫ْ ْ َ َ ْ ْ ْ َ ُ‬
‫املقيمون يف أرض الشرك حتت سلطان املشركني وحكمهم ‪ -‬وهي دار احلرب والشرك ‪ -‬خبًلف‬
‫من أيسره الكفار من أهل دار اإلسًلم ‪ ،‬فله حكم أهل هذه الدار‪.‬‬
‫وكان حكم غري املهاجرين أنه ال يثبت هلم شيء من والية املؤمنني الذين يف دار اإلسًلم ‪ ،‬إذ ال‬
‫سبيل إىل نصر أولئك هلم ‪ ،‬وال إىل تنفيذ هؤالء ألحكام اإلسًلم فيهم‪ .‬والوالية ح هق مشرتك على‬
‫اّلل خص من عموم الوالية املنفية الشامل ملا ذكران من األحكام شيئا‬ ‫ولكن ه‬‫سبيل التبادل ‪ ،‬ه‬
‫اص ُر فأثبت هلم حق نصرهم على الكفار إذا‬‫ص ُروُك ْم ِيف ال هِدي ِن فَ َعلَيْ ُك ُم الن ْ‬ ‫واحد فقال ‪َ :‬وإِ ِن ْ‬
‫استَ نْ َ‬
‫قاتلوهم أو اضطهدوهم ألجل دينهم‪.‬‬
‫وإن كانوا هم ال ينصرون أهل دار اإلسًلم لعجزهم ‪ ،‬مث استثىن من هذا احلكم حالة واحدة‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إِاال َعلى قَ ْوٍم بَ ْي نَ ُك ْم َوبَ ْي نَ ُه ْم ِميثا ٌق يعين إمنا جيب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم يف‬
‫الدين على الكفار احلربيني ‪ ،‬دون املعاهدين ‪ ،‬فهؤالء جيب الوفاء بعهدهم ‪ ،‬أل هن اإلسًلم ال يبيح‬
‫الغدر واخليانة بنقض العهود‪.‬‬
‫اّلل ِمبا تَ ْعملُو َن ب ِ‬
‫صريٌ فًل تالفوا أمره ‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫وهذا احلكم من أركان سياسة اإلسًلم اخلارجية العادلة َو اُ‬
‫وال تتجاوزوا ما ح هده لكم ‪ ،‬كيًل حيل عليكم عقابه‪.‬‬
‫ض أي يف النصرة والتعاون على قتال املسلمني ‪ ،‬فهم يف مجلتهم‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِياءُ بَ ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫َوالاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا بَ ْع ُ‬
‫فريق واحد َتاه املسلمني ‪ ،‬وإن كانوا ملًل كثرية يعادي بعضهم بعضا‪ .‬وقيل ‪ :‬إ هن الوالية هنا‬
‫والية اإلرث كما قيل بذلك يف والية املؤمنني فيما قبلها ‪ ،‬وجعلوه األصل يف عدم التوارث بني‬
‫املسلمني والكفار‪ .‬ويف إرث ملل الكفر بعضهم لبعض‪.‬‬
‫وقول بعض املفسرين ‪ :‬إن هذه اجلملة تدل مبفهومها على نفي املؤازرة واملناصرة بني مجيع‬
‫الكفار وبني املسلمني ‪ ،‬وإجياب املباعدة واملصارمة وإن كانوا أقارب غري مسلهمني ‪ ،‬أل هن صلة‬
‫الرحم عامة يف اإلسًلم للمسلم والكافر كتحرمي اخليانة‪ .‬واألصح عند الشافعية أ هن الكافر يرث‬
‫الكافر ‪ ،‬وهو قول احلنفية واألكثر ‪ ،‬ومقابله عند مالك وأمحد‪ .‬وعنهما التفرقة بني الذمي‬
‫واحلريب ‪ ،‬وكذا عند الشافعية‪.‬‬
‫وعن أيب حنيفة «‪ »1‬ال يتوارث حريب من ذمي ‪ ،‬فإن كاان حربيني شرط أن يكوان من دار واحدة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين ط ‪ ، 1‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪1990 ،‬‬
‫(‪.)610 /2‬‬

‫ص ‪439 :‬‬
‫وعند الشافعية ال فرق‪ .‬وعندهم وجه كاحلنفية ‪ ،‬إِاال تَ ْف َعلُوهُ تَ ُك ْن فِْت نَةٌ ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض أي إن مل تفعلوا‬
‫ما ذكر ‪ ،‬وهو ما شرع لكم من والية بعضكم لبعض ‪ ،‬وتناصركم وتعاونكم َتاه والية الكفار‬
‫ض حتصل فتنة عظيمة فيها ‪ :‬هي ضعف اإلميان ‪ ،‬وظهور الكفر‬ ‫بعضهم لبعض تَ ُك ْن فِْت نَةٌ ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫بتخاذلكم وفشلكم املفضي إىل ظفر الكفار بكم ‪ ،‬واضطهادكم يف دينكم ‪ ،‬لصدكم عنه َوفَسا ٌد‬
‫َكبِريٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن احلسن ‪ ،‬فاملراد فساد كبري فيها‪ .‬وقيل ‪ :‬مفسدة كبرية‬
‫يف الدين والدنيا‪.‬‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْؤِمنُو َن َح ًّقا هذا‬
‫ص ُروا أُولئِ َ‬
‫آوْوا َونَ َ‬
‫ين َ‬
‫يل اِ ِ‬
‫اّلل َوالاذ َ‬ ‫جاه ُدوا ِيف َسبِ ِ‬
‫هاج ُروا َو َ‬
‫آمنُوا َو َ‬
‫ِ‬
‫َوالاذ َ‬
‫ين َ‬
‫ليس مكررا مع ما تقدم ‪ ،‬أل هن مساق األول إلجياب التواصل بينهما ‪ ،‬ومساق الثاين الثناء عليهم‬
‫‪ ،‬والشهادة هلم أبهنم هم املؤمنون ح هق اإلميان وأكمله ‪ ،‬دون من أقام بدار الشرك مع حاجة‬
‫اّلل عليه وسلهم واملؤمنني إىل هجرته ‪ ،‬وأعاد وصفهم األول ألهنم به كانوا أهًل هلذه‬ ‫الرسول صلهى ه‬
‫الشهادة ‪ ،‬وما يليها من اجلزاء املذكور يف قوله ‪َ :‬هلُ ْم َمغْ ِف َرةٌ ال يقدر قدرها َو ِر ْز ٌق َك ِرميٌ ال تبعة له‬
‫وال منة فيه‪.‬‬
‫ك ِم ْن ُك ْم هذا هو الصنف الرابع من املؤمنني‬
‫جاه ُدوا َم َع ُك ْم فَأُولئِ َ‬
‫هاج ُروا َو َ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا م ْن بَ ْع ُد َو َ‬
‫ِ‬
‫َوالاذ َ‬
‫ين َ‬
‫يف ذلك العهد ‪ ،‬وهم من أتخر إمياهنم وهجرهتم عن اهلجرة األوىل ‪ ،‬أو عن نزول هذه اآلايت‪.‬‬
‫آمنُوا وما بعده مبعىن املستقبل ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫فيكون الفعل املاضي َ‬
‫عن يوم بدر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬عن صلح احلديبية ‪ ،‬وكان سنة ست‪ .‬وجعلهم تبعا هلم وعدهم منهم دليل‬
‫على فضل السابقني على الًلحقني‪.‬‬
‫اّللِ أولوا األرحام أصحاب القرابة ‪ ،‬وهو مجع رحم‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬
‫تاب ا‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫َوأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫ويسمى به األقارب ‪،‬‬
‫ككتف وقفل‪ .‬وأصله رحم املرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها ‪ ،‬ه‬
‫ألهنم يف الغالب من رحم واحد‪ .‬ويف اصطًلح علماء الفرائض ‪ :‬هم الذين ال يرثون بفرض وال‬
‫تعصيب‪.‬‬
‫عز‬
‫واملعىن املتبادر من نص اآلية أهنا يف والية الرحم والقرابة بعد بيان والية اإلميان واهلجرة‪ .‬فهو ه‬
‫ض أجدر وأحق من املهاجرين واألنصار األجانب‬ ‫ض ُه ْم أ َْوىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫وجل يقول ‪َ :‬وأُولُوا ْاأل َْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬ ‫ه‬
‫ابلتناصر والتعاون‪ .‬وكذا التوارث يف دار اهلجرة يف عهد وجوب اهلجرة‪ .‬مث يف كل عهد هم أوىل‬
‫اّللِ أي يف حكمه الذي كتبه على عباده املؤمنني ‪ ،‬وأوجب به عليهم صلة‬ ‫بذلك ِيف كِ ِ‬
‫تاب ا‬
‫األرحام والوصية ابلوالدين وذي القرابة يف هذه اآلية وغريها‪.‬‬
‫ومجلة القول إ هن أولوية أويل األرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لواليتهم على ما هو أعم منها من‬
‫والية اإلميان ووالية اهلجرة يف عهدها‪ .‬فالقريب أوىل بقريبه ذي رمحه املؤمن املهاجر واألنصاري‬
‫من املؤمن األجنيب‪ .‬وأما قريبه الكافر فإن كان‬

‫ص ‪440 :‬‬
‫اّلل هذه السورة بقوله ‪ :‬إِ ان‬
‫حماراب للمؤمنني فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم‪ .‬مث ختم ه‬
‫ٍ ِ‬
‫مبني أهنا حمكمة ال وجه لنسخها‬ ‫اّللَ بِ ُك ِهل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم فهو تذييل جلميع أحكام السورة وحكمها ‪ ،‬ه‬ ‫ا‬
‫وال نقضها‪.‬‬
‫فاملعىن ‪ :‬أنه شرع لكم هذه األحكام يف الوالية العامة واخلاصة والعهود وصلة األرحام عن علم‬
‫واسع حميط بكل شيء من مصاحلكم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ما يستفاد من اآلايت‬
‫‪ - 1‬ثبوت والية النصرة بني املؤمنني يف دار اإلسًلم‪.‬‬
‫‪ - 2‬عدم ثبوت والية النصرة بني املؤمنني الذين يف دار اإلسًلم واملؤمنني يف دار احلرب أو‬
‫خارج دار اإلسًلم إال على من يقاتلهم ألجل دينهم ‪ ،‬فيجب نصرهم عليه إذا مل يكن بيننا وبينه‬
‫ميثاق صلح وسًلم حبيث يكون نصرهم عليه نقضا مليثاقه‪.‬‬
‫‪ - 3‬والية الكفار بعضهم لبعض‪.‬‬
‫اّلل من حتقيق والية النصرة بيننا أبن والينا الكفار أدى ذلك إىل‬
‫‪ - 4‬أننا إذا مل منتثل ما شرعه ه‬
‫ضعفنا ‪ ،‬وظهورهم علينا‪.‬‬
‫اّلل سبحانه من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين‬
‫‪ - 5‬أن ما شرعه ه‬
‫واالجتماع ‪ ،‬وأصول احلكم املتعلقة ابألنفس ومكارم األخًلق واآلداب انشئ عن علم واسع‬
‫اّلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫شامل حميط ابملصاحل الدينية والدنيوية و ه‬

‫ص ‪441 :‬‬
‫من سورة التوبة‬
‫اّللِ مثُا أَبْلِغْهُ َمأ َْمنَهُ ذلِ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وإِ ْن أ ِ‬
‫ك‬ ‫ًلم ا‬ ‫ِ‬
‫جار َك فَأَج ْرهُ َح اَّت يَ ْس َم َع َك َ‬
‫استَ َ‬ ‫َح ٌد م َن ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني ْ‬ ‫َ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِأبَ اهنُ ْم قَ ْوٌم ال يَ ْعلَ ُمو َن (‪)6‬‬
‫اّلل عليه وسلهم مع الكفار من مشركي مكة وغريهم على أال يصد عن البيت‬ ‫تعاهد النيب صلهى ه‬
‫احلرام أحد من الطرفني ‪ ،‬وال يزعج أحد يف األشهر احلرم‪ .‬وهذا هو العهد العام الذي كان بينه‬
‫عليه الصًلة والسًلم وبني أهل الشرك من العرب ‪ ،‬وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصًلة‬
‫والسًلم وبني كثري من قبائل العرب إىل آجال مسماة ‪ ،‬وقد نقض كثري من املشركني عهودهم مع‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫وملكانة الدين اإلسًلمي من مكارم األخًلق ‪ ،‬ولإلشارة إىل أنه ليس الغرض من فرض اجلهاد‬
‫اّلل املؤمنني بقوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن‬
‫سفك الدماء ‪ ،‬وإمنا املهم الوصول إىل اإلميان وترك اجلحود‪ .‬أرشد ه‬
‫أ ِ‬
‫جار َك إخل‪ .‬إىل أن من جاء من املشركني الذي نقضوا العهد يطلب األمان‬ ‫استَ َ‬
‫ني ْ‬‫َح ٌد م َن ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫َ‬
‫اّلل ‪ ،‬ويتدبر ‪ ،‬ويطلع على حقيقة الدين ‪ ،‬جيب أتمينه ومحايته حَّت يصل إىل غايته ‪،‬‬
‫ليسمع كًلم ه‬
‫وال جيوز قتله ‪ ،‬وال التعدي عليه‪ .‬ومَّت أراد العودة إىل بًلده جيب تيسري الطريق أمامه ليصل إىل‬
‫مأمنه ‪ ،‬أي مسكنه الذي أيمن فيه‪ .‬ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة املستجري منهم ‪،‬‬
‫وإبًلغه مأمنه بسبب أن هؤالء املشركني قوم ال يعلمون حقيقة اإلسًلم ‪ ،‬ومن جهل شيئا عاداه‬
‫‪ ،‬أو هم قوم جهلة ‪ ،‬ليسوا من أهل العلم ‪ ،‬فًل بد من إعطائهم األمان حَّت يفهموا احلق ‪،‬‬
‫وحينئذ ال تبقى هلم معذرة‪.‬‬
‫وقد ورد أنه جاء رجل من املشركني إىل علي بن أيب طالب فقال ‪ :‬إن أراد الرجل منا أن أيِت‬
‫اّلل‬
‫اّلل ‪ ،‬أو حلاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي ‪ :‬ال ‪ ،‬إ هن ه‬ ‫حممدا بعد انقضاء األجل لسماع كًلم ه‬
‫اّللِ‪.‬‬ ‫تعاىل قال ‪ :‬وإِ ْن أ ِ‬
‫ًلم ا‬ ‫ِ‬
‫جار َك فَأَج ْرهُ َح اَّت يَ ْس َم َع َك َ‬
‫استَ َ‬ ‫َح ٌد م َن ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني ْ‬ ‫َ َ‬
‫وهنا أمور ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن املذكور يف اآلية كون املستجري طالبا لسماع القرآن ‪ ،‬ويلحق به كونه طالبا لسماع‬
‫األدلة على كون اإلسًلم حقا ‪ ،‬وكونه طالبا للجواب عن الشبهات اليت عنده ‪ ،‬أل هن كل هؤالء‬
‫يطلبون العلم ويسرتشدون عن احلق ‪ ،‬ومن كان كذلك َتب إجارته‪.‬‬

‫اّللِ مساع مجيع القرآن ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬


‫ًلم ا‬
‫ص ‪ 442 :‬الثاين ‪ :‬قيل ‪ :‬املراد من قوله ‪َ :‬ح اَّت يَ ْس َم َع َك َ‬
‫مساع سورة براءة ‪ ،‬ألهنا مشتملة على كيفية املعاملة مع املشركني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مساع كل ما يدل على‬
‫أن اإلسًلم حق‪.‬‬
‫نص الفقهاء من احلنفية على أن احلريب إذا دخل دار اإلسًلم مستجريا لغرض شرعي‬
‫الثالث ‪ :‬ه‬
‫اّلل ‪ ،‬أو دخل أبمان لتجارة وجب أتمينه حبيث يكون حمروسا يف نفسه وماله إىل أن‬
‫كسماع كًلم ه‬
‫يبلغ داره اليت أيمن فيها‪.‬‬
‫يؤخذ من اآلية ما أيِت‬
‫‪ - 1‬جواز أتمني احلريب إذا طلب ذلك من املسلمني ليسمع ما يدل على صحة اإلسًلم‪.‬‬
‫‪ - 2‬أنه جيب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين‪.‬‬
‫‪ - 3‬أنه جيب على اإلمام أن حيفظ احلريب املستجري ‪ ،‬وأن مينع الناس عن أن ينالوه بشيء من‬
‫األذى ‪ ،‬ألن هذا هو املقصود من اإلجارة والتأمني‪.‬‬
‫‪ - 4‬أنه جيب على اإلمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته ‪ ،‬فًل جيوز َتكينه من اإلقامة يف دار‬
‫اّللِ مثُا أَبْلِغْهُ‬
‫ًلم ا‬ ‫ِ‬
‫اإلسًلم إال مبقدار قضاء حاجته ‪ ،‬عمًل إبشارة قوله تعاىل ‪ :‬فَأَج ْرهُ َح اَّت يَ ْس َم َع َك َ‬
‫َمأ َْمنَهُ وقد نص الفقهاء من احلنفية على أنه جيب على اإلمام أن أيمره ابخلروج مَّت انتهت حاجته‬
‫‪ ،‬وأن يعلنه أبنه إن أقام بعد األمر ابخلروج سنة يف دار اإلسًلم فًل مي هكن من الرجوع إىل بًلد‬
‫احلرب ‪ ،‬ويصري ذميا ‪ ،‬وتوضع عليه اجلزية‪.‬‬
‫عاه ْد ُْمت ِع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد‬
‫ين َ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ف ي ُكو ُن لِلْم ْش ِركِني َع ْه ٌد ِع ْن َد اِ ِ‬
‫اّلل َوع ْن َد َر ُسوله إِاال الاذ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬ك ْي َ َ‬
‫قال ه‬
‫ني (‪ )7‬شروع يف حتقيق حقيقة ما سبق‬ ‫ب ال ُْمت ِاق َ‬
‫اّللَ ُِحي ُّ‬
‫يموا َهلُ ْم إِ ان ا‬ ‫ا ْحلر ِام فَما استَقاموا لَ ُكم فَ ِ‬
‫استَق ُ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ َ ْ ُ‬
‫من الرباءة وأحكامها املتفرعة عليها ‪ ،‬وتبيني احلكمة الداعية إىل ذلك ‪ ،‬أبنه إذا ظهروا علينا ال‬
‫يرقبون فينا هإال وال ذمة‪.‬‬
‫و(كيف) لًلستفهام اإلنكاري ال مبعىن إنكار الواقع ‪ ،‬بل مبعىن إنكار الوقوع‪.‬‬
‫و(يكون) من الكون التام‪ .‬و(كيف) حملها النصب على التشبيه ابحلال أو الظرف ‪ ،‬أو من‬
‫الكون الناقص ‪ ،‬و(عهد) امسها ‪ ،‬ويف خربها ثًلثة أوجه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أنه (كيف) وقدم لًلستفهام ‪ ،‬و(للمشركني) متعلهق مبحذوف وقع حاال من (عهد) أو‬
‫جيوز التعلق ابلناقص‪.‬‬
‫متعلق بيكون عند من ه‬
‫والثاين ‪ :‬أن خرب (يكون) هو (للمشركني) و(عند) على هذين ظرف للعهد ‪ ،‬أو ليكون ‪ ،‬أو‬
‫صفة للعهد‪.‬‬

‫ص ‪443 :‬‬
‫اّلل) ‪ ،‬و(للمشركني) حينئذ متعلهق مبحذوف حال من (عهد) أو متعلق‬
‫والثالث ‪ :‬أن اخلرب (عند ه‬
‫يضر تقدمي معمول اخلرب على االسم‬
‫بيكون كما تقدم ‪ ،‬أو ابالستقرار الذي تعلهق به اخلرب ‪ ،‬وال ه‬
‫لكونه حرف جر‪ .‬و(كيف) على الوجهني الثاين والثالث نصب على التشبيه ابلظرف أو احلال ‪،‬‬
‫كما يف صورة الكون التام ‪ ،‬واملراد ابملشركني الناكثون للعهد ‪ ،‬أل هن الرباءة إمنا هي يف شأهنم‪.‬‬
‫والعهد ‪ :‬ما يتفق رجًلن أو فريقان من الناس على التزامه بينهما ملصلحتهما املشرتكة ‪ ،‬فإن‬
‫أ هكداه ووثقاه مبا يقتضي زايدة العناية حبفظه والوفاء به مسي ميثاقا ‪ ،‬وهو مشتق من الواثق ابلفتح‬
‫يسمى بذلك لوضع كل من‬
‫خاصة مسي ميينا ‪ ،‬وقد ه‬
‫‪ ،‬وهو احلبل والقيد‪ .‬وإن أ هكداه ابليمني ه‬
‫املتعاقدين ميينه يف ميني اآلخر عند عقده‪.‬‬
‫ويف توجيه اإلنكار إىل كيفية ثبوت العهد من املبالغة ما ليس يف توجيهه إىل ثبوته أل هن كل موجود‬
‫جيب أن يكون وجوده على حال من األحوال قطعا‪ .‬فإذا انتفت مجيع أحوال وجوده ‪ ،‬فقد انتفى‬
‫وجوده على الطريق الربهاين ‪ :‬أي على حال‪ .‬أو يف أي حال يوجد هلم عهد معت هد به ِعنْ َد ا‬
‫اّللِ‬
‫َو ِع ْن َد َر ُسولِهِ يستحق أن تراعى حقوقه ‪ ،‬وحيافظ عليه إىل إَتام املدة ‪ ،‬وال يتعرض هلم بسببه قتًل‬
‫اّلل تعاىل ورسوله على‬
‫وال أخذا ‪ ،‬وتكرير كلمة (عند) لإليذان بعدم االعتداد به عند كل من ه‬
‫حدة‪.‬‬
‫اّلل يقره هلم يف كتابه وعند‬
‫واملعىن ‪ :‬أبية صفة وأية كيفية يثبت للمشركني عهد من العهود عند ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪،‬‬ ‫اّلل عليه وسلهم يفي هلم به ‪ ،‬وتفون به أيها املؤمنون اتباعا له صلهى ه‬ ‫رسوله صلهى ه‬
‫عاه ْد ُْمت ِع ْن َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام ‪ ،‬يف‬
‫ين َ‬ ‫ِ‬
‫وحاهلم الذي بينتها اآلية التالية أتىب ثبوت ذلك هلم إِاال الاذ َ‬
‫هذا االستثناء وجهان ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬أنه منقطع ‪ ،‬أي لكن الذين عاهدمت إخل‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنه متصل ‪ ،‬وفيه حينئذ احتماالن ‪ :‬أحدمها ‪ :‬أنه منصوب على أصل االستثناء من‬
‫(املشركني) والثاين أنه جمرور على البدل منهم ‪ ،‬أل هن معىن االستفهام املتقدم نفي ‪ ،‬أي ليس‬
‫يكون للمشركني عهد إال الذين مل ينكثوا‪.‬‬
‫وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خربه مجلة (فما استقاموا) ‪ ،‬وهؤالء املعاهدون املستثنون هنا هم‬
‫ِ‬
‫صوُك ْم َش ْيئاً إخل [التوبة ‪:‬‬ ‫عاه ْد ُْمت م َن ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني مثُا َملْ يَ ْن ُق ُ‬ ‫ين َ‬ ‫ِ‬
‫املذكورون سابقا يف قوله تعاىل ‪ :‬إِاال الاذ َ‬
‫‪ ]4‬وإمنا أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه املتضمن لبيان السبب املوجب للوفاء ابلعهد‪ .‬وهو‬
‫أن تكون االستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفني املتعاقدين إىل هناية مدته‪.‬‬
‫وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم أبنه مل ينقصوا من شروط العهد شيئا ‪ ،‬ومل يظاهروا على‬
‫عاه ْد ُْمت ِع ْن َد‬
‫ين َ‬ ‫ِ‬
‫املسلمني أحدا ‪ ،‬واعلم أن قوله تعاىل ‪ :‬إِاال الاذ َ‬

‫ص ‪444 :‬‬
‫ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام‬
‫ف َوإِ ْن‬
‫املفسر له ‪َ :‬ك ْي َ‬ ‫ِِ‬ ‫ف ي ُكو ُن لِلْم ْش ِركِني َع ْه ٌد ِع ْن َد اِ ِ‬
‫اّلل َوع ْن َد َر ُسوله وقوله ه‬ ‫ُ َ‬ ‫اعرتاض بني قوله ‪َ :‬ك ْي َ َ‬
‫يَظ َْه ُروا َعلَْي ُك ْم ال يَ ْرقُبُوا فِي ُك ْم إًِّال َوال ِذ امةً‪.‬‬
‫وقوله ‪ِ :‬عنْ َد ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام املراد به مجيع احلرم كما هي عادة القرآن إال ما استثين ‪ ،‬فالعندية‬
‫فيه على حذف مضاف ‪ ،‬أي عند قرب املسجد احلرام ‪ ،‬وكان ذلك العهد يوم احلديبية سنة‬
‫ست‪.‬‬
‫يموا َهلُ ْم أي فمهما يستقم لكم هؤالء فاستقيموا هلم‪ .‬أو فاستقيموا هلم‬ ‫فَما استَقاموا لَ ُكم فَ ِ‬
‫استَق ُ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫مدة استقامتهم لكم ‪ ،‬إذ ال جيوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم‪.‬‬
‫ب ال ُْمت ِاق َ‬
‫ني تعليل لوجوب االمتثال ‪ ،‬وتبيني على أ هن مراعاة العهد من ابب‬ ‫اّللَ ُِحي ُّ‬
‫وقوله ‪ :‬إِ ان ا‬
‫التقوى ‪ ،‬وأن التسوية بني الغادر والويف منافية لذلك وإن كان املعاهد مشركا‪.‬‬
‫اّلل وعند الرسول هو عهد غري الناكثني ‪،‬‬
‫ومما يستفاد من هذه اآلية ‪ :‬أن العهد املعتد به عند ه‬
‫اّلل اليت يرضاها لعباده‪.‬‬ ‫وأن من استقام على عهده نعامله مبقتضاه ‪ ،‬وأن مراعاة العهد من تقوى ه‬
‫ين َعلى أَنْ ُف ِس ِه ْم ِابلْ ُك ْف ِر أُولئِ َ‬ ‫ساج َد اِ ِ ِ‬ ‫ني أَ ْن ي ْعمروا م ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما كا َن لِل ِ‬
‫ك‬ ‫اّلل شاهد َ‬ ‫ْم ْش ِرك َ َ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫قال ه‬
‫آم َن ِاب اّللِ َوالْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر‬ ‫ساج َد اِ‬
‫اّلل َم ْن َ‬
‫ت أَ ْعما ُهلُم وِيف الناا ِر ُهم خالِ ُدو َن (‪ )17‬إِ امنا ي ْعمر م ِ‬
‫َ ُُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َحبِطَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اّللَ فَ َعسى أُولئِ َ‬
‫ش إِاال ا‬
‫ين (‪)18‬‬ ‫ك أَ ْن يَ ُكونُوا م َن ال ُْم ْهتَد َ‬ ‫صًلةَ َوآتَى ال ازكاةَ َوَملْ َخيْ َ‬
‫َقام ال ا‬
‫َوأ َ‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل سورة التوبة بذكر الرباءة من املشركني وابلغ يف إجياب ذلك بتعداد‬ ‫ملا بدأ ه‬
‫فضائحهم وقبائحهم أراد أن حيكي شبهاهتم اليت كانوا حيتجون هبا يف أ هن هذه الرباءة غري جائزة ‪،‬‬
‫مع اجلواب عنها‪.‬‬
‫ومما‬
‫عريه املسلمون ابلكفر وقطيعة‬
‫يروى يف سبب النزول عن ابن عباس أنه ملا أسر العباس يوم بدر ه‬
‫الرحم ‪ ،‬فأغلظ علي له القول ‪ ،‬فقال العباس ‪ :‬ما لكم تذكرون مساوينا وال تذكرون حماسننا ‪،‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬ألكم حماسن؟‬
‫فقال له علي رضي ه‬
‫وجل ردا‬
‫عز ه‬‫اّلل ه‬
‫فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬إ هان لنعمر املسجد احلرام ‪ ،‬وحنجب الكعبة ونسقي احلاج‪ .‬فأنزل ه‬
‫ِ‬
‫ْم ْش ِركِ َ‬
‫ني‬ ‫على العباس ‪ :‬ما كا َن لل ُ‬
‫إخل «‪ »1‬واملراد أهنا تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغريه من كرباء‬
‫املشركني أيضا ‪ ،‬ال أهنا نزلت عند ما قال ذلك ألجل الرد عليه يف أايم بدر ‪ ،‬بل نزلت يف ضمن‬
‫السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)66 /10‬‬

‫ص ‪445 :‬‬
‫ِ‬
‫يسمى نفي الشأن ‪ ،‬وهو أبلغ من نفي الفعل ‪،‬‬ ‫ْم ْش ِركِ َ‬
‫ني إخل النفي يف مثله ه‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬ما كا َن لل ُ‬
‫اّلل فيه‬
‫ألنهه نفي له ابلدليل ‪ ،‬والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة ه‬
‫خاصة ابملسجد احلرام ‪ ،‬وعلى لزومه‬
‫مطلقا ‪ ،‬وعلى النسك املخصوص املسمى ابلعمرة ‪ ،‬وهي ه‬
‫كل ذلك مراد هنا ‪ ،‬أل هن اللفظ يدل عليه ‪،‬‬
‫واإلقامة فيه خلدمته احلسية ‪ ،‬وعلى بنيانه وترميمه‪ .‬و ه‬
‫واملقام يقتضيه‪ .‬واملختار عند احلنفية استعمال املشرتك يف معانيه اليت يقتضيها املقام تبعا‬
‫للشافعي وابن جرير‪.‬‬
‫اّللِ قرئ ابإلفراد ‪ ،‬واملتبادر منه إرادة املسجد احلرام ‪ ،‬ألنهه املفرد العلم األكمل‬ ‫وقوله ‪ :‬م ِ‬
‫ساج َد ا‬ ‫َ‬
‫األفضل ‪ ،‬وإن كان املفرد املضاف يفيد العموم يف األصل‪.‬‬
‫ومن قرأ ابجلمع فإما أن يراد مجيع املساجد ‪ ،‬فيشمل املسجد احلرام أيضا ‪ ،‬الذي هو أشرفها ‪،‬‬
‫اّلل كنت أنفى لقراءته‬
‫وهذا آكد ‪ ،‬أل هن طريقه طريق الكناية ‪ ،‬كما لو قلت ‪ :‬فًلن ال يقرأ كتب ه‬
‫القرآن من تصرحيك بذلك‪.‬‬
‫وإما أن يراد املسجد احلرام ‪ ،‬ومجع ألنه قبلة املساجد ‪ ،‬أو ألن كل بقعة منه مسجد‪.‬‬
‫ين َعلى أَنْ ُف ِس ِه ْم ِابلْ ُك ْف ِر حال من الواو يف (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبني‬ ‫ِِ‬
‫وقوله ‪ :‬شاهد َ‬
‫لعلته‪ .‬والعلة احلقيقية هي نفس الكفر ال الشهادة به ‪ ،‬ونكتة تقييده هبا بيان أنه كفر صريح‬
‫معرتف به ‪ ،‬ال َتكن املكابرة فيه‪ .‬والشهادة ابلكفر ‪ :‬قيل إهنا إبظهار آاثر الشرك من نصب‬
‫األواثن حول البيت والعبادة هلا‪ .‬وقيل ‪ :‬بقوهلم ‪ :‬لبيك ال شريك لك إال شريكا هو لك ‪َ ،‬تلكه‬
‫وما ملك‪ .‬وقيل ‪ :‬بقوهلم كفران مبا جاء به حممد‪.‬‬
‫والظاهر مشول الشهادة لذلك كله‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬ما كان ينبغي وال يصح للمشركني ‪ ،‬وال من شأهنم الذي يقتضيه شركهم ‪ ،‬أو الذي‬
‫اّلل األعظم وبيته احملرم أبي نوع‬
‫اّلل منهم أو يقرهم عليه ‪ ،‬أن يعمروا مسجد ه‬
‫يشرعه ‪ ،‬أو يرضاه ه‬
‫من أنواع العمارة املتقدمة يف حال كوهنم كافرين ‪ ،‬شاهدين على أنفسهم ابلكفر قوال وعمًل ‪،‬‬
‫اّلل احلسية إمنا تكون لعمارهتا املعنوية ‪ ،‬بعبادته‬
‫أل هن هذا مجع بني الضدين ‪ ،‬فإ هن عمارة مساجد ه‬
‫املوحد له ‪ ،‬وذلك ضد الكفر به‪.‬‬
‫فيها وحده ‪ ،‬وال تصح وال تقع إال من املؤمن ه‬
‫وهاهنا مسألتان ‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬هل جيوز أن يستخدم املسلم الكافر يف بناء املساجد ‪ ،‬أو ال جيوز ‪ ،‬ألنهه من العمارة‬
‫احلسية املمنوعة ‪ ،‬قيل ابلثاين ‪ ،‬وفيه نظر ‪ ،‬أل هن املمنوع منها إمنا هو الوالية عليها ‪ ،‬واالستقًلل‬
‫ابلقيام مبصاحلها ‪ ،‬كأن يكون انظر املسجد وأوقافه كافرا‪.‬‬
‫وأما استخدام الكافر يف عمل ال والية فيه ‪ ،‬كنحت احلجارة ‪ ،‬والبناء والنجارة ‪ ،‬فًل يظهر‬
‫دخوله يف املنع ‪ ،‬وال فيما ذكر من نفي الشأن‪.‬‬

‫ص ‪ 446 :‬والثانية ‪ :‬يؤخذ من «تفسري املنار» «‪ »1‬أنه إذا وقع من بعض احلكام واألفراد من‬
‫غري املسلمني أن من بىن مسجدا للمسلمني أو أوصى مبال لعمارة مسجد هلم ملصلحة له يف‬
‫ذلك ‪ ،‬جواز قبولنا مثل هذا املسجد ‪ ،‬وهذه الوصية بشرط أال يكون فيهما ضرر ديين أو‬
‫سياسي ‪ ،‬ألنهه حينئذ يكون كمسجد الضرار‪.‬‬
‫أُولئِ َ‬
‫ك املشركون َحبِطَ ْ‬
‫ت أَ ْعما ُهلُ ْم أي بطلت أجور أعماهلم اخلريية ‪:‬‬
‫كصدقة ‪ ،‬وصلة رحم ‪ ،‬وقرى ضيف ‪ ،‬وإغاثة ملهوف ‪ ،‬وغريمها مما يفخرون به ‪:‬‬
‫كعمارة مسجد ‪ ،‬وسقاية حاج ‪ ،‬فًل ثواب هلم عليها يف اآلخرة لعدم شرطها ‪ ،‬وهو اإلميان ‪ ،‬وإن‬
‫كانوا جيازون عليها يف الدنيا إبعطاء الولد واملال والصحة والعافية‪.‬‬
‫ت على أهنا‬ ‫َوِيف الناا ِر ُه ْم خالِ ُدو َن لعظم ما ارتكبوه‪ .‬وهذه اجلملة قيل ‪ :‬عطف على مجلة َحبِطَ ْ‬
‫ت وفائدهتما تقرير النفي السابق‪.‬‬ ‫ك َحبِطَ ْ‬‫خرب آخر ألولئك وقيل ‪ :‬هي مستأنفة كجملة أُولئِ َ‬
‫األوىل من جهة نفي استتباع الثواب ‪ ،‬والثانية ‪ :‬من جهة نفي استدفاع العذاب‪.‬‬
‫ش إِاال ا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ساج َد اِ‬ ‫إِ امنا ي ْعمر م ِ‬
‫اّللَ‬ ‫صًلةَ َوآتَى ال ازكاةَ َوَملْ َخيْ َ‬ ‫آم َن ِاب اّلل َوالْيَ ْوم ْاآلخ ِر َوأ َ‬
‫َقام ال ا‬ ‫اّلل َم ْن َ‬ ‫َ ُُ َ‬
‫ين (‪.)18‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَ َعسى أُولئِ َ‬
‫ك أَ ْن يَ ُكونُوا م َن ال ُْم ْهتَد َ‬
‫اّلل أثبتها للمسلمني الكاملني ‪ ،‬وجعلها‬ ‫بعد أن بني عدم استحقاق املشركني لعمارة مساجد ه‬
‫ابّلل على الوجه احلق ‪ ،‬واإلميان ابليوم اآلخر‬
‫مقصورة عليهم ابلفعل ‪ ،‬وهم اجلامعون بني اإلميان ه‬
‫الذي فيه اجلزاء ‪ ،‬وبني إقامة الصًلة املفروضة أبركاهنا وآداهبا ‪ ،‬وتدبر تًلوهتا وأذكارها ‪ ،‬اليت‬
‫اّلل وحبه واخلشوع له واإلانبة إليه ‪ ،‬وإعطاء زكاة األموال ملستحقيها ‪،‬‬
‫تكسب مقيمها مراقبة ه‬
‫اّلل خوفا من‬
‫اّلل دون غريه ممن ال ينفع وال يضر كاألصنام وسائر ما عبد من دون ه‬
‫وبني خشية ه‬
‫ضرره ‪ ،‬أو رجاء يف نفعه‪.‬‬
‫فاملراد ابخلشية الديين منها دون الغريزي ‪ ،‬كخشية أسباب الضرر احلقيقية ‪ ،‬فإ هن هذا ال ينايف‬
‫اّلل‪.‬‬
‫خشية ه‬
‫ابّلل ‪ ،‬ألنه ملا ذكر الصًلة وهي‬
‫اّلل عليه وسلهم مع اإلميان ه‬
‫قيل ‪ :‬ومل يذكر اإلميان ابلرسول صلهى ه‬
‫اّلل عليه‬
‫ال تتم إال ابألذان واإلقامة والتشهد ‪ ،‬وهذه األشياء تتضمن اإلميان ابلرسول صلهى ه‬
‫وسلهم كان ذلك كافيا‪.‬‬
‫ين أي فأولئك اجلامعون هلذه األوصاف هم الذين يرجون حبق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَ َعسى أُولئِ َ‬
‫ك أَ ْن يَ ُكونُوا م َن ال ُْم ْهتَد َ‬
‫اّلل يف أعمال البشر وأتثريها يف إصًلحهم أن يكونوا من مجاعة‬ ‫أو يرجى هلم حبسب سنن ه‬
‫اّلل ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعىن‪.‬‬
‫املهتدين إىل ما حيب ه‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬تفسري املنار حملمد رشيد رضا طبعة بريوت ‪ ،‬دار الفكر (‪.)208 /10‬‬

‫ص ‪447 :‬‬
‫ظن حبصول‬
‫اّلل ‪ ،‬أل هن حقيقته ه‬
‫ومعلوم أ هن الرجاء املستفاد من عسى ال يصح أن يكون صادرا من ه‬
‫أمر وقعت أسبابه ‪ ،‬واتذت وسائله من مبتغيه‪.‬‬
‫ويستنبط من اآليتني أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أ هن أعمال الرب الصادرة من املشركني ال َتلب هلم ثوااب يف اآلخرة ‪ ،‬وال تدفع عنهم عذااب‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن كل ما اتصف ابإلميان ‪ ،‬وما عطف عليه من األوصاف املتقدمة فهو اجلدير دون غريه‬
‫اّلل منه عمارة مساجده‪.‬‬
‫أبن يقبل ه‬
‫ش إِاال ا‬
‫اّللَ أنه ينبغي ملن بىن مسجدا أن خيلص هّلل يف‬ ‫‪ - 3‬أخذ بعضهم من قوله تعاىل ‪َ :‬وَملْ َخيْ َ‬
‫بنائه حبيث ال يكون الباعث له على بنائه رايء وال مسعة‪.‬‬
‫‪ - 4‬يؤخذ من التعبري بعسى يف جانب املؤمنني قطع طماعية املشركني يف االنتفاع أبعماهلم اليت‬
‫ابّلل ‪ ،‬ومل خيشوا‬
‫اّلل تعاىل أن حصول االهتداء ملن آمنوا ه‬
‫استعظموها ‪ ،‬وافتخروا هبا ‪ ،‬حيث هبني ه‬
‫غريه دائر بني لعل وعسى‪ .‬وإذا كان حال املؤمنني هكذا فًل يليق ابملشرك أن يرجو لنفسه اهلداية‬
‫والفوز ابخلري فضًل عن قطعه بذلك‪.‬‬
‫‪ - 5‬التنويه بفضل عمارة املساجد وقد ورد يف عمارة املساجد احلسية واملعنوية أحاديث كثرية ‪:‬‬
‫ومنها ما رواه أمحد والرتمذي وحسنه وابن ماجه واحلاكم وغريهم من‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إذا رأيتم الرجل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رسول ه‬ ‫حديث أيب سعيد رضي ه‬
‫اّللِ» اآلية «‪»1‬‬ ‫يعتاد املساجد فاشهدوا له ابإلميان ‪ ،‬وتًل إِ امنا ي ْعمر م ِ‬
‫ساج َد ا‬ ‫َ ُُ َ‬
‫وهو نص يف العمارة املعنوية ‪ ،‬كما أ هن احلديث األول نص يف احلسية‪.‬‬
‫ام بَ ْع َد ع ِام ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫س فًَل يَ ْق َربُوا ال َْم ْسج َد ا ْحلَر َ‬ ‫ين َ ِا‬
‫آمنُوا إمنَا ال ُْم ْش ِرُكو َن َجنَ ٌ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬ ‫قال ه‬
‫يم (‪)28‬‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫ضلِهِ إِ ْن شاء إِ ان ا ِ‬
‫اّللَ َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫اّللُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ف يُغْنِي ُك ُم ا‬ ‫س ْو َ‬ ‫ِ ِ‬
‫هذا َوإ ْن خ ْفتُ ْم َع ْي لَةً فَ َ‬
‫خاص بعباد األواثن‪ .‬وقال قوم ‪ :‬يتناول مجيع الكفار ‪ ،‬ويدل‬ ‫األكثرون على أن لفظ املشركني ه‬
‫ك لِ َم ْن يَشاءُ [النساء ‪:‬‬ ‫اّللَ ال يَغْ ِف ُر أَ ْن يُ ْش َر َك بِهِ َويَغْ ِف ُر ما دُو َن ذلِ َ‬
‫هلذا القول قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان ا‬
‫‪ ]48‬أي ال يغفر أن يكفر به ‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )14 /5‬كتاب اإلميان ‪ ،‬ابب ما جاء يف حرمة الصًلة‬
‫‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )2617‬وأمحد يف املسند (‪ ، )68 /3‬وابن ماجه يف السنن (‪4 ، )263 /1‬‬
‫‪ -‬كتاب املساجد ‪ - 19 ،‬ابب لزوم املساجد حديث رقم (‪.)802‬‬

‫ص ‪448 :‬‬
‫والنجس ‪ -‬بفتح اجليم ‪ -‬مصدر‪.‬‬
‫والعيلة ‪ :‬الفقر والفاقة‪.‬‬
‫اّلل املؤمنني عن أن يقرب املشركون املسجد احلرام ‪ ،‬أي عن َتكينهم من قرابن املسجد‬
‫هنى ه‬
‫احلرام ‪ ،‬وعلهل هذا أبهنم جنس ‪ ،‬إما خلبث ابطنهم ‪ ،‬أو ألن معهم الشرك املنزل منزلة النجس‬
‫الذي جيب اجتنابه ‪ ،‬أو ألهنم ال يتطهرون ‪ ،‬وال يغتسلون ‪ ،‬وال جيتنبون النجاسات‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬فًَل ي ْقربوا الْمس ِج َد ا ْحلرام ب ع َد ِ‬
‫عام ِه ْم هذا تفريع على جناستهم ‪ ،‬واختلف العلماء يف‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َُ َ ْ‬
‫املراد ابملسجد احلرام فقال عطاء ‪ :‬احلرم كله قبلة ومسجد ‪ ،‬فليس املراد خصوص املسجد‬
‫احلرام ‪ ،‬وإمنا املراد منعهم من دخول املسجد احلرام ومكة واحلرام‪ .‬وقيل ‪ :‬املراد خصوص‬
‫املسجد احلرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ ‪ ،‬وقيل املراد املسجد احلرام ابلنص ‪،‬‬
‫وبقية املساجد تقاس عليه ‪ ،‬ألن العلهة ‪ ،‬وهي النجاسة ‪ ،‬موجودة يف املشركني ‪ ،‬واحلرمة موجودة‬
‫يف كل مسجد ‪ -‬وهو مذهب املالكية ‪ -‬فًل جيوز َتكينهم من دخول املسجد احلرام واملساجد‬
‫كلها‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬ليس املراد النهي عن دخول املسجد احلرام ‪ ،‬وإمنا املراد النهي عن أن حيج املشركون‬
‫ويعتمروا كما كانوا يعملون يف اجلاهلية ‪ -‬وهو مذهب احلنفية ‪ -‬ويؤيد ذلك أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قوله ‪ :‬ب ع َد ِ‬
‫عام ِه ْم هذا فإ هن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص املنهي عنه بوقت من‬ ‫َْ‬
‫أوقات العام ‪ ،‬أي ال حيجوا وال يعتمروا بعد حج عامهم هذا ‪ ،‬وهو العام التاسع من اهلجرة‪.‬‬
‫‪-2‬‬
‫حيج بعد عامنا هذا‬
‫اّلل وجهه حني اندى بسورة براءة ‪ :‬أال ال ه‬
‫قول علي بن أيب طالب كرم ه‬
‫مشرك‪.‬‬
‫ف يُغْنِي ُك ُم ا‬
‫اّللُ فإ هن خشية العيلة تكون بسبب انقطاع‬ ‫س ْو َ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ - 3‬قوله تعاىل ‪َ :‬وإ ْن خ ْفتُ ْم َع ْي لَةً فَ َ‬
‫تلك املواسم ‪ ،‬ملنع املشركني من احلج والعمرة ‪ ،‬ألن املؤمنني كانوا ينتفعون ابلتجارات اليت تروج‬
‫يف مواسم احلج‪.‬‬
‫‪ - 4‬إمجاع املسلمني على منع املشركني من احلج والوقوف بعرفة واملزدلفة وسائر أعمال احلج ‪،‬‬
‫وإن مل تكن يف املسجد‪.‬‬
‫اّللُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ضلِهِ أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من احلج‬ ‫ف يُغْنِي ُك ُم ا‬
‫س ْو َ‬ ‫ِ ِ‬
‫وقوله ‪َ :‬وإ ْن خ ْفتُ ْم َع ْي لَةً فَ َ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫وانقطاع ما كانوا جيلبونه إليكم من األرزاق واملكاسب ‪ ،‬فسوف يغنيكم ه‬
‫وهذا اجلزاء إخبار عن غيب يف املستقبل وقد وقع األمر مطابقا هلذا اخلرب ‪ ،‬فقد أسلم الناس من‬
‫أهل جدة ‪ ،‬وصنعاء وحنني وتبالة وجرش وكثر ترددهم على‬

‫ص ‪449 :‬‬
‫اّلل عليهم السماء مدرارا ‪ ،‬فكثر خريهم‬
‫مكة ابلتجارات ومحل الطعام وما يعاش به ‪ ،‬وقد أرسل ه‬
‫‪ ،‬واتسعت أرزاقهم ‪ ،‬وتوجه الناس إليهم من أقطار األرض‪.‬‬
‫والتعبري ابملشيئة يف قوله ‪ :‬إِ ْن شاءَ لتعليم رعاية األدب مع ه‬
‫اّلل تعاىل كما يف قوله تعاىل ‪ :‬لَتَ ْد ُخلُ ان‬
‫الْمس ِج َد ا ْحلرام إِ ْن شاء ا ِ‬
‫ني [الفتح ‪ ]27 :‬ولإلشارة إىل أنه ال ينبغي االعتماد على أ هن‬ ‫اّللُ آمنِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫اّلل تعاىل يف طلب اخلريات ‪ ،‬ويف دفع‬ ‫املطلوب حيصل حتما ‪ ،‬بل ال بد من أن يتضرع املرء إىل ه‬
‫اّلل َعلِيم أبحوالكم ِ‬
‫يم يعطي ومينع عن حكمة وصواب‪.‬‬ ‫وحك ٌ‬
‫َ‬ ‫اآلفات إِ ان اَ ٌ‬
‫وهاهنا أمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أنه علم مما تقدم أنه ال جيوز َتكني املشرك من دخول املسجد احلرام فقط عند الشافعية ‪،‬‬
‫ومن دخول املسجد احلرام واملساجد كلها عند املالكية ‪ ،‬ويستثىن من ذلك حالة العذر ‪،‬‬
‫كدخول الذمي املسجد للتقاضي أمام احلاكم املسلم‪.‬‬
‫وأابح احلنفية دخول الذمي املساجد كلها‪.‬‬
‫‪ - 2‬نقل صاحب «الكشاف» «‪ »1‬عن ابن عباس أ هن أعيان املشركني جنسة كالكًلب واخلنازير‬
‫َتسكا هبذه اآلية ‪ ،‬ولكن اتفق الفقهاء على خًلف ذلك ‪ ،‬وأن أبداهنم طاهرة لإلمجاع على أهنم‬
‫لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة ‪ ،‬مع أنهه مل يوجد ما يطهرها من املاء أو النار أو الرتاب أو مثل‬
‫ذلك‪ .‬ويدل له أيضا أنهه عليه الصًلة والسًلم كان يشرب من أواين املشركني‪.‬‬
‫ضلِهِ هو محل الطعام إىل مكة من البًلد اليت أسلم‬ ‫اّللُ ِم ْن فَ ْ‬
‫‪ - 3‬قيل الفضل يف قوله ‪ :‬يُغْنِي ُك ُم ا‬
‫أهلها كجدة وصنعاء كما تقدم ‪ ،‬فإنهه سد حاجتهم وأغناهم عما يف أيدي املشركني ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫ين ال يُ ْؤِمنُو َن ِاب اّللِ َوال ِابلْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر َوال‬ ‫ِ ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬قاتلُوا الاذ َ‬ ‫املراد به اجلزية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الفيء قال ه‬
‫تاب َح اَّت يُ ْعطُوا ا ْجلِْزيَةَ عَ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫ين ا ْحلَِهق م َن الاذ َ‬ ‫ُحيَ هِرُمو َن ما َح ار َم ا‬
‫اّللُ َوَر ُسولُهُ َوال يَدينُو َن د َ‬
‫اّلل املسلمني يف اآلايت السابقة بقتال أهل الشرك ‪ ،‬وعدم َتكينهم‬ ‫صاغ ُرو َن (‪ )29‬أمر ه‬ ‫ي ٍد وهم ِ‬
‫َ َُْ‬
‫اّلل بقتال أهل الكتاب ‪ -‬التوراة واإلجنيل ‪ -‬إىل أن‬ ‫من املسجد احلرام ‪ ،‬ويف هذه اآلية أمر ه‬
‫وبني أن العلة يف لزوم قتاهلم أمور ‪:‬‬ ‫يسلموا أو يعطوا اجلزية ‪ ،‬ه‬
‫ابّلل ما داموا على حالتهم اليت هم عليها ‪ ،‬فإ هن اليهود يعتقدون أ هن اإلله‬
‫األول ‪ :‬أهنهم ال يؤمنون ه‬
‫جسم ‪ ،‬مع أن اإلله احلق منزه عن اجلسمية والشبيه ‪ ،‬فهم ال يؤمنون بوجود اإلله احلق املنزه عن‬
‫اجلسمية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل لإلمام الزخمشري (‪.)261 /2‬‬

‫ص ‪450 :‬‬
‫منزه عن احللول يف غريه ‪ ،‬فهم‬
‫حل يف عيسى ‪ ،‬مع أ هن اإلله احلق ه‬
‫واألنصاري يعتقدون أن اإلله ه‬
‫ال يؤمنون بوجود اإلله احلق املنزه عن احللول يف غريه‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أهنم ال يؤمنون ابليوم اآلخر على الوجه الذي وردت به اآلايت والنصوص ‪ ،‬فإهنم‬
‫يعتقدون بعث األرواح دون األجسام ‪ ،‬ويرون أ هن أهل اجلنة ال أيكلون وال يشربون ‪ ،‬وال يتمتعون‬
‫ابحلور العني ‪ ،‬وال يرون وجود أهنار وال أكواب وال أشجار مما وردت به النصوص ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ هن‬
‫نعيم اجلنة وعذاب النار معان تتعلهق ابلروح فقط ‪ ،‬كالسرور واهلم ‪ ،‬فهم ال يؤمنون ابليوم اآلخر‬
‫على الوجه الذي وردت به النصوص‪.‬‬
‫اّلل ورسوله حممد عليه الصًلة والسًلم يف الكتاب والسنة‪ .‬وقيل‬
‫حرم ه‬
‫حيرمون ما ه‬
‫الثالث ‪ :‬أهنهم ال ه‬
‫‪ :‬املراد برسوله الذي يزعمون اتباعه ‪ ،‬وهو موسى وعيسى عليهما السًلم لليهود والنصارى ‪ ،‬بل‬
‫حرفوا التوراة واإلجنيل ‪ ،‬وأتوا أبحكام من عند أنفسهم ‪ ،‬فهم خيالفون أصل دينهم املنسوخ‬
‫ه‬
‫اعتقادا وعمًل‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أهنم ال يدينون دين احلق ‪ ،‬أي ال يتخذون دين احلق دينا يعتقدون ويعملون أبحكامه ‪،‬‬
‫ًلم [آل عمران‬ ‫اإل ْس ُ‬ ‫ين ِع ْن َد ا‬
‫اّللِ ِْ‬ ‫ِ‬
‫وهو اإلسًلم الناسخ لسائر األداين بصريح قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان ال هد َ‬
‫ًلم ِديناً فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِم ْنهُ [آل عمران ‪.]85 :‬‬
‫اإل ْس ِ‬
‫ري ِْ‬
‫‪ ]19 :‬وقوله ‪َ :‬وَم ْن يَ ْب تَ ِغ غَ ْ َ‬
‫والتعبري عن اليهود والنصارى ابالسم املوصول للداللة على أن الصلة علهة يف احلكم ‪ ،‬فالعلة يف‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ليبني أ هن املراد‬
‫تاب ه‬‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫ابّلل واليوم اآلخر إخل ‪ ،‬وقال ‪ :‬م َن الاذ َ‬ ‫وجوب قتاهلم أنه مل يؤمنوا ه‬
‫ابّلل إخل هم أهل الكتاب ‪ ،‬والغرض َتييزهم عن املشركني يف احلكم ‪ ،‬أل هن‬ ‫ابلذين ال يؤمنون ه‬
‫الواجب يف املشركني القتال إىل أن يسلموا ‪ ،‬وأما الواجب يف أهل الكتاب فهو القتال أو‬
‫اإلسًلم أو اجلزية ‪ ،‬وقوله ‪ :‬ح اَّت ي عطُوا ا ْجلِزيةَ َعن ي ٍد وهم ِ‬
‫صاغ ُرو َن غاية النتهاء القتال‪.‬‬ ‫َْ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ُْ‬
‫واجلزية ‪ :‬اسم ملا يعطيه املعاهد على هذه ‪ ،‬مأخوذة من ‪ :‬جزى الرجل العامل أجره جيزيه ‪ ،‬إذا‬
‫أ هدى ما وجب عليه للعامل من أجره ‪ ،‬فكذلك إذا أ هدى املعاهد اجلزية فقد أ هدى ما وجب عليه‪.‬‬
‫وقوله ‪َ :‬ع ْن يَ ٍد حيتمل أن يراد ابليد يد املعطي أو يد اآلخذ‪ .‬فإن أريد يد املعطي كان املعىن حَّت‬
‫يعطوا اجلزية إعطاء ال َتتنع يدهم عن أ هن َتتد به ‪ ،‬فيكونون منقادين طائعني ‪ ،‬فإ هن من أىب وامتنع‬
‫ال يعطي يده ‪ ،‬ومن انقاد وأطاع أعطى يده‪.‬‬
‫وهلذا يقول ‪ :‬أعطى يده إذا انقاد وأطاع ‪ ،‬ونزع يده إذا خرج عن الطاعة‪.‬‬
‫ويصح أن يكون املعىن ‪ :‬حَّت يعطوا اجلزية عن يد املعطي إىل يد اآلخذ ‪ ،‬واملراد حَّت يعطوها‬
‫أبيديهم نقدا ال نسيئة وال مبعوثة على يد أحد‪.‬‬

‫ص ‪451 :‬‬
‫وإن أريد يد اآلخذ كان املعىن حَّت يعطوا اجلزية إعطاء انشئا عن قهر يد قاهرة مستولية عليهم ‪،‬‬
‫وهي يد املسلمني ‪ ،‬أو كان املعىن حَّت يعطوا اجلزية إعطاء انشئا عن يد ‪ ،‬أي عن إنعام عليهم ‪،‬‬
‫ألن قبول اجلزية منهم ‪ ،‬وترك أرواحهم نعمة عظمى تسدى إليهم‪.‬‬
‫الصغار والذل ‪ ،‬فًل يقبل منهم أن يتأففوا‬ ‫ِ‬
‫وقوله ‪َ :‬و ُه ْم صاغ ُرو َن معناه أن يعطوا اجلزية وهم حبالة ه‬
‫‪ ،‬أو يظهروا السخط على والية املسلمني ‪ ،‬أو يرموهم ابلظلم واالستبداد ‪ ،‬وال يعقل أن يعطى‬
‫املعاهدون اجلزية على هذه احلالة إال إذا كان والة املسلمني على استعداد اتم يف أمر القوة املادية‬
‫‪ ،‬حبسب ما يناسب الزمان واملكان ‪ ،‬ويف القوة املعنوية ‪ ،‬حبيث تكون الرتبية العامة جلماعة‬
‫املسلمني مما تريب فيهم ملكة التيقظ والعزة والشجاعة والعصبية والرتاحم فيما بني أفراد املسلمني‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل ويف سنة رسول ه‬
‫بعضهم مع بعض ‪ ،‬إىل آخر ما ورد يف كتاب ه‬
‫س ِ‬
‫ماوات‬ ‫اّللِ يَ ْو َم َخلَ َق ال ا‬
‫تاب ا‬ ‫ش َر َش ْهراً ِيف كِ ِ‬ ‫الش ُهو ِر ِع ْن َد ا‬
‫اّللِ اثْنا َع َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ان ِع ادةَ ُّ‬ ‫قال ه‬
‫س ُك ْم َوقاتِلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َكافاةً َكما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك ال هِد ُ ِ‬
‫ين الْ َقيه ُم فًَل تَظْل ُموا في ِه ان أَنْ ُف َ‬ ‫ض ِم ْنها أ َْربَ َعةٌ ُح ُرٌم ذلِ َ‬
‫َو ْاأل َْر َ‬
‫ني (‪)36‬‬ ‫اّللَ َم َع ال ُْمت ِاق َ‬
‫يُقاتِلُونَ ُك ْم َكافاةً َوا ْعلَ ُموا أَ ان ا‬
‫ع هدة القوم مجاعتهم ‪ ،‬وع هدة املرأة أقراؤها ‪ ،‬وأايم إحدادها على زوجها‪ .‬ومن األول قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الش ُهو ِر أي مجاعتها ‪ ،‬والقيم الذي يتوىل إصًلح غريه‪.‬‬ ‫إِ ان ِع ادةَ ُّ‬
‫واملستقيم الذي ال عوج فيه‪ .‬والدين اإلسًلمي قيم يصلح من َتسك مببادئه وأحكامه ‪ ،‬وهو يف‬
‫ذاته أحكام مستقيمة ال عوج فيها ‪ ،‬صاحلة لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫كان اليهود والنصارى وغريهم من الطوائف اليت ليست عربية يعتمدون يف معامًلهتم وأعيادهم‬
‫على السنة الشمسية‪ .‬وكانت السنة الشمسية ثًلمثئة ومخسة وستني يوما وربع يوم‪ .‬ويف كل أربع‬
‫يتكون من الكسر عندهم يوم كامل ‪ ،‬فتكون السنة ثًلمثئة وستة وستني يوما ‪ ،‬ويف كل‬
‫سنوات ه‬
‫مئة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كامًل ‪ ،‬فتكون السنة ثًلثة عشر شهرا ‪ ،‬وتسمى كبيسة‪.‬‬
‫وكانت األمة العربية تعتمد يف معامًلهتا وعبادهتا على السنة القمرية ‪ ،‬وكانت السنة القمرية‬
‫ثًلمثئة وأربعة ومخسني يوما وكسرا‪ .‬ومل يكن للكسر حكم‪ .‬وقد توارثوا التعامل بذلك عن إبراهيم‬
‫وإمساعيل عليهما الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫وقد وردت الشريعة اإلسًلمية مبراعاة السنة القمرية يف آايت كثرية منها هذه اآلية اليت معنا‬
‫اّلل فيها ‪ِ :‬منْها أ َْربَ َعةٌ ُح ُرمٌ واألشهر احلرم من الشهور القمرية ‪ ،‬وهي رجب وذو‬ ‫حيث يقول ه‬
‫شم ِ‬ ‫اِ‬
‫ارهُ‬ ‫احملرم‪ .‬ومنها قوله تعاىل ‪ُ :‬ه َو الذي َج َع َل ال ا ْ َ‬
‫س ضياءً َوالْ َق َم َر نُوراً َوقَد َ‬ ‫القعدة وذو احلجة و ه‬
‫السنِ َ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ساب [يونس ‪ ]5 :‬فجعل‬ ‫ني َوا ْحل َ‬ ‫َمنا ِز َل لتَ ْعلَ ُموا َع َد َد ه‬

‫ص ‪452 :‬‬
‫تقدير القمر ابملنازل علة ملعرفة السنوات واحلساب ‪ ،‬وهو إمنا يصح إذا كانت السنة معلقة بدورة‬
‫يت لِلن ِ‬
‫ااس َوا ْحلَ ِهج [البقرة ‪]189 :‬‬ ‫ك َع ِن ْاأل َِهلاةِ قُ ْل ِه َي َمواقِ ُ‬
‫القمر ‪ ،‬ومنها قوله تعاىل ‪ :‬يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫وهلذا كانت السنة القمرية وشهورها العربية هي اليت يعتد هبا عند املسلمني يف صيامهم ومواقيت‬
‫حجهم وأعيادهم ومعامًلهتم وأحكامهم‪.‬‬
‫وابعتبار نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوما تقريبا تنتقل الشهور العربية من‬
‫فصل إىل فصل ‪ ،‬فيكون احلج واقعا يف الشتاء مرة ويف الصيف مرة أخرى‪ .‬وكان األمر يشق‬
‫على العرب أايم اجلاهلية هبذا السبب ‪ ،‬وكذلك كانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة أيضا ‪،‬‬
‫ورمبا يكون الوقت غري مناسب حلضور التجارات من أطراف البًلد ‪ ،‬فيختل بذلك نظام َتارهتم‬
‫‪ ،‬وكان كثري من العرب خيالط الطوائف األخرى فتعلموا منهم االعتماد على السنة الشمسية ‪،‬‬
‫فأقدموا على الكبس بتكميل النقص الذي يف السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية ‪ ،‬واعتربوا‬
‫ذلك مربرا العتمادهم على السنة الشمسية ‪ ،‬فاختاروا للحج وقتا معينا ملصلحتهم ‪ ،‬لينتفعوا‬
‫بتجاراهتم وعباداهتم ومصاحلهم‪.‬‬
‫وكانوا مع هذا جيعلون شهر احملرم مثًل حًلال عام وحراما يف عام آخر ‪ ،‬حبسب رغباهتم ‪ ،‬وكانوا‬
‫يؤ هخرون الشهور ‪ ،‬ويقدموهنا حبسب أمسائها تبعا لغايتهم‪.‬‬
‫فإذا كانوا يف حرب ‪ ،‬ودخل شهر رجب مثًل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نسميه رمضان ‪ ،‬ونطلق اسم رمضان على‬
‫رجب‪ .‬وهذا األخري هو النسيء الذي اخرتعوه‪ .‬وهو وإن كان سببا حلصول مصاحلهم الدنيوية‬
‫اّلل تعاىل فيما تعبدهم به‪.‬‬
‫إال أنه يستلزم تغيري حكم ه‬
‫كما أهنم اخرتعوا الكبس بطريقة غري اليت كانت عند غريهم‪ .‬فكانوا لتكميل النقص الذي يف‬
‫السنة القمرية عن الشمسية يزيدون يف كل ثًلث سنوات شهرا ‪ ،‬لتكون السنة قمرية مشسية‪.‬‬
‫ولكل هذا استوجبوا الذم العظيم ‪ ،‬ونزلت «‪ »1‬هذه اآلية ‪ ،‬أي إِ ان ِع ادةَ ُّ‬
‫الش ُهو ِر يف علمه تعاىل‬
‫ش َر َش ْهراً ال أكثر وال أقل ‪ ،‬للرد على ما أقدم على الزايدة ‪ ،‬فمن حكم على بعض‬
‫‪ :‬اثْنا َع َ‬
‫اّلل ‪ ،‬وأبطل كثريا من‬
‫السنوات أبهنا صارت ثًلث عشر شهرا فقد جرى على خًلف حكم ه‬
‫العبادات املؤقتة‪.‬‬
‫اّللِ أي يف اللوح احملفوظ الذي كتب فيه ما‬ ‫ويف كِ ِ‬
‫تاب ا‬ ‫وهذه العدة للشهور اثبتة يف علمه تعاىل ‪ِ ،‬‬
‫اّلل وأوجب على عباده األخذ به ‪ ،‬وكذلك هي اثبتة يف اليوم الذي‬
‫كان وما يكون‪ .‬أو فيما كتبه ه‬
‫اّلل فيه السموات واألرض‪.‬‬ ‫خلق ه‬
‫حرم فيها بعض ما كان مباحا يف غريها ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حمرمة ه‬ ‫وقوله ‪ :‬م ْنها أ َْربَ َعةٌ ُح ُرٌم ‪ -‬مجع حرام ‪ -‬أي أربعة ه‬
‫أو هي ذات حرمة َتتاز هبا عن بقية الشهور ‪ ،‬فقد ورد أ هن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)237 /3‬‬

‫ص ‪453 :‬‬
‫وّلل تعاىل أن يعظهم من األزمان واألمكنة‬
‫املعصية فيها أشد عقااب ‪ ،‬وأ هن الطاعة فيها أعظم ثوااب‪ .‬ه‬
‫والناس ما شاء ال معقب حلكمه ‪ ،‬فقد ميهز البلد احلرام عن سائر البًلد ‪ ،‬وميهز يوم اجلمعة ويوم‬
‫عرفة عن سائر األايم ‪ ،‬وميهز شهر رمضان عن بقية الشهور ‪ ،‬وميهز بعض الليايل كليلة القدر ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل أ هن‬
‫وبعض األشخاص إبعطائه الرسالة‪ .‬وهذا غري مستبعد ‪ ،‬ألنه ال مانع من أن يعلم ه‬
‫وقوع الطاعة يف هذه األوقات أكثر أتثريا يف طهارة النفوس وأ هن وقوع املعاصي فيها أقوى أتثريا‬
‫يف خبث النفس‪.‬‬
‫وأمجع العلماء على أ هن ثًلثة من األشهر احلرم متوالية وهي ‪ :‬ذو القعدة وذو احلجة واحملرم ‪،‬‬
‫وواحد فرد وهو رجب‪ .‬وقد أشري إىل ذلك بقوله عليه الصًلة والسًلم يف خطبة طويلة يف حجة‬
‫الوداع ‪ :‬منها أربعة حرم أوهلن رجب مضر ‪ ،‬بني مجادى وشعبان ‪ ،‬وذو القعدة وذو احلجة‬
‫واحملرم‪.‬‬
‫ين الْ َقيهِ ُم حترمي األشهر احلرم هو الدين القيم‪ .‬أي احلكم الذي ال التواء فيه وال‬ ‫وقوله ‪ :‬ذلِ َ ِ‬
‫ك ال هد ُ‬
‫اعوجاج ‪ ،‬خبًلف ما كان عليه أهل اجلاهلية‪ .‬فمعىن كونه قيهما أنه قائم ال يبدل وال يغري ‪ ،‬ودائم‬
‫ال يزول ‪ ،‬فًل جيوز نقل حترمي احملرم مثًل إىل صفر‪ .‬وذلك للرد على ما كان يعمله أهل اجلاهلية‬
‫من تقدمي بعض أمساء الشهور ‪ ،‬وأتخري البعض‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫فًَل تَظْل ُموا في ِه ان أي يف األشهر احلرم أَنْ ُف َ‬
‫س ُك ْم أبن تعملوا النسي ء ‪ ،‬فتنقلوا احلج من الشهر‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫وتغريوا حكم ه‬
‫اّلل إبقامته فيه ‪ ،‬إىل شهر آخر ‪ ،‬ه‬ ‫الذي أمر ه‬
‫أو املراد النهي عن مجيع املعاصي بسبب ما هلذه األشهر من مزيد األثر يف تعظيم الثواب‬
‫ض فِي ِه ان ا ْحلَ اج فًَل‬
‫ومات فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫والعقاب ‪ ،‬كما أشري إىل ذلك بقوله تعاىل ‪ :‬ا ْحلَ ُّج أَ ْش ُه ٌر َم ْعلُ ٌ‬
‫دال ِيف ا ْحلَ ِهج [البقرة ‪ .]197 :‬فهذه األشياء ال َتوز يف غري هذه األشهر‬ ‫سو َق َوال ِج َ‬ ‫ث َوال فُ ُ‬ ‫َرفَ َ‬
‫‪ ،‬إال إنه أ هكد يف املنع منها فيها تنبيها على زايدهتا يف الشرف‪.‬‬
‫اّلل تعاىل عن أن يظلموا أنفسهم يف األشهر‬ ‫َوقاتِلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َكافاةً َكما يُقاتِلُونَ ُك ْم َكافاةً هناهم ه‬
‫فيدل النص بظاهره على أن القتال يف‬
‫احلرم‪ .‬وأمرهم بقتال املشركني من غري تقييد بزمن ‪ ،‬ه‬
‫األشهر احلرم مباح ‪ ،‬وهلذا نقل عن عطاء اخلراساين أنه قال ‪ :‬أحلهت القتال يف األشهر احلرم‬
‫سلَ َخ ْاألَ ْش ُه ُر ا ْحلُُرُم فَاقْتُلُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫براءةٌ ِمن اِ‬
‫اّلل َوَر ُسوله يشري إىل ما فيها من قوله تعاىل ‪ :‬فَإذَا انْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫ني َكافاةً َكما يُقاتلُونَ ُك ْم َكافاةً وأما آايت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم ومن قوله ‪َ :‬وقاتلُوا ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫ث َو َج ْدَتُُ ُ‬ ‫ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َح ْي ُ‬
‫البقرة الدالة على حترمي القتال يف األشهر احلرم فهي منسوخة آبايت التوبة ‪ ،‬أل هن سورة التوبة‬
‫نزلت بعد سورة البقرة بسنتني‪ .‬ويدل له أنه عليه الصًلة والسًلم حارب هوازن حبنني وثقيفا‬
‫ابلطائف يف شهر شوال وبعض ذي القعدة‪.‬‬

‫ص ‪ 454 :‬وسئل سعيد بن املسيب هل يصح للمسلمني أن يقاتلوا الكفار يف الشهر احلرام؟‬
‫قال ‪ :‬نعم‪ .‬وهو املنقول عن قتادة والزهري وسفيان الثوري ‪ ،‬ولكل هذا كان القول إبابحة القتال‬
‫املعول‪.‬‬
‫يف األشهر احلرم هو الذي عليه ه‬
‫وقوله ‪َ :‬كافاةً حال من الفاعل أو من املفعول ‪ ،‬واملعىن على األول ‪ :‬قاتلوا املشركني حال كونكم‬
‫مجيعا متعاونني غري متخاذلني ‪ ،‬كما يقاتلونكم جمتمعني متعاونني غري متخاذلني‪.‬‬
‫واملعىن على الثاين ‪ :‬قاتلوا املشركني حال كوهنم مجيعا ال فرق بني طائفة وطائفة ‪ ،‬ما يقاتلونكم‬
‫مجيعا من غري مراعاة فريق منكم دون فريق‪.‬‬
‫وكلمة َكافاةً من الكلمات اليت توحد وتؤنث ابهلاء ال غري ‪ ،‬فًل ه‬
‫تثىن وال َتمع وال تذ هكر كاخلاصة‬
‫والعامة‪.‬‬
‫اّللَ َم َع ال ُْمت ِاق َ‬
‫ني أي مع أوليائه الذين خيافون من غضبه ‪ ،‬ويتخذون وقاية من‬ ‫وقوله ‪َ :‬وا ْعلَ ُموا أَ ان ا‬
‫خمالفة أمره‪ .‬وهو معهم ابلنصر واملعونة فيما يباشرونه من القتال وغريه‪ .‬ووضع املظهر موضع‬
‫وحلث القاصرين عليها ‪ ،‬ولإلشعار أبهنا املدار يف الفوز والفًلح‪.‬‬ ‫املضمر للثناء عليهم ابلتقوى ‪ ،‬ه‬
‫ين َك َف ُروا ُِحيلُّونَهُ عاماً َو ُحيَهِرُمونَهُ عاماً‬ ‫ايدةٌ ِيف الْ ُك ْف ِر ي َ ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِامنَا الن ِ‬
‫ضلُّ بِه الاذ َ‬ ‫ُ‬ ‫اسي ءُ ِز َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ ُزيِه َن َهلُ ْم ُسوءُ أَ ْعماهلِِ ْم َو ا‬
‫اّللُ ال يَ ْهدي الْ َق ْو َم الْكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫واط ُؤا ِع ادةَ ما َح ارَم ا‬
‫اّللُ فَيُ ِحلُّوا ما َح ار َم ا‬ ‫لِي ِ‬
‫ُ‬
‫اسي ءُ مصدر مبعىن التأخري ‪ ،‬كالنذير والنكري ‪ ،‬مبعىن اإلنذار واإلنكار ‪ ،‬من نسأت‬ ‫(‪ )37‬الن ِ‬
‫اإلبل عن احلوض إذا أخرهتا ‪ ،‬أنسؤها نسأ ونساء ونسيئا‪ .‬واملراد النسيء يف الشهور مبعىن أتخري‬
‫حرمة شهر إىل شهر آخر ليس له تلك احلرمة ‪ ،‬بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عبادهتم‬
‫وَتاراهتم على اعتبار السنة القمرية ‪ ،‬حيث كان حجهم يقع مرة يف الشتاء ومرة يف الصيف ‪،‬‬
‫فيتأملون من مشقة الصيف ‪ ،‬وال ينتفعون بتجاراهتم ومراحباهتم اليت كانوا يودون استصحاهبا يف‬
‫موسم احلج ‪ ،‬ورمبا ال يتيسر هلم ذلك‪.‬‬
‫وكذلك كانوا أصحاب حروب وغارات ‪ ،‬وكانوا يكرهون أن ميكثوا ثًلثة أشهر متوالية ال يغزون‬
‫فيها ‪ ،‬فرتكوا اعتبار السنة القمرية ‪ ،‬واعتمدوا على السنة الشمسية ‪ ،‬ولزايدهتا عن السنة القمرية‬
‫احتاجوا إىل الكبس ‪ ،‬فكانوا جيعلون بعض السنني ثًلثة عشر شهرا ‪ ،‬وكانوا ينقلون احلج من‬
‫بعض الشهور إىل بعض ‪ ،‬ويؤ هخرون احلرمة احلاصلة من شهر إىل شهر ‪ ،‬ويستبيحون احلروب‬
‫والغارات يف الشهر الذي نقلوا حرمته ‪ ،‬واستمروا يف ذلك حَّت رفضوا تصيص األشهر احلرم‬
‫ابلتحرمي ‪ ،‬وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء مبجرد العدد ‪ ،‬فكان هذا التحليل‬

‫ص ‪455 :‬‬
‫والتحرمي زايدة يف كفرهم ‪ ،‬احلاصل ابعتقاد الشريك هّلل تعاىل وعبادة األصنام‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬ي َ ِ ِ‬
‫ض ُّل بِه الاذ َ‬
‫ين َك َف ُروا ابلبناء للمفعول ‪ ،‬أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء يف الضًلل‬ ‫ُ‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫اّلل يف ضًلل زايدة على ضًلهلم القدمي‪ .‬وقرئ ابلبناء للفاعل ‪ ،‬أي يضلهم ه‬ ‫‪ ،‬أي يوقعهم ه‬
‫وحيرمونه عاما آخر‪.‬‬
‫حيلهون الشهر املؤخر عاما ه‬
‫مث قيل إ هن أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناين وكان مطاعا يف قومه الذين كانوا يسألونه‬
‫أن يؤ هخر حرمة الشهر إىل شهر آخر ليغريوا فيه على أعدائهم ‪ ،‬فيقول قد فعلت ‪ ،‬مث يعملون ما‬
‫يشاؤون ‪..‬‬
‫اّللُ أي يوافقها يف العدد ‪ ،‬والًلم متعلقة ابلفعل الثاين ‪ ،‬أو مبا دل‬ ‫اط ُؤا ِع ادةَ ما َح ار َم ا‬
‫وقوله ‪ :‬لِيو ِ‬
‫ُ‬
‫ِِ‬
‫اّلل من القتال ‪ُ ،‬زيِه َن َهلُ ْم ُسوءُ أَ ْعماهل ْم أي‬
‫عليه جمموع الفعلني فيحلوا هبذه املواطأة ما حرمه ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللُ ال يَ ْهدي الْ َق ْو َم الْكاف ِر َ‬
‫ين أي‬ ‫حسن الشيطان هلم أعماهلم السيئة ‪ ،‬فظنوا ما كان سيئا حسنا َو ا‬ ‫ه‬
‫ال يرشد الضالني الذين خيتارون السيئات ويستقبحون األعمال الصاحلة‪.‬‬
‫ني َعلَْيها َوال ُْم َؤلاَفةِ قُلُو ُهبُ ْم َوِيف هِ‬
‫الر ِ‬
‫قاب‬ ‫ت لِلْ ُف َقر ِاء والْمساكِ ِ ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِامنَا ال ا‬
‫ني َوالْعامل َ‬ ‫َ َ‬ ‫ص َدقا ُ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫اّللِ و ا ِ‬ ‫يل فَ ِري َ ِ‬ ‫اّللِ َوابْ ِن ال ا‬
‫سبِ ِ‬ ‫ني َوِيف َسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)60‬‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫اّللُ َعل ٌ‬ ‫ضةً م َن ا َ‬ ‫يل ا‬ ‫َوالْغا ِرم َ‬
‫أفادت إِ امنَا حصر الصدقات يف هذه األصناف الثمانية ‪ ،‬وأهنا تصرف إليهم ‪ ،‬وال تصرف إىل‬
‫غريهم‪.‬‬
‫وقد كان لفظ الصدقة يف عرف الشرع يف صدر اإلسًلم يشمل الزكاة الواجبة والصدقة املندوبة‪.‬‬
‫ص َدقَةً تُطَ هِه ُر ُه ْم َوتُ َزهكِي ِه ْم ِهبا [التوبة ‪ ]103 :‬وقال عليه الصًلة‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل ‪ُ :‬خ ْذ م ْن أ َْمواهل ْم َ‬
‫والسًلم ‪« :‬ليس فيما دون مخس ذود صدقة ‪ ،‬وليس فيما دون مخسة أوسق صدقة» «‪»1‬‬
‫ويف كتاب أيب بكر ألنس بن مالك حني وجهه إىل البحرين ‪:‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلهم على املسلمني ‪ ،‬واليت أمر ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫هذه فريضة الصدقة اليت فرض رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم «‪.»2‬‬
‫تعاىل هبا رسوله صلهى ه‬
‫ت يشمل الزكاة الواجبة‪ .‬واختلفوا يف الصدقة املندوبة‬
‫ص َدقا ُ‬
‫واتفق العلماء على أن قوله تعاىل ‪ :‬ال ا‬
‫‪ ،‬فمنهم من قال بدخوهلا يف لفظ اآلية الكرمية ‪ ،‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫عام يتناول كل صدقة ‪ ،‬سواء الواجبة واملندوبة ‪ ،‬بل‬
‫ال تدخل ‪ ،‬فمن قال بدخوهلا يرى أن اللفظ ه‬
‫إ هن املتبادر من لفظ الصدقة هو املندوبة ‪ ،‬فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )673 /2‬كتاب الزكاة حديث رقم (‪، )979 /1‬‬
‫والبخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )136 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 4 ،‬ابب ما أدي زكاته حديث رقم‬
‫(‪.)1405‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )154 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 38 ،‬ابب زكاة الغنم‬
‫حديث رقم (‪.)1454‬‬

‫ص ‪456 :‬‬
‫فًل أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة املندوبة ‪ ،‬وتكون الفائدة بيان أ هن مصارف مجيع‬
‫الصدقات ليس إال هؤالء األصناف الثمانية‪.‬‬
‫ومن يرى أن املراد ابلصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك أبمور ‪:‬‬
‫اّلل‬
‫األول ‪ :‬أن (ال) يف الصدقات للعهد الذكري ‪ ،‬واملعهود هو الصدقات الواجبة اليت أشار ه‬
‫إليها بقوله قبل هذه اآلية ‪َ :‬وِم ْن ُه ْم َم ْن يَل ِْم ُز َك ِيف ال ا‬
‫ص َد ِ‬
‫قات [التوبة ‪ ]58 :‬والصدقات اليت كان‬
‫اّلل عليه وسلهم فيها ويف تقسيمها هي الزكاة الواجبة ‪ ،‬فقد‬
‫قوم من املنافقني يعيبون النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يف توزيع الصدقة ‪ ،‬ويزعمون أنه‬
‫روي أ هن بعض املنافقني كان يعيب الرسول صلهى ه‬
‫كل ذلك كان‬
‫يؤثر هبا من شاء من أقاربه وأهل مودته ‪ ،‬وينسبونه إىل أنه ال يراعي العدل فيها ‪ ،‬ه‬
‫يف الصدقات الواجبة ‪ ،‬فلما ورد قوله تعاىل عقب ذلك ‪:‬‬
‫ت لِلْ ُف َقر ِاء ه‬
‫دل على أ هن املراد الصدقات اليت سبق الكًلم فيها ‪ :‬وهي الصدقات‬ ‫إِ امنَا ال ا‬
‫ص َدقا ُ‬
‫الواجبة‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬أ هن الصدقات املندوبة جيوز صرفها يف غري األصناف الثمانية ابتفاق ‪ ،‬مثل بناء املساجد‬
‫واملدارس والرابطات والقناطر وتكفني املوتى وَتهيزهم وحنو ذلك ‪ ،‬فلو كانت الصدقة املندوبة‬
‫داخلة يف اآلية ملا جاز صرفها يف مثل هذه الوجوه‪.‬‬
‫اّلل تعاىل جعل للعاملني عليها سهما فيها ‪ ،‬ومل يعهد يف الشرع نصب عامل جلباية‬
‫الثالث ‪ :‬أن ه‬
‫الصدقات املندوبة ‪ ،‬فلو كانت الصدقة املندوبة داخلة يف اآلية لوجب على اإلمام أن ينصب‬
‫العمال جلبايتها حَّت أيخذوا سهمهم منها ‪ ،‬ومل يقل بذلك أحد‪.‬‬
‫اّلل هذه الصدقات بًلم التمليك لألصنام الثمانية ‪ ،‬والصدقات اململوكة هلم‬
‫الرابع ‪ :‬أثبت ه‬
‫ليست إال الزكاة الواجبة‪.‬‬
‫ويف اآلية مجعان ‪ :‬ابلواو ومجع ابلصيغة ‪ ،‬فالشافعي يبقيها على ظاهرها يف اجلمعني معا ‪ ،‬فيجب‬
‫عند صرف مجيع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة األموال ‪ ،‬إىل مثانية األصناف ‪ ،‬ألن اآلية‬
‫وشركت بينهم بواو التشريك ‪ ،‬فدلك على أن‬
‫أضافت مجيع الصدقات إليهم بًلم التمليك ‪ ،‬ه‬
‫مفرق الزكاة هو املالك أو وكيله سقط‬
‫الصدقات كلها مملوكة هلم ‪ ،‬مشرتكة بينهم ‪ ،‬فإن كان ه‬
‫نصيب العامل ‪ ،‬ووجب صرفها إىل األصناف السبعة ابلسوية ‪ ،‬ال يرجح صنف على صنف إن‬
‫وجدوا ‪ ،‬وإال فللموجود منهم ‪ ،‬وال جيوز أن يصرف ألقل من ثًلثة من كل صنف ‪ ،‬ألن أقل‬
‫اجلمع ثًلثة‪ .‬وإن كان مفرقها اإلمام أو انئبه وجب استيعاب األصناف كلها ‪ ،‬هبذا قال عكرمة‬
‫وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري‪.‬‬
‫اّلل ‪ :‬للمالك صرفها إىل صنف‬
‫وقال األئمة أبو حنيفة «‪ »1‬ومالك وأمحد رمحهم ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)121 /2 - 1‬‬

‫ص ‪457 :‬‬
‫واحد ‪ ،‬قال أبو حنيفة ومالك ‪ :‬له صرفها إىل شخص واحد من أحد األصناف ‪ ،‬واستحب‬
‫مالك صرفها إىل أمسهم حاجة‪.‬‬
‫قال إبراهيم النخعي ‪ :‬إن كانت قليلة جاز صرفها إىل صنف ‪ ،‬وإال وجب استيعاب األصناف‪.‬‬
‫وما نقل عن األئمة الثًلثة هو املروي عن عمر وابن عباس وحذيفة واحلسن البصري وعطاء‬
‫وسعيد بن جبري والضحاك والشعيب والثوري ‪ ،‬واختار مجع من أصحاب الشافعي جواز دفع‬
‫صدقة الفطر لثًلثة فقراء أو مساكني ‪ ،‬بل ذهب الروايين «‪ »1‬من الشافعية إىل جواز دفع زكاة‬
‫السهمان ‪ ،‬قال ‪ :‬وهو االختيار لتعذر العمل مبذهبنا ‪ ،‬ولو كان‬
‫املال أيضا إىل ثًلثة من أهل ه‬
‫الشافعي حيها ألفتاان به‪.‬‬
‫ومحل األئمة الثًلثة وموافقوهم اآلية الكرمية على التخيري يف هذه األصناف ‪ ،‬ومعناها ‪ :‬ال جيوز‬
‫صرفها لغري هذه األصناف ‪ ،‬وهو فيه خمري‪ .‬فاآلية لبيان األصناف اليت جيوز الدفع إليهم ال‬
‫لتعيني الدفع هلم‪.‬‬
‫ويدل له قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُتُْفوها َوتُ ْؤتُ َ‬
‫وها الْ ُف َقراءَ فَ ُه َو َخ ْريٌ لَ ُك ْم [البقرة ‪ ]271 :‬وقوله صلهى‬ ‫ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إىل فقرائكم» «‪»2‬‬
‫ه‬
‫فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع مجيع الصدقات إىل الفقراء حَّت ال يعطى غريهم ‪ ،‬بل ظاهر‬
‫اللفظ يقتضي إجياب ذلك ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أمرت ‪»...‬‬
‫لقوله صلهى ه‬
‫فدل ذلك على جواز االقتصار على صنف واحد‪.‬‬
‫ه‬
‫املعرف أبل‬
‫وأما دليل جواز االقتصار على شخص واحد من أحد األصناف فهو أن اجلمع ه‬
‫حقيقة إما يف العهد وإما يف االستغراق‪ .‬وجماز يف اجلنس الصادق بواحد‪ .‬واحلقيقة هنا متع هذرة ‪،‬‬
‫أل هن االستغراق غري مستقيم ‪ ،‬إذ يصري املعىن أن كل صدقة لكل فقري ‪ ،‬وهو ظاهر الفساد ‪،‬‬
‫وليس هناك معهود لريتكب العهد‪ .‬وإذا تعذرت احلقيقة وجب الرجوع إىل اجملاز ‪ ،‬فيصري املعىن‬
‫يف اآلية‪.‬‬
‫أن جنس الصدقة جلنس الفقري‪ .‬وجنس الفقري يتحقق بواحد ‪ ،‬فيجوز الصرف إىل شخص واحد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عبد الواحد بن إمساعيل ‪ ،‬فقيه الشافعية يف زمانه ‪ ،‬رحل إىل خبارى ونيسابور وانتقل إىل‬
‫الري مث أصبهان ‪ ،‬مات قتًل سنة (‪ )502‬انظر األعًلم للزركلي (‪.)175 /4‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )133 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 1 ،‬ابب وجوب الزكاة‬
‫حديث رقم (‪ )1395‬و(‪( )1496‬بلفظ خمتلف)‪.‬‬

‫ص ‪458 :‬‬
‫بيان األصناف الثمانية‬
‫الص نفان األول والثاين ‪ :‬الفقراء واملساكني قال اإلمام الشافعي يف حد الفقري ‪ :‬إنه من ليس له‬
‫مال وال كسب يقع موقعا من حاجته ‪ ،‬واملسكني هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته ‪،‬‬
‫إال أنه ال يكفيه ‪ ،‬فالفقري أسوأ حاال من املسكني‪.‬‬
‫وقال اإلمامان أبو حنيفة «‪ »1‬ومالك ‪ :‬إ هن املسكني أسوأ حاال من الفقري ‪ ،‬واخلًلف يف ذلك ال‬
‫يظهر له فائدة يف الزكاة ‪ ،‬ألنه جيوز عند أيب حنيفة ومالك صرف الزكاة إىل صنف واحد بل إىل‬
‫شخص واحد من صنف‪ .‬لكن يظهر للخًلف فائدة يف الوصية للفقراء دون املساكني ‪ ،‬أو‬
‫العكس ‪ ،‬وفيمن أوصى أبلف للفقراء ومئة للمساكني مثًل‪.‬‬
‫وحمل اخلًلف إمنا هو عند ذكر اللفظني معا ‪ ،‬أو ذكر أحدمها مع نفي اآلخر ‪ ،‬أما إذا ذكر‬
‫أحدمها ومل ينف اآلخر ‪ ،‬كما إذا قال ‪ :‬أوصيت للفقراء بكذا ‪ ،‬فًل خًلف يف أنه جيوز أن يعطي‬
‫املساكني ‪ ،‬وهذا معىن قول بعضهم ‪ :‬إهنما إذا اجتمعا افرتقا ‪ ،‬وإذا افرتقا اجتمعا ‪ ،‬وحجة‬
‫الشافعي فيما ذهب إليه وجوه ‪:‬‬
‫جل شأنه إمنا أثبت الصدقات هلؤالء األصناف دفعا‬
‫أوهلا ‪ :‬أنه تعاىل بدأ بذكر الفقراء ‪ ،‬وهو ه‬
‫يدل على أن الذي وقع االبتداء بذكره يكون أش هد حاجة‬
‫حلاجتهم ‪ ،‬وحتصيًل ملصلحتهم ‪ ،‬وهذا ه‬
‫‪ ،‬ألن الظاهر تقدمي األهم على املهم‪.‬‬
‫اثنيها ‪ :‬أن الفقري أصله يف اللغة املفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ‪ ،‬فعيل مبعىن مفعول ‪،‬‬
‫فهو ممنوع من التقلب والكسب ‪ ،‬ومعلوم أن ال حال يف اإلقًلل والبؤس آكد من هذه احلال‪.‬‬
‫اثلثها ‪ :‬ما‬
‫يتعوذ من الفقر «‪ »2‬وقد قال ‪« :‬اللهم أحيين مسكينا ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه كان ه‬
‫روي عنه صلهى ه‬
‫وأمتين مسكينا ‪ ،‬واحشرين يف زمرة املساكني» «‪»3‬‬
‫فلو كان املسكني أسوأ حاال لتناقض احلديثان ألنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر مث سأل حاال‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أسوأ منه ‪ ،‬أما إذا قلنا إن الفقري أسوأ حاال فًل تناقض البتة‪ .‬وقد تويف رسول ه‬
‫وسلهم وهو ميلك أشياء كثرية ‪ ،‬فدل ذلك على أن كونه مسكينا ال ينايف كونه مالكا لبعض‬
‫األشياء‪.‬‬
‫س ِفينَةُ فَكانَ ْ ِ‬
‫ت ل َمساكِ َ‬
‫ني يَ ْع َملُو َن ِيف الْبَ ْح ِر [الكهف ‪]79 :‬‬ ‫رابعها ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬أَ اما ال ا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)120 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )655 /8 - 7‬كتاب االستعاذة ‪ ،‬ابب االستعاذة من الفقر‬
‫حديث رقم (‪.)5479‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 37 ، )381 /2‬كتاب الزهد ‪ - 7 ،‬ابب جمالسة الفقراء‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)4126‬‬

‫ص ‪459 :‬‬
‫اّلل ما يدل على أن الفقري‬
‫فقد وصف ابملسكنة من له سفينة من سفن البحر ‪ ،‬ومل جند يف كتاب ه‬
‫ميلك شيئا ‪ ،‬فكان الفقري أسوأ حاال من املسكني‪.‬‬
‫خامسها ‪ :‬نقل الشافعي وابن األنباري وخًلئق من أهل اللغة أن املسكني الذي له ما أيكل ‪،‬‬
‫والفقري الذي ال شيء له ‪ ،‬وحجة احلنفية وموافقيهم وجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ما نقل عن األصمعي وأيب عمرو بن العًلء ويونس وغريهم من أهل اللغة أ هن املسكني‬
‫أسوأ حاال من الفقري‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬أ َْو ِم ْسكِيناً ذا َم ْرتَبَةٍ (‪[ )16‬البلد ‪ ]16 :‬أي ألصق جلده ابلرتاب ليواري‬
‫به جسده ‪ ،‬وألصق بطنه به لفرط اجلوع ‪ ،‬فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ‪ ،‬ومل يوصف الفقري‬
‫بذلك‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن املسكني هو الذي يسكن حيث حيل ‪ ،‬ألجل أنه ليس له بيت يسكن فيه ‪ ،‬وذلك‬
‫يدل على هناية الضرر والبؤس‪.‬‬
‫وإذا أتملت يف أدلة الطرفني علمت أن ال مقنع يف دليل منها إال يف أدلة النقل عن أهل اللغة ‪،‬‬
‫وأاي ما كان األمر فقد اتفق الرأاين على أن الفقراء واملساكني صنفان‪.‬‬
‫والنقًلن متعارضان ‪ ،‬ه‬
‫وروي عن أيب يوسف وحممد أهنما صنف واحد ‪ ،‬واختاره اجلبائي ‪ ،‬ويكون العطف بينهما‬
‫الختًلف املفهوم‪.‬‬
‫وفائدة اخلًلف تظهر فيما إذا أوصى لفًلن وللفقراء واملساكني ‪ ،‬فمن قال ‪ :‬إهنما صنف واحد‬
‫جعل لفًلن نصف املوصى به ‪ ،‬ومن قال ‪ :‬إهنما صنفان جعل له الثلث من ذلك‪.‬‬
‫واقتضى ظاهر اآلية جواز دفع الزكاة ملن مشله اسم الفقري واملسكني ‪ ،‬سواء يف ذلك آل البيت‬
‫وغريهم ‪ ،‬وسواء األقارب واألجانب ‪ ،‬واملسلمون والكفار ‪ ،‬إال أ هن األحاديث الصحيحة قيهدت‬
‫هذا اإلطًلق ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال‬
‫اّلل عنهما أن النيب صلهى ه‬
‫ففي الصحيحني «‪ »1‬من رواية ابن عباس رضي ه‬
‫ملعاذ حني بعثه إىل اليمن ‪ :‬أعلمهم أ هن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فرتد على فقرائهم ‪،‬‬
‫فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء املسلمني ‪ ،‬فًل جيوز دفع شيء من الزكاة إىل كافر‬
‫سواء يف ذلك الفطرة وزكاة املال‪.‬‬
‫اّلل عنه جييز دفع الزكاة إىل الكفار‪.‬‬
‫وحكى النووي يف جمموعه عن ابن املنذر أن أاب حنيفة رضي ه‬
‫وكذلك ال جيوز دفعها إىل من تلزم املزكي نفقته من األقارب والزوجات من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )50 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 7 ،‬ابب الدعاء حديث رقم‬
‫(‪ ، )1929‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )165 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 63 ،‬ابب أخذ‬
‫الصدقة حديث رقم (‪.)1496‬‬

‫ص ‪460 :‬‬
‫سهم الفقراء واملساكني ‪ ،‬ألن ذلك إمنا جعل للحاجة ‪ ،‬وال حاجة هبم مع وجود النفقة هلم ‪،‬‬
‫وألنه ابلدفع إليهم جيلب إىل نفسه نفعا ‪ ،‬وهو منع وجوب النفقة عليه‪.‬‬
‫وال جيوز دفعها إىل هامشي ابتفاق األئمة ‪ ،‬ملا‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬إ هن هذه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رواه مسلم «‪ »1‬عن املطلب بن ربيعة أن رسول ه‬
‫الصدقات إمنا هي أوساخ الناس ‪ ،‬وإهنا ال حتل حملمد وال آلل حممد»‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬ال جيوز دفعها إىل مطليب أيضا ملا‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رواه البخاري يف «صحيحه» «‪ »2‬عن جبري بن مطعم أن رسول ه‬
‫«إ هن بين هاشم وبين املطلب شيء واحد وشبهك بني أصابعه»‬
‫وألنه حكم واحد يتعلق بذوي القرىب ‪ ،‬فاستوى فيه اهلامشي واملطليب كاستحقاق اخلمس‪.‬‬
‫هذا وقد اختلف الفقهاء يف مقدار ما يعطى للفقري واملسكني ‪ ،‬فقال الشافعي ‪ :‬جيوز أن يدفع‬
‫إىل كل منهما ما تزول به حاجته ‪ ،‬وال يزاد على ذلك ‪ ،‬سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم ال‪.‬‬
‫وكره أبو حنيفة «‪ »3‬أن يعطى إنسان من الزكاة مئيت درهم ‪ ،‬وأي مقدار أعطيه أجزأ ‪ ،‬وأبو‬
‫يوسف مينع ما زاد على النصاب‪.‬‬
‫اّلل عنه فإنه يرد األمر فيه إىل االجتهاد‪.‬‬
‫وأما مالك رضي ه‬
‫وقال الثوري ‪ :‬ال يعطى من الزكاة أكثر من مخسني درمها إال أن يكون غارما‪.‬‬
‫اّلل تعاىل أثبت الصدقات هلؤالء األصناف دفعا حلاجتهم ‪ ،‬وحتصيًل ملصلحتهم‬
‫يرى الشافعي أن ه‬
‫‪ ،‬فاملقصود من دفع الزكاة سد اخللة ‪ ،‬ودفع احلاجة ‪ ،‬فيعطى الفقري واملسكني ما يسد خلته ‪،‬‬
‫ويدفع حاجته‪.‬‬
‫ويرى أبو حنيفة ومالك أن اآلية ليس فيها حتديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم ‪ ،‬وقد علمنا أنه‬
‫مل يرد هبا تفريق الصدقة على الفقراء على عدد الرؤوس المتناع ذلك وتعذره ‪ ،‬فثبت أ هن املراد‬
‫أي بعض كان‪ .‬ومعلوم أ هن كل واحد من أرابب األموال خماطب بذلك ‪،‬‬
‫دفعها ‪ ،‬إىل بعض ه‬
‫قل املدفوع أو كثر ‪،‬‬
‫فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم مجيع صدقته إىل فقري واحد ‪ ،‬ه‬
‫فثبت بظاهر اآلية جواز دفع املال الكثري إىل واحد من الفقراء من غري حتديد للمقدار ‪ ،‬وإمنا كره‬
‫أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائيت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )752 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 51 ،‬ابب ترك استعمال آل‬
‫النيب على الصدقة حديث رقم (‪.)1072 /167‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 57 ، )68 /4‬كتاب اخلمس ‪ - 17 ،‬ابب ومن الدليل‬
‫على أ هن اخلمس حديث رقم (‪.)3140‬‬
‫(‪ )3‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)123 /2 - 1‬‬
‫ص ‪461 :‬‬
‫اّلل‬
‫درهم ‪ ،‬ألن املائتني هي النصاب الكامل ‪ ،‬فيكون غنيا مع َتام ملك الصدقة ‪ ،‬ومعلوم أ هن ه‬
‫تعاىل إمنا أمر بدفع الزكوات إىل الفقراء لينتفعوا هبا ويتملكوها ‪ ،‬فلو أعطى الفقري مئيت درهم فإنهه‬
‫ال يتمكن من االنتفاع هبا إال وهو غين ‪ ،‬فكره أبو حنيفة من أجل ذلك دفع النصاب الكامل إىل‬
‫إنسان واحد‪.‬‬
‫الصنف الثالث ‪ :‬العاملون عليها وهم السعاة جلباية الصدقة ‪ ،‬ويدخل فيهم احلاشر ‪ ،‬والعريف ‪،‬‬
‫والقسام وحافظ املال ‪ ،‬ويعطى العامل عند احلنفية واملالكية ما يكفيه‬
‫ه‬ ‫واحلاسب ‪ ،‬والكاتب ‪،‬‬
‫ويكفي أعوانه ابلوسط مدة ذهاهبم وإايهبم ما دام املال ابقيا ‪ ،‬وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة ‪،‬‬
‫فاحلنفية ال يزيدوهنم على النصف‪.‬‬
‫وعند الشافعية يعطون من سهم العاملني ‪ -‬وهو الثمن ‪ -‬قدر أجرهتم ‪ ،‬فإن زادت أجرهتم على‬
‫سهمهم َتم هلم ‪ ،‬قيل ‪ :‬من سائر السهمان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من بيت املال‪.‬‬
‫اّلل بن عمر وابن زيد ‪ ،‬وقال جماهد والضحاك ‪:‬‬
‫وهذا الذي ذهب إليه الشافعي هو قول عبد ه‬
‫يعطون الثمن من الصدقات ‪ ،‬وظاهر اآلية معهما‪.‬‬
‫وفيما يعطاه العاملون شبه ابألجرة وشبه ابلصدقة‪.‬‬
‫فباالعتبار األول حل إعطاء العامل الغين ‪ ،‬وسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة رب املال إىل‬
‫اإلمام أو إىل الفقراء‪.‬‬
‫وابالعتبار الثاين ‪ :‬ال حتل للعامل من آل البيت ‪ ،‬وال ملوالهم ‪ ،‬وال لغري املسلم‪ .‬فعن ابن عباس‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪ :‬انطلقا إىل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أنه قال ‪ :‬بعث نوفل بن احلارث ابنيه إىل رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم حباجتهما ‪،‬‬
‫عمكما ‪ ،‬لعله يستعملكما على الصدقة ‪ ،‬فجاءا فحداث النيب صلهى ه‬
‫فقال هلما ‪« :‬ال حيل لكم أهل البيت من الصدقات شي ء ‪ ،‬ألهنا غسالة األيدي ‪ ،‬إن لكم يف‬
‫مخس اخلمس ما يغنيكم أو يكفيكم» «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أن يستعملك على الصدقة ‪،‬‬
‫وروي عن علي أنه قال للعباس ‪ :‬سل النيب صلهى ه‬
‫فسأله فقال ‪« :‬ما كنت ألستعملك على غسالة ذنوب الناس» «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أن يبعث أاب رافع ‪ -‬مواله ‪ -‬عامًل على الصدقات وقال ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وأىب رسول ه‬
‫«أما علمت أن موىل القوم منهم» «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن سعد كما يف كنز العمال للمتقي اهلندي حديث رقم (‪.)33451‬‬
‫(‪ )2‬روي عن ابن عباس كما يف كنز العمال للمتقي اهلندي حديث رقم (‪.)16530‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ )46 /3‬يف الزكاة ‪ ،‬ابب ما جاء يف كراهية الصدقة‬
‫حديث رقم (‪ ، )657‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )44 /2‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب الصدقة حديث رقم‬
‫(‪ ، )1650‬والنسائي يف السنن (‪ ، )112 /6 - 5‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب موىل القوم منهم حديث‬
‫رقم (‪.)2611‬‬

‫ص ‪462 :‬‬
‫ني َعلَْيها أنه جيب على اإلمام أن يبعث السعاة ألخذ‬‫ِِ‬
‫وأخذ بعض العلماء من قوله تعاىل ‪َ :‬والْعامل َ‬
‫اّلل عليه وسلهم واخللفاء من بعده‪.‬‬
‫الصدقة‪ .‬وأت هكد هذا الوجوب بعمل النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم استعمل ابن‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ففي «الصحيحني» «‪ »1‬من رواية أيب هريرة أن رسول ه‬
‫اللتبية على الصدقات‪.‬‬
‫وىل‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪ :‬ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وروى أبو داود والرتمذي «‪ »2‬عن أيب رافع موىل رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم رجًل من بين خمزوم على الصدقة فقال ‪ :‬اتبعين تصب منها‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فسألته فقال يل ‪« :‬إن موىل القوم من‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فقلت ‪ :‬حَّت أسأل رسول ه‬
‫أنفسهم»‪.‬‬
‫واألحاديث يف هذا الباب كثرية‪.‬‬
‫ويدل على الوجوب أيضا أن يف الناس من ميلك املال وال يعرف ما جيب عليه ‪ ،‬ومنهم من يبخل‬
‫‪ ،‬فوجب أن يبعث اإلمام من أيخذ الزكاة‪.‬‬
‫وال يبعث إال حرا عدال فقيها يستطيع أن جيتهد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها‪.‬‬
‫رب املال أن‬ ‫ِِ‬
‫ني َعلَْيها على أ هن أخذ الصدقات إىل اإلمام وأنه ال جيزئ ه‬
‫ويدل قوله تعاىل ‪َ :‬والْعامل َ‬
‫يعطيها املستحقني ‪ ،‬ألنه لو جاز ألرابب األموال أداؤها إىل املستحقني ملا احتيج إىل عامل‬
‫جلبايتها ‪ ،‬فيضر ابلفقراء واملساكني ‪ ،‬فدل ذلك على أن أخذها إىل اإلمام ‪ ،‬وأتكد هذا بقوله‬
‫ِ‬
‫ين ِيف أ َْمواهلِِ ْم َح ٌّق َم ْعلُ ٌ‬
‫وم (‪)24‬‬ ‫ِ‬
‫ص َدقَةً لكن رمبا يعارضه قوله تعاىل ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ِِ‬
‫تعاىل ‪ُ :‬خ ْذ م ْن أ َْمواهل ْم َ‬
‫وم (‪[ )25‬املعارج ‪ ]25 ، 24 :‬فإنه إذا كان ذلك احلق حقا للسائل واحملروم‬ ‫لِلسائِ ِل والْمحر ِ‬
‫ا َ َ ُْ‬
‫وجب أنه جيوز دفعه إليهما ابتداء‪.‬‬
‫من أجل ذلك ترى للعلماء تفصيًل يف أموال الزكاة ‪ :‬فإن كان مال الزكاة ابطنا فقد أمجعوا على‬
‫أن للمالك أن يفرقها بنفسه ‪ ،‬كما أ هن له أن يدفعها إىل اإلمام ‪ ،‬وإن كان مال الزكاة ظاهرا‬
‫كاملاشية والزروع والثمار فجمهور الصحابة والتابعني وفقهاء األمصار على أنهه جيب دفعها إىل‬
‫اإلمام ‪ ،‬فإن فرقها املالك بنفسه مل حيتسب له مبا أدى ‪ ،‬وهذا هو مذهب احلنفية واملالكية ‪،‬‬
‫ص َدقَةً وألن الزكاة مال لإلمام‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وقول من قويل الشافعي عمًل بظاهر قوله تعاىل ‪ُ :‬خ ْذ م ْن أ َْمواهل ْم َ‬
‫فيه حق املطالبة ‪ ،‬فوجب الدفع إليه كاخلراج واجلزية ‪ ،‬وقال الشافعي يف اجلديد ‪ :‬جيوز أن يفرقها‬
‫بنفسه ‪ ،‬ألهنا زكاة ‪ ،‬فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة الباطن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )676 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 3 ،‬ابب يف تقدمي الزكاة‬
‫حديث رقم (‪ ، )983 /1‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )156 /2‬كتاب الزكاة ‪- 49 ،‬‬
‫ابب قوله تعاىل ‪( :‬و يف الرقاب) حديث رقم (‪.)1468‬‬
‫(‪ )2‬سبق ترجيه‪.‬‬

‫ص ‪463 :‬‬
‫الصنف الرابع ‪ :‬املؤلفة قلوهبم قال العلماء ‪ :‬املؤلفة قلوهبم ضرابن ‪ :‬مسلمون وكفار ‪ ،‬فأما‬
‫الكفار فقد كانوا يتألفون الستمالة قلوهبم إىل الدخول يف اإلسًلم ‪ ،‬ولكف أذيتهم عن املسلمني‬
‫اّلل عليه وسلهم أعطى قوما من الكفار يتألف قلوهبم ليسلموا‬
‫‪ ،‬وقد ثبت أ هن النيب صلهى ه‬
‫‪ .‬ففي «صحيح مسلم» «‪»1‬‬
‫أنه أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنني‬
‫‪ ،‬وصفوان يومئذ كافر‪.‬‬
‫قسم من غنائم حنني للمتألفني من‬
‫اّلل عليه وسلهم ملا ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري أن رسول ه‬
‫احلي من األنصار يف أنفسهم ‪ ،‬وأنهه قال هلم ‪:‬‬
‫قريش ويف سائر العرب وجد هذا ه‬
‫«أوجدمت يف أنفسكم اي معشر األنصار يف لعاعة من الدنيا أتلفت هبا قواما ليسلموا ‪ ،‬ووكلتكم‬
‫اّلل لكم من اإلسًلم» «‪.»2‬‬
‫إىل ما قسم ه‬
‫واختلف العلماء يف إعطاء الكفار من سهم املؤلفة قلوهبم من الزكاة ‪ ،‬فروي عن احلسن وأيب ثور‬
‫وأمحد أهنم يعطون ‪ ،‬وهو قول عند املالكية‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وذهب احلنفية والشافعية وأكثر العلماء ‪ :‬إىل أن إعطاءهم إمنا كان يف عهد رسول ه‬
‫اّلل اإلسًلم‬
‫عز ه‬‫عليه وسلهم يف أول اإلسًلم يف حال قلة عدد املسلمني ‪ ،‬وكثرة عدوهم ‪ ،‬وقد أ ه‬
‫اّلل عنهم بعد رسول‬
‫وأهله ‪ ،‬واستغىن هبم عن أتلف الكفار ‪ ،‬ولذلك فإ هن اخللفاء الراشدين رضي ه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬إان ال نعطي على اإلسًلم شيئا‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يعطوهم ‪ ،‬وقال عمر رضي ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ه‬
‫‪ ،‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أعطاهم من مخس اخلمس وكان ملكا له‬
‫وأجابوا عن احلديث أبن النيب صلهى ه‬
‫خالصا يفعل فيه ما يشاء ‪ ،‬أما الزكاة فًل حق فيها للكفار‪.‬‬
‫وأما املسلمون من املؤلفة قلوهبم فهم أصناف ‪ :‬صنف هلم شرف يف قومهم يطلب بتألفهم إسًلم‬
‫نظائرهم‪ .‬وصنف أسلموا ونيتهم يف اإلسًلم ضعيفة ‪ ،‬فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا‪.‬‬
‫ففي «صحيح مسلم» «‪»3‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أعطى أاب سفيان بن حرب وصفوان بن أمية واألقرع بن‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أن رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مئة من اإلبل ‪ ،‬وأعطى رسول ه‬
‫الزبرقان بن بدر وعدي بن حامت أيضا لشرفهما يف قومهما‪.‬‬
‫وصنف اثلث ‪ :‬وهم قوم يليهم مجاعة من الكفار إن أعطوا قاتلوهم‪.‬‬
‫وصنف رابع ‪ :‬وهم قوم يليهم قوم من أهل الزكاة إن أعطوا جبوها منهم‪ .‬وقد ثبت أن أاب بكر‬
‫أعطى عدي بن حامت حني قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )733 /2‬كتاب الزكاة حديث رقم (‪.)1060‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 12 ، )733 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 46 ،‬ابب املؤلفة قلوهبم‬
‫حديث رقم (‪.)1061 /137‬‬
‫(‪ )3‬سبق ترجيه‪.‬‬

‫ص ‪464 :‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف املؤلفة قلوهبم من املسلمني ‪ ،‬فذهب احلنفية «‪ »1‬إىل أ هن سهم املؤلفة‬
‫اّلل عليه وسلهم سواء أكانوا من الكفار أم من املسلمني ‪ ،‬ألن‬
‫قلوهبم قد سقط بعد وفاته صلهى ه‬
‫املعىن الذي ألجله كانوا يعطون قد زال إبعزاز اإلسًلم واستغنائه عن أتليف القلوب واستمالتها‬
‫إىل الدخول فيه ‪ ،‬وذهب إىل هذا كثري من أئمة السلف ‪ ،‬واختاره الروايين ومجع من متأخري‬
‫أصحاب الشافعي ‪ ،‬وعلى هذا يكون عدد األصناف سبعة ال مثانية‪.‬‬
‫واملنقول عن نص الشافعي وأصحابه املتقدمني أن حكم املؤلفة قلوهبم من املسلمني ال يزال‬
‫معموال به ‪ ،‬وهو قول الزهري وأمحد ‪ ،‬وإحدى الروايتني عن مالك‪.‬‬
‫واآلية يف ظاهرها يشهد هلم‪.‬‬
‫واختلف القائلون بسقوط سهم املؤلفة يف توجيه رأيهم ‪ ،‬مع أن اآلية يف ظاهرها جعلت للمؤلفة‬
‫قلوهبم نصيبا من الزكاة ‪ ،‬فقال صاحب «اهلداية» «‪ »2‬من احلنفية ‪ :‬إن هذا الصنف من‬
‫اّلل عنه‬
‫األصناف الثمانية قد سقط ‪ ،‬وانعقد إمجاع الصحابة على ذلك يف خًلفة الصديق رضي ه‬
‫‪ ،‬وحينئذ يكون هذا اإلمجاع أو مستنده انسخا لآلية يف صنف املؤلفة‪.‬‬
‫وقال آخرون يف وجه سقوطه ‪ :‬إنه من قبيل انتهاء احلكم ابنتهاء علته ‪ ،‬كانتهاء جواز الصوم‬
‫ابنتهاء وقته وهو النهار‪.‬‬
‫الر ِ‬
‫قاب حمذوف ‪،‬‬ ‫الر ِ‬
‫قاب يف قوله تعاىل ‪َ :‬وِيف هِ‬‫الصنف اخلامس ‪ :‬ما أشار إليه بقوله ‪َ :‬وِيف هِ‬
‫الر ِ‬
‫قاب‬ ‫والتقدير ‪ :‬ويف فك الرقاب‪ .‬واختلف أهل العلم يف تفسري هِ‬
‫اّلل وجهه وسعيد بن جبري والزهري والليث بن سعد والشافعي وأكثر العلماء ‪:‬‬
‫علي كرم ه‬
‫فقال ه‬
‫يصرف سهم الرقاب إىل املكاتبني‪.‬‬
‫وقال مالك وأمحد ‪ :‬يشرتى بسهمهم عبيد ويعتقون ‪ ،‬ويكون والؤهم لبيت املال‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وأصحابه ‪ :‬ال يعتق من الزكاة رقبة كاملة ‪ ،‬ولكن يعطى منها يف رقبة ‪ ،‬ويعان هبا‬
‫مكاتب‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء ‪ :‬يفدى من هذا السهم األسارى‪.‬‬
‫اّللِ وهناك جيب الدفع‬
‫يل ا‬‫قاب كقوله ‪َ :‬وِيف َسبِ ِ‬
‫الر ِ‬
‫وحجة الشافعي وموافقيه أن قوله تعاىل ‪َ :‬وِيف هِ‬
‫إىل اجملاهدين ‪ ،‬فكذا هنا جيب الدفع إىل الرقاب ‪ ،‬وال ميكن الدفع إىل الشخص الذي يراد فك‬
‫رقبته إال إذا كان مكاتبا ‪ ،‬ولو اشرتى ابلسهم عبيدا مل يكن الدفع إليهم ‪ ،‬وإمنا هو دفع إىل‬
‫سادهتم ‪ ،‬وانتفاعهم ابلعتق ليس َتليكا ‪ ،‬أل هن العتق إسقاط‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)120 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪].....[ .)120 /2 - 1‬‬

‫ص ‪465 :‬‬
‫الر ِ‬
‫قاب يريد املكاتبني‪ .‬وأتكد هذا‬ ‫اّلل عنهما أنه قال ‪ :‬قوله َوِيف هِ‬‫وقد روي عن ابن عباس رضي ه‬
‫اّللِ الا ِذي آات ُك ْم [النور ‪.]33 :‬‬ ‫وه ْم ِم ْن ِ‬
‫مال ا‬ ‫بقوله تعاىل ‪َ :‬وآتُ ُ‬
‫وحجة املالكية أن الرقاب مجع رقبة ‪ ،‬وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فاملراد عتقها ‪ ،‬والعتق‬
‫والتحرير ال يكون إال يف القن ‪ ،‬كما يف الكفارات فًل بد من عتق رقبة كاملة ملكا ويدا ‪ ،‬وحجة‬
‫قاب يقتضي أن يكون للمزكي مدخل يف عتق الرقبة ‪ ،‬وذلك ينايف‬‫الر ِ‬
‫احلنفية أن قوله تعاىل ‪َ :‬وِيف هِ‬
‫كونه اتما فيه‪.‬‬
‫ومن قال بفك األسارى من سهم الرقاب يرى أن املراد تليص املسلم من حال النقص وفداء‬
‫مسلم وتليصه من أيدي الكفار أوىل من عتق مسلم َتلكه يد مسلمة‪.‬‬
‫وال نعلم خًلفا يف أنه ال جيوز إعطاء املكاتب الكافر ‪ ،‬وال عتق قن كافر‪.‬‬
‫والقائلون إبعطاء املكاتب شرطوا فيه احلاجة ‪ ،‬فإن حل عليه جنم ومل يكن معه ما يؤديه أعطي‬
‫مقدار النجم أو ما يكمله ‪ ،‬وإن كان معه ما يفي ابلنجم مل يعط شيئا‪.‬‬
‫قال الشافعي وأصحابه ‪ :‬جيوز صرف الزكاة إىل املكاتب بغري إذن سيده ‪ ،‬وجيوز الصرف إىل‬
‫السيد إبذن املكاتب ‪ ،‬وال جيوز الصرف إىل السيد بغري إذن املكاتب ‪ ،‬واألوىل صرفها للسيد‬
‫اّلل تعاىل أضاف الصدقات لألصناف األربعة الذين تق هدم ذكرهم ابلًلم ‪،‬‬
‫إبذن املكاتب ‪ ،‬ألن ه‬
‫وملا ذكر الرقاب أبدل حرف الًلم حبرف يف فقال ‪:‬‬
‫الر ِ‬
‫قاب فًل بد هلذا العدول من فائدة وهي أ هن األصناف األربعة األول يدفع إليهم نصيبهم‬‫َوِيف هِ‬
‫من الصدقات على أنه ملك هلم ‪ ،‬يتصرفون فيه كما شاؤوا‪ .‬وأما املكاتبون فيوضع نصيبهم يف‬
‫تليص رقبتهم من الرق ‪ ،‬فكان الدفع إىل السادات حمققا للصرف يف اجلهة اليت من أجلها‬
‫استحق املكاتبون سهم الزكاة ‪ ،‬وكذلك القول يف الغارمني يصرف املال إىل قضاء ديوهنم ‪ ،‬ويف‬
‫الغزاة يصرف املال إىل إعداد ما حيتاجون إليه ‪ ،‬وابن السبيل يعطي ما يعينه يف بلوغ مقصده‪.‬‬
‫الصنف السادس ‪ :‬الغارمون أصل الغرم يف اللغة اللزوم ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ :‬إِ ان َع َ‬
‫ذاهبا كا َن غَراماً‬
‫[الفرقان ‪ ]65 :‬والغرمي يطلق على صاحب الدين ‪ ،‬وعلى املدين ملًلزمة كل منهما صاحبه‪.‬‬
‫وأما الغارم فهو الذي عليه الدين ‪ ،‬ألنه التزمه وتكفل أبدائه‪ .‬ومل خيتلف العلماء أن الغارمني هم‬
‫املدينون ‪ ،‬وأما قول جماهد ‪ :‬الغارم من ذهب السيل مباله أو أصابه حريق فأذهب ماله فمحمول‬
‫على أنه أراد من ذهب ماله وعليه دين‪ .‬وأما من ذهب ماله وليس عليه دين فإنهه ال يسمى غرميا‬
‫‪ ،‬وإمنا يسمى فقريا أو مسكينا‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أن املدين يعطى مطلقا سواء أوجد وفاء لدينه أم ال ‪ ،‬وسواء استدان لنفسه أم لغريه‬
‫‪ ،‬وسواء أكان دينه يف معصية أم ال‪.‬‬

‫ص ‪ 466 :‬ولكن احلنفية خيصصون الغرمي مبن ال ميلك نصااب فاضًل عن دينه «‪ ، »1‬وحجتهم‬
‫يف ذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬و أردها يف فقرائكم»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫فإ هن هذا يدل على أ هن الصدقة ال تعطى إال للفقراء‪.‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬إن استدان لنفسه مل يعط إال مع الفقر ‪ ،‬وإن استدان إلصًلح ذات البني‬
‫أعطي من سهم الغارمني ‪ ،‬ولو كان غنيا ‪ ،‬ملا‬
‫اّلل عليه وسلهم أنهه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه عن رسول ه‬
‫روى أبو داود «‪ »2‬عن أيب سعيد اخلدري رضي ه‬
‫اّلل ‪ ،‬أو لعامل عليها ‪ ،‬أو لغارم ‪ ،‬أو‬
‫قال ‪« :‬ال حتل الصدقة لغين إال خلمسة ‪ :‬لغاز يف سبيل ه‬
‫لرجل اشرتاها مباله ‪ ،‬أو لرجل له جار مسكني ‪ ،‬فتص هدق على املسكني ‪ ،‬فأهدى املسكني إليه»‪.‬‬
‫وقال قوم ‪ :‬إذا كان الغرمي قد استدان يف معصية فإنه ال يدخل يف عموم اآلية ‪ ،‬ألن املقصود من‬
‫صرف املال املذكور يف اآلية اإلعانة ‪ ،‬واملعصية ال تستوجب اإلعانة ‪ ،‬ومثل هذا ال يؤمن إذا‬
‫أ هدي عنه دينه أن يستدين غريه ‪ ،‬فيصرفه يف الفساد‪.‬‬
‫اّللِ‪.‬‬
‫يل ا‬ ‫اّلل إليه بقوله ‪َ :‬وِيف َسبِ ِ‬
‫الصنف السابع ‪ :‬ما أشار ه‬
‫اّلل املذكور يف اآلية الكرمية إىل‬
‫اّلل ‪ :‬يصرف سهم سبيل ه‬ ‫قال أبو حنيفة ومالك والشافعي رمحهم ه‬
‫الغزاة الذين ال ح هق هلم يف الديوان ‪ ،‬وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا‪.‬‬
‫اّلل يف أصح الروايتني عنه ‪ :‬جيوز صرفه إىل مريد احلج‪.‬‬
‫وقال أمحد رمحه ه‬
‫وروي مثله عن ابن عمر‪.‬‬
‫اّلل تعاىل هو الغزو ‪،‬‬
‫وحجة األئمة الثًلثة املفهوم يف االستعمال املتبادر إىل األفهام أن سبيل ه‬
‫وأكثر ما جاء يف القرآن الكرمي كذلك ‪ ،‬وأن حديث أيب سعيد السابق يف صنف الغارمني يدل‬
‫على ذلك ‪ ،‬فإنه ذكر ممن حتل له الصدقة الغازي ‪ ،‬وليس يف األصناف الثمانية من يعطى ابسم‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫الغزاة إال الذين نعطيهم من سهم سبيل ه‬
‫واستدل ملا‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روى عن أمحد حبديث أيب داود «‪ »3‬عن ابن عباس أن رجًل قال لرسول ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وإهنا سألتين احلج معك‪.‬‬
‫وسلهم ‪ :‬إن امرأِت تقرأ عليك السًلم ورمحة ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أحجين مع رسول ه‬
‫قالت ‪ :‬ه‬
‫فقلت ‪ :‬ما عندي ما أحجك عليه‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬أحجين على مجلك فًلن‪.‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬ذلك حبيسي يف سبيل ه‬
‫اّلل»‪.‬‬
‫فقال ‪« :‬أما إنهك لو أحججتها عليه كان يف سبيل ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)121 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )38 /2‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب من جيوز له أخذ الصدقة حديث‬
‫رقم (‪.)1635‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )158 /2‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب العمرة حديث رقم (‪.)1990‬‬

‫ص ‪467 :‬‬
‫اّلل ولكن اآلية حممولة على الغزو ملا ذكرانه‪.‬‬
‫وأجاب اجلمهور أبن احلج يسمى سبيل ه‬
‫اّلل بطلب العلم ‪ ،‬وفسره يف «البدائع» «‪ »1‬جبميع القرب فيدخل فيه‬
‫وفسر بعض احلنفية سبيل ه‬
‫مجيع وجوه اخلري مثل تكفني املوتى ‪ ،‬وبناء القناطر ‪ ،‬واحلصون ‪ ،‬وعمارة املساجد ‪ ،‬ألن قوله‬
‫اّللِ عام يف الكل‪ .‬و هأاي ما كان األمر فقد اشرتط احلنفية للصرف يف سبيل ه‬
‫اّلل‬ ‫يل ا‬‫تعاىل ‪َ :‬وِيف َسبِ ِ‬
‫الفقر‪.‬‬
‫وقال ا لشافعية يعطي الغازي مع الفقر والغىن ‪ ،‬للخرب الذي ذكرانه يف الغارم ‪ ،‬ويعطى ما يستعني‬
‫به على الغزو من نفقة الطريق وما يشرتي به السًلح والفرس ‪ ،‬فإن أخذ ومل يغز اسرتجع منه‪.‬‬
‫الصنف الثامن ‪ :‬ابن السبيل ابن السبيل الذي يعطى من الصدقة ‪ :‬هو الذي يريد السفر يف غري‬
‫معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إال مبعونة‪ .‬قال العلماء ‪ :‬وإمنا يعطى ابن السبيل بشرط حاجته‬
‫يف سفره ‪ ،‬وال يضر غناه يف غري سفره ‪ ،‬فيعطى ما يبلغ به مقصده‪ .‬فإن كان سفره يف طاعة‬
‫كحج وغزو وزايرة مندوبة أعطي بًل خًلف‪.‬‬
‫وإن كان سفره يف معصية مل يعط بًل خًلف ‪ ،‬أل هن ذلك إعانة على املعصية‪.‬‬
‫وإن كان سفره يف مباح كرايضة فللشافعية فيه وجهان ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬ال يعطى ‪ ،‬ألنه غري حمتاج إىل هذا السفر‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬يعطى ‪ ،‬أل هن ما جعل رفقا ابملسافر يف طاعة جعل رفقا ابملسافر يف مباح كالقصر والفطر‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هذه مسألة تشرتك فيها األصناف السابقة كلها ‪ :‬قال الرافعي «‪ »2‬نقًل عن أصحاب‬
‫الشافعي ‪ :‬من سأل الزكاة وعلم اإلمام أنه ليس مستحقا مل جيز له صرف الزكاة إليه ‪ ،‬وإن علم‬
‫خيرجوه على اخلًلف يف قضاء القاضي بعلمه ‪ ،‬مع‬
‫استحقاقه جاز الصرف إليه بًل خًلف ‪ ،‬ومل ه‬
‫الرفق واملساهلة ‪ ،‬وليس فيها إضرار‬
‫أن التهمة هاهنا جماال أيضا للفرق أبن الزكاة مبنية على ه‬
‫مبعني ‪ ،‬خبًلف قضاء القاضي‪.‬‬
‫وإن مل يعرف حاله فالصفات قسمان ‪ :‬خفية وجلية‪.‬‬
‫فاخلفي ‪ :‬الفقر واملسكنة‪ .‬فًل يطالب مدعيه ببينة لعسرها ‪ ،‬فلو عرف له مال وادعى هًلكه مل‬
‫يقبل إال ببينة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع للكاساين بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية (‪.)46 - 45 /2‬‬
‫(‪ ) 2‬عبد الكرمي بن حممد القزويين ‪ ،‬شيخ الشافعية يف زمانه ‪ ،‬كان له جملس يف قزوين ‪ ،‬وتويف‬
‫منها سنة (‪ 623‬ه) ‪ ،‬ينتهي نسبه إىل رافع بن خديج الصحايب ‪ ،‬انظر األعًلم للزركلي (‪/4‬‬
‫‪.)55‬‬

‫ص ‪468 :‬‬
‫وأما اجللي فضرابن ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬يتعلق االستحقاق فيه مبعىن يف املستقبل ‪ ،‬وذلك يف الغازي وابن السبيل ‪ ،‬فيعطيان‬
‫بقوهلما بًل بينة وال ميني ‪ ،‬مث إن مل حيققا ما ادعيا ‪ ،‬ومل خيرجا اسرت هد منهما ما أخذا‪ .‬وإىل مَّت‬
‫حيتمل أتخري اخلروج؟ قال السرخسي ‪ :‬ثًلثة أايم ‪ ،‬قال الرافعي ‪ :‬ويشبه أن يكون هذا على‬
‫التقريب ‪ ،‬وأن يعترب ترصده للخروج ‪ ،‬وكون التأخري النتظار أو للتأهب أبهب السفر وحنوها‪.‬‬
‫الضرب الثاين ‪ :‬يتعلق االستحقاق فيه مبعىن يف احلال ‪ ،‬وهذا الضرب يشرتك فيه بقية األصناف‬
‫‪ ،‬فالعامل إذا ادعى العمل طولب ابلبينة ‪ ،‬وكذلك املكاتب ‪ ،‬والغارم ‪ ،‬وأما املؤلف قلبه فإن‬
‫قال ‪ :‬نييت ضعيفة يف اإلسًلم قبل قوله ‪ ،‬ألن كًلمه يصدقه ‪ ،‬وإن قال ‪ :‬أان شريف مطاع يف‬
‫قومي طولب ابلبينة‪.‬‬
‫قال الرافعي ‪ :‬واشتهار احلال بني الناس قائم مقام البينة يف كل من يطالب هبا من األصناف ‪،‬‬
‫حلصول العلم أو الظن ابالستفاضة اه من «جمموع» النووي «‪ »1‬بتصرف‪.‬‬
‫اّلل الصدقات‬
‫ت إخل جار جمرى قوله فرض ه‬
‫ص َدقا ُ‬ ‫ضةً ِم َن ا‬
‫اّللِ بعد قوله ‪ :‬إِ امنَا ال ا‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬فَ ِري َ‬
‫هلؤالء فريضة ‪ ،‬فهو زجر عن خمالفة هذا الظاهر ‪ ،‬وحترمي إلخراج الزكاة عن هذه األصناف َو ا‬
‫اّللُ‬
‫يم ال يشرع إال ما فيه اخلري والصًلح للعباد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم أبحوال الناس ومراتب استحقاقهم َحك ٌ‬ ‫َعل ٌ‬
‫مات أَبداً وال تَ ُقم َعلى قَ ِْربهِ إِ اهنُم َك َفروا ِاب اّللِ ورسولِهِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وال تُص ِل َعلى أ ٍ ِ‬
‫ََ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َحد م ْن ُه ْم َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َه‬ ‫قال ه‬
‫وماتُوا و ُهم ِ‬
‫فاس ُقو َن (‪)84‬‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫استَ غْ ِف ْر َهلُ ْم أ َْو ال تَ ْستَ غْ ِف ْر َهلُ ْم [التوبة ‪ ]80 :‬ما رواه البخاري «‪»2‬‬
‫ذكر يف تفسري قوله تعاىل ‪ْ :‬‬
‫اّلل بن أيب‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أن يصلي على عبد ه‬
‫وغريه عن ابن عمر حني أراد النيب صلهى ه‬
‫ونسوق احلديث بتمامه هنا أل هن فيه ذكر السبب يف نزول هذه اآلية ‪:‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل بن عبد ه‬
‫اّلل بن أيب بن سلول جاء ابنه عبد ه‬
‫اّلل عنهما ‪ :‬ملا تويف عبد ه‬
‫قال ابن عمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فسأله أن يعطيه قميصه يك هفن فيه أابه ‪ ،‬فأعطاه ‪ ،‬مث سأله‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫إىل رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ليصلي عليه ‪ ،‬فقام عمر ‪ ،‬فأخذ بثوب‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أن يصلهي عليه ‪ ،‬فقام رسول ه‬
‫اّلل أتصلهي عليه ‪ ،‬وقد هناك ربك أن تصلهي‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬اي رسول ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬حيىي بن شرف احلوراين النووي ‪ ،‬أبو زكراي ‪ ،‬حميي الدين ‪ ،‬عًلمة ابلفقه واحلديث تعلم يف‬
‫دمشق ‪ ،‬وأقام هبا زمنا طويًل له مصنفات ع هدة تويف سنة (‪ 676‬ه) انظر األعًلم للزركلي (‪/8‬‬
‫‪.)149‬‬
‫استَ غْ ِف ْر َهلُ ْم أ َْو ال‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري الصحيح (‪ - 65 ، )246 /5‬كتاب التفسري ‪ ،‬ابب ْ‬
‫تَ ْستَ غْ ِف ْر َهلُ ْم حديث رقم (‪.)4670‬‬

‫ص ‪469 :‬‬
‫استَ غْ ِف ْر َهلُ ْم أ َْو ال تَ ْستَ غْ ِف ْر‬
‫اّلل فقال ‪ْ :‬‬
‫خريين ه‬‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إمنا ه‬‫اّلل صلهى ه‬ ‫عليه! فقال رسول ه‬
‫ني َم ارةً وسأزيده على السبعني ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه منافق‪ .‬قال ‪ :‬فصلهى عليه‬ ‫َهلُ ْم إِ ْن تَ ْستَ غْ ِف ْر َهلُ ْم َس ْبعِ َ‬
‫َح ٍد ِم ْن ُه ْم اآلية»‬
‫ص ِهل َعلى أ َ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وال تُ َ‬
‫اّلل عليه وسلهم فأنزل ه‬ ‫اّلل صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬ ‫‪ .‬ويف رواية له «‪ »1‬عن ابن عباس عن عمر أنه قال ‪ :‬فلما أكثرت عليه صلهى ه‬
‫قال ‪:‬‬
‫«أ هخر عين اي عمر ‪ ،‬لو أعلم أين إن زدت على السبعني يغفر له لزدت عليها» احلديث‪.‬‬
‫والظاهر أ هن عمر فهم النهي الذي أشار إليه بقوله ‪ :‬تصلي عليه وقد هناك ربك من قوله تعاىل ‪:‬‬
‫استَ غْ ِف ْر َهلُ ْم أ َْو ال تَ ْستَ غْ ِف ْر َهلُ ْم اآلية ‪ ،‬وليس كما قال بعضهم أنه فهم النهي من قوله تعاىل ‪ :‬ما‬
‫ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫كا َن لِلنِ ِ ِ‬
‫ْم ْش ِركِ َ‬
‫ني [التوبة ‪ ]113 :‬إخل ‪ ،‬إذ لو كان عمر يشري إىل‬ ‫آمنُوا أَ ْن يَ ْستَ غْف ُروا لل ُ‬ ‫ايب َوالاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫ه‬
‫هذه اآلية ملا طابق اجلواب السؤال‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلهم أراد أن يصلهي على عبد ه‬‫اّلل صلهى ه‬‫وأخرج أبو يعلى وغريه عن أنس أن رسول ه‬
‫ص ِهل ‪ ...‬اآلية‬
‫بن أيب ‪ ،‬فأخذ جربيل عليه السًلم بثوبه فقال ‪َ :‬وال تُ َ‬
‫اّلل بن أيب‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يصل على عبد ه‬
‫‪ .‬فرواية أيب يعلى تدل على أنه صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم صلهى عليه فكان يف ذلك‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ولكن أكثر الرواايت تدل على أ هن رسول ه‬
‫ه‬
‫تعارض‪.‬‬
‫فاملعول عليه رواية البخاري ‪،‬‬
‫فبعض العلماء يقول ‪ :‬رواية أيب يعلى ال تعارض رواية البخاري ‪ ،‬ه‬
‫وبعضهم مجع بني الروايتني حسبما أمكن فقال ‪ :‬املراد يف الصًلة يف رواية عمر وابنه الصًلة‬
‫وتوجه‬
‫اللغوية مبعىن الدعاء ‪ ،‬أو أ هن املراد بقوله ‪( :‬فصلهى عليه) أنه دعا الناس للصًلة عليه ‪ ،‬ه‬
‫هم ابلصًلة عليه صًلة اجلنازة أخذ جربيل بثوبه إخل‪.‬‬
‫هبم إىل مكان امليت ‪ ،‬فلما ه‬
‫واملراد من الصًلة املنهي عنها صًلة اجلنازة املعروفة ‪ ،‬وفيه دعاء للميت واستغفار واستشفاع‪.‬‬
‫ومات ماض ابلنسبة إىل سبب النزول وزمان النهي ‪ ،‬وال ينايف عمومه ومشوله ملن سيموت‪.‬‬
‫َ‬
‫وأَبَداً ظرف متعلق ابلنهي‪.‬‬
‫ومعىن َوال تَ ُق ْم َعلى قَ ِْربهِ النهي عن الوقوف على قربه حني دفنه ‪ ،‬أو لزايرته‪.‬‬
‫وجوز بعضهم أن يراد ابلقرب ‪ :‬الدفن ويكون املعىن ‪ :‬ال تتول‬
‫ومعىن القرب على هذا مدفن امليت‪ .‬ه‬
‫دفنه‪.‬‬
‫إِ اهنُ ْم َك َف ُروا ِاب اّللِ َوَر ُسولِهِ تعليل للنهي عن الصًلة والقيام على القرب فإ هن الصًلة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري الصحيح (‪ - 65 ، )246 /5‬كتاب التفسري ‪ - 12 ،‬ابب ‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪.)4671‬‬

‫ص ‪470 :‬‬
‫على امليت والقيام على قربه احتفال ابمليت ‪ ،‬وإكرام له واحرتام ‪ ،‬وليس الكافر من أهل‬
‫االحرتام والتعظيم‪.‬‬
‫وماتُوا و ُهم ِ‬
‫فاس ُقو َن معناه أهنهم مع كفرهم متمردون يف دينهم خارجون عن احلد فيه‪.‬‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫والظاهر أ هن هذه اآلية ال تدل على وجوب الصًلة على موتى املسلمني ‪ ،‬بل غاية ما تفيده أ هن‬
‫الصًلة على امليت مشروعة ‪ ،‬والوجوب مستفاد من األحاديث الصحيحة ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬صلوا على صاحبكم» «‪»1‬‬
‫كقوله صلهى ه‬
‫وقد نقل العلماء اإلمجاع على ذلك إال ما حكي عن بعض املالكية أنهه جعلها سنة‪.‬‬
‫وقد دلت اآلية على معان ‪:‬‬
‫منها حظر الصًلة على موتى الكفار ‪ ،‬وحظر الوقوف على قبورهم حني دفنهم ‪ ،‬وكذلك تويل‬
‫دفنهم ‪ ،‬وأحلق بعض العلماء بذلك تشييع جنائزهم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم كان‬
‫ومنها مشروعية الوقوف على قرب املسلم إىل أن يدفن ‪ ،‬وأن النيب صلهى ه‬
‫يفعله «‪ .» 2‬وقد قام على قرب حَّت دفن امليت ‪ ،‬وكان ابن الزبري إذا مات له ميت مل يزل قائما‬
‫اّلل عنه قال عند‬
‫على قربه حَّت يدفن‪ .‬ويف «صحيح مسلم» «‪ »3‬أ هن عمرو بن العاص رضي ه‬
‫ويقسم‬
‫موته ‪ :‬إذا دفنتموين فسنوا علي الرتاب سنا ‪ ،‬مث أقيموا حول قربي قدر ما تنحر اجلزور ‪ ،‬ه‬
‫حلمها حَّت أستأنس بكم ‪ ،‬وانظر ماذا أراجع به رسل ريب‪.‬‬
‫قال اجلصاص ‪ :‬من الناس من جعل قوله تعاىل ‪َ :‬وال تَ ُق ْم َعلى قَ ِْربهِ قيام الصًلة‪.‬‬
‫َح ٍد ِم ْن ُه ْم َ‬
‫مات أَبَداً َوال تَ ُق ْم َعلى‬ ‫ص ِهل َعلى أ َ‬
‫قال ‪ :‬وهذا خطأ من التأويل ‪ ،‬ألنه تعاىل قال ‪َ :‬وال تُ َ‬
‫قَ ِْربهِ فنهى عن القيام على القرب كنهيه عن الصًلة على امليت ‪ ،‬فغري جائز أن يكون املعطوف هو‬
‫املعطوف عليه بعينه اه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك َس َك ٌن َهلُ ْم‬
‫صًلتَ َ‬ ‫ص َدقَةً تُطَ هِه ُر ُه ْم َوتُ َزهكي ِه ْم ِهبا َو َ‬
‫ص ِهل َعلَْي ِه ْم إِ ان َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ُ :‬خ ْذ م ْن أ َْمواهل ْم َ‬
‫قال ه‬
‫اّلل َِمس ِ‬
‫يم (‪)103‬‬ ‫َو اُ ٌ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َوتُ َزهكِي ِه ْم ‪ :‬تنمي حسناهتم وأمواهلم‪.‬‬
‫ص ِهل عَلَْي ِه ْم ‪ :‬ادع هلم ‪ ،‬واستغفر هلم‪.‬‬ ‫َو َ‬
‫َس َك ٌن من معاين السكن والسكون ‪ ،‬وما تسكن النفس إليه وتطمئن من األهل واملال والوطن‪.‬‬
‫يصح أن يكون مرادا‪.‬‬
‫كل من هذين املعنيني ه‬
‫و ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 23 ، )1237 /3‬كتاب الفرائض حديث رقم (‪/14‬‬
‫‪.)1619‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ - 23 ، )166 /3‬كتاب اجلنائز ‪ ،‬ابب االستغفار حديث رقم‬
‫(‪.)3221‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم الصحيح كتاب اإلميان حديث رقم (‪.)121‬‬

‫ص ‪471 :‬‬
‫سبب النزول‬
‫اّلل عليهم جاؤوا‬
‫اّلل عنهما أن هؤالء الذين اعرتفوا بذنوهبم ملها اتب ه‬
‫‪ :‬روي عن ابن عباس رضي ه‬
‫اّلل! هذه أموالنا اليت كانت سببا يف تلفنا ‪ ،‬فتصدق هبا عنا ‪ ،‬واستغفر‬
‫أبمواهلم فقالوا ‪ :‬اي رسول ه‬
‫لنا‪.‬‬
‫فقال عليه الصًلة والسًلم ‪« :‬ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت هذه اآلية ‪ ،‬فأخذ‬
‫اّلل عليه وسلهم من أمواهلم الثلث‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫قال احلسن ‪ :‬وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم‪.‬‬
‫وقد راع كثري من املفسرين سبب النزول ‪ ،‬فجعل الضمري يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ُخ ْذ خاصا هبذه احلادثة ‪ ،‬وتكون الصدقة املأخوذة منهم صدقة تطوع معتربة يف كمال توبتهم ‪،‬‬
‫وجارية يف حقهم جمرى الكفارة ‪ ،‬وليس املراد هبا الزكاة املفروضة ‪ ،‬ألهنا كانت واجبة من قبل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أبخذها هنا دفعا لتوهم إحلاقهم‬ ‫وعن اجلبائي أن املراد هبا الزكاة ‪ ،‬وأمر صلهى ه‬
‫ببعض املنافقني ‪ ،‬فإهنا مل تكن تقبل منهم ‪ ،‬كما يشري إليه قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل أَنْ ِف ُقوا طَْوعاً أ َْو َك ْرهاً‬
‫َن يُتَ َقبا َل ِم ْن ُك ْم [التوبة ‪.]53 :‬‬
‫لْ‬
‫ومن الناس من مل جيعل سبب النزول حكما على اآلية حيث قال ‪ :‬إ هن الضمري يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِم ْن أ َْمواهلِِ ْم راجع إىل أرابب األموال من املؤمنني مطلقا ‪ ،‬ويدخل فيهم الذين اعرتفوا بذنوهبم ‪،‬‬
‫وقد عرف مرجع الضمري بداللة احلال عليه ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬إِ اان أَنْ َزلْناهُ ِيف لَْي لَةِ الْ َق ْد ِر (‪[ )1‬القدر‬
‫ِ‬
‫ت‬
‫وار ْ‬
‫عز امسه ‪َ :‬ح اَّت تَ َ‬ ‫‪ ]1 :‬وقوله جل شأنه ‪ :‬ما تَ َر َك َعلى ظَ ْه ِرها م ْن َداباةٍ [فاطر ‪ ]45 :‬وقوله ه‬
‫جاب [ص ‪ ]32 :‬وعلى هذا الرأي أكثر الفقهاء ‪ ،‬إذا استدلوا هبذه اآلية‪ .‬على إجياب‬ ‫ِاب ْحلِ ِ‬
‫الزكاة‪ .‬قال اجلصاص ‪ :‬وهو الصحيح ‪ ،‬إذ مل يثبت أن هؤالء القوم ‪ -‬يعين املعرتفني ‪ -‬أوجب‬
‫اّلل عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكاة األموال ‪ ،‬وإذا مل يثبت بذلك خرب فالظاهر أهنم‬
‫ه‬
‫وسائر الناس سواء يف األحكام والعبادات ‪ ،‬وأهنم غري خمصوصني هبا دون غريهم من الناس ‪،‬‬
‫وإذا كان مقتضى اآلية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس كانت الصدقة هي الزكاة املفروضة‬
‫‪ ،‬إذ ليس يف أموال الناس ح هق واجب يقال له صدقة سوى الزكاة املفروضة‪.‬‬
‫وليس يف قوله تعاىل ‪ :‬تُطَ هِه ُر ُه ْم َوتُ َزهكِي ِه ْم ِهبا داللة على أهنا صدقة مكفرة للذنوب غري الزكاة‬
‫تطهر وتزكي مؤ هديها‪ .‬وسائر الناس من املكلفني حمتاجون‬
‫املفروضة ‪ ،‬أل هن الزكاة املفروضة أيضا ه‬
‫يطهرهم ويزكيهم‪.‬‬ ‫إىل ما ه‬
‫وقوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن أ َْمواهلِِ ْم عام يف أصناف األموال ‪ ،‬فيقتضي ظاهره أن يؤخذ من كل صنف بعضه‬
‫‪ ،‬وحكى اجلصاص عن شيخه أيب احلسن الكرخي أنه كان يقول ‪:‬‬

‫ص ‪472 :‬‬
‫مَّت أخذ من صنف واحد فقد قضى عهده اآلية ‪ ،‬وكذلك يقتضي ظاهر اللفظ ‪ ،‬أنه ال جيزئ‬
‫أخذ القيمة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‪ .‬وأكثر اآلايت‬
‫اّلل بيانه إىل الرسول صلهى ه‬
‫واملقدار املأخوذ جممل هنا ‪ ،‬قد وكل ه‬
‫اّلل فيها إجياب الزكاة ذكرت يف مواضع من كتابه بلفظ جممل مفتقر إىل البيان يف‬
‫اليت ذكر ه‬
‫املأخوذ واملأخوذ منه ‪ ،‬ومقادير النهصب ‪ ،‬ووقت االستحقاق ‪ ،‬فكان البيان فيها موكوال إىل بيان‬
‫اّلل تعاىل‬
‫نص ه‬ ‫اّلل فيها على الصنف الذي َتب فيه الزكاة ‪ ،‬فيما ه‬ ‫نص ه‬‫السنة ‪ ،‬وبعض اآلايت ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليه من أصناف األموال اليت َتب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله ‪َ :‬والاذ َ‬
‫ين يَكْن ُزو َن ال اذ َه َ‬
‫ب‬
‫ذاب أَلِي ٍم [التوبة ‪ ]34 :‬ومما نص عليه زكاة الزرع‬ ‫اّللِ فَبَ ِه‬
‫ش ْر ُه ْم بِ َع ٍ‬ ‫يل ا‬‫ضةَ َوال يُنْ ِف ُقوهنَا ِيف َسبِ ِ‬
‫َوال ِْف ا‬
‫وشات إىل قوله ‪ُ :‬كلُوا ِم ْن َمثَِرهِ إِذا أَ ْمث ََر‬
‫اات م ْعر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والثمار يف قوله جل شأنه ‪َ :‬و ُه َو الا ِذي أَنْ َ‬
‫شأَ َجن َ ُ‬
‫صادهِ [األنعام ‪ ]141 :‬وبينت السنة سائر األموال اليت َتب فيها الزكاة ‪:‬‬ ‫وآتُوا ح اقهُ ي وم ح ِ‬
‫َ َ َْ َ َ‬
‫مثل عروض التجارة واإلبل والبقر والغنم السائمة على إختًلف الفقهاء يف بعض ذلك‪.‬‬
‫ص ِهل عَلَيْ ِه ْم أنهه جيب على اإلمام أو انئبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪َ :‬و َ‬
‫‪ ،‬وهبذا أخذ داود وأهل الظاهر‪ .‬وأما سائر األئمة فقد محلوا األمر هنا على الندب واالستحباب‬
‫‪ ،‬قالوا ‪ :‬وإن ترك الدعاء جاز ‪ ،‬أل هن‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ملعاذ ‪« :‬أعلمهم أ هن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ‪ ،‬وتر هد يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫فقرائهم» «‪»1‬‬
‫ومل أيمره ابلدعاء هلم ‪ ،‬وأل هن الفقهاء مجيعا متفقون فيما لو دفع املالك الزكاة إىل الفقراء أنهه ال‬
‫يلزمهم الدعاء ‪ ،‬فيحمل األمر على االستحباب قياسا على أخذ الفقراء‪.‬‬
‫وأما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيني إال ما‬
‫صل على آل أيب أوىف»‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬اللهم ه‬
‫رواه الستة «‪ »2‬غري الرتمذي من قوله صلهى ه‬
‫ومن هنا قال احلنابلة وداود وأهل الظاهر ‪ :‬ال مانع أن يقول آخذ الزكاة اللهم صل على آل‬
‫فًلن ‪ ،‬وقال ابقي األئمة ‪:‬‬
‫ال جيوز أن يقال ‪ :‬اللهم صل على آل فًلن ‪ ،‬وإن ورد يف احلديث ‪ ،‬أل هن الصًلة صارت‬
‫اّلل وسًلمه عليهم ‪ ،‬كما أ هن‬
‫خمصوصة يف لسان السلف ابألنبياء صلوات ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق ترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ ، )756 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 54 ،‬ابب الدعاء ‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ، )1078 /176‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 24 ، )156 /2‬كتاب الزكاة ‪ - 64 ،‬ابب‬
‫صًلة اإلمام حديث رقم (‪.)1497‬‬

‫ص ‪473 :‬‬
‫وجل ‪ ،‬وإن كان عزيزا جليًل‬
‫عز ه‬‫ابّلل تعاىل ‪ ،‬وكما ال يقال ‪ :‬حممد ه‬
‫وجل» خمصوص ه‬
‫«عز ه‬
‫قولنا ‪ :‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وإن صح املعىن‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أو علي صلهى ه‬
‫‪ ،‬وال يقال ‪ :‬أبو بكر صلهى ه‬
‫قالوا ‪ :‬وإمنا أحدث الصًلة على غري األنبياء مبتدعو الرافضة يف بعض األئمة ‪ ،‬والتشبه أبهل‬
‫منهي عنه‪.‬‬
‫البدع ه‬
‫وال خًلف أنه جيوز أن جيعل غري األنبياء تبعا هلم ‪ ،‬فيقال ‪ :‬اللهم صل على حممد وعلى آله‬
‫وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه ‪ ،‬أل هن السلف استعملوه ‪ ،‬وأمران به يف التشهد وألن الصًلة‬
‫اّلل تعاىل قرن بينهما ‪ ،‬فًل‬
‫على التابع تعظيم للمتبوع‪ .‬قالوا ‪ :‬والسًلم يف حكم الصًلة ‪ ،‬أل هن ه‬
‫يفرد به غائب غري األنبياء‪.‬‬
‫وأما استحبابه يف خماطبة األحياء حتية هلم ‪ ،‬ويف حتية األموات ‪ ،‬فهو أمر معروف وردت به السنة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫اّلل فيما أعطيت ‪،‬‬
‫أحب أن يقول ‪ :‬آجرك ه‬
‫هذا وقد قال الشافعي ‪ :‬وأبي لفظ دعا جاز ‪ ،‬و ه‬
‫وجعله لك طهورا ‪ ،‬وابرك لك فيما أبقيت‪.‬‬
‫اّلل عنه هبذه اآلية ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنه تعاىل أمر رسوله أبخذ‬
‫واحتج مانعو الزكاة يف زمان أيب بكر رضي ه‬
‫الصدقات ‪ ،‬مث أمره أبن يصلهي عليهم ‪ ،‬وذكر أن صًلته سكن هلم ‪ ،‬فكان وجوب الزكاة‬
‫مشروطا حبصول ذلك السكن ‪ ،‬ومعلوم أ هن غري الرسول ال يقوم مقامه يف حصول ذلك السكن ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫فًل جيب دفع الزكاة إىل أحد غري الرسول صلهى ه‬
‫وهذه شبهة ضعيفة ‪ ،‬فإنهه لو سلم هلم أ هن هذه اآلية وردت يف وجوب الزكاة املفروضة ‪ ،‬فإ هن‬
‫انئب الرسول ‪ -‬وهو اإلمام العادل ‪ -‬قائم مقام الرسول يف كل ما يتعلق أبحكام الدين ‪ ،‬إال ما‬
‫قام الدليل على اختصاص الرسول به ‪ ،‬وليس تصيص الرسول ابخلطاب دليًل على اختصاص‬
‫احلكم به ‪ ،‬فإ هن معظم األحكام الشرعية وردت خطااب للرسول عليه الصًلة والسًلم ‪ :‬وإن سائر‬
‫اآلايت دلت على أ هن الزكاة إمنا وجبت دفعا حلاجة الفقري ‪ ،‬وإعانة على أبواب من الرب يف‬
‫مصلحة األمة ‪ ،‬فنظام الزكاة من النظم اجلليلة اليت حتقق مصلحة عامة جملموع األمة ‪ ،‬فهي ابقية‬
‫ما بقيت األمة‪.‬‬
‫ِ‬
‫يم مبا يف الضمائر من الندم‪ .‬أو أنه مسيع جييب دعاءك هلم‬ ‫يع يسمع االعرتاف ابلذنب َعل ٌ‬ ‫اّللُ َِمس ٌ‬
‫َو ا‬
‫‪ ،‬عليم مبا تقتضيه احلكمة يف مصاحل الناس‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وما كا َن ال ُْم ْؤِمنُو َن لِيَ نْ ِف ُروا َكافاةً فَلَ ْو ال نَ َف َر ِم ْن ُك ِهل فِ ْرقَةٍ ِم ْن ُه ْم‬
‫قال ه‬

‫ص ‪ 474 :‬طائَِفةٌ لِيَ تَ َف اق ُهوا ِيف ال هِدي ِن َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِذا َر َجعُوا إِل َْي ِه ْم ل ََعلا ُه ْم َْحي َذ ُرو َن (‪)122‬‬
‫فَلَ ْو ال للتحضيض ‪ ،‬وهي داخلة هنا على املاضي ‪ ،‬فتفيد التوبيخ والتنديد على ترك الفعل فيما‬
‫مضى ‪ ،‬واألمر به يف املستقبل‪.‬‬
‫والفرقة والطائفة مبعىن ‪ ،‬لكن سياق الكًلم هنا ‪ِ ،‬‬
‫وم ْن التبعيضية ‪ ،‬يقتضيان أ هن املراد ابلفرقة هنا‬ ‫ه‬
‫اجلماعة الكثرية ‪ ،‬وأن الطائفة مجاعة أقل من الفرقة املرادة هنا‪.‬‬
‫وعن السلف يف سبب نزول هذه اآلية روايتان ‪:‬‬
‫اّلل تعاىل ملا ش هدد على املتخلفني قالوا ‪:‬‬
‫اّلل عنهما أن ه‬
‫فروى الكليب «‪ »1‬عن ابن عباس رضي ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ال يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ‪ ،‬ففعلوا ذلك ‪ ،‬وبقي رسول ه‬
‫وسلهم وحده ‪ ،‬ونزل قوله تعاىل ‪َ :‬وما كا َن ال ُْم ْؤِمنُو َن لِيَ ْن ِف ُروا اآلية‪.‬‬
‫اّلل صلهى‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »2‬وابن املنذر عن جماهد أنه قال ‪ :‬إ هن انسا من أصحاب رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم خرجوا يف البوادي ‪ ،‬فأصابوا من الناس معروفا ‪ ،‬ومن اخلصب ما ينتفعون به ‪،‬‬
‫ه‬
‫ودعوا من وجدوا من الناس إىل اهلدى ‪ ،‬فقال هلم الناس ‪ :‬ما نراكم إال قد تركتم أصحابكم‬
‫حترجا ‪ ،‬وأقبلوا من البادية كلهم حَّت دخلوا على النيب‬ ‫وجئتموان ‪ ،‬فوجدوا يف أنفسهم من ذلك ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية ‪َ :‬وما كا َن ال ُْم ْؤِمنُو َن لِيَ نْ ِف ُروا إخل‪.‬‬
‫صلهى ه‬
‫هااتن روايتان خمتلفتان يف سبب النزول ‪ ،‬فرواية ابن عباس َتعل النفر املنهي عنه هو نفر املؤمنني‬
‫مجيعا للجهاد‪ .‬هنوا عن ذلك ملا يرتتب عليه من اإلخًلل ابلتعلم ‪ ،‬فكما أ هن اجلهاد فرض يف‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وأخذ األحكام املتجددة عنه‬
‫الدين ‪ ،‬كذلك تلقي العلم عن الرسول صلهى ه‬
‫فرض من فروض الدين ‪ ،‬فًل ينبغي أن يكون يف إقامة أحد الفرضني ‪ ،‬إخًلل ابآلخر ومن‬
‫كًل من الواجبني ‪ ،‬وطريق ذلك أن تنفر للجهاد طائفة من‬
‫امليسور أن جنمع بني الفرضني ونؤ هدي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬حَّت‬
‫كل فرقة ‪ ،‬وتبقى طائفة أخرى تتفقه يف الدين ‪ ،‬وتسمع من الرسول صلهى ه‬
‫إذا رجع إليهم إخواهنم من الغزو ‪ ،‬علموهم ما تلقوه من أحكام الدين‪ .‬وعلى هذا املعىن ‪ :‬ال‬
‫يكون قوله تعاىل ‪ :‬لِيَ تَ َف اق ُهوا متعلقا بنفر ‪ ،‬ألن النفر للجهاد ليس علة يف التفقه‪.‬‬
‫وإمنا هو متعلق بفعل مفهوم من الكًلم ‪ ،‬إذ املعىن لتنفر من كل فرقة طائفة‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬حممد بن السائب بن بشر بن عمرو بن احلارث الكليب ‪ ،‬أبو النضر ‪ ،‬نسبابة ‪ ،‬عامل ابلتفسري‬
‫واألخبار وأايم العرب ‪ ،‬ولد يف الكوفة وتويف فيها ‪ ،‬انظر األعًلم للزركلي (‪].....[ .)133 /6‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)48 /11‬‬

‫ص ‪475 :‬‬
‫وتبقى طائفة ليتفقهوا يف الدين ‪ ،‬فضمري يتفقهوا وينذروا يعود إىل الطائفة الباقية‪.‬‬
‫ورواية جماهد َتعل النفر املنهي عنه هو خروجهم مجيعا لطلب العلم والتفقه يف الدين ‪ ،‬هنوا عن‬
‫اّلل وخريه ابلتجارة والزراعة‬
‫ذلك ملا فيه من اإلخًلل بتعاطي أسباب الكسب واالبتغاء من فضل ه‬
‫ووسائل الكسب ‪ ،‬فكما أ هن طلب العلم ومعرفة احلًلل واحلرام من فرائض الدين ‪ ،‬كذلك ابتغاء‬
‫اّلل هبذه الوسائل من فرائض الدين ‪ ،‬فًل ينبغي أن تكون إحدى العبادتني سببا يف اإلخًلل‬
‫فضل ه‬
‫ابألخرى ‪ ،‬واجلمع بينهما ميسور أبن تنفر من كل فرقة طائفة لتتفقه يف الدين ‪ ،‬وتعلهم قومها إذا‬
‫رجعت إليهم ‪ ،‬وهذا املعىن هو مقتضى ظاهر اآلية ‪ ،‬واتساقها ‪ ،‬فإ هن النفر على هذا املعىن يكون‬
‫علة للتفقه يف الدين ‪ ،‬والطائفة النافرة هي اليت تتفقه يف الدين ‪ ،‬وهي اليت تنذر قومها إذا رجعت‬
‫إليهم‪ .‬لكن يعكر على هذا املعىن أ هن اآلية تكون منقطعة عما قبلها ‪ ،‬فإ هن ما قبلها وارد يف شأن‬
‫اّلل ‪ ،‬ونصرة دينه ‪ ،‬إال أن يقال ‪ :‬إنه سبحانه وتعاىل ملا هبني وجوب اهلجرة‬
‫اجلهاد والغزو يف سبيل ه‬
‫واجلهاد ‪ ،‬وكل منهما سفر لعبادة ‪ ،‬انسب ذلك أن يذكر السفر اآلخر وهو اهلجرة لطلب العلم‬
‫والتفقه يف الدين ‪ ،‬واآلية على كًل الرأيني تد هل على أن التفقه يف الدين من فروض الكفاية‪.‬‬
‫وما‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬طلب العلم فريضة على كل‬
‫روي عن أنس بن مالك أ هن النيب صلهى ه‬
‫مسلم»‬
‫فعلى تسليم صحته يكون حمموال على ما يتوقف عليه أداء الفرائض ‪ ،‬فمن ال يعرف حدود‬
‫الصًلة ومواقيتها فحتم عليه أن يتعلمها ‪ ،‬وكذلك الزكاة والصوم واحلج وسائر الفروض‪.‬‬
‫أما ما سوى ذلك من األحكام الدينية اليت ال تتوقف عليها صحة عبادته فتعلمها فرض على‬
‫الكفاية ‪ ،‬إذا قام به بعض املسلمني سقط عن الباقني‪.‬‬
‫وتدل اآلية أيضا على أ هن خرب الواحد حجة ‪ ،‬أل هن الطائفة مأمورة ابإلنذار ‪ ،‬واإلنذار يقتضي فعل‬
‫ه‬
‫املأمور به ‪ ،‬وإال مل يكن إنذارا ‪ ،‬وألنهه سبحانه أمر القوم ابحلذر عند اإلنذار ‪ ،‬ألن معىن قوله‬
‫تعاىل ‪ :‬ل ََعلا ُه ْم َْحي َذ ُرو َن ليحذروا‪.‬‬
‫وليس االستدالل ابآلية على حجية خرب الواحد متوفقا على أ هن الطائفة تصدق على الواحد‬
‫الذي هو مبدأ األعداد ‪ ،‬بل يكفي يف ذلك صدقها على ما مل يبلغ ح هد التواتر‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن ُك ِهل فِ ْرقَةٍ عام يقتضي أن ينفر من كل مجاعة تفردوا بقرية ‪ -‬قلوا أو كثروا ‪-‬‬
‫طائفة‪.‬‬

‫ص ‪476 :‬‬
‫وكان الظاهر أن يقال بدل َولِيُ نْ ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِذا َر َجعُوا إِل َْي ِه ْم ل ََعلا ُه ْم َْحي َذ ُرو َن ليعلهموا قومهم إذا‬
‫رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ‪ ،‬لكنه اختري ما يف النظم اجلليل لإلشارة إىل أنهه ينبغي أن يكون‬
‫غرض املعلهم اإلرشاد واإلنذار ‪ ،‬وغرض املتعلم اكتساب اخلشية ال التبسط واالستكبار‪.‬‬
‫اّلل ‪ :‬كان اسم الفقه يف العصر األول امسا لعلم اآلخرة ‪،‬‬
‫قال حجة اإلسًلم الغزايل «‪ »1‬رمحه ه‬
‫ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات األعمال ‪ ،‬وقوة اإلحاطة حبقارة الدنيا ‪ ،‬وشدة التطلع‬
‫إىل نعيم اآلخرة ‪ ،‬واستيًلء اخلوف على القلب ‪ ،‬ويدل عليه هذه اآلية ‪ ،‬فما به اإلنذار‬
‫والتخويف هو الفقه ‪ ،‬دون تعريفات الطًلق واللعان والسلم واإلجارات‪.‬‬
‫وسأل فرقد السبخي احلسن عن شيء فأجابه فقال ‪ :‬إن الفقهاء خيالفونك ‪ ،‬فقال احلسن ‪:‬‬
‫ثكلتك أمك! هل رأيت فقيها بعينك ‪ ،‬إمنا الفقيه الزاهد يف الدنيا ‪ ،‬الراغب يف اآلخرة ‪ ،‬البصري‬
‫الكاف عن أعراض املسلمني ‪ ،‬العفيف عن أمواهلم ‪،‬‬
‫ه‬ ‫بدينه ‪ ،‬املداوم على عبادة ربه ‪ ،‬الورع‬
‫الناصح جلماعتهم ‪ ،‬ومل يقل يف مجيع ذلك احلافظ لفروع الفتاوى ا ه‪.‬‬
‫ين يَلُونَ ُك ْم ِم َن الْ ُك افا ِر َولْيَ ِج ُدوا فِي ُك ْم ِغلْظَةً َوا ْعلَ ُموا‬ ‫ِ ِ‬
‫آمنُوا قاتلُوا الاذ َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الاذ َ‬
‫ين َ‬ ‫قال ه‬
‫ني (‪ )123‬الغلظة ‪ :‬الشدة يف القتال والعنف يف القتل واألسر وحنو ذلك‪.‬‬ ‫اّللَ َم َع ال ُْمت ِاق َ‬
‫أَ ان ا‬
‫وه ْم [التوبة‬
‫ث َو َج ْدَتُُ ُ‬ ‫وروي عن احلسن أ هن هذه اآلية منسوخة بقوله تعاىل ‪ :‬فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َح ْي ُ‬
‫‪.]5 :‬‬
‫واحملققون على أنه ال نسخ إذ ال تعارض بني هذه اآلية واآلايت اليت زعمها احلسن انسخة‪ .‬فقوله‬
‫وه ْم ورد يف األمر بقتال املشركني مجيعا يف أي مكان كانوا‪.‬‬
‫ث َو َج ْدَتُُ ُ‬ ‫تعاىل ‪ :‬فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني َحيْ ُ‬
‫واآلية اليت معنا لإلرشاد ‪ ،‬ورسم اخلطة املثلى يف قتل الكفار ‪ ،‬إذ من املعلوم أنه ال ميكن قتال‬
‫مجيع الكفار ‪ ،‬وغزو مجيع البًلد يف وقت واحد ‪ ،‬فكان أحسن اخلطط يف قتاهلم البدء بقتال‬
‫األقرب فاألقرب ‪ ،‬حَّت يصلوا إىل األبعد فاألبعد ‪ ،‬وبذلك حيصل الغرض من قتال املشركني‬
‫كافهة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬حممد بن حممد بن حممد الغزايل ‪ ،‬أبو حامد ‪ ،‬حجة اإلسًلم ‪ ،‬فيلسوف متصوف رحل إىل‬
‫نيسابور مث بغداد مث احلجاز فمصر وعاد إىل بلدته له مؤلفات عديدة ‪ ،‬انظر األعًلم للزركلي‬
‫(‪.)22 /7‬‬

‫ص ‪477 :‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ :‬ولْيَ ِج ُدوا فِي ُك ْم ِغلْظَةً ليس املقصود به أمر الكفار أبن جيدوا يف املؤمنني غلظة ‪ ،‬بل‬
‫املراد أمر املؤمنني ابالتصاف ابلغلظة على الكفار ‪ ،‬حَّت جيدهم الكفار متصفني بذلك‪.‬‬
‫اّللَ َم َع ال ُْمت ِاق َ‬
‫ني ابلعصمة والنصر‪.‬‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أَ ان ا‬
‫وإذا كان املراد ابملتقني املخاطبني كان التعبري ابملظهر بدل الضمري للتنصيص على أ هن اإلميان‬
‫والقتال على الوجه املذكور من ابب التقوى ‪ ،‬والشهادة بكوهنم من زمرة املتقني‪.‬‬
‫وإذا كان املراد ابملتقني اجلنس كان املخاطبون داخلني فيه دخوال أوليا ‪ ،‬والكًلم تعليل وتوكيد ملا‬
‫واّلل مع‬
‫اّلل معكم ‪ ،‬أو ألنهكم متقون ‪ ،‬ه‬
‫قبله ‪ ،‬أي قاتلوهم ‪ ،‬وأغلظوا عليهم ‪ ،‬وال تافوهم ‪ ،‬أل هن ه‬
‫املتقني‪.‬‬

‫ص ‪478 :‬‬
‫من سورة النحل‬
‫سناً إِ ان ِيف ذلِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وِمن َمثَر ِ‬
‫ات الن ِ‬
‫ك َآليَةً‬ ‫يل َو ْاألَ ْعناب تَتاخ ُذو َن منْهُ َس َكراً َو ِر ْزقاً َح َ‬
‫اخ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫قال ه‬
‫لِ َق ْوٍم يَ ْع ِقلُو َن (‪)67‬‬
‫اخ ُذو َن ‪ ،‬والسكر يف األصل مصدر سكر يضم ويفتح‬ ‫وجيوز أن يكون متعلقا بقوله تعاىل ‪ :‬تَت ِ‬
‫كالرشد والرشد ‪ ،‬وقد اختلف السلف يف أتويل السكر والرزق احلسن ‪ ،‬فروي عن احلسن‬
‫وسعيد بن جبري السكر ‪ :‬ما حرم منه ‪ ،‬والرزق احلسن ما حل منه‪.‬‬
‫وروي عن مجاعة منهم النخعي والشعيب أن السكر مخر ‪ ،‬وعن ابن شربمة أنه مخر إال أنه من‬
‫التمر‪ .‬وقد فهم هؤالء من االمتنان ابتاذه حلهه يف األصل ‪ ،‬مث قالوا ‪:‬‬
‫هو منسوخ بتحرمي اخلمر‪.‬‬
‫وروي عن ابن عباس حنو قول األولني الذين قالوا ‪ :‬السكر احملرم ‪ ،‬والرزق احلسن احلًلل‪.‬‬
‫السكر النبيذ ‪ ،‬والرزق احلسن الزبيب ‪ ،‬وقد يتعلق احلنفية يف االستدالل أليب‬
‫وروي عنه أيضا أ هن ه‬
‫حنيفة هبذه اآلية يف حتليل قليل املسكر من غري اخلمر ‪ ،‬ويقولون ‪:‬‬
‫السكر من مثرات النخيل واألعناب ‪ ،‬وال يقع االمتنان إال مبحلهل‬
‫اّلل امنت على عباده ابتاذ ه‬
‫إ هن ه‬
‫‪ ،‬فيكون ذلك دليًل على جواز شرب ما دون املسكر من النبيذ ‪ ،‬فإذا وصل إىل السكر مل جيز‪.‬‬
‫ضدون هذا من السنة مبا‬
‫ويع ه‬
‫اّلل اخلمر بعينها ‪:‬‬
‫«حرم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪ :‬ه‬
‫روي عن النيب صلهى ه‬
‫والسكر من كل شراب» «‪»1‬‬
‫القليل منها والكثري‪ .‬ه‬
‫‪ ،‬وأنت تعلم أن االستدالل ابالمتنان يف اآلية ال ينهض ‪ ،‬فإنه إن كانت اآلية قبل حترمي اخلمر‬
‫اّلل السكر غري الرزق احلسن ‪ ،‬وذلك كاف‬
‫فهي تدل على أهنا غري مرغوب فيها ‪ ،‬إذ قد جعل ه‬
‫يف تقبيحها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال عند نزول هذه اآلية ‪« :‬إ هن ربكم ليقدم يف حترمي‬
‫وقد روي أ هن النيب صلهى ه‬
‫اخلمر» «‪»2‬‬
‫‪ ،‬على أ هن اآلية قد مجع فيها بني اتاذ السكر والرزق احلسن من مثرات‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )729 /8 - 7‬كتاب األشربة حديث رقم (‪- 5714‬‬
‫‪( .)5717‬بلفظ خمتلف)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)318 /2‬‬

‫ص ‪479 :‬‬
‫النخيل واألعناب ‪ ،‬فيجوز أن يكون ذلك مجعا بني العتاب يف اتاذ السكر ‪ ،‬واالمتنان ابلرزق‬
‫احلسن ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬أتتخذون منه سكرا ورزقا حسنا‪.‬‬
‫وإن كانت بعد التحرمي ففي مقابلة السكر ابلرزق احلسن ما يرده إىل احملرم ‪ ،‬ويكون ذلك تقريعا‬
‫شديدا ملن يقدم عليه‪.‬‬
‫واحلاصل أ هان نرى أن اآلية ليس فيها ما يشهد ابحلل ‪ ،‬إذ الكًلم يف االمتنان خبلق األشياء ملنافع‬
‫اّلل يف شأن اخلمر ‪:‬‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ومل تنحصر املنافع يف حل التناول ‪ ،‬فقد قال ه‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر قُ ْل فِي ِهما إِ ْمثٌ َكبِريٌ َوَمنافِ ُع لِلن ِ‬
‫ااس [البقرة ‪ ]219 :‬فهل احنصرت‬ ‫ك َع ِن ْ‬
‫يَ ْسئَ لُونَ َ‬
‫منافع السكر على فرض أنه النبيذ يف الشرب؟‬
‫ك َآليَةً لَِق ْوٍم يَ ْع ِقلُو َن ستعملون عقوهلم ابلنظر والتأمل ‪ ،‬فيعلمون أن رهبم هبم رؤوف‬
‫إِ ان ِيف ذلِ َ‬
‫خيص ابلعبادة وحده‪.‬‬ ‫رحيم ‪ ،‬وأنه جيب أن ه‬
‫طان ال ارِجي ِم (‪)98‬‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫استَعِ ْذ ِاب اّللِ ِم َن ال ا‬
‫ْت الْ ُق ْرآ َن فَ ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَِإذا قَ َرأ َ‬ ‫قال ه‬
‫ظاهر اآلية جعل االستعاذة عقب القراءة ‪ ،‬وبه قال بعض الظاهرية‪ .‬واجلمهور على أن ذلك على‬
‫صًلةِ [املائدة ‪ ]6 :‬وقوله ‪َ :‬وإِذا قُلْتُ ْم فَا ْع ِدلُوا‬ ‫حد قوله ‪ :‬إِذا قُ ْمتُ ْم إِ َىل ال ا‬
‫جاب [األحزاب ‪]53 :‬‬ ‫وه ان ِم ْن َور ِاء ِح ٍ‬ ‫وه ان َمتاعاً فَ ْسئَ لُ ُ‬ ‫[األنعام ‪ ]152 :‬وقوله ‪َ :‬وإِذا َسأَلْتُ ُم ُ‬
‫ص َدقَةً [اجملادلة ‪ ]12 :‬الذي تطلب من‬ ‫ني يَ َد ْي َْجنوا ُك ْم َ‬ ‫ول فَ َق هِد ُموا بَ َْ‬ ‫وقوله ‪ :‬إِذا َ‬
‫انج ْي تُ ُم ال ار ُس َ‬
‫أجله االستعاذة ‪ -‬وهو دفع وسوسة الشيطان ‪ -‬يقتضي حتصيل االستعاذة قبل القراءة ‪ ،‬وهذا‬
‫يب إِاال إِذا َتََ اىن أَلْ َقى ال ا‬
‫ش ْيطا ُن ِيف‬ ‫ٍ‬ ‫املعىن يشري إىل قوله تعاىل ‪ :‬وما أَرسلْنا ِمن قَبلِ َ ِ‬
‫ك م ْن َر ُسول َوال نَِ ٍه‬ ‫َ َْ ْ ْ‬
‫ش ْيطا ُن [احلج ‪.]52 :‬‬ ‫اّللُ ما يُل ِْقي ال ا‬ ‫خ ا‬ ‫سُ‬ ‫ِ ِِ‬
‫أ ُْمنياته فَيَ ْن َ‬
‫وكيفية االستعاذة عند مجهور القراء أن يقول ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ابّلل من الشيطان الرجيم» وقد تضافرت الرواايت عن رسول ه‬
‫«أعوذ ه‬
‫هبذه الصيغة «‪»1‬‬
‫ابّلل السميع العليم من الشيطان الرجيم «‪ ، »2‬واألمر هبا‬
‫‪ ،‬وهناك صيغ أخرى وردت ‪ :‬كأعوذ ه‬
‫للندب عند اجلمهور ‪ ،‬وعن الثوري أهنا واجبة ‪ ،‬وظاهر اآلية يؤيده ‪ ،‬إذ األمر للوجوب‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يعلمها األعرايب‬
‫واجلمهور يقولون ‪ :‬إنه صرفها عن الوجوب ما ورد أنهه صلهى ه‬
‫«‪ »3‬وأيضا فقد روي أنه كان يرتكها‪.‬‬
‫مث هل هي مندوبة يف أول الصًلة فقط أو يف كل ركعة ‪ ،‬خًلف بني الفقهاء يعرف يف الفقه ‪،‬‬
‫ومبناه على أ هن االستعاذة قد رتبت على شرط ‪ ،‬فتتكرر بتكرره‪ .‬مث‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)130 /4‬‬
‫اّلل‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )298 /1‬كتاب الصًلة ‪ ،‬ابب من مل ير اجلهر ببسم ه‬
‫حديث رقم (‪.)785‬‬
‫(‪ )3‬انظر ما رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )298 /1‬كتاب الصًلة ‪ - 11 ،‬ابب وجوب‬
‫قراءة الفاحتة حديث رقم (‪.)397 /45‬‬

‫ص ‪480 :‬‬
‫بعد ذلك هل الصًلة عمل واحد فيكتفى ابالستعاذة يف أوهلا ‪ ،‬فمن راعى أهنا عمل واحد مفتتح‬
‫بقراءة يقول ‪ :‬إهنا طلبت يف بدء القراءة ‪ ،‬وقد قاهلا ‪ ،‬فًل يكررها ‪ ،‬ألنهه مل يفرغ من العمل الذي‬
‫بدأه هبا‪ .‬واآلخرون يرون أهنا قد رتهبت على القراءة ‪ ،‬وكل ركعة فيها فيبدأ قراءته يف كل ركعة‬
‫ابالستعاذة‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬م ْن َك َف َر ِاب اّلل م ْن بَ ْعد إِميانه إِاال َم ْن أُ ْك ِرهَ َوقَلْبُهُ ُمط َْمئ ٌّن ِاب ِْإلميان َولك ْن َم ْن َش َر َ‬
‫ح‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ضب ِمن اِ‬
‫يم (‪)106‬‬ ‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫اّلل َوَهلُ ْم َع ٌ‬ ‫ص ْدراً فَ َعلَْي ِه ْم غَ َ ٌ َ‬‫ِابلْ ُك ْف ِر َ‬
‫يف قوله تعاىل ‪َ :‬م ْن َك َف َر ِاب اّللِ ِم ْن بَ ْع ِد إِميانِهِ وجوه من اإلعراب ‪ ،‬أحسنها أ هن (من) مبتدأ حمذوف‬
‫ابّلل من بعد إميانه‬ ‫اّللِ والتقدير ‪ :‬من كفر ه‬ ‫ب ِم َن ا‬ ‫ضٌ‬ ‫اخلرب ‪ ،‬يدل عليه قوله بعد ذلك فَ َعلَْي ِه ْم غَ َ‬
‫فعليه غضب إال من أكره إخل‪.‬‬
‫واحلذف يف مثل ذلك كثري ‪ ،‬وجوز الرفع على القطع ‪ ،‬والنصب على إضمار فعل الذم ‪،‬‬
‫واستبعد أبو حيان النصب على الذم‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ورد أبن املبدل منه مطروح من‬
‫وجوز بعضهم كون (من) بدال من الذين ال يؤمنون آبايت ه‬
‫الكًلم ‪ ،‬وهو حينئذ يقتضي أن ال يفرتي الكذب إال من كفر بعد إميانه ‪ ،‬وأيضا هذا يتناىف مع‬
‫سياق اآلية األوىل ‪ ،‬ألهنا سيقت للرد على كفار قريش ‪ ،‬وهم كفار أصليون‪.‬‬
‫وجوز بعضهم غري ذلك ‪ ،‬وأما قوله ‪ :‬إِاال َم ْن أُ ْك ِرهَ فهو استثناء متصل من (من) ‪ ،‬أل هن الكفر‬
‫أعم من أن يكون اعتقادا فقط ‪ ،‬أو قوال فقط ‪ ،‬أو اعتقادا وقوال ‪ ،‬ومن نطق بكلمة الكفر كافر‬
‫ه‬
‫‪ ،‬واطمئنان قلبه ابإلميان أمر مبطن ال اطًلع ألحد عليه ‪ ،‬ولذلك صح االستثناء ظاهرا‪.‬‬
‫وقَلْبهُ مطْمئِ ٌّن ِاب ِْإل ِ‬
‫ميان أصل االطمئنان سكون بعد انزعاج ‪ ،‬واملراد هنا السكون والثبات على‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫يستدل ابآلية على أن اإلميان هو التصديق ابلقلب ‪،‬‬
‫ه‬ ‫اإلميان بعد االنزعاج احلاصل ابإلكراه ‪ ،‬وقد‬
‫حيث اكتفي بوجود االعتقاد ‪ ،‬وهو استدالل واه ‪ ،‬إذ إ هن من يقول ‪ :‬إن القول ركن اإلميان ال‬
‫يعين أنه ال يسقط للضرورة ترخيصا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ص ْدراً أنس به ‪ ،‬واطمأن إليه ‪ ،‬واعتقده ‪ ،‬وطابت به نفسه ‪ ،‬وانفسح له‬ ‫ح ِابلْ ُك ْف ِر َ‬
‫َولك ْن َم ْن َش َر َ‬
‫ِ‬ ‫ضب ِمن اِ‬
‫يم‬
‫ذاب عَظ ٌ‬
‫اّلل ‪ ،‬والتنوين للتهويل َوَهلُ ْم عَ ٌ‬ ‫صدره ‪ ،‬و(من) شرطية ‪ ،‬وجواهبا فَ َعلَيْ ِه ْم غَ َ ٌ َ‬
‫يتناسب مع عظيم جرمهم‪.‬‬
‫وقد روي يف أسباب نزول هذه اآلية أ هن عمار بن ايسر وقوما كانوا أسلموا ‪ ،‬ففتنهم املشركون ‪،‬‬
‫فثبت على اإلسًلم بعضهم ‪ ،‬وافتنت بعضهم‪ .‬وقد روي أ هن عمارا أخذه بنو املغرية ‪ ،‬فغطوه يف‬
‫اّلل صلهى‬
‫بئر ميمون ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬اكفر مبحمد ‪ ،‬فتابعهم على ذلك وهو كاره ‪ ،‬فشكا إىل رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فقال له ‪« :‬كيف َتد قلبك؟» قال ‪ :‬مطمئنا‬
‫ه‬

‫ص ‪481 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬فإن عادوا فعد» فنزلت هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫ابإلميان ‪ ،‬فقال النيب صلهى ه‬
‫وقد قالوا ‪ :‬إن هذا أصل يف جواز إظهار الكفر يف حال اإلكراه وقالوا أيضا ‪ :‬إ هن اإلكراه الذي‬
‫يبيح ذلك هو أن يبلغ ح هدا خياف معه على نفسه أو بعض أعضائه التلف‪ .‬إن مل يفعل ما أمر به‬
‫‪ ،‬فأبيح له يف هذه احلالة أن يظهر الكفر‪.‬‬
‫وقد قالوا ‪ :‬جيب أن جينح إىل التعريض فيما أمر به ما أمكنه ‪ ،‬فإن ضيهق عليه حَّت مل يكن‬
‫يعرض كان كافرا‪ .‬وأما إن مل خيطر‬
‫للتعريض سبيل وسعه أن يفعل ‪ ،‬فإن خطر بباله التعريض ومل ه‬
‫بباله شيء من ذلك أبن كان مهه أن خيرج من اإلكراه ‪ ،‬واحنصر فكره يف ذلك فًل شيء عليه‪.‬‬
‫وحكم هذا الرتخيص لإلكراه كما جيري يف الكفر جيري يف غريه ‪ ،‬غري أنه إذا أكره على قتل‬
‫إنسان ال جيوز له أن يفعل ‪ ،‬وهناك أمور جيب عليه فيها أن يفعل ‪ ،‬فإن مل يفعل كان آمثا ‪ -‬وهي‬
‫مبيهنة يف الفقه ‪ ،‬ويف األصول عند الكًلم على أقسام الرخصة ‪ -‬والذي يعنينا هنا هو اإلكراه‬
‫اّلل عليه وسلهم عمارا أن يعود إىل جماراهتم يف القول‬
‫على الكفر ما حكمه ‪ ،‬فقد أمر النيب صلهى ه‬
‫إن عادوا إىل إكراهه ‪ ،‬فما موجب األمر؟‬
‫اّلل عنه ملا‬
‫قالوا ‪ :‬إنه لإلابحة ‪ ،‬والصارف له عن الوجوب ما روي عن خبيب بن عدي رضي ه‬
‫اّلل‬
‫أراد أهل مكة أن يقتلوه ‪ ،‬ألنه مل يعطهم التقية ‪ ،‬بل صرب حَّت قتل ‪ ،‬فكان عند النيب صلهى ه‬
‫عليه وسلهم خريا من عمار يف إعطائه التقية ‪ ،‬أضعف إىل ذلك أ هن يف الصرب على املكروه إعزازا‬
‫للدين ‪ ،‬وغيظا للمشركني ‪ ،‬فهو مبنزلة من قاتل املشركني حَّت قتل ‪ ،‬فتأثري اإلكراه يف هذه‬
‫الصورة إمنا هو إسقاط املأمث فقط‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬رفع عن أميت اخلطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫وقد روي عن النيب صلهى ه‬
‫عليه» «‪»2‬‬
‫فأحلق املكره ابملخطئ والناسي‪.‬‬
‫وقد وقع خًلف بني الفقهاء يف طًلق املكره وعتاقه ونكاحه وأميانه ‪ ،‬فذهب احلنفية إىل أ هن‬
‫الطًلق وحنوه يلزمه ‪ ،‬ألن الطًلق يعتمد االختيار ‪ ،‬واإلكراه ينفي الرضا ‪ ،‬وحيقق االختيار‪.‬‬
‫وغريهم يذهب إىل عدم لزومه ‪ ،‬استدالال ابحلديث املتقدم واحلنفية حيملونه على رفع احلكم‬
‫األخروي وهو املأمث ‪ ،‬والكًلم مستوىف يف الفقه ‪ ،‬فارجع إليه إن شئت‪.‬‬
‫ومسألة طًلق املكره مسألة خًلفية من الصدر األول ‪ ،‬فقد روي القول ابلوقوع عن علي وعمر‬
‫وسعيد بن املسيب وشريح وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان (‪.)122 /14‬‬
‫اّلل َتاوز) بدل (رفع عن أميت)‪.‬‬
‫(‪ )2‬سبق ترجيه ‪ ،‬بلفظ (إ هن ه‬

‫ص ‪482 :‬‬
‫وروي القول بعدم الوقوع عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبري واحلسن وعطاء وعكرمة وغريهم ‪،‬‬
‫وروي عن الشعيب تفصيل يرجع إىل من حصل منه اإلكراه ‪ ،‬إن كان السلطان مل يلزمه الطًلق ‪،‬‬
‫وإن كان غريه لزمه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ك ِاب ْحلِكْمةِ والْمو ِعظَةِ ا ْحل ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ا ْدعُ إِىل َسبِ ِ‬
‫ك‬‫س ُن إِ ان َربا َ‬ ‫سنَة َوجاد ْهلُ ْم ِابلاِيت ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫يل َربِه َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ُه َو أَ ْعلَ ُم ِمبَ ْن َ‬
‫ين (‪)125‬‬ ‫ضلا َع ْن َسبيله َو ُه َو أَ ْعلَ ُم ِابل ُْم ْهتَد َ‬
‫ْمةِ أي‬ ‫ِ‬
‫ك أي إىل شريعة ربك ‪ ،‬وهي اإلسًلم ِاب ْحلك َ‬ ‫يل َربِه َ‬‫اّلل ا ْدعُ اي حممد الناس إِىل َسبِ ِ‬ ‫يقول ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ابلقول احملكم والْمو ِعظَةِ ا ْحل ِ‬
‫س ُن خاصمهم‬ ‫َح َ‬‫سنَة ابلعرب اليت تؤثهر هبا يف قلوهبم َوجاد ْهلُ ْم ِابلاِيت ه َي أ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ َْ‬
‫عما انلوا به عرضك من الشتم واهلجاء ‪ ،‬ولن هلم‬ ‫ابخلصومة اليت هي أحسن من غريها ‪ ،‬فاصفح ه‬
‫يف القول ‪ ،‬وقابل السوء ابحلسىن ‪ ،‬وليكن قصدك من اخلصومة الوصول إىل احلق ‪ ،‬فًل تعمل ما‬
‫ك ُه َو‬ ‫يعمله السفهاء يف جداهلم من رفع الصوت ‪ ،‬وسب اخلصم ‪ ،‬واملغالبة ابليد والسباب إِ ان َربا َ‬
‫ض ال َع ْن َسبِيلِهِ ومبن اهتدى إليه ‪ ،‬فمجازيهم على ضًلهلم واهتدائهم ‪ ،‬فله اجلزاء ال‬ ‫أَ ْعلَ ُم ِمبَ ْن َ‬
‫إليك ‪ ،‬وإمنا عليك الدعوة والبًلغ‪.‬‬
‫وذهب ابن رشد والفخر الرازي وبعض فًلسفة املسلمني إىل أ هن املراد ابحلكمة الربهان الذي يفيد‬
‫يقينا ال حيتمل النقيض ‪ ،‬وابملوعظة احلسنة اخلطابة اليت تفيد الظن الظاهر واإلقناع ‪ ،‬واملراد بقوله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ُن استعمل معهم أحسن صناعة اجلدل ‪ ،‬فاستعمل معهم املقدمات‬ ‫‪َ :‬وجاد ْهلُ ْم ِابلاِيت ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫املسلهمة عند اجلمهور ‪ ،‬أو عند املناظر ‪ ،‬لتصل إىل احلق وال تستعمل معهم املقدمات الباطلة ‪،‬‬
‫وتروجها عليهم ابلسفاهة والشغب واحليل الباطلة‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وإمنا احتيج هلذه الصناعات الثًلثة ‪ :‬الربهان ‪ ،‬واخلطابة ‪ ،‬واجلدل ‪ ،‬ألن الناس متفاوتون‬
‫يف العقول واألفهام ‪ ،‬فمنهم من بلغ رتبة احلكمة ‪ ،‬فًل يقنعه إال الربهان املفيد لليقني الذي ال‬
‫حيتمل النقيض ‪ ،‬ال حاال وال مآال‪.‬‬
‫ومنهم الطرف اآلخر ‪ ،‬املقابل لألول ‪ ،‬وهم مجهور الناس ‪ ،‬وهؤالء ال يفيدهم إال صناعة‬
‫مضر هبم ‪ ،‬فًل يصلون إليه ‪ ،‬ورمبا أفسد استعماله معهم عليهم أمرهم‪.‬‬
‫اخلطابة‪ .‬والربهان ه‬
‫القسم الثالث بني بني ‪ ،‬فقد ارتفع عن طبقة العامة ‪ ،‬ومل يصل إىل طبقة اخلاصة ‪ ،‬وهؤالء ال‬
‫اّلل ‪ ،‬أل هن هذه معارف ال‬
‫يصلحهم إال اجلدل احلسن ‪ ،‬ويف هذا دليل على أن القرآن من عند ه‬
‫اّلل عليه وسلهم نشأ أميا‬
‫يصل إليها إال احلكماء الذين مارسوا احلكمة وانقطعوا هلا! وحممد صلهى ه‬
‫‪ ،‬مل ميارس احلكمة ‪ ،‬فظهور هذه احلكمة العالية على لسانه دليل على أنهه من عند من علهم‬
‫ابلقلم علم اإلنسان ما مل يعلم‪.‬‬

‫ص ‪ 483 :‬هذا تلخيص ما قالوه ‪ ،‬واملعىن حسن يف نفسه إال أن محل الكًلم عليه بعيد ‪ ،‬أل هن‬
‫اجلدل يف لسان العرب هو اخلصومة ‪ ،‬وتصيصه ابلقياس املؤلف من املسلمات اصطًلح منطقي‬
‫يصح فهمها إال مراعى‬
‫حادث ‪ ،‬وال يسوغ محل ألفاظ القرآن على االصطًلحات احلادثة ‪ ،‬وال ه‬
‫يصح أن يكون داخًل يف احلكمة ‪ ،‬فإ هن املراد‬
‫فيها معانيها اليت وضعتها هلا العرب ‪ ،‬وما أرادوه ه‬
‫هبا الطريق احملكم يف الدعوة ‪ ،‬وال إحكام يف الدعوة إال إذا خوطب الناس مبا يفقهون ‪ ،‬فًل‬
‫خياطب العوام ابجلدل والربهان ‪ ،‬وال كل صنف من الناس إال مبا هو الئق به‪.‬‬
‫ظ عظيم من علم النفس وعلم‬
‫ومن ذلك يعلم أن القائم ابلدعوة ينبغي أن يكون على ح ه‬
‫االجتماع وطبائع األفراد واألمم ‪ ،‬فإنهه ليس شيء أجنع يف الدعوة من معرفة طبائع الناس وميوهلم‬
‫‪ ،‬وتغذية هذه الطبائع وامليول مبا يناسبها‪.‬‬
‫يظن أن الناس متساوون يف القدرة واألفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة‬
‫ومن احلمق أن ه‬
‫من اخلطاب ‪ ،‬وكما أن األمراض خمتلفة ‪ ،‬وأدويتها كذلك خمتلفة ‪ ،‬وليس دواء واحد انفعا لكل‬
‫مرض ولكل مريض ‪ ،‬كذلك أمراض النفوس ‪ ،‬حتتاج إىل عًلجات خمتلفة ‪ ،‬وتركيبات متباينة ‪،‬‬
‫ورب دواء أفاد إنساان ‪ ،‬وأضر آبخر ‪ ،‬ورمبا أفاده يف وقت ‪ ،‬وأضر به يف آخر ‪ ،‬ومدار األمر‬
‫ه‬
‫على معرفة الداعي أ هن الغرض من القول اإلفهام والتأثري ‪ ،‬فيسلك لذلك سبله ‪ ،‬وعلى أن يكون‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫عنده عقل مفكر ‪ ،‬ولسان مؤثر ‪ ،‬سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النيب صلهى ه‬
‫يف الدعوة ‪ ،‬ومقدار جناح هذا الرفق‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬أأتذن يل يف‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪ :‬اي نيب ه‬
‫روى أبو أمامة أ هن غًلما شااب أتى النيب صلهى ه‬
‫«قربوه إذن» فدان حَّت جلس بني‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ :‬ه‬
‫الزىن؟ فصاح الناس به ‪ ،‬فقال النيب صلهى ه‬
‫اّلل فداك ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أ حتبه ألمك» قال ‪ :‬ال جعلين ه‬
‫يديه ‪ ،‬فقال النيب صلهى ه‬
‫اّلل فداك‪ .‬قال ‪« :‬و كذلك‬
‫«كذلك الناس ال حيبونه ألمهاهتم‪ .‬أحتبه البنتك» قال ‪ :‬ال جعلين ه‬
‫اّلل فداك‪ .‬قال ‪« :‬و كذلك الناس ال‬
‫الناس ال حيبونه لبناهتم أحتبه ألختك» قال ‪ :‬ال جعلين ه‬
‫طهر‬
‫اّلل عليه وسلهم يده على صدره وقال ‪« :‬اللهم ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫حيبونه ألخواهتم» فوضع رسول ه‬
‫وحصن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه «‪.»1‬‬
‫قلبه ‪ ،‬واغفر ذنبه ‪ ،‬ه‬
‫وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا يف احلق فًل يهن ‪ ،‬صارما يف الصدق ‪ ،‬فًل يضعف ‪،‬‬
‫خملصا فانيا يف مبدئه فًل يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها‪.‬‬
‫واملثل األعلى يف ذلك صاحب الدعوة اإلسًلمية فقد اعرتضوا سبيل الدعوة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم عن عزمه ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫بكل أنواع اإليذاء ‪ ،‬وفتنوا املؤمنني‪ .‬فلم يثن ذلك رسول ه‬
‫وصرب كما صرب أولو العزم من الرسل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه اإلمام أمحد يف املسند (‪.)256 /5‬‬

‫ص ‪484 :‬‬
‫مث جاءت قريش إىل عمه أيب طالب ‪ ،‬وعرضوا عليه أن أيخذ حممد ما شاء من مال ويرتك ما‬
‫اّلل عليه وسلهم ذلك فبكى وقال ‪« :‬اي عم وهللا لو‬
‫يدعو إليه ‪ ،‬فذكر أبو طالب للنيب صلهى ه‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫وضعوا الشمس يف مييين ‪ ،‬والقمر يف يساري على أن أترك هذا األمر ‪ ،‬ما تركته حَّت يظهره ه‬
‫أو أهلك دونه» «‪.»1‬‬
‫ين إِ ان ا‬
‫اّللَ َم َع‬ ‫ص َ ْرب ُْمت َهلَُو َخ ْريٌ لِل ا‬
‫صابِ ِر َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن عاقَ ْب تُ ْم فَعاقبُوا ِمبثْ ِل ما عُوق ْب تُ ْم بِه َولَئ ْن َ‬ ‫قال ه‬
‫ين ُه ْم ُْحم ِسنُو َن (‪ )126( )128‬واصرب وما صربك إال ابهلل وال حتزن عليهم وال‬ ‫ِ‬
‫ين اتا َق ْوا َوالاذ َ‬
‫ِ‬
‫الاذ َ‬
‫تك ىف ضيق مما ميكرون (‪ )127‬عُوقِْب تُ ْم بِهِ أصل العقاب اجملازاة على الفعل ‪ ،‬فالفعل ابتداء‬
‫ض ْي ٍق تفيف الضيق أي يف أمر ضيق ‪،‬‬ ‫اّلل هنا عقااب على طريق املشاكلة َ‬ ‫ليس عقااب ‪ ،‬وإمنا مسهاه ه‬
‫وجيوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين كالقيل والقول‪.‬‬
‫اّلل بدعوة الناس إىل اإلسًلم ‪ ،‬وكان يف ضمن الدعوة تسفيه آرائهم ‪ ،‬وإبطال عقائدهم ‪،‬‬
‫ملا أمره ه‬
‫وتضليل طرائقهم ‪ ،‬وهذا مما يدعو إىل احلمية واالعتداء على الداعي أبنواع االعتداء ‪ ،‬ورمبا محل‬
‫اّلل هنا عن مقابلة الشر أبكثر منه ‪ ،‬فقال ‪َ :‬وإِ ْن‬
‫ذلك الداعي على مقابلة الشر أبكثر منه ‪ ،‬هنى ه‬
‫عاقَ ْب تُ ْم فَعاقِبُوا ِمبِثْ ِل ما عُوقِْب تُ ْم بِهِ ‪ ،‬مث دعا إىل الصرب ‪ ،‬وعدم مقابلة الشر مبثله ‪ ،‬وحبب فيه‬
‫ص َ ْرب ُْمت َهلَُو َخ ْريٌ لِل ا‬
‫صابِ ِر َ‬
‫ين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فقال ‪َ :‬ولَئ ْن َ‬
‫وقد قيل يف سبب نزول هذه اآلايت ‪:‬‬
‫اّلل ألمثهلن بسبعني‬
‫اّلل عليه وسلهم ملا رأى محزة وقد مثهل به املشركون ‪ ،‬قال ‪« :‬و ه‬
‫إ هن النيب صلهى ه‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫منهم مكانك» «‪ »2‬فنزل جربيل عليه السًلم خبواتيم سورة النحل ‪ ،‬فكف رسول ه‬
‫عليه وسلهم عما أراد‬
‫‪ ،‬وتكون سورة النحل مكية إال هذه اآلايت‪.‬‬
‫وقيل إ هن هذا كان قبل األمر ابجلهاد العام ‪ ،‬حني كان املسلمون ال يقاتلون إال من قاتلهم ‪ ،‬وال‬
‫اّللَ ال ُِحي ُّ‬
‫ين يُقاتِلُونَ ُك ْم َوال تَ ْعتَ ُدوا إِ ان ا‬ ‫يل اِ ِ‬ ‫يبدؤون ابلقتال ‪ ،‬فتكون كقوله ‪َ :‬وقاتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬
‫ب‬ ‫اّلل الاذ َ‬
‫ين (‪.)190‬‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْعتَد َ‬
‫ومحل اآلية على قصة محزة غري ظاهر أل هن ذلك جيعل اآلايت مفككة ال ارتباط هلا ‪ ،‬فالظاهر ما‬
‫محلنا اآلية عليه ‪ ،‬وقريب منه قول جماهد وابن سريين ‪ :‬إن املقصود من هذه اآلية هني املظلوم‬
‫عن استيفاء الزايدة من الظامل ‪ ،‬قال ابن سريين ‪ :‬إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله‪.‬‬
‫ص َ ْرب ُْمت واملصدر إما‬
‫والضمري يف قوله ‪َ :‬هلَُو يرجع إىل املصدر يف قوله ‪َ :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬السرية النبوية البن هشام بريوت ‪ ،‬دار الفكر (‪.)177 - 176 /1‬‬
‫(‪ )2‬انظر السرية النبوية البن هشام بريوت ‪ ،‬دار الفكر (‪.)610 /2‬‬

‫ص ‪485 :‬‬
‫أن يراد به اجلنس أي وللصرب خري للصابرين ‪ ،‬وأنتم منهم إذا صربمت‪ .‬وإما أن يراد به صربكم ‪،‬‬
‫أي لصربكم خري لكم ‪ ،‬فوضع الصابرين موضع لكم ثناء عليهم‪.‬‬
‫اّلل ابلصرب أمرا صرحيا بعد أن ذكر حسن عاقبته ‪ ،‬وملا كان الصرب‬ ‫ص ْربُ َك إِاال ِاب اّللِ أمر ه‬
‫اصِ ْرب َوما َ‬ ‫َو ْ‬
‫ص ْربُ َك إِاال ِاب اّللِ فاجلأ إليه يف طلب الصرب ‪ ،‬والتثبيت يف األمر‬
‫شاقا ذكر ما يعني عليه فقال ‪َ :‬وما َ‬
‫ضيْ ٍق ِمماا ميَْ ُك ُرو َن يدعوه إىل عدم اجلزع واهللع برتك احلزن ‪ ،‬واحلزن‬
‫ك ِيف َ‬ ‫َوال َحتْ َز ْن عَلَيْ ِه ْم َوال تَ ُ‬
‫اّلل ما يستعني به على الصرب ‪ ،‬وهو ترك احلزن ‪،‬‬ ‫فبني ه‬
‫سببه إما فوات حمبوب أو توقع مكروه ‪ ،‬ه‬
‫فقال ‪َ :‬وال َحتْ َز ْن َعلَْي ِه ْم أي على إخوانك املسلمني الذين قتلوا ‪ ،‬وهم قتلى أحد ‪ ،‬وال تك يف‬
‫اّلل ينجيك من مكرهم ‪ ،‬ألنهه َم َع‬ ‫ضيق مما ميكرون ‪ ،‬أي وال يضق صدرك من مكرهم ‪ ،‬فإ هن ه‬
‫ين ُه ْم ُْحم ِسنُو َن يف أعماهلم‬ ‫ِ‬
‫ين اتا َق ْوا ابلنصر واملعونة ‪ ،‬أي هو ويل الذين اجتنبوا املعاصي َوالاذ َ‬
‫ِ‬
‫الاذ َ‬
‫‪ ،‬ومن التقوى واإلحسان الصرب‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن الضمري يف قوله ‪َ :‬وال َحتْ َز ْن َعلَْي ِه ْم يرجع إىل الكافرين ‪ ،‬فيكون كقوله ‪َ :‬وُك ْفراً فًَل َأت َ‬
‫ْس‬
‫ِ ِ‬
‫ين [املائدة ‪ ]68 :‬روي عن هرم بن حبان أنه قيل له حني احتضر ‪ :‬أوص ‪،‬‬ ‫َعلَى الْ َق ْوم الْكاف ِر َ‬
‫فقال ‪ :‬إمنا الوصية من املال ‪ ،‬وال مال يل وأوصيكم خبواتيم سورة النحل‪.‬‬

‫ص ‪486 :‬‬
‫من سورة اإلسراء‬
‫س ِق اللاْي ِل َوقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر إِ ان قُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر كا َن‬ ‫ش ْم ِ ِ‬ ‫ُوك ال ا‬‫صًلةَ لِ ُدل ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬أَقِ ِم ال ا‬
‫س إىل غَ َ‬ ‫قال ه‬
‫ك َمقاماً َْحم ُموداً (‪)79‬‬ ‫ك َربُّ َ‬ ‫َك َعسى أَ ْن يَ ْب َعثَ َ‬‫َم ْش ُهوداً (‪َ )78‬وِم َن اللاْي ِل فَتَ َه اج ْد بِهِ انفِلَةً ل َ‬
‫س ِق اللاْي ِل أصل الدلوك ‪ :‬امليل والزوال ‪ ،‬وهذا املعىن يصح أن‬ ‫ش ْم ِ ِ‬ ‫صًلةَ لِ ُدل ِ‬
‫ُوك ال ا‬ ‫أَقِ ِم ال ا‬
‫س إىل غَ َ‬
‫يراد منه ميل الشمس عن كبد السماء ‪ ،‬وزواهلا عنه وقت الظهرية ‪ ،‬ويصح أن يراد منه ميلها‬
‫ولعل هذا هو منشأ اختًلف العلماء يف تعيني الوقت املأمور‬
‫وزواهلا عن األفق يف وقت الغروب ‪ ،‬ه‬
‫فيه إبقامة الصًلة لدلوك الشمس‪.‬‬
‫فقد ذهب مجاعة من الصحابة والتابعني ‪ ،‬ومنهم ابن عباس وابن مسعود إىل أ هن املراد من دلوك‬
‫الشمس غروهبا‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه كان يقسم على ذلك‪ .‬فقد أخرج‬
‫بل لقد روى ابن جرير «‪ »1‬عن ابن مسعود رضي ه‬
‫اّلل بن مسعود كان إذا غربت‬
‫اّلل كتب إىل عقبة بن عبد الغافر أن عبد ه‬
‫أن أاب عبيدة بن عبد ه‬
‫الشمس صلهى املغرب ‪ ،‬ويفطر إن كان صائما ‪ ،‬ويقسم عليها ميينا ما يقسمه على شيء من‬
‫ابّلل الذي ال إله إال هو إ هن الساعة مليقات هذه الصًلة ‪ ،‬ويقرأ فيها تفسريها من‬ ‫الصلوات ‪ ،‬ه‬
‫س ِق اللاْي ِل‪.‬‬ ‫ش ْم ِ ِ‬ ‫صًلةَ لِ ُدل ِ‬
‫ُوك ال ا‬ ‫اّلل أَقِ ِم ال ا‬
‫س إىل غَ َ‬ ‫كتاب ه‬
‫وأخرج أيضا «‪ »2‬عن جماهد عن ابن عباس قال ‪ :‬دلوك الشمس غروهبا‪.‬‬
‫وذهب آخرون إىل أن دلوكها ميلها إىل الزوال ‪ ،‬وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر واحلسن ‪،‬‬
‫وعليه اجلمهور ‪ ،‬قالوا ‪ :‬والصًلة اليت أمر هبا ابتداء من هذا الوقت هي صًلة الظهر ‪ ،‬وقد‬
‫أيهدوا هذا القول بوجوه ‪:‬‬
‫منها ما‬
‫اّلل عليه وسلهم وأصحابه ‪ ،‬مث‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫روي عن جابر أنه قال ‪ :‬طعم عندي رسول ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)91 /10‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪].....[ .)91 /10‬‬

‫ص ‪487 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬هذا حني دلكت الشمس»‪.‬‬
‫خرجوا حني زالت الشمس ‪ ،‬فقال صلهى ه‬
‫صح كان هو العمدة يف الباب وابن جرير «‪ »1‬وإن كان من أنصار هذا الرأي‬
‫وهذا احلديث إن ه‬
‫ينص على أ هن اخلرب وحنوه يف إسناده شي ء ‪ ،‬وإن كان مل يعينه‪.‬‬
‫ه‬
‫ومن الوجوه أيضا النقل عن أهل اللغة ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬إ هن الدلوك يف كًلم العرب الزوال ‪ ،‬ولذا‬
‫قيل الشمس إذا زالت دالكة‪ .‬قال ابن جرير «‪ : »2‬وهذا تفسري أهل الغريب أيب عبيدة‬
‫واألصمعي وأيب عمرو والشيباين وغريهم ‪ ،‬وقالوا أيضا ‪:‬‬
‫إ هن أصل الدلوك مأخوذ من دلك العني حني تنظر ما ال تقوى على النظر إليه ‪ ،‬وهذا إمنا يكون‬
‫عند الزوال لقوة الشمس فيه ‪ ،‬حَّت إ هن الناظر ال يستطيع أن ينظر ‪ ،‬حَّت يضع كفه على حاجبه‬
‫‪ ،‬مينع عن عينه شعاع الشمس‪.‬‬
‫على أ هن الدلوك لو كان امسا ملطلق امليل لكان محله على ميلها إىل الزوال يف وقت الظهر أوىل ‪،‬‬
‫وذلك أل هن اآلية تكون قد دلهت على األمر إبقامة الصًلة ابتداء من الظهر إىل دخول الظلمة ‪،‬‬
‫أو إىل نصف الليل ‪ ،‬فتكون قد انتظمت أربع صلوات‪.‬‬
‫َوقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر دلت على الصًلة اخلامسة ‪ ،‬ولو محلنا الدلوك على الغروب تكون اآلية قد دلهت‬
‫على صًلِت املغرب والعشاء ‪ :‬إن مل نقل إهنا تدل على صًلة واحدة هي صًلة املغرب‪.‬‬
‫وقد قالوا ‪ :‬كلما كان املدلول عليه كثريا كان احلمل عليه أوىل ‪ ،‬فيكون محل الدلوك على ميل‬
‫الشمس إىل الزوال يف الظهرية أوىل من محله على الزوال للغروب‪.‬‬
‫ش ْم ِ‬
‫س الم الوقت واألجل ‪ ،‬أل هن الوقت سبب الوجوب‪.‬‬ ‫والًلم يف قوله ‪ :‬لِ ُدل ِ‬
‫ُوك ال ا‬
‫س ِق اللايْ ِل قيل ‪ :‬غسق الليل سواده وظلمته ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬غسق الليل دخول أوله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إىل غَ َ‬
‫وأصله من غسقت العني إذا مهلت ابلدمع ‪ ،‬والغاسق السائل ‪ ،‬فمعىن غسق الليل انصب‬
‫بظًلمه ‪ ،‬وذلك أن الظلمة كأهنا تنصب على العامل‪.‬‬
‫اّلل أعلم ‪ :‬أدم إقامة الصًلة من الظهرية إىل وقت هجوم الظلمة ‪ ،‬أو إىل غيبوبة‬
‫فمعىن اآلية و ه‬
‫الشفق ‪ ،‬أو إىل منتصف الليل على ما قيل يف تفسري الغسق‪ .‬وعلى هذا تكون هذه اآلية واليت‬
‫بعدها على ما جييء قد دلتا على األمر‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املرجع نفسه (‪.)92 /10‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)92 /10‬‬

‫ص ‪488 :‬‬
‫ابلصًلة من الظهرية إىل العشاء ‪ ،‬وذلك أربع صلوات على حسب البيان الذي وردت به السنة‬
‫العملية ‪ ،‬وعلى األمر ابلصًلة يف الفجر ‪ ،‬وتلك هي الصًلة اخلامسة‪.‬‬
‫اّلل قد‬
‫ولقد أراد بعضهم أن يفهم من األمر إبقامة الصًلة من دلوك الشمس إىل غسق الليل أ هن ه‬
‫بني يف اآليتني ثًلثة أوقات ‪ :‬وقت الدلوك ‪ ،‬ووقت الغسق ‪ ،‬ووقت الفجر ‪ ،‬ووقت الدلوك فيه‬
‫فدل ذلك‬
‫صًلاتن ‪ ،‬ومها ‪ :‬الظهر والعصر ‪ ،‬ووقت الغسق فيه صًلاتن ‪ :‬املغرب والعشاء ‪ ،‬ه‬
‫على جواز اجلمع بني الظهر والعصر ‪ ،‬أل هن وقتهما الدلوك ‪ ،‬ومجع املغرب إىل العشاء ‪ ،‬ألهنهما يف‬
‫الغسق ‪ ،‬وهو استدالل عجيب ‪ ،‬إذ إ هن كل ما يف اآلية أهنها أمرت إبقامة الصًلة من دلوك‬
‫الشمس إىل الغسق ‪ ،‬فهل هذا أمر يشغل كل هذا الوقت ابلصًلة ‪ ،‬أو أمر بفعل الصًلة يف‬
‫بعض أجزائه ‪ ،‬وما مقدار هذا البعض؟ كل هذا خارج عن مدلول اآلية ‪ ،‬وقد بينته السنة ‪ ،‬فإن‬
‫كانت قد ورد فيها مجع الصًلتني ‪ ،‬أو الصلوات من غري عذر ‪ ،‬فبياهنا هو الدليل ‪ ،‬وإن كان قد‬
‫ورد فيها أن اجلمع بني الصًلتني ال جيوز إال بشروط ‪ ،‬ويف أوقات دون أخرى ‪ ،‬كان ذلك هو‬
‫الدليل على أن اجلمع إمنا جيوز هبذه الشروط‪.‬‬
‫وحيث إنه قد اجنر الكًلم إىل اجلمع فنقول ‪ :‬قد روي عن ابن مسعود وابن عباس جواز مجع‬
‫الظهر إىل العصر ‪ ،‬واملغرب إىل العشاء مطلقا ولو من غري عذر ‪ ،‬واجلمهور على خًلف‬
‫مذهبهما‪.‬‬
‫فالشافعية ‪ :‬جييزون مجع التقدمي والتأخري بشروط تعلم من كتبهم ‪ ،‬واحلنفية يقولون ‪ :‬ال مجع إال‬
‫يف الظهر والعصر مجع تقدمي يوم عرفة ‪ ،‬واملغرب والعشاء مجع أتخري يف مزدلفة ‪ ،‬ويعرف ذلك‬
‫من كتبهم أيضا‪.‬‬
‫َوقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر إِ ان قُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر كا َن َم ْش ُهوداً َوقُ ْرآ َن معطوف على الصًلة ‪ ،‬أي وأقم قرآن الفجر‬
‫يدل على وجوب القراءة يف الصًلة ‪ ،‬ووجه الداللة‬
‫‪ ،‬وقد قال أبو بكر الرازي «‪ : »1‬إ هن ذلك ه‬
‫تدل على األمر بقرآن الفجر ‪ ،‬وال نعلم قراءة واجبة يف الفجر إال أن تكون القراءة يف‬ ‫أن اآلية ه‬
‫صًلة الفجر ‪ ،‬وقد محل بعضهم القرآن يف قوله ‪َ :‬وقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر على الصًلة يف الفجر‪ .‬قال أبو‬
‫بكر الرازي ‪ :‬وهو عدول عن احلقيقة إىل اجملاز من غري دليل ‪ ،‬وذلك غريب من أيب بكر ‪ ،‬فإ هن‬
‫الدليل هو ما قاله ‪ :‬من أان ال نعلم قرآان واجبا يف ذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام الرازي (‪.)206 /3‬‬

‫ص ‪489 :‬‬
‫الوقت ‪ ،‬وإن كان له أن يقول ‪ :‬إن الفجر فيه قرآن واجب ‪ ،‬وهو قرآن الفجر ‪ ،‬ولكن هذا إن‬
‫أثبت له ما أراد فهو يثبت وجوب القراءة يف الفجر ‪ ،‬فمن أين وجبت يف كل الصلوات ‪ ،‬سيقول‬
‫من دليل آخر ‪ ،‬فنقول ‪ :‬ذلك هو الدليل على وجوب القراءة‪.‬‬
‫على أان ال نرى أ هن محل القرآن يف قوله ‪َ :‬وقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر على الصًلة يؤدي إىل الغرض الذي‬
‫أراده اجلصاص من هذا ‪ ،‬وهو أخذ وجوب القراءة يف الصًلة ‪ ،‬فإ هن تسمية صًلة الفجر ابلقرآن‬
‫مهم فيها ‪ ،‬كما مسيت الصًلة ابلركوع والسجود‪.‬‬ ‫إمنا كانت ألن القراءة جزء ه‬
‫وقد أراد الفخر الرازي أن أيخذ من قوله ‪َ :‬وقُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر دليًل على مذهب الشافعية ‪ ،‬يف‬
‫استحباب التغليس ابلفجر ‪ ،‬ويقول يف وجه الداللة ‪ :‬إنهه أمر إبقامة الصًلة يف الفجر ‪ ،‬والفجر‬
‫إمنا مسي فجرا ‪ ،‬أل هن نور الصبح يفجر ظلمة الليل ‪ ،‬قال وظاهر األمر للوجوب ‪ ،‬فمقتضى هذا‬
‫اللفظ وجوب إقامة الصًلة يف أول وقت الفجر ‪ ،‬إال أان أمجعنا على أ هن الوجوب غري حاصل ‪،‬‬
‫فيبقى األمر للندب‪.‬‬
‫وأنت تعلم أ هن أمر حتديد الصلوات قد ثبت ابلسنة يف حديث جربيل ‪ ،‬الذي هبني فيه أول الوقت‬
‫فدل ذلك على اجلواز يف كل الوقت ‪ ،‬فأفضلية التقدمي على التأخري والعكس حتتاج إىل‬
‫وآخره ‪ ،‬ه‬
‫دليل مستقل ‪ ،‬ك ‪:‬‬
‫«أبردوا ابلظهر» «‪»1‬‬
‫عجلوا املغرب وأ هخروا العشاء» «‪»2‬‬
‫‪« ،‬و ال تزال أميت خبري ‪ :‬ما ه‬
‫يدل عليه ذلك‬
‫‪ ،‬فالتغليس ابلفجر والتنوير واإلسفار به حيتاج إىل دليل مستقل ‪ ،‬فاحلكم هو ما ه‬
‫الدليل‪.‬‬
‫احلث على تطويل القراءة يف الصًلة ‪،‬‬
‫وقد أخذ الفخر الرازي من تسمية صًلة الفجر ابلقرآن ه‬
‫وهو وجيه‪.‬‬
‫إِ ان قُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر كا َن َم ْش ُهوداً قالوا ‪ :‬إن معىن ذلك أ هن مًلئكة الليل ومًلئكة النهار جيتمعون يف‬
‫صًلة الصبح خلف اإلمام‪.‬‬
‫قال الفخر ‪ -‬بعد سوق هذا الكًلم ‪ -‬وحيتمل أن يكون املراد من قوله ‪ :‬إِ ان قُ ْرآ َن الْ َف ْج ِر كا َن‬
‫َم ْش ُهوداً الرتغيب يف أن تؤدى هذه الصًلة جبماعة ‪ ،‬ويكون املعىن ‪:‬‬
‫كوهنا مشهودة ابجلماعة الكثرية ‪ ،‬وهو حسن أيضا‪.‬‬
‫ك َمقاماً َْحم ُموداً (‪.)79‬‬
‫ك َربُّ َ‬ ‫َوِم َن اللاْي ِل فَتَ َه اج ْد بِهِ انفِلَةً ل َ‬
‫َك َعسى أَ ْن يَ ْب َعثَ َ‬
‫َوِم َن اللاْي ِل اجلار واجملرور متعلق مبحذوف تقديره ‪ ،‬قم ‪ ،‬و(من) للتبعيض ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬قم بعض‬
‫َك اهلجود ‪ :‬النوم ‪ ،‬ولكنه أريد منه هنا‬ ‫الليل فَتَ َه اج ْد بِهِ انفِلَةً ل َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 9 ، )154 /1‬كتاب مواقيت الصًلة ‪ - 9 ،‬ابب اإلبراد‬
‫حديث رقم (‪.)538‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )172 /1‬كتاب الصًلة ‪ ،‬ابب وقت املغرب حديث رقم‬
‫(‪.)418‬‬

‫ص ‪490 :‬‬
‫التيقظ ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬هو من أمساء األضداد ‪ ،‬حَّت قال أبو عبيدة ‪ :‬اهلاجد النائم ‪ ،‬واهلاجد‬
‫املصلي بليل‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أن إطًلق املتهجد على املصلي بليل إطًلق شرعي ‪ ،‬كأنه إمنا مسهي بذلك‬
‫ألنه ألقى اهلجود ‪ ،‬وهو ‪ :‬النوم عن نفسه ‪ ،‬كما قيل للعابد ‪ :‬متحنث ‪ ،‬ألنهه ألقى احلنث عن‬
‫ومتحوب ملن ألقى احلرج واإلمث واحلوب عن نفسه‪.‬‬
‫ه‬ ‫ومتحرج ومتأمثه‬
‫ه‬ ‫نفسه ‪،‬‬
‫أخص من الصًلة ابلليل ‪ ،‬فًل يقال لكل من صلهى ابلليل ‪ :‬متهجد ‪،‬‬
‫ويرى بعضهم أن التهجد ه‬
‫وإمنا يقال ملن انم ‪ ،‬مث قام فصلهى ‪ ،‬مث رقد ‪ ،‬فقام فصلهى ‪ ،‬وهو مروي عن احلجاج بن عمر‬
‫املازين قال ‪ :‬أحيسب أحدكم إذا قام من الليل فصلهى حَّت يصبح أنه قد هتجد ‪ ،‬إمنا التهجد‬
‫الرقاد ‪ ،‬مث صًلة أخرى بعد رقدة ‪ ،‬مث صًلة أخرى بعد رقدة ‪ ،‬هكذا كانت صًلة‬
‫الصًلة بعد ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وحينئذ فًل يكون إطًلق التهجد على املصلي على هذا النحو‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫جمازاي ‪ ،‬أل هن اهلاجد هو النائم ‪ ،‬واملتهجد طالب النوم ‪ ،‬ألنهه كلما صلهى كان طالبا للنوم بعد‬
‫الصًلة ‪ ،‬فيكون التهجد يف هذا املعىن حقيقيا بِهِ ابلقرآن انفِلَةً ل َ‬
‫َك النفل الزايدة ‪ ،‬وقد اختلف‬
‫اّلل عليه وسلهم ألن صًلة الليل ما تزال‬
‫العلماء يف معىن كون التهجد زايدة خاصة ابلنيب صلهى ه‬
‫لكل من صلهى بليل ‪ ،‬فذهب ابن جرير «‪ »1‬يف مجاعة من السلف إىل أ هن معىن زايدهتا له ‪،‬‬
‫ه‬
‫خاصة‪.‬‬
‫خاصة أهنا فريضة عليه ‪ ،‬زيدت على املكتوابت اخلمس ابلنسبة له ه‬
‫وذهب مجاعة إىل أ هن معىن كوهنا انفلة له ‪ ،‬أ هن النوافل إمنا حيتاج إليها لتكون كفارة لذنوب من‬
‫اّلل عليه وسلهم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ‪ ،‬فهي زائدة له ‪ ،‬أل هن غريه‬
‫يفعلها ‪ ،‬والنيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فًل تًلقي ما تكفره ‪ ،‬فمن هذا كانت‬
‫انفلته تك هفر ذنبه ‪ ،‬وأما انفلة النيب صلهى ه‬
‫زائدة ‪ ،‬وهو مروي عن جماهد وآخرين‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫ومل يرتض هذا القول ابن جرير ‪ ،‬وقال ‪ :‬نزلت سورة النصر قبل قبض الرسول صلهى ه‬
‫استَ غْ ِف ْرهُ إِناهُ كا َن تَ اواابً [النصر ‪.]3 :‬‬
‫وسلهم وفيها أمره ابالستغفار َو ْ‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه كان يزيد يف االستغفار يف اليوم على مئة مرة «‪»2‬‬
‫وقد روي عنه صلهى ه‬
‫‪ ،‬وكلما اشتد قرب العبد من ربه كلما زاد خوفه منه ‪ ،‬وإن كان السيد قد أمنه ‪ ،‬وذلك مقام‬
‫يعرفه أهله‪.‬‬
‫ك َمقاماً َْحم ُموداً كلمة (عسى) يف كًلم العرب تفيد التوقع ‪ ،‬وهي هنا‬
‫ك َربُّ َ‬
‫َعسى أَ ْن يَ ْب َعثَ َ‬
‫للوجوب ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إمنا كانت للوجوب ألهنها تفيد اإلطماع ‪ ،‬ومن أطمع إنساان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)96 /15‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 48 )2075 /4‬كتاب الذكر حديث رقم (‪.)2702 /4‬‬

‫ص ‪491 :‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وقد أفاض ابن جرير‬
‫غارا ‪ ،‬وهذا املعىن مستحيل على ه‬
‫يف شي ء ‪ ،‬مث حرمه منه كان ه‬
‫«‪ »1‬يف بيان هذا املعىن‪.‬‬
‫واملقام احملمود ‪ :‬قال الواحدي ‪ :‬أمجع املفسرون على أنه مقام الشفاعة العظمى يف إسقاط‬
‫العقاب‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء بعد هذا اختًلفا يقصد منه إىل الكيفيات والتفاصيل ‪ ،‬واملدار فيها على‬
‫املعول عليه يف بيان كيفية الشفاعة واملقام‬
‫األخبار الواردة ‪ ،‬فما ورد منها من طريق صحيح كان ه‬
‫اّلل مبعثا حيمده‬
‫النيب عليه أفضل الصًلة والسًلم سيبعثه ه‬
‫تدل عليه اآلية أن ه‬
‫احملمود ‪ ،‬وكل ما ه‬
‫الناس عليه محدا ابلغا ‪ ،‬وذلك ألنه منقذهم من هول العذاب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)97 /15‬‬

‫ص ‪492 :‬‬
‫من سورة احلج‬
‫يق (‪)27‬‬ ‫ني ِم ْن ُك ِهل فَ ٍهج َع ِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫جاال َو َعلى ُك ِهل ضام ٍر َأيْتِ َ‬
‫وك ِر ً‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وأَ ِذه ْن ِيف الن ِ‬
‫ااس ِاب ْحلَ ِهج َأيْتُ َ‬ ‫قال ه‬
‫عام فَ ُكلُوا ِمنْها‬
‫يمةِ ْاألَنْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫اّلل ِيف أَ اايٍم َم ْعلُومات عَلى ما َرَزقَ ُه ْم م ْن َهب َ‬
‫لِي ْشه ُدوا منافِع َهلم وي ْذ ُكروا اسم اِ‬
‫َ َ َ َ ُْ َ َ ُ ْ َ‬
‫يق (‪)29‬‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬‫ضوا تَ َفثَ ُهم ولْيوفُوا نُ ُذور ُهم ولْيطا اوفُوا ِابلْب ْي ِ‬‫ري (‪ )28‬مثُا لْيَ ْق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫ْ َُ‬ ‫س الْ َفق َ‬ ‫َوأَطْع ُموا الْبائ َ‬
‫احلج ‪ ،‬واتريخ مشروعيته فنقول ‪:‬‬ ‫نبني حكمة ه‬ ‫ينبغي قبل تفسري هذه اآلايت أن ه‬
‫السر‬
‫أ‪ -‬حكمة احلج ‪ :‬لعلهك تكون يف حاجة إىل إطالة القول يف بيان احلكمة يف شرح احلج ‪ ،‬و ه‬
‫اّلل هذه الفريضة على املسلمني ‪ ،‬بعد ما عملته يف دراساتك السابقة يف‬
‫الذي من أجله كتب ه‬
‫تعرضنا هنا لشيء من هذا البيان إمنا نقصد به التذكري على وجه‬
‫هذا الشأن ‪ ،‬وإذا فيكون ه‬
‫اإلمجال ‪ ،‬مبا سبق لك من التفصيل‪.‬‬
‫اّلل احلج إىل بيته الكرمي ملنافع عظيمة تعود على املسلمني يف دينهم ودنياهم ‪:‬‬
‫شرع ه‬
‫‪ - 1‬فمناسك احلج من أعظم مظاهر اخلشية واإلخًلص هّلل يف الذكر والدعاء والعبادة‪.‬‬
‫التجرد من زينة الدنيا ‪ ،‬وبواعث على عدم التعلق بشهواهتا‬
‫‪ - 2‬وهي كذلك دالئل على ه‬
‫وزخرفها‪.‬‬
‫‪ - 3‬وهي بواعث على الرمحة واإلحسان ‪ ،‬والعدل واملساواة ‪ ،‬إذ يكون الناس هناك يف مستوى‬
‫واحد ‪ ،‬ال فرق بني أمري ومأمور ‪ ،‬وال بني غين وفقري‪.‬‬
‫‪ - 4‬هذا إىل ما يعود على سكان مكة ‪ ،‬وجزيرة العرب ‪ ،‬والناس مجيعا من املنافع املعيشية‬
‫والتجارية ‪ ،‬وما يتهيأ هلم هناك من االجتماع والتعارف ‪ ،‬واالتفاق على ما ينهض ابملسلمني يف‬
‫مجيع بقاع األرض‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اتريخ مشروعية احلج ‪ :‬أما اتريخ مشروعيته فأنت تعلم أنهه كان مفروضا يف زمن سيدان‬
‫إبراهيم عليه الصًلة والسًلم ‪ ،‬واآلايت اليت معنا من أقوى الدالئل على ذلك‪.‬‬

‫ص ‪493 :‬‬
‫فإذا قلنا ‪ :‬إن فرضيته ابقية مل تنسخ يف عهد نيب بعده كانت األوامر الواردة به يف شريعتنا أتكيدا‬
‫حج حجتني قبل اهلجرة ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قد ه‬
‫هلذه الفرضية ‪ ،‬وإذا علمت أن نبينا حممدا صلهى ه‬
‫وحج بعد اهلجرة حجة الوداع يف السنة العاشرة ‪ ،‬علمت أ هن أوىل هذه احلجات وقعت عن‬
‫فريضة اإلسًلم‪.‬‬
‫وإن قلنا ‪ :‬إن فرضيته قد نسخت بعد سيدان إبراهيم ‪ ،‬كان وجوبه علينا اثبتا بقوله تعاىل ‪ :‬و ِاّللِ‬
‫َ‬
‫طاع إِل َْيهِ َسبِ ًيًل [آل عمران ‪ ]97 :‬إذ هي اآلية الصرحية يف هذا‬ ‫ااس ِح ُّج الْب ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫َعلَى الن ِ‬
‫َ‬
‫الوجوب‪.‬‬
‫وأما قوله تعاىل ‪َ :‬وأََِتُّوا ا ْحلَ اج َوالْعُ ْم َرةَ ِاّللِ [البقرة ‪ ]196 :‬عام الوفود على الراجح ‪ ،‬وهذا العام‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وصاحلهم فيه على اجلزية ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫هو الذي قدم فيه وفد جنران على رسول ه‬
‫ومعلوم أ هن مبدأ مشروعية اجلزية كان عام غزوة تبوك يف السنة التاسعة من اهلجرة ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫اّلل عليه‬
‫يكون مبدأ فرضية احلج يف السنة التاسعة ‪ ،‬وتكون احلجتان اللتان فعلهما النيب صلهى ه‬
‫تطوع هبما على دين سيدان إبراهيم عليه الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫وسلهم قبل ذلك انفلتني ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أبداء احلج يف تلك السنة ‪ ،‬وهو‬
‫النيب صلهى ه‬
‫ولقائل أن يقول ‪ :‬فلما ذا مل يبادر ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وكيف يرسل أاب بكر‬
‫أفضل اخللق ‪ ،‬وأسبقهم إىل اخلريات ‪ ،‬وأسرعهم إىل أتدية فرائض ه‬
‫ليحج ابلناس ‪ ،‬ويؤخر هو حجته إىل السنة اليت بعدها؟‬
‫واجلواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج ابلناس كان زمن النسي ء‬
‫اّلل السموات واألرض حَّت تعود عشر ذي احلجة‬
‫‪ ،‬ومل يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يعلم أهنا ستعود إىل مركزها‬
‫إىل مركزها احلقيقي من السنة ‪ ،‬وكان النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم إىل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫احلقيقي ‪ ،‬وينضبط نظام السنني القمرية يف السنة العاشرة فتأخر ه‬
‫حجة الذي سيكون منهاجا للناس مجيعا يف الوقت‬
‫السنة العاشرة كان حلكمة عظيمة ‪ ،‬كي يقع ه‬
‫اّلل على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعرية ‪ ،‬وليس على أيب بكر وال على‬
‫احلقيقي الذي فرض ه‬
‫غريه ممن كانوا معه من حرج يف حجهم يف ذلك الوقت ما دام أمر الزمان مل يتقرر بعد‪.‬‬
‫ونعود إىل التفسري ‪:‬‬
‫ااس ِاب ْحلَ ِهج األذان والتأذين اإلعًلم برفع الصوت على حنو ما يكون للصًلة‪ .‬واملراد‬ ‫َوأَ ِذه ْن ِيف الن ِ‬
‫احلج ‪ ،‬ودعاهم إىل أدائه‪.‬‬
‫اّلل قد كتب عليهم ه‬ ‫هنا النداء يف الناس أب هن ه‬
‫جاال مجع راجل ‪ ،‬كقيام مجع قائم ‪ ،‬أي ماشني‪.‬‬ ‫ِر ً‬
‫ني ِم ْن ُك ِهل فَ ٍهج‬ ‫ِ‬
‫َو َعلى ُك ِهل ضام ٍر الضامر النحيف اهلزيل ‪ ،‬واملراد به هنا اهلزيل من مشقة السفر َأيْتِ َ‬
‫صريته مبعىن ضوامر‪ .‬واملعىن ‪ :‬وعلى‬ ‫يق أيتني صفة لضامر ‪ ،‬ألنه ملا دخلت عليه أداة العموم ه‬ ‫عَ ِم ٍ‬
‫ضوامر أيتني‪.‬‬

‫ص ‪494 :‬‬
‫وتوسع فيه حَّت صار‬
‫والفج أصله الطريق بني اجلبلني ‪ ،‬مث استعمل يف الطريق الواسع مطلقا‪ .‬ه‬
‫يستعمل يف طريق‪.‬‬
‫والعميق أصله البعيد أسفل ‪ ،‬أي بعيد القاع ‪ ،‬فاستعمل يف البعيد مطلقا ‪ ،‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنافِ َع َهلُ ْم‬
‫املراد ابملنافع ما يصيبون من خري الدنيا واآلخرة ‪:‬‬
‫فخري الدنيا ما يصيبون من حلوم الذابئح ‪ ،‬وأنواع التجارات ‪ ،‬وما تكون يف ذلك االجتماع‬
‫العظيم من التعارف ‪ ،‬وأما خري اآلخرة فهو ما يؤدون من تلك الشعائر اليت هي سبب رضوان‬
‫اّلل عليهم ‪ ،‬وشهودها حضورها ونيلها‪.‬‬ ‫ه‬
‫ِيف أَ اايٍم م ْعلُ ٍ‬
‫ومات قيل ‪ :‬هي عشر ذي احلجة‪ .‬وقيل ‪ :‬هي العاشر واليومان بعده ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬ ‫َ‬
‫والثًلثة بعده‪.‬‬
‫يمةِ ْاألَنْ ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وي ْذ ُكروا اسم اِ‬
‫اّلل‬
‫عام قيل ‪ :‬املراد بذكر اسم ه‬ ‫اّلل ِيف أَ اايٍم َم ْعلُومات َعلى ما َرَزقَ ُه ْم م ْن َهب َ‬ ‫ََ ُ ْ َ‬
‫محده وشكره والثناء عليه ‪ ،‬و(على) حينئذ للتعليل‪.‬‬
‫اّلل على البهيمة كناية عن ذحبها ‪ ،‬و(على) حينئذ‬
‫واختار الزخمشري «‪ »1‬أ هن ذكر اسم ه‬
‫لًلستعًلء ‪ ،‬والبهيمة يف األصل اسم لكل ما له أربع قوائم ‪ ،‬واملراد هبا هنا ما يكون من اإلبل‬
‫والبقر والغنم‪.‬‬
‫ري البائس من أصابه بؤس وشدة‪ .‬والفقري احملتاج ‪ ،‬سواء أكان له بلغة من العيش أم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س الْ َفق َ‬
‫الْبائ َ‬
‫ال‪.‬‬
‫ضوا تَ َفثَ ُه ْم التفث القذر والوسخ ‪ ،‬وقضاؤه إهناؤه وإزالته ‪ ،‬واملراد ما ينشأ عنه التفث من‬
‫مثُا لْيَ ْق ُ‬
‫طول الشعر واألظفار‪.‬‬
‫ور ُه ْم النذر ‪ :‬ما التزمه اإلنسان من أعمال الرب‪.‬‬‫َولْيُوفُوا نُ ُذ َ‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫يق العتيق الكرمي ‪ ،‬ومنه عتاق اإلبل واخليل كرائمها ‪ ،‬أو هو القدمي ‪ ،‬ألنهه‬ ‫ولْيطا اوفُوا ِابلْب ْي ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫أول بيت وضع للناس ‪ ،‬أو هو العتيق مبعىن املعتق املتحرر من تسلط اجلبارين واستيًلئهم ‪ ،‬فًل‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وجعل عاقبة بيته السًلمة واحلفظ‪.‬‬
‫يريده أحد بعدوان إال رده ه‬
‫اّلل تعاىل نبيه إبراهيم عليه الصًلة والسًلم بعد ما فرغ من بناء البيت أبن ينادي يف‬
‫املعىن ‪ :‬أيمر ه‬
‫اّلل قد كتب عليهم احلج إىل هذا البيت العتيق ‪ ،‬ليدركوا فيه منافع وخريات‬
‫الناس ‪ ،‬ليعلمهم أ هن ه‬
‫اّلل ‪ ،‬ويذكروا امسه الكرمي على الذابئح‬
‫كثرية ‪ ،‬تعود عليهم يف دينهم ودنياهم ‪ ،‬ويؤ هدوا شعائر ه‬
‫اليت يذحبوهنا شكرا هّلل على توفيقه إايهم وإرشادهم إىل ما يصلحهم ‪ ،‬وأنه ال حرج على أصحاب‬
‫تلك الذابئح أن أيكلوا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه ‪ :‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل (‪/3‬‬
‫‪.)153‬‬

‫ص ‪495 :‬‬
‫منها ‪ ،‬بل ينبغي هلم أن يواسوا الفقراء والبائسني ‪ ،‬وأن يشاركوهم يف األكل منها ‪ ،‬وال يرتفهعوا‬
‫عليهم ‪ ،‬وأنه جيب عليهم أن يتحلهلوا من قيود اإلحرام مَّت فرغوا من املناسك الواقعة قبل‬
‫الطواف ‪ ،‬وأنه جيب عليهم أيضا أن يوفوا مبا التزموه ابلنذر من ذبح وغريه‪ .‬وأن يطوفوا ابلبيت‬
‫طواف اإلفاضة ‪ ،‬أو طواف الوداع على ما قيل‪.‬‬
‫قد يقال ‪ :‬إنه مل يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدان إبراهيم ‪ ،‬فكيف يؤمر هبذا‬
‫النداء الذي يذهب يف الفضاء؟‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل قد أي هد رسله ابملعجزات اخلارجة عن جمرى العادات ‪ ،‬فهو‬
‫واجلواب أن ه‬
‫سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إىل من يشاء يف تلك النواحي البعيدة ‪ ،‬واألصقاع‬
‫املرتامية‪.‬‬
‫وقد أخرج ابن أيب شيبة وابن جرير وابن املنذر واحلاكم وصححه والبيهقي يف سننه عن ابن‬
‫عباس «‪ »1‬قال ‪ :‬ملا فرغ إبراهيم عليه الصًلة والسًلم من بناء البيت قال ‪:‬‬
‫رب قد فرغت ‪ ،‬فقال ‪ :‬أذهن يف الناس ابحلج‪ .‬قال ‪ :‬اي رب وما يبلغ صوِت؟ قال تعاىل ‪ :‬أذهن‬
‫ه‬
‫وعلي البًلغ‪ .‬قال ‪ :‬رب كيف أقول ‪ ،‬قال ‪ :‬قل اي أيها الناس كتب عليكم احلج إىل البيت‬
‫ه‬
‫العتيق ‪ ،‬فسمعه أهل السماء واألرض ‪ ،‬أال ترى أهنم جييبون من أقصى البًلد ‪ ،‬يلبون‪.‬‬
‫على أان نشاهد اليوم آالت اإلذاعة تنشر األصوات يف مجيع بقاع األرض ‪ ،‬فًل حتجزها جبال ‪،‬‬
‫وال تضعفها حبار وال قفار ‪ ،‬فمن يشاهد هذه احلقائق اليت يستطيعها كل من يزاول علومها ‪ ،‬ال‬
‫ميكنه أن يكابر يف معجزات األنبياء‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وأنه‬
‫هذا ‪ ،‬وقيل إ هن املخاطب ابلتأذين والدعوة إىل احلج هو نبينا حممد صلهى ه‬
‫أمر بذلك حينما عزم على احلج يف السنة العاشرة من اهلجرة ‪ ،‬وأن نظم اآلية مع اليت قبلها ال‬
‫ِ‬
‫اهيم مكا َن الْب ْي ِ‬
‫ت هو النيب صلهى‬ ‫َ‬ ‫أيابه ‪ ،‬إذ املخاطب يف قوله تعاىل قبل هذه اآلية ‪َ :‬وإِ ْذ بَ اوأْان ِِإلبْر َ َ‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ويكون املعىن حينئذ ‪ :‬واذكر اي حممد إذ بوأان إلبراهيم ‪ ،‬وأذن يف الناس ابحلج ‪،‬‬
‫ه‬
‫ولكنك ترى أ هن يف اآلية األوىل أوامر ونواهي كلها متوجهة إىل إبراهيم عليه الصًلة والسًلم ‪،‬‬
‫فالظاهر أ هن األمر ابلتأذين أيضا إلبراهيم ‪ ،‬إذ الغرض من تطهري البيت إعداده للطائفني والقائمني‬
‫والركع السجود ‪ ،‬فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت‬
‫وتطهريه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أبن سورة احلج مكية ‪،‬‬
‫وبعض العلماء ر هد احتمال توجيه اخلطاب إىل النيب صلهى ه‬
‫اّلل‬
‫فنزوهلا قبل حجة الوداع ابلضرورة ‪ ،‬فًل يستقيم أن يكون املأمور ابلدعاء هو النيب صلهى ه‬
‫عليه وسلهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر ما رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)355 /4‬‬

‫ص ‪496 :‬‬
‫ولكن هذا الر هد ينهار مَّت علمت أ هن الراجح هو أن سورة احلج مدنية ‪ ،‬ما عدا آية َوما أ َْر َسلْنا‬
‫يب إِاال إِذا َتََ اىن وثًلث آايت بعدها ‪ ،‬كما هو مروي عن قتادة ‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫ِمن قَبلِ َ ِ‬
‫ك م ْن َر ُسول َوال نَِ ٍه‬ ‫ْ ْ‬
‫رواية ‪ ،‬عن ابن عباس أ هن السورة كلها مدنية ‪ ،‬وهو قول الضحاك أيضا‪.‬‬
‫ما يف اآلايت من األسرار ‪:‬‬
‫فالسر يف العدول عن ذلك إىل‬
‫ه‬ ‫إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن أيتوا إىل البيت احلرام ‪،‬‬
‫التعبري ابإلتيان إىل إبراهيم عليه الصًلة والسًلم أنه هو الداعي ‪ ،‬والقدوة هلم فيما يكون بعد‪.‬‬
‫ضام ٍر كلمة (كل) فيه للتكثري ال لإلحاطة ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬و َعلى ُك ِل ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ت ِم ْن ُك ِهل َش ْيء [النمل ‪ ]23 :‬والسر يف ذلك إفادة أن الركبان اآلتني من األماكن البعيدة‬ ‫ٍ‬ ‫َوأُوتِيَ ْ‬
‫يكونون كثريين جدا ‪ ،‬حَّت كأهنهم ميتطون مجيع الضوامر‪.‬‬
‫لِيَ ْش َه ُدوا َمنافِ َع َهلُ ْم ن هكرت املنافع إلفادة عظمتها وكثرهتا ‪ ،‬أو التنكري فيها للتنويع‪.‬‬
‫يمةِ ْاألَنْ ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وي ْذ ُكروا اسم اِ‬
‫عام اختري هذا األسلوب مع أ هن‬ ‫اّلل ِيف أَ اايٍم َم ْعلُومات َعلى ما َرَزقَ ُه ْم م ْن َهب َ‬ ‫ََ ُ ْ َ‬
‫اّلل وحده خالصا‬
‫الذبح هو املعدود من مناسك احلج ‪ ،‬كالذبح للمتعة والقرآن ‪ ،‬ليفيد أن ذكر ه‬
‫من شوائب الشرك هو املقصود األعظم ‪ ،‬وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك‬
‫القربة ‪ ،‬والتهوين عليهم يف اإلنفاق ‪ ،‬ويف قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوا إخل التفات إليهم ابخلطاب ‪ ،‬ليؤهكد‬
‫يتحرجوا من ذلك ‪ ،‬وليبعثهم على مشاركة البائسني‬
‫هلم إابحة األكل من تلك الذابئح ‪ ،‬فًل ه‬
‫والفقراء ومواساهتم‪.‬‬
‫ما يف اآلايت من األحكام‬
‫ِ‬ ‫وك ِر ً‬
‫جاال َو َعلى ُك ِهل ضام ٍر فيه دليل على جواز ه‬
‫كل من املشي والركوب يف‬ ‫‪ - 1 :‬قوله تعاىل ‪َ :‬أيْتُ َ‬
‫احلج‪.‬‬
‫‪ - 2‬استدل بعض املالكية على أ هن املشي يف احلج أفضل من الركوب ‪ ،‬بتقدميه عليه يف اآلية‪.‬‬
‫وإىل هذا ذهب ابن عباس ‪ ،‬فقد أخرج ابن سعد ‪ ،‬وابن أيب شيبة ‪ ،‬والبيهقي ‪ ،‬ومجاعة عنه أنه‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬ما آسى على شيء فاتين إال أين مل أحج ماشيا حَّت أدركين الكرب ‪ :‬أمسع ه‬
‫جاال وعَلى ُك ِل ِ‬
‫ضام ٍر فبدأ ابلرجال قبل الركبان‪.‬‬ ‫ه‬ ‫وك ِر ً َ‬
‫َأيْتُ َ‬
‫ولكنهك ترى أ هن جمرد التقدمي ال يدل على األفضلية ‪ ،‬جلواز أن يكون تقدمي الرجال على الركبان‬
‫لإلشارة إىل مسارعة الناس يف االمتثال ‪ ،‬حَّت إن املاشي ليكاد يسبق الراكب ‪ ،‬فإذا كان املشي‬
‫أفضل ‪ ،‬فإمنا هو ألدلة أخرى‪ .‬من ذلك ما‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغريمها عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬مسعت رسول ه‬
‫وسلهم يقول ‪« :‬إن‬

‫ص ‪497 :‬‬
‫للحاج الراكب بكل خطوة تطوها راحلته سبعني حسنة ‪ ،‬وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من‬
‫اّلل وما حسنات احلرم‪ .‬قال ‪« :‬احلسنة مئة ألف حسنة» «‪.»1‬‬ ‫حسنات احلرم» قيل ‪ :‬اي رسول ه‬
‫‪ - 3‬ويف قوله جل ذكره ‪ :‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنافِ َع َهلُ ْم داللة على جواز التجارة يف احلج ‪ ،‬روي عن‬
‫اّلل من أمر الدنيا واآلخرة‪ .‬وروي مثل ذلك عن ابن‬
‫جماهد أنه قال ‪ :‬املنافع التجارة ‪ ،‬وما يرضي ه‬
‫عباس ‪ ،‬وقد نص الفقهاء على أ هن التجارة جائزة للحاج من غري كراهة ‪ ،‬إذا مل تكن هي‬
‫املقصودة من السفر‪.‬‬
‫اّللِ ِيف أَ اايٍم م ْعلُ ٍ‬
‫ومات على أ هن ذبح اهلدي ال جيوز‬ ‫اس َم ا‬
‫استدل املالكية بقوله تعاىل ‪َ :‬ويَ ْذ ُك ُروا ْ‬
‫ه‬ ‫‪-4‬‬
‫َ‬
‫اّلل جعل ظرف النحر هو األايم ال الليايل ‪ ،‬وأنت تعلم أ هن اليوم كما يطلق على النهار‬
‫ليًل ‪ ،‬أل هن ه‬
‫يطلق على جمموع النهار والليل ‪ ،‬وغري املالكية يرى كراهة الذبح ليًل ‪ ،‬الحتمال اخلطأ فيه‬
‫بسبب الظلمة‪.‬‬
‫وق د اختلف العلماء يف املراد ابألايم املعلومات ‪ ،‬فذهب اإلمام مالك وأبو يوسف وحممد إىل أهنا‬
‫أايم النحر ‪ ،‬وهي العاشر من ذي احلجة ‪ ،‬واليومان بعده ‪ ،‬وهو مروي عن علي وابن عمر‪.‬‬
‫وقال اإلمامان أبو حنيفة والشافعي ‪ :‬األايم املعلومات هي عشر ذي احلجة ‪ ،‬وهي معلومات أل هن‬
‫ويتحروا هًلل ذي احلجة ملا يقع يف ذلك من املناسك‬
‫ه‬ ‫شأن املسلمني أن حيرصوا على معرفتها ‪،‬‬
‫العظيمة ‪ ،‬ولعلهم يقولون ‪ :‬إ هن املراد ابلذكر ما يشمل التسمية على الذابئح وغريها من احلمد‬
‫جل شأنه َعلى ما َرَزقَ ُه ْم للتعليل‬
‫والشكر والتكبري ‪ ،‬وعلى هذا ينبغي أن تكون (على) يف قوله ه‬
‫كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬ولِتُ َكِهربُوا ا‬
‫اّللَ َعلى ما َهدا ُك ْم [البقرة ‪.]185 :‬‬
‫مث اختلف يف أايم النحر ‪ ،‬فاحلنفية واإلمام مالك قالوا ‪:‬‬
‫إهنا ثًلثة أايم ‪ :‬العاشر وما بعده ‪ ،‬وهو مروي عن مجع من الصحابة ‪ ،‬منهم ‪ :‬عمر وعلي‬
‫‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وأبو هريرة ‪ ،‬وأنس ‪ ،‬وكثري من التابعني‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬إهنا أربعة العاشر وما بعده‪ .‬وقيل ‪ :‬إىل هًلل احملرم ‪ ،‬ولعل املذهب األول أرجح‬
‫‪ ،‬أل هن بقية األقوال مل ينقل ما يؤيهدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعني‪.‬‬
‫وقد احتج ملذهب الشافعي مبا‬
‫كل أايم‬
‫اّلل عليه وسلهم قال يف حديث ‪« :‬و ه‬
‫روى البيهقي عن جبري بن مطعم أ هن النيب صلهى ه‬
‫التشريق ذبح»‬
‫وال شك أ هن أايم التشريق ثًلثة بعد يوم‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر ما رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)355 /4‬‬

‫ص ‪498 :‬‬
‫ولكن هذا احلديث ضعيف قال فيه اإلمام أمحد ‪ :‬مل يسمعه ابن أيب حسني من جبري بن‬
‫النحر ‪ ،‬ه‬
‫مطعم ‪ ،‬وأكثر روايته عن سهو‪.‬‬
‫وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى األسدي فقيه أهل الشام ‪ ،‬عن جبري ‪ ،‬ومل يدركه ‪،‬‬
‫ورواه من طرق ضعيفة متصًل‪.‬‬
‫لكن هذا الظاهر غري مراد ‪ ،‬فإ هن‬ ‫ِ‬
‫‪ - 5‬ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فَ ُكلُوا م ْنها وجوب األكل من اهلدااي ‪ ،‬ه‬
‫السلف متفقون على أنه ال جيب األكل من شيء من اهلدااي ‪ ،‬إذ غاية ما أفاده هذا األمر أنه‬
‫رفع ما كان عليه أهل اجلاهلية من التحرج عن األكل من اهلدااي ‪ ،‬فأابح األكل منها ‪ ،‬أو ندب‬
‫إليه ‪ ،‬لقصد مواساة الفقراء ‪ ،‬ومواساهتم يف األكل‪ .‬فاألمر إما لإلابحة أو للندب‪.‬‬
‫مث إ هن جواز األكل من اهلدااي ليس عاما يف كل هدي ‪ ،‬فإ هن دم اجلزاء ال جيوز األكل منه اتفاقا ‪،‬‬
‫ودم التطوع جيوز األكل منه اتفاقا أيضا‪ .‬أما دم القران والتمتع فقال الشافعية ‪ :‬إنه دم جرب ‪،‬‬
‫فًل جيوز األكل منه ‪ ،‬واحلنفية يقولون ‪ :‬إنه دم شكر ‪ ،‬فأابحوا األكل منه ‪ ،‬والظاهر يشهد هلم ‪،‬‬
‫فإ هن اآلية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف ‪ ،‬وال دم ترتتب عليه هذه األفعال إال‬
‫دم املتعة والقرآن فإن سائر الدماء جيوز ذحبها قبل هذه األفعال وبعدها ‪ ،‬فثبت أ هن املراد يف اآلية‬
‫اّلل عليه وسلهم أكل من البدن اليت ساقها يف‬
‫دم املتعة والقران‪ .‬هذا وقد ثبت أ هن النيب صلهى ه‬
‫حجة الوداع ‪ ،‬وقد كان قاران على ما هو الراجح‪.‬‬
‫ونص الفقهاء على أنه يلحق ابألكل االنتفاع جبلودها وأصوافها ‪ ،‬كما أنهه جيوز إطعام األغنياء‬
‫ه‬
‫منها ‪ ،‬فإ هن اآلية أابحت لصاحب الذبيحة أن أيكل منها ‪ ،‬ولو كان غنيا ‪ ،‬ومَّت جاز له أن أيكل‬
‫وهو غين جاز أن يؤكل غنيا‪.‬‬
‫ري وجوب إطعام الفقراء من اهلدااي ‪ ،‬وهبذا الظاهر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س الْ َفق َ‬
‫‪ - 6‬ظاهر قوله تعاىل ‪َ :‬وأَطْع ُموا الْبائ َ‬
‫الشافعي ‪ ،‬فأوجبوا إطعام الفقراء منها‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬إنه مندوب ‪ ،‬ألهنا دماء نسك ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫أخذ‬
‫فتتحقق القربة فيها إبراقة الدم ‪ ،‬أما إطعام الفقراء فهو ابق على حكمه العام‪.‬‬
‫‪ - 7‬يف االقتصار على األكل واإلطعام داللة على أنهه ال جيوز بيع شيء من اهلدااي ‪ ،‬ويشهد‬
‫لذلك ما‬
‫اّلل عليه وسلهم أن أقوم‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬أمرين النيب صلهى ه‬
‫روى البخاري ومسلم عن علي رضي ه‬
‫على بدنه فقال اقسم جلودها وجًلهلا ‪ ،‬وال تعط اجلازر منها شيئا «‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ما رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )954 /2‬كتاب احلج ‪ - 61 ،‬ابب الصدقة حديث‬
‫رقم (‪ ، )1317 /348‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 25 ، )226 /2‬كتاب احلج ‪- 120 ،‬‬
‫ابب ال يعطي اجلزار من اهلدي حديث رقم (‪.)1716‬‬

‫ص ‪499 :‬‬
‫فإذا مل جيز إعطاء اجلازر أجرته منها فأوىل إال جيوز بيع شيء منها‪.‬‬
‫ضوا تَ َفثَ ُه ْم داللة على وجوب التحلل األصغر ‪ ،‬وذلك ابحللق أو‬
‫‪ - 8‬يف قوله تعاىل ‪ :‬مثُا لْيَ ْق ُ‬
‫التقصري‪.‬‬
‫ور ُه ْم فيه داللة على وجوب الوفاء ابلنذر ‪ ،‬وأداء ما التزمه اإلنسان من أعمال‬
‫‪َ - 9‬ولْيُوفُوا نُ ُذ َ‬
‫الرب ‪ ،‬سواء أكان من جنسه واجب أم ال‪.‬‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫يق فيه داللة على لزوم هذا الطواف ‪ ،‬واملراد به طواف اإلفاضة ‪،‬‬ ‫‪ - 10‬ولْيطااوفُوا ِابلْب ْي ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫كما هو مروي عن ابن عباس ومجاعة من التابعني ‪ ،‬وهبذا قال فقهاء األمصار‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬الطواف يف اآلية هو طواف الصدر‪ .‬وهو بعيد ‪ ،‬أل هن الطواف الذي يلي قضاء التفث إمنا‬
‫هو طواف اإلفاضة الذي اتهفق على أنهه ركن ‪ ،‬فمن البعيد جدا أن تتعرض اآلية لطواف الوداع‬
‫الذي اختلف يف ع هده من املناسك ‪ ،‬وترتك ما هو أهم منه وأعظم‪.‬‬
‫هذا واحلكم أب هن وقت هذا الطواف أايم النحر كلها أو اليوم األول فقط ال يؤخذ من هذه اآلية ‪،‬‬
‫كما أنه ال يؤخذ منها اشرتاط الطهارة وسرت العورة فيه ‪ ،‬أل هن اسم الطواف يقع على الدوران‬
‫حول الكعبة ‪ ،‬فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف ‪ ،‬ومن اشرتط شيئا‬
‫اّلل عليهم‬
‫اّلل عليه وسلهم وأصحابه رضوان ه‬
‫وراء ذلك فإمنا طريقه السنة وعمل النيب صلهى ه‬
‫أمجعني‪.‬‬
‫عام إِاال ما‬
‫ت لَ ُك ُم ْاألَنْ ُ‬‫اّللِ فَ ُه َو َخ ْريٌ لَهُ ِع ْن َد َربِههِ َوأ ُِحلا ْ‬
‫مات ا‬‫ك ومن ي ع ِظهم حر ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ‬ ‫قال ه‬
‫ني بِهِ‬ ‫ِِ‬ ‫الرج ِ‬
‫ري ُم ْش ِركِ َ‬
‫اجتَنبُوا قَ ْو َل الزُّو ِر (‪ُ )30‬حنَفاءَ اّلل غَ ْ َ‬
‫اثن و ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫س م َن ْاأل َْو َ‬ ‫اجتَنبُوا هِ ْ َ‬
‫ي ْتلى َعلَْي ُكم فَ ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫كان َس ِحي ٍق (‪)31‬‬ ‫الريح ِيف م ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوَم ْن يُ ْش ِر ْك ِاب اّللِ فَ َكأَامنا َخ ار م َن ال ا‬
‫سماء فَتَ ْخطَُفهُ الطا ْريُ أ َْو َهتْ ِوي بِه هِ ُ َ‬
‫اسم اإلشارة يف مثل هذا املوطن يؤتى به للفصل بني كًلمني ‪ ،‬كما يف قول زهري وقد تقدم له‬
‫وصف هرم ابلشجاعة والكرم ‪:‬‬
‫هذا وليس كمن يعيا خبطبته وسط الندى إذا ما انطق نطقا‬
‫ش ار َم ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫آب (‪[ )55‬ص ‪ ]55 :‬ويقدر له ما يتم به الكًلم‬ ‫وكما يف قوله تعاىل ‪ :‬هذا َوإِ ان للطااغ َ‬
‫ني لَ َ‬
‫‪ ،‬أي األمر ذلك ‪ ،‬أو امتثلوا ذلك‪.‬‬
‫كل منهي عنه ‪،‬‬ ‫مات اِ‬
‫ومن ي ع ِظهم حر ِ‬
‫اّلل من ه‬
‫حرمه ه‬
‫اّلل احلرمات مجع حرمة ‪ ،‬قيل ‪ :‬هي مبعىن ما ه‬ ‫ََ ْ َُ ْ ُُ‬
‫أو من املنهيات يف ابب احلج فقط ‪ ،‬كما روي عن ابن عباس أهنها فسوق ‪ ،‬وجدال ‪ ،‬ومجاع ‪،‬‬
‫وصيد‪ .‬وتعظيمها يكون ابجتناهبا‪.‬‬
‫اّلل هلا احرتاما يف احلج وغريه ‪ ،‬وهي مجيع التكاليف وقيل ‪:‬‬
‫وقيل ‪ :‬احلرمات األشياء اليت جعل ه‬
‫خاصة‪.‬‬
‫وهي مناسك احلج ه‬

‫ص ‪ 500 :‬وقيل ‪ :‬إهنا حرمات مخس ‪ :‬املشعر احلرام ‪ ،‬واملسجد احلرام ‪ ،‬والبيت احلرام ‪،‬‬
‫والشهر احلرام ‪ ،‬واحملرم حَّت حيل ‪ ،‬وتعظيم هذه األشياء ظاهر‪.‬‬
‫فَ ُه َو َخ ْريٌ لَهُ ِعنْ َد َربِههِ الضمري األول راجع إىل التعظيم املأخوذ من يُ َع ِظه ْم أي أن تعظيم هذه‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل له ‪ ،‬وعلى هذا ال يكون َخ ْريٌ أفعل‬‫األشياء ينال به اإلنسان مثوبة قد ضمنها ه‬
‫تفضيل‪ .‬أو نقول ‪ :‬إنه للتفضيل واملفاضلة على سبيل التنزل ‪ ،‬وإرخاء العنان ‪ ،‬أي على فرض‬
‫أن ترك التعظيم فيه شيء من اخلري ‪ ،‬فالتعظيم أفضل منه‪.‬‬
‫عام إ اال ما يُ ْتلى َعلَْي ُك ْم املراد ه‬
‫حل ذحبها وأكلها ‪ ،‬مث إنه ليس املقصود مبا يتلى‬ ‫َوأ ُِحلا ْ‬
‫ت لَ ُك ُم ْاألَنْ ُ ِ‬
‫(ما ينزل يف املستقبل) ما يعطيه ظاهر الفعل املضارع ‪ ،‬بل املراد ما سبق نزوله ‪ ،‬مما يدل على‬
‫اّلل أو ما يدل على حرمة الصيد يف احلرم أو حالة اإلحرام‪.‬‬
‫حرمة امليتة ‪ ،‬وما أهل به لغري ه‬
‫وعلى هذا يكون السر يف التعبري ابملضارع التنبيه إىل أن ذلك املتلو ينبغي استحضاره وااللتفات‬
‫إليه ‪ ،‬واالستثناء متصل إن أريد من املستثىن ما يكون حمرما من خصوص األنعام‪ .‬وإن أريد به ما‬
‫يشمل الدم وحلم اخلنزير كان منقطعا‪ .‬والظاهر األول ‪ ،‬واجلملة معرتضة لدفع ما عساه يقع يف‬
‫اّلل يف احلج قد يقضي ابجتناب األنعام ‪ ،‬كما قضى ابجتناب‬
‫الوهم من أ هن تعظيم حرمات ه‬
‫الصيد‪.‬‬
‫اثن ‪ ،‬الرجس ‪ :‬القذر ‪ ،‬وقوله ‪ِ :‬من ْاألَو ِ‬‫الر ْجس ِمن ْاألَو ِ‬ ‫فَ ْ ِ‬
‫اثن بيان له‪.‬‬ ‫َ ْ‬ ‫اجتَنبُوا هِ َ َ ْ‬
‫اّلل رجسا تقبيحا هلا ‪ ،‬وتنفريا منها‪.‬‬
‫واألواثن ‪ :‬األصنام ‪ ،‬ومسهاها ه‬
‫واملراد ابجتناهبا اجتناب عبادهتا وتعظيمها‪ .‬ولتأكيد ذلك أوقع االجتناب على ذاهتا ‪ ،‬وهذه‬
‫اّلل فيه اخلري‬
‫اجلملة مرتبطة مبا قبل االعرتاض ‪ ،‬مرتتبة على حكمه ‪ ،‬أي إذا كان تعظيم حرمات ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬فاجتنبوا األواثن ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل وكان من تعظيم هذه احلرمات اجتناب ما هنى ه‬
‫وفيه رضا ه‬
‫وال تعظموها ‪ ،‬وال تذحبوا هلا كما كان يفعل أهل اجلاهلية‪.‬‬
‫اجتَنِبُوا قَ ْو َل الزُّو ِر‪.‬‬
‫َو ْ‬
‫الزور الكذب والباطل ‪ ،‬ومسي زورا مليله عن وجه احلق ‪ ،‬من الزور بفتح الواو وهو امليل‬
‫واالحنراف ‪ ،‬وإضافة القول إليه بيانية‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬املراد بقوله ‪ :‬الزُّو ِر خلط أهل اجلاهلية يف تلبيتهم ‪ ،‬وقوهلم فيها ‪:‬‬
‫لبيك ال شريك لك ‪ ،‬إال شريكا هو لك ‪َ ،‬تلكه وما ملك ‪ ،‬وهو ما أخرجه ابن أيب حامت عن‬
‫مقاتل‪.‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫وقيل املراد به قوهلم يف البحائر والسوائب إهنها حرام ‪ ،‬وأن حترميها من ه‬
‫واألحسن التعميم يف قول الزور حَّت يشمل الشهادة الباطلة ‪،‬‬
‫فقد أخرج أمحد‬

‫ص ‪501 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬عدلت شهادة الزور‬
‫وأبو داود وغريمها عن ابن مسعود «‪ »1‬أنه صلهى ه‬
‫ابّلل» ثًلاث ‪ ،‬وتًل هذه اآلية‪.‬‬ ‫اإلشراك ه‬
‫ني بِهِ احلنيف املائل عن الدايانت الباطلة إىل الدين احلق ‪ ،‬مأخوذ من احلنف‬ ‫ِِ‬
‫ري ُم ْش ِركِ َ‬
‫ُحنَفاءَ اّلل غَ ْ َ‬
‫اب لتحريك وهو امليل ‪ ،‬وقد اشتهر عند العرب إطًلق احلنيف على كل متمسك بدين إبراهيم‬
‫عليه الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬اجتنبوا الرجس من األواثن ‪ ،‬واجتنبوا قول الزور حال كونكم اثبتني على الدين احلق ‪،‬‬
‫خملصني هّلل يف العبادة ‪ ،‬من غري أن َتعلوا لغريه معه شركة فيها‪ .‬فهما حاالن مؤهكداتن ملا قبلهما‬
‫من االجتناب‪.‬‬
‫س ِ‬
‫ماء فَتَ ْخطَُفهُ الطا ْريُ‪.‬‬ ‫َوَم ْن يُ ْش ِر ْك ِاب اّللِ فَ َكأَامنا َخ ار ِم َن ال ا‬
‫َخ ار‪ .‬معناه سقط من علو‪.‬‬
‫فَتَ ْخطَُفهُ تتلسه بسرعة وقوة‪.‬‬
‫مقررة لوجوب اجتناب الشرك‪.‬‬
‫وهذه اجلملة مستأنفة ه‬
‫واملعىن ‪ :‬أن من جعل هّلل شريكا فقد حق عليه اخلسار والبوار ‪ ،‬وهو يف شركه شبيه به إذا سقط‬
‫فتم‬
‫من جو السماء ‪ ،‬فاجتمعت عليه الطيور اجلارحة ‪ ،‬فمزقته ‪ ،‬وذهب كل منها بقطعة منه ‪ ،‬ه‬
‫بذلك هًلكه‪.‬‬
‫وظاهر على هذا أن التشبيه من ابب تشبيه التمثيل ‪ ،‬ويصح أن يكون تشبيها مفرقا‪.‬‬
‫يق ‪ ،‬هوى يهوي سقط من علو‪ .‬وهوى به أسقطه‪.‬‬ ‫كان َس ِح ٍ‬
‫الريح ِيف م ٍ‬ ‫ِ‬
‫أ َْو َهتْ ِوي بِه هِ ُ َ‬
‫والسحيق ‪ :‬البعيد ‪ ،‬ماضيه سحق كبعد‪.‬‬
‫ابّلل ‪ ،‬والعطف فيه إما على قوله ‪َ :‬خ ار ِمن ال ا ِ‬
‫سماء أو على فَتَ ْخطَُفهُ‬ ‫َ‬ ‫هذا تشبيه اثن ملن أشرك ه‬
‫الطا ْريُ واملعىن أ هن حال املشرك يف شركه ‪ ،‬وما يؤدي إليه من سوء العاقبة ‪ ،‬شبيهة حباله إذا أخذته‬
‫ريح عاصفة ‪ ،‬فقذفت به يف مهوى عميق ‪ ،‬ال يكون له منه خًلص وال جناة ‪ ،‬أو أ هن حاله يف‬
‫خر من السماء ‪ ،‬فعصفت به الريح ‪ ،‬وهوت به يف مكان سحيق‪.‬‬
‫ذلك شبيهة حباله إذا ه‬
‫والتشبيه على هذين الوجهني تشبيه َتثيل ‪ ،‬ويصح أن يكون تشبيها مفرقا أيضا ‪ ،‬فيشبه‬
‫الشيطان الذي يضله ويغويه ابلريح اليت هتوي به وترديه ‪ ،‬ويشبه الشرك ابلوادي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )298 /3‬كتاب األقضية ‪ ،‬ابب يف شهادة الزور حديث رقم‬
‫(‪ ، )3599‬وأمحد يف املسند (‪ ، )321 /4‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )475 /4‬كتاب‬
‫الشهادات ‪ ،‬ابب يف شهادة الزور حديث رقم (‪ )2300‬وابن ماجه يف السنن (‪13 )794 /2‬‬
‫‪ -‬كتاب األحكام ‪ - 32 ،‬ابب شهادة الزور حديث رقم (‪.)2372‬‬

‫ص ‪502 :‬‬
‫العميق الذي ال ينجو من قذف فيه‪ .‬ونتيجة هذه التشبيهات واحدة ‪ ،‬والغرض من ذلك كله‬
‫تقبيح حال الشرك ‪ ،‬والتنفري منه‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬واالنتفاع ابألنعام ‪،‬‬
‫وال خيفى عليك ما يؤخذ من هذه اآلية من األحكام فيما يتعلق حبرمات ه‬
‫ابّلل ‪ ،‬وشهادة الزور‪.‬‬ ‫واإلشراك ه‬
‫اجتَنِبُوا قَ ْو َل الزُّو ِر ما يدل على تعزير شاهد الزور ‪ ،‬فإ هن غاية ما أفاده‬
‫وليس يف قوله تعاىل ‪َ :‬و ْ‬
‫يعزر شاهد الزور ‪ ،‬وأيمر‬ ‫اّلل عنه من أنه كان ه‬
‫حترمي شهادة الزور ‪ ،‬وما روي عن عمر رضي ه‬
‫فينادى عليه ابألسواق‪ .‬وإليه ذهب أبو يوسف وحممد ‪ ،‬فإمنا ذلك شيء يرجع إىل السياسات‬
‫الشرعية ‪ ،‬فللحاكم أن يفعل من ذلك ما يراه أحفظ حلقوق العامة ‪ ،‬وأردع ألهل الفساد‪.‬‬
‫اّللِ فَِإ اهنا ِم ْن تَ ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫وب (‪ )32‬الشعائر ‪ :‬العًلمات‬ ‫ك َوَم ْن يُ َع ِظه ْم َشعائَِر ا‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ذلِ َ‬
‫قال ه‬
‫اليت تعرف هبا األشياء ‪ ،‬فهي تشعر هبا وتدل عليها ‪ ،‬وقد اختلف يف املراد هبا هنا ‪ :‬فقيل ‪ :‬إهنا‬
‫اّلل ‪ ،‬أل هن امتثاهلا والوقوف عند حدودها يدل على‬
‫الدين كله أوامره ونواهيه ‪ ،‬فهي شعائر ه‬
‫جل‬
‫يفسر البيت العتيق يف قوله ه‬‫الطاعة هّلل تعاىل ‪ ،‬واإلخًلص له‪ .‬وقد اضطر من يقول هبذا أن ه‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫يق ابجلنة ‪ ،‬وهو كما ترى بعيد‪.‬‬ ‫شأنه ‪ :‬مثُا َِحملُّها إِ َىل الْب يْ ِ‬
‫َ‬
‫اّلل عنهما واإلمام مالك واحلسن ‪ :‬إهنا عرفة ‪ ،‬ومىن والصفا واملروة ‪،‬‬ ‫وقال ابن عمر رضي ه‬
‫اّلل تعاىل قال يف شأهنا ‪:‬‬
‫والبيت احلرام ‪ ،‬وغريها من مواضع احلج ‪ ،‬وهو ال خيلو من شي ء ‪ ،‬فإن ه‬
‫واحملل يف احلج قد اشتهر يف املكان الذي تذبح فيه اهلدااي كما سيأِت‪.‬‬
‫يق ه‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫مثُا َِحملُّها إِ َىل الْب ْي ِ‬
‫َ‬
‫فالظاهر أ هن املراد ابلشعائر األنعام اليت تساق هداي للكعبة ‪ ،‬كما روي عن ابن عباس وجماهد‬
‫وغريمها ومسيت بذلك ألهنها تدل على احلج ‪ ،‬أو على طاعة سائقيها هّلل تعاىل ‪ ،‬وتعظيمها يكون‬
‫أبن تتار مسينة حسنة غالية األمثان‪.‬‬
‫والتقوى هي اخلشية اليت تبعث على اتباع األوامر واجتناب املناهي‪ .‬وال خيفى عليك أ هن الضمري‬
‫يف كلمة فَِإ اهنا عائد على الشعائر ‪ ،‬وهي ال تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت (من)‬
‫للتبعيض ‪ ،‬وال أن تكون انشئة من التقوى إذا كانت (من) لًلبتداء ‪ ،‬فًل بد من تقدير يصلح‬
‫لذلك‪ .‬كما أنك تعلم أنه ال بد من رابط يف قوله ‪:‬‬
‫فَِإ اهنا ِم ْن تَ ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫وب يعود على املبتدأ ‪ ،‬وهو (من) فيكون مآل الكًلم هكذا ‪ :‬ذلك ومن‬
‫اّلل فإ هن تعظيمه إايها من تقوى القلوب‪.‬‬
‫يعظهم شعائر ه‬
‫ويصح يف ضمري (فإهنا) أن يكون راجعا إىل حالة املعظهم اليت يدل عليها الفعل السابق يف‬
‫ه‬ ‫هذا‬
‫اآلية ‪ ،‬وعلى هذا فًل حيتاج إال إىل الرابط فقط ‪ ،‬واملعىن أ هن من‬

‫ص ‪503 :‬‬
‫يعظهم األنعام اليت يسوقها للحرم ‪ ،‬فيختارها مساان حساان ‪ ،‬فإن تعظيمه إايها ال حمالة انشئ من‬
‫اّلل خشية َت هكنت من قلبه ‪ ،‬فهو بتعظيمها قد مجع بني‬
‫التقوى احلقيقية ‪ ،‬ودليل على أنه خيشى ه‬
‫مظهر اخلشية وحقيقتها ‪ ،‬فعمله هذا هو عمل املخلصني ‪ ،‬وليس كعمل املنافقني ‪ ،‬الذين أيتون‬
‫بصور األعمال من غري أن يكون يف قلوهبم شيء من اإلخًلص‪ .‬يدل على هذا إضافة التقوى‬
‫إىل القلوب‪.‬‬
‫وال شك أن اإلخًلص والتقوى واخلشية هي غاية ما يتمىن اإلنسان أن يدركه يف هذه الدنيا ‪،‬‬
‫ليصل به إىل سعادة اآلخرة‪.‬‬
‫اّلل تعاىل بثبوت التقوى ملن عظهم تلك الشعائر من شأنه أن حيرك الناس ‪ ،‬ويبعثهم على‬
‫وإخبار ه‬
‫االهتمام أبمرها ‪ ،‬والعناية بتخريها ‪ ،‬والفرح بسوقها‪.‬‬
‫ويؤكد هذا املعىن إضافة هذه الشعائر إليه تعاىل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أهدى مئة بدنة فيها مجل أليب جهل يف أنفه برة من ذهب أي‬
‫روي أنه صلهى ه‬
‫حلقة من ذهب‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه أهدى جنيبة طلبت منه بثًلمثائة دينار‪ .‬وكان قد سأل النيب صلهى ه‬
‫وروي أن عمر رضي ه‬
‫عليه وسلهم أن يبيعها ويشرتى بثمنها بدان فنهاه عن ذلك ‪ ،‬وقال ‪ :‬بل أهدها ‪ ،‬وكان ابن عمر‬
‫اّلل عنهما يسوق البدن جملهلة ابلقباطي ‪ ،‬فيتصدق بلحومها وجًلهلا‪.‬‬ ‫رضي ه‬
‫يق (‪َ )33‬منافِ ُع الظاهر‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬لَ ُكم فِيها منافِع إِىل أَج ٍل مس ًّمى مثُا َِحملُّها إِ َىل الْب ْي ِ‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫قال ه‬
‫أ هن املراد هبا املنافع الدنيوية من الركوب وال هدر والصوف والوبر ‪ ،‬ليكون قوله تعاىل ‪َ :‬والْبُ ْد َن‬
‫َج َعلْناها لَ ُك ْم ِم ْن َشعائِ ِر ا‬
‫اّللِ لَ ُك ْم فِيها َخ ْريٌ مفيدا معىن جديدا‪ .‬فإ هن اخلري ظاهر يف ثواب اآلخرة ‪،‬‬
‫فيكون يف األنعام اليت تساق هداي إىل الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية‪.‬‬
‫أما األجل املسمى فقد اختلف يف معناه ‪ ،‬فقال اإلمام الشافعي ‪ :‬إنهه وقت حنرها ‪ ،‬وهو مروي‬
‫عن عطاء‪.‬‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬إنه وقت تعيينها وتسميتها هداي ‪ ،‬كما روي عن ابن عباس وابن عمر وجماهد ‪،‬‬
‫وقتادة‪.‬‬
‫حيل ابلكسر حلوال إذا وجب ‪ ،‬أو انتهى أجله ‪ ،‬ويف احلديث ‪:‬‬
‫حل الشيء ه‬
‫واحملل ابلكسر من ه‬
‫«حلهت له شفاعيت» «‪»1‬‬
‫وجبت‪ .‬ويقال ‪ :‬حل الدين ‪ :‬انتهى أجله ‪ ،‬فاحملل يف اآلية مكان احللول ‪ ،‬أي املكان الذي‬
‫ينتهي فيه أجل تلك األنعام ‪ ،‬أو املكان الذي جيب ذحبها فيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )171 /1‬كتاب األذان ‪ - 8 ،‬ابب الدعاء حديث‬
‫رقم (‪].....[ .)614‬‬

‫ص ‪504 :‬‬
‫ومعىن أن حملها إىل البيت العتيق أ هن املكان الذي تذبح فيه اهلدااي منته إىل البيت العتيق ‪،‬‬
‫ومتصل به ‪ ،‬إذ هو احلرم ‪ ،‬وال شك أن األمر كذلك ‪ ،‬فإنهه ليس نفي البيت ‪ ،‬وال ما حوله من‬
‫املسجد ‪ ،‬إذ ال حيل الذبح فيهما ‪ ،‬واحملل هبذا املعىن هو املراد يف اآلايت األخرى ‪ ،‬منها قوله‬
‫ي‬
‫جل شأنه ‪َ :‬وا ْهلَ ْد َ‬ ‫تعاىل ‪َ :‬وال َحتْلِ ُقوا ُرُؤ َس ُك ْم َح اَّت يَ ْب لُ َغ ا ْهلَ ْد ُ ِ ا‬
‫ي َحملهُ [البقرة ‪ ]196 :‬وقوله ه‬
‫عز امسه ‪َ :‬ه ْدايً ابلِ َغ الْ َك ْعبَةِ [املائدة ‪:‬‬
‫َم ْع ُكوفاً أَ ْن يَ ْب لُ َغ َِحملاهُ [الفتح ‪ ]25 :‬وهو املعني يف قوله ه‬
‫‪ ] 95‬وعلى هذا يكون املعطوف بثم يف اآلية كًلما اتما أريد به بيان املكان الذي تذبح فيه‬
‫اهلدااي ‪ ،‬بعد ما بني حكم تعظيمها واالنتفاع هبا إىل األجل املعني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إ هن املراد ابحملل نفس‬
‫احللول مبعىن الذبح ‪ ،‬وقيل أيضا ‪:‬‬
‫إ هن احملل زمان احللول‪ .‬وعلى هذين القولني يكون حملها معطوفا على منافع ‪ ،‬ويكون قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫يق حاال من الضمري يف حملها‪ .‬والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إىل أجل مسمى‬ ‫إِ َىل الْب ْي ِ‬
‫َ‬
‫وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب األخروي ‪ ،‬وهو وجوب حنرها ‪ ،‬أو وقت حنرها ‪ ،‬ويف‬
‫ذلك مبالغة ‪ ،‬حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة ‪ ،‬والظاهر األول‪.‬‬
‫ما يف اآلية من األحكام وأقوال العلماء يف ذلك‬
‫فسروا األجل املسمى يف اآلية بوقت حنر اهلدي ‪ ،‬وعلى هذا قالوا‬
‫‪ :‬قد علمت أ هن الشافعية ه‬
‫جبواز االنتفاع ابلشعائر بعد سوقها حَّت تنحر ‪ ،‬وقالوا أيضا ‪ :‬إمنا جيوز االنتفاع إذا كانت هناك‬
‫حاجة تدعو إليه ‪ ،‬ولو مل تصل لدرجة االضطرار ‪:‬‬
‫أما االنتفاع بغري حاجة فًل جيوز ‪ ،‬فلو احتاج لشيء من لبنها ولو مل يصل إىل درجة املخمصة فله‬
‫جيزه وينتفع به ‪،‬‬
‫أن يشرب منه ‪ ،‬وكذلك إذا كان يعلم أ هن صوفها أو وبرها يضرها ‪ ،‬فله أن ه‬
‫وليس عليه قيمته للفقراء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬واألوىل أن يتصدق به عليهم‪ .‬هذا هو املشهور من مذهبهم ‪،‬‬
‫وعندهم رواية أخرى عن اإلمام الشافعي أنه ال جيوز االنتفاع إال للمضطر‪.‬‬
‫يفسرون األجل املسمى يف اآلية بوقت سوقها‪ .‬فًل جييزون االنتفاع هبا بعد‬
‫أما احلنفية فإهنم ه‬
‫السوق إال يف حالة االضطرار‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إنه جيوز االنتفاع هبا مطلقا يف حاليت االختيار واالضطرار‪.‬‬
‫ونقل ابن عبد الرب عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب‪.‬‬
‫وملن أجاز مطلقا حجج ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قد أثبتت اآلية منافع يف الشعائر ‪ ،‬وأابحت االنتفاع هبا ‪ ،‬وهي ال تكون شعائر إال بعد‬
‫سوقها هدااي ‪ ،‬وتعيينها لذلك ‪ ،‬فيلزم أن يكون االنتفاع هبا بعد السوق أيضا‪.‬‬
‫‪ - 2‬مثه إ هن اآلية مل تقيهد جواز االنتفاع حبالة دون أخرى ‪ ،‬فالتقييد حبالة االضطرار‬

‫ص ‪505 :‬‬
‫كما يقول احلنفية ‪ ،‬أو ابحلاجة كما هو مشهور مذهب الشافعية زايدة ليست يف اآلية‪.‬‬
‫‪ - 3‬مث إ هن األحاديث الواردة يف ذلك مطلقة أيضا ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم رجًل يسوق‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬رأى رسول ه‬
‫فقد روي عن أنس رضي ه‬
‫بدنة ‪ ،‬فقال ‪« :‬اركبها» قال ‪ :‬إهنها بدنة‪.‬‬
‫قال ‪« :‬اركبها» قال ‪ :‬إهنها بدنة قال ‪« :‬اركبها» ثًلاث‪ .‬متفق عليه «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يقول ‪ -‬يف البدنة ‪-‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬مسعت رسول ه‬
‫وروي عن جابر رضي ه‬
‫‪« :‬اركبها ابملعروف» «‪»2‬‬
‫فاحلديثان مطلقان كاآلية فيجوز االنتفاع ابلبدنة على كل حال ‪ ،‬وإذا فًل يكون فرق بني البدنة‬
‫والناقة اليت مل يسقها ‪ ،‬فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان‪.‬‬
‫استدل الشافعية مبا أورده اجمليزون يف دليلهم األول ‪ ،‬وأب هن إطًلق اآلية جيب أن‬
‫ه‬ ‫حجة الشافعية ‪:‬‬
‫يقيهد مبا ورد من األحاديث اليت تفيد أ هن اإلابحة تثبت للحاجة ‪ :‬من ذلك ‪ :‬ما‬
‫رواه أمحد والنسائي عن أنس أنه عليه الصًلة والسًلم رأى رجًل يسوق بدنة ‪ ،‬وقد أجهده‬
‫املشي فقال ‪« :‬اركبها» قال ‪ :‬إهنها بدنة‪ .‬قال ‪« :‬اركبها ‪ ،‬ولو كانت بدنة» «‪.»3‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬اركبوا اهلدي ابملعروف حَّت َتدوا ظهرا» «‪»4‬‬
‫وروي عن جابر أنه صلهى ه‬
‫فهذان احلديثان يدالن على أ هن اإلابحة إمنا كانت ملسيس احلاجة إىل االنتفاع‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫وعلى هذا جيب أن حتمل اآلية واألحاديث املطلقة مجعا بني األدلة‪.‬‬
‫مث إنه ليس يف كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع اهلدي ‪ ،‬فًل يضمن املنتفع‬
‫شيئا منها للفقراء ‪ ،‬نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص‪.‬‬
‫حتمل الشعائر يف اآلية على األنعام اليت يراد سوقها للكعبة‬
‫حجة احلنفية ‪ :‬قال احلنفية ينبغي أن ه‬
‫‪ ،‬ال على البدن اليت سيقت ابلفعل ‪ ،‬فهي جماز بقرينة إيقاع التعظيم عليها ‪ ،‬فإ هن اآلية ندبت إىل‬
‫تريها مسينة حسنة ‪ ،‬وذلك إمنا يكون قبل سوقها وتعيينها‬
‫تعظيمها‪ .‬وال شك أ هن من تعظيمها ه‬
‫اّلل االنتفاع هبا إىل األجل املسمى‪.‬‬
‫هداي وهذه األنعام اليت تكون هداي ابلسوق هي اليت أابح ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )960 /2‬كتاب احلج ‪ - 65 ،‬ابب جواز ركوب البدنة‬
‫حديث رقم (‪ ، )1323 /373‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 25 )219 /3‬كتاب احلج ‪103 ،‬‬
‫‪ -‬ابب ركوب البدن حديث رقم (‪.)1690‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )961 /2‬كتاب احلج ‪ - 65 ،‬ابب ركوب البدنة‬
‫حديث رقم (‪.)1324 /375‬‬
‫(‪ )3‬رواه النسائي يف السنن (‪ 195 /6 - 5‬كتاب املناسك ‪ ،‬ابب ركوب البدنة حديث رقم‬
‫(‪.)2801‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح كتاب احلج حديث رقم (‪ ، )1324‬وأبو داود يف السنن (‪)81 /2‬‬
‫‪ ،‬ابب ركوب البدن حديث رقم (‪ ، )1761‬وأمحد يف املسند (‪ ، )348 /3‬والنسائي (‪/6 - 5‬‬
‫‪ ، )194‬كتاب املناسك ابب ركوب البدنة حديث رقم (‪.)2801‬‬
‫‪http://www.shamela.ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب ‪ :‬تفسري آايت األحكام‬


‫املؤلف ‪ :‬حممد علي السايس‬
‫الناشر‪ :‬املكتبة العصرية للطباعة والنشر اتريخ النشر‪2002/10/01 :‬‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]‬

‫ص ‪506 :‬‬
‫مث إنه ينبغي تفسري األجل املسمى بوقت سوقها ال وقت حنرها ‪ ،‬أل ّن صاحبها قد جعلها ابلسوق‬
‫خالصة ّّلل تعاىل ‪ ،‬فقد خرجت عن ملكه بذلك فال جيوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إال عند‬
‫الضرورة ‪ ،‬وما انتفع به كان حقا للفقراء جيب أن يعوضهم منه مقدار قيمته‪.‬‬
‫يشهد هلذا ما ورد من األحاديث اليت قيّدت جواز االنتفاع حبالة الضرورة ‪ ،‬فيجب أن حيمل‬
‫غريها عليها مجعا بني األدلة‪ .‬من ذلك ما‬
‫رواه أمحد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر «‪ : »1‬أنه سئل عن ركوب اهلدي فقال ‪ :‬مسعت‬
‫اّلل عليه وسلّم يقول ‪« :‬اركبها ابملعروف إذا أجلئت إليها حىت جتد ظهرا»‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫خاص حبالة الضرورة ‪ ،‬فإ ّن اإلجلاء إىل ركوهبا هو االضطرار إليه‪ .‬وقالوا‬
‫فمن هذا يعلم أن اجلواز ّ‬
‫أيضا ‪ :‬إن ركوهبا ينايف تعظيمها ‪ ،‬إذ يف الركوب امتهان واستهانة ظاهرة ‪ ،‬مع أ ّن تعظيمها‬
‫مطلوب بنفس اآلية ‪ ،‬وإذا فال يركبها إال إذا أجلئ‪.‬‬
‫حجة القائلني ابلوجوب ‪ :‬استدل القائلون ابلوجوب بظاهر األمر ابلركوب فيما سبق من‬
‫األحاديث‪ .‬وقالوا أيضا ‪ :‬إ ّن يف ركوبه خمالفة ملا كان يصنعه أهل اجلاهلية من جمانبة البحرية‬
‫اّلل عليه وسلّم مل يركب هديه ‪ ،‬ومل يركبه غريه ‪،‬‬
‫والسائبة والوصيلة‪ .‬وهو مردود أب ّن النيب صلّى ّ‬
‫ومل أيمر الناس مجيعا بركوب هداايهم ‪ ،‬إال ذلك املضطر ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬فدل ذلك على عدم‬
‫الوجوب‪.‬‬
‫أما املالكية فاملشهور من مذهبهم أنه يكره االنتفاع ابلبدن بركوهبا ووبرها ولبنها ‪ ،‬ولو كان لبنها‬
‫فاضال عن حاجة أوالدها ‪ ،‬والوجه فيه ظاهر ‪ ،‬ومذهبهم على هذا قريب من مذهب احلنفية‪.‬‬
‫وقال النووي من الشافعية والزيلعي من احلنفية ‪ :‬إ ّن اإلمام مالكا يقول جبواز ركوب البدن ‪ ،‬ولو‬
‫صح هذا فاحلجج املتقدمة انطقة خبالفه‪.‬‬ ‫من غري حاجة ‪ ،‬فلو ّ‬
‫ت ال حْعتِ ِ‬
‫يق أ ّن مجيع اهلدااي جيب أن تذبح يف هذا‬ ‫هذا والظاهر من قوله تعاىل ‪ :‬ممثَّ حِحملُّها إِ حىل الْب ْي ِ‬
‫ح‬
‫احملل ‪ ،‬سواء يف ذلك ما تعلّق وجوبه ابإلحرام ‪ ،‬كما يف جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم‬
‫يتطوع به إىل احلرم ‪ ،‬أو ينذره كذلك‪.‬‬ ‫اإلحصار ‪ ،‬وما التزمه اإلنسان كما يف الدم الذي ّ‬
‫يمةِ ْاألحنْ ِ‬
‫عام فحِإهلم مك ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ولِ مك ِل أ َّممةٍ جعلْنا م ْنسكاً لِي ْذ مكروا اسم َِّ‬
‫اّلل حعلى ما حرحزقح مه ْم م ْن حهب ح‬ ‫ح ّ حح ح ح ح م ْ ح‬ ‫قال ّ‬
‫حسلِ مموا حوبح ِّ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ )34‬املنسك ‪ :‬بفتح السني وكسرها ‪ :‬مفعل من النسك‬ ‫ش ِر ال مْم ْخبِتِ ح‬ ‫إِلهٌ واح ٌد فحلحهم أ ْ‬
‫‪ ،‬مبعىن العبادة ‪ ،‬فيصح أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪507 :‬‬
‫يراد به النسك نفسه ‪ ،‬ويصح أن يراد به مكان النسك أو زمانه ‪ ،‬وعلى كل حال فالظاهر أ ّن‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫تقراب إىل ّ‬
‫املراد ابلنسك هنا عبادة خاصة ‪ ،‬وهي الذبح ّ‬
‫حسلِ مموا اإلسالم ّّلل اإلخالص له يف الطاعة ‪ ،‬وامتثال أوامره ونواهيه‪.‬‬ ‫فحلحهم أ ْ‬
‫ني اإلخبات اخلشوع ‪ ،‬وقيل ‪ :‬التواضع‪ .‬وقيل ‪ :‬االطمئنان ‪:‬‬ ‫حوبح ِّ‬
‫ش ِر ال مْم ْخبِتِ ح‬
‫ويصح أن يكون ما ذكر يف اآلية‬
‫ّ‬ ‫مأخوذ من اخلبت وهو املطمئن من األرض ‪ ،‬وهي معان متقاربة‬
‫بعده تفسريا له‪.‬‬
‫سكاً معطوف على قوله سبحانه ‪ :‬لح مك ْم فِيها‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وال خيفى عليك أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حول مك ِّل أ َّممة حج حعلْنا حمنْ ح‬
‫حمنافِ مع وأ ّن تقدمي املفعول فيه إلفادة احلصر‪.‬‬
‫جل شأنه قد شرع نسك الذبح جلميع األمم اليت خلت من قبل ‪ ،‬يتقربون به‬ ‫اّلل ّ‬ ‫واملعىن ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫اّلل‬
‫خاصا أبمة حممد صلّى ّ‬ ‫إليه تعاىل ‪ ،‬ويذكرون امسه الكرمي عند الشروع فيه ‪ ،‬وأن ذلك ليس ّ‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬وال ببعض األمم األوىل دون البعض ‪ ،‬أو املعىن أنه تعاىل قد خصص لكل أمة من‬
‫سر اإلخبار بشرع هذا النسك جلميع األمم من قبل هو‬
‫األمم مكاان أو زمنا يذحبون فيه ‪ ،‬ولعل ّ‬
‫حتريك النفوس ‪ ،‬وبعثها إىل املسارعة إىل هذا النوع من الرب ‪ ،‬واالهتمام هبذه القربة ‪ ،‬حيث إّنّا‬
‫قربة قد وردت هبا الشرائع األوىل ‪ ،‬وتتابعت عليها‪.‬‬
‫ويف هذا اإلخبار أيضا إشعار أب ّن أهل اجلاهلية الذين كانوا يذحبون ألصنامهم ‪ ،‬والذين كانوا‬
‫خيلطون يف التسمية على ذابئحهم ‪ -‬إمنا كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم ‪ ،‬واتباعا حملض‬
‫اّلل كلها قد أمجعت على أ ّن التقرب ابلذبح إمنا يكون ّّلل وحده‬
‫شهواهتم وأهوائهم ‪ ،‬فإ ّن شرائع ّ‬
‫‪ ،‬وأ ّن الشروع يف ذلك إمنا يكون ابمسه وحده ‪ ،‬إذ ليس للناس إال إله واحد ‪ ،‬وهو الذي رزقهم‬
‫‪ ،‬وشرع هلم ‪ ،‬وكلّفهم ‪ ،‬فليس هلم أن مييلوا ابلعبادة إىل غريه ‪ ،‬فقوله تعاىل ‪ :‬فحِإهل مكم إِلهٌ ِ‬
‫واح ٌد‬ ‫م ْ‬
‫مبثابة العلة ملا قبله من ختصيص امسه الكرمي ابلذكر ‪ ،‬أل ّن تفرده تعاىل ابأللوهية يقتضي أن ال‬
‫يذكر على الذابئح غري امسه ‪ ،‬وإمنا قيل ‪ :‬فحِإهل مكم إِلهٌ و ِ‬
‫اح ٌد ومل يقل فإهلكم واحد إلفادة أنه تعاىل‬ ‫م ْ‬
‫واحد يف ذاته ‪ ،‬كما أنه واحد يف ألوهيته‪.‬‬
‫حسلِ مموا مرتّب ابلفاء على احلكم بوحدانية اإلله ‪ ،‬فإنّه مىت كان اإلله واحدا‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬فحلحهم أ ْ‬
‫فقد وجب ختصيصه ابلعبادة واإلذعان له يف مجيع األحكام ‪ ،‬وإفادة التخصيص ظاهرة من تقدمي‬
‫املعمول‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم بعد ما كان‬
‫ني فيه توجيه اخلطاب إىل النيب صلّى ّ‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬حوبح ِّ‬
‫ش ِر ال مْم ْخبِتِ ح‬
‫فاّلل سبحانه أيمر نبيّه أن يبلغ الناس أ ّن من أذعن منهم ّّلل ‪ ،‬وأخلص له‬
‫متوجها إىل الناس ‪ّ ،‬‬
‫العمل واالعتقاد ‪ ،‬فإنه يكون له أحسن اجلزاء‪.‬‬

‫اّلل عليه وسلّم هو أ ّن مقام األمر والنهي يناسبه‬


‫والسر يف حتويل اخلطاب للنيب صلّى ّ‬
‫ّ‬ ‫ص ‪508 :‬‬
‫أن يتجلّى اإلله على العباد بعظمة األلوهية وقهرها وسلطاّنا ‪ ،‬فيوجه أوامره إليهم كأنه خياطبهم‬
‫من غري وسيط ‪ ،‬ليكون ذلك أدخل للهيبة يف قلوهبم ‪ ،‬وأبعث على خشوعهم وانقيادهم‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلّم فأمره أن يبلّغهم وعد ّ‬
‫فلما انتهى أمر التكليف عطف اخلطاب إىل النيب صلّى ّ‬
‫النيب املعصوم الذي هو‬
‫للعاملني املخلصني ‪ ،‬إذ إ ّن عملهم بذلك يكفي فيه أن حيدثهم به ّ‬
‫الواسطة بينهم وبني خالقهم‪.‬‬
‫ويؤخذ من هذه اآلية ‪ :‬وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو املقصود من الذبح الذي هو‬
‫اّلل واحد ‪ ،‬ووجوب اإلسالم مبعىن اإلخالص ّّلل يف العمل‪.‬‬ ‫واجب ‪ ،‬ووجوب اعتقاد أ ّن ّ‬
‫الصالةِ‬ ‫حصاهبمم والْم ِق ِ‬ ‫ين إِذا ذمكِ حر َّ‬
‫اّللم حو ِجلح ْ‬ ‫ِ‬
‫يمي َّ‬ ‫صابِ ِر ح‬
‫ين عحلى ما أ ح ْ ح م‬ ‫ت قملمو مهبم ْم حوال َّ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫اّلل يف هذه اآلية املخبتني أبربع صفات جتد بعضها مرتبا على‬ ‫ْناه ْم يم ْن ِف مقو حن (‪ )35‬وصف ّ‬ ‫حوِمَّا حرحزق م‬
‫بعض أحسن ترتيب ‪:‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫األوىل ‪ :‬اخلوف واخلشوع عند ذكر ّ‬
‫والثانية ‪ :‬الصرب على اآلالم واملشقات‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬إقامة الصالة‪.‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫والرابعة ‪ :‬اإلنفاق ِما رزقهم ّ‬
‫حتركت قلوهبم ‪ ،‬وخفقت ملا وقع فيها من اهليبة واخلوف من‬
‫اّلل ّ‬
‫فهؤالء املخبتون إذا مسعوا ذكر ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬والصرب على‬
‫اّلل وانتقامه ‪ ،‬وال شك أ ّن هذا اخلوف حيملهم على الرضا بقضاء ّ‬
‫عقاب ّ‬
‫ما يريده هلم من اآلالم والشدائد ‪ ،‬سواء يف ذلك ما يكون يف التكاليف وأنواع التعبدات ‪ ،‬وما‬
‫اّلل كما يف احلج ‪ ،‬وكل ما يصابون به يف أنفسهم وأمواهلم‬
‫يالقون من املشقات يف أسفارهم لطاعة ّ‬
‫اّلل إايه ح ّق القيام‪.‬‬
‫‪ ،‬وحيملهم كذلك على إحسان األعمال ‪ ،‬والقيام مبا كلفهم ّ‬
‫واإلنفاق ‪ :‬قيل ‪ :‬إ ّن املراد به الزكاة املفروضة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه صدقة التطوع ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو عام‬
‫يشمل النوعني مجيعا ‪ ،‬وقد سبق لك شيء من هذا يف أكثر من موضع ‪ ،‬كما أنّه سبق لك يف‬
‫مثل هذه اآلية بيان السر يف ختصيص الصالة والزكاة ابلذكر من بني سائر التكاليف ‪ ،‬وأ ّن‬
‫أهم التكاليف املالية ‪ :‬ملا يرتتب عليهما من صالح‬
‫أهم التكاليف البدنية ‪ ،‬كما أ ّن الزكاة ّ‬
‫الصالة ّ‬
‫النفوس واعتداهلا ‪ ،‬وسد حاجات األمة وتقومي فقرائها وضعفائها‪.‬‬
‫ْناه ْم يم ْن ِف مقو حن معطوف على املقيمي الصالة ابعتبار معناه ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وينبغي أن تعلم أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حوِمَّا حرحزق م‬
‫أي والذين يقيمون الصالة ‪ ،‬وينفقون ِما رزقناهم‪.‬‬

‫ص ‪509 :‬‬
‫اّلل خيالف ما وصفوا به‬
‫قد يقال ‪ :‬أ ّن وصف املخبتني يف هذه اآلية أبّنّم الذين جيلون عند ذكر ّ‬
‫اّللِ [الرعد ‪ ]28 :‬فما هذا ‪ ،‬وكيف يكون‬
‫آمنموا حوتحط حْمئِ ُّن قملمو مهبم ْم بِ ِذ ْك ِر َّ‬ ‫ِ‬
‫عز امسه ‪ :‬الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫يف قوله ّ‬
‫تصرح أبن ذكر‬ ‫اّلل موجب للخوف والوجل ‪ ،‬واألخرى ّ‬ ‫التوفيق بني آيتني إحدامها تثبت أ ّن ذكر ّ‬
‫اّللِ تحط حْمئِ ُّن‬
‫اّلل يوجب سكون القلوب واطمئناّنا ‪ ،‬وزوال ما قد يعرتيها من خوف وفزع أحال بِ ِذ ْك ِر َّ‬ ‫ّ‬
‫وب [الرعد ‪.]28 :‬‬‫الْ مقلم م‬
‫واجلواب أن االطمئنان والوجل أمران جيدمها املؤمن املتقي ‪ ،‬ويشعر هبما يف قلبه يف حالتني‬
‫اّلل امتألت نفسه هيبة ‪ ،‬واقشعر جلده ‪،‬‬
‫متمايزتني ‪ ،‬ولسببني خمتلفني ‪ ،‬فهو إذا استحضر وعيد ّ‬
‫اّلل‬
‫ووجف قلبه ‪ ،‬وخاف عذاب اآلخرة ‪ ،‬مث إذا ملح جانب الوعد الكرمي ‪ ،‬واستحضر رمحة ّ‬
‫وب‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬أحال بِ ِذ ْك ِر َِّ ِ‬
‫اّلل تحط حْمئ ُّن الْ مقلم م‬ ‫وسعة عفوه اطمأن قلبه ‪ ،‬وسكن روعه ‪ ،‬وصدق قول ّ‬
‫فاحلالة الثانية حالة الوعد واألوىل حالة الوعيد ‪ ،‬وأيضا فإ ّن املؤمن كثريا ما تصادفه يف هذا الدنيا‬
‫عقبات وشدائد ‪ ،‬إذا عرضت لضعيف اإلميان واهن العزمية اضطرب هلا قلبه ‪ ،‬وانشعب منها‬
‫اّلل ‪ ،‬ويستعني عليها‬
‫فؤاده ‪ ،‬واستوىل عليه الفزع واهللع‪ .‬أما املؤمن الصادق فإنه يرجع هبا إىل ّ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬فرياتح لكل ما جيري به قضاؤه وقدره ‪ ،‬فهذه حالة السكون واالطمئنان إىل ذكر ّ‬
‫بذكر ّ‬
‫أما خوفه ووجله فهو لكون تقصريه فيما عليه من موجبات العبودية للواحد القهار ‪ ،‬وهذا‬
‫اخلوف تلتهب له نفسه ‪ ،‬ويرجتف له جنانه‪.‬‬
‫يؤخذ من اآلية ‪ :‬أن التقوى ‪ ،‬واخلشية ‪ ،‬والصرب على املكاره ‪ ،‬واحملافظة على الصالة ‪ ،‬والرمحة‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬ملا هلا من الشأن العظيم‬
‫ابلفقراء ‪ ،‬واإلحسان إليهم ‪ ،‬من أعظم ما ينال به العبد رضا ّ‬
‫‪ ،‬إذ عليها يقوم صالح العباد والبالد‪.‬‬
‫ص َّ‬ ‫اّللِ لح مكم فِيها حخ ْري فحاذْ مكروا اسم َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واف‬ ‫اّلل حعلحْيها ح‬ ‫ٌ م ْح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوالْبم ْد حن حج حعلْناها لح مك ْم م ْن حشعائ ِر َّ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫ك حسخ َّْرانها لح مك ْم ل ححعلَّ مك ْم تح ْش مك مرو حن‬ ‫ت مجنمو مهبا فح مكلموا ِم ْنها حوأحطْعِ مموا الْقانِ حع حوال مْم ْع حَّ‬
‫رت حكذلِ ح‬ ‫فحِإذا حو حجبح ْ‬
‫(‪( )36‬البد ن) مجع بدنة ‪ ،‬وهي اسم للواحد من اإلبل ذكرا أو أنثى ‪ ،‬مسيت بذلك لعظم بدّنا‪.‬‬
‫وقد اشتهر إطالقها يف الشرع على البعري يهدى إىل الكعبة ‪ ،‬وقد تطلق البدنة على البقرة أيضا‬
‫ملا أّنا جتزئ يف اهلدي واألضحية عن سبعة كالبعري‪.‬‬
‫قال احلنفية ‪ :‬إن البدنة صارت من قبل املشرتك يف املعنيني ‪ ،‬فمن نذر بدنة أجزأته بقرة‪ .‬وبذلك‬
‫قال عطاء وسعيد بن املسيب‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬كنّا ننحر البدنة عن سبعة ‪:‬‬
‫روى مسلم «‪ »1‬عن جابر رضي ّ‬
‫فقيل ‪ :‬والبقرة؟ قال ‪ :‬وهل هي إال من البدن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )955 /2‬كتاب احلج ‪ - 62 ،‬ابب االشرتاك حديث‬
‫رقم (‪.)1318 /353‬‬

‫ص ‪510 :‬‬
‫اّلل عنهما أنّه قال ‪ :‬ال نعلم البدن إال من اإلبل والبقر‪.‬‬
‫وعن ابن عمر رضي ّ‬
‫أما الشافعية فقالوا ‪ :‬ال تطلق البدن ابحلقيقة إال على اإلبل ‪ ،‬وإطالقها على البقر إمنا يكون‬
‫التجوز ‪ ،‬فلو نذر بدنة ال جتزئه بقرة ‪ ،‬وهبذا قال جماهد ‪ ،‬ويشهد له ما‬
‫بضرب من ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬البدنة‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫رواه أبو داود «‪ »1‬عن جابر رضي ّ‬
‫عن سبعة ‪ ،‬والبقرة عن سبعة»‬
‫فإ ّن العطف يقتضي املغايرة ‪ ،‬والظاهر أ ّن اسم البدنة حقيقة فيما يكون من اإلبل ‪ ،‬وأن إطالقها‬
‫على البقرة مل يصل إىل مرتبة احلقيقة‪.‬‬
‫فأما قول جابر ‪ :‬وهل هي إال من البدن ‪ ،‬وقول ابن عمر ‪ :‬ال نعلم البدن إال من اإلبل والبقر ‪،‬‬
‫ّ‬
‫كل‬
‫فقد حيمل على أّنما أرادا احتاد احلكم فيهما ‪ ،‬وهذا شيء غري اشرتاك اللفظ بينهما ‪ ،‬وعلى ّ‬
‫حال فاملراد من البدن يف اآلية اإلبل ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ت مجنمو مهبا يدل على ذلك ‪ ،‬إذ حنر احليوان قائما مل يعهد إال يف اإلبل ّ‬
‫وو حجبح ْ‬ ‫ص َّ‬
‫واف ح‬ ‫ح‬
‫وال يؤخذ من هذا أ ّن اهلدي خاص ابإلبل‪ .‬بل ختصيصها ابلذكر ألّنّا األفضل من غريها يف‬
‫اهلدااي‪.‬‬
‫ص َّ‬
‫واف مجع صافة ‪ ،‬وهي ما صفت قوائمها وسوقها واقفة ‪ ،‬وقرئ صوافن مجع صافنة ‪ ،‬قيل ‪:‬‬ ‫ح‬
‫إّنا مبعىن صافة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل مبعىن أّنّا قائمة على ثالث قوائم ‪ ،‬والرابعة مرفوعة ‪ ،‬وهكذا يفعل‬
‫ابإلبل عند حنرها ‪ ،‬مأخوذ من صفن الفرس إذا وقفت على ثالث وطرف سنبك الرابعة ‪ ،‬وقرئ‬
‫صوايف مجع صافية مبعىن خالصة ّّلل تعاىل‪.‬‬
‫ت مجنمو مهبا من معاين الوجوب السقوط ‪ ،‬وجب اجلدار سقط ‪ ،‬ووجبت الشمس غربت ‪،‬‬
‫حو حجبح ْ‬
‫فوجبت جنوهبا سقطت على األرض ‪ ،‬واجلنوب ‪ :‬مجع جنب ‪ ،‬وهو الشق ‪ ،‬وسقوط جنوهبا كناية‬
‫عن موهتا‪.‬‬
‫يتعرض لسؤال الناس ‪،‬‬
‫اّلل له من الفقر والبؤس ‪ ،‬فال ّ‬ ‫الْقانِ حع حوال مْم ْع حَّ‬
‫رت ‪ :‬القانع الراضي مبا ق ّدر ّ‬
‫مأخوذ من قنع يقنع كرضي يرضى وزان ومعىن‪.‬‬
‫املرة‬
‫املعرت كاملمعرتي هو من يعرتي األغنياء ‪ ،‬ويذهب إليهم ّ‬
‫املعرت املعرتض لسؤال الناس ‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫املعرت ‪ :‬الذي ال‬
‫املرة ‪ ،‬وقيل بعكس هذا ‪ :‬القانع ‪ :‬السائل ‪ ،‬من قنع يقنع ابلفتح فيهما‪ .‬و ّ‬‫بعد ّ‬
‫يسأل ‪ ،‬كأنّه يدفع عار السؤال برتك السؤال‪.‬‬
‫مينت على عباده أبن جعل هلم يف البدن يسوقوّنا إىل مكة قربة‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل ّ‬
‫معىن اآلية ‪ :‬أن ّ‬
‫عظيمة ‪ ،‬حيث جعلها شعرية من شعائره ‪ ،‬وعلما من أعالم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )11 /3‬كتاب الضحااي ‪ ،‬ابب يف البقر واجلزور حديث رقم‬
‫(‪.)2808‬‬

‫ص ‪511 :‬‬
‫دينه ‪ ،‬ودليال على طاعته ‪ ،‬ففي سوقها للحرم ‪ ،‬وحنرها هناك ‪ ،‬خري عظيم وثواب كبري ‪ ،‬يناله‬
‫أصحاهبا يف اآلخرة‪.‬‬
‫وهكذا ترى أننا قد محلنا اخلري هنا على الثواب األخروي‪ .‬واملنافع فيما تقدم على حظ الدنيا ‪،‬‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل األمر بذحبها ‪ ،‬أو‬‫ليكون الكالم كما قلنا مفيدا فائدة جديدة ‪ ،‬وقد رتّب ّ‬
‫ِ‬
‫األمر بذكر امسه الكرمي عند الذبح على ما قبله من جعلها شعائر‪ .‬أو على قوله ‪ :‬لح مك ْم فيها حخ ْريٌ‬
‫مينت أيضا على عباده يف هذه البدن ‪ ،‬فأابح هلم إذا حنروها أن أيكلوا منها ‪ ،‬وأن‬
‫وأنه تعاىل ّ‬
‫يتصدقوا على الفقراء ‪ ،‬السائل منهم وغري السائل‪.‬‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل اآلية بقوله ‪ :‬حكذلِ ح‬
‫ك حسخ َّْرانها لح مك ْم ل ححعلَّ مك ْم تح ْش مك مرو حن ومعناه سخران هذه‬ ‫مث ختم ّ‬
‫تتأّب‬
‫البدن ‪ ،‬وذللناها لكم ‪ ،‬وأخضعناها لتصريفكم مع ضخامتها وقوهتا اليت هبا ‪ ،‬كان ميكن أن ّ‬
‫عليكم فال تعطيكم قيادها ‪ ،‬أو تن ّد منكم فتتأبد أتبد الوحوش‪.‬‬
‫فاّلل جلت قدرته قد س ّخرها لكم ذلك التسخري العجيب ‪ ،‬وسهل لكم أن تقفوها صواف ‪ ،‬وأن‬
‫ّ‬
‫تعقلوها ‪ ،‬وتضربوا يف لباهتا ‪ ،‬فتقع على جنوهبا صريعة ‪ ،‬وعلى هذا تكون الكاف صلة يف قوله ‪:‬‬
‫ك ‪ ،‬ويكون مآل القول سخرانها لكم ذلك التسخري البديع‪.‬‬ ‫حكذلِ ح‬
‫ويصح أن تبقى الكاف على معناها مفيدة للتشبيه ‪ ،‬ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة‬
‫ّ‬
‫كل عجيب ‪ ،‬حىت إذا أريد تشبيهه‬
‫‪ ،‬كأن ذلك التسخري بلغ يف عظمه وغرابته مبلغا فاق به ّ‬
‫بشيء كان ال ب ّد أن ير ّد إىل نفسه فيشبه هبا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن املشبه به هو تسخريها ‪ ،‬حني تكون صواف معقولة إحدى القوائم ‪ ،‬واملشبه هو‬
‫تسخريها من قبل يف ركوهبا واحلمل عليها ‪ ،‬وغري ذلك من سائر وجوه االنتفاع‪.‬‬
‫اّلل عليها ‪،‬‬
‫ومجلة القول ‪ :‬إّنّا نعمة جليلة ‪ ،‬ومنّة عظيمة تستوجب من العباد أن يشكروا ّ‬
‫ويصرفوا ما أنعم به عليهم يف الوجوه اليت رمسها هلم الدين احلنيف‪.‬‬
‫فقوله تعاىل ‪ :‬ل ححعلَّ مك ْم تح ْش مك مرو حن تعليل ملا قبله‪ .‬وكلمة (لعل) فيه ليست للرجاء الذي هو توقع‬
‫اّلل تعاىل من حيث أنه ينبئ عن اجلهل بعواقب األمور‪ .‬قال‬
‫األمر احملبوب ‪ ،‬ألنّه مستحيل على ّ‬
‫لعل ترد مبعىن كي يف لسان العرب ‪ ،‬واستشهد على ذلك بقول من يراه‬
‫ابن األنباري «‪ : »1‬إ ّن ّ‬
‫حجة ‪:‬‬
‫كل موثق‬
‫نكف ووثقتم لنا ّ‬
‫فقلتم لنا ّكفوا احلروب لعلّنا ّ‬
‫فإ ّن توثيق العهد إبّناء احلرب ال يستقيم معه أن يكون معىن (لعلنا) الرجاء وتوقع الكف ‪ ،‬إمنا‬
‫لعل مبعىن كي‪.‬‬
‫الذي يصلح له ذلك أن تكون ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عبد الرمحن بن حممد ‪ ،‬أبو الربكات ‪ ،‬مؤرخ ‪ ،‬وأديب ولغوي كان زاهدا عفيفا ‪ ،‬خشن‬
‫العيش وامللبس سكن بغداد وتويف فيها سنة (‪ )577‬انظر األعالم للزركلي (‪.)327 /3‬‬

‫ص ‪512 :‬‬
‫هذا ويؤخذ من االقتصار يف اآلية على البدن مع ورود الشرع جبواز اهلدي من هبيمة األنعام أ ّن‬
‫البدن يف اهلدااي أفضل من غريها من البقر والغنم‪.‬‬
‫ويؤخذ من اآلية أيضا ‪ :‬الندب إىل حنر اإلبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم ‪ ،‬وأنه ال جيوز أن‬
‫يؤكل منها بعد حنرها حىت تفارقها احلياة‪.‬‬
‫اّلل حينئذ ‪،‬‬ ‫ص َّ‬
‫واف وجوب ذكر اسم ّ‬ ‫ومقتضى األمر يف قوله جل شأنه ‪ :‬فحاذْ مكروا اسم َِّ‬
‫اّلل حعلحْيها ح‬ ‫م ْح‬ ‫ّ‬
‫وهو يؤيّد بظاهره قول من يرى من األئمة وجوب التسمية على الذبيحة‪ .‬ومن يرى ندب التسمية‬
‫اّلل على الشكر والثناء‪.‬‬
‫يؤول األمر على الندب ‪ ،‬أو يؤول ذكر اسم ّ‬
‫ّ‬
‫أما حكم األكل منها وإطعام الفقراء فقد سبق لك القول فيه‪.‬‬
‫َّرها لح مك ْم‬ ‫ومها حوال ِدما مؤها حولكِ ْن يحنالمهم التَّ ْقوى ِم ْن مك ْم حكذلِ ح‬
‫ك حسخ ح‬ ‫نال َّ‬
‫اّللح محلم م‬ ‫حن يح ح‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ل ْ‬
‫قال ّ‬
‫ني (‪ )37‬النيل ‪ :‬اإلدراك واإلصابة‪.‬‬ ‫ش ِر ال مْم ْح ِسنِ ح‬ ‫لِتم حكِّربموا َّ‬
‫اّللح حعلى ما حهدا مك ْم حوبح ِّ‬
‫يفسر‬
‫اّلل أكرب ‪ ،‬واألحسن أن ّ‬ ‫اّلل ‪ّ ،‬‬ ‫والتكبري يف اآلية ‪ :‬قيل ‪ :‬إنه ما يكون عند الذبح ‪ :‬بسم ّ‬
‫ابلتعظيم والتقديس والشكر‪.‬‬
‫واإلحسان ‪ :‬هو إتقان العمل ‪ ،‬واإلتيان به على الوجه املطلوب ‪ ،‬ومنه‬
‫اّلل كأنّك تراه» «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ملا سئل عن اإلحسان ‪« :‬أن تعبد ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل فال يظن أنه يدرك ذلك ابللحوم والدماء من حيث إّنا حلوم‬
‫املعىن ‪ :‬أب ّن من يريد رضا ّ‬
‫ودماء ‪ ،‬وإمنا ينال ذلك ابلتقوى واإلخالص ‪ ،‬يف العمل ‪ ،‬فإ ّن األعمال دون التقوى واإلخالص‬
‫كصور أجسام ال روح فيها وال حياة‪.‬‬
‫ولآلية وجه آخر من التفسري ‪ -‬إن صح ما قيل يف سبب نزوهلا ‪ -‬ذلك أنّه روي عن ابن عباس‬
‫وجماهد أ ّن مجاعة من املسلمني كانوا مهوا أن يفعلوا يف ذابئحهم فعل أهل اجلاهلية ‪ ،‬يقطعون‬
‫حلومها ‪ ،‬وينشروّنا حول الكعبة ‪ ،‬وينضحون عليها من دمائها ‪ ،‬فنزلت اآلية تزجرهم عن هذا‬
‫الفعل ‪ ،‬وترشدهم إىل ما هو األجدر هبم واألليق إبمياّنم أن يفعلوه يف ذابئحهم ‪ ،‬حىت يدركوا‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫رضا ّ‬
‫يقرب من‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬ويرجو أن ينال منه املثوبة مبا ّ‬
‫وعلى هذا يكون املعىن ‪ :‬أن من يريد رضا ّ‬
‫هدي ‪ ،‬فال يظن أنّه ينال ذلك ابللحم يقطعه وينثره ‪ ،‬وال ابلدم يلطخ به الكعبة الطاهرة فعل‬
‫اّلل ‪ ،‬والبعد عن مثل تلك األعمال اليت جتانب‬
‫أهل الشرك من اجلاهلية ‪ ،‬وإمنا ينال ذلك بتقوى ّ‬
‫روح اإلسالم وطهارته ‪ ،‬واليت ليس فيها شيء من اإلخالص ّّلل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح كتاب اإلميان حديث رقم (‪.)37‬‬

‫ص ‪513 :‬‬
‫ومها هو كما علمت على تقدير الرضا ‪ ،‬أو ما يف معناه ‪ ،‬أي لن‬ ‫نال َّ‬
‫اّللح محلم م‬ ‫حن يح ح‬
‫فقوله تعاىل ‪ :‬ل ْ‬
‫اّلل حلومها وال دماؤها ‪ ،‬ولكن ينال رضاه التقوى منكم‪.‬‬
‫ينال رضا ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬مع أنه ليس من شأّنا أن‬
‫وأنت ترى أ ّن اآلية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان ّ‬
‫يقال فيها ‪ :‬تنال أو ال تنال ‪ ،‬ولكن قصد املبالغة يف األخبار أب ّن أصحاهبا ال ينالون الرضا‬
‫والثواب هبا وحدها إذا مل يكن معها التقوى واإلخالص هو الذي قضى أن يكون نظم اآلية على‬
‫اّلل ورمحته‬
‫هذا النحو البديع ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر ّ‬
‫صح أن يدرك أصحاهبا هبا وحدها شيئا من ذلك ‪ ،‬ففي اآلية نوع من التجوز‪.‬‬
‫ّ‬
‫وترى أيضا أنه قد أعيد يف اآلية حديث تسخري األنعام ‪ ،‬وتذليلها للناس ‪ ،‬ألن يف اإلعادة تذكريا‬
‫اّلل من أجلها ‪ ،‬والقيام له مبا جيب لعظمته وكربايئه ‪ ،‬ألنّه‬
‫ابلنعمة يبعث على شكرها والثناء على ّ‬
‫يتقربون‬
‫تعاىل سخر هلم تلك البهائم ‪ ،‬وأخضعها لتصريفهم ‪ ،‬وأراهم ما يصنعون فيها ‪ ،‬وكيف ّ‬
‫هبا‪.‬‬
‫ومن هذا تعلم أن (على) يف اآلية الكرمية للتعليل ‪ ،‬وأ ّن (ما) مصدرية ‪ ،‬ويصح أن تكون (ما)‬
‫نكرة موصوفة ‪ ،‬أو امسا موصوال مع مراعاة أن العائد حمذوف ‪ ،‬ويف صرف اخلطاب للنيب صلّى‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأمره بتبشري احملسنني أعماهلم اآلتني هبا على الوجه املطلوب ‪ ،‬ووعدهم أب ّن هلم‬
‫ّ‬
‫اّلل اجلزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا‪.‬‬
‫من ّ‬
‫أهم‬
‫جل شأنه من ّ‬ ‫اّلل تعاىل واإلحسان يف العمل له ّ‬ ‫هذا ويف اآلية داللة على أ ّن التقوى وشكر ّ‬
‫املطالب الشرعية اليت ال جيوز ألحد إغفاهلا أو التهاون فيها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫اّللح ال مِحي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ ِ‬
‫يصح أن‬ ‫ب مكلَّ حخ َّوان حك مفو ٍر (‪ّ )38‬‬ ‫آمنموا إِ َّن َّ‬
‫ين ح‬ ‫اّللح يمداف مع حع ِن الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫اّللِ حوال حْم ْس ِج ِد ا ْحلحر ِام‬ ‫صدُّو حن عح ْن حسبِ ِ‬
‫يل َّ‬ ‫ِ‬
‫يكون هذا كالما متصال بقوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن الَّذ ح‬
‫ين حك حف مروا حويح م‬
‫ْباد وما وقع يف البيت ‪ -‬من ذكر مناسك احلج وشعائره‬ ‫ف فِيهِ وال ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس حسواءً الْعاك م ح‬ ‫الَّ ِذي حج حعلْناهم لِلن ِ‬
‫اّلل‬
‫‪ ،‬وما فيها من منافع الدنيا واآلخرة ‪ -‬استطراد ملزيد تعظيم شأن البيت احلرام الذي جعله ّ‬
‫مثابة للناس وأمنا ‪ ،‬وتسجيل قبح صدهم للمسلمني عنه ‪ ،‬وإخراج أهله منه ظلما وعدواان ‪،‬‬
‫وتفويت هذه املنافع عليهم ‪ ،‬أل ّن اجلناية يعظم أمرها بعظم ما يرتتب عليها من تفويت املنافع‬
‫تدل على خطر اجملين عليه ‪ ،‬وانهيك جبناية تقع على‬
‫واإليقاع يف األضرار‪ .‬وألن خطورة اجلناية ّ‬
‫البيت احلرام ‪ ،‬مع ما له من قداسة وحرمة ‪ ،‬وتفوت على الناس منافع احلج مع ما فيها من‬
‫ِ‬ ‫خريي الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ويكون قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ ِ‬
‫آمنموا رجوعا إىل موضوع‬ ‫اّللح يمداف مع حع ِن الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫اّلل واملسجد احلرام ‪ ،‬من قهرهم ‪ ،‬وخذالّنم ‪،‬‬
‫السياق ‪ ،‬لبيان عاقبة هؤالء الصا ّدين عن سبيل ّ‬
‫وكسر شوكتهم ‪ ،‬ونصر املسلمني عليهم ‪ ،‬وإزالة صدهم ‪ ،‬ومتكني املسلمني من البيت بعد‬
‫متكينهم منهم‬

‫ص ‪514 :‬‬
‫حىت إذا أخذه مل يفلته» «‪.»1‬‬
‫اّلل ليملي للظامل ّ‬
‫‪« .‬إ ّن ّ‬
‫ويصح أن يكون متصال مبا قبله مباشرة ‪ ،‬وذلك أنه تعاىل ملا ّبني مناسك احلج ‪ ،‬وما فيه من‬
‫ّ‬
‫املنافع ‪ ،‬وكان يف ذلك مزيد إهلاب وتشويق لنفوس املسلمني إىل البيت احلرام ‪ ،‬والوقوف‬
‫أّن هلم ذلك ‪ ،‬وقد ص ّدهم املشركون ‪ ،‬ووقفوا سدا منيعا دون إرواء‬
‫ابملشاعر العظام ‪ ،‬ولكن ّ‬
‫هذه النفوس املتعطشة إىل رؤية هذا احلرم املقدس ‪ ،‬الذي عاشوا طوال حياهتم يف ظلّه وحتت‬
‫اّلل‬
‫عز عليهم فراقه ‪ ،‬ومل ينقطع حنينهم إليه ‪ ،‬والذي كان قلب الرسول صلوات ّ‬
‫محايته ‪ ،‬والذي ّ‬
‫ألحب أرض‬
‫ّ‬ ‫اّلل إنّك‬
‫وسالمه عليه معلّقا به ‪ ،‬حىت إنه نظر إليه حني خروجه من مكة وقال ‪« :‬و ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬ولوال أ ّن أهلك أخرجوين منك ما خرجت» «‪»2‬‬
‫اّلل إىل ّ‬
‫ألحب أرض ّ‬
‫ّ‬ ‫إيل ‪ ،‬وإنك‬
‫اّلل ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل ونصره ومحاية‬ ‫رب هذا البيت ‪ ،‬واستشرفت نفوسهم إىل عون ّ‬ ‫وإذا ذاك توجهت قلوهبم إىل ّ‬
‫اّللح يمدافِ مع‬
‫بيته من عدوان املعتدين ‪ ،‬وختليصه من أيدي اجلبابرة الظاملني ‪ ،‬وذلك قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫ِ‬
‫آمنموا توطينا لنفوسهم ‪ ،‬وتقوية لعزائمهم ‪ ،‬وإعدادا هلم للجهاد والقتال الذي سيكون‬ ‫عح ِن الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫به حتقيق آماهلم ‪ ،‬وحترير أوطاّنم وعقائدهم‪.‬‬
‫اّلل هلم ‪ ،‬ومتكينهم من عدوهم ‪،‬‬
‫وجل ‪ ،‬وبشارة للمؤمنني بنصر ّ‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫كل فهو وعد من ّ‬
‫وعلى ّ‬
‫وكف بوائقه عنهم ‪ ،‬ويف ضمنه وعيد شديد ‪ ،‬وهتديد للمشركني بقهرهم وخذالّنم وكسر شوكتهم‬
‫وزوال دولتهم ‪ ،‬وفيه متهيد وتوطئة ملشروعية اجلهاد‪.‬‬
‫اّللح يمدافِ مع إما للمبالغة يف الدفع ‪ ،‬أو للداللة على تكرره‬
‫هذا وصيغة املفاعلة يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫جترد عن معىن‬
‫تدل على تكرر الفعل وحصوله من اجلانبني ‪ ،‬وقد ّ‬ ‫فقط ‪ ،‬أل ّن صيغة املفاعلة ّ‬
‫حصوله من اجلانبني ‪ ،‬فتبقى داللتها على التكرر من جانب واحد كاملمارسة ‪ ،‬أي أنه تعاىل يبالغ‬
‫يف دفع غائلة املشركني وأبسهم مبالغة ال تدع هلم غائلة من غوائلهم ‪ ،‬أو أنه تعاىل يدفع أبسهم‬
‫ْح ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أحطْ حفأ ححها‬ ‫وغوائلهم مرة بعد مرة حسبما يتجدد ذلك منهم ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬مكلَّما أ ْحوقح مدوا انراً لل ح‬
‫اّللم [املائدة ‪.]64 :‬‬ ‫َّ‬
‫ب مكلَّ حخ َّو ٍ‬
‫ان حك مفو ٍر نفي احملبة كناية عن البغض ‪ ،‬وأوثر (ال حيب) على‬ ‫اّللح ال مِحي ُّ‬
‫قال تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اّلل وأولياؤه‪.‬‬
‫(يبغض) تنبيها على مكان التعريض ‪ ،‬وأن املؤمنني هم أحباء ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 45 ، )1997 /4‬كتاب الرب ‪ - 15 ،‬ابب حترمي الظلم‬
‫حديث رقم (‪ ، )2583 /59‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )255 /5‬كتاب التفسري ‪5 ،‬‬
‫ك حديث رقم (‪.)4686‬‬ ‫‪ -‬ابب حوحكذلِ ح‬
‫ك أح ْخ مذ حربِّ ح‬
‫(‪ )2‬انظر جممع الزوائد للحافظ اهليثمي حديث رقم (‪ )5499‬وقال روى الرتمذي بعضه ‪ ،‬ورواه‬
‫أبو يعلى ورجاله ثقات‪.‬‬

‫ص ‪515 :‬‬
‫ان حك مفوٍر أي خوان يف أماانته تعاىل ‪ ،‬وهي أوامره ونواهيه ‪ ،‬أو مجيع األماانت ‪ ،‬ونظريه‬ ‫ومعىن حخ َّو ٍ‬

‫ول حو حختمونموا أحماانتِ مك ْم [األنفال ‪ ]27 :‬وكفور ‪ ،‬أي لنعمه ّ‬


‫عز‬ ‫الر مس ح‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬ال حختمونموا َّ‬
‫اّللح حو َّ‬
‫وجل‪.‬‬
‫ّ‬
‫قيل ‪ :‬إنه تعليل ملا يف ضمن الوعد الكرمي من الوعيد للمشركني يف اجلملة األوىل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تعليل‬
‫وضعف هذا أب ّن قول القائل ‪ :‬دفعت زيدا عن بكر لبغض زيد ليس فيه‬
‫للوعد الكرمي نفسه ‪ّ ،‬‬
‫كثري عناية ببكر ‪ ،‬وهذا ال يناسب املقام‪.‬‬
‫وهناك وجه آخر يف ربط اجلملة الثانية ابألوىل ‪ ،‬وحاصله أنك عرفت أ ّن اجلملة األوىل مشتملة‬
‫على وعد صراحة ووعيد ضمنا ‪ ،‬وإذا نظرت إىل اجلملة الثانية وجدت أّنا مشتملة على ثبوت‬
‫البغض للمشركني صراحة ‪ ،‬وهو يناسب الوعيد الضمين يف اجلملة األوىل ‪ ،‬فيكون علة له ‪،‬‬
‫وعلى ثبوت احملبة للمؤمنني ضمنا كما هو قضية إيثار (ال حيب) على (يبغض) وهو يناسب الوعد‬
‫املصرح به يف اجلملة األوىل ‪ ،‬فيكون علة له ‪ ،‬وعلى هذا يكون منطوق اجلملة الثانية علة ملفهوم‬
‫ّ‬
‫اّلل يدافع عن الذين آمنوا‬
‫اجلملة األوىل ‪ ،‬ومفهومها علة ملنطوقها ‪ ،‬ويصري املعىن هكذا ‪ :‬إن ّ‬
‫كل فإ ّن ربط نفي احلب ابخلوان‬
‫حلبه إايهم ‪ ،‬وخيذل املشركني ويقهرهم لبغضه إايهم ‪ ،‬وعلى ّ‬
‫يدل على أ ّن علّة النفي هي اخليانة والكفر ‪ ،‬ويدل مبفهومه على أ ّن علة ثبوت احملبة يف‬
‫الكفور ّ‬
‫مقابله هي األمانة والشكر ‪ ،‬اللذان مها من خواص املؤمن‪.‬‬
‫وهنا أمران جديران اباللتفات ‪:‬‬
‫ب مكلَّ حخ َّو ٍ‬
‫ان حك مفو ٍر لبيان الواقع ‪ ،‬وأّنم‬ ‫اّللح ال مِحي ُّ‬
‫األول ‪ :‬أن صيغة املبالغة يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اّلل تعاىل للخائن الكافر ‪،‬‬
‫كانوا كذلك ‪ ،‬ال لتقيد البغض بغاية اخليانة والكفر املشعر مبحبة ّ‬
‫وكثريا ما تذكر القيود لبيان الواقع ‪ ،‬حىت قيل ‪ :‬إنّه األصل يف استعماهلا ‪ ،‬ومن هذا القبيل قوله‬
‫شك أنك إذا نظرت إىل‬
‫ضاع حفةً [آل عمران ‪ ]130 :‬وال ّ‬ ‫ضعافاً مم ح‬ ‫تعاىل ‪ :‬ال حأتْ مكلموا ِّ‬
‫الربحوا أح ْ‬
‫هؤالء املشركني ‪ ،‬وما وقع منهم من األفاعيل املنكرة ‪ ،‬عرفت أّنم حقيقة بلغوا الغاية يف اخليانة‬
‫والكفر‪.‬‬
‫األمر الثاين ‪ :‬أ ّن املراد نفي احلب عن كل فرد من اخلونة الكفرة ‪ ،‬فاملراد عموم السلب ومشوله‬
‫جلميع األفراد ‪ ،‬ال سلب العموم ‪ ،‬وقول البيانيني ‪ :‬إ ّن تقدمي النفي على أداة العموم يفيد سلب‬
‫ب مكلَّ حك َّفا ٍر أحثِي ٍم [البقرة ‪:‬‬‫اّللم ال مِحي ُّ‬
‫العموم فاحلق أنه حكم أكثري ال كلي ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫ني (‪[ )10‬القلم ‪ ]10 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫‪ ]276‬وقوله ‪ :‬وال تم ِطع مك َّل ح َّال ٍ‬
‫ف حم ِه ٍ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ح‬
‫خوٍر [لقمان ‪ ]18 :‬وكذلك ما معناه ‪ ،‬فاملعترب إذا يف احلقيقة هو‬ ‫ٍ‬ ‫اّللح ال مِحي ُّ‬
‫ب مك َّل مخمْتال فح م‬ ‫إِ َّن َّ‬
‫القرائن ‪ ،‬فمىت دلّت على عموم السلب كان الكالم لعموم السلب ‪ ،‬تق ّدم النفي أو أت ّخر‪.‬‬
‫ونقل بعضهم عن األستاذ اإلمام الشيخ حممد عبده وجها آخر بناء على أ ّن‬

‫ص ‪ 516 :‬احلكم كلي ‪ ،‬وحاصله أنه قد يعدل حبسب الظاهر عما يدل على عموم السلب إىل‬
‫شر‬
‫ما يفيد سلب العموم ظاهرا ‪ ،‬وإن كان السلب عاما حبسب احلقيقة تعريضا أب ّن املخاطبني ّ‬
‫ب مك َّل حخ َّو ٍ‬
‫ان حك مفوٍر تعريضا مبا نزلت فيهم من‬ ‫اّللح ال مِحي ُّ‬
‫هذا النوع ‪ ،‬كما جاء يف اآلية الكرمية ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اّلل خبائن كافر‬
‫اّلل تعاىل ال تناهلم أبي وجه من الوجوه ‪ ،‬وأنّه لو تعلّقت حمبة ّ‬ ‫األعداء أب ّن حمبة ّ‬
‫فإّنّا ال تتعلق أبولئك ‪ ،‬ألّنم شر هذا النوع ‪ ،‬وال خيفى عليك أن بناء احلكم على أبعد الفروض‬
‫واالحتماالت أبلغ وأقوى ‪ ،‬ألن بناءه على تلك الصورة جيعل السامع ال يتطرق إليه أي احتمال‬
‫آخر يف خالف احلكم‪.‬‬
‫ص ِرِه ْم لححق ِد ٌير (‪ )39‬اإلذن معناه‬ ‫ين يمقاتحلمو حن ِأب َّحّنم ْم ظملِ مموا حوإِ َّن َّ‬
‫اّللح حعلى نح ْ‬ ‫ِ ِِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬أمذ حن للَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫كل من أ ِمذ حن ويمقاتحلمو حن ابلبناء للمفعول وابلبناء‬ ‫الرتخيص ‪ ،‬فهو لإلابحة بعد احلظر ‪ ،‬وقرئ ّ‬
‫للفاعل‪.‬‬
‫هذه هي أول آية نزلت يف القتال بعد ما ّني عنه يف نيف وسبعني آية ‪ ،‬على ما روى احلاكم يف‬
‫اّلل عنهما‪.‬‬
‫«املستدرك» عن ابن عباس رضي ّ‬
‫وأخرجه عبد الرزاق وابن املنذر عن الزهري وكذا النسائي إبسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة‬
‫اّلل عنها‪.‬‬
‫رضي ّ‬
‫وحسنه والنسائي وابن سعد واحلاكم وصححه عن ابن عباس قال ‪ :‬ملا‬
‫وأخرج أمحد والرتمذي ّ‬
‫ليهلكن ‪ ،‬فنزلت ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر ‪ :‬أخرجوا نبيهم‬ ‫خرج النيب صلّى ّ‬
‫ين يمقاتحلمو حن ِأب َّحّنم ْم ظملِ مموا‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬فهي أول آية نزلت يف القتال «‪.»1‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫أمذ حن للَّذ ح‬
‫ين يمقاتِلمونح مك ْم‬ ‫يل َِّ ِ‬ ‫وأخرج ابن جرير عن أيب العالية ‪ :‬أول آية نزلت فيه حوقاتِلموا ِيف حسبِ ِ‬
‫اّلل الَّذ ح‬
‫[البقرة ‪.]190 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س مه ْم‪.‬‬ ‫اّللح ا ْش حرتى م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني أحنْ مف ح‬ ‫ويف «اإلكليل» للحاكم أ ّن ّأول آية نزلت فيه ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫والظاهر األول ‪ ،‬وبه قال كثري من السلف كابن عباس وجماهد ‪ ،‬والضحاك وعروة بن الزبري وزيد‬
‫بن أسلم ومقاتل وقتادة وغريهم ‪ ،‬ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد ابملدافعة والنصر‪.‬‬
‫املفردات ‪ :‬أ ِمذ حن املقصود به إابحة القتال ومشروعيته على القول األول ‪ ،‬وحكاية اإلذن احلاصل‬
‫من قبل توطئة لبيان أسباب املشروعية وغايتها على القول الثاين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )305 /5‬كتاب التفسري حديث رقم (‪، )3171‬‬
‫والنسائي يف السنن (‪ ، )309 /6 - 5‬كتاب اجلهاد ‪ ،‬ابب وجوب اجلهاد حديث رقم‬
‫(‪ ، )3085‬وأمحد يف املسند (‪ ، )216 /1‬واحلاكم يف املستدرك على الصحيحني (‪.)52 /2‬‬

‫ص ‪517 :‬‬
‫ِِ‬
‫يدل عليه وصفهم ابإلخراج من الداير بغري حق ‪ ،‬أل ّن‬ ‫للَّذ ح‬
‫ين يمقاتحلمو حن املراد هبم املهاجرون ‪ ،‬كما ّ‬
‫هذا الوصف ال ينطبق إذ ذاك إال عليهم‪.‬‬
‫واملأذون فيه هو القتال ‪ ،‬وحذف لداللة املقام عليه‪.‬‬
‫ووصفهم ابلقتال الواقع عليهم على قراءة املبين للمفعول على حقيقته ‪ ،‬سواء قلنا ‪ :‬إّنا أول آية‬
‫نزلت يف القتال أم ال ‪ ،‬أل ّن قتال املشركني واضطهادهم هلم كان حاصال على كل حال‪.‬‬
‫وأما وصفهم ابلقتال الواقع منهم على قراءة املبين للفاعل فعلى أّنا ليست أول آية نزلت يف‬
‫القتال يكون على حقيقته أيضا ‪ ،‬وعلى أّنا أول آية نزلت فيه يكون وصفهم عند بدء اإلذن‬
‫ابلقتال إما على تقدير اإلرادة واحلرص ‪ ،‬أي يريدون أن يقاتلوا املشركني ‪ ،‬وحيرصون على ذلك ‪،‬‬
‫وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم يف املستقبل ‪ ،‬وحقيقة قد كانوا حريصني كل احلرص‬
‫على هذا القتال ‪ ،‬فإ ّن الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن أمر حمبب إىل النفوس ‪ ،‬ال سيما إذا‬
‫كانت تعتقد أّنا على احلق ‪ ،‬وأن خصمها على الباطل‪.‬‬
‫كف غوائل املشركني عنهم ‪،‬‬
‫وجل يف اآلية السابقة املؤمنني ابلدفاع و ّ‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫املعىن ‪ :‬ملا وعد ّ‬
‫وأوعد يف ضمن هذا الوعد الكافرين ابلقهر واخلذالن ‪ ،‬أتبع ذلك ببيان مشروعية اجلهاد واإلذن‬
‫هلم يف قتال أعدائهم ‪ ،‬مع بيان أسبابه وغايته ‪ ،‬لإليذان أب ّن طريق الدفاع املوعود به عن األولياء‬
‫وسبيل القهر واخلذالن املوعود به لألعداء هو إذنه تعاىل للمؤمنني يف القتال ‪ ،‬كما يدل على‬
‫اّلل‬
‫ض ألن القتال يف سبيل ّ‬‫ض مه ْم بِبح ْع ٍ‬
‫َّاس بح ْع ح‬ ‫ذلك قوله تعاىل يف اآلية التالية ‪ :‬ولحو ال حدفْع َِّ‬
‫اّلل الن ح‬ ‫م‬ ‫حْ‬
‫اّلل وعنايته ابملؤمنني مبا يفاض عليهم يف تلك املواقف‬
‫من أعظم املواطن اليت تتجلى فيها رعاية ّ‬
‫الرهيبة من النصر والتأييد ‪ ،‬وتثبيت قلوهبم ‪ ،‬وإمدادهم ابألسباب احلسية واملعنوية على ما عرف‬
‫اّلل هلم يف مواطن احلرب وميادين القتال‪.‬‬
‫وتواتر من نفحات ّ‬
‫اّلل تعاىل سبب اإلذن يف القتال على سبيل اإلمجال بقوله ‪ِ :‬أب َّحّنم ْم ظملِ مموا ّ‬
‫فاّلل تعاىل أذن‬ ‫مث ّبني ّ‬
‫للمسلمني يف قتال عدوهم وندهبم للجهاد يف سبيله ‪ ،‬ال حبا يف إراقة الدماء وإزهاق األرواح ‪،‬‬
‫وال جملرد البطش والقهر ‪ ،‬كما يزعم خصوم اإلسالم ‪ ،‬فإ ّن اإلسالم دين أمن وسالم ‪ ،‬وبشري‬
‫رمحة وطمأنينة ‪ ،‬ولكنه تعاىل أذن هلم ألجل أن يدفعوا ذلك الظلم الذي وقع عليهم من جانب‬
‫اّلل عليه وسلّم ما كاد يصدع‬
‫املشركني والذي أصاهبم يف أوطاّنم وأنفسهم ودينهم ‪ ،‬فإنه صلّى ّ‬
‫ابألمر ‪ ،‬وجيهر ابلدعوة ‪ ،‬حىت هاج هائج قريش ‪ ،‬وتذمرت على املسلمني ‪ ،‬وأعلنوا عليهم حراب‬
‫شعواء ‪ ،‬وأعملوا فيهم يد االنتقام الوحشي ‪ ،‬ال أيلون يف مؤمن ّإال وال ذمة ‪ ،‬حوما نح حق مموا ِم ْن مه ْم إَِّال‬
‫أح ْن يم ْؤِمنموا ِاب َّّللِ ال حْع ِزي ِز‬

‫ص ‪518 :‬‬
‫ا ْحلح ِمي ِد (‪)8‬‬
‫عدو من عدوه ‪ ،‬طمعا يف ارتدادهم عن دينهم ‪،‬‬
‫[الربوج ‪ ، ]8 :‬وانلوا منهم أشد ما يناله ّ‬
‫اّلل وسالمه عليه ‪ ،‬وقد غاب عنهم أن‬
‫واحليلولة بينهم وبني االلتفات حول الرسول صلوات ّ‬
‫الدين احلق مىت خالطت بشاشته القلوب ‪ ،‬واستقر يف أعماق النفوس ‪ ،‬كان التعذيب والتقتيل‬
‫والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها‪.‬‬
‫اّلل مصرعي‬
‫أي جنب كان يف ّ‬
‫ولست أابيل حني أقتل مسلما على ّ‬
‫فكانوا أمام هذه العواصف اهلوجاء واملواقف الرهيبة والفنت اليت كانت كقطع الليل املظلم أثبت‬
‫اّلل عليه وسلّم من اجلبال الرواسي ‪ ،‬فما استطاعوا فتنة مسلم عن‬
‫على حبهم لرسوهلم صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫اّلل وحب رسوله صلّى ّ‬
‫دينه ‪ ،‬وال حتويل قلبه عن حب ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫مل يقف ظلم هؤالء الظاملني عند حد األتباع واألنصار ‪ ،‬بل آذوا رسول ّ‬
‫أبشد أنواع اإليذاء ‪ ،‬رموه ابلشعر والسحر والكهانة واجلنون ‪ ،‬وحثوا على رأسه الرتاب ‪،‬‬
‫ووضعوا بني كتفيه وهو ساجد بني يدي ربه سال «‪ »1‬جزور وهم يتضاحكون ‪ ،‬وأغرت ثقيف‬
‫سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه ابحلجارة حىت اختضب نعاله ابلدماء ‪ ،‬وهذا قليل من‬
‫اّلل ما يناله‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وهو صابر على أذيّتهم ‪ ،‬حمتسب عند ّ‬
‫كثري ِما فعلوه معه صلّى ّ‬
‫معهم‪.‬‬
‫فعلوا كل هذا وأكثر منه ابملسلمني حىت أجلئوهم على اخلروج من أوطاّنم وترك أمواهلم وأهليهم‬
‫فرارا بدينهم‪.‬‬
‫فأي ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي مل يرتكبوه إال انتصارا للباطل ‪ ،‬واضطهادا للحق ‪،‬‬
‫ّ‬
‫اّلل الواحد القهار ‪ ،‬والذي مل يتعفف أهله عن اإلسفاف يف‬
‫وإيثارا لعبادة األواثن على عبادة ّ‬
‫اخلصومة والفجور يف اإليذاء‪.‬‬
‫ص ِرِه ْم لح حق ِد ٌير ذهب كثري من املفسرين إىل أنه وعد ابلنصر ‪ ،‬وأتكيد ملا‬ ‫قال تعاىل ‪ :‬حوإِ َّن َّ‬
‫اّللح حعلى نح ْ‬
‫مر من الوعد ابلدفاع عن املؤمنني ‪ ،‬وتصريح أب ّن املراد ابلوعد السابق ليس جمرد ختليصهم من‬ ‫ّ‬
‫أيدي عدوهم ‪ ،‬بل إظهارهم عليهم ‪ ،‬ومتكينهم يف األرض ‪ ،‬وهو إخبار وارد على سبيل العزة‬
‫والكربايء ‪ ،‬كما يقول امللك ‪ :‬إن أطعتين فأان قادر على جمازاتك‪ .‬ال يريد بذلك حقيقة اإلخبار‬
‫ابلقدرة على ذلك ‪ ،‬بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد‪.‬‬
‫وذهب ابن كثري إىل أن املعىن ‪ :‬أنه تعاىل قادر على نصر املؤمنني من غري قتال وجهاد ‪ ،‬ولكنه‬
‫أذن هلم يف القتال ‪ ،‬وندهبم إىل اجلهاد ‪ ،‬ألنه يريد من عباده بذل جهدهم يف طاعته ‪ ،‬كما قال‬
‫تعاىل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬سال اجلزور ‪ :‬هو اللفافة اليت يكون هبا اجلنني عند الوالدة ‪ ،‬وهو من اآلدمية املستيمة‪.‬‬

‫ص ‪519 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شدُّوا ال حْواث حق فحِإ َّما حمنًّا بح ْع مد حوإِ َّما فداءً‬ ‫قاب حح َّىت إِذا أحثْ حخ ْن تم مم م‬
‫وه ْم فح م‬ ‫الر ِ‬ ‫ب ِّ‬ ‫ض ْر ح‬ ‫فحِإذا لحقيتم مم الَّذ ح‬
‫ين حك حف مروا فح ح‬
‫ض [حممد ‪:‬‬ ‫ض مك ْم بِبح ْع ٍ‬ ‫ص حر ِم ْن مه ْم حولكِ ْن لِيح ْب لمحوا بح ْع ح‬ ‫ك حول ْحو يحشاءم َّ‬
‫اّللم حالنْ تح ح‬ ‫ب أ ْحوز حارها ذلِ ح‬ ‫ض حع ا ْحلحْر م‬
‫حح َّىت تح ح‬
‫‪.]4‬‬
‫جاه مدوا ِمنْ مك ْم [التوبة ‪ ]16 :‬وقال ‪:‬‬ ‫ين ح‬ ‫وقال ‪ :‬أ ْحم ح ِس ْب تمم أح ْن تم ْرتمكوا ول َّحما ي ْعلح ِم َّ ِ‬
‫اّللم الَّذ ح‬ ‫ح ح ح‬ ‫ح ْ‬
‫بارمك ْم (‪[ )31‬حممد ‪.]31 :‬‬ ‫ين حونح ْب لمحوا أح ْخ ح‬ ‫ين ِمنْ مك ْم حو َّ‬
‫الصابِ ِر ح‬
‫ِِ‬
‫حولحنح ْب لم حونَّ مك ْم حح َّىت نح ْعلح حم ال مْمجاهد ح‬
‫آمنَّا حو مه ْم ال يم ْفتح نمو حن (‪[ )2‬العنكبوت ‪.]2 :‬‬ ‫وقال ‪ :‬أ ِ‬
‫َّاس أح ْن يم ْحرتمكوا أح ْن يح مقولموا ح‬
‫ب الن م‬ ‫ححس ح‬ ‫ح‬
‫أقول ‪ :‬وعلى هذا القول يكون املقصود هو تنبيه املسلمني إىل أ ّن الدنيا دار ابتالء واختبار ‪ ،‬وأ ّن‬
‫احلياة ميدان تسابق وتنافس ‪ ،‬وأن مدار هذا الدين على اإلرادة واالختبار ‪ ،‬ال على اإلكراه‬
‫قال ذح َّرةٍ حخ ْرياً يح حرهم (‪ )7‬حوحم ْن يح ْع حم ْل ِمثْ ح‬
‫قال‬ ‫واالضطرار ‪ ،‬وأ ّن اجلزاء من جنس العمل فح حم ْن يح ْع حم ْل ِمثْ ح‬
‫ذح َّرةٍ حش ًّرا يح حرهم (‪[ )8‬الزلزلة ‪ ]8 ، 7 :‬وال يكون ذلك كله إال بفتح أبواب العمل أمام العاملني ‪،‬‬
‫ودعوة الناس إىل اجلهاد والكفاح ‪ ،‬وابتالئهم مبواقع الشدائد واحملن ‪ ،‬لكي يتبني اجملاهدون من‬
‫اّلل ورسوله ِمن آمن حبا يف اإلبقاء على‬
‫القاعدين ‪ ،‬واملخلصون من املنافقني‪ .‬ومن آمن حبا يف ّ‬
‫نفسه وماله وجاهه ‪ ،‬وإال فلو كان النصر حليف املسلمني من غري قتال وجهاد ‪ ،‬وكان املؤمن‬
‫معاىف يف نفسه وماله وولده ‪ ،‬متقلبا يف أحضان النعيم من مهده إىل حلده ‪ ،‬ملا كانت الدنيا دار‬
‫اّلل‬
‫ابتالء واختبار وملا كان إميان املؤمن اختيارا وترجيحا لإلميان على الكفر ‪ ،‬وإيثارا ملرضاة ّ‬
‫وحمابّه على مرضاة نفسه وشهواته ‪ ،‬ولبطلت التكاليف املبنية على اإلرادة واالختيار وحماربة‬
‫النفس واهلوى ‪ ،‬وملا كان اجلزاء مثرة للعمل ‪ ،‬ونتيجة الزمة للكد والتعب ‪ ،‬فعليهم أن يلتزموا‬
‫هذه السنن ‪ ،‬وأن يعملوا على مقتضاها ‪ ،‬ويف ذلك بلوغ املأمول وإجناز املوعود‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري ل ححعلَّ مك ْم تم ْفل م‬
‫حو حن‬ ‫اخلحْ ح‬
‫ْعلموا ْ‬
‫ج مدوا حوا ْعبم مدوا حربَّ مك ْم حواف ح‬
‫اس م‬
‫آمنموا ْارحكعموا حو ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫قال ّ‬
‫(‪)77‬‬
‫قيل ‪ :‬إن األمر يف هذه اآلية ابلركوع والسجود والعبادة وفعل اخلري متوجه إىل الناس مجيعا ‪ ،‬إذ‬
‫خص به املؤمنون ملزيد االعتناء هبم‬
‫إن الكفار خماطبون بفروع الشريعة ‪ ،‬غري أن اخلطاب فيها ّ‬
‫وتشريفهم ‪ ،‬وألّنم هم الذين ينتفعون هبذا التكليف‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن هذه األوامر خاصة ابملؤمنني ‪ ،‬كما أ ّن اخلطاب متوجه إليهم وحدهم‪ .‬أما الكفار فإّنّم‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأبوا من قبل أن‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬ومل يستجيبوا لرسول ّ‬
‫ملا أعرضوا عن قبول دين ّ‬
‫اّلل عنهم ‪ ،‬وصرف خطابه وأوامره إىل أهل طاعته الذين يعرفون‬
‫ميتثلوا هلذه األوامر ‪ ،‬أعرض ّ‬
‫حقه ‪ ،‬وميتثلون أحكامه‪ .‬أما أولئك الكفار فإّنّم ال ينفع فيها إرشاد ‪ ،‬وال يرجى منهم قبول وال‬
‫امتثال ‪ ،‬فهم جديرون ابلرتك واإلهدار‪ .‬وهذا املعىن أحسن وأوجه ‪ ،‬وهو سائر حىت مع القول‬
‫بتكليف الكفار ابلفروع ‪ ،‬وهو الذي‬

‫ص ‪ 520 :‬يناسبه ما ورد يف اآلية اآلتية من اجتباء املخاطبني ‪ ،‬وتسميتهم ابملسلمني ‪ ،‬وإعالء‬
‫شأّنم بقبول شهادهتم على األمم يوم القيامة‪.‬‬
‫وقد اختلف يف املراد ابلركوع والسجود يف اآلية‪ .‬فقال احلنفية ‪ :‬إن املراد هبما معا الصالة ‪،‬‬
‫عرب عن الصالة هبما ألّنما أهم أركاّنا وأفضلها‪ .‬وقيل ‪ :‬إّنما‬
‫فاألمر هبما أمر ابلصالة ‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫كنايتان عن الذلة واخلضوع‪ .‬وقيل ‪ :‬املراد معنامها الشرعي املعروف‪ .‬وقد أمر هبما أل ّن الناس يف‬
‫فاّلل أمرهم إبمتام الصالة واإلتيان‬
‫أول اإلسالم كانوا يصلون اترة بغري ركوع ‪ ،‬واترة بغري سجود ‪ّ ،‬‬
‫فيها ابلركوع والسجود‪.‬‬
‫وقال الشافعية إ ّن الركوع جماز عن الصالة الختصاصه هبا‪ .‬أما السجود فاملراد به سجود التالوة‪.‬‬
‫والعبادة ‪ :‬هي كل فعل تتجلى فيه الذلة واالستكانة حتت قهر اإلله وسلطانه ‪ ،‬وعلى هذا قيل ‪:‬‬
‫أعم ِما قبلها‪.‬‬
‫إن املراد هبا التكاليف اليت تربط العبد بربه ‪ ،‬فهي ّ‬
‫أما فعل اخلريات فهو عام للتكاليف مجيعها ‪ ،‬يشمل ما يصلح عالقة العبد ابلرب ‪ ،‬وما يصلح‬
‫عالقات الناس بعضهم مع بعض ‪ ،‬فأنت جتد هذه األوامر مرتبة ‪ ،‬بدئ فيها بعبادة خاصة ‪ :‬وهي‬
‫ثين مبا هو أعم منها ‪ :‬وهو مجيع العبادات ‪ ،‬مث أتبع ذلك مبا هو أعم من الكل ‪:‬‬
‫الصالة ‪ ،‬مث ّ‬
‫وهو فعل اخلريات الشامل للعبادات ولإلحسان يف املعامالت ‪ ،‬وبعضهم محل العبادة على‬
‫الفرائض ‪ ،‬وفعل اخلري على النوافل‪.‬‬
‫شك أن بغية كل عابد سائر على ّنج الشريعة إمنا هي‬
‫والفالح ‪ :‬هو الفوز بنيل البغية ‪ ،‬وال ّ‬
‫السعادة الدائمة يف اآلخرة ‪ ،‬وهناءة العيش يف الدنيا ‪ ،‬وقد علمت آنفا ما ينبغي أن يقال يف‬
‫ويصح أن يراد منها هنا أيضا الرجاء احلقيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫كلمة (لعل) الواردة يف كالم ّ‬
‫ولكن على تقدير صدوره من العباد فيكون املعىن عليه ‪ :‬اي أيها الذين آمنوا صلوا ‪ ،‬وأدوا ّّلل كل‬
‫كل ما كلّفكم ِما فيه اخلري لكم وألمتكم حالة كونكم راجني الفالح ‪،‬‬
‫ما تعبدكم به ‪ ،‬وافعلوا ّ‬
‫فاّلل سبحانه يرشد املؤمنني إىل أنّه ليس من شأن العبد الذليل‬
‫ومتوقعني الفوز ودرك الرغائب ‪ّ ،‬‬
‫اّلل واخلوف من جربوته أن يقطع بنتيجة يف عمل من األعمال اليت‬
‫الذي يشعر قلبه اخلشية من ّ‬
‫يؤمل من نتيجة‬
‫كلّفها ‪ ،‬بل ينبغي أن تكون حاله بعد أن حيسن عمله حالة الرجاء ‪ ،‬وتوقع ما ّ‬
‫مقصرا بعض التقصري يف أعماله ‪ ،‬فلم أيت هبا على‬
‫صاحلة ‪ ،‬إذ إن العواقب جمهولة ‪ ،‬وقد يكون ّ‬
‫اّلل ويرضاه‪.‬‬
‫الوجه الذي حيبه ّ‬
‫ظاهر من اآلية أّنا قد مجعت أنواع التكاليف ‪ ،‬وأحاطت بفروع الشريعة ‪ ،‬فلم يفلت منها فرض‬
‫وال ما دون الفرض ‪ ،‬وظاهر أيضا أّنا قصدت إىل الصالة اليت هي‬

‫ص ‪521 :‬‬
‫شك أن ذلك‬
‫عماد الدين ‪ ،‬فأمرت هبا مستقال ‪ ،‬ومل تقتصر على طلبها يف عموم العبادات ‪ ،‬وال ّ‬
‫يدل على أت ّكدها وفرضيتها على الناس مجيعا‪.‬‬
‫ّ‬
‫غري أن الشافعية قالوا ‪ :‬إ ّن اآلية آية سجدة ‪ ،‬وأخذوا من األمر ابلسجود فيها سجود التالوة‬
‫مطلوب هلا كغريها من بقية آايت السجود ‪ ،‬مستندين يف هذا إىل ما أييت ‪:‬‬
‫‪ - 1‬إ ّن السجود حقيقة يف املعىن املعروف ‪ :‬وهو وضع اجلبهة على األرض ‪ ،‬فمىت أمكن محل‬
‫اللفظ عليه فال يصح العدول عنه إال ملوجب ‪ ،‬وهو غري موجود يف اآلية‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقالوا ‪ :‬أيضا ‪ :‬قد ورد يف السنة ما يؤيّد هذا املعىن ‪ ،‬ويكشف عن املراد ابلسجود يف اآلية‬
‫‪ ،‬فقد أخرج أمحد وأبو داود والرتمذي وابن مردويه والبيهقي يف «سننه» عن عقبة بن عامر رضي‬
‫اّلل أفضلت سورة احلج على سائر القرآن بسجدتني؟ قال ‪:‬‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قلت ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫ّ‬
‫«نعم فمن مل يسجدمها ‪ ،‬فال يقرأمها» «‪.»1‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وأخرج أبو داود وابن ماجه والدار قطين واحلاكم عن عمرو بن العاص أ ّن رسول ّ‬
‫املفصل ‪ ،‬ويف احلج سجداتن‬
‫عليه وسلّم أقرأه مخس عشرة سجدة يف القرآن ‪ ،‬منها ثالث يف ّ‬
‫«‪.»2‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وأبو الدرداء ‪ ،‬وابن عباس يف إحدى‬
‫وكان يقول هبذا علي ‪ ،‬وعمر ‪ ،‬وابنه عبد ّ‬
‫الروايتني عنه ‪ ،‬وبه أخذ أيضا اإلمام أمحد ‪ ،‬واللّيث وابن وهب ‪ ،‬وابن حبيب من املالكية رضي‬
‫اّلل عنهم مجيعا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال أبو حنيفة «‪ ، »3‬ومالك ‪ ،‬واحلسن ‪ ،‬وابن املسيب ‪ ،‬وابن جبري ‪ ،‬وسفيان الثوري رضي‬
‫اّلل عنهم ‪ :‬إ ّن هذه اآلية ليست آية سجدة ‪ ،‬واستدلوا مبا أييت ‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬إ ّن اقرتان السجود ابلركوع دليل أ ّن املراد به سجود الصالة ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ني [آل عمران ‪ ]43 :‬فإذا مل يكن هذا االقرتان موجبا حلمل‬ ‫الراكِعِ ح‬
‫ج ِدي حو ْارحكعِي حم حع َّ‬
‫اس م‬
‫حو ْ‬
‫أقل من أن يكون‬
‫السجود على سجود الصالة ‪ ،‬وأنه عرب عن الصالة مبجموع األمرين ‪ ،‬فال ّ‬
‫مرجحا ‪ ،‬لذلك فال يصح أن يؤخذ من اآلية أ ّن السجود فيها سجود التالوة‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه أنه ع ّد السجدات اليت مسعها من رسول ّ‬
‫روي عن أيب رضي ّ‬
‫وع ّد يف احلج سجدة واحدة «‪.»4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )470 /2‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب السجدة حديث رقم‬
‫(‪ ، )578‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )521 /1‬كتاب الصالة حديث رقم (‪ ، )1402‬وأمحد يف‬
‫املسند (‪].....[ .)151 /4‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )521 /1‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب تفريع أبواب السجود حديث‬
‫رقم (‪ ، )401‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 5 ، )335 /1‬كتاب إقامة الصالة ‪ - 70 ،‬ابب عدد‬
‫سجدات القرآن حديث رقم (‪.)1057‬‬
‫(‪ )3‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)85 /2 - 1‬‬
‫(‪ )4‬رواه اإلمام أمحد يف املسند (‪.)305 /4‬‬

‫ص ‪522 :‬‬
‫اّلل عنهما أّنما قاال ‪ :‬سجدة التالوة يف احلج‬
‫اّلل بن عمر رضي ّ‬
‫وما روي عن ابن عباس وعبد ّ‬
‫هي األوىل ‪ ،‬والثانية سجدة الصالة‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وهذا املروي عن ابن عباس وابن عمر هو أتويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض‬
‫صحته ‪ ،‬مع أ ّن فيه مقاال ‪ ،‬وكذا يف حديث عمرو بن العاص ‪ ،‬وإليك ما قيل فيهما ‪:‬‬
‫أما حديث عقبة فقال الرتمذي وأبو داود وغريمها ‪ :‬إن إسناده ليس ابلقوي ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أل ّن فيه‬
‫اّلل بن هليعة أحد األئمة ‪ ،‬وإمنا نقم اختالطه يف آخر‬
‫اّلل بن هليعة ‪ ،‬وقال احلاكم ‪ :‬إن عبد ّ‬
‫عبد ّ‬
‫عمره‪.‬‬
‫اّلل بن منني الذي‬
‫وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه ‪ :‬إنّه ضعيف أيضا ‪ ،‬أل ّن يف سنده عبد ّ‬
‫قال فيه عبد احلق ‪ :‬إنّه ال حيتج به ‪ ،‬وقال ابن القطان ‪ :‬إنه جمهول ‪ ،‬ال يعرف له حال‪ .‬وقاال‬
‫أيضا ‪ :‬إ ّن الراوي عن ابن منني هو احلارث بن سعيد العتقي املصري وهو ال يعرف أيضا ا ه‪.‬‬
‫اجتحبا مك ْم حوما حج حع حل عحلحيْ مك ْم ِيف ال ِّدي ِن ِم ْن حح حر ٍج ِملَّةح‬ ‫ِِ‬ ‫جاه مدوا ِيف َِّ‬
‫اّلل حح َّق ِجهاده مه حو ْ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬و ِ‬
‫ح‬ ‫قال ّ‬
‫ول حش ِهيداً حعلحْي مك ْم حوتح مكونموا‬ ‫ني ِم ْن قح ْب مل حوِيف هذا لِيح مكو حن َّ‬
‫الر مس م‬ ‫ِ‬
‫يم مه حو حمسَّا مك مم ال مْم ْسل ِم ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أحبي مك ْم إِبْراه ح‬
‫ص مموا ِاب َّّللِ مه حو حم ْوال مك ْم فحنِ ْع حم ال حْم ْوىل حونِ ْع حم‬
‫الزكاةح وا ْعتح ِ‬
‫الصالةح حوآتموا َّ ح‬ ‫يموا َّ‬ ‫مش حهداء حعلحى الن ِ ِ‬
‫َّاس فحأحق م‬ ‫ح‬
‫َّصريم (‪ ) 78‬اجلهاد ‪ :‬هو بذل الطاقة ‪ ،‬واستفراغ الوسع يف مدافعة العدو ‪ ،‬وهو قسمان‬ ‫الن ِ‬
‫عظيمان ‪ ،‬حتت كل منهما أنواع ‪ ،‬فالقسم األول جهاد العدو الباطن ‪ ،‬وحتته نوعان ‪:‬‬
‫‪ - 1‬جهاد النفس‪.‬‬
‫‪ - 2‬جهاد الشيطان‪.‬‬
‫والقسم الثاين ‪ :‬جهاد العدو الظاهر ‪ ،‬وحتته ثالثة أنواع ‪:‬‬
‫‪ - 1‬جهاد الكفار‪.‬‬
‫‪ - 2‬جهاد املنافقني‪.‬‬
‫‪ - 3‬جهاد أهل الظلم والبدع والضالالت االعتقادية والعملية‪.‬‬
‫فاجلهاد يف القسم األول يكون مبخالفة هوى النفس ‪ ،‬ومدافعة وساوس الشيطان‪ .‬وهذا هو أصل‬
‫اجلهاد ‪ ،‬وأش ّد أنواعه ‪ ،‬وهو اجلهاد األكرب ‪ ،‬كما‬
‫اّلل عليه وسلّم ملا عاد من غزوة تبوك قال ‪« :‬رجعنا من اجلهاد األصغر إىل‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫روي أ ّن ّ‬
‫اجلهاد األكرب» «‪»1‬‬
‫وهلذا كان فرض عني على كل فرد ‪ ،‬ال يغين فيه أحد عن أحد شيئا ‪ ،‬وفرضيته اثبتة من مبدأ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬حديث ضعيف ‪ ،‬انظر األسرار املرفوعة للمال علي القاري حديث رقم (‪.)211‬‬

‫ص ‪523 :‬‬
‫وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع ‪ ،‬فهو فريضة على كل مكلف على حسب استعداده ‪ ،‬وبقدر‬
‫استطاعته ‪ ،‬كما‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬من رأى منكم منكرا فليغريه بيده ‪ ،‬فإن مل يستطع‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫قال رسول ّ‬
‫فبلسانه فإن مل يستطع فبقلبه ‪ ،‬وذلك أضعف اإلميان» «‪.»1‬‬
‫أما جهاد الكفار واملنافقني ‪ ،‬فإنّه يكون ابحلجة والبيان ‪ ،‬كما يكون جهاد الكفار أيضا ابلسيف‬
‫والسنان‪ .‬فجهادهم ابحلجة واجب أيضا من مبدأ البعثة ‪ ،‬كما يف األنواع السابقة ‪ ،‬يشهد لذلك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫قوله تعاىل يف سورة الفرقان ‪ :‬حول ْحو ش ْئنا لحبح حعثْنا ِيف مك ِّل قح ْريحة نحذيراً (‪ )51‬فحال تمط ِع الْكاف ِر ح‬
‫ين‬
‫جاه ْد مه ْم بِهِ ِجهاداً حكبِرياً (‪[ )52‬الفرقان ‪ ]52 ، 51 :‬فاجملاهدة ابلقرآن ال شك أّنا من نوع‬ ‫و ِ‬
‫ح‬
‫اجلهاد ابحلجة والربهان ‪ ،‬وهذا النوع فرض كفاية على األمة ‪ ،‬يتصدى له أهل القدرة عليه من‬
‫العلماء الواقفني على أسرار الشريعة ‪ ،‬العارفني مبسالك القول وطرائق اإلقناع‪.‬‬
‫أما اجلهاد ابلسيف وغريه من آالت القتال فهذا هو الذي مل يشرع إال بعد هجرة النيب عليه‬
‫الصالة والسالم إىل املدينة ‪ ،‬وهو فرض كفاية على املسلمني ‪ ،‬جيزئ فيه أن يقوم به بعضهم مىت‬
‫كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو ‪ ،‬وأن يدفعوه عن بقية املسلمني وبالدهم ‪ ،‬وإال‬
‫كل واحد من‬
‫فعلى حسب ما يرى اإلمام ‪ ،‬حىت لو أعلن النفري العام كان فرض عني على ّ‬
‫القادرين على القتال‪.‬‬
‫هادهِ فعن ابن‬
‫اّللِ ح َّق ِج ِ‬ ‫ِ‬
‫وبعد فقد اختلف العلماء يف املراد ابجلهاد يف قوله تعاىل ‪ :‬حوجاه مدوا ِيف َّ ح‬
‫اّلل بن‬
‫مروي عن الضحاك أيضا‪ .‬وعن عبد ّ‬
‫عباس أ ّن املراد به قتال الكفار واملشركني ‪ ،‬وهو ّ‬
‫املبارك ‪ :‬أنه خمالفة النفس واهلوى ‪ ،‬واألوىل أن حيمل على املعىن العام الذي يشمل هذا وذاك‪.‬‬
‫وقد علمت فيما سبق أ ّن الراجح يف سورة احلج أّنا مدنية ما عدا آايت ليست هذه اآلية منها ‪،‬‬
‫فال يكون حينئذ مانع من محل اجلهاد على ما يشمل قتال الكفار وغريه ‪ ،‬أما على اعتبار أّنا‬
‫مكية فيتعني تفسري اجلهاد جبهاد النفس والشيطان على ما هو معروف ‪ ،‬إذ إن القتال مل يفرض‬
‫إال بعد اهلجرة‪.‬‬
‫اّلل أن يكون بقوة‬
‫اّلل معناه اجلهاد يف سبيله ‪ ،‬ومن أجل دينه ‪ ،‬وح ّق اجلهاد يف ّ‬
‫واجلهاد يف ّ‬
‫اّلل وأتييد شريعته ‪ ،‬فال ينبغي للمسلم أن خيشى‬
‫وعزمية صادقة ‪ ،‬وأن يكون خالصا إلعالء دين ّ‬
‫يف االنتصار للحق لومة الئم ‪ ،‬كما ال جيوز له يف جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غريها‬
‫من الشهوات الدنيوية‪.‬‬
‫وعلى تفسري حق اجلهاد بذلك تكون اآلية حمكمة غري منسوخة بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )69 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 2 ،‬ابب كون النهي عن املنكر‬
‫حديث رقم (‪.)49‬‬

‫ص ‪524 :‬‬
‫استحطح ْعتم ْم كما يقول جماهد والكليب ‪ ،‬فإّنّما يقوالن ‪ :‬إ ّن ح ّق اجلهاد غاية ال‬ ‫فحاتَّ مقوا َّ‬
‫اّللح حما ْ‬
‫عامة املكلفني ‪ ،‬فإّنّا قد تتجاوز الوسع وحد االستطاعة ‪ ،‬ولكنك قد علمت الصواب‬ ‫يستطيعها ّ‬
‫يف ذلك‪.‬‬
‫هادهِ من إضافة الصفة للموصوف ‪ :‬كما يقال ‪:‬‬
‫وإضافة (حق) إىل (جهاد) يف قوله تعاىل ‪ :‬ح َّق ِج ِ‬
‫ح‬
‫حق يقني ‪ ،‬وشبيه به قوهلم فالن حق عامل ‪ ،‬وهو جد ذكي ‪ ،‬أما إضافة جهاد للضمري يف قوله ‪:‬‬
‫ِِ‬
‫ِجهاده فهي ألدّن مالبسة‪ .‬وذلك أل ّن هذا اجلهاد ملا كان مطلواب ّّلل ومن أجل دينه كان ّ‬
‫خاصا‬
‫فصح أن تقع فيه هذه اإلضافة اليت تفيد اختصاص املضاف ابملضاف إليه‬
‫به سبحانه وتعاىل ‪ّ ،‬‬
‫اّلل حق جهادكم فيه ‪ ،‬فحذف املضاف إليه ‪ ،‬واجلار للضمري فاتصل‬
‫وأصله ‪ :‬وجاهدوا يف ّ‬
‫الضمري ابملضاف‪.‬‬
‫اجتحبا مك ْم االجتباء ‪ :‬االصطفاء واالختيار‪ .‬وهذه اجلملة واقعة يف مقام التعليل لألمر ابجلهاد ‪،‬‬
‫مه حو ْ‬
‫وشرفهم أبن يكونوا خدام شريعته ‪،‬‬
‫فاّلل وفّق املسلمني لقبول اإلسالم ‪ ،‬واختارهم لدينه ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫اّلل هلذا األمر العظيم‬
‫يقيموّنا ‪ ،‬وحيفظوّنا ِمن يريدها بتحريف أو عدوان ‪ ،‬فجدير مبن اختارهم ّ‬
‫أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة يف محاية دينه ‪ ،‬وأال يهملوا رعايته ‪ ،‬أو يهنوا يف حراسته ‪،‬‬
‫شك أ ّن احلكم أبنه سبحانه قد اجتىب املسلمني لذلك ‪ ،‬من خري ما يبعثهم على أن جياهدوا‬
‫وال ّ‬
‫اّلل حق اجلهاد‪.‬‬ ‫يف ّ‬
‫حوما حج حع حل عحلحْي مك ْم ِيف ال ِّدي ِن ِم ْن حح حر ٍج احلرج ‪ :‬الضيق كما فسره بذلك ابن عباس وجماهد‪.‬‬
‫اّلل هبذا وجوب اجلهاد على الناس ‪ ،‬ولزوم حمافظتهم على الدين الذي اختارهم حلمايته ‪،‬‬
‫أكد ّ‬
‫فإنّه نفى أن يكون يف أحكامه شيء من العسر والشدة اليت تضيق هبا صدورهم ‪ ،‬وال تتسع هلا‬
‫قدرهم ‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك فال يكون هناك مانع مينعهم من مراعاهتا ‪ ،‬كما ال يكون هلم عذر‬
‫إذا هتاونوا فيها ‪ ،‬ومل يقوموا خبدمتها حق القيام ‪ ،‬ما دام قد حت ّقق املقتضى للجهاد ‪ ،‬وهو‬
‫اجتباؤهم ‪ ،‬وانتفى املانع ‪ ،‬وهو احلرج يف التكاليف ‪ ،‬وأنت خبري أبن هناك فرقا كبريا بني املشقة‬
‫يف األحكام الشرعية وبني احلرج والعسر فيها ‪ ،‬فإ ّن األوىل حاصلة ‪ ،‬قلما ختلو عنها التكاليف ‪،‬‬
‫فإ ّن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة‪.‬‬
‫اّلل الصالة على‬
‫أما املشقة الزائدة اليت تصل إىل حد احلرج فهي املرفوعة عن املكلفني فقد فرض ّ‬
‫املكلف يف اليوم مخس مرات ‪ ،‬وأوجب عليه أن يؤديها من قيام ‪ ،‬وهذا شيء ال حرج فيه ‪ ،‬مث‬
‫هو إذا مل يستطع الصالة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود ‪ ،‬أو ابإلمياء‪ .‬وكذلك شريعة‬
‫الصيام ال تصل فيها املشقة إىل درجة العسر ‪ ،‬إذ إن املفروض على الناس صيام شهر يف كل عام‬
‫اّلل‬
‫‪ ،‬ومع ذلك فقد ر ّخص ّ‬

‫ص ‪525 :‬‬
‫لكل من املسافر واملريض‬
‫للمكلّف يف حاالت تعظم فيها املشقة عليه أن يفطر ‪ ،‬فأابح الفطر ّ‬
‫واهلرم واحلامل واملرضع ‪ ،‬وهكذا جتد مجيع التكاليف يف ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف‬
‫الل الَِّيت كانح ْ‬
‫ت‬ ‫ض مع حع ْن مه ْم إِ ْ‬
‫ص حر مه ْم حو ْاألحغْ ح‬ ‫والتيسري على العباد ‪ ،‬كما يشهد بذلك قوله تعاىل ‪ :‬حويح ح‬
‫اّللم بِ مك مم الْيم ْس حر حوال يم ِري مد بِ مك مم الْعم ْس حر [البقرة ‪:‬‬
‫حعلحْي ِه ْم [األعراف ‪ ]157 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬يم ِري مد َّ‬
‫‪ ]185‬وغري ذلك يف هذا املعىن كثري‪.‬‬
‫يم امللة والدين والشريعة شيء واحد ‪ ،‬وكلمة ِملَّةح منصوبة على املصدرية بفعل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ملَّةح أحبي مك ْم إِبْراه ح‬
‫يدل عليه قوله تعاىل ‪ :‬حوما حج حع حل حعلحْي مك ْم ِيف ال ِّدي ِن ِم ْن حح حر ٍج فإنه يفيد معىن التوسعة ‪ ،‬أي وسع‬ ‫ّ‬
‫عليكم يف دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ‪ ،‬فحذف املصدر املضاف ‪ ،‬وأقيم املضاف إليه مقامه‬
‫ويصح أن تكون منصوبة على االختصاص بفعل تقديره ‪ :‬أعين ملة أبيكم إبراهيم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إّنا‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬
‫منصوبة على اإلغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على اإلعراب األول ال يكون يف‬
‫الكالم داللة على أ ّن شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وحينئذ فال مانع من تفسري امللة ابألحكام الشرعية كلها االعتقادية والعملية ‪ ،‬أما اإلعراابن‬
‫اآلخران فإّنّما يدالن على احتاد الشريعتني ‪ ،‬وعلى هذا ينبغي قصر امللة على األحكام األصلية‬
‫املتعلقة ابالعتقاد ‪ ،‬إذ ال شك أّنا واحدة يف شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصالة والسالم ‪ ،‬بل‬
‫ع لح مك ْم ِم حن‬
‫هي واحدة يف مجيع الشرائع مل تتغري بتغري األزمان واألقوام ‪ ،‬اقرأ قوله تعاىل ‪ :‬حش حر ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وما و َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِّدي ِن ما و َّ ِ‬
‫يموا‬
‫يم حومموسى حوعيسى أح ْن أحق م‬ ‫ص ْينا به إِبْراه ح‬ ‫صى بِه نموحاً حوالَّذي أ ْحو حح ْينا إِل ْحي ح ح ح‬ ‫ح‬
‫ِ‬
‫ول إَِّال نموحي‬ ‫ِ‬
‫ك م ْن حر مس ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين حوال تحتح حف َّرقموا فيه [الشورى ‪ ]13 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬حوما أ ْحر حسلْنا م ْن قح ْبل ح‬ ‫ِ‬
‫ال ّد ح‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬ ‫ون (‪[ )25‬األنبياء ‪ ]25 :‬وقول النيب صلّى ّ‬ ‫إِل ْحيهِ أحنَّهم ال إِلهح إَِّال أح حان فحا ْعب مد ِ‬
‫م‬
‫عالت» «‪»1‬‬
‫«األنبياء أوالد ّ‬
‫يريد أن إمياّنم واحد وشرائعهم خمتلفة ‪ ،‬وعلى هذا يكون ختصيص إبراهيم عليه الصالة والسالم‬
‫اّلل عليه وسلّم بشريعته إذ إ ّن أكثرهم من نسل‬
‫ليقوي متسك املؤمنني من أمة حممد صلّى ّ‬
‫ّ‬ ‫ابلذكر‬
‫يقوي‬
‫شك أ ّن هذا احلب ّ‬
‫إبراهيم عليه الصالة والسالم ‪ ،‬فهم حيبونه حب األبناء لآلابء ‪ ،‬وال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬إذ كانت هي شريعة أبيهم‬
‫فيهم روح االستمساك بشريعة نبيهم حممد صلّى ّ‬
‫إبراهيم من قبل‪ .‬وقد تبني لك من هذا معىن أبوة إبراهيم عليه الصالة والسالم للمؤمنني من هذه‬
‫األمة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وحممد صلّى‬
‫ويصح أن يقال ‪ :‬إنه عليه الصالة والسالم أب لنبينا حممد صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم كاألب ألمته من حيث إنه سبب حلياهتم السعيدة يف اآلخرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 43 ، )1837 /4‬كتاب الفضائل ‪ - 40 ،‬ابب فضائل‬
‫عيسى حديث رقم (‪ ، )2365 /143‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 60 ، )171 /4‬كتاب‬
‫األنبياء ‪ - 48 ،‬ابب (و اذكر يف الكتاب) حديث رقم (‪.)3442‬‬

‫ص ‪526 :‬‬
‫ني ِم ْن قح ْب مل ويف هذا اختلف العلماء يف مرجع الضمري من قوله ‪ :‬مه حو حمسَّا مك مم‬ ‫ِ‬
‫مه حو حمسَّا مك مم ال مْم ْسل ِم ح‬
‫فعن ابن زيد واحلسن ‪ :‬أن الضمري إلبراهيم عليه الصالة والسالم ‪ ،‬مساان املسلمني قبل نزول‬
‫القرآن ‪ ،‬وذلك ظاهر ‪ ،‬ومساان املسلمني يف القرآن ألنه تسبب يف هذه التسمية بقوله ‪ :‬حربَّنا‬
‫اّلل دعاءه ‪،‬‬ ‫حك [البقرة ‪ ]128 :‬فلما استجاب ّ‬ ‫حك حوِم ْن ذم ِّريَّتِنا أ َّممةً مم ْسلِ حمةً ل ح‬ ‫اج حعلْنا مم ْسلِ حم ْ ِ‬
‫ني ل ح‬ ‫حو ْ‬
‫وجعلنا أمة مسلمة من ذريته ‪ ،‬كان إبراهيم كأنّه مساان مسلمني‪.‬‬
‫اّلل جل شأنه ‪ ،‬ويؤيد هذا الرأي قراءة‬
‫املسمي هو ّ‬
‫وذهب ابن عباس وجماهد والضحاك إىل أن ّ‬
‫(اّلل مساكم املسلمني) وابقاء اإلسناد على ظاهره خري من التأويل فيه ‪ ،‬وجعله‬
‫أيب بن كعب ّ‬
‫مستعمال يف حقيقته وجمازه‪.‬‬
‫ول حش ِهيداً عحلحيْ مك ْم إما الم العاقبة ‪ ،‬وهي متعلقة بسماكم على‬ ‫والالم يف قوله تعاىل ‪ :‬لِيح مكو حن َّ‬
‫الر مس م‬
‫الوجهني يف ضمريه ‪ ،‬وشهادة الرسول على أمته معناها اإلخبار أبنّه قد بلّغهم رسالة ربه ‪ ،‬وإما‬
‫الم التعليل‪.‬‬
‫وعلى يف قوله ‪ :‬حعلحْي مك ْم مبعىن الالم ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪ :‬حوما ذمبِ حح حعلحى الن م‬
‫ُّص ِ‬
‫ب [املائدة ‪]3 :‬‬
‫اّلل يوم القيامة ‪ ،‬ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على‬
‫ومعىن شهادة الرسول هلم أن يزكيهم عند ّ‬
‫األمم السابقني ويكون التعبري بعلى ملا يف الشهيد من معىن الرقيب واملهيمن‪.‬‬
‫ول حش ِهيداً‬ ‫وقد تبني لك أنّه ال بد على هذين الوجهني من التأويل يف قوله تعاىل ‪ :‬لِيح مكو حن َّ‬
‫الر مس م‬
‫حعلحْي مك ْم إما يف (الالم) وإما يف كلمة (على) والسبب يف ذلك هو أنه مل يظهر للقائلني هبما الوجه‬
‫يف أن يعلل تعديل هذه األمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها ‪ ،‬إذ املستقيم إمنا هو‬
‫تعليل ذلك بقبول شهادهتا على غريها‪.‬‬
‫واحلق أنه ال حاجة لذلك التأويل ‪ ،‬وال مانع من بقاء كل من ‪ :‬على والالم على أصل معناه ‪،‬‬
‫ويكون قول شهادة الرسول صلّى هللا عليه وسلّم على األمة علة يف احلكم بعدالة ذلك احلكم‬
‫الذي دلّت عليه تسميته مسلما ‪ ،‬إذ ال شك أنه صلّى هللا عليه وسلّم مسلم ّّلل ‪ ،‬وأنه سيد‬
‫ِ‬
‫ني دخوال أوليا ‪ ،‬ويكون قبول الشهادة‬‫املسلمني ‪ ،‬فهو داخل يف قوله تعاىل ‪ :‬مه حو حمسَّا مك مم ال مْم ْسل ِم ح‬
‫من أمته على األمم األخرى علة يف تسميتها مسلمة كذلك‪ .‬ويكون يف الكالم تفصيل يف‬
‫الشهادة بعد إمجال يف التسمية ابملسلمني ‪ ،‬وهذا وجه وجيه ال خفاء فيه‪.‬‬
‫اّلل تعاىل‬
‫قد يقال ‪ :‬إنه بعد هذا كله ال يظهر التعليل إال إذا كانت التسمية ابملسلمني واقعة من ّ‬
‫اّلل مسلمني هذه التسمية الدالّة على‬
‫‪ ،‬كما هو أحد الرأيني ‪ ،‬فإنّه واضح جدا أن يقال ‪ :‬مساهم ّ‬
‫حكمه بعدالتهم ‪ ،‬ليقبل شهادهتم على غريهم ‪ ،‬أما إذا كانت‬

‫ص ‪527 :‬‬
‫التسمية من إبراهيم عليه الصالة والسالم كما هو الرأي اآلخر ‪ ،‬فال يظهر ذلك التعليل ‪ ،‬إذ‬
‫اّلل‬
‫تضمنت حكمه بعدالتهم ‪ ،‬ليقبل ّ‬
‫يكون معىن الكالم عليه ‪ :‬مساهم إبراهيم هذه التسمية اليت ّ‬
‫شهادهتم على الناس يوم القيامة وفيه ما ترى‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فكأ ّن احلكم بعدالتهم‬
‫أقرها ّ‬
‫واجلواب ‪ :‬أ ّن تسمية سيدان إبراهيم إايهم ابملسلمني قد ّ‬
‫اّلل هو الذي ع ّدهلم ليقبل شهادهتم ‪ ،‬وهذا اجلواب مستقيم وال‬
‫صادر منه جل شأنه ‪ ،‬فيكون ّ‬
‫غبار عليه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت هبا شرف عظيم له‬
‫وبعد ‪ ...‬فشهادة النيب صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل يص ّدق قوله يوم القيامة على أمته يف دعوى‬
‫عليه الصالة والسالم وهلذه األمة ‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫تبليغه إايها ‪ ،‬لكن سائر املرسلني مع عصمتهم سوف حيتاجون إلثبات ما ي ّدعون على أقوامهم‬
‫وجل‪.‬‬
‫عز ّ‬ ‫اّلل ّ‬
‫إىل من يشهد هلم بني يدي ّ‬
‫اّلل أبن جعلها أهال للشهادة على سائر األمم ‪ ،‬فهي تشهد على الناس‬
‫شرفها ّ‬
‫وكذلك هذه األمة ّ‬
‫مجيعا ‪ ،‬وال يشهد عليها أحد منهم ‪ ،‬إمنا الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف اخللق‬
‫أمجعني‪ .‬ويف هذا فضل كبري‪.‬‬
‫حوتح مكونموا مش حهداءح عحلحى الن ِ‬
‫َّاس ورد أنه يؤتى ابألمم وأنبيائهم فيقال لألنبياء ‪ :‬هل بلغتم أِمكم ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬نعم بلغناهم ‪ ،‬فينكرون فيؤتى هبذه األمة فيشهدون أّنّم قد بلغوا ‪ ،‬فتقول األمم هلم ‪:‬‬
‫اّلل تعاىل يف كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق‪.‬‬
‫من أين عرفتم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬عرفنا ذلك إبخبار ّ‬
‫ص مموا ِاب َّّللِ قد سبق لك معىن إقامة الصالة‪ .‬أما االعتصام فمعناه‬
‫الزكاةح وا ْعتح ِ‬
‫الصالةح حوآتموا َّ ح‬
‫يموا َّ‬‫ِ‬
‫فحأحق م‬
‫ابّلل هو الثقة به ‪ ،‬وااللتجاء‬
‫اختاذ العصمة ‪ ،‬وهي ما يعصم الشيء ومينعه ِما يضره‪ .‬فاالعتصام ّ‬
‫ابّلل هو االستمساك‬
‫كل مكروه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن االعتصام ّ‬
‫إليه ‪ ،‬واالستعانة بقوته العظمى على دفع ّ‬
‫بدينه والتزام شريعته‪.‬‬
‫وهذه اجلملة مرتبة ابلفاء على ما قبلها ‪ ،‬من اجتباء املخاطبني ‪ ،‬وتسميتهم مسلمني ‪ ،‬وتشريفهم‬
‫بقبول شهادهتم على األمم‪.‬‬
‫اّلل األوامر يف هاتني اآليتني ابألمر إبقام الصالة مع سبق األمر هبا يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫وقد ختم ّ‬
‫ج مدوا على ما علمت ‪ ،‬مث عطف عليه األمر إبيتاء الزكاة ملا تقدم لك كثريا من أّنما‬
‫اس م‬
‫ْارحكعموا حو ْ‬
‫أس الفالح ‪ ،‬مث أتبعهما األمر ابالعتصام به سبحانه وتعاىل ‪ ،‬فإن هذا االعتصام هو‬
‫أصل اخلري و ّ‬
‫ابّلل نصره ‪ ،‬ومن الذ حبماه ّأمنه ‪ ،‬ومن استعان‬
‫مبعث القوة ‪ ،‬وهو سبيل الفوز ‪ ،‬فمن استنصر ّ‬
‫يسر له أمره ‪ ،‬وأمكنه ِما يريد‪.‬‬
‫بقوته ّ‬
‫مه حو املوىل يطلق على معان ‪ :‬منها املالك ‪ ،‬والناصر ‪ ،‬واملعتق ‪ ،‬واجلار ‪ ،‬وابن العم ‪ ،‬واحلليف‪.‬‬
‫وأوالها األول ‪ ،‬ويف هذه اجلملة مه حو حم ْوال مك ْم عدة مجيلة ‪،‬‬

‫اّلل ‪ ،‬وهي‬
‫وتقوي القلب ‪ ،‬وتوجب االطمئنان وحسن االعتماد على ّ‬
‫ص ‪ 528 :‬تش ّد العزم ‪ّ ،‬‬
‫يف منزلة العلة ملا قبلها من األمر ابالعتصام ‪ ،‬فلذلك فصلت عنه‪.‬‬
‫ابّلل ‪ ،‬واجلؤوا إليه ‪ ،‬واحتموا حبمايته ‪ ،‬ألنّه هو مالككم وخالقكم ‪ ،‬يغار عليكم ‪،‬‬
‫واملعىن ‪ :‬ثقوا ّ‬
‫وحيفظكم ‪ ،‬ويدفع املكروه عنكم‪.‬‬
‫فحنِ ْعم الْموىل ونِ ْعم الن ِ‬
‫َّصريم النصري العظيم النصرة ‪ ،‬الكامل املعونة‪.‬‬ ‫ح حْ ح ح‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫واملخصوص ابملدح ضمري يرجع إىل ّ‬

‫ص ‪529 :‬‬
‫من سورة النور‬
‫ضناها وأحنْ حزلْنا فِيها ٍ‬
‫آايت ب يِّ ٍ‬
‫نات ل ححعلَّ مك ْم تح حذ َّك مرو حن (‪)1‬‬ ‫ح‬ ‫ورةٌ أحنْ حزلْناها حوفح حر ْ ح‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬مس ح‬
‫قال ّ‬
‫ضناها الفرض ‪ :‬قطع الشيء الصلب ‪ ،‬والتأثري فيه ‪ ،‬واملراد به هنا اإلجياب على أمت وجه ‪،‬‬
‫حوفح حر ْ‬
‫أي أوجبنا ما فيها من األحكام إجيااب قطعيا‪.‬‬
‫آايت ب يِّ ٍ‬
‫نات ترد اآلية يف القرآن مبعىن الكالم املتصل إىل مقطعه االصطالحي ومبعىن العالمة ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ح‬
‫نات واضحة الداللة على أحكامها‪ .‬مثل اآلايت اليت نيطت هبا أحكام‬ ‫آايت ب يِّ ٍ‬
‫ويف هذه السورة ٍ‬
‫ح‬
‫الزّن ‪ ،‬والقذف ‪ ،‬واللعان ‪ ،‬واحللف على ترك اخلري ‪ ،‬واالستئذان ‪ ،‬وغض البصر ‪ ،‬وإبداء الزينة‬
‫للمحارم وغري احملارم ‪ ،‬وإنكاح األايمى ‪ ،‬واستعفاف من مل جيد نكاحا ‪ ،‬ومكاتبة األرقاء ‪ ،‬وإكراه‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬والسالم على املؤمنني‪ .‬إىل كثري من‬
‫الفتيات على البغاء ‪ ،‬وطاعة الرسول صلّى ّ‬
‫األحكام اليت ذكرت يف هذه السورة‪.‬‬
‫ويف هذه السورة أيضا طائفة من اآلايت الكونية ‪ ،‬والظواهر الطبيعية ‪ ،‬فيها دالالت واضحة ‪،‬‬
‫اّلل وكمال قدرته ‪ :‬مثل النور والظلمة ‪ ،‬والتأليف بني السحاب ‪،‬‬
‫وحجج قاطعة ‪ ،‬على توحيد ّ‬
‫وإنزال املطر من خالله ‪ ،‬ووميض الربق وملعانه ‪ ،‬وتقليب الليل والنهار ‪ ،‬واختالف احليواانت يف‬
‫أشكاهلا وهيئاهتا وطبائعها ‪ ،‬مع احتاد املادة اليت منها خلقت ‪ ،‬إىل غري ذلك من حجج التوحيد‬
‫وشواهد القدرة‪.‬‬
‫كل من املعنيني ‪ -‬الكالم والعالمة ‪ -‬حقيقي علمت أ ّن كلمة‬
‫وإذا علمت أ ّن إطالق اآلية على ّ‬
‫آية مشرتك لفظي ‪ ،‬فمن أجاز استعمال املشرتك يف معنييه ال مانع عنده من إرادة املعنيني مجيعا‬
‫يف قوله تعاىل ‪ :‬وأحنْ حزلْنا فِيها ٍ‬
‫آايت ب يِّ ٍ‬
‫نات ومن أّب استعمال املشرتك يف معنييه حيتّم إرادة أحد‬ ‫ح‬ ‫ح‬
‫املعنيني ال غري ‪ ،‬فيحتمل أن يكون املراد ابآلايت اآلايت اليت نيطت هبا األحكام يف هذه السورة‬
‫‪ ،‬ومعىن كوّنا بينات أّنا واضحة الداللة على ما نيط هبا من األحكام ‪ ،‬وحيتمل أن يكون املراد‬
‫ابآلايت ما يف هذه السورة من دالئل التوحيد ‪ ،‬وشواهد القدرة ‪ ،‬ومعىن كوّنا بينات أن داللتها‬
‫ضناها إشارة إىل‬
‫على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا االحتمال يكون قوله تعاىل ‪ :‬حوفح حر ْ‬
‫األحكام واحلدود املبينة يف السورة‪ .‬وقوله تعاىل ‪ :‬وأحنْ حزلْنا فِيها ٍ‬
‫آايت ب يِّ ٍ‬
‫نات إشارة إىل آايت‬ ‫ح‬ ‫ح‬
‫التوحيد ‪ ،‬ويؤيّد هذا االحتمال قوله تعاىل ‪ :‬ل ححعلَّ مك ْم تح حذ َّك مرو حن فإ ّن معىن التذكر أن يعاد إىل الذاكرة‬
‫ما كان معلوما ‪ ،‬واألحكام اليت يف هذه السورة مل تكن معلومة هلم‬

‫ص ‪530 :‬‬
‫حىت يتذكروها ‪ ،‬ولكن دالئل التوحيد وشواهده معروفة للناس ‪ ،‬ولكنهم مل يفطنوا هلا ‪ ،‬فهم‬
‫ليسوا يف حاجة إىل أكثر من أن يلتفتوا إليها فيتذكروها بعد النسيان‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬هذه سورة أنزلناها ‪ ،‬وفرضنا ما فيها من أحكام ‪ ،‬وأنزلنا فيها دالئل وعالمات على‬
‫جل شأنه‪.‬‬
‫اّلل وكمال قدرته ‪ ،‬لتتذكروها ‪ ،‬فتعتقدوا وحدانيته وقدرته ّ‬
‫توحيد ّ‬
‫ومعلوم أن إنزال السورة كلها يستلزم إنزال هذه اآلايت منها ‪ ،‬فيكون التكرار يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اخلاص بعد العام‪.‬‬ ‫نات لكمال العناية بشأّنا ‪ ،‬كما هي احلال يف ذكر‬ ‫آايت ب يِّ ٍ‬ ‫وأحنْ حزلْنا فِيها ٍ‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجلِ مدوا مكلَّ واح ٍد م ْن مهما مائحةح حجلْ حدةٍ حوال حأتْ مخ ْذ مك ْم هبِِما حرأْفحةٌ ِيف ِدي ِن‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫َّاين فح ْ‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪ )2‬الزّن مقصور يف‬ ‫اّللِ إِ ْن مكْن تم ْم تم ْؤِمنمو حن ِاب َّّللِ حوالْيح ْوم ْاآل ِخ ِر حولْيح ْش حه ْد حع ح‬
‫ذاهبمما طائِحفةٌ م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫َّ‬
‫اللغة الفصحى ‪ ،‬وهي لغة احلجازيني‪ .‬وقد مي ّد يف لغة أهل جند‪.‬‬
‫والزّن من الرجل وطء املرأة يف قبل من غري ملك وال شبهة ملك ‪ ،‬والزّن من املرأة متكينها‬
‫الرجل أن يزين هبا‪.‬‬
‫واجللد بفتح اجليم ‪ :‬ضرب اجللد بكسرها‪ .‬وقد جاء صوغ فعل مفتوح العني من أمساء األعيان‬
‫يقال ‪ :‬رأسه ‪ ،‬وظهره ‪ ،‬وبطنه ‪ ،‬وفأده ‪ ،‬وحسه ‪ :‬إذا أصاب رأسه وظهره وبطنه وفؤاده وحسه‪.‬‬
‫وجوز الراغب أن يكون معىن جلده ضربه ابجللد مثل ‪ :‬عصاه ضربه ابلعصا ‪ ،‬وسافه ضربه‬
‫ّ‬
‫ابلسيف ‪ ،‬ورحمه أي طعنه ابلرمح‪.‬‬
‫والرأفة ‪ :‬الشفقة والعطف‪.‬‬
‫اّللِ يف طاعته وإقامة ح ّده الذي شرعه‪.‬‬
‫ِيف ِدي ِن َّ‬
‫ذاهبمما شهد كسمع شهودا ‪ :‬حضر‪.‬‬ ‫حولْيح ْش حه ْد حع ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طائِحفةٌ م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني الطائفة يف األصل اسم فاعل مؤنّث من الطواف ‪ ،‬وهو الدوران ‪ ،‬واإلحاطة ‪،‬‬
‫فهي إما صفة مفرد مؤنث أي نفس طائفة ‪ ،‬فتطلق حينئذ على الرجل الواحد‪ .‬وإما صفة مجاعة‬
‫‪ ،‬أي مجاعة طائفة ‪ ،‬فتطلق على من فوق الواحد‪.‬‬
‫ويكاد اللغويون جيمعون على أنه يقال للواحد طائفة كما يقال ملن فوقه طائفة‪.‬‬
‫ويف املراد هبا هنا أقوال سنبينها فيما بعد‪.‬‬
‫اجلِ مدوا إخل شروع يف تفصيل األحكام اليت أشري إليها يف قوله جل‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫َّاين فح ْ‬
‫جل شأنه الزَّانِيحةم عند سيبويه واخلليل على أنه مبتدأ ‪ ،‬خربه‬
‫ضناها والرفع يف قوله ّ‬ ‫شأنه ‪ :‬حوفح حر ْ‬
‫حمذوف ‪ ،‬والكالم على حذف مضاف ‪ ،‬والتقدير ‪ِ :‬ما يتلى عليكم حكم الزانية والزاين ‪ ،‬ويفهم‬
‫من كالم سيبويه يف «الكتاب» أن النهج املألوف‬

‫ص ‪531 :‬‬
‫يف كالم العرب ‪ -‬إذا أرادوا بيان معىن وتفصيله اعتناء بشأنه ‪ -‬أن يذكروا قبله ما هو عنوان‬
‫وترمجة له ‪ ،‬وهذا ال يكون إال أبن يبىن الكالم على مجلتني‪.‬‬
‫اّلل يف الزّن ابملرأة ويف السرقة ابلرجل؟‬
‫وقد يقال ‪ :‬ما احلكمة يف أن بدأ ّ‬
‫واجلواب ‪ :‬إن الزّن من املرأة أقبح ‪ ،‬فإنّه يرتتب عليه تلطيخ فراش الرجل ‪ ،‬وفساد األنساب ‪،‬‬
‫وعار على العشرية أشد وألزم ‪ ،‬والفضيحة ابحلمل منه أظهر وأدوم ‪ ،‬فلهذا كان تقدميها على‬
‫الرجل أهم‪.‬‬
‫وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال ‪ ،‬وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر ‪ ،‬فق ّدموا‬
‫عليهن لذلك‪.‬‬
‫ّ‬
‫ح ّد الزّن‬
‫جل شأنه ‪ :‬حو َّ‬
‫الالِيت‬ ‫اّلل علينا يف سورة النساء من قوله ّ‬ ‫قصه ّ‬ ‫كان حد الزّن يف أول اإلسالم ما ّ‬
‫ِ‬ ‫ْفاح ح ِ‬ ‫أيْتِني ال ِ‬
‫وه َّن ِيف الْب ي ِ‬
‫وت‬ ‫مم‬ ‫استح ْش ِه مدوا عحلحيْ ِه َّن أ ْحربح حعةً منْ مك ْم فحِإ ْن حش ِه مدوا فحأ ْحم ِس مك م‬
‫شةح م ْن نِسائِ مك ْم فح ْ‬ ‫ح ح‬
‫ياّنا ِم ْن مك ْم فحآذم م‬
‫ومها فحِإ ْن اتاب‬ ‫ذان أيْتِ ِ‬
‫ِ‬
‫اّللم حهلم َّن حسبِ ًيال (‪ )15‬حوالَّ ح‬ ‫ت أ ْحو حْجي حع حل َّ‬ ‫حح َّىت يحتح حوفَّ م‬
‫اه َّن ال حْم ْو م‬
‫اّللح كا حن تح َّواابً حرِحيماً (‪[ )16‬النساء ‪ ]16 ، 15 :‬فكانت عقوبة‬ ‫ضوا حع ْن مهما إِ َّن َّ‬ ‫حصلححا فحأح ْع ِر م‬ ‫حوأ ْ‬
‫يعري ويؤذى ابلقول ‪ ،‬مث نسخ ذلك بقوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم‬ ‫املرأة أن حتبس ‪ ،‬وعقوبة الرجل أن ّ‬
‫اح ٍد ِمْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ‪.‬‬ ‫َّاين فحاجلِ مدوا مكلَّ و ِ‬
‫حوالز ِ ْ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬كان نيب ّ‬
‫أخرج مسلم وأبو داود والرتمذي «‪ »1‬عن عبادة بن الصامت رضي ّ‬
‫اّلل تعاىل عليه ذات يوم ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم إذا نزل عليه كرب لذلك ‪ ،‬وتربّد وجهه ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل هلن سبيال ‪ :‬البكر‬
‫سري عنه قال ‪« :‬خذوا عين ‪ ،‬خذوا عين ‪ ،‬فقد جعل ّ‬
‫فلما ّ‬
‫فلقي كذلك ‪ّ ،‬‬
‫ابلبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب ابلثيب جلد مئة والرجم»‪.‬‬
‫تغري‪.‬‬
‫معىن تربّد ‪ّ :‬‬
‫شةح ِم ْن‬ ‫الالِيت أيْتِني ال ِ‬
‫ْفاح ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حو َّ ح ح‬ ‫اّلل عنهما قال ‪ :‬قال ّ‬ ‫وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي ّ‬
‫ياّنا ِمنْ مك ْم فنسخ‬
‫ذان أيْتِ ِ‬
‫ِ‬
‫نسائ مك ْم إىل قوله ‪ :‬حسبِ ًيال فذكر الرجل بعد املرأة ‪ ،‬مث مجعهما فقال ‪ :‬حوالَّ ح‬
‫ِ ِ‬
‫واح ٍد ِم ْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ وتق ّدم لك يف‬
‫َّاين فحاجلِ مدوا مكلَّ ِ‬
‫اّلل ذلك آبية اجللد فقال ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬ ‫ّ‬
‫تفسري هاتني اآليتني ما يغين عن اإلعادة ‪ ،‬فارجع إليه يف سورة النساء‪.‬‬
‫اح ٍد ِمْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ أ ّن أولياء األمر من‬
‫َّاين فحاجلِ مدوا مك َّل و ِ‬
‫ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )316 /3‬كتاب احلدود ‪ - 3 ،‬ابب حد الزان ‪ ،‬حديث‬
‫رقم (‪ ، )1690 /13‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )32 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب الرجم‬
‫حديث رقم (‪ ، )1434‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )135 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب يف الرجم‬
‫حديث رقم (‪.)4415‬‬

‫ص ‪532 :‬‬
‫لكن‬
‫احلكام مكلّفون أن جيلدوا من زّن من ذكر أو أنثى مئة جلدة ‪ ،‬سواء احملصن منهم وغريه‪ّ .‬‬
‫اّلل عنهم ومن‬
‫فرقت يف احلد بني احملصن وغري احملصن‪ .‬وأمجع الصحابة رضي ّ‬ ‫السنة القطعية ّ‬
‫تق ّدم من السلف وعلماء األمة ‪ ،‬وأئمة املسلمني على أن من زّن وهو حمصن فإنّه يرجم حىت‬
‫ميوت ‪ ،‬وال نعلم خالفا يف ذلك ألحد إال بعض املبتدعة من اخلوارج ‪ ،‬فإّنّم قالوا ‪ :‬إن الرجم‬
‫اّلل‪.‬‬
‫وسنبني فساد مذهبهم إن شاء ّ‬
‫غري مشروع ‪ ،‬وإنه ال فرق يف احل ّد بني احملصن وغري احملصن ‪ّ ،‬‬
‫والقائلون أبن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه ‪ ،‬أهو متام ما على احملصن من العذاب ‪ ،‬أم هو‬
‫واجللد قبله حد احملصن‪.‬‬
‫اّلل‬
‫األول ذهب مجهور الصحابة والتابعني وفقهاء األمصار ‪ ،‬وإىل الثاين ذهب علي رضي ّ‬
‫فإىل ّ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫عنه وإسحاق وأهل الظاهر ‪ ،‬وهو رواية عن أمحد رمحه ّ‬
‫فعلى رأي اجلمهور يكون املراد ابلزانية يف اآلية الكرمية البكرين ‪ ،‬وتكون اآلية خمصوصة ابلسنة‬
‫اّلل»‬
‫القطعية ‪ ،‬أو ابآلية املنسوخة التالوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة نكاال من ّ‬
‫على كالم فيها‪.‬‬
‫وعلى رأي أهل الظاهر ‪ ،‬تكون اآلية ابقية على عمومها ‪ ،‬ويكون الرجم حكما زائدا يف ح ّق‬
‫احملصن ثبت ابلسنة‪.‬‬
‫اح ٍد ِم ْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ أنّه يشمل‬
‫الز ِاين فحاجلِ مدوا مك َّل و ِ‬
‫ْ‬ ‫والظاهر أيضا من قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حو َّ‬
‫شةٍ‬ ‫ص َّن فحِإ ْن أحتحني بِ ِ‬
‫مح ِ‬
‫فاح ح‬ ‫ْح‬ ‫الرقيق وغريه ‪ ،‬فيكون احل ّد يف اجلميع واحدا ‪ ،‬لكن قوله تعاىل ‪ :‬فحِإذا أ ْ‬
‫ذاب أخرج اإلماء من هذا احلكم ‪ ،‬فإ ّن اآلية نزلت‬ ‫نات ِم حن ال حْع ِ‬ ‫ف ما عحلحى الْم ْحص ِ‬
‫م ح‬ ‫فح حعلحيْ ِه َّن نِ ْ‬
‫ص م‬
‫فيهن ‪ ،‬وكذلك أخرج العبيد ‪ ،‬ألنّه ال فرق بني الذكر واألنثى بتنقيح املناط‪.‬‬
‫َّاين يقتضي وجوب املائة على العبد واألمة‬ ‫وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫‪ ،‬إال أنه ورد النص ابلتنصيف يف حق األمة ‪ ،‬فلو قسنا العبد عليها لزم ختصيص عموم الكتاب‬
‫ابلقياس ‪ ،‬يعين وهم ال يقولون به‪.‬‬
‫ومن الظاهرية من قال ‪ :‬األمة إذا تزوجت فح ّدها يف الزّن مخسون جلدة لقوله تعاىل ‪ :‬فحِإذا‬
‫ص َّن إخل‪ .‬فإذا مل تتزوج فح ّدها مئة جلدة للعموم يف كلمة الزَّانِيحةم‪.‬‬
‫مح ِ‬
‫أْ‬
‫ومجهور الفقهاء على رد هذين الرأيني مبا سلف لك هنا ويف سورة النساء‪.‬‬
‫وكذلك عموم قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫َّاين إخل يشمل املسلم والكافر‪ .‬غري أن احلريب ملا يلتزم‬
‫أحكامنا ‪ ،‬ومل تنله يدان كان خارجا من هذا احلكم ‪ ،‬وبقي العموم فيمن عداه من املسلمني وأهل‬
‫الذمة‪ .‬وهبذا قال مجهور الفقهاء‪.‬‬
‫مبين على أ ّن الكفار ليسوا‬
‫اّلل أن الذمي ال جيلد إذا زّن ‪ ،‬قيل ‪ :‬وهو ّ‬
‫وروي عن مالك رمحه ّ‬
‫خماطبني بفروع الشريعة‪.‬‬

‫ص ‪ 533 :‬وظاهر اآلية أيضا أ ّن مئة اجللدة هي متام حد البكر ‪ ،‬فإ ّن قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫َّاين‬
‫واح ٍد ِم ْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ قصد به بيان حكم الزّن ‪ ،‬فكان املذكور متام حكمه ‪ ،‬أل ّن‬
‫فحاجلِ مدوا مك َّل ِ‬
‫ْ‬
‫السكوت يف مقام البيان يفيد احلصر ‪ ،‬فيفهم منه أ ّن حكم الزانية والزاين ليس إال اجللد ‪ ،‬فمن‬
‫زاد على اجللد تغريب عام عمل ابلسنة ‪ ،‬وجعلها حكما على ظاهر الكتاب‪.‬‬
‫ويرى الفقهاء مجيعا ما عدا أهل الظاهر أ ّن حد الرقيق مطلقا نصف حد احلر ‪ ،‬ال فرق بني الذكر‬
‫واألنثى ‪ ،‬وال بني الثيب والبكر‪.‬‬
‫خاص ابألمة ‪ ،‬أما العبد فهو كاحلر البكر يف احلد‪.‬‬
‫ويرى بعض أهل الظاهر أ ّن التنصيف ّ‬
‫ويرى بعض آخر منهم أ ّن التنصيف خاص ابألمة املتزوجة‪ّ .‬أما األمة غري املتزوجة والعبد فح ّدمها‬
‫ح ّد احلر البكر‪.‬‬
‫أدلة اخلوارج والرد عليها‬
‫استدل اخلوارج على أ ّن الرجم غري مشروع بثالثة أدلة ‪:‬‬
‫ص َّن فحِإ ْن أحتحني بِ ِ‬
‫ف ما حعلحى‬ ‫شةٍ فح حعلحْي ِه َّن نِ ْ‬
‫ص م‬ ‫فاح ح‬ ‫ْح‬ ‫مح ِ‬
‫اّلل تعاىل قال يف حق اإلماء ‪ :‬فحِإذا أ ْ‬ ‫األول ‪ :‬أن ّ‬
‫ذاب [النساء ‪ ]25 :‬فجعل حد اإلماء نصف حد احملصنات من احلرائر‪.‬‬ ‫نات ِم حن ال حْع ِ‬
‫الْم ْحص ِ‬
‫م ح‬
‫يصح أن يكون ح ّدا للمحصنات من احلرائر‪.‬‬ ‫يتنصف ‪ ،‬فال ّ‬ ‫والرجم ال ّ‬
‫فصل أحكام الزّن وأطنب فيها مبا مل يطنب يف غريها ‪ ،‬والرجم أقصى‬ ‫اّلل تعاىل ّ‬ ‫والثاين ‪ :‬أن ّ‬
‫العقوابت وأشدها ‪ ،‬فلو كان مشروعا كان أوىل ابلذكر‪.‬‬
‫اح ٍد ِم ْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ يقتضي وجوب‬ ‫َّاين فحاجلِ مدوا مكلَّ و ِ‬
‫والثالث ‪ :‬أن قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬
‫اجللد وعمومه لكل الزانة‪ .‬وإجياب الرجم على بعضهم يقتضي ختصيص عموم القرآن خبرب الواحد‬
‫‪ ،‬وهو غري جائز على مذهبهم‪.‬‬
‫ف ما حعلحى‬ ‫وأجاب اجلمهور على األول أبن املراد من احملصنات يف قوله تعاىل ‪ :‬فح حعلحْي ِه َّن نِ ْ‬
‫ص م‬
‫ذاب احلرائر‪ .‬واحلرائر نوعان ‪ :‬ثيبات وأبكار ‪ ،‬وحد النوعني على التوزيع‬ ‫نات ِم حن ال حْع ِ‬
‫الْم ْحص ِ‬
‫م ح‬
‫يتنصف كان العذاب خمصوصا بغري الرجم للدليل العقلي ‪،‬‬ ‫الرجم وجلد مئة ‪ ،‬وملا كان الرجم ال ّ‬
‫وكان الرجم غري مشروع يف حق األرقاء‪ .‬وتق ّدم لك شيء من هذا يف تفسري قوله تعاىل ‪ :‬فح حعلحْي ِه َّن‬
‫نات ِم حن ال حْع ِ‬
‫ذاب يف سورة النساء‪.‬‬ ‫ف ما حعلحى الْم ْحص ِ‬
‫م ح‬ ‫نِ ْ‬
‫ص م‬
‫وعن الثاين أبن األحكام الشرعية كانت تنزل حبسب جت ّدد املصاحل فلعل املصلحة اليت اقتضت‬
‫وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه اآلايت ‪ ،‬وكفى ابلسنة ووظيفتها البيان والتكميل ‪ -‬بياان‬
‫وتفصيال‪.‬‬

‫ص ‪534 :‬‬
‫وعن الثالث أب ّن ختصيص عموم القرآن خبرب الواحد جائز عندان ‪ ،‬أل ّن اللفظ العام يف القرآن‬
‫الكرمي وإن كان قطعيا يف متنه ظين يف داللته ‪ ،‬فأمكن ختصيصه ابلدليل املظنون ‪ ،‬وإن سلمنا أ ّن‬
‫خرب اآلحاد ال خيصص القرآن فال نسلم أ ّن الرجم ثبت بطريق اآلحاد ‪ ،‬بل هو اثبت ابلتواتر‪.‬‬
‫اّلل عنهم وجابر وأبو سعيد اخلدري وبريدة األسلمي وزيد بن‬
‫رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي ّ‬
‫اّلل عليهم أمجعني فهو على األقل متواتر املعىن كشجاعة‬
‫خالد يف آخرين من الصحابة رضوان ّ‬
‫علي وجود حامت‪.‬‬
‫واآلحاد إمنا هي يف تفاصيل صوره وخصوصياته‪ .‬واخلوارج كسائر املسلمني يوجبون العمل‬
‫ابملتواتر معىن كاملتواتر لفظا إال أن احنرافهم عن الصحابة ‪ ،‬وتركهم الرتدد إىل علماء املسلمني‬
‫والرواة منهم أوقعهم يف جهاالت كثرية‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه القول ابلرجم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ليس يف كتاب ّ‬
‫ولقد عابوا على عمر بن عبد العزيز رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫تعاىل فألزمهم أبعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا ‪ :‬ذلك من فعله صلّى ّ‬
‫وفعل املسلمني‪ .‬فقال ‪ :‬وهذا أيضا كذلك‪.‬‬
‫اّلل عنه أهلم أمر هؤالء اخلوارج ‪ ،‬فقد روي عن ابن عباس أنّه قال ‪:‬‬
‫وكان عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ابحلق ‪ ،‬وأنزل‬
‫اّلل بعث حممدا صلّى ّ‬
‫اّلل عنه خيطب ويقول ‪ :‬إن ّ‬
‫مسعت عمر رضي ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫عليه الكتاب ‪ ،‬فكان ِما أنزل عليه آية الرجم فقرأانها وو عيناها ‪ ،‬ورجم رسول ّ‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬ورمجنا بعده ‪ ،‬وأخشى إن طال ابلناس زمن أن يقول قائل ما جند الرجم يف كتاب‬
‫اّلل حق على من زّن‬
‫اّلل تعاىل يف كتابه ‪ ،‬فإ ّن الرجم يف كتاب ّ‬
‫اّلل تعاىل فيضلوا برتك فريضة أنزهلا ّ‬
‫ّ‬
‫واّلل لو ال أن يقول‬
‫إذا أحصن من الرجال أو النساء ‪ ،‬قامت البينة أو كان محل أو اعرتاف ‪ّ ،‬‬
‫اّلل تعاىل لكتبتها‪ .‬أخرجه الستة «‪.»1‬‬
‫الناس زاد يف كتاب ّ‬
‫وروى الزهري إبسناده عن ابن عباس أن عمر قال ‪ :‬قد خشيت أن يطول ابلناس زمان حىت‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وقد قرأان الشيخ‬
‫اّلل تعاىل فيضلوا برتك فريضة أنزهلا ّ‬
‫يقول قائل ال جند الرجم يف كتاب ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ورمجنا بعده‪.‬‬
‫والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة ‪ ،‬فرجم النيب صلّى ّ‬
‫دليل الظاهرية والرد عليهم‬
‫استدل أهل الظاهر على وجوب اجللد والرجم يف حد احملصن ابلعموم يف اآلية مع ما رواه أبو‬
‫اّلل عنه من‬
‫داود عن عبادة بن الصامت رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬و الثيب ابلثيب جلد مئة ورمي ابحلجارة»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫ويف رواية غريه «و رجم ابحلجارة»‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1317 /3‬كتاب احلدود ‪ - 4 ،‬ابب رجم الثيب‬
‫حديث رقم (‪ ، )1691 /15‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 87 ، )32 /8‬كتاب احلدود ‪- 16 ،‬‬
‫ابب االعرتاف حديث رقم (‪ ، )6829‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )28 /4‬كتاب احلدود‬
‫‪ ،‬ابب يف حتقيق الرجم حديث رقم (‪ ، )1431‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 20 ، )853 /2‬كتاب‬
‫احلدود ‪ - 9 ،‬ابب الرجم حديث رقم (‪.)2553‬‬

‫ص ‪535 :‬‬
‫وما‬
‫اّلل وجهه من قوله حني جلد شراحة مث رمجها ‪ :‬جلدهتا بكتاب‬
‫رواه البخاري وغريه عن علي كرم ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل ورمجتها بسنة رسول ّ‬
‫ّ‬
‫وأجاب اجلمهور أبن اآلية خمصوصة وخرب أيب داود مرتوك العمل مبا‬
‫اّلل عنهما أن أعرابيا أتى النيب صلّى‬
‫رواه الستة «‪ »1‬عن أيب هريرة وزيد بن خالد اجلهين رضي ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فقال اخلصم‬
‫ابّلل إال قضيت يل بكتاب ّ‬
‫اّلل أنشدك ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل تعاىل وائذن يل‪.‬‬
‫اآلخر وهو أفقه منه ‪ :‬نعم فاقض بيننا بكتاب ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬قل»‪.‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فقال رسول ّ‬
‫فقال ‪ :‬إن ابين كان عسيفا على هذا فزّن ابمرأته ‪ ،‬وإين أخربت أ ّن على ابين الرجم فافتديت منه‬
‫مبئة شاة ووليدة ‪ ،‬فسألت أهل العلم فأخربوين أ ّن على ابين جلد مئة وتغريب عام ‪ ،‬وإن على‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬الوليدة والغنم‬
‫امرأة هذا الرجم‪ .‬فقال ‪« :‬و الذي نفسي بيده ألقضني بينكما بكتاب ّ‬
‫ر ّد عليك ‪ ،‬وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام ‪ ،‬واغد اي أنيس ‪ -‬لرجل من أسلم ‪ -‬إىل امرأة‬
‫اّلل عليه وسلّم فرمجت‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬فإن اعرتفت فارمجها» ‪ ،‬فغدا عليها فاعرتفت فأمر هبا النيب صلّى ّ‬
‫فقد دل هذا احلديث على أ ّن الرجم هو متام احلد على احملصن ‪ ،‬ولو وجب اجللد إذ ذاك لذكره‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وإ ّن قصة ما عز رويت من جهات خمتلفة وليس فيها ذكر اجللد مع الرجم ‪ ،‬وكذا قصة الغامدية‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ومل يرو أحد أنه مجع بينه وبني اجللد ‪ ،‬فقطعنا أب ّن‬
‫وقد تكرر الرجم يف زمانه صلّى ّ‬
‫حد احملصن مل يكن إال الرجم‪.‬‬
‫اّلل وجهه شراحة ‪ ،‬مث رمجه إايها فهو رأي له ال يقاوم ما ذكر من القطع عن‬
‫وأما جلد علي كرم ّ‬
‫اّلل عنهم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وكذلك ال يقاوم إمجاع غريه من الصحابة رضوان ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬أمر رسول ّ‬
‫ولعل عمله هذا حممول على مثل ما رواه أبو داود عن جابر رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم برجل زّن فجلد احلد ‪ ،‬مث أخرب أنّه حمصن فأمر به فرجم‪.‬‬‫صلّى ّ‬
‫وأيضا فإ ّن املعىن املعقول أيّب اجتماع اجللد مع الرجم ‪ ،‬ألن اجللد حينئذ يعرى عن املقصود‬
‫الذي شرع احلد ألجله ‪ ،‬وهو االنزجار أو قصده إذ كان القتل ال حقا له‪.‬‬
‫وللشافعية قاعدة يف مثل هذا وهي أن الفعل إذا كان له جهتا عموم وخصوص ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 87 ، )43 /8‬كتاب احلدود ‪ - 33 ،‬ابب هل أيمر اإلمام‬
‫حديث رقم (‪ ، )6859‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )3 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب الرجم‬
‫حديث رقم (‪ ، )1433‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )146 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب املرأة حديث‬
‫رقم (‪ ، )4445‬والنسائي يف السنن (‪ ، )622 /8 - 7‬كتاب القضاة حديث رقم (‪، )5412‬‬
‫وابن ماجه يف السنن (‪ - 20 ، )852 /2‬كتاب احلدود ‪ - 7 ،‬ابب حد الزّن حديث رقم‬
‫(‪.)2549‬‬

‫ص ‪536 :‬‬
‫وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم األمرين جبهة خصوصه ال يوجب أدوّنما جبهة‬
‫عمومه ‪ :‬مثاله خروج املين من القبل ملّا أوجب أعظم األمرين وهو الغسل خبصوص كونه خروج‬
‫مين مل يوجب أدوّنما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا ‪ ،‬كذلك زّن احملصن ملا أوجب أعظم‬
‫احلدين وهو الرجم خبصوص كونه زّن حمصن مل يوجب أدوّنما وهو اجللد بعموم كونه زّن‪.‬‬
‫أقوال الفقهاء يف النفي‬
‫مفوض إىل رأي اإلمام‬
‫علمت أن احلنفية «‪ »1‬يقولون ‪ :‬إ ّن النفي ليس من احلد يف شي ء ‪ ،‬وإنه ّ‬
‫‪ ،‬وحجتهم يف ذلك ظاهر اآلية الكرمية ‪ ،‬فإّنا اقتصرت يف مقام البيان على مئة جلدة ‪ ،‬فلو كان‬
‫اّلل عليه وسلّم يف‬
‫النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب ‪ ،‬ومجيع ما روي عن النيب صلّى ّ‬
‫النفي مل خيرج عن كونه من أخبار اآلحاد ‪ ،‬وأخبار اآلحاد ال تقوى على نسخ الكتاب ‪ ،‬ولو كان‬
‫اّلل عليه وسلّم توقيف للصحابة ‪ ،‬لئال يعتقدوا عند‬
‫النفي ح ّدا مع اجللد لكان من النيب صلّى ّ‬
‫مساع التالوة أ ّن اجللد هو مجيع احلد ‪ ،‬ولوجب أن يكون وروده يف وزن ورود نقل اآلية وشهرهتا‪.‬‬
‫فلما مل يكن خرب النفي هبذه املنزلة ‪ ،‬بل كان وروده من طريق اآلحاد ثبت أنه ليس حبد‪.‬‬
‫وقد روى الستة «‪ »2‬غري النسائي عن أيب هريرة وزيد بن خالد رضي ا ّّلل عنهما قاال ‪ :‬سئل‬
‫اّلل عليه وسلّم عن األمة إذا زنت ومل حتصن فقال ‪« :‬إن زنت فاجلدوها ‪ ،‬مث إن‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫زنت فاجلدوها ‪ ،‬مث بيعوها ولو بضفري»‪.‬‬
‫قال مالك ‪ :‬الضفري احلبل ‪ ،‬ويف رواية ‪« :‬فليجلدها وال تثريب عليها»‬
‫اّلل عليه‬
‫فظاهر احلديث أ ّن اجللد هو متام احلد ‪ ،‬ولو كان النفي من احلد لذكره النيب صلّى ّ‬
‫وسلّم‪.‬‬
‫غرب ربيعة بن أمية بن خلف يف اخلمر إىل خيرب ‪ ،‬فلحق هبر‬
‫وقد روي عن عمر بن اخلطاب أنه ّ‬
‫قل فقال عمر ‪ :‬ال أغرب بعدها أحدا ومل يستثن الزّن‪.‬‬
‫اّلل وجهه أنه قال يف البكرين إذا زنيا ‪ :‬إّنما جيلدان وال ينفيان ‪ ،‬وإ ّن نفيهما‬
‫كرم ّ‬
‫وروي عن علي ّ‬
‫من الفتنة‪.‬‬
‫فإذا كانت األخبار املثبتة للنفي معارضة مبا مسعت ‪ ،‬وهي بعد مل خترج عن كوّنا أخبار آحاد ‪،‬‬
‫فليس جبائز أن نزيد يف حكم اآلية هبذه األخبار ‪ ،‬ألنّه يوجب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)386 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )328 /3‬كتاب احلدود ‪ - 6 ،‬ابب رجم اليهود‬
‫حديث رقم (‪ ، )1703 /20‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 87 ، )37 /8‬كتاب احلدود ‪- 21 ،‬‬
‫ابب إذا زنت األمة حديث رقم (‪ ، )6839‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )30 /4‬كتاب‬
‫احلدود ‪ ،‬ابب الرجم حديث رقم (‪ ، )1433‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )155 /4‬كتاب احلدود ‪،‬‬
‫ابب يف األمة تزين حديث رقم (‪ ، )4469‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 20 ، )857 /2‬كتاب‬
‫احلدود ‪ - 14 ،‬ابب إقامة احلدود حديث رقم (‪.)2565‬‬

‫ص ‪537 :‬‬
‫النسخ على ما مسعت ‪ ،‬ال سيما مع إمكان استعماهلا على وجه ال يوجب النسخ يف اآلية ‪ ،‬وال‬
‫يدفع حكم األخبار ‪ ،‬وذلك إببقاء اآلية على حكمها ‪ ،‬وأن اجللد هو متام احلد ‪ ،‬وجعل النفي‬
‫اّلل عليه وسلّم قد رأى يف ذلك الوقت نفي البكر ألّنم‬
‫على وجه التعزيز ‪ ،‬ويكون النيب صلّى ّ‬
‫كانوا حديثي عهد ابجلاهلية ‪ ،‬فرأى ردعهم ابلنفي بعد اجللد ‪ ،‬كما أمر بشق روااي اخلمر ‪ ،‬وكسر‬
‫األواين ‪ ،‬ألنّه أبلغ يف الزجر ‪ ،‬وأحرى بقطع العادة‪.‬‬
‫والقائلون أبن النفي من متام احلد احتجوا حبديث عبادة بن الصامت وقد تقدم ‪ ،‬وفيه تنصيص‬
‫وتكرر ذكر النفي فيها على أنّه من‬
‫على أن النفي من احلد ‪ ،‬وقد ورد مثله يف قصة العسيف ‪ّ ،‬‬
‫احلد ‪ ،‬وال مانع من الزايدة على حكم اآلية خبرب اآلحاد‪.‬‬
‫على أنّه ليس ذلك زايدة يف حكم اآلية ‪ ،‬فإ ّن إجياب اجللد املفهوم من اآلية مشرتك بني إجياب‬
‫اجللد مع التغريب ‪ ،‬وإجيابه مع نفي التغريب ‪ ،‬وال إشعار يف اآلية أبحد القسمني ‪ ،‬إال أن عدم‬
‫التغريب للرباءة األصلية ‪ ،‬فإجيابه خبرب الواحد ال يدفع حكم اآلية ‪ ،‬وال يزيل إال حمض الرباءة‬
‫األصلية‪.‬‬
‫واحلاصل أ ّن القائلني ابلنفي جيعلون اجللد يف اآلية من قبيل املاهية بال شرط شي ء ‪ ،‬والقائلني‬
‫بعدم النفي جيعلون اجللد يف اآلية من قبيل املاهية بشرط ال شيء‪.‬‬
‫أقوال الفقهاء يف حد الذمي احملصن‬
‫ترى احلنفية «‪ »1‬أ ّن ح ّد الذمي احملصن هو اجللد ال الرجم ‪ ،‬واحتجوا على ذلك أبمور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬منها ما‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬من أشرك‬
‫رواه إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عمر عن النيب صلّى ّ‬
‫ابّلل فليس مبحصن» «‪»2‬‬
‫ّ‬
‫ووجه الداللة فيه أن اإلحصان هنا ظاهر يف إحصان الرجم ‪ ،‬فيكون هذا احلديث معارضا ملا‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬من رجم اليهوديني ‪ ،‬وليس اتريخ يعرف به تقدم أحدمها‬
‫ثبت من فعله صلّى ّ‬
‫على اآلخر ‪ ،‬فنرجع إىل الرتجيح ‪ ،‬والرتجيح معنا ‪ ،‬إذ املعلوم أنه إذا تعارض القول والفعل ‪ ،‬ومل‬
‫يعلم املتقدم من املتأخر ‪ ،‬يق ّدم القول على الفعل ‪ ،‬وأل ّن هذا القول موجب لدرء احلد ‪ ،‬والفعل‬
‫يوجب استيفاءه ‪ ،‬واألوىل يف احلدود ترجيح الرافع عند التعارض ‪ ،‬أل ّن احلدود تدرأ ابلشبهات ‪،‬‬
‫ورجم الذمي ح ّد متكنت فيه الشبهة ‪ ،‬فيجب درؤه‪.‬‬
‫‪ - 2‬وإن النعمة يف حق املسلم أعظم ‪ ،‬فكانت جنايته أغلظ ‪ ،‬كقوله تعاىل يف أمهات املؤمنني ‪:‬‬
‫ف حهلحا الْعذاب ِ‬
‫ض ْع حف ْ ِ‬ ‫شةٍ ممبح يِّنحةٍ يم ح‬ ‫ْت ِمنْ مك َّن بِ ِ‬
‫َّيب من أي ِ‬ ‫ِ‬
‫ني [األحزاب ‪.]30 :‬‬ ‫ح م‬ ‫ضاع ْ‬ ‫فاح ح‬ ‫اي نساءح النِ ِّ ح ْ ح‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)385 /2 - 1‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدار قطين يف سننه (‪ ، )147 /3 ، 250 /2‬كتاب احلدود‪ .‬عن ابن عمر‪.‬‬

‫ص ‪538 :‬‬
‫‪ - 3‬وإن إحصان القذف يعترب فيه اإلسالم ابإلمجاع ‪ ،‬فكذا إحصان الرجم ‪ ،‬واجلامع كمال‬
‫النعمة‪.‬‬
‫ويرى الشافعية أ ّن حد الذمي احملصن الرجم ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك عموم‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إذا قبلوا اجلزية فلهم ما للمسلمني وعليهم ما على املسلمني»‪.‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫وما‬
‫ثبت يف «الصحيحني» «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلّم رجم يهوديني زنيا‬
‫من أنه النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم حكما بشرعه فهو ظاهر ‪ ،‬وإن كان حكما بشرع من‬
‫‪ ،‬فإن كان ذلك منه صلّى ّ‬
‫قبله فقد صار شرعا له ‪ ،‬وأيضا فإ ّن زّن الكافر مثل زّن املسلم يف احلاجة إىل الزاجر‪.‬‬
‫مث أجابوا عن أدلة احلنفية فقالوا يف احلديث ‪ :‬إنه مضطرب ‪ ،‬قال فيه إسحاق ‪:‬‬
‫قد رفع هذا اخلرب مرة ووقف على ابن عمر مرة أخرى ‪ ،‬ورواه الدار قطين يف «سننه» وقال ‪ :‬مل‬
‫يرفعه غري إسحاق بن راهويه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنه رجع عنه ‪ ،‬والصواب تفسري اإلحصان يف‬
‫ابّلل فليس مبحصن»‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬من أشرك ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫ابلتزويج جيعل احلديث يف ظاهره مصادما للواقع ‪ ،‬فينبغي أن يكون املراد ابحملصن فيه احملصن‬
‫يقتص له من املسلم ‪ ،‬فيكون الذمي الثيب حمصنا إحصان الرجم ‪ ،‬فثبت رمجه لعموم‬
‫الذي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬و زّن بعد إحصان»‪.‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫وأجابوا عن قول احلنفية ‪ :‬أن النعمة يف حق املسلم أعظم إخل أبنه معارض أبن اإلسالم من كسب‬
‫العبد ‪ ،‬وزايدة اخلدمة إن مل تكن سببا يف ختفيف العقوبة فال أقل من أال تكون سببا يف زايدهتا‪.‬‬
‫وأجابوا عن القياس على حد القذف أبن حد القذف ثبت لرفع العار كرامة للمقذوف ‪ ،‬والكافر‬
‫ال يكون حمال للكرامة ‪ ،‬وصيانة العرض‪.‬‬
‫الكالم فيمن يلي احلد‬
‫اجلِ مدوا ألولياء األمر من احلكام ‪ ،‬أل ّن هذا حكم يتعلّق ابستصالح‬
‫اخلطاب يف قوله تعاىل ‪ :‬فح ْ‬
‫الناس مجيعا ‪ ،‬وكل حكم من هذا القبيل فإمنا تنفيذه على اإلمام‪.‬‬
‫وقد جعل الفقهاء مثل هذا األمر من األدلة على وجوب نصب اخلليفة ‪ ،‬ألنه تعاىل أمر إبقامة‬
‫احلد ‪ ،‬وال يقوم به إال اإلمام ‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال به يكون واجبا‪.‬‬
‫وال نعلم خالفا يف أ ّن الذي يلي إقامة احلد على األحرار إمنا هو اإلمام أو انئبه‪.‬‬
‫أما األرقاء ففيمن يلي حدهم خالف‪ .‬فاإلمامان مالك والشافعي جييزان للسيد أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1326 /3‬كتاب احلدود ‪ - 6 ،‬ابب رجم اليهود ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1699‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 87 ، )38 /8‬كتاب احلدود ‪ - 24 ،‬ابب‬
‫أحكام أهل الذمة حديث رقم (‪].....[ .)6841‬‬

‫ص ‪539 :‬‬
‫حيد عبده وأمته يف الزّن واخلمر والقذف‪ .‬وللشافعي يف السرقة قوالن ‪ ،‬واإلمام أبو حنيفة وأبو‬
‫يوسف وحممد وزفر يقولون ال ميلك السيد أن يقيم حدا ما‪.‬‬
‫احتج مالك والشافعي مبا‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف األمة ‪« :‬إن زنت فاجلدوها»‬
‫أخرجه الستة «‪ »1‬غري النسائي من قوله صلّى ّ‬
‫احلديث ‪،‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫ومبا روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي ّ‬
‫وسلّم ‪« :‬أقيموا احلدود على ما ملكت أميانكم من أحصن ومن مل حيصن» «‪.»2‬‬
‫اّلل عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه ‪ ،‬فجعل يضرب رجليها‬
‫ومبا روي عن ابن عمر رضي ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫اّلل ‪ :‬أين قول ّ‬
‫وساقيها ‪ ،‬فقال له سامل رمحه ّ‬
‫اّللِ؟ فقال ‪ :‬أتراين أشفقت عليها ‪ ،‬إ ّن ّ‬
‫اّلل مل أيمرين أن أقتلها‪.‬‬ ‫حوال حأتْ مخ ْذ مك ْم هبِِما حرأْفحةٌ ِيف ِدي ِن َّ‬
‫ومل يكن ابن عمر واليا وال انئبا عن وال‪ .‬وأب ّن اإلمام ملا ملك إقامة احلد على العبد كان السيد‬
‫إبقامته أوىل ‪ ،‬ألن تعلّق السيد ابلعبد أقوى من تعلق اإلمام ابلرعية ‪ ،‬إن امللك أقوى من عقد‬
‫البيعة ‪ ،‬وإقامة احلد من السيد إمنا هي بطريق امللك لغرض االستصالح كاحلجامة والفصد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِِ‬ ‫َّاين فح ِ‬
‫عام يف كل زان‬ ‫واحتج احلنفية أب ّن قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬
‫اجل مدوا مكلَّ واحد م ْن مهما مائحةح حجلْ حدة ّ‬
‫يفرق يف احملدودين بني‬
‫وزانية ‪ ،‬واخلطاب فيه ال شك أنه خطاب مع األئمة دون سائر الناس ‪ ،‬ومل ّ‬
‫األحرار والعبيد «‪ ، »3‬فوجب أن تكون إقامة احلد على األحرار وعلى العبيد لألئمة دون سائر‬
‫الناس‪.‬‬
‫مث أجاب احلنفية عن األحاديث اليت يفيد ظاهرها إثبات حد األرقاء ملواليهم أبن املراد أن املوايل‬
‫يرفعون أمر عبيدهم إىل احلكام ليجلدوهم ويقيموا احلد عليهم ‪ ،‬وجلد ابن عمر بعض إمائه إن‬
‫صح كان رأاي له ال يعارض العموم يف اآلية‪.‬‬
‫ّ‬
‫حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم‬
‫اح ٍد ِم ْن هما ِمائحةح جلْ حدةٍ‬
‫َّاين فحاجلِ مدوا مكلَّ و ِ‬
‫فخص هذا احلكم ابلزّن ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬
‫قال ّ‬
‫يفرقان بني الزّن واللواط والسحاق وإتيان البهائم ‪ ،‬فليس واحد من‬ ‫ومعلوم أ ّن العرف واللغة ّ‬
‫هذه الثالثة األخرية داخال يف حكم اآلية‪.‬‬
‫وملا نقل عن الشافعي يف أصح قوليه ‪ :‬إن حكم اللواط كحكم الزّن قال بعض أصحابه ‪ :‬إن‬
‫اللواط زّن ‪ ،‬ألنّه مثل الزّن يف الصورة ويف املعىن ‪ ،‬فيكون الالئط زانيا فيدخل يف عموم اآلية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )330 /3‬كتاب احلدود ‪ - 7 ،‬ابب أتخري احلد رقم‬
‫(‪.)1705‬‬
‫(‪ )3‬هذا كالم فيه وهم ‪ ،‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)384 /1‬‬

‫ص ‪540 :‬‬
‫وهذا القول ليس بسديد ألنّه يصادم العرف واللغة ‪ ،‬أال تراه لو حلف ال يزين فالط أو ابلعكس‬
‫مل حينث ‪ ،‬وكيف يكون اللواط زّن ‪ ،‬وقد اختلف الصحابة يف حكمه ‪ ،‬وهم أعلم ابللغة وموارد‬
‫اللسان‪.‬‬
‫وقال بعض آخر من الشافعية ‪ :‬اللواط غري الزّن ‪ ،‬إال أنه يقاس عليه جبامع كون الطبع داعيا‬
‫إليه فيناسب الزاجر ‪ ،‬وهذا أيضا ليس بسديد ‪ ،‬ألنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إىل اللواط فإ ّن‬
‫الزّن أكثر وقوعا ‪ ،‬وأعظم ضررا ملا يرتتب عليه من فساد األنساب ‪ ،‬فكان االحتياج فيه إىل‬
‫الزاجر أشد وأقوى‪.‬‬
‫ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬إذا أتى الرجل الرجل فهما‬
‫رواه أبو موسى األشعري عنه صلّى ّ‬
‫زانيان» «‪»1‬‬
‫فإ ّن هذا اخلرب إن مل يدل على اشرتاك اللواط والزّن يف االسم واحلقيقة فال أقل من اشرتاكهما يف‬
‫احلكم ‪ ،‬وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف وحممد‪.‬‬
‫والقول الثاين من قويل الشافعي يف حد الالئط ‪ :‬إنه يقتل ‪ :‬إما حبز الرقبة كاملرتد ‪ ،‬وإما ابلرجم ‪،‬‬
‫وهو مروي عن ابن عباس ‪ ،‬وقول أمحد وإسحاق ‪ ،‬ورواية عن مالك ‪ ،‬وإما ابهلدم عليه ‪ ،‬ويروى‬
‫عن أيب بكر الصديق ‪ ،‬وإما ابلرمي من شاهق ‪ ،‬وهو مشهور مذهب مالك‪.‬‬
‫اّلل ‪ :‬ليس يف اللواط «‪ »2‬حد ‪ ،‬بل فيه تعزير ‪ ،‬ألنه وطء ال يتعلق به‬
‫وقال أبو حنيفة رمحه ّ‬
‫املهر ‪ ،‬فال يتعلق به احلد ‪ ،‬وألنه ال يساوي الزّن يف احلاجة إىل شرع احلد ‪ ،‬ألن اللواط ال يرغب‬
‫فيه املفعول به طبعا ‪ ،‬وليس فيه إضاعة النسب ‪ ،‬وأيضا‬
‫حيل دم امرئ مسلم إال إبحدى ثالث ‪ :‬زّن بعد إحصان ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال ّ‬
‫فقوله صلّى ّ‬
‫وكفر بعد إميان ‪ ،‬وقتل نفس بغري حق» «‪»3‬‬
‫قد حظر قتل املسلم إال إبحدى هذه الثالث ‪ ،‬وفاعل ذلك خارج عن ذلك ‪ ،‬ألنه ال يسمى‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه قضى يف اللواط بشي ء ‪ ،‬أل ّن هذا‬
‫زانيا ‪ ،‬وأنت تعلم أنّه مل يثبت عنه صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم حادثة منه ‪ ،‬ولكن‬
‫املنكر مل تكن تعرفه العرب ‪ ،‬ومل يرفع إليه صلّى ّ‬
‫ثبت عنه أنه قال ‪« :‬من وجدمتوه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل واملفعول به» رواه‬
‫أصحاب السنن األربعة «‪»4‬‬
‫وإسناده صحيح ‪ ،‬وقال الرتمذي ‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه السيوطي يف اجلامع الصغري والدر املنثور‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)389 /1‬‬
‫(‪ )3‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )47 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب ما جاء يف حد اللوطي‬
‫حديث رقم (‪ ، )1456‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )153 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب فيمن عمل قوم‬
‫لوط حديث رقم (‪ ، )4462‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 20 ، )856 /2‬كتاب احلدود ‪- 12 ،‬‬
‫ابب من عمل عمل قوم لوط حديث رقم (‪.)2561‬‬
‫ص ‪541 :‬‬
‫وحكم أبو بكر الصديق بقتل الالئط ‪ ،‬وكتب به إىل خالد بن الوليد بعد مشاورة الصحابة‪.‬‬
‫ونقل بعض احلنابلة إمجاع الصحابة على أ ّن ح ّد اللواط القتل ‪ ،‬وإمنا اختلفوا يف كيفيته ‪ :‬فمنهم‬
‫من قال ‪ :‬يرمى من شاهق ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬يهدم عليه حائط ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬يقتل رميا‬
‫ابحلجارة‪.‬‬
‫هذا وال نعلم خالفا بني الفقهاء يف أن السحاق مل يشرع فيه إال التعزير‪.‬‬
‫وأما إتيان البهائم ففي رواية عن أمحد أنه كاللواط ‪ ،‬عقوبته القتل ‪ ،‬وهو قول مرجوح عند‬
‫الشافعية‪ .‬والصحيح أنّه ليس فيه إال التعزير‪.‬‬
‫صفة اجللد‬
‫أتوله مجاعة على أنّه ّني عن التخفيف يف اجللد‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬وال حأتْ مخ ْذ مكم هبِِما رأْفحةٌ ِيف ِدي ِن َِّ‬
‫اّلل قد ّ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ح‬
‫‪ ،‬وأتوله آخرون على أنه ّني عن ترك احلد وإسقاطه ‪ ،‬وال مانع عندان من أن يكون اللفظ‬
‫منتظما للمعنيني ‪ ،‬أي ال ترأفوا هبما فتسقطوا احلد عنهما أو ختففوه ‪ ،‬بل الواجب استيفاؤه كامال‬
‫واح ٍد ِم ْن مهما ِمائحةح حجلْ حدةٍ أي‬
‫غري منقوص وإذا ضم ذلك إىل ما يفهم من قوله تعاىل ‪ :‬فحاجلِ مدوا مك َّل ِ‬
‫ْ‬
‫اضربوا جلدها ضراب ال يتجاوز األمل فيه اجللد إىل اللحم كان املطلوب مبجموع اللفظني أن يكون‬
‫اجللد على حد االعتدال‪.‬‬
‫روى عاصم األحول عن أيب عثمان النهدي قال ‪ :‬أيت عمر بسوط فيه شدة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أريد ألني‬
‫من هذا ‪ ،‬فأيت بسوط فيه لني ‪ ،‬فقال ‪ :‬أريد أش ّد من هذا ‪ ،‬فأيت بسوط بني السوطني فقال ‪:‬‬
‫اضرب وال يرى إبطك ‪ ،‬وأعط كل عضو حقه ‪ ،‬وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وعلي وأنس‬
‫اّلل عنهم‪.‬‬
‫بن مالك رضي ّ‬
‫اّلل وجهه استثناء‬
‫كرم ّ‬
‫واتفق العلماء مجيعا على أ ّن الضارب يتقي الوجه والفرج‪ .‬وروي عن علي ّ‬
‫الرأس أيضا ‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة وحممد‪.‬‬
‫وينبغي أن ينزع عن احملدود ما مينع من الثياب أن يصل إليه أمل الضرب ‪ ،‬كاحلشو والفراء ‪ ،‬أل ّن‬
‫يسمى ضراب يف العادة ‪ ،‬أال ترى أنّه لو حلف أن يضرب فالان‬
‫الضرب فوق احلشو والفرو ال ّ‬
‫فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه األمل أنه ال يكون ضاراب ومل يرب يف ميينه ‪ ،‬ولو وصل إليه‬
‫األمل كان ضاراب‪.‬‬
‫حترمي الشفاعة يف احلدود‬
‫اّللِ معناها النهي عن ختفيف احلد وإسقاطه ‪،‬‬
‫قلنا إن قوله تعاىل ‪ :‬حوال حأتْ مخ ْذ مك ْم هبِِما حرأْفحةٌ ِيف ِدي ِن َّ‬
‫اّلل‬
‫فيكون يف ذلك دليل على أنّه ال جتوز الشفاعة يف إسقاط حد الزّن ‪ ،‬أل ّن فيه تعطيال حلدود ّ‬
‫صح‬
‫أن تقام ‪ ،‬وليس ذلك خلصوصية يف الزّن ‪ ،‬بل مثله سائر احلدود حترم الشفاعة فيها ‪ ،‬فقد ّ‬
‫أنه عليه الصالة والسالم أنكر على حبّه‬
‫ص ‪542 :‬‬
‫أسامة بن زيد حني شفع يف فاطمة بنت األسود بن عبد األسد املخزومية ‪ ،‬وكانت سرقت قطيفة‬
‫أو حليا ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل» مث قام فاختطب فقال ‪« :‬إمنا أهلك الذين من‬
‫فقال له ‪« :‬أتشفع يف حد من حدود ّ‬
‫قبلكم أّنّم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه احلد ‪،‬‬
‫اّلل لو أ ّن فاطمة بنت حممد سرقت لقطعت يدها» أخرجه اخلمسة «‪.»1‬‬
‫وأمي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يقول ‪« :‬من حالت شفاعته‬
‫اّلل عنهما أنّه مسع النيب صلّى ّ‬
‫وعن ابن عمر رضي ّ‬
‫وجل» أخرجه أبو داود «‪.»2‬‬
‫اّلل ع ّز ّ‬
‫اّلل تعاىل فقد ضا ّد ّ‬
‫دون ح ّد من حدود ّ‬
‫وكما حترم الشفاعة يف احلدود حيرم على اإلمام قبول الشفاعة فيها ‪ ،‬فعن الزبري بن العوام رضي‬
‫اّلل عنه أنه لقي رجال قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إىل السلطان فشفع له الزبري لريسله ‪،‬‬
‫ّ‬
‫فقال ‪ :‬ال حىت أبلغ به إىل السلطان ‪ ،‬فقال الزبري ‪:‬‬
‫إمنا الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان ‪ ،‬فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع واملشفع‪ .‬أخرجه مالك‬
‫اّلل عنه إن عفا‪.‬‬
‫«‪ »3‬ويف رواية أنّه قال ‪ :‬إذا بلغ احلد إىل اإلمام فال عفا ّ‬
‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن مك ْن تم ْم تم ْؤِمنمو حن ِاب َّّللِ حوالْيح ْوِم ْاآل ِخ ِر فالغرض منه التهييج واإلهلاب واحلث على‬
‫شك يف أنه رجل ‪ ،‬كذلك املخاطبون‬
‫االمتثال كما يقال للرجل ‪ :‬إن كنت رجال فافعل كذا ‪ ،‬وال ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪،‬‬
‫ال شك يف أّنّم مؤمنون ‪ ،‬لكن قصد هتييجهم ‪ ،‬وحتريك محيتهم ‪ ،‬ليج ّدوا يف طاعة ّ‬
‫وجيتهدوا يف إجراء أحكامه على وجهها ‪ ،‬ويف ذكر اليوم اآلخر تذكري هلم مبا فيه من العقاب‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬ويف احلديث ‪« :‬يؤتى بوال نقص من احلد‬
‫ليستأصلوا عاطفة اللني يف استيفاء حدود ّ‬
‫سوطا فيقال له ‪ ،‬مل فعلت ذاك؟ فيقول ‪:‬‬
‫اي رب رمحة بعبادك ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬أنت أرحم هبم مين ‪ ،‬فيؤمر به يف النار»‪.‬‬
‫حضور احلد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذاهبمما طائِحفةٌ م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني يقتضي وجوب احلضور على‬ ‫ظاهر األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬حولْيح ْش حه ْد حع ح‬
‫لكن الفقهاء أمجعوا على أ ّن حضور اجلمع‬
‫طائفة من املؤمنني ‪ّ ،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 29 ، )1415 /3‬كتاب احلدود ‪ - 2 ،‬ابب قطع السارق ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1688‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 86 ، )21 /2‬كتاب احلدود ‪ - 13 ،‬ابب‬
‫كراهية الشفاعة حديث رقم (‪ ، )6788‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )29 /4‬كتاب‬
‫احلدود ‪ ،‬ابب كراهية أن يشفع يف احلدود حديث رقم (‪ ، )1430‬والنسائي يف السنن (‪/8 - 7‬‬
‫‪ ، )439‬كتاب قطع السرقة ‪ ،‬ابب ذكر املخزومية حديث رقم (‪ ، )4895‬وابن ماجه يف السنن‬
‫(‪ - 20 ، )851 /2‬كتاب احلدود ‪ - 6 ،‬ابب الشفاعة حديث رقم (‪.)2547‬‬
‫(‪ ) 2‬رواه أبو داود يف السنن كتاب األقضية ‪ ،‬ابب فيمن يعني حديث رقم (‪.)3597‬‬
‫(‪ ) 3‬رواه مالك يف املوطأ كتاب احلدود ‪ ،‬ابب ترك الشفاعة حديث رقم (‪.)834‬‬

‫ص ‪543 :‬‬
‫مستحب ال واجب ‪ ،‬واملقصود من حضورهم إعالن إقامة احلد للتنكيل وللعربة واملوعظة‪.‬‬
‫ّ‬
‫واختلف العلماء يف هذه الطائفة ‪ :‬فعن جماهد والنخعي وأمحد ‪ :‬هي يف اآلية واحد‪ .‬وقال عطاء‬
‫وعكرمة وإسحاق ‪ :‬اثنان فصاعدا ‪ ،‬وهو القول املشهور ملالك وقال قتادة والزهري ‪ :‬ثالثة‬
‫فصاعدا ‪ ،‬وعن الشافعي وزيد أربعة بعدد شهود الزّن ‪ ،‬وقال احلسن ‪ :‬عشرة ‪ ،‬وعن ابن عباس‬
‫ابّلل ‪ ،‬وأوىل األقوال ابلصواب أ ّن املراد‬
‫الطائفة ‪ :‬الرجل فما فوقه إىل أربعني رجال من املصدقني ّ‬
‫ابلطائفة هنا مجاعة حيصل هبم التشهري والزجر ‪ ،‬وختتلف قلة وكثرة حبسب اختالف األماكن‬
‫واألشخاص‪.‬‬
‫ذاهبمما ‪ ..‬دليل على أ ّن هذا احلد عقوبة ال استصالح من قبل أنّه‬
‫ويف قوله تعاىل ‪ :‬حولْيح ْش حه ْد حع ح‬
‫يسمى أتديبا ‪ ،‬وميكن أن يراد‬
‫مساه عذااب ‪ ،‬ولو كان الغرض منه االستصالح لكان األوىل به أن ّ‬
‫من العذاب ما مينع من املعاودة كالنكال ‪ ،‬فيصح أن يكون الغرض منه االستصالح‪.‬‬
‫الكالم يف نكاح الزانة واملشركني‬
‫َّاين ال ي ْنكِح إَِّال زانِيةً أحو م ْش ِرحكةً والزَّانِيةم ال ي ْنكِحها إَِّال ز ٍ‬
‫ان أ ْحو مم ْش ِر ٌك حو مح ِّرحم‬ ‫ح ح ح م‬ ‫ح ْ م‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬الز ِ ح م‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫ذلِ ح‬
‫ني (‪ )3‬الظاهر أ ّن املراد من النكاح هنا العقد ‪ ،‬أل ّن أكثر استعماله يف لسان‬ ‫ك حعلحى ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫اّلل إال هبذا املعىن‪.‬‬ ‫الزجاج وغريه ‪ :‬إنه مل يرد يف كتاب ّ‬ ‫الشرع مبعىن العقد ‪ ،‬بل قال ّ‬
‫كال من اجلملتني خرب ‪ ،‬وأ ّن معنامها أ ّن الزاين ال يتزوج إال زانية أو مشركة ‪ ،‬وأن‬ ‫وظاهر أيضا أن ّ‬
‫الزانية ال يتزوجها إال زان أو مشرك ‪ ،‬ولو أجرينا هذين اخلربين على ظاهرمها كاان غري مطابقني‬
‫للواقع ‪ ،‬فإ ّان نرى الزاين قد يتزوج املؤمنة العفيفة ‪ ،‬والزانية قد يتزوجها املؤمن العفيف‪ .‬فكان‬
‫حل هذا اإلشكال أتويالت منها القوي ‪،‬‬
‫إجراء اجلملتني على ظاهر مها مشكال ‪ ،‬وللعلماء يف ّ‬
‫ومنها الضعيف ‪ ،‬وسنذكرها مرتبة على حسب ترتيبها يف القوة فيما نرى‪.‬‬
‫ح‬ ‫ِ‬
‫‪ - 1‬إن الكالم ّني جيء به يف صورة اخلرب للمبالغة ‪ ،‬ويؤيده قراءة عمر بن عبيد ال يح ْنك م‬
‫ابجلزم ‪ ،‬ويكون التحرمي على ظاهره ‪ ،‬واإلشارة إىل النكاح املفهوم من الفعل ‪ ،‬وكان احلكم‬
‫كذلك يف صدر اإلسالم ‪ ،‬مث نسخ‪.‬‬
‫قال سعيد بن املسيب ‪ :‬كان احلكم عاما يف الزانة أال يتزوج أحدهم إال زانية ‪ ،‬مث جاءت الرخصة‬
‫حوا ْاألحايمى ِم ْن مك ْم والزانية من أايمى‬ ‫ِ‬
‫‪ ،‬ونسخ ذلك بقوله تعاىل ‪ :‬حوأحنْك م‬

‫ص ‪544 :‬‬
‫املسلمني ‪ ،‬وهبذا القول قال جماهد والشافعي واجلبّائي وغريهم‪ .‬وعلى هذا الرأي اعرتاضان ‪:‬‬
‫اخلاص ‪ ،‬ال سيما على أصل الشافعي ‪ ،‬فإ ّن ما تناوله اخلاص متي ّقن‬
‫ّ‬ ‫أحدمها ‪ :‬أ ّن العام ال ينسخ‬
‫‪ ،‬وما تناوله العام مظنون ‪ ،‬فالعام املتأخر حممول على اخلاص‪.‬‬
‫وحل نكاح املشرك للمسلمة ‪ ،‬فإ ّن‬
‫حل نكاح املسلم للمشركة الوثنية ‪ّ ،‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنّه يلزم عليه ّ‬
‫اجلملة األوىل وردت على سبيل احلصر ‪ ،‬فتنحل إىل مجلتني ‪:‬‬
‫أوالمها ‪ :‬تفيد أنّه حيرم على الزاين أن يتزوج املؤمنة العفيفة‪.‬‬
‫واثنيتهما ‪ :‬تفيد أنّه يباح له أن يتزوج الزانية ‪ ،‬واملشركة وثنية أو من أهل الكتاب‪.‬‬
‫وكذلك اجلملة الثانية تنحل إىل مجلتني‪.‬‬
‫أوالمها ‪ :‬تفيد أ ّن الزانية ال يتزوجها املؤمن العفيف‪ .‬واثنيتهما ‪ :‬تفيد أ ّن الزانية حيل هلا أن تتزوج‬
‫الزاين واملشرك‪.‬‬
‫وألصحاب هذا التأويل أن يقولوا يف دفع االعرتاض األول ‪ :‬إ ّن العام الذي اعتربانه انسخا قد‬
‫صري داللته على تناوله متيقنا ‪ ،‬كداللة اخلاص‬ ‫انضم إليه من اآلايت واألحاديث واإلمجاع ما ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫طاب لح مك ْم ِم حن النِّساء [النساء ‪ ]3 :‬وقال رسول‬ ‫ِ‬
‫حوا ما ح‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬فحانْك م‬
‫على ما تناوله ‪ ،‬قال ّ‬
‫حيرم احلالل»‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬احلرام ال ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫وأمجع فقهاء األمصار على جواز أن يتزوج الزاين ابلعفيفة ‪ ،‬وأن تتزوج الزانية ابلعفيف‪.‬‬
‫وهلم أيضا يف دفع االعرتاض الثاين أن يلتزموا القول أب ّن نكاح املسلم للوثينة كان حالال يف صدر‬
‫كات حح َّىت يم ْؤِم َّن [البقرة ‪ ]221 :‬وأن‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬مث نسخ ذلك بقوله تعاىل ‪ :‬وال تحنْكِحوا الْم ْش ِر ِ‬
‫م م‬ ‫ح‬
‫نكاح الكافر كان كذلك حالال قبل اهلجرة وبعدها إىل السنة السادسة سنة صلح احلديبية ‪ ،‬وبعد‬
‫وه َّن م ْؤِم ٍ‬
‫نات فحال تح ْرِجعم م‬
‫وه َّن إِ حىل الْ مك َّفا ِر ال مه َّن‬ ‫ِ‬
‫غزوة احلديبية «‪ »1‬نزلت آية التحرمي ‪ :‬فحِإ ْن حعل ْمتم مم م م‬
‫ِحلٌّ حهلم ْم حوال مه ْم حِحيلُّو حن حهلم َّن [املمتحنة ‪ ]10 :‬وال مانع أن تكون اآلية اليت معنا نزلت قبل السنة‬
‫قصة اإلفك ‪ :‬بل فيما‬ ‫السادسة ‪ ،‬ففي هذه السورة آايت نزلت قبل هذه السنة ‪ ،‬وهي آايت ّ‬
‫روى ابن أيب شيبة عن ابن جبري ما يفيد أ ّن هذه اآلية اليت معنا مكيّة ‪ ،‬وحينئذ يكون النسخ قد‬
‫تناول احلكمني يف اآلية مجيعا‪.‬‬
‫‪ - 2‬إ ّن هذه اآلية وردت يف تقبيح حال الزاين ببيان أنه بعد أن رضي ابلزّن ال يليق به أن ينكح‬
‫العفيفة املؤمنة ‪ ،‬وإمنا يليق به أن ينكح زانية مثله ‪ ،‬أو مشركة أسوأ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر ما رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )80 /5‬كتاب املغازي ‪ - 36 ،‬ابب غزوة‬
‫احلديبية حديث رقم (‪.)4180‬‬

‫ص ‪545 :‬‬
‫حاال منه‪ .‬وكذلك الزانية بعد أن رضيت ابلزّن ال يليق هبا أن ينكحها مؤمن عفيف ‪ ،‬وإمنا يليق‬
‫ح يف املوضعني خرب مراد‬ ‫ِ‬
‫هبا أن ينكحها زان مثلها ‪ ،‬أو مشرك أسوأ حاال منها ‪ ،‬فجملة ‪ :‬ال يح ْنك م‬
‫به ال يليق به أن ينكح كما تقول ‪ :‬الشيخ ال يصبو ‪ ،‬والسلطان ال يكذب ‪ ،‬واألب ال يقتل ابنه‬
‫‪ ،‬أي ال يليق هبم أن يفعلوا ذلك ‪ّ ،‬نزل فيه عدم لياقة الفعل منزلة عدم الفعل ‪ ،‬وهو كثري يف‬
‫الكالم‪.‬‬
‫ك إن كان الزّن املفهوم من قوله ‪:‬‬ ‫مث اإلشارة يف قوله تعاىل ‪ :‬حو مح ِّرحم ذلِ ح‬
‫ح إخل فالتحرمي على ظاهره ‪ ،‬وإن كانت اإلشارة للنكاح املفهوم من الفعل فاملراد‬ ‫ِ‬ ‫الز ِ‬
‫َّاين ال يح ْنك م‬
‫ام حعلى قح ْريحةٍ أح ْهلحكْناها أ َّحّنم ْم ال‬
‫من التحرمي معناه اللغوي ‪ ،‬وهو املنع ‪ ،‬مثله يف قوله تعاىل ‪ :‬حو ححر ٌ‬
‫يح ْرِجعمو حن (‪[ )95‬األنبياء ‪.]95 :‬‬
‫وعلى هذا التأويل اعرتاضان ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬أنه ال يتمشى مع سبب النزول فإّنا نزلت ‪:‬‬
‫إما‬
‫اّلل عليه وسلّم عن نكاح عناق ‪ ،‬وكانت من‬ ‫اّلل صلّى ّ‬
‫يف مرثد بن أيب مرثد حني سأل رسول ّ‬
‫ح إَِّال زانِيحةً أ ْحو‬ ‫ِ‬ ‫بغااي مكة ‪ ،‬فلم يرد عليه النيب صلّى ا ّّلل عليه وسلّم شيئا حىت نزل ‪ :‬الز ِ‬
‫َّاين ال يح ْنك م‬ ‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اي مرثد ال تنكحها»‪.‬‬ ‫مم ْش ِرحكةً اآلية فقال رسول ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف التزوج ببغااي من‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫وإما يف مجاعة من فقراء املهاجرين استأذنوا ّ‬
‫اّلل فيهم هذه اآلية ‪ ،‬وسواء أكان سبب النزول هو‬
‫كن ابملدينة ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫الكتابيات واإلماء ‪ّ ،‬‬
‫األول أم الثاين ‪ ،‬فإ ّن الظاهر من سياقه أ ّن اآلية وردت لتحرمي العفيفة على الزاين والزانية على‬
‫العفيف‪.‬‬
‫يتزوج بوثنية ‪ ،‬ويليق‬
‫واثين االعرتاضني أ ّن اآلية على هذا التأويل تفيد أنه يليق ابلزاين املؤمن أن ّ‬
‫ابلزانية املؤمنة أن يتزوجها مشرك‪.‬‬
‫وألصحاب هذا التأويل أن يقولوا يف دفع االعرتاض األول ‪ :‬اآلية على هذا املعىن ال تنايف سبب‬
‫النزول ‪ ،‬فإنّه ال مانع أن يكون‬
‫اّلل عليه وسلّم ملرثد ‪« :‬ال تنكحها»‬
‫قول النيب صلّى ّ‬
‫اّلل جعل من صفات املؤمن العفيف أنه ال‬
‫معناه ‪ :‬ال يليق بك أن تتزوجها بعد أن علمت أ ّن ّ‬
‫يليق به من حيث هو مؤمن عفيف أن يرضى بنكاح الزانية ‪ ،‬وال مانع أيضا أن يكون فقراء‬
‫املهاجرين ك ّفوا عن نكاح البغااي هلذا املعىن‪.‬‬
‫وأن يقولوا يف دفع االعرتاض الثاين ‪ :‬إن اللياقة إمنا هي ابلنظر إىل الزّن ‪ ،‬فال ينايف أنه ال‬
‫يتزوج املشركة الوثنية ‪ ،‬وحيرم على املسلمة أن تتزوج مشركا‪.‬‬
‫عتبارات أخرى حيرم على املسلم أن ّ‬
‫خمرجا خمرج الغالب املعتاد ‪ ،‬جيء به لزجر املؤمنني‬
‫‪ - 3‬إبقاء اخلرب على ظاهره وجعل الكالم ّ‬
‫عن نكاح الزواين بعد زجرهم عن الزّن‪ .‬ومعناه أن الفاسق اخلبيث الذي‬
‫ص ‪546 :‬‬
‫من شأنه الزّن والفجور ال يرغب غالبا إال يف فاسقة خبيثة من شكله أو يف مشركة‪.‬‬
‫والزانية اخلبيثة كذلك ال يرغب فيها يف األعم األغلب إال خبيث مثلها أو مشرك‪.‬‬
‫ونظري هذا الكالم ال يفعل اخلري إال تقي ‪ ،‬وقد يفعل اخلري من ليس بتقي ‪ ،‬فيكون جاراي جمرى‬
‫الغالب‪.‬‬
‫واإلشارة يف قوله تعاىل ‪ :‬حو مح ِّر حم ذلِ ح‬
‫ك إن كانت للزّن فالتحرمي على ظاهره ‪ ،‬وإن كانت للنكاح‬
‫يتنزه املؤمنون عن ذلك النكاح ‪ ،‬وعرب عن التنزيه ابلتحرمي‬
‫فالتحرمي مبعىن التنزيه ‪ ،‬أي ينبغي أن ّ‬
‫والتعرض للتهمة وسوء القالة ‪ ،‬والطعن يف‬
‫ابلفساق ‪ّ ،‬‬
‫يتضمن التشبّه ّ‬
‫للتغليظ ‪ ،‬فإ ّن نكاح الزواين ّ‬
‫النسب ‪ ،‬إىل كثري من املفاسد‪.‬‬
‫وعلى هذا التأويل اعرتاضان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن إطالق الزاين والزانية على من شأّنما الزّن والفسق ال خيلو عن بعد ‪ ،‬ألّنما فيما‬
‫اجلِ مدوا مل يكوان هبذا املعىن ‪ ،‬والظّاهر احتاد معىن اللفظ يف‬ ‫تقدم من قوله تعاىل ‪ :‬الزَّانِيحةم حوالز ِ‬
‫َّاين فح ْ‬
‫اآليتني‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنه ليس مبسلّم أن الغالب يف الزاين أنه ال يرغب يف العفيفة ‪ ،‬فإ ّن كثريا من الزانة‬
‫يتحرى غريهم‪.‬‬
‫يتحرون يف النكاح أكثر ِما ّ‬
‫ّ‬
‫‪ - 4‬إبقاء اخلرب على ظاهره ‪ ،‬وأتويل النكاح على معىن الوطء ‪ ،‬ويكون املراد اإلخبار أب ّن الزاين‬
‫ال يطأ حني زانه إال زانية أو أخس منها ‪ ،‬وهي املشركة‪.‬‬
‫اّلل ذلك‬
‫والزانية ال يطؤها حني زانها إال زان من املسلمني أو أخس منه ‪ ،‬وهو املشرك‪ .‬وحرم ّ‬
‫الزّن على املؤمنني‪.‬‬
‫وهذا القول مروي عن ابن عباس وعروة بن الزبري وعكرمة ‪ ،‬وهو قول أيب مسلم‪.‬‬
‫وعلى هذا التأويل أيضا اعرتاضان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن فيه إجراء لفظ النكاح على غري املعهود يف القرآن‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أن الزاين قد يزين بغري زانية ‪ ،‬والعكس ‪ ،‬فقد يعلم أحدمها أن هذا زّن ‪ ،‬واآلخر جاهل‬
‫احلل ‪ ،‬فيكون هذا اخلرب غري مطابق للواقع ‪ ،‬فإذا قالوا ‪:‬‬
‫به يظن ّ‬
‫إن الغالب يف الزّن أن يكون معروفا للطرفني على أنه زّن‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن الكالم يكون حينئذ من قبيل اإلخبار ابلواضحات ‪ ،‬إذ املآل أن الزاين حني يزين بزانية‬
‫متحلوا له أّنم قالوا ‪ :‬إن معىن اآلية‬
‫ال يزين إال بزانية ‪ ،‬وهذا كالم خال عن الفائدة ‪ ،‬وغاية ما ّ‬
‫اإلخبار عن اشرتاكهما يف الزّن ‪ ،‬وأ ّن املرأة كالرجل يف ذلك ‪ ،‬فإذا كان الرجل زانيا فاملرأة مثله‬
‫إذا طاوعته وإذا زنت املرأة فالرجل مثلها ‪ ،‬ففائدة اخلرب احلكم مبساواهتما يف استحقاق احلد‬
‫وعقاب اآلخرة‪.‬‬
‫‪ - 5‬إ ّن اخلرب مبعىن النهي ‪ ،‬والتحرمي على حقيقته ‪ ،‬واحلكم خمصوص بسبب‬

‫ص ‪547 :‬‬
‫النزول ‪ ،‬فتكون اآلية واردة يف قوم خمصوصني أبعياّنم ‪ ،‬ويف تعيينهم خالف يرجع إىل اخلالف يف‬
‫سبب النزول‪.‬‬
‫فعن ابن عباس وابن عمر أ ّن مجاعة من املسلمني كانوا يف جاهليتهم يزنون ببغااي مشهورات‬
‫متعالنات ‪ ،‬فلما جاء اإلسالم وأسلموا مل ميكنهم الزّن ‪ ،‬فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة ‪ ،‬إذ‬
‫جهن فنزلت اآلية فكفوا عن زواجهن «‪.»1‬‬
‫تزو ّ‬
‫كان من عاداهتن اإلنفاق على من ّ‬
‫اّلل عنه‬
‫وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ‪ :‬كان رجل يقال له مرثد بن أيب مرثد رضي ّ‬
‫بغي مبكة ‪ ،‬يقال هلا ‪:‬‬
‫‪ ،‬وكان رجال حيمل األسرى من مكة حىت أييت هبم املدينة ‪ ،‬فكانت امرأة ّ‬
‫عناق ‪ ،‬وكانت صديقة له ‪ ،‬وكان وعد رجال من أسرى مكة أن حيمله ‪ ،‬قال ‪ :‬فجئت حىت‬
‫انتهيت إىل ظل حائط من حوائط مكة يف ليلة مقمرة ‪ ،‬فجاءت عناق ‪ ،‬فأبصرت سواد ظلي‬
‫إيل عرفتين ‪ ،‬فقالت ‪ :‬مرثد ‪ ،‬قلت ‪ :‬مرثد ‪ ،‬فقالت ‪ :‬مرحبا وأهال ‪،‬‬
‫حتت احلائط ‪ ،‬فلما انتهت ّ‬
‫اّلل تعاىل الزّن‪ .‬قالت ‪ :‬اي أهل اخليام ‪ ،‬هذا‬
‫هلم فبت عندان الليلة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي عناق قد حرم ّ‬
‫ّ‬
‫الرجل الذي حيمل أسراكم‪ .‬قال ‪ :‬فتبعين مثانية ‪ ،‬فانتهيت إىل غار فجاؤوا حىت قاموا على رأسي‬
‫اّلل تعاىل عين‪ .‬قال ‪ :‬مث رجعوا ورجعت إىل صاحيب ‪،‬‬
‫فظل بوهلم على رأسي ‪ ،‬وأعماهم ّ‬
‫‪ ،‬وابلوا ‪ّ ،‬‬
‫اّلل! أنكح‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي رسول ّ‬ ‫النيب صلّى ّ‬ ‫فحملته حىت قدمت املدينة ‪ ،‬فأتيت ّ‬
‫ح إَِّال زانِيحةً أ ْحو مم ْش ِرحكةً حوالزَّانِيحةم ال‬ ‫ِ‬ ‫عناقا؟ فأمسك ومل يرد علي شيئا حىت نزل ‪ :‬الز ِ‬
‫َّاين ال يحنْك م‬ ‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫ني (‪ )3‬فقال رسول ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ْنكِحها إَِّال ز ٍ‬
‫ان أ ْحو مم ْش ِر ٌك حو مح ِّرحم ذل ح‬
‫ك حعلحى ال مْم ْؤمن ح‬ ‫ح م‬
‫«اي مرثد ال تنكحها» أخرجه أصحاب السنن «‪.»2‬‬
‫فاملراد ابلزاين أحد أولئك القوم ‪ ،‬أطلق عليه اسم الزّن الذي كان يفعله يف اجلاهلية للتوبيخ ‪،‬‬
‫فهو جماز ابعتبار ما كان ‪ ،‬واملراد ابلزانية إحدى هؤالء البغااي ‪ ،‬وهذا التأويل معرتض من وجوه ‪:‬‬
‫خيصص‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬جعل سبب النزول حكما على العام ‪ ،‬واملعتمد أ ّن سبب النزول ال ّ‬
‫يعرب يف أحكام القرآن الكرمي بلفظ عام مث يراد منه قوم خمصوصون ينتهي‬
‫اثنيا ‪ :‬أنه يبعد أن ّ‬
‫احلكم بوفاهتم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر ما رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)19 /5‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )307 /5‬كتاب التفسري ‪ ،‬حديث رقم (‪، )3177‬‬
‫ح إَِّال زانِيحةً‬ ‫ِ‬ ‫وأبو داود يف السنن (‪ ، )180 /2‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب قوله تعاىل ‪ :‬الز ِ‬
‫َّاين ال يحنْك م‬
‫حديث رقم (‪ ، )20 - 1‬والنسائي يف السنن (‪ ، )374 /6 - 5‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب تزويج‬
‫الزانية حديث رقم (‪.)3228‬‬

‫ص ‪548 :‬‬
‫اّلل ابلزّن أحد أولئك القوم وهم مهاجرون قد أسلموا وحسن‬
‫اثلثا ‪ :‬أنه يبعد كل البعد أن يصف ّ‬
‫اّلل عنهم كل أوضار الشرك وآاثره‪.‬‬
‫إسالمهم ‪ ،‬وحما ّ‬
‫رابعا ‪ :‬عدم التوافق بني معىن الزاين والزانية هنا ‪ ،‬ومعناها يف اآلية السابقة ‪:‬‬
‫َّاين فح ِ‬
‫كل من اآليتني‪.‬‬ ‫الزَّانِيحةم حوالز ِ ْ‬
‫اجل مدوا إخل وقد قلنا ‪ :‬إ ّن األوىل احتاد املعىن يف ّ‬
‫ولعلّك تفهم من صنيعنا يف ترتيب هذه التأويالت أ ّن أقواها وأوالها ابلصواب فيما نرى األول‬
‫والثاين‪.‬‬
‫فعلي وعائشة والرباء وابن‬
‫وبعد ‪ ...‬فإان ذاكرون لك هنا خالف السلف يف تزويج الزانية ‪ّ ،‬‬
‫مسعود يف إحدى الروايتني عنه أ ّن من زّن ابمرأة أو زّن هبا غريه ال حيل له أن يتزوجها‪.‬‬
‫وعن علي إذا زّن الرجل فرق بينه وبني امرأته ‪ ،‬وكذلك هي إذا زنت‪.‬‬
‫وعن احلسن أ ّن احملدودة يف الزّن ال يتزوجها إال حمدود مثلها‪.‬‬
‫وأبو بكر ‪ ،‬وعمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن مسعود يف الرواية األخرى عنه ‪ ،‬وجماهد ‪،‬‬
‫وسليمان بن يسار ‪ ،‬وسعيد بن جبري يف آخرين من التابعني ‪ ،‬وفقهاء األمصار مجيعا ‪ :‬على جواز‬
‫نكاح الزانية ‪ ،‬وأ ّن الزاين ال يوجب حترميها على الزوج ‪ ،‬وال يوجب الفرقة بينهما‪.‬‬
‫ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه الطرباين والدار قطين «‪ »1‬من‬
‫اّلل عليه وسلّم عن رجل زّن ابمرأة ‪ ،‬وأراد أن‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫حديث عائشة قالت ‪ :‬سئل رسول ّ‬
‫حيرم احلالل»‪.‬‬
‫يتزوجها فقال ‪« :‬أوله سفاح وآخره نكاح ‪ ،‬واحلرام ال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫وما رواه أبو داود والنسائي «‪ »2‬وغريمها عن ابن عباس أ ّن رجال قال للنيب صلّى ّ‬
‫‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬غرهبا» قال ‪ :‬أخاف أن تتبعها‬
‫«إن امرأيت ال متنع يد ال مس»‪ .‬قال صلّى ّ‬
‫نفسي قال ‪:‬‬
‫«فاستمتع هبا»‬
‫وإسناده إسناد صحيح‪.‬‬
‫قال أبو سليمان اخلطايب إمام هذا الفن يف «معامل السنن» قوله ‪« :‬ال متنع يد المس» معناه‬
‫«غرهبا»‬
‫الزانية ‪ ،‬وأّنا مطاوعة من أرادها ‪ ،‬ال ترد يده ‪ ،‬قال ‪ :‬وقوله ‪ّ :‬‬
‫أي أبعدها ابلطالق ‪ ،‬وأصل الغرب البعد ‪ ،‬قال ‪ :‬وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬فاستمتع هبا»‬
‫وقوله صلّى ّ‬
‫أي ال متسكها إال بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطرها ‪ ،‬واالستمتاع ابلشيء االنتفاع به‬
‫إىل مدة ‪ ،‬ومنه نكاح املتعة ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪:‬‬
‫هذهِ ا ْحلحياةم ُّ‬
‫الدنْيا حمتاعٌ [غافر ‪ ]39 :‬اه وهكذا فسره احملققون من الفقهاء‬ ‫إِ َّمنا ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كنز العمال للمتقي اهلندي ‪ ،‬حديث رقم (‪].....[ .)47657‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )179 /2‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب النهي عن تزويج من مل يلد‬
‫حديث رقم (‪ ، )2049‬والنسائي (‪ ، )375 /6 - 5‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب تزويج الزانية حديث‬
‫رقم (‪.)3229‬‬

‫ص ‪549 :‬‬
‫وأهل احلديث ‪ ،‬فيكون فيه حجة على جواز نكاح الزانية ‪ ،‬وعلى أ ّن الزوجة إذا زنت ال ينفسخ‬
‫نكاحها‪.‬‬
‫أتوله على أّنا سخية تعطي ‪ ،‬وال ترد من يلتمس منها ماال ‪ ،‬فهو أتويل بعيد عن‬
‫وأما أتويل من ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الصواب ‪ ،‬إذ لو أراد هذا لقال ‪ :‬ال ترد يد ملتمس ‪ ،‬ولقال له ّ‬
‫أحرز عنها مالك‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬ملا ذا بدئ ابلزاين هنا وبدئ ابلزانية يف اآلية السابقة ‪ ،‬وما السر يف ذلك؟‬
‫واجلواب ‪ :‬أنه بدئ ابلزانية هناك ملا علمت آنئذ وبدئ ابلزاين هنا أل ّن هذه اآلية مسوقة لذكر‬
‫النكاح ‪ ،‬والرجل فيه هو األصل ‪ ،‬أل ّن إبداء الرغبة والتماس النكاح ابخلطبة إمنا يكون من الرجل‬
‫ال من املرأة يف جمرى العرف والعادة‪.‬‬
‫ح إَِّال زانِيحةً أ ْحو مم ْش ِرحكةً حوالزَّانِيحةم ال‬ ‫ِ‬
‫الز ِاين ال يح ْنك م‬
‫قد يظن من ال يدقق النظر أ ّن معىن اجلملتني ‪َّ :‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ظن خاطئ ‪ ،‬أل ّن معىن اجلملة‬ ‫حها إَِّال زان أ ْحو مم ْش ِر ٌك واحد ‪ ،‬وأنّه ال فرق بينهما ‪ ،‬ولكن هذا ّ‬ ‫يح ْنك م‬
‫األوىل أ ّن الزاين ال يرغب إال يف زانية أو مشركة ‪ ،‬ولو اقتصر على هذه اجلملة مل يعرف حال‬
‫الزانية ‪ ،‬فجاءت اجلملة الثانية مبينة أنه ال يرغب فيها إال زان أو مشرك ‪ ،‬فاجلملة األوىل تصف‬
‫الزاين أبنّه ال يرغب يف العفيفات املؤمنات ‪ ،‬وإمنا يرغب يف الفواجر أو املشركات ‪ ،‬واجلملة‬
‫الثانية تصف الزانية أبّنّا ال يرغب فيها األعفاء املؤمنون ‪ ،‬وإمنا يرغب فيها الفجار أو املشركون ‪،‬‬
‫وهذان معنيان خمتلفان ‪ ،‬ألنّه ال يلزم عقال من كون الزاين ال يرغب إال يف زانية أ ّن الزانية كذلك‬
‫ال يرغب فيها غري الزاين ‪ ،‬فجاءت اجلملة الثانية مبينة هلذا املعىن‪.‬‬
‫حد القذف‬
‫نات ممثَّ حمل أيْتموا ِأبحرب عةِ مشهداء فح ِ‬ ‫ِ‬
‫ني حجلْ حدةً حوال‬‫وه ْم مثحانِ ح‬
‫اجل مد م‬‫ص ِ ْ ح ْح ح ح ح ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْرممو حن ال مْم ْح ح‬ ‫قال ّ‬
‫حوا فحِإ َّن َّ‬
‫اّللح‬ ‫حصلح م‬
‫ك حوأ ْ‬ ‫ين اتبموا ِم ْن بح ْع ِد ذلِ ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك مه مم الْفاس مقو حن (‪ )4‬إَِّال الَّذ ح‬ ‫هادةً أحبحداً حوأمولئِ ح‬
‫تح ْقبح لموا حهلم ْم حش ح‬
‫يم (‪ )5‬أصل الرمي ‪ :‬القذف بشيء صلب ‪ ،‬يقال ‪ :‬رمى فالان ابحلجر وحنوه ‪ :‬قذفه به‬ ‫غح مف ِ‬
‫ور حرح ٌ‬
‫ٌ‬
‫‪ ،‬ورمى احلجر ‪ :‬ألقاه ‪ ،‬واستعمال الرمي يف الشتم جماز ‪ ،‬وهو املراد هنا ‪ ،‬والقرينة قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ممثَّ حملْ حأيْتموا ِأب ْحربح حعةِ مش حهداءح أل ّن اإلتيان ابلشهادة هنا يف مصلحة الرامني ‪ ،‬وليس من املعقول أن‬
‫فتعني أن‬
‫يكون من مصلحتهم اإلتيان أبربعة يشهدون أبّنم رموا احملصنات ابحلجر أو حنوه ‪ّ ،‬‬
‫يكون املراد أّنّم يشتمون احملصنات ويرموّنم ابلعيب ‪ ،‬مث مل أيتوا أبربعة شهداء يشهدون على‬
‫ويدل عليه إيراد اجلملة‬
‫صدقهم فيما رموا به احملصنات من العيب‪ .‬مث املراد بذلك العيب الزّن ‪ّ ،‬‬
‫عقيب الكالم يف الزّن وأحكامه‪.‬‬
‫املنزهات عن‬
‫والتعبري عن املفعول ابحملصنات ‪ ،‬وأشهر معاين الكلمة العفيفات ّ‬

‫ص ‪550 :‬‬
‫الزّن ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬يرمون املنزهات عن الزّن ‪ ،‬ويكاد هذا يكون صرحيا يف أ ّن املراد يرموّنم‬
‫ابلزّن ‪ ،‬مث اشرتاط أربعة من الشهود مع العلم أبنه ال شيء يتوقف ثبوته على شهادة أربعة إال‬
‫يقوي أ ّن املراد الرمي ابلزّن‪.‬‬
‫الزّن ّ‬
‫وأصل اإلحصان ‪ :‬املنع ‪ ،‬واحملصن ابلفتح يكون مبعىن الفاعل واملفعول ‪ ،‬وهو أحد الكلمات‬
‫الثالث اليت جاءت نوادر يقال ‪ :‬أحصن فهو حمصن ‪ ،‬وأسهب فهو مسهب ‪ ،‬وأفلح ‪ -‬إذا‬
‫افتقر ‪ -‬فهو مفلح ‪ ،‬والفاعل واملفعول يف هذه األحرف الثالثة سواء‪.‬‬
‫واملفهومات اليت يطلق عليها لفظ اإلحصان أربعة ‪ :‬فاملرأة تكون حمصنة ‪:‬‬
‫ابلعفاف واإلسالم ‪ ،‬وابحلرية ‪ ،‬وابلتزوج‪ .‬وكذلك الرجل‪.‬‬
‫والصور اليت يتحقق هبا القذف أربع ‪ :‬فقد يكون القاذف واملقذوف رجلني ‪ ،‬وقد يكوانن امرأتني‬
‫‪ ،‬وقد يكون القاذف رجال واملقذوف امرأة ‪ ،‬وقد يكون القاذف امرأة واملقذوف رجال‪ .‬فهل‬
‫نستطيع أن أنخذ من اآلية أحكام الصور األربع؟ ال شك أ ّن اآلية جعلت الرامي من جنس‬
‫تعرضت ابلنص‬
‫الرجال ‪ ،‬والظاهر أ ّن املراد من احملصنات النساء احملصنات ‪ ،‬وحينئذ تكون اآلية ّ‬
‫لصورة واحدة من الصور األربع ‪ ،‬وهي أن يكون القاذف رجال واملقذوف امرأة‪.‬‬
‫أما حكم الصور الثالث الباقية فإمنا يثبت بداللة النص ‪ ،‬للقطع إبلغاء الفارق ‪ ،‬وهو صفة‬
‫األنوثة يف املقذوف ‪ ،‬وصفة الذكورة يف القاذف ‪ ،‬واستقالل دفع العار ابلتأثري يف شرع احلكم ‪،‬‬
‫وحينئذ يكون ختصيص الذكور يف جانب القاذف ‪ ،‬واإلانث يف جانب املقذوف خلصوص احلادثة‪.‬‬
‫وقد أخرج البخاري «‪ »1‬أ ّن اآلية نزلت يف عومير وامرأته ‪ ،‬وعن سعيد بن جبري أّنّا نزلت يف‬
‫قصة اإلفك‪ .‬ومن قال ‪ :‬إ ّن املراد ابحملصنات يف اآلية الفروج احملصنات ‪ ،‬أو األنفس احملصنات ‪،‬‬
‫مل خيل قوله عن وهن وضعف‪.‬‬
‫لكن قواعد الشرع تقتضي‬
‫ومل تشرط اآلية يف القاذف أكثر من عجزه عن اإلتيان أبربعة شهداء ‪ّ ،‬‬
‫أب ّن املخاطب مبثل هذا احلكم إمنا هو أهل التكليف ‪ :‬البالغ العاقل املختار العامل ابلتحرمي حقيقة‬
‫مبني يف كتب الفروع‪.‬‬
‫أو حكما امللتزم ابألحكام إىل آخر ما هو ّ‬
‫وكذلك مل تشرط يف املقذوف أكثر من أن يكون حمصنا ‪ ،‬وقد كان يكفي يف حتقق الشرط أن‬
‫يكون املرمي حمصنا أبي معىن من معاين اإلحصان األربعة ‪ ،‬إال أنه ملا كان ثبوت احلد جيب فيه‬
‫االحتياط ‪ ،‬فال يثبت إال عن يقني ‪ :‬وجب اعتبار سائر‬
‫__________‬
‫ِ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )3 /6‬كتاب التفسري ‪ - 1 ،‬ابب الَّذ ح‬
‫ين يح ْرممو حن‬
‫واج مه ْم حديث رقم (‪.)4745‬‬
‫أح ْز ح‬

‫ص ‪551 :‬‬
‫املفهومات اليت يطلق عليها لفظ اإلحصان إال ما أمجع على عدم اعتباره هنا ‪ ،‬وهو كون املرمي‬
‫زوجا أو زوجة‪.‬‬
‫وأشهر معاين اإلحصان ‪ :‬الع ّفة عن الزّن ‪ ،‬فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزّن ‪ ،‬معتربة يف‬
‫حتقق اإلحصان هنا قطعا ‪ ،‬ال نعلم يف ذلك خالفا ألحد ‪ ،‬فمن قذف شخصا غري عفيف ال حي ّد‬
‫ابتفاق‪.‬‬
‫واشرتاط العفة عن الزّن يف حتقق اإلحصان يستتبع اشرتاط البلوغ والعقل يف حتققه أيضا ‪ ،‬إذ إن‬
‫عف عن الزّن ‪ ،‬وكذلك اجملنون ال يقال فيه ‪:‬‬
‫الصيب ال يقال فيه ّ‬
‫عف عن‬
‫عف عن الزّن ‪ ،‬وكما ال يقال لألعمى ‪ّ :‬‬
‫عف عن الزّن ‪ ،‬كما ال يقال للمجبوب ‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫كف عنه ‪ ،‬وذلك‬
‫يتصور الزّن منه ‪ ،‬مث ّ‬
‫عف عن الزّن ملن كان ّ‬
‫النظر إىل احملرمات ‪ ،‬إمنا يقال ّ‬
‫البالغ العاقل الفحل‪.‬‬
‫وال بد من اعتبار احلرية ‪ ،‬ألّنّا من معاين اإلحصان ‪ -‬على ما علمت ‪ -‬والرقيق ليس مبحصن‬
‫هبذا املعىن ‪ ،‬وإذا كان حمصنا من جهة أخرى ‪ ،‬فغاية ما فيه أنّه حمصن من وجه ‪ ،‬وغري حمصن من‬
‫وجه ‪ ،‬وذلك شبهة يف إحصانه ‪ ،‬فوجب درء احلد عن قاذفه‪.‬‬
‫وكذلك ال بد من اعتبار اإلسالم أيضا يف حتقيق اإلحصان ‪ ،‬فالكافر ليس مبحصن هبذا املعىن ‪،‬‬
‫وإذا كان حمصنا من جهة أخرى ‪ ،‬فغايته أنه حمصن من وجه وغري حمصن من وجه ‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫شبهة يف إحصانه ‪ ،‬فيجب درء احلد عن قاذفه‪.‬‬
‫ولو ال أ ّن اإلمجاع قائم على عدم اعتبار اإلحصان مبعىن التزوج لكان عدم التزوج شبهة يف‬
‫إحصان املقذوف ‪ ،‬فال حيد قاذفه‪.‬‬
‫واحلاصل أنّه يعترب يف حتقق إحصان املقذوف العفة عن الزّن ‪ ،‬واحلرية واإلسالم ‪ ،‬وأما البلوغ‬
‫والعقل فإّنّما من لوازم العفة ‪ -‬كما علمت ‪ -‬وهذا الذي ذكرانه لك هو رأي اجلمهور من‬
‫وأصح الروايتني عن أمحد ‪ ،‬ولبعض الفقهاء خالف يف شيء من ذلك‬
‫ّ‬ ‫العلماء وفقهاء األمصار ‪،‬‬
‫‪ :‬فداود الظاهري ال يشرتط احلرية يف املقذوف ‪ ،‬ويرى أ ّن قاذف العبد حيد ‪ ،‬فإن كان يكتفي يف‬
‫اإلحصان ابلعفة لشهرته فيها لزمه القول حبد من قذف كافرا عفيفا‪.‬‬
‫وروي عن ابن أيب ليلى أ ّن من قذف ذميّة هلا ولد مسلم حي ّد‪ .‬قال بعضهم ‪:‬‬
‫وكذلك حيد قاذفها إذا كانت حتت مسلم‪ .‬ذهبوا إىل ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها‬
‫املسلم‪.‬‬
‫وعن أمحد يف إحدى الروايتني القول حب ّد قاذف الصيب الذي جيامع مثله‪.‬‬
‫وقال مالك يف الصبية اليت جيامع مثلها ‪ :‬حي ّد قاذفها ‪ ،‬أحلق مالك وأمحد يف هذه الرواية دور‬
‫املراهقة ابلبلوغ ‪ ،‬ونظرمها يف ذلك إىل أ ّن املراهق يلحقه العار كما يلحق‬

‫ص ‪552 :‬‬
‫البالغ ‪ ،‬فوجب احل ّد لدفع العار‪ .‬وكذلك يقول مالك والليث ‪ :‬حي ّد قاذف اجملنون لدفع العار‬
‫الذي يلحقه‪.‬‬
‫واجلمهور مينعون حلوق العار للصيب واجملنون إذا نسبا إىل الزّن ‪ ،‬ولو فرضنا حلوق العار فليس‬
‫ذلك على الكمال ‪ ،‬فيندرئ احلد عن قاذفهما ‪ ،‬وليس معىن ذلك أنه ال عقوبة على قاذفهما ‪،‬‬
‫بل جيب على اإلمام تعزيره لإليذاء‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬ممثَّ حملْ حأيْتموا ِأب ْحربح حعةِ مش حهداءح قد شرط يف حتقق القذف املستوجب للعقوبة عجز القاذف‬
‫عن اإلتيان أبربعة يشهدون أّنم قد رأوا املقذوف يزين ‪ ،‬والتاء يف ِأب ْحربح حعةِ مش حهداءح يف ظاهرها تفيد‬
‫اعتبار كوّنم من الرجال ‪ ،‬واحلكم كذلك ‪ ،‬ألنّه ال مدخل لشهادة النساء يف احلدود ابتفاق‪ .‬ومل‬
‫يستفد من اآلية يف صفة هؤالء الشهداء أكثر من أّنم أربعة رجال من أهل الشهادة‪ .‬وللعلماء‬
‫خالف يف أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون ‪ :‬ال بد يف أهل الشهادة أن يكون عدال ‪،‬‬
‫فساق فهم قذفة عند الشافعية‬
‫واحلنفية يقولون ‪ :‬الفاسق من أهل الشهادة ‪ ،‬فإذا شهد أربعة ّ‬
‫حيدون كما حيد القاذف األول ‪ ،‬إذ مل أيت أبربعة من أهل الشهادة‪ .‬واحلنفية يقولون ‪ :‬ال حد‬
‫عليه ‪ ،‬ألنه أتى أبربعة من أهل الشهادة ‪ ،‬إال أ ّن الشرع مل يعترب شهادهتم لقصور يف الفاسق ‪،‬‬
‫فثبتت بشهادهتم شبهة الزّن ‪ ،‬فيسقط احلد عنهم وعن القاذف ‪ ،‬وكذلك عن املقذوف العتبار‬
‫العدالة يف ثبوت الزّن‪.‬‬
‫وظاهر العموم يف اآلية أنه يكفي أن يكون أحد األربعة زوج املقذوفة ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال أبو‬
‫حنيفة وأصحابه‪.‬‬
‫وقال مالك والشافعي ‪ :‬يالعن الزوج ‪ ،‬وحي ّد الثالثة ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك أ ّن الشهادة ابلزّن قذف‬
‫‪ ،‬بدليل أ ّن الشاهد حي ّد إذا مل يكمل النصاب ‪ ،‬ولفظ اآلية وإن كان عاما إال أن آية اللعان‬
‫واخلاص مق ّدم على العام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخص من اآلية اليت معنا ‪،‬‬
‫جعلت للزوج حكما خيصه ‪ ،‬وآية اللعان ّ‬
‫وظاهر اإلطالق يف اآلية أنّه إذا أتى أبربعة شهداء كيفما اتفق جميئهم جمتمعني أو متفرقني فهو‬
‫آت مبقتضى النص ‪ ،‬واجتماعهم أمر زائد ال إشعار به يف اآلية ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال مالك‬
‫والشافعي ‪ ،‬وأيدا قوهلما ابلقياس على الشهادة يف سائر األحكام ‪ ،‬بل تفريقهم أوىل ‪ ،‬ألنه أبعد‬
‫عن التهمة والتواطؤ‪.‬‬
‫وأيضا فليس من املمكن أن يشهدوا معا يف وقت واحد ‪ ،‬فال بد أن يسمع القاضي شهادهتم‬
‫واحدا بعد آخر ‪ ،‬فكذلك إذا اجتمعوا عند اببه ‪ ،‬مث دخلوا عليه واحدا بعد آخر‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬إذا جاؤوا متفرقني مل يسقط احلد عن القاذف ‪ ،‬وعليهم حد‬

‫ص ‪553 :‬‬
‫القذف ‪ ،‬وحجته يف ذلك أن الشاهد الواحد ملا شهد صار قاذفا ومل أيت أبربعة شهداء ‪ ،‬فوجب‬
‫عليه احلد ‪ ،‬وخرج عن كونه شاهدا ‪ ،‬وال عربة بتسميته شاهدا إذا فقد املسمى ‪ ،‬فال خالص من‬
‫هذا اإلشكال إال ابشرتاط االجتماع‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أيضا أنه إذا مل أيت القاذف بتمام العدة ‪ ،‬أبن أتى ابثنني أو ثالثة منها جلد ‪ ،‬ومل‬
‫صح أنه رفع إىل‬
‫تتعرض اآلية حلكم الشهود إذا مل يكملوا النصاب ‪ ،‬واملأثور أّنّم حيدون ‪ ،‬فقد ّ‬
‫ّ‬
‫عمر بن اخلطاب حادثة شهد فيها على املغرية بن شعبة ابلزّن ‪ :‬شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه‬
‫انفع وكان رابعهم زايدا ‪ ،‬فلم جيزم ابلشهادة حبقيقة الزّن ‪ ،‬فحد الثالثة عمر مبحضر من‬
‫اّلل عنهم ‪ ،‬ومل ينكروا عليه‪.‬‬ ‫الصحابة رضي ّ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬فح ِ‬
‫ني حجلْ حدةً املخاطب فيه هم أولياء األمر من احلكام‪.‬‬ ‫وه ْم مثحانِ ح‬
‫اجل مد م‬
‫ْ‬
‫واح ٍد ِم ْن هما ِمائحةح جلْ حدةٍ‬
‫وقد سبق الكالم آنفا فيمن يلي احل ّد يف تفسري قوله تعاىل ‪ :‬فحاجلِ مدوا مك َّل ِ‬
‫ح‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ين يح ْرممو حن إخل أ ّن الزوج وغريه يف هذا احلكم‬ ‫وظاهر العموم يف اسم املوصول يف قوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫سواء ‪ ،‬وأن الزوج إذا قذف زوجته ‪ ،‬وعجز عن البينة فعليه احلد‪.‬‬
‫لكن آية اللعان قد جعلت للزوج خمرجا إذا هو عجز عن البينة ‪ ،‬فشرعت له اللعان كما أييت ‪،‬‬
‫خمصصة للعموم يف املوصول هنا ‪ ،‬وظاهر العموم أيضا أ ّن الرقيق واحلر يف‬
‫فتكون آية اللعان ّ‬
‫ذلك احلكم سواء ‪ ،‬وأ ّن كال منهما جيلد مثانني جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه ‪ ،‬وهبذا الظاهر‬
‫قال ابن مسعود واألوزاعي ‪ ،‬وهو أيضا مذهب الشيعة‪.‬‬
‫لكن فقهاء األمصار جممعون على أ ّن حد الرقيق يف القذف أربعون جلدة على النصف من حد‬
‫ّ‬
‫احلر ‪ ،‬كما يف الزّن ‪ ،‬وعلى ذلك تكون اآلية خاصة ابألحرار‪.‬‬
‫وه ْم أ ّن اإلمام يقيم احل ّد ولو من غري طلب املقذوف ‪ ،‬وهبذا قال ابن‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فح ِ‬
‫اجل مد م‬
‫ْ‬
‫أيب ليلى‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وأصحابه واألوزاعي والشافعي ‪ :‬ال حيد إال مبطالبة املقذوف‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬إذا مسعه اإلمام يقذف حده ولو مل يطلب املقذوف ‪ ،‬إذا كان مع اإلمام شهود‬
‫عدول‪.‬‬
‫وال خيفى أ ّن القول بتوقف استيفاء احلد على املطالبة ظاهر يف أ ّن احلد حق العبد ‪ ،‬كما أ ّن‬
‫اّلل‬
‫شك فيه أن يف القذف تعداي على حقوق ّ‬ ‫تنصيفه على الرقيق ظاهر يف أنّه حق ّّلل ‪ ،‬وِما ال ّ‬
‫اّلل وحلق العبد‪ .‬هذا املقدار ال‬
‫تعاىل ‪ ،‬وانتهاكا حلرمة املقذوف ‪ ،‬فكان يف شرع احلد صيانة حلق ّ‬
‫خالف فيه ألحد ‪ ،‬إمنا اخلالف بني الشافعية واحلنفية يف الذي يغلب من احلقني على اآلخر‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪،‬‬
‫جل شأنه‪ .‬واحلنفية يغلبون حق ّ‬
‫اّلل ّ‬
‫فالشافعية يغلّبون حق العبد ابعتبار حاجته وغىن ّ‬
‫أل ّن ما للعبد من‬

‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فإذا غلّبنا حق‬


‫ص ‪ 554 :‬احلقوق يتوىل استيفاءه مواله ‪ ،‬فيصري حق العبد اتبعا حلق ّ‬
‫اّلل تعاىل كان ح ّق العبد مستوىف ال مهدرا ‪ ،‬وليس العكس كذلك‪ .‬فما ال تعارض فيه من الصور‬
‫ّ‬
‫اّلل وحق العبد فأمره ظاهر ‪ ،‬وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد احلقني‪.‬‬
‫بني ح ّق ّ‬
‫احلر ‪ ،‬ويعجز عن البينة ‪ ،‬ويطلب املقذوف إقامة احلد عليه ‪،‬‬
‫فمثال ما ال تعارض فيه أن يقذف ّ‬
‫فيستوفيه اإلمام‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل تعاىل ح ّد العبد إذا قذف ‪ ،‬فلو ال تغليب حق ّ‬
‫ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق ّ‬
‫فيه ما تنصف ‪ ،‬وِما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا مل يطلب املقذوف إقامة احلد فليس‬
‫لإلمام أن يستوفيه‪.‬‬
‫أما ما تعارض فيه احلقان واختلف الشافعية واحلنفية يف حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات املقذوف‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وألنّه ليس ماال ‪ ،‬وال مبنزلة‬
‫قبل استيفاء احلد ‪ ،‬فاحلنفية يقولون بسقوطه تغليبا حلق ّ‬
‫املال ‪ ،‬بل هو حق حمض كخيار الشرط وحق الشفعة‪.‬‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬ال يسقط احلد مبوت املقذوف ‪ ،‬بل يقوم ورثته مقامه يف املطالبة به ‪ ،‬ويرثونه‬
‫عنه تغليبا حلق العبد‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنّه إذا قذف مجاعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فاحلنفية يقولون بتداخل احلد ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬كمن زّن مرارا أو سرق أو شرب اخلمر كذلك ‪،‬‬
‫وعليه للجميع ح ّد واحد تغليبا حلق ّ‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬ال يتداخل احلد ‪ ،‬فعليه لكل منهم حد تغليبا حلق العباد‪.‬‬
‫يصح العفو عند الشافعية ‪ ،‬ويسقط احلد تغليبا حلق‬
‫ومنها ‪ :‬إذا عفا املقذوف عن احلد ‪ ،‬فإنه ّ‬
‫العبد‪ .‬وقال احلنفية ‪ :‬ال يسقط احلد بعفو املقذوف بعد طلبه إقامته‪.‬‬
‫ك مهم ال ِ‬‫ِ‬ ‫فح ِ‬
‫ْفاس مقو حن هذه ثالث عقوابت‬ ‫هادةً أحبحداً حوأمولئ ح م‬ ‫وه ْم مثحانِ ح‬
‫ني حجلْ حدةً حوال تح ْقبح لموا حهلم ْم حش ح‬ ‫اجل مد م‬
‫ْ‬
‫يدل على أن بعض هذه العقوابت مرتب على‬ ‫ترتبت على القذف بشرطه ‪ ،‬وليس يف اآلية ما ّ‬
‫بعض ‪ ،‬أل ّن العطف فيها ابلواو‪ .‬بل غاية ما أفادته اآلية أ ّن اجملموع مرتب على القذف بشرط ‪،‬‬
‫نات ممثَّ حملْ حأيْتموا ِأب ْحربح حعةِ مش حهداءح فامجعوا هلم هذه العقوابت‬
‫فكأنه قيل ‪ :‬والَّ ِذين ي رمو حن الْم ْحص ِ‬
‫ح ح حْ م م ح‬
‫الثالث ‪ :‬جلدهم مثانني جلدة ‪ ،‬ورد شهادهتم ‪ ،‬وتفسيقهم‪.‬‬
‫فظاهر اآلية أنه مىت قذف وعجز عن البينة استحق العقوابت الثالث ‪ ،‬وال يتوقف رد شهادته‬
‫على جلده‪ .‬وهبذا الظاهر قال الشافعي والليث‪ .‬وقال أبو حنيفة ومالك ‪ :‬ال ترد شهادته إال بعد‬
‫جلده ‪ ،‬فما مل جيلد يكون مقبول الشهادة ‪ ،‬وحجتهما يف ذلك أ ّن الواو ‪ ،‬وإن مل تقتض الرتتيب‬
‫لكن الظاهر من الرتتيب يف الذكر أنه على وفق الرتتيب يف احلكم ‪ ،‬وأ ّن األصل قبول شهادته‬
‫‪ّ ،‬‬
‫ما مل يطرأ مانع ‪ ،‬وأ ّن‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬املسلمون‬
‫قوله صلّى ّ‬

‫ص ‪555 :‬‬
‫عدول بعضهم على بعض إال حمدودا يف قذف» «‪»1‬‬
‫صريح يف شهادة القاذف ال ترد إال بعد حده‪.‬‬
‫هادةً أحبحداً ألولياء األمر من احلكام ‪ ،‬ألنّه على نسق‬
‫واخلطاب يف قوله تعاىل ‪ :‬حوال تح ْقبح لموا حهلم ْم حش ح‬
‫اخلطاب يف قوله تعاىل ‪ :‬فح ِ‬
‫وه ْم مثحانِ ح‬
‫ني حجلْ حدةً واملراد ابلشهادة اإلخبار حبق للغري على الغري‬ ‫اجل مد م‬ ‫ْ‬
‫أمام احلاكم ‪ ،‬ولفظ (شهادة) نكرة واقعة يف سياق النهي ‪ ،‬فيكون عاما ‪ ،‬وظاهر العموم فيه‬
‫يقتضي أ ّن شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف ‪ ،‬وكذلك‬
‫شهادة من قذف وهو كافر ‪ ،‬مث أسلم‪ .‬ومن قذف وهو عبد ‪ ،‬مث أعتق ‪ :‬كل هؤالء ال تقبل‬
‫شهادهتم مبقتضى العموم يف اللفظ‪ .‬إال أ ّن احلنفية استثنوا الكافر إذا ح ّد يف القذف مث أسلم ‪،‬‬
‫فإ ّن شهادته بعد إسالمه تكون مقبولة‪.‬‬
‫نظروا يف ذلك إىل أن الكافر الذي أسلم قد استفاد ابإلسالم عدالة مل تكن موجودة من قبل ‪،‬‬
‫فلم تدخل حتت الرد ‪ ،‬والذي دخل حتت الرد إمنا هو شهادته اليت كان أهال هلا عند القذف ‪،‬‬
‫وهي شهادته على أهل دينه‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف ر ّد شهادة القاذف ‪ :‬أهو من متام احلد أم ذلك عقوبة زائدة على احلد؟‬
‫فذهب احلنفية «‪ »2‬إىل أن ر ّد شهادته من متام حده ‪ ،‬ويشهد هلم ظاهر اآلية ‪ ،‬فقد رتّبت على‬
‫القذف بشرطه عقوبتني ‪ ،‬وأوجبت على اإلمام استيفاءمها من القاذف ‪ ،‬فكأ ّن الظاهر أن‬
‫جمموعهما حد القذف ‪ ،‬أال ترى أن الشافعية قد فهموا من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬البكر ابلبكر جلد مئة وتغريب سنة»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫أ ّن جمموع اجللد والتغريب حد الزاين البكر‪ .‬وقال مالك والشافعي ‪ :‬احلد هو جلد مثانني فقط ‪،‬‬
‫وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على احلد ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك أ ّن املعروف يف احلدود أّنا‬
‫عقوابت بدنية ‪ ،‬ورد الشهادة عقوبة معنوية ‪ ،‬واحلدود اليت شرعت حلفظ األرواح والدين‬
‫والعرض والعقل واملال كلها عقوابت بدنية حمسوسة ‪ ،‬وحد القذف شرع لصيانة العرض ‪ ،‬فكان‬
‫إحلاقه ابألعم األغلب أوىل‪.‬‬
‫وأيضا‬
‫اّلل عليه وسلّم هلالل بن أمية ‪« :‬البينة أو ح ّد يف ظهرك»‬
‫فقوله صلّى ّ‬
‫صح أبن يقول ‪« :‬أو‬
‫يدل على أ ّن اجللد هو متام احلد ‪ ،‬إذ لو كان رد الشهادة من متام احلد ملا ّ‬
‫ّ‬
‫حد يف ظهرك» ألن رد الشهادة ال يكون يف ظهره ‪ ،‬بل وال يف سائر جسمه ‪ ،‬واتفاق الصحابة‬
‫على أ ّن حد السكران مثانون جلدة ‪ ،‬وعلى أنّه مثل حد املفرتي يدل على أن ح ّد املفرتي هو‬
‫اجللد فقط ‪ ،‬إذ لو كان ر ّد الشهادة من احلد يف القذف لكان من احلد يف السكر ‪ ،‬ولوجب رد‬
‫شهادة من سكر ‪ ،‬ومل يقل بذلك أحد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)280 /3‬‬
‫(‪ )2‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي (‪.)405 /1‬‬

‫ص ‪556 :‬‬
‫عرفوا احلد أبنه فعل يلزم اإلمام إقامته ‪ ،‬وليس الر ّد فعال يلزم اإلمام إقامته ‪ ،‬ألنه عمل‬
‫وقد ّ‬
‫سليب‪.‬‬
‫ويرتتب على هذا اخلالف أ ّن من قال أب ّن ر ّد الشهادة من متام احلد يلزمه القول أب ّن احلاكم ال‬
‫يرد شهادة القاذف إال بطلب املقذوف ‪ ،‬فما مل يطلب املقذوف رد شهادة قاذفه ال ينبغي‬
‫للحاكم أن يردها ‪ ،‬إذ كانت من احلد ‪ ،‬واحلد ال يستوفيه احلاكم إال بطلب املقذوف ‪ ،‬فهل‬
‫مذهب احلنفية كذلك؟ ومن قال أبن رد الشهادة ليس من احلد ال يرى رد الشهادة موقوفا على‬
‫طلب املقذوف‪.‬‬
‫اّلل ويف حكمه‬ ‫ك مهم ال ِ‬
‫ْفاس مقو حن معناه على ما قال بعضهم اإلخبار أبّنّم عند ّ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حوأمولئ ح م‬
‫فاسقون خارجون عن طاعته ‪ ،‬سواء أكانوا كاذبني يف قذفهم ‪ -‬وذلك ظاهر ‪ -‬أم كانوا صادقني‬
‫فيه‪ .‬فإّنّم هتكوا عرض املؤمن ‪ ،‬وأوقعوا السامع يف الشك والريبة من غري مصلحة دينية‪ .‬فكانوا‬
‫فسقة لذلك‪ .‬ويؤخذ من ذلك أ ّن القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة ‪ ،‬سواء أكان‬
‫القاذف كاذاب أم صادقا‪.‬‬
‫واختار الزخمشري «‪ »1‬أ ّن اجلملة إنشائية يف املعىن وإن كانت خربية يف اللفظ ‪ ،‬فمعىن حوأمولئِ ح‬
‫ك‬
‫فسقوهم‪ .‬ولعل مراده اعتربوهم فسقة ‪ ،‬واحكموا بفسقهم ‪ ،‬وعاملوهم معاملة‬ ‫ِ‬
‫مه مم الْفاس مقو حن ّ‬
‫اّلل أخرب أبّنم فاسقون‪ .‬واألمر قريب‪.‬‬
‫الفساق أل ّن ّ‬
‫اّلل غح مف ِ‬ ‫ين اتبموا ِم ْن بح ْع ِد ذلِ ح‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )5‬قال الشافعي ‪ :‬توبة القاذف‬ ‫حوا فحِإ َّن َّح ٌ‬
‫ور حرح ٌ‬ ‫حصلح م‬
‫ك حوأ ْ‬ ‫إَِّال الَّذ ح‬
‫وفسره اإلصطخري من أصحاب الشافعي أبن يقول كذبت فيما قلت فال أعود‬
‫إكذابه نفسه ‪ّ ،‬‬
‫إىل مثله ‪ ،‬وقال أبو إسحاق املروزي «‪ »2‬من أصحاب الشافعي ‪ :‬ال يقول كذبت ‪ ،‬ألنه رمبا‬
‫يكون صادقا ‪ ،‬فيكون قوله كذبت كذاب ‪ ،‬والكذب معصية ‪ ،‬واإلتيان ابملعصية ال يكون توبة عن‬
‫معصية أخرى ‪ ،‬بل يقول ‪ :‬القذف ابطل ‪ ،‬وندمت على ما قلت ‪ ،‬ورجعت عنه وال أعود إليه‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء ‪ :‬توبة القاذف كتوبة غريه ‪ ،‬أمر بينه وبني ربه ‪ ،‬ومرجعها إىل الندم على ما‬
‫قال ‪ ،‬والعزم على أال يعود‪.‬‬
‫والسر يف أ ّن الشافعي أدخل يف معىن التوبة التلفظ ابللسان ‪ ،‬مع أن التوبة من عمل القلب ‪ ،‬أنه‬
‫يرتب عليها حكما شرعيا ‪ ،‬وهو قبول شهادة احملدود إذا اتب ‪ ،‬فال ب ّد أن يعلم احلاكم توبته‬
‫حىت يقبل شهادته‪.‬‬
‫واحلنفية ال يقبلون شهادة احملدود يف قذف وإن اتب وأصلح ‪ ،‬لذلك كانت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ‪.)214 /3( ،‬‬
‫(‪ ) 2‬إبراهيم بن أمحد املروزي ‪ ،‬فقيه انتهت إليه رايسة الشافعية ابلعراق ولد مبرو ‪ ،‬وأقام ببغداد‬
‫وتويف مبصر ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)28 /1‬‬

‫ص ‪557 :‬‬
‫التوبة عندهم عمال قلبيا بني العبد وربه ‪ ،‬ليس من الضروري اطالعنا عليه ‪ ،‬ألنّه ليس هناك‬
‫حكم عملي يرتتب على هذه التوبة ‪ ،‬ومنشأ اخلالف يف ذلك خالفهم يف االستثناء يف اآلية وإالم‬
‫يرجع‪.‬‬
‫ومسألة رجوع االستثناء بعد اجلمل املتعاطفة ابلواو مسألة أصولية ذكر األصوليون اخلالف فيها‬
‫بني العلماء‪.‬‬
‫واملشهور عند األصوليني أ ّن أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إىل مجيع اجلمل ‪ ،‬وأ ّن أصحاب‬
‫أيب حنيفة يقولون برجوعه إىل اجلملة األخرية ‪ ،‬ومجاعة من املعتزلة يقولون ابلتفصيل ‪ ،‬وآخرون‬
‫يقولون ابالشرتاك ‪ ،‬وآخرون يقولون ابلوقف ‪ ،‬وليس هذا حمل ذكر احلجج للمختلفني‪.‬‬
‫والذي ينبغي ذكره هنا أ ّن اخلالف بني الشافعية واحلنفية إمنا هو يف الكالم إذا خال عن دليل‬
‫يدل على أحد الرأيني ‪ ،‬أما إذا كان يف الكالم دليل على أحد الرأيني فإنّه جيب املصري إليه بال‬
‫سلَّ حمةٌ إِىل أح ْهلِهِ إَِّال أح ْن يح َّ‬ ‫ٍ ٍِ ِ‬
‫ص َّدقموا [النساء ‪]92 :‬‬ ‫خالف‪ .‬فقوله تعاىل ‪ :‬فحتح ْح ِر مير حرقحبحة مم ْؤمنحة حوديحةٌ مم ح‬
‫تعني أ ّن االستثناء راجع إىل اجلملة األخرية وحدها‪ .‬وتلك القرينة هي امتناع‬
‫قد اشتمل على قرينة ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وتصدق الويل ال يكون مسقطا حلق ّ‬
‫عود االستثناء إىل حترير الرقبة ‪ ،‬ألنّه ح ّق ّ‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫صلَّبموا [املائدة ‪ ]33 :‬إىل قوله سبحانه وتعاىل ‪:‬‬ ‫وكذلك قوله تعاىل يف احملاربني ‪ :‬أح ْن يم حقتَّ لموا أ ْحو يم ح‬
‫ين اتبموا ِم ْن قح ْب ِل أح ْن تح ْق ِد مروا حعلحْي ِه ْم [املائدة ‪ ]34 :‬فيه دليل على رجوع االستثناء إىل‬ ‫ِ‬
‫إَِّال الَّذ ح‬
‫اجلمل كلها ‪ ،‬فإ ّن التقييد بقوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن قحبْ ِل أح ْن تح ْق ِد مروا عحلحيْ ِه ْم مينع عود االستثناء األخرية‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم [البقرة ‪ ]114 :‬إذ لو عاد إليها‬ ‫وحدها ‪ ،‬أعين قوله سبحانه ‪ :‬حوحهلم ْم ِيف ْاآلخ حرة حع ٌ‬
‫ذاب حعظ ٌ‬
‫وحدها مل يبق هلذا القيد فائدة ‪ ،‬إذ من املعلوم أ ّن التوبة من الذنب تسقط العذاب األخروي‬
‫سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها ‪ ،‬فلم يكن للتقييد بقوله ‪ِ :‬م ْن قح ْب ِل أح ْن تح ْق ِد مروا حعلحْي ِه ْم‬
‫فائدة إال سقوط احل ّد‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فح ِ‬
‫هادةً أحبحداً‬ ‫وه ْم مثحانِ ح‬
‫ني حجلْ حدةً حوال تح ْقبح لموا حهلم ْم حش ح‬ ‫اجل مد م‬
‫ْ‬ ‫ونعود إىل اآلية اليت معنا قول ّ‬
‫ْفاس مقو حن فيه ثالث مجل متعاطفة ابلواو ‪ ،‬ومعقبة ابالستثناء ‪ ،‬وال خالف بني‬ ‫ك مهم ال ِ‬ ‫ِ‬
‫حوأمولئ ح م‬
‫الفريقني أ ّن االستثناء غري راجع إىل اجلملة األوىل ‪ ،‬أما على رأي احلنفية فظاهر ‪ ،‬وأما على رأي‬
‫الشافعية فأل ّن احملافظة على ح ّق العبد قرينة على عدم رجوع االستثناء إىل اجللد ‪ ،‬فإ ّن حق العبد‬
‫ال يسقط بتوبة اجلاين ‪ ،‬فلم يبق إال اجلملتان األخرياتن ‪ :‬رد الشهادة ‪ ،‬والفسق ‪ ،‬وإذ ال قرينة‬
‫تعني أحد األمرين فقد وقع اخلالف ‪ ،‬ووجب التحاكم إىل احلجة والدليل ‪ ،‬وأنت إذا رجعت إىل‬
‫أدلة الفريقني ‪ -‬وهي كثرية يف كتب األصول ‪ -‬فإنّك ال جتد فيها ‪ -‬على كثرهتا ‪ -‬دليال سلم من‬
‫نقد‪.‬‬

‫ص ‪ 558 :‬وقد حاول بعض أجالء احلنفية االنتصار ملذهبه فقال ‪ :‬إ ّن يف اآلية قرينة تدل على‬
‫أ ّن االستثناء راجع إىل اجلملة األخرية وحدها‪ .‬وبيان ذلك أن قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك مهم ال ِ‬
‫ْفاس مقو حن مجلة مستأنفة بصيغة اإلخبار ‪ ،‬منقطعة عما قبلها ‪ ،‬جيء هبا لدفع ما‬ ‫ِ‬
‫حوأمولئ ح م‬
‫عساه خيطر ابلبال من أن القذف ال يصلح أن يكون سببا هلذه العقوبة ‪ ،‬ألنّه خرب حيتمل الصدق‬
‫‪ ،‬ورمبا يكون حسبة ‪ ،‬فكان ذلك االحتمال شبهة فيه ‪ ،‬والشبهة تدرأ احلد ‪ ،‬فكان قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك مهم ال ِ‬
‫ْفاس مقو حن دفعا لذلك الوهم ‪ ،‬ومعناه أّنّم ‪ -‬مع قيام هذا االحتمال ‪ -‬قد فسقوا‬ ‫ِ‬
‫حوأمولئ ح م‬
‫هبتك عرض املؤمن بال فائدة ‪ ،‬حيث عجزوا عن اإلثبات ‪ ،‬فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة‬
‫توجه االستثناء إليها وحدها‪.‬‬
‫‪ ،‬وإذا كانت اجلملة األخرية مستأنفة ّ‬
‫وأنت خبري أب ّن مآل هذا التأويل أ ّن العلة يف هذه العقوبة فسقهم ‪ ،‬وإذا كان الفسق الذي هو‬
‫علة يف ر ّد الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته ‪ ،‬وحمت أثره ‪ ،‬فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ر ّد‬
‫الشهادة الذي هو معلولة ‪ ،‬وينمحي أثره ‪ ،‬لضرورة زوال احلكم بزوال علته‪.‬‬
‫هادةً أحبحداً‬
‫أجالء الشافعية االنتصار ملذهبه ‪ ،‬فجعل مجلة تح ْقبح لموا حهلم ْم حش ح‬
‫وكذلك حاول بعض ّ‬
‫مستأنفة منقطعة عن اجلملة اليت قبلها ‪ ،‬ألّنّا ليس من تتمة احل ّد ملا علمت آنفا ‪ ،‬ويكون قوله‬
‫ك مهم ال ِ‬
‫ْفاس مقو حن اعرتاضا جاراي جمرى التعليل لعدم قبول الشهادة ‪ ،‬غري منقطع عما‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬حوأمولئ ح م‬
‫قبله ‪ ،‬وهلذا جاز توسطه بني املستثىن واملستثىن منه ‪ ،‬وال تعلّق لالستثناء به‪.‬‬
‫ولكنك تعلم أ ّن القول ابستئناف مجلة حوال تح ْقبح لموا حهلم ْم إخل بعيد كل البعد‪.‬‬
‫ولعل األوىل يف االستثناء ما ذهب إليه الزخمشري «‪ »1‬حيث قال ‪ :‬الذي يقتضيه ظاهر اآلية‬
‫ّ‬
‫ونظمها أن تكون اجلمل الثالث مبجموعهن جزاء الشرط ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ومن قذف فامجعوا هلم بني‬
‫األجزية الثالثة إال الذين اتبوا منهم ‪ ،‬فيعودون غري جملودين ‪ ،‬وال مردودي الشهادة ‪ ،‬وال‬
‫مفسقني ا ه‪ .‬أي لكن هذا الظاهر مل يعمل به يف خصوص اجللد لإلمجاع على أنه ال يسقط‬
‫ابلتوبة ملا فيه من حق العبد ‪ ،‬فبقي االستثناء يف ظاهره عائدا إىل ر ّد الشهادة والتفسيق‪.‬‬
‫هذا وقد سبق أاب حنيفة إىل القول بعدم قبول شهادة احملدود يف القذف إذا اتب كثري من علماء‬
‫التابعني منهم احلسن ‪ ،‬وابن سريين ‪ ،‬وسعيد بن املسيب ‪ ،‬وسعيد بن جبري‪.‬‬
‫وإىل ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا اتب ذهب أكثر التابعني ومجيع فقهاء األمصار‬
‫اّلل عنه جلد أاب‬
‫غري احلنفية‪ .‬ويف «صحيح البخاري» أ ّن عمر رضي ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ‪ ،‬لإلمام الزخمشري (‪.)214 /2‬‬

‫ص ‪559 :‬‬
‫بكرة وشبل بن معبد وانفعا بقذف املغرية بن شعبة‪ .‬مث استتاهبم وقال ‪ :‬من اتب قبلت شهادته‪.‬‬
‫اّلل غح مف ِ‬
‫يم تعليل ملا يفيده االستثناء ‪ :‬أي إال الذين اتبوا فاقبلوا شهادهتم‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬فحِإ َّن َّح ٌ‬
‫ور حرح ٌ‬
‫اّلل غفور رحيم‪.‬‬
‫اّلل غفور رحيم ‪ ،‬أو فال تفسوقهم أل ّن ّ‬
‫تفسقوهم ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫‪ ،‬وال ّ‬
‫اللعان‬
‫حح ِد ِه ْم أ ْحربح مع‬
‫هادةم أ ح‬
‫ش ح‬‫س مه ْم فح ح‬ ‫ِ‬
‫اج مه ْم حوحملْ يح مك ْن حهلم ْم مش حهداءم إ َّال أحنْ مف م‬
‫ين يح ْرممو حن أح ْزو ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫ني (‪)7‬‬ ‫اّللِ حعلحْيهِ إِ ْن كا حن ِمن ال ِ‬
‫ْكاذبِ ح‬ ‫ت َّ‬ ‫سةم أ َّ‬
‫حن ل ْحعنح ح‬ ‫ادقِني (‪ )6‬و ْ ِ‬
‫الص ِ ح‬ ‫هادات ِاب َّّللِ إِنَّهم ل ِحم حن َّ‬
‫حش ٍ‬
‫ح‬ ‫اخلام ح‬ ‫ح‬
‫ب‬ ‫سةح أ َّ‬ ‫هادات ِاب َّّللِ إِنَّه ل ِحمن الْكا ِذبِني (‪ )8‬و ْ ِ‬ ‫وي ْدرمؤا عح ْن حها الْعذاب أح ْن تح ْش حه حد أحربع حش ٍ‬
‫ض ح‬ ‫حن غح ح‬ ‫اخلام ح‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫م ح‬ ‫ْح ح‬ ‫ح ح‬ ‫حح ح‬
‫ني (‪ )9‬يف «القاموس» ‪ :‬الشهادة ‪ :‬اخلرب القاطع ‪ ...‬وأشهد بكذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللِ حعلحْيها إِ ْن كا حن م حن َّ‬ ‫َّ‬
‫الصادق ح‬
‫جل شأنه ‪ :‬إِذا جاءح حك‬ ‫َّ‬
‫أحلف ا ه ويف قوله تعاىل ‪ :‬اختح مذوا أ ْحميا حّنم ْم مجنَّةً [اجملادلة ‪ ]16 :‬بعد قوله ّ‬
‫اّللِ دليل على أ ّن الشهادة ترد مبعىن اليمني ‪ ،‬وقد أجرت‬ ‫ول َّ‬ ‫ك ل ححر مس م‬ ‫ال مْمنافِ مقو حن قالموا نح ْش حه مد إِنَّ ح‬
‫العرب الشهادة ‪ :‬أفعال العلم واليقني جمرى اليمني وتلقتها مبا يتلقى القسم ‪ ،‬وأكدت هبا الكالم‬
‫كما يؤكد ابلقسم‪.‬‬
‫وتسمى أيضا‬
‫وقد شاع يف لسان الشرع استعمال الشهادة مبعىن اإلخبار حب ّق للغري على الغري ‪ّ ،‬‬
‫بينة‪.‬‬
‫وقد ذكر مادة الشهادة يف آايت اللعان مخس مرات ‪ :‬أما األوىل فاملراد هبا البيّنة بال خالف حوحملْ‬
‫ِ‬
‫س مه ْم أي وليس هلم بينة أربعة رجال عدول يشهدون مبا رموهن به من‬ ‫يح مك ْن حهلم ْم مش حهداءم إ َّال أحنْ مف م‬
‫الزّن‪.‬‬
‫حح ِد ِه ْم فأوىل األقوال ابلصواب فيها أّنّا مبعىن البينة أيضا ‪ ،‬وأ ّن املراد فبينته‬
‫هادةم أ ح‬
‫ش ح‬ ‫وأما الثانية فح ح‬
‫املشروعة يف حقه أن يقول أربع مرات إخل ‪ ،‬ويكون الكالم على حد «ذكاة اجلنني ذكاة أمه» أي‬
‫حتل اجلنني هي ذكاة أمه‪ .‬فذكاة أمه ذكاة له ‪ ،‬كذلك هنا ‪ ،‬قول الزوج‬
‫الذكاة الشرعية اليت ّ‬
‫الكلمات اخلمس بينة له على صدق ما يقول ‪ ،‬وقائمة مقام أربعة رجال عدول يشهدون على‬
‫صدقه‪.‬‬
‫ابّلل» فهي حمتملة ألن تكون‬
‫ابّلل ‪ ،‬أن تشهد أربع شهادات ّ‬
‫وأما الثالثة الباقية «أربع شهادات ّ‬
‫مبعىن اإلخبار عن علم ‪ ،‬ومبعىن احللف والقسم ‪ ،‬أل ّن معىن «أربع شهادات اب ّّلل» أن يقول أربع‬
‫ابّلل على كذا حيتمل أن يكون خربا مؤكدا ابلشهادة‬
‫ابّلل إخل وقول القائل ‪ :‬أشهد ّ‬
‫مرات ‪ :‬أشهد ّ‬
‫‪ ،‬كما يؤّكد ابلقسم ‪ ،‬وحيتمل أن يكون قسما مؤكدا بلفظ الشهادة ‪ ،‬والعلماء خمتلفون يف املراد‬
‫ابّلل إخل ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬هي شهادات‬
‫هنا بكلمات اللعان يف قول أحد املتالعنني ‪ :‬أشهد ّ‬
‫غلبت عليها أحكام‬

‫ص ‪560 :‬‬
‫الشهادات ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬هي أميان غلبت فيها أحكام األميان ‪ ،‬وسيأيت بيان مثرة اخلالف يف‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ِ‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬إ َّال أحنْ مف م‬
‫س مه ْم أنه استثناء متصل‪ .‬وقيل ‪ :‬إن (إال) مبعىن (غري) ظهر إعراهبا‬
‫على ما بعدها بطريق العارية ‪ ،‬فإ ّن (إال) و(غري) يتعاوران االستثناء والوصفية ‪ ،‬فتكون (غري)‬
‫لالستثناء محال على (إال) وصفة محال على (غري) ومن العلماء من جعل االستثناء هنا منقطعا‬
‫يصح أن يستشهدها لو وجدها‪ .‬وأوىل األقوال يف هذا‬
‫لظهور أن الزوج ليس من البينة اليت كان ّ‬
‫االستثناء أنه متصل ‪ ،‬وأن فيه تغليب الشهداء حىت مشلوا الزوج القاذف ‪ ،‬والسر يف هذا‬
‫التغليب اإلشارة من أول األمر إىل اعتبار قوله ‪ ،‬وعدم إلغائه ‪ ،‬ليوافق ما آل إليه اللعان يف آخر‬
‫األمر من اعتبار قوله يف سقوط احلد عنه بكلماته وحدها‪.‬‬
‫اّلل والغضب ‪ :‬السخط ‪ ،‬وهو أشد من اللعن ‪ ،‬فلذلك أضيف الغضب‬
‫واللعن ‪ :‬الطرد من رمحة ّ‬
‫إىل املرأة ملا أ ّن جرميتها وهي الزّن أشد من جرمية الرجل ‪ ،‬وهي القذف‪.‬‬
‫ْمت [البقرة ‪ : ]72 :‬تدافعتم‪ .‬والعذاب ‪ :‬كل مؤمل ‪ ،‬واملراد به هنا‬
‫َّارأ مْ‬
‫والدرء ‪ :‬الدفع ‪ ،‬ومنه فحاد ح‬
‫ح ّد الزّن أو التعزير ابحلبس وحنوه ‪ ،‬على اختالف الرأيني كما ستعلم‪.‬‬
‫سبب نزول آايت اللعان‬
‫ذكر العلماء يف سبب نزول هذه اآلايت رواايت‬
‫اّلل عنهما أ ّن هالل بن أمية‬
‫فأخرج البخاري وأبو داود والرتمذي عن ابن عباس «‪ »1‬رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النيب صلّى‬
‫اّلل عنه قذف امرأته عند النيب صلّى ّ‬
‫رضي ّ‬
‫اّلل! إذا رأى أحدان على امرأته رجال‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬البينة أو ح ّد يف ظهرك» فقال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يقول ‪« :‬البينة أو ح ّد يف ظهرك» فقال‬
‫ينطلق يلتمس البينة ‪ ،‬فجعل النيب صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل ما يربئ ظهري من احلد ‪ ،‬فنزل جربيل عليه‬
‫‪ :‬والذي بعثك ابحلق إين لصادق ‪ ،‬ولينزلن ّ‬
‫الصالة والسالم ‪ ،‬وأنزل عليه‪.‬‬
‫ني فانصرف‬‫ادقِ ح‬ ‫س مه ْم حىت بلغ إِ ْن كا حن ِم حن َّ‬
‫الص ِ‬ ‫ِ‬
‫اج مه ْم حوحملْ يح مك ْن حهلم ْم مش حهداءم إ َّال أحنْ مف م‬
‫ِ‬
‫حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْرممو حن أح ْزو ح‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فأرسل إليهما ‪ ،‬فجاء هالل فشهد ‪ ،‬والنيب صلّى ّ‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫«اّلل يعلم أ ّن أحدكما كاذب ‪ ،‬فهل منكما اتئب؟» مث قامت فشهدت ‪ ،‬فلما كانت عند‬ ‫يقول ‪ّ :‬‬
‫اّلل عنهما فتلكأت ونكصت ‪،‬‬
‫اخلامسة وقفوها وقالوا هلا ‪ :‬إّنّا موجبة‪ .‬قال ابن عباس رضي ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل ال أفضح قومي سائر اليوم ‪ ،‬فمضت ‪ ،‬فقال النيب صلّى ّ‬
‫وظننا أّنا ترجع ‪ ،‬مث قالت ‪ :‬و ّ‬
‫عليه وسلّم ‪« :‬أبصروها‪ .‬فإن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )5 /6‬كتاب التفسري ‪ - 3 ،‬ابب (و يدرأ عنها‬
‫العذاب) حديث رقم (‪ ، )4747‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )309 /5‬كتاب التفسري ‪،‬‬
‫تفسري سورة النور حديث رقم (‪ ، )3179‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )253 /2‬كتاب الطالق ‪،‬‬
‫ابب يف اللعان حديث رقم (‪.)2254‬‬

‫ص ‪561 :‬‬
‫جاءت به أكحل العينني ‪ ،‬سابغ األليتني ‪ ،‬خدجل الساقني ‪ ،‬فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به‬
‫اّلل تعاىل لكان يل وهلا‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬لوال ما مضى من كتاب ّ‬
‫كذلك ‪ ،‬فقال النيب صلّى ّ‬
‫شأن»‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إّنا نزلت يف عاصم بن عدي ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إّنا نزلت يف عومير بن نصر العجالين ‪ ،‬ويف‬
‫السهيلي ‪ :‬إنه هو الصحيح ‪ ،‬ونسب غريه إىل‬
‫«صحيح البخاري» ما يشهد هلذا القول ‪ ،‬بل قال ّ‬
‫اخلطأ‪.‬‬
‫وحنن ندع اخلالف يف سبب النزول جانبا ‪ ،‬والذي يهمنا من ذلك أن مجيع الرواايت متفقة على‬
‫ثالثة أمور ‪:‬‬
‫أوهلا ‪ :‬أن آايت اللعان نزلت بعد آية قذف احملصنات برتاخ ‪ ،‬وأّنا منفصلة عنها‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أّنم كانوا قبل نزول آايت اللعان يفهمون من قوله تعاىل ‪ :‬والَّ ِذين ي رمو حن الْم ْحص ِ‬
‫نات‬ ‫م ح‬ ‫ح ح حْ م‬
‫اآلية أ ّن حكم من رمى األجنبية وحكم من رمى زوجته سواء‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أ ّن هذه اآلية نزلت ختفيفا على الزوج ‪ ،‬وبياان للمخرج ِما وقع فيه مضطرا‪.‬‬
‫نبني عالقة آايت اللعان آبية القذف ‪ ،‬فقواعد أصول احلنفية تقضي أب ّن آايت اللعان‬ ‫ونريد أن ّ‬
‫انسخة للعموم يف قوله تعاىل ‪ :‬والَّ ِذين ي رمو حن الْم ْحص ِ‬
‫نات لرتاخي نزوهلا عنها‪.‬‬ ‫ح ح حْ م م ح‬
‫وعلى ذلك يكون ثبوت احلد على من قذف زوجته منسوخا إىل بدل بيّنته آايت اللعان ‪ ،‬وليس‬
‫يف هذه اآلايت حكم يتعلق بقاذف زوجته أكثر من أنه يالعن‪.‬‬
‫وسائر األئمة غري احلنفية يقولون ‪ :‬إن آايت اللعان جعلت قاذف زوجته إذا مل أيت أبربعة شهداء‬
‫خمصصة لعموم قوله تعاىل ‪:‬‬
‫خمريا بني أن يالعن أو يقام عليه احلد ‪ ،‬فتكون آايت اللعان ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫كل من قذف حمصنة ومل أيت أبربعة‬ ‫والَّ ِذين ي رمو حن الْم ْح ِ‬
‫صنات ويكون نظم اآليتني هكذا ‪ّ :‬‬ ‫م ح‬ ‫ح ح حْ م‬
‫شهداء‪ .‬فموجب قذفه احلد ال غري ‪ ،‬إال من قذف زوجته ‪ ،‬فموجب قذفه إايها احلد أو اللعان‪.‬‬
‫السر يف أنه قد‬
‫ولعلّك تقول ‪ :‬ملا ذا كان حكم قاذف زوجته خمالفا حلكم قاذف األجنبية ‪ ،‬وما ّ‬
‫جاء هكذا خمففا؟‬
‫واجلواب ببيان حكمة مشروعية اللعان ‪ ،‬وذلك أنّه ال ضرر على الزوج يف زّن األجنيب ‪ ،‬واألوىل‬
‫له سرته ‪ ،‬وأما زّن زوجته فيلحق به العار وفساد النسب ‪ ،‬فال ميكنه الصرب عليه ‪ ،‬ومن الصعب‬
‫عليه جدا أن جيد البينة ‪ ،‬فتكليفه إايها فيه من العسر واحلرج ما ال خيفى‪.‬‬
‫وأيضا فإ ّن الغالب أ ّن الرجل ال يرمي زوجته ابلزّن إال عن حقيقة ‪ ،‬إذ ليس له الغرض يف هتك‬
‫حرمته ‪ ،‬وإفساد فراشه ‪ ،‬ونسبة أهله إىل الفجور ‪ ،‬بل ذلك أبغض إليه ‪ ،‬وأكره شيء لديه ‪،‬‬
‫فكان رميه إايها ابلقذف دليل صدقه ‪ ،‬إال أ ّن الشارع أراد كمال‬

‫ص ‪ 562 :‬شهادة احلال بذكر كلمات اللعان املؤّكدة ابألميان ‪ ،‬فجعلها ‪ -‬منضمة إىل قوة‬
‫جانب الزوج ‪ -‬قائمة مقام الشهود يف قذف األجنيب‪.‬‬
‫شروط املتالعنني‬
‫يصح لعانه أن يكون أهال ألداء الشهادة على املسلم ‪ ،‬ويف الزوجة‬
‫شرط احلنفية يف الزوج الذي ّ‬
‫أن تكون كذلك أهال ألداء الشهادة على املسلم ‪ ،‬وأن تكون ِمن حيد قاذفها ‪ ،‬فال لعان بني‬
‫رقيقني ‪ ،‬وال بني كافرين ‪ ،‬وال بني املختلفني دينا ‪ ،‬وال بني املختلفني حرية ورقّا ‪ ،‬أما كون الزوج‬
‫ِ‬
‫من أهل الشهادة فلقوله تعاىل ‪ :‬حوحملْ يح مك ْن حهلم ْم مش حهداءم إ َّال أحنْ مف م‬
‫س مه ْم فإ ّن االستثناء متصل يف ظاهره ‪،‬‬
‫واملعروف يف االستثناء املتصل أ ّن يكون املستثىن من جنس املستثىن منه ‪ ،‬فيكون الزوج شاهدا‬
‫يعترب فيه ما يعترب يف أهل الشهادة ‪ ،‬وأيضا فكلمات اللعان من الزوج يف ظاهرها شهادات‬
‫اّلل كلمات الزوج‬
‫مؤكدات أبميان ‪ ،‬فيجري على قائلها ما جيري على الشهود ‪ ،‬وكذلك جعل ّ‬
‫أقل من أن يشرتط يف قائلهن ما‬
‫األربع بدال من الشهود ‪ ،‬وقائمة مقامهم عند عدمهم ‪ ،‬فال ّ‬
‫يشرتط يف أحد الشهود‪.‬‬
‫وأما كون الزوجة من أهل الشهادة فألن لعاّنا معارضة للعانه ‪ ،‬فكما اشرتطنا يف الزوج أن يكون‬
‫أهال ألداء الشهادة على املسلم ‪ ،‬كذل يشرتط يف الزوجة أن تكون أهال ألداء الشهادة على‬
‫املسلم ‪ ،‬حىت يكون يف لعاّنا قوة املعارضة للعانه‪.‬‬
‫وأما كون الزوجة ِمن حيد قاذفها فأل ّن اللعان كما علمت بدل عن احلد يف قذف األجنبية ‪ ،‬فال‬
‫يكون لعان يف قذف الزوجة إال حيث جيب احلد على قاذفها لو كان أجنبيا‪.‬‬
‫ويشهد للحنفية يف اشرتاطهم هذه الشروط أيضا ما‬
‫اّلل‬
‫الرب يف «‪« »1‬التمهيد» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أ ّن النيب صلّى ّ‬ ‫رواه ابن عبد ّ‬
‫عليه وسلّم قال ‪« :‬ال لعان بني ِملوكني وال كافرين»‬
‫‪ .‬وما رواه الدار قطين «‪ »2‬من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا «أربعة ليس بينهم لعان ‪:‬‬
‫ليس بني احلر واألمة لعان ‪ ،‬ليس بني احلرة والعبد لعان ‪ ،‬وليس بني املسلم واليهودية لعان ‪،‬‬
‫وليس بني املسلم والنصرانية لعان»‬
‫وما‬
‫اّلل عليه وسلّم لعتّاب‬
‫رواه عبد الرزاق يف «مصنفه» عن ابن شهاب قال ‪ :‬من وصية النيب صلّى ّ‬
‫بن أسيد أن ال لعان بني أربع‬
‫‪ ،‬فذكر معناه ‪ ،‬وهذه األحاديث الثالثة وإن كان نقاد احلديث قد‬
‫__________‬
‫اّلل بن حممد بن عبد الرب النمري القرطيب املالكي ‪ ،‬من كبار حفاظ احلديث‬
‫(‪ )1‬يوسف بن عبد ّ‬
‫‪ ،‬مؤرخ أديب ‪ ،‬حباثة ‪ ،‬ولد بقرطبة ‪ ،‬وتويف بشاطبة سنة (‪ 463‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪/8‬‬
‫‪.)240‬‬
‫اّلل بن عمرو‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر سنن الدار قطين (‪ ، )163 /3‬كتاب النكاح عن عبد ّ‬

‫ص ‪563 :‬‬
‫حيتج به ملا عرف يف موضعه‪.‬‬
‫تكلموا يف كل واحد منها ‪ ،‬فإ ّن احلديث الضعيف إذا تعددت طرقه ّ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫وهذا الذي ذهب إليه احلنفية قال به األوزاعي والثوري ومجاعة ‪ ،‬وهو رواية عن أمحد رمحه ّ‬
‫كل زوجني ‪ ،‬سواء أكاان‬
‫يصح من ّ‬
‫وذهب مالك والشافعي وأمحد يف رواية أخرى إىل أ ّن اللعان ّ‬
‫مسلمني أم كافرين ‪ ،‬عدلني أم فاسقني ‪ ،‬حمدودين يف قذف أم غري حمدودين ‪ ،‬وهو قول سعيد‬
‫ِ‬
‫بن املسيب واحلسن وربيعة وسليمان بن يسار‪ .‬وحجتهم يف ذلك عموم قوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ين‬
‫اّلل عليه وسلّم اللعان ميينا ‪،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اج مه ْم قالوا ‪ :‬وقد مسّى رسول ّ‬
‫يح ْرممو حن أح ْزو ح‬
‫فإنّه ملا علم أن امرأة هالل بن أمية جاءت بولدها شبيها بشريك بن سحماء قال فيها ‪« :‬لو ال‬
‫األميان لكان يل وهلا شأن» رواه أبو داود‬
‫اّلل عليه وسلّم ابألميان ما سبق من لعاّنا‪ .‬فقد مسّى كلمات‬
‫إبسناد ال أبس به «‪ .»1‬يريد صلّى ّ‬
‫اللعان أمياان ‪ ،‬فال يشرتط يف املتالعنني إال ما يشرتط يف أهل األميان‪.‬‬
‫تصح‬
‫تصح منه الشهادة إىل اللعان ونفي الولد كحاجة من ّ‬‫وقالوا أيضا ‪ :‬إ ّن حاجة الزوج الذي ّ‬
‫شهادته سواء ‪ ،‬واألمر الذي نزل به ِما يدعو إىل اللعان ‪ ،‬كالذي ينزل ابلعدل احلر ‪ ،‬وليس من‬
‫حماسن الشريعة أن ترفع ضرر أحد النوعني وجتعل له فرجا وخمرجا ِما نزل به ‪ ،‬وتدع النوع اآلخر‬
‫يف اآلصار واألغالل ال خمرج ِما نزل به وال فرج‪.‬‬
‫ِ‬
‫س مه ْم فقد علمت ما فيه من االحتماالت‪.‬‬‫وأما االستثناء يف قوله تعاىل ‪ :‬إ َّال أحنْ مف م‬
‫وكذلك علمت ما يف حديث عمرو بن شعيب ‪ ،‬فلم يبق إال الكالم يف ألفاظ اللعان ‪ :‬أهي‬
‫شهادة أم ميني ‪ ،‬فاحلنفية وموافقوهم غلّبوا فيها جانب الشهادة ‪ ،‬فشرطوا يف املتالعنني أهلية‬
‫الشهادة‪.‬‬
‫والشافعية وموافقوهم غلّبوا فيها معىن اليمني ‪ ،‬فلم يشرتطوا يف املتالعنني إال أن يكوان ِمن تصح‬
‫أمياّنم‪.‬‬
‫ِ‬
‫واج مه ْم اآلية يقتضي أ ّن الزوج إذا قذف امرأته بعد الطالق أنه‬ ‫ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْرممو حن أح ْز ح‬
‫ال لعان بينهما ‪ ،‬ألّنا حينئذ ليست زوجة ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال عثمان البيت «‪.»2‬‬
‫وقال أبو حنيفة والشافعي ‪ :‬إذا وقع القذف يف ع ّدة طالق رجعي جرى بينهما اللعان ‪ ،‬أل ّن‬
‫املطلقة طالقا رجعيا يف حكم الزوجة ما دامت يف العدة‪ .‬وقال مالك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر سنن أيب داود (‪ ، )253 /2‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب اللعان حديث رقم (‪.)2254‬‬
‫(‪ )2‬عثمان البيت ‪ ،‬فقيه البصرة ‪ ،‬أبو عمرو ‪ ،‬بيّاع البتوت (األكسية الغليظة) اسم أبيه مسلم‬
‫وقيل أسلم وقيل سليمان وأصله من الكوفة ‪ ،‬انظر سري أعالم النبالء للذهيب (‪ )364 /6‬ترمجة‬
‫(‪.)891‬‬

‫ص ‪564 :‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬إن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ‪ ،‬أو محل يتربأ منه ال عن‪ .‬وإذا مل يكن هناك‬
‫رضي ّ‬
‫محل يرجى ‪ ،‬وال نسب خياف تعلقه مل يكن للعان فائدة ‪ ،‬فلم حيكم به ‪ ،‬وكان قذفا مطلقا داخال‬
‫حتت قوله تعاىل ‪ :‬والَّ ِذين ي رمو حن الْم ْحص ِ‬
‫نات اآلية‪.‬‬ ‫م ح‬ ‫ح ح حْ م‬
‫كيفية اللعان‬
‫ابّلل إين ملن‬
‫مرات أشهد ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬أن يقول الزوج أربع ّ‬
‫كلمات اللعان هي على ما يف كتاب ّ‬
‫اّلل عليه إن كان من الكاذبني‪.‬‬
‫املرة اخلامسة يقول ‪ :‬لعنة ّ‬
‫الصادقني ‪ ،‬ويف ّ‬
‫ني ِمن ال ِ‬
‫ْكاذبِ ح‬
‫ني‬ ‫وشهادة احلال قرينة على تعيني متعلّق الصدق والكذب يف قوله ‪ :‬ل ِحمن َّ ِ ِ‬
‫الصادق ح ح‬ ‫ح‬
‫ابّلل إنه‬
‫أي فيما رميتها به من الزّن ونفي الولد ‪ ،‬وكذلك املرأة تقول يف لعاّنا أربع مرات ‪ :‬أشهد ّ‬
‫اّلل عليها إن كان من الصادقني ‪ ،‬وتكتفي‬
‫ملن الكاذبني ‪ ،‬ويف املرة اخلامسة تقول ‪ :‬غضب ّ‬
‫اّلل سبحانه‬
‫بداللة احلالة عن ذكر متعلّق الصدق والكذب ‪ ،‬هذه كلمات اللعان على ما حكاها ّ‬
‫تراها قد اكتفي فيها بشهادة احلال عن بيان متعلّق الصدق والكذب‪.‬‬
‫إال أ ّن بعض العلماء اشرتط أن يذكر ابللفظ متعلّق الصدق والكذب لقطع احتمال أن ينوي‬
‫متعلقا آخر للصدق والكذب‪.‬‬
‫أقل من مخس مرات ‪ ،‬وال يقبل منه إبدال اللعنة‬
‫وكذلك ظاهر اآلية أنه ال يقبل من الرجل ّ‬
‫ابلغضب ‪ ،‬وكذلك ال يقبل من املرأة أقل من مخس مرات وال أن تبدل الغضب ابللعنة‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أيضا البداءة ابلرجل يف اللعان ‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور من فقهاء األمصار‪ .‬وأبو‬
‫اّلل يعت ّد بلعاّنا إذا بدئ به‪ .‬ومرجع اخلالف بني اإلمام أيب حنيفة واجلمهور من‬
‫حنيفة رمحه ّ‬
‫الفقهاء يف هذا إىل أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجبا للحد على الزوجة ‪ ،‬ولعاّنا يسقط ذلك‬
‫احلد ‪ ،‬فكان من الطبيعي أن يكون لعاّنا متأخرا عن لعانه‪ .‬وأبو حنيفة ال يرى لعان الزوج موجبا‬
‫لشيء قبلها ‪ ،‬فليس من الضروري أن يتأخر لعاّنا عن لعانه ‪ ،‬وسيأيت هلذه املسألة مزيد تفصيل‬
‫يف الكالم على فائدة اللعان‪.‬‬
‫هذه كيفية اللعان املأخوذة من القرآن ‪ ،‬ويزاد عليها من السنة أنّه إذا كانت املرأة حامال ‪ ،‬وأراد‬
‫الزوج أن ينفي ذلك احلمل وجب أن يذكره يف لعانه ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬وإ ّن هذا احلمل ليس مين ‪،‬‬
‫هذا رأي األئمة الثالثة ومجهور الفقهاء‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ال لعان لنفي احلمل ‪ ،‬وإذا نفاه يف‬
‫حىت تضع محلها ‪ ،‬فيالعن لنفيه ‪ ،‬الحتمال أن‬
‫لعانه مل ينتف ‪ ،‬وسبيله إذا أراد نفيه أن ينتظر ّ‬
‫يكون ما هبا نفاخ وليس حبمل‪.‬‬
‫التعرض لذلك يف اللعان ‪ ،‬وأخذ العلماء‬
‫وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه وجب ّ‬
‫من أحاديث اللعان أيضا أنّه يندب أن يقام الرجل حىت يشهد ‪ ،‬واملرأة‬

‫ص ‪565 :‬‬
‫حىت تشهد ‪ ،‬وأن يعظها القاضي أو انئبه مبثل قوله لكل منهما‬
‫قاعدة ‪ ،‬وتقام املرأة والرجل قاعد ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬فإّنّا موجبة ‪ ،‬ولعذاب الدنيا أهون من عذاب‬
‫عند االنتهاء إىل اللعنة والغضب ‪ :‬اتق ّ‬
‫اآلخرة ‪ ،‬كما يستحب التغليظ ابلزمان واملكان ‪ ،‬وحضور مجع من عدول املسلمني ‪ ،‬على‬
‫خالف يف ذلك بني الفقهاء ‪ ،‬حملّه كتب الفروع‪.‬‬
‫ما يرتتب على اللعان‬
‫ٍ ِ‬ ‫هادةم أ ِ ِ‬
‫ذاب أح ْن‬ ‫ححده ْم أ ْحربح مع حشهادات ِاب َّّلل وقوله ّ‬
‫جل شأنه ‪ :‬حويح ْد حرمؤا حع ْن حها ال حْع ح‬ ‫ش ح ح‬ ‫ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فح ح‬
‫هادات ِاب َّّللِ أ ّن اللعان من الزوج يسقط عنه ح ّد القذف ‪ ،‬ويوجب على الزوجة ح ّد‬
‫تح ْش حه حد أحربع حش ٍ‬
‫ْح ح‬
‫الزّن ‪ ،‬وبيان ذلك من وجهني ‪:‬‬
‫حح ِد ِه ْم إخل معناه فالشهادة املشروعة يف حقه اليت تعمل عمل شهادة‬
‫هادةم أ ح‬
‫ش ح‬ ‫األول ‪ :‬أن قوله ‪ :‬فح ح‬
‫املبني يف اآلية ‪ ،‬ومعلوم أ ّن‬
‫البينة إذا كان القاذف أجنبيا أن أييت بكلمات اللعان على الوجه ّ‬
‫مقتضى شهادة البينة من األجنيب وموجبها هو سقوط حد القذف عنه ‪ ،‬ووجوب حد الزّن على‬
‫اّلل كلمات اللعان من الزوج مقام البينة من األجنيب وجب أن يكون‬
‫املقذوف ‪ ،‬وإذ قد أقام ّ‬
‫مقتضى كلمات اللعان وعملها هو شهادة الشهود األربعة وعملها ‪ ،‬فكما أسقطت الشهادة من‬
‫األجنيب ح ّد القذف عنه ‪ ،‬وأوجبت حد الزّن على املقذوف ‪ ،‬كذلك كلمات اللعان من الزوج ‪،‬‬
‫أتخذ هذا املقتضى ‪ ،‬وتعمل هذا العمل بعينه ‪ ،‬فتسقط حد القذف عن الزوج ‪ ،‬وتوجب حد‬
‫الزّن على الزوجة‪.‬‬
‫ذاب ‪ ..‬ال يصح أن يراد منها‬
‫والوجه الثاين ‪ :‬أ ّن كلمة العذاب يف قوله تعاىل ‪ :‬حويح ْد حرمؤا حع ْن حها ال حْع ح‬
‫عذاب اآلخرة ‪ ،‬ألن الزوجة إن كانت كاذبة يف لعاّنا مل يزدها اللعان إال عذااب يف اآلخرة ‪ ،‬وإن‬
‫فتعني أن يراد به عذاب الدنيا ‪،‬‬
‫كانت صادقة فال عذاب عليها يف اآلخرة حىت يدرأه اللعان ‪ّ ،‬‬
‫يصح أن تكون الالم فيه للجنس ‪ ،‬أل ّن لعاّنا ال يدرأ عنها مجيع أنواع العذاب يف الدنيا ‪،‬‬ ‫وال ّ‬
‫ذاهبمما طائِحفةٌ ِم حن‬
‫فتعني أن تكون الالم للعهد ‪ ،‬واملعهود هو املذكور يف قوله تعاىل ‪ :‬حولْيح ْش حه ْد حع ح‬
‫ِ‬
‫ني وهذا هو عذاب حد الزّن‪ .‬ويشهد لذلك‬ ‫ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫اّلل عليه وسلّم خلولة بنت قيس كما يف بعض الرواايت «الرجم أهون عليك من‬ ‫قوله صلّى ّ‬
‫اّلل»‬
‫غضب ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم العذاب املدروء عنها ابلرجم‪ .‬وأيضا‬
‫فقد فسر النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم على ما يف الرواايت األخرى اليت بلغت ح ّد الشهرة أو التواتر خلولة‬
‫فقوله صلّى ّ‬
‫عند ما أمتت كلمات اللعان األربع «عذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخرة» «‪»1‬‬
‫يشهد أبن املراد ابلعذاب احلد ‪ ،‬إذ لو كان املراد به احلبس ‪ -‬وهي إمنا حتبس لتالعن ‪ -‬ملا كان‬
‫لتذكريها هبذا القول من فائدة ‪ ،‬فثبت من هذا أ ّن لعان الزوج يسقط حد القذف عنه ‪ ،‬ويوجب‬
‫حد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪ ، )21 /5‬وابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان‬
‫(‪.)67 - 66 /18‬‬

‫ص ‪566 :‬‬
‫الزّن عليها ‪ ،‬وحينئذ يكون لعاّنا مسقطا للحد عنها ‪ ،‬وهبذا قال اإلمام مالك والشافعي‬
‫واحلجازيون ‪ ،‬وخالئق من العلماء‪.‬‬
‫اّلل ‪ :‬آايت اللعان نسخت احلد عن قاذف زوجته فليس عليه حد يف قذف‬
‫وقال أبو حنيفة رمحه ّ‬
‫زوجته فكيف يسقط لعانه حدا مل يثبت عليه وكذلك ال يوجب لعانه ح ّد الزّن على الزوجة ‪ ،‬ألن‬
‫حد الزّن ال يثبت إال أبربعة شهود أو ابإلقرار أربع مرات ‪ ،‬وليس لعان الرجل يف قوة الشهود‬
‫األربعة ‪ ،‬وليس نكوهلا بصريح يف اإلقرار‪.‬‬
‫وعلى هذا اخلالف ينبين خالفهم يف حكم املمتنع من اللعان من الزوجني فمالك والشافعي ومن‬
‫ِ‬
‫وافقهما يقولون ‪ :‬الزوج املمتنع من اللعان يدخل يف حكم قوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْرممو حن‬
‫ات اآلية ‪ ،‬فإذا كانت زوجته ِمن حي ّد قاذفها ح ّد ‪ ،‬وإال عزر ‪ ،‬أل ّن اللعان جعل رخصة‬ ‫الْم ْحصن ِ‬
‫م ح‬
‫له ‪ ،‬فلما أّب أن يالعن فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة ‪ ،‬فكان حكمه وحكم غري الزوج‬
‫سواء‪ .‬والزوجة املمتنعة عن اللعان بعد لعان زوجها يقام عليها ح ّد الزّن ‪ ،‬وهو خمتلف إبحصاّنا‬
‫ورقها وحريتها‪.‬‬
‫واحلنفية يقولون ‪ :‬إذا امتنع الزوج من اللعان حبس حىت يالعن ‪ ،‬ألن اللعان حق توجه عليه ‪،‬‬
‫وحكمه حكم سائر احلقوق اليت ال ميكن استيفاؤها إال ابلقهر والتعزير ‪ ،‬فللحاكم حبسه وهتديده‬
‫حىت يالعن أو يك ّذب نفسه يف القذف ‪ ،‬فيقام عليه حده‪.‬‬
‫ووافق احلنفية اإلمام أمحد يف حكم الزوجة املمتنعة يف إحدى الروايتني عنه ‪ ،‬ويف رواية أخرى عنه‬
‫ال حتبس ‪ ،‬وخيلى سبيلها كما لو مل تكمل البينة ‪ ،‬وهذا قول غريب جدا ‪ ،‬إذ كيف خيلّى سبيلها‬
‫ويدرأ عنها العذاب بغري لعان ‪ ،‬وهل هذا إال خمالفة لظاهر القرآن‪.‬‬
‫فأوىل األقوال ابلصواب هو ما ذهب إليه مجهور الفقهاء ‪ ،‬ودل عليه ظاهر القرآن من أ ّن لعان‬
‫الزوج يسقط عنه حد القذف ‪ ،‬ويوجب على الزوجة ح ّد الزّن‪ .‬وأ ّن لعاّنا يدرأ عنها حد الزّن ‪،‬‬
‫ومل تتعرض آايت اللعان ألكثر من هذه النتائج‪.‬‬
‫وأما نفي الولد ‪ ،‬والفرقة بني املتالعنني ‪ ،‬والتحرمي املؤبد بينهما ‪ ،‬فإ ّمنا مأخذها من السنة ال من‬
‫مصرح به يف حادثة هالل بن أمية وغريها ‪ ،‬والرواايت الدالة على أنه‬
‫القرآن الكرمي‪ .‬فنفي الولد ّ‬
‫من نتائج اللعان كثرية تكاد تبلغ حد الشهرة أو التواتر ‪ ،‬وقد صرح العلماء أب ّن املقصود األصلي‬
‫من اللعان إمنا هو نفي الولد‪.‬‬
‫وكذلك الفرقة بني املتالعنني ثبتت ابلسنة الصحيحة ‪ ،‬وللعلماء يف موجبها خالف‪ .‬فقال‬
‫الشافعي ‪ :‬إّنا تقع مبجرد لعان الزوج وحده ‪ ،‬وإن مل تالعن املرأة ‪ ،‬وحجته يف ذلك أّنّا فرقة‬
‫حاصلة ابلقول ‪ ،‬فيستقل هبا قول الزوج وحده كالطالق ‪ ،‬وال أتثري للعان الزوجة إال يف دفع‬
‫ذاب أح ْن‬
‫العذاب عن نفسها ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ :‬حويح ْد حرمؤا عح ْن حها ال حْع ح‬
‫ص ‪567 :‬‬
‫هادات ِاب َّّللِ‬
‫تح ْش حه حد أحربع حش ٍ‬
‫ْح ح‬
‫ففيه داللة على أ ّن كل ما جيب ابللعان من األحكام فقد وقع بلعان الزوج إال درء العذاب عن‬
‫الزوجة‪.‬‬
‫وقال مالك وأمحد يف إحدى الروايتني وأهل الظاهر ‪ :‬ال تقع الفرقة إال بلعاّنما مجيعا ‪ ،‬فإن متّ‬
‫لعاّنما حصلت الفرقة ‪ ،‬وال يعترب تفريق احلاكم‪ .‬واحتجوا أب ّن الشرع إمنا ورد ابلتفريق بني‬
‫املتالعنني ‪ ،‬وال يكوانن متالعنني بلعان الزوج وحده ‪ ،‬وأيضا لو وقعت الفرقة بلعان الزوج ال‬
‫عنت املرأة وهي أجنبية ‪ ،‬ولكنّه تعاىل أوجب اللعان بني الزوجني‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وأمحد يف روايته األخرى ‪ :‬إ ّن الفرقة ال حتصل إال بتمام لعاّنما ‪ ،‬وتفريق احلاكم‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫بينهما ‪ ،‬واحلجة يف ذلك قول ابن عباس يف حديثه ‪ ،‬ففرق رسول ّ‬
‫اّلل إن‬
‫بينهما ‪ ،‬وهذا يقتضي أ ّن الفرقة مل حتصل قبله ‪ ،‬وقول عومير كذبت عليها اي رسول ّ‬
‫أمسكتها ‪ ،‬هي طالق ثالاث ‪ ،‬فقوله هذا يقتضي بقاء العصمة بعد اللعان ‪ ،‬إذ لو وقعت الفرقة‬
‫اّلل عليه وسلّم على شيء‬
‫ابللعان لكان كالمه لغوا ‪ ،‬وتطليقه إايها عبثا ‪ ،‬وملا أقره النيب صلّى ّ‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫وقال عثمان البيت وطائفة من فقهاء البصرة ‪ :‬ال يقع ابللعان فرقة البتة ‪ ،‬أل ّن أكثر ما فيه أن‬
‫يكون الزوج صادقا يف قذفه ‪ ،‬وهذا ال يوجب حترميا ‪ ،‬كما لو قامت البينة على زانها‪ .‬وأما تفريق‬
‫اّلل عليه وسلّم بني املتالعنني يف قصة عومير العجالين فذلك أل ّن الزوج كان طلقها‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫ثالاث قبل اللعان‪.‬‬
‫وأما التحرمي املؤبد بينهما فقال به عمر بن اخلطاب وعلي وابن مسعود ومجع من الصحابة‬
‫والتابعني ‪ ،‬وإليه ذهب مالك والشافعي وأمحد وأبو يوسف والثوري وأبو عبيد ‪ ،‬والسنة‬
‫الصحيحة صرحية يف أ ّن املتالعنني ال جيتمعان أبدا‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وحممد وسعيد بن املسيّب ‪ :‬إن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من اخلطاب ‪،‬‬
‫جل‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫طاب لح مك ْم م حن النّساء [النساء ‪ ]3 :‬وقوله ّ‬
‫حوا ما ح‬‫حيتج هلم بعموم قوله تعاىل ‪ :‬فحانْك م‬ ‫وقد ّ‬
‫شأنه ‪ :‬حوأ ِمحلَّ لح مك ْم ما حوراءح ذلِ مك ْم [النساء ‪.]24 :‬‬
‫حل أبحدمها ال‬
‫اّلل وغضبه قد ّ‬
‫والذي تقتضيه حكمة اللعان أن يكون التحرمي مؤبدا ‪ ،‬فإ ّن لعنة ّ‬
‫حل به ذلك منهما يقينا ‪ ،‬فوجب التفريق بينهما خشية أن يكون الزوج‬ ‫حمالة ‪ ،‬وال نعلم عني من ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬وابء هبا ‪ ،‬فيعلو امرأة غري ملعونة ‪ ،‬وحكمة الشرع أتّب ذلك‬
‫هو الذي قد وجبت عليه لعنة ّ‬
‫‪ ،‬كما أتّب أن يعلو الكافر املسلمة‪ .‬وأيضا فإ ّن النفرة احلاصلة من إساءة كل واحد منهما إىل‬
‫صاحبه ال تزول أبدا ‪ ،‬فإ ّن الرجل إن كان صادقا عليها ‪ ،‬فقد أشاع فاحشتها ‪ ،‬وفضحها على‬
‫رؤوس األشهاد ‪ ،‬وأقامها مقام اخلزي والغضب ‪ ،‬وإن كان كاذاب ‪ :‬فقد أضاف إىل ذلك أنّه هبتها‬
‫‪ ،‬وزاد يف غيظها وحسرهتا‪.‬‬
‫كذلك املرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس األشهاد ‪ ،‬وأوجبت عليه‬

‫ص ‪568 :‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه ‪ ،‬وخانته يف نفسها ‪ ،‬وألزمته العار والفضيحة ‪،‬‬
‫لعنة ّ‬
‫وأحوجته إىل هذا املقام املخزي ‪ ،‬فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة واإلساءة‬
‫والوحشة ما ال يكاد يلتئم معه مشلهما ‪ ،‬وما يبعد معه أن يعود بينهما السكن واملودة والرمحة اليت‬
‫اّلل ‪ -‬وشرعه كلّه حكمة ومصلحة‬
‫هي سر احلياة الزوجية اهلنية الراضية ‪ ،‬فاقتضت حكمة ّ‬
‫وعدل ورمحة ‪ -‬أتبيد الفرقة بينهما ‪ ،‬وقطع أسباب اتصاهلما بعد أن متحضت صحبتهما مفسدة‬
‫‪ ،‬واستحال اجتماعهما إىل ضرر وشقاق‪.‬‬
‫هذه أحكام مرتتبة على قذف الرجل زوجته وحدها ‪ ،‬فأما إذا قذف معها أجنيب فهذا موضع قد‬
‫اختلفوا فيه ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومالك ‪ :‬لكل منهما حكمه ‪ ،‬فيالعن للزوجة وحي ّد لألجنيب‪.‬‬
‫وقال أمحد ‪ :‬جيب عليه حد واحد هلما ‪ ،‬ويسقط هذا احلد بلعانه ‪ ،‬سواء أذكر املقذوف يف لعانه‬
‫أم مل يذكره‪ .‬وقال الشافعي ‪ :‬إن ذكر املقذوف يف لعانه سقط احلد له ‪ ،‬كما يسقط احلد للزوجة‬
‫‪ ،‬وإن مل يذكره يف لعانه حد له‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم مل حيد‬
‫والذين أسقطوا حكم قذف األجنيب ابللعان حجتهم ظاهرة ‪ ،‬فإنّه صلّى ّ‬
‫هالل بن أمية لشريك بن سحماء ‪ ،‬وقد مسّاه صرحيا ‪ ،‬وأيضا فإ ّن الزوج مضطر إىل قذف الزاين‬
‫ملا أفسد عليه من فراشه ‪ ،‬ورمبا حيتاج إىل ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه ‪ ،‬كما استدل‬
‫اّلل عليه وسلّم على صدق هالل بشبه الولد بشريك ‪ ،‬فكان قذفه اتبعا لقذف‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫الزوجة ‪ ،‬فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها‪.‬‬
‫وأجاب القائلون أبن اللعان ال يسقط ح ّد األجنيب عن عدم إقامة احلد لشريك جبوابني‪.‬‬
‫األول ‪ :‬أن شريكا كان يهوداي ‪ ،‬وهو ابطل ‪ ،‬والصحيح أن شريك بن عبدة ‪ ،‬وأمه سحماء ‪،‬‬
‫وهو حليف األنصار ‪ ،‬ومل يكن يهوداي ‪ ،‬وهو أخو الرباء بن مالك ألمه‪.‬‬
‫واجلواب الثاين ‪ :‬أنه مل يطالب به ‪ ،‬وحد القذف إمنا يقام بعد املطالبة ‪ ،‬وهو غري سديد أيضا ‪،‬‬
‫ألن شريكا ملا استقر عنده أنه ال ح ّق له يف هذا القذف مل يطالب به ‪ ،‬ومل يتعرض لقاذفه‪ .‬وإال‬
‫فغري معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إىل إظهارها حبد قاذفه ‪ ،‬والقوم كانوا أش ّد‬
‫محيّة وأنفة ‪ ،‬وأقوى متسكا ابحملافظة على الكرامة‪.‬‬
‫معني ‪ ،‬أل ّن قول الزوج ‪:‬‬
‫استدل مبشروعية اللعان على جواز الدعاء ابللعن على كاذب ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا وقد‬
‫اّلل عليه إن كان من الكاذبني ‪ ،‬دعاء على نفسه ابللعن على تقدير كذبه ‪ ،‬فإذا كان هذا‬
‫لعنة ّ‬
‫جائزا فأوىل منه ابجلواز الدعاء ابللعن على شخص مقطوع بكذبه‪.‬‬
‫وكذلك استدل مبشروعية اللعان على إبطال قول اخلوارج ‪ :‬إن الزّن والكذب يف القذف كفر ‪،‬‬
‫وذلك أل ّن الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية ‪ ،‬وإن مل يكن صادقا كان‬
‫كاذاب يف قذفه ‪ ،‬فأحدمها ال حمالة كافر مرتد ‪ ،‬والردة توجب الفرقة بينهما من غري لعان‪.‬‬

‫ص ‪569 :‬‬
‫وهبذه املناسبة ينبغي أن نذكر حكم قذف الزوج زوجته وحكم نفيه الولد ‪:‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬ال حيل للرجل قذف زوجته إال إذا علم زانها أو ظنه ظنا مؤكدا ‪ ،‬كأن شاع زانها‬
‫بفالن ‪ ،‬وص ّدقت القرائن ذلك‪ .‬واألوىل به تطليقها سرتا عليها ما مل يرتتب على فراقها مفسدة‪.‬‬
‫هذا إذا مل يكن هناك ولد ‪ ،‬فإن أتت بولد علم أنه ليس منه ‪ ،‬أو ظنه ظنا مؤكدا وجب عليه نفيه‬
‫‪ ،‬وإال كان بسكوته مستلحقا ملن ليس منه ‪ ،‬وهو حرام ‪ ،‬كما حيرم عليه نفي من هو منه‪ .‬وإمنا‬
‫يعلم أ ّن الولد ليس منه إذا مل يطأها أصال ‪ ،‬أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء‪ .‬فإن‬
‫أتت به لستة أشهر فأكثر ‪ ،‬فإن مل يستربئها حبيضة حرم النفي ‪ ،‬وإن استربأها حبيضة كان ذلك يف‬
‫جمال النظر ‪ ،‬فإن قلنا إ ّن احلمل ال مينع احليض حرم النفي ‪ ،‬وإن قلنا إ ّن احلمل مينع احليض حل‬
‫النفي‪ .‬وإذا وطئ وعزل حرم النفي ‪ ،‬وكذلك إذا علم زانها وجاز كون الولد منه وكونه من الزّن‬
‫حرم النفي لتقاوم االحتمالني ‪ ،‬والولد للفراش‪.‬‬
‫يم (‪ )10‬فيه التفات من‬ ‫اّلل تح َّو ٌ ِ‬
‫اب ححك ٌ‬ ‫اّللِ حعلحْي مك ْم حوحر ْمححتمهم حوأ َّ‬
‫حن َّح‬ ‫ض مل َّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حول ْحو ال فح ْ‬
‫قال ّ‬
‫وسر هذا االلتفات أن يستويف مقام‬
‫الغيبة إىل خطاب الرامني واملرميات بتغليبهم عليهن ‪ّ ،‬‬
‫االمتنان ح ّقه يف املواجهة ‪ ،‬وحال احلضور أمت وأكمل منه يف الغيبة وعدم املواجهة ‪ ،‬وجواب (لو‬
‫ال) حمذوف ‪ ،‬وإمنا حسن حذفه ليذهب الوهم يف تقديره كل مذهب ‪ ،‬فيكون أبلغ يف البيان ‪،‬‬
‫وأبعد يف التهويل واإلرهاب ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪ :‬حول ْحو تحرى إِ ْذ موقِ مفوا حعلحى النَّا ِر [األنعام ‪]27 :‬‬
‫اّلل عليكم ورمحته بكم وتوبته على عباده وحكمته يف أفعاله أن شرع‬
‫واملعىن أن من آاثر فضل ّ‬
‫اللعان بني الزوجني ‪ ،‬ولو ال ذلك حلصل هلما من احلرج ما ال حييط به البيان ‪ ،‬فلو مل يكن اللعان‬
‫مشروعا لوجب على الزوج ح ّد القذف ‪ ،‬مع أن الظاهر كما تقدم صدقه ‪ ،‬وأنه ال يفرتي عليها‬
‫الشرتاكهما يف العار واخلزي ‪ ،‬ولو جعل شهاداته موجبة حلد الزّن عليها لفات النظر هلا ‪ ،‬ولو‬
‫جعل شهاداهتا موجبة حلد القذف عليه لفات النظر له‪ .‬فكان من احلكمة وحسن النظر هلما‬
‫كل منهما دارئة ملا توجه إليه من عذاب الدنيا ‪ ،‬وآذن الكاذب منهما‬
‫مجيعا أن جعل شهادات ّ‬
‫أجل حكمته‪.‬‬
‫أن يلج ابب التوبة حىت ينجو من عذاب اآلخرة ‪ ،‬فسبحانه ما أوسع رمحته ‪ ،‬و ّ‬
‫االستئذان يف دخول البيوت‬
‫سلِّ مموا حعلى‬
‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬ ‫ح ح‬ ‫قال ّ‬
‫أح ْهلِها ذلِ مك ْم حخ ْريٌ لح مك ْم ل ححعلَّ مك ْم تح حذ َّك مرو حن (‪)27‬‬
‫وحمرم ‪ ،‬وأ ّن صاحبه‬
‫اآلايت اليت تق ّدمت يف صدر الصورة كانت يف حكم الزّن وبيان أنّه قبيح ّ‬
‫يستحق العذاب والنكال ‪ ،‬وملا كان الزّن طريقه النظر واخللوة‬

‫ص ‪ 570 :‬واالطالع على العورات ‪ ،‬وكان دخول الناس يف بيوت غري بيوهتم مظنة حصول‬
‫وجل عباده إىل الطريقة احلكيمة اليت جيب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫ذلك كلّه أرشد ّ‬
‫هذه البيوت ‪ ،‬حىت ال يقعوا يف ذلك الشر الوبيل ‪ ،‬وأيضا فإ ّن أصحاب اإلفك مل يكن هلم متكأ‬
‫اّلل عنها إال أّنا كانت مع صفوان يف خلوة أو ما يشبه اخللوة ‪ ،‬لذلك ّنى‬
‫يف رمي عائشة رضي ّ‬
‫حىت ال يؤدي ذلك إىل القدح يف أعراض الربآء‬
‫ا ّّلل سبحانه وتعاىل عن دخول البيوت بغري إذن ّ‬
‫األطهار‪.‬‬
‫اّلل إين‬
‫اّلل عليه وسلّم فقالت ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫روي يف سبب نزول هذه اآلية أن امرأة أتت ّ‬
‫أحب أن ال يراين عليها أحد ‪ ،‬وال ولد وال والد فيأتيين آت ‪،‬‬ ‫أكون يف بييت على احلالة اليت ّ‬
‫ِ‬
‫آمنموا إخل‪.‬‬
‫ين ح‬ ‫علي فكيف أصنع؟ فنزل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫فيدخل ّ‬
‫وكلمة بميمواتً نكرة واقعة يف سياق النهي فكانت يف ظاهرها شاملة البيوت املسكونة وغري‬
‫ري حم ْس مكونحةٍ يقتضي‬ ‫ناح أح ْن تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬
‫س حعلحْي مك ْم مج ٌ‬ ‫املسكونة ‪ ،‬إال أن مقابلتها بقوله تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫ري بميموتِ مك ْم‬
‫محلها على املسكونة فقط‪ .‬واملراد ابلبيوت املضافة إىل املخاطبني يف قوله تعاىل ‪ :‬غح ْ ح‬
‫البيوت اليت يسكنوّنا‪ .‬فاملعىن ‪ :‬ال تدخلوا بيوات مسكونة لغريكم حىت تستأنسوا إخل‪.‬‬
‫االستئناس ‪ :‬استفعال‪ .‬قيل ‪ :‬إنه من آنس ابملد مبعىن علم فحِإ ْن آنح ْستم ْم ِم ْن مه ْم مر ْشداً [النساء ‪]6 :‬‬
‫فاالستئناس طلب العلم‪ .‬فالذي يريد أن يدخل بيت غريه مكلّف قبل الدخول أن يستأنس ‪ ،‬أي‬
‫فسره‬
‫يتعرف من أهله ما يريدونه من اإلذن له ابلدخول وعدمه ‪ ،‬فهو مبعىن االستئذان‪ .‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫بذلك ابن عباس كما أخرجه عنه ابن أيب حامت وابن األنباري وابن جرير «‪ »1‬وابن مردويه‪ .‬وهو‬
‫اّلل عنهم‪.‬‬
‫أيضا تفسري ابن مسعود وإبراهيم وقتادة رضي ّ‬
‫ْفال ِمنْ مك مم ا ْحلملم حم‬
‫ويدل على أ ّن املراد ابالستئناس االستئذان قوله تعاىل ‪ :‬حوإِذا بحلح حغ ْاألحط م‬
‫ين ِم ْن قحبْلِ ِه ْم [النور ‪ ]59 :‬فإ ّن املراد ابلذين من قبلهم هم‬ ‫ِ‬
‫استحأْذح حن الَّذ ح‬
‫ِ‬
‫فحلْيح ْستحأْذنموا حك حما ْ‬
‫اّلل تعاىل استئناسهم استئذاان‪.‬‬ ‫املخاطبون يف اآلية اليت معنا‪ .‬وقد مسّى ّ‬
‫وعن ابن عباس من طريق شعبة عن أيب بشر عن سعيد بن جبري عنه أنه كان يقرأ هذا احلرف‬
‫حىت تستأذنوا ويقول ‪ :‬غلط الكاتب‪ .‬وهذا يوافق ما رواه احلاكم وصححه والضياء يف كتابه‬
‫سوا أخطأ الكاتب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫«األحاديث املختارة» والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال يف ‪ :‬حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫وإمنا هي حىت تستأذنوا ومن أجل أ ّن هذه الرواية فيها كما ترى داللة على أن ابن عباس ينكر‬
‫وجها من وجوه القراءات املتواترة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪].....[ .)87 /18‬‬

‫ص ‪571 :‬‬
‫للقرآن الكرمي ‪ -‬وال شك أ ّن القول هبذا فيه شر كبري ‪ -‬هلذا أنكر أبو حيان هذه الرواية عن ابن‬
‫اّلل عنه جيل مقامه أن يذهب هذا املذهب الفاسد ‪ ،‬ومن روى عنه ذلك‬
‫عباس وقال ‪ :‬إنّه رضي ّ‬
‫فهو طاعن يف اإلسالم ‪ ،‬ملحد يف الدين «‪.»1‬‬
‫لكن غري أيب حيان ِمن ال يرى رأيه يف هذه الرواية جييب عنها بغري ما أجاب ‪ ،‬فابن األنباري مل‬
‫ينكرها ‪ ،‬بل قال ‪ :‬إّنا ضعيفة ومعارضة برواايت أخرى عن ابن عباس ‪ ،‬منها ما تق ّدم لك أنه‬
‫سوا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يدل على أنّه ما كان ينكر قراءة حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫كان يفسر االستئناس ابالستئذان ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫وبعض العلماء مل جيادل يف صحة الرواية اليت يقول فيها ابن عباس خبطأ الكاتب نظرا إىل أّنا‬
‫رويت من عدة طرق يف بعضها قوة وجودة هلذا اضطر أن يؤول قوله ‪« :‬أخطأ الكاتب» أبنه‬
‫ينبغي أن يكون مراد به أ ّن الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن حبرف واحد جيتمع عليه‬
‫سوا دون احلرف الثاين تستأذنوا وكان ينبغي أن‬ ‫ِ‬
‫الناس أخطأ يف اختيار هذا احلرف حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫جتوز وال‬
‫خيتار الثاين ‪ ،‬ألنّه أبني وأوضح داللة على املعىن ‪ ،‬وأل ّن معناه حمدود ‪ ،‬إذ ليس يف اللفظ ّ‬
‫اشرتاك‪.‬‬
‫وهذا اجلواب األخري هو خمتار احملققني من العلماء وأئمة التفسري‪.‬‬
‫ويصح أن يكون االستئناس مأخوذا من األنس بضم اهلمزة ‪ ،‬وهو سكون النفس واطمئنان‬
‫القلب وزوال الوحشة ‪ ،‬فإ ّن القادم على بيت غريه مستوحش ال يدري أيؤذن له ابلدخول أم ال ‪،‬‬
‫فعليه أن يستأنس أوال ‪ ،‬أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته ‪ ،‬وذلك االلتماس إمنا يكون‬
‫ابالستئذان‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن املراد ابالستئناس إعالم الطارق أهل البيت إعالما اتما أنه قادم عليهم ‪ ،‬ويدل له ما‬
‫اّلل ما االستئناس؟ فقال ‪:‬‬
‫روي عن أيب أيوب األنصاري أنه قال ‪ :‬قلنا اي رسول ّ‬
‫«يتكلم الرجل ابلتسبيحة والتكبرية والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» «‪.»2‬‬
‫تلم هبم‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن املراد ابالستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت ‪ ،‬ويدفع عنهم الوحشة اليت كانت ّ‬
‫لو مل يفعل‪ .‬وذلك يكون ابلتنحنح وما يشبهه ‪ ،‬فهذه معان أربعة لالستئناس ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت يف دخوله‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أنه يعلمهم إعالما مؤكدا بقدومه‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أنه يؤنسهم بعمل ما ‪ ،‬كأن يسبح أو يكرب ‪ ،‬ومنه ما تعارفه الناس اليوم من د ّق الباب‬
‫دقا خفيفا داللة على طلب اإلذن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر البحر احمليط أليب حيان األندلسي (‪.)445 /6‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)38 /5‬‬

‫ص ‪572 :‬‬
‫وأنت ترى أ ّن مآل املعنيني األولني لالستئناس هو االستئذان ‪ ،‬فيكون القادم منهيا عن الدخول‬
‫تدل على االستئذان ‪ ،‬وحينئذ ال يباح له الدخول إال أن يؤذن له ‪ ،‬إذ‬
‫قبل أن أييت بعبارة صرحية ّ‬
‫ال معىن لالستئذان دون أن ينتظر اإلذن ‪ ،‬فيكون أتويل اآلية هكذا ‪ :‬ال تدخلوا بيوات غري بيوتكم‬
‫ِ‬
‫حىت تستأذنوا ويؤذن لكم ‪ ،‬ويدل على هذا املضمر قوله تعاىل بعد ‪ :‬فحِإ ْن حملْ حجتِ مدوا فيها أ ح‬
‫ححداً فحال‬
‫تح ْد مخلموها حح َّىت يم ْؤذح حن لح مك ْم‪.‬‬
‫أما على املعنيني اآلخرين فظاهر اآلية أنّه ال يتوقف دخول القادم على أن أيذن له بذلك أهل‬
‫البيت ما دام قد أعلمهم وأزال وحشتهم‪ .‬وهبذا قال جماهد وعكرمة ‪ ،‬ولعلّك ترى أ ّن هذا الرأي‬
‫ضعيف ‪ ،‬فإ ّن إعالمهم ودفع الوحشة عنهم ال ينبغي أن يكون كافيا يف إابحة الدخول ‪ ،‬إذ‬
‫احلكمة اليت من أجلها شرع االستئذان هي أ ّن اقتحام البيوت بغري إذن قد يؤدي إىل أن يقع نظر‬
‫الداخل على ما ال حيل النظر إليه ‪ ،‬أو يطلع على ما يكره أهل الدار اطالعه عليه‪.‬‬
‫وظاهر اآلية الكرمية أنّه ال ب ّد قبل الدخول من االستئذان والسالم معا ‪ ،‬وعليه مجهور الفقهاء ‪،‬‬
‫فكل من االستئذان والسالم مطلوب غري أ ّن الطلب فيهما متفاوت ‪ ،‬فالطلب يف االستئناس‬
‫ّ‬
‫على سبيل الوجوب ‪ ،‬والطلب يف السالم على سبيل الندب ‪ ،‬كما هو حكم السالم يف غري هذا‬
‫املوطن‪.‬‬
‫وظاهرها أيضا تقدمي االستئذان على السالم ‪ ،‬أل ّن األصل يف الرتتيب الذكري أن يكون على‬
‫وفق الرتتيب الواقعي ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال بعض العلماء‪ .‬ومجهور الفقهاء على تقدمي السالم على‬
‫االستئذان ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك عموم‬
‫اّلل تعاىل عنه ‪« :‬السالم قبل‬
‫اّلل عليه وسلّم فيما أخرجه الرتمذي عن جابر رضي ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫الكالم» «‪.»1‬‬
‫وما أخرجه ابن أيب شيبة والبخاري يف «األدب» «‪ »2‬عن أيب هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلّم‬
‫حىت يسلم‪.‬‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬ال يؤذن له ّ‬
‫اّلل‬
‫وما أخرجه ابن أيب شيبة وابن وهب عن زيد بن أسلم قال ‪ :‬أرسلين أيب إىل ابن عمر رضي ّ‬
‫عنهما فجئته فقلت أأجل؟ فقال ‪ :‬ادخل ‪ ،‬فلما دخلت قال ‪ :‬مرحبا اي ابن أخي ‪ ،‬ال تقل أأجل ‪،‬‬
‫ولكن قل ‪ :‬السالم عليكم‪ .‬فإذا قيل ‪ :‬وعليك ‪ ،‬فقل ‪ :‬أأدخل؟ فإذا قالوا ‪ :‬ادخل ‪ ،‬فادخل‬
‫«‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )56 /5‬كتاب االستئذان ‪ ،‬ابب ما جاء يف السالم‬
‫حديث رقم (‪.)2699‬‬
‫(‪ )2‬األدب املفرد لإلمام البخاري صفحة (‪ - 494 ، )287‬ابب االستئذان غري السالم‬
‫حديث رقم (‪.)1098‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن أيب شيبة يف مصنفه (‪ ، )464 /8‬والسيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور‬
‫(‪.)39 /5‬‬

‫ص ‪573 :‬‬
‫اّلل عنه على‬
‫وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد الرب عن ابن عباس قال ‪ :‬استأذن عمر رضي ّ‬
‫اّلل السالم عليكم أيدخل عمر؟‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال ‪ :‬السالم على رسول ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫فصل يف املسألة فقال ‪ :‬إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت سلّم أوال ‪ ،‬مث‬
‫وبعض العلماء ّ‬
‫استأذن يف الدخول ‪ ،‬وإن كانت عينه ال تقع على أحد منهم ق ّدم االستئذان على السالم‪ .‬وهذا‬
‫قول جيّد ‪ ،‬وال ينافيه حديث الرتمذي واآلاثر السابقة ‪ ،‬فإنّه ميكن أن حتمل على احلاالت اليت‬
‫يكون فيها القادم حبيث يرى أهل البيت‪ .‬فاألصل أن يق ّدم االستئذان على السالم كما هو ظاهر‬
‫اآلية إال أن يكون القادم حبيث يرى أهل الدار ‪ ،‬فينبغي أن حيييهم أوال ابلسالم ‪ ،‬مث يستأذن‪.‬‬
‫ويف هذا مجع بني األدلة‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أ ّن االستئذان غري مقيّد بعدد ‪ ،‬فإن استأذن مرة فأجيب ابإلذن دخل ‪ ،‬وإن أجيب‬
‫ابلرد رجع ‪ ،‬وإن مل جيب فال عليه أن يرجع‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء ‪ :‬إ ّن االستئذان ثالث مرات ‪ ،‬فمن مل يؤذن له بعدهن فلريجع ‪ ،‬إال إذا أيقن‬
‫أ ّن من يف البيت مل يسمع ‪ ،‬فإنّه جيوز له الزايدة على الثالث‪.‬‬
‫واحلكمة يف هذا العدد أ ّن املرة األوىل إلمساع من يف البيت ‪ ،‬والثانية ‪ :‬ليتهيؤوا ‪ ،‬والثالثة ‪ :‬ليأذنوا‬
‫استدل هؤالء مبا‬
‫‪ ،‬أو يردوا‪ .‬و ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬االستئذان ثالث ‪:‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫روى أبو هريرة رضي ّ‬
‫ابألوىل يستنصتون ‪ ،‬وابلثانية ‪ :‬يستصلحون ‪ ،‬وابلثالثة ‪ :‬أيذنون أو يردون»‬
‫ومبا‬
‫روي عن أيب سعيد اخلدري «‪ »1‬قال ‪ :‬كنت جالسا يف جملس من جمالس األنصار ‪ ،‬فجاء أبو‬
‫موسى فزعا ‪ ،‬فقلنا له ‪ :‬ما أفزعك؟ فقال أمرين عمر أن آتيه فأتيته ‪ ،‬فاستأذنت ثالاث فلم يؤذن‬
‫يل ‪ ،‬فرجعت فقال ‪ :‬ما منعك أن أتتيين؟‬
‫فقلت ‪ :‬قد جئت فاستأذنت ثالاث فلم يؤذن يل‪ .‬وقد قال عليه الصالة والسالم ‪« :‬إذا استأذن‬
‫أيب بن‬
‫أحدكم ثالاث فلم يؤذن له فلريجع» فقال ‪ :‬لتأتيين على هذا ابلبينة أو ألعاقبنك ‪ ،‬فقال ّ‬
‫كعب ‪ :‬ال يقوم معك إال أصغر القوم‪ .‬قال أبو سعيد ‪ :‬وكنت أصغرهم ‪ ،‬فقمت معه ‪ ،‬فأخربت‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ذلك‪.‬‬
‫عمر أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫والراجح أ ّن الواجب إمنا هو االستئذان مرة ‪ ،‬فأما إكمال العدد ثالاث فهو ح ّق املستأذن ‪ ،‬إن‬
‫شاء أكمله ‪ ،‬وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتني‪.‬‬
‫اّلل عنهما قال ‪:‬‬
‫اّلل بن أيب ثور عن ابن عباس رضي ّ‬
‫فقد روى الزهري عن عبيد ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫سألت عمر بن اخلطاب فقلت ‪ :‬اي أمري املؤمنني من املرأاتن من أزواج النيب صلّى ّ‬
‫ت قملموبم مكما [التحرمي ‪:‬‬
‫صغح ْ‬ ‫اّلل فيهما ‪ :‬إِ ْن تحتمواب إِ حىل َِّ‬
‫اّلل فح حق ْد ح‬ ‫اللتان تظاهرات عليه ‪ ،‬اللتان قال ّ‬
‫‪]4‬؟‬
‫فقال ‪ :‬حفصة وعائشة ‪ ،‬قال ‪ :‬مث أخذ يسوق احلديث ‪ ،‬وذكر اعتزال النيب يف املشربة ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )169 /7‬كتاب االستئذان ‪ - 13 ،‬ابب التسليم‬
‫حديث رقم (‪.)6245‬‬

‫ص ‪574 :‬‬
‫قال ‪ :‬فأتيت غالما أسود فقلت ‪ :‬استأذن لعمر ‪ ،‬فدخل الغالم مث خرج إيل فقال ‪ :‬قد ذكرتك‬
‫له فصمت ‪ ،‬فرجعت فجلست إىل املنرب ‪ ،‬مث غلبين ما أجد ‪ ،‬فرجعت إىل الغالم ‪ ،‬فقلت ‪:‬‬
‫استأذن لعمر ‪ ،‬فدخل ‪ ،‬مث خرج فقال ‪ :‬قد ذكرتك له فصمت‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فوليت مدبرا ‪ ،‬فإذا الغالم يدعوين فقال ‪ :‬ادخل فقد أذن لك‪ .‬احلديث «‪ ... »1‬ففي رجوع‬
‫اّلل عنه بعد املرة الثانية دليل على أ ّن إكمال الثالث ليس مطلواب ‪ ،‬بل هو ح ّق‬
‫عمر رضي ّ‬
‫املستأذن‪.‬‬
‫وهذا ومن األدب يف االستئذان أنه إذا وقف املستأذن ينتظر اإلذن فال يستقبل الباب بوجهه ‪،‬‬
‫بل جيعله عن ميينه أو مشاله‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وهو مستقبل الباب‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فقد روي أ ّن أاب سعيد اخلدري استأذن على رسول ّ‬
‫‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال تستأذن وأنت مستقبل الباب»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم إذا أتى ابب قوم مل يستقبل الباب من تلقاء وجهه ‪ ،‬ولكن‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وكان رسول ّ‬
‫من ركنه األمين أو األيسر «‪.»2‬‬
‫قالوا ‪ :‬أل ّن ال ّدور مل يكن عليها حينئذ ستور‪ .‬ولكن ينبغي أن يكون األمر كذلك يف الدور اآلن ‪،‬‬
‫ولو كانت مغلقة األبواب عند االستئذان ‪ ،‬فإ ّن الطارق إذا استقبلها فقد يقع نظره عند الفتح له‬
‫على ما ال جيوز ‪ ،‬أو ما يكره أهل البيت اطالعه عليه‪.‬‬
‫كل طارق ‪ ،‬ولو كان أعمى ‪ ،‬وبذلك قال العلماء ‪ ،‬أل ّن‬
‫وظاهر اآلية أ ّن االستئذان واجب على ّ‬
‫من عورات البيوت ما يدرك ابلسمع ‪ ،‬ففي دخول مكفوف البصر على أهل بيت بغري إذّنم‬
‫إيذاء هلم‪ .‬فأما ما‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إمنا جعل االستئذان من أجل النّظر» «‪»3‬‬
‫رواه الشيخان من قوله صلّى ّ‬
‫فهو جار على الغالب ‪ ،‬وليس احلصر فيه على سبيل التحقيق ‪ ،‬بل هو حصر ادعائي مبين على‬
‫اّلل‬
‫املبالغة ‪ ،‬وكمال العناية ابحلث على حفظ النظر ‪ ،‬وسياق القصة اليت قال فيها النيب صلّى ّ‬
‫يدل على ما ذكرانه ‪ ،‬فقد روى سهل بن سعد أنّه اطلع رجل يف حجرة من‬
‫عليه وسلّم ذلك ّ‬
‫حيك هبا رأسه فقال ‪« :‬لو أعلم أنّك تنظر‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ومع النيب مدرى ّ‬
‫حجر النيب صلّى ّ‬
‫لطعنت هبا يف عينك ‪ ،‬إمنا جعل االستئذان من أجل النّظر» وإذا كان األمر كذلك ‪ ،‬وكان القصد‬
‫اّلل عليه وسلّم علم‬
‫املبالغة والتشديد على ذلك الرجل الذي كان يطّلع على حجرة النيب صلّى ّ‬
‫الغرض من ذلك احلصر ‪ ،‬ومل يكن يف احلديث حينئذ داللة على نفي أنه قد يكون االستئذان من‬
‫أجل السمع‪ .‬فاملقصود إفادة أ ّن النظر من أقوى األسباب اليت شرع هلا االستئذان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 46 ، )142 /5‬كتاب املظامل ‪ - 25 ،‬ابب الفرقة حديث‬
‫رقم (‪.)2468‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )386 /4‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب كم مرة يسلم حديث رقم‬
‫(‪.)5186‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ ، )1698 /3‬كتاب اآلداب ‪ - 9 ،‬ابب حترمي النظر حديث رقم‬
‫(‪ ، )2156 /40‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )168 /7‬كتاب االستئذان ‪ - 11 ،‬ابب‬
‫االستئذان حديث رقم (‪.)6241‬‬

‫ص ‪575 :‬‬
‫وظاهر التعبري يف اآلية ابسم املوصول اخلاص جبماعة الذكور أ ّن النساء ليس عليهن استئذان ‪،‬‬
‫ولكنّك تعلم أ ّن احلكمة اليت من أجلها شرع االستئذان متحققة يف الرجال والنساء معا ‪ ،‬وهلذا‬
‫قال العلماء ‪ :‬إ ّن يف اآلية تغليب الرجال على النساء ‪ ،‬كما هو املعهود يف األوامر والنواهي‬
‫القرآنية املبدوءة مبثل هذا النداء‪.‬‬
‫وعلى هذا يكون على املرأة إذا أرادت أن تدخل بيت غريها أن تستأذن قبل الدخول‪ .‬فإ ّن‬
‫الناس قد يكرهون أن يطلع بعض النساء على بيوهتم ‪ ،‬ويظهرن على ما فيها من أسراره‪.‬‬
‫اّلل عنها‬
‫أخرج ابن أيب حامت عن ّأم إايس قالت ‪ :‬كنت يف أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي ّ‬
‫فقلت ‪ :‬ندخل؟ فقالت ‪ :‬فقالت واحدة ‪ :‬السالم عليكم ‪ ،‬أندخل؟ قالت ‪:‬‬
‫ري بميموتِ مك ْم اآلية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬ ‫ادخلوا‪ .‬مث قالت ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫ري بميموتِ مك ْم أ ّن بيوهتم ال‬
‫والظاهر من ختصيص النهي ببيوت الغري يف قوله تعاىل ‪ :‬ال تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬
‫يثبت فيها هذا احلكم‪ .‬واحلكم كذلك إذا كانت البيوت خاصة هبم ‪ ،‬ال يسكن معهم فيها غريهم‬
‫من األجانب أو احملارم‪ .‬أما إذا كان فيها أحد من هؤالء فإ ّن االستئذان يكون مطلواب أيضا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫فقد أخرج مالك يف «املوطأ» «‪ »1‬عن عطاء بن يسار أ ّن رجال قال للنيب صلّى ّ‬
‫‪ :‬أأستأذن على أمي؟ قال ‪« :‬نعم» قال ‪ :‬ليس هلا خادم غريي ‪ ،‬أأستأذن عليها كلما دخلت؟‬
‫قال ‪« :‬أ حتب أن تراها عراينة؟» قال ‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال ‪« :‬فاستأذن عليها»‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »2‬والبيهقي عن ابن مسعود قال ‪ :‬عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم‪.‬‬
‫إيل أن أرى عورهتا من ذات حمرم‪.‬‬ ‫وروى الطربي عن طاوس قال ‪ :‬ما من امرأة أكره ّ‬
‫ين ِم ْن قح ْبلِ ِه ْم [النور ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫استحأْذح حن الَّذ ح‬
‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وإِذا ب لح حغ ْاألحط م ِ‬
‫ْفال منْ مك مم ا ْحلملم حم فحلْيح ْستحأْذنموا حك حما ْ‬ ‫ح ح‬ ‫وقال ّ‬
‫‪ ] 59‬فأوجب على من بلغ من األطفال أن يستأذن من غري تفرقة بني األجانب واحملارم ‪ ،‬غري أنه‬
‫ينبغي أن تعلم أ ّن أمر االستئذان يف الدخول على احملارم أيسر منه يف األجنبيات من حيث كان‬
‫جيوز أن يطّلع من احملارم على ما ال جيوز أن يطّلع من غريهن ‪ :‬كالشعر ‪ ،‬والصدر ‪ ،‬والساق‪.‬‬
‫وكذلك االستئذان على الزوجات واململوكات األمر فيه أيسر من االستئذان على احملارم‪ .‬فقد‬
‫قال الفقهاء ‪ :‬إنه يستحب أن يستأذن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬املوطأ لإلمام مالك حديث رقم (‪.)963‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان املشهور بتفسري الطربي (‪.)88 - 87 /18‬‬

‫ص ‪576 :‬‬
‫يدل على قدومه كالتسبيح والتنحنح ‪ ،‬فإنّه قد تكون املرأة‬
‫الرجل قبل دخوله بيته ‪ ،‬أو أييت مبا ّ‬
‫يف شأن ال حتب أن يطلع عليه زوجها أو سيدها‪.‬‬
‫وظاهر اآلية عموم النهي عن دخول البيوت بغري إذن يف مجيع األزمان واألحوال ‪ ،‬ولكن جيب‬
‫أن يستثىن من ذلك ما تقضي به الضرورة ‪ ،‬كهجوم لصوص على الدار ‪ ،‬أو اشتعال النار فيها ‪،‬‬
‫فإ ّن ملن يعلم ذلك أن يدخلها بغري إذن أصحاهبا‪.‬‬
‫وبعد فإمتاما للفائدة نسوق لك مسألة هلا صلة كبرية ابملوضوع ‪ ،‬وقد اختلف يف حكمها الفقهاء‪.‬‬
‫وذلك أنّه إذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب يف الباب ‪ ،‬فطعن أحدهم عينه فقلعها‬
‫‪ ،‬فهل عليه تبعة هذا الفعل من قصاص وغريه؟‬
‫قال اإلمامان الشافعي وأمحد ورجال من أهل احلديث ‪ :‬ال شيء عليه ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك ما‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬من اطلع يف دار‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫أخرجه الشيخان «‪ »1‬عن أيب هريرة أ ّن رسول ّ‬
‫قوم بغري إذّنم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ملن اطلع يف إحدى‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عنه أن ّ‬
‫وما رواه سهل بن سعد رضي ّ‬
‫حيك هبا رأسه ‪« :‬لو كنت أعلم أنّك تنظر لطعنت هبا يف عينك»‬
‫حجراته ‪ ،‬وكانت يف يده مدرى ّ‬
‫«‪.»2‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه ‪ :‬أ ّن رجال اطلع من بعض حجر رسول ّ‬
‫ويف رواية أنس بن مالك رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم مبشقص أو مبشاقص ‪ ،‬قال ‪ :‬فكأين أنظر إليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وسلّم ‪ ،‬فقام إليه رسول ّ‬
‫خيتله ليطعنه «‪.»3‬‬
‫وقال اإلمامان أبو حنيفة ومالك ‪ :‬إ ّن من قلع عني غريه على هذا النحو كان جانيا وعليه‬
‫ني ِابل حْع ْ ِ‬
‫ني‬ ‫س ِابلنَّ ْف ِ‬
‫س حوال حْع ْح‬ ‫القصاص أو األرش ‪ ،‬لعموم قوله تعاىل ‪ :‬حوحكتح ْبنا حعلحْي ِه ْم فِيها أ َّ‬
‫حن النَّ ْف ح‬
‫[املائدة ‪.]45 :‬‬
‫وأيضا فإ ّن االتفاق على أنّه إذ دخل الرجل الدار بغري إذن أهلها ‪ ،‬فاعتدي عليه من أجل ذلك‬
‫بقلع عينه فإ ّن ذلك يعترب جناية تستوجب األرش أو القصاص ‪ ،‬فإذا كان دخول الدار واقتحامها‬
‫على أهلها مع النظر إىل ما فيها غري مبيح لقلع عني ذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 38 ، )1699 /3‬كتاب اآلداب ‪ - 9 ،‬ابب حترمي النظر ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )2158 /43‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 88 ، )57 /8‬كتاب الدايت ‪23 ،‬‬
‫‪ -‬ابب من اطلع ‪ ،‬حديث رقم (‪.)6902‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 38 ، )1699 /3‬كتاب اآلداب ‪ - 9 ،‬ابب حترمي النظر‬
‫حديث رقم (‪ ، )2157 /42‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )198 /7‬كتاب االستئذان‬
‫‪ - 11 ،‬ابب االستئذان حديث رقم (‪].....[ .)6242‬‬

‫ص ‪577 :‬‬
‫الداخل ‪ ،‬فال يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحا ذلك ابلطريق األوىل‪.‬‬
‫وأجابوا عن حديث أيب هريرة أبنه ضعيف وعلى فرض صحته ينبغي أن يؤول ملخالفته األصول ‪،‬‬
‫وأتويله أن من اطلع يف دار قوم بغري إذّنم فزجر ومنع من ذلك ‪ ،‬فقاوم فقلعت عينه بسبب‬
‫املقاومة واملدافعة فهي هدر‪ .‬كما أنّه إذا حاول دخول الدار فمنع ‪ ،‬فقاوم وغالب ‪ ،‬فذهبت‬
‫عينه فهي هدر‪.‬‬
‫خيصها ‪ ،‬فهي مستثناة من‬
‫لكن الشافعية ومن وافقهم يقولون ‪ :‬إ ّن هذه حادثة ورد فيها حكم ّ‬
‫ني ِابل حْع ْ ِ‬
‫ني‪ .‬ويقولون ابلفرق بني من يتجسس على أهل الدار ويطلع عليهم‬ ‫عموم قوله تعاىل ‪ :‬حوال حْع ْح‬
‫وبصرهم بنفسه ‪ ،‬ومحلهم‬
‫وعلى عوراهتم من ثقب الباب وهم ال يشعرون ‪ ،‬وبني من دخل عليهم ّ‬
‫على أن يتسرتوا منه‪ .‬فال شك أ ّن األول أعظم جرما من الثاين ‪ ،‬فلو قلعوا عينه فال شيء عليهم‬
‫‪ ،‬وذهبت عينه هدرا‪.‬‬
‫واسم اإلشارة يف قوله تعاىل ‪ :‬ذلِ مك ْم حخ ْريٌ لح مك ْم عائد على املذكور يف اآلية ‪ ،‬وهو االستئناس‬
‫ويصح أن تكون اإلشارة للدخول املطلوب‬
‫ّ‬ ‫والسالم ‪ ،‬فإفراد اإلشارة إليه ابعتبار أنه املذكور ‪،‬‬
‫دل عليه قوله تعاىل ‪ :‬ال تح ْد مخلموا‪.‬‬
‫شرعا ‪ ،‬وهو الذي ّ‬
‫والظاهر أن كلمة حخ ْريٌ أفعل تفضيل ‪ ،‬وال شك أ ّن االستئذان قبل الدخول مع البدء بتحية‬
‫اإلسالم خري ِما كان عليه العرب يف اجلاهلية من الدمور ‪ ،‬وهو الدخول بغري استئذان ‪ ،‬ومن‬
‫قوهلم يف التحية ‪ :‬حييتم صباحا ‪ ،‬أو ‪ :‬حييتم مساء ‪ ،‬فإ ّن أحدهم كان يدخل بغري استئذان على‬
‫صاحبه يف داره ‪ ،‬فرمبا وجده مع امرأته يف حلاف واحد ‪ ،‬وكان كثري منهم يش ّق عليه ذلك ‪،‬‬
‫ويتأذّى به‪ .‬والدمور وإن مل يكن فيه شيء من اخلري قد فرض فيه ذلك على سبيل التنزل ‪ ،‬أو‬
‫مراعاة العتبارهم أن فيه خريا ‪ ،‬إذ كانوا يرون أن االستئذان مذلة أتابها النفوس‪.‬‬
‫ويرى بعض املفسرين أ ّن كلمة حخ ْريٌ صفة عارية عن معىن التفضيل وحينئذ ال تقتضي إثبات اخلريية‬
‫للدخول بغري إذن ‪ ،‬وال لتحية اجلاهلية‪.‬‬
‫لعل يف قوله تعاىل ‪ :‬ل ححعلَّ مك ْم تح حذ َّك مرو حن للتعليل ‪ ،‬واحلكم املعلّل هبا مطوي يدل عليه قوله‬ ‫وكلمة ّ‬
‫اّلل إىل ذلك األدب ‪ ،‬وبيّنه لكم لتجعلوه على ذكر منكم ‪،‬‬ ‫تعاىل ‪ :‬ذلِ مك ْم حخ ْريٌ لح مك ْم أي أرشدكم ّ‬
‫فتعملوا مبوجبه‪.‬‬
‫يل لح مك مم ْارِجعموا‬‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فحِإ ْن حملْ حجتِ مدوا فيها أ ح‬
‫ححداً فحال تح ْد مخلموها حح َّىت يم ْؤذح حن لح مك ْم حوإ ْن ق ح‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫فح ْارِجعموا مه حو أح ْزكى لح مك ْم حو َّ‬
‫يم (‪ )28‬قد تكون البيوت املسكونة خالية من‬ ‫اّللم ِمبا تح ْع حملمو حن حعل ٌ‬
‫حيل أيضا ملن جيدها كذلك أن يدخلها ‪ ،‬فإ ّن‬ ‫أصحاهبا يف وقت من األوقات ‪ ،‬ويف هذه احلال ال ّ‬
‫خبيئات البيوت عورات هلا ‪ ،‬والدخول من غري إذن قد يؤدي إىل االطالع على هذه العورات ‪،‬‬
‫فيجب على الطارق‬

‫ص ‪ 578 :‬أن ميتنع عن دخوهلا حىت أيذن له أصحاهبا ‪ ،‬وليس شيء يبيح الدخول إال هذا‬
‫الصيب واخلادم ال يبيح الدخول يف البيوت اليت ال‬
‫اإلذن الذي يصدر ِمن ميلكه ‪ ،‬فإذن العبد و ّ‬
‫يوجد هبا أصحاهبا ‪ ،‬كما ال يبيح الدخول يف البيوت اليت يكونون فيها إال أن يكون أحدهم‬
‫رسوال من قبل صاحب الدار ‪ ،‬ويف هذه احلالة ال يكون اإلذن من هؤالء ‪ ،‬إمنا هو من صاحب‬
‫الدار‪.‬‬
‫ِ‬
‫وإمنا قيل ‪ :‬فحِإ ْن حملْ حِجت مدوا فيها أ ح‬
‫ححداً ومل يقل ‪ :‬فإن مل يكن فيها أحد ‪ ،‬أل ّن التعبري األول أمشل ‪ ،‬إذ‬
‫عدم وجود أحد فيها يصدق مع خلو البيوت من أصحاهبا يف الواقع ‪ ،‬كما يصدق مع كوّنم‬
‫حيل أن يدخلها ‪،‬‬
‫فيها‪ .‬فاملدار على ظن الطارق واعتقاده ‪ ،‬فإن كان يعتقد أنه ليس هبا أحد فال ّ‬
‫ظن‪.‬‬
‫سواء أكان األمر كذلك أم كان على خالف ما ّ‬
‫يل لح مك مم ْارِجعموا فح ْارِجعموا مه حو أح ْزكى لح مك ْم أي أنّه ال يليق بكم أيها املؤمنون أن تلحوا يف‬‫ِ ِ‬
‫حوإ ْن ق ح‬
‫االستئذان ‪ ،‬وأن تقفوا على األبواب أو تقعدوا أمامها بعد أن تر ّدوا ‪ ،‬ويقال لكم ‪ :‬ارجعوا ‪ ،‬فإ ّن‬
‫الوقوف حينئذ فيه ذلة ومهانة لكم ‪ ،‬وفيه إيالم ألصحاب البيوت ‪ ،‬فالرجوع أزكى لكم ‪ ،‬وأطهر‬
‫ألخالقكم ‪ ،‬وأبعد بكم عن دنس الرذيلة‪.‬‬
‫ِ‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل إليه ‪ ،‬فمن‬ ‫اّللم ِمبا تح ْع حملمو حن حعل ٌ‬
‫يم هذا وعيد ملن يعمل على خالف ما أرشد ّ‬ ‫حو َّ‬
‫دخل تلك البيوت اليت ال جيد فيها أصحاهبا ‪ ،‬أو حاول دخوهلا بغري إذّنم ‪ ،‬أو جل يف االستئذان‬
‫فاّلل عليم هبذا الذي يعمله‪ .‬والقصد‬
‫‪ ،‬أو وقف على الباب بعد ما علم أنه ال يراد له الدخول ‪ّ :‬‬
‫من هذا اإلخبار إفادة الزمه ‪ ،‬وهو اجملازاة على هذه األعمال‪.‬‬
‫ري حم ْس مكونحةٍ فِيها حمتا ٌ‬
‫ع لح مك ْم حو َّ‬
‫اّللم يح ْعلح مم ما‬ ‫ح أح ْن تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬
‫س حعلحْي مك ْم مجنا ٌ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫قال ّ‬
‫تم ْب مدو حن حوما تحكْتم ممو حن (‪ )29‬سبب نزول هذه اآلية على ما‬
‫ِ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا إخل قال أبو‬ ‫أخرجه ابن أيب حامت عن مقاتل أنّه ملا نزل قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫اّلل فكيف بتجار قريش الذين خيتلفون بني مكة واملدينة والشام‬
‫اّلل عنه ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫بكر رضي ّ‬
‫وبيت املقدس ‪ ،‬وهلم بيوت معلومة على الطريق ‪ -‬يريد اخلاانت اليت يف الطرق ‪ -‬فكيف‬
‫س‬
‫اّلل سبحانه يف ذلك ‪ ،‬فأنزل قوله تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫يستأذنون ويسلمون وليس فيها ساكن؟ فر ّخص ّ‬
‫ناح إىل آخر اآلية‬
‫حعلحْي مك ْم مج ٌ‬
‫خمصصة لعموم اآلية السابقة كما علمت‪.‬‬
‫‪ .‬فتكون هذه اآلية ّ‬
‫وقال ابن عباس فيما أخرجه عنه أبو داود يف الناسخ ‪ ،‬وابن جرير «‪ ، »1‬أ ّن قوله سبحانه ‪ :‬اي‬
‫سلِّ مموا حعلى أح ْهلِها قد نسخ بقوله‬
‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬ ‫ح ح‬
‫ناح إخل واستثىن منه البيوت غري املسكونة‪.‬‬
‫س حعلحْي مك ْم مج ٌ‬
‫تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان يف تفسري القرآن املشهور بتفسري الطربي (‪.)91 /18‬‬

‫ص ‪579 :‬‬
‫يدل على استثناء البيوت غري املسكونة من عموم البيوت يف‬
‫وكذلك روي عن عكرمة واحلسن ما ّ‬
‫اآلية السابقة‪.‬‬
‫وقول ابن عباس ‪ :‬إ ّن هذه اآلية اليت معنا قد نسخت اآلية السابقة معناه أّنا خصصتها‪ .‬وكثريا‬
‫ما يطلب املتقدمون كلمة النسخ على معىن التخصيص‪.‬‬
‫هذا ‪ -‬والبيوت غري املسكونة تشمل اخلرابت اليت ليست ألحد ‪ ،‬وتشمل البيوت العامرة اليت‬
‫تقصد ملنافع عامة غري السكىن كاحلمامات واحلوانيت والبيوت اليت ال ختتص بسكىن أحد ‪،‬‬
‫كالرابطات والفنادق ‪ ،‬فهذه البيوت كلها ال حرج يف دخوهلا بغري إذن ‪ ،‬إذا كان للمرء يف دخوهلا‬
‫حاجة ‪ ،‬كاالستحمام ‪ ،‬والبيع والشراء ‪ ،‬واالستكنان من احلر والربد ‪ ،‬وحفظ الرحال والسلع ‪،‬‬
‫فإ ّن العرف جرى فيها ابإلذن العام‪.‬‬
‫والتعميم يف البيوت غري املسكونة ‪ -‬على ما علمت ‪ -‬ال ينافيه ما روي عن حممد بن احلنفية‬
‫وابن جبري والضحاك من أّنا اخلاانت والرابطات وحوانيت البياعني‪ .‬وال ما روي عن غريهم أّنّا‬
‫اخلرابت تقصد للتربز فيها ‪ ،‬إذ ليس الغرض من ذلك احلصر ‪ ،‬وإمنا املراد التمثيل‪.‬‬
‫ويصح أن يكون مستأنفا سيق‬
‫ّ‬ ‫يصح أن يكون صفة اثنية للبيوت ‪،‬‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬فِيها حمتا ٌ‬
‫ع لح مك ْم ّ‬
‫لتعليل اإلابحة ورفع احلرج‪ .‬وعلى كل حال فإذا مل تكن لإلنسان حاجة تدعوه لدخول هذه‬
‫البيوت فليس له دخوهلا ‪ ،‬إذ إ ّن ذلك يكون ضراب من العبث الذي ال خري فيه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫اّللم يح ْعلح مم ما تم ْب مدو حن حوما تحكْتم ممو حن وعيد ألهل الريبة الذين يدخلون هذه البيوت‬
‫حملاولة االطالع على العورات أو غريها من األغراض السيئة‪.‬‬
‫حكم النظر وإبداء الزينة‬
‫وج مه ْم ذلِ ح‬ ‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬قمل لِلْم ْؤِمنِني ي غم ُّ ِ‬
‫اّللح حخبِريٌ‬
‫ك أح ْزكى حهلم ْم إِ َّن َّ‬ ‫ضوا م ْن أحبْصا ِره ْم حوحْحي حفظموا فم مر ح‬ ‫ْ م حح‬ ‫قال ّ‬
‫غض البصر أمر مستحسن ‪ ،‬وأدب مجيل‬ ‫صنح عمو حن (‪ )30‬اتصال هذه اآلية مبا قبلها هو أ ّن ّ‬ ‫ِمبا يح ْ‬
‫ينبغي للمستأذن أن يتحلّى به عند الدخول ‪ ،‬فإ ّن دخول بيت الغري مظنة االطالع على‬
‫حىت يشمل املستأذنني وغريهم‪.‬‬
‫العورات‪ .‬وقد جيء يف صورة حكم عام كلف به املؤمنني مجيعا ‪ّ ،‬‬
‫وسبب نزول هذه اآلية على ما‬
‫اّلل وجهه أ ّن‬
‫كرم ّ‬
‫أخرجه ابن مردويه «‪ »1‬عن علي ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)40 /5‬‬

‫ص ‪580 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف طريق من طرقات املدينة ‪ ،‬فنظر إىل امرأة‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫مر على عهد رسول ّ‬
‫رجال ّ‬
‫ونظرت إليه ‪ ،‬فوسوس هلما الشيطان أنه مل ينظر أحدمها إىل اآلخر إال إعجااب به ‪ ،‬فبينما الرجل‬
‫اّلل ال‬
‫ميشي إىل جنب حائط ‪ ،‬وهو ينظر إليها ‪ ،‬إذا استقبله احلائط ‪ ،‬فش ّق أنفه ‪ ،‬فقال ‪ :‬و ّ‬
‫فقص عليه قصته‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فأخربه أمري ‪ ،‬فأاته ‪ّ ،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫أغسل الدم حىت آيت رسول ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬قمل لِل ِ‬
‫ْم ْؤمنِ ح‬
‫ني يحغم ُّ‬
‫ضوا‬ ‫ْ م‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬هذا عقوبة ذنبك» وأنزل ّ‬
‫‪ ،‬فقال النيب صلّى ّ‬
‫ِم ْن أحبْصا ِرِه ْم إخل‪.‬‬
‫عما ال حيل ‪ ،‬وحيفظوا فروجهم عن‬
‫اّلل نبيه أن حيث املؤمنني على أن يغضوا أبصارهم ّ‬
‫أيمر ّ‬
‫ويبني هلم أن ذلك أطهر ألخالقهم ‪ ،‬وأبعد هبم عن مظان الريبة وسوء السمعة‪.‬‬
‫احملرمات ‪ّ ،‬‬
‫والفعل املضارع يحغم ُّ‬
‫ضوا جمزوم يف جواب قم ْل ومفعول القول حمذوف ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬قل للمؤمنني‬
‫وج مه ْم ويف هذا إشارة إىل أ ّن شأن املؤمنني‬
‫غضوا أبصاركم يغضوها‪ .‬وكذلك التقدير يف حوحْحي حفظموا فم مر ح‬
‫أن يسارعوا إىل امتثال األوامر ‪ ،‬حىت كأّنّم لفرط مطاوعتهم ال ينفك فعلهم عن أمره عليه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫وغض البصر إطباق اجلفن على اجلفن ‪ ،‬أو هو خفض اجلفن األعلى وإرخاؤه ‪ ،‬ومن الثاين قول‬
‫ّ‬
‫كعب بن زهري ‪:‬‬
‫أغن غضيض الطرف مكحول‬
‫وما سعاد غداة البني إذ رحلوا إال ّ‬
‫فليس يريد أّنا مغمضة عينها مطبقة أجفاّنا ‪ ،‬بل إّنا خافضة الطرف من احلياء واخلفر‪.‬‬
‫وكلمة ِم ْن قيل ‪ :‬إّنا صلة على مذهب األخفش «‪ ، »1‬والراجح أّنا أصلية ‪ ،‬وهي على ذلك‬
‫حتتمل معاين أظهرها أّنّا للتبعيض ‪ ،‬أي يغضوا بعض أبصارهم ‪ ،‬وهو كناية عن غض بصرهم عن‬
‫حتل ‪ ،‬أو يغضوا بعض أبصارهم عند النظر إىل احملرمات ‪ ،‬فال‬
‫بعض املبصرات ‪ ،‬وهي اليت ال ّ‬
‫التأمل يف‬
‫حمرم ‪ ،‬ويكون املعىن على هذا الوجه على إرادة توبيخ من يكثر ّ‬
‫حيملقوا أبعينهم يف ّ‬
‫احملرم ‪ ،‬كما تقول ملن عهدت أنه أييت نوعا من املنكر ‪ ،‬ورأيته يسرتسل فيه ‪ :‬بعض هذا اي فالن‪.‬‬
‫تقره‬
‫فأنت ال تريد منه أن يقتصر على بعض هذا املنكر ‪ ،‬وال تفيد هبذا أنك ترضاه له ‪ ،‬وأنك ّ‬
‫عليه ‪ ،‬بل غرضك أن تلومه وتوخبه على التمادي فيه‪.‬‬
‫ورمبا ساعد على هذا املعىن ما سبق يف نزول اآلية ‪ِ ،‬ما يدل على أ ّن الرجل واملرأة كان كل منهما‬
‫كال منهما معجب ابآلخر‪.‬‬
‫ميعن النظر يف صاحبه ‪ ،‬حىت وسوس الشيطان هلما أ ّن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬سعيد بن مسعدة ‪ ،‬عامل العربية ‪ ،‬من مصنفاته (معاين القرآن) تويف سنة (‪ )215‬انظر‬
‫األعالم للزركلي (‪.)101 /3‬‬

‫ص ‪581 :‬‬
‫وقد ير ّشح هذا املعىن أيضا تغيري النظم يف هذه اآلية ‪ ،‬وصرف اخلطاب فيها عن وجهه بتوجيهه‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وتكليفه أن أيمر الناس بغض األبصار ‪ ،‬فإ ّن يف هذه الطريقة‬
‫إىل النيب صلّى ّ‬
‫إشعارا أب ّن هذا الفعل قبيح ‪ ،‬وأ ّن صاحبه يستحق أن يعرض عنه ‪ ،‬ويصرف اخلطاب إىل غريه‪.‬‬
‫بغض البصر أن يراعى أيضا يف األمر حبفظ الفروج‬
‫وال يلزم من مراعاة هذا املعىن يف جانب األمر ّ‬
‫‪ ،‬فإ ّن أمر الفروج عظيم ينبغي أن يشدد فيه أكثر ِما يشدد يف غريه ‪ ،‬فال يستقيم مع ذلك أن‬
‫يؤتى يف جانب األمر حبفظ الفروج بعبارة توهم صورهتا أ ّن بعض الفروج قد يتساهل فيه ‪[ ،‬و] ال‬
‫يشدد يف األمر حبفظه‪.‬‬
‫غض البصر دون حفظ الفرج للداللة على‬ ‫ِ‬
‫وقال صاحب «الكشاف» «‪ : »1‬إمنا دخلت م ْن يف ّ‬
‫أ ّن أمر النظر أوسع ‪ ،‬أال ترى أ ّن احملارم ال أبس ابلنظر إىل شعورهن وصدورهن وثديهن‬
‫وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن ‪ ،‬وكذلك اجلواري املستعرضات للبيع ‪ ،‬وأ ّن األجنبية ينظر إىل‬
‫وجهها وكفيها‪ .‬وأ ّما أمر الفرج فمضيّق ‪ ،‬وكفاك فرقا أن أبيح النظر إال ما استثين منه ‪ ،‬وحظر‬
‫اجلماع إال ما استثين منه‪.‬‬
‫وقد اختلف يف املراد حبفظ الفروج ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إ ّن معناه جتنب الزّن واللواطة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن املراد‬
‫شف عما حتته ‪،‬‬
‫سرتها ‪ ،‬فال حيل للمؤمن أن يكشف عن سوءته ‪ ،‬وال أن يلبس لباسا رقيقا ي ّ‬
‫ويبني عورته ‪ ،‬وال مانع من إرادة املعنيني مجيعا‪.‬‬
‫مث ال خيفى وجه اجلمع بني أمرين ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬متعلق حبفظ األبصار‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬متعلق حبفظ الفروج فإ ّن النظر إىل احملرم من أقوى الدواعي إىل الوقوع يف الفجور ‪،‬‬
‫فكان حراما ‪ ،‬ألن من شأنه أن يؤدي إىل احلرام ‪ ،‬فإن وقع القصر على حمرم من غري قصد وجب‬
‫أن يصرف عنه ‪ ،‬وليس على املرء إمث يف النظرة األوىل غري املقصودة ‪،‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬سألت النيب صلّى ّ‬
‫اّلل البجلي رضي ّ‬
‫فقد روى مسلم «‪ »2‬عن جرير بن عبد ّ‬
‫عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فأمرين أن أصرف بصري‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم لعلي ‪« :‬اي علي ال تتبع‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وروى أبو داود عن بريدة قال قال رسول ّ‬
‫النظرة النظرة ‪ ،‬فإ ّن لك األوىل وليست لك اآلخرة» «‪.»3‬‬
‫غض البصر وحفظ الفرج أطهر لقلوهبم ‪ ،‬وأنقى‬ ‫ذلِ ح‬
‫ك أح ْزكى حهلم ْم أي ما ذكر من ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزخمشري (‪.)229 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 3 ، )699 /3‬كتاب اآلداب ‪ - 10 ،‬ابب نظر الفجأة‬
‫حديث رقم (‪.)2159‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )94 /5‬كتاب اآلداب ‪ ،‬ابب نظر الفجأة حديث رقم‬
‫(‪ ، )2778‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )214 /2‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب ما يؤمر به حديث رقم‬
‫(‪.)2149‬‬

‫ص ‪582 :‬‬
‫غض األبصار وحفظ الفروج‬
‫لدينهم ‪ ،‬وأبعد هبم عن الريبة‪ .‬وأفعل التفضيل هنا للمبالغة يف أ ّن ّ‬
‫يطهران النفوس من دنس الرذائل ‪ ،‬أو أ ّن املفاضلة على سبيل الفرض والتقدير ‪ ،‬أو ابعتبار‬
‫ّ‬
‫ظنهم أ ّن يف استيفاء اللذة نفعا‪.‬‬
‫اّللح حخبِريٌ ِمبا يح ْ‬
‫صنح عمو حن اخلربة ‪ :‬العلم القوي الذي يصل إىل بواطن األشياء ‪ ،‬ويكشف عن‬ ‫إِ َّن َّ‬
‫فاّلل خبري مبا يصنعون‪ .‬عليم علما اتما بظواهر أعماهلم وبواطنها ‪ ،‬ال ختفى عليه من‬
‫دخائلها ‪ّ ،‬‬
‫ذلك خافية ‪ ،‬وهو وعيد وهتديد على مثال ما سبق‪.‬‬
‫ين ِزينح تح مه َّن إَِّال ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ْ ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وقمل لِلْم ْؤِم ِ‬
‫وج مه َّن حوال يم ْبد ح‬ ‫ض حن م ْن أحبْصا ِره َّن حوحْحي حفظ ح‬
‫ْن فم مر ح‬ ‫نات يحغْ م‬ ‫ح ْ م‬ ‫قال ّ‬
‫ض ِربن ِخبمم ِرِه َّن على جيوهبِِ َّن وال ي ب ِدين ِزين ت ه َّن إَِّال لِب عولحتِ ِه َّن أحو آابئِ ِه َّن أحو ِ‬
‫آابء‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫مم‬ ‫ح م م ح مْ ح ح ح م‬ ‫ظح حه حر م ْنها حولْيح ْ ْ ح م‬
‫ب عولحتِ ِه َّن أحو أحبنائِ ِه َّن أحو أحب ِ‬
‫ناء بمعمولحتِ ِه َّن أ ْحو إِ ْخواّنِِ َّن أ ْحو بحِين إِ ْخواّنِِ َّن أ ْحو بحِين أح حخواهتِِ َّن أ ْحو نِسائِ ِه َّن أ ْحو ما‬‫ْ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫مم‬
‫جال أح ِو ال ِطّْف ِل الَّ ِذين حمل يظ حْهروا حعلى حعوراتِ‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ح ْح م‬ ‫اإل ْربحة م حن ِّ‬ ‫مويل ِْ‬ ‫ت أ ْحميا مّنم َّن أح ِو التَّابِع ح‬
‫ني غح ِْري أ ِ‬ ‫حملح حك ْ‬
‫مجيعاً أحيُّ حها ال مْم ْؤِمنمو حن ل ححعلَّ مك ْم‬ ‫ني ِم ْن ِزينحتِ ِه َّن حوتموبموا إِ حىل َّ‬
‫اّللِ حِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫النِّ ِ‬
‫ض ِربْ حن ِأب ْحر مجل ِه َّن ليم ْعلح حم ما مخيِْف ح‬
‫ساء حوال يح ْ‬
‫حو حن (‪ ) 31‬جرت عادة القرآن الكرمي يف التكاليف العامة واآلداب اليت تشمل نوعي الذكور‬ ‫ِ‬
‫تم ْفل م‬
‫يوجه األمر والنهي ‪ ،‬ويصرف اخلطاب إىل مجاعة الذكور ‪ ،‬وتكون النساء داخالت‬ ‫واإلانث أن ّ‬
‫يف احلكم بطريق تغليب الرجال عليهن ‪ ،‬أو بطريق املقايسة‪.‬‬
‫هن ‪ ،‬فيفردن ابلذكر من أجله‪ .‬وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫خيص ّ‬
‫وقد يكون للنساء حكم ّ‬
‫ض حن ِم ْن أحبْصا ِرِه َّن اآلية ‪ ،‬ألّنن زدن عن الرجال أحكاما ختصهن ‪ ،‬وهي‬
‫ض ْ‬ ‫وقمل لِلْم ْؤِم ِ‬
‫نات يحغْ م‬ ‫ح ْ م‬
‫اّلل تعاىل‪ .‬واألمر إبرخاء مخرهن على جيوهبن ‪ ،‬والنهي عن‬
‫النهي عن إبداء زينتهن إال ما استثىن ّ‬
‫كل فعل يلفت النظر إىل زينتهن ‪ ،‬وينبّه الناس عليها‪.‬‬
‫بغض بصرها ‪ ،‬ومل تعني ما جيب غض البصر عنه ‪ ،‬كما أ ّن اآلية‬
‫أمرت هذه اآلية الكرمية املرأة ّ‬
‫تعني ما جيب على الرجال غض أبصارهم عنه ‪ ،‬وقد تك ّفلت السنة ببيان ذلك ‪،‬‬
‫السابقة مل ّ‬
‫فحظرت على املرأة أن تنظر من غري زوجها إىل ما بني السرة والركبة ‪ ،‬سواء يف ذلك الرجال‬
‫والنساء ‪ ،‬وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغري شهوة ‪ ،‬حظرت عليها أيضا أن تنظر إىل شيء من‬
‫كل هذا حمل اتفاق بني الفقهاء مجيعا‪.‬‬
‫بدن الرجل بشهوة‪ّ .‬‬
‫أما نظرها إىل ما حتت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الرواايت فيه‪.‬‬
‫فأخرج أمحد وأبو داود والنسائي والرتمذي وصححه عن أم سلمة قالت ‪ :‬كنت عند النيب صلّى‬
‫اّلل عليه وسلّم وميمونة ‪ ،‬فأقبل ابن أم مكتوم حىت دخل عليه ‪ ،‬وذلك بعد أن أمر ابحلجاب ‪،‬‬
‫ّ‬
‫فقال‬

‫ص ‪583 :‬‬
‫اّلل أليس أعمى ال يبصران وال‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬احتجبا منه» فقلنا ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫يعرفنا؟‬
‫فقال ‪« :‬أفعمياوان أنتما ‪ ،‬ألستما تبصرانه» «‪»1‬؟‪.‬‬
‫لكين‬
‫ويف «املوطأ» عن عائشة أّنّا احتجبت من أعمى فقيل هلا ‪ :‬إنّه ال ينظر إليك ‪ ،‬قالت ‪ّ :‬‬
‫انظر إليه‪.‬‬
‫فهااتن الروايتان بظاهرمها حتظران على املرأة أن تنظر إىل شيء من بدن الرجل األجنيب ‪ ،‬وهو‬
‫قول أمحد ‪ ،‬وأحد قويل الشافعي ‪ ،‬وصححه النووي ‪ ،‬وهو أيضا ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬حوقم ْل‬
‫ض حن ِم ْن أحبْصا ِرِه َّن‪.‬‬
‫ض ْ‬ ‫لِلْم ْؤِم ِ‬
‫نات يحغْ م‬ ‫م‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل عنها قالت ‪ :‬رأيت النيب صلّى ّ‬ ‫ويف «الصحيحني» «‪ »2‬وغريمها عن عائشة رضي ّ‬
‫وسلّم يسرتين بردائه وأان انظر إىل احلبشة يلعبون يف املسجد ‪ ،‬حىت أكون أان الذي يسأم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف يوم عيد قالت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وألمحد «‪ »3‬عنها أن احلبشة كانوا يلعبون عند رسول ّ‬
‫‪:‬‬
‫فاطلعت من فوق عاتقه ‪ ،‬فطأطأ يل منكبيه ‪ ،‬فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حىت شبعت ‪،‬‬
‫مث انصرفت‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد يف بيت ابن أم مكتوم‬
‫صح أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫وقد ّ‬
‫وقال ‪:‬‬
‫«إنه رجل أعمى تضعني ثيابك عنده» «‪»4‬‬
‫شك أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه‪.‬‬
‫وال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم مضى إىل النساء يف املسجد يوم عيد ‪ ،‬فذ ّكرهن ومعه‬
‫وصح أيضا أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وإىل بالل حني‬
‫أمرهن ابلصدقة «‪ .»5‬وبعيد أال ينظرن إىل النيب صلّى ّ‬
‫بالل ‪ ،‬و ّ‬
‫فدل جمموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل‬
‫كن يسمعن املوعظة ويتصدقن ‪ّ ،‬‬
‫األجنيب إىل ما عدا ما بني سرته وركبته‪ .‬وهبذا قال مجع من فقهاء األمصار ‪ ،‬وهو أحد قويل‬
‫الشافعي كما علمت‪.‬‬
‫وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة ‪ ،‬واحتجاب عائشة من األعمى ‪:‬‬
‫أب ّن األعمى قد يبدو من عورته املتفق على حرمة النظر إليها ما ال يشعر به فأمرن ابالحتجاب‬
‫منه لذلك ‪ ،‬فال يلزم من ذلك عدم جواز النظر إبطالق‪.‬‬
‫كما أجاب أصحاب الرأي األول عن نظر عائشة إىل احلبشة وهم يلعبون أب ّن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )95 /5‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب يف احتجاب النساء‬
‫وجل ‪:‬‬
‫عز ّ‬‫حديث رقم (‪ ، )2779‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )31 /4‬كتاب اللباس ‪ ،‬ابب قوله ّ‬
‫نات حديث رقم (‪ ، )4112‬وأمحد يف املسند (‪.)296 /6‬‬ ‫وقمل لِلْم ْؤِم ِ‬
‫ح ْ م‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 8 ، )607 /2‬كتاب العيدين ‪ - 4 ،‬ابب الرخصة حديث‬
‫رقم (‪ ، )892‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 8 ، )133 /1‬كتاب الصالة ‪ - 69 ،‬ابب أصحاب‬
‫احلراب حديث رقم (‪.)454‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف املسند (‪.)83 /6‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )114 /2‬كتاب الطالق ‪ - 6 ،‬ابب املطلقة حديث‬
‫رقم (‪.)1480‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 8 ، )606 /2‬كتاب العيدين ‪ - 2 ،‬ابب ترك الصالة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)884 /13‬‬

‫ص ‪584 :‬‬
‫ذلك كان قبل نزول احلجاب ‪ ،‬أو أّنّا كانت يومئذ جارية صغرية كما قالت هي عن نفسها‪ .‬وعن‬
‫سكىن فاطمة بنت قيس يف بيت ابن أم مكتوم أبنه ميكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه‬
‫وكذلك ميكن أن يستمع النساء إىل النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫الصالة والسالم وعن بالل رضي ّ‬
‫ولعل أوىل ما مجع به بني هذه األحاديث املتعارضة أن حيمل األمر ابالحتجاب من ابن أم مكتوم‬
‫اّلل عنها من األعمى كان ورعا منها وعمال مبا هو‬
‫على الندب ‪ ،‬وكذلك احتجاب عائشة رضي ّ‬
‫أمجل وأوىل ابلنساء ‪ ،‬وحينئذ ال يكون حراما على املرأة أن تنظر من األجنيب إىل ما عدا ما بني‬
‫السرة والركبة ‪ ،‬ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إىل األسواق وإىل املساجد ويف‬
‫األسفار منتقبات حىت ال يراهن أحد من الرجال ‪ ،‬ومل يؤمر الرجال ابالنتقاب حىت ال يراهم‬
‫النساء ‪ ،‬فكان ذلك دليال على املغايرة بني الرجال والنساء يف احلكم‪ .‬وليس بصحيح ما قيل من‬
‫أن عائشة كانت صغرية حينما كانت تنظر إىل احلبشة وهم يلعبون ‪ ،‬وال أن ذلك كان قبل نزول‬
‫احلجاب ‪ ،‬أل ّن يف بعض رواايت احلديث تصرحيا أب ّن هذه القصة كانت بعد قدوم وفد احلبشة ‪،‬‬
‫ومعلوم أ ّن قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة ‪ ،‬وكانت هذه احلادثة بعد‬
‫نزول احلجاب كما هو ظاهر‪.‬‬
‫وج مه َّن يقال فيه ما قيل يف نظريه يف اآلية السابقة ‪ ،‬وحاصله أ ّن املراد‬
‫ْن فم مر ح‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حو حْحي حفظ ح‬
‫حبفظ الفروج البعد عن الزّن والسحاق ‪ ،‬أو سرتها حىت ال يراها أحد ‪ ،‬أو أ ّن املراد األمران‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫ين ِزينح تح مه َّن إَِّال ما ظح حه حر ِمنْها الزينة يف األصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع‬ ‫ِ‬
‫حوال يمبْد ح‬
‫احللي واخلضاب وغريها‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد ابلزينة يف اآلية ‪ ،‬فحملها بعضهم على معناها احلقيقي ‪ ،‬إذ كان ال‬
‫يصح العدول عنه مىت أمكنت إرادته ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّن الكالم دائر حول الزينة نفسها ‪ ،‬والنهي‬
‫ّ‬
‫ض ِربْ حن ِخبم مم ِرِه َّن حعلى مجيموهبِِ َّن حوال‬
‫منصب على إبدائها ذاهتا ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل فيما سيأيت حولْيح ْ‬
‫ّ‬
‫ين ِزينح تح مه َّن ومعلوم أن ليس املراد أّنن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا ‪ ،‬حىت ولو كانت‬ ‫ِ‬
‫يم ْبد ح‬
‫أّنن منهيات عن إبداء الزينة حني التحلي هبا ‪،‬‬ ‫معروضة يف منديل للبيع يف األسواق ‪ ،‬بل املراد ّ‬
‫واستعماهلا يف مواقعها ‪ ،‬وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من ابب أوىل ‪ ،‬فإنّه ما ّني‬
‫عن الزينة إال ملالبستها تلك املواقع ‪ ،‬فكان إبداء املواقع نفسها متمكنا يف احلظر ‪ ،‬اثبت القدم‬
‫يف احلرمة‪.‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬إن املراد من الزينة مواقعها من األعضاء ‪ ،‬إما بطريق تقدير‬

‫ص ‪ 585 :‬مضاف ‪ ،‬واألصل ‪ :‬وال يبدين مواقع زينتهن‪ .‬وإما بطريق إطالق الزينة وإرادة‬
‫مواقعها لقوة املالبسة بينهما‪ .‬والصارف عن املعىن احلقيقي أ ّن الزينة نفسها ليست مقصودة‬
‫ابلنهي ‪ ،‬بدليل أ ّن ما استنثين منها يف قوله تعاىل ‪ :‬إَِّال ما ظح حه حر ِمنْها قد فسره كثري من الصحابة‬
‫والتابعني ابلوجه والكفني ‪ ،‬وظاهر أ ّن املستثىن من جنس املستثىن منه ‪ ،‬فيكون املراد من الزينة‬
‫مواقعها من البدن‪.‬‬
‫يؤيّد هذا ما‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رواه أبو داود «‪ »1‬عن عائشة أ ّن أمساء بنت أيب بكر دخلت على رسول ّ‬
‫وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ‪ ،‬وقال ‪« :‬اي أمساء إ ّن املرأة إذا بلغت احمليض مل يصلح هلا‬
‫أن يرى منها إال هذا وهذا» وأشار إىل وجهه وكفيه‬
‫‪ ،‬فإ ّن هذا احلديث الشريف يف معىن اآلية‪.‬‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬إَِّال ما ظح حه حر ِمنْها أ ّن النساء منهيات عن إبداء الزينة إال الزينة اليت ظهرت ‪،‬‬
‫فلسن منهيات عن إبدائها ‪ ،‬وهو معىن ال يكاد يستقيم ‪ ،‬أل ّن ما ظهر ابلفعل فقد بدا فال يقال‬
‫فيه ‪ :‬إّنن غري منهيات عن إبدائه ‪ ،‬وحينئذ فال بد من أتويل يف الكالم ‪ ،‬وذلك أبحد وجوه‬
‫ثالثة ‪:‬‬
‫األ ول ‪ :‬أن االستثناء هنا منقطع ‪ ،‬واملعىن عليه ‪ :‬وال يبدين زينتهن أبدا ‪ ،‬لكن ما ظهر منها‬
‫بنفسه ومن غري قصد فهو عفو ‪ ،‬كأن كشفت الريح عن حنرها أو ساقها‪.‬‬
‫وهن‬
‫الثاين ‪ :‬أن املستثىن منه حمذوف دل عليه النهي ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬وال يبدين زينتهن ‪ّ ،‬‬
‫مؤاخذات على إبداء زينتهن ‪ ،‬إال ما ظهر منها بنفسه ‪ ،‬فلسن مؤاخذات عليه‪.‬‬
‫وعلى هذين التأويلني ال يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أ ّن معىن ما ظهر ‪ :‬ما جرت العادة وقضت احلاجة بظهوره ‪ ،‬وكان يف سرته حرج‬
‫ومشقة يف املتعارف بني الناس ‪ :‬أي وال يبدين شيئا من زينتهن إال شيئا جرت العادة بظهوره ‪،‬‬
‫فلسن منهيات عن إبدائه ‪ ،‬وذلك هو الوجه والك ّفني وما فيهما من زينة كالكحل واخلضاب‬
‫فاّلل قد حظر إبداء شيء من‬
‫واخلامت ‪ ،‬وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعني ‪ :‬ظاهرة وابطنة ‪ّ ،‬‬
‫الزينة الباطنة لغري من استثين فيما أييت ‪ ،‬ومل حيظر إبداء الزينة الظاهرة ‪ ،‬أل ّن احلاجة تقضي‬
‫بظهورها كما علمت‪ .‬وتعميم النهي أوال ‪ ،‬مث االستثناء منه اثنيا مشعر أبنّه ينبغي للنساء أن‬
‫حيتطن يف السرت ‪ ،‬وال يبدين من زينتهن الظاهرة إال ما تدعو حاجتهن إىل إبدائه‪.‬‬
‫وعلى االختالف يف أتويل اآلية انبىن خالف األئمة يف آرائهم ومذاهبهم يف عورة املرأة ‪ ،‬فاحلنفية‬
‫واملالكية على أ ّن الوجه والكفني ليسا بعورة ‪ ،‬وهو أحد قويل الشافعي ‪ ،‬ويشهد هلم ما تقدم من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اي أمساء إ ّن املرأة إذا بلغت‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )29 /4‬كتاب اللباس ‪ ،‬ابب فيما تبدي املرأة حديث رقم‬
‫(‪.)4104‬‬

‫ص ‪586 :‬‬
‫احمليض مل يصلح هلا أن يرى منها إال هذا وهذا» وأشار إىل وجهه وكفيه «‪.»1‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬أن القدمني ليستا من العورة أيضا‪ .‬نظر يف ذلك إىل أ ّن‬
‫ويف رواية عن أيب حنيفة رضي ّ‬
‫احلرج يف سرتمها أش ّد منه يف سرت الكفني ‪ ،‬ال سيما ابلنسبة إىل أكثر نساء القرى الفقريات ‪،‬‬
‫الاليت ميشني لقضاء مصاحلهن يف الطرقات‪.‬‬
‫وعن أيب يوسف أن الذراعني ليستا بعورة كذلك ‪ ،‬ملا يف سرتمها من احلرج ‪ ،‬فأنت ترى أصحاب‬
‫أّنن منهيات عن إبداء زينتهن إال‬
‫هذا القول قد حنوا يف اآلية منحى التأويل األخري ‪ ،‬وأ ّن املراد ّ‬
‫ما دعت احلاجة إىل ظهوره وجرى عرف الناس يف عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة اليت مل‬
‫حيظر إبداؤها‪.‬‬
‫أصح‬
‫وذهب اإلمام أمحد إىل أن بدن احلرة كلّه عورة ‪ ،‬فيحرم إبداء شيء منه لألجنيب ‪ ،‬وهو ّ‬
‫قويل الشافعي ‪ ،‬وأصحاب هذا الرأي أتولوا اآلية على أحد الوجهني ‪ :‬األول والثاين ‪ ،‬وأن املراد‬
‫ما ظح حه حر ‪ :‬ما ظهر بنفسه من غري قصد إىل إظهاره ‪ ،‬ويشهد لذلك من السنة ‪:‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل قال ‪ :‬سألت رسول ّ‬
‫ما رواه أمحد ومسلم وأبو داود والرتمذي «‪ »2‬عن جرير بن عبد ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال ‪« :‬اصرف بصرك»‪.‬‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وما رواه أمحد وأبو داود والرتمذي «‪ »3‬عن بريدة قال قال رسول ّ‬
‫لعلي ‪« :‬اي علي ال تتبع النظرة النظرة فإمنا لك األوىل ‪ ،‬وليست لك اآلخرة»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس‬
‫وما رواه البخاري «‪ »4‬عن ابن عباس أن النيب صلّى ّ‬
‫يوم النحر خلفه ‪ -‬وفيه قصة املرأة الوضيئة اخلثعمية ‪ -‬فطفق الفضل ينظر إليها ‪ ،‬فأخذ النيب‬
‫فحول وجهه عن النظر إليها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم بذقن الفضل ‪ّ ،‬‬
‫صلّى ّ‬
‫وه َّن ِم ْن حور ِاء ِح ٍ‬
‫جاب [األحزاب ‪ ]53 :‬وهو ‪-‬‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوإِذا حسأحلْتم مم م‬
‫وه َّن حمتاعاً فح ْسئح لم م‬ ‫وقول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ -‬فإ ّن احلكم يتناول غريهن بطريق القياس‬
‫وإن كان السبب فيه أزواج النيب صلّى ّ‬
‫عليهن‪.‬‬
‫ترجح القول أب ّن الوجه‬
‫ولعلك إذا نظرت إىل أ ّن الشريعة سهلة مسحة ال حرج فيها وال مشقة ‪ّ ،‬‬
‫والكفني من األجنبية ليسا من العورة ‪ ،‬فإ ّن يف تكليف النساء سرت الوجه والكفني حرجا ومشقة‬
‫عليهن ‪ ،‬ال سيما الفقريات الاليت ليس هلن خدم ‪ ،‬فيضطرون إىل قضاء حاجاهتن من األسواق‬
‫أبنفسهن‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاصا ابحلاالت اليت تؤمن فيها الفتنة ‪ ،‬أما يف غريها من احلاالت‬
‫وينبغي أن يكون القول هبذا ّ‬
‫اليت خنشى فيها الفتنة ‪ ،‬ويف األوقات اليت يكثر فيها الفساق يف األسواق‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬و(‪ )3‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫اّلل‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )164 /7‬كتاب االستئذان ‪ - 62 ،‬ابب قول ّ‬
‫ري بميموتِ مك ْم حديث رقم (‪].....[ .)6228‬‬ ‫ِ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬ ‫تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬

‫ص ‪587 :‬‬
‫والطرقات ‪ ،‬فال جيوز للمرأة أن خترج سافرة عن وجهها ‪ ،‬وال أن تبدي شيئا من زينتها‪.‬‬
‫فأما‬
‫اّلل ‪« :‬اصرف بصرك»‬
‫اّلل عليه وسلّم جلرير بن عبد ّ‬
‫قول النيب صلّى ّ‬
‫وقوله لعلي بن أيب طالب ‪« :‬ال تتبع النظرة ‪»...‬‬
‫فمعناها النهي عن تعمد النظر إىل شيء من بدن املرأة لغري حاجة ‪ ،‬فإن تعمد النظر إليها حينئذ‬
‫ال خيلو عن ريبة ‪ ،‬وقد أمران ابلبعد عن مظا ّن التهم والريبة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إىل اخلثعمية‪ .‬فإمنا كان ذلك ملخافة‬
‫وأما صرف النيب صلّى ّ‬
‫الفتنة ‪،‬‬
‫فقد أخرج الرتمذي «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ :‬لويت عنق ابن عمك؟‬
‫وصححه ‪ :‬أ ّن العباس بن عبد املطلب قال للنيب صلّى ّ‬
‫فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬رأيت شااب وشابة فلم آمن عليهما الفتنة»‪.‬‬
‫فكان يف ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة ‪ ،‬ولو مل يفهم العباس أ ّن النظر جائز ما قال‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫أقره عليه النيب صلّى ّ‬ ‫مقالته ‪ ،‬ولو مل يكن ما فهمه صحيحا ما ّ‬
‫خاص أبزواج النيب‬
‫جاب فحكمه ّ‬ ‫وه َّن حمتاعاً فح ْسئح لمو مه َّن ِم ْن حور ِاء ِح ٍ‬
‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬حوإِذا حسأحلْتم مم م‬
‫اّلل عليه وسلّم ملا أ ّن هلن من احلرمة ما ليس لغريهن من النساء ‪ ،‬فال يقاس غريهن عليهن‬
‫صلّى ّ‬
‫يف ذلك‪.‬‬
‫هذا وقد استثنت الشريعة حاالت يباح فيها لألجنيب أن ينظر من بدن املرأة إىل ما تقضي‬
‫الضرورة ابلنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه ‪ ،‬حىت على رأي‬
‫القائلني أبن بدن املرأة كله عورة ‪ ،‬وكذلك للطبيب أن يرى موضع العالج ‪ ،‬وللشاهد ابلزّن أن‬
‫يرى ما يصحح له الشهادة‪.‬‬
‫ض ِربْ حن ِخبم مم ِرِه َّن حعلى مجيموهبِِ َّن‪ .‬والضرب ‪ :‬معناه السدل واإلرخاء‪.‬‬
‫حولْيح ْ‬
‫واخلمر ‪ :‬مجع مخار ‪ ،‬وهو ما تغطي به املرأة رأسها ‪ ،‬مأخوذ من اخلمر مبعىن السرت والتغطية‪.‬‬
‫واجليوب ‪ :‬مجع جيب‪ .‬وهو فتحة يف أعلى القميص يبدو منها بعض النحر‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وتعليم للنساء كيف يسرتن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن ‪،‬‬
‫يف هذا األمر إرشاد من ّ‬
‫يكن كنساء اجلاهلية ‪ ،‬إذ‬
‫أمرهن أن يرخني اخلمر على جيوهبن ‪ ،‬ليسرتن الصدور والنحور ‪ ،‬وال ّ‬
‫إحداهن تضع مخارها على رأسها ‪ ،‬مث تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها‪ .‬وكانت متشي بني‬
‫ّ‬ ‫كانت‬
‫الرجال هكذا ‪ ،‬يظهر منها حنرها وصدرها‪ .‬ويف ذلك دليل على أن صدر املرأة وحنرها عورة‪ .‬ال‬
‫جيوز لألجنيب النظر إليهما منها‪.‬‬
‫ين ِزينح تح مه َّن إَِّال لِبم عمولحتِ ِه َّن قد تبني ِما تق ّدم أنّه ال جيوز للمرأة أن تبدي من زينتها خالف ما‬ ‫ِ‬
‫حوال يم ْبد ح‬
‫اّلل تعاىل بقوله ‪ :‬إَِّال ما ظححه حر ِمنْها فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو‬ ‫استثناه ّ‬
‫شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )232 /3‬كتاب احلج ‪ ،‬ابب ما جاء أ ّن عرفة كلها‬
‫موقف حديث رقم (‪.)885‬‬

‫ص ‪588 :‬‬
‫ين ِزينح تح مه َّن إَِّال لِبم عمولحتِ ِه َّن إخل فاملقصود منه استثناء البعولة ومن عطف‬ ‫ِ‬
‫أما قوله سبحانه ‪ :‬حوال يم ْبد ح‬
‫عليهم من عموم من ّنيت املرأة عن إبداء الزينة الباطنة له‪.‬‬
‫التسري من السادة ‪ ،‬فاألمر فيهم ظاهر‪ .‬وأما‬
‫أما البعولة وهم األزواج ‪ ،‬ويلحق هبم من له حق ّ‬
‫اّلل فللحاجة إىل خمالطتهم مع أمن الفتنة‪.‬‬
‫سائر من استثىن ّ‬
‫استثنت اآلية نوعني ألجل املصاهرة ‪ :‬آابء األزواج وأبناء األزواج ‪ ،‬وليس وراء هذين النوعني من‬
‫احملارم ابملصاهرة أحد‪.‬‬
‫واستثنت من احملارم ابلنسب مخسة أنواع ‪ :‬هم آابء النساء ‪ ،‬وأبناؤهن وإخوهتن ‪ ،‬وأبناء إخوهتن‬
‫وأبناء أخواهتن‪ .‬ومل تذكر من احملارم األعمام واألخوال ‪ ،‬كما أّنا مل تذكر احملارم ابلرضاع‪ .‬والفقهاء‬
‫فلعل‬
‫جممعون على أ ّن حكم هؤالء كحكم املذكورين يف اآلية‪ .‬أما عدم ذكر األعمام واألخوال ّ‬
‫السر فيه أ ّن العمومة واخلئولة مبنزلة األبوة ‪ ،‬فكان ذكر اآلابء مغنيا عن ذكر األعمام واألخوال ‪،‬‬
‫وأما احملارم من الرضاع فعدم ذكرهم لالكتفاء ببيان السنة ‪:‬‬
‫«حيرم من الرضاع ما حيرم من النسب» «‪.»1‬‬
‫واألنواع الباقية ‪ :‬هي النساء ‪ ،‬واملماليك ‪ ،‬والتابعون غري أويل األربعة ‪ ،‬واألطفال‪.‬‬
‫اّلل تعاىل فيهم ‪ :‬أ ْحو نِسائِ ِه َّن أ ْحو ما حملح حك ْ‬
‫ت أ ْحميا مّنم َّن وللعلماء خالف‬ ‫فأما النساء واملماليك فقد قال ّ‬
‫يعم احلرائر واإلماء‬
‫يف املراد بكل نوع من هذين النوعني ‪ ،‬فذهبت طائفة إىل أ ّن املراد ابلنساء ما ّ‬
‫أمياّنن خصوص العبيد ‪ ،‬أل ّن اإلماء قد دخلن يف النساء‪ .‬وحينئذ‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬وعليه يكون املراد مبا ملكت‬
‫حيل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء احلرائر واإلماء ‪ ،‬وملن متلكه من العبيد ‪ ،‬ألّنّم يف ذلك‬
‫ملحقون بذوي احملارم‪ .‬وهبذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثري من السلف وهو مذهب‬
‫مالك ‪ ،‬وأحد قويل الشافعي‪ .‬ويؤيده ما‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل عنه أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫رواه أمحد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي ّ‬
‫اّلل عنها بعبد قد وهبه هلا ‪ ،‬وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها مل يبلغ‬
‫أتى فاطمة رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ما تلقى قال‬
‫رجليها ‪ ،‬وإذا غطت به رجليها مل يبلغ رأسها ‪ ،‬فلما رأى النيب صلّى ّ‬
‫‪« :‬إنّه ليس عليه أبس ‪ ،‬إمنا هو أبوك وغالمك» «‪.»2‬‬
‫وذهبت طائفة إىل أ ّن املراد ابلنساء خصوص احلرائر ‪ ،‬أل ّن املراد مبا ملكت أمياّنن خصوص‬
‫اإلماء ‪ ،‬وذلك أل ّن العبد فحل غري حمرم وال زوج ‪ ،‬والشهوة فيه متحققة ‪ ،‬واحلاجة إىل اخللطة به‬
‫قاصرة ‪ ،‬فكان هو واحلر األجنيب يف التحرمي سواء ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1068 /2‬كتاب الرضاع ‪ - 1 ،‬ابب ما حيرم من‬
‫الرضاعة حديث رقم (‪.)1444‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )30 /4‬كتاب اللباس ‪ ،‬ابب يف العبد ينظر إىل شعر موالته ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)4106‬‬

‫ص ‪589 :‬‬
‫وحرمة النكاح بينه وبني سيدته عارضة كحرمة أخت الزوجة ‪ ،‬وما زاد على األربع واألمة املزوجة‬
‫ت أ ْحميا مّنم َّن ال يشمل العبيد ‪ ،‬وأنّه لبيان حكم‬
‫فدل ذلك على أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬أ ْحو ما حملح حك ْ‬ ‫ابلغري ‪ّ ،‬‬
‫اإلماء ال غري ‪ ،‬فوجب أن يكون قوله تعاىل ‪ :‬أ ْحو نِسائِ ِه َّن مقصورا على احلرائر ‪ ،‬ال يتناول اإلماء‬
‫ت أ ْحميا مّنم َّن لغوا‪ .‬وعلى هذا ال جيوز للمرأة أن تبدي لعبدها من‬ ‫‪ ،‬وإال كان قوله تعاىل ‪ :‬أ ْحو ما حملح حك ْ‬
‫حيل له أن ينظر من سيدته إال ما حيل له أن ينظر إليه‬ ‫زينتها إال ما جيوز أن تبديه لألجنيب ‪ ،‬وال ّ‬
‫من األجنبية ‪ ،‬وهبذا قال ابن مسعود وجماهد واحلسن وابن سريين ‪ ،‬وكذا ابن املسيّب ‪ ،‬فقد روي‬
‫أنه رجع إليه وقال ‪ :‬ال تغرنّكم سورة النور فإّنّا يف اإلانث ال يف الذكور‪ .‬وهو مذهب احلنفية‬
‫وأحد قويل الشافعي ‪ ،‬ويؤيده‬
‫ابّلل واليوم اآلخر أن تسافر سفرا فوق ثالث‬
‫حيل المرأة تؤمن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫إال مع ذي حمرم» «‪»1‬‬
‫والعبد ليس بذي حمرم فال جيوز هلا أن تسافر معه‪.‬‬
‫وحينئذ ال جيوز هلا أن تبدي له من زينتها ما تبديه حملارمها‪.‬‬
‫وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق أب ّن العبد كان صغريا إذ إ ّن الغالم حقيقة‬
‫يف غري البالغ‪.‬‬
‫هذا وللعلماء خالف أيضا يف املراد ابلنساء مع انحية أخرى هي انحية الدين ‪:‬‬
‫هبن عموم النساء بال فرق بني املسلمات والكافرات ‪ ،‬وعلى هذا تكون‬ ‫فقال مجاعة ‪ :‬إ ّن املراد ّ‬
‫اإلضافة يف قوله تعاىل ‪ :‬أ ْحو نِسائِ ِه َّن لإلتباع واملشاكلة ‪ ،‬فيجوز للمرأة املسلمة أن تبدي من‬
‫زينتها للمرأة الكافرة ما حيل هلا أن تبديه للمسلمة ‪ ،‬وهذا هو أحد قولني عند كل من احلنفية‬
‫والشافعية ‪ ،‬وصححه الغزايل من الشافعية ‪ ،‬وأبو بكر بن العريب من املالكية ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬إ ّن‬
‫املراد هبن خصوص النساء املسلمات ‪ ،‬فتكون اإلضافة لالختصاص ‪ ،‬أي النساء املختصات هبن‬
‫يف الصحبة واألخوة يف الدين ‪ ،‬وعلى هذا ال حيل للمسلمة أن تبدي شيئا من زينتها الباطنة‬
‫للكافرة‪ .‬واعتمده مجع من الشافعية‪.‬‬
‫وقال أبو السعود من احلنفية ‪ :‬إنّه يصح القوالن يف مذهبهم ‪ ،‬هو قول أكثر السلف‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه‬
‫أخرج سعيد بن منصور وابن املنذر والبيهقي يف «سننه» عن عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫اّلل عنه ‪ :‬أما بعد فإنّه بلغين أ ّن نساء من نساء املسلمني يدخلن‬
‫كتب إىل أيب عيبدة رضي ّ‬
‫ابّلل واليوم‬
‫احلمامات مع نساء أهل الشرك ‪ ،‬فإنه من قبلك عن ذلك ‪ ،‬فإنّه ال حيل المرأة تؤمن ّ‬
‫اآلخر أن تنظر إىل عورهتا إال من كانت من أهل ملتها‪.‬‬
‫جال اإلربة‬‫اإل ْربحةِ ِم حن ِّ‬
‫الر ِ‬ ‫مويل ِْ‬ ‫اّلل فيهم ‪ :‬أح ِو التَّابِعِ ح‬
‫ني غح ِْري أ ِ‬ ‫وأما التابعون غري أويل اإلربة فقد قال ّ‬
‫واألرب واألرب واملأربة ‪ :‬احلاجة‪ .‬واملراد ابإلربة هنا احلاجة إىل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪590 :‬‬
‫ا لنساء‪ .‬واملراد ابلتابعني إخل الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ‪ ،‬من غري أن تكون هلم‬
‫حاجة يف النساء ‪ ،‬وال ميل إليهن‪.‬‬
‫ويف تعيني املراد بغري أويل األربة من الرجال أقوال كثرية للسلف ‪ :‬فنقل عنهم أنّه الشيخ الذي‬
‫فنيت شهوته ‪ ،‬أو األبله الذي ال يدري من أمر النساء شيئا ‪ ،‬أو اجملبوب ‪ ،‬أو اخلصي ‪ ،‬أو‬
‫املمسوح ‪ ،‬أو خادم القوم للعيش ‪ ،‬أو املخنّث‪ .‬والذي عليه املعول ‪ :‬أن املراد به كل من ليس‬
‫له حاجة إىل النساء ‪ ،‬وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء لألجانب ‪ ،‬فتعيني نوع من‬
‫األنواع السابقة خبصوصه ال يؤدي الغرض املقصود ‪ ،‬فرّمبا كان أحد هؤالء أعرف ابلنساء ‪،‬‬
‫وأقدر على وصفهن ِمن ليس على مثل حاله‪.‬‬
‫اّلل عنها قالت ‪ :‬كان رجل‬
‫أخرج مسلم وأبو داود والنسائي «‪ »1‬وغريهم عن عائشة رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم خمنّث ‪ ،‬فكانوا يعدونه من غري أويل اإلربة ‪ ،‬فدخل‬
‫يدخل على أزواج النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه ‪ ،‬وهو ينعت امرأة قال ‪ :‬إذا أقبلت أقبلت‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أرى هذا يعرف ما هاهنا ال‬
‫أبربع ‪ ،‬وإذا أدبرت أدبرت بثمان ‪ ،‬فقال صلّى ّ‬
‫عليكن هذا» فحجبوه‬
‫ّ‬ ‫يدخلن‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم حظر دخول ذلك املخنث على نسائه ‪ ،‬ألنّه وصف‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫‪ .‬فأنت ترى أ ّن ّ‬
‫امرأة أجنبية حبضرة الرجال األجانب‪ .‬وقد ّني الرجل أن يصف امرأته لغريه ‪ ،‬فكيف إذا وصفها‬
‫غريه من الرجال؟‪.‬‬
‫ات النِّ ِ‬
‫ساء قال الراغب‬ ‫اّلل فيهم ‪ :‬أح ِو ال ِطّ ْف ِل الَّ ِذين حمل يظ حْهروا حعلى حعور ِ‬
‫وأما األطفال فقد قال ّ‬
‫ْ‬ ‫ح ْح م‬
‫«‪ : »2‬كلمة طفل تقع على اجلمع كما تقع على املفرد ‪ ،‬فهي مثل كلمة ضيف‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هي مفرد ‪ ،‬وصحح وصفه ابجلمع أنّه حملى أبل اجلنسية ‪ ،‬فهو على حد قوهلم ‪ :‬أهلك‬
‫الناس الدينار الصفر والدرهم البيض‪ .‬فكأنه قيل ‪ :‬أو األطفال الذين مل يظهروا ‪ ...‬كما هو‬
‫منقول عن مصحف حفصة‪ .‬ويقال ‪ :‬ظهر على الشيء إذا طلع عليه‪ .‬ويقال ‪ :‬ظهر على فالن‬
‫إذا قوي عليه‪.‬‬
‫فعلى األول يكون املعىن ‪ :‬أو الطفل الذين مل يطلعوا على عورات النساء‪ .‬وهو كناية عن أّنّم مل‬
‫يعرفوا ما العورة ‪ ،‬ومل مييزوا بينها وبني غريها‪.‬‬
‫وعلى الثاين يكون املعىن ‪ :‬أو الطفل الذين مل يقووا على النساء‪ .‬أي مل يبلغوا ح ّد الشهوة‬
‫والقدرة على اجلماع‪ .‬والعورات مجع عورة ‪ ،‬وأصلها ما حيرتز من االطالع عليه ‪ ،‬سواء أكان‬
‫ذلك من بدن اإلنسان أم من متاعه‪ .‬وغلبت يف سوأة الرجل أو املرأة‪ .‬واملراد هبا هنا سوأة املرأة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 39 ، )1716 /4‬كتاب السالم ‪ - 13 ،‬ابب منع املخنث‬
‫حديث رقم (‪ ، )2181‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )30 /4‬كتاب اللباس ‪ ،‬ابب يف قوله ‪ :‬غح ِْري‬
‫اإل ْربحةِ حديث رقم (‪.)4107‬‬
‫مويل ِْ‬
‫أِ‬
‫(‪ ) 2‬حسني بن حممد بن املفضل ‪ ،‬أبو القاسم ‪ ،‬عامل يف التفسري والعربية واألدب ‪ ،‬صاحب‬
‫كتاب املفردات تويف (‪ )502‬انظر األعالم للزركلي (‪.)255 /2‬‬
‫ص ‪591 :‬‬
‫اّلل ِمن ال يصح أن تبدي هلم املرأة زينتها األطفال الذين مل يظهروا على عورات النساء‪.‬‬
‫استثىن ّ‬
‫وقد علمت أ ّن عدم الظهور على عورات النساء له معنيان ‪ :‬فعلى املعىن األول ال ينبغي للمرأة‬
‫أن تظهر شيئا من زينتها الباطنة للمراهق الذي مل يبلغ احللم ‪ ،‬لكنه يعرف عورة النساء ‪ ،‬ومييز‬
‫بني ما للرجل وما للمرأة ‪ ،‬ويلحق به من كان قريبا من املراهقة إذا كان مييز بني العورة وغريها ‪،‬‬
‫ويستطيع أن حيكي ما يراه ‪ ،‬وعلى املعىن الثاين ال حيرم على املرأة أن تبدي زينتها ملن دون‬
‫تشوق للنساء ‪ ،‬واألمر على املعىن الثاين أوسع يف‬
‫املراهقة ‪ ،‬وال للمراهق أيضا إال إذا كان فيه ّ‬
‫اإلابحة منه على املعىن األول‪.‬‬
‫اّلل تعاىل بقوله ‪ :‬اي أحيُّ حها‬
‫ويؤيد املعىن األول أ ّن الطفل مأمور ابالستئذان ىف أوقات ثالثة بيّنها ّ‬
‫ين حملْ يح ْب لمغموا ا ْحلملم حم ِم ْن مك ْم [النور ‪.]58 :‬‬ ‫ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم حوالَّذ ح‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫آمنموا ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬ ‫ِ‬
‫الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫وال شك أن املأمور بذلك من األطفال إمنا هو الطفل الذي يعرف عورات النساء ‪ ،‬وخيشى من‬
‫دخوله يف هذه األوقات اليت هي مظنة اختالل التسرت أن حيكي ما يراه ‪ ،‬ويصف ما يقع عليه‬
‫بصره ‪ ،‬سواء أكان مراهقا أم ال ‪ ،‬فالطفل املأمور ابالستئذان يف األوقات الثالثة ‪ ،‬هو الذي‬
‫يعرف العورة وهو الذي ينبغي للمرأة أال تبدي له شيئا من زينتها ‪ ،‬وعليه يكون املراد ابألطفال‬
‫الذين مل يظهروا على عورات النساء ‪ :‬األطفال الذين ال يعرفون ما العورة لصغرهم‪.‬‬
‫ني ِم ْن ِزينحتِ ِه َّن الضرب ابألرجل الد ّق هبا على األرض يف املشي ‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ض ِربْ حن ِأب ْحر مجل ِه َّن ليم ْعلح حم ما مخيِْف ح‬
‫حوال يح ْ‬
‫والزينة هنا اخلالخل ‪ :‬أي ال جيوز للمرأة أن تد ّق برجليها يف مشيتها لتسمع الناس صوت‬
‫خالخلها ‪ ،‬فإ ّن ذلك حيرك يف قلوب الرجال الشهوة ‪ ،‬ويدفعهم إىل التطلع إليها ‪ ،‬وحيملهم على‬
‫أن يظنوا هبا ميال إىل الفسوق ‪ ،‬وإذا كان السبب يف حترمي هذا الفعل هو ما يؤدي إليه من الفتنة‬
‫كل ما يف معناه ِما جير إىل الفتنة والفساد ملحقا به يف التحرمي ‪ ،‬كتحريك األيدي‬
‫والفساد ‪ ،‬كان ّ‬
‫ابألساور ‪ ،‬وحتريك اجلالجل يف الشعر‪ .‬فالتنصيص يف اآلية على الضرب ابألرجل ليس لقصر‬
‫إحداهن متشي يف الطريق ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النهي عليه ‪ ،‬بل أل ّن هذا هو ما كان عليه نساء اجلاهلية ‪ ،‬فقد كانت‬
‫فصوت‬
‫حىت إذا مرت مبجلس من جمالس الرجال ويف رجلها خلخال ضربت برجلها األرض ‪ّ ،‬‬
‫اّلل سبحانه املؤمنات عن ذلك‪.‬‬
‫اخللخال‪ .‬فنهى ّ‬
‫أّنن منهيات عن الضرب أبرجلهن ‪ ،‬بقصد أن يعلم الناس ما خيفني من زينة ‪،‬‬
‫وظاهر اآلية ّ‬
‫فيقتضي مبفهومه أنّه ال إمث على املرأة أن تضرب برجلها إذا مل تقصد بذلك تنبيه الناس على‬
‫ولعل هذا غري مراد ‪ ،‬وإ ّن تقييد النهي عن الضرب حبالة القصد إمنا هو ملوافقة سبب‬
‫زينتها ‪ّ ،‬‬
‫النزول ‪ ،‬ومثل هذا ال يعترب مفهومه‪.‬‬
‫ويصح أن تكون الالم يف قوله تعاىل ‪ :‬لِيم ْعلح حم الم العاقبة ‪ ،‬ويكون املعىن‬
‫ّ‬
‫ص ‪592 :‬‬
‫أّنن منهيات عن الضرب أبرجلهن أمام الرجال األجانب مطلقا ‪ ،‬سواء أقصدن‬
‫على ذلك ّ‬
‫إعالمهم أم مل يقصدن‪ .‬فإ ّن عاقبة الضرب ابألرجل وفيها اخلالخل أن يعلم الناس ما خيفني من‬
‫الزينة فيفتتنوا هبن‪.‬‬
‫تشم‬
‫وابلقياس على ما تقدم قال الفقهاء ‪ :‬إنّه ال جيوز للمرأة أن خترج من بيتها متعطرة حبيث ّ‬
‫منها الرائحة الطيبة ‪،‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬مسعت رسول ّ‬
‫فقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن أيب هريرة رضي ّ‬
‫عليه وسلّم يقول ‪« :‬ال يقبل صالة امرأة تطيّبت هلذا املسجد حىت ترجع فتغتسل غسلها من‬
‫اجلنابة» «‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬كل‬
‫اّلل عنه أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫وروى أبو داود والنسائي عن أيب موسى رضي ّ‬
‫فمرت ابجمللس ‪ ،‬فهي كذا وكذا» «‪»2‬‬
‫عني زانية ‪ ،‬واملرأة إذا استعطرت ‪ّ ،‬‬
‫يعين زانية‪.‬‬
‫واستدل احلنفية هبذا النهي على أ ّن صوت املرأة عورة ‪ ،‬فإّنّا إذا كانت منهية عن فعل يسمع له‬
‫صوت خلخاهلا ‪ ،‬فهي منهية عن رفع صوهتا ابلطريق األوىل‪.‬‬
‫كن‬
‫اّلل عليه وسلّم ّ‬
‫صوهتن عورة ‪ ،‬فإ ّن نساء النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬ ‫والظاهر أنّه إذا أمنت الفتنة مل يكن‬
‫يروين األخبار للرجال ‪ ،‬وفيهم األجانب من غري نكري وال أتثيم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتموبوا إِ حىل َِّ ِ‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل هذه اآلية الكرمية‬
‫حو حن‪ .‬ختم ّ‬‫اّلل حمجيعاً أحيُّ حها ال مْم ْؤمنمو حن ل ححعلَّ مك ْم تم ْفل م‬ ‫ح م‬
‫أبمر املؤمنني أن يتوبوا من التقصري الذي ال خيلو عنه أحد منهم ‪ ،‬ال سيما ما يتعلّق إببداء الزينة‬
‫والنظر إليها‪ .‬فاآلية تشري هبذا اخلتام إىل أنّه قلّما يسلم أحد من الوقوع يف بعض جرائم هذا‬
‫اّلل تعاىل إىل طريق ذلك بقوله ‪:‬‬
‫اّلل ومغفرته‪ .‬فأرشدهم ّ‬
‫الباب ‪ ،‬وهلذا فهم حمتاجون إىل عفو ّ‬
‫اّللِ حِ‬
‫مجيعاً وخاطبهم بعنوان اإلميان ‪ ،‬لينبههم إىل أن اإلميان الصحيح هو الذي حيمل‬ ‫حوتموبموا إِ حىل َّ‬
‫صاحبه على االمتثال ‪ ،‬وعلى التوبة واالستغفار ِما يكون قد ارتكبه من هفوات ‪ ،‬فإ ّن التوبة‬
‫سبب الفالح والفوز ابلسعادة‪.‬‬
‫هذا وعن ابن عباس أ ّن املراد ِما سبق منهم يف اجلاهلية من النظر وغريه ‪ ،‬واآلاثم اليت وقعت‬
‫منهم يف اجلاهلية ‪ ،‬وإن كان اإلسالم قد جبّها فهم مأمورون ابلتوبة منها كلما تذ ّكروا‪ .‬قال بعض‬
‫العلماء ‪ :‬وهذا هو احلال يف كل معصية اتب منها صاحبها أنه يلزمه أن يكرر التوبة منها كلّما‬
‫ذكرها‪.‬‬
‫__________‬
‫الرتجل ‪ ،‬ابب ما جاء يف املرأة حديث رقم‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )51 /4‬كتتب ّ‬
‫(‪ ، )4174‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 39 ، )1326 /2‬كتاب الفنت ‪ - 19 ،‬ابب فتنة النساء‬
‫حديث رقم (‪.)4002‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )99 /5‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب كراهية خروج املرأة‬
‫الرتجل ‪ ،‬ابب ما جاء يف املرأة‬
‫حديث رقم (‪ ، )2787‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )51 /4‬كتاب ّ‬
‫تتطيب حديث رقم (‪ ، )4173‬والنسائي (‪ ، )528 /8 - 7‬كتاب الزينة ابب ما يكره من‬
‫الطيب حديث رقم (‪.)5129‬‬

‫ص ‪593 :‬‬
‫الرتغيب يف النكاح‬
‫ني ِمن ِع ِ‬
‫باد مك ْم حوإِمائِ مك ْم إِ ْن يح مكونموا فم حقراءح يمغْنِ ِه مم‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وأحنْكِحوا ْاألحايمى ِم ْن مكم و َّ ِِ‬
‫الصاحل ح ْ‬ ‫ْح‬ ‫ح م‬ ‫قال ّ‬
‫اّللم ِم ْن‬
‫ين ال حجيِ مدو حن نِكاحاً حح َّىت يمغْنِيح مه مم َّ‬ ‫ِِ ِ‬
‫يم (‪ )32‬حولْيح ْستح ْعفف الَّذ ح‬
‫ضلِهِ و َّ ِ ِ‬
‫اّللم واس ٌع حعل ٌ‬
‫َّ ِ‬
‫اّللم م ْن فح ْ ح‬
‫وه ْم ِم ْن ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم إِ ْن عحل ْمتم ْم فِي ِه ْم حخ ْرياً حوآتم م‬ ‫تاب ِِمَّا حملح حك ْ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم فحكاتِبم م‬ ‫ِ‬ ‫فح ْ ِ ِ ِ‬
‫مال‬ ‫ضله حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْب تح غمو حن الْك ح‬
‫حيرم على الناس نوعا من املتاع يف الدنيا إال جعل له نظريا من‬ ‫اّلل سبحانه مل ّ‬ ‫اّللِ الَّ ِذي آات مك ْم إن ّ‬
‫َّ‬
‫حرم‬
‫حرمه عليهم ‪ ،‬فقد ّ‬ ‫احلالل الطيب ‪ ،‬ليكون ذلك معينا هلم ‪ ،‬ومقواي لعزائمهم على ترك ما ّ‬
‫وأحل النعم ‪ ،‬كما أنّه ح ّرم الزّن‬
‫وحرم اخلنزير ّ‬
‫وحرم امليتة وأحل املذ ّكى ‪ّ ،‬‬
‫وأحل البيع ‪ّ ،‬‬
‫الراب ّ‬
‫وأحل النكاح‪.‬‬
‫ّ‬
‫اّلل عن الزّن ودواعيه القريبة والبعيدة من النظر وإبداء الزينة ودخول البيوت بغري‬
‫فبعد ما زجر ّ‬
‫استئذان رغّب يف النكاح ‪ ،‬وأمر ابإلعانة عليه ‪ ،‬فالنكاح من خري ما حي ّقق العفة ‪ ،‬ويعصم املرء‬
‫عن الزّن ‪ ،‬ويبعد به عن آاثمه‪.‬‬
‫واألحايمى ‪ :‬مجع أمي ‪ ،‬وأصله أايمي ق ّدمت امليم على الياء ‪ ،‬مث فتحت للتخفيف ‪ ،‬فانقلبت الياء‬
‫ْ‬
‫خاصا ابلنساء ‪،‬‬
‫ألفا‪ .‬واألمي من ال زوج له من الرجال والنساء ‪ ،‬سواء أكان بكرا أم ثيبا ‪ ،‬وليس ّ‬
‫قال قائلهم ‪:‬‬
‫أأتمي‬
‫فإن تنكحي أنكح وإن تتأ ّميي وإن كنت أفىت منكم ّ‬
‫حوا ْاألحايمى ِمنْ مك ْم معناه ‪ :‬زوجوا‬ ‫ِ‬
‫وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال يف قوله تعاىل ‪ :‬حوأحنْك م‬
‫أايماكم بعضهم من بعض‪.‬‬
‫وكذلك ليس خاصا مبن ميوت عنه زوجه ‪ ،‬بل يقال أيضا ملن فارق ابلطالق‪.‬‬
‫قال الشماخ ‪:‬‬
‫يقر لعيين أن أح ّدث أّنّا وإن مل أنلها ّأمي مل تزوج‬
‫ّ‬
‫قاله يف زوجه بعد ما فارقها ‪ ،‬هذا هو املشهور يف لسان العرب‪.‬‬
‫فاملراد ابألايمى يف اآلية من ال زوج له من الرجال والنساء ‪ ،‬وقوله ِم ْن مك ْم معناه الذين هم من‬
‫جنسكم يف احلرية ‪ ،‬بقرينة عطف الصاحلني من العبيد واإلماء عليه‪.‬‬
‫واملراد ابلصالح معناه الشرعي املعروف ‪ ،‬وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬املراد به‬
‫املعىن اللغوي ‪ ،‬وهو األهلية للنكاح ‪ ،‬والقيام بواجبه ‪ ،‬والعباد ‪:‬‬
‫كالعبيد مجع عبد ‪ ،‬وهو الذكر من األرقاء‪ .‬واإلماء ‪ :‬مجع أمة ‪ ،‬وهي أنثى الرقيقة ‪ ،‬ففي‬
‫الصاحلني تغليب الذكور على اإلانث‪.‬‬
‫وإمنا اعترب الصالح يف جانب األرقاء دون األايمى من األحرار واحلرائر ‪ ،‬أل ّن‬

‫ص ‪594 :‬‬
‫يفوت على سادهتم منافع كثرية ‪ ،‬ال يشجعهم على التغاضي عنها ‪،‬‬
‫تزويج العبيد واإلماء ّ‬
‫والتهاون فيها إال استقامة أولئك العبيد واإلماء وصالحهم ‪ ،‬أو ظن قيامهم مبوجب النكاح‬
‫وحقوقه‪.‬‬
‫يف اآلية أمر بتزويج األايمى من األحرار واململوكني ‪ ،‬وقد اختلف العلماء يف املأمورين هبذا األمر‬
‫موجه إىل األمة مجيعها‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّن املأمورين هم أولياء األحرار وسادات‬
‫‪ ،‬فقيل ‪ :‬إ ّن هذا أمر ّ‬
‫العبيد واإلماء‪ .‬ولكنك قد عرفت أ ّن اسم األايمى واقع على الذكور واإلانث ‪ ،‬فال وجه‬
‫لتخصيص األولياء ابألمر ‪ ،‬إذ إن األمي الكبري من األحرار ال والية ألحد عليه‪.‬‬
‫فالوجه القول األول ‪ :‬وهو أ ّن املأمور األولياء والسادات ‪ ،‬وغريهم من سائر األمة ‪ ،‬فاألمر‬
‫متوجه إليهم مجيعا أن ينكحوا من ال زوج له‪.‬‬
‫واإلنكاح معناه احلقيقي التزويج ‪ ،‬وهو إجراء عقد الزواج‪ .‬ولو أريد ابإلنكاح يف اآلية هذا املعىن‬
‫يزوجوا األايمى ‪ ،‬وفيهم الرجال الكبار ‪ ،‬مع أنّه ال والية ألحد عليهم‪.‬‬ ‫لكان الناس مكلّفني أن ّ‬
‫حوا ابستعماهلا يف معىن أعم من إجراء العقد وهو‬ ‫ِ‬
‫فكان ال بد من التأويل‪ .‬إما يف كلمة حوأحنْك م‬
‫ولعل‬
‫املساعدة يف النكاح واملعاونة عليه ‪ ،‬وإما يف ْاألحايمى حبملها على غري الرجال الكبار ‪ّ ،‬‬
‫التأويل األول أرجح ‪ ،‬فإ ّن اآلية مسوقة للرتغيب يف النكاح ‪ ،‬والذي يناسبه إبقاء األايمى على‬
‫عمومها‪.‬‬
‫وظاهر األمر ابإلنكاح أنّه للوجوب ‪ ،‬وبه قال أهل الظاهر ‪ ،‬وقال السلف وفقهاء األمصار إنّه‬
‫للندب ‪ ،‬وصرفه عن ظاهره أمور ‪:‬‬
‫اّلل عليه‬
‫‪ -‬منها ‪ :‬أنه لو كان تزويج من ذكر يف اآلية واجبا لشاع العمل به يف عصر النيب صلّى ّ‬
‫وسلّم ‪ ،‬وعصر اخللفاء الراشدين من بعده ‪ ،‬ولنقل إلينا مستفيضا لعموم احلاجة إليه ‪ ،‬مع أنّه قد‬
‫اّلل عليه وسلّم والعصور بعده أايمى كثريون من رجال ونساء ‪ ،‬ومل ينكر‬
‫كان يف عصر النيب صلّى ّ‬
‫على واحد ترك تزوجيهم‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها ‪ :‬أ ّن األمي الثيب لو أبت الزواج فال جيربها أحد ‪ ،‬فلو كان تزوجيها واجبا ألجربها عليه‬
‫من ثبت عليه الوجوب‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها ‪ :‬االتفاق على أن السيد ال جيرب على تزويج عبده وأمته ‪ ،‬فال يكون تزوجيهما واجبا‬
‫عليه ‪ ،‬والظاهر أن احلكم يف املعطوف عليه ‪ ،‬وهو األايمى من األحرار كذلك ‪ ،‬إذ صيغة الطلب‬
‫واحدة‪.‬‬
‫يزوج البكر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حوا ْاألحايمى منْ مك ْم على أنّه جيوز للويل أن ّ‬
‫واستدل الشافعية بظاهر قوله تعاىل ‪ :‬حوأحنْك م‬
‫أتولوا اآلية على أ ّن اخلطاب فيها لألولياء ‪ ،‬فقد جعلت للويل ح ّق‬
‫البالغة دون رضاها ‪ ،‬ألّنّم ّ‬
‫تزويج موليته مطلقا ‪ ،‬سواء أكانت كبرية أم صغرية ‪ ،‬وسواء أرضيت‬

‫ص ‪595 :‬‬
‫أم مل ترض ‪ ،‬ولو ال أ ّن أدلة أخرى جعلت الثيب أح ّق بنفسها لكان حكمها حكم البكر الكبرية‬
‫‪ ،‬أنه جيوز تزوجيها دون رضاها‪.‬‬
‫وأنت تعلم أنه ليس يف اآلية دليل على إهدار رضا الكبرية ‪ ،‬وال اعتباره ‪ ،‬لكن‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬و البكر تستأمر يف نفسها وإذّنا صماهتا» «‪»1‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫يدل على وجوب استئذاّنا ‪ ،‬واعتبار رضاها ‪ ،‬فكان ذلك خمصصا لآلية‪.‬‬
‫وكذلك استدلّوا هبا على أ ّن املرأة ال تلي عقد النكاح ‪ ،‬أل ّن املأمور بتزوجيها وليّها فلو جاز هلا أن‬
‫اّلل حقا من حقوقه ‪ ،‬ولكنّك قد علمت أ ّن‬‫تتوىل النكاح بنفسها لفوتت على وليها ما جعله ّ‬
‫األوىل محل اخلطاب يف اآلية على أنّه خطاب للناس مجيعا على معىن ندهبم إىل املساعدة يف‬
‫النكاح ‪ ،‬واملعاونة عليه ‪ ،‬وعلى هذا فحكم مباشرة العقد ينبغي أن يؤخذ من غري هذه اآلية‪.‬‬
‫حوا ا ْألحايمى ِمنْ مك ْم على أنه جيوز للحر أن يتزوج‬ ‫ِ‬
‫واستدل بعض احلنفية بظاهر قوله تعاىل ‪ :‬حوأحنْك م‬
‫ابألمة مطلقا ‪ ،‬ولو كان مستطيعا طول احلرة‪.‬‬
‫ويقول الشافعية ‪ :‬إ ّن قوله تعاىل ‪ :‬ومن حمل يستح ِط ْع ِم ْن مكم طحوًال أح ْن ي ْنكِح الْم ْحص ِ‬
‫نات [النساء ‪:‬‬ ‫ح ح م ح‬ ‫ْ ْ‬ ‫حح ْ ْ ح ْ‬
‫واخلاص مق ّدم على العام ‪ ،‬فال جيوز ملن وجد طول احلرة أن‬ ‫ّ‬ ‫أخص من اآلية اليت معنا ‪،‬‬ ‫‪ّ ]25‬‬
‫مفصال‪.‬‬ ‫يتزوج أمة ‪ ،‬كما تقدم ذلك يف سورة النساء ّ‬
‫حوا ْاألحايمى ِمنْ مك ْم يتناول بظاهره مجيع األايمى ‪ ،‬إال أّنّم أمجعوا على أنّه ال بد‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حوأحنْك م‬
‫هلذا من شروط ‪ :‬أال تكون املرأة حمرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة ‪ ،‬وال أخت زوجته ‪،‬‬
‫وال عمتها ‪ ،‬وال خالتها ‪ ،‬وال بنت أخيها ‪ ،‬وال بنت أختها ‪ ،‬إىل غري ذلك من الشروط اليت‬
‫تك ّفلت هبا اآلايت واألحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫ني ِمن ِع ِ‬
‫باد مك ْم حوإِمائِ مك ْم على أنه جيوز للموىل أن يزوج عبده‬ ‫واستدل العلماء بقوله تعاىل ‪ :‬و َّ ِِ‬
‫الصاحل ح ْ‬ ‫ح‬ ‫ّ‬
‫كل منهما ‪ ،‬ومل تشرتط رضامها‪.‬‬‫وأمته دون رضامها ‪ ،‬أل ّن اآلية جعلت للسيد ح ّق تزويج ّ‬
‫يم اختار بعض املفسرين أ ّن الكناية يف قوله‬ ‫ضلِهِ و َّ ِ ِ‬ ‫إِ ْن ي مكونموا فم حقراء ي غْنِ ِهم َّ ِ‬
‫اّللم واس ٌع حعل ٌ‬ ‫اّللم م ْن فح ْ ح‬ ‫حم م‬ ‫ح‬
‫تعاىل ‪ :‬إِ ْن يح مكونموا فم حقراءح راجعة إىل األايمى من األحرار واحلرائر والصاحلني من العبيد واإلماء ‪،‬‬
‫وعلى ذلك يكون املراد من اإلغناء التوسعة ودفع احلاجة ‪ ،‬سواء أكان ذلك مبلك ما حيصل به‬
‫الغىن أم ال‪ .‬واختار آخرون أّنّا راجعة إىل األايمى من األحرار واحلرائر خاصة ‪ ،‬أل ّن قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضلِهِ ظاهر يف أن ميلكهم ما حيصل به الغىن ‪ ،‬وتندفع به احلاجة ‪ ،‬واألرقاء ال‬‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫يمغْنِ ِه مم َّ‬
‫ميلكون ‪ ،‬فليسوا مرادين يف اآلية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 9 ، )72 /8‬كتاب اإلكراه ‪ - 3 ،‬ابب ال جيوز نكاح املكره‬
‫حديث رقم (‪.)6946‬‬

‫ص ‪596 :‬‬
‫اّلل تعاىل ابلغىن للمتزوج‪.‬‬
‫وظاهر اجلملة الشرطية أّنا وعد من ّ‬
‫يدل على أّنم أجروا اآلية على ظاهرها ‪ ،‬وأّنا عدة‬
‫وقد نقل عن كثري من الصحابة والتابعني ما ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬أطيعوا ّ‬ ‫اّلل ‪ ،‬فقد أخرج ابن أيب حامت عن أيب بكر الصديق رضي ّ‬ ‫كرمية من ّ‬
‫تعاىل فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغىن ‪ ،‬قال تعاىل ‪ :‬إِ ْن يح مكونموا فم حقراءح‬
‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ‪.‬‬ ‫يمغْنِ ِه مم َّ‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪:‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق وابن أيب شيبة يف «املصنف» عن عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ‪.‬‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬يمغْنِ ِه مم َّ‬
‫ابتغوا الغىن يف النكاح ‪ ،‬يقول ّ‬
‫وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغريه من علماء السلف‪.‬‬
‫واألخبار الدالة على وعد الناكح ابلغىن كثرية‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬‫أخرج أمحد والرتمذي وصححه والنسائي وغريهم عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫اّلل عوّنم ‪ :‬الناكح يريد العفاف ‪ ،‬واملكاتب يريد األداء ‪ ،‬واجملاهد‬
‫عليه وسلّم ‪« :‬ثالثة ح ّق على ّ‬
‫اّلل» «‪.»1‬‬
‫يف سبيل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يشكو إليه‬
‫وأخرج اخلطيب يف «اترخيه» عن جابر قال ‪ :‬جاء رجل إىل النيب صلّى ّ‬
‫الفاقة فأمره أن يتزوج «‪»2‬‬
‫اّلل إبغناء الفقراء إذا تزوجوا ‪،‬‬
‫‪ .‬وقد يقال ‪ :‬كيف تبقى الشرطية على ظاهرها ‪ ،‬وأّنا وعد من ّ‬
‫اّلل ال‬
‫مع أننا نرى كثريا من الفقراء يتزوجون ‪ ،‬ويستمر فقرهم ‪ ،‬وال يبسط هلم يف الرزق ‪ ،‬ووعد ّ‬
‫يتخلف؟‬
‫ف‬‫س ْو ح‬ ‫ِ ِ‬
‫واجلواب ‪ :‬أ ّن هذا الوعد مشروط ابملشيئة ‪ ،‬كما هو الشأن يف مثله‪ .‬حوإ ْن خ ْفتم ْم عح ْي لحةً فح ح‬
‫اّلل ِ‬ ‫اّلل ِمن فح ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫واس ٌع‬ ‫ضله إِ ْن شاءح [التوبة ‪ ]28 :‬ويرشد إىل إضمار املشيئة قوله تعاىل ‪ :‬حو َّم‬ ‫يمغْني مك مم َّم ْ‬
‫يم فإ ّن املناسب للمقام أن يقال ‪( :‬واسع كرمي) لكنه عدل عنه إىل ما يف النظم اجلليل ليفيد‬ ‫ِ‬
‫حعل ٌ‬
‫أنه يعلم املصلحة ‪ ،‬فيبسط الرزق ملن يشاء ‪ ،‬ويق ّدر ملن يشاء ‪ ،‬حسبما تقضي به احلكمة‬
‫واملصلحة ‪،‬‬
‫«إ ّن من عبادي من ال يصلح له إال الفقر ‪ ،‬ولو أغنيته لفسد حاله»‪.‬‬
‫اّلل إبغناء من يتزوج ‪ ،‬بل املقصود احلث‬
‫وذهب كثري من املفسرين إىل أ ّن هذا ليس وعدا من ّ‬
‫على املناكحة ‪ ،‬والنهي عن التعليل بفقر املستنكحني ‪ ،‬فاملعىن ‪ :‬ال تنظروا إىل فقر من خيطب‬
‫اّلل ما يغنيهم ‪ ،‬واملال غاد ورائح ‪ ،‬وليس‬
‫إليكم ‪ ،‬أو فقر من تريدون تزوجيها ‪ ،‬ففي فضل ّ‬
‫النكاح مانعا من الغىن ‪ ،‬وال سببا يف الفقر‪ .‬وما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )157 /4‬كتاب اجلهاد ‪ ،‬ابب ما جاء يف اجملاهد حديث‬
‫اّلل حديث‬
‫رقم (‪ ، )1655‬والنسائي يف السنن (‪ ، )369 /6 - 5‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب معونة ّ‬
‫رقم (‪ ، )3218‬وأمحد يف املسند (‪.)251 /2‬‬
‫(‪ )2‬انظر اتريخ بغداد للخطيب البغدادي ‪ ،‬بريوت دار الفكر (‪.)365 /1‬‬

‫ص ‪597 :‬‬
‫اّلل املال مع‬
‫ينمي ّ‬
‫استقر يف الطباع من أ ّن العيال سبب يف الفقر إن هو إال ارتباط ومهي ‪ ،‬فقد ّ‬
‫كثرة العيال ‪ ،‬وقد حيصل اإلقالل مع العزوبة ‪ ،‬والواقع يشهد هبذا‪.‬‬
‫فعرب عن ذلك ببيان أنّه سبب يف‬ ‫وحتقيق ذلك أ ّن املراد بيان أ ّن النكاح ليس مانعا من الغىن ‪ّ ،‬‬
‫ض [اجلمعة ‪]10 :‬‬ ‫الصالةم فحانْ تح ِش مروا ِيف ْاأل ْحر ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ِ‬
‫ضي ِ‬
‫الغىن مبالغة ‪ ،‬على ح ّد قوله تعاىل ‪ :‬فحِإذا قم ح‬
‫فإ ّن ظاهره األمر ابالنتشار يف األرض إذا قضيت الصالة ‪ ،‬واملراد حتقيق زوال املانع وإ ّن الصالة‬
‫فعرب عن نفي املانع من االنتشار مبا يقتضي طلب‬
‫إذا قضيت فال مانع من االنتشار يف األرض ‪ّ ،‬‬
‫االنتشار مبالغة‪.‬‬
‫هذا وقد استدل بعض العلماء ابآلية على أ ّن النكاح ال يفسخ ابلعجز عن النفقة ‪ ،‬ألنّه تعاىل مل‬
‫حث على إنكاح الفقراء ‪ ،‬ووعدهم ابلغىن ‪ ،‬فإذا كان الفقر‬
‫جيعل الفقر مانعا من اإلنكاح ‪ ،‬بل ّ‬
‫ليس مانعا من ابتداء النكاح فألن ال يكون مانعا من استدامته أوىل‪.‬‬
‫اّلل‪ .‬وهذا القدر‬
‫وأنت تعلم أ ّن غاية ما تفيده اآلية أنّه يندب أال ير ّد اخلاطب الفقري ثقة مبا عند ّ‬
‫أيضا اثبت يف استدامة النكاح ‪ ،‬فإنّه يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصرب وتستأين هبا‬
‫قرر هلا حق الفسخ‬
‫‪ ،‬وهذا ال مينعها أن تستويف حقها من فسخ النكاح إذا كان الشرع قد ّ‬
‫لإلعسار ‪ ،‬فاملسألة موقوفة على ورود الشرع ابلتفريق لإلعسار ‪ ،‬فإذا ورد بذلك شرع فاآلية ال‬
‫تنافيه‪.‬‬
‫واستدل هبذا كثري من العلماء على أنّه يندب للفقري أن يتزوج ‪ ،‬ولو مل ميلك أهبة النكاح ‪ ،‬فإنّه‬
‫اّلل الويل إىل إنكاح الفقري ‪ ،‬مث يندب الفقري إىل ترك النكاح ‪ ،‬ومتام البحث‬
‫من البعيد أن يندب ّ‬
‫يف اآلية اآلتية ‪:‬‬
‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ االستعفاف ‪ :‬االجتهاد يف العفة‬ ‫ين ال حجيِ مدو حن نِكاحاً حح َّىت يمغْنِيح مه مم َّ‬ ‫ِِ ِ‬
‫حولْيح ْستح ْعفف الَّذ ح‬
‫وصون النفس‪ .‬واملراد ابلنكاح هنا ما ينكح به ‪ ،‬فإ ّن فعاال يكون اسم آلة كركاب ملا يركب به‪.‬‬
‫وجيوز أن يراد به حقيقته الشرعية‪ .‬وابلوجدان ‪ :‬التمكن منه ‪ ،‬ويصح أن يق ّدر يف الكالم مضاف‬
‫‪ ،‬أي ال جيدون أسباب النكاح ومبادئه ‪ :‬كاملهر ‪ ،‬والكسوة ‪ ،‬والسكىن ‪ ،‬والنفقة‪.‬‬
‫اّلل عليهم من‬
‫حرم ّ‬
‫اّلل الذين ال جيدون ما يتزوجون به أن جيتهدوا يف العفة عن إتيان ما ّ‬
‫أيمر ّ‬
‫اّلل من سعته ‪ ،‬ويرزقهم ما به يتزوجون‪ .‬ويف ذلك عدة كرمية ابلتفضل‬
‫الفواحش إىل أن يغنيهم ّ‬
‫عليهم ابلغىن أتميال هلم وتطمينا لقلوهبم‪.‬‬
‫واستدل بعض العلماء ابآلية على أنّه يندب ترك النكاح ملن ال ميلك أهبته مع التوقان‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد تق ّدم أن يف اآلية السابقة دليال على ندب النكاح له ‪ ،‬فكأ ّن بني اآليتني تعارض يف ظاهرمها‬
‫‪ ،‬وللعلماء يف اجلمع بينهما طريقان ‪:‬‬
‫فالشافعية جيعلون هذه خمصصة لآلية السابقة ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬الفقراء قسمان ‪ :‬قسم‬

‫ص ‪598 :‬‬
‫ميلك أهبة النكاح ‪ ،‬وقسم ال ميلكها‪ .‬فالفقراء العاجزون عن أسباب النكاح الذين ال ميلكون‬
‫اّلل هبذه اآلية إىل ترك النكاح وأرشدهم إىل ما هو أوىل هبم وأصلح حلاهلم ‪ :‬من‬
‫أهبته قد ندهبم ّ‬
‫فتعني أن يكون الفقراء الذين‬
‫االستعفاف وصون النفس إىل وجدان الغىن ‪ ،‬وحينئذ يتزوجون ‪ّ ،‬‬
‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ هم الذين ميلكون أهبة‬ ‫اّلل إىل إنكاحهم بقوله ‪ :‬إِ ْن يح مكونموا فم حقراءح يمغْنِ ِه مم َّ‬
‫ندب ّ‬
‫شك أ ّن الفقري الذي ميلك أهبة النكاح يندب له أن يتزوج‪.‬‬
‫النكاح ‪ ،‬وال ّ‬
‫ويؤولون النكاح يف هذه اآلية على أنّه صفة مبعىن‬
‫واحلنفية يبقون اآلية السابقة على عمومها ‪ّ ،‬‬
‫اسم املفعول ‪ ،‬ككتاب مبعىن املكتوب ‪ ،‬فاألمر ابالستعفاف هنا حممول على من مل جيد زوجة له ‪،‬‬
‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ‬ ‫وحينئذ ال تعارض بني اآليتني ‪ ،‬وال خيفى أ ّن الغاية يف قوله تعاىل ‪ :‬حح َّىت يمغْنِيح مه مم َّ‬
‫جتعل هذا التأويل بعيدا كل البعد‪.‬‬
‫والكالم فيما يعرتي النكاح من األحكام واختالف املذاهب فيه مرجعه إىل كتب الفروع‪.‬‬
‫يتعني‬
‫واستدل بعض الناس هبذه اآلية على بطالن نكاح املتعة ‪ ،‬ألنه لو كان صحيحا مل ّ‬
‫ّ‬
‫االستعفاف سبيال للتائق العاجز عن مبادئ النكاح وأسبابه ‪ ،‬وظاهر اآلية أنّه ال سبيل له إال أن‬
‫يصرب ويستعفف‪.‬‬
‫صح هذا كان دليال على حترمي الوطء مبلك اليمني‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إذا ّ‬
‫واجلواب ‪ :‬أن من عجز عن املهر يكون عن شراء اجلارية أشد عجزا يف املتعارف األغلب عند‬
‫الناس ‪ ،‬فال سبيل له إال أن يصرب ويستعفف‪.‬‬
‫مكاتبة األرقاء‬
‫اّللِ‬ ‫وه ْم ِم ْن ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم إِ ْن حعل ْمتم ْم فِي ِه ْم حخ ْرياً حوآتم م‬ ‫تاب ِِمَّا حملح حك ْ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم فحكاتِبم م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مال َّ‬ ‫حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْب تح غمو حن الْك ح‬
‫الَّ ِذي آات مك ْم‪.‬‬
‫الكتاب واملكاتبة ‪ :‬مصدرا كاتب كالعتاب واملعاتبة‪ .‬والكتابة مبعىن العقد الذي جيري بني السيد‬
‫وعبده على عتقه بعد أن يؤدي ماال يتفقان عليه ‪ ،‬لفظة إسالمية ال تعرفها اجلاهلية‪ .‬ومسّي هذا‬
‫وإما أل ّن السيد كتب على نفسه‬ ‫العقد كتابة إما أل ّن العادة جارية بكتابته لتأجيل العوض فيه ‪ّ ،‬‬
‫عتقه إذا أدى املال ‪ ،‬وإما أل ّن العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إىل بعض ِِمَّا حملح حك ْ‬
‫ت‬
‫عام يف العبيد واإلماء إِ ْن عحلِ ْمتم ْم فِي ِه ْم حخ ْرياً للعلماء يف تفسري اخلري هنا أقوال ‪ :‬منها أ ّن‬
‫أ ْحميانم مك ْم ّ‬
‫املراد به األمانة والقدرة على الكسب ‪ ،‬وذكر البيضاوي أ ّن هذا التفسري قد روي مرفوعا ‪ ،‬وهو‬
‫مروي عن ابن عباس ‪ ،‬واختاره الشافعي ‪ ،‬أل ّن مقصود الكتابة ال حيصل إال أبمانة العبد ‪ ،‬وقدرته‬
‫على‬

‫ص ‪599 :‬‬
‫ت الْ حق ِو ُّ ِ‬
‫ني [القصص ‪:‬‬
‫ي ْاألحم م‬ ‫ْج ْر ح‬
‫استحأ ح‬ ‫الكسب ‪ ،‬وقد ير ّشح هذا التفسري قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن حخ ْ ح‬
‫ري حم ِن ْ‬
‫‪.]26‬‬
‫وفسره بعضهم ابحلرفة ‪ ،‬ويف ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود يف «املراسيل» والبيهقي يف‬
‫ّ‬
‫«السنن» وتعقب هذا القول ابن حجر أب ّن العبد إذا مل يكن أمينا أضاع ما كسبه ‪ ،‬فلم حيصل‬
‫املقصود من كتابته‪.‬‬
‫وضعفه ابن حجر أيضا أب ّن املكاتب‬
‫وعن قتادة وإبراهيم وابن أيب صاحل أّنم فسروه ابألمانة ‪ّ ،‬‬
‫إذا مل يكن قادرا على الكسب كان يف مكاتبته ضرر على سيده ‪ ،‬وال وثوق إبعانته بنحو الصدقة‬
‫والزكاة‪.‬‬
‫فسروا اخلري ابملال ‪،‬‬
‫وروي عن علي وابن عباس يف رواية اثنية ‪ ،‬وابن جريج وجماهد وعطاء أّنم ّ‬
‫وإال فهو ضعيف لفظا‬
‫ولعل مرادهم القدرة على كسب املال ‪ ،‬كما هو أحد األقوال السابقة ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ومعىن ‪ّ ،‬أما ضعفه من جهة اللفظ فألنّه ال يقال ‪ :‬فيه مال ‪ ،‬وإمنا يقال ‪ :‬عنده مال أو له مال ‪،‬‬
‫وفسر احلسن اخلري ابلصالح ‪ ،‬وهو ضعيف ‪،‬‬
‫وأما ضعفه من جهة املعىن فأل ّن العبد ال مال له ‪ّ ،‬‬
‫ألنّه يقتضي أال يكاتب غري املسلم ‪ ،‬وقريب منه تفسري بعض احلنفية إايه أبال يضر ابملسلمني‬
‫بعد العتق‪.‬‬
‫جل شأنه بكتابة من‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل إبنكاح الصاحلني من العبيد واإلماء أمر ّ‬
‫بعد أن أمر ّ‬
‫فيتصرف يف نفسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يطلب الكتابة منهم ‪ ،‬ليكون حرا ‪،‬‬
‫اّلل بن صبيح قال ‪:‬‬
‫وأخرج ابن السكن يف سبب نزول هذه اآلية «‪ »1‬عن عبد ّ‬
‫ِ‬
‫كنت ِملوكا حلويطب بن عبد العزى ‪ ،‬فسألته الكتابة فأّب ‪ ،‬فنزل قوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ين يح ْب تح غمو حن‬
‫تاب ِِمَّا حملح حك ْ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم فحكاتِبم م‬
‫وه ْم إخل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الْك ح‬
‫وه ْم أنّه للوجوب ‪ ،‬وبه قال عطاء ‪ ،‬وعمرو بن دينار ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬ ‫وظاهر األمر يف قوله ‪ :‬فحكاتِبم م‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬أخذا ِما رواه‬ ‫وابن سريين ‪ ،‬وداود ‪ ،‬وحكاه بعض الناس عن عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫عبد الرزاق ‪ ،‬وعبد بن محيد ‪ ،‬وابن جرير «‪ »2‬عن أنس بن مالك قال ‪ :‬سألين سريين املكاتبة‬
‫اّلل عنه فأقبل علي ابل ّدرة ‪ ،‬وتال قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫فأبيت عليه ‪ ،‬فأتى عمر بن اخلطاب رضي ّ‬
‫فحكاتِبم م‬
‫وه ْم إخل ويف رواية أنّه قال ‪:‬‬
‫كاتبه ‪ ،‬أو ألضربنّك ابل ّدرة ‪ ،‬ويف أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه‪.‬‬
‫وه ْم للندب واالستحباب ‪،‬‬ ‫ومجهور العلماء على أ ّن األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬فحكاتِبم م‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال حيل مال امرئ مسلم إال بطيبة من نفسه» «‪»3‬‬ ‫لقوله صلّى ّ‬
‫وألنّه ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)45 /5‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)98 /18‬‬
‫(‪ )3‬رواه اإلمام أمحد يف املسند (‪].....[ .)72 /5‬‬

‫ص ‪600 :‬‬
‫فرق بني أن يطلب الكتابة ‪ ،‬وأن يطلب بيعه ِمن يعتقه يف الكفارة ‪ ،‬فكما ال جيب هذا البيع ‪،‬‬
‫كذلك ال جتب الكتابة ‪ ،‬وهذه طريقة املعاوضات أمجع ‪ ،‬مرجعها إىل رضا الطرفني واختيارمها‪.‬‬
‫وما روي عن عمر يف قصة سريين ال يد ّل على الوجوب ‪ ،‬ألّنّا لو كانت واجبة حلكم هبا عمر‬
‫على أنس ‪ ،‬ومل يكن حيتاج أن حيلف عليه ليكاتبنّه ‪ ،‬ومل يكن أنس أيضا ميتنع من شيء واجب‬
‫عليه‪ .‬وأما هتديد عمر ّإايه فإمنا كان من كمال شفقته على رعيته ‪ ،‬وحبه اخلري هلم ‪ ،‬فكثريا ما كان‬
‫أيمر الناس مبا هلم فيه احلظ يف الدين ‪ ،‬وإن مل يكن واجبا على وجه التأديب واملصلحة‪.‬‬
‫وذهب بعض العلماء إىل أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬فحكاتِبم م‬
‫وه ْم أمر ورد بعد احلظر ‪ ،‬فهو لإلابحة ‪ ،‬أل ّن‬
‫الكتابة من السيد بيع ماله مباله ‪ ،‬وهذا حمظور ‪ ،‬فلما ورد الشرع بطلبه كان مباحا‪ .‬وحينئذ يكون‬
‫ندب الكتابة واستحباهبا من دليل آخر ‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك حرقحبحةٍ (‪[ )13‬البلد ‪ ]13 ، 12 :‬وقوله تعاىل ‪ :‬حوآتحى ال ح‬
‫ْمال عحلى‬ ‫اك حما ال حْع حقبحةم (‪ )12‬فح ُّ‬
‫حوما أح ْدر ح‬
‫قاب [البقرة ‪ ]177 :‬إىل غري ذلك من العمومات اليت تندب إىل عمل‬ ‫محبِّهِ إىل قوله ‪ :‬حوِيف ِّ‬
‫الر ِ‬
‫الرب وفعل اخلري‪.‬‬
‫حاال أم مؤجال بنجم‬ ‫وظاهر اإلطالق يف قوله تعاىل ‪ :‬فحكاتِبم م‬
‫وه ْم جواز الكتابة ‪ ،‬سواء أكان البدل ّ‬
‫واحد أو أكثر ‪ ،‬وإىل ذلك ذهب احلنفية‪.‬‬
‫حال ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إ ّن الكتابة تشعر ابلتنجيم ‪ ،‬فتغين عن التقييد‪.‬‬
‫ومنع الشافعية الكتابة على بدل ّ‬
‫وأيضا لو عقدت الكتابة حالّة توجهت املطالبة على املكاتب يف احلال ‪ ،‬وليس له مال يؤدي منه‬
‫‪ ،‬فيعجز عن األداء ‪ ،‬فريد إىل الرق ‪ ،‬وال حيصل مقصود الكتابة‪.‬‬
‫ونظريه من أسلم فيما ال يوجد عند حلول األجل فإنّه ال جيوز‪ .‬وكذلك منع الشافعية الكتابة على‬
‫أهل من جنمني ‪ ،‬وسندهم يف ذلك أّنا عقد إرفاق ‪ ،‬ومن متام اإلرفاق التنجيم ‪ ،‬ومع أ ّن هذا‬
‫الرأي مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر تراه خالف ظاهر اآلية ‪ ،‬ومستند الشافعية فيه‬
‫ليس ابلقوي‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن حعلِ ْمتم ْم فِي ِه ْم حخ ْرياً شرط ‪ ،‬ومشروطه األمر ابلكتابة ‪ ،‬فإن مل يعلموا فيهم خريا مل‬
‫جتب ‪ ،‬أو مل تندب مكاتبتهم ‪ ،‬على اخلالف يف مقتضى األمر كما تقدم‪.‬‬
‫بل رمبا تكون الكتابة حني انتفاء الشرط حمرمة ‪ ،‬كما إذا علمنا أ ّن املكاتب يكتسب بطريق‬
‫الفسق ‪ ،‬أو يضيّع كسبه يف الفسق ‪ ،‬ولو استوىل عليه السيد ال متنع من ذلك ‪ ،‬ونظريه الصدقة‬
‫والقرض إذا علم أ ّن من أخذمها يصرفهما يف حمرم فإّنما حيرمان‪.‬‬
‫اّللِ الَّ ِذي آات مك ْم قد اختلف أهل التأويل يف املأمور إبعطاء املكاتب من هو؟ ويف‬ ‫وه ْم ِم ْن ِ‬
‫مال َّ‬ ‫حوآتم م‬
‫املال أي األموال هو؟ فقال أكثر العلماء ‪ :‬املأمور ابإلعطاء هو موىل العبد املكاتب ‪ ،‬واملال‬
‫الذي أمر إبعطائه منه هو مال الكتابة‪.‬‬

‫ص ‪601 :‬‬
‫مث اختلفوا على أ ّن الربع هو املراد ابآلية‪ .‬وعن ابن مسعود واحلسن الثلث‪.‬‬
‫وعن ابن عمر السبع‪ .‬وعن قتادة العشر‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬مل تق ّدر اآلية الشيء الذي يؤتيه املوىل ‪ ،‬فيكفي يف اخلروج من عهدة الطلب أن‬
‫أقل متمول ‪ ،‬ويف حكمه حط شيء من مال الكتابة ‪ ،‬بل احلط أوىل من اإليتاء ‪ ،‬ألنّه‬ ‫يؤتيه ّ‬
‫املأثور عن الصحابة ‪ ،‬وألنه يف حتقق املقصود من الكتابة أقرب من اإليتاء‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال ‪ :‬قال مالك ‪ :‬مسعت بعض أهل العلم يقول ‪ :‬إ ّن ذلك أن‬
‫مسمى‪ .‬قال مالك ‪ :‬وذلك أحسن ما‬
‫يكاتب الرجل غالمه ‪ ،‬مث يضع عنه من آخر كتابه شيئا ّ‬
‫مسعت ‪ ،‬وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندان‪.‬‬
‫مث اختلف هؤال يف اإليتاء ‪ :‬أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب واالستحباب؟‬
‫فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء ‪ :‬إنّه ليس بواجب ‪ ،‬وإن يفعل ذلك حسن‪.‬‬
‫وذهب الشافعي إىل أ ّن اإليتاء واجب ‪ ،‬ويف معناه احلط كما تقدم ‪ ،‬أل ّن ظاهر األمر يف اآلية‬
‫الوجوب ‪ ،‬وال صارف عنه‪.‬‬
‫وقال مجاعة من العلماء ‪ :‬إمنا هذا أمر متوجه إىل الناس كافة أن يعطوا املكاتبني سهمهم الذي‬
‫ني‬‫ت لِلْ مف حقر ِاء والْمساكِ ِ ِ ِ‬ ‫اّلل هلم من الصدقات املفروضة بقوله تعاىل ‪ :‬إِ َّمنحا َّ‬
‫ني حوالْعامل ح‬ ‫ح ح‬ ‫الص حدقا م‬ ‫جعله ّ‬
‫قاب [التوبة ‪ ]60 :‬وهذا هو مذهب احلنفية ‪ ،‬وحكاه أبو بكر بن‬ ‫حعلحْيها حوال مْم حؤلَّحفةِ قملمو مهبم ْم حوِيف ِّ‬
‫الر ِ‬
‫العريب عن مالك‪ .‬وظاهر أ ّن األمر حينئذ يكون للوجوب‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنّه أمر ندب للمسلمني عامة إبعانة املكاتبني ابلتصدق عليهم‪.‬‬
‫وقيل إنه أمر للموايل أن يقرضوا املكاتبني شيئا من أمواهلم الستثماره يف التجارة وحنوها إعانة هلم‬
‫على أداء مال الكتابة‪.‬‬
‫اإلكراه على البغاء‬
‫ض ا ْحلحياةِ ُّ‬
‫الدنْيا حوحم ْن‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وال تم ْك ِرهوا فحتياتِ مكم علحى الْبِ ِ‬
‫غاء إِ ْن أحر ْد حن ححتح ُّ ِ‬
‫صناً لتح ْب تح غموا حع حر ح‬ ‫ح‬ ‫م ح ْ ح‬ ‫ح‬ ‫قال ّ‬
‫اه ِه َّن غح مف ِ‬
‫اّلل ِمن ب ع ِد إِ ْكر ِ‬
‫كل من الفىت والفتاة كناية‬ ‫يم الفتيات ‪ :‬مجع فتاة ‪ ،‬و ّ‬ ‫ور حرح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يم ْك ِر ْه مه َّن فحِإ َّن َّح ْ ح ْ‬
‫أي سن كاان‪.‬‬ ‫مشهورة عن العبد واألمة يف ّ‬
‫والبغاء ‪ :‬زّن النساء‪.‬‬
‫والتحصن ‪ :‬التعفف عن الزّن‪.‬‬

‫ص ‪602 :‬‬
‫أجورهن اليت أيخذّنا على الزّن هبن‬
‫ّ‬ ‫يعم‬
‫والعرض ‪ :‬املتاع سريع الزوال‪ .‬واملراد به هنا ما ّ‬
‫وأوالدهن من الزّن‪.‬‬
‫اّلل بن أيب ابن سلول يقال‬
‫اّلل عنه «‪ »1‬أ ّن جارية لعبد ّ‬
‫أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي ّ‬
‫هلا مسيكة ‪ ،‬وأخرى يقال هلا ‪ :‬أميمة ‪ ،‬كان يكرههما على الزّن ‪ ،‬فشكتا ذلك إىل الرسول صلّى‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪.‬‬
‫ّ‬
‫اّلل بن أيب‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت يف رجلني كاان يكرهان أمتني هلما على الزّن ‪ ،‬أحدمها عبد ّ‬
‫وقيل ‪ :‬كان له ست جوار أكرههن على البغاء ‪ ،‬وضرب عليهن ضرائب ‪ ،‬فشكت اثنتان منهن‬
‫إخل‪.‬‬
‫وعن علي وابن عباس أن أهل اجلاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزّن ‪ ،‬أيخذون أجورهن ‪،‬‬
‫فنهوا عن ذلك يف اإلسالم ‪ ،‬ونزلت اآلية‪.‬‬
‫وعلى مجيع الرواايت ال سبيل إىل ختصيص اآلية مبن نزلت فيه ‪ ،‬بل هي عامة يف سائر املكلّفني ‪،‬‬
‫أل ّن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪.‬‬
‫ّن يردن التحصن‪.‬‬
‫قد يقال ‪ :‬إ ّن النهي عن اإلكراه هنا مقيّد أبمرين ‪ :‬األول ‪ :‬أّن ّ‬
‫والثاين ‪ :‬أّنّم يبتغون عرض احلياة الدنيا ‪ ،‬فيلزم القائلني ابملفهوم أ ّن اإلكراه على الزّن جائز إذا مل‬
‫يردن التحصن ‪ ،‬أو مل يقصدوا به عرض احلياة الدنيا ‪ ،‬واإلكراه على الزّن غري جائز حبال من‬
‫األحوال إمجاعا‪.‬‬
‫واجلواب عن ذلك من وجوه ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أ ّن الشرط مل يقصد به ختصيص النهي حبالة وجوده ‪ ،‬وإخراج ما عداها من حكمه ‪ ،‬بل‬
‫يكرهوّنن على البغاء ‪ ،‬وهن يردن‬
‫ّ‬ ‫قصد به النص على عادة من نزلت فيهم اآلية ‪ ،‬حيث كانوا‬
‫التعفف عنه‪ .‬ومعلوم أنّه ال يعمل مبفهوم القيد إال حيث ال يكون له فائدة غري املفهوم ‪ ،‬فإذا‬
‫ظهر له فائدة غري املفهوم ‪ ،‬فال اعتبار مبفهومه‪.‬‬
‫وهنا قد ظهر للشرط فائدة ‪ ،‬وهي أ ّن يف التنصيص على تعفف اإلماء توبيخا لسادهتم ‪ ،‬وتقبيحا‬
‫حلاهلم ‪ ،‬حيث مل يبلغوا يف حماسن اآلداب والرتفع عن الدنيا مبلغ الفتيات املبتذالت ‪ ،‬مع وفور‬
‫شهوهتن ‪ ،‬ونقصان عقلهن ‪ ،‬وقصور ابعهن يف معرفة حماسن األمور‪ .‬وكذلك قوله تعاىل ‪ :‬لِتح ْب تح غموا‬
‫ض ا ْحلحياةِ ُّ‬
‫الدنْيا مل يقصد به التنصيص على هذه احلالة إلخراج ما عداها من احلكم ‪ ،‬وإمنا‬ ‫حع حر ح‬
‫ليسجل عليهم عادة كانت‬
‫جيء به ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 54 ، )2320 /4‬كتاب التفسري ‪ - 3 ،‬ابب قوله تعاىل ‪ :‬حوال‬
‫تم ْك ِر مهوا فحتحياتِ مك ْم حديث رقم (‪ ، )3029 /26‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )278 /2‬كتاب الطالق‬
‫‪ ،‬ابب يف تعظيم الزّن حديث رقم (‪.)2311‬‬

‫ص ‪603 :‬‬
‫جتري فيما بينهم أيضا ‪ ،‬زايدة يف التشنيع عليهم ‪ ،‬وتقبيحا ملا كانوا عليه من احتمال الوزر الكبري‬
‫ألجل النزر احلقري‪.‬‬
‫والوجه الثاين ‪ :‬أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن أ ححر ْد حن ححتح ُّ‬
‫صناً شرط يف تصور اإلكراه وحتققه ‪ ،‬وليس شرطا‬
‫يتصور إذا مل يردن التحصن ‪ ،‬أبن تكره على زّن‬
‫للنهي ‪ ،‬وهذا الوجه ضعيف ‪ ،‬أل ّن اإلكراه قد ّ‬
‫غري الذي أرادته ‪ ،‬ولو سلّم أن اإلكراه ال يتصور إال إذا أردن التحصن ‪ ،‬فذكر اإلكراه مغين عن‬
‫هذا القيد‪.‬‬
‫والوجه الثالث ‪ :‬أن املفهوم اقتضى ذلك احلكم ‪ ،‬وهو جواز اإلكراه على الزّن عند عدم إرادهتن‬
‫التحصن ‪ ،‬لكن ذلك الذي اقتضاه املفهوم قد انتفى ملعارض أقوى منه وهو اإلمجاع‪.‬‬
‫وإيثار إِ ْن يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن أ ححر ْد حن ححتح ُّ‬
‫صناً على (إذا) أل ّن إرادة التحصن من اإلماء كالشأن النادر‬
‫‪ ،‬أو لإليذان بوجوب االنتهاء عن اإلكراه عند كون إرادة التحصن يف حيز الرتدد والشك ‪،‬‬
‫فكيف إذا كانت حمققة الوقوع كما هو الواقع‪.‬‬
‫اه ِه َّن غح مف ِ‬
‫اّلل ِمن ب ع ِد إِ ْكر ِ‬
‫يم اختلف أهل التأويل يف املغفور له من هو ‪ ،‬أهو املكرهون‬‫ور حرح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫فحِإ َّن َّح ْ ح ْ‬
‫اّلل من بعد إكراههن‬
‫أم املكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف واخللف على أ ّن املعىن ‪ :‬فإ ّن ّ‬
‫يم ورويت‬ ‫اه ِه َّن غح مف ِ‬
‫غفور هلن رحيم هبن ‪ ،‬ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود ‪ِ :‬من ب ع ِد إِ ْكر ِ‬
‫ور حرح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ْ حْ‬
‫هذه القراءة عن ابن عباس أيضا‪ .‬وأورد على هذا الرأي اعرتاضان ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬أنه يلزم عليه خلو مجلة اجلزاء من عائد على اسم الشرط‪.‬‬
‫ألّنن غري مكلفات ‪ ،‬وال إمث دون تكليف ‪ ،‬فكيف‬
‫واثنيهما ‪ :‬أنه ال إمث عليهن حال اإلكراه ‪ّ ،‬‬
‫تعلّقت املغفرة هبن؟‬
‫واجلواب عن األول ‪ :‬أن خلو اجلزاء عن ضمري اسم الشرط ال حمذور فيه ‪ ،‬ألن الالزم النعقاد‬
‫اّلل من بعد إكراههم‬
‫الشرطية كون األول سببا للثاين ‪ ،‬وهو هنا ظاهر ‪ ،‬على أ ّن التقدير ‪ :‬فإ ّن ّ‬
‫إايهن ‪ ،‬ففاعل املصدر هو العائد ‪ ،‬واحملذوف كامللفوظ‪.‬‬
‫ألّنن وإن كن مكرهات ال خيلو عن شائبة مطاوعة‬
‫واجلواب عن الثاين ‪ :‬أن تعليق املغفرة هبن إما ّ‬
‫كن‬
‫حبكم اجلبلّة البشرية ‪ ،‬وإما لتشديد املعاقبة على املكرهني ‪ ،‬أل ّن اإلماء مع قيام عذرهن إذا ّ‬
‫بصدد املعاقبة ‪ ،‬حىت احتجن إىل املغفرة ‪ ،‬فما حال املكرهني؟‬
‫اّلل من بعد إكراههن غفور رحيم هلم ‪ ،‬أي للمكرهني ‪،‬‬
‫واختار بعض العلماء أ ّن املعىن ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫وجعل ذلك مشروطا ابلتوبة‪ .‬وهو أتويل ضعيف أل ّن فيه هتوين أمر اإلكراه على الزّن ‪ ،‬واملقام‬
‫مقام هتويل وتشنيع على املكرهني‪.‬‬

‫ص ‪604 :‬‬
‫ين حخلح ْوا ِم ْن قح ْبلِ مك ْم حوحم ْو ِعظحةً‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حولححق ْد أحنْ حزلْنا إِل ْحي مك ْم آايت ممبح يِّنات حوحمثح ًال م حن الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫تبني لكم ما بكم‬ ‫اّلل جل ذكره ‪ :‬لقد أنزلنا إليكم يف هذه السورة آايت ّ‬ ‫ني (‪ )34‬يقول ّ‬ ‫ْمت َِّق ح‬
‫لل م‬
‫احلاجة إىل بيانه من األحكام واحلدود والشرائع ‪ ،‬وأنزلنا لكم فيها مثال وقصة عجيبة من قبيل‬
‫أمثال الذين مضوا من قبلكم ‪ ،‬وموعظة ينتفع هبا املتقون‪.‬‬
‫فما تقدم من أول السورة إىل هنا يشتمل على آايت ذكر فيها احلدود واألحكام الشرعية ‪،‬‬
‫وعلى قصة اإلفك العجيبة املشاهبة لقصة يوسف وقصة مرمي عليهما السالم ‪ ،‬حيث اهتما مبا‬
‫اّلل ‪ ،‬وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعاىل‬ ‫اّلل عنها من اإلفك ‪ ،‬فربأمها ّ‬ ‫اهتمت به عائشة رضي ّ‬
‫اّللِ [النور ‪ ]2 :‬وقوله جل شأنه ‪ :‬ل ْحو ال إِ ْذ حِمس ْعتم مموهم [النور ‪:‬‬
‫‪ :‬حوال حأتْ مخ ْذ مك ْم هبِِما حرأْفحةٌ ِيف ِدي ِن َّ‬
‫‪ ]12‬إخل‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء املراد ابآلايت املبينات واملثل واملوعظة مجيع ما يف القرآن الكرمي من اآلايت‬
‫واألمثال واملواعظ‪.‬‬
‫ين حملْ يح ْب لمغموا ا ْحلملم حم ِم ْن مك ْم‬ ‫ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم حوالَّذ ح‬‫ين حملح حك ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫آمنموا ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫ضعو حن ثِياب مكم ِمن الظَّ ِهريةِ وِمن ب ع ِد صالةِ الْعِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِمن قحب ِل ِ‬ ‫الث م َّر ٍ‬
‫شاء‬ ‫ح ح ْ حْ ح‬ ‫ح ْ ح‬ ‫ني تح ح م‬ ‫صالة الْ حف ْج ِر حوح ح‬ ‫ْ ْ ح‬ ‫ثح ح ح‬
‫ٍ‬
‫ض‬‫ض مك ْم حعلى بح ْع ٍ‬ ‫س حعلحْي مك ْم حوال حعلحْي ِه ْم مج ٌ‬
‫ناح بح ْع حد مه َّن طحَّوافمو حن حعلحْي مك ْم بح ْع م‬ ‫ث حع ْورات لح مك ْم ل ْحي ح‬‫ثحال م‬
‫ِ‬ ‫ايت و َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫حكذلِ ح‬
‫يم (‪)58‬‬
‫يم ححك ٌ‬
‫اّللم حعل ٌ‬ ‫اّللم لح مك مم ْاآل ح‬ ‫ك يمبحِّ م‬
‫ني َّ‬
‫روي أ ّن أمساء بنت أيب مرثد دخل عليها غالم كبري هلا يف وقت كرهت دخوله فيه ‪ ،‬فأتت رسول‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا يف حال نكرهها ‪ ،‬فنزلت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫هذه اآلية «‪.»1‬‬
‫اّلل عنه غالما من‬
‫اّلل عليه وسلّم بعث وقت الظهرية إىل عمر رضي ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وروي أ ّن رسول ّ‬
‫األنصار يقال له مدجل بن عمرو ‪ ،‬فدخل وعمر انئم قد انكشف عنه ثوبه ‪ ،‬فقال عمر ‪:‬‬
‫وجل ّنى آابئنا وأبناءان وخدمنا عن الدخول علينا يف هذه الساعة إال إبذن ‪،‬‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫لوددت أ ّن ّ‬
‫فخر ساجدا‬
‫اّلل عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه اآلية ‪ّ ،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فانطلق معه إىل رسول ّ‬
‫شكرا ّّلل‬
‫‪ .‬وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وأخرج ابن أيب حامت عن السدي أنّه قال ‪ :‬كان أانس من أصحاب رسول ّ‬
‫وسلّم يعجبهم أن يباشروا نساءهم يف هذه الساعات ‪ ،‬فيغتسلوا ‪ ،‬مث خيرجون إىل الصالة ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل أن أيمروا اململوكني والغلمان أال يدخلوا عليهم يف تلك الساعات‬
‫فأمرهم ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)55 /5‬‬

‫ص ‪605 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫صح‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم اآلية ‪ ،‬فإذا ّ‬ ‫آمنموا ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬ ‫إال إبذن ‪ ،‬بقوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫آمنموا خطااب للرجال والنساء‬ ‫أ ّن سبب النزول قصة أمساء املتقدمة كان قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫بطرق التغليب ‪ ،‬أل ّن دخول سبب النزول يف احلكم قطعي كما هو الراجح يف األصول‪.‬‬
‫ين حملْ يح ْب لمغموا ا ْحلملم حم ِم ْن مك ْم‬ ‫ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم حوالَّذ ح‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وقد يقال ‪ :‬األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬
‫للمملوكني والصغار ‪ ،‬وكيف يؤمر الصيب الذي مل يبلغ احللم ‪ ،‬وال تكليف قبل البلوغ؟‬
‫واجلواب من وجهني ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن األمر وإن كان كذلك يف الظاهر ‪ ،‬لكنّه يف احلقيقة للمخاطبني ‪ ،‬فهم أمروا أن أيمروا‬
‫ِماليكهم وصبياّنم ابالستئذان ‪ ،‬وإىل هذا املعىن يرشد كالم السدي يف سبب النزول كما سبق‪.‬‬
‫وأمر املخاطبني صبياّنم ابالستئذان إمنا هو من ابب التأديب والتعليم ‪ ،‬وال إشكال فيه ‪ ،‬ومثله‬
‫ما‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬مروا أوالدكم ابلصالة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها‬
‫روي من قوله صلّى ّ‬
‫وهم أبناء عشر» «‪.»1‬‬
‫والثاين ‪ :‬أ ّن األمر للبالغني من املذكورين على وجه التكليف ‪ ،‬ولغريهم على وجه التأديب‪.‬‬
‫وظاهر األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬لِيح ْستحأ ِْذنْ مك مم أ ّن للوجوب ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال بعض العلماء‪ .‬ولكن‬
‫اجلمهور على أنّه أمر استحباب وندب ‪ ،‬وأنّه من ابب التعليم واإلرشاد إىل حماسن اآلداب ‪ ،‬فلو‬
‫دخل اململوك املكلّف على سيده بغري استئذان مل يكن ذلك معصية منه ‪ ،‬وإمنا هو خالف األوىل‬
‫‪ ،‬وإخالل ابألدب‪ .‬نعم إذا كان يعلم أ ّن يف دخوله بغري إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ‬
‫حراما ‪ ،‬ال من حيث إنه دخل بغري إذن ‪ ،‬بل من حيث أنه آذى غريه ‪ ،‬وعلى كال القولني حكم‬
‫االستئذان يف األوقات الثالثة اآلتية حمكم ليس مبنسوخ وال مؤقّت بوقت قد انتهى على‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫وزعم بعض الناس أنّه منسوخ ‪ ،‬ألن عمل الصحابة والتابعني يف الصدر األول كان جاراي على‬
‫خالفه‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إ ّن طلب االستئذان كان يف العصر األول إذ مل يكن هلم أبواب تغلق وال ستور‬
‫متسكوا يف ذلك مبا أخرجه أبو داود «‪ »2‬عن عكرمة قال ‪ :‬إ ّن نفرا من أهل العراق قالوا‬
‫ترخى‪ّ .‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنهما ‪ :‬كيف ترى ىف هذه اآلية اليت أمران هبا وال يعمل هبا أحد‪ .‬قول ّ‬ ‫البن عباس رضي ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم اآلية ‪،‬‬ ‫آمنموا ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬ ‫وجل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫عز ّ‬‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )197 /1‬كتاب الصالة ‪ ،‬ابب مىت يؤمر الغالم حديث رقم‬
‫(‪.)495‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )388 /4‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب االستئذان حديث رقم‬
‫(‪.)5192‬‬

‫ص ‪606 :‬‬
‫اّلل حليم رحيم ابملؤمنني حيب السرت ‪ ،‬وكان الناس ليس‬
‫اّلل عنهما ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫فقال ابن عباس رضي ّ‬
‫اّلل‬
‫لبيوهتم ستور وال حجال ‪ ،‬فرمبا دخل اخلادم أو الولد أو اليتيمة والرجل على أهله ‪ ،‬فأمرهم ّ‬
‫اّلل ابلستور وابخلري فلم أر أحدا يعمل ذلك بعد‪.‬‬
‫تعاىل ابالستئذان يف تلك العورات ‪ ،‬فجاءهم ّ‬
‫ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم أ ّن احلكم خاص ابلذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬
‫أم صغارا ‪ ،‬وهبذا الظاهر قال ابن عمر وجماهد‪.‬‬
‫واجلمهور على أنه عام يف الذكور واإلانث من األرقّاء الكبار منهم والصغار‪.‬‬
‫وعن ابن عباس أنه خاص ابلصغار ‪ ،‬وهو بعيد‪ .‬وأبعد منه ما روي عن السلمي من ختصيصه‬
‫ابإلانث‪.‬‬
‫ين حملْ يح ْب لمغموا ا ْحلملم حم ِم ْن مك ْم كناية عن أّنم قصروا عن درجة البلوغ ‪ ،‬ومل يصلوا ح ّد‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫التكليف ‪ ،‬فالكالم مستعمل يف الزم معناه ‪ ،‬أل ّن االحتالم أقوى دالئل البلوغ ‪ ،‬وسيأيت لذلك‬
‫ْفال ِم ْن مك مم ا ْحلملم حم إن شاء ّ‬
‫اّلل‪.‬‬ ‫مزيد شرح عند تفسري قوله تعاىل ‪ :‬حوإِذا بحلح حغ ْاألحط م‬
‫واجلمهور على أ ّن املراد ابلذين مل يبلغوا احللم الصبيان من الذكور واإلانث ‪ ،‬سواء أكانوا أجانب‬
‫ساء جيعل اسم املوصول‬ ‫ات النِّ ِ‬
‫أم حمارم ‪ ،‬إال أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬أح ِو ال ِطّْف ِل الَّ ِذين حمل يظ حْهروا حعلى حعور ِ‬
‫ْ‬ ‫ح ْح م‬
‫ومنْ مك مم جيعله خاصا ابألحرار ويشعر بذلك‬ ‫هنا خاصا ابملراهقني‪ .‬كما أ ّن وصفه بقوله تعاىل ‪ِ :‬‬
‫أيضا ذكره يف مقابلة الذين ملكت إميانكم‪.‬‬
‫ضعو حن ثِياب مكم ِمن الظَّ ِهريةِ وِمن ب ع ِد صالةِ الْعِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِمن قحب ِل ِ‬ ‫الث م َّر ٍ‬
‫شاء‬ ‫ح ح ْ حْ ح‬ ‫ح ْ ح‬ ‫صالة الْ حف ْج ِر حوح ح‬
‫ني تح ح م‬ ‫ْ ْ ح‬ ‫ثح ح ح‬
‫الظهرية وقت الظهر ‪ ،‬وقل ‪ :‬شدة احلر عند انتصاف النهار‪.‬‬
‫الث م َّر ٍ‬
‫ات تبعا الختالفهم يف املراد هبا‪.‬‬ ‫وقد اختلف العلماء يف إعراب ثح ح ح‬
‫فاجلمهور على أّنّا منصوبة على الظرفية ‪ ،‬لالستئذان ‪ ،‬أل ّن املعىن ‪ :‬ليستأذنكم املذكورون يف‬
‫ثالثة أوقات ‪ :‬قبل الفجر ‪ ،‬ووقت الظهرية ‪ ،‬وبعد صالة العشاء‪.‬‬
‫مبني للعدد ‪ ،‬أل ّن املعىن ‪ :‬ليستأذنوكم ثالث استئذاانت كما‬
‫وقال أبو حيان ‪ :‬إّنّا مفعول مطلق ّ‬
‫هو الظاهر ‪ ،‬فإنّك إذا قلت ‪ :‬ضربت ثالث مرات ال يفهم منه إال ثالث ضرابت ‪ ،‬ويؤيده‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬االستئذان ثالث»‬
‫صالةِ الْ حف ْج ِر إخل ظرفا لثالث مرات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وعليه يكون قوله تعاىل ‪ :‬م ْن قح ْب ِل ح‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ ّن رأي أيب حيان يقتضي أن يكون االستئذان ثالث مرات واقعا يف كل وقت من‬
‫ولعل هذا هو الذي محل اجلمهور على‬
‫األوقات الثالثة املذكورة بعده ‪ ،‬وليس هذا مبراد ‪ّ ،‬‬
‫مفصل من‬
‫العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إىل القول أبنه ظرف أبدل منه األوقات الثالثة إبدال ّ‬
‫جممل‪ .‬وأليب حيان أن يقول ‪ :‬إ ّن جمموع‬

‫ص ‪607 :‬‬
‫االستئذاانت الثالث واقع يف جمموع األوقات الثالثة ‪ ،‬فلكل وقت استئذانة واحدة ‪ ،‬واألمر‬
‫قريب‪.‬‬
‫ات لح مك ْم معناه أ ّن هذه األوقات الثالثة السالفة الذكر هي ثالثة أوقات‬‫ث عحور ٍ‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬ثحال م ْ‬
‫صالةِ الْ حف ْج ِر وقت القيام من املضاجع ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫خيتل فيها تسرتكم عادة ‪ ،‬فالوقت األول ‪ :‬م ْن قح ْب ِل ح‬
‫ّ‬
‫وطرح ثياب النوم ‪ ،‬ولبس ثياب اليقظة ‪ ،‬وذلك مظنة انكشاف العورة‪.‬‬
‫ضعمو حن ثِيابح مك ْم ِم حن الظَّ ِهريحةِ وقت يتجردون فيه عن الثياب ألجل القيلولة‪.‬‬‫ني تح ح‬ ‫ِ‬
‫والوقت الثاين ‪ :‬حوح ح‬
‫شاء وقت خيلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم ‪،‬‬ ‫والوقت الثالث ‪ :‬وِمن ب ع ِد صالةِ الْعِ ِ‬
‫ح ْ حْ ح‬
‫وقد يتعاطون فيه مقدمات املباشرة‪.‬‬
‫س حعلحْي مك ْم حوال حعلحْي ِه ْم مج ٌ‬
‫ناح بح ْع حد مه َّن الظاهر أ ّن املراد من هذه اجلملة أنّه ال إمث يف ترك‬ ‫ل ْحي ح‬
‫االستئذان يف غري األوقات الثالثة ‪ ،‬فذلك ترخيص يف الدخول بغري استئذان يف األوقات املمتدة‬
‫بني كل وقتني من األوقات الثالثة السابقة‪.‬‬
‫أما الوقتان الواقعان فيما بني صالة الفجر والظهرية ‪ ،‬وفما بني الظهرية وصالة العشاء ‪ ،‬فرتك‬
‫االستئذان فيهما أمر ظاهر ‪ ،‬ألّنّما ليسا من أوقات العورة‪.‬‬
‫وأما الوقت املمتد بني العشاء والفجر فرتك االستئذان فيه غري ظاهر ‪ ،‬ألن هذا الوقت وقت نوم‬
‫خيتل فيه ا لتسرت عادة ‪ ،‬فكان من حقه أن يدخل يف أوقات العورة اليت ال يباح فيها الدخول بغري‬
‫استئذان‪.‬‬
‫وللعلماء يف ذلك توجيهات ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن األمر ابالستئذان يف األوقات الثالثة السابقة يفهم منه األمر ابالستئذان يف هذا الوقت‬
‫س حعلحْي مك ْم حوال حعلحْي ِه ْم‬
‫من ابب أوىل ‪ ،‬وعليه يكون حكم هذا الوقت كاملستثىن من قوله تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫ناح بح ْع حد مه َّن‪.‬‬
‫مج ٌ‬
‫ومنها ‪ :‬أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العادة جارية أب ّن من ورد يف هذا الوقت ال يرد حىت يشعر أهل البيت ‪ ،‬ويعلمهم‬
‫بوروده ‪ ،‬ملا يف الدخول هذا الوقت من دون إعالم من التهمة وإساءة الظن‪.‬‬
‫وأليب حيان رأي آخر يف معىن اجلملة ‪ ،‬وهو أ ّن التقدير ليس عليكم وال عليهم جناح بعد‬
‫فتصرف يف الكالم ابحلذف واإليصال‪ .‬فحذف فاعل االستئذان ‪ ،‬وهو‬
‫استئذاّنن فيهن ‪ّ ،‬‬
‫الضمري املضاف إليه ‪ ،‬وحذف حرف اجلر ‪ ،‬فصار بعد استئذاّنن ‪ ،‬مث حذف املصدر املضاف ‪،‬‬
‫فصار بعدهن‪ .‬وحاصل املعىن عليه ‪ :‬فإذا استأذنوكم يف األوقات الثالثة ‪ ،‬فال جناح عليكم وال‬
‫عليهم‪ .‬وهذا املعىن وإن كان يدفع اإلشكال السابق ‪ّ ،‬إال أنّه خالف الظاهر ‪ ،‬والتصرف يف‬
‫الكلمة على هذا النحو أتابه جزالة النظم اجلليل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت أ ْحميانم مك ْم إخل‬ ‫وقد علمت فيما سبق أ ّن األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬ليح ْستحأْذنْ مك مم الَّذ ح‬
‫ين حملح حك ْ‬

‫ص ‪608 :‬‬
‫موجه ملن مل يبلغ احللم ‪ ،‬وهو يف احلقيقة أمر ألوليائهم أن يعلّموهم اآلداب‬
‫يف ظاهر اللفظ ّ‬
‫احلسنة ‪ ،‬وأيمروهم ابالستئذان يف األوقات الثالثة السابقة ‪ ،‬فإذا اعترب األمر يف ظاهر اللفظ‬
‫قيل ‪ :‬ليس عليهم جناح بعدهن ‪ ،‬وإذا اعترب املأمورون يف احلقيقة قيل ‪:‬‬
‫لكن النظم اجلليل قد روعي فيه االثنان ‪ ،‬فجمعهما يف نفي‬
‫ليس عليكم جناح ‪ ،‬واقتصر عليهم‪ّ .‬‬
‫اجلناح مبالغة يف اإلذن برتك االستئذان بعد األوقات الثالثة‪.‬‬
‫والظاهر أ ّن املراد ابجلناح املنفي اإلمث الشرعي ‪ ،‬أي ال إمث عليكم وال إمث عليهم يف دخوهلم‬
‫عليكم بغري استئذان فيما عدا األوقات الثالثة‪.‬‬
‫ويفهم منه أ ّن على املخاطبني وعلى الصغار الذين مل يبلغوا احللم إمثا إذا دخل هؤالء الصغار يف‬
‫األوقات الثالثة من دون استئذان‪ .‬وهو مشكل من وجهني ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن املخاطبني محّلوا تبعة فعل غريهم ‪ ،‬مع أنه ال تزر وازرة وزر أخرى‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أ ّن الصغار غري مكلّفني ‪ ،‬فال يتصور يف حقهم اإلمث الشرعي‪.‬‬
‫واجلواب أنّه ال مانع من أتثيم املخاطبني لرتكهم تعليم الصغار ‪ ،‬ومتكينهم إايهم من الدخول بغري‬
‫استئذان يف أوقات العورات‪ .‬وإ ّن اجلناح املنفي عن الصغار اجلناح العريف ‪ ،‬مبعىن اإلخالل‬
‫ابألدب واملروءة‪.‬‬
‫نفت هذه اآلية احلرج يف دخول املماليك والذين مل يبلغوا احللم بغري استئذان فيما عدا األوقات‬
‫سلِّ مموا‬
‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫الثالثة ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬ ‫ح ح‬
‫حعلى أح ْهلِها حيظر الدخول بغري استئذان يف مجيع األوقات ‪ ،‬فكان بني ظاهر اآليتني تعارض‪.‬‬
‫وأصح ما دفع به هذا التعارض أ ّن اآلية السابقة خاصة ابألحرار البالغني ‪ ،‬ويف حكمهم ِماليك‬ ‫ّ‬
‫األجانب‪ .‬وهذه اآلية يف الصبيان وِماليك املدخول عليه ‪ ،‬فال تعارض‪.‬‬
‫ويؤخذ من تعليل األمر ابالستئذان يف األوقات الثالثة أبّنا أوقات عورة ‪ ،‬خيتل فيها تسرتهم ‪ :‬أن‬
‫العربة بتحقق هذا املعىن ‪ ،‬بقطع النظر عن خصوص الوقت ‪ ،‬فلو كان أهل البيت على حال‬
‫يكرهون اطالع املماليك واملراهقني عليهم فيها كانكشاف عورة ومداعبة زوجة‪ .‬أو أمة‪ .‬فإنّه‬
‫ينبغي أن يستأذن ِماليكهم وصبياّنم عليهم ولو كان ذلك يف غري األوقات الثالثة‪ .‬ألن املعىن‬
‫الذي من أجله أمروا ابالستئذان ‪ ،‬وهو خشية االطالع على العورات متحقق‪ .‬فاألمر ابالستئذان‬
‫فيها ‪ ،‬ونفي اجلناح بعدها جاراين على العادة الغالبة‪.‬‬
‫ض مك ْم حعلى بح ْع ٍ‬
‫ض أي بعضكم طائف على بعض ‪،‬‬ ‫طحَّوافمو حن حعلحْي مك ْم أي وهم يطوفون عليكم بح ْع م‬
‫خاص لداللة ما قبله عليه‪.‬‬
‫فحذف متعلّق اجلار ‪ ،‬وهو كون ّ‬
‫واجلملة األوىل مستأنفة لبيان العذر املر ّخص يف ترك االستئذان ‪ ،‬أي إن من‬

‫ص ‪609 :‬‬
‫شأّنم خمالطتكم ‪ ،‬والرتدد عليكم ابلدخول واخلروج ‪ ،‬فرفع احلرج عنكم وعنهم يف ترك‬
‫االستئذان فيما عدا األوقات الثالثة‪ .‬واجلملة الثانية مؤّكدة لألوىل يف بيان احلكمة اليت من أجلها‬
‫كال منكم ال يستغين عن‬
‫ر ّخص يف ترك االستئذان ‪ ،‬إال أّنا أمشل من األوىل ‪ ،‬فإ ّن معناها أن ّ‬
‫طوافون عليهم‪ .‬ويف هذا تسلية للماليك واخلدم ‪،‬‬
‫طوافون عليكم ‪ ،‬وأنتم ّ‬
‫خمالطة اآلخر ‪ ،‬فهم ّ‬
‫أب ّن التعاون يف احلياة أمر مشرتك بني املالك واململوك واخلادم واملخدوم‪.‬‬
‫وكان من حق املقابلة أن يقال ‪ :‬طوافون عليكم ‪ ،‬وأنتم طوافون عليهم‪ .‬لكن عدل عنه إىل ما يف‬
‫ض مك ْم حعلى بح ْع ٍ‬
‫ض مراعاة جلانب السادة املخدومني ‪ ،‬وتلطفا يف التعبري عن‬ ‫النظم اجلليل بح ْع م‬
‫حاجتهم إىل املماليك واخلدم‪.‬‬
‫اّلل تعاىل نبّه على العلة يف‬‫وتدل اآلية الكرمية على اعتبار العلل يف األحكام الشرعية ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫ث حعور ٍ‬
‫ات لح مك ْم ونبّه على العذر املبيح‬ ‫جل شأنه ‪ :‬ثحال م ْ‬
‫طلب االستئذان يف األوقات الثالثة بقوله ّ‬
‫عز امسه ‪:‬‬
‫لرتك االستئذان يف غري األوقات الثالثة بقوله ّ‬
‫طحَّوافمو حن عحلحيْ مك ْم‪.‬‬
‫وتدل اآلية أيضا على أ ّن من مل يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويتمرن عليه ‪ ،‬ليكون أسهل عليه عند البلوغ‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫على وجه التأديب والتعليم ‪ ،‬وليعتاده ّ‬
‫س مك ْم حوأح ْهلِي مك ْم انراً [التحرمي ‪ ]6 :‬روي يف تفسريها أ ّدبوهم وعلّموهم‪.‬‬ ‫قموا أحنْ مف ح‬
‫اّلل لح مكم ْاآل ِ‬
‫ايت معىن تبيني اآلايت إنزاهلا مبينة واضحة الداللة على معانيها وما‬ ‫ني َّم م‬ ‫ك يمبحِّ م‬‫حكذلِ ح‬
‫قصد منها‪.‬‬
‫جل شأنه بعد أن يذكر اآلايت واضحة الداللة مبيّنة بياان يشفي الصدور‬
‫اّلل ّ‬
‫يكثر يف القرآن أ ّن ّ‬
‫‪ ،‬ويعمر القلوب ابليقني واالطمئنان ‪ ،‬وحيمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان ‪ ،‬ال‬
‫اّلل يف‬
‫اّللم فينبه املخاطبني على أ ّن هذه عادة ّ‬ ‫ني َّ‬‫ك يمبحِّ م‬‫عز امسه حكذلِ ح‬ ‫بيان بعده ‪ ،‬يردف ذلك بقوله ّ‬
‫آايته كلّها يبينها البيان الشايف لقوم يعقلون‪.‬‬
‫يم فيشرع لكم من‬ ‫ِ‬ ‫و َّ ِ‬
‫يم ذو علم شامل لكل معلوم ‪ ،‬فيعلم ما يصلح لكم وما ال يصلح ححك ٌ‬ ‫اّللم حعل ٌ‬ ‫ح‬
‫األحكام ما يناسبكم ‪ ،‬ويكفل لكم السعادة يف املعاش واملعاد‪.‬‬
‫ك‬‫ين ِم ْن قحبْلِ ِه ْم حكذلِ ح‬ ‫ِ‬
‫استحأْذح حن الَّذ ح‬
‫ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬وإِذا ب لح حغ ْاألحط م ِ‬
‫ْفال منْ مك مم ا ْحلملم حم فحلْيح ْستحأْذنموا حك حما ْ‬ ‫ح ح‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫اّلل لح مكم آايتِهِ و َّ ِ‬
‫يتوهم بعض الناس أ ّن الصيب وقد اعتاد الدخول‬ ‫يم (‪ )59‬قد ّ‬ ‫يم ححك ٌ‬
‫اّللم حعل ٌ‬ ‫ح‬ ‫ني َّم ْ‬ ‫يمبحِّ م‬
‫والرتدد على أهل بيت معني إذا بلغ مبلغ الرجال فال حرج يف دخوله بغري استئذان ‪ ،‬كسابق‬
‫عادته ‪ ،‬فجاءت هذه‬

‫ص ‪610 :‬‬
‫اآلية لدفع هذا التوهم ‪ ،‬وبيان أ ّن األطفال الذين قد ر ّخص هلم يف ترك االستئذان يف غري‬
‫العورات الثالث إذا بلغوا احللم وجب عليهم أن يستأذنوا ‪ ،‬كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم‬
‫سلِّ مموا حعلى‬
‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫يف قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬ ‫ح ح‬
‫كل األوقات ‪ ،‬ويرجعوا إذا قيل هلم ارجعوا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أح ْهلها إخل أي فعليهم أن يستأذنوا يف ّ‬
‫الكالم يف بلوغ الصيب‬
‫ْفال ِمنْ مك مم ا ْحلملم حم يف القاموس احللم ابلضم واالحتالم ‪ :‬اجلماع يف‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوإِذا بحلح حغ ْاألحط م‬‫قال ّ‬
‫النوم ‪ ،‬واالسم منه احللم كعنق‪ .‬وقال الراغب ‪ :‬احللم زمان البلوغ مسي بذلك لكون صاحبه‬
‫جديرا ابحللم وضبط النفس عن هيجان الغضب‪.‬‬
‫والصحيح أن احللم هنا مبعىن اجلماع يف النوم ‪ ،‬وهو االحتالم املعروف‪ .‬وأ ّن الكالم كناية عن‬
‫ّ‬
‫البلوغ واإلدراك كما سبق‪.‬‬
‫جعلت اآلية ح ّد التكليف منوطا ببلوغ الصيب احللم‪ .‬ومثل اآلية يف ذلك‬
‫حىت حيتلم» «‪»1‬‬
‫الصيب ّ‬
‫ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬رفع القلم عن ثالث ‪ ...‬وعن‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫كل حامل»‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬غسل اجلمعة واجب على ّ‬
‫وقوله صلّى ّ‬
‫ويف رواية «على كل حمتلم» «‪»2‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أمره أن أيخذ من كل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه أن رسول ّ‬
‫ويف حديث معاذ «‪ »3‬رضي ّ‬
‫حامل دينارا ‪ ،‬يعين اجلزية‬
‫‪ .‬ومعىن هذه النصوص أ ّن الصيب إذا بلغ أوان االحتالم جرت عليه أحكام البالغني ‪ ،‬سواء‬
‫احتلم أم مل حيتلم وأمجع الفقهاء على أن الغالم إذا احتلم فقد بلغ ‪ ،‬وكذلك اجلارية إذا احتملت‬
‫أو حاضت أو محلت‪.‬‬
‫لكنّهم اختلفوا يف أمارات أخر تدل على البلوغ ‪ ،‬ويناط هبا التكليف من غري احتالم وال حيض‪.‬‬
‫فعن قوم من السلف أّنّم اعتربوا يف البلوغ أن يبلغ اإلنسان يف طوله مخسة أشبار ‪:‬‬
‫فشرب فنقص‬
‫اّلل عنه بغالم قد سرق فأمر به ّ‬
‫روى ابن سريين عن أنس قال ‪ :‬أيت أبو بكر رضي ّ‬
‫أمنلة ‪ ،‬فخلّى عنه‪.‬‬
‫اّلل وجهه أنه قال ‪ :‬إذا بلغ الغالم مخسة أشبار فقد وقعت عليه‬
‫وعن علي كرم ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )131 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب اجملنون يسرق حديث رقم‬
‫(‪.)4403‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 7 ، )580 /2‬كتاب اجلمعة ‪ ،‬حديث رقم (‪، )846 /5‬‬
‫والبخاري يف الصحيح (‪ - 11 ، )239 /1‬كتاب اجلمعة ‪ - 2 ،‬ابب فضل الغسل حديث رقم‬
‫(‪.)879‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )20 /3‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب ما جاء يف زكاة البقر‬
‫حديث رقم (‪ ، )623‬وأبو داود يف السنن ‪ ، )14 /2( ،‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب يف زكاة السائمة‬
‫حديث رقم (‪ ، )1576‬والنسائي يف السنن (‪ ، )26 /6 - 5‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ابب زكاة البقر‬
‫حديث رقم (‪ ، )2451‬وأمحد يف املسند (‪.)230 /5‬‬

‫ص ‪611 :‬‬
‫احلدود ‪ ،‬يقتص له ويقتص منه‪.‬‬
‫وفقهاء األمصار ال جيعلون ذلك من أمارات البلوغ ‪ ،‬فقد يكون دون البلوغ وهو طويل ‪ ،‬وقد‬
‫يكون فوق البلوغ وهو قصري‪.‬‬
‫وعن آخرين أّنم اعتربوا اإلنبات من أمارات البلوغ ‪ ،‬يقال ‪ :‬أنبت الغالم إذا نبت شعر عانته‪.‬‬
‫اّلل عنه جيعل اإلنبات دليال على البلوغ‬
‫اخضر إزاره‪ .‬والشافعي رضي ّ‬
‫ّ‬ ‫ويقال ‪ :‬كناية عن ذلك ‪:‬‬
‫واحتج له مبا‬
‫ّ‬ ‫يف حق أطفال الكفار إلجراء أحكام األسر واجلزية واملعاهدة وغريها عليهم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة ‪ ،‬واستحياء من مل‬
‫روى عطية القرظي أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم «‪»1‬‬
‫إيل فلم أكن أنبت فاستبقاين صلّى ّ‬
‫ينبت ‪ ،‬قال ‪ :‬فنظروا ّ‬
‫اّلل عنه ملا حكم يف بين قريظة أن‬
‫‪ .‬ويف كتب املغازي والسري املعتمدة أ ّن سعد بن معاذ رضي ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم بقتل كل من‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وتقسم األموال أمر رسول ّ‬
‫تقتل الرجال ‪ ،‬وتسىب الذرية ‪ّ ،‬‬
‫جرت عليه املوسى منهم ‪ ،‬ومن مل ينبت أحلق ابلذرية «‪.»2‬‬
‫اخضر إزاره؟‬
‫ّ‬ ‫اّلل عنه أنّه سئل عن غالم فقال ‪ :‬هل‬
‫وروى عثمان رضي ّ‬
‫وفقهاء األمصار جممعون على اعتبار السن يف البلوغ ‪ ،‬إال أّنم خمتلفون يف التقدير‪.‬‬
‫اّلل عنه أن الغالم ال يبلغ إال بعد أن يتم له مثاين عشرة سنة‬
‫فاملشهور عن اإلمام أيب حنيفة رضي ّ‬
‫‪ ،‬ويف اجلارية سبع عشرة سنة‪ .‬وقال صاحباه والشافعي وأمحد ‪ :‬ح ّد البلوغ ابلسن يف الغالم‬
‫واجلارية مخس عشرة سنة ‪ ،‬وهو رواية عن اإلمام أيضا وعليه الفتوى‪.‬‬
‫ِ‬
‫س من حح َّىت يح ْب لم حغ أح مشدَّهم‬ ‫مال الْيحتِي ِم إَِّال ِابلَِّيت ه حي أ ْ‬
‫حح ح‬ ‫دليل املشهور عن اإلمام قوله تعاىل ‪ :‬حوال تح ْق حربموا ح‬
‫[األنعام ‪ ]152 :‬وأقل ما قيل يف بلوغ األش ّد مثاين عشرة سنة ‪ ،‬فيبين احلكم عليه للتيقن ‪ ،‬غري‬
‫أ ّن اإلانث نشوءهن وإدراكهن أسرع ‪ ،‬فنقص يف حقهن سنة ‪ ،‬الشتماهلا على الفصول األربعة‬
‫اليت يوافق واحد منها املزاج ال حمالة‪.‬‬
‫وللشافعي ومن معه أ ّن العادة جارية أال يتأخر البلوغ يف الغالم واجلارية عن مخس عشرة سنة ‪،‬‬
‫وهلم أيضا ما‬
‫اّلل عليه وسلّم يوم أحد ‪ ،‬وله أربع‬
‫اّلل عنهما أنه عرض على النيب صلّى ّ‬
‫روى ابن عمر رضي ّ‬
‫عشرة سنة فلم جيزه ‪ ،‬وعرض عليه يوم اخلندق وله مخس عشرة سنة فأجازه «‪»3‬‬
‫‪ .‬واعرتض اجلصاص عليهم أب ّن هذا اخلرب ال داللة فيه على املدعى ‪ ،‬أل ّن اإلجازة يف القتال‬
‫فلعل عدم‬
‫والرد يتبعان القوة والضعف ‪ ،‬ال البلوغ وعدم البلوغ ‪ّ ،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )132 /4‬كتاب احلدود ‪ ،‬ابب يف الغالم حديث رقم‬
‫(‪.)4404‬‬
‫(‪ )2‬مسلم يف الصحيح ‪ - 32 ،‬كتاب اجلهاد ‪ - 22 ،‬ابب حديث رقم (‪، )1768 /64‬‬
‫اّلل‬
‫والبخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )60 /5‬كتاب املغازي ‪ - 31 ،‬ابب مرجع النيب صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم حديث رقم (‪.)4121‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1490 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 23 ،‬ابب بيان سن‬
‫البلوغ حديث رقم (‪.)1868 /9‬‬

‫ص ‪612 :‬‬
‫إجازته عليه الصالة والسالم البن عمر أوال إمنا كان لضعفه ‪ ،‬وإجازته إايه اثنيا إمنا كانت لقوته‬
‫اّلل عليه وسلّم ما سأله عن‬
‫وقدرته على محل السالح ال لبلوغه ‪ ،‬ويشعر بذلك أنّه صلّى ّ‬
‫االحتالم والسن‪.‬‬
‫ض ْع حن ثِ ح‬ ‫س حعلحْي ِه َّن مج ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ َّ‬
‫ياهبم َّن‬ ‫ناح أح ْن يح ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوالْ حقواع مد م حن النّساء الالِيت ال يح ْر مجو حن نكاحاً فحلحْي ح‬ ‫قال ّ‬
‫اّلل حِمس ِ‬ ‫ِ‬ ‫غح ْري متح حِرب ٍ ٍ‬
‫يم (‪ )60‬القواعد ‪ :‬مجع قاعد بغري اتء ‪،‬‬ ‫جات بِ ِزينحة حوأح ْن يح ْستح ْعف ْف حن حخ ْريٌ حهلم َّن حو َّم ٌ‬
‫يع حعل ٌ‬ ‫حم ّ‬
‫ألنه خمتص ابلنساء كحائض وطامث‪ .‬قال ابن السكيت «‪ : »1‬امرأة قاعد ‪ :‬قعدت عن‬
‫احليض‪ .‬ويف «القاموس» أّنا هي اليت قعدت عن الولد ‪ ،‬وعن احليض ‪ ،‬وعن الزوج‪.‬‬
‫ياهب َّن خيلعنها غح ْري متح حِرب ٍ‬
‫جات أصل‬ ‫ال ي رجو حن نِكاحاً ال يطمعن يف النكاح لكرب سنّهن أح ْن ي ح ِ‬
‫حم ّ‬ ‫ض ْع حن ث حم‬‫ّ ح‬ ‫حْ م‬
‫التربج ‪ :‬التكلّف يف إظهار ما خيفى‪ .‬ومادة برج تدور على الظهور واالنكشاف ‪ ،‬ومن ذلك الربج‬
‫ابلتحريك سعة العني حبيث يرى بياضها حميطا بسوادها كله‪ .‬والربج ابلضم ‪ :‬احلسن‪ .‬والبارجة ‪:‬‬
‫السفينة الكبرية للقتال ‪ ،‬وا ملراد ابلتربج هنا ‪ :‬تكشف املرأة للرجال إببداء زينتها وإظهار حماسنها‪.‬‬
‫اّلل للنساء العجائز الالئي أيسن ‪ ،‬ومل يبق هلن مطمع يف األزواج ‪ ،‬أن خيلعن ثياهبن ‪ ،‬من‬
‫ر ّخص ّ‬
‫تبني اآلية الثياب اليت ر ّخص للقواعد‬
‫غري أن يقصدن خبلع الثياب التربج والتكشف للرجال ‪ ،‬ومل ّ‬
‫أن خيلعنها‪ .‬وللمفسرين يف بياّنا رأاين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن املراد هبا الثياب الظاهرة اليت ال يفضي وضعها إىل كشف العورة ‪:‬‬
‫كاجللباب السابغ ‪ :‬الذي يغطي البدن كله ‪ ،‬كالرداء الذي يكون فوق الثياب ‪ ،‬وكالقناع ‪:‬‬
‫الذي فوق اخلمار‪.‬‬
‫وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعيب أ ّن أيب بن كعب قرأ ‪ :‬أن يضعن من‬
‫ثياهبن‪.‬‬
‫وما أخرجه ابن املنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال ‪ :‬يف مصحف أيب بن كعب ‪ ،‬ومصحف ابن‬
‫مسعود أن يضعن جالبيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬واجللباب ما تغطي به املرأة ثياهبا من فوق كامللحفة ‪ ،‬فال حرج عليهن أن يضعن ذلك‬
‫عند احملارم من الرجال وغري احملارم من الغرابء ‪ ،‬غري متربجات بزينة‪.‬‬
‫كن يف بيوهتن ‪ ،‬أو من وراء اخلدور والستور‪.‬‬
‫والرأي لثاين ‪ :‬أّنن يضعن مخرهن وأقنعتهن إذا ّ‬
‫ويضعفه أ ّن للشابة أن تفعل ذلك يف خلوهتا ‪ ،‬فال معىن لتخصيص القواعد بذلك‪.‬‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يعقوب بن إسحاق ‪ ،‬لغوي ‪ ،‬أديب تويف (‪ 424‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)195 /8‬‬

‫ص ‪613 :‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إذا كان وضع الثوب ال يرتتب عليه كشف العورة فما معىن نفي اجلناح فيه؟ وهل‬
‫يتوهم حظره ومنعه؟‬
‫ينفى اجلناح إال يف شيء قد كان ّ‬
‫اّلل تعاىل ندب نساء املؤمنني إىل أن يبالغن يف التسرت واالستعفاف ‪ ،‬أبن يدنني‬
‫واجلواب ‪ :‬أن ّ‬
‫عليهن من جالبيبهن ‪ ،‬وجعل ذلك من احلشمة وحماسن اآلداب ‪ ،‬فإنّه أبعد عن الريبة هبن ‪،‬‬
‫وأقطع ألطماع ذوي األغراض اخلبيثة ‪ ،‬فكان إدانء اجلالبيب من اآلداب اليت ندب إليها النساء‬
‫اّلل للقواعد من النساء أن يضعن جالبيبهن ‪ ،‬ونفى عنهن اجلناح يف ذلك ‪،‬‬
‫مجيعا ‪ ،‬فرخص ّ‬
‫وخريهن بني خلع اجللباب ولبسه ‪ ،‬ولكن جعل لبسه استعفافا وخريا هلن من حيث إنه أبعد عن‬
‫ّ‬
‫التهمة ‪ ،‬وأنفى للظنّة‪.‬‬
‫اّلل حِمس ِ‬
‫وقصدهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هلن‬
‫بينهن وبني الرجال من قو ّ‬
‫يم وسيجازيهن على ما جيري ّ‬ ‫حو َّم ٌ‬
‫يع حعل ٌ‬
‫اّلل تعاىل كما ر ّخص للنساء أن يبدين‬
‫خترج اآلية على معىن اثلث يقتضيه ظاهرها ‪ :‬وهو أ ّن ّ‬‫وقد ّ‬
‫ثياهبن اليت‬
‫زينتهن لغري أويل اإلربة من الرجال كذلك ر ّخص للنساء غري أوالت اإلربة أن يضعن ّ‬
‫كان حيرم عليهن خلعها حبضرة الرجال األجانب ‪ ،‬فال حرج على العجوز أن ختلع مخارها وقناعها‬
‫‪ ،‬ولو أ ّدى ذلك إىل كشف عنقها وحنرها لألجانب ‪ ،‬ما دامت الفتنة مأمونة ‪ ،‬وقد يساعد على‬
‫يدل على أ ّن خلع هذه الثياب قد كان حمظورا قبل أن‬
‫ثياهبن ّ‬
‫خلعهن ّ‬
‫ّ‬ ‫ذلك أ ّن نفي احلرج يف‬
‫شك أن‬
‫فيهن رغبة‪ .‬وال ّ‬
‫هلن يف الرجال مطمع ‪ ،‬وللرجال ّ‬
‫يقعدن عن احليض والولد ‪ ،‬أايم كان ّ‬
‫احملظور حينئذ إمنا هو خلع الثياب اليت يفضي خلعها إىل كشف شيء من العورة ‪ ،‬فما كان‬
‫هلن حني كربن ‪ ،‬وانقطعت رغبتهن يف الرجال‪.‬‬
‫حمظورا عليهن أايم صباهن هو الذي أبيح ّ‬
‫ولقد كان معروفا يف لسان العرب عصر التنزيل أن معىن وضع الرجل ثوبه ‪ ،‬ووضع املرأة ثوهبا ‪،‬‬
‫كال منهما خيلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه يف بيته ‪ ،‬وأمام أهله وحمارمه‪.‬‬
‫أ ّن ّ‬
‫فبت‬
‫ففي «صحيح مسلم» «‪ »1‬وغريه من حديث فاطمة بنت قيس أّنا ملا طلقها زوجها ّ‬
‫أم‬
‫أم شريك مث أرسل إليها أ ّن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم أن تعت ّد يف بيت ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫طالقها ‪ ،‬أمرها رسول ّ‬
‫شريك يغشاها أصحايب ‪ ،‬فاعت ّدي يف بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر ‪ ،‬تضعني‬
‫ثيابك عنده‪.‬‬
‫ويف رواية ‪« :‬فإنّك إذا وضعت مخارك مل يرك»‬
‫ظاهر أ ّن املراد من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬تضعني ثيابك عنده»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫أّنّا تتحلل ِما جيب عليها لبسه حبضرة الرجال األجانب‪.‬‬
‫ج حوال حعلى‬ ‫يض حح حر ٌ‬ ‫ج حوال حعلحى ال حْم ِر ِ‬ ‫ج حوال حعلحى ْاألح ْع حر ِج حح حر ٌ‬ ‫س حعلحى ْاألح ْعمى حح حر ٌ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫قال ّ‬
‫وت إِ ْخوانِ مكم أحو ب ي ِ‬
‫وت‬ ‫وت أ َّممهاتِ مكم أحو ب ي ِ‬ ‫وت آابئِ مكم أحو ب ي ِ‬ ‫أحنْ مف ِس مكم أح ْن حأتْ مكلموا ِمن ب يوتِ مكم أحو ب ي ِ‬
‫ْ ْ مم‬ ‫ْ ْ مم‬ ‫ْ ْ مم‬ ‫ْ مم ْ ْ مم‬ ‫ْ‬
‫وت خاالتِ مك ْم أ ْحو ما‬ ‫وت أح ْخوالِ مكم أحو ب ي ِ‬ ‫وت عح َّماتِ مكم أحو ب ي ِ‬ ‫ِ‬
‫وت أح ْعمام مكم أحو ب ي ِ‬ ‫أح حخواتِ مكم أحو ب ي ِ‬
‫ْ ْ مم‬ ‫ْ ْ مم‬ ‫ْ ْ مم‬ ‫ْ ْ مم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سلّ مموا‬‫ناح أح ْن حأتْ مكلموا حمجيعاً أ ْحو أح ْشتااتً فحإذا حد حخلْتم ْم بميمواتً فح ح‬
‫س حعلحْي مك ْم مج ٌ‬ ‫صديق مك ْم ل ْحي ح‬ ‫حملحكْتم ْم حمفاحتحهم أ ْحو ح‬
‫ايت ل ححعلَّ مك ْم تح ْع ِقلمو حن (‪)61‬‬
‫اّلل لح مكم ْاآل ِ‬ ‫بارحكةً طحيِّبحةً حكذلِ ح‬ ‫حعلى أحنْ مف ِس مكم حِحتيَّةً ِمن ِع ْن ِد َِّ‬
‫ني َّم م‬ ‫ك يمبحِّ م‬ ‫اّلل مم ح‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪614 :‬‬
‫احلرج ‪ :‬الضيق‪ .‬ومنه احلرجة للشجر امللتف بعضه ببعض ‪ ،‬لضيق املسالك فيه ‪ ،‬واملراد ابحلرج‬
‫هنا اإلمث‪.‬‬
‫واملفاتح ‪ :‬مجع مفتح أو مفتاح ‪ ،‬وملك املفتاح كناية عن كون الشيء حتت يد الشخص وتصرفه‬
‫‪ ،‬كأن يكون وكيال عن رب املال ‪ ،‬أو قيمه يف ضيعته وماشيته‪.‬‬
‫والصديق ‪ :‬من يصدق يف مودتك وتصدق يف مودته ‪ ،‬يقع على الواحد وعلى اجلمع ‪ ،‬واملراد به‬
‫هنا اجلمع‪.‬‬
‫شت أي متفرق‪.‬‬
‫شت ‪ ،‬صفة مشبهة على فعل كحق‪ .‬يقال أمر ّ‬
‫واألشتات ‪ :‬مجع ّ‬
‫توسع فيه ‪ ،‬فاستعمل يف كل دعاء ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬مث ّ‬
‫وأصل معىن التحية طلب احلياة ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬حيّاك ّ‬
‫اّلل وبركاته‪.‬‬
‫وحتية اإلسالم ‪ :‬السالم عليكم ورمحة ّ‬
‫بارحكةً بورك فيها ابألجر‪.‬‬
‫مم ح‬
‫طحيِّبحةً تطيب هبا نفس السامع‪.‬‬
‫اختلف الرواة يف سبب نزول هذه اآلية اختالفا كثريا ‪ ،‬نشأ عنه اختالف أهل التأويل يف معىن‬
‫اآلية ‪ ،‬وأوجه اتصال مجلها بعضها ببعض ‪ ،‬فذكروا يف ذلك أقواال كثرية ‪ ،‬نذكر لك منها أقرهبا‬
‫للصواب ‪ ،‬وأوالها ابالعتبار ‪:‬‬
‫فمنها ‪ :‬ما اختاره ابن جرير «‪ »1‬وهو أ ّن املراد نفي احلرج عن العمي والعرج واملرضى ومجيع‬
‫اّلل قد نفى احلرج عن أهل العذر أوال ‪ ،‬مث‬
‫اّلل ‪ ،‬فيكون ّ‬
‫الناس يف أن أيكلوا من بيوت الذين ذكر ّ‬
‫نفى احلرج عن املخاطبني ‪ ،‬مث مجع املخاطبني مع أهل العذر يف اخلطاب بقوله ‪ :‬أح ْن حأتْ مكلموا‬
‫وكذلك تفعل العرب إذا مجعت بني خرب الغائب واملخاطب غلّبت املخاطب فقالت ‪ :‬أنت‬
‫وأخوك قمتما ‪ ،‬وأنت وزيد جلستما ‪ ،‬وال تقول ‪ :‬أنت وأخوك جلسا‪.‬‬
‫س حعلحى ْاألح ْعمى حح حر ٌ‬
‫ج‪:‬‬ ‫أخرج ابن جرير «‪ »2‬عن معمر قال ‪ :‬قلت للزهري يف قوله تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫اّلل أ ّن املسلمني كانوا إذا غزوا‬
‫ما ابل األعمى ذكر هاهنا واألعرج واملريض؟ فقال ‪ :‬أخربين عبيد ّ‬
‫خلّفوا زمناهم ‪ ،‬وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبواهبم يقولون ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)130 /18‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪].....[ .)129 /18‬‬

‫ص ‪615 :‬‬
‫يتحرجون من ذلك يقولون ‪ :‬ال ندخلها وهم غيّب‬
‫قد أحللنا لكم أن أتكلوا ِما يف بيوتنا‪ .‬وكانوا ّ‬
‫‪ ،‬فأنزلت هذه اآلية رخصة هلم‪.‬‬
‫حترج الزمىن من أن أيكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوهتم ‪ ،‬إال أّنا‬
‫فاآلية وإن كانت نزلت يف ّ‬
‫عاما لكل الناس ‪ ،‬فنفت عنهم احلرج يف أن أيكلوا من بيوهتم ‪ ،‬أو بيوت آابئهم‪.‬‬
‫ذكرت حكما ّ‬
‫إخل ويدخل يف ذلك سبب النزول دخوال أوليا‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ ّن أكل الناس من بيوهتم قد كان معلوما حكمه ‪ ،‬وأنه كان حالال هلم ‪ ،‬فما معىن‬
‫نفي احلرج فيه؟‬
‫متومها ‪ ،‬وإمنا ذكر إلظهار‬
‫واجلواب ‪ :‬أ ّن أكل الناس يف بيوهتم مل يذكر هنا لنفي حرج قد كان ّ‬
‫التسوية بني أكلهم من بيوت أقارهبم وموّكليهم وأصدقائهم ‪ ،‬وأكلهم من بيوهتم‪ .‬ونظريه قوله‬
‫َّاس ِيف ال حْم ْه ِد حوحك ْه ًال [آل عمران ‪ ]46 :‬قد كان معلوما أنه ال عجب يف أن‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪ :‬حويم حكلّ مم الن ح‬
‫يتكلّم إنسان يف زمان كهولته ‪ ،‬فكان الغرض من ذكره بيان أ ّن كالمه يف زمن املهد مثل كالمه‬
‫وهو كهل‪ .‬كذلك ما معنا ‪ :‬الغرض بيان أ ّن أكلهم من بيوت املذكورين كأكلهم من بيوت‬
‫أنفسهم سواء بسواء‪.‬‬
‫يتأول قوله تعاىل ‪ :‬أح ْن حأتْ مكلموا ِم ْن بميموتِ مك ْم على بيوت الزوجات واألوالد‪.‬‬
‫وبعض العلماء ّ‬
‫ومنها ما اختاره اجلبّائي وأبو حيان ‪ :‬وهو أ ّن اآلية تنفي احلرج عن األعمى واألعرج واملريض يف‬
‫اّلل فاملعىن‬
‫القعود عن اجلهاد ‪ ،‬وتنفي احلرج عن املخاطبني يف أن أيكلوا من بيوت الذين ذكرهم ّ‬
‫‪ :‬ليس على أصحاب العذر حرج يف التخلف عن اجلهاد ‪ ،‬وليس عليكم أيها الناس حرج يف أن‬
‫أتكلوا إخل‪.‬‬
‫وقد يبدو أ ّن يف هذا العطف غرابة لبعد اجلامع‪ .‬ولكن إذا علم أ ّن الغرض بيان احلكم كفاء‬
‫احلوادث ‪ ،‬وأن الكالم يف معرض اإلفتاء والبيان ‪ ،‬وأن احلادثتني قد اشرتكتا يف ذلك الغرض‬
‫الذي سبق له الكالم ‪ -‬قرب اجلامع بينهما ‪ ،‬وصح عطف إحدامها على األخرى‪ .‬قال‬
‫وحاج مفرد عن تقدمي احللق‬
‫الزخمشري «‪ : »1‬ومثاله أين يستفيت مسافر عن اإلفطار يف رمضان ّ‬
‫على النحر ‪ ،‬فنقول ‪ :‬ليس على املسافر حرج أن يفطر وال عليك اي حاج أن تقدم احللق على‬
‫النحر‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما وجه اتصال هذا الكالم مبا قبله؟‬
‫قيل ‪ :‬إ ّن الرتخيص ألهل العذر يف ترك اجلهاد ‪ ،‬قد ذكر أثناء بيان االستئذان ليفيد أن نفي‬
‫احلرج عنهم يف التخلف عن اجلهاد مستلزم عدم وجوب االستئذان منه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)257 /3‬‬

‫ص ‪616 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فلهم القعود عن اجلهاد من غري استئذان وال إذن ‪ ،‬كما أ ّن للمماليك‬
‫صلّى ّ‬
‫والصبيان دخول البيوت يف غري العورات الثالث من غري استئذان وال إذن من أهلها‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أ ّن اآلية تنفي احلرج عن الناس يف أن أيكلوا مع األعمى واألعرج واملريض ‪ ،‬ويف أن‬
‫اّلل عنهما أنه ملا نزل‬
‫أيكلوا من بيوهتم أو بيوت آابئهم إخل‪ .‬وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫ِ‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬حوال حأتْ مكلموا أ ْحموالح مك ْم بح ْي نح مك ْم ِابلْباط ِل [البقرة ‪ّ ]188 :‬‬
‫حترج املسلمون عن مؤاكلة‬
‫األعمى ‪ ،‬فإنه ال يبصر موضع الطعام الطيب ‪ ،‬واألعرج ألنّه ال يستطيع املزامحة على الطعام ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل هذه اآلية «‪ .»1‬ومن ذهب إىل هذا‬
‫واملريض ألنه ال يستويف حظّه من الطعام ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫س حعلحى ْاألح ْعمى حح حر ٌ‬
‫ج إخل معناه ليس يف‬ ‫التأويل جعل كلمة حعلحى مبعىن (يف) فقوله تعاىل ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫األعمى حرج ‪ ،‬أي ليس عليكم يف مؤاكلة األعمى حرج إخل‪.‬‬
‫يتحرجون أن أيكلوا مع األصحاء حذرا من استقذارهم‬
‫ومنها ما روي أنّه قد كان أهل األعذار ّ‬
‫إايهم ‪ ،‬وخوفا من أتذّيهم أبفعاهلم وأوضاعهم فنزلت اآلية «‪ .»2‬أي ليس على األعمى حرج وال‬
‫على األعرج حرج وال على املريض حرج يف أن أيكلوا مع األصحاء ‪ ،‬وليس عليكم أيها الناس‬
‫حرج يف أن أتكلوا من بيوتكم إخل‪.‬‬
‫وعلى مجيع اآلراء ترى اآلية الكرمية قد أابحت األكل من بيوت األقارب ‪ :‬اآلابء ‪ ،‬واألمهات ‪،‬‬
‫واإلخوة ‪ ،‬واألخوات ‪ ،‬واألعمام ‪ ،‬والعمات ‪ ،‬واألخوال ‪ ،‬واخلاالت‪.‬‬
‫وأابحت أيضا األكل ِما كان حتت يد الشخص وتصرفه من مال غريه ‪ ،‬واألكل من بيوت‬
‫األصدقاء ‪ ،‬ومل يذكر فيها قيد ما إلابحة األكل من هذه البيوت ‪ ،‬فهي يف ظاهرها تنايف‬
‫حيل مال امرئ مسلم إال عن طيب نفس منه» «‪»3‬‬
‫قوله ‪« :‬ال ّ‬
‫وما‬
‫حيلنب أحد ماشية أحد إال إبذنه» «‪»4‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال ّ‬
‫يف حديث ابن عمر عنه صلّى ّ‬
‫وأيضا فإ ّن إابحة األكل من هذه البيوت ‪ ،‬دون شرط وال قيد ‪ ،‬تدل على أ ّن هلم دخوهلا بغري‬
‫ري بميموتِ مك ْم حح َّىت‬ ‫ِ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميمواتً غح ْ ح‬ ‫استئذان ‪ ،‬وهو معارض لقوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تحستحأْنِسوا وتم ِ‬
‫َّيب إَِّال أح ْن‬
‫وت النِ ِّ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميم ح‬ ‫وجل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫عز ّ‬‫سلّ مموا حعلى أح ْهلها وقوله ّ‬
‫ْ م ح ح‬
‫ين إِانهم [األحزاب ‪ ]53 :‬فإذا كانوا ِمنوعني من دخول بيت النيب‬ ‫ِ‬ ‫يم ْؤذح حن لح مك ْم إِىل طح ٍ‬
‫ري انظ ِر ح‬
‫عام غح ْ ح‬
‫اّلل عليه وسلّم إال إبذن ‪ ،‬وهو عليه الصالة والسالم أجود الناس وأكرمهم ‪ ،‬وأقلهم‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم بغري إذن أوىل ابحلظر ‪ ،‬وأدخل يف املنع‪.‬‬
‫حجااب ‪ ،‬كان دخوهلم بيت غريه صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)129 - 128 /18‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫(‪ )3‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )386 /2‬كتاب اجلهاد ‪ ،‬ابب فيمن قال ال حيلب حديث رقم‬
‫(‪.)2623‬‬

‫ص ‪617 :‬‬
‫من أجل ذلك قال مجاعة من املفسرين ‪ :‬إمنا كان ذلك يف صدر اإلسالم ‪ ،‬مث نسخ مبا تلوان ‪،‬‬
‫واستقرت الشريعة على أنّه ال حيل مال امرئ مسلم إال برضاه ‪ ،‬وال ينبغي دخول البيت إال إبذن‬
‫أهله‪.‬‬
‫اّلل سبحانه للمؤمنني ما حظره‬ ‫وقال أبو مسلم األصفهاين ‪ :‬هذه اآلية يف األقارب الكفرة ‪ ،‬أابح ّ‬
‫يف قوله تعاىل ‪ :‬ال حجتِ مد قح ْوماً يم ْؤِمنمو حن ِاب َّّللِ حوالْيح ْوِم ْاآل ِخ ِر يموادُّو حن حم ْن حح َّ‬
‫اد َّ‬
‫اّللح حوحر مسولحهم [اجملادلة ‪:‬‬
‫‪ ]22‬وقال قتادة ‪ :‬اآلية اليت معنا على ظاهرها ‪ ،‬واألكل مباح دون إذن ‪ ،‬لكنه ال جيمل‪.‬‬
‫والصحيح الذي عليه املعول يف دفع هذا التعارض أ ّن إابحة األكل من هذه البيوت مقيّدة‬
‫دل ظاهر احلال على‬
‫ومشروطة مبا إذا علم اآلكل رضا صاحب املال إبذن صريح أو قرينة ‪ ،‬فإذا ّ‬
‫رضا املالك قام ذلك مقام اإلذن الصريح‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إذا وجد الرضا جاز األكل من بيت األجنيب والعدو ‪ ،‬فأي معىن يف ختصيص هؤالء‬
‫ابلذكر؟‬
‫واجلواب ‪ :‬أن ختصيصهم ابلذكر العتياد التبسط بينهم ‪ ،‬فإ ّن العادة يف األعم األغلب أ ّن الناس‬
‫تطيب نفوسهم أبكل أقارهبم ووكالئهم وأصدقائهم من بيوهتم‪.‬‬
‫عن احلسن أنه دخل داره ‪ ،‬وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سالال من حتت سريره ‪ ،‬فيها‬
‫اخلبيص وأطايب األطعمة ‪ ،‬وهم مكبون عليها أيكلون ‪ ،‬فتهلّلت أسارير وجهه سرورا ‪ ،‬وضحك‬
‫وقال ‪ :‬هكذا وجدانهم ‪ ،‬يريد أكابر الصحابة‪.‬‬
‫وكذلك يقال يف دخوهلم هذه البيوت ‪ :‬ال بد فيه من إذن صريح أو قرينة‪.‬‬
‫ونسب إىل بعض أئمة احلنفية أنّه احتج بظاهر اآلية على أنّه ال قطع يف سرقة مال احملارم مطلقا ‪،‬‬
‫ألّنّا دلت على إابحة دخول دارهم بغري إذّنم ‪ ،‬فال يكون ماهلم حمرزا ابلنسبة إليهم‪ .‬وأنت تعلم‬
‫يدل على إابحة دخول بيوت احملارم بغري إذن ‪ ،‬فهذا الظاهر غري مراد‬
‫أنّه لو سلّم أ ّن ظاهر اآلية ّ‬
‫قطعا ‪ ،‬كما سبق على أنه يستلزم أنه ال قطع يف سرقة مال الصديق ‪ ،‬ومل يقل بذلك أحد‪.‬‬
‫واإلجابة أب ّن الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غري سديدة ‪ ،‬ألنّه يف الظاهر‬
‫صديق كما هو الفرض ‪ ،‬وال عربة بنيته وقصده ‪ ،‬فمال صديقه على هذا الرأي غري حمرز ابلنسبة‬
‫إليه يف ظاهر حاله ‪ ،‬والشرائع إمنا جتري ما ظهر من احلال ‪ ،‬ال على ما بطن من املقاصد‬
‫والسرائر‪.‬‬
‫ناح أح ْن حأتْ مكلموا حِ‬
‫مجيعاً أ ْحو أح ْشتااتً فللمفسرين فيه رأاين ‪:‬‬ ‫س عحلحيْ مك ْم مج ٌ‬
‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬لحيْ ح‬
‫األول ‪ :‬أنّه كالم متصل مبا قبله ‪ ،‬ومن متامه ‪ ،‬فحني نفى احلرج عنهم يف األكل‬

‫ص ‪618 :‬‬
‫نفسه أراد أن ينفي احلرج عنهم يف كيفية األكل ‪ ،‬فاجلملة واقعة موقع اجلواب عن سؤال نشأ ِما‬
‫خاص مبا إذا كان األكل مع‬ ‫قبلها ‪ ،‬كأنّه قيل ‪ :‬هل نفي احلرج يف األكل من بيوت من ذكروا ّ‬
‫ناح أح ْن حأتْ مكلموا حِ‬
‫مجيعاً أ ْحو أح ْشتااتً‪.‬‬ ‫س حعلحْي مك ْم مج ٌ‬
‫أهل تلك البيوت؟ فكان اجلواب ‪ :‬ل ْحي ح‬
‫والرأي الثاين ‪ :‬أنّه كالم منقطع عما قبله ‪ ،‬سيق لبيان حكم آخر ِماثل ملا ّبني من قبل ‪ ،‬وذلك‬
‫يتحرجون أن أيكلوا طعامهم منفردين ‪ ،‬وكان الرجل ال أيكل حىت جيد‬
‫أن قوما من العرب كانوا ّ‬
‫ضي فا أيكل معه ‪ ،‬فإن مل جيد مل أيكل شيئا ‪ ،‬ورمبا قعد الرجل منهم والطعام بني يديه ال يتناوله من‬
‫الصباح إىل الرواح ‪ ،‬ورمبا كانت معه اإلبل احل ّفل ‪ ،‬فال يشرب من ألباّنا حىت جيد من يشاربه ‪،‬‬
‫فإذا أمسى ومل جيد أحدا أكل ‪ ،‬قال حامت الطائي ‪:‬‬
‫فإين لست آكله وحدي‬
‫إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيال ‪ّ ،‬‬
‫يتحرجون أن أيكلوا جمتمعني ‪ ،‬خياف أحدهم إن أكل مع غريه أن يزيد‬
‫وكذلك كان انس منهم ّ‬
‫أكله على أكل صاحبه‪.‬‬
‫وكان آخرون إذا نزل هبم ضيف رأوا أال أيكلوا إال معه ‪ ،‬ولو ترتب على ذلك حلوق الضرر هبم ‪،‬‬
‫وتعطيل مصاحلهم ‪ ،‬فنزلت اآلية الكرمية لنفي اجلناح عن الناس يف أكلهم جمتمعني أو متفرقني ‪،‬‬
‫وتوسيع األمر عليهم يف ذلك ‪ ،‬وبيان أ ّن أمر الطعام ليس من العظم حبيث حيتاط فيه إىل هذا‬
‫احلد وتراعى فيه هذه االعتبارات الدقيقة املعنتة‪.‬‬
‫تسوي بني أكل الرجل وحده وأكله مع غريه ‪ ،‬مع أن الذي استقرت‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ ّن اآلية حينئذ ّ‬
‫عليه الشريعة أن اجتماع األيدي على الطعام سنة مستحسنة ‪ ،‬وأن تركه بغري داع مذمة‪ .‬ويف‬
‫احلديث ‪« :‬شر الناس من أكل وحده ‪ ،‬وضرب عبده ‪ ،‬ومنع رفده»‪.‬‬
‫واجلواب أ ّن احلديث حممول على من اعتاد األكل وحده ‪ ،‬والتزمه خبال أن يشاركه أحد يف‬
‫طعامه‪ .‬واآلية تنفي اجلناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا ‪ ،‬ال خبال ابملشاركة ‪ ،‬وال كراهة يف القرى‪.‬‬
‫يذم من أكل وحده أبنه آمث ‪ ،‬فهو ال يعارض اآلية اليت نفت اإلمث‬
‫ووجه آخر ‪ :‬وهو أ ّن احلديث ّ‬
‫عن الذي أيكل وحده‪.‬‬
‫بارحكةً طحيِّبحةً هذا بيان لألدب الذي‬ ‫فحِإذا حد حخلْتمم ب يواتً فحسلِّموا عحلى أحنْ مف ِس مكم حِحتيَّةً ِمن ِعنْ ِد َِّ‬
‫اّلل مم ح‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ مم ح م‬
‫ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل‪ .‬وهذا احلكم وإن كان معلوما من قوله‬
‫سلِّ مموا حعلى أح ْهلِها إال‬
‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬ ‫ح ح‬
‫يتوهم من أ ّن األقارب واألصدقاء بينهم من املودة وحلمة القرابة‬ ‫أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن ّ‬
‫ما ال حيتاج معه إىل تبادل السالم والتحية ‪ ،‬فكأ ّن اآلية تشري‬

‫ص ‪619 :‬‬
‫إىل أن القرابة والصداقة ليس معنامها إغفال اآلداب العامة ‪ ،‬وإهدار احلقوق اإلسالمية ‪ ،‬فإذا‬
‫دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فال ب ّد أن تسلموا عليهم ‪ ،‬ألّنّم منكم مبنزلة أنفسكم ‪،‬‬
‫فكأنّكم حني تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم‪.‬‬
‫هذا وأخرج مجاعة عن ابن عباس أ ّن املراد ابلبيوت هنا املساجد ‪ ،‬والسالم على األنفس ابق‬
‫على ظاهره ‪ ،‬ومن دخل املسجد فعليه أن يقول ‪ :‬السالم علينا من ربنا ‪ ،‬السالم علينا وعلى‬
‫اّلل الصاحلني‪.‬‬
‫عباد ّ‬
‫وروي عن عطاء أ ّن املراد ابلبيوت بيوت املخاطبني ‪ ،‬فإذا دخل الرجل بيته قال ‪ :‬السالم علينا‬
‫من ربنا إخل‪.‬‬
‫وعن أيب مسلم أ ّن املراد ابلبيوت بيوت الكفار ‪ ،‬وداخلها يقول ما تقدم ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬السالم‬
‫على من اتبع اهلدى‪.‬‬
‫وأنت تعلم أ ّن األنسب ابملقام هو الرأي األول ‪ ،‬وكلمة بيوات وإن كانت نكرة يف سياق الشرط ‪،‬‬
‫إال أ ّن الفاء يف قوله تعاىل ‪ :‬فحِإذا حد حخلْتم ْم تؤذن أبن املراد هبا البيوت املذكورة قبل‪ .‬ومعىن كون‬
‫وجل‪.‬‬
‫عز ّ‬‫اّلل أّنا اثبتة أبمره تعاىل ‪ ،‬ومشروعة من لدنه ّ‬
‫التحية من عند ّ‬
‫قال الضحاك ‪ :‬يف السالم عشر حسنات ومع الرمحة عشرون ‪ ،‬ومع الربكات ثالثون‪ .‬وظاهر‬
‫اّلل وبركاته‪.‬‬
‫ذلك أ ّن البادئ ابلسالم يقول السالم عليكم ورمحة ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬مسعت‬ ‫وأخرج ابن أيب حامت عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ما أخذت التشهد إال من كتاب ّ‬
‫بارحكةً طحيِّبحةً فالتشهد‬ ‫اّلل تعاىل يقول ‪ :‬فحِإذا حد حخلْتمم ب يواتً فحسلِّموا عحلى أحنْ مف ِس مكم حِحتيَّةً ِمن ِعنْ ِد َِّ‬
‫اّلل مم ح‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ مم ح م‬ ‫ّ‬
‫يف الصالة التحيات املباركات الطيبات ّّلل‪.‬‬
‫فصل يف‬
‫اّلل لكم معامل دينكم ‪ ،‬فيبينها لكم ‪ ،‬كما ّ‬ ‫يفصل ّ‬
‫ايت أي هكذا ّ‬ ‫اّلل لح مكم ْاآل ِ‬
‫ني َّم م‬ ‫حكذلِ ح‬
‫ك يمبحِّ م‬
‫وعرفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه ل ححعلَّ مك ْم تح ْع ِقلمو حن لكي‬
‫هذه اآلية ما أحل لكم فيها ‪ّ ،‬‬
‫اّلل أمره وّنيه وأدبه‪.‬‬
‫تفقهوا عن ّ‬

‫ص ‪620 :‬‬
‫من سورة لقمان‬
‫ني أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫حن ا ْش مك ْر ِيل‬ ‫اإلنْسا حن بِوال حديْه حمححلحْتهم أ ُّممهم حو ْهناً حعلى حو ْه ٍن حوفصالمهم ِيف ح‬
‫عام ْ ِ‬ ‫ص ْي نحا ِْ‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوحو َّ‬
‫قال ّ‬
‫ْم فحال تم ِط ْع مهما‬ ‫داك عحلى أح ْن تم ْش ِر حك ِيب ما لحيس ل ح ِ ِ‬ ‫يل الْم ِ‬ ‫حولِوالِ حديْ ح‬
‫حك بِه عل ٌ‬ ‫ْ ح‬ ‫صريم (‪ )14‬حوإِ ْن ح‬
‫جاه ح‬ ‫ك إِ حَّ ح‬
‫يل حم ْرِجعم مك ْم فحأمنحبِّئم مك ْم ِمبا مك ْن تم ْم تح ْع حملمو حن‬
‫يل ممثَّ إِ حَّ‬
‫حانب إِ حَّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫و ِ‬
‫صاح ْب مهما ِيف ُّ‬
‫يل حم ْن أ ح‬ ‫الدنْيا حم ْع مروفاً حواتَّب ْع حسب ح‬ ‫ح‬
‫(‪)15‬‬
‫اإلنْسا حن بِوالِ حديْهِ إىل آخر اآليتني كالم مستأنف‬ ‫ص ْي نحا ِْ‬
‫املختار عند أهل التأويل أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حوحو َّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬جاء معرتضا بني وصااي لقمان البنه ‪ ،‬وهلذا االعرتاض من البالغة أحسن موقع ‪،‬‬
‫من ّ‬
‫تضمنته أوىل وصااي لقمان ‪ ،‬وهو النهي عن الشرك ‪ ،‬وتقرير أنّه‬
‫ذلك أل ّن الفائدة فيه توكيد ما ّ‬
‫ظلم عظيم ‪ ،‬فإنه قيل ‪ :‬ح ّقا إ ّن الشرك ملنهي عنه ‪ ،‬وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه ‪ ،‬ومهما‬
‫يربمها ‪ ،‬وحيسن إليهما ‪ ،‬فقد ّنيناه عن‬
‫وصينا اإلنسان بوالديه أن ّ‬
‫كان احلامل عليه ‪ ،‬فمع أننا ّ‬
‫إطاعتهما يف الشرك لو فرض أّنما طلباه منه إبحلاح وجهد‪.‬‬
‫اإلنْسا حن بِوالِ حديْهِ وقوله تعاىل‬
‫ص ْي نحا ِْ‬
‫حمححلحْتهم أ ُّممهم حو ْهناً حعلى حو ْه ٍن هذا اعرتاض أيضا بني قوله تعاىل ‪ :‬حوحو َّ‬
‫ك لبيان العلة يف الوصية ‪ ،‬أو يف وجوب امتثاهلا‪ .‬وقوله تعاىل ‪ :‬حو ْهناً حعلى‬ ‫حن ا ْش مك ْر ِيل حولِوالِ حديْ ح‬
‫‪ :‬أِ‬
‫حو ْه ٍن حال من فاعل حمححلحْتهم على التأويل ابملشتق ‪ ،‬أي محلته أمه حال كوّنا ذات وهن على وهن‬
‫‪ ،‬أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حني احلمل إىل الوضع‪.‬‬
‫عام ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني الفصال الفطام ‪ ،‬أي وفطامه يكون يف انقضاء عامني ‪ ،‬أي يف ّأول زمان‬ ‫حوفصالمهم ِيف ح‬
‫انقضائهما‪.‬‬
‫عام ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني على أ ّن مدة الرضاع الذي يتعلق به‬ ‫استدل العلماء غري أيب حنيفة بقوله تعاىل ‪ :‬حوفصالمهم ِيف ح‬
‫الد مه َّن‬ ‫ت ير ِ‬
‫ض ْع حن أ ْحو ح‬ ‫ِ‬
‫التحرمي عامان ‪ ،‬ومثل هذه اآلية يف ذلك قوله يف سورة البقرة ‪ :‬حوالْوالدا م م ْ‬
‫ضاعةح [البقرة ‪ .]233 :‬وعلم [من ] هذه [اآلية] فائدة‬ ‫الر ح‬ ‫ني لِ حم ْن أحر ح‬
‫اد أح ْن يمتِ َّم َّ‬ ‫حني ِ‬
‫كاملح ْ ِ‬ ‫حح ْول ْ ِ‬
‫[فقد] استنبط علي وابن عباس وكثري غريمها من قوله تعاىل يف سورة األحقاف ‪ :‬حومححْلمهم حوفِصالمهم‬
‫ثحالثمو حن حش ْهراً [األحقاف ‪ ]15 :‬أ ّن أقل مدة احلمل ستة أشهر‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل وجهه ‪ :‬قال ّ‬
‫كرم ّ‬
‫روي أ ّن عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر ‪ ،‬فقال له علي ّ‬
‫عام ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‪.‬‬ ‫تعاىل ‪ :‬حومححْلمهم حوفصالمهم ثحالثمو حن حش ْهراً وقال ‪ :‬حوفصالمهم ِيف ح‬

‫ص ‪621 :‬‬
‫اّلل عنه سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك ‪ ،‬وأ ّن عثمان‬
‫وروي أ ّن عثمان رضي ّ‬
‫رجع إىل قول علي وابن عباس ‪ ،‬وحكى اجلصاص «‪ »1‬اتفاق أهل العلم على أ ّن أقل مدة‬
‫احلمل ستة أشهر‪.‬‬
‫احملرم ثالثون شهرا «‪ .»2‬لقوله تعاىل ‪ :‬حومححْلمهم‬
‫اّلل إىل أن مدة الرضاع ّ‬
‫وذهب أبو حنيفة رمحه ّ‬
‫اّلل حيمل اآلية اليت معنا على الكثري‬ ‫حوفِصالمهم ثحالثمو حن حش ْهراً وسنبينه إن شاء ّ‬
‫اّلل‪ .‬مث إنه رمحه ّ‬
‫الغالب يف الفطام ‪ ،‬إذ إنه ال يتجاوز به يف العادة عامني ‪ ،‬ويقول يف آية البقرة إّنا لبيان املدة‬
‫اليت تستحق فيها املطلقة أجرا على اإلرضاع ‪ ،‬إذ إّنا ال تستحق أجرا فيما وراء العامني ‪ ،‬وذلك‬
‫احملرم‪.‬‬
‫ال ينفي أن يكون ما بعد العامني إىل متام الثالثني شهرا من مدة الرضاع ّ‬
‫وللحنفية يف وجه الداللة من قوله تعاىل ‪ :‬حومححْلمهم حوفِصالمهم ثحالثمو حن حش ْهراً على مذهب اإلمام طريقتان‬
‫‪:‬‬
‫لكل من األمرين‬
‫األوىل ‪ :‬أنّه ذكر يف اآلية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدهتما ‪ ،‬فتكون هذه املدة ّ‬
‫لكل من فالن وفالن مئة إىل‬
‫علي ّ‬
‫املقر ‪ّ :‬‬
‫استقالال على ما يشهد به كالم الفقهاء يف مثل قول ّ‬
‫كل من الدينني ‪ ،‬فتكون الثالثون شهرا مدة كل من احلمل والرضاع ‪ ،‬غري أنّه‬
‫سنة أ ّن السنة أجل ّ‬
‫اّلل عنها‬
‫قد ثبت يف احلمل ما أوجب نقصه من الثالثني شهرا ‪ ،‬وهو ما روي عن عائشة رضي ّ‬
‫أ ّن الولد ال يبقى يف بطن أمه أكثر من سنتني ‪ ،‬ولو بقدر فلكة مغزل ‪ ،‬ومثل هذا ال يقال ابلرأي‬
‫‪ ،‬فله حكم احلديث املرفوع ‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها‪.‬‬
‫والطريقة الثانية ‪ :‬يف معىن قوله تعاىل ‪ :‬حومححْلمهم حوفِصالمهم ثحالثمو حن حش ْهراً هي أن ليس املراد ابحلمل هنا‬
‫محل اجل نني يف البطن ‪ ،‬بل محل الولد بعد الوالدة يف مدة الرضاع ‪ ،‬وحينئذ تكون املدة املضروبة‬
‫يف اآلية إمنا هي لشيء واحد ‪ ،‬هو ذلك احلمل الذي ينتهي ابلفصال‪.‬‬
‫وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى اجلصاص على أ ّن أقل مدة احلمل‬
‫ستة أشهر ‪ ،‬وأّنم استنبطوا ذلك من قوله تعاىل ‪ :‬حومححْلمهم حوفِصالمهم ثحالثمو حن حش ْهراً وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫عام ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‪.‬‬ ‫حوفصالمهم ِيف ح‬
‫فتأويل احلنفية آية األحقاف ومحلهم هلا على الوجهني املتقدمني ينايف ما اتفق عليه الفقهاء مجيعا‬
‫ويلزمهم حينئذ أحد أمرين ‪ :‬إما أن اإلمام مل يوافق اجلماعة يف أ ّن أقل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف كتابه أحكام القرآن (‪.)351 /3‬‬
‫(‪ )2‬اهلداية شرح بداية املبتدي لإلمام املرغيناين (‪.)243 /2 - 1‬‬

‫ص ‪622 :‬‬
‫مدة احلمل ستة أشهر ‪ ،‬وإما أن يكون له دليل على أن أقل مدة احلمل ستة أشهر غري هاتني‬
‫اّلل‪.‬‬
‫اآليتني ‪ ،‬وال أظن شيئا من هذين الالزمني منقوال عن أيب حنيفة رمحه ّ‬
‫حن هنا على ما اختاره الزخمشري «‪ »1‬وغريه تفسريية ‪ ،‬فما بعدها بيان‬ ‫حن ا ْش مك ْر ِيل حولِوالِ حديْ ح‬
‫ك أِ‬ ‫أِ‬
‫وسط األمر‬
‫متضمن معىن القول‪ .‬أي قلنا له ‪ :‬اشكر يل ولوالديك ‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫لفعل التوصية ‪ ،‬إذ هو ّ‬
‫اّلل تعاىل مع أ ّن الوصية يف اآلية خمصوصة ابلوالدين ‪ ،‬إلفادة أ ّن ال يقع شكر الوالدين‬
‫بشكر ّ‬
‫موقعه إال بعد الشكر ّّلل‪.‬‬
‫اّلل تعاىل حسن رعاية النّعم اليت أنعم هبا على اإلنسان ‪ ،‬وصرفها فيما خلقت له ابلطاعة‬
‫فشكر ّ‬
‫‪ ،‬وإخالص العبادة ّّلل ‪ ،‬وفعل ما يرضيه‪ .‬وشكر الوالدين إطاعتهما ‪ ،‬وبرمها ‪ ،‬والقيام بكل ما‬
‫يرضيهما ‪ ،‬إال أ ّن يكون فيه معصية ّّلل‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ومن دعا لوالديه يف أدابرها‬
‫وعن سفيان بن عيينة ‪ :‬من صلّى الصلوات اخلمس فقد شكر ّ‬
‫يل الْم ِ‬
‫صريم أي إ ّن مرجع الناس مجيعا يف‬ ‫فقد شكرمها‪ .‬ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِ حَّ ح‬
‫اّلل وحده ‪ ،‬فهو الذي حياسب العباد ‪ ،‬وجيازيهم على ما ق ّدموا من أعمال‪.‬‬
‫اآلخرة إىل ّ‬
‫وهذا ظاهر يف التهديد والتخويف من عاقبة املخالفة والعقوق والعصيان ‪ ،‬كما هو وعد ابجلزاء‬
‫اّلل وطاعته وبر الوالدين وصلتهما‪.‬‬ ‫احلسن على امتثال أمر ّ‬
‫ْم فحال تم ِط ْع مهما اجلهاد واجملاهدة بذل اجلهد ‪،‬‬ ‫داك حعلى أح ْن تم ْش ِر حك ِيب ما لحيس ل ح ِ ِ‬
‫حك بِه عل ٌ‬ ‫ْ ح‬ ‫حوإِ ْن ح‬
‫جاه ح‬
‫ابّلل‪ .‬وأراد سبحانه بنفي العلم نفي‬
‫واستفراغ الوسع للوصول إىل الغرض‪ .‬وهو هنا اإلشراك ّ‬
‫الشريك ‪ ،‬أي لتشرك يب ما ليس بشي ء ‪ ،‬يريد األصنام ‪ ،‬كقوله سبحانه يف شأّنا ما يح ْدعمو حن ِم ْن‬
‫دمونِهِ ِم ْن حش ْي ٍء [العنكبوت ‪.]42 :‬‬
‫الدنْيا حم ْع مروفاً قيّد الصحبة أبّنا يف الدنيا‪ .‬مع أ ّن ذلك معروف ‪ ،‬إذ الدنيا هي دار‬ ‫و ِ‬
‫صاح ْب مهما ِيف ُّ‬ ‫ح‬
‫يضر‬
‫التكليف ‪ ،‬لتهوين أمر الصحبة ‪ ،‬واإلشارة إىل أّنّا يف أايم قالئل ‪ ،‬سريعة االنقضاء ‪ ،‬فال ّ‬
‫حتمل مشقتها ‪ ،‬لقلّة أايمها ‪ ،‬ووشك انصرامها‪.‬‬
‫و(املعروف) هنا ما يعرفه الشرع ويرتضيه ‪ ،‬وما يقضي به الكرم واملروءة يف إطعامهما وكسوهتما ‪،‬‬
‫وعدم جفائهما وانتهارمها ‪ ،‬وعيادهتما إذا مرضا ‪ ،‬ومواراهتما إذا ماات ‪ ،‬إىل ما هو معروف من‬
‫خصال الرب هبما وصلتهما‪.‬‬
‫عام‬
‫اّلل ابإلحسان إىل الوالدين ّ‬ ‫اإلنْسا حن بِوالِ حديْهِ إىل آخر اآليتني أ ّن أمر ّ‬
‫ص ْي نحا ِْ‬
‫أابن قوله تعاىل ‪ :‬حوحو َّ‬
‫يف الوالدين املسلمني والكافرين ‪ ،‬وأن طاعة الوالدين على أي دين كاان واجبة ‪ّ ،‬إال إذا أمرا‬
‫مبعصية ‪ ،‬فإنه ال طاعة ملخلوق يف معصية اخلالق‪ .‬وأ ّن طلب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)494 /3‬‬

‫ص ‪623 :‬‬
‫يسوغ له الشرك ‪ ،‬وال يعترب إكراها يبيح النطق بكلمة الكفر‬
‫ابّلل ال ّ‬
‫الوالدين من ولدمها اإلشراك ّ‬
‫تقية‪.‬‬
‫الدنْيا حم ْع مروفاً على أ ّن الولد ال يستحق القود على أحد والديه ‪،‬‬ ‫ودل قوله تعاىل ‪ :‬و ِ‬
‫صاح ْب مهما ِيف ُّ‬ ‫ّ‬
‫ح‬
‫كل منهما إذا احتاجا‬
‫وأنّه ال حيد له إذا قذفه ‪ ،‬وال حيبس له بدين عليه ‪ ،‬وأن على الولد نفقة ّ‬
‫إليه ‪ ،‬إذ كان مجيع ذلك من الصحبة ابملعروف ‪ ،‬وفعل ضده ينايف مصاحبتهما ابملعروف‪.‬‬
‫حانب إِ حَّ‬ ‫ِ ِ‬
‫إيل ابلتوحيد واإلخالص ابلطاعة ‪ ،‬ال سبيل‬
‫يل أي اتبع سبيل من رجع ّ‬ ‫حواتَّب ْع حسب ح‬
‫يل حم ْن أ ح‬
‫والديك اللذين أيمرانك ابلشرك‪.‬‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫أخرج الواحدي «‪ »1‬عن عطاء عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬يريد مبن أانب أاب بكر رضي ّ‬
‫اّلل عنه‪ .‬وإسالم سعد كان‬
‫داك إخل نزل يف سعد بن أيب وقاص رضي ّ‬ ‫فإ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حوإِ ْن ح‬
‫جاه ح‬
‫اّلل عنه‪ .‬وذلك كما روي عن ابن عباس أنه حني أسلم أبو بكر رآه‬
‫بسبب إسالم أيب بكر رضي ّ‬
‫سعد بن أيب وقاص ‪ ،‬وعبد الرمحن بن عوف ‪ ،‬وسعيد بن زيد ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وطلحة ‪ ،‬والزبري ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر ‪ :‬نعم ‪ ،‬فأتوا‬ ‫فقالوا أليب بكر ‪ :‬آمنت وص ّدقت حممدا صلّى ّ‬
‫ِ ِ‬
‫يل حم ْن‬ ‫اّلل تعاىل يقول لسعد ‪ :‬حواتَّب ْع حسب ح‬ ‫اّلل عليه وسلّم فآمنوا وص ّدقوا ‪ ،‬فأنزل ّ‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫رسول ّ‬
‫اّلل عنه‪.‬‬
‫يل يعين أاب بكر رضي ّ‬ ‫حانب إِ حَّ‬
‫أ ح‬
‫لكن‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ّ ،‬‬ ‫وأخرج ابن املنذر عن ابن جريج أنه كان يقول ‪ :‬من أانب هو حممد صلّى ّ‬
‫مجهور املفسرين على أ ّن املراد العموم ‪ ،‬كما هو ظاهر اسم املوصول ‪ ،‬ولذلك قالوا ‪:‬‬
‫حانب إِ حَّ‬ ‫ِ ِ‬
‫اّلل‬
‫يل يدل على صحة إمجاع املسلمني ‪ ،‬وأنّه حجة ألمر ّ‬ ‫يل حم ْن أ ح‬ ‫إ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حواتَّب ْع حسب ح‬
‫الرس ح ِ‬
‫ول م ْن بح ْع ِد ما تحبح َّ ح‬
‫ني لحهم ا ْهلمدى حويحتَّبِ ْع‬ ‫ِ‬
‫تعاىل إايان ابتباعهم‪ .‬وهو مثل قوله تعاىل ‪ :‬حوحم ْن يمشاق ِق َّ م‬
‫صرياً [النساء ‪.]115 :‬‬ ‫تم ِ‬ ‫ني نمولِّهِ ما تحو َّىل ونم ْ ِ ِ‬ ‫غح ْري سبِ ِ ِ ِ‬
‫َّم حوساءح ْ ح‬
‫صله حج حهن ح‬ ‫ح ح‬ ‫يل ال مْم ْؤمن ح ح‬ ‫ح ح‬
‫إيل مرجع من آمن منكم ‪ ،‬ومن أشرك ‪ ،‬ومن ّبر ‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ممثَّ إِ حَّ ِ‬
‫يل حم ْرجعم مك ْم فحأمنحبّئم مك ْم مبا مك ْن تم ْم تح ْع حملمو حن أي ّ‬
‫كال منكم مبا صدر عنه من اخلري‬ ‫ومن ع ّق ‪ ،‬فأنبئكم عند رجوعكم مبا كنتم تعملون أبن أجازي ّ‬
‫والشر‪.‬‬
‫مقررة ملا قبلها ‪ ،‬ومؤكدة لوجوب اإلحسان إىل الوالدين وبرمها وطاعتهما فيما أيمران به‬
‫واجلملة ّ‬
‫‪ ،‬ما دام ليس فيه معصية ّّلل تعاىل ‪ ،‬فإذا أمرا مبعصية فال طاعة هلما ‪ ،‬ألنّه‬
‫«ال طاعة ملخلوق يف معصية اخلالق» «‪.»2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أسباب النزول لإلمام الواحدي النيسابوري صفحة (‪.)363‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪624 :‬‬
‫من سورة األحزاب‬
‫ظاه مرو حن ِم ْن مه َّن‬
‫الالئِي تم ِ‬ ‫واج مك مم َّ‬ ‫ِِ‬
‫ني ِيف حج ْوفه حوما حج حع حل أح ْز ح‬ ‫اّللم لِحر مج ٍل ِم ْن قحلْبح ْ ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما حج حع حل َّ‬ ‫قال ّ‬
‫يل‬ ‫ول ا ْحلح َّق و مهو يح ْه ِدي َّ ِ‬ ‫أ َّممهاتِ مكم وما جعل أح ْد ِعياء مكم أحبناء مكم ذلِ مكم قحولم مكم ِأبحف ِ‬
‫ْواه مك ْم حو َّ‬
‫السب ح‬ ‫ح ح‬ ‫اّللم يح مق م‬ ‫ح ْ ْ ح ْ ْ ْ ْ‬ ‫ْ ح حح ح‬
‫ط ِعنْ حد َّ‬
‫اّللِ فحِإ ْن حملْ تح ْعلح مموا آابءح مه ْم فحِإ ْخوانم مك ْم ِيف ال ِّدي ِن حوحموالِي مك ْم‬ ‫ْس م‬ ‫(‪ )4‬ا ْدعم م ِ ِ‬
‫وه ْم آلابئ ِه ْم مه حو أحق ح‬
‫اّللم غح مفوراً حرِحيماً (‪)5‬‬ ‫ت قملموبم مك ْم حوكا حن َّ‬ ‫ْمت بِهِ حولكِ ْن ما تح حع َّم حد ْ‬ ‫ناح فِيما أح ْخطحأ مْ‬‫س عحلحيْ مك ْم مج ٌ‬
‫حولحيْ ح‬
‫املراد ابلقلب هنا ‪ :‬املضغة الصنوبرية يف داخل التجويف الصدري ‪ ،‬واجلعل اخللق ‪ ،‬وإذا كان‬
‫الرجل مل خيلق له قلبان ‪ -‬والرجل أكمل النوع اإلنساين حياة ‪ -‬فأوىل أال يكون لألنثى قلبان ‪،‬‬
‫وأما الصبيان فمآهلم أن يكونوا رجاال ‪ ،‬فاملعىن حينئذ ‪:‬‬
‫كل لبيب أريب له قلبان ‪،‬‬
‫اّلل ألحد من الناس قلبني يف جوفه ‪ ،‬وكانت العرب تزعم أ ّن ّ‬
‫ما خلق ّ‬
‫واشتهر أبو معمر الفهري بني أهل مكة بذي القلبني لقوة حفظه‪.‬‬
‫ظاه مرو حن ِم ْن مه َّن نزل القرآن الكرمي والعرب يعقلون من هذا الرتكيب (ظاهر من زوجته) أنه قال هلا‬
‫تم ِ‬
‫(لىب) إذا قال ‪( :‬لبيك) و(أفف) إذا قال ‪( :‬أف) و(سبّح)‬
‫علي كظهر ّأمي» فهو نظري ّ‬ ‫‪« :‬أنت ّ‬
‫(اّلل أكرب)‪ .‬فجاء الشرع فأحلق هبذه الصيغة ‪« -‬أنت‬
‫و(كرب) إذا قال ‪ّ :‬‬
‫اّلل) ّ‬‫إذا قال ‪( :‬سبحان ّ‬
‫حمرمة‬
‫يدل على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها أبنثى ّ‬
‫كل ما ّ‬
‫علي كظهر ّأمي» ‪ -‬يف احلكم ّ‬
‫ّ‬
‫عليه على التأبيد‪.‬‬
‫حل بعده برجعة وال بعقد ‪ ،‬ألّنم كانوا جيرون أحكام‬
‫وقد كان الظهار يف اجلاهلية طالقا ال ّ‬
‫اّلل هذه العادة ‪ ،‬وجعل للظّهار أحكاما سوف أييت بياّنا يف‬
‫األمومة على املظاهر منها ‪ ،‬فأبطل ّ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫تفسري سورة اجملادلة إن شاء ّ‬
‫أح ْد ِعياءح مك ْم األدعياء مجع دعي ‪ ،‬وهو الذي يدعى ابنا وليس اببن ‪ ،‬وقد كان التبين عادة فاشية يف‬
‫تبىن‬
‫البنوة كلّها‪ .‬وقد ّ‬
‫يتبىن الرجل ولد غريه ‪ ،‬فتجري عليه أحكام ّ‬‫اجلاهلية وصدر اإلسالم ‪ّ ،‬‬
‫وتبىن حذيفة ساملا مواله ‪ ،‬وتب ّىن اخلطاب ‪ -‬أبو‬
‫اّلل عليه وسلّم زيد بن حارثة ‪ّ ،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫اّلل عنه ‪ -‬عامر بن أيب ربيعة‪ .‬وكثري من العرب تبىن ولد غريه ‪ ،‬فجاء القرآن الكرمي‬
‫عمر رضي ّ‬
‫إببطال هذا العمل وإلغائه‪.‬‬
‫بيّنت اآلية أ ّن هذه األمور الثالثة ابطلة ال حقيقة هلا ‪ ،‬فكون الرجل له قلبان أمر ال حقيقة له يف‬
‫الواقع‪ .‬وجعل املظاهر منها ّأما أو كاألم يف احلرمة املؤبّدة من‬

‫ص ‪ 625 :‬خمرتعات أهل اجلاهلية ‪ ،‬اليت مل يستندوا فيها إىل مستند شرعي‪ .‬وجعل املتبىن ابنا يف‬
‫مجيع األحكام ِما ال حقيقة له يف شرع ظاهر‪.‬‬
‫اّلل جل شأنه قوله ‪ :‬ما‬
‫وملا كان أظهر هذه األمور يف البعد عن احلقيقة كون الرجل له قلبان ق ّدم ّ‬
‫اّللم لِحر مج ٍل ِم ْن قحلْبح ْ ِ‬
‫ني ِيف حج ْوفِهِ وضربه مثال للظهار والتبين ‪ ،‬أي كما ال يكون لرجل قلبان ال‬ ‫حج حع حل َّ‬
‫املتبىن ابنا‪.‬‬
‫تكون املظاهر منها أما وال ّ‬
‫وجل ‪ :‬ذلِ مك ْم قح ْولم مك ْم اإلشارة فيه إىل ما يفهم من اجلمل الثالث من كون الرجل له‬
‫عز ّ‬‫وقوله ّ‬
‫والدعي ابنا‪ .‬وزايدة قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قلبان ‪ ،‬وكون املظاهر منها أما‬
‫ِأبحف ِ‬
‫ْواه مك ْم للتنبيه على أنه قول صادر من األفواه فقط ‪ ،‬من غري أن يكون له مصداق أو حقيقة‬
‫يف الواقع ونفس األمر ‪ ،‬فال يستتبع أحكاما كما يزعمون‪.‬‬
‫وجل‪.‬‬ ‫ول ا ْحلح َّق و مهو يح ْه ِدي َّ ِ‬ ‫حو َّ‬
‫عز ّ‬ ‫يل أي فدعوا قولكم ‪ ،‬وخذوا بقوله ّ‬
‫السب ح‬ ‫ح ح‬ ‫اّللم يح مق م‬
‫وه ْم ِآلابئِِه ْم‬
‫ا ْدعم م‬
‫اّلل عنهما أ ّن زيد بن حارثة‬
‫أخرج الشيخان والرتمذي والنسائي «‪ »1‬وغريهم عن ابن عمر رضي ّ‬
‫وه ْم‬
‫اّلل عليه وسلّم ما كنا ندعوه إال زيد بن حممد ‪ ،‬حىت نزل القرآن ‪ :‬ا ْدعم م‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫موىل رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أنت زيد بن حارثة بن شراحيل»‬‫ِآلابئِ ِه ْم إخل فقال النيب صلّى ّ‬
‫‪ .‬وكان من أمره ما‬
‫رواه ابن مردويه عن ابن عباس «‪»2‬‬
‫أنّه كان يف أخواله بين معن من بين ثعل من طي ء ‪ ،‬فأصيب يف ّنب من طي ء ‪ ،‬فقدم به سوق‬
‫عكاظ‪.‬‬
‫يتسوق هبا ‪ ،‬فأوصته عمته خدجية أن يبتاع هلا‬
‫وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إىل عكاظ ّ‬
‫غالما ظريفا عربيا إن قدر عليه ‪ ،‬فلما قدم وجد زيدا يباع فيها ‪ ،‬فأعجبه ظرفه ‪ ،‬فابتاعه ‪ ،‬فقدم‬
‫به عليها ‪ ،‬وقال هلا ‪ :‬إين قد ابتعت لك غالما ظريفا عربيا ‪ ،‬فإن أعجبك فخذيه ‪ ،‬وإال فدعيه ‪،‬‬
‫فإنه قد أعجبين ‪ ،‬فلما رأته خدجية أعجبها ‪ ،‬فأخذته‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ظرفه ‪،‬‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وهو عندها ‪ ،‬فأعجب ّ‬
‫فتزوجها الرسول صلّى ّ‬
‫فاستوهبه منها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬أهبه لك ‪ ،‬فإن أردت عتقه فالوالء يل ‪ ،‬فأّب عليها الصالة والسالم ‪،‬‬
‫فوهبته له إن شاء أعتق ‪ ،‬وإن شاء أمسك‪.‬‬
‫فمر‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬مث إنّه خرج يف إبل أليب طالب أبرض الشام ‪ّ ،‬‬
‫قال ‪ :‬فشب عند النيب صلّى ّ‬
‫أبرض قومه ‪ ،‬فعرفه عمه ‪ ،‬فقام إليه فقال ‪ :‬من أنت اي غالم؟ قال ‪ :‬غالم من أهل مكة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 44 ، )884 /4‬كتاب فضائل الصحابة ‪ - 10 ،‬ابب فضائل‬
‫زيد حديث رقم (‪ ، )2425 /62‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )6 /6‬كتاب التفسري ‪2 ،‬‬
‫وه ْم ِآلابئِ ِه ْم حديث رقم (‪ ، )4782‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪، )330 /5‬‬
‫‪ -‬ابب ا ْدعم م‬
‫كتاب التفسري ‪ ،‬ابب تفسري سورة األحزاب حديث رقم (‪.)3209‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)182 - 181 /5‬‬
‫ص ‪626 :‬‬
‫فحر أنت أم ِملوك؟ قال ‪ :‬بل ِملوك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬من أنفسهم؟ قال ‪ :‬ال‪ .‬قال ‪ّ :‬‬
‫قال ‪ :‬ملن؟‬
‫قال ‪ :‬حملمد بن عبد املطلب‪ .‬فقال له ‪ :‬أعرايب أنت أم أعجمي؟ قال ‪ :‬عريب‪.‬‬
‫قال ‪ِ :‬من أهلك؟‪.‬‬
‫قال ‪ :‬من كلب‪ .‬قال ‪ :‬من أي كلب؟ قال ‪ :‬من بين عبدون‪ .‬قال ‪ :‬وحيك ابن من أنت؟ قال ‪:‬‬
‫ابن حارثة بن شراحيل‪ .‬قال ‪ :‬وأين أصبت؟ قال ‪ :‬يف أخوايل‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ومن أخوالك؟ قال ‪ :‬طيء‪ .‬قال ‪ :‬ما اسم أمك؟ قال ‪ :‬سعدى‪ .‬فالتزمه وقال ‪ :‬ابن حارثة! ودعا‬
‫أابه قال ‪ :‬اي حارثة هذا ابنك ‪ ،‬فأاته حارثة ‪ ،‬فلما نظر إليه عرفه ‪ ،‬كيف صنع موالك إليك؟ قال‬
‫‪ :‬يؤثرين على أهله وولده ‪ ،‬ورزقت منه حبّا فال أصنع ّإال ما شئت ‪ ،‬فركب معه أبوه وعمه وأخوه‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فقال له حارثة ‪ :‬اي حممد أنتم أهل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫حىت قدموا مكة ‪ ،‬فلقوا رسول ّ‬
‫اّلل وجريانه وعند بيته ‪ ،‬تف ّكون العاين ‪ ،‬وتطعمون األسري ‪ ،‬ابين عبدك ‪ ،‬فامنن علينا ‪،‬‬
‫حرم ّ‬
‫وأحسن إلينا يف فدائه ‪ ،‬فإنّك ابن سيد قومه ‪ ،‬وإان سندفع إليك يف الفداء ما أحببت‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أعطيكم خريا من ذلك؟» قالوا ‪ :‬وما هو؟ قال ‪:‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فقال رسول ّ‬
‫«أخريه ‪ ،‬فإن اختاركم فخذوه بغري فداء ‪ ،‬وإن اختارين فكفوا عنه»‪.‬‬
‫اّلل خريا فقد أحسنت‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬جزاك ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال ‪« :‬اي زيد أتعرف هؤالء»؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬هذا أيب‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فدعاه رسول ّ‬
‫وعمي وأخي‪.‬‬
‫فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬فهم من قد عرفتهم ‪ ،‬فإن اخرتهتم فاذهب معهم ‪ ،‬وإن اخرتتين‬
‫فأان من تعلم»‪.‬‬
‫فقال زيد ‪ :‬ما أان مبختار عليك أحدا أبدا ‪ ،‬أنت معي مبكان الوالد والعم‪.‬‬
‫قال أبوه وعمه ‪ :‬أاي زيد أختتار العبودية؟ قال ‪ :‬ما أان مبفارق هذا الرجل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم حرصه عليه قال ‪« :‬اشهدوا أنّه حر ‪ ،‬وأنّه ابين يرثين‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فلما رأى رسول ّ‬
‫وأرثه»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فلم يزل يف اجلاهلية‬
‫فطابت نفس أبيه وعمه ملا رأوا من كرامة زيد عليه صلّى ّ‬
‫وه ْم ِآلابئِ ِه ْم فدعي زيد بن حارثة‪.‬‬
‫يدعى زيد بن حممد حىت نزل القرآن ‪ :‬ا ْدعم م‬
‫اّللِ أي دعاؤهم آلابئهم ‪ ،‬ونسبتهم إليهم ابلغ يف العدل والصدق ‪ ،‬وزائد فيه يف‬ ‫ط ِعنْ حد َّ‬
‫ْس م‬
‫مه حو أحق ح‬
‫اّلل تعاىل وقضائه‪ .‬فأفعل التفضيل ليس على اببه ‪ ،‬بل قصد به الزايدة مطلقا ‪ ،‬وجيوز أن‬ ‫حكم ّ‬
‫يكون على اببه ‪ ،‬جاراي على سبيل التهكم هبم‪.‬‬
‫وموالِي مك ْم‬ ‫ِ‬
‫فحِإ ْن حملْ تح ْعلح مموا آابءح مه ْم فحِإ ْخوانم مك ْم ِيف ال ّدي ِن أي فهم إخوانكم يف الدين ح‬
‫ص ‪627 :‬‬
‫أي وهم مواليكم يف الدين أيضا ‪ ،‬فليقل أحدكم ‪ :‬اي أخي أو اي موالي ‪ ،‬يقصد بذلك األخوة‬
‫والوالية يف الدين‪.‬‬
‫ناح فِيما أح ْخطحأ مْمتْ بِهِ حولكِ ْن ما تح حع َّم حد ْ‬
‫ت قملموبم مك ْم ظاهر السياق أن املراد نفي اجلناح‬ ‫س عحلحيْ مك ْم مج ٌ‬
‫حولحيْ ح‬
‫عنهم فيما أخطؤوا به من التبين ‪ ،‬وإثبات اجلناح عليهم فيما تعمدت قلوهبم من التبين أيضا‪.‬‬
‫والقائلون هبذا الظاهر خمتلفون يف املراد ابخلطأ ما هو؟‬
‫فأخرج ابن جرير «‪ »1‬وغريه عن جماهد أ ّن املراد ابخلطأ الذي رفع عنهم فيه اإلمث هو تسميتهم‬
‫األدعياء أبناء قبل ورود النهي‪ .‬وأ ّن العمد الذي ثبت فيه اإلمث عليهم هو ما كان من ذلك بعد‬
‫النهي ‪ ،‬فاخلطأ هنا معناه اجلهل ابحلكم‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير «‪ »2‬وغريه عن قتادة أنه قال يف اآلية ‪ :‬لو دعوت رجال لغري أبيه وأنت ترى‬
‫تعمدت وقصدت دعاءه لغري أبيه‪.‬‬
‫أنه أبوه ‪ ،‬مل يكن عليك أبس ‪ ،‬ولكن ما ّ‬
‫أي فعليك فيه اإلمث ‪ ،‬فعلى رأي مقاتل يكون املراد ابخلطأ مقابل العمد‪ .‬وكال األمرين بعد ورود‬
‫النهي‪.‬‬
‫ت قملموبم مك ْم ويكون معىن قوله‬ ‫وأجاز بعض املفسرين أن يراد العموم يف فِيما أح ْخطحأ مْ‬
‫ْمت ويف ما تح حع َّم حد ْ‬
‫ناح إخل نفي اجلناح عنهم يف اخلطأ كله دون العمد ‪ ،‬فيتناول ذلك لعمومه‬
‫س حعلحْي مك ْم مج ٌ‬
‫تعاىل ‪ :‬حول ْحي ح‬
‫خطأ التبين وعمده‪ .‬والكالم حينئذ وارد يف العفو عن اخلطأ ‪ ،‬كما يف‬
‫اّلل وضع عن أميت اخلطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫ابن ماجه «‪ »3‬من حديث ابن عباس‪.‬‬
‫وكما يف‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إين لست أخاف‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنها قالت ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫حديث عائشة رضي ّ‬
‫عليكم اخلطأ ‪ ،‬ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه «‪.»4‬‬
‫تعمد قلبه اإلمث إذا اتب حرِحيماً من رمحته أنّه رفع اإلمث عن املخطئ ‪،‬‬ ‫حوكا حن َّ‬
‫اّللم غح مفوراً فيغفر ملن ّ‬
‫ومل يؤاخذه على خطئه‪.‬‬
‫يتعمد دعوة الولد لغري أبيه ‪ ،‬وذلك حممول على‬
‫يدل على أنه حيرم على اإلنسان أن ّ‬
‫وظاهر اآلية ّ‬
‫وأما إذا مل تكن كذلك ‪ ،‬كما يقول الكبري‬
‫ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان يف اجلاهلية‪ّ .‬‬
‫للصغري على سبيل التحنن والشفقة ‪ :‬اب بين‪ .‬وكثريا ما يقع ذلك ‪ ،‬فالظاهر عدم احلرمة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)76 /21‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 10 ، )659 /1‬كتاب الطالق ‪ - 16 ،‬ابب طالق املكره‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)2045‬‬
‫(‪ )4‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور لإلمام السيوطي (‪.)182 /5‬‬

‫ص ‪628 :‬‬
‫ولكن أفىت بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه ابلكفار‪ .‬وال فرق يف ذلك بني كون املدعو‬
‫ذكرا أو كونه أنثى‪ .‬وإن مل يعلم علم اليقني وقوع التبين لإلانث يف اجلاهلية‪.‬‬
‫ومثل دعاء الولد لغري أبيه انتساب الشخص إىل غري أبيه وهو يعلم أنه غري أبيه ‪ ،‬وع ّد ذلك كثري‬
‫من العلماء يف الكبائر‪ .‬وهو حممول أيضا على ما إذا كان االنتساب على الوجه الذي كان يف‬
‫اجلاهلية ‪ ،‬فقد كان الرجل منهم ينتسب إىل غري أبيه وعشريته ‪ ،‬وقد ورد يف هذا االدعاء الوعيد‬
‫الشديد‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪:‬‬
‫أخرج الشيخان وأبو داود «‪ »1‬عن سعد بن أيب وقاص أن النيب صلّى ّ‬
‫«من ادعى إىل غري أبيه وهو يعلم أنّه غري أبيه فاجلنة عليه حرام»‪.‬‬
‫اّلل‬
‫وأخرج الشيخان «‪ »2‬أيضا ‪« :‬من ادعى إىل غري أبيه ‪ ،‬أو انتمى إىل غري مواليه ‪ ،‬فعليه لعنة ّ‬
‫اّلل منه صرفا وال عدال»‪.‬‬
‫واملالئكة والناس أمجعني ‪ ،‬ال يقبل ّ‬
‫وأخرجا «‪ »3‬أيضا ‪« :‬ليس من رجل ادعى لغري أبيه وهو يعلم إال كفر»‪.‬‬
‫اّلل صلّى‬
‫وأخرج الطرباين يف «الصغري» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫تربأ من نسب وإن د ّق ‪ ،‬أو ادعى نسبا ال يعرف» «‪.»4‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬كفر من ّ‬
‫ّ‬
‫قال العلماء يف معىن «كفر» هنا أنّه إن كان يعتقد إابحة ذلك فقد كفر وخرج عن اإلسالم‪ .‬وإن‬
‫مل يعتقد إابحته ففي معىن كفره وجهان ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل اجلاهلية‪.‬‬
‫اّلل واإلسالم عليه‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنّه كافر نعمة ّ‬
‫وكذلك قوله يف احلديث اآلخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن اإلسالم ‪ ،‬وإن مل‬
‫يعتقد جوازه فاملعىن ‪ :‬أنّه مل يتخلّق أبخالقنا‪.‬‬
‫وليس االستلحاق الذي أابحه اإلسالم من التبين املنهي عنه يف شي ء ‪ ،‬فإن من شرط احلل يف‬
‫االستلحاق الشرعي أن يعلم املستلحق ‪ -‬بكسر احلاء ‪ -‬أن املستلحق ‪ -‬بفتحها ‪ -‬ابنه ‪ ،‬أو‬
‫يظن ذلك ظنا قواي ‪ ،‬وحينئذ شرع له اإلسالم استلحاقه ‪ ،‬وأحلّه له ‪ ،‬وأثبت نسبه منه بشروط‬
‫مبيّنة يف كتب الفروع‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )80 /1‬كتاب اإلميان حديث رقم (‪، )63 /114‬‬
‫والبخاري يف الصحيح (‪ - 85 ، )15 /8‬كتاب الفرائض ‪ - 29 ،‬ابب من ادعى حديث رقم‬
‫(‪.)6766‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 20 ، )1147 /2‬كتاب العتق ‪ - 4 ،‬حترمي تويل العتيق‬
‫حديث رقم (‪( )1370‬بلفظ خمتلف) ‪ ،‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 29 ، )269 /2‬كتاب‬
‫فضائل املدينة ‪ - 1 ،‬ابب حرم املدينة حديث رقم (‪.)1870‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )80 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 27 ،‬ابب حديث رقم (‪/113‬‬
‫‪ ، )62‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 8 ، )15 /8‬كتاب الفرائض ‪ - 21 ،‬ابب من ادعى حديث‬
‫رقم (‪.)6768‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 3 ، )916 /2‬كتاب الفرائض ‪ - 13 ،‬ابب من أنكر ولده ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)2744‬‬

‫ص ‪629 :‬‬
‫التبين املنهي عنه ‪ ،‬فهو دعوى الولد مع القطع أبنّه ليس ابنه ‪ ،‬وأين هذا من ذاك؟‬
‫أما ّ‬
‫وظاهر اآلية أيضا أنّه يباح أن يقال يف دعاء من مل يعرف أبوه ‪ :‬اي أخي ‪ ،‬أو اي موالي ‪ ،‬إذا قصد‬
‫خص ذلك مبا إذا مل يكن املدعو فاسقا ‪،‬‬
‫لكن بعض العلماء ّ‬
‫األخوة يف الدين ‪ ،‬والوالية فيه ‪ّ ،‬‬
‫وكان دعاؤه بيا أخي أو اي موالي تعظيما له ‪ ،‬فإنه يكون حراما ‪ ،‬ألننا ّنينا عن تعظيم الفاسق ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬أو اي هذا‪ .‬مثال‪.‬‬ ‫فمثل هذا يدعى ابمسه ‪ ،‬أو بيا عبد ّ‬
‫اجهم أ َّممها مهتم ْم حوأمولموا ْاأل ْحر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّيب أحوىل ِابلْم ْؤِمنِ ِ‬
‫ض مه ْم أ ْحوىل‬
‫حام بح ْع م‬ ‫ني م ْن أحنْ مفس ِه ْم حوأح ْزو م‬
‫م ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬النِ ُّ ْ‬
‫قال ّ‬
‫ك ِيف‬ ‫ين إَِّال أح ْن تح ْف حعلموا إِىل أ ْحولِيائِ مك ْم حم ْع مروفاً كا حن ذلِ ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تاب َِّ ِ‬
‫اّلل م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني حوال مْمهاج ِر ح‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬ ‫بِبح ْع ٍ‬
‫تاب حم ْسطموراً (‪ )6‬لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار ال يدعى بعد اآلن زيد بن‬ ‫الْكِ ِ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ألنّه قد يرى يف‬ ‫حممد ‪ ،‬خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه يف النيب صلّى ّ‬
‫ختلّي النيب عن أبوته حطّا من قدره بني الناس ‪ ،‬وقد كان هو يعتز هبذه الدعوة ‪ ،‬ألّنا تكسبه‬
‫اّلل تعاىل هذه اآلية تسلية لزيد ‪ ،‬ولبيان أ ّن النيب‬
‫جاها عريضا ينفعه يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم إن ختلى عن أبوة زيد فإىل الوالية العامة ‪ ،‬والرأفة الشاملة اليت تعم‬
‫صلّى ّ‬
‫املسلمني مجيعا ال تفريق بني ابن الصلب وغريه ‪ ،‬فهو يرعاهم حق الرعاية ‪ ،‬ويهديهم طريقا إن‬
‫اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا‪ .‬وما كانت أبوته لزيد أو ألحد غريه بزائدة يف ذلك شيئا ‪ ،‬ولن ينقص‬
‫زيد بتخلّي النيب عن أبوته شيئا فالرسول أوىل وأحق بكل املؤمنني من أنفسهم ‪ ،‬فهو اآلمر‬
‫الناهي مبا حي ّقق للناس سعادهتم يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬واحلفيظ على مصاحلهم ‪ ،‬ال يضيّع شيئا ‪،‬‬
‫وقد أتمر النفس ابلسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه ‪ ،‬ال ينطق عن هوى ‪ ،‬وال يهدي إال‬
‫إىل اخلري‪.‬‬
‫ومل يذكر يف اآلية ما تكون فيه األولوية ‪ ،‬بل أطلقت إطالقا ليفيد ذلك أولويته يف مجيع األمور ‪،‬‬
‫مث إنّه ما دام أوىل من النفس ‪ ،‬فهو وىل من مجيع الناس بطريق األوىل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪:‬‬ ‫اّلل عنه أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫وقد روى البخاري «‪ »1‬وغريه عن أيب هريرة رضي ّ‬
‫ني ِم ْن‬ ‫ِ‬
‫َّيب أ ْحوىل ِابل مْم ْؤمنِ ح‬
‫«ما من مؤمن إال وأان أوىل الناس به يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬اقرؤوا إن شئتم النِ ُّ‬
‫أحنْ مف ِس ِه ْم فأ ّميا مؤمن مات وترك ماال فلريثه عصبته من كانوا ‪ ،‬ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتين ‪،‬‬
‫فأان مواله»‬
‫اجهم أ َّممها مهتم ْم أي منزالت منزلة األمهات يف حترمي نكاحهن ‪،‬‬
‫‪ .‬وقوله تعاىل ‪ :‬حوأح ْزو م‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 43 ، )116 /3‬كتاب االستقراض ‪ - 11 ،‬ابب الصالة‬
‫على من ترك دينا حديث رقم (‪.)2399‬‬

‫ص ‪630 :‬‬
‫فهن أجنبيات ‪ ،‬فال يقال لبناهتم أخوات املؤمنني ‪،‬‬
‫واستحقاق تعظيمهن ‪ ،‬وأما يف غري ذلك ‪ّ ،‬‬
‫وال حيرمن على املؤمنني‪.‬‬
‫ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة ملن قالت هلا اي أمه ‪ :‬أان ّأم رجالكم ال أم نسائكم‪.‬‬
‫مث الظاهر ‪ ،‬أ ّن املراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج ‪ ،‬سواء من طلّقها ومن مل يطلقها‬
‫منهن حىت املطلقة ‪ ،‬وقيل ال يثبت هذا احلكم ملن‬
‫‪ ،‬فيثبت احلكم للجميع ‪ ،‬فال حيل نكاح أحد ّ‬
‫فارقها عليه الصالة والسالم يف احلياة ‪ ،‬كاملستعيذة «‪ ، »1‬وصحح إمام احلرمني وغريه قصر‬
‫التحرمي على املدخول هبا فقط‪.‬‬
‫اّلل عنه فهم برمجه فأخربه أّنا‬
‫وقد روي أن األشعث بن قيس نكح املستعيذة يف زمن عمر رضي ّ‬
‫علي‬
‫هم برمجها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ومل هذا؟ وما ضرب ّ‬ ‫مل تكن مدخوال هبا فكف عنه‪ .‬ويف رواية أنّه ّ‬
‫فكف عنها‪.‬‬
‫حجاب ‪ ،‬وال مسيت للمسلمني ّأما ‪ّ ،‬‬
‫منهن حني نزلت آية التخيري اآلتية فقد ذكر بعض العلماء أ ّن اخلالف‬
‫وأما اليت اختارت الدنيا ّ‬
‫الذي مسعت جيري فيها كذلك‪.‬‬
‫واختار الرازي والغزايل القطع ابحلل‪.‬‬
‫اّللِ الظاهر أ ّن املراد أبويل األرحام ذوو القراابت‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬
‫تاب َّ‬ ‫ض مه ْم أ ْحوىل بِبح ْع ٍ‬ ‫حوأمولموا ْاأل ْحر ِ‬
‫حام بح ْع م‬
‫مطلقا ‪ ،‬سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام‪ .‬فاملراد من اآلية الكرمية أ ّن‬
‫أصحاب القرابة ّأاي كان نوعها أوىل من غريهم مبنافع بعض ‪ ،‬أو مبرياث بعض ‪ ،‬على ما سيأيت من‬
‫القول فيه‪.‬‬
‫اّللِ املراد منه ما كتبه يف اللوح احملفوظ ‪ ،‬أو ما أنزله يف القرآن من آية املواريث‬ ‫وقوله ‪ِ :‬يف كِ ِ‬
‫تاب َّ‬
‫اّلل ما كتبه وفرضه وق ّدره ‪ ،‬سواء أكان ذلك الفرض يف‬
‫وغريها ‪ ،‬كآية األنفال ‪ ،‬أو املراد بكتاب ّ‬
‫القرآن أو يف غريه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين حيتمل أن يكون راجعا إىل أويل األرحام واملعىن ‪:‬‬ ‫قوله ‪ :‬م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني حوال مْمهاج ِر ح‬
‫وأولوا األرحام م ن املؤمنني واملهاجرين بعضهم أوىل ببعض يف النفع أو يف املرياث ‪ ،‬وقد قال جبواز‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هذا صاحب «الكشاف» «‪ .»2‬وحيتمل أن يكون قوله ‪ :‬م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني حوال مْمهاج ِر ح‬
‫ين متعلقا أبويل‬
‫‪ ،‬واملعىن ‪ :‬وأولو األرحام بعضهم أوىل من املؤمنني واملهاجرين بنفع بعض ‪ ،‬أو مبرياث بعض ‪،‬‬
‫ويكون هذا إبطاال ملا كان يف صدر اإلسالم من التوارث ابهلجرة والنصرة ‪ ،‬على حنو ما جاء يف‬
‫آخر سورة األنفال من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )200 /6‬كتاب الطالق ‪ - 3 ،‬ابب من طلّق‬
‫حديث رقم (‪.)5255‬‬
‫(‪ )2‬انظر الكشاف لإلمام الزخمشري (‪.)524 /3‬‬

‫ص ‪631 :‬‬
‫يل َِّ ِ‬ ‫جاه مدوا ِأب ْحمواهلِِ ْم حوأحنْ مف ِس ِه ْم ِيف حسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آوْوا‬ ‫ين ح‬ ‫اّلل حوالَّذ ح‬ ‫هاج مروا حو ح‬ ‫آمنموا حو ح‬ ‫ين ح‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن الَّذ ح‬
‫هاج مروا ما لح مك ْم ِم ْن حواليحتِ ِه ْم ِم ْن حش ْي ٍء حح َّىت‬ ‫ض والَّ ِذين آمنموا وحمل ي ِ‬
‫ض مه ْم أ ْحولياءم بح ْع ٍ ح ح ح ح ْ م‬
‫ك بع م ِ‬
‫ص مروا أمولئِ ح ح ْ‬ ‫حونح ح‬
‫َّص مر إَِّال حعلى قح ْوٍم بح ْي نح مك ْم حوبح ْي نح مه ْم ِميثا ٌق حوا َّّللم ِمبا‬‫ص مرومك ْم ِيف ال ِّدي ِن فح حعلحْي مك مم الن ْ‬ ‫هاج مروا حوإِ ِن ْ‬
‫استح ْن ح‬
‫ي ِ‬
‫م‬
‫ض حوفحسا ٌد‬ ‫ض إَِّال تح ْف حعلموهم تح مك ْن فِْت نحةٌ ِيف ْاأل ْحر ِ‬ ‫ض مه ْم أ ْحولِياءم بح ْع ٍ‬
‫ين حك حف مروا بح ْع م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تح ْع حملمو حن بحصريٌ (‪ )72‬حوالَّذ ح‬
‫ص مروا أمولئِ ح‬ ‫يل َِّ ِ‬ ‫جاه مدوا ِيف حسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك مه مم‬ ‫آوْوا حونح ح‬ ‫ين ح‬ ‫اّلل حوالَّذ ح‬ ‫هاج مروا حو ح‬ ‫آمنموا حو ح‬ ‫ين ح‬ ‫حكبريٌ (‪ )73‬حوالَّذ ح‬
‫جاه مدوا حم حع مك ْم فحأمولئِ ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫هاج مروا حو ح‬ ‫آمنموا م ْن بح ْع مد حو ح‬ ‫ين ح‬ ‫ال مْم ْؤمنمو حن حح ًّقا حهلم ْم حمغْف حرةٌ حو ِر ْز ٌق حك ِرميٌ (‪ )74‬حوالَّذ ح‬
‫ٍ ِ‬ ‫اّللِ إِ َّن َّ‬ ‫ض ِيف كِ ِ‬ ‫ِم ْن مك ْم حوأمولموا ْاأل ْحر ِ‬
‫يم (‪[ )75‬األنفال ‪:‬‬ ‫اّللح بِ مك ِّل حش ْيء حعل ٌ‬ ‫تاب َّ‬ ‫ض مه ْم أ ْحوىل بِبح ْع ٍ‬
‫حام بح ْع م‬
‫‪.]75 - 72‬‬
‫فأنت ترى أنّه كان هناك توارث ابهلجرة والنصرة ‪ ،‬مث نسخ ‪ ،‬وأت ّكد النسخ‬
‫بقوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال هجرة بعد الفتح ‪ ،‬ولكن جهاد ونية» «‪»1‬‬
‫وظاهر أ ّن النفي ال يراد منه نفي حقيقة اهلجرة ‪ ،‬وترك بلد إىل آخر ‪ ،‬فذلك موجود بعد الفتح ‪،‬‬
‫ويوجد كل يوم ‪ ،‬بل املراد نفي األحكام اليت كانت ترتتب على اهلجرة كالتوارث هبا ‪ ،‬وحينئذ‬
‫ِ‬ ‫تاب َِّ ِ‬
‫ض ِيف كِ ِ‬
‫اّلل م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني‬ ‫ض مه ْم أ ْحوىل بِبح ْع ٍ‬ ‫يكون معىن قوله تعاىل ‪ :‬حوأمولموا ْاألح ْر ِ‬
‫حام بح ْع م‬
‫ِ‬
‫ين أ ّن التوارث الذي كان سبب اهلجرة قد بطل ‪ ،‬وصار التوارث ابلرحم‪.‬‬ ‫حوال مْمهاج ِر ح‬
‫إَِّال أح ْن تح ْف حعلموا إِىل أ ْحولِيائِ مك ْم حم ْع مروفاً حيتمل أن يكون االستثناء هنا متصال ‪ ،‬وحيتمل أن يكون‬
‫منقطعا‪.‬‬
‫فعلى األول ‪ :‬يكون استثناء من أعم األحوال اليت تقدر األولوية فيها كالنفع ‪ ،‬فإنّه يتنوع إىل‬
‫مرياث وصدقة وهدية ووصية ‪ ،‬وغري ذلك ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬أن أويل األرحام أوىل جبميع وجوه‬
‫النفع من غريهم من املؤمنني واملهاجرين ‪ّ ،‬إال أن يكون لكم يف هؤالء ويل تريدون أن توصوا إليه‬
‫‪ ،‬وتسدوا إليه معروفا ‪ ،‬فذلك جائز ‪ ،‬ويكون هو أوىل بذلك املعروف من ذوي األرحام ‪ ،‬فإ ّن‬
‫الوصية ال جتوز هلم إال برضاء الورثة‪.‬‬
‫وعلى الثاين ‪ :‬وهو أن االستثناء منقطع فتجعل ما فيه األولوية هو املرياث فقط ‪ ،‬وهو املستثىن‬
‫منه ‪ ،‬ويكون فعل املعروف وهو املستثىن الوصية‪.‬‬
‫وال شك أّنّما جنسان ‪ ،‬وختصيص ما فيه األولوية ابملرياث مفهوم من الكالم ‪ ،‬إذ املسلمون‬
‫مجيعا بعضهم أوىل ببعض يف التناصر والتواصل والرتاحم ‪ ،‬يسعى بذمتهم أدانهم ‪ ،‬وهم يد على‬
‫من سواهم‪.‬‬
‫وقد يكون بعض وجوه النفع األجانب فيها أوىل من ذي الرحم ‪ ،‬فإ ّن الصدقات أيخذها الفقراء‬
‫وإن كانوا أجانب ‪ ،‬وحيرم منها األغنياء وإن كانوا أقارب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1488 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 20 ،‬ابب املبايعة حديث‬
‫رقم (‪.)1864 /86‬‬

‫ص ‪632 :‬‬
‫والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أوىل من غريه هو املرياث ‪ ،‬ويكون املعىن على هذا‬
‫كأنه قيل ‪ :‬ال تورثوا غري ذي رحم ‪ ،‬لكن أن تسدوا إىل أوليائكم املؤمنني واملهاجرين معروفا ‪،‬‬
‫فذلك جائز ‪ :‬بل هم أحق ابلوصية من ذوي األرحام‪.‬‬
‫وترى أ ّان قد فسران األولياء يف قوله تعاىل ‪ :‬إَِّال أح ْن تح ْف حعلموا إِىل أ ْحولِيائِ مك ْم حم ْع مروفاً ابألولياء من‬
‫املؤمنني واملهاجرين ‪ ،‬وذلك جراي على ما ذهب إليه كثري من املفسرين من أن اآلية يف ترك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التوارث ابهلجرة واملؤاخاة ‪ ،‬ويكون هذا متشيا مع ما أسلفناه من أ ّن (من) يف قوله ‪ :‬م حن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني‬
‫ِ‬
‫حوال مْمهاج ِر ح‬
‫ين داخلة يف املفضل عليه‪.‬‬
‫وروي عن بعضهم أن اآلية نزلت يف جواز وصية املسلم لليهودي والنصراين ‪ ،‬ويكون معىن اآلية‬
‫أولو األرحام من املؤمنني واملهاجرين بعضهم أوىل مبرياث بعض ‪ ،‬إال إذا كان لكم أولياء من‬
‫غريهم ‪ ،‬فيجوز أن توصوا إليهم ‪ ،‬وهذا الوجه مروي عن حممد بن احلنفية وغريه‪.‬‬
‫كا حن ذلِ ح‬
‫ك ِيف الْكِ ِ‬
‫تاب حم ْسطموراً كان هذا احلكم الذي دلت عليه اآليتان مثبتا ابألسطار يف القرآن‬
‫اّلل ال ميحى‪.‬‬‫‪ ،‬أو حقا مثبتا عند ّ‬
‫ترى ِما تقدم أ ّان قد فسران (أويل األرحام) بذوي القرابة مطلقا ‪ ،‬أاي كان نوعهم ‪ ،‬وقد نقل الفخر‬
‫فسرها بذلك ‪ ،‬وتبعه يف هذا أبو بكر الرازي من‬
‫اّلل عنه ّ‬
‫الرازي أ ّن اإلمام الشافعي رضي ّ‬
‫احلنفية‪ .‬مث هو بعد ذلك ير ّد فيها دليال للحنفية على توريث ذوي األرحام من حيث إ ّن اآلية قد‬
‫أريد منها هذا النوع اخلاص من الوارثني ‪ ،‬بل من حيث إ ّن اآلية اقتضت أ ّن ذا القرابة مطلقا أوىل‬
‫من غريه‪ .‬وأما تقدمي بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته اخلاصة ‪ ،‬ويقتضي ذلك أن‬
‫يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يديل إىل امليت بواسطة األنثى أوىل من بيت املال ‪ ،‬فتكون‬
‫اآلية حجة على من ق ّدم بيت املال عليهم‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف تقدمي ذوي األرحام على موىل العتاقة‪ .‬فذهب بعضهم إىل أ ّن ذا الرحم‬
‫أوىل ‪ ،‬وهو يروى عن ابن مسعود ‪ ،‬وظاهر اآلية يساعده‪.‬‬
‫مروي عن كثري من الصحابة ‪ ،‬بل‬
‫ويرى بعضهم أ ّن موىل العتاقة مقدم على ذوي األرحام ‪ ،‬وهو ّ‬
‫زعم اجلصاص أنّه مذهب سائر الصحابة ‪ ،‬وقد روي عن ابنه محزة أعتقت عبدا ومات ‪ ،‬وترك‬
‫اّلل عليه وسلّم نصف مرياثه البنته ‪ ،‬ونصفه البنة محزة ‪ ،‬ومل يقل لنا‬
‫بنتا ‪ ،‬فجعل النيب صلّى ّ‬
‫الرواة هل كان للميت ذو رحم حىت يتم الدليل؟‬
‫يدل أيضا على أن موىل العتاقة أوىل من الرد ‪ ،‬وهذا ال يكون إال إذا كان موىل‬
‫وهذا إن صح ّ‬
‫العتاقة حمسواب من العصبات ‪ ،‬والعصبات أوىل ابملرياث من غريهم ‪ ،‬وقد روي أ ّن النيب جعل ابنة‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬الوالء حلمة كلحمة‬
‫محزة عصبة ملوالها ‪ ،‬وقد ورد أن النيب صلّى ّ‬
‫النّسب»‪.‬‬

‫ص ‪633 :‬‬
‫وللمخالف أن يقول ‪ :‬إن التشبيه يقتضي مطلق االستحقاق ‪ ،‬فأين تقدميه على غريه‪.‬‬
‫وه َّن فحما‬
‫س م‬‫وه َّن ِم ْن قحبْ ِل أح ْن متحح ُّ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا إِذا نح حك ْحتمم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات ممثَّ طحلَّ ْقتم مم م‬ ‫م م‬ ‫ح ح‬ ‫قال ّ‬
‫ِ ِ ٍ‬
‫مج ًيال (‪)49‬‬ ‫وه َّن سراحاً حِ‬
‫وه َّن حو حس ِّر مح م ح‬‫لح مك ْم حعلحْي ِه َّن م ْن عدَّة تح ْعتحدُّوّنحا فح حمتِّعم م‬
‫ال خالف بني العلماء يف أ ّن املراد ابلنكاح هنا العقد ‪ ،‬وال خالف بينهم أيضا يف أ ّن قيد اإلميان‬
‫هنا ليس لالحرتاز ‪ ،‬بل ملراعاة الغالب من حال املؤمنني أّنّم ال يتزوجون إال مبؤمنات ‪ ،‬ولإلشارة‬
‫إىل أنه ينبغي أن يقع اختيارهم يف الزواج على املؤمنات‪.‬‬
‫وكذلك اتفقوا على أنّه ليس املراد ابملس هنا حقيقته ‪ ،‬وهي إلصاق اليد ابجلسم ‪ ،‬وإال لزمت‬
‫العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده من غري مجاع وال خلوة‪.‬‬
‫ومل يقل بذلك أحد‪ .‬بل املراد ابملس اجلماع ‪ ،‬لشهرة الكناية به وابملماسة واملالمسة وحنوها عن‬
‫اجلماع يف لسان الشرع‪.‬‬
‫للتفجع‬
‫والعدة شرعا املدة اليت ترتبص فيها املرأة ملعرفة براءة رمحها من احلمل ‪ ،‬أو للتعبّد ‪ ،‬أو ّ‬
‫على زوج مات‪.‬‬
‫ومعىن تح ْعتحدُّوّنحا تعدوّنا عليهن ‪ ،‬أو تستوفون عددها عليهن‪.‬‬
‫واملتعة يف األصل االستمتاع ‪ ،‬وما يتمتع به ‪ ،‬ويف لسان أهل الشرع ما يعطيه الزوج ملطلقته‬
‫إرضاء هلا ‪ ،‬وختفيفا من شدة وقع الطالق عليها‪ .‬وبيان مقدار املتعة ونوعها قد تك ّفلت به كتب‬
‫الفروع‪.‬‬
‫وأصل التسريح إرسال املاشية لرتعى السرح ‪ ،‬وهو شجر عظيم ذو مثر‪ .‬مث توسع يف التسريح ‪،‬‬
‫فجعل لكل إرسال يف الرعي ‪ ،‬مث لكل إرسال وإخراج‪ .‬واملراد به هنا تركهن وعدم حبسهن يف‬
‫منزل الزوجية ‪ ،‬إذ ال سبيل للرجال عليهن بعد طالقهن‪.‬‬
‫والسراح اجلميل يكون مبجاملتهن ابلقول اللني ‪ ،‬وترك أذاهن ‪ ،‬وعدم حرماّنن ِما وجب هلن من‬
‫حقوق‪.‬‬
‫أخذ بعض العلماء من قوله تعاىل ‪ :‬إِذا نح حك ْحتمم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات ممثَّ طحلَّ ْقتم مم م‬
‫وه َّن أنّه ال طالق قبل النكاح‬ ‫م م‬
‫‪ ،‬فقول الرجل ‪ :‬كل امرأة أتزوجها فهي طالق ‪ ،‬أو إن تزوجت فالنة فهي طالق ‪ ،‬ال يع ّد طالقا ‪،‬‬
‫عم ‪،‬‬
‫أخص أم ّ‬
‫فإذا تزوج مل تطلق زوجته هبذه الصيغة اليت صدرت منه قبل النكاح ‪ ،‬سواء ّ‬
‫وسواء أجنز أم علّق‪.‬‬
‫اّلل عنهما أنه سئل عن ذلك فقال ‪ :‬هو ليس بشي ء ‪،‬‬
‫وقد أخرج مجاعة عن ابن عباس رضي ّ‬
‫اّلل أاب عبد‬
‫فقيل له ‪ :‬إ ّن ابن مسعود كان يقول ‪ :‬إن طلق ما مل ينكح فهو جائز ‪ ،‬فقال ‪ :‬رحم ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أيها الذين آمنوا إذا طلقتم املؤمنات مث نكحتموهن‬ ‫الرمحن ‪ ،‬لو كان كما قال لقال ّ‬
‫ولكن إمنا قال ‪ :‬إِذا نح حك ْحتمم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات ممثَّ طحلَّ ْقتم مم م‬
‫وه َّن وقد ذكر يف «الدر املنثور» وغريه من رواية‬ ‫م م‬
‫اّلل عنهم‬
‫علي وجابر ومعاذ وغريهم رضي ّ‬

‫ص ‪634 :‬‬
‫اّلل صلّى ا ّّلل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ال طالق قبل نكاح» «‪»1‬‬
‫عن رسول ّ‬
‫وهذا قول اجلمهور من الصحابة والتابعني ‪ ،‬وهو مذهب الشافعي وأمحد‪.‬‬
‫وقال احلنفية ‪ :‬الطالق يعتمد امللك أو اإلضافة إليه ‪ ،‬لكنه يف حال اإلضافة إىل امللك يبقى‬
‫معلّقا ‪ ،‬حىت حيصل شرطه الذي هو امللك ‪ ،‬فإذا قال لألجنبية ‪ :‬إن تزوجتك فأنت طالق ‪ ،‬كان‬
‫هذا تعليقا صحيحا للطالق على شرط النكاح ‪ ،‬فإذا حصل هذا الشرط وقع الطالق على فوره‬
‫‪ ،‬وكان طالقا يف امللك ابلضرورة ‪ ،‬فكأنّه أجنزه عليها حينذاك‪.‬‬
‫والفرق واضح بني تنجيز الطالق على األجنبية ‪ ،‬وبني تعليق طالقها على نكاحها ‪ ،‬فإ ّن األول‬
‫طالق مل حيصل يف امللك ‪ ،‬ومل يكن مضافا إليه‪ .‬أما الثاين فإ ّن وقوعه ال بد أن يصادف امللك‬
‫حيث كان معلقا عليه‪ .‬واحلنفية ال يشرتطون يف التعليق على امللك أن يكون صرحيا بصيغة من‬
‫املعول عليه عندهم أن يكون املعىن على التعليق ‪ ،‬فال فرق‬
‫الصيغ املعهودة يف التعليق ‪ ،‬بل ّ‬
‫عندهم بني التعليق اللفظي كأن يقال ‪:‬‬
‫إن تزوجت فالنة فهي طالق‪ .‬والتعليق املعنوي مثل ‪ :‬كل امرأة أتزوجها طالق‪ .‬غري أّنّم يشرتطون‬
‫يف التعليق املعنوي أال تكون املرأة معيّنة ابالسم أو ابإلشارة مثل ‪:‬‬
‫فالنة اليت أتزوجها طالق ‪ ،‬وهذه املرأة احلاضرة اليت أتزوجها طالق ‪ ،‬فإ ّن تعيني املرأة ابالسم أو‬
‫ابإلشارة يضعف معىن التعليق ‪ ،‬فتلتحق هااتن الصوراتن وما أشبههما ابلطالق الناجز ‪ ،‬والطالق‬
‫الناجز ال يقع يف غري امللك ابالتفاق‪.‬‬
‫عم مل يقع ‪ ،‬وإن مسّى شيئا بعينه امرأة أو جامعة إىل‬
‫اّلل عنه أنّه إن ّ‬
‫وقد حكي عن مالك رضي ّ‬
‫أجل وقع‪.‬‬
‫وحكي عنه أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجال يعلم أنه ال يبلغه كأن قال ‪ :‬إن تزوجت امرأة إىل مئة‬
‫سنة مل يلزمه شي ء ‪ ،‬وهذا الذي حكيناه عن احلنفية واملالكية منقول عن كثري من الصحابة‬
‫اّلل عليهم أمجعني ‪ ،‬على اختالف يف التفصيل ‪ ،‬ليس هذا حمل ذكره‪.‬‬ ‫والتابعني رضوان ّ‬
‫ويقول أصحاب هذا الرأي ‪ :‬إ ّن قوله تعاىل ‪ :‬إِذا نح حك ْحتمم الْم ْؤِم ِ‬
‫نات ممثَّ طحلَّ ْقتم مم م‬
‫وه َّن ال ينايف ما‬ ‫م م‬
‫ذهبنا إليه ‪ ،‬بل إنه ظاهر الداللة على صحة قولنا ‪ ،‬أل ّن اآلية حكمت بصحة وقوع الطالق بعد‬
‫النكاح‪ .‬ومن قال ألجنبية ‪ :‬إذا تزوجتك فأنت مطلّقة ‪ ،‬فهي طالق بعد النكاح ‪ ،‬فوجب بظاهر‬
‫اآلية إيقاع طالقه ‪ ،‬وإثبات حكم لفظه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 10 ، )660 /1‬كتاب الطالق ‪ - 17 ،‬ابب ال طالق قبل‬
‫النكاح حديث رقم (‪.)2048‬‬

‫ص ‪635 :‬‬
‫وأما‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال طالق قبل نكاح» «‪»1‬‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫‪ -‬فبعد تسليم صحته ‪ -‬ال ينايف ما ذهبنا إليه ‪ ،‬أل ّن من ذكران مطلّق بعد النكاح‪.‬‬
‫وقد روي عن الزهري يف هذا احلديث إمنا هو أن يذكر للرجل املرأة ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬تزوجها‪ .‬فيقول‬
‫فأما من قال ‪ :‬إن تزوجت فالنة فهي طالق البتة فإمنا‬
‫‪ :‬هي طالق البتة ‪ ،‬فهذا ليس بشىء‪ّ .‬‬
‫طلقها حني تزوجها‪.‬‬
‫مث إ ّن عطف الطالق يف اآلية على النكاح ب ممثَّ ال يدل على أ ّن احلكم خاص ابحلالة اليت يرتاخى‬
‫فيها الطالق عن النكاح ‪ ،‬فإنه ال فرق بني أن يقع مرتاخيا ‪ ،‬وأن يقع على الفور ‪ ،‬بل عدم‬
‫االعتداد يف صورة الفورية أوىل منه يف صورة الرتاخي‪.‬‬
‫وعلى هذا يكون التعبري ب ممثَّ للتنصيص على احلكم يف الصورة اليت قد يتوهم فيها وجوب العدة‬
‫‪ ،‬لطول املدة اليت هي مظنة املالقاة واملباشرة‪ .‬وهذا ظاهر إذا كانت كلمة ممثَّ ابقية على معناها‬
‫الوضعي ‪ ،‬مفيدة للرتاخي الزماين‪.‬‬
‫ويصح أن يراد منها الرتاخي يف الرتبة وبعد املنزلة ‪ ،‬فيستفاد منها أ ّن مرتبة الطالق بعيدة عن‬
‫ّ‬
‫مرتبة النكاح ‪ ،‬إذ إ ّن النكاح ترتتب عليه منافع كثرية ‪ ،‬ويثمر مثرات طيبة‪ .‬فأما الطالق فإنّه حيل‬
‫العقدة ‪ ،‬ويفصم العروة ‪ ،‬ويبطل ما بني الزوجني وأقارهبما من روابط وصالت‪ .‬وهلذا قال بعض‬
‫الفقهاء ‪ :‬إ ّن اآلية ترشد إىل أ ّن األصل يف الطالق احلظر ‪ ،‬وأنّه ال يباح إال إذا فسدت الزوجية ‪،‬‬
‫ومل تفلح وسائل اإلصالح بني الزوجني‪.‬‬
‫وظاهر التقييد بعدم املس ‪ -‬الذي عرفت أنّه كناية عن اجلماع ‪ -‬أ ّن اخللوة ولو كانت صحيحة‬
‫ال توجب ما يوجبه اجلماع من العدة بعد الطالق ‪ ،‬وهو قول الشافعي يف اجلديد‪ .‬أما احلنفية‬
‫واملالكية الذين يقولون أب ّن اخللوة الصحيحة كاجلماع فمن العسري ج ّدا أن حتمل اآلية على حممل‬
‫يساعدهم‪ .‬وقد حاول بعضهم أن جيعل املس كناية عن اخللوة أو عما يشمل اخللوة واجلماع ‪،‬‬
‫ولكن ذلك بعيد ‪ ،‬إذ مل يعرف ‪ ،‬ومل يشتهر إطالق املس على اخللوة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإذا فوجوب العدة ابخللوة عند من يقول بذلك ال بد له من دليل آخر ‪ ،‬وذلك‬
‫اّلل عليه وسلّم فيما رواه الدار قطين والرازي يف «أحكام القرآن» «من كشف مخار‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫امرأة ونظر إليها وجب الصداق ‪ ،‬دخل هبا أو مل يدخل»‪.‬‬
‫وقال ابن املنذر ‪ :‬إ ّن هذا قول عمر بن اخلطاب ‪ ،‬وعلي بن أيب طالب ‪ ،‬وزيد بن اثبت ‪ ،‬وعبد‬
‫اّلل بن عمر ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬ومعاذ ‪ ،‬وروي عن زرارة بن أيب أوىف أنّه‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪636 :‬‬
‫قال ‪ :‬قضى اخللفاء الراشدون املهديون أنه إذا أرخى الستور ‪ ،‬وأغلق الباب ‪ ،‬فلها الصداق‬
‫كامال ‪ ،‬وعليها العدة ‪ ،‬دخل هبا أو مل يدخل‪.‬‬
‫هذا وقد اختلف علماء احلنفية بعد االتفاق على وجوب العدة ابخللوة ‪ ،‬فمنهم من يقول ‪ :‬إّنّا‬
‫واجبة قضاء وداينة ‪ ،‬وإنّه ال حيل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعت ّد ما دامت اخللوة‬
‫ابألول صحيحة ‪ ،‬ولو من غري وقاع‪ .‬ومنهم من يقول ‪ :‬إنّه حيل هلا ذلك مىت كان الزوج مل‬
‫يواقعها ‪ ،‬فأما يف القضاء فال اعتبار إال ابلظاهر‪.‬‬
‫وظاهر اآلية أيضا أنه ال عدة على املرأة املدخول هبا إذا طلّقها زوجها رجعيا ‪ ،‬أو أابّنا بينونة‬
‫صغرى مث راجعها ‪ ،‬أو عقد عليها قبل انقضاء عدهتا ‪ ،‬مث طلقها قبل أن ميسها ‪ ،‬إذ إ ّن هذا‬
‫الطالق الثاين يصدق عليه أنه طالق قبل املس ‪ ،‬وبذلك قال أهل الظاهر‪ .‬فليس عليها عدة‬
‫تكمل العدة األوىل ‪ ،‬أل ّن‬
‫جديدة للطالق الثاين ألنّه طالق قبل املس ‪ ،‬كما أنّه ليس عليها أن ّ‬
‫الطالق الثاين قد أبطل الطالق األول‪ .‬مث يكون هلا نصف الصداق يف صورة البينونة ‪ ،‬والوجه‬
‫فيه ظاهر‪.‬‬
‫وقال بعض الفقهاء ومنهم عطاء والشافعي يف أحد قوليه ‪ :‬إنّه جيب على املرأة يف الصورتني أن‬
‫تبين على عدة الطالق األول ‪ ،‬وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة ‪ ،‬إذ الطالق الثاين ال عدة‬
‫له ‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن يبطل ما وجب ابلطالق األول ‪ ،‬فإنّه طالق بعد دخول ‪ ،‬جيب أن تراعى‬
‫فيه حكمة الشارع يف إجياب االعتداد ‪ ،‬وعلى الزوج نصف الصداق يف صورة البينونة ‪ ،‬كما‬
‫يقول أهل الظاهر‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري واألوزاعي ‪ :‬أنّه جيب على املرأة أن تستأنف عدة جديدة يف‬
‫مس وال‬
‫الصورتني ‪ ،‬أل ّن الطالق الثاين ‪ -‬وإن كان مل يفصل بينه وبني الرجعة أو العقد الثاين ّ‬
‫خلوة ‪ -‬ال يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على اإلطالق ‪ ،‬إذ املفروض أ ّن املرأة كان‬
‫مدخوال هبا من قبل ‪ ،‬وعلى الرجل يف صورة البينونة مهر كامل هلذا االعتبار‪.‬‬
‫الرجعي والبائن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأما املالكية فإّنّم يفرقون بني صوريت‬
‫فيقولون يف األوىل ‪ :‬إنّه جيب على املرأة أن تستأنف عدة كاملة ‪ ،‬إذ أّنّا يف حكم املوطوءة بعد‬
‫املراجعة‪.‬‬
‫أما يف صورة البائن فإ ّن النكاح بعد البينونة عقدة جديدة ‪ ،‬فالطالق بعدها يصدق عليه أنه‬
‫يصح أن يهدم ما وجب على املرأة ابلطالق ‪،‬‬
‫طالق قبل الدخول ‪ ،‬فال يوجب عدة ‪ ،‬لكنّه ال ّ‬
‫فعليها أن تكمل العدة األوىل ‪ ،‬وهلا على املطلّق نصف املهر‪ .‬فهم يوافقون أاب حنيفة يف صورة‬
‫الطالق الرجعي ‪ ،‬فيوجبون عدة كاملة ‪ ،‬وخيالفونه يف صورة البائن فيوجبون نصف املهر ‪،‬‬
‫وإكمال عدة الطالق األول‪.‬‬

‫ص ‪ 637 :‬وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فحما لح مك ْم حعلحْي ِه َّن ِم ْن ِعدَّةٍ تح ْعتحدُّوّنحا أ ّن العدة حيث جتب تكون‬
‫حقا للمطلّق ‪ ،‬وقد يقول بعض من يسري مع الظواهر ‪ :‬إ ّن العدة ح ّق خالص للمطلق ‪ ،‬فإنّه يغار‬
‫على ولده ‪ ،‬ويعنيه أال يسقى زرعه مباء غريه ‪ ،‬وكون العدة ال تسقط إذا أسقطها املطلّق ال يدل‬
‫على أّنا لسيت حقه ‪ ،‬إذ قد عهد يف الشريعة حقوق ال ميلك أصحاهبا إسقاطها كحق اإلرث‬
‫وحق الرجوع يف اهلبة وحق خيار الرؤية‪.‬‬
‫لكن املشهور عند الفقهاء أ ّن العدة ليست حقا خالصا للعبد ‪ ،‬فإ ّن منع الفساد ابختالط‬
‫األنساب من ح ّق الشارع أيضا‪.‬‬
‫اّلل وح ّق العبد وملا كانت منفعتها عائدة على العبد ‪ ،‬وكانت غرية‬
‫فالراجح أن العدة تعلّق هبا ح ّق ّ‬
‫الرجل مظنة أن تدفعه إىل أن حيول بني املرأة وحريتها يف أن تلتمس غريه من األزواج ‪ ،‬حىت يف‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل أبنه‬
‫هذه احلالة اليت مل حيصل فيها خلوة وال وقاع ‪ ،‬ملا كان ذلك كذلك خاطبه ّ‬
‫ال سبيل له على هذه املرأة ‪ ،‬وأنه جيب عليه أن خيلي سبيلها ابملعروف ‪ ،‬فال يكون يف اآلية داللة‬
‫على أ ّن العدة حق خالص للمطلق‪.‬‬
‫وه َّن راجع إىل املؤمنات الاليت طلّقن قبل أن ميسسن ‪،‬‬ ‫وظاهر أ ّن الضمري يف قوله تعاىل ‪ :‬فح حمتِّعم م‬
‫هلن أم ال‪ .‬فيكون ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فح حمتِّعم م‬
‫وه َّن إجياب املتعة للمطلقة قبل‬ ‫سواء أكن مفروضا ّ‬
‫الدخول ‪ ،‬سواء أفرض هلا مهر أم مل يفرض ‪ ،‬وهبذا الظاهر كان يقول احلسن وأبو العالية‪.‬‬
‫وقد أخرج عبد بن محيد عن احلسن أيضا أ ّن لكل مطلقة متاعا ‪ ،‬سواء أدخل هبا أم مل يدخل ‪،‬‬
‫وسواء أفرض هلا أم مل يفرض‪.‬‬
‫قات متاعٌ ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وف حح ًّقا‬ ‫ح ْم‬ ‫ْمطحلَّ ح‬ ‫الكل عمال بظاهر قوله تعاىل ‪ :‬حولل م‬ ‫وظاهر هذه الرواية الوجوب يف ّ‬
‫ولكن قوله تعاىل يف سورة البقرة ‪:‬‬ ‫ني (‪[ )241‬البقرة ‪ّ .]241 :‬‬ ‫حعلحى ال مْمت َِّق ح‬
‫ضتم ْم [البقرة ‪]237 :‬‬ ‫ف ما فح حر ْ‬ ‫ص م‬ ‫ضةً فحنِ ْ‬
‫ضتم ْم حهلم َّن فح ِري ح‬‫وه َّن حوقح ْد فح حر ْ‬
‫س م‬‫وه َّن ِم ْن قح ْب ِل أح ْن متحح ُّ‬
‫حوإِ ْن طحلَّ ْقتم مم م‬
‫مل جيعل لليت طلقت قبل الدخول وقد فرض هلا مهر إال نصف ما فرض هلا ‪ ،‬ومل جيعل هلا متعة ‪،‬‬
‫وه َّن أ ْحو تح ْف ِر م‬
‫ضوا حهلم َّن‬ ‫س م‬ ‫ناح عحلحْي مك ْم إِ ْن طحلَّ ْقتم مم النِّساءح ما حملْ متحح ُّ‬
‫أل ّن وروده يف مقابلة قوله تعاىل ‪ :‬ال مج ح‬
‫ِ‬
‫وس ِع قح حد مرهم حو حعلحى ال مْم ْقِ ِرت قح حد مرهم حمتاعاً ِابل حْم ْع مروف حح ًّقا حعلحى ال مْم ْح ِسنِ ح‬
‫ني‬ ‫وه َّن حعلحى الْم ِ‬
‫م‬ ‫ضةً حوحمتِّعم م‬ ‫فح ِري ح‬
‫(‪[ )236‬البقرة ‪ ]236 :‬جيعله كالبيان ملفهوم القيد الذي هو عدم الفرض ‪ ،‬فيكون كالصريح‬
‫يف أ ّن اليت طلقت قبل الدخول ومل يفرض هلا مهر ليس هلا متعة‪.‬‬
‫وقد علمت أ ّن ظاهر اآلية اليت معنا يوجب هلا املتعة ‪ ،‬فكان بني اآليتني تعارض يف ظاهرمها ‪:‬‬
‫وللعلماء يف دفع هذا التعارض طرق ‪:‬‬
‫خمصصة آلية األحزاب اليت معنا ‪ ،‬أو انسخة‬
‫فمنهم من جعل آية البقرة ّ‬

‫ص ‪638 :‬‬
‫لعمومها ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬فمتعوهن إن مل يكن مفروضا هلم [مهر عند عقد] النكاح‪.‬‬
‫خاص مبن مل يفرض هلا من املطلقات قبل‬ ‫فوجوب املتعة املستفاد من قوله تعاىل ‪ :‬فح حمتِّعم م‬
‫وه َّن ّ‬
‫الدخول ‪ ،‬دون من فرض هلا ‪ ،‬وهبذا قال ابن عباس ‪ ،‬وهو مذهب احلنفية والشافعية‪ .‬ويؤيّد‬
‫ذلك أن املتعة إمنا وجبت للمطلقة ‪ ،‬إلحياش الزوج إايها ابلطالق ‪ ،‬فإذا وجب للمطلقة قبل‬
‫الدخول نصف املهر كان ذلك جابرا لإلحياش ‪ ،‬فلم جتب هلا املتعة‪.‬‬
‫ومنهم من محل املتعة يف آية األحزاب على العطاء مطلقا ‪ ،‬فيعم نصف املفروض واملتعة املعروفة‬
‫تعرضت حلكم املطلقة قبل الدخول يف صورتيها ‪ ،‬فأوجبت هلا على‬
‫يف الفقه ‪ ،‬وتكون اآلية قد ّ‬
‫املطلّق شيئا تتمتّع به ‪ ،‬وتزول به وحشتها ‪ ،‬إال أن ذلك الشيء يف صورة الفرض مق ّدر بنصف‬
‫املفروض ابلنص ‪ ،‬ويف صورة عدم الفرض غري مق ّدر ‪ ،‬فإن اتفقا على شيء فذاك ‪ ،‬وإال ق ّدرها‬
‫القاضي بنظره واجتهاده ‪ ،‬معتربا حاهلما إيسارا وإعسارا ‪ ،‬وما يليق بنسب املرأة وكرامتها‪.‬‬
‫ومنه من محل األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬فح حمتِّعم م‬
‫وه َّن على اإلذن الشامل للوجوب والندب ‪ ،‬مع بقاء‬
‫تعرضت حلكم املطلقة قبل الدخول يف صورتيها‬
‫املتعة على معناها املعروف ‪ ،‬فتكون اآلية قد ّ‬
‫أيضا ‪ ،‬إال أنّه يف صورة عدم الفرض يكون التمتيع واجبا ‪ ،‬لقوله تعاىل يف هذه الصورة خبصوصها‬
‫ضةً حوحمتِّعم م‬
‫وه َّن ‪ ...‬ويف صورة‬ ‫ضوا حهلم َّن فح ِري ح‬
‫وه َّن أ ْحو تح ْف ِر م‬
‫س م‬‫ناح عحلحيْ مك ْم إِ ْن طحلَّ ْقتم مم النِّساءح ما حملْ متحح ُّ‬
‫‪ :‬ال مج ح‬
‫الفرض الصحيح يكون التمتيع مستحبّا ‪ ،‬ألنّه من الفضل املندوب إليه بقوله تعاىل يف هذه‬
‫ض حل بح ْي نح مك ْم وقد تق ّدم لك ما يف ذلك‬ ‫س موا الْ حف ْ‬ ‫الصورة خبصوصها ‪ :‬وأح ْن تحع مفوا أحقْر ِ‬
‫ب للتَّ ْقوى حوال تح ْن ح‬ ‫ح م‬ ‫ح ْ‬
‫يف تفسري سورة البقرة‪.‬‬
‫ك ِِمَّا‬ ‫ت حميِينم ح‬‫ور مه َّن حوما حملح حك ْ‬
‫مج ح‬‫تأم‬ ‫الالِيت آتحيْ ح‬ ‫ك َّ‬ ‫واج ح‬
‫حك أح ْز ح‬
‫ححلحلْنا ل ح‬ ‫َّيب إِ َّان أ ْ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها النِ ُّ‬ ‫قال ّ‬
‫ك َّ‬ ‫نات خاالتِ ح‬ ‫ك وب ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫نات حع َّماتِ ح‬
‫ك وب ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك‬ ‫الالِيت ح‬
‫هاج ْر حن حم حع ح‬ ‫ك حوبحنات خال ح ح ح‬ ‫ك حوبحنات حع ّم ح ح ح‬ ‫أحفاءح َّ‬
‫اّللم حعلحْي ح‬
‫حك ِمن مد ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت نح ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني‬ ‫صةً ل ح ْ‬ ‫َّيب أح ْن يح ْستح ْنك ححها خال ح‬ ‫َّيب إِ ْن أحر ح‬
‫اد النِ ُّ‬ ‫سها للنِ ِّ‬ ‫حو ْام حرأحةً مم ْؤمنحةً إ ْن حو حهبح ْ ح‬
‫ج حوكا حن َّ‬
‫اّللم‬ ‫ك حح حر ٌ‬ ‫ت أ ْحميا مّنم ْم لِ حك ْيال يح مكو حن حعلحْي ح‬ ‫ضنا حعلحْي ِهم ِيف أح ْز ِ‬
‫واج ِه ْم حوما حملح حك ْ‬ ‫ْ‬ ‫قح ْد حعلِ ْمنا ما فح حر ْ‬
‫غح مفوراً حرِحيماً (‪ )50‬الكالم على ربط اآلية مبا قبلها واضح ّبني‪ .‬فقد كان الكالم هناك يف أنكحة‬
‫حيل له نكاحهن ‪ ،‬وأحكام‬
‫اّلل عليه وسلّم الاليت ّ‬
‫املؤمنني‪ .‬وأحكامها‪ .‬وهنا يف نساء النيب صلّى ّ‬
‫أخرى تتبع النكاح‪.‬‬
‫واملراد من األجور هنا ‪ :‬املهور والصدقات‪ .‬ومسيت الصدقات أجورا يف هذا املوضع وغريه من‬
‫القرآن الكرمي ملا يظهر للناس ابدئ الرأي أ ّن يف العقد تقابال بني‬

‫ص ‪639 :‬‬
‫املنفعة واملهر‪ .‬وذلك كاف يف تصحيح إطالق اسم األجر على املهر ‪ ،‬وقد قلنا يف ابدئ الرأي ‪،‬‬
‫نب لح مك ْم حع ْن حش ْي ٍء ِم ْنهم نح ْفساً فح مكلموهم حهنِيئاً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص مدقاهتِِ َّن ْحنلحةً فحِإ ْن ط ْح‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪ :‬حوآتموا النّساءح ح‬
‫أل ّن ّ‬
‫حم ِريئاً (‪[ )4‬النساء ‪ ]4 :‬والنحلة العطية‪.‬‬
‫وإنك لرتى الفقهاء قاطبة يف مواضع كثرية يقولون ‪ :‬املهر ليس يف مقابلة البضع ‪ ،‬وال يف مقابلة‬
‫املنفعة ‪ ،‬وال هو يف مقابلة االنتفاع ‪ ،‬إمنا هو بدل وعطية إلظهار خطر احملل وشرفه‪ .‬على أنّك‬
‫ترى أ ّن حقيقة األجرة ال متشي مع املهر خطوات كثرية ‪ ،‬فاألجرة يف مقابلة املنفعة تنقسم عليها‬
‫‪ ،‬وتتجزأ معها حبسب الزمن ‪ ،‬وليس كذلك املهر ‪ ،‬حيث جيب نصفه ابلطالق بعد العقد قبل‬
‫املس ‪ ،‬وجيب كله يف غري هذه ‪ ،‬وال عربة مبرات االنتفاع كثرة وقلّة ‪ ،‬بل املرة الواحدة كالذي ال‬
‫يتناهى من املرات‪ .‬وأنت تعرف أ ّن اخللوة الصحيحة مرة واحدة توجب املهر كامال عند احلنفية ‪،‬‬
‫تكرر‪.‬‬
‫فهل ترون أن الرجل انتفع ‪ ،‬وأ ّن انتفاعه ّ‬
‫وقد جاء يف اآلية الكرمية عدة قيود ‪ ،‬ما أريد بواحد منها إال التنبيه على احلالة الكرمية الفاضلة ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ابلاليت آتى أجورهن ‪ ،‬فإنه تنبيه على احلالة‬
‫منها ‪ ،‬وصف أزواج النيب صلّى ّ‬
‫الكاملة ‪ ،‬فإن األكمل إيتاء املهر كامال دون أن يتأخر منه شيء‪ .‬وما الذي عليه الناس من أتخري‬
‫بعض املهر إال شيء أحدثه العرف ‪ ،‬واقتضاه احلذر بعد أن فسد حال الناس ‪ ،‬واقتضاه التغايل‬
‫يف املهور أو الظهور مبظهر املغاالة فيها‪ .‬وإذا كان الفقهاء قد جعلوا للمرأة ح ّق االمتناع من‬
‫متكني الزوج حىت أتخذ املهر كامال‪ .‬فال يكون األليق أن يدفع املهر كامال حىت ال يظهر الرجل‬
‫مبظهر من يريد استحالل الفروج ابجملان‪ .‬ويقول العلماء ‪ :‬إ ّن تعجيل املهور كان سنة السلف ‪ ،‬ال‬
‫يعرف منهم غريه ‪ ،‬وقد شكا بعض الصحابة عدم قدرته على التزوج‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أين درعك احلطمية» «‪.»1‬‬
‫فقال له صلّى ّ‬
‫يكن من الفيء من هذا القبيل ‪ ،‬فإ ّن اململوكة إذا كانت غنيمة‬
‫ومنها أن ختصيص اململوكات أبن ّ‬
‫أحل وأطيب ِما يشرتى من اجللب ‪ ،‬ألن تلك ظاهرة احلال ‪ ،‬معروفة‬
‫من أهل احلرب كانت ّ‬
‫النشأة‪.‬‬
‫ك وال شك أن من هاجرت مع النيب‬
‫هاج ْر حن حم حع ح‬ ‫ومن تلك القيود قيد اهلجرة يف قوله ‪َّ :‬‬
‫الالِيت ح‬
‫اّلل عليه وسلّم ِمن عداها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أوىل بشرف زوجية النيب صلّى ّ‬
‫صلّى ّ‬
‫وإمنا قلنا الذي قلنا حىت ال خنوض فيما خاض فيه املفسرون من أشياء ال تغين من احلق شيئا ‪،‬‬
‫ور مه َّن أن املمهورات من نساء النيب صلّى‬
‫مج ح‬
‫تأم‬ ‫فقد حاولوا أن أيخذوا من قوله تعاىل ‪َّ :‬‬
‫الالِيت آتح ْي ح‬
‫مهرهن كلّه معجال وأن تعجيل املهر كان‬
‫ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم قد أخذن‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )440 /6 - 5‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب حتلة اخللوة حديث رقم‬
‫(‪.)3375‬‬

‫ص ‪640 :‬‬
‫واجبا عليه‪ .‬ملا ذا؟ ألن الفقهاء قالوا ‪ :‬إن املراد يف حل من عدم التمكني حىت أتخذ املهر‪ .‬ولو‬
‫لكن يف حل من حق االمتناع ‪ ،‬وهو لو طلبهن‬
‫اّلل عليه وسلّم مهور نسائه ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫يعجل ّ‬‫مل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم هكذا يقرر املفسرون‬
‫ما كان هلن حق االمتناع ‪ ،‬ألنه عصيان ألمر الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ألن الفقهاء قالوا ‪ ،‬وبعد تسليم الذي‬
‫حكما ‪ :‬هو الوجوب على الرسول صلّى ّ‬
‫قالوا ‪ ،‬كيف يكون االمتناع يف هذه احلالة معصية؟!! وهو مقرر بقاعدة شرعية هي اليت نقلتموها‬
‫كن‬
‫عن الفقهاء!! وكذلك نريد أن خنرج ِما خاضوا فيه من حبث أن اململوكات من غري الفيء هل ّ‬
‫حالال له أو ال؟ وإنك لتعجب حني تراهم يقولون ‪ :‬هل كانت حتته ِملوكات من غري هذا النوع‬
‫أو مل يكن؟ مث يقررون أنه مل يكن!! وإذا سئلوا عن مارية قالوا ‪ :‬إ ّن هدية احلربيني مبنزلة الفيء‪.‬‬
‫وكان خريا هلم من هذا أن يبحثوا املسألة من الوجهة التارخيية ‪ ،‬وال يكتفوا بسرد رواية ال يعلم‬
‫اّلل‪.‬‬
‫مدى صحتها إال ّ‬
‫وأعجب من هذا أنّك تسمعهم يروون أن من بني أزواجه زينب بنت خزمية األنصارية ‪ ،‬وهي اليت‬
‫حمرمات عليه أوال قبل التحرمي‬
‫كن ّ‬‫أبم املساكني‪ .‬مث خيوضون يف أ ّن غري املهاجرات ّ‬
‫كانت تعرف ّ‬
‫والتحليل‪.‬‬
‫احبثوا الذي وقع واعرفوه ‪ ،‬مث قولوا ‪ :‬هل الذي وقع كان واجبا ال معدى عنه ‪:‬‬
‫أم كان التزاما للحالة الفضلى؟ هذا إذا ثبت أن مجيع نسائه كن مهاجرات‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل لنبيه صلّى ّ‬
‫وأشد عجبا من ذلك كله خوضهم يف املراد ابألزواج الاليت أحلّهن ّ‬
‫كن يف عصمته ‪ :‬كعائشة وحفصة ِمن تزوجها مبهر‪.‬‬
‫هن من ّ‬
‫‪ ،‬فيقولون ‪ّ :‬‬
‫ويزعمون أن الذي يلجئهم إليه هو دفع التعارض بني هذا ‪ ،‬وبني قوله تعاىل بعد ذلك ‪:‬‬
‫ك مح ْسنم مه َّن‪.‬‬ ‫َّل هبِِ َّن ِم ْن أح ْز ٍ‬
‫واج حول ْحو أح ْع حجبح ح‬ ‫حك النِّساءم ِم ْن بح ْع مد حوال أح ْن تحبحد ح‬
‫ال حِحي ُّل ل ح‬
‫ولو أّنم محلوا اإلحالل على اإلذن العام ابلنكاح من هذه األصناف األربعة ‪:‬‬
‫املمهورات ‪ ،‬واململوكات ‪ ،‬واألقارب ‪ ،‬والواهبات أنفسهن من غري مهر ‪ ،‬مث جييء قوله تعاىل ‪ :‬ال‬
‫َّل هبِِ َّن ِم ْن أح ْز ٍ‬
‫واج ملزما ابلوقوف عند ما انتهى إليه من‬ ‫حك النِّساءم ِم ْن بح ْع مد حوال أح ْن تحبحد ح‬
‫حِحيلُّ ل ح‬
‫يعدوهن ‪ ،‬كما أابح النساء للناس ‪ ،‬مث ّبني هلم الوقوف عند األربع من غري احملرمات‬ ‫ّ‬ ‫الزوجات ال‬
‫أبسباب التحرمي ‪ ،‬لو أّنم فعلوا ذلك ملا كان للذي ظنوه من التعارض أي أثر‪ .‬وملا كانوا يف‬
‫حاجة إىل أن حيملوا بنات العم وبنات العمات على القرشيات ‪ ،‬وبنات اخلال وبنات اخلاالت‬
‫على أقاربه من بين زهرة‪.‬‬
‫ولكن الذي أجلأهم إىل ذلك هو أّنم مل جيدوا يف نسائه واحدة من بنات عمه ‪ ،‬وبنات عماته مل‬
‫ّ‬
‫يكن منهن إال زينب ‪ ،‬وهذا الذي ذهبوا إليه إن نفعهم يف بنات العمومة ال‬

‫ص ‪ 641 :‬جي دون له أثرا يف بنات اخلئولة ‪ ،‬فهو مل يتزوج واحدة من بنات خاله وخاالته‪.‬‬
‫ولقد كان يغين عن هذا كله ذكر وصف القرابة ‪ ،‬لكن األمر ليس كما ذهب إليه املفسرون وإمنا‬
‫هو تعداد لألصناف اليت يباح له أن يتزوج منها على الوجه الكامل‪.‬‬
‫كما ّبني للناس ما فرضه عليهم يف أزواجهم يف غري هذا املوضع‪.‬‬
‫ولو متشينا معهم إىل آخر اآلية ملا استطعنا أن منشي يف الواهبات أنفسهن ‪ ،‬فقد نصوا على أ ّن‬
‫الصحيح أنه مل يكن فيمن كان حتته من النساء من وهبت نفسها ‪ ،‬قال أبو بكر ابن العريب ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم امرأة موهوبة‪.‬‬
‫وروي عن ابن عباس وجماهد أّنما قاال ‪ :‬مل يكن عند النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ووقوفها عليه ‪ ،‬وهبتها‬
‫وقد بيّنا احلديث الصحيح يف جميء املرأة إىل النيب صلّى ّ‬
‫وصح نقله‪ .‬والذي‬
‫نفسها له من طريق سهل وغريه يف «الصحاح» وهو القدر الذي ثبت سنده ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ :‬وهبت نفسي لك ‪ ،‬فسكت عنها ‪ ،‬حىت قام‬
‫يتحقق أّنا ملا قالت للنيب صلّى ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬إن مل تكن لك هبا حاجة «‪ .»1‬إخل القصة انتهى ما أردان‬
‫رجل فقال ‪ :‬زوجنيها اي رسول ّ‬
‫نقله عن ابن العريب «‪.»2‬‬
‫وإىل هنا يتضح أ ّن املراد ابإلحالل ‪ :‬اإلذن العام ‪ ،‬والتوسعة يف الزواج من هذه األصناف ‪،‬‬
‫منهن من تقتضي احلكمة الزواج منها‪.‬‬
‫واإلابحة له يف أن خيتار ّ‬
‫ولعلك هبذا الذي ذكران تستغين عن الكالم يف تفسري اآلية من جديد‪ .‬فهو أن هناك أشياء تكلّم‬
‫فيها املفسرون ‪ ،‬ال نرى أبسا من التعرض هلا قبل الكالم فيما ذكروا من أحكام ‪ ،‬قالوا إّنا تتصل‬
‫ابآلية ‪:‬‬
‫فقد عرض املفسرون للحكمة يف إفراد العم واخلال ‪ ،‬ومجع العمة واخلالة‪.‬‬
‫َّيب أح ْن يح ْستح نْكِ ححها هل هو شرط يف الشرط األول ‪ ،‬أو‬ ‫‪ -‬كما تكلموا عن الشرط الثاين إِ ْن أحر ح‬
‫اد النِ ُّ‬
‫يف مشروط الشرط األول ‪ :‬وهو اإلحالل‪.‬‬
‫صةً فقالوا ‪ :‬هل يرجع إىل املرأة املؤمنة ‪ ،‬أو ملا قبله مجيعا ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬ولقد تكلموا يف قوله تعاىل ‪ :‬خال ح‬
‫وسنذكر هذا على الرتتيب فنقول‪.‬‬
‫قال املفسرون ‪ :‬إن املراد من بنات العم والعمة ‪ :‬القرشيات ‪ ،‬فإنّه يقال للقرشيني قربوا أن بعدوا‬
‫أعمامه عليه الصالة والسالم ‪ ،‬ويقال للقرشيات قربن أم بعدن عماته‪.‬‬
‫واملراد من بنات اخلال واخلالة البنات من بين زهرة‪ .‬إطالق العم والعمة ‪:‬‬
‫على أقارب الشخص من جهة أبيه ‪ ،‬واخلالة واخلال على األقارب من جهة األم ‪ ،‬أمر جرى به‬
‫العرف‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 16 ، )1040 /2‬كتاب النكاح ‪ - 13 ،‬ابب الصداق‬
‫حديث رقم (‪ ، )1425 /76‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 67 ، )168 /6‬كتاب النكاح ‪51 ،‬‬
‫‪ -‬ابب التزويج حديث رقم (‪.)5149‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪].....[ .)1546 /3‬‬

‫ص ‪642 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ست من القرشيات ‪ ،‬ومل تكن حتته زهرية قط‪ .‬وذلك‬
‫وقد كان حتت النيب صلّى ّ‬
‫يرشد إىل أ ّن املراد من اإلحالل اإلذن يف العقد على هؤالء ‪ ،‬دون أن يستدعي وقوعه‪.‬‬
‫وإذا محل العم والعمة على ما هو املعروف ‪ ،‬وكذا اخلال واخلالة كان اإلحالل أيضا مراد منه‬
‫ذلك‪ .‬ألنّه مل يكن من بنات أعمامه حتته أحد ‪ ،‬وكذا من بنات خؤولته ‪ ،‬ومل يكن من بنات عمته‬
‫معه إال زينب بنت جحش‪.‬‬
‫مث قالوا يف احلكمة يف إفراد العم واخلال ومجع العمة واخلالة كالما كثريا ‪ ،‬بل إ ّن من العلماء من‬
‫ألف يف ذلك كتااب برأسه ‪ ،‬فمنهم من زعم أن العم واخلال مل جيمعا لوقوعهما على وزن املصدر ‪،‬‬
‫وهو ال جيمع‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل إن عدم اجلمع يف العم واخلال جاء على األصل من إرادة العموم عند اإلضافة ‪ ،‬وأما‬
‫العمة واخلالة وإن كانتا مضافني فجمعا ملكان اتء الوحدة فيهما ‪ ،‬وهي أتّب العموم يف الظاهر‬
‫وت [النور ‪ ]61 :‬ال يسأل‬ ‫وت أح ْع ِ‬
‫مام مكم أحو ب ي ِ‬ ‫ومجع الكل يف سورة النور يف قوله تعاىل ‪ :‬أحو ب ي ِ‬
‫ْ ْ مم‬ ‫ْ مم‬
‫عن علته ‪ ،‬جمليئه على األصل يف نسق واحد‪.‬‬
‫عم واحد حتل بناته‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ومل يكن له إال ّ‬
‫ويرى بعضهم أ ّن اخلطاب ملا كان للنيب صلّى ّ‬
‫له ‪ ،‬وهو أبو طالب ‪ ،‬أما محزة والعباس فقد كاان أخويه من الرضاعة ‪ ،‬فقد أفرد العم من أجل‬
‫ألّنن كثريات‪.‬‬
‫ذلك ‪ ،‬ومجعت العمات ّ‬
‫ويرى البعض أن الذي جرى هنا من اإلفراد يف العم جرى على حنو مألوف العرب ‪ ،‬فإنك ال‬
‫تكاد جتد يف كالم العرب العم مضافا إليه االبن أو البنت مفردين أو جمموعني إال مفردا ‪ ،‬كما‬
‫قيل ‪:‬‬
‫إن بين عمك فيهم رماح‪.‬‬
‫وكما قيل ‪:‬‬
‫العم اي سلمى‪.‬‬
‫قالت بنات ّ‬
‫وجاء الكالم يف اخلال واخلالة على مثاله ‪ ،‬ويف هذا القدر كفاية‪.‬‬
‫َّيب أح ْن يح ْستح نْكِ ححها‬ ‫َّيب إِ ْن أحر ح‬
‫اد النِ ُّ‬ ‫ت نح ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫سها للنِ ِّ‬
‫وأما الشرطان يف قوله تعاىل ‪ :‬حو ْام حرأحةً مم ْؤمنحةً إ ْن حو حهبح ْ ح‬
‫فقد قالوا ‪ :‬إ ّن الشرط الثاين شرط يف األول ‪ ،‬فتكون هبة املرأة نفسها ال تستلزم احلل ّإال إذا‬
‫وجدت إرادة االستنكاح ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ ّن هذه اإلرادة تكون جارية جمرى القبول ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫السني والتاء للطلب ‪ ،‬فتكون اإلرادة مبعىن الرغبة اليت تسبق العقد ‪ ،‬مث اهلبة واالستنكاح يكون‬
‫بعد‪.‬‬
‫يقررون هنا قاعدة حاصلها ‪ :‬أنّه إذا اجتمع شرطان فالثاين شرط يف األول متأخر عنه يف‬
‫مث إّنّم ّ‬
‫خمال بتفسري اإلرادة‬
‫اللفظ متقدم عليه يف الوجود ‪ ،‬وهذه القاعدة لو سلمت هلم لكان ذلك ّ‬
‫ابلقبول ‪ ،‬ألن القبول ال يكون إال بعد اإلجياب ‪ ،‬وعلى ذلك يلزم‬

‫ص ‪643 :‬‬
‫أن يقال ‪ :‬إن القاعدة أغلبية ‪ ،‬وأن اآلية جرت على خالف الغالب ‪ ،‬ولكن من أين هلم هذه‬
‫يضر لو أ ّن جمموع الشرطني جعال قيدين يف اإلحالل ‪ ،‬سبق الثاين يف الوجود‬
‫القاعدة؟ وما الذي ّ‬
‫أو أتخر ‪ ،‬خصوصا وقد ذهب إىل هذا الذي نقول طائفة كبرية من العلماء يف مقدمتهم إمام‬
‫احلرمني‪.‬‬
‫وحنب أن نقول ‪ :‬إ ّن أكثر العلماء على أ ّن اهلبة وقعت من كثري من النساء ‪ ،‬وقد وردت رواايت‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫يصححون أنّه مل يكن حتته صلّى ّ‬
‫كثرية يف أشخاص الواهبات‪ .‬غري أّنّم مع ذلك ّ‬
‫امرأة وهبت نفسها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ووهب‬
‫وقد أخرج ابن سعد أ ّن ليلى بنت احلطيم وهبت نفسها للنيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم قبل منهن أحدا‪.‬‬
‫أنفسهن ‪ ،‬فلم نسمع أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬ ‫نساء‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وقد روى ابن جرير «‪ »1‬وغريه عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬مل يكن عند ّ‬
‫امرأة وهبت نفسها‪.‬‬
‫حك ِمن مد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني فقد ذهب بعضهم إىل أن (خالصة) منصوب‬ ‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫صةً ل ح ْ‬
‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬خال ح‬
‫على املصدرية‪ .‬وقد جاء املصدر على هذا الوزن كثريا ‪ :‬كالعافية ‪ ،‬والكاذبة‪ .‬مث هو يرجع إىل‬
‫إحالل الواهبة ‪ ،‬أي أحللنا لك الواهبة خيلص لك ذلك خلوصا‪ .‬وذهب بعضهم إىل أن‬
‫(خالصة) حال من امرأة ‪ ،‬أي أحللنا لك امرأة وهبت نفسها حال كوّنا خالصة لك ‪ ،‬ال حتل‬
‫ألحد بعدك‪.‬‬
‫كل ما تقدم على أن ختتص هبن ‪،‬‬
‫ويرى البعض أنه راجع إىل مجيع احمللالت ‪ ،‬واملعىن أحللنا لك ّ‬
‫ال يكون ألحد بعدك أن ينكحهن‪.‬‬
‫واج ِه ْم حوما حملح حك ْ‬
‫ت أ ْحميا مّنم ْم فهو مجلة اعرتاضية‬ ‫ْ‬ ‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬قح ْد حعلِ ْمنا ما فح حر ْ‬
‫ضنا حعلحْي ِهم ِيف أح ْز ِ‬
‫جيء هبا لتوكيد مضمون اجلملة قبلها‪ .‬واملعىن ‪ :‬أن ما ذكرانه حكمك مع نسائك ‪ ،‬وأما حكم‬
‫أمتك مع نسائهم ‪ ،‬فعندان علمه ‪ ،‬نبينه هلم على حسب ما تقضي به احلكمة واملصلحة يف‬
‫شأّنم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف أزواجه من الشؤون‬
‫يظن أ ّن ما جاز للنيب صلّى ّ‬
‫واحتيج إىل هذا هنا حىت ال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف النكاح ويف التسري خصائص ليست لغريه ‪،‬‬
‫جيوز ألمته ‪ ،‬وقد كان للنيب صلّى ّ‬
‫اّلل‬
‫فهو يزيد يف النساء إىل التسع ‪ ،‬وغريه ال يباح له الزايدة على األربع ‪ ،‬واختص النيب صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم بنكاح الواهبات دون الناس‪.‬‬
‫اّلل على الناس يف أزواجهم أال جياوزوا أربعا من النساء ‪ ،‬والويل ‪ ،‬والشهود ‪ ،‬واملهر‬
‫والذي فرضه ّ‬
‫‪ ،‬والنفقة ‪ ،‬والكسوة ‪ ،‬على ما يف بعض ذلك من خالف بني الفقهاء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)17 /22‬‬

‫ص ‪644 :‬‬
‫اّلل للناس يف شأن األزواج واململوكات ‪ِ ،‬ما‬
‫ضحته كتب الفروع ‪ ،‬إىل غري ذلك ِما فرض ّ‬
‫وّ‬
‫اّلل أن فيه صالح العباد يف‬
‫اقتضت احلكمة اإلهلية أن يكون غري شأن النيب يف النساء ‪ ،‬وما علم ّ‬
‫هذا الشأن أيضا‪.‬‬
‫ج قيل متعلّق أبحللنا ‪ ،‬وهو راجع إىل مجيع ما ذكر‪.‬‬ ‫لِ حك ْيال يح مكو حن حعلحْي ح‬
‫ك حح حر ٌ‬
‫أجورهن من النساء واململوكات واألقارب والواهبة لندفع عنك‬
‫ّ‬ ‫واملعىن ‪ :‬أحللنا لك من آتيت‬
‫فتتفرغ لتبليغ الرسالة‪.‬‬
‫احلرج الذي يلحقك ّ‬
‫وقيل ‪ :‬هو متعلق خبالصة ‪ ،‬أو بعاملها ‪ ،‬أي خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك ‪ ،‬لكيال‬
‫يكون عليك حرج ‪ ،‬فال تبحث عن مهر ‪ ،‬وال تسعى يف تدبريه‪.‬‬
‫ويروي بعض احملققني أنه متعلق مبحذوف ‪ ،‬أي بينا هذا البيان حىت خترج من احلرج ‪ ،‬وِما يظن‬
‫الناس أتثيمك فيه ‪ ،‬ومىت علموا أنّك تصدر يف الذي تفعل عن وحي ربك اندفع الذي ظنوا ‪،‬‬
‫وكفيت االعرتاض والتأثيم‪.‬‬
‫اّللم غح مفوراً حرِحيماً يغفر للناس ما ال ميكنهم التحرز عنه ‪ ،‬رحيما هبم ‪ ،‬يدفع عنهم احلرج‬
‫حوكا حن َّ‬
‫والعنت‪.‬‬
‫األحكام‬
‫اّلل تعاىل لنبيه توسعة عليه ‪ ،‬وتيسريا له يف نشر الرسالة ‪ ،‬صنوفا من النساء ‪ ،‬صنفا يدفع له‬
‫أحل ّ‬
‫ّ‬
‫املهر ‪ ،‬وصنفا يتمتع به مبلك اليمني ‪ ،‬وصنفا من أقاربه ‪ ،‬وصنفا رابعا ينكحه دون مهر ‪ ،‬بعد أن‬
‫اّلل عليه‬
‫خاص ابلنيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ويتم القبول ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫هتب املرأة نفسها للنيب صلّى ّ‬
‫وسلّم جيوز له ‪ ،‬وال جيوز ألحد من املؤمنني‪.‬‬
‫رجحه العلماء من جعل اخلصوصية يف نكاح اهلبة ‪ ،‬وإن‬
‫ذلك هو حمصول اآلية الكرمية على ما ّ‬
‫اختلفوا يف مرجح اخلصوصية يف هذا النكاح على ما أييت بيانه‪.‬‬
‫ور مه َّن حجة يف عقد‬
‫مج ح‬
‫تأم‬
‫وقد أراد الكرخي أن أيخذ من تسميته املهر أجرا يف قوله تعاىل ‪ :‬آتح ْي ح‬
‫ولعل مستند الكرخي يف‬
‫النكاح بلفظ اإلجارة ‪ ،‬ومل يتابعه سائر احلنفية يف هذا الذي ذهب إليه‪ّ .‬‬
‫اّلل قد مسّى املهر أجرا ‪ ،‬واألجر جيب بعقد يتح ّقق بلفظ اإلجارة ‪ ،‬فيصح النكاح بلفظ‬
‫هذا أ ّن ّ‬
‫اإلجارة‪.‬‬
‫وليس هذا يصح مستندا ‪ ،‬فاحلنفية وهم الذين يقولون ‪ :‬إ ّن العربة يف العقود للمعاين ‪ ،‬يقولون ‪:‬‬
‫إ ّن معىن اإلجارة يتناىف مع عقد النكاح ‪ ،‬إذ النكاح مبين على اإلطالق ‪ ،‬والتوقيت يبطله ‪،‬‬
‫وعقد اإلجارة مبين على التوقيت ‪ ،‬حىت لو أطلق املتعاقدان العقد عن التوقيت كان مؤقتا ‪،‬‬
‫يصح جعل ما هو موضوع للتوقيت داال على ما يبطله‬
‫ويتجدد العقد ساعة فساعة ‪ ،‬فكيف ّ‬
‫التوقيت‪.‬‬

‫ص ‪ 645 :‬وشيء آخر ‪ :‬وهو أ ّن اإلجارة عقد على املنافع بعوض‪ .‬وبعبارة أخرى هي متليك‬
‫املنافع بعوض‪.‬‬
‫فرعوا الفروع على ما قالوا ‪ :‬إ ّن النكاح ليس عقد متليك ‪ ،‬وإمنا هو استباحة ‪،‬‬
‫ويقول احلنفية وقد ّ‬
‫ومها خمتلفان يف اآلاثر‪.‬‬
‫يصرحون أب ّن املهر يف النكاح ليس عوضا ‪ ،‬وإمنا هو عطية‬
‫وفرق آخر ‪ :‬هو أ ّن «‪ »1‬احلنفية ّ‬
‫صح النكاح مع النص فيه على ترك املهر ‪ ،‬وجيب‬
‫اّلل تعاىل إظهارا خلطر احملل ‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أوجبها ّ‬
‫مهر املثل ابلدخول ‪ ،‬ولو كان عوضا ملا صح تركه ‪ ،‬فضال عن النص عن اإلسقاط ‪ ،‬ولو سلّم‬
‫أن النكاح يقتضي التمليك فال يصح أن يعقد بلفظ اإلجارة ‪ ،‬حىت ال يلتبس األمر بعقد املتعة‬
‫الدال على التوقيت‪.‬‬
‫الباطل ‪ ،‬وما ينشأ اللبس إال من لفظ اإلجارة ّ‬
‫وما كانت تسمية املهر أجرا لتستلزم هذا الذي ذهب إليه الكرخي ‪ ،‬وقد بينا لك فيما تقدم‬
‫املسوغ هلذا ‪ ،‬وهو ما يبدو من شبه بني األجر واملهر ‪ ،‬واملسألة يف هذا سهلة ‪ ،‬فاحلنفية كلهم‬
‫ّ‬
‫على غري ما يرى الكرخي‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‪ .‬فقال‬
‫وِما جرى اخلالف فيه بني الفقهاء عقد النكاح بلفظ اهلبة لغري النيب صلّى ّ‬
‫أبو حنيفة ‪ ،‬وأبو يوسف ‪ ،‬وزفر ‪ ،‬وحممد ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬واحلسن بن صاحل ‪ :‬جيوز ‪ ،‬وهلا ما مسّى يف‬
‫يسم شيء‪.‬‬
‫العقد‪ .‬ومهر املثل إن مل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح ‪،‬‬
‫وروى ابن القاسم عن مالك أ ّن اهلبة ال حتل بعد النيب صلّى ّ‬
‫يصح النكاح بلفظ اهلبة‪.‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬ال ّ‬ ‫وقال الشافعي رضي ّ‬
‫حك ِمن مد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني فذهب‬ ‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫صةً ل ح ْ‬ ‫وخالف الفقهاء اتبع لنزاع العلماء يف معىن قوله تعاىل ‪ :‬خال ح‬
‫مجاعة إىل أن اخلصوصية واخللوص الوارد يف اآلية هو خلوص عقد النكاح بلفظ اهلبة للنيب صلّى‬
‫حك ِمن مد ِ ِ‬
‫َّيب‬ ‫ني ‪ ،‬وكيف قال ‪ :‬إِ ْن أحر ح‬
‫اد النِ ُّ‬ ‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ل ح ْ‬
‫اّلل عليه وسلّم أال ترى كيف قال ّ‬ ‫ّ‬
‫ت نح ْف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يدل على أن‬ ‫َّيب ويف مجيع ذلك من اإلشارة ما ّ‬ ‫سها للنِ ِّ‬
‫أح ْن يح ْستح ْنك ححها وقبل ذلك ‪ :‬إ ْن حو حهبح ْ ح‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬ ‫إحالل املرأة من طريق اهلبة كان خاصا ابلنيب صلّى ّ‬
‫وذهب آخرون إىل اخللوص واخلصوصية الواردة يف اآلية كان يف نكاح الواهبة بغري مهر‪ .‬أما عقد‬
‫النكاح بلفظ اهلبة فكان جائزا للنيب وأمته معه ‪ ،‬ال خصوصية فيه ‪ ،‬وهو مروي عن جماهد ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل يقول‬ ‫تدل عليه ‪ ،‬وذلك أ ّن ّ‬ ‫وسعيد بن املسيب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وزعم الذاهبون إليه أ ّن اآلية ّ‬
‫ِ‬ ‫َّيب أح ْن يست نْكِحها خالِصةً ل ح ِ‬ ‫ت نح ْف ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫حك م ْن مدو ِن ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني‬ ‫ح‬ ‫اد النِ ُّ ح ْ ح ح‬ ‫َّيب إِ ْن أحر ح‬
‫سها للنِ ِّ‬
‫‪ :‬حو ْام حرأحةً مم ْؤمنحةً إ ْن حو حهبح ْ ح‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)206 /2 - 1‬‬

‫ص ‪646 :‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل العقد خالصا للنيب ‪ ،‬وأضاف لفظ اهلبة إىل املرأة ‪ ،‬وأضاف إىل النيب صلّى ّ‬
‫جعل ّ‬
‫وسلّم إرادة االستنكاح ‪ ،‬فدلت املخالفة بني اجلانبني على أ ّن املراد مدلول اللفظ الذي فيه‬
‫جانب املرأة ‪ ،‬وهو ما يدل عليه لفظ اهلبة من ترك العوض‪.‬‬
‫وأيضا فلو كانت اخلصوصية راجعة للفظ اهلبة جلاء يف اللفظ الذي يكون يف جانبه ‪ ،‬أما‬
‫خصوصية أن يكون عقده بلفظ اهلبة من جانب املرأة دون أن يكون فيه إسقاط العوض فيكاد‬
‫يكون غري مقبول‪.‬‬
‫ج وذلك يشري ظاهرا إىل أن‬ ‫اّلل تعاىل قال بعد ذلك ‪ :‬لِ حكيْال يح مكو حن عحلحيْ ح‬
‫ك حح حر ٌ‬ ‫ووجه آخر هو أن ّ‬
‫اخلصوصية دفعت حرجا‪ .‬وقصر النكاح على لفظ النكاح أو التزويج ال حرج فيه ‪ ،‬إمنا احلرج‬
‫يكون يف إلزام املهر ‪ ،‬ألن ذلك يلزمه مشقة السعي يف التحصيل ‪ ،‬وهو مشغول بشؤون الرسالة‬
‫ور مه َّن حيث يكون إحالل اهلبة‬
‫مج ح‬
‫تأم‬
‫اّلل تعاىل يف أول اآلية ‪ :‬آتح ْي ح‬
‫ويرجح هذا الذي نقوله قول ّ‬
‫‪ّ ،‬‬
‫مقابال له ‪ ،‬فيكون املعىن أحللنا لك املمهورات وغري املمهورات‪.‬‬
‫اّلل بن أمحد بن حنبل عن أبيه ‪ ،‬عن حممد بن بشر ‪ ،‬عن‬
‫مث هم يسوقون يف ذلك حديثا رواه عبد ّ‬
‫أنفسهن للنيب صلّى‬
‫ّ‬ ‫تعري النساء الاليت وهنب‬ ‫هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة أّنا كانت ّ‬
‫وجل ‪ :‬تم ْرِجي‬
‫عز ّ‬ ‫اّلل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬قالت ‪ :‬أال تستحي أن تعرض نفسها بغري صداق؟ أنزل ّ‬ ‫ّ‬
‫ك قالت ‪ :‬إين أرى‬ ‫ناح عحلحْي ح‬ ‫ت ِِمَّ ْن عح حزل ح‬
‫ْت فحال مج ح‬ ‫حم ْن تحشاءم ِم ْن مه َّن حوتم ْؤ ِوي إِل ْحي ح‬
‫ك حم ْن تحشاءم حوحم ِن ابْ تح غحْي ح‬
‫وجل يسارع لك يف هواك «‪.»1‬‬ ‫عز ّ‬ ‫ربّك ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم عقد على امرأة بلفظ التمليك لرجل‬ ‫ويقولون بعد ذلك أنه قد ورد أن النيب صلّى ّ‬
‫على ما معه من القرآن ‪،‬‬
‫فقال ‪« :‬ملكتكها مبا معك من القرآن»‬
‫‪ ،‬وذلك يدل على صحة عقد النكاح بلفظ يدل على التمليك ‪ ،‬ولفظ اهلبة يدل على التمليك‬
‫‪ ،‬فصح عقد النكاح به‪.‬‬
‫ذلك جممل ما يقال يف االستدالل للمجيزين على ما ذهبوا إليه ‪ ،‬وما نراه يدل هلم‪.‬‬
‫وإان لنسأهلم ‪ :‬أين وجدمت يف اآلية أ ّن النكاح كان دون مهر؟ أليس يف لفظ اهلبة؟ فكيف يكون ما‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وليس شيء يدل عليه إال اللفظ ومع ذلك‬
‫يدل عليه اللفظ خاصا به صلّى ّ‬
‫فأنتم ال تقولون جبواز عقد النكاح بلفظ اهلبة مع بقاء معناه ‪ ،‬وهو ترك العوض‪ .‬والذي يف اآلية‬
‫ترك العوض مدلوال عليه بلفظ اهلبة‪.‬‬
‫فمن أين لكم اخلصوصية يف املعىن دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه جيوز عقد النكاح لغري النيب‬
‫اّلل عليه وسلّم بلفظ اهلبة مع إجياب املهر؟ فإن كنتم تريدون أ ّن عقد النكاح بلفظ اهلبة‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ومن غريه ‪ ،‬وتريدون أن أتخذوه من اآلية فخذوا جواز‬
‫يصح من النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫__________‬
‫ِ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )28 /6‬كتاب التفسري ‪ - 7 ،‬ابب تم ْرجي حم ْن تحشاءم‬
‫‪ ...‬حديث رقم (‪ ، )4788‬وأمحد يف املسند (‪.)158 /6‬‬
‫ص ‪647 :‬‬
‫دل عليه ‪ ،‬وهو العقد بلفظ اهلبة من غري مهر‪.‬‬
‫ذلك للناس مجيعا بكل ما ّ‬
‫أما أن تقولوا ‪ :‬إ ّن العقد بلفظ اهلبة جائز للناس مجيعا وجيب املهر ‪ ،‬فهو الذي ال جند لكم سندا‬
‫فيه‪.‬‬
‫حك ِمن مد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ني وال ميكن رجوع‬ ‫صةً ل ح ْ‬
‫واّلل تعاىل يقول ‪ :‬خال ح‬
‫وكيف يكون السند ‪ّ ،‬‬
‫اخلصوصية للمعىن إال بعد أن يكون مستفادا من اللفظ ‪ ،‬مدلوال عليه به ‪ ،‬ولو أسقط لفظ اهلبة‬
‫من العقد استبعد إسقاط املهر ‪ ،‬فاحل ّق أ ّن اخلصوصية راجعة إىل ما كان من عقد النكاح بلفظ‬
‫اهلبة ‪ ،‬مع ما حيمل من املعىن ‪ ،‬وهو متليك البضع بغري عوض‪.‬‬
‫وما سقتم من حديث عائشة ال ينفعكم ‪ ،‬فليس فيه إال أ ّن نكاح الواهبة كان بغري عوض ‪،‬‬
‫وعائشة إمنا فهمت ذلك من لفظ اهلبة‪.‬‬
‫وحنن نقول ‪ :‬إ ّن اخلصوصية كانت يف عقد النكاح بلفظ اهلبة ومعناه ‪ ،‬أما عقده بلفظ اهلبة وحده‬
‫دون املعىن فال نقول ‪ :‬إ ّن اخلصوصية راجعة إليه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك ‪ ،‬فهو بعد تسليم‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وأما ما قلتم من أن ّ‬
‫يدل [على ما ذهبتم إليه ]‪.‬‬
‫حجية احلديث املروي فيه ال ّ‬
‫وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ ‪« :‬زوجتكها» «‪ »1‬وال داللة فيما رويتم ‪،‬‬
‫فعقد النكاح بلفظ التمليك ال يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح ‪ ،‬أال ترون أن‬
‫لفظ اإلجارة يدل على التمليك ‪ ،‬وأنتم ال ترون النكاح ينعقد به ‪ ،‬ملا فيه من معىن يتناىف مع‬
‫املقصود من النكاح ‪ ،‬وهو أن اإلجارة مبينة على التوقيت‪.‬‬
‫نص على‬
‫يصح القياس فيها ‪ :‬إ ّن لفظ اهلبة ّ‬
‫وكذلك حنن نقول بعد أن نسلّم لكم أ ّن صيغ العقود ّ‬
‫ترك العوض ‪ ،‬والنكاح ال ب ّد فيه من العوض ‪ ،‬وإن مل يذكر يف العقد ‪ ،‬فال يصح أن يدل عليه‬
‫بلفظ صريح يف ترك العوض‪.‬‬
‫هذا ما رأينا أن نذكره ِما تكلم فيه املفسرون من األحكام ‪ ،‬وهناك أشياء أخرى عرض هلا‬
‫وعماته ‪ ،‬وأخواله ‪ ،‬وخاالته ومن وهبت نفسها من‬
‫املفسرون ‪ :‬كالكالم على أعمام النيب ‪ّ ،‬‬
‫النساء ‪ ،‬وما نرى أن نتابعهم فيه ‪ ،‬أل ّن ذلك حىت بعد صحة ما يروى ال فائدة من ذكره‬
‫[هاهنا]‪.‬‬
‫ناح‬
‫ْت فحال مج ح‬ ‫ت ِِمَّ ْن حع حزل ح‬
‫ك حم ْن تحشاءم حوحم ِن ابْ تح غحْي ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬تم ْرِجي حم ْن تحشاءم ِمْن مه َّن حوتم ْؤ ِوي إِل ْحي ح‬ ‫قال ّ‬
‫اّللم يح ْعلح مم ما ِيف قملموبِ مك ْم‬
‫ني ِمبا آتح ْي تح مه َّن مكلُّ مه َّن حو َّ‬ ‫ك ذلِ ح‬
‫ك أح ْدّن أح ْن تح حق َّر أح ْعيم نم مه َّن حوال حْحي حز َّن حويح ْر ح‬
‫ض ْح‬ ‫حعلحْي ح‬
‫اّللم عحلِيماً ححلِيماً (‪ )51‬اإلرجاء ‪ :‬التأخري والتنحية‪.‬‬ ‫حوكا حن َّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 9 ، )608 /1‬كتاب النكاح ‪ - 17 ،‬ابب صداق النساء‬
‫حديث رقم (‪.)1889‬‬

‫ص ‪648 :‬‬
‫واإليواء ‪ :‬الضم والتقريب‪.‬‬
‫واالبتغاء ‪ :‬الطلب‪.‬‬
‫والعزل ‪ :‬اإلبعاد‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اختلف يف سبب نزول هذه اآلية ‪ ،‬فروى أبو رزين العقيلي أ ّن نساء النيب صلّى ّ‬
‫اّلل! اجعل لنا من نفسك‬
‫اّلل عليه وسلّم قلن ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫يطلقهن رسول ّ‬
‫ّ‬ ‫ملّا أشفقن أن‬
‫ومالك ما شئت فكانت منهن ‪ :‬سودة بنت زمعة ‪ ،‬وجويرية ‪ ،‬وصفية ‪ ،‬وميمونة ‪ ،‬وأم حبيبة غري‬
‫هلن‪.‬‬
‫مقسوم ّ‬
‫وكان ِمن آوى ‪ :‬عائشة ‪ ،‬وحفصة ‪ ،‬وزينب ‪ ،‬وأم سلمة ‪ :‬يضمهن ويقسم هلن‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم إذا خطب امرأة مل يكن الرجل أن خيطبها حىت يتزوجها‬
‫وقيل كان النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬أو يرتكها‪.‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫وضم إليك من تشاء‪.‬‬
‫ويكون املعىن على ما روى أبو رزين ‪ :‬اعزل من شئت من القسم ‪ّ ،‬‬
‫ويرى ابن العريب «‪ »1‬أ ّن القولني غري صحيحني ‪ ،‬أما ما روي عن أيب رزين فلم يرد من طريق‬
‫صحيح‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ال ذكر له ‪ ،‬وال إشعار‬
‫وأما اآلخر ‪ ،‬فأل ّن امتناع اخلطبة بعد خطبة الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ال يكاد يتسق مع ابقي اآلية‪.‬‬
‫به ‪ ،‬وهو مع كونه غري خاص ابلنيب صلّى ّ‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد من اإلرجاء واإليواء ‪:‬‬
‫فقد روي عن ابن عباس أ ّن معىن اآلية ‪ :‬تطلّق من تشاء ‪ ،‬ومتسك من تشاء‪.‬‬
‫وروي عن قتادة ‪ :‬أ ّن املعىن ‪ :‬ترتك من تشاء ‪ ،‬وتنكح من تشاء ‪ ،‬وقد أسلفنا لك‪ .‬عن أيب رزين‬
‫ما يفيد أن املعىن ‪ :‬ترتك من تشاء من غري قسم ‪ ،‬وتقسم ملن تشاء‪.‬‬
‫ويرى ابن العريب «‪ »2‬أ ّن الصحيح يف سبب نزول اآلية ويف معناها هو ما روي من طريق‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬ ‫أنفسهن لرسول ّ‬ ‫ّ‬ ‫صحيحة عن عائشة أّنا قالت ‪ :‬كنت أغار على الالئي وهنب‬
‫اّلل تم ْرِجي حم ْن تحشاءم ِم ْن مه َّن حوتم ْؤ ِوي إِل ْحي ح‬
‫ك حم ْن تحشاءم‬ ‫وسلّم ‪ ،‬وأقول ‪ :‬أهتب املرأة نفسها؟ فلما أنزل ّ‬
‫قلت ‪ :‬ما أرى ربك إال يسارع يف هواك‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم كان يستأذن يف يوم‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫وثبت يف «الصحيح» «‪ »3‬أيضا عنها أ ّن رسول ّ‬
‫ت‬ ‫املرأة منّا بعد أن نزلت هذه اآلية ‪ :‬تم ْرِجي حم ْن تحشاءم ِم ْن مه َّن حوتم ْؤ ِوي إِل ْحي ح‬
‫ك حم ْن تحشاءم حوحم ِن ابْ تح غحْي ح‬
‫إيل‬
‫ك فقيل هلا ‪ :‬فما كنت تقولني؟ قالت ‪ :‬كنت أقول ‪ :‬إن كان األمر ّ‬ ‫ناح حعلحْي ح‬ ‫ِِمَّ ْن حع حزل ح‬
‫ْت فحال مج ح‬
‫اّلل أن أوثر عليك أحدا أبدا‪.‬‬
‫فإين ال أريد اي رسول ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1554 /3‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه (‪.)155 /3‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )28 /6‬كتاب التفسري ‪ - 7 ،‬ابب ترجي من تشاء‬
‫حديث رقم (‪.)4789‬‬

‫ص ‪649 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم قد أذن له يف غري‬
‫ويرى ابن العريب «‪ »1‬أ ّن املعىن بعد ذلك هو ‪ :‬أن النيب صلّى ّ‬
‫إلزام أن يكون مر ّد األمر يف القسم إليه ‪ ،‬إن شاء قسم ‪ ،‬وإن شاء مل يقسم ‪ ،‬لكنّه كان يقسم‬
‫بينهن من غري أن يكون القسم فرضا عليه‪.‬‬
‫ظل شأن النيب مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا ‪ ،‬حىت‬
‫خاص به دون املؤمنني‪ .‬وقد ّ‬
‫وذلك ّ‬
‫أدرك الكرب سودة بنت زمعة ‪ ،‬فوهبت قسمها لعائشة ‪ ،‬وقالت ‪ :‬ال تطلقين حىت أحشر يف زمرة‬
‫نسائك‪.‬‬
‫أي املعاين أجدر أبن يكون‬
‫حىت يتبني من التفسري ّ‬
‫ولنرجع بعد ذلك إىل تفسري اآلية بتمامها ‪ّ ،‬‬
‫مقصودا من اآلية‪.‬‬
‫تم ْرِجي حم ْن تحشاءم ِم ْن مه َّن حوتم ْؤ ِوي إِل ْحي ح‬
‫ك حم ْن تحشاءم قد عرفت ِما سقناه لك آنفا أ ّن اإلرجاء التأخري ‪،‬‬
‫وأن اإليواء الضم ‪ ،‬وعرفت آراء العلماء يف املراد بذلك‪.‬‬
‫ونزيد هنا أّنم اختلفوا أيضا يف مرجع الضمري يف (منهن) ‪ ،‬فرآى بعضهم أنه يرجع إىل نساء‬
‫األمة مجيعا ‪ ،‬وأ ّن املعىن أن لك أن ترتك نكاح من تشاء من نساء األمة ‪ ،‬وأن تنكح من تشاء‪.‬‬
‫وهذا القول بعينه قدمناه لك يف مجلة األقوال‪.‬‬
‫ك إىل‬
‫اج ح‬
‫حك أح ْزو ح‬ ‫ونقول ‪ :‬إنه مل يفد فائدة جديدة ‪ ،‬فاملقصود منه قد استفيد من آية إِ َّان أ ْ‬
‫ححلحلْنا ل ح‬
‫حك ِمن دم ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني على ما تقدم بيانه ‪ ،‬وهو بعد ذلك ال يتسق مع‬ ‫ون ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫صةً ل ح ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬خال ح‬ ‫قول ّ‬
‫ك‪.‬‬
‫ناح حعلحْي ح‬
‫ْت فحال مج ح‬ ‫ت ِِمَّ ْن حع حزل ح‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوحم ِن ابْ تح غحْي ح‬
‫قول ّ‬
‫ويرى البعض أ ّن الضمري للواهبات ‪ ،‬ويكون املعىن إ ّن لك أن تقبل هبة من تشاء ‪ ،‬وترتك هبة من‬
‫قبلهن‬
‫ّ‬ ‫تشاء ‪ ،‬ويروون يف ذلك من الرواايت ما يستندون إليه ‪ ،‬إذ يفيد أ ّن بعض الواهبات‬
‫اّلل عليه وسلّم ودخل هبن ‪ ،‬وأرجأ البعض اآلخر ‪ ،‬ومل يدخل هبن ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ ّن‬
‫الرسول صلّى ّ‬
‫أم شريك‪.‬‬
‫منهن ّ‬
‫وأنت تعلم ِما سبق أن العلماء اختلفوا يف وقوع اهلبة ‪ ،‬وعلمت أ ّن الصحيح أّنّا وقعت ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم اهلبة منهن ‪ ،‬وأن الصحيح أنه مل يكن‬
‫وعلمت كذلك أّنم اختلفوا يف قبوله صلّى ّ‬
‫حتته امرأة وهبت نفسها ‪ ،‬ومىت علمت هذا كان لك أن حتكم بضعف هذا القول ‪ ،‬خصوصا إذا‬
‫نظرت إىل أن ضمري (منهن) للجمع ‪ ،‬ومل يرد للواهبات ذكر ابجلمع حىت يكون مرجعا ‪ ،‬فخري‬
‫هن حتته ‪ :‬وأ ّن املراد ترك أمر القسم إليه ‪ ،‬إن شاء قسم ‪،‬‬
‫أن يكون مرجع الضمري لنسائه الاليت ّ‬
‫وإن شاء مل يقسم توسعة عليه ‪ ،‬حىت تطمئن نفوس زوجاته ‪ ،‬على ما أييت بيانه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1556 /3‬‬

‫ص ‪650 :‬‬
‫عن لك أن تطلب إحدى‬ ‫ك أي أنّه ال حرج وال إمث إذا ّ‬ ‫ناح حعلحْي ح‬ ‫ت ِِمَّ ْن حع حزل ح‬
‫ْت فحال مج ح‬ ‫حوحم ِن ابْ تح غحْي ح‬
‫املرجئات واملعزوالت ‪ ،‬فتضمها ‪ ،‬وتؤويها إليك بعد عزهلا وإرجائها ‪ ،‬وجيوز محل اإلرجاء والعزل‬
‫هنا على الطالق ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬ومن طلبت رجوعها ِمن تكون قد عزلت فال جناح عليك يف‬
‫طلب رجوعها إىل العصمة‪.‬‬
‫وجيوز أن يراد منه التأخري يف القسم ‪ ،‬أو ترك القسم ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬ومن طلبت إيواءها‬
‫وإدخاهلا يف القسم ِمن أخرت القسم هلا أو تركته ‪ ،‬فال جناح عليك‪.‬‬
‫وأما أن يراد ابالبتغاء طلب النكاح ‪ ،‬وابلعزل واإلرجاء تركه ‪ ،‬على أن يكون املعىن ‪ :‬ومن طلبت‬
‫نكاحها من الاليت تركت فبعيد ‪ ،‬أل ّن العزل مشعر أبن تكون املعزولة كانت يف زمرة مث عزلت ‪،‬‬
‫وفصلت عنها‪ .‬واليت رفض نكاحها ال يقال ‪:‬‬
‫كل هذا شرطية جواهبا فال جناح عليك‪.‬‬
‫وم ْن عل ّ‬
‫إّنا كانت يف زمرة فصلت وعزلت منها‪ .‬ح‬
‫وروي عن احلسن أ ّن معىن اآلية ‪ :‬إ ّان جعلنا لك أمر اإلرجاء واإليواء ‪ ،‬وجعلنا لك أيضا أن‬
‫تطلب نكاح من تشاء عوضا ِمن عزلتها ابلطالق أو ابملوت‪ .‬وهو يف هذا حيمل اإلرجاء على‬
‫أحل لك صنوفا من األزواج ‪ ،‬تطلق من تشاء منهن ‪ ،‬وتعتاض‬ ‫اّلل ّ‬ ‫الطالق ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬أن ّ‬
‫ْت للبدل ‪ ،‬مثلها يف‬ ‫عمن عزلت ابلطالق أو ابملوت منهن ‪ ،‬وعلى هذا (فمن) يف قوله ‪ِِ :‬مَّ ْن حع حزل ح‬
‫الدنْيا ِم حن ْاآل ِخ حرةِ أي بدل اآلخرة‪.‬‬ ‫ضيتم ْم ِاب ْحلحياةِ ُّ‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬أحر ِ‬
‫ح‬
‫اّللم يح ْعلح مم ما ِيف قملموبِ مك ْم حوكا حن َّ‬
‫اّللم‬ ‫ني ِمبا آتح ْي تح مه َّن مكلُّ مه َّن حو َّ‬ ‫ذلِ ح‬
‫ك أح ْدّن أح ْن تح حق َّر أح ْعيم نم مه َّن حوال حْحي حز َّن حويح ْر ح‬
‫ض ْح‬
‫تضمنه الكالم السابق من تفويض أمر اإلرجاء واإليواء إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حعليماً ححليماً اسم اإلشارة يرجع إىل ما ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬أي إ ّن تفويضنا األمر ‪ -‬يف إبقاء من تشاء ‪ ،‬وترك من تشاء ‪ ،‬أو يف‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫القسم وتركه إليك ‪ -‬أقرب أن تكون أعينهن قريرة‪ .‬وذلك كناية عن سرورهن بذلك ‪ ،‬فال حتزن‬
‫من كان هلن اإلرجاء ‪ ،‬ويرضني مبا تصنع معهن‪ .‬ألنّه مىت علمن أ ّن األمر صار إليك ‪ ،‬صار يف‬
‫اّلل‪.‬‬
‫مرجو املعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش ‪ ،‬فال تيأس من قربك ‪ ،‬وال تقنط من رمحة ّ‬
‫اّللم يح ْعلح مم ما ِيف قملموبِ مك ْم فهو خطاب للنيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وألزواجه رضي‬ ‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫احلث على‬
‫اّلل عنهن ‪ ،‬ومجع جبمع الذكور للتغليب ‪ ،‬وتعقيب الكالم السابق هبذا يراد منه ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫إصالح ما عساه يكون يف القلوب مجيعا ابلقدر املستطاع ‪ ،‬فيخفف النيب صلّى ّ‬
‫ما عساه يكون منه من أثر للميل يف معاملة نسائه ‪ ،‬ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر‬
‫اّللم عحلِيماً ححلِيماً يعلم خفيّات الصدور ‪ ،‬وما يكون هلا من‬
‫للغرية اليت تغلب النساء عادة حوكا حن َّ‬
‫آاثر ظاهرة وابطنة‪ .‬وال يعجل العقاب قبل اإلرشاد والنصح‪.‬‬

‫ص ‪651 :‬‬
‫ك مح ْسنم مه َّن إَِّال‬ ‫َّل هبِِ َّن ِم ْن أح ْز ٍ‬
‫واج حول ْحو أح ْع حجبح ح‬ ‫حك النِّساءم ِم ْن بح ْع مد حوال أح ْن تحبحد ح‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال حِحي ُّل ل ح‬‫قال ّ‬
‫اّللم حعلى مك ِّل حش ْي ٍء حرقِيباً (‪ )52‬ال يزال الكالم متصال يف خطاب الرسول‬ ‫ك حوكا حن َّ‬ ‫ت حميِينم ح‬
‫ما حملح حك ْ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف شأن أزواجه ‪ ،‬فال تبحث عن الربط‪ .‬و(بعد) يف قوله ‪ِ :‬م ْن بح ْع مد ظرف‬ ‫صلّى ّ‬
‫مبين على الضم حلذف املضاف إليه‪.‬‬
‫وقد اختلف يف تعيني هذا احملذوف على ثالثة أقوال ترجع يف احلقيقة إىل اثنني‪.‬‬
‫اّلل عنهما أنّه قال ‪ :‬املراد من (بعد) من عندك من النساء اللوايت‬
‫‪ - 1‬روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫هلن ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم على أزواجه جمازاة ّ‬
‫اخرتنك على الدنيا ‪ ،‬ويكون ذلك قصرا للنيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه إكراما له يف قوله ‪:‬‬
‫وشكرا على هذا االختيار ‪ ،‬كما قصرهن ّ‬
‫اجهم ِم ْن بح ْع ِدهِ أحبحداً‪.‬‬
‫حوا أح ْزو ح‬
‫ِ‬
‫حوال أح ْن تح ْنك م‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬املراد من (بعد) من أحللنا لك يف اآلية‬
‫‪ - 2‬روي عن أيب بن كعب رضي ّ‬
‫املتقدمة ‪ ،‬وهن األصناف األربعة‪.‬‬
‫‪ - 3‬روي عن جماهد أن املعىن ‪ :‬ال حيل لك نكاح غري املسلمات‪.‬‬
‫أيب يدل عليه ‪ ،‬إذ ليس يف‬
‫وهذا الرأي األخري يف احلقيقة يرجع إىل الثاين ‪ ،‬أل ّن املروي عن ّ‬
‫أيب‬
‫األصناف اليت أحلّت للنيب غري مسلمة ‪ ،‬فيكون ما روي عن جماهد داخال يف الذي روي عن ّ‬
‫‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬ال حيل لك من عدا من آتيت أجورهن ‪ ،‬وقرابتك املؤمنات‪ .‬املهاجرات وما‬
‫ملكت ميينك ومن وهبت نفسها إليك‪.‬‬
‫اّلل أعلم كيف وقع األمر‪.‬‬
‫ويقول ابن العريب «‪ : »1‬ويقوى يف النفس قول ابن عباس ‪ ،‬و ّ‬
‫وسيأيت لنا كالم يف هذا عند الكالم على آراء العلماء يف نسخ اآلية‪.‬‬
‫َّل هبِِ َّن ِم ْن أح ْز ٍ‬
‫واج فروي عن ابن عباس أ ّن‬ ‫وقد اختلف العلماء أيضا يف قوله تعاىل ‪ :‬حوال أح ْن تحبحد ح‬
‫حيل لك أن تطلّق أحدا من أزواجك لتنكح غريها‪.‬‬ ‫املراد ‪ :‬ال ّ‬
‫وروي عن جماهد أن املعىن ‪ :‬ال حيل لك أن تبدل املسلمة اليت عندك مبشركة ‪ ،‬ونقل عن ابن زيد‬
‫أن املعىن ‪ :‬ال تعطي زوجك بدال من زوج رجل آخر‪.‬‬
‫مبين على رأيه يف صدر اآلية ‪ ،‬ولو أتملت وجدت صدر اآلية مغنيا عنه على‬
‫أما قول جماهد فهو ّ‬
‫حسب أتويله هو ‪ ،‬فإ ّن صدر اآلية معناه عنده ‪ :‬ال حيل لك نكاح غري املسلمات ‪ ،‬وذلك‬
‫يقتضي حترمي العقد عليهن مطلقا ‪ ،‬سواء أكان العقد مبتدأ ‪ ،‬أم على وجه اإلتيان ابملشركة بعد‬
‫َّل هبِِ َّن ِم ْن أح ْز ٍ‬
‫واج من الفائدة‪.‬‬ ‫اطراح املسلمة من العصمة ‪ ،‬وحينئذ خيلو حوال أح ْن تحبحد ح‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1559 /3‬‬

‫ص ‪652 :‬‬
‫وأما قول ابن زيد فباطل أيضا ‪ ،‬فإ ّن نكاح االستبدال الذي ي ّدعيه حرام على كل الناس ‪ ،‬فال‬
‫حمل لتوجيه اخلطاب إليه وحده‪.‬‬
‫يكون هناك ّ‬
‫ك مح ْسنم مه َّن فريى البعض أّنّا يف موضع احلال ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ال‬
‫وأما إعراب قوله تعاىل ‪ :‬حول ْحو أح ْع حجبح ح‬
‫حيل لك أن تتبدل هبن أزواجا على أي حال ‪ ،‬حىت حال إعجابك حبسنهن‪ .‬ويرى البعض أ ّن‬
‫حسنهن ال حيل لك‬
‫ّ‬ ‫هذه مجلة شرطية حذف جواهبا ‪ ،‬لفهمه من الكالم ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ولو أعجبك‬
‫نكاحهن‪.‬‬
‫حل اململوكة بكوّنا فيئا ال يقصد منه االحرتاز‬ ‫ت حميِينم ح‬
‫ك رأيت يف الذي سبق أ ّن تقييد ّ‬ ‫إَِّال ما حملح حك ْ‬
‫‪ ،‬وقد جاء استثناء اململوكات من احملرمات مطلقا ‪ ،‬فهو متفق مع الذي قلنا هناك‪.‬‬
‫وأما من يرى أ ّن القيد هناك لالحرتاز ‪ ،‬فلعله حيمل املطلق هنا على املقيد هناك ‪ ،‬أو لعلّه يقول‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫‪ :‬إ ّن العموم هنا أبطله اخلصوص هناك ‪ ،‬وما نريد أن نعرض إىل أن ّ‬
‫كن حمرمات عليه؟ فالواقع أ ّن النيب مل ينكح كافرة بعد الرسالة‬
‫هل كان حيل له الكافرات ‪ ،‬أو هن ّ‬
‫‪ ،‬والبحث يف حلهن وحرمتهن غري جمد بعد ذلك‪.‬‬
‫بقي أ ّن العلماء اختلفوا يف اآلية ‪ :‬أبقيت حمكمة مل يدخلها النسخ ‪ ،‬أم نسخت؟‬
‫والذين قالوا ابلنسخ اختلفوا يف الناسخ ‪ :‬أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب مجاعة إىل أّنّا حمكمة ‪،‬‬
‫وأ ّن ذاك كان تكرميا للمختارات ‪ ،‬وجزاء على إحساّنن‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫ويرى البعض أّنا منسوخة ‪ ،‬ويروون يف ذلك حديثا عن عائشة ‪« :‬ما مات النيب صلّى ّ‬
‫اّلل له من شاء من النساء إال ذات حمرم» «‪ »1‬ويقول ابن العريب «‪ »2‬يف‬
‫أحل ّ‬
‫وسلّم إال وقد ّ‬
‫هذا ‪ :‬إنه حديث ضعيف شديد الضعف‪.‬‬
‫والذين ذهبوا إىل النسخ اختلفوا يف الناسخ ‪ ،‬فريى بعضهم أ ّن الناسخ هو قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّان أ ْ‬
‫ححلحلْنا‬
‫ك إىل آخر اآلية ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ ّن الرتتيب يف التالوة ليس دليل الرتتيب يف النزول‪.‬‬
‫اج ح‬
‫حك أح ْزو ح‬
‫لح‬
‫وهذا عجيب من قائليه ‪ ،‬فإ ّن النسخ يف احلقيقة يعتمد ثبوت أتخر الناسخ عن املنسوخ ‪ ،‬وأن‬
‫يكون بينهما تعارض ‪ ،‬وأين هذا ِما يقولون؟ هل جمرد احتمال أن تكون اآلية اليت معنا متقدمة يف‬
‫النزول كاف إلثبات النسخ فيها؟‬
‫أما الذين قالوا ‪ :‬إن اآلية منسوخة ابلسنة ‪ ،‬وإن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب ابلسنة ‪،‬‬
‫فأمرهم أعجب ‪ ،‬فإن الذين جييزون نسخ الكتاب ابلسنة ال يقولون إنّه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )332 /5‬كتاب التفسري ‪ ،‬ابب تفسري سورة األحزاب‬
‫حديث رقم (‪ ، )3216‬واحلاكم يف املستدرك (‪.)437 /2‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1559 /3‬‬

‫ص ‪653 :‬‬
‫ينسخ بكل سنة ‪ ،‬بل كان متواترا معىن ‪ ،‬وهو املشهور ‪ ،‬فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة ‪،‬‬
‫وهي مل ترفعه ‪ ،‬وفوق ذلك يقول ابن العريب فيه ‪ :‬إنّه حديث ضعيف‪.‬‬
‫مث كيف جاز هلم أن جيعلوا النسخ هنا دليال على القاعدة األصولية ‪ :‬نسخ الكتاب ابلسنة ‪،‬‬
‫واألصول ال تثبت إال بقاطع كما يقولون‪ .‬وحديثهم الذي يستدلون به على النسخ قد علمت‬
‫قيمته‪.‬‬
‫اّللم حعلى مك ِّل حش ْي ٍء حرقِيباً يطلع على ما يكون من كل أحد فيجازيه حبسابه‪.‬‬ ‫حوكا حن َّ‬
‫عام غح ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ري انظ ِر ح‬
‫ين‬ ‫َّيب إَِّال أح ْن يم ْؤذح حن لح مك ْم إِىل طح ٍ ح‬‫وت النِ ِّ‬‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميم ح‬ ‫ين ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫يث إِ َّن ذلِ مك ْم كا حن يم ْؤ ِذي‬ ‫ني ِحل ِد ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِانهم حولك ْن إِذا مدعيتم ْم فحا ْد مخلموا فحِإذا طحع ْمتم ْم فحانْ تحش مروا حوال مم ْستحأْنس ح ح‬
‫وه َّن ِم ْن حور ِاء‬ ‫ِ‬
‫اّللم ال يح ْستح ْحيِي م حن ا ْحلحِّق حوإِذا حسأحلْتم مم م‬
‫وه َّن حمتاعاً فح ْسئح لم م‬ ‫َّيب فحيح ْستح ْحيِي ِم ْن مك ْم حو َّ‬
‫النِ َّ‬
‫اجهم‬
‫حوا أح ْزو ح‬
‫ِ‬ ‫ول َِّ‬
‫اّلل حوال أح ْن تحنْك م‬ ‫ِح ٍ‬
‫جاب ذلِ مك ْم أحط حْه مر لِ مقلموبِ مك ْم حوقملموهبِِ َّن حوما كا حن لح مك ْم أح ْن تم ْؤذموا حر مس ح‬
‫اّللِ عح ِظيماً (‪ )53‬روي يف سبب نزول هذه اآلية رواايت كثرية‬ ‫ِم ْن بح ْع ِدهِ أحبحداً إِ َّن ذلِ مك ْم كا حن ِعنْ حد َّ‬
‫ونبني الصحيح منها بعد أن نقول لك ‪ :‬إ ّن الكالم هنا بيان ملا يكون عليه حال‬
‫سنذكرها ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وهو يف البيت ‪ ،‬وذلك ينتظم أحواال كثرية بينت اآلية‬
‫املؤمنني مع النيب صلّى ّ‬
‫الكرمية أحكامها ‪ :‬منها لزوم عدم الدخول إال بعد صدور اإلذن ‪ ،‬وهذا يكون بعد االستئذان‪.‬‬
‫ومنها أن الدخول إذا كان لطعام فيلزم أن يكون اجمليء إليه يف إابنه ال قبله‪ .‬وأن ينتشروا على‬
‫فور الطعام ‪ ،‬وال ميكثوا سامرين‪.‬‬
‫وسيأيت عند الكالم على تفسري اآلية ما يراه العلماء يف معىن اآلية ‪ ،‬وإمنا نذكر هنا أن اآلية‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬واآلية بعد هذا اشتملت على‬
‫سيقت لبيان آداب الناس يف بيت الرسول صلّى ّ‬
‫أحكام دخول البيت ‪ ،‬وعلى حجاب النساء ‪ ،‬ومنع املؤمنني من خمالطتهن ‪ ،‬ولو من طريق‬
‫املسألة إال من وراء حجاب‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء أسبااب كثرية يرجع بعضها إىل مسألة دخول البيت ‪ ،‬ويرجع بعضها اآلخر إىل‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫مسألة حجاب نساء النيب صلّى ّ‬
‫كل ما روي بعد أن يكون صحيحا سببا للنزول ‪ ،‬وقد علمت‬
‫ونرى أن ال مانع من أن يكون ّ‬
‫مرارا أ ّن اآلية نزلت على أسباب كثرية‪.‬‬
‫روى البخاري ومسلم والرتمذي واللفظ له «‪ »1‬عن أنس بن مالك قال ‪ :‬تزوج‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 16 ، )1042 /2‬كتاب النكاح ‪ - 13 ،‬ابب الصداق‬
‫حديث رقم (‪ ، )1428 /80‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )29 /6‬كتاب التفسري ‪- 7 ،‬‬
‫َّيب إَِّال ‪ ...‬حديث رقم (‪ ، )4792 ، 4791‬والرتمذي يف اجلامع‬
‫وت النِ ِّ‬
‫ابب ال تح ْد مخلموا بميم ح‬
‫الصحيح (‪ ، )333 /5‬كتاب التفسري ‪ ،‬تفسري سورة األحزاب حديث رقم (‪.)3218‬‬

‫ص ‪654 :‬‬
‫أم سليم حيسا ‪ ،‬فجعلته يف تور ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فدخل أبهله ‪ ،‬فصنعت ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فقل ‪ :‬بعثت إليك هبا أمي‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وقالت يل ‪ :‬اي أنس اذهب هبذا إىل رسول ّ‬
‫اّلل‪ .‬قال ‪ :‬فذهبت هبا إىل رسول‬
‫وهي تقرئك السالم ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إ ّن هذا لك منا قليل اي رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إ ّن أمي تقرئك السالم ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إ ّن هذا منا لك قليل اي‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫رسول ّ‬
‫فسمى رجاال‪ .‬قال ‪:‬‬
‫«ضعه» ‪ ،‬مث قال ‪« :‬اذهب فادع يل فالان وفالان ‪ ،‬ومن لقيت» ّ‬
‫فدعوت من مسّى ومن لقيت ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ألنس ‪ :‬عددكم كما كانوا؟ قال ‪ :‬زهاء ثالمثائة ‪ ،‬قال‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اي أنس هات التّور» قال ‪ :‬فدخلوا حىت امتألت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫‪ :‬قال يل رسول ّ‬
‫كل‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ليتحلّق عشرة عشرة ‪ ،‬وليأكل ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫الص ّفة واحلجرة ‪ ،‬فقال رسول ّ‬
‫إنسان ِما يليه» قال ‪ :‬فأكلوا حىت شبعوا ‪ ،‬قال ‪ :‬فخرجت طائفة ودخلت طائفة حىت أكلوا‬
‫كلهم قال ‪ :‬قال يل ‪ :‬اي أنس ارفع ‪ ،‬قال ‪ :‬فرفعت فما أدري حني وضعت كان أكثر أم حني‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ورسول‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رفعت! قال ‪ :‬وجلس منهم طوائف يتحدثون يف بيت رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل جالس ‪ ،‬وزوجته مولية وجهها إىل احلائط ‪ ،‬فثقلوا على رسول ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل صلّى‬
‫اّلل عليه وسلّم فسلّم على نسائه ‪ ،‬مث رجع‪ .‬فلما رأوا رسول ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فخرج رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم قد رجع ظنّوا أّنّم قد ثقلوا عليه ‪ ،‬قال ‪ :‬فابتدروا الباب ‪ ،‬فخرجوا كلّهم ‪ ،‬وجاء‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم حىت أرخى السرت ‪ ،‬ودخل ‪ ،‬وأان جالس يف احلجرة ‪ ،‬فلم يلبث‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فقرأهن‬
‫اّلل صلّى ّ‬ ‫علي ‪ ،‬وأنزلت هذه اآلايت ‪ ،‬فخرج رسول ّ‬ ‫إال يسريا حىت خرج ّ‬
‫عام غح ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬ ‫َّيب إَِّال أح ْن يم ْؤذح حن لح مك ْم إِىل طح ٍ ح‬
‫ري انظ ِر ح‬ ‫وت النِ ِّ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميم ح‬
‫ين ح‬‫على الناس ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫إِانهم إىل آخر اآلية [‪، ]53‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫قال أنس ‪ :‬أان أحدث الناس عهدا هبذه اآلايت ‪ ،‬وحجنب نساء النيب صلّى ّ‬
‫ورويت رواايت كثرية قال فيها أبو بكر بن العريب «‪ : »1‬إّنا ضعيفة كلّها ما عدا الذي ذكران ‪،‬‬
‫الرب والفاجر ‪ ،‬فلو أمرت‬
‫اّلل يدخل عليك ّ‬
‫وما عدا الذي روي أ ّن عمر قال ‪ :‬قلت اي رسول ّ‬
‫أمهات املؤمنني أن حيتجنب ‪ ،‬فنزلت آية احلجاب «‪ .»2‬وما دامت الرواايت مل تصح فلنعرض‬
‫عن ذكرها‪.‬‬
‫تعني الزوجة ‪ ،‬وذلك على حنو ما روى اإلمام أمحد‬
‫وهناك رواية أخرى يف «الصحيح» «‪ »3‬أيضا ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم زينب بنت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫تزوج رسول ّ‬
‫والبخاري ومسلم وغريهم عن أنس قال ‪ :‬ملا ّ‬
‫ج حش ‪ ،‬دعا القوم ‪ ،‬فطعموا ‪ ،‬مث جلسوا يتحدثون ‪ ،‬وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ‪،‬‬
‫فلما رأى ذلك قام‪ .‬فلما قام قام من قام وقعد ثالثة نفر ‪ ،‬فجاء‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1575 /3‬‬
‫وت النِ ِّ‬
‫َّيب‬ ‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )29 /6‬كتاب التفسري ‪ ،‬ابب ال تح ْد مخلموا بميم ح‬
‫إَِّال ‪...‬‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)4790‬‬
‫(‪ )3‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪655 :‬‬
‫النيب‬
‫اّلل عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس ‪ ،‬مث إّنم قاموا ‪ ،‬فجئت فأخربت ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم أّنم قد انطلقوا ‪ ،‬فجاء حىت دخل ‪ ،‬فذهبت أدخل فألقى احلجاب بيين‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬‫وبينه ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫ِ‬
‫َّيب إَِّال أح ْن يم ْؤذح حن لح مك ْم‪.‬‬
‫وت النِ ِّ‬
‫آمنموا ال تح ْد مخلموا بميم ح‬ ‫اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬
‫ولعلّك بعد الذي ق ّدمنا يف غري حاجة إىل إعادة القول يف إضافة البيوت جمموعة إىل النيب صلّى‬
‫اّلل‬
‫اختص هبا ‪ ،‬وأعدها لسكىن أزواجه املتعددات ‪ ،‬وقد ّنى ّ‬ ‫ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فهي بيوته ‪،‬‬
‫ّ‬
‫املؤمنني أن يدخلوا هذه البيوت إال دخوال مصحواب ابإلذن ‪ ،‬واالستثناء يف قوله تعاىل ‪ :‬إَِّال أح ْن‬
‫أعم األحوال ‪ ،‬أي ال تدخلوها يف حال من األحوال إال حال كونكم‬
‫مفرغ من ّ‬
‫يم ْؤذح حن لح مك ْم استثناء ّ‬
‫مصحوبني ابإلذن لكم ‪ ،‬وتكون ابء املصاحبة مقدرة يف الكالم‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أن الباء املق ّدرة ابء السببية ‪ ،‬واالستثناء من عموم األسباب‪.‬‬
‫وذهب الزخمشري إىل عدم تقدير الباء ‪ ،‬وإىل أن االستثناء من عموم األوقات ‪ ،‬أي ال تدخلوها‬
‫يف وقت من األوقات إال وقت اإلذن ‪ ،‬وهذا متوقف على صحة وقوع املصدر املؤول مع‬
‫خاص ابلصريح دون املؤول ‪ ،‬واملسألة‬
‫الظرف‪ .‬ويرى أبو حيان أ ّن وقوع املصدر موقع الظرف ّ‬
‫خالفية من خالفيات النحاة ‪ ،‬واألشهر أنه ال جيوز‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِىل طح ٍ‬
‫عام متعلّق بيؤذن ‪ ،‬وكان الظاهر أن يع ّدى (بفي) بدل (إىل) ّإال أ ّن الفعل‬
‫ضمن معىن الدعوة ‪ ،‬فع ّدي مبا يتعدى به فعلها ‪ ،‬وتضمينه معىن الدعوة لإليذان أبنه ال‬
‫يم ْؤذح حن ّ‬
‫ينبغي الدخول للطعام إال بدعوة إليه ‪ ،‬وإن وجد صريح اإلذن ابلدخول ‪ ،‬ويرى البعض أ ّن إِىل‬
‫عام تنازعه تدخلوا ويؤذن‪.‬‬ ‫طح ٍ‬
‫ين إِانهم إانه مصدر مضاف إىل الضمري ‪ ،‬نقول ‪ :‬أّن الطعام أيّن إذا نضج إّن ‪ ،‬أي‬ ‫غح ْ ِ‬
‫ري انظ ِر ح‬
‫ح‬
‫نضجا‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أنّه ظرف مبعىن حني ‪ ،‬وهو مقلوب آن ‪ ،‬فجاءت النون قبل األلف ‪ ،‬وغريت فتحة‬
‫اهلمزة كسرة ‪ ،‬واملعىن على األول ‪ :‬غري منتظرين نضجه ‪ ،‬وعلى الثاين غري منتظرين وقته ‪ ،‬أي‬
‫وقت إدراكه ونضجه ‪ ،‬ومها متقارابن‪.‬‬
‫مث إن (غري) منصوب على احلالية ‪ ،‬وهي حال مرتادفة ‪ ،‬أي ال تدخلوا يف حال من األحوال ‪ ،‬إال‬
‫حال اإلذن لكم ‪ ،‬غري منتظرين النضج أو وقته ‪ ،‬وصاحب احلال على هذا هو واو اجلماعة يف‬
‫ال تح ْد مخلموا‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أنه حال من فاعل فعل حمذوف ‪ ،‬أي ادخلوها غري انظرين إانه‪.‬‬
‫وجوز بعضهم أن يكون حاال من الضمري اجملرور يف لح مك ْم ‪ ،‬ويكون املعىن ‪ :‬ال تدخلوا إال حال‬
‫ّ‬
‫اإلذن ‪ ،‬حال كونكم غري انظرين‪ .‬ويكون هذا إشارة إىل أ ّن اإلذن ينبغي أن يكون ملن كانت‬
‫عادته ملن يسبق وقت الطعام ‪ ،‬فإ ّن ذلك يكون إثقاال على من يف البيت‪.‬‬

‫ص ‪656 :‬‬
‫ين إِانهم حال من الواو يف تح ْد مخلموا ويكون املعىن ‪ّ :‬نيهم عن‬ ‫ويرى البعض أ ّن قوله ‪ :‬غح ْ ِ‬
‫ري انظ ِر ح‬
‫ح‬
‫الدخول يف هذه احلال ‪ ،‬وهي حال عدم انتظار الطعام‪ .‬وهم يروون يف ذلك أ ّن بعض أصحاب‬
‫يسمون‬
‫اّلل عليه وسلّم كان يدخل يف وقت الطعام من غري سابق دعوة ‪ ،‬وكانوا ّ‬
‫الرسول صلّى ّ‬
‫الثقالء من أجل ذ لك ‪ ،‬وبعد تسليم ما رووا فكيف تفيد اآلية النهي عن الذي كان منهم؟ لعلهم‬
‫يقولون ‪ :‬إ ّن املعىن ‪ :‬ال تدخلوا حال كونكم غري منتظرين وقت الطعام ‪ّ ،‬إال أن يؤذن لكم‪.‬‬
‫ويكون املراد ّنيهم أن يدخلوا على الفجاءة ‪ ،‬وأما إذا جاؤوا ومكثوا انتظارا للطعام ‪ ،‬فال يكون‬
‫ذلك منهيا عنه وهم هبذا يدفعون ثقيال أبثقل منه ‪ ،‬إذ إّنم جيوز هلم حينئذ أن يدخلوا البيت ‪،‬‬
‫وميكثوا ما طاب هلم املكث حىت جييء الطعام ‪ ،‬ويهيّأ هلم‪.‬‬
‫حولكِ ْن إِذا دم ِعيتم ْم فحا ْد مخلموا هذا استدراك على ما فهم من النهي عن الدخول بغري إذن ‪ ،‬وهو‬
‫متضمن معىن الدعوة ‪ ،‬وهو بعد هذا تصريح مبا علم قبل‪.‬‬
‫مشعر أب ّن اإلذن ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فحِإذا طحع ْمتم ْم فحانْ تحش مروا أمر ّ‬
‫ابلتفرق بعد الفراغ من الطعام ‪ ،‬بعدية يرجع يف حتديدها إىل ما جيري به‬
‫العرف‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم كان قد ثقل‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وأنت بعد الذي اطلعت عليه من سبب نزول ترى أ ّن ّ‬
‫يتفرغ لبعض شأنه يف بيته ‪،‬‬
‫عليه أن ميكث هؤالء األضياف بعد أن فرغوا من الطعام ‪ ،‬ومل يدعوه ّ‬
‫ابلتفرق‪.‬‬
‫وكان مينعه احلياء أن أيمرهم ّ‬
‫ني ِحل ِد ٍ‬
‫يث االستئناس للحديث طلب األنس به ‪ ،‬والطمأنينة والسرور واالرتياح له ‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫حوال مم ْستحأْنس ح ح‬
‫وقد أطلق نفي االستئناس للحديث من غري بيان صاحب احلديث ‪ ،‬لإلشارة إىل أ ّن املكث بعد‬
‫الطعام غري مرغوب فيه على اإلطالق ‪ ،‬أاي كان االستئناس ‪ ،‬سواء كان حلديث بعضهم بعضا ‪،‬‬
‫أو حلديث غريهم ‪ ،‬فإ ّن األمر كان أمر وليمة ‪ ،‬وقد انتهت ‪ ،‬ومل يبق إال أن يفرغ من البيت‬
‫لبعض شأّنم ‪ ،‬والبقاء بعد ذلك نوع من الثقل غري حممود‪.‬‬
‫ني ِحل ِد ٍ‬
‫يث معطوف ابجلر على (انظرين) وتكون‬ ‫ِِ‬
‫ويرى بعض املفسرين أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬مم ْستحأْنس ح ح‬
‫(ال) لتأكيد النفي ‪ ،‬وجيوز أن تكون (ال) مبعىن (غري) معطوفة على (غري انظرين)‪.‬‬
‫دل عليه الكالم ‪ ،‬أي وال متكثوا‬
‫ويرى البعض أ ّن (مستأنسني) حال من فاعل فعل حمذوف ّ‬
‫مستأنسني حلديث ‪ ،‬والالم يف قوله ‪( :‬حلديث) إما تعليلية داخلة على حمذوف ‪ ،‬أي ألجل‬
‫استماع احلديث ‪ ،‬أو هي للتقوية‪.‬‬
‫َّيب فحيح ْستح ْحيِي ِم ْن مك ْم هذا مبثابة التعليل ملا قبله ‪ ،‬أي إمنا ّنيتم عن دخول‬
‫إِ َّن ذلِ مك ْم كا حن يم ْؤ ِذي النِ َّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يتأذّى من‬
‫اّلل عليه وسلّم إال يف احلدود املبينة ‪ ،‬ألن النيب صلّى ّ‬
‫بيت النيب صلّى ّ‬
‫الدخول على غري هذه احلدود وإيذاء النيب ال يصح أن يكون من املؤمنني ‪ ،‬من أجل‬

‫ص ‪ 657 :‬ذلك بيّنا لكم احلدود ‪ ،‬ورمسنا الطرق ‪ ،‬حىت ال يلحقه أذى ‪ ،‬وقد كان النيب صلّى‬
‫اّلل عليه وسلّم ضجرا على ما عرفت من أسباب النزول‪ .‬من بقاء من بقي عنده بعد انتهاء‬
‫ّ‬
‫هم ابلقيام لينتبهوا فيقوموا فأقاموا ‪ ،‬ولقد كان مينعه احلياء أن أيمرهم‬
‫الطعام ‪ ،‬بل لقد ّ‬
‫ابالنصراف‪.‬‬
‫وقد كان من عادات العرب ّأال يطلبوا إىل الضيف االنصراف بعد القرى مهما طال املكث ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫وكان الناس من أجل ذلك يف حاجة ألن يتعلموا آداب املنازل ‪ ،‬والنيب صلّى ّ‬
‫شديد احلياء ‪ ،‬فنزل القرآن إرشادا هلم وتعليما‪.‬‬
‫واسم اإلشارة على ما ترى راجع إىل ما يكون منهم من الدخول على غري الوجوه املبيّنة ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫بل هو راجع إىل مفهوم من الكالم ‪ ،‬وهو املكث قصد االستئناس للحديث ‪ ،‬أو راجع إىل‬
‫االستئناس املفهوم من مستأنسني‪.‬‬
‫واالستحياء على احلقيقة ال يكون منهم ‪ ،‬وإمنا يكون من شيء يتصل هبم ‪ ،‬ويلحقهم من جهته ‪،‬‬
‫وهو إخراجهم أو منعهم من البقاء واملكث ‪ ،‬وإال فالذات ال يستحيا منها ‪ ،‬إمنا يكون االستحياء‬
‫من األفعال‪.‬‬
‫اّللم ال يح ْستح ْحيِي ِم حن ا ْحلحِّق فإنّه يدل على أ ّن الذي كان يستحي منه النيب‬
‫انظر إىل قوله تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫هو احلق ‪ ،‬وهل يتصف ابحلقيقة إال األفعال؟ ولو كان املراد االستحياء من ذواهتم لقال تعاىل يف‬
‫واّلل ال يستحي منكم‪.‬‬
‫مقابله ّ‬
‫فسمى السكوت عليه‬
‫اّلل من احلق وأريد منه عدم السكوت عن بيانه ‪ّ ،‬‬
‫وأطلق استحياء ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم من‬
‫استحياء على طريق املشاكلة ‪ ،‬لوقوعه جبانب استحياء الرسول صلّى ّ‬
‫إخراجهم‪.‬‬
‫و[يفيد] ظاهر اآلية منع مكث املدعو إىل الطعام بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذاي لصاحب‬
‫اّلل عليه وسلّم فقد‬ ‫البيت ‪ ،‬وإذا كانت اآلية اليت معنا خاصة آبداب دخول بيت الرسول صلّى ّ‬
‫ِ‬
‫آمنموا‬
‫ين ح‬ ‫تك ّفلت سورة النور ببيان آداب دخول املنازل على اإلطالق يف قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫سلِّ مموا حعلى أح ْهلِها ذلِ مك ْم حخ ْريٌ لح مك ْم ل ححعلَّ مك ْم تح حذ َّك مرو حن‬ ‫سوا حوتم ح‬
‫ِ‬ ‫ال تح ْد مخلموا ب يواتً غح ْ ِ‬
‫ري بميموت مك ْم حح َّىت تح ْستحأْن م‬
‫ح‬ ‫مم‬
‫(‪[ )27‬النور ‪ ]27 :‬ويف غريها من اآلايت ‪ ،‬فارجع إليها إن شئت‪.‬‬
‫جاب ذلِ مك ْم أحط حْه مر لِمقلموبِ مك ْم حوقملموهبِِ َّن حوما كا حن لح مك ْم أح ْن‬ ‫وه َّن ِم ْن حور ِاء ِح ٍ‬ ‫حوإِذا حسأحلْتم مم م‬
‫وه َّن حمتاعاً فح ْسئح لم م‬
‫اّللِ حع ِظيماً‪.‬‬ ‫واجهم ِم ْن بح ْع ِدهِ أحبحداً إِ َّن ذلِ مك ْم كا حن ِع ْن حد َّ‬
‫حوا أح ْز ح‬
‫ِ‬ ‫ول َِّ‬
‫اّلل حوال أح ْن تح ْنك م‬ ‫تم ْؤذموا حر مس ح‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ترى‬ ‫ال يزال الكالم كما ترى متصال يف ذكر آداب الدنو من بيوت النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه‬ ‫وه َّن فهو راجع إىل نساء النيب صلّى ّ‬ ‫ذلك ماثال يف ضمري النساء يف قوله تعاىل ‪ :‬حسأحلْتم مم م‬
‫وسلّم ‪ ،‬وقد فهم اشتمال الكالم عليهن من النهي عن دخول البيوت ‪ ،‬وعن إطابة املكث تلذذا‬
‫ابحلديث ‪ ،‬وعن األمر ابلدخول إن كانت هناك دعوة ‪ ،‬واالنتشار عقب الطعام ‪ ،‬ومن أن خمالفة‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وهو ما كان ليتأذّى لو ال وجود النساء يف البيوت ‪،‬‬
‫ذلك تؤذي النيب صلّى ّ‬
‫فإرجاع الضمري إىل مفهوم من الكالم السابق مؤذن أبنّه متصل ابلكالم‬

‫ص ‪658 :‬‬
‫متمم له يف ذكر آداب البيوت ‪ ،‬واقع على ما وقع عليه من سبب ‪ ،‬فهو يف غري حاجة‬
‫السابق ‪ّ ،‬‬
‫خاص يقع عليه ‪ ،‬وأنه ليكفي أن يوجد شأن من الشؤون يتصل‬
‫إىل ربط جديد ‪ ،‬وال إىل سبب ّ‬
‫ابلبيوت ‪ ،‬لنذكر كل األحكام اليت تكفل حياطة البيوت من األذى‪.‬‬
‫ويرى بعض املفسرين تنزيل هذه اآلية على سبب خاص روي هنا من طريق صحيح ‪ ،‬ويعدون‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وذلك على حنو ما قدمنا ِما‬
‫اآلية إحدى موافقات القرآن لعمر رضي ّ‬
‫الرب‬
‫اّلل يدخل عليك ّ‬‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫روى البخاري «‪ »1‬وغريه عن أنس رضي ّ‬
‫اّلل آية احلجاب‪.‬‬
‫والفاجر ‪ ،‬ولو أمرت أمهات املؤمنني ابحلجاب فأنزل ّ‬
‫وليس هناك ما مينع أن يكون ذلك أحد األسباب اليت نزلت من أجلها اآلايت يف شأن بيوت‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ويكون قد جاء يف بعضها أو كلها ما يوافق رأي عمر ‪ ،‬وحرصه‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫جتمعت فنزلت اآلايت‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فتكون األسباب قد ّ‬
‫على كرامة نساء الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وحرمة أزواجه‪.‬‬
‫متصال بعضها ببعض يف صيانة بيوت النيب صلّى ّ‬
‫كتعرف األحكام ‪ ،‬واحلجاب ‪:‬‬
‫واملتاع ما يستمتع به حسيا كاملاعون ‪ ،‬أو معنواي ّ‬
‫الساتر ‪ ،‬وتكليف الرجال سؤال النساء املتاع من وراء حجاب مؤذن بتكليف من يف البيوت‬
‫ضرب احلجاب ‪ ،‬ألنّه من غري املعقول أن يكون ضرب احلجاب على غري أصحاب البيوت‪.‬‬
‫كل ما تقدم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ذل مك ْم أحط حْه مر ل مقلموب مك ْم حوقملموهب َّن اإلشارة راجعة إىل السؤال من وراء حجاب ‪ ،‬أو إىل ّ‬
‫من األحكام ‪ ،‬ومعىن كونه أطهر أنّه أكثر تنزيها لقلوب الرجال والنساء من اهلواجس اليت تتولّد‬
‫فيها عند اختالط الرجال ابلنساء ‪ ،‬فإ ّن الرؤية بريد الفتنة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم هبذه األحكام ‪ ،‬وأبعد عنها الريبة‪ .‬واجتث‬
‫هكذا كفل القرآن بيوت النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه‬
‫خاصة آبداب االتصال ببيوت النيب صلّى ّ‬
‫أصول املخاوف والفتنة ‪ ،‬فاآلايت كما ترى ّ‬
‫وسلّم خاصة بلفظها ‪ ،‬وبتوجيه اخلطاب فيها ‪ ،‬وأبسباب نزوهلا ‪ ،‬ومبا ذكر فيها من علة‪.‬‬
‫َّيب قمل ِألح ْزو ِ‬
‫ك‬
‫اج ح‬ ‫وأما بيوت املؤمنني فقد تكفلت آبداهبا سورة النور كما قلنا لك وآية اي أحيُّ حها النِ ُّ ْ‬
‫ني حعلحْي ِه َّن ِم ْن حج حالبِيبِ ِه َّن اآلية يف سورة األحزاب وستعرف فيها آراء‬ ‫ِ ِ‬
‫ني يم ْدنِ ح‬
‫ك حونِساء ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫حوبحناتِ ح‬
‫العلماء يف احلجاب‪.‬‬
‫واجهم ِم ْن بح ْع ِدهِ أحبحداً‪.‬‬
‫حوا أح ْز ح‬
‫ِ‬ ‫ول َِّ‬
‫اّلل حوال أح ْن تحنْك م‬ ‫حوما كا حن لح مك ْم أح ْن تم ْؤذموا حر مس ح‬
‫اّلل عليه وسلّم أاي كان‬ ‫واملعىن ‪ :‬أنّه ال يكون من شأن املؤمنني أن تقع منهم أذية للرسول صلّى ّ‬
‫نوعها ‪ ،‬سواء أكانت من النوع الذي ذكر يف اآلية ِما يتصل ابلبيوت ‪ ،‬أم من غريها ‪ ،‬وهذا‬
‫التعميم يرشد إليه إطالق الفعل‪ .‬تم ْؤذموا عن التقييد بكونه يف البيوت ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪659 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ّإال‬
‫فدل ذلك على أ ّن شأن املؤمنني أال يكون منهم للرسول صلّى ّ‬
‫أو يف غريها ‪ّ ،‬‬
‫ما يكون إكراما وشكرا على ما أسدى إىل األمة من خري ‪ ،‬فال معىن لتقييد األذى هنا بنوع منه ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬واالستئناس للحديث فيها ‪ ،‬وكون اآلية وردت يف هذا‬
‫كاللبث يف بيوته صلّى ّ‬
‫السياق ال يقتضي تقييدها به ‪ ،‬بل يقتضي دخوهلا يف العموم الذي دلّت عليه اآلية‪.‬‬
‫وذكر النيب بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من حت ّدثهم نفوسهم أبذيته ‪ ،‬إذ ذلك يكون كفراان‬
‫بنعمة الرسالة الواجب شكراّنا‪.‬‬
‫اجهم ِم ْن بح ْع ِدهِ ذكر هذا بعد النهي عن األذى بصيغة اخلرب من قبيل ذكر‬
‫حوا أح ْزو ح‬
‫ِ‬
‫حوال أح ْن تح ْنك م‬
‫اّلل عليه وسلّم من أكرب‬
‫اخلاص بعد العام ‪ ،‬لالهتمام به ‪ ،‬فإ ّن امتهان فراش الرسول صلّى ّ‬
‫األذى‪.‬‬
‫وقد عرض املفسرون هنا للكالم يف املراد من األزواج ‪ ،‬وقد سبق لك عند الكالم على آية‬
‫التخيري شيء من هذا‪.‬‬
‫فقد ذهب بعضهم إىل أ ّن األزواج الالئي ال ينكحن هن من ثبت هلن هذا الوصف ‪ ،‬ولو من‬
‫طريق العقد من غري أن يدخل هبا‪ .‬وإطالق األزواج هنا ظاهر يف هذا‪.‬‬
‫ويرى بعضهم كإمام احلرمني قصره على املدخول هبا ‪ ،‬وحنيلك هنا على ما ذكرانه عند الكالم‬
‫على املختارات ‪ ،‬لتقف على أرجح األقوال يف ذلك‪.‬‬
‫املفسرون أيضا إىل البعدية من قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن بح ْع ِدهِ أحبحداً هل هي بعدية الوفاة ‪ ،‬أو‬
‫وقد عرض ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم مل يثبت أنّه طلق أحدا من نسائه من طريق‬
‫بعدية الفراق مطلقا‪ .‬وما دام أنه صلّى ّ‬
‫اّلل من أن ينكح‬
‫صحيح ‪ ،‬وحىت اليت قيل ‪ :‬إّنا اختارت الدنيا قيل ‪ :‬إّنا جنّت ‪ ،‬وقد منعه ّ‬
‫كن معه ‪ ،‬وأن يطلقهن ليتزوج غريهن‪.‬‬
‫أزواجا بعد الالئي ّ‬
‫فما نرى معىن هلذا الذي خاض فيه املفسرون ‪ ،‬ونرى أ ّن البعدية بعدية الوفاة‪.‬‬
‫حل املطلقة ‪ ،‬ومن فسخ نكاحها فهو كالم مبين على الفرض والتقدير ‪ ،‬وال شأن‬
‫وأما الكالم يف ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫لآلية به ‪ ،‬وإن كان لنا أن نقول شيئا فذلك أ ّن إضافة البعدية إىل ضمريه صلّى ّ‬
‫لكف األذى عنه صلّى‬
‫ظاهر يف بعدية الوفاة‪ .‬وأيضا فإ ّن منع املؤمنني من نكاح أزواجه إمنا هو ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأي أذى يلحقه من أن تنكح امرأة نبذها ‪ ،‬ومل تنل شرف أمومة املؤمنني‪ .‬إ ّن‬
‫ّ‬
‫منع زواجها فيه أذاها هي ‪ ،‬وال يليق أن يكون مقصدا من مقاصد الشريعة إحلاق األذى ابلناس ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫على أ ّن منعها من الزواج فيه تسوية بينها وبني من نلن رضاء الرسول صلّى ّ‬
‫والالزم عدم التسوية‪.‬‬
‫اّللِ عح ِظيماً اسم اإلشارة راجع إىل إيذاء الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ونكاح‬ ‫إِ َّن ذلِ مك ْم كا حن ِعنْ حد َّ‬
‫أزواجه من بعده‪.‬‬
‫اّللح كا حن بِ مك ِّل حش ْي ٍء حعلِيماً (‪ )54‬ملا كان مقام البيوت‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ْن تم ْب مدوا حش ْيئاً أ ْحو مختْ مفوهم فحِإ َّن َّ‬
‫قال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يقتضي حيطة شديدة ‪ ،‬حىت يكون‬ ‫خصوصا بيوت النيب صلّى ّ‬

‫ص ‪660 :‬‬
‫اّلل اآلايت الواردة فيه مبا جيعل‬
‫االمتثال لألحكام الواردة فيه يتفق فيه الظاهر والباطن ‪ ،‬أعقب ّ‬
‫الناس يف متام اليقظة ‪ ،‬وعلى أشد ما يكون من احلذر ‪ ،‬ذلك أنه نبههم إىل أ ّن علمه قد أحاط‬
‫خبفيات النفوس ‪ ،‬فضال عما يظهر منها ‪ ،‬وذلك هتديد شديد يقطع ما خياجل النفوس من‬
‫الوساوس ‪ ،‬وما حييط هبا من دوافع الشهوات ‪ ،‬فيعمل الناس على اإلقالع عن جماراة الوساوس‬
‫كل إنسان حبسب‬
‫اّلل مطّلع على ما ظهر وما خفي ‪ ،‬وجماز ّ‬
‫‪ ،‬واستئصال نوازع الشهوات ‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫واّلل القادر على‬
‫ذلك العلم ‪ ،‬ومن ذا الذي يستطيع بعد هذا أن حتدثه نفسه ابلدنو من األذى ‪ّ ،‬‬
‫اجلزاء قد أحاط بكل شيء علما‪.‬‬
‫ناء إِ ْخواّنِِ َّن وال أحب ِ‬
‫ناء‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال جناح علحي ِه َّن ِيف آابئِ ِه َّن وال أحبنائِ ِه َّن وال إِ ْخواّنِِ َّن وال أحب ِ‬ ‫قال ّ‬
‫ح ْ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح‬ ‫ح ْ‬ ‫م ح حْ‬
‫اّللح كا حن عحلى مك ِّل حش ْي ٍء حش ِهيداً (‪ )55‬قد‬ ‫اّللح إِ َّن َّ‬
‫ني َّ‬‫ت أ ْحميا مّنم َّن حواتَّ ِق ح‬
‫أح حخواهتِِ َّن حوال نِسائِ ِه َّن حوال ما حملح حك ْ‬
‫اّلل عليه وسلّم أن حيتجنب عن الرجال ‪ ،‬وال يظهرن‬ ‫فهم ِما تق ّدم أ ّن على نساء النيب صلّى ّ‬
‫إليهن ‪ ،‬ويف ذلك ما فيه من حرج ‪،‬‬ ‫النص على عمومه ‪ ،‬فيتناول أقرب الناس ّ‬ ‫عليهم ‪ ،‬وقد يفهم ّ‬
‫اّلل أن توصل ‪ ،‬فجاءت هذه اآلية الكرمية لبيان األقارب‬
‫بل قد يكون فيه قطع الرحم اليت أمر ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم أمامهم من غري حجاب‪.‬‬
‫الذين ال حيرم ظهور نساء النيب صلّى ّ‬
‫اّلل من ذلك ستة أصناف هم ‪ :‬اآلابء ‪ ،‬واألبناء ‪ ،‬واإلخوان ‪ ،‬وأبناء اإلخوان ‪ ،‬وأبناء‬
‫وقد ذكر ّ‬
‫أمياّنن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األخوات ‪ ،‬والنساء املضافات إليهن ‪ ،‬وما ملكت‬
‫وقد بقي من احملارم ‪ :‬األعمام واألخوال من غري ذكر ‪ ،‬وقد ذهب العلماء يف ذلك مذاهب ‪:‬‬
‫فمنهم من يرى أنه اكتفي عنهم بذكر اآلابء ‪ ،‬وقد جرى العرف إبطالق األب على العم واخلال‪.‬‬
‫ومنهم من رأى أ ّن يف ذكر أبناء اإلخوان رمزا إىل قرابة العمومة ‪ ،‬ويف ذكر أبناء األخوات رمزا إىل‬
‫قرابة اخلئولة ‪ ،‬وذلك أن من يكون ابن أخي املرأة تكون املرأة عمته ‪ ،‬ومن يكون ابن أختها‬
‫تكون هي خالته‪.‬‬
‫وعجب أن يرى بعض العلماء أ ّن عدم التنصيص على األعمام واألخوال يقتضي وجوب‬
‫االحتجاب منهم ‪ ،‬ويذهب يف التعليل مذهبا أعجب ‪ ،‬فيقول ‪ :‬إ ّن األعمام واألخوال لو اطلعوا‬
‫وصفوهن ألبنائهم؟‬
‫ّ‬ ‫على النساء فرّمبا‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فهل يريد‬
‫اي هؤالء! أنتم تتكلمون يف نساء متزوجات ‪ ،‬هن أزواج النيب صلّى ّ‬
‫العم أن يفسد ابنة أخيه على زوجها ‪ -‬وهو املصطفى ‪ -‬ليزوجها البنه ‪ ،‬وهل تقولون ‪:‬‬
‫إ ّن احلكم كذلك يف سائر النساء ‪ ،‬وال تعدون األخوال واألعمام حمارم يف حق النظر ‪ ،‬أو تقولون‬
‫اّلل عليه وسلّم؟! وإذا كان خوف الوصف يصلح علّة‬
‫إن ذلك خاص بنساء النيب صلّى ّ‬
‫فكل من‬
‫للحجاب ‪ ،‬فالوصف ِمكن يف اجلميع ‪ ،‬ال لألقارب فحسب ‪ ،‬بل لألجانب ‪ّ ،‬‬

‫حتل له ‪ ،‬سواء أكان قريبا أم أجنبيا ‪،‬‬


‫ص ‪ 661 :‬أحبتم له النظر ميكن أن يصفها لكل من ّ‬
‫كل واحدة منهما تصف البنها ما‬
‫والعمة واخلالة تراين من املرأة كل شيء إال العورة ‪ ،‬وميكن أ ّن ّ‬
‫رأت من ابنة أخيها أو من ابنة أختها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫وكيف ميكن أن يكون إمكان الوصف علة يف احلجاب ‪ ،‬وقد أابح النيب صلّى ّ‬
‫نظر املرأة ملن أراد أن خيطبها وقال ‪« :‬انظر إليها ‪ ،‬فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما» «‪.»1‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف تعيني املراد من النساء يف قوله تعاىل ‪ :‬حوال نِسائِ ِه َّن فروي عن ابن عباس‬
‫منهن املؤمنات ‪ ،‬وتكون إضافتهن إليهن ابعتبار أّنن على دينهن ‪ ،‬ويكون ذلك‬
‫وجماهد أ ّن املراد ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم من الكافرات‪.‬‬
‫دليل احتجاب نساء النيب صلّى ّ‬
‫إضافتهن إليهن ملزيد اختصاصهن هبن ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويرى بعضهم أ ّن املراد منهن النساء القريبات ‪ ،‬وتكون‬
‫هلن من صلة القرابة ‪ ،‬وكذلك من يكون من النساء مضافا إليهن ألي صلة أخرى ‪،‬‬
‫ملا ّ‬
‫كاملتصرفات اخلادمات‪.‬‬
‫ويعم الذكور منهم واإلانث ‪ ،‬وختصيص بعض العلماء له‬
‫وأما ما ملكت األميان فهو بظاهره ‪ّ ،‬‬
‫يدل على أ ّن املرأة حتتجب من عبدها ‪ ،‬ويبقى ظاهر اآلية معموال به حىت‬
‫ابإلماء حيتاج إىل دليل ّ‬
‫يقوم الدليل‪.‬‬
‫وقد تكلم بعضهم بعد ذلك يف دخول املكاتب ‪ ،‬وعدم دخوله ‪ ،‬وهو رقيق ما بقي عليه درهم ‪،‬‬
‫فمن نظر إىل هذه اجلهة قال ‪ :‬إ ّن اآلية تتناوله بظاهرها ‪ ،‬وإخراجه حيتاج إىل الدليل ‪ ،‬ومن نظر‬
‫حر يدا ‪ ،‬وهو مشغول‬
‫اّلل إمنا أابح الظهور للعبد حلاجة املرأة إىل خدمته ‪ ،‬ومن حيث إنه ّ‬
‫إىل أ ّن ّ‬
‫بسعيه يف أداء بدل الكتابة ‪ ،‬فهو ال يقوم خبدمة سيدته ‪ ،‬ومن أجل ذلك ال يوجد املعىن الذي‬
‫من أجله رفع اجلناح يف العبيد ‪ ،‬فال يكون ِما تتناوله اآلية‪.‬‬
‫اّللح كا حن حعلى مك ِّل حش ْي ٍء حش ِهيداً ملا كان أمر احلجاب عن األجانب ‪ ،‬والرتخيص يف‬
‫اّللح إِ َّن َّ‬ ‫حواتَِّق ح‬
‫ني َّ‬
‫تركه لألقربني احملارم حيتاج إىل كثري من احلذر والتقوى ‪ ،‬فقد جير دخول األقارب بيوت األزواج‬
‫إىل مفاسد ومنغّصات ‪ ،‬وقد يكون يف الكالم مع األجانب من وراء احلجب ما ال يقل عن تلك‬
‫املفاسد‪ .‬وتلك أشياء قد ترتكب مع التظاهر ابمتثال األوامر واجتناب النواهي ‪ ،‬وليس من‬
‫رهبن وتقواه‪.‬‬
‫عالج هلذه احلال ‪ّ ،‬إال أن يلزم النساء خشية ّ‬
‫عنهن حديثا عن الغائبات ‪ ،‬حىت‬
‫اّلل اخلطاب للنساء بعد أن كان احلديث ّ‬
‫وجه ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )397 /3‬كتاب النكاح ‪ ،‬ابب النظر إىل املخطوبة‬
‫حديث رقم (‪ ، )1087‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 9 ، )599 /1‬كتاب النكاح ‪ - 9 ،‬ابب‬
‫النظر إىل املرأة حديث رقم (‪ ، )1865‬والنسائي يف السنن (‪ ، )378 /6 - 5‬كتاب النكاح ‪،‬‬
‫ابب إابحة النظر حديث رقم (‪.)3235‬‬

‫ص ‪662 :‬‬
‫اّلل وعلمه ما قد تنطوي عليه نفوسهن وقاية ودرعا يقيهن من‬ ‫هلن من علمهن مبراقبة ّ‬
‫يكون ّ‬
‫أمرهن ابلتقوى بقوله ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اّللح كا حن حعلى مك ِّل‬ ‫ّ‬ ‫اّلل‬
‫الوقوع يف مهاوي الفساد‪ .‬وانظر كيف ع ّقب ّ‬
‫حش ْي ٍء حش ِهيداً يعلم علم شهود وحضور ومعاينة ‪ ،‬فيجازي على ما يكون ‪ ،‬ويف ذلك منتهى‬
‫اّلل عليه‬‫التحذير من خمالفة األوامر والنواهي ‪ ،‬ولقد بلغ من املبالغة يف تكرمي أزواج النيب صلّى ّ‬
‫وهن مسترتات‪ .‬قال‬
‫اّلل عليه وسلّم ّ‬
‫وسلّم أن قال بعض العلماء حبرمة نظر نساء النيب صلّى ّ‬
‫عليهن بال خالف يف الوجه‬
‫ّ‬ ‫القاضي عياض «‪ : »1‬فرض احلجاب ِما اختصصن به ‪ ،‬فهو فرض‬
‫كن‬
‫هلن كشف ذلك يف شهادة وال غريها ‪ ،‬وال إظهار شخوصهن وإن ّ‬
‫والكفني ‪ ،‬فال جيوز ّ‬
‫اّلل عنه‬
‫استدل لذلك مبا روي أ ّن حفصة ملا تويف عمر رضي ّ‬
‫مسترتات إال ما دعت إليه ضرورة‪ .‬و ّ‬
‫صح فال داللة فيه‪.‬‬
‫كان يسرتها النساء أن يرى شخصها‪ .‬ويرى ابن حجر حبق أ ّن ذلك إن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يؤدين احلج بعد وفاته‪ ، .‬ويطفن ابلبيت ‪ ،‬ويسعني بني‬
‫وقد كان نساء النيب صلّى ّ‬
‫الصفا واملروة ‪ ،‬ولو قيل ‪ :‬إ ّن السرت وعدم النظر إىل الشخوص أفضل ومندوب لكان شيئا يصح‬
‫اّلل عنه أمر يوم وفاة زينب بنت جحش أال‬
‫أن يصار إليه ‪ ،‬ويشهد له ما روي أ ّن عمر رضي ّ‬
‫يشهد جنازهتا إال ذو رحم حمرم منها ‪ ،‬عمال ابحلجاب ‪ ،‬فدلته أمساء بنت عميس على سرتها يف‬
‫النعش بقبة تضرب عليها ‪ ،‬وقالت ‪ :‬إّنا رأت ذلك يف بالد احلبشة ‪ ،‬فصنعه عمر‪.‬‬
‫صلُّوا حعلحْيهِ حو حسلِّ مموا‬
‫آمنموا ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫َّيب اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫اّللح حوحمالئِ حكتحهم يم ح ُّ‬
‫صلو حن حعلحى النِ ِّ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫قال ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل تعاىل فيما سبق أ ّن شأن املؤمنني أال تكون منهم أذية للرسول صلّى ّ‬ ‫تح ْسلِيماً (‪ )56‬قد بني ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وحياطة ملقامه الشريف ‪ ،‬وهنا ّبني‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬وذلك بعث على تكرميه صلّى ّ‬
‫اّلل يكرم نبيّه على وجه التأكيد ‪ ،‬فكان ما هنا مبثابة العلة ملا قبله ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬ما‬
‫اّلل تعاىل أ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل يصلّي عليه واملالئكة ‪ ،‬وما دام األمر كذلك فهو ال يستحق إال‬ ‫كان لكم أن تؤذوه ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫اإلكرام والتمجيد ‪ ،‬وأ ّكد اخلرب اهتماما به ‪ ،‬وجيء به مجلة امسية إلفادة الدوام ‪ ،‬وكانت اجلملة‬
‫امسية يف صدرها فعلية يف عجزها لإلشارة إىل أ ّن هذا التمجيد الدائم يتج ّدد وقتا فوقتا على‬
‫الدوام‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأمر املؤمنني أبن‬
‫اّلل ومالئكته يصلّون على النيب صلّى ّ‬
‫وقد ذكر يف اآلية أ ّن ّ‬
‫اّلل على نبيه ‪،‬‬
‫املفسرون لبيان معىن صالة ّ‬
‫يصلوا عليه ‪ ،‬وأبن يسلّموا تسليما‪ .‬وقد عرض ّ‬
‫وصالة املالئكة عليه ‪ ،‬وكذا صالة اخللق وتسليمهم‪ .‬وحنن متابعوهم فيما قالوا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬عياض بن موسى بن عياض اليحصيب السبيت أبو الفضل عامل املغرب ‪ ،‬وإمام أهل احلديث ‪،‬‬
‫ويل قضاء سبتة تويف مبراكش مسموما قيل مسه يهودي ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)99 /5‬‬

‫ص ‪663 :‬‬
‫اّلل على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه ‪ ،‬هو مروي عن البخاري عن الربيع بن أنس‬
‫فقيل ‪ :‬الصالة من ّ‬
‫اّلل له يف الدنيا إبعالء ذكره ‪ ،‬وإظهار دينه ‪ ،‬وإبقاء العمل بشريعته ‪ ،‬ويف اآلخرة‬
‫‪ ،‬مث تعظيم ّ‬
‫بت شفيعه يف أمته ‪ ،‬وإجزال األجر والثواب له ‪ ،‬وإعطائه املقام احملمود‪ .‬وهل من املالئكة الدعاء‬
‫اّلل الرمحة ‪ ،‬ومن املالئكة الدعاء‪.‬‬
‫له‪ .‬وقيل ‪ :‬هي من ّ‬
‫عرب عنها بلفظ واحد أضيف إىل‬ ‫اّلل غري الصالة من املالئكة ‪ ،‬وقد ّ‬ ‫وعلى القولني ‪ :‬فالصالة من ّ‬
‫صلُّو حن فمن ذهب إىل منع اجلمع بني احلقيقة واجملاز ذهب إىل أ ّن يف اآلية حذفا‬
‫واو اجلماعة يم ح‬
‫خاصة ‪ ،‬وذهب بعضهم‬
‫اّلل يصلّي ‪ ،‬ومالئكته يصلون ‪ ،‬فتكون واو اجلماعة ّ‬
‫تقديره هكذا ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫كل من الفاعلني‪.‬‬
‫إىل أ ّن تع ّدد الفاعل مؤذن بتع ّدد الفعل ‪ ،‬فيكون الفعل مسندا إىل ّ‬
‫وذهب مجاعة إىل القول أبنّه من ابب عموم اجملاز ‪ ،‬ال من اجلمع بني احلقيقة واجملاز ‪ ،‬فيق ّدرون‬
‫كل فرد منها فردا حقيقيا من أفراد املعىن اجملازي‬
‫معىن جمازاي عاما ‪ ،‬ينتظم أفرادا كثرية ‪ ،‬ويكون ّ‬
‫للعام ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ ّن هذا املعىن العام هو االعتناء ابملصلّى عليه ‪ ،‬وهذا االعتناء له أفراد ‪ ،‬فهو‬
‫اّلل على وجه ‪ ،‬ويكون من املالئكة على وجه آخر‪.‬‬
‫يكون من ّ‬
‫وأما صالة املؤمنني عليه ‪ ،‬فهي تعظيمهم لشأنه ‪ ،‬وذلك يكون بوجوه كثرية ‪ :‬منها الدعاء له‬
‫ابللفظ الوارد يف ذلك ‪ ،‬وقد جاءت كيفية الصالة عليه من املؤمنني من طرق كثرية ‪ ،‬وفيها صور‬
‫خاصة ‪ ،‬وإمنا هي ألوان من‬
‫من الصالة خمتلفة ‪ ،‬واختالفها يشعرك أب ّن الغرض ليس حتديد كيفية ّ‬
‫صح من هذه الكيفيات أل ّن استيعاهبا يطول‪.‬‬
‫التعظيم ‪ ،‬وسنقتصر على بعض ما ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قال رجل ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫روى الشيخان «‪ »1‬وغريمها عن كعب بن عجرة رضي ّ‬
‫صل على حممد وعلى‬
‫أما السالم عليك فقد عرفناه ‪ ،‬فكيف الصالة عليك؟ قال ‪« :‬قل اللهم ّ‬
‫آل حممد ‪ ،‬كما صليت على آل إبراهيم ‪ ،‬إنك محيد جميد‪ .‬اللهم ابرك على حممد وعلى آل‬
‫حممد ‪ ،‬كما ابركت على آل إبراهيم ‪ ،‬إنك محيد جميد»‪.‬‬
‫وأخرج مالك وأمحد والبخاري ومسلم وغريهم «‪ »2‬عن أيب محيد الساعدي أّنم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )305 /1‬كتاب الصالة ‪ - 17 ،‬ابب الصالة على النيب‬
‫حديث رقم (‪ ، )406 /66‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )32 /6‬كتاب التفسري ‪- 10 ،‬‬
‫اّللح حوحمالئِ حكتحهم ‪ ...‬حديث رقم (‪.)4798‬‬
‫ابب إِ َّن َّ‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )356 /1‬كتاب الصالة ‪ - 17 ،‬ابب الصالة على النيب‬
‫حديث رقم (‪ ، )407 /69‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 8 ، )252 /7‬كتاب الدعوات ‪32 ،‬‬
‫‪ -‬ابب الصالة على النيب حديث رقم (‪ ، )6360‬ومالك يف املوطأ (‪ ، )165 /1‬وأمحد يف‬
‫املسند (‪.)424 /5‬‬

‫ص ‪664 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬قولوا ‪ :‬اللّهم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل كيف نصلّي عليك؟ قال رسول ّ‬
‫قالوا ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫حممد وأزواجه وذريّته‬
‫حممد وأزواجه وذريّته ‪ ،‬كما صليت على آل إبراهيم ‪ ،‬وابرك على ّ‬
‫صل على ّ‬‫ّ‬
‫‪ ،‬كما ابركت على آل إبراهيم ‪ ،‬إنّك محيد جميد»‪.‬‬
‫اّلل هذا السالم عليك قد عرفناه ‪،‬‬
‫وأخرج اجلماعة «‪ »1‬عن أيب سعيد اخلدري قلنا ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫حممد عبدك ورسولك ‪ ،‬كما صلّيت‬
‫صل على ّ‬
‫فكيف الصالة عليك؟ فقال ‪« :‬قولوا ‪ :‬اللهم ّ‬
‫حممد وعلى آل حممد ‪ ،‬كما ابركت على آل إبراهيم»‪.‬‬
‫على إبراهيم ‪ ،‬وابرك على ّ‬
‫وهناك رواايت أخرى دون هذه يف الصحة ‪ ،‬وختالفها ابلزايدة والنقص يف مواضع كثرية ‪ ،‬وما دام‬
‫فأي عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن‬
‫اّلل عليه وسلّم ّ‬
‫املراد تعظيم النيب صلّى ّ‬
‫أتخذ هبا‪.‬‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫اّلل أمر املؤمنني أن يقولوا السالم عليك اي رسول ّ‬
‫وأما التسليم ‪ :‬فقد قيل ‪ :‬إ ّن املعىن أن ّ‬
‫وقد اختلف يف معىن السالم عليك فقيل ‪ :‬إ ّن معناه دعاء له ابلسالمة من اآلفات والنقائص [أن‬
‫] حتيط به وتالزمه‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ومعىن كونه عليه ‪ :‬أنه حافظه ‪ ،‬حىت إن بعض من قال‬
‫وقيل ‪ :‬بل السالم اسم من أمساء ّ‬
‫هبذا قال ‪ :‬إ ّن الكالم على حذف مضاف ‪ ،‬والتقدير حفظ السالم عليك‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل السالم االنقياد وعدم املخالفة ‪ ،‬ومعىن كونه عليك ‪ :‬مالزمته ‪ ،‬وهو حينئذ دعاء‬
‫للمسلم عليه ابنقياد الناس له انقيادا مالزما حبيث ال خيالفونه‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬إمنا أ ّكد التسليم ابملصدر ‪ ،‬ومل يؤكد الصالة ‪ ،‬ألن الصالة قد قرنت مبا يؤكدها ‪ ،‬وهو‬
‫اّلل ومن املالئكة ‪ ،‬فكان ذلك أبعث على أن تكون من الناس‪.‬‬
‫اإلخبار أبّنّا تكون من ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫وخص املؤمنني ابلتسليم ‪ ،‬أل ّن اآلية وردت بعد الكالم يف أذية النيب صلّى ّ‬
‫واألذية احمل ّدث عنها إمنا تكون من البشر‪.‬‬
‫اّلل مشتملة على تسليمه ‪ ،‬وأما صالة الناس فال تشتمل عليه ‪ ،‬فلذلك طلب‬
‫وقيل ‪ :‬بل صالة ّ‬
‫التسليم منهم‪.‬‬
‫مرة يف العمر ‪ ،‬بل‬
‫ويكاد العلماء جيمعون على وجوب الصالة والتسليم عليه ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )32 /6‬كتاب التفسري ‪ - 10 ،‬ابب إِ َّن َّ‬
‫اّللح‬
‫حوحمالئِ حكتحهم ‪...‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )4798‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 5 ، )292 /1‬كتاب إقامة الصالة ‪- 25 ،‬‬
‫ابب الصالة على النيب حديث رقم (‪ ، )903‬والنسائي يف السنن (‪ ، )56 /4 - 3‬كتاب‬
‫السهو ‪ ،‬ابب نوع آخر من الصالة على النيب حديث رقم (‪.)1291‬‬

‫ص ‪665 :‬‬
‫صلُّوا من الوجوب ‪،‬‬
‫لقد حكى القرطيب «‪ »1‬اإلمجاع على ذلك ‪ ،‬وذلك عمال مبا يقتضيه األمر ح‬
‫وتكون الصالة والسالم يف ذلك ككلمة التوحيد ‪ ،‬وذلك أنك تعلم أ ّن الصحيح أ ّن األمر ال‬
‫واملرة ‪ ،‬وحصوله ابملرة ضرورة من‬
‫يقتضي التكرار ‪ ،‬وإمنا هو للماهية املطلقة عن قيد التكرار ّ‬
‫ضرورات احلصول‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل القول بوجوب الصالة والتسليم يف التشهد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي واجبة يف الصالة‬
‫من غري قيد مبكان‪ .‬وقيل ‪ :‬جيب اإلكثار منها من غري تقيّد بعدد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬جتب يف كل جملس‬
‫مرة ولو تكرر ذكره فيه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬جتب كلما ذكر‪.‬‬
‫مبين على أ ّن األمر يفيد التكرار ‪ ،‬ولعلهم يستدلون ابألحاديث‬
‫ولعل هذا القول من قائليه ّ‬
‫الرتغيبية والرتهيبية الواردة يف فعلها وتركها ‪ ،‬وأنت لو اطلعت على هذه األحاديث لفهمت من‬
‫صيغتها أّنّا جملرد الرتغيب ‪ ،‬وأّنّا ككل احلسنات تتضاعف ‪ ،‬انظر إىل‬
‫اّلل عليه عشرا» «‪ »2‬و«من صلّى‬
‫علي واحدة صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬من صلّى ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫اّلل عليه مائة»‬
‫علي عشرا صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫فإنك واجد أنّه متفق مع قوله تعاىل ‪ :‬من جاء ِاب ْحلسنحةِ فحلحهم حع ْشر أحم ِ‬
‫ثاهلا [األنعام ‪ ]160 :‬وما‬ ‫م ْ‬ ‫حْ ح حح‬
‫قال أحد إال أن هذا ترغيب يف اإلحسان‪.‬‬
‫كل فاآلية ال داللة هلا إال على الوجوب مرة ‪ ،‬فمن زاد على هذا فعليه الدليل ‪ ،‬وحنن ملا‬
‫وعلى ّ‬
‫يدل عليه ملتزمون‪.‬‬
‫وأخريا فليلتمس القائلون بغري ما تدل عليه اآلية دليلهم يف غريها ‪ ،‬فإن قام دليل على وجوب‬
‫دل على ختام الصالة وجب ‪ ،‬وإال فاآلية مبنأى عن‬
‫الصالة والسالم يف التشهد وجب ‪ ،‬وإن ّ‬
‫هذا كله‪.‬‬
‫الدنْيا حو ْاآل ِخ حرةِ حوأ ح‬
‫حع َّد حهلم ْم حعذاابً مم ِهيناً‬ ‫اّللم ِيف ُّ‬
‫اّللح حوحر مسولحهم ل ححعنح مه مم َّ‬
‫ين يم ْؤذمو حن َّ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ َّن الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬بعد األمر ابلصالة‬ ‫(‪ )57‬هذا عود إىل أتكيد النهي عن أذى النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫والتسليم عليه اقتضته العناية الكاملة بشأن الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل ورسوله ارتكاب ما ال يرضيانه من الكفر والعصيان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل‬
‫وقد قيل ‪ :‬إ ّن املراد أبذى ّ‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫اّلل مغلولة ‪ ،‬واملسيح ابن ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما يكون من قبيل قول اليهود والنصارى يد ّ‬
‫إيذاء ّ‬
‫والسحر‬
‫شعر ّ‬‫اّلل ‪ ،‬وجعل األصنام شركاء ّّلل ‪ ،‬وإيذاء الرسول ‪ :‬انتقاصه بوصفه ابل ّ‬
‫وعزير ابن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم املراد هنا هو ما كان من طعنهم يف نكاح‬
‫واجلنون‪ .‬وقيل ‪ :‬إيذاء الرسول صلّى ّ‬
‫كل ذلك مرادا‪.‬‬
‫صفية بنت حيي ‪ ،‬إىل غري ذلك ‪ ،‬وال مانع أن يكون ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬اجلامع ألحكام القرآن املشهور بتفسري القرطيب ‪ ،‬طبعة تصوير ‪ ،‬بريوت دار املعرفة (‪/14‬‬
‫‪.)233 - 232‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 4 ، )306 /1‬كتاب الصالة ‪ - 17 ،‬ابب الصالة من النيب‬
‫حديث رقم (‪.)408‬‬
‫ص ‪666 :‬‬
‫وجل معه‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وذكر ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إن املقصود هنا إيذاء الرسول خاصة صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم خلليق به أن يؤذي ّ‬
‫للتشريف ‪ ،‬واإلشارة إىل أ ّن ما يؤذي الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل تعاىل وحمبته‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وحمبته طاعة ّ‬
‫وال يرضيه ‪ ،‬كما جعلت طاعة الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬وبعد ذلك فهناك العذاب املهني احمل ّقر ينتظر يف اآلخرة‪.‬‬ ‫واللعن الطرد واإلبعاد من رمحة ّ‬
‫احتح حملموا مهبْتاانً حوإِ ْمثاً ممبِيناً‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين يم ْؤذمو حن ال مْم ْؤمنِ ح‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوالَّذ ح‬
‫ني حوال مْم ْؤمنات بغح ِْري حما ا ْكتح ح‬
‫سبموا فح حقد ْ‬ ‫قال ّ‬
‫اّلل ورسوله انسب ذلك أن يقرن به ذكر الذين‬
‫(‪ )58‬ملا أّنى الكالم يف شأن الذين يؤذون ّ‬
‫يتعرضون للمؤمنني ابألذى ‪ ،‬واألذى هنا مطلق كاألذى يف اآلية السابقة ‪ ،‬يتناول كل ما يصدق‬
‫ّ‬
‫عليه اسم األذى ‪ ،‬سواء أكان ابلقول أم ابلفعل ‪ ،‬وسواء أكان إيذاء للعرض أو الشرف أو املال‬
‫أي نوع من أنواع األذى يستحقون اجلزاء الذي ذكر يف اآلية‬
‫‪ ،‬فإ ّن الذين يلحقون ابملؤمنني ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وهو أن يكون اإليذاء جزاء على االكتساب‬
‫خصه ّ‬
‫خيص منه شيء إال ما ّ‬
‫الكرمية ‪ ،‬ال ّ‬
‫‪ ،‬كاإليذاء ابلقصاص ‪ ،‬واإليذاء بقطع اليد يف السرقة ‪ ،‬وكاإليذاء ابلتعزيرات املختلفة ‪ ،‬وكاحل ّق‬
‫الوارد يف‬
‫اّلل ‪ ،‬فإذا قالوها فقد‬
‫حىت يقولوا ال إله إال ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس ّ‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫مين دماءهم وأمواهلم إال حب ّقها» «‪.»1‬‬
‫عصموا ّ‬
‫واّلل لو‬
‫اّلل عنه أ ّن الزكاة ح ّق املال ‪ ،‬فقاتل مانعيه من أجله ‪ ،‬وقال ‪ّ :‬‬
‫وقد فهم أبو بكر رضي ّ‬
‫وحاجه يف ذلك عمر ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إال حبقها‬
‫اّلل لقاتلتهم عليه‪ّ .‬‬
‫منعوين عناقا كانوا يعطونه لرسول ّ‬
‫‪ ،‬والزكاة حق األموال ‪ ،‬فانشرح صدره ملا رآه أبو بكر‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقد خيطر لك أن تقول ‪ :‬ملا ذا قيل ‪ :‬بغح ِْري حما ا ْكتح ح‬
‫سبموا هنا ‪ ،‬ومل يقل يف اآلية املتقدمة مثله؟‬
‫ونقول ‪ :‬أل ّن اكتساب األذى هناك ال يكون ‪ ،‬أما العباد فكل يوم يعدو بعضهم على بعض‪.‬‬
‫البني الظاهر‪ .‬واحتماله ‪ :‬محله ويف التعبري ابالحتمال‬
‫واملراد ابلبهتان الفعل الشنيع ‪ ،‬واإلمث املبني ّ‬
‫إشارة إىل ثقل ما حيملون من أوزار‪.‬‬
‫املفسرون هنا أسبااب لنزول اآلية «‪ ، »2‬فيقولون ‪ :‬هي يف قوم آذوا عليا أو‬
‫ويذكر ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )5 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 8 ،‬ابب حديث رقم (‪ 20‬و‪)21‬‬
‫‪ ،‬و(‪ - 8 ، )53 /1‬ابب األمر بقتال الناس حديث رقم (‪ ، )22 /36‬والبخاري يف الصحيح‬
‫(‪ - 2 ، )14 /1‬كتاب اإلميان ‪ - 17 ،‬ابب حديث رقم (‪ )25‬و(‪ - 8 ، )118 /1‬كتاب‬
‫الصالة ‪ - 28 ،‬ابب فصل استقبال القبلة حديث رقم (‪.)392‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفصيله يف الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)521 - 220 /5‬‬
‫ص ‪667 :‬‬
‫حلاجتهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عائشة ‪ ،‬وقيل يف شأن النيب وصفيّة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يف قوم كانوا يتّبعون النساء إذا برزن‬
‫جتمع‬
‫وهي بعد ثبوهتا ال تقتضي محل اآلية على واحد منها ‪ ،‬وقد تكون اآلية نزلت بعد ّ‬
‫األسباب‪.‬‬
‫اّلل صلّى‬
‫اّلل عنها قالت ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫وقد روى البيهقي يف «شعب اإلميان» عن عائشة رضي ّ‬
‫اّلل ورسوله أعلم‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫اّلل» قالوا ‪ّ :‬‬ ‫الراب أرّب عند ّ‬ ‫«أي ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم ألصحابه ‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫نات بِغح ِْري‬‫ني والْم ْؤِم ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين يم ْؤذمو حن ال مْم ْؤمن ح ح م‬ ‫اّلل استحالل عرض امرئ مسلم» مث قرأ حوالَّذ ح‬ ‫«أرّب الراب عند ّ‬
‫سبموا اآلية‪.‬‬ ‫حما ا ْكتح ح‬
‫ني حعلحْي ِه َّن ِم ْن حج حالبِيبِ ِه َّن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّيب قمل ِألح ْز ِ‬
‫ني يم ْدنِ ح‬
‫ك حونِساء ال مْم ْؤمنِ ح‬
‫ك حوبحناتِ ح‬
‫واج ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها النِ ُّ ْ‬ ‫قال ّ‬
‫اّللم غح مفوراً حرِحيماً (‪ )59‬جرى حكم العرف بتخصيص‬ ‫ْن فحال يم ْؤذحيْ حن حوكا حن َّ‬ ‫ذلِ ح‬
‫ك أح ْدّن أح ْن يم ْع حرف ح‬
‫النساء ابحلرائر ‪ ،‬وسبب النزول اآليت يقتضيه ‪ ،‬وآخر اآلية ظاهر فيه‪.‬‬
‫مضمن معىن اإلرخاء والسدل ‪ ،‬ولذا ع ّدي‬
‫قربين منه‪ .‬وهو هنا ّ‬
‫واإلدانء ‪ :‬التقريب ‪ ،‬أدانين منه ‪ّ :‬‬
‫زل الثوب عن وجه املرأة ‪ :‬أدين ثوبك على وجهك ‪ ،‬أي أرخيه واسدليه‪.‬‬
‫بعلى ‪ ،‬يقال ‪ :‬إذا ّ‬
‫واجلالبيب مجع جلباب ‪ ،‬وقد اختلف أهل التأويل يف اجللباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه‬
‫الثوب الذي تسرت به املرأة بدّنا كله ‪ ،‬ويتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت‪.‬‬
‫روى مجاعة من املفسرين أنّه كانت احلرة واألمة خترجان ليال لقضاء احلاجة يف الغيطان وبني‬
‫فساق ال يزالون على عاداهتم يف‬
‫النخيل من غري امتياز بني احلرائر واإلماء ‪ ،‬وكان يف املدينة ّ‬
‫يتعرضون لإلماء ‪ ،‬ورمبا تعرضوا للحرائر ‪ ،‬فإذا قيل هلم يقولون ‪ :‬حسبناهن إماء‬
‫اجلاهلية ‪ّ ،‬‬
‫فيهن مراض‬
‫فأمرت احلرائر أن خيالفن اإلماء يف الزي ‪ ،‬فيسترتن ليحتشمن ويهنب ‪ ،‬فال يطمع ّ‬
‫القلوب‪.‬‬
‫واختلف أهل التأويل يف كيفية هذا التسرت ‪ ،‬فأخرج ابن جرير «‪ »1‬وغريه عن ابن سريين أنه قال‬
‫ني حعلحْي ِه َّن ِم ْن حج حالبِيبِ ِه َّن فرفع ملحفة كانت عليه ‪،‬‬
‫‪ :‬سألت عبيدة السلماين عن هذه اآلية يم ْدنِ ح‬
‫فتقنّع هبا ‪ ،‬وغطّى رأسه كلّه حىت بلغ احلاجبني ‪ ،‬وغطّى وجهه ‪ ،‬وأخرج عينه اليسرى من ش ّق‬
‫وجهه األيسر ‪ ،‬وروي مثل ذلك عن ابن عباس‪.‬‬
‫ويف رواية أخرى عنه أّنا تلوي اجللباب فوق اجلبني ‪ ،‬وتش ّده ‪ ،‬مث تعطفه على األنف وإن ظهرت‬
‫عيناها ‪ ،‬لكن تسرت الصدر ومعظم الوجه‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق ومجاعة عن أم سلمة قالت ‪ :‬ملا نزلت هذه اآلية‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)33 /22‬‬
‫ص ‪668 :‬‬
‫رؤوسهن الغرابن من أكسية سود‬
‫ّ‬ ‫ني حعلحْي ِه َّن ِم ْن حج حالبِيبِ ِه َّن خرج نساء من األنصار كأن على‬
‫يم ْدنِ ح‬
‫يلبسنها‪.‬‬
‫جل شأنه أيمر احلرائر إذا خرجن حلاجة أن يتقنّعن ويسترتن ‪ ،‬حىت مييّزن من‬
‫اّلل ّ‬
‫ومعىن اآلية ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫هلن أحد ابإليذاء‪ .‬هذه طريق اجلمهور يف أتويل اآلية‪.‬‬
‫يتعرض ّ‬
‫اإلماء ‪ ،‬فال ّ‬
‫ومن املعروف أن هذه اآلية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب سرت العورة ‪ ،‬فال بد أن‬
‫يكون السرت املأمور به هنا زائدا على ما جيب من سرت العورة ‪ ،‬ولذلك ترى عبارات املفسرين‬
‫على اختالف ألفاظها متحدة يف أ ّن املراد ابجللباب الثوب الذي تسرت به املرأة بدّنا كلّه من فوق‬
‫ثياهبا ‪ ،‬كاملالءة املعروفة يف عصران‪.‬‬
‫وعلى ذلك يكون األمر إبدانء اجلالبيب من األدب احلسن ‪ ،‬زايدة يف االحتياط ‪ ،‬ومبالغة يف‬
‫التسرت واالستعفاف ‪ ،‬وبعدا عن مظان التهمة واالرتياب‪.‬‬
‫وال يع ّد يف إجراء األمر على ظاهره من وجوب لبس اجللباب إذا كان خروج املرأة بدونه ‪ -‬وإن‬
‫تعرض الفساق هلا ‪ ،‬وإيذائها ابلرفث وفحش‬
‫كانت مستورة العورة ‪ -‬مدعاة للفتنة ‪ ،‬وسببا يف ّ‬
‫القول‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ ّن أتويل اآلية على هذا الوجه ‪ ،‬وقصرها على احلرائر ‪ ،‬قد يفهم منه أ ّن الشارع‬
‫الفساق هلن يف الطرقات ‪ ،‬مع أ ّن يف‬
‫يناهلن من اإليذاء ‪ ،‬وتعرض ّ‬
‫أمهل أمر اإلماء ‪ ،‬ومل يبال مبا ّ‬
‫عاما يف مجيع النساء؟‬
‫ذلك من الفتنة ما فيه ‪ :‬فهال كان ذلك التصون والتسرت ّ‬
‫وحمال البياعات يف‬
‫وترددهن يف األسواق ّ‬
‫ّ‬ ‫اجلواب ‪ :‬أ ّن اإلماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن ‪،‬‬
‫خدمة سادهتن ‪ ،‬وقضاء مصاحلهم ‪ ،‬فإذا كلّفن أن يتقنّعن ‪ ،‬ويلبسن اجللباب السابغ كلّما خرجن‬
‫فإّنن مأمورات ابالستقرار يف‬
‫‪ ،‬كان يف ذلك حرج ومشقة عليهن ‪ ،‬وليس كذلك احلرائر ‪ّ ،‬‬
‫عليهن من احلرج واملشقة‬
‫ّ‬ ‫البيوت ‪ ،‬وعدم اخلروج منها إال يف أوقات احلاجة الشديدة ‪ ،‬فلم يكن‬
‫يف التقنّع والتسرت ما على اإلماء‪.‬‬
‫ولقد راعى الشارع هذه احلال ‪ ،‬فنهى الناس أن يؤذوا املؤمنني واملؤمنات مجيعا ‪ ،‬سواء احلرائر‬
‫واإلماء ‪ ،‬وتوعّد املؤذين ابلعذاب األليم والعقاب الشديد‪.‬‬
‫ومع هذا فإ ّن الشرع مل حيظر على اإلماء التقنع والتسرت ‪ ،‬ولكنّه مل يكلفهن ذلك دفعا للحرج‬
‫اّلل‬
‫والعسر‪ .‬فلألمة أن تتقنع وتلبس اجللباب السابغ مىت تيسر هلا ذلك‪ .‬وأما ّني عمر رضي ّ‬
‫إايهن عن التقنع ‪ ،‬فإمنا كان ذلك من السياسات الشرعية ‪ ،‬ألنّه‬
‫عنه اإلماء يف زمانه ‪ ،‬وزجره ّ‬
‫يهن أن يعتدن الرقة ‪ ،‬ويضعفن عن اخلدمة‬
‫هن تشبهن ابحلرائر يف لباسهن وز ّ‬
‫كان خيشى إذا ّ‬
‫سادهتن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مؤّنن على‬
‫والعمل ‪ ،‬وتكثر ّ‬
‫ص ‪ 669 :‬وبعد فقد اختار أبو حيان «‪ »1‬يف أتويل اآلية الكرمية وجها غري الوجه الذي سلكه‬
‫اجلمهور ‪ ،‬فجعل األمر إبدانء اجلالبيب موجها إىل النساء مجيعا ‪ ،‬سواء احلرائر واإلماء ‪ ،‬وجعل‬
‫هلن ‪،‬‬
‫يتعرض ّ‬
‫أّنن يعرفن ابلعفة والتصون ‪ ،‬فال ّ‬‫ْن فحال يم ْؤذحيْ حن ّ‬ ‫معىن قوله تعاىل ‪ :‬ذلِ ح‬
‫ك أح ْدّن أح ْن يم ْع حرف ح‬
‫وال يتلقني مبا يكرهن ‪ ،‬فإ ّن املرأة إذا ابلغت يف التسرت والتعفف مل يطمع فيها أهل السوء‬
‫والفساد ‪ ،‬وهو رأي تبدو عليه خمائل اجلودة‪.‬‬
‫ويف «الطبقات الكربى» أ ّن أمحد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه اآلية ‪ -‬على‬
‫رأي اجلمهور يف أتويلها ‪ -‬أ ّن ما يفعله العلماء والسادات من تغيري لباسهم وعمائمهم أمر حسن‬
‫‪ ،‬وإن مل يفعله السلف ‪ ،‬ألن فيه متييزا هلم ‪ ،‬حىت يعرفوا ‪ ،‬فيعمل أبقواهلم‪.‬‬
‫اّللم غح مفوراً فيغفر ملن امتثل أمره ما عسى أن يصدر منه من اإلخالل ابلتسرت حرِحيماً بعباده ‪،‬‬
‫حوكا حن َّ‬
‫حيث راعى يف مصاحلهم أمثال هذه اجلزئيات ‪ ،‬وأرشدهم إىل هذه اآلداب احلسنة اجلميلة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه البحر احمليط (‪.)250 /7‬‬

‫ص ‪670 :‬‬
‫من سورة سبأ‬
‫اّلل تعاىل يف قصة سليمان عليه السالم ‪ :‬ي ْعملمو حن لحهم ما يشاء ِمن ححما ِريب وحمتاثِيل و ِج ٍ‬
‫فان‬ ‫قال ّ‬
‫ح ح حح‬ ‫ح م ْ‬ ‫ح ح‬
‫آل داو حد مش ْكراً وقحلِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫حكا ْجلح ِ‬
‫ور (‪)13‬‬ ‫الش مك م‬‫ي َّ‬‫يل م ْن عباد ح‬
‫ح ٌ‬ ‫واب حوقم مدو ٍر راسيات ا ْع حملموا ح م‬
‫اّلل سليمان عليه السالم املذكورة يف هذه السورة ‪ ،‬ولتعلم سياق احلديث‬ ‫هذا شيء من قصة نيب ّ‬
‫حوِيب حم حعهم‬ ‫ض ًال اي ِج م‬
‫بال أ ِّ‬ ‫داو حد ِمنَّا فح ْ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حولح حق ْد آتحيْنا م‬ ‫فيها نذكر لك ما قبل هذه اآلية‪ .‬قال ّ‬
‫السرِد وا ْعملموا ِ‬
‫صاحلاً إِِّين ِمبا تح ْع حملمو حن‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري حوأحلحنَّا لحهم ا ْحلحدي حد (‪ )10‬أحن ا ْع حم ْل سابِغات حوقح ّد ْر ِيف َّ ْ ح ح‬ ‫حوالطَّ ْ ح‬
‫ني ال ِْقطْ ِر حوِم حن ا ْجلِ ِّن حم ْن‬
‫حسلْنا لحهم حع ْح‬
‫احها حش ْه ٌر حوأ ح‬‫يح غم مد ُّوها حش ْه ٌر حوحرو م‬ ‫الر ح‬‫سلحْيما حن ِّ‬ ‫ِ‬
‫بحصريٌ (‪ )11‬حول م‬
‫ِ‬
‫السعِ ِري (‪[ )12‬سبأ ‪- 10 :‬‬ ‫ذاب َّ‬ ‫غ ِم ْن مه ْم حع ْن أ ْحم ِران نم ِذقْهم ِم ْن حع ِ‬
‫ني يح حديْهِ إبِِ ْذ ِن حربِّهِ حوحم ْن يح ِز ْ‬
‫يح ْع حم مل بح ْح‬
‫‪.]12‬‬
‫اّلل لسليمان‬
‫فضمري يح ْع حملمو حن عائد على اجلن ‪ ،‬وضمري (له) يعود على سليمان‪ .‬فكما س ّخر ّ‬
‫الريح جتري أبمره رخاء حيث أصاب ‪ ،‬وس ّخرها عاصفة جتري إىل مسافات بعيدة ‪ ،‬س ّخر له اجلن‬
‫‪ ،‬وجعلهم طوع أمره ‪ ،‬ورهن مشيئته ‪ ،‬يعملون صنوفا ِما يشاء من أصناف يتع ّذر عملها على‬
‫البشر يف ذلك الوقت ‪ ،‬وابلسرعة اليت يعملها هبا اجلن ‪ ،‬ومن هذه األشياء احملاريب ‪ :‬وهي مجع‬
‫اّلل احملراب‬
‫حمراب ‪ ،‬وهي القصور الشاخمات ‪ ،‬أو البيوت املرتفعة ‪ ،‬أو أماكن العبادة ‪ ،‬وقد ذكر ّ‬
‫يف القرآن يف مواضع يف سورة آل عمران حوحك َّفلحها حزحك ِرَّاي مكلَّما حد حخ حل حعلحْيها حزحك ِرَّاي ال ِْم ْحر ح‬
‫اب حو حج حد‬
‫اب [آل عمران ‪:‬‬ ‫صلِّي ِيف ال ِْم ْحر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِعنْ حدها ِر ْزقاً [آل عمران ‪ ]37 :‬فح ح‬
‫نادتْهم ال حْمالئ حكةم حو مه حو قائ ٌم يم ح‬
‫س َّو مروا ال ِْم ْحر ح‬
‫اب (‪[ )21‬ص ‪.]21 :‬‬ ‫اخلح ْ ِ‬
‫ص ِم إ ْذ تح ح‬ ‫حاتك نحبحأم ْ‬
‫‪ ]39‬ويف سورة ص حو حه ْل أ ح‬
‫ويقول الذين يفسرون احملراب ابلقصر ‪ :‬إنه مسّي بذلك ألنه حيارب من أجله‪.‬‬
‫صلِّي ِيف ال ِْم ْحر ِ‬
‫اب أنّه املكان املع ّد للصالة‪ .‬وأما احملاريب املعروفة‬ ‫وقد يبدو من قوله تعاىل ‪ :‬يم ح‬
‫ليتبني الناس منها جهة القبلة‪ .‬فيقول املفسرون ‪ :‬إّنا‬ ‫اآلن مبا يدخل يف احلائط على مست القبلة ّ‬
‫شيء مل يكن قد عرف يف الصدر األول‪.‬‬
‫اجلن‬
‫يرجح كون احملاريب مبعىن القصور الشاخمات أّنا ذكرت على أّنا ِما كان يعمله ّ‬
‫غري أنّه قد ّ‬
‫لسليمان ‪ ،‬وقد يكون عمل القصور ِما يستعصي على الناس يف ذلك الزمن ‪ ،‬جلهلهم بفن‬
‫العمارة‪ .‬والتماثيل مجع متثال بكسر التاء ‪ ،‬وهو بوزن تفعال ‪ ،‬ومل يرد هذا الوزن يف القرآن إال يف‬
‫لفظني (تلقآء) و(تبيان)‪.‬‬

‫ص ‪671 :‬‬
‫ومتثال الشيء مثاله وصورته أاي كان املثال والصورة ‪ ،‬ذات جسم أو ليست ذات جسم ‪ ،‬فمثال‬
‫الشيء ما مياثله وحيكيه‪.‬‬
‫واجلفان مجع جفنة ‪ :‬إانء يوضع فيه الطعام ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إانء عظيم‪.‬‬
‫واجلواب أصله اجلوايب مجع جابية ‪ ،‬وهي احلوض العظيم‪ .‬والقدور مجع قدر ‪ ،‬وهو ما يطبخ فيه‬
‫الطعام ‪ ،‬وراسيات ‪ :‬اثبتات ‪ ،‬إشارة إىل أّنا قدور عظيمة ال تنقل من مكاّنا من ثقلها‪.‬‬
‫داو حد مش ْكراً ّإما مجلة مستأنفة بتقدير القول ‪ ،‬أي قلنا ‪:‬‬
‫آل م‬‫وقوله تعاىل ‪ :‬ا ْع حملموا ح‬
‫اعملوا اي آل داود شكرا ‪ ،‬أو حالية من فاعل (س ّخران) أي س ّخران قائلني اعملوا ‪ ،‬و(شكرا)‬
‫مصدر وقع موقع احلال ‪ ،‬أي اعملوا شاكرين ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو مفعول ألجله ‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬
‫والشكور هو الذي يشكر يف مجيع أحواله من اخلري والضر ‪ ،‬قيل ‪ :‬هو املتوفّر على أداء الشكر‬
‫ما وسعه بقلبه ولسانه ال يين‪.‬‬
‫هذا وقد جاء ذكر سليمان يف القرآن الكرمي ست عشرة مرة يف ست من سوره ‪:‬‬
‫يف البقرة ‪ ،‬ويف النساء ويف األنعام ‪ ،‬ويف األنبياء ‪ ،‬ويف النمل ‪ ،‬ويف سبأ ‪ ،‬ويف ص‪.‬‬
‫اّلل على سليمان ‪:‬‬ ‫ومل جيئ هذا الذكر لتوفية قصة بتمامها أو قصص ‪ ،‬وإمنا هو تعداد آلالء ّ‬
‫مان ِيف ا ْحلر ِ‬
‫ث [األنبياء ‪:‬‬ ‫منها ذكاؤه وبصره النافذ يف القضاء واحلكم وداو حد وسلحْيما حن إِ ْذ حْحي مك ِ‬
‫حْ‬ ‫ح م حم‬
‫‪.]78‬‬
‫َّاس عملِّ ْمنا حمنْ ِط حق الطَّ ِْري [النمل ‪:‬‬
‫قال اي أحيُّ حها الن م‬
‫داو حد حو ح‬ ‫ومنها تعليمه منطق الطري حوحوِر ح‬
‫ث مسلحيْما من م‬
‫‪ .]16‬ومنها تسخري الرايح له ‪ ،‬جتري أبمره رخاء حيث أصاب‪.‬‬
‫ومنها إسالة عني القطر وهو النحاس املذاب ‪ ،‬والقرآن يف هذا حي ّدث عن عملية صهر املعادن‪.‬‬
‫ومنها تسخري اجلن ‪ ،‬وقد جاء الكالم عن تسخري اجلن يف القرآن الكرمي ابآلية اليت معنا ‪ ،‬ويف‬
‫ودهم ِم حن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ياطني مك َّل ب ن ٍ‬
‫َّاء حوغح َّو ٍ‬ ‫قوله ‪ :‬و َّ ِ‬
‫سلحْيما حن مجنم م‬ ‫اص (‪[ )37‬ص ‪ .]37 :‬ويف قوله ‪ :‬حو محش حر ل م‬ ‫الش ح ح‬ ‫ح‬
‫صرح القرآن الكرمي يف اآلية اليت معنا أبّنّم كانوا يعملون بني‬ ‫س [النمل ‪ ]17 :‬وقد ّ‬ ‫ا ْجلِ ِّن حو ِْ‬
‫اإلنْ ِ‬
‫ني يح حديْهِ إبِِ ْذ ِن حربِّهِ حوحم ْن‬ ‫ِ‬
‫يديه إبذن ربه ‪ ،‬ال يستطيعون أن حييدوا عن ذلك حوم حن ا ْجلِ ِّن حم ْن يح ْع حم مل بح ْح‬
‫السعِ ِري مث حت ّدث عما كانوا يعملون فقال ‪ :‬يح ْع حملمو حن لحهم ما‬ ‫غ ِمْن مه ْم عح ْن أ ْحم ِران نم ِذقْهم ِم ْن عح ِ‬
‫ذاب َّ‬ ‫يح ِز ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل إخل‪.‬‬
‫يب حوحمتاث ح‬‫يحشاءم م ْن ححما ِر ح‬
‫اّلل سليمان كان‬ ‫هذا وقد يفهم من اآلية ‪ -‬بل هي صرحية يف ذلك ‪ -‬أ ّن نيب ّ‬

‫ص ‪672 :‬‬
‫اّلل على سليمان أبنّه س ّخر له اجلن لتعمل له ما يشاء‬
‫يتخذ التماثيل ‪ ،‬فالقرآن صريح يف امتنان ّ‬
‫عمله ‪ ،‬من احملاريب والتماثيل ‪ ،‬واجلفان ‪ ،‬والقدور الراسيات‪ .‬صحيح أنّه مل يذكر يف القرآن‬
‫ولكن ختصيص هذه األشياء ابلذكر يف‬
‫صراحة أ ّن اجلن عملت له احملاريب والتماثيل واجلفان ‪ّ ،‬‬
‫معرض االمتنان دليل على أ ّن سليمان كان يبغي صنع هذه األشياء ‪ ،‬وهو قد ال جيد من يصنعها‬
‫اّلل‬
‫‪ ،‬أو حيذق صنعها ‪ ،‬فس ّخر له اجلن لعملها ‪ ،‬وأنّه مينت عليه بذلك ‪ ،‬وعلى هذا ففي تسخري ّ‬
‫اّلل لسليمان ابختاذها ‪ ،‬وهذا دليل على أ ّن‬
‫اجلن لعمل ما يشاء سليمان من التماثيل إذن من ّ‬
‫اختاذها مشروع عند سليمان ‪ ،‬فهل األمر كذلك يف شريعتنا ‪ ،‬ذلك هو الذي جيمل بنا أن نتكلم‬
‫فيه فنقول ‪:‬‬
‫يل الَِّيت أحنْ تم ْم هلحا عاكِ مفو حن [األنبياء ‪]52 :‬‬‫ِِ ِ‬
‫إ ّن القرآن نعى على التماثيل يعكف هلا ما هذه التَّماث م‬
‫ون ّدد مبن يتخذون األصنام واألواثن آهلة ‪ ،‬ويف القرآن من قصص إبراهيم يف حتطيم األصنام ما‬
‫هو معروف ‪ ،‬وقد ورد أ ّن رسولنا األعظم حطّم األصنام اليت كانت حول الكعبة «‪ ، »1‬واليت‬
‫وعدو الشرك ‪ ،‬وليس يف اإلسالم‬ ‫كانت على الصفا واملروة ‪ ،‬والدين اإلسالمي دين التوحيد ‪ّ ،‬‬
‫ك لِ حم ْن يحشاءم [النساء ‪:‬‬
‫اّللح ال يحغْ ِف مر أح ْن يم ْش حر حك بِهِ حويحغْ ِف مر ما مدو حن ذلِ ح‬
‫ذنب أعظم من الشرك إِ َّن َّ‬
‫‪ 48‬و‪.]116‬‬
‫والسنة قد جاءت ابلنعي على التصوير واملصورين ‪ ،‬وابلنهي عن اختاذ الصور ‪ ،‬وابلتنفري منها ‪:‬‬
‫وجاءت األحاديث النبوية الشريفة يف املوضوع على وجوه كثرية من االختالف‪ .‬ولكنّها ترجع إىل‬
‫مخس أمهات ننقلها لك عن القاضي أيب بكر بن العريب ‪ ،‬وقد كنا أحببنا أن ننقلها عن البخاري‬
‫‪ ،‬لكنّا وجدان إرجاعها إىل األمهات اخلمس ويرجع الفضل فيه للقاضي أيب بكر ‪ ،‬فآثران األخذ‬
‫اّلل عنه «‪ : »2‬إ ّن أمهات‬
‫البخاري ذكرها يف أبواب على عادته‪ .‬قال القاضي رضي ّ‬
‫ّ‬ ‫عنه ‪ ،‬فإ ّن‬
‫األحاديث مخس أمهات ‪:‬‬
‫األم األوىل ‪ :‬ما روي عن ابن مسعود وابن عباس «أ ّن أصحاب الصور يع ّذبون ‪ ،‬أو هم أش ّد‬
‫عام يف كل صورة‪.‬‬
‫الناس عذااب» «‪ .»3‬وهذا ّ‬
‫األم الثانية ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ال تدخل املالئكة بيتا فيه كلب‬
‫روي عن أيب طلحة عن النيب صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )109 /5‬كتاب املغازي ‪ - 49 ،‬ابب أين ركز النيب‬
‫اّلل عليه وسلّم حديث رقم (‪].....[ .)4287‬‬
‫صلّى ّ‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن البن العريب ‪ ،‬بريوت دار الفكر‪.)1589 /4( .‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1670 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حترمي تصوير‬
‫صورة حيوان حديث رقم (‪ ، )2109 /98‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 71 ، )85 /7‬كتاب‬
‫اللباس ‪ - 89 ،‬ابب عذاب املصورين حديث رقم (‪.)5950‬‬

‫ص ‪673 :‬‬
‫وال صورة» «‪ »1‬زاد زيد بن خالد اجلهين ‪« :‬إال ما كان رقما يف ثوب» «‪.»2‬‬
‫ويف رواية عن أيب طلحة حنوه ‪ ،‬فقلت لعائشة ‪ :‬هل مسعت هذا؟ فقالت ‪ :‬ال ‪ ،‬وسأحدثكم ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف غزاة ‪ ،‬فأخذت منطا فسرتته على الباب ‪ ،‬فلما قدم ورأى‬
‫خرج النيب صلّى ّ‬
‫اّلل مل أيمران أن نكسو‬
‫النّمط عرفت الكراهة يف وجهه ‪ ،‬فجذبه حىت هتكه ‪ ،‬وقال ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫علي «‪.»3‬‬
‫احلجارة والطني» قالت ‪ :‬فقطّعت منه وسادتني ‪ ،‬وحشوهتما ليفا ‪ ،‬فلم يعب ذلك ّ‬
‫األم الثالثة ‪:‬‬
‫اّلل‬
‫قالت عائشة ‪ :‬كان لنا سرت فيه متثال طائر ‪ ،‬وكان الداخل إذا دخل استقبله ‪ ،‬فقال رسول ّ‬
‫«حويل هذا ‪ ،‬فإين كلّما رأيته ذكرت الدنيا» «‪.»4‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ّ :‬‬
‫صلّى ّ‬
‫األم الرابعة ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وأان مسترتة بقرام فيه صورة‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫علي رسول ّ‬
‫روي عن عائشة قالت ‪ :‬دخل ّ‬
‫فتلون وجهه ‪ ،‬مث تناول السرت فهتكه ‪ ،‬مث قال ‪« :‬إ ّن من أش ّد الناس عذااب يوم القيامة الذين‬
‫‪ّ ،‬‬
‫اّلل» «‪ »5‬قالت عائشة ‪ :‬فقطّعته ‪ ،‬فجعلت منه وسادتني‪.‬‬
‫يشبّهون خلق ّ‬
‫األم اخلامسة ‪ :‬قالت عائشة ‪ :‬كان لنا ثوب ِمدود على سهوة فيها تصاوير ‪ ،‬فكان النيب صلّى‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلّم يصلي إليه ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أ ّخريه عين ‪ ،‬فجعلت منه وسادتني فكان النيب صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫عليه وسلّم يرتفق هبما «‪.»6‬‬
‫وتوسدها ‪ ،‬فقال ‪« :‬إ ّن أصحاب‬
‫ويف رواية يف حديث النمرقة‪ .‬قالت ‪ :‬اشرتيتها لك لتقعد عليها ّ‬
‫هذه الصور يع ّذبون يوم القيامة ‪ ،‬وإ ّن املالئكة ال يدخلون بيتا فيه صورة» «‪.»7‬‬
‫هذه هي األمهات اخلمس اليت مجعها ابن العريب ‪ ،‬ومن احل ّق أن نذكر لك ما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1669 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حترمي تصوير‬
‫صورة حيوان حديث رقم (‪ ، )2106 /84‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 71 ، )84 /7‬كتاب‬
‫اللباس ‪ - 88 ،‬ابب التصاوير حديث رقم (‪.)5949‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1665 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حترمي تصوير‬
‫احليوان حديث رقم (‪ ، )2106 /83‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 77 ، )87 /71‬كتاب اللباس‬
‫‪ ، 92 ،‬ابب من كره القعود ‪ ،‬حديث رقم (‪.)5958‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1666 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب تصوير احليوان‬
‫حديث رقم (‪.)2107‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1666 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ )2107‬و(‪.)000 /88‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1666 /3‬كتاب اللباس حديث رقم (‪، )000 /92‬‬
‫والبخاري يف الصحيح (‪ - 77 ، )87 /7‬كتاب اللباس ‪ - 95 ،‬ابب من مل يدخل بيتا حديث‬
‫رقم (‪.)5961‬‬
‫(‪ )6‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1166 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ ، )000 /92‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 77 ، )86 /7‬كتاب اللباس ‪ - 93 ،‬ابب كراهية‬
‫الصور حديث رقم (‪.)5954‬‬
‫(‪ )7‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1666 /3‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ ، )000 /96‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 77 ، )87 /7‬كتاب اللباس ‪ - 95 ،‬ابب من مل‬
‫يدخل حديث رقم (‪.)5961‬‬

‫ص ‪674 :‬‬
‫مجع به بني هذه األحاديث قال ‪ :‬تبني هبذه األحاديث أ ّن الصور ِمنوعة على العموم ‪ ،‬مث جاء‬
‫فخص من مجلة الصور ‪ ،‬مث‬
‫ّ‬ ‫إىل ما كان رقما يف ثوب ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم لعائشة يف الثوب املصور ‪« :‬أ ّخريه عين ‪ ،‬فإين كلّما رأيته ذكرت‬
‫يقول النيب صلّى ّ‬
‫الدنيا»‬
‫فثبتت الكراهة فيه‪.‬‬
‫صور على عائشة منع منه ‪ ،‬مث بقطعها هلا وسادتني ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم الثوب امل ّ‬
‫مث هبتك النيب صلّى ّ‬
‫حىت تغريت الصورة ‪ ،‬وخرجت عن هيئاهتا ‪ ،‬أب ّن جواز ذلك إذا مل تكن الصورة فيه متصلة اهليئة‬
‫ولو كانت متصلة اهليئة مل جيز ‪ ،‬لقوهلا يف النمرقة ‪ :‬اشرتيتها لك لتقعد عليها وتوسدها‪ .‬فمنع منه‬
‫‪ ،‬وتو ّعد عليها‪.‬‬
‫وتبني حبديث الصالة إىل الصورة أ ّن ذلك كان جائزا يف الرقم يف الثوب ‪ ،‬مث نسخة املنع ‪ ،‬فهكذا‬
‫اّلل أعلم‪.‬‬
‫استقر فيه األمر و ّ‬
‫ّ‬
‫هكذا يرى ابن العريب أ ّن املنع يف األول كان عاما ‪ ،‬مث استثنيت منه أشياء ر ّخص فيها ‪ ،‬مث زال‬
‫ذلك ابلرجوع إىل املنع يف الكل ‪ ،‬وحنن نرى أ ّن هذه الطريقة يف اجلمع بعيدة‪ .‬إذ فيها إثبات‬
‫النسخ جلواز اختاذ بعض الصور ‪ ،‬والرجوع إىل احلظر الذي ادعى أنه عام‪.‬‬
‫ومعلوم أ ّن النسخ يشرتط فيه العلم ابلتاريخ ‪ ،‬وإال إذا كان يكفي اإلمكان فلقائل أن يقول ‪ :‬إن‬
‫أحاديث املنع حيتمل أن تكون متقدمة ‪ ،‬مث جاءت أحاديث الرتخيص‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك نرى أ ّن الذي يذهب إليه ابن العريب بعيد ‪ ،‬وأ ّن األوىل يف اجلمع أن يقال ‪ :‬حتمل‬
‫جمسدا لذي روح ‪ ،‬ويستأنس له‬
‫النصوص اليت فيها احلظر إبطالق على ما كان منها ّ‬
‫اّلل»‬
‫اّلل عليه وسلّم يف بعضها ‪« :‬أش ّد الناس عذااب يوم القيامة الذين يشبهون خلق ّ‬
‫بقوله صلّى ّ‬
‫وروي من طريق آخر ‪« :‬يقال هلم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم»‬
‫بل يف بعضها ما هو حتد قوي بنفخ الروح‬
‫حىت ينفع فيه الروح ‪ ،‬وما هو بنافخ» «‪.»1‬‬
‫«يع ّذب ّ‬
‫وهبذا يكون‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬أشد الناس عذااب يوم القيامة املصورون»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫يصورون صور األجسام ذوات الروح إذا كانت على حالة حبيث ميكن أن يقال ‪:‬‬
‫مرادا منه الذين ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬وهذا أيضا إمنا يكون إذا كانت كاملة اخللق حبيث ال ينقصها‬
‫إن صاحبها يضاهي هبا خلق ّ‬
‫إال نفخ الروح ‪ ،‬وإذا يكون تصوير اجلمادات كاجلبال واألّنار والكائنات النامية اليت ليست‬
‫النص إبشارة‬
‫بذات روح خارجة من احلظر ‪ ،‬ألّنّا ليست ِما تناوهلا ّ‬
‫اّلل»‬
‫«يشبهون خلق ّ‬
‫‪ ،‬وإبشارة‬
‫«يقال هلم أحيوا ما خلقتم»‬
‫وحىت‬
‫«ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ»‬
‫كل هذه الصفات ‪ ،‬فتكون‬
‫إذ كل هذه اجلمادات والنبااتت ال جتتمع فيها ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 37 ، )1671‬كتاب اللباس ‪ - 26 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ ، )2110 /100‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )54 /3‬كتاب البيوع ‪ - 104 ،‬ابب بيع‬
‫التصاوير حديث رقم (‪.)2225‬‬
‫ص ‪675 :‬‬
‫اجملسمة للحيوان على هيئته الكاملة حمظورات ‪ ،‬وهي اليت‬
‫خارجة من احلظر ‪ ،‬وتبقى التماثيل ّ‬
‫تكون مرادة من النص‪.‬‬
‫وهذا أتويل قريب ابلنسبة للتأويالت األخرى ‪ ،‬كتأويل من حيمل‬
‫«ال تدخل املالئكة بيتا فيه كلب وال صورة»‬
‫اّلل عليه وسلّم خاصة ‪ ،‬وكتأويل من يقول ‪ :‬إ ّن معىن‬
‫على بيت النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬املصورون يع ّذبون»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫وما ماثله يف املعىن ‪ :‬أن املراد من جيعلون ّّلل صورة ‪ ،‬فإن هذه أتويالت بعيدة ‪ ،‬فال دليل على‬
‫التخصيص ابلنسبة لألول ‪ ،‬وال يتفق مع بقية األحاديث واألخبار ابلنسبة للثاين‪.‬‬
‫ظل هلا ‪ ،‬فقد‬
‫بقيت األحاديث املتعارضة فيما كان رقما يف ثوب ‪ ،‬وما ماثله من الرسوم اليت ال ّ‬
‫روي يف بعض الرواايت عدم دخول املالئكة بيتا حيوي الكلب أو الصورة إبطالق ‪ ،‬ويف بعضها‬
‫استثناء الرقم يف الثوب ‪ ،‬ويف بعضها أنه رأى صورة الطائر يف ثوب ّاختذ ساترا ‪ ،‬فهتكه ‪ ،‬أو‬
‫فغضب ‪ ،‬وقال ‪ :‬إان مل نؤمر بكسوة احلجر والطني ‪ ،‬ويف بعضها أ ّن أصحاب هذه الصور يع ّذبون‬
‫‪ ،‬وكل هذه الرواايت تعارض الرواية اليت فيها استثناء الرقم يف الثوب ‪ ،‬وتوافق الرواايت اليت‬
‫جائت ابإلطالق ‪ ،‬ولكنّا نقول ‪ :‬إ ّن اجلمع بينها ِمكن ‪ ،‬إذ من املمكن أن يقال ‪ :‬إنّه غضب ملّا‬
‫املارة يستقبلوّنا ‪ ،‬فرمبا أشعر وضعها هذا بتعظيمها ‪ ،‬ولو كانت على غري‬
‫رأى الصورة معلقة أمام ّ‬
‫هذا الوضع ‪ ،‬ووضعت لالستعمال فال أبس‪ .‬وقد ارتفق هبا وسادة‪.‬‬
‫يدل‬
‫وأما أتويل ابن العريب التوسد أبن الصورة خرجت عن هيئتها ‪ ،‬فلم يوجد يف األحاديث ما ّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫ويؤيّد هذا املعىن حديث الصورة اليت كانت أمامه يف الصالة ‪ ،‬فأمر إبزاحتها قائال ‪« :‬كلّما رأيتها‬
‫تذ ّكرت الدنيا» يعين أ ّن هذا نوع من الزينة اليت تشغل البال‪.‬‬
‫يدل استعماله للوسادة اليت ّاختذت من الساتر الذي كان فيه الصورة ‪ ،‬وأمر إبزاحته ‪،‬‬
‫وكذلك ّ‬
‫جير إىل عبادهتا‬
‫على أ ّن املدار يف النهي عن الصور والتنفري منها ‪ :‬أال تتّخذ فتعظّم ‪ ،‬فإ ّن ذاك قد ّ‬
‫‪ ،‬فالنهي عنها من ابب سد الذرائع ‪ ،‬فإن انتفى أن تكون الصورة يف وضع يشعر ابلتعظيم ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫دل على ذلك فعل النيب صلّى ّ‬
‫وانتفى قصد التعظيم ‪ ،‬فقد زال النهي ‪ ،‬كما ّ‬
‫وارتفاقه ابلوسائد اليت فيها الصور‪.‬‬
‫ولعلّك تقول ‪ :‬ما دام األمر كذلك فلنطرد الباب على وترية واحدة ‪ ،‬فنجري الكالم يف التماثيل‬
‫اجملسمة تبقى‬
‫اجملسمة لذي الروح على هذا الوجه ‪ ،‬فنقول ‪ :‬فرق بني هذه وهذه ‪ ،‬فإ ّن الصورة ّ‬
‫عصورا طويلة ‪ ،‬وقد يفضي التقادم إىل نسيان املعىن األصلي من اختاذها ‪ ،‬وينقلب الناس‬
‫يعبدوّنا ‪ ،‬ويعكفون عليها‪.‬‬
‫واّلل أعلم ‪ -‬ما كانت عليه‬
‫قال ابن العريب ‪ :‬والذي أوجب النهي يف شريعتنا ‪ّ -‬‬

‫ص ‪676 :‬‬
‫اّلل الذريعة ومحى الباب‪.‬‬
‫يصورون ويعبدون ‪ ،‬فقطع ّ‬
‫العرب من عبادة األواثن واألصنام ‪ ،‬فكانوا ّ‬
‫وقد ورد يف كتب التفسري يف شأن يغوث ‪ ،‬ويعوق ‪ ،‬ونسر ‪ ،‬وود ‪ ،‬وسواع ‪ :‬أّنّم كانوا قوما‬
‫صوروا بعد موهتم تذكريا هبم وأبعماهلم ‪ ،‬مث انتهى احلال آخر األمر إىل عبادهتم‪.‬‬
‫صاحلني ‪ ،‬مث ّ‬
‫صوروه من خشب يف أحسن‬
‫قال ابن العريب ‪ :‬وقد شاهدت بثغر اإلسكندرية إذا مات ميت ّ‬
‫صورة ‪ ،‬وأجلسوه يف موضعه من بيته ‪ ،‬وكسوه ّبزته إن كان رجال ‪ ،‬وحليتها إن كانت امرأة ‪،‬‬
‫وأغلقوا عليه الباب ‪ ،‬فإذا أصاب واحدا منهم كرب ‪ ،‬أو جت ّدد له مكروه فتح الباب عليه ‪،‬‬
‫وجلس عنده يبكي ‪ ،‬ويناجيه بكان وكان ‪ ،‬حىت يكسر سورة حزنه إبهراق دموعه ‪ ،‬مث يغلق‬
‫الباب عليه ‪ ،‬وينصرف عنه ‪ ،‬وإن متادى هبم الزمان تعبّدوها من مجلة األصنام واألواثن «‪.»1‬‬
‫حيتج بقصة سليمان يف التماثيل ‪ ،‬فإّنّا وإن كانت يف شريعة‬
‫بعد هذا نقول ‪ :‬إنه ليس ألحد أن ّ‬
‫املغري يف شريعتنا ‪ ،‬وشريعة من قبلنا إمنا تكون شريعة لنا إذا مل يوجد الناسخ‬
‫من قبلنا ‪ ،‬فقد وجد ّ‬
‫‪ ،‬وقد وجد ‪ ،‬على أ ّن من املمكن أن يقال ‪ :‬إن التماثيل اليت كانت يف ذلك العهد حيتمل أن‬
‫تكون ِما أابحت شريعتنا اختاذه ‪ ،‬فإن مل يصلنا من طريق قاطع أ ّن التماثيل اليت كانت ‪ ،‬إن كانت‬
‫هناك متاثيل اختذت ‪ ،‬كانت متاثيل لذي روح ‪ ،‬وحينئذ يزول اإلشكال‪.‬‬
‫وإننا لننقل لك عن العالمة ابن حجر يف شرحه للبخاري آراء العلماء يف اختاذ الصور تتميما‬
‫اّلل ‪ :‬نقال عن ابن العريب ‪ :‬حاصل ما يف اختاذ الصور أّنّا إن كانت ذات‬
‫للفائدة قال رمحه ّ‬
‫أجسام حرم ابإلمجاع ‪ ،‬وإن كانت رقما فأربعة أقوال ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬جيوز مطلقا ‪ ،‬عمال‬
‫حبديث ‪« :‬إال رقما يف ثوب»‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬املنع مطلقا‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن كانت الصورة ابقية ابهليئة ‪ ،‬قائمة الشكل حرم ‪ ،‬وإن كانت مقطوعة الرأس ‪ ،‬أو‬
‫تفرقت األجزاء جاز ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا هو األصح‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرابع ‪ :‬إن كانت ِما ميتهن جاز ‪ ،‬وإن كان معلقا مل جيز‪.‬‬
‫ظل هلا ‪ ،‬وهي مع ذلك ِما يوطأ‬
‫ونقل عن النووي أ ّن جواز اختاذ الصور إمنا هو إذا كانت ال ّ‬
‫ويداس ‪ ،‬أو ميتهن ابالستعمال ‪ ،‬كاملخاد والوسائد‪ .‬والقول جبواز ذلك مروي عن مجهور العلماء‬
‫من الصحابة والتابعني ‪ ،‬وهو قول الثوري ومالك وأيب حنيفة والشافعي‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1588 /4‬‬

‫ص ‪677 :‬‬
‫حرمت ابإلمجاع ‪ ،‬سواء كانت ِما ميتهن أم ال‪ .‬قال ابن‬
‫ونقل عن ابن العريب أيضا أ ّن ذات الظل ّ‬
‫حجر ‪ :‬واستثين من ذلك لعب البنات‪.‬‬
‫ولعلك تريد بعد ذلك أن تعرف حكم ما يسمى ابلتصوير الشمسي أو الفتوغرايف فنقول ‪:‬‬
‫ميكنك أن تقول ‪ :‬إ ّن حكمها حكم الرقم يف الثوب ‪ ،‬وقد علمت استثناءه نصا‪ .‬ولك أن تقول‬
‫‪ :‬إن هذا ليس تصويرا ‪ ،‬بل حبس للصورة ‪ ،‬وما مثله إال كمثل الصورة يف املرآة ‪ ،‬ال ميكنك أن‬
‫صورها ‪ ،‬والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة ملا يف‬
‫تقول ‪ :‬إن ما يف املرآة صورة ‪ ،‬وأن أحدا ّ‬
‫الظل الذي يقع عليها ‪ ،‬واملرآة ليست كذلك‪ .‬مث‬
‫املرآة ‪ ،‬غاية األمر أ ّن مرآة الفتوغرافية تثبت ّ‬
‫توضع الصورة أو اخليال الثابت يف العفريتة يف محض خاص ‪ ،‬فيخرج منه عدة صور‪ .‬وليس هذا‬
‫ابحلقيقة تصويرا فإنّه إظهار واستدامة لصور موجودة ‪ ،‬وحبس هلا عن الزوال ‪ ،‬فإّنّم يقولون ‪ :‬إ ّن‬
‫صور مجيع األشياء موجودة ‪ ،‬غري أّنا قابلة لالنتقال بفعل الشمس والضوء ما مل مينع من انتقاهلا‬
‫مانع ‪ ،‬واحلمض هو ذلك املانع‪.‬‬
‫وما دام يف الشريعة فسحة إبابحة هذه الصور كاستثناء الرقم يف الثوب فال معىن لتحرميها ‪،‬‬
‫خصوصا وقد ظهر أ ّن الناس قد يكونون يف أشد احلاجة إليها‪.‬‬
‫واّلل اهلادي إىل سواء السبيل‪.‬‬
‫ولعلنا بعد هذا نكون قد وفّينا املوضوع ما يستح ّق ‪ّ ،‬‬

‫ص ‪678 :‬‬
‫من سورة ص‬
‫اب‬ ‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬
‫ث إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً نِ ْع حم ال حْعبْ مد إِنَّهم أ َّحو ٌ‬ ‫ض ِر ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬و مخ ْذ بِي ِد حك ِ‬
‫ضغْثاً فحا ْ‬ ‫ح ح‬ ‫قال ّ‬
‫(‪)44‬‬
‫اّلل أيوب عليه السالم ‪ ،‬ولقد عرض القرآن الكرمي لذكر أيوب‬
‫وهذه قصة من قصص حياة نيب ّ‬
‫عليه السالم يف أربعة مواضع منه‪ .‬فقد جاء ذكره يف سورة النساء [‪ ]163‬يف عداد األنبياء‬
‫الذين أوحي إليهم‪.‬‬
‫يل حوإِ ْسحا حق‬ ‫اه ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وح والنَّبِيِ ِ ِ ِ‬
‫يم حوإ ْمساع ح‬‫ني م ْن بح ْعده حوأ ْحو حح ْينا إِىل إِبْر ح‬ ‫ك حكما أ ْحو حح ْينا إِىل نم ٍ ح ّ ح‬ ‫إِ َّان أ ْحو حح ْينا إِل ْحي ح‬
‫داو حد حزبموراً (‪.)163‬‬ ‫وي ع مقوب و ْاأل ِ ِ‬
‫هارو حن حو مسلحْيما حن حوآتح ْينا م‬ ‫س حو م‬ ‫وب حويمونم ح‬‫حسباط حوعيسى حوأحيُّ ح‬ ‫حح ْ ح ح ْ‬
‫وجاء ذكره يف سورة األنعام [‪ ]84 ، 83‬يف عداد األنبياء من ذرية نوح عليه السالم ‪ :‬حوتِل ح‬
‫ْك‬
‫ك حكِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )83‬حوحو حهبْنا لحهم‬ ‫يم عحل ٌ‬‫يم عحلى قح ْومه نح ْرفح مع حد حرجات حم ْن نحشاءم إِ َّن حربَّ ح ح ٌ‬ ‫مح َّجتمنا آتحيْناها إِبْراه ح‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬‫وس ح‬ ‫وب حويم م‬
‫داو حد حو مسلحْيما حن حوأحيُّ ح‬ ‫إِ ْسحا حق حويح ْع مق ح‬
‫وب مك ًّال حه حديْنا حونموحاً حه حديْنا م ْن قح ْب مل حوم ْن ذم ِّريَّته م‬
‫ني (‪.)84‬‬ ‫هارو حن حوحكذلِ ح‬
‫ك حْجن ِزي ال مْم ْح ِسنِ ح‬ ‫حومموسى حو م‬
‫الضر عنه يف سورة األنبياء [‪ ]84 ، 83‬بعد ذكر تسخري الريح عاصفة‬ ‫وجاء ذكره وذكر كشف ّ‬
‫ت أ ْحر حح مم‬
‫ين الض ُُّّر حوأحنْ ح‬‫سِ ح‬‫حين حم َّ‬ ‫وب إِ ْذ اندى حربَّهم أِّ‬ ‫لسليمان ‪ ،‬وعمل اجلن له يف قوله تعاىل ‪ :‬حوأحيُّ ح‬
‫ض ٍّر حوآتحيْناهم أح ْهلحهم حوِمثْ لح مه ْم حم حع مه ْم حر ْمححةً ِم ْن ِعنْ ِدان‬
‫ش ْفنا ما بِهِ ِم ْن م‬
‫استح حجبْنا لحهم فح حك ح‬
‫ني (‪ )83‬فح ْ‬ ‫امح ح‬ ‫الر ِِ‬‫َّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ين (‪.)84‬‬ ‫حوذ ْكرى للْعابِد ح‬
‫سِ ح‬
‫ين‬ ‫حين حم َّ‬‫وب إِ ْذ اندى حربَّهم أِّ‬ ‫وجاء ذكره يف سورة ص [‪ ]44 - 41‬يف قوله تعاىل ‪ :‬حواذْ مك ْر حع ْب حدان أحيُّ ح‬
‫ث إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً نِ ْع حم‬ ‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬ ‫ض ِر ْ‬ ‫ضغْثاً فحا ْ‬ ‫ذاب (‪ )41‬إىل و مخ ْذ بِي ِد حك ِ‬
‫ح ح‬ ‫ب حو حع ٍ‬ ‫صٍ‬ ‫الش ْيطا من بِنم ْ‬‫َّ‬
‫اب (‪.)44‬‬ ‫ال حْعبْ مد إِنَّهم أ َّحو ٌ‬
‫ومرة يف عداد من كان من‬
‫مرة يف عداد النبيني الذين أوحي إليهم ‪ّ ،‬‬
‫فأنت ترى أ ّن أيوب قد ذكر ّ‬
‫ضر مسه ‪ ،‬وقد‬
‫ومرة اثلثة يف سورة األنبياء حيث ذكر بعض ما أصابه من ّ‬
‫ذرية نوح من النبيني ‪ّ ،‬‬
‫ضر ‪ ،‬وآاته أهله رمحة من عنده‬
‫سأل أرحم الرامحني كشفه ‪ ،‬فاستجاب له ‪ ،‬فكشف ما به من ّ‬
‫وذكرى للعابدين‪.‬‬
‫وقد جاء ذكره يف سورة ص تفصيال بعض التفصيل هلذا الضر الذي أصابه ‪ ،‬وبياان لطريق كشف‬
‫مسه بنصب‬
‫الضر أ ّن الشيطان ّ‬
‫الضر عنه ‪ ،‬فقد جاء يف تفصيل ّ‬
‫ّ‬

‫ص ‪679 :‬‬
‫وعذاب ‪ ،‬والنصب ‪ :‬بضم النون وإسكان الصاد ‪ :‬التعب ‪ ،‬كالنّصب ابلفتح فيهما ‪ ،‬والعذاب ‪:‬‬
‫النكال‪.‬‬
‫وجاء يف بيان كشف الضر عنه أمره أن يركض برجله ‪ ،‬والقول له ‪ :‬هذا مغتسل ابرد وشراب‪.‬‬
‫واملغتسل ‪ :‬مكان الغسل ‪ ،‬والشراب ‪ :‬ما يشرب‪ .‬مث جاء يف هذا البيان أيضا أنه وهبه أهله‬
‫ومثلهم معهم ‪ ،‬وأ ّن ذلك كان رمحة منه وذكرى ألويل األلباب ‪ ،‬على حنو ما جاء يف سورة‬
‫األنبياء متاما بفارق بسيط ‪ ،‬ذلك أنّه قيل يف األنبياء ‪:‬‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫حوآتحيْناهم أح ْهلحهم وقيل يف ص ‪ :‬حوحو حهبْنا لحهم أح ْهلحهم وقيل يف األنبياء ‪ :‬حر ْمححةً م ْن عنْدان حوذ ْكرى للْعابِد ح‬
‫ين‬
‫وقيل يف ص [‪ ]43‬حر ْمححةً ِمنَّا حو ِذ ْكرى ِأل ِ‬
‫مويل ْاألحل ِ‬
‫ْباب‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حو مخ ْذ بِيح ِد حك‬
‫وقد جاء يف سورة ص زايدة مل تظهر يف (سورة األنبياء) ذلك هو قول ّ‬
‫ث وإمنا جعلنا هذه زايدة مل تظهر ‪ ،‬مع أّنّا طريق من طرق كشف الضر‬ ‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬
‫ض ِر ْ‬ ‫ِ‬
‫ضغْثاً فحا ْ‬
‫ض ّر الذي أصاب أيوب يف شخصه ‪ ،‬وبني‬
‫الذي أصاب أيوب ‪ ،‬ألان رأينا القرآن قد فصل بني ال ّ‬
‫ما أصابه يف أهله‪.‬‬
‫ش ْفنا ما بِهِ ِم ْن م‬
‫ض ٍّر‪.‬‬ ‫فقال يف األول ‪ :‬فح حك ح‬
‫وضر يف‬
‫ضر يف النفس ‪ّ ،‬‬
‫فدل ذلك على أنه أصابه ضران ‪ّ :‬‬
‫وقال يف الثاين ‪ :‬حوآتح ْيناهم أح ْهلحهم‪ّ .‬‬
‫ض ّر يف األنبياء بلفظه ‪ ،‬ويف ص‬
‫األهل ‪ ،‬وقد جاء إيتاء األهل يف السورتني نصا ‪ ،‬وجاء كشف ال ّ‬
‫ابلركض ابلرجل‪.‬‬
‫ابألمر ّ‬
‫ضغث ‪ ،‬والضرب به ‪ ،‬فشيء جديد ‪ ،‬جاءت به آية مستقلة ‪ ،‬وهي يف شأن‬
‫أما األمر أبخذ ال ّ‬
‫حىت ال يتأذّى به غريه‪.‬‬
‫من شؤون أيوب كان من اخلري أال يفعله ّ‬
‫حسي ‪ ،‬تلمسه‬ ‫مس أيوب عليه السالم ضر ّ‬ ‫الضر الذي ّ‬ ‫ويكاد القرآن الكرمي يكون صرحيا يف أ ّن ّ‬
‫ذاب ويف قول‬ ‫ب حو حع ٍ‬ ‫الش ْيطا من بِنم ْ‬
‫صٍ‬ ‫ين َّ‬‫سِ ح‬ ‫من قول أيوب ‪ :‬مسين الضر ‪ ،‬وقوله يف سورة ص ‪ :‬حم َّ‬
‫س ٌل اب ِرٌد حو حشر ٌ‬
‫اب‬ ‫ك هذا ممغْتح ح‬‫ض بِ ِر ْجلِ ح‬ ‫ش ْفنا ما بِهِ ِم ْن م‬
‫ض ٍّر وقوله أليوب ‪ْ :‬ارمك ْ‬ ‫استح حج ْبنا لحهم فح حك ح‬
‫اّلل ‪ :‬فح ْ‬
‫ّ‬
‫(‪ )42‬وليس بالزم يف ثبوت صرب أيوب أن يكون الضر الذي أصابه قد وصل إىل احل ّد الذي‬
‫عصم منه األنبياء ‪ ،‬وعلى الوجه الذي ينقله املفسرون من اإلسرائيليات اليت ال يكاد يثبت منها‬
‫شيء‪ .‬بل يكفي أن يكون مرضا من األمراض املستعصية اليت ينوء حبملها الناس عادة ‪،‬‬
‫ويضجرون من ثقلها ‪ ،‬وخصوصا إذا امت ّد الزمن هبا ‪ ،‬وإنّك لتفهم من التعبري عنها مبس الشيطان‬
‫كل غريب غري مألوف يقال فيه ‪ :‬إنّه من فعل الشيطان‪.‬‬
‫أّنا ِما ال يؤلف عادة ‪ ،‬و ّ‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫وقد يكون التعبري عنها أبّنا مس الشيطان للتأدب ‪ ،‬على حد ما يقال ‪( :‬إن كان خريا فمن ّ‬
‫شرا فمين ومن الشيطان)‪.‬‬
‫وإن كان ّ‬

‫ص ‪680 :‬‬
‫صح أن يقال فيه ‪ :‬إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً نِ ْع حم ال حْع ْب مد إِنَّهم أ َّحو ٌ‬
‫اب‪.‬‬ ‫فإذا احتملها اإلنسان وصرب عليها ّ‬
‫ض ّر هو إعراض قوم أيوب عن دعوته فرارا ِما رواه املفسرون‬
‫وأما اللجوء إىل القول أبن ذلك ال ّ‬
‫ظن ال يغين من احلق شيئا‪.‬‬
‫من خرافات ال تصح ‪ ،‬فهو ّ‬
‫فالقرآن الكرمي يف املواضع األربعة اليت جاء فيها ذكر أيوب مل يذكر فيها شيئا عن دعوته يف قومه‬
‫يصح أن‬
‫‪ ،‬وال شيئا ِما كان من قومه ‪ ،‬ولو أ ّن الذي أصاب أيوب من قومه يف دعوته كان شيئا ّ‬
‫اّلل يف عبارة صرحية واضحة جلية ‪ ،‬كما هو الشأن يف الذين لقوا عنتا يف سبيل‬
‫يذكر لذكره ّ‬
‫دعوهتم ‪ ،‬على أ ّان ال نعتقد أ ّن أحدا من الرسل لقي عنتا مثل الذي لقي إبراهيم ونوح وموسى‪.‬‬
‫آهلحتح مك ْم [األنبياء ‪.]68 :‬‬ ‫لقد بلغ من عداوة قوم إبراهيم له أن قالوا ‪ :‬ح ِرقموهم وانْصروا ِ‬
‫حّ ح مم‬
‫ت قح ْوِمي ل ْحي ًال حوّنحاراً (‪ )5‬فحلح ْم يح ِز ْد مه ْم‬
‫ب إِِّين حد حع ْو م‬
‫قال حر ِّ‬
‫وبلغ من عناد قوم نوح أن قال فيهم ‪ :‬ح‬
‫ض ِم حن‬‫ب ال تح حذ ْر حعلحى ْاأل ْحر ِ‬ ‫اّلل ‪ :‬حر ِّ‬ ‫مدعائِي إَِّال فِراراً (‪[ )6‬نوح ‪ ]6 ، 5 :‬وأن اضطر إىل أن يسأل ّ‬
‫باد حك وال يلِ مدوا إَِّال ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فاجراً حك َّفاراً (‪[ )27‬نوح ‪، 26 :‬‬ ‫ك إِ ْن تح حذ ْر مه ْم يمضلُّوا ع ح ح ح‬
‫ين حد َّايراً إِنَّ ح‬
‫الْكاف ِر ح‬
‫‪.]27‬‬
‫وحىت ابنه كان يف معزل عنه ‪ ،‬ومل يستمع ألبيه حىت يف طلب النجاة من الغرق‪.‬‬
‫كل هذا وغريه‬
‫أبقل من هذا ‪ ،‬فقد أخرجه عنادهم إىل التيه ‪ّ ،‬‬
‫ومل يكن شأن موسى مع قومه ّ‬
‫أصاب األنبياء يف دعوهتم ‪ ،‬ومل حيك القرآن أن أحدا منهم قال ‪ :‬مسين الضر ‪ ،‬وال مسين‬
‫الشيطان بنصب وعذاب‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أن يصرب كما صرب أولو العزم من الرسل ‪ ،‬ومل يقل أحد ‪:‬‬ ‫اّلل نبينا صلّى ّ‬
‫وقد أمر ّ‬
‫اّلل يقول فيه ‪ :‬إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً ولقد كان صرب أيوب‬
‫إ ّن أيوب كان من أويل العزم ‪ ،‬مع أ ّن ّ‬
‫مضرب األمثال ‪ ،‬وأولو العزم من الرسل هم الذين أصاهبم عنت معارضة الدعوى ‪ ،‬فصربوا ‪،‬‬
‫يتأسى هبم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أن ّ‬
‫وأمر النيب صلّى ّ‬
‫نبني املخاطب يف قوله تعاىل‬
‫جران إليه أ ّان أردان أن ّ‬
‫مقرر علينا ‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫تراان قد أطلنا يف غري ما هو ّ‬
‫ث‪.‬‬‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬
‫ض ِر ْ‬ ‫‪ :‬و مخ ْذ بِي ِد حك ِ‬
‫ضغْثاً فحا ْ‬ ‫ح ح‬
‫والضغث ‪ :‬يف اللغة قبضة حشيش خمتلطة الرطب ابليابس‪ .‬وقال ابن عباس ‪:‬‬
‫وهو عثكال النخل‪.‬‬
‫اّلل أيوب أن أيخذ‬
‫واحلنث ‪ :‬يطلق على اإلمث ‪ ،‬وعلى اخللف يف اليمني ‪ ،‬وعلى هذا فقد أمر ّ‬
‫قبضة من حشيش ‪ ،‬أو حزمة حطب ‪ ،‬فيضرب هبا ‪ ،‬وّناه أن حينث‪.‬‬
‫وإذن لقد كان أيوب حلف ليضرب ‪ ،‬وكان هذا الضرب مؤذاي وإذا تركه أيوب يكون حانثا خمالفا‬
‫اّلل أن حينث ‪ ،‬وأوجد له املخرج من إيقاع الذي‬
‫ليمينه ‪ ،‬فنهاه ّ‬

‫ص ‪ 681 :‬يرتتب على الرب ابليمني ‪ ،‬وهو أن أيخذ الضغث فيضرب به ‪ ،‬فال يتأذّى املضروب‬
‫‪ ،‬فيكون قد ّبر بيمينه ‪ ،‬وابتعد من احلنث ‪ ،‬وجتنّب إيقاع األذى ابلغري‪.‬‬
‫وقد جعل املفسرون يعيّنون من كان سيلحقه األذى ‪ ،‬ويذكرون السبب الذي انبىن عليه عزم‬
‫يصورون الذي كان من أيوب اترة على أنه كان ميينا ‪ ،‬واترة على أنه كان‬
‫إيقاع األذى ‪ ،‬وأخذوا ّ‬
‫نذرا ‪ ،‬وقد ذكروا يف كل ذلك رواايت مل تثبت صحتها ‪ ،‬فرووا أ ّن امرأة أيوب هي احمللوف عليها‬
‫‪ ،‬وقالوا يف سبب احللف إّنّا كانت ختدمه ‪ ،‬وضجرت من طول مرضه ‪ ،‬فتمثّل هلا الشيطان طبيبا‬
‫‪ ،‬فقالت له ‪:‬‬
‫هل لك أن تشفي هذا املريض؟ فقال ‪ :‬بشرط أن يقول كلمة واحدة هي ‪ :‬أين شفيته ‪ :‬فقالت‬
‫اّلل ‪ ،‬فحلف أو نذر لئن شفي ليضربنّها مئة‬
‫أليوب ‪ :‬كلمة واحدة تقوهلا ‪ ،‬وتشفى ‪ ،‬مث تستغفر ّ‬
‫جلدة‪.‬‬
‫وقيل بل كانت أتيت له ابلطّعام ‪ ،‬فأتت يوما بطعام أكثر من املعتاد ‪ ،‬وكانت قد ابعت ذوائبها ‪،‬‬
‫فاراتب يف أمرها ‪ ،‬فحلف أو نذر‪.‬‬
‫فظن ذلك منافيا للصرب فحلف‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل طلبت إليه أن يسأل ربّه أن يشفيه ‪ّ ،‬‬
‫وقالوا يف الضر الذي أصابه أقواال كثرية ينايف ما ثبت لألنبياء من العصمة من املن ّفرات‪.‬‬
‫سِ ح‬
‫ين‬ ‫وم َّ‬
‫ض ّر) ح‬
‫(مسين ال ّ‬
‫الضر حسي تناول البدن إبشارة ّ‬
‫يدل على أ ّن ّ‬
‫وقد فهمت قبال أ ّن القرآن ّ‬
‫ك إذ هو ظاهر يف‬ ‫ض بِ ِر ْجلِ ح‬ ‫ش ْفنا ما بِهِ ِم ْن م‬
‫ض ٍّر وإبشارة ْارمك ْ‬ ‫ب حو حع ٍ‬
‫ذاب وإبشارة فح حك ح‬ ‫صٍ‬‫الش ْيطا من بِنم ْ‬
‫َّ‬
‫س ٌل اب ِرٌد حو حشر ٌ‬
‫اب فهو ظاهر‬ ‫اّلل هذا ممغْتح ح‬
‫أنّه إمنا أمر بذلك كطريق من طرق العالج ‪ ،‬وكذلك قول ّ‬
‫يف أ ّن املراد أن يغتسل من املغتسل ‪ ،‬وأن يشرب من الشراب فيشفى‪.‬‬
‫يدل القرآن على أنّه قد أصيب يف أهله بغري تعيني لنوع اإلصابة ‪ ،‬أكانت ابملوت أم‬
‫وكذلك ّ‬
‫واّلل يعلم كيف كان‬
‫ابملرض ‪ ،‬أم هبما معا ‪ ،‬فكشف عنه هذا الضر ‪ ،‬فآاته أهله ومثلهم معهم ‪ّ ،‬‬
‫هذا اإليتاء ‪ ،‬أإبحياء من مات؟ أم مبباركة من بقي وزايدة نسله؟‬
‫وقد كان منه حلف بضرب كان من اخلري أال يفعله ‪ ،‬فنهاه عن احلنث ‪ ،‬وأوجد له املخرج من‬
‫كل ما يدل عليه القرآن الكرمي ‪ ،‬وهو ليس‬
‫ضغث والضرب به‪ .‬ذلك ّ‬
‫شر األذى ‪ ،‬فأمره أبخذ ال ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل يف البيان أكثر من هذا خريا لبيّنه‪.‬‬
‫يف حاجة إىل ما جاء يف اإلسرائيليات ‪ ،‬ولو علم ّ‬
‫اب صرب على ما أصابه من أذى يف بدنه‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً نِ ْع حم ال حْع ْب مد إِنَّهم أ َّحو ٌ‬
‫مث قال ّ‬
‫كل أموره‪.‬‬
‫اّلل يف ّ‬
‫وأهله وماله ‪ ،‬واألواب ‪ :‬كثري التأويب والرجوع إىل ّ‬
‫يتكرر مرارا ‪ ،‬وذلك يؤذي‬
‫فأنت ترى أ ّن أيوب كان قد حلف على ضرب ّ‬

‫ص ‪682 :‬‬
‫املضروب ‪ ،‬فأوجد له حتلّة القسم ‪ ،‬وذلك ابلضرب ابلضغث ‪ ،‬ويظهر أنّه مل يكن عنده كفارة‬
‫اليمني‪.‬‬
‫وبناء على رأي بعض األصوليني الذين يقولون ‪ :‬إ ّن شرع من قبلنا شرع لنا قال احلنفية ‪ :‬إ ّن من‬
‫حلف ليضرب مئة ضربة ‪ ،‬فأخذ حزمة من حطب عدد عيداّنا مئة ‪ ،‬فضرب هبا ّبر بيمينه ‪ ،‬وال‬
‫اّلل قد ر ّخص أليوب هذا ‪ ،‬وجعله غري حانث به ‪ ،‬وما دام غري حانث فهو‬
‫كفارة عليه ‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫ابر ‪ ،‬ألنّه ال واسطة بني احلنث والرب ‪ ،‬ومن أجل أنّه ّبر ال جتب الكفارة ‪ ،‬ألن الكفارة يف شريعتنا‬
‫إ ّمنا جتب عند احلنث‪.‬‬
‫واملالكية ‪ -‬وإن كانوا يقولون هبذه القاعدة األصولية ‪ -‬ويقولون ‪ :‬هي رخصة خاصة أبيوب ‪،‬‬
‫بدليل توجيه اخلطاب له ‪ ،‬ومبا ذكر للرتخيص من العلة‪ .‬ويقول ابن العريب «‪ : »1‬إ ّمنا انفرد مالك‬
‫عن القاعدة لتأويل بديع هو أ ّن جمرى األميان عند مالك يف سبيل النية والقصد أوىل ‪ ،‬لقوله‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إ ّمنا األعمال ابلنيات» «‪ ، »2‬وقصة أيوب عليه السالم ومل يصح فيها‬
‫صلّى ّ‬
‫يبني كيفية اليمني حىت نلتزم شريعته فيها‪ .‬انتهى ملخصا فال معىن لرتك ما دلت عليه‬
‫شيء ّ‬
‫شريعتنا لشيء ال نعرف ما هو ‪ ،‬وشريعتنا تقضي حبمل األميان على اللغة ‪ ،‬أو على العرف ‪،‬‬
‫واللغة ال جتعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاراب مرات بعدد الشعب ‪ ،‬وكذا العرف ‪،‬‬
‫فوجب أن جنري على ما هو احلكم عندان مبوجب العرف واللغة‪.‬‬
‫ولذلك ال جيوز هذا فيمن وجب عليه احلد إذا كان صحيحا ‪ ،‬وأما إذا كان مريضا فهذه رخصة‬
‫خاصة ‪ ،‬وإن شئت فقل ‪ :‬إّنّا ح ّد املريض إذا كان ال يقوى على احتمال احلد ‪،‬‬
‫يف ح ّد املريض ّ‬
‫ولذلك نرى أ ّن األوىل األخذ برأي مالك يف املسألة خصوصا وأ ّن الكفارة شرعت عند إرادة‬
‫العدول عن مقتضى اليمني إىل ما هو خري ‪ ،‬بل لقد قال بعضهم ‪ :‬إ ّن املخالفة إىل اخلري كفارة‪.‬‬
‫بقي أ ّن بعض العلماء يريد أن أيخذ من هذه اآلية مشروعية احليلة ‪ ،‬وسنسمعك شيئا من‬
‫حججهم ‪ ،‬وشيئا من ر ّد ابن القيم يف كتابه «أعالم املوقعني» عليهم ‪ ،‬ونوصيك بقراءته يف هذا‬
‫املوضوع ‪ ،‬فهو نفيس‪.‬‬
‫وقبل أن ننقل لك عن ابن القيم نقول ‪ :‬إ ّن احليلة ‪ -‬كما هو ظاهر من امسها ‪ -‬ما يقصد به‬
‫االحتيال لدفع شيء عن وجهه الذي هو عليه ‪ ،‬أو جلبه من غري وجهه الذي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام ابن العريب (‪.)1640 /4‬‬
‫اّلل‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 33 ، )1515 /3‬كتاب اإلمارة ‪ - 45 ،‬ابب قوله صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم ‪« :‬إمنا األعمال» حديث رقم (‪ ، )1907 /155‬والبخاري يف الصحيح (‪، )3 /1‬‬
‫‪ - 1‬كتاب الوحي ‪ - 1 ،‬ابب كيف بدء الوحي حديث رقم (‪.)1‬‬

‫ص ‪683 :‬‬
‫هو عليه ‪ ،‬ك أولئك الذين يتظاهرون أّنّم يؤدون الزكاة ‪ ،‬فيجيئون بفقري يعطونه شيئا من املال ‪،‬‬
‫وقد تواضعوا على أن يهبه هلم ‪ ،‬مث ومث ‪ ،‬حىت ينتهي ما عليهم من الزكاة ‪ ،‬ع ّدا على الفقري ‪،‬‬
‫وهبة من الفقري هلم‪.‬‬
‫ومثل آخر ذلك الذي أمساه احلنفية إسقاط الصالة ‪ ،‬وقاسوها على احلج عن الغري ‪ ،‬وعلى فدية‬
‫الصوم ‪ ،‬ولسنا نريد أن نقول هلم شيئا يف القياس واجلامع والفارق ‪ ،‬وإمنا هو شيء أوجدوه ‪،‬‬
‫قصدوا منه اإلحسان إىل الفقراء ‪ ،‬مث أجازوا احليلة يف إسقاط ما يسقط الصالة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يعطى‬
‫وتتكرر العملية بعدد الصلوات املرتوكة ‪ ،‬أو بعدد األايم املرتوكة ‪،‬‬
‫الفقري نصف صاع ‪ ،‬مث يهبه ‪ّ ،‬‬
‫فيكونون قد أحسنوا إىل الفقراء ‪ ،‬وتسقط الصالة عن ميتهم‪.‬‬
‫كل شي ء ‪ :‬أدخلوها يف التحليل يف املطلق ثالاث ‪،‬‬
‫وهناك أمثلة كثرية ‪ ،‬فقد أدخلوا احليلة يف ّ‬
‫وأدخلوها يف الزكاة ‪ ،‬ويف االسترباء ‪ ،‬ويف كفارة الصيام‪ .‬وما ندري ملا ذا شرعت األحكام بعد إذ‬
‫جاءت احليل ‪ ،‬وانفتح ابهبا لعدم التزام األحكام ‪ ،‬وللعلماء آراء يف مشروعية احليلة ‪ ،‬فبعضهم‬
‫مينعها مطلقا ‪ ،‬وبعضهم جييزها مطلقا ‪ ،‬وبعضهم يقول ‪ :‬إن عطلت مصلحة شرعية كالتحيّل يف‬
‫الزكاة ال تقبل ‪ ،‬وإال قبلت‪.‬‬
‫اّلل قال ‪:‬‬
‫العالمة ابن القيم رمحه ّ‬
‫وحنن ننقل لك طرفا من أدلة اجمليزين وأدلة املانعني عن ّ‬
‫ذم احليل ‪ ،‬وأجلبتم خبيل األدلة ورجلها ‪ ،‬ومسينها ومهزوهلا ‪،‬‬
‫قال أرابب احليل ‪ :‬قد أكثرمت من ّ‬
‫فاستمعوا اآلن تقريرها ‪ ،‬واشتقاقها من الكتاب والسنة ‪ ،‬وأقوال الصحابة وأئمة اإلسالم ‪ ،‬وأنّه‬
‫ال ميكن ألحد إنكارها‪.‬‬
‫ث فأذن لنبيه أيوب أن يتحلّل‬‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬
‫ض ِر ْ‬ ‫اّلل تعاىل لنبيه أيوب ‪ :‬و مخ ْذ بِي ِد حك ِ‬
‫ضغْثاً فحا ْ‬ ‫ح ح‬ ‫قال ّ‬
‫ضغث ‪ ،‬وقد كان نذر أن يضرهبا ضرابت معدودة‪ .‬وهي يف املتعارف الظاهر‬
‫من ميينه ابلضرب ابل ّ‬
‫إمنا تكون متفرقة ‪ ،‬فأرشده تعاىل إىل احليلة يف خروجه من اليمني ‪ ،‬فنقيس عليه سائر الباب ‪،‬‬
‫ونسميه وجوه املخارج من املضائق وال نسميه ابحليل اليت ينفر الناس من امسها‪.‬‬
‫وأخرب تعاىل عن نبيه يوسف عليه السالم أنّه جعل صواعه «‪ »1‬يف رحل أخيه ‪ ،‬ليتوصل بذلك‬
‫إىل أخذه من إخوته ‪ ،‬ومدحه بذلك ‪ ،‬وأخرب أنّه برضاه وإذنه ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ف ما كا حن لِيأْ مخ حذ أحخاهم ِيف ِدي ِن الْملِ ِ‬
‫ك إَِّال أح ْن يحشاءح َّ‬ ‫حكذلِ ح ِ ِ‬
‫اّللم نح ْرفح مع حد حرجات حم ْن نحشاءم‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫وس ح‬‫ك ك ْدان ليم م‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يم [يوسف ‪.]76 :‬‬ ‫حوفح ْو حق مك ِّل ذي علْ ٍم حعل ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬إانء يشرب فيه ‪ ،‬انظر لسان العرب البن منظور (‪ )215 /8‬مادة صوع‪].....[ .‬‬

‫ص ‪684 :‬‬
‫اّلل أنّه‬
‫وقال تعاىل ‪ :‬حوحم حك مروا حم ْكراً حوحم حك ْران حم ْكراً حو مه ْم ال يح ْشعم مرو حن (‪[ )50‬النمل ‪ ]50 :‬فأخرب ّ‬
‫مكر مبن مكر أبنبيائه ورسله‪.‬‬
‫وكثري من احليل هذا شأّنا ‪ ،‬ميكر هبا على الظامل والفاجر ‪ ،‬ومن يعسر ختليص احلق منه ‪ ،‬فتكون‬
‫واّلل تعاىل قادر على أخذهم‬
‫وسيلة إىل نصر مظلوم ‪ ،‬وقهر ظامل ‪ ،‬ونصر حق ‪ ،‬وإبطال ابطل ‪ّ ،‬‬
‫يتوصل به‬
‫بغري وجه املكر احلسن ‪ ،‬ولكن جازاهم جبنس عملهم ‪ ،‬وليعلّم عباده أ ّن املكر الذي ّ‬
‫إىل إظهار احلق ‪ ،‬ويكون عقوبة للماكر ‪ ،‬ليس قبيحا‪.‬‬
‫وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آاثرا ‪ ،‬عن الصحابة ‪ ،‬وأحاديث من السنة ‪ ،‬وأقواال عن السلف‬
‫واألئمة ‪ ،‬يتمسك هبا القائلون مبشروعية احليلة ‪ ،‬يطول املقام بذكرها ‪ ،‬فنحيلك على «أعالم‬
‫املوقعني» «‪ »1‬إن أردهتا‪.‬‬
‫متسك به القوم ‪ ،‬فأطال يف إبداع ‪ ،‬وحنن نذكر هنا طرفا منه‪.‬‬
‫مث أخذ يرد على هذا الذي ّ‬
‫متحرين العدل‬
‫ونبني ما فيه ‪ّ ،‬‬
‫قال ‪ :‬وحنن نذكر ما متسكتم به يف تقرير احليل والعمل هبا ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم عن املكر واخلداع‬
‫اّلل وكتابه وسنة رسوله صلّى ّ‬
‫منزهني لشريعة ّ‬
‫واإلنصاف ‪ّ ،‬‬
‫ونبني انقسام احليل والطرق إىل ما هو كفر حمض ‪ ،‬وفسق ظاهر ‪ ،‬ومكروه ‪،‬‬
‫واالحتيال احملرم ‪ّ ،‬‬
‫نبني فيه التعويض ابلطرق الشرعية‬
‫وجائز ‪ ،‬ومستحب ‪ ،‬وواجب عقال أو شرعا ‪ ،‬مث نذكر فصال ّ‬
‫وابّلل التوفيق ‪ ،‬وهو املستعان وعليه التكالن ‪:‬‬ ‫عن احليل الباطلة ‪ ،‬فنقول ّ‬
‫ب بِهِ حوال ححتْنح ْ‬
‫ث فقال شيخنا ‪:‬‬ ‫ض ِر ْ‬ ‫أما قوله تعاىل لنبيه أيوب عليه السالم و مخ ْذ بِي ِد حك ِ‬
‫ضغْثاً فحا ْ‬ ‫ح ح‬
‫اجلواب ‪ :‬أ ّن هذا ليس ِما حنن فيه ‪ ،‬فإ ّن للفقهاء يف موجب هذه اليمني يف شرعنا قولني ‪ :‬يعين‬
‫ليضربن امرأته أو عبده مئة ضربة ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إذا حلف‬
‫أحدمها ‪ :‬قول من يقول موجبها الضرب جمموعا أو مفرقا ‪ ،‬مث منهم من ال يشرتط مع اجلمع‬
‫الوصول إىل املضروب ‪ ،‬فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند اإلطالق ‪ ،‬وليس‬
‫هذا حبيلة ‪ ،‬إمنا احليلة بصرف اللفظ عن موجبه عن اإلطالق‪.‬‬
‫والقول الثاين ‪ :‬أن موجبه الضرب املعروف ‪ ،‬وإذا كان هذا موجبه مل يصح االحتجاج علينا مبا‬
‫خيالف شرعنا من شرائع من قبلنا ‪ ،‬أل ّان إن قلنا ‪« :‬ليس شرعا لنا مطلقا» فظاهر ‪ ،‬وإن قلنا ‪:‬‬
‫«هو شرع لنا» فهو مشروط بعدم خمالفته شرعنا ‪ ،‬وقد انتفى الشرط‪.‬‬
‫كل‬
‫أتمل اآلية علم أ ّن هذه الفتيا خاصة احلكم ‪ ،‬فإّنّا لو كانت عامة احلكم يف ح ّق ّ‬
‫وأيضا فمن ّ‬
‫يقص علينا ما‬
‫قصها علينا كبري عربة ‪ ،‬فإمنا ّ‬
‫أحد مل خيف على نيب كرمي موجب ميينه ‪ ،‬ومل يكن يف ّ‬
‫قصه علينا‪.‬‬
‫اّلل فيما ّ‬
‫خرج عن نظائره ‪ ،‬لنعترب به ‪ ،‬ونستدل به على حكمة ّ‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر أعالم املوقعني عن رب العاملني البن القيم بريوت ‪ ،‬دار اجليل (‪.)403 - 290 /3‬‬

‫ص ‪685 :‬‬
‫مث قال ‪ :‬ويدل عليه اختصاص قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّان حو حج ْدانهم صابِراً وهذه اجلملة خرجت خمرج التعليل‬
‫اّلل سبحانه إمنا أفتاه بذلك جزاء له على صربه ‪ ،‬وختفيفا عن امرأته‬
‫‪ ،‬كما يف نظائرها ‪ ،‬فعلم أ ّن ّ‬
‫ورمحة هبا‪.‬‬
‫يدل على أ ّن الكفارة مل‬
‫ث وهذا ّ‬
‫وأيضا فإنّه تعاىل إمنا أفتاه هبذا لئال حينث ‪ ،‬كما قال ‪ :‬حوال ححتْنح ْ‬
‫الرب أو احلنث ‪ ،‬وقد كان ذلك مربرا يف شريعتنا‬
‫تكن مشروعة يف شريعته ‪ :‬بل ليس يف اليمني إال ّ‬
‫اّلل كفارة اليمني»‪.‬‬
‫حىت أنزل ّ‬
‫قبل شروع الك ّفارة «مل يكن أبو بكر حينث يف ميني ّ‬
‫وإذا كان كذلك ‪ ،‬يكون كأنّه نذر ضرهبا ‪ ،‬وهو نذر ال جيب الوفاء به ‪ ،‬ملا فيه من الضرر عليها‪.‬‬
‫وال يغين عنه كفارة ميني ‪ ،‬أل ّن تكفري النذر فرع عن تكفري اليمني ‪ ،‬فإذا مل تكن كفارة النذر‬
‫مشروعة إذ ذاك ‪ ،‬فكفارة اليمني أوىل ‪ :‬وقد علم أ ّن الواجب ابلنذر حيتذى به حذو الواجب‬
‫ابلشرع وإذا كان الضرب الواجب ابلشرع‪ .‬جيب تفريقه ّإال إذا كان املضروب ميؤوسا من شفائه‬
‫‪ ،‬فيكون الواجب أن جيتمع الضرب ‪ ،‬ملكان العذر‪.‬‬
‫وبعد كالم طويل قال يف قصة يوسف ‪ :‬حنن نسأل القائلني جبواز احليل ‪ :‬هل جتيزون أنتم مثل‬
‫حتتجوا مبثله؟ وأما جمرد وجوده يف شريعة يوسف فليس‬
‫هذا يف شريعتنا حىت يكون لكم أن ّ‬
‫ينفعكم‪.‬‬
‫يظن أنّه من جنس احليل اليت بيّنا حترميها ‪ ،‬وليس من جنسها قصة يوسف ‪،‬‬
‫قال شيخنا ‪ :‬وِما قد ّ‬
‫قص ذلك يف كتابه [يوسف ‪ ، ]70 :‬فإن فيه ضرواب من‬
‫اّلل له يف أخذ أخيه ‪ ،‬كما ّ‬
‫حني كاد ّ‬
‫احليل احلسنة ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬جعله بضاعتهم يف رحاهلم ‪ ،‬لريجعوا بعد املعرفة‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جعل السقاية يف رحل أخيه ليظهره مبظهر السارق ‪ ،‬فيحتجزه‪ .‬وقد ذكروا أ ّن ذلك كان‬
‫مبواطأة بينه وبني أخيه ‪ ،‬وعلى ذلك فليس هناك حيلة‪.‬‬
‫مث أطال يف بيان املوضوع ‪ ،‬وحنن جنتزئ منه هبذا‪.‬‬
‫وبعد فإ ّن التحايل على إسقاط التكاليف الشرعية أمر تنفر منه الطباع ‪ ،‬وما ندري هل علم‬
‫اّلل عهدا أنه ال جيازيهم على‬ ‫احملتالون أ ّن حيلهم تنطلي فتسقط التكاليف أو هم قد اختذوا عند ّ‬
‫هذا التحايل؟ مث من خيادعون!!! التحايل يف احلرب يف اتقاء الظاملني أمر مقبول إَِّال أح ْن تحتَّ مقوا‬
‫ِم ْن مه ْم [آل عمران ‪ ]28 :‬أما التحايل إلسقاط التكاليف ‪ ،‬وألكل األموال من غري وجهها فما‬
‫نظن أحدا يقول به‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويف هذا القدر كفاية ‪ ،‬ونكرر الوصية مبطالعة املوضوع يف مراجعه ‪ ،‬فإنّه نفيس ‪ ،‬ويكفي أن‬
‫ويل التوفيق‪.‬‬
‫اّلل ّ‬
‫نبهناك إليه ‪ ،‬و ّ‬

‫ص ‪686 :‬‬
‫من سورة األحقاف‬
‫ض حع ْتهم مك ْرهاً حومححْلمهم حوفِصالمهم‬ ‫اإلنْسا حن بِوالِ حديْهِ إِ ْحساانً حمححلحْتهم أ ُّممهم مك ْرهاً حوحو ح‬ ‫ص ْي نحا ِْ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوحو َّ‬ ‫قال ّ‬
‫ت‬ ‫ب أ ْحو ِز ْع ِين أح ْن أح ْش مك حر نِ ْع حمتح ح‬
‫ك الَِّيت أحنْ حع ْم ح‬ ‫قال حر ِّ‬
‫ني حسنحةً ح‬ ‫ثحالثمو حن حش ْهراً حح َّىت إِذا بحلح حغ أح مشدَّهم حوبحلح حغ أ ْحربحعِ ح‬
‫ك حوإِِّين ِم حن‬‫ت إِلحيْ ح‬ ‫حصلِ ْح ِيل ِيف ذم ِّريَِّيت إِِّين تمبْ م‬‫صاحلاً تح ْرضاهم حوأ ْ‬ ‫ي وأح ْن أح ْعمل ِ‬
‫حح‬
‫ِ‬
‫عحلح َّي حوعحلى وال حد َّ ح‬
‫ِ‬
‫حص ِ‬
‫حاب‬ ‫جاو مز حع ْن حسيِّئاهتِِ ْم ِيف أ ْ‬ ‫ِ‬
‫س حن ما حعملموا حونحتح ح‬ ‫حح ح‬
‫ين نحتح حقبَّ مل حع ْن مه ْم أ ْ‬
‫ني (‪ )15‬أمولئِ ح ِ‬
‫ك الَّذ ح‬ ‫ال مْم ْسل ِم ح‬
‫وع مدو حن (‪)16‬‬ ‫الص ْد ِق الَّ ِذي كانموا يم ح‬ ‫ِ‬
‫ا ْجلحنَّة حو ْع حد ِّ‬
‫قدمنا لك يف سورة لقمان [‪ ]14‬ما فيه كفاية يف تفسري اآلية األوىل ويف بيان ما تشتمل من‬
‫أحكام ‪ ،‬وخالف العلماء يف مدة الرضاع ‪ ،‬ومستندهم الذي يستندون إليه يف تدعيم آرائهم ‪،‬‬
‫وحنن من أجل ذلك ال نعيده ‪ ،‬وإن احتجت إىل شيء منه فارجع إليه هناك ‪ ،‬وإمنا نذكر هنا ما مل‬
‫يرد له ذكر هناك‪.‬‬
‫ضعف ابلفتح والضم‪ .‬ومن ظريف ما يقولون‬
‫ضعف وال ّ‬
‫الكره ‪ :‬بفتح الكاف وضمها املشقة كال ّ‬
‫يف بيان املفردات هنا ‪ :‬أ ّن املشقة تكون بعد احلمل بقليل ال وقت احلمل ‪ ،‬بل حني يثقل الولد‬
‫يف بطنها ‪ ،‬وكأّنّم ظنّوا أ ّن القرآن حي ّدد وقت املشقة‪.‬‬
‫األم أثناء احلمل ‪ ،‬حىت يكون ذلك مرقّقا للولد على‬
‫وهذا املوضع لبيان املتاعب اليت تتجشمها ّ‬
‫أمه ‪ ،‬فاملدار أن يكون تعب يف أثناء احلمل‪ .‬وقد يسبق الكره ثقل الولد ‪ ،‬بل هو الواقع الكثري ‪،‬‬
‫يتحملن كثريا من املتاعب يف أايم الوحم ‪ ،‬فيمتنعن من الطعام ومن الشراب ‪،‬‬
‫فإ ّن الوالدات ّ‬
‫ويعفن كل شيء‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬حح َّىت إِذا بحلح حغ أح مشدَّهم حوبحلح حغ أ ْحربحعِ ح‬
‫ني حسنحةً غاية حملذوف ‪ ،‬تقديره فعاش أو طالت حياته ‪،‬‬
‫حىت إذا بلغ أشده‪.‬‬
‫واألشد ‪ :‬القوة ‪ ،‬وبلوغه استحكامه ‪ ،‬وذلك يكون بكماله يف القوة املادية والعقلية‪ .‬وبلوغ‬
‫األربعني سنة قيل ‪ :‬هو وقت بلوغ األشد ‪ ،‬وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه اخللق ‪ ،‬وتقوى‬
‫نيب قبل األربعني ‪ ،‬وإن كان بعض العلماء على خالفه ‪ ،‬مستدال‬ ‫متانته ‪ ،‬ولذلك قيل ‪ :‬إنّه مل ينبأ ّ‬
‫تاب حو حج حعلحِين نحبِيًّا (‪[ )30‬مرمي ‪:‬‬ ‫اّللِ ِ ِ‬ ‫قال إِِّين عحبْ مد َّ‬
‫آاتينح الْك ح‬ ‫مبا ورد يف شأن عيسى وحيىي من مثل ‪ :‬ح‬
‫صبِيًّا [مرمي ‪.]12 :‬‬ ‫ْم ح‬
‫‪ .]30‬ومن مثل ‪ :‬حوآتح ْيناهم ا ْحلمك ح‬

‫ص ‪687 :‬‬
‫عما سيكون‬
‫وأتول األدلة على أّنّا إخبار ّ‬
‫ويرى ابن العريب أنّه جيوز بعث الصيب ‪ ،‬ولكنه مل يقع ‪ّ ،‬‬
‫عما وقع ابلفعل ‪ ،‬قال ‪ :‬ومثله كثري يف القرآن‪.‬‬
‫‪ ،‬ال ّ‬
‫على أنّه ال مانع من أن تبقى اآلايت على ظاهرها ‪ ،‬ويكون ذلك على خالف الغالب يف األنبياء‪.‬‬
‫ت عحلح َّي حوعحلى والِ حد َّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫ب أ ْحو ِز ْع ِين أح ْن أح ْش مك حر نِ ْع حمتح ح‬
‫ك الَِّيت أحنْ حع ْم ح‬ ‫قال حر ِّ‬
‫ح‬
‫أوزعه ابلشي ء ‪ :‬أغراه به ‪ ،‬فأوزع فهو موزع ‪ ،‬أي مغرى إذا أغراه غريه ‪ ،‬واملراد هنا محله على‬
‫سلوك سبيل الشكر والتوفيق إىل السري فيه‪.‬‬
‫اّلل هبا عليه وعلى والديه ‪ ،‬قيل ‪ :‬نعمة الدين ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬ ‫واملراد ابلنعمة اليت أنعم ّ‬
‫صاحلاً تح ْرضاهم [النمل ‪ ]19 :‬معطوف على أح ْن أح ْش مك حر‬ ‫كل ما يف اإلنسان من نعمة وأح ْن أح ْعمل ِ‬
‫حح‬ ‫ح‬ ‫ّ‬
‫حصل ْح ِيل ِيف ذم ِّريَِّيت اجعل الصالح‬ ‫ِ‬
‫والعمل الصاحل املرضي ما يكون ساملا من غوائل عدم القبول حوأ ْ‬
‫شى فيها ‪ ،‬ويرسخ ‪ ،‬حىت يكون هلا خلقا وطبعا‪ .‬وأصلح ‪:‬‬ ‫يسري فيها ‪ ،‬وميشي خالهلا ‪ ،‬ويتف ّ‬
‫ك من مجيع‬ ‫ت إِل ْحي ح‬
‫أصله يتعدى بنفسه ‪ ،‬وإمنا ع ّدي ابحلرب (يف) إلفادة الرسوخ والسراين إِِّين تم ْب م‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني أنفسهم إليك ‪ ،‬املنقادين لك ‪ ،‬اخلاضعني لربوبيتك‪.‬‬ ‫الذنوب واآلاثم حوإِِّين م حن ال مْم ْسل ِم ح‬
‫س حن ما حع ِملموا‪ .‬هذا إشارة إىل اإلنسان املذكور يف قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫أمولئِ ح ِ‬
‫حح ح‬ ‫ك الَّذ ح‬
‫ين نحتح حقبَّ مل حع ْن مه ْم أ ْ‬
‫اإلنْسا حن ومجعه ابعتبار أفراده الذين حتقق فيهم ما ذكر من األوصاف املذكورة ‪ ،‬من‬ ‫ص ْي نحا ِْ‬
‫حوحو َّ‬
‫اّلل بسؤال التوفيق للشكر ‪ ،‬إىل آخر ما يف اآلية ‪ ،‬وهو‬ ‫معرفة حقوق الوالدين ‪ ،‬والرجوع إىل ّ‬
‫إيذان أب ّن هذه األوصاف هي صفات اإلنسانية الكاملة ‪ ،‬من اتصف هبا فهو اإلنسان ‪،‬‬
‫جاو مز حع ْن حسيِّئاهتِِ ْم‬
‫اّلل ‪ ،‬فيتقبل عنهم ما قدموا من صاحل العمل حونحتح ح‬
‫وأصحاهبا هم الذين يكرمهم ّ‬
‫ئات [هود ‪ ]114 :‬حو ْع حد‬ ‫السيِّ ِ‬
‫نب َّ‬ ‫فيعفو عنها ‪ ،‬إذ هي تتالشى جبانب احلسنات إِ َّن ا ْحلس ِ ِ‬
‫نات يمذْه ْح‬ ‫حح‬
‫واّلل منجز ما‬
‫اّلل به يف كتبه وعلى لسان أنبيائه ‪ّ ،‬‬ ‫الص ْد ِق الَّ ِذي كانموا يم ح‬
‫وع مدو حن الذي وعدهم ّ‬ ‫ِّ‬
‫وعد‪.‬‬

‫ص ‪688 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬ ‫من سورة حممد صلّى ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شدُّوا ال حْواث حق فحِإ َّما‬ ‫وه ْم فح م‬ ‫قاب حح َّىت إِذا أحثْ حخ ْن تم مم م‬
‫الر ِ‬ ‫ب ِّ‬ ‫ض ْر ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فحِإذا لحقيتم مم الَّذ ح‬
‫ين حك حف مروا فح ح‬ ‫قال ّ‬
‫ص حر ِم ْن مه ْم حولكِ ْن لِيح ْب لمحوا‬ ‫ك حول ْحو يحشاءم َّ‬
‫اّللم حالنْ تح ح‬ ‫ب أ ْحوز حارها ذلِ ح‬ ‫حمنًّا بح ْع مد حوإِ َّما فِداءً حح َّىت تح ح‬
‫ض حع ا ْحلحْر م‬
‫اّللِ فحلحن ي ِ‬ ‫ين قمتِلموا ِيف حسبِ ِ‬ ‫ض مكم بِب ْع ٍ ِ‬
‫ض َّل أح ْعما حهلم ْم (‪)4‬‬ ‫يل َّ ْ م‬ ‫ض حوالَّذ ح‬ ‫بح ْع ح ْ ح‬
‫وه ْم أي‬ ‫وح َّىت إِذا أحثْ حخ ْن تم مم م‬ ‫أثخن يف العدو ‪ -‬ابلغ يف اجلراحة فيهم ‪ ،‬وأثخن فالان أوهنه‪ .‬ح‬
‫غلبتموهم ‪ ،‬وكثرت فيهم اجلراح‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أّنم صاروا ال قبل هلم ابحلرب ‪ ،‬وال قدرة هلم على قتالكم من شدة ما أصاهبم‪.‬‬
‫والواثق ‪ :‬ما يشد به ‪ ،‬وأوثقه به ‪ :‬شده فيه‪.‬‬
‫ومن عليه منّا ‪ :‬أنعم ‪ ،‬واصطنع عنده صنيعة‪.‬‬
‫وفداه يفديه فداء ‪ ،‬وافتدى به ‪ ،‬وفاداه ‪ :‬أعطي شيئا فأنقذه ‪ ،‬والفداء ككساء ‪ :‬ذلك الشيء‬
‫املعطى‪.‬‬
‫واألوزار ‪ ،‬مجع وزر بكسر األول ‪ :‬اإلمث ‪ ،‬والثقل ‪ ،‬والسالح ‪ ،‬واحلمل الثقيل‪.‬‬
‫هذا هو بيان املفردات اليت حتتاج إىل بيان يف اآلية الكرمية‪.‬‬
‫اّلل تعاىل أيمر املؤمنني عند لقاء الكفار يف احلرب أال أتخذهم يف قتال‬
‫ومعىن اآلية بعد هذا ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫الكفار شفقة ‪ ،‬بل عليهم أن يعملوا فيهم السالح ‪ ،‬فيضربوا به رقاهبم ‪ ،‬وأن يستمر ذلك حىت‬
‫يهنوا ويضعفوا ‪ ،‬وختضد شوكتهم ‪ ،‬فال يبقى هلم بعد ذلك قدرة على قتال املسلمني ‪ ،‬فإذا‬
‫انتهت احلرب إبثخاّنم وقهرهم ‪ ،‬فعلى املؤمنني أن يش ّدوا واثق من قدروا عليه منهم ‪ ،‬وذلك‬
‫كناية عن قيد األسر ‪ ،‬ووقوعهم أسرى يف يد املؤمنني هنالك بعد األسر ‪ ،‬واستقرارهم يف قبضة‬
‫املؤمنني يكون لنا أن نبقيهم كذلك أسرى أرقاء ‪ ،‬يقتسمهم الغامنون على ما ورد يف قسمة الغنائم‬
‫منن عليهم هبا ‪،‬‬
‫‪ ،‬وأن ننعم عليهم ابإلطالق من غري مقابل ‪ ،‬فيكون ذلك يدا لنا عليهم ‪ ،‬ومنة ّ‬
‫حيث أصبح األعداء ال خيشى أبسهم‪ .‬وأن أنخذ الفداء يف مقابل إطالقهم ‪ ،‬لنسد ابلفداء ما‬
‫اّلل تعاىل غاية هذه األوامر وضع احلرب‬
‫عساه يكون عند املؤمنني من حاجة إليه ‪ ،‬وقد جعل ّ‬
‫أوزارها وآاثمها وشرورها ‪ ،‬اليت تلحق الناس منها ‪ ،‬أو وضع األثقال والتبعات‬

‫ص ‪ 689 :‬اليت تلحق الناس يف احلروب ‪ ،‬أو وضع احلرب سالحها ‪ ،‬فال يكون قتال بعد‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪( :‬ذلك) وقد كثر يف لغة العرب استعمال اسم اإلشارة عند الفصل بني كالمني‬
‫مث قال ّ‬
‫‪ ،‬واالنتهاء من األول وإرادة االنتقال إىل الثاين‪.‬‬
‫كأنه قيل ‪ :‬ذلك هو ما نريد أن نقوله يف هذا الشأن ‪ ،‬ونقول بعده كذا وكذا‪ .‬أو احفظ ذلك‬
‫واألمر بعده كذا وكذا ‪ ،‬فاسم اإلشارة للفصل بني كالمني ‪ ،‬والكالم يف اإلعراب بعد ذلك سهل‬
‫يسري‪.‬‬
‫اّلل أن ينتصر على أعدائه‬
‫والكالم الذي بعده يقصد منه بيان احلكمة يف شرع القتال مع قدرة ّ‬
‫من غري أن تكون حرب بينهم وبني أوليائه ‪ ،‬وتلك احلكمة هي امتحان الناس ‪ ،‬واختبار صربهم‬
‫جاه مدوا ِم ْن مك ْم‬
‫ين ح‬ ‫على املكاره ‪ ،‬واحتماهلم للشدائد أ ْحم ح ِس ْب تمم أح ْن تح ْد مخلموا ا ْجلنَّةح ول َّحما ي ْعلح ِم َّ ِ‬
‫اّللم الَّذ ح‬ ‫ح ح ح‬ ‫ح ْ‬
‫ين (‪[ )142‬آل عمران ‪.]142 :‬‬ ‫لصابِ ِر ح‬
‫حويح ْعلح حم ا َّ‬
‫اّلل ستحفظ أعماهلم ‪،‬‬
‫اّلل تعاىل بعد ذلك أ ّن الذين يكون من حظّهم أن يقتلوا يف سبيل ّ‬
‫مث ّبني ّ‬
‫وختلّد هلم ‪ ،‬مث هم بعد ذلك يف روضات اجلنات حيربون‪.‬‬
‫حسرى حح َّىت يمثْ ِخ حن ِيف‬ ‫ِ‬
‫واآلية الكرمية بعد هذا متفقة مع آية األنفال ما كا حن لنحِ ٍّ‬
‫يب أح ْن يح مكو حن لحهم أ ْ‬
‫ض [األنفال ‪ ]67 :‬غري أ ّن آية األنفال مل يذكر فيها ما يكون بعد اإلثخان ‪ ،‬واآلية اليت معنا‬ ‫ْاأل ْحر ِ‬
‫ّبني فيها أ ّن املؤمنني عليهم بعد غلبة األعداء وقهرهم أن يشدوا الواثق ‪ ،‬مث هلم بعد ذلك أن‬
‫مينّوا على من أوثقوهم من غري فداء ‪ ،‬وهلم أن يفادوهم ‪ ،‬وقد تسأل بعد هذا وأين اسرتقاقهم؟‬
‫فنقول ‪ :‬إن االسرتقاق قد فهم من األمر بش ّد الواثق‪ .‬وبعد هناك حاالن أذن لنا فيهما الشارع‬
‫الكرمي ‪ :‬مها املن والفداء‪.‬‬
‫اّلل به‬
‫وإان نذكر لك هنا آراء العلماء يف املن على األسرى وأخذ فدائهم مث نعقب عليه مبا يفتح ّ‬
‫‪:‬‬
‫قد اختلف العلماء فيما دلّت عليه اآلية الكرمية يف مواضع ‪ :‬منها املراد ابلذين كفروا ‪ ،‬فذهب‬
‫كل من‬
‫بعضهم إىل أّنم املشركون ‪ ،‬وهو مروي عن ابن عباس ‪ ،‬وذهب بعضهم إىل أن املراد ّ‬
‫ليس بيننا وبينهم عهد وال ذمة ‪ ،‬ويظهر أ ّن هذا هو الصحيح ‪ ،‬إذ اآلية عامة ‪ ،‬والتخصيص ال‬
‫دليل عليه‪.‬‬
‫وقد اختلف أيضا يف املراد من ضرب الرقاب ‪ ،‬فذهب السدي إىل أ ّن املراد منه القتال ‪ ،‬وذهب‬
‫مجاعة على أن املراد منه قتل األسري صربا ‪ ،‬والظاهر األول ‪ ،‬فإنّه الذي ينساق إليه الذهن من‬
‫شدُّوا ال حْواث حق إذ جعل اإلثخان وهو اإلضعاف‬ ‫قاب حح َّىت إِذا أحثْ حخْن تم مم م‬
‫وه ْم فح م‬ ‫الر ِ‬
‫ب ِّ‬
‫ض ْر ح‬
‫اّلل ‪ :‬فح ح‬
‫قول ّ‬
‫‪ -‬غاية لضرب الرقاب ‪ ،‬فأين قتل األسري صربا ‪ ،‬وهو إمنا يقع يف األسر بعد إثخانه وضعفه‪.‬‬
‫وكذلك اختلف العلماء يف املراد من الفداء ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬املراد من املفاداة‬

‫ص ‪690 :‬‬
‫العتق ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬إ ّن املراد إطالق سراحهم يف مقابل ما أيخذه املسلمون منهم ‪ ،‬وقد يكون‬
‫املقابل أسرى من املسلمني عند الكفار ‪ ،‬من طريق التبادل ‪ ،‬حسبما يتيسر عند املفاداة ‪ ،‬وقد‬
‫يكون املقابل ماال ‪ ،‬أو عتادا أيخذه املسلمون يف نظري أسرى احلرب‪.‬‬
‫واختلفوا كذلك يف املراد من وضع احلرب أوزارها ‪ ،‬بعد الذي علمت من معاين األوزار ‪ ،‬فقال‬
‫بعضهم ‪ :‬إ ّن وضع األوزار كناية عن اإلميان ‪ ،‬واملعىن حىت يؤمنوا ويذهب الكفر ‪ ،‬وقال بعضهم‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوقاتِلم م‬
‫وه ْم حح َّىت ال‬ ‫‪ :‬بل املراد حىت ينزل عيسى عليه السالم ‪ ،‬وأنت لو نظرت إىل قول ّ‬
‫ين َِّّللِ [البقرة ‪ ]193 :‬رجحت األول على الثاين ‪ ،‬نعم إ ّن نزول عيسى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تح مكو حن ف ْت نحةٌ حويح مكو حن ال ّد م‬
‫لكن نزول عيسى أمر ال شيء يف‬ ‫قد ورد فيه أنّه حني يكون ال يكون على ظهر األرض كافر ‪ ،‬و ّ‬
‫اآلية ‪ ،‬وال يف غريها ِما جاء يف القرآن ‪ ،‬يشعر به‪.‬‬
‫كل هذا خالف العلماء يف األحكام اليت دلّت عليها اآلية من التخيري بني االسرتقاق‬
‫بقي بعد ّ‬
‫وتغريت‬
‫واإلطالق دون مقابل والفداء ‪ ،‬أال تزال هذه األحكام معموال هبا ‪ ،‬أم نسخ العمل هبا ‪ّ ،‬‬
‫األحكام‪.‬‬
‫وه ْم [التوبة ‪]5 :‬‬
‫ث حو حج ْدمتمم م‬ ‫فذهب بعضهم إىل أّنّا منسوخة بقوله تعاىل ‪ :‬فحاقْتملموا ال مْم ْش ِركِ ح‬
‫ني حح ْي م‬
‫وذهب البعض إىل أ ّن النسخ إمنا هو يف بعض ما تناولته فقط ‪ ،‬فهي منسوخة يف ح ّق عبّاد‬
‫مين عليهم ‪ ،‬وال يفادون ‪ ،‬ألنّنا منهيون عن معاهدهتم ‪ ،‬وقال الضحاك ‪ :‬ال‬
‫األواثن ‪ ،‬فهؤالء ال ّ‬
‫نسخ فيها ‪ ،‬بل هي ابقية احلكم يف كل ما دلّت عليه‪.‬‬
‫ويرى سعيد بن جبري ‪ ،‬أ ّن الكفار بعد أن يثخنوا ويضعفوا فاحلكم فيهم ابق ال يتغري ‪ ،‬أما قبل‬
‫من وال فداء ‪ ،‬وهذا يتفق مع ما أشري إليه يف قوله تعاىل ‪ :‬ما‬ ‫أن يضعفوا فال جيوز أن يكون هناك ّ‬
‫حسرى حح َّىت يمثْ ِخ حن ِيف ْاأل ْحر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض [األنفال ‪ ]67 :‬وقد اختلف فقهاء األمصار‬ ‫كا حن لنحِ ٍّ‬
‫يب أح ْن يح مكو حن لحهم أ ْ‬
‫يف ذلك أيضا‪.‬‬
‫قال اجلصاص «‪ : »1‬اتفق فقهاء األمصار على جواز قتل األسري ‪ ،‬ال نعلم بينهم خالفا فيه ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف قتل األسري‪ .‬منها قتله عقبة بن أيب معيط‬
‫وقد تواترت األخبار عن النيب صلّى ّ‬
‫والنضر بن احلارث [و هو الذي قالت أخته ‪:‬‬
‫أحممد ها أنت صنو كرمية يف قومها ‪ ،‬والفحل فحل معرق‬
‫ّ‬
‫من الفىت ‪ ،‬وهو املغيظ احملنق‬
‫ضرك لو مننت ورّمبا ّ‬
‫ما كان ّ‬
‫قتل بعد األسر يوم بدر‪.‬‬
‫عزة الشاعر ‪ ،‬بعد ما أسر‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يوم أحد أاب ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫وقتل ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام أيب بكر اجلصاص (‪.)391 /3‬‬

‫ص ‪691 :‬‬
‫ومن‬
‫وقتل بين قريظة بعد نزوهلم على حكم سعد بن معاذ ‪ ،‬فحكم فيهم ابلقتل وسيب الذرية‪ّ .‬‬
‫على الزبري بن ابطا من بينهم‪.‬‬
‫وفتح خيرب بعضها صلحا وبعضها عنوة ‪ ،‬وشرط على ابن أيب احلقيق أال يكتم شيئا ‪ ،‬فلما ظهر‬
‫على خيانته وكتمانه قتله «‪.»1‬‬
‫اّلل بن سعد بن أيب سرح‬
‫وفتح مكة ‪ ،‬وأمر بقتل هالل بن خطل ‪ ،‬ومقيس بن صبابة ‪ ،‬وعبد ّ‬
‫وآخرين‪ .‬وقال ‪« :‬اقتلوهم وإن وجدمتوهم متعلّقني أبستار الكعبة»‪.‬‬
‫السيب‬
‫واختلف الفقهاء يف فداء األسري ‪ ،‬فقال احلنفية مجيعا ‪ :‬ال يفادى األسري ابملال ‪ ،‬وال يباع ّ‬
‫ألهل احلرب ‪ ،‬فريجعون حراب علينا ‪ ،‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ال يفادون أبسرى املسلمني أيضا ‪ ،‬وقال‬
‫أبو يوسف وحممد ‪ :‬ال أبس أن يفادى أسرى املؤمنني أبسرى املشركني ‪ ،‬وهو قول الثوري‬
‫واألوزاعي‪.‬‬
‫مين على الرجال الذي ظهر عليهم ‪ ،‬أو يفادي هبم‪.‬‬ ‫ونقل املزين عن الشافعي ‪ :‬أن لإلمام أن ّ‬
‫أما اجمليزون للفداء أبسرى املسلمني وابملال ‪ ،‬فيستدلّون بقوله تعاىل ‪ :‬فحِإ َّما حمنًّا بح ْع مد حوإِ َّما فِداءً فقد‬
‫اّلل عليه وسلّم فادى أسرى بدر‬ ‫النيب صلّى ّ‬
‫أجازت اآلية الكرمية الفداء مطلقا غري مقيّد ‪ ،‬وأبن ّ‬
‫ابملال‪.‬‬
‫وحيتجون للفداء أبسرى املسلمني مبا‬
‫روى ابن املبارك عن معمر عن أيب قالبة عن أيب املهلب عن عمران بن حصني ‪ :‬قال أسرت‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأسر أصحاب النيب صلّى ّ‬
‫ثقيف رجلني من أصحاب النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال األسري ‪:‬‬
‫فمر به على النيب صلّى ّ‬
‫وسلّم رجال من بين عامر بن صعصعة ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫عالم أحبس؟ فقال ‪« :‬جبريرة حلفائك» فقال ‪« :‬إين مسلم» فقال النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫كل الفالح»‪ .‬مث مضى رسول ّ‬
‫«لو قلتها وأنت متلك أمرك ألفلحت ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬نعم هذه‬
‫فناداه أيضا ‪ ،‬فأقبل ‪ ،‬فقال ‪ :‬إين جائع فأطعمين ‪ ،‬فقال النيب صلّى ّ‬
‫حاجتك» مث فداه ابلرجلني اللذين كانت ثقيف أسرهتما «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلّم فدى رجلني من املسلمني برجل من املشركني‬
‫وروي أ ّن النيب صلّى ّ‬
‫‪ ،‬ومل يذكر يف هذه الرواية إسالم األسري‪.‬‬
‫سلح حخ ْاألح ْش مه مر ا ْحلممرمم فحاقْتملموا‬ ‫ِ‬
‫والذين يقولون بعدم اجلواز يقولون ‪ :‬إ ّن هذه اآلية نسختها آية فحإذحا انْ ح‬
‫وهم واقْع مدوا حهلمم مك َّل مر ٍ‬ ‫ال مْم ْش ِركِ ح‬
‫الصالةح‬
‫حقاموا َّ‬ ‫صد فحِإ ْن اتبموا حوأ م‬ ‫ْ حْ ح‬ ‫ص مر م ْ ح م‬
‫اح م‬
‫وه ْم حو ْ‬
‫وه ْم حو مخ مذ م‬
‫ث حو حج ْدمتمم م‬
‫ني حح ْي م‬
‫الزكاةح فح حخلُّوا حسبِيلح مه ْم [التوبة ‪]5 :‬‬ ‫حوآتح موا َّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )92 /3‬كتاب اخلراج ‪ ،‬ابب ما جاء يف حكم أرض خيرب‬
‫حديث رقم (‪.)3006‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 26 ، )2262 /3‬كتاب النذر ‪ - 3 ،‬ابب ال وفاء لنذر ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1641 /8‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )200 /3‬كتاب األميان حديث رقم‬
‫(‪.)3316‬‬

‫ص ‪692 :‬‬
‫ين ال يم ْؤِمنمو حن ِاب َّّللِ حوال ِابلْيح ْوِم ْاآل ِخ ِر حوال محيح ِّرممو حن ما حح َّرحم َّ‬
‫اّللم حوحر مسولمهم حوال‬ ‫ِ ِ‬
‫وبقوله تعاىل ‪ :‬قاتلموا الَّذ ح‬
‫صاغ مرو حن (‪[ )29‬التوبة‬ ‫ي ِدينمو حن ِدين ا ْحل ِّق ِمن الَّ ِذين أموتموا الْكِتاب ح َّىت ي عطموا ا ْجلِزيةح حعن ي ٍد وهم ِ‬
‫ْح ْ ح ح م ْ‬ ‫ح ح مْ‬ ‫ح ح ح ح‬ ‫ح‬
‫‪.]29 :‬‬
‫ويقولون ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف صلح احلديبية ‪« :‬إ ّن من جاءان منهم رددانه عليهم»‬
‫إ ّن ما كان من النيب صلّى ّ‬
‫«‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلّم عن اإلقامة بني أظهر املشركني ‪ ،‬وقال ‪« :‬من أقام بني‬
‫قد نسخ‪ .‬وّنى النيب صلّى ّ‬
‫أظهر املشركني فقد برئت منه ال ّذمة» «‪»2‬‬
‫وما روي يف أسارى بدر منسوخ مبا تلوان‪.‬‬
‫فمن‬
‫هذه حجج الفريقني قد سقناها لك ‪ ،‬وإنك لرتى فيها أ ّن النيب فعل أشياء كثرية خمتلفة ‪ّ ،‬‬
‫وقال ‪« :‬اذهبوا فأنتم الطّلقاء»‬
‫وقال ‪« :‬من دخل دار فالن فهو آمن»‪.‬‬
‫ويف الوقت نفسه قتل مجاعة من األسرى ‪ ،‬وقال ‪« :‬اقتلوهم وإن تعلقوا أبستار الكعبة»‬
‫ومن على واحد‬
‫وقتل يهود بين قريظة نزوال على حكم سعد بن معاذ ‪ ،‬وكانوا قد رضوا حكمه ‪ّ ،‬‬
‫كل ذلك قد كان تبعا للمصلحة احلربية ‪ ،‬وقد أرشد‬
‫منهم ‪ ،‬وفادى ابملال واملسلمني ‪ ،‬وترى أ ّن ّ‬
‫كل اعتبار ‪ ،‬انظر إىل قوله تعاىل ‪ :‬ما كا حن‬ ‫اّلل تعاىل يف القرآن الكرمي إىل أ ّن املصلحة احلربية فوق ّ‬ ‫ّ‬
‫الدنْيا حوا َّّللم يم ِري مد ْاآل ِخ حرةح حو َّ‬
‫اّللم حع ِز ٌيز‬ ‫ض ُّ‬‫ض تم ِري مدو حن حع حر ح‬‫حسرى حح َّىت يمثْ ِخ حن ِيف ْاأل ْحر ِ‬ ‫ِ‬
‫لنحِ ٍّ‬
‫يب أح ْن يح مكو حن لحهم أ ْ‬
‫اّلل نبيه على اختاذ األسرى قبل أن تقوى شوكة‬ ‫يم (‪[ )67‬األنفال ‪ ]67 :‬فقد عاتب ّ‬ ‫ِ‬
‫ححك ٌ‬
‫يتم خذالن العدو وقهره‪.‬‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬وقبل أن ّ‬
‫وقد يكون يف إابحة األسر قبل الغلبة تقوية قلوب األعداء ‪ ،‬إذ يقولون ‪ :‬ما دمنا سنكون أحياء‬
‫كل‬
‫فيستمرون يف مناوشة املسلمني ‪ ،‬ومداومة حرهبم ّ‬
‫ّ‬ ‫أنكل ونشرب ‪ ،‬فما لنا خنضع لدعوهتم ‪،‬‬
‫يوم‪ .‬أما إذا علموا أنّه ال هوادة يف احلرب ‪ ،‬وأّنم مقتولون إن مل يؤمنوا ‪ ،‬وأّنم ال ملجأ هلم من‬
‫اّلل إال إليه أسلموا ‪ ،‬وقبلوا الدعوة ‪ ،‬أو أسلموا أمورهم ‪ ،‬وانقادوا ‪ ،‬وذلوا ‪ ،‬فال يقومون حبرب ‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومنن ‪ ،‬ونفادي ‪،‬‬
‫وال يقلقون راحة املسلمني ‪ ،‬فما لنا ال نوادعهم ‪ ،‬وأنسر منهم ‪ ،‬فنسرت ّق ‪ّ ،‬‬
‫فانظر عظمة اإلسالم ومكارمه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )115 /4‬كتاب السري ‪ ،‬ابب األسارى حديث رقم‬
‫(‪ ، )1568‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 1 ، )689 /1‬كتاب الكفارات ‪ - 16 ،‬ابب النهي عن‬
‫النذر حديث رقم (‪.)2124‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )132 /4‬كتاب السري ‪ ،‬ابب كراهية املقام حديث‬
‫رقم (‪ ، )1604‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )394 /2‬كتاب اجلهاد ‪ ،‬ابب النهي حديث رقم‬
‫(‪.)2645‬‬

‫ص ‪693 :‬‬
‫وقد جاء القرآن ابلرتخيص يف هذا صرحيا يف اآلية اليت معنا‪.‬‬
‫والقول ابلنسخ ال حاجة إليه ‪ ،‬وقواعد النسخ أتابه ‪ ،‬إذ النسخ مشروط ‪ -‬بعد املعارضة ‪ -‬بعدم‬
‫إمكان اجلمع بعد ثبوت التأخر يف الناسخ ‪ ،‬والتقدم يف املنسوخ‪.‬‬
‫وحيث إنه ال معارضة فإ ّن لنا أن نقول ‪ :‬إ ّن آايت القتال كانت يف أولئك الذين كانوا حراب على‬
‫املسلمني ‪ ،‬وأخرجوهم من دايرهم ‪ ،‬وظاهروا على إخراجهم ‪ ،‬وعاهدوا ‪ ،‬ونقضوا عهدهم ‪ ،‬أو‬
‫نقول ‪ :‬إن املصلحة احلربية والتمكني لقاعدة املسلمني (جزيرة العرب) أال يبقى فيها دينان ‪،‬‬
‫قضت ابلقتل حىت تطهر اجلزيرة‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ َّمنحا الْم ْش ِرمكو حن حجنحس فحال ي ْقربوا الْمس ِج حد ا ْحلرام ب ع حد ِ‬
‫عام ِه ْم هذا حوإِ ْن‬ ‫انظر إىل قول ّ‬
‫ح ح حْ‬ ‫ٌ ح حم ح ْ‬ ‫م‬
‫يم [التوبة ‪.]28 :‬‬ ‫ِ‬
‫يم ححك ٌ‬ ‫اّللح حعل ٌ‬ ‫ح‬ ‫اّللم ِم ْن فح ْ‬
‫ضلِهِ إِ ْن شاء إِ َّن َّ ِ‬ ‫ف يمغْنِي مك مم َّ‬
‫س ْو ح‬ ‫ِ‬
‫خ ْفتم ْم حع ْي لحةً فح ح‬
‫يفوض إىل أهل الذكر والبصر ابحلرب أمر احلرب ‪ ،‬ووضع خططها ‪ ،‬والتصرف‬ ‫وبعد فإ ّان نرى أن ّ‬
‫يف األسرى وغريهم ‪ ،‬حبسب ما تقضي املصلحة احلربية ‪ ،‬فإن رأوا إابدهتم خريا أابدوهم ‪ ،‬وإن‬
‫رأوا اسرتقاقهم اسرتقوهم ‪ ،‬وإن رأوا املفاداة ابملال وابألسرى فعلوا ‪ ،‬فيرتك هلم أمر تقدير‬
‫املصلحة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم من األعمال املختلفة‬
‫وما حنسبنا خمطئني إذا قلنا ‪ :‬إ ّن الذي كان من النيب صلّى ّ‬
‫تعرف وجوه املصلحة ‪ ،‬فيستشري‬
‫كان نزوال على مقتضى املصلحة ‪ ،‬ولذلك نراه كان جيتهد يف ّ‬
‫أاب بكر وعمر ‪ ،‬وخيتلف أبو بكر وعمر ‪ ،‬وجييء القرآن مؤيدا ألحد الرأيني ‪ ،‬وكذلك نزوله على‬
‫حتكيم سعد بن معاذ ‪ ،‬ولو كان األمر أمر خطة مرسومة ‪ ،‬وحدا ال يتخطّى ‪ ،‬ملا كان هناك معىن‬
‫لالستشارة ‪ ،‬وال للنزول على الرضا ابلتحكيم وملا خالف يف احلرب الواحدة بني أسري وأسري ‪،‬‬
‫ومن على غريه‪ .‬فاملصلحة العامة وحدها هي احمل ّكمة ‪ ،‬وهي اخلطة اليت تتّبع يف‬
‫فقتل هذا ّ‬
‫احلروب ‪ ،‬خصوصا واحلرب مكر وخديعة ‪ ،‬وما دامت مكرا وخديعة فليرتك للماكرين وضع‬
‫خطط املكر واخلديعة ‪ ،‬وال يرسم هلم كيف ميكرون ‪ ،‬وإال ما كانوا ماكرين‪.‬‬
‫ول حوال تم ْب ِطلموا أح ْعمالح مك ْم (‪)33‬‬
‫الر مس ح‬ ‫اّلل وأ ِ‬
‫حطيعموا َّ‬ ‫ِ‬
‫آمنموا أحطيعموا َّح ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫اّلل ورسوله امتثال أوامرمها واجتناب نواهيهما‪.‬‬
‫إطاعة ّ‬
‫اّلل املؤمنني يف اآلية الكرمية عن إبطال أعماهلم ‪ ،‬وذلك يدل بظاهره على أ ّن من شرع‬
‫وقد ّنى ّ‬
‫انفلة ‪ ،‬مث أراد تركها ‪ ،‬ليس له ذلك‪.‬‬
‫واختلف العلماء ‪:‬‬
‫و«املتطوع‬
‫ّ‬ ‫تطوع ‪:‬‬
‫اّلل إىل أ ّن له ذلك ‪ ،‬قال الشافعي هو ّ‬
‫فذهب الشافعي رمحه ّ‬

‫ص ‪694 :‬‬
‫ني ِم ْن حسبِ ٍ‬
‫يل [التوبة ‪:‬‬ ‫أمري نفسه» «‪ »1‬وإلزامه إايه خمرج عن وصف التطوع ما حعلحى ال مْم ْح ِسنِ ح‬
‫‪.]91‬‬
‫وذهب مالك وأبو حنيفة إىل أنه ليس له ذلك‪ .‬وقال املالكية واحلنفية ‪ :‬هو أمري نفسه ‪ ،‬وال‬
‫سبيل عليه قبل أن يشرع ‪ّ ،‬أما إذا شرع فقد ألزم نفسه ‪ ،‬وعقد عزمه على الفعل ‪ ،‬فوجب عليه‬
‫واّلل أعلم‪.‬‬ ‫أن يؤدي ما التزم ‪ ،‬وأن يويف مبا عقد اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا أحوفموا ِابلْع مق ِ‬
‫ود [املائدة ‪ّ ]1 :‬‬ ‫م‬ ‫ح ح ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )109 /3‬كتاب الصوم ‪ ،‬ابب ما جاء يف إفطار‬
‫الصائم حديث رقم (‪.)732‬‬

‫ص ‪695 :‬‬
‫من سورة احلجرات‬
‫صيبوا قحوماً ِجبهالحةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنموا إِ ْن جاءح مك ْم فاس ٌق بِنح بحٍإ فحتح بح يَّ نموا أح ْن تم ِ م ْ ح‬ ‫ين ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫اّللِ ل ْحو يم ِطيعم مك ْم ِيف حكثِ ٍري ِم حن ْاأل ْحم ِر‬
‫ول َّ‬ ‫حن فِي مك ْم حر مس ح‬ ‫ني (‪ )6‬حوا ْعلح مموا أ َّ‬ ‫فحتصبِحوا حعلى ما فحعلْتم ِ ِ‬
‫اندم ح‬ ‫ح مْ‬ ‫مْ م‬
‫صيا حن‬‫سو حق حوالْعِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب إِل ْحي مك مم ِْ‬
‫اإلميا حن حوحزيَّنحهم ِيف قملموب مك ْم حوحك َّرهح إل ْحي مك مم الْ مك ْف حر حوالْ مف م‬ ‫ل ححعنِت ُّْم حولكِ َّن َّ‬
‫اّللح ححبَّ ح‬
‫ِ‬ ‫اّللِ ونِعمةً و َّ ِ‬ ‫اش مدو حن (‪ )7‬فح ْ ِ‬ ‫الر ِ‬ ‫أمولئِ ح‬
‫يم (‪)8‬‬ ‫يم ححك ٌ‬ ‫اّللم عحل ٌ‬ ‫ض ًال م حن َّ ح ْ ح ح‬ ‫ك مه مم َّ‬
‫اشتملت سورة احلجرات على إرشاد املؤمنني إىل مكارم األخالق ‪ ،‬وبيّنت هلم أقوم الطرق اليت‬
‫يسلكوّنا يف حياهتم الدنيا ‪ ،‬وخري املناهج اليت ينتهجوّنا يف معاملتهم ‪ ،‬فبيّنت هلم أنواعا من‬
‫األدب ‪ ،‬ختتلف ابختالف من تكون املعاملة معه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬أو مع‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬أو مع الرسول صلّى ّ‬
‫وذلك أنه ّإما أن تكون املعاملة ‪ :‬مع ّ‬
‫غريهم من بين آدم وهؤالء على قسمني ‪ ،‬ألّنم إما مؤمنني ملتزمني الطاعة ‪ ،‬أو خارجني عن‬
‫حدودها وهؤالء هم الفاسقون‪ .‬واملؤمن الذي التزم حدود الطاعة إما أن يكون حاضرا أو غائبا ‪،‬‬
‫فهذه مخسة أصناف‪.‬‬
‫كل‬
‫وقد جاء خطاب املؤمنني ب (اي أيها الذين آمنوا) يف هذه السورة مخس مرات ‪ّ ،‬بني تعاىل يف ّ‬
‫مرة مكرمة تتناسب مع من تكون املعاملة معه‪.‬‬
‫ّ‬
‫اّللِ حوحر مسولِهِ وذكر الرسول‬ ‫آمنموا ال تم حق ِّد مموا بحْح‬
‫ني يح حد ِي َّ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫‪ -‬فقال يف جانب ّ‬
‫اّلل تعاىل‪.‬‬
‫ضح طريق طاعة ّ‬ ‫اّلل عليه وسلّم إمنا جيء به هنا ألنه الذي يو ّ‬ ‫صلّى ّ‬
‫ِ‬
‫آمنموا ال تح ْرفحعموا‬‫ين ح‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫‪ -‬وقال يف جانب املعاملة مع الرسول صلّى ّ‬
‫حصواتح مكم فحو حق ِ‬
‫ص ْوت النِ ِّ‬
‫َّيب‪.‬‬ ‫أْ ْ ْ ح‬
‫ِ‬
‫آمنموا إِ ْن جاءح مك ْم‬‫ين ح‬ ‫‪ -‬وقال يف جانب املؤمن اخلارج عن حدود الطاعة (الفاسق) ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ِ‬
‫فاس ٌق بِنح بحٍإ فحتح بح يَّ نموا‪.‬‬
‫آمنموا ال يح ْس حخ ْر قح ْوٌم ِم ْن قح ْوٍم‬ ‫ين ح‬
‫ِ‬
‫‪ -‬وقال يف جانب املعاملة مع املؤمنني احلاضرين ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫عحسى أح ْن يح مكونموا حخ ْرياً ِم ْن مه ْم‪.‬‬
‫اجتحنِبموا حكثِرياً ِم حن الظَّ ِّن‪.‬‬
‫آمنموا ْ‬
‫ِ‬
‫‪ -‬وقال يف جانب الغائب ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬

‫ص ‪696 :‬‬
‫ومن أراد أن يقف على املكرمتني األوليني فليطلبهما يف كتب التفسري‪ .‬ولنبدأ ابآلية اليت معنا‪.‬‬
‫صيبوا قحوماً ِجبهالحةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنموا إِ ْن جاءح مك ْم فاس ٌق بِنح بحٍإ فحتح بح يَّ نموا أح ْن تم ِ م ْ ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫ين ح‬ ‫قال ّ‬
‫ني (‪.)6‬‬ ‫فحتصبِحوا حعلى ما فحعلْتم ِ ِ‬
‫اندم ح‬ ‫ح مْ‬ ‫مْ م‬
‫اّلل املؤمنني يف هذه اآلية ‪ ،‬ويرشدهم إىل وجوب عدم االعتماد على أقوال الكذبة الفاسقني‬ ‫حي ّذر ّ‬
‫‪ ،‬فإ ّن االستماع إليهم يوقع الفتنة بني املؤمنني ‪ ،‬فيفشلوا ‪ ،‬وتذهب رحيهم ‪ ،‬وتتمكن العداوة‬
‫ضون أصابعهم ندما ‪ ،‬وال ينفع الندم‪.‬‬
‫والبغضاء من نفوسهم ‪ ،‬وحينئذ يع ّ‬
‫وقد يبدو أ ّن مقتضى الرتتيب أن تؤ ّخر آية الفاسق بعد آايت املؤمنني ‪ ،‬ولكن ملا كان االستماع‬
‫إىل الفاسق واالعتماد عليه قد يؤدي إىل فتنة وفساد كبري ق ّدم الكالم فيه ‪ ،‬اعتناء أبمر املسلمني‬
‫جيرها االعتماد على من يوضعون خالل املؤمنني ‪،‬‬
‫‪ ،‬واهتماما أبمر سالمتهم من الفنت ‪ ،‬اليت ّ‬
‫يبغوّنم الفتنة‪.‬‬
‫وقد روي يف سبب نزول هذه اآلية ما أخرجه أمحد وابن أيب الدنيا والطرباين وغريهم «‪ »1‬بسند‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فدعاين‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫جيّد عن احلارث بن ضرار اخلزاعي قال ‪ :‬قدمت على رسول ّ‬
‫إىل اإلسالم ‪ ،‬فدخلت فيه ‪ ،‬وأقررت به ‪ ،‬فدعاين إىل الزكاة ‪ ،‬فأقررت هبا ‪ ،‬وقلت ‪ :‬اي رسول‬
‫إيل‬
‫اّلل أرجع إىل قومي فأدعوهم إىل اإلسالم وأداء الزكاة فمن استجاب يل مجعت زكاته ‪ ،‬وترسل ّ‬
‫ّ‬
‫إلابن كذا وكذا ليأتيك مبا مجعت من الزكاة‪.‬‬
‫اّلل رسوال ّ‬
‫اي رسول ّ‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فلما مجع احلارث الزكاة ِمن استجاب له ‪ ،‬وبلغ اإلابن الذي أراد رسول ّ‬
‫فظن احلارث أن قد حدث فيه سخطة‬
‫وسلّم أن يبعث إليه ‪ ،‬احتبس عليه الرسول فلم أيت ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وجل ورسوله ‪ ،‬فدعا بسروات قومه ‪ ،‬فقال هلم ‪ :‬أب ّن رسول ّ‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫من ّ‬
‫اّلل صلّى‬
‫إيل رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ‪ ،‬وليس من رسول ّ‬
‫كان وقّت يل وقتا يرسل ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلّم اخللف ‪ ،‬وال أرى حبس رسوله إال من سخطة كانت ‪ ،‬فانطلقوا فنأيت رسول ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل الوليد بن عقبة بن أيب معيط ‪ ،‬وهو أخو عثمان رضي‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وبعث رسول ّ‬
‫صلّى ّ‬
‫اّلل عنه ألمه إىل احلارث ليقبض ما كان عنده ِما مجع من الزكاة ‪ ،‬فلما أن سار الوليد إىل أن بلغ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال ‪ :‬إ ّن احلارث منعين‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫بعض الطريق فرق ‪ ،‬فرجع ‪ ،‬فأتى رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم البعث إىل احلارث ‪ ،‬فأقبل احلارث‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫الزكاة وأراد قتلي‪ .‬فضرب رسول ّ‬
‫حىت استقبله البعث ‪ ،‬وقد فصل عن املدينة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬هذا احلارث ‪ ،‬فلما غشيهم قال‬
‫أبصحابه ّ‬
‫هلم ‪:‬‬
‫إىل من بعثتم؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر املسند لإلمام أمحد بن حنبل (‪.)279 /4‬‬

‫ص ‪697 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫قالوا ‪ :‬إليك ‪ ،‬قال ‪ :‬ومل؟ قالوا ‪ :‬إ ّن رسول ّ‬
‫‪ ،‬فزعم أنّك منعته الزكاة ‪ ،‬وأردت قتله قال ‪ :‬ال والذي بعث حممدا ابحلق ‪ ،‬ما رأيته بتة ‪ ،‬وال‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬منعت الزكاة ‪ ،‬وأردت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫أاتين‪ .‬فلما دخل احلارث على رسول ّ‬
‫علي‬
‫قتل رسويل؟» قال ‪ :‬ال والذي بعثك ابحلق ‪ ،‬ما رأيته وال رآين ‪ ،‬وال أقبلت إال حني احتبس ّ‬
‫وجل ورسوله ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫عز ّ‬‫اّلل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم خشية أن تكون سخطة من ّ‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫رسول رسول ّ‬
‫فنزلت احلجرات ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا إِ ْن جاء مكم ِ‬
‫فاس ٌق بِنح بحٍإ‪.‬‬ ‫ح ْ‬ ‫ح ح‬
‫ومل خيتلف الذين رووا أسباب النزول يف أ ّن الوليد بن عقبة بن أيب معيط كان الشخص الذي جاء‬
‫ابلنبإ ‪ ،‬إمنا اختلفوا يف أسباب قوله ‪ ،‬فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حني رأى مجاعة احلارث‬
‫وقد خرجت يف انتظاره ‪ ،‬فظنها خرجت حلربه ‪ ،‬ومنهم من‬
‫اّلل عليه وسلّم وقال ‪:‬‬
‫روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة يف اجلاهلية ‪ ،‬فجاء إىل النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪،‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ابّلل ‪ ،‬فلم يعجل رسول ّ‬
‫إّنّم قد تركوا الصالة ‪ ،‬وارتدوا ‪ ،‬وكفروا ّ‬
‫وبعث خالد بن الوليد إليهم ‪ ،‬وقال ‪« :‬ارمقهم عند الصالة ‪ ،‬فإن كان القوم قد تركوا الصالة‬
‫فشأنك هبم ‪ ،‬وإال فال تعجل عليهم»‪.‬‬
‫وهنا خيتلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى ‪ ،‬فريوي بعضهم ما قدمنا من أّنّم قدموا ‪،‬‬
‫وقابلوا البعث حيث فصل من املدينة‪.‬‬
‫اّلل عنه خرج إليهم ‪ ،‬ودان منهم عند غروب الشمس‬
‫ويروي بعض آخر أ ّن خالد بن الوليد رضي ّ‬
‫‪ ،‬فكمن حيث يسمع الصالة ‪ ،‬فرمقهم ‪ ،‬فإذا هو ابملؤذن قد قام حني غربت الشمس ‪ ،‬فأذّن مث‬
‫أقام الصالة ‪ ،‬فصلوا املغرب‪.‬‬
‫فقال خالد ‪ :‬ما أراهم ّإال يصلون ‪ ،‬فلعلهم تركوا غري هذه الصالة ‪ ،‬مث كمن حىت إذا جنح الليل‬
‫وغاب الشفق أذّن مؤذّنم ‪ ،‬فصلوا‪ .‬فقال ‪ :‬فلعلهم تركوا صالة أخرى ‪ ،‬فكمن حىت إذا كان يف‬
‫جوف الليل تق ّدم حىت أطل اخليل بدورهم ‪ ،‬فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن ‪ ،‬فهم يتهجدون‬
‫به من الليل ‪ ،‬ويقرؤونه‪ .‬مث أاتهم عند الصبح فإذا املؤذن حني طلع الفجر قد أذّن مث أقام ‪،‬‬
‫فقاموا فصلوا ‪ ،‬فلما انصرفوا وأضاء هلم النهار إذا هم بنواصي اخليل يف دايرهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما‬
‫هذا؟ قال ‪ :‬خالد بن الوليد‪.‬‬
‫قال ‪ :‬اي خالد ما شأنك؟‬
‫ابّلل وتركتم الصالة‬
‫اّلل عليه وسلّم فقيل له ‪ :‬إنكم كفرمت ّ‬
‫واّلل أنتم شأين ‪ ،‬أيت النيب صلّى ّ‬
‫فقال ‪ّ :‬‬
‫ابّلل أبدا ‪ ،‬فصرف اخليل ور ّدها عنهم ‪ ،‬حىت أتى‬ ‫ابّلل أن نكفر ّ‬‫‪ ،‬فجعلوا يبكون ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬نعوذ ّ‬
‫اّلل قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّ ِذين آمنموا إِ ْن جاء مكم ِ‬
‫فاس ٌق بِنح بحٍإ‬ ‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وأنزل ّ‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫ح ْ‬ ‫ح ح‬ ‫ّ‬
‫فحتح بح يَّ نموا «‪.»1‬‬
‫وقد عرفت مرارا أ ّن اآلية تكون عامة ‪ ،‬وإن نزلت على سبب خاص ‪ ،‬ما دام‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)89 /6‬‬

‫ص ‪698 :‬‬
‫اّلل لئن كانت نزلت يف هؤالء القوم خاصة إّنّا ملرسلة إىل يوم‬
‫لفظها عاما ‪ ،‬وقد قال احلسن ‪ :‬فو ّ‬
‫القيامة ما نسخها شيء‪.‬‬
‫والفاسق ‪ :‬اخلارج من حدود الشرع ‪ ،‬من قوهلم ‪ :‬فسق الرطب ‪ :‬إذا خرج عن قشره ‪ ،‬ومسي به‬
‫أعم من الكفر ‪ ،‬ألنه يقع ابلقليل من الذنوب وابلكثري ‪،‬‬
‫الفاسق النسالخه عن اخلري ‪ ،‬والفسق ّ‬
‫أخل جبميع األحكام أو‬
‫ولكن تعورف فيما كان بكثريه ‪ ،‬يكثر ما يقال ملن كان مؤمنا ‪ ،‬مث ّ‬
‫ببعضها‪.‬‬
‫والتبني ‪ :‬طلب البيان ‪ ،‬وقد قرئ (فتثبتوا) بدل فحتح بح يَّ نموا ومها متقارابن ‪ ،‬إذ التثبت طلب الثبات‬
‫‪ ،‬وما كان اثبتا كان قريب املعرفة‪ .‬ويرى بعض اللغويني أنّه ال يقال للخرب نبأ حىت يكون ذا فائدة‬
‫أي فاسق بنبإ عظيم ‪ ،‬له نتائج عظيمة ‪ ،‬فال تقبلوه‬
‫عظيمة ‪ ،‬ويكون معىن اآلية ‪ :‬إن جاءكم ّ‬
‫ابدئ األمر ‪ ،‬بل توقّفوا فيه ‪ ،‬وتثبتوا ‪ ،‬حىت أتمنوا العاقبة‪.‬‬
‫والتعبري بكلمة (إن) اليت هي (للشك) لإلشارة إىل أ ّن الغالب يف املؤمن أن يكون يقظا ‪ ،‬يعرف‬
‫مداخل األمور ‪ ،‬وما يرتتّب عليها ‪ ،‬وإذ يكون هذا شأن املؤمنني فال جييئهم كاذب يكذب عليهم‬
‫‪ ،‬وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة‪.‬‬
‫صيبموا قح ْوماً ِجبحهالحةٍ تعليل لألمر ابلتبني ‪ ،‬وهو ّإما مق ّدر فيه الم التعليل قبل‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬أح ْن تم ِ‬
‫(إن) و(ال) النافية بعدها ‪ ،‬أي فتبينوا لئال تصيبوا ‪ ،‬وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن‬
‫تصيبوا‪ .‬وقوله ‪ِ :‬جبحهالحةٍ أي متلبسني جبهالة ‪ ،‬أي جاهلني حاهلم ‪ ،‬أو تصيبوهم بسبب جهالتهم‬
‫أمرهم وما هم عليه‪.‬‬
‫تبني األمر اندمني ‪ ،‬ويستمر معكم هذا‬
‫و(أصبح) هنا مبعىن (صار) واملعىن ‪ :‬فتصريوا من بعد ّ‬
‫الندم‪.‬‬
‫غم‬
‫الغم على ما وقع منه ‪ ،‬يتمىن أنه مل يقع ‪ ،‬وهو ّ‬
‫والندم ضرب من الغم ‪ ،‬وهو أن يلحق النادم ّ‬
‫يصحب اإلنسان صحبة هلا دوام ولزوم ‪ ،‬ألنه كلما تذكر فعله راجعه الندم‪.‬‬
‫استدل ابآلية على أ ّن الفاسق أهل للشهادة ‪ ،‬وإال مل يكن لألمر ابلتبني فائدة ‪ ،‬قاله‬
‫ّ‬ ‫وقد‬
‫التبني‪.‬‬
‫اآللوسي ‪ ،‬وقال األثري ‪ :‬إ ّن العبد إذ شهد ال تقبل شهادته ‪ ،‬وال حيتاج فيها إىل ّ‬
‫ومذهب احلنفية «‪ »1‬أ ّن الفاسق ال تقبل شهادته وإن كان أهال هلا ‪ ،‬ولو قضى هبا القاضي كان‬
‫عاصيا ‪ ،‬وينفذ قضاؤه ‪ ،‬وتقبل شهادته عندهم يف النكاح ‪ ،‬أل ّن الشهادة من ابب الوالية ‪ ،‬وهو‬
‫ملّا جاز أن يكون وليا على الزوجة يف ماهلا ‪ ،‬جاز أن يلي عليها يف بضعها ‪ ،‬وعبارته يف النكاح‬
‫عبارة ‪ ،‬وتعبري عن ثبوت العقد ال إلزام فيها ‪ ،‬ومن مذهبهم أال تقبل الشهادة من الفاسق فيما‬
‫فيه إلزام ‪ ،‬واإللزام الذي يف النكاح مل جيئ من الشهادة ‪ ،‬وإمنا جاء من التزام املتعاقدين يف‬
‫العقد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)131 /2 - 1‬‬

‫ص ‪699 :‬‬
‫واستدل ابآلية أيضا على قبول خرب الواحد العدل ‪ ،‬وتقرير االستدالل هبا من وجهني ‪:‬‬
‫ّ‬
‫األول ‪ :‬أنه قد رتب األمر ابلتبني على جميء الفاسق لنبأ ‪ ،‬فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبني ‪،‬‬
‫ومعىن كون الشيء علة لشيء آخر ‪ ،‬أن يكون له أتثري يف وجوده ‪ ،‬ال يوجد إال معه ‪ ،‬وإال فلو‬
‫وجد دونه ملا كان علة له ‪ ،‬والفرض أنّه العلة‪.‬‬
‫وقد رد هذا أب ّن إثبات العلية بطريق ترتّب احلكم على الوصف إثبات بظين ‪ ،‬وال ينهض حجة يف‬
‫إثبات أصل من األصول ‪ ،‬وأل ّن االقتصار على شيء ال ينفي ثبوت احلكم فيما عداه‪.‬‬
‫والثاين أن التبني مشروط مبجيء الفاسق ‪ ،‬ومفهوم هذا الشرط انعدام األمر ابلتبني عند عدم‬
‫الشرط ‪ ،‬فيثبت انعدام التبني يف خرب الواحد العدل فيكون مقبوال ‪ ،‬وهو مردود ‪ ،‬أب ّن ذلك قول‬
‫انشىء من اعتبار مفهوم املخالفة حجة ‪ ،‬وهو خمتلف فيه ‪ ،‬فال يثبت به أصل من األصول ‪ ،‬أل ّن‬
‫الظواهر ال تكفي يف إثبات املسائل العلمية‪.‬‬
‫واستدل احلنفية ابآلية على قبول خرب الواحد اجملهول احلال ‪ ،‬ألّنّا دلت على أ ّن الفسق شرط‬
‫وجوب التثبت والتبني ‪ ،‬فيقتصر فيه على حمل وروده ‪ ،‬ويبقى ما وراءه على األصل ‪ ،‬وهو‬
‫القبول‪.‬‬
‫وأنت ترى أ ّن هذا استدالل مبين على أ ّن األصل العدالة‪ .‬واخلصم ينازعهم فيه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬بل‬
‫صح أ ّن األصل العدالة ‪،‬‬
‫األصل عدمها ‪ ،‬والظاهر أ ّن مسألة قبول اجملهول مبنية على هذا ‪ ،‬فإن ّ‬
‫فهو ابق على عدالته ‪ ،‬حىت يتبني خالفها ‪ ،‬وإن كان األصل عدمها ‪ ،‬فهو داخل يف الفسق ‪،‬‬
‫تتبني عدالته‪.‬‬
‫ويكون املراد منه من مل ّ‬
‫اّلل تعاىل أطلق الفاسق على‬
‫واستدل ابآلية أيضا على أ ّن من الصحابة من ليس بعدل ‪ ،‬ألن ّ‬
‫ّ‬
‫الوليد بن عقبة ‪ ،‬فإّنّا نزلت فيه ‪ ،‬وسبب النزول ال ميكن إخراجه من اللفظ العام ‪ ،‬وهو صحايب‬
‫ابالتفاق ‪ ،‬وتكون اآلية ر ّدا على قول من ذهب إىل أّنم كلهم عدول وال نبحث عدالتهم يف‬
‫رواية وال شهادة‪.‬‬
‫واملسألة خالفية ‪ ،‬وفيها أقوال كثرية ‪:‬‬
‫أحدها ‪ ،‬هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أّنّم كغريهم ‪ ،‬فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها يف غريهم رواية وشهادة ‪ ،‬إال‬
‫اّلل تعاىل عنهما‪.‬‬
‫من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخني أيب بكر وعمر رضي ّ‬
‫واثلثها ‪ :‬أّنم عدول إىل زمن عثمان ‪ ،‬ويبحث عن عدالتهم من مقتله‪.‬‬
‫ورابعها ‪ :‬أّنم عدول إال من قاتل عليا واملسألة هلا موضع غري هذا ‪ ،‬ولكل أدلته وبراهينه‪.‬‬

‫ص ‪700 :‬‬
‫مث إ ّن الفاسق قسمان ‪:‬‬
‫متأول ‪ ،‬وهذا ال خالف أنه ال يقبل خربه‪.‬‬
‫قسم فاسق غري ّ‬
‫متأول ‪ :‬كاجلربية والقدرية ‪ ،‬ويقال له ‪ :‬املبتدع بدعة واضحة ‪ ،‬وهذا قد اختلف فيه‬
‫وقسم فاسق ّ‬
‫‪ ،‬فمن األصوليني من ر ّد شهادته وروايته ‪ ،‬ومنهم من قبلهما‪.‬‬
‫فأما الشهادة فأل ّن ردها لتهمة الكذب ‪ ،‬والفسق من حيث االعتقاد ال يدل عليه ‪ ،‬بل قد‬
‫كل‬
‫يكون أمارة الصدق ‪ ،‬أل ّن الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه يف الدين ‪ ،‬والكذب حرام يف ّ‬
‫األداين ‪ ،‬ومن املبتدعة من يقول ‪ :‬بكفر الكاذب‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم فهو على‬
‫وأما الرواية ‪ :‬فأل ّن من احرتز عن الكذب على غري الرسول صلّى ّ‬
‫حترزا ‪ ،‬فهذا جيب أن يكون حاهلم ما مل يظهر منهم ما ينافيه ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أش ّد ّ‬
‫الرسول صلّى ّ‬
‫وعلى هذا مجهور أهل الفقه واحلديث‪.‬‬
‫وذهب الشافعي وبعض العلماء إىل األول ‪ ،‬أل ّن اآلية إمنا دلّت على التثبت من قول يقوله‬
‫الفاسق ‪ ،‬وظاهر أ ّن ذلك إمنا كان أل ّن الغالب يف الفاسق أن يكذب ‪ ،‬فإذا ظهر أنه ِمن ال‬
‫يكذب ‪ ،‬فاآلية مل تعرض له ‪ ،‬والذين تقبل شهادهتم من املبتدعة قوم يتش ّددون يف الدين ‪ ،‬ال‬
‫يبيحون الكذب ‪ ،‬فلم يكونوا ِمن تناولته اآلية الكرمية‪.‬‬
‫ب إِل ْحي مك مم ِْ‬ ‫ُّم حولكِ َّن َّ‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ول َِّ ِ‬ ‫حن فِي مك ْم حر مس ح‬
‫اإلميا حن‬ ‫اّللح ححبَّ ح‬ ‫اّلل ل ْحو يمطيعم مك ْم ِيف حكث ٍري م حن ْاأل ْحم ِر ل ححعنت ْ‬ ‫حوا ْعلح مموا أ َّ‬
‫ض ًال ِم حن َّ‬
‫اّللِ‬ ‫اش مدو حن (‪ )7‬فح ْ‬ ‫الر ِ‬
‫ك مه مم َّ‬ ‫صيا حن أمولئِ ح‬ ‫سو حق حوالْعِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حوحزيَّنحهم ِيف قملموب مك ْم حوحك َّرهح إلحيْ مك مم الْ مك ْف حر حوالْ مف م‬
‫يم (‪.)8‬‬ ‫ِ‬ ‫ونِعمةً و َّ ِ‬
‫يم ححك ٌ‬ ‫اّللم حعل ٌ‬ ‫ح ْح ح‬
‫يرى الزخمشري أ ّن اجلملة املص ّدرة (بلو) ال تكون كالما مستأنفا ‪ ،‬ألدائه إىل تنافر النظم‪ .‬ولكن‬
‫تكون كالما متصال مبا قبله ‪ ،‬وهي هنا (حال) من أحد الضمريين يف (فيكم) املسترت املرفوع ‪ ،‬أو‬
‫البارز اجملرور‪.‬‬
‫اّلل على حال جيب عليكم تغيريها ‪ ،‬وهي أنّكم حتاولون معه أن يعمل‬
‫واملعىن ‪ :‬أ ّن فيكم رسول ّ‬
‫يعن لكم من رأي ‪ ،‬وينزل على إرادتكم فعل املطواع لغريه ‪ ،‬التابع‬
‫يف احلوادث على مقتضى ما ّ‬
‫له فيما يرتئيه‪ .‬وهو لو فعل ذلك لعنتم ‪ ،‬ووقعتم يف العنت واهلالك ‪ ،‬يقال ‪ :‬فالن يتعنّت فالان ‪،‬‬
‫أي يطلب ما يؤديه إىل اهلالك‪ .‬ويقال ‪:‬‬
‫أعنت العظم إذا هيض بعد اجلرب‪ .‬وقد يستفاد من هذا أ ّن بعض املؤمنني كانوا يزيّنون للرسول‬
‫اّلل عليه وسلّم اإليقاع بقوم احلارث وتصديق الوليد يف نبئه ‪ ،‬وأنه كانت تفرط منهم نظائر‬
‫صلّى ّ‬
‫يتصون ‪ ،‬ويزعم إمياّنم ‪ ،‬وج ّدهم يف التقوى فال جيسرون‬ ‫ذلك من اهلنات ‪ ،‬وأ ّن فريقا منهم كان ّ‬
‫ب إِلحيْ مك مم ِْ‬
‫اإلميا حن‪.‬‬ ‫على ذلك ‪ ،‬وسيأيت بيان ذلك عند قوله تعاىل ‪ :‬حولكِ َّن َّ‬
‫اّللح ححبَّ ح‬

‫ص ‪ 701 :‬ويرى بعضهم أنه جيوز أن يكون قوله ‪ :‬ل ْحو يم ِطيعم مك ْم ِيف حكثِ ٍري ِم حن ْاأل ْحم ِر كالما مستأنفا ‪،‬‬
‫اّللِ‬ ‫حن فِي مك ْم حر مس ح‬
‫ول َّ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ ْن جاء مكم ِ‬
‫فاس ٌق بِنح بحٍإ فحتح بح يَّ نموا مث قال ‪ :‬حوا ْعلح مموا أ َّ‬ ‫وذلك أنّه ملا قال ّ‬
‫ح ْ‬
‫اّلل عليه‬
‫التبني سهل وِمكن ‪ ،‬وهو الرجوع إىل الرسول صلّى ّ‬ ‫كان ذلك مبثابة أ ّن طريق الكشف و ّ‬
‫يبني لكم ‪ ،‬ويرشدكم ‪ ،‬ويف ذلك تنزيل هلم منزلة اجلاهلني مبكان الرسول‬ ‫وسلّم‪ .‬ألنه فيكم ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم فيهم ‪ ،‬وبوظيفته من البيان واإلرشاد بينهم‪.‬‬
‫صلّى ّ‬
‫وقرعوا جبهل منزلة‬
‫فاجته من ذلك ‪ :‬أن يسأل سائل ‪ :‬ماذا فعلوا حىت نسبوا إىل التفريط ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم فيهم؟‬ ‫الرسول صلّى ّ‬
‫فجاء قوله تعاىل ‪ :‬ل ْحو يم ِطيعم مك ْم ِيف حكثِ ٍري ِم حن ْاأل ْحم ِر ل ححعنِت ُّْم مومئا إىل ما كان منهم من حماولة أن ينزل‬
‫اّلل عليه وسلّم على رأيهم يف الذي يرون ‪ ،‬واتباع إشارهتم فيما يقولون‪.‬‬
‫الرسول صلّى ّ‬
‫وذلك أنّه ّبني هلم النتيجة اليت ترتتب على نزوله على إرادهتم ‪ ،‬واخلضوع إلشارهتم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل ْحو‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّم وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث املعىن ‪ّ ،‬إال‬ ‫يمطيعم مك ْم ِيف حكث ٍري م حن ْاأل ْحم ِر ل ححعنت ْ‬
‫اّللِ معطوف (ابلواو) وهو مرتبط مبا‬ ‫حن فِي مك ْم حر مس ح‬
‫ول َّ‬ ‫أن فيه تغاضيا عن أ ّن قوله تعاىل ‪ :‬حوا ْعلح مموا أ َّ‬
‫قبله ‪ ،‬وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي برتك العطف‪.‬‬
‫وظاهر كذلك أ ّن ما ذهبوا إليه فيه إضمار ال حاجة إليه ‪ ،‬وال ضرر يف جعل اجلملة ل ْحو يم ِطيعم مك ْم‬
‫حاال من أحد الضمريين ‪ ،‬على ما ذهب إليه الزخمشري «‪ .»1‬واملعىن على أحد الوجهني ‪ :‬هو‬
‫اّلل)‬
‫جعلها حاال من الضمري املسترت ‪ ،‬و ّأما الوجه اآلخر فاملعىن ‪( :‬و اعلموا أ ّن فيكم رسول ّ‬
‫حال كونكم على حال تتناىف مع مقامه بينكم ‪ ،‬تلك احلال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم ‪،‬‬
‫ضار بكم ‪ ،‬يرتتب عليه عنتكم وهالككم‪.‬‬
‫وذلك ّ‬
‫وجاء قوله ‪( :‬لو يطيعكم) على صيغة املضارع بدل املاضي للداللة على أّنم كانوا يريدون إطاعة‬
‫اّلل عليه وسلّم هلم إطاعة مستمرة ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل ‪ِ :‬يف حكثِ ٍري ِم حن ْاأل ْحم ِر وذلك أن‬
‫الرسول صلّى ّ‬
‫صيغة املضارع تفيد التجدد واالستمرار ‪ ،‬تقول ‪ :‬فالن يقري الضيف وحيمي احلرمي ‪ ،‬تريد أ ّن‬
‫ذلك شأنه ‪ ،‬وأنّه مستمر على ذلك‪.‬‬
‫سو حق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب إِل ْحي مك مم ِْ‬
‫اإلميا حن حوحزيَّنحهم ِيف قملموب مك ْم حوحك َّرهح إل ْحي مك مم الْ مك ْف حر حوالْ مف م‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬حولكِ َّن َّ‬
‫اّللح ححبَّ ح‬
‫صيا حن استدراك على ما يقتضيه الكالم من وقوع العنت هبم‪ .‬واملعىن ‪ :‬أ ّن ما هم عليه كان‬ ‫حوالْعِ ْ‬
‫اّلل هدى فريقا منهم ‪ ،‬وحبّب إليه اإلميان ‪ ،‬فآمن ‪،‬‬ ‫يقتضي هالكهم ‪ ،‬ولكن منع من ذلك أ ّن ّ‬
‫وزينه يف قلبه ‪ ،‬فأقام عليه ‪ ،‬فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب األوضاع ‪ ،‬أبن‬
‫اّلل عليه وسلّم يف الذي يرون‪.‬‬
‫يتّبعهم الرسول صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)361 /4‬‬

‫ص ‪702 :‬‬
‫عمم‬
‫اّلل حبّب إىل بعضكم اإلميان ‪ ،‬ولكنّه ّ‬
‫ولكن ّ‬
‫وكان الظاهر على هذا املعىن أن يقول ‪ّ :‬‬
‫اخلطاب تعريضا مبن فرط منه ذلك ‪ ،‬وإشارة إىل أّنم وقد دخلوا يف اإلميان واستقر اإلميان يف‬
‫قلوهب م ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأّنم ‪ ،‬فاستغين عن التنصيص على خطاب البعض لذلك ‪،‬‬
‫وأيضا فإنّه ملا ذكر الصفة اليت متيز هذا الفريق اكتفى هبا عن التنصيص على املوصوف ‪ ،‬مراعاة‬
‫ملا يف تعميم اخلطاب من فائدة التعريض‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أ ّن اخلطاب جلميع املؤمنني ‪ ،‬واملعىن عليه ‪ :‬أنّه مل يلحقكم العنت ‪ ،‬ألنّه يعلم أنّه مل‬
‫يدفعكم إىل ما أنتم فيه إال حبّكم اإلميان ‪ ،‬ومقامه يف قلوبكم ‪ ،‬وكرهكم الكفر ‪ ،‬ونفرتكم من‬
‫الفسوق والعصيان‪.‬‬
‫ومعىن حتبيب اإلميان إليهم تقريبه هلم ‪ ،‬وإدخاله يف قلوهبم ‪ ،‬ومعىن تزيينه يف قلوهبم إقامته فيها ‪،‬‬
‫أحب شيئا فقد يفارقه ‪ ،‬ولكن إذا زيّن له يستمر يف اإلقامة‬
‫حبيث ال يفارقها ‪ ،‬وذلك أ ّن من ّ‬
‫عليه واملكث فيه‪.‬‬
‫اّلل اإلميان ‪ ،‬وقابله أبمور ثالثة كرهها إليهم ‪ ،‬وهي ‪ :‬الكفر ‪ ،‬والفسوق ‪ ،‬والعصيان‪.‬‬
‫وقد ذكر ّ‬
‫واإلميان اسم لثالثة أشياء ‪ :‬التصديق ابجلنان ‪ ،‬واإلقرار ابللسان ‪ ،‬والعمل ابجلوارح‪ .‬فالكفر هو‬
‫اإلنكار ‪ ،‬وهو يقابل اإلذعان ابجلنان‪ .‬والفسوق يقابل اإلقرار ابللسان ‪ ،‬وقد سبق إطالق‬
‫سو مق‬ ‫الفسق على اجمليء ابلنبإ الكاذب ‪ ،‬وسيجيء إيراده هبذا املعىن يف قوله ‪ :‬بِئْ ِ‬
‫س اال ْس مم الْ مف م‬
‫ح‬
‫يدل على استعمال الفسق يف األمر القويل‪.‬‬
‫ميان وذلك ّ‬ ‫اإل ِ‬
‫بح ْع حد ِْ‬
‫تدل على اخلروج ‪،‬‬ ‫وهو يف هذا املعىن مناسب الشتقاق كلمة الفسق ‪ ،‬فإّنّا يف أصل وضعها ّ‬
‫يدل على الظهور والكذب يظهر‬
‫مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ‪ ،‬فهو ّ‬
‫صح إطالق الفسق عليه‪ .‬وأما العصيان فهو ترك العمل‪ .‬ويرى بعضهم أ ّن‬ ‫ويعرف ‪ ،‬فمن مثّ ّ‬
‫الكفر ‪ :‬الشرك ‪ ،‬والفسوق ‪ :‬الكبرية ‪ ،‬والعصيان ‪ :‬الصغرية‪.‬‬
‫الر ِ‬
‫اش مدو حن اإلشارة فيه إىل الفريق الذي حبّب إليه اإلميان ‪ ،‬وزيّن يف قلبه‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬أمولئِ ح‬
‫ك مه مم َّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ويف تسميتهم ابلراشدين إشارة إىل أّنم أقاموا على‬ ‫‪ ،‬واخلطاب فيه للرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ووقفوا عند إرشاده ‪ ،‬وعرفوا مقامه ومكانه بينهم ‪،‬‬ ‫اتباع أمر الرسول صلّى ّ‬
‫فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين‪ .‬وفيه تعريض ابلفريق اآلخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إىل‬
‫الرشد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اّللِ ونِعمةً و َّ ِ‬ ‫فح ْ ِ‬
‫يم (‪ )8‬قوله ‪( :‬فضال) إما منصوب على أنه مفعول له ‪،‬‬ ‫يم ححك ٌ‬
‫اّللم حعل ٌ‬ ‫ض ًال م حن َّ ح ْ ح ح‬
‫اّلل إىل الرشد ‪ ،‬فضال ‪ ،‬منه ونعمة ‪،‬‬
‫والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم ّ‬
‫الر ِ‬
‫اش مدو حن مجلة اعرتاضية ‪ ،‬وإما منصوب عل‬ ‫ب إِلحيْ مك مم ويكون قوله ‪ :‬أمولئِ ح‬
‫ك مه مم َّ‬ ‫والعامل فيه ححبَّ ح‬
‫أنّه مصدر من غري لفظ العامل ‪ ،‬وهو الراشدون ‪،‬‬

‫ص ‪703 :‬‬
‫وذلك أن الرشد فضل ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬هم الراشدون رشدا ‪ ،‬أو هو مصدر ‪ ،‬وعامله حمذوف ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وهو مستغن عنه ‪ ،‬والنعمة ‪ :‬ما‬
‫أي تفضل فضال ‪ ،‬وأنعم نعمة‪ .‬والفضل ‪ :‬ما يف خزائن ّ‬
‫يصل من الفضل إىل العبد‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫يتحرى اخلرب ومن ال يتحراه ‪ ،‬ومن يريد الرسول صلّى ّ‬ ‫ِ‬ ‫و َّ ِ‬
‫يم يعلم من ّ‬ ‫يم ححك ٌ‬
‫اّللم عحل ٌ‬ ‫ح‬
‫اّلل‬
‫على ما تقتضي به احلكمة ومن ال يريده ‪ ،‬وهو فوق هذا يعلم األشياء ‪ ،‬ويعلم الرسول صلّى ّ‬
‫عليه وسلّم هبا ‪ ،‬وأيمره منها مبا تقضي به احلكمة ‪ ،‬فيجب أن تقفوا عند أمره ‪ ،‬وأن جتتنبوا‬
‫االقرتاح عليه‪.‬‬
‫تان ِمن الْم ْؤِمنِني اقْتح تح لموا فحأ ِ‬
‫ت إِ ْح م‬
‫دامها عحلحى‬ ‫حوا بح ْي نح مهما فحِإ ْن بحغح ْ‬
‫حصل م‬
‫ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬حوإِ ْن طائِحف ِ ح م ح‬ ‫قال ّ‬
‫حصلِحوا ب ْي نح مهما ِابلْع ْد ِل وأحق ِ‬
‫ْسطموا‬ ‫اّللِ فحِإ ْن فاءح ْ‬
‫ْاألم ْخرى فحقاتِلموا الَِّيت تح ْبغِي حح َّىت تح ِفيءح إِىل أ ْحم ِر َّ‬
‫ح ح‬ ‫ت فحأ ْ م ح‬
‫ِ‬
‫يبني ما‬
‫اّلل املؤمنني نتائج االستماع لنبأ الفاسق ‪ ،‬أراد أن ّ‬ ‫ني (‪ )9‬ملا ح ّذر ّ‬ ‫ب ال مْم ْق ِسط ح‬ ‫اّللح مِحي ُّ‬
‫إِ َّن َّ‬
‫تان الطائفة ‪ :‬أقل من الفرقة ‪ ،‬بدليل قوله تعاىل ‪ :‬فحلح ْو‬ ‫يتدارك به األمر لو وقع ‪ ،‬فقال ‪ :‬وإِ ْن طائِحف ِ‬
‫ح‬
‫ال نح حف حر ِم ْن مك ِّل فِ ْرقحةٍ ِم ْن مه ْم طائِحفةٌ [التوبة ‪ ]122 :‬كذا قيل ‪ ،‬ولك أن تقول ‪ :‬لوال تق ّدم الفرقة ما‬
‫فهم منه هذا املعىن ‪ ،‬فالطائفة اجلماعة ‪ ،‬والفرقة اجلماعة ‪ ،‬وقد تكون اجلماعة قليلة ‪ ،‬وقد تكون‬
‫كثرية‪.‬‬
‫والتعبري (إبن) لإلشارة إىل أنّه ال ينبغي أن يقع القتال بني املسلمني ‪ ،‬وأنه إن وقع فإمنا يقع من‬
‫يشك يف وجودها ‪ ،‬وجاء اقْتح تح لموا بلفظ اجلمع ‪ ،‬مع أ ّن الظاهر جميئه بلفظ‬
‫الندرة والقلة ‪ ،‬اليت ّ‬
‫التثنية ‪ ،‬ألن الطائفة وإن كان مفردا يف اللفظ فهو مجع يف املعىن ‪ ،‬فروعي فيه املعىن أوال ‪ ،‬مث‬
‫حوا بح ْي نح مهما‪.‬‬ ‫روعي اللفظ اثنيا ‪ ،‬يف قوله ‪ :‬فحأ ِ‬
‫حصل م‬
‫ْ‬
‫حوا بح ْي نح مهما األوىل بذل النصح‬ ‫(و اقتتلوا) مبعىن تقاتلوا ‪ ،‬واملراد ابإلصالح يف قوله ‪ :‬فحأ ِ‬
‫حصل م‬
‫ْ‬
‫واإلرشاد ‪ ،‬وإزالة الشبه اليت تكون عند إحدامها ‪ ،‬أو عند كليهما ‪ ،‬ودعوهتما إىل النزول على‬
‫اّلل‪.‬‬
‫حكم ّ‬
‫دامها حعلحى ْاألم ْخرى البغي ‪ :‬العدوان ‪ ،‬واملراد الغلو بغري احلق ‪ ،‬وعدم اإلذعان‬ ‫ت إِ ْح م‬ ‫فحِإ ْن بحغح ْ‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫استمروا يف قتاهلا حىت ترجع إىل حكم ّ‬
‫ّ‬ ‫اّللِ أي‬
‫للنصيحة فحقاتِلموا الَِّيت تح ْبغِي حح َّىت تحِفيءح إِىل أ ْحم ِر َّ‬
‫اّلل به من عدم البغي‪.‬‬ ‫أو إىل ما أمر ّ‬
‫حوا بح ْي نح مهما ِابل حْع ْد ِل بفصل ما بينهما من أسباب اخلصومة ونتائجها ‪ ،‬وال تكتفوا‬ ‫ت فحأ ِ‬
‫فحِإ ْن فاءح ْ ْ‬
‫حصل م‬
‫مبجرد املتاركة واملوادعة ‪ ،‬خشية أن تكون إحدامها أو كالمها تركته تقية ‪ ،‬وانتظارا للفرصة تسنح‬
‫‪ ،‬وتقييد الصلح ابلعدل هنا ألنه بعد القتال ‪ ،‬وذلك مظنة احليف ‪ ،‬أي ال حيملنكم ما كان منهم‬
‫من عناد وبغي على أن تظلموهم ‪ ،‬وال على أن‬

‫ص ‪704 :‬‬
‫عدوهم لضعفه ‪ ،‬بل جيب أن تعدلوا حوال حْجي ِرحمنَّ مك ْم حشنحآ من قح ْوٍم حعلى أ َّحال تح ْع ِدلموا ا ْع ِدلموا مه حو‬ ‫تظلموا ّ‬
‫ب لِلتَّ ْقوى ‪.‬‬ ‫أحق حْر م‬
‫ِ‬
‫اّلل حيب‬ ‫ني أي اعدلوا ‪ ،‬والزموا العدل يف كل األمور ‪ ،‬فإ ّن ّ‬ ‫ب ال مْم ْق ِسط ح‬
‫اّللح مِحي ُّ‬ ‫وأحق ِ‬
‫ْسطموا إِ َّن َّ‬ ‫ح‬
‫املقسطني ‪ ،‬فيجازيهم أحسن اجلزاء‪.‬‬
‫سبب النزول ‪ :‬أخرج أمحد والبخاري ومسلم وابن جرير «‪ »1‬وغريهم يف سبب نزول هذه اآلية‬
‫اّلل بن أيب ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ :‬لو أتيت عبد ّ‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬قيل للنيب صلّى ّ‬
‫عن أنس رضي ّ‬
‫فانطلق إليه ‪ ،‬وركب محارا ‪ ،‬وانطلق املسلمون ميشون ‪ ،‬وهي أرض سبخة ‪ ،‬فلما انطلق إليه ‪،‬‬
‫اّلل لقد آذاين ريح محارك ‪ ،‬فقال رجل من األنصار ‪:‬‬
‫عين ‪ ،‬فو ّ‬
‫قال ‪ :‬إليك ّ‬
‫اّلل رجال من قومه ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم أطيب رحيا منك ‪ ،‬فغضب لعبد ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫واّلل حلمار رسول ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل‬
‫وغضب لألنصاري آخرون من قومه ‪ ،‬فكان بينهم ضرب ابجلريد واأليدي والنعال ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫فيهم ‪ :‬وإِ ْن طائِحف ِ‬
‫تان‪.‬‬ ‫ح‬
‫اّلل عليه وسلّم متوجها لزايرة سعد بن عبادة يف مرضه ‪ ،‬فمر على عبد‬
‫وقيل ‪ :‬كان النيب صلّى ّ‬
‫فتعصب لكل أصحابه ‪،‬‬
‫اّلل بن رواحة ‪ّ ،‬‬
‫اّلل بن أيب بن سلول ‪ ،‬فقال ما قال ‪ ،‬فرد عليه عبد ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم فاصطلحوا ‪ ،‬وكان ابن رواحة خزرجيا ‪ ،‬وابن أيب‬
‫فتقاتلوا ‪ ،‬فنزلت ‪ ،‬فقرأها صلّى ّ‬
‫أوسيا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إّنّا نزلت يف رجل من األنصار يقال له عمران ‪ ،‬وكان حتته امرأة يقال هلا ‪:‬‬
‫أم زيد ‪ ،‬وقد أرادت أن تزور أهلها ‪ ،‬فحبسها زوجها ‪ ،‬وجعلها يف علية له ‪ ،‬ال يدخل عليها أحد‬
‫من أهلها ‪ ،‬فبعثت املرأة إىل أهلها ‪ ،‬فجاء قومها ‪ ،‬فأنزلوها لينطلقوا هبا ‪ ،‬واستعان الرجل بقومه‬
‫‪ ،‬فجاؤوا ليحولوا بني املرأة وأهلها ‪ ،‬فتدافعوا ‪ ،‬وكان بينهم معركة ‪ ،‬فنزلت فيهم هذه اآلية ‪،‬‬
‫اّلل «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلّم فأصلح بينهم ‪ ،‬وفاؤوا إىل أمر ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فبعث رسول ّ‬
‫واخلطاب يف اآلية الكرمية لوالة األمور ‪ ،‬واألمر فيها للوجوب ‪ ،‬فيجب اإلصالح ابلنصح ‪ ،‬فإن‬
‫اّلل‬
‫أبت إحدامها إال البغي ‪ ،‬وجب قتاهلا ما قاتلت ‪ ،‬فإن رجعت عن بغيها ‪ ،‬والتزمت حكم ّ‬
‫تركت‪.‬‬
‫متسك مجاعة مبا جاء يف سبب النزول ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يقتصر يف قتال الفئة الباغية على ما‬
‫هذا وقد ّ‬
‫اّلل‬
‫يتمسك به‪ .‬فأنت تعلم أ ّن ّ‬
‫دون السالح ‪ ،‬وال جيوز مقاتلتهم ابلسالح ‪ ،‬وهو ال يصح أن ّ‬
‫اّللِ وهو أمر ابملقاتلة إىل‬
‫قال ‪ :‬فحقاتِلموا الَِّيت تح ْبغِي حح َّىت تحِفيءح إِىل أ ْحم ِر َّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 32 ، )1424 /3‬كتاب اجلهاد ‪ - 40 ،‬ابب حديث رقم‬
‫(‪ ، )1799 /117‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 53 ، )221 /3‬كتاب الصلح ‪ - 1 ،‬ابب ما‬
‫جاء يف اإلصالح ‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )2691‬وأمحد يف املسند (‪.)157 /3‬‬
‫(‪ ) 2‬انظر تفسري ابن جرير الطربي املسمى جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)81 /26‬‬

‫ص ‪705 :‬‬
‫الفيئة ‪ ،‬فإذا كانوا ال يفيئون إال ابلسيف وجب قتاهلم به ‪ ،‬ألن الغرض من املقاتلة هو الفيئة ‪،‬‬
‫وهي ال حتصل إال به ‪ ،‬وقد وقع من الصحابة قتال البغاة ابلسيف ‪ ،‬وكفى هبم قدوة ‪ ،‬ونزول آية‬
‫عامة على واقعة خاصة ال خيصص العام ‪ ،‬على أ ّن القتال إمنا شرع عند البغي قمعا للفتنة بني‬
‫املسلمني ‪ ،‬واملفروض أ ّن العالج قد استعصى ابلنصح ‪ ،‬ويراد اختاذ عالج حاسم ‪ ،‬فليرتك األمر‬
‫ملن يباشر احلسم ‪ ،‬فإن رأى أ ّن الدواء يستأصل مبا دون السالح كان مسرفا يف الزايدة ‪ ،‬وإن‬
‫رأى أ ّن الفتنة ال تدفع إال ابلسالح فعل حىت الفيئة‪.‬‬
‫واختلفت أقوال الفقهاء يف أموال البغاة اليت أخذت منهم أثناء قتاهلم ‪ ،‬فعن اإلمام حممد بن‬
‫احلسن الشيباين صاحب أيب حنيفة ‪ :‬أن أمواهلم ال تكون غنيمة‪ .‬وإمنا يستعان على حرهبم‬
‫بكراعهم وسالحهم عند االستيالء عليه ‪ ،‬فإذا وضعت احلرب أوزارها ر ّد املال عليهم ‪ ،‬وكذا ير ّد‬
‫الكراع والسالح إذا مل يبق أحد ابغيا‪.‬‬
‫يقسم وخيمس‬
‫وروي عن أيب يوسف ‪ :‬أن ما وجد يف أيدي أهل البغي من كراع وسالح فهو يفء ّ‬
‫‪ ،‬وإذا اتبوا مل يؤخذوا بدم وال مال استهلكوه‪.‬‬
‫اّلل عنه ‪ :‬ما استهلكه اخلوارج من مال ودم مث اتبوا مل يؤخذوا به ‪،‬‬
‫وروي عن اإلمام مالك رضي ّ‬
‫وما كان قائما بعينه ر ّد ‪ ،‬وهو مروي عن األوزاعي والشافعي‪.‬‬
‫وقال احلسن بن صاحل ‪ :‬إذا قوتل اللصوص احملاربون فقتلوا ‪ ،‬وأخذ ما معهم ‪ ،‬فهو غنيمة ملن‬
‫قاتلهم بعد إخراج اخلمس ‪ ،‬إال أن يكون شيء قد علم أّنّم سرقوه من الناس ‪ ،‬وعرف أصحابه‬
‫‪ ،‬فإنّه ير ّد عليهم‪.‬‬
‫وما استهلك من أمواهلم أثناء التجمع للقتال ‪ ،‬والتفريق عند وضع احلرب أوزارها ‪ ،‬ال ضمان فيه‬
‫ابإلمجاع‪.‬‬
‫ضح احلكم يف املسألة ‪ ،‬فقد جاء فيه قال عليه‬
‫وقد جاء يف حديث أخرجه احلاكم «‪ »1‬ما يو ّ‬
‫اّلل فيمن بغى من هذه األمة»‪.‬‬
‫الصالة والسالم ‪« :‬اي ابن أم عبد هل تدري كيف حكم ّ‬
‫اّلل ورسوله أعلم‪ .‬قال ‪« :‬ال جيهز على جرحيها ‪ ،‬وال يقتل أسريها ‪ ،‬وال يطلب هارهبا ‪،‬‬
‫فقال ‪ّ :‬‬
‫يقسم فيئها»‪.‬‬
‫وال ّ‬
‫اّلل عنه أنّه مل‬
‫وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أ ّن اخلوارج نقموا على علي رضي ّ‬
‫فحاجهم قائال ‪ :‬أفتسبون ّأمكم عائشة ‪ ،‬مث تستحلون منها ما تستحلّون من‬
‫يسب ومل يغنم ‪ّ ،‬‬
‫غريها؟ فإن فعلتم لقد كفرمت‪.‬‬
‫وقد سئل أبو وائل ‪ :‬أمخّس علي أموال أهل اجلمل؟ قال ‪ :‬ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه احلاكم يف املستدرك على الصحيحني (‪].....[ .)155 /2‬‬

‫ص ‪706 :‬‬
‫اّلل العدل يف اإلصالح بعد الفيئة ‪ ،‬أل ّن هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على‬
‫وإمنا ذكر ّ‬
‫أمرها ‪ ،‬ويغلب أن تظلم ‪ ،‬وتصادر أمواهلا ‪ ،‬وما أخذ منها ال ير ّد إليها‪.‬‬
‫فالعدل وذكره هنا مبثابة أن يقال ‪ :‬ال حيملنّكم قهركم إايهم على ظلمهم ‪ ،‬فهم طائفة من‬
‫املؤمنني عصمت دماؤهم ‪ ،‬وعصمت أمواهلم ‪ ،‬وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم ‪ ،‬وما انهلم من‬
‫اهلزمية ‪ ،‬فتكون اآلية حينئذ ظاهرة يف أنّه ال جيوز أسرهم بعد الفيئة ‪ ،‬وال يكون ماهلم فيئا وال‬
‫يضمنون شيئا‪.‬‬
‫ّ‬
‫اّللح ل ححعلَّ مك ْم تم ْر حمحمو حن (‪ّ )10‬بني‬
‫ني أح حخ حويْ مك ْم حواتَّ مقوا َّ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬إَِّمنحا الْم ْؤِمنمو حن إِ ْخوةٌ فحأ ِ‬
‫حوا بح ْح‬
‫حصل م‬
‫ح ْ‬ ‫م‬ ‫قال ّ‬
‫اّلل تعاىل يف اآلية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بني طائفتني من املؤمنني ‪ ،‬فالواجب إصالح‬
‫ّ‬
‫اّلل املؤمنني القتال ‪ ،‬وإن جنحت‬
‫ذات البني ابلنصح واإلرشاد ‪ ،‬فإن جنحا للسلم ‪ ،‬فقد كفى ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬فإن فاءت ورجعت‬
‫حىت تفيء إىل أمر ّ‬
‫إحدامها ‪ ،‬وبغت األخرى ‪ ،‬فالواجب قتال الباغية ّ‬
‫فالواجب اإلصالح ابلعدل ‪ ،‬ال جيهز على جريح ‪ ،‬وال يسىب أحد ‪ ،‬وال يقسم الفي ء ‪ ،‬وهنا ّبني‬
‫يظن ظا ّن أ ّن‬
‫حىت ال ّ‬
‫اّلل تعاىل أ ّن اإلصالح كما جيب بني اجلماعات فهو واجب بني األفراد ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫اإلصالح إمنا جيب عند اختالف اجلماعات والطوائف ‪ ،‬أل ّن اختالف اجلماعات شديد البالء ‪،‬‬
‫فأما إذا كان اخلالف بني‬ ‫عدوهم‪ّ .‬‬
‫خيشى منه على املسلمني أن تذهب رحيهم ‪ ،‬ويتم ّكن منهم ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إَِّمنحا‬
‫فردين فليست له هذه األمهية ‪ ،‬فال جيب اإلصالح ‪ ،‬فدفعا هلذا الوهم قال ّ‬
‫ني أح حخ حويْ مك ْم وقد ذهب بعض أهل اللغة ‪ ،‬إىل أ ّن إخوة مجع األخ من‬ ‫الْم ْؤِمنمو حن إِ ْخوةٌ فحأ ِ‬
‫حوا بح ْح‬
‫حصل م‬
‫ح ْ‬ ‫م‬
‫اّلل اإلخوة يف اإلسالم إخوة يف‬ ‫النسب ‪ ،‬وأما األخ مبعىن الصديق فجمعه إخوان ‪ ،‬فجعل ّ‬
‫النسب ‪ ،‬فأعطاها امسها توكيدا ألمر احملافظة عليها ‪ ،‬وإشارة إىل أّنم يف اإلسالم إخوة ‪ ،‬وأن‬
‫اإلسالم ينتمون إليه كما ينتمي اإلخوة إىل أبيهم‪.‬‬
‫أيب اإلسالم ال أب يل سواه إذا افتخروا بقيس أو متيم‬
‫اّلل األمر به ابألمر ابلتقوى ‪ ،‬ألنّه ملا مل يكن‬ ‫وزايدة يف أمر العناية ابإلصالح بني األخوين ذيّل ّ‬
‫اّللح ل ححعلَّ مك ْم تم ْر حمحمو حن يعين‬
‫عاما فقد ال خيشى ضرره ‪ ،‬فال يتسارع الناس إىل إزالته ‪ ،‬فقال ‪ :‬حواتَّ مقوا َّ‬
‫اّلل وخشيته ‪ ،‬واخلوف منه‬
‫واّلل أعلم ‪ :‬فأصلحوا بينهما ‪ ،‬وليكن رائدكم يف هذا اإلصالح تقوى ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ،‬فالتزموا احلق العدل ‪ ،‬وال حتيفوا ‪ ،‬وال يكن منكم ميل ألحد األخوين ‪ ،‬فإّنّم إخوانكم ‪ ،‬وليس‬
‫أحدمها ابلنسبة إليكم فاضال واآلخر مفضوال ‪ ،‬إذ الذي مجع بينكم وبينهما اإلسالم ‪ ،‬ويف‬
‫اإلسالم تذهب الفوارق وتتالشى‪.‬‬
‫احلصر (إبمنا) يفيد أ ّن أمر اإلصالح ووجوبه إمنا هو عند وجود اإلخوة يف اإلسالم ‪ ،‬فأما بني‬
‫الكفار فال ‪ ،‬وأما بني املسلم والكافر ‪ ،‬فللمسلم علينا النصرة‬

‫ص ‪707 :‬‬
‫واإلعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا‪ .‬ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا‬
‫أو صاحب أمن‪.‬‬
‫وأما إن كان خصمه ذميا واملسلم ظامل له ‪ ،‬فالواجب علينا وضع الظلم ‪ ،‬فقد استحق بعقد‬
‫الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫آمنموا ال يح ْس حخ ْر قح ْوٌم م ْن قح ْوم حعسى أح ْن يح مكونموا حخ ْرياً م ْن مه ْم حوال نساءٌ‬ ‫ين ح‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫س ِاال ْس مم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬
‫س مك ْم حوال تحنابح مزوا اب ْألحلْقاب ب ْئ ح‬
‫م ْن نساء حعسى أح ْن يح مك َّن حخ ْرياً م ْن مه َّن حوال تحلْم مزوا أحنْ مف ح‬
‫ك مه مم الظَّالِ ممو حن (‪ )11‬السخر ‪ :‬اهلزء ‪ ،‬قيل ‪ :‬وهو النظر‬ ‫ب فحأمولئِ ح‬ ‫الْ مفسو مق ب ْع حد ِْ ِ‬
‫اإلميان حوحم ْن حملْ يحتم ْ‬ ‫م ح‬
‫إىل املسخور بعني النقص ‪ ،‬وقال القرطيب ‪ :‬إ ّن السخرية وهي اسم منه ‪ ،‬االستحقار واالستهانة ‪،‬‬
‫والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه‪ .‬واألكثر تعدية فعله (مبن) وهي لغة الكتاب‬
‫العزيز ‪ ،‬كما تدل عليه اآلية اليت معنا ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬إِ ْن تح ْس حخ مروا ِمنَّا فحِإ َّان نح ْس حخ مر ِمنْ مك ْم [هود ‪:‬‬
‫‪ ]38‬ويقال ‪ :‬فالن سخرة ‪ ،‬بوزن مهزة‪.‬‬
‫إذا كان يهزأ به الناس ‪ ،‬وقد تكون السخرية مبحاكاة الفعل ابلقول واإلشارة ‪ ،‬أو الضحك على‬
‫كالم املسخور منه إذا بدا منه ختبط أو غلط ‪ ،‬أو على صنعته ‪ ،‬أو قبح صورته ‪ ،‬ويرى بعضهم‬
‫أن السخرية ذكر الشخص مبا يكره على وجه مضحك حبضرته‪ .‬ويرى البعض أ ّن املراد منها‬
‫احتقار القول أو الفعل حبضور صاحبه‪.‬‬
‫وعمار وخباب وصهيب وابن فهرية‬
‫واآلية نزلت يف قوم بين متيم ‪ ،‬سخروا من بالل وسلمان ّ‬
‫وسامل موىل أيب حذيفة «‪.»1‬‬
‫وقد ذكر فيها النهي عن السخرية ابلنساء تتميما لبيان احلكم‪.‬‬
‫أم سلمة حني سخر منها بعض الصحابيات ‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬ ‫وروي أّنّا يف شأن ّ‬
‫وجل ‪ :‬حعسى أح ْن يح مكونموا حخ ْرياً ِم ْن مه ْم تعليل للنهي ‪ ،‬أي عسى أن يكون املسخور منه‬
‫عز ّ‬‫وقوله ّ‬
‫ألبره» وقيل ‪:‬‬
‫اّلل ّ‬‫«رب أشعث أغرب ذي طمرين لو أقسم على ّ‬ ‫اّلل خريا من الساخر ‪ ،‬ف ّ‬ ‫عند ّ‬
‫اّلل احلال ‪ ،‬ويعكس األمر ‪ ،‬فيصري املسخور منه عزيزا رفيع اجلانب ‪،‬‬ ‫بل املعىن عسى أن يب ّدل ّ‬
‫والساخر ذليال مهاان ‪ ،‬وهو حينئذ على حد قوله ‪:‬‬
‫ال هتن الفقري علّك أن تركع يوما والدهر قد رفعه‬
‫اّلل تعاىل النساء مع القوم يف اآلية ‪ ،‬فكان ذلك قرينة على أ ّن املراد‬
‫وقد ذكر ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر ما رواه السيوطي يف كتابه الدر املنثور يف التفسري ابملأثور (‪.)91 /6‬‬

‫ص ‪708 :‬‬
‫يدل على النساء إال من طريق‬
‫خاص ابلرجال ال ّ‬
‫ابلقوم الرجال‪ .‬ويرى بعضهم أ ّن القوم اسم ّ‬
‫التغليب ‪ ،‬ومنه ما جاء يف بيت زهري ‪:‬‬
‫وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء‬
‫قوام على املرأة ‪ ،‬وهو يف األصل ‪:‬‬
‫وكأ ّن هذا املعىن يرجع إىل أ ّن لفظ القوم مأخوذ من أ ّن الرجل ّ‬
‫إما مصدر مبعىن القيام ‪ ،‬مث استعمل يف مجاعة الرجال ‪ ،‬وإما اسم مجع لقائم‪.‬‬
‫وقد جاء النهي عن السخرية موجها إىل مجاعة الرجال والنساء ‪ ،‬وإن كان حكم الفرد من‬
‫الفريقني كذلك ‪ ،‬جراي على ما كان حاصال ‪ ،‬وما هو األغلب من وقوع السخرية يف اجملامع‬
‫واحملافل‪ .‬وما دامت علة النهي عامة ‪ ،‬فهو يفيد عموم احلكم لعموم العلة‪.‬‬
‫وكلمة (عسى) يف مثل هذا الرتكيب الذي أسندت فيه إىل (أن ‪ ،‬والفعل) قيل ‪:‬‬
‫اتمة ‪ ،‬ال حتتاج إىل خرب ‪ ،‬و(أن) وما دخلت عليه يف حمل رفع على الفاعلية‪ .‬وقيل انقصة ‪ ،‬وسد‬
‫ما بعدها مسد جزءيها‪.‬‬
‫اّلل ملز بعض املؤمنني ملزا للنفس ‪،‬‬
‫س مك ْم أي ال يعب بعضكم بعضا ‪ ،‬وقد جعل ّ‬ ‫ِ‬
‫حوال تحلْم مزوا أحنْ مف ح‬
‫ألّنم كنفس واحدة ‪ ،‬فمىت عاب املؤمن أخاه ‪ ،‬فكأنّه عاب نفسه‪.‬‬
‫اّلل يف اآلية النهي عن ثالثة أشياء ‪ :‬عن السخرية ‪ ،‬وعن اللمز ‪ ،‬وعن التنابز‬
‫وقد ذكر ّ‬
‫ابأللقاب‪.‬‬
‫أما التنابز ابأللقاب ‪ :‬وهو التعاير هبا ‪ ،‬فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة‪.‬‬
‫وأما السخرية واللمز ‪ ،‬فقد ذهب العلماء يف املغايرة بينهما إىل وجوه ‪ ،‬فمنهم من يرى أ ّن‬
‫السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك حبضرته ‪ ،‬واللمز التنبيه على معايبه ‪ ،‬سواء‬
‫أكان على مضحك أم غريه ‪ ،‬وسواء أكان حبضرته أم ال ‪ ،‬وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية ‪،‬‬
‫ويكون من عطف العام على اخلاص ‪ ،‬إلفادة الشمول‪.‬‬
‫ومنهم من يرى السخرية االحتقار واللمز والتنبيه على املعايب ‪ ،‬أو تتبعها ‪ ،‬وهو يرى أ ّن العطف‬
‫من قبيل عطف العلة على معلوهلا‪ .‬كأنّه قيل ‪ :‬ال حي ّقر أحد لعيبه ‪ ،‬وهذا الوجه ال يكاد يظهر له‬
‫كبري معىن‪.‬‬
‫ومنهم من يرى أ ّن اللمز خاص مبا كان من السخرية على وجه اخلفية ‪ ،‬وعليه العطف من عطف‬
‫اخلاص على العام ‪ ،‬مبالغة يف النهي عنه ‪ ،‬كأنه جنس آخر‪.‬‬
‫ويرى بعضهم أن املعىن ‪ :‬وال أتتوا من األفعال ما يكون سببا ألن يلمزكم الناس ‪ ،‬ويكون املعىن‬
‫يفعلن أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس‪.‬‬
‫ال يسخر أحد من أحد ‪ ،‬وال ّ‬
‫وخص يف العرف‬
‫ّ‬ ‫حوال تحنابح مزوا ِاب ْألحل ِ‬
‫ْقاب التنابز ‪ :‬التعاير ‪ ،‬والتداعي ابأللقاب ‪،‬‬

‫النص على حترمي تلقيب اإلنسان مبا يكره ‪،‬‬


‫ص ‪ 709 :‬ابملكروه منها ‪ ،‬وقد نقل عن العلماء ّ‬
‫لكل من ينتسب إليه‪.‬‬‫سواء أكان صفة له ‪ ،‬أم ألبيه ‪ ،‬أم ألمه ‪ ،‬أم ّ‬
‫اإل ِ‬
‫ميان تعليل للنهي ‪ ،‬واالسم هنا املراد منه الذكر ‪ ،‬واملراد ‪ :‬ذم أن‬ ‫سو مق بح ْع حد ِْ‬ ‫بِْئ ِ‬
‫س اال ْس مم الْ مف م‬
‫ح‬
‫جيتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع اإلميان ‪ ،‬وذلك تغليظ شديد ‪ ،‬حيث‬
‫جعل التنابز فسقا ‪ ،‬وفيه من التنفري منه ما ال خيفى‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل املعىن ‪ :‬ال ينسنب أحدكم غريه إىل الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه ابإلميان ‪ ،‬كأنّه‬
‫تشهروا ابلناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على اإلميان ‪ ،‬ويكون ذلك‬ ‫قيل ‪ :‬ال ّ‬
‫ّنيا عن أن ينادى من دخل اإلسالم بصفته اليت كان عليها ‪ ،‬وقد استثين من النهي دعاء الرجل‬
‫بلقب قبيح ال على سبيل االستخفاف واإلهانة ‪ ،‬أبن يكون على قصد التمييز ‪ ،‬كقول احمل ّدثني ‪:‬‬
‫سليمان األعمش‪.‬‬
‫ك مه مم الظَّالِ ممو حن أي من مل يتب عما ّني عنه من األمور الثالثة فهو ظامل ‪،‬‬ ‫ب فحأمولئِ ح‬
‫حوحم ْن حملْ يحتم ْ‬
‫وعرض نفسه للعذاب‪.‬‬ ‫وكأنه ال ظامل سواه ‪ ،‬ألنه وضع العصيان موضع الطاعة ‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سوا حوال‬ ‫سم‬ ‫اجتحنِبموا حكثِرياً م حن الظَّ ِّن إِ َّن بح ْع ح‬
‫ض الظَّ ِّن إِ ْمثٌ حوال حجتح َّ‬ ‫آمنموا ْ‬
‫ين ح‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬‫قال ّ‬
‫اب‬ ‫اّللح إِ َّن َّ‬ ‫ب أحح مد مكم أح ْن أيْ مكل ححلم أ ِ‬
‫حخيهِ حم ْيتاً فح حك ِرْهتم مموهم حواتَّ مقوا َّ‬ ‫ِ‬
‫اّللح تح َّو ٌ‬ ‫ض مك ْم بح ْعضاً أ مححي ُّ ح ْ ح ح ْ ح‬ ‫ب بح ْع م‬ ‫يحغْتح ْ‬
‫يم (‪ ) 12‬يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب ‪ ،‬مث استعمل يف التباعد مطلقا ‪ ،‬فمعىن‬ ‫ِ‬
‫حرح ٌ‬
‫اجتحنِبموا حكثِرياً ِم حن الظَّ ِّن تباعدوا عن كثري من الظن ‪ ،‬وجيء بلفظ (كثري) من ّكرا ‪،‬‬ ‫قوله تعاىل ‪ْ :‬‬
‫ليحتاط فيه ‪ ،‬فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إمث إذا ابتعد عن الكثري منه‪.‬‬
‫حمرم ‪ ،‬ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب ‪ ،‬ومنه ما هو مباح‪.‬‬
‫والظن أنواع ‪ :‬منه ما هو ّ‬
‫ابّلل‪ .‬وسوء الظن ابملسلم مستور احلال ‪ ،‬ظاهر العدالة ‪،‬‬
‫ابّلل والعياذ ّ‬
‫فاحملرم ‪ :‬كسوء الظن ّ‬
‫عز‬
‫ابّلل ّ‬
‫الظن ّ‬
‫ميوتن أحدكم إال وهو حيسن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬ال ّ‬
‫فقد ورد عن النيب صلّى ّ‬
‫وجل» «‪.»1‬‬
‫ّ‬
‫الظن أكذب احلديث» «‪.»2‬‬ ‫الظن ‪ ،‬فإ ّن ّ‬ ‫«إايكم و ّ‬ ‫وعنه أنه قال ‪ّ :‬‬
‫وقد جاء يف القرآن الكرمي ‪ :‬إِ َّن الظَّ َّن ال يمغْ ِين ِم حن ا ْحلحِّق حش ْيئاً [يونس ‪ ]36 :‬وقال ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫حرم من املسلم‬ ‫الس ْوِء حومك ْن تم ْم قح ْوماً بموراً [الفتح ‪ ]12 :‬ويف احلديث ‪« :‬إ ّن ّ‬
‫اّلل تعاىل ّ‬ ‫حوظحنح ْن تم ْم ظح َّن َّ‬
‫ظن السوء»‪.‬‬ ‫يظن به ّ‬
‫دمه وعرضه وأن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 51 ، )2205 /4‬كتاب اجلنة ‪ - 19 ،‬ابب األمر حبسن‬
‫الظن حديث رقم (‪.)2877‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (‪.)92 /6‬‬

‫ص ‪710 :‬‬
‫اّلل تعاىل‬
‫الظن بربّه ‪ ،‬إن ّ‬
‫الظن فقد أساء ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬من أساء أبخيه ّ‬
‫وعن النيب صلّى ّ‬
‫يقول ‪:‬‬
‫اجتحنِبموا حكثِرياً ِم حن الظَّ ِّن‪.‬‬
‫ْ‬
‫الريب ‪،‬‬
‫وقد قدمنا أ ّن املمنوع إساءة الظن ابملسلم املستور ظاهر العدالة ‪ ،‬وأما من يتعاطى ّ‬
‫واجملاهرة ابخل بائث ‪ ،‬فال حيرم إساءة الظن به ‪ ،‬فليس الناس أحرص منه على نفسه ‪ ،‬وقد أمر أن‬
‫يتجنب الريب ‪ ،‬و ّأال يقف مواقف التّهم ‪ ،‬فمن وقف مواقف التهم اهتّم‪.‬‬
‫اّلل تعاىل بعلمه ‪ ،‬ومل ينصب عليه دليال قاطعا ‪ ،‬فهنا جيب‬
‫والظن الواجب ‪ :‬يكون فيما تعبّدان ّ‬
‫اّلل به‪ .‬ومن‬
‫اّلل هبا ‪ ،‬وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدان ّ‬
‫الظن للوصول إىل املعرفة اليت تعبّدان ّ‬
‫وحتري القبلة ‪ ،‬وتقومي املستهلكات ‪ ،‬وأروش اجلناايت اليت مل يرد‬
‫ذلك قبول شهادة العدل ‪ّ ،‬‬
‫نص عن الشارع‪.‬‬
‫مبقاديرها ّ‬
‫حمرما ‪ ،‬فما ابل حسن‬
‫ظن اخلري ابملسلم ‪ ،‬وقد تقول ‪ :‬ما دام سوء الظن ّ‬
‫واملندوب من الظن ‪ّ :‬‬
‫الظن مندواب؟‬
‫ولكن إذا علمت أ ّن هناك واسطة ‪ ،‬وهو أال يظن شيئا علمت أنّه ال يلزم التقابل يف احلكم‪.‬‬
‫الظن استواء الطرفني ‪ ،‬ومثّلوا‬
‫والظن املباح ‪ :‬قد مثّلوا له ابلشك يف الصالة ‪ ،‬وكأّنم يريدون من ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫له أيضا ابلظن الذي يعرض يف القلب ‪ِ ،‬ما يوجب الريبة ‪ ،‬وقد قال النيب صلّى ّ‬
‫«إذا ظننتم فال حتققوا»‬
‫أي ال توجدوا أثرا هلذا الظن‪.‬‬
‫تظن شرا لتتقيه‬
‫وحرمة الظن ابلناس إمنا تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتع ّدى إىل الغري ‪ ،‬و ّأما أن ّ‬
‫‪ ،‬وال يتع ّدى ذلك إىل الغري ‪ ،‬فذلك حممود غري مذموم ‪ ،‬وهو حممل ما‬
‫ورد من أ ّن (من احلزم سوء الظن)‬
‫‪ .‬و(احرتسوا من الناس بسوء الظن)‬
‫الظن عصمة)‪.‬‬
‫الظن ورطة ‪ ،‬وسوء ّ‬
‫‪ .‬وما جاء يف احلكم ‪( :‬حسن ّ‬
‫ض الظَّ ِّن إِ ْمثٌ تعليل لألمر ابجتناب ّ‬
‫الظن‪ .‬واإلمث الذنب الذي يستح ّق فاعله‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن بح ْع ح‬
‫العقوبة عليه‪.‬‬
‫سوا أي ال تبحثوا عن عورات املسلمني ومعايبهم ‪ ،‬وتستكشفوا ما سرتوه‪ .‬والتجسس ‪:‬‬
‫سم‬‫حوال حجتح َّ‬
‫تفعل من اجلس ‪ ،‬وهو مبعىن التحسس على ما قيل ‪ ،‬وبعضهم يرى أّنما متغايران ‪ ،‬وأن‬
‫التجسس معرفة الظاهر ‪ ،‬وابحلاء تتبع البواطن ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫ابلعكس ‪ ،‬واألمر مرجعه إىل اللغة‪ .‬وقد ع ّد العلماء التجسس من الكبائر‪ .‬وقد أخرج أبو داود‬
‫اّلل عليه وسلّم فقال ‪« :‬اي معشر من‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وغريه عن أيب برزة األسلمي قال ‪ :‬خطبنا رسول ّ‬
‫آمن بلسانه ‪ ،‬ومل يدخل اإلميان قلبه ‪ ،‬ال تغتابوا املسلمني ‪ ،‬وال تتبعوا عوراهتم ‪ ،‬فإنّه‬

‫ص ‪711 :‬‬
‫اّلل عورته يفضحه يف بيته» «‪.»1‬‬
‫اّلل عورته ومن يتّبع ّ‬
‫من يتّبع عوراهتم يتّبع ّ‬
‫ض مك ْم بح ْعضاً أي ال يذكر بعضكم بعضا مبا يكره‪.‬‬
‫ب بح ْع م‬
‫حوال يحغْتح ْ‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه قال ‪« :‬أ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫أخرج مسلم وأبو داود والرتمذي «‪ »2‬وغريهم عن رسول ّ‬
‫اّلل ورسوله أعلم‪ .‬قال ‪« :‬ذكرك أخاك مبا يكره»‪ .‬قيل ‪:‬‬
‫تدرون ما الغيبة؟» قالوا ‪ّ :‬‬
‫أفرأيت لو كان يف أخي ما أقول؟ قال ‪« :‬إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ‪ ،‬وإن مل يكن فيه ما‬
‫تقول فقد هبتّه»‪.‬‬
‫ومعلوم أ ّن املراد من هذا النهي النهي عن اإليذاء بتفهيم الغري معايب املغتاب ‪ ،‬وذلك يتناول‬
‫كل ما يكره ‪ ،‬سواء يف دينه أو دنياه ‪ ،‬ويف خلقه أو خلقه ‪،‬‬
‫كل طرق اإلفهام ‪ ،‬وهو يتناول أيضا ّ‬
‫ّ‬
‫يذم‬
‫وخصه بعضهم مبا ال ّ‬
‫ويف ماله ‪ ،‬أو ولده ‪ ،‬أو زوجته ‪ ،‬أو ِملوكه ‪ ،‬أو خادمه ‪ ،‬أو لباسه ‪ّ ،‬‬
‫شرعا من الصفات ‪ ،‬فمن ذكر الزاين أبنّه زان ال يكون مغتااب ‪ ،‬وال حيرم عليه هذا الذكر عنده‪.‬‬
‫واستدل لذلك‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اذكروا الفاجر مبا فيه ‪ ،‬حيذره الناس»‪.‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫بقول رسول ّ‬
‫ومل يرفض اجلمهور ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬احلديث ضعيف ال ينهض حجة ‪ :‬قال أمحد ‪ :‬وهو منكر ‪،‬‬
‫صح فهو حممول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وهتتكه‪.‬‬
‫وقال البيهقي ‪ :‬ليس بشي ء ‪ ،‬ولو ّ‬
‫ونص بعض املفسرين على أنه‬
‫ويرى بعضهم أ ّن الذكر ابملكروه حيرم مطلقا يف الغيبة واحلضور ‪ّ ،‬‬
‫املعتمد ‪ ،‬ويكون التقييد ابلغيبة خارج خمرج الغالب ‪ ،‬إذ إ ّن الغالب أن الناس تستحي من أن‬
‫تذكر أحدا مبعايبه يف حضرته‪.‬‬
‫اّلل تنفريا من الغيبة ‪ ،‬وتبعيدا‬ ‫ب أحح مد مكم أح ْن أيْ مكل ححلم أ ِ‬
‫حخيهِ حم ْيتاً فح حك ِر ْهتم مموهم هذا مثال ذكره ّ‬ ‫ِ‬
‫أ مححي ُّ ح ْ ح ح ْ ح‬
‫ضح فيه ما يصدر من املغتاب من حيث‬ ‫منها ‪ ،‬وهو مثل ابلغ النهاية يف أتدية املراد ‪ ،‬قد و ّ‬
‫صدوره عنه ‪ ،‬ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول ‪ ،‬وتنفر منه الطباع ‪،‬‬
‫وتنكره الشرائع ‪ ،‬وقد ذكر املثل على سبيل االستفهام التقريري ‪ ،‬وهو ال يقع ّإال يف كالم مسلّم‬
‫عند السامع ‪ ،‬حقيقة أو ا ّدعاء ‪ ،‬وقد أسند يف املثل الفعل إىل أحد إيذاان أبنّه ال يستقر يف طبع‬
‫أحد كائنا من كان أن يقدم على أن أيكل حلم إنسان ‪ ،‬فضال عن أن حيبه ‪ ،‬وما ابلك به إذا كان‬
‫املأكول حلم أخيه؟ ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )292 /4‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب يف الغيبة حديث رقم (‪)4880‬‬
‫‪ ،‬وأمحد يف املسند (‪.)421 /4‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 45 ، )2001 /4‬كتاب الرب ‪ - 20 ،‬ابب حترمي الغيبة‬
‫حديث رقم (‪ ، )2589 /70‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )290 /4‬كتاب الرب ‪ ،‬ابب‬
‫الغيبة حديث رقم (‪ ، )1934‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )290 /2‬كتاب األدب ‪ ،‬ابب يف الغيبة‬
‫حديث رقم (‪.)4874‬‬

‫ص ‪712 :‬‬
‫شك أنه يكون أشنع ‪ ،‬وماذا تكون الشناعة إذا كان األخ ميتا؟ إّنّا تكون شناعة ما فوقها‬
‫شناعة‪.‬‬
‫اّلل هبذا املثل أوضح بيان أ ّن وقوع املغتاب يف عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون‬
‫فقد ّبني ّ‬
‫أكال للحومهم ‪ ،‬وهم إخوته ‪ ،‬وليتهم كانوا حاضرين ‪ ،‬بل هو إمنا ينهش أعراضهم وهم غائبون ‪،‬‬
‫فهو كالكلب ينهض حلوم اجليف‪ .‬ولو عقل الناس هذا املثل ‪ ،‬وما استعمل فيه من طرق التنفري‬
‫ما أقدموا على الغيبة‪.‬‬
‫والفاء يف قوله تعاىل ‪ :‬فح حك ِر ْهتم مموهم فإن الفصيحة مق ّدر معها (قد) وهي واقعة يف جواب شرط‬
‫مق ّدر ‪ ،‬أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه ‪ ،‬وال ميكنكم إنكار كراهته‪.‬‬
‫وبعضهم ‪ :‬إ ّن املعىن فأنتم تكرهونه ‪ ،‬ويكون الكالم تصرحيا جبواهبم عن االستفهام ‪ ،‬كأّنّم قالوا ‪:‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فأنتم كرهتموه ‪ ،‬وعرب ابملاضي للمبالغة‪.‬‬‫ال حنب ‪ ،‬فقال ّ‬
‫اّلل إِ َّن َّ‬
‫اّللح‬ ‫حواتَّ مقوا َّ‬
‫اّللح عطف على مق ّدر ‪ ،‬كأنه قيل ‪ :‬امتثلوا ما أمرمت به ‪ ،‬وّنيتم عنه ‪ ،‬واتقوا ّ‬
‫وتواب ‪ :‬معناه كثري القبول لتوبة من اتب‪.‬‬ ‫تح َّو ِ‬
‫يم تعليل لألمر ابلتقوى ‪ّ ،‬‬
‫اب حرح ٌ‬
‫ٌ‬
‫إهلي يف اآلية الكرمية ‪ ،‬وقد نقل القرطيب «‪ »1‬اإلمجاع على أّنا من الكبائر‪.‬‬ ‫حمرمة بنص ّ‬
‫والغيبة ّ‬
‫والغزايل ‪ :‬يرى أّنّا من الصغائر ‪ ،‬وهو عجيب من عمدة األخالق الغزايل ‪ ،‬ولعلّه أراد أن خيفف‬
‫على الناس ملّا رأى فشوها فيهم ‪ ،‬ال خيلو منهم من ال يرتكبها إال النادر ‪ ،‬ولكنّا ما علمنا أ ّن‬
‫إطباق الناس على منكر يكون سببا يف ختفيفه ولو مل يرد فيها من دالئل التحرمي غري ما ذكر يف‬
‫هذه اآلية وأّنّا من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا يف كوّنا من الكبائر‪.‬‬
‫وليس ألحد أن يتعلّق مبا ورد من‬
‫قوله عليه الصالة والسالم فيما رواه أمحد «‪ »2‬عن أيب بكرة أنّه قال ‪ :‬بينما أان أماشي رسول‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وهو آخذ بيدي ‪ ،‬ورجل عن يساري ‪ ،‬فإذا حنن بقربين أمامنا ‪ ،‬فقال‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬إّنّما ليعذابن ‪ ،‬وما يعذابن يف كبري» وبكى إىل أن قال ‪ :‬وما‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫يعذابن إال يف الغيبة والبول‬
‫إذ املراد أّنما ما كان يكرب عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب ‪ ،‬فكان أحدمها ال يستنزه من‬
‫البول ‪ ،‬وإنّه ليسري ‪ ،‬وكان اآلخر ال يبتعد عن الغيبة ‪ ،‬وما هو عليه بعسري‪.‬‬
‫اّلل ذهب إىل أ ّن بعضها ليس بكبرية ‪ ،‬بل هو من الصغائر لكان األمر‬
‫ولو أ ّن اإلمام الغزايل رمحه ّ‬
‫هينا فإنّك عرفت أ ّن الغيبة إمنا ّني عنها من أجل اإليذاء ‪ ،‬وهو مراتب ‪ ،‬فلن يكون ذكر معايب‬
‫الثوب أو القربة مثال ببالغ ح ّد اخلوض يف العرض من جهة اإليذاء ‪ ،‬فالغيبة حرام ‪ ،‬وجيب على‬
‫املغتاب أن يبادر إىل التوبة واالستغفار منها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اجلامع ألحكام القرآن لإلمام القرطيب (‪.)337 /16‬‬
‫(‪ )2‬رواه اإلمام أمحد يف املسند (‪.)39 /5‬‬
‫ص ‪713 :‬‬
‫وقد أخرج العلماء أشياء ال يكون هلا حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي ال‬
‫يتوصل إليه إال به‪.‬‬
‫يظن منه القدرة على إزالة ظلمه‪.‬‬
‫فمن ذلك التظلم ‪ :‬فلمن ظلم أن يشكو ملن ّ‬
‫ومنه االستعانة على تغيري املنكر بذكره ملن يظن قدرته على تغيريه‪.‬‬
‫ومنه االستفتاء ‪ :‬كأن يقول للمفيت ظلمين فالن بكذا ‪ ،‬فما طريق الوصول إىل حقي؟‬
‫ومنه أن يكون صاحب العيب جماهرا ابملعصية ‪ ،‬كشربه اخلمر ‪ -‬للذين يتظاهرون ‪. -‬‬
‫كل ما فيه حتذير املسلمني من الشر ‪ ،‬إذا‬
‫ومنه جرح الرواة واملصنفني واملفتني مع عدم األهلية ‪ ،‬و ّ‬
‫تعني ذلك طريقا له‪.‬‬
‫الظن ابجتناب أثره ‪ ،‬مث النهي عن طلب‬
‫هذا وقد اشتملت اآلية الكرمية على األمر ابجتناب ّ‬
‫حتقيق ذلك الظن بقوله ‪ :‬وال جتسسوا مث النهي عن ذكر ما عسى أن يكون املتجسس قد وقف‬
‫ظن ‪ ،‬فعلم من طريق التجسس ‪ ،‬فاغتاب‪.‬‬
‫عليه ‪ ،‬فهذه ثالثة مرتتبة ‪ّ :‬‬

‫ص ‪714 :‬‬
‫من سورة الواقعة‬
‫ِ‬ ‫ْسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬
‫يم (‪ )76‬إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن‬ ‫ِ‬
‫ُّجوم (‪ )75‬حوإنَّهم لح حق ح‬
‫س ٌم ل ْحو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬ ‫م‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فحال أمق ِ م ح‬
‫قال ّ‬
‫سه إَِّال الْمطحهَّرو حن (‪ )79‬تح ْن ِز ِ‬ ‫تاب مكْنم ٍ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪)80‬‬ ‫ب الْعال ِحم ح‬
‫يل م ْن حر ِّ‬
‫ٌ‬ ‫م م‬ ‫ون (‪ )78‬ال ميحح ُّ م‬ ‫حك ِرميٌ (‪ِ )77‬يف ك ٍ ح‬
‫قبل أن نتكلّم عن تفسري اآلايت نقول ‪ :‬قد ورد القسم على هذا النحو يف القرآن الكرمي كثريا ‪،‬‬
‫لش حف ِق (‪ )16‬حواللَّيْ ِل حوما حو حس حق (‪[ )17‬االنشقاق ‪ ]17 ، 16 :‬وفحال‬ ‫ْس مم ِاب َّ‬‫منه قوله تعاىل ‪ :‬فحال أمق ِ‬
‫يامةِ (‪)1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أمق ِ‬
‫َّس (‪[ )16‬التكوير ‪ ]16 ، 15 :‬وال أمقْس مم بِيح ْوم الْق ح‬ ‫َّس (‪ )15‬ا ْجلحوا ِر الْ مكن ِ‬ ‫ْس مم ِاب ْخلمن ِ‬
‫ب ال حْمشا ِر ِق [املعارج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْسم ِمبا تم ْب ِ‬
‫ص مرو حن (‪[ )38‬احلاقة ‪ ]38 :‬وفحال أمقْس مم بِحر ِّ‬ ‫[القيامة ‪ ]1 :‬وفحال أمق م‬
‫ْس مم ِهب حذا الْبح لح ِد (‪[ )1‬البلد ‪.]1 :‬‬
‫‪ ]40 :‬وال أمق ِ‬
‫وقد جاء على غري هذه الصورة ‪ ،‬أي من غري (ال) النافية ‪ ،‬ومن غري الفعل (أقسم)‪ .‬وقد جاء‬
‫ض إِنَّهم ححلح ٌّق‬ ‫الس ِ‬
‫ماء حو ْاأل ْحر ِ‬ ‫ب َّ‬ ‫اّلل بنفسه موصوفا ابلربوبية فح حو حر ِّ‬
‫القسم على أنواع ‪ّ :‬إما قسم ّ‬
‫ني (‪ )92‬حع َّما‬ ‫حمجحعِ ح‬
‫َّه ْم أ ْ‬ ‫[الذارايت ‪ ]23 :‬والقسم هنا على مضمون مجلة خربية فح حو حربِّ ح‬
‫ك لحنح ْسئح لحن م‬
‫كانموا يح ْع حملمو حن (‪[ )93‬احلجر ‪.]93 ، 92 :‬‬
‫ِ‬
‫نام مك ْم [األنبياء ‪ ]57 :‬واترة يكون‬
‫حص ح‬‫وإما قسم ابل ّذات معنونة بلفظ اجلاللة ‪ :‬حوحات َّّلل حألحكِي حد َّن أ ْ‬
‫ّ‬
‫القسم أبشياء من خلقه ‪( :‬كالصافّات) (و الطور) (و الذارايت) (و النجم) و(مواقع النجوم)‬
‫و(الشمس وضحاها) و(الفجر) و(البلد) و(القيامة) و(التني والزيتون)‪.‬‬
‫آن ا ْحلحكِي ِم (‪[ )2‬يس ‪ ]2 ، 1 :‬ص‬
‫واترة يكون القسم ابلقرآن موسوما ابمسه يس (‪ )1‬والْ مقر ِ‬
‫ح ْ‬
‫آن الْم ِج ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يد (‪[ )1‬ق ‪ ]1 :‬أو موسوما ابسم الكتاب‬ ‫حوالْ مق ْرآن ذي ال ّذ ْك ِر (‪[ )1‬ص ‪ ]1 :‬ق حوالْ مق ْر ح‬
‫ني (‪[ )2‬الزخرف ‪ 2 ، 1 :‬والدخان ‪.]2 ، 1 :‬‬ ‫حم (‪ )1‬حوالْكِ ِ‬
‫تاب ال مْمبِ ِ‬
‫ومهما يكن املقسم به فاملقسم عليه ال يعدو أن يكون من أصول اإلميان اليت جيب على اخللق‬
‫َّاجر ِ‬ ‫ات ص ًّفا (‪ )1‬فحالز ِ‬
‫معرفتها ‪ ،‬فهو اترة يكون قسما على التوحيد ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬و َّ ِ‬
‫ات‬ ‫الصافَّ ح‬ ‫ح‬
‫اح ٌد (‪[ )4‬الصافات ‪.]4 - 1 :‬‬ ‫يات ِذ ْكراً (‪ )3‬إِ َّن إِهل مكم لحو ِ‬
‫حز ْجراً (‪ )2‬فحالتَّالِ ِ‬
‫ح ْ‬
‫ْسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬
‫ِ‬
‫ُّجوم (‪ )75‬حوإنَّهم لح حق ح‬
‫س ٌم‬ ‫م‬ ‫واترة يكون قسما على أ ّن القرآن ح ّق ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ :‬فحال أمق ِ م ح‬
‫يم (‪ )76‬إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ )77‬وقوله ‪ :‬حم (‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫ل ْحو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬

‫ص ‪715 :‬‬
‫ني (‪ )2‬إِ َّان أحنْزلْناهم ِيف ل ْحي لحةٍ‬ ‫حوالْكِ ِ‬
‫تاب ال مْمبِ ِ‬
‫ح‬
‫[الدخان ‪ ]3 - 1 :‬وقوله ‪ :‬حم (‪ )1‬حوالْكِ ِ‬
‫تاب ال مْمبِ ِ‬
‫ني (‪ )2‬إِ َّان حج حعلْناهم قم ْرآانً عح حربِيًّا [الزخرف ‪:‬‬
‫‪ ]3 - 1‬على بعض الوجوه يف جواب القسم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫آن ا ْحلحكِي ِم (‪ )2‬إِنَّ ح‬
‫واترة يكون املقسم عليه أ ّن حممدا رسول يس (‪ )1‬والْ مقر ِ‬
‫ك ل ِحم حن الْ مم ْر حسل ح‬
‫ني (‪)3‬‬ ‫ح ْ‬
‫[يس ‪.]3 - 1 :‬‬
‫واترة يكون املقسم عليه نفيا لصفة ذميمة عن الرسول األكرم ن حوالْ حقلح ِم حوما يح ْسطممرو حن (‪ )1‬ما‬
‫ض َّل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ت بِنِ ْع حمةِ حربِّ ح‬
‫صاحبم مك ْم حوما‬ ‫َّج ِم إِذا حهوى (‪ )1‬ما ح‬ ‫وو الن ْ‬ ‫ك ِمبح ْجنمون (‪[ )2‬القلم ‪ ]2 ، 1 :‬ح‬ ‫أحنْ ح‬
‫ص مرو حن‬‫صرو حن (‪ )38‬وما ال تم ْب ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ح‬ ‫غحوى (‪[ )2‬النجم ‪ ]2 ، 1 :‬ومن هذا قوله تعاىل ‪ :‬فحال أمقْس مم مبا تم ْب م‬
‫شاع ٍر قحلِ ًيال ما تم ْؤِمنمو حن (‪[ )41‬احلاقة ‪- 38 :‬‬ ‫ول حك ِر ٍمي (‪ )40‬وما هو بِ حقو ِل ِ‬
‫ح مح ْ‬ ‫(‪ )39‬إِنَّهم لححق ْو مل حر مس ٍ‬
‫‪.]41‬‬
‫ْام ِ‬
‫الت‬ ‫ايت ذحرواً (‪ )1‬فحاحل ِ‬ ‫الذا ِر ِ‬
‫واترة يكون املقسم عليه اجلزاء والوعد والوعيد مثل قوله تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫ْ‬
‫وع مدو حن ل ِ‬ ‫مات أ ْحمراً (‪ )4‬إِ َّمنا تم ح‬‫ايت يسراً (‪ )3‬فحالْم حق ِس ِ‬ ‫ِ‬
‫حصاد ٌق (‪[ )5‬الذارايت ‪1 :‬‬ ‫م ّ‬ ‫ِوقْراً (‪ )2‬فحاجلْا ِر م ْ‬
‫ض إِنَّهم ححلح ٌّق ِمثْ حل ما أحنَّ مك ْم تحنْ ِط مقو حن (‪[ )23‬الذارايت ‪:‬‬ ‫الس ِ‬
‫ماء حو ْاأل ْحر ِ‬ ‫ب َّ‬ ‫‪ ]5 -‬ومنه قوله ‪ :‬فح حو حر ِّ‬
‫‪ ]23‬ومنه ‪:‬‬
‫تاب حم ْسطمو ٍر (‪)2‬‬ ‫وع مدو حن لحواقِ ٌع (‪[ )7‬املرسالت ‪ ]7 - 1 :‬ومنه حوالطُّو ِر (‪ )1‬وكِ ٍ‬ ‫إىل قوله ‪ :‬إِ َّمنا تم ح‬
‫ح‬
‫ك لحواقِ ٌع (‪ )7‬ما لحهم ِم ْن دافِ ٍع (‪[ )8‬الطور ‪.]8 - 1 :‬‬ ‫ذاب حربِّ ح‬
‫إىل قوله ‪ :‬إِ َّن حع ح‬
‫ِ‬
‫اّلل نبيّه أن يقسم على اجلزاء واملعاد يف ثالثة مواضع ‪ ،‬قال ‪ :‬حز حع حم الَّذ ح‬
‫ين حك حف مروا أح ْن‬ ‫هذا وقد أمر ّ‬
‫ين حك حف مروا ال حأتْتِينحا َّ‬ ‫لحن ي ْب عثموا قمل بلى ورِّيب لحتم ْب عثم َّن [التغابن ‪ ]7 :‬وقال تعاىل ‪ :‬و ح ِ‬
‫الساعحةم قم ْل‬ ‫قال الَّذ ح‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫ْ م ح ْ ح حح‬
‫حح ٌّق مه حو قم ْل إِي حوحرِّيب إِنَّهم ححلح ٌّق [يونس ‪:‬‬
‫كأح‬ ‫بحلى حوحرِّيب لحتحأْتِيح نَّ مك ْم [سبأ ‪ ]3 :‬وقال تعاىل ‪ :‬حويح ْستح ْنبِئمونح ح‬
‫‪.]53‬‬
‫وقد جاء املقسم عليه أحواال من أحوال اإلنسان اليت هو عليها ‪ :‬حواللَّْي ِل إِذا يحغْشى (‪ )1‬حوالنَّها ِر‬
‫ش َّىت (‪[ )4‬الليل ‪.]4 - 1 :‬‬ ‫الذ حك حر حو ْاألمنْثى (‪ )3‬إِ َّن حس ْعيح مك ْم لح ح‬
‫إِذا حجتحلَّى (‪ )2‬حوما حخلح حق َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْعاد ِ‬‫ووقع القسم على صفة اإلنسان ‪ :‬وال ِ‬
‫ض ْبحاً (‪ )1‬فحال مْموِرايت قح ْدحاً (‪ )2‬فحال مْمغريات م‬
‫ص ْبحاً‬ ‫ايت ح‬ ‫ح‬
‫اإلنْسا حن لِحربِّهِ لح حكنمو ٌد (‪[ )6‬العادايت ‪- 1 :‬‬ ‫ْن بِهِ مجحْعاً (‪ )5‬إِ َّن ِْ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )3‬فحأحثح ْر حن بِه نح ْقعاً (‪ )4‬فح حو حسط ح‬
‫‪.]6‬‬
‫ني (‪)3‬‬ ‫ني (‪ )2‬حوه حذا الْبح لح ِد ْاأل ِحم ِ‬ ‫ون (‪ )1‬حوطمو ِر ِسينِ ح‬ ‫ني والزَّيْ تم ِ‬ ‫ِ‬
‫وجاء القسم على عاقبة اإلنسان ‪ :‬حوالتّ ِ ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنموا حو حع ِملموا‬
‫ين ح‬ ‫ني (‪ )5‬إَِّال الَّذ ح‬ ‫حس حف حل سافِل ح‬‫س ِن تح ْق ِو ٍمي (‪ )4‬ممثَّ حر حد ْدانهم أ ْ‬ ‫اإلنْسا حن ِيف أ ْ‬
‫حح ح‬ ‫لح حق ْد حخلح ْقنحا ِْ‬
‫آمنموا حو حع ِملموا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫احل ِ‬ ‫الص ِ‬
‫ين ح‬ ‫اإلنْسا حن لحفي مخ ْس ٍر (‪ )2‬إَِّال الَّذ ح‬ ‫ص ِر (‪ )1‬إِ َّن ِْ‬ ‫ات [التني ‪ ]6 - 1 :‬حوال حْع ْ‬ ‫َّ‬
‫اص ْوا ِاب َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫لص ِْرب (‪[ )3‬العصر ‪.]3 - 1 :‬‬ ‫واص ْوا ِاب ْحلحِّق حوتحو ح‬
‫الصاحلات حوتح ح‬
‫قد أردان هبذا الذي ذكران أن نريك فنون القسم يف القرآن ‪ ،‬سواء يف املقسم به واملقسم عليه ‪،‬‬
‫املقرر لذكران لك شيئا من فنون القرآن‬
‫ولو ال اإلطالة يف غري املوضوع ّ‬

‫ص ‪716 :‬‬
‫الكرمي يف جواب القسم ‪ ،‬وإنّه اترة يكون إنشاء ‪ ،‬واترة يكون خربا ‪ ،‬واترة يكون مذكورا ‪ ،‬واترة‬
‫لكن ذلك حيتاج إىل الشرح واإليضاح ‪ ،‬فيطول ‪ ،‬ونريد أن نرجع إىل القول يف‬
‫يكون حمذوفا ‪ّ ،‬‬
‫الذي معنا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ْسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬
‫يم (‪.)76‬‬
‫س ٌم ل ْحو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ُّجوم (‪ )75‬حوإنَّهم لح حق ح‬ ‫م‬ ‫فحال أمق ِ م ح‬
‫قد أطلعناك على أمثلة كثرية من هذا النوع من القسم يف القرآن الكرمي ‪ ،‬وميتاز ما معنا أبنه قيل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )76‬فكان هذا دليال على أ ّن هنا قسما وحلفا مثبتا ‪،‬‬ ‫س ٌم ل ْحو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬‫فيه صراحة حوإنَّهم لح حق ح‬
‫وأ ّن الكالم إثبات قسم ال نفي قسم‪.‬‬
‫ولقد كانت الصورة الظاهرة صورة نفي القسم جماال فسيحا للعلماء ‪ ،‬أجهدوا فيه قرائحهم ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)76‬‬ ‫وأبدوا آراءهم يف بيان املراد ‪ ،‬واجلمع بينه وبني قوله تعاىل ‪ :‬حوإنَّهم لححق ح‬
‫س ٌم لحْو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬
‫فذهب بعضهم إىل أ ّن (ال) زائدة ‪ ،‬مثلها يف قوله تعاىل ‪ :‬لِئح َّال يح ْعلح حم [احلديد ‪ ]29 :‬معناه ليعلم ‪،‬‬
‫واملعىن هنا ‪ :‬فأقسم مبواقع النجوم ‪ ،‬والقول ابلزايدة يكاد ال يرتضيه أحد‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أن (ال) هي الم القسم بعينها ‪ ،‬أشبعت فتحتها ‪ ،‬فتولدت منها األلف ‪ ،‬نظري‬
‫األلف يف قول الشاعر ‪:‬‬
‫ابّلل من العقراب‬
‫أعوذ ّ‬
‫حيث أشبعت فتحة الراء ‪ ،‬فتولّدت منه األلف ‪ ،‬وحينئذ تتحد القراءاتن ‪ ،‬قراءة م ّد الالم وعدم‬
‫مدها يف املعىن ‪ ،‬ويكون املد م ّد إشباع ‪ ،‬ويكفي يف ضعف هذا القول اعرتاف قائليه بقلّة هذا‬
‫خلو فعل‬
‫يقره النحويون ‪ ،‬وهو ّ‬
‫التوليد يف لغة العرب‪ .‬على أ ّن هذا يوقعنا يف شيء آخر ‪ ،‬ال ّ‬
‫القسم إذا كان مستقبال من النون ‪ ،‬فإ ّن النحاة يقولون ‪ :‬إذا وقع الفعل مستقبال مقروان ابلالم يف‬
‫حيّز القسم وجب اتصال الفعل بنون التوكيد ‪ ،‬وحذفها ضعيف جدا ‪ ،‬حىت لقد اضطروا إىل‬
‫ختريج القراءة األخرى القسم على أ ّن الالم لالبتداء ‪ ،‬وليست للقسم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إّنّا داخلة على‬
‫مبتدأ حمذوف ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫فألان أقسم ‪ ،‬وإن كان هذا التخريج ال خيلو من شيء‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل النفي على حاله ‪ ،‬و(ال) نفي حملذوف ‪ ،‬هو ما كان يقوله الكفار يف ذم القرآن ‪ ،‬من‬
‫أنّه سحر وشعر وكهانة‪ .‬مث استؤنف الكالم بعد ذلك ‪ ،‬ويكون حاصل املعىن ‪ :‬فال صحة ملا‬
‫يقولون ‪ ،‬أقسم مبواقع النجوم إخل وفوق أن احلذف ال دليل عليه ‪ ،‬فهو ال يتفق مع ما يقول‬
‫يصح حذفهما ‪ ،‬إال إذا كاان يف جواب سؤال ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬هل‬
‫النحاة من أ ّن اسم ال وخربها ال ّ‬
‫من رجل يف الدار؟ فنقول ‪ :‬ال‪.‬‬
‫متعني ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬هل‬
‫على أ ّن علماء املعاين يقولون يف مثل هذا املوضع ‪ :‬إ ّن العطف ابلواو ّ‬
‫اّلل بقاءك‪.‬‬
‫شفي فالن من مرضه فيقال ‪ :‬ال ‪ ،‬وأطال ّ‬

‫ص ‪ 717 :‬ويرى الفخر الرازي «‪ »1‬أن كلمة (ال) هي انفية على معناها ‪ ،‬غري أن يف الكالم‬
‫جمازا تركيبيا ‪ ،‬وتقديره أن نقول ‪( :‬ال) يف النفي هنا مثلها يف قول القائل ‪ :‬ال تسألين عما جرى‬
‫علي ‪ ،‬يشري إىل أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فال ينبغي أن يسأله ‪ ،‬فإن غرضه من‬
‫ّ‬
‫السؤال ال حيصل ‪ ،‬وال يكون غرضه من ذلك النهي ّإال بيان عظمة الواقعة ‪ ،‬ويصري كأنه قال ‪:‬‬
‫علي أمر عظيم ‪ ،‬ويدل عليه أن السامع يقول له ‪ :‬ماذا جرى عليك ‪ ،‬ولو فهم من حقيقة‬
‫جرى ّ‬
‫فيصح منه أن يقول ‪ :‬أخطأت حيث‬
‫ّ‬ ‫كالمه النهي عن السؤال ملا قال ‪ :‬ماذا جرى عليك ‪،‬‬
‫منعتك عن السؤال ‪ ،‬مث سألتين وكيف ال ‪ ،‬وكثريا ما يقول ذلك القائل الذي قال ‪ :‬ال تسألين‬
‫عند سكوت صاحبه عن السؤال ‪ ،‬أو ال تسألين ‪ ،‬وتقول ‪ :‬ماذا جرى عليك؟ وال يكون للسامع‬
‫تقرر يف أفهامهم ‪ :‬أ ّن املراد تعظيم الواقعة ال‬
‫أن يقول ‪ :‬إنك منعتين عن السؤال ‪ :‬كل ذلك ّ‬
‫النهي‪.‬‬
‫إذا علم هذا فنقول يف القسم ‪ :‬مثل هذا موجود من أحد وجهني ‪:‬‬
‫إما أن لكون الواقعة يف غاية الظهور ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ال أقسم أبنه على هذا األمر ‪ ،‬ألنه أظهر من أن‬
‫يشهر ‪ ،‬وأكثر من أن ينكر ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ال أقسم ‪ ،‬وال يريد به القسم ونفيه ‪ ،‬وإمنا يريد اإلعالم‬
‫أبن الواقعة ظاهرة ‪ ،‬وإما لكون املقسم به فوق ما يقسم به ‪ ،‬واملقسم صار يصدق نفسه فيقول‬
‫‪ :‬ال أقسم ميينا بل ألف ميني ‪ ،‬وال أقسم برأس األمري برأس السلطان ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ال أقسم بكذا ‪،‬‬
‫مريدا لكونه يف غاية اجلزم‪.‬‬
‫اّلل تعاىل أو صفة من‬
‫والثاين ‪ :‬يدل عليه أ ّن هذه الصيغة مل ترد يف القرآن ‪ ،‬واملقسم به هو ّ‬
‫صفاته ‪ ،‬وإمنا جاءت أمور خملوقة ‪ ،‬واألول ال يرد عليه إشكال إن قلنا ‪:‬‬
‫الصافَّ ِ‬
‫ات املراد منه رب الصافات ‪،‬‬ ‫إن املقسم به يف مجيع املواضع رب األشياء ‪ ،‬كما يف قوله ‪ :‬حو َّ‬
‫ْسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬
‫يتطرق الشك‬
‫ُّجوم (‪ )75‬أي األمر أظهر من أن يقسم عليه وأن ّ‬ ‫م‬ ‫فإذا قوله ‪ :‬فحال أمق ِ م ح‬
‫إليه‪.‬‬
‫ولعلك بعد كالم الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل يف القسم من طريق أوكد‪.‬‬
‫اّلل بذاته ‪ ،‬أو أبشياء من خلقه ‪ ،‬نتكلم على تفسري اآلية‬
‫وقبل أن نتكلم على معىن القسم من ّ‬
‫اليت معنا ‪ ،‬لنفرغ إىل القول يف هذه النواحي ابستفاضة‪.‬‬
‫وم املواقع مجع موقع ‪ ،‬وموقع الشيء ما يوجد فيه ‪ ،‬وما يسقط فيه إن‬ ‫ْسم أحلف ِمبواقِ ِع النُّج ِ‬
‫ِ‬
‫م‬ ‫ح‬ ‫أمق م‬
‫كان من أشياء مرتفعة‪ .‬وعليه ‪ ،‬فمواقع النجوم قيل ‪ :‬املشارق واملغارب مجيعا ‪ ،‬ألّنا موجودة‬
‫فيها‪ .‬وقيل ‪ :‬املغارب فقط ‪ ،‬أل ّن عندها تسقط النجوم‪ .‬وقيل ‪ :‬بل مواقعها مواضعها من بروجها‬
‫يف السماء ومنازهلا منها‪ .‬وقيل ‪ :‬بل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)187 /29‬‬

‫ص ‪718 :‬‬
‫املراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت ‪ ،‬وسنتكلّم بعد على حكمة القسم مبواقع النجوم‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )76‬عظيم خرب (إن) وقوله ‪ :‬ل ْحو تح ْعلح ممو حن اعرتاض بني إ ّن وخربها‪.‬‬ ‫حوإنَّهم لح حق ح‬
‫س ٌم ل ْحو تح ْعلح ممو حن حعظ ٌ‬
‫والضمري يف قوله ‪( :‬إنه) يرجع إىل القسم املفهوم من الكالم على ما تق ّدم توضيحه‪ .‬ول ْحو تح ْعلح ممو حن‬
‫شرط ‪ ،‬جوابه ‪ّ :‬إما حمذوف ابلكلية ‪ ،‬ألنه ال يتعلق بذكره غرض ‪ ،‬إذ املقصود هو نفي ما دخلت‬
‫يدل على امتناع‬
‫عليه (لو)‪ .‬وكأن املعىن ‪ :‬إنّه لقسم عظيم‪ .‬لو تعلمون‪ .‬وذلك أ ّن (لو) حرف ّ‬
‫تدل على نفي مدخوهلا النتفاء شيء آخر ‪ ،‬فإذا قد أفاد‬
‫شيء المتناع غريه ‪ ،‬وعلى ذلك فهي ّ‬
‫دخول (لو) على (تعلمون) انتفاء علمهم ‪ ،‬وهذا هو الذي يعنينا ‪ ،‬أما اجلواب فعلمه بعد ذلك‬
‫كأنّه ال يعين‪.‬‬
‫ويقول الفخر الرازي «‪ : »1‬إ ّن فائدة جميء النفي على هذه الصورة بدل قوله ‪:‬‬
‫(و إنه لقسم عظيم) وال تعلمون أ ّن النفي على الصورة اليت معنا أوكد ‪ ،‬أل ّن إتيانه عليها ذكر‬
‫للشيء بدليله‪ .‬أما الصورة األخرى فليس فيها إال إثبات عظم القسم مقرتان بنفي علمهم من غري‬
‫تعرض لإلشعار بسبب نفي العلم عنهم‪ .‬أما هنا فكأنّه قيل ‪ :‬لو كان عندكم أاثرة من علم لثبت‬
‫ّ‬
‫يشك يف ذلك ‪ ،‬فمنشأ الشك ليس لعدم العظم يف نفس‬
‫عندكم عظم القسم ‪ ،‬فإن كان أحد ّ‬
‫األمر ‪ ،‬بل ألنّه ال يعلم ‪ ،‬وأين هذا من ذاك‪.‬‬
‫وإما أن يكون جواب (لو) مق ّدرا مفهوما من خرب (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه ‪،‬‬
‫منزال منزلة‬
‫لكنكم مل تعظّموه فال علم عندكم ‪ ،‬وترى أ ّان مل نق ّدر لتعلمون مفعوال ‪ ،‬بل جعلناه ّ‬
‫يدل عليه خرب (إن)‪.‬‬ ‫ويصح أن يق ّدر له مفعول ّ‬
‫ّ‬ ‫الالزم ‪،‬‬
‫سه إَِّال الْمطحهَّرو حن (‪ )79‬تحنْ ِز ِ‬ ‫تاب مكْنم ٍ‬‫ِ‬
‫يل م ْن حر ِّ‬
‫ب‬ ‫ٌ‬ ‫م م‬ ‫ون (‪ )78‬ال ميحح ُّ م‬ ‫إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ِ )77‬يف ك ٍ ح‬
‫ني (‪.)80‬‬ ‫الْعال ِحم ح‬
‫اّلل على حممد‬
‫الضمري يف (إنّه) يرجع إىل معلوم للمخاطبني ‪ ،‬وهو الكالم العريب الذي أنزله ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وكان الكفار يقولون فيه ‪ :‬إنه شعر ‪ ،‬إنه سحر إنّه كهانة وافرتاء‪.‬‬ ‫صلّى ّ‬
‫اّلل يف الرد عليهم ‪ :‬إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ ، )77‬وقال بعضهم ‪ :‬هو الكالم من أول سورة‬
‫فقال ّ‬
‫الواقعة إىل هنا ِما جاء فيها من التوحيد ‪ ،‬واحلشر ‪ ،‬والدالئل اليت سيقت إلثباهتا ‪ ،‬وذلك أّنم‬
‫اّلل يف الر ّد عليهم ‪ :‬إِنَّهم‬ ‫اّلل ‪ ،‬فقال ّ‬
‫كانوا يقولون ‪ :‬هذا كالم من عند حممد مل ينزل عليه من عند ّ‬
‫تاب مكْنم ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪.)78‬‬ ‫لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ِ )77‬يف ك ٍ ح‬
‫والقرآن مصدر أريد منه اسم املفعول ‪ ،‬فهو مبعىن املقروء ‪ ،‬على حد قوله تعاىل ‪ :‬حول ْحو أ َّ‬
‫حن قم ْرآانً‬
‫ض أ ْحو مكلِّ حم بِهِ ال حْم ْوتى [الرعد ‪ ]31 :‬وهو‬ ‫بال أ ْحو قم ِطّ حع ْ‬
‫ت بِهِ ْاأل ْحر م‬ ‫ت بِهِ ا ْجلِ م‬
‫مس ِّريح ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)189 /29‬‬

‫ص ‪719 :‬‬
‫ين ِم ْن مدونِهِ [لقمان ‪ ]11 :‬وقيل ‪ :‬بل هو اسم ملا‬ ‫ِ‬ ‫ْق َِّ‬
‫اّلل فحأ محر ِوين ما ذا حخلح حق الَّذ ح‬ ‫من ابب هذا حخل م‬
‫يتقرب به ‪ ،‬واملشركون وإن كانوا ال جيهلون أنّه مقروء‬
‫املنزل إخل كالقرابن اسم ملا ّ‬
‫يقرأ من الكالم ّ‬
‫إال أّنم كانوا ينازعون يف أنه قرآن كرمي ‪ ،‬وأيضا كانوا يقولون ‪ :‬هو من عند حممد ‪ ،‬وكانوا ينكرون‬
‫تنزيله وأ ّن حممدا يتلو عليهم ما مسع من الوحي‪.‬‬
‫كل الناس ما يريدون من خري ‪:‬‬
‫ومعىن كونه كرميا ‪ :‬أنّه طاهر األصل ‪ ،‬ظاهر الفضل ‪ ،‬جيد فيه ّ‬
‫اّلل» «‪»1‬‬
‫«إين اترك فيكم ما إن متسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب ّ‬
‫اّلل القرآن أبوصاف كثرية ‪ ،‬وصفه بكونه حكيما ‪ ،‬وبكونه عزيزا ‪ ،‬وبكونه كرميا ‪،‬‬
‫وقد وصف ّ‬
‫ذل ‪ ،‬وهو‬
‫وبكونه جميدا ‪ ،‬وهو كرمي ‪ ،‬من أقبل عليه أخذ منه ما أراد ‪ ،‬وهو عزيز من أعرض عنه ّ‬
‫حكيم مبا اشتمل عليه من كنوز احلكمة ‪ ،‬وهو جميد مبا اشتمل عليه من شريف املقاصد‪.‬‬
‫تاب مكْنم ٍ‬‫ِ‬
‫ون (‪ )78‬أفاد شيئني ‪ :‬األول ‪ :‬أنه مظروف يف كتاب‬ ‫وقوله ‪ :‬إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ِ )77‬يف ك ٍ ح‬
‫والثاين ‪ :‬أنّه مكنون‪ .‬فأما ظرفيته يف الكتاب فلنا أن نقول ‪ :‬إنّه على حد فالن كرمي يف نفسه ‪،‬‬
‫حيث ال يراد إ ّن املظروف شيء واملظروف فيه شيء آخر ‪ ،‬فإ ّن الشيء ال يكون ظرفا لنفسه ‪،‬‬
‫فالقرآن ‪ -‬وهو كتاب ‪ -‬كرمي ‪ ،‬يف كتاب أي نفسه ‪ ،‬أو كرمي ثبت كرمه يف كتاب ‪ ،‬هو اللوح‬
‫احملفوظ ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إ ّن املظروف هو مجلة إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ )77‬واملظروف فيه هو كتاب ‪،‬‬
‫ويكون املعىن ‪ :‬إ ّن مضمون هذه اجلملة اثبت يف كتاب هو اللوح احملفوظ ‪ ،‬وقد قيل ‪ :‬الكتاب‬
‫هو اللوح احملفوظ ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو املصحف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل هو كتاب من الكتب املنزلة ‪ :‬كالتوراة ‪،‬‬
‫واإلجنيل‪ .‬وأما كونه مكنوان ‪ :‬فاملكنون هو املستور ‪ ،‬فإن كان الكتاب اللوح احملفوظ فمعىن كونه‬
‫ويصح أن نقول ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مكنوان أنّه مستور عن األعني ‪ ،‬ال يطّلع عليه إال نفر خمصوص من املالئكة ‪،‬‬
‫إن املكنون أريد منه احملفوظ ‪ ،‬ويكون الكن كناية عن احلفظ ‪ ،‬أل ّن الشيء إذا كان شريفا عزيزا‬
‫ال يكتفى يف صونه وحفظه بطرق احلفظ املعتادة ‪ ،‬بل يسرت عن العيون ‪ ،‬وكلّما ازدادت عزته‬
‫ازداد سرته ‪ ،‬زايدة يف الصون‪ .‬فقد استعمل الكن والسرت وأريد منه املبالغة يف احلفظ والصيانة ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن معىن كونه يف كتاب مكنون كونه حمفوظا من التبديل والتغيري ‪ ،‬فهو على حد قوله‬
‫تعاىل ‪ :‬إِ َّان حْحن من نح َّزلْنحا ال ِّذ ْك حر حوإِ َّان لحهم حلحافِظمو حن (‪[ )9‬احلجر ‪.]9 :‬‬
‫سهم إَِّال ال مْمطحه م‬
‫َّرو حن (‪ )79‬فإما أن جنعله من صفة الكتاب مبعىن اللوح‬ ‫وأما قوله تعاىل ‪ :‬ال ميحح ُّ‬
‫احملفوظ ‪ ،‬وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكرمي‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )621 /5‬كتاب املناقب ‪ ،‬ابب مناقب أهل بيت النيب‬
‫اّلل عليه وسلّم حديث رقم (‪.)3786‬‬
‫صلّى ّ‬

‫ص ‪720 :‬‬
‫عما يف طبيعة اإلنسان من الشهوة اليت‬
‫وعلى األول ‪ :‬فاملطهرون املالئكة ‪ ،‬وطهارهتم نزاهتهم ّ‬
‫هي من مقتضيات املادة ‪ ،‬ونفي مسه إال من هؤالء يراد منه أنّه ال يطّلع عليه إال هؤالء‪.‬‬
‫وعلى الثاين ‪ :‬فاملراد من املطهرين حيتمل أن يكون اخلالني عن احلدثني األصغر واألكرب ‪ ،‬وتكون‬
‫الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية‪ .‬ويكون املعىن ‪ :‬ال ميس القرآن إال من كان على طهارة من‬
‫ح إَِّال زانِيحةً [النور ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫احلدثني‪ .‬والنفي على معىن أنّه ال ينبغي ‪ ،‬كمثله يف قوله تعاىل ‪ :‬الز ِ‬
‫َّاين ال يح ْنك م‬
‫‪.]3‬‬
‫ويرى البعض فرارا من كون اجلملة خربية أ ّن (ال) انهية ‪ ،‬والضمة اليت يف (ميسه) ضمة اتباع ‪ ،‬ال‬
‫صرح الفخر الرازي «‪ »1‬بضعف هذا القول وإن روي عن ابن عطية‪ .‬ومع‬
‫ضمة إعراب ‪ ،‬وقد ّ‬
‫كون اجلملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون املراد من املطهرين املالئكة ‪ ،‬وهو مروي من ع ّدة‬
‫رب العاملني ‪ ،‬ال ميسه إال املطهرون من املالئكة ‪،‬‬
‫طرق ‪ :‬فعن قتادة أنّه قال يف اآلية ‪ :‬ذاك عند ّ‬
‫اّلل عنه‬
‫فأما عندكم فيمسه املشرك والنجس واملنافق الرجس ‪ ،‬وقد روي عن اإلمام مالك رضي ّ‬
‫‪ :‬أحسن ما مسعت يف اآلية ‪ :‬الكتاب املنزل يف السماء ال ميسه إال املطهرون‪ .‬أّنّا مبنزلة اآلية اليت‬
‫وعةٍ مطحهَّرةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صمٍ‬ ‫ِ‬
‫حف مم حك َّرحمة (‪ )13‬حم ْرفم ح م ح‬ ‫يف عبس حك َّال إِ َّّنا تحذْك حرةٌ (‪ )11‬فح حم ْن شاءح ذح حك حرهم (‪ِ )12‬يف م‬
‫(‪ِ )14‬أبحيْ ِدي حس حف حرةٍ (‪ )15‬كِر ٍام بح حرحرةٍ (‪[ )16‬عبس ‪.]16 - 11 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬اآلية صفة القرآن حقا ‪ ،‬واملراد من املطهرين اخلالون من الشرك ‪ ،‬واملراد من املس‬
‫املس مبعىن اللمس‬
‫السماءح [اجلن ‪ ]8 :‬وقد عرفت أ ّن ّ‬
‫الطلب ‪ ،‬مثله يف قوله تعاىل ‪ :‬حوأ َّحان ل ححم ْسنحا َّ‬
‫املطهرون من دنس الشرك‪.‬‬
‫‪ ،‬واملعىن ‪ :‬أن القرآن ال يطلبه للعمل به إال ّ‬
‫وأما قوله ‪ :‬تحنْ ِز ِ‬
‫ب الْعال ِحم ح‬
‫ني (‪ )80‬فهو وصف آخر للقرآن الكرمي ‪ ،‬والتنزيل مبعىن منزل‬ ‫يل م ْن حر ِّ‬
‫ٌ‬
‫أو يقال ‪ :‬وصف به أل ّن القرآن ينزل جنوما على خالف سائر الكتب‪.‬‬
‫وقد أّنينا القول يف تفسري اآلايت ‪ ،‬وهنا أشياء ال ب ّد أن نتعرض هلا ‪ ،‬ألن بعضها من األحكام‬
‫اليت أراد الفقهاء أن أيخذوها من اآلية‪ .‬وبعضها اآلخر وعدانك به ‪ ،‬وهو ما يتعلّق ابلقسم‪.‬‬
‫ولنشرع يف البعض األول ‪ ،‬وهو ما يتعلّق ابألحكام‪.‬‬
‫سهم إىل القرآن الكرمي ‪،‬‬
‫قد رأيت أثناء التفسري أ ّن من املفسرين من يريد إرجاع الضمري يف ال ميحح ُّ‬
‫وأ ّن من اآلراء يف (املطهرين) رأاي يقول ‪ :‬هم املطهرون من الناس وأ ّن طهارهتم هي الطهارة‬
‫الشرعية من احلدثني‪ .‬على هذين االعتبارين يقوم االستدالل بعض الفقهاء ابآلية على عدم مس‬
‫احملدثني للمصحف ‪ ،‬وعدم مس احملدث‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)193 /29‬‬

‫ص ‪721 :‬‬
‫للمصحف أمر يكاد جيمع عليه ‪ ،‬ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم ‪ ،‬أو التعبد عند‬
‫بعضهم ‪ ،‬وقد يكون احلكم مسلّما ال اعرتاض عليه ‪ ،‬إمنا الذي ال يسلّم هو أن يكون احلكم‬
‫ويرجح بعض العلماء أن‬
‫مأخوذا من هذه اآلية ‪ ،‬فإنّك ملست ما فيها من احتماالت كثرية ‪ ،‬بل ّ‬
‫الكتاب هو اللوح احملفوظ ‪ ،‬وأ ّن الضمري يف (ميسه) راجع إليه ‪ ،‬وأنّه حىت على فرض أن الكتاب‬
‫القرآن ‪ ،‬فليس هو املصحف ‪ ،‬بل هو املصحف الذي أبيدي املالئكة ‪ ،‬ولئن كان هو املصحف‬
‫فاملطهرون حيتمل أن يراد منهم املؤمنون ‪ ،‬ويراد من املس اإلدراك ‪ ،‬ويكون املعىن ال تفهمه إال‬
‫القلوب الطاهرة ‪ ،‬وحرام على القلوب امللوثة أن جتد نور اإلميان‪ .‬قال البخاري يف هذه اآلية ‪ :‬ال‬
‫جيد طعمه إال من آمن به‪.‬‬
‫رجح العلماء أ ّن املراد من الكتاب الكتاب الذي أبيدي املالئكة ‪ ،‬على حنو ما هو مذكور‬ ‫وقد ّ‬
‫وعةٍ مطحهَّرةٍ (‪ِ )14‬أبحي ِدي س حفرةٍ (‪ )15‬كِر ٍام ب ررةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صمٍ‬
‫حح ح‬ ‫ْ ح ح‬ ‫حف مم حك َّرحمة (‪ )13‬حم ْرفم ح م ح‬ ‫يف قوله تعاىل ‪ِ :‬يف م‬
‫يصح وصفه أبنه ال ميسه إال‬ ‫(‪[ )16‬عبس ‪ ]16 - 13 :‬والكتاب هبذا املعىن هو الذي ّ‬
‫املطهرون ‪ ،‬إذ هو أبيديهم ‪ ،‬وأما غريهم فهم ال ميسونه ‪ ،‬ألنه ليس يف متناوهلم ‪ ،‬وقد ذكروا يف‬
‫ترجيح ذلك وجوها كثرية‪.‬‬
‫منها أن اآلية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطني ‪ ،‬وأنّه يف حمل مضمون ال يصل إليه‬
‫فيمسه ّإال املطهرون ‪ ،‬وأما األخبثون من خلقه ‪ ،‬فال يصلون إليه ‪ ،‬ويكون ذلك على حد قوله‬
‫ني (‪ )210‬حوما يح ْن بحغِي حهلم ْم حوما يح ْستح ِطيعمو حن (‪[ )211‬الشعراء ‪210 :‬‬ ‫حت بِهِ َّ ِ‬
‫الشياط م‬ ‫تعاىل ‪ :‬حوما تحنح َّزل ْ‬
‫اّلل ابتغاء جميئهم به ‪ ،‬ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به ‪ ،‬وكذلك آية‬
‫‪ ]211 ،‬أفرأيت كيف نفى ّ‬
‫س حوتح حو َّىل (‪[ )1‬عبس ‪ ]1 :‬اليت أسلفنا لك ذكرها‪.‬‬
‫عحبح ح‬
‫ومن وجوه الرتجيح ‪ :‬أ ّن السورة مكية ‪ ،‬ومعلوم أ ّن القرآن يف مكة أكثر عنايته كان موجها إىل‬
‫وخباصة ما يتعلق منها مبس‬
‫ّ‬ ‫أصول الدين ‪ :‬من تقرير التوحيد ‪ ،‬واملعاد والنبوة‪ .‬وأما األحكام ‪،‬‬
‫األشياء يف تفاصيل جزئية فمر ّده إىل املدين من السور‪.‬‬
‫ومن وجوه الرتجيح ‪ :‬أن القرآن يف أول نزوله مل يكن مجع يف مصحف ‪ ،‬بل مل يكن متّ نزوال حىت‬
‫يكون الناس يف حاجة إىل بيان حكم مس املصحف ‪ ،‬نعم إنه حيتمل أن يكون خربا عما يكون‪.‬‬
‫اّلل تعاىل قال يف وصف الكتاب ‪ :‬مكْنم ٍ‬
‫ون وذلك كناية عن الصون والسرت‬ ‫ومن الوجوه أيضا ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫ح‬
‫عن األعني ‪ ،‬ال تناله أيدي البشر‪ .‬امسع قول الكليب يف تفسري اآلية ‪ ،‬قال ‪ :‬هو مكنون من‬
‫الشياطني‪ .‬وقال جماهد ‪ :‬مكنون ال يصيبه تراب وال غبار ‪ ،‬هل ترى أ ّن املصحف ال ميسه غبار ‪،‬‬
‫أم ذاك خرب عن شيء يف السماء؟ قال أبو إسحاق ‪ :‬مصون يف السماء‪.‬‬

‫ص ‪722 :‬‬
‫على أ ّن ذلك يتفق متاما مع قوله تعاىل ‪ :‬بل هو قمرآ ٌن حِجمي ٌد (‪ِ )21‬يف لحو ٍح حْحم مف ٍ‬
‫وظ (‪ )22‬ولو‬ ‫ْ‬ ‫ح ْ مح ْ‬
‫نظرت إىل أ ّن اآلية سيقت للرد على املكذبني لوجدت الذي نقول أبلغ يف الرد عليه من وصفه‬
‫أبنه ال ميسه احملدثون‪.‬‬
‫على أ ّن اآلية خرب ‪ ،‬وأتويلها على الوجه الذي ذكران يبقيها على خربيتها ‪ّ ،‬أما أتويلها على الوجه‬
‫اآلخر ‪ ،‬فيحتاج إىل إخراجها عن اخلربية إال اإلنشاء ‪ ،‬واألصل إبقاء اخلرب على خربيته حىت‬
‫يوجد املقتضى ‪ ،‬وحنن نبحث عنه فال جنده‪.‬‬
‫على أنّه لو كان املعىن ما ذهبوا إليه لقيل ‪ :‬ال ميسه إال املتطهرون بدل إال املطهرون ‪ ،‬فاملطهرون‬
‫اّلل هذا املعىن‬
‫من تكون طهارهتم من غريهم ‪ ،‬أما املتطهرون فطهارهتم مسندة إليهم ‪ ،‬وحيث أراد ّ‬
‫ني حومِحي ُّ‬
‫ب ال مْمتحطح ِّه ِر ح‬
‫ين [البقرة ‪ .]222 :‬ويف احلديث ‪« :‬اللهم‬ ‫َّوابِ ح‬ ‫اّللح مِحي ُّ‬
‫ب الت َّ‬ ‫قال فيه ‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اجعلين من التوابني واجعلين من املتطهرين» «‪.»1‬‬
‫ومن وجوه الرتجيح أنّه لو أريد به املصحف الذي أبيدينا مل يكن وصفه بكونه مكنوان ذا فائدة‬
‫كبرية ‪ ،‬إذ ما فائدة أن يقال ‪ :‬إ ّن القرآن يف مستور ‪ ،‬وكل الكتب كذلك‪.‬‬
‫تدل على أنّه‬
‫إمنا سيقت اآلية الكرمية ملدحه وتشريفه ‪ ،‬وبيان اخلصال اليت اختص هبا ‪ ،‬واليت ّ‬
‫اّلل ‪ ،‬وأنّه حمفوظ مصون ‪ ،‬ال تصل إليه الشياطني ‪ ،‬وال ميسه إال السفرة الكرام‬
‫منزل من عند ّ‬
‫الربرة‪.‬‬
‫نعم إذا كان املفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون ابآلية من وجهها الذي استدل هبا منه ابن تيمية‬
‫تدل على احلكم من ابب اإلشارة والتنبيه ‪ ،‬ألنّه‬
‫على احلكم كان حسنا ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬إ ّن اآلية ّ‬
‫ما دامت صحف القرآن يف السماء ال ميسها إال املطهرون ‪ ،‬فالصحف اليت أبيدينا كذلك ينبغي‬
‫أال ميسها إال الطاهر‪.‬‬
‫على أّنّم لو ذهبوا إىل السنة لوجدوا هبا الذين يطلبون ‪،‬‬
‫فقد روى أصحاب السنن «‪ »2‬من حديث الزهري عن أيب بكر بن حممد بن عمرو بن حزم عن‬
‫اّلل عليه وسلّم إىل أهل اليمن يف السنن‬
‫أبيه عن جده أ ّن يف الكتاب الذي كتبه النيب صلّى ّ‬
‫والفرائض والدايت ‪:‬‬
‫ميس القرآن إال طاهر»‬
‫«أال ّ‬
‫رجح العلماء صحة ما رواه ابن حبان يف «صحيحه» ومالك يف «املوطأ» مث اآلاثر بعد ذلك‬
‫وقد ّ‬
‫كثرية‪.‬‬
‫ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إىل ترجيح أحد اآلراء على غريه يف التفسري ‪ ،‬أما احلكم فنحن‬
‫نسلم به من دليله إذا كان يف غري اآلية ‪ ،‬واآلاثر عليه كثرية ‪ :‬منها ما ورد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )78 /1‬كتاب الطهارة ‪ ،‬ابب فيما يقال بعد الوضوء‬
‫‪ ،‬حديث رقم (‪.)55‬‬
‫(‪ )2‬انظر صحيح ابن حبان (‪ ، )515 - 501 /14‬وموطأ مالك حديث رقم (‪.)199‬‬

‫ص ‪723 :‬‬
‫يف حديث إسالم عمر أنّه قال ألخته ‪ :‬أعطوين الكتاب الذي تقرءون ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ال ميسه إال‬
‫ومس املصحف‪.‬‬
‫املطهرون ‪ ،‬فقام ‪ ،‬واغتسل ‪ ،‬وأسلم ّ‬
‫وعن كثري من الصحابة أّنم كانوا أيمرون أبناءهم ابلوضوء ملس املصحف‪.‬‬
‫وعن احلسن والنخعي كراهة مس املصحف على غري وضوء‪ .‬مث امسع رأي اجلصاص بعد أن نقل‬
‫اخلالف الذي عرفت آنفا ‪ ،‬قال أبو بكر «‪ : »1‬إن محل اللفظ على حقيقة اخلرب فاألوىل أن‬
‫اّلل ‪ ،‬واملطهرون املالئكة‪ .‬وإن محل على النهي وإن كان يف صورة‬
‫يكون املراد القرآن الذي عند ّ‬
‫اخلرب ‪ ،‬كان عموما فينا ‪ ،‬وهذا أوىل ‪ ،‬ملا‬
‫اّلل عليه وسلّم أنه كتب لعمرو بن حزم «و ال ميس القرآن إال طاهر»‬
‫روي عن النيب صلّى ّ‬
‫فوجب أن يكون ّنيه هذا ابآلية إذ هي حتتمله‪.‬‬
‫ولننتقل بعد ذلك للكالم يف القسم وفاء ابلذي وعدانك ‪ ،‬وسيكون كالمنا يف املوضوع من‬
‫انحيتني ‪:‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫انحية القسم من ّ‬
‫خاصة ألنه معنا ‪ ،‬ومن حقك أن تعرف وجه القسم هبا ‪ ،‬واختصاصها‬
‫وانحية مبواقع النجوم ّ‬
‫ابملوضع الذي وردت فيه‪ .‬فنقول ‪:‬‬
‫قد رأيت أول ما كتبنا أ ّان سقنا لك أنواعا من القسم الوارد يف القرآن ‪ ،‬فعرفت أنّه أقسم بذاته ‪،‬‬
‫الس ِ‬
‫ماء‬ ‫ب َّ‬ ‫وأنّه أقسم أبشياء غري الذات ‪ ،‬ومنها القرآن الكرمي ‪ ،‬وأريناك أمثاال كثرية فح حو حر ِّ‬
‫ات حوالطُّو ِر‬ ‫آن ا ْحلحكِي ِم (‪[ )2‬يس ‪ ]2 ، 1 :‬حو َّ‬
‫الصافَّ ِ‬ ‫ض [الذارايت ‪ ]23 :‬يس (‪ )1‬والْ مقر ِ‬
‫ح ْ‬ ‫حو ْاأل ْحر ِ‬
‫(‪ ) 1‬إخل ‪ ،‬وقد كان العلماء فرقتني يف قسمه بغري ذاته ‪ ،‬فمنهم من سلك طريق التأويل ‪ ،‬وصرف‬
‫العبارات عن ظاهرها ‪ ،‬فقالوا مثال يس (‪ )1‬والْ مقر ِ ِ‬
‫ورب القرآن احلكيم ‪،‬‬ ‫آن ا ْحلحكي ِم (‪ : )2‬أي ّ‬ ‫ح ْ‬
‫حوالضُّحى (‪ : )1‬ورب الضحى‪ .‬وهلم جرا‪.‬‬
‫وزعموا أن الذي محلهم على هذا التأويل أّنم ‪:‬‬
‫‪-1‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وقال ‪« :‬من كان حالفا فيحلف‬
‫اّلل عليه وسلّم ّنى عن احللف بغري ّ‬
‫قد رأوا أن النيب صلّى ّ‬
‫ابّلل أو ليذر» «‪»2‬‬
‫ّ‬
‫اّلل وجب أتويله‬
‫‪ ،‬والنهي يقتضي قبح املنهي عنه ‪ ،‬فإذا ورد يف الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغري ّ‬
‫ابّلل‪.‬‬
‫‪ ،‬ور ّده إىل أن يكون حلفا ّ‬
‫‪ - 2‬أ ّن احللف ابلشيء يقتضي أن يكون املقسم به معظما ‪ ،‬والتعظيم ال يكون إال ّّلل ‪ ،‬فوجب‬
‫أن حتمل األقسام على ذلك‪.‬‬
‫مصرحا به على هذا النحو يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫‪ - 3‬أنه قد ورد ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن لإلمام أيب بكر العريب (‪].....[ .)416 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )7 /8 - 7‬كتاب األميان ‪ ،‬ابب التشديد يف احللف حديث رقم‬
‫(‪.)3773‬‬

‫ص ‪724 :‬‬
‫س حوما حس َّواها (‪[ )7‬الشمس ‪]7 - 5 :‬‬‫ض حوما طححاها (‪ )6‬حونح ْف ٍ‬ ‫الس ِ‬
‫ماء حوما بحناها (‪ )5‬حو ْاأل ْحر ِ‬ ‫حو َّ‬
‫حيث جاء احللف ابلذات بعد احللف ابلسماء وابألرض وابلنفس ‪ ،‬فال ب ّد أن يكون القسم يف‬
‫اجلميع على هذا املعىن‪.‬‬
‫أما الفرقة األخرى من العلماء فذهبت إىل أ ّن القسم وقع أبعيان األشياء املقسم هبا ‪ ،‬وقد قالوا‬
‫يف االحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن القسم هو هبذه األشياء يف الظاهر ‪ ،‬والعدول عنه عدول عن الظاهر ‪ ،‬وال يكون إال‬
‫لدليل ‪ ،‬وما ذكرمت ال يصلح دليال ‪ ،‬ألن ما منع من العباد ال يلزم أن يكون ِمنوعا صدوره من‬
‫اّلل تعظيما لذلك الغري ‪ ،‬والعباد جيب أال يشركوا‬
‫اّلل‪ .‬إذ املانع يف حق العباد أن يف القسم بغري ّ‬
‫ّ‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬فهو إذ يعظّم ‪ ،‬فإمنا يعظّم‬
‫اّلل أحدا يف التعظيم‪ .‬وهذا املعىن غري مدرك يف جانب ّ‬
‫مع ّ‬
‫أشياء دانت له ابلربوبية ‪ ،‬وال ميكن يف العقل أن تتعاظم على من هي يف قبضة يده وبسطة‬
‫سلطانه‪.‬‬
‫يعرف الناس بعظمتها ‪ ،‬فإمنا يرشدهم إىل عظمة خالقها ‪ ،‬وأنه إذ يقسم هبا فإمنا يقسم‬
‫وهو إذا ّ‬
‫أل ّن هلا شأان بديعا ‪ ،‬ومنفعة عند العبد يدركها ‪ ،‬وينتقل من إدراك إتقان صنعها إىل أنه ال بد أن‬
‫تكون صادرة عن املدبر احلكيم ‪ ،‬اللطيف اخلبري ‪ ،‬مث هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده ‪،‬‬
‫واحللف هبا تذكري ابلنعمة لتقابل ابلشكر‪.‬‬
‫ض حوما طححاها (‪ )6‬حونح ْف ٍ‬
‫س حوما حس َّواها (‪)7‬‬ ‫الس ِ‬
‫ماء حوما بحناها (‪ )5‬حو ْاأل ْحر ِ‬ ‫‪ - 2‬إنه قال تعاىل ‪ :‬حو َّ‬
‫فأقسم ابلسماء ‪ ،‬مث عطف عليها ما بناها ‪ ،‬وذلك على طريقتكم قسم ابلباين ‪ ،‬فلو كان القسم‬
‫على تقدير مضاف لتكرر القسم يف املوضع الواحد من غري موجب ‪ ،‬إذ يصري املعىن وابين‬
‫ومسوي نفس ومسويها‪.‬‬
‫السماء وابنيها ‪ ،‬وطاحي األرض وطاحيها ‪ّ ،‬‬
‫ينزه عنه القرآن الكرمي‪.‬‬
‫ومثل هذا ّ‬
‫فتعني أن‬
‫ولو قلنا على طريقتنا إ ّن هذا قسم ابلسماء وببانيها ‪ ،‬أو ببنايتها مل يلزم هذا احملذور ‪ّ ،‬‬
‫يكون القسم قسما أبعيان هذه األشياء‪.‬‬
‫‪ - 3‬أنّه ال يبعد أن يقسم هبذه األشياء تنبيها إىل شرفها ‪ ،‬وما حوت من إبداع وإتقان ‪ ،‬ليكون‬
‫ذلك دليال على عظمة خالقها ‪ ،‬وأنّه إله واحد‪ .‬ويكون ذلك من تضافر احلجج على املدعى‬
‫الواحد ‪ ،‬فهو قسم واستدالل مبا يف املقسم به من وجوه الداللة املختلفة ‪ ،‬ومن أجل ذلك نقول‬
‫‪ :‬ال داعي إىل التأويل ‪ ،‬والقسم قسم أبعيان األشياء وحقيقتها‪.‬‬
‫وهنا سؤال يرت ّدد كثريا ‪ ،‬حاصله أن يقال ‪ :‬ما فائدة القسم؟ واملخاطب أحد رجلني ‪ :‬مؤمن‬
‫ابلقرآن ‪ ،‬ومكذب به ‪ ،‬وما كان املؤمن حمتاجا وهو مؤمن إىل قسم ‪ ،‬فهو مص ّدق من غري ميني‪.‬‬
‫وإن كان من املكذبني الذين مل تغنهم اآلايت والنذر ‪ ،‬فكيف يص ّدق جملرد القسم بعد أن مل يؤثّر‬
‫فيه الدليل؟‬

‫ص ‪ 725 :‬ويقول العلماء جوااب عن هذا ‪ :‬إ ّن هذه األميان واألقسام مل جتئ إلثبات الدعاوى ‪،‬‬
‫فالدعاوى هلا ما يثبتها ‪ ،‬وقد اقرتنت من دالئل اإلثبات مبا ال يدحض ‪ ،‬إمنا جاءت هذه األقسام‬
‫لتوكيد ما ثبت من طريق احلجة والربهان على منهاج العرب وأسلوهبم يف توكيد الكالم ابحللف ‪،‬‬
‫وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم ‪ ،‬والقرآن بلغتهم نزل‪.‬‬
‫على أننا حنيلك إىل التبصر يف كل األقسام الواردة يف القرآن ‪ ،‬وابلتأمل فيها جتدها أشياء يف‬
‫مواضعها أقسم هبا ‪ ،‬وقد حوت من الدالئل ما جيعل القسم ليس قسما يف الواقع ‪ ،‬وإمنا هو‬
‫تذكري ابلدليل الذي يشتمل عليه املقسم به ‪ ،‬فهو يذكر يف معرض القسم ‪ ،‬وهو خملوق من‬
‫املخلوقات ‪ ،‬فتتوجه النفس إىل سر القسم هبذا املخلوق متسائلة ‪ :‬ما القسم هبذا؟ وما معناه؟‬
‫وما مغزاه؟ وما سره؟ مث تتوجه من ذلك إىل ما يف القسم به ‪ ،‬ابعتبار ما ينبعث منه من بواعث‬
‫التعظيم ‪ ،‬ويكون حاصل املعىن ‪ ،‬وحق هذه األشياء اليت ينطق صنعها ووجودها ابلعظمة أ ّن‬
‫املقسم عليه حلق‪.‬‬
‫وما دمنا قد وصلنا إىل هذا فلنتكلم على القسم مبواقع النجوم ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ْسم ِمبواقِ ِع النُّ ِ‬
‫يم (‪ )76‬إِنَّهم لح مق ْرآ ٌن‬ ‫ِ‬
‫جوم (‪ )75‬حوإنَّهم لححق ح‬
‫س ٌم ل ْحو تح ْعلح ممو حن عحظ ٌ‬ ‫م‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فحال أمق ِ م ح‬ ‫يقول ّ‬
‫تاب مكْنم ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّرو حن (‪ )79‬واحلديث قبل القسم من أول‬ ‫سهم إَِّال ال مْمطحه م‬
‫ون (‪ )78‬ال ميحح ُّ‬ ‫حك ِرميٌ (‪ِ )77‬يف ك ٍ ح‬
‫ت‬ ‫سورة الواقعة يف شأن الواقعة والقيامة الكربى ‪ ،‬وما يكون فيها من أشياء جسام إِذا وقح حع ِ‬
‫ح‬
‫اّلل‬
‫ض حر ًّجا (‪ )4‬مث ذكر ّ‬ ‫ضةٌ رافِ حعةٌ (‪ )3‬إِذا ر َّج ِ‬
‫ت ْاأل ْحر م‬ ‫كاذبحةٌ (‪ )2‬خافِ ح‬ ‫الْواقِعةم (‪ )1‬ل ْحيس لِوقْعتِها ِ‬
‫م‬ ‫ح ح ح‬ ‫ح‬
‫أقسام اخللق يومئذ ‪ ،‬مث ذكر األدلة القاطعة على عموم قدرته ‪ ،‬وعلى املعاد‪ .‬فذكر النشأة األوىل‬
‫ت حوما‬ ‫َّران بح ْي نح مك مم ال حْم ْو ح‬ ‫دليال ‪ :‬أحفحرأحي تمم ما متمْنمو حن (‪ )58‬أحأحنْ تمم حختْلم مقونحهم أحم حْحنن ْ ِ‬
‫اخلال مقو حن (‪ )59‬حْحن من قحد ْ‬ ‫ْ م‬ ‫ْ‬ ‫حْ ْ‬
‫ني (‪ )60‬حعلى أح ْن نمبح ِّد حل أ ْحمثالح مك ْم حونم ْن ِشئح مك ْم ِيف ما ال تح ْعلح ممو حن (‪ )61‬حولححق ْد حعلِ ْمتم مم النَّ ْشأحةح‬ ‫حْحن من ِمبح ْسبموقِ ح‬
‫ْاألموىل فحلح ْو ال تح حذ َّك مرو حن (‪.)62‬‬
‫مث ذكر إخراج النبات من األرض ‪ ،‬وإنزال املاء من السماء‪ .‬وخلق النار ‪ ،‬وسأل الناس أحأحنْ تم ْم‬
‫ْمت حش حج حرهتحا أ ْحم حْحن من ال مْم ْن ِش مؤ حن (‪ )72‬مث ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا ‪ ،‬وأمر نبيه أن يسبّح‬ ‫شأ مْ‬
‫أحنْ ح‬
‫ابسم ربه العظيم ‪ ،‬مث أقسم مبواقع النجوم على إثبات القرآن ‪ ،‬وكرمه وصونه ‪ ،‬وحفظه ‪ ،‬وأنه‬
‫تنزيل من رب العاملني‪.‬‬
‫وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء يف املراد ابملواقع ‪ ،‬وما دام الكالم سيكون يف سر القسم هبا‬
‫نذكر شيئا ِما قيل فيها غري ما مسعت ‪:‬‬
‫اّلل عنهما أنه قال ‪ :‬النجوم آايت القرآن ‪ ،‬ومواقعها نزوهلا شيئا‬
‫فقد روي عن ابن عباس رضي ّ‬
‫بعد شيء‪ .‬وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبري ‪ ،‬ومقاتل ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬

‫ص ‪726 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬النجوم الكواكب ‪ ،‬ومواقعها مساقطها عند الغروب ‪ ،‬وهو قول أيب عبيدة ‪ ،‬وقد تقدم‬
‫قول كهذا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة ‪ ،‬وهو مروي عن احلسن‪.‬‬
‫اّلل تعاىل يقسم ابلنجوم وطلوعها ‪،‬‬
‫ويقول الذي يقول املواقع املساقط عند الغروب ‪ :‬إ ّن ّ‬
‫وجرايّنا وغروهبا ‪ ،‬إذ فيها ‪ ،‬ويف أحواهلا الثالث آية وعربة وداللة‪.‬‬
‫والنجوم مىت ذكرت يف القرآن الكرمي فاملراد منها الكواكب ‪ ،‬انظر إىل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الشمس والْ حقمر والنُّجوم مس َّخر ٍ‬ ‫وإِدابر النُّ ِ‬
‫ات [األعراف ‪ ]54 :‬ومن هنا‬ ‫جوم [الطور ‪ ]49 :‬حو َّ ْ ح ح ح ح ح م ح م ح‬ ‫حْ ح م‬
‫ميكن أن يقال ‪ -‬بل هو قد قيل ‪ :‬إ ّن املناسبة بني املقسم به وهو النجوم ومواقعها ‪ ،‬وبني املقسم‬
‫اّلل يهتدى هبا يف ظلمات الرب والبحر ‪ ،‬وآايت القرآن‬
‫عليه وهو القرآن ‪ ،‬أ ّن النجوم جعلها ّ‬
‫يهتدى هبا يف ظلمات اجلهل والغواية ‪ ،‬وتلك ظلمات حسية ‪ ،‬وهذه ظلمات معنوية ‪ ،‬تلك يؤمن‬
‫جانبها ابلنجوم ‪ ،‬وهذه تتوقى هبداية القرآن ‪ ،‬فالقسم هنا قد مجع فيه بني هدايتني‪.‬‬
‫ويتبصروا ما فيه جيدا ‪ ،‬فيعلموا أنّه هاديهم‬
‫ّ‬ ‫هداية ومنافع ‪ ،‬ليدير الناس وجوههم إىل القرآن ‪،‬‬
‫اّلل قد جعل النجوم رجوما للشياطني ‪ ،‬ويف آايت‬
‫الذي ال يضلون معه‪ .‬وال تنس كذلك أ ّن ّ‬
‫القرآن من رجوم الشياطني ما جتعل الشياطني يولّون عند مساعه ‪ ،‬وما نريد أن نرتك هذا املوضع‬
‫حىت نسمعك رأي الفخر الرازي «‪ »1‬يف هذا ‪:‬‬
‫اّلل بعد سؤال حاصله ‪ :‬هل يف القسم مبواقع النجوم خاصة فائدة؟‬
‫قال رمحه ّ‬
‫قلنا ‪ :‬نعم ‪ ،‬فائدة جليلة ‪ ،‬وبياّنا أ ّان قد ذكران أ ّن القسم مبواقعها ‪ ،‬وأن املواقع كما هي مقسم به‬
‫‪ ،‬هي من الدالئل ‪ ،‬وقد بيّناه يف الذارايت ‪ ،‬ويف الطور ‪ ،‬ويف النجم ‪ ،‬ويف غريها ‪ ،‬فنقول هي‬
‫هنا كذلك‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ملا ذكر خلق اآلدمي من املين وموته ‪ّ ،‬بني إبشارته إىل إجياد‬
‫وذلك من حيث أ ّن ّ‬
‫الضدين يف األنفس ‪ ،‬قدرته واختياره ‪ ،‬وملا كان هذا دليال من دالئل األنفس ذكر أيضا من‬
‫دالئل اآلفاق على قدرته واختياره فقال ‪ :‬أحفح حرأحيْ تم ْم ما ححتْ مرثمو حن (‪ )63‬أحفح حرأحيْ تم مم الْماءح إىل غري ذلك ‪،‬‬
‫وذكر قدرته على زرعه ‪ ،‬وجعله حطاما‪ .‬وخلقه املاء عذاب فراات ‪ ،‬وجعله أجاجا ‪ ،‬إشارة إىل أ ّن‬
‫القادر على الضدين خمتار ‪ ،‬وملا مل يكن قد ذكر من الدالئل السماوية شيئا ‪ ،‬ذكر الدليل‬
‫كل‬ ‫السماوي يف معرض القسم ‪ ،‬وقال ‪ِ :‬مبواقِ ِع الن ِ‬
‫ُّجوم فإّنا أيضا دليل االختيار ‪ ،‬أل ّن كون ّ‬
‫م‬ ‫ح‬
‫واحد يف موضع من السماء دون غريه من املواضع مع استواء املواضع يف احلقيقة دليل على أ ّن‬
‫الفاعل خمتار‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتابه مفاتيح الغيب واملعروف أيضا ابلتفسري الكبري (‪.)188 /29‬‬

‫ص ‪727 :‬‬
‫وم ليشري إىل الرباهني النفسية واآلفاقية ابلذكر ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪:‬‬ ‫ِمبواقِ ِع النُّج ِ‬
‫م‬ ‫ح‬
‫ض ٌِ‬
‫ْموقِنِ ح‬
‫ني‬ ‫آايت لل م‬ ‫فاق حوِيف أحنْ مف ِس ِه ْم [فصلت ‪ ]53 :‬وهذا كقوله ‪ :‬حوِيف ْاأل ْحر ِ‬ ‫سنم ِري ِهم آايتِنا ِيف ْاآل ِ‬
‫ح ْ‬
‫صرو حن (‪ )21‬وِيف َّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وع مدو حن (‪[ )22‬الذارايت ‪:‬‬ ‫السماء ِر ْزقم مك ْم حوما تم ح‬ ‫ح‬ ‫(‪ )20‬حوِيف أحنْ مفس مك ْم أحفحال تم ْب م‬
‫‪ ]22 - 20‬حيث مجع بني األنواع الثالثة كذلك هنا اه‪.‬‬
‫وهو مجيل كما ترى ‪ ،‬غري أ ّن للباحث أن يقول ‪ :‬ظاهر كالم الفخر أ ّن القسم مبواقع النجوم‬
‫إلثبات القدرة واالختيار لفاعل خمتار ‪ ،‬لكن اآلية تقول ‪ :‬إِنَّهم لحمق ْرآ ٌن حك ِرميٌ (‪ )77‬وظاهر ذلك أ ّن‬
‫املراد إثباته هو هذا الذي سيق مساق املقسم عليه ‪ ،‬فمن أين إثبات القدرة والفاعل املختار يف‬
‫القسم مبواقع النجوم؟‬
‫ويف النفس من كالم الفخر روعة ‪ ،‬ومن آاثرها أن نقول ‪ :‬إ ّن هذا استدالل على القدرة والفعل‬
‫من طريق القسم على القرآن وكرمه وصونه ‪ ،‬وأنّه تنزيل من رب العاملني مبواقع النجوم من طريق‬
‫أبلغ ‪ ،‬وكأنّه بعد أن سيقت الدالئل السابقة ‪ ،‬واليت كان ختامها القسم مبواقع النجوم ‪ ،‬وذكرت‬
‫وتعرفوا نتائجها ‪ ،‬واذكروا معها مواقع النجوم ‪،‬‬
‫يف القرآن كأنه قيل ‪ :‬اذكروا هذه الدالئل ‪ّ ،‬‬
‫وتعرفوا نتيجة االستدالل هبا ‪ ،‬تعلموا أ ّن القرآن ‪ -‬الذي جاء هبذا ‪ -‬كرمي ‪ ،‬وأنّه مصون ‪ ،‬وأنّه‬ ‫ّ‬
‫تنزيل من رب العاملني‪.‬‬
‫وقبل أن خنتم املوضوع نقول ‪ :‬إ ّن قوله تعاىل ‪ :‬تح ْن ِز ِ‬
‫ب الْعال ِحم ح‬
‫ني (‪ )80‬توكيد ملا قبله ‪،‬‬ ‫يل م ْن حر ِّ‬
‫ٌ‬
‫وتقرير له‪ .‬وكما أنّه الزم لكونه قرآان كرميا هبذا يف كتاب مكنون ‪ ،‬فهو ملزوم له ‪ ،‬فهو دليل وهو‬
‫مدلول ‪ ،‬وكفى هذا خامتة للموضوع‪.‬‬

‫ص ‪728 :‬‬
‫من سورة اجملادلة‬
‫اوحرمكما إِ َّن‬ ‫اّللِ حو َّ‬
‫اّللم يح ْس حم مع ححت م‬ ‫مك ِيف حزْو ِجها حوتح ْشتحكِي إِ حىل َّ‬ ‫اّلل قحو حل الَِّيت مجت ِ‬
‫ادل ح‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬قح ْد حمس حع َّم ْ‬
‫قال ّ‬
‫صريٌ (‪)1‬‬ ‫يع ب ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اّللح حمس ٌ ح‬
‫ثبت يف السنن واملسانيد «‪»1‬‬
‫علي‬
‫أ ّن أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك يف شيء راجعته فيه ‪ :‬أنت ّ‬
‫كظهر ّأمي وكان الرجل يف اجلاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه ‪ ،‬فندم من ساعته ‪،‬‬
‫إيل وقد قلت ما قلت حىت حيكم‬
‫فدعاها ‪ ،‬فأبت ‪ ،‬وقالت ‪ :‬والذي نفس خولة بيده ‪ ،‬ال تصل ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل عليه وسلّم فقالت ‪ :‬اي رسول ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فأتت رسول ّ‬
‫اّلل ورسوله صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫سين ‪ ،‬ونثرت بطين ‪ ،‬جعلين عليه كأمه ‪،‬‬
‫يف ‪ ،‬فلما خال ّ‬
‫تزوجين وأان شابة مرغوب ّ‬
‫إ ّن أوسا ّ‬
‫اّلل تنعشين هبا وإايه فحدثين هبا ‪ ،‬فقال‬
‫وتركين إىل غري أحد ‪ ،‬فإن كنت جتد يل رخصة اي رسول ّ‬
‫عليه الصالة والسالم ‪:‬‬
‫«ما أمرت يف شأنك بشيء حىت اآلن» ويف رواية ‪« :‬ما أراك إال قد حرمت عليه»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم مرارا ‪ ،‬مث قالت ‪ :‬اللهم إين‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫قالت ‪ :‬ما ذكر طالقا ‪ ،‬وجادلت رسول ّ‬
‫أشكو إليك فاقيت ‪ ،‬وش ّدة حايل ‪ ،‬وروي أّنا قالت ‪ :‬إ ّن يل صبية صغارا ‪ ،‬إن ضممتهم إليه‬
‫إيل جاعوا ‪ ،‬وجعلت ترفع رأسها إىل السماء ‪ ،‬وتقول ‪ :‬اللهم إين أشكو‬
‫ضاعوا ‪ ،‬وإن ضممتهم ّ‬
‫إليك ‪ ،‬اللهم فأنزل على لسان نبيك ‪ ،‬وما برحت حىت نزل القرآن فيها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اي خولة أبشري» قالت ‪ :‬خريا ‪ ،‬فقرأ عليه الصالة والسالم عليها‬ ‫فقال صلّى ّ‬
‫مك ِيف حزْو ِجها‪.‬‬ ‫اّلل قحو حل الَِّيت مجت ِ‬ ‫ِ‬
‫ادل ح‬ ‫‪ :‬قح ْد حمس حع َّم ْ‬
‫قال النحاة ‪ :‬إ ّن قد الداخلة على املاضي ال ب ّد فيها من معىن التوقع ‪ ،‬يعنون أنه ال يقال ‪ :‬قد‬
‫فعل إال ملن ينتظر الفعل ‪ ،‬أو يسأل عنه ‪ ،‬ولذلك قال سيبويه ‪ :‬وأما قد فجواب هل فعل ‪ ،‬أل ّن‬
‫السائل ينتظر اجلواب ‪ ،‬وقال اخلليل ‪ :‬هذا الكالم لقوم ينتظرون اخلرب ‪ ،‬يريد أ ّن اإلنسان إذا‬
‫سئل عن فعل ‪ ،‬أو علم أ ّن احمل ّدث يتوقع أن خيرب به قال ‪ :‬قد فعل‪ .‬وإذا كان املخرب مبتدائ قال‬
‫‪ :‬فعل كذا وكذا‪.‬‬
‫مك ِيف‬ ‫اّلل قحو حل الَِّيت مجت ِ‬ ‫ِ‬
‫ادل ح‬ ‫و(قد) هنا فيها معىن التوقع ‪ ،‬فإ ّن السماع يف قوله تعاىل ‪ :‬قح ْد حمس حع َّم ْ‬
‫حزْو ِجها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )241 /2‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب الظهار حديث رقم (‪.)2214‬‬

‫ص ‪729 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم كان يتوقع أن‬
‫شك أن النيب صلّى ّ‬
‫جماز عن القبول واإلجابة بعالقة السببية‪ .‬وال ّ‬
‫ويفرج كرهبا‪.‬‬
‫اّلل دعاءها ّ‬ ‫جييب ّ‬
‫اّللِ الشكوى أن خترب عن‬
‫مك ِيف حزْو ِجها أي تراجعك الكالم يف شأن زوجها حوتح ْشتحكِي إِ حىل َّ‬ ‫مجت ِ‬
‫ادل ح‬
‫مكروه أصابك ‪ ،‬وهي من الشكو ‪ ،‬وأصله فتح الشكوة ‪ ،‬وإظهار ما فيها ‪ ،‬والشكوة وعاء‬
‫كالدلو ‪ ،‬أو القربة الصغرية ‪ ،‬يتخذ للماء واللنب ونقع الزبيب والتمر ‪ ،‬مث شاع استعمال‬
‫البث ‪ ،‬وما انطوت عليه النفس من املكروه‪.‬‬
‫الشكوى يف إظهار ّ‬
‫اوحرمكما السمع هنا على حقيقته املعروفة ‪ ،‬وهي أنّه صفة يدرك هبا األصوات ‪ ،‬غري‬ ‫حو َّ‬
‫اّللم يح ْس حم مع ححت م‬
‫صفة العلم ‪ ،‬أو أنه نوع من اإلدراك يرجع إىل صفة العلم‪ .‬والتحاور ‪:‬‬
‫املرا ّدة يف الكالم ‪ ،‬وهو قريب من معىن اجملادلة‪.‬‬
‫يع ب ِ‬
‫صريٌ أي أنه تعاىل يسمع كل املسموعات ‪ ،‬ويبصر كل املبصرات ‪ ،‬على أمت وجه‬ ‫إِ َّن َّ ِ‬
‫اّللح حمس ٌ ح‬
‫وأكمله ‪ ،‬ومن الزم ذلك أن يسمع حتاورمها ‪ ،‬ويبصر هيئة اجملادلة حني رفعت رأسها إىل السماء‬
‫مبتهلة ضارعة‪.‬‬
‫اّلل عنها ‪ :‬احلمد ّّلل الذي وسع مسعه األصوات ‪ ،‬لقد جاءت خولة بنت‬
‫قالت عائشة رضي ّ‬
‫علي بعض كالمها ‪،‬‬ ‫اّلل عليه وسلّم وأان يف كسر البيت خيفى ّ‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫ثعلبة تشكو إىل رسول ّ‬
‫اوحرمكما‬ ‫اّللِ حو َّ‬
‫اّللم يح ْس حم مع ححت م‬ ‫مك ِيف حزْو ِجها حوتح ْشتحكِي إِ حىل َّ‬ ‫اّلل قحو حل الَِّيت مجت ِ‬
‫ادل ح‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬قح ْد حمس حع َّم ْ‬
‫فأنزل ّ‬
‫صريٌ (‪ )1‬أخرجه البخاري والنسائي «‪.»1‬‬ ‫يع ب ِ‬ ‫إِ َّن َّ ِ‬
‫اّللح حمس ٌ ح‬
‫ظاه مرو حن ِم ْن مك ْم ِم ْن نِسائِ ِه ْم ما مه َّن أ َّممهاهتِِ ْم إِ ْن أ َّممها مهتم ْم إَِّال َّ‬
‫الالئِي حولح ْد حّنم ْم‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬الَّ ِذين ي ِ‬
‫حم‬ ‫قال ّ‬
‫ور (‪ )2‬الظهار لغة مصدر ظاهر ‪ ،‬مفاعلة‪.‬‬ ‫حوإِ َّّنم ْم لحيح مقولمو حن مم ْن حكراً ِم حن الْ حق ْو ِل حو مزوراً حوإِ َّن َّ‬
‫اّللح ل ححع مف ٌّو غح مف ٌ‬
‫يقال ‪ :‬ظاهر زيد عمرا ‪ ،‬إذا قابل ظهره بظهره حقيقة ‪ ،‬وظاهره غايظه ‪ ،‬وإن مل يكن هناك تقابل‬
‫قوى ظهره‬
‫حقيقة ‪ ،‬ابعتبار أ ّن املغايظة تقتضي هذه املقابلة ‪ ،‬وظاهره ‪ :‬انصره ابعتبار أنّه يقال ّ‬
‫إذا نصره ‪ ،‬وظاهر بني ثوبني إذا لبس أحدمها فوق اآلخر ‪ ،‬ابعتبار ما يلي به كل منهما اآلخر‬
‫ظهر الثوب‪ .‬وظاهر من امرأته قال هلا ‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ .‬وكان ذلك طالقا يف اجلاهلية كما‬
‫تقدم ‪ ،‬وقال بعض العلماء ‪ :‬وكان طالقا أيضا يف ّأول اإلسالم ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف الرواية السابقة ‪« :‬ما أراك إال قد حرمت عليه»‬
‫لقوله صلّى ّ‬
‫‪ .‬وحكى بعضهم أنّه كان طالقا يوجب حرمة مؤبدة ال رجعة فيه‪ .‬وقيل ‪ :‬مل يكن طالقا من كل‬
‫وجه ‪ ،‬بل كانت الزوجة تبقى معلقة ‪ ،‬ال ذات زوج ‪،‬‬
‫__________‬
‫اّلل حِمسيعاً ب ِ‬
‫صرياً‬ ‫ح‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ - 98 ، )212 /8‬كتاب التوحيد ‪ - 9 ،‬ابب حوكا حن َّم‬
‫والنسائي كتاب الطالق ‪ ،‬ابب الظهار حديث رقم (‪.)3460‬‬

‫ص ‪730 :‬‬
‫وال خلية تنكح غريه ‪ ،‬وكان الظاهر أن يقال ‪ :‬ظاهر زوجته ‪ ،‬كما يقال طلق زوجته ‪ ،‬إال أنّه‬
‫لتضمنه معىن التبعيد ع ّدي مبن‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬ما مه َّن أ َّممهاهتِِ ْم ليس خرب املبتدأ ‪ ،‬إمنا هو دليله ‪ ،‬واخلرب حمذوف ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬الذين‬
‫يظاهرون من نسائهم خمطئون ‪ ،‬لسن أمهاهتم ‪ ،‬ما أمهاهتم على احلقيقة إال الالئي ولدّنم ‪ ،‬فال‬
‫اّلل هبن‪.‬‬
‫يشبّه هبن يف احلرمة إال من أحلقها ّ‬
‫حوإِ َّّنم ْم لحيح مقولمو حن مم ْن حكراً ِم حن الْ حق ْو ِل حو مزوراً وصف ّ‬
‫اّلل الظهار أبنه منكر وزور ‪ ،‬ابعتبار أ ّن قول الرجل‬
‫يتضمن إخبارا وإنشاء ‪ ،‬فاألول من جهة إخباره أبّنا تشبه أمه ‪،‬‬
‫علي كظهر أمي) ّ‬ ‫المرأته (أنت ّ‬
‫والثاين من جهة أنه أنشأ طالقها وحترميها ‪ ،‬فهو خرب زور ‪ ،‬وإنشاء منكر ‪ ،‬ينكره الشرع ‪ ،‬وال‬
‫يعرفه‪.‬‬
‫ور كثري العفو واملغفرة ‪ ،‬فيغفر هلم ما سلف من الظهار ‪ ،‬ويعفو عمن ارتكبه إذا‬ ‫حوإِ َّن َّ‬
‫اّللح ل ححع مف ٌّو غح مف ٌ‬
‫اتب‪.‬‬
‫علي كظهر أمي مل‬ ‫ِ‬
‫متسك املالكية بظاهر قوله تعاىل ‪ :‬منْ مك ْم يف أ ّن الذمي إذا قال لزوجته أنت ّ‬ ‫ّ‬
‫يعترب ذلك ظهارا ‪ ،‬ومل ترتتب عليه أحكام‪ .‬وهذا هو املنقول عن احلنابلة ‪ ،‬وهو املعول عليه عند‬
‫احلنفية ‪ ،‬إال أ ّن احلنفية مل يستدلوا عليه مبفهوم قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن مك ْم ‪ ،‬بل حجتهم يف ذلك أ ّن‬
‫الذمي ليس من أهل الك ّفارة‪.‬‬
‫يصح ظهار الذمي وترتتب عليه‬
‫وقال الشافعية كما يصح طالق الذمي وترتتب عليه أحكامه ‪ّ ،‬‬
‫أحكامه ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن مك ْم إ ّمنا ذكر للتصوير والتهجني ‪ ،‬ألن الظهار كان خمصوصا ابلعرب ‪،‬‬
‫فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي‪.‬‬
‫واعرتض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشرتاطهم النية يف الكفارة خبصاهلا الثالث واإلميان‬
‫يف الرقبة‪ .‬والذمي ليس من أهل النية ‪ ،‬ويتع ّذر ملكه للرقبة املؤمنة‪.‬‬
‫وأجابوا عن ذلك أب ّن خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم ‪ ،‬ومنها ما هو من‬
‫قبيل الغرامات وهو العتق واإلطعام ‪ ،‬والنية فيما كان من قبيل الغرامات إ ّمنا هي للتمييز ‪ ،‬فال‬
‫يشرتط فيها اإلسالم ‪ ،‬كما يف قضاء الديون‪ .‬فالذمي يك ّفر ابإلعتاق واإلطعام ‪ ،‬وال يك ّفر‬
‫ابلصوم ‪ ،‬ألنه ال يصح منه ‪ ،‬كما أ ّن العبد املظاهر ال يك ّفر بغري الصوم ‪ ،‬ألنه ال ميلك‪ .‬ويتصور‬
‫ملك الذمي للعبد املسلم إبسالم قنّه ‪ ،‬أو بقوله ملسلم ‪ :‬أعتق عبدك عن كفاريت فيجيبه ‪ ،‬فإن مل‬
‫ميكنه شيء من ذلك وهو موسر ‪ ،‬منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة املسلمة ‪ ،‬أبن يسلم‬
‫فيشرتيها ‪ ،‬وكذلك ال ينتقل من الصوم إىل اإلطعام لقدرته عليه ابإلسالم‪ .‬فإن عجز عن الصوم‬
‫لكرب وحنوه انتقل إىل اإلطعام ‪ ،‬ونوى للتمييز أيضا‪.‬‬

‫ص ‪731 :‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬لفظ النساء املضاف إىل الرجال حقيقة يف الزوجات دون اإلماء ‪ ،‬أل ّن املتبادر من‬
‫كلمة نساء الرجل إمنا هو زوجاته دون إمائه ‪ ،‬فال يقال فيهن نساؤه ‪ ،‬إمنا يقال جواريه وإماؤه‬
‫وسراريه‪ .‬والتبادر من أمارات احلقيقة ‪ ،‬وحينئذ يكون ظاهر قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن نِسائِ ِه ْم أ ّن الظهار‬
‫إمنا يكون يف الزوجات ‪ ،‬فلو قال ألمته ‪:‬‬
‫علي كظهر أمي ‪ ،‬مل يعترب ذلك ظهارا ‪ ،‬ومل ترتتب عليه أحكام‬
‫املوطوءة ‪ ،‬أو غري املوطوءة ‪ :‬أنت ّ‬
‫اّلل عنهم ‪ ،‬وإليه ذهب احلنفية ‪،‬‬
‫الظهار ‪ ،‬وهو منقول عن كثري من الصحابة والتابعني رضي ّ‬
‫والشافعية ‪ ،‬واحلنابلة‪.‬‬
‫وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار يف األمة مطلقا‪.‬‬
‫وعن سعيد بن جبري وعكرمة وطاوس والزهري صحته يف األمة املوطوءة ‪ ،‬ذهبوا إىل التعميم يف‬
‫جوِرمك ْم ِم ْن نِسائِ مك مم [النساء ‪:‬‬ ‫عم قوله تعاىل ‪ :‬حوحرابئِبم مك مم َّ‬
‫الالِيت ِيف مح م‬
‫ِ ِ ِ‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬م ْن نسائ ِه ْم كما ّ‬
‫حرم بنت الزوجة‪.‬‬ ‫فحرم بنت األمة كما ّ‬ ‫‪ ]23‬الزوجات واإلماء ‪ّ ،‬‬
‫ظاه مرو حن ِمنْ مك ْم ِم ْن نِسائِ ِه ْم أنه ليس للنساء ظهار ‪ ،‬فلو ظاهرت‬
‫واقتضى قوله تعاىل ‪ :‬الَّ ِذين ي ِ‬
‫حم‬
‫امرأة من زوجها مل يلزمها شي ء ‪ ،‬وهو متفق عليه بني األئمة األربعة ‪ ،‬وقال أبو بكر بن العريب ‪:‬‬
‫وهو صحيح معىن ‪ ،‬أل ّن احلل والعقد والتحليل والتحرمي يف النكاح بيد الرجال ‪ ،‬ليس بيد املرأة‬
‫منه شيء‪.‬‬
‫ونقل أبو حيان عن احلسن بن زايد أّنّا تكون مظاهرة ‪ ،‬ويلزمها التكفري قبل التماس‪.‬‬
‫وعن األوزاعي وعطاء وإسحاق أ ّن عليها كفارة ميني ‪ ،‬وعن الزهري ‪ :‬أّنا تك ّفر كفارة الظهار ‪،‬‬
‫وال حيول قوهلا هذا بينها وبني زوجها أن يصيبها‪.‬‬
‫ظاه مرو حن ِمنْ مك ْم ِم ْن نِسائِ ِه ْم صحة ظهار‬
‫وكذلك اقتضى عموم املوصول يف قوله تعاىل ‪ :‬الَّ ِذين ي ِ‬
‫حم‬
‫العبد من زوجته ‪ ،‬أل ّن أحكام النكاح يف حقه اثبتة‪ .‬وإن تع ّذر عليه العتق واإلطعام ‪ ،‬فإنه قادر‬
‫على الصيام‪ .‬وحكى الثعليب عن مالك أنّه ال يصح ظهار العبد‪.‬‬
‫املعول عند املالكية هو صحة ظهاره‪.‬‬ ‫ولكن الذي عليه ّ‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫ويؤخذ من قوله تعاىل ‪ :‬حوإِ َّّنم ْم لحيح مقولمو حن ممنْ حكراً م حن الْ حق ْو ِل حو مزوراً أ ّن الظهار حرام ‪ ،‬بل اعتمد فقهاء‬
‫اّلل تعاىل وتبديله دون إذنه‬
‫الشافعية القول أبنه كبرية ‪ ،‬أل ّن فيه اإلقدام على إحالة حكم ّ‬
‫اّلل أبنه منكر من القول وزور يعترب كاذاب‬ ‫سبحانه‪ .‬وأل ّن من أقدم على الظهار بعد أن أخرب ّ‬
‫معاندا للشرع ‪ ،‬فمن مثّ كان كبرية‪.‬‬
‫ظاه مرو حن ِم ْن نِسائِ ِه ْم ممثَّ يحعمودمو حن لِما قالموا فحتح ْح ِر مير حرقحبحةٍ ِم ْن قح ْب ِل أح ْن‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬والَّ ِذين ي ِ‬
‫ح حم‬ ‫قال ّ‬
‫اسا‬
‫يحتح حم َّ‬

‫ص ‪732 :‬‬
‫ني ِم ْن قح ْب ِل أح ْن‬ ‫ِ‬
‫اّللم ِمبا تح ْع حملمو حن حخبِريٌ (‪ )3‬فح حم ْن حملْ حِجي ْد فحص م‬
‫يام حش ْه حريْ ِن ممتحتابِ حع ْ ِ‬ ‫ذلِ مك ْم تم ح‬
‫وعظمو حن بِهِ حو َّ‬
‫ود ا َّّللِ‬
‫ْك مح مد م‬ ‫ك لِتم ْؤِمنموا ِاب َّّللِ حوحر مسولِهِ حوتِل ح‬
‫ني ِم ْسكِيناً ذلِ ح‬
‫ْعام ِستِّ ح‬
‫ِ‬
‫اسا فح حم ْن حملْ يح ْستحط ْع فحِإط م‬
‫يحتح حم َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم (‪)4‬‬ ‫ذاب أحل ٌ‬
‫ين حع ٌ‬ ‫حوللْكاف ِر ح‬
‫اّلل الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود ‪ ،‬وقد اختلف أهل التأويل يف العود ما هو؟‬
‫رتب ّ‬
‫فحكى عن جماهد أ ّن الظهار يف اإلسالم عود إىل ما كان عليه أهل اجلاهلية ‪ ،‬ومعىن اآلية عنده ‪:‬‬
‫والذين كان من عادهتم أن يظاهروا من نسائهم ‪ ،‬فقطعوا ذلك ابإلسالم ‪ ،‬مث يعودون ملثله ‪ ،‬فعلى‬
‫من عاد منهم حترير رقبة من قبل أن يتماسا ‪ ..‬إخل فالكفارة جتب بنفس الظهار يف اإلسالم‪ .‬وقد‬
‫البيت‪.‬‬
‫روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان ّ‬
‫وقال أبو العالية وأهل الظاهر ‪ :‬العود تكرار لفظ الظهار وإعادته ‪ ،‬فال تلزم الكفارة إال إذا أعاد‬
‫لفظ الظهار‪.‬‬
‫فأصح الرواايت عن أيب حنيفة أ ّن العود هو العزم على‬
‫ّ‬ ‫واختلفت الرواايت عن األئمة األربعة ‪،‬‬
‫الوطء‪.‬‬
‫اجلالب عن مالك روايتني ‪ :‬أوالمها ‪ :‬أنه العزم على الوطء‪ .‬واثنيتهما ‪ :‬أنه العزم على‬
‫وروى ابن ّ‬
‫اإلمساك‪ .‬وابن العريب ينقل عن «املوطأ» أنه العزم عليهما معا‪.‬‬
‫ودو حن لِما قالموا قال ‪ :‬هو الغشيان إذا أراد أن يغشى ك ّفر‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد يف قوله تعاىل ‪ :‬ممثَّ يحعم م‬
‫اه‪.‬‬
‫ودو حن لِما قالموا أ ّن املظاهر حرم مس امرأته ابلظهار‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬الذي عقلت ِما مسعت يف يحعم م‬
‫حيرم به ‪ ،‬وال شيء‬
‫حيرمها ابلطالق الذي ّ‬
‫‪ ،‬فإذا أتت على املظاهر مدة بعد القول ابلظهار ومل ّ‬
‫يكون له خمرج من أن حترم عليه به ‪ ،‬فقد وجب عليه كفارة الظهار ‪ ،‬كأّنم يذهبون إىل أنه إذا‬
‫حرم ‪ ،‬وال أعلم له معىن أوىل به من‬
‫حرم على نفسه عاد ملا قال فخالفه ‪ ،‬فأحل ما ّ‬
‫أمسك ما ّ‬
‫هذا‪.‬‬
‫ولكن العود عندهم هو‬
‫فأما جماهد ومن يرى رأيه ‪ ،‬فلم خيف عليهم أ ّن العود شرط يف الكفارة ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ال عود إىل ما كان عليه أهل اجلاهلية من املظاهرة من الزوجات ‪ ،‬وهكذا استعملوا العود يف معناه‬
‫عاد فحي ْن ت ِقم َّ ِ‬ ‫اّلل تعاىل يف جزاء الصيد ‪ :‬حع حفا َّ‬
‫اّللم م ْنهم‬ ‫ف حوحم ْن ح ح ح م‬
‫اّللم حع َّما حسلح ح‬ ‫احلقيقي ‪ ،‬كما قال ّ‬
‫[املائدة ‪ ]95 :‬أي ومن عاد لالصطياد بعد نزول حترميه ‪ ،‬وكما قال تعاىل ‪ :‬حعسى حربُّ مك ْم أح ْن‬
‫يح ْر حمحح مك ْم حوإِ ْن عم ْد مْمت عم ْدان [اإلسراء ‪ ]8 :‬أي وإن عدمت إىل الذنب عدان إىل العقوبة ‪ ،‬وقد أخرب‬
‫منهي عنه ‪ ،‬والعود إىل املنهي عنه فعله بعد النهي‬
‫اّلل عن الظهار أنه منكر وزور ‪ ،‬فهو معصية ّ‬
‫ّ‬
‫عنه‪.‬‬

‫ص ‪ 733 :‬وال خيفى أ ّن محل الكالم على أتويل جماهد ومن يرى رأيه خروج ابآلية عن مقتضى‬
‫الدال على االستمرار يحظ حْه مرو حن مبعىن‬
‫الفصاحة ‪ ،‬وتفكيك لنظمها‪ .‬فإّنّم جعلوا الفعل املستقبل ّ‬
‫املاضي املنقطع‪ .‬وجعلوا العائد غري املظاهر ‪ ،‬إذ املظاهرون على رأيهم أهل اجلاهلية ‪ ،‬والعائدون‬
‫أهل اإلسالم ‪ ،‬فإذا ساغ فهم ذلك يف رجل ظاهر يف اجلاهلية ‪ ،‬مثّ ظاهر يف اإلسالم ‪ ،‬فكيف‬
‫يسوغ يف رجل مل يظاهر يف اجلاهلية ‪ ،‬أو مل يدرك اجلاهلية أصال؟‬
‫ومعلوم أ ّن مساق اآلية لبيان حكم املظاهر يف اإلسالم ‪ ،‬وعليه ينطبق سبب النزول ‪ ،‬وأيضا فإ ّن‬
‫اّلل عليه وسلّم أمر أوس بن الصامت ابلك ّفارة ‪ ،‬ومل يسأله أظاهر يف اجلاهلية أم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫رسول ّ‬
‫ال؟‬
‫وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم أب ّن الذي يعقل من لغة العرب يف العود إىل‬
‫حعادوا لِما مّنموا حع ْنهم [األنعام ‪:‬‬
‫مرة اثنية ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ :‬حول ْحو مردُّوا ل م‬ ‫الشيء إمنا هو فعل مثله ّ‬
‫‪ ]28‬والفعل مع ّدى ابلالم كآية الظهار سواء بسواء ‪ ،‬واتفق أهل التأويل على أن عودهم ملا ّنوا‬
‫عنه هو إتياّنم مرة اثنية مبثل ما أتوا به أول مرة‪.‬‬
‫َّجوى ممثَّ يحعمودمو حن لِما مّنموا عحنْهم وهو يف سورة‬ ‫ِ‬
‫وكذلك قوله تعاىل ‪ :‬أححملْ تح حر إِ حىل الَّذ ح‬
‫ين مّنموا عح ِن الن ْ‬
‫اجملادلة بعد ذكر الظهار آبايت ‪ ،‬والعهد قريب‪.‬‬
‫اّلل عنها أ ّن أوس بن الصامت كان به‬
‫أصح خرب يف الظهار حديث عائشة رضي ّ‬
‫وقالوا أيضا ‪ّ :‬‬
‫اّلل فيه ك ّفارة الظهار‪ .‬فهذا احلديث‬
‫ملم ‪ ،‬فكان إذا اشتد به ملمه ظاهر من زوجته ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫يقتضي التكرار‪.‬‬
‫وقالوا أيضا ‪ :‬فما عدا تكرار اللفظ ‪ :‬إما إمساك وإما عزم وإمنا فعل ‪ ،‬وليس واحد منها عودا ملا‬
‫قال ‪ ،‬فال يكون اإلتيان به عودا ‪ ،‬ال لفظا وال معىن‪.‬‬
‫وأجاب اجلمهور عن ذلك أب ّن هذا الرأي يقتضي أ ّن الظهار أول مرة ال يرتتب عليه كفارة ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وكذلك مل يسأل‬
‫وقصة خولة تدفعه ‪ ،‬ألنّه مل ينقل التكرار ‪ ،‬وال سأل عنه صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم سلمة بن صخر حني ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة ‪ :‬أهذا ظهار‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫مكرر ‪ ،‬أم هو أول ظهار؟‬
‫ّ‬
‫أصحه ‪ ،‬وما أبعد داللته على ما قالوا ‪ ،‬فإ ّن غاية ما أفاده أن أوس بن‬
‫وأما حديث عائشة فما ّ‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬‫الصامت ظاهر من زوجته مرات كثرية ‪ ،‬وأن زوجته جاءت آخر مرة جتادل رسول ّ‬
‫اّلل حترمي الظهار ‪ ،‬ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس ‪،‬‬ ‫اّلل ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫عليه وسلّم وتشتكي إىل ّ‬
‫فكان الذي أخذ هذا احلكم هو املرة األخرية ‪ ،‬وأما ما قبلها من مرات املظاهرة فإّنّا لغو ال‬
‫حكم هلا ‪ ،‬أو أّنا كما يف بعض اآلراء كانت طالقا‪.‬‬
‫أما األئمة األربعة وأكثر اجملتهدين فلم خيف عليهم أ ّن الظاهر من قوله تعاىل ‪:‬‬

‫ص ‪734 :‬‬
‫ودو حن لِما قالموا أّنّم يكررون ما قالوا ‪ّ ،‬إال أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار مل ينقل يف‬
‫ممثَّ يحعم م‬
‫اّلل عليه وسلّم مل يسأل‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫قصة خولة وزوجها أوس ‪ ،‬وال يف قصة سلمة بن صخر ‪ ،‬وأ ّن ّ‬
‫أوسا وال سلمة عنه‪.‬‬
‫وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل ‪( :‬عاد ملا فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى ‪ ،‬وهذا ظاهر‪.‬‬
‫وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه‪ .‬أل ّن التصرف يف الشيء بنقضه وتداركه ال ميكن إال‬
‫اب لعود إليه ‪ ،‬فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم ‪ ،‬وجب املصري إىل املعىن الثاين وهو‬
‫النقض والتدارك‪.‬‬
‫إال أ ّن األئمة خمتلفون يف العمل الذي ينقضه املظاهر ويتداركه ‪ ،‬فريى غري الشافعي أ ّن الظهار‬
‫يوجب حترميا للزوجة ال يرفعه إال الكفارة ‪ ،‬فالذي يريد املظاهر نقضه وتداركه هو حترميها عليه ‪،‬‬
‫ونقض ذلك التحرمي وتداركه إمنا يكون بوطئها ‪ ،‬أو ابلعزم على وطئها ‪ ،‬أو ابستباحة وطئها ‪،‬‬
‫على خالف بينهم تقدم بيانه‪.‬‬
‫ويرى الشافعي أ ّن كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة ابألم ‪ ،‬وهذا التشبيه يقتضي فراقها ‪ ،‬فالذي‬
‫يريد املظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها ‪ ،‬فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ومل يفارق‬
‫صار انقضا ملقتضى ما قال راجعا عنه‪ .‬وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد‪.‬‬
‫انصة على وجوب الكفارة قبل الوطء ‪ ،‬فيكون‬
‫واعرتض القول أبن العود هو الوطء أب ّن اآلية ّ‬
‫العود سابقا عليه ‪ ،‬فكيف يكون هو الوطء؟‬
‫وأجاب بعض من يرى هذا الرأي أب ّن املراد من قوله تعاىل ‪ :‬فحتح ْح ِر مير حرقحبحةٍ ِم ْن قح ْب ِل أح ْن يحتح حم َّ‬
‫اسا من‬
‫قبل أن يباح التماس شرعا ‪ ،‬والوطء أوال حرام ‪ ،‬موجب للتكفري ‪ ،‬وهذا اجلواب خروج ابللفظ‬
‫عن مقتضى ظاهره ‪ ،‬من غري أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا املذهب‪.‬‬
‫ودو حن لِما قالموا معناه مث يريدون العود ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪:‬‬ ‫وأجاب آخرون ‪ :‬أب ّن قوله تعاىل ‪ :‬ممثَّ يحعم م‬
‫الصالةِ فحاغْ ِسلموا‬
‫استحعِ ْذ ِاب َّّللِ [النحل ‪ ]98 :‬وكما قال ‪ :‬إِذا قم ْمتم ْم إِ حىل َّ‬ ‫فحِإذا قح حرأ ح‬
‫ْت الْ مق ْرآ حن فح ْ‬
‫وه مك ْم [املائدة ‪ ]6 :‬ونظائره ِما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه هبا ‪ ،‬وهذا معىن قول‬ ‫مو مج ح‬
‫اإلمام أمحد وقد تق ّدم ‪ :‬إذا أراد أن يغشى ك ّفر‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫واعرتض القول أب ّن العود هو العزم على الوطء أب ّن اآلية ملا نزلت ‪ ،‬وأمر رسول ّ‬
‫عليه وسلّم املظاهر ابلكفارة ‪ ،‬مل يسأله هل عزم على الوطء؟ واألصل عدم ذلك ‪ ،‬والوقائع‬
‫يعمها االحتمال ‪ ،‬فتكون الكفارة واجبة ‪ ،‬سواء أعزم على الوطء أم مل يعزم‪.‬‬
‫القولية كهذه ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ترك السؤال عن ذلك ‪ ،‬لعلمه به من خولة ‪ ،‬فقد أخرج‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫واجلواب أ ّن ّ‬

‫ص ‪735 :‬‬
‫اّلل بن سالم قال ‪:‬‬
‫اإلمام أمحد وأبو داود «‪ »1‬وغريمها من طريق يوسف بن عبد ّ‬
‫اّلل تعاىل صدر سورة اجملادلة ‪،‬‬
‫يف ويف أوس بن الصامت أنزل ّ‬
‫حدثتين خولة بنت ثعلبة قالت ‪ّ :‬‬
‫علي يوما ‪ ،‬فراجعته بشي ء ‪ ،‬فغضب ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫كنت عنده شيخا كبريا قد ساء خلقه ‪ ،‬فدخل ّ‬
‫علي ‪ ،‬فإذا هو يريدين‬
‫علي كظهر أمي ‪ ،‬مث رجع ‪ ،‬فجلس يف اندي قومه ساعة ‪ ،‬مث دخل ّ‬
‫أنت ّ‬
‫حىت حيكم‬
‫إيل وقد قلت ما قلت ‪ّ ،‬‬
‫عن نفسي ‪ ،‬قلت ‪ :‬كال والذي نفس خولة بيده ‪ ،‬ال تصل ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فذكرت له ذلك ‪ ،‬فما برحت‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل ورسوله فينا‪ .‬مث جئت إىل رسول ّ‬
‫ّ‬
‫كل ما وقع‪ .‬ومنه طلب‬
‫حىت نزل القرآن ‪ ...‬اخلرب‪ .‬فإ ّن ظاهر قوهلا ‪ :‬فذكرت له ذلك أّنّا ذكرت ّ‬
‫ّ‬
‫أهم هلا‬
‫املكىن عنه ب ‪ :‬يريدين عن نفسي‪ .‬وذكرها ذلك له عليه الصالة والسالم ّ‬
‫أوس وطأها ‪ّ ،‬‬
‫اّلل بن سالم‪.‬‬
‫من ذكرها إايه ليوسف بن عبد ّ‬
‫اّلل تعاىل قال ‪:‬‬
‫واعرتض القول أب ّن العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ومل يفارق ‪ ،‬أبن ّ‬
‫ودو حن وكلمة (مث) تقتضي الرتاخي الزماين ‪ ،‬واإلمساك املذكور معقب ال مرتاخ ‪ ،‬فال يعطف‬
‫ممثَّ يحعم م‬
‫بثم ‪ ،‬بل ابلفاء‪.‬‬
‫واجلواب أن زمن اإلمساك ِمت ّد ‪ ،‬ومثله جيوز فيه العطف بثم ‪ ،‬والعطف ابلفاء ابعتبار ابتدائه‬
‫وانتهائه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬فحتح ْح ِر مير حرقحبحةٍ مبتدأ اثن ‪ ،‬خربه حمذوف أي فعليهم حترير رقبة ‪ ،‬واجلملة خرب‬
‫املوصول ‪ ،‬ولتضمنه معىن الشرط زيدت الفاء يف خربه ‪ ،‬واملراد ابلرقبة اململوك من تسمية الكل‬
‫حرا‪.‬‬
‫ابسم اجلزء فتحرير الرقبة إعتاق اململوك ‪ ،‬وجعله ّ‬
‫اّلل الرقبة هنا ‪ ،‬ومل يقيّدها ابإلميان ‪ ،‬فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة يف الكفارة ‪،‬‬
‫وقد أطلق ّ‬
‫وهبذا الظاهر قال احلنفية وأهل الظاهر ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لو كان اإلميان شرطا لبيّنه سبحان ‪ ،‬كما بينه يف‬
‫بكل منهما يف موضعه ‪،‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ويقيد ما قيده ‪ ،‬فيعمل ّ‬
‫كفارة القتل ‪ ،‬فوجب أن يطلق ما أطلقه ّ‬
‫وزاد احلنفية أ ّن اشرتاط اإلميان هنا زايدة على النص ‪ ،‬وهو نسخ ‪ ،‬والقرآن ال ينسخ ّإال ابلقرآن‬
‫أو اخلرب املشهور ‪ ،‬وال حيمل املطلق على املقيّد إال يف حكم واحد يف حادثة واحدة ‪ ،‬وال يلزم‬
‫من التقييد يف كفارة القتل الذي هو أعظم ‪ ،‬ثبوت مثله يف كفارة الظهار الذي هو أخف ‪ ،‬فال‬
‫يصح أن تكون آية القتل بياان آلية الظهار‪.‬‬
‫ّ‬
‫وذهب مالك والشافعي وأمحد يف ظاهر مذهبه إىل اشرتاط اإلميان يف كفارة غري القتل ‪ ،‬كما هو‬
‫اّلل سبحانه يف الرقبة يف القتل‬
‫شرط يف كفارة القتل ‪ ،‬قالوا يف بيان ذلك واللفظ للشافعي ‪ :‬شرط ّ‬
‫أن تكون مؤمنة ‪ ،‬وأطلق هنا ‪ ،‬كما شرط العدالة يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪736 :‬‬
‫الشهادة ‪ ،‬وأطلق الشهود يف مواضع ‪ ،‬فاستدللنا به على أ ّن ما أطلق على معىن ما شرط‪.‬‬
‫اّلل الصدقات ‪،‬‬
‫على أنّه سبحانه إمنا ر ّد زكاة املسلمني على املسلمني ال على املشركني وفرض ّ‬
‫فلم جتز إال ملؤمن ‪ ،‬وكذلك ما فرض من الرقاب ‪ ،‬ال جيوز إال ملؤمن‪.‬‬
‫قال الشافعي ‪ :‬وإ ّن لسان العرب يقتضي محل املطلق على املقيد إذا كان من جنسه ‪ ،‬فحمل‬
‫عرف الشرع على مقتضى لساّنم‪ .‬قال ‪ :‬ولو نذر رقبة مطلقة مل جيزه إال مؤمنة ‪ ،‬وهذا بناء على‬
‫هذا األصل ‪ ،‬وأن النذر حممول على واجب الشرع ‪ ،‬وواجب العتق ال يتأ ّدى إال بعتق املسلم‪.‬‬
‫يدل على هذا‬
‫وِما ّ‬
‫النيب صلّى ا ّّلل عليه وسلّم قال ملن استفىت يف عتق رقبة منذورة ‪« :‬ائتين هبا» ‪ ،‬فسأهلا ‪« :‬أين‬
‫أ ّن ّ‬
‫اّلل»؟ فقالت ‪ :‬يف السماء‪.‬‬
‫ّ‬
‫اّلل‪ .‬فقال ‪« :‬أعتقها فإّنّا مؤمنة» «‪»1‬‬
‫فقال ‪« :‬من أان»؟ فقالت ‪ :‬أنت رسول ّ‬
‫قال الشافعي ‪ :‬فلما وصفت ابإلميان أمر بعتقها اه‪.‬‬
‫والضمري يف قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن قحبْ ِل أح ْن يحتح حم َّ‬
‫اسا للمظاهر واملظاهر منها معلومني من السياق ‪،‬‬
‫والتماس كناية عن اجلماع ‪ ،‬فدلّت اآلية على حرمة اجلماع قبل التكفري‪.‬‬
‫ّ‬
‫حرم بدواعيه ‪،‬‬
‫حرم الشيء ّ‬
‫وأحلق احلنفية ابجلماع دواعيه من التقبيل وحنوه ‪ ،‬أل ّن األصل أنه إذا ّ‬
‫إذ طريق احملرم حمرم ‪ ،‬وأظهر القولني عند الشافعية اجلواز ‪ ،‬ألن حرمة اجلماع ليست ملعىن خيل‬
‫ابلنكاح ‪ ،‬فال يلزم من حترمي اجلماع حترمي دواعيه ‪ ،‬فإ ّن احلائض حيرم مجاعها دون دواعيه ‪،‬‬
‫والصائم حيرم منه الوطء دون دواعيه ‪ ،‬واملسبية حيرم وطؤها دون دواعيه‪.‬‬
‫يتمسك ابلظواهر إىل أنّه إذا وطئ قبل أن‬
‫أوجبت اآلية الكفارة قبل املسيس ‪ ،‬وقد يذهب من ّ‬
‫يك ّفر أمث ‪ ،‬وسقطت عنه الكفارة ‪ ،‬ألنه قد فات وقتها ‪ ،‬ومل يبق له سبيل إخراجها قبل التماس ‪،‬‬
‫وهذا احلكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبري وأيب يوسف‪.‬‬
‫حرمت‬
‫ولكنّك تعلم أ ّن اآلية مع أّنّا وقتت للكفارة ميقاات هو ما قبل املسيس ‪ ،‬فإّنّا مع ذلك ّ‬
‫على املظاهر العائد املسيس حىت يكفر ‪ ،‬فما مل يكفر ال حيل له وطؤها ‪ ،‬ولو وطئها مئة مرة ‪،‬‬
‫وفوات وقت األداء ال يسقط الواجب يف الذمة ‪ ،‬كالصالة والصيام وسائر العبادات‪ .‬فال يزال‬
‫املظاهر مطالبا ابلك ّفارة‪.‬‬
‫وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة‬
‫أخرج أبو داود والرتمذي «‪ »2‬وغريمها أ ّن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ‪ ،‬فوقع‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬ما‬
‫عليها قبل أن يك ّفر ‪ ،‬فقال صلّى ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )381 /1‬كتاب املساجد ‪ - 7 ،‬ابب الكالم يف الصالة‬
‫حديث رقم (‪.)33‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )503 /3‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب كفارة الظهار حديث‬
‫رقم (‪ ، )1200‬وأبو داود (‪ ، )240 /2‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب الظهار حديث رقم (‪، )2213‬‬
‫وابن ماجه يف السنن (‪ - 10 ، )665 /1‬كتاب الطالق ‪ - 25 ،‬ابب الظهار حديث رقم‬
‫(‪.)2062‬‬

‫ص ‪737 :‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫محلك على ذلك»؟ فقال ‪ :‬رأيت خلخاهلا يف ضوء القمر‪ .‬قال رسول ّ‬
‫«فاعتزهلا حىت تك ّفر»‬
‫اّلل عليه وسلّم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يك ّفر ‪ ،‬وإىل ذلك‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫فحكم رسول ّ‬
‫ذهب األئمة األربعة وأكثر اجملتهدين‪.‬‬
‫وصح مثله عن ابن عمر وعمرو‬
‫ويروى عن جماهد يف الرجل يطأ قبل أن يك ّفر أ ّن عليه كفارتني ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عنهم ‪ ،‬ووجه قوهلم ‪ :‬أ ّن إحدى الكفارتني للظهار الذي اقرتن به العود‪.‬‬
‫بن العاص رضي ّ‬
‫والثانية للوطء احملرم ‪ ،‬كالوطء يف ّنار رمضان ‪ ،‬وكوطء احملرم‪ .‬وعن احلسن وإبراهيم أ ّن عليه‬
‫ثالث كفارات ‪ ،‬وال يعلم لذلك وجه إال أن يكون عقوبة على إقدامه على احلرام ‪ ،‬وحكم رسول‬
‫يدل على خالف هذه األقوال‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ّ‬
‫ذلِ مك ْم تم ح‬
‫وعظمو حن بِهِ أي احلكم ابلكفارة ‪ ،‬تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه حو َّ‬
‫اّللم ِمبا تح ْع حملمو حن حخبِريٌ‬
‫عامل جبميع أعمالكم ‪ ،‬ظواهرها وبواطنها ‪ ،‬وجمازيكم عليها كلها ‪ ،‬فحافظوا على حدود ما شرع‬
‫لكم ‪ ،‬وال ختلّوا بشيء منه‪.‬‬
‫ني ِم ْسكِيناً ذلِ ح‬
‫ك‬ ‫ْعام ِستِّ ح‬
‫ِ‬ ‫ني ِم ْن قحبْ ِل أح ْن يحتح حم َّ‬
‫اسا فح حم ْن حملْ يح ْستحط ْع فحِإط م‬ ‫يام حش ْه حريْ ِن ممتحتابِ حع ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫فح حم ْن حملْ حجيِ ْد فحص م‬
‫ِ‬ ‫ود َِّ ِ ِ‬ ‫لِتم ْؤِمنموا ِاب َّّللِ حوحر مسولِهِ حوتِل ح‬
‫يم (‪.)4‬‬ ‫ذاب أحل ٌ‬
‫ين حع ٌ‬ ‫اّلل حوللْكاف ِر ح‬ ‫ْك مح مد م‬
‫اسا أي فمن مل جيد الرقبة فعليه صيام شهرين‬ ‫ني ِم ْن قح ْب ِل أح ْن يحتح حم َّ‬
‫يام حش ْه حريْ ِن ممتحتابِ حع ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫فح حم ْن حملْ حجيِ ْد فحص م‬
‫متتابعني من قبل أن يتماسا‪.‬‬
‫واملراد مبن مل جيد الرقبة من مل ميلك الرقبة وال مثنها فاضال عن قدر كفايته ‪ ،‬واختلفت مذاهب‬
‫وحمل ذلك كتب الفروع ‪ ،‬وكذلك اختلفوا يف اعتبار وقت اليسار‬
‫الفقهاء يف بيان قدر الكفاية ‪ّ ،‬‬
‫واإلعسار‪ .‬فذهب مالك والشافعي يف أظهر أقواله إىل اعتبار ذلك بوقت التكفري واألداء ‪ ،‬أل ّن‬
‫الك ّفارة عبادة هلا بدل من غري جنسها ‪ ،‬كالوضوء والتيمم ‪ ،‬والقيام من الصالة والقعود فيها ‪،‬‬
‫فاعترب وقت أدائها‪.‬‬
‫وذهب أمحد والشافعي يف أحد أقواله إىل اعتبار ذلك بوقت الوجوب ‪ ،‬تغليبا لشائبة العقوبة ‪،‬‬
‫القن‪.‬‬
‫قن مث عتق ‪ ،‬فإنّه حي ّد ح ّد ّ‬
‫كما لو زّن ّ‬
‫وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور ابألهلة ‪ ،‬فال فرق بني التام والناقص ‪ ،‬فمن بدأ‬
‫كمل الشهرين ابهلالل ‪ ،‬ولو اتفق أّنما انقصان أجزأه ذلك إمجاعا‪ .‬ومن‬
‫ابلصوم يف أول الشهر ّ‬
‫بدأ ابلصوم يف أثناء الشهر ‪ -‬فقد اختلفوا فيه ‪ ،‬فقال الشافعية ‪ :‬حبسب الشهر بعده ابهلالل‬
‫لتمامه ‪ ،‬ويتم األول من الثالث ثالثني يوما ‪ ،‬لتع ّذر اهلالل فيه‪ .‬وقال احلنفية ‪ :‬ال ب ّد من ستني‬
‫يوما‪.‬‬
‫أوجبت اآلية التتابع يف صيام الشهرين ‪ ،‬فلو أفطر يوما منهما ولو األخري من غري عذر ‪ ،‬انقطع‬
‫التتابع ‪ ،‬ولزمه االستئناف اتفاقا‪ .‬ومن صور الفطر بغري عذر أن‬

‫ص ‪738 :‬‬
‫يتخللها يوم حيرم صومه كيوم النحر ‪ ،‬ألنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أ ّن يوم النحر‬
‫سيتخللهما فسد صومه ‪ ،‬ألنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء املبطل تالعب منه ‪ ،‬فهو‬
‫كاإلحرام ابلظهر قبل وقتها ‪ ،‬مع العلم بذلك‪ .‬ولو ابتدأ صومهما وهو ال يعلم أ ّن يوم النحر‬
‫صح صومه ‪ ،‬لكنّه ال يعت ّد به يف الكفارة ‪ ،‬ألنّه قطع التتابع بتقصريه‪.‬‬
‫سيتخللهما ّ‬
‫أما اإلفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه ‪ ،‬فذهب احلنفية إىل وجوب االستئناف لزوال‬
‫التتابع املشروط ‪ ،‬وهو قادر عليه عادة‪.‬‬
‫وذهب مالك والشافعي يف أحد قوليه إىل أنه ال يقطع التتابع ‪ ،‬أل ّن التتابع ال يزيد على أصل‬
‫وجوب رمضان ‪ ،‬وهو يسقط ابلعذر‪.‬‬
‫وفرق بعض العلماء بني العذر الذي ميكن معه الصوم ‪ :‬كالسفر واملرض ‪ ،‬والعذر الذي ال ميكن‬
‫ّ‬
‫معه الصوم ‪ :‬كاجلنون واإلغماء مجيع النهار ‪ ،‬فجعل األول قاطعا للتتابع ‪ ،‬والثاين غري قاطع له‪.‬‬
‫وأوجبت اآلية أن يكون صوم الشهرين املتتابعني قبل املسيس ‪ ،‬وقد رأى بعض الظاهرية أ ّن من‬
‫وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعني أمث ابلوطء ‪ ،‬وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم‬
‫التمكن من إيقاع الصيام املتتابع قبل املسيس‪ .‬كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق ‪ ،‬وقد‬
‫تقدم‪ .‬واجلواب هنا هو اجلواب هناك‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء فيمن وطئ اليت ظاهر منها يف خالل الشهرين ليال متعمدا وّنارا انسيا‪.‬‬
‫فذهب أبو حنيفة وحممد ومالك وأمحد يف ظاهر مذهبه إىل وجوب استئناف الصوم عمال بظاهر‬
‫اآلية ‪ ،‬فإّنا أمر بصيام شهرين متتابعني ال مسيس فيهما‪ .‬فإذا جامعها يف خالل الشهرين مل أيت‬
‫ابملأمور به‪.‬‬
‫وذهب أبو يوسف والشافعي وأمحد يف رواية أخرى عنه إىل عدم وجوب االستئناف ‪ ،‬أل ّن هذا‬
‫الوطء مل يفسد الصوم ‪ ،‬فلم يتخلّل الشهرين إفطار ‪ ،‬فلم ينقطع التتابع ‪ ،‬وليس من شرط‬
‫التتابع أال يتخلل الشهرين مجاع‪.‬‬
‫وكما أ ّن ظاهر اآلية وجوب صوم شهرين متتابعني ال مسيس فيهما ‪ ،‬كذلك ظاهرها وجوب صوم‬
‫شهرين متتابعني ال مسيس قبلهما ‪ ،‬فلو كان الواطئ يف خالهلما غري آت ابملأمور به ‪ ،‬لكان‬
‫الوطئ قبلهما غري آت ابملأمور به ‪ ،‬ولفات االمتثال ابلوطء قبلهما ‪ ،‬وال قائل به غري أهل‬
‫يتم‬
‫اسا على حترمي املسيس قبل أن ّ‬ ‫الظاهر ‪ ،‬فوجب حينئذ محل قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن قح ْب ِل أح ْن يحتح حم َّ‬
‫صيام الشهرين املتتابعني ‪ ،‬ال على أ ّن عدم املسيس شرط يف االعتداد ابلصوم‪.‬‬

‫ص ‪739 :‬‬
‫ني ِم ْسكِيناً أي فمن مل يستطع صيام شهرين متتابعني أبن مل يستطع‬
‫ْعام ِستِّ ح‬
‫ِ‬
‫فح حم ْن حملْ يح ْستحط ْع فحِإط م‬
‫الصيام ‪ :‬أو مل يستطع تتابعه لسبب من األسباب ‪ ،‬كهرم ‪ ،‬ومرض ال يرجى زواله ‪ ،‬أو يطول‬
‫زمانه ‪ ،‬أو حلوق مشقة شديدة ال حتتمل عادة ‪ ،‬فعليه إطعام ستني مسكينا‪.‬‬
‫أطلقت اآلية إطعام املساكني ‪ ،‬ومل تقيده بقدر وال تتابع ‪ ،‬فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وهذا قول اجلمهور أيب حنيفة ومالك‬
‫وعشاهم من غري متليك جاز ‪ ،‬وكان ِمتثال ألمر ّ‬
‫وأمحد يف إحدى الروايتني عنه ‪ ،‬وسواء أطعمهم مجلة أم متفرقني ‪ ،‬وليس معىن هذا [أن ] متليك‬
‫املساكني ال جيزئ ‪ ،‬بل املراد أ ّن اآلية أمرت ابإلطعام الذي هو حقيقة يف إعطاء الطعام ‪ ،‬سواء‬
‫أكان ذلك ابلتمليك أم ابإلابحة ‪ ،‬فأيهما وقع من املكفر أجزأه‪.‬‬
‫وأوجب الشافعية متليكهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬حنن ال ننكر أ ّن اآلية حتتمل التمليك واإلابحة ‪ ،‬إال أ ّن السنة‬
‫وردت ابلتمليك ‪ ،‬وجرى عرف الشرع يف الصدقة الواجبة أّنّا مقدرة مشروط فيها التمليك ‪،‬‬
‫فكما أ ّن الزكاة وصدقة الفطر ال ب ّد فيهما من التمليك ‪ ،‬كذلك الكفارة ال ب ّد فيها من التمليك‬
‫‪ ،‬وال جتزئ فيها اإلابحة‪ .‬وذلك ألن التمليك أدفع للحاجة ‪ ،‬فال تقوم مقامه اإلابحة‪.‬‬
‫مث اختلفت املذاهب يف املقدار الذي ميلّك لكل مسكني‪ .‬فقال احلنفية ‪ :‬يعطى لكل مسكني‬
‫نصف صاع من ّبر ‪ ،‬أو صاع من شعري أو متر ‪ ،‬ومستندهم يف ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح‬
‫القدير»‪.‬‬
‫اّلل‬
‫صح يف رواية عنه صلّى ّ‬
‫وقال الشافعية ‪ :‬لكل مسكني م ّد من غالب قوت حمل املك ّفر ‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫وصح يف رواية أخرى تقديرها بستني صاعا ‪ ،‬والنسخ هنا‬
‫عليه وسلّم تقدير الكفارة بستني مدا ‪ّ ،‬‬
‫متع ّذر للجهل ابلتاريخ ‪ ،‬وإلمكان اجلمع بني الروايتني ‪ ،‬فكان ذلك اجلمع متعينا ‪ ،‬فحملت رواية‬
‫الستني صاعا على بيان اجلواز الصادق ابلندب‪.‬‬
‫ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مد وثلثا مد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما يشبع من غري‬
‫حتديد‪.‬‬
‫ني ِم ْسكِيناً أنّه ال ب ّد من استيفاء عدد الستني ‪ ،‬فلو أطعم واحدا‬
‫ْعام ِستِّ ح‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬فحِإط م‬
‫ستني يوما مل جيزه إال عن واحد‪ .‬هذا قول اجلمهور مالك والشافعي وأمحد يف إحدى الرواايت‬
‫عنه ‪ ،‬والثانية إن وجد غريه مل جيزئه ‪ ،‬وإن مل جيد غريه أجزأه‪ .‬وهو ظاهر مذهبه‪ .‬والثالثة ‪ :‬أ ّن‬
‫الواجب إطعام طعام ستني مسكينا ‪ ،‬ولو لواحد يف ستني يوما ‪ ،‬وهو مذهب أيب حنيفة «‪»1‬‬
‫اّلل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أل ّن املقصود س ّد خلة‬
‫رمحه ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)301 /2 - 1‬‬

‫ص ‪740 :‬‬
‫احملتاج ‪ ،‬واحلاجة تتجدد كل يوم ‪ ،‬فالدفع إليه يف اليوم الثاين كالدفع إىل غريه ‪ ،‬وكالدفع إليه يف‬
‫نصت على ستني مسكينا ‪ ،‬وبتكرر احلاجة يف مسكني واحد ال‬
‫اليوم األول ‪ ،‬وأنت تعلم أ ّن اآلية ّ‬
‫النص‬
‫يصري هو ستني مسكينا ‪ ،‬فكان التعليل أب ّن املقصود س ّد خلة احملتاج إخل مبطال ملقتضى ّ‬
‫فال جيوز‪.‬‬
‫أال ترى احلنفية حني قالوا ‪ :‬ال جيزئ الدفع ملسكني واحد طعام ستني دفعة واحدة ‪ ،‬علّلوا ذلك‬
‫مصرح به ‪ ،‬وإمنا هو مدلول التزامي لعدد‬
‫أب ّن التفريق واجب ابلنص ‪ ،‬مع أ ّن تفريق الدفع غري ّ‬
‫املساكني ‪ ،‬فالنص على العدد أوىل ابالعتبار ‪ ،‬ألنّه املستلزم ‪ ،‬وغاية ما يعطيه كالمهم أنّه بتكرر‬
‫احلاجة يتكرر املسكني حكما ‪ ،‬فكان تع ّددا حكما‪ .‬وحينئذ يلزم أ ّن يكون املراد ابلستني مسكينا‬
‫يف اآلية مسكينا حقيقة أو حكما ‪ ،‬من ابب عموم اجملاز الذي يشمل تعدد املساكني حقيقة ‪،‬‬
‫وتعددهم حكما ‪ ،‬فيكون ستني مسكينا جمازا عن ستني حاجة ‪ ،‬وهو أعم من كوّنا حاجات‬
‫ستني مسكينا ‪ ،‬أو حاجات واحد يف ستني يوما‪ .‬وال خيفى أنّه ال مقتضى للعدول عن احلقيقة إىل‬
‫هذا اجملاز ‪ ،‬وأن ظاهر اآلية إمنا هو عدد معدوده ذوات املساكني ‪ ،‬وتعدد الذوات ِما يصح أن‬
‫يكون مقصودا معقول املعىن ملا يف تعميم اجلميع من بركة اجلماعة ‪ ،‬ومشول املنفعة ‪ ،‬واجتماع‬
‫القلوب على احملبة والدعاء‪.‬‬
‫وظاهر االقتصار يف اآلية على املساكني أنّه ال جيزئ دفع الكفارة ّإال إىل املساكني ‪ ،‬ويدخل فيهم‬
‫الفقراء ‪ ،‬كما يدخل املساكني يف لفظ الفقراء عند اإلطالق‪.‬‬
‫وقد قالوا ‪ :‬كما علمت املسكني والفقري إذا اجتمعا افرتقا ‪ ،‬وإذا افرتقا اجتمعا ‪ ،‬هذا مذهب‬
‫اجلمهور‪.‬‬
‫كل من أيخذ من الزكاة حلاجته ‪ ،‬وهم الفقراء واملساكني‬
‫وعمم أصحاب أمحد وغريهم احلكم يف ّ‬
‫ّ‬
‫ولكن ظاهر القرآن اختصاصها ابملساكني على ما‬
‫وابن السبيل والغارم ملصلحته واملكاتب ‪ّ ،‬‬
‫علمت‪.‬‬
‫ولكن الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا مبسكني الزكاة ّأال يكون ِمن‬
‫وقد أطلقت اآلية املسكني هنا ‪ّ ،‬‬
‫تلزم املكفر نفقته ‪ ،‬وأال يكون هامشيا وال مطلبيا وال كافرا على خالف يف ذلك بني الفقهاء ‪،‬‬
‫منشؤه اختالف أقواهلم يف مسكني الزكاة‪.‬‬
‫واستنبط بعض الشافعية من التعبري يف جانب حترير الرقبة بعدم الوجود ‪ ،‬ويف جانب الصيام بعدم‬
‫االستطاعة ‪ ،‬أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه وال يصوم ‪ ،‬ولو كان مريضا يرجى برؤه ‪،‬‬
‫ولكنه يدوم يف ظنه مدة شهرين يطعم ‪ ،‬وال ينتظر الربء ليصوم ‪ ،‬ووافقهم احلنفية يف عدم الصوم‬
‫ال يف اإلطعام‪.‬‬
‫اّلل سبحانه قيّد التكفري بكونه قبل املسيس يف العتق والصيام ‪ ،‬وأطلقه يف‬
‫مثّ إ ّن ّ‬

‫ص ‪ 741 :‬اإلطعام ‪ ،‬فكان ذلك ظاهرا يف أنّه لو وطئ قبل اإلطعام أو يف خالله مل أيمث ‪ ،‬وال‬
‫يستأنف ‪ ،‬ونقل عن هذا بعض الناس عن أيب حنيفة ‪ ،‬ولكنّه توهم ‪ ،‬والذي عليه املعول عنده‬
‫اّلل أنّه أيمث ‪ ،‬وال يستأنف اإلطعام ‪ ،‬وهبذا قال مجهور الفقهاء‪.‬‬
‫رمحه ّ‬
‫أما عدم استئناف اإلطعام فوجهه ظاهر ‪ ،‬وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها خمتلف حبسب‬
‫اختالفهم يف قواعد األصول ‪ ،‬فمن يرى محل املطلق على املقيد يف مثل هذه احلادثة يقول ‪:‬‬
‫اّلل ِما قيّده ‪ ،‬إما بياان ‪ ،‬وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بني الصورتني ‪،‬‬
‫استفيد حكم ما أطلقه ّ‬
‫اّلل ِم ْن قح ْب ِل أح ْن‬
‫يفرق بني املتماثلني ‪ ،‬وقد ذكر ّ‬
‫فإ ّن املعروف عن الشرع يف األعم األغلب أال ّ‬
‫تكرر حكمه يف الكفارات الثالث ‪ ،‬ولو ذكره يف آخر الكالم‬
‫اسا مرتني ‪ ،‬ونبّه بذلك على ّ‬
‫يحتح حم َّ‬
‫مرة واحدة ألوهم اختصاصه ابإلطعام ‪ ،‬ولو ذكره يف أول مرة فقط ألوهم اختصاصه ابلعتق ‪،‬‬
‫وإعادته يف كل مرة تطويل ‪ ،‬فكان أفصح الكالم وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم اجلليل‪.‬‬
‫وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفري قبل املسيس يف الصوم مع تطاول زمنه وشدة احلاجة إىل املسيس‬
‫فيه ‪ ،‬على أن اشرتاط تقدم اإلطعام الذي ال يطول زمنه أوىل‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم يف اخلرب احلسن‪ .‬وقد تق ّدم‬
‫على أ ّن قوله صلّى ّ‬
‫حىت تك ّفر عنك» «‪»1‬‬
‫«اعتزهلا ّ‬
‫يشمل التكفري ابإلطعام‪.‬‬
‫وأما احلنفية الذين ال يرون محل املطلق على املقيد يف مثل هذه احلادثة ‪ ،‬فلهم على حرمة الوطء‬
‫قبل اإلطعام دليالن‪.‬‬
‫األول ‪ :‬أ ّن إابحة الوطء قبل اإلطعام قد تفضي إىل املمتنع ‪ ،‬واملفضي إىل املمتنع ِمتنع ‪ ،‬بيان‬
‫ذلك ‪ :‬أنّه لو قدر على العتق أو الصيام يف خالل اإلطعام أو قبله يلزمه التكفري ابملقدور عليه ‪،‬‬
‫فلو أبيح للعاجز عنهما القرابن قبل اإلطعام مث اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفري به ‪ ،‬لزم‬
‫أن يقع العتق بعد التماس ‪ ،‬وهو ِمتنع‪.‬‬
‫واعرتض على هذا الدليل أب ّن القدرة حال قيام العجز ابلفقر والكرب واملرض الذي ال يرجى زواله‬
‫أمر موهوم ‪ ،‬واألمور املوهومة ال تراعى يف إثبات األحكام ابتداء ‪ ،‬بل غايتها أن تراعى يف ثبوت‬
‫االستحباب ورعا‪.‬‬
‫والدليل الثاين ‪ :‬ما تقدم من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬اعتزهلا حىت تك ّفر»‬
‫قوله صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ذلك‬
‫وقد يقال ‪ :‬إن هذا احلديث ليس نصا يف املوضوع ‪ ،‬أل ّن النيب صلّى ّ‬
‫للمظاهر قبل أن يتبني عجزه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )503 /3‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب يف املظاهر حديث‬
‫رقم (‪ ، )1199‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )242 /2‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب يف الظهار حديث رقم‬
‫(‪ ، )2221‬والنسائي (‪ ، )479 /6 - 5‬كتاب الطالق ‪ ،‬ابب الظهار حديث رقم (‪، )3458‬‬
‫وابن ماجه يف السنن (‪ - 10 ، )666 /1‬كتاب الطالق ‪ - 26‬ابب املظاهر حديث رقم‬
‫(‪.)2065‬‬

‫ص ‪742 :‬‬
‫حىت تك ّفر ابلصوم‪.‬‬
‫عن اإلعتاق والصوم ‪ ،‬فجاز أن يراد اعتزهلا حىت تك ّفر ابلعتق ‪ ،‬أو ّ‬
‫بقي أن يقال ‪ :‬مل تذكر اآلية حكم من عجز عن اخلصال الثالث ‪ ،‬أتسقط الكفارة عنه أم تستقر‬
‫يف ذمته وحيرم عليه املسيس حىت يكفر؟‬
‫والذي استظهره العلماء أّنّا ال تسقط ‪ ،‬بل تستقر يف ذمته ‪ ،‬حىت يتمكن ‪ ،‬قياسا على سائر‬
‫النيب صلّى‬
‫الديون واحلقوق واملؤاخذات ‪ ،‬كجزاء الصيد وغريه‪ .‬وأل ّن أصحاب السنن رووا أ ّن ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم أعان أوس بن الصامت بعذق من متر ‪ ،‬وأعانته زوجته مبثله فك ّفر ‪ ،‬وأمر سلمة‬
‫ّ‬
‫بن صخر أن أيخذ صدقة قومه فيك ّفر هبا عن نفسه ‪ ،‬ولو سقطت ابلعجز ملا أمرمها إبخراجها‪.‬‬
‫اّلل املوفق‪.‬‬
‫وقد أطلنا هنا بذكر الفروع ‪ ،‬ألننا نراها كلها متعلقة بتفسري اآلية ‪ ،‬و ّ‬
‫ك لِتم ْؤِمنموا ِاب َّّللِ حوحر مسولِهِ اإلشارة إىل ما سبق من البيان وتفصيل األحكام ‪ ،‬وتعليمهم إايها‪ .‬أي‬
‫ذلِ ح‬
‫ابّلل ورسوله ‪ ،‬وتعملوا مبا شرع لكم ‪ ،‬وترفضوا ما‬
‫مر واقع وحاصل لتؤمنوا ّ‬
‫ذلك الذي بيّنا فيما ّ‬
‫كنتم عليه يف جاهليتكم‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫اّللِ أي األحكام املذكورة حدود ّ‬ ‫حوتِل ح‬
‫اّلل فالزموها ‪ ،‬وقفوا عندها ال تتعدوها حوللْكاف ِر ح‬
‫ين‬ ‫ود َّ‬‫ْك مح مد م‬
‫يم على كفرهم‪ .‬وأطلق الكافر على متعدي احلدود تغليظا وزجرا ‪ ،‬نظري‬ ‫ِ‬
‫ذاب أحل ٌ‬‫الذين يتعدوّنا حع ٌ‬
‫ني [آل عمران ‪.]97 :‬‬ ‫ين حع ِن الْعال ِحم ح‬ ‫قوله تعاىل ‪ :‬حوحم ْن حك حف حر فحِإ َّن َّ‬
‫اّللح غحِ ٌّ‬
‫ول‬ ‫صيحةِ َّ‬
‫الر مس ِ‬ ‫ان وم ْع ِ‬
‫ِ‬
‫ناج ْوا ِاب ِْإل ِْمث حوالْعم ْدو ح ح‬ ‫آمنموا إِذا تح ح‬
‫ناج ْي تم ْم فحال تحتح ح‬ ‫ين ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫ِ‬ ‫شرو حن (‪ )9‬إِ َّمنحا النَّجوى ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْرب والتَّ ْقوى واتَّ مقوا َّ َّ ِ‬
‫الش ْيطان ليح ْح مز حن الَّذ ح‬
‫ين‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫اّللح الذي إِل ْحيه محتْ ح م‬ ‫ح‬ ‫ناج ْوا ِابلِ ِّ ح‬
‫حوتح ح‬
‫اّللِ فحلْيح تح حوَّك ِل ال مْم ْؤِمنمو حن (‪)10‬‬
‫اّللِ حو حعلحى َّ‬‫ضارِه ْم حش ْيئاً إَِّال إبِِ ْذ ِن َّ‬
‫س بِ ِّ‬ ‫آمنموا حول ْحي ح‬
‫ح‬
‫املسارة‪ .‬مأخوذ من النجوة ‪ ،‬وهي ما ارتفع من األرض ‪ ،‬ومسّيت‬ ‫ّ‬ ‫التناجي ‪ :‬التسار واملناجاة‬
‫بذلك ‪ ،‬ألن املتسارين يكوانن خبلوة يف جنوة من األرض ‪ ،‬بعيدا عن املتسمعني ‪ ،‬أو مسّيت بذلك‬
‫السر يصان ‪ ،‬فكأنه ارتفع عن الناس ‪ ،‬ومن هذا قال الشاعر ‪:‬‬
‫أل ّن ّ‬
‫سر بعض غري أين مجاعها‬
‫وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على ّ‬
‫الرجال انصداعها‬
‫وسرهم إىل صخرة أعيا ّ‬
‫شىت يف البالد ّ‬
‫يظلّون ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إ ّن التناجي من املناجاة ‪ ،‬وهي اخلالص ‪ ،‬وكأ ّن املتناجيني يتعاوانن على أن خيلّص أحدمها‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫واآلية اليت معنا خطاب املؤمنني ‪ ،‬وأريد من النهي هنا التعريض أبولئك الذين كانوا يدورون يف‬
‫اجملالس يشيعون السوء ويتناقلونه ‪ ،‬حىت يؤثّر ذلك يف أقارب‬

‫ص ‪743 :‬‬
‫الغائبني يف الغزو من املؤمنني اخللص ‪ ،‬فكانوا يقولون ‪ :‬مت كيت وكيت ‪ ،‬فكانت تنخلع قلوب‬
‫أقارب املؤمنني من سوء ما يشاع عن أهليهم ‪ ،‬وكان يكاد يؤثّر ذلك فيهم لوال أن الكذب حبله‬
‫غري طويل ‪ ،‬فلم يلبث الغائبون أن يعودوا منصورين على خري ما يكون النصر ‪ ،‬ويفتضح أمر‬
‫أولئك الذين ال ختلو منهم أمة ‪ ،‬أولئك دعاة الرتدد واهلزمية ‪ ،‬ضعفاء النفوس ‪ ،‬ال تقوى نفوسهم‬
‫الفت يف عضد‬
‫على جمالدة أعدائهم ‪ ،‬فيلجؤون إىل مقالة السوء يرددوّنا ‪ ،‬يرجون من وراء ذلك ّ‬
‫خصومهم ‪ ،‬ولقد كان اليهود واملنافقون يلجأون إىل هذه احلال دائما ‪ ،‬فكانوا يتناجون دون‬
‫املؤمنني‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫وكلّما مروا هبم يتغامزون ‪ ،‬فلما كثر ذلك ‪ ،‬شكا منهم املؤمنون إىل الرسول صلّى ّ‬
‫‪ ،‬فنهاهم عن ذلك ‪ ،‬ولكن الضعيف دائما جيد يف هذا التناجي سلوة يسرت هبا ضعفه ‪ ،‬فلم‬
‫ناج ْو حن‬ ‫اّلل فيهم‪ .‬أححمل تحر إِ حىل الَّ ِذين مّنموا حع ِن النَّجوى ممثَّ ي ع م ِ‬
‫ودو حن لما مّنموا حع ْنهم حويحتح ح‬ ‫حم‬ ‫ْ‬ ‫ح‬ ‫ْ ح‬ ‫ينتهوا ‪ ،‬فأنزل ّ‬
‫ك بِهِ‪.‬‬ ‫صيحةِ َّ‬
‫الر مس ِ‬
‫ول حوإِذا جا مؤ حك ححيَّ ْو حك ِمبا حملْ محيحيِّ ح‬ ‫وان وم ْع ِ‬
‫ِ‬
‫ِاب ِْإل ِْمث حوالْعم ْد ح ح‬
‫وكانت هذه احلال حاال ذميمة مؤذية ‪ ،‬فنهى املؤمنني أن يفعلوا هذا ‪ ،‬فيكون فيهم هذا الصنف‬
‫من الناس ‪ ،‬فهم مل يكن منهم هذا التناجي املذموم حىت ينهوا عنه ‪ ،‬إمنا ّنوا عنه تعريضا أبولئك‬
‫الذين ال يعيشون ّإال يف الظالم ‪ ،‬ويصطادون يف املاء العكر ‪ ،‬أرأيت اآلية اليت سقنا لك فيهم ‪،‬‬
‫اّلل عليه‬
‫وهذا اآلية كيف ّني املؤمنون فيها أن يتناجوا ابإلمث والعدوان ومعصية الرسول صلّى ّ‬
‫وسلّم ‪ ،‬وهذا هو الذي كان منهم ‪ ،‬مث هو حتذير للمؤمنني أن يفعلوا فعلهم ‪ ،‬فيستحقوا ما‬
‫استحق أولئك من العاقبة‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل اخلطاب للمنافقني ‪ ،‬ومسّاهم مؤمنني ابعتبار ثوهبم الذي يظهرون فيه ‪ ،‬والظاهر األول‬
‫‪ ،‬فإ ّن اآلية ّنت املؤمنني أن يتناجوا ابإلمث والعدوان ‪ ،‬أي مبا هو إمث يف ذاته ‪ ،‬مث هو عدوان على‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬مث أمرهتم إذا‬
‫ضون من حول الرسول صلّى ّ‬
‫منصب الرسالة ‪ ،‬إذ جيعل الناس ينف ّ‬
‫اّلل‬
‫كان ال ب ّد هلم من التناجي أن يتناجوا مبا هو ّبر وخري ‪ ،‬ومبا هو وقاية هلم ‪ ،‬وحفظ من عذاب ّ‬
‫اّلل الذي إليه حيشرون ‪ ،‬فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه‬ ‫‪ ،‬مث أمرهتم أبن يتقوا ّ‬
‫ِ‬ ‫اّلل يف تعليل ما تق ّدم إِ َّمنحا النَّجوى ِمن َّ ِ ِ‬
‫الش ْيطان ليح ْح مز حن الَّذ ح‬
‫ين‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫‪ ،‬ال ختفى عليه منه خافية ‪ ،‬مث قال ّ‬
‫آمنموا‪.‬‬
‫ح‬
‫وأسندت النجوى إىل الشيطان ابعتبار أنّه الذي يوسوس هبا ويزينها للناس فريتكبوّنا ‪ ،‬وغايته‬
‫س‬
‫يضرهم منه شيء حول ْحي ح‬
‫منه إدخاله احلزن على الذين آمنوا ‪ ،‬ولكنّهم ما داموا مؤمنني فلن ّ‬
‫ضارِهم حشيئاً إَِّال إبِِ ْذ ِن َِّ‬
‫وإما التناجي ‪ ،‬وما دام األمر كلّه ّّلل ‪ ،‬فإن‬
‫اّلل واسم ليس ّإما الشيطان ‪ّ ،‬‬ ‫بِ ِّ ْ ْ‬
‫اّلل مكروها فهو ال ب ّد كائن ‪ ،‬وإن أراد خريا فال را ّد لفضله ‪ ،‬يصيب به من يشاء‪.‬‬ ‫ق ّدر ّ‬
‫اّللِ فحلْيح تح حوَّك ِل ال مْم ْؤِمنمو حن وال يبالوا ما يكون من جنوى الشيطان ‪ ،‬ألن الذي‬
‫حوعحلحى َّ‬

‫ص ‪744 :‬‬
‫اّلل ومشيئته ‪ ،‬وما شاء ال ب ّد أن يكون‪.‬‬
‫يتناجى به املنافقون إن وقع فهو بقضاء ّ‬
‫والقصد من هذا إزالة ما عساه يدخل يف نفوس املؤمنني بتأثري هذه املناجاة‪.‬‬
‫البخاري ومسلم «‪ »1‬وغريمها عن ابن‬
‫ّ‬ ‫مث إ ّن التناجي بني املؤمنني قد يكون منهيا عنه ‪ ،‬روى‬
‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬إذا كنتم ثالثة فال يتناج اثنان‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه أ ّن رسول ّ‬
‫مسعود رضي ّ‬
‫دون اآلخر ‪ ،‬حىت ختتلطوا ابلناس ‪ ،‬من أجل أ ّن ذلك حيزنه»‪.‬‬
‫س ِح َّ‬
‫اّللم لح مك ْم‬ ‫حوا يح ْف ح‬‫ْس م‬ ‫حوا ِيف ال حْمجالِ ِ‬
‫س فحاف ح‬ ‫سم‬‫يل لح مك ْم تح حف َّ‬‫ِ ِ‬
‫آمنموا إذا ق ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬
‫قال ّ‬
‫اّللم ِمبا تح ْع حملمو حن‬ ‫اّلل الَّ ِذين آمنموا ِمنْ مكم والَّ ِذين أموتموا الْعِلْم حدر ٍ‬
‫جات حو َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ح ح‬ ‫ْح ح‬ ‫ش مزوا يح ْرفح ِع َّم ح ح‬‫ش مزوا فحانْ م‬‫يل انْ م‬
‫حوإذا ق ح‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ويتسابقون‬ ‫اّلل صلّى ّ‬ ‫حخبِريٌ (‪ )11‬كان املؤمنون يتنافسون يف القرب من رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬واتفق أ ّن رسول‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫إىل ذلك ‪ ،‬ال يكاد أحد يؤثر غريه مبجلسه من رسول ّ‬
‫الصفة ‪ ،‬ويف املكان ضيق ‪ ،‬وكان عليه الصالة‬
‫اّلل صلّى هللا عليه وسلّم جلس يوم اجلمعة يف ّ‬
‫ّ‬
‫والسالم يكرم أهل بدر من املهاجرين واألنصار ‪ ،‬فجاء انس من أهل بدر ‪ ،‬منهم اثبت بن قيس‬
‫اّلل عليه وسلّم فقالوا ‪:‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫بن مشاس ‪ ،‬وقد سبقوا إىل اجملالس ‪ ،‬فقاموا حيال رسول ّ‬
‫اّلل وبركاته ‪ ،‬فر ّد النيب عليهم‪ .‬مث سلّموا على القوم ‪ ،‬فردوا‬
‫السالم عليك أيها النيب ورمحة ّ‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫عليهم ‪ ،‬فقاموا على أرجلهم ‪ ،‬ينتظرون أن يوسع هلم ‪ ،‬فش ّق ذلك على رسول ّ‬
‫وسلّم ‪ ،‬فقال لبعض من حوله ‪ :‬قم اي فالن واي فالن ‪ ،‬فأقام نفرا مقدار من قدم ‪ ،‬فش ّق ذلك‬
‫عليهم ‪ ،‬وعرفت كراهيته يف وجوههم‪.‬‬
‫واختذ املنافقون من ذلك طريقا عسى أن يصلوا منه إىل قلوب املؤمنني ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما عدل رسول‬
‫اّلل قوله تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها‬
‫وأحب قربه ملن أتخر عن احلضور ‪ ،‬فأنزل ّ‬ ‫ّ‬ ‫اّلل إبقامة من أخذ جملسه‬ ‫ّ‬
‫حوا اآلية‪.‬‬
‫ْس م‬ ‫حوا ِيف ال حْمجالِ ِ‬
‫س فحاف ح‬ ‫سم‬
‫يل لح مك ْم تح حف َّ‬‫ِ ِ‬
‫آمنموا إذا ق ح‬
‫ين ح‬
‫ِ‬
‫الَّذ ح‬
‫أخرجه ابن أيب حامت عن مقاتل بن حيان‪.‬‬
‫والتفسح يف اجمللس ‪ :‬التوسع فيه ‪ ،‬أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان ‪:‬‬
‫ّ‬
‫توسعوا ‪ ،‬فليفسح بعضكم عن بعض ‪ ،‬ليأخذ القادم مكانه يف اجمللس ‪ ،‬فإ ّن ذلك سبب املودة‬
‫واحملبة بينكم ‪ ،‬ومدعاة لأللفة وصفاء النفوس‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فإّنّا‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫ولئن كانت اآلية نزلت يف خصوص التوسع يف جملس رسول ّ‬
‫ملرسلة عامة يف كل اجملالس اليت يكون فيها خري للناس ‪ ،‬جمالس العلم ‪ ،‬ومدارسة القرآن ‪،‬‬
‫وجمالس القتال إذا اصطفوا للحرب ‪ ،‬وجمالس الرأي والشورى ‪ ،‬وجمالس الناس يف جمتمعاهتم‬
‫لألغراض الدينية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )183 /7‬كتاب االستئذان ‪ - 46 ،‬ابب إذا كانوا‬
‫أكثر من ثالثة حديث رقم (‪ ، )2690‬ومسلم يف الصحيح (‪ - 39 ، )1718 /4‬كتاب‬
‫السالم ‪ - 15 ،‬ابب حترمي املناجاة حديث رقم (‪.)2184 /37‬‬

‫ص ‪745 :‬‬
‫س ِح َّ‬
‫اّللم لح مك ْم يف رمحته ‪ ،‬أو يف منازلكم يف اجلنة ‪ ،‬أو يف قبوركم ‪ ،‬أو يف دوركم ‪ ،‬أو يف رزقكم‬ ‫يح ْف ح‬
‫‪ ،‬ويف كل ما حتبّون التوسعة فيه‪.‬‬
‫ش مزوا النشز ‪ :‬االرتفاع يف مكان ‪ ،‬واملراد هنا النهوض من اجمللس ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫ش مزوا فحانْ م‬
‫يل انْ م‬‫ِ ِ‬
‫حوإذا ق ح‬
‫وإذا قيل لكم اّنضوا للتوسعة على املقبلني فاّنضوا ‪ ،‬وال تباطؤوا‪.‬‬
‫وقال احلسن وقتادة والضحاك ‪ :‬إ ّن املعىن ‪ :‬وإذا دعيتم إىل قتال أو صالة أو طاعة فأجيبوا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم كان‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وقيل ‪ :‬إذا دعيتم للقيام عن جملس الرسول فقوموا ‪ ،‬ألن رسول ّ‬
‫أحياان يؤثر االنفراد يف أمر اإلسالم أو لبعض شأنه ‪ ،‬وال مانع من تعميم احلكم يف كل جملس ‪،‬‬
‫فإذا دعت احلاجة إىل أن ينفرد صاحب اجمللس يف أمر ‪ ،‬أو إىل أن خيلو ببعض اجلالسني ‪ ،‬فله أن‬
‫يطلب يف رفق إىل اجلالسني أن يقوموا ‪ ،‬إذا مل يرتتب على ذلك مفسدة أعظم ضررا من فوات‬
‫املصلحة اليت دعت إىل االنفراد‪.‬‬
‫وهذا ِما ال نزاع ألحد يف جوازه‪.‬‬
‫نعم ال جيوز للقادم أن يقيم أحدا ليجلس هو يف جملسه ‪،‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنهما أ ّن رسول ّ‬
‫والبخاري ومسلم «‪ »1‬وغريهم عن ابن عمر رضي ّ‬
‫ّ‬ ‫فقد روى مالك‬
‫توسعوا»‪.‬‬
‫تفسحوا أو ّ‬‫اّلل عليه وسلّم قال ‪« :‬ال يقيم الرجل الرجل من جملسه ‪ ،‬ولكن ّ‬
‫صلّى ّ‬
‫وقد جرى احلكم أ ّن من سبق إىل مباح فهو أوىل به ‪ ،‬واجملالس من هذا املباح ‪ ،‬وعلى القادم أن‬
‫جيلس حيث انتهى به اجمللس ‪ ،‬إال أ ّن مكارم األخالق تقضي على اجلالسني بتقدمي أويل الفضل‬
‫وأهل احلجى واحللوم ‪ ،‬بذلك جرى عرف الناس وعوائدهم يف القدمي واحلديث‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فكانوا يق ّدمون‬
‫ولقد كان هذا هو الشأن بني الصحابة يف جملس الرسول صلّى ّ‬
‫ابهلجرة وابلعلم وابلسن‪.‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫اّلل عنه ‪ :‬بينا رسول ّ‬
‫روى أبو بكر بن العريب «‪ »2‬بسنده عن أنس بن مالك رضي ّ‬
‫عليه وسلّم يف املسجد وقد طاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أيب طالب ‪ ،‬فوقف وسلّم ‪ ،‬مث نظر‬
‫يوسع له ‪ ،‬وكان أبو‬
‫اّلل عليه وسلّم يف وجوه أصحابه أيهم ّ‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫جملسا يشبهه ‪ ،‬فنظر رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فتزحزح له عن حمله ‪ ،‬وقال ‪ :‬هاهنا اي أاب‬
‫بكر جالسا على ميني النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وبني أيب بكر ‪ ،‬فقال ‪« :‬اي أاب بكر! إمنا يعرف‬
‫احلسن ‪ ،‬فجلس بني النيب صلّى ّ‬
‫الفضل ألهل الفضل ذوو الفضل»‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 39 ، )1714 /3‬كتاب السالم ‪ - 11 ،‬ابب حترمي إقامة‬
‫اإلنسان ‪ ،‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 79 ، )177 /7‬كتاب االستئذان ‪ - 31 ،‬ابب ال يقيم‬
‫الرجل الرجل حديث رقم (‪.)6269‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن البن العريب (‪.)1747 /4‬‬
‫ص ‪746 :‬‬
‫اّلل بن عباس على الصحابة ‪،‬‬ ‫وثبت يف «الصحيح «‪ »1‬أ ّن عمر بن اخلطاب كان يق ّدم عبد ّ‬
‫صر َِّ‬
‫ح (‪[ )1‬النصر ‪:‬‬
‫اّلل حوالْ حف ْت م‬ ‫فكلّموه يف ذلك ‪ ،‬فدعاهم ودعاه ‪ ،‬وسأهلم عن تفسري إِذا جاءح نح ْ م‬
‫اّلل عليه وسلّم‪ .‬فقال عمر ‪ :‬ما أعلم‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫‪ ]1‬فسكتوا‪ .‬فقال ابن عباس ‪ :‬هو أجل رسول ّ‬
‫منها إال ما تعلم ‪ ،‬مث قال ‪ :‬هبذا قدمت الفىت‪.‬‬
‫وكان التقدم يف جملس اجلمعة ابلبكور ‪ ،‬إال ما يلي اإلمام ‪ ،‬فإنّه لذوي األحالم والنّهى‪.‬‬
‫وكان التقدم يف جملس القتال إذا اصطفوا للحرب لذوي النجدة واملراس من الناس ‪ ،‬والتقدم يف‬
‫جملس الرأي والشورى ملن له بصر ابلشورى ‪ ،‬وخربة ابألمور‪.‬‬
‫اّلل الَّ ِذين آمنموا ِم ْن مكم والَّ ِذين أموتموا الْعِلْم حدر ٍ‬
‫جات‪ .‬اختلف املفسرون يف املراد ابملوصول هنا‬ ‫ح ح‬ ‫ْح ح‬ ‫يح ْرفح ِع َّم ح ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل املؤمنني ‪ ،‬سواء من‬
‫ْم فقال مجاعة ‪ :‬املراد من (الذين آمنوا) ّ‬ ‫ين أموتموا الْعل ح‬ ‫وو الَّذ ح‬
‫آمنموا ح‬ ‫ين ح‬ ‫الَّذ ح‬
‫أوتوا العلم منهم ‪ ،‬ومن مل يؤتوه‪ .‬واملراد من (الذين أوتوا العلم) العلماء من املؤمنني خاصة ‪،‬‬
‫وعلى ذلك يكون العطف من عطف اخلاص على العام ‪ ،‬تعظيما للعلماء حبسباّنم ‪ ،‬كأّنم جنس‬
‫آخر‪.‬‬
‫وقال قوم ‪ :‬املراد ابلذين آمنوا ‪ :‬املؤمنون الذين مل يؤتوا العلم ‪ ،‬بدليل مقابلته ابلذين أوتوا العلم‬
‫اّلل عنهم ‪ ،‬وعليه يكون العطف عطف‬
‫‪ ،‬وهذا مروي عن ابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس رضي ّ‬
‫دل عليه املذكور ‪ ،‬ويكون‬
‫متغايرين ابلذات ‪ ،‬ويكون املوصول الثاين معموال لفعل حمذوف ّ‬
‫دل عليه املعمول املذكور ‪ ،‬ويكون الكالم من عطف اجلمل ‪،‬‬
‫معمول الفعل املذكور حمذوفا ‪ّ ،‬‬
‫اّلل الذين آمنوا ومل يؤتوا العلم درجات تليق هبم ‪ ،‬ويرفع الذين أوتوا العلم‬
‫والتقدير ‪ :‬يرفع ّ‬
‫درجات‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬املراد ابملوصولني واحد ‪ ،‬والعطف لتنزيل التغاير يف الصفات منزلة التغاير يف‬
‫اّلل الذين آمنوا العاملني درجات‪.‬‬
‫الذوات‪ .‬واملعىن ‪ :‬يرفع ّ‬
‫وعلى هذه األوجه يكون رفع الدرجات جزاء المتثاهلم ألمر النهوض من اجملالس ‪ ،‬ويف هذا اجلزاء‬
‫مناسبة للعمل املأمور به ‪ ،‬وهو ترك ما كانوا يتنافسون فيه من اجللوس يف أرفع اجملالس وأقرهبا من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فلما كان املمتثل لذلك خيفض نفسه تواضعا ّّلل ‪ ،‬وامتثاال ألمره‬
‫النيب صلّى ّ‬
‫جوزي على تواضعه برفع الدرجات و«من تواضع ّّلل رفعه» وذهب آخرون إىل أ ّن مجلة يح ْرفح ِع َّ‬
‫اّللم‬
‫جات كالتعليل لألمر السابق ‪ ،‬أي إذا قيل لكم اّنضوا‬ ‫الَّ ِذين آمنموا ِم ْن مكم والَّ ِذين أموتموا الْعِلْم حدر ٍ‬
‫ح ح‬ ‫ْح ح‬ ‫ح ح‬
‫للتوسعة على القادمني فاّنضوا ‪ ،‬أل ّن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )113 /6‬كتاب التفسري ‪ - 40 ،‬ابب قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(فسبح حبمد ربك) حديث رقم (‪.)4970‬‬
‫ص ‪747 :‬‬
‫اّلل درجات على غريهم ‪ ،‬فأوسعوا هلم يف اجملالس وأكرموهم كما‬
‫منهم مؤمنني علماء رفعهم ّ‬
‫اّلل‪.‬‬
‫أكرمهم ّ‬
‫يقل ما روي من اآلاثر واألخبار يف ذلك عن‬
‫مث اآلية بعد هذا دليل على فضل العلماء ‪ ،‬وال ّ‬
‫داللة اآلية يف الظهور والوضوح ‪،‬‬
‫فقد أخرج الرتمذي وأبو داود «‪ »1‬وغريمها عن أيب الدرداء مرفوعا «فضل العامل على العابد‬
‫كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪:‬‬
‫اّلل صلّى ّ‬
‫وأخرج الدارمي «‪ »2‬عن عمر بن كثري عن احلسن قال ‪ :‬قال رسول ّ‬
‫«من جاءه املوت وهو يطلب العلم ليحيي به اإلسالم ‪ ،‬فبينه وبني النبيني درجة»‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬بني العامل والعابد مئة درجة ‪ ،‬بني كل درجتني حضر اجلواد املضمر‬
‫وعنه صلّى ّ‬
‫سبعون سنة» «‪.»3‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪« :‬يشفع يوم القيامة ثالثة ‪ :‬األنبياء ‪ ،‬مث العلماء ‪ ،‬مث الشهداء»‬
‫وعنه صلّى ّ‬
‫«‪.»4‬‬
‫وحسب العلماء أن يلوا األنبياء ‪ ،‬ويتق ّدموا الشهداء‪.‬‬
‫واملراد ابلعلم الذي أوتوه هو العلم النافع يف الدنيا والدين ‪ ،‬ولن يكون العلم انفعا يرفع صاحبه‬
‫رب حم ْقتاً ِعنْ حد َّ‬
‫اّللِ أح ْن‬ ‫حىت يكون هو من العاملني ‪ ،‬وإال كان من الذين يقولون ما ال يفعلون ‪ ،‬حك مح‬
‫تح مقولموا ما ال تح ْف حعلمو حن (‪.)3‬‬
‫ك حخ ْريٌ‬ ‫ص حدقحةً ذلِ ح‬ ‫ول فح حق ِّد مموا بح ْح‬
‫ني يح حد ْي حْجنوا مك ْم ح‬ ‫الر مس ح‬ ‫آمنموا إِذا ح‬
‫انج ْي تم مم َّ‬ ‫ين ح‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أحيُّ حها الَّذ ح‬ ‫قال ّ‬
‫ني ي حدي حجنْوا مكم ص حد ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اّلل غح مف ِ‬
‫قات‬ ‫ْ ح‬ ‫يم (‪ )12‬أحأح ْش حف ْقتم ْم أح ْن تم حق ّد مموا بح ْح ح ْ‬ ‫ور حرح ٌ‬‫لح مك ْم حوأحط حْه مر فحِإ ْن حملْ حجتِ مدوا فحِإ َّن َّح ٌ‬
‫اّللم حخبِريٌ ِمبا‬ ‫الزكاةح وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللح حوحر مسولحهم حو َّ‬
‫حطيعموا َّ‬ ‫الصالةح حوآتموا َّ ح‬ ‫يموا َّ‬ ‫ب َّ‬
‫اّللم عحلحيْ مك ْم فحأحق م‬ ‫فحِإ ْذ حملْ تح ْف حعلموا حوات ح‬
‫اّلل صلّى‬
‫تح ْع حملمو حن (‪ )13‬قد علمتم فيما سبق أن الصحابة كانوا يتنافسون يف القرب من رسول ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف جملسه ‪ ،‬ويتسابقون عليه ‪ ،‬وأنه صعب على بعضهم أن يقوم للمتأخر ‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم يف بعض شأنه ‪ ،‬وكانوا يكثرون من هذه‬
‫كان بعضهم يناجي الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وقد يستثقله احلاضرون ‪ ،‬فأراد‬
‫املناجاة ‪ ،‬فكان ذلك يش ّق على الرسول صلّى ّ‬
‫حيب الكالم‬
‫اّلل أن حي ّد من هذه املناجاة ‪ ،‬وهي ال ميكن منعها ‪ ،‬فقد يكون لبعض الناس شأن ال ّ‬
‫ّ‬
‫فيه إال مناجاة ‪ ،‬وشؤون الناس ال ميكن ضبطها ‪ ،‬وال معرفة مقدار األمهية فيها ‪ ،‬إال بعد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )47 /5‬كتاب العلم ‪ ،‬ابب ما جاء يف فضل الفقه‬
‫حديث رقم (‪ ، )2682‬وأبو داود يف السنن (‪ ، )313 /3‬كتاب العلم ‪ ،‬ابب احلث على طلب‬
‫العلم حديث رقم (‪].....[ .)3641‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدارمي يف السنن (‪ ، )100 /1‬ابب فضل العلم والعامل‪.‬‬
‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 37 ، )1443 /2‬كتاب الزهد ‪ - 37‬ابب ذكر الشفاعة‬
‫حديث رقم (‪.)4313‬‬

‫ص ‪748 :‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل املؤمنني أن يق ّدموا صدقات عند مناجاة الرسول صلّى ّ‬
‫حصول املناجاة ابلفعل ‪ ،‬فأمر ّ‬
‫فكل منهما متعلّق مبا يكون يف‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬هبذا ترى أ ّن اآلية متصلة مبا قبلها متام االتصال ‪ّ ،‬‬
‫اّلل عليه وسلّم وما يفعله اجلالسون يف اجمللس الشريف‪.‬‬
‫جملس الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل املؤمنني بذلك ح ّدا للمناجاة اليت تكون لغري حاجة ومنعا منها ‪ ،‬ونفعا للفقراء الذين‬
‫أمر ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم وقد تدعو املناجاة إىل أن يقوموا من جملسهم هلذا‬
‫يكونون يف جملس الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬فإذا كان هذا القيام سيعود ابلفائدة على‬
‫الذي يريد أن يناجي الرسول صلّى ّ‬
‫الفقراء اطمأنت قلوب القائمني ‪ ،‬فقراء كانوا أو أغنياء ‪ ،‬فإ ّن األغنياء يطيب خاطرهم لنفع‬
‫الفقراء‪.‬‬
‫ص حدقحةً يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى ‪،‬‬
‫ني يح حد ْي حْجنوا مك ْم ح‬
‫والتعبري بقوله تعاىل ‪ :‬بح ْح‬
‫على طريق متثيل النجوى مبن له يدان ‪ ،‬أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى ابإلنسان‬
‫‪ ،‬وإثبات اليدين ختييل‪.‬‬
‫ويقول املفسرون ‪ :‬إن هذا األمر اشتمل على فوائد كثرية ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وإكبار شأن مناجاته ‪ ،‬كأّنا شيء ال ينال‬
‫منها ‪ :‬تعظيم أمر الرسول صلّى ّ‬
‫بسهولة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم ابلتقليل من املناجاة‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬التخفيف عن النيب صلّى ّ‬
‫اّلل عليه‬
‫ومنها ‪ :‬هتوين األمر على الفقراء الذين قد يغلبهم األغنياء على جملس الرسول صلّى ّ‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬ومناجاهتم له‬
‫وسلّم ‪ ،‬فإّنم إذا علموا أ ّن قرب األغنياء من الرسول صلّى ّ‬
‫تسبقها الصدقة مل يضجروا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلّم مبا ال يكون مهما من األمور ‪ ،‬فيتفرغ للرسالة‬
‫ومنها ‪ :‬عدم شغل الرسول صلّى ّ‬
‫الشح ابملال يقتصدون يف املناجاة اليت تسبقها الصدقة‪.‬‬
‫فإ ّن الناس وقد جبلوا على ّ‬
‫حمك الدواعي‪.‬‬
‫حمب اآلخرة ‪ ،‬فإ ّن املال ّ‬
‫حمب الدنيا من ّ‬
‫ومنها ‪ :‬متييز ّ‬
‫هذا وقد اختلف العلماء يف مقتضى هذا األمر ‪ ،‬أهو الوجوب أم هو الندب‪.‬‬
‫فقال بعضهم ابلوجوب ‪ ،‬مستدال أب ّن اآلية فيها أمر بتقدمي الصدقة عند النجوى ‪ ،‬واألمر‬
‫اّلل غح مف ِ‬
‫يم ومثل هذا ال يقال إال يف‬ ‫اّلل يف آخر اآلية ‪ :‬فحِإ ْن حملْ حجتِ مدوا فحِإ َّن َّح ٌ‬
‫ور حرح ٌ‬ ‫للوجوب ‪ ،‬مث قال ّ‬
‫الواجبات اليت ال ترتك‪.‬‬
‫اّلل قال يف اآلية ‪:‬‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬إن األمر هنا للندب واالستحباب ‪ ،‬وذلك أ ّن ّ‬
‫ك حخ ْريٌ لح مك ْم حوأحط حْه مر ومثل هذا قرينة تصرف األمر عن ظاهره ‪ ،‬وهو إمنا يستعمل يف التطوع‬ ‫ذلِ ح‬
‫دون الفرض‪.‬‬
‫ني يح حد ْي حْجنوا مك ْم‬‫اّلل تعاىل يف اآلية اليت بعد هذه مباشرة ‪ :‬أحأح ْش حف ْقتم ْم أح ْن تم حق ِّد مموا بح ْح‬
‫وأيضا قال ّ‬
‫ٍ‬
‫األول من احتمال الوجوب ‪ ،‬انظر إىل قوله ‪ :‬فحِإ ْذ حملْ تح ْف حعلموا حو ح‬
‫اتب‬ ‫ص حدقات وهذا يزيل ما يف األمر ّ‬ ‫ح‬
‫الصالةح‪.‬‬
‫يموا َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اّللم حعلحْي مك ْم فحأحق م‬

‫ص ‪ 749 :‬وقد أجاب القائلون ابلوجوب ‪ :‬أبنه كما يوصف التطوع أبنّه خري وأطهر ‪ ،‬كذلك‬
‫يوصف الفرض ‪ ،‬بل هو أوىل‪.‬‬
‫وأما آية أحأح ْش حف ْقتم ْم فهي انسخة للوجوب الذي ثبت ابألمر ‪ ،‬وال يلزم من اتصال اآليتني يف التالوة‬
‫اتصاهلما يف النزول‪.‬‬
‫وهؤالء القائلون ابلوجوب وابلنسخ اختلفوا يف مقدار أتخر الناسخ عن املنسوخ ‪ ،‬فقال بعضهم ‪:‬‬
‫ما بقي املنسوخ ّإال ساعة من ّنار ‪ ،‬وينسب ما روي عن أت ّخر كبار الصحابة عن تقدمي الصدقة‬
‫إىل ضيق الوقت ‪ ،‬وروي أنه بقي األمر عشرة أايم مث نسخ‪.‬‬
‫وقد روى عن علي بن أيب طالب أنه أول من عمل هبذا األمر ‪ ،‬وآخر من عمل به ‪ ،‬وأنه كان‬
‫اّلل عليه وسلّم ق ّدم درمها‪.‬‬
‫عنده دينار فصرفه إىل عشرة دراهم ‪ ،‬فكلما انجى الرسول صلّى ّ‬
‫ويرى أبو مسلم األصفهاين عدم وقوع النسخ ‪ ،‬ويقول يف هذه اآلية ‪ :‬إنّه كان يوجد بني املؤمنني‬
‫مجاعة من املنافقني ‪ ،‬كانوا ميتنعون من بذل الصدقات ‪ ،‬وإ ّن فريقا منهم عدل عن نفاقه ‪ ،‬وصار‬
‫اّلل تعاىل أن مييزهم عن املنافقني الذين ال يزالون على‬
‫مؤمنا ظاهرا وابطنا إمياان حقيقيا‪ .‬فأراد ّ‬
‫نفاقهم ‪ ،‬فأمر بتقدمي الصدقة ‪ ،‬ليتميز هؤالء من هؤالء ‪ ،‬وإذا كان هذا التكليف هلذه املصلحة‬
‫املقدرة لذلك الوقت ‪ ،‬ال جرم يقدر التكليف بذلك الوقت‪.‬‬
‫قال الفخر الرازي ‪ :‬وحاصل قول أيب مسلم أ ّن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية خمصوصة ‪،‬‬
‫فوجب انتهاؤه عند االنتهاء إىل الغاية املخصوصة ‪ ،‬فال يكون هذا نسخا‪.‬‬
‫مث قال ‪ :‬وهذا كالم حسن ال أبس به ‪ ،‬واملشهور عند اجلمهور أنه منسوخ بقوله تعاىل ‪ :‬أحأح ْش حف ْقتم ْم‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬إنه منسوخ بوجوب الزكاة‪.‬‬
‫وحنن نرى مع الفخر الرازي أ ّن كالم أيب مسلم كالم حسن ‪ ،‬لكنّا نبحث عن أولئك الذين حسن‬
‫إمياّنم ‪ ،‬الذين أريد متييزهم من املنافقني ‪ ،‬فال جند أ ّن أحدا تص ّدق‪.‬‬
‫بل لقد روي أنّه مل يعمل هبذه اآلية إال اإلمام علي بن أيب طالب ‪ ،‬ولقد عجب الناس كيف مل‬
‫يعمل كبار الصحابة هبذا التكليف ‪ ،‬وصاروا يعتذرون عنه أبنه مل يبق إال ساعة من ّنار ‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال ‪ :‬إنّه استمر عشرة أايم ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬نسخ قبل أن يعمل به أحد‪.‬‬
‫ويعجبنا قول الفخر يف الدفاع عن عدم عمل الصحابة ‪ :‬أنه على تقدير أن أفاضل الصحابة‬
‫وجدوا الوقت ومل يفعلوا فهذا ال جير إليهم طعنا ‪ ،‬وذلك أن اإلقدام على هذا العمل ِما يضيق به‬
‫جر ذلك إىل الطعن فيه ‪ ،‬فهذا العمل ملا‬
‫قلب الفقري ‪ ،‬ويوحش قلب الغين ‪ ،‬ألنه إن مل يفعل ّ‬
‫كان سببا حلزن الفقري ‪ ،‬ووحشة الغين ‪ ،‬مل يكن يف تركه كبري مضرة ‪ ،‬بل لقد بينا أّنم إمنا كلّفوا‬
‫هبذه الصدقة ليرتكوا هذه املناجاة‪ .‬وملا كان األوىل هبذه املناجاة أن تكون مرتوكة ‪ ،‬مل يكن تركها‬
‫سببا للطعن‪.‬‬

‫ص ‪750 :‬‬
‫والذي أعجبنا من كالم الفخر هو اجلزء األخري منه ‪ ،‬وأما ما قبله فهو قابل للمناقشة ‪ ،‬وما نرى‬
‫يف عدم فعل الصحابة طعنا وال شينا ‪ ،‬بل إّنّم فهموا أ ّن شرعية هذا احلكم قصد منها احلد من‬
‫اّلل عليه وسلّم ‪ ،‬وقد سبق أن قلنا ‪ :‬إن املناجاة ال‬
‫املناجاة الكثرية ‪ ،‬فيضيع وقت الرسول صلّى ّ‬
‫ميكن منعها ‪ ،‬فمنها الضروري ‪ ،‬ومنها ما يكون فيه مصلحة عامة للمسلمني‪.‬‬
‫وأما الصدقة فلم تطلب ألّنّا صدقة ‪ ،‬فالصدقات مطلوبة ‪ ،‬ومرغب فيها من غري توقف على‬
‫املناجاة ‪ ،‬ولو أ ّن الصحابة فهموا أن املقصود التوسل ابملناجاة لتكون اباب من أبواب الصدقة ما‬
‫أتخروا ‪ ،‬فمنهم من نزل عن مجيع ماله ‪ ،‬ومنهم من كان يريد أن يتص ّدق ابلثلثني ‪ ،‬ألنه ال يرثه‬
‫اّلل عليه وسلّم‬
‫إال ابنة واحدة‪ .‬وما دام املقصود القصد من املناجاة اليت تشغل الرسول صلّى ّ‬
‫فليحرصوا على القصد ‪ ،‬على أّنّم وجدوا يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اّلل غح مف ِ‬
‫يم فسحة‪ .‬فمن ذا الذي كانت درامهه وداننريه حاضرة معه يف‬ ‫فحِإ ْن حملْ حجتِ مدوا فحِإ َّن َّح ٌ‬
‫ور حرح ٌ‬
‫اّلل عليه وسلّم حىت يتصدق هبا ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إنه مل ميتثل األمر؟‬
‫جملس الرسول صلّى ّ‬
‫ونظن أ ّان مبا قدمنا جندك يف غىن عن تفسري اآلية األوىل ‪ ،‬وأما قوله ‪ :‬أحأح ْش حف ْقتم ْم أح ْن تم حق ِّد مموا بح ْح‬
‫ني‬ ‫ّ‬
‫الزكاةح وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫حطيعموا َّ‬
‫اّللح‬ ‫الصالةح حوآتموا َّ ح‬ ‫يموا َّ‬‫اّللم حعلحْي مك ْم فحأحق م‬ ‫ص حدقات فحِإ ْذ حملْ تح ْف حعلموا حو ح‬
‫اتب َّ‬ ‫يح حد ْي حْجنوا مك ْم ح‬
‫اّللم حخبِريٌ ِمبا تح ْع حملمو حن (‪ )13‬فمعناه أخفتم تقدمي الصدقات ملا فيها من إنفاق املال ‪ ،‬فإذ‬ ‫حوحر مسولحهم حو َّ‬
‫مل تفعلوا ما أمرمت به ‪ ،‬واتب عليكم ‪ ،‬ور ّخص لكم يف الرتك ‪ ،‬فأقيموا الصالة ‪ ،‬وآتوا الزكاة ‪ ،‬وال‬
‫تفرطوا فيها ويف سائر الطاعات‪.‬‬
‫ّ‬
‫يشتم من هذه اآلية أنه وقع منهم تقصري ‪ ،‬فإ ّن التقصري إمنا يكون إذا ثبت أنه كانت‬ ‫وليس ّ‬
‫مناجاة مل تصحبها الصدقة ‪ ،‬واآلية قالت ‪ :‬فحِإ ْذ حملْ تح ْف حعلموا أي ما أمرمت به من التصدق ‪ ،‬وقد‬
‫يكون عدم الفعل ألّنم مل يناجوا ‪ ،‬فال يكون عدم الفعل تقصريا‪.‬‬
‫اّلل علم أ ّن كثريا منهم‬
‫وأما التعبري ابإلشفاق من جانبهم فال يدل على تقصريهم ‪ ،‬فقد يكون ّ‬
‫اّلل هلم ‪ :‬أحأح ْش حف ْقتم ْم‪.‬‬
‫استكثر التصدق عند كل مناجاة يف املستقبل لو دام الوجوب ‪ ،‬فقال ّ‬
‫قصروا ‪ ،‬فإنّه حيمل على أ ّن املعىن أنه اتب‬ ‫اتب َّ‬
‫اّللم ما يدل على أّنم ّ‬ ‫وكذلك ليس يف قوله ‪ :‬حو ح‬
‫يعرب عنه ابلتوبة ‪ ،‬ولذلك عقب عليه مبا‬ ‫عليهم برفع التكليف عنهم ختفيفا ‪ ،‬ومثل هذا جيوز أن ّ‬
‫الزكاةح وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللح حوحر مسولحهم حو َّ‬
‫اّللم‬ ‫حطيعموا َّ‬ ‫الصالةح حوآتموا َّ ح‬
‫يموا َّ‬
‫يكون شكرا على هذا التخفيف فقال ‪ :‬فحأحق م‬
‫حخبِريٌ ِمبا تح ْع حملمو حن يعين أنّه إذا اتب عليكم ‪ ،‬وكفاكم هذا التكليف ‪ ،‬فاشكروه إبقامة الصالة ‪،‬‬
‫وإيتاء الزكاة ‪ ،‬ومداومة الطاعة ‪ ،‬ألنه احمليط أبعمالكم ونياتكم‪.‬‬
‫‪http://www.shamela.ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب ‪ :‬تفسري آايت األحكام‬


‫املؤلف ‪ :‬حممد علي السايس‬
‫الناشر‪ :‬املكتبة العصرية للطباعة والنشر اتريخ النشر‪2002/10/01 :‬‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]‬

‫ص ‪751 :‬‬
‫من سورة احلشر‬
‫كاب َولكِ هن ه‬
‫اّللَ‬ ‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِمْن ُه ْم فَما أ َْو َج ْفتُ ْم َعلَْيهِ ِم ْن َخ ْي ٍل َوال ِر ٍ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وما أَفاءَ ه‬ ‫قال ه‬
‫اّللُ َعلى ُك ِهل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير (‪ )6‬ما أَفاءَ ه‬
‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِم ْن أَ ْه ِل الْ ُقرى‬ ‫ط ُر ُسلَهُ َعلى َم ْن يَشاءُ َو ه‬ ‫سلِه ُ‬
‫يُ َ‬
‫يل َكي ال ي ُكو َن دولَةً بني ْاألَغْنِ ِ‬ ‫ول َولِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى َوال َْمساكِ ِ‬ ‫فَلِلههِ ولِل هر ُس ِ‬
‫ياء‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫سبِ ِ ْ َ‬ ‫ني َوابْ ِن ال ه‬ ‫َ‬
‫قاب (‪)7‬‬ ‫اّللَ َش ِدي ُد ال ِْع ِ‬
‫اّللَ إِ هن ه‬
‫خ ُذوهُ َوما َنَا ُك ْم َع ْنهُ فَانْ تَ ُهوا َواته ُقوا ه‬ ‫ِم ْن ُك ْم َوما آات ُك ُم ال هر ُس ُ‬
‫ول فَ ُ‬
‫أفاء ‪ :‬قال املربهد ‪ :‬يقال ‪ :‬فاء إذا رجع ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل يف اإليالء ‪ :‬فَِإ ْن فا ُؤ [البقرة ‪]226 :‬‬
‫اّلل على أهل دينه من أموال من خالف‬
‫اّلل ر هده ‪ ،‬وقال األزهري «‪ : »1‬الفيء ما ر هده ه‬
‫‪ ،‬وأفاءه ه‬
‫أهل دينه بال قتال ‪ :‬هإما أبن جيلوا عن أوطاَنم وخيلوها للمسلمني ‪ ،‬أو يصاحلوا على جزية‬
‫يؤدوَنا من رؤوس أمواهلم ‪ ،‬أو مال غري اجلزية يفتدون به من سفك دمائهم ‪ ،‬كما فعله بنو‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬على أ هن لكل ثالثة منهم محل بعري مما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫النضري حني صاحلوا رسول ه‬
‫اّلل‬
‫شاؤوا ‪ ،‬سوى السالم ‪ ،‬ويرتكون الباقي ‪ ،‬فهذا املال الذي تركوه هو الفي ء ‪ ،‬وهو ما أفاء ه‬
‫على املسلمني ‪ ،‬أي رده من الكفار إىل املسلمني‪.‬‬
‫والبن العريب يف تسمية أيلولة هذه األموال فيئا معىن لطيف ال أبس أن نطلعك عليه ‪ ،‬قال رمحه‬
‫اّلل ‪ :‬ما أَفاءَ يريد ما ر هد ‪ ،‬وحقيقة ذلك ‪ ،‬أ هن األموال يف األرض للمؤمنني حقا ‪ ،‬ولعله يشري‬ ‫ه‬
‫صِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫بذلك إىل معىن قوله تعاىل ‪ :‬أَ هن ْاأل َْر َ‬
‫احلُو َن [األنبياء ‪ ]105 :‬فيستويل عليها‬ ‫ض يَ ِرثُها عباد َ‬
‫ي ال ه‬
‫اّلل املؤمنني ر هدها عليهم من أيدي الكفار رجعت يف طريقها‬
‫الكفار مع ذنوهبم عدال ‪ ،‬فإذا رحم ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فكان ذلك فيئا‪.‬‬
‫والضمري يف (منهم) للذين كفروا من أهل الكتاب املذكورين يف أول السورة ‪:‬‬
‫تاب ِم ْن ِداي ِرِه ْم ِألَ هو ِل ا ْحلَ ْش ِر وهم يهود بين النضري فَما‬
‫ين َك َف ُروا ِم ْن أَ ْه ِل الْكِ ِ‬ ‫ُهو اله ِذي أَ ْخر ِ‬
‫ج الهذ َ‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫أ َْو َج ْفتُ ْم َعلَْيه يقال ‪ :‬وجف الفرس والبعري ‪ :‬جيف وجفا ووجيفا ‪ ،‬أسرع يف السري ‪ ،‬وأوجفه‬ ‫ِ‬
‫صاحبه ‪ :‬محله على السري السريع ‪ ،‬والضمري يف (عليه) يرجع إىل ما يف قوله ‪ :‬ما أَفاءَ ه‬
‫اّللُ‬
‫خص يف لسان العرب‬
‫والركاب ‪ :‬ما يركب ‪ ،‬وهو اسم مجع ‪ ،‬وقد ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬حممد بن أمحد ‪ ،‬إمام يف اللغة ‪ ،‬تويف (‪ 370‬ه) ‪ ،‬من مصنفاته هتذيب اللغة ‪ ،‬انظر األعالم‬
‫للزركلي (‪.)311 /5‬‬

‫ص ‪752 :‬‬
‫مبا كان من اإلبل خاصة ‪ ،‬ال يكادون يطلقون اسم الراكب هإال على راكب البعري ‪ ،‬وإن كانت‬
‫لكن العرب كثريا ما‬
‫التسمية لالشتقاق من الركوب ‪ ،‬ويوجد هذا املعىن يف غري راكب البعري ‪ ،‬ه‬
‫يقصرون اللفظ على بعض ما يوجد فيه مبدأ االشتقاق‪.‬‬
‫اّلل جعلها‬ ‫سلِه ُ‬
‫ط ُر ُسلَهُ َعلى َم ْن يَشاءُ املعىن ‪ :‬أ هن هذه األموال وإن كانت فيئا فإ هن ه‬ ‫َولكِ هن ه‬
‫اّللَ يُ َ‬
‫خاصة ‪ ،‬ألن رجوعها له مل يكن من طريق قتالكم هلم ‪ ،‬بل كان عن طريق إلقاء الرعب يف‬ ‫لرسوله ه‬
‫شموا رحلة ‪ ،‬وال أنفقوا ماال ‪ ،‬وما كان من عمل‬ ‫قلوهبم ‪ ،‬ومل يتكلف الناس فيه سفرا ‪ ،‬وال جت ه‬
‫الناس يف حصارهم فهو عمل يسري ال يعتد به يف جانب إلقاء الرعب فيهم ‪ ،‬ومن أجل ذلك كان‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫الفيء للرسول صلهى ه‬
‫دل عليه الكالم ‪ ،‬وهو خرب (ما) يف قوله ‪َ :‬وما‬ ‫ولعلك من هذا استشعرت أ هن يف اآلية حمذوفا ه‬
‫اّللُ عَلى ُك ِهل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير‬
‫دل عليه قوله ‪ :‬فَما أ َْو َج ْفتُ ْم عَلَيْهِ ‪َ ،‬و ه‬ ‫أَفاءَ ه‬
‫اّللُ تقديره فال شيء لكم فيه ‪ ،‬ه‬
‫يظهركم على أعدائكم من غري حاجة إىل حرب هذا هو تفسري هذه اآلية‪.‬‬
‫وقد جاء الكالم فيما يؤخذ من األعداء يف ثالثة مواضع من القرآن ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬يف قوله تعاىل يف سورة األنفال ‪ :‬وا ْعلَموا أَهَّنا غَنِ ْمتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَأَ هن ِهّللِ ُُخُسهُ ولِل هر ُس ِ‬
‫ول‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫آم ْن تُ ْم ِِب هّللِ [األنفال ‪.]41 :‬‬ ‫سبِ ِ‬
‫يل إِ ْن ُكْن تُ ْم َ‬ ‫َولِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى َوال َْمساكِ ِ‬
‫ني َوابْ ِن ال ه‬
‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِمْن ُه ْم فَما أ َْو َج ْفتُ ْم اآلية‪.‬‬
‫واملوضع الثاين ‪ :‬هو اآلية األوىل اليت معنا ‪َ :‬وما أَفاءَ ه‬
‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِم ْن أَ ْه ِل الْ ُقرى فَلِلههِ ولِل هر ُس ِ‬
‫ول‬ ‫واملوضع الثالث ‪ :‬هو اآلية اليت بعدها ‪ :‬ما أَفاءَ ه‬
‫َ‬
‫يل َكي ال ي ُكو َن دولَةً بني ْاألَغْنِ ِ‬
‫ياء ِمنْ ُك ْم‪.‬‬ ‫َولِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى َوال َْمساكِ ِ‬
‫ُ َ َْ‬ ‫سبِ ِ ْ َ‬ ‫ني َوابْ ِن ال ه‬
‫وقد نقلنا لك من اآلايت ما يفهم منه أ هن اآلايت تبدو متخالفة احلكم ‪ ،‬فآية األنفال تقول ‪:‬‬
‫فدل ذلك على‬
‫ول إخل ه‬ ‫وا ْعلَموا أَهَّنا غَنِ ْمتُ ْم فأسندت الغنم هلم ‪ ،‬مث قالت ‪ :‬فَأَ هن ِهّللِ ُُخُسهُ ولِل هر ُس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫أ هن الغنيمة توهزع أُخاسا ‪ ،‬على حسب ما فهمته يف الفقه ‪ ،‬وما عرفته يف تفسري اآلية يف األنفال‪.‬‬
‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِم ْن ُه ْم فَما أ َْو َج ْفتُ ْم َعلَْيهِ ِم ْن َخ ْي ٍل َوال ِر ٍ‬
‫كاب ومعىن‬ ‫واآلية اليت معنا تقول ‪َ :‬وما أَفاءَ ه‬
‫اّلل على رسوله من أموال الكفار ال شيء لكم فيه ‪ ،‬ألنهكم مل‬
‫هذا على ما علمت ‪ :‬أن ما ر هده ه‬
‫اّلل عليه وسلهم خاصة ‪ ،‬يصرفه كيف شاء‪.‬‬‫توجفوا عليه ‪ ،‬وإَّنا هو للرسول صلهى ه‬
‫واآلية الثالثة خالفت هذه اآلية ‪ ،‬فلم تقل منهم ‪ ،‬بل قالت ‪ِ :‬م ْن أَ ْه ِل الْ ُقرى ووهزعت الفيء‬
‫كتوزيع الغنيمة ‪ ،‬مع فرق واحد هو أ هن آية األنفال وزعت فيها الغنيمة وقيل فيها ‪ :‬فَأَ هن ِهّللِ‬
‫ول وآية احلشر جعلت الفيء بني الذين ذكروا يف األنفال ‪ ،‬ومل يشر فيها إىل‬ ‫ُُخُسهُ ولِل هر ُس ِ‬
‫َ َ‬
‫اخلمس‪.‬‬

‫ص ‪ 753 :‬ولقد كان ما بدا من خالف بني اآلايت مثار اخلالف بني العلماء يف مدلول اآلايت ‪،‬‬
‫فمنهم من يرجع آية احلشر الثانية إىل آية األنفال ‪ ،‬وجيعل آية احلشر األوىل منسوخة ‪ ،‬ومنهم‬
‫من يقول ‪ :‬اآلايت الثالث لثالثة معان متباينة ‪:‬‬
‫فآية األنفال يف األموال تؤخذ عنوة‪.‬‬
‫وآية احلشر األوىل [‪ ]6‬فيما يرتكه الكفار فرارا وأيخذه املسلمون بعدهم من غري قتال‪.‬‬
‫وآية احلشر الثانية [‪ ]7‬فيما يؤخذ صلحا من جزية وخراج ‪ ،‬وما شابه ذلك‪.‬‬
‫يقسم بني الغاَّنني ‪ ،‬وما يؤخذ فرارا‬
‫واألحكام يف اآلايت خمتلفة حبسب ذلك ‪ ،‬فما يكون غنيمة ه‬
‫فهو للرسول ‪ ،‬أيكل منه ‪ ،‬ويصرفه بعد ذلك يف مصاحل املسلمني ‪ ،‬وما يؤخذ صلحا فهو ملن‬
‫اّلل يف آية احلشر الثانية ‪ ،‬وسنزيدك بعض اإليضاح فنقول ‪:‬‬
‫ذكر ه‬
‫إ هن من العلماء من جعل الغنيمة غري الفي ء ‪ ،‬وقال ‪ :‬الغنيمة ‪ :‬ما أخذه املسلمون من أموال‬
‫الكفار يف احلرب ‪ ،‬والفي ء ‪ :‬ما أخذ من غري حرب ‪ ،‬وجعل آية األنفال يف الغنيمة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن‬
‫آية احلشر األوىل يف الكفار من أهل الكتاب من بين النضري ‪ ،‬مل يتكلهف املسلمون عناء يف‬
‫مقاتلتهم ‪ ،‬ومل يكن للمسلمني يومئذ خيل وال ركاب ‪ ،‬ومل يقطعوا إليها مسافات كثرية ‪ ،‬إذ مل‬
‫اّلل عليه وسلهم وكان راكبا‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫يكن بينها وبني املدينة سوى ميلني ‪ ،‬ومل يركب إال رسول ه‬
‫مجال ‪ ،‬فلما كانت املقاتلة قليلة ‪ ،‬ومل يكن للمسلمني فيها خيل وال ركاب ‪ ،‬جعل ما أخذ من‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬يعول منه أهله ‪ ،‬وينفق الباقي يف مصاحل املسلمني ‪،‬‬
‫الكفار كلهه للرسول صلهى ه‬
‫اّلل على املسلمني من أموال سائر الكفار ‪ ،‬وجيعل‬
‫مث جعل اآلية الثانية من احلشر بياان ملا أفاء ه‬
‫اآلية الثانية كأَنها جواب سؤال نشأ من اآلية األوىل كأنهه قيل ‪ :‬قد علمنا حكم الفيء من بين‬
‫اّللُ َعلى َر ُسولِهِ ِم ْن أَ ْه ِل الْ ُقرى ولذلك‬
‫النضري ‪ ،‬فما حكم الفيء من غريهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أَفاءَ ه‬
‫ترى العطف‪.‬‬
‫وقد نقل اآللوسي الفرق بني الغنيمة والفيء عن بعض الشافعية ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن احلنفية قالوا‬
‫ِبلتفرقة أيضا ‪ ،‬ونقوهلا عن «املغرب» وغريه من كتب اللغة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬الغنيمة ‪:‬‬
‫ختمس ‪ ،‬وِبقيها للغاَّنني خاصة‪.‬‬
‫ما نيل من الكفار عنوة واحلرب قائمة‪ .‬وحكمها أن ه‬
‫والفي ء ‪ :‬ما نيل منهم بعد وضع احلرب أوزارها ‪ ،‬وصريورة الدار دار اإلسالم ‪ ،‬وحكمه أن‬
‫خيمس بل يصرف مجيعه يف مصاحل املسلمني‪.‬‬
‫يكون لكافة املسلمني ‪ ،‬وال ه‬
‫عمن عدا اإلمام الشافعي من األئمة األربعة ‪:‬‬
‫ونقل هذا احلكم اإلمام ابن حجر ه‬
‫وقال ‪ :‬إن الشافعي ُخهس الفيء قياسا على الغنيمة اليت ثبت التخميس فيها ِبلنص‪.‬‬
‫كال منهما مال الكفار ‪ ،‬استوىل عليه املسلمون ‪ ،‬واختالف سبب االستيالء ِبلقتال‬
‫جبامع أ هن ه‬
‫وغريه ال أتثري له‪.‬‬
‫اّلل عنه أنه صنع أبرض العراق ما حكمت به اآلية ‪،‬‬
‫وقد روي عن عمر رضي ه‬

‫ص ‪754 :‬‬
‫فاحتج عليهم ِبآلية ‪ ،‬ووافقه‬
‫ه‬ ‫وكان بعض الصحابة قد طلب إليه قسمته بني املسلمني كالغنيمة ‪،‬‬
‫علي وعثمان وطلحة والزبري ‪ ،‬بل إ هن املخالفني أيضا رجعوا إليه بعد ما ح هكم اآلية‪.‬‬
‫خيمس؟ أما توزيع اخلمس فليس لنا‬
‫خيمس أو ال ه‬
‫والذي يعنينا هنا هو اختالف العلماء يف الفيء ه‬
‫به تعلق ‪ ،‬ألنه ليس يف اآلية ‪ ،‬وألنهه تق هدم خالف العلماء فيه يف سورة األنفال [‪ ]28‬فارجع إليه‬
‫إن شئت ‪ ،‬ولنأخذ يف تفسري اآلية الثانية‪.‬‬
‫ول َولِ ِذي الْ ُق ْرىب َوالْيَتامى‬
‫اّللُ عَلى َر ُسولِهِ ِم ْن أَ ْه ِل الْ ُقرى فَلِلههِ ولِل هر ُس ِ‬
‫َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ما أَفاءَ ه‬ ‫قال ه‬
‫يل‪.‬‬‫سبِ ِ‬ ‫َوال َْمساكِ ِ‬
‫ني َوابْ ِن ال ه‬
‫اّلل تعاىل أ هن ما ر هده على رسوله من أهل القرى هو ملن ذكرهم يف النظم الكرمي ‪ ،‬وهم‬ ‫قد ذكر ه‬
‫ستة ‪ ،‬وقد اختلف العلماء ‪ -‬الذين قالوا ِبلقسمة أُخاسا ‪ ،‬أربعة أُخاس للغاَّنني ‪ ،‬وُخس ملن‬
‫يقسم ُخسة أسهم‬
‫اّلل تعاىل يف قسمة هذا اخلمس بني الذين ذكروا ‪ -‬فقال مجاعة ‪ :‬ه‬
‫ذكر ه‬
‫اّلل ‪ ،‬وهم الرسول ‪ ،‬وذو القرىب ‪ ،‬واليتامى ‪ ،‬واملساكني ‪ ،‬وابن السبيل‬
‫للخمسة الذين ذكرهم ه‬
‫تيمنا بذكره ‪ ،‬وإال فهو مالك السموات‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل فإ هَّنا كان ذكره معهم افتتاح كالم ه‬
‫وأما ه‬
‫واألرض‪.‬‬
‫اّلل يصرف إىل حاجة بيته ‪ ،‬وهو الكعبة ‪،‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أ هن اخلمس ستة أسهم ‪ ،‬منها سهم ه‬
‫كل بلدة ثبت فيها اخلمس ‪ ،‬ويقول اجلمهور ‪ :‬إ هن جعل‬
‫إن كانت قريبة ‪ ،‬وإال فإىل مسجد ه‬
‫السهام ستة خالف املعهود عن السلف يف تفسري ذلك‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فقد كان له يف حياته ‪ ،‬ينفق منه على نفسه وعياله ‪،‬‬
‫وأما سهم الرسول صلهى ه‬
‫ويصرف الباقي يف مصاحل املسلمني‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فذهب احلنفية إىل سقوطه ‪،‬‬
‫مث اختلف العلماء يف هذا السهم بعد وفاته صلهى ه‬
‫وقالوا يف تعليل ذلك ‪ :‬إ هن اخللفاء الراشدين ذهبوا فيه هذا املذهب ‪ ،‬ولو كانوا يعلمون انتقاله‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وهو مشتق من الرسالة ‪،‬‬
‫للخلفاء ما أسقطوه ‪ ،‬مث إنهه جعل للرسول صلهى ه‬
‫وذلك مؤذن أب هن الرسالة علة يف هذا اجلعل‪ .‬وقد انتهت الرسالة ‪ ،‬فينتهي ما نيط هبا من احلكم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم كان‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل عنه ‪ :‬أنهه يصرف للخليفة ‪ ،‬أل هن ه‬
‫ونقل عن الشافعي رضي ه‬
‫ولكن األكثر من الشافعية على أ هن السهم ِبق ‪ ،‬ولكنه يصرف يف‬
‫يستحقه إلمامته ال لرسالته ‪ ،‬ه‬
‫مصاحل املسلمني العامة ‪ ،‬وهذا معىن‬
‫اّلل عليكم هإال اخلمس ‪ ،‬واخلمس مردود عليكم»‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬مايل مما أفاء ه‬
‫قوله صلهى ه‬
‫«‪.»1‬‬
‫مر‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وهم معروفون يف الفقه ‪ ،‬وقد ه‬
‫وأما سهم ذي القرىب فهو لذي قرِبه صلهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر ما رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ِبملأثور (‪.)186 /3‬‬

‫ص ‪755 :‬‬
‫اخلالف فيهم يف سورة األنفال ‪ ،‬فال نعيده ‪ ،‬وكذا بيان اليتامى ‪ ،‬واملساكني ‪ ،‬وابن السبيل ‪،‬‬
‫فارجع إليه إن شئت‪.‬‬
‫اّلل عنه‬
‫اّلل عليه وسلهم يف حياته اإلمام الغزايل رضي ه‬
‫هذا وممهن قال أبن الفيء كلهه للرسول صلهى ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬فقد‬
‫‪ ،‬وممن ذهب إىل أ هن الفيء يصرف مصرف الغنيمة اإلمام الزخمشري «‪ »1‬رضي ه‬
‫مر‪.‬‬
‫جعل آية احلشر الثانية بياان لآلية األوىل ‪ ،‬مستدال برتك العطف على ما ه‬
‫وذهب أيضا إىل أ هن املراد أبهل القرى ‪ ،‬هو املراد ِبلضمري يف بين النضري يف ِم ْن ُه ْم وهم بنو‬
‫النضري‪.‬‬
‫وذهب احملقق ابن عطية إىل أ هن اآلية األوىل يف بين النضري خاصة‪ .‬وإىل أ هن الفيء فيها للرسول‬
‫اّلل عليه وسلهم خاصة ‪ ،‬وأما اآلية الثانية فاملراد من أهل القرى فيها غري بين النضري ‪ ،‬وهم‬
‫صلهى ه‬
‫تسمى قرى عرينة ‪ ،‬واحلكم يف‬
‫أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب اليت ه‬
‫ول َولِ ِذي الْ ُق ْرىب ‪.‬‬
‫اّلل ‪ :‬إَنا فَلِلههِ ولِل هر ُس ِ‬
‫َ‬ ‫أموال هؤالء هو ما قال ه‬
‫ياء ِمنْ ُك ْم الدولة بضم الدال وفتحها ما يدول ويدور لإلنسان من‬ ‫َكي ال ي ُكو َن دولَةً بني ْاألَغْنِ ِ‬
‫ُ َ َْ‬ ‫ْ َ‬
‫وفرق بعضهم بني مضموم الدال ومفتوحها ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إَنها بضم الدال ما يدول‬ ‫الغىن والغلبة ‪ ،‬ه‬
‫لإلنسان من املال ‪ ،‬وبفتحها ما يكون له من النصر‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬هي ِبلضم اسم ملا يتداول ‪ ،‬وِبلفتح مصدر مبعىن التداول ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬بل‬
‫مها لفظان ملعىن واحد‪.‬‬
‫واجلملة بعد هذا تعليل لتقسيم الفي ء ‪ ،‬والضمري يف يكون للفيء‪ .‬واملعىن‪ .‬أان قسمنا الفيء هذا‬
‫التقسيم كي ال خيتص به األغنياء ‪ ،‬أو كي ال يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم ‪ ،‬كما كان األغنياء‬
‫يعتزون به‪.‬‬
‫منهم يستأثرون ِبلغنيمة ‪ ،‬وكانوا ه‬
‫اّللَ َش ِدي ُد الْعِ ِ‬
‫قاب‪.‬‬ ‫اّللَ إِ هن ه‬
‫خ ُذوهُ َوما َنَا ُك ْم َع ْنهُ فَانْ تَ ُهوا َواته ُقوا ه‬
‫ول فَ ُ‬
‫َوما آات ُك ُم ال هر ُس ُ‬
‫ذهب بعض املفسرين إىل أ هن معىن (آاتكم) أعطاكم من الفي ء ‪ ،‬وأ هن ما َناكم أي عن أخذه ‪،‬‬
‫فانتهوا عن أخذه ‪ ،‬وكأنهه يستعني على ذلك ِبملقام‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم به وَنى عنه ‪ ،‬ويف مجلة ذلك‬‫كل ما أمر الرسول صلهى ه‬ ‫وذهب بعضهم إىل أَنها يف ه‬
‫الفيء استدالال مبا يف اآلية من ألفاظ العموم ‪ ،‬وألنهه قال بعدها ‪َ :‬واته ُقوا ه‬
‫اّللَ حيث يتناول كل ما‬
‫جيب فيه التقوى‪.‬‬
‫واّلل أعلم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ونواهيه أيضا ‪ ،‬ه‬
‫واآلية بعد هذا توجب امتثال أوامر الرسول صلهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري الكشاف للزخمشري (‪.)502 /4‬‬

‫ص ‪756 :‬‬
‫من سورة املمتحنة‬
‫ِ‬
‫ين َملْ يُقاتِلُوُك ْم ِيف ال هِدي ِن َوَملْ ُخيْ ِر ُجوُك ْم م ْن ِداي ِرُك ْم أَ ْن تَ َربُّ ُ‬
‫وه ْم‬ ‫ِ‬
‫اّللُ َع ِن الهذ َ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال يَ ْنها ُك ُم ه‬ ‫قال ه‬
‫ين قاتَلُوُك ْم ِيف ال هِدي ِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللُ َع ِن الهذ َ‬ ‫ني (‪ )8‬إِ هَّنا يَ ْنها ُك ُم ه‬ ‫ب ال ُْم ْق ِسط َ‬ ‫َوتُ ْق ِسطُوا إِل َْي ِه ْم إِ هن ه‬
‫اّللَ ُُِي ُّ‬
‫ك ُه ُم الظهالِ ُمو َن (‪)9‬‬ ‫اج ُك ْم أَ ْن تَ َوله ْو ُه ْم َوَم ْن يَتَ َوههلُ ْم فَأُولئِ َ‬
‫ظاهروا عَلى إِ ْخر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوأَ ْخ َر ُجوُك ْم م ْن داي ِرُك ْم َو َ ُ‬
‫ين َملْ يُقاتِلُوُك ْم فذهب بعضهم إىل أَنهم مؤمنون ‪ ،‬قعدوا عن‬ ‫ِ‬
‫واختلف العلماء يف املراد من الهذ َ‬
‫اهلجرة ضعفا منهم عن القيام هبا‪ .‬وقيل ‪ :‬بل هم مؤمنون من مكة ‪ ،‬أقاموا بني الكفرة ‪ ،‬وتركوا‬
‫اهلجرة مع القدرة ‪ ،‬وزاد جماهد على أن املهاجرين واألنصار كانوا يريدون هبر هؤالء القاعدين عن‬
‫حترجوا من برهم ‪ ،‬لرتكهم فرض اهلجرة‪.‬‬
‫اهلجرة ‪ ،‬ولكنهم ه‬
‫وعلى هذين القولني تكون اآلية ِبقية احلكم ‪ ،‬وأنهه ليس ما مينع املسلمني يف دار اإلسالم من بر‬
‫إخواَنم املسلمني الذين بقوا يف دار احلرب‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إ هن املراد النساء والصبيان من الكفرة ‪ ،‬الذين ال يقاتلون ‪ ،‬وهو مروي عن عبد‬
‫اّلل بن الزبري‪.‬‬
‫ه‬
‫وقال احلسن ‪ :‬هم قوم من خزاعة وبين احلرث بن كعب ‪ ،‬وكنانة ‪ ،‬ومزينة ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم على أال يقاتلوه ‪ ،‬وال يعينوا عليه ‪ ،‬وعليه فاآلية خاصة‬
‫كانوا صاحلوا النيب صلهى ه‬
‫بعدم النهي عن هبر من بينه وبني املسلمني عهد ‪ ،‬وهي ِبقية احلكم‪.‬‬
‫البخاري وأمحد «‪»1‬‬
‫ه‬ ‫وقد أخرج‬
‫‪ ،‬ومجاعة أَنا يف أم أمساء بنت أيب بكر ‪ ،‬وكانت قد قدمت على بنتها أمساء هبدية ‪ ،‬وهي مشركة‬
‫حّت‬
‫‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل جاءت تطلب صلتها ‪ ،‬فأبت أمساء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم عن هذا ‪ ،‬فسألته ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل عنها لتسأل رسول ه‬
‫أرسلت إىل عائشة رضي ه‬
‫ين َملْ يُقاتِلُوُك ْم ِيف ال هِدي ِن اآلية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اّللُ َع ِن الهذ َ‬
‫اّلل قوله تعاىل ‪ :‬ال يَ ْنها ُك ُم ه‬
‫فأنزل ه‬
‫قال اآللوسي ‪ :‬واألكثر على أَنا يف كفرة اتصفوا مبا يف حيز الصلة ‪ ،‬سواء يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 5 ، )192 /3‬كتاب اهلبة ‪ِ - 29 ،‬بب اهلدية حديث رقم‬
‫(‪ ، )2620‬وأمحد يف املسند (‪.)344 /6‬‬

‫ص ‪757 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذلك النساء والصبيان واملعاهدون ‪ ،‬وجميئها بعد آية ال تَتهخ ُذوا َع ُد هِوي َو َع ُد هوُك ْم أ َْولياءَ ه‬
‫يقرب هذا‬
‫اّلل تعاىل أنهه ال ينهاان عن هبر أحد من الناس ‪ ،‬إال من قاتلنا ‪ ،‬وظاهر على قتالنا ‪،‬‬
‫‪ ،‬فقد هبني ه‬
‫وأخرجنا من دايران ‪ ،‬وظاهر على إخراجنا‪ .‬وأما من عدا هؤالء من الكفار فلم ينهنا عن برهم‬
‫الرب أَنهم آذوان ‪ ،‬فال يكونون أهال لربان ‪ ،‬فإذا انتفت العلة‬
‫واإلقساط إليهم ‪ ،‬إذ علهة النهي عن ه‬
‫انتفى النهي‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين َملْ يُقاتِلُوُك ْم ِيف ال هِدي ِن َوَملْ ُخيْ ِر ُجوُك ْم م ْن ِداي ِرُك ْم أَ ْن تَ َربُّ ُ‬
‫وه ْم أنهه‬ ‫ِ‬
‫اّللُ َع ِن الهذ َ‬
‫ومعىن قوله ‪ :‬ال يَ ْنها ُك ُم ه‬
‫ال ينهى املسلمني عن اإلحسان إىل من اتصفوا من الكفرة هبذه الصفات املذكورة ‪ ،‬وهي عدم‬
‫املقاتلة يف الدين ‪ ،‬وعدم إخراج املسلمني من دايرهم ‪ ،‬ومعىن اإلقساط اإلفضاء ِبلقسط ‪ ،‬وهو‬
‫مضمن معىن اإلفضاء ‪،‬‬
‫العدل ‪ ،‬فمعىن تقسطوا إليهم تفضوا إليهم ِبلقسط والعدل ‪ ،‬فاإلقساط ه‬
‫ِ‬
‫ب ال ُْم ْق ِسط َ‬
‫ني العادلني‪.‬‬ ‫اّللَ ُُِي ُّ‬
‫ولذلك ع هدي إبىل إِ هن ه‬
‫استدل ِبآلية بعض العلماء على جواز التص هدق على أهل الذمة دون أهل احلرب على‬
‫ه‬ ‫وقد‬
‫وجوب النفقة لألب الذمي دون احلريب ‪ ،‬ألنهه جيب قتله واالستدالل على هذا األخري استدالل‬
‫الرب يستلزم وجوب الرب ‪،‬‬ ‫الرب ‪ ،‬وهل عدم النهي عن ه‬ ‫كل ما يف اآلية عدم النهي عن ه‬
‫عجيب ‪ ،‬إذ ه‬
‫والشهاب اخلفاجي قد نقل أ هن هذه اآلية منسوخة بقوله تعاىل ‪ :‬فَاقْتُلُوا ال ُْم ْش ِركِ َ‬
‫ني [التوبة ‪]5 :‬‬
‫وإن كان القول ِبلنسخ ال يكاد يظهر‪.‬‬
‫ظاهروا عَلى إِ ْخر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ُك ْم أَ ْن‬ ‫اّللُ عَ ِن الهذ َ‬
‫ين قاتَلُوُك ْم ِيف ال هدي ِن َوأَ ْخ َر ُجوُك ْم م ْن داي ِرُك ْم َو َ ُ‬ ‫إِ هَّنا يَنْها ُك ُم ه‬
‫تَ َوله ْو ُه ْم‪.‬‬
‫أي ليس النهي عن مواالة األعداء َنيا عن الرب مبن مل يقاتلكم ‪ ،‬ومل خيرجكم من دايركم ‪ ،‬إَّنا‬
‫اّلل عن أعدائه وأعدائكم ‪ ،‬الذين قاتلوكم من أجل دينكم ‪ ،‬وأجلئوكم إىل اخلروج من‬
‫ينهاكم ه‬
‫اّلل وينهاكم أن تتولوهم‬
‫دايركم ‪ ،‬وظاهروا على إخراجكم ‪ ،‬وأعانوا عليه ‪ ،‬هؤالء هم الذين َناكم ه‬
‫‪ ،‬وتلقوا إليهم ِبملودة‪.‬‬
‫ك ُه ُم الظهالِ ُمو َن ألنفسهم بتعريضها للعذاب ‪ ،‬حيث فعلوا ما يوجبه ‪ ،‬وهو‬
‫َوَم ْن يَتَ َوههلُ ْم فَأُولئِ َ‬
‫اختاذ األعداء أولياء وهم ظاملون ‪ ،‬ألَنهم وضعوا الوالية وضع العداوة ‪ ،‬وكأنه ال يستحق وصف‬
‫الظلم هإال هؤالء‪.‬‬
‫اّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِمياَنِِ هن‬ ‫ِ‬
‫ات فَ ْامتَ ِحنُ ُ‬
‫وه هن ه‬ ‫هاجر ٍ‬ ‫تم ِ‬
‫آمنُوا إِذا جاءَ ُك ُم ال ُْم ْؤمنا ُ ُ‬‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫قال ه‬
‫ِ‬ ‫وه هن م ْؤِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم ما‬‫وه هن إِ َىل الْ ُك هفا ِر ال ُه هن حلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َُِيلُّو َن َهلُ هن َوآتُ ُ‬
‫نات فَال تَ ْرِجعُ ُ‬ ‫فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ ُ‬
‫ص ِم الْ َكوافِ ِر َو ْسئَ لُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور ُه هن َوال ُتُْس ُكوا بِع َ‬ ‫ُج َ‬ ‫وه هن إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫ناح عَلَيْ ُك ْم أَ ْن تَنْك ُ‬
‫أَنْ َف ُقوا َوال ُج َ‬
‫ِ‬ ‫اّللِ َُْي ُكم ب ي نَ ُكم و ه ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪ )10‬غري املؤمنني‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫اّللُ َعل ٌ‬ ‫ْم ه ُ َ ْ ْ َ‬ ‫ما أَنْ َف ْقتُ ْم َولْيَ ْسئَ لُوا ما أَنْ َف ُقوا ذل ُك ْم ُحك ُ‬
‫فريقان ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬كافر ‪ ،‬عدو هّلل وللمؤمنني ‪ ،‬ال أيلو جهدا يف أذاهم ‪ ،‬واإليقاع هبم ما‬

‫ص ‪758 :‬‬
‫اّلل عن هبرهم ‪ ،‬وتوليهم ‪ ،‬وموادهتم ‪ ،‬بل أمران أن نقعد‬
‫استطاع إىل ذلك سبيال ‪ ،‬وهؤالء قد َناان ه‬
‫هلم كل مرصد ‪ ،‬وأن نع هد لقتاهلم ما استطعنا من قوة ومن رِبط اخليل‪.‬‬
‫والفريق الثاين ‪ :‬قوم كافرون ‪ ،‬ولكنهم مل يقاتلوان ‪ ،‬ومل خيرجوان من دايران ‪ ،‬ومل يظاهروا ‪ ،‬إما لعهد‬
‫بيننا وبينهم ‪ ،‬وإما ألَنم قوم ضعاف ال يستطيعون حرِب ‪ ،‬وال قتاال ‪ ،‬وال إخراجا ‪ ،‬وال مظاهرة‬
‫اّلل أنه ال ينهاان عن هبرهم واإلقساط إليهم‪.‬‬
‫على إخراج ‪ ،‬وهؤالء قد هبني ه‬
‫اّلل حكمهم‬ ‫وهناك فريق ال يعلم املؤمنون حاهلم على اجلزم ‪ ،‬وهم يظهرون اإلميان ‪ ،‬فهؤالء هبني ه‬
‫ِ‬
‫ات فَ ْامتَ ِحنُ ُ‬
‫وه هن إخل‬ ‫هاجر ٍ‬
‫تم ِ‬
‫آمنُوا إِذا جاءَ ُك ُم ال ُْم ْؤمنا ُ ُ‬
‫ِ‬
‫يف اآلايت اليت معنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬اي أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ين َ‬
‫اّلل عنه‬
‫اّلل عليه وسلهم أمر عليا رضي ه‬ ‫نزلت هذه اآلية بعد صلح احلديبية ‪ ،‬وقد روي أنهه صلهى ه‬
‫اّلل سهيل بن‬ ‫أن يكتب عقد الصلح ‪ ،‬فكتب ‪ِ :‬بمسك اللهم‪ .‬هذا ما صاحل عليه حممد بن عبد ه‬
‫ويكف بعضهم‬
‫ه‬ ‫عمرو ‪ ،‬اصطلحا على وضع احلرب عن الناس عشر سنني ‪ ،‬أيمن فيها الناس ‪،‬‬
‫حممد‬
‫عن بعض ‪ ،‬على أ هن من أتى حممدا من قريش بغري إذن وليه ر هده عليه ‪ ،‬ومن جاء قريشا من ه‬
‫أحب أن يدخل يف‬
‫مل يردوه عليه ‪ ،‬وأن بيننا عيبة مكفوفة ‪ ،‬وأنهه ال إسالل وال إغالل ‪ ،‬وأنه من ه‬
‫أحب أن يدخل يف عقد قريش وعهدهم دخل فيه‪.‬‬
‫عقد حممد وعهده دخل فيه ‪ ،‬ومن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم العهد ‪ ،‬فجاءه أبو جندل بن سهيل فرده ‪ ،‬ومل أيته أحد‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وقد ن هفذ رسول ه‬
‫من الرجال إال رده يف مدة العهد ‪ ،‬وإن كان مسلما‪.‬‬
‫أم «‪ »1‬كلثوم بنت عقبة بن معيط إحدى املؤمنات‬
‫مث جاءت املؤمنات مهاجرات ‪ ،‬وكانت ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عمار والوليد ‪ ،‬حّت قدما على رسول ه‬
‫اجلائيات ‪ ،‬فخرج أخواها ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫فكلهماه يف أمرها لريدها إىل قريش ‪ ،‬فنزلت اآلية ‪ ،‬فلم يردها صلهى ه‬
‫تسمى سبيعة بنت احلارث األسلمية ‪ ،‬جاءت مؤمنة مهاجرة ‪ ،‬وطلبوا‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت اآلية يف امرأة ه‬
‫ر هدها‪ .‬فنزلت «‪ »2‬اآلية‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬نزلت يف غريها ‪ ،‬ولعل سبب النزول متع هدد ‪ ،‬وعلى أي حال فاآلية يف امرأة أو نساء‬
‫جئن مهاجرات بعد صلح احلديبية‪.‬‬
‫وقد منعت اآلية إرجاع هؤالء النسوة إىل الكفار‪ .‬فقيل ‪ :‬نزلت اآلية بياان لنص العقد ‪ ،‬وأنه ما‬
‫نص عقد الصلح كان‬
‫تناول هإال الرجال ‪ ،‬غري أ هن هذا يكون من ختصيص العام ِبملتأخر ‪ ،‬أل هن ه‬
‫عاما «من جاء إىل حممد من قريش دون إذن وليه ر هده عليه»‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أسد الغابة يف معرفة الصحابة البن األثري (‪ )376 /7‬ترمجة (‪.)7585‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 64 ، )80 /5‬كتاب املغازي ‪ِ - 36 ،‬بب غزوة احلديبية‬
‫حديث رقم (‪.)4180‬‬

‫ص ‪759 :‬‬
‫فلعل هذا القائل يلتزم الذهاب إىل قول اجلبهائي‬
‫ومن العلماء من ال جييز التخصيص ِبملتأخر ‪ ،‬ه‬
‫ِبملخصص املتأخر ‪ ،‬وقد نسب إىل الزخمشري أ هن هذا ليس‬
‫ه‬ ‫ومن وافقه يف جواز ختصيص العام‬
‫من ِبب التخصيص ‪ ،‬وإَّنا هو من بيان اجململ ‪ ،‬ذلك أنه يرى أ هن هذه الصيغ ال تفيد العموم من‬
‫وتدل على العموم ِبلقرائن‪ .‬وعلى هذا (فمن) اليت يف‬
‫طريق الوضع ‪ ،‬بل هي من ِبب املطلق ‪ ،‬ه‬
‫عقد الصلح كانت جمملة ‪ ،‬وجاءت اآلية مبينة هلا ‪ ،‬وليس هذا من أتخري البيان عن وقت احلاجة‬
‫‪ ،‬بل هو أتخريه لوقت احلاجة ‪ ،‬فإ هن احلاجة إليه إَّنا كانت عند جميء املؤمنات مهاجرات ‪ ،‬وقد‬
‫نزلت اآلية عنده بياان لإلمجال الذي يف العقد‪.‬‬
‫وقد ذهب مجاعة إىل أ هن التعميم يف عقد الصلح مل يكن من طريق الوحي ‪ ،‬بل كان اجتهادا منه‬
‫اّلل عليه وسلهم أثيب عليه أبجر واحد ‪ ،‬وجاءت هذه اآلية بعدم إقراره على هذا االجتهاد‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يف األحكام مسألة خمتلف فيها ‪ ،‬ومن جييزها يقول ‪ :‬ما‬
‫‪ ،‬ومسألة اجتهاده صلهى ه‬
‫دام أنه جييء الوحي بعدم التقرير على اخلطأ فال ضري فيها ‪ ،‬وقد جاءت اآلية بعدم التقرير على‬
‫التعميم‪.‬‬
‫وذهب مجاعة إىل أ هن العهد كان بوحي ‪ ،‬وجاءت اآلية انسخة ‪ ،‬ومن ال جييز نسخ السنة‬
‫اّلل عليه وسلهم من الرد ‪ ،‬وجاءت اآلية‬
‫ِبلكتاب يقول ‪ :‬نسخ العهد ِبلسنة ‪ ،‬وهي امتناعه صلهى ه‬
‫مقررة هلذا االمتناع‪.‬‬
‫ه‬
‫نص خاص‬
‫ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غري الصيغة املتقدمة ‪ ،‬وأنه كان يشتمل على ه‬
‫ِبلنساء ‪ ،‬صورته أن ال أتتيك منا امرأة ليست على دينك إال رددهتا إلينا ‪ ،‬فإن دخلت يف دينك‬
‫اّلل عليه وسلهم من العهد مثل ذلك ‪ ،‬وعلى‬
‫وهلا زوج ر هدت على زوجها ما أنفق ‪ ،‬وللنيب صلهى ه‬
‫مقررة له‪.‬‬
‫هذا فاآلية موافقة للعهد ه‬
‫املعول ‪ ،‬وأما األقوال قبله فإَنها تنايف روح التشريع اإلسالمي من جهة أ هن‬
‫وهذا هو الذي عليه ه‬
‫الوفاء ِبلعهد واجب ‪ ،‬وال ينبغي ألحد الطرفني أن يستب هد بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون‬
‫موافقة الطرف الثاين‪.‬‬
‫ضح ذلك ما‬ ‫وأنت تعلم أ هن عهد احلديبية ما نسخ إال بعد أن نقضته قريش ‪ ،‬ونكثوا أمياَنم ‪ ،‬يو ه‬
‫جاء يف سورة التوبة ‪َ :‬وإِ ْن نَ َكثُوا أ َْميا ََنُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد عَ ْه ِد ِه ْم َوطَ َعنُوا ِيف ِدينِ ُك ْم فَقاتِلُوا أَئِ همةَ الْ ُك ْف ِر إِ هَنُ ْم‬
‫ول َو ُه ْم بَ َد ُؤُك ْم‬ ‫اج ال هر ُس ِ‬ ‫ال أ َْميا َن َهلُ ْم ل ََعله ُه ْم يَ ْن تَ ُهو َن (‪ )12‬أَال تُقاتِلُو َن قَ ْوماً نَ َكثُوا أ َْميا ََنُ ْم َومهَُّوا إبِِ ْخر ِ‬
‫ِ‬ ‫أَ هو َل َم هرةٍ أ ََختْ َ‬
‫ني (‪[ )13‬التوبة ‪ .]13 ، 12 :‬وما دام‬ ‫ش ْوهُ إِ ْن ُك ْن تُ ْم ُم ْؤمنِ َ‬
‫َح ُّق أَ ْن َختْ َ‬ ‫ش ْو ََنُ ْم فَ ه‬
‫اّللُ أ َ‬
‫العهد قد نسخ فنسخه نسخ ملا اشتمل عليه من احلكم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ات فَ ْامتَ ِحنُ ُ‬
‫وه هن‪.‬‬ ‫هاجر ٍ‬ ‫تم ِ‬
‫آمنُوا إِذا جاءَ ُك ُم ال ُْم ْؤمنا ُ ُ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫ولنرجع إىل تفسري اآلية ‪ :‬اي أَيُّ َها الهذ َ‬

‫ص ‪760 :‬‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪:‬‬ ‫املراد إذا جاءكم النساء الالئي يظهرن اإلميان ‪ ،‬وإَّنا كان هذا هو املراد أل هن ه‬
‫وه هن م ْؤِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫فَ ْامتَ ِحنُ ُ‬
‫نات فدل ذلك على أ هن الغرض من االمتحان علم‬ ‫وه هن مث قال ‪ :‬فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ ُ‬
‫ات منصوب على احلالية ‪ ،‬وجيء به بعد قوله تعاىل ‪ :‬إِذا جاءَ ُك ُم‬ ‫هاجر ٍ‬‫إمياَنن ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬م ِ‬
‫ُ‬
‫اّلل ‪ ،‬وفرارا بدينهن‬ ‫هن ما هجرن مكة وانتقلن منها إال حبا يف ه‬ ‫لبيان العلة يف عدم إرجاعهن ‪ ،‬إذ ه‬
‫نص العهد أن‬ ‫هلن على اإليذاء ‪ ،‬فإذا قضى ه‬ ‫وهن الضعيفات الاليت ال جلد ه‬ ‫من أذى الكفار ‪ ،‬ه‬
‫يلزمهن‬
‫ه‬ ‫يتحملون األذى ‪ ،‬أما هؤالء الاليت اضطررن إىل اهلجرة ‪ ،‬فكيف‬ ‫يبقي الرجال ‪ ،‬فهم ه‬
‫أنفسهن فَ ْامتَ ِحنُ ُ‬
‫وه هن فاختربوهن مبا ترونه موصال إىل غلبة الظن‬ ‫ه‬ ‫وهن ال يستطعن محاية‬
‫البقاء ‪ ،‬ه‬
‫إبمياَنن‪.‬‬
‫ه‬
‫اّلل عليه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وقد روي عن ابن عباس يف كيفية امتحاَنن أنه قال ‪ :‬كانت املرأة إذا جاءت ه‬
‫ِبّلل ما خرجت من‬
‫ِبّلل أبَنا ما خرجت رغبة أبرض عن أرض ‪ ،‬و ه‬
‫اّلل عنه ه‬
‫وسلهم حلهفها عمر رضي ه‬
‫وِبّلل ما خرجت إال حبا هّلل ورسوله‪.‬‬
‫وِبّلل ما خرجت التماس دنيا ‪ ،‬ه‬
‫بغض زوج ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أمر عمر بن اخلطاب فقال‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫امتحاَنن أ هن رسول ه‬
‫ه‬ ‫وعن ابن عباس أيضا أ هن‬
‫‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ِبيعكن على أال تشركن ِب هّلل شيئا إخل ما يف اآلية‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫قل هلن إن رسول ه‬
‫اآلتية ‪ ،‬وسيأيت أ هن آية مبايعة النساء هلا سبب غري هذا‪.‬‬
‫اّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِمياَنِِ هن مجلة اعرتاضية جيء هبا إلفادة أ هن االمتحان الغرض منه الوصول‬ ‫وقوله تعاىل ‪ :‬ه‬
‫اّلل وحده سبحانه ‪ ،‬فإنه املطلع‬ ‫إىل غلبة الظن ‪ ،‬وإال فاحلقيقة ال يعلمها على ما هي عليه إال ه‬
‫وه هن م ْؤِم ٍ‬
‫نات فَال تَ ْرِجعُ ُ‬
‫وه هن إِ َىل الْ ُك هفا ِر أي‬ ‫ِ‬
‫السر وأخفى فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ ُ‬
‫على ما يف القلوب ‪ ،‬يعلم ه‬
‫اجهن الكفار ‪،‬‬
‫ترجعوهن إىل أزو ه‬ ‫ه‬ ‫إمياَنن ‪ ،‬وغلب على ظنكم هذا ‪ ،‬فال‬ ‫ه‬ ‫تبني بعد االمتحان‬
‫فإن ه‬
‫وإَّنا أقحمنا لفظ األزواج أخذا من قوله بعد ‪ :‬ال ُه هن ِحلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َُِيلُّو َن َهلُ هن فإنهه استئناف‬
‫قصد منه بيان علهة النهي عن إرجاعهن إىل الكفار ‪ ،‬ومجلة ال ُه هن ِحلٌّ َهلُ ْم أفاد الفرقة ‪ ،‬وحتقيق‬
‫زوال النكاح األول على الثبوت واالستقرار ‪ ،‬واجلملة الثانية ‪َ :‬وال ُه ْم َُِيلُّو َن َهلُ هن أفادت أ هن‬
‫اجهن مثل ما أنفقوا‬
‫وه ْم ما أَنْ َف ُقوا أي أعطوا أزو ه‬
‫النكاح يف املستقبل ال يستأنف للكفار ‪َ ،‬وآتُ ُ‬
‫عليهن من املهر ‪ ،‬وقد قيل ‪ :‬إ هن ذلك واجب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنهه مندوب ‪ ،‬وقد فعل ذلك يف زمن‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فقد روي أ هن ربيعة األسلمية ملا جاءت تزوجها عمر ‪ ،‬وأعطى زوجها‬
‫النيب صلهى ه‬
‫ما أنفق‪ .‬وقيل ‪ :‬إ هن هذا احلكم غري ِبق ‪ ،‬أل هن ذلك كان يف املهاجرات ‪ ،‬وقد ذهبت اهلجرة‬
‫«و ال هجرة بعد الفتح»‬
‫مقررة له ‪ ،‬وقد انتهى العهد‬
‫نص جاءت اآلية ه‬
‫على أنك قد مسعت ما روي من أ هن العهد كان فيه ه‬
‫مبا فيه ‪ ،‬فال بقاء هلذا احلكم اآلن‪.‬‬
‫ور ُه هن أي إنه ال تثريب عليكم يف نكاحهن‬ ‫وه هن إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫ِ‬
‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫ح ُ‬‫ناح َعلَْي ُك ْم أَ ْن تَ ْنك ُ‬
‫َوال ُج َ‬

‫احلل‪.‬‬
‫ص ‪ 761 :‬عند إيتاء األجور ‪ ،‬فمّت أعطيت األجور ‪ ،‬فليس شيء وراء ذلك مينع من ه‬
‫اّلل‬
‫وأنت تعلم أ هن هذا احلكم وإن كان قد بطل العمل به ِبلنسبة ملن جرى بينه وبني النيب صلهى ه‬
‫عليه وسلهم عهد احلديبية من قريش ‪ ،‬فإنهه ال مانع أن يكون معموال به يف العهود اليت جتري بني‬
‫املسلمني والكفار يف مثل تلك احلالة اليت كان عليها املسلمون يومئذ‪ .‬فإذا عاهدانهم على أ هن‬
‫من جاءتنا مؤمنة من أزواجهم رددان عليهم ما أنفقوا وجب الوفاء بذلك العهد‪.‬‬
‫هذا وقد اختلف العلماء يف احلربية خترج إىل املسلمني مسلمة ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ‪ :‬إذا خرجت‬
‫احلربية مسلمة ‪ ،‬وهلا زوج كافر يف دار احلرب ‪ ،‬وقعت الفرقة بينهما ‪ ،‬وال ع هدة عليها‪ .‬وقال أبو‬
‫يوسف وحممد ‪ :‬تقع الفرقة ‪ ،‬وعليها العدة‪ .‬وإن أسلم الزوج بعد ذلك مل حتل له إال بنكاح جديد‬
‫‪ ،‬وإليه ذهب سفيان الثوري‪.‬‬
‫وقال مالك والليث بن سعد واألوزاعي والشافعي ‪ :‬إن أسلم الزوج قبل أن حتيض ثالث حيض‬
‫فهي امرأته‪ .‬وال حتل الفرقة إال إذا انقضت العدة ‪ ،‬فإذا انقضت فال سبيل له عليها إن اجتمع‬
‫معها يف اإلسالم بعد ذلك ‪ ،‬وال حتل له إال بعقد جديد‪.‬‬
‫واخلالف بني احلنفية وغريهم إَّنا هو يف احلربيني إذا أسلمت املرأة وخرجت مهاجرة إىل دار‬
‫اإلسالم ‪ ،‬فإ هن احلنفية يقولون يف هذه الصورة ِبخلروج من دار احلرب وهي مسلمة ‪ :‬وقعت‬
‫الفرقة ‪ ،‬فسبب الفرقة اختالف الدارين ‪ ،‬واملراد به عندهم أن يكون أحد الزوجني من أهل دار‬
‫احلرب ‪ ،‬واآلخر من أهل دار اإلسالم ‪ ،‬وال اعتبار ملضي العدة وعدمه‪ .‬وغريهم يقول ‪ :‬ال عربة‬
‫ِبختالف الدار ‪ ،‬فإذا أسلمت املرأة انتظر إسالم زوجها زمن العدة ‪ ،‬سواء أبقيت يف دار احلرب‬
‫أم خرجت وحدها مهاجرة‪.‬‬
‫وأما إذا كاان ذميني ‪ ،‬فأسلمت املرأة ‪ ،‬فمذهب احلنفية «‪ »1‬أنهه ال تقع الفرقة حّت يعرض عليه‬
‫فرق بينهما ‪ ،‬وكذلك إذا بقيا يف احلرب‪.‬‬
‫اإلسالم ‪ ،‬فإن أسلم ‪ ،‬وإال ه‬
‫واجلماعة يقولون كما قالوا يف الصورة األوىل ‪ ،‬أي أَنا تنتظر زمن العدة ‪ ،‬فإن مجعها وإايه‬
‫وإال حصلت الفرقة‪.‬‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬يف العدة فهي امرأته ‪ ،‬ه‬
‫وه هن م ْؤِم ٍ‬
‫نات فَال تَ ْرِجعُ ُ‬
‫وه هن إِ َىل الْ ُك هفا ِر ال‬ ‫ِ‬
‫وقد استدل احلنفية ملذهبهم بقوله تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن عَل ْمتُ ُم ُ ُ‬
‫ُه هن ِحلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َُِيلُّو َن َهلُ هن‪.‬‬
‫وقالوا يف وجه استدالهلم ِبآلية ‪ :‬إ هن املهاجرة إىل دار اإلسالم قد صارت من أهل دار اإلسالم ‪،‬‬
‫اّلل بوقوع الفرقة بينهما‬
‫وزوجها ِبق على كفره من أهل دار احلرب ‪ ،‬فقد اختلفت دارامها وحكم ه‬
‫بقوله ‪ :‬فَال تَ ْرِجعُ ُ‬
‫وه هن إِ َىل الْ ُك هفا ِر ولو كانت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)239 /1‬‬

‫ص ‪762 :‬‬
‫اّلل ‪ :‬ال ُه هن ِحلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َُِيلُّو َن َهلُ هن‪.‬‬
‫الزوجية ِبقية لكان الزوج أوىل هبا ‪ ،‬وقد قال ه‬
‫يدل على ذلك ‪ ،‬ألنه لو كانت الزوجية ِبقية ملا استح هق‬ ‫وه ْم ما أَنْ َف ُقوا ه‬
‫وأيضا قوله تعاىل ‪َ :‬وآتُ ُ‬
‫الزوج ر هد املهر ‪ ،‬ألنه ال يستحق البضع وبدله‪.‬‬
‫ور ُه هن ألنه‬ ‫وه هن إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬ ‫ِ‬
‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫ح ُ‬‫ناح َعلَْي ُك ْم أَ ْن تَ ْنك ُ‬
‫قالوا ‪ :‬ويدل عليه أيضا قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُج َ‬
‫لو كان النكاح ِبقيا ملا جاز ألحد أن يتزوجها‪.‬‬
‫ص ِم الْ َكوافِ ِر أل هن معناه عندهم ال تتمسكوا هبا ‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واستدلوا أيضا بقوله تعاىل ‪َ :‬وال ُتُْس ُكوا بِع َ‬
‫هبن‪.‬‬
‫تعتدوا هبا ‪ ،‬وال ُتنعكم عصمة الكافرين السابقة من التزوج ه‬
‫وقال احلنفية أيضا ‪ :‬اتفق الفقهاء على جواز وطء املسبية بعد االسترباء ‪ ،‬وإن كان هلا زوج يف‬
‫جيوز هذا يف نظرهم إال اختالف الدارين ‪ ،‬ألنه‬
‫دار احلرب إذا مل يسب زوجها معها ‪ ،‬وال سبب ه‬
‫ليس معنا إال طروء امللك ‪ ،‬واختالف الدارين وطروء امللك من حيث هو ال يقتضي فساد‬
‫النكاح ‪ ،‬بدليل أ هن األمة اليت هلا زوج لو بيعت ال تقع الفرقة بينهما ‪ ،‬وكذلك إذا مات السيد‬
‫عن أمة هلا زوج ‪ ،‬مل يكن انتقال امللك إىل الوارث سببا للفرقة‪.‬‬
‫واجلماعة يقولون ‪ :‬إ هن سبب الفرقة هو اإلسالم ‪ ،‬ألَنا مل تعد صاحلة ألن تكون فراشا لكافر ‪،‬‬
‫وهذا املعىن متح هقق ‪ ،‬سواء أبقيت يف دار احلرب ‪ ،‬أم خرجت ‪ ،‬والعدة الزمة شرعا يف كل ذات‬
‫زوج ما دامت حرة ‪ ،‬وقد عرفت عدة احلرة يف الشرع ‪ ،‬وقد كان موجب الفرقة بينهما من قبل‬
‫الزوج ‪ ،‬وهو بقاؤه على الكفر ‪ ،‬فإذا أسقط الزوج هذا املوجب يف وقت ميكنه فيه التدارك ‪،‬‬
‫فهي امرأته ‪ ،‬ألن املانع من بقاء زوجية قد زال قبل فوات األوان‪.‬‬
‫فرق بينهما‪ .‬وعن‬
‫وقد روي عن جماهد قال ‪ :‬إذا أسلم وهي يف العدة فهي امرأته ‪ ،‬وإن مل يسلم ه‬
‫اّلل‬
‫عطاء مثل هذا ‪ ،‬وكذلك عن احلسن ‪ ،‬وابن املسيهب‪ .‬وأيضا قد روي عن ابن عباس رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ابنته زينب على أيب العاص بن الربيع ِبلنكاح األول ‪،‬‬
‫عنهما قال ‪ :‬ر هد النيب صلهى ه‬
‫وقد كانت زينب هاجرت إىل املدينة ‪ ،‬وبقي زوجها مبكة مشركا ‪ ،‬مث ردها عليه بعد إسالمه‪.‬‬
‫واحلنفية ر هدوا االستدالل هبذا احلديث من وجوه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إ هن هذه الرواية فيها أنهه ردها بعد ست‬
‫سنني ‪ ،‬وذلك ال يعمل به عندكم‪ .‬وقالوا ‪ :‬إن رواية ابن عباس ومذهبه خيالف مرويهة ‪ ،‬على أنهه‬
‫قد روي هذا احلديث من طريق آخر جاء فيه أنه ردها عليه بنكاح اثن‪ .‬والكالم يف هذا احلديث‬
‫حمله كتب احلديث ‪ ،‬والذي يعنينا إَّنا هو اآلية‪.‬‬
‫يقول اجلماعة ‪ :‬إ هن هذه اآلية بل اآلايت ال دليل فيها ‪ ،‬فإ هن عدم اإلرجاع إىل الكفار مبين على‬
‫جميء املؤمنات مهاجرات ‪ ،‬فلم جعلتم العلة هي اهلجرة وحدها ‪،‬‬

‫ص ‪763 :‬‬
‫وهي دون اإلميان ال تصلح علة ‪ ،‬إذ إَنها لو صلحت لكان خروج احلربية إلينا أبمان موجبا للفرقة‬
‫‪ ،‬وهو ال يوجبها اتفاقا ‪ ،‬وكذلك املسلم إذا دخل دار احلرب أبمان ‪ ،‬أو أسره أهل احلرب ال‬
‫يبطل نكاح امرأته اليت يف دار اإلسالم‪.‬‬
‫وجواب احلنفية عن هذا ‪ -‬أب هن املراد أن يكون من أهل دار اإلسالم ‪ -‬جواب ال ينفع ‪ ،‬فإنهه‬
‫وإال فأهليتها لدار اإلسالم موجودة وهي يف دار احلرب إذا أسلمت قبله ‪،‬‬‫تسرت وراء األلفاظ ‪ ،‬ه‬
‫فرق بينهما‪ .‬فاألهلية فوجودة من‬
‫فلما ذا تنتظرونه حّت يعرض عليه اإلسالم ‪ ،‬فإن أسلم ‪ ،‬وإال ه‬
‫اللحظة األوىل ‪ ،‬فلو كانت األهلية هي املوجبة حلصلت الفرقة ِبإلسالم جملرده ‪ ،‬وهو ما نقول به‬
‫‪ ،‬غاية األمر أننا خنالفكم يف العدة ‪ ،‬أنتم تقولون بعدم وجوهبا ‪ ،‬وحنن نقول بوجوهبا ‪ ،‬ألننا نرى‬
‫أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم ‪ ،‬وحل هق الزوج ‪ ،‬حّت ال يضيع نسب ولده ‪ ،‬فإذا أسلم‬
‫وامرأته يف العدة فهو أح هق هبا ‪ ،‬ألن املانع من بقاء الزوجية قد زال ‪ ،‬والعدة واجبة على الزوجة‬
‫غري املسبية ‪ ،‬وهذه زوجة غري مسبية ‪ ،‬فتلزمها العدة‪.‬‬
‫وه هن إِذا آتَ ْي تُ ُم ُ‬
‫وه هن‬ ‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫ناح عَلَيْ ُك ْم أَ ْن تَنْك ُ‬
‫قال احلنفية يف مسألة العدة ‪ :‬إ هن قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُج َ‬
‫ور ُه هن ظاهر يف عدم وجوب العدة ‪ ،‬ألنهه مل يشرتط يف رفع اجلناح يف النكاح إال إيتاء املهر ‪،‬‬ ‫ُج َ‬
‫أُ‬
‫ولو كان هناك شيء غري هذا لبينه‪.‬‬
‫يصح النكاح بغري‬
‫وللجماعة أن يقولوا يف هذا الدليل ‪ :‬إنهه مرتوك الظاهر ‪ ،‬وإال ال قتضى أن ه‬
‫كل شرائطه ‪ ،‬فلو كان حتته أختها‬
‫يصح ِبالتفاق ‪ ،‬بل هو ال يصح إال مستوفيا ه‬
‫شهود ‪ ،‬وهو ال ه‬
‫ال ُيل له أن ينكحها مهما دفع من املهر‪.‬‬
‫وه هن والنكاح حقيقة‬
‫ح ُ‬ ‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ُك ْم أَ ْن تَ ْنك ُ‬
‫اّلل تعاىل يقول ‪َ :‬وال ُج َ‬
‫نعم قد يقال يف هذا ‪ :‬إن ه‬
‫يظن من أ هن‬
‫شرعية معروفة األركان والشرائط ‪ ،‬فاملفروض استيفاؤها ‪ ،‬واآلية سيقت لدفع ما كان ه‬
‫للنكاح األول حرمته ‪ ،‬وأنهه ِبق ‪ ،‬فنفت اآلية هذا الظن ‪ ،‬ورفعت اجلناح يف النكاح مع استيفاء‬
‫الشرائط واألركان وانتفاء املوانع‪.‬‬
‫ص ِم الْ َكوافِ ِر فتأويله عند اجلماعة ‪ :‬وال ُتسكوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأما استدالل احلنفية بقوله تعاىل ‪َ :‬وال ُتُْس ُكوا بِع َ‬
‫بعصم نسائكم املشركات الباقيات يف دار احلرب ‪ ،‬وتكون اآلية ملنع بقاء نكاحهن ‪ ،‬كما منع‬
‫كات َح هّت يُ ْؤِم هن [البقرة ‪ .]221 :‬ويكون املراد منع‬
‫ابتداء نكاح املشركات وال تَ ْنكِحوا الْم ْش ِر ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫املؤمنني من أن يكون بينهم وبني نسائهم الباقيات على الشرك علقة من علق الزوجية أصال ‪،‬‬
‫وعدم االعتداد بذلك النكاح ‪ ،‬فهو ال مينع خامسة وال نكاح أختها‪.‬‬
‫وقد يساعد على هذا التأويل قوله تعاىل ‪َ :‬و ْسئَ لُوا ما أَنْ َف ْقتُ ْم َولْيَ ْسئَ لُوا ما أَنْ َف ُقوا‪ .‬فإن معناه ‪:‬‬
‫اسألوا الكفار مهور نسائكم ‪ ،‬وهلم من السؤال مثل ذلك ‪ ،‬وعليكم اإلجابة‪.‬‬

‫ص ‪764 :‬‬
‫كال ال يقتضي فساد‬
‫املزوجة يف أ هن ه‬
‫وأما قياس احلنفية طروء امللك يف املسبية على بيع األمة ه‬
‫النكاح ‪ ،‬فهو قياس مع الفارق‪ .‬فإ هن الذي حصل للمسبية إَّنا هو اسرتقاق واستحداث رق بعد‬
‫حرية ‪ ،‬والذي حصل يف األمة املبيعة إَّنا هو انتقال ملك من شخص إىل شخص‪.‬‬
‫اّللِ فاتبعوه ‪ ،‬وال حتيدوا عنه ‪ ،‬وقد روي أ هن الصحابة أدوا إىل املشركني ما أنفقوا من‬ ‫ْم ه‬‫ذل ُك ْم ُحك ُ‬
‫ِ‬
‫مهور املهاجرات ‪ ،‬وأىب املشركون أن يدفعوا مهور من بقي عندهم من نساء املؤمنني ‪ ،‬فنزل قوله‬
‫اج ُه ْم ِمثْ َل ما‬
‫ت أَ ْزو ُ‬
‫ين ذَ َهبَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن فاتَ ُك ْم َش ْيءٌ م ْن أَ ْزواج ُك ْم إِ َىل الْ ُك هفا ِر فَعاقَ ْب تُ ْم فَآتُوا الهذ َ‬
‫اّللَ اله ِذي أَنْ تُ ْم بِهِ ُم ْؤِمنُو َن (‪.)11‬‬ ‫أَنْ َف ُقوا َواته ُقوا ه‬
‫واملعىن ‪ :‬إن انفلت منكم شيء من أزواجكم واحناز إىل جانب الكفار وجاء دوركم ونوبتكم يف‬
‫استيفاء ما أنفقتم من املهور على أزواجكم ‪ ،‬فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من املسلمني مثل ما‬
‫وتزوجتموهن ‪ ،‬وال تدفعوا إىل‬
‫ه‬ ‫أنفق هؤالء األزواج من مهور املهاجرات الاليت هاجرن إليكم‬
‫أزواجهن الكفار ‪ ،‬ويكون ذلك قصاصا‪.‬‬
‫ه‬
‫إِبء عن الدفع منكم إبِبء عن الدفع منهم‪.‬‬
‫وقد روي عن الزهري ما يوافق هذا املعىن قال ‪ :‬يعطي من حلقت زوجته ِبلك هفار من صداق من‬
‫حلق ِبملسلمني من زوجات الك هفار ‪ ،‬وعلى هذا تكون املعاقبة مبعىن العقىب والنوبة ‪ ،‬وعن الزجاج‬
‫أ هن املعىن ‪ :‬فقاتلتم الكفار وأصبتم منهم الغنائم ‪ ،‬فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من‬
‫الغنائم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم كان يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة‬ ‫وقد روي عن ابن عباس أ هن النيب صلهى ه‬
‫اّللَ اله ِذي أَنْ تُ ْم بِهِ ُم ْؤِمنُو َن فال يزد أحدكم عن‬
‫ختمس املهر ‪ ،‬ال ينقص منه شيئا َواته ُقوا ه‬
‫قبل أن ه‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫الذي أنفق ‪ ،‬وال ينقص املعطى منه شيئا ‪ ،‬وذلك شأن املؤمن ‪ ،‬فإميانه يدفعه إىل أن خيشى ه‬
‫ويتقيه يف كل أعماله وأحواله‪.‬‬

‫ص ‪765 :‬‬
‫من سورة اجلمعة‬
‫اّللِ َوذَ ُروا‬
‫اس َع ْوا إِىل ِذ ْك ِر ه‬ ‫ِ‬ ‫ودي لِل ه ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالة م ْن يَ ْوم ا ْجلُ ُم َعة فَ ْ‬ ‫آمنُوا إِذا نُ َ‬ ‫ين َ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫قال ه‬
‫ض َوابْ تَ غُوا ِم ْن‬
‫صالةُ فَانْ تَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬‫ت ال ه‬ ‫ِ‬
‫ضي ِ‬ ‫ِ‬
‫الْبَ يْ َع ذل ُك ْم َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن (‪ )9‬فَِإذا قُ َ‬
‫ِ‬ ‫اّللِ واذْ ُكروا ه ِ‬
‫حو َن (‪)10‬‬ ‫اّللَ َكثرياً ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬ ‫ض ِل ه َ ُ‬ ‫فَ ْ‬
‫املراد ِبلنداء األذان واإلعالم ‪ ،‬واملراد ِبلصالة املنادى هلا صالة اجلمعة ‪ ،‬بدليل قوله ‪ِ :‬م ْن يَ ْوِم‬
‫ا ْجلُ ُم َعةِ إذ غريها من الصلوات اليت يؤذهن هلا ال مزية هلا يف يوم اجلمعة عن غريه‪.‬‬
‫واألذان الذي جيب السعي عنده اختلف فيه ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬املراد به األذان الذي بني يدي‬
‫اّلل عليه وسلهم وأيب بكر وعمر‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اخلطيب ‪ ،‬ووجه هذا أنهه األذان الذي كان على عهد ه‬
‫اّلل عليه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مؤذهن واحد ‪ ،‬وكان إذا جلس ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ ،‬فقد كان لرسول ه‬
‫وسلهم على املنرب أذهن على ِبب املسجد ‪ ،‬وإذا نزل من على املنرب أقام الصالة ‪ ،‬مث كان أبو بكر‬
‫وعمر كذلك ‪ ،‬ويرى بعضهم أ هن السعي إَّنا جيب عند األذان األول الذي على املنارة ‪ ،‬وهو‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وذلك حني رأى كثرة الناس وتباعد مساكنهم ‪ ،‬فأمر‬
‫األذان الذي زاده عثمان رضي ه‬
‫تسمى الزوراء ‪ ،‬فإذا جلس على املنرب أذهن املؤذن الثاين ‪ ،‬فإذا نزل‬
‫ِبألذان األول على داره اليت ه‬
‫تسمى أذاان ‪،‬‬
‫أقام الصالة ‪ ،‬ويف بعض الرواايت زاد األذان الثالث ‪ ،‬وكونه اثلثا ‪ ،‬أل هن اإلقامة ه‬
‫كما يف‬
‫كل أذانني صالة» «‪.»1‬‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬بني ه‬
‫وهذا القول هو الظاهر من مذهب احلنفية ‪ ،‬وهم قد نظروا فيه إىل املعىن‪.‬‬
‫اّلل‬
‫وذلك أ هن املراد من النداء اإلعالم ‪ ،‬والسعي إَّنا جيب عند اإلعالم ‪ ،‬وقد فهم عثمان رضي ه‬
‫عنه هذا املعىن ‪ ،‬وزاد النداء الثاين ليتم هكن الناس من حضور اخلطبة والصالة من أماكنهم البعيدة‬
‫اّلل عليه وسلهم لقرب مساكنهم من‬
‫‪ ،‬ومل تكن ِبملسلمني حاجة إىل هذا يف زمن النيب صلهى ه‬
‫املسجد ‪ ،‬وألَنهم كانوا ُيافظون على أن جييئوا يف هأول الوقت ‪ -‬إن مل يكن قبله ‪ -‬حمافظة على‬
‫اّلل عليه وسلهم فكان النداء الذي بني يدي اخلطيب يسمعهم‬
‫أخذ األحكام عن الرسول صلهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )573 /1‬كتاب املسافرين ‪ِ - 56 ،‬بب بني كل أذانني‬
‫حديث رقم (‪ ، )838 /304‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 10 ، )175 /1‬كتاب األذان ‪16 ،‬‬
‫‪ِ -‬بب بني كل أذانني صالة حديث رقم (‪.)627‬‬
‫ص ‪766 :‬‬
‫فيحضرون سراعا ‪ ،‬ويدركون اخلطبة من أوهلا ‪ ،‬لقرب املساكن من املسجد‪.‬‬
‫يفوت على الناس مساع اخلطبة اليت خ هفضت من أجلها الصالة ‪،‬‬
‫والسعي عند األذان الثاين ه‬
‫ويفوت عليهم السنة القبلية‪.‬‬
‫ه‬
‫ومن يرى أ هن السعي إَّنا جيب ِبألذان الذي بني يدي اخلطيب يقول ‪ :‬إنهه النداء الذي كان يف‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وهو أحرص الناس على أن يؤ هدي املؤمنون الواجب عليهم يف وقته ‪،‬‬
‫زمنه صلهى ه‬
‫لبني هلم ‪ ،‬وجلعل بني األذان واخلطبة زمنا يتهسع حلضور الناس ‪،‬‬
‫فلو كان السعي واجبا قبل ذلك ه‬
‫اّلل عليه وسلهم واألذان بني‬
‫ومسألة السنة القبلية فيها كالم ‪ ،‬ورهمبا كان يف عمل الرسول صلهى ه‬
‫يديه وهو على املنرب ما يدل على أ هن السنة القبلية اليت كانت يف الظهر مل تعد مطلوبة يف اجلمعة‬
‫‪ ،‬ومع ذلك فهي سنة ‪ ،‬وهل ميكن أن يقال ‪ :‬إن السعي جيب قبل وقته لتحصيل سنة مل تثبت ‪،‬‬
‫ومع ذلك فاملصلي يندب له أن جييء مب هكرا لفوائد مجة ‪ ،‬منها أداء السنهة‪.‬‬
‫تعرضوا حلركة (ميم)‬
‫هذا وقد تكلهم املفسرون هنا يف لفظ (من) وأَنها مبعىن (يف) وتبعيضية ‪ ،‬كما ه‬
‫اجلمعة ‪ ،‬وما فيها من لغات ‪ ،‬ويف أصل مدلوهلا قبل أن تكون علما ‪ ،‬واملناسبة عند النقل ‪،‬‬
‫وذلك حبث ال طائل حتته بعد أن صارت اجلمعة يف لغاهتا مجيعا علما على اليوم املعروف من أايم‬
‫األسبوع‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف أول مجعة صلهيت يف اإلسالم ‪ ،‬فقد أخرج عبد الرهزاق وعبد بن محيد عن‬
‫اّلل عليه وسلهم وقبل أن تنزل اجلمعة‬
‫ابن سريين قال ‪ :‬مجع أهل املدينة قبل أن يقدم النيب صلهى ه‬
‫قالت األنصار ‪ :‬لليهود يوم جيتمعون فيه بكل سبعة أايم ‪ ،‬وللنصارى مثل ذلك ‪ ،‬فهلم فلنجعل‬
‫اّلل تعاىل ونشكره ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يوم السبت لليهود ويوم األحد‬
‫لنا يوما جنتمع فيه ‪ ،‬فنذكر فيه ه‬
‫للنصارى ‪ ،‬فاجعلوه يوم العروبة ‪ ،‬وكانوا يسمون يوم اجلمعة بذلك ‪ ،‬فاجتمعوا إىل أسعد بن زرارة‬
‫‪ ،‬فصلهى هبم يومئذ ركعتني ‪ ،‬وذ هكرهم ‪ ،‬ومسوه يوم اجلمعة حني اجتمعوا ‪ ،‬وذبح هلم شاة ‪،‬‬
‫شاهم منها «‪.»1‬‬
‫وغ هداهم ‪ ،‬وع ه‬
‫مروي عن غري ابن سريين أيضا فقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن عبد‬
‫وهذا اخلرب ه‬
‫ترحم على أسعد بن زرارة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اي أبتاه أرأيت‬
‫الرمحن بن كعب أن أِبه كان إذا مسع النداء ه‬
‫استغفارك ألسعد بن زرارة كلهما مسعت األذان للجمعة ما هو؟ قال ‪ :‬ألنهه أول من مجع بنا يف‬
‫حرة بين بياضة ‪ ،‬قلت ‪ :‬كم كنتم يومئذ؟ قال ‪ :‬أربعني رجال «‪.»2‬‬
‫نقيع اخلضمات يف هزم من ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الدر املنثور يف التفسري ِبملأثور للسيوطي (‪.)218 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )402 /1‬كتاب الصالة ‪ِ ،‬بب اجلمعة حديث رقم (‪، )1069‬‬
‫وابن ماجه يف السنن (‪ - 5 ، )343 /1‬كتاب إقامة الصالة ‪ِ - 78 ،‬بب فرض اجلمعة حديث‬
‫رقم (‪.)1082‬‬

‫ص ‪767 :‬‬
‫قال الكمال بن اهلمام ‪ :‬الظاهر من هذه الرواايت أ هن صالة أسعد بن زرارة للجمعة كانت قبل‬
‫أن تفرض «‪.»1‬‬
‫ويرى العالمة ابن حجر أ هن اجلمعة فرضت يف مكة ‪ ،‬ومل تقم هبا ‪ ،‬إما لعدم تكامل العدد ‪ ،‬وإما‬
‫اّلل عليه وسلهم كان يف مكة غري متمكن من اإلظهار‪.‬‬
‫أل هن أمرها كان على اإلظهار ‪ ،‬والنيب صلهى ه‬
‫وقال ‪ :‬إ هن أول من أقامها ِبملدينة أسعد بن زرارة ‪ ،‬بقرية على ميل من املدينة ‪ ،‬فلعلهها فرضت ‪،‬‬
‫مث نزلت اآلية ‪ ،‬ولكن مينع من هذا ما‬
‫اّلل فرض عليكم اجلمعة يف مقامي‬
‫اّلل عليه وسلهم أنهه خطب فقال ‪« :‬إن ه‬
‫روي عن النيب صلهى ه‬
‫هذا ‪ ،‬يف يومي هذا ‪ ،‬يف شهري هذا ‪ ،‬يف عامي هذا ‪ ،‬إىل يوم القيامة ‪ ،‬فمن تركها استخفافا هبا‬
‫اّلل مشله ‪ ،‬وال ِبرك له يف أمره ‪ ،‬أال وال صالة له ‪ ،‬وال زكاة له ‪ ،‬وال‬
‫‪ ،‬أو جحودا هلا ‪ ،‬فال مجع ه‬
‫اّلل عليه» «‪»2‬‬
‫حج له ‪ ،‬وال صوم له ‪ ،‬وال هبر له حّت يتوب ‪ ،‬فمن اتب اتب ه‬
‫‪ .‬حيث ذكر يف هذا احلديث أنهه ال حج له ‪ ،‬واحلج وإن كان قد اختلف يف مبدأ افرتاضه ‪ ،‬إال‬
‫أَنهم صححوا أنه يف السنة السادسة من اهلجرة ‪ ،‬فالظاهر أ هن اجلمعة كانت بعد ذلك‪.‬‬
‫ويرى بعض آخر من العلماء أ هن أول من مجع ِبلناس مصعب بن عمري ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ِبجلمعة قبل أن‬
‫فقد أخرج الدار قطين عن ابن عباس قال ‪ :‬أذن النيب صلهى ه‬
‫يهاجر ‪ ،‬ومل يستطع أن جيمع مبكة ‪ ،‬فكتب إىل مصعب بن عمري ‪« :‬أما بعد ‪ ،‬فانظر اليوم الذي‬
‫جتهر فيه اليهود ِبلزبور ‪ ،‬فامجعوا نساءكم وأبناءكم ‪ ،‬فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل بركعتني» قال ‪ :‬فهو أول من مجع ‪ ،‬حّت قدم النيب صلهى ه‬
‫فتقربوا إىل ه‬
‫يوم اجلمعة ‪ ،‬ه‬
‫وسلهم املدينة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ومجع مصعب كان‬
‫وقد مجع بني هذين أب هن مجع أسعد كان بغري أمر الرسول صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم كانت بعد مقدمه أبربعة أايم حيث أدركه‬
‫صالها النيب صلهى ه‬
‫أبمره ‪ ،‬وأول مجعة ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪،‬‬
‫فصالها يف بطن واد هلم ‪ ،‬حيث خطب صلهى ه‬
‫وقتها يف بين سامل بن عوف ‪ ،‬ه‬
‫وصلهى ِبلناس‪.‬‬
‫اّللِ السعي املراد منه املشي دون إفراط يف السرعة‪.‬‬
‫اس َع ْوا إِىل ِذ ْك ِر ه‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬فَ ْ‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫أخرج الستة يف كتبهم عن أيب سلمة من حديث أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫وسلهم ‪« :‬إذا أقيمت الصالة فال أتتوها وأنتم تسعون ‪ ،‬وأتوها وأنتم ُتشون ‪ ،‬وعليكم السكينة ‪،‬‬
‫فما أدركتم ‪ ،‬فصلهوا ‪ ،‬وما فاتكم فأُتوا» «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر فتح القدير لإلمام كمال الدين السيواسي املعروف ِببن اهلمام احلنفي بريوت ‪ ،‬دار‬
‫الفكر (‪].....[ .)51 /2‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن ماجه يف السنن (‪ - 5 ، )343 /1‬كتاب إقامة الصالة ‪ِ - 78 ،‬بب فرض‬
‫اجلمعة حديث رقم (‪.)1081‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 5 ، )420 /1‬كتاب املساجد ‪ِ - 27 ،‬بب ما يقال يف‬
‫تكبرية اإلحرام رقم (‪ ، )602 /151‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 11 ، )246 /1‬كتاب اجلمعة‬
‫‪ِ - 18 ،‬بب املشي إىل اجلمعة حديث رقم (‪.)908‬‬

‫ص ‪768 :‬‬
‫اّلل اخلطبة والصالة مجيعا ‪ ،‬الشتماهلما عليه ‪ ،‬واستظهر بعضهم أ هن املراد به‬
‫واملراد من ذكر ه‬
‫الصالة ‪ ،‬وقصره بعضهم على اخلطبة‪.‬‬
‫وقد ورد الذكر يف اآلية مطلقا غري حمدود ‪ ،‬ومن أجل ذلك قال احلنفية ‪ :‬إنه ال يشرتط يف اخلطبة‬
‫اّلل تعاىل ذكر الذكر من غري تفضيل بني كونه طويال أو‬
‫يسمى خطبة عرفا ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اشتماهلا على ما ه‬
‫قصريا ‪ ،‬يسمى خطبة أو ال يسمى خطبة ‪ ،‬فكان الشرط هو الذكر مطلقا ‪ ،‬وما ورد من اآلاثر‬
‫مشتمال على بيان الكيفية فهو يدل على السنية أو الوجوب ‪ ،‬وال ينتهض دليال على أنه ال جيوز‬
‫إال ذلك‪ .‬ودونه تبطل اخلطبة ‪ ،‬وال تصح الصالة ‪ ،‬بل هو اختيار للفرد الكامل من أفراد‬
‫املطلق‪.‬‬
‫والشافعية يشرتطون أن أييت اخلطيب خبطبتني مستوفيتني لشروط خاصة ‪ ،‬واستدلوا على ذلك‬
‫آباثر وردت فيها ‪ ،‬فإن ثبتت هذه األدلة ‪ ،‬وانتهضت دليال إلثبات الشرطية ‪ ،‬فهي الدليل‪.‬‬
‫وقد جاء يف اآلية األمر ِبلسعي ‪ ،‬واألمر للوجوب ‪ ،‬فيكون السعي واجبا ‪ ،‬وقد أخذوا من هذا‬
‫أ هن اجلمعة فريضة ‪ ،‬وذلك أنهه قد رتهب األمر للذكر على النداء للصالة ‪ ،‬فإذا كان املراد ِبلذكر‬
‫حّت يكون ذلك الشيء واجبا‪.‬‬
‫هو الصالة ‪ ،‬فالداللة ظاهرة ‪ ،‬ألنه ال يكون السعي لشيء واجبا ه‬
‫وأما إذا كان املراد ِبلذكر اخلطبة فقط فهو كذلك ‪ ،‬ألن اخلطبة شرط الصالة ‪ ،‬وقد أمر ِبلسعي‬
‫إليه ‪ ،‬واألمر للوجوب ‪ ،‬فإذا وجب السعي للمقصود تبعا ‪ ،‬فما ذلك إال ألن املقصود ِبلذات‬
‫واجب ‪ ،‬أال ترى أن من ارتفع عنه وجوب اجلمعة ال جيب عليه السعي هلا ‪ ،‬إذا فالسعي اتبع‬
‫لوجوب اجلمعة ‪ ،‬واجلمعة جاء طلبها والنكري على تركها يف السنة ‪ ،‬وقد انعقد اإلمجاع على‬
‫وجوهبا بشروطها‪.‬‬
‫وقد أمجعوا على اشرتاط العدد فيها ‪ ،‬بل هي ما مسيت مجعة إال ملا فيها من االجتماع ‪ ،‬وقد‬
‫أقل عدد تنعقد به اجلمعة على أقوال كثرية ‪ :‬ابتدأت من االثنني إىل الثمانني ‪ ،‬ولقد‬
‫اختلف يف ه‬
‫قيل ‪ :‬إنه قد زادت األقوال فيها على ثالثة عشر قوال‪.‬‬
‫والكالم فيها من حيث التحديد ومن حيث األدلة يرجع [فيه ] إىل كتب الفقه وكتب السنة ‪،‬‬
‫فإ هن اآلية مل تعرض لشيء منها‪.‬‬
‫َوذَ ُروا الْبَ يْ َع املراد من البيع املعاملة ‪ ،‬فهو جماز عن ذلك ‪ ،‬فيعم البيع والشراء واإلجارة ‪ ،‬ولقد‬
‫حمرما‪.‬‬
‫ذهب مجاعة إىل أ هن األمر للوجوب ‪ ،‬فيكون االشتغال هبذه األشياء ه‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬هو مكروه حترميا ‪ ،‬بل لقد زعم بعضهم أ هن الكراهة تنزيهية ‪ ،‬بناء على أ هن األمر‬
‫يستمر إىل فراغ اإلمام من اخلطبة‪.‬‬
‫ه‬ ‫للندب ‪ ،‬ومل يرتضه كثري من العلماء ‪ ،‬وقد قالوا ‪ :‬إ هن التحرمي‬

‫مبين على اخلالف الذي قد علمته يف املراد ِبلنداء ‪ ،‬وظاهر‬


‫ص ‪ 769 :‬وأما مبدأ التحرمي فهو ه‬
‫أ هن املأمور ِبلسعي هو املأمور برتك البيع ‪ ،‬وأما من عداهم فال يشملهم األمر ‪ ،‬فإ هن األمر برتك‬
‫البيع إَّنا كان لوجوب السعي‪.‬‬
‫وقد روي عن بعض السلف أ هن ترك البيع وقت النداء واجب على الناس مجيعا من وجب عليه‬
‫السعي ومن مل جيب‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وترك أعمالكم من أجل ذلك خري‬ ‫ذلِ ُك ْم َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن أي السعي إىل ذكر ه‬
‫لكم وأنفع ‪ ،‬والتفضيل ِبعتبار ما يف املعاملة من املنافع الدنيوية ‪ ،‬وقوله ‪ :‬إِ ْن ُك ْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن معناه‬
‫اّلل يف الذهاب إىل اجلمعة ‪ ،‬واالنتفاع مبا يلقى‬
‫‪ :‬إن كنتم من أهل العلم عرفتم أ هن امتثال أوامر ه‬
‫على الناس من مواعظ خري لكم يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫اّلل عنكم ‪،‬‬
‫يبصركم اإلمام مبا فيه خريكم وجناتكم من األذى ‪ ،‬ويف اآلخرة برضا ه‬
‫يف الدنيا حيث ه‬
‫حيث امتثلتم أمره‪.‬‬
‫اّللِ َواذْ ُك ُروا ه‬
‫اّللَ َكثِرياً‬ ‫ض َوابْ تَ غُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ه‬ ‫صالةُ فَانْ تَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ضي ِ‬
‫ت ال ه‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَِإذا قُ َ‬
‫قال ه‬
‫ِ‬
‫حو َن (‪.)10‬‬ ‫ل ََعله ُك ْم تُ ْفل ُ‬
‫فتفرقوا يف األرض إىل حيث تؤ هدون أعمالكم اليت كنتم تركتموها‬ ‫أي إذا فرغتم من أداء الصالة ه‬
‫اّلل وفيض إنعامه‪.‬‬
‫من أجل الذكر ‪ ،‬واطلبوا الربح من فضل ه‬
‫وقد قالوا ‪ :‬إن هذا أمر ورد بعد احلظر فهو لإلِبحة ‪ ،‬وعليه فليس يطلب من اإلنسان أن خيرج‬
‫من املسجد بعد الصالة ‪ ،‬ال وجوِب وال ندِب‪.‬‬
‫ولقد روي عن بعض السلف أنهه كان إذا انتهت الصالة خرج من املسجد ‪ ،‬ودار يف السوق‬
‫ساعة ‪ ،‬مث رجع إىل املسجد فصلهى ما شاء أن يصلهي ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ألي شيء تصنع هذا؟ قال ‪:‬‬
‫صالةُ فَانْ تَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫ت ال ه‬ ‫ِ‬
‫ضي ِ‬
‫إين رأيت سيهد املرسلني يصنع هذا ‪ ،‬وتال قوله تعاىل ‪ :‬فَِإذا قُ َ‬
‫اّلل ‪ ،‬فقد كانوا يتأسون ِبملصطفى حّت يف‬ ‫اّلل عن أصحاب رسول ه‬ ‫اّللِ رضي ه‬
‫ض ِل ه‬‫َوابْ تَ غُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫حركاته وسكناته‪.‬‬
‫اّللَ َكثِرياً ويف وقت اشتغالكم أبعمالكم ‪ ،‬وال تكتفوا ِبلذكر الذي سعيتم من أجله ‪،‬‬
‫َواذْ ُك ُروا ه‬
‫لكي تفوزوا خبري الدارين‪.‬‬
‫وقد عرض املفسرون هنا ألحكام كثرية تتعلق ِبجلمعة ‪ ،‬كاشرتاط املصر ‪ ،‬وكون اخلطبة قبل‬
‫الصالة أو بعدها ‪ ،‬وهل هناك سنن قبلية ‪ ،‬أو بعدية؟ وحنن نرى أن هذه األحكام ال تدل عليها‬
‫اآلية ‪ ،‬وال من طريق اإلشارة ‪ ،‬فريجع إليها يف السنة والفقه‪.‬‬

‫ص ‪770 :‬‬
‫اّللِ َخ ْريٌ ِم َن الله ْه ِو‬
‫وك قائِماً قُ ْل ما ِع ْن َد ه‬
‫ضوا إِل َْيها َوتَ َرُك َ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِذا َرأ َْوا جت َ‬
‫ارةً أ َْو َهلْواً انْ َف ُّ‬ ‫قال ه‬
‫ني (‪ )11‬أخرج البخاري ومسلم وأمحد والرتمذي «‪ »1‬وغريهم عن‬ ‫جارةِ َو ه‬
‫اّللُ َخ ْريُ ال هرا ِزقِ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوم َن الته َ‬
‫اّلل قال ‪:‬‬
‫جابر بن عبد ه‬
‫اّلل عليه وسلهم خيطب يوم اجلمعة قائما ‪ ،‬إذ قدمت عري املدينة ‪ ،‬فابتدرها‬
‫بينما النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬حّت مل يبق منهم إال اثنا عشر رجال ‪ ،‬أان فيها وأبو‬ ‫اّلل صلهى ه‬‫أصحاب رسول ه‬
‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإِذا َرأ َْوا جت َ‬
‫ارةً أ َْو َهلْواً إىل آخر السورة‪.‬‬ ‫بكر وعمر ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫اّلل‬
‫هبذا تضافرت الرواايت على اختالف بينها يف التفاصيل ‪ ،‬ويف بعض الرواايت أ هن رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬لو خرجوا كلهم الضطرم املسجد عليهم انرا»‬
‫صلهى ه‬
‫ويف بعضها ‪:‬‬
‫كان الباقي مثانية ‪ ،‬ويف بعض آخر ‪ :‬بقي أربعون رجال ‪ ،‬وكانت العري لعبد الرمحن بن عوف‬
‫حتمل طعاما ‪ ،‬وكان قد أصاب املدينة جوع وغالء سعر‪.‬‬
‫اّلل يف موقفه ‪ ،‬قال العلماء ‪:‬‬ ‫وملا كانت اآلية نزلت بعد أن ترك من ترك رسول ه‬
‫ِ‬
‫صح جميء الضمري‬ ‫إن إِذا مستعملة يف املاضي ‪ ،‬وملا كان العطف بني قوله ‪ :‬جت َ‬
‫ارةً أ َْو َهلْواً ب أ َْو ه‬
‫يف إليها مفردا ‪ ،‬ورجع الضمري إىل التجارة دون اللهو ‪ ،‬ألن االنفضاض كان هلا ِبألصالة ‪،‬‬
‫وهلوهم كان للفرح مبجيء التجارة اليت أنقذهتم مما هم فيه من اجلوع وغالء السعر ‪ ،‬وقد روي أنهه‬
‫حني جاءت العري استقبلها الناس ِبلفرح وضرب الدفوف ‪ ،‬فخرج املنفضون على ذلك‪.‬‬
‫وك قائِماً على مشروعية القيام أثناء اخلطبة ‪ ،‬واملشروعية‬
‫وقد استدل العلماء بقوله تعاىل ‪َ :‬وتَ َرُك َ‬
‫أمر متفق عليه بني العلماء ‪ ،‬وقد ثبت يف السنة أ هن النيب ما خطب إال قائما ‪ ،‬وكذلك اخللفاء‬
‫استمر األمر هكذا إىل زمن بين أمية ‪ ،‬حيث وجد منهم من استهان أبمر اخلطبة‬
‫ه‬ ‫من بعده ‪،‬‬
‫فخطب جالسا‪.‬‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وقد محل العلماء هذه الرواية على‬
‫نعم قد روي أن أول من خطب جالسا معاوية رضي ه‬
‫أجل من أن خيالف ما كان عليه‬
‫فرض صحتها على أنهه كان عاجزا عن القيام ‪ ،‬وإال فمقام معاوية ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫الرسول صلهى ه‬
‫النيب كان خيطب خطبتني جيلس بينهما‪.‬‬
‫أخرج البخاري ومسلم «‪ »2‬عن ابن عمر أن ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 7 ، )590 /1‬كتاب اجلمعة ‪ِ - 11 ،‬بب قوله تعاىل ‪ :‬إِذا‬
‫ارةً حديث رقم (‪ ، )863 /39‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )75 /2‬كتاب التفسري‬ ‫ِ‬
‫َرأ َْوا جت َ‬
‫ِ‬
‫ارةً حديث رقم (‪ ، )4899‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪، )386 /5‬‬ ‫‪ِ - 2 ،‬بب َوإِذا َرأ َْوا جت َ‬
‫كتاب التفسري ‪ِ ،‬بب تفسري سورة اجلمعة ‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )3311‬وأمحد يف املسند (‪/3‬‬
‫‪.)370‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 7 ، )589 /2‬كتاب اجلمعة ‪ِ - 10 ،‬بب ذكر اخلطبتني‬
‫حديث رقم (‪ ، )861 /33‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 11 ، )251 /1‬كتاب اجلمعة ‪- 3 ،‬‬
‫ِبب القعدة بني اخلطبتني حديث رقم (‪.)928‬‬

‫ص ‪771 :‬‬
‫وحكم القيام يف اخلطبة أنهه سنة عند احلنفية «‪ ، »1‬ويرى الشافعية أنهه أحد شروطها ‪ ،‬وأنت‬
‫تعلم أ هن احلنفية ال يثبتون الشرط إال بقطعي ‪ ،‬وهو غري موجود هنا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫والشافعية يتمسكون مبا يف اآلية من إشارة ‪ ،‬ومبا ثبت من السنة عن النيب صلهى ه‬
‫واخللفاء أيب بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبال‪.‬‬
‫جارةِ قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية ‪ ،‬ألَنا كانت‬‫ِ ِ‬ ‫قُل ما ِع ْن َد هِ ِ‬
‫اّلل َخ ْريٌ م َن الله ْه ِو َوم َن الته َ‬ ‫ْ‬
‫الباعث األقوى على اخلروج ‪ ،‬وأ هخرت هنا ألنهه أقوى يف الذم ‪ ،‬والغرض التنفري ‪ ،‬فكان من‬
‫املناسب تقدميه‪.‬‬
‫اّللُ َخ ْريُ ال هرا ِزقِ َ‬
‫ني فهو الذي يق هدر األقوات وييسرها ‪ ،‬وهو الذي بيده ملكوت كل شي ء ‪ ،‬وما‬ ‫َو ه‬
‫ميسك فال مرسل له ‪ ،‬وما يرسل فال ممسك له ‪ ،‬إال من بعد إذنه ‪ ،‬وما ينبغي ألحد أن يهجر‬
‫اّلل من أجل شي ء ‪ ،‬إن كان له فسوف أيتيه ‪ ،‬وإذا مل يكن له فلن يفيد فيه اإلسراع إليه ‪،‬‬
‫عبادة ه‬
‫واجلري وراءه ‪ ،‬وهو لو شاء احلرمان منه حلرمه وهو يف البيت ‪ ،‬بل ويف اليد إىل الفم‪.‬‬
‫وقد حاول العلماء أن يستدلوا مبا روي يف أسباب النزول من أعداد الباقني واملنفضني على العدد‬
‫صح عنده أن الباقني كانوا اثين عشر قال ‪ :‬إ هن العدد املعترب يف االبتداء هو‬
‫يف اجلمعة ‪ ،‬فمن ه‬
‫تصح به اجلمعة ملا صحت اجلمعة ‪ ،‬ومل يرو‬
‫العدد املعترب يف البقاء ‪ ،‬فلو كان العدد الباقي ال ه‬
‫أَنهم أعادوها‪.‬‬
‫وقد ر هد هذا االستدالل من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬قد روي أ هن الباقي كان أربعني ‪ ،‬وروي أنه كان مثانية ‪ ،‬ولو سلهم أَنم كانوا اثين عشر ‪ ،‬فال‬
‫داللة فيه ‪ ،‬ألنهه ال يدل إال على أَنها تصح ِبثين عشر ‪ ،‬وهو ال يفيد أَنا ال تصح مبا دون ذلك‬
‫‪ ،‬فأين التحديد ِبثين عشر‪.‬‬
‫وقد سبق أن قلنا ‪ :‬إن اآلية ال يؤخذ منها شيء من هذه األحكام اليت يثبتها الفقهاء يف اجلمعة ‪،‬‬
‫وال داللة هلا على أكثر من وجوب السعي عن اجلمعة ‪ ،‬وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا‬
‫من أجل الصالة ‪ ،‬وعلى أنهه ال جيوز أن يرتك الناس اخلطيب خيطب وينصرفوا إىل أي شأن آخر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)89 /1‬‬

‫ص ‪772 :‬‬
‫من سورة الطالق‬
‫صوا الْعِ هدةَ َواته ُقوا ه‬
‫اّللَ َربه ُك ْم‬ ‫هيب إِذا طَله ْقتُم النهِساء فَطَلِه ُق ُ ِ ِ ِِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها النِ ُّ‬
‫َح ُ‬
‫وه هن لعدههت هن َوأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قال ه‬
‫اّللِ َوَم ْن يَتَ َع هد ُح ُد َ‬
‫ود‬ ‫ْك ُح ُدودُ ه‬ ‫شةٍ ُمبَ يهِنَةٍ َوتِل َ‬ ‫ال ُختْ ِرجوه هن ِمن ب يوهتِِ هن وال َخيْرجن إِهال أَ ْن أيْتِني بِ ِ‬
‫فاح َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ ْ ُُ َ ُ ْ َ‬
‫ك أ َْمراً (‪)1‬‬ ‫ث بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫اّللَ ُُْي ِد ُ‬
‫سهُ ال تَ ْد ِري ل ََع هل ه‬ ‫هِ‬
‫اّلل فَ َق ْد ظَلَ َم نَ ْف َ‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬واخلطاب‬ ‫هيب إِذا طَله ْقتُ ُم النهِساءَ إَّنا كان النداء خاصا ِبلنيب صلهى ه‬ ‫اي أَيُّ َها النِ ُّ‬
‫ِبحلكم عاما له وألمته تكرميا له عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وإظهارا جلاللة منصبه ‪ ،‬كما يقال لرئيس‬
‫القوم وكبريهم ‪ :‬اي فالن افعلوا كيت وكيت ‪ ،‬إظهارا ملقامه فيهم ‪ ،‬واعتبارا لرتؤسه ‪ ،‬وإنه املتكلهم‬
‫عنهم ‪ ،‬وإنه هو الذي يصدرون عن رأيه ‪ ،‬وال يستب هدون أبمر دونه‪.‬‬
‫ب ارِجع ِ‬
‫ون [املؤمنون ‪]99 :‬‬‫قال َر ِه ْ ُ‬
‫وقيل اجلمع يف قوله ‪ :‬إِذا طَله ْقتُ ُم للتعظيم ‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫وقول القائل ‪:‬‬
‫أال فارمحوين اي إله حممد‪.‬‬
‫النيب واي أيها املؤمنون ‪ ،‬فحذف لداللة اخلطاب عليه‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬أراد اي أيها ه‬
‫النيب قل للمؤمنني إذا طلقتم النساء إخل‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬أراد اي أيها ه‬
‫وه هن لِعِدههتِِ هن ألن‬ ‫ِ‬
‫التجوز يف قوله تعاىل ‪ :‬إِذا طَله ْقتُ ُم النهِساءَ فَطَله ُق ُ‬
‫املفسرون على اعتبار ه‬
‫وقد اتفق ه‬
‫فطلقوهن‬
‫ه‬ ‫الكالم ال يستقيم دونه ‪ ،‬ملا فيه من حتصيل احلاصل ‪ ،‬أو كون املعىن إذا طلقتموهن‬
‫التجوز ‪ ،‬إما إبطالق املسبب وإرادة السبب ‪ ،‬وإما‬
‫مرة اثنية ‪ ،‬وهو غري مراد قطعا ‪ ،‬فال ب هد من ه‬
‫لعدهتن‪.‬‬
‫ه‬ ‫بتنزيل املشارف للفعل منزلة الشارع فيه ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬إذا أردمت تطليقهن تطلقوهن‬
‫وه هن لِعِدههتِِ هن الم التوقيت ه‬
‫كالالم الداخلة يف التاريخ ‪ ،‬حنو كتبته‬ ‫ِ‬
‫والالم يف قوله تعاىل ‪ :‬فَطَله ُق ُ‬
‫لثالث مضني من احملرم ‪ ،‬أي فطلهقوهن يف عدهتن ‪ ،‬أي يف وقتها‪ .‬واملراد ِبألمر إبيقاع الطالق يف‬
‫تطليقهن ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ذلك النهي عن إيقاعه يف احليض ‪ ،‬وردت بذلك السنة الصرُية ‪ ،‬فاملعىن ‪ :‬إذا أردمت‬
‫فال تطلقوهن يف احليض ‪ ،‬فهو مثل‬
‫اّلل عليه وسلهم «‪« : »1‬من أسلف فليسلف يف كيل معلوم ووزن معلوم إىل أجل‬
‫قوله صلهى ه‬
‫معلوم»‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 22 ، )226 /3‬كتاب املساقاة ‪ِ - 24 ،‬بب الرهن ‪ ،‬حديث‬
‫رقم (‪ ، )1604‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 35 ، )59 /3‬كتاب السلم ‪ِ - 1 ،‬بب السلم يف‬
‫الوزن حديث رقم (‪.)2240‬‬

‫ص ‪773 :‬‬
‫ليس معناه إجياب السلم ‪ ،‬بل معناه النهي عن السلم فيما مل يعلم كيله أو وزنه أو أجله‪.‬‬
‫وكذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم «‪« : »1‬كل مما يليك»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫ليس معناه إجياب األكل‪ .‬بل معناه ‪ :‬النهي عن أن جييل يده يف اإلانء ‪ ،‬وهكذا جرى عرف‬
‫اللسان العريب يف كل ما كان من هذا القبيل ‪ ،‬فكانت اآلية دليال على حرمة الطالق يف احليض‪.‬‬
‫حمرم‪ .‬واملعىن ‪ :‬فيه اإلضرار ِبلزوجة بتطويل املدة اليت‬
‫واتفق الفقهاء على أ هن ذلك طالق بدعي ه‬
‫ترتبصها ‪ ،‬فإ هن بقية احليض ال حتسب من العدة عند من يرى أ هن األقراء األطهار ‪ ،‬وكذلك ال‬
‫حتسب هي وال الطهر بعدها من العدة عند من يرى أ هن األقراء احليض‪.‬‬
‫وأيضا ليس من الوفاء وال من املروءة أن يطلقها يف وقت رغبته عنها ‪ ،‬لسبب ال دخل هلا فيه‪.‬‬
‫وأحلق الفقهاء بذلك يف احلرمة الطالق يف النفاس ‪ ،‬ملا ذكر من املعىن‪.‬‬
‫وأتت السنة الصحيحة بصورة اثلثة للطالق البدعي احملرم ‪ ،‬وهي أن يطلهقها يف طهر جامعها فيه‬
‫‪ ،‬واملعىن يف ذلك أنه رمبا يندم على الطالق إذا ظهر احلمل ‪ ،‬إذ اإلنسان قد يسمح بطالق‬
‫يتيسر له ردها ‪ ،‬فيتضرر هو والولد‪.‬‬
‫احلائل ال احلامل ‪ ،‬وقد ال ه‬
‫احملرم خلعها يف احليض بعوض منها ‪ ،‬أل هن بذهلا املال يشعر‬ ‫واستثىن كثري من الفقهاء من الطالق ه‬
‫ت بِهِ‬ ‫ِ‬
‫ناح َعلَْي ِهما ف َ‬
‫يما افْتَ َد ْ‬ ‫حباجتها إىل اخلالص ‪ ،‬وبرضاها بتطويل املدة ‪ ،‬وقد قال تعاىل ‪ :‬فَال ُج َ‬
‫اّلل عليه وسلهم لثابت بن قيس يف اخللع على مال من غري استفصال عن حال‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وأذن ه‬
‫زوجته «‪.»2‬‬
‫وه هن لِعِدههتِِ هن على أ هن الطالق يف احليض ال يقع ‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬
‫استدل أهل الظاهر بقوله تعاىل ‪ :‬فَطَله ُق ُ‬
‫ه‬
‫يرتتب عليه حكم ‪ ،‬ألن اآلية ظاهرة يف النهي عن الطالق يف غري العدة‪.‬‬
‫وقد بينت السنة ذلك ‪ ،‬أبنه الطالق يف احليض‪.‬‬
‫اّلل عنها أنه قال ‪« :‬من‬
‫اّلل عليه وسلهم من حديث عائشة رضي ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وثبت عن رسول ه‬
‫أحدث يف أمران هذا ما ليس منه فهو ر هد» «‪»3‬‬
‫ويف رواية ‪« :‬من عمل عمال ليس عليه أمران فهو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 36 ، )1599 /3‬كتاب األشربة ‪ِ - 135 ،‬بب آداب‬
‫الطعام حديث رقم (‪ ، )2022 /107‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 70 ، )241 /6‬كتاب‬
‫األطعمة ‪ِ - 2 ،‬بب التسمية حديث رقم (‪.)5376‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )244 /2‬كتاب الطالق ‪ِ ،‬بب يف اخللع حديث رقم (‪)2227‬‬
‫‪ ،‬والنسائي يف السنن (‪ ، )481 /6 - 5‬كتاب الطالق ‪ِ ،‬بب يف اخللع حديث رقم (‪.)3462‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 30 ، )1343 /3‬كتاب األقضية ‪ِ - 8 ،‬بب نقض األحكام‬
‫حديث رقم (‪ ، )1718 /17‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 53 ، )222 /3‬كتاب الصلح ‪5 ،‬‬
‫‪ِ -‬بب إذا اصطلحوا على صلح جور حديث رقم (‪.)2697‬‬

‫ص ‪774 :‬‬
‫ر هد»‬
‫اّلل عليه وسلهم مردود‬
‫قالوا ‪ :‬وهذا صريح يف أ هن هذا الطالق احملرم الذي ليس عليه أمره صلهى ه‬
‫وِبطل‪ .‬قالوا ‪ :‬وإذا كان النكاح املنهي عنه ال يصح ألجل النهي ‪ ،‬فما الفرق بينه وبني الطالق؟‬
‫حرمه وَنى عنه من الطالق؟ وليس لكم‬
‫اّلل عنه من النكاح ‪ ،‬وصححتم ما ه‬
‫وكيف أبطلتم ما َنى ه‬
‫متمسك يف ذلك إال رواية عن ابن عمر قد خالفها ما هو مثلها أو أحسن منها عن ابن عمر‬
‫أيضا ‪ ،‬فقد أخرج أبو داود «‪ »1‬عن أيب الزبري أنهه مسع عبد الرمحن بن أمين موىل عزة يسأل ابن‬
‫عمر ‪ ،‬قال أبو الزبري ‪ :‬وأان أمسع ‪ :‬كيف ترى يف رجل طلهق امرأته حائضا فقال ‪ :‬طلهق ابن عمر‬
‫اّلل صلهى‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فسأل عمر عن ذلك رسول ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫امرأته حائضا على عهد رسول ه‬
‫اّلل بن عمر طلهق امرأته وهي حائض‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪ :‬إ هن عبد ه‬
‫ه‬
‫علي ومل يرها شيئا‪ .‬وليست رواية انفع عن ابن عمر ‪« :‬مره فلرياجعها»‬
‫اّلل ‪ :‬فردها ه‬
‫قال عبد ه‬
‫يتعني اجلمع بينهما‬
‫علي ومل يرها شيئا»‪ .‬وحينئذ ه‬
‫أبصح من رواية أيب الزبري عنه ‪« :‬فردها ه‬
‫ه‬ ‫«‪»2‬‬
‫حبمل املراجعة يف قوله ‪« :‬مره فلرياجعها» على االرجتاع والرد إىل حالة االجتماع كما كاان من قبل‬
‫‪ ،‬وليس يف ذلك ما يقتضي وقوع الطالق البتة‪.‬‬
‫وأجاب اجلمهور عن ذلك أب هن االستدالل ِبآلية على عدم وقوع الطالق يف احليض موقوف على‬
‫وصحح‬
‫أ هن النهي عن الشيء يقتضي الفساد ‪ ،‬وهي مسألة أصولية كثرت فيها املذاهب واآلراء ‪ ،‬ه‬
‫يدل على الفساد يف العبادات ويف‬
‫احلنفية منها أنه ال يقتضي الفساد مطلقا‪ .‬وقال الشافعية ‪ :‬إنهه ه‬
‫املعامالت إذا رجع إىل نفس العقد ‪ ،‬أو إىل أمر داخل فيه ‪ ،‬أو الزم له‪.‬‬
‫فإن رجع إىل أمر مقارن كالبيع وقت نداء اجلمعة ‪ ،‬فال يدل على الفساد ‪ ،‬والنهي فيما حنن فيه‬
‫ألمر مقارن ‪ ،‬وهو زمان احليض ‪ ،‬فهو عندهم ال يدل على الفساد أيضا‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن‬
‫وأيهد ذلك أبمر ابن عمر ِبلرجعة ‪ ،‬إذ لو مل يقع الطالق مل يؤمر هبا ‪ ،‬وقد قال ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل طالق‪ .‬وكذلك‬ ‫طَله َقها فَال َحت ُّل لَهُ م ْن بَ ْع ُد َح هّت تَ ْنك َح َزْوجاً غَ ْريَهُ [البقرة ‪ ]230 :‬وهذا ه‬
‫يعم ه‬
‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍ‬
‫وء [البقرة ‪ ]228 :‬وقوله ‪ :‬الطهال ُق م هر ِ‬
‫اتن [البقرة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قوله ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬
‫قات َمتاعٌ [البقرة ‪ ]241 :‬وهذه كلها عمومات ال جيوز ختصيصها إال‬ ‫‪ ]229 :‬وقوله ‪ :‬ولِلْمطَله ِ‬
‫َ ُ‬
‫بنص أو إمجاع ‪ ،‬واملطلقة يف احليض داخلة يف هذه العمومات‪.‬‬
‫وأما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬من عمل عمال ليس عليه أمران فهو ر هد»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫فما أصحه وما أبعده‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )228 /2‬كتاب الطالق ‪ِ ،‬بب يف طالق السنة حديث رقم‬
‫(‪.)2185‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1093 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 1 ،‬بب حترمي طالق‬
‫احلائض حديث رقم (‪ ، )1471 /1‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )199 /6‬كتاب الطالق‬
‫اّلل تعاىل ‪:‬‬
‫‪ِ - 1 ،‬بب قول ه‬
‫هيب حديث رقم (‪.)5251‬‬‫اي أَيُّ َها النِ ُّ‬

‫ص ‪775 :‬‬
‫عن حمل النزاع ‪ ،‬فإ هن وقوع طالق احلائض مشروع ‪ ،‬فال يقال فيه ‪ :‬إنه عمل ليس عليه أمر النيب‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فهو مردود ‪ ،‬وحترمي الطالق يف احليض ال مينع ترتيب أثره وحكمه عليه ‪،‬‬
‫صلهى ه‬
‫شك يف ترتيب أثره وحكمه عليه ‪ ،‬وهو حترمي الزوجة‬
‫كالظهار ‪ ،‬فإنهه منكر من القول وزور ‪ ،‬وال ه‬
‫حمرم ‪ ،‬ويرتتب عليه أثره ‪ ،‬إىل أن تراجع ‪ ،‬وكذلك القذف‬
‫إىل أن يك هفر ‪ ،‬فهكذا الطالق البدعي ه‬
‫حمرم ‪ ،‬ويرتتب عليه أثره من احلدود والشهادة‪.‬‬
‫ه‬
‫حمرم ‪ ،‬ويرتتب عليه أثره وحكمه ‪ ،‬حّت ولو دخل بزوجته وهي‬
‫وكذلك وطء الزوجة يف احليض ه‬
‫يقرر املهر ويوجب العدة‪.‬‬
‫حائض اعترب ذلك وطأ ه‬
‫احملرم إذا كان كفرا ‪ ،‬فكيف ال‬
‫وكذلك اإلميان وهو أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول ِبلكالم ه‬
‫يزول عقد النكاح ِبلطهالق احملرم ‪ ،‬الذي وضع إلزالته؟ وكذلك طالق اهلازل يقع مع حترميه ‪ ،‬ألنهه‬
‫اّلل ‪ ،‬فإذا وقع طالق اهلازل مع حترميه فطالق اجلا هد أوىل أن يقع مع حترميه‪.‬‬
‫ُيل اهلزل آبايت ه‬
‫ال ه‬
‫حل الزوجة ‪ ،‬وملك بضعها ‪،‬‬
‫احملرم أ هن للنكاح عقد يتضمن ه‬
‫احملرم والطالق ه‬
‫والفرق بني النكاح ه‬
‫فال يكون إال على الوجه املأذون فيه شرعا ‪ ،‬فإ هن األبضاع يف األصل على التحرمي ‪ ،‬وال يباح‬
‫منها إال ما أِبحه الشارع خبالف الطالق ‪ ،‬فإنه إسقاط حلقه ‪ ،‬وإزالة مللكه ‪ ،‬وذلك ال يتوقف‬
‫على كون السبب املزيل مأذوان فيه شرعا‪ .‬على أن من النكاح ما يكون حمرما ويقع عقده‬
‫صحيحا ‪ ،‬كمن عقد على خمطوبة الغري ‪ ،‬فإ هن اإلقدام على هذا النكاح حرام ‪ ،‬ومع ذلك إذا‬
‫وقع العقد كان صحيحا‪.‬‬
‫علي ‪ ،‬ومل يرها شيئا ‪ ،‬فهي مردودة ملخالفة أيب الزبري‬
‫وأما رواية أيب الزبري عن ابن عمر فر هدها ه‬
‫فيها من هو أوثق منه ‪ ،‬قال أبو داود ‪ :‬واألحاديث كلهها على خالف ما قال أبو الزبري‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ :‬وانفع أثبت عن ابن عمر من أيب الزبري عنه ‪ ،‬واألثبت من احلديثني أوىل أن‬
‫تفرد هبذه الرواية أبو الزبري ‪ ،‬وقد‬
‫اخلطايب‪ .‬وقال ابن عبد الرب ‪ :‬ه‬
‫ه‬ ‫يقال به إذا ختالفا ‪ ،‬وكذلك قال‬
‫روى احلديث عن ابن عمر مجاعة أجلة ‪ ،‬فلم يقل ذلك أحد منهم ‪ ،‬وأبو الزبري ليس حبجة فيما‬
‫خالفه فيه مثله ‪ ،‬فكيف خبالف من هو أثبت منه‪.‬‬
‫وقال بعض أهل احلديث ‪ :‬مل يرو أبو الزبري حديثا أنكر من هذا‪.‬‬
‫وه هن لِعِدههتِِ هن على أن األقراء األطهار ‪ ،‬ووجه االستدالل به‬ ‫ِ‬
‫الشافعي بقوله تعاىل ‪ :‬فَطَله ُق ُ‬
‫ه‬ ‫واستدل‬
‫اّلل عليه وسلهم هذه‬
‫أ هن الالم هي الم الوقت ‪ ،‬أي فطلقوهن وقت عدهتن ‪ ،‬وفد فسر النيب صلهى ه‬
‫اآلية هبذا التفسري ‪،‬‬
‫اّلل عنهما أنه طلهق امرأته وهي حائض يف عهد‬
‫ففي «الصحيحني» «‪ »1‬عن ابن عمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم عن ذلك ‪ ،‬فقال‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فسأل عمر ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪776 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬مره فلرياجعها ‪ ،‬مث ليمسكها حّت تطهر ‪ ،‬مث حتيض ‪ ،‬مث تطهر‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫اّلل أن تطلهق هلا‬
‫ميس ‪ ،‬فتلك العدة اليت أمر ه‬
‫‪ ،‬مث إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلهق قبل أن ه‬
‫النساء»‬
‫اّلل أن تطلق هلا النساء هي الطهر الذي بعد‬
‫اّلل عليه وسلهم أ هن العدة اليت أمر ه‬
‫فبني النيب صلهى ه‬
‫ه‬
‫احليضة ‪ ،‬ولو كان القرء هو احليض كان قد طلقها قبل العدة ‪ ،‬ال يف العدة ‪ ،‬وكان ذلك تطويال‬
‫عليها‪ .‬ويشهد هلذا الذي ذهب إليه الشافعي قراءة ابن مسعود فطلقوهن لقبل طهرهن‪.‬‬
‫يفرقون بني الم الوقت ويف اليت للظرفية ‪،‬‬
‫وقال الذاهبون إىل أن األقراء احليض ‪ :‬إ هن أهل العربية ه‬
‫فإذا أتوا ِبلالم مل يكن الزمان املذكور بعدها إال ماضيا أو منتظرا ‪ ،‬ومّت أتوا بفي مل يكن الزمان‬
‫اجملرور هبا إال مقاران للفعل ‪ ،‬واعترب ذلك يف قولك ‪:‬‬
‫(كتبته لثالث خلون) و(كتبته بثالث بقني) و(كتبته يف ثالث) ففي املثال األول تكون الكتابة‬
‫بعد مضي الثالث ‪ ،‬ويف املثال الثاين تكون الكتابة قبل حلول الثالث ‪ ،‬ويف املثال الثالث تكون‬
‫وه هن لِعِدههتِِ هن معناه‬ ‫ِ‬
‫الكتابة يف نفس الثالث ويف أثنائها‪ .‬إذا تقرر ذلك يكون قوله تعاىل ‪ :‬فَطَله ُق ُ‬
‫فطلقوهن الستقبال عدهتن ‪ ،‬ال يف عدهتم ‪ ،‬إذ من احملال أن يكون الطالق وهو سبب العدة‬
‫واقعا يف العدة ‪ ،‬وإذا كانت العدة اليت تطلهق هلا النساء مستقبلة بعد الطالق ‪ ،‬فاملستقبل بعدها‬
‫إَّنا هو احليض ‪ ،‬فإ هن الطاهر ال تستقبل الطهر ‪ ،‬إذ هي فيه ‪ ،‬وإَّنا تستقبل احليض بعد حاهلا اليت‬
‫هي فيها‪.‬‬
‫ولكن املعروف أن الالم إذا دخلت الوقت أفادت معىن التوقيت ‪ ،‬واختصاص بذلك الوقت‬
‫على االتصال ‪ ،‬ال استقبال الوقت ‪ ،‬فال تقول ‪ :‬كتبته لثالث بقني إال إذا كنت حني الكتابة‬
‫فطلقوهن للوقت الذي يشرعن فيه يف العدة على‬
‫ه‬ ‫وه هن لِعِدههتِِ هن‬ ‫ِ‬
‫متلبسا أبوهلا ‪ ،‬فيكون معىن فَطَله ُق ُ‬
‫االتصال ِبلطالق‪.‬‬
‫واستدل بعض الناس ِبآلية على أ هن نفس الطالق مباح ‪ ،‬فإنهه إَّنا َني عنه إذا كان سببا يف‬
‫تطويل مدة الرتبص ‪ ،‬فاقتضى ذلك أنه إذا خال عن هذا مل يكن منهيا عنه ‪ ،‬بل كان مأذوان فيه ‪،‬‬
‫وال خيفى على املنصف أ هن اآلية مل تدل على أكثر من حرمة الطالق يف احليض‪.‬‬
‫صوا الْعِ هدةَ أصل اإلحصاء العد ِبحلصا ‪ ،‬كما كانت عادة العرب قدميا ‪ ،‬مث توسع فيه ‪،‬‬
‫َح ُ‬
‫َوأ ْ‬
‫فاستعمل يف ضبط العدد وإكماله ‪ ،‬فمعىن إحصاء العدة ضبطها وإكماهلا ثالثة قروء كوامل‪.‬‬
‫وإحصاء العدة واجب إلجزاء أحكامها فيها ‪ :‬من حق الرجعة للزوج ‪ ،‬واإلشهاد عليها ‪ ،‬ونفقة‬
‫الزوجة وسكناها ‪ ،‬وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها ‪ ،‬واإلشهاد على فراقها إذا ِبنت ‪،‬‬
‫وتزوج غريها من النساء ممن ملن يكن جيوز له مجعها إليها‪.‬‬

‫هبن بتطويل العدة عليهن‪.‬‬


‫اّللَ َربه ُك ْم يف اإلضرار ه‬ ‫ص ‪َ 777 :‬واته ُقوا ه‬
‫مساكنهن عند‬
‫ه‬ ‫وه هن ِم ْن بُيُوهتِِ هن َوال َخيُْر ْج َن َني لألزواج عن إخراج املطلقات املعتدات من‬
‫ال ُختْ ِر ُج ُ‬
‫الطالق إىل أن تنتهي العدة ‪ ،‬وَني للمعتدات عن اخلروج منها ‪ ،‬وفيه دليل على وجوب السكىن‬
‫هلن ما دمن يف العدة ‪ ،‬وستطلع على كالم يف ذلك‪.‬‬
‫ه‬
‫اجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها ‪ ،‬كأَنها‬
‫إليهن وهي ألزو ه‬
‫وأضاف البيوت ه‬
‫هلن‪.‬‬
‫ملك ه‬
‫واختلفت آراء الفقهاء يف مالزمة املعتدة بيت الفراق ‪ ،‬أهو خالص ح هق الزوجني أم هو ح هق هلما‬
‫وللشرع؟‬
‫فالصحيح عند احلنفية أ هن للشرع يف ذلك حقا ال ميلك الزوجان إسقاطه‪ .‬وعلى ذلك يكون قوله‬
‫هلن يف اخلروج إبشارته‬
‫اجهن مبنطوقه ‪ ،‬وعلى حرمة اإلذن ه‬
‫داال على حرمة إخر ه‬ ‫تعاىل ‪ :‬ال ُختْ ِر ُج ُ‬
‫وه هن ه‬
‫حمرم‪ .‬كأنه قيل ال خترجوهن وال أتذنوا هلم يف اخلروج إذا طلنب ذلك َوال‬
‫احملرم ه‬
‫‪ ،‬أل هن اإلذن يف ه‬
‫َخيُْر ْج َن أبنفسهم إن أردن‪.‬‬
‫وذهب الشافعية إىل أن مالزمتها بيت الفراق خالص حقهما ‪ ،‬فلو اتفقا على االنتقال جاز ‪ ،‬أل هن‬
‫ِبستبدادهن‪.‬‬
‫ه‬ ‫اجهن ‪ ،‬وال خيرجن‬
‫احل هق ال يعدومها ‪ ،‬وعليه يكون املعىن ‪ :‬ال تستب هدوا إبخر ه‬
‫املفسرين أ هن الفاحشة املبيهنة هي نفس اخلروج قبل انقضاء‬ ‫إِهال أَ ْن أيْتِني بِ ِ‬
‫فاح َ ٍ ِ ٍ‬
‫شة ُمبَ يهنَة اختار بعض ه‬ ‫َ َ‬
‫العدة‪ .‬وأ هن هذا االستثناء راجع إىل قوله تعاىل ‪َ :‬وال َخيُْر ْج َن واملعىن ‪ :‬ال يطلق هلن يف اخلروج إال‬
‫يف اخلروج الذي هو معصية وفاحشة ‪ ،‬ومعلوم أنه ال يطلق هلن يف املعصية والفاحشة ‪ ،‬فيكون‬
‫ذلك منعا عن اخلروج على أبلغ وجه‪.‬‬
‫ومنه ما روى مسلم يف «صحيحه» عن ابن عباس ‪ ،‬وقد عرض عليه بعض الناس كتاِب كانوا‬
‫ضل‪ .‬يريد ‪:‬‬
‫اّلل وجهه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما قضى هبذا علي إال أن يكون ه‬
‫علي كرم ه‬
‫يزعمون أ هن فيه قضاء ه‬
‫ضل ‪ ،‬ومعلوم أ هن عليا مل يضل ‪ ،‬فهو مل‬
‫أنه مل يقض هبذا أبدا ‪ ،‬ألنه ال يقضي به إال إذا كان قد ه‬
‫يقض به ‪ ،‬وهذا أسلوب من أساليب العربية البديعة البليغة ‪ ،‬تقول ‪ :‬ال تسب أخاك إال أن‬
‫تكون قاطع رحم ‪ ،‬وال تزن إال أن تكون فاسقا فاجرا‪ .‬روي هذا الوجه من التأويل عن ابن عمرو‬
‫اّلل‪.‬‬
‫والسدي وابن السائب والنخعي ‪ ،‬وبه أخذ أبو حنيفة رمحه ه‬
‫حل هلم أن خيرجوها‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ‪ :‬هإال أن تبذو على أهله ‪ ،‬فإذا فعلت ذلك ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فاطمة بنت قيس ِبالنتقال حني بذت على أمحائها‪.‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وقد أمر ه‬
‫وقال احلسن وزيد بن أسلم ‪ :‬الفاحشة املبيهنة الزىن ‪ ،‬فإذا زنت أخرجت إلقامة احلد‪.‬‬

‫ص ‪778 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬الفاحشة املبينة تطلق على النشوز‪.‬‬
‫قال اجلصاص «‪ : »1‬هذه املعاين كلها ُيتملها اللفظ ‪ ،‬وجائز أن يكون مجعها مرادا ‪ ،‬فيكون‬
‫خروجها فاحشة ‪ ،‬وإذا زنت أخرجت للحد ‪ ،‬وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا ‪ ،‬قال ‪ :‬وما‬
‫اّلل تعاىل قد أِبح هلا اخلروج لألعذار‬
‫ذكران من التأويل املراد يدل على جواز انتقاهلا للعذر ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اليت وصفنا‪.‬‬
‫تدل على أنه ال يباح خروجها حبال ‪،‬‬
‫خرجنا اآلية على املعىن األول فإَنها ه‬
‫ولكنهك تعلم أننا إذا ه‬
‫فكيف يقول اجلصاص ‪ :‬وجائز أن يكون مجيع هذه املعاين مرادا؟‬
‫اّللِ‬
‫ود ه‬ ‫اّللِ أي األحكام السابقة حدود ه‬
‫اّلل اليت ح هدها وعيهنها لعباده ‪َ ،‬وَم ْن يَتَ َع هد ُح ُد َ‬ ‫ود ه‬ ‫َوتِل َ‬
‫ْك ُح ُد ُ‬
‫سهُ فقد محهل نفسه وزرا ‪ ،‬وأكسبها إمثا ‪،‬‬
‫أي ومن يتجاوز هذه احلدود املذكورة فَ َق ْد ظَلَ َم نَ ْف َ‬
‫فصار بذلك هلا ظاملا وعليها متعداي‪ .‬أو فقد ظلم نفسه بتعريضها للضرر الدنيوي ‪ ،‬كما سيأيت‬
‫تفصيله‪.‬‬
‫ث بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫ك أ َْمراً هذه مجلة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرطية‬ ‫اّللَ ُُْي ِد ُ‬
‫ال تَ ْد ِري ل ََع هل ه‬
‫السابقة‪.‬‬
‫واخلطاب فيها للمتعدي بطريق االلتفات ‪ ،‬ملزيد االهتمام ِبلزجر عن التعدي‪.‬‬
‫عرض نفسه للضرر ‪ ،‬فإنك ال تدري أيها املتعدي عاقبة‬
‫اّلل فقد ه‬
‫واملعىن ‪ :‬من يتع هدى حدود ه‬
‫اّلل ُيدث يف قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خالف ما فعلت ‪،‬‬
‫األمر ‪ ،‬لعل ه‬
‫فامتثل أمر ربهك ‪ ،‬وال تطلهق يف احليض ‪ ،‬وال هتمل يف إحصاء العدة ‪ ،‬وال خترج املعتدة من بيتها ‪،‬‬
‫اّلل مقلب‬
‫ال ُيملنك البغض والغضب على أن تفعل شيئا من ذلك ‪ ،‬فإ هن الكراهة واحملبة بيد ه‬
‫القلوب ‪ ،‬فعسى أن ينقلب البغض حمبة واملقت مقة ‪ ،‬والطالق رجعة ‪ ،‬فانظر لنفسك ‪ ،‬وأبق‬
‫تبت حبل املودة بتا ‪ ،‬فتندم حني ال ينفع الندم ‪ ،‬والواقع يص هدق ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫للصلح ِبِب ‪ ،‬وال ه‬
‫الغالب يف الطالق أن يكون نتيجة كراهة كاذبة ‪ ،‬أو ثورة غضب جاحمة تغمر العقل ‪ ،‬وتقوى‬
‫عليه ‪ ،‬حّت إذا مته االنفصال ‪ ،‬وهدأت األعصاب ‪ ،‬واثب الرجل إىل رشده ‪ ،‬انتابته عوامل القلق‬
‫واحلنني إىل صحبة مضت أن تعود ‪ ،‬وتذ هكر من زوجته خالال كان يرضاها ‪ ،‬وقلما خيلو أحد من‬
‫ذلك ‪ ،‬كما‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا»»‬
‫قال صلهى ه‬
‫وقد يكون بينهما ولد ‪ ،‬أو يظهر هبا محل ‪ ،‬فتتأكد الرغبة فيها ‪ ،‬والندم على طالقها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن أليب بكر اجلصاص (‪.)462 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 17 ، )1091 /2‬كتاب الرضاع ‪ِ - 18 ،‬بب الوصية‬
‫ِبلنساء حديث رقم (‪].....[ .)1469 /61‬‬

‫ص ‪779 :‬‬
‫وف أَو فا ِرقُوه هن ِمبَعر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وف َوأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي َع ْد ٍل‬ ‫ُ ُْ‬ ‫وه هن ِمبَْع ُر ْ‬ ‫َجلَ ُه هن فَأ َْم ِس ُك ُ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬فَِإذا بَلَغْ َن أ َ‬ ‫قال ه‬
‫ظ بِهِ َم ْن كا َن يُ ْؤِم ُن ِِب هّللِ َوالْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر َوَم ْن يَت ِهق ه‬
‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ‬ ‫وع ُ‬‫هادةَ ِهّللِ ذلِ ُك ْم يُ َ‬
‫ش َ‬ ‫يموا ال ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُك ْم َوأَق ُ‬
‫اّللَ ِبلِ ُغ أ َْم ِرهِ قَ ْد‬
‫اّللِ فَ ُه َو َح ْسبُهُ إِ هن ه‬
‫ب َوَم ْن يَتَ َوهك ْل َعلَى ه‬ ‫ِ‬
‫ث ال َُْيتَس ُ‬ ‫َخمَْرجاً (‪َ )2‬ويَ ْرُزقْهُ ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ٍ‬ ‫ج عل ه ِ‬
‫َجلَ ُه هن هذا من جماز املشارفة ‪ ،‬بقرينة ما بعده ‪ ،‬ألنهه ال‬ ‫اّللُ ل ُك ِهل َش ْيء قَ ْدراً (‪ )3‬فَِإذا بَلَغْ َن أ َ‬ ‫ََ َ‬
‫فأمسكوهن مبعروف ‪ ،‬أو‬ ‫ه‬ ‫عدهتن‬
‫ه‬ ‫يؤمر ِبإلمساك بعد انقضاء العدة ‪ ،‬أي فإذا شارفن آخر‬
‫فارقوهن مبعروف ‪ ،‬واإلمساك ِبملعروف مراجعتهن مع حسن املعاشرة ‪ ،‬واإلنفاق املناسب ‪،‬‬
‫ه‬
‫ضرار هبن‪.‬‬
‫ختليتهن حّت تنقضي عدهتن مع إيفائهن حقهن ‪ ،‬واتقاء ال ه‬
‫ه‬ ‫واملفارقة ِبملعروف‬
‫َوأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي عَ ْد ٍل ِمنْ ُك ْم أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخرتُتوها ‪ ،‬أو الفرقة إن اخرتُتوها ‪ ،‬أل هن‬
‫اإلشهاد يقطع النزاع ‪ ،‬ويدفع الريبة‪.‬‬
‫وهذا أمر ندب واستحباب يف الرجعة والفرقة ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأَ ْش ِه ُدوا إِذا تَبايَ ْعتُ ْم [البقرة‬
‫‪ ]282 :‬وللشافعي قول يف القدمي بوجوب اإلشهاد يف الرجعة ‪ ،‬وأنه شرط يف صحتها‪ .‬واجلديد‬
‫أنه ال يشرتط لصحتها اإلشهاد عليها ‪ ،‬بناء على األصح أَنها يف حكم استدامة النكاح ال ابتدائه‬
‫‪ ،‬ومن مثه مل ُيتج فيها لويل وال لرضاها ‪ ،‬وإَّنا يندب فيها اإلشهاد لقوله تعاىل ‪َ :‬وأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي‬
‫َع ْد ٍل ِمنْ ُك ْم وصرفه عن الوجوب إمجاعهم على عدم الوجوب عند الطالق ‪ ،‬فكذلك عن‬
‫اإلمساك‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وفيه دليل على وجوب‬ ‫هادةَ ِهِ‬
‫ّلل أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه ه‬ ‫ش َ‬ ‫يموا ال ه‬‫ِ‬
‫َوأَق ُ‬
‫إقامة الشهادات عند احلكام على احلقوق كلها ‪ ،‬أل هن الشهادة هنا اسم للجنس ‪ ،‬وإن كان‬
‫مذكورا بعد األمر إبشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة ‪ ،‬أل هن ذكرها بعده ال مينع استعمال‬
‫اللفظ على عمومه‪.‬‬
‫ظ بِهِ َم ْن كا َن يُ ْؤِم ُن ِِب هّللِ َوالْيَ ْوِم ْاآل ِخ ِر اإلشارة إىل ما تق هدم من احلث على إقامة‬ ‫ذلِ ُك ْم يُ َ‬
‫وع ُ‬
‫الشهادة هّلل ‪ ،‬أو إىل ما تق هدم من األحكام كلها ‪ ،‬من إيقاع الطالق على وجه السنة ‪ ،‬وإحصاء‬
‫العدة ‪ ،‬والكف عن اإلخراج واخلروج ‪ ،‬واإلشهاد على الرجعة أو الفرق ‪ ،‬وإقامة الشهادة هّلل ‪،‬‬
‫ِبّلل واليوم اآلخر ‪ ،‬ألنه املنتفع هبا‪.‬‬
‫أي هذه األحكام يوعظ هبا من كان يؤمن ه‬
‫ب هذا اعرتاض جيء به لتأكيد ما سبق من‬ ‫ِ‬ ‫َوَم ْن يَت ِهق ا هّللَ َْجي َع ْل لَهُ َخمَْرجاً َويَ ْرُزقْهُ ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث ال َُْيتَس ُ‬
‫األحكام ‪ ،‬أي َوَم ْن يَت ِهق ه‬
‫اّللَ يف كل عمله َْجي َع ْل لَهُ َخمَْرجاً من مهوم الدنيا ومضارها ‪ ،‬وغمرات‬
‫املوت وأهوال اآلخرة وشدائدها ‪ ،‬ويرزقه الفوز خبريي الدارين ‪ ،‬من وجه ال خيطر بباله ‪ ،‬وإذا‬
‫اّلل يف الطالق للسنة ‪ ،‬ومل خيرج‬
‫كان هذا وعدا لعامة املتقني ‪ ،‬تناول بعمومه الزوج الذي اتقى ه‬
‫املعتدة من مسكنها ‪ ،‬وأمسك‬

‫ص ‪780 :‬‬
‫اّلل هذا الزوج ِبخلالص مما‬
‫مبعروف أو فارق مبعروف ‪ ،‬واحتاط فأشهد على ما اختار ‪ ،‬يعد ه‬
‫ويفرج عنه ما يعرتيه من الكروب ‪َ ،‬ويَ ْرُزقْهُ ِم ْن‬
‫عسى أن يقع فيه من اهلموم ومشاكل الزوجية ‪ ،‬ه‬
‫اّلل فيما عليها من حق ‪ ،‬فلم خترج من منزل‬ ‫ب وكذلك يتناول الزوجة اليت اتقت ه‬ ‫ِ‬
‫ث ال َُْيتَس ُ‬
‫َح ْي ُ‬
‫فاّلل يعدها على هذه التقوى بتفريج كرهبا ‪ ،‬ورزقها من‬ ‫اّلل يف رمحها ‪ ،‬ه‬
‫عدهتا ‪ ،‬ومل تكتم ما خلق ه‬
‫حيث ال حتتسب‪.‬‬
‫اّللِ فَ ُه َو َح ْسبُهُ أي فهو كافيه جل شأنه يف مجيع أموره ‪ ،‬أل هن ه‬
‫اّلل هو القادر‬ ‫َوَم ْن يَتَ َوهك ْل َعلَى ه‬
‫فوض العبد الضعيف أمره إليه‬ ‫على كل شي ء ‪ ،‬الغين عن كل شي ء ‪ ،‬اجلواد بكل شي ء ‪ ،‬فإذا ه‬
‫كفاه ال حمالة ما أمههه‪.‬‬
‫اّلل يبلغ ما يريده سبحانه ‪ ،‬وال يفوته مراد‪.‬‬‫اّللَ ِبلِ ُغ أ َْم ِرهِ إ هن ه‬
‫إِ هن ه‬
‫ٍ‬ ‫قَ ْد جعل ه ِ‬
‫وجل ق هدر األشياء قبل وجودها ‪ ،‬وعلم مقاديرها وأوقاهتا‬
‫عز ه‬ ‫اّللُ ل ُك ِهل َش ْيء قَ ْدراً أي إنهه ه‬ ‫ََ َ‬
‫كل شيء من الرزق وغريه ال يكون إال بتقديره تعاىل ‪ ،‬وال يقع إال حسبما علم ‪ ،‬مل‬
‫‪ ،‬وإذا كان ه‬
‫يسع العاقل إال التسليم للقدر ‪ ،‬ويف هذه اجلملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعاىل ‪،‬‬
‫جل ثناؤه‪.‬‬‫وتفويض األمر إليه ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الالئِي يئِسن ِمن الْم ِح ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫يض م ْن نسائ ُك ْم إِن ْارتَ ْب تُ ْم فَع هد ُهتُ هن ثَالثَةُ أَ ْش ُه ٍر َوال هالئي َملْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬و ه َ ْ َ َ َ‬ ‫قال ه‬
‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ ِم ْن أ َْم ِرهِ يُ ْسراً (‪ )4‬ذلِ َ‬
‫ك‬ ‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن َوَم ْن يَت ِهق ه‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬ ‫َمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ‬ ‫َُِي ْ‬
‫ض َن َوأُوال ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫اّللِ أَنْزلَهُ إِل َْي ُكم ومن ي ت ِهق ه ِ‬
‫َجراً (‪ )5‬أخرج احلاكم ‪ ،‬وصححه‬ ‫اّللَ يُ َك هف ْر َع ْنهُ َسيهِئاتِه َويُ ْعظ ْم لَهُ أ ْ‬ ‫ْ ََ ْ َ‬ ‫أ َْم ُر ه َ‬
‫أيب بن كعب أ هن أانسا من أهل املدينة ملا نزل قوله تعاىل يف سورة‬ ‫البيهقي يف «سننه» ومجاعة عن ه‬
‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍ‬
‫وء [البقرة ‪ ]228 :‬قالوا ‪ :‬لقد بقي من عدة‬ ‫ُ‬ ‫البقرة ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬
‫عنهن احليض ‪ ،‬وذات احلمل ‪،‬‬
‫النساء عدد مل تذكر يف القرآن ‪ :‬الصغار والكبار الاليت قد انقطع ه‬
‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫يض اآلية «‪.»1‬‬ ‫اّلل اليت يف سورة النساء القصرى َو ه‬
‫فأنزل ه‬
‫اّلل ع هدة اآليسة ثالثة أشهر ‪ ،‬وال خالف بني الفقهاء يف أن املرأة ما دامت ترى احليض‬
‫جعل ه‬
‫فهي من ذوات األقراء ‪ ،‬ال تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة‪.‬‬
‫إَّنا خالفهم فيمن انقطع حيضها مّت تكون آيسة ‪ ،‬وتعتد ِبألشهر؟ ألذلك ح هد معني أم ليس له‬
‫حد معني؟‬
‫والقائلون ِبلتحديد خمتلفون ‪ ،‬فمنهم من ق هدره ِبلسنني‪ .‬خبمسني سنة وخبمس وُخسني وبستني‬
‫وِبثنتني وستني إىل أقوال أخر ‪ ،‬أقصاها ُخس ومثانون ‪ ،‬ومنهم‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر تفسري ابن جرير الطربي املسمى جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)91 /28‬‬

‫ص ‪781 :‬‬
‫من اعتربه بيأس النساء يف بلدها الذي هي فيه ‪ ،‬فإ هن املكان إذا كان طيب اهلواء واملاء كبعض‬
‫سن اليأس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أيس كل النساء إخل‪.‬‬
‫الصحارى يبطئ فيها ه‬
‫قال أصحاب التحديد ‪ :‬إن اليأس يعتمد غلبة الظن ‪ ،‬ومهما انقطع دم املرأة فإَنها ال تزال ترجو‬
‫عوده ‪ ،‬وال يتأكد الظن بعدم عوده إال إذا بلغت من السن مبلغا ال ُييض مثلها فيه ‪ ،‬وأمر‬
‫العدد مبين على االحتياط وطلب اليقني ما أمكن‪.‬‬
‫والقائلون بعدم التحديد يقولون ‪ :‬اليأس ض هد الرجاء ‪ ،‬فإذا كانت املرأة قد يئست من احليض ومل‬
‫ترجه فهي آيسة ‪ ،‬ولو خالفت يف ذلك عادة النساء مجيعا ‪ ،‬ولو كان هلا أربعون سنة أو أقل ‪،‬‬
‫كما أَنها ما دامت حتيض وترى الدم وترجوه فهي ليست آيسة ‪ ،‬ولو كان هلا سبعون سنة أو أكثر‬
‫‪ ،‬ولو خالفت يف ذلك عادة النساء مجيعا‪ .‬وكما أنه يرجع يف االعتداد ِبألقراء إىل عادة املعتدة‬
‫نفسها ‪ ،‬ال إىل عادة غريها ‪ ،‬كذلك يرجع يف اإلايس إىل كل امرأة من نفسها ‪ ،‬وكما أَنهم مل جيعلوا‬
‫للصغر املوجب لالعتداد ِبألشهر ح هدا ‪ ،‬كذلك ينبغي أال يكون للكرب املوجب لالعتداد هبا‬
‫حدا‪.‬‬
‫وينبين على اخلالف يف التحديد وعدمه خالفهم يف املرأة اليت طلهقت ‪ ،‬وكانت من ذوات األقراء‬
‫‪ ،‬مث ارتفع حيضها ‪ ،‬مباذا تعتد؟‬
‫فأصحاب التحديد يقولون ‪ :‬تنتظر حّت ترى الدم أو تبلغ ح هد اليأس ‪ ،‬فتعتد بثالثة أشهر ‪ ،‬ولو‬
‫كانت مدة الرتبص أكثر من عشر سنني‪ .‬وهذا هو مذهب احلنفية وقول الشافعي يف اجلديد‪.‬‬
‫حتل‬
‫والذين ال يرون لليأس ح هدا يقولون ‪ :‬ترتبهص غالب مدة احلمل ‪ ،‬مث تعتد عدة اآليسة ‪ ،‬مث ه‬
‫اّلل عنه يف امرأة طلهقت‬
‫صح عن عمر بن اخلطاب رضي ه‬ ‫لألزواج مهما كانت سنها ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وقد ه‬
‫‪ ،‬فحاضت حيضة أو حيضتني ‪ ،‬مث ارتفعت حيضتها ‪ ،‬ال تدري ما رفعها ‪ ،‬أَنها ترتبص تسعة‬
‫أشهر ‪ ،‬فإن استبان هبا محل وإال اعتدت ثالثة أشهر‪ .‬وقد وافقه كثري من الفقهاء على هذا منهم‬
‫مالك وأمحد والشافعي يف القدمي‪.‬‬
‫وكذلك اختلفوا يف متعلهق االرتياب يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم فقال مجاعة ‪:‬‬
‫حكمهن فلم تدروا ما عدهتن؟ فعدهتن ثالثة أشهر ‪ ،‬وعلى ذلك يكون الشرط بياان‬
‫ه‬ ‫إن ارتبتم يف‬
‫للواقعة اليت نزل فيها احلكم من غري قصد للتقييد ‪ ،‬فال مفهوم له عند القائلني ِبملفهوم‪.‬‬
‫قال آخرون ‪ :‬إن ارتبتم يف دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أم استحاضة ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫هذه عدة املراتب يف دمها ‪ ،‬فغري املراتب يف دمها أوىل بذلك‪.‬‬
‫وقال الزجاج ‪ :‬املعىن ‪ :‬إن ارتبتم يف حيضهن ‪ ،‬وقد انقطع عنهن الدم ‪ ،‬وكن ممن ُييض مثلهن‪.‬‬
‫إىل أقوال أخر‪.‬‬

‫ص ‪782 :‬‬
‫اّلل ‪ :‬وأوىل األقوال يف ذلك ِبلصحة قول من قال ‪ :‬عىن‬
‫قال ابن جرير الطربي «‪ »1‬رمحه ه‬
‫فيهن‪ .‬وذلك أ هن معىن ذلك لو كان كما قاله من قال ‪ :‬إن‬
‫بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما احلكم ه‬
‫ألَنن إذا أشكل الدم‬
‫تبنت ‪ ،‬ه‬
‫ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أم استحاضة ‪ ،‬لقيل ‪ :‬إن ار ه‬
‫عليهن فهن املراتِبت بدماء أنفسهن ال غريهن‪ .‬ويف قوله ‪ :‬إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم وخطابه للرجال بذلك دون‬
‫فيهن‪.‬‬
‫النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أ هن معناه ‪ :‬إن ارتبتم أيها الرجال ِبحلكم ه‬
‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم واليائسة‬
‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫وأخرى ‪ :‬وهي أنهه جل ثناؤه قال ‪َ :‬و ه‬
‫من احمليض هي اليت ال ترجو حميضا للكرب ‪ ،‬وحمال أن يقال ‪ :‬والالئي يئسن ‪ ،‬مث يقال ‪ :‬ارتبتم‬
‫بيأسهن ‪ ،‬ألن اليأس هو انقطاع الرجاء ‪ ،‬واملراتب بيأسها مرجو هلا ‪ ،‬وغري جائز ارتفاع الرجاء‬
‫ووجوده يف وقت واحد اه‪.‬‬
‫وهذا الذي اختاره ابن جرير وافقه عليه مجهور املفسرين ‪ ،‬وليس عليه اعرتاض سوى أن يقال ‪:‬‬
‫إذا كان معىن إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم إن جهلتم عدهتن فسألتم عنها ‪ ،‬فأي فائدة يف ذكر هذا الشرط بعد أن‬
‫اّلل أنزهلا لتعليم من ال يعلم؟‬
‫كان معلوما يف كل األحكام الشرعية أ هن ه‬
‫حكمهن ‪ ،‬وشككتم فيه ‪ ،‬فقد بيناه لكم أيها‬
‫ه‬ ‫وأجابوا عن ذلك أب هن املقصود ‪ :‬إن سألتم عن‬
‫السائلون ‪ ،‬ففيه تنويه بشأن السائلني ‪ ،‬وبيان لنعمته تعاىل عليهم حني أجاب طلبهم ‪ ،‬وأزال ما‬
‫عندهم من الشك والريب ‪ ،‬خبالف املعرض عن طلب العلم الذي مل خيطر بباله ‪ ،‬استوفيت عدد‬
‫النساء أم مل تستوف؟‬
‫الالئِي َملْ َُِي ْ‬
‫ض َن مبتدأ خرب حمذوف ‪ ،‬أي والالئي مل ُيضن كذلك ‪ ،‬أي عدهتن ثالثة أشهر ‪ ،‬يريد‬ ‫َو ه‬
‫أ هن املعتدة اليت مل يسبق هلا حيض تعتد بثالثة أشهر ‪ ،‬سواء أكان عدم حيضها لصغر ‪ ،‬أم لعلة ‪،‬‬
‫أم ملنعه بدواء‪.‬‬
‫السن ‪ ،‬إال‬
‫وال نعلم خالفا يف أ هن اليت مل تر احليض أصال تعتد بثالثة أشهر ‪ ،‬مهما بلغت من ه‬
‫اّلل فيمن بلغت ومل حتض أَنها ترتبص تسعة أشهر غالب مدة احلمل ‪ ،‬فإن‬
‫رواية عن أمحد رمحه ه‬
‫استبان محلها وإال اعتدت ثالثة أشهر ‪ ،‬فيكون مثلها كمثل اليت ارتفع حيضها ‪ ،‬ال تدري ما‬
‫رفعه‪ .‬والرواية الثانية عن أمحد املوافقة لرأي اجلمهور أَنا تعتد ثالثة أشهر ‪ ،‬ومل جيعلوا للصغر‬
‫املوجب لالعتداد ِبألشهر ح هدا‪.‬‬
‫اّلل تعاىل‬
‫يزوج ولده الصغار ‪ ،‬أل هن ه‬ ‫الالئِي َملْ َُِي ْ‬
‫ض َن أن لإلنسان أن ه‬ ‫أخذ العلماء من قوله تعاىل ‪َ :‬و ه‬
‫جعل على من مل حتض من النساء لصغر أو غريه عدة ‪ ،‬وال يكون على الصغرية عدة هإال أن‬
‫يكون هلا نكاح‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬يف تفسريه جامع البيان تفسري القرآن املشهور بتفسري الطربي (‪.)91 /28‬‬

‫ص ‪783 :‬‬
‫الالئِي َملْ َُِي ْ‬
‫ض َن أ هن احلرة واألمة يف‬ ‫الالئِي يَئِ ْس َن وقوله تعاىل ‪َ :‬و ه‬
‫وظاهر العموم يف قوله تعاىل ‪َ :‬و ه‬
‫ذلك سواء ‪ ،‬فكما تعتد احلرة اآليسة أو الصغرية بثالثة أشهر ‪ ،‬كذلك تعتد األمة اآليسة أو‬
‫الصغرية ثالثة أشهر ‪ ،‬وهبذا قال أهل الظاهر وابن سريين ومكحول ومالك ‪ ،‬وهو أحد األقوال‬
‫اّلل‪.‬‬
‫يف مذهب الشافعي ‪ ،‬ورواية عن أمحد رمحهم ه‬
‫وقال مجهور العلماء ‪ :‬عدة األشهر فرع وبدل عن ع هدة األقراء ‪ ،‬وقد جرى عمل املسلمني من‬
‫الصحابة والتابعني على أ هن عدة األمة ذات األقراء قرآن ‪ ،‬وال يعرف يف الصحابة خمالف يف‬
‫ذلك‪ .‬وبه قال األئمة األربعة ‪ ،‬وخالئق من فقهاء األمصار ال ُيصون عدا ‪ ،‬ذهبوا إىل أَنها على‬
‫النصف من عدة احلرة‪ .‬ولو ال أ هن القرء ال ميكن تنصيفه لكانت عدهتا قرءا ونصفا‪.‬‬
‫مث من هؤالء الفقهاء من قال ‪ :‬عدة األمة اآليسة والصغرية شهران ‪ ،‬ألن عدهتا ِبألقراء قرآن ‪،‬‬
‫كل شهر مكان قرء ‪ ،‬وهو أحد أقوال الشافعي ‪ ،‬وأشهر الرواايت عن أمحد‪.‬‬
‫فجعل ه‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬عدهتا شهر ونصف ‪ ،‬ألن التصنيف يف األشهر ممكن ‪ ،‬فتنصفت خبالف القروء‬
‫‪ ،‬ونظري هذا أ هن احملرم إذا وجب عليه يف جزاء الصيد نصف م هد أخرجه ‪ ،‬فإن أراد الصيام مكانه‬
‫مل جيز إال صوم يوم كامل ‪ ،‬وهذا هو مذهب أيب حنيفة ‪ ،‬والقول الثالث للشافعي ‪ ،‬ورواية اثلثة‬
‫اّلل‪.‬‬
‫عن أمحد رمحهم ه‬
‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَ ْب تُ ْم فَعِ هد ُهتُ هن ثَالثَةُ‬
‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫مث إنهه ال تعارض بني قوله تعاىل ‪َ :‬و ه‬
‫ت ي َرتبهصن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن ثَالثَةَ قُر ٍ‬ ‫الالئِي َملْ َُِي ْ‬
‫وء‬ ‫ُ‬ ‫ض َن وقوله تعاىل يف سورة البقرة ‪َ :‬وال ُْمطَلهقا ُ َ َ ْ َ‬ ‫أَ ْش ُه ٍر َو ه‬
‫خاصة بذوات األقراء ‪ ،‬واآليسة واليت مل حتض ليستا من ذوات‬ ‫[البقرة ‪ .]228 :‬فإ هن آية البقرة ه‬
‫ِ‬
‫األقراء ‪ ،‬وهو ظاهر‪ .‬إَّنا التعارض بني اآلية اليت معنا وقوله تعاىل ىف سورة البقرة ‪َ :‬والهذ َ‬
‫ين‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َو َع ْشراً [البقرة ‪ ]234 :‬فإ هن آية‬ ‫ِ‬
‫يُتَ َوفه ْو َن م ْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يَ َرتَبه ْ‬
‫البقرة عامة تشمل ذوات األقراء والالئي يئسن والالئي مل ُيضن ‪ ،‬فتقضي بعمومها أ هن عدة‬
‫الوفاة لآليسة والصغرية أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬واآلية اليت معنا عامة يف السبب الذي من أجله‬
‫كانت العدة ‪ ،‬سواء أكان فرقة حي أم فرقة ميت ‪ ،‬فاقتضت بعمومها أ هن عدة الوفاة لآليسة‬
‫والصغرية ثالثة أشهر ‪ ،‬فكان بني النصني تعارض يف ظاهرمها‪.‬‬
‫لكن العلماء يكادون جيمعون على أ هن اآلية اليت معنا واردة يف خصوص عدة الطالق ‪ ،‬أل هن‬
‫ه‬
‫سياق اآلية ظاهر يف ذلك ‪ ،‬وحينئذ يكون اعتداد اآليسة والصغرية ثالثة أشهر خاصا ِبملعتدات‬
‫املطلقات ‪ ،‬فال يكون بني اآليتني تعارض‪.‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن أجل الشيء مدته كلها ‪ ،‬وأجله أيضا آخر‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬ ‫َمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫َوأُوال ُ‬

‫ص ‪784 :‬‬
‫مدته ‪ ،‬واملراد ِبألجل هنا آخر املدة اليت ترتبصها املرأة ‪ ،‬أي آخر عدهتن أن يضعن محلهن ‪،‬‬
‫وظاهر هذا أ هن املعتدة احلامل تنتهي عدهتا بوضع احلمل ‪ ،‬سواء أكانت معتدة عن طالق أم عن‬
‫وفاة ‪ ،‬فتكون اآلية معارضة آلية البقرة ‪ ،‬وهي قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َوعَ ْشراً ألن بني اآليتني عموما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن منْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً يَ َرتَبه ْ‬
‫وخصوصا من وجه‪ .‬وذلك أ هن آية البقرة أعم من اليت معنا يف املعتدات ‪ ،‬إذ تشمل احلامل وغري‬
‫احلامل ‪ ،‬وأخص من اليت معنا يف سبب العدة وهو الوفاة وعلى العكس من ذلك اآلية اليت معنا‬
‫‪ ،‬فكان التعارض واقعا بينهما يف القدر الذي اجتمعتا عليه واشرتكتا فيه ‪ ،‬وهو عدة املتوىف عنها‬
‫احلامل ‪ ،‬فآية البقرة جتعل عدهتا أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬واآلية اليت معنا جتعل عدهتا مدة محلها ‪،‬‬
‫فمّت وضعت فقد انقضت عدهتا‪.‬‬
‫ومن أجل هذا التعارض اختلف السلف يف عدة املتوىف عنها إذا كانت حامال ‪ ،‬فقال علي وابن‬
‫اّلل عنهم ‪ :‬تعتد أببعد األجلني من وضع احلمل أو أربعة أشهر‬
‫عباس ومجاعة من الصحابة رضي ه‬
‫اّلل ‪ ،‬واختاره سحنون‪.‬‬
‫وعشرا ‪ ،‬وهذا أحد القولني يف مذهب مالك رمحه ه‬
‫وقال مجهور الصحابة والتابعني واألئمة األربعة ‪ :‬إ هن عدهتا تنتهي بوضع احلمل ‪ ،‬ولو كان الزوج‬
‫على مغسله فوضعت حلهت‪.‬‬
‫احتج أب هن النصني متعارضان على ما مسعت ‪ ،‬وال ميكن ختصيص‬
‫فمن ذهب إىل أبعد األجلني ه‬
‫العموم يف أحدمها ِبخلصوص يف اآلخر ‪ ،‬أل هن ذلك إلغاء ‪ ،‬وال يصار إىل اإللغاء إال إذا تع هذر‬
‫اجلمع ‪ ،‬واجلمع هنا ممكن ‪ ،‬فكان هو املتعني ‪ ،‬وِبالعتداد أببعد األجلني ُيصل اجلمع بني‬
‫النصني ‪ ،‬أل هن مدة احلمل إن زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزايدة ‪ ،‬وإن قصرت‬
‫وتربصت املدة فقد وضعت وتربصت ‪ ،‬فيحصل العمل مبقتضى اآليتني‪.‬‬
‫وأنت تعلم أ هن هذا إَّنا هو مجع بني املدتني ‪ ،‬وال يع هد مجعا بني النصني‪.‬‬
‫وإعماال لعموم كل منهما يف مقتضاه ‪ ،‬وذلك أَنا إذا وضعت احلمل قبل أربعة أشهر وعشر مث‬
‫حكمنا عليها أبَنا ال تزال يف العدة ‪ ،‬كان ذلك إهدارا ملقتضى احلصر والتوقيت يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن فإنهه ظاهر يف أنه ال عدة عليها بعد وضع احلمل ‪ ،‬وأَنا‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬ ‫َمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫َوأُوال ُ‬
‫حالل لألزواج مّت وضعت محلها‪.‬‬
‫وأصحاب هذا الرأي ُيرموَنا على األزواج ‪ ،‬ويلزموَنا القرار يف مسكن العدة إىل أن تنتهي أربعة‬
‫األشهر والعشر‪ .‬فكيف يقال بعد ذلك إَنهم عملوا مبقتضى اآلية اليت معنا؟‬
‫وكذلك يقال فيمن مضى عليها أربعة أشهر وعشر ومل تضع محلها إذا ألزمناها‬

‫ص ‪ 785 :‬االعتداد إىل وضع احلمل ‪ ،‬كان ذلك إهدارا ملقتضى احلصر والتوقيت يف قوله تعاىل‬
‫ص َن ِأبَنْ ُف ِس ِه هن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َوعَ ْشراً وهو ظاهر‪ .‬فلم يكن يف هذا املذهب مجع بني النصني ‪،‬‬
‫‪ :‬يَ َرتَبه ْ‬
‫بل فيه إهدار ألحد النصني ال حمالة‪.‬‬
‫أما اجلمهور الذين قالوا ‪ :‬إ هن عدهتا تنتهي بوضع احلمل فقط ‪ ،‬فدليلهم على ذلك ‪ :‬أ هن السنة‬
‫الصرُية دلت على اعتبار احلمل فقط‪ .‬كما‬
‫يف «الصحيحني» «‪»1‬‬
‫أ هن سبيعة بنت احلرث األسلمية كانت حتت سعد بن خولة ‪ ،‬فتويف عنها وهي حامل ‪ ،‬فلم تنشب‬
‫جتملت للخطاب ‪ ،‬فدخل عليها أبو‬
‫أن وضعت محلها بعد وفاته ‪ ،‬فلما تعلهت من نفاسها ه‬
‫ُتر‬
‫واّلل ما أنت بناكح حّت ه‬
‫السنابل ‪ ،‬فقال هلا ‪ :‬ما يل أراك متجملة؟ لعلك ترجني النكاح إنهك ه‬
‫علي ثيايب حني أمسيت‬
‫عليك أربعة أشهر وعشر‪ .‬قالت سبيعة ‪ :‬فلما قال يل ذلك مجعت ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فسألته عن ذلك فأفتاين أبين قد حللت حني وضعت‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فأتيت رسول ه‬
‫ِبلتزوج إن بدا يل‪.‬‬
‫محلي ‪ ،‬وأمرين ه‬
‫وصح أيضا أ هن أِب سلمة بن عبد الرمحن وابن عباس اجتمعا عند أيب هريرة ومها يذكران املرأة‬
‫ه‬
‫تنفس بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس ‪ :‬ع هدهتا آخر األجلني‪ .‬وقال أبو سلمة ‪ :‬قد حلت‬
‫‪ ،‬فجعال يتنازعان ذلك فقال أبو هريرة ‪ :‬أان مع ابن أخي ‪ -‬يعين أِب سلمة ‪ ، -‬فبعثوا كريبا ‪-‬‬
‫أم‬
‫اّلل عنها يسأهلا عن ذلك ‪ ،‬فجاءهم ‪ ،‬فأخربهم أ هن ه‬
‫موىل ابن عباس ‪ -‬إىل أم سلمة رضي ه‬
‫اّلل‬
‫سلمة قالت ‪ :‬إ هن سبيعة األسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال ‪ ،‬وإَنها ذكرت ذلك لرسول ه‬
‫تتزوج «‪.»2‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فأمرها أن ه‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل‬
‫وروى الضياء يف «املختارة» وابن مردويه وغريمها عن أيب بن كعب قال ‪ :‬قلت للنيب صلهى ه‬
‫عليه وسلهم ‪ ،‬وأوالت األمحال أجلهن أن يضعن محلهن أهي املطلقة ثالاث واملتوىف عنها؟ قال ‪:‬‬
‫«هي املطلقة ثالاث واملتوىف عنها»‪.‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن عام يف املطلقة‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬ ‫ت ْاألَ ْمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫فجاءت السنة مبيهنة أ هن قوله تعاىل ‪َ :‬وأُوال ُ‬
‫واملتوىف عنها ‪ ،‬وأ هن عموم اآلية مراد ‪ ،‬وإن كان السياق يقتضي أَنا خاصة ِبملطلقات ‪ ،‬فصارت‬
‫انصة على أ هن عدة احلامل املتوىف عنها تنتهي بوضع احلمل فقط ‪ ،‬واآلية‬
‫اآلية بعد بيان السنة ه‬
‫اليت معنا نزلت بعد آية البقرة ‪ ،‬كما أخرج أبو داود‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 11 ، )1121 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1482 /53‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 68 ، )223 /6‬كتاب الطالق ‪39 ،‬‬
‫يض حديث رقم (‪.)5318‬‬‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫‪ِ -‬بب َو ه‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1122 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 8 ،‬بب انقضاء عدة‬
‫املتوىف عنها زوجها ‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )1485 /57‬والبخاري يف الصحيح (‪- 65 ، )79 /6‬‬
‫ال حديث رقم (‪.)4909‬‬ ‫َمح ِ‬
‫ت ْاأل ْ‬
‫كتاب التفسري ‪ِ - 25‬بب َوأُوال ُ‬

‫ص ‪786 :‬‬
‫اّلل عنه أنه قال ‪ :‬من شاء ِبهلته أ هن اآلية اليت‬
‫والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود «‪ »1‬رضي ه‬
‫َجلُ ُه هن إخل نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا‪.‬‬ ‫َمح ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫يف سورة النساء الصغرى َوأُوال ُ‬
‫ويف البخاري «‪ » 2‬عنه أيضا أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطوىل فتكون اآلية اليت‬
‫معنا انسخة آلية البقرة فيما اجتمعتا عليه ‪ ،‬واشرتكتا فيه ‪ ،‬فصار املراد من األزواج يف قوله تعاىل‬
‫ين يُتَ َوفه ْو َن ِمنْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً اآلية غري احلوامل من املتوىف عنهن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪َ :‬والهذ َ‬
‫ومن الناس من قال ‪ :‬اآلية اليت معنا خاصة ِبملطلقات كما هو ظاهر السياق‪.‬‬
‫خاصة ِبملتوىف عنهن ‪ ،‬فال تعارض بينهما ‪ ،‬غري أ هن السنة الصحيحة وردت إبخراج‬
‫وآية البقرة ه‬
‫احلوامل من عموم األزواج يف قوله تعاىل ‪َ :‬ويَ َذ ُرو َن أَ ْزواجاً فجعلت املراد منهن غري احلوامل ‪،‬‬
‫عنهن معلوما من السنة ال من‬
‫فكانت آية البقرة خمصوصة ِبلسنة ‪ ،‬وكان حكم احلوامل املتوىف ه‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫اّلل ذكر يف‬
‫أخص مطلقا مما يف سورة البقرة ‪ ،‬وبيان ذلك أ هن ه‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬اآلية اليت معنا ه‬
‫عنهن يف آيتني على التفريق ‪ ،‬مث وردت‬
‫سورة البقرة حكم املطلقات من النساء ‪ ،‬وحكم املتوىف ه‬
‫خمصصة يف البابني معا ‪ ،‬وال شك أ هن املستفاد من آييت البقرة هو أ هن‬
‫هذه اآلية اليت معنا بعدمها ه‬
‫عدة املعتدات احلوامل وغري احلوامل إما ثالثة قروء ‪ ،‬وإما أربعة أشهر وعشر ‪ ،‬وأن املستفاد من‬
‫اآلية اليت معنا أ هن عدة املعتدات احلوامل تنتهي بوضع احلمل ‪ ،‬فكانت اآلية معنا أخص مطلقا‬
‫واّلل أعلم‪.‬‬
‫خمصصة هلما‪ .‬ه‬
‫من آييت البقرة ‪ ،‬وقد نزلت بعدمها ‪ ،‬فكانت ه‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن أ هن العدة تنقضي بوضع احلمل ‪ ،‬وأ هن املرأة إذا‬
‫َجلُ ُه هن أَ ْن يَ َ‬
‫واقتضى قوله تعاىل ‪ :‬أ َ‬
‫وضعت محلها فقد حلهت لألزواج ‪ ،‬وال يتوقف حلهها على طهرها من النفاس خالفا للشعيب‬
‫يصح زواجها حّت تطهر من نفاسها ‪ ،‬واحتجوا‬
‫واحلسن وإبراهيم النخعي ومحاد ‪ ،‬فإَنهم قالوا ‪ :‬ال ه‬
‫بقوله يف‬
‫حديث سبيعة ‪« :‬فلما تعلهت من نفاسها»‬
‫أي طهرت منه ‪ ،‬وال حجة هلم فيه ‪ ،‬أل هن ذلك إخبار عنه وقت سؤاهلا ‪ ،‬ولذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إَنا حلت حني وضعت»‬
‫قال صلهى ه‬
‫ومل يعلهل ِبلطهر من النفاس‪.‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن أَنا إذا كانت حامال بتوأمني مل‬
‫وكذلك اقتضى قوله تعاىل ‪ :‬أَ ْن يَ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )276 /2‬كتاب الطالق ‪ِ ،‬بب عدة احلامل حديث رقم‬
‫(‪ ، )2307‬وابن ماجه يف السنن (‪ - 10 ، )654 /1‬كتاب الطالق ‪ِ - 7 ،‬بب احلامل‬
‫حديث رقم (‪ ، )2030‬والنسائي يف السنن (‪ ، )508 /6 - 5‬كتاب الطالق ‪ِ ،‬بب عدة‬
‫احلامل حديث رقم (‪.)13522‬‬
‫َمح ِ‬
‫ال‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )79 /6‬كتاب التفسري ‪ِ - 2 ،‬بب َوأُوال ُ‬
‫حديث رقم (‪.)4910‬‬

‫ص ‪787 :‬‬
‫تنقض عدهتا حّت تضعهما مجيعا ‪ ،‬واقتضى أيضا أن العدة تنقضي بوضع احلمل ‪ ،‬سواء أكان‬
‫حيا أم ميتا ‪ ،‬اتم اخللقة أم انقصها ‪ ،‬نفخ فيه الروح أم مل ينفخ‪.‬‬
‫َمح ِ‬
‫ال أ هن احلرة األمة يف االعتداد بوضع احلمل سواء ‪،‬‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫وظاهر العموم يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأُوال ُ‬
‫وال نعلم خالفا يف ذلك بني العلماء‪.‬‬
‫يسهل‬ ‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ ِم ْن أ َْم ِرهِ يُ ْسراً أي ومن خيف ه‬
‫اّلل فيأُتر مبا أمر به وينته عما َنى عنه ه‬ ‫َوَم ْن يَت ِهق ه‬
‫عليه أمره كله‪.‬‬
‫اّللِ أَنْ َزلَهُ إِل َْي ُك ْم اإلشارة إىل ما تق هدم من األحكام كلهها يقول تعاىل ذكره ‪:‬‬
‫ك أ َْم ُر ه‬‫ذلِ َ‬
‫اّلل أنزله إليكم لتأُتروا له ‪ ،‬وتعملوا‬
‫هذا الذي بينت لكم من حكم الطالق والرجعة والعدة أمر ه‬
‫اّلل ي َك هِفر عَنْهُ سيهِئاتِهِ ميح ذنوبه من صحائف أعماله ‪ ،‬وال يؤاخذه هبا إِ هن ا ْحلس ِ‬
‫نات‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫به َوَم ْن يَت ِهق هَ ُ ْ‬
‫َجراً ويضاعف له جزاء حسناته ‪ ،‬وجيزل له املثوبة‬ ‫ِ‬ ‫سيهِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ئات [هود ‪َ ]114 :‬ويُ ْعظ ْم لَهُ أ ْ‬ ‫نب ال ه‬ ‫يُذْه َْ‬
‫على عمله‪.‬‬
‫ضيهِ ُقوا َعلَْي ِه هن َوإِ ْن ُك هن‬ ‫وه هن لِتُ َ‬ ‫ث َس َك ْن تُ ْم ِم ْن ُو ْج ِد ُك ْم َوال تُ ُّ‬
‫ضآر ُ‬ ‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫َسكِنُ ُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬أ ْ‬ ‫قال ه‬
‫ور ُه هن َوأْ َُتِ ُروا بَ ْي نَ ُك ْم‬
‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا عَلَيْ ِه هن َح هّت يَ َ‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن فَِإ ْن أ َْر َ‬
‫ض ْع َن لَ ُك ْم فَآتُ ُ‬ ‫أ ِ‬
‫أسكنوهن بعض‬ ‫ه‬ ‫ث َس َك ْن تُ ْم أي‬ ‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫َسكِنُ ُ‬ ‫ض ُع لَهُ أُ ْخرى (‪ )6‬أ ْ‬ ‫وف وإِ ْن تَعاسر ُْمت فَس ُرت ِ‬
‫َْ َ ْ‬
‫ٍ‬
‫ِمبَ ْع ُر َ‬
‫ث َس َك ْن تُ ْم‪ .‬والوجد ‪:‬‬ ‫مكان سكناكم ِم ْن ُو ْج ِد ُك ْم بدل ‪ :‬أو عطف بيان لقوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن َح ْي ُ‬
‫أسكنوهن من وسعكم ‪ ،‬ومما تطيقونه‪.‬‬ ‫ه‬ ‫الوسع ‪ ،‬أي‬
‫وه هن يقتضي وجوب السكىن لكل مطلقة ‪ ،‬سواء أكانت رجعية أم ِبئنا‬ ‫َسكِنُ ُ‬ ‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫‪ ،‬وسواء أكانت حامال أم غري حامل‪.‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن يقتضي مبنطوقه‬ ‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا َعلَْي ِه هن َح هّت يَ َ‬
‫وظاهر قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن ُك هن أ ِ‬
‫َ‬
‫أكن رجعيات أم بوائن ‪ ،‬ومبفهومه عند القائلني به أنه‬
‫وجوب النفقة للمطلقات احلوامل ‪ ،‬سواء ه‬
‫ال نفقة لغري احلامل ‪ ،‬سواء أكانت رجعية أم ِبئنا‪.‬‬
‫وقد أمجع العلماء على أ هن للرجعية السكىن والنفقة ‪ ،‬أما السكىن فلقوله تعاىل ‪:‬‬
‫وه هن ِم ْن بُيُوهتِِ هن َوال َخيُْر ْج َن أما النفقة فأل هن الرجعية كالزوجة يف‬ ‫َسكِنُ ُ‬
‫وه هن وقوله تعاىل ‪ :‬ال ُختْ ِر ُج ُ‬ ‫أْ‬
‫بقاء حبس الزوج وسلطته عليها ‪ ،‬فكان إمجاعهم على وجوب النفقة هلا ‪ ،‬ولو مل تكن حامال‬
‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا عَلَيْ ِه هن لغري الرجعية عند القائلني‬
‫خمصصا ملفهوم قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن ُك هن أ ِ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِبملفهوم‪.‬‬
‫َسكِنُ ُ‬
‫وه هن وقوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُك هن‬ ‫وكذلك على أن للبائن احلامل السكىن والنفقة ‪ ،‬لقوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا َعلَْي ِه هن‪.‬‬
‫أ ِ‬

‫ص ‪788 :‬‬
‫أما البائن غري احلامل فقد اختلف العلماء يف سكناها ونفقتها على ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬وجوب السكىن والنفقة‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬عدم وجوهبما‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬وجوب السكىن دون النفقة‪.‬‬
‫فأما وجوب السكىن والنفقة فهو قول عمر بن اخلطاب ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وكثري من فقهاء‬
‫الصحابة والتابعني‪ .‬وهو مذهب أيب حنيفة والثوري وسائر فقهاء الكوفة ‪:‬‬
‫َسكِنُ ُ‬
‫وه هن فهو أمر ِبلسكىن لكل مطلقة‪ .‬ولوجوب النفقة‬ ‫احتجوا لوجوب السكىن بقوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫أبَنا جزاء االحتباس ‪ ،‬وهو مشرتك بني احلائل واحلامل ‪ ،‬ولو كان اإلنفاق جزاء للحمل لوجب يف‬
‫ماله إذا كان له مال ‪ ،‬ومل يقولوا به‪.‬‬
‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا َعلَْي ِه هن ليس للشرط فيه مفهوم خمالفة ‪ ،‬بل فائدته أن‬
‫وقوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن ُك هن أ ِ‬
‫َ‬
‫احلامل قد يتوهم أَنا ال نفقة هلا لطول مدة احلمل ‪ ،‬فأثبت هلا النفقة ‪ ،‬ليعلم غريها بطريق األوىل‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنه ‪ :‬ال ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلهى ه‬
‫فهو من مفهوم املوافقة‪ .‬وقد قال عمر رضي ه‬
‫عليه وسلهم لقول امرأة ال ندري جهلت أم نسيت‪ .‬يريد قول فاطمة بنت قيس حني طلهقها زوجها‬
‫اّلل عليه وسلهم سكىن وال نفقة‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫البتة ‪ :‬مل جيعل يل رسول ه‬
‫اّلل ‪،‬‬
‫وأما القول أبَنا ال سكىن هلا وال نفقة فهو مروي عن ابن عباس وأصحابه ‪ ،‬وجابر بن عبد ه‬
‫وفاطمة بنت قيس من فقيهات نساء الصحابة ‪ ،‬وكثري من التابعني ‪ ،‬وإليه ذهب إسحاق وداود‬
‫وأمحد وسائر أهل احلديث ‪ ،‬وحجتهم يف ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي اتفق على صحته‬
‫احملدثون‪.‬‬
‫أخرج مسلم «‪ »1‬وغريه عن فاطمة بنت قيس أ هن أِب عمرو بن حفص طلهقها البتة وهو غائب ‪،‬‬
‫اّلل‬
‫واّلل مالك علينا من شي ء ‪ ،‬فجاءت رسول ه‬
‫فأرسل إليها وكيله بشعري فسخطته ‪ ،‬فقال ‪ :‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فذكرت ذلك له فقال ‪« :‬ليس لك عليه نفقة»‬
‫صلهى ه‬
‫ويف رواية «ال نفقة لك وال سكىن»‬
‫‪ ،‬ويف أخرى للنسائي «‪»2‬‬
‫«إَّنا النفقة والسكىن للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة»‪.‬‬
‫اّلل تعاىل‬ ‫وه هن ِم ْن َحيْ ُ‬
‫ث َس َك ْن تُ ْم إَّنا هو يف الرجعيات خاصة ‪ ،‬أل هن ه‬ ‫َسكِنُ ُ‬
‫وقالوا ‪ :‬وقوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫ذكر للمطلقات يف هذه السورة أحكاما متالزمة ‪ ،‬ال ينفك بعضها عن بعض ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن األزواج ال خيرجوهن من بيوهتن‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أَنهن ال خيرجن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1114 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة حديث‬
‫رقم (‪.)1480‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1118 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1480 /44‬والنسائي يف السنن (‪ ، )519 - 518 /6 - 5‬كتاب الطالق ‪،‬‬
‫ِبب الرخصة يف خروج املبتوتة ‪ ،‬حديث رقم (‪.)3551 - 3547‬‬
‫ص ‪789 :‬‬
‫والثالث ‪ :‬أ هن ألزواجهن إمساكهن ِبملعروف قبل انقضاء األجل ‪ ،‬أو فرقتهن ِبملعروف‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬إشهاد ذوي عدل ‪ ،‬وهو إشهاد على ما اختار من الرجعة والفرقة ‪ ،‬وأشار سبحانه إىل‬
‫ث بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫ك أ َْمراً واألمر‬ ‫اّللَ ُُْي ِد ُ‬
‫حكمة ذلك ‪ ،‬وأنهه يف الرجعيات خاصة بقوله ال تَ ْد ِري ل ََعله ه‬
‫الذي يرجى إحداثه هاهنا هو املراجعة ‪ ،‬كما قال السلف ‪ ،‬مث ذكر سبحانه األمر إبسكان هؤالء‬
‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث َس َك ْن تُ ْم فكان الظاهر من سياق الكالم ونظمه أ هن الضمائر‬ ‫َسكِنُ ُ‬
‫املطلقات فقال ‪ :‬أ ْ‬
‫كلها متهحد مفسرها ‪ ،‬وأحكامها كلها متالزمة‪ .‬وكان‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إَّنا النفقة والسكىن للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة»‬ ‫قول النيب صلهى ه‬
‫اّلل ‪ ،‬ومبيهنا للمراد منه ‪ ،‬وأ هن األمر ِبإلسكان إَّنا هو يف خصوص الرجعيات‪.‬‬
‫مفسرا لكتاب ه‬
‫ه‬
‫قالوا ‪ :‬ولو سلمنا أ هن اآلية عامة يف الرجعيات والبوائن لكان احلديث خمالفا لعمومها ‪ ،‬وحينئذ‬
‫يكون احلديث خمصصا لعموم اآلية ‪ ،‬فحكمها حكم ختصيص العام من الكتاب ِبخلاص من‬
‫السنة ‪ ،‬وهو كثري‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وإذا ِبنت املرأة من زوجها صارت أجنبية ‪ ،‬ومل يبق هإال جمرد اعتدادها منه ‪ ،‬وذلك ال‬
‫يوجب هلا نفقة كاملوطوءة بشبهة أو زىن ‪ ،‬وأل هن النفقة إَّنا جتب يف مقابلة التمكني يف االستمتاع ‪،‬‬
‫والبائن ال ميكن استمتاعه هبا بعد بينونتها ‪ ،‬وأل هن النفقة لو وجبت عليه ألجل عدهتا لوجبت‬
‫للمتوىف عنها من ماله ‪ ،‬وال قائل به‪.‬‬
‫وأما القول أب هن هلا السكىن دون النفقة ‪ :‬فهو رأي فقهاء املدينة ‪ ،‬وإليه ذهب مالك والشافعي ‪،‬‬
‫ث َس َك ْن تُ ْم ولعدم‬ ‫وه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫َسكِنُ ُ‬
‫واحتجوا لوجوب السكىن بظاهر العموم يف قوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫ُوالت محَْ ٍل فَأَنْ ِف ُقوا‬
‫وجوب النفقة حبديث فاطمة بنت قيس مع ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن ُك هن أ ِ‬
‫َ‬
‫أَنن إذا مل يكن حوامل ال ينفق عليهن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وحديث‬ ‫عَلَيْ ِه هن َح هّت يَ َ‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه هن فإ هن مفهومه ه‬
‫فاطمة صحيح ال ننكر صحته ‪ ،‬ولكنه قد خالف يف السكىن ظاهر العموم يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َسكِنُ ُ‬
‫وه هن وجيب قبيل القول ِبلتخصيص أو النسخ اجلمع بني احلديث واآلية ما أمكن‪ .‬وقد جاء‬ ‫أْ‬
‫يف «الصحيحني» عن عائشة وغريها أ هن فاطمة كانت امرأة لسنة ‪ ،‬وأَنا استطالت على أمحائها ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ِبالنتقال من مسكن فراقها‪.‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫فأمرها ه‬
‫اّلل عنها أَنا قالت ‪ :‬إ هن فاطمة كانت يف مكان وحش‬
‫ويف «صحيح البخاري» عن عائشة رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم هلا‪.‬‬
‫‪ ،‬فخيف على انحيتها ‪ ،‬فلذلك أرخص النيب صلهى ه‬
‫ويف «صحيح مسلم» «‪ »1‬عن هشام عن أبيه عن فاطمة نفسها قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬اي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1121 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة حديث‬
‫رقم (‪.)1481 /53‬‬
‫ص ‪790 :‬‬
‫فتحولت‪ .‬فلما كان من‬
‫اّلل ‪ ،‬زوجي طلهقين ثالاث ‪ ،‬وأخاف أن يقتحم علي ‪ ،‬قال ‪ :‬فأمرها ه‬
‫رسول ه‬
‫املمكن محل إسقاط السكىن يف احلديث على أنهه كان الستطالتها على أمحائها ‪ ،‬أو خلوفها أن‬
‫تعني أتويل احلديث على هذا املعىن ‪ ،‬للجمع بينه وبني اآلية ‪،‬‬
‫يقتحم عليها ‪ ،‬أو هلما معا ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم أذن هلا يف االنتقال لعذر ‪ ،‬وهذا ال ينايف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫وصار املراد من احلديث أ هن ه‬
‫وجوب السكىن للمعتدة البائن‪.‬‬
‫قال اجلصاص «‪ »1‬يف حديث فاطمة بنت قيس ‪ :‬وهذا حديث قد ظهر من السلف النكري‬
‫تعريها من نكري السلف اه‪.‬‬
‫على راويه ‪ ،‬ومن شرط قبول أخبار اآلحاد ه‬
‫وملا كان هذا ر هدا حلديث صححه احملدثون ‪ ،‬وأخذ به مجع من الفقهاء واألئمة العارفني بعلل‬
‫األحاديث وطرق اجلرح والتعديل ‪ ،‬أحببنا أن نذكر خالصة للمطاعن اليت وردت على هذا‬
‫احلديث مع بيان ما فيها‪.‬‬
‫اّلل عنه قال ‪-‬‬
‫روى مسلم يف «صحيحه» «‪ »2‬عن األسود بن يزيد أ هن عمر بن اخلطاب رضي ه‬
‫اّلل وسنة نبينا لقول امرأة ال ندري لعلها‬ ‫وقد ذكر له قول فاطمة بنت قيس ‪ : -‬ال نرتك كتاب ه‬
‫وه هن ِم ْن بُيُوهتِِ هن َوال َخيُْر ْج َن إِهال‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال ُختْ ِر ُج ُ‬
‫حفظت أو نسيت ‪ ،‬هلا السكىن والنفقة ‪ ،‬قال ه‬
‫شةٍ ُمبَ يهِنَةٍ‪.‬‬ ‫أَ ْن أيْتِني بِ ِ‬
‫فاح َ‬ ‫َ َ‬
‫وروى ابن حزم يف «احمللى» واجلصاص يف «أحكام القرآن» «‪ »3‬عن محاد بن سلمة عن محاد‬
‫بن أيب سليمان أنه أخرب إبراهيم النخعي حبديث الشعيب عن فاطمة ابنت قيس ‪ ،‬فقال له إبراهيم‬
‫اّلل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫اّلل وقول ه‬‫‪ :‬إ هن عمر بن اخلطاب أخرب بقوهلا فقال ‪ :‬لسنا بتاركي آية يف كتاب ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يقول ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عليه وسلهم لقول امرأة لعلها أومهت! مسعت رسول ه‬
‫«هلا السكىن والنفقة» «‪»4‬‬
‫‪ .‬ويف النسائي «‪ »5‬أن األسود بن يزيد مسع الشعيب ُي هدث حبديث فاطمة بنت قيس ‪ ،‬فأخذ كفا‬
‫اّلل عنه ‪ :‬إن جئت‬
‫من حصباء فحصبه وقال ‪ :‬ويلك مل تفيت مبثل هذا؟ قال عمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وإال مل نرتك كتاب ربنا لقول‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫بشاهدين يشهدان أَنما مسعاه من رسول ه‬
‫امرأة‪.‬‬
‫وروى مسلم يف «صحيحه» «‪ »6‬أن مروان بن احلكم قال يف حديث فاطمة ‪ :‬مل نسمع هذا إال‬
‫من امرأة سنأخذ ِبلعصمة اليت وجدان الناس عليها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن أليب بكر اجلصاص (‪.)461 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه يف الصحيح (‪ - 18 ، )1118 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلق حديث رقم‬
‫(‪.)1480 /46‬‬
‫(‪ )3‬انظر أحكام القرآن للجصاص (‪.)460 /3‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1118 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)1480 /44‬‬
‫(‪ )5‬رواه النسائي يف السنن (‪ ، )518 /6 - 5‬كتاب الطالق حديث رقم (‪].....[ .)3547‬‬
‫(‪ )6‬يف الصحيح (‪ - 18 ، )1118 /2‬كتاب الطالق ‪ِ - 6 ،‬بب املطلقة حديث رقم (‪/41‬‬
‫‪.)1480‬‬

‫ص ‪791 :‬‬
‫وحاصل هذه املطاعن يرجع إىل أربعة أمور ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أ هن راويته امرأة‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أَنها مل أتت بشاهدين يتابعاَنا على حديثها‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن روايتها تضمنت خمالفة القرآن‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن روايتها خالفت السنة‪.‬‬
‫فأما أَنا امرأة ‪ ،‬فإ هن ذلك ال ينبغي أن يع هد مطعنا ‪ ،‬فإن أحدا من أصحاب اجلرح والتعديل مل يقل‬
‫أب هن األنوثة من األمور اليت تر هد هبا الرواية ‪ ،‬ومل خيتلفوا يف أ هن السنن تؤخذ عن املرأة كما تؤخذ عن‬
‫الرجل ‪ ،‬وكما أ هن يف الرجال عدالة وضبطا كذلك يف النساء عدالة وضبط ‪ ،‬وكم من سنة تلقتها‬
‫األئمة ِبلقبول عن امرأة ‪ ،‬وهذه مسانيد نساء الصحابة أبيدي الناس ‪ ،‬ال تشاء أن ترى فيها‬
‫منهن إال رأيتها‪.‬‬
‫تفردت هبا امرأة ه‬
‫سنة ه‬
‫وأما أَنها مل أتت بشاهدين ‪ ،‬فذلك أيضا ليس جبرح ترد له الرواية ‪ ،‬ومل يشرتط أحد يف الرواية‬
‫اّلل وجهه ‪ ،‬إال تثبتا‬
‫كرم ه‬
‫علي ه‬
‫نصاِب ‪ ،‬ومل يكن طلب عمر الشهادة على الرواية وكذلك حتليف ه‬
‫اّلل صلهى‬
‫حّت ال يركب الناس الصعب والذلول يف الرواية عن رسول ه‬
‫اّلل عنهما ‪ ،‬ه‬
‫منهما رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫ه‬
‫حّت‬
‫اّلل عنه يف حديث أيب موسى األشعري يف االستئذان ه‬ ‫وقد نقل مثل ذلك عن عمر رضي ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬ويف حديث املغرية بن شعبة يف إمالص املرأة حّت‬
‫شهد له أبو سعيد اخلدري رضي ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وحتذيرا من اإلكثار يف‬
‫كل ذلك كان تثبتا منه رضي ه‬
‫شهد له حممد بن مسلمة «‪ »1‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ألنهه كان يعترب الشهادة شرطا يف قبول الرواية ‪،‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫الرواية عن رسول ه‬
‫وإال فقد قبل عمر خرب الضحاك بن سنان الكاليب وحده ‪ ،‬وقبل لعائشة رضي ا هّلل عنها ع هدة‬
‫تفردت هبا‪.‬‬
‫أخبار ه‬
‫وأما أن روايتها تضمنت خمالفة القرآن ‪ ،‬فقد أجبنا عنه يف تقرير مذهب أهل احلديث يف سكىن‬
‫خاصة ِبلرجعيات كما هو ظاهر السياق ‪ ،‬وإما‬
‫البائن ونفقتها ‪ ،‬وحاصله أ هن اآلية إما أن تكون ه‬
‫أن تكون عامة يف الرجعيات والبوائن‪.‬‬
‫فإن كانت خاصة ِبلرجعيات فال خمالفة بينها وبني حديث فاطمة ‪ ،‬وهو ظاهر ‪ ،‬وإليه ذهب‬
‫اّلل ‪ ،‬روى عنه أصحابه أنهه أنكر هذا من قول عمر ‪ ،‬وجعل يتبسم ويقول ‪:‬‬
‫اإلمام أمحد ‪ ،‬رمحه ه‬
‫اّلل إجياب السكىن والنفقة للمطلهقة ثالاث؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة بنت‬ ‫أين يف كتاب ه‬
‫اّللَ ُُْي ِد ُ‬
‫ث‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬ال تَ ْد ِري ل ََع هل ه‬
‫اّلل ‪ ،‬قال ه‬
‫قيس راوية احلديث ‪ ،‬وقالت ‪ :‬بيين وبينكم كتاب ه‬
‫بَ ْع َد ذلِ َ‬
‫ك أ َْمراً وأي أمر ُيدث بعد الثالث؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 97 ، )190 /8‬كتاب االعتصام ‪ِ - 13 ،‬بب ما جاء يف‬
‫اجتهاد القضاء ‪ ،‬حديث رقم (‪.)7318 ، )7317‬‬

‫ص ‪792 :‬‬
‫خصص فيه الكتاب ِبلسنة‬
‫وإن كانت اآلية عامة يف الرجعيات والبوائن ‪ ،‬فليس هذا هأول موضع ه‬
‫خصصت ِبلسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق ال يرثون ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪:‬‬‫‪ ،‬فآية املواريث ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪:‬‬
‫خصص بقوله صلهى ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوأُحله لَ ُك ْم ما َوراءَ ذل ُك ْم [النساء ‪ ]24 :‬ه‬
‫«ال تنكح املرأة على عمتها» احلديث‪.‬‬
‫وأما أ هن روايتها تضمنت خمالفة السنة فال جند سنة خمافة حلديث فاطمة ‪ ،‬إال روايتني عن عمر‬
‫اّلل عنه ‪:‬‬
‫رضي ه‬
‫إحدامها ‪ :‬قوله ال ندع كتاب ربهنا وسنة نبينا ‪ ،‬وهذا له حكم املرفوع‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يقول ‪« :‬هلا السكىن والنفقة»‪.‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫والثانية ‪ :‬قوله مسعت رسول ه‬
‫يصح ذلك عن عمر رضي‬
‫اّلل ‪ :‬ال ه‬
‫أما الرواية األوىل عن عمر فقد قال فيها اإلمام أمحد رمحه ه‬
‫اّلل عنه وقال أبو احلسن الدار قطين قوله ‪« :‬و سنة نبينا» هذه زايدة غري حمفوظة ‪ ،‬مل يذكرها‬
‫ه‬
‫اّلل صلهى‬
‫مجاعة من الثقات ‪ ،‬بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا ‪ ،‬ومن له إملام بسنة رسول ه‬
‫اّلل أ هن‬
‫اّلل عنه سنة عن رسول ه‬
‫اّلل أنه مل يكن عند عمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يشهد شهادة ه‬‫ه‬
‫للمطلقة ثالاث السكىن والنفقة‪.‬‬
‫اجلصاص عن محاد عن إبراهيم أ هن عمر‬
‫خيرجها فيما نعلم إال ابن حزم و ه‬
‫وأما الرواية الثانية ‪ :‬فلم ه‬
‫ه‬
‫إخل ومعلوم أ هن إبراهيم مل يولد إال بعد وفاة عمر بسنني ‪ ،‬فاخلرب منقطع ‪ ،‬وقد أنكره علماء‬
‫وصرح ابن القيم أبنهه مكذوب على عمر ‪ ،‬وأنه لو كان هذا عند عمر عن النيب صلهى‬
‫احلديث ‪ ،‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم خلرست فاطمة وذووها ‪ ،‬وملا فات هذا احلديث أئمة احلديث واملصنفني يف‬
‫ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬وأحسنها به الظن ‪،‬‬
‫السنن واألحكام ‪ ،‬فإن كان خمرب أخرب به إبراهيم عن عمر رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم هو الذي حكم بثبوت‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫وظن أن رسول ه‬
‫كان قد روى قول عمر ِبملعىن ‪ ،‬ه‬
‫النفقة والسكىن للمبتوتة حني قال عمر ‪ :‬ال ندع كتاب ربنا لقول امرأة‪.‬‬
‫وقد تناظر يف هذه املسألة ميمون بن مهران وسعيد بن املسيهب فذكر له ميمون خرب فاطمة بنت‬
‫قيس فقال سعيد ‪ :‬تلك امرأة فتنت الناس‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ما فتنت‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫فقال له ميمون ‪ :‬لئن كانت إَّنا أخذت مبا أفتاها به رسول ه‬
‫اّلل أسوة حسنة اه‪.‬‬
‫الناس ‪ ،‬وإ هن لنا يف رسول ه‬
‫احتج حبديث فاطمة بنت قيس هذا ‪ ،‬وأخذ به يف بعض‬
‫وال نعلم أحدا من الفقهاء هإال وقد ه‬
‫األحكام‪ .‬وقد ذكر النووي يف «شرحه على صحيح مسلم» ستة عشر حكما استنبطها العلماء‬
‫من هذا احلديث‪.‬‬
‫تبني أ هن هذه املطاعن مردودة ومل يقدح شيء منها يف صحة احلديث لزم القائلني بوجوب‬
‫وإذا قد ه‬
‫السكىن والنفقة للمبتوتة أن جيمعوا بينه وبني اآلية ما أمكنهم اجلمع ‪ ،‬وإال فالنسخ أو‬
‫التخصيص‪.‬‬

‫أخف يف‬
‫ص ‪ 793 :‬وقد سلك اجلصاص «‪ »1‬يف أتويل احلديث طريقة أقرب إىل الصواب ‪ ،‬و ه‬
‫االستهجان من رد احلديث وإنكاره ‪ ،‬والطعن فيه بغري مطعن ‪ ،‬قال ‪ :‬وللحديث عندان وجه‬
‫صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكىن والنفقة ‪ ،‬وذلك أنهه قد روي أَنا قد‬
‫استطالت بلساَنا على أمحائها ‪ ،‬فأمروها ِبالنتقال ‪ ،‬فلما كان سبب النقلة من جهتها ‪ ،‬كانت‬
‫مبنزلة الناشزة ‪ ،‬فسقطت نفقتها وسكناها مجيعا اه‪.‬‬
‫وه هن وقوله تعاىل ‪ :‬فَأَنْ ِف ُقوا َعلَْي ِه هن لألزواج ‪ ،‬فاقتضى ذلك بظاهره‬
‫َسكِنُ ُ‬
‫واخلطاب يف قوله تعاىل ‪ :‬أ ْ‬
‫أ هن السكىن والنفقة إَّنا تكوانن للزوجات املطلقات ‪ ،‬ال املتوىف عنهن من الزوجات‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنه قال ‪« :‬ليس للحامل‬
‫وقد روى الدار قطين «‪ »2‬إبسناد صحيح عنه صلهى ه‬
‫املتوىف عنها زوجها نفقة»‬
‫ه‬
‫فاملتوىف عنها غري احلامل أوىل أال يكون هلا نفقة‪.‬‬
‫ه‬
‫اّلل عنهما أَنما كاان يقوالن‬
‫وال نعلم خالفا يف ذلك إال ما روي عن علي وابن مسعود رضي ه‬
‫للمتوىف عنها من الرتكة ‪ ،‬وظاهر اآلية والسنة الصحيحة على خالف ما يقوالن‪.‬‬
‫ه‬ ‫بوجوب النفقة‬
‫ور ُه هن أي فإن أرضعن لكم بعد انقضاء عدهتن بوضع محلهن فأدوا‬
‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫فَِإ ْن أ َْر َ‬
‫ض ْع َن لَ ُك ْم فَآتُ ُ‬
‫إليهن أجورهن على اإلرضاع ‪ ،‬والتزموا ذلك هلن‪.‬‬
‫ه‬
‫األم إذا رضيت أن ترضع ولدها أبجر املثل ‪ ،‬فهي أح هق به ‪ ،‬لوفور شفقتها ‪،‬‬
‫دل هذا على أ هن ه‬
‫ه‬
‫فهي أوىل حبضانته وإرضاعه من كل أحد ‪ ،‬وليس لألب أن يسرتضع غريها حينئذ‪.‬‬
‫اّلل أوجبها بعد الرضاع ‪،‬‬
‫ودل على أ هن األجرة إَّنا تستحق ِبلفراغ من العمل ‪ ،‬ال ِبلعقد ‪ ،‬أل هن ه‬ ‫ه‬
‫ور ُه هن‪.‬‬
‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫بقوله ‪ :‬فَِإ ْن أ َْر َ‬
‫ض ْع َن لَ ُك ْم فَآتُ ُ‬
‫ودل أيضا على أ هن نفقة الولد الصغري على أبيه ‪ ،‬ألنهه إذا لزمه أجرة الرضاع فكفايته ألزم ‪ ،‬ومن‬
‫ه‬
‫مثه أمجعوا على ذلك يف طفل ال مال له ‪ ،‬وأحلق به ِبلغ عاجز كذلك ‪،‬‬
‫خلرب هند بنت عتبة «خذي ما يكفيك وولدك ِبملعروف» «‪.»3‬‬
‫وأْ َُتِروا ب ي نَ ُكم ِمبَعر ٍ‬
‫وف أي ليأمر بعضكم بعضا جبميل يف اإلرضاع واألجر وغريمها‪.‬‬‫َ ُ َْ ْ ْ ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن للجصاص (‪.)462 /3‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدار قطين يف السنن (‪.)21 /4‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 30 ، )1338 /3‬كتاب األقضية ‪ِ - 4 ،‬بب قضية هند‬
‫حديث رقم (‪ ، )1714‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 34 ، )24 /3‬كتاب البيوع ‪ِ - 44 ،‬بب‬
‫من أجرى أمر األمصار حديث رقم (‪.)2211‬‬

‫ص ‪794 :‬‬
‫األم يف‬
‫ط ه‬ ‫عاس ْر ُْمت أي ‪ ،‬وإن ضيهق بعضكم على بعض يف األجرة ‪ ،‬أو يف الرضاع ‪ ،‬كأن تشت ه‬ ‫َوإِ ْن تَ َ‬
‫األجرة ‪ ،‬أو أتىب الرضاع ‪ ،‬أو يشاح األب يف أجرة املثل فَس ُرت ِ‬
‫ض ُع لَهُ أُ ْخرى الكالم على معىن ‪:‬‬ ‫َْ‬
‫فليطلب له األب مرضعة أخرى ‪ ،‬وبذلك يظهر االرتباط بني الشرط واجلزاء‪ .‬وإَّنا اختري ما يف‬
‫لألم ‪ ،‬كما تقول ملن تستقضيه حاجة فيأىب ‪ :‬سيقضيها‬
‫النظم اجلليل ليكون فيه نوع من املعاتبة ه‬
‫األم ال ينبغي هلا أن تعاسر يف رضاع ولدها‬
‫غريك ‪ ،‬أي ستقضي وأنت ملوم ‪ ،‬ففيه تنبيه على أ هن ه‬
‫متمول ‪ ،‬وال مضنون به يف العرف والعادة‬
‫‪ ،‬فإ هن املبذول من جهتها هو لبنها لولدها ‪ ،‬ولبنها غري ه‬
‫‪ ،‬وخصوصا من األم للولد ‪ ،‬وليس كذلك املبذول من جهة األب ‪ ،‬فإنهه املال املضنون به عادة ‪،‬‬
‫األم أجدر ِبللوم ‪ ،‬وأح هق ِبلعتب‪.‬‬ ‫فكانت ه‬
‫ودل قوله تعاىل ‪ :‬وإِ ْن تَعاسرُْمت فَس ُرت ِ‬
‫ض ُع لَهُ أُ ْخرى على أَنها إذا طلبت أكثر من أجر املثل ‪،‬‬ ‫ه‬
‫َْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫الصيب ثدي األجنبية ‪ ،‬ومل ُيصل له‬
‫ه‬ ‫فلألب أن يسرتضع غريها ممن يرضى أبجرة املثل ‪ ،‬إذا قبل‬
‫األم على إرضاعه أبجرة املثل‪.‬‬ ‫ضرر بلبنها ‪ ،‬وإال أجربت ه‬
‫ف ه‬
‫اّللُ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬لِيُ ْن ِف ْق ذُو َس َعةٍ ِم ْن َس َعتِهِ َوَم ْن قُ ِد َر َعلَْيهِ ِر ْزقُهُ فَلْيُ ْن ِف ْق ِممها آاتهُ ه‬
‫اّللُ ال يُ َكلِه ُ‬ ‫قال ه‬
‫اّلل الرزق ‪ :‬ضيهقه ‪ ،‬ومل يبسطه‪.‬‬ ‫اّللُ بَ ْع َد عُ ْس ٍر يُ ْسراً (‪ )7‬ق هدر ه‬ ‫نَ ْفساً إِهال ما آاتها َسيَ ْج َع ُل ه‬
‫دلت اآلية على أ هن نفقة الزوجات واألقارب متفاوتة حبسب اليسار واإلعسار‪.‬‬
‫ومل تق هدر اآلية يف النفقة شيئا معينا ‪ ،‬ال كيال وال وزان ‪ ،‬وال نوعا من الطعام ‪ ،‬بل أحالت ذلك‬
‫فدل ذلك على أ هن النفقة ليست مقدرة شرعا ‪ ،‬وإَّنا‬
‫على العادة ومتعارف الناس يف نفقاهتم ‪ ،‬ه‬
‫تتق هدر ِبالجتهاد على جمرى العادة حبسب حال املنفق وكفاية املنفق عليه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم من أنه ر هد األزواج يف النفقة إىل املعروف ‪ ،‬وهو ما‬
‫وأيد ذلك ما أثبت عنه صلهى ه‬
‫جرى عليه الناس يف عرفهم‪.‬‬
‫اّلل يف‬
‫اّلل عليه وسلهم قال يف خطبة الوداع ‪« :‬و اتقوا ه‬
‫ففي «صحيح مسلم» «‪ »1‬أنه صلهى ه‬
‫رزقهن‬
‫ه‬ ‫هلن عليكم‬
‫اّلل ‪ ،‬و ه‬
‫فروجهن بكلمة ه‬
‫ه‬ ‫اّلل ‪ ،‬واستحللتم‬
‫أخذُتوهن أبمان ه‬
‫ه‬ ‫النساء ‪ ،‬فإنكم‬
‫كسوهتن ِبملعروف»‪.‬‬
‫ه‬ ‫و‬
‫ويف «الصحيحني» «‪»2‬‬
‫أ هن هند امرأة أيب سفيان قالت له ‪ :‬إ هن أِب سفيان رجل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )886 /2‬كتاب احلج ‪ِ - 18 ،‬بب يف املتعة ِبحلج‬
‫حديث رقم (‪.)1218 /146‬‬
‫(‪ )2‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪795 :‬‬
‫شحيح ليس يعطيين من النفقة ما يكفيين وولدي إال ما أخذت منه وهو ال يعلم‪.‬‬
‫فقال ‪« :‬خذي ما يكفيك وولدك ِبملعروف»‪.‬‬
‫وسوى بينهما يف عدم‬
‫اّلل عليه وسلهم نفقة املرأة مثل نفقة اخلادم ‪ ،‬ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ولقد جعل رسول ه‬
‫التقدير ‪ ،‬وردمها إىل املعروف ‪،‬‬
‫كسوهتن ِبملعروف»‬
‫ه‬ ‫رزقهن و‬
‫ه‬ ‫هلن عليكم‬
‫فقال يف الزوجات ‪« :‬و ه‬
‫وقال يف اخلادم ‪« :‬للمملوك طعامه وكسوته ِبملعروف» «‪»1‬‬
‫وال ريب أ هن نفقة اخلادم غري مقدرة ‪ ،‬ومل يقل أحد بتقديرها ‪ ،‬فكذلك نفقة الزوجة‪.‬‬
‫ومل ُيفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة ‪ ،‬ال مب هد وال برطل ‪ ،‬بل احملفوظ عنهم والذي‬
‫اتصل به العمل يف كل عصر ومصر أَنهم كانوا ينفقون على أهليهم اخلبز واإلدام من غري تقدير‬
‫وال ُتليك‪.‬‬
‫وصح عن ابن عباس يف قوله تعاىل ‪ِ :‬م ْن أ َْو َس ِط ما تُطْعِ ُمو َن أَ ْهلِي ُك ْم [املائدة ‪ ]89 :‬اخلبز‬
‫ه‬
‫والزيت‪ .‬وعن عمر ‪ :‬اخلبز والسمن ‪ ،‬واخلبز والتمر ‪ ،‬ومن أفضل ما تطعمون اخلبز واللحم ‪،‬‬
‫علي وابن مسعود وابن عمر وأيب موسى األشعري وأنس بن مالك من‬
‫مروي عن ه‬
‫ومثل هذا ه‬
‫اّلل عليهم ‪ ،‬وروي مثله عن كثري من التابعني‪.‬‬
‫الصحابة رضوان ه‬
‫وبعدم تقدير النفقة قال اجلمهور من فقهاء األمصار‪.‬‬
‫وخالف الشافعي وأبو يعلى «‪ »2‬فق هدرا نفقة األزواج ‪ ،‬إال أ هن أِب يعلى ق هدرها ِبخلبز ‪ ،‬فجعل‬
‫الواجب رطلني من اخلبز يف كل يوم يف حق املوسر واملعسر ‪ ،‬اعتبارا ِبلك هفارات ‪ ،‬فإَنها ال ختتلف‬
‫قلة وكثرة ِبختالف اليسار واإلعسار ‪ ،‬وإَّنا ختتلف جودة ورداءة ‪ ،‬أل هن املوسر واملعسر سواء يف‬
‫قدر املأكول ‪ ،‬وما تقوم به البنية ‪ ،‬وإَّنا خيتلفان يف جودته ‪ ،‬فكذلك النفقة الواجبة‪.‬‬
‫ِبحلب ‪ ،‬فجعل على الفقري مدا ‪ ،‬وعلى املوسر م هدين ‪ ،‬وعلى املتوسط‬
‫ه‬ ‫وأما الشافعي فإنهه قدرها‬
‫م هدا ونصفا ‪ ،‬قال أصحاب الشافعي ‪ :‬نفقة الزوجات متفاوتة ومقدرة ِبملد ‪ ،‬ومعينة اجلنس وهو‬
‫احلب ‪ ،‬فهذه ثالث دعاوى ‪:‬‬
‫ه‬
‫أما أصل التفاوت فدليله قوله تعاىل ‪ :‬لِيُ ْن ِف ْق ذُو َس َعةٍ ِم ْن َس َعتِهِ َوَم ْن قُ ِد َر َعلَْيهِ ِر ْزقُهُ فَلْيُ ْن ِف ْق ِممها‬
‫آاتهُ ه‬
‫اّللُ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 27 ، )1284 /3‬كتاب األميان ‪ِ - 10 ،‬بب إطعام اململوك‬
‫‪ ،‬حديث رقم (‪.)1662 /41‬‬
‫(‪ ) 2‬القاضي أبو احلسني بن الفراء البغدادي احلنبلي ‪ ،‬كان مفتيا مناظرا عارفا ِبملذهب ودقائقه ‪،‬‬
‫صلبا يف السنة كثري احلط على األشاعرة تويف سنة (‪ 526‬ه) انظر شذرات الذهب يف أخبار من‬
‫ذهب البن العماد (‪.)79 /2‬‬

‫ص ‪796 :‬‬
‫كال مال وجب ِبلشرع ‪،‬‬
‫وأما التقدير ِبألمداد وتعيني احلب ‪ :‬فبالقياس على الكفارة ‪ ،‬جبامع أ هن ه‬
‫ويستقر يف الذمة ‪ ،‬وأكثر ما وجب يف الكفارات لكل مسكني مدان ‪ ،‬مثل كفارة احللق يف‬
‫النسك‪.‬‬
‫وأقل ما وجب له مد يف كفارة اليمني وحنوه ‪ ،‬واملد يكتفي به الزهيد ‪ ،‬وينتفع به الرغيب ‪ ،‬فلزم‬
‫املوسر من األزواج األكثر ‪ ،‬واملعسر منهم األقل ‪ ،‬واملتوسط ما بينهما‪.‬‬
‫عليهن ‪ ،‬فاقتضى ذلك تقديرها‬
‫ه‬ ‫هبن ‪ ،‬وشرف القوامة‬
‫عليهن يف مقابلة التمتع ه‬
‫ه‬ ‫وأيضا فإ هن النفقة‬
‫كما يقدر كل ذي مقابل ‪ ،‬وإَّنا مل تعترب الكفاية كنفقة القريب ألَنها جتب للمريضة والشبعانة‪.‬‬
‫وليس يف اآلية الكرمية أكثر من الداللة على أَنا متفاوتة ‪ ،‬وما اقتضاه حديث هند من تقديرها‬
‫ِبلكفاية جياب عنه أبنهه مل يق هدرها ِبلكفاية فقط ‪ ،‬بل هبا حبسب املعروف ‪ ،‬وما ذكر من توزيع‬
‫األمداد حبسب اليسار واإلعسار هو املعروف املستقر يف العقول ‪ ،‬ولو فتح للنساء ِبب الكفاية‬
‫فتعني ذلك التقدير الالئق ِبلعرف‪.‬‬
‫من غري تقدير لوقع التنازع ال إىل غاية ‪ ،‬ه‬
‫قالوا ‪ :‬وقد روي التقدير يف الكفارات عن الصحابة ‪ ،‬فعن عمر يف كفارة اليمني ‪ :‬لكل مسكني‬
‫صاع من ُتر أو شعري ‪ ،‬أو نصف صاع من بر‪ .‬ومثله عن عائشة‪.‬‬
‫وعن علي ‪ :‬نصف صاع لكل مسكني‪.‬‬
‫وعن زيد بن اثبت ‪ :‬جيزئ لكل مسكني م هد حنطة ‪ ،‬وروي مثله عن ابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪،‬‬
‫وابن املسيهب ‪ ،‬وابن جبري ‪ ،‬وجماهد ‪ ،‬والقاسم ‪ ،‬وسامل ‪ ،‬وأيب سلمة‪.‬‬
‫وقال سليمان بن يسار ‪ :‬أدركت الناس وهم يطعمون يف كفارة اليمني م هدا ِبملد األول‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال لكعب بن عجرة يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫قالوا ‪ :‬وثبت يف «الصحيحني» «‪ »1‬أ هن ه‬
‫كفارة فدية األذى ‪« :‬أطعم ستة مساكني نصف صاع طعاما لكل مسكني»‬
‫احلب املقتات ‪ ،‬فجعلنا ذلك أصال‬
‫فدل ذلك على أ هن اإلطعام يف الكفارات مق هدر ِبألمداد من ه‬
‫ه‬
‫‪ ،‬وع هديناه إىل نفقة الزوجات ملا تقدم‪.‬‬
‫ومعلوم أ هن الشافعية مل يقولوا بتقدير نفقة الزوجة إال عند تنازع الزوجني ‪ ،‬هأما إذا تراضيا على أن‬
‫أتكل من بيته ‪ ،‬فأكلت قدر كفايتها ‪ ،‬كان ذلك إنفاقا عليها ‪ ،‬وليس هلا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 15 ، )859 /2‬كتاب احلج ‪ِ - 10 ،‬بب جواز حلق الرأس‬
‫حديث رقم (‪ ، )1201 /80‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )185 /5‬كتاب التفسري ‪32 ،‬‬
‫‪ِ -‬بب (فمن كان منكم مريضا) حديث رقم (‪.)4517‬‬

‫ص ‪797 :‬‬
‫أن تطالبه بنفقة عن املدة اليت أكلتها عنده ‪ ،‬سواء أأكلت معه أم وحدها ‪ ،‬أم أضافها شخص‬
‫اّلل‬
‫إكراما له ‪ ،‬كل ذلك يعترب إنفاقا عليها ‪ ،‬ويسقط نفقتها ‪ ،‬إلطباق الناس عليه يف زمنه صلهى ه‬
‫عليه وسلهم وبعده ‪ ،‬ومل ينقل خالفه‪.‬‬
‫واختار مجع من أصحاب الشافعي أ هن نفقة الزوجات معتربة ِبلكفاية ال ِبألمداد ‪ ،‬لقوة الدليل‬
‫اّلل عنه سلفا يف التقدير ِبألمداد‬
‫على ذلك ‪ ،‬حّت قال األذرعي «‪ : »1‬ال أعرف إلمامنا رضي ه‬
‫‪ ،‬ولو ال األدب لقلت ‪ :‬الصواب أَنا ِبملعروف أتسيا واتباعا اه‪.‬‬
‫واملأمور ِبإلنفاق يف قوله تعاىل ‪ :‬لِيُ ْن ِف ْق ذُو َس َعةٍ ِم ْن َس َعتِهِ إخل اآلِبء الذين سبق ذكرهم يف قوله‬
‫ور ُه هن ومن مثه كانت اآلية أصال يف وجوب النفقة للولد على‬ ‫ُج َ‬
‫وه هن أ ُ‬ ‫تعاىل ‪ :‬فَِإ ْن أ َْر َ‬
‫ض ْع َن لَ ُك ْم فَآتُ ُ‬
‫األم‪.‬‬
‫األب دون ه‬
‫اّللُ نَ ْفساً إِهال ما آاتها على أنهه ال فسخ ِبلعجز عن اإلنفاق على‬ ‫ف ه‬ ‫ودل قوله تعاىل ‪ :‬ال يُ َكلِه ُ‬ ‫ه‬
‫اّلل اإلنفاق يف هذه احلال ‪ ،‬فال جيوز‬ ‫تضمن أنه إذا مل يقدر على النفقة مل يكلفه ه‬ ‫الزوجة ‪ ،‬ألنهه قد ه‬
‫إجباره على الطالق من أجل النفقة ‪ ،‬أل هن فيه إجياب التفريق لشيء مل جيب عليه ‪ ،‬وكذلك قوله‬
‫يفرق بينهما من أجل عجزه عن النفقة ‪،‬‬ ‫يدل على أنه ال ه‬ ‫اّللُ بَ ْع َد عُ ْس ٍر يُ ْسراً ه‬
‫تعاىل ‪َ :‬سيَ ْج َع ُل ه‬
‫س َرةٍ [البقرة ‪:‬‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪َ :‬وإ ْن كا َن ذُو عُ ْس َرة فَنَظ َرةٌ إىل َميْ َ‬
‫أل هن العسر يرجى له اليسر ‪ ،‬كما قال ه‬
‫‪ ]280‬وهبذا قال أهل الظاهر ‪ ،‬وهو مذهب أيب حنيفة وصاحبيه ‪ ،‬وأحد قويل الشافعي رواية‬
‫اّلل‪.‬‬
‫عن أمحد رمحهم ه‬
‫وعلى هذا ال يلزمها ُتكينه من االستمتاع ‪ ،‬ألنهه مل يسلم إليها عوضه ‪ ،‬كما لو أعسر املشرتي‬
‫بثمن املبيع مل جيب تسليمه إليه‪.‬‬
‫وعلى الزوج ختلية سبيلها ‪ ،‬لتكتسب ‪ ،‬وحتصل ما تنفقه على نفسها ‪ ،‬أل هن يف حبسها بغري نفقة‬
‫إضرارا هبا‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وحجتهم يف‬
‫والقول ِبلفسخ مذهب مالك ‪ ،‬وأظهر قويل الشافعي ‪ ،‬ورواية عن أمحد رمحهم ه‬
‫يفرق بينهما‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫ذلك خرب الدار قطين والبيهقي يف الرجل ال جيد شيئا ينفق على امرأته ه‬
‫اّلل عنه ‪ ،‬ومل خيالفه أحد من الصحابة ‪ ،‬وقال ابن املسيهب ‪ :‬إنهه من السنة‪.‬‬
‫وقضى به عمر رضي ه‬
‫قالوا ‪ :‬وقد شرع الفسخ ِبلعنة إلزالة الضرر ‪ ،‬والضرر الذي يلحقها بعدم النفقة أش هد من ضررها‬
‫ِبلعنة ‪ ،‬فكان الفسخ ِبلعجز عن النفقة أوىل من الفسخ ِبلعنة‪.‬‬
‫ويف ختلية سبيلها للكسب تشويش على احلياة الزوجية ‪ ،‬وإخالل ِبلسكن الذي‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬أمحد بن محدان أبو العباس شهاب الدين ‪ ،‬فقيه شافعي ولد أبذرعات الشام وتفقه ِبلقاهرة‬
‫استقر يف حلب وتويف فيها سنة (‪ 783‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)119 /1‬‬

‫ص ‪798 :‬‬
‫هو مثرة الزواج ‪ ،‬وما بقاء الزوجية بعد أن خلينا سبيلها ‪ ،‬ورفعنا يد الزوج عنها ‪ ،‬ومل نلزمها‬
‫ُتكينه من استمتاع هبا؟‬
‫وقد تناظر يف ذلك مالك وغريه فقال مالك ‪ :‬أدركت الناس يقولون ‪ :‬إذا مل ينفق الرجل على‬
‫يفرق بينهما‪.‬‬
‫امرأته ه‬
‫اّلل عنهم يعسرون وُيتاجون‪.‬‬
‫فقيل له ‪ :‬قد كانت الصحابة رضي ه‬
‫فقال مالك ‪ :‬ليس الناس اليوم كذلك ‪ ،‬إَّنا تزوجته رجاء اه‪.‬‬
‫اّلل ‪ ،‬ومل يكن‬
‫كن يردن الدار اآلخرة وما عند ه‬
‫اّلل عنهم ه‬
‫ومعىن كالمه إ هن نساء الصحابة رضي ه‬
‫أزواجهن كانوا كذلك ‪ ،‬وأما النساء اليوم‬
‫ه‬ ‫ادهن الدنيا ‪ ،‬فلم يكن يبالني بعسر أزواجهن ‪ ،‬ألن‬
‫مر ه‬
‫‪ ،‬فإَّنا يتزوجن رجاء دنيا األزواج ونفقتهم وكسوهتم ‪ ،‬فاملرأة إَّنا تدخل اليوم على رجاء الدنيا ‪،‬‬
‫اّلل عنهم كذلك كاملشروط‬
‫فصار هذا املعروف كاملشروط يف العقد ‪ ،‬وكان عرف الصحابة رضي ه‬
‫يف العقد ‪ ،‬والشرط العريف يف أصل مذهبه كاللفظي‪.‬‬
‫ويف املسألة مذهبان آخران ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬أنه إذا أعسر بنفقتها حبس حّت جيد ما ينفقه ‪ ،‬وهذا مذهب حكاه الناس عن عبيد‬
‫اّلل بن احلسن العنربي قاضي البصرة ‪ ،‬وهو مذهب غري معقول ‪ ،‬ألنهه إذا حبس فمن أين جيد‬
‫ه‬
‫ولعل العنربي من القائلني ِبلتفريق لإلعسار ‪ ،‬وأنه يريد أ هن احلاكم إذا أمره ِبلطالق‬
‫النفقة؟ ه‬
‫فامتنع حبسه حّت يطلهق ‪ ،‬أو يظهر له مال ‪ ،‬وإال فالكالم على ظاهره هبني البطالن‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬أنه ال فسخ ‪ ،‬وعليها نفقة نفسها إن كانت غنية ‪ ،‬وإن عجز الزوج عن نفقة نفسه أيضا‬
‫كلهفت املرأة اإلنفاق عليه ‪ ،‬وهو مذهب ابن حزم ‪ ،‬قال يف «احمللى» ‪:‬‬
‫فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلهفت النفقة عليه ‪ ،‬ال ترجع بشيء من ذلك إن‬
‫أيسر‪ .‬وهذا املذهب مع بطالنه وخمالفته قواعد الشرع وعمل الناس أقرب إىل العقل من مذهب‬
‫اّلل املوفق‪.‬‬
‫العنربي و ه‬
‫ودلهت اآلية أيضا على أنهه ينبغي لإلنسان مراعاة حال نفسه يف النفقة والصدقة ‪ ،‬ويف احلديث ‪:‬‬
‫اّلل أدِب حسنا ‪ ،‬إذا هو وسع عليه وسع ‪ ،‬وإذا هو قرت عليه قرت» «‪.»1‬‬
‫«إ هن املؤمن أخذ عن ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ِبملأثور (‪.)239 /6‬‬

‫ص ‪799 :‬‬
‫من سورة التحرمي‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫َك تَ ْب تَغِي َم ْر َ‬
‫ضات أَ ْز ِ‬ ‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّها النِ ِ‬
‫يم‬ ‫ك َو هُ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫واج َ‬ ‫َح هل ه‬
‫اّللُ ل َ‬ ‫هيب ملَ ُحتَهِر ُم ما أ َ‬
‫َ ُّ‬ ‫قال ه‬
‫يم (‪)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ لَ ُك ْم َِحتلهةَ أ َْميانِ ُك ْم َو ه‬
‫ض ه‬
‫يم ا ْحلَك ُ‬
‫اّللُ َم ْوال ُك ْم َو ُه َو ال َْعل ُ‬ ‫(‪ )1‬قَ ْد فَ َر َ‬
‫ذهب العلماء يف سبب نزول اآليتني مذاهب مروية ‪ :‬فروى عكرمة عن ابن عباس أَنها نزلت يف‬
‫إين وهبت لك نفسي ‪ ،‬فلم يقبلها‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فقالت له ‪ :‬ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫الواهبة اليت جاءت ه‬
‫النيب‬
‫وقال احلسن وقتادة ‪ :‬بل نزلت يف شأن مارية القبطية هأم إبراهيم ‪ »1« ،‬حيث خال هبا ه‬
‫اّلل عليه وسلهم يف منزل حفصة ‪ ،‬وكانت هذه خرجت إىل منزل أبيها يف زايرة ‪ ،‬فلما عادت‬
‫صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مارية‬
‫اّلل عليه وسلهم فحرم الرسول صلهى ه‬
‫‪ ،‬وعلمت ‪ ،‬عتبت على الرسول صلهى ه‬
‫على نفسه إرضاء حلفصة ‪ ،‬وأمرها أال خترب أحدا من نسائه ‪ ،‬فأخربت بذلك عائشة ‪ ،‬ملصافاة‬
‫اّلل عليه وسلهم حفصة ‪ ،‬واعتزل نساءه شهرا ‪ ،‬وكان جعل على‬
‫النيب صلهى ه‬
‫كانت بينهما ‪ ،‬فطلهق ه‬
‫اّلل هذه اآلية ‪ ،‬فراجع حفصة‪.‬‬
‫نفسه أن ُيرمهن شهرا ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫واستحل مارية ‪ ،‬وعاد إىل نسائه‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم ‪ :‬هل كان حترمي مارية بيمني؟‬
‫فقال قتادة واحلسن والشعيب ‪ :‬حرمها بيمني‪.‬‬
‫وقال غريهم ‪ :‬حرمها بغري ميني ‪ ،‬وهو عن ابن عباس‪.‬‬
‫واثلث األقوال ‪ :‬ما‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫النيب صلهى ه‬
‫ثبت يف «الصحيح» «‪ »2‬عن عبيد بن عمري عن عائشة قالت ‪ :‬كان ه‬
‫يشرب عسال عند زينب بنت جحش ‪ ،‬وميكث عندها ‪ ،‬فتواصيت أان وحفصة على أيتنا دخل‬
‫عليها فلتقل له أكلت مغافري ‪ ،‬إين أجد منك ريح مغافري ‪ -‬وهو نبت كريه الرائحة ‪ -‬قال ‪« :‬ال‬
‫ولكين شربت عسال عند‬
‫ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري ابن جرير الطربي ‪ ،‬املسمى جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)100 /28‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 18 ، )1100 /2‬كتاب الطالق ‪ - 3 ،‬وجوب الكفارة ‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ، )1474 /20‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )81 /6‬كتاب التفسري ‪- 1 ،‬‬
‫ِبب (اي أيها النيب ‪)...‬‬
‫حديث رقم (‪].....[ .)4912‬‬

‫ص ‪800 :‬‬
‫زينب بنت جحش ‪ ،‬ولن أعود إليه ‪ ،‬وقد حلفت ال ختربي أحدا‪ .‬يبتغي مرضاة أزواجه»‪.‬‬
‫وقد روى مسلم ‪ ،‬وأشهب عن مالك أ هن النيب شرب العسل عند حفصة ‪ ،‬وروي أنهه كان عند أم‬
‫ولعل احلادثة تكررت قبل النزول‪.‬‬
‫سلمة ‪ ،‬واألكثر أنهه كان عند زينب بنت جحش ‪ ،‬ه‬
‫وبعد فريى ابن العريب «‪ »1‬أن ما قيل من أ هن اآلية نزلت يف الواهبة فهو ضعيف من حيث السند‬
‫‪ ،‬وضعيف من حيث املعىن ‪:‬‬
‫فأما السند ‪ :‬فرواته غري عدول‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم للهبة كان حترميا ‪ ،‬بل هو‬
‫يصح أن يقال ‪ :‬إن رد النيب صلهى ه‬
‫وأما املعىن ‪ :‬فما ه‬
‫رفض هلا ‪ ،‬وللموهوب له شرعا أال يقبل اهلبة‪.‬‬
‫يدون يف‬
‫وأما ما روي من أنه حرم مارية فهو أمثل يف السند وإن قرب من حيث املعىن ‪ ،‬لكنهه مل ه‬
‫صحيح وال نقله عدل‪ .‬قال ابن العريب ‪ :‬إَّنا الصحيح أنهه كان يف العسل ‪ ،‬وأنهه شربه عند زينب‬
‫أسر ذلك ‪ ،‬ونزلت‬
‫‪ ،‬وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ‪ ،‬وجرى ما جرى ‪ ،‬فحلف هأال يشرب ‪ ،‬و ه‬
‫اآلية يف اجلميع‪.‬‬
‫حرم أكان بيمني ‪ ،‬أم مل‬
‫اّلل عليه وسلهم ما ه‬
‫وبعد ‪ ،‬فقد اختلف العلماء يف أ هن حترمي النيب صلهى ه‬
‫حرم شيئا ومل ُيلف‬
‫يصحبه ميني ‪ ،‬وقد جرى بناء على ذلك خالف بني العلماء يف أ هن الرجل إذا ه‬
‫أيكون ذلك ميينا ‪ ،‬فيجب فيه ما جيب يف اليمني ‪ ،‬أم ال يكون؟ وتشعبت أطراف اخلالف بينهم‬
‫إىل ح هد كبري ‪ ،‬سنقفك على شيء منه بعد التفسري‪.‬‬
‫اّلل لك االنتفاع به تَ ْب تَغِي َم ْر َ‬ ‫ِ‬
‫ضات‬ ‫َك أي مل ُتنع نفسك من شيء أِبح ه‬ ‫اّللُ ل َ‬ ‫ملَ ُحتَهِر ُم ما أ َ‬
‫َحله ه‬
‫حترم‪ .‬فيكون قيدا للعامل‪ .‬وقد قال العلماء‬ ‫أَ ْز ِ‬
‫ك االبتغاء ‪ :‬الطلب ‪ ،‬واجلملة حال من فاعل ه‬ ‫واج َ‬
‫موجه إىل هذا القيد ‪ ،‬أل هن الكالم إذا كان مقيهدا بقيد إثباات أو نفيا ‪ ،‬فالنظر فيه إىل‬
‫‪ :‬إ هن العتاب ه‬
‫القيد ‪ ،‬وال مانع من أن يكون العتاب موجها إىل املقيهد مع قيده‪.‬‬
‫ويرى البعض أ هن اجلملة استئناف ‪ ،‬وذلك أ هن االستفهام ليس على حقيقته ‪ ،‬بل هو معاتبة على‬
‫أ هن التحرمي مل يكن عن ِبعث صحيح ‪ ،‬وحينئذ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن البن العريب (‪.)1833 /4‬‬

‫ص ‪801 :‬‬
‫ُيرمون ُكلُّ‬
‫يكون االستفهام منشأ ألن يسأل فيقال ‪ :‬وما ينكر منه يف التحرمي وقد كان األنبياء ه‬
‫يل عَلى نَ ْف ِسهِ [آل عمران ‪ ]93 :‬فقيل يف جواب‬ ‫ِ ِ‬ ‫عام كا َن ِح اال لِبَِين إِ ْسرائِ ِ‬
‫الطه ِ‬
‫يل إ هال ما َح هر َم إ ْسرائ ُ‬
‫َ‬
‫ك فكأ هن التحرمي مل ينكر لذاته ‪ ،‬وإ هَّنا ملا اشتمل عليه من‬ ‫واج َ‬ ‫هذا السؤال ‪ :‬تَ ْب تَغِي َم ْر َ‬
‫ضات أَ ْز ِ‬
‫أجل من أن يقدم على ما يقدم‬ ‫اّلل عليه وسلهم ه‬ ‫النيب صلهى ه‬‫احلرص على مرضاة األزواج ‪ ،‬ومثل ه‬
‫عليه ‪ ،‬وميتنع عما ميتنع منه تبعا إلرضاء النساء‪.‬‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يقارف ذنبا ‪ ،‬والذي كان منه إَّنا هو خالف‬ ‫يم إ هن النيب صلهى ه‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫َو هُ ٌ‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬حيث جعل ما ال يع هد‬ ‫للنيب صلهى ه‬
‫األوىل ‪ ،‬فاإلتيان ِبلغفران والرمحة هنا تكرمي ه‬
‫ذنبا كأنه ذنب ‪ ،‬وال يكون ذلك إال ملن مست منزلته‪.‬‬
‫وقد رأيت أ هان فسران التحرمي هنا ِبالمتناع ‪ ،‬وامتناعه عن شرب العسل أو غريه إَّنا كان كامتناعه‬
‫عن أكل الضب ‪ ،‬وهو هبذه املثابة ال شيء فيه ‪ ،‬وإَّنا عوتب من أجل أ هن الباعث كان احلرص‬
‫على مرضاة األزواج‪.‬‬
‫اّلل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫الزخمشري «‪ »1‬أن يقول ‪ :‬بل هو قد قال ‪ :‬إ هن الذي وقع هنا هو أ هن ه‬
‫ه‬ ‫وقد أراد‬
‫غري احلكم ابتغاء مرضاة األزواج فآخذه‬
‫اّلل ‪ ،‬فيكون قد ه‬
‫حرم من عند نفسه ما أحل ه‬
‫عليه وسلهم ه‬
‫اّلل به ‪ ،‬وأنكره عليه ‪ ،‬وغفر له ما وقع منه من الزلة ‪ ،‬وقد شنع العلماء على الزخمشري يف قوله‬
‫ه‬
‫هذا‪.‬‬
‫وذلك أن حترمي احلالل ينتظم معنيني ‪:‬‬
‫اّلل ‪ ،‬وتبديل له‬
‫اّلل حالال ‪ ،‬وذلك تغيري حلكم ه‬
‫فقد يراد منه اعتقاد حكم التحرمي فيما جعله ه‬
‫هذهِ‬‫على حنو الذي كان من الكفار من حترميهم البحائر والسوائب والوصائل وغريها ‪ ،‬وكقوهلم ‪ِ :‬‬
‫أَنْعام وحر ٌ ِ‬
‫اس َم‬
‫عام ال يَ ْذ ُك ُرو َن ْ‬
‫ورها َوأَنْ ٌ‬
‫ت ظُ ُه ُ‬ ‫ث ح ْج ٌر ال يَط َْع ُمها إِهال َم ْن نَشاءُ بَِز ْع ِم ِه ْم َوأَنْ ٌ‬
‫عام ُح هِرَم ْ‬ ‫ٌ َ َْ‬
‫اّلل عنهم‬ ‫اّللِ َعلَْي َها افِْرتاءً َعلَْيهِ َسيَ ْج ِزي ِه ْم ِمبا كانُوا يَ ْف َرتُو َن [األنعام ‪ ]138 :‬وعلى حنو ما حكى ه‬ ‫ه‬
‫اّللُ ما َعبَ ْدان ِم ْن ُدونِهِ ِم ْن َش ْي ٍء َْحن ُن َوال آِب ُؤان َوال َح هرْمنا‬ ‫ين أَ ْش َرُكوا ل َْو شاءَ ه‬ ‫يف قوله ‪ :‬و َ ِ‬
‫قال الهذ َ‬ ‫َ‬
‫ين م ْن قَبْلِ ِه ْم [النحل ‪ ]35 :‬وحترمي احلالل هبذا املعىن كفر ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِم ْن دُونِهِ ِم ْن َش ْيء َكذلِ َ‬
‫ك فَ َع َل الهذ َ‬
‫يكون إال من الكافرين‪.‬‬
‫واملعىن الثاين ‪ :‬االمتناع من احلالل امتناعا مطلقا ‪ ،‬أو مؤهكدا ِبليمني مع اعتقاد حل الفعل الذي‬
‫اّلل عليه وسلهم من أكل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫امتنع منه ‪ ،‬وهذا شيء ال خطر فيه ‪ ،‬وال شي ء ‪ ،‬وقد امتنع ه‬
‫الضب ‪ ،‬وقال ‪« :‬إنهه مل يكن أبرض‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزخمشري (‪.)564 /4‬‬

‫ص ‪802 :‬‬
‫قومي» «‪»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم كان من هذا النوع ‪ ،‬وإَّنا عوتب على ما صاحب‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ .‬والذي وقع من ه‬
‫منهن ‪ ،‬ومرضاة مثل‬
‫االمتناع من احلرص على مرضاة األزواج ‪ ،‬خصوصا بعد املظاهرة اليت كانت ه‬
‫هؤالء ينبغي أال ُيرص عليها‪.‬‬
‫وقد اعتذر بعض العلماء عن الزخمشري ‪ ،‬و هأول كالمه‪.‬‬
‫اّللُ لَ ُك ْم َِحتلهةَ أ َْميانِ ُك ْم الفرض ‪ :‬التقدير ‪ ،‬واملراد منه هنا ‪ :‬جعل حتلة اليمني شريعة ‪،‬‬
‫ض ه‬ ‫قَ ْد فَ َر َ‬
‫كرم ‪ ،‬وهو مصدر غري‬ ‫واملراد من التحلة الكفارة ‪ ،‬والتحلة مصدر حلهل ‪ ،‬كالتكرمة مصدر ه‬
‫كل منهما ‪ :‬التحليل والتكرمي‪.‬‬
‫قياسي ‪ ،‬إذ املصدر القياسي يف ه‬
‫احلل ض هد العقد ‪ ،‬وذلك أ هن من حلف على شيء فكأنهه قد عقد عليه ‪ ،‬ألنهه التزمه‪.‬‬
‫وأصله من ه‬
‫حال هلذا االلتزام‪.‬‬
‫اّلل الكفارة ه‬ ‫وقد جعل ه‬
‫يم هو سيدكم ‪ ،‬ومتويل أموركم ‪ ،‬وهو العليم بشأنكم ‪ ،‬يعلم ما فيه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ه‬
‫يم ا ْحلَك ُ‬
‫اّللُ َم ْوال ُك ْم َو ُه َو ال َْعل ُ‬
‫مصلحتكم ‪ ،‬فيشرع لكم ما تقضي به هذه املصلحة ‪ ،‬وهو احلكيم الذي ال يصدر عنه إال كل‬
‫متقن حمكم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم هل كان مقرتان بيمني ‪،‬‬ ‫اختلف العلماء يف أ هن التحرمي الذي كان من النيب صلهى ه‬
‫اّللُ لَ ُك ْم َِحتلهةَ أ َْميانِ ُك ْم إذ هو مشعر‬
‫ض ه‬ ‫وظاهر اآلية قد يؤيهد القول ِبإلجياب ‪ ،‬لقوله تعاىل ‪ :‬قَ ْد فَ َر َ‬
‫أبن مثة ميينا حتتاج إىل التحلة ‪ ،‬وقد جاء يف بعض الرواايت ما يؤيده‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أعطى كفارة ‪ ،‬أو مل يفعل‪.‬‬
‫النيب صلهى ه‬
‫واختلفوا أيضا يف أ هن ه‬
‫اّلل عليه وسلهم قد‬
‫وقد ذهب احلسن إىل أنه مل يعط كفارة ‪ ،‬ويقول يف التوجيه ‪ :‬إن النيب صلهى ه‬
‫غفر له ما تقدم من ذنبه وما أتخر ‪ ،‬وهو توجيه ال خيلو من شي ء ‪ ،‬وقد نقل عن اإلمام مالك‬
‫اّلل يف «املدونة» أنهه أعطى الكفارة‪.‬‬
‫رمحه ه‬
‫علي حرام ‪ ،‬أو‬
‫ُيرم شيئا ‪ ،‬كأن يقول لزوجته ‪ :‬أنت ه‬
‫وقد اختلف العلماء بعد ذلك يف الرجل ه‬
‫علي حرام ‪ ،‬ومل يستثن شيئا‪.‬‬
‫احلالل ه‬
‫ويقول ابن العريب «‪ : »2‬أب هن للعلماء يف حترمي الرجل لزوجته ُخسة عشر قوال ‪ ،‬جيمعها ثالثة‬
‫مقامات ‪:‬‬
‫املقام األول ‪ :‬يف مجع األقوال‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬يف التوجيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 34 ، )1543 /3‬كتاب الصيد ‪ِ - 7 ،‬بب إِبحة الضب‬
‫حديث رقم (‪ ، )1945 /43‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 72 ، )288 /6‬كتاب الذِبئح ‪33 ،‬‬
‫‪ِ -‬بب النصب حديث رقم (‪.)5537‬‬
‫(‪ )2‬انظر أحكام القرآن البن العريب (‪.)1835 /4‬‬

‫ص ‪803 :‬‬
‫املقام الثالث ‪ :‬يف عد الصور يف ذلك‪.‬‬
‫وحنن نقتصر هنا على مجع األقوال ‪ ،‬ونرتك املقامني اآلخرين إىل الفقه وعلم اخلالف ‪ ،‬فإ هن اآلية‬
‫كل ما قال الفقهاء‪.‬‬
‫ال حتتمل ه‬
‫القول األول ‪ :‬روي عن أيب بكر وعائشة واألوزاعي أ هن حترمي الزوجة ميني تلزم فيها الكفارة‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬قال ابن مسعود ‪ :‬ليس حترمي الزوجة بيمني ‪ ،‬وتلزم فيه الكفارة‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬قال عمر بن اخلطاب ‪ :‬إ هن حترمي الزوجة طلقة رجعية ‪ ،‬وهو رأي الزهري‪.‬‬
‫القول الرابع ‪ :‬أن حترمي الزوجة ظهار ‪ ،‬وهو رأي عثمان البيت وأمحد بن حنبل‪.‬‬
‫القول اخلامس ‪ :‬قال محاد بن سلمة «‪ ، »1‬وهو رواية عن مالك ‪ :‬أنه طلقة ِبئنة‪.‬‬
‫القول السادس ‪ :‬أنهه ثالث تطليقات ‪ ،‬وهو مروي عن علي بن أيب طالب وزيد بن اثبت وأيب‬
‫هريرة ‪ ،‬ومالك‪.‬‬
‫وإال كانت ميينا ‪،‬‬
‫القول السابع ‪ :‬قال أبو حنيفة ‪ :‬إن نوى الطالق أو الظهار كان ما نوى ‪ ،‬ه‬
‫وكان الرجل موليا من امرأته‪.‬‬
‫حرم زوجته ال تنفعه نية الظهار ‪ ،‬وإَّنا يكون‬
‫القول الثامن ‪ :‬قال ابن القاسم «‪ : »2‬إ هن من ه‬
‫طالقا‪.‬‬
‫القول التاسع ‪ :‬قال ُيىي بن عمر «‪ : »3‬يكون طالقا ‪ ،‬فإن ارجتعها مل جيز له وطؤها حّت يك هفر‬
‫كفارة الظهار‪.‬‬
‫القول العاشر ‪ :‬هو ثالث قبل الدخول وبعده ‪ ،‬لكنه ينوي يف اليت مل يدخل هبا إذا قال ‪ :‬نويت‬
‫الواحدة ‪ ،‬وهو عن مالك وابن القاسم‪.‬‬
‫القول احلادي عشر ‪ :‬هو ثالث ‪ ،‬وال ينوي حبال ‪ ،‬وال يف حمل ‪ ،‬قال ابن العريب هو قول عبد‬
‫امللك يف «املبسوط»‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابن دينار البصري أبو سلمة ‪ ،‬مفيت البصرة ‪ ،‬وأحد رجال احلديث ومن النحاة كان حافظا‬
‫ثقة مأموان ‪ ،‬وكان إماما يف العربية ‪ ،‬شديدا على املبتدعة ‪ ،‬انظر األعالم للزركلي (‪.)272 /2‬‬
‫اّلل ‪ ،‬فقيه ‪ ،‬ولد يف‬
‫(‪ )2‬عبد الرمحن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي املصري أبو عبد ه‬
‫مصر سنة (‪ 191‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)323 /3‬‬
‫(‪ُ )3‬يىي بن عمر بن يوسف بن عامر الكناين األندلسي أبو زكراي فقيه مالكي عامل ِبحلديث نشأ‬
‫بقرطبة ‪ ،‬وسكن القريوان تويف سنة (‪ 289‬ه) انظر األعالم للزركلي (‪.)160 /8‬‬

‫ص ‪804 :‬‬
‫القول الثاين عشر ‪ :‬هو يف اليت مل يدخل هبا واحدة ‪ ،‬ويف اليت دخل هبا ثالث ‪ ،‬وهو رأي أيب‬
‫مصعب ‪ ،‬وحممد بن عبد احلكم‪.‬‬
‫القول الثالث عشر ‪ :‬أنهه إن نوى الظهار ‪ -‬وهو أن ينوي أَنها حمرمة كتحرمي أمه ‪ -‬كان ظهارا ‪،‬‬
‫وإن نوى حترمي عينها جبملته بغري طالق حترميا مطلقا وجبت كفارة ميني ‪ ،‬وإن مل ينو شيئا فعليه‬
‫كفارة ميني ‪ ،‬وهو عن الشافعي‪.‬‬
‫القول الرابع عشر ‪ :‬أنهه إن مل ينو شيئا ال يلزمه شيء‪.‬‬
‫القول اخلامس عشر ‪ :‬أنهه ال شيء عليه أصال ‪ ،‬قاله مسروق ‪ ،‬وربيعة من أهل املدينة‪.‬‬
‫اّلل سبحانه عاتب نبيهه على أ هن منع‬
‫وبعد فإنهك ترى أ هن اآلية الكرمية ليس فيها أكثر من أ هن ه‬
‫اّلل ‪ :‬ال ُتتنع ‪،‬‬
‫اّلل له ‪ ،‬والظاهر أ هن هذا املنع كان مصحوِب ِبليمني ‪ ،‬فقال ه‬
‫نفسه شيئا أِبحه ه‬
‫وك هفر عن ميينك ِبلتحلة ‪ ،‬وإذا جرينا على ما هو الصحيح من أ هن احلادثة كانت يف شرب العسل‬
‫كل هذه األقوال اليت قبلت يف حترمي الزوجة من غري ميني حتتاج إىل أدلتها من‬
‫ازددت يقينا أب هن ه‬
‫اّلل املستعان ‪ ،‬وبه التوفيق‪.‬‬
‫غري اآلية ‪ ،‬فلتطلب يف أماكنها ‪ ،‬و ه‬

‫ص ‪805 :‬‬
‫من سورة املزمل‬
‫ص ِم ْنهُ قَلِ ًيال (‪ )3‬أ َْو ِز ْد‬ ‫ِ‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها ال ُْمزههم ُل (‪ )1‬قُِم اللهْي َل إِهال قَلِ ًيال (‪ )2‬نِ ْ‬
‫ص َفهُ أَ ِو انْ ُق ْ‬ ‫قال ه‬
‫َعلَْيهِ َوَرتهِ ِل الْ ُق ْرآ َن تَ ْرتِ ًيال (‪)4‬‬
‫قال احلسن وعكرمة وعطاء وجابر ‪ :‬إ هن هذه السورة مكية كلهها‪ .‬وحكى األصبهاين أَنها مكية ما‬
‫اّلل عنهما‪.‬‬ ‫اصِ ْرب عَلى ما يَ ُقولُو َن‪ .‬وهو مروي عن ابن عباس رضي ه‬ ‫عدا اآليتني ‪َ :‬و ْ‬
‫وم ‪...‬‬
‫ك تَ ُق ُ‬ ‫وهناك قول اثلث ‪ :‬أَنا مكية ما عدا قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن َربه َ‬
‫ك يَ ْعلَ ُم أَنه َ‬
‫اّلل‬
‫وقد اعرتض السيوطي يف «اإلتقان» على األخري أبنه يرده ما أخرجه احلاكم عن عائشة رضي ه‬
‫وم إخل قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة ‪ ،‬ملا كان‬
‫ك تَ ُق ُ‬ ‫عنها أ هن قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن َربه َ‬
‫ك يَ ْعلَ ُم أَنه َ‬
‫قيام الليل فرضا يف أول اإلسالم قبل أن تفرض الصلوات اخلمس‪ .‬يعين ‪ :‬وإذا كانت الصلوات‬
‫اخلمس قد شرعت يف مكة قبل اهلجرة بسنة ‪ ،‬وقد مته بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض‬
‫القيام ‪ ،‬ظهر أ هن آخر املزمل من املكي‪.‬‬
‫اّلل عليه‬
‫ولعلك ختتار القول األول ملا أورده السيوطي على األخري ‪ ،‬وأل هن أمر الرسول صلهى ه‬
‫وسلهم ِبلصرب على أذى الكفار ‪ ،‬واإلعراض عنهم ‪ ،‬وهجرهم ‪ ،‬إَّنا كان يف أول اإلسالم ‪ ،‬قبل‬
‫اّلل تعاىل للمؤمنني املظلومني أن يدفعوا عن‬
‫أن يكثر أنصار الدعوة اإلسالمية ‪ ،‬وقبل أن أيذن ه‬
‫أنفسهم ِبلقوة‪ .‬على ما يدل عليه االستقراء ‪ ،‬وتتبع موارد اآلايت القرآنية اليت أتمر مبثل ما ورد‬
‫اصِ ْرب َعلى ما يَ ُقولُو َن واليت بعدها‪.‬‬
‫يف آييت َو ْ‬
‫تزمل ‪ ،‬وأصله املتزمل ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫املزمل بتشديد الزاي وامليم ‪ :‬اسم فاعل من ه‬ ‫اي أَيُّ َها ال ُْمزههم ُل (‪ )1‬ه‬
‫الرمة ‪:‬‬
‫فأدغمت التاء والزاي ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬املتلفف يف ثيابه ‪ ،‬ومنه قول ذي ه‬
‫وكائن ختطت انقيت من مفازة ومن انئم عن ليلها متزمل‬
‫أيب على األصل‪ .‬كما قرئ بتخفيف الزاي ‪ ،‬على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول‪.‬‬
‫وقرأه ه‬
‫متزمال‬
‫تزمله عليه الصالة والسالم ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنه كان انئما ِبلليل ه‬ ‫وقد اختلف املفسرون يف سبب ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬اي أَيُّ َها ال ُْمزِههم ُل (‪ )1‬إخل‬
‫يف قطيفة ‪ ،‬أو أنه يريد فتل هفف ِبلقطيفة ‪ ،‬فجاءه امللك بنداء ه‬
‫اّلل يف‬
‫ليدع النوم ‪ ،‬ويقوم ملا هو أهم ‪ ،‬وينهض لعبادة ه‬

‫ص ‪806 :‬‬
‫حتمل ما سريد عليه من الوحي ‪ ،‬وما سيلقى عليه من القول‬
‫انشئة الليل ‪ ،‬فإَنا خري معني له على ه‬
‫تزمله عليه الصالة والسالم كان ألسفه وحزنه ملا بلغه ما كان من املشركني ‪،‬‬
‫الثقيل‪ .‬وقيل ‪ :‬إ هن ه‬
‫وما دبهروه من القول السيئ ‪ ،‬يدفعون به دعوته‪ .‬فقد أخرج البزار والطرباين يف «األوسط» وأبو‬
‫اّلل عنه قال ‪:‬‬
‫نعيم يف «الدالئل» عن جابر رضي ه‬
‫اجتمعت قريش يف دار الندوة فقالوا ‪ :‬مسوا هذا الرجل امسا تص هدوا الناس عنه‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬كاهن‪ .‬قالوا ‪ :‬ليس بكاهن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬جمنون‪ .‬قالوا ‪ :‬ليس مبجنون ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫فتفرق املشركون على ذلك‪.‬‬
‫يفرق بني احلبيب وحبيبه ‪ ،‬ه‬
‫ساحر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ليس بساحر‪ .‬قالوا ‪ :‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬فتزمل يف ثيابه ‪ ،‬وتدثهر فيها ‪ ،‬فأاته جربيل عليه السالم‬ ‫النيب صلهى ه‬ ‫فبلغ ذلك ه‬
‫فقال ‪ :‬اي أَيُّ َها ال ُْمزِههم ُل (‪ )1‬اي أَيُّ َها ال ُْم هدثهُِر (‪.)1‬‬
‫اصِ ْرب َعلى ما يَ ُقولُو َن َوا ْه ُ‬
‫ج ْر ُه ْم َه ْجراً‬ ‫وقد يساعد هذا القول ما ورد يف السورة من قوله تعاىل ‪َ :‬و ْ‬
‫هع َمةِ َوَم هِهل ُْه ْم قَلِ ًيال (‪ )11‬على القول أب هن هاتني اآليتني من‬ ‫ُويل الن ْ‬‫ني أ ِ‬ ‫مج ًيال (‪َ )10‬وذَ ْرِين َوال ُْم َك هِذبِ َ‬
‫َِ‬
‫املكي ‪ ،‬وأَنما نزلتا مع اآلايت السابقة‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫غري أنهه يقال ‪ :‬إذا كان هذا هو سبب التزمل ‪ ،‬وأنه من أجله أمر ه‬
‫هذه السورة أن يهجر أولئك ‪ ،‬ويصرب عليهم ‪ ،‬وال أيبه لقوهلم ‪ ،‬فما السبب يف أنه مل تذكر‬
‫اصِ ْرب َعلى ما يَ ُقولُو َن وما بعدها عقب النداء؟ وملا ذا فصل بني ذلك ِبألوامر األوىل‬
‫اآليتان َو ْ‬
‫املتعلقة بقيام الليل والذكر والرتتيل؟‬
‫تقوي قلبه عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وتثبهت فؤاده ‪،‬‬
‫واجلواب ‪ :‬أنه ال شك أ هن هذه العبادات ه‬
‫وتعينه على الصرب واالحتمال واإلغضاء عن السوء من أقوال الكافرين‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن السبب هو ما‬
‫ورد يف حديث جابر املشهور «‪ »1‬على ما أخرجه أمحد والبخاري ومسلم والرتمذي وغريهم أن‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬جاورت حبراء ‪ ،‬فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ‪،‬‬
‫رسول ا هّلل صلهى ه‬
‫فنظرت عن مييين فلم أر شيئا ‪ ،‬ونظرت عن مشايل فلم أر شيئا ‪ ،‬ونظرت خلفي ‪ ،‬فلم أر شيئا ‪،‬‬
‫كرسي بني السماء واألرض ‪ ،‬فجثثت ‪-‬‬
‫فرفعت رأسي ‪ ،‬فإذا الذي جاءين حبراء جالس على ه‬
‫مبثلثتني مبنيا للمجهول ‪ ،‬فزعت ‪ -‬منه رعبا ‪ ،‬فرجعت ‪ ،‬فقلت ‪ :‬دثروين ‪ ،‬دثروين»‬
‫ويف رواية ‪ :‬فجئت أهلي ‪ ،‬فقلت ‪:‬‬
‫اّلل اي أَيُّ َها ال ُْم هدثهُِر (‪.)1‬‬
‫زملوين ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫زملوين ه‬
‫ه‬
‫ومجهور العلماء يقولون ‪ :‬وعلى إثرها نزلت اي أَيُّ َها ال ُْمزِههم ُل (‪ )1‬وعلى هذا يكون‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )143 /1‬كتاب اإلميان ‪ِ - 73 ،‬بب بدء الوحي حديث‬
‫رقم (‪ ، )161‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 65 ، )97 /6‬كتاب التفسري ‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ، )4922‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )399 /5‬كتاب التفسري ‪ِ ،‬بب ومن سورة املدثر‬
‫حديث رقم (‪ ، )3325‬وأمحد يف املسند (‪.)306 /3‬‬

‫ص ‪807 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم من الرعب والفزع عند رؤية امللك ‪ ،‬وتكون‬
‫سبب التزمل هو ما عراه صلهى ه‬
‫فيصح أن يكون السبب واحدا‬
‫ه‬ ‫حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها ‪ ،‬أما على القولني األولني‬
‫يصح أن يكون خمتلفا‪.‬‬
‫أيضا ‪ ،‬كما ه‬
‫واحلكمة يف ندائه عليه الصالة والسالم بوصف التزمل هو إرادة مالطفته وإيناسه ‪ ،‬على حنو ما‬
‫كان عليه العرب يف خماطباهتم يف مثل هذه احلالة ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم لعلي ملا غاضب فاطمة ‪ ،‬وكان انئما قد لصق جببينه الرتاب فقال‬
‫قول النيب صلهى ه‬
‫له ‪:‬‬
‫«قم أِب ترب» «‪.»1‬‬
‫ص ِم ْنهُ قَلِ ًيال (‪ )3‬أ َْو ِز ْد َعلَْيهِ املراد من قيام الليل صالة‬ ‫قُِم اللهْي َل إِهال قَلِ ًيال (‪ )2‬نِ ْ‬
‫ص َفهُ أَ ِو انْ ُق ْ‬
‫التهجد ‪ ،‬وذلك بتقدير الصالة ‪ ،‬أي اَنض لصالة الليل ‪ ،‬أو بتضمني (قم) معىن صل‪.‬‬
‫وقد أعرب بعض املفسرين ‪( :‬الليل) ظرفا لفعل القيام ‪ ،‬جراي على مذهب البصريني الذين‬
‫جيوزون يف مثله أن يكون ظرفا ‪ ،‬ولو استغرقه احلدث ‪ ،‬كما هنا ‪ ،‬فإ هن املعىن على إرادة مجيع‬ ‫ه‬
‫يصح االستثناء بقوله ‪ :‬إِهال قَلِ ًيال فإ هن االستثناء معيار العموم‪.‬‬
‫أجزاء الليل حّت ه‬
‫أما على رأي الكوفيني الذين مينعون ذلك فنصب الليل يكون من قبيل النصب على املفعولية‪.‬‬
‫ومعىن قُِم اللهيْ َل إِهال قَلِ ًيال (‪ )2‬اَنض للصالة مستغرقا هبا الليل إال جزءا قليال منه ‪ ،‬ونِ ْ‬
‫ص َفهُ بدل‬
‫ويصح أن يكون بدال من‬ ‫ه‬ ‫كل من الليل بعد مراعاة االستثناء ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬قم نصف الليل ‪،‬‬
‫ص ِم ْنهُ قَلِ ًيال أ َْو ِز ْد َعلَْيهِ معطوفان على األمر األول‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قَل ًيال واألمران يف قوله تعاىل ‪ :‬أَ ِو انْ ُق ْ‬
‫ويصح‬
‫ه‬ ‫والضمريان يف (منه) و(عليه) عائدان على الليل بعد مراعاة االستثناء ‪ ،‬واإلبدال أيضا‪.‬‬
‫أن يعود على (نصفه) واملآل واحد‪.‬‬
‫خريه أن‬
‫اّلل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مأمور أبن يقوم من الليل للتهجد ‪ ،‬وأ هن ه‬
‫وحاصل املعىن أنه صلهى ه‬
‫يقوم نصف الليل ‪ ،‬وأن ينقص من النصف مقدارا قليال ‪ ،‬وأن يزيد على ذلك النصف ‪ ،‬ومل تقيد‬
‫ختل ِبألمر ‪ ،‬بل فيها‬
‫الزايدة على النصف ِبلقلهة ‪ ،‬كما قيهد النقص هبا ‪ ،‬أل هن الزايدة الكثرية ال ه‬
‫خمل ِبملطلوب‪.‬‬
‫زايدة هبر وعمل صاحل‪ .‬هأما النقص الكثري عن النصف فعلى خالف ذلك ‪ ،‬إذ إنهه ه‬
‫هذا وقد قال العلماء ‪ :‬إنهه يف حالة النقص عن النصف ال يتحقق الوفاء إال إذا كان النقص ال‬
‫يبلغ الربع ‪ ،‬وهو ظاهر ‪ ،‬إذ ال يقال يف االستعمال العريب ملن اقتصر على الربع إنه أنقص من‬
‫النصف قليال ‪ -‬ومن العلماء من قال ‪ :‬إ هن القليل هو ما دون‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 44 ، )1874 /4‬كتاب فضائل الصحابة ‪ِ - 4‬بب من‬
‫فضائل علي حديث رقم (‪.)2409 /38‬‬

‫ص ‪808 :‬‬
‫خمال ِبلوفاء‪.‬‬
‫السدس ‪ ،‬فإذا بلغ النقص السدس ‪ ،‬أو جتاوزه كان كثريا ه‬
‫كل من الليل الذي استثىن منه القليل؟‬
‫لكنه يقال ‪ :‬كيف يكون النصف بدل ه‬
‫وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟‬
‫وأجاب املفسرون أبنهه لزايدة االعتناء ِبلنصف املقارن للتهجد ‪ ،‬وتفضيله ِبلصالة فيه على‬
‫النصف اآلخر اخلايل من الصالة ‪ ،‬جعل هو أغلب الليل وأكثره ‪ ،‬وإن كان يف احلقيقة نصفه‪.‬‬
‫اخلاص‬
‫ه‬ ‫اّلل عليه وسلهم وأمره بقيام الليل مع ندائه ِبلوصف‬ ‫ظاهر توجيه اخلطاب إىل النيب صلهى ه‬
‫به ‪ -‬وهو التزمل ‪ -‬أ هن التهجد كان فريضة عليه ‪ ،‬وأ هن فرضيته كانت خاصة به‪ .‬وإىل هذا ذهب‬
‫يدل عليه قوله تعاىل ‪َ :‬وِم َن اللهْي ِل فَتَ َه هج ْد بِهِ انفِلَةً ل َ‬
‫َك‬ ‫مجع من العلماء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وهو الذي ه‬
‫َك بعد األمر ِبلتهجد ظاهر يف أن الوجوب من خصائصه‬ ‫[اإلسراء ‪ ]79 :‬فإ هن قوله ‪ :‬انفِلَةً ل َ‬
‫عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وليس معىن النافلة يف هذه اآلية ما جيوز فعله وتركه ‪ ،‬فإنهه على هذا‬
‫اّلل عليه‬
‫الوجه ال يكون خاصا به عليه الصالة والسالم ‪ ،‬بل معىن كون التهجد انفلة له صلهى ه‬
‫وسلهم أنهه شيء زائد على ما هو مفروض على غريه من األمة‪.‬‬
‫وذهب مجاعة آخرون إىل أ هن وجوب التهجد كان اثبتا يف ح هق األمة أيضا ‪ ،‬مستندين إىل قوله‬
‫ص َفهُ َوثُلُثَهُ َوطائَِفةٌ‬ ‫ِ‬
‫وم أَ ْدىن م ْن ثُلُثَ ِي اللهيْ ِل َونِ ْ‬ ‫تعاىل يف آخر السورة اليت معنا إِ هن َربه َ‬
‫ك يَ ْعلَ ُم أَنه َ‬
‫ك تَ ُق ُ‬
‫س َر ِم َن‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه‬
‫صوهُ فَ َ‬ ‫َن ُحتْ ُ‬
‫ِ‬ ‫كوه ِ‬
‫اّللُ يُ َق هد ُر اللهْي َل َوالن َ‬
‫ههار َعل َم أَ ْن ل ْ‬ ‫ين َم َع َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫م َن الهذ َ‬
‫اّلل عليه‬ ‫يدل على أ هن الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النيب صلهى ه‬ ‫آن إخل‪ .‬فإنه ه‬ ‫الْ ُقر ِ‬
‫ْ‬
‫اّلل عنهم مجيعا أبمرهم ِبلقيام على حسب ما‬ ‫وسلهم أدىن من ثلثيه ونصفه وثلثه ‪ ،‬وإنه قد خ هفف ه‬
‫يتيسر هلم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ويشهد هلذا ما رواه ابن أيب حامت عن ابن عباس أنهه كان يقول ‪:‬‬
‫هأول ما نزل أول املزمل ‪ ،‬كانوا يقومون حنوا من قيامهم يف شهر رمضان ‪ ،‬وكان بني أوهلا وآخرها‬
‫قريب من سنة «‪.»1‬‬
‫وما رواه ابن جرير «‪ »2‬عن أيب عبد الرمحن أنه قال ‪ :‬ملا نزلت اي أَيُّ َها ال ُْمزِههم ُل (‪ )1‬قاموا حوال‬
‫حّت ورمت أقدامهم وسوقهم ‪ ،‬حّت نزلت (فاقرءوا ما تيسر منه) قال ‪:‬‬
‫فاسرتاح الناس‪.‬‬
‫اّلل عنها‬ ‫وما أخرجه اإلمام أمحد يف «مسنده» «‪ »3‬عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فقالت ‪ :‬ألست تقرأ هذه السورة ‪ :‬اي أَيُّ َها ال ُْمزِههم ُل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫عن قيام رسول ه‬
‫(‪)1‬؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود يف سننه (‪ ، )487 /1‬كتاب الصالة ‪ِ ،‬بب نسخ قيام الليل ‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪.)1305‬‬
‫(‪ )2‬يف تفسريه جامع البيان ‪ ،‬املشهور بتفسري الطربي (‪.)79 /29‬‬
‫(‪ )3‬رواه اإلمام أمحد يف املسند (‪.)54 /6‬‬

‫ص ‪809 :‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل افرتض قيام الليل يف أول هذه السورة ‪ ،‬فقام رسول ه‬
‫قال ‪ :‬بلى‪ .‬قالت ‪ :‬فإ هن ه‬
‫اّلل خاُتتها يف السماء اثين عشر‬
‫عليه وسلهم وأصحابه حوال حّت انتفخت أقدامهم ‪ ،‬وأمسك ه‬
‫اّلل التخفيف يف آخر هذه السورة ‪ ،‬فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته‪.‬‬
‫شهرا ‪ ،‬مث أنزل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وال على‬
‫وقال بعض الناس ‪ :‬إ هن التهجد مل يكن مفروضا ال على النيب صلهى ه‬
‫واحتجوا على ذلك مبا أييت ‪:‬‬
‫ه‬ ‫أحد من أمته ‪،‬‬
‫‪ - 1‬ظاهر قوله تعاىل يف سورة اإلسراء انفِلَةً ل َ‬
‫َك [اإلسراء ‪ ]79 :‬فإنه يفيد أ هن التهجد زايدة مل‬
‫تتعلق هبا الفرضية ‪ ،‬وقد علمت ر هده فيما سبق‪.‬‬
‫جل شأنه ‪َ :‬وِم َن اللهْي ِل فَتَ َه هج ْد ال يفيد الوجوب ‪،‬‬ ‫ه‬
‫‪ - 2‬أ هن األمر يف قوله تعاىل ‪ :‬قُِم الل ْي َل وقوله ه‬
‫ومحله على الندب أوىل ‪ ،‬أل هان وجدان أوامر الشريعة اترة تفيد الوجوب ‪ ،‬واترة تفيد الندب ‪،‬‬
‫فينبغي محل ما يرد منها على القدر املشرتك بينهما ‪ ،‬وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الرتك‬
‫للتجوز واالشرتاك اللفظي وإذا كان األمر كذلك كان الثابت معىن الندب ‪ ،‬ألن ُتام معىن‬
‫‪ ،‬دفعا ه‬
‫الواجب ‪ -‬وهو عدم جواز الرتك ‪ -‬ال ب هد له من دليل آخر ‪ ،‬كالتوعد على الرتك ‪ ،‬أو قرينة‬
‫أخرى تدل على ذلك ‪ ،‬وهو غري متوفهر يف األمرين السابقني ‪ ،‬فبقي الرتك على أصله ‪ ،‬وهو‬
‫اجلواز‪.‬‬
‫واجلواب يعلم مما تقرر يف علم األصول ‪ ،‬وهو أ هن املختار يف األوامر محلها على اإللزام ‪ ،‬إال أن‬
‫يصرف عن ذلك صارف ‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور‪.‬‬
‫وخريه بني أن يقوم نصف‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ - 3‬أنه تعاىل ترك تقدير قيام الليل إىل ه‬
‫الليل ‪ ،‬أو يزيد عليه ‪ ،‬أو ينقص منه ‪ ،‬ومثل هذا ال يكون يف الواجبات ‪ ،‬فإ هن الشأن فيها أن‬
‫تعني وحت هدد مقاديرها ‪ ،‬كما يف املكتوِبت‪.‬‬
‫ه‬
‫اّلل على املكلف أحد أمور‬
‫واجلواب ‪ :‬أنه ال مانع من ذلك‪ .‬وقد عهد يف الشريعة أن يفرض ه‬
‫معينة ‪ ،‬حبيث ال جيوز له اإلخالل هبا مجيعا ‪ ،‬مث إذا فعل واحدا منها كان قائما مبا وجب عليه ‪،‬‬
‫فيكون قيام الليل مفروضا ‪ ،‬حبيث ال ينقص كثريا عن النصف ‪ ،‬فإذا قام املكلف يف الليل قريبا‬
‫حمصال للواجب من ِبب‬
‫من نصفه فقد حصل الواجب ‪ ،‬وإذا زاد إىل النصف أو أكثر منه كان ه‬
‫أوىل‪.‬‬
‫وبعد فهذه أقوال ثالثة قد عرفت مآخذها ‪ ،‬وعرفت الر هد على ما استدل به أصحاب القول‬
‫الثالث‪.‬‬
‫النيب صلهى‬
‫أما ما استند إليه أصحاب القول األول فيمكن اجلواب عنه أب هن توجيه اخلطاب إىل ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وحده ال يقتضي ختصيصه مبا ورد بعده من األوامر ‪ ،‬فإنهه عليه الصالة والسالم‬
‫ه‬
‫نيب متبوع ‪ ،‬وخطابه يتناول أمته ‪ ،‬كما هو معروف يف األصول ‪ ،‬هإال أن يقوم دليل على‬
‫ه‬
‫اخلصوص‪.‬‬

‫ص ‪810 :‬‬
‫أما آية اإلسراء ‪َ :‬وِم َن اللهْي ِل فَتَ َه هج ْد بِهِ انفِلَةً ل َ‬
‫َك [اإلسراء ‪ ]79 :‬فهي مدنية متأ هخرة يف النزول‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫املزمل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول ه‬
‫عن سورة ه‬
‫بعد ما نسخ عن أمته ‪ ،‬ويكون معىن اآلية ‪ :‬استمر على التهجد ِبلليل فريضة زائدة لك على ما‬
‫استقر وجوبه على أمتك‪.‬‬
‫ه‬
‫والذي يستخلص من ذلك أ هن أرجح األقوال هو الثاين ‪ ،‬وهو القول أب هن التهجد كان فريضة‬
‫اّلل عليه وسلهم وعلى أمته ‪ ،‬إذ هو الذي ميكن أن أتتلف عليه النصوص القرآنية‬
‫النيب صلهى ه‬
‫على ه‬
‫السابقة‪ .‬ويشهد له ما تق هدم من اآلاثر عن ابن عباس وعائشة وغريمها‪.‬‬
‫وننتقل بعد ذلك إىل الكالم يف بقاء وجوب التهجد وعدمه ‪ ،‬ويف تعيني الناسخ على القول بعدم‬
‫البقاء‪.‬‬
‫وللعلماء يف ذلك أربعة أقوال ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬نقل عن احلسن وابن سريين وابن جبري ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس‬
‫مجيعا ‪ ،‬وأ هن أصل وجوب القيام مل ينسخ ‪ ،‬وإَّنا الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مق هدر من الليل‬
‫اّلل عنها‬
‫ال ينقص كثريا عن النصف على ما علمت‪ .‬وهذا قول خيالف ما روي عن عائشة رضي ه‬
‫على ما سبق ‪ ،‬وكذلك خيالف ما روي عن ابن عباس أنهه قال ‪ :‬سقط قيام الليل عن أصحاب‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وصار تطوعا ‪ ،‬وبقي بعد ذلك فرضا على رسول ه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫وير هده أيضا ما‬
‫اّلل عليه وسلهم قال للرجل الذي سأله عما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ثبت يف «الصحيحني» «‪ »1‬أ هن رسول ه‬
‫تطوع»‪.‬‬ ‫علي غريها؟ قال ‪« :‬ال ‪ ،‬إال أن ه‬ ‫جيب ‪ُ« :‬خس صلوات يف اليوم والليلة» قال ‪ :‬هل ه‬
‫املزمل ‪ ،‬واستبدل به‬ ‫اّلل عليه وسلهم وعن أمته آبخر سورة ه‬ ‫القول الثاين ‪ :‬أنهه نسخ عن النيب صلهى ه‬
‫س َر‬
‫تاب عَلَيْ ُك ْم فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه‬ ‫ِ‬
‫صوهُ فَ َ‬
‫َن ُحتْ ُ‬
‫قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعاىل ‪ :‬عَل َم أَ ْن ل ْ‬
‫آن [املزمل ‪.]20 :‬‬ ‫ِمن الْ ُقر ِ‬
‫َ ْ‬
‫اّلل عنها كما تقدم فإ هن قوهلا ‪:‬‬ ‫ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي ه‬
‫فصار قيام الليل تطوعا ‪ ،‬مل تقيده ِبألمة‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬أ هن وجوب التهجد استمر على النيب وعلى األمة ‪ ،‬حّت نسخ ِبلصلوات اخلمس‬
‫ليلة املعراج‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫القول الرابع ‪ :‬أنهه نسخ عن األمة وحدها ‪ ،‬وبقي وجوبه على رسول ه‬
‫على ما يعطيه ظاهر آية اإلسراء [‪.]79‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 1 ، )40 /1‬كتاب اإلميان ‪ِ - 2 ،‬بب بيان الصلوات حديث‬
‫رقم (‪ ، )11 /8‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 2 ، )20 /1‬كتاب اإلميان ‪ِ - 35 ،‬بب الزكاة من‬
‫اإلسالم حديث رقم (‪.)46‬‬

‫ص ‪811 :‬‬
‫ولعل الراجح هو هذا القول األخري ‪ ،‬كما أ هن الظاهر أ هن نسخ التهجد مل ُيصل دفعة واحدة ‪،‬‬
‫ه‬
‫فإ هن آخر سورة املزمل يفيد نسخ املقدار الذي هبني يف أوهلا ‪ ،‬وال يلزم من هذا نسخ وجوب‬
‫التهجد من أصله ‪ ،‬وكان بني آخر السورة وأوهلا حنو عام ‪ ،‬كما ورد يف اآلاثر السابقة‪.‬‬
‫أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان ِبفرتاض الصلوات اخلمس ليلة املعراج ‪ ،‬وكان ذلك قبل‬
‫اهلجرة بعام‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فإ هن آية اإلسراء املدنية‬
‫والظاهر أيضا أ هن هذا كله ِبلنظر لألمة ‪ ،‬فأما النيب صلهى ه‬
‫تدل على أ هن وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا ‪ ،‬وأنهه استمر وجوبه عليه مل ينسخ إىل‬
‫ه‬
‫يدل على ذلك النسخ ‪ ،‬وهذا هو الذي يشهد له ما‬
‫آخر حياته عليه الصالة والسالم لعدم ما ه‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫تق هدم لك عن ابن عباس أنه يقول ‪ :‬سقط قيام الليل عن أصحاب رسول ه‬
‫اّلل عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وسلهم وصار تطوعا ‪ ،‬وبقي ذلك فرضا على رسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مل يدع قيام الليل حضرا وال سفرا ‪ ،‬وأنه كان‬
‫صح أنه صلهى ه‬
‫ويشهد له أيضا ما ه‬
‫إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلهى من النهار اثين عشر ركعة‪ .‬كما ورد عن عائشة يف‬
‫اّلل عليه وسلهم على قيام‬
‫حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه‪ .‬فإ هن مواظبة الرسول صلهى ه‬
‫الليل يف احلضر والسفر ‪ ،‬وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو املرض دليل على استمرار‬
‫اّلل عليه وسلهم‪.‬‬
‫فرضية القيام عليه صلهى ه‬
‫َوَرتهِ ِل الْ ُق ْرآ َن تَ ْرتِ ًيال تقول العرب ‪ :‬ثغر رتل ورتل ِبلفتح والكسر ‪ ،‬إذا كان مفلهجا أو حسن‬
‫التنضيد ‪ ،‬ويف «القاموس» ‪ :‬الرتل حمركة ‪ :‬حسن تناسق الشي ء ‪ ،‬وفيه أيضا ‪:‬‬
‫ترسل‪.‬‬ ‫ورتل الكالم ترتيال ‪ :‬أحسن أتليفه‪ .‬وترتهل فيه ه‬
‫أما أقوال أهل التفسري ‪ :‬فعن ابن عباس أ هن معىن َوَرتهِ ِل الْ ُق ْرآ َن تَ ْرتِ ًيال بيهنه تبيينا وعن جماهد ‪:‬‬
‫ترسل فيه ترسال‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬تثبهت فيه تثبتا‪ .‬وكلها تدور حول شيء واحد ‪ ،‬واملراد ‪ :‬اقرأه يف‬ ‫ه‬
‫وتبني حروفه ‪ ،‬فإ هن ذلك يكون عوان لك وملن يسمع منك على فهمه‬ ‫قيامك ِبلليل على مهل ‪ ،‬ه‬
‫وتدبر معانيه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم سئل‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل وجهه أ هن رسول ه‬
‫كرم ه‬
‫علي ه‬
‫أخرج العسكري يف «املواعظ» عن ه‬
‫عن هذه اآلية فقال ‪« :‬بيهنه تبيينا ‪ ،‬وال تنثره نثر الدقل ‪ ،‬وال هت هذه ه هذ الشعر ‪ ،‬قفوا عند عجائبه‬
‫هم أحدكم آخر السورة» «‪»1‬‬
‫وحركوا به القلوب ‪ ،‬وال يكن ه‬
‫‪ ،‬ه‬
‫الدقل بفتح القاف ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يقرأ قراءة مرتهلة‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫رديء التمر وايبسه‪ .‬واهل هذ ‪ :‬اإلسراع ‪ ،‬ولقد كان رسول ه‬
‫مفسرة حرفا حرفا ‪ ،‬وكان يقطهع قراءته آية آية ‪ ،‬وميد حروف املد‪.‬‬
‫ه‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر ما رواه السيوطي يف الدر املنثور يف التفسري ِبملأثور (‪].....[ .)277 /6‬‬
‫ص ‪812 :‬‬
‫اّلل‬
‫اّلل عنها أَنها سئلت عن قراءة رسول ه‬ ‫أم سلمة رضي ه‬ ‫روى ابن جريج عن ابن أيب مليكة عن ه‬
‫اّللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬ا ْحلم ُد ِهّللِ‬
‫اّلل عليه وسلهم فقالت ‪ :‬كان يقطهع قراءته آية آية بِ ْس ِم ه‬ ‫صلهى ه‬
‫َْ‬
‫ك يَ ْوِم ال هِدي ِن (‪ )4‬رواه أمحد وأبو داود والرتمذي‬ ‫ني (‪ )2‬ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )3‬مالِ ِ‬
‫ب الْعال َِم َ‬
‫َر ِه‬
‫«‪.»1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فقال ‪ :‬كانت‬ ‫اّلل صلهى ه‬ ‫وأخرج البخاري «‪ »2‬عن أنس أنهه سئل عن قراءة رسول ه‬
‫اّللِ وميد ال هر ْمح ِن وميد ال هرِحي ِم‪.‬‬
‫اّللِ ال هر ْمح ِن ال هرِحي ِم (‪ )1‬ميد بِ ْس ِم ه‬
‫م هدا ‪ ،‬مث قرأ ‪ :‬بِ ْس ِم ه‬
‫وعلى هذا فليس ألحد من الناس خمالفة يف أنهه يقرأ القرآن برتتيل وتبيني حروف ‪ ،‬وحتسني خمارج‬
‫‪ ،‬وإظهار مقاطع ‪ ،‬إَّنا الكالم يف التغين به وتلحينه‪.‬‬
‫وقد اختلف يف ذلك علماء السلف واخللف ‪ ،‬فقال بكراهته أنس بن مالك ‪ ،‬وسعيد بن املسيهب‬
‫‪ ،‬وسعيد بن جبري ‪ ،‬والقاسم بن حممد ‪ ،‬واحلسن ‪ ،‬وابن سريين ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬واإلمامان‬
‫مالك وأمحد‪.‬‬
‫وروي عن ابن املسيب أنهه مسع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب يف قراءته ‪ ،‬فأرسل إليه‬
‫اّلل إ هن األئمة ال تقرأ هكذا‪ .‬فرتك عمر التطريب بعد‪.‬‬
‫سعيد يقول ‪ :‬أصلحك ه‬
‫اّلل عليه وسلهم فطرب فأنكر ذلك القاسم ‪،‬‬ ‫وروي عن القاسم أ هن رجال قرأ يف مسجد النيب صلهى ه‬
‫ني يَ َديْهِ َوال ِم ْن َخل ِْفهِ‪.‬‬
‫ْباطل ِم ْن بَ ْ ِ‬
‫ِِ ِ‬
‫وجل ‪ :‬ال َأيْتيه ال ُ‬
‫عز ه‬‫اّلل ه‬
‫وقال ‪ :‬يقول ه‬
‫وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن األحلان يف الصالة؟ فقال ‪ :‬ال تعجبين ‪ ،‬وقال ‪ :‬إَّنا هو‬
‫غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم‪.‬‬
‫وروي عن أمحد أنهه كان يقول يف قراءة األحلان ‪ :‬ما تعجبين ‪ ،‬ويقول ‪ :‬القراءة ِبألحلان بدعة ال‬
‫تسمع‪.‬‬
‫اّلل بن يزيد العكربي قال ‪ :‬مسعت رجال يسأل أمحد ‪ :‬ما تقول يف القراءة ِبألحلان؟‬
‫وعن عبد ه‬
‫فقال له ‪ :‬ما امسك؟ قال ‪ :‬حممد‪ .‬قال له ‪ :‬أيسرك أن يقال لك ‪:‬‬
‫موحامد ‪ ،‬ممدودا؟‬
‫وأجاز القراءة ِبألحلان عمر بن اخلطاب ‪ ،‬وابن عباس وابن مسعود‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪ ، )170 /5‬كتاب التفسري ‪ ،‬تفسري فاحتة الكتاب‬
‫حديث رقم (‪ ، )2927‬وأبو داود يف السنن كتاب القراءات حديث رقم (‪ ، )4001‬وأمحد يف‬
‫املسند (‪.)302 /6‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 66 ، )136 /6‬كتاب فضائل القرآن ‪ِ - 29 ،‬بب مد‬
‫القراءة حديث رقم (‪.)5046‬‬
‫ص ‪813 :‬‬
‫وعبد الرمحن بن األسود بن زيد واإلمامان أبو حنيفة والشافعي ‪ ،‬واختاره أبو جعفر الطربي وأبو‬
‫بكر بن العريب‪.‬‬
‫فعن عمر بن اخلطاب فيما رواه الطربي أنه كان يقول أليب موسى ‪ :‬ذ هكران ربنا ‪ ،‬فيقرأ أبو موسى‬
‫يتغىن ِبلقرآن غناء أيب موسى فليفعل‪.‬‬
‫ويتالحن ‪ ،‬فيقول عمر ‪ :‬من استطاع أن ه‬
‫وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة األسود ‪ -‬وكان حسن الصوت ‪ -‬فكان يقرأ له علقمة ‪،‬‬
‫فإذا فرغ قال له ‪ :‬زدين فداك أيب وأمي‪.‬‬
‫وعن عطاء بن أيب رِبح قال ‪ :‬كان عبد الرمحن بن األسود يتبع الصوت احلسن يف املساجد يف‬
‫شهر رمضان‪.‬‬
‫وروى الطحاوي أ هن أِب حنيفة كان يستمع القرآن ِبألحلان ‪ ،‬كما روي أ هن الشافعي كان كذلك‪.‬‬
‫هذا هو املأثور عن األئمة والعلماء يف قراءة التلحني والتطريب ‪ ،‬والنظر بعد ذلك يف أدلتهم‪.‬‬
‫استدل اجمليزون مبا أييت ‪:‬‬
‫‪-1‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪:‬‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ما أخرجه أبو داود والنسائي عن الرباء بن عازب أ هن رسول ه‬
‫«زيهنوا القرآن أبصواتكم» «‪.»1‬‬
‫يتغن ِبلقرآن»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ليس منها من مل ه‬
‫‪ - 2‬وما أخرجه مسلم من قوله صلهى ه‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل بن مغ هفل قال ‪ :‬قرأ رسول ه‬
‫‪ - 3‬وما يف «البخاري» «‪ »2‬عن عبد ه‬
‫فرجع يف قراءته‪.‬‬
‫عام الفتح يف مسري له سورة الفتح على راحلته ه‬
‫اّلل عليه وسلهم استمع ليلة لقراءة أيب موسى األشعري ‪ ،‬فلما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ - 4‬وما روي أ هن رسول ه‬
‫اّلل عليه‬
‫حلربته لك حتبريا ‪ ،‬ويروى أن النيب صلهى ه‬
‫أخربه بذلك قال ‪ :‬لو كنت أعلم أنهك تسمعه ه‬
‫وسلهم ملا مسعه قال ‪« :‬إ هن هذا أعطي مزمارا من مزامري آل داود» «‪.»3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ما رواه أبو داود يف السنن (‪ ، )546 /1‬كتاب الصالة ‪ِ ،‬بب استحباب الرتتيل حديث‬
‫رقم (‪ ، )1468‬والنسائي يف السنن (‪ ، )522 /2 - 1‬كتاب االفتتاح حديث رقم (‪.)1016‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )547 /1‬كتاب صالة املسافرين ‪ِ - 35‬بب ذكر قراءة‬
‫النيب حديث رقم (‪ ، )794 /237‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 66 ، )137 /6‬كتاب فضائل‬
‫القرآن ‪ِ - 30 ،‬بب الرتجيع حديث رقم (‪.)5047‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 6 ، )546 /1‬كتاب صالة املسافرين ‪ِ - 34 ،‬بب‬
‫استحباب تزيني الصوت حديث رقم (‪ ، )793 /235‬والبخاري يف الصحيح (‪، )137 /6‬‬
‫‪ - 66‬كتاب فضائل القرآن ‪ِ - 31 ،‬بب حسن الصوت ‪ ،‬حديث رقم (‪.)5048‬‬
‫ص ‪814 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم يقول ‪« :‬ما‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ - 5‬وما رواه مسلم «‪ »1‬عن أيب هريرة أنه مسع رسول ه‬
‫يتغىن ِبلقرآن»‬
‫اّلل لشيء أذنه لنيب حسن الصوت ه‬
‫أذن ه‬
‫‪ .‬األذن بفتحتني االستماع‪.‬‬
‫‪ - 6‬وقالوا أيضا ‪ :‬إ هن الرتمن ِبلقرآن ‪ ،‬والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على االستماع‬
‫واإلصغاء ‪ ،‬وهو أوقع يف النفس ‪ ،‬وأنفذ يف القلب ‪ ،‬وأبلغ يف التأثري‪.‬‬
‫علي سورة كذا ‪،‬‬
‫روي أ هن عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوات فقال له عمر ‪ :‬اعرض ه‬
‫أظن أَنا نزلت‪.‬‬
‫فعرض عليه ‪ ،‬فبكى عمر وقال ‪ :‬ما كنت ه‬
‫أما املانعون فاحتجوا مبا أييت ‪:‬‬
‫‪-1‬‬
‫اّلل عليه‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫ما رواه احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول» عن حذيفة بن اليمان عن رسول ه‬
‫وسلهم قال ‪« :‬اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواهتا ‪ ،‬وإايكم وحلون أهل الكتاب والفسق ‪ ،‬فإنهه‬
‫يرجعون ِبلقرآن ترجيع الغناء والنوح ‪ ،‬ال جياوز حناجرهم ‪ ،‬مفتونة قلوهبم‬
‫جييء من بعدي أقوام ه‬
‫يرجع ِبلقرآن ترجيع الغناء والنوح ‪ ،‬على حنو ما‬
‫وقلوب الذين يعجبهم شأَنم» فقد نعى على من ه‬
‫يفعله أكثر قراء هذا العصر ‪ ،‬ووصفهم بفتنة القلوب ‪ ،‬كما وصف هبا كل من يسمع هلم ويعجبه‬
‫شأَنم‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم أنهه ذكر أشراط الساعة ‪ ،‬وذكر أشياء ‪ ،‬منها أن يتخذ‬
‫‪ - 2‬وما روي عنه صلهى ه‬
‫القرآن مزامري ‪ ،‬وقال ‪« :‬يقدمون أحدهم ليس أبقرئهم ‪ ،‬وال أفضلهم ليغنيهم غناء»‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫‪ - 3‬وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ‪ :‬كان لرسول ه‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬إ هن األذان سهل مسح ‪ ،‬فإن كان أذانك سهال‬
‫مؤذهن يطرب فقال النيب صلهى ه‬
‫مسحا وإال فال تؤذن» أخرجه الدار قطين «‪»2‬‬
‫فدل ذلك على أنه يكره‬
‫اّلل عليه وسلهم أن يطرب املؤذن يف أذانه ‪ ،‬ه‬
‫‪ .‬فقد كره النيب صلهى ه‬
‫التطريب يف القراءة بطريق أوىل‪.‬‬
‫القراء فقيل له ‪:‬‬
‫اّلل عنه مع ه‬
‫‪ - 4‬وما روي أ هن زايدا النمريي جاء إىل أنس رضي ه‬
‫اقرأ ‪ ،‬فرفع صوته وطرب ‪ -‬وكان رفيع الصوت ‪ ، -‬فكشف أنس عن وجهه ‪ ،‬وكان على وجهه‬
‫خرقة سوداء ‪ ،‬وقال ‪ :‬اي هذا ما هكذا كانوا يفعلون ‪ ،‬وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع اخلرقة عن‬
‫دل على أ هن القراءة يف عهد النيب‬
‫وجهه‪ .‬وهذا له حكم الرفع ‪ ،‬فقوله ‪ :‬ما هكذا كانوا يفعلون‪ .‬ه‬
‫اّلل عليه وسلهم مل تكن على حنو قراءة زايد‪.‬‬
‫صلهى ه‬
‫‪ - 5‬وقالوا أيضا ‪ :‬إ هن التغين والتطريب يؤ هدي إىل أن يزاد على القرآن ما ليس منه ‪ ،‬وذلك ألنهه‬
‫يقتضي م هد ما ليس مبمدود ‪ ،‬ومهز ما ليس مبهموز ‪ ،‬وجعل احلرف الواحد حروفا كثرية ‪ ،‬وهو ال‬
‫جيوز‪ .‬هذا إىل أ هن التلحني من شأنه أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه يف الصحيح (‪ - 6 ، )545 /1‬كتاب صالة املسافرين ‪ِ - 34 ،‬بب استحباب تزيني‬
‫الصوت حديث رقم (‪.)792 /232‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدار قطين يف سننه (‪ ، )86 /2‬كتاب اجلنائز ‪ِ ،‬بب ختفيف القراءة‪.‬‬

‫ص ‪815 :‬‬
‫يلهي النفوس بنغمات الصوت ‪ ،‬ويصرفها عن االعتبار وتدبر معاين القرآن‪.‬‬
‫أتولوا ما أورده اجمليزون مما يفيد جواز القراءة ِبألحلان فقالوا يف‬
‫هذه أدلة املانعني ‪ ،‬وقد ه‬
‫حديث ‪« :‬زينوا القرآن أبصواتكم»‬
‫إن فيه قلبا ‪ ،‬وأصله ‪:‬‬
‫«زينوا أصواتكم ِبلقرآن»‬
‫كما قيل يف ‪ :‬عرضت الناقة على احلوض ‪ ،‬وعلى تسليم أنه ليس يف احلديث قلب ‪ ،‬فمعىن‬
‫تزيني القرآن ِبألصوات جتويده ‪ ،‬وحتسني أدائه ِبملد والغنة واإلظهار ‪ ،‬وضبط كلماته ‪ ،‬وتبيني‬
‫حروفه ‪ ،‬وأنت ترى أ هن هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ احلديث غاية البعد ‪ ،‬وهو على كل‬
‫حال أتويل ال دليل عليه ‪ ،‬وال موجب له‪.‬‬
‫وقالوا يف‬
‫احلديث الثاين ‪« :‬ليس منها من مل يتغن ِبلقرآن»‬
‫إنه ليس من الغناء وإَّنا هو من االستغناء ‪ ،‬كما فسره بذلك سفيان بن عيينة ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬ليس منا‬
‫من مل يستغن ِبلقرآن عن احلديث ‪ ،‬أو عن أخبار األولني‪ .‬قالوا ‪ :‬وقد ورد التغين مبعىن االستغناء‬
‫يف كالم العرب‪ .‬قال األعشى ‪:‬‬
‫التغين‬
‫وكنت امرأ زمنا ِبلعراق عفيف املناخ طويل ه‬
‫وأنت ترى أيضا أ هن أتويل التغين ِبالستغناء أتويل بعيد ال دليل عليه ‪ ،‬ولذلك ملا سئل الشافعي‬
‫عن هذا التأويل املنسوب البن عيينة قال ‪ :‬حنن أعلم هبذا ‪ ،‬لو أراد به االستغناء لقال‪ .‬من مل‬
‫«يتغن ِبلقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء‪ .‬أما بيت األعشى فال‬
‫ه‬ ‫يستغن ِبلقرآن ‪ ،‬ولكن ملا قال ‪:‬‬
‫حجة هلم فيه ‪ ،‬فإنهه ال يستقيم معناه على إرادة االستغناء ‪ ،‬وإَّنا هو مبعىن اإلقامة ‪ ،‬من قوهلم ‪:‬‬
‫غىن فالن مبكان كذا إذا أقام ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪َ :‬كأَ ْن َملْ يَغْنَ ْوا فِ َ‬
‫يها‪.‬‬
‫استدل هبا اجمليزون من الرتجيع والتحبري والتغين مما يرجع‬ ‫ه‬ ‫مث هأولوا ما ورد يف بقية األحاديث اليت‬
‫حلسن التجويد ‪ ،‬وإتقان األداء‪.‬‬
‫يغري من ألفاظ القرآن‬
‫واحلق أ هن األدلة تشهد للمجيزين ‪ ،‬وذلك ألنه إذا كان التلحني والتطريب ه‬
‫وخيل مبا نقل إلينا من طرق األداء أو كان تكلهفا وتصنهعا ورفعا وخفضا على حنو توقيعات‬
‫‪ ،‬ه‬
‫وحمرم‪.‬‬
‫املوسيقى ‪ ،‬فال كالم يف أنهه ممنوع ه‬
‫أما إذا كان حتبريا وترقيقا وحتزينا ‪ ،‬وشيئا قضى به اتعاظ القارئ ‪ ،‬وكمال أتثهره مبعاين القرآن ‪،‬‬
‫فليس هناك من األدلة ما ينهض على منعه‪ .‬بل األدلة شاهدة به وداعية إليه‪ .‬وعلى هذا ينبغي‬
‫محل كل ما أورده املانعون يف منع التغين على التغين املذموم الذي يسري فيه القارئ مع اهلوى‬
‫ويلهو به عن تدبر املعىن وخيرج فيه عن احلدود والقوانني املأثورة يف األداء والرتتيل‪ .‬وهذا حممل‬
‫قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص واآلاثر اليت جتيز التغين يف قراءة‬

‫ص ‪816 :‬‬
‫القرآن وبعد هذا ترى األدلة كلها متفقة ال تعارض بينها وال تدافع‪.‬‬
‫ك قَ ْوًال ثَِق ًيال (‪ )5‬اإللقاء ‪ :‬اإلنزال ‪ :‬واإلُياء‪ .‬ه‬
‫وعرب به لإلشارة من أول األمر إىل‬ ‫إِ هان َسنُل ِْقي عَلَيْ َ‬
‫أ هن ما يوحى به شديد وعظيم‪.‬‬
‫واملراد ِبلقول الثقيل ‪ :‬القرآن ‪ ،‬وثقله ِبعتبار ما اشتمل عليه من حتميله عليه الصالة والسالم‬
‫أعباء الرسالة ومهمة التبليغ ‪ ،‬وما إىل ذلك من التكاليف اليت يتطلهب القيام هبا صربا وجلدا وقوة‬
‫عزمية‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وتلقيه إايه من الوحي ‪ ،‬فقد كان عليه‬
‫وقيل ‪ :‬إنه ثقيل يف نزوله عليه صلهى ه‬
‫الصالة والسالم يكرب عند ذلك ‪ ،‬ويرجف ‪ ،‬ويشت هد عليه األمر‪.‬‬
‫اّلل عنها أَنها قالت ‪ :‬ولقد رأيته‬
‫روى الشيخان ومالك والرتمذي والنسائي عن عائشة «‪ »1‬رضي ه‬
‫ليتفصد عرقا‪.‬‬
‫ه‬ ‫ينزل عليه الوحي يف اليوم الشديد الربد ‪ ،‬فيفصم عنه ‪ ،‬وإ هن جبينه‬
‫اّلل عليه وسلهم كان إذا أوحي إليه‬ ‫النيب صلهى ه‬
‫أخرج أمحد وابن جرير «‪ »2‬وغريمها عن عائشة أ هن ه‬
‫يسرى عنه ‪ ،‬وتلت إِ هان َسنُل ِْقي‬
‫تتحرك ‪ ،‬حّت ه‬
‫وهو على انقته وضعت جراَنا ‪ ،‬فما تستطيع أن ه‬
‫ك قَ ْوًال ثَِق ًيال (‪.)5‬‬
‫َعلَْي َ‬
‫اّلل عليه وسلهم نزل عليه الوحي مرة ‪ ،‬وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد‬ ‫وروي أنه صلهى ه‬
‫ترض فخذ زيد من ش هدة الضغط‪.‬‬
‫بن اثبت ‪ ،‬فكادت فخذه عليه الصالة والسالم ه‬
‫قيل ‪ :‬معىن ثقله ‪ :‬أنه كالم رصني ‪ ،‬فخم ‪ ،‬له رجحان ووزن ‪ ،‬ليس ِبلسفساف وال ِبهلني‬
‫الضعيف‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إ هن ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر ‪ ،‬ال يزول وال يتبدل ‪ ،‬فإ هن املعهود يف األجسام‬
‫الثقيلة أَنها تثبت وتبقى يف مكاَنا‪.‬‬
‫انشئَةَ اللهْي ِل ِه َي أَ َش ُّد َوطْئاً َوأَق َْو ُم قِ ًيال (‪ )6‬واختلف املفسرون يف املراد‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ هن ِ‬
‫قال ه‬
‫ِبلناشئة‪ .‬فقيل ‪ :‬إَنها من نشأ من مكانه إذا َنض ‪ ،‬فتكون اإلضافة يف ِ‬
‫انشئَةَ اللهْي ِل على معىن يف‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬إن النفس أو النفوس الناشئة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم يف الصحيح (‪ - 43 ، )1816 /4‬كتاب الفضائل ‪ِ - 22 ،‬بب طب عرق‬
‫النيب حديث رقم (‪ ، )2333 /86‬والبخاري يف الصحيح (‪ - 59 ، )95 /4‬كتاب بدء اخللق‬
‫‪ِ - 6 ،‬بب ذكر املالئكة ‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )3215‬والرتمذي يف اجلامع الصحيح (‪، )557 /5‬‬
‫كتاب املناقب ‪ ،‬حديث رقم (‪ ، )3634‬والنسائي يف السنن (‪ ، )485 /2 - 1‬كتاب االفتتاح‬
‫‪ِ ،‬بب جامع ما جاء يف القرآن حديث رقم (‪.)933‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن جرير الطربي يف تفسريه جامع البيان يف تفسري القرآن (‪.)80 /29‬‬

‫ص ‪817 :‬‬
‫يف الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة ِه َي أَ َش ُّد َوطْئاً َوأَق َْو ُم قِ ًيال والوطء املواطأة واملوافقة ‪،‬‬
‫كالوطاء‪.‬‬
‫والقيل ‪ :‬القول كاملقال‪ .‬واملراد به قراءة القرآن ‪ ،‬أو مطلق الذهكر ‪ ،‬أي إَنا أشد موافقة ومصادفة‬
‫للخشوع واإلخالص‪.‬‬
‫أو أن قلبها يكون ِبلليل أشد موافقة للساَنا منه يف سائر األوقات ‪ ،‬إذ يكون القلب يف ساعات‬
‫اّلل صارف‪.‬‬
‫الليل حاضرا ال يشغله شاغل ‪ ،‬وال يصرفه عن خشية ه‬
‫َوأَق َْو ُم قِ ًيال أي إ هن قوهلا يكون حينئذ أكثر اعتداال واستقامة على َنج الصواب ‪ ،‬أل هن األصوات‬
‫هادئة ‪ ،‬والليل ساكن ‪ ،‬فال يضطرب املصلي ‪ ،‬وال خيتلط عليه قوله وقراءته‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن املراد بناشئة الليل العبادة فيه ‪ ،‬ومعىن أن عبادة الليل أش هد وطأ ‪ :‬أن موافقتها‬
‫اإلخالص واخلشوع يف هذا الوقت أعظم منها يف أي وقت آخر‪ .‬أو أ هن قلب العابد فيها يكون‬
‫أكثر موافقة للسانه منه يف غري ذلك من األوقات‪.‬‬
‫ولعل أحسن هذه األقوال أوسطها‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬املراد بناشئة الليل ساعاته ‪ ،‬واملعىن عليه كسابقه ‪ ،‬ه‬
‫أما موقع هاتني اآليتني مما قبلهما ‪ ،‬فقال بعض املفسرين ‪ :‬إن أوالمها معرتضة بني األمر ِبلقيام‬
‫انشئَةَ اللهْي ِل ِه َي أَ َش ُّد َوطْئاً َوأَق َْو ُم قِ ًيال (‪)6‬‬
‫وعلتها اليت بينتها اآلية الثانية ‪ ،‬وهي قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن ِ‬
‫اّلل عليه وسلهم ِبملوازنة‬ ‫النيب صلهى ه‬ ‫وإ هن السر يف هذا االعرتاض هو تسهيل أمر القيام ِبلليل عن ه‬
‫بينه وبني ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد األعمال‪.‬‬
‫ولكنهك ترى أنهه ال حاجة إىل جعل اآلية األوىل معرتضة بني ما قبلها وما بعدها ‪ ،‬فإ هن ارتباطها مبا‬
‫اّلل تعاىل يقول لنبيه ‪ :‬قُِم اللهْي َل‬
‫قبلها واضح ج هدا ‪ ،‬وهي منه يف منزلة العلة من املعلول ‪ ،‬فكأ هن ه‬
‫وسنحملك‬
‫ه‬ ‫وجترد للعبادة ‪ ،‬وأعد نفسك ملا سيلقى عليك ‪ ،‬أل هان سنوحي إليك أبمور عظيمة ‪،‬‬
‫تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة اليت اخرتانك هلا‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وهتيئه لتحمل‬ ‫يتضمن دعوى أ هن العبادة يف جوف الليل تعينه صلهى ه‬
‫مث إ هن هذا ه‬
‫انشئَةَ اللهْي ِل ِه َي‬
‫أعباء الرسالة ‪ ،‬واالضطالع بشؤوَنا ‪ ،‬فتأيت اآلية الثانية وهي قوله تعاىل ‪ :‬إِ هن ِ‬
‫أَ َش ُّد َوطْئاً َوأَق َْو ُم قِ ًيال (‪ )6‬لتعزيز الدعوى‪ .‬فهي من سابقتها مبنزلة العلة من املعلول‪.‬‬
‫اّلل جل شأنه يقول ‪ :‬حقا إ هن قيام الليل يعينك على حتمل ما سنلقيه عليك ‪ ،‬أل هن عبادة‬ ‫فكأ هن ه‬
‫الليل أش هد مواطأة وموافقة لإلخالص واخلشوع ‪ ،‬وأكثر اعتداال واستقامة على َنج احلق‬
‫والصواب‪.‬‬

‫ص ‪818 :‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ هن ل َ‬
‫َك ِيف النهها ِر َس ْبحاً طَ ِو ًيال (‪ )7‬السبح يف األصل ‪ :‬الذهاب يف املاء ‪،‬‬ ‫قال ه‬
‫ويصح أن يطلق عن القيد ‪ ،‬فيستعمل يف مطلق الذهاب والتقلهب‪ .‬وعلى هذا‬
‫ه‬ ‫والتقلهب فيه‪.‬‬
‫يكون معىن اآلية ‪ :‬إ هن لك يف النهار شغال كثريا ‪ ،‬وتقلبا يف أعمال متنوعة ال تستطيع معها أن‬
‫تقوم يف النهار مبا يريده منك من تلك العبادات اخلاصة ‪ ،‬فلذلك كتبناها عليك يف الليل ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬وبياان للحكمة يف التخفيف عنه ‪ ،‬إذ مل‬
‫النيب صلهى ه‬
‫فيكون هذا تيسريا على ه‬
‫جيمع عليه يف النهار بني تلك العبادات وبني ما هو موكول إليه من األعمال‪.‬‬
‫يتفرغ له ِبلليل ‪ ،‬إذ يكفي أن‬
‫ويصح أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه ‪ ،‬وأنه جيب أن ه‬
‫ه‬
‫يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من األعمال‪ .‬أما الليل فيجب أن يتوفهر فيه‬
‫اّلل وعبادته‪.‬‬ ‫على القيام حب هق ه‬
‫هل إِل َْيهِ تَ ْبتِ ًيال (‪ )8‬التبتل ‪ :‬االنقطاع ‪ ،‬يقال بتله وبتهله‬ ‫اس َم َربِه َ‬
‫ك َوتَبَ ت ْ‬ ‫اّلل تعاىل ‪َ :‬واذْ ُك ِر ْ‬
‫قال ه‬
‫ِبلتخفيف والتشديد ‪ ،‬بتال وتبتيال ‪ ،‬فانبتل وتبتهل ‪ ،‬ومنه البتول للعذراء املنقطعة عن األزواج ‪،‬‬
‫أو املنقطعة للعبادة‪.‬‬
‫اّلل ِبلتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن ‪،‬‬
‫اّلل سبحانه وتعاىل نبيهه أن يداوم على ذكر ه‬
‫أيمر ه‬
‫فال يشغله عن ذلك شاغل يف ليله وال َناره ‪ ،‬وأن جيعل مههه كله يف إرضاء ربه ‪ ،‬وجيرد نفسه عن‬
‫التعلق بغريه ‪ ،‬ويستغرق يف مراقبته يف كل ما أييت وما يذر من األعمال‪.‬‬
‫وليس املراد أن ينقطع حّت عن أعمال النهار ‪ ،‬ويعكف على الذكر والعبادة ‪ ،‬فإنهه يتناىف مع‬
‫قوله تعاىل يف اآلية السابقة ‪ :‬إِ هن ل َ‬
‫َك ِيف النهها ِر َس ْبحاً طَ ِو ًيال (‪ )7‬بل املراد التنبيه إىل أنهه ينبغي أال‬
‫اّلل‪.‬‬
‫يشغله السبح يف أعمال النهار عن ذكر ه‬
‫هذا وإَّنا قيل ‪ :‬تَبْتِ ًيال ومل يقل ‪ :‬تبتال ‪ ،‬حّت يتفق مع الفعل قبله ‪ ،‬مراعاة للفواصل ‪ ،‬وللداللة‬
‫جيرد نفسه عن‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪ ،‬أبن ه‬
‫على أ هن التبتل واالنقطاع ُيتاج إىل عمل اختياري منه صلهى ه‬
‫جل شأنه ‪ ،‬فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك‪.‬‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وُيصر مهه يف مراقبته ه‬
‫التعلق بغري ه‬
‫وقد يقال ‪ :‬فلما ذا مل يقل ‪ :‬وتبتل إليه تبتيال حّت يوافق الفعل مصدره؟‬
‫واجلواب ‪ :‬إ هن ذلك لإلشارة إىل أ هن املقصود األهم إَّنا هو حصول ذلك األثر ‪ ،‬وهو التبتل‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وم أَ ْدىن م ْن ثُلُثَ ِي اللهْي ِل َونِ ْ‬
‫ص َفهُ َوثُلُثَهُ َوطائ َفةٌ م َن الهذ َ‬
‫ين‬ ‫ك تَ ُق ُ‬ ‫ك يَ ْعلَ ُم أَنه َ‬‫اّلل تعاىل ‪ :‬إِ هن َربه َ‬
‫قال ه‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن َعلِ َم‬ ‫ِ‬ ‫كوه ِ‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬ ‫صوهُ فَ َ‬ ‫َن ُحتْ ُ‬ ‫اّللُ يُ َق هد ُر اللهْي َل َوالن َ‬
‫ههار َعل َم أَ ْن ل ْ‬ ‫َم َع َ َ‬
‫أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِمنْ ُك ْم َم ْرضى‬

‫ص ‪819 :‬‬
‫س َر‬‫اّللِ فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه‬
‫يل ه‬ ‫اّللِ َوآ َخ ُرو َن يُقاتِلُو َن ِيف َسبِ ِ‬
‫ض ِل ه‬ ‫ض يَ ْب تَ غُو َن ِم ْن فَ ْ‬‫ض ِربُو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬‫َوآ َخ ُرو َن يَ ْ‬
‫سناً َوما تُ َق هِد ُموا ِألَنْ ُف ِس ُك ْم ِم ْن َخ ٍْري َِجت ُدوهُ‬ ‫ضوا ه‬
‫اّللَ قَ ْرضاً َح َ‬ ‫صالةَ َوآتُوا ال هزكاةَ َوأَقْ ِر ُ‬ ‫يموا ال ه‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْنهُ َوأَق ُ‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫استَ غْ ِف ُروا ه‬ ‫ِع ْن َد هِ‬
‫يم (‪)20‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫اّللَ إِ هن هَ ٌ‬ ‫َجراً َو ْ‬ ‫اّلل ُه َو َخ ْرياً َوأَ ْعظَ َم أ ْ‬
‫املراد من القيام هو ما تق هدم يف أول السورة ‪ ،‬وهو صالة التهجد على ما عرفت‪ .‬وكلمة أَ ْدىن من‬
‫الدنو ‪ ،‬وهو القرب ‪ ،‬فهي يف األصل مبعىن أقرب ‪ ،‬تقول ‪:‬‬
‫حممدا يف الدرس أدىن التالميذ من األستاذ ‪ ،‬أي أنه جيلس يف أقرب األمكنة إليه ‪ ،‬لكنهها‬‫رأيت ه‬
‫استعملت يف اآلية مبعىن األقل ‪ ،‬على طريق اجملاز املرسل ‪ ،‬ألنه إذا قربت املسافة بني الشيئني‬
‫كانت األحيان بينهما قليلة‪.‬‬
‫اّلل‬ ‫قرأ اجلمهور ‪َ :‬ونِ ْ‬
‫ص َفهُ َوثُلُثَهُ ِبلنصب عطفا على أَ ْدىن ألنهه ظرف أو مفعول فيكون املعىن ‪ :‬إ هن ه‬
‫أقل من ثلثيه ‪ ،‬وأخرى‬
‫قد علم أنهك كنت تقوم من الليل للصالة على هذه األوجه ‪ ،‬فتارة تقوم ه‬
‫اّلل عليه وسلهم وعمل‬
‫تدل على أ هن عمله صلهى ه‬ ‫تقوم نصفه ‪ ،‬واثلثة تقوم ثلثه ‪ ،‬وهذه القراءة ه‬
‫أقل من الثلثني فقد ح هقق الزايدة‬
‫الصحابة معه كان وفق املأمور به يف أول السورة ‪ ،‬فإنهه إذا قام ه‬
‫على النصف ‪ ،‬وإذا قام الثلث ‪ ،‬فقد صدق أنهه نقص عن النصف قليال‪ .‬والنصف مطابق‬
‫للنصف‪.‬‬
‫وحينئذ ال تكون هناك خمالفة ‪ ،‬ال بطريق االختيار ‪ ،‬وال بطريق االضطرار‪ .‬ويكون التخفيف عنهم‬
‫اّلل ‪ -‬ال يطيقون املواظبة على القيام ِبملأمور به ‪ ،‬إذ ال ميكنهم تقدير‬
‫بسبب أَنهم ‪ -‬كما علم ه‬
‫الليل ‪ ،‬وال يستطيعون ضبط ساعاته ‪ ،‬فإذا حرصوا على الوفاء ِبملطلوب اضطروا أن أيخذوا‬
‫أبكرب املقادير وأوسعها ‪ ،‬ويف ذلك مشقة زائدة‪.‬‬
‫اّلل علم أنك تقوم أقل من‬ ‫وقرأ انفع ‪ :‬نِ ْ‬
‫ص َفهُ وثُلُثَهُ ِبجلر ‪ ،‬عطفا على (ثلثيه) فيكون املعىن ‪ :‬إ هن ه‬
‫مرة اثلثة‪.‬‬
‫أقل من الثلث ه‬
‫مرة ‪ ،‬و ه‬
‫أقل من النصف ه‬
‫مرة ‪ ،‬و ه‬
‫الثلثني ه‬
‫وظاهر أ هن ما دون الثلث ال يوافق املأمور به يف أول السورة ‪ ،‬وهو أن ينقص من النصف مقدار‬
‫قليل ‪ ،‬فإنهه مل جير عرف الكالم أن يقال ملا دون الثلث ‪ -‬يف معرض التقدير مبثل هذه املقادير ‪-‬‬
‫إنه أقل من النصف ‪ ،‬كما ال يقال ألمر حدث قبيل طلوع الفجر مثال ‪ :‬إنه حصل بعد العشاء‪.‬‬
‫على أ هن ما دون الثلث قد جاء يف اآلية اليت معنا مقابال ملا دون النصف ‪ ،‬إذ األحوال الثالثة‬
‫هي ‪ :‬القيام أقل من الثلثني ‪ ،‬وأقل من النصف ‪ ،‬وأقل من الثلث ‪ ،‬فيتعني أن يكون قيام ما دون‬
‫الثلث شيئا غري قيام ما دون النصف وحينئذ مل أيت عملهم يف مجيع احلاالت موافقا لألمر يف‬
‫لكن ذلك‬
‫أول السورة ‪ ،‬إذ قيام ما دون الثلث ال يكون امتثاال لألمر بقيام النصف إال القليل‪ .‬ه‬
‫ملا مل يكن عن اختيار وقصد ‪،‬‬

‫ص ‪820 :‬‬
‫بل كان عن حمض الضرورة ‪ ،‬بسبب أَنم مل ميكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم مل يكن إمثا‬
‫‪ ،‬وانتفت فيه املؤاخذة ‪ ،‬وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة ‪ ،‬وهي عدم‬
‫قدرهتم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل‪.‬‬
‫وبعد فال تناقض بني القراءتني ‪ ،‬فإ هن اآلية ليست حديثا عما أمروا به من القيام ‪ ،‬بل هي إخبار‬
‫عن الواقع الذي كان ُيصل منهم‪ .‬وهم كانوا أحياان يقومون ثلث الليل ‪ ،‬ويقومون نصفه ‪،‬‬
‫وأقل من نصفه ‪ ،‬ظنا منهم أَنم وفوا يف‬
‫أقل من ثلثه ‪ ،‬ه‬
‫ويقومون قريبا من ثلثيه ‪ ،‬وأحياان يقومون ه‬
‫أقل من الثلث ِبلقدر املأمور به ‪ ،‬لعدم ضبط الزمن ‪ ،‬وحتديد مقاديره‪ .‬فقراءة النصب‬
‫قيامهم ه‬
‫تنزل على احلاالت الثانية‪.‬‬
‫اجلر ه‬
‫توافق احلاالت األوىل ‪ ،‬وقراءة ه‬
‫ِ ِ ِ‬
‫وم وهو وإن كان ضمري رفع‬
‫املستكن يف تَ ُق ُ‬
‫ه‬ ‫ك وهذا معطوف على الضمري‬ ‫َوطائ َفةٌ م َن الهذ َ‬
‫ين َم َع َ‬
‫متصل ‪ ،‬قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبني املعطوف ‪ ،‬واملعىن ‪:‬‬
‫اّلل يعلم أنهه كان يقوم كذلك مجاعة من الذين آمنوا بك ‪ ،‬واتبعوا هداك‪.‬‬
‫أ هن ه‬
‫تقرر‬
‫يدل على أ هن قيام الليل مل يكن فرضا على مجيع األمة ‪ ،‬وهو خالف ما ه‬
‫وقد يقال ‪ :‬إ هن هذا ه‬
‫تفسريه يف أول السورة ‪ ،‬وخيالف أيضا ما دلهت عليه اآلاثر املتقدمة هناك‪.‬‬
‫اّلل عليهم كانوا مجيعا يصلهون مع النيب‬
‫واجلواب ‪ :‬أنه ليس يف اآلية ما يفيد أ هن الصحابة رضوان ه‬
‫فلعل بعضهم كان يقيمها يف بيته‪ .‬فال‬
‫اّلل عليه وسلهم صالة التهجد يف مجاعة واحدة ‪ ،‬ه‬
‫صلهى ه‬
‫ينايف ذلك فرضية القيام على اجلميع‪.‬‬
‫وه ِ‬
‫اّلل هو وحده الذي يق هدر‬ ‫اّللُ يُ َق هد ُر اللهيْ َل َوالن َ‬
‫ههار الكالم هنا على احلصر واالختصاص ‪ ،‬أي أ هن ه‬ ‫َ‬
‫كل ‪ ،‬وما بقي على التعيني والتحديد‪.‬‬
‫الليل والنهار ‪ ،‬يعلم مقاديرمها وأجزاءمها ‪ ،‬وما مضى من ه‬
‫وهذا االختصاص ‪ -‬على ما يقول الزخمشري «‪ - »1‬مستفاد من تقدمي اسم اجلاللة مبتدأ ‪،‬‬
‫وبناء الفعل عليه‪.‬‬
‫أما غري الزخمشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا يف االختصاص ‪ ،‬إذ إنهه إذا قيل ‪:‬‬
‫حممد ُيفظ الدرس ‪ ،‬أو يتفقه على فالن ‪ ،‬مل يفد ذلك أنه هو وحده الذي ُيفظ ويتفقه‪ .‬فاحلصر‬
‫يف اآلية مستفاد من سياق الكالم وداللة املقام‪.‬‬
‫ويصح أن يستعمل‬ ‫تاب َعلَْي ُك ْم إحصاء األشياء ع هدها ‪ ،‬واإلحاطة مبقدارها ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫صوهُ فَ َ‬
‫َن ُحتْ ُ‬
‫َعل َم أَ ْن ل ْ‬
‫كل من املعنيني سائغ يف اآلية‪.‬‬
‫يف القدرة على الفعل وإطاقته ‪ ،‬و ه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر تفسري الكشاف للزخمشري (‪.)643 /4‬‬

‫ص ‪821 :‬‬
‫صوهُ عائدا على مصدر مفهوم من يُ َق هِد ُر يف اجلملة‬
‫فعلى األول ‪ :‬يكون الضمري املفعول يف ُحتْ ُ‬
‫السابقة‪.‬‬
‫اّلل أنكم مل حتصوا تقدير الليل والنهار ‪ ،‬ولن تستطيعوا ضبط ساعاهتما ‪ ،‬وال‬
‫واملعىن عليه ‪ :‬علم ه‬
‫معرفة ما فات من ذلك على التحديد ‪ ،‬وال ما هو آت ‪ ،‬وأنكم إذا أخذمت دائما ِبألحوط‬
‫اّلل عنكم يف أمر القيام ‪ ،‬ورفع عنكم املقدار احملدد‬
‫ضعفتم ‪ ،‬وش هق عليكم األمر ‪ ،‬ولذلك خفف ه‬
‫‪ ،‬ور هخص لكم أن تقوموا مقدارا ما من الليل غري مقيهد بثلث وال بغريه‪.‬‬
‫وم‪.‬‬
‫وعلى الثاين ‪ :‬يكون الضمري عائدا على القيام املفهوم من تَ ُق ُ‬
‫اّلل أنكم لن حتصوا قيام الليل ‪ ،‬أي لن تطيقوه ‪ ،‬ولن تستطيعوا املواظبة عليه‬
‫واملعىن عليه ‪ :‬علم ه‬
‫مق هدرا بذلك املقدار ‪ ،‬ولذلك خفف عنكم‪.‬‬
‫تاب عَلَيْ ُك ْم التوبة يف األصل معناها العود والرجوع‪ .‬يقال ‪ :‬اتب العاصي إذا رجع إىل سبيل‬
‫فَ َ‬
‫اّلل عليه ‪ ،‬مبعىن عفا عنه ‪ ،‬وعاد عليه ِبملغفرة ‪ ،‬فالتوبة يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الطاعة ‪ ،‬ويقال ‪ :‬اتب ه‬
‫يصح أن تكون مبعىن املغفرة ‪ ،‬أي غفر لكم ما كان عساه يفضي إىل مؤاخذتكم من‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم ه‬
‫فَ َ‬
‫عدم الوفاء مبا أمرمت به ‪ ،‬إذ كنتم تقومون يف بعض األحوال أقل من ثلث الليل ‪ ،‬مع أنكم‬
‫مأمورون أن تقوموا نصفه على األقل ‪ ،‬ال تنقصون منه إال قليال‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬كما ترى ‪ -‬إَّنا يظهر على قراءة انفع ومن وافقه جبر (نصفه) و(ثلثه)‪ .‬أما على قراءة‬
‫تاب َعلَْي ُك ْم عاد عليكم ِبلرتخيص والتخفيف ‪ ،‬ورجع بكم من عسر إىل‬
‫النصب فيكون معىن فَ َ‬
‫يسر ‪ ،‬ومن شدة إىل لني ‪ ،‬وليس هو من التوبة مبعىن املغفرة‪.‬‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن للعلماء يف املراد ِبلقراءة هنا ثالثة أقوال ‪:‬‬‫فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫األول ‪ - :‬قول من محل القراءة على ظاهرها ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن صالة التهجد قد نسخت هبذا األمر‬
‫وصار املطلوب قراءة شيء من القرآن‪ .‬مث من هؤالء من قال ‪ :‬إ هن األمر ِبلقراءة للوجوب ‪،‬‬
‫ومنهم من محله على الندب‪.‬‬
‫يعرب عنها ِبلقيام‬
‫عرب عنها ألَنها من أركاَنا ‪ ،‬كما ه‬
‫القول الثاين ‪ :‬أن املراد ِبلقراءة الصالة ‪ ،‬ه‬
‫آن صلوا ما تيسر لكم من الصالة‪.‬‬ ‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫والركوع والسجود ‪ ،‬فيكون معىن ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫ويشهد لذلك سياق اآلية ‪ ،‬وما سبق من اآلاثر اليت تدل على أ هن آخر السورة نسخ أوهلا ‪،‬‬
‫فصار الواجب قيام جزء ما من الليل ‪ ،‬مث نسخ ذلك بفرض املكتوِبت اخلمس‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ - :‬أن املراد قراءة القرآن يف الصالة عمال بداللة اللفظ مع شهادة السياق وتلك‬
‫اآلاثر‪.‬‬

‫ص ‪822 :‬‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن يستدلون هبا على أن املفروض‬‫وقد تعلهق بعض الفقهاء هبذه اجلملة ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫من القراءة يف الصالة ليس سورة معينة ‪ ،‬بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة‪.‬‬
‫وقبل أن نشرح وجه الداللة على ذلك ‪ ،‬يلزم أن ننبهك إىل أ هن االستدالل هبا ال يستقيم على‬
‫الوجه األول من التفسري ‪ ،‬فإ هن املراد ِبلقراءة على هذا الوجه حقيقة التالوة خارج الصالة ‪ ،‬فال‬
‫تعلق لذلك ِبملوضوع‪.‬‬
‫وكذلك ال يستقيم على الوجه الثاين فإ هن القراءة عليه مل يرد هبا معناها احلقيقي ‪ ،‬بل هي جماز عن‬
‫الصالة كما عرفت ‪ ،‬فالتمسك هبا إَّنا يستقيم على الوجه الثالث‪.‬‬
‫وذلك أنهه ‪ -‬بعد اتفاق األئمة على أ هن القراءة يف الصالة من فرائضها ‪ -‬يقول احلنفية ‪ :‬إ هن‬
‫أي‬
‫الفرض مطلق قراءة آية أو ثالث آايت ‪ -‬على اختالف القولني بني اإلمام وصاحبيه ‪ -‬من ه‬
‫سورة من القرآن ‪ ،‬وأ هن الفاحتة غري متعينة للفرضية ‪ ،‬فإذا صلهى هبا أو بغريها فقد حصل ركن‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن أمر مبطلق القراءة من غري تقييد‬‫القراءة‪ .‬وذلك أل هن قوله تعاىل ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫بفاحتة وال بغريها ‪ ،‬ومقتضى هذا األمر وجوب حتصيل املطلق يف أي فرد من أفراده‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ويشهد لذلك ‪:‬‬
‫‪-1‬‬
‫ما يف «الصحيحني» «‪ »1‬عن أيب هريرة أ هن رجال دخل املسجد فصلهى ‪ ،‬مث جاء فسلهم على‬
‫فصل فإنك مل‬
‫اّلل عليه وسلهم وقال ‪ :‬ارجع ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫النيب عليه الصالة والسالم ‪ ،‬فر هد عليه ه‬
‫ه‬
‫تصل ‪ ،‬فصلهى ‪ ،‬مث جاء فأمره ِبلرجوع ‪ ،‬فعل ذلك ثالث مرات ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ه‬
‫والذي بعثك ِبحلق ما أحسن غريه‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم ‪« :‬إذا قمت إىل الصالة فأسبغ‬
‫تطمئن‬
‫ه‬ ‫تيسر معك من القرآن ‪ ،‬مث اركع حّت‬
‫فكرب ‪ ،‬مث اقرأ ما ه‬
‫الوضوء ‪ ،‬مث استقبل القبلة ‪ ،‬ه‬
‫تطمئن ساجدا ‪ ،‬مث ارفع حّت تطمئن قائما ‪،‬‬
‫ه‬ ‫راكعا ‪ ،‬مث ارفع حّت تعتدل قائما ‪ ،‬مث اسجد حّت‬
‫تطمئن ساجدا ‪ ،‬مث ارفع حّت تستوي قائما ‪ ،‬مث افعل ذلك يف صالتك كلهها»‪.‬‬
‫ه‬ ‫مث اسجد حّت‬
‫يعني عليه يف ذلك‬
‫اّلل عليه وسلهم كيفية الصالة ‪ ،‬وبني له أركاَنا وشرائطها ‪ ،‬ومل ه‬
‫النيب صلهى ه‬
‫علمه ه‬
‫قراءة الفاحتة ‪ ،‬بل‬
‫قال له ‪« :‬اقرأ ما تيسر معك من القرآن»‪.‬‬
‫فلو كانت الفاحتة خبصوصها ركنا لعيهنها له ‪ ،‬وعلمه إايها إن كان جيهلها ‪ ،‬أو وكل به من يعلمه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال صالة إال‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ - 2‬وما روى أبو داود «‪ »2‬عن أيب هريرة من قول ه‬
‫بقرآن ولو بفاحتة الكتاب»‬
‫فإنهه ظاهر يف عدم تعيني الفاحتة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود يف سننه كتاب الصالة ‪ِ ،‬بب القراءة حديث رقم (‪.)819‬‬

‫ص ‪823 :‬‬
‫‪ - 3‬أما غري احلنفية فإَنهم يقولون ‪ :‬إ هن قراءة الفاحتة على التعيني فرض ال جتزئ الصالة برتكها ‪،‬‬
‫أو برتك حرف منها ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إن اآلية ‪ -‬وإن كانت مطلقة ‪ -‬قد قيدهتا األحاديث الصحيحة‬
‫تدل على أ هن خصوص الفاحتة ركن‪ .‬فمن ذلك ‪:‬‬
‫اليت ه‬
‫‪-1‬‬
‫ما رواه السبعة «‪ »1‬عن عبادة بن الصامت أنهه عليه الصالة والسالم قال ‪« :‬ال صالة ملن مل‬
‫يقرأ بفاحتة الكتاب»‬
‫يدل على انعدام الصالة الشرعية ‪ ،‬لعدم القراءة فيها ِبلفاحتة ‪ ،‬وال يكون عدم‬
‫قال ‪ :‬النفي هنا ه‬
‫قراءة الفاحتة موجبا النعدام الصالة إال إذا كانت الفاحتة من فرائضها‪.‬‬
‫يصح أن يق هدر فيه متعلق اجلار‬
‫قالوا ‪ :‬وال يرد على هذا الدليل أنهه مشرتك الداللة وأنهه كما ه‬
‫يصح‬
‫واجملرور الصحة حّت يكون املعىن ‪ :‬ال صالة صحيحة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب ‪ ،‬كذلك ه‬
‫تقديره ِبلكمال ‪ ،‬فيكون املعىن ‪ :‬ال صالة كاملة إخل ومثل هذا ال يصح به االستدالل‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ال يرد هذا ‪ :‬ألن األصل يف مثل هذا املتعلق أن يق هدر كوان عاما ‪ ،‬لعدم القرينة الدالة على‬
‫اخلصوص‪ .‬فاملعىن ‪ :‬ال صالة كائنة أو موجودة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب ‪ ،‬وعدم الوجود شرعا‬
‫هو عدم الصحة ‪ ،‬بل أقوى منه‪ .‬ولو سلهم أنهه كون خاص ‪ ،‬فتقدير الصحة أوىل ‪ ،‬ألن النفي‬
‫يصح أن يتوجه عليها النفي ‪،‬‬
‫متوجه يف لفظ احلديث إىل ذات الصالة ‪ ،‬وإذا كانت الذوات ال ه‬
‫ألنهه من خواص النسب ‪ ،‬وتع هذر بذلك محل اللفظ على حقيقته كان احلمل على أقرب اجملاورين‬
‫أوىل ‪ ،‬وذلك بتقدير الصحة ‪ ،‬فإ هن ما ليس بصحيح أقرب إىل املعدوم مما ليس بكامل‪.‬‬
‫‪ - 2‬وما رواه الدار قطين «‪ »2‬عن عبادة بن الصامت أنهه عليه الصالة والسالم قال ‪« :‬ال‬
‫جتزئ صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب»‬
‫فإ هن عدم اإلجزاء ظاهر جدا يف عدم الصحة‪.‬‬
‫اّلل‬
‫‪ - 3‬وما رواه أمحد ومسلم والرتمذي والنسائي وأبو داود عن أيب هريرة «‪ »3‬أن رسول ه‬
‫أبم القرآن فهي خداج ‪ ،‬فهي خداج ‪،‬‬
‫اّلل عليه وسلهم قال ‪« :‬من صلهى صالة مل يقرأ فيها ه‬
‫صلهى ه‬
‫فهي خداج»‬
‫اخلداج ِبلكسر ‪ :‬النقصان مأخوذ من خداج الناقة ‪ ،‬وهو إلقاؤها ولدها قبل أوانه‪.‬‬
‫اّلل عليه وسلهم فإنهه عليه الصالة والسالم قد واظب على قراءة الفاحتة يف‬
‫النيب صلهى ه‬
‫‪ - 4‬عمل ه‬
‫كل صالة من غري ترك ‪ ،‬فلو ال أَنها ركن لرتكها ولو مرة تعليما وتشريعا‪.‬‬
‫هذه أدلة الفريقني جتدها يف ظاهرها متعارضة ‪ ،‬فكان ال ب هد من النظر فيها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق خترجيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدار قطين يف سننه (‪].....[ .)322 /1‬‬
‫(‪ )3‬سبق خترجيه‪.‬‬

‫ص ‪824 :‬‬
‫وينبغي أن تعلم أوال ‪ :‬أنه ال سبيل إىل دعوى النسخ يف شيء من تلك األحاديث املتعارضة ‪،‬‬
‫ألنه مل يوقف فيها على ُتييز السابق من الالحق ‪ ،‬فال ب هد إذا من أحد أمرين ‪ :‬إما اجلمع بينهما ‪،‬‬
‫وإما ترجيح بعضها على بعض‪ .‬على أنه مّت أمكن أن جيمع بينها فال ينبغي العدول عنه‪.‬‬
‫آن من قبيل املطلق‬‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫واعلم أيضا أنه ال جمال للمناقشة يف أ هن قوله تعاىل ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫‪ ،‬وأ هن من جيادل يف هذا فهو ُياول أن يلوي األساليب العربية عن استقامتها‪ .‬كما أ هن قوله صلهى‬
‫اّلل عليه وسلهم للرجل املسيء صالته ‪« :‬مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن» من قبيل املطلق‬ ‫ه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وعلى هذا أجاب احلنفية عما استدل به خمالفوهم من الشافعية وغريهم مبا أييت ‪:‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ومواظبته على قراءة الفاحتة من‬
‫قالوا على الدليل الرابع ‪ :‬إ هن عمل النيب صلهى ه‬
‫غري ترك ال يدل على الفرضية ‪ ،‬فإنهه عليه الصالة والسالم كما كان يواظب على الفرائض ‪ ،‬كان‬
‫يواظب على الواجبات اليت هي أدىن منها ‪ ،‬وليس ترك الواجب يف بعض األحيان طريقا متعينا‬
‫للتمييز بينه وبني الفرض ‪ ،‬فإ هن التمييز كما يكون ِبلفعل يكون ِبلقول ‪ ،‬كأن يقول هلم ‪ :‬إن ترك‬
‫هذا ال يبطل الصالة ‪ ،‬ولكن ال جيوز أن ترتكوه‪.‬‬
‫أعم من الفساد ‪ ،‬فقد تكون‬
‫وأجابوا عن حديث أيب هريرة ‪ -‬وهو الدليل الثالث ‪ -‬أب هن النقصان ه‬
‫الصالة انقصة مع الصحة أبن تكون مستجمعة شروطها وفرائضها وختلهف شيء من الواجبات ‪،‬‬
‫أو السنن فيها فلضرورة اجلمع بني األدلة املتعارضة ُيمل النقصان على غري الفاحش الذي‬
‫يفسد الصالة ‪ ،‬وهو حممل غري بعيد‪.‬‬
‫وأجابوا عن الدليل الثاين ‪ :‬وهو ما رواه الدار قطين عن عبادة بن الصامت أنهه عليه الصالة‬
‫والسالم قال ‪« :‬ال جتزئ صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب» أب هن رواية اجلماعة عنه أنهه عليه‬
‫الصالة والسالم قال ‪« :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب» أرجح من تلك الرواية ‪ ،‬ألنه ال‬
‫تفرد به غريهم وأل هن كلتا الروايتني ‪ -‬وإن كانت معارضة‬
‫أصح مما ه‬
‫شك أ هن ما اتفق عليه اجلماعة ه‬
‫يصح أن تكون رواية‬
‫بظاهرها إلطالق القرآن ‪ -‬فأقرب الروايتني إليه رواية اجلماعة ‪ ،‬وأيضا فإنهه ه‬
‫فعرب‬
‫الدار قطين ِبملعىن وأ هن الراوي فهم من «ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب» عدم اإلجزاء‪ .‬ه‬
‫بلفظ ‪« :‬ال جتزئ صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب»‪.‬‬

‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬


‫آن‪.‬‬‫ص ‪ 825 :‬فلم يبق إال أن جيمع بني هذه وبني قوله تعاىل ‪ :‬فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد ال تناهض القرآن ‪ ،‬وال تقوى على نسخه ‪ ،‬فلو‬
‫محلنا‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب ‪ ،‬انسخا حلكمه ‪ ،‬أل هن مقتضى الكتاب صحة‬
‫الصالة بكل قراءة ‪ ،‬ولو بغري فاحتة الكتاب ‪ ،‬ومقتضى احلديث على ذلك احململ عدم صحتها ‪،‬‬
‫اّلل ال يرى نسخ الكتاب حّت ِبحلديث‬
‫إال أن يقرأ فيها ِبلفاحتة ‪ ،‬وإذا كان الشافعي رمحه ه‬
‫نص على ذلك يف «الرسالة» فيلزم أال جييز نسخه برواية اآلحاد من ِبب أوىل‪.‬‬
‫املتواتر ‪ ،‬كما ه‬
‫وإذا كانت العربة يف األمور مبعانيها وحقائقها ‪ ،‬ال أبمسائها وألقاهبا فتغيري حكم اآلية بذلك‬
‫احلديث ‪ -‬على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم ‪ -‬تغيري ال خيتلف يف شيء عن تغيري‬
‫النسخ ومسهه بعد ذلك مبا شئت‪.‬‬
‫نص الكتاب ‪ ،‬وما جاء يف حديث‬
‫وعلى هذا ينبغي أن ُيمل احلديث على نفي الكمال ‪ ،‬بدليل ه‬
‫املسيء صالته ‪ ،‬ويكون‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب»‬
‫قوله صلهى ه‬
‫نظري‬
‫قوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال صالة جلار املسجد إال يف املسجد»‬
‫وقوله ‪« :‬ال صالة للعبد اآلبق»‬
‫فإ هن القرينة الدالة على أ هن املراد نفي الكمال متحققة يف اجلميع ‪ ،‬وعلى هذا يتم العمل ِبلقرآن‬
‫واحلديث ‪ ،‬إذ يكون األول مفيدا أ هن مطلق القراءة فرض يف الصالة‪.‬‬
‫والثاين يفيد أ هن قراءة الفاحتة من الواجبات اليت هي دون الفرائض‪.‬‬
‫حمل القراءة املفروضة ‪:‬‬
‫وبعد فالعلماء خمتلفون أيضا يف ه‬
‫فاحلنفية «‪ » 1‬القائلون أبن الفرض مطلق القراءة يقولون ‪ :‬إَنا فرض يف ركعتني من الصلوات‬
‫الرِبعية‪.‬‬
‫هأما القائلون أب هن الفرض خصوص الفاحتة ‪ ،‬فمنهم من يقول بفرضيتها يف كل ركعة من الصالة كما‬
‫هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتني عن مالك‪.‬‬
‫ومنهم من يقول بفرضيتها يف ركعتني كما هي الرواية األخرى‪.‬‬
‫وال نرى أن نعرض هنا هلذه التفاصيل ‪ ،‬ومآخذ األئمة فيها ‪ ،‬فإ هن مرجع ذلك كله احلديث وكتب‬
‫الفروع‪.‬‬
‫اّللِ َوآ َخ ُرو َن يُقاتِلُو َن‬ ‫ض يَ ْب تَ غُو َن ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ه‬ ‫َعلِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِم ْن ُك ْم َم ْرضى َوآ َخ ُرو َن يَ ْ‬
‫ض ِربُو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫اّللِ‪.‬‬
‫يل ه‬ ‫ِيف َسبِ ِ‬
‫الضرب يف األرض ‪ :‬السري فيها ‪ ،‬والسفر للتجارة والتعيش‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر اهلداية شرح بداية املبتدي للمرغيناين (‪.)58 /2 - 1‬‬

‫ص ‪826 :‬‬
‫َعلِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِم ْن ُك ْم َم ْرضى قال بعض املفسرين ‪ :‬هذه اجلملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى‬
‫لتخفيف قيام الليل بعد احلكمة األوىل ‪ ،‬وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته ‪،‬‬
‫أي علم أنه سيكون منكم مرضى إخل كما علم عسر تقدير األوقات عليكم‪ .‬ولكنهك ترى أنه كان‬
‫الظاهر على هذا أن يؤتى ِبجلملة الثانية عَلِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِمنْ ُك ْم َم ْرضى ‪ .‬موصولة ِبألوىل غري‬
‫مفصولة‪.‬‬
‫ِ‬
‫وظاهر كالم اإلمام الرازي «‪ »1‬أن قوله تعاىل ‪َ :‬علِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن م ْن ُك ْم َم ْرضى هو الذي ه‬
‫يبني‬
‫اّلل ذلك؟‬
‫حكمة النسخ ‪ ،‬وأنه جواب لسؤال تقديري ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬مل نسخ ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ألنه علم تعذر القيام على املرضى والضاربني يف األرض واجملاهدين يف سبيل ه‬
‫صوهُ ال مدخل له يف النسخ‬ ‫ِ‬
‫َن ُحتْ ُ‬
‫وهذا التوجيه يدل على أ هن قوله تعاىل فيما سبق َعل َم أَ ْن ل ْ‬
‫والتخفيف ‪ ،‬مع أ هن صريح اآلية خيالفه ‪ ،‬إذ قد رتب عليه الرتخيص ِبلفاء الدالة على التسبب ‪،‬‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن‪.‬‬ ‫تاب َعلَْي ُك ْم فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه َ َ ْ‬
‫وذلك هو قوله تعاىل ‪ :‬فَ َ‬
‫فالظاهر أ هن قوله تعاىل ‪ :‬عَلِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِمنْ ُك ْم َم ْرضى قد جاء جميء التفصيل بعد اإلمجال ‪،‬‬
‫فحكمة النسخ واحدة ‪ :‬هي رفع املشقة املرتتبة على وجوب القيام الطويل يف الليل‪ .‬أمجلت هذه‬
‫جل شأنه ‪َ :‬علِ َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن ِم ْن ُك ْم‬
‫صوهُ مث فصلت يف قوله ه‬
‫َن ُحتْ ُ‬
‫ِ‬
‫احلكمة يف قوله تعاىل ‪َ :‬عل َم أَ ْن ل ْ‬
‫َم ْرضى إخل‪ .‬فليست هذه لبيان حكمة اثنية للنسخ كما أَنا ليست مستقلة ِبلبيان عن ذلك‬
‫اإلمجال‪.‬‬
‫اّلل تعاىل بذلك ثالثة أشياء ‪ ،‬كلها مقتض للتخفيف على الناس يف قيام الليل ‪:‬‬
‫هبني ه‬
‫األول ‪ :‬املرض‪ .‬فاملريض يصعب عليه طول التهجد ‪ ،‬فإ هن السهر الكثري قد يضاعف علته ويزيد‬
‫آالمه‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬الضرب يف األرض للتجارة‪.‬‬
‫اّلل‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬اجلهاد يف سبيل ه‬
‫اّلل مشتغلون يف َنارهم بتلك األعمال‬
‫فإ هن الضاربني للتجارة وابتغاء الرزق ‪ ،‬واجملاهدين يف سبيل ه‬
‫الشديدة ‪ ،‬فلو مل يناموا يف الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوهتم لضعفوا ‪ ،‬وكلهوا ‪،‬‬
‫وانقطعوا عن كثري من جالئل األعمال‪.‬‬
‫اّلل إشارة إىل أ هن‬
‫قال املفسرون ‪ :‬إ هن يف قرن الضرب يف األرض للتجارة ِبجلهاد يف سبيل ه‬
‫الساعني يف معايشهم يقاربون يف األجر اجملاهدين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ ) 1‬انظر تفسري مفاتيح الغيب املعروف أيضا ِبلتفسري الكبري للرازي (‪.)187 /30‬‬

‫ص ‪827 :‬‬
‫اّلل عنه قال ‪ :‬ما من حال أيتيين عليه املوت بعد‬
‫روى البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر رضي ه‬
‫اّلل تعاىل ‪ ،‬وتال‬
‫إيل من أن أيتيين وأان بني شعبيت جبل ألتمس من فضل ه‬ ‫أحب ه‬ ‫اّلل ه‬ ‫اجلهاد يف سبيل ه‬
‫ض إخل‪.‬‬‫ض ِربُو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫هذه اآلية َوآ َخ ُرو َن يَ ْ‬
‫وعن ابن مسعود أنه قال ‪ :‬أميا رجل جلب شيئا إىل مدينة من مدائن املسلمني صابرا حمتسبا‬
‫ض ِربُو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض‪.‬‬ ‫اّلل مبنزلة الشهداء ‪ ،‬مث قرأ ‪َ :‬وآ َخ ُرو َن يَ ْ‬
‫فباعه بسعر يومه كان عند ه‬
‫س َر ِم ْنهُ أعيد هنا هذا األمر لتوكيد الرخصة وتقديرها ‪ ،‬وليعطف عليه ما بعده من‬ ‫فَاق َْرُؤا ما تَيَ ه‬
‫بقية األوامر‪.‬‬
‫صالةَ َوآتُوا ال هزكاةَ اختلف املفسرون يف املراد ِبلصالة والزكاة هنا ‪ ،‬فمنهم من محل‬ ‫يموا ال ه‬ ‫ِ‬
‫َوأَق ُ‬
‫الصالة على املكتوِبت اخلمس ‪ ،‬والزكاة على زكاة الفطر ‪ ،‬قال ‪ :‬ألن اآلية مكية ‪ ،‬وزكاة املال مل‬
‫تفرض إال يف املدينة‪.‬‬
‫وهذا القول مردود من وجهني ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أ هن زكاة الفطر مل جتب إال بعد اهلجرة‪.‬‬
‫خاص ‪ ،‬ومل‬
‫يعني فيها نصاب ه‬
‫الثاين ‪ :‬أ هن الراجح يف زكاة املال أَنها فرضت يف مكة‪ .‬غري أنه مل ه‬
‫حتدد األنواع اليت جتب فيها الزكاة وال القدر الواجب صرفه للفقراء ‪ ،‬إال يف املدينة ‪ ،‬فكان‬
‫الواجب أول األمر أن يصرف للفقري شيء ما من املال ‪ ،‬ويدل لذلك أ هن الزكاة وردت يف آايت‬
‫كثرية مكية ‪ ،‬كما يف صدر سورة املؤمنون‪.‬‬
‫على أ هن هذا التفسري ال يتم يف الصالة إال على القول أب هن هذه اآلية قد أت هخر نزوهلا عن صدر‬
‫السورة بعشر سنني أو أكثر ‪ ،‬حّت فرضت املكتوِبت ليلة املعراج‪.‬‬
‫وبعضهم ‪ :‬محل الصالة على املكتوِبت أيضا والزكاة على زكاة املال ‪ ،‬وفهم كذلك أ هن زكاة املال‬
‫فرضت يف املدينة ‪ ،‬فالتزم القول أب هن هذه اآلية مدنية‪.‬‬
‫وهو مردود أيضا مبا سبق ‪ ،‬وأب هن الراجح ‪ -‬كما علمت أول الكالم على صدر سورة املزمل ‪-‬‬
‫أ هن هذه السورة برمتها مكية‪.‬‬
‫كال من الصالة والزكاة على التطوع قال ‪ :‬أل هن سورة املزمل من أوائل ما نزل من‬
‫وبعضهم محل ه‬
‫القرآن ‪ ،‬واملكتوِبت اخلمس مل تفرض إال ليلة املعراج يف السنة الثانية عشرة من البعثة ‪ ،‬وقال يف‬
‫الزكاة ما قاله صاحب الوجه األول‪.‬‬
‫شى مع الراجح يف اتريخ شرعية الزكاة ‪ ،‬ويتفق مع ما تقدم لك‬
‫واحلق الذي يتم ه‬

‫ص ‪828 :‬‬
‫اّلل عنهما من أ هن آخر سورة املزمل قد نزل بعد صدرها حبول ‪ ،‬أو‬ ‫عن ابن عباس وعائشة رضي ه‬
‫صالةَ َوآتُوا ال هزكاةَ على ظاهره مفيد‬
‫يموا ال ه‬‫ِ‬
‫قريب من احلول ‪ ،‬هو أ هن األمر يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأَق ُ‬
‫للوجوب ‪ ،‬وحتمل الصالة على ما كان مفروضا يف النهار أول األمر ‪:‬‬
‫(ركعتني ِبلغداة وركعتني ِبلعشي) وحتمل الزكاة على املفروضة أيضا ‪ ،‬وهي زكاة املال اليت‬
‫يتم القول ‪ ،‬وال يكون هناك‬
‫فرضت يف السنة اخلامسة من البعثة ‪ ،‬على ما هو الراجح ‪ ،‬وبذلك ه‬
‫إشكال‪.‬‬
‫سناً يف «القاموس» ‪ :‬والقرض (ِبلفتح) ويكسر ‪ :‬ما سلهفت من إساءة أو‬ ‫ضوا ه‬
‫اّللَ قَ ْرضاً َح َ‬ ‫َوأَقْ ِر ُ‬
‫إحسان ‪ ،‬وما تعطيه لتقضاه‪ .‬وفيه أيضا ‪ :‬وأقرضه ‪ :‬أعطاه قرضا‪.‬‬
‫اّلل إعطاء الفقراء واملساكني ما يعينهم‬
‫وحينئذ يكون الكالم من ِبب اجملاز ‪ ،‬إذ املراد من إقراض ه‬
‫وعرب فيه ِبإلقراض‬
‫جل وعال ‪ ،‬ه‬
‫اّلل ه‬
‫يدل على إعطاء ه‬
‫‪ ،‬ويسد خلهتهم ‪ ،‬فاستعمل فيه اللفظ الذي ه‬
‫شك يف‬
‫شك يف حتققه ‪ ،‬كما أ هن القرض لصاحبه ال ه‬
‫‪ ،‬للداللة على أ هن ثوابه مضمون ‪ ،‬وجزاءه ال ه‬
‫حصوله إذا كان املستقرض وفيا كرميا‪.‬‬
‫قال بعض املفسرين ‪ :‬إن املراد ِبلقرض الصدقات املندوبة أمر هبا األمر ِبلزكاة املفروضة ‪ ،‬إذ‬
‫العطف يقتضي املغايرة‪.‬‬
‫ومحله بعض آخر على نفس الزكاة السابقة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ هن حكمة العطف إرادة احلث والتشجيع‬
‫على أداء الزكاة من حيث إَنا معتربة كالقرض ‪ ،‬ال يضيع معروفها ‪ ،‬وال ينقص شيء من ثواهبا ‪،‬‬
‫سناً أدوا الزكاة املفروضة عليكم على أحسن الوجوه ‪ ،‬أبن‬
‫اّللَ قَ ْرضاً َح َ‬ ‫وإ هن معىن َوأَقْ ِر ُ‬
‫ضوا ه‬
‫اّلل‪.‬‬
‫ختتاروها من أطيب األموال وأنفعها للفقراء ‪ ،‬وختلصوا يف ذلك النية ‪ ،‬وترجوا به مرضاة ه‬
‫ولعل الوجه األول هو األرجح‪.‬‬ ‫ه‬
‫َجراً‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوما تُ َق هد ُموا ألَنْ ُفس ُك ْم م ْن َخ ٍْري َجت ُدوهُ ع ْن َد ه‬
‫اّلل ُه َو َخ ْرياً َوأَ ْعظَ َم أ ْ‬
‫َخ ْرياً هو املفعول الثاين لتجدوا ‪ ،‬والضمري املنفصل توكيد للمفعول األول ‪ ،‬وهو ‪ -‬وإن كان‬
‫ويصح أن يكون ضمري فصل‪.‬‬
‫ه‬ ‫ضمري رفع ‪ -‬قد وقع موقع ضمري النصب‪.‬‬
‫أي عمل تقدمونه يف الدنيا ‪ ،‬تبتغون به منفعتكم يف اآلخرة ‪ ،‬سواء أكان متعلقا ِبملال‬
‫املعىن ‪ :‬أ هن ه‬
‫اّلل جزاء أحسن منه وأكثر نفعا‪.‬‬
‫‪ ،‬أم بغريه ‪ ،‬فإنكم تلقون به عند ه‬
‫ضل عليه ِبلوصية ‪ ،‬فقد روي عنه أنه يقول ‪َ :‬جتِ ُدوهُ ِعنْ َد ه‬
‫اّللِ ُه َو َخ ْرياً‬ ‫وفسر ابن عباس املف ه‬
‫َجراً من الذي تؤخرونه إىل الوصية عند املوت‪.‬‬
‫َوأَ ْعظَ َم أ ْ‬
‫وقيل ‪ :‬إن املراد أنه خري مما أبقيتموه ألنفسكم يف الدنيا ‪ ،‬إذ الفرق عظيم بني املتاع الدنيوي‬
‫والنعيم اجلزيل األخروي‪.‬‬

‫ص ‪829 :‬‬
‫اّلل عليه وسلهم ‪« :‬أيهكم‬
‫اّلل صلهى ه‬
‫اّلل بن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ه‬‫روى البخاري «‪ »1‬عن عبد ه‬
‫أحب إليه! قال ‪:‬‬
‫اّلل ما منها من أحد إال ماله ه‬
‫أحب إليه من ماله؟» قالوا ‪ :‬اي رسول ه‬
‫مال وارثه ه‬
‫«إَّنا ماله ما ق هدم ‪ ،‬ومال وارثه ما أ هخر»‪.‬‬
‫اّلل غَ ُف ِ‬ ‫استَ غْ ِف ُروا ه‬
‫جل شأنه القول بطلب االستغفار مما عسى أن يقع يف‬
‫اّلل ه‬
‫يم ختم ه‬ ‫اّللَ إِ هن هَ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َو ْ‬
‫األعمال من اخللل أو التقصري ‪ ،‬ووعد سبحانه ِبلرمحة واملغفرة ملن يلجأ إىل جنابه الكرمي ‪ ،‬إذ‬
‫أخرب أبنهه عظيم املغفرة واسع الرمحة‪.‬‬
‫مت الكتاب بعونه تعاىل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف الصحيح (‪ - 81 ، )226 /7‬كتاب الرقائق ‪ِ - 12 ،‬بب ما قدم من‬
‫ماله حديث رقم (‪.)6442‬‬

You might also like