You are on page 1of 48

‫ترجمة العارف باهلل الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي هللا عنه بقلم د يوسف‬

‫زيدان‬
‫د يوسف زيدان في كتاب عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية‬
‫ترجمة الشيخ العارف باهلل عبد الكريم الجيلي رضي هللا عنه‬
‫‪ :‬حياة الشيخ عبد الكريم الجيلي‬

‫… وتأنف نفسی ?ل ما هو واضع‬ ‫ومنذ كنت طفال فالمعالي تطلبي‬


‫ولي همة كانت وهاهي لم تزل …… على أن لها فوق الطباق مواضع‬
‫تتفق المصادر على أن أسمه « عبد الكريم بن ابراهيم بن عبد الكريم بن خليفة‬
‫» بن أحمد وكنيته « قطب الدين‬
‫ويلقبه البعض بالجيلى والبعض بالجيالني ‪ -‬أو الكيالني ‪ -‬نسبة إلى جيالن‬
‫وجيالن منطقة فارسية تقع جنوب بحر الخزر وشمال جبال البرز ‪،‬وتحدها من‬
‫الشرق طبرستان‬
‫‪ :‬يقول ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان‬
‫جيالن وموتان ابنا كاشج بن يافت بن نوح ‪ ،‬و جيالن اسم لبالد كثيرة وراء‬
‫طبرستان ‪ ،‬ليس فيها مدينة كبيرة وإنما هي قرى في مروج بين الجبال ‪،‬‬
‫)وينسب إليها جيالني وجيلى ‪ ،‬والعجم يسمونها كيالنممعجم البلدان ‪۲۰۸‬‬
‫وينتسب كثير من رجال العلم والدين في التاريخ اإلسالمي إلى جيالن ‪ ،‬فيلقب‬
‫الواحد منهم بالجيلى أو الجيالني‬
‫ولكن هناك من المؤرخين من يفرق بين اللقبين على أساس أنه إذا انتسب‬
‫الشخص إلى البالد يسمى جيالني‬
‫وإذا انتسب إلى واحد من أهلها ‪ ،‬يقال له ‪ :‬جيلی‬
‫) ابن شاكر ‪ :‬فوات الوفيات ‪(4/2‬‬
‫ويذكر صاحب م ?شف الظنون ) أن الجيلى من ذرية الشيخ عبد القادر‬
‫الجيالني المتوفى ببغداد سنة ‪ 561‬هجرية محاجی خليفه ‪? :‬شف الظنون ‪/2‬‬
‫)‪340‬‬
‫وما دام شيخنا ينتسب إلى عبد القادر الجيالني ‪ ،‬وليس إلى جيالن نفسها ‪،‬‬
‫فسوف ندعوه بالجيلى منعا للخلط بينه وبين الشيخ عبد القادر من ناحية ‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى ألن هذا هو اللقب الذي عرف به الجيلي بين معاصريه‬
‫ولد الجيلي في أول محرم سنة ‪ 767‬هجرية ( ‪ 1365‬ميالدية ) كما يقول هو‬
‫بنفسه في ترجمة ذاتية شعرية تضمنتها قصيدته « النادرات العينية » حيث‬
‫‪ :‬يقول‬
‫ففي أول الشهر المحرم حرمة … ظهوری‪ ،‬و بالسعد العطارد طالع‬
‫لستين من سبع على سبعمائة … من الهجرة الغراء سقتنى المراضع‬
‫) الجيلي ‪ :‬قصيدة النادرات العينية ‪ -‬ابيات ‪(334 ، 333‬‬
‫وإن كان الجيلى ينتسب إلى م جيالن ) الفارسية ‪ ،‬إال انه عربي المولد ‪ ،‬فقد ولد‬
‫بقرية من قرى بغداد‬
‫يذكر صاحب ‪ ،‬معجم البلدان ‪ ،‬أن هناك قرية من أعمال بغداد ‪ -‬تحت المدائن (‬
‫)‪ -‬يسمونها " الحيل" وهي بلدة يسكنها أهل جيالن الوافدون على العراق‬
‫لكن الجيلى يخرج من بالد العراق في طلبة العلم وهو لم يتعد العشرين من‬
‫عمره ويتجه إلى الشرق ليزور بالد فارس و يتعلم اللغة الفارسية التي كتب بها‬
‫" بعد ذلك رسالته الصغيرة «جنة المعارف وغاية المريد والمعارف‬
‫ولكن المقام ال يطيب له هناك فيتجه إلى الشرق مرة أخرى حتى يصل إلى بالد‬
‫الهند‬
‫ويظل الجيلى بالهند لفترة قصيرة عامرة بمشاهدات غرائب تلك البالد وعقائد‬
‫أهلها ‪ ،‬وكانت أقامة الجيلى هناك ببلدة تسمى "كوشى" حيث قابل أصحاب‬
‫الديانات األخرى وعرف أسرار عباداتهم ودقائق عقائدهم‬
‫لكن الجيلى لم يستقر طويال بالهند ‪ ،‬فقد كان تواقا للعودة إلى بالد اإلسالم األول‬
‫‪ ،‬وكانت الجزيرة العربية تدعوه دعوة روحية ما لبث أن لبي لها ‪ ،‬فاستقرت به‬
‫يد الترحال والسياحة في بالد اليمن‬
‫فيصل ترحال الجيلي إلى مدينة «زبيد » اليمنية سنة ‪ 796‬هجرية ‪ ،‬مما يعني‬
‫أنه كان آنذاك في التاسعة والعشرين من عمره‬
‫ففي يبدأ التحول الروحي في حياة عبد الكريم الجيلي ‪ ،‬وفي مدينة زبيد اليمنية‬
‫تلك المدنية يتعرف الجيلى على شيخ الصوفية شرف الدين بن إسماعيل‬
‫الجبرتي ‪ ،‬وهو الرجل الذي كان له أكبر األثر في سيرة الجيلى وتصوفه بعد‬
‫ذلك‬
‫لكن الجيلى ظل على حبه لحياة السفر والسياحة ‪ ،‬ولكنه هذه المرة سوف يخرج‬
‫بوجدان الصوفي الذي يسعى للقاء محبوبه عز وجل ‪ ،‬فكان إذا خرج للصحراء‬
‫قاصدا مكة المكرمة ‪ ،‬يشعر بأنه على أعتاب الجناب اإللهي ‪ ،‬وأن كل ما حوله‬
‫من رمال ونجوم وطيور ما هي في الحقيقة إال عالمات على الذات اإللهية التي‬
‫يسعى للتقرب إلى سبحات جمالها القدسي‬
‫أما وسيلة الجيلى إلى مقام القرب ‪ ،‬فهی التزهد فيها سوى هللا ‪ ،‬واالفتقار إليه‬
‫‪ :‬تعالى يقول الجيلي‬
‫جعلت افتقاري فى هواها وسيلتي يا ضعف مشغوف له الفقر شافع‬
‫و جئت إليها راغبا ال مثوبة لكن لها منى إليها أسارع‬
‫سكنت الفال مستوحش من أنيسها و مستأنسا بالوحش وهي روائع‬
‫أنوح فتشجينى حمام سواجع و أبكى فيبكينى غمام هوامع‬
‫وبي من مرض الجفن سقم مبرح ولي من عصى القلب دمع مطاوع‬
‫كما أطلقت عن قيدهن المدامع‬ ‫وقد قيدت بالنجم أهداب مقلتي‬
‫في أواخر سنة ‪ 799‬هجرية ‪ ،‬وهناك يلتقي بأهل ويصل الجيلي إلى مكة‬
‫التصوف المجاورين حول بيت هللا الحرام‬
‫ويحكي لنا الجيلي أن الصوفية بمكة وقتها ‪ ،‬اجتمعوا للكالم عن اسم هللا األعظم‬
‫الذي ال يعرفه إأل خاصة أولياء هللا ‪ ،‬فاتفقوا فيما بينهم على أن أسمه تعالى‬
‫» األعظم هو اسمه تعالى « هو‬
‫ولكن الجيلى شعر في قرارة نفسه ‪ ،‬وبحسه الصوفي المرهف أن «هو» اسم‬
‫شريف للذات اإللهية ‪ ،‬ولكنه ليس اسم هللا األعظم واحتج الجيلى بأن «هو»‬
‫! اشارة إلى « الغائب » ولكنه يرى هللا بعين قلبه « حاضرة في كل ما حوله‬
‫)الجيلي ‪ :‬اإلنسان الكامل(‬
‫‪ ،‬متفردة في وحدته ‪ ،‬غريبا في ويواصل الجيلي سياحته الصوفية في بالد هللا‬
‫الديار التي يحل بها حتى إذا عرف في تلك الديار ارتحل عنها إلى مكان آخر ال‬
‫يشغله فيه أحد عن مجاهداته الروحية‬
‫وجهوده العلمية التي تنوعت حتى شملت علوم اللغة وعلوم القرآن والديانات‬
‫القديمة التي بدأ يناقشها في مؤلفاته ‪ ،‬وهكذا كانت سياحة الجيلي معينة له على‬
‫تحصيل العلوم المتنوعة من جهة ‪ ،‬وكانت من جهة أخرى ‪ :‬رحلة روحية في‬
‫وفي رحلة كهذه ‪ ،‬يزداد الشوق مع كل خطوة ‪ ،‬وال يبقى مطلبة عالم األنوار‬
‫‪ :‬يؤمل غير « الذات اإللهية » وذلك ما عبر عنه الجيلي في شعره حين قال‬
‫سقاني الهوى كأس الغرام ولم يكن على ساحة الوجدان بالكرم مانع‬
‫فقاطعت ندماني وواصلت لوعتي و هاجرت أوطاني فبانت مرابع‬
‫ووجدا ً بنار قد حوتها األضالع‬ ‫تركت لها األسباب شغالً بحبها‬
‫)الجيلي ‪ :‬النادرات العينية(‬
‫فيرى األزهر الشريف ويجتمع بعلمائه ‪ ،‬وكان ذلك ويصل الجيلي إلى القاهرة ‪،‬‬
‫في سنة ‪ 803‬هجرية ‪ ،‬حيث انتهى في القاهرة من تأليف كتابه « غنية أرباب‬
‫السماع » الذي جمع فيه بين موضوعات التصوف والموضوعات البالغية‬
‫لكن الجيلي ال يزال على شوقه الدائم الذي ال يهدأ‬
‫فنراه في نفس السنة بمدينة غزة ‪ ،‬في طريقة إلى ساحل فلسطين‬
‫وهناك يشتد به الحنين إلى شيخه شرف الدين الجبرتي ‪ ،‬وكأنه يشعر بقرب‬
‫وفاة أستاذه ‪ ،‬فيصل إلى زبيد اليمن قبل وفاة الجبرتي بعام واحد‪ ،‬أي في سنة‬
‫‪ 805‬هجرية‬
‫‪ ،‬وقد كونوا مدرسة يجد الجيلي حوله مريدی شيخه الجبرتي وفي زبيد اليمن‬
‫صوفية عظيمة مقرها مسجد الجبرتى بزبيد‬
‫زبيد اسم واد في الجانب الغربي من بالد اليمن ‪ ،‬وبه مدينة كان يقال لها و (‬
‫الحصيب ‪ ،‬ثم غلب عليها اسم الوادي فال نعرف إال به ‪ ،‬وهي مدينة مشهورة‬
‫))بين مدن اليمن ينتسب إليها جمع كبير من العلماء ممعجم البلدان ‪131/3‬‬
‫ويلبث الجيلى هناك حينا من الدهر ينتهي فيه من كتابه الشهير "اإلنسان‬
‫الكامل" وهو الكتاب الذي قامت عليه شهرة الجيلي ?فيلسوف صوفي‬
‫وتحدثنا المصادر التاريخية أن الجيلى تنقل بعد ذلك بين مدن اليمن ‪ ،‬فزار‬
‫«صنعاء » وبلدة " اإلنفة" وغيرها من البلدان‬
‫ولم يكف عن سياحاته التي تذكرنا بهذه األبيات الشعرية التي انشدها الصوفي‬
‫‪ :‬المسلم أبو بكر الشبلي والتي يقول فيها‬
‫تسربلت للحرب ثوب الغرق … وهمت البالد لوجد القلق‬
‫فإذا خاطبوني بعلم الورق … برزت عليهم بعلم الخرق‬
‫يقصد الشبلى م المتوفی ‪ 334‬هجرية ) بعلم الخرق ‪ ،‬العلم اللدني الذي يلقيه (‬
‫هللا في قلوب اوليائه في ش?ل مكاشفة نورانية ‪ ،‬وهو بذلك يختلف عن العلم‬
‫) الكسبي الذي يشير إليه بعلم الورق‬
‫فإذا كان الجيلي في بدايته م قلقا ) ال يفتأ يرحل من أرض األرض ‪ ،‬وهويرمي‬
‫بكل قصده نحو الذات اإللهية‬
‫فإن الجيلي في نهايته م متوحدا ) بما ناله من كماالت ‪ ،‬متفردا فيما وصل إليه‬
‫من مقامات و مشاهدات ذوقية ‪،‬ال يرى فيمن حوله من وصل إلى مقامه‬
‫الروحي مع هللا‬
‫خاصة وقد وصف عصره بأنه « عصر فقدت فيه شموس الجذب من سماء‬
‫قلوب المريدين ‪ ،‬وأفلت بدور الكشف من سماء أفالك السائرين ‪ ،‬وغربت نجوم‬
‫)العزائم من همم القاصدين ماإلنسان الكامل ‪4 / 1‬‬
‫وليس غريبا أن يصف الجيلى عصره بهذه الصفات ‪ ،‬فقد كان هذا العصر بداية‬
‫المراحل التدهور واإلنحطاط في تاريخنا اإلسالمي والتي بدأت مع القرن‬
‫التاسع والعاشر الهجريين‬
‫‪ :‬ويتحدث الجيلى في شعره عن تفرده بين أهل زمانه وغربته عنهم بقوله‬
‫مائي في األحياء إن عشت صاحب … ومالي حقا لو أموت مشايع‬
‫وهذا اإلحساس بالتوحد ‪ ،‬لم يكن عبد الكريم الجيلى أول من حدثنا عنه في‬
‫تاريخ التصوف اإلسالمي‬
‫فقد نجد هذا الشعور لدى عامة أقطاب التصوف من أمثال السهروردي وابن‬
‫العربي الحاتمي الطائي‬
‫انظر مثال هذا األحساس بالتوحد في تلك الشكوى المريرة التي اختتم شهاب‬
‫"الدين السهروردي م ‪ 586 : 550‬هجرية ) كتابه " المشارع والمطارحات‬
‫‪ :‬حيث يقول‬
‫ولوال انقطاع السير إلى هللا في هذا الزمان ‪ ،‬ما كنا نغتم ونأسف هذا التأسف‬
‫وهوذا سني قد بلغ إلى قرب ثالثين سنة ‪ ،‬وأكثر عمري في األسفار واالستخبار‬
‫والتفحص عن مشارك مطلع ‪ ،‬ولم أجد من عنده خبر من العلوم الشريفة ‪ ،‬وال‬
‫من يؤمن بها م السهروردي ‪ :‬المشارع والمطارحات م نشرة كوربان ‪-‬‬
‫) استانبول ) م ‪505‬‬
‫هكذا قضى الجيلى حياته في سياحة صوفية متواصلة ‪ ،‬عرف فيها الكثير من‬
‫العلوم ‪ ،‬وشاهد العديد من آيات خلق هللا‬
‫فهل وصل الجيلي إلى ما كان يريد ‪ ،‬ال نظن ذلك ‪ ،‬فالصوفي يقضي اللحظة‬
‫األخيرة من حياته ‪ ،‬وهو ال يزال على شوقه األول ‪ ،‬وحنينه الدائب إلى العالم‬
‫األعلى الذي تعلق به في حياته‬
‫فإذا لفظ الصوفي الصادق انفاسه األخيرة ‪ ،‬هللت مالئكة الرحمن مرحبة ‪ ،‬فقد‬
‫آن للمتسفر الغريب أن يرى حماه‬
‫لكن األخبار تضطرب في تحديد وفاة الجيلى أشد االضطراب ‪ ،‬إذ يرى صاحب‬
‫"?شف الظنون" أنه توفي بعد سنة ‪ 805‬هجرية‬
‫ويبدو أن حاجي خليفة قد أخذ آخر السنوات التي ذكرها الجيلي في كتاب‬
‫«اإلنسان الكامل» ثم جعل تاريخ وفاته بعد ذلك‬
‫! وفاته أن الجيلى ألف العديد من الكتب بعد ذلك‬
‫أما المستشرق االنجليزی ر نی?لسون ‪ ،‬فقد ذكر في « دائرة المعارف‬
‫اإلسالمية » أن وفاة الجيلي كانت حوالي ‪ 820‬هجرية‬
‫)دائرة المعارف اإلسالمية "الترجمة العربية" الجزء الخامس ‪ ،‬ص ‪(27‬‬
‫ويقول "جولد تسيهر" إن تاريخ وفاة عبد الكريم الجيلي غير مؤكد‬
‫)ويجعله ما بين ‪ 811‬و ‪ 820‬هجريةم‪1‬‬
‫ويتفق ماسينيون الفرنسي وبروكلمان األلمانيم‪ )۳‬على أن الجيلي توفي سنة‬
‫‪ 832‬هجرية = ‪ 1428‬ميالدية‬
‫ولم يذكر واحد من أصحاب التواريخ السابقة ‪ ،‬المصدر الذي اعتمد عليه فيما‬
‫! أورده ‪ ،‬كذلك لم يذكر أي منهم المكان الذي توفي فيه عبد الكريم الجيلي‬
‫وينقل صاحب كتاب م الصوفية والفقهاء في اليمن ) عن مخطوط لبدر الدين‬
‫األهدل م هو بدر الدين عبد الرحمن بن حسين األهدل ‪ ،‬من علماء اليمن‬
‫المشهورين له مؤلفات عديدة من أشهرها كتابه م ?شف الغطاء ) واألهدل من‬
‫) أعداء التصوف وهو من أشد الفقهاء المنكرين على الصوفية‬
‫عنوانه م تحفة الزمن بذ?ر سادات اليمن ) أن الجيلى من الصوفية الوافدين‬
‫على اليمن وأنه توفي بمدينة زبيد ‪ ،‬سنة ‪ 826‬هجرية‬
‫ونرى األخذ بالتاريخ األخير ‪ ،‬حيث أن األهدل ‪ -‬المتوفي ‪ 855‬هجرية –‬
‫أقرب إلى الجيلي بحكم المعاصرة ‪ ،‬وكان على خالف ف?ری مع الجيلي‬
‫وغيره من صوفية اليمن‬
‫لهذا يكون تاريخ وفاة الجميل الذي أثبته األهدل هو أقرب التواريخ إلى الصحة‬
‫وكذلك األمر بالنسبة للمكان الذي توفي فيه الجيلي ‪ ،‬وهو مدينة " زبيد"‬
‫اليمنية‬
‫فقد كان لدى الجيلي من األسباب ما يدعوه للبقاء بزبيد والعودة إليها من‬
‫سياحاته الدائمة ‪ ،‬وال يقدح في ذلك أن نجد للجيلى قبرا في مسجد يحمل إسمه‬
‫ببغداد ‪ ،‬فعادة ما نجد لمشاهير الصوفية أكثر من م مقام ) يعتقد الناس مع‬
‫مرور الزمن أنه مدفون فيه‬
‫ومن الغريب في هذا األمر أن تجد للصوفي المعروف أبي يزيد البسطامي ‪-‬‬
‫رغم قبره الشهير ببسطام ‪ -‬قبرا آخر في مسجد كبير يحمل اسمه بإحدى بالد‬
‫صعيد مصر ميوجد هذا المسجد ببلدة "ساقلته" التابعة لمحافظة سوهاج ‪،‬‬
‫) ومساحته حوالى ‪ 250‬م‬
‫ويؤكد الناس هناك ‪ ،‬أن أبا يزيد البسطامي مدفون فيه‬
‫وعلى ذلك ‪ ،‬يكون الجيلى قد ولد ببغداد سنة ‪ ، 767‬وتوفي بزبيد اليمن سنة‬
‫‪ 826‬هجرية‬
‫وبذلك تكون حياته قد امتدت إلى تسع وخمسين سنة ‪ ،‬قضى معظمها في‬
‫… السياحة والمجاهدة الروحية وتحصيل العلوم‬
‫ثانيا شيوخ ومعاصروا الشيخ عبد الكريم الجيلي‬
‫…… لهم من كتاب الحق تلك الوقائع‬ ‫وشمر ولذ باألولياء فإنهم‬
‫هم الذخر للملهوف والكنز للرجا … ومنهم ينال الصب ما هو طامع‬
‫في الطريق الصوفي ‪ ،‬يحتل موضوع « الشيخ والمريد » مكانة بارزة‬
‫ويؤكد الصوفية على أهمية الشيخ بالنسبة للمريد المبتديء في طريقه إلى الحق‬
‫عز وجل‬
‫وتكمن ضرورة الشيخ في كونه صاحب تجربة ومشاهدات تمكنه من رعاية‬
‫المريد واألخذ بيده حتى ال يختلط عليه األمر إذا عاين بعض الحقائق اآللهية‬
‫مما ال عهد له بها‬
‫ويبدو أن الجيلى قد عرف شيوخ التصوف الذين استمد منهم أصول التصوف‬
‫ببالد اليمن فمن أوائل الصوفية الذين التقى بهم الجيلي في بداية نزوله أرض‬
‫اليمن ‪ ،‬الفقية الصوفي جمال الدين محمد بن إسماعيل المكدش‬
‫الذي كان مقيما ببلدة " اآلنفة" حتى توفي بها سنة ‪ 789‬هجرية‬
‫ويقول الجيلى أنه نال بركات كثيرة من هذا الشيخ ‪ ،‬وإن كانت مالزمة‬
‫) الجيلى له لم تدم طويال مالجيلى ‪ :‬المناظر االلهية ص ‪۷۸‬‬
‫وفي بالد اليمن أيضا ‪ ،‬تعرف الجيلي على سيرة الصوفي اليمني ابن جميل ‪،‬‬
‫فأعجب به أعجابا شديدا وذكره في العديد من كتبه‬
‫ويعتبر أبو الغيث بن جميل ‪ ،‬الملقب « بشمس الشموس » من أكبر صوفية‬
‫القرن السابع الهجري‬
‫يحكي عنه انه كان في شبابه الهيا ‪ ،‬فخرج ذات مرة مع رفقة سوء لقطع‬
‫الطريق ‪ ،‬فوكلوه بمراقبة قافلة قادمة‬
‫وبينما هو يترقب القافلة سمع هاتف خفية يقول له ‪ :‬يا صاحب العين ‪،‬عليك‬
‫) العين مالصوفية والفقهاء ص ‪۱۰‬‬
‫فوقع هذا الكالم في نفسه وكف عن قطع الطريق وسلك طريق الصوفية وعاش‬
‫حياة الزهد والتقشف حتى توفي ‪ 651‬هجرية‬
‫بعد أن نال شهرة واسعة بين الصوفية لما كان يروى عنه من ?رامات مفيما‬
‫يتعلق بسيرة الزاهد الصوفي ابن جميل و?راماته ‪ ،‬يمكن الرجوع إلى اليافعي‬
‫) "فى "روض الرياحين في نشر المحاسن الغالية ‪ -‬مرآة الجنان‬
‫وهكذا تعرف الجيلي على شيوخ التصوف سواء من المعاصرين له أو السابقين‬
‫عليه‬
‫ولكن شيخه الحقيقي في طريق التصوف ‪ ،‬كان ‪ :‬شرف الدين الجبرتي‬
‫و في مدينة « زبيد » يلتقي الجيلي بشيخه الجبرتي ‪ ،‬الذي عرفه بأصول‬
‫التصوف ودقائق الحياة الروحية التي سيحياها بعد ذلك‬
‫وقد ظل الجيلى وفيا الستاذه الجبرتي فلم يقل عن واحد من كبار الصوفية ‪-‬‬
‫سواء المعاصرين له أو السابقين عليه ‪ -‬إنه شيخه في الطريق عدا « الجبرتي ‪،‬‬
‫الذي دعاه الجيلى « بأستاذ الدنيا وشرف الدين ‪ ،‬سيد األولياء المحققين والقطب‬
‫)الكامل والمحقق الفاضلمالجيلي ‪ :‬اإلنسان الكامل ‪24 / 2‬‬
‫)غريب األولياء و محل نظر هللا إلى هذا العالم مالجيلى ‪ :‬المناظر األلهية ‪43‬‬
‫القطب األكبر والكبريت األحمر"الجيلى ‪ :‬الكهف والرقيم "مخطوط" ورقة‪11‬‬
‫)"‬
‫‪ ،‬منها هذه القصيدة التي نظمها على طريقة وقد ألف عدة قصائد شعرية في شيخه الجبرتي‬
‫‪ :‬الغزل الرمزي‬
‫بشراه يا بشراه ذا مطلوبه‬ ‫وافى المحبّ فزاره محبوبه‬
‫من فرحة داوى السقيم طبيبه‬ ‫قدم الحبيب بعيد هجر يا لها‬
‫ينآد أم يا ردف أنت كثيبه‬ ‫يا قده العسال هل هذا القنا‬
‫لكن هداني للسالفة طيبه‬ ‫وبخاله المسكي تهت عن التقى‬
‫" الخال هو عالمة الحسن ‪ ،‬وهو النقطة السوداء الدقيقة "‬
‫نظمت على مرجان فيه حبوبه‬ ‫أ َب ُرود ثغر هذا األقاح ولؤلؤ‬
‫أي خد يومك هل يجيء غروبه‬ ‫أي شعر ليلك هل يضيء صاحبه‬
‫وتصيب قلبي أم فداك نصيبه‬ ‫كسنة أم أسهم تلك المقى‬
‫هب أنني هدف ألست تصيبه‬ ‫أقسى حاجبه إلى آم قسوة‬
‫يا أيها الرقبا أميت رقيبة‬ ‫يا أيها الواشون ال كان الوشا‬
‫لوال كما ض ّم الحبيب حبيبه‬ ‫هَّلل فقد كما عدمت لقاكما‬
‫سحرا ً فيحيي المستهام هبوبه‬ ‫أفلستما ترياه يرسل نشره‬
‫خوف الرقيب فال يبين رقيبه‬ ‫أنا من يض ّم حبيبه عند اللقا‬
‫حتى اجترى خوض الدجى مركوبه‬ ‫لم أنس صبحا ً بالهنا آنسته‬
‫ي خطوبه‬ ‫يم ّ‬‫ما صدّه عن ح ّ‬ ‫شرع‬‫ركب األسنة والذوائب ّ‬
‫می معشوقة عربية يشير بها الجيلي إلى "مكان الشيخ" بحي مي في الحب فى هللا بمعناه الواسع "‬
‫" بما فيه من خطوب وابتالئات‬
‫فاشت ّد منها بالعنان نجيبه‬ ‫كادت نجائب عزمه تكبو بها‬
‫نيشان صدق برقه مسكوبه‬ ‫وطرقت سعدى والسهام كأنها‬
‫سعدی م?ان س?نته قبيلة عربية قديما وتستخدم بكثرة فى شعر الغزليات المكتوبة بالفارسية فى "‬
‫"الشعر الصوفي‬
‫لم يدع إاله باألهيل غريبه‬ ‫حتى أنخت مطيتي في منزل‬
‫عنقاؤه فوق السماك تريبه‬ ‫دار بها للسعد مغنى مغرب‬
‫" العنقاء طائر أسطوري ‪ --‬السماك نجم في السماء "‬
‫فالجود جود فنائها وخصيبه‬ ‫دار بها ح ّل المكارم والعال‬
‫أسماء و إسما وسمه ونسيبه‬ ‫دار بها إسماعيل أسمى من سما‬
‫فاح الشمال بعطره وجنوبه‬ ‫ملك الصفات وكامل الذات الذي‬
‫ما بينما موهوبه وسليبه‬ ‫َّللا تحت لوائه‬
‫ملك ملوك ه‬
‫نسر وفى مخ النسور خليبه‬ ‫أسد دم اآلساد غمد حسامه‬
‫فوق الرؤوس على الملوك وهيبه‬ ‫بحر آللي التاج من أمواجه‬
‫فلك الوالء محيطه وعجيبه‬ ‫قطب الحقيقة محور الشرع الضيا‬
‫جز الرقاب دوينهن رقيبه‬ ‫ه‬ ‫وأخو التمكن من صفات طالما‬
‫بل واهب بدمي ولحمي ذيبه‬ ‫درك من مليك ناهب‬ ‫هَّلل ّ‬
‫ويذ ّل من هو شاء فهو حسيبه‬ ‫ّ‬
‫ويعز بالملك العقيم من ابتغى‬
‫يا ذا الجبرتي الجبور طبيبه‬ ‫يا ابن إبراهيم يا بحر الندى‬
‫صباغة صبغ المحبّ حبيبه‬ ‫ألعبدك الجيلي منك عناية‬
‫عبد الكريم ومنك يرجى طيبه‬ ‫شك وهو ذا‬‫أنت الكريم بغير ّ‬
‫أضياف جودك إذ يع ّم سكوبه‬ ‫والسامعون وناشدوه جميعهم‬
‫إاله الخزامى قد تنشر طيبه‬ ‫ما أنت يا غصن النقا بالمنحني‬
‫"الخزامى ‪ :‬ريح طيبة الرائحة"‬
‫من أجله هجر المنام كثيبه‬ ‫قسما ً بمكة والمشاعر والذي‬
‫كال وليس سواكم مطلوبه‬ ‫ما حبّ قلبي قط شيئا ً غيركم‬
‫ولدينا طائفة من المشاهير ‪ ،‬يلقب الواحد منهم بلقب « الجبرتي » نسبة إلى «جبرت » وهي‬
‫بليدة صغيرة بأطراف اليمن‬
‫)العسقالني ‪ :‬تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ‪ ،‬القسم األول ص ‪(367‬‬
‫‪ :‬لكن من يعنينا منهم اآلن هو شيخ الجيلي‬
‫‪ ،‬المتوفى ‪ 806‬هجرية شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم بن ابی ب?ر الجبرتي‬
‫‪ ،‬يقول المزجاجی المؤرخ ‪« :‬عندما حان وقت توليه الشيخ كان الجبرتي شيخ صوفية في وقته‬
‫اسماعيل الجبرتي مشيخة الصوفية ‪ ،‬وذلك بعد أن كثر أتباعه واشتهر أمره ‪ ،‬اجتمع الصوفي‬
‫الكبير رضي الدين أبو بكر الموزعي بالشيخ ابی ب?ر السراج ‪ -‬صاحب قرية السالمة ‪ -‬فأشار‬
‫عليه بأن ينصب الجبرتي ‪ ،‬فقبل منه ذلك ‪ ،‬وانتظر حتى جاء وقت السماع‬
‫السماع مجلس صوفي يجتمع فيه األخوان لذكر هللا ‪ ،‬وقد تستعمل فيه بعض اآلالت الموسيقية ‪( ،‬‬
‫يقول الهجويري في كتابه م ?شف المحجوب ‪ ) 647 / 2‬إن فريقا من العلماء أجمع علي إباحة‬
‫السماع باالدوات الموسيقية إذا لم يكن هذا السماع سبيال إلى االرتداد وال منتهية بالعقل إلى السير‬
‫في طريق الضالل ‪ :‬ولكن بعض أصحاب الطرق يقومون بالرقص في مجالس السماع ‪ ،‬وذلك‬
‫أمر عبر مرغوب فيه وانظر أيضا مناقشة الغزالي لموضوع السماع في كتابه " إحياء علوم‬
‫) الدين ‪ 237 / 2‬وما بعدها‬
‫الحبشي ‪ :‬الصوفية ( فقام في تالمذته ‪ ،‬وألبس الجبرتى عمامته ‪ ،‬وقال لهم ‪ :‬قد نصبته عليكم شيخ‬
‫) والفقهاء ص ‪25‬‬
‫وهذا النص السابق للمزجاجي ‪ ،‬يظهرنا على أن تولية الجبرت لمشيخة الصوفية ‪ ،‬كانت بعد‬
‫شهرة واسعة أهلته لهذا المنصب الروحي‬
‫وأن هذا التنصيب كان في اجتماع صوفي كبير يشهد بازدهار الحياة الصوفية في اليمن آنذاك‬
‫كما يظهر من النص أن مجالس السماع الصوفي كانت منتشرة في تلك البيئة التي سيأتي الجيلى‬
‫بعد ذلك ليعيش فيها‬
‫وقد تكرر ذكر الجيلى لهذه السماعات الصوفية ‪ -‬التي كانت تقام هناك في مناسبات مختلفة ‪ -‬في‬
‫العديد من مؤلفاته‬
‫ويرجع الفضل للشيخ الجبرتي في تطوير المراسم الصوفية ببالد اليمن‬
‫فقد عمل على تطوير مجالس السماع التي أدخل عليها أشياء جديدة ‪ ،‬فكانت جلسة السماع‬
‫تستغرق في بعض األحيان الليلة بأكملها ‪ ،‬وكان يحضرها بعض الحكام وقد كانت للجبرتي‬
‫نظرة خاصة لمجلس السماع‬
‫فكان يقول لتالمذته ‪ :‬السماع حرام على من لم يعرف معانيه ‪ ،‬وهو لمن فتح عليه في التصوف‬
‫وإال فهو حرام على كل شخص‬
‫وقد حبب الجبرتي تالمذته في مجالس السماع ‪ ،‬حتى أنه يحكى أن أحدهم ‪ ،‬وهو الصوفي محمد‬
‫! بن شافع ‪ ،‬قد مات في سماع صوفي بعد أن اشتد هياجه ووجده‬
‫‪ ،‬وادخال التصوف الذي تمتزج ما يرجع الفضل للجبرتي في رواج الفكر الصوفي في اليمن?‬
‫فيه الفلسفة بالكشف الصوفي‬
‫وذلك باهتمامه بمؤلفات محي الدين بن العربي الحاتمي الطائي فقد كان الجبرتي في أول أمره‬
‫متبعا للطريقة القادرية ‪ ،‬لكنه ?ون بعد ذلك مدرسة خاصة قامت على أفكار ابن العربي الحاتمي‬
‫وروجت له في بالد اليمن ‪ ،‬خاصة مدينة زبيد ‪ ،‬واحتضن الجبرتي في مدرسته أنصار الطائي‬
‫الشيخ األكبر ابن العربی ?الرداد والمزجاجي وغيرهم‬
‫) الحبشي ‪ :‬الصوفية والفقهاء ص ‪(79‬‬
‫وعلى هذا النحو ‪ ،‬كانت للجبرتي مدرسته الصوفية ‪ ،‬التي عملت على إحياء التصوف في بالد‬
‫اليمن‬
‫مما أثار ضيق الفقهاء الذين كانوا على عداء للصوفية‬
‫لكن هؤالء الفقهاء لم يمكنهم عمل شیء حيال ذلك ‪ ،‬لما كان للشيخ الجبرتي من سلطة روحية‬
‫" واسعة ومن تقرب الحكام له ‪ ،‬خاصة سالطين " بني رسول‬
‫دولة بني رسول ‪ ،‬هي دولة سنية حكمت اليمن حتى الربع األول من القرن التاسع الهجري ‪( ،‬‬
‫أسس هذه الدولة الملك المنصور عمر بن على بن رسول ر الذي كان حكمة من ‪647 :629‬‬
‫هجرية ) ثم تولى بعده ابنه المظفر يوسف بن علي ‪ ،‬ثم المجاهد والمؤيد و األفضل واألشرف ‪،‬ثم‬
‫)الملك الناصر الذي توفي ‪ 827‬هجرية‬
‫حتى أن سلطة الجبرتي تعدت في بعض األحيان ممارسة الشعائر الصوفية ‪ ،‬إلى القيام بأصدار‬
‫أحكام في حق المخالفين والمعادين للصوفية‬
‫ثم تؤول الزعامة الروحية لهذه المدرسة ‪ ،‬وللحياة الصوفية في زبيد بعد الجبرتي الى تلميذه ‪-‬‬
‫وصديق عبد الكريم الجيلي ‪ -‬الشيخ احمد الرداد‬
‫ويمكننا اآلن في ضوء ما تقدم ‪ ،‬أن نحدد األسباب التي دعت الجيلى الى تفضيل مدينة زبيد على‬
‫غيرها من المدن التي زارها‬
‫فكان إن سافر عنها للسياحة ال يلبث أن يعود اليها يحدوه الشوق إلى هناك ‪ ،‬حتى وافته بها المنية‬
‫سنة ‪ 826‬هـ كما ذكرنا من قبل‬
‫‪ :‬وهذه األسباب هي‬
‫كانت زبيد مقرة للشيخ الجبرتي ‪ ،‬وقد ارتبط الجيلى بهذه الشخصية الصوفية ارتباطا قويا ‪ :‬أوال‬
‫‪ ،‬كما ظهر لنا من كالمه عنه ‪ ،‬ومن قصائده فيه‬
‫وعادة ما نجد الصوفي يرتبط بشيخ يأخذ منه الطريق ويظل دائما وفيا لذكراه ‪ ،‬وهناك أمثلة‬
‫عديدة على ذلك في التصوف االسالمی ?ارتباط الشاذلي بالشيخ عبد السالم بن مشيش وارتباط‬
‫الشيخ األكبر ابن العربی بشيخه أبي مدين ‪ ،‬وغير ذلك الكثير وعموما فمن الصوفية من يقول‬
‫! بأن من ال شيخ له ‪ :‬فالشيطان شيخه‬
‫كانت زبيد في الوقت الذي وفد اليها فيه الجيلى حافلة برجال التصوف ‪ ،‬سواء من أهل ‪ :‬ثانيا‬
‫البالد ?شيخه الجبرتي وصديقة احمد الرداد وابي بكر السراج ‪ ،‬أو من الوافدين عليها كالمقدسي‬
‫والكرماني وابراهيم القاری وقطب الدين بن مزاحم‬
‫وقد كان ذلك من األسباب القوية التي جعلت الجيلي يتعلق بمدينة زبيد ‪ ،‬فالصوفي ال يتنفس إال‬
‫» في جو روحی مالئم ‪ ،‬أو بعبارة صوفية « بين األخوان‬
‫وقد رأينا كيف رحل ابن العربي الحاتمي من األندلس الى الشام بحثا عن هذا الجو الروحي‬
‫المالئم‬
‫وكذلك الصوفي األندلسي الكبير عبد الحق بن سبعين الذي جاء إلى مصر من بالد المغرب حتى‬
‫انتهى به المطاف إلى بالد الحجاز ‪ ،‬وغير ذلك الكثير من األمثلة‬
‫كانت للصوفية مكانة مرموقة عند الحكام آنذاك ‪ ،‬فكان ملوك بني رسول يقربون رجال ‪ :‬ثالثا‬
‫التصوف إليهم ‪ ،‬فقد كان الملك المجاهد يعتقد في الشيخ الجبرتي وأمثاله ويحسن الظن بهم‬
‫)مالصوفية والفقهاء في اليمن ص ‪49‬‬
‫ويقول المؤرخ اليمني يحيى بن الحسين إن الملك الناصر و أحدث في آخر مدته أحداثا غير‬
‫مستحسنة منها تقريب المبتدعة من المتصوفة‬
‫‪ ،‬األولى أخذت بظاهر كالمه من الذين عملوا بالمتشابهات من كالم ابن العربي وهم فرقتان‬
‫فعطلت ‪ ،‬والثانية تناولت م باطن ) كالمه كالجيلي والرداد ومجد الدين الشيرازي صاحب‬
‫) القاموس ميحيی بن الحسين ‪ :‬غاية األماني في أخبار القطر اليماني ‪569 /2‬‬
‫وقد بلغ تقريب الحكام للصوفية أن «كان النفوذ دولة الصوفية في تلك الفترة ‪ ،‬المرتبة الثانية بعد‬
‫)سلطة بنی رسول مباشرة » م الصوفية والفقهاء ص ‪48‬‬
‫أدت مكانة الصوفية لدى الحكام في تلك الفترة ‪ ،‬إلى وجود مناخ مالئم ‪ ،‬وجو من الحرية ‪ :‬رابعا‬
‫الفكرية والعملية بالنسبة للمتصوفة‬
‫فقد «توسع الصوفية في إظهار شعاراتهم ‪ ،‬وعقدت مجالس السماع في أكثر مساجد زبيد دون أي‬
‫أعتراض من قبل الدولة‬
‫وراجت بزبيد كتب الشيخ األكبر ابن العربي الحاتمي الطائي التي كانت تباع وتشترى باألسواق‬
‫‪ ،‬وتوافد الى المدينة في حكم بني رسول وافدون من صوفية شتى البلدان في صورة دراويش‬
‫) الصوفية والفقهاء ص ‪ »(82‬وزهاد متنسكين‬
‫وفي هذا المناخ الروحي لمدينة « زبيد » عاشت مدرسة اسماعيل الجبرتي ‪ ،‬وزاد نشاط شيخها‬
‫فكان أول من أقام السماع لألسر احتفاال بمناسباتهم العائلية ‪ ،‬وأول من احتضن أتباع الشيخ‬
‫األكبر ابن العربي ودافع عنهم أمام الفقهاء المعادين للتصوف‬
‫وكان الجبرتي اكثر صوفية اليمن حظوة لدى ح?ام بنی رسول ‪ :‬المجاهد و األفضل واألشرف‬
‫والناصر‬
‫‪ ،‬عاش الجيلى حين من الدهر ‪ ،‬وعرف كواحد من اتباع هذه المدرسة وفي مدرسة الجبرتي‬
‫الروحية ‪ ،‬بل أن األهدل اعتبره من « ندماء الشيخ الجبرتي » وليس من مريديه ‪ ،‬مما جعل‬
‫فاعتبر ?تابه م اإلنسان الكامل ) الجيلى ينال حظا من حملة الفقهاء على الصوفية بعد ذلك‬
‫)دستور الصوفية ‪ ،‬واعتبره األهدل ‪ :‬أهلكهم في هذا البحر ماالهدل ‪? :‬شف الغطاء ص ‪214‬‬
‫يعنى القول بالحلول ‪ -‬حتى أن الفقيه المتأخر ابن األمير ‪ -‬وهو من أعداد الصوفية ‪ ،‬توفي‬
‫‪ ۱۱۸۲‬هجرية ‪ -‬مح?ی بعد وفاة الجيلى بقرون أنه ‪ « :‬وقع معی عارض إسهال زيادة على سنة‬
‫ونصف ولم ينفع فيه دواء ‪ ،‬فجاء الى أحد فقهاء صنعاء بكتاب االنسان الكامل ومعه م المضنون‬
‫به على غير أهله ) للغزالى ‪ ،‬فحرقها وخبز لي على نارهما خبز أكلته بنية الشفاء من هذا الداء ‪،‬‬
‫)فذهب بحمد هللا مابن األمير ‪ :‬ديوان ابن األمير ص ‪326‬‬
‫!! وال تحتاج هذه الفقرة األخيرة إلى تعليق‬

‫أما عن معاصری الجيلى من الصوفية ‪ ،‬فقد التقى بهم الجيلي في مدينة زبيد وفي غيرها من‬
‫المدن‬
‫فقد عرف الجيلى العديد من الشخصيات الصوفية في عصره ‪ ،‬وذكرهم في كتبه معترفا لهم‬
‫بحسن المعاشرة واألخوة في الطريق الروحي‬
‫بل نرى الجيلي يدعوهم « باالخوان » ‪ ،‬وهو تعبير صوفي أطلقه أهل الطريق على أصحابهم ‪،‬‬
‫الذين يسمونهم ‪ :‬إخوان التجريد‬
‫‪ :‬وأول م اإلخوان ) الذين ذكرهم الجيلى هو‬
‫عماد الدين يحيى بن أبي القاسم األخ العارف الرباني ذو الفهم الثاقب والذكاء الباهر الراسب ‪،‬‬
‫‪ ،‬سبط الحسن بن علی ابن ابی طالب ويقول الجيلى أنه ألف كتابه م الكهف التونسي المغرب‬
‫والرقيم ) استجابة لطلب هذا األخ ‪ ،‬وإجابة على سؤاله )الجيلى الكهف والرقيم ممخطوط ) ورقة‬
‫(أب‬
‫( خواجه بهاء الدين محمد بن الشاه نقشبند ومن معاصري الجيلى الذين التقى بهم واستفاد منهم ‪،‬‬
‫ولد ‪ ، 717‬وتوفي ‪ 827‬هجرية ) وهو صاحب الطريقة النقشبندية في التصوف‬
‫الجيلي ‪ :‬حقيقة ( جمال الدين الملقب بالمجنون ‪ :‬الشيخ العارف ومن ذكرهم الجيلي أيضا ‪،‬‬
‫) الحقائق ص ‪47‬‬
‫‪ ،‬ويستشهد في كتاب م المناظر بالفقيه حسن بن أبي السرور ويذكر الجيلى أنه التقى في زبيد‬
‫)اإللهية ) ببعض عباراته الذوقية مالجيلى ‪ :‬المناظر االلهية ص ‪44‬‬
‫‪ ،‬الذي كان يحضر معه مجالس السماع في مسجد األخ الفقيه احمد الجبائي كما يذكر الجيلى و‬
‫)الجبرتي مالجيلي ‪ :‬الكهف والرقيم ‪ ،‬ورقة ‪ 11‬ب‬
‫ومما ال شك فيه ‪ ،‬أن الجيلى قد ارتبط بعالقة روحية مع اخوانه من أتباع الشيخ اسماعيل‬
‫‪ ،‬المتوفى ‪ 829‬هـ ) وهو محمد بن أبي القاسم المزجاجي ( الجبرتي ‪ ،‬ومن هؤالء المزجاجي‬
‫‪ :‬مؤرخ يمني ألف في تاريخ التصوف كتابا بعنوان‬
‫"هداية السالك إلى أهدى المسالك"‬
‫وقطب الدين مزاحم بن احمد با ‪ ،‬ومحمد بن شافع ) المتوفی ‪ ( 815‬ومنهم أيضا احمد المعبيدي‬
‫وأحمد الرداد ‪ ،‬والشيخ عبد هللا بن عمر المسن ‪ ،‬مزاحم‬
‫إال أن عالقة الجيلي بالشيخ احمد الرداد كانت أقوى من عالقته مع غيره من معاصريه‬
‫إذ ال يذكر الجيلى في مؤلفاته أحد من تالمذة الجبرت ومريديه مثلما يذكر أحمد الرداد ‪ ،‬الذي‬
‫يتكرر ذكره كثيرا في كتابات الجيلى‬
‫وكان أحمد بن أبي بكر الرداد من كبار صوفية اليمن ‪ ،‬واكبر تالمذة الجبرتي على اإلطالق‬
‫‪ ،‬إذ يذكر الرداد بنفسه أن الجبرتي أذن وقد تولى الرداد المشيخة وشيخه الجبرتى على قيد الحياة‬
‫له بالمشيخة ‪ ،‬ونصبه شيخا على الصوفية « ليلة السبت ‪ 22‬من شعبان سنة ‪ 802‬بمسجده‬
‫المعروف بزبيد محضر جمع من الشيوخ والفقراء والمريدين » وبذلك يكون تنصيب الرداد‬
‫للمشيخة قبل وفاة شيخه بأربع سنوات‬
‫مما زاد من سطوة الصوفية ونصرتهم ‪ -‬كذلك تولى أحمد الرداد زمام القضاء العام ببالد اليمن‬
‫على الفقهاء المعادين لهم ‪ -‬وهكذا جمع الرداد بين التصوف والقضاء وترجع صلة الجيلي القوية‬
‫بالشيخ أحمد الرداد ‪ ،‬إلى أن الرداد كان أقرب إلى الجانب الفلسفي من التصوف‬
‫فقد ذكر « السخاوي » أن الرداد كانت لديه فضائل كثيرة ‪ ،‬لكنه كان يميل الى تصوف الفالسفة‬
‫)مالسخاوي ‪ :‬الضوء الالمع بأعيان القرن التاسع ‪260 / 1‬‬
‫وهذا الجانب الفلسفي من التصوف ‪ ،‬هو ما عنى به عبد الكريم الجيلي ?ا سنرى فيها بعد‬
‫وقد ترك الرداد عدة مؤلفات في التصوف ‪ ،‬فقد وضع شرحا لعبارة الصوفي اليمني ابن جميل‬
‫! التي تقول ‪ :‬څضنا بحرا وقف األنبياء على ساحله‬
‫‪ :‬وإلى جانب هذا الشرح كانت للرداد عدة تاليف منها‬
‫عدة المسترشدين وعصمة أولي األلباب من الزيغ والزلل والشك واالرتياب ‪-‬‬
‫الشهاب الثاقب في الرد على بعض أولى المناصب ‪-‬‬
‫السلطان المبين والبرهان المستبين في ظهور الحجة على كفر أهل السماع من أولياء هللا ‪-‬‬
‫المقربين‬
‫تلخيص القواعد الوفية في أصل حكم خرقة الصوفية ‪-‬‬
‫وقد كتب الرداد مؤلفاته في شجاعة تامة وحرية فكرية كاملة ‪ ،‬لما كان له من سلطة القضاء‬
‫األكبر آنذاك‬
‫كذلك ترك الرداد ديوان شعر على لسان الصوفية‬
‫وتوفي أحمد الرداد سنة ‪ 821‬هجرية‬
‫‪ :‬ثالثا أسلوب الشيخ عبد الكريم الجيلي ومؤلفاته‬

‫سأنشئ روايات إلى الحق أسندت …… وأضرت أمثاال لما أنا واضع‬
‫وأوضح بالمعقول سر حقيقة …… لمن ?ان ذو قلب إلى الحق راجع‬
‫يتميز االسلوب الصوفي ‪ ،‬خاصة عند الصوفية المتأخرين ‪ -‬ومن بينهم الجيلي ‪ -‬بعدة خصائص‬
‫‪ ،‬أهمها طابع اإلستغالق وااللتزام بالرمزية الدقيقة‬
‫ويرجع ذلك إلى عدة أمور ‪ ،‬منها أن الصوفية كما يقول القشيري مالرسالة القشيرية ‪)178 / 1‬‬
‫قصدوا إلى استعمال األلفاظ التي يكشفون بها عن معانيهم ألنفسهم ‪ ،‬غيرة منهم على أسرارهم أن‬
‫تشيع في غير أهلها‬
‫وبذلك يكون الكالم بلغة الرمز واالصطالح ‪ ،‬أداة يعبر بها الصوفية عن أحوالهم الخوانهم في‬
‫في الوقت نفسه الفتنة وإساءة الفهم من قبل العامة والفقهاء الطريق أو لمريديهم ‪ ،‬وتجنبهم‬
‫يقال عنه أنه أخطأ فالفقيه إذا لم يوفق في أحدى فتاواه ‪،‬‬
‫!كفر؟ إنه في عبارة قيل غلط أما الصوفي ‪ ،‬فإن‬
‫وإذا كان الرمز عند الصوفية ‪ ،‬هو أسلوب عام للكتابة والكالم عن األحوال الروحية التي‬
‫يعايشونها‬
‫فإن الصوفية قد وجدوا مثال لالحتذاء في « القرآن الكريم » يتيح لهم األخذ باألسلوب الرمزی‬
‫فالقرآن جاء ليخاطب ?ل البشر ‪ ،‬وضرب هللا تعالى فيه للناس األمثال ‪ ،‬ليأخذ منه السامع على‬
‫قدر حاله وعلمه‬
‫وذلك ما نجده في أسلوب كبار الصوفية ‪ ،‬الذين ال يفتأون يحذرون المطالع في كتاباتهم من‬
‫الوقوع في حقهم واالنكار عليهم اذا التبس عليه معنى من المعاني ‪ ،‬ويدعونه إلى الصبر على‬
‫كالمهم وعباراتهم الرمزية ‪ ،‬حتى يفتح هللا على المطالع ‪ ،‬بهذه المعاني التي قصدوا اليها‬
‫كما كان للصوفية في رسول هللا أسوة حسنة ‪ ،‬حين تأثروا بكالمه ونهجوا نهجه ‪ ،‬لذلك فإن اتجاه‬
‫الصوفية للرمز ومختصر الكالم ‪ ،‬إنما نجد له صدى في قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬يا أيها‬
‫" الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه‪ ،‬واختصر لي الكالم اختصارا‬
‫المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية البن حجر العسقالني وله شواهد كثيرة في (‬
‫الصحيح في صحيح البخاري ‪32,85 , 29/9 , 34/4‬‬
‫وفي صحيح مسلم ‪ - 62/2‬وفتح الباري ‪ - 247/13‬وسنن الدارقطني ‪ - 144/4‬كما ذكره ابن‬
‫كثير فى البداية والنهاية ‪ -198/1‬أورده أبو يعلى‪ ،‬والبيهقى فى شعب اإليمان عن عمر‬
‫) الدارقطني عن ابن عباس‬
‫ولهذه األسباب ‪ ،‬إلى جانب بعض المحن التي لقيها الصوفية االوائل عند استخدامهم اللغة العادية‬
‫في التعبير لجأ الصوفية الستخدام الرمز واالصطالحات الخاصة التي يتعارفون على مدلوالتها ‪،‬‬
‫حتى أننا نجد اصطالحات رمزية تكون خاصة بصوفي بعينه أو بمدرسة صوفية بخصوصها‬
‫‪ :‬وقد استخدم الجيلي بعض المصطلحات الخاصة في مؤلفاته ‪ ،‬فانظر إليه حين يقول‬
‫الشيء ) يقتضي الجمع ‪ ،‬و م األنموذج ) يقتضى العزة ‪ ،‬و م الرقيم ) يقتضى الذلة (‬
‫وكل من هؤالء مستقل في عالمه ‪ ،‬سابح في فلكه ‪ ،‬فمتى ?سوت الرقيم شيئا من حلل األنموذج ‪،‬‬
‫لم تره فيه ‪ ،‬لظهوره بما ليس له‬
‫)ونعني بالرقيم هنا‪ :‬العبد ‪ ،‬وباالنموذج ‪ :‬قطب العجائب الخماإلنسان الكامل ‪11 / 1‬‬
‫ومن هنا ‪ ،‬يقتضي النظر في كتابات الصوفية ‪ ،‬الرجوع في احيان كثيرة الى كتب المصطلحات‬
‫الصوفية مثل م التعرف للكالباذي ‪ ،‬الرسالة للقشيري ‪ ،‬اصطالح الصوفية الشيخ األكبر البن‬
‫العربی ‪ ،‬اصطالحات الصوفية للقاشاني ‪ ،‬ألفاظ الصوفية ومعانيها للدكتور حسن الشرقاوى الخ‬
‫)‬
‫حتى يمكن االقتراب من المعنى الذي قصد إليه المتصوف ‪ ،‬حتى ال يبدو الكالم وكأنه ال ضابط‬
‫له‬
‫لكن األمر األهم من ذلك كله ‪ ،‬والذي ينبغي علينا مراعاته عند مطالعة تأليف الصوفية حتى‬
‫يمكن أن تنكشف لنا معانيها‬
‫الذوق فالعمل الصوفي في النهاية هو عمل فني ‪ ،‬مفعم بالرموز وااليحاءات والتلويحات ‪ :‬هو‬
‫التي ال تنكشف إال بضرب من التذوق واالستشفاف‬
‫فلقد تكلم الصوفية عن معان شاهدوها حين انفتحت عيون قلوبهم ‪ ،‬وانطبقت عيون رؤوسهم م‬
‫كما تقول عبارة النفري ) ومن هنا كان علينا أن ننظر إلى كلماتهم بعين القلب‬
‫فإذا نظرنا في مؤلفات الجيلى ‪ ،‬وجدناه ‪ -‬كغيره من الصوفية ‪ -‬يؤثر االشارة على العبارة ‪،‬‬
‫والتلويح على التصريح ‪ ،‬فلكل كلمة « عباراتها واشاراتها وتصريحها وكنايتها وتقديمها‬
‫) وتأخيرها » مالكهف والرقيم م مخطوط ) ورقة ‪ 3‬أ‬
‫‪:‬وكذلك نجد الجيلي مولعا بضرب األمثال الرمزية لما يريد أن يقول‬
‫في معرض كالمه عن الحق والخلق ) الماء والثلج ( فنجد مثال‬
‫الذي يقول الحديث الشريف إن النبي رأى جبريل على هيئته الخ ) دُحية ( ومثال‬
‫وطريق األمثال الرمزية ‪ ،‬نجده عند غير الجيلي من صوفية اإلسالم الكبار كالشيخ األكبر ابن‬
‫العربي الحاتمي و السهروردي اإلشراقي‬

‫مساهمه من عبد هللا المسافر‬


‫مع تحياتى_قدرى جاد_الهرم‪ 2022‬يناير‬
‫اسمه ولقبه ونسبه وأصله‪:‬‬
‫يعرفنا الجيلى بنفسه فيذكر أنه ‪ :‬عبد الكريم بن ابراهيم بن عبد‬
‫الكريم بن خليفة بن أحمد بن محمود ‪ ،‬الكيالني نسبا ‪ ،‬البغدادی‬
‫اصال ‪ ،‬الربيعي عريا ‪ ،‬الصوفى حسبا(انظر ‪ :‬قاب قوسين ‪ ،‬مخط‬
‫‪ -‬ق ‪.)۳۱‬‬
‫و « الكيالني » نسبة الى جيالن التي يذكر ياقوت أنها ‪ :‬اسم لبالد‬
‫كثيرة من وراء بالد طبرستان ‪ ،‬والعجم يقولون ‪ :‬كيالني ‪..‬‬
‫واذا نسب الى البالد قبل ال جيالني ‪ .،‬وإذا نسب إلى رجل منهم ‪،‬‬
‫قيل ‪ :‬جيلي ‪ .‬وأهل جيالن هم الجيل ‪.‬‬
‫والجيل ايضا قريبة من أعمال بغداد ‪ ،‬تحت المدائن ‪ ،‬بعد زرارين‬
‫يسمونها الكيل‪( .‬انظر ‪ :‬ياقوت الحموي ‪ :‬معجم البلدان ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص‬
‫‪۱80 - ۱79‬‬
‫وقد استند جولد زيهر ‪ ..‬وكذلك حاجي خليفة ‪ ،‬في نسبتهما الجيلى‬
‫الى بغداد ‪ -‬الى هذا الموضع األخير الذي ذكره ياقوت (انظر ‪:‬‬
‫حاجي خليفة ‪ :‬كشف الظنون ‪ ،‬برقم ‪. .)۱0989‬‬
‫ولكن ليس لدينا من المصادر ما يدلنا على أن الجيلي ولد ‪ ،‬او نشا‬
‫في هذه البالد ‪ ،‬أو أن صلته بها تجاوزت مجرد النسبة االسمية ‪.‬‬
‫واالشارة الوحيدة التي قابلتنا في أحد مؤلفات الجيلي تدل على أنه‬
‫زار هذه البالد في سفرة من سفراته العديدة ‪ ،‬وال شيء غير ذلك ‪.‬‬
‫فهو يذكر أنه سافر بعيدا ‪ ،‬فلم ير اشر من طائفة من الصوفية‬
‫تدعى الكمال ‪ ،‬رغم أنها ال تؤمن باهلل ورسوله ‪ ،‬وال تتقيد‬
‫بالتكاليف الشرعية‪.‬‬
‫وقد رأى كثيرا منه في هذه البالد القاصية التي سافر إليها ‪ ،‬ومنها‬
‫جيالن ‪.‬‬
‫وهو يحذر قراءة من السكن في بلدة فيها واحد من هذه الطائفة ‪،‬‬
‫أو مجاورتهم ‪ ،‬أو رؤيتهم ‪ ،‬أو معاشرتهم ‪ ،‬أو مخالطتهم‪ ( .‬انظر ‪:‬‬
‫شرح رسالة األنوار ‪ ،‬ص ‪ ۲6 - ۲5‬مخط طلعت برقم ‪.)۱۲77‬‬
‫واشارة الجيلى الى (جيالن) ووصفه لها بأنها « أقصى البالد » ‪،‬‬
‫وكذلك حين يستخدم الفعل « سافر » اشارة الى حال ذهابه اليها ‪-‬‬
‫يعني أن هذه البالد بعيدة عن موطنه األصلي‪ ،‬بل ال تمت له بصلة‬
‫ما ‪ ،‬فضال عن أن تكون مسقط رأسه‪.‬‬
‫وأذن فاآلراء التي قررت أن الجيلي ولد بجيالن ‪ ،‬هي آراء ال‬
‫أساس لها من الصحة وال سند لها‪.‬‬
‫أما عبارة « البغدادی اصال »‪ ،‬التي استخدمها الجيلي في التعريف‬
‫بنفسه ‪ ،‬فإنها تشير إلى أن والد الجيلى بغدادی ‪ ،‬األمر الذي يذكرنا‬
‫بعبارة ياقوت الحموي ‪ ،‬من أن " الجيل أيضا‪ .‬قرية من أعمال‬
‫بغداد" أما عبارة « الربيعي عربا » فهي نسبة الى عدة قبائل‬
‫عربية اشتق اسمها من أصل هذه النسبة‪.‬‬
‫اقربها صلة بالجيلى ‪ :‬واليس ‪ :‬هي قبيلة ربيعة بن نزار‪ ،‬وحسب‬
‫تفصيل ابن حزم في (جمهرة أنسابه ) حيث أورد جملة من أبناء‬
‫هذه القبيلة ‪ ،‬وقال ومنهم‪«:‬بنوه باليمن ) ‪».‬ابن حزم األندلسي ‪:‬‬
‫جمهرة أنساب العرب ‪ ،‬ص ‪(. ۲9۲‬‬
‫وقد أكد المذحجی النسابة اليمنى هذه النسبة‪( .‬محمد بن على‬
‫المذحجی القرشی النسابة ‪ :‬رسالة في انساب القبائل التي سكنت‬
‫مدينة زبيد باليمن ‪ ،‬مخط دار الكتب برقم ‪ ۱40‬بتاريخ ‪ ،‬ق‪.۱0۲.‬‬
‫ظ‪.).‬‬
‫واذا عرفنا أن قبيلة ربيعة بن نزار ترجع الى معد بن عدنان‪( .‬ابن‬
‫حزم ‪ :‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.)484‬‬
‫وأن عدنان هذا هو ولد اسماعيل بن ابراهيم ‪ ،‬صراحة بال شك ‪،‬‬
‫وفقا لما ذكره القلقشندي‪( .‬نهاية األرب في أنساب العرب‪ ،‬ص‪8- .‬‬
‫‪.)۱0‬‬
‫وصحت نسبة الجيلي الى هذه القبيلة ‪ -‬فان هذا يعني أن الجيلي‬
‫ينشب الى أحسن األصول العربية ارومة وحسبا ونسبا ‪ ،‬ومن هنا‬
‫يحق له أن يفخر بنسبته عربا ‪ ،‬و أن يفخر بنسبته إلى الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إذ ينتهى نسب كليهما الى عدنان من ولد‬
‫إسماعيل‪.‬‬
‫‪-‬وذلك حين يقول شعرا ‪:‬‬

‫فوق المكان مكانة اإلمكان‬ ‫……‪.‬‬ ‫ياسيد الرسل الكرام ومن له‬
‫انت الكريم فخذ فىل بك نسبة ……‪ .‬عبد الكريم أنا المحب الفان‬

‫)االنسان الكامل ‪ ،‬ج ‪ ۱‬ص ‪(۱۳‬‬


‫وإذا كان والد الجيلى بغداديا ‪ ،‬فمن المرجح أن يكون نسب الجيلي‬
‫العربي من طريق والدته ‪ ،‬ال من طريق والده ‪ ،‬وإن لم يكن هناك‬
‫مانع من أن يكون والد الجيلي بدوره عربيا ‪ ،‬كفرد من أفراد قبيلة‬
‫ربيعة التي انتشرت في موجة من موجات الهجرة ‪ ،‬إبان عصور‬
‫الفتوحات االسالمية ‪ ،‬واستقر بعدها في بغداد ‪ ،‬أو في قرية الجيل‬
‫من أعمال بغداد‪.‬‬
‫أما عبارة الجيلي « الصوفي حسبا » فهي قاطعة في الداللة على‬
‫مشربه الروحي ‪ ،‬وذوقه الباطني الصوفي‪.‬‬
‫أسرة الجيلى ومولده ‪:‬‬
‫وفيما يتعلق بوالد الجيلي ‪ ،‬فيذكر الخزرجي ‪ ،‬المؤرخ اليمني ‪ ،‬أن‬
‫الفقيه الصالح عفيف الدين ابراهيم الجيلي ‪ ،‬كان في بداية حياته‬
‫"سفلوتا " من السفاليت ‪ ،‬يخدم من جملة العسكر الذين يحملون‬
‫السالح‪.‬‬
‫ويعملون في خدمة علماء السلطان واألمراء وغيرهم ‪ ،‬وكان في‬
‫غاية من الغفلة ‪ ،‬واقام على ذلك مدة ‪ ،‬ثم أقلع عن ذلك كله ‪ ،‬وترك‬
‫الخدمة وحمل السالح ‪ ،‬وأقبل على خدمة هللا تعالى ‪ ،‬وعبادته‬
‫واالنقطاع إليه ‪.‬‬
‫وكان زاهدا ‪ ،‬قانعا من الدنيا العولة منها ‪ ،‬صابرا على ذلك ‪ ،‬وكان‬
‫كثير االجتهاد في عبادة هللا تعالى ‪ ،‬وظهرت عليه أمارات القبول ‪،‬‬
‫وكانت له ?رامات كثيرة ‪ ،‬وصحب الشيخ اسماعيل بن ابراهيم‬
‫الجبرتي ‪.‬‬
‫وكان إبراهيم الجيلي محبوبا عند الناس ‪ ،‬حسن الخلق ‪ ،‬لين‬
‫الجانب ‪.‬‬
‫وقد استوطن في آخر عمره قرية « أبيات حسين » ‪ ،‬وترك زبيد ‪،‬‬
‫وهناك تزوج ‪ ،‬وأنجب ذرية ‪ ،‬وظل مقيما بها حتى توفي في ‪۱۲‬‬
‫رجب من عام ‪ 790‬هـ ‪( .‬العقود اللؤلؤية ‪ ،‬ج ‪ ۲‬من ‪. ۲00‬‬
‫وانظر ‪ :‬طراز أعالم الزمن ‪ ،‬مخط دار الكتب ج ‪ ،۲‬ص ‪، ۱8‬‬
‫‪.) ۱9‬‬
‫و ابيات حسين هي قرية تتبع الوادی سردد ‪ ،‬وقصبنها المهجم من‬
‫أرض زبيد‪.‬‬
‫)انظر ‪ :‬طراز اعالم الزمن ‪ ،‬ترجمة ابن سرداب ‪ ،‬وانظر كذلك‪:‬‬
‫ياقوت ‪ ،‬معجم البلدان ‪ ،‬ج ‪ ۳‬ص ‪( . . 74 - 7۳‬‬
‫أما الشيخ الجبرتي ‪ ،‬فهو من كبار صوفية اليمن ‪ ،‬وسنعرف بعد‬
‫أنه كان شيخا مرشدا للجيلي ‪ ،‬بل ابرز شيوخه على االطالق‪ ،‬وقد‬
‫اشار اليه الجيلى في كتابه الحالي ( المناظر األلهية ) في منظر‬
‫(التالمت ) ‪..‬‬
‫ولم يوضح لنا الخزرجي تفاصيل تأهل ابراهيم الجيلي حين‬
‫استوطن ابيات حسين ‪ ،‬ولم يعرض‪ .‬كذلك بتفصيل أوالده الذين‬
‫ظهروا له‪ ،‬أنجبهم من هذا الزواج ‪ ،‬وهل كان الجيلى واحدا منهم ؟‬
‫وليست هناك مصادر ترشدنا إلى جواب حاسم على هذه األسئلة ‪.‬‬
‫ولكن حيث سبق لنا استنتاج أن عبد الكريم الجيلي عربي من قبيلة‬
‫ربيعة بن نزار ‪ ،‬من فرع والدته ‪ ،‬أي أن والدته عربية ‪ ،‬وهذا هو‬
‫كل ما نعرفه عنها حاليا ‪.‬‬
‫وربما أمكننا استنتاج أنها توفيت بعد والدة عبد الكريم بزمن قليل‬
‫‪..‬‬
‫وهذا االستنتاج مستخلص من نص لعبد الكريم تحدث فيه عن رؤيا‬
‫رأى فيها امراة وصفها بأنها ربته صغيرا‪.‬‬
‫فيقول ‪ « :‬رأيت مرة في المنام ‪ ،‬وانا بصنعاء اليمن ‪ ،‬بتاريخ سنة‬
‫خمس وثمانمائة ‪ ،‬امرأة كانت قد ربتني ‪ ،‬وأحسنت إلى في صغري‬
‫‪ ،‬وكانت قد ماتت ‪». 000‬‬
‫)شرح مشكالت الفتوحات ‪ ،‬مخط برلين برقم ‪ ، ۲874‬ق ‪ ۳۲‬و( ‪.‬‬
‫وهذا النص قد يسمح لنا ‪ -‬وقد ال يسمح ‪ -‬استنتاج أن والدة الجيلى‬
‫ماتت وهو صغير ‪ ،‬بحيث قامت بتربيته امرأة اخرى ‪.‬‬
‫وهذا هو كل ما لدينا من معلومات عن هذا الجانب‪.‬‬
‫وال نعرف عن حياة الجيلي في أبيات حسين شيئا ؛ خاصة طفولته‪.‬‬
‫ولم يعتن هو بذكرها أو بالحديث عنها في مؤلفاته ‪ ،‬على غير ما‬
‫اعتاد من ذكر كثير من البلدان التي زارها او مكث فيها ‪.‬‬
‫ولكن إذا كان تاريخ والدة الجيلى صحيحا حسبما ذكر في قصيدته‬
‫العينية المشهورة ‪،‬وهو سنة ‪ 767‬هـ ‪(.‬القصيدة العينية ‪ ،‬ق ‪، ۱7‬‬
‫مخط تيمور ‪ .‬تصوف برقم ‪. )7۱‬‬
‫فان هذا يعني أن والده قد تأهل بوالدته قبله بعام على األقل ‪.‬‬
‫وإذا كان تاريخ وفاة إبراهيم هو عام ‪ ، ?790‬فإن عدد سنين‬
‫استيطانه أبيات حسين هو على األقل ‪ ،‬حوالي أربعة وعشرين عاما‬
‫‪ ،‬وهو رقم ليس بالهين ‪ ،‬وال تستقيم معه عبارة الخزرجي السابقة‬
‫من انه « ‪ :‬استوطن أبيات حسين في آخر عمره » ‪ ،‬إال إذا‬
‫افترضنا أن ابراهيم الجيلي كان من المعمرين ‪ ،‬أو أنه ال توجد‬
‫صلة أبوة بينه وبين عبد الكريم‪:‬‬
‫وهناك أخيرا نص الحسين بن األهدل اليمني ‪ ،‬وهو عالم يمنى‬
‫معاصر للجيلى ‪ ،‬والوحيد الذي أشار للجيلي من بين معاصريه ‪،‬‬
‫وذكره باالسم ‪ ،‬وذلك حين يقول‪:‬‬
‫«‪ 000‬عبد الكريم الجيالني العجمي ‪ ،‬اجتمعت به ‪ ،‬قبل أن أعرف‬
‫مذهبه ‪ ،‬بابيات حسين ‪ ،‬وبها توفي ‪ ،‬وهو مدفون في تربة الشيخ‬
‫إبراهيم الجيلي‪..".‬‬
‫) انظر ‪ :‬كشف الغطاء عن حقائق التوحيد ‪ :‬ق ‪ ۱84‬ط( ‪.‬‬
‫فاألهدل لقب الجيلي بالعجمي ‪ ،‬ثم يذكر مكان دفنه ‪ ،‬دون إشارة‬
‫بسيطة ‪ ،‬أو ما يفيد إدراكه ‪ ،‬إلى أن عبد الكريم هو ابن إبراهيم‬
‫صاحب التربة المذكورة ‪.‬‬
‫وهذا يضعنا في حيرة شديدة ‪ ،‬ألن هذا النص وان كان يفيدنا بمكان‬
‫دفن الجيلي بدقة ‪ ،‬فإنه يشككنا في صلته بابراهيم ‪ ،‬بحيث يمكن أن‬
‫يكونا شخصين غريبين عن بعضهما تماما ‪.‬‬
‫وهذه المشكلة ستظل دون حسم إلى أن تظهر نصوص جديدة تغير‬
‫من ذلك الموقف‪.‬‬
‫وحين يتحدث الجيلي عن أسرته في القصيدة العينية نراه يقدم لنا‬
‫صورة غيبية ميتافيزيقية ال تفيدنا في مجال الحقائق التاريخية ‪ ،‬بل‬
‫لعلها تثير مشاكل مذهبية عديدة ‪ ،‬ليس المقام مناسبا لمناقشتها ‪ ،‬أو‬
‫حتى إيرادها‪.‬‬
‫وعلى كل حال ‪ ،‬فإن حديث الجيلي ‪ ،‬في قصيدته العينية ‪ ،‬عن‬
‫والديه يتسم بطابع التبجيل واالحترام ‪ ،‬وذلك حين يصفهما بقوله «‬
‫أبواي األطهران » وحين يصف زواجهما بقوله « تجامعا بعقد‬
‫حالل نعم ذاك التجامع »‪ ( .‬انظر ‪ :‬القصيدة العينية ‪ ،‬مخط دار‬
‫الكتب ‪ ،‬ق ‪ 5۱‬ظ ‪ 5۲ -‬و‪0 ).‬‬
‫وهذا هو كل ما نظفر به من حديث الجيلي في قصيدته عن والديه‬
‫وأسرته من الناحية الواقعية والتاريخية ‪ ،‬ونحن في انتظار‬
‫نصوص جديدة تسد هذا النقص ‪ ،‬ومن المؤكد أن نشر تراث‬
‫الجيلي‪ ،‬وظهور مؤلفاته المفقودة ‪،‬سيفيدنا الكثير في هذا المجال ‪.‬‬
‫نشأته‪:‬‬
‫ليس لدينا الكثير في هذا المجال كذلك‪ .‬وكل ما لدينا ال يريد عن‬
‫نصين أو ثالثة‪:‬‬
‫أولهما ‪ :‬النص الذي سبق وأن أوردناه في الحديث عن أسرته ‪،‬‬
‫وتتعلق برؤيا رآها الجيلي في نومه المرأة ربته صغيرا ‪ ،‬واستتجنا‬
‫منه ان الجيلي قد فقد أمه وهو صغير ‪ ،‬بحيث تولت تربيته امرأة‬
‫أخرى ‪،‬‬
‫‪..‬والنص الثاني ‪ :‬هو بعض أبيات قصيدته العينية التي وصف فيها‬
‫أحواله من طفولته الى أن اكتمل فوقا وسلوكا ‪.،‬‬
‫وأصبح من أصحاب المقامات والسلوك‪ ،‬وهذا الجانب يعرضه‬
‫الجيلي في صوره مقبولة نوعا ما ‪ ،‬وان كان ذلك ال يخلو من طابع‬
‫التعميمات المبالغة والميتافيزيقية ‪ ،‬وهو يقول ‪:‬‬

‫نفس كل ما هو واضع‬
‫ي‬ ‫تطلبن …… وتأنف‬
‫ي‬ ‫فالمعال‬
‫ي‬ ‫ومذ كنت طفال‬
‫…… عىل أن ل فوق الطباق صوامع‬ ‫ه لم تزل‬
‫ول همة كانت وها ي‬

‫وقد كنت جماحا الى كل هيئة ‪ ..‬األبيات » (القصيدة العينية)‬


‫ويعقب الشيخ عبد الغني النابلسي على هذه التعميمات بقوله‪:‬‬
‫‪« ...‬ذكر بمن أوصافه أنه من حين كان طفال وهو يطلب المراتب‬
‫العلية ‪ ،‬وتأنف نفسه من األمور البنية الحسية ‪ ....‬الخ » (القصيدة‬
‫العينية)‪.‬‬
‫والفكرة العامة التي يوحي بها النصان السابقان ‪ ،‬هو أن الجيلي منذ‬
‫طفولته قد اتجه كلية صوب ميدان الحقائق والرقائق‪.‬‬
‫وتطلع بأنظاره إلى الوصول ألعلى المراتب الروحية ‪ ،‬وتجاهل‬
‫عالم الماديات بكل ما فيه ‪.‬‬
‫وفاته ‪ :‬مكانا ‪ ،‬وتاريخا‪:‬‬
‫وكما لم يكن هناك اتفاق بين الباحثين ‪ ،‬حول أصل الجيلي ‪،‬‬
‫وموطنه ‪،‬فهناك كذلك اختالف حول تاريخ وفاته ‪ ،‬ومكان دفنه‪:‬‬
‫وقد ذكر األستاذ ماسينيون ما يفيد دفن الجيلي في بغداد‪.‬‬
‫فقال ما ترجمته ‪ « :‬نقرا على شاهد قبره ‪ ،‬ببغداد ‪ ،‬ما نصه فقط ‪:‬‬
‫( سنة اثنين ‪ .000‬بعد الهجرة ‪.۱8(» ...‬‬
‫وقد وثق األستاذ بترت هذا االدعاء فقال ما ترجمته‪:‬‬
‫‪«...‬لقد استطعت أن أزور ضريح الجيلي في بغداد في ‪۱۳‬‬
‫أغسطس عام ‪ ۱955‬م غير أنه أصبح يستخدم للسكان ‪ ،‬وموقعه‬
‫هو ‪ :‬شارع النعمان بجوار مسجد السلطان على شارع الرشيد‬
‫‪. (۱9 ») 000‬‬
‫ولكن نص األهدل المشهور يثبت خطأ ذلك ‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«‪. 00‬وكان من أهلهم في ذلك البحر عبد الكريم الجيالني العجمي‬
‫اجتمعت به قبل أن أعرف مذهبه بأبيات حسين ‪ ،‬وبها توفي ‪ ،‬وهو‬
‫مدفون في تربة الشيخ ابراهيم الجيلي ‪ ( » 000‬كشف الغطاء ‪ ،‬ق‬
‫‪ ۱84‬ظ)‪.‬‬
‫فالجيلى إذن توفي ‪ ،‬ودفن بأبيات حسين باليمن ‪ ،‬وليس ببغداد‬
‫العراق ‪ ،‬وهذا نص قاطع بصم هذه المشكلة لألبد‪.‬‬
‫أما تاريخ وفاته ‪ ،‬فليس لدينا نص قاطع به ‪ ،‬ولكننا اذا تمعنا في‬
‫نص األهدل السابق ‪ ،‬فإننا نالحظ أن مضمونه يشير الى وفاة‬
‫الجيلي قبل ان يكتب األهدل كتابه هذا ‪ ،‬الذي أورد فيه النص‬
‫السابق ‪ ،‬وهو ( كشف الغطاء)‪.‬‬
‫وهذا ال يمنع من أن يكون الجيلي توفي أثناء تحرير األهدل الكتاب‬
‫المذكور ‪.‬‬
‫وإذا عرفنا أن آخر تاريخ ذكره الجيلي في كتبه هو سنة ‪ 805‬هـ‬
‫‪(.‬انظر ‪ :‬حقيقة الحقائق ‪ .‬ق ‪ ۳5‬ظ ‪ ۳6 -‬و ‪ .‬وفيه ذكر لهذا‬
‫التاريخ ‪ .‬مخط دار الكتب ‪.).‬‬
‫وأن األهدل فرغ من تحرير كتابه هذا في ثاني عشر ذي الحجة‬
‫سنة ‪ 8۲9‬هـ ‪ .‬وأنه استغرق في كتابته حوالي عشر سنوات ‪،‬حسب‬
‫ما يذكره هو بنفسه ( ?شف الغطاء ‪ ،‬ق ‪ ۲49‬ظ ) ‪.‬‬
‫فإن النتيجة المباشرة لذلك هو أن الجيلي يمكن أن يكون قد توفي ما‬
‫بين سنة ‪ 805‬هـ ‪ ،‬وبين سنة ‪ 8۲9‬هـ ‪ .‬على كل األحوال ‪ ،‬وليس‬
‫بعد سنة ‪ .8۲9‬هـ ‪.‬‬
‫بأي حال من األحوال ‪ ،‬وهذا هو أقصى ما نستطيعه الى ان تظهر‬
‫نصوص أخرى‪.‬‬
‫على أنه اذا كانت كل الدالئل تشير إلى أن الجيلي ولد ‪ ،‬ونشأ ‪،‬‬
‫وتوفي في اليمن ‪ ،‬فإن هذا سبب كاف يدعونا إلى التوقف قليال عند‬
‫هذا البلد ‪ ،‬وهو بيئته وموطنه ‪ ،‬لنعرف خصائصه ودقائقه في‬
‫عصر الجيلي ‪ ،‬وانعكاس ذلك على الجيلى نفسه ‪ .‬وهذا هو‬
‫موضوع الفقرة التالية‪.‬‬

‫اليمن في عصر الجيلي‬

‫والحديث عن موطن الجيلي في عصره يشمل جوانب عدة ‪:‬‬


‫الجانب الجغرافي ‪ ،‬و الجانب السياسي ‪ ،‬والجانب االجتماعي‬
‫والعلمي ‪.‬‬
‫والجانب الديني والرومى والصوفي ‪ ،‬وهو آخر الجوانب في هذا‬
‫المجال ‪ :‬الجانب الجغرافي‪:‬‬
‫واقرب الجغرافيين المعاصرين للجيلي هو ‪ ،‬بال شك ‪ ،‬أبو العباس‬
‫أحمد القلقشندي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 8۲۱‬هـ ‪ ..‬ومن ثم فهو مصدرنا‬
‫األساسي في جغرافية اليمن‪.‬‬
‫ويعتبر القلقشندي أن اليمن قطعة من شبه جزيرة العرب ‪ ،‬يحدها‬
‫من الغرب ‪ :‬بحر القلزم ( البحر األحمر ) ‪.‬‬
‫ومن الشرق ‪ :‬حدود مكة ‪ ،‬حيث الموضع المعروف بطلحة الملك ‪،‬‬
‫وما على سبب ذلك الى بحر فارس(‪) .۲۳‬‬
‫وقد تحدث القلقشندي بعد ذلك عن سبب تسمية هذا البلد باليمن ‪،‬‬
‫وعن جوه ‪ ،‬وخصوبة ارضه ‪ ،‬بما هو معروف عنه وال حاجة بنا‬
‫إلى ذكره‪(24) . .‬‬
‫ويقسم القلقشندي اليمن الى قسمين رئيسيين ‪:‬‬
‫القسم األول ‪ -‬التهائم‪:‬‬
‫وهي المنخفض من البالد ‪ ،‬وهي باردة الهواء ‪ ،‬طيبة المسكن ‪:‬‬
‫وتشتمل على عدة بالد ‪ ،‬وقالع ‪ ،‬وحصون حصينة ‪ ،‬بفضل البر‬
‫ما بين بعضها عن بعض ‪ ،‬وبها قاعدتان ( أی عاصمتان )‪:‬‬
‫۔ تعز ‪ :‬وهي مصيف صاحب اليمن ومقر ملوكهم ‪ .‬وهی حصن‬
‫في الجبال ‪ ،‬مطل على التمائم ‪ ،‬وارض زبيد ‪ ،‬وفوقها منتزه يقال‬
‫له مهلة ‪ ،‬قد ساق له صاحب اليمن المياه من الجبال التي فوقها ‪،‬‬
‫وبنى فيها ابنية عظيمة ‪ ،‬في غاية الحسن ‪ ،‬وفي وسط بستان هناك‬
‫(‪) .۲0‬‬
‫ومع أهمية هذه المدينة ‪ ،‬فإننا ال نراها تتردد في كتب الجيلي ‪،‬‬
‫وفي نصوصه ‪ ،‬وإن لم يخل االمر من اشارة اليها هنا أو هناك فی‬
‫?تب معاصريه ‪.‬‬
‫أما القاعدة األخرى فهي المهمة ‪ ،‬وهي التي تقابلنا كثيرا في كتب‬
‫صوفية اليمن عموما ‪،‬وكتب الجيلي بصفة خاصة ‪،‬وهي ‪:‬‬
‫زبيد ‪ :‬وهي مشتی صاحب اليمن ‪ ،‬بناها زياد بن أبيه ‪ ،‬في خالفة‬
‫المأمون‪ ،‬ثم غلب عليها بنو الصليحي ‪ ،‬ثم صارت قاعدة بني‬
‫رسول‪ ،‬وهم الحكام المعاصرون للجيلي ‪ ،‬وهي قصبة التهائم ‪،‬‬
‫مبنية في مستوى من األرض عن البحر على أقل من يوم ‪ ،‬وماؤها‬
‫من اآلبار ‪ ،‬وبها نخيل كثيرة ‪ ،‬وعليها سور به عدة أبواب )‪( .۲9‬‬
‫ويتعرض المقدسي لذكر أهم األبواب‪ ،‬التي فتحت في أسوارها ‪،‬‬
‫فيحصيهم أربعة ‪ ،‬أهمهم بالنسبة لنا ‪ :‬باب سهام ‪ ،‬وهو ينفد الى‬
‫الشمال ‪ ،‬إلى وادي ربع وسهام‪ ..‬وترجع أهمية هذا الباب الى قربه‬
‫من جبانة علماء وصوفية زبيد ومنهم شيوخ الجيلي في الطريق‬
‫الصوفي ‪. (۲7‬‬
‫إلى جانب أنه بدأ رحالته ببلدة األنفة من قرى الوادي سهام حيث‬
‫قابل الشيخ المكدش وذكر ذلك في كتابه ( المناظر االلهية ) منظر‬
‫البيت ‪ .‬وسنرى تفصيل ذلك بعد في موضعه‪.‬‬
‫وتشتهر زبيد كذلك بمساجدها الكثيرة التي بناها حكام اليمن وساداته‬
‫على مر العصور ‪ ،‬مثل مسجد األشاعر ومسجد معاذ في راس‬
‫الوادي ‪ ،‬ومسجد أبي الغيث بن جميل ‪ ،‬ومسجد الشيخ الجبرتي ‪،‬‬
‫وعشرات غيرها من المساجد ) ‪. (۲8‬‬
‫وقد ورد اسم مسجد الجبرتي عديد المرات في مؤلفات الجيلي‬
‫سواء في مجالس السماع الذي كانت تعقد فيه ‪ ،‬او في تأليف كتاب‬
‫فيه (حقيقة الحقائق ‪ ،‬مخط دار الكتب ‪ ..‬ق ‪ ۳6‬و ‪ .‬والكهف‬
‫والرقيم ‪ ،‬ص ‪ ، ) ۲5 - ۲4‬وغير ذلك‪.‬‬
‫وكذلك هناك العديد من المدارس الدينية ‪ ،‬والخانقاوات والزوايا‬
‫الصوفية ‪ ،‬وهذا كله يعكس صورة النشاط المعماري والعلمي‬
‫والديني الذي كان يسود زبيد في عصر الجيلي‪.‬‬
‫وهناك مدن أخرى في اليمن التهامي سوى القاعدتين السابقتين‬
‫أهمها ‪:‬‬
‫عدن ‪ ،‬وظفار ‪ ،‬وحلى ‪ ،‬والمهجم ‪. ،‬و حصن الدملوة ‪ ،‬والشرجة ‪،‬‬
‫وهي موطن المؤرخ اليمني المشهور صاحب ( طبقات الخواص )‬
‫‪ ،‬وجبلة ‪ ،‬والجند ‪ ،‬وسيرين‪ ،‬ومرباط‪ ،‬وبالد مهرة‪ ،‬والشخر ‪.‬‬
‫وقد اشار الجيلي في كتابه الى بعض هذه المدن ‪ ،‬خاصة عدن‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ -‬من اليمن‪:‬‬
‫النجود ‪ :‬وهي ما ارتفع من األرض ‪ ،‬وهي مقر ‪ .‬أئمة الزيدية ‪.‬‬
‫وهي شديدة الحر‪ ،‬وقد انطوى فيها جزء من اليمن ‪ ،‬وإن كان ما‬
‫بيد أوالد رسول هو الجزء الوافر األعظم ‪..‬‬
‫فاليمن منقسم الى قسمين ‪ :‬سواحل ‪ ،‬وجبال ‪.‬‬
‫والسواحل كلها لبنی رسول ‪.‬‬
‫والجبال كلها او‪ .‬غاليها لإلشراف ‪.‬‬
‫وهي أقل دخال من السواحل ‪ ،‬لمدد البحر لتلك ‪ ،‬واتصال سبيلها‬
‫عنه ‪ ،‬وانقطاع المدد عن هذه البالد ‪ ،‬النقطاع سبيلها من كل جهة‬
‫‪.000۳0‬‬
‫ويشتمل هذا القسم على قاعدة ‪ ،‬وعدة حصون ‪ ،‬وبالد مخضبة‪:‬‬
‫فالقاعدة هي صنعاء ‪ :‬وهي مدينة من نجود اليمن ‪.‬‬
‫وقد ذكرها الجيلي في الحد مؤلفاته ‪ ،‬حيث شاهد فيها رؤيا‬
‫بخصوص المرأة التي ربته‬
‫صغيرا ‪( . ۳۱‬‬
‫أما الحصون والبالد فمنها ‪ :‬كحالن‪ ،‬ونجران ‪ ،‬وصعدة ‪ ،‬وخيوان‬
‫‪ ،‬وجرش ‪ ،‬ومأرب ‪ ،‬وحضرموت( ‪.۳۲‬‬
‫وتشتهر اليمن بريح الجنوب المنسوبة إليها ‪ ،‬وهي ريح تشتهر‬
‫بصلتها بالسحاب ‪ :‬تجمعه ‪ ،‬و تؤلفه‪ ،‬وتسوقه ‪ ،‬وتلقح األشجار‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث الشريف ‪ :‬أنها من ريح الجنة) ‪(. ۳۳‬‬
‫وقد أحب الجيلى اليمن ‪ ،‬وتجول بمعظم أرجائه في عصره ‪ ،‬وإن‬
‫لم يذكر معظم هذه المدن في كتبه التي وصلتنا باستثناء زبيد التي‬
‫ذكرها مرارا وتكرارا ‪.‬‬
‫وعالوة على ذلك ‪ ،‬فقد أظهر الجيلي تعلقة بطبيعة اليمن ورياحها‬
‫‪،‬بحيث نراه ينشد شعرا فيقول ‪:‬‬
‫وأهوى نسيم الريح هب يمانيا …‪ ..‬وان هب من شام فاني‬
‫على الود‬
‫وفي تعقيبه ‪ ،‬هو بنفسه ‪ ،‬على هذا البيت ‪ ،‬يفسر الريح اليماني‬
‫بالخير ‪ ،‬او النفحات الرحمانية ‪ ،‬بينما يفسر ريح الشام بغير ذلك ‪،‬‬
‫أو بالشفر‪(34).‬‬
‫إلى جانب كثرة ‪ :‬تكرارها و إيراده للحديث المشهور ( إني ألجد‬
‫نفس الرحمن من قبل اليمن ) ‪.‬‬
‫وهذا كله يدلنا على شغف الجيلى باليمن األمر الذي يؤكد من جديد‬
‫أنه مسقط رأسه ‪ ،‬وموطنه‪.‬‬
‫وهذا ينقلنا إلى الجانب الثاني‪:‬‬
‫الجانب السياسي‪:‬‬
‫لن نطيل في هذا الجانب ‪ ،‬خاصة وأن الجيلي لم يعرض له إال‬
‫بطريق غير مباشر ‪ ،‬من خالل صالت اليمن بغيره من البالد ‪ ،‬في‬
‫سفرات قصيرة عابرة ‪ ،‬وان كانت لها أهميتها ‪.‬‬
‫على حين أن إبراهيم الجيلي ‪ -‬ابوه ؟‬
‫‪-‬كان يعمل في خدمة حكام اليمن في ذلك الوقت‪.‬‬
‫كانت اليمن في عصر الجيلي تخضع لحكم بنی رسول أو‬
‫الرسوليين ‪( . ۳۵‬‬
‫وقد أورد المستشرق زامباور ثبتا بأسماء ملوك اليمن من بنی‬
‫رسول وتاريخ توليهم الملك‪.‬‬
‫سنقتصر على ذكر من عاصرهم الجيلي ووالده إبراهيم ‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫‪-‬الملك المجاهد سيف الدين على بن داوود ‪ ...‬ذو الحجة سبلة‬
‫‪ 7۲۱‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملك األفضل ضرغام الدين العباسی بن علی ‪ 000‬جمادى‬
‫األخيرة سنة ‪ 764‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملك األشرف ممهد الدين إسماعيل ( األول ) بن‬
‫العباس رمضان سنة ‪ 778‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملك الناصر صالح الدين احمد بن اسماعيل ‪ ..‬ربيع الثاني سنة‬
‫‪ 80۳‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملك المنصور عبد هللا بن أحمد ‪ 000‬جمادى األولى سنة ‪8۲7‬‬
‫هـ‪.‬‬
‫‪-‬الملك األشرف إسماعيل ( الثاني ) بن احمد ‪ ...‬جمادى األولى‬
‫سنة ‪ 8۳0‬هـ‪.‬‬
‫وكانت لليمن عالقات متصلة بمصر‪ ،‬كما ذكر القلقشندي (‪)۳7‬‬
‫واستفاد الجيلي من ذلك ‪ ،‬فقد كان في القاهرة في سلخ رجب من‬
‫سنة ‪ 80۳‬هـ ‪.‬‬
‫وفيها انتهى من تأليف كتابه الهام ( غنية أرباب السماع ) (‪. )۳8‬‬
‫كما أشار الخزرجي كذلك ‪.‬‬
‫الى عالقات اليمن الطيبة بالهند ‪ ،‬وحكامها المسلمين( ‪. ۳9‬‬
‫ومن هنا ‪ ،‬لم يكن غريبا أن نری الجيلي في الهند سنة ‪ 790‬هـ ‪،‬‬
‫وهو يقص علينا مشاهداته ‪ ،‬وانطباعاته المثيرة عما رآه هناك في‬
‫عدة من كتبه‪(40) .‬‬
‫وفي عصر الجيلي كان سالطين اليمن الرسوليين في حرب‬
‫ومعارك شبه دائمة مع األشراف الزيديين ‪ ،‬وهم ‪ -‬كما قلنا ‪-‬‬
‫يسيطرون على األجزاء المرتفعة من اليمن او النجود ‪.‬‬
‫كذلك شغل السالطين بقمع الفتن والثورات المحلية التي كانت تقوم‬
‫‪ ،‬بين الحين واآلخر ‪ ،‬في الجهات التي خضعت لحكمهم ‪ ،‬وال‬
‫يعنينا تفصيل هذه الجوانب ‪ ،‬بقدر ما يعنينا ذكر أن إبراهيم الجيلي‬
‫‪-‬والد الجيلي‪ -‬وقد كان سفلوتا من سفاليت السلطان‪.‬‬
‫ای جنديا بسيطا ‪ ،‬فمن المؤكد أنه اشترك في هذه المعارك ‪ ،‬وقمع‬
‫الفتن ‪.‬‬
‫كذلك كان الجبرتي ‪ -‬شيخ الجيلي ‪ -‬مشاركة ‪ ،‬بطريقة ما ‪ ،‬في احد‬
‫المعارك التي دارت بين احد أئمة الزيدية وبين السلطان الرسولي‬
‫في ذلك الوقت‪(41) .‬‬
‫أما الجيلي فلم يزد مشاركته في هذا الجانب السياسى ‪ ،‬عن استفادته‬
‫بطريق غير مباشر ‪ ،‬من حسن العالقات ‪ ،‬بالسفر لبعض البالد خ‬
‫ارج اليمن ‪ ،‬وهذا كل ما لدينا في هذا الجانب‪.‬‬
‫الجانب االجتماعي والعلمي‪:‬‬
‫وصف الرحالة المغربي ابن بطوطة في رحلته الى اليمن ‪ ،‬في‬
‫القرن الثامن الهجري ‪ ،‬وكان مارا بها سنة ‪ 7۳۱‬هـ ‪ ،‬ما شاهده في‬
‫المجتمع اليمني ‪ ،‬والمدن اليمنية ‪ ،‬ثم زار زبيد ‪ ،‬وتحدث عن طباع‬
‫اهلها ‪ ،‬والعالقات االجتماعية بينهم ‪ ،‬ومراتبهم ‪ ،‬واحتفاالتهم ‪،‬‬
‫وأسلوب معاملتهم للغرباء ‪ ،‬وجمال نسائهم ‪ ،‬وحسن عشرتهن‬
‫ألزواجهن ‪ -‬بما يعطي انطباعا طيبا عن كل ما ذكره (انظر ‪ :‬ابن‬
‫بطوطة ‪ :‬تحفة النظار ‪ ،‬ج ‪ ،۱‬ص ‪. ) ۱07 - ۱09‬‬
‫ثم تحدث عن مقابلته لبعض علماء زبيد وفقهائها ‪ ،‬وأثنى على‬
‫صالحهم وحسن دينهم وأمانتهم وم?ارم أخالقهم ‪ ،‬ثم وصف‬
‫حديثهم عن كرامة للصوفي اليمني الكبير احمد بن العجيل مع‬
‫بعض فقهاء الزيدية ‪ ،‬الذين ينكرون عقيدة القدر ‪ ،‬ويرون أن‬
‫المكلف يخلق افعاله ‪.‬‬
‫فجعلتهم هذه الكرامة يقتنعون ببطالن عقيدتهم ‪ ،‬ويعودون الى‬
‫الحق( ‪) . ۶۳‬‬
‫وانتقل ابن بطوطة الى تعز ‪ ،‬لمقابلة السلطان ‪ ،‬فوصف أهل تعز‬
‫وتحدث عن فظاظتهم وتكبرهم وتجبرهم ‪ ،‬وذكر أن ذلك حال البالد‬
‫التي يسكنها الملوك ‪.‬‬
‫ثم تحدث عن احيائها السكنية‪ ،‬ثم تحدث عن البالط السلطاني ‪،‬‬
‫ونظامه ‪ ،‬وترتيبه ‪ ،‬وبروتوكول الحضرة السلطانية ‪ ،‬وما في ذلك‬
‫من شكليات ورسميات (‪ . )44‬ويفصل القلقشندي أرباب الوظائف‬
‫والرتب في اليمن في عصره ‪ ،‬ولكنه يبدو متحامال بعض الشيء‬
‫في اتهامه لسلطان اليمن بالتشبه « بالديار المصرية »‪ ،‬وفي اتهامه‬
‫له بامتناعه عن مقابلة والة األمور ببابه ‪ ،‬ووالة المظالم ‪ ،‬بل‬
‫يكتفي بالتأشير بخطه على رقعة بها ترفع إليه‪(45) ...‬‬
‫ومهما يكن من أمر فان ابراهيم الجيلي ‪ -‬والد عبد الكريم ‪ .-‬عاش‬
‫في جو البالط السلطاني هذا ‪ ،‬وانتهى به األمر إلى أن رفض كل‬
‫ما ينكره به ‪ ،‬واختار حياة الزهد والتصوف ‪ ،‬وغادر زبيد الى‬
‫أبيات حسين ‪ ،‬حيث تأهل ‪ ،‬وظهر له اوالد ‪ ،‬وتوفي هنالك‪.‬‬
‫وحين بدأ عبد الكريم الجيلى ان يصور مرتبة األنبياء واألولياء من‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬لم يتردد في اختيار مصطلحات‬
‫وظائف البالط السلطاني‪.‬‬
‫وذلك حين يقول ‪ ... « :‬فاألنبياء والرسل ‪ ،‬صلوات هللا وسالمه‬
‫عليهم ‪ ،‬كانوا لمحمد ‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬كالحجاب ‪ ،‬لمزورهم‬
‫قبله في العالم الدنياوی ‪ ،‬كما‪ ،‬يمر الحاجب قبل الملك ‪.‬‬
‫واألولياء المحمديون ‪ ،‬رضوان هللا عليهم ‪ ،‬هم لمحمد ‪ ،‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬كالخدم والخواص ‪ ،‬الذين يكونون حول الملك ‪ ،‬على‬
‫خزائنه ‪ ،‬ومراتبه ‪( ».000‬سر النور المتمكن ‪ ،‬مخط برلين برقم‬
‫‪. .)۳0۲4‬‬
‫وكذلك حين اشار في المنظر الثاني ( منظر المراقبة ) من كتابنا‬
‫الحالي إلى ملك الروم بين عسا?ره وحشمه‪.‬‬
‫وال يمكن أن يكون عبد الكريم قد اختار هذه المصطلحات دون علم‬
‫بدقائق أعمال أصحابها ‪.‬‬
‫وإنما هو يعرف حدود عمل كل من الحاجب والخادم ‪ ،‬والعساكر‬
‫والحشم ‪ ،‬وهكذا ؛ وهذه االمور تتطلب االتصال بمن له دراية بها ‪،‬‬
‫وهذا ‪ ،‬من جديد ‪ ،‬يؤكد الصلة االسرية بين عبد الكريم وبين‬
‫ابراهيم والده‪. .‬‬
‫أما الجانب العلمي ‪ ،‬فقد كان اليمن عموما ‪ ،‬وزبيد بصفة خاصة ‪،‬‬
‫يعيش حياة علمية مزدهرة ‪ ،‬قبل وإبان عصر الجيلي ‪ ،‬في جميع‬
‫فروع العلم والمعارف اإلسالمية والعربية ‪ ،‬وال يستثنى من ذلك‬
‫علم التصوف والحقائق ‪.‬‬
‫وكثر العلماء والفقهاء بها ‪ ،‬سواء من ابنائها الخلص ‪ ،‬أو من‬
‫الوافدين عليها ‪ .‬وشجع ملوك بني رسول العلم والعلماء ‪ ،‬بل كان‬
‫منهم من شارك بنفسه في حركة التأليف والكتابة ‪ :‬كالملك المؤيد‬
‫هزبر الدين داود بن يوسف الرسولي ‪ ،‬الذي كانت خزانته تشتمل‬
‫على مائة ألف مجلد ‪ ،‬وكان على صلة دائمة طيبة بالشيخ تقي‬
‫الدين بن دقيق العيد ‪(47) .‬‬
‫وذكر السخاوي ‪ ،‬وكذلك بروكلمان ‪ ،‬عن الملك األشرف اسماعيل‬
‫بن العباس ‪ ،‬أنه اشتغل بالعلم وصنف العديد من الكتب ‪(48) .‬‬
‫وذكر بروكلمان كذلك أن الملك األفضل عباس بن الملك المجاهد ‪،‬‬
‫وهو ابو الملك األشرف السابق ‪ ،‬قد ألف عدة كتب في األنساب ‪،‬‬
‫والمناقب اليمنية ‪ ،‬والتاريخ (الخزرجي ‪ :‬العقود ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪۱88‬‬
‫‪. ).‬‬
‫وأشار الخزرجي الى تشجيع ملوك اليمن واكرامهم للعلماء سواء‬
‫من ابناء اليمن ‪ ،‬كما فعل من تكريم للقاضي محمد بن عبد هللا‬
‫الريمي على تصنيفه ( التفقيه في شرح التنبيه ) (الخزرجي ‪:‬‬
‫العقود )‪.‬‬
‫أو من العلماء الزائرين كالفيروز آبادی ‪ ،‬عالم اللغة المشهور ‪،‬‬
‫حين قدومه إلى اليمن ‪ ،‬وحين فراغه من تصنيفه ( االصعاد )‬
‫(الخزرجي ‪ :‬العقود ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪.)۲97 , ۲64‬‬
‫أما عدد علماء اليمن ‪ ،‬فهم كثيرون كثرة جمة ‪ ،‬يستحيل حصرها ‪،‬‬
‫في جميع فروع العلم ‪ ،‬ويكفينا أن تقول أن معظم مؤلفات‬
‫المؤرخين اليمنيين في عصر الجيلى ليست ‪ ،‬في غالبها ‪ ،‬إال ثبتا‬
‫سرديا بأسماء علماء اليمن ‪ ،‬وترجمة حياتهم ‪ ،‬وأعمالهم ‪ ،‬وتاريخ‬
‫وفاتهم ‪ .000‬وهكذا ‪.‬‬
‫ويبرز من بين كتب هؤالء المؤرخين ‪ ،‬أشهر كتابين للمؤرخ‬
‫اليمنی الخزرجي ‪ ،‬وهما‪ ( :‬العقود اللؤلؤية ) ‪ ،‬و ( أعالم الزمن‬
‫)‪.‬‬
‫ثم تاريخ الجندي ( السلوك )‪ ،‬وغيرهما الكثير لمؤرخين وكتاب‬
‫آخرين ‪.‬‬
‫واذا اضفنا الى ذلك ‪ ،‬ما ذكرناه عن كثرة المدارس والمساجد ‪،‬‬
‫والزوايا والخوانق ‪ -‬الكتملت الصورة للجو العلمي في اليمن في‬
‫عصر الجيلی‪.‬‬
‫وقد أشار الجيلى الى العديد من الفقهاء ‪ ،‬وان كان ذكره لهم‬
‫باعتبارهم صوفية ‪ ،‬وسنرى تفصيل ذلك بعد‪. .‬‬
‫ومع ذلك ‪ ،‬فقد كان هناك تيار آخر ‪ ،‬يضاد هذا التيار العلمي ‪،‬‬
‫يستشري بين أهل اليمن بجميع طبقاتهم ‪ ،‬اال وهو ‪ :‬تيار الخرافات‬
‫والخزعبالت ‪.‬‬
‫وال يمكن أن يكون ذلك نتاجا لعقلية علمية ‪ ،‬أو بتأثير من التيارات‬
‫العلمية التي ازدهرت في ذلك العصر‪.‬‬
‫وانما األدعي الى القبول أن يكون ذلك وليد تراث بدائي من‬
‫العصور األولى نمته التيارات الصوفية العديدة في اليمن ‪ ،‬في ذلك‬
‫الوقت ‪ ،‬خاصة تبار مدرسة ابن عربی ‪ ،‬بغيبياته ‪ ،‬وتصوراته‬
‫الخطيرة ‪ ،‬حتى وإن كان ذلك بطريق غير مباشر ‪ .‬وكتب‬
‫المؤرخين اليمنيين تفيض بقصص الجان ‪ ،‬ومشاركتهم لالنس في‬
‫كثير من األحداث اليومية ‪ :‬ولقد أورد الخزرجي قصة مؤداها ان‬
‫السلطان وجنوده كانوا محصورين في الحصن من قبل بعض‬
‫األعداء‪.‬‬
‫وذات يوم برز للسلطان من جدار الحصن غالم احتضنه وطار به‬
‫الى مكان آخر في الحصن‪.‬‬
‫وما أن فعل ذلك حتى سقط على المكان الذي كان يقف فيه السلطان‬
‫حجرا كبيرا من حجارة المنجنيق !‬
‫ولما سأله السلطان عن هويته ‪ ،‬اخبره انه ابنه من فالنة ‪ ،‬ولكن‬
‫الجن كان قد اختطفه من بطن أمه قبل والدته وقدم له يد المساعدة‬
‫في الحرب الى أن انتصر السلطان !‪.‬‬
‫والغريب أن الخزرجی يذكر القصة كما لو كانت حقيقية وصادقة ‪،‬‬
‫وهذا غريب!‪.‬‬
‫ويحكي المؤرخ الجندي قصة فقيه يمني كان يحضر دروسه جنی‬
‫فمر بهم صائد احناش ‪ ،‬فرجا الجنى الشيخ أن يأمره بمسكه عندما‬
‫يتحول الى حنش‪.‬‬
‫وعندما تحول الجني وأمسكه الرجل ‪ ،‬رجا الشيخ وتالميذه الصائد‬
‫‪ ،‬فترك لهم الحنش ‪ ،‬وغاب الجنى ‪ ،‬وظهر بعد خمسة عشر يوما‬
‫وقد احترق جسده ‪ ،‬وحكي تجربته ‪ ...‬وهي شيء غريب‪.‬‬
‫ومبعث الغرابة هنا أن الجندي المؤرخ يحكي القصة نقال عن فقيه‬
‫عالم ‪ ،‬وليس عن واحد من العوام ‪ ،‬وهذا يعني توثيق القصة ‪ ،‬ومن‬
‫ثم توثيق اإليمان بالخرافات في البيئة اليمنية في عصر الجيلي‪.‬‬
‫ويقص الخزرجي قصة أخرى عن فقيه آخر اختطفه الجن الى‬
‫مملكته لمحاكمته على قتله واحدا منهم كان يتخفى في صورة «‬
‫حنش » ‪ ،‬وذكر وقائع المحاكمة ‪ ،‬وتفاصيلها العجيبة ‪ ،‬واخيرا‬
‫صدر حكم البراءة ‪ ،‬فعاد الى البشر ليحكي قصته ‪ .‬ويذكر‬
‫الخزرجي أن الملك المظفر لما سمع قصة الفقيه ‪ ،‬سأل عنه ‪،‬‬
‫فأخبروه أنه فقير ‪ ،‬ای صوفی ‪ ،‬فاثنى عليه ‪ ،‬وحمد هللا أن جعل‬
‫مثل هذا في بالده ‪!.‬‬
‫و تعقيب الملك األشرف يعني ان االيمان بهذه الخرافات ليس‬
‫قاصرا على العامة ‪ ،‬وإنما يمتد كذلك الى الملوك وسالطين اليمن‪.‬‬
‫ومن هنا لم يكن غريبا أن نرى الجيلى ‪ ،‬وهو يشارك في هذا‬
‫المجال بنصيب وافر ‪ ،‬فقد ذكر الجن ‪ ،‬مؤمنهم ‪ ،‬وكافرهم ‪،‬‬
‫وصنف انواعهم ‪ ،‬وفصل كل نوع في نصوص طويلة للغاية ‪،‬‬
‫يخرجنا إيرادها عن مجال البحث األصلي ‪ ،‬و نكتفي باالحالة على‬
‫مصدرها وموضعها ( االنسان الكامل ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪، ۱۱0 ، ۱09‬‬
‫‪. )۱۱۱‬‬
‫وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على تفاعل الجيلى و تأثره ببيئته‬
‫وموطنه ‪ ،‬وليس هذا هو الجانب الوحيد من جوانب تعلق أهل اليمن‬
‫بالخرافات والترهات ‪.‬‬
‫فهناك الكثير ‪ ،‬والكثير جدا من القصص التي تشير الى أعمال غير‬
‫طبيعية وغير منطقية ‪ ،‬فهى تجاوزات واضحة في الملوك والفكر ‪،‬‬
‫صدر معظمها من صوفية ‪ ،‬وعدها أهل اليمن من باب الكرامات‬
‫والعنايات ‪ ،‬وسنرى تفصيل ذلك في الجانب التالي واألخير‪.‬‬
‫الجانب الديني والروحي والصوفي‪:‬‬
‫منذ مطالع عصر الوحي ‪ ،‬وأهل اليمن يشتهرون بحميتهم الدينية ‪،‬‬
‫وشدة ايمانهم ‪ ،‬ورقة قلوبهم وأفئدتهم ‪ ،‬وقد ورد في صحيح مسلم‬
‫عن الرسول عنه أنه قال ‪ ( :‬جاء اهل اليمن ‪ ،‬هم أرق افئدة ‪،‬‬
‫االيمان يمان ‪ ،‬والفقه يمان ‪ ،‬والحكمة يمانية ) (صحيح مسلم بشرح‬
‫النووي)‪.‬‬
‫وقد وصف الرحالة األندلسي ابن جبير الحجاج اليمنيين أثناء أدائهم‬
‫المناسك ‪ ،‬في رحلته للحج ‪ ،‬في نهاية القرن السادس الهجري ‪،‬‬
‫وصفا مشوقا مبينا صدقهم ‪ ،‬وإخالصهم ‪ ،‬وحرارة إيمانهم ‪ :‬فهم‬
‫يطوفون وقد تشابكت ايديهم ‪ ،‬بعضهم البعض اآلخر ‪ ،‬بحيث اذا‬
‫وقع واحد منهم ‪ ،‬وقع الباقون معه ! ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫وهذه الروح الفطرية جعلت من اليمن تربة صالحة للتصوف ‪،‬‬
‫وانتشرت الطرق الصوفية في ربوع اليمن ‪ ،‬كما ذاع صيت الكثير‬
‫من الشخصيات الصوفية اليمنية ‪ ،‬وان كان غالب تراثهم جمال‬
‫شفاهية ‪.‬‬
‫والقليل منه كتب مدونة ‪ ،‬لم يصلنا غالبها كذلك ‪ ،‬وهذا يعني انهم‬
‫كانوا يهتمون بالسلوك ‪ ،‬اوال وقبل كل شيء ‪ ،‬وال يعنيهم ‪ ،‬في‬
‫كثير أو قليل ‪ ،‬تدوين قواعد هذا السلوك ‪ ،‬باالضافة الى أن‬
‫الكثيرين منهم كانوا أميين ‪ ،‬ال يقرأون وال يكتبون ‪ ،‬وهذا بالطبع‬
‫سينعكس على الكم الضخم من األساطير التي راجت عنهم ‪،‬‬
‫واشتهروا بها‪.‬‬
‫ومن الطرق التي كانت موجودة في اليمن ‪:‬‬
‫القادرية ‪ :‬نسبة الى عبد القادر الجيالني ‪ ،‬وقد أشار الجيلى الى‬
‫مقامه ورتبته في كتابه الحالي ( المناظر ) في حديثه عن ( منظر‬
‫الخلع ومنظر خلع العذار ) ‪.‬‬
‫ومن شعبها‪:‬‬
‫(أ) الزيلعية ‪ ،‬نسبة إلى الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي‪.‬‬
‫(ب) طريقة ابن عجيل الزوالي اليمني ‪ ،‬المتوفی ‪ 690‬هـ ‪ ( ،‬ج )‪.‬‬
‫(ج) الغيثية ‪ ،‬نسبة إلى الشيخ أبي الغيث بن جميل ‪ .‬وقد أشار له‬
‫الجيلي ‪ ،‬وبين مرتبته وقدره الروحى في الكتاب الحالي ( منظر‬
‫خلع العذار )‪.‬‬
‫( د ) األهلية ‪ ،‬نسبة الى الشيخ أبي الحسن علي بن عمر األهدل‬
‫الحسيني‪.‬‬
‫( هـ ) البجلية ‪ ،‬نسبة الى الشيخ محمد بن حسين البجلي ‪.‬‬
‫( و ) الطواشية ‪ ،‬نسبة الى نور الدين علي بن عبد هللا الطواشي ‪.‬‬
‫(ز) الحكمية ‪ ،‬نسبة إلى محمد بن أبي بكر الحكمي ‪.‬‬
‫(ح) النهارية ‪ ،‬نسبة إلى عمر بن موسى النهاري الحسيني ‪. .‬‬
‫وغير ذلك من الطرق ‪ ،‬من غير طريق القادرية(‪.‬انظر ‪ :‬اليافعي ‪:‬‬
‫مرآة الجنان ‪ ،‬ج ‪ ، ۳‬ص ‪ ۳55‬ومواضع اخرى كثيرة ‪ .‬البهاء‬
‫الجندي ‪ :‬السلوك ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪) . 7۱‬‬
‫وهناك شخصيات أخرى صوفية يمنية لها ثقلها في تحديد االطار‬
‫العام للتصوف في اليمن على مشارف عصر الجيلي‪.‬‬
‫من أشهرها ‪ :‬أبو الذبيح اسماعيل بن محمد بن إسماعيل ‪ ،‬المشهور‬
‫بالحضرمي‪ ، .‬وغيره الكثير ‪ ،‬وكراماتهم امتألت بها مصادر‬
‫التاريخ اليمنی ‪.‬‬
‫(انظر ‪ :‬اليافعی ‪ ،‬مرآة الجنان ‪ ،‬ج ‪ ۳‬ص ‪ .۳۵۵‬ومواضع اخرى‬
‫كثيرة ‪ ،‬البهاء الجندي ‪ :‬السلوك ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪).7۱‬‬
‫ومن الظواهر البارزة في تصوف مطلع عصر الجيلى ‪:‬‬
‫انتشار ظاهرة ( السماع الصوفي ) ومجالسه وحلقاته ‪ ،‬بمظاهره‬
‫العديدة من الجذب والوجد والحركة البدنية العنيفة ‪ ،‬وهو من أهم‬
‫عناصر مذهب الجيلى ‪ ،‬وأساس تشقيقاته ‪ ،‬وتخريجاته ‪ ،‬وتأويالته‬
‫الروحية والفكرية‪ ( .‬انظر ‪ :‬دراستنا ( عبد الكريم الجيلي ومكانته‬
‫في الفكر اإلسالمي الصوفي ) ج ‪ ،۲‬الفصل األول ( السماع ) ‪.).‬‬
‫وقد أشار في كتبه الى العديد من مجالس السماع التي كانت تعقد‬
‫في مسجد شيخه الجبرتي ‪ ،‬ومنزل العديد من اخوانه ‪ ،‬كالرداد‬
‫وغيره من أصحابه‪..‬‬
‫ومن االنصاف ان نذكر انه كان هناك من الصوفية اليمنيين من‬
‫رفضوا هذه الرياضة الروحية ‪ ،‬منهم ‪ :‬أبو الغيث بن جميل ‪،‬‬
‫والحسين السودي ‪ ،‬وأبو الحسن على التباعی ‪ ،‬وغيرهم كثيرون‬
‫‪(.‬اليافعی ‪ :‬روض الرياحين ‪ ،‬ص ‪ .. ۲78‬الخزرجي ‪:‬العقود ‪ ،‬ج‬
‫‪ ،۱‬ص ‪. ۳۱9‬الجندي ‪:‬السلوك ‪،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪.)۱۳0 - ۱۲9‬‬
‫ومن هذه الظواهر كذلك ‪ ،‬ظاهرة الرؤى والمنامات الكشفية ‪ ،‬وقد‬
‫حفلت بها كذلك المصادر اليمنية ‪ ،‬بحيث يعجز الباحث عن اختيار‬
‫مثال يخصه بالذكر ‪ ،‬دون سواه ‪ ،‬وقد شارك الجيلى بنصيب وافر‬
‫في هذا المجال ‪ ،‬وامتألت مؤلفاته بالعديد من الرؤى واألحالم ذات‬
‫المغزى‪.‬‬
‫وقد أشرنا إلى إحداها في فقرة ( أسرته ) حين رأى في نومه المراة‬
‫التي كانت تربيه صغيرا ‪.‬‬
‫ومن هذه الظواهر كذلك شيوع تراث التصوف الجذبي و الشطحي‬
‫‪? ،‬تراث الحالج ‪ ،‬وأبي يزيد البسطامي ‪ ،‬والشبلي ‪ ،‬وعين القضاة‬
‫الهمذاني ‪ ،‬وغيرهم من الشطاح ‪ .‬الى جانب تراث التصوف السني‬
‫المعتدل ‪ ،‬ولكن الغلبة كانت للتراث الجذبي ‪ ،‬وهو المناسب لطبيعة‬
‫البيئة اليمنية ‪.‬‬
‫وهذا واضح تماما في مؤلفات الجيلي عموما ‪ ،‬وفي كتابه‬
‫(المناظر) بصفة خاصة ‪ ،‬ومن كم نقوله العديدة وكيفها ‪.‬‬
‫وفي عصر الجيلي سيطرت أفكار ابن عربي ومدرسته الصوفية‬
‫الفلسفية ‪.‬‬
‫ولكن هذه األفكار اختلطت بالتيارات األسطورية والخرافية لليمنيين‬
‫‪ ،‬فابتعدت كثيرا عن رصانة طابع فكر ابن عربي الذي يكاد أن‬
‫يكون فلسفيا ‪.‬‬
‫واقتربت كثيرا من طابع التصوف اليمني الذي يتميز بالتلقائية‬
‫واالنطالق بال ضوابط من أي نوع ‪ ،‬وفي كل االتجاهات ‪.‬‬
‫وكان أبرز مشايخ هذا االتجاه في عصر الجيلي هو الشيخ إسماعيل‬
‫الجبرتي وتالميذه العديدون ‪ :‬ومن بينهم عبد الكريم الجيلي ‪ ،‬مؤلف‬
‫(( المناظر االلهية ) ‪ ،‬وأبو بكر الزداد ‪ ،‬وقد ذكره الجبلي في كتبه‬
‫‪ ،‬ومنها ( المناظر )‪.‬‬
‫وأبو بكر الحكاك ‪ ،‬الشاعر الصوفي اليمنى ‪ ،‬وقد ذكره الجيلى‬
‫كذلك في (المناظر)‪ ( :‬منظر الحضائر )‪.‬‬
‫و أحمد الحبايبی ‪ ،‬وغيرهم الكثير ‪.‬‬
‫وقد كان لهؤالء الصوفية تجاوزات سلوكية وعقدية عديدة ‪،‬‬
‫وسنرى نماذج لبعضها لدى الجيلي في كتابه الحالي‪.‬‬
‫استفزت مشاعر الفقهاء وعلماء السنة العقدين المعاصرين ‪:‬‬
‫كالحسين بن األهدل ‪ ،‬صاحب ( كشف الغطاء عن حقائق التوحيد‬
‫والعقائد ) والمتوفى سنة ‪ 855‬هـ ‪ ،‬واحمد بن أبي بكر الناشري ‪،‬‬
‫المتوفى سنة ‪ 845‬هـ ‪.‬‬
‫وإسماعيل بن أبي ب?ر المقرى ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 897‬هـ ‪.‬‬
‫ثم أبي بكر الخياط ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 8۳9‬هـ ‪.‬‬
‫واستعرت الحرب الفكرية بين الجانبين ‪ ،‬واستمرت المالحاة بينهما‬
‫مدة طويلة ‪ ،‬وقام الفقهاء الكالميون بالتشهير بالجبرتي وتالميذه ‪،‬‬
‫واتباع مدرسة ابن عربی عموما ‪.‬‬
‫وقد حفظ لنا األهدل في كتابه السابق ‪ ،‬وقائع كثيرة من هذه الحرب‬
‫الضروس ‪ ،‬وكذلك ابن حجر ‪ ،‬وتلميذه السخاوى ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وأهم أوجه النقد التي وجهوها للصوفية هي ‪:‬‬
‫السماع ‪ ،‬والقول بالحلول واالتحاد (انظر ‪ :‬كشف الغطاء ‪ ،‬مواضع‬
‫عديدة ‪ ،‬وابن حجر ‪ :‬المعجم المفهرس ‪ ،‬مخط‪ ،‬ص ‪ ، ۳9۲‬أنباء‬
‫الغمر ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪ ، ۵۲0‬السخاوي ‪ :‬الضوء الالمع‪ ،‬ج‪ ،۱‬ص‬
‫‪ ، ۲08 - ۲۵7‬عبد الغني النابلسي ‪ :‬الرد المتين ‪ ،‬مخط‪ ،‬في ‪.44‬‬
‫وانظر أخيرا ‪ :‬دراستنا عن الجيلى السابقة ‪ ،‬ج‪ ،۱‬معاصروه ‪،‬‬
‫ومواضع اخرى ‪. ) .‬‬
‫وإيراد تفاصيل هذه المعارك هنا يخرج هذه الدراسة عن غايتها ‪،‬‬
‫فليرجع القارئ للمصادر التي ذكرناها في الحاشية‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر ‪ ،‬فقد نال الجيلى نصيبه من هذه المعارك‬
‫الدامية ‪ ،‬إذ أن األهدل خصه بالذكر ‪ ،‬في نص رهيب مفزع ‪ ،‬رغم‬
‫انه افادنا كثيرا في جالء نقاط كثيرة في ترجمة حياة الجيلي ‪،‬‬
‫ويقول األهدل ‪ ... « :‬وكان من أهلكهم في ذلك البحر ‪ :‬عبد الكريم‬
‫الجيالني العجمي ‪ ،‬اجتمعت به قبل أن أعرف مذهبه بأبيات حسين‬
‫‪ ،‬وبها توفي ‪ ،‬وهو مدفون في تربة الشيخ إبراهيم الجيلي ‪ ،‬ح?ی‬
‫لی عنه فقيه صادق متقن انه صحبه في بعض أسفاره ‪ ،‬فسمع منه‬
‫الثناء العظيم على ابن عربی ‪ ،‬وعلومه ‪ ،‬وكتبه ‪ ،‬وسمع منه‬
‫التصريح بربوبية كل من يلقاه في الطريق من إنسان ‪ ،‬او طائر ‪،‬‬
‫أو شجر ‪? ( » ..:‬شف الغطاء ‪ :‬ق ‪ ۱8‬ط ‪. ).‬‬
‫ومن الواضح أن الجيلى حين قابل األهدل داراه واخفي عنه حقيقة‬
‫حاله ‪ ،‬ونجح في ذلك ‪ ،‬إلى أن تمكن من معرفة مذهبه عن طريق‬
‫شخص آخر صحب الجيلي في بعض أسفاره ‪ ،‬والزمه مدة تمكن‬
‫فيها من معرفة حقيقة مذهبه ‪ ،‬وهو شيء رهيب‪.‬‬
‫وقد أظهر الجيلى ردود فعل كثيرة ‪ ،‬في العديد من مؤلفاته ‪،‬‬
‫الموقف هؤالء الفقهاء والعلماء المناوئين لتيار صوفية مدرسة ابن‬
‫عربی في اليمن ‪:‬‬
‫مثل تكراره نفي ادعاء الحلول او االتحاد عن نفسه ‪ ،‬أو عن كتبه‬
‫ومؤلفاته ‪ ،‬وقد فعل ذلك في كثير من كتبه عموما‪.‬‬
‫وكتابه الحالی ( المناظر االلهية ) خصوصا ‪ ،‬في خطبة الكتاب ‪،‬‬
‫وفي ثنايا العديد من المناظر ‪ ،‬وسنرى تفصيل ذلك في الفقرة‬
‫الخاصة بتحليل الكتاب ودراسته به‬
‫وفي منظر ( اإليمان ) يبين خشيته من علماء عصره ‪ ،‬فيمسك عن‬
‫ذكر ما كان بصدد ذكره ‪ ،‬وهو يقول ‪ ... « :‬وكنت قد سطرت‬
‫كلمات في هذا المنظر ‪ ،‬من قبيل ما يجده صاحب هذا المنظر ‪،‬‬
‫وأسندته على حسب ما فتح هللا به على ‪ ،‬فيما بيني وبينه تعالى ‪.‬‬
‫فوجدت هذا ال يكاد العقل يقبله ‪ ،‬وربما علمت به نزاعا من بعض‬
‫علمائنا في ذلك ‪ :‬فاستخرت هللا تعالى ‪ ،‬وعزمت على ذلك ‪،‬‬
‫وعلمت أن هللا تعالى لم يكتم ذلك ‪ ،‬اال غيرة عليه ممن ليس من‬
‫أهله‪... ».‬‬
‫ورغم ذلك ‪ ،‬فقد أورد الجيلي في مناظره ما ال يصدقه عقل ‪ ،‬وما‬
‫ال يقبله منطق ‪ ،‬ومن المؤكد أن علماء اليمن لو كانوا قد قرأوا كتب‬
‫الجيلي عموما ‪ ،‬و كتابه (المناظر) بصفة خاصة الشتدوا في‬
‫موقفهم منه عن األهدل ‪.‬‬
‫وعلى كل ‪ ،‬فإن هذا تراثنا ‪ ،‬بقضه وقضيضه ‪ ،‬ونحن مطالبون‬
‫بمعرفته ‪ ،‬بايجابياته وسلبياته ‪ ،‬فهو تراث األجداد‪.‬‬
‫وهذا القدر يكفينا لكي ننتقل لدراسة شيوخ الجيلی…‬
‫شيوخ الشيخ الجيلي رضي هللا عنه‬
‫الجب يت ‪ ،‬المولود سنة ‪ 7۲۲‬هـ ‪،‬‬
‫ا‪ -‬ابرزهم هو الشيخ إسماعيل ر‬
‫والمتوفى سنة ‪ 806‬هـ ‪.‬‬
‫وكان من أصحاب الجذبات والسماع ‪ ،‬وله‪.‬شهرة كبيرة في عصر‬
‫الجيلي‪.‬‬
‫وتربى الجيلي على يديه ‪ ،‬واستفاد منه كثيرا ‪ ،‬واشار اليه في كتبه‬
‫ومؤلفاته ‪ ،‬فهو نعرض له في كتابه ( مراتب الوجود ) في نص‬
‫طويل جدا يدافع فيه عن وجهة نظر الجبرتي في حثه المريدين‬
‫على قراءة كتب ابن عربی ‪ ،‬وفائدة ذلك لهم ‪ ،‬من حيث اختصار‬
‫الوقت وبيان الطريق ‪ ... ،‬الخ ‪ ،‬وقد توقف الجيلي طويال في حديثه‬
‫حول ذلك (مراتب الوجود ‪ ،‬مخط تيمور ‪ ،‬ص‪.) ۱ - .‬‬
‫وهذا النص الطويل بيين الى اى جد تأثر الجيلي بأفكار شيخه‬
‫الجبرتي ‪ ،‬وارشاده ‪ ،‬بحيث نراه بعرضها على هذا النحو من‬
‫التفصيل ‪ ،‬ويشرحها ‪ ،‬ويدافع عنها بحماس بالغ‪.‬‬
‫وفي موضع آخر من مؤلفاته يحدثنا الجيلي عن مساعدة شيخه‬
‫الجبرتي له في موقف روحی عصيب مر به اثناء جلسة من‬
‫جلسات السماع كان يحضرها ‪ ،‬فغلبه الجذب والوجد ‪ ،‬وصاح من‬
‫األلم ‪ ،‬فسارع الجبرتي إلى معونته إلى أن استرد وعيه و اتزانه‬
‫(اإلنسان الكامل ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪.) ۳9‬‬
‫وقد حفظ الجيلى بعض عبارات الجبرتي المأثورة ‪ ،‬وأوردها في‬
‫كتبه ‪ ،‬وهو ينقل أحدها ‪ ،‬فيقول ‪ ... « :‬من سيدی و شيخي الشيخ‬
‫اسماعيل بن ابراهيم الجبرتي ‪ ،‬قدس هللا سره ‪ ،‬في الجنة يوما ‪،‬‬
‫وهو يقول ‪ :‬إن العمل إذا صدر من العبد غير مقارن للنية في الوله‬
‫‪ ،‬فاذا اراد ان يقصد به وجه هللا ‪ ،‬فلينو بعد الشروع فيه‪.‬‬
‫ولو كان العبد قد نوى نية قبيحة ‪ ،‬ثم تاب عنها في أثناء العمل ‪،‬‬
‫ونوى نية صالحة غير تلك ‪ ،‬فإن ذلك أيضا نافع في حسن صورة‬
‫العمل ‪ ،‬ويكون العمل حيا كامال ‪ ،‬ولقد صدق فيما قال رضي هللا‬
‫عنه‪.‬‬
‫)قاب قوسين ‪ ،‬بخط دار الكتب ‪ ،‬ق ‪ ۳۲‬ظ ‪ ۳۳ -‬و( ‪.‬‬
‫وهناك الكثير غير هذه العبارة أوردها الجبلي في كتبه نقال عن‬
‫شيخه الجبرتي ‪ .،‬ولكننا سنكتفي بهذا القدر‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر ‪ ،‬فإن كل نصوص الجيلى السابقة تبين شدة‬
‫تعلق الجيلي بشيخه الجبرتي ‪ ،‬واحترامه وتبجيله له ‪ ،‬الى الحد‬
‫الذي حدي بالجيلى الى نظم قصائد عديدة في مدح شيخه ‪ ،‬نجتزئ‬
‫من أحدها باألبيات التالية ‪:‬‬

‫ياذا الجبرتي الجبور طبيبه‬ ‫يا ابن ابراهيم يا بحر الندى ……‬
‫صباغة طبع المحب حبيبه‬ ‫……‬ ‫العبدك الجيلي منك عناية‬
‫عبد الكريم ومنك يرجى‬ ‫انت الكريم بغير شك وهو ذا ……‬
‫طبيبه‬
‫كال وليس سواكم مطلوبه‬ ‫ما حب قلبي قط شيئا غيركم ……‬
‫)االنسان الكامل ‪ ،‬ج ‪ ،۲‬ص ‪(۱9 - ۱8‬‬
‫والجيلى ال يعتبر مبالغا في هذه العبارات التي استخدمها إلظهار‬
‫حبه وتقديره لشيخه الجبرتي ‪ ،‬ألنه ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬اغفل ذكر اي‬
‫شيء يتصل بأسرته في كتبه التي وصلتنا ‪ ،‬على حين أنه ال يكاد‬
‫يخلو كتاب ‪.‬‬
‫من كتبه ‪ ،‬من اشارة او عبارة تتعلق بشيخه الجبرتي ‪.‬‬
‫وقد أشار الجبلي في كتابه الحالي ( المناظر االلهية ) إلى شيخه‬
‫الجبرتي ‪ ،‬في سياق عرضه لمنظر ( التالمت ) ‪ ،‬وهذا شيء‬
‫غريب ‪ ،‬أن يورد الجيلي شيخه الجبرتي في سياق هذا المنظر ‪:‬‬
‫ألن التالمت غير المالمة ‪.‬‬
‫فهو يعد المالمتية ‪ :‬أدباء امناء ‪ ،‬وهم اصحاب مداراة الناس ‪ ،‬مع‬
‫حفظ بواطنهم مع الحق ‪.‬‬
‫اما اصحاب منظر ( التالمت ) فهم من لم يتمكنوا من حفظ‬
‫بواطنهم ‪ ،‬فظهر أثرها على ظواهرهم ‪،‬فالمهم الناس على ذلك ‪.‬‬
‫وهو يعتبر الجبرتي واحدا من هؤالء أصحاب منظر التالمت ‪.،‬‬
‫وهو يعبر عن ذلك في حديثه عن‪:‬‬
‫آفة هذا المنظر ‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«آفة هذا المنظر ‪ :‬ظهور حكم ذلك التجلي الذي تغربوا به عن‬
‫الناس‪ ،‬فبرز حكم بواطنهم على أجسامهم ‪ ،‬حتى صدر منهم ما‬
‫صدر ‪ ،‬مما أوجب المالمة عليهم ‪ ،‬فهم ضعفاء لظهور اثر ذلك في‬
‫ظواهرهم به ولهذا نزلوا عن درجة األمانة ‪ ،‬التي اختص بها‬
‫المالمتية ‪ :‬األمناء ‪ ،‬األدباء ‪ ،‬الخلفاء ‪ ،‬الذين هم محل نظر هللا‬
‫تعالى من هذا العالم ‪.‬‬
‫وإن صدقت فراستی‪ ،‬فمنهم سيدي الشيخ شرف الدين اسماعيل بن‬
‫ابراهيم الجبرتي ‪،‬‬
‫وكثر العلماء والفقهاء بها ‪ ،‬سواء من ابنائها الخلص ‪ ،‬أو من‬
‫الوافدين عليها‪.‬‬
‫وشجع ملوك بني رسول العلم والعلماء ‪ ،‬بل كان منهم من شارك‬
‫بنفسه في حركة التأليف والكتابة‪:‬‬
‫كالملك المؤيد هزبر الدين داود بن يوسف الرسولي ‪،‬‬
‫الذي كانت خزانته تشتمل على مائة ألف مجلد ‪،‬‬
‫وكان على صلة دائمة طيبة‬
‫بالشيخ‬
‫تقي الدين بن دقيق العيد‪(47) .‬‬

You might also like