You are on page 1of 480

‫حتت إشراف الشيخ‬

‫شرح كتاب التوحيد‪:‬‬


‫مقرر الثلث األول‪:‬‬
‫من أول الكتاب إلى آخر باب ما جاء يف محاية المصطفى ﷺ‬
‫جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل الى الشرك‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪2‬‬

‫المقدمة‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الر ِح ِ‬ ‫ِ‬
‫الح ْمد ل َّله َرب ال َعا َلمي َن‪َ ،‬و َّ‬
‫الص ََلة‬ ‫يم‪َ ،‬‬ ‫بِ ْس ِم ال َّله َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الس ََلم َع َلى َنبِينَا م َح َّمد‪َ ،‬و َع َلى آله‪َ ،‬و َأ ْص َحابِه َأ ْج َمع َ‬
‫ين‪َ ،‬أ َّما َب ْعد‪:‬‬ ‫َو َّ‬
‫فهذا أحد مؤ َّلفات اإلمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن‬
‫عيل التميمي‪ ،‬المولود سنة ألف ومئة ومخس عشرة (‪)1115‬‬
‫سليمان بن ٍّ‬
‫ل َّلهجرة‪ ،‬ببلدة الع َي ْينَة‪ ،‬وهي تقع شمال الرياض بقرابة مخسين (‪ )50‬كيلو‬
‫مترا‪ ،‬وترعرع فيها‪.‬‬
‫وبيته بيت ِع ٍ‬
‫لم‪ ،‬فوالده كان قاضيا رمحه ال َّله‪ ،‬وكان عىل هنْج السلف‬
‫الصالح‪.‬‬
‫ناشئ عىل الذكاء والحذاقة والنباهة وقوة الحفظ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ومنذ نشأته وهو‬
‫ٍ‬
‫سنوات؛ بل إنه َبلغ الحلم يف س ٍّن مبكرة‪،‬‬ ‫فقد َحفظ القرآن وعمره عشر‬
‫فقد َبلغ وعمره أحد عشر (‪ )11‬عاما رمحه ال َّله‪.‬‬
‫بالعلم من والده‪ ،‬ومِن علماء أهل بلده؛ انتقل إىل‬ ‫وبعد أن َتزود ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫األحساء؛ ليتزود من العلم‪ ،‬وسافر إىل الحجاز‪ ،‬و َت َّ‬
‫وجه أيضا إىل العراق‪،‬‬
‫وصنَّف كتابه هذا يف البصرة‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫يأت ٍ‬
‫بشيء‬ ‫وكان َنهجه رمحه ال َّله يف دينه اقتفاء السلف الصالح‪ ،‬فلم ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من عنده من تلقاء ن ْفسه؛ بل كان حريصا عىل اتباع الكتاب ُّ‬
‫والسنَّة؛ لذلك‬
‫السنَّة‪ ،‬فمثَل يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكثر يف مصنَّفاته من ذكْر الدليل سواء من الكتاب أو من ُّ‬
‫متن ليس بالواسع ‪ -‬فيه أكثر من مخسين دليَل‪،‬‬ ‫ثَلثة األصول ‪ -‬وهو ٌ‬
‫والسنَّة كما‬
‫ُّ‬ ‫ومأل كتابه هذا ‪ -‬كتاب التوحيد ‪ -‬باألد َّلة من الكِتاب‬
‫سيأيت؛ لهذا مل يكن ألخصامه عليه َمدخَل يف أنَّه أتى ببدْ ٍع من الدين؛ بل‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫سلف هذه‬ ‫باستنباط منهما عىل هنْج‬ ‫كل ما َأتى به من الكتاب ُّ‬
‫والسنَّة‪ ،‬أو‬ ‫ُّ‬
‫األ َّمة‪.‬‬
‫وعاش رمحه ال َّله يف حياته داعيا ومصنفا وعابدا ل َّله سبحانه‪ ،‬فكان‬
‫داعيا منذ ِصغره‪ ،‬يدعو إىل توحيد ال َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬وآزره اإلمام‬

‫محمد بن سعود رمحه ال َّله(‪ ،)1‬وأ َّيده َ‬


‫ونصره ومنَع أي أحد من أن يؤذيه‪،‬‬
‫فقامت دعوته المباركة عىل هذا المنهج السديد‪.‬‬
‫وكان يصنف مع دعوته‪ ،‬ومل يكن هناك فن من فنون ِ‬
‫العلم إال وقد‬ ‫ٌّ‬

‫مرة بن‬
‫(‪ )1‬هو‪ :‬محمد بن سعود بن مح َّمد بن مقرن بن مرخان‪ ،‬من بني مانع المنسوب إىل َّ‬
‫ذهل بن شيبان‪ ،‬من عدنان‪ ،‬تويف سنة (‪ 1179‬هـ)‪ .‬الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن‬
‫قاسم (‪ ،)347/16‬األعَلم للزركيل (‪.)138/6‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪4‬‬

‫صنَّف فيه‪.‬‬
‫ففي الحديث مثَل‪ :‬أ َّلف كِتابا يف األحكام‪ ،‬وهو من أكبر الكتب‬
‫ف غيره‪ ،‬من عَلمات الساعة يف آخره‬ ‫المصنَّفة فيه‪ ،‬وأضاف فيه ما مل ِ‬
‫يض ْ‬
‫وغير ذلك‪ ،‬واختصر أيضا «فتح الباري»‪.‬‬
‫ويف الفقه‪ :‬اختصر الشرح الكبير البن قدامة(‪ ،)1‬واإلنصاف‪ ،‬وأ َّلف‬
‫شروط الصَلة وأركاهنا وواجباهتا‪ ،‬وآداب المشي إىل الصَلة‪.‬‬
‫ويف العقيدة‪ :‬أ َّلف ثَلثة األصول‪ ،‬وأ َّلف القواعد األربع‪ ،‬وكتابه هذا‬
‫كشف الشبهات ‪ -‬الذي هو خَلصة دعوته فيما ألقاه‬ ‫العظيم‪ ،‬وأ َّلف ْ‬
‫مختصرا لكتاب التوحيد ‪.-‬‬ ‫ٍ‬
‫شبهات‪ ،‬وهو يعتبر‬ ‫عليه أخصامه من‬
‫َ‬
‫وامتاز رمحه ال َّله يف تصنيفه بسهولة العبارة؛ ل َيفهم المخا َطبون ما‬
‫يريد‪.‬‬
‫وامتاز أيضا رمحه ال َّله بذكر دلي ِل ما َيذكر من المسائل؛ ليأخذ‬
‫والسنَّة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بيقين؛ ألنَّه أعطاه شيئا من الكتاب ُّ‬ ‫المستمع أو القارئ ما ذكَره له‬

‫الجماعييل‪،‬‬
‫ي‬ ‫(‪ )1‬هو‪ :‬موفق الدين أبو محمد عبد ال َّله بن أمحد بن محمد بن قدامة المقدسي‪،‬‬
‫ولد سنة (‪541‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة ( ‪620‬هـ) ‪ .‬ذيل طبقات الحنابلة البن‬
‫رجب (‪ ،)281/3‬سير أعَلم النبَلء للذهبي (‪.)165/22‬‬
‫‪5‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ومما امتاز به رمحه ال َّله أنَّه َيجمع شتات المسائل‪ ،‬فمثَل‪« :‬ثَلثة‬
‫َّ‬
‫األصول» ال تجد مصنَّفا قط يذكر فيه المسائل الثَلثة‬
‫العظيمة ‪ -‬معرفة ال َّله‪ ،‬ومعرفة نبيه‪ ،‬ومعرفة دين اإلسَلم ‪ ،-‬فهو مجَع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫كل مسألة عليها أد َّلة‪َ ،‬‬
‫وصنَّف يف كل‬ ‫وجعل َّ‬‫هذه الثَلث المسائل َ‬
‫ٍ‬
‫مسألة الدليل عىل ما َيذكره‪.‬‬ ‫تفرع منها؛ بل ويزيد يف كل‬
‫ما َي َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وكان رمحه ال َّله من أخَلقه وصدق دعوته فيما يخاطب به َ‬
‫غيره؛ أنَّه‬
‫يدعو ألخصامه يف السجود‪ ،‬وذلك أنَّه يف ب ْعث رسائله يكتب ألخصامه‪:‬‬
‫أن ال َّله يهديك»(‪.)1‬‬
‫«وأنت ممن أدعو له يف سجودي ب َّ‬
‫ممن يؤذيه أو يخالِف دعوته أو ي َؤلب‬ ‫وكان يعفو عن أخصامه َّ‬
‫عليه‪ ،‬وال َينظر إىل مِثل ذلك‪.‬‬
‫سمى به‬
‫سمى أوالده بما َّ‬
‫وكان مح يبا لهدي النبي ﷺ كثيرا؛ بل إنه َّ‬
‫عيل والحسن والحسين وإبراهيم‬
‫النبي ﷺ أوالده وأحفاده؛ فأوالده‪ٌّ :‬‬
‫ُّ‬
‫وعبد ال َّله‪ ،‬فأسماء أوالده‪ :‬أسماء أوالد أو أحفاد النبي ﷺ‪ ،‬وليس له‬
‫وسماها باسم بنت النبي ﷺ‪ :‬فاطمة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سوى بنت واحدة َّ‬

‫(‪ )1‬مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪ ،‬الرسائل الشخصية‪ ،‬الجزء‬


‫السادس (ص‪.)281‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪6‬‬

‫ٍ‬
‫تسمية بأوالد النبي ﷺ‬ ‫نج ٍد أكثر‬ ‫بيت مِن ْ‬
‫أهل ْ‬ ‫ولهذا يقال‪ :‬ال يوجد ٌ‬
‫وأحفاده مِن بيت الشيخ رمحه ال َّله؛ ولهذا ال َم ْط َعن فيما يقال عنه يف أنَّه‬
‫جاف للنبي ﷺ أو أنَّه ِ‬
‫مبتعدٌ‬ ‫ال يحب النبي عليه الصَلة والسَلم‪ ،‬أو بأنه ٍ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫سماهم بأسماء أوالد وأحفاد النبي عليه‬
‫عن دعوته؛ بل حتى أوالده َّ‬
‫الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫مما َتع َّلق به أهل بلده‪ ،‬أو َّ‬
‫ممن انتَشر فيهم الشرك؛‬ ‫ومن رأفته بما رآه َّ‬
‫بالملتزم ودعا ربه بأن يظهر دعوته‬
‫َ‬ ‫للملتزم عند الكعبة‪ ،‬والتَزم‬
‫َ‬ ‫أنَّه َذهب‬
‫َّ‬
‫وجل له دعوته‪ ،‬فانتشرت‬ ‫وأن يكتب لها القبول؛ فاستجاب ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫دعوته بتجديد ما اندَ ثر من معامل اإلسَلم يف عصره إىل اآلفاق‪.‬‬
‫مما َأتى‬
‫عصره عصرا قد َأ ْو َغل يف الشرك؛ بل َأتوا بأعظم َّ‬
‫وقد كان ْ‬
‫الز ْل َفى وحسب؛ بل‬ ‫ِ‬
‫طلب الشفاعة أو ُّ‬ ‫به أبو جهلٍ؛ فلم ِ‬
‫يصلوا إىل‬
‫الز ْل َفى‪ ،‬وإنَّما‬
‫َجعلوهم أولياء من دون ال َّله ال َيطلبوهنم الوسيلة أو ُّ‬
‫يدعوهنم كإله من دون ال َّله‪.‬‬
‫نج ٍد وما حولها منتشرا فيها الشرك من عبادة‬ ‫وكانت آنذاك ديار ْ‬
‫األحجار واألشجار‪ ،‬فضَل عن القبور‪ ،‬فرمح ٌة مِن ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل بأهل‬
‫بلدته و َمن بعدهم ْ‬
‫أن بعث هذا اإلمام المجدد؛ لبيان التوحيد‪ ،‬وإحَلل‬
‫‪7‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫النور مكان الظَلم‪ ،‬والتوحيد بدل الشرك‪.‬‬


‫ولهذا من أتى بعده يف تلك الديار‪ :‬للشيخ رمحه ال َّله ٌّ‬
‫حق عليه؛ ألنه‬
‫قد َأنقذ آباءه بإذن ال َّله من الشرك‪َّ ،‬‬
‫وإال لكان آباؤه و َمن بعدهم إىل عصرنا‬
‫ونحن نطوف حول األصنام واألوثان ونحو ذلك؛ إن مل يتداركنا ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫َّ‬
‫وجل برمحته‪.‬‬
‫وأوذي كثيرا يف دعوته‪ ،‬وهذا هنْج األنبياء يف اإليذاء؛ كما قال‬
‫الزب ِر‬ ‫وك َف َقدْ كذب رس ٌل مِن َقبلِ َك جاءوا بِالبين ِ‬
‫َات َو ُّ‬ ‫سبحانه‪َ ﴿ :‬فإِ ْن ك ََّذب َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫وجل فيمن دعا إىل‬ ‫عز َّ‬ ‫َاب المنِير﴾ [آل عمران ‪ ،]184‬فهذه سنَّة ال َّله َّ‬ ‫َوالكِت ِ‬

‫التوحيد‪ ،‬يؤ َذى؛ لرفع درجاته‪ ،‬وليتساقط أهل الباطل مع باطلهم‪ ،‬ويبقى‬
‫الحق ناصعا مخ َّلصا‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫ٍ‬
‫جهيد من الدعوة والتصنيف والعبادة أمدَّ ال َّله َّ‬ ‫عم ٍر‬
‫وبعد ْ‬
‫يف عمره إىل عام ألف ومئتين وستة (‪ )1206‬ل َّلهجرة‪ ،‬ثم تويف رمحه ال َّله‬
‫يف ذلك العام‪ ،‬وقد عمر رمحه ال َّله؛ فقد َبلغ من العمر حين وفاته‪ :‬واحدا‬
‫وتسعين (‪ )91‬عاما رمحه ال َّله‪.‬‬
‫هذه حياة الشيخ باختصار‪ ،‬وما َقدَّ مه لهذه األ َّمة َرمحه ال َّله رمحة‬
‫واسعة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪8‬‬

‫والذب عنه‬
‫ُّ‬ ‫ونشر مصنَّفاته‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وأقل ما يقدمه المسلمون له‪ :‬الدعاء له‪ْ ،‬‬
‫عند من َيجهل حاله وحال دعوته فيقع فيه‪.‬‬
‫وأ َّما كِتابه ‪ -‬وهو هذا الكتاب – اسمه‪« :‬كتاب التوحيد الذي هو‬
‫حق ال َّله على العبيد»؛ فهو أعظم مصن ٍ‬
‫َّف له؛ بل ال يوجد من المصنَّفات‬
‫والسنَّة عن التوحيد مثله‪ ،‬ال قبل الشيخ وال بعده‬
‫التي َجمعت الكتاب ُّ‬
‫رمحه ال َّله‪ ،‬فهو فريدٌ يف زمانه‪ ،‬اقتَصر فيه عىل النصوص من الكِتاب‬
‫ٍ‬
‫يسيرة لبعض أعَلم األ َّمة فيه؛ لتوضيح معنى من‬ ‫ٍ‬
‫أقوال‬ ‫والسنَّة‪ِ ،‬‬
‫وذكْر‬ ‫ُّ‬
‫والذهبي(‪،)3‬‬
‫ي‬ ‫كأقوال لشيخ اإلسَلم(‪ ،)1‬وابن القيم(‪،)2‬‬
‫ٍ‬ ‫المعاين‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو العباس تقي الدين أمحد بن عبد الحليم بن عبد السَلم ابن تيمية الحراين‪ ،‬ث َّم‬
‫الدمشقي‪ ،‬ولد سنة (‪661‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪728‬هـ)‪ .‬ذيل طبقات الحنابلة البن‬
‫رجب (‪.)491/4‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي األصل ثم الدمشقي‬
‫ابن قيم الجوزية‪ ،‬ولد سنة (‪691‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪751‬هـ)‪ .‬الرد الوافر البن ناصر‬
‫الدين (‪.)68/1‬‬
‫(‪ )3‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله شمس الدين محمد بن أمحد بن عثمان بن قايماز التركماين الذهبي‪.‬‬
‫الكبرى‬ ‫الشافعية‬ ‫طبقات‬ ‫سنة (‪.)748‬‬ ‫وتويف‬ ‫سنة (‪673‬هـ)‪،‬‬ ‫ولد‬
‫للسبكي (‪.)100/9‬‬
‫‪9‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫حز ٍم(‪ ،)2‬أ َّما هو فلم َيذكر يف الكِتاب مِن َّأوله إىل آخره‬
‫والبغوي(‪ ،)1‬وابن ْ‬
‫أي كلمة منه؛ وإنَّما َجمع نصوصا؛ بل ومل َيجعل له مقدمة؛ ليكون‬
‫ٍ‬
‫يسيرة ِجدي ا ألئمة الدين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أقوال‬ ‫مقتصرا عىل النصوص فحسب‪ ،‬مع‬
‫أجمع ‪ -‬ما صنف يف هذا الباب‪.‬‬
‫أجمع ‪ -‬إن مل يكن ْ‬
‫فهو من ْ‬
‫َّ‬
‫وإن الشخص لو اقتَصر عىل مسائل توحيد األلوهية عىل هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬واعتقد ما فيه؛ فإنَّه ‪ -‬بإذن ال َّله ‪ -‬يغنيه عن بق يية الكتب يف‬
‫توحيد األلوهية‪ ،‬قال يف حاشية كتاب التوحيد‪« :‬هذا الكتاب ليس له نظير‬
‫يف الوجود»(‪.)3‬‬
‫واسم هذا الكتاب‪« :‬كتاب التوحيد الذي هو حق ال َّله»؛ يعني‪:‬‬
‫الواجب‪« ،‬على العبيد»؛ أي‪ْ :‬‬
‫أن يحققوه و َيعملوا بما فيه‪.‬‬
‫وموضوع كتاب التوحيد عدة ٍ‬
‫أمور‪:‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي‪ .‬طبقات الشافعية الكبرى‬
‫للسبكي (‪.)75/7‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو محمد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الفارسي األصل‪ ،‬ثم األندلسي القرطبي‪،‬‬
‫ولد سنة (‪384‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪456‬هـ)‪ .‬سير أعَلم النبَلء للذهبي (‪.)184/18‬‬
‫(‪ )3‬حاشية كتاب التوحيد (‪.)7/1‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪10‬‬

‫األول‪ :‬بيان التوحيد‪.‬‬


‫األمر َّ‬
‫واألمر الثاين‪ :‬بيان ما ينايف التوحيد بالكلية‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬بيان ما ينايف كمال التوحيد الواجب‪.‬‬
‫األمر الرابع‪ :‬بيان ما ينايف كمال التوحيد المستحب‪.‬‬
‫ِ‬
‫الموصلة إىل الشرك سواء‬ ‫األمر الخامس‪ :‬سدُّ الوسائل والذرائع‬
‫كانت قول َّية أو فعل َّية‪.‬‬
‫يعني إذا قيل‪ :‬ما الذي َيتك َّلم عنه كتاب التوحيد؟‬
‫الخمسة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تقول‪َ :‬يتك َّلم عن هذه األمور‬
‫والمعاصي تنقسم إلى قِسمين‪:‬‬
‫ٍ‬
‫شبهة‪ :‬كالشرك بال َّله‪.‬‬ ‫سم ناشئ ٌعن‬‫ِ‬
‫‪ .1‬ق ٌ‬

‫وشرب الخمر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫ناشئ عن شهوة‪ :‬كالزنا ْ‬
‫ٌ‬ ‫سم‬
‫‪ .2‬وق ٌ‬

‫والمعصية الناشئة عن الشبهة أشدُّ من الناشئة عن الشهوة؛ لذلك‬


‫بدعة»؛ ألنه ناشئ عن ش ٍ‬
‫بهة‪ ،‬أ َّما التي‬ ‫ٍ‬ ‫قال السلف‪َ « :‬ق َّل أن يتوب صاحب‬
‫ٌ‬
‫عن الشهوات؛ فبإذن ال َّله يتوب ٌ‬
‫كثير من العباد منها مثل‪ :‬اإلسبال‪ ،‬أو‬
‫ح ْلق اللحية‪ ،‬أو التدخين ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ولكون المعصية الناشئة عن شبهة أشدي ؛ َجعل الشيخ محمد بن‬


‫ْ‬
‫يتعرض للزنا‪ ،‬وال لشرب‬ ‫ِ‬
‫عبد الوهاب كتابه يف هذا القسم فقط‪ ،‬فلم َّ‬
‫الخمر‪ ،‬وال ألكل الميتة‪ ،‬وال لق ْطع الطريق‪ ،‬وال للسرقة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وأج ُّل ٍ‬
‫علم يتعلمه اإلنسان هو علم التوحيد؛ بل هو أوجب‬ ‫ي‬
‫واجب ‪ -‬كما سيأيت(‪ - )1‬يف أبواب التوحيد األوىل‪.‬‬

‫و َذكر أيضا توحيد األسماء والصفات َ‬


‫وجعلها يف آخر كتابه‪.‬‬
‫و َأك َث َر من توحيد األلوهية يف هذا الكتاب ألمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬ألنه هو الذي دعت إليه الرسل‪.‬‬
‫األمر َّ‬
‫عصره فيما يناقض توحيد‬
‫واألمر الثاين‪ :‬لكثرة وقوع الناس يف ْ‬
‫األلوهية‪.‬‬
‫المختصر َحفظتْه األجيال مِن بعد‬
‫َ‬ ‫وهذا الكتاب العظيم المفيد‬
‫الشيخ رمحه ال َّله إىل يومنا هذا؛ لعظيم فائدته‪.‬‬
‫وأول َمن َشرحه حفيده رمحه ال َّله‬
‫و َتواىل عليه العلماء بالشرح‪َّ ،‬‬
‫الشيخ سليمان بن عبد ال َّله بن محمد بن عبد الوهاب(‪ )2‬يف كتابه‪ :‬تيسير‬

‫(‪( )1‬ص) عند قوله (لذلك أوجب الواجبات التوحيد)‪.‬‬


‫(‪ )2‬هو‪ :‬سليمان بن عبد ال َّله بن محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬من آل الشيخ‪ .‬ولد‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪12‬‬

‫ووصل فيه إىل آخر باب ما جاء يف منكري القدر‪ ،‬ومل‬ ‫العزيز الحميد‪َ ،‬‬
‫ي ِ‬
‫كم ْله؛ ألنه قتل شهيدا صغيرا وعمره ثَلثة وثَلثون (‪ )33‬عاما فقط‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك أتى حفيده اآلخر وهو الشيخ عبد الرمحن بن حسن بن‬
‫محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله(‪َّ )1‬‬
‫فهذب و َأكمل ما مل يكمله ابن عمه‬
‫سليمان المحدث إىل هناية كتاب التوحيد‪.‬‬
‫ِ‬
‫شرح‬
‫شرح هذا الكتاب العظيم؛ مثل‪ْ :‬‬ ‫ثم بعد ذلك َتتابع العلماء يف ْ‬
‫قرة عيون الموحدين(‪ ،)3‬ومِثل كِتاب‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ابن عتيق رمحه ال َّله ‪ ،‬ومثل‪ :‬شرح ي‬

‫سنة (‪1200‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪1233‬هـ)‪ .‬الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن‬
‫قاسم (‪ ،)384/16‬األعَلم للزركيل (‪.)129/3‬‬
‫(‪ )1‬هو‪ :‬عبد الرمحن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب‪ .‬ولد سنة (‪1193‬هـ)‪ ،‬وتويف‬
‫سنة (‪ .)1285‬الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم (‪ ،)404/16‬األعَلم‬
‫للزركيل (‪.)304/3‬‬
‫(‪ )2‬اسم كتابه‪ :‬إبطال التننديد يف مختصر شرح كتاب التوحيد‪ .‬وابن عتيق هو‪ :‬محد بن عيل بن‬
‫محمد بن عتيق بن راشد بن محيضة‪ ،‬ولد سنة (‪1227‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة ( ‪1301‬هـ)‪.‬‬
‫الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم (‪ ،)430/16‬األعَلم للزركيل (‪.)272/2‬‬
‫(‪ )3‬قرة عيون الموحدين‪ ،‬للشيخ عبد الرمحن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله‪.‬‬
‫الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم (‪ ،)409/16‬األعَلم للزركيل ( ‪.)304/3‬‬
‫‪13‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫حاشية كتاب التوحيد لعبد الرمحن ابن قاسم(‪.)1‬‬


‫وهذا الكِتاب نَصح وال يزال َينصح به العلماء؛ بح ْفظه وم ْعرفة ما‬
‫ٍ‬
‫كثيرة‪.‬‬ ‫فيه؛ الشتماله عىل مسائل‬
‫***‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله عبد الرمحن بن محمد ابن قاسم العاصمي القحطاين‪ ،‬ولد‬
‫سنة (‪1319‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪1392‬هـ)‪ .‬األعَلم للزركيل (‪.)336/3‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪14‬‬

‫الر ِحيم‬ ‫ِ‬


‫بِ ْس ِم ال َّله َّ‬
‫الر ْحم ِن َّ‬
‫[‪]1‬‬
‫كِتاب الت ْو ِح ِ‬
‫يد‬ ‫َّ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ال ْنس إِ ََّّل لِي ْعبد ِ‬ ‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬وما خل ْقت ال ِ‬
‫ج َّن و ِ‬

‫اجتنِبوا‬
‫َّل أ ِن ْاعبدوا ال َّله و ْ‬ ‫وق ْوله‪﴿ :‬ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة رسو ً‬
‫ال َّطاغوت﴾ اآلية‪.‬‬
‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾‬
‫إِلى ق ْولِ ِه‪﴿ :‬وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً فا َّتبِعوه﴾ اآلية‪.‬‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬وقضى ر ُّبك أ ََّّل ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾ اآلية‪.‬‬
‫اعبدوا ال َّله وَّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا وبِالوالِد ْي ِن‬ ‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬و ْ‬
‫إِ ْحسان ًا﴾ اآلية‪.‬‬
‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬م ْن أراد أنْ ي ْنظر إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ‬ ‫قال ابن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫ا َّلتِي عل ْيها خاتمه؛ ف ْلي ْقر ْأ‪﴿ :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫السبل﴾ اآلية»‪.‬‬ ‫ش ْيئ ًا﴾ إِلى ق ْوله‪﴿ :‬وأ َّن هذا صراطي م ْستقيامً فا َّتبِعوه وَّل ت َّتبِعوا ُّ‬
‫وع ْن معا ِذ ْب ِن جب ٍل ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬ك ْنت ر ِديف النَّبِي ﷺ على‬
‫‪15‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫العب ِ‬
‫اد‬ ‫اد‪ ،‬وما ح ُّق ِ‬
‫العب ِ‬
‫ِحام ٍر‪ ،‬فقال‪ :‬يا معاذ! أت ْد ِري ما ح ُّق ال َّل ِه على ِ‬

‫على ال َّل ِه؟ ق ْلت‪ :‬ال َّله ورسوله أ ْعلم‪.‬‬


‫اد أنْ ي ْعبدوه وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا‪ ،‬وح ُّق‬ ‫لعب ِ‬‫قال‪ :‬فإِ َّن ح َّق ال َّل ِه على ا ِ‬

‫اد على ال َّل ِه أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا‪.‬‬


‫العب ِ‬
‫ِ‬

‫فق ْلت‪ :‬يا رسول ال َّل ِه! أفَل أبشر النَّاس؟ قال‪َّ :‬ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»‬
‫حيح ْي ِن‪.‬‬ ‫أ ْخرجاه فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫الر ِحيمِ)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قال رمحه ال َّله تعاىل‪( :‬بِ ْس ِم ال َّله َّ‬
‫الر ْحم ِن َّ‬
‫ِ‬
‫اقتَصر المصنف رمحه ال َّله عىل البسملة يف َّأول كتابه ومل ْ‬
‫يضع مقدمة‬
‫والسنَّة؛ حتى مل يكن قد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫له؛ ليكون مجيع ما يف هذا الكتاب من الكتاب ُّ‬
‫وضع من عنده وال حرفا واحدا‪ ،‬فلم يقل‪ :‬وضعت يف هذا الكِتاب‪ ،‬أو‪:‬‬ ‫َ‬
‫خصصت أو استد َل ْلت‪.‬‬
‫لئَل يقال‬ ‫وإنَّما قال‪( :‬بِس ِم ال َّل ِه الر ْحم ِن الر ِحيم‪ ،‬كِتاب الت ْو ِح ِ‬
‫يد)؛ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫بشيء مِن تلقاء ن ْفسه‪ ،‬فاقتصر عىل البسملة؛ تأسيا بالنبي‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫أن الشيخ قد أتى‬
‫فأول ما فيه‪:‬‬
‫عليه الصَلة والسَلم يف مكاتباته‪ ،‬واقتداء بالقرآن العظيم‪َّ ،‬‬
‫يم * ال َح ْمد ل ِ َّل ِه َرب ال َعا َل ِمي َن﴾ [الفاتحة‪.]2-1:‬‬
‫الر ِح ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿بِ ْس ِم ال َّله َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪16‬‬

‫والبركة؛ أي‪ :‬يا رب‬


‫َ‬ ‫قال رمحه ال َّله‪( :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه) الباء هنا لَلستعانة‬

‫أعني‪ ،‬وأنا َأ َّ‬


‫تبرك باسمك يف هذا العمل؛ أي‪ :‬أستعين بال َّله متبركا به يف‬
‫تأليف هذا الكِتاب‪.‬‬
‫البركة به؟‬
‫تحل َ‬‫فإذا قيل‪ :‬هل إذا ذكر اسم ال َّله ُّ‬
‫ذكرت‬
‫َ‬ ‫نقول‪ :‬نعم؛ بل قد ال يجوز لك أن تأكل بعض األشياء إال إذا‬
‫اسم ال َّله عليها‪ ،‬فمثَل عند الصيد‪ ،‬أو الذبيحة ال يجوز أن تأكلها إال إذا‬
‫كرت اسم ال َّله عليها‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َال َت ْأكلوا مِ َّما َل ْم ي ْذك َِر‬ ‫َذ َ‬
‫اسم ال َّل ِه َع َل ْي ِه إِ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اسم ال َّله َع َل ْيه﴾ [األنعام‪ ،]121:‬وقال‪َ ﴿ :‬فكلوا م َّما ذك َر ْ‬‫ْ‬
‫ِِ ِِ‬
‫ين﴾ [األنعام‪.]118:‬‬‫كنْت ْم بِآ َياته م ْؤمن َ‬
‫البركة؛ بل َتجعل‬ ‫مجرد ذكْر اسم ال َّله عىل الشيء ُّ‬
‫تحل فيه َ‬ ‫فب َّ‬
‫المحرم بعيدا عنه‪.‬‬
‫َّ‬
‫وكذا عند دخول المنزل تقول‪« :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه»(‪.)1‬‬

‫ٍ‬
‫لحديث رواه أبو داوود‪ ،‬كتاب النوم‪ ،‬باب ما يقول الرجل إذا َدخل بيته‪ ،‬رقم (‪،)5096‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الرجل َب ْيتَه‪،‬‬ ‫من حديث أبي مالك األشعري رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬إِ َذا َو َل َج َّ‬
‫َف ْل َيق ْل‪ :‬ال َّله َّم إِني َأ ْس َأل َك َخ ْي َر ال َم ْو َلجِ ‪َ ،‬و َخ ْي َر ال َم ْخ َر ِج‪ ،‬بِ ْس ِم ال َّل ِه َو َل ْجنَا‪َ ،‬وبِ ْس ِم ال َّل ِه‬
‫َخ َر ْجنَا‪َ ،‬و َع َلى ال َّل ِه َربنَا َت َو َّك ْلنَا‪ ،‬ث َّم لِي َسل ْم َع َلى َأ ْهلِ ِه»‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وعند الخروج ‪ -‬كما َورد(‪ - )1‬تقول‪« :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه»‪.‬‬


‫وعند دخول المسجد تقول‪« :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه»(‪.)2‬‬
‫وعند الخروج من المسجد تقول‪« :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه»(‪.)3‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫بمحذوف وهو ِ‬
‫الفعل‪ ،‬بمعنى‪ :‬ال تقل‪« :‬آكل‬ ‫ٍ‬ ‫والباء متعلق ٌة‬
‫ِ‬
‫بِ ْسم ال َّله»‪ ،‬وإنَّما احذف كلمة «آكل» أو «أشرب»‪ْ ،‬‬
‫واجعل األمر‬
‫محذوف‪ ،‬وجعلت الباء‬
‫ٌ‬ ‫بِاسم ال َّله مباشرة فتقول‪( :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه) والف ْعل‬
‫لَلستعانة والتبرك‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)26616‬من حديث أ يم سلمة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن‬
‫َان إِ َذا َخ َر َج مِ ْن َب ْيتِ ِه‪َ ،‬ق َال‪« :‬بِ ْس ِم ال َّل ِه‪َ ،‬ت َو َّك ْلت َع َلى ال َّل ِه‪ ،‬ال َّله َّم إِني َأعوذ‬ ‫النَّبِ َّي ﷺ ك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِ َك م ْن َأ ْن ن َِز َّل َأ ْو نَض َّل‪َ ،‬أ ْو َن ْظلِ َم َأ ْو ن ْظ َل َم‪َ ،‬أ ْو ن ْ‬
‫َج َه َل َأ ْو ي ْج َه َل َع َل ْينَا»‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)26417‬من حديث فاطمة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪« :‬ك َ‬
‫َان‬
‫ول ال َّل ِه‪ ،‬ال َّله َّم‬
‫الس ََلم َع َلى َرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫َرسول ال َّل ِه ﷺ إِ َذا َد َخ َل ال َم ْس ِ‬
‫جدَ َق َال‪« :‬بِ ْس ِم ال َّله‪َ ،‬و َّ‬
‫اب َر ْح َمتِ َك»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِْ ِ‬
‫اغف ْر لي ذنوبِي‪َ ،‬وا ْفت َْح لي َأ ْب َو َ‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)26417‬من حديث فاطمة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬وإِ َذا‬
‫اغ ِف ْر لِي ذنوبِي‪َ ،‬وا ْفت َْح لِي‬
‫ول ال َّل ِه‪ ،‬ال َّله َّم ْ‬
‫الس ََلم َع َلى َرس ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َر َج َق َال‪« :‬بِ ْس ِم ال َّله‪َ ،‬و َّ‬
‫اب َف ْضلِ َك»‪.‬‬
‫َأ ْب َو َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪18‬‬

‫السمو ‪ -‬وهو العلو واالرتفاع ‪ ،-‬أو ال َع ََل َمة‪.‬‬ ‫ِ‬


‫سمِ) من ُّ‬
‫وقوله‪( :‬ا ْ‬
‫البركة فيه‪ ،‬وأنا‬ ‫يعني‪ :‬هذا األمر وضعت عليه عَلمة ب َّ‬
‫أنِِي طلبت َ‬
‫سمو ورفع ٌة يل‪.‬‬
‫مستعين بال َّله سبحانه‪ ،‬وما فعلته فيه ٌّ‬
‫ٌ‬
‫العلو‪.‬‬
‫ي‬ ‫ومنْه قول بعض الناس‪ :‬صاحب السمو؛ يعني‪:‬‬
‫وسما وهو ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫تبرك بمن عَل َ‬ ‫أي‪ :‬أستعين و َأ َّ‬
‫قوله‪( :‬ال َّل ِه) هذا ع َل ٌم عىل ال َّله عز وجل‪ ،‬وال يطلق عىل غيره‪ ،‬وهو‬
‫ع َلم األعَلم‪.‬‬
‫ومعنى ال َّله؛ أي‪ :‬المألوه‪ ،‬المعبود؛ يعني‪ :‬بِاسم المعبود‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل تنقسم إىل أربعة أقسا ٍم‪:‬‬ ‫وأسماء ال َّله َّ‬
‫األول‪ :‬ال يجوز إطَلقه إال عليه سبحانه‪ ،‬مثل‪ :‬ال َّله‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫القدوس‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬يطلق عىل ال َّله وعىل غيره‪ ،‬مثل‪ :‬الحكيم‪ ،‬الكريم‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬عند اإلطَلق ال َينصرف إال ل َّله عز وجل‪ ،‬وهو‬
‫الرب‪.‬‬
‫ي‬
‫الرب؛ فَل يطلق إال عىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬ي‬
‫‪19‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫رب المال؛‬ ‫ِ‬


‫حسب ما أضيف إليه‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬هذا ي‬ ‫وإذا أضيف؛ فعىل‬
‫رب الدار؛ يعني‪ :‬هذا صاحب الدار‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬صاحب المال‪ ،‬أو‪ :‬هذا ي‬
‫ِ‬
‫القسم الرابع‪ :‬يجوز إطَلقه عىل ال َّله عز وجل‪ ،‬وعىل غيره‪ ،‬لكن‬
‫األَوىل عدم إطَلقه َّإال عىل ال َّله‪ ،‬مثل‪ :‬الس ييد؛ لذلك لما قِيل للنبي عليه‬
‫السيد»(‪.)1‬‬
‫إن ال َّله ه َو َّ‬
‫الصَلة والسَلم‪ :‬أنت سيدنا وابن سيدنا فقال‪َّ « :‬‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم كنية رج ٍل‬
‫لما غ َّير ُّ‬
‫ويف الكنى‪ :‬فمن ذلك َّ‬
‫شريح(‪.)2‬‬
‫ٍ‬ ‫من أبي الحكم إىل أبي‬
‫هذه األقسام األربعة يف اإلطَلقات عىل ال َّله عز وجل‪.‬‬

‫مطرف‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داوود‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب يف كراهية التمادح‪ ،‬رقم (‪ ،)4806‬من حديث ي‬
‫السيد ال َّله َت َب َار َك َو َت َعا َلى»‪.‬‬
‫رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َّ « :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داوود‪ ،‬كتاب األَدب‪ ،‬باب يف تغيير االسم القبيح‪ ،‬رقم (‪ ،)4955‬من حديث‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ َم َع‬
‫شريح بن هانئ بن أبيه رضي ال َّله عنهما‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬ل َّما َو َفدَ إِ َلى َرس ِ‬

‫َق ْومِ ِه َس ِم َعه ْم َي ْكنونَه بِ َأبِي ال َح َك ِم‪َ ،‬فدَ َعاه َرسول ال َّل ِه ﷺ‪َ ،‬ف َق َال‪« :‬إِ َّن ال َّل َه ه َو ال َح َكم‪،‬‬
‫اخ َت َلفوا فِي َش ْي ٍء َأ َت ْونِي‪،‬‬‫َوإِ َل ْي ِه الح ْكم‪َ ،‬فلِ َم ت ْكنَى َأ َبا ال َح َك ِم؟»‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِ َّن َق ْومِي إِ َذا ْ‬
‫َف َح َك ْمت َب ْينَه ْم َف َر ِض َي كِ ََل ال َف ِري َق ْي ِن‪َ ،‬ف َق َال َرسول ال َّل ِه ﷺ‪َ « :‬ما َأ ْح َس َن َه َذا‪َ ،‬ف َما َل َك‬
‫مِ َن ال َو َل ِد؟»‪َ ،‬ق َال‪ :‬لِي ش َر ْي ٌح‪َ ،‬وم ْسلِ ٌم‪َ ،‬و َع ْبد ال َّل ِه‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ف َم ْن َأ ْك َبره ْم؟»‪ ،‬ق ْلت‪ :‬ش َر ْي ٌح‪،‬‬
‫َق َال‪َ « :‬ف َأن َ‬
‫ْت َأبو ش َر ْي ٍح»‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪20‬‬

‫اسم من أسماء ال َّله‪.‬‬ ‫الر ْحم ِن) هذا ٌ‬


‫قوله‪َّ ( :‬‬
‫اسم من أسماء ال َّله‪.‬‬ ‫( ِ‬
‫الرحيم) أيضا ٌ‬ ‫َّ‬
‫وكَل االسمين يعودان إىل ِصفة الرمحة‪ ،‬والرمحن‪ :‬الصفة المتعلقة‬
‫بذاته‪ ،‬والرحيم‪ :‬الصفة الواصلة اىل خ ْلقه‪.‬‬
‫والرمحة تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫النبي ﷺ‪َ « :‬خ َل َق ال َّله مِ َئ َة‬ ‫ِ‬
‫األول‪ :‬رمح ٌة مخلوق ٌة؛ كما قال ُّ‬
‫القسم َّ‬
‫احدَ ة بين َخ ْل ِق ِه‪ ،‬و َخب َأ ِعنْدَ ه مِ َئة إِ َّال و ِ‬
‫احدَ ة »(‪.)1‬‬ ‫رحم ٍة‪َ ،‬فو َضع و ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ‬
‫مخلوقة؛ وإنَّما هي صف ٌة من صفات ال َّله‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬رمح ٌة غير‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب الرجاء مع الخوف‪ ،‬رقم (‪ ،)6469‬ومسلم‪ ،‬كتاب‬
‫التوبة‪ ،‬باب يف سعة رمحة ال َّله تعاىل وأهنا َسبقت غضبه‪ ،‬رقم (‪ ،)2752‬من حديث أبي‬
‫هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الر ِحيم)‪:‬‬
‫الر ْحم ِن َّ‬ ‫ٍ‬
‫عباس(‪ )1‬رضي ال َّله عنهما يف قوله ( َّ‬ ‫وقال ابن‬
‫«اسمان رقيقان ‪ -‬يعني واسعان ‪ -‬أحدمها ي‬
‫أرق ‪ -‬يعني أوسع ‪ -‬من‬
‫اآلخر» (‪.)2‬‬
‫خاص بالمؤمنين‪ ،‬والرمحن‬ ‫ٌّ‬ ‫فالرمحن أوسع من الرحيم؛ َّ‬
‫ألن الرحيم‬
‫َان بِالم ْؤمِنِي َن‬
‫عا ٌّم لجميع الناس؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وك َ‬
‫َر ِحيما﴾ [األحزاب‪.]43:‬‬
‫الفرق بين الرمحن والرحيم؟‬
‫فإذا قيل‪ :‬ما ْ‬
‫األول‪ :‬الرمحن ال يجوز إطَلقه إال عىل ال َّله‪ ،‬أ َّما الرحيم‬
‫الفرق َّ‬
‫ْ‬
‫رحيم‪ ،‬وال‬
‫ٌ‬ ‫فيجوز إطَلقه عىل ال َّله وعىل غ ْير ال َّله‪ ،‬فتقول‪ :‬أنت رج ٌل‬
‫رمحن أو أنت الرمحن‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يجوز أن تقول‪ :‬أنت‬
‫رب»‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا‬
‫لكن لو أضيفت كلمة رمحن باإلضافة يجوز كـ « ي‬
‫رمحن هذه البلدة‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا رمحن اليمامة وهكذا‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪َ :‬أبو العباس َعبد ال َّله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف‪ ،‬الق ِ‬
‫رش يي‬
‫ٍ‬
‫سنوات‪ ،‬وتويف‬ ‫عم رسول ال َّله ﷺ‪ ،‬ولد قبل الهجرة بثَلث‬ ‫الهاشمي‪ ،‬ابن ي‬
‫سنة (‪68‬هـ)‪ .‬اإلصابة يف تمييز الصحابة البن حجر (‪.)228/6‬‬
‫(‪ )2‬تفسير البغوي (‪ ،)51/1‬تفسير ابن كثير (‪.)125/1‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪22‬‬

‫دال عىل الصفة المتعلقة بال َّله‪ ،‬والرحيم ٌّ‬


‫دال‬ ‫أن الرمحن ٌّ‬
‫الفرق الثاين‪َّ :‬‬
‫ْ‬
‫عىل تعلقها بالخ ْلق‪.‬‬
‫فمثَل‪ :‬لو أن شخصا َأوشك عىل الهَلك ثم عويف؛ فتقول‪ :‬هذا رج ٌل‬
‫َ‬
‫تداركتْه رمحة ال َّله‪.‬‬
‫دال عىل ال َّله‪ ،‬والرحيم َأثر هذه الرمحة عىل المخلوق‪.‬‬
‫فالرمحن ٌّ‬
‫ٍ‬
‫عباس‬ ‫أن اسم الرمحن أوسع‪ ،‬مِثلما قال ابن‬ ‫الفرق الثالث‪َّ :‬‬
‫ْ‬
‫ٌ‬
‫شامل للكفار وللمؤمنين‪ ،‬وأ َّما الرحيم‬ ‫رضي ال َّله عنهما عن الرمحن‪ ،‬فهو‬
‫َان بِالم ْؤمِنِي َن‬
‫خاص بالمؤمنين؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وك َ‬ ‫ٌّ‬ ‫فهو‬
‫َر ِحيما﴾ [األحزاب‪.]43:‬‬
‫خاص باآلخرة فقط‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫واسم الرمحن عا ٌّم للجميع يف الدنيا‪ ،‬وأ َّما الرحيم‬
‫قلت‪ :‬الرمحن اسم تع ُّلقه بالصفة بالدنيا واآلخرة‪ ،‬أ َّما‬
‫شئت َ‬
‫لذلك إن َ‬
‫خاص‬
‫ٌّ‬ ‫الرحيم فقط اسم تع ُّلقه يكون مع الدنيا لآلخرة أيضا‪ ،‬فالرحيم‬
‫فقط بالمؤمنين يف اآلخرة‪.‬‬
‫قال‪( :‬كِتاب الت ْو ِح ِ‬
‫يد)‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪23‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الج ْمع(‪ُّ ،)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫فكل من َجمع‬ ‫(كتاب) الكتاب مأخوذ من ال َكتْب وهو َ‬
‫شيئا يقال له كتَبه‪.‬‬
‫مكتوب من التمر‪ ،‬وكذا من َجمع‬ ‫ٌ‬ ‫فمن َجمع مثَل تمرا‪ ،‬يقال‪ :‬هذا‬
‫تاب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الحروف وصنَّف يقال‪ :‬هذا ك ٌ‬
‫وجرت عادة المصنفين من العلماء أن يضعوا األكبر‪ :‬الكِتاب ثم‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الباب ثم المسألة‪ ،‬وهذا ما َصنعه المصنف رمحه ال َّله يف كتابه هذا؛ َ‬
‫فجعل‬
‫ووضع مسائل يف هناية كل ٍ‬
‫باب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كتابا هو أ يم األبواب فيما بعده‪َ ،‬‬
‫كتاب َأذكر فيه ما هو الواجب يف‬ ‫يد) يعني‪ :‬هذا‬‫ثم قال‪( :‬الت ْو ِح ِ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫توحيد ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫وحد يوحد توحيدا(‪.)2‬‬
‫والتوحيد لغة‪ :‬مصدر َّ‬
‫وجل بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته(‪.)3‬‬ ‫وشرع ًا‪ :‬إفراد ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪.)208/1‬‬


‫(‪ )2‬تاج العروس للزبيدي (‪.)266/9‬‬
‫(‪ )3‬أصول الدين اإلسَلمي للشيخ محمد بن عبد الوهاب (‪.)5/1‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪24‬‬

‫وهو ينقسم إىل ثَلثة أقسام‪ ،‬وتقسيمه استقر َأه السلف رمحهم ال َّله يف‬
‫يصح أن نَجعل قِسما يف التوحيد؛‬ ‫ي‬ ‫مخالف‬
‫ٌ‬ ‫ظهر‬
‫ظهور المخالفين‪ ،‬فإذا َ‬
‫للر يد عليه‪.‬‬
‫األول‪ :‬وهو أصل األقسام كلها‪ ،‬وهو توحيد الربوبية‪ :‬وهو‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫أن ال َّله الخالق الرازق‬
‫إفراد ال َّله بأفعاله سبحانه وتعالى؛ أي‪ :‬إثبات َّ‬

‫المدبر المحيي المميت وهكذا(‪ ،)1‬فَل نقول‪ :‬الذي يحيي هو غير ال َّله‪،‬‬
‫وال نقول‪ :‬الذي يميت هو غير ال َّله‪.‬‬
‫أن ال َّله هو الذي ينزل المطر‪.‬‬
‫فمن قال مثَل‪َّ :‬‬
‫َ‬
‫نسبت‬
‫َ‬ ‫فردت ال َّله بفعله؛ فالفعل إنزال المطر‪ ،‬وأنت‬
‫َ‬ ‫نقول‪ :‬أنت َأ‬
‫هذا اإلنزال ل َّله؛ فهذا توحيد الربوبية‪.‬‬
‫وتوحيد الربوبية مل ي ِ‬
‫نازع به أحدٌ ‪ ،‬فأبو جه ٍل و َمن معه من كفار‬
‫قرون هبذا التوحيد؛ أل َّنه ال يمكن‬ ‫قريش و َمن َقبلهم‪ ،‬و َمن بعدهم؛ ي ُّ‬
‫إنكاره؛ لهذا قال سبحانه‪﴿ :‬و َلئِن س َأ ْلتَهم من َخ َل َق السماو ِ‬
‫ات َواألَ ْر َض‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫الش ْم َس َوال َق َم َر َليَقول َّن ال َّله َف َأ َّنى ي ْؤ َفك ْو َن﴾ [العنكبوت‪،]61:‬‬
‫َو َس َّخ َر َّ‬

‫(‪ )1‬تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد ال َّله (‪.)17/1‬‬


‫‪25‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ض ق ِل ال َّله َوإِنَّا َأ ْو إِ َّياك ْم‬ ‫وقال‪﴿ :‬ق ْل من يرزقكم مِن السماو ِ‬


‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫ْ َ َّ َ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫ين﴾ [سبأ‪ ،]24:‬وقال‪َ ﴿ :‬و َلئِ ْن َس َأ ْلتَه ْم َم ْن‬ ‫َل َع َلى هدى َأ ْو فِي َض ََل ٍل مبِ ٍ‬

‫ات َواألَ ْر َض َل َيقول َّن ال َّله ق ِل ال َح ْمد ل ِ َّل ِه َب ْل َأ ْكثَره ْم َال‬


‫َخ َل َق السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫َي ْع َلم ْو َن﴾ [لقمان‪ ،]25:‬فهم ال ينكرون توحيد الربوبية‪.‬‬
‫ويسمى‪« :‬توحيد المعرفة واإلثبات»؛ يعني‪ :‬توحيد معرفة ال َّله‪،‬‬
‫َّ‬
‫بأن الرب موجود سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫إثبات َّ‬ ‫وتوحيد‬
‫الجنَّة والنجاة من النَّار؛ بل ال‬
‫وتوحيد الربوبية ال َيكفي يف دخول َ‬
‫بدي من اإلتيان بنوعي التوحيد معه ‪ -‬توحيد األلوهية وتوحيد األسماء‬
‫والصفات ‪.-‬‬
‫الخ َبري»؛ يعني‪ :‬تخبر عن ال َّله‬
‫يسمى‪« :‬التوحيد َ‬
‫وتوحيد الربوبية َّ‬
‫بأن الذي َأنزل المطر هو ال َّله‪.‬‬
‫َّ‬
‫بأن ال َّله هو الذي َأنزل‬
‫عرفت َّ‬
‫َ‬ ‫ويسمى‪« :‬توحيد المعرفة» فأنت‬
‫َّ‬
‫المطر‪.‬‬
‫فيسمى‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد المعرفة‪ ،‬وتوحيد اإلثبات‪.‬‬
‫َّ‬
‫والدليل عىل َّ‬
‫أنَِ توحيد الربوبية هو األصل يف التوحيد؛ قوله‬
‫سبحانه‪﴿ :‬ق ْل َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق﴾ [الفلق‪﴿ ،]1:‬ق ْل َأعوذ بِ َرب‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪26‬‬

‫َّاس﴾ [الناس‪ ،]1:‬هذه يف توحيد الربوبية‪﴿ ،‬إِ َل ِه الن ِ‬


‫َّاس﴾ [الناس‪ ]3:‬هذه‬ ‫الن ِ‬

‫يف توحيد األلوهية‪.‬‬


‫ومجيع أقسام التوحيد ‪ -‬من توحيد الذات‪ ،‬أو توحيد الطاعة ‪-‬؛‬
‫ك ُّلها َترجع إىل توحيد الربوبية؛ فتوحيد الربوبية هو األ ُّم يف التوحيد‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬توحيد األلوهية‪ :‬وهو إفراد ال َّله بأفعال العباد(‪)1‬؛ أي‪:‬‬
‫أن ن ييتك يف كل طاعة تفردها ل َّله خالصة له‪.‬‬
‫َّ‬
‫فرد عملك كالصَلة – مثَل ‪ -‬تجعلها خالصة ل َّله ال‬
‫يعني‪ :‬ت ِ‬

‫تجعلها الثنين ‪ -‬ال َّله وغير ال َّله ‪-‬؛ لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َق َال ال َّله َال‬
‫ِ‬
‫فرد‪ ،‬فتصلي ل َّله‪ ،‬و َتقرأ القرآن‬ ‫َتتَّخذوا إِ َل َه ْي ِن ا ْثنَ ْي ِن﴾ [النحل‪ ،]51:‬وإنَّما ي َ‬
‫ل َّله‪.‬‬
‫أفردت فِعلك ل َّله‪ ،‬فهذا توحيد األلوهية‪ :‬إفراد ال َّله بأفعال‬
‫َ‬ ‫فهنا‬
‫العباد‪.‬‬
‫العلم من أجل ال َّله؛ هذا إفراد ال َّله ِبفعل العبد وهو‬
‫وكذا َتطلب ِ‬

‫وأفردت ال َّله بالقصد بقلبك فهذا هو توحيد األلوهية‪.‬‬


‫َ‬ ‫طلب ِ‬
‫العلم‪،‬‬

‫(‪ )1‬تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبدالوهاب (‪.)19/1‬‬


‫‪27‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ويسمى توحيد األلوهية‪« :‬التوحيد ال َّط َلبِي»؛ يعني‪ :‬تطلب بعبادتك‬


‫وجه ال َّله‪.‬‬
‫ويسمى‪« :‬التوحيد اإلرادي»؛ يعني‪ :‬ال تريد إال ال َّله‪.‬‬
‫وجه ال َّله‪.‬‬
‫ويسمى‪« :‬توحيد القصد»؛ يعني‪َ :‬تقصد هبذه الطاعة ْ‬
‫وجل الرسل وإال‬ ‫عز َّ‬ ‫أجله ب َعث ال َّله َّ‬ ‫ِ‬
‫وتوحيد األلوهية هو الذي من ْ‬
‫فكانت األرض عىل التوحيد؛ لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َال ت ْف ِسدوا فِي‬
‫ض َب ْعدَ إِ ْص ََل ِح َها﴾ [األعراف‪]56:‬؛ يعني‪ :‬ال تفسدوا يف األرض‬ ‫األَ ْر ِ‬

‫بالشرك بعد أن كانت صالحة بالتوحيد‪.‬‬


‫ٍ‬
‫محمد‬ ‫عز َّ‬
‫وجل الرسل من نوحٍ إىل‬ ‫ولما َوقع الشرك فيها َبعث ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫اس َأ ْل‬
‫عليهم الصَلة والسَلم؛ لبيان هذا التوحيد؛ لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫الر ْح َم ِن آل ِ َهة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم ْن َأ ْر َس ْلنَا م ْن َق ْبل َك م ْن رسلنَا َأ َج َع ْلنَا م ْن دون َّ‬
‫ون﴾ [الزخرف‪ ،]45:‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وما َأرس ْلنَا مِ ْن َق ْبلِ َك مِ ْن رس ٍ‬
‫ول‬ ‫ي ْع َبد َ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ون﴾ [األنبياء‪ ،]25:‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫وحي إِ َلي ِه َأنَّه َال إِ َله إِ َّال َأنَا َفا ْعبد ِ‬
‫إِ َّال ن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اجتَنِبوا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫﴿ َو َل َقدْ َب َع ْثنَا في كل أ َّمة َرسوال َأن ا ْعبدوا ال َّل َه َو ْ‬
‫ِ‬

‫عز َّ‬
‫وجل عن نوح عليه السَلم‪﴿ :‬‬ ‫ال َّطاغ ْو َت﴾ [النحل‪ ،]36:‬وقال ال َّله َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪28‬‬

‫َو َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا نوحا إِ َلى َق ْومِ ِه َف َق َال َيا َق ْو ِم ا ْعبدوا ال َّل َه َما َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغ ْيره‬
‫َأ َف ََل َتتَّق ْو َن﴾ [المؤمنون‪.]23:‬‬
‫ٍ‬
‫ربوبية‪ ،‬وإنَّما يدعوهنم إىل‬ ‫ُّ‬
‫فكل اآليات السابقة ما فيها توحيد‬
‫قرون بتوحيد الربوبية‪.‬‬ ‫توحيد األلوهية؛ ألهنم ي ُّ‬
‫وقال سبحانه‪﴿ :‬وإِ َلى َع ٍ‬
‫اد َأ َخاه ْم هودا َق َال َيا َق ْو ِم ا ْعبدوا ال َّل َه َما‬ ‫َ‬
‫ون﴾ [األعراف‪.]65:‬‬ ‫َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغيْره َأ َف ََل َتتَّق َ‬
‫اعبدوا ال َّل َه‬‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِ َلى َثمو َد َأ َخاه ْم َصالِحا َق َال َيا َق ْو ِم ْ‬
‫َما َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغ ْيره﴾ [األعراف‪.]73:‬‬
‫أجل توحيد األلوهية‪ ،‬وهو الذي وقعت‬ ‫ِ‬
‫فجميع دعوة الرسل من ْ‬
‫فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم‪ ،‬وهو أكثر ِش ْرك العالمين؛ وهو دعاء‬
‫والجن وغير ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مع ال َّله غيره كاألموات‬
‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬توحيد األسماء والصفات‪.‬‬
‫ربا فتثبت أنه‬ ‫وهو يف أصله عائدٌ إىل توحيد الربوبية؛ أي‪ :‬إذا َأ َّ‬
‫ثبت ي‬
‫حكيم وهكذا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عليم‬
‫بصير ٌ‬
‫ٌ‬ ‫سميع‬
‫ٌ‬
‫‪29‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫حتريف‪،‬‬ ‫وهو إثبات ما أثبته ال َّله لن ْفسه‪ ،‬وما أثبته رسوله ﷺ من غير‬
‫متثيل‪ْ ،‬‬
‫ونفي ما نفاه ال َّله ع َّز َّ‬
‫وجل عن‬ ‫ٍ‬
‫تكييف‪ ،‬وَّل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تعطيل‪ ،‬ومن غير‬ ‫وَّل‬
‫نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصَلة والسَلم(‪.)1‬‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫حتريف‪ :‬ما أحرف المعنى فأقول اليد‪ :‬النعمة؛ وإنما أثبت‬ ‫من غير‬
‫اليد ل َّله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تعطيل‪ :‬فَل أقول‪ :‬إن ال َّله ال َيسمع مثَل‪ ،‬تعاىل ال َّله عن ذلك‪.‬‬ ‫وَّل‬
‫تكييف‪ :‬ال أثبت صفة ل َّله عىل تكييفي‪ ،‬فَل أقول مثَل‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومن غير‬
‫يد ال َّله مِثل يد فَلن ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك ‪ ،-‬أو يد ال َّله مِثل كذا؛ هذا‬
‫التكييف‪ ،‬أو أقول‪ :‬يد ال َّله ِ‬
‫كيف َّيتها كذا وكذا فأ َكيفها من غير تمثيل‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫ب‬
‫بشيء من المخلوقات فأقول مثَل‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫وَّل ٍ‬
‫متثيل‪ :‬ال أمثل هذه الصفة‬
‫فَلن‪ ،‬تعاىل ال َّله عن ذلك وهكذا‪.‬‬ ‫سمع ال َّله مثل سمع ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مقر به إبليس؛ قال سبحانه عنه‪َ ﴿ :‬ق َال َفبِ ِع َّزتِ َك﴾‪،‬‬ ‫وهذا التوحيد ٌّ‬
‫أج َم ِع ْي َن﴾ [ص‪.]82:‬‬ ‫﴿أل ْغ ِو َينَّه ْم ْ‬‫َأث َبت صفة من صفات ال َّله وهي العزة‪َ ،‬‬

‫(‪ )1‬تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد ال َّله (‪.)19/1‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪30‬‬

‫و َك َفر هبذا التوحيد الجهم يية(‪ ،)1‬وما تفرع منهم كالمعتزلة(‪،)2‬‬


‫واألشاعرة(‪ ،)3‬والمات ِر ِ‬
‫يد يية(‪ ،)4‬وغيرهم‪.‬‬
‫وال يكون العبد موحدا إال إذا أتى بجميع هذه األنواع الثَلثة‪.‬‬
‫مقرا بتوحيد الربوبية بأن ال َّله هو الخالق الرازق‬
‫فَل َيكفي أن يكون ي‬
‫المدبر‪ ،‬وي ُّ‬
‫خل بتوحيد األلوهية فيطوف عىل القبر مثَل‪.‬‬
‫وال يكون الشخص موحدا‪ ،‬فيقر بأن ال َّله هو الخالق الرازق المدبر‬
‫ويصلي ل َّله و َيعبد ال َّله‪ ،‬ولكن يقول ليس ل َّله أسماء وال‬
‫صفات ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك ‪.-‬‬

‫(‪ )1‬الجهمية‪ :‬هم أتباع جهم بن صفوان‪ .‬الفرق بين الفرق للبغدادي (ص‪ ،)199‬الملل‬
‫والنحل للشهرستاين (‪.)86/1‬‬
‫(‪ )2‬المعتزلة‪ :‬هم أصحاب واصل بن عطاء الغزايل‪ ،‬اعتزل عن مجلس الحسن البصري‪.‬‬
‫التعريفات للجرجاين (ص ‪ ،)222‬الملل والنحل للشهرستاين (‪.)43/1‬‬
‫(‪ )3‬األشعرية‪ :‬هم أصحاب أبي الحسن عيل بن إسماعيل األشعري‪ .‬الملل والنحل‬
‫والشهرستاين (‪.)94/1‬‬
‫مرت بعدة مراحل‪،‬‬
‫(‪ )4‬الماتريدية‪ :‬هم فرقة كَلمية تنسب إىل أبي منصور الماتريدي‪ ،‬وقد َّ‬
‫ومل تعرف هبذا االسم إال بعد وفاة مؤسسها‪ .‬الموسوعة الميسرة يف األديان والمذاهب‬
‫واألحزاب المعاصرة (‪.)95/1‬‬
‫‪31‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ول ِ َّل ِه األَ ْس َماء الح ْسنَى َفا ْدعوه بِ َها َو َذروا‬
‫ون﴾ [األعراف‪،]180:‬‬ ‫ون فِي َأ ْس َمائِ ِه َسي ْج َز ْو َن َما كَانوا َي ْع َمل َ‬
‫ين ي ْل ِحد َ‬ ‫ِ‬
‫ا َّلذ َ‬
‫لحدين حتى ولو أتوا بتوحيد الربوبية أو بتوحيد األلوهية‪.‬‬ ‫فسماهم م ِ‬
‫َّ‬
‫وتوحيد الربوبية َيلزم منه توحيد األلوهية؛ ومعنى هذا الكَلم‪ :‬أ َّن‬
‫أن ال َّله هو الذي َيرزقه ويميته ويحييه؛ ف َيلزم من‬
‫يقر َّ‬
‫الشخص إذا كان ُّ‬
‫ذلك أن يعبده‪.‬‬
‫وتوحيد األلوهية متضم ٌن لتوحيد الربوبية؛ يعني‪َّ :‬‬
‫أن الشخص إذا‬
‫أثبت وجود ال َّله‪.‬‬
‫قال‪« :‬يا ال َّله» فمعناه َ‬
‫خلت الغرفة فمعنى ذلك أنَّك دخلت البيت؛ َّ‬
‫ألن الغرفة‬ ‫مثل‪ :‬لو َد َ‬
‫داخل البيت‪.‬‬
‫أثبت أن ال َّله‬ ‫ِ‬
‫مستلز ٌم لتوحيد األلوهية؛ يعني‪ :‬إذا َّ‬ ‫وتوحيد الربوبية‬
‫ينزل المطر؛ َيلزم منك َّأال َتعبد إال ال َّله سبحانه وتعاىل؛ قال ابن القيم‬
‫آية يف القرآن فهي متضمن ٌة للتوحيد‪ ،‬شاهد ٌة به‪ ،‬داعي ٌة‬ ‫كل ٍ‬‫رمحه ال َّله‪ُّ « :‬‬

‫إليه»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬مدارج السالكين (‪.)417/3‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪32‬‬

‫الجنَّة؛ ألمهية التوحيد‪.‬‬ ‫أهل ِ‬


‫العلم عىل َّ‬ ‫و َأمجع ْ‬
‫أن الموحد مآله َ‬
‫وتعريف الشرك‪ :‬دعوة غيرِ ال َّله معه‪.‬‬
‫شخص‪ :‬يا فَلن ‪ -‬صاحب القبر – ارزقني؛ فهو‬
‫ٌ‬ ‫فمثَل‪ :‬لو قال‬
‫دعا ٌء مع ال َّله غيره‪.‬‬
‫أو قال‪ :‬يا صاحب القبر اغفر يل ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ فهذا دعا ٌء‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫مع ال َّله غيره‪ ،‬وهذا‬
‫ٍ‬
‫تعريف‬ ‫وهذا التعريف ‪ -‬وهو‪ :‬دعوة غير ال َّله معه ‪-‬؛ ْ‬
‫أخصر‬
‫للشرك‪ ،‬و َذكره الشيخ رمحه ال َّله يف األصول الثَلثة(‪.)1‬‬
‫وتعريف آخر ومعناه مِثله‪ ،‬وهو‪ :‬مساواة غير ال َّله بال َّله فيام هو من‬
‫ٌ‬
‫خصائص ال َّله(‪.)2‬‬

‫صرف إال ل َّله‪ ،‬وأنا َأصرفها‬


‫«مساواة غير ال َّله بال َّله»؛ يعني‪ :‬عباد ٌة ال ت َ‬
‫لغيره‪ ،‬وهذه العبادة ال تصرف إال ل َّله‪ ،‬فمن َصرف لغير ال َّله؛ فقد َوقع يف‬
‫الشرك األكبر‪.‬‬

‫األول‪ ،‬األصول الثَلثة (ص‪.)47‬‬


‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى َّ‬
‫(‪ )2‬حاشية كتاب التوحيد لعبد الرمحن بن قاسم )‪.)15/1‬‬
‫‪33‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والشيخ رمحه ال َّله َوضع يف كل ٍ‬


‫باب نصوصا‪ ،‬ورتبها ترتيبا بديعا؛‬
‫َيقصد مِن كل نص حكما؛ أي‪َّ :‬‬
‫أن ترتيبه لآليات ليس َجمعا فقط؛ وإنما‬
‫ور َّتبها كما سيأيت يف مقاصد الشيخ رمحه ال َّله‪.‬‬
‫َجمعها َ‬
‫ويف َّأول هذا الكِتاب – كِتاب التوحيد ‪ -‬ساق المصنف رمحه ال َّله‬
‫مخس ٍ‬
‫آيات وأ َثرا وحديثا‪.‬‬
‫قوله‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى) (ق ْول) يصح بالرفع عىل أنَّه خبر لمبتدأٍ‬
‫ٌ‬ ‫َ ُّ‬
‫ٍ‬
‫حذوف ‪ -‬وهذا قول ال َّله ‪ ،-‬أو‪ :‬قول ال َّله كذا‪.‬‬ ‫م‬
‫معطوف عىل التوحيد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫صح بالجر عىل أنَّه‬
‫و َي ُّ‬
‫ال ْنس إِ ََّّل لِي ْعبد ِ‬
‫ون﴾) استَفتح المصنف‬ ‫قوله‪﴿( :‬وما خل ْقت ال ِج َّن و ِ‬

‫الحكمة مِن خ ْلق اإلنس والجن‪،‬‬ ‫رمحه ال َّله كتابه هبذه اآلية؛ لبيان ِ‬

‫عز َّ‬
‫وجل من‬ ‫وأن ال َّله ما َخلقك إال للتوحيد‪ ،‬تعرف ما الذي خلقك ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫أجله وهو التوحيد‪.‬‬
‫لي ْعبدون﴾) [الذاريات‪]56:‬؛‬
‫ال ْنس إِ ََّّل ِ‬
‫ج َّن و ِ‬
‫فقال‪﴿( :‬وما خل ْقت ال ِ‬

‫يعني‪ :‬وما خلقتهم إال آلمرهم أو أهناهم؛ ليوحدوين‪.‬‬


‫األول‪ ،‬وط َلب من الخ ْلق فِعل الثاين‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل ف َعل َّ‬ ‫فال َّله َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪34‬‬

‫ويقال‪ِ :‬‬
‫الحكمة من خ ْلق الخ ْلق العبادة‪ ،‬وال يقال‪ :‬المصلحة من‬
‫خ ْلق الخ ْلق العبادة‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫فكأن ال َّله َينتفع بعبادة الخ ْلق؛ وال َّله َّ‬
‫َّ‬ ‫فإذا قيل‪ :‬المصلحة؛‬
‫ٍ‬
‫غني عن عباده‪ ،‬فهو خ َلقهم ال ليستكثر هبم من ق َّلة‪ ،‬وال َّ‬
‫ليتقوى هبم من‬ ‫ٌّ‬
‫كمة‪ ،‬هي‪ :‬أن يعبدوه‪ ،‬وهم إن َق َّصروا يف عبادته‬ ‫لح ٍ‬‫ف؛ وإنما خلقهم ِ‬‫َضع ٍ‬
‫ْ‬
‫تضررون من ذلك‪.‬‬ ‫سبحانه فهم الذين َي َّ‬
‫محتاج ل َّله سبحانه وال يستغني عنه طرفة‬ ‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫أن َّ‬
‫كل‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫ٌ‬
‫الجنَّة‪ ،‬و َمن َأشرك به غيره َّ‬
‫عذبه‬ ‫لكرمه عىل عبده َأدخله َ‬ ‫َع ٍ‬
‫ين‪ ،‬وال َّله َ‬
‫سبحانه وتعاىل بعدْ له‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عباس‬ ‫ال ْنس إِ ََّّل لِي ْعبدون﴾) قال ابن‬
‫ج َّن و ِ‬
‫فقال‪﴿( :‬وما خل ْقت ال ِ‬

‫آية َوردت يف كتاب ال َّله يعبدون؛ يعني‪:‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫رضي ال َّله عنهما‪ُّ « :‬‬

‫يوحدون»(‪.)1‬‬

‫أجل التوحيد؛ يجب أن َتعلم ما هو‬


‫فإذا كان ال َّله َخلقك من ْ‬
‫التوحيد‪.‬‬

‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)385/1‬‬


‫‪35‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قوله‪( :‬إِ ََّّل لي ْعبد ْو ِن﴾) قال ابن عباس‪ :‬إال ليوح ِ‬
‫دون(‪.)1‬‬
‫أجل أن نستعين‬ ‫عز َّ‬
‫وجل أعطانا الهواء والماء والرزق؛ من ْ‬ ‫فال َّله َّ‬
‫هبا عىل توحيد ال َّله‪.‬‬
‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة رسو ً‬
‫َّل أ ِن ْاعبدوا ال َّله‬
‫اجتنِبوا ال َّطاغ ْوت﴾ اآلية) ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫أن مجيع الرسل َب َّينوا‬ ‫و ْ‬
‫ألقوامهم التوحيد‪ ،‬و َأمروهم به‪ ،‬و َنهوهم عن الشرك؛ َّ‬
‫فدل عىل أمهية‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل الجن‬ ‫أن دعوة الرسل مجيعا ِ‬
‫للحكمة التي خلق ال َّله َّ‬ ‫وب َّين َّ‬
‫واإلنس لها‪ ،‬وهي العبادة‪.‬‬
‫فهنا يقول لك المصنف‪ :‬ال َّله َخلقك للعبادة‪ ،‬والرسل ب ِعثوا من‬
‫أجل بيان هذه العبادة؛ لذلك قال‪﴿( :‬ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة‬
‫ْ‬
‫رسو ً‬
‫َّل) [النحل‪.]36:‬‬

‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)554/21‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪36‬‬

‫وجل أنَّه مل َيدَ ْع أ َّمة إال و َأرسل إليها رسوال‬


‫عز َّ‬
‫فضل ال َّله َّ‬ ‫وهذا مِن ْ‬
‫من ِجنسها؛ بل من لساهنم؛ لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وما َأرس ْلنَا مِ ْن رس ٍ‬
‫ول‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ان َق ْومِ ِه لِي َبي َن َله ْم﴾ [إبراهيم‪.]4:‬‬
‫إِ َّال بِلِس ِ‬
‫َ‬
‫وجعلهم من ِجنْسه فلم يبعث لإلنس رسوال من الجن؛ وإنَّما َبعث‬
‫َ‬
‫لهم رسوال من أنفسهم؛ يكلمهم ويكلمونه‪ ،‬ويجالسهم ويجالسونه‪،‬‬
‫ويؤاكلهم ويؤاكلونه‪ ،‬ويسألهم ويسألونه‪ ،‬و َيتَّبعونه‪ ،‬و َيقتفون أثره‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫ولو كان هناك بلد ٌة ك ُّلهم صالحون ل َبعث إليهم رسوال؛ وهذا من‬
‫ض َم ََلئِ َك ٌة‬‫َان فِي األَ ْر ِ‬
‫رمحة ال َّله وكرمِه؛ لذلك قال سبحانه‪﴿ :‬ق ْل َل ْو ك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َماء َم َلكا َرسوال﴾ [اإلسراء‪.]95:‬‬ ‫ين َلن ََّز ْلنَا َع َل ْي ِه ْم م َن َّ‬
‫ون م ْط َمئن َ‬
‫َي ْمش َ‬
‫ٍ‬
‫داعية‬ ‫فكل مجتم ٍع يحتاج إىل‬ ‫وهذا من رمحة ال َّله ولطفه بعباده؛ ُّ‬
‫﴿و َل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كل أ َّم ٍة َرسوال َأ ِن ا ْعبدوا ال َّل َه‬
‫حتى ولو كانوا صالحين‪َ ،‬‬
‫وت﴾ [النحل‪.]36:‬‬ ‫اجتَنِبوا ال َّطاغ َ‬
‫َو ْ‬
‫صالحة‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صحبة‬ ‫داعية ‪ -‬فضَل عن غيره ‪ -‬يحتاج إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫وكل‬
‫احبِ ِه‬
‫أن لهم صحبة؛ قال تعاىل‪﴿ :‬إِ ْذ يقول لِص ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وجل َّ‬ ‫الرسل َأخبر ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫َال َت ْح َز ْن إِ َّن ال َّل َه َم َعنَا﴾ [التوبة‪.]40:‬‬
‫‪37‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اختل‬ ‫ٍ‬
‫وإثبات‪ ،‬ومها ركنا التوحيد؛ لو َّ‬ ‫فالتوحيد ال يكون إال بن ٍ‬
‫في‬
‫أحدمها مل يكن الشخص موحدا‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬أ ِن ْ‬
‫اعبدوا ال َّله) يعني‪َ :‬أفردوا العبادة ل َّله‪ ،‬وهذا ال‬
‫اجتنِبوا ال َّطاغوت﴾) يعني‪ :‬البدَّ أن يكفر‬ ‫َيكفي يف التوحيد؛ بل (و ْ‬
‫بالطاغوت ‪ -‬وهو ما عبد من دون ال َّله ‪.-‬‬
‫والشرع ليس من مقاصده إقامة العبادة فقط؛ وإنَّما أن تخ َلص‬
‫أنَِ الكفار َيتع يبدون ال َّله‪ ،‬لكنهم مل‬ ‫العبادة ل َّله؛ ولهذا َأخبر ال َّله َّ‬
‫عز وج َّل ب َّ‬
‫يخلصوا العبادة له؛ فذ يموا حتى ولو كانوا َيعملون أعماال صالحة؛ قال‬
‫ين َك َفروا ين ِْفق َ‬
‫ون َأ ْم َوا َله ْم﴾ [األنفال‪ ،]36:‬فهذه عبادةٌ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫َي َزال َ‬
‫ون‬ ‫﴿ َو َال‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫وال َّله‬ ‫القتال‪،‬‬ ‫العبادات‪:‬‬
‫ومن‬
‫ِ‬
‫ي َقاتلونَك ْم﴾ [البقرة‪ ،]217:‬فَل ت َ‬
‫حمد العبادة لوحدها‪.‬‬
‫وكذلك َذكر عن المنافقين‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َما َمنَ َعه ْم َأ ْن ت ْق َب َل مِنْه ْم‬
‫َن َف َقاته ْم إِ َّال َأنَّه ْم َك َفروا بِال َّل ِه َوبِ َرسول ِ ِه﴾ [التوبة‪ ،]54:‬فهم ي ِنفقون ومع‬
‫ذلك مل تقبل منهم النفقة؛ أل َّنَِ المقصود من العبادة هو إفراد ال َّله بالعبادة‪،‬‬
‫التبرؤ من عبادة غير ال َّله‪.‬‬ ‫لكنَّه َّ‬
‫اختل عندهم فذموا؛ فَل بدَّ من ُّ‬
‫إن ال َّله واحدٌ ‪.‬‬
‫شخص‪َّ :‬‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪38‬‬

‫ٍ‬
‫معبود غير ال َّله فعبادته‬ ‫نقول‪ :‬ما يكفي؛ بل يجب أن َت ِزيد َّ‬
‫أن َّ‬
‫كل‬
‫باطل ٌه‪.‬‬
‫وقال‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا‬
‫بِ ِه ش ْيئ ًا﴾ إِلى ق ْولِ ِه‪﴿ :‬وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً فا َّتبِعوه﴾ اآلية)‪.‬‬
‫محر ٍم نَهى عنه الرسل هو الشرك؛‬ ‫ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫أن َّأول َّ‬
‫وأول ما َيدعون إليه التوحيد؛ ألمهيته‪.‬‬
‫لخطورته‪َّ ،‬‬
‫قال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬وقضى ر ُّبك أ ََّّل ت ْعبدوا إ ِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾‬
‫ٍ‬
‫واجب يجب أن‬ ‫حق ل َّله‪َّ ،‬‬
‫وأول‬ ‫اآلية) ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫أن َّأول ٍّ‬
‫يفعله العبد؛ هو عبادة ال َّله‪ ،‬أي‪ :‬توحيد ال َّله‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل أمهية التوحيد‪.‬‬
‫ووصى‪.‬‬
‫(﴿وقضى) يعني‪ :‬أ َمر َّ‬
‫واجب عىل‬
‫ٌ‬ ‫والمراد بالقضاء هنا القضاء الشرعي الديني؛ يعني‪ :‬أنَّه‬
‫مجيع الخ ْلق أن يؤ ُّدوا هذا األمر‪ ،‬فمن مل يؤده؛ أثِم لذلك؛ قال‪﴿( :‬وقضى)‬
‫شرعا ودينا‪.‬‬
‫(أ ََّّل ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾) يعني‪ :‬يجب عليكم (أ ََّّل‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه)‪َّ ،‬‬
‫فأول األوامر التي َصدرت هي وحدانية ال َّله َّ‬
‫وحده‪.‬‬
‫ْ‬
‫‪39‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫َّ‬
‫فدل عىل أن أعظم األوامر هو التوحيد‪.‬‬
‫شخص إىل قو ٍم يعبدون ضريحا وهم ال يص ُّلون؛ نقول‪ :‬ال‬
‫ٌ‬ ‫فلو أتى‬
‫ِ‬
‫يأت ويأمرهم بالصَلة َّأوال‪ ،‬وإنما َّأوال يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن‬
‫الشرك‪ ،‬ثم بعد ذلك بق َّية األوامر؛ ألن أوجب الواجبات التوحيد‪.‬‬
‫وأول ما َتدخل هذا المكان يقال لك‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫كنت يف مكان‪َّ ،‬‬ ‫فمثَل‪ :‬لو َ‬
‫اجلِس يف ذاك المكان‪ ،‬وابتَعد عن ذاك المكان‪َّ ،‬‬
‫فإن ذاك المكان فيه‬
‫فأول أوامر ال َّله يف‬ ‫أي ٍ‬
‫أمر آخر‪َّ ،‬‬ ‫حيوانات مثَل ِ‬
‫مفترسة‪ ،‬فما يقال لك ُّ‬ ‫ٌ‬
‫العبادات مجيعا هو التوحيد والتحذير من ضده؛ َّ‬
‫فدل عىل أمهيته‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك بقية الشرائع؛ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى‬
‫والمساكين؛ َّ‬
‫ألن الصدقات ال تقبل إذا مل يكن أصل الدين موجودا‬
‫وصحيحا وسليما‪.‬‬
‫وكذا الجار وثوابه ال يثاب عىل اإلحسان إليه‪ ،‬وأصل الدين فاسدٌ ‪.‬‬
‫أصلِح األساس‪ ،‬ثم ينبني بعد ذلك ما بعده من‬
‫فالمراد األساس‪ْ ،‬‬
‫الفروع‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪40‬‬

‫وقال هنا‪( :‬وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾) أعظم ٍّ‬


‫حق من حقوق الخ ْلق هو‬
‫راجع للعرف؛ ُّ‬
‫فكل‬ ‫ٌ‬ ‫ُّبر الوالدين‪ ،‬ومل يبين ما هو اإلحسان إليهم؛ وهذا‬
‫ٍ‬
‫وزمن يفعل مع الوالدين‪.‬‬ ‫إحسان حسب عرف كل ٍ‬
‫بلد‬ ‫ٍ‬

‫اعبدوا ال َّله وَّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا‬


‫َق َال َر ِح َمه ال َّله‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬و ْ‬
‫أن‬ ‫وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾ اآلية)‪َ ،‬ذكر المصنف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان َّ‬
‫وأولها وأمهَّها وأفرضها هو توحيد ال َّله سبحانه‪.‬‬
‫أوجب الواجبات َّ‬
‫لما يح ُّبه ال َّله ويرضاه من‬ ‫اعبدوا ال َّله) العبادة‪ :‬ا ٌ‬
‫سم جامع َ‬ ‫(﴿ و ْ‬
‫األقوال واألفعال الظاهرة والباطنة(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫وجل فهو عبادةٌ؛ سواء كان‬ ‫أمر به ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫كل ٍ‬
‫أمر َ‬ ‫أي‪ :‬أن َّ‬
‫قوال ‪ -‬كذكر ال َّله ‪ ،-‬أو فعَل ‪ -‬كالصَلة ‪.-‬‬
‫والعبادات تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬الظاهرة‪ ،‬مِثل‪ :‬الحج‪.‬‬
‫القسم َّ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬الباطنة‪ ،‬مِثل‪ :‬الخوف‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والخشية وغير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)149/10‬‬


‫‪41‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اعبدوا ال َّله)‪ ،‬فإ َّن‬ ‫)وَّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾) ُّ‬


‫يدل عليه قوله‪﴿( :‬و ْ‬
‫وحده من مستلزماهتا أن يكفر بالطاغوت‪ ،‬لكن (وَّل ت ْشرِكوا‬‫عبادة ال َّله ْ‬
‫بِ ِه ش ْيئ ًا﴾) من باب التأكيد‪.‬‬
‫أن أوجب الواجبات هو التوحيد بثَلث ٍ‬
‫آيات؛ لئَل‬ ‫فقرر المصنف َّ‬ ‫َّ‬
‫ينازع فيها أحدٌ ‪ ،‬بأن يقول لماذا َتقرؤون التوحيد‪ ،‬أو لماذا تكثرون من‬
‫التوحيد؟ فساق لك ٍ‬
‫آيات َّ‬
‫أن أعظم األوامر التوحيد‪.‬‬
‫شخص‪ :‬أنا موحد‪ ،‬فلماذا َأقرأ التوحيد؟‬
‫ٌ‬ ‫فإذا قال‬
‫نقول‪ :‬ألن القلب قد َيدخله شي ٌء مِن قوادح الشرك ‪ -‬من الرياء‪،‬‬
‫أو كثرة المعاصي التي قد تؤدي إىل القدح يف التوحيد ‪.-‬‬
‫بل إن النعم قد تؤثر يف توحيد الشخص؛ كما قال عليه الصَلة‬
‫ادي م ْؤمِ ٌن بِي َوكَافِ ٌر‪َ ،‬ف َأ َّما َم ْن َق َال‪:‬‬ ‫والسَلم ِرواية َعن رب ِه‪َ « :‬أصبح مِن ِعب ِ‬
‫ْ ََ ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َب‪َ ،‬و َأ َّما َم ْن َق َال‪:‬‬ ‫مطِ ْرنَا بِ َف ْض ِل ال َّل ِه َو َر ْح َمتِ ِه َف َذل ِ َك م ْؤمِ ٌن بِي كَافِ ٌر بِال َك ْوك ِ‬

‫َب»(‪.)1‬‬ ‫مطِ ْرنَا بِن َْو ِء ك ََذا َوك ََذا َف َذل ِ َك كَافِ ٌر بِي م ْؤمِ ٌن بِال َك ْوك ِ‬

‫ون ِر ْز َقك ْم َأنَّك ْم‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬أبواب االستسقاء‪ ،‬باب قول ال َّله تعاىل‪َ :‬‬
‫﴿و َت ْج َعل َ‬
‫ون﴾ [الواقعة‪َ ،]82 :‬ق َال ْابن َع َّب ٍ‬
‫اس‪« :‬ش ْك َرك ْم»‪ ،‬رقم (‪ ،)1038‬ومسلم‪ ،‬كتاب‬ ‫ت َكذب َ‬
‫ٍ‬
‫خالد‬ ‫اإليمان‪ ،‬باب بيان كفر من قال‪ :‬مطرنا بالنوء‪ ،‬رقم (‪ ،)71‬من حديث زيد بن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪42‬‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن الشخص قد‬ ‫محمد بن عبد الوهاب‪َّ « :‬‬
‫ي‬ ‫قال الشيخ‬
‫مؤمنا ويصبح كافرا»(‪.)1‬‬
‫يمسي ْ‬
‫الرجل م ْؤمِنا َوي ْم ِسي كَافِرا‪َ ،‬أ ْو ي ْم ِسي‬ ‫ِ‬
‫ويف صحيح مسل ٍم‪« :‬ي ْصبِح َّ‬
‫ض مِ َن الدُّ ْن َيا»(‪.)2‬‬
‫م ْؤمِنا َوي ْصبِح كَافِرا‪َ ،‬يبِيع ِدينَه بِ َع َر ٍ‬

‫النووي رمحه ال َّله(‪« :)3‬فهذا ُّ‬


‫يدل عىل تقلب الحق يف قلب‬ ‫ُّ‬ ‫قال‬
‫يقوى إيمانه يف َّأول النهار و َيضعف يف آخره‪ ،‬وقد َيدخل‬
‫الشخص؛ فقد َ‬
‫يف الشرك وهو ال َيعلم‪ ،‬وقد ال يقوى توحيده»(‪.)4‬‬
‫َّ‬
‫وجل وبسنَّة‬ ‫فإذا كان الشخص دائما متعلقا بكِتاب ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫النبي ﷺ ومكثِرا من قراءة العقيدة؛ يكون أقوى يف الثبات‪.‬‬

‫الجهني رضي ال َّله عنه‪.‬‬


‫(‪ )1‬كتاب التوحيد (ص ‪.)314‬‬
‫(‪ )2‬روا ه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الحث عىل المبادرة باألعمال قبل تظاهر الفتن‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)186‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬هو‪ :‬أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي‪ ،‬ولد سنة (‪631‬هـ)‪ ،‬وتويف‬
‫سنة (‪676‬هـ)‪ .‬طبقات الشافعية الكبرى للسبكي(‪.)396/8‬‬
‫للنووي (‪.)150/1‬‬
‫ي‬ ‫ٍ‬
‫مسلم‬ ‫(‪ )4‬المنهاج شرح صحيح‬
‫‪43‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وجل للنبي ﷺ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها النَّبِ ُّي‬


‫َّ‬ ‫والدليل‪ :‬قول ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫وز ْد منها‪ ،‬وقال عز وجل‪:‬‬ ‫تمسك بالتقوى ِ‬
‫ا َّت ِق ال َّل َه﴾ [األحزاب‪]1:‬؛ يعني‪َّ :‬‬
‫ين آ َمنوا آمِ ْنوا﴾ [النساء‪]136:‬؛ يعني‪ :‬زيدوا يف إيمانكم‪ ،‬فهذا‬ ‫ِ‬
‫﴿ َيا َأ ُّي َها ا َّلذ َ‬
‫الخطاب لهم‪ ،‬وحتى للنبي عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫أن التوحيد يحتاجه الموحد‪ ،‬ويحتاجه غير الموحد؛‬ ‫فدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫الحن ِ ِيف َّية وهي التوحيد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ل َيخرج من َلو َثة الشرك إىل َ‬
‫ِ‬
‫األرض هو الشرك بال َّله‪ ،‬كما يف حديث ابن‬ ‫وأعظم ٍ‬
‫ذنب يفعل يف‬
‫ْب َأ ْع َظم ِعنْدَ ال َّل ِه ؟ َق َال ‪َ :‬أ ْن‬ ‫مسعود رضي ال َّله عنه(‪ )1‬قال‪َ « :‬أ ُّي َّ‬
‫الذن ِ‬ ‫ٍ‬

‫َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا َوه َو َخ َل َق َك»(‪ ،)2‬لذلك ال َيغفره ال َّله عز وجل‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬عبد ال َّله بن مسعود بن غافل بن حبيب أبو عبد الرمحن الهذيل‪َ .‬أسلم يف َّأول بزوغ‬
‫فجر اإلسَلم‪ ،‬وتويف (‪32‬هـ أو ‪33‬هـ)‪.‬أسد الغابة البن األثير (‪.)381/3‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلى‪َ ﴿ :‬فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا َو َأنْت ْم‬
‫َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ،]22 :‬رقم (‪ ،)4477‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب كون الشرك‬
‫أقبح الذنوب‪ ،‬وبيان أعظمها بعده‪ ،‬رقم (‪.)86‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪44‬‬

‫بأرض ورأى فيها الشرك ورأى فيها الخمور‬ ‫ٍ‬ ‫حل داعي ٌة‬
‫فإذا َّ‬
‫ٍ‬
‫شيء َيبدَ أ به هو أن يدعوهم إىل‬ ‫والمنكرات المتعددة – مثَل ‪-‬؛ َّ‬
‫فأول‬
‫توحيد ال َّله وينهاهم عن الشرك‪.‬‬
‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬م ْن أراد أنْ ي ْنظر‬
‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬قال ابن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬ ‫َّ‬
‫إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ ا َّلتِي عل ْيها خاتمه)‪.‬‬
‫وهذا األثر يف تفسير هذه اآلية‪﴿( :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم‬
‫عل ْيك ْم﴾) [األنعام‪.]151:‬‬

‫و َذكره المصنف رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬


‫أنَِ وصية النبي ﷺ هي البعد عن‬
‫الشرك وتوحيد ال َّله‪.‬‬
‫قال‪«( :‬م ْن أراد أنْ ي ْنظر إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ) يعني‪ :‬من أراد أن َينظر‬
‫وصى بشيء؟‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم َّ‬
‫هل ُّ‬
‫فلينظر ما يف كتاب ال َّله يف الوصايا العشر يف آخر سورة األنعام؛‬
‫ٍ‬
‫بوصية‪ ،‬ويضع‬ ‫يعني‪ :‬لو كان النبي عليه الصَلة والسَلم يريد أن يوصي‬
‫ِ‬
‫يوص إال بخواتيم سورة األنعام‪.‬‬ ‫عليها ختْمه مل‬
‫كل ما ب َّلغ به‬ ‫ٍ‬
‫بشيء مل َيظهر إال بعد وفاته؛ بل ُّ‬ ‫النبي ﷺ‬ ‫ِ‬
‫يوص ُّ‬ ‫فلم‬
‫َظهر يف حياته‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(ا َّلتِي عل ْيها خاتمه) خاتِمه أو خا َتمه؛ يعني‪ :‬سواء َختم عليه أو‬
‫وضعت الوصية وختم عليها بالختم؛ أي‪َّ :‬‬
‫كأن وصية النبي ﷺ التي‬
‫ختمها بختمه؛ هي المذكورة يف قوله‪﴿( :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم‬
‫آيات يف‬ ‫عليكم﴾)‪ ،‬وهي آيات المحرمات العشر المذكورة يف ثَلث ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ ْ‬
‫وأول ما حرم هو الشرك‪.‬‬ ‫أواخر سورة األنعام‪َّ ،‬‬
‫قال‪( :‬م ْن أراد أنْ ي ْنظر إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ ا َّلتِي عل ْيها خاتمه)‪.‬‬
‫ِ‬
‫يوص إال‬ ‫النبي عليه الصَلة والسَلم لو أراد أن يوصي مل‬
‫يعني‪ُّ :‬‬
‫وصى بالتوحيد‪ ،‬فقال‪َ « :‬م ْن‬ ‫النبي عليه الصَلة والسَلم َّ‬ ‫بالتوحيد‪ ،‬مع أن َّ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ك َ ِ‬
‫الجنَّة»(‪.)1‬‬ ‫َان آخر كََلمه م َن الدُّ ْن َيا َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َد َخ َل َ‬
‫(ف ْلي ْقر ْأ‪﴿ :‬ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫إِلى ق ْوله‪﴿ :‬وأ َّن هذا صراطي م ْستقيامً فا َّتبِعوه وَّل ت َّتبِعوا ُّ‬
‫السبل﴾ اآلية»)‪.‬‬
‫يعني كأن المصنَّف يقول‪ :‬هذه اآليات ب َّين َْت أن أوجب الواجبات‬
‫أتت بأن أوجب الواجبات التوحيد‪.‬‬
‫والسنَّة أيضا ْ‬
‫التوحيد‪ُّ ،‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من مات ال يشرك بال َّله شيئا َدخل الجنة‪ ،‬ومن مات‬
‫ذر رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬ما مِ ْن‬ ‫مشركا َدخل النار‪ ،‬رقم (‪ ،)154‬من حديث أبي ٍّ‬ ‫ِ‬

‫ات َع َلى َذل ِ َك إِ َّال َد َخ َل ال َجن ََّة»‪.‬‬


‫َع ْب ٍد َق َال‪َ :‬ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله‪ ،‬ث َّم َم َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪46‬‬

‫هذه الوصايا العشر مجيعا‪.‬‬


‫فإذا مل ت ْ‬
‫شرك‪ ،‬وبالوالدين إحسانا‪ ،‬ومل تقتل أوالدك من إمَلق‪ ،‬ومل‬
‫حرم ال َّله إال‬
‫تقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ومل تقتل النفس التي َّ‬
‫وأو َف ْيت الك ْيل‬
‫بالحق‪ ،‬ومل تقرب مال اليتيم إال بالتي هي أحسن‪ْ ،‬‬
‫والميزان بالقسط‪ ،‬وإذا ق ْلت عد ْل َت – ولو كان ذا قربى ‪ ،-‬وأوفيت‬
‫عملت‬
‫َ‬ ‫بعهد ال َّله‪ ،‬وا َّتبعت صراط ال َّله المستقيم ومل تتبِع ُّ‬
‫السبل؛ فقد‬
‫بوصية النبي عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫تفرع منه‪.‬‬
‫فلما ب َّين األساس وهو التوحيد؛ ب َّين ما َي َّ‬
‫َّ‬
‫(﴿ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم) يعني‪َ :‬أقبِلوا أيها الناس‬
‫ربكم عليكم‪.‬‬
‫حرم ُّ‬
‫وهلموا؛ ألبين لكم وأتلو عليكم ما َّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫محر ٍم هو الشرك بال َّله‬
‫محر ٍم وأعظم َّ‬ ‫(أ ََّّل ت ْشرِكوا بِه ش ْيئ ًا﴾) َّ‬
‫فأول َّ‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم كما يف‬ ‫عز وجل؛ لذلك يف الصحيح(‪ )1‬سئل ُّ‬
‫ْب َأ ْع َظم ِعنْدَ ال َّل ِه ؟‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا‬ ‫ٍ‬
‫مسعود « َأ ُّي َّ‬
‫الذن ِ‬ ‫حديث ابن‬
‫َوه َو َخ َل َق َك»‪.‬‬

‫ِ‬
‫األرض هو الشرك بال َّله)‪.‬‬ ‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص‪ ،)31‬عند قوله (وأعظم ٍ‬
‫ذنب يفعل يف‬
‫‪47‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأولها؛ َّ‬
‫دل عىل أن التوحيد هو‬ ‫فإذا كان الشرك أعظم النواهي َّ‬
‫تعظيم ل َّله‪ ،‬وفيه إفراد ال َّله‬
‫ٌ‬ ‫أوجب الواجبات وهو أفضل األوامر؛ َّ‬
‫ألن فيه‬
‫وجل بالعبادة‪ ،‬وفيه انصراف القلب بالكل َّية ل َّله‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫َّ‬
‫هض ٌم للربوبية‪ ،‬وقدْ ٌح يف ألوهية ال َّله عز وجل‪ ،‬وتن ُّق ٌ‬
‫ص‬ ‫ويف الشرك ْ‬
‫له‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫وجل التي َوصف ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫وفيه عدم تحقيق صفات ال َّله َّ‬
‫ن ْفسه هبا من الوحدانية والقوة والعظمة والكبرياء‪.‬‬
‫فمن أشرك فإنه ال يحقق هذه الصفات‪ ،‬فيتوجه إىل صاحب القبر‬
‫َ‬
‫ضعيف ال يستطيع أن يقضي حاجاته ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛‬
‫ٌ‬ ‫ويف ق ْلبه أن ال َّله‬

‫لذلك الموحد هو المعظم ل َّله ْ‬


‫وحده‪.‬‬
‫(أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾) إىل آخر اآليات‪ ،‬وهي الوصايا العشر‪ ،‬وما‬
‫ووصى أ َّمته هبا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نبي بعث إال َّ‬ ‫من ٍّ‬
‫وأول ما يوصي األنبياء أقوامهم‪ :‬بالبعد عن الشرك والدعوة إىل‬
‫َّ‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫قال‪﴿( :‬وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً فا َّتبِعوه﴾) وهو التوحيد‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪48‬‬

‫شخص‪ :‬أهل‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫طريق‪ ،‬فمثَل لو قال‬ ‫الحق له أكثر من‬
‫َّ‬ ‫فإذا قيل‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫حق‪.‬‬ ‫حق واليهود عىل ٍّ‬ ‫حق والنصارى عىل ٍّ‬ ‫اإلسَلم عىل ٍّ‬
‫ٌ‬
‫صراط واحدٌ‬ ‫نقول‪ :‬ال؛ ال َّله يقول‪﴿( :‬وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً﴾)‬
‫طريق‪ ،‬ومن س َلك هذا الصراط نجا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقط‪ ،‬ليس أكثر من‬
‫أ َّما األهواء واآلراء فليست هوى واحدا وال رأيا واحدا؛ بل متشعب ٌة‬

‫وال تنتهي؛ لذلك قال‪﴿( :‬فا َّتبِعوه وَّل ت َّتبِعوا ُّ‬


‫السبل﴾)‪.‬‬
‫فلما كانت األهواء كثيرة والمعتقدات المخالفة كثيرة؛ مل تذكر‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ول َّما كان الحق واحدا؛ ذكِر‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬وع ْن معا ِذ ْب ِن جب ٍل ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬ك ْنت‬
‫العب ِ‬
‫اد‪،‬‬ ‫ر ِديف النَّبِي ﷺ على ِحام ٍر‪ ،‬فقال‪ :‬يا معاذ! أت ْد ِري ما ح ُّق ال َّل ِه على ِ‬

‫اد على ال َّل ِه؟ ق ْلت‪ :‬ال َّله ورسوله أ ْعلم‪.‬‬ ‫العب ِ‬
‫وما ح ُّق ِ‬

‫اد أنْ ي ْعبدوه وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا‪ ،‬وح ُّق‬ ‫العب ِ‬
‫قال‪ :‬فإِ َّن ح َّق ال َّل ِه على ِ‬

‫اد على ال َّل ِه أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا‪.‬‬


‫العب ِ‬
‫ِ‬

‫فق ْلت‪ :‬يا رسول ال َّل ِه! أفَل أبشر النَّاس؟ قال‪َّ :‬ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»‬
‫حيح ْي ِن)‪.‬‬‫أ ْخرجاه فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫‪49‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫حق من حقوق ال َّله‪،‬‬


‫ذكر المصنف هذا الحديث؛ لبيان أن التوحيد ٌّ‬
‫المستحق لذلك دون ما سواه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فيجب أن يصرف له‪ ،‬فهو‬
‫فأول واجب يجب عىل العباد أن َيفعلوه هو التوحيد؛ كما قال ﷺ‪:‬‬ ‫َّ‬
‫اد أنْ ي ْعبدوه وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا)‪.‬‬
‫العب ِ‬
‫(ح َّق ال َّل ِه على ِ‬

‫يدل عىل تواضع النبي ﷺ‬ ‫قال‪( :‬ك ْنت ر ِديف النَّبِي ﷺ على ِحام ٍر) ُّ‬
‫إذ كان َيركب الحمار‪.‬‬
‫ويدل أيضا عىل جواز ِ‬
‫اإل ْر َداف‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫خش‬ ‫ويدل أيضا عىل جواز ركوب أكثر من اثنين ‪ -‬إذا مل ت َ‬ ‫ُّ‬
‫واحدة‪ ،‬وكذا ما يف حكم الدابة إذا كانت تطِيق ذلك‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫داب ٍة‬
‫الفتنة ‪ -‬عىل َّ‬
‫قوة الدابة وض ْعفها‪ ،‬فهذا الحمار الذي َركِبه‬
‫وهذا يختلف باختَلف َّ‬
‫يشق عليه ركوب اثنين‪.‬‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم ومعاذ مل ي‬
‫ُّ‬
‫ويدل أيضا عىل تواضع النبي ﷺ ومحبته لصحابته إذ كان يردفهم‬ ‫ُّ‬
‫معه عىل دابته‪ ،‬فكان يقرهبم منه قلبا ِ‬
‫وح يسا ويجعلهم بجانبه عليه الصَلة‬
‫والسَلم‪.‬‬
‫قال‪( :‬فقال‪ :‬يا معاذ!) ُّ‬
‫يدل عىل أنَّه يجوز أن ينا َدى الشخص باسمه؛‬
‫فهنا قال‪( :‬يا معاذ) من غير ٍ‬
‫لقب‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪50‬‬

‫ويدل عىل التل ُّطف يف التعليم‪ ،‬فقال له‪( :‬يا معاذ) لي ِ‬


‫صغي معاذ إىل‬ ‫ُّ‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫ما سيقوله ُّ‬
‫يحب معاذا‪ ،‬كما يف الحديث‬ ‫ُّ‬ ‫النبي عليه الصَلة والسَلم‬ ‫وكان ُّ‬
‫اآلخر‪َ « :‬يا م َعاذ َوال َّل ِه إِني َأل ِح ُّب َك‪َ ،‬ال َتدَ َع َّن فِي دب ِر كل َص ََل ٍة َأ ْن‬
‫ول‪ :‬ال َّله َّم َأ ِعني َع َلى ِذك ِْر َك َوش ْك ِر َك َوح ْس ِن ِع َبا َدتِ َك»(‪.)1‬‬
‫َتق َ‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم ذلك بصيغة السؤال؛‬ ‫(أت ْد ِري) َذكر ُّ‬
‫ِ‬
‫المستمع إليه‪.‬‬ ‫ل َيجلب انتباه‬
‫وهذا من أساليب حسن التعليم‪:‬‬
‫أحيانا باإللقاء‪.‬‬
‫وأحيانا بالسؤال‪.‬‬
‫وأحيانا بالتعليم‪.‬‬
‫وأحيانا بالعمل‪ ،‬كصَلة النبي عليه الصَلة والسَلم وصعوده عىل‬
‫المنبر ثم رجوعه‪.‬‬
‫وأحيانا بأخَلقه عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)22119‬من حديث معاذ بن جبل رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأحيانا بتقريراته‪ ،‬وهكذا‪.‬‬


‫النبي ﷺ يعلمه صحابته حتى وهم‬ ‫ُّ‬
‫ويدل عىل أمهية التوحيد؛ إذ كان ُّ‬
‫عىل الحمار‪.‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن هذه‬ ‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله‪« :‬هذا ُّ‬
‫ألن معاذا قال‪ :‬ال َّله ورسوله‬
‫المسألة قد َخفيت عىل بعض الصحابة؛ َّ‬

‫أعلم»(‪.)1‬‬
‫ويدل أيضا عىل ِحرص النبي عليه الصَلة والسَلم عىل ترسيخ‬
‫ُّ‬
‫التوحيد والعقيدة يف قلوهبم‪.‬‬
‫(ما ح ُّق ال َّل ِه على ال ِعب ِ‬
‫اد) يعني‪ :‬ما هو الواجب عىل العباد أن‬
‫َيفعلوه؟‬
‫تكرم ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫الحق الذي َّ‬
‫ُّ‬ ‫اد على ال َّل ِه؟) أي‪ :‬ما هو‬
‫(وما ح ُّق ال ِعب ِ‬

‫فضل عىل عباده؟‬ ‫وجل ِبه و َت ي‬


‫َّ‬
‫قال‪( :‬ق ْلت‪ :‬ال َّله ورسوله أ ْعلم)‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب التوحيد ( ص‪.)180‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪52‬‬

‫هذه المسألة العظيمة َخفيت عىل معاذ وهو من أكابر الصحابة ومن‬
‫علمائهم؛ لذلك قال عليه الصَلة والسَلم‪« :‬معاذ بن جب ٍل َأمام الع َلم ِ‬
‫اء‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ََ َ َ‬
‫أعلم الصحابة‪ ،‬ومع ذلك قال‪( :‬ال َّله‬ ‫ٍ‬
‫بخطوة‪ ،‬فهو من ْ‬ ‫بِ َر ْت َو ٍة»(‪ )1‬يعني‪:‬‬
‫ورسوله أ ْعلم)‪.‬‬
‫ِ‬
‫العقيدة‬ ‫ويدل عىل َّ‬
‫أن المسؤول إذا كان ال َيعلم ولو شيئا من مسائ ِل‬ ‫ُّ‬
‫يقول‪ :‬ال َّله أعلم‪.‬‬
‫ويدل عىل أنَّه يف حياة النبي ﷺ يجوز أن يقال‪( :‬ال َّله ورسوله‬
‫ُّ‬
‫أ ْعلم)؛ لنزول الوحي عليه‪ ،‬أ َّما بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي ﷺ؛ فَل‬
‫النبي عليه‬ ‫يجوز أن يقال‪( :‬ال َّله ورسوله أ ْعلم)؛ وإنَّما «ال َّله أعلم»؛ َّ‬
‫ألن َّ‬
‫الصَلة والسَلم قد مات‪.‬‬
‫(قال‪ :‬فإِن ح ُّق ال َّل ِه على ال ِعب ِ‬
‫اد) يعني‪ :‬الذي يجب عىل العباد أن‬
‫َيفعلوه وإن مل يفعلوا ذلك؛ عذهبم ال َّله بالنَّار؛ قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّه َم ْن ي ْش ِر ْك‬
‫الجنَّة َو َم ْأ َواه النَّار َو َما لِل َّظال ِ ِمي َن مِ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِال َّله َف َقدْ َح َّر َم ال َّله َع َل ْيه َ‬
‫ار﴾ [المائدة‪.]72:‬‬ ‫َأن َْص ٍ‬

‫(‪ )1‬رواه الطبراين يف المعجم‪ ،‬رقم (‪.)41‬‬


‫‪53‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الجنَّة؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن‬ ‫وجل َ‬‫َّ‬ ‫و َمن أطاعه َأدخله ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫س‬ ‫َت َله ْم َجنَّات ال ِف ْر َد ْو ِ‬
‫ات كَان ْ‬‫ا َّل ِذين آمنوا و َع ِملوا الصالِح ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫نزال﴾ [الكهف‪.]107:‬‬
‫فمما يجب عليك وحدانية ال َّله عز وجل؛ ألنَّه هو الذي َخلقك‬
‫َّ‬
‫ورزقك وأغدق عليك بالنعم‪ ،‬وهو المستحق للعبادة‪ ،‬فَل أحد سواه‬
‫َ‬
‫يستحق أن يركع له‪ ،‬وأن يسجد له‪ ،‬وأن تفرد أنواع العبادة إليه؛ إال ال َّله‬
‫وحده؛ ألنه هو الكبير العظيم‪.‬‬
‫وجهه للرب الواحد الكبير‬
‫والشخص أعظم ما يقدمه أن يعفر ْ‬
‫ٍ‬
‫شجر أو‬ ‫المتعال‪ ،‬وال َيخنع بالقلب أو بالجسد لغير ال َّله عند ٍ‬
‫قبر أو عند‬
‫ٍ‬
‫حجر ونحو ذلك‪.‬‬ ‫عند‬
‫(أنْ ي ْعبدوه) يعني‪ :‬أن يفردوه بالعبادة‪.‬‬
‫(وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا) َّ‬
‫ألن المحذور أن تصرف النية لغير ال َّله‪.‬‬
‫فإذا انصرفت النية لغير ال َّله؛ انصرف معها العمل‪ ،‬والعياذ بال َّله‪.‬‬
‫توجه القلب لغير ال َّله؛ فقد َيذبح لغير ال َّله؛ لذلك قال سبحانه‪:‬‬ ‫فإذا َّ‬
‫ِ‬ ‫﴿وما أمِروا إِ َّال لِيعبدوا ال َّله م ْ ِ‬
‫خلِصي َن َله الد َ‬
‫ين حنَ َفا َء َويقيموا َّ‬
‫الص ََل َة‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬
‫الزكَا َة َو َذل ِ َك ِدين ال َقي َمة﴾ [البينة‪.]5:‬‬
‫َوي ْؤتوا َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪54‬‬

‫ٍ‬
‫طاعة‪،‬‬ ‫فيجب عىل العباد أن يصلحوا نياهتم يف إخَلصها ل َّله يف كل‬
‫وهذا هو التوحيد‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬لماذا تأيت النصوص بعبادة ال َّله وحده والنهي عن الشرك‪،‬‬
‫والناس اليوم قد َتقدَّ موا‪ ،‬فلم َيعبدوا صنما ومل َيعبدوا وثنا‪ ،‬ونحن اآلن‬
‫يف عصر الحضارة ونحو ذلك؟‬
‫وجل َذكر عن إبراهيم قوله‪َ ﴿ :‬رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن‬ ‫عز َّ‬‫نقول‪ :‬ال َّله َّ‬
‫َّاس﴾ [إبراهيم‪ ،]36:‬فالغالب عىل الناس يف األرض عدم‬ ‫كَثِيرا مِ َن الن ِ‬
‫اإلسَلم وهو الشرك؛ لآلية السابقة‪ ،‬ولقوله سبحانه‪َ ﴿ :‬و َلكِ َّن َأ ْك َث َر الن ِ‬
‫َّاس‬
‫ون﴾ [غافر‪.]59:‬‬ ‫َال ي ْؤمِن َ‬
‫وأقل ِ‬
‫الق َّلة هم أهل اإلسَلم‬ ‫وكثير من أهل األرض ال َيعبد ال َّله‪ُّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫كثير منهم َمن يعبد األصنام‬
‫شرق األرض ٌ‬ ‫الخالص من َّ‬
‫الش ْوب‪ ،‬فمثَل‪ْ :‬‬
‫من البوذية ونحو ذلك‪ ،‬وهم مِن أكثر سكان أهل األرض؛ فقرابة ربع‬
‫ممن ال َيعتنق اإلسَلم ‪ -‬مِن‬
‫األرض يف تلك الجهة من غير المسلمين‪َّ ،‬‬
‫صرف العبادة للصنم والركوع له ‪.-‬‬
‫ْ‬
‫لما دعا‪َ ﴿ :‬رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن كَثِيرا مِ َن‬
‫وصدَ ق إبراهيم َّ‬
‫الن ِ‬
‫َّاس﴾ [إبراهيم‪ ،]36:‬والواقع َيشهد بذلك‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫عز َّ‬
‫وجل به‬ ‫قال‪( :‬وح ُّق العباد على ال َّله) يعني‪ :‬الذي َت َّ‬
‫كرم ال َّله َّ‬
‫وجعله سبحانه وتعاىل فضَل منه‪ ،‬ح يقا عليه لعباده إن َّ‬
‫وحدوا‪.‬‬ ‫َ‬
‫وهذا الحق ال يوجبه الخ ْلق عىل ال َّله؛ يعني‪ :‬ما يقول الخ ْلق‪ :‬ألز ْمنا‬
‫حق ال َّله َتفضل‬
‫وحدناك؛ وإنما هذا ُّ‬
‫الجنَّة ألننا َّ‬
‫عليك يا ربنا أن تدخلنا َ‬
‫وتكرما‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫به عليك إنعاما منه وإحسانا‬
‫قال‪( :‬أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا) َّ‬
‫دل عىل َّ‬
‫أن مآل الموحد هو‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫َ‬
‫ويدل عىل أن الم َوحد ال يخ َّلد يف النَّار‪ ،‬فقوله‪( :‬أ ََّّل يعذب) أي‪:‬‬
‫ُّ‬
‫عذابا مخ َّلدا‪.‬‬
‫وقد يعذب ال َّله الموحد إذا كان َيعمل الكبائر أو الصغائر ومل‬
‫يغفرها ال َّله؛ قال سبحانه‪﴿ :‬إِ ْن َت ْجتَنِبوا َك َبائِ َر َما تن َْه ْو َن َعنْه ن َكف ْر َعنْك ْم‬
‫﴿و َم ْن َي ْقت ْل م ْؤمِنا م َت َعمدا َف َج َزاؤه‬ ‫َسي َئاتك ْم﴾ [النساء‪ ،]31:‬وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ِ ِ‬
‫َج َهنَّم َخالدا ف َ‬
‫يها﴾ [النساء‪.]93:‬‬

‫أ َّما خلود الموحد يف النَّار فَل‪ ،‬فإن ال َّله وعد َّأال ي َعذب الموحد؛‬
‫لقوله‪( :‬أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا) يعني‪َّ :‬‬
‫كأن ال َّله يقول‪ :‬إذا‬
‫لجنَّة؛ وهذا من إنعام ال َّله ْ‬
‫وفضله‪.‬‬ ‫وحدتني أنا أعدك با َ‬
‫َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪56‬‬

‫كرم ال َّله أن َجعل التوحيد موافقا للفطرة‪ ،‬فالخلق مفطورون‬ ‫ومن َ‬


‫وغل يف الشرك إذا َح َّلت به الشدائد َيرجع لفطرته‬ ‫عىل التوحيد؛ بل إ َّن الم ِ‬
‫وهو التوحيد؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬فإِ َذا ركِبوا فِي الف ْل ِ‬
‫ك َد َعوا ال َّل َه م ْخلِ ِصي َن‬ ‫َ‬
‫َله الدي َن﴾ [العنكبوت‪ ]65:‬يوحدون‪.‬‬
‫اد على ال َّل ِه أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا)‬
‫العب ِ‬
‫لذلك قال‪( :‬وح ُّق ِ‬

‫فمن َأفرد ال َّله وحده سبحانه بالعبادة؛‬ ‫ِ‬


‫هذا يدل عىل عظم فضيلة التوحيد‪َ ،‬‬
‫وعدٌ من ال َّله َّأال يعذبه بالخلود يف النَّار؛ لذلك َأمجع أهل السنة عىل َّ‬
‫أن‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫مآل الموحد هو َ‬
‫لكن بعض الموحدين قد َيعمل المعاصي‪ ،‬وهذه المعاصي إ َّما أن‬
‫عز َّ‬
‫وجل يعذبه يف النَّار بتلك‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫بفضله‪ ،‬أو َّ‬ ‫عز َّ‬
‫وجل ْ‬ ‫َيغفرها ال َّله َّ‬
‫الجنَّة سواء َغفر ال َّله له ‪ -‬بما هو دون الشرك ‪ ،-‬أو‬
‫المعاصي‪ ،‬لكن مآله َ‬
‫عز َّ‬
‫وجل له‪.‬‬ ‫مل َيغفر ال َّله َّ‬
‫الجنَّة لماذا ال َيعمل السيئات؟‬ ‫فإذا قيل‪ :‬ما دام َّ‬
‫أن الموحد مآله إىل َ‬
‫فنقول‪:‬‬
‫َّل‪ :‬السيئات قد تظلِم القلب وت ِ‬
‫ورثه وقوعا يف الشرك أو النفاق‪.‬‬ ‫َّأو ً‬
‫‪57‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شخص‪ :‬أنا أعطيك قصرا مشيدا لكن أغمسك يف‬


‫ٌ‬ ‫ثاني ًا‪ :‬لو قال لك‬
‫أخذت مني عشرة آالف ٍ‬
‫ريال ‪ -‬مثَل ‪ -‬بغير‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ساعة؛ ألنك‬ ‫النَّار نصف‬
‫وشخص آخر قال‪ :‬ألنك مل تأخذ مني شيئا؛ فسوف أعطيك القصر‬‫ٌ‬ ‫حق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ساعة‪.‬‬ ‫المشيد بدون أن َأغمسك يف النَّار وال‬
‫ٍ‬
‫آالف‪ ،‬و َأنغمس يف النَّار ساعة ثم آخذ‬ ‫هل ستقول‪ :‬أسرق العشرة‬
‫ٍ‬
‫شيء‪.‬‬ ‫القصر المشيد‪ ،‬أو تقول‪ :‬لن َأسرق؛ أريد القصر المشيد بدون‬
‫أنك ستسلك السبيل اآلخر فتبتعد عن‬ ‫َّ‬
‫شك‬ ‫ال‬
‫السرقة ‪ -‬مثَل ‪ -‬حتى تنال القصر المشيد وهكذا‪.‬‬
‫قال‪( :‬ق ْلت‪ :‬يا رسول ال َّل ِه أفَل أبشر النَّاس؟ قال‪َّ« :‬ل تبش ْره ْم‬
‫حيح ْي ِن)‪.‬‬ ‫فيتكِلوا» أ ْخرجاه فِي الص ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫السنَّة تبشير الناس باألمر‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫أن ُّ‬ ‫قال‪( :‬أفَل أبشر النَّاس؟) ُّ‬
‫فرح؛ عىل المسلِم أن يخبر به‪ ،‬وأن ينشره ويب َّثه فيما هو‬
‫خبر ي ِ‬
‫فكل ٍ‬
‫السار‪ُّ ،‬‬
‫مصلح ٌة ديني ٌه لك مثَل أو لغيرك‪ ،‬وال َّله قال‪َ ﴿ :‬و َبش ِر‬
‫الجنَّة؛‬ ‫وحدوا َّ‬ ‫ِِ‬
‫بأن لهم َ‬ ‫ين﴾ [البقرة‪]223:‬؛ أي‪ :‬وبشر المؤمنين إذا َّ‬
‫الم ْؤمن َ‬
‫ٍ‬
‫بشارة‪.‬‬ ‫وهذه أعظم‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪58‬‬

‫الجنَّة‪ ،‬فقال‪( :‬أفَل‬ ‫وهنا َف ِرح معاذ رضي ال َّله عنه َّ‬
‫بأن الموحد مآله َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫أبشر النَّاس؟)‪ ،‬وأخبرهم هبذا الخبر العظيم َّ‬
‫بأن مآل الموحد َ‬
‫ويدل عىل مح يبة الصحابة رضي ال َّله عنهم للمسلمين؛ إذ نفوسهم‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫عظيم‪.‬‬ ‫تشوق لبشارة المسلمين ٍ‬
‫بأمر‬ ‫َت َّ‬
‫نصوص أخرى عىل أنه‬ ‫ٌ‬ ‫أن ال َّله ال يعذب الموحد‪ ،‬ود َّلت‬ ‫ويدل عىل َّ‬ ‫ُّ‬
‫تحت المشيئة إن َعمل ذنوبا غير الشرك؛ كما قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َال َي ْغ ِفر‬
‫ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن َي َشاء﴾ [النساء‪.]48:‬‬
‫َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ‬
‫يدل عىل أنه يخشى عىل الصالحين‬ ‫قال‪َّ( :‬ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا) هذا ُّ‬
‫من االتكال عىل ما عندهم من التوحيد‪ ،‬وأنَّهم قد َيعملون المعاصي؛‬
‫لذلك قال‪( :‬أفَل أبشر النَّاس؟ قال‪َّ« :‬ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»)‪.‬‬
‫النبي ﷺ ذلك؟‬
‫فإذا قيل‪ :‬لماذا قال ُّ‬
‫فلما َرسخ الدين يف نفوسهم؛ َأخبر‬
‫نقول‪ :‬هذا يف َّأول مطلع الدعوة‪َّ ،‬‬
‫وب َّشرهم هبا بعد وفاة النبي ﷺ‪.‬‬
‫معاذ الناس َ‬
‫أن المخا َطب إذا كان يخشى منه‬
‫ويدل أيضا هذا الحديث عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫قصور يف العمل الصالح؛ ال يخ َبر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪59‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫العلم أحدا دون اآلخر‪ ،‬مِثل أن‬


‫ويدل أيضا عىل جواز تخصيص ِ‬
‫ُّ‬
‫يع يلم أشخاصا الفرائض وال يع يلم آخرين؛ ألهنم قد ال يستطيعون تع ُّلم‬
‫الفرائض وهكذا‪.‬‬
‫(َّل تبش ْره ْم في َّتكِلوا) أي‪ :‬قد ال َيفهمون هذا الحديث؛ ف َيعملون‬
‫المعاصي والسيئات‪ ،‬فقد يظن المستمع أن الزاين والسارق ال ي َّ‬
‫عذب؛‬
‫عذبه وإن شاء َغفر ال َّله له‪.‬‬
‫وهو تحت المشيئة إن شاء ال َّله َّ‬
‫شخص عىل‬ ‫العلم للمصلحة‪ ،‬مثل‪ :‬لو َدخل‬ ‫فيدل عىل جواز كتمان ِ‬ ‫ُّ‬
‫ٌ‬
‫عصاة‪ ،‬وهم َيشربون الخمور‪ ،‬وق ْبل أن يشربوا الخمور لو أخبرهم هبذا‬ ‫ٍ‬

‫أن ال َّله ال‬


‫الحديث قد يشربوهنا‪ ،‬ويقولون‪ :‬نحن ال نشرك بال َّله‪ ،‬فيظنون َّ‬
‫يعذب عىل شرب الخمر؛ وأنَّه تحت المشيئة‪.‬‬
‫قال‪( :‬أ ْخرجاه فِي الص ِ‬
‫حيح ْي ِن) هنا انتهى المصنف رمحه ال َّله من‬ ‫َّ‬
‫األول‪.‬‬
‫الباب َّ‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪60‬‬

‫[‪]2‬‬
‫يد‪ ،‬وما يكفر ِمن ُّ‬
‫الذن ِ‬
‫وب‬ ‫باب ف ْض ِل الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ا َّل ِذين آمنوا ول ْم ي ْلبِسوا إِيامنه ْم بِظ ْل ٍم أولئِك لهم‬
‫األ ْمن وه ْم مهْ تدون﴾‪.‬‬
‫ت ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬م ْن‬
‫ام ِ‬
‫ع ْن عبادة ب ِن الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ش ِهد أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله و ْحده َّل شرِيك له‪ ،‬وأ َّن ُم َّمد ًا ع ْبده ورسوله‪.‬‬
‫وح ِم ْنه‪.‬‬
‫وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله‪ ،‬وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ‬
‫والجنَّة ح ٌّق‪ ،‬والنَّار ح ٌّق‪.‬‬
‫أ ْدخله ال َّله الجنَّة على ما كان ِمن العم ِل» أ ْخرجاه‪.‬‬
‫يث ِع ْتبان ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْن‬‫ولهام فِي ح ِد ِ‬

‫قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»‪.‬‬
‫يد ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪« :‬قال موسى‪ :‬يا رب! عل ْمنِي‬‫وع ْن أبِي س ِع ٍ‬

‫ش ْيئ ًا أ ْذكرك وأ ْدعوك بِ ِه؟‬


‫قال‪ :‬ق ْل يا موسى‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪.‬‬
‫ادك يقولون هذا‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يا رب! ك ُّل ِعب ِ‬
‫‪61‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫امره َّن غ ْيرِي واألر ِضين‬ ‫ات السبع وع ِ‬


‫َّ ْ‬
‫قال‪ :‬يا موسى! ل ْو أ َّن السمو ِ‬
‫َّ‬
‫الس ْبع فِي كِ َّف ٍة‪ ،‬وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت بِ ِه َّن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله» رواه ا ْبن‬
‫َّ‬
‫ِح َّبان‪ ،‬والحاكِم وص َّححه‪.‬‬
‫س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬س ِم ْعت‬ ‫ولِلت ْر ِم ِذي وح َّسنه‪ :‬ع ْن أن ٍ‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ يقول‪« :‬قال ال َّله تعالى‪ :‬يا ا ْبن آ دم! إِنَّك ل ْو أت ْيتنِي بِقر ِ‬
‫اب‬
‫ض خطايا‪ ،‬ث َّم ل ِقيتنِي َّل ت ْشرِك بِي ش ْيئ ًا؛ ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة»‪.‬‬
‫األ ْر ِ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫واجب عىل العبد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫لما َذكر المصنف رمحه ال َّله كتاب التوحيد‪ ،‬وأنَّه‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بشيء تبين له ثواب ذلك الشيء‪.‬‬ ‫من حسن التعليم أنَّك إذا َأمرته‬
‫األول َّ‬
‫أن التوحيد هو أوجب‬ ‫فذكر المصنف رمحه ال َّله يف الكتاب َّ‬
‫َ‬
‫تقدح فيه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واخش أن‬ ‫واحرص عليه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الواجبات؛ فا ْفع ْله‬
‫فضَل عظيما‪َّ ،‬‬
‫وإن هذا‬ ‫فعلت ذلك َّ‬
‫فإن له ْ‬ ‫َ‬ ‫ثم بعد ذلك قال لك‪ :‬إن‬
‫التوحيد يكفر الذنوب‪.‬‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله يف فضل التوحيد آية وأربعة أحاديث‪،‬‬
‫ِ‬
‫فمن فضائله‪:‬‬
‫أهل التوحيد لهم األمن التام‪.‬‬ ‫األول‪َّ :‬‬
‫أن ْ‬ ‫ْ‬
‫الفضل َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪62‬‬

‫الجنَّة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والفضل الثاين‪ :‬يف حديث عبادة‪َّ :‬‬


‫ْ‬
‫أن التوحيد يدخل صاحبه َ‬
‫والفضل الثالث‪ :‬حديث ِعتبان‪َّ :‬‬
‫أن التوحيد يحرم النَّار عىل صاحبه‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫شيء يف الميزان‪.‬‬ ‫ْ‬
‫والفضل الرابع‪ :‬أن َّالتوحيد أرجح‬
‫والفضل الخامس‪ :‬أنَّه يكفر الذنوب‪.‬‬ ‫ْ‬
‫يد‪ ،‬وما يكفر ِمن ُّ‬
‫الذن ِ‬
‫وب)؛ أي‪:‬‬ ‫وح ِ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ف ْض ِل الت ِ‬
‫َّ‬
‫فضل التوحيد‪ ،‬وبيان تكفيره للذنوب؛ أي‪ :‬أنه يكفر الذنوب‪،‬‬
‫هذا بيان ْ‬
‫وأن من فضائله تكفير الذنوب؛ يعني‪َ :‬‬
‫سأذكر َ‬
‫لك‬ ‫أن له فضائل‪َّ ،‬‬
‫فذكر َّ‬
‫َ‬
‫فضل التوحيد‪ ،‬و َأذكر أحاديث فيها تكفير الذنوب بسبب التوحيد‪.‬‬
‫ْ‬
‫أن الطاعة فيه طاع ٌة‬
‫دل عىل َّ‬
‫وإذا كان التوحيد يكفر الذنوب؛ َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل يف قضاء‬ ‫توسل فيه الشخص إىل ال َّله َّ‬
‫عظيم ٌة؛ لهذا أعظم عم ٍل َي َّ‬
‫التوسل بالتوحيد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫حاجاته من األعمال الصالحة؛ هو‬
‫شخص‪ :‬ال َّله َّم إين أتوسل إليك بصَليت منذ عشرين‬
‫ٌ‬ ‫فمثَل لو قال‬
‫كنت تعلم أهنا خالصة لوجهك الكريم؛ فاشفني من هذا المرض‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫سنة إن َ‬
‫شخص آخر‪ :‬ال َّلهم إين أتوسل إليك بتوحيدي لك وعدم‬
‫ٌ‬ ‫وقال‬
‫ف‬‫إشراكي بك إن كنت تعلم أن هذا خالصا لوجهك الكريم؛ فاش ِ‬

‫َمرضي‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األول‪ ،‬لماذا؟‬
‫توسل الثاين أبلغ وأعظم وأحرى باإلجابة من َّ‬
‫نقول‪ُّ :‬‬
‫ألنَّه ف َعل أعظم طاعة وهي التوحيد‪.‬‬
‫قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ا َّل ِذين آمنوا ول ْم ي ْلبِسوا إِيامنه ْم بِظ ْل ٍم‬
‫أولئِك لهم األ ْمن وه ْم مهْ تدون﴾)‬
‫َذكر المصنف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان َّ‬
‫أن من فضائل التوحيد‬
‫حلول األ ْمن التام يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫األمن يف النفس‪ :‬بالطمأنينة والراحة‪.‬‬
‫واألمن بين األفراد‪ :‬ال تعتدي عىل أحد وال يعتدي عليك أحد‪.‬‬
‫واألمن يف المجتمع‪ :‬بعدم الخوف فيه من النهب والسرقة ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫لذلك قال ابن القيم‪« :‬فما خراب العا َلم إال بالجهل‪ ،‬وال عمارته‬
‫الشر يف أهلها‪ ،‬وإذا َخفي‬
‫قل ُّ‬‫بلد أو مح َّل ٍة َّ‬
‫بالعلم‪ ،‬وإذا َظهر العلم يف ٍ‬
‫إال ِ‬
‫ِ‬
‫العلم هناك ظهر الشر والفساد»(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫تقاض‪.‬‬ ‫ولو َّ‬
‫أن الناس قد كمل توحيدهم؛ لما احتاجوا إىل‬

‫(‪ )1‬إعَلم الموقعين (‪.)570/3‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪64‬‬

‫ولما احتاجوا إىل ج ٍ‬


‫ند وال ح َّر ٍ‬
‫اس وال غير ذلك‪ ،‬فكلهم يراقب ربه‪.‬‬
‫فما َيحدث يف العامل من حدوث خل ٍل يف األمن أو نحو ذلك؛ هو‬
‫بسبب القصور يف التوحيد ومراقبة ال َّله‪.‬‬
‫واألمن‪ ،‬والطمأنينة‪ ،‬والسكينة‪ ،‬والراحة؛ هي من أعظم ما َيطلبه‬
‫﴿رب ْاش َر ْح لِي َصدْ ِري * َو َيس ْر‬ ‫الناس؛ لذلك قال موسى عليه السَلم‪َ :‬‬
‫وجل للنبي ﷺ‪َ ﴿ :‬أ َل ْم ن َْش َر ْح َل َك‬
‫عز َّ‬‫لِي َأ ْم ِري﴾ [طه‪ ،]26-25:‬وقال ال َّله َّ‬
‫َصدْ َر َك﴾ [الشرح‪.]1:‬‬
‫شرح الصدر‪ ،‬وال يكون ذلك إال بالتوحيد‪ ،‬فهنا‬ ‫فالسعادة هي يف ْ‬
‫قال‪﴿( :‬ا َّل ِذين آمنوا ول ْم ي ْلبِسوا إِيامنه ْم بِظ ْل ٍم) [األنعام‪( ،]82:‬بِظ ْل ٍم)؛‬
‫ولما نزلت هذه اآلية‬ ‫ٍ‬
‫النبي ﷺ هذا الظلم بالشرك‪َّ ،‬‬ ‫ففسر ُّ‬ ‫يعني‪ :‬بشرك‪َّ ،‬‬
‫الم َع ْا ِص ْي ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال الصحابة رضي ال َّله عنهم‪َ :‬أ ُّينَا َال َي ْظلم َن ْف َسه – َيعني‪ :‬بِ َ‬
‫ُّون‪ ،‬إِن ََّما ه َو ك ََما َق َال ل ْق َمان ِال ْبن ِ ِه‪:‬‬
‫؟ َف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ‪َ « :‬ل ْي َس ه َو ك ََما َتظن َ‬
‫ك َلظ ْلم َعظِيم﴾ [لقمان‪)1(»]13:‬‬
‫﴿إِ َّن الشر َ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬
‫﴿وا َّت َخ َذ ال َّله إِ ْب َراه َ‬
‫يم‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب قول ال َّله تعاىل‪َ :‬‬
‫َخلِيَل﴾ [النساء‪ ،]125:‬رقم (‪ ،)3360‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب ِصدْ ق اإليمان‬
‫ٍ‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫وإخَلصه‪ ،‬رقم (‪ ،)124‬من حديث عبد ال َّله بن‬
‫‪65‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وسلِم من الذنوب بقدْ ر ما يستطيع بترك‬ ‫ِ‬


‫فمن َسلم من ظ ْلم الشرك‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫الكبائر واجتناب الصغائر‪ ،‬وابتعد عن ظلم الناس؛ بإذن ال َّله يكون له‬
‫األمن التام يف الدنيا واآلخرة؛ بل و َيهديه ال َّله للدين القويم والثبات عليه؛‬
‫لذلك قال‪( :‬أولئِك لهم األ ْمن وه ْم مهْ تدون﴾) [األنعام‪ ،]82:‬لهم األمن‬
‫عىل قدر التوحيد‪.‬‬
‫وقوي تع ُّلقه بال َّله؛ َيحصل له‬ ‫َ‬ ‫قوي إيمان الشخص‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فك َّلما‬
‫االنشراح والراحة والطمأنينة‪ ،‬قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ف َم ْن ي ِر ِد ال َّله َأ ْن َي ْه ِد َيه‬
‫َي ْش َر ْح َصدْ َره ل ِ ْإلِ ْس ََل ِم َو َم ْن ي ِر ْد َأ ْن ي ِض َّله َي ْج َع ْل َصدْ َره َضيقا َح َرجا ك ََأن ََّما‬
‫﴿و َم ْن َي ْعش َع ْن ِذك ِْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َماء﴾ [األنعام‪ ،]125:‬وقال سبحانه‪َ :‬‬ ‫َي َّص َّعد في َّ‬
‫الر ْح َم ِن ن َقي ْض َله َش ْي َطانا َفه َو َله َق ِري ٌن﴾ [الزخرف‪.]36:‬‬
‫َّ‬
‫فمن فضائل التوحيد الراحة النفسية‪ ،‬والراحة يف األبدان‪.‬‬
‫ت ر ِضي ال َّله‬
‫ام ِ‬
‫ثم َذكر بعد ذلك الحديث الثاين‪( :‬ع ْن عبادة ب ِن الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ع ْنه قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬م ْن ش ِهد أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله و ْحده َّل شرِيك‬
‫له‪ ،‬وأ َّن ُم َّمد ًا ع ْبده ورسوله‪.‬‬
‫وح ِم ْنه‪.‬‬
‫وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله‪ ،‬وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ‬
‫والجنَّة ح ٌّق‪ ،‬والنَّار ح ٌّق‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪66‬‬

‫أ ْدخله ال َّله الجنَّة على ما كان ِمن العم ِل» أ ْخرجاه)‪.‬‬


‫الجنَّة‪ ،‬لقول‬
‫أن مآل الموحد إىل َ‬ ‫أنَِ مِن فضائل التوحيد َّ‬ ‫لبيان َّ‬
‫النبي ﷺ ‪ -‬كما سيأيت ‪( :-‬أ ْدخله ال َّله الجنَّة على ما كان ِمن العم ِل)‪،‬‬
‫وأي فض ٍل لهذه الطاعة بأن يكون جزاؤها دخول َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ت ر ِضي ال َّله ع ْنه‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ام ِ‬
‫قال‪( :‬ع ْن عبادة ب ِن الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬م ْن ش ِهد) يعني‪ :‬بلسانه‪ ،‬واستَيقن هبا قلبه‪َ ،‬‬
‫وعلم‬
‫بمعناها‪ ،‬واجتنب ما يناقضها من نواقض الدين‪ ،‬فَل يكفي التل ُّفظ‪،‬‬
‫فالمنافقون يتل َّفظون هبا‪ ،‬فَل بدَّ من هذه األمور ‪ -‬كما سيأيت بإذن ال َّله يف‬
‫شروط ال إله إال ال َّله ‪.-‬‬
‫ٍ‬
‫وإبصار‬ ‫ٍ‬
‫مشاهدة‬ ‫المبني عن‬ ‫وأصل الشهادة للشيء المرئي؛ أي‪:‬‬
‫ي‬
‫ولما كانت الشهادة بالتوحيد يقين َّي ٌة نابع ٌة من القلب ويقرر اللسان‬
‫بال َعين‪َّ ،‬‬
‫بص َر ٌة َ‬
‫فشهد عليها؛‬ ‫ذلك والجوارح تصدقه؛ كانت هذه الشهادة كأهنا م َ‬
‫لذلك قال‪( :‬م ْن ش ِهد أن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله)‪.‬‬
‫هذه كلمة اإلخَلص مبن ِ َّي ٌة عىل ركنين‪ :‬النفي واإلثبات‪.‬‬
‫النفي‪ :‬وهو قوله‪َّ( :‬ل إِله) أي‪ :‬ال مألوه يف الكون يعبد بحق‪.‬‬
‫ثم يأيت اإلثبات (إِ ََّّل ال َّله)‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وهذا اإلثبات مؤ َّكدٌ بقوله‪( :‬و ْحده)‪.‬‬


‫والنفي مؤ َّكدٌ بقوله‪َّ( :‬ل شرِيك له) تأكيدٌ للوحدانية‪.‬‬

‫بحق يف هذا الكون إال ال َّله ْ‬


‫وحده سبحانه‬ ‫أي‪ :‬ال إله وال شريك ٍّ‬
‫وتعاىل‪.‬‬
‫ولو َأثبت اإلنسان العبودية ل َّله ولغيره؛ مل يكن موحدا؛ بل يكون‬
‫مش ِركا‪.‬‬
‫ْ‬
‫ومن اقتَصر عىل النفي فقط وهو قوله‪َّ( :‬ل إِله)؛ فهو ِ‬
‫ملحدٌ ؛ بل هناك‬
‫إل ٌه معبو ٌد وهو ال َّله‪.‬‬
‫وش ِهد َّ‬
‫أن محمدا عبده‬ ‫وقوله‪( :‬وأ َّن ُم َّمد ًا ع ْبده ورسوله) أي‪َ :‬‬
‫ورسوله‪ ،‬هذه شهادة بالرسالة وبالعبودية‪ ،‬ومها من أعظم ألقاب‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫(ع ْبده)؛ لقول النبي ﷺ‪َ « :‬فإِن ََّما َأنَا َع ْبده»(‪ ،)1‬ولقوله سبحانه‪:‬‬
‫ان ا َّل ِذي َأ ْس َرى بِ َع ْب ِد ِه﴾ [اإلسراء‪.]1:‬‬
‫﴿س ْب َح َ‬

‫َاب َم ْر َي َم إِ ِذ‬
‫﴿وا ْذك ْر فِي الكِت ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪َ ،‬باب َق ْو ِل ال َّله‪َ :‬‬
‫ا ْن َت َب َذ ْت مِ ْن َأ ْهلِ َها﴾ [مريم‪ ،]16 :‬رقم (‪ ،)3445‬من حديث عمر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪68‬‬

‫(ورسوله)؛ ﴿ َيا َأ ُّي َها َّ‬


‫الرسول َبل ْغ﴾ [المائدة‪ ،]67:‬ولقول النبي ﷺ‪:‬‬
‫« َو َأني َرسول ال َّل ِه»(‪.)1‬‬
‫وقوله‪( :‬وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله) فكَلمها موصوفان بالعبودية‬
‫تفرد به‬ ‫والرسالة ومها من ْ‬
‫أشرف الخلق؛ لكن يزيد يف اإليمان بعيسى ما َّ‬
‫وهو أنه ولد من غير ٍ‬
‫أب‪.‬‬
‫و َذكر عيسى عليه السَلم هنا؛ َّ‬
‫ألن عيسى عليه السَلم هو أقرب‬
‫نبي؛ لذلك قال عيسى عليه السَلم‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫رسول للنبي ﷺ فليس بينهما ٌّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬
‫اسمه َأ ْح َمد﴾ [الصف‪.]6:‬‬‫﴿ َوم َبشرا بِ َرسول َي ْأتي م ْن َب ْعدي ْ‬
‫ضل فيه لكونه خلق من غير ٍ‬
‫أب‪،‬‬ ‫و َذكر أيضا عيسى هنا؛ لكثرة َمن َّ‬
‫وقد َدخل بسبب فتنة عيسى عليه السَلم ‪ -‬يعني‪ :‬ألنَّه من غير‬
‫ٍ‬
‫أب ‪ -‬النَّار مَليين البشر‪.‬‬
‫وهذا ُّ‬
‫يدل عىل استغفال الشيطان للناس‪ ،‬ولو َعلم الشخص‬
‫وجل مل َيحصل عنده هذا الل ْبس‪ ،‬فلكونه خلق من غير ٍ‬
‫أب؛‬ ‫عز َّ‬
‫قوة ال َّله َّ‬

‫ين إِ َل ْي ِه َوا َّتقوه َو َأقِيموا‬ ‫ِ‬


‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب مواقيت الصَلة‪ ،‬باب قول ال َّله تعاىل‪﴿ :‬منيبِ َ‬
‫س‬‫ال َتكونوا مِ َن الم ْش ِركِي َن﴾ [الروم‪ ،]31 :‬رقم (‪ ،)523‬من حديث ابن عبا ٍ‬ ‫الص ََل َة َو َ‬
‫َّ‬
‫رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫ثَلثة ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك ‪-‬؛ لذلك‬ ‫جعلوه إلها‪ ،‬أو ابنا ل َّله‪ ،‬أو ثالث‬
‫ٍ‬
‫كمحمد عليه الصَلة والسَلم‬ ‫قال‪( :‬وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله)؛ أي‪:‬‬
‫وكبقية الرسل‪.‬‬
‫وح ِم ْنه) (وكلِمته) يعني‪َ :‬تشهد‬
‫وقوله‪( :‬وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ‬
‫ٍ‬
‫بكلمة من ال َّله‬ ‫بأن عيسى عليه السَلم َأتى يف بطن أمه جنينا بغير ٍ‬
‫أب؛‬
‫وهي «كن»‪ ،‬فقال ال َّله عز وجل‪﴿ :‬ك ْن﴾ فكان عيسى يف بطن أمه من غير‬
‫ٍ‬
‫أب‪.‬‬
‫فهذه الكلمة ألقاها إىل مريم‪ ،‬فنَفث جبريل عليه السَلم يف َجيب‬
‫فحملت به أ ُّمه من غير زوجٍ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫د ْرعها ‪ -‬يعني‪ :‬أعىل الصدر ‪-‬؛ َ‬
‫وح ِم ْنه) أي‪ :‬عيسى كبقية األرواح المخلوقة‪ ،‬كما قال‬
‫وقوله‪( :‬ور ٌ‬
‫يسى ِعنْدَ ال َّل ِه ك ََمثَ ِل آ َد َم َخ َل َقه مِ ْن ت َر ٍ‬
‫اب ث َّم َق َال َله‬ ‫ِ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن َم َث َل ع َ‬
‫روح من األرواح التي‬ ‫ك ْن َف َيكون﴾ [آل عمران‪]59:‬؛ يعني‪َّ :‬‬
‫وأن عيسى ٌ‬
‫وجل‪ ،‬مثله مثل غيره‪ ،‬وهذا من باب التشريف‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫َخلقها ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫بيت ال َّله وحرم ال َّله وهكذا‪ ،‬فهذا معناها‪( ،‬وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله‪،‬‬
‫بأن قال‪ :‬كن يا‬ ‫وح ِم ْنه) ال َّله َألقى إىل مريم ْ‬
‫وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪70‬‬

‫عيسى يف بطن مريم؛ فكان جنينا من غير ٍ‬


‫أب‪ ،‬فأصبح روحا من األرواح‬
‫التي خلقها ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫حق وهي‬ ‫وقوله‪( :‬والجنَّة ح ٌّق‪ ،‬والنَّار ح ٌّق) يعني‪ :‬و َشهد أن َ‬
‫الجنَّة ٌّ‬
‫حق وهي مآل الكفار‪.‬‬
‫مآل المؤمنين‪ ،‬وأن النَّار ٌّ‬
‫والجنَّة والنَّار اآلن مخلوقتان؛ لذلك قال عليه الصَلة والسَلم‪:‬‬ ‫َ‬
‫الجنَّة َف َر َأ ْيت َأ ْك َث َر َأ ْهلِ َها الف َق َرا َء‪َ ،‬وا َّط َل ْعت فِي النَّار َف َر َأ ْيت‬ ‫ِ‬
‫«ا َّط َل ْعت في َ‬
‫َأ ْك َث َر َأ ْهلِ َها الن َسا َء»(‪ )1‬فهما اآلن مخلوقتان‪.‬‬
‫(والجنَّة ح ٌّق) أي‪ :‬س َيدخلها المؤمنون وليست شيئا ومه ييا‪( ،‬والنَّار‬
‫ح ٌّق) أي‪َ :‬يدخلها العصاة‪ ،‬ويخ َّلد فيها الكفار‪.‬‬
‫ف َمن ِ‬
‫شهد بما تقدَّ م من وحدانية ال َّله؛ فجزاؤه ما قاله ُّ‬
‫النبي ﷺ‪:‬‬
‫دت ال َّله بذلك‪ ،‬ومل‬
‫وح َ‬ ‫(أ ْدخله ال َّله الجنَّة) هذا ْ‬
‫فضل التوحيد‪ ،‬فإذا َّ‬
‫وشهدت بأن عيسى ومحمدا عليه الصَلة‬
‫َ‬ ‫ربا أو ابنا ل َّله‪،‬‬
‫َتجعل عيسى ي‬
‫حق؛ َأدخلك ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫حق والنَّار ٌّ‬
‫الجنَّة ٌّ‬
‫والسَلم عبدان رسوالن‪ ،‬وأن َ‬

‫الجنَّة الفقراء و َأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة‬


‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب َأكثر أهل َ‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫بالنساء‪ ،‬رقم (‪ ،)2737‬من حديث ابن‬
‫‪71‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الجنَّة‪ ،‬لذلك قال‪( :‬أ ْدخله ال َّله الجنَّة) هذا مآله‪ ،‬ولهذا َأمجع العلماء‬ ‫َّ‬
‫وجل َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫عىل أن مآل الموحد يف َ‬
‫الجنَّة تكون عىل‬ ‫وقوله‪( :‬على ما كان ِمن العم ِل) أي‪َّ :‬‬
‫أن درجتك يف َ‬
‫الجنَّة‪ ،‬لك َّن الموحدين‬
‫قدْ ر العمل الذي عملتَه يف الدنيا‪ ،‬فمآل الموحد َ‬
‫درجات عىل قدْ ر أعمالهم بفضل ال َّله ورمحته‪ ،‬فمآله إىل َ‬
‫الجنَّة‬ ‫ٌ‬ ‫الجنَّة‬
‫يف َ‬
‫وإن كان مقصرا يف بعض األعمال‪ ،‬أو مرتكِبا لبعض الذنوب التي هي‬
‫دون الشرك‪.‬‬
‫حق‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل فضيلة التوحيد‪ ،‬وأنَّه يجب عىل العبد أن َيعرفه َّ‬
‫لما ح ِرم من‬ ‫الجنَّة إال به‪ ،‬و َّ‬
‫أنَِ المشرك َّ‬ ‫المعرفة؛ ألنَّه ال سبيل لدخول َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫وجل عليه َ‬ ‫عز َّ‬ ‫حرم ال َّله َّ‬ ‫التوحيد؛ َّ‬
‫يث ِع ْتبان ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬فإِ َّن ال َّله ح َّرم على‬
‫وقوله‪( :‬ولهام فِي ح ِد ِ‬

‫النَّار م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»)‪.‬‬
‫فضل التوحيد؛ لبيان‬ ‫َذكر المصنف رمحه ال َّله حديث ِعتبان يف باب ْ‬
‫عز َّ‬
‫وجل عليه دخول النَّار؛‬ ‫حرم ال َّله َّ‬ ‫فضل التوحيد َّ‬
‫أنَِ صاحبه َّ‬ ‫َّ‬
‫أنَِ من ْ‬
‫عظيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يعني‪ :‬ال يمكِن للموحد أن يكون مآله النَّار مطلقا‪ ،‬وهذا ْ‬
‫فض ٌل‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪72‬‬

‫الفعل ال يمكِن أن تخ َّلد يف‬ ‫فعلت هذا ِ‬ ‫َ‬ ‫شخص‪ :‬إن‬


‫ٌ‬ ‫فلو قال لك‬
‫عملت‬
‫َ‬ ‫فعلت التوحيد ال يمكِن أن تخ َّلد يف النَّار؛ حتى ولو‬
‫َ‬ ‫النَّار؛ فهنا إن‬
‫ذر(‪)1‬‬
‫لما َسأل أبو ٍّ‬ ‫ذنوبا دون الشرك‪ ،‬ويكون تحت المشيئة؛ لذلك َّ‬
‫النبي ﷺ فقال‪َ :‬وإِ ْن َزنَى َوإِ ْن َس َر َق؟ َق َال‪َ « :‬وإِ ْن َزنَى َوإِ ْن َس َر َق»(‪ ،)2‬لكن‬
‫َّ‬
‫عىل التفصيل الذي ذكرناه‪ :‬قد يعذبه وقد َيغفر ال َّله له ذنْبه‪ ،‬و َيدخل َ‬
‫الجنَّة‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪.‬‬ ‫بغير‬
‫(فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله) فهذا ثواب‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫يث ِع ْتبان ر ِضي ال َّله‬
‫قال‪( :‬ولهام) أي‪ :‬البخاري ومسلِم‪( ،‬يف ح ِد ِ‬

‫ع ْنه‪« :‬فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار)؛ أي‪ :‬ال ي‬


‫تمسه النَّار‪.‬‬
‫حرم عىل النَّار أن يخ َّلد فيها )م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله)‪ ،‬وال يكفي‬
‫القول وإنما َذكر الشرط‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو ذر جندب ْبن جنادة ْبن سفيان ْبن ع َب ْيد ْبن حرام الغفاري‪ ،‬أسلم رابع أربعة وقيل‬
‫الخامس‪ ،‬وتويف سنة (‪32‬هـ)‪ .‬أسد الغابة البن األثير (‪.)357/1‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما جاء يف الجنائز‪ ،‬ومن كان آخر كَلمه‪ :‬ال إله‬
‫إال ال َّله‪ ،‬رقم (‪.)1237‬‬
‫‪73‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فَل إله إال ال َّله هي كلمة التوحيد‪.‬‬


‫وهي كلمة اإلخَلص‪.‬‬
‫وهي العروة الوثقى‪.‬‬
‫وهي التي من أجلها َخلق ال َّله السموات واألرض‪.‬‬
‫وهي أفضل الذكر‪.‬‬

‫وهي َأ ُّ‬
‫حب الكَلم إىل ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫أن مجيع حروفها ح ْلق َّي ٌة فَل تتحرك الشفتان حين النطق‬
‫ومن ميزاهتا‪َّ :‬‬
‫لئَل يرى المرء من ٍ‬
‫بعيد لو تك َّلم هبا‪.‬‬ ‫هبا؛ زيادة يف اإلخَلص؛ َّ‬
‫أن مجيع حروفها ليس عليها ٌ‬
‫نقط‪.‬‬ ‫ومِن ميزاهتا‪َّ :‬‬
‫ومِن ميزاهتا‪ :‬أنَّها مركَّب ٌة مِن حرف األلف‪ ،‬والَلم‪ ،‬والهاء فقط‪.‬‬
‫ِ‬
‫فهي كلم ٌة عظيم ٌة تدخل صاحبها َ‬
‫الجنَّة وتحرم عليه الخلود يف‬
‫النَّار‪.‬‬
‫ثم قال‪( :‬ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّله) يعني‪ :‬مخلِصا فيها ل َّله‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل‬
‫ٍ‬
‫بشروط حتى‬ ‫ٍ‬
‫بشروط‪ ،‬فَل بد من اإلتيان‬ ‫فضل كلمة التوحيد يأيت لكن‬ ‫أن ْ‬
‫محرما عليه الخلود النَّار‪.‬‬
‫يكون من يقول كلمة التوحيد َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪74‬‬

‫فهنا قال‪( :‬ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّله(‪ ،‬ويف لفظ «م ْستَ ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه»(‪،)1‬‬
‫كل َمن تك َّلم هبا تح َّققت له‬ ‫ويف لفظ « ِخالِصا مِ ْن َق ْلبِ ِه»(‪ ،)2‬فليس ُّ‬
‫ٍ‬
‫شروط‪.‬‬ ‫الفضائل السابقة؛ وإنَّما هو مشروط بسبعة‬
‫وهذه الشروط مجموعة يف بيت واحد‪:‬‬
‫محب ٍة وان ِْقي ٍ‬
‫اد وال َقب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ول َلها(‪)3‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع ْل ٌم َيق ْي ٌن َوإِ ْخ ََلْ ٌ‬
‫ص َوصدْ ق َك َم ْع َ َ َّ َ‬
‫ٍ‬
‫هذه سبعة شروط لكلمة ال إله إال ال َّله لتدخل صاحبها َ‬
‫الجنَّة‬
‫وشرحها ما ييل‪:‬‬
‫ْ‬
‫األول‪ِ ( :‬ع ْل ٌم) أي‪ :‬يجب عىل المسلم ْ‬
‫أن َيع َلم معنى ال إله‬ ‫الشرط َّ‬
‫إال ال َّله‪ ،‬وهو نفي العبادة عن غير ال َّله وإثباهتا ل َّله وحده سبحانه وتعاىل؛‬
‫قال سبحانه‪َ ﴿ :‬فا ْع َل ْم َأنَّه َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله﴾ [محمد‪.]19:‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب َمن َلقي ال َّله باإليمان وهو غير ٍّ‬
‫شاك فيه؛ دخل الجنة‬
‫وحرم عىل النار‪ ،‬رقم (‪ ،)31‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫العلم‪ ،‬باب الحرص عىل الحديث‪ ،‬رقم (‪ ،)99‬من حديث أبي‬ ‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب ِ‬

‫هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬


‫(‪ )3‬قاله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يف شرح كتاب التوحيد (‪.)88/1‬‬
‫‪75‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ُّ‬
‫يشك فيها‬ ‫كما‬ ‫الشرط الثاين‪َ ( :‬ي ِق ْي ٌن) يعني‪ :‬من غير ٍّ‬
‫شك فيها َ‬
‫مرض يصل إىل الشرك؛ كما قال النبي ﷺ‪:‬‬
‫المنافقون أو من يف قلبه ٌ‬
‫«م ْس َت ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه»(‪ ،)1‬فالشاك يف وحدانية ال َّله ال تنفعه تلك الكلمة؛ بل‬
‫بأن ال َّله سبحانه وتعاىل واحد‪َّ ،‬‬
‫وأن مجيع المعبودات من‬ ‫يجب اليقين َّ‬
‫دون ال َّله باطل ٌة‪.‬‬
‫ص) أي‪ :‬اإلخَلص يف قولها‪ ،‬وضدُّ ذلك‬ ‫الشرط الثالث‪َ ( :‬وإِ ْخ ََلْ ٌ‬
‫النفاق‪ ،‬فالمنافق يتك َّلم بتلك الكلمة لكنَّها ال تنفعه؛ ألنَّه ليس مخلِصا‬
‫فيها ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫واإلخَلص ضده الشرك فلو قال الشخص‪ :‬ال إله إال ال َّله‪ ،‬وهو‬
‫وقعت يف الشرك‪.‬‬
‫َ‬ ‫أخلصت فيها؛ وإنَّما‬
‫َ‬ ‫يطوف حول القبر؛ نقول‪ :‬ما‬
‫الشرط الرابع‪َ ( :‬و ِصدْ ق َك)؛ لقول النبي ﷺ‪ِ « :‬صدْ قا مِ ْن َق ْلبِه»(‪)2‬؛‬
‫أي‪ :‬ليس كاذبا فيها كالكفار إذا نَطقوا هبا‪ ،‬أو المنافقين‪ ،‬ففرعون قال‪:‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله‪( :‬ويف لفظ «م ْس َت ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه)‪.‬‬
‫بالعلم قوما دون قومٍ؛ كراهية َّأال َيفهموا‪،‬‬ ‫العلم‪ ،‬باب من َخص ِ‬ ‫(‪)2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب ِ‬
‫َّ‬
‫مالك رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫رقم (‪ ،)128‬من حديث أنس بن ٍ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪76‬‬

‫﴿آ َمنْت َأنَّه َال إِ َل َه إِ َّال ا َّل ِذي آ َمن َْت بِ ِه َبنو إِ ْس َرائِ َيل﴾ [يونس‪]90:‬؛ لكنَّها مل‬
‫َتنفعه تلك الكلمة‪.‬‬
‫( َو ِصدْ ق َك) يعني‪َ :‬يخرج من كان كاذبا يف قولها كالمنافقين‪ ،‬فهم‬
‫يقولون ال إله إال ال َّله‪ ،‬ويف قرارة أنفسهم تعلقهم بغير ال َّله يف طلب‬
‫الحاجات ونحو ذلك‪.‬‬
‫وتحب ال َّله عز‬
‫ُّ‬ ‫تحب هذه الكلمة‬
‫ُّ‬ ‫الشرط الخامس‪َ ( :‬م َحبَّ ٍة) أي‪:‬‬
‫وتحب ما د َّلت عليه و َتفرح بأوامر ال َّله عز وجل‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وجل؛ ألنَّه الواحد‪،‬‬
‫عمل عمَل وهو‬ ‫ألن من ِ‬ ‫بأن المعبودات من دون ال َّله باطل ٌة؛ َّ‬
‫و َتفرح َّ‬
‫مبغض له ك َفر ‪ -‬ولو َعمل به ‪ ،-‬كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬
‫ٌ‬
‫ذلك يف نواقض اإلسَلم(‪.)1‬‬
‫فم َّما َيلزم فيها أن‬ ‫اد) أي‪ :‬اإلذعان لها‪ِ ،‬‬ ‫والشرط السادس‪( :‬وان ِْقي ٍ‬
‫َ َ‬
‫بأال َتعبد إال ال َّله وال تعبد غيره‪ ،‬وضدُّ ذلك الكِ ْبر‪،‬‬ ‫َتنقاد ل ِ َما د َّلت عليه َّ‬
‫فمن مل ين َقدْ لها ملْ يحقق تلك الكلمة؛ قال سبحانه‪﴿ :‬إِنَّه ْم كَانوا إِ َذا قِ َيل‬
‫َله ْم َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َي ْس َت ْكبِر َ‬
‫ون﴾ [الصافات‪.]35:‬‬

‫األول‪ ،‬نواقض اإلسَلم (ص‪.)26‬‬


‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى َّ‬
‫‪77‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والشرط السابع‪( :‬ال َقب ِ‬


‫ول َل َها) أي‪ :‬ال َقبول المنايف للر يد‪.‬‬
‫تطف عىل القبر‪ ،‬وقل ال إله إال ال َّله‬
‫ْ‬ ‫شخص آلخر‪ :‬ال‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال‬
‫وتوكَّل عىل ال َّله وحده‪.‬‬
‫فإذا قال‪ :‬ال أريد أن أقول ال إله إال ال َّله‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬مل يك ْن موحدا؛ لذلك قال سبحانه‪﴿ :‬إِنَّه ْم كَانوا إِ َذا قِ َيل َله ْم‬
‫ون﴾ [الصافات‪ ،]35:‬ير ُّدوهنا‪ ،‬وال َقبول لها بأن َتقبل‬ ‫َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َي ْس َت ْكبِر َ‬
‫هذه الكلمة و َتفرح هبا وت ِ‬
‫ذعن لها‪.‬‬
‫وبعضهم(‪ )1‬يزيد (الكفر بالطاغوت) شرطا ثامنا؛ لكنَّه َيدخل يف‬
‫العلم َيجعل (البراءة من الشرك وأهله)‬ ‫الصدق واليقين‪ ،‬وبعض أهل ِ‬

‫اهيم ِألَبِ ِيه َو َق ْومِ ِه إِنَّنِي َب َرا ٌء مِ َّما‬


‫شرطا ثامنا؛ لقوله سبحانه‪﴿ :‬وإِ ْذ َق َال إِبر ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫َت ْعبد َ‬
‫ون﴾ [الزخرف‪.]26:‬‬
‫أن شخصا قال‪ :‬ال إله إال ال َّله وال‬
‫فهذه شروط ال إله إال ال َّله‪ ،‬فلو َّ‬
‫يصلي؛ نقول‪ :‬ال تنفعه‪ ،‬لماذا؟‬
‫ألنه مل يحقق معناها‪ ،‬فمعناها أن َتعبد ال َّله؛ لكنَّه هنا ما َع َبد ال َّله‪.‬‬

‫(‪ )1‬كالشيخ محمد بن إبراهيم رمحه ال َّله‪ .‬شرح كتاب التوحيد (ص ‪.)89‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪78‬‬

‫أن شخصا َيذهب عند القبر و َيذبح‪.‬‬ ‫فلو َّ‬


‫فنقول له‪ :‬هذا ِشرك‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬تقول يل مشرك وأنا أقول ال إله إال ال َّله؟!‬
‫نقول‪ :‬نعم؛ ألنك مل َتصد ْق يف تلك الكلمة‪ ،‬ومل توقِ ْن هبا‪ ،‬ومل‬
‫أخلصت يف هذه الكلمة‬
‫َ‬ ‫أخلصت يف هذه الكلمة‪ ،‬ولو‬
‫َ‬ ‫تخلِ ْ‬
‫ص ل َّله هبا‪ ،‬فما‬
‫بدت إال ال َّله وحده سبحانه‪.‬‬
‫لما َع َ‬
‫أنَِ َم ْن َق َال ال إِ َل َه َّإال ال َّله َأ ْدخ َله ال َّله َ‬
‫الجنَّة َع َلى‬ ‫وقد أتت النصوص ب َّ‬

‫َما كَان مِ َن العمل‪ ،‬كحديث عبادة(‪ ،)1‬وكحديث ِعتبان(‪«( :)2‬فإِ َّن ال َّله‬
‫ح َّرم على النَّار م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»)(‪. )3‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سامل بن‬
‫عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج‪َ ،‬شهد البيعتين‪ ،‬وتويف سنة (‪34‬هـ)‪ .‬معرفة‬
‫الصحابة ألبي نعيم (‪.)1919/4‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬عتبان بن مالك بن عمرو بن العجَلن األنصاري الخزرجي السالمي‪ ،‬تويف أيام‬
‫معاوية رضي ال َّله عنه‪ .‬أسد الغابة البن األثير (‪.)551/3‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم‪ ،‬رقم (‪ ،)6938‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب اإليمان‪ ،‬باب من َل ِقي ال َّله باإليمان وهو غير ٍّ‬
‫شاك فيه؛ َدخل الجنة وحرم عىل‬
‫النار‪ ،‬رقم (‪.)33‬‬
‫‪79‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫َان فِي َق ْلبِ ِه‬


‫وجل ي ْخ ِرج مِن النَّار َم ْن ك َ‬
‫عز َّ‬
‫أن ال َّله َّ‬
‫ووردت أحاديث « َّ‬
‫َ‬
‫مِث َق َال َذر ٍة َأو َخرد َل ٍة مِن إِيم ٍ‬
‫ان»(‪.)1‬‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ ْ ْ َ‬
‫بأن هناك من يقول كلمة التوحيد و َيدخل‬ ‫وجاءت أحاديث أيضا َّ‬
‫النَّار‪ ،‬كحديث‪َ « :‬ل َّما ع ِر َج بِي َم َر ْرت بِ َق ْو ٍم َله ْم َأ ْظ َف ٌار مِ ْن ن َح ٍ‬
‫اس‪،‬‬
‫ورهم‪.‬‬ ‫وهه ْم َوصد َ‬ ‫ون وج َ‬ ‫َي ْخ ِمش َ‬
‫َفق ْلت‪َ :‬م ْن َهؤ َال ِء َيا ِج ْب ِريل؟‬
‫ون فِي َأ ْعر ِ‬
‫اض ِه ْم»(‪،)2‬‬ ‫ون لحو َم الن ِ‬
‫َّاس‪َ ،‬و َي َقع َ‬ ‫ين َي ْأكل َ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َق َال‪َ :‬هؤ َالء ا َّلذ َ‬
‫وكأهل الربا‪ ،‬وكمن َيقتل عمدا وهكذا‪.‬‬
‫ْ‬
‫أن من قال‪ :‬ال إله اال ال َّله‪ ،‬ومل ِ‬
‫يأت بما‬ ‫والجمع بين تلك األحاديث َّ‬
‫ْ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ينقص من ذلك‪ ،‬ثم مات؛ فإنه َيدخل َ‬
‫ٍ‬
‫بسيئات بعدها؛ فإنَّه تحت المشيئة‪،‬‬ ‫ومن قال‪ :‬ال إله إال ال َّله وأتى‬
‫وجل َغفر له‪ ،‬وإن شاء َّ‬
‫عذبه‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫إن شاء ال َّله َّ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب كَلم الرب عز وجل يوم القيامة مع األنبياء وغيرهم‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)22‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سعيد الخدري رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫رقم (‪ ،)184‬من حديث أبي‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)13340‬من حديث أنس بن ٍ‬
‫مالك رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪80‬‬

‫رمحه ال َّله(‪)1‬‬ ‫وهبذا تجتمع النصوص‪ ،‬وإليه ذهب شيخ اإلسَلم‬


‫تدل عليه مجموع النصوص‪.‬‬ ‫وهو الذي ُّ‬
‫ٍ‬
‫سعيد رضي ال َّله عنه قال‪( :‬وع ْن أبِي‬ ‫ثم بعد ذلك َذكر حديث أبي‬
‫يد ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪« :‬قال موسى‪ :‬يا رب! عل ْمنِي ش ْيئ ًا أ ْذكرك‬ ‫س ِع ٍ‬

‫وأ ْدعوك بِ ِه؟‬


‫قال‪ :‬ق ْل يا موسى‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪.‬‬
‫ادك يقولون هذا‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يا رب! ك ُّل ِعب ِ‬

‫امره َّن غ ْيرِي واألر ِضين‬ ‫ات السبع وع ِ‬


‫َّ ْ‬
‫قال‪ :‬يا موسى! ل ْو أ َّن السمو ِ‬
‫َّ‬
‫الس ْبع فِي كِ َّف ٍة‪ ،‬وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت بِ ِه َّن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله» رواه ا ْبن‬
‫َّ‬
‫ِح َّبان‪ ،‬والحاكِم وص َّححه)‪.‬‬
‫أن مِن فضائل‬ ‫وسبق َّ‬ ‫فضل التوحيد‪َ ،‬‬ ‫الزال المصنف رمحه ال َّله يذكر ْ‬
‫التوحيد حصول األمن لصاحبه‪ ،‬واألمن لصاحبه عىل قدْ ر توحيد العبد‬
‫الجنَّة‬
‫أن مآل الموحد إىل َ‬ ‫أن مِن فضائل التوحيد َّ‬‫وسبق أيضا َّ‬ ‫لربه يف ق ْلبه‪َ ،‬‬
‫كما سبق‪( :‬أ ْدخله ال َّله الجنَّة على ما كان ِمن العم ِل)‪.‬‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)271/8‬‬


‫‪81‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫كما يف‬ ‫ٍ‬


‫أن الموحد ال يخ َّلد يف النَّار بحال‪َ ،‬‬ ‫ومِن فضائل التوحيد َّ‬
‫حديث ِعتبان‪«( :‬فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله ي ْبت ِغي‬
‫بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»)‪.‬‬
‫َيذكر ِع َظم كلمة التوحيد‪ ،‬وأ َّن‬ ‫ٍ‬
‫سعيد(‪)1‬‬ ‫وهنا يف حديث أبي‬
‫وجل واألرضين و َمن‬ ‫عز َّ‬ ‫السموات السبع و َمن فيهن من العمار غير ال َّله َّ‬
‫فيهن؛ لو و ِض ْعن يف كِ َّفة‪( ،‬وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت بِ ِه َّن َّل إِله‬
‫لعظم وثِقل وقوة هذه الكلمة‪.‬‬ ‫إِ ََّّل ال َّله)؛ ِ‬

‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫بمن يف السموات غير ال َّله َّ‬
‫فإذا كانت هذه الكلمة ترجح َ‬
‫دل عىل عظمة ما د َّل ْت عليه‪ ،‬وهو توحيد ال َّله‪،‬‬
‫فيهن؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫واألرضين و َمن‬
‫أن كلمته َترجح بالمخلوقات‪.‬‬ ‫فضل التوحيد حيث َّ‬ ‫فهذا من ْ‬
‫(قال موسى‪ :‬يا رب! عل ْمنِي ش ْيئ ًا أ ْذكرك بِ ِه وأ ْدعوك بِ ِه)؛ أي‪ :‬أثن ِي‬
‫أجل الطاعات فيما‬ ‫ِ‬ ‫به عليك‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫يدل عىل حرص األنبياء عىل َ‬
‫يرتضيه ال َّله عز وجل‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان وقيل‪ :‬ابن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن األبجر بن‬
‫عوف بن الحارث بن الخزرج الخدري‪ ،‬تويف سنة (‪74‬هـ)‪ .‬معرفة الصحابة ألبي‬
‫نعيم (‪.)1260/3‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪82‬‬

‫لذلك موسى يقول‪( :‬يا رب! عل ْمنِي ش ْيئ ًا أ ْذكرك بِ ِه وأ ْدعوك بِ ِه)‬
‫ٍ‬
‫مسألة‪،‬‬ ‫عبادة أو دعاء‬‫ٍ‬ ‫َأذكرك من الذكر‪ ،‬وأدعوك من الدعاء سواء دعاء‬
‫والمراد بالدعاء هنا‪ :‬دعاء العبادة؛ يعني‪ :‬أتع َّبد بذلك الشيء‪ ،‬وأجعله‬
‫خاصا بي؛ لتكون منزلتي عالية عندك‪.‬‬
‫ي‬
‫(قال‪ :‬ق ْل يا موسى‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله) يعني‪ :‬قل هذه الكلمة‪ ،‬فهي من‬
‫ب ال َك ََل ِم إِ َلى ال َّل ِه َأ ْر َب ٌع‪:‬‬ ‫كما يف صحيح مسلم « َأ َح ُّ‬ ‫أ ْعظم الذكر‪َ ،‬‬
‫ان ال َّل ِه‪ ،‬والحمد ل ِ َّل ِه‪ ،‬و َال إِ َله إِ َّال ال َّله‪ ،‬وال َّله َأ ْكبر»(‪ ،)1‬ويف ٍ‬
‫لفظ‬ ‫س ْب َح َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫الح ْمد ل ِ َّل ِه‪َ ،‬و َ‬
‫ال إِ َل َه‬ ‫للبخاري‪َ « :‬أ ْف َضل ال َكَلَ ِم َأربع‪ :‬سبح َ ِ‬
‫ان ال َّله‪َ ،‬و َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٌَْ‬
‫إِ َّال ال َّله َوال َّله َأ ْك َبر »(‪.)2‬‬
‫الجنَّة بحال‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الجنَّة‪َ ،‬من مل يأت هبا مل يفتح له باب َ‬
‫وهي مفتاح َ‬
‫أن موسى َيطلب شيئا‬ ‫ادك يقولون هذا) يعني‪َّ :‬‬ ‫(يا رب! ك ُّل ِعب ِ‬

‫دليل عىل َّ‬


‫أن الشخص‬ ‫يختص به من العبادات ليرتفع عند ربه‪ ،‬وهذا فيه ٌ‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب اآلداب‪ ،‬باب كراهة التسمي باألسماء القبيحة وبنافع وغيره‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2137‬من حديث سمرة بن جندب رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األيمان والنذور‪ ،‬باب إذا قال‪ :‬وال َّله ال أتكلم اليوم‪ ،‬فصىل‪ ،‬أو قرأ‪،‬‬
‫أو سبح‪ ،‬أو كبر‪ ،‬أو محد‪ ،‬أو هلل‪ ،‬فهو عىل نيته‪ ،‬رقم (‪.)6680‬‬
‫‪83‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫مما مل َيختص به سوى عباده األفاضل؛‬ ‫ٍ‬


‫ربه أن يخص بشيء َّ‬ ‫له أن َيسأل َّ‬
‫ِِ‬
‫َص بِ َر ْح َمته َم ْ‬
‫ن َي َشاء﴾ [البقرة‪.]105:‬‬ ‫﴿وال َّله َي ْخت ُّ‬
‫لذلك ال َّله يقول‪َ :‬‬
‫شخص مثَل‪ :‬ال َّلهم اجعلني من عبادك المخ َلصين أو‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال‬
‫المص َطفين؛ نقول‪ :‬هذه من األدعية الفاضلة‪.‬‬
‫ف‪ ،‬وأيضا يف بعضه نكار ٌة كهذه اللفظة (ك ُّل‬
‫والحديث فيه ض ْع ٌ‬
‫كأن موسى ‪ -‬عليه السَلم ‪َ -‬يجهل ِع َظم‬ ‫ِعب ِ‬
‫ادك يقولون هذا)؛ يعني‪َّ :‬‬
‫تلك الكلمة؛ والرسل بعثوا من أجلها وألمهيتها‪.‬‬
‫امره َّن غ ْيرِي واألر ِضين‬ ‫ات السبع وع ِ‬
‫َّ ْ‬
‫(قال‪ :‬يا موسى! ل ْو أ َّن السمو ِ‬
‫َّ‬
‫الس ْبع فِي كِ َّف ٍة‪ ،‬وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت بِ ِه َّن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله» رواه ا ْبن‬
‫َّ‬
‫ِح َّبان والحاكِم وص َّححه)‪.‬‬
‫يعني‪ :‬لو جعلت السموات وجعلت المَلئكة واألرض و َمن يف‬
‫األرض يف كِ َّف ٍة وال إله إال ال َّله يف كِ َّف ٍة؛ لمالت هبن ال إله إال ال َّله‪ ،‬وهذا‬
‫هو الشاهد من الحديث‪.‬‬
‫(قال) ال َّله عز وجل‪ ،‬وق ْبلها‪( :‬ق ْل يا موسى َّل إِله إِ ََّّل ال َّله) هذا ُّ‬
‫يدل‬
‫عىل إثبات الكَلم ل َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فهو سبحانه يتك َّلم متى شاء‪ ،‬كيف‬
‫شاء‪ ،‬إذا شاء‪ ،‬بما شاء‪ ،‬فهو َتك َّلم سبحانه وتعاىل مع موسى‪ ،‬ومع آدم‪،‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪84‬‬

‫ومع المَلئكة وغيرهم‪ ،‬وال يزال َيتك َّلم سبحانه وتعاىل‪ ،‬وسيتك َّلم يف‬
‫ٍ‬
‫تكييف لهذا الكَلم وال تمثي ٍل له‪.‬‬ ‫المستقبل سبحانه وتعاىل من غير‬
‫أن السموات السبع‬ ‫الس ْبع)؛ يعني‪ :‬لو َّ‬ ‫ِ‬
‫السموات َّ‬
‫(يا موسى! ل ْو أ َّن َّ‬
‫امره َّن)؛ أي‪ :‬المَلئكة التي تعمر السموات بذكر ال َّله‪.‬‬ ‫المخلوقة‪( ،‬وع ِ‬

‫عز َّ‬
‫وجل ‪ -‬كما هو‬ ‫(غ ْيرِي)؛ يعني‪ :‬من َيسكنها غيري؛ َّ‬
‫ألن ال َّله َّ‬
‫معلو ٌم ‪ -‬يف السماء؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬أ َأمِنْت ْم َم ْن فِي‬
‫است ََوى﴾ [طه‪،]5:‬‬ ‫﴿الر ْح َمن َع َلى ال َع ْر ِ‬ ‫السم ِ‬
‫ش ْ‬ ‫َّ‬ ‫اء﴾ [الملك‪ ،]16:‬وقال‪:‬‬ ‫َّ َ‬
‫أن ال َّله َيسكن يف السماء؛ وإنَّما نقول‪ :‬ال َّله يف السماء‪.‬‬ ‫لكن ال يقال َّ‬
‫الس ْبع)؛ أي‪ :‬جعلت السموات والعمار – المَلئكة ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫(واألرضين َّ‬
‫ميزان‪( ،‬وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت‬
‫ٍ‬ ‫‪ ،‬واألرضين (فِي كِ َّف ٍة)؛ أي‪ :‬كِ َّفة‬
‫فدل عىل ِعظم ْ‬
‫وزن تلك الكلمة‪.‬‬ ‫بِ ِه َّن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله) َّ‬

‫يدل عليه؛ حديث البطاقة وهو َقول النبي ﷺ‪« :‬إِ َّن ال َّل َه َّ‬
‫عز‬ ‫والذي ُّ‬
‫وس ال َخ ََلئِ ِق َي ْو َم ال ِق َيا َم ِة‪َ ،‬ف َينْشر‬
‫َخلِص َرجَل مِ ْن أ َّمتِي َع َلى رء ِ‬ ‫وجل َي ْست ْ‬ ‫َّ‬
‫ين ِس ِج يَل‪ ،‬ك ُّل ِس ِج ٍّل َمدَّ ال َب َص ِر‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َع َل ْيه ت ْس َعة َوت ْسع َ‬
‫ث َّم َيقول َله‪َ :‬أتنْكِر مِ ْن َه َذا َش ْيئا؟ َأ َظ َل َمت َْك َك َت َبتِي ال َحافِظ َ‬
‫ون؟‬
‫َق َال‪َ :‬ال‪َ ،‬يا َرب‪َ .‬ف َيقول‪َ :‬أ َل َك ع ْذ ٌر‪َ ،‬أ ْو َح َسنَ ٌة؟‬
‫‪85‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الرجل‪َ ،‬ف َيقول‪َ :‬ال‪َ ،‬يا َرب‪.‬‬ ‫َفي ْب َهت َّ‬


‫احدَ ة‪َ ،‬ال ظ ْل َم ال َي ْو َم َع َل ْي َك‪،‬‬‫َفيقول‪ :‬ب َلى‪ ،‬إِ َّن َل َك ِعنْدَ نَا حسنَة و ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َفت ْخ َرج َله بِ َطا َق ٌة‪ ،‬فِ َيها‪َ " :‬أ ْش َهد َأ ْن َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله‪َ ،‬و َأ َّن م َح َّمدا َع ْبده‬
‫َو َرسوله"‪.‬‬
‫َف َيقول‪َ :‬أ ْح ِضروه‪.‬‬
‫َفيقول‪ :‬يا رب‪ ،‬ما َه ِذ ِه البِ َطا َقة مع َه ِذ ِه الس ِج ََّل ِ‬
‫ت؟‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َفي َقال‪ :‬إِن ََّك َال ت ْظ َلم‪.‬‬
‫وضع الس ِج ََّلت فِي كِ َّف ٍة‪.‬‬ ‫َق َال‪َ :‬فت َ‬
‫ت البِ َطا َقة‪َ ،‬و َال َي ْثقل َش ْي ٌء بِ ْس ِم ال َّل ِه‬‫ت الس ِج ََّلت‪ ،‬و َثق َل ِ‬
‫َ‬
‫اش ِ‬
‫َق َال‪َ :‬ف َط َ‬
‫فضل كلمة التوحيد‪.‬‬ ‫يدل عىل ْ‬ ‫يم»(‪ ،)1‬وهذا ُّ‬ ‫الر ِح ِ‬‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫َّ‬
‫وقال عن الحديث‪( :‬رواه ا ْبن ِح َّبان والحاكِم وص َّححه)‪.‬‬
‫س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬س ِم ْعت‬ ‫قال‪( :‬ولِلت ْر ِم ِذي وح َّسنه‪ :‬ع ْن أن ٍ‬

‫اب‬ ‫رسول ال َّل ِه ﷺ يقول‪« :‬قال ال َّله تعالى‪ :‬يا ا ْبن آ دم! إِنَّك ل ْو أت ْيتنِي بِقر ِ‬

‫ض خطايا‪ ،‬ث َّم ل ِقيتنِي َّل ت ْشرِك بِي ش ْيئ ًا؛ ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة»)‪.‬‬ ‫األ ْر ِ‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)6994‬من حديث عبد ال َّله بن عمرو رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪86‬‬

‫أن التوحيد‬ ‫من فضائل التوحيد يف حديث ٍ‬


‫أنس رضي ال َّله عنه(‪َّ )1‬‬
‫حط السيئات؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن الحسن ِ‬
‫َات ي ْذ ِه ْب َن‬ ‫َي ُّ‬
‫َ َ‬
‫وأج ُّل القربات هو التوحيد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫السي َئات﴾ [هود‪ ،]114:‬فأفضل الطاعات َ‬
‫َّ‬
‫ذهب السيئات‪.‬‬‫وهو الذي ي ِ‬

‫يدل عىل إثبات ِصفة الكَلم ل َّله عز وجل‪( ،‬يا‬


‫(قال ال َّله تعالى) هذا ُّ‬
‫يدل عىل إثبات البعث والنشور؛ كما قال‬ ‫ا ْبن آدم! إِنَّك ل ْو أت ْيتنِي) هذا ُّ‬
‫ون﴾ [الجاثية‪.]15:‬‬‫سبحانه‪﴿ :‬ث َّم إِ َلى َربك ْم ت ْر َجع َ‬
‫ض خطايا) (قر ِ‬
‫اب األ ْر ِ‬
‫ض) ‪:‬‬ ‫فإذا أتيتني بعد الممات (بِقر ِ‬
‫اب األ ْر ِ‬

‫يعنى مِلء األرض خطايا‪ ،‬أو ما يقارب مألَها‪.‬‬


‫أن َمن قال تلك الكلمة ومل‬ ‫(ث َّم ل ِقيتنِي َّل ت ْشرِك بِي ش ْيئ ًا) هذا يبين َّ‬
‫شرك بال َّله شيئا ثم مات؛ قال‪( :‬ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة) هذا ُّ‬
‫يدل عىل‬ ‫ي ِ‬

‫فضل التوحيد‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو محزة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن‬
‫عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج‪ ،‬تويف سنة (‪93‬هـ)‪.‬‬
‫معرفة الصحابة ألبي نعيم (‪.)231/1‬‬
‫‪87‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شخص‪َ :‬أفعل السيئات وأنا موحدٌ ؛ َّ‬


‫ألن التوحيد سيذهب‬ ‫ٌ‬ ‫فإذا قال‬
‫بالسيئات‪.‬‬
‫نقول‪ :‬قد يعا َقب الشخص عىل سيئاته تلك؛ إن مل يغفرها ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫َّ‬
‫وجل له‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬ما المراد إذا (ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة)؟‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،‬إن شاء يتجاوز‬ ‫نقول‪ :‬تغفر لك تلك السيئات بمشيئة ال َّله َّ‬
‫كما‬‫عذبك؛ مجْعا بين النصوص؛ َ‬ ‫عن تلك السيئات بتوحيدك وإن شاء َّ‬
‫ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َال َي ْغ ِفر َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ‬
‫َي َشاء﴾ [النساء‪.]116:‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬ما الدليل عىل ذلك؟‬
‫نقول‪ :‬ل ِ َما جاء يف النصوص مِن َّ‬
‫أن الزناة رآهم النبي ﷺ يف‬
‫النَّار(‪ ،)1‬وكذلك أكَلة الربا يف النَّار وغيرهم من أهل العصيان‪.‬‬
‫(ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة)؛ يعني‪ :‬لك َّفرت عنك مجيع السيئات بسبب‬
‫تركك للشرك‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما قيل يف أوالد المشركين‪ ،‬رقم (‪ ،)1386‬من‬
‫ٍ‬
‫جندب رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫حديث سمرة بن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪88‬‬

‫مطلق‪ ،‬فيحمل‬ ‫ٌ‬ ‫وهنا ذكر ْترك الشرك‪ ،‬ومل يب َّين التوحيد‪ ،‬وهذا‬
‫المط َلق عىل المق َّيد‪( ،‬فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله)؛‬
‫أي‪ :‬ال بدي من ْترك الشرك وإثبات الوحدانية ل َّله سبحانه وتعاىل؛ ومها ركنا‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫أن التوحيد يكفر مجيع الذنوب‪ ،‬ومن ِ‬
‫عمل‬ ‫فدل هذا الحديث عىل َّ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫الجنَّة‪ ،‬لكن ُّ‬
‫تقل درجته يف َ‬ ‫سيئة بعده؛ فإنه َيدخل َ‬
‫رجحت سيئاته عن حسناته مع توحيده؛ فهو تحت المشيئة إن‬
‫ومن َ‬
‫عذبه؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َال‬ ‫وجل َغفر له وإن شاء َّ‬ ‫عز َّ‬ ‫شاء ال َّله َّ‬
‫ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن َي َشاء﴾ [النساء‪.]48:‬‬
‫َي ْغ ِفر َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ‬
‫***‬
‫‪89‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]٣‬‬
‫باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬
‫اب‬
‫اهيم كان أ َّم ًة قانِت ًا لِ َّل ِه حنِيف ًا ول ْم يك ِمن‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِ َّن إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫الم ْشرِكِين﴾‪.‬‬
‫وقال‪﴿ :‬وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾‪.‬‬
‫ع ْن حصي ِن ب ِن عب ِد الر ْحم ِن‪ ،‬قال‪« :‬ك ْنت ِع ْند س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن جب ْيرٍ‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ْ ْ ْ َّ‬
‫ارحة؟ ق ْلت‪ :‬أنا‪.‬‬ ‫أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب ا َّل ِذي ا ْنق َّض الب ِ‬

‫ث َّم ق ْلت‪ :‬أما إِني ل ْم أك ْن فِي صَل ٍة‪ ،‬ولكِني ل ِد ْغت‪.‬‬


‫قال‪ :‬فامذا صن ْعت؟ ق ْلت‪ْ :‬ارتق ْيت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فام حملك على ذلِك؟‬
‫الش ْعبِ ُّي‪ ،‬قال‪ :‬وما حدَّ ثك ْم؟‬ ‫ق ْلت‪ :‬ح ِد ٌ‬
‫يث حدَّ ثناه َّ‬
‫ب ر ِضي ال َّله ع ْنه أنَّه قال‪َّ :‬ل ر ْقية‬
‫ق ْلت‪ :‬حدَّ ثنا ع ْن بر ْيدة ْب ِن حص ْي ٍ‬

‫إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن‪ ،‬أ ْو حم ٍة‪ ،‬فقال‪ :‬ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪90‬‬

‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام ع ِن ال َّنبِي ﷺ قال‪ :‬عرِض ْت‬


‫ولكِ ْن حدَّ ثنا ا ْبن ع َّب ٍ‬

‫الرجَل ِن‪،‬‬ ‫الر ْهط‪ ،‬والنَّبِ َّي ومعه َّ‬


‫الرجل و َّ‬ ‫عل َّي األمم‪ ،‬فرأ ْيت النَّبِ َّي ومعه َّ‬
‫والنَّبِ َّي ل ْيس معه أح ٌد‪.‬‬
‫يم‪ ،‬فظن ْنت أنَّه ْم أ َّمتِي‪ ،‬ف ِقيل لِي‪ :‬هذا موسى‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ‬
‫وق ْومه‪.‬‬
‫يم‪ ،‬ف ِقيل لِي‪ :‬ه ِذ ِه أ َّمتك‪ ،‬ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا‬ ‫ِ‬
‫فنظ ْرت فإِذا سوا ٌد عظ ٌ‬
‫اب وَّل عذ ٍ‬
‫اب‪.‬‬ ‫ي ْدخلون الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬

‫ث َّم نهض‪ ،‬فدخل م ْن ِزله‪ ،‬فخاض النَّاس فِي أولئِك‪ ،‬فقال ب ْعضه ْم‪:‬‬
‫حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ‪.‬‬ ‫فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ‬

‫سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه‬ ‫وقال ب ْعضه ْم‪ :‬فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ‬
‫ال ْ‬
‫ش ْيئ ًا ‪ -‬وذكروا أ ْشياء ‪.-‬‬
‫فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّل ِه ﷺ فأ ْخبروه‪ ،‬فقال‪ :‬هم ا َّل ِذين َّل‬
‫ي ْست ْرقون‪ ،‬وَّل ي ْكتوون‪ ،‬وَّل يتط َّيرون‪ ،‬وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون‪.‬‬
‫ِ‬
‫فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم‪ ،‬فقال‪ :‬أ ْنت‬
‫ِم ْنه ْم‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ث َّم قام رج ٌل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم‪ ،‬فقال‪ :‬سبقك بِها‬
‫عكَّاشة»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫فضل التوحيد‬ ‫أع َق َبه بعد ذلك َّ‬
‫بأن ْ‬ ‫لما َذكر المصنف ْ‬
‫فضل التوحيد؛ ْ‬ ‫َّ‬
‫ال يكون إال بتحقيق التوحيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بإتقان وتمحيص‪.‬‬ ‫ومعنى تحقيق التوحيد‪ :‬اإلتيان به‬
‫وتحقيق التوحيد ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫عما ينايف‬ ‫ِ‬
‫واجب‪ ،‬وهو‪ :‬أن َيبتعد الشخص َّ‬ ‫ٌ‬ ‫تحقيق‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬
‫القسم َّ‬
‫التوحيد الواجب‪ ،‬مِثل‪ :‬الشرك األصغر‪ ،‬أو ما َيقدح فيه من البِدع‪ ،‬أو ما‬
‫ينقص ثوابه من السيئات؛ هذا التحقيق الواجب‪.‬‬
‫يعني‪ :‬يجب عىل كل مسلِ ٍم ْ‬
‫أن يحقق التوحيد‪ ،‬ف َيعمل جاهدا يف ف ْعل‬
‫هذا األمر عىل إتقانه وتمامه‪ ،‬وهو االبتعاد عن الشرك األصغر ‪ -‬نحن‬
‫نتك َّلم عن المسلِم ‪ ،-‬فيبتعد عن الشرك األصغر و َيبتعد عن البدع وعن‬
‫المعاصي التي تنقص التوحيد‪ ،‬وهذا هو التحقيق الواجب‪ ،‬مِثل‪َّ :‬أال‬
‫يتعلق بالتمائم وال يجعلها سببا‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪92‬‬

‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬تحقيق التوحيد المندوب – وهو المقصود يف هذا‬
‫مما به بأس‪ ،‬هذا الضابط‪.‬‬ ‫الباب – وهو‪ْ :‬ترك ما ال بأس به َّ‬
‫ألمر أصيب به‪ ،‬مِثل‪ :‬ما جاء يف حديث‬ ‫ومعنى ذلك‪ْ :‬ترك المباح ٍ‬

‫المري َض َال يطلب مِ ْن َأحد َأن يرقِ َيه َت َو ُّكَل عىل ال َّله (‪،)2‬‬
‫أن ِ‬ ‫ح َصين(‪ )1‬مِن َّ‬
‫والجامع لذلك؛ يعني‪ :‬كيف يتحقق ذلك؟‬
‫ٍ‬
‫ألحد غيره‬ ‫وجل وتع ُّل ِقه به؛ فَل َيركن‬
‫عز َّ‬
‫بانجذاب القلب إىل ال َّله َّ‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو محمد الح َصين بن عبد الرمحن ابن عمرو بن سعد بن معاذ بن‬
‫متمم التابعين‪ -‬البن‬
‫النعمان‪ ،‬تويف سنة (‪126‬هـ)‪ .‬الطبقات الكبرى ‪ -‬ي‬
‫ٍ‬
‫سعد (‪.)294/1‬‬
‫﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫َح ْسبه﴾ [الطَلق‪ ،]3 :‬رقم (‪ ،)6472‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الدليل‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪،‬‬ ‫حساب وال‬ ‫ٍ‬ ‫عىل دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير‬
‫ون‪َ ،‬و َال َي َت َط َّير َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫رقم (‪ ،)218‬ولفظه‪« :‬هم ا َّل ِذي َن َال َي ْست َْرق َ‬
‫ون‪َ ،‬و َال َي ْكتَو َ‬
‫َو َع َلى َرب ِه ْم َيت ََوكَّل َ‬
‫ون» ‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫محمد ﷺ « َس ْب ِعي َن‬


‫ٍ‬ ‫وقد أخبر النبي ﷺ يف حديث ح َصين َّ‬
‫أنَِ يف أ َّمة‬
‫اب»(‪ ،)1‬ويف مسند اإلمام أمحد‬ ‫الجنَّة بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬
‫اب َو َال َع َذ ٍ‬ ‫َأ ْلفا َيدْ خل َ‬
‫ون َ‬
‫ين َأ ْلفا»(‪ ،)2‬وهذا من ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫فضل ال َّله العظيم‪.‬‬ ‫« َم َع كل َأ ْلف َس ْبع َ‬
‫نصوص‪ :‬آيتين وحديثا‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫و َذكر رمحه ال َّله يف هذا الباب ثَلثة‬
‫اهيم كان أ َّم ًة قانِت ًا لِ َّل ِه حنِيف ًا) ‪-‬؛ لبيان أ َّن‬
‫اآلية األولى ‪﴿( -‬إِ َّن إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫الرسل عليهم السَلم ح َّققوا التوحيد الواجب والمندوب‪.‬‬
‫واآلية الثانية ‪﴿( -‬وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن مِن‬
‫أولياء ال َّله َمن ح َّقق التوحيد أيضا‪.‬‬
‫والن َُّّص الثالث‪ - :‬وهو حديث ح َصين بن عبد الرمحن ‪-‬؛ لبيان‬
‫ضابط تحقيق التوحيد‪ ،‬وهو التوكُّل عىل ال َّله وحده سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فجعل اآليتين يف تحقيق التوحيد الواجب يف قوله‪﴿( :‬إ ِ َّن إِبر ِ‬
‫اهيم‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫كان أ َّم ًة)‪ ،‬ويف قوله‪﴿( :‬وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾)‪ ،‬وساق حديثا‬

‫ب مِ ْن َأ َح ٍد َأن يرقِ َيه‬


‫ال َي ْطل ْ‬ ‫الم ِر َ‬
‫يض َ ْ‬ ‫أن َ‬‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (مِ ْن َّ‬
‫َت َوكَُّل َع َلى ال َّل ِه)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند رقم (‪ ،)8707‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪94‬‬

‫يف تحقيق التوحيد المندوب‪ ،‬وهو حديث حصين بن عبد الرمحن(‪،)1‬‬


‫ٍ‬
‫حساب‪.‬‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫ب؛ َدخل َ‬
‫والمستح َّ‬
‫َ‬ ‫فمن ح َّقق التوحيد الواجب‬
‫َ‬
‫وعىل المرء أن يسعى جاهدا لتحقيق التوحيد؛ لينال ذلك الثواب‬
‫العظيم‪.‬‬
‫َّ‬
‫كأن المصنف يقول لك‪ :‬حق ْق توحيدك الواجب‬ ‫يعني‪:‬‬
‫يدل عىل عظمة التوحيد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب‪ ،‬وهذا ُّ‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫والمندوب؛ لتدخل َ‬
‫ٍ‬
‫حساب سوى‬ ‫فليس هناك من َح َّقق شيئا يكون ثوابه دخول َ‬
‫الجنَّة بغير‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫أن شخصا – مثَل ‪ -‬يشرك بال َّله من الطواف عىل األضرحة‬
‫فلو َّ‬
‫لكنَّه يحقق صَلته بأركاهنا وواجباهتا وسننها تحقيقا تا يما؛ نقول‪ :‬ال ينال‬
‫ألن األصل عنده فاسدٌ ‪.‬‬ ‫ذلك الثواب؛ َّ‬
‫اهيم كان أ َّم ًة قانِت ًا لِ َّل ِه حنِيف ًا ول ْم يك ِمن‬ ‫لذلك قال‪﴿( :‬إِ َّن إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫الم ْشرِكِين﴾) هذه اآلية يف بيان وجوب تحقيق التوحيد الواجب‪ ،‬وذلك‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو محمد الحصين بن عبد الرمحن ابن عمرو بن سعد بن معاذ بن‬
‫متمم التابعين‪ -‬البن‬
‫النعمان‪ ،‬تويف سنة (‪126‬هـ)‪ .‬الطبقات الكبرى ‪ -‬ي‬
‫ٍ‬
‫سعد (‪.)294/1‬‬
‫‪95‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫بالبراءة من الشرك‪ ،‬وأهل الشرك؛ لذلك قال‪( :‬ول ْم يك ِمن‬


‫الم ْشرِكِين﴾)‪ ،‬هذا الشاهد‪.‬‬
‫اهيم كان أ َّم ًة قانِت ًا لِ َّل ِه حنِيف ًا)‪ ،‬ومن األشياء التي أثني عليه‬
‫يعني‪( :‬إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫هبا؛ أنَّه مل يكن من أهل الشرك‪ ،‬وهو متبر ٌئ أيضا من الشرك وأهله‪.‬‬
‫فقال‪( :‬إِبر ِ‬
‫اهيم كان أ َّم ًة) (أ َّم ًة) يعني‪ :‬إماما يقتدى به يف األعمال‬ ‫ْ‬
‫الصالحة‪ ،‬وأعظمها التوحيد فهو إمام الحنفاء‪.‬‬
‫أو إماما لكثرة أعماله الصالحة‪ ،‬فأصبح بكثرة أعماله الصالحة‬
‫والتقرب إىل ال َّله؛ أ َّمة يقتدى به‪.‬‬
‫كثر من‬
‫صحيح؛ يعني‪ :‬إبراهيم يقتدى به‪ ،‬وإبراهيم م ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وكَل المعنَيين‬
‫الطاعات فهو أ َّمة لكثرة أعماله الصالحة‪.‬‬
‫األول الذي وصف به‪.‬‬ ‫وهذا هو الوصف َّ‬
‫والوصف الثاين‪ :‬قال‪(:‬قانِت ًا لِ َّل ِه) أي‪ :‬خاشعا؛ يعني‪ :‬مصليا ل َّله َّ‬
‫عز‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يم َأ َّوا ٌه‬ ‫وجل مخبِتا له‪ ،‬كما َوصفه سبحانه يف آية أخرى‪﴿ :‬إِ َّن إِ ْبراه َ‬
‫يم َل َحل ٌ‬ ‫َّ‬
‫ومنيب إىل ال َّله عز وجل‪.‬‬ ‫اع‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫رج ٌ‬
‫يب﴾ [هود‪]75:‬؛ يعني‪َّ :‬‬‫من ٌ‬
‫والوصف الثالث قال‪( :‬حنِيف ًا) أي‪ :‬مائَل عن الشرك إىل التوحيد‪،‬‬
‫واستحق لقب إمام الحنفاء وإمام الموحدين‪ ،‬ومجيع الرسل مل َيخرج أحدٌ‬
‫َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪96‬‬

‫﴿و َج َع ْلنَا فِي ذر َّيتِ ِه النُّب َّو َة‬


‫منهم إال من ذريته؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫أحد مِن ذريته‪.‬‬ ‫والكِتَاب﴾ [العنكبوت‪ ،]27:‬ومل ينزل الكِتاب إال عىل ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وساق المصنف ذلك؛ لبيان أ َّنه يجب علينا أن نقتدي بإبراهيم عليه‬
‫فلما ألقي يف النَّار يف صحيح البخاري(‪ )1‬قال‪:‬‬
‫السَلم بتحقيق التوحيد‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫« َح ْسبِ َي ال َّله َونِ ْع َم ال َوكِيل» عن ابن‬
‫والوصف الرابع قال‪( :‬ول ْم يك ِمن الم ْشرِكِين﴾)‪ ،‬وهذا الشاهد؛‬
‫يعني‪ :‬محققا للتوحيد بالبراءة من الشرك‪.‬‬

‫إذا‪ :‬ال يكون الشخص محققا للتوحيد َّإال إذا َّ‬


‫تبرأ من المشركين‬
‫وعبادهتم؛ فيتبرأ من المشركين بالتبرؤ من الشرك وأهله؛ بأن يعتقد‬
‫آية أخرى‪﴿ :‬إِنَّنِي َب َرا ٌء‬
‫بطَلن عبادهتم ويبغض أهلها؛ كما قال سبحانه يف ٍ‬

‫ين﴾ [الزخرف‪.]28-27:‬‬ ‫ون * إِ َّال ا َّل ِذي َف َط َرنِي َفإِنَّه َس َي ْه ِد ِ‬


‫مِ َّما َت ْعبد َ‬
‫﴿شاكِرا‬
‫َ‬ ‫به‪:‬‬ ‫وصف‬ ‫الذي‬ ‫والوصف‬ ‫الخامس‬
‫ِألَنْع ِم ِه﴾ [النحل‪ ،]121:‬المصنف ما َذكرها؛ ألنَّها خارج ٌة عن الشاهد‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الن َ‬
‫َّاس َقدْ َج َمعوا َلك ْم َف ْ‬
‫اخ َش ْوه ْم﴾‬
‫[آل عمران‪ ]173 :‬اآل َي َة‪ ،‬رقم (‪.)4564‬‬
‫‪97‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فمما يمدح به الشخص عند ال َّله؛ شكر النعم الم ْسدَ اة إليه من ال َّله‬
‫َّ‬
‫أنَِ عباد ال َّله الشاكرين ق َّل ٌة‪ ،‬كما قال‬
‫وجل َذكر َّ‬
‫عز َّ‬ ‫عز وجل؛ لذلك ال َّله َّ‬
‫﴿و َقلِ ٌيل‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ،]243:‬وقال‪َ :‬‬ ‫﴿و َلكِ َّن َأ ْك َث َر الن ِ‬
‫َّاس َال َي ْشكر َ‬ ‫سبحانه‪َ :‬‬
‫الشكور﴾ [سبأ‪.]13:‬‬ ‫مِن ِعب ِ‬
‫اد َي َّ‬ ‫ْ َ‬
‫(وقال‪﴿ :‬وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾)؛ لبيان َّ‬
‫أنَِ من عباد ال َّله‬
‫من مل يقع يف الشرك‪ ،‬وح َّقق التوحيد‪ ،‬فيجب علينا مجيعا أن نكون مثلهم؛‬
‫يعني‪ :‬ال يكون الشخص محققا للتوحيد إال إذا كان نابذا للشرك‪.‬‬
‫فاألوىل‪ :‬البراءة من الشرك وأهله (ول ْم يك ِمن الم ْشرِكِين﴾)‪ ،‬مل‬
‫يقل‪ :‬ومل يكن ِ‬
‫مشركا‪ ،‬وإنما‪ :‬مل يكن من المشركين؛ أي‪ :‬منهم ومن‬
‫عبادهتم‪.‬‬
‫وهنا قوله‪﴿( :‬وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾)؛ َيدخل فيها أيضا‬
‫الشرك األصغر‪ ،‬من تعليق التميمة‪ ،‬والحلِف بغير ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل كالنبي‬
‫واألمانة والكعبة وغير ذلك‪.‬‬
‫واجب للتوحيد باجتناب الشرك األكبر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تحقيق‬
‫ٌ‬ ‫فاألول‪:‬‬
‫َّ‬
‫واجب للتوحيد باجتناب الشرك األصغر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تحقيق‬
‫ٌ‬ ‫والثاين‪:‬‬
‫ثم بعد ذلك يأيت المندوب‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪98‬‬

‫الر ْحم ِن‪ ،‬قال‪« :‬ك ْنت ِع ْند‬ ‫ِ‬


‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬ع ْن حص ْي ِن ْب ِن ع ْبد َّ‬
‫ارحة؟ ق ْلت‪:‬‬ ‫يد ْب ِن جب ْيرٍ‪ ،‬فقال‪ :‬أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب ا َّل ِذي ا ْنق َّض الب ِ‬
‫س ِع ِ‬

‫أنا‪.‬‬
‫ث َّم ق ْلت‪ :‬أما إِني ل ْم أك ْن فِي صَل ٍة‪ ،‬ولكِني ل ِد ْغت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فامذا صن ْعت؟ ق ْلت‪ْ :‬ارتق ْيت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فام حملك على ذلِك؟‬
‫الش ْعبِ ُّي‪ ،‬قال‪ :‬وما حدَّ ثك ْم؟‬ ‫ق ْلت‪ :‬ح ِد ٌ‬
‫يث حدَّ ثناه َّ‬
‫ب ر ِضي ال َّله ع ْنه أنَّه قال‪َّ :‬ل ر ْقية‬
‫ق ْلت‪ :‬حدَّ ثنا ع ْن بر ْيدة ْب ِن حص ْي ٍ‬

‫إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن‪ ،‬أ ْو حم ٍة‪ ،‬فقال‪ :‬ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع‪.‬‬
‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام ع ِن النَّبِي ﷺ قال‪ :‬عرِض ْت‬
‫ولكِ ْن حدَّ ثنا ا ْبن ع َّب ٍ‬

‫الرجَل ِن‪،‬‬ ‫الر ْهط‪ ،‬والنَّبِ َّي ومعه َّ‬


‫الرجل و َّ‬ ‫عل َّي األمم‪ ،‬فرأ ْيت النَّبِ َّي ومعه َّ‬
‫والنَّبِ َّي ل ْيس معه أح ٌد‪.‬‬
‫يم‪ ،‬فظن ْنت أنَّه ْم أ َّمتِي‪ ،‬ف ِقيل لِي‪ :‬هذا موسى‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ‬
‫وق ْومه‪.‬‬
‫يم‪ ،‬ف ِقيل لِي‪ :‬ه ِذ ِه أ َّمتك‪ ،‬ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا‬‫ِ‬
‫فنظ ْرت فإِذا سوا ٌد عظ ٌ‬
‫اب وَّل عذ ٍ‬
‫اب‪.‬‬ ‫ي ْدخلون الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬
‫‪99‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ث َّم نهض‪ ،‬فدخل م ْن ِزله‪ ،‬فخاض النَّاس فِي أولئِك‪ ،‬فقال ب ْعضه ْم‪:‬‬
‫حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ‪.‬‬
‫فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ‬

‫سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه‬ ‫وقال ب ْعضه ْم‪ :‬فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ‬
‫ال ْ‬
‫ش ْيئ ًا ‪ -‬وذكروا أ ْشياء ‪.-‬‬
‫فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّل ِه ﷺ فأ ْخبروه‪ ،‬فقال‪ :‬هم ا َّل ِذين َّل‬
‫ي ْست ْرقون‪ ،‬وَّل ي ْكتوون‪ ،‬وَّل يتط َّيرون‪ ،‬وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون‪.‬‬
‫ِ‬
‫فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم‪ ،‬فقال‪ :‬أ ْنت‬
‫ِم ْنه ْم‪.‬‬
‫ث َّم قام رج ٌل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم‪ ،‬فقال‪ :‬سبقك بِها‬
‫عكَّاشة»)‪.‬‬
‫هنا َيذكر الحديث يف تحقيق التوحيد المندوب‪.‬‬
‫فلما َذكر تحقيق التوحيد الواجب‪ ،‬وهو تخليصه من الشرك سواء‬
‫ي‬
‫الشرك األكبر أو األصغر؛ َشرع بعد ذلك يف ِذكر تحقيق التوحيد‬
‫المندوب‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪100‬‬

‫قال‪( :‬ع ْن حصي ِن ب ِن عب ِد الر ْحم ِن‪ ،‬قال‪ :‬ك ْنت ِع ْند س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن جب ْيرٍ‪،‬‬ ‫ْ ْ ْ َّ‬
‫ارحة؟) يعني‪ :‬سعيدٌ (‪َ )1‬يسأل‬ ‫فقال‪ :‬أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب ا َّل ِذي ا ْنق َّض الب ِ‬

‫السلف‬ ‫فيدل عىل َّ‬


‫أن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ح َص ْينا رمحهما ال َّله وكَلمها من التابعين‪،‬‬
‫رمحهم ال َّله يتفكرون يف الكون‪ ،‬وما يحدث عىل غير ما ع ِرف؛ يوقظ ذلك‬
‫قلوهبم‪.‬‬
‫وقال سعيدٌ ‪( :‬أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب) أي‪ :‬النجم‪( ،‬ا َّل ِذي ا ْنق َّض) أي‪:‬‬
‫َسقط‪( ،‬الب ِ‬
‫ارحة) الليلة التي مضت‪.‬‬
‫يدل عىل تف ُّكر السلف واعتبارهم بما يحدث يف الكون‪ ،‬حتى‬
‫وهذا ُّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،‬وما‬ ‫النجم الساقط من السماء يخافون أن يكون عقوبة من ال َّله َّ‬
‫ذاك إال لحياة قلوهبم‪.‬‬
‫(ق ْلت) يعني‪ :‬ح َص ْين‪( ،‬أنا‪ ،‬ث َّم ق ْلت) أي‪ :‬ح َص ْين‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام األسدي الوالبي موالهم‪ ،‬تويف‬
‫سنة (‪95‬هـ)‪ .‬سير اعَلم النبَلء للذهبي (‪.)321/4‬‬
‫‪101‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أجل أن‬ ‫قال‪( :‬أما إِني ل ْم أك ْن في صَلة) يعني‪ :‬مل أكن مستيقظا من ْ‬
‫بعمله‪ ،‬ول ِ َّ‬
‫ئَل يمدح بما مل َيفعله‪ ،‬كأنَّه‬ ‫أصلي؛ لد ْفع التهمة بأنَّه يرائي َ‬
‫تظن يا سعيد بن جبير َّ‬
‫أنِِي كنت مصليا يف تلك الساعة‪.‬‬ ‫يقول‪ :‬فَل ي‬
‫أنَِ السلف يخشون من إظهار عم ٍل صالحٍ لهم ملْ‬ ‫يدل عىل َّ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫ون بِ َما َأ َت ْوا‬
‫ين َي ْف َرح َ‬ ‫ِ‬
‫﴿ال َت ْح َس َب َّن ا َّلذ َ‬ ‫يفعلوه؛ حذرا من الوعيد يف اآلية‪َ :‬‬
‫اب َو َله ْم‬ ‫ون َأ ْن ي ْح َمدوا بِ َما َل ْم َي ْف َعلوا َف ََل َت ْح َس َبنَّه ْم بِ َم َف َاز ٍة مِ َن ال َع َذ ِ‬‫َوي ِح ُّب َ‬
‫ِ‬
‫يم﴾ [آل عمران‪.]188:‬‬ ‫اب َأل ٌ‬‫َع َذ ٌ‬
‫عقرب يل‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪( :‬ولكِني ل ِد ْغت) يعني‪ :‬استيقظت بسبب لدغة‬
‫فلما استيقظت رأيت كوكبا ساقطا؛ يعني‪ :‬لدَ َغ ْته‬
‫أيقظتني من النوم‪َّ ،‬‬
‫نجم فرآه‪.‬‬
‫وانقض ٌ‬
‫َّ‬ ‫عقرب أو ح يي ٌة فلم ينم تلك الليلة‬
‫ٌ‬
‫وهذا يدل عىل ض ْعف اإلنسان؛ فلدْ غ ٌة َأيقظتْه طوال الليل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لبعض‪،‬‬ ‫(قال‪ :‬فامذا صن ْعت؟) وهذا يدل عىل مح َّبة السلف بعضهم‬
‫ٍ‬
‫مكروه‪.‬‬ ‫شر أو‬ ‫عما أصاب اآلخر من ٍّ‬
‫ف َيسأل بعضهم بعضا َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪102‬‬

‫مسلم(‪)1‬‬
‫ٍ‬ ‫(ق ْلت‪ :‬ارتقيت) أي‪ :‬طلبت من يرقيني‪ ،‬واللفظ الذي يف‬
‫ْ ْ‬
‫«اس َت ْر َق ْيت»‪ ،‬يعني‪ :‬فعلت الرقية‪ ،‬أو‪ :‬طلبت الرقية‪.‬‬
‫يدل عىل تع ُّلق السلف بكتاب ال َّله‬
‫يعني‪ :‬الرقية بالقرآن‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ِ‬
‫طلب الرقية من اآلخر‪ ،‬وكذا جواز الذهاب‬ ‫ُّ‬
‫ويدل أيضا عىل جواز‬
‫للطبيب ونحوه لطلب العَلج‪ ،‬ولكن كما سيأيت األفضل ما هو‪.‬‬
‫(قال‪ :‬فام حملك على ذلِك؟) يعني‪ :‬ما دليلك؟ ما هو الدليل عىل‬
‫لجأت إىل الرقية؟‬
‫َ‬ ‫لما لدغتْك عقرب‬‫أنه َّ‬
‫فانظر إىل السلف‪ ،‬ل ِدغ بعقرب‪ ،‬ومع ذلك يقول‪ :‬ما هو الدليل؟‬
‫ْ‬
‫وهكذا الشخص يف أمور الدين َيطلب الدليل حتى يزول عنه اإلشكال‪.‬‬
‫لما‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫أن السلف يتباحثون يف العلم يف كل واقعة‪ ،‬فهنا َّ‬
‫َذكر النجم‪ ،‬وأتى بمسألة ال َّلدْ غ والرقية؛ فيسأله ما هو الدليل عىل أنك‬

‫الجنَّة بغير‬
‫(‪ )1‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الدليل عىل دخول طوائف من المسلمين َ‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪ ،‬رقم (‪.)220‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬
‫‪103‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫طلب ِ‬
‫العلم ولو‬ ‫ِ‬ ‫طلبت الرقية‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫يدل عىل مشروعية التباحث يف‬ ‫َ‬
‫واضح‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫باألمر الذي ي َظ ُّن أنه‬
‫حصين رمحه ال َّله يقول‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫الش ْعبِ ُّي) يعني‪:‬‬ ‫(ق ْلت‪ :‬ح ِد ٌ‬
‫يث حدَّ ثناه َّ‬
‫الدليل عىل أين ارت َق ْيت‪..‬‬
‫(فقال‪ :‬وما حدَّ ثك ْم؟ ق ْلت‪ :‬حدَّ ثنا ع ْن بر ْيدة ْب ِن حص ْي ٍ‬
‫ب أنَّه قال‪َّ :‬ل‬
‫ر ْقية) يعني‪ :‬ال رقية َأوىل و َأفضل و َأنفع من رقية القرآن بسبب العين أو‬
‫الح َمة كما سيأيت‪.‬‬
‫أن الرقية فقط محصور ٌة يف هذين األمرين ‪ -‬ومها‬‫وليس المقصود َّ‬
‫شاف لجميع األمراض؛ لذلك (َّل‬‫العين ولدْ غ العقرب ‪-‬؛ وإ َّنما القرآن ٍ‬

‫ر ْقية) يعني‪َ :‬أوىل وأفضل‪.‬‬


‫(إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن‪ ،‬أ ْو حم ٍة) هذا الشاهد يف استدالل ح َص ْين بن عبد‬
‫الرمحن رمحه ال َّله‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪104‬‬

‫حق وأ َّنها تؤثر‪ ،‬والنبي ﷺ قال‪َ « :‬أ ْك َثر َم ْن‬ ‫أن ال َعين ٌّ‬ ‫ويدل عىل َّ‬ ‫ُّ‬
‫َاب ال َّل ِه»(‪ ،)1‬ويف الحديث اآلخر‪:‬‬ ‫س َب ْعدَ كِت ِ‬ ‫َيموت مِ ْن أ َّمتِي بِاألَنْف ِ‬

‫الرج َل ال َق ْب َر»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫«ال َع ْين تدْ خل ال َج َم َل القدْ َر‪َ ،‬و َّ‬
‫أن مِن عَلج العين الرقية بالقرآن العظيم؛‬ ‫دل عىل َّ‬ ‫ويف هذا الحديث َّ‬
‫آن َما ه َو ِش َفا ٌء﴾ [اإلسراء‪ ،]82:‬وهناك‬
‫كما قال سبحانه‪﴿ :‬وننَزل مِن القر ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أثر العائِن إذا عرف‪ ،‬وصفة ذلك أن‬ ‫عَلج آخر لها وهو‪ :‬أن يؤخذ مِن ِ‬
‫ٌ‬
‫يوضع ما ٌء يف ذلك األثر‪ ،‬وله صفتان‪:‬‬
‫الصفة األولى‪ :‬إ َّما أن َيغتسل به المصاب‪.‬‬
‫والصفة األخرى‪ :‬أن َينثر الماء عىل قفا و َظ ْهر المصاب بالعين عىل‬
‫ٍ‬
‫غفلة منه‪.‬‬ ‫حين‬
‫(إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن) وهي الحسد؛ يعني‪ :‬من أصيب ب َع ٍ‬
‫ين فبإذن ال َّله‬
‫شر العين التي أصيب هبا‪.‬‬
‫القرآن يزيل ي‬

‫السَلم‪َ « :‬ل ْو ق ْلت‪ :‬إِ َّن‬ ‫عاصم يف السنَّة‪ ،‬باب فِي ِذ ِ ِ ِ ِ‬


‫ٍ‬
‫كر َق ْوله ع َل ْيه َّ‬ ‫ُّ َ ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه ابن أبي‬
‫َش ْيئا َسابِق ال َقدَ ِر؛ َلق ْلت‪ :‬ال َع ْين َت ْسبِق ال َقدَ َر»‪ ،‬رقم (‪ ،)126/1( ،)310‬من‬
‫حديث جابر بن عبد ال َّله رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫الحلية (‪ ،)90/7‬من حديث ٍ‬
‫جابر رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫نعيم يف ِ‬
‫(‪ )2‬رواه أبو ٍ‬
‫‪105‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(أو حمة) وهي لدغة العقرب‪.‬‬


‫أنَِ ال ُّرقية َتنفع يف إزالة العين‪ ،‬ويف إزالة أذى لدغة العقرب وما‬
‫أي‪َّ :‬‬
‫يف حكمها‪.‬‬
‫عَلج لألمراض الع ِ‬
‫ضوية أيضا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فيدل عىل َّ‬
‫أنَِ القرآن العظيم‬ ‫ُّ‬
‫مرض؛ لكنيه ليس محسوسا‪ ،‬فَل نستطيع أن نَلمس‬
‫فاألول‪ :‬ال َعين ٌ‬
‫َّ‬
‫العين التي أصابت الرجل‪.‬‬
‫عَلج لألمور الحس َّية والمعنوية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن القرآن‬
‫أنفس‬
‫ٌ‬ ‫وجمع النبي ﷺ بين العين والعقرب؛ لبيان َّ‬
‫أن كَلمها‬ ‫َ‬
‫شريرة؛ لذلك النبي ﷺ َأمر بقتل العقرب(‪.)1‬‬
‫أنفس خبيث ٌة َتخرج من العائن؛‬
‫وال َعين قال ابن القيم رمحه ال َّله‪ٌ « :‬‬
‫فتَدخل يف بدن المحسود ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.)2(»-‬‬

‫المحرم من الدواب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب جزاء الصيد‪ ،‬باب ما َيقتل‬
‫رقم (‪ ،)1829‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬خ ْم ٌس مِ َن‬
‫اس ٌق‪ ،‬ي ْقتلهن فِي الحرمِ‪ :‬الغراب‪ ،‬و ِ‬
‫الحدَ َأة‪َ ،‬وال َع ْق َرب‪،‬‬ ‫الدَّ واب‪ ،‬ك ُّلهن َف ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫َوال َف ْأ َرة‪َ ،‬وال َك ْلب ال َعقور»‪.‬‬
‫النبوي (‪.)124/1‬‬
‫ي‬ ‫(‪ )2‬الطب‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪106‬‬

‫لما علمت هبذا الحديث َّ‬


‫أن الرقية‬ ‫يعني‪ :‬ح َصين رمحه ال َّله يقول‪َّ :‬‬
‫َتنفع مِن لدغة العقرب؛ فعلت الرقية‪.‬‬
‫إىل اآلن ما َأتى الشاهد؛ لكن المصنف َيذكر الحديث بتمامه‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫الجنَّة بغير‬ ‫ِ‬ ‫ما َأتى الشاهد عىل َّ‬
‫أن تحقيق التوحيد يدخل الرجل َ‬
‫ساب ‪ -‬إذا كان محققا للتوحيد الواجب والمندوب ‪.-‬‬ ‫ِح ٍ‬
‫(ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع) يعني‪ :‬سعيد بن ٍ‬
‫جبير رمحه ال َّله‬
‫يقول‪ :‬الذي فعلتَه صحيح‪.‬‬
‫وفيه أدب العلماء فيما بينهم‪ ،‬فلم يعنفه عىل فِعله؛ أل َّنَِ عنده دليَل‪،‬‬
‫أحسنت ِبفعلك لِما‬‫َ‬ ‫فقال‪( :‬ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع)‪ ،‬فأنت‬
‫فعلت ذلك األمر؛ أل َّن عندك دليَل فقد‬
‫َ‬ ‫بلغك من هذا ِ‬
‫العلم؛ يعني‪:‬‬
‫مما‬ ‫أحسنت يف ذلك‪ ،‬ولكن عندي ٌ‬
‫دليل آخر لو فعلتَه؛ فهو أفضل َّ‬ ‫َ‬
‫فعلت ‪ -‬كما سيأيت ‪.-‬‬
‫َ‬
‫أهل ِ‬
‫العلم‪ ،‬إذ‬ ‫ٍ‬
‫لبعض وكذا ْ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يدل عىل احترام السلف بعضهم‬
‫نص‪.‬‬
‫ف َعل أمرا مبن ييا عىل ٍّ‬
‫العميق حتى يف حياهتم الخاصة ‪ -‬مِن لدغة‬
‫ويدل عىل ِعلم السلف ِ‬
‫ُّ‬
‫العقرب ونحوها ‪.-‬‬
‫‪107‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام‪ ،‬ع ِن‬


‫قال رمحه ال َّله تعاىل‪( :‬ولكِ ْن حدَّ ثنا ا ْبن ع َّب ٍ‬

‫صحيح؛‬
‫ٌ‬ ‫ين‪ :‬الذي فعلتَه‬ ‫النَّبِي ﷺ قال) يعني‪ :‬سعيد بن ٍ‬
‫جبير يقول لح َص ٍ‬
‫ِ‬
‫طلب‬ ‫لكن سوف أعطيك أمرا آخر أفضل من الذي فعلتَه؛ وهو عدم‬
‫الرقية من اآلخرين‪ ،‬وإنَّما َت ْرقِي ن ْف َسك بن ْفسك‪ ،‬وتتو َّكل عىل ال َّله‪ ،‬فمن‬
‫ٍ‬
‫حساب‪.‬‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫فعل ذلك؛ َدخل َ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن علماء السلف َينظرون إىل الدرجات العىل وإن‬ ‫وهذا ُّ‬
‫كان األَ َّول أمرا مشروعا؛ لكنَّهم يطلبون ما هو األفضل من المشروع‪.‬‬
‫فضل النبي ﷺ‬ ‫(عرِض ْت عل َّي األمم) أي‪ :‬يف المنام‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫يدل عىل ْ‬
‫إذ َعرض ال َّله عىل النبي األمم األخرى؛ ليستبشر َّ‬
‫بأن هذه األ َّمة هي أكثر‬
‫األمم‪ ،‬وعند الترمذي(‪َ « :)1‬ل َّما أ ْس ِر َي بِالنَّبِي ﷺ َج َع َل َيم ُّر بِالنَّبِي‬
‫الر ْهط َوالنَّبِي َوالنَّبِ َّي ْين‬
‫َوالنَّبِ َّي ْي ِن َو َم َعهم ال َق ْوم َوالنَّبِي َوالنَّبِ َّي ْي ِن َو َم َعهم َّ‬
‫َو َل ْي َس َم َعه ْم َأ َحدٌ »‪ ،‬فرأى النبي ﷺ آية من ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫فما دون‪.‬‬
‫(الر ْهط)‪ :‬العدد من عشرة َ‬ ‫(فرأ ْيت النَّبِ َّي ومعه َّ‬
‫الر ْهط) َّ‬

‫(‪ )1‬أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول ال َّله ﷺ‪ ،‬باب‪،‬‬


‫رقم (‪.)2446‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪108‬‬

‫وأقوام األنبياء مل يستجيبوا ك ُّلهم ألنبيائهم سوى يونس عليه‬


‫يمان َها إِ َّال َق ْو َم‬
‫َت َق ْر َي ٌة آ َمن َْت َفنَ َف َع َها إِ َ‬
‫السَلم؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ف َل ْو َال كَان ْ‬
‫يون َس َل َّما آ َمنوا﴾ [يونس‪ ،]98:‬وكما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َأ ْر َس ْلنَاه إِ َلى مِ َئ ِة‬
‫ون * َفآ َمنوا﴾ [الصافات‪.]148-147:‬‬ ‫َأ ْل ٍ‬
‫ف َأ ْو َي ِزيد َ‬
‫وأ َّما غير يونس عليه السَلم‪ ،‬فمنهم من َيكثر أتباعهم ‪ -‬فالنبي ﷺ‬
‫أكثر األمم تابعة له‪ ،‬ثم ييل ذلك موسى عليه السَلم‪ ،-‬ومِن األنبياء َمن‬
‫يؤمن به القليل‪.‬‬
‫الرجَل ِن) يعني‪ :‬مل يؤمن به سوى رج ٍل أو‬ ‫(والنَّبِ َّي ومعه َّ‬
‫الرجل و َّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن َِ‬ ‫رجلين‪ ،‬ومنهم من ال يؤمن به سوى رجل واحد‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫الرسل ال َيملكون هداية الناس؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِن ََّك َال َت ْه ِدي َم ْن‬
‫َأ ْح َب ْب َ‬
‫ت﴾ [القصص‪.]56:‬‬

‫(والنَّبِ َّي ل ْيس معه أح ٌد) يعني‪ :‬يدعو قومه و َي ِ‬


‫حرص عىل إيماهنم‬
‫لكن مل يؤمن منهم أحدٌ ‪.‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن َِ الداعية ال َينظر إىل كثرة المدعوين؛ وإنَّما َيفعل‬ ‫وهذا ُّ‬
‫وجل به من تبليغ الدعوة‪ ،‬أ َّما فتْح القلوب فهو بيد ال َّله‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫ما أمره ال َّله َّ‬
‫‪109‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فالشخص ‪ -‬مثَل ‪ -‬يدعو ويعلم غيره و َيحرص عليهم‪ ،‬إن آمنوا؛‬


‫ْت‬ ‫فهذا بفضل ال َّله‪ ،‬وإن مل يؤمنوا؛ هذا إىل ال َّله؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِن ََّما َأن َ‬
‫ْت َع َل ْي ِه ْم‬ ‫َاك َع َل ْي ِه ْم َح ِفيظا َو َما َأن َ‬
‫﴿و َما َج َع ْلن َ‬ ‫ِ‬
‫نَذ ٌير﴾ [هود‪ ،]12:‬وقال‪َ :‬‬
‫َع َل ْي ِه ْم‬ ‫﴿ َل ْس َت‬ ‫سبحانه‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫بِ َوكِيلٍ﴾ [األنعام‪،]107:‬‬
‫بِم َص ْيطِ ٍر﴾ [الغاشية‪﴿ ،]22:‬ما َع َلى الرس ِ‬
‫ول إِ َّال ال َب ََلغ﴾ [المائدة‪.]99:‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫نقص لمن سار عىل هنْج‬ ‫ص لألنبياء‪ ،‬وكذا ليس فيه ٌ‬ ‫وليس فيه ن ْق ٌ‬
‫وحكمته هي ِ‬
‫الحكمة‬ ‫وجل هو القهار ِ‬ ‫عز َّ‬ ‫األنبياء ومل يتبعهم أحدٌ ‪ ،‬وال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫البالغة؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ي ِض ُّل َم ْن َي َشاء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َشاء﴾ [فاطر‪.]8:‬‬
‫وحى إليه ال‬ ‫ويدل هذا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬عىل طغيان بني آدم‪ٌّ ،‬‬
‫فنبي ي َ‬ ‫ُّ‬
‫يستجيب أحدٌ إليه!‬
‫ٌ‬
‫ويدل عىل ص ْبر األنبياء عليهم السَلم‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ويدل عىل أن الداعية ال يَلم يف قلة التابعين له إذا كان عىل الحق؛‬
‫منصور؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِنَّا َلنَنْصر رس َلنَا َوا َّل ِذي َن‬
‫ٌ‬ ‫بل هو‬
‫وورد أن نوحا عليه السَلم مل يؤمن به سوى عشرة‬
‫آ َمنوا﴾ [غافر‪َ ،]51:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪110‬‬

‫ف َسن ٍَة‬
‫أقل(‪ ،)1‬مع طول م ْكثِ ِه يف قومه؛ كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬أ ْل َ‬‫فقط‪ ،‬وقِيل‪ :‬ي‬
‫ِ‬
‫إِ َّال َخ ْمس َ‬
‫ين َعاما﴾ [العنكبوت‪.]14:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم) يعني‪ :‬لكثرة الناس فيروا كأهنم سوا ٌد‬ ‫(إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ‬
‫عظيم؛ بمعنى‪ :‬إذا رأيت الرؤوس من ٍ‬
‫بعيد كاشفة؛ يظن أهنا سوا ٌد‬ ‫ٌ‬
‫كالليل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم) فرأيت ذلك السواد؛ يعني‪:‬‬ ‫لذلك قال‪( :‬إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ‬
‫كثرة الناس‪( ،‬فظن ْنت أنَّه ْم أ َّمتِي) يعني‪ :‬ظننت أهنم أ َّمة اإلجابة ‪ -‬ال‬
‫الدعوة ‪-‬؛ َّ‬
‫ألن النبي محمد ﷺ َيطمع أن تكون أ َّمته خير األمم‪ ،‬وكذا‬
‫كانت‪.‬‬
‫(ف ِقيل لِي‪ :‬هذا موسى وق ْومه) مع َّ‬
‫أن موسى عليه السَلم ليس‬
‫وجل عنه‪َ ﴿ :‬و َال َي َكاد‬
‫َّ‬ ‫فصيحا يف الكَلم‪ ،‬كما أخبر ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫يبِين﴾ [الزخرف‪]52:‬؛ ومع ذلك أ َّمته هي أكثر األمم بعد أ َّمة محمد ﷺ‪.‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن البَلغة والفصاحة ليست شرطا يف قبول الناس؛ وإنَّما‬ ‫َّ‬
‫األصل هو صَلح النية واإلخَلص ل َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فموسى عليه‬

‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير (‪.)321/4‬‬


‫‪111‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫احل ْل ع ْقدَ ة مِ ْن‬ ‫﴿و ْ‬ ‫السَلم ال يستطيع الكَلم؛ لذلك يدعو ربه يقول‪َ :‬‬
‫ل ِ َسانِي﴾ [طه‪ ،]27:‬وفرعون َيسخر منه ويقول‪َ ﴿ :‬أ ْم َأنَا َخ ْي ٌر مِ ْن َه َذا ا َّل ِذي‬
‫لصدق‬ ‫هو م ِهين و َال ي َكاد يبِين﴾ [الزخرف‪ ]52:‬ما يستطيع أن يتك َّلم؛ لكن ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ٌ َ َ‬
‫وصدق دعوته ِ‬
‫وحرصه؛ تبعه أ َّم ٌة كثر وإن كان ضعيفا يف البيان‪.‬‬ ‫إخَلصه ِ‬

‫لهذا الشخص إن كان ضعيفا يف تبليغ الدعوة سواء ضعفا ماديا أو‬
‫وجل هو الذي يسدد؛ لذلك يقول‬ ‫عز َّ‬ ‫بيانيا أو جسديا؛ فهو يبلغ وال َّله َّ‬
‫ِ‬
‫﴿و َما َر َم ْي َت إِ ْذ َر َم ْي َت َو َلك َّ‬
‫ن ال َّل َه َر َمى﴾ [األنفال‪]17:‬‬ ‫سبحانه‪َ :‬‬
‫يم‪ ،‬ف ِقيل لِي‪ :‬ه ِذ ِه أ َّمتك) يعني‪ :‬أكثر من‬ ‫ِ‬
‫(فنظ ْرت فإِذا سوا ٌد عظ ٌ‬
‫األول‪ ،‬والمراد بأ َّمتك يف هذا الحديث‪ :‬أ َّمة اإلجابة؛ يعني‪ :‬من‬
‫السواد َّ‬
‫استجاب للنبي ﷺ وآمن‪ ،‬ال أ َّمة الدعوة؛ فأ َّمة الدعوة هم من بعث النبي‬
‫عليه الصَلة والسَلم إليهم مِن يوم بِ ْعثته إىل قيام الساعة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫محمد؛ يعني‪ :‬أ َّمة‬ ‫سمون أ َّمة‬ ‫ُّ‬
‫فكل الناس مؤمنهم وكافرهم ي َّ‬
‫إجابة؛ أي‪ :‬أ َّمة استجابت‬ ‫ٍ‬ ‫الدعوة‪ ،‬فمن آمن مِنهم يقال لهم أ َّمة‬
‫للنبي ﷺ‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪112‬‬

‫فمثَل‪ :‬اليهود والنصارى بعد ب ْعثة النبي ﷺ يطلق عليهم أهنم مِن‬
‫أ َّمة محمد؛ لكن أ َّمة الدعوة‪ :‬دعوا للتوحيد والتباع النبي عليه الصَلة‬
‫والسَلم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫محمد ﷺ‪.‬‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يدل عىل كثرة أ َّمة‬
‫(ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا ي ْدخلون الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬
‫اب وَّل عذ ٍ‬
‫اب) هذا‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬ ‫ٍ‬ ‫الشاهد َّ‬
‫أن من أ َّمة محمد ﷺ َمن يدخل َ‬
‫وعددهم سبعون ألفا‪.‬‬
‫ين َأ ْلفا»(‪ ،)1‬وهذا كر ٌم‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ويف رواية عند اإلمام أمحد‪َ « :‬م َع كل َأ ْلف َس ْبع َ‬
‫ألف سبعون ألفا‬‫وفضل؛ يعني‪ :‬سبعون ألفا مع كل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫من ال َّله َّ‬
‫أيضا‪ ،‬وهذا من بعثة النبي عليه الصَلة والسَلم إىل قيام الساعة‪.‬‬
‫قليل عىل كثرة توارد القرون مِن هذه األ َّمة؛‬
‫نظرت إليه فهو عد ٌد ٌ‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫ليس فيهم سوى هذا العدد القليل‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص)‪ ،‬عند قوله (ويف مسند اإلمام أمحد « َم َع كل َأ ْلف َس ْبع َ‬
‫ين‬
‫َأ ْلفا)‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫لذلك قال‪( :‬ه ِذ ِه أ َّمتك ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا ي ْدخلون الجنَّة) يعني‪:‬‬
‫فضل ال َّله‬
‫يدل عىل ْ‬ ‫ٍ‬
‫حساب‪ ،‬وهذا ُّ‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫وفيهم سبعون ألفا َيدخلون َ‬
‫عز َّ‬
‫وجل عىل هذه األ َّمة‪.‬‬ ‫َّ‬

‫قال‪( :‬ث َّم نهض) النبي ﷺ؛ أي‪ :‬قام‪( ،‬فدخل م ْن ِزله)؛ يعني‪َّ :‬‬
‫لما قال‬
‫الم ِز َّية‬
‫ذلك النبي عليه الصَلة والسَلم قام و َدخل بيته بعد أن َذكر هذه َ‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫(فخاض النَّاس فِي أولئِك) أي‪َ :‬يتكلموا‪َ :‬من هؤالء السبعون؟‬
‫وعلم الصحابة رضي ال َّله عنهم‪،‬‬ ‫يدل عىل عمق إيمان ِ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫ٍ‬
‫واحد َيذكر‬ ‫ِ‬
‫لعلمهم بأنه ال يصل أحدٌ لهذه المرتبة َّإال بالعمل؛ لذلك ُّ‬
‫كل‬
‫مما هو يف نظره‪.‬‬
‫عمَل فاضَل َّ‬
‫ويدل عىل ِحرص الصحابة أن يكونوا من أهل تلك الصفة‪ ،‬وهي‬‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫أن يدخلوا َ‬
‫أن َه َّم الصحابة رضي ال َّله عنهم هو يف اآلخرة إذ أمهَّهم‬
‫ويدل عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫ذلك األمر‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪114‬‬

‫ٍ‬
‫لبعض يقولون‪ :‬ما هي‬ ‫(فقال ب ْعضه ْم) يعني‪ :‬الصحابة بعضهم‬
‫الجنَّة بغير‬ ‫ِ‬
‫األعمال التي َيعملها أو عملها السبعون ألفا حتى يدخلون َ‬
‫ٍ‬
‫حساب؟‬
‫حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ) يعني‪ :‬بعض‬
‫فقال بعضهم‪( :‬فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ‬

‫الصحبة لها منزل ٌة‬ ‫لعل أولئك هم نحن الصحابة؛ َّ‬


‫ألن ُّ‬ ‫الصحابة قال‪َّ :‬‬
‫عالي ٌة‪ ،‬وهذه المنزلة ال توجد بعد وفاة النبي عليه الصَلة والسَلم‪ ،‬فهي‬
‫منزل ٌة زمني ٌة قصير ٌة ثم تنتهي‪ ،‬ومن وجد يف ذلك مؤمنا؛ َو َعده ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫﴿ر ِض َي ال َّله َعنْه ْم َو َرضوا َعنْه‬
‫الجنَّة‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ :‬‬ ‫وجل بدخول َ‬ ‫َّ‬
‫و َأعَدَّ َلهم جن ٍ‬
‫َّات َت ْج ِري َت ْحت ََها األَن َْهار﴾ [التوبة‪.]100:‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫يدل عىل ِعلم الصحابة بعلو منزلة الصحبة‪ ،‬لهذا‪ :‬عمر بن‬
‫وهذا ُّ‬
‫عبد العزيز(‪ )1‬من التابعين‪ ،‬ومعاوية(‪ )2‬من الصحابة؛ قال اإلمام أمحد‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد‬
‫شمس بن عبد مناف بن قصي بن كَلب‪ ،‬ولد سنة (‪63‬هـ)‪ ،‬وتويف‬
‫سنة (‪101‬هـ)‪ .‬سير أعَلم النبَلء للذهبي (‪.)114/5‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو عبد الرمحن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد‬
‫شمس بن عبد مناف‪ ،‬أسلم قبل الفتح وعمره ‪ 18‬سنة‪ ،‬وتويف‬
‫‪115‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫بار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول ال َّله ﷺ ٌ‬
‫خير‬ ‫رمحه ال َّله‪َ « :‬لغ ٌ‬
‫من عمر بن عبد العزيز»(‪ ،)1‬وسئِل رمحه ال َّله‪َ :‬من أفضل معاوية أو‬
‫عمر بن عبد العزيز؟ قال ‪« :‬من رأى رسول ال َّله ﷺ‪ ،‬وقال‬
‫رسول ال َّله ﷺ‪ :‬خير الناس قرين»(‪)2‬؛ ْ‬
‫لفضل الصحبة؛ لذلك قال شيخ‬
‫اإلسَلم عنهم‪« :‬ال كان وال يكون مثلهم»(‪)3‬؛ يعني‪ :‬الصحابة رضي ال َّله‬
‫عنهم‪.‬‬
‫بالجنَّة وهم أحيا ٌء؛ قال‬ ‫َ‬ ‫بشرهم مجيعا‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫ويكفيك َش َرف َّ‬
‫﴿ال َي ْست َِوي مِنْك ْم َم ْن َأ ْن َف َق مِ ْن َق ْب ِل ال َف ْتحِ َو َقا َت َل أو َلئِ َك َأ ْع َظم‬
‫سبحانه‪َ :‬‬
‫ين َأ ْن َفقوا مِ ْن َب ْعد َو َقا َتلوا َوك يَل َوعَدَ ال َّله الح ْسنَى﴾ [‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َد َر َجة م َن ا َّلذ َ‬
‫بالجنَّة؛ قال ابن حز ٍم‬
‫َ‬ ‫وعدهم ال َّله‬
‫الحديد‪]10:‬؛ فجميع الصحابة َ‬
‫رمحه ال َّله‪« :‬الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا»(‪.)4‬‬

‫سنة (‪60‬هـ)‪ .‬معرفة الصحابة ألبي نعيم (‪.)2496/5‬‬


‫(‪ )1‬شذرات الذهب ألبي الفَلح (‪.)270/1‬‬
‫السنَّة» (‪ ،)661‬قال المحقق‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الخَلل يف « ُّ‬
‫(‪ )3‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى الثالث‪ ،‬العقيدة الواسطية (ص‪.)169‬‬
‫(‪ )4‬اإلصابة (‪.)19/1‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪116‬‬

‫سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه‬ ‫(وقال ب ْعضه ْم‪ :‬فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ‬
‫ال ْ‬
‫نشأ عىل الفطرة ومل يشرك بال َّله شيئا؛ قد يكون حاله‬ ‫أن َمن َ‬‫لعلمهم َّ‬ ‫شيئ ًا)؛ ِ‬
‫ْ‬
‫مشركا ثم َأسلم‪.‬‬ ‫ممن كان ِ‬ ‫أفضل َّ‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم َيذكر عمَل يظ ُّن أنه هو‬ ‫قال‪( :‬وذكروا أ ْشياء) يعني‪ُّ :‬‬
‫كل‬
‫الذي يدخل السبعين ألفا الجنة بغير حساب وال عذاب‪.‬‬
‫ِ‬
‫بأن سبعين أ ْلفا‬ ‫(فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّله ﷺ)‪َّ ،‬‬
‫لما َذكر النبي ﷺ َّ‬
‫ٍ‬
‫عذاب؛ خاض الصحابة يف أولئك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫َيدخلون َ‬
‫وبدؤوا َيتحدثون ما هي صفات أولئك القوم الذين أعطوا هذه الخاصية‬
‫العظيمة‪ ،‬وهم يخوضون يف ذلك ويتحدثون؛ َخرج عليهم النبي عليه‬
‫الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫يدل عىل ِعظم ِه َّمة الصحابة رضي ال َّله عنهم يف البحث عن‬
‫وهذا ُّ‬
‫الجنَّة بغير‬ ‫عز َّ‬
‫وجل ومن ذلك دخول َ‬ ‫أسباب ووسائل الرفعة عند ال َّله َّ‬
‫حساب وال ع ٍ‬
‫ذاب‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫(فأ ْخبروه) أي‪ :‬فأخبروه بأهنم َيتحدثون عن أعمال أولئك‬


‫ويخوضون فيها ما هي وأنَّها َخ ِف َيت عليهم‪.‬‬
‫(فقال) وهو الشاهد من الحديث‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫لما َذكروا للنبي عليه الصَلة والسَلم أهنم يخوضون يف أولئك؛‬


‫ف َّ‬
‫ب َّين لهم النبي عليه الصَلة والسَلم ما هي صفات وأعمال الذين‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪ ،‬وهم الذين ح َّققوا التوحيد‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫يدخلون َ‬
‫المندوب؛ َّ‬
‫ألن تحقيق التوحيد إ َّما أن يكون واجبا كما َسبق ‪ -‬بترك‬
‫مما به‬
‫الشرك األكبر والبدع والمعاصي ‪ ،-‬وتحقيقه بترك ما ال بأس به َّ‬
‫بأس‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ومعنى هذا ‪ -‬يعني‪ :‬تحقيق التوحيد المندوب ‪َ « :-‬تركوا ما ال‬
‫محرما؛ وإنما تركوا شيئا مباحا أو تركوا‬
‫بأس به» يعني‪ :‬تركوا شيئا ليس َّ‬
‫ومما ينزل درجتهم عن تحقيق التوحيد‬
‫مما به بأس» َّ‬
‫شيئا مكروها‪َّ « ،‬‬
‫المندوب‪.‬‬
‫ِ‬
‫طلب الرقية وال َك يي؛‬ ‫لكن لو فعلوا ما َسبق من األمور المباحة من‬
‫محرما‪ ،‬وإن َّما َتركوا هذه األمور المباحة؛ طلبا فيما‬
‫فإهنم مل يفعلوا أمرا َّ‬
‫عند ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون) يعني‪ :‬كأنَّه يقول‪ :‬هم الذين‬
‫وجل توكَُّل قو ييا منجذبة قلوهبم إىل ال َّله سبحانه‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫يتوكَّلون عىل ال َّله َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪118‬‬

‫أحد أن يرقِ َيهم إذا‬


‫ومن ذلك‪َّ( :‬ل يسترقون) يعني‪ :‬ال يطلبون من ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫َمرضوا‪.‬‬
‫والرق َية مباح ٌة‪ ،‬فقد رقى النبي عليه الصَلة والسَلم ن ْفسه(‪ ،)1‬ورقِي‬
‫ُّ‬
‫من قِبل جبريل وميكائيل(‪ ،)2‬فالرقية ال بأس هبا‪ ،‬لكن أن يرقي اإلنسان‬
‫ن ْفسه‪ ،‬وإنما األقل منزلة أن َيطلب اإلنسان من غيره أن يرقِيَه الرقية‬
‫الجائزة ولو بالقرآن‪ ،‬ف َك ْون اإلنسان يتنازل إىل غيره فيقول‪ :‬ارقِني؛ ومل‬
‫يتوكل عىل ال َّله يف ذلك؛ َينزل عن مرتبة تحقيق التوحيد المندوب‪.‬‬

‫المعوذات‪ ،‬رقم (‪،)5016‬‬


‫ي‬ ‫فضل‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب ْ‬
‫بالمعوذات والنفث‪،‬‬
‫ي‬ ‫ومسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب رقية المريض‬
‫رقم (‪ ،)2192‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن النَّبِ َّي ﷺ‬
‫َان إِ َذا ْاشت ََكى ي ْقرأ َع َلى َن ْف ِس ِه بِالمعو َذ ِ‬
‫ات‪َ ،‬و َينْفث‪َ ،‬ف َل َّما ْاشتَدَّ َو َجعه كنْت‬ ‫ك َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫َأ ْق َرأ َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َأ ْم َسح َعنْه بِ َي ِد ِه؛ َر َجا َء َب َركَتِ َها»‪.‬‬
‫الطب والمرض والرقى‪ ،‬رقم (‪ ،)2186‬من‬ ‫ي‬ ‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب‬
‫سعيد رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن ِج ْب ِر َيل‪َ ،‬أ َتى النَّبِ َّي ﷺ َف َق َال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫حديث أبي‬
‫يك‪ ،‬مِ ْن كل َش ْي ٍء‬ ‫اس ِم ال َّل ِه َأ ْرقِ َ‬
‫َيا م َح َّمد ْاشت ََك ْي َت؟ َف َق َال‪َ « :‬ن َع ْم» َق َال‪« :‬بِ ْ‬
‫يك»‪.‬‬ ‫اس ِم ال َّل ِه َأ ْرقِ َ‬
‫يك بِ ْ‬ ‫اس ٍد‪ ،‬ال َّله َي ْش ِف َ‬
‫س َأو َعي ِن ح ِ‬
‫يك‪ ،‬م ْن َشر كل َن ْف ٍ ْ ْ َ‬
‫ي ْؤ ِذ َ ِ‬
‫‪119‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫طلب‬ ‫محرم ٌة‪ ،‬وإنما ْترك‬
‫َّ‬ ‫وليس معنى ذلك َّ‬
‫أن الرقية بالقرآن‬
‫الحاجات من الناس؛ يعلو به اإلنسان مرتبة‪.‬‬
‫ومِن ذلك‪ :‬طلب الشفاء من اآلخرين وإن كان ذلك مباحا‪ ،‬لكن‬
‫تركوا ما ال بأس به ‪ -‬وهو المباح ‪-‬؛ مما به بأس ‪ -‬مما ينقصهم من‬
‫تلك الدرجة ‪.-‬‬
‫فقال‪( :‬هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون) فطلب الرقية ت ِنقص الدرجة‪ ،‬ولو‬
‫رقى اإلنسان ن ْفسه ال بأس به‪.‬‬
‫ِ‬
‫يرق ن ْفسه‪ ،‬أو َيذهب للطبيب‬ ‫ولو َّ‬
‫أن اإلنسان إذا مل‬
‫للعَلج ‪ -‬وتو ُّكله ليس قويا ‪-‬؛ ينقصه عن التع ُّلق بال َّله‪ ،‬ويؤدي به إىل‬
‫ُّ‬
‫والتسخط‪ ،‬وعدم اإليمان بالقضاء والقدر‪.‬‬ ‫التجزع‬
‫ُّ‬
‫نقول‪ :‬يف حق هذا الرجل‪ :‬أن َيطلب الدواء من غيره أفضل يف حقه‬
‫ألن اإليمان بالقضاء والقدر‬ ‫ويتجزع عىل القضاء والقدر؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يتسخط‬ ‫من أن‬
‫أجل ِ‬ ‫ِ‬
‫طلب‬ ‫كن من أركان اإليمان‪ ،‬فَل يفعل المرء شيئا يخ ُّل بإيمانه من ْ‬
‫ر ٌ‬
‫ٍ‬
‫مندوب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أمر‬
‫قوي وقال‪ :‬أنا ال أريد أن يرقِ َين ِي غيري أو‬ ‫ٌ‬
‫إيمان ٌّ‬ ‫لكن من وجد له‬
‫أطلب الشفاء من غيري‪ ،‬متوكَل عىل ال َّله تو ُّكَل قو ييا وأدعوه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪120‬‬

‫ممن‬
‫نقول‪ :‬يف حق من كانت هذه صفاته أفضل‪ ،‬لكن عا يمة الناس َّ‬
‫ٍ‬
‫محظور وهو‬ ‫لئَل يقع يف ٍ‬
‫أمر‬ ‫يتجزع؛ نقول‪ :‬طلب الدواء يف حقهم أفضل؛ َّ‬
‫َّ‬
‫التجزع عىل قدر ال َّله‪ ،‬أو عدم الرضا بما‬
‫ُّ‬ ‫عدم الرضا بالقضاء والقدر‪ ،‬أو‬
‫كَتبه ال َّله عليه‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون)‪.‬‬
‫ثم َذكر صفة من صفات المتوكلين عىل ال َّله – أيضا ‪ -‬تو ُّكَل قو ييا‬
‫وذكرها بقوله‪( :‬وَّل ي ْكتوون) يعني‪ :‬ال َيفعلون ال َك َّي يف العَلج‪.‬‬
‫وإن كان ذلك مباحا؛ فالنبي عليه الصَلة والسَلم « َب َع َث إِ َلى أ َبي‬
‫ب َطبِيبا‪َ ،‬ف َق َط َع مِنْه ِع ْرقا‪ ،‬ث َّم ك ََواه َع َل ْي ِه»(‪ ،)1‬والنبي عليه الصَلة‬ ‫ْب ِن َك ْع ٍ‬

‫والسَلم قال‪ِ « :‬ش َفاء أ َّمتِي فِي َثَلَ َث ٍة‪ :‬فِي َش ْر َط ِة مِ ْح َج ٍم‪َ ،‬أ ْو َش ْر َب ِة َع َسلٍ‪،‬‬
‫َأ ْو َك َّي ٍة بِن ٍَار»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب لكل ٍ‬


‫داء دواء واستحباب التداوي‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2207‬من حديث جابر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب الشفاء يف ثَلث‪ ،‬رقم (‪ ،)5681‬من‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫حديث ابن‬
‫‪121‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقال‪َ « :‬أن َْهى أ َّمتِي َع ِن ال َكي»(‪.)1‬‬


‫عز َّ‬
‫وجل إذا حصل‬ ‫مباح لكن ْتركه تو ُّكَل عىل ال َّله َّ‬
‫الكي ٌ‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن َّ‬ ‫َّ‬
‫نوع من العَلج‪.‬‬
‫فالكي ٌ‬
‫ُّ‬ ‫رض؛ أفضل و َأوىل‪،‬‬
‫م ٌ‬
‫والفرق بين (َّل ي ْست ْرقون)‪ ،‬و(َّل ي ْكتوون)‪:‬‬
‫ْ‬
‫طلب الشفاء‬
‫حسي‪ ،‬فمن َترك َ‬ ‫ٌ‬ ‫والكي شفا ٌء‬
‫ي‬ ‫معنوي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫أن الرقية شفا ٌء‬
‫من غيره من األدوية المعنوية أو ِ‬
‫الحس َّية تو ُّكَل عىل ال َّله‪ ،‬طلبا لتحقيق‬
‫التوحيد المطلوب؛ نقول‪ :‬هذا أفضل يف حقه ‪ -‬عىل التفصيل السابق ‪-‬‬
‫‪.‬‬
‫باب‬
‫قال‪( :‬وَّل يتط َّيرون) أي‪ :‬يتشاءمون بالطير ونحوه‪ ،‬وسيأيت ٌ‬
‫خاص بالطيرة بإذن ال َّله‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫ألن التط ُّير فيه ض ْعف تو ُّك ٍل عىل ال َّله‬
‫وإنَّما ذكرت الطيرة يف التوكل؛ َّ‬
‫بما يغيره من المشؤومات‪ ،‬سواء كان تط ُّيرا‬ ‫َّ‬
‫وجل َ‬ ‫عز‬
‫َّ‬
‫باألشهر – َ‬
‫كص َف ٍر ‪ ،-‬أو كان تط ُّيرا بالطيور ‪ -‬كالغراب ونحو ذلك ‪،-‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب الشفاء يف ثَلث‪ ،‬رقم ( ‪ ،)5681‬من‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫حديث ابن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪122‬‬

‫ٍ‬
‫ألوان ‪ -‬كاألسود ونحو ذلك ‪ ،-‬أو كثرة الوفيات يف‬ ‫ٍ‬
‫بأحوال أو‬ ‫أو تط ُّيرا‬
‫سمى نفس االسم يموت‬
‫سمى اسما معينا يموت ابنه ثم إذا َّ‬
‫أبنائه؛ إذا َّ‬
‫ابنه وهكذا‪.‬‬
‫فالتط ُّير ينقص التوكل عىل ال َّله عز وجل‪ ،‬وإن كان شركا لكن ذكر‬
‫أمر مباحٍ أو ٍ‬
‫أمر‬ ‫يف هذا الحديث؛ أل َّنَِ ضعف التوكل إ َّما أن يكون يف ف ْعل ٍ‬

‫محرم يف التطير‪.‬‬
‫والكي‪ ،‬أو ي‬‫ي‬ ‫مباح يف الرقية‬ ‫محر ٍم؛ ٌ‬
‫أمر ٌ‬ ‫َّ‬
‫لذلك قال‪( :‬هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون وَّل ي ْكتوون وَّل يتط َّيرون)‪.‬‬
‫ثم َعطف عطفا عا يما عىل ما َتقدَّ م فقال‪( :‬وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون) هذا‬
‫مِن ع ْطف العام عىل الخاص‪ ،‬فمن أمثلة التوكل‪ْ :‬ترك الرقية‪ْ ،‬ترك الكي‪،‬‬
‫ْترك الطيرة‪.‬‬
‫بترك الشرك بن ْو َع ْيه‪ ،‬وح َّقق التوحيد‬
‫إذا َمن ح َّقق التوحيد الواجب ْ‬
‫المندوب بقوة التوكل عىل ال َّله عز وجل؛ فإنَّه موعو ٌد بأن يكون من‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫السبعين أ ْلفا الذين َيدخلون َ‬
‫الجنَّة بغير‬
‫الجنَّة بغير‬ ‫أن مِن فضائل التوحيد َّ‬
‫أن َمن ح َّققه َيدخل َ‬ ‫فدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫حاسب عىل ما فع َله من‬ ‫ٍ‬
‫عذاب‪ ،‬فَل ي َّ‬
‫عذب بالنَّار الب َّتة‪ ،‬وال ي َ‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬
‫أعمال قد تكون م ِنقصة له‪.‬‬
‫ٍ‬
‫‪123‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫عذاب هم المتوكلون‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫فصفة الذين يدخلون َ‬
‫أن تحقيق التوحيد َيتح َّقق بكمال التو ُّكل‬
‫عىل ال َّله‪ ،‬وهذا هو الشاهد َّ‬
‫عىل ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫ِ‬
‫طلب االستشفاء أو الدواء من اآلخرين ونحو‬ ‫ومِن ذلك‪ :‬عدم‬
‫ذلك‪ ،‬أ يما أن يرقي ن ْفسه أو يداوي ن ْفسه؛ فيجوز؛ ألنه مل َيعتمد عىل غيره‪،‬‬
‫فالنبي ﷺ رقى نفسه‪ ،‬وكذا رقاه جبريل‪.‬‬
‫وضابط هذا األمر ‪ -‬الذي هو كمال التوكل عىل ال َّله يف حال‬
‫َّ‬
‫وجل كمال اإليمان بالقضاء‬ ‫أن يرزقه ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫المرض ونحوه ‪ْ :-‬‬
‫والقدر‪ ،‬وكمال التوكل عىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫مما أصابه؛ َّ‬
‫فإن هذا األفضل يف‬ ‫فيتجزع و َي َّ‬
‫تسخط َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتداو‬
‫َ‬ ‫أ َّما إذا مل‬
‫لئَل يقع يف النهي المحذور عنْه بعدم اإليمان بالقضاء‬
‫حقه أن يتداوى؛ َّ‬
‫والقدر‪.‬‬
‫ِ‬
‫قال‪( :‬فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم) هذا‬
‫يدل عىل ع ْمق التوحيد يف قلوب الصحابة فما قال‪ :‬اجعلني أنت منهم‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وإنَّما قال‪( :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪124‬‬

‫ٍ‬
‫فبدعوة يصل اإلنسان إىل أعايل‬ ‫ويدل عىل ِعظم منزلة الدعاء؛‬
‫ُّ‬
‫الجنان‪.‬‬
‫ويدل أيضا عىل ِحرص الصحابة عىل تلك المنزلة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫طلب الدعاء من الصالحين األحياء ومن‬ ‫ُّ‬
‫ويدل أيضا عىل جواز‬
‫ِ‬
‫طلب الدعاء من اآلخرين ‪ -‬من‬ ‫ولكن األفضل عدم‬
‫َّ‬ ‫ذلك الرسل‪،‬‬
‫الصالحين ونحوهم ‪-‬؛ ألنه ينايف كمال التع ُّلق بال َّله سبحانه وتعاىل؛ قال‬

‫شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله‪« :‬ولهذا مل ي َ‬


‫عرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر‬
‫الصحابة سألوه شيئا من ذلك‪ ،‬وال سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا قد‬
‫يطلبون منه أن يدعو للمسلمين»(‪ ،)1‬وأ َّما حديث « َيا َأ ِخي‪َ ،‬ال َتن َْسنَا مِ ْن‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫د َعائِ َك»(‪ )2‬فهو‬
‫حصن رضي ال َّله عنه من صغار الصحابة‪ ،‬فكان‬‫ِ‬
‫وع َّكاشة بن م َ‬
‫صغار الصحابة رضي ال َّله عنهم َيطلبون من النبي ﷺ ذلك‪ ،‬وهذا ليس‬

‫(‪ )1‬قاعدة جليلة يف التوسل والوسيلة (‪.)64/1‬‬


‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)195‬من حديث عبد ال َّله بن عمر رضي ال َّله‬
‫عنهما‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫بمحر ٍم‪ ،‬ولكن األفضل َّأال َتطلب من أحد أن يدعو لك؛ وإنما ْ‬
‫اجعل‬ ‫َّ‬
‫قلبك مع َّلقا بال َّله‪.‬‬
‫نبي‬
‫أنَِ النبي عليه الصَلة والسَلم ٌّ‬ ‫(فقال‪ :‬أ ْنت ِم ْنه ْم) هذا ُّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫ب بأن يكون من أولئك‪ ،‬وقد قتل رضي ال َّله عنه‬ ‫فشهد له ٍ‬
‫بأمر مغ َّي ٍ‬ ‫حق؛ ِ‬
‫ٌّ‬
‫شهيدا‪.‬‬
‫قال‪( :‬ث َّم قام رج ٌل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم) ُّ‬
‫يدل عىل‬
‫أهل الفضائل؛ فهنا قام رج ٌل آخر (فقال‪:‬‬ ‫مسارعة الصحابة أن يكونوا من ْ‬
‫ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم)‪ُّ ،‬‬
‫ويدل عىل جواز التنافس يف الخير‪.‬‬
‫لق النبي ﷺ؛ إ ْذ مل ير يده‬‫علو خ ِ‬
‫يدل عىل ي‬ ‫(فقال‪ :‬سبقك بِها عكَّاشة) ُّ‬
‫بر ٍّد يحزن طالب الدعاء؛ فلم يعنفه‪ ،‬ومل يؤنبه‪ ،‬ومل ْ‬
‫يقل أنت لست منهم؛‬
‫ٍ‬
‫سديد غير مؤملٍ‪( :‬سبقك بِها عكَّاشة)‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بجواب‬ ‫وإنما قال‬
‫أن المرء إذا فتح له باب ٍ‬
‫خير؛ عليه أن‬ ‫ويدل أيضا هذا الحديث عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫يسارع إليه فقد يغلق هذا الباب‪ ،‬فهنا أغلق هذا الباب برج ٍل َسبقه وهو‬
‫ع َّكاشة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫وهكذا فتْح أبواب الخير ال يتكرر؛ لذلك قال ابن القيم‬
‫رمحه ال َّله ‪ -‬يف فوائد غزوة تبوك ‪« :-‬فتح باب الخير للصحابة فتخ َّلف‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪126‬‬

‫وهَلل و َم َر َارة بن الربيع ومل يتكرر لهم هذا الغزو»(‪ ،)1‬فلم يغز‬
‫ٌ‬ ‫كعب‬
‫ٌ‬
‫مر ٍة‪ ،‬فإذا‬
‫الرسول عليه الصَلة والسَلم تبوك مرة أخرى ومل يغزها سوى ي‬
‫ِ‬
‫وسارع إليه فقد يغلق‪.‬‬ ‫فتِح باب الخير؛ ِ‬
‫بادر‬
‫أنَِ المسلِم عليه أن يحقق كمال التوحيد الواجب‪،‬‬
‫فدل ما تقدَّ م عىل َّ‬
‫َّ‬
‫والمستحب؛ لينال تلك المنزلة العالية‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ )1‬زاد المعاد (‪.)503/3‬‬


‫‪127‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]٤‬‬
‫ف ِمن الش ْر ِك‬‫باب الخ ْو ِ‬

‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ال َّله َّل ي ْغ ِفر أنْ ي ْشرك بِ ِه﴾‪.‬‬
‫اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد األ ْصنام﴾‪.‬‬
‫السَلم‪﴿ :‬و ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال الخليل عل ْيه َّ‬
‫يث‪« :‬أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك األ ْصغر‪ ،‬فسئِل‬ ‫وفِي الح ِد ِ‬

‫ع ْنه؟ فقال‪ :‬الرياء»‪.‬‬


‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬م ْن مات‬
‫وع ْن اب ِن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫وهو ي ْدعو لِ َّل ِه نِد ًا؛ دخل النَّار» رواه البخ ِ‬
‫ار ُّي‪.‬‬
‫ولِم ْسلِ ٍم‪ :‬ع ْن جابِرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬م ْن‬
‫ل ِقي ال َّله َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل الجنَّة‪ ،‬وم ْن ل ِقيه ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل‬
‫النَّار»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫ف ِمن الش ْر ِك) يعني‪ :‬باب‬ ‫قال المصنف رمحه ال َّله‪( :‬باب الخ ْو ِ‬

‫وجوب الخوف من الشرك‪ ،‬و َذكره بعد (باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪128‬‬

‫الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬


‫اب)؛ أي‪َّ :‬‬
‫أن َِ تحقيق التوحيد ال يكون إال بالخوف من‬
‫الشرك‪.‬‬
‫وتحقيق التوحيد أيضا يكون بأمرين‪:‬‬
‫عما ي َكمل التوحيد‪.‬‬
‫األول‪ :‬بالبحث َّ‬
‫األمر َّ‬
‫ٍ‬
‫أقوال‬ ‫ٍ‬
‫أعمال أو‬ ‫عما ي ِنقص التوحيد من‬‫األمر الثاين‪ :‬بالبحث َّ‬
‫ِش ْركِ يي ٍة‪.‬‬
‫َ‬
‫فاخش من الشرك؛ فقد َيطرأ‬ ‫لذلك قال‪ :‬إذا َس َع ْي َت لتحقيق التوحيد‬
‫عليك وأنت ال َتعلم‪.‬‬
‫ف ِمن الش ْر ِك) أي‪ :‬وجوب الخوف من‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب الخ ْو ِ‬

‫الشرك؛ أي‪ :‬هذا باب الخوف من الشرك يف بيانه لخطورته‪.‬‬


‫ٍ‬
‫أحاديث‪:‬‬ ‫و َذكر المصنف رمحه ال َّله فيه آيتين وثَلثة‬
‫اآلية األولى ‪﴿( -‬إِ َّن ال َّله َّل ي ْغ ِفر أنْ ي ْشرك بِ ِه﴾) ‪ -‬ساقها؛ لبيان‬
‫عز َّ‬
‫وجل َيغضب عىل صاحبه وال َيغفر لمن َوقع‬ ‫وأن ال َّله َّ‬
‫خطر الشرك‪َّ ،‬‬
‫يف ذلك الذنب‪.‬‬
‫اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد األ ْصنام﴾) ‪ -‬ساقها؛ لبيان‬
‫اآلية الثانية ‪﴿( -‬و ْ‬
‫َّ‬
‫أنَِ األنبياء كانوا يخافون من الشرك ‪ -‬كما سيأيت ‪.-‬‬
‫‪129‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أخاف عل ْيك ْم الش ْرك‬ ‫األول ‪( -‬أ ْخوف ما‬


‫َّ‬ ‫والحديث‬
‫األ ْصغر) – ساقه لبيان َّ‬
‫أن الشرك َيدخل يف الصالحين‪ ،‬وأنَّه يجب أيضا‬
‫عىل المسلِم أن َيخاف عىل نفسه حتى الشرك األصغر وليس األكبر‬
‫فحسب‪.‬‬
‫ْ‬
‫والحديث الثاين ‪( -‬م ْن مات وهو ي ْدعو ل َّله نِد ًا؛ دخل‬
‫أن مآل المشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬دخول النَّار‪.‬‬ ‫النَّار) ‪ -‬ساقه؛ لبيان َّ‬
‫والحديث الثالث ‪( -‬م ْن ل ِقي ال َّله َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل‬
‫بأال يشرك بأي نو ٍع من‬ ‫ٌ‬
‫مشروط َّ‬ ‫الجنَّة‬
‫الجنَّة) ‪ -‬ساقه؛ لبيان أن دخول َ‬
‫أنواع الشرك‪ ،‬وسيأيت تفصيل ذلك‪.‬‬
‫والشرك ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬الشرك األكبر‪ ،‬وهو مساواة غير ال َّله بال َّله فيما هو من‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫خصائص ال َّله(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬حاشية كتاب التوحيد للشيخ عبد الرمحن بن قاسم )‪.)15/1‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪130‬‬

‫عرفه به الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬


‫تعريف آخر‪ ،‬وهو الذي َّ‬
‫ٌ‬ ‫وله‬
‫رمحه ال َّله‪« :‬وهو دعوة غيره معه»(‪ْ ،)1‬‬
‫كأن يدعو الشخص األموات أو‬
‫األحياء الغائبين أو أن يدعو ح ييا لكنَّه غير ٍ‬
‫قادر‪ ،‬كأن يدعو ح ييا يقول له‪:‬‬
‫اغفر يل ذنبي ونحو ذلك؛ فهذا الشرك األكبر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واعتقاد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وأقوال‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أعمال‪،‬‬ ‫وينقسم هذا الشرك إىل‪:‬‬
‫أعمال؛ كالطواف والنذر ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫األول‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫أقوال؛ كأن يقول‪ :‬يا رسول ال َّله أغثني‪.‬‬
‫القسم الثاين ٌ‬‫ِ‬
‫ِ‬
‫القسم الثالث اعتقاد؛ كأن يعتقد َّ‬
‫أنَِ غيره ينفع أو يضر‪ ،‬كأن يعتقد‬
‫يزر قبر الويل الفَلين فإنَّه سوف تأتيه مصيب ٌة ‪ -‬والعياذ‬
‫الشخص أنه إذا مل ْ‬
‫بال َّله ‪-‬؛ فهذا من الشرك األكبر‪.‬‬
‫هذه أقسام الشرك األكبر‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬الشرك األصغر‪ ،‬والشرك األصغر ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫رك أصغر ظاهر‪ ،‬وهذا الظاهر ينقسم إىل قِسمين‬
‫األول‪ِ :‬ش ٌ‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫أيضا‪:‬‬

‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى األول‪ ،‬األصول الثَلثة وأدلتها (ص‪.)47‬‬
‫‪131‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ظاهر باألقوال‪ :‬كالحلِف بغير ال َّله‪.‬‬


‫ٌ‬
‫ظاهر؛ يعني‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شرك أصغر‬ ‫ظاهر بالفعل‪ ،‬مثل‪ :‬تعليق التميمة؛ فهو‬
‫ٌ‬ ‫أو‬
‫نراه بأعيننا – بالبصر ‪.-‬‬
‫ظاهر ‪ ،-‬وهو َي ِسير‬
‫ٍ‬ ‫خفي ‪ -‬يعني‪ :‬غير‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫شرك أصغر ٌّ‬ ‫والقسم الثاين‪:‬‬
‫الرياء‪.‬‬
‫خفي؛ ألنَّه يف القلب‪ ،‬فما نَعلم هل الشخص َأخلص ل َّله أم مل‬
‫الرياء ٌّ‬
‫يخلص ل َّله؛ أي‪َ :‬يفعل شيئا لكي يراه الناس‪.‬‬
‫إذا‪ :‬الشرك ينقسم إىل قِسمين‪ :‬أكبر وأصغر‪.‬‬
‫واألكبر ينقسم إىل ثَلثة أقسا ٍم‪ :‬بالقول وبالفعل وبالقلب‪.‬‬
‫ظاهر نراه أو نسمعه‪ ،‬بالقول أو‬
‫ٌ‬ ‫والشرك األصغر ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫بالفعل‪ِ ،‬‬
‫والقسم الثاين ال نراه وهو الرياء‪.‬‬
‫وسبق أن تعريف الشرك األكبر‪ :‬دعوة غيره معه‪.‬‬
‫َ‬
‫نص أتى به الشرع بأنه شر ٌك لكن‬
‫وتعريف الشرك األصغر‪ :‬هو كل ٍّ‬
‫ال يصل إىل الشرك األكبر‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪132‬‬

‫يمة َف َقدْ َأ ْش َر َك »(‪،)1‬‬ ‫ِ‬


‫مثل‪ :‬قوله عليه الصَلة والسَلم‪َ « :‬م ْن َت َع َّل َق َتم َ‬
‫طلب النفع أو دفع‬ ‫ِ‬ ‫شرك؛ لكن ألنَّه ال يصل إىل الشرك األكبر يف‬ ‫ٍ‬ ‫هنا لفظ‬
‫الضر؛ فكان أصغر‪.‬‬
‫ف بِ َغ ْي ِر ال َّل ِه َف َقدْ َك َفر َأو‬
‫ومِثل‪ :‬قوله عليه الصَلة والسَلم‪َ « :‬م ْن َح َل َ‬
‫َأ ْش َر َك»(‪ ،)2‬هنا الحلِف بغير ال َّله إذا كان الشخص ح َلف بغير ال َّله؛‬
‫تعظيما لذلك الشخص‪ ،‬ال أنه ينفع أو يضر؛ فلم يصل به إىل الشرك‬
‫ٌ‬
‫شرك أصغر‪.‬‬ ‫األكبر‪ ،‬فهو‬
‫نص أتى به الشرع بلفظ الشرك ومل يصل للشرك األكبر؛‬ ‫إذا‪ُّ :‬‬
‫كل ٍّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أصغر‪.‬‬ ‫فهو‬
‫والفرق بين الشرك األكبر والشرك األصغر‪:‬‬
‫ْ‬
‫أن الشرك األكبر خطورته فيام يلي‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه يحبِط مجيع األعمال ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ قال‬ ‫األمر َّ‬
‫ين مِ ْن َق ْبلِ َك َلئِ ْن َأ ْش َرك َ‬
‫ْت َل َي ْح َب َط َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿و َل َقدْ أوح َي إِ َل ْي َك َوإِ َلى ا َّلذ َ‬
‫سبحانه‪َ :‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)17422‬من حديث عقبة بن ٍ‬


‫عامر رضي ال َّله‬
‫عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)5375‬من حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫﴿و َق ِد ْمنَا إِ َلى َما َع ِملوا مِ ْن َع َم ٍل‬


‫َع َمل َك﴾ [الزمر‪ ،]65:‬وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫ج َع ْلنَاه َه َباء َمنْثورا﴾ [الفرقان‪.]23:‬‬
‫َف َ‬
‫أن صاحبه مخ َّلدٌ يف النَّار ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ قال‬ ‫األمر الثاين‪َّ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬إِنَّه َم ْن ي ْش ِر ْك بِال َّله َف َقدْ َح َّر َم ال َّله َع َليْه َ‬
‫الجنَّة َو َم ْأ َواه النَّار َو َما‬
‫ار﴾ [المائدة‪.]72:‬‬ ‫ين مِ ْن َأن َْص ٍ‬ ‫ِ ِِ‬
‫لل َّظالم َ‬
‫الم َّلة‪ ،‬فينتقل الشخص من م َّلة اإلسَلم‬ ‫األمر الثالث‪ :‬أنه ينقل من ِ‬
‫َ‬
‫اإل ْس ََل ِم ِدينا َف َل ْن ي ْق َب َل مِنْه‬
‫﴿وم ْن َي ْب َت ِغ َغ ْير ِ‬
‫َ‬ ‫إىل غير اإلسَلم؛ قال سبحانه‪َ َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪.]85:‬‬ ‫َوه َو في اآلخ َرة م َن ال َخاس ِر َ‬
‫أ َّما الشرك األصغر‪:‬‬
‫األول‪ :‬صاحبه ال يخ َّلد يف النَّار؛ وإنَّما هو تحت الم َو َاز َنة؛‬
‫األمر َّ‬
‫أي‪ :‬يؤخذ من حسناته بقدر ذلك الذنب‪ ،‬فإن َفن ِ َيت حسناته ِزيدَ يف‬
‫الجنَّة؛ أي‪ :‬أنه ليس تحت‬
‫سيئاته‪ ،‬و َيدخل النَّار بقدْ ر ذلك‪ ،‬ثم َيدخل َ‬
‫المشيئة ككبائر الذنوب‪ ،‬مثل‪ :‬الزنا‪ ،‬والسرقة؛ فهو أعظم من كبائر‬
‫الذنوب‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪134‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬من َوقع فيه ال ينتقل من م َّلة اإلسَلم؛ وإنَّما يكون‬
‫زوج‪ ،‬و َت ُّ‬
‫حل‬ ‫مسلما ‪ -‬وإن َوقع يف الشرك األصغر ‪ ،-‬فيص َّلى عليه‪ ،‬وي َّ‬
‫ذبيحته وغير ذلك من األحكام المترتبة عىل اإلسَلم والكفر‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬الشرك األصغر ال يحبِط مجيع األعمال؛ وإنَّما يحبط‬
‫قار َنه‪ ،‬وق ْلنا العمل الصالح؛ أل َّن‬
‫َ‬ ‫العمل الصالح الذي‬
‫التميمة ‪ -‬مثَل ‪ -‬ليست عمَل صالحا‪ ،‬وإنما نقول‪ :‬يحبِط العمل‬
‫الصالح الذي قارنه‪ ،‬مثل الرياء‪.‬‬
‫أن شخصا قام يصلي فز َّين صَلته من أ ْجل الناس؛ َتبطل تلك‬
‫فلو َّ‬
‫الصَلة فحسب‪ ،‬أ َّما الحج والصيام فَل‪ ،‬ويعا َقب عىل ذلك؛ ألنه َوقع يف‬
‫الشرك‪ ،‬لكن ال يحبِط مجيع األعمال‪.‬‬
‫الجنَّة‪ ،‬وال يخ َّلد يف النَّار كصاحب‬
‫فصاحب الشرك األصغر َيدخل َ‬
‫الشرك األكبر‪.‬‬
‫وشخص‬
‫ٌ‬ ‫أن شخصا يقع ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬يف القتل والزنا‪،‬‬
‫ولو َّ‬
‫آخر يحلف بغير ال َّله؛ نقول‪ :‬شرعا الذي يزين ويسرق ويقتل؛ ُّ‬
‫أقل جرما‬
‫من الذي َيحلف بغير ال َّله‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ب إِ َل َّي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه‪َ « :‬ألَ ْن َأ ْحلِ َ‬
‫ف بِال َّله كَاذبا َأ َح ُّ‬ ‫قال ابن‬
‫ف بِ َغي ِر ِه ص ِ‬ ‫ِ‬
‫األول كبير ٌة وهو تحت المشيئة‪،‬‬ ‫ألن َّ‬ ‫ادقا»(‪)1‬؛ َّ‬ ‫م ْن َأ ْن َأ ْحلِ َ ْ َ‬
‫ٌ‬
‫شرك وال َّله ال يغفر الشرك‪.‬‬ ‫والثاين‬

‫ووجب الخوف من الشرك؛ ألن الشرك َه ْض ٌم للربوب َّية‪ ،‬وتن ُّق ٌ‬


‫ص‬ ‫َ‬
‫ظن برب العالمين سبحانه وتعاىل‪ ،‬فمن أشرك بال َّله‬
‫لأللوه يية‪ ،‬وسوء ٍّ‬
‫أضعف صفات ال َّله يف ن ْفسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫غيره‬
‫شخص بمخلوق‪ ،‬فمعناه أنه مل َير تعظيم ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫ٌ‬ ‫فمثَل‪ :‬لو َحلف‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫ص ال َّله َّ‬
‫أحق بالتعظيم؛ فهنا تن َّق َ‬
‫أنَِ غير ال َّله ُّ‬
‫وجل يف قلبه‪ ،‬فرأى َّ‬
‫َّ‬
‫وهضم ربوبيته يف قلبه‪ ،‬وأساء ال َّظ َّن برب العالمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف ألوهيته‪،‬‬
‫وطلب منه الشفاء؛ فهنا أساء‬
‫َ‬ ‫فمثَل‪ :‬لو َّ‬
‫أن شخصا لجأ إىل القبر‬
‫وجل بأنَّه ال َيملك الشفاء‪َّ ،‬‬
‫وأن الذي يملك الشفاء َمن هو‬ ‫عز َّ‬
‫الظن بال َّله َّ‬
‫موسدٌ تحت التراب‪.‬‬
‫َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪.‬‬ ‫ألن فيه طعنا بال َّله َّ‬
‫لذلك كان الشرك األكبر أمرا خطيرا؛ َّ‬

‫(‪ )1‬رواه الطبراين يف الكبير‪ ،‬رقم (‪.)8902‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪136‬‬

‫لذلك قال عليه الصَلة والسَلم « َال َأ َحدَ َأ ْص َبر َع َلى َأذى َي ْس َمعه‬
‫وجل‪ ،‬قال‪« :‬إِنَّه‬
‫َّ‬ ‫مِ َن ال َّل ِه َع َّز َو َج َّل»‪ ،‬مِن أذى؛ يعني‪َ :‬يسمعه ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫ي ْش َرك بِ ِه‪َ ،‬وي ْج َعل َله ال َو َلد‪ ،‬ث َّم ه َو ي َعافِ ِيه ْم َو َي ْرزقه ْم»(‪.)1‬‬
‫فيجب عىل المسلِم أن َيبتعد عن الشرك سواء كان األكبر أو‬
‫أعظم ٍ‬
‫ذنب يف األرض‪.‬‬ ‫األصغر‪ ،‬ويحذر غيره من الوقوع فيه‪ ،‬فهو ْ‬
‫ٍ‬
‫نفس‪ ،‬واآلخر يأيت إىل القبر يقول‪ :‬يا فَلن‬ ‫شخص أ ْلف‬
‫ٌ‬ ‫فلو َقتل‬
‫أغثني أو اشفني‪.‬‬
‫ٍ‬
‫امرأة وك ُّلهن مح ْلن منه‬ ‫نفس وزنى بألف‬ ‫نقول‪ :‬ذاك الذي قتل أ ْلف ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِس َفاحا؛ ُّ‬
‫لما سئل النبي ﷺ أ ُّي‬ ‫أقل جرما من الذي َأشرك بال َّله؛ لذلك َّ‬
‫ْب‪.‬‬‫ْب َأ ْع َظم؟ َق َال‪َ « :‬أ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا َوه َو َخ َل َق َك»(‪ )2‬هذا أعظم ذن ٍ‬
‫الذن ِ‬
‫َّ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب الصبر عىل األذى‪ ،‬رقم (‪ ،)6099‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب صفات القيامة و الجنة والنار‪ ،‬باب ال أحد أصبر عىل أذى من ال َّله عز‬
‫وجل‪ ،‬رقم (‪ ،)2803‬من حديث أبي موسى األشعري رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا‬
‫َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾‪ ،‬رقم (‪ ،)٤٤77‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب كون الشرك‬
‫أقبح الذنوب‪ ،‬وبيان أعظمها بعده‪ ،‬رقم (‪ ،)86‬من حديث ابن مسعود‬
‫‪137‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أمر يف كتاب ال َّله األمر بالتوحيد؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها النَّاس‬ ‫وأول ٍ‬ ‫َّ‬
‫ون﴾ [البقرة‪.]21:‬‬ ‫ين مِ ْن َق ْبلِك ْم َل َع َّلك ْم َتتَّق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعبدوا َر َّبكم ا َّلذي َخ َل َقك ْم َوا َّلذ َ‬
‫ْ‬
‫هني النهي عن الشرك؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف ََل َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا‬ ‫وأول ٍ‬ ‫َّ‬
‫َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾ [البقرة‪.]22:‬‬

‫وقتل من قتل من الرسل؛ ألهنم َأمروا بتوحيد ال َّله َّ‬


‫عز َّ‬
‫وجل ونَهوا‬
‫عن الشرك‪ ،‬فانظر إىل دماء األنبياء َرخصت من أجل النهي عن الشرك‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫لئَل يعصى ال َّله َّ‬
‫وإقامة التوحيد‪ ،‬فهم َفدوا أنفسهم وأرواحهم؛ َّ‬
‫ْب‪ ،‬وليحققوا أهم واجب وهو التوحيد‪.‬‬ ‫بأعظم ذن ٍ‬

‫ف ِمن الش ْر ِك) يعني‪ :‬باب وجوب الخوف‬


‫لذلك قال (باب الخ ْو ِ‬

‫من الشرك والحذر منه‪.‬‬


‫(وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ال َّله َّل ي ْغ ِفر أنْ ي ْشرك بِ ِه﴾) يعني‪ :‬لخ َطره‬
‫وعظيم جرمه؛ فال َّله ال َيغفره‪ ،‬فإذا كان هذا هو الذنب الوحيد من الذنوب‬
‫ِ‬
‫خطره‪.‬‬ ‫دل عىل عظيم‬ ‫الكثيرة الذي ال يغفر؛ َّ‬

‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪138‬‬

‫ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن‬


‫لذلك قال‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َال َي ْغ ِفر َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ‬

‫َي َشاء﴾ [النساء‪]116:‬؛ يعني‪َ :‬يغفر ما دون ذلك من الذنوب َ‬


‫لمن يشاء‪ ،‬إذا‬
‫عذبه‪ ،‬وهو العزيز الحكيم‪.‬‬ ‫وجل َّ‬‫عز َّ‬
‫شاء َغفر له وإن شاء َّ‬
‫قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إ ِ َّن ال َّله َّل ي ْغ ِفر أنْ ي ْشرك بِ ِه﴾) َيدخل فيه‬
‫الشرك األكبر‪ ،‬واألصغر‪.‬‬
‫خطير؛ يجب عىل كل مسلِ ٍم أن يخافه عىل ن ْفسه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫وألن مآل الشرك‬
‫وتحقيق الخوف بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬بالتوجه إىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬والتع ُّلق به‪ ،‬والدعاء‬
‫األمر َّ‬
‫أن ال َّله ينجيه من ذلك‪.‬‬
‫َّ‬
‫واألمر الثاين‪ :‬بالبحث يف الشرك ووسائله؛ ل َيحذرها عىل ن ْفسه‪ ،‬ومِن‬
‫ذلك‪ :‬وجوب أن َيتع َّلم كتاب التوحيد حتى يعرف الشرك ووسائل‬
‫تاب يف ذلك‪.‬‬ ‫أجمع ك ٍ‬
‫الشرك؛ ألنه ْ‬
‫عز َّ‬
‫وجل َيغفر مجيع الذنوب إال الشرك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ولعظم ذنْب الشرك؛ فال َّله َّ‬
‫خطير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أنه‬
‫‪139‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ْب َأ ْع َظم ِعنْدَ ال َّل ِه؟ قال‪:‬‬


‫الذن ِ‬‫ويف الصحيح(‪ )1‬سئل النبي ﷺ‪َ « :‬أ ُّي َّ‬
‫« َأ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا‪َ ،‬وه َو َخ َل َق َك»‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ت َكاد السماوات ي َت َف َّطر َن مِنْه و َتن َْش ُّق األَرض و َت ِ‬
‫خ ُّر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ‬
‫ال ِج َبال َهدي ا * َأ ْن َد َع ْوا ل ِ َّلر ْح َم ِن َو َلدا﴾ [مريم‪]91-90:‬؛ بسبب الشرك‪.‬‬
‫اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد‬‫السَلم‪﴿ :‬و ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثم قال‪( :‬وقال الخليل عل ْيه َّ‬
‫األ ْصنام﴾) ساق المصنف هذه اآلية؛ لبيان َّ‬
‫أن األنبياء عليهم السَلم‬
‫يخافون من الشرك‪ ،‬فإذا كان األنبياء يخافون من الشرك؛ فغير األنبياء‬
‫َأوىل و َأوىل‪.‬‬
‫كسر األصنام بيده‪ ،‬وبنى الكعبة بيده‪ ،‬وهو إمام‬
‫فإبراهيم الذي َّ‬
‫الموحدين‪ ،‬وإمام الحنفاء؛ خاف أن يقع يف الشرك؛ لذا دعا لنفسه وذريته‬
‫َّ‬
‫وجل منه‪ ،‬و َمن يأمن‬ ‫غضب ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫أن يجنبه ال َّله هذا الذنْب الذي َي َ‬
‫الشرك عىل ن ْفسه بعد إبراهيم؟!‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلى‪َ ﴿ :‬فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا‬
‫َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ،]22 :‬رقم (‪ ،)4477‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب‬
‫كون الشرك أقبح الذنوب‪ ،‬وبيان أعظمها بعده‪ ،‬رقم (‪.)86‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪140‬‬

‫وك َّلما َقوي توحيد الشخص؛ ك َّلما زاد خوفه من الشرك‪ ،‬وك َّلما‬
‫ضعف توحيد الشخص؛ ك َّلما هان يف ن ْفسه الخوف من الشرك‪.‬‬
‫وإبراهيم عليه السَلم خاف من الشرك بأمرين‪:‬‬
‫اجن ْبنِي) يعني‪ :‬يا رب اجعل‬
‫األول‪ :‬بالدعاء‪ ،‬لذلك قال‪( :‬و ْ‬
‫األمر َّ‬
‫ٍ‬
‫جانب‪ ،‬مل يقل ال أعبدها فقط؛ بل قال ال‬ ‫ٍ‬
‫جانب وأنا يف‬ ‫عبادة األصنام يف‬
‫أراها؛ وهذا من عظيم التوحيد‪.‬‬
‫مقتصرا لن ْفسه‪ ،‬وإنما ِ‬
‫لعلمه بضرره قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫وهذا الدعاء ليس‬
‫اجن ْبنِي وبن ِ َّي) يعني‪ :‬حتى أبنائي ال يعبدوهنا‪ ،‬يا رب جنبهم عبادة‬
‫(﴿و ْ‬
‫األصنام‪.‬‬
‫فخوف إبراهيم عليه السَلم بأمرين؛ األمر األول‪ :‬بالدعاء له‬
‫ْ‬
‫ولذريته‪.‬‬
‫﴿رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن‬
‫األمر الثاين‪ :‬خافه إبراهيم يف اآلية التي بعدها‪َ ،‬‬
‫الضَلل؛‬ ‫َّاس﴾ [إبراهيم‪ ،]36:‬فإذا كان األكثر من الناس عىل َّ‬ ‫كَثِيرا مِ َن الن ِ‬

‫أبعدين‬ ‫فخاف إبراهيم عىل ن ْفسه أن يكون مع أولئك الكثرة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب ِ‬

‫عنهم وال تجعلني منهم‪.‬‬


‫‪141‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فإذا كان هذا دعاء إمام الحنفاء وإمام الموحدين؛ فغيره َأحرى‬
‫و َأوىل بالخوف من الشرك‪ ،‬وأن يدعو المرء لن ْفسه بأن َيبتعد عن الشرك؛‬
‫لذلك من الدعوات التي ينبغي للمسلم أن يدعوها‪« :‬رب اجعلني من‬
‫اجعلها لك يا رب‪.‬‬ ‫عبادك المخلِصين» يعني‪ :‬اجعلني مخلِصا‪ ،‬وأعمايل ْ‬
‫اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد األ ْصنام)‪ ،‬فهذه‬ ‫ويدعو الشخص أيضا‪( :‬و ْ‬
‫عظيم‪ ،‬وال َّله يقول‪﴿ :‬أو َلئِ َك ا َّل ِذي َن َهدَ ى ال َّله‬
‫ٍ‬ ‫دعو ٌة عظيم ٌة من إما ٍم‬
‫َفبِهدَ اهم ا ْقت َِد ْه﴾ [األنعام‪ ،]90:‬فيدعو الشخص بما دعا به أولئك‪.‬‬
‫يث) يعني‪ :‬يف الحديث الذي رواه‬ ‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬وفِي الح ِد ِ‬

‫َّ‬
‫أن النبي ﷺ قال‪«( :‬أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك‬ ‫أمحد(‪)1‬‬ ‫اإلمام‬
‫ِ‬
‫خاص (باب‬
‫ٌّ‬ ‫األ ْصغر‪ ،‬فسئل ع ْنه؟ فقال‪ :‬الرياء»)‪ ،‬يأيت إن شاء ال َّله ٌ‬
‫باب‬
‫الرياء)‪ ،‬وهنا ساقه المصنف رمحه ال َّله يف باب الخوف من الشرك‪.‬‬
‫وساق المصنف هذا الحديث يف هذا الباب؛ لبيان أنَّه يجب أيضا‬
‫الخوف من الشرك األصغر‪ ،‬وليس مقتصرا عىل الشرك األكبر‪.‬‬

‫(‪ )1‬يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)23630‬من حديث محمود بن ٍ‬


‫لبيد رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪142‬‬

‫لذلك قال‪«( :‬أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك األ ْصغر) فالنبي عليه‬
‫الصَلة والسَلم خاف عىل أصحابه الرياء؛ لذلك قال يف تيسير العزيز‬
‫فدل عىل أن الرياء أخوف ما يخاف عىل الصالحين»(‪.)1‬‬ ‫الحميد‪َّ « :‬‬
‫يشم و َيتتبع قلوب الخ ْلق ويوقِع يف قلوهبم ما يفسد‬
‫والشيطان ُّ‬
‫أعمالهم الصالحة‪ ،‬أو ي ِنقصها‪.‬‬
‫حب الغش والكذب‪.‬‬
‫فمثَل‪َ :‬يذهب إىل التجار‪ ،‬و َيقذف يف قلوهبم َّ‬
‫و َيذهب – مثَل ‪ -‬إىل من ي ُّ‬
‫حب كثرة الكَلم فيلقي يف لسانه كثرة‬
‫الغيبة والنميمة‪.‬‬
‫و َيذهب إىل أولئك الزهاد الصالحين الذين ليس لهم ال يف البيع وال‬
‫يف الشراء وإنَّما هم منقطعون إىل ال َّله؛ فيفسد أعمالهم بالرياء‪.‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫لذلك قال‪«( :‬أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم) َّ‬
‫دل عىل خطورة الشرك؛ ألن‬
‫تنزل والنبي ﷺ بينهم‪.‬‬
‫النبي ﷺ خافه عىل الصحابة والوحي َي َّ‬

‫(‪ )1‬تيسير العزيز الحميد (‪.)91/1‬‬


‫‪143‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل أن الشرك ينقسم إىل قِسمين‪ :‬أصغر‪،‬‬


‫(الش ْرك األ ْصغر) َّ‬
‫وأكبر‪.‬‬
‫تقسيم من النبي ﷺ له‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فتقسيم الشرك إىل قِسمين؛‬
‫(فسئِل ع ْنه؟) أي‪ :‬عن األصغر‪( ،‬فقال‪ :‬الرياء) والرياء المراد به‪:‬‬
‫يروه الناس بأعينهم‪ ،‬و َيدخل يف ذلك ‪ -‬كما سيأيت إن شاء ال َّله يف باب‬
‫أن ْ‬
‫السمعة‪ ،‬ف َيدخل يف الشرك األصغر‪ :‬الرياء والسمعة؛ يعني‪:‬‬
‫الرياء ‪ُّ :-‬‬
‫الم َرا َءاة بالبصر يف الصَلة‪ ،‬يف طول الصَلة ونحو ذلك‪ ،‬أو بالسمع‬
‫كتحسين تَلوة القرآن وكثرة الذكر وهكذا‪.‬‬
‫ِ‬
‫مقتصرا عىل البصر فحسب كما سيأيت؛ قال النبي ﷺ‬ ‫فالرياء ليس‬
‫قال‪َ « :‬م ْن ي َرائِي ي َرائِي ال َّله بِ ِه» بالبصر‪َ « ،‬م ْن ي َسم ْع –يعني‪ :‬يريد أن الناس‬
‫يسمعوه ‪ -‬ي َسم ِع ال َّله بِ ِه»(‪.)1‬‬
‫ويف الحديث‪«( :‬أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك األ ْصغر‪ ،‬فسئِل‬
‫فدل عىل أن الشرك قد َيخفى عىل بعض الناس ِعلمه‪.‬‬ ‫ع ْنه؟ فقال‪ :‬الرياء») َّ‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب من َأشرك يف عمله غير ال َّله‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2987‬من حديث جندب العلقي‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪144‬‬

‫والرياء كما َسبق(‪ٌ )1‬‬


‫نوع من أنواع الشرك األصغر؛ فالشرك األصغر‬
‫خفي‪ ،‬وهو الرياء؛ ليراه الناس‪.‬‬
‫ظاهر بالقول والفعل‪ ،‬أو ٌّ‬
‫ٌ‬
‫والرياء مأخو ٌذ من الرؤية لكي يثني الناس عليه بعمله‪ ،‬وسمي‬
‫السوداء يف الليلة‬ ‫خف ييا؛ ألنه َأخفى من دبيب النمل عىل الصخرة َّ‬
‫الص َّماء َّ‬
‫الظلماء‪ ،‬وألنَّه قد يسري إىل القلب والمسلم ال َيشعر به ‪ -‬والعياذ‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬يسير الرياء يف تَلوة القران؛ ليمدحه الناس عليه‪،‬‬
‫لقي كلِمة؛ ليمدحه الناس عليها وهكذا‪.‬‬ ‫وكذلك ي ِ‬

‫لما أخبره النبي ﷺ أنَّه كان‬ ‫وأ َّما حديث أبي موسى األشعري َّ‬
‫يستمع إىل قراءته‪ ،‬قال‪َ « :‬ل ْو َعلِ ْمت َل َح َّب ْرته َل َك َت ْحبِيرا»(‪ )2‬ال للرياء؛ وإنما‬
‫ليستمتع النبي ﷺ بالقرآن العظيم‪.‬‬

‫ٍ‬
‫ظاهر‪ ،‬وهو‬ ‫خفي؛ يعني‪ :‬غير‬ ‫ٌ‬ ‫(‪( )1‬ص) عند قوله ( ِ‬
‫شرك أصغر ٌّ‬ ‫والقسم الثاين‪:‬‬
‫يسير الرياء)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البيهقي يف السنن‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب من َجهر هبا إذا كان من حوله ال‬
‫يتأذى بقراءته‪ ،‬رقم (‪.)4770‬‬
‫‪145‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال رمحه ال َّله‪( :‬وع ْن ا ْب ِن م ْسعودٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ‬
‫قال‪« :‬م ْن مات وهو ي ْدعو لِ َّل ِه نِد ًا؛ دخل النَّار» رواه البخ ِ‬
‫ار ُّي)‪.‬‬
‫َذكر المؤلف رمحه ال َّله هذا الحديث يف باب الخوف من الشرك؛‬
‫أن مآل المشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬إىل النَّار وال َيدخل تحت‬ ‫لبيان َّ‬
‫المشيئة‪ ،‬لذلك قال‪( :‬م ْن مات وهو ي ْدعو ل َّله نِد ًا) من األوثان واألصنام‬
‫واألولياء واألضرحة أو الصالحين ونحو ذلك؛ (دخل النَّار)‪.‬‬
‫َار َحامِ َي ٌة﴾ [القارعة‪،]11:‬‬ ‫َّ‬
‫وجل بقوله‪﴿ :‬ن ٌ‬ ‫والنَّار وصفها ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫وهي تحرق الجسد‪ ،‬فيجب عىل المسلِم أن ينقذ ن ْفسه من ذلك الوعيد‪.‬‬
‫فإذا كان ذنْب الشرك ال يغفر ويؤدي إىل النَّار؛ ف َيجب عىل المسلِم‬
‫أن يخافه عىل ن ْفسه؛ لخطورته‪ ،‬فهو الذنْب الوحيد الذي ال يغفر إال‬
‫ين َك َفروا إِ ْن َينْتَهوا ي ْغ َف ْر َله ْم َما َقدْ‬ ‫ِ ِ‬
‫بالتوبة؛ قال سبحانه‪﴿ :‬ق ْل ل َّلذ َ‬
‫َس َل َ‬
‫ف﴾ [األنفال‪.]38:‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن َمن كان ْ‬
‫مشركا ثم تاب؛ فقد‬ ‫وقوله‪( :‬م ْن مات) ُّ‬
‫ٍ‬
‫حسنات‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل بأن يبدل سيئاته إىل‬ ‫تكرم ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫وأ َّما من مات عىل الشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬فعاقبته‪:‬‬
‫إذا كان شركا أكبر فهو مخ َّلدٌ يف النَّار‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪146‬‬

‫أن ال َّله ال َيغفره‬


‫وإذا كان شركا أصغر فهو تحت الموازنة؛ أي‪َّ :‬‬
‫وإنَّما يؤخذ من حسناته بقدر ذلك الشرك األصغر‪ ،‬فإن َفنيت‬
‫حسناته ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ ألقي يف النَّار بقدْ ر ذلك الشرك األصغر؛‬
‫لعموم قوله سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َال َي ْغ ِفر َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه﴾ [النساء‪.]48:‬‬
‫كل ما يعبد من دون ال َّله؛ قال‬ ‫وقوله‪( :‬نِد ًا) الندُّ المراد به هنا‪ُّ :‬‬
‫ون ال َّل ِه َأنْدَ ادا ي ِح ُّبونَه ْم‬
‫َّخذ مِن د ِ‬
‫ْ‬
‫َّاس من يت ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿وم َن الن ِ َ ْ َ‬ ‫سبحانه‪َ :‬‬
‫كَحب ال َّل ِه﴾ [البقرة‪.[165:‬‬
‫وبعض الناس اليوم ال َيتخذ معبوداته ندي ا ‪ -‬أي‪ :‬مساوية ل َّله‬
‫ويطلب منها الشفاعة مثَل‪ ،‬أو يسألها أن تطلب من ال َّله الشفاء ‪-‬؛ وإنما‬
‫الرب‪ ،‬فيطلبون منه الشفاء‪،‬‬
‫ي‬ ‫َج َعلوا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬ذلك المعبود هو‬
‫والمغفرة‪ ،‬والتوفيق‪ ،‬والبعد عن الشر ونحو ذلك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل َخلق النَّار يف أصلها للكفار؛ كما‬ ‫قال‪( :‬دخل النَّار) وال َّله َّ‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬أ ِعدَّ ْت ل ِ ْل َكافِ ِري َن﴾ [البقرة‪ ،]24:‬و َيدخل فيها العصاة من‬
‫عز َّ‬
‫وجل أن َيغفر لهم ذنوهبم‪.‬‬ ‫المسلِمين ممن مل يرد ال َّله َّ‬‫ْ‬
‫‪147‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ثم قال‪( :‬ولِم ْسلِ ٍم‪ :‬ع ْن جابِرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪:‬‬
‫«م ْن ل ِقي ال َّله َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل الجنَّة‪ ،‬وم ْن ل ِقيه ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل‬
‫النَّار»)‪.‬‬
‫َذكر المؤلف رمحه ال َّله هذا الحديث يف باب الخوف من الشرك؛‬
‫لبيان َّ‬
‫أن مجيع أنواع الشرك سواء كانت االستغاثة‪ ،‬أو الدعاء من‬
‫دون ال َّله‪ ،‬أو الذبح لغير ال َّله‪ ،‬والنذر لغير ال َّله؛ عقوبتها الخلود يف النَّار‪.‬‬

‫قال‪( :‬ش ْيئ ًا) ُّ‬


‫أي نو ٍع من أنواع الشرك‪ ،‬حتى الشرك األصغر ال‬
‫حسنات َتحجزه‬
‫ٌ‬ ‫يغفره ال َّله عز وجل‪ ،‬ومتوعَّدٌ صاحبه بالنَّار إذا مل يكن له‬
‫عن دخول النَّار‪.‬‬
‫َّ‬
‫فدل عىل وجوب الحذر الشديد من مجيع أنواع الشرك سواء الشرك‬
‫األكبر‪ ،‬أو األصغر بنوعيه؛ الشرك بالمسموعات‪ ،‬أو الشرك يف األمور‬
‫المرئية‪ ،‬وهو الرياء‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬م ْن ل ِقي ال َّله َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا) نكر ٌة يف سياق النفي تفيد‬
‫الجنَّة إال‬
‫الجنَّة ال َيدخلها المشرك‪ ،‬فَل َيدخل َ‬
‫أن َ‬‫فدل عىل َّ‬
‫العموم‪َّ ،‬‬
‫الموحد‪ ،‬لذلك قال‪( :‬دخل الجنَّة)‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬وم ْن ل ِقيه ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا دخل النَّار) وهذا هو الشاهد‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪148‬‬

‫فدل عىل وجوب الخوف من الشرك؛ َّ‬


‫ألن هذا الذنْب يؤدي إىل‬ ‫َّ‬
‫النَّار‪ ،‬وال َيدخل تحت المشيئة‪ ،‬وال َيغفره ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فالمصنف رمحه ال َّله هبذا انتهى من باب الخوف من الشرك‪ ،‬ويجب‬
‫عىل اإلنسان أن يدعو ربه أن َيعصمه سبحانه وتعاىل من هذا الذنْب‬
‫العظيم‪ ،‬وأن يبصره بوسائله وذرائعه وينجيه منها‪.‬‬
‫***‬
‫‪149‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]٥‬‬
‫اء إِلى شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله‬
‫الدع ِ‬
‫باب ُّ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي أ ْدعو إِلى ال َّل ِه على ب ِصير ٍة‬
‫أنا وم ِن اتَّبعنِي﴾‪.‬‬
‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ ل َّام بعث معاذ ًا‬ ‫وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬
‫إِلى اليم ِن قال له‪« :‬إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬
‫اب؛ ف ْليك ْن أ َّول ما‬
‫ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه‪ :‬شهادة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله ‪ -‬وفِي ِرواي ٍة‪ :‬إِلى أنْ يوحدوا ال َّله ‪-‬‬
‫‪.‬‬
‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم خ ْمس‬
‫ات فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة‪.‬‬ ‫صلو ٍ‬

‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم صدق ًة‬
‫تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم‪.‬‬
‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فإِ َّياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم‪ ،‬وات َِّق د ْعوة‬
‫اب» أ ْخرجاه‪.‬‬ ‫الم ْظلومِ؛ فإِنَّه ل ْيس ب ْينها وب ْين ال َّل ِه ِحج ٌ‬
‫ولهام‪ :‬ع ْن سهْ ِل ْب ِن س ْع ٍد ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال ي ْوم‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪150‬‬

‫ب ال َّله ورسوله‪ ،‬وي ِ‬


‫ح ُّبه ال َّله‬ ‫َل ي ِ‬
‫ح ُّ‬ ‫الراية غد ًا رج ً‬ ‫ِ‬
‫خ ْيبر‪« :‬أل ْعطي َّن َّ‬
‫ورسوله؛ ي ْفتح ال َّله على يد ْي ِه‪.‬‬
‫فبات النَّاس يدوكون ل ْيلته ْم؛ أ ُّيه ْم ي ْعطاها‪.‬‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ‪ ،‬ك ُّله ْم ي ْرجو أنْ ي ْعطاها‪،‬‬ ‫فلام أ ْصبحوا؛ غد ْوا على رس ِ‬
‫َّ‬
‫ب؟ ف ِقيل‪ :‬هو ي ْشتكِي ع ْين ْي ِه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬أ ْين علِ ُّي ْبن أبِي طالِ ٍ‬

‫فأ ْرسلوا إِل ْي ِه‪ ،‬فأتِي بِ ِه‪ ،‬فبصق فِي ع ْين ْي ِه‪ ،‬ودعا له‪ ،‬فبرأ ح َّتى كأنْ ل ْم‬
‫سلِك ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم‪.‬‬ ‫الراية‪ ،‬وقال‪ :‬ا ْنف ْذ على ِر ْ‬
‫ِ‬
‫يك ْن بِه وج ٌع‪ ،‬فأ ْعطاه َّ‬
‫جب عل ْي ِه ْم ِم ْن حق ال َّل ِه تعالى‬ ‫سَلمِ‪ ،‬وأ ْخبِ ْره ْم بِام ي ِ‬‫ال ْ‬‫ث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ‬

‫احد ًا خ ْي ٌر لك ِم ْن ح ْمرِ النَّع ِم»‪.‬‬


‫َل و ِ‬
‫فِ ِيه‪ ،‬فوال َّل ِه! ألنْ يهْ ِدي ال َّله بِك رج ً‬
‫ق ْوله‪« :‬يدوكون» أ ْي‪ :‬يخوضون‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫اء إِلى شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) أي‪ :‬باب‬
‫الدع ِ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ُّ‬
‫أن التوحيد له‬ ‫فلما َذكَر المؤلف رمحه ال َّله َّ‬
‫وجوب الدعوة إىل التوحيد‪َّ ،‬‬
‫دخل النَّار؛ َذكر أنه‬ ‫وأن الشرك خطير وي ِ‬ ‫عظيم ويكفر الذنوب‪َّ ،‬‬ ‫فض ٌل‬
‫ْ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫دعو إىل التوحيد؛ لفضله ولخطورة ضده‪.‬‬ ‫المسلِم أن َي َ‬
‫يجب عىل ْ‬
‫و َذكر المصنف رمحه ال َّله آية وحديثين‪:‬‬
‫‪151‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األول ‪ -‬اآلية‪﴿( :‬ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي أ ْدعو إِلى ال َّل ِه‪- )..‬؛ لبيان‬
‫الن َُّّص َّ‬
‫أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪َّ ،‬‬
‫وأول ما يبدأ به هو‬ ‫َّ‬
‫الدعوة إىل ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما ‪-‬؛ لبيان أ َّن‬ ‫والن َُّّص الثاين ‪ -‬حديث ابن‬
‫َّأول ما يبدأ به هو التوحيد يف حال األ ْمن‪.‬‬
‫والن َُّّص الثالث – حديث سه ٍل رضي ال َّله عنه ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن َّأول‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن التوحيد هو َّأول‬ ‫ما يبدأ به يف حال الحرب أيضا هو التوحيد‪َّ ،‬‬
‫ما يبدأ به يف مجيع األحوال‪.‬‬
‫أن التوحيد َيعصم دم المرء وماله؛ فَل يقا َتل َمن‬
‫وكذا لبيان َّ‬
‫استجاب للتوحيد‪.‬‬
‫قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي) أي‪ :‬قل يا محمد لجميع‬
‫الناس هذه سبييل وطريقي وهنجي‪.‬‬
‫ما هو هذا الطريق؟ قال‪( :‬أ ْدعو إِلى ال َّل ِه) أي‪ :‬أدعو إىل توحيد ال َّله‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫مهم ٍة للرسل هي دعوة الناس وتعليمهم‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن أ ْعظم َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪152‬‬

‫ٍ‬
‫ويقين من ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫ٍ‬
‫برهان‬ ‫ٍ‬
‫ومعرفة وعىل‬ ‫(على ب ِصير ٍة) أي‪ :‬عىل ِع ٍ‬
‫لم‬
‫َّ‬
‫وجل ال عن جه ٍل‪.‬‬
‫(أنا وم ِن اتَّبعنِي﴾) أي‪ :‬هنْج الرسل وأتباعهم هو الدعوة إىل‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل التوحيد؟‬ ‫فإذا قيل‪ :‬ما هو الدليل عىل َّ‬
‫ان ال َّل ِه َو َما َأنَا مِ َن‬
‫نقول‪ :‬بق َّية اآلية‪َ ﴿ :‬وسبْ َح َ‬
‫ِ‬
‫ن﴾ [يوسف‪.]108:‬‬ ‫الم ْش ِركي َ‬
‫ان ال َّل ِه﴾ أي‪ :‬وننزه ال َّله عن الشرك‪ ،‬ونَحذر منه‪.‬‬
‫﴿ َوس ْب َح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يدل عىل أن المشرك ال يكون داعية إىل‬ ‫ين﴾ ُّ‬‫﴿و َما َأنَا م َن الم ْش ِرك َ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫بصيرة‪.‬‬ ‫اإلسَلم‪ ،‬فالذي يدعو إىل التوحيد هو من هداه ال َّله عىل‬
‫وجل‬ ‫المسلِم أن يبين للناس ما أ َمر ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أنَّه يجب عىل ْ‬
‫به الرسل‪ ،‬وهو إفراد ال َّله بالعبادة وتحذيرهم من الشرك‪ ،‬والداعي ال‬
‫مش ِركا‪.‬‬
‫َيصلح أن يكون ْ‬
‫فمضمون اآلية‪ :‬أنا موحدٌ وأتباعي كذلك‪ ،‬وأدعو أنا وإ َّياهم إىل‬
‫توحيد ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫َّ‬
‫فدل عىل أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل التوحيد‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شخص‪ :‬لماذا تدعون إىل التوحيد؟‬


‫ٌ‬ ‫فإذا قال لك‬
‫نقول‪ :‬ألنه هنْج األنبياء‪.‬‬
‫فإذا قال‪ :‬ما هو الدليل؟‬
‫نقول‪ :‬هذه اآلية‪﴿( :‬ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي أ ْدعو إِلى ال َّل ِه على ب ِصير ٍة أنا‬
‫﴿وما َأرس ْلنَا مِ ْن َق ْبلِ َك مِ ْن رس ٍ‬
‫ول إِ َّال‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وم ِن اتَّبعني﴾)‪ ،‬وقال سبحانه‪َ ْ َ َ :‬‬
‫ون﴾ [األنبياء‪.]25:‬‬ ‫اعبد ِ‬ ‫وحي إِ َل ْي ِه َأنَّه َال إِ َل َه إِ َّال َأنَا َف ْ‬
‫ن ِ‬

‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ ل َّام‬ ‫ثم قال‪( :‬وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬

‫اب؛ ف ْليك ْن‬ ‫بعث معاذ ًا إِلى اليم ِن قال له‪« :‬إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬

‫أ َّول ما ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه‪ :‬شهادة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله ‪ -‬وفِي ِرواي ٍة‪ :‬إِلى أنْ‬
‫يوحدوا ال َّله ‪.-‬‬
‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم خ ْمس‬
‫ات فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة‪.‬‬ ‫صلو ٍ‬

‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم صدق ًة‬
‫تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم‪.‬‬
‫فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فإِ َّياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم‪ ،‬وات َِّق د ْعوة‬
‫اب» أ ْخرجاه)‪.‬‬ ‫الم ْظلومِ؛ فإِنَّه ل ْيس ب ْينها وب ْين ال َّل ِه ِحج ٌ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪154‬‬

‫(ل َّام بعث معاذ ًا إِلى اليم ِن)‪ ،‬وكان ذلك يف َّ‬
‫السنَة العاشرة؛ معلما‬
‫وقاضيا لهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مكان‬ ‫فإذا قيل‪ :‬كيف َيخرج من المكان الفاضل وهو المدينة إىل‬
‫وألن النبي ﷺ قال‪َ « :‬ال‬ ‫َّ‬ ‫مفضول وهو اليمن‪ ،‬كما يف هذا الحديث‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ف ال َّله فِ َيها َخ ْيرا‬


‫َي ْخرج مِنْه ْم َأ َحدٌ َر ْغ َبة َعن َْها» أي‪ :‬المدينة؛ «إِ َّال َأ ْخ َل َ‬
‫مِنْه»(‪)1‬؟!‬
‫عز َّ‬
‫وجل فيه؛ يكون‬ ‫ٍ‬
‫مكان هو أتقى ل َّله َّ‬ ‫نقول‪ :‬إذا كان الشخص يف‬
‫فيه حتى لو كان المكان الذي يخرج منه فاضَل‪.‬‬
‫وإذا كانت المصلحة متعدي ٌة؛ فاألفضل أن يخرج من المكان‬
‫الفاضل إىل المكان المفضول؛ لذلك َبعث النبي عليه الصَلة والسَلم‬
‫ٍ‬
‫عظيمة وهي‬ ‫ٍ‬
‫لمصلحة‬ ‫معاذا رضي ال َّله عنه إىل خارج المدينة‪ ،‬لكن‬
‫ابن مسعود رضي ال َّله عنه ليعلم‬
‫الدعوة إىل هذا الدين‪ ،‬وكذا َبعث َ‬
‫الناس‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب المدينة تنفي شرارها‪ ،‬رقم (‪ ،)1381‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪155‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فيدل عىل مشروعية ب ْعث الدعاة إىل األمصار؛ لتعليم الناس الدين‪.‬‬‫ُّ‬
‫أن البلدان تتفاوت من حيث ِ‬
‫العلم‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫يقل فيها ِ‬
‫العلم‬ ‫التفاوت قد ينتقل؛ فقد تكون بلد ٌة فيها ِعلم ويف ٍ‬
‫قرن آخر ُّ‬ ‫ٌ‬
‫العلم يف مكا ٍن أو يف َن َس ٍ‬
‫ب‬ ‫وهكذا‪ ،‬وهذا من فضل ال َّله؛ لئَل يكون ِ‬
‫ٍ‬
‫واحد؛ وإنَّما يتنقل‪.‬‬
‫وجل هو أ ْعلم بالقلوب فيما يستحق التشريف ِ‬
‫بالعلم‪.‬‬ ‫عز َّ‬ ‫وال َّله َّ‬
‫وقوله‪( :‬إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬
‫اب) يعني‪ :‬أعطاه النبي ﷺ‬
‫لتوطِ َئتِه عىل َمن سيدعو‪.‬‬
‫خبرا؛ ْ‬
‫لذلك النبي عليه الصَلة والسَلم َأخبره ما هو األمر الذي يحتاجه‬
‫أهل اليمن هناك؛ يعني‪ :‬ستأتيهم فخذ األ ْهبة يف ِ‬
‫العلم‪ ،‬ويف استحضار‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫الحجج‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫أهل‬ ‫ٍ‬
‫مكان؛ عليه أن َيعلم ما هي طبيعة ْ‬ ‫ف ُّ‬
‫يدل عىل أن من بعث إىل‬
‫ذلك البلد‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ويدل أيضا عىل أن اإلنسان َيستعدُّ للدرس‪ ،‬وللمحاضرة‪،‬‬
‫وللدعوة قبل أن يأيت المدعوين؛ وهذا من سنن المصطفى ﷺ‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪156‬‬

‫ويدل عىل أن الداعية َيجب أن يكون ذا ِع ٍ‬


‫لم بعقيدة اليهود‬ ‫ُّ‬
‫والنصارى إذا كان سيدعو عندهم‪.‬‬
‫اب) َّ‬
‫فدل عىل أن‬ ‫(م ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬
‫اب) هنا قال‪ِ :‬‬
‫قوله‪ِ ( :‬م ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬

‫أهل الكِتاب‬
‫لم‪ ،‬فهنا ْ‬ ‫ِ‬
‫وجل قد َيخفى عىل من كان عنده ع ٌ‬ ‫عز َّ‬ ‫توحيد ال َّله َّ‬
‫خاصة اليهود ‪ ،-‬ومع ذلك َيخفى عليهم أو َيستكبرون‬ ‫لم ‪ -‬ي‬ ‫أصحاب ِع ٍ‬
‫عن االنقياد للتوحيد‪.‬‬
‫لم‬ ‫ِ‬
‫كتاب وع ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اب) عندهم‬ ‫لذلك قال‪( :‬إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ‬
‫ومع ذلك قال‪( :‬ف ْليك ْن أ َّول ما ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه) ُّ‬
‫يدل عىل أن الداعية َّأول ما‬
‫مكان ‪ -‬سواء كان فيه موحدون أم ال ‪-‬؛ هو‬ ‫ٍ‬ ‫يبدأ يف الدعوة يف أي‬
‫توحيد ال َّله‪.‬‬
‫َّرون به لترسيخ عقيدة التوحيد يف‬ ‫فإذا كان أهله موحدين؛ فيذك َ‬
‫ين آ َمنوا آمِنوا بِال َّل ِه﴾ ]النساء‪]13 :‬؛ يعني‪:‬‬ ‫ِ‬
‫قلوهبم؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ا َّلذ َ‬
‫زيدوا يف اإليمان‪.‬‬
‫رك؛ فذلك لتحذيرهم‪.‬‬ ‫المدعوون فيهم ِش ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫وإذا كان‬
‫وقوله‪( :‬شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) يعني‪ :‬تعليم الشهادة‪ ،‬ودعوهتم إىل‬
‫مما يناقضها؛ ألنَّهم َيجهلوهنا‪.‬‬
‫العمل بمعناها وتحذيرهم َّ‬
‫‪157‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن َّأول ما يدعى إليه هو التوحيد يف حال األ ْمن‬ ‫َّ‬
‫وكذا ‪ -‬كما سيأيت ‪ -‬يف حال الحرب‪.‬‬
‫حرب أو ٍ‬
‫أمن؛ أي‪ :‬يف مجيع األحوال‬ ‫ٍ‬ ‫وال يخلو حال الناس من حال‬
‫َّأول ما يبدأ به هو التوحيد‪.‬‬
‫(شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) ُّ‬
‫يدل عىل أن اإلنسان َيدخل يف اإلسَلم هبذه‬
‫دخله يف اإلسَلم سوى هذه الكلمة‪ ،‬فلو قال مثَل‪ :‬ال َّله‬ ‫الكلمة‪ ،‬وال ي ِ‬

‫عما سوى ال َّله وإثباهتا له‬ ‫ِ‬


‫مسلما‪ ،‬فَل بد من ن ْفي األلوهية َّ‬
‫أكبر؛ فَل يعدُّ ْ‬
‫سبحانه وحده‪.‬‬
‫لمسلم (إِلى أنْ يوحدوا ال َّله) يعني‪ :‬تفسير‬
‫ٍ‬ ‫قال‪( :‬وفِي ِرواي ٍة) أي‪:‬‬
‫الشهادة‪ :‬هي الدعوة إىل توحيد ال َّله‪ ،‬فالشهادة هي عَلمة ِ‬
‫وسمة التوحيد‪،‬‬
‫فشعار التوحيد هو ال إله إال ال َّله‪.‬‬
‫فَل يعلم توحيد الشخص الذي يف القلب مِن ِ‬
‫غيره؛ إال بإظهار هذه‬
‫العَلمة وهي كلمة الشهادة (ال إله إال ال َّله)‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫وقوله‪( :‬فإِنْ ه ْم أطاعوك لذلك) يعني‪ :‬فإن استجابوا َّ‬
‫ووحدوا ال َّله‬
‫وجل؛ ْفأم ْرهم بالصلوات الخمس‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪158‬‬

‫تدرج يف تعليم الناس‪ ،‬وأيضا يف إبعادهم عن‬ ‫يدل عىل َّ‬


‫أن الداعية َي َّ‬ ‫ُّ‬
‫بالتدرج‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫المنكرات يكون‬
‫وإذا نَزل شخص ٍ‬
‫ببلد فيه من َك ٌ‬
‫رات متعددةٌ؛ قال شيخ اإلسَلم‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫بالتدرج وال َيلزم منه ‪ -‬وإن كان متوليا عىل المشركين ‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫«فالشريعة أتت‬
‫واستدل رمحه ال َّله بقصة‬
‫َّ‬ ‫؛ أن يأمرهم دفعة واحدة بتطبيق اإلسَلم»‪،‬‬
‫النجاشي؛ قال‪« :‬فهو يف أرض نصارى ومل يطبق مجيع أحكام‬

‫الشريعة»(‪ ،)1‬فإذا كان المرء واليا أو داعيا؛ َّ‬


‫يتدرج يف تطبيق الشريعة‪،‬‬
‫لكن َّأول ما َيبدأ به هو التوحيد‪.‬‬
‫ويدل أيضا عىل أنَّهم إن مل يوحدوا ال َّله؛ ال تدعوهم إىل بقية‬
‫ُّ‬
‫الطاعات؛ َّ‬
‫ألن الطاعات ال تنفع مع الشرك‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬إذا ما استجابوا يل يف التوحيد‪ ،‬يعني‪ :‬ال آمرهم بالصَلة‬
‫والزكاة؟‬
‫استمر عىل دعوهتم للتوحيد؛ لذلك قال‪( :‬فإِنْ‬ ‫ي‬ ‫نقول‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن‬
‫ه ْم أطاعوك لِذلِك)‪ ،‬لكن فإن َع َص ْو َك ال تنتقل لتعليم الصَلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)218/19‬‬


‫‪159‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقوله‪( :‬فأ ْعلِمهم أ َّن ال َّله ا ْفترض علي ِهم خمس صلو ٍ‬
‫ات) يعني‪:‬‬ ‫ْ ْ ْ‬ ‫ْ ْ‬
‫وجل؛ ْفأمرهم بالصلوات الخمس‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫ووحدوا ال َّله َّ‬
‫فإن استجابوا َّ‬
‫َت‬ ‫فرض؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن َّ‬
‫الص ََل َة كَان ْ‬ ‫يدل عىل أن الصلوات ٌ‬ ‫ف ُّ‬
‫ين كِتَابا َم ْوقوتا﴾ [النساء‪.]103:‬‬ ‫ِِ‬
‫َع َلى الم ْؤمن َ‬
‫الخمس ليست‬ ‫يدل عىل أن الصلوات َ‬ ‫وقوله‪( :‬فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة) ُّ‬
‫فضل ال َّله أنَّها يف الليل والنهار؛‬‫يف النهار فقط وال يف الليل فقط‪ ،‬وهذا من ْ‬
‫حتى يكون المسلِم مت َِّصَل بال َّله يف ليله وهناره‪.‬‬
‫وجل ْ‬
‫أن َفرض تلك الصلوات؛ لتكون صلة‬ ‫عز َّ‬
‫فضل ال َّله َّ‬
‫ومن ْ‬
‫العبد بربه قوية‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل الصلوات من بين شعائر اإلسَلم بخصائص‬ ‫وخص ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫ال توجد يف غيرها‪.‬‬
‫فَل يوجد شعير ٌة لها ٌ‬
‫أذان سوى الصَلة‪.‬‬
‫وال تفعل عباد ٌة خ ْلف رج ٍل إال الصَلة‪.‬‬
‫وشرعت يف السماء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واسطة‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل فيها النبي عليه الصَلة والسَلم من غير‬ ‫وك َّلم ال َّله َّ‬
‫ولعظمتها كانت مخسين صَلة ثم خف َفت‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪160‬‬

‫والغني والفقير‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫والحر‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ويؤمر هبا الذكر واألنثى‪ ،‬والعبد‬
‫وال يعذر منها َّإال المجنون‪ ،‬والحائض والنُّ َف َساء وحسب‪.‬‬
‫وملْ َيتخ َّلف النبي عليه الصَلة والسَلم يوما مِن غير ٍ‬
‫عذر عن أداء‬
‫ِ‬
‫مرضه عليه الصَلة والسَلم‪،‬‬ ‫صَلة الجماعة؛ فلم يتخ َّلف إال يف حال‬
‫فحتى يف السفر يصليها‪.‬‬
‫فدل عىل أمهية الصَلة ووجوهبا مجاعة يف بيوت ال َّله عز وجل؛ كما‬ ‫َّ‬
‫وت َأ ِذ َن ال َّله َأ ْن ت ْر َف َع َوي ْذك ََر فِ َيها‬
‫قال عز وجل‪﴿ :‬فِي بي ٍ‬

‫اسمه﴾ [النور‪.]36:‬‬
‫ْ‬
‫بضرب الصغير سوى الصَلة‪،‬‬
‫وال توجد هناك شعير ٌة فيها األمر ْ‬
‫وجل‪.‬‬ ‫عز َّ‬ ‫يدل عىل ع َظمة شأهنا وأمهيتها عند ال َّله َّ‬
‫مما ُّ‬
‫َّ‬
‫قال‪( :‬فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم‬
‫صدق ًة) والمراد بذلك‪ :‬يعني الزكاة المفروضة‪.‬‬
‫لتدرج‪ :‬الشهادة ثم الصَلة ثم الزكاة‪.‬‬ ‫يدل عىل ا ُّ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫(تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم) يعني‪ :‬فيما تتو َّفر فيه شروط‬
‫أداء الزكاة‪.‬‬
‫حق يف ِ‬
‫مال الغني؛ أل َّنَِ المال مال ال َّله‪.‬‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫أن الفقير له ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫‪161‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن الزكاة األفضل َّأال تنقل من‬ ‫و َأ َخذ بعض أهل العلم(‪ )1‬من هذا َّ‬
‫البلد الذي فيه المال‪( ،‬تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم)‪ ،‬هذا‬
‫لمصلحة؛ فَل بأس‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫األفضل لكن لو نقلت‬
‫قال‪( :‬فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك ف َّإياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم) يعني‪ :‬إذا أ يدوا‬
‫الزكاة لك فَل تأخذ أن َفس ما عندهم من الزكاة‪ ،‬مِثل‪ :‬من هبيمة األنعام ال‬
‫يؤخذ مثَل الشاة الكبيرة السمينة وال البخيسة يف الثمن؛ وإنما يؤخذ‬
‫الوسط‪( ،‬ف َّإياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم) يعني‪ :‬األن َفس من أموالهم سواء من‬
‫هبيمة األنعام أو غيرها‪ ،‬كذلك مثَل يف زكاة التمر ال يؤخذ أن َفس ما فيه‬
‫وإنَّما المتوسط‪.‬‬
‫وهذا من عدْ ل اإلسَلم؛ فإنَّه ال يريد اإلضرار بالغني‪ ،‬وإنَّما يريد‬
‫تطهير مال الغني ون ْفع الفقير‪.‬‬
‫قال‪( :‬وات َِّق د ْعوة الم ْظلو ِم)؛ ألنَّه َذهب هناك قاضيا‪ ،‬فقال‪( :‬وات َِّق‬
‫د ْعوة الم ْظلومِ) اجعل بينك وبين هذه الدعوة وقاية؛ وهي العدل‪ ،‬وعدم‬
‫التسرع يف الحكم‪.‬‬
‫ُّ‬

‫(‪ )1‬وهم الحنف َّية‪ .‬تبيين الحقائق للزيلعي (‪)305/1‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪162‬‬

‫و(د ْعوة الم ْظلومِ) ليس ي‬


‫خاصا بمن يتقاضى أو بمن يؤخذ ح ُّقه قهرا‬
‫ونحو ذلك؛ وإنَّما هذا عا ٌّم يف كل مظلو ٍم سواء من قِبل األجير مع‬
‫مؤجره‪ ،‬أو من قِبل الزوج مع زوجته إذا َظلمها‪ ،‬أو الزوجة يف ظلم‬
‫أبنائها‪ ،‬أو يف ظلم األفراد بعضهم بعضا وهكذا‪.‬‬
‫سبب لهَلك الظامل‬
‫ٌ‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫أنَِ المظلوم‬ ‫عظيم‪ ،‬ف ُّ‬
‫ٌ‬ ‫وهذا الحديث‬
‫أخذ ماله من البهائم يف الزكاة وغيرها‪.‬‬ ‫سواء يف ْ‬
‫نبوي ب َّ‬
‫أنَِ دعوة‬ ‫ٌّ‬ ‫وعدٌ‬ ‫قال‪( :‬فإِنَّه ل ْيس ب ْينها وب ْين ال َّل ِه ِحج ٌ‬
‫اب) وهذا ْ‬
‫المظلوم مستجاب ٌة حتى ولو كان المظلوم كافرا؛ فتستجاب دعوته‪.‬‬
‫وجل الظامل ولو مل يدع المظلوم عليه‪ ،‬كما يف‬ ‫عز َّ‬ ‫وقد يعذب ال َّله َّ‬
‫ف مِ ْن َرب َك َوه ْم‬
‫اف َع َل ْي َها َطائِ ٌ‬
‫قصة البستان يف سورة القلم‪َ ﴿ :‬ف َط َ‬
‫لما مهُّوا بظلم الفقراء‬ ‫يم﴾ [القلم‪َّ ،]20-19:‬‬ ‫َالص ِر ِ‬ ‫نَائِم َ‬
‫ون * َف َأ ْص َب َح ْت ك َّ‬
‫بمنْع حقهم؛ أتاهم العذاب‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل يستجيب دعوة المظلوم الكافر؛ ألنَّه‬ ‫أنَِ ال َّله َّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫ف ُّ‬
‫ٍ‬
‫كتاب‪ ،‬لذلك الكافر يستجيب ال َّله دعاءه إذا كان مظلوما أو‬ ‫َبعثه إىل أهل‬
‫ك‬‫المشرك المكروب‪َ ﴿ :‬فإِ َذا ركِبوا فِي الف ْل ِ‬
‫ِ‬ ‫مكروبا؛ قال سبحانه عن‬
‫َ‬
‫‪163‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫َد َعوا ال َّل َه م ْخلِصي َن َله الد َ‬
‫ين َف َل َّما ن ََّجاه ْم﴾ [العنكبوت‪[65:‬؛ يعني‪:‬‬

‫استجاب ال َّله دعاءهم َّ‬


‫ونجاهم‪.‬‬
‫ويدل عىل سرعة إجابة ال َّله للمظلوم؛ قال ابن عقي ٍل(‪ )1‬رمحه ال َّله‪:‬‬
‫ُّ‬
‫بسرعة»(‪.)2‬‬‫ٍ‬ ‫«يستجاب للمظلوم‬
‫والشاهد من هذا الحديث‪( :‬ف ْليك ْن أ َّول ما ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه‪ :‬شهاد ِة أ ََّّل‬
‫حل يف ٍ‬
‫بلد؛ أول ما يتكلم به يف توحيد ال َّله سبحانه‬ ‫إِله إِ ََّّل ال َّله)‪َ ،‬‬
‫فمن َّ‬
‫وتعاىل‪ ،‬وأركان اإليمان واإلسَلم‪ ،‬وهذا خير ما َيتكلم به؛ فهو من أصول‬
‫الدين‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ولهام‪ :‬ع ْن سهْ ِل ْب ِن س ْع ٍد ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن‬
‫ب ال َّله‬ ‫َل ي ِ‬‫الراية غد ًا رج ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ح ُّ‬ ‫رسول ال َّله ﷺ قال ي ْوم خ ْيبر‪« :‬أل ْعطي َّن َّ‬
‫ح ُّبه ال َّله ورسوله؛ ي ْفتح ال َّله على يد ْي ِه‪.‬‬
‫ورسوله‪ ،‬وي ِ‬

‫فبات النَّاس يدوكون ل ْيلته ْم؛ أ ُّيه ْم ي ْعطاها‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪َ :‬أبو الوفاء عيل ْبن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي‪ ،‬ولد‬
‫سنة (‪432‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪513‬هـ)‪ .‬طبقات الحنابلة ألبي‬
‫يعىل (‪.)259/2‬‬
‫(‪ )2‬الفنون البن عقيل (‪.)750/2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪164‬‬

‫ول ال َّل ِه ﷺ‪ ،‬ك ُّله ْم ي ْرجو أنْ ي ْعطاها‪،‬‬ ‫فلام أ ْصبحوا؛ غد ْوا على رس ِ‬
‫َّ‬
‫ب؟ ف ِقيل‪ :‬هو ي ْشتكِي ع ْين ْي ِه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬أ ْين علِ ُّي ْبن أبِي طالِ ٍ‬

‫فأ ْرسلوا إِل ْي ِه‪ ،‬فأتِي بِ ِه‪ ،‬فبصق فِي ع ْين ْي ِه‪ ،‬ودعا له‪ ،‬فبرأ ح َّتى كأنْ ل ْم‬
‫سلِك ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم‪.‬‬ ‫الراية‪ ،‬وقال‪ :‬ا ْنف ْذ على ِر ْ‬
‫ِ‬
‫يك ْن بِه وج ٌع‪ ،‬فأ ْعطاه َّ‬
‫جب عل ْي ِه ْم ِم ْن حق ال َّل ِه تعالى‬ ‫سَلمِ‪ ،‬وأ ْخبِ ْره ْم بِام ي ِ‬‫ال ْ‬‫ث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ‬

‫احد ًا خ ْي ٌر لك ِم ْن ح ْمرِ النَّع ِم»‪.‬‬


‫َل و ِ‬
‫فِ ِيه‪ ،‬فوال َّل ِه! ألنْ يهْ ِدي ال َّله بِك رج ً‬
‫ق ْوله‪« :‬يدوكون» أ ْي‪ :‬يخوضون)‪.‬‬
‫لما ذكر َّ‬
‫أنَِ َّأول ما يدعى إليه يف حال األمن هو التوحيد؛ أعقبه‬ ‫هنا َّ‬
‫بعد ذلك بحديث سه ٍل رضي ال َّله عنه أنَّه حتى يف حال الحرب َّأول ما‬
‫‪.‬‬ ‫ندعو الكفار إليه قبل قتالهم‪ :‬التوحيد؛ َّ‬
‫فدل عىل أمهية هذا األمر‬
‫و َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث العظيم يف باب الدعاء إىل‬
‫أن ِ‬
‫الحكمة من الجهاد هو قتال من صدَّ‬ ‫شهادة أن ال إله إال ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫فدل عىل أمهية التوحيد إذ ف ِر َض الجهاد من‬
‫عن الدعوة إىل التوحيد‪َّ ،‬‬
‫أجله‪.‬‬
‫ْ‬
‫قوله‪( :‬ولهام) أي‪ :‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال‪( :‬أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال ي ْوم خ ْيبر)‪ ،‬وهي مدين ٌة تقع شمال‬
‫المدينة المنورة قرابة مئة ومخسين (‪ )150‬كيلو‪.‬‬
‫ٍ‬
‫قماش يف الغالب‪َ ،‬يرفعها ُّ‬
‫كل‬ ‫الراية) هي قطع ٌة من‬ ‫ِ‬
‫الراية) ( َّ‬
‫(أل ْعطي َّن َّ‬
‫ٍ‬
‫جيش؛ أمارة عىل وجود القائد فيه‪ ،‬فإذا سقطت الراية فهو أمار ٌة عىل‬
‫هزيمة ذلك الجيش؛ لذلك كانوا ال يعطون الراية إال رجَل شجاعا؛ لئَل‬
‫تسقط منه الراية خشية العدو أو لضعفه‪.‬‬
‫وكانت راية النبي عليه الصَلة والسَلم يف القتال سوداء‪ ،‬ول ِ َواؤه‬
‫لونه أبيض‪ ،‬الراية لعموم الجيش‪ ،‬يحملها أشجعهم‪ ،‬واللواء يوضع عند‬
‫النبي عليه الصَلة والسَلم؛ يعني‪ :‬هذا مكان النبي عليه الصَلة والسَلم‬
‫يف القتال‪.‬‬
‫يدل عىل شجاعة عيل رضي ال َّله عنه‪ ،‬فالنبي عليه الصَلة‬ ‫وهذا ُّ‬
‫ب ال َّله ورسوله‪ ،‬وي ِ‬
‫ح ُّبه ال َّله‬ ‫َل ي ِ‬
‫ح ُّ‬ ‫الراية غد ًا رج ً‬ ‫ِ‬
‫والسَلم قال‪( :‬أل ْعطي َّن َّ‬
‫ورسوله) يعني‪ :‬أعطيه راية الجيش‪.‬‬
‫(غد ًا) هو اليوم المستقبل الذي ييل يومك‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪166‬‬

‫ِ‬ ‫َل ي ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫أنَِ ال َّله يح ُّ‬
‫ب وي َح ُّ‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫ب ال َّله ورسوله) هذا ُّ‬
‫ح ُّ‬ ‫(رج ً‬
‫تدل عىل ِصدق اإليمان يف القلب‪ ،‬و َّ‬
‫أنَِ المحبة التي‬ ‫وهذه منقب ٌة عظيم ٌة ُّ‬
‫يف القلب قد َقبِ َلها ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫يحب ال َّله ورسوله‪ ،‬وال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫ُّ‬ ‫يعني‪ :‬هذا المؤمن الذي سأعطيه‬
‫َّ‬
‫وجل أيضا يح ُّبه‪ ،‬ورسوله يح ُّبه‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل ومحبة رسوله؛ وإنَّما‬ ‫وليس الشأن يف ادعاء محبة ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫وجل يح ُّبك‪ ،‬فاإلنسان َيسعى بالطاعات؛‬ ‫الفخر إذا كان ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫ليح ُّبه ال َّله عز وجل‪ ،‬و َمن أح َّبه ال َّله؛ رضي عنه و َأدخله جنَّاته‪.‬‬
‫ب ل َّله وللرسول يكون ِبفعل األوامر واجتناب النواهي؛ كما‬ ‫والح ُّ‬
‫ون ال َّل َه َفا َّتبِعونِي ي ْحبِ ْبكم ال َّله َو َي ْغ ِف ْر َلك ْم‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬ق ْل إِ ْن كنْت ْم ت ِح ُّب َ‬
‫ِ‬
‫يم﴾ [آل عمران‪.]31:‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ذنو َبك ْم َوال َّله َغف ٌ‬
‫فدل عىل‬ ‫ح ُّبه ال َّله ورسوله) َّ‬ ‫والمنقبة العظيمة أيضا يف قوله‪( :‬وي ِ‬

‫إثبات صفة المح َّبة ل َّله سبحانه وتعاىل؛ كما يليق بجَلله وعظمته‪ ،‬وال‬
‫يجوز تأويلها بنزول الخير أو الرمحة ونحو ذلك‪.‬‬
‫ب المؤمنين بَل ٍّ‬
‫شك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫(ورسوله) ُّ‬
‫يدل أيضا عىل أن النبي ﷺ يح َّ‬
‫‪167‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقوله‪( :‬ي ْفتح ال َّله على يد ْي ِه) أي‪َ :‬يفتح حصون خيبر ويكون النصر‬
‫عىل يديه؛ وهذا َعلم من أعَلم النبوة‪ِ ،‬‬
‫ففيه بيان َّ‬
‫أنَِ فتْح خيبر سيكون يوم‬ ‫ٌ‬
‫وحصل ما َأخبر به النبي ﷺ‪ ،‬ففتحت خيبر عىل يدي النبي ﷺ‬ ‫ٍ‬
‫غد‪َ ،‬‬
‫عيل رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫والراية بيد ٍّ‬
‫صحابي َيتمنَّى بأن‬
‫ٍّ‬ ‫(فبات النَّاس) يعني‪ :‬مل يناموا تلك الليلة‪ُّ ،‬‬
‫كل‬
‫ينال تلك المنقبة؛ وهي صدْ ق اإليمان بالمحبة ل َّله وللرسول ﷺ‪ ،‬وأيضا‬
‫َ‬
‫ب ال َّله ورسوله له‪.‬‬
‫ح ُّ‬
‫تحركون‬
‫(يدوكون ل ْيلته ْم‪ ،‬أ ُّيه ْم ي ْعطاها) يعني‪ :‬يخوضون و َي َّ‬
‫و َيلتفتون يمينا وشماال َمن الذي سيعطيه النبي ﷺ تلك البشارة العظيمة‬
‫أ ُّيهم يعطى هذه الراية‪.‬‬
‫وهنا بشروا ببشارتين‪:‬‬
‫يحب ال َّله ورسوله وال َّله يح ُّبه‬
‫ُّ‬ ‫البشارة األولى‪َّ :‬‬
‫بأن ذلك الرجل‬
‫ورسوله؛ وهذه بشار ٌة دين َّي ٌة‪.‬‬
‫أنَِ ِ‬
‫الحصن سيفتح‪.‬‬ ‫البشارة الثانية‪ :‬دينية ودنيوية وهي َّ‬
‫عظيم‪ ،‬وهو أن ال َّله يح ُّبه وهو‬
‫ٌ‬ ‫األول‬
‫فخوض الصحابة يف األمر َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أنَِ الصحابة يتنافسون يف األمر الفاضل إذا كان‬ ‫يحب ال َّله؛ َّ‬
‫ُّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪168‬‬

‫هناك مفضوال‪ ،‬فلم يفرحوا ويتك َّلموا بفتْح ِ‬


‫الحصن‪ ،‬وإنما َتك َّلموا بتلك‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لشخص مع َّي ٍن؛ أ َّما فتْح‬
‫ٍ‬ ‫خاص ٌة‬ ‫المنقبة العظيمة‪ ،‬لماذا؟ َّ‬
‫ألن تلك المنقبة َّ‬
‫الخاصة التي‬ ‫الحصن لجميع المؤمنين‪ ،‬فهم َينظرون إىل المنقبة‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫سيعطاها ذلك الرجل‪.‬‬
‫فلما‬ ‫ويدل عىل َّ‬
‫أن الشخص عليه أن يبادر إىل المنافسة يف الخيرات‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫قال النبي عليه الصَلة والسَلم ذلك ما تكاسلوا؛ بل َسعى ُّ‬
‫كل‬
‫منهم أن ينال تلك المن َق َبة‪.‬‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ) يعني‪ :‬طِوال الليل ُّ‬
‫وكل‬ ‫(فلام أ ْصبحوا؛ غد ْوا على رس ِ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم يريد أن ينال ذلك الفضل العظيم‪.‬‬
‫يدل عىل ِحرص الصحابة عىل الخير ومسابقتهم إليه‪.‬‬
‫وهذا ُّ‬
‫ويدل عىل س ْعي الصحابة رضي ال َّله عنهم لكل ما يح ُّبه ال َّله‬
‫ُّ‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ قرابة اثنين‬ ‫وعمره‬
‫ْ‬ ‫(فقال‪ :‬أ ْين علِ ُّي ْبن أبِي طالِ ٍ‬
‫ب؟)‪،‬‬
‫وعشرين (‪ )22‬عاما لكنَّه كان شجاعا‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫(فقيل‪ :‬هو ي ْشتكي ع ْين ْيه) من َّ‬
‫الر َمد فما يستطيع أن يأيت‪ ،‬لعل‬
‫ألن عل ييا رضي ال َّله عنه يف عينيه‬
‫النبي ﷺ يعطي أحد الحاضرين الراية؛ َّ‬
‫مرض‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وقوله‪( :‬ي ْشتكِي ع ْين ْي ِه) ُّ‬
‫يدل عىل ِح ْرص الصحابة رضي ال َّله عنهم‬
‫عىل صحبة النبي ﷺ يف جهاده ويف سفره حتى ولو كانوا مرضى‪ ،‬فهذا‬
‫بالر َمد ومع ذلك َخرج مع النبي ﷺ‪.‬‬ ‫عيل أصيب َّ‬
‫ٌّ‬
‫فأرسلوا إِ َلي ِه»(‪)1‬؛ يعني‪ِ :‬‬
‫أرسلوا إليه‬ ‫(فأرسلوا إِلي ِه)‪ ،‬ويف ٍ‬
‫لفظ « ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫أحدا ليمسك عل ييا؛ ألنه ال يستطيع أن َيمشي لض ْعف البصر أو عدم‬
‫الر َمد‪.‬‬
‫القدرة عىل فتْح العينين من َّ‬
‫(فأتِي بِ ِه) إىل النبي ﷺ‪( ،‬فبصق فِي ع ْين ْي ِه) يعني‪َ :‬تفل يف عينيه عليه‬
‫خاص بالنبي ﷺ‪ ،‬ومِن معجزاته‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫الصَلة والسَلم‪ ،‬وهذا‬
‫(ودعا له) يعني بالشفاء؛ (فبرأ) يعني‪ :‬شفي من ذلك المرض‪.‬‬

‫ٍ‬
‫طالب رضي ال َّله‬ ‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب من فضائل عيل بن أبي‬
‫عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪170‬‬

‫(ح َّتى كأنْ ل ْم يك ْن بِ ِه وج ٌع) يعني‪ :‬شفي من ذلك الوجع ك َّ‬


‫أنَِه مل‬
‫ي َصب بذلك المرض قط‪.‬‬
‫أن المريض بأمر ال َّله شفي بذلك‬
‫النبوة َّ‬
‫وهذا فيه آي ٌة من آيات َّ‬
‫خاص باألنبياء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الفعل‪ ،‬وهذا‬
‫ٌّ‬
‫نبي حقا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ويدل عىل أن النبي ﷺ ٌّ‬
‫ُّ‬
‫ويدل هذا عىل وجوب اإليمان بالقضاء والقدر؛‬ ‫الراية)‬
‫(فأ ْعطاه َّ‬
‫يسع إليه كعيل رضي ال َّله عنه‪ٌ ،‬‬
‫رجل فيه َر َمدٌ‬ ‫ٍ‬
‫لشخص مل َ‬ ‫فقد يأيت الرزق‬
‫ٍّ‬
‫قوي وأتى للنبي عليه‬
‫وما يستطيع أن يأيت ح َّتى إىل طليعة الجيش‪ ،‬وغيره ٌّ‬
‫الصَلة والسَلم وأمامه‪ ،‬ومع ذلك أعطي ذلك الرجل الذي مل ِ‬
‫يأت‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل قد‬ ‫حل؛ مل يمن ْعه أحدٌ ‪ ،‬ورزق ال َّله َّ‬
‫وجل إن َّ‬
‫عز َّ‬
‫فرزق ال َّله َّ‬
‫ْ‬
‫يأتيك بدون ف ْعل السبب‪.‬‬
‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫أنَِ الشخص ال يحصل الرزق بمجرد السعي يف‬ ‫ُّ‬
‫الكسب؛ فهؤالء َسعوا للكسب يف الليل؛ مل ينَاموا‪ ،‬ويتمنَّوهنا ثم َأتوا‬
‫كل منهم َيتط َّلع أن ينالها‪ ،‬ومع ذلك مل ينَالوها‪.‬‬
‫للنبي ﷺ؛ ٌّ‬
‫والفضل بيد ال َّله؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ق ْل إِ َّن ال َف ْض َل بِ َي ِد ال َّل ِه ي ْؤتِ ِيه‬
‫ْ‬
‫َم ْن َي َشاء﴾ [آل عمران‪.]73:‬‬
‫‪171‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وعيل‬ ‫فأعطاه ﷺ الراية ليحملها‪ ،‬وسوف ي ِ‬


‫قدم عىل قتال اليهود‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫رضي ال َّله عنه صغير السن؛ يعني‪ :‬وقت الهجرة كان ْ‬
‫عمره ثمانية عشر‬
‫(‪ )18‬عاما؛ يعني‪ :‬يف حال تلك الغزوة عمره قرابة ثَلثة وعشرون (‪)23‬‬
‫لفضل‬
‫عاما فقط‪ ،‬ومع ذلك وهو يف شبابه؛ فاق غيره يف ذلك األمر‪ ،‬وا ْ‬
‫بيد ال َّله سبحانه‪.‬‬
‫سلِك) يعني‪ِ :‬سر وا ْذهب إىل حصون القوم‬ ‫(وقال‪ :‬ا ْنف ْذ على ِر ْ‬
‫ٍ‬
‫صوت أو َص َخ ٍ‬
‫ب؛‬ ‫وتمه ٍل وعدم رفع‬ ‫ولكن عىل ِر ْسلِك؛ يعني‪ :‬عىل َت َأ ٍّن‬
‫ُّ‬
‫أل َّن اإلسَلم ليس فيه ٌ‬
‫فزع وال تخويف اآلخرين‪ ،‬وإنَّما اإلسَلم َيذهب‬
‫تشوف إىل ق ْطع الرقاب‪،‬‬
‫إىل حصون اآلخرين؛ ل َيعرض عليهم الدين وال َي َّ‬
‫كما سيأيت‪.‬‬
‫يكف المسلمون عن قتالهم َ‬
‫فإذا دخلوا يف الدين ُّ‬
‫مباغ َتة قو ٍم عليهم َّأال يرفعوا أصواهتم؛‬ ‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫أن من أراد َ‬ ‫ُّ‬

‫ون(‪)1‬؛‬
‫غار َ‬ ‫ِ‬
‫الص ْبح وه ْم ُّ‬ ‫ألن النبي ﷺ أغار عىل بني المصطلق ح ْي َن َط َ‬
‫لع ُّ‬ ‫َّ‬
‫يعني‪ :‬وهم عىل ٍ‬
‫غفلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب العتق‪ ،‬باب من َملك من العرب رقيقا‪ ،‬فوهب وباع‬
‫وجامع وفدى وسبى الذرية‪ ،‬رقم (‪ ،)2541‬ومسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬‬
‫باب جواز اإلغارة عىل الكفار الذين بلغتهم دعوة اإلسَلم‪ ،‬من غير تقدم‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪172‬‬

‫قال‪( :‬ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم) يعني‪ :‬حتى َتنزل قريبا من حصوهنم‪،‬‬
‫الحصن أو خارج الجدْ ر؛ يعني‪ِ :‬سر فإذا َقربت‬‫الساحة‪ :‬ما كان خارج ِ‬

‫من أسوار خيبر‪.‬‬


‫سَل ِم) يعني‪َ :‬تو َّقف ثم ادعهم إىل اإلسَلم‪.‬‬ ‫(ث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ‬
‫ال ْ‬
‫تشوف لقتْل النفوس؛ وإنَّما مقصده د ْعوة‬ ‫ُّ‬
‫فيدل عىل أن اإلسَلم ال َي َّ‬
‫ِ‬
‫ويحاصر قوما يف حصوهنم‪ ،‬فالعَلمات الظاهرة‬ ‫الناس‪ ،‬اآلن جيش قوي‬
‫المحاصرين‪ ،‬ومع ذلك فاإلسَلم ال يريد ق ْطع‬
‫َ‬ ‫اهنزام أولئك القوم‬
‫أعناقهم‪ ،‬فندعوهم لإلسَلم يأوال؛ وهذا من عظمة اإلسَلم‪ ،‬ولو ب َّث‬
‫اإلسَلم إىل العامل بحقيقته؛ لدخل الناس يف دين ال َّله أفواجا‪.‬‬
‫ولو بين م ْثل هذا الحديث لغير المسلمين؛ ل َعجبوا منه وأح ُّبوا‬
‫الدين‪.‬‬
‫محاصرون‪ ،‬ادعهم إىل اإلسَلم‪.‬‬
‫َ‬ ‫سَلمِ) وهم‬ ‫(ث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ‬
‫ال ْ‬

‫اإلعَلم باإلغارة‪ ،‬رقم (‪ ،)1730‬من حديث عبد ال َّله بن عمر رضي ال َّله‬
‫ون‪،‬‬ ‫عنهما‪ ،‬ولفظه‪« :‬إِ َّن النَّبِ َّي ﷺ َأ َغ َار َع َلى َبنِي الم ْص َطلِ ِق َوه ْم َغ ُّار َ‬
‫اب َي ْو َمئِ ٍذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الماء؛ َف َقت ََل م َقات َلتَه ْم‪َ ،‬و َس َبى َذ َر ِار َّيه ْم‪َ ،‬و َأ َص َ‬
‫َو َأ ْن َعامه ْم ت ْس َقى َع َلى َ‬
‫ج َو ْي ِر َي َة»‪ .‬ومعنى ( ُّ‬
‫غارون)‪ :‬غافلون‪ .‬لسان العرب البن منظور (‪.)22/5‬‬
‫‪173‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أنَِ َّأول ما يدعى إليه يف حال الحرب هو اإلسَلم‪ ،‬ال َيدعو‬ ‫َّ‬
‫كف عن قتالهم‪.‬‬ ‫للصَلة وال للزكاة‪ ،‬فإذا َت َّ‬
‫شهدوا ودخلوا يف الدين؛ َي ُّ‬
‫بلغ أولئك القوم مِن َقبل؛ فيجب وجوبا‬ ‫وإذا كانت الدعوة مل َت ْ‬
‫عرض اإلسَلم عليهم‪ ،‬وإذا كان قد َبلغهم ‪ -‬مِثل خيبر ‪-‬؛ فيندب أن‬
‫ْ‬
‫مرة أخرى؛ لعلهم أن ي ْسلِموا‪.‬‬ ‫يعرض عليهم ي‬
‫جب عل ْي ِه ْم ِم ْن حق ال َّل ِه تعالى فِ ِيه) يعني‪ :‬ادعهم إىل‬
‫(وأ ْخبِ ْره ْم بِام ي ِ‬

‫وتشهدوا؛ أخبرهم بما َيجب عليهم من‬


‫َّ‬ ‫اإلسَلم‪ ،‬فإذا دخلوا يف اإلسَلم‬
‫حق ال َّله تعاىل فيه ‪ -‬يف اإلسَلم ‪-‬؛ يعني‪َ :‬أخبرهم بواجبات الدين من‬
‫الصَلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬وبق َّية الشرائع‪ ،‬لكن َّأوال اإلسَلم‪( :‬ث َّم‬
‫سَل ِم) يعني‪ :‬التوحيد‪ ،‬وأخبرهم بعد ذلك بقية الشرائع‪.‬‬ ‫ا ْدعه ْم إِلى ِ‬
‫ال ْ‬
‫(فو ال َّل ِه ألنْ يهْ ِدي ال َّله بِك رج ً ِ‬
‫َل واحد ًا) َّ‬
‫ممن َيدخل يف الدين‪ ،‬أو‬
‫ممن هو عىل الدين لكنَّه استقام‪.‬‬
‫َّ‬
‫فيدل عىل جواز الحلِف عىل األمور الدين َّية‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ويدل أيضا عىل جواز الحلِف عىل األمور الدينية ولو مل يستح َلف‬
‫ُّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬كما َحلف النبي عليه الصَلة والسَلم هنا‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪174‬‬

‫اح َفظوا َأ ْي َمانَك ْم﴾ [المائدة‪،]89:‬‬ ‫الدنيوي فال َّله يقول‪َ :‬‬
‫﴿و ْ‬ ‫ُّ‬ ‫أ َّما األمر‬
‫وجل وإن‬ ‫وكما سيأيت(‪ )1‬يف آخر كتاب التوحيد بأن كثرة الحلِف بال َّله َّ‬
‫عز َّ‬ ‫َ‬
‫كان الشخص صادقا هذا َيقدح يف التوحيد؛ ألن المعظم ال َيحلف َّإال يف‬
‫عظيم‪ ،‬أ َّما أن َيحلف به يف كل ٍ‬
‫حين؛ فليس هذا من التعظيم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أمر‬
‫(خ ْي ٌر لك ِم ْن ح ْمرِ النَّع ِم) يعني‪ :‬خ ٌير لك من ِ‬
‫الجمال الحمراء التي‬
‫كانت تتفاخر العرب بتم ُّلكها لنَفاستها‪.‬‬
‫عظيم يف‬
‫ٌ‬ ‫أجر‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يدل عىل تشبيه أمور اآلخرة بالدنيا‪ ،‬فهناك ٌ‬
‫اآلخرة؛ َ‬
‫فش َّب َه ذلك األجر ببهيمة األنعام الجميلة البه َّية العظيمة؛ لتقريب‬
‫تلك المسائل إىل النفوس‪.‬‬
‫يعني‪ :‬أ ُّيهما أبلغ؟ لو قال‪ :‬فوال َّله ألن َيهدي ال َّله بك رجَل واحدا؛‬
‫فال َّله يعطيك أجرا عظيما‪ - ،‬والعرب َيتفاخرون باإلبل و َيتفاخرون‬
‫باألنعام – أو قال‪ :‬إذا هدى ال َّله عىل يديك رجَل واحدا؛ خير مِن ن ٍ‬
‫َعم‬
‫عظيمة هب َّي ٍة يتمناها األثرياء منهم‪.‬‬
‫ٍ‬

‫(‪( )1‬ص) عند قوله‪( :‬باب ما جاء فِي كَثر ِة الحلِ ِ‬


‫ف)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫‪175‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شك َّ‬
‫أنَِ األمر الثاين ْأبلغ‪ ،‬وهذا من أساليب الدعوة إىل هذا‬ ‫ال َّ‬
‫الدين‪ :‬تقريب األمور والثواب إىل العقل؛ ليبادر الشخص إىل العمل‪.‬‬
‫أهم ما يدعى إليه هو التوحيد‪ ،‬وأول ما يبدأ‬ ‫فتب َّين مِن هذا الباب َّ‬
‫أن َّ‬
‫به هو التوحيد‪.‬‬
‫﴿وإِ ْذ‬
‫األول الذي أخذ عىل بني آدم؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬ ‫وهو الميثاق َّ‬
‫ور ِه ْم ذر َّيتَه ْم َو َأ ْش َهدَ ه ْم َع َلى َأنْف ِس ِه ْم‬
‫َأ َخ َذ َرب َك مِ ْن بنِي آ َد َم مِ ْن ظه ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫اق َبنِي إِ ْس َرائِ َيل‬
‫﴿وإِ ْذ َأ َخ ْذنَا مِي َث َ‬
‫َأ َل ْست بِ َربك ْم َقالوا َب َلى﴾ [األعراف‪َ ،]172:‬‬
‫ِ‬
‫﴿وبِال َوالدَ ْي ِن إِ ْ‬
‫ح َسانا﴾ [البقرة‪.]83:‬‬ ‫ون إِ َّال ال َّل َه﴾ ثم َ‬
‫َال َت ْعبد َ‬
‫وهو الذي يف َطر عليه مجيع الخ ْلق؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬فِ ْط َر َت ال َّل ِه‬
‫َّاس َع َل ْي َها﴾ [الروم‪.]30:‬‬ ‫ِ‬
‫ا َّلتي َف َط َر الن َ‬
‫(ق ْوله‪« :‬يدوكون» أ ْي‪ :‬يخوضون) يعني‪ :‬يف قول (يدوكون ل ْيلته ْم)‬
‫يعني‪ :‬يخوضون بالقول‪ ،‬ويخوضون أيضا بالفعل وبالحركات؛‬
‫يذهبون‪ ،‬ويأتون‪.‬‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪176‬‬

‫[‪]6‬‬
‫يد وشهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله‬
‫باب ت ْف ِسيرِ الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة‬
‫أ ُّيه ْم أ ْقرب﴾ اآلية‪.‬‬
‫اهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا‬
‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬وإِ ْذ قال إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫ت ْعبدون * إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾ اآلية‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه﴾‬
‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬اتَّخذوا أ ْحباره ْم ور ْهبانه ْم أ ْرباب ًا ِم ْن د ِ‬

‫اآلية‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه أ ْنداد ًا ي ِ‬
‫ح ُّبونه ْم‬ ‫خذ ِم ْن د ِ‬
‫َّاس م ْن يت ِ‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬و ِمن الن ِ‬
‫َّ‬
‫كحب ال َّل ِه﴾ اآلية‪.‬‬
‫فِي الص ِ‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ِن النَّبِي ﷺ؛ أنَّه قال‪« :‬م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪ ،‬وكفر‬ ‫َّ‬
‫ون ال َّل ِه؛ حرم ماله ودمه‪ ،‬و ِحسابه على ال َّل ِه»‪.‬‬
‫بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ‬

‫وش ْرح ه ِذ ِه ال َّت ْرجم ِة ما ب ْعدها ِمن األ ْبو ِ‬


‫اب‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫‪177‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وفضله‪ ،‬والدعوة‬
‫لما َوضع المصنف لك قواعد يف أمهية التوحيد‪ْ ،‬‬
‫َّ‬
‫وإن كان قد ب َّينه يف َّأول ٍ‬
‫باب؛‬ ‫إليه‪ ،‬والخوف من ضده؛ َذكر هنا تفسيره‪ْ ،‬‬
‫لكن أعاده هنا لبيان ٍ‬
‫مزيد من التوضيح‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ت ْف ِسيرِ الت ْو ِح ِ‬
‫يد) يعني‪ :‬معنى التوحيد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫(وشهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) هذا من ع ْطف الدال عىل المدلول؛ يعني‪:‬‬
‫أردت ْ‬
‫أن تكون موحدا؛ فلن يكون ذلك إال بالشهادة‪ ،‬وهي التي‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫تد ُّلك عىل التوحيد‪ ،‬فَل إله إال ال َّله هي التي ُّ‬
‫تدل عىل التوحيد‪.‬‬
‫يرسخ يف‬
‫يعني‪ :‬باب تفسير وتوضيح وبيان معنى التوحيد؛ حتى َ‬
‫ِذهنك‪.‬‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله أربع آ ٍ‬
‫يات وحديثا واحدا؛ لبيان التوحيد‬
‫ِ‬
‫وتوضيحه‪:‬‬
‫ففي اآلية األولى ‪﴿( -‬أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون ي ْبتغون إِلى رب ِهم) ‪:-‬‬
‫بترك عبادة الصالحين واألصنام‪ ،‬وعبادة ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫ب َّين أن التوحيد يتح َّقق ْ‬
‫وحده‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وجل ْ‬
‫واآلية الثانية – (﴿وإِ ْذ قال إِ ْبرا ِهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا‬
‫ت ْعبدون) ‪َ :-‬يتح َّقق التوحيد بتحقيق البراء من الشرك وأهله‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪178‬‬

‫واآلية الثالثة ‪﴿( -‬اتَّخذوا أ ْحباره ْم ور ْهبانه ْم أ ْرباب ًا ِم ْن‬


‫أنَِ المشرع هو ال َّله عز وجل‪،‬‬ ‫ون ال َّل ِه﴾) ‪ :-‬التوحيد يتحقق باعتقاد َّ‬
‫د ِ‬

‫وعدم اتباع المشرعين فيما يخالِف دين اإلسَلم‪.‬‬


‫ون ال َّل ِه أ ْنداد ًا) ‪:-‬‬
‫خذ ِم ْن د ِ‬
‫َّاس م ْن يت ِ‬
‫َّ‬ ‫واآلية الرابعة – (﴿و ِمن الن ِ‬

‫تحقيق التوحيد يكون بتحقيق المح َّبة ل َّله؛ مح َّبة التأ ُّله والتعظيم والعبادة‪.‬‬
‫والحديث – (م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪ ،‬وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ‬
‫ون ال َّله) ‪-‬‬
‫‪ :‬ساقه المصنف رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫أن تحقيق التوحيد يكون بالكفر‬
‫بالطاغوت وعبادة ال َّله وحده سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله هذه األد َّلة يف هذا الباب؛ لتفسير التوحيد‬
‫عىل أربعة ٍ‬
‫أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬ببيان ضده‪ ،‬فب َّين الشرك‪.‬‬
‫َّ‬
‫الثاين‪ :‬بيان ركني التوحيد‪ ،‬ومها‪ :‬النفي واإلثبات‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ب َّين ِشرك الطاعة‪ ،‬فمن كان طائعا ل َّله فيما َأ َّ‬
‫حل وفيما َح َّرم؛‬
‫ِ‬
‫المشرك‪.‬‬ ‫فهو موحدٌ ‪ ،‬فمن َفعل ضدَّ ذلك فهو‬
‫فإن كان ِشرك المحبة شركا؛ فضدُّ ه‬
‫الرابع‪ :‬يف ِشرك المحبة‪ْ ،‬‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫لذلك قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون‬
‫ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة أ ُّيه ْم أ ْقرب﴾) ساق المصنف رمحه ال َّله هنا ما‬
‫هو ضد التوحيد وهو الشرك؛ لبيان َّ‬
‫أن التوحيد هو ضد ذلك‪.‬‬
‫وجل للمشركين‪﴿ :‬ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذي َن‬
‫عز َّ‬
‫فأول اآلية بخطاب ال َّله َّ‬‫َّ‬
‫إن كنتم صادقين يف عبادتكم‬ ‫َز َع ْمت ْم مِ ْن دونِ ِه﴾ يعني‪ :‬يا محمد قل لهم‪ْ :‬‬
‫لهذه األصنام من دون ال َّله؛ ادعوهم‪.‬‬
‫زوال‬ ‫أي‪:‬‬ ‫َعنْك ْم﴾‬ ‫الضر‬
‫ُّ‬ ‫ك َْش َ‬
‫ف‬ ‫َي ْملِك َ‬
‫ون‬ ‫﴿ َف ََل‬
‫فمن كان مريضا؛ ال تشفيه األنداد‪ ،‬وال تحيي الموتى‪،‬‬
‫المرض ‪ -‬مثَل ‪ْ -‬‬
‫الحي‪.‬‬
‫وال تميت َّ‬
‫يحولون‬ ‫وال‬ ‫أي‪:‬‬ ‫]اإلسراء‪]56:‬؛‬ ‫ح ِويَل﴾‬
‫َت ْ‬ ‫﴿و َال‬
‫َ‬
‫الض َّر – كالمرض ‪ -‬منكم إىل رج ٍل آخر فهي َتملك عدما‪ ،‬عاجزة عن‬
‫ٍ‬
‫شيء‪.‬‬ ‫كل‬
‫أنَِهم يتنافسون يف عبادة ال َّله‬
‫أن حقيقة الصالحين َّ‬
‫وب َّين سبحانه َّ‬
‫أنَِهم يدْ َعون من‬ ‫وحده أ ُّيهم يرتقي درجة عالية‪ ،‬وال َيدَّ َعون ألنفسهم َّ‬
‫ْ‬
‫دون ال َّله؛ لذلك قال‪﴿( :‬أولئِك﴾) أي‪ :‬الصالحون واألنبياء‪( ،‬ا َّل ِذين‬
‫ي ْدعون) أي‪ :‬يعبدوهنم‪ ،‬والدعاء هنا دعاء العبادة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪180‬‬

‫حال الذين يعبدوهنم‪﴿( :‬ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة﴾) أي‪:‬‬
‫يتسابقون للقرب من ال َّله‪ ،‬و َيطلبون رضا ال َّله والدرجة العالية‪﴿( ،‬أ ُّيه ْم‬
‫أ ْقرب﴾)‪.‬‬
‫َو َي َخاف َ‬
‫ون‬ ‫َر ْح َمتَه‬ ‫﴿ َو َي ْرج َ‬
‫ون‬ ‫أيضا‪:‬‬ ‫وحالهم‬
‫ْ‬
‫فإن كانوا‬ ‫َع َذ َابه﴾ [اإلسراء‪َ :[57:‬يخافون عذاب ال َّله‪ ،‬ويخافونه‪،‬‬
‫يخافون ال َّله؛ فَل يستحقون العبادة من دون ال َّله‪.‬‬
‫فإذا كانت عبادة الصالحين واألصنام واألضرحة شركا؛ فالتوحيد‬
‫هو ْتركها وعبادة ال َّله وحده‪.‬‬
‫ِ‬
‫عظيم بدي ِع تصنيف المصنف رمحه ال َّله يف سياق اآليات‪.‬‬ ‫وهذا من‬
‫أن عبادة ال َّله هي التوحيد‪ ،‬فالذي َيذهب إىل األنداد ال‬
‫ودل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫المش ِركون‪ ،‬فالموحد هو الذي التجأ‬
‫ْ‬ ‫ي َح يصل توحيدا؛ بل هؤالء هم‬
‫إىل ال َّله‪ ،‬فضد الشرك‪ :‬التوحيد‪.‬‬
‫وهذه اآلية َجمعت أركان العبادة؛ المحبة والخوف والرجاء‪:‬‬
‫(أ ُّيه ْم أ ْقرب)‪ :‬المحبة‪َ ﴿ ،‬و َي ْرج َ‬
‫ون َر ْح َمتَه﴾‪ :‬الرجاء‪َ ﴿ ،‬و َي َخافو َن‬
‫َع َذ َابه﴾‪ :‬الخوف‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأركان العبادة تسير كالطائر‪ ،‬فالمحبة‪ :‬الرأس‪ ،‬والخوف والرجاء‪:‬‬


‫الجناحان‪.‬‬
‫فرجاء ما عند ال َّله َيسير مع الخوف مِن عذاب ال َّله والنَّار‪،‬‬
‫ومح َّبة ال َّله تقوده‪ ،‬هذه األمور الثَلثة؛ فيعبد ال َّله محبة فيه‪ ،‬وخوفا منه‪،‬‬
‫ورجا َء ما عنده‪.‬‬
‫اهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه إِنَّنِي‬
‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬وإِ ْذ قال إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫أنَِ التوحيد ال يمكن‬ ‫برا ٌء ِِمَّا ت ْعبدون * إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾) يبين لك َّ‬
‫تحقيقه إال باإلتيان بركني التوحيد‪ ،‬ومها‪ :‬النفي واإلثبات‪.‬‬
‫بحق يف هذا الكون‪ ،‬والثبات‪ :‬إال ال َّله‪.‬‬‫النفي‪ :‬ال يوجد معبو ٌد ٍّ‬
‫﴿وي ْؤمِ ْن‬
‫نفي‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َم ْن َي ْكف ْر بِال َّطاغوت﴾ ٌ‬
‫بِال َّل ِه﴾ [البقرة‪ ]256:‬إثبات‪.‬‬
‫فلو َّ‬
‫أن شخصا يصلي ويصوم‪ ،‬و َينطق بالشهادتين‪ ،‬ومل َيكفر‬
‫بالطاغوت‪ ،‬ويقول‪ :‬عبادة األصنام صحيح ٌة‪.‬‬
‫نقول‪ :‬هذا ليس بالموحد‪ ،‬ولو َأتى بالشهادة؛ فَل بد من النفي‪ ،‬ب َّ‬
‫أنَِ‬
‫مجيع المعبودات باطل ٌة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪182‬‬

‫ِ‬
‫المشركين‬ ‫التبرؤ والبعد عن‬
‫وب َّين أن توحيد الخليل عليه السَلم هو ُّ‬
‫وآلهتهم‪.‬‬
‫(﴿إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾) فإني أ ْقرب منه وهو ال َّله سبحانه وتعاىل؛‬
‫أي‪َ :‬خلقني و َأدعوه ْ‬
‫وحده‪.‬‬
‫المسلمين‪ ،‬واتفاقه مع المشركين‬ ‫فمواالة المشركين بالنصرة عىل ْ‬
‫اهيم ِألبِ ِيه‬
‫ضد المسلمين؛ هذا يضاد اإلسَلم؛ لذلك قال‪﴿( :‬وإِ ْذ قال إِبر ِ‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا ت ْعبدون) فهو بري ٌء من المشركين‪ ،‬ومن عبادة‬
‫المشركين لألصنام‪ ،‬وبري ٌء من مظاهرة المشركين ضد المسلمين‪ ،‬وهو‬
‫﴿و َج َع َل َها كَلِ َمة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمعنى‪ :‬ال إله‪( ،‬إِ ََّّل ا َّلذي فطرني﴾)‪ :‬هو معنى‪ :‬إال ال َّله‪َ ،‬‬
‫ون﴾ [الزخرف‪ ،[28:‬كلمة التوحيد باقية يف ذريته‬ ‫َباقِ َية فِي َع ِقبِ ِه َل َع َّله ْم َي ْر ِجع َ‬
‫َيرجعون إليها‪.‬‬
‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬اتَّخذوا أ ْحباره ْم ور ْهبانه ْم‬
‫أهل الكِتاب؛ أي‪ :‬ا َّتخذوا مشرعين يحللون‬ ‫ون ال َّل ِه﴾) أي‪ْ :‬‬
‫أ ْرباب ًا ِم ْن د ِ‬

‫شرب الخمر‪ ،‬هذا يف ِشرك‬ ‫لهم ‪ -‬مثَل أك َْل الخنزير ‪ ،-‬ويحللون لهم ْ‬
‫الطاعة‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فاليهود والنصارى ا َّتخذوا زعماءهم وع َّبادهم مشرعين من‬


‫حرمه ال َّله؛ يحللونه‪ ،‬وما أح َّله ال َّله؛ يحرمونه‪.‬‬
‫دون ال َّله‪ ،‬فما َّ‬
‫فمن ا يتخذ هؤالء مشرعين له؛ فهذا يس َّمى ْ‬
‫شرك الطاعة‪.‬‬ ‫َ‬
‫شخص الخمر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫حَلل‪ِ ،‬‬
‫وشرب‬ ‫ٌ‬ ‫فلو َّ‬
‫أنَِ شخصا قال‪ :‬شرب الخمر‬
‫ٌ‬
‫حَلل‪.‬‬ ‫إن الراهب الفَلينَّ قال ب َّ‬
‫أنَِ الخمر‬ ‫ويقول‪ :‬ي‬
‫سمى‪ :‬شرك الطاعة‪.‬‬
‫فهذا ي َّ‬
‫فَل يكون الشخص موحدا حتى يكون طائعا ل َّله وحده‪.‬‬
‫أنَِهم جعلوهم أربابا من دون ال َّله ‪ -‬الرب مفر ٌد‪ ،‬واألرباب‬
‫فك َّ‬
‫ربا من دون ال َّله‪،‬‬
‫وجعلوا المسيح عيسى عليه السَلم ي‬
‫متنوعين‪َ ،-‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫وجل َّ‬
‫أنَِ ف ْعلهم هذا‬ ‫عز َّ‬ ‫فب َّين ال َّله َّ‬
‫وأما التوحيد‪﴿ :‬وما أمِروا إِ َّال لِيعبدوا إِ َلها و ِ‬
‫احدا َال إِ َل َه إِ َّال ه َو‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫ون﴾ [التوبة‪.[31:‬‬ ‫س ْب َحانَه َع َّما ي ْش ِرك َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪184‬‬

‫صحة ما قالوه؛ يعني‪:‬‬ ‫ِ‬


‫وشرك الطاعة‪ :‬إذا كان الشخص َيعتقد‬
‫َّ‬
‫ٌ‬
‫حَلل‪ ،‬وهو المشرع‬ ‫حَلل؛ أل َّنَِ فَلنا قال‪ :‬إنَّه‬
‫ٌ‬ ‫َيشرب الخمر‪ ،‬ويعتقد أنه‬

‫له؛ فهذا – والعياذ بال َّله ‪ٌ -‬‬


‫كفر باإلمجاع(‪.)1‬‬

‫أعلم‬ ‫وش ِربه َ‬


‫آخ ٌر ويقول‪ :‬أنا ْ‬ ‫ٌ‬
‫حَلل‪َ ،‬‬ ‫شخص‪ :‬ش ْرب الخمر‬
‫ٌ‬ ‫ولو قال‬
‫أنه َيكذب‪ ،‬وشرب الخمر حرا ٌم‪.‬‬
‫ألن النبي ﷺ يقول‪« :‬إِن ََّما‬
‫عظيم؛ َّ‬
‫ٌ‬ ‫فهذا ليس بك ْف ٍر؛ وإنيما ذن ٌ‬
‫ْب‬
‫ٍ‬
‫معروف‪.‬‬ ‫وف»(‪ ،)2‬وهذا قد أطاعه يف غير‬ ‫اعة فِي المعر ِ‬
‫ال َّط َ‬
‫َ ْ‬

‫(‪ )1‬اإلحكام يف أصول األحكام (‪ ،)249 /2‬مجموع فتاوى شيخ‬


‫اإلسَلم (‪.)424/1‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬باب السمع والطاعة لإلمام ما مل‬
‫تكن معصي ٌة‪ ،‬رقم (‪ ،)7145‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإلمارة‪ ،‬باب وجوب‬
‫ٍ‬
‫معصية وتحريمها يف المعصية‪ ،‬رقم (‪،)1465‬‬ ‫طاعة األمراء يف غير‬
‫من حديث عيل رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ومن ذلك‪ :‬بعض األزواج يطيع زوجته يف سماع األغاين‪،‬‬


‫والتصوير‪ ،‬وح ْلق اللحية ونحو ذلك‪ْ ،‬‬
‫فإن أطاعها؛ َيدخل يف األمر الثاين‪،‬‬
‫فهو َيعلم َّ‬
‫أنَِه حرا ٌم‪ ،‬ولكن أطاعها محبة لها‪.‬‬
‫رب‪ ،‬والمسيح ابن مريم أيضا ا َّتخذوه‬ ‫(أرباب ًا ِم ْن د ِ ِ‬
‫ون ال َّله﴾) مجْع ٍّ‬ ‫ْ‬
‫إلها من دون ال َّله‪.‬‬
‫فالذي َي َّتبِع المشرع من دون ال َّله ينقسم ِلقسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن َي َّتبعه عىل أنَّه هو الذي يشرع له‪ ،‬فيقول مثَل‪ :‬شرب‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫حرم ال َّله‪ ،‬أو يقول‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫حَلل‪ ،‬فيطيعه؛ تعظيما لذلك العالم و َيفعل ما َّ‬ ‫الخمر‬
‫أحل ال َّله‪.‬‬
‫حرم ما َّ‬ ‫ِ‬
‫ال تأكل هبيمة األنعام ألنَّها حرا ٌم‪ ،‬فهذا العالم َّ‬
‫فهذا ك ْفر‪.‬‬
‫محر ٍم‪ ،‬كأن يقول‪ :‬ال‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬أن يطيع َمن هو أقوى منْه يف ٍ‬
‫أمر َّ‬
‫تصلي مجاعة‪ ،‬فيطيعه وهو َيعلم أنَّها معصي ٌة وأنَّه ليس له من التشريع‬
‫بشرك‪ ،‬وإنَّما هو من جملة الذنوب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بشيء؛ هذا ليس‬
‫وجل يف تشريعه؛ كما قال‬ ‫عز َّ‬ ‫فدل عىل أن التوحيد هو اتباع ال َّله َّ‬ ‫َّ‬
‫ِِ‬
‫ين﴾ [التين‪ ،[8:‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬أ ْم‬ ‫سبحانه‪َ ﴿ :‬أ َل ْي َس ال َّله بِ َأ ْح َك ِم ال َحاكم َ‬
‫ِ‬ ‫َله ْم ش َركَاء َش َرعوا َله ْم مِ َن الد ِ‬
‫ين َما َل ْم َي ْأ َذ ْن بِه ال َّله﴾ [الشورى‪.[21:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪186‬‬

‫ون ال َّل ِه‬


‫خذ ِم ْن د ِ‬
‫َّاس م ْن يت ِ‬
‫َّ‬ ‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬و ِمن الن ِ‬

‫ح ُّبونه ْم كحب ال َّل ِه﴾) هذه اآلية الرابعة يف تفسير وتوضيح‬ ‫أ ْنداد ًا ي ِ‬

‫أحب غير ال َّله مح َّبة قلبية‬


‫َّ‬ ‫أنَِ المصنيف يقول لك‪َّ :‬‬
‫إن َم ْن‬ ‫التوحيد‪ ،‬فك َّ‬
‫رك‪ ،‬فيقول‬ ‫مش ٌ‬
‫وسجود ونحو ذلك؛ فهو ْ‬ ‫ٍ‬ ‫فقط‪ ،‬دون العبادة من ركو ٍع‬
‫ففسرت لك َّ‬
‫أنَِ المحبة توحيدٌ أيضا‪.‬‬ ‫إن مح َّبة ال َّله توحيدٌ ؛ َّ‬
‫لك‪َّ :‬‬
‫(أ ْنداد ًا) يعني‪ :‬أضرحة وأصناما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(يح ُّبونه ْم كحب ال َّله﴾) ي ُّ‬
‫حب هذا الصنم‪ ،‬أو صاحب هذا القبر‪،‬‬
‫زعمه َّ‬
‫أنَِ الصنم أو صاحب‬ ‫حب ال َّله أيضا‪ ،‬لكن يف ْ‬
‫كحب ال َّله؛ يعني‪ :‬ي ُّ‬
‫القبر َينفع أو َيضر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مشرك‪ ،‬فكيف‬ ‫أحب مع ال َّله غيره؛ فهو‬ ‫وجل َذكر َّ‬
‫أنَِ َمن َّ‬ ‫عز َّ‬
‫فال َّله َّ‬
‫بمن َجعل يف قلبه مح َّبة خالصة لذلك المعبود ‪ -‬لغير ال َّله ‪ -‬من ٍ‬
‫قبر أو‬
‫صنم أو ٍ‬
‫وثن؟‬ ‫ٍ‬
‫شك َّ‬
‫أن هذا أعظم الشرك‪ ،‬فليس الشرك فقط يف المحبة؛ بل حتى‬ ‫ال َّ‬
‫أن يكون قلبك مليئا بمح َّبة ال َّله‪،‬‬
‫يف المساواة يف المحبة؛ يعني‪ :‬يجب ْ‬
‫حب أحدا سوى ال َّله‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وأال ت َّ‬
‫والمح َّبة تنقسم إىل أقسام‪:‬‬
‫‪187‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األول‪ :‬مح َّب ٌة جبِل َّي ٌة‪ ،‬كمح َّبة الرجل للطعام والماء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬مح َّب ٌة عاطفي ٌة‪ ،‬كمحبَّة الوالد لَلبن‪ ،‬واألم لولدها‪.‬‬
‫هذا ال محذور فيه؛ كما قال النبي ﷺ عن الحسن والحسين‬
‫رضي ال َّله عنهما‪« :‬ال َّله َّم إِني أ ِح ُّبه َما َف َأ ِح َّبه َما»(‪.)1‬‬
‫حب اإلنسان شيئا مع َّظما كأنَّه إله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬أن ي َّ‬
‫فهذه هي المحبة ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬الشرك َّية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك ليس‬ ‫فمح َّبة التأ ُّله والتع ُّبد لو كانت ل َّله ولغير ال َّله أيضا؛ فهذا‬
‫ألن ال َّله َأثبت للمشركين أنَّهم يح ُّبون ال َّله كحب األوثان‪،‬‬
‫بتوحيد؛ َّ‬
‫فالتوحيد أن تكون محبة التع ُّبد والتأ ُّله ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫أحب الصنم أو صاحب القبر محبة‬
‫ُّ‬ ‫شخص‪ :‬أنا‬
‫ٌ‬ ‫فمثَل‪ :‬ال يقول‬
‫المنهي عنه ‪ -‬المح َّبة الشرك َّية ‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫عظيمة؛ ألنَّه ينفعني أو يضرين؛ هذا هو‬
‫‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)3747‬كتاب أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬باب مناقب‬


‫الحسن والحسين رضي ال َّله عنهما‪ ،‬مِن حديث أسامة بن زيد‬
‫رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪188‬‬

‫صرف المحبة ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫فدل عىل أن التوحيد هو ْ‬ ‫َّ‬


‫ٍ‬
‫وتعظيم‪.‬‬ ‫والمراد بالمحبة الشركِ َّية هنا‪ْ :‬‬
‫إن كانت عن ٍّ‬
‫ذل‬
‫فذ يل له‪َ ،‬‬
‫وخضع له؛ ح يبا له‪.‬‬ ‫مر عند ٍ‬
‫قبر؛ َ‬ ‫مثَل‪ :‬شخص َّ‬
‫نقول‪ :‬هذه – والعياذ بال َّله – مح َّب ٌة شرك َّي ٌة تخرج الشخص من‬
‫ف عىل القبر‪ ،‬وحتى لو مل يدْ عه من دون ال َّله‪.‬‬ ‫دائرة اإلسَلم‪ ،‬حتى لو مل َيط ْ‬
‫المحبة الجبل َّية مِثل‪ :‬مح َّبة النوم‪ ،‬أو الماء البارد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أ يما‬
‫فهذه ليست شرك َّية؛ إنَّما ِجبِل َّية‪.‬‬
‫ومِثل ُمبة الشفاق‪ ،‬مثل‪ :‬مح َّبة الوالد لولده؛ هذه ليست شرك َّية‪.‬‬
‫ومثل‪ :‬مح َّبة الشخص لشريكه أو زميله يف العمل؛ ألنه يساعده يف‬
‫العمل؛ فهذه ليست مح َّبة شركيَّة‪.‬‬
‫ذل وتعظيم‪ ،‬في ِذ ُّل لصاحب‬
‫وإنما المح َّبة الشرك َّية ما كانت عن ٍّ‬
‫القبر رأسه‪ ،‬و َيخضع بقلبه‪ ،‬ويعظمه يف قلبه؛ هذا هو الشرك‪.‬‬
‫وهذا الباب – باب المح َّبة ‪ -‬ألمهيته؛ َأفرد له المصنيف بابا؛ قال‪:‬‬
‫ون ال َّل ِه أ ْنداد ًا‬
‫خذ ِم ْن د ِ‬‫َّاس م ْن يت ِ‬
‫َّ‬ ‫(باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬و ِمن الن ِ‬

‫ح ُّبونه ْم كحب ال َّل ِه﴾) فب َّين المح َّبة وأنواعها هناك‪.‬‬


‫ي ِ‬
‫‪189‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫حيحِ ‪ :‬ع ِن ال َّنبِي ﷺ؛ أنَّه قال‪« :‬م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪،‬‬‫قال‪( :‬فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫ون ال َّل ِه؛ حرم ماله ودمه‪ ،‬و ِحسابه على ال َّل ِه»)‪.‬‬ ‫وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ‬

‫اهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه‬


‫تفصيل لآلية الثانية‪﴿( :‬وإِ ْذ قال إِبر ِ‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫هذا الحديث‬
‫إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا ت ْعبدون * إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾)‪ ،‬ففيهما بيان ركني التوحيد‪:‬‬
‫النفي واإلثبات‪.‬‬
‫مسلم(‪.)1‬‬
‫ٍ‬ ‫قوله‪( :‬فِي الص ِ‬
‫حيحِ ) صحيح‬ ‫َّ‬
‫والمصنف رمحه ال َّله أحيانا يقول‪ :‬ويف الصحيح؛ يعني‪ :‬صحيح‬
‫البخاري‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫وأحيانا يقول‪ :‬ويف الصحيح؛ يعني‪ :‬صحيح‬
‫وأحيانا يقول‪ :‬ويف الصحيح؛ يعني‪ :‬ويف الحديث الصحيح‪.‬‬
‫صحيح‪ ،‬سواء يف البخاري‪ ،‬أو يف‬
‫ٌ‬ ‫يعني‪ :‬كأ َّنه يبين لك أ َّنه ح ٌ‬
‫ديث‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪ ،‬أو يف غيرمها‪.‬‬

‫َّاس َحتَّى َيقولوا‪َ :‬ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله م َح َّمدٌ‬ ‫(‪ )1‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب األَ ْم ِر بِ ِقت ِ‬
‫َال الن ِ‬ ‫َ‬
‫َرسول ال َّل ِه‪ ،‬رقم (‪ ،)23‬من حديث أبي مالك عن أبيه رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪190‬‬

‫(ع ِن ال َّنبِي ﷺ؛ أنَّه قال‪«( :‬م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله)‪ ،‬الركن ي‬
‫األول‪:‬‬
‫اإلثبات‪.‬‬
‫ويشترط مع القول‪ :‬اليقين والمعرفة هبا‪ ،‬و َّ‬
‫أنَِ معناها‪ :‬ال معبود‬
‫بحق إال ال َّله‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫ْ‬
‫وأن يحقق شروطها‪ :‬العلم‪ ،‬اليقين‪ ،‬اإلخَلص‪ ،‬الصدق‪ ،‬المحبة‪،‬‬
‫االنقياد‪ ،‬والقبول‪.‬‬
‫مع البعد عن نواقضها‪ ،‬التي هي نواقض اإلسَلم‪.‬‬
‫ستحق‬
‫ُّ‬ ‫ون ال َّل ِه) الركن الثاين‪ :‬النفي؛ أي‪ :‬ال َي‬
‫(وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ‬

‫العبادة أحدٌ إال ال َّله‪ ،‬ف َيعتقد الشخص ويتك َّلم ويقول‪ :‬كل ما يع َبد من‬
‫دون ال َّله من اآللهة؛ فهي باطل ٌة‪.‬‬
‫أخذ ماله‪ ،‬وال يجوز َس ْفك دمه‪.‬‬
‫(حرم ماله ودمه) ال يجوز ْ‬
‫(و ِحسابه على ال َّل ِه) يف الدنيا يح َكم عليه باإلسَلم‪ ،‬فمن قال أمامنا‪:‬‬
‫مسلم‪ ،‬وال َّله هو الذي يحاسبه يف‬
‫ٌ‬ ‫ال إله إال ال َّله؛ فهو عندنا يف الدنيا‬
‫كافر هبا يف قلبه؟ َأ ْم‬
‫منافق؟ هل هو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫صادق فيها؟ هل هو‬ ‫اآلخرة‪ ،‬هل هو‬
‫ال‪.‬‬
‫‪191‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن التوحيد ال َيتح َّقق إال بالكفر بالمعبودات من دون ال َّله؛‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫وت َوي ْؤمِ ْن بِال َّل ِه﴾ [البقرة‪.[256:‬‬
‫كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬فمن ي ْكفر بِال َّطاغ ِ‬
‫َ ْ َ ْ‬
‫شخص يصلي ويقول‪ :‬ال إله إال ال َّله‪ ،‬ويقول‪ :‬إن صاحب‬
‫ٌ‬ ‫فمثَل‪ :‬لو‬
‫هذا القبر َينفع ويضر؛ هذا مل َيكفر بما يعبد من دون ال َّله‪.‬‬
‫إن عبادة هؤالء لألضرحة صحيح ٌة‪ ،‬لهم دينهم‪ ،‬وف ْعلهم‬
‫أو يقول‪َّ :‬‬
‫صحيح؛ هذا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬مل‬
‫ٌ‬ ‫صحيح‪ ،‬ونحن نعبد ال َّله وديننا‬
‫ٌ‬ ‫هذا‬
‫يحقق التوحيد‪.‬‬
‫أن المعبودات من دون ال َّله باطل ٌة‪ ،‬وهو‬
‫فتحقيق التوحيد‪ :‬اعتقاد َّ‬
‫معنى ال إله إال ال َّله‪.‬‬
‫ثم قال‪( :‬وش ْرح ه ِذ ِه ال َّت ْرجم ِة ما ب ْعدها ِمن األ ْبو ِ‬
‫اب) يعني‪ :‬اآلن‬
‫بين لك التوحيد‪ ،‬وما بعد هذا الباب يفصل لك فيما ي ِ‬
‫خ ُّل بالتوحيد من‬ ‫َّ‬
‫الحلقة والخيط‪ ،‬ومن الذبح لغير ال َّله‪ ،‬والسحر‪ ،‬وغيرها‬
‫تمائم‪ ،‬ول ْبس َ‬
‫مما ينايف التوحيد‪.‬‬
‫َّ‬
‫فاآلن َوضع لك قاعدة يف التوحيد‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬وتفسيره‪ ،‬وبيان‬
‫فضله‪ ،‬ثم يفصل لك ما يضا ُّد التوحيد مما يقع فيه الناس‪ ،‬فهذه األبواب‬‫ْ‬
‫التي َسبقت هي قواعد يف بيان التوحيد‪ ،‬ثم سيبدأ يفصل يف وسائل شرك َّي ٍة‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪192‬‬

‫أو ِشرك أو ما يناقض التوحيد‪ ،‬ويثبِت يف آخره توحيد األسماء‬


‫والصفات‪.‬‬
‫***‬
‫‪193‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]7‬‬
‫ط ون ْح ِو ِهام؛ لِر ْف ِع البَل ِء‬
‫اب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ب ٌ‬
‫أ ْو د ْف ِع ِه‬
‫ون ال َّل ِه إِنْ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل أفرأ ْيتم َّما ت ْدعون ِم ْن د ِ‬

‫اشفات ضر ِه﴾ اآلية‪.‬‬ ‫أرادنِي ال َّله بِضر ه ْل هن ك ِ‬


‫َّ‬
‫َل فِي‬ ‫ع ْن ِع ْمران ْب ِن حص ْي ٍن ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن ال َّنبِ َّي ﷺ رأى رج ً‬
‫اهن ِة‪ ،‬قال‪ :‬ا ْن ِز ْعها؛ فإِنَّها‬
‫ي ِد ِه ح ْلق ٌة ِم ْن ص ْفرٍ‪ ،‬فقال‪« :‬ما ه ِذ ِه؟! قال‪ِ :‬من الو ِ‬

‫ت و ِهي عل ْيك؛ ما أ ْفل ْحت أبد ًا» رواه ْ‬


‫أحمد‬ ‫َّل ت ِزيدك إِ ََّّل و ْهن ًا‪ ،‬فإِنَّك ل ْو ِم َّ‬
‫بِسن ٍد َّل ب ْأس بِ ِه‪.‬‬
‫امرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪« :‬م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فَل‬
‫وله‪ :‬ع ْن ع ْقبة ب ِن ع ِ‬
‫ْ‬
‫أت َّم ال َّله له‪ ،‬وم ْن تع َّلق ودع ًة؛ فَل ودع ال َّله له»‪.‬‬
‫ظ‪« :‬م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فق ْد أ ْشرك»‪.‬‬
‫وفِي ل ْف ٍ‬

‫َل فِي ي ِده خ ْي ٌط ِمن الح َّمى‪،‬‬ ‫وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه‪ :‬أنَّه رأى رج ً‬
‫فقطعه‪ ،‬وتَل ق ْوله تعالى‪﴿ :‬وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه إِ ََّّل وه ْم م ْشرِكون﴾‬
‫رواه ا ْبن أبِي حاتِ ٍم‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪194‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫ط ون ْح ِو ِهام؛‬
‫اب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫لِر ْف ِع البَل ِء أ ْو د ْف ِع ِه)‪.‬‬
‫هذا َّأول ٍ‬
‫باب من األبواب التي يفصل فيها شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله‬
‫يف التوحيد أو ضد التوحيد؛ يعني‪ :‬ما سبق من األبواب كالتمهيد‬
‫والقواعد لهذا الباب وما بعده‪.‬‬
‫ويصح بدون‬
‫ُّ‬ ‫اب)‪،‬‬
‫يصح أن يقال بالتنوين؛ أي‪ :‬هذا (ب ٌ‬‫اب) ُّ‬‫قال‪( :‬ب ٌ‬
‫تنوين (باب)؛ أي‪ :‬هذا (باب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ‬
‫ط‪.)..‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫وقوله‪( :‬ب ٌ ِ‬
‫اب من الش ْرك) من هنا تبعيض َّي ٌة؛ أي‪ :‬هذا ٌ‬
‫باب فيه بيان‬
‫الحلقة والخيط ونحومها‪.‬‬
‫حكم لبس َ‬
‫وهي تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫سبب يف ر ْفع‬ ‫ِ‬
‫القسم األول‪ :‬إذا كان يعتقد َّ‬
‫أن لبس الخيط ونحوه‬
‫ٌ‬
‫البَلء أو د ْفعه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أصغر ينايف كمال التوحيد الواجب‪ ،‬وهو أكبر من‬ ‫فهذا‬
‫شرب الخمر‪ ،‬ومن السرقة وغير ذلك‪.‬‬
‫الكبائر؛ يعني‪ :‬أكبر من ْ‬
‫‪195‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬أن يعتقد َّ‬
‫أن هذا الخيط‪ ،‬أو الخاتم ونحوه َينفع‬
‫و َيضر بذاته‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فهذا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬‬
‫ِ‬
‫وقوله‪( :‬ل ْبس الح ْلقة) َ‬
‫الح ْلقة‪ :‬الشيء المستدير(‪ )1‬سواء كان من‬
‫ٍ‬
‫خرزات ونحوها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ألماس‪ ،‬أو من‬ ‫فضة‪ ،‬أو من‬ ‫نحاس‪ ،‬أو من ٍ‬
‫ٍ‬
‫وقوله‪( :‬والخي ِ‬
‫ط) هو الخيط المعروف‪ ،‬سواء من ٍ‬
‫جلد‪ ،‬أو من‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫قماش أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬لبس الح ْلق ِة والخي ِ‬
‫ط) ليس ذلك مق َّيدا بال ُّلبس‪ ،‬فلو وضع‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫خيطا يف جيبه مثَل؛ يأخذ نفس الحكم‪.‬‬
‫وأيضا التعليق ليس لآلدمي فقط‪ ،‬وإنَّما لو ع َّلق عىل السيارة مثَل‪،‬‬
‫عين مثَل‪.‬‬
‫لئَل تصيبها ٌ‬
‫أو عىل الدابة؛ َّ‬
‫فهي ال تخلو من الشرك؛ إ َّما من األكبر‪ ،‬وإ َّما من األصغر‪.‬‬
‫نحو ل ْبس الح ْلقة والخيط‪ ،‬مِثل‪ :‬ل ْبس ما‬ ‫ِ‬
‫قوله‪( :‬ون ْح ِوهام) يعني‪ْ :‬‬
‫وضع نمشا أو وشما عىل جسده‬ ‫ان َ‬‫يوضع عىل الصدر‪ ،‬ومِثل‪ :‬لو إنس ٌ‬

‫(‪ )1‬مقاييس اللغة البن فارس (‪.)98/2‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪196‬‬

‫سبب لدفع العين؛ فيأخذ ن ْفس‬


‫ٌ‬ ‫يعتقد ذلك‪ ،‬أو لبس خاتما يعتقد فيه أنَّه‬
‫الحكم أيضا‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬لِر ْف ِع البَل ِء) أي‪ :‬لر ْفع الضر الذي نَزل ‪ -‬من المرض‪ ،‬أو‬
‫الص َرع‪ ،‬أو من العين ونحو ذلك ‪-‬؛ أي‪ :‬لر ْفعه بعد وقوعه‪.‬‬
‫من َّ‬
‫شخص‪ ،‬فقال‪َ :‬ضع هذه التميمة‬ ‫ٌ‬ ‫مِثل‪ :‬لو َّ‬
‫أن َِ شخصا مريضا زاره‬
‫وغم ونحوه‪.‬‬
‫وهم ٍّ‬‫سقم ٍّ‬ ‫فتشفى؛ فهنا ر ْفع البَلء من ٍ‬
‫(أ ْو د ْف ِع ِه) أي‪ :‬د ْفع البَلء ق ْبل نزوله‪.‬‬
‫مس‬
‫يضروه‪ ،‬أو أنه لن ي َّ‬
‫الجن لن ُّ‬
‫َّ‬ ‫زعمه َّ‬
‫أن‬ ‫مِثل‪ :‬أن َيلبسها يف ْ‬
‫بعين أو نحو ذلك‪.‬‬‫بسح ٍر‪ ،‬أو ٍ‬ ‫ْ‬
‫ٌ‬
‫شرك؛ إ َّما أكبر‪ ،‬وإ َّما أصغر ‪ -‬عىل‬ ‫وهذا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬كما سبق‬
‫التفصيل السابق ‪.-‬‬
‫ف َمن فعل ذلك‪ :‬حكمه ينقسم إىل ثَلثة أقسا ٍم‪:‬‬
‫ِ‬
‫األول‪ :‬إذا كان ع َّلقها َيعتقد أهنا تنفع أو ُّ‬
‫تضر بذاهتا‪.‬‬ ‫القسم َّ‬
‫شرك أكبر – والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫ٌ‬ ‫فهذا‬
‫والضر من ال َّله‪ ،‬لكن‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬إذا كان يعلقها و َيعتقد َّ‬
‫أنَِ النَّفع‬
‫َّ‬
‫سبب‪.‬‬ ‫يعتقد َّ‬
‫أنَِها ٌ‬
‫‪197‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٌ‬
‫شرك أصغر‪.‬‬ ‫فهذا‬
‫شخص يف أصبعه خاتما فيه الخرزات‪ ،‬وما‬ ‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬إذا لبِس‬
‫ٌ‬
‫َيمنع من العين من اللون األزرق – مثَل ‪ ،-‬وقال‪ :‬أعرف َّ‬
‫أنَِها ال تنفع‬
‫للتجمل هبا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫تضر‪ ،‬وإ َّنما ألبسها‬
‫وال ُّ‬
‫نقول‪ :‬ال يجوز‪ ،‬حتى لو مل يعتقد هبا؛ ألنَّها من مظاهر الشرك‪ ،‬وال‬
‫وضع مظاهر الشرك‪.‬‬
‫يجوز ْ‬
‫ولما ب َّين المصنيف هذه الترمجة‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫أنَِ التمائم والحلقات‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بشيء وإنما َّبوبت ذلك‪ ،‬وهذه‬ ‫أنَِه يقول‪ :‬مل ِ‬
‫آت‬ ‫ٌ‬
‫شرك؛ أعطاك األد َّلة‪ ،‬وك َّ‬
‫األد َّلة فخذها‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه إِنْ‬
‫قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل أفرأ ْيتم َّما ت ْدعون ِم ْن د ِ‬

‫اشفات ضر ِه﴾)‪.‬‬ ‫أرادنِي ال َّله بِضر ه ْل هن ك ِ‬


‫َّ‬
‫أن الم َت َع َّلق به من‬
‫ساق المصنف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان َّ‬

‫دون ال َّله ال َيدفع عن اإلنسان ُّ‬


‫الض َّر‪.‬‬
‫وهذه اآلية يف بيان الشرك األكبر‪ِ ،‬‬
‫وسي َقت يف بيان الشرك األصغر‪،‬‬
‫فم ْن َلبس الح ْلقة؛ َتسوق له هذه األد َّلة‪:‬‬
‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪198‬‬

‫ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫َاش َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ َْ َ ْ‬
‫ف‬ ‫َاش َ‬ ‫بِ َخي ٍر َف ََل راد ل ِ َف ْضلِ ِه﴾ [يونس‪﴿ ،[107:‬وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫ٍّ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ‬
‫َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن َي ْم َس ْس َك بِ َخ ْي ٍر َفه َو َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [األنعام‪َ ﴿ ،[17:‬ما‬
‫َّاس مِ ْن َر ْح َم ٍة َف ََل م ْم ِس َك َل َها َو َما ي ْم ِس ْك َف ََل م ْر ِس َل َله مِ ْن‬
‫َي ْفت َِح ال َّله لِلن ِ‬

‫َب ْع ِد ِه﴾ [فاطر‪.[2:‬‬


‫و َثبت يف الصحيحين(‪ )1‬عن المغيرة بن شعبة(‪ )2‬رضي ال َّله عنه‬
‫ٍ‬
‫صَلة‪َ « :‬ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َو ْحدَ ه َال‬ ‫قال‪ :‬كان النبي ﷺ يقول يف دب ِر كل‬
‫الح ْمد‪َ ،‬وه َو َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير‪ ،‬ال َّله َّم َال َمانِ َع‬ ‫يك َله‪َ ،‬له الم ْلك‪َ ،‬و َله َ‬ ‫َش ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ال م ْعطِ َي ل ِ َما َمنَ ْع َت‪َ ،‬و َ‬
‫ل ِ َما َأ ْع َط ْي َت‪َ ،‬و َ‬
‫الجدُّ »‪ ،‬فالنافع‬ ‫الجد من َْك َ‬ ‫ال َينْ َفع َذا َ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫الضار هو ال َّله‪ ،‬وهذا يبين َّ‬
‫أنَِ التميمة‬ ‫ُّ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األذان‪ ،‬باب الذكر بعد الصَلة‪ ،‬رقم (‪ ،)844‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب المساجد ومواضع الصَلة‪ ،‬باب استحباب الذكر بعد الصَلة وبيان‬
‫صفته‪ ،‬رقم (‪.)593‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن‬
‫مالك بن كعب ابن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثقفي‪َ ،‬أسلم عام‬
‫الخندق‪ ،‬تويف سنة (‪50‬هـ)‪ .‬االستيعاب البن عبد البر (‪.)1445/4‬‬
‫‪199‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقوله سبحانه‪﴿( :‬ق ْل أفرأ ْيت ْم) أي‪ :‬أ ُّيها المشركون‪( ،‬ما ت ْدعون ِم ْن‬
‫الح َلق والخيوط‪.‬‬‫ون ال َّل ِه)‪ ،‬وكذلك ما تعلقونه من ِ‬‫د ِ‬

‫اشفات ضر ِه﴾) أي‪ :‬اآللهة‪ ،‬هل‬


‫(إِنْ أرادنِي ال َّله بِضر ه ْل هن ك ِ‬
‫َّ‬
‫الضر الذي أراده ال َّله عليك من الموت أو المرض؟‬
‫َّ‬ ‫تستطيع أن َتمنع‬
‫الجواب‪ :‬ال‪.‬‬
‫أن ل ْبس الخيط‪ ،‬والح ْلقة كذلك ال َتدفع عنك الضرر‪.‬‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ورزق‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫برمحة‪،‬‬ ‫وقوله‪َ ﴿ :‬أ ْو َأ َرا َدنِي بِ َر ْح َم ٍة﴾ يعني‪ :‬ال َّله أرادين‬
‫﴿ه ْل ه َّن﴾ أي‪ :‬اآللهة‪﴿ ،‬م ْم ِس َكات َر ْح َمتِ ِه﴾ [الزمر‪ ]38:‬يمنعون‬ ‫ٍ‬
‫ومال‪َ ،‬‬
‫عني الرزق؟ ال‪.‬‬
‫وجل والتع ُّلق به سبحانه‪َّ ،‬‬
‫وأن هذه‬ ‫عز َّ‬
‫إذا‪ :‬يجب التوكُّل عىل ال َّله َّ‬
‫الخيوط ونحوها من الشرك‪.‬‬
‫مِثل‪ :‬ما َيفعله بعض أصحاب السيارات الكبيرة من الشاحنات‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫خيوط سوداء يف أطراف السيارة‪.‬‬ ‫وضع‬
‫سيارات األجرة؛ من ْ‬
‫ٌ‬
‫شرك ‪ -‬والعياذ‬ ‫نوع من أنواع الح ْلقة والخيط‪ ،‬الذي هو‬
‫هذه ٌ‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪200‬‬

‫ثم بعد ذلك قال رمحه ال َّله‪( :‬ع ْن ِع ْمران ْب ِن حص ْي ٍن ر ِضي ال َّله ع ْنهام‬
‫َل فِي ي ِد ِه ح ْلق ٌة ِم ْن ص ْفرٍ‪ ،‬فقال‪« :‬ما ه ِذ ِه؟! قال‪ِ :‬من‬ ‫أ َّن النَّبِ َّي ﷺ رأى رج ً‬
‫ت و ِهي عل ْيك؛‬ ‫اهن ِة‪ ،‬قال‪ :‬ا ْن ِز ْعها؛ فإِنَّها َّل ت ِزيدك إِ ََّّل و ْهن ًا‪ ،‬فإِنَّك ل ْو ِم َّ‬
‫الو ِ‬

‫أحمد بِسن ٍد َّل ب ْأس بِ ِه)‪.‬‬ ‫ما أ ْفل ْحت أبد ًا» رواه ْ‬
‫أن لبس الح ْلقة‬ ‫َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان َّ‬
‫شرك‪ ،‬لذلك‬‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫وفَلح؛ ألهنا‬ ‫بعد عن كل ٍ‬
‫خير‬ ‫والخيط ونحومها فيه ضرر؛ فت ِ‬
‫ٌ‬
‫قال‪( :‬ع ْن ِع ْمران ْب ِن حص ْي ٍن ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن النَّبِ َّي ﷺ رأى رج ً‬
‫َل)‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حصين‪.‬‬ ‫َ‬
‫عمران بن‬ ‫النبي ﷺ َرآنِي»(‪)1‬؛ أي‪ :‬رأى‬ ‫أنَِ َّ‬
‫ٍ‬
‫رواية‪َّ « :‬‬ ‫ويف‬
‫نحاس أصفر‪ ،‬ومِنه ما يباع يف‬ ‫ٍ‬ ‫(فِي ي ِد ِه ح ْلق ٌة ِم ْن ص ْفرٍ) يعني‪ :‬من‬
‫بعض المحَلَّت من قولهم أنَّها تنظم حركات القلب ونحو ذلك؛ هذا‬
‫من أنواع لبس الحلقة والخيط‪.‬‬
‫فصال‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫(فقال‪« :‬ما هذه؟») من باب االستنكار عليه‪ ،‬أو االست َ‬

‫(‪ )1‬رواه الحاكم يف المستدرك‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬رقم (‪ ،)7502‬من حديث‬


‫عمران بن حصين رضي ال َّله عنهما‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬د َخ ْلت َع َلى النَّبِي ﷺ‪َ ،‬وفِي‬
‫اهن َِة‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬ا ْنبِ ْذ َها»‪.‬‬
‫َعض ِدي ح ْل َق ٌة مِن ص ْف ٍر‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬ما َه ِذ ِه؟ َفق ْلت‪ :‬مِن الو ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪201‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اهن ِة) والواهنة‪ٌ :‬‬


‫مرض يصيب اليد(‪ ،)1‬اسمه الواهنة‪،‬‬ ‫(قال‪ِ :‬من الو ِ‬

‫سبب يف ر ْفع‬ ‫ما بين الكتف إىل ِ‬


‫المر َفق‪ ،‬فلبِ َسها يف ْ‬
‫زعمه أن هذه الح ْلقة ٌ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫يدل عىل ِغلظ معصية الشرك األصغر ‪ -‬والعياذ‬
‫(قال‪ :‬ا ْن ِز ْعها) هذا ُّ‬
‫بال َّله ‪ -‬حيث أمر النبي ﷺ بإزالة ذلك المن َكر‪.‬‬
‫أن الخيوط ونحو ذلك ت ِ‬
‫وهن‬ ‫(فإِنَّها َّل ت ِزيدك إِ ََّّل و ْهن ًا) َّ‬
‫دل عىل َّ‬
‫وتحل به األمراض؛ لقول النبي ﷺ يف الحديث‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫وتضعفه‪،‬‬ ‫الشخص‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بخيط وكَله ال َّله لذلك‬ ‫اآلخر‪َ « :‬م ْن َت َع َّل َق َش ْيئا وكِ َل إِ َل ْي ِه»(‪ ،)2‬فمن تع َّلق‬
‫الخيط‪ ،‬والخيط ال َينفعه‪.‬‬
‫ت و ِهي عل ْيك؛ ما أ ْفل ْحت أبد ًا) ُّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن ل ْبس‬ ‫وقوله‪( :‬فإِنَّك ل ْو ِم َّ‬
‫مِثل ذلك‪ ،‬مِثل ما يع َّلق عىل األطفال من السَلسل ونحوها يف زعمهم‬
‫أهنا تمنع من العين؛ فالنبي ﷺ َأخبر َّ‬
‫أن هذا الطفل لن يفلح‪ ،‬وكذا من‬

‫ع َّلقها وهو ٌ‬
‫كبير لن يفلح‪.‬‬

‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور (‪.)454/13‬‬


‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18781‬من حديث عبد ال َّله بن ع َك ْيم‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪202‬‬

‫أن اإلنسان ال يعذر بالجهل يف الشرك‪ ،‬لذا َيجب عىل‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫ٍ‬
‫شيء يضا ُّد‬ ‫المسلم أن يتع َّلم التوحيد وما يضا ُّد التوحيد؛ لئَل يقع يف‬
‫التوحيد أو ي ِنقصه‪ ،‬وهو ال َيعلم‪.‬‬
‫والنبي ﷺ نفى الفَلح عن ذلك المعلق للنحاس يف يده حتى ولو‬
‫كان َيجهل ذلك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫المسلِم أمه َّية تع ُّلم التوحيد؛ بل تكرار ذلك يف قلبه‬ ‫ِ‬
‫ومن هنا َيعرف ْ‬
‫حينا بعد آخر؛ ليكون اإليمان قو ييا يف قلبه‪.‬‬
‫أحمد بِسن ٍد َّل ب ْأس بِ ِه)‪.‬‬
‫قال‪( :‬رواه ْ‬
‫وهذا الحديث يفيد عدة ٍ‬
‫أمور‪:‬‬
‫أنَِ َم ْن رأى عىل غيره تميمة؛ يجب عليه أ ْن َينزعها‪.‬‬
‫األول‪َّ :‬‬
‫األمر َّ‬
‫أجله‪ْ ،‬‬
‫فإن كان‬ ‫فعلت من ْ‬
‫َ‬ ‫األمر الثاين‪ :‬ل ْبس التميمة يأتيك به ضد ما‬
‫السحر؛ يأتيه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ال يريد‬
‫أنَِ َمن ع َّلق تميمة؛ فإنَّه لن يفلح أبدا‪ ،‬ال يف الدنيا‪،‬‬
‫األمر الثالث‪َّ :‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫أنَِ التميمة‬ ‫يدل عىل َّ‬ ‫وال يف اآلخرة‪ ،‬ون ْفي الفَلح المطلق ُّ‬
‫امرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪« :‬م ْن تع َّلق‬
‫ثم قال‪( :‬وله‪ :‬ع ْن ع ْقبة ب ِن ع ِ‬
‫ْ‬
‫ت ِميم ًة؛ فَل أت َّم ال َّله له‪ ،‬وم ْن تع َّلق ودع ًة؛ فَل ودع ال َّله له»‪.‬‬
‫‪203‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ظ‪« :‬م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فق ْد أ ْشرك»)‪.‬‬


‫وفِي ل ْف ٍ‬

‫أن َمن ع َّلق خيطا‬


‫َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان َّ‬

‫فإن ال َّله تعاىل لن ي َّ‬


‫تم له مراده‪.‬‬ ‫ونحوه؛ لرفع البَلء‪ ،‬أو دفعه‪َّ ،‬‬
‫قوله‪( :‬م ْن تع َّلق) أي‪ :‬ع َّلق‪( ،‬ت ِميم ًة)‪ ،‬سيأيت بإذن ال َّله تعريف‬
‫التمائم يف الباب الذي يليه‪.‬‬
‫بأن ال َّله لن يتم له أمره‪.‬‬
‫إخبار َّ‬
‫ٌ‬ ‫(فَل أت َّم ال َّله له) هذا‬
‫أجل أن ال تصيبه العين؛ َّ‬
‫فإن العين تصيبه‪،‬‬ ‫أي‪َ :‬من ع َّلق تميمة من ْ‬
‫فإن المرض َي ُّ‬
‫أجل أن ال َيمرض؛ َّ‬ ‫ِ‬
‫حل به وهكذا‪.‬‬ ‫و َمن ع َّلق تميمة من ْ‬
‫فمن ع َّلق تميمة تتجا َذبه ثَلثة ٍ‬
‫أمور‪:‬‬
‫األمر األ َّول‪َ :‬وقع يف الشرك‪.‬‬
‫تم له مقصوده‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬لن َي َّ‬
‫ٍ‬
‫شيء‪ ،‬والفَلح هو‪ :‬الخير‬ ‫األمر الثالث‪ :‬ين َفى عنه الفَلح يف كل‬
‫والظ َفر والسعادة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪204‬‬

‫وقوله‪( :‬وم ْن تع َّلق ودع ًة) الو َدع‪ :‬هو الحصى األبيض الذي عند‬
‫ساحل البحر الذي يخرجه البحر(‪ ،)1‬أبيض مِثل ال َق ْو َق َعة‪.‬‬
‫الضر يف زعمها‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫ي‬ ‫كانت العرب تتخذه ت َّتقي به العين أو‬
‫الصدَ َفات‪ ،‬يع َّلق عىل الصدر‪ ،‬وأحيانا عىل اليد‪ ،‬يزعمون أ َّنه يسكن‬
‫َّ‬
‫النفس‪.‬‬
‫فم ْن ع َّلقها؛ لن يح َّقق مراده‪ ،‬ولن يفلح‪.‬‬
‫َ‬
‫(فَل ودع ال َّله له) أي‪ :‬لن يدعه ال َّله ساكنا يف األمر الذي ا َّتخذه‪.‬‬
‫فمن ا َّتخذه ليزول عنه المرض؛ فالمرض سيكون فيه ولن يد َعه‪.‬‬
‫سحر؛ فلن يدعه ال َّله وسوف يسحر وهكذا‪.‬‬‫ومن ا َّتخذه لئَل ي َ‬
‫لمن يتخذ الِح َلق‪ ،‬أو الخيوط‪ ،‬أو التمائم‬
‫وهذا فيه وعيدٌ شديدٌ َ‬
‫وأن الواجب هو التع ُّلق بال َّله عز وجل‪.‬‬
‫ونحوها‪َّ ،‬‬
‫وع َّلة تحريم ذلك‪ :‬هو عدم االعتماد عىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫واالعتماد عىل الجمادات؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِ ْن َي ْم َس ْس َك ال َّله بِض ٍّر َف ََل‬
‫ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك بِ َخيْ ٍر َف ََل َرا َّد ل ِ َف ْضلِ ِه﴾ [يونس‪.]107:‬‬ ‫ك ِ‬
‫َاش َ‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪.)1295/3‬‬


‫‪205‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ظ‪« :‬م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فق ْد أ ْشرك»)‪.‬‬


‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬وفِي ل ْف ٍ‬

‫َذكر هذه الرواية؛ لبيان حكم المع َّلق من الخيوط ونحوها من‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫التمائم‪ ،‬وأنَّه‬
‫فإذا سألك أحدٌ ‪ :‬ما حكم التميمة؟‬
‫قل له‪ :‬قال النبي ﷺ‪( :‬م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فق ْد أ ْشرك)‪.‬‬
‫سبب يف د ْفع الضرر أو ج ْلب النفع؛‬
‫ٌ‬ ‫فإن كان َيعتقد يف التميمة أهنا‬
‫ٌ‬
‫شرك أصغر‪.‬‬ ‫فهو‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫وتضر؛ فهو‬
‫ُّ‬ ‫كان يعتقد أهنا بذاهتا تنفع‬‫وإن َ‬
‫َل فِي ي ِده خ ْي ٌط‬ ‫ثم قال‪( :‬وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه‪ :‬أنَّه رأى رج ً‬
‫ِمن الح َّمى‪ ،‬فقطعه‪ ،‬وتَل ق ْوله تعالى‪﴿ :‬وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه إِ ََّّل وه ْم‬
‫م ْشرِكون﴾ رواه ا ْبن أبِي حاتِ ٍم)‪.‬‬
‫ضرر هذا الذنْب‪ ،‬ولبيان‬
‫َ‬ ‫َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا األثر؛ ليبين‬
‫وجوب إنكار ل ْبس الخيوط ونحوها؛ لر ْفع البَلء‪ ،‬أو د ْفعه‪ ،‬و َّ‬
‫أنَِ َمن‬
‫أن يزيله؛ فيجب عليه ذلك‪.‬‬ ‫استطاع ْ‬
‫َل فِي ي ِده خ ْي ٌط ِمن‬
‫(وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه‪ :‬أنَّه رأى رج ً‬
‫الحمى‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحمى‪ ،‬ف َيزعم َّ‬
‫أنَِ هذا الخيط َيدفع عنه‬ ‫َّ‬ ‫لئَل تصيبه‬
‫الح َّمى) أي‪َّ :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪206‬‬

‫(فقطعه) حذيفة رضي ال َّله عنه؛ ألنه يزيد الح َّمى وال َيرفعها عنه‪،‬‬
‫ٌ‬
‫شرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫وألنه‬
‫(وتَل ق ْوله تعالى‪﴿ :‬وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه) أي‪ :‬وما يؤمن أكثرهم‬
‫بتوحيد الربوبية‪( ،‬إِ ََّّل وه ْم م ْشرِكون﴾) بتوحيد األلوهية‪.‬‬
‫يدل عىل َف ْهم الصحابة رضي ال َّله عنهم لنصوص العقيدة‬
‫وهذا ُّ‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫يصح االستدالل بآيات الشرك األكبر عىل‬
‫ُّ‬ ‫وأيضا ُّ‬
‫يدل عىل أنَّه‬
‫ٌ‬
‫شرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫الشرك األصغر؛ بجامع َّ‬
‫أنَِ كليهما‬
‫َّ‬
‫فدل عىل خطورة تعليق الخيوط ونحوها‪ ،‬وأنَّه يجب إنكارها وإذا‬
‫ضرر؛ فتترك ويكتفى‬
‫كان ال ضرر يف إزالتها بالقطع؛ فتقطع‪ ،‬وإذا كان فيه ٌ‬
‫باللسان ‪ -‬باإلنكار به ‪.-‬‬
‫والس َلف‬
‫أن الصحابة َ‬ ‫وساق المصنف رمحه ال َّله هذا األثر‪ ،‬ليبين َّ‬
‫يستد ُّلون بآيات الشرك األكبر عىل ف ْعل الشرك األصغر‪ ،‬ومِثل اآلية‬
‫ون ال َّل ِه إِنْ أرادنِي ال َّله بِضر ه ْل ه َّن‬
‫األوىل‪﴿( :‬ق ْل أفرأ ْيت ْم ما ت ْدعون ِم ْن د ِ‬

‫اشفات ضر ِه﴾)‪.‬‬ ‫ك ِ‬

‫هذا من جانب ضرر التميمة‪ ،‬وحكمها‪ ،‬والتفصيل يف ل ْبسها‪.‬‬


‫‪207‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ومِن أعظم أضرار التميمة‪:‬‬


‫أنَِ القلب يتع َّلق بغير ال َّله‪ ،‬فينظر إىل الخيط دائما‪،‬‬ ‫األول‪َّ :‬‬
‫األمر َّ‬
‫ٍ‬
‫كبيرة‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬
‫بعبادة‬ ‫وإن َترك التع ُّلق بال َّله؛ فقد َّفرط‬ ‫و َيترك التعلق بال َّله‪ْ ،‬‬
‫﴿و َع َلى ال َّل ِه َفت ََوكَّلوا إِ ْن كنْت ْم م ْؤمِنِي َن﴾ [المائدة‪.]23:‬‬
‫التوكُّل؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬تفوت عليه منافع التوكيل عىل ال َّله؛ مِن تيسير الرزق‪،‬‬
‫ومِن تيسير األمور‪ ،‬ومِن زوال الهموم‪ ،‬ف َيجعل القلب دائما متع يلقا بتلك‬
‫الجمادات‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬وتفوت عليه أيضا عبادة اإليمان بالقضاء والقدر‪،‬‬
‫مما يقع عليه من القضاء والقدر‪.‬‬
‫ف َيدفع نفسه جاهدا للجمادات؛ َج َزعا َّ‬
‫األمر الرابع‪ :‬وأيضا استَحوذ عليه الشيطان‪ْ ،‬‬
‫بأن أوقعه يف الشرك‪،‬‬
‫بأن لن َيحصل له ما أراده‪ ،‬ونفى الفَلح عن ن ْفسه‬
‫وج َلب لنفسه الضرر؛ ْ‬
‫يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫األمر الخامس‪ :‬ومن فعل ذلك؛ ِ‬
‫ظاه ٌر فيه نقصان يف العقل‪ ،‬فكيف‬ ‫َ َ‬
‫قادر عىل‬ ‫ٍ‬
‫خيط ْ‬
‫ضرا‪ ،‬أو َيجلب له نفعا‪ ،‬وهو نفسه ٌ‬
‫أن يدفع عنه ي‬ ‫َيعتقد يف‬
‫إزالة ذلك الخيط‪.‬‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪208‬‬

‫[‪]8‬‬
‫الرقى وال َّتامئِ ِم‬ ‫ِ‬
‫باب ما جاء في ُّ‬
‫اري ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬أنَّه كان مع‬ ‫حيحِ ‪ :‬ع ْن أبِي ب ِشيرٍ األ ْنص ِ‬ ‫فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫َّل‪ :‬أ ََّّل ي ْبقي َّن فِي رقب ِة ب ِعيرٍ‬
‫ار ِه‪ ،‬فأ ْرسل رسو ً‬
‫سف ِ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ول ال َّل ِه ﷺ فِي ب ْع ِ‬ ‫رس ِ‬

‫قَِلد ٌة ِم ْن وترٍ‪ ،‬أ ْو قَِلد ٌة؛ إِ ََّّل قطِع ْت»‪.‬‬


‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬س ِم ْعت رسول ال َّل ِه ﷺ يقول‪:‬‬ ‫وع ْن اب ِن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫الرقى‪ ،‬وال َّتامئِم‪ ،‬والتولة؛ ِش ْر ٌك» رواه أ ْحمد وأبو داود‪.‬‬ ‫«إِ َّن ُّ‬
‫وع ْن ع ْب ِد ال َّل ِه ْب ِن عك ْي ٍم ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪« :‬م ْن تع َّلق ش ْيئ ًا؛‬
‫وكِل إِل ْي ِه» رواه أ ْحمد والت ْر ِم ِذ ُّي‪.‬‬
‫آن؛‬‫ال َّتامئِم‪ :‬ش ْي ٌء يع َّلق على األ ْوَّل ِد ع ِن الع ْي ِن‪ ،‬لكِ ْن إِذا كان ِمن الق ْر ِ‬

‫فرخَّ ص فِ ِيه ب ْعضه ْم‪ ،‬وب ْعضه ْم ل ْم يرخ ْص فِ ِيه‪ ،‬وي ْجعله ِمن الم ْن ِهي‬
‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه ‪.-‬‬ ‫ع ْنه ‪ِ -‬منهم ابن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫الرقى‪ِ :‬هي ا َّلتِي تس َّمى العزائِم‪ ،‬وخ َّص ِم ْنه الدَّ لِيل ما خَل ِمن‬ ‫و ُّ‬
‫الش ْر ِك؛ فق ْد رخَّ ص فِ ِيه رسول ال َّل ِه ﷺ ِمن الع ْي ِن والحم ِة‪.‬‬
‫‪209‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والتولة‪ :‬ش ْي ٌء يضعونه ي ْزعمون أنَّه يحبب الم ْرأة إِلى ز ْو ِجها‪،‬‬
‫الرجل إِلى ا ْمرأتِ ِه‪.‬‬
‫و َّ‬
‫المام أ ْحمد‪ :‬ع ْن رو ْي ِف ٍع ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬قال لِي‬ ‫وروى ِ‬

‫رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬يا رو ْي ِفع! لع َّل الحياة ستطول بِك؛ فأ ْخبِرِ النَّاس أ َّن م ْن‬
‫ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة أ ْو ع ْظ ٍم؛ فإِ َّن ُم َّمد ًا‬ ‫ِ‬
‫عقد ل ْحيته‪ ،‬أ ْو تق َّلد وتر ًا‪ ،‬أ ْو ا ْ‬
‫برِي ٌء ِم ْنه»‪.‬‬
‫ان؛ كان ك ِع ْد ِل‬
‫يد ْب ِن جب ْيرٍ قال‪« :‬م ْن قطع ت ِميم ًة ِم ْن إِ ْنس ٍ‬
‫وع ْن س ِع ِ‬

‫رقب ٍة» رواه وكِ ٌ‬


‫يع‪.‬‬
‫اهيم قال‪« :‬كانوا ي ْكرهون ال َّتامئِم ك َّلها ِمن الق ْر ِ‬
‫آن وغ ْيرِ‬ ‫وله‪ :‬ع ْن إِبر ِ‬
‫ْ‬
‫الق ْر ِ‬
‫آن»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫قال‪( :‬باب ما جاء فِي الرقى والتامئِ ِم) (الرقى) مجْع ر ٍ‬
‫قية‪ ،‬وهي ما‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫يستشفى به(‪ ،)1‬وتنقسم إىل قِسمين‪:‬‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪ ،)2361/6‬تاج العروس للزبيدي (‪.)175/38‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪210‬‬

‫ٌ‬
‫شرعية‪ :‬وهي ما كانت بالقرآن‪ ،‬وبالسنَّة‪ ،‬أو‬ ‫األول‪ٌ :‬‬
‫رقية‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫باألدعية المشروعة‪ ،‬أو باألدوية المباحة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شروط‪:‬‬ ‫والرقية المشروعة لها ثَلثة‬
‫األول‪ :‬أن تكون بالقرآن والسنَّة واألدعية المباحة‪.‬‬‫الشرط َّ‬
‫عربي مفهو ٍم‪ ،‬ليس فيه َت ْم َت َم ٌ‬
‫ات‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫الشرط الثاين‪ :‬أن تكون بلسان ٍّ‬
‫سبب‪ ،‬قد َتنفع وقد ال َتنفع‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يعتَقد بأهنا ٌ‬
‫راق وال يستفيد منه‪ ،‬و َيذهب إىل غيره‬ ‫فقد َيذهب الشخص إىل ٍ‬
‫فدل عىل أن ليس كل ٍ‬
‫رقية َتنفع‪ ،‬فقد َينتفع من الراقي‪ ،‬وقد‬ ‫ويستفيد منه‪َّ ،‬‬
‫ال َينتفع منه‪.‬‬
‫أنواع‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫والرقية هلا‬
‫أن يرقي اإلنسان ن ْفسه؛ وهذه أكْملها‪ ،‬وكان النبي ﷺ‬
‫األول‪ْ :‬‬
‫النوع َّ‬
‫يرقي ن ْفسه(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب فضل المعوذات‪ ،‬رقم (‪،)5016‬‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب رقية المريض بالمعوذات والنفث‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2192‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن النَّبِ َّي ﷺ ك َ‬
‫َان‬
‫إِ َذا ْاش َت َكى ي ْقرأ َع َلى َن ْف ِس ِه بِالمعو َذ ِ‬
‫ات‪َ ،‬و َينْفث‪َ ،‬ف َل َّما ْاشتَدَّ َو َجعه كنْت َأ ْق َرأ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫‪211‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن يرقيه غ ْيره‪ ،‬وينقسم إىل قِسمين‪:‬‬


‫النوع الثاين‪ْ :‬‬
‫شخص‬ ‫طلب منه‪ ،‬مِثل‪ْ :‬‬
‫أن يزور‬ ‫ٍ‬ ‫األول‪ْ :‬‬
‫أن يرقيه غيره بغير‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫القسم َّ‬
‫آخر‪ ،‬فيجده مريضا‪ ،‬ثم يأيت هذا الشخص ويرقي ذلك المريض‪ ،‬من غير‬
‫ٍ‬
‫طلب منه‪.‬‬
‫اع مِنْك ْم َأ ْن َينْ َف َع َأ َخاه‬ ‫مشروع؛ كما قال النبي ﷺ‪َ « :‬م ِن ْ‬
‫اس َت َط َ‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫َف ْل َي ْف َع ْل»(‪.)1‬‬

‫أن يرقِ َيه‪ ،‬إ َّما ْ‬


‫أن يذهب‬ ‫أن َيطلب الشخص مِن غيره ْ‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ْ :‬‬
‫عيل‬
‫صالح يزوره‪ ،‬فيقول له‪ :‬اقرأ ي‬
‫ٌ‬ ‫شخص‬
‫ٌ‬ ‫مريض ويأتيه‬
‫إليه‪ ،‬أو يكون هو ٌ‬
‫عيل‪.‬‬
‫القرآن‪ ،‬وانفث ي‬
‫كما يف الحديث‪« :‬هم‬
‫ولكن األفضل عدم الطلب‪َ ،‬‬
‫َّ‬ ‫جائز‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫ون‪َ ،‬و َع َلى َرب ِه ْم‬
‫ون‪َ ،‬و َال َي َت َط َّير َ‬
‫ون‪َ ،‬و َال َي ْكتَو َ‬
‫ين َال َي ْست َْرق َ‬ ‫ِ‬
‫ا َّلذ َ‬
‫ون»(‪.)2‬‬
‫َيت ََوكَّل َ‬

‫َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َأ ْم َسح َعنْه بِ َي ِد ِه‪َ ،‬ر َجا َء َب َركَتِ َها»‪.‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة‬
‫والنظرة‪ ،‬رقم (‪ ،)2199‬من حديث جابر بن عبد ال َّله رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪212‬‬

‫ْ‬ ‫فلو ِ‬
‫شخص وقال‪ :‬هل األفضل أن أذهب إىل شيخٍ يقرأ ي‬
‫عيل‬ ‫ٌ‬ ‫مر َض‬
‫أن ال َأذهب؟‬
‫القرآن‪ْ ،‬أو األ ْفضل ْ‬
‫ي‬
‫والتسخط؛‬ ‫التجزع‬
‫ي‬ ‫قوي َيمنعك من‬ ‫ٌ‬
‫إيمان ٌّ‬ ‫نقول‪ :‬إذا كان عندك‬
‫فاألفضل عدم الذهاب‪ ،‬وتقرأ أنت عىل نفسك‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وتسخط عىل‬ ‫تجزع‬ ‫أ يما ْ‬
‫إن كان إيمانك ضعيفا‪ ،‬و َينتج عن ذلك ُّ‬
‫القضاء والقدر؛ نقول‪َ :‬تذهب أفضل؛ َّ‬
‫لئَل يكون يف قلبك وصدرك عدم‬
‫المحرم ‪ -‬وهو عدم‬
‫ي‬ ‫الرضا بالقضاء والقدر‪ ،‬وحتى ال تقع يف األمر‬
‫الجنَّة بغير‬
‫مستحب ‪ -‬وهو دخول َ‬
‫ٍّ‬ ‫ألجل ٍ‬
‫أمر‬ ‫الرضا بالقضاء والقدر ‪-‬؛ ْ‬
‫ٍ‬
‫عذاب ‪.-‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬
‫شخص‪ ،‬وقال‪ :‬أيهما أ ْفضل‬
‫ٌ‬ ‫ومِثله الذهاب إىل الطبيب‪ :‬فلو ِ‬
‫مرض‬
‫َأذهب إىل الطبيب أم ال َأذهب؟‬

‫َح ْسبه﴾ [الطَلق‪ ،]3 :‬رقم (‪ ،)6472‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الدليل‬
‫ٍ‬
‫عذاب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حساب وال‬ ‫الجنَّة بغير‬
‫عىل دخول طوائف من المسلمين َ‬
‫رقم (‪.)218‬‬
‫‪213‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫متوكل عىل ال َّله‪ ،‬وتقرأ عىل نفسك؛ األفضل عدم‬


‫ٌ‬ ‫نقول‪ :‬إذا أنت‬
‫الذهاب‪.‬‬
‫وتتجزع؛ فاألفضل لك‬
‫ي‬ ‫أ يما ْ‬
‫إن كنت تجلس يف بيتك وأنت مريض‬
‫قدح يف القضاء والقدر‪.‬‬
‫لئَل يكون عندك ٌ‬ ‫ْ‬
‫أن تذهب؛ َّ‬
‫معنوي ‪ -‬وأفضله ال شك‪ :‬القرآن؛ كما‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بعَلج‬ ‫والرقية سواء كانت‬
‫آن َما ه َو ِش َفا ٌء َو َر ْح َم ٌة‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وننَزل مِن القر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾ [اإلسراء‪ ،]82:‬و﴿مِن﴾ هنا‪ :‬بياني ٌة‪ ،‬وليست تبعيضي ٌة؛ بمعنى‪:‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫ل ْلم ْؤمن َ‬
‫أن َّ ٍ‬
‫كل آية يف كتاب ال َّله هي بإذن ال َّله ٌ‬
‫سبب يف الشفاء ‪.-‬‬ ‫َّ‬
‫مشروعة‪ ،‬مثل‪ :‬الح َّبة السوداء « ِش َفا ٌء مِ ْن كل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مباحة‬ ‫أو كانت بأدوية ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الس يم‬‫وتمر العجوة َي ْمنَع م َن ُّ‬ ‫َداء»(‪ ، )1‬ومثل‪ :‬زمزم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة»(‪ْ ،)2‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب الحبة السوداء‪ ،‬رقم (‪ ،)5688‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب السَلم‪ ،‬باب التداوي بالحبة السوداء‪ ،‬رقم (‪ ،)2215‬من حديث أبي‬
‫هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رضي ال َّله عنهم‪ ،‬باب من فضائل أبي ٍ‬
‫ذر‬
‫رضي ال َّله عنه‪ ،‬رقم (‪ ،)2473‬من حديث أبي ٍ‬
‫ذر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪214‬‬

‫والس ْحر(‪ ،)1‬وعجوة عالية المدينة «إِ َّن فِي َع ْج َو ِة ال َعال ِ َي ِة ِش َفاء ‪َ -‬أ ْو إِن ََّها‬
‫اق ‪َ -‬أ َّو َل الب ْك َر ِة»(‪.)2‬‬
‫تِ ْر َي ٌ‬
‫فهذه أدوي ٌة جاء الشرع هبا‪.‬‬
‫ولو كان هناك أدوي ٌة مباح ٌة للشفاء من السحر والعين‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫السحر‪ْ ،‬أو ج يرب‬
‫بالسدر للمسحور‪ ،‬واالغتسال بالملح يطرد ي‬
‫االغتسال ي‬
‫مباح‪ ،‬و َيدخل يف ذلك حكم األدوية‪.‬‬
‫نفعه؛ فهو ٌ‬
‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬الرقية الممنوعة‪ ،‬وتنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شرك؛ فهي ‪ -‬والعياذ بال َّله‪-‬‬ ‫األول‪ :‬ما كان فيها‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫بمحرم‪ ،‬مثل‪ :‬التداوي بالخمر ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬ما كانت‬
‫َّ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األطعمة‪ ،‬باب العجوة‪ ،‬رقم (‪ ،)5445‬ومسلم‪ ،‬كتاب‬
‫فضل تمر المدينة‪ ،‬رقم (‪ ،)2047‬من حديث سعد بن أبي‬ ‫االشربة‪ ،‬باب ْ‬
‫وقاص رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬من َتصبح ك َّل يو ٍم سبع َتمر ٍ‬
‫ات َع ْج َوة‪َ ،‬ل ْم‬ ‫ٍ‬
‫َْ َ َْ ََ‬ ‫َ ْ َ َّ َ‬
‫ال ِس ْح ٌر»‪.‬‬
‫َيض َّره فِي َذل ِ َك ال َي ْو ِم س ٌّم َو َ‬
‫فضل تمر المدينة‪ ،‬رقم (‪ ،)2048‬من‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب االشربة‪ ،‬باب ْ‬
‫حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫عرفها المصنف‪( :‬ش ْي ٌء يع َّلق على‬ ‫ِ‬


‫وقوله‪( :‬وال َّتامئ ِم) التمائم كما َّ‬
‫الدواب‪ ،‬أو كبار‬
‫ي‬ ‫األ ْوَّل ِد ع ِن الع ْي ِن)‪ ،‬وكذا يع َّلق عىل غير األوالد مِن‬
‫السن‪ ،‬أو الشباب‪ ،‬أو عىل البيوت ونحو ذلك‪.‬‬
‫والفرق بين الرقى والتامئم‪:‬‬
‫ْ‬
‫معنوي‪ ،‬مجع رقية‪ ،‬والتمائم ت َّتخذ ‪ -‬يف‬
‫ٌّ‬ ‫عَلج‬
‫ٌ‬ ‫الرقى‬
‫ز ْعمهم ‪ -‬عَلجا حس ييا‪ ،‬وهي التي ت َع يلق إ يما يف اليد‪ ،‬أو يف المنكب‪ ،‬أو‬
‫آيات ونحو ذلك‪.‬‬ ‫خيط أو ٍ‬
‫يف الدابة‪ ،‬سواء من ٍ‬
‫َّ‬
‫حس يي ٌة‪.‬‬
‫والسنَّة واألدعية‪ :‬معنوي ٌة‪ ،‬وأ َّما التمائم فهي ي‬
‫فالرقى بالكتاب ُّ‬
‫مشروع‪ ،‬ومنها غير مشروعٍ‪ ،‬وأ َّما التمائم فك ُّلها‬
‫ٌ‬ ‫والرقى مِنها ما هو‬
‫ممنوع ٌة‪ ،‬والمنع ينقسم إىل أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن َيعتقد أن التميمة َتنفع أو تضر بذاهتا؛ فهذا شر ٌك‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫أكبر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‬ ‫سبب يف النفع‪ ،‬أو الضر؛ فهذا‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬إذا كان َيعتقد أهنا ٌ‬
‫أصغر‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪216‬‬

‫وإذا كانت من القرآن؛ فالراجح أنَّها ال تجوز أيضا؛ فلم َيثبت عن‬
‫رخصوا يف تعليق التميمة مِن القرآن كما‬
‫الصحابة رضي ال َّله عنهم أهنم َّ‬
‫سيأيت‪.‬‬
‫والفرق بين هذا الباب والباب السابق‪:‬‬
‫ْ‬
‫طلب زوال المرض بالرقية‪ ،‬أو التميمة؛ أل َّن‬ ‫ِ‬ ‫أن هذا الباب يف‬ ‫َّ‬
‫أنَِ التميمة‪( :‬ش ْي ٌء يع َّلق على األ ْوَّل ِد ع ِن‬‫المصنف رمحه ال َّله يرى َّ‬
‫الع ْين)‪.‬‬
‫الضر‪ ،‬أو َبعده؛ لذلك‬
‫ي‬ ‫وأ َّما الباب السابق فهو عا ٌّم سواء كان قبل‬
‫قال هناك‪( :‬لِر ْف ِع البَل ِء أ ْو د ْف ِع ِه)‪.‬‬
‫وأيضا الباب السابق عا ٌّم يف التميمة وغير التميمة‪.‬‬
‫شخص مثَل يف جيبه قلما ونحو ذلك؛ يعتقد فيه ر ْفع‬
‫ٌ‬ ‫فلو َوضع‬
‫فخاص بالتميمة‬
‫ٌّ‬ ‫الضر؛ فهذا َيدخل يف الباب السابق‪ ،‬وأ َّما هذا الباب‬
‫وكذا الرقية‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والمصنف رمحه ال َّله َذكر حديث أبي ٍ‬


‫بشير(‪ )1‬رضي ال َّله عنه؛ لبيان‬

‫أن التمائم التي تع َّلق عىل الدواب وغيرها ٌّ‬


‫منهي عنها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن هذا النهي لكونه‬ ‫ٍ‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه؛ لبيان َّ‬ ‫ثم َذكر حديث ابن‬
‫شركا‪.‬‬
‫كيم(‪ )2‬رضي ال َّله عنه؛ لبيان َّ‬
‫أن َمن‬ ‫ثم َذكر حديث عبد ال َّله بن ع ٍ‬
‫وجل إىل ذلك‪ ،‬ومل َتنفعه‪.‬‬‫عز َّ‬ ‫تع َّلق بالرقية‪ ،‬أو التميمة؛ و َك َله ال َّله َّ‬
‫أي‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أنَِ الحديث‬ ‫لذا قال المصنف رمحه ال َّله‪( :‬وفي َّ‬
‫الصح ْيحِ ) ْ‬
‫صحيح سنده‪ ،‬وهذا يف البخاري ومسلِم(‪.)3‬‬ ‫ٌ‬

‫ٍ‬
‫بشير قيس بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن الجعد من بنى‬ ‫(‪ )1‬قيل هو‪ :‬أبو‬
‫أصح‪.‬‬
‫واألول ي‬
‫َّ‬ ‫مازن بن النجار‪ ،‬تويف قيل‪ :‬بعد الحرة‪ ،‬وقيل‪ :‬سنة (‪40‬هـ)‪،‬‬
‫االستيعاب البن عبد البر (‪.)1611/4‬‬
‫عكيم الجهني‪َ ،‬أدرك النبي ﷺ ومل يره‪ ،‬تويف‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫معبد عبد ال َّله بن‬ ‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو‬
‫سنة (‪88‬هـ)‪ .‬معرفة الصحابة ألبي نعيم (‪ ،)1740/3‬سير أعَلم النبَلء‬
‫للذهبي (‪.)510/3‬‬
‫س َون َْح ِو ِه فِي‬
‫الج َر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪َ ،‬باب َما ق َيل في َ‬
‫اإلبِ ِل‪ ،‬رقم (‪ ،)3005‬ومسلم‪ ،‬كتاب اللباس والزينة‪َ ،‬باب ك ََر َاه ِة‬ ‫َأ ْعن ِ‬
‫َاق ِ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪218‬‬

‫اري ر ِضي ال َّله ع ْنه‪« :‬أنَّه كان مع‬


‫حيحِ ‪ :‬ع ْن أبِي ب ِشيرٍ األ ْنص ِ‬
‫(فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫حرص الصحابة‬ ‫يدل عىل ْ‬ ‫ار ِه) هذا ُّ‬
‫سف ِ‬ ‫ض أ ْ‬‫ول ال َّل ِه ﷺ فِي ب ْع ِ‬
‫رس ِ‬

‫رضي ال َّله عنهم عىل رفقة النبي ﷺ؛ محبة له‪ ،‬وإقامة للجهاد‪ ،‬ولَلنتفاع‬
‫ِ‬
‫بعلمه وهدْ يه عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫أن النبي صىل ال َّله عليه سلم َبعث رسوال يف‬
‫َّل) أي‪َّ :‬‬
‫(فأ ْرسل رسو ً‬
‫ب رسول ال َّله صىل ال َّله عليه سلم زيد بن حارثة‬ ‫ِ‬
‫الجيش‪ ،‬وهو ح ي‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫( َّأَّل ي ْبقي َّن فِي رقب ِة ب ِعيرٍ قَِلد ٌة) وهي الشيء المستدير حول العنق‪،‬‬
‫كانوا يف الجاهلية يعلقون عليها تميمة؛ يعتقدون أن ال يصيبهم بسببها‬
‫شي ٌء‪.‬‬
‫( ِم ْن وترٍ) يعني‪ :‬سواء كانت من األوتار ‪ -‬الوتر‪ :‬هو الخيط الذي‬
‫يكون بين طريف القوس ليرمى به(‪ ،- )1‬مِثل‪ :‬المطاط اآلن‪ ،‬وكانت‬
‫العرب إذا َبيل هذا الخيط يعلقونه ويتبركون به ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬

‫قِ ََل َد ِة ال َو َت ِر فِي َر َق َب ِة ال َب ِع ِير‪ ،‬رقم (‪.)2115‬‬


‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور (‪.)278/5‬‬
‫‪219‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫جزم‪.‬‬ ‫(أ ْو قَِلد ٌة)‪ ،‬وعند أبي داود(‪« :)1‬و َال قِ ََلدة» ليس ٍ‬
‫بشك‪ ،‬وإنما ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫قَلدة؛ فهي ممنوع ٌة‪،‬‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬ ‫سواء كانت من ٍ‬
‫وتر‪ ،‬أو ٍ‬
‫ثوب‪ ،‬أو غترة‪ ،‬أو ْ‬
‫فمن ع َّلقها فليقطعها سواء عىل العنق‪ ،‬أو غير العنق‪.‬‬ ‫َ‬
‫الدواب‪ ،‬أو عىل‬
‫ي‬ ‫قال‪( :‬إِ ََّّل قطِع ْت)؛ ألنَّه ال يجوز تعليق التمائم عىل‬

‫غيرها‪ ،‬و َيجب التع ُّلق بال َّله سبحانه وتعاىل فهو النافع الضار ْ‬
‫وحدَ ه‪.‬‬
‫أن َيقرأ أوراد الصباح والمساء‪.‬‬ ‫وعىل المرء ْ‬
‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬س ِم ْعت‬
‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬وع ْن اب ِن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫الرقى) أي‪ :‬التي ليست من الكِتاب وال من‬ ‫ِ‬
‫رسول ال َّله ﷺ يقول‪« :‬إِ َّن ُّ‬
‫رك‪ ،‬مِثل‪:‬‬
‫السنَّة وال من األدعية المشروعة‪ ،‬أو األدوية المباحة؛ فهي ِش ٌ‬ ‫ُّ‬
‫الرقية التي يقوم هبا بعض السحرة َيزعمون أنَّها تشفي‪ ،‬باالستعانة‬
‫بالج ين‪ ،‬والشياطين ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫ِ‬

‫تميمة‪ ،‬والشرك منها ما كان مِن غير القرآن‪ ،‬وأ َّما‬ ‫ٍ‬ ‫(وال َّتامئِم) مجْع‬
‫محرم وال يصل للشرك‪.‬‬
‫بالقرآن فهو َّ‬

‫(‪ )1‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب يف تقليد الخيل باألوتار‪ ،‬رقم (‪ ،)2552‬من حديث أبي‬
‫ٍ‬
‫بشير رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪220‬‬

‫نوع من أنواع السحر َيصنعه بعض النساء؛ ليح َّبها‬


‫(والتولة) ٌ‬
‫زوجها ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ وهذا من نواقض اإلسَلم؛ كما قال المصنف‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫السابِع‪ :‬الس ْحر‪َ ،‬ومنْه‪َّ :‬‬
‫الص ْرف‬ ‫رمحه ال َّله يف نواقض اإلسَلم‪َّ « :‬‬
‫ِ‬
‫َوال َع ْطف»(‪ ،)1‬فالع ْطف‪ :‬هو الذي يصنع من قبل النساء؛ ليح َّبها ْ‬
‫زوجها‬
‫زعمها‪.‬‬
‫يف ْ‬
‫قال‪ِ ( :‬ش ْر ٌك) ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ َّ‬
‫فدل عىل أن تعليق التمائم شر ٌك‬
‫وحده‬ ‫بال َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فيجب الحذر منها ويجب التوكُّل عىل ال َّله ْ‬
‫ف َله إِ َّال‬ ‫والتع ُّلق به؛ قال سبحانه‪﴿ :‬وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫َاش َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ َْ َ ْ‬
‫ه َو﴾ [األنعام‪ ،]17:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َع َلى كل َش ْي ٍء‬
‫َق ِد ٌير﴾ [البقرة‪،]20:‬‬
‫قال‪( :‬رواه أ ْحمد وأبو داود)‪.‬‬
‫شخص‪ :‬ما حكم التمائم؟‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال لك‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫تقول‪:‬‬
‫عظيم؟‬
‫ٌ‬ ‫أمر‬ ‫ٌ‬
‫شرك؟ وهو ٌ‬ ‫ولو قال‪ :‬كيف تقول هذا‬

‫األول‪ ،‬نواقض اإلسَلم (ص‪.)27‬‬


‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى َّ‬
‫‪221‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الرقى‪ ،‬وال َّتامئِم‪ ،‬والتولة ِش ْر ٌك)‪،‬‬


‫تقول له‪ :‬هذا قول النبي ﷺ‪( :‬إِ َّن ُّ‬
‫أحد من السلف تجويز تعليق التمائم من القرآن‪ ،‬فجميع‬ ‫ومل يثبت عن ٍ‬
‫َ‬
‫محرم ٌة‪.‬‬
‫التمائم َّ‬
‫وأكثر التمائم اآلن شركِ َّي ٌ‬
‫ات‪ ،‬من أسماء ِ‬
‫الجن‪ ،‬أو المَلئكة‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫ومهية‪.‬‬ ‫أسماء‬
‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬وع ْن ع ْب ِد ال َّل ِه ْب ِن عك ْي ٍم ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا‪:‬‬
‫م ْن تع َّلق ش ْيئ ًا) هذا نكر ٌة يف سياق الشرط ُّ‬
‫يدل عىل العموم؛ أي‪ :‬تع َّلق ي‬
‫أي‬
‫ٍ‬
‫نحاس‪.‬‬ ‫شيء‪ ،‬سواء كان التعليق من ٍ‬
‫خيط‪ ،‬أو من‬ ‫ٍ‬

‫قال‪( :‬وكِل إِل ْي ِه) يعني‪ :‬أن ال َّله سبحانه وتعاىل َيتخ َّلى عنه‪ ،‬ويوكَل‬
‫الح َلق‪ ،‬أو التميمة‪ ،‬وهي ال َتملك له نفعا وال‬‫الشخص لذلك الخيط‪ ،‬أو ِ‬

‫اب‪ ،‬وأ َّما ال َّله سبحانه‬ ‫بس َر ٍ‬


‫هالك؛ ألنَّه تع َّلق َ‬
‫ٌ‬ ‫ضرا؛ أي‪ :‬أن المعلق لها‬
‫يب أ ِجيب َد ْع َو َة الدَّ ا ِع إِ َذا‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿وإِ َذا َس َأ َل َك ع َبادي َعني َفإِني َق ِر ٌ‬
‫وتعاىل‪َ :‬‬
‫ان﴾ [البقرة‪ ،]186:‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َم ِر ْضت َفه َو‬ ‫د َع ِ‬
‫َ‬
‫ين﴾ [الشعراء‪.]80:‬‬ ‫َي ْش ِف ِ‬

‫أ َّما الجمادات‪ ،‬والتع ُّلق بالشياطين ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ ،-‬والتع ُّلق‬
‫احر َح ْيث‬ ‫بالسحرة؛ فلن ينفعوك؛ قال سبحانه‪﴿ :‬و َال ي ْفلِح الس ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪222‬‬

‫َأ َتى﴾ [طه‪ ،]69:‬والذي ينفع هو الدعاء‪ ،‬والتوكل عىل ال َّله؛ قال جل‬
‫﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو َح ْسبه﴾ [الطَلق‪ ،]3:‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫وعَل‪َ :‬‬
‫﴿ َو َم ْن َيت َِّق ال َّل َه َي ْج َع ْل َله مِ ْن َأ ْم ِر ِه ي ْسرا﴾ [الطَلق‪.]4:‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬فما أضرار التميمة؟‬ ‫حكمت َّ‬
‫أنَِ التميمة‬ ‫َ‬ ‫شخص‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫فإن قال‬
‫نقول‪َ :‬أ ْو َج َزها النبي ﷺ يف هذا الحديث‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫توكَل إىل هذه التميمة‪.‬‬
‫أردت د ْفعه‪.‬‬ ‫حر‪ ،‬أو ما‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ويصيبك س ٌ‬
‫فمن وكِ َل إىل غير ال َّله خاب وخسر‪.‬‬ ‫ْ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ال َّتامئِم‪ :‬ش ْي ٌء يع َّلق على األ ْوَّل ِد ع ِن الع ْي ِن)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك؛ بدأ‬ ‫لما َذكر رمحه ال َّله حديث َّ‬
‫أن الرقى‪ ،‬والتمائم‪ ،‬والتولة‬ ‫َّ‬
‫يبين معنى ذلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شيء يع َّلق سواء من الخيط‪ ،‬أو من‬ ‫أي‬ ‫ِ‬
‫قال‪( :‬ال َّتامئم‪ :‬ش ْي ٌء) يعني‪ُّ :‬‬
‫الخرزات‪ ،‬أو من فصوص الفضة كاللون األزرق ونحو ذلك‪.‬‬
‫(ع ِن الع ْي ِن) أي‪ :‬عن العين؛ َّ‬
‫لئَل تصيبه‪ ،‬وكذا لو علق عىل غير‬
‫األوالد من الدواب‪ ،‬أو السيارات‪ ،‬أو عىل الكبار؛ َيأخذ نفس الحكم‪.‬‬
‫‪223‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأيضا سواء علق عن العين‪ ،‬أو عن المرض‪ ،‬أو عن شر ِ‬


‫الجن‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫شرك؛ لقول‬‫ٌ‬ ‫فإذا كانت من غير القرآن؛ فهي باتفاق أهل ِ‬
‫العلم‬
‫يمة َف َقدْ َأ ْش َر َك»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫النبي ﷺ‪َ « :‬م ْن َع َّل َق َتم َ‬
‫وإذا كانت من القرآن‪ ،‬فقال رمحه ال َّله‪( :‬لكِ ْن إِذا كان ِمن الق ْر ِ‬
‫آن‪:‬‬
‫فرخَّ ص فِ ِيه ب ْعضهم) أي‪ :‬السلف‪ ،‬ومل يثبت عن ٍ‬
‫أحد منهم ذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫(فرخَّ ص فِ ِيه ب ْعضه ْم)‪ ،‬وإنَّما َورد عن بعضهم جواز التعليق من القرآن؛‬
‫لكن مل َيثبت‪.‬‬
‫(وب ْعضه ْم ل ْم يرخ ْص فِ ِيه) أي‪ :‬يف تعليق القرآن؛ لد ْفع العين ونحو‬
‫ذلك‪( ،‬وي ْجعله ِمن الم ْن ِهي ع ْنه)‪ ،‬وسيأيت يف آخر الباب َّ‬
‫أن المصنف‬
‫محرم ٌة سواء من القرآن أو من غير القرآن‪.‬‬
‫رمحه ال َّله َيرى أن التمائم كلها َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫من غير القرآن‪:‬‬
‫ومن القرآن‪ :‬ال تجوز‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)17422‬من حديث عقبة بن عامر الجهني‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪224‬‬

‫ألن تعليق القرآن وسيل ٌة إىل الشرك‪.‬‬


‫وألن فيه امتهانا للقرآن‪.‬‬
‫وألنه مل َيرد عن النبي ﷺ‪ ،‬وال عن صحابته ف ْعل ذلك‪.‬‬
‫وألنه ينايف التوكُّل عىل ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫الرقى فقال‪ِ ( :‬هي ا َّلتِي تس َّمى العزائِم)‪ ،‬ويسميها‬
‫ثم بعد ذلك َع َّرف ُّ‬
‫ٍ‬
‫صحن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫شخص‪ ،‬و َيكتب له يف‬ ‫شخص َيذهب إىل‬
‫ٌ‬ ‫نجد‪ :‬العزيمة‪،‬‬
‫أهل ْ‬
‫يغسل به‪ ،‬أو يشرب منه‪ ،‬أو يف ٍ‬
‫ورق ويغسله ويشرب ماءه‪ ،‬فهذه هي‬ ‫َ‬
‫العزيمة‪.‬‬
‫محرمة(‪.)1‬‬ ‫وسبق يف أنواع الرقى َّ‬
‫أنَِ الشركية َّ‬ ‫َ‬
‫وسبق يف حديث بريدة بن‬ ‫َّ‬
‫ورخص النبي ﷺ يف العين والح َمة‪َ ،‬‬
‫ح َصيب(‪ ،)2‬ال رقية أنفع من رقية الملدوغ بالعقرب‪ ،‬والمصاب بالعين‪،‬‬
‫من القرآن‪.‬‬

‫(‪( )1‬ص) عند قوله ( ِ‬


‫والقسم الثاين‪ :‬الرقية الممنوعة)‪.‬‬
‫ب َأنَّه َق َال)‪.‬‬
‫(‪( )2‬ص) عند قوله (ق ْلت‪َ :‬حدَّ َثنَا َع ْن ب َر ْيدَ َة ْب ِن ح َص ْي ٍ‬
‫‪225‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والرقى تنقسم إلى أقسا ٍم‪:‬‬


‫ُّ‬
‫األول‪ :‬أن تكون بالنفث مباشرة عىل المريض‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫القسم الثاين‪ :‬تكون بالقراءة يف الماء؛ و َيشرب ذلك الماء‪ ،‬أو يكتب‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫صحون‪ ،‬ثم يوضع عليه ما ٌء ويشرب ذلك الماء‪.‬‬ ‫القرآن عىل ٍ‬
‫ورق‪ ،‬أو يف‬
‫السلف كتابة القرآن‪ ،‬ثم يخلط بالماء‬
‫فقد ثبت عن بعض َّ‬
‫ويشرب(‪.)1‬‬

‫(‪َ )1‬ذكر شيخ اإلسَلم عن اإلمام أمحد رمحه ال َّله ف ْعل ذلك‪ .‬مجموع فتاوى شيخ‬
‫ٍ‬
‫عباس وأبي‬ ‫اإلسَلم (‪ ،)64/19‬وكذا َذكر ابن القيم ف ْعل ذلك عن ابن‬
‫النبوي البن الق ييم (‪.)126/1‬‬
‫ي‬ ‫الطب‬
‫ي‬ ‫قَلبة رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪226‬‬

‫مشروع قبل أن َي ِح يل المرض‪ ،‬مثل‪ :‬ما َفعله النبي ﷺ ق ْبل‬


‫ٌ‬ ‫والنفث‬
‫ِ‬
‫النوم كَان َينفث َو َي ْم َسح بِ َج َسده(‪ ،)1‬وكان أيضا َينفث َعىل َ‬
‫الح َس ِن‬
‫َوالح َسيْ ِن يعوذه َما(‪.)2‬‬
‫ويكون النفث أيضا إذا نَزل به المرض‪.‬‬
‫مشروع‪ ،‬ومنها ما ليس بمشرو ٍع‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫والرقى منها ما هو‬

‫فضل المعوذات‪ ،‬رقم (‪،)5017‬‬


‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب ْ‬
‫َان إِ َذا َأ َوى إِ َلى‬
‫من حديث عائشة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن النَّبِ َّي ﷺ ك َ‬
‫اش ِه ك َّل َل ْي َل ٍة َج َم َع َك َّف ْي ِه‪ ،‬ث َّم َن َف َث فِ ِيه َما َف َق َر َأ فِ ِيه َما‪ :‬ق ْل ه َو ال َّله َأ َحدٌ َوق ْل‬
‫فِر ِ‬
‫َ‬
‫اع مِ ْن‬ ‫َّاس‪ ،‬ث َّم َي ْم َسح بِ ِه َما َما ْ‬
‫اس َت َط َ‬ ‫َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق َوق ْل َأعوذ بِ َرب الن ِ‬
‫َج َس ِد ِه‪َ ،‬ي ْبدَ أ بِ ِه َما َع َلى َر ْأ ِس ِه َو َو ْج ِه ِه َو َما َأ ْق َب َل مِ ْن َج َس ِد ِه َي ْف َعل َذل ِ َك َثَلَ َ‬
‫ث‬
‫ات»‪.‬‬ ‫مر ٍ‬
‫َ َّ‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب‪ ،‬رقم (‪ ،)3371‬من حديث ابن‬

‫َان النَّبِ ُّي ﷺ ي َعوذ َ‬


‫الح َس َن َوالح َس ْي َن‪،‬‬ ‫عباس رضي ال َّله عنهما‪ ،‬ولفظه‪ « :‬ك َ‬ ‫ٍ‬

‫ات ال َّل ِه‬


‫اق‪َ :‬أعوذ بِ َكلِم ِ‬
‫َ‬ ‫اع َيل َوإِ ْس َح َ‬ ‫َان يعوذ بِها إِسم ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َو َيقول‪« :‬إِ َّن َأ َباك َما ك َ َ‬
‫ال َّم ٍة»‪.‬‬
‫ان َو َها َّم ٍة‪َ ،‬ومِ ْن كل َع ْي ٍن َ‬
‫التَّام ِة‪ ،‬مِن كل َشي َط ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫‪227‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫السنَّة‪ ،‬مِثل‪ :‬التداوي‬


‫فالمشروع ما كان بالقرآن‪ ،‬وبما جاءت به ُّ‬
‫وكذا جاء به‬ ‫وبالعسل(‪)1‬‬ ‫بالحبة السوداء‪ ،‬وبتمر العجوة‪ ،‬وبزمزم‪،‬‬
‫القرآن ‪ -‬أي‪ :‬العسل ‪.)2(-‬‬
‫يأت به الشرع؛ لكن د َّلت عليه الخبرة‪ ،‬مثل‪ :‬شرب ٍ‬
‫دواء‬ ‫ومِنه مامل ِ‬

‫مشروع؛ لقول النبي ﷺ‪َ « :‬فتَدَ َاو ْوا َو َال َتدَ َاو ْوا بِ َح َرا ٍم»(‪.)3‬‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫لمرض؛ فهذا‬
‫بمحر ٍم‪ ،‬مثل‪ :‬الطَلسم ‪ -‬والعياذ‬ ‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬إذا كان التداوي‬
‫َّ‬
‫محر ٍم ‪ -‬كالخنزير‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫مأكول‬ ‫ٍ‬
‫بمشروب أو‬ ‫بسح ٍر‪ ،‬أو‬
‫ْ‬ ‫بال َّله ‪ ،-‬أو‬
‫َّ‬
‫الخمر ‪.-‬‬

‫ٍ‬
‫ثَلث‪ ،‬رقم ( ‪ ،)5681‬من‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب الشفاء يف‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫حديث ابن‬
‫يه ِش َفا ٌء لِلن ِ‬
‫َّاس﴾‬ ‫ف َأ ْلوانه فِ ِ‬
‫اب م ْختَلِ ٌ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )2‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ي ْخرج م ْن بطون َها َش َر ٌ‬
‫[النحل‪.]69 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬باب يف األدوية المكروهة‪ ،‬رقم (‪ ،)3874‬من‬
‫حديث أبي الدرداء رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪228‬‬

‫الرقى‪ِ :‬هي ا َّلتِي تس َّمى العزائِم‪،‬‬ ‫لذلك قال المصنف رمحه ال َّله‪( :‬و ُّ‬
‫مباحة‪ ،‬وهو‪( :‬ما خَل ِمن‬ ‫ٍ‬ ‫وخ َّص ِم ْنه الدَّ لِيل) أي‪ :‬والدليل أتى بأشيا َء‬
‫الش ْر ِك)‪ ،‬عىل ما سبق التفصيل يف ذلك‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬فق ْد رخَّ ص فِ ِيه رسول ال َّل ِه ﷺ) أي‪ :‬بالرقية بالقرآن‪.‬‬
‫( ِمن الع ْي ِن والحم ِة) أي‪ :‬لدغة العقرب‪.‬‬
‫وقوله‪ِ ( :‬من الع ْين) أي‪ :‬هذا َيشمل األمراض المعنو يية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫السحر‪ ،‬أو من ضيق الصدر ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫التداوي من المس‪ ،‬أو من‬
‫وقوله‪( :‬والحم ِة) َيشمل األمراض الحس يية مثل‪ :‬الزكام‪ ،‬أو الوجع‬
‫يف السن ونحو ذلك؛ يشرع فيه أيضا الرقية بالقرآن‪ ،‬أو باألدوية‪ ،‬أو‬
‫باألدعية‪ ،‬أو بِما جاء من األحاديث‪.‬‬
‫السحر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬‬
‫ْ‬ ‫ثم قال‪( :‬والتولة‪ :‬ش ْي ٌء) يعني‪ :‬من أنواع‬

‫‪( ،‬يضعونه) السحرة؛ (ي ْزعمون أنَّه يحبب الم ْرأة إِلى ز ْو ِجها‪ ،‬و َّ‬
‫الرجل‬
‫سمى أحيانا‪ :‬المشروب‪ ،‬تصنعه المرأة أحيانا ت ِ‬ ‫ِِ‬
‫شربه‬ ‫إِلى ا ْمرأته)‪ ،‬وي ي‬
‫سح ٌر‪َ ،‬من ف َعله َيخرج من الدين‪.‬‬
‫زوجها؛ ليح َّبها؛ وهذا ْ‬
‫‪229‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫سحر العطف‪ ،‬والناقض‬ ‫سمى أيضا‪ :‬الس َقا‪ ،‬وهو الذي ي ي‬


‫سمى‪ْ :‬‬ ‫وي ي‬
‫السابع من نواقض اإلسَلم‪ :‬السحر‪ ،‬ومِنه الصرف والعطف‪َ ،‬يعطف‬
‫قلب المرأة للرجل‪ ،‬ويعطف قلب الرجل للمرأة‪.‬‬
‫وكما سيأيت إن شاء ال َّله‪َ « :‬ل ْي َس مِنَّا َم ْن َت َط َّي َر َأ ْو تطي َر َله‪َ ،‬أ ْو َت َك َّه َن َأ ْو‬
‫تكه َن َله‪َ ،‬أ ْو َس َح َر َأ ْو س ِح َر َله»(‪ ،)1‬وقول النبي صىل ال َّله عله وسلم‬
‫سيأيت‪َ « :‬و َم ْن َس َح َر َف َقدْ َأ ْش َر َك»(‪.)2‬‬
‫ولما ب َّين معاين الكلمات الواردة يف الحديث السابق قال‪( :‬وروى‬ ‫َّ‬
‫المام أ ْحمد‪ :‬ع ْن رو ْي ِف ٍع ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬قال لِي رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬يا‬ ‫ِ‬

‫رو ْي ِفع! لع َّل الحياة ستطول بِك؛ فأ ْخبِرِ النَّاس أ َّن م ْن عقد لِ ْحيته‪ ،‬أ ْو تق َّلد‬
‫ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة أ ْو ع ْظ ٍم؛ فإِ َّن ُم َّمد ًا برِي ٌء ِم ْنه»)‪.‬‬
‫وتر ًا‪ ،‬أ ْو ا ْ‬
‫أن َمن تع َّلق تميمة‬
‫ساق المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان َّ‬
‫فالنبي ﷺ بري ٌء منه‪.‬‬
‫فسر؛ ليكون َ‬
‫أبلغ وأردع‪.‬‬ ‫وهذا الوعيد يجري عىل ظاهره وال ي َّ‬

‫ٍ‬
‫حصين رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫(‪ )1‬رواه البزار‪ ،‬رقم (‪ ،)3578‬من حديث عمران بن‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي‪ ،‬كتاب تحريم الدم‪ ،‬باب حكم السحرة‪ ،‬رقم (‪ ،)4079‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪230‬‬

‫قال‪( :‬لع َّل الحياة ستطول بِك) وطالت الحياة به رضي ال َّله عنه‬
‫ب وو َقع‪،‬‬ ‫ست ومخسين (‪َ ،)56‬فأخبر النبي ﷺ عن ٍ‬
‫أمر مغ َّي ٍ‬ ‫حتى سنة ٍّ‬
‫فقد تويف يف السنة السادسة والخمسين (‪ )56‬من الهجرة‪.‬‬
‫(فأ ْخبِرِ النَّاس) ُّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن أمور العقيدة يخ َبر هبا عموم الناس سواء‬
‫كان جاهَل‪ ،‬أو عالِما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(أ َّن م ْن عقد ل ْحيته) جدي َلة َيجدلها مثل النساء‪ ،‬ت ي‬
‫سمى‪ :‬العميلة‪،‬‬
‫وكانوا يعقدوهنا سواء يف الحرب أو غير الحرب‪ ،‬ومِثل ما يفعل بعض‬
‫اليهود من عقد اللحية‪.‬‬
‫عميلة لل ْحية مِثل عميلة الرأس‪ ،‬وهذا َيفعله‬
‫ٍ‬ ‫فتْل اللحية يعني‪ :‬ج ْعل‬
‫اآلن بعض اليهود يضعون الفتل من قرابة األذن فتجد لهم شعرا طويَل‬
‫متدليا من اللحية معقودا‪.‬‬
‫وجاء النهي عن هذا؛ لعدم مشاهبة اليهود‪ ،‬فم ْن ف َعل ذلك؛ فصاحبه‬
‫توعد بأن النبي ﷺ بري ٌء منه‪.‬‬
‫م ي‬
‫قال‪( :‬أ ْو تق َّلد وتر ًا) هذا هو الشاهد‪( ،‬تق َّلد وتر ًا) أي‪ :‬من ع َّلق‬
‫تميمة من ٍ‬
‫وتر‪ ،‬وهو الخيط الذي يكون بين طريف القوس‪.‬‬
‫‪231‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة) َرجيع الدابة‪ :‬فضَلت الدابة؛ ألنه طعام‬
‫(أ ْو ا ْ‬
‫ِ‬
‫الج ين‪ ،‬وأخبر النبي ﷺ أهنا ال ت َطهر(‪ ،)1‬وجاء يف الحديث اآلخر َّ‬
‫أن‬
‫الروث يكون طعاما لبهائم ِ‬
‫الجن(‪.)2‬‬ ‫العظم يكون لحما ِ‬
‫للجن‪ ،‬وأن ْ‬
‫(أ ْو ع ْظ ٍم) وكذا ال َع ْظم‪ ،‬فَل يجوز االستنجاء بالعظم؛ ألنه بإذن ال َّله‬
‫اسم ال َّل ِه َع َل ْي ِه»(‪)3‬؛‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لحم َيطعمه الج َن‪َ « ،‬لك ْم ك ُّل َع ْظ ٍم ذك َر ْ‬
‫َينقلب إىل ٍ‬
‫يعني‪َ :‬ينقلب لحما بإذن ال َّله‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه الدارقطني‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب االستنجاء‪ ،‬رقم (‪ ،)152‬من حديث‬
‫أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬إِ َّن النَّبِي ﷺ نَهى َأ ْن يس َتنْجى بِرو ٍ‬
‫ث َأ ْو‬ ‫ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫َع ْظ ٍم‪ ،‬و َق َال‪ :‬إِنَّهما َال ت َطهر ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الج ين‪،‬‬ ‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب الجهر بالقراءة يف الصبح والقراءة عىل ِ‬

‫اعي‬ ‫مسعود رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َتانِي د ِ‬ ‫ٍ‬ ‫رقم (‪ ،)450‬من حديث ابن‬
‫َ‬
‫ال ِجن َف َذ َه ْبت َم َعه َف َق َر ْأت َع َل ْي ِهم الق ْر َ‬
‫آن» َق َال‪َ :‬فا ْن َط َل َق بِنَا َف َأ َرانَا آ َث َاره ْم َوآ َث َار‬
‫اسم ال َّل ِه َع َل ْي ِه َي َقع فِي‬ ‫ِ‬
‫الزا َد َف َق َال‪َ « :‬لك ْم ك ُّل َع ْظ ٍم ذك َر ْ‬ ‫نِ َيرانِ ِه ْم َو َس َألوه َّ‬
‫ف لِدَ َوابك ْم‪َ .‬ف َق َال َرسول ال َّل ِه ﷺ‪:‬‬ ‫َأ ْي ِديك ْم َأ ْو َف َر َما َيكون َل ْحما َوك ُّل َب ْع َر ٍة َع َل ٌ‬
‫« َف ََل َت ْس َتنْجوا بِ ِه َما َفإِنَّه َما َط َعام إِ ْخ َوانِك ْم»‪.‬‬
‫للجن)‪.‬‬ ‫أن العظم يكون لحما ِ‬ ‫(‪ )3‬سبق تخريجه (ص)‪ .‬عند قوله‪( :‬اآلخر َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪232‬‬

‫بغسل فضَلتك بطعامهم‪ ،‬فالمراد هنا ع ْظم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫فَل تؤذ إخوانك الج ين ْ‬
‫البهائم‪ ،‬ومن باب َأوىل لو كان عظم بني آدم؛ فهذا يحرم‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬وع ْن س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن جب ْيرٍ) رمحه ال َّله (قال‪ :‬م ْن قطع‬ ‫َّ‬
‫ان) يعني‪ :‬أزال هذا المنكر‪.‬‬ ‫ت ِميم ًة ِم ْن إِ ْنس ٍ‬

‫(كان ك ِع ْد ِل رقب ٍة) يعني‪ :‬كان ثوابه كثواب َمن َأعتق رجَل من النَّار‪،‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫بأن َأدخله يف دين اإلسَلم‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل أنَّها‬
‫وساق المصنف هذا األثر؛ لبيان ثواب َمن ق َطع تميمة‪ ،‬وهذا‬
‫ٌ‬
‫مشروط َّأال َيترتب عليه مفسدة أكبر من ذلك‪.‬‬
‫فضل إنكار ذلك المن َكر‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ويدل عىل ْ‬
‫ولما َذكر التفصيل يف التمائم؛ َذكر رمحه ال َّله الدليل عىل َّ‬
‫أن مجيع‬ ‫َّ‬
‫محرمة‪ ،‬فقال‪( :‬وله‪ :‬ع ْن‬
‫َّ‬ ‫التمائم التي تع َّلق من القرآن وغير القرآن‬
‫إِبر ِ‬
‫اهيم) أي‪ :‬النخعي‪( ،‬كانوا ي ْكرهون) الكراهة هنا‪ :‬كراهة التحريم؛‬ ‫ْ‬
‫َرب َك‬ ‫َان َسيئه ِعنْدَ‬
‫وجل‪﴿ :‬ك ُّل َذل ِ َك ك َ‬
‫َّ‬ ‫عز‬
‫َّ‬ ‫كما قال‬
‫‪233‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫َم ْكروها﴾ [اإلسراء‪َّ ،]38:‬‬


‫وأول المكروهات المذكورة يف اآليات‪ :‬الشرك‬
‫بال َّله(‪.)1‬‬

‫فإن أطلِ َقت الكراهة يف مثل هذا؛ ي َ‬


‫قصد هبا كراهة التحريم‪.‬‬ ‫ْ‬
‫فك َّ‬
‫أن المصنيف يقول لك‪ :‬ذكرت لك الخَلف يف تعليق التميمة من‬
‫القرآن‪ ،‬لك ين الصحيح أ َّنه ال يجوز تعليق التميمة حتى من القرآن؛ أل َّنه مل‬
‫ٌ‬
‫امتهان للقرآن‪.‬‬ ‫َير ْد عن النبي ﷺ وال عن الصحابة‪ ،‬وفيه‬
‫(كانوا ي ْكرهون) أي‪ :‬يرون تحريم (ال َّتامئِم ك َّلها ِمن الق ْر ِ‬
‫آن وغ ْيرِ‬
‫الق ْر ِ‬
‫آن)‪ ،‬وهذا هو القول الراجح لما سبق‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬قوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬ال َت ْج َع ْل َم َع ال َّل ِه إِ َلها َ‬


‫آخ َر﴾ [اإلسراء‪]22 :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪234‬‬

‫[‪]٩‬‬
‫باب م ْن تب َّرك بِشجر ٍة أ ْو حجرٍ ون ْح ِو ِهام‬
‫الَلت والع َّزى﴾ اآلي ِ‬
‫ات‪.‬‬ ‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أفرأ ْيتم َّ‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ‬ ‫ع ْن أبِي واقِ ٍد ال َّل ْيثِي ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬خر ْجنا مع رس ِ‬

‫إِلى حن ْي ٍن‪ ،‬ون ْحن حدثاء عهْ ٍد بِك ْفرٍ‪ ،‬ولِ ْلم ْشرِكِين ِس ْدر ٌة ي ْعكفون ِع ْندها‬
‫وينوطون بِها أسلِحتهم‪ ،‬يقال لها‪ :‬ذات أ ْنو ٍ‬
‫اط‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ط كام له ْم‬ ‫اجع ْل لنا ذات أ ْنوا ٍ‬ ‫فمر ْرنا بِ ِس ْدر ٍة‪ ،‬فق ْلنا‪ :‬يا رسول ال َّل ِه! ْ‬
‫السنن‪ ،‬ق ْلت ْم وا َّل ِذي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ذات أ ْنواط‪ ،‬فقال رسول ال َّله ﷺ‪ :‬ال َّله أ ْكبر! إِنَّها ُّ‬
‫﴿اجع ْل لنا إِله ًا كام له ْم آلِه ٌة‬
‫سرائِيل لِموسى‪ْ :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ن ْفسي بِيده‪ ،‬كام قال ْت بنو إِ ْ‬
‫قال إِنَّك ْم ق ْو ٌم ت ْجهلون﴾‪ ،‬لت ْركب َّن سنن م ْن كان ق ْبلك ْم» رواه الت ْر ِم ِذ ُّي‬
‫وص َّححه‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب م ْن تب َّرك بِشجر ٍة أ ْو حجرٍ ون ْح ِو ِهام)‪.‬‬
‫قوله‪( :‬باب م ْن) (م ْن) هذه‪ :‬إما أن تكون َشرطية؛ أي‪ :‬باب ِ‬
‫بيان‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫مش ٌ‬
‫رك‪.‬‬ ‫بشجر و َح ٍ‬
‫جر ونحومها بأنَّه ْ‬ ‫ٍ‬ ‫تبرك‬
‫حكم َمن َّ‬
‫‪235‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫بشجرة أو‬ ‫ويصح أن تكون موصولة؛ أي‪ :‬بيان حكم الذي َيتبرك‬
‫ُّ‬
‫َح ٍ‬
‫جر ونحومها‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬تب َّرك) التبرك‪ :‬هو طلب البركة‪ ،‬ورجاؤها ‪ -‬أي‪ :‬رجاء أن‬
‫تناله البركة ‪ ،-‬واعتقادها ‪ -‬أي‪ :‬يعتقد يف ذلك الم َت َّبرك به أنه يجلب له‬
‫البركة ‪.-‬‬
‫َ‬
‫بالتبرك‪ :‬ج ْلب النفع‪ ،‬أو د ْفع الضر‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫والمراد‬
‫والبركة تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬ ‫َ‬
‫إ يما مِن ال َّله‪.‬‬
‫وإ يما َبركة بالمخلوقين‪.‬‬
‫ان َع َلى َع ْب ِد ِه‬
‫المبارك؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ت َب َار َك ا َّل ِذي ن ََّز َل الف ْر َق َ‬
‫َ‬ ‫وال َّله هو‬
‫ين ن َِذيرا﴾ [الفرقان‪َ ﴿ ،]1:‬ت َب َار َك ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه الم ْلك َوه َو َع َلى‬ ‫لِيك َ ِ ِ‬
‫ون ل ْل َعا َلم َ‬ ‫َ‬
‫كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [الملك‪َ ﴿ ،]1:‬ت َب َار َك ا َّل ِذي إِ ْن َشا َء َج َع َل َل َك َخ ْيرا مِ ْن‬
‫َّات َت ْج ِري مِ ْن َت ْحتِ َها األَن َْهار َو َي ْج َع ْل َل َك قصورا﴾ [الفرقان‪]10:‬؛‬ ‫َذل ِ َك جن ٍ‬
‫َ‬
‫مبارك ٌة‪.‬‬
‫البركة‪ ،‬فأسماؤه وصفاته وأفعاله َ‬ ‫يعني‪ :‬تعا َظم َ‬
‫وبلغ النهاية يف َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪236‬‬

‫ِ‬
‫مبار ٌك؛ قال تعاىل‪﴿ :‬كت ٌ‬
‫َاب‬ ‫وكَلمه َّ‬
‫جل وعَل ‪ -‬وهو من صفاته ‪-‬؛ َ‬
‫الش ُّر َل ْي َس‬ ‫َأن َْز ْلنَاه إِ َل ْي َك م َب َار ٌك﴾ [ص‪َ ،]29:‬‬
‫والبركة من ال َّله؛ قال ﷺ‪َ « :‬و َّ‬
‫إِ َل ْي َك»(‪.)1‬‬
‫وكلمة (تبارك) ال تط َلق سوى عىل ال َّله؛ لآليات الثَلث السابقة‪،‬‬
‫ومل تر ْد كلمة (تبارك) َّإال يف حق ال َّله‪.‬‬
‫شر‪ ،‬كما يف‬ ‫وكلمة بعض الناس‪( :‬ك ُّلك برك ٌة)؛ ٌ‬
‫خطأ‪ ،‬فاإلنسان فيه ٌّ‬
‫الحديث‪َ « :‬و َأعوذ بِ َك مِ ْن َشر َن ْف ِسي»(‪.)2‬‬
‫وكذا‪( :‬يفتح هذا من بركاتك)‪ ،‬أو (فيك َبرك ٌة)؛ ال يصح‪.‬‬
‫وكذا قول‪( :‬تباركت علينا بالزيارة)؛ ال يجوز‪.‬‬
‫والبركة يف المخلوقين قِسمان‪:‬‬
‫َ‬
‫األول‪ :‬من البشر‪.‬‬
‫القسم َّ‬
‫القسم الثاين‪ :‬مِن غير البشر‪.‬‬
‫فالتي من البشر تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬

‫وقصرها‪ ،‬باب الدعاء يف صَلة الليل‬


‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب صَلة المسافرين ْ‬
‫ٍ‬
‫طالب رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫عيل بن أبي‬
‫وقيامه‪ ،‬رقم (‪ ،)771‬من حديث ي‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)51‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪237‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األول‪ :‬مِن األنبياء‪.‬‬ ‫ِ‬


‫القسم َّ‬
‫القسم الثاين‪ :‬من غير األنبياء‪.‬‬
‫األول الذي يف األنبياء بشرط‪ْ :‬‬
‫أن يكون يف حياهتم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فالقسم َّ‬
‫لما تسابق الصحابة إىل َش ْعر النبي ﷺ(‪ ،)1‬وكما كانت تفعل‬ ‫ِ‬
‫مثل‪َّ :‬‬
‫عرق النبي ﷺ فِي ٍ‬
‫طيب لها(‪.)2‬‬ ‫أم س َليم؛ فكانت تضع َ‬
‫البركة بعد وفاته؛‬
‫التبرك به؛ وإنَّما َ‬
‫وأ َّما بعد وفاة النبي ﷺ؛ ال يجوز ُّ‬
‫باتباع سنَّته‪.‬‬
‫التبرك بذواهتم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأ َّما القسم الثاين الذي هو غير األنبياء؛ ال يجوز ي‬
‫كالعلماء والع يباد والصالحين‪.‬‬

‫السنَّة يوم النحر أن يرمي‪ ،‬ثم ينحر‪ ،‬ثم‬ ‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب بيان َّ‬
‫أن ُّ‬
‫يحلق واالبتداء يف الحلق بالجانب األيمن من رأس المحلوق‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)1305‬من حديث أنس رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب طيب عرق النبي ﷺ والتبرك به‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2331‬من حديث أنس رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪238‬‬

‫البركة بالجلوس معهم؛ كما قال ﷺ‪« :‬هم ال َق ْوم َال‬


‫وإنيما تكون َ‬
‫َي ْش َقى بِ ِه ْم َجلِيسه ْم»(‪ ،)1‬فمجالستهم َبرك ٌة‪.‬‬
‫التبرك بالمخلوقين‪ ،‬وهم غير البشر؛ فينقسم‬ ‫ِ‬
‫وأ َّما القسم الثاين من ي‬
‫إىل أقسا ٍم‪:‬‬
‫القسم األول‪َ :‬برك ٌة يف األماكن‪ ،‬مِثل‪ :‬البيت الحرام‪ ،‬وبَلد الشام‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ان ا َّل ِذي َأ ْس َرى بِ َع ْب ِد ِه َل ْيَل مِ َن ال َم ْس ِج ِد ال َح َرا ِم إِ َلى ال َم ْس ِج ِد‬


‫﴿س ْب َح َ‬
‫﴿و َأ ْو َر ْثنَا ال َق ْو َم ا َّل ِذي َن كَانوا‬ ‫ِ‬
‫األَ ْق َصى ا َّلذي َب َار ْكنَا َح ْو َله﴾ [اإلسراء‪َ ،]1:‬‬
‫ار َب َها ا َّلتِي َب َار ْكنَا فِ َيها﴾ [األعراف‪.]127:‬‬‫ض َو َم َغ ِ‬ ‫ار َق األَ ْر ِ‬ ‫ون َم َش ِ‬‫ي ْست َْض َعف َ‬
‫مبار ٌك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬برك ٌة يف األزمنة‪ ،‬مثل‪ :‬شهر رمضان َ‬
‫القسم الثالث‪ :‬برك ٌة يف األطعمة‪ ،‬مثل‪ :‬الحبة السوداء‪ ،‬ومثل‬ ‫ِ‬

‫العجوة‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الرابع‪ :‬برك ٌة يف األشربة‪ ،‬مثل ماء زمز ٍم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الدعوات‪ ،‬باب فضل ذكر ال َّله عز وجل‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)6408‬ومسلم‪ ،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار‪ ،‬باب‬
‫فضل مجالس الذكر‪ ،‬رقم (‪ ،)2689‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪َ )2‬سبق تخريجه (ص)‪ ،‬عند قوله‪( :‬ومِثل‪ :‬زمزم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة)‪.‬‬
‫‪239‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫التبرك بالجمادات؛ كما ساقها‬


‫فالتبرك المقصود يف هذا الباب‪ :‬هو ُّ‬
‫ُّ‬
‫والحجر واألصنام واألتربة ونحو‬
‫َ‬ ‫المصنف رمحه ال َّله‪ ،‬مِثل‪ :‬الشجر‬
‫ذلك؛ فإنَّه ال يجوز طلب البركة منها‪ ،‬وال العكوف عليها‪.‬‬

‫ووسائل التعظيم ثَلث ٌة‪ُّ :‬‬


‫التبرك والعكوف والتعظيم‪.‬‬
‫َّأو ً‬
‫َّل‪ :‬ترجو من الشيء البركة‪ ،‬كالشجر ونحوه‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬تعظمه يف نفسك‪ ،‬وتراه شيئا عظيما‪.‬‬

‫ثالث ًا‪َ :‬تمكث عنده وترجو منه َ‬


‫البركة‪.‬‬
‫نوع من‬ ‫ٍ‬
‫تمسح هبا‪ ،‬ويرجو نفعها وخيرها؛ فهذا ٌ‬
‫فمن أتى إىل شجرة َي َّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫مأذون فيه‪.‬‬ ‫الشرك األكبر‪ ،‬والتبرك هبا غير‬
‫قبر‪ ،‬أو عند ٍ‬
‫منبر‪ ،‬أو‬ ‫ضريح‪ ،‬أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وبيان ذلك‪ :‬لو َّ‬
‫أن رجَل َجلس عند‬
‫ٍ‬
‫محراب؛ َجلس عنده َيطلب منه النفع أو الضر حتى لو من غير دعاء‪.‬‬
‫البركة؛ فهو‪ -‬والعياذ‬ ‫فإذا كان َيعتقد َّ‬
‫أن هذا الذي أمامه فيه َ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫بال َّله ‪-‬‬
‫والتبرك ‪ -‬هذه الثَلثة والعياذ بال َّله ‪ :-‬هي‬
‫ُّ‬ ‫والعكوف‪ ،‬والتعظيم‪،‬‬
‫ٌ‬
‫أصل يف الشرك‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪240‬‬

‫لتمسح بأستار الكعبة – مثَل ‪ ،-‬أو بأبواب المسجد الحرام‪،‬‬


‫وأ َّما ا ُّ‬
‫أو النبوي‪ ،‬أو غيرمها‪ ،‬أو باألعمدة‪ ،‬أو بالمنبر‪ ،‬أو التمسح بالصالحين‪،‬‬
‫البركة؛‬
‫والعلماء‪ ،‬من باب المحبة أو التعظيم ال لطلب البركة‪ ،‬أو اعتقاد َ‬
‫محر ٌم ووسيل ٌة إىل الشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫فهو َّ‬
‫وما جاء الشرع بالبركة فيه؛ مِثل ماء زمزم؛ كما قال عليه الصَلة‬
‫البركة منه؛‬
‫أن َ‬ ‫والسَلم‪« :‬إِن ََّها م َب َار َك ٌة»(‪ )1‬فيشربه اإلنسان وال يعتقد َّ‬
‫البركة‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل َجعل فيه سببا من أسباب َ‬ ‫وإنَّما ال َّله َّ‬
‫التمسح بالصالحين واألبواب‪ ،‬وب ْين‬
‫ُّ‬ ‫وبعض الناس َيخلط ب ْين‬
‫ٌ‬
‫شرك‬ ‫ٌ‬
‫شرك أصغر؛ بل اعتقاد التبرك‬ ‫البركة ليس فيه‬
‫اعتقاد ال َبركة؛ فاعتقاد َ‬
‫التمسح َسبق حكمه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ ،-‬أ َّما‬
‫البركة؛ وإنَّما من‬
‫طلب َ‬‫ِ‬ ‫الحجر األسود فليس من باب‬
‫وأ َّما تقبيل َ‬
‫باب التع ُّبد فقط‪ ،‬كما قال عمر بن الخطاب رضي ال َّله عنه يف صحيح‬

‫(‪َ )1‬سبق تخريجه (ص)‪ ،‬عند قوله‪( :‬ومِثل‪ :‬زمزم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة)‪.‬‬
‫‪241‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫البخاري(‪« :)1‬إِني َأ ْع َلم َأن ََّك َح َج ٌر‪َ ،‬ال َتض ُّر َو َ‬


‫ال َتنْ َفع» يعني‪ :‬ال ي َّ‬
‫تبرك‬
‫ال َأني َر َأ ْيت النَّبِ َّي ﷺ ي َقبل َك َما َق َّب ْلت َك»‪ ،‬وإنما نقبل تع ُّبدا‪.‬‬
‫بك‪َ « ،‬و َل ْو َ‬
‫َتبرك به؟‬
‫فإذا قيل‪ :‬هل يف اإلسَلم شي ٌء يجوز أن ن َّ‬
‫التبرك‪ ،‬وطلب البركة من غير ال َّله شر ٌك‬
‫ُّ‬ ‫نقول‪ :‬ال؛ ألن‬
‫أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫التبرك بشجرة ‪ -‬أ ييا كان نوعها ‪-‬؛ لذلك‬
‫أن ُّ‬ ‫وقوله‪( :‬بِشجر ٍة) أي‪َّ :‬‬
‫أ َمر عمر رضي ال َّله عنه بقطع الشجرة التي بايع الصحابة رضي ال َّله عنهم‬
‫تحتها النبي ﷺ يف بيعة الرضوان؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إِ ْذ ي َبايِعون ََك َت ْح َت‬
‫شرك أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬‫ٌ‬ ‫الشجر ِة﴾ [الفتح‪]18:‬؛ ِ‬
‫لعلمه َّ‬
‫أن ذلك‬ ‫َّ َ َ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ‪ -‬والعياذ‬ ‫ٍ‬
‫بحجر فإنه‬ ‫(أ ْو حجرٍ) أي‪ :‬حتى لو َت َّبرك‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫ِ‬
‫(ون ْح ِوهام) أي‪ :‬نحو الشجر َ‬
‫والحجر‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الحج‪ ،‬باب ما ذكر يف الحجر األسود‪ ،‬رقم (‪ ،)1597‬ورواه مسلم‪،‬‬
‫كتاب الحج‪ ،‬باب استحباب تقبيل الحجر األسود يف الطواف‪،‬‬
‫رقم (‪.)1270‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪242‬‬

‫مِثل‪ :‬لو اعتَقد َّ‬


‫أن الكعبة َتنفع‪ ،‬أو َت ي‬
‫ضر‪ ،‬فيتبرك هبا بالجلوس‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫عندها؛ هذا‬
‫تبرك به ‪ -‬أي‪َ :‬ينفع‪ ،‬أو‬ ‫وكذلك لو أعتقد َّ‬
‫أن مكان صَلة النبي ﷺ ي َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫ضر ‪-‬؛ هذا‬
‫َي ي‬
‫التبرك‪ ،‬وبين دعاء الشرك‪:‬‬ ‫والفرق بين ُّ‬
‫ْ‬
‫فمجرد اعتقاد القلب َّ‬ ‫أن التبرك ال يحتاج إىل تل ُّف ٍ‬
‫أن هذا‬ ‫َّ‬ ‫ظ بالقول‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ ُّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫يضر َبركة فيه؛ فهو‬
‫العمود ينفع أو ي‬
‫أ َّما الدعاء يف الشرك؛ فهو يتلفظ يقول‪ :‬يا فَلن – الم َّيت ‪ْ -‬‬
‫أزل‬
‫عني المرض ونحو ذلك‪.‬‬
‫والمصنف رمحه ال َّله ساق يف هذا الباب آية وحديثا‪.‬‬
‫التبرك‬
‫أن ُّ‬ ‫الَلت والع َّزى﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫فاآلية األولى ‪﴿( -‬أفرأ ْيتم َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫باألحجار‬
‫والنَّص الثاين ‪ -‬حديث أبي ٍ‬
‫واقد ‪ -‬ساقه؛ لبيان َّ‬
‫أن التبرك بطلب‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫النفع أو الضر من األشجار‬
‫فقال عن اآلية األوىل‪﴿( :‬أفرأ ْيتم) استفهام إنكار؛ يعني‪ :‬هل‬

‫َتفكرتم فيها ال َتنفع وال ي‬


‫تضر‪.‬‬
‫‪243‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫المشركون لهم عدَّ ة‬ ‫(﴿الَلت والعزَّ ى * ومناة الثَّالِثة األ ْخرى﴾)‬
‫َّ‬
‫أصنام ٍحول الكعبة‪ ،‬ثَلث مئة وستون صنما‪ ،‬فبعضهم كان َيتخذ صنما‬
‫صنم آخر أكبر منه‪.‬‬
‫له‪ ،‬وله أيضا مع غيره أو مع قبيلته ٌ‬
‫وجل َذكر يف هذه اآليات ثَلثة أصنا ٍم‪ ،‬هي من أكبر أصنام‬
‫عز َّ‬
‫وال َّله َّ‬
‫العرب‪:‬‬
‫(الَلت)‪ :‬الَلت يف الطائف‪ ،‬وهي لرج ٍل كان يل ُّت‬
‫األول‪َّ :‬‬
‫الصنم َّ‬
‫السويق للح َّجاج‪.‬‬
‫الصنم الثاين‪( :‬والعزَّ ى)‪ :‬شجر ٌة بين مكة وبين الطائف‪.‬‬
‫الصنم الثالث‪( :‬ومناة)‪ :‬عند قديد‪ ،‬بين مكة والمدينة‪.‬‬
‫الذكَر َو َله األ ْن َثى * تِ ْل َك إِذا قِ ْس َم ٌة ِض َيزى﴾ [النجم‪،]21-20:‬‬
‫﴿ َأ َلكم َّ‬
‫أنَِ ل َّله المَلئكة وهم اإلناث‪،‬‬
‫فعلتم هذه األمور‪ ،‬وجعلتم يف ز ْعمكم َّ‬
‫ولكم الذكور‪.‬‬

‫أي‪ :‬أنَّها ال َتملك لكم ضرا وال نفعا فَل َّ‬


‫تتبركون هبا‪.‬‬
‫لذلك قال أبو سفيان قبل أن ي ْسلِم‪« :‬لنا العزى وال عزى لكم»(‪.)1‬‬

‫ٍ‬
‫حديث رواه البخاري ‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب ما يكره من التنازع‬ ‫) ‪ )1‬ذكر يف‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪244‬‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن طلب ال يبركة من الحجارة باعتقاد نفعها‪ ،‬أو دفع ضرر‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫عن الناس بالعكوف عندها والجلوس؛ ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬‬
‫تبركوا بالشجر – َّ‬
‫العزى ‪،-‬‬ ‫المش ِركين َّ‬
‫ْ‬ ‫فالشاهد من اآلية‪َّ :‬‬
‫أنَِ‬
‫فوقعوا يف الشرك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بأحجار وهي األصنام؛ َ‬ ‫وتبركوا‬
‫ي‬
‫تبرك بالشجر ونحوه‪ ،‬فهو شر ٌك أكبر ‪ -‬والعياذ‬ ‫ودل عىل َّ‬
‫أن َم ْن ي‬ ‫ي‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫ثم َذكر الحديث فقال‪( :‬ع ْن أبِي واقِ ٍد ال َّل ْيثِي‪ ،‬قال‪ :‬خر ْجنا مع‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ)؛ أي‪ :‬بعد فتْح مكة‪ ،‬وكانوا أكثر من أ ْلف رج ٍل بعد فتْح‬
‫رس ِ‬

‫مكة‪.‬‬
‫قال‪( :‬إِلى حني ٍن) وحنين‪ :‬شرق مكة‪ ،‬واآلن تسمى الشرائع؛ ٍ‬
‫واد يف‬ ‫ي‬ ‫ٌ ْ‬ ‫ْ‬
‫الطريق إىل الطائف‪.‬‬
‫قريب بالكفر و َأسلمنا‬
‫ٌ‬ ‫(ون ْحن حدثاء عهْ ٍد بِك ْفرٍ) يعني‪ :‬ع ْهدنا‬
‫خرجنا مع النبي ﷺ ِسرنا‪.‬‬ ‫فلما ْ‬
‫حديثا؛ أي‪َّ :‬‬

‫واالختَلف يف الحرب‪ ،‬وعقوبة من َعصى إمامه‪ ،‬رقم (‪ ،)3039‬من‬


‫ٍ‬
‫عازب رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫حديث البراء بن‬
‫‪245‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(ولِ ْلم ْشرِكِين ِس ْدر ٌة ي ْعكِفون ِع ْندها) العكوف‪ :‬هو المكث(‪)1‬؛‬


‫السنَة‬
‫كما َيفعله بعض ع َّباد القبور أياما معينة يف َّ‬
‫يعني‪َ :‬يجلسون عندها َ‬
‫َيذهبون عند الضريح و َيجلسون عنده‪ ،‬فإذا مل َيذهب إليه َيخشى أن يضره‬
‫البركة فيه ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫ٍ‬
‫شيء؛ َّ‬
‫ألن َ‬ ‫يف‬
‫أن العكوف عبادة حتى َتجعلونه شركا؟‬ ‫فإذا قيل‪ :‬ما هو الدليل عىل َّ‬
‫ون فِي‬ ‫َعاكِف َ‬ ‫َو َأنْت ْم‬ ‫اشروه َّن‬‫فالدليل‪﴿ :‬و َال تب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اج ِد﴾ [البقرة‪ ،]187:‬فالعكوف يف المسجد‪ ،‬وال يلبث فيه‪ ،‬والمكوث‬ ‫المس ِ‬
‫َ َ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن اللبث عند األصنام واألحجار واألشجار عبادةٌ‪،‬‬ ‫فيه عبادةٌ؛ ي‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫وإذا كان عبادة فهو‬
‫لبركة‬ ‫(وينوطون بِها أ ِ‬
‫سلحته ْم) أي‪ :‬يعلقون عليها أسلحتهم؛ طلبا َ‬ ‫ْ‬
‫بأن سَلحهم يصيب‪ ،‬ويكون قو ييا ونحو ذلك‪.‬‬‫تلك الشجرة َّ‬
‫ٍ‬
‫أنواط؛ لكثرة أغصاهنا‪،‬‬ ‫(يقال لها‪ :‬ذات أ ْنو ٍ‬
‫اط) يعني‪ :‬اسمها ذات‬
‫وفروعها‪.‬‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪ ،)1406/4‬تاج العروس للزبيدي (‪.)179/24‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪246‬‬

‫معروف ال زال اسمه السدر‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫قال‪( :‬فمر ْرنا بِ ِس ْدر ٍة) السدرة‪ٌ :‬‬
‫نبات‬
‫شجر السدر‪.‬‬
‫اجع ْل لنا ذات أ ْنو ٍ‬
‫اط) َطلبوا من النبي ﷺ‬ ‫(فق ْلنا‪ :‬يا رسول ال َّل ِه! ْ‬
‫مما يح ُّبه ال َّله‪.‬‬
‫أن الجلوس عند الشجرة تعظيما لها َّ‬ ‫ذلك؛ يف ظنهم َّ‬
‫لما رأى الصحابة ذلك – َمن هم حدثاء عهد‬ ‫ٍ‬
‫(كام له ْم ذات أ ْنواط) َّ‬
‫باإلسَلم – قالوا‪ :‬يا رسول ال َّله اجعل لنا‪ ،‬وشرع لنا شجرة؛ ي‬
‫نتبرك هبا‬
‫كما َيفعل المشركون‪.‬‬
‫وأعز مِن أن‬
‫ي‬ ‫(فقال رسول ال َّل ِه ﷺ‪ :‬ال َّله أ ْكبر!) أي‪ :‬ال َّله أعظم‪،‬‬
‫يتَّخذ شريك معه‪.‬‬
‫طلب البركة من األشجار ونحوها؛ شرك‬
‫َ‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫أكبر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬

‫قال المؤلف رمحه ال َّله‪َّ « :‬‬


‫لما طلبوا من النبي ﷺ ذلك؛ َوقعوا يف‬
‫الشرك األصغر؛ لذلك قال النبي ﷺ‪( :‬ال َّله أ ْكبر!)؛ منزها ال َّله عن ذلك‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال‪ :‬ولو َفعلوا ‪ -‬أي‪ :‬التبرك َ‬


‫وجلسوا ‪َ -‬وقعوا يف الشرك األكبر‪،‬‬
‫لما هناهم النبي ﷺ عن قولهم ذلك؛ َرجعوا عنه»(‪.)1‬‬
‫لكن َّ‬
‫وتكبير النبي ﷺ استعظا ٌم؛ ألهنم َطلبوا أمرا عظيما‪ ،‬وهو أمر‬
‫شركي‪.‬‬

‫(إِنَّها ُّ‬
‫السنن) السنَن أي‪ :‬الطرق(‪ ،)2‬بضم السين‪ :‬سنن؛ أي‪ :‬طرق‪،‬‬
‫طريق واحدٌ (‪.)3‬‬
‫ٌ‬ ‫وبالفتح‪َ :‬سنن‪:‬‬
‫أي‪ :‬هذه طرق المشركين ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬من بني اسرائيل‪ ،‬و َمن‬
‫قبلهم‪ ،‬أو بعدهم؛ طلب التبرك بالجمادات‪.‬‬
‫(ق ْلت ْم وا َّل ِذي ن ْف ِسي بِي ِد ِه) يعني‪ :‬وال َّله الذي يستطيع ْنزع الروح‪.‬‬
‫أي‪ :‬ح َلف النبي ﷺ؛ إنكارا لذلك الشرك‪.‬‬
‫سرائِيل لِموسى) بنو إسرائيل‪ :‬هم أوالد يعقوب‬
‫(كام قال ْت بنو إِ ْ‬
‫عليه السَلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ْ ،‬‬


‫كشف الشبهات (ص‪.)73‬‬
‫(‪ )2‬الصحاح للجوهري (‪.)2138/5‬‬
‫(‪ )3‬فتح المجيد (ص‪.)140‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪248‬‬

‫شركهم‬ ‫تنوعت أمكنتهم وأزمنتهم؛ ي‬


‫فإن ْ‬ ‫المش ِركين ْ‬
‫وإن ي‬ ‫أن ْ‬ ‫دل عىل َّ‬
‫ي‬
‫ال َيختلف؛ فب ْين موسى عليه السَلم وب ْين زمن النبي ﷺ زمنا متطاوال؛‬
‫لكن طريقة الشرك واحد ٌة يف التع ُّلق بالشرك‪.‬‬
‫َّ‬
‫طريق؛ ليقع العبد يف الشرك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫والشيطان َيسعى بكل‬
‫﴿اجع ْل لنا إِله ًا كام له ْم آلِه ٌة) أي‪َّ :‬‬
‫أن َمن كان ق ْبلكم َطلبوا شيئا‬ ‫( ْ‬

‫َيعكفون عنده و َيجلسون؛ طلب َا َ‬


‫لبركته‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل موسى و َمن معه‪ ،‬وأغرق فرعون؛ ما َشكروا‬ ‫فلما أنقذ ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫(﴿اجع ْل‬
‫ْ‬ ‫النعمة التي وقعت لهم بإنجائهم من الغرق؛ بل قالوا لموسى‪:‬‬
‫لنا إِله ًا)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫جاهل‪ ،‬ولو حاز‬ ‫المش ِرك‬ ‫(قال إِنَّك ْم ق ْو ٌم ت ْجهلون﴾) َّ‬
‫فدل عىل أن ْ‬
‫من العلوم ما حاز؛ أل َّن َمن مل َيعرف التوحيد فهو جاه ٌل‪.‬‬
‫لتتبعن طرقهم ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪َّ -‬إال‬
‫َّ‬ ‫(لت ْركب َّن سنن م ْن ق ْبلك ْم) أي‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل من أفعالهم المشينة‪.‬‬ ‫عصمه ال َّله َّ‬
‫من َ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن التبرك باألشجار واألحجار‬ ‫َّ‬
‫وأ َّما المكث يف منى وعرفة فليس لطلب البركة من تلك األماكن‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل هبا يوحدوه فيها‪.‬‬ ‫وإنما يقفون هناك؛ ليؤدوا عبادة أمرهم ال َّله َّ‬
‫‪249‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫السدرة؛ استَشكل‬ ‫لب أصحاب النبي ﷺ ْ‬


‫أن َيجعل لهم ي‬ ‫ولما َط َ‬
‫َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أم ال؟‬ ‫ذلك عىل بعض الناس‪ ،‬فقالوا‪ :‬هل هذا‬
‫و َذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله يف ك َْشف الشبهات‪،‬‬
‫فلما َطلبوا و َقعوا يف الشرك األصغر‪،‬‬
‫يف الشبهة التاسعة؛ قال‪َ « :‬طلبوا‪َّ ،‬‬
‫لوقعوا يف الشرك األكبر»(‪.)1‬‬
‫ولو أنَّهم استمروا؛ َ‬
‫شخص‪ :‬طلب الشرك يكفر به أم ال؟‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال‬
‫فمن َوقع يف الشرك‪ ،‬ثم ن يبه‪،‬‬
‫فالشيخ محمد بن عبد الوهاب قال‪َ :‬‬
‫فعاد من ساعته؛ ال نقول أ َّنه َوقع فيه؛ ألنَّه عاد‪ ،‬ومل يستمر يف الشرك(‪.)2‬‬
‫فطلب بني إسرائيل والصحابة لذلك األمر؛ َأوقعهم يف الشرك‬
‫فلما ن يبهوا؛ عادوا‪.‬‬
‫األصغر‪ ،‬ي‬
‫فطلب البركة والخير من غير ال َّله من الشرك‪ ،‬والدليل َّ‬
‫أنَِ النبي ﷺ‬
‫أن هذا ن ْفس ف ْعل بني إسرائيل الذي‬ ‫ن َّبههم عىل ذلك‪ ،‬و َأنكر‪َ ،‬‬
‫وحلف َّ‬
‫َوقعوا فيه يف الكفر‪.‬‬

‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬كشف الشبهات (ص‪.)73‬‬


‫(‪ )2‬متون طالب العلم‪ ،‬كشف الشبهات (ص‪.)73‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪250‬‬

‫ون * إِ َّن‬
‫وجل َوصفهم بالجهل فقال‪﴿ :‬إِنَّك ْم َق ْو ٌم َت ْج َهل َ‬ ‫عز َّ‬ ‫وال َّله َّ‬
‫ون﴾ [األعراف‪.]139-138:‬‬ ‫َهؤ َال ِء م َت َّب ٌر َما ه ْم فِ ِيه َو َباطِ ٌل َما كَانوا َي ْع َمل َ‬
‫التبرك بالشجر والحجر من الشرك األكبر‪.‬‬
‫أن ي‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫ي‬
‫***‬
‫‪251‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]١٠‬‬

‫الذ ْبحِ لِغ ْيرِ ال َّل ِه‬


‫باب ما جاء فِي َّ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل إ ِ َّن صَلتِي ونسكِي وُمْياي وِماتِي لِ َّل ِه رب‬
‫العال ِمين * َّل شرِيك له﴾ اآلية‪.‬‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬فصل لِربك وا ْنح ْر﴾‪.‬‬
‫ت‪:‬‬ ‫ع ْن علِي ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬حدَّ ثنِي رسول ال َّل ِه ﷺ بِأرب ِع كلِام ٍ‬
‫ْ‬
‫«لعن ال َّله م ْن ذبح لِغ ْيرِ ال َّل ِه‪ ،‬لعن ال َّله م ْن لعن والِد ْي ِه‪ ،‬لعن ال َّله م ْن آوى‬
‫ض» رواه م ْسلِ ٌم‪.‬‬
‫ُمْ ِدث ًا‪ ،‬لعن ال َّله م ْن غ َّير منار األ ْر ِ‬

‫اب أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬دخل الجنَّة رج ٌل‬ ‫ار ِق ْب ِن ِشه ٍ‬ ‫وع ْن ط ِ‬

‫اب‪ ،‬قالوا‪ :‬وك ْيف ذلِك يا رسول ال َّل ِه؟‬


‫اب‪ ،‬ودخل النَّار رج ٌل فِي ذب ٍ‬
‫فِي ذب ٍ‬

‫قال‪ :‬م َّر رجَل ِن على ق ْو ٍم له ْم صن ٌم َّل يجوزه أح ٌد ح َّتى يقرب له‬
‫ش ْيئ ًا‪.‬‬
‫فقالوا ِألح ِد ِهام‪ :‬قر ْب‪ ،‬قال‪ :‬ل ْيس ِع ْن ِدي ش ْي ٌء أقرب‪ ،‬قالوا له‪ :‬قر ْب‬
‫ول ْو ذباب ًا‪ ،‬فق َّرب ذباب ًا‪ ،‬فخ َّل ْوا سبِيله؛ فدخل النَّار‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪252‬‬

‫وقالوا لِ ْْلخرِ‪ :‬قر ْب‪ ،‬قال‪ :‬ما ك ْنت ِألقرب ِألح ٍد ش ْيئ ًا دون ال َّل ِه ع َّز‬
‫وج ْل‪ ،‬فضربوا عنقه؛ فدخل الجنَّة» رواه أ ْحمد‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫مل َيذكر المصنف رمحه ال َّله أنَّه من الشرك األكبر؛ لبَ َشاعة هذا‬
‫الذنْب‪ ،‬ولمعرفة أنه شرك أكبر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نصوص‪:‬‬ ‫والمصنف رمحه ال َّله َذكر أربعة‬
‫األول ‪﴿( -‬ق ْل إِ َّن صَلتِي ونسكِي وُمْياي‪ ﴾..‬اآلية) ‪-‬؛‬‫النَّص َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫أن الذبح لغير ال َّله‬
‫لبيان َّ‬
‫والنَّص الثاين – (﴿فصل لِربك وا ْنح ْر﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن الذبح عباد ٌة‬
‫فَل يصرف إال ل َّله‪.‬‬

‫والنص الثالث – حديث ٍّ‬


‫عيل رضي ال َّله عنه ‪-‬؛ أ َّن ال َّله ل َعن من‬

‫ذبح لغير ال َّله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ أي‪ُّ :‬‬


‫تعرضه للوعيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شهاب رضي ال َّله عنه ‪ :-‬يف بيان‬ ‫والنَّص الرابع‪ -‬حديث طارق بن‬
‫عقوبته يف اآلخرة؛ وهو أنَّه يف النَّار‪.‬‬
‫لصنم‪ ،‬أو ٍ‬
‫لقبر‪ ،‬أو عند مرور السلطان‬ ‫ٍ‬ ‫والذبح لغير ال َّله سواء كان‬
‫تعظيما له يذبح أمامه شيئا من هبيمة األنعام؛ فهذا ك ُّله من الشرك األكبر‪.‬‬
‫‪253‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الذ ْبحِ لِغ ْيرِ ال َّله) أي‪ :‬هذا نوع من‬


‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ما جاء فِي َّ‬
‫الشرك ‪ -‬وهو الذبح لغير ال َّله ‪.-‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫والذبح لغير ال َّله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‬ ‫وحكمه ال َينقسم ‪ -‬أي‪ :‬أنَّه ال يوجد يف الذبح لغير ال َّله‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فصرفها لغير ال َّله‬ ‫ٌ‬
‫شرك أكبر ـ؛ ألنَه عباد ٌة ْ‬ ‫أو أصغر؛ بل ك ُّله‬
‫قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ق ْل﴾) أي‪ :‬قل يا محمد للمشركين‪.‬‬
‫(﴿إِ َّن صَلتِي﴾) الصَلة المفروضة أخلص فيها ل َّله‪.‬‬
‫(﴿ونسكِي﴾) أي‪ :‬ذبحي‪.‬‬
‫ذبح لغير ال َّله تعظيما لصاحب القبر‪ ،‬أو للوثن؛ نقول‪ :‬شرك‬
‫إذا‪َ :‬من َ‬
‫أكبر‪.‬‬
‫(﴿وُمْياي﴾) ما َأفعله يف حيايت‪.‬‬
‫(﴿وِماتِي﴾) ما أ َّدخره بعد ممايت من األعمال الصالحة يف الدنيا‪.‬‬
‫(﴿لِ َّل ِه رب العال ِمين﴾) يعني‪ :‬كل ما أذبحه ل َّله‪.‬‬
‫أنَِ الذبح َق ِرين الصَلة‪.‬‬
‫دل عىل َّ‬
‫َّ‬

‫فإذا كانت الصَلة عباد ٌة – وهو َّ‬


‫مقر ٌر عندهم ‪-‬؛ فكذلك الذبح‬
‫صرفها لغير ال َّله‪.‬‬
‫عبادةٌ‪ ،‬ال يجوز ْ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪254‬‬

‫(﴿َّل شرِيك له﴾) تأكيدا ب َّ‬


‫أنَِ تلك العبادات ل َّله‪ ،‬أي‪ :‬ال أشرك يف‬
‫الذبح مع ال َّله غيره‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬و َمن أفردها‬ ‫صرف الصَلة أو الذبح لغير ال َّله‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أنَِ ْ‬ ‫َّ‬
‫تجرد له سبحانه‪.‬‬ ‫ل َّله فقد َّ‬
‫ذبح ل َّله‬ ‫ين﴾ مِن أ َّمته‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أن َمن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿ َوبِ َذل َك أم ْرت َو َأنَا َأ َّول الم ْسلِم َ‬
‫فهو مسلِ ٌم‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ين﴾ [األعراف‪]143:‬؛‬ ‫﴿و َأنَا َأ َّول الم ْؤمن َ‬
‫وموسى عليه السَلم قال‪َ :‬‬
‫أي‪ :‬من أ يمته‪ ،‬والنبي ﷺ يأول المؤمنين من هذه األ يمة‪.‬‬
‫قال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬فصل لِربك﴾) ساق المصنف رمحه ال َّله هذه اآلية؛‬
‫صرف الصَلة‬ ‫كما َّ‬
‫أن ْ‬ ‫ٌ‬
‫شرك‪َ ،‬‬ ‫وصرفها لغير ال َّله‬
‫ْ‬ ‫ليب يين َّ‬
‫أن الذبح عبادةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫لغير ال َّله‬
‫ِ‬
‫(﴿فصل لربك)؛ أي‪ :‬اصرف الصَلة ل َّله ْ‬
‫وحده‪ ،‬سواء كانت صَلة‬
‫العيدين‪ ،‬أو الصلوات المفروضة أو غيرها‪.‬‬

‫(وا ْنح ْر﴾) أي‪ :‬اذبح ي‬


‫لربك فقط؛ ألنَّه عبادةٌ‪َّ ،‬‬
‫ودل عىل أنَّه عباد ٌة‬
‫أنَِ ال َّله َق َرنه بالصَلة‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪255‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال‪( :‬ع ْن علِي ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬حدَّ ثنِي رسول ال َّل ِه ﷺ بِأ ْرب ِع‬
‫ت‪ :‬لعن ال َّله) اللعن ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ :-‬هو الطرد واإلبعاد من‬ ‫كلِام ٍ‬

‫رمحة ال َّله‪.‬‬
‫وال يجوز ل ْعن المسلِم؛ لقول النبي ﷺ‪َ « :‬ل ْعن الـم ْؤمِ ِن َك َقتْلِ ِه»(‪.)1‬‬
‫دابة له‪ ،‬فقال‬
‫وال يجوز أيضا ل ْعن الدواب؛ ألن رجَل لعن ي‬
‫ٍ‬
‫النبي ﷺ‪« :‬ان ِْز ْل َعنْه‪َ ،‬ف ََل َت ْص َح ْبنَا بِ َم ْلعون»(‪)2‬؛ فتَركوها تسير ْ‬
‫وحدها‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل عىل العبد‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫وكذا ال يجوز ل ْعن النعم التي أغدقها ال َّله َّ‬
‫ل ْعن السيارة ونحو ذلك‪.‬‬
‫قال‪( :‬لعن ال َّله م ْن ذبح لِغ ْيرِ ال َّل ِه) أي‪َّ :‬‬
‫أن َمن َذبح لغير ال َّله فقد‬

‫َطرده ال َّله من ْ‬
‫رحمته‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب ما ينهى من السباب واللعن‪،‬‬


‫رقم (‪ ،)6047‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب غلظ تحريم قتل اإلنسان‬
‫ٍ‬
‫وأن من قتل ن ْفسه بشيء عذب به يف النار‪ ،‬وأنه ال َيدخل َ‬
‫الجنَّة إال‬ ‫ن ْفسه‪َّ ،‬‬
‫مة‪ ،‬رقم (‪ ،)110‬من حديث ثابت بن الضحاك رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫نفس مسلِ ٌ‬
‫ٌ‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم ‪ ،‬كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب حديث جابر الطويل وقصة أبي‬
‫اليسر‪ ،‬رقم (‪ ،)3009‬من حديث ٍ‬
‫جابر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪256‬‬

‫ويدل أيضا عىل جواز ل ْعن غير المع َّين‪ ،‬كقوله – أيضا ‪ -‬عليه‬
‫ُّ‬
‫السا ِر َق‪َ ،‬ي ْس ِرق ال َب ْي َض َة»(‪ ،)1‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫الصَلة والسَلم‪َ « :‬ل َع َن ال َّله َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [ هود‪.]18:‬‬ ‫﴿ َأ َال َل ْعنَة ال َّله َع َلى ال َّظالم َ‬
‫لما ل َعن‬ ‫ألن النبي ﷺ َّ‬ ‫أ َّما ل ْعن المع َّين‪ ،‬فالراجح‪ :‬عدم جوازه؛ َّ‬
‫صفوان و َمن معه يف الصَلة؛ أنزل ال َّله ﴿ َل ْي َس َل َك مِ َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء َأ ْو‬
‫ون﴾ [آل عمران‪.)2(]128:‬‬ ‫وب َع َل ْي ِه ْم َأ ْو ي َعذ َبه ْم َفإِنَّه ْم َظالِم َ‬
‫َيت َ‬
‫أن ال َّله َيلعن بالقول‪ ،‬كما َيلعن بالف ْعل؛ كما قال‬
‫دليل عىل َّ‬
‫وفيه ٌ‬
‫﴿و َم ْن َي ْل َع ِن ال َّله َف َل ْن َت ِجدَ َله ن َِصيرا﴾ [النساء‪.]52:‬‬
‫تعاىل‪َ :‬‬
‫وقوله‪( :‬لعن ال َّله م ْن لعن والِد ْي ِه) ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬ف َمن ل َعن‬
‫والديه؛ فقد ل َعنه ال َّله؛ لعظيم حقهما وكبير معروفهما‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب لعن السارق إذا مل يسم‪ ،‬رقم (‪،)6783‬‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب حد السرقة ونصاهبا‪ ،‬رقم (‪ ،)1687‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب ﴿ َل ْي َس َل َك م َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء َأ ْو َيت َ‬
‫وب‬
‫ون﴾ [آل عمران‪ ،]128 :‬رقم (‪ ،)4069‬من‬ ‫َع َل ْي ِه ْم َأ ْو ي َعذ َبه ْم َفإِنَّه ْم َظالِم َ‬
‫حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪257‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ول ْعن الوالدين يكون بأمرين‪:‬‬


‫ويسب أ َّمه؛‬
‫ُّ‬ ‫فيسب أباه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫سب الرجل َأبا الرجلِ؛‬
‫األول‪َ :‬ي ُّ‬
‫األمر َّ‬
‫فيسب أ َّمه؛ يعني‪ :‬بأ َّنه يتسبب يف ل ْعنهما‪.‬‬
‫ُّ‬
‫األمر الثاين‪ - :‬والعياذ بال َّله ‪َّ -‬‬
‫أنَِ الرجل يباشر بل ْعن أمه‪ ،‬أو بل ْعن‬
‫أبيه‪.‬‬
‫﴿و َق َضى َر ُّب َك َأ َّال َت ْعبدوا‬
‫وهذا من الخذالن‪ ،‬ومن أشد العقوق‪َ ،‬‬
‫إِ َّال إِ َّياه َوبِال َوالِدَ ْي ِن إِ ْح َسانا﴾ [اإلسراء‪.]23:‬‬
‫إن كَان ك ََما كَان َو َّإال‬ ‫أن َم ْن ل َع َن م ْسلِما َف ْ‬
‫وكما أخبر النبي ﷺ‪َّ :‬‬
‫َر َج َع ْت َع َل ِيه (‪.)1‬‬
‫حدث‪ :‬أي‪ :‬الجاين‪ ،‬أو‬ ‫وقوله‪( :‬لعن ال َّله م ْن آوى ُم ِدث ًا) المراد بالم ِ‬
‫ْ‬
‫فاعل المعصية إذا ط َلبه السلطان؛ آواه إليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أبو داوود‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب يف اللعن‪ ،‬رقم (‪ ،)4905‬من حديث أبي‬
‫ت ال َّل ْعنَة إِ َلى‬ ‫الدرداء رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬إِ َّن العبدَ إِ َذا َلعن َشيئا ص ِعدَ ِ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫اء دون ََها‪ ،‬ث َّم َت ْهبِط إِ َلى األَ ْر ِ‬
‫ض َفت ْغ َلق َأ ْب َواب َها‬ ‫اء َفت ْغ َلق َأبواب السم ِ‬ ‫السم ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ‬
‫دون ََها‪ ،‬ث َّم َت ْأخذ َي ِمينا َو ِش َماال‪َ ،‬فإِ َذا َل ْم َت ِجدْ َم َساغا َر َج َع ْت إِ َلى ا َّل ِذي ل ِع َن‪،‬‬
‫َان ل ِ َذل ِ َك َأ ْهَل َوإِ َّال َر َج َع ْت إِ َلى َقائِلِ َها»‪.‬‬
‫َفإِ ْن ك َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪258‬‬

‫ٍ‬
‫بدعة‪ ،‬أو نصره‪ ،‬أو أ َّيده‪،‬‬ ‫أو (ُمْ ِدث ًا) أي‪ :‬ل َعن ال َّله من آوى صاحب‬
‫بلد؛ فالواجب ر ْدعه‬ ‫أو دافع عنه؛ يعني‪ :‬من فعل بدعة أو أمرا محدَ ثا يف ٍ‬
‫َ َ‬
‫نصره‪.‬‬
‫وعدم ْ‬
‫وقوله‪( :‬لعن ال َّله م ْن غ َّير منار األ ْر ِ‬
‫ض) يعني‪ :‬عَلمات األرض‪.‬‬
‫خاص وعا ٍّم‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫وهذا يكون يف ٍ‬
‫أمر‬
‫خاص‪ :‬كتغيير معامل ما بينك وب ْين جارك‪ ،‬كأن يكون هناك‬
‫ٍّ‬ ‫ففي ٍ‬
‫أمر‬
‫حدٌّ ينتهي إليه دارك أو مزرعتك؛ فتغ ييرها‪.‬‬
‫مكتوب‬
‫ٌ‬ ‫أمر عا ٍّم‪ :‬يف أمور الناس العامة‪ ،‬مِثل‪ :‬لوح ٌة إرشادي ٌة‬
‫ويف ٍ‬

‫عليها (مكة تتجه يسارا)‪ ،‬فيأيت أحدٌ ويغ ييرها؛ في َتوه المسافر إىل مكة‪،‬‬
‫ويتجه يمينا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫قال‪( :‬رواه م ْسلِ ٌم) والحديث يف صحيح‬
‫وهنا لما َذكر رمحه ال َّله اللعن ِ‬
‫لمن ذبح لغير ال َّله؛ َذكر حديثا آخر َّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫َم ْن َفعل ذلك َدخل النَّار‪.‬‬
‫اب أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬دخل الجنَّة‬
‫ار ِق ْب ِن ِشه ٍ‬
‫قال‪( :‬وع ْن ط ِ‬

‫اب)‪ ،‬قد يكون هؤالء من بني إسرائيل‪ ،‬فقد كان النبي ﷺ‬ ‫رج ٌل فِي ذب ٍ‬

‫يكثر مِن ذكْرهم ألصحابه؛ لقرب العهد هبم‪.‬‬


‫‪259‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اب) يعني‪ :‬بسبب ذباب‪.‬‬‫(دخل الجنَّة رج ٌل فِي ذب ٍ‬


‫يدل عىل َّ‬
‫أن أصغر المخلوقات‬ ‫(ودخل النَّار رج ٌل فِي ذب ٍ‬
‫اب)‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫الجنَّة‪ ،‬أو النَّار‪.‬‬
‫قد تكون سببا يف دخول اإلنسان َ‬
‫ت ا ْم َر َأ ٌة النَّار فِي ِه َّر ٍة»(‪.)1‬‬
‫ِومثل أيضا‪« :‬د َخ َل ِ‬
‫َ‬
‫لما‬ ‫ِ‬
‫الجنَّة‪ ،‬مثل‪َّ « :‬‬
‫وقد يكون أيضا الجماد سبب دخول اإلنسان َ‬
‫أزال رج ٌل غصن َشج ٍ‬
‫رة؛ َغ َف َر ال َّله َله‪َ ،‬و َش َك َره ال َّله»(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫ْ َ َ‬
‫أي‪َّ :‬‬
‫أن اإلنسان ال َيحتقر مخلوقا‪.‬‬
‫وكما يف قصة سليمان مع الهدهد‪.‬‬
‫سبب يف‬
‫صغير ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق‬ ‫(قالوا‪ :‬وك ْيف ذلِك يا رسول ال َّل ِه؟) يعني‪:‬‬

‫دخول رج ٍل َ‬
‫الجنَّة‪ ،‬وآخر النَّار!‬

‫ٍ‬
‫مخس من الدواب فواسق يقتلن يف‬ ‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب بدْ ء الخلق‪ ،‬باب‬
‫الحرم‪ ،‬رقم (‪ ،)3318‬ومسلم‪ ،‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب تحريم‬
‫تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي ال يؤذي‪ ،‬رقم (‪ ،)2619‬من‬
‫حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫فضل إزالة األذى عن الطريق‪،‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب ْ‬
‫رقم (‪ ،)1914‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪260‬‬

‫(قال‪ :‬م َّر رجَل ِن على ق ْو ٍم له ْم صن ٌم) ُّ‬


‫يدل عىل َّ‬
‫أن عبادة األصنام‬
‫قديم ٌة؛ لذلك إبراهيم عليه السَلم دعا ربه أن يجنبه وذريته إياها؛ بل قال‬
‫إبراهيم‪َ ﴿ :‬رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن كَثِيرا مِ َن الن ِ‬
‫َّاس﴾ [إبراهيم‪]36:‬؛ أي‪َّ :‬‬
‫أن أكثر‬
‫شرق هذه‬ ‫أهل األرض ع يبا ٌد لألصنام كما هو الحال يف ٍ‬
‫كثير منهم يف ْ‬ ‫ْ‬
‫القارة‪ ،‬منهم من يعبد البو َذا وغيره‪.‬‬
‫َّ‬
‫(َّل جيوزه أح ٌد ح َّتى يقرب له ش ْيئ ًا) ال ُّ‬
‫يمر من الطريق حتى َيذبح‬
‫للصنم‪.‬‬
‫وهذا َم َث ٌل ذكَره النبي ﷺ لبني إسرائيل‪ ،‬فإهنم َوضعوا صنما يف‬
‫الطريق‪ ،‬ال يجوزون إال َمن َذبح له؛ ليوقِعوا الناس يف الشرك‪.‬‬
‫(فقالوا ِألح ِد ِهام‪ :‬قر ْب) يعني‪ :‬افعل شيئا لهذا الصنم‪ ،‬اجعله قربة‬
‫لك؛ ل َيدفع عنك الضر و َيجلب لك النفع‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫(قال‪ :‬ل ْيس ع ْندي ش ْي ٌء أقرب) ٌ‬
‫فقير ليس عنده شي ٌء‪.‬‬
‫(قالوا له‪ :‬قر ْب ول ْو ذباب ًا‪ ،‬فق َّرب ذباب ًا‪ ،‬فخ َّل ْوا سبِيله؛ فدخل النَّار)‬
‫تقدير الحديث‪ :‬خ َّلوا سبيله‪ ،‬فعاش‪ ،‬فمات‪ ،‬فدخل النَّار؛ فهذا‬
‫جزاء َمن ذبح لغير ال َّله‪.‬‬
‫‪261‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل قرب النَّار ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬من اإلنسان وقد ال َيشعر فقد‬
‫َّ‬
‫فقرب ذبابا فدَ خل النَّار‪.‬‬
‫مسلما‪َّ ،‬‬ ‫كان ْ‬
‫(وقالوا لِ ْْلخرِ‪ :‬قر ْب‪ ،‬قال‪ :‬ما ك ْنت ِألقرب ِألح ٍد ش ْيئ ًا دون ال َّل ِه ع َّز‬
‫فضربوا عنقه‪،‬‬ ‫موحدٌ ‪ ،‬لن َيذبح شيئا لغير ال َّله مط َلقا‪َ ،‬‬ ‫مؤمن ي‬ ‫ٌ‬ ‫وج َّل) هذا‬
‫مع أنه يجوز له أن َيفعل ذلك لإلكراه؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬م ْن َك َف َر بِال َّل ِه‬
‫اإليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِن بع ِد إِ ِ ِ‬
‫ان﴾ [النحل‪ ،]106:‬لكنَّه‬ ‫يمانه إِ َّال َم ْن أك ِْر َه َو َق ْلبه م ْط َمئ ٌّن بِ َ‬
‫َ‬ ‫ْ َْ‬
‫َجهر بالتوحيد‪.‬‬
‫الجنَّة شهيدا‬ ‫ِ‬
‫وهذا الرجل مل يدَ اهن ال بقلبه وال بلسانه؛ فدَ خل َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،‬وهذا جزاء الموحد‪ ،‬وهو دخول َ‬ ‫موحدا ل َّله َّ‬
‫ي‬
‫قال‪( :‬فضربوا عنقه) أي‪ :‬فمات‪( ،‬فدخل الجنَّة) َّ‬
‫فدل عىل قرب‬
‫الجنَّة من الموحد‪.‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫أن عاقبة من َذبح لغير ال َّله النَّار‪ ،‬وأنَّه ال يجوز ْ‬
‫ذبح أي‬ ‫وتب َّين َّ‬
‫للقبر‪ ،‬ولو َصغر ذلك المذبوح ‪ -‬سواء دجاجة ‪ ،-‬أو كَبر ‪ -‬كالبعير‬
‫مثَل ‪.-‬‬
‫قال‪( :‬رواه أ ْحمد)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪262‬‬

‫ٍ‬
‫كبعوضة‬ ‫قرب شيئا لغير ال َّله‪ ،‬ولو يسيرا ‪-‬‬ ‫دل الحديث عىل َّ‬
‫َّ‬
‫أنَِ َم ْن َّ‬
‫متوسطا ‪ -‬كالغنم أو الدجاج‬
‫ي‬ ‫ونحوها ‪ ،-‬أو شيئا كبيرا – كالناقة ‪ ،-‬أو‬
‫أو الطير ‪-‬؛ فإنيه ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬يقع يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫وقلت له‪ :‬ال َتذبح للصنم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫شخص‪،‬‬ ‫أنكرت عىل‬
‫َ‬ ‫يعني‪ :‬لو‬
‫فقال‪ :‬أنا أع يظم الصنم فقط؛ أذبح تعظيما له‪ ،‬وليس عبادة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لمحمد ﷺ‪﴿( :‬ق ْل إِ َّن‬ ‫عز َّ‬
‫وجل يقول‬ ‫فتقول له‪ :‬الذبح عبادةٌ‪ ،‬فال َّله َّ‬
‫فمن َذبح لغير ال َّله‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صَلتي ونسكي وُمْياي وِماتي ل َّله رب العالمين﴾)‪َ ،‬‬
‫فقد َأشرك‪.‬‬
‫ِ‬
‫ودليَل آخر‪﴿( :‬فصل لربك وا ْنح ْر﴾)‪َ ،‬‬
‫فجعل ال َّله الذبح عبادة‪،‬‬
‫كما َّ‬
‫أن الصَلة عبادةٌ‪.‬‬
‫والفرق بين الشرك األكبر واألصغر‪:‬‬
‫ْ‬
‫﴿و َق ِد ْمنَا‬
‫أن الشرك األكبر يحبِط مجيع األعمال – والعياذ بال َّله ‪َ :-‬‬ ‫َّ‬
‫إِ َلى َما َع ِملوا مِ ْن َع َم ٍل َف َج َع ْلنَاه َه َباء َمنْثورا﴾ [الفرقان‪.]23:‬‬
‫ين َو َأعَدَّ َله ْم َس ِعيرا *‬ ‫ِ‬
‫وي َخ يلد صاحبه يف النَّار‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َل َع َن ال َكاف ِر َ‬
‫ين فِ َيها َأ َبدا﴾ [األحزاب‪.]64:‬‬ ‫ِِ‬
‫َخالد َ‬
‫أ يما الشرك األصغر‪:‬‬
‫‪263‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬ومل يصل إىل الشرك‬ ‫فهو ُّ‬
‫كل ما َورد لفظه يف النصوص بأ َّنه‬
‫األكبر‪.‬‬
‫وصاحبه ال يخ َّلد يف النَّار‪ ،‬وإنما عىل أحد القولين‪ :‬يكون تحت‬
‫المشيئة‪.‬‬
‫والقول اآلخر‪ :‬أنَّه ال يغفر له‪ ،‬فينظر يف حسناته‪ ،‬ويح َبط منه‪ ،‬ثم‬
‫الجنَّة‪ ،‬أو َيدخل النَّار‪ ،‬وال يخ َّلد فيها‪.‬‬
‫ينظر إذا بقي له من حسناته؛ َيدخل َ‬
‫و َمن ذبح لغير ال َّله؛ فهو خالدٌ ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬يف النَّار‪ ،‬ال َيدخل‬
‫الجنَّة‪ ،‬وال َيجد ريحها‪.‬‬
‫َ‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪264‬‬

‫[‪]11‬‬
‫ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه‬
‫اب َّل ي ْذبح ل َّل ِه بِمك ٍ‬
‫ب ٌ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪َّ﴿ :‬ل تق ْم فِ ِيه أبد ًا﴾ اآلية‪.‬‬
‫اك ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬نذر رج ٌل أنْ ي ْنحر إِبِ ً‬
‫َل‬ ‫الضح ِ‬ ‫ِ‬
‫ع ْن ثابِت ْب ِن َّ َّ‬
‫اهلِ َّي ِة‬
‫ان الج ِ‬
‫بِبوانة‪ ،‬فسأل النَّبِ َّي ﷺ؟ فقال‪ :‬ه ْل كان فِيها وث ٌن ِم ْن أ ْوث ِ‬

‫ي ْعبد؟ قالوا‪َّ :‬ل‪.‬‬


‫اد ِه ْم؟ قالوا‪َّ :‬ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ه ْل كان فِيها ِع ٌيد ِم ْن أ ْعي ِ‬

‫ف بِن ْذ ِرك‪ ،‬فإِنَّه َّل وفاء لِن ْذ ٍر فِي‬ ‫فقال رسول ال َّل ِه ﷺ‪ :‬أ ْو ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫سناده على‬ ‫م ْعصية ال َّله‪ ،‬وَّل فيام َّل ي ْملك ا ْبن آدم» رواه أبو داود‪ ،‬وإِ ْ‬
‫ش ْرطِ ِهام‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه)‪.‬‬
‫اب َّل ي ْذبح لِ َّل ِه بِمك ٍ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫أنَِ من أنواع الشرك‪ :‬الذبح لغير ال َّله؛‬
‫لما َذكر المصنف رمحه ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫َأع َق َبه بعد ذلك يف بيان خطورة الذبح لغير ال َّله‪ ،‬بذكْر َّ‬
‫أن المكان الذي‬
‫أي ذبحٍ ل َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬حتى‬ ‫ذبح فيه لغير ال َّله؛ ال يجوز ْ‬
‫أن يف َعل فيه ُّ‬ ‫ي َ‬
‫‪265‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫عقيقة لولده‪،‬‬ ‫ذبح‬‫قصد الذابح حسنا‪ ،‬كإظهار شعيرة الذبح‪ ،‬أو ْ‬
‫وإن كان ْ‬
‫عبادات؛ فَل يجوز أن تف َعل يف مكان‬
‫ٌ‬ ‫ضيف‪ْ ،‬‬
‫وإن كانت تلك‬ ‫ٍ‬ ‫أو يف إكرام‬
‫ذبح فيه لغير ال َّله‪.‬‬
‫و َذكر المصنَّف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان تحريم الذبح ل َّله يف‬
‫ٍ‬
‫مكان يذبح فيه لغير ال َّله‪.‬‬
‫أن النَّذر لغير ال َّله ال يجوز‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تأكيد عىل َّ‬ ‫ويريد منه أيضا مزيد‬
‫ٍ‬
‫بشرك؛ فمن باب‬ ‫ٍ‬
‫مكان ذبح فيه‬ ‫ْ‬
‫فإن كانت الطاعة ال يجوز ف ْعلها يف‬
‫َأوىل النَّذر لغير ال َّله ال يجوز‪.‬‬
‫ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه) أي‪َّ :‬‬
‫أن‬ ‫اب َّل ي ْذبح لِ َّل ِه بِمك ٍ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫ٌ‬
‫شرك؛ وفيه من شعائر المشركين‪.‬‬ ‫العبادة هي ل َّله لكن المكان فيه‬
‫والنهي للتحريم؛ ألنه وسيل ٌة ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬إىل الشرك‪ ،‬وسواء‬
‫كانت هذه العبادة ذبحا‪ ،‬أو صَلة‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫بشاة فذهب عند ٍ‬
‫قبر‬ ‫ٍ‬ ‫شخص أن يضحي يوم العيد‬ ‫مِثل‪ :‬لو أراد‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫مكان فيه‬ ‫وذبحها عنده‪ ،‬وإن كان يقصدها ل َّله‪ ،‬لكن ال يجوز أن تفعل يف‬
‫ٍ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شرك أو مظنَّة‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪266‬‬

‫خصص هنا عبادة الذبح ل َّله أنَّها ال تف َعل يف‬


‫والمصنف رمحه ال َّله ي‬
‫أعم من هذا‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن‬ ‫باب ي‬‫مكان ذبح فيه لغير ال َّله‪ ،‬وسيأيت إن شاء ال َّله ٌ‬
‫أضرحة أو غير ذلك من‬ ‫ٍ‬ ‫قبور أو‬ ‫ٍ‬
‫عبادة ل َّله ال يجوز أن تف َعل عند ٍ‬ ‫َّ‬
‫كل‬
‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ‬
‫أماكن الشرك‪ ،‬عند قوله‪( :‬باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬
‫رج ٍل صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!)‪.‬‬
‫والمصنَّف ر محه ال َّله ساق آية‪ ،‬وحديثا‪:‬‬
‫ساق اآلية؛ لبيان أنَّه ال يجوز أن تقام الطاعة يف مكان ك ٍ‬
‫فر إذا كان‬
‫المبنى قائما‪ ،‬أو مظاهر الشرك قائمة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مكان يحا ُّد‬ ‫واآلية عا َّم ٌة يف مجيع العبادات؛ فَل تقام الطاعة يف‬
‫فيه ال َّله ورسوله‪ ،‬ويقاس عليها الذبح‪.‬‬
‫وساق الحديث؛ لبيان أنَّه حتى ولو كانت معامل الشرك زائلة؛ ال‬
‫يجوز أن تؤ َّدى فيه طاع ٌة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مكان يذبح‬ ‫خاصة‪ ،‬فَل يذبح يف‬
‫ينص عىل عبادة الذبح َّ‬
‫والحديث ي‬
‫فيه لغير ال َّله‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪َّ﴿ :‬ل تق ْم فِ ِيه أبد ًا﴾) أي‪ :‬ال تصلي يف‬
‫مسجد الض َرار؛ ألنه بني عىل الكفر‪ ،‬وإن كانت الصَلة ل َّله‪ ،‬لكن المكان‬
‫‪267‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أقيم لغير ال َّله‪ ،‬ومقاصدهم فيه كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وا َّل ِذي َن ا َّت َخذوا‬
‫ين َوإِ ْر َصادا ل ِ َم ْن َح َار َب ال َّل َه‬‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َم ْس ِجدا ض َرارا َوك ْفرا َو َت ْف ِريقا َبيْ َن الم ْؤمن َ‬
‫ِ‬
‫فأسسوا مسجدا‪ ،‬لكن لفساد ن ييتهم؛‬ ‫َو َرسو َله م ْن َق ْبل﴾ [التوبة‪ ،]107:‬ي‬
‫َأصبح هذا المحسوس ‪ -‬المسجد ‪ -‬ال يجوز ْ‬
‫أن تقام فيه العبادة‪ ،‬وهذه‬
‫مكان للكفر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬فَل يجوز أن يص َّلى فيه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ات قبيح ٌة؛ فهو‬
‫ن َّي ٌ‬
‫وكذا ال تجوز الصَلة يف الكنائس إذا كانوا يظهرون الشرك فيها‪.‬‬
‫أن النية تؤ يثر حتى يف البقاع‪ ،‬فهذا مسجدٌ ‪ ،‬وأل َّن النية فيه‬
‫فدل عىل َّ‬
‫ي‬

‫خبيث ٌة؛ َأصبحت العبادة فيه َّ‬


‫محرم ٌة‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ل َم ْس ِجدٌ أس َس َع َلى ال َّت ْق َوى مِ ْن َأ َّو ِل َي ْو ٍم َأ َح ُّق َأ ْن‬
‫َتقو َم فِ ِيه﴾ [التوبة‪]108:‬؛ لصفاء النية‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪268‬‬

‫والمسجد الذي أسس عىل التقوى جاءت أحاديث بأنَّه المسجد‬


‫النبوي(‪،)1‬وأحاديث أخرى بأنَّه مسجد قباء(‪.)2‬‬
‫وال منافاة بين القولين؛ فكَلمها أ يسس عىل التقوى‪.‬‬
‫فهنا آي ٌة عا َّم ٌة يف َّ‬
‫أن الصَلة ال تجوز إقامتها يف مكان قصد فيه‬
‫غير ال َّله‪ ،‬ويقاس عىل ذلك الذبح‪.‬‬
‫ث يم بعد ذلك َذكر المصنَّف رمحه ال َّله حديثا يف تخصيص الذبح‬
‫اك ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬نذر رج ٌل أنْ ي ْنحر إِبِ ً‬
‫َل‬ ‫الضح ِ‬ ‫ِ‬
‫فقال‪( :‬ع ْن ثابِت ْب ِن َّ َّ‬
‫قريب من ينبع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بِبوانة) (بوانة) ٌ‬
‫جبل غرب المدينة المنورة عىل الساحل‪،‬‬

‫(‪ )1‬منها ما رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)22805‬من حديث سه ٍل رضي ال َّله‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ فِي ال َم ْس ِج ِد ا َّل ِذي‬‫ف َرج ََل ِن َع َلى َع ْه ِد َرس ِ‬ ‫اخ َت َل َ‬
‫عنه‪ ،‬ولفظه‪ْ « :‬‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫ول‪َ ،‬و َق َال اآل َخر‪ :‬ه َو‬ ‫أس َس َع َلى ال َّت ْق َوى؟ َف َق َال َأ َحده َما‪ :‬ه َو َم ْسجد َّ‬
‫مس ِجد قب ٍ‬
‫اء‪َ ،‬ف َأ َت َيا النَّبِ َّي ﷺ َف َس َأ َاله َف َق َال‪ " :‬ه َو َم ْس ِج ِدي َه َذا»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫(‪ )2‬منها ما رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب يف االستنجاء بالماء‪ ،‬رقم (‪،)44‬‬
‫من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬ن ََز َل ْت ه ِذ ِه اآلية فِي َأه ِل قب ٍ‬
‫اء‪:‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يه﴾ يعود عىل‬ ‫ون َأ ْن ي َت َطهروا﴾»‪ .‬والضمير يف قوله ﴿فِ ِ‬ ‫يه ِرج ٌال ي ِ‬
‫ح ُّب َ‬ ‫﴿فِ ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫مسجد قباء‪.‬‬
‫‪269‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وهو ق ْبل مدينة أملج اآلن للذاهب من مكة إىل أملج عىل ساحل البحر‬
‫األمحر‪.‬‬

‫جبل نَذر رج ٌل أن َيذبح فيه‪ ،‬فسأل ُّ‬


‫النبي ﷺ هل كان يشرك‬ ‫فهناك ٌ‬
‫فيه مع ال َّله غيره‪.‬‬
‫الصحابي سأل النبي ﷺ عن ذلك‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫(فسأل النَّبِ َّي ﷺ؟) أي‪:‬‬
‫ِ‬
‫النبي ﷺ‪( :‬ه ْل كان فيها وث ٌن) والوثن ي‬
‫أعم من الصنم‪ ،‬فهو‬ ‫فسأله ُّ‬
‫َيشمل القبور واألحجار واألشجار وهكذا‪.‬‬
‫اهلِ َّي ِة ي ْعبد؟) يعني‪ :‬حتى ولو أزيل‪ ،‬هل كان‬
‫ان الج ِ‬ ‫ِ‬
‫(م ْن أ ْوث ِ‬

‫موجودا؟‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن المكان حتى ولو أزيل منه معامل الشرك؛ ال‬ ‫(قالوا‪َّ :‬ل) َّ‬
‫يجوز أن تقام فيه طاع ٌة‪.‬‬
‫اد ِه ْم؟) أي‪ :‬أن الشرك ليس فيه‬
‫(قال‪ :‬ه ْل كان فِيها ِع ٌيد ِم ْن أ ْعي ِ‬

‫مستمرا طول العام‪ ،‬وإنما يأتونه يف أيا ٍم ي ِ‬


‫شركون فيه ويعودونه فيه‪.‬‬
‫أن الصحابة رضي ال َّله عنهم إذا كان يف نفوسهم‬
‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ٌّ‬
‫شي ٌء من األمور؛ يأتون ويسألون النبي ﷺ‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪270‬‬

‫النبي ﷺ سؤالين اثنين؛ حتى يتأكد من أنه‬


‫الصحابي سأله ُّ‬
‫ُّ‬ ‫وهذا‬
‫يجوز ذلك الذبح‪:‬‬
‫ٍ‬
‫باستمرار؟‬ ‫قائم يأتيه الناس‬
‫األول‪ :‬هل كان هناك وث ٌن ٌ‬
‫السؤال َّ‬
‫السؤال الثاين – أخص ‪ :-‬هل كان عيدا يأتون إليه يف ٍ‬
‫وقت مع َّي ٍن‪،‬‬ ‫ي‬
‫مخص ٍ‬
‫ص؟‬ ‫ي‬ ‫أو ٍ‬
‫زمن‬
‫ومل يسأله ﷺ عن مقصده َحسنا أو غير َح ٍ‬
‫سن؛ وإنيما سأله عن خلو‬
‫أنَِ حسن النية ال ين َظر إليه يف مكان الشرك‪.‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫المكان من الشرك‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬أو أزيل ولكنهم‬ ‫(قالوا‪َّ :‬ل) َّ‬
‫فدل عىل أن المكان إذا كان فيه‬
‫يأتون فيه أ يياما؛ فإنه ال يجوز أن تقام فيه الطاعة‪.‬‬
‫ِ‬
‫لذلك قال عليه الصَلة والسَلم‪( :‬أ ْوف بِن ْذ ِرك) َّ‬
‫فلما َخ ْ‬
‫لت تلك‬
‫مخص ٍ‬
‫ص يأتون إليه؛ أ َمره النبي ﷺ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫زمن‬ ‫البقعة من الوثن‪ ،‬أو من‬
‫بالوفاء بنذره‪.‬‬
‫(فإِنَّه َّل وفاء لِن ْذ ٍر فِي م ْع ِصي ِة ال َّل ِه) َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن العبادة يف أماكن‬

‫الشرك معصي ٌة‪ ،‬فلو كان فيه ٌ‬


‫وثن من أوثان الجاهلية؛ ال يجوز الوفاء به‪.‬‬
‫‪271‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(وَّل فِيام َّل ي ْملِك ا ْبن آدم) مِثل‪ :‬لو نذر رج ٌل أن يبيع سيارة ِ‬
‫جاره‬
‫وهو ال يملكها؛ فَل ِ‬
‫يوف بنذره؛ ألنَّه ال وفاء فيما ال َيملكه؛ وإنَّما عليه‬
‫كفارة ٍ‬
‫يمين‪.‬‬
‫أن أخرج من مايل مئة ٍ‬
‫ريال؛ نقول‪َ :‬يلزم إذا كان‬ ‫نذر ْ‬
‫عيل ٌ‬
‫ولو قال‪ :‬ي‬
‫يف الطاعة‪.‬‬
‫وكذلك الصَلة عند القبر قاصدا التوجه للقبر؛ قال شيخ اإلسَلم‬
‫رمحه ال َّله‪« :‬هذا عين المحا يدة ‪ -‬أي‪ :‬العصيان ‪ -‬ل َّله ولرسوله»(‪.)1‬‬
‫أن عمر بن الخطاب رضي ال َّله عنه قال‪:‬‬
‫لذلك يف صحيح البخاري َّ‬
‫«ال َق ْب َر ال َق ْب َر»(‪)2‬؛ يعني ال تصلي إىل القبر‪.‬‬
‫وإذا كان هذا الوعيد فيمن َيعبد ال َّله يف مكان ك ْف ٍر؛ فما ظنُّك بمن‬
‫يشرك بال َّله و َيكفر يف تلك األمكنة ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن األماكن تتفاضل بالطاعة‪ ،‬وأن الشرك يفسد عىل أهل‬ ‫َّ‬
‫الطاعة طاعاهتم يف األرض‪.‬‬

‫(‪ )1‬اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ اإلسَلم (‪.)193/2‬‬


‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية‪ ،‬ويتخذ‬
‫مكاهنا مساجد‪ ،‬رقم (‪.)427‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪272‬‬

‫[‪]12‬‬
‫اب ِمن الش ْر ِك النَّ ْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه‬
‫ب ٌ‬
‫لِق ْولِه‪﴿ :‬يوفون بِالن َّْذ ِر﴾‪.‬‬
‫وق ْولِ ِه‪﴿ :‬وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾‪.‬‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله ع ْنها‪ ،‬أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪:‬‬ ‫وفِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫«م ْن نذر أنْ يطِيع ال َّله ف ْليطِ ْعه‪ ،‬وم ْن نذر أنْ ي ْع ِصي ال َّله فَل ي ْع ِص ِه»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫اب ِمن الش ْر ِك) أي‪ :‬من أنواع الشرك األكبر‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫فم ْن نَذر شيئا لغير ال َّله؛ فقد ارتكب هذا الشرك األكبر‪.‬‬ ‫َ‬
‫(الن َّْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه) الن َّْذر‪ :‬هو إيجاب اإلنسان عىل ن ْفسه ما مل يجب‬
‫عليه يف أصل الشرع(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫بريال‪.‬‬ ‫نذر أن أتصدق َّ‬
‫كل يو ٍم‬ ‫مِ‬
‫عيل ٌ‬
‫َّ‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫شخصا‬ ‫أن‬ ‫لو‬ ‫‪:‬‬ ‫ثل‬
‫نذ ٌر‪ ،‬وهذا الشخص َأوجب عىل ن ْفسه هذا األمر‪ ،‬وصدق ٌة يف‬ ‫هذا ْ‬
‫بريال مل ي ِ‬
‫وجبها الشرع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل يو ٍم‬

‫(‪ )1‬التعريفات للجرجاين (‪.)240/1‬‬


‫‪273‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والنَّذر ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬


‫نذ ٌر ل َّله‪ ،‬وهو ينقسم أيضا إىل قِسمين‪:‬‬ ‫األول‪ْ :‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫النذر طاعة وقربة ل َّله‪.‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون ْ‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫كل يو ٍم يف الليل ركعتين‪.‬‬ ‫مِثل‪ :‬لو قال‪ :‬ل َّله عيل ْ‬
‫نذ ٌر أن أصلي َّ‬
‫َّ‬
‫أن يلبس يف كل يوم الثوب‬ ‫نذر ْ‬ ‫وإ َّما أن يكون يف ٍ‬
‫أمر مباح‪ ،‬مثل‪ :‬لو َ‬
‫ٍ‬
‫معينة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ساعة‬ ‫الفَلين‪ ،‬يف‬
‫ِ‬
‫ممنوع‪ ،‬وهو ما كان ل َّله لكنَّه يكون يف أ ْم ٍر َّ‬
‫محر ٍم؛‬ ‫ٌ‬ ‫نذر‬
‫والقسم الثاين‪ٌ :‬‬
‫ٍ‬
‫بشرك‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬ليس‬
‫أن َيشرب مخرا – والعياذ‬ ‫مِثل‪ :‬أن َينذر معصية ل َّله‪ْ ،‬‬
‫كأن ينذر ل َّله ْ‬
‫يعق والدَ يه‪ ،‬أو َيقطع أرحامه‪.‬‬
‫أن ي‬‫بال َّله‪ ،-‬أو ْ‬
‫مِ‬
‫عمي‪.‬‬‫عيل َّأال أسلم عىل ي‬
‫َّ‬ ‫نذر‬
‫ٌ‬ ‫‪:‬‬ ‫شخص‬
‫ٌ‬ ‫قال‬ ‫لو‬ ‫‪:‬‬ ‫ثل‬

‫نذر ال حاجة لإلنسان فيه‪ ،‬وال َّله ٌّ‬


‫غني عنه‪.‬‬ ‫أو ٌ‬
‫شخص أن يمشي من المدينة إىل مكة حافيا عىل قدميه‬ ‫ٌ‬ ‫مِثل‪ :‬لو نذر‬
‫وجل غني عن ذلك؛ فَل ِ‬
‫يوف بنذره‪ ،‬وإنَّما يكفر كفارة‬ ‫عز َّ ٌّ‬ ‫للحج‪ ،‬وال َّله َّ‬
‫ٍ‬
‫يمين‪.‬‬
‫شركي‪ ،‬وهو النَّذر لغير ال َّله‪.‬‬ ‫نذر‬ ‫ِ‬
‫ٌّ‬ ‫والقسم الثاين‪ٌ :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪274‬‬

‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫أن أذبح للقبر الفَلين؛ فهذا‬ ‫نذ ٌر عيل ْ‬
‫شخص‪ْ :‬‬
‫ٌ‬ ‫مثل‪ :‬لو قال‬
‫َّ‬
‫ولهذا ِ‬
‫القسم َّبوب المصنَّف رمحه ال َّله هذ الباب‪.‬‬
‫فم ْن ن ََذ َر لغير ال َّله‬ ‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪َ ،‬‬ ‫وال انقسام فيه؛ يعني‪ :‬عىل كل أحواله‬
‫شيئا؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫َّذر عبادةٌ‪ ،‬فإذا تب يين لك أنَّه‬ ‫وساق فيه آيتين وحديثا؛ ليب يين َّ‬
‫أن الن َ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫صرفه لغير ال َّله‬
‫عبادةٌ‪ ،‬فإذا ْ‬
‫اآلية األولى – (﴿يوفون بِالن َّْذ ِر﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن الن َّْذر المشروع‬
‫عز َّ‬
‫وجل من َوىف به األجر‪.‬‬ ‫عباد ٌة يكافئ ال َّله َّ‬
‫وساق اآلية الثانية – (﴿وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر‬
‫فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن النَّذر عباد ٌة قرين الصدقة‪.‬‬
‫وساق الحديث – حديث عائشة رضي ال َّله عنها ‪-‬؛ لبيان أنَّه إذا‬
‫معصية ‪ -‬وأعظم ذلك‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإن كان يف‬ ‫ٍ‬
‫طاعة؛ فيو َّفي به‪ْ ،‬‬ ‫كان النذر يف‬
‫الشرك ‪-‬؛ فإنيه ال يجوز أن يوفي به‪.‬‬
‫قال عن اآلية األوىل‪( :‬لِق ْولِ ِه)‪ ،‬وهذا هو الموضع الوحيد يف كتاب‬
‫التوحيد الذي قال فيه المصنَّف‪( :‬لِق ْولِ ِه)‪ ،‬و َذكر هذه العبارة؛ إلثبات َّ‬
‫أن‬
‫‪275‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫بعبادة حتى‬ ‫ألن بعض من ينذر لغير ال َّله يقول‪َّ :‬‬
‫أن النَّذر ليس‬ ‫النَّذر عبادةٌ؛ َّ‬
‫يكون شركا‪ ،‬فأثبت المصنَّف رمحه ال َّله َّ‬
‫أن النَّذر عبادةٌ‪.‬‬
‫أن مِن‬ ‫ِ ِ‬
‫لذلك قال‪( :‬لق ْوله‪﴿ :‬يوفون بِالن َّْذ ِر﴾) ثنا ٌء ألهل َ‬
‫الجنَّة ب َّ‬
‫يوجب‬
‫أعمالهم أنَّهم يوفون بالنَّذر‪ ،‬فإذا كانوا يوفون بالنَّذر‪ ،‬وهو مل َ‬
‫عليهم‪ ،‬وإنما َأوجبوه هم عىل أنفسهم؛ ِ‬
‫فمن باب َأوىل أنَّهم يوفون بما‬
‫ٍ‬
‫وزكاة ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صَلة‪ ،‬وصيا ٍم‪،‬‬ ‫َأوجب ال َّله عليهم‪ ،‬من‬
‫وجل ال يثني عىل ٍ‬
‫فريق؛ إال لعمل الطاعات‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وال َّله َّ‬
‫فدل ثناء ال َّله عليهم عىل َّ‬
‫أن النَّذر عبادةٌ‪ ،‬وإذا كان عبادة فَل تصرف‬ ‫ي‬
‫فمن صرفه لغير ال َّله و َق َع يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫إال ل َّله‪َ ،‬‬
‫حج لغير ال َّله‪ ،‬كأ ْن‬
‫شخص الصَلة لغير ال َّله‪ ،‬أو ي‬
‫ٌ‬ ‫ف‬
‫كما لو َص َر َ‬
‫ويل – كما يزعم ‪ ،-‬أو ن ََذر ْ‬
‫أن يضع نورا أو طيبا‬ ‫يذهب ويطوف عىل قبر ٍّ‬
‫أن أضع طيبا أو شمعا‬‫نذ ٌر عيل ْ‬ ‫أو أقمشة عند القبر الفَلين مِثل ْ‬
‫أن يقول‪ْ :‬‬
‫ي‬
‫أو أتصدي ق بمبل ٍغ للقبر الفَلين‪ ،‬أو للويل الفَلين‪.‬‬

‫والنَّذر ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ٌ -‬‬


‫كثير عند األضرحة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪276‬‬

‫وكما قال شيخ اإلسَلم رمحه ل َّله‪« :‬النَّذر لغير ال َّله أ ْعظم يف الحرمة‬
‫عظيم شديدٌ‬
‫يمين معقودةٌ‪ ،‬فيها ت ٌ‬
‫ٌ‬ ‫من الحلِف بغير ال َّله»(‪)1‬؛ أل َّن النَّذر‬
‫عظيم ْ‬
‫بأن أتصدي ق‬ ‫ٌ‬ ‫للمنذور‪ ،‬فكأنك تقول‪ :‬لك نذرت يا رب؛ ألنك‬
‫ٍ‬
‫لميت‪ ،‬فإنه قد َعقد التعظيم يف قلبه‬ ‫بعشرة رياالت‪ ،‬فكذلك َمن َ‬
‫نذر‬
‫صرفه تلك العبادة لغير ال َّله‪.‬‬
‫لذلك الميت‪ ،‬فكان شركا يف ْ‬
‫وحكم النَّذر إذا كان ل َّله‪ ،‬ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫عيل‬ ‫نذر‬ ‫االختبار‬ ‫يف‬ ‫نجحت‬ ‫إن‬ ‫‪:‬‬ ‫مثل‬ ‫ق‪،‬‬ ‫األول‪ :‬النَّذر المع َّ‬
‫ل‬ ‫سم‬ ‫ِ‬
‫الق‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫رياالت‪.‬‬ ‫أن أتصدَّ ق بعشرة‬
‫وهذا النَّذر مكرو ٌه؛ ألن النبي ﷺ نَهى عن النَّذر‪ ،‬وقال‪« :‬إِن ََّما‬
‫َخرج بِ ِه مِن الب ِ‬
‫خي ِل»(‪. )2‬‬ ‫َ َ‬ ‫ي ْست ْ َ‬
‫عيل أن‬ ‫والقسم الثاين‪ :‬النذر المط َلق‪ ،‬مِثل‪ :‬لو قال‬ ‫ِ‬
‫نذر َّ‬
‫شخص‪ٌ :‬‬ ‫ٌ‬
‫شفاء‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شيء من نجاحٍ ‪ ،‬أو‬ ‫فنذره هنا ليس مقابل‬‫أصلي اآلن ركعتين‪ْ ،‬‬
‫غير ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)123/33‬‬


‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب القدر‪ ،‬باب إلقاء النذر العبد إىل القدر‪ ،‬رقم (‪،)6608‬‬
‫من حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪277‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫قال شيخ اإلسَلم عن هذا النوع‪« :‬وهذا الذي أثنى ال َّله َّ‬
‫ون بِالن َّْذ ِر﴾»(‪.)1‬‬
‫عىل الموفين به‪ ،‬فقال‪﴿ :‬يوف َ‬
‫ٍ‬
‫شيء إال إذا كان عبادة‪َّ ،‬‬ ‫عز َّ‬
‫فدل عىل أن النَّذر‬ ‫وجل ال يثني عىل‬ ‫وال َّله َّ‬
‫عبادةٌ‪َ ،‬فأثنى ال َّله عىل المؤدين له‪.‬‬
‫قال‪( :‬وق ْولِ ِه‪﴿ :‬وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة﴾) سواء كانت واجبة‪ ،‬أو نافلة؛‬
‫فإن ال َّله َيعلمها‪ ،‬وهو يكافئ عليها سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫(﴿أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾) أي‪ :‬ويكافئكم عليه‬
‫ويجازيكم به‪.‬‬
‫دل عىل َّ‬
‫أن النَّذر عباد ٌة كالصدقة‬ ‫فمجازاته عليه‪ ،‬وتوفيته أجورهم؛ َّ‬
‫واإلنفاق‪ ،‬فكما َّ‬
‫أن البذل واإلنفاق‪ ،‬والصدقة عىل الفقراء عبادةٌ‪ ،‬فكذلك‬
‫النَّذر عباد ٌة‪.‬‬
‫صرفه لغير ال َّله فهو‬
‫فإذا كان عبادة؛ فإنه ال يصرف لغير ال َّله‪ ،‬و َمن َ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)344/35‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪278‬‬

‫نذر‬
‫قسيم ‪-‬؛ أي‪ :‬ليس هناك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كالتبرك ليس له‬
‫ي‬ ‫والنَّذر لغير ال َّله‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ‪ ،-‬وإنما ك ُّله ‪ -‬والعياذ‬ ‫ونذر لغير ال َّله‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شرك أصغر‬ ‫لغير ال َّله‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫بال َّله ‪-‬‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله ع ْنها‪ ،‬أ َّن‬ ‫ثم قال‪( :‬وفِي الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ي‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬م ْن نذر أنْ يطِيع ال َّله ف ْليطِ ْعه)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طاعة‪،‬‬ ‫فدل عىل أنه عبادةٌ‪ ،‬وأنه يجب الوفاء بالنذر إذا كان ل َّله ويف‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫مقدور عليه‪.‬‬ ‫بذل أو ٍ‬
‫أمر‬ ‫ٍ‬
‫كصدقة أو ٍ‬

‫يمين‪ ،‬وهي إطعام عشرة‬‫و َمن مل َيقدر عىل ذلك األمر؛ فليك يفر ك يفارة ٍ‬
‫مساكين‪ ،‬أو كسوهتم‪ ،‬أو تحرير ٍ‬
‫رقبة‪ ،‬فإذا مل يستطع فيصوم ثَلثة أيا ٍم‬
‫ٍ‬
‫متتابعات‪.‬‬
‫عيل أن أسرق؛ فَل يجوز‬ ‫نذر‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫كأن‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫معصية‬ ‫وإذا كان ل َّله ويف‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫أن يويف به‪.‬‬
‫قال‪( :‬وم ْن نذر أنْ ي ْع ِصي ال َّله فَل ي ْع ِص ِه)‪.‬‬
‫سواء كان يف أصل النَّذر بأن َجعله لغير ال َّله‪.‬‬
‫نذر عيل أن أتصدَّ ق لهذا القبر؛ لج ْلب النفع‪ ،‬أو‪ْ :‬‬
‫نذ ٌر‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫أن‬ ‫ثل‬‫مِ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫عيل أن أصلي لهذا القبر‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪279‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٌ‬
‫شرك يف أصله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫هذا‬
‫أو كان النَّذر يف معصية ال َّله؛ فَل َيعصه‪.‬‬
‫عص ال َّله‪ ،‬ويصلي‪ ،‬ومِن باب‬
‫أن َيترك الصَلة‪ ،‬فَل َي ِ‬
‫إن َن َذ َر ْ‬
‫مثل‪ْ :‬‬
‫َأ ْو َلى َمن ن ََذر لغير ال َّله؛ فيحرم الوفاء به؛ أل َّن النذر عبادةٌ‪ ،‬وإذا كان عبادة؛‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫يحرم الوفاء به‪ ،‬وهو‬
‫وإذا ع ِقدَ النذر لغير ال َّله؛ فليس فيه ك َّفار ٌة ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫ٍ‬
‫معصية كالسرقة؛ ففيه ك َّفار ٌة‪.‬‬ ‫وإذا عقد ل َّله ويف‬
‫فساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الحديث‪ ،‬ليب يين هذين األمرين‪،‬‬
‫ومها‪:‬‬
‫األول‪َّ :‬‬
‫أن النَّذر عباد ٌة يجب الوفاء به‪ ،‬كالوضوء والصَلة‪.‬‬ ‫األمر َّ‬
‫ٍ‬
‫معصية‪ ،‬كذلك ال يجوز‬ ‫األمر الثاين‪ :‬أنَّه ال يجوز ْ‬
‫أن يوف َي بالنَّذر يف‬
‫أن يو يف َي بالنَّذر إذا كان شركا لغير ال َّله‪.‬‬
‫ْ‬
‫صرفه لغير ال َّله فقد اقتَرف الشرك‬ ‫ودل عىل أنه عبادةٌ‪ ،‬و َّ‬
‫أن َمن َ‬ ‫ي‬
‫األكبر – والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪280‬‬

‫قرين لبقية العبادات‪ ،‬كالصَلة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مما سبق‪َّ :‬‬


‫أن النَّذر عباد ٌة‬ ‫فتب يين َّ‬
‫والحلِف‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والصيام‪ ،‬فإذا ص ِر َ‬
‫ف لغير ال َّله؛ فقد َوقع – والعياذ‬
‫بال َّله ‪ -‬صاحبه يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫وقرر المصنَّف رمحه ال َّله َّ‬
‫أن النَّذر عباد ٌة بآيتين‪ ،‬ث يم ساق حديثا؛‬ ‫ي‬
‫ٍ‬
‫طاعة ل َّله؛ يو يفى به‪ ،‬وإذا كان يف معصيته؛ ال‬ ‫ليبين أنَّه إذا كان النَّذر يف‬
‫شركي باإلمجاع‪.‬‬ ‫ألمر‬ ‫يو َّفى به؛ ِ‬
‫فمن باب َأو َلى إذا كان ٍ‬
‫ٍّ‬
‫ويجب عليه التوبة إىل ال َّله‪ ،‬والدخول يف الدين؛ ألنَّه اقترف أمرا‬
‫عظيما‪ ،‬وهو الشرك األكبر بالنَّذر لغير ال َّله‪.‬‬
‫***‬
‫‪281‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]1٣‬‬

‫ستِعاذة بِغ ْيرِ ال َّل ِه‬ ‫ِ‬ ‫ب ٌ ِ‬


‫اب من الش ْرك اَّل ْ‬
‫ال ِمن‬
‫س يعوذون بِرِج ٍ‬ ‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬وأنَّه كان ِرج ٌال ِمن ِ‬
‫ال ْن ِ‬
‫ِ‬
‫الجن﴾ اآلية‪.‬‬
‫ت حكِي ٍم ر ِضي ال َّله ع ْنها قال ْت‪ :‬س ِم ْعت‬ ‫ع ْن خ ْولة بِ ْن ِ‬
‫ت ال َّل ِه التام ِ‬
‫ات‬ ‫َّل فقال‪ :‬أعوذ بِكلِام ِ‬ ‫رسول ال َّل ِه ﷺ يقول‪« :‬م ْن نزل م ْن ِز ً‬
‫َّ َّ‬
‫حل ِم ْن م ْن ِزلِ ِه ذلِك» رواه م ْسلِ ٌم‪.‬‬
‫ِم ْن شر ما خلق؛ لم يضره شي ٌء حتى يرت ِ‬
‫ْ َّ ْ‬ ‫ْ َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫اب ِمن الش ْر ِك) أي‪ :‬من أنواع الشرك األكبر‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫ستِعاذة بِغ ْيرِ ال َّل ِه) االستعاذة هي‪ :‬االلتجاء واالعتصام‬ ‫(اَّل ْ‬
‫والتحصن بال َّله سبحانه(‪.)1‬‬
‫ُّ‬
‫أن يتع َّلق القلب بال َّله ْ‬
‫وحده يف إزالة الضر‬ ‫وحقيقة االستعاذة بال َّله‪ْ :‬‬

‫الواقع فيه‪ ،‬أو د ْفع ما قد يقع من ٍّ‬


‫ضر‪.‬‬

‫(‪ )1‬تاج العروس للزبيدي (‪.)438/9‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪282‬‬

‫واالستعاذة تكون قبل وقوع األمر؛ فتستعيذ بال َّله َّأال يقع عليك‬
‫سح ٍر أو ٍ‬
‫عين وغيره‪.‬‬ ‫المكروه من ْ‬
‫وتكون أيضا بعد وقوع األمر؛ ْ‬
‫أن تستعيذ من شرور ما َوقع فيك‪.‬‬
‫واالستعاذة تنقسم اىل ثَلثة أقسا ٍم‪:‬‬
‫﴿وق ْل‬ ‫ِ‬
‫األول‪ :‬االستعاذة بال َّله‪ ،‬وهي واجب ٌة؛ قال سبحانه‪َ :‬‬
‫القسم َّ‬
‫ين﴾ [المؤمنون‪ ،]97:‬وقال سبحانه‪:‬‬‫الش َياطِ ِ‬
‫ات َّ‬‫رب َأعوذ بِ َك مِن َهم َز ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫﴿ق ْل َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق﴾ [الفلق‪ ،]1:‬وقال‪﴿ :‬ق ْل َأعوذ بِ َرب‬
‫الر ْح َم ِن مِن َْك﴾ [مريم‪.]18:‬‬
‫َّاس﴾ [الناس‪ ،]1:‬وقالت مريم‪﴿ :‬إِني َأعوذ بِ َّ‬
‫الن ِ‬

‫نوع من أنواع العبادات‪ ،‬فإذا استعاذ اإلنسان بربه أثابه ال َّله‪.‬‬


‫وهي ٌ‬
‫ين بِالم َعوذ َت ْي ِن(‪ ،)1‬وكان‬ ‫وقد كان النبي ﷺ ي َعوذ ال َح َس َن َوالح َس َ‬
‫ات ال َّل ِه التَّا َّم ِة‪ ،‬مِ ْن كل‬
‫إبراهيم عليه السَلم يعوذ أبناءه بـ« َأعوذ بِ َكلِم ِ‬
‫َ‬
‫ال َّم ٍة»(‪.)2‬‬
‫ان َو َها َّم ٍة‪َ ،‬ومِ ْن كل َع ْي ٍن َ‬
‫َشي َط ٍ‬
‫ْ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب‪ ،‬رقم (‪ ،)3371‬من حديث ابن‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب‪ ،‬رقم (‪ ،)3371‬من حديث ابن‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والقسم الثاين ‪ -‬من أنواع االستعاذة ‪ :-‬استعاذ ٌة ال َيقدر عليها‬ ‫ِ‬

‫إال ال َّله‪ ،‬مِثل‪ :‬أن تستعيذ بال َّله من النَّار‪ ،‬ومِن شرور ن ْفسك‪.‬‬
‫ومِن استعاذ بغير ال َّله فيما ال يقدر عليه إال ال َّله؛ َوقع يف الشرك‬
‫ٍ‬
‫بميت‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بغائب‪ ،‬أو‬ ‫األكبر؛ كاالستعاذة‬
‫شخص إىل آخر‪ ،‬وقال له‪ْ :‬‬
‫أعذين من شر ذنوبي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مِثل‪ :‬لو َذهب‬
‫ومثال الغائب‪ :‬استعاذة اإلنسان ِ‬
‫بالجني‪ ،‬كأن يقول‪ :‬يا جن يي ْ‬
‫أعذين‬
‫من اإلنس أو من ِ‬
‫الج ين ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫ومثال االستعاذة باألموات؛ كأن يأيت شخص إىل ٍ‬
‫ميت؛ فيقول‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫ْ‬
‫أعذين من شر أوالدي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فهذه‬
‫واالستعاذة بغير ال َّله فيما ال يقدر عليه إال ال َّله ليس لها قسيم؛ أي‪:‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ليس فيها أصغر‪.‬‬ ‫إنما هي‬
‫ِ‬
‫والقسم الثالث ‪ -‬من أنواع االستعاذة ‪ :-‬استعاذ ٌة َيقدر عليها‬
‫البشر‪ ،‬وهي االستعاذة بالحي الحاضر القادر‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪284‬‬

‫وهذه تجوز‪ ،‬والدليل عىل ذلك‪َ « :‬أ َّن ا ْم َر َأة مِ ْن َبنِي َم ْخزو ٍم َس َر َق ْت‪،‬‬
‫َفأتِ َي بِ َها النَّبِ ُّي ﷺ‪َ ،‬ف َعا َذ ْت بِأم َس َل َم َة َز ْوجِ النَّبِي ﷺ‪َ ،‬ف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ‪:‬‬
‫َت َفاطِ َمة َل َق َط ْعت َيدَ َها‪َ .‬فقطِ َع ْ‬
‫ت»(‪.)1‬‬ ‫َوال َّل ِه َل ْو كَان ْ‬
‫ومِثل‪ :‬لو أن طفَل َيضرب طفَل وأنت رج ٌل كبير‪ ،‬وأتاك هذا الطفل‬
‫ضرب هذا الطفل؛ فتجوز هذه‬
‫قادر ‪ :-‬أعذين من ْ‬
‫وقال لك ‪ -‬وأنت ٌ‬
‫اللفظة‪.‬‬
‫أعذين من هذه الشوكة؛ فهو َيقدر أ ْن‬ ‫ومِثل‪ْ :‬‬
‫أن تقول لصاحبك‪ْ :‬‬
‫خلت سيارة وأغلق باهبا‪ ،‬فيستطيع أن َيفتحه‬
‫يخرجها منك‪ ،‬وكذا لو َد َ‬
‫لك‪.‬‬
‫أعذه مما هو فيه؛‬ ‫ٍ‬
‫لشخص‪ْ :‬‬ ‫أ يما ْ‬
‫إن كان الشخص مصروعا‪ ،‬ويقال‬
‫فهذا ال يقدر عليه إال ال َّله‪.‬‬
‫والمصنَّف رمحه ال َّله ذكر يف هذا الباب آية وحديثا‪:‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب ق ْطع السارق الشريف وغيره‪ ،‬والنهي عن‬
‫الشفاعة يف الحدود‪ ،‬رقم (‪ ،)1689‬من حديث جابر بن عبد ال َّله‬
‫رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شرك‪ ،‬ومِن جملة ما َيفعله‬


‫ٌ‬ ‫أن االستعاذة بغير ال َّله‬
‫وذكر اآلية؛ لبيان َّ‬
‫الناس من الشرك استعاذهتم ِ‬
‫بالجن‪.‬‬
‫أن االستعاذة ال تكون إال بال َّله‪َّ ،‬‬
‫وأن الذي‬ ‫وذكر الحديث؛ لبيان َّ‬

‫َينفع هو االستعاذة بال َّله ْ‬


‫وحده‪.‬‬
‫لذلك قال‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬وأنَّه كان ِرج ٌال ِمن ِ‬
‫ال ْن ِ‬
‫س يعوذون‬
‫ٍ‬
‫شرور‪،‬‬ ‫الج ين باإلنس من‬‫الجن﴾)‪ ،‬هذه اآلية فيما َيفعله ِ‬ ‫ال ِمن ِ‬
‫بِرِج ٍ‬
‫ٍ‬
‫وتخويف‪ ،‬وإيحاء زخرف القول‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أصوات‬ ‫فقد كانت العرب إذا نَزلت واديا َخ يوفهم ِ‬
‫الج ُّن بإصدار‬
‫الجن فينادي ٍ‬
‫مناد‬ ‫ونحو ذلك؛ ليستعيذوا هبم‪ ،‬فكانوا يستعيذون بأسياد ِ ي‬
‫جن أعيذونا من سفهائكم ونحو ذلك‪.‬‬
‫منهم‪ :‬يا ُّ‬
‫لما َأشرك‬ ‫قال ال َّله‪َ ﴿ :‬ف َزادوهم ر َهقا﴾ [ ِ‬
‫الج ين‪]6:‬؛ أي‪َّ :‬‬
‫أنَِ الج َّن َّ‬ ‫ْ َ‬
‫اإلنس هبم زاد تخويفهم لهم‪ ،‬فزادوهم أذية وخوفا؛ ِ‬
‫ليوغلوا يف الشرك‬
‫و َيتع َّلقوا ِ‬
‫بالجن أكثر؛ ف َيمرقون من الدين أكثر‪.‬‬
‫أن أفعال ِ‬
‫الج ين ضد اإلنس ليستعيذوا هبم من دون ال َّله‪،‬‬ ‫والشاهد‪َّ :‬‬
‫وسيقت اآلية؛ للذم لحالهم‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪286‬‬

‫وهكذا َمن تع َّلق بغير ال َّله من السحرة ونحوهم؛ يخوفونه ليتع َّلق‬
‫هبم أكثر؛ ليفسدوا عقيدته‪ ،‬ويأخذوا أمواال بالباطل منه‪.‬‬
‫تضر‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪ ،‬وأنَّها ال َتنفع بل ُّ‬ ‫أن االستعاذة بغير ال َّله‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫فمن استعاذ بغير ال َّله زاد ضرره‪.‬‬
‫﴿و َم ْن َي ْعت َِص ْم بِال َّل ِه َف َقدْ ه ِد َي‬ ‫ِ‬
‫و َمن استعاذ بال َّله عصم؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫يم﴾ [آل عمران‪.]101:‬‬ ‫اط م ْست َِق ٍ‬
‫إِ َلى ِصر ٍ‬
‫َ‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ق ْل َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق * مِ ْن َشر َما َخ َل َق * َومِ ْن َشر‬
‫اس ٍد إِ َذا‬
‫ات فِي الع َق ِد * ومِن َشر ح ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫اس ٍق إِ َذا و َقب * ومِن َشر النَّ َّفا َث ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫َغ ِ‬

‫*﴾ [الفلق]‬ ‫َح َسدَ‬


‫ٍ‬
‫شرور‪.‬‬ ‫فاالستعاذة تكون بما يف المخلوق من‬
‫شر؛ فَل يستعاذ منهم‪.‬‬ ‫والمَلئكة والنبيون ليس فيهم ٌّ‬
‫ت حكِي ٍم ر ِضي ال َّله ع ْنها)‪ ،‬قال عمر بن عبد‬
‫ثم قال‪( :‬ع ْن خ ْولة بِ ْن ِ‬
‫ي‬
‫العزيز عن خولة بنت حكيم رضي ال َّله عنها‪« :‬نعمت المرأة الصالحة‬
‫العابدة»(‪.)1‬‬

‫ٍ‬
‫حكيم»‪ .‬مسند‬ ‫ِ‬
‫زعمت المرأة الصالحة خولة بنت‬‫(‪ )1‬بلفظ‪« :‬‬
‫‪287‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(قال ْت‪ :‬س ِم ْعت رسول ال َّل ِه ﷺ يقول‪ :‬م ْن نزل م ْن ِز ً‬


‫َّل) يعني‪ :‬إذا‬
‫ٍ‬
‫مكان تقول هذا الدعاء اآليت ذكْره‪.‬‬ ‫أتيت إىل أي‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫مكان َتنزل فيه؛ سواء‬ ‫أي‬
‫خاصا بالسفر؛ بل ي‬
‫ي‬ ‫وهذا الدعاء ليس‬
‫ذهبت إىل المدرسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ركبت السيارة‪ ،‬أو الطائرة‪ ،‬أو‬
‫َ‬ ‫دخلت منزلك‪ ،‬أو‬
‫َ‬
‫يضره‬
‫عظيم؛ فقد أخبر النبي ﷺ أنَّه لن ي‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن هذا الدعاء‬
‫شي ٌء‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫قال‪( :‬فقال‪ :‬أعوذ بِكلامت ال َّله) أي‪َ :‬ألتجئ و َأعتصم و َأ ي‬
‫توجه‬
‫إىل ال َّله‪ ،‬و َأتوسل بكلمات ال َّله‪( ،‬التام ِ‬
‫ات) التي ال ن ْقص فيها؛ أن َيدفع‬ ‫َّ َّ‬ ‫ي‬
‫ضرر يف المكان الذي أنا فيه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عني الشر‪َّ ،‬‬
‫وأال َيلحقني‬
‫قال‪ِ ( :‬م ْن شر ما خلق)‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل يف مخلوقاته ثَلثة أقسا ٍم‪:‬‬ ‫أن ل َّله َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫محض؛ يعني‪ :‬ال ضرر فيه أبدا‪ ،‬كالمَلئكة‪،‬‬ ‫خير‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫األول‪ٌ :‬‬ ‫القسم َّ‬
‫والرسل‪.‬‬
‫محض ال خير فيه‪ ،‬وهو إبليس وذر َّيته‪.‬‬
‫شر ٌ‬ ‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ٌّ :‬‬

‫الحميدي (‪ ،)331/1‬اإلصابة البن حجر (‪.)116/8‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪288‬‬

‫شر‪ ،‬كن ْفس اإلنسان؛ قال النبي ﷺ‪:‬‬ ‫ِ‬


‫خير‪ ،‬وفيه ٌّ‬
‫القسم الثالث‪ :‬فيه ٌ‬
‫« َأعوذ بِ َك مِ ْن َشر َن ْف ِسي»(‪.)1‬‬
‫شر فقط؛ قال‪ِ ( :‬م ْن‬‫فالمستعيذ هنا يستعيذ من المخلوق الذي فيه ٌّ‬
‫ٍ‬
‫شر ما خلق) أي‪ :‬من شر َمن َخلق‪ ،‬ومن كل مخلوق فيه ٌّ‬
‫شر‪.‬‬
‫حل ِم ْن‬ ‫ضرر‪( ،‬حتى يرت ِ‬
‫َّ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫قال‪( :‬ل ْم يض َّره ش ْي ٌء) يعني‪ :‬مل َيلحقه ُّ‬
‫م ْن ِزلِ ِه ذلِك) أي‪ :‬حتى يغادر ذلك المنزل‪.‬‬
‫وأن االستعاذة بال َّله هي‬
‫فدل عىل وجوب االستعاذة بال َّله سبحانه‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫النافعة‪ ،‬وأنَّها عبادةٌ‪.‬‬
‫منهي عنها؛ بل يجب‬ ‫فليست الداللة فقط َّ‬
‫بأن االستعاذة الشركية ٌّ‬
‫ٍ‬
‫تجربة؛ فهذا ال يجوز؛‬ ‫ٍ‬
‫بيقين‪ ،‬وليس ٍّ‬
‫بشك أو‬ ‫االستعاذة بال َّله‪ ،‬ويكون هذا‬
‫ٍ‬
‫شيء يف د ْفع الضر‬ ‫عز َّ‬
‫قادر عىل كل‬
‫وجل ٌ‬ ‫فَل بد من اليقين يف قولها‪ ،‬فال َّله َّ‬
‫عنك‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)51‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪289‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ودل عىل أن األسباب قد تتخ َّلف؛ قال القرطبي(‪)1‬رمحه ال َّله‪ٌ « :‬‬


‫خبر‬ ‫َّ‬
‫عقرب‪ ،‬فتذكيرت فإذا بي مل أكن‬
‫ٌ‬ ‫جربناه»؛ قال‪« :‬فلدغتني‬
‫صحيح أكيدٌ َّ‬
‫ٌ‬
‫قلت الدعا َء»(‪.)2‬‬
‫المسلِم أن َيتع َّلق بال َّله هبذا الدعاء‪.‬‬
‫فعىل ْ‬
‫ور َتي ال َف َل ِق َوالن ِ‬
‫َّاس‪َ « ،‬و َما‬ ‫َزلت س َ‬
‫ولما َوقع الس ْحر عىل النبي ﷺ ن ْ‬
‫َّ‬
‫ين‪َ ،‬ف َّ‬
‫لما‬ ‫الح َس َن َوالح َس َ‬
‫عوذ َ‬ ‫تعو ٌذ بِ ِم ِ‬
‫ثله َما»(‪ ،)3‬وكان النبي ﷺ ي ي‬ ‫َت ي‬
‫عوذ م ي‬
‫نزلت هاتان السورتان َع يوذهما بِ ِه َما(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله محمد بن أمحد بن أبي بكر بن ْفرح األنصاري الخزرجي‬
‫المفسرين‬ ‫طبقات‬ ‫سنة (‪671‬هـ)‪.‬‬ ‫تويف‬ ‫القرطبي‪.‬‬ ‫المالكي‬
‫للسيوطي (‪ ،)92/1‬طبقات المفسرين للداوودي (‪.)70/2‬‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪ ،‬للقرطبي (‪.)36/7‬‬ ‫ِ‬
‫المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب‬ ‫(‪)2‬‬
‫المعوذتين‪ ،‬رقم (‪،)1463‬‬
‫ي‬ ‫(‪ )3‬رواه أبو داود‪ ،‬باب تقريع أبواب الوتر‪ ،‬باب يف‬
‫من حديث عقبة بن عامر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (وكان إبراهيم عليه السَلم يعوذ أبناءه)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪290‬‬

‫قال ابن القيم رمحه ال َّله‪« :‬وحاجة العبد إىل االستعاذة هباتين‬
‫السورتين أحوج إليه من الطعام والشراب»(‪.)1‬‬
‫الصبح(‪ ،)2‬غاسق‪ :‬القمر‪ ،‬وما يف الليل(‪َ ،)3‬وقب‪:‬‬
‫ومعنى الفلق‪ُّ :‬‬
‫َخرج‪ ،‬النفاثات‪ :‬السواحر(‪.)4‬‬
‫شر إال وذكِر يف هذه السورة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فما من ٍّ‬
‫ِ‬
‫والجن‪.‬‬ ‫َّاس﴾‪ ،‬استعاذة ٌمِن شرور اإلنس‬ ‫﴿مِ ْن َشر ال َو ْس َو ِ‬
‫اس ال َخن ِ‬

‫يتوجه فيها القلب ل َّله‪.‬‬


‫فاالستعاذة عباد ٌة عظيم ٌة‪ ،‬ي‬
‫وإذا كانت عبادة عظيمة وفعلتَها فإنَّك تنال أمورا هي‪:‬‬
‫شرف هذه العبادة‪.‬‬ ‫األمر َّ‬
‫األول‪َ :‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬رفعة للدرجات‪.‬‬
‫فأنت‬
‫ك‪َ ،‬‬ ‫قدير ملِ ٍ‬
‫عظيم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫رب‬
‫فخر لك بأنَّك تلتجئ إىل ٍّ‬
‫األمر الثالث‪ٌ :‬‬
‫تلتجئ إىل الجليل الذي ال ي‬
‫أجل منه‪.‬‬

‫(‪ )1‬بدائع الفوائد (‪.)199/2‬‬


‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)700/24‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)702/24‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)705/24‬‬
‫‪291‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األمر الرابع‪ :‬تعاذ ويح يقق لك مرادك‪.‬‬


‫المسلِم ْ‬
‫أن يع يلق قلبه بال َّله تعاىل يف كل أموره‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لذا يجب عىل‬
‫سح ٍر؛ بل‬ ‫ٍ‬
‫بعين أو ْ‬ ‫بأن فَلنا سيصيبه‬ ‫ويخ يلص ن ْفسه من األوهام َّ‬

‫باالستعاذة يكون القلب متوكَل عىل ال َّله؛ قال ﷺ‪َ « :‬و َل ِو ْ‬


‫اجت ََمعوا َع َلى‬
‫وك إِال بِ َش ْي ٍء َقدْ َك َت َبه ال َّله َع َل ْي َك»(‪.)1‬‬ ‫َأ ْن َيض ُّر َ‬
‫وك‪َ ،‬ل ْم َيض ُّر َ‬
‫أن االستعاذة فيما ال َيقدر عليه إال ال َّله‪ ،‬كالنجاة‬
‫مما َسبق‪َّ :‬‬
‫فتب يين َّ‬
‫من النَّار‪ ،‬ومن الحرز‪ ،‬والعصمة من الشرور واآلفات؛ ُّ‬
‫كل ذلك من‬
‫الشرك األكبر إذا استعاذ بغير ال َّله فيها‪.‬‬
‫جائز‪.‬‬
‫وفيما َيقدر عليه البشر فإنَّه ٌ‬
‫جندي؛ فتقول للجندي‪ْ :‬‬
‫أعذين من‬ ‫ي‬ ‫مِثل‪ :‬لو َو َ‬
‫جدت سارقا وبجانبه‬
‫قادر عىل إمساكه‪.‬‬
‫هذا السارق‪ ،‬فهو ٌ‬
‫وال يجوز قول‪ :‬أعوذ بال َّله وبك؛ بل يقال‪ :‬أعوذ بال َّله ث يم بك‪.‬‬
‫ويفوض‬ ‫المسلِم يجب عليه ْ‬
‫أن يتوكيل عىل ال َّله‪ ،‬ي‬ ‫أن ْ‬ ‫ودل الباب عىل َّ‬
‫ي‬
‫أموره ل َّله‪.‬‬

‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)2669‬من حديث ابن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪292‬‬

‫يكرر هذا الدعاء يف‬


‫أن ي‬‫للمسلِم ْ‬ ‫ي‬
‫ويدل هذا الباب أيضا عىل أ َّنه ينبغي ْ‬
‫حصنا من شرور اإلنس‬ ‫ٍ‬
‫كل مكان َينزله‪ ،‬حتى يكون يف يومه وليلته م ي‬
‫ِ‬
‫والجن‪.‬‬
‫***‬
‫‪293‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]1٤‬‬
‫اب ِمن الش ْر ِك أنْ ي ْست ِغيث بِغ ْي ِر ال َّل ِه؛ أ ْو ي ْدعو غ ْيره‬
‫ب ٌ‬
‫ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك وَّل يض ُّرك‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬وَّل ت ْدع ِم ْن د ِ‬

‫اشف له‬ ‫فإِنْ فع ْلت فإِنَّك إِذ ًا ِمن ال َّظالِ ِمين * وإِنْ يمسسك ال َّله بِضر فَل ك ِ‬
‫ْ ْ‬
‫إِ ََّّل هو﴾ اآلية‪.‬‬
‫اعبدوه﴾ اآلية‪.‬‬ ‫وق ْوله‪﴿ :‬فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬وم ْن أض ُّل ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ‬
‫ون ال َّل ِه م ْن َّل ي ْست ِ‬
‫جيب له إِلى‬ ‫َّ‬
‫القيام ِة﴾ اآليت ْي ِن‪.‬‬
‫ي ْو ِم ِ‬
‫ِ‬ ‫وق ْوله‪﴿ :‬أ َّم ْن ي ِ‬
‫السوء﴾ اآلية‪.‬‬ ‫جيب الم ْضط َّر إِذا دعاه وي ْكشف ُّ‬
‫روى ال َّطبرانِ ُّي‪« :‬أنَّه كان فِي زم ِن ال َّنبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي المؤْ ِمنِين‪.‬‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ ِم ْن هذا المنافِ ِق‪.‬‬‫فقال ب ْعضه ْم‪ :‬قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ‬

‫فقال النَّبِ ُّي ﷺ‪ :‬إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّل ِه‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫َذكر المصنف رمحه ال َّله يف هذه الترمجة‪ :‬االستغاثة والدعاء‪.‬‬
‫أعم من االستغاثة‪ ،‬فك َّلما َ‬
‫قلت‪ :‬يا رب؛ فهذا دعا ٌء‪.‬‬ ‫والدعاء ي‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪294‬‬

‫سمى‪ :‬استعانة‪.‬‬ ‫طلبت من ال َّله العون عىل ٍ‬


‫أمر؛ فهذا ي َّ‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫سمى‪ :‬استعاذة‪.‬‬
‫طلبت منه استعاذة من شر؛ فهذا ي َّ‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫يسمى‪ :‬استغاثة‪.‬‬
‫وقعت فيه؛ فهذا َّ‬
‫َ‬ ‫طلبت منه تفريج ٍ‬
‫كرب‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫أعم‪ ،‬ومنه‪ :‬استعان ٌة‪ ،‬واستعاذةٌ‪ ،‬واستغاث ٌة‪.‬‬‫والدعاء ي‬
‫كل ٍ‬
‫دعاء استغاثة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫استغاثة دعا ٌء‪ ،‬وليس ُّ‬ ‫ُّ‬
‫فكل‬
‫اب ِمن الش ْر ِك) أي‪ :‬األكبر‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ب ٌ‬
‫ٍ‬
‫شدة‪،‬‬ ‫(أنْ ي ْست ِغيث) االستغاثة‪ :‬طلب ال َغ ْوث‪ ،‬وهي اإلنقاذ من‬
‫مرض ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كغرق مثَل‪ ،‬أو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(أنْ ي ْستغيث بِغ ْيرِ ال َّله أ ْو ي ْدعو غ ْيره) يعني‪ٌ :‬‬
‫باب من أنواع الشرك‬
‫أن يستغيث بغير ال َّله‪ ،‬فيما ال َيقدر عليه إال ال َّله‪.‬‬
‫األكبر أيضا ْ‬
‫أ َّما ما كان فيما يقدر عليه البشر‪ ،‬وهم أحيا ٌء حاضرون؛ فيجوز‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لشخص‪ :‬ارفعها عني‪ ،‬فهذه‬ ‫وقلت‬
‫َ‬ ‫مِثل‪ :‬إن سقطت ْعليك خشب ٌة‪،‬‬
‫سقطت جريحا‪،‬‬
‫َ‬ ‫استغاث ٌة هبذا الشخص؛ ل َيرفع عنك تلك الخشبة‪ ،‬ولو‬
‫سمى استغاثة‪.‬‬
‫فقلت لمن معك‪ :‬اسعفني وخذين إىل الطبيب‪ ،‬فهذا ي ي‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فإذا كان البشر قادرون عىل إجابة َغ ْوثك؛ فهذه َّ‬
‫تسمى استغاثة‬
‫جائزة‪.‬‬
‫‪295‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فإذا قيل لك‪ :‬ما هو الدليل عىل أ َّنه يجوز االستغاثة بالبشر؟‬
‫اس َت َغا َثه ا َّل ِذي مِ ْن ِشي َعتِ ِه َع َلى‬
‫تقول‪ :‬كما قال ال َّله عز وجل‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫وسى َف َق َضى َع َل ْي ِه﴾ [القصص‪.]15:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ا َّلذي م ْن َعدوه َف َوك ََزه م َ‬
‫وأ يما االستغاثة فيما ال يقدر عليه إال ال َّله‪ ،‬إذا طلِبت من البشر؛ فهذا‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كاهن‬ ‫ٍ‬
‫بساحر أو‬ ‫كمن يكون مريضا‪ ،‬طريح الفراش‪ ،‬ويستغيث أهله‬
‫َ‬
‫يف َّأال َتخرج روحه‪.‬‬
‫أمر ال يقدر عليه إال ال َّله‪ ،‬فَل َيملك البشر ْنزع الروح أو ردها‬ ‫فهذا ٌ‬
‫لبدن ذلك المريض؛ كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َلو َال إِ َذا ب َل َغ ِ‬
‫ت الح ْلقو َم * َو َأنْت ْم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون * َون َْحن َأ ْق َرب إِ َل ْي ِه مِنْك ْم َو َلكِ ْن َال‬ ‫ِحينَئِ ٍذ َتنْظر َ‬
‫ت ْب ِصر َ‬
‫ون﴾ [الواقعة‪.]85-83:‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فاالستغاثة بغير ال َّله‪ ،‬فيما ال يقدر عليه إال ال َّله؛‬
‫دعوت غير ال َّله بما ال يقدر عليه سوى ال َّله؛ أيضا شر ٌك‬
‫َ‬ ‫كذلك لو‬
‫أكبر‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪296‬‬

‫وقلت له – والعياذ بال َّله ‪-‬‬


‫َ‬ ‫ذهبت إىل رج ٍل صالحٍ ‪ ،‬أو عاملٍ‪،‬‬
‫َ‬ ‫مثل‪ :‬لو‬
‫اغفر يل ذنوبي‪ ،‬كما يفعل األحبار والرهبان من اليهود‬ ‫‪ :‬يا شيخ فَلن ِ‬

‫والنصارى‪.‬‬
‫قادر‪ ،‬مِثل ْ‬
‫أن تقول له‪ :‬أعطني قلما؛ فهذا‬ ‫حاضر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫إن دعو َته وهو‬
‫أ َّما ْ‬

‫﴿و َت َع َ‬
‫اونوا‬ ‫أمر ليس شرك ييا؛ وإنما مباحا‪ ،‬والدليل عىل إباحته قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ٌ‬
‫َع َلى البِر َوال َّت ْق َوى﴾ [المائدة‪.]2:‬‬
‫أن من دعا غير ال َّله‬
‫تدل عىل َّ‬ ‫و َذكر المصنَّف رمحه ال َّله ثَلث ٍ‬
‫آيات ُّ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فيما ال يقدر عليه إال ال َّله فإنه‬
‫و َذكر آية يف االستغاثة‪.‬‬
‫و َذكر الحديث يف االستغاثة فيما ال يقدر عليه إال ال َّله‪.‬‬
‫نوع من أنواع الدعاء‪ ،‬فهو من ع ْطف العام ‪ -‬أي‪:‬‬
‫فاالستغاثة ٌ‬
‫الدعاء ‪ -‬عىل الخاص ‪ -‬وهو االستغاثة ـ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫زيادة يف الرزق مثَل‪ ،‬ومنه ما هو يف حال‬ ‫َّ‬
‫فإن الدعاء منه ما هو طلب‬
‫ٍ‬
‫كغريق‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شدة‪،‬‬
‫‪297‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫واالستغاثة بغير ال َّله‪ ،‬ودعاء غير ال َّله مها أكثر ما يقع بين الناس يف‬
‫الشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬مِن دعائهم لألصنام مثَل‪ ،‬أو دعائهم األموات‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫وحده سبحانه‬‫لربه ْ‬
‫توجه دعاء اإلنسان ي‬
‫ودعوة مجيع الرسل أن َي َّ‬
‫وجمع بينهما المصنَّف يف‬ ‫ٍ‬
‫وتعاىل‪ ،‬سواء كان طلب نفعٍ‪ ،‬أو طلب غوث‪َ ،‬‬
‫هذا الباب؛ َّ‬
‫ألن من يدعو ال يخلو إ َما أن يكون دعاءه طلبا‪ ،‬أو تفريج‬
‫ٍ‬
‫كربة‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك‬
‫و َذكر المصنَّف اآلية األولى – (﴿وَّل ت ْدع ِم ْن د ِ‬

‫أن ال َّله هنى حتى النبي ﷺ أن يدعو غير ال َّله‪،‬‬


‫وَّل يض ُّرك﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫وحاشا النبي ﷺ ْ‬
‫أن َيفعل ذلك‪.‬‬
‫واآلية الثانية ‪﴿( -‬فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ‬
‫اعبدوه﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن‬
‫نوع من أنواع الدعاء والعبادة‪.‬‬
‫طلب الرزق ٌ‬ ‫َ‬
‫واآلية الثالثة – (﴿وم ْن أض ُّل ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ‬
‫ون ال َّل ِه م ْن َّل‬ ‫َّ‬
‫أن أشد الناس ضَلال هو الذي يدعو‬ ‫جيب﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬ ‫ي ْست ِ‬

‫غير ال َّله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪298‬‬

‫جيب الم ْضط َّر إِذا دعاه وي ْك ِشف‬


‫واآلية الرابعة – (﴿أ َّم ْن ي ِ‬

‫عز َّ‬
‫وجل هو الذي يستغاث به يف الشدائد كما‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫السوء﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫ُّ‬
‫يستغاث به يف الرخاء‪.‬‬
‫والنَّص الخامس – (إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّله) ‪-‬؛‬
‫أن االستغاثة التي ال َيقدر عليها إال ال َّله ال تصرف حتى لألنبياء‪.‬‬ ‫لبيان َّ‬
‫والمصنَّف رمحه ال َّله قال يف اآلية األوىل‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬وَّل‬
‫ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك وَّل يض ُّرك فإِنْ فع ْلت فإِنَّك إِذ ًا ِمن‬
‫ت ْدع ِم ْن د ِ‬
‫ال َّظالِ ِمين * وإِنْ يمسسك ال َّله بِضر فَل ك ِ‬
‫اشف له إِ ََّّل هو﴾)‪.‬‬ ‫ْ ْ‬
‫ون ال َّل ِه) أي‪ :‬أي ٍ‬
‫أحد غير ال َّله‪،‬‬ ‫(﴿وَّل ت ْدع) أي‪ :‬يا محمد ( ِم ْن د ِ‬
‫ي‬
‫(ما َّل ي ْنفعك) يعني‪ :‬إذا دعو َته لن يعطيك سؤلك وال حاجتك‪( ،‬وَّل‬
‫واستكبرت‬
‫َ‬ ‫تركت دعوته‪ ،‬ولكن لو مل تدع ربك‪،‬‬
‫َ‬ ‫يضرك لو‬
‫يض ُّرك) ال ي‬
‫يضرك ذلك‪.‬‬
‫عن عبادته؛ ي‬
‫ودعوت غير ال َّله؛ (﴿فإِنَّك إِذ ًا ِمن ال َّظالِ ِمين﴾)‪ ،‬كما‬
‫َ‬ ‫(فإِنْ فع ْلت)‬
‫ِ‬
‫يم﴾ [لقمان‪.]13:‬‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن الش ْر َك َلظ ْل ٌم َعظ ٌ‬
‫فظ ْلم العبد لن ْفسه بالشرك أعظم من ْ‬
‫أن َيظلم اآلخرين ويأخذ‬
‫أموالهم و َيهتك أعراضهم؛ فكونه أشرك بال َّله فهذا أعظم الظلم‪.‬‬
‫‪299‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وجل يف ذلك فقال‪﴿( :‬وإِنْ ي ْمس ْسك ال َّله بِضر فَل‬ ‫عز َّ‬ ‫فصل ال َّله َّ‬ ‫ث يم ي‬
‫أن الذي َيملك‬ ‫اشف له إِ ََّّل هو وإِنْ يرِ ْدك بِخ ْيرٍ فَل را َّد لِف ْضلِ ِه﴾) أي‪َّ :‬‬
‫ك ِ‬

‫وحده‪،‬‬ ‫الخير ود ْفع الضر هو ال َّله وحدَ ه؛ فيجب أن َيتع َّلق المرء بال َّله ْ‬
‫َّاس مِ ْن َر ْح َم ٍة َف ََل‬
‫ضر يرفعه ال َّله عنك؛ كما قال‪َ ﴿ :‬ما َي ْف َتحِ ال َّله لِلن ِ‬ ‫ي‬
‫فكل ٍّ‬
‫﴿وإِ ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْمس َك َل َها َو َما ي ْمس ْك َف ََل م ْرس َل َله م ْن َب ْعده﴾ [فاطر‪َ ،]2:‬‬
‫خ ْي ٍر َفه َو َع َلى كل‬ ‫ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن َي ْم َس ْس َك بِ َ‬ ‫يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫َاش َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [ األنعام‪.]17:‬‬
‫صَلة َيقول‪« :‬ال َّله َّم َال َمانِ َع ل ِ َما َأ ْع َط ْي َت‪َ ،‬و َال‬ ‫ٍ‬ ‫والنبي ﷺ َب ْعدَ كل‬
‫م ْعطِ َي ل ِ َما َمنَ ْع َت»(‪.)1‬‬

‫فَل يعطي إال ال َّله‪ ،‬وال َيمنع إال ال َّله‪ ،‬فإن كان ُّ‬
‫الرب سبحانه بتلك‬
‫وأن نَرفع حاجاتنا ل َّله عز‬
‫نتوجه إليه‪ْ ،‬‬
‫أن ي‬ ‫الصفات العظيمة؛ يجب علينا ْ‬
‫وجل‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األذان‪ ،‬باب الذكر بعد الصَلة‪ ،‬رقم (‪ ،)844‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب المساجد ومواضع الصَلة‪ ،‬باب استحباب الذكر بعد الصَلة وبيان‬
‫صفته‪ ،‬رقم (‪.)593‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪300‬‬

‫﴿ب ْل‬
‫أن يدَ يه مبسوطتان؛ قال سبحانه‪َ :‬‬ ‫ومن كر ِم ال َّله سبحانه لخ ْلقه َّ‬
‫َان﴾ [المائدة‪.]64:‬‬ ‫يدَ اه مبسو َطت ِ‬
‫َ َْ‬
‫بحانَه َس يحاء ال َّلي ِل والن ِ‬
‫َّهار‪ ،‬ال تغيضه َن َف َق ٌة (‪.)1‬‬ ‫و َيده س َ‬
‫بدعوة إال ويستجيب له؛‬ ‫ٍ‬ ‫فضله سبحانه‪ :‬أنَّه ال يدعو المسلِم‬ ‫ومِن ْ‬
‫كما قال ﷺ‪َ « :‬ما مِ ْن م ْسلِ ٍم َيدْ عو بِدَ ْع َو ٍة َل ْي َس فِ َيها إِ ْث ٌم‪َ ،‬و َال َقطِي َعة َر ِح ٍم‪،‬‬
‫ث‪ :‬إِ َّما َأ ْن ت َع َّج َل َله َد ْع َوته‪َ ،‬وإِ َّما َأ ْن َيدَّ ِخ َر َها‬
‫إِ َّال َأ ْع َطاه ال َّله بِها إِحدَ ى َث ََل ٍ‬
‫َ ْ‬
‫ف َعنْه مِن الس ِ‬
‫وء مِ ْث َل َها» َقالوا‪ :‬إِذا ن ْكثِر‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫َله فِي اآل ِخ َر ِة‪َ ،‬وإِ َّما َأ ْن َي ْص ِر َ‬
‫َ ُّ‬
‫«ال َّله َأ ْكثَر»(‪ – )2‬أي‪ :‬ما عنده من الخير والعطاء أكثر‪.-‬‬

‫ٍ‬
‫حديث رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قوله‪﴿ :‬وكان عرشه‬ ‫(‪ )1‬يشير إىل‬
‫عىل الماء﴾ [هود‪ ،]7 :‬رقم (‪ ،)4684‬ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الحث‬
‫عىل النفقة وتبشير المنفق بالخلف ‪ ،‬رقم (‪ ،)993‬من حديث أبي هريرة‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)11133‬من حديث أبي سعيد الخدري‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪301‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وجل مع ما عنده من العطاء يس ِ‬


‫تحي َأ ْن َير يد َع ْبدَ ه ِصفرا‪،‬‬ ‫عز َّ‬
‫وال َّله َّ‬
‫َْ‬
‫إِ َذا َر َف َع َيدَ ِيه إِ َل ْي ِه (‪.)1‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل المدعو هبذه الصفات العظيمة‪:‬‬ ‫فإذا كانت صفات ال َّله َّ‬
‫غني‪ ،‬محيدٌ ‪ ،‬يعطيك ما‬
‫كرم‪ ،‬حياء من أن ير َّد العبد‪ٌّ ،‬‬
‫قوة‪ ،‬قدرة‪َ ،‬‬
‫َّ‬
‫وشكور يعطيك فوق ما أعطيت‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫شئت‪،‬‬
‫َ‬
‫صنم‪ ،‬مجا ٌد‪ ،‬ال َينفع وال َيضر‪.‬‬
‫وذاك ٌ‬
‫فإىل َمن َت َّ‬
‫توجه؟‬
‫توجه إىل َمن ا يتصف هبذه الصفات العىل الكاملة‪ ،‬وله‬
‫شك أنَّك َت َّ‬
‫ال َّ‬
‫سبحانه األسماء الحسنى‪.‬‬
‫ضر ال َيرفعه إال ال َّله‪ ،‬حتى الذي بيْن البشر فيما يقدرون عليه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫فكل ٍّ‬
‫إذا أ َمر ال َّله بر ْفعه إذا قدر البشر يرفعه ال َّله‪ ،‬أو ال يرفعه؛ كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ون إِ َّال َأ ْن َي َشا َء ال َّله﴾ [اإلنسان‪.]30:‬‬
‫﴿و َما َت َشاء َ‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬رواه الترمذي‪ ،‬أبواب الدعوات‪ ،‬باب‪ ،‬رقم (‪ ،)3556‬من حديث سلمان‬
‫الفارسي رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪302‬‬

‫فلو كان يف قدْ رة الرجل اآلخر إعانتك‪ ،‬لكن مل يشأِ ال َّله ْ‬


‫أن يعينك‪،‬‬
‫ألن ال َّله أراد ذلك‪.‬‬
‫وإنَّما يعرض عنك؛ فسيعرض عنك؛ َّ‬
‫إذا‪ :‬فحتى فيما َيقدر عليه البشر‪ ،‬قد ال يستطيعون عونك‪ ،‬وال‬
‫﴿وه َو َع َلى كل َش ْي ٍء‬ ‫إغاثتك‪ ،‬فَل َيقدر عىل كل ٍ‬
‫أمر إال ال َّله‪َ ،‬‬
‫َق ِد ٌير﴾ [المائدة‪.]120:‬‬
‫قدير‪ ،‬ومن قوة ال َّله إذا أراد‬ ‫ٍ‬
‫فإن أراد لك خيرا؛ فهو عىل كل شيء ٌ‬
‫لك خيرا؛ فقط يقول‪﴿ :‬ك ْن َف َيكون﴾ سبحانه‪.‬‬
‫كاف و ٍ‬
‫نون‪،‬‬ ‫أن بعض الناس يقول‪ :‬أمره بين ٍ‬
‫ومن األخطاء الشائعة َّ‬
‫ولكن الصحيح‪ :‬أمره بالكاف والنون‪﴿ ،‬ك ْن َف َيكون﴾ [البقرة‪.]117:‬‬
‫َّ‬
‫خ ْذه‬ ‫ب َال إِ َله إِ َّال هو َفا َّت ِ‬‫﴿ر ُّب ال َم ْش ِر ِق َوال َم ْغ ِر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فتوج ْه إليه سبحانه‪َ ،‬‬ ‫ي‬
‫ض َي ْبسط الر ْز َق ل ِ َم ْن‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫وكِيَل﴾ [المزمل‪َ ﴿ ،]9:‬له م َقالِيد السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َي َشاء َو َي ْق ِدر﴾ [الشورى‪ ،]12:‬فما يف الكون مقاليدٌ ؛ مهيم ٌن ربنا عليه‪،‬‬
‫ك ت ْؤتِي‬ ‫وقادر عليه بالعطاء والمنع؛ قال تعاىل‪﴿ :‬ق ِل ال َّلهم مال ِ َك الم ْل ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ٌ‬
‫الم ْل َك َم ْن َت َشاء َو َتن ِْزع الم ْل َك مِ َّم ْن َت َشاء َوت ِع ُّز َم ْن َت َشاء َوت ِذ ُّل َم ْن َت َشاء‬
‫بِي ِد َك ال َخير﴾ [آل عمران‪ ، ]26:‬وقال‪﴿ :‬يس َأله من فِي السماو ِ‬
‫ات َواألَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك َّل َي ْو ٍم ه َو فِي َش ْأ ٍن﴾ [ الرمحن‪.]29:‬‬
‫‪303‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫يضرنا إال ال َّله؛‬


‫إذا يجب علينا مع اعتقادنا أنَّه ال َينفعنا إال ال َّله‪ ،‬وال ي‬
‫كبير؛ قال ﷺ‪َ « :‬وا ْع َل ْم َأ َّن األ َّم َة َل ْو‬ ‫صغير أو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نتوجه إىل ال َّله يف كل ٍ‬
‫أمر‬ ‫أن َّ‬ ‫ْ‬
‫وك إِ َّال بِ َش ْي ٍء َقدْ َك َت َبه ال َّله َل َك‪،‬‬
‫وك بِ َش ْي ٍء َل ْم َينْ َفع َ‬
‫اجت ََم َع ْت َع َلى َأ ْن َينْ َفع َ‬‫ْ‬
‫وك إِ َّال بِ َش ْي ٍء َقدْ َك َت َبه ال َّله‬
‫وك بِ َش ْي ٍء َل ْم َيض ُّر َ‬
‫اجت ََمعوا َع َلى َأ ْن َيض ُّر َ‬ ‫َو َل ْو ْ‬
‫صحيح](‪.)2()1‬‬
‫ٌ‬ ‫حسن‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫َع َل ْي َك» [رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫إن الضرر المحض يف الظاهر الذي قد ينالك أذاه‪ ،‬إذا أراد ال َّله‬
‫بل ي‬
‫﴿و َما ه ْم‬
‫يمسك منه شي ٌء؛ ما استطاع أن يؤذيك؛ قال تعاىل‪َ :‬‬ ‫أن لن ي‬
‫بِ َضاري َن بِ ِه مِ ْن َأ َح ٍد إِ َّال بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه﴾ [البقرة‪ ،]102:‬وإبراهيم الخليل عليه‬
‫السَلم و ِضع يف النَّار؛ ومل َيحترق ٍ‬
‫بأمر من ال َّله‪.‬‬
‫وحده‪ ،‬و َمن تع يلق‬
‫ْ‬ ‫فكل األمور بيد ال َّله‪ ،‬فتع يلق بال َّله‬
‫ي‬
‫بغير ال َّله – وهذا هو الشاهد –؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر؛ قال سبحانه‪:‬‬
‫َجب َلكم﴾ [غافر‪ ،]60:‬وقال‪﴿ :‬وإِ َذا س َأ َل َك ِعب ِ‬ ‫ِ‬
‫ادي َعني‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫﴿ا ْدعوني َأ ْست ِ ْ‬
‫َفإِني َق ِريب أ ِجيب د ْعو َة الدَّ ا ِع إِ َذا د َع ِ‬
‫ان﴾ [البقرة‪.]186:‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ‬

‫األول‪ ،‬األربعون النووية‪( ،‬ص‪.)101‬‬


‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى َ‬
‫والورع‪ ،‬باب‪ ،‬رقم (‪ ،)2516‬من حديث ابن‬
‫َ‬ ‫(‪ )2‬أبواب صفة القيامة والرقائق‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪304‬‬

‫توجه لغيره؛ َّ‬


‫ألن‬ ‫ومِن رمحة ال َّله باإلنسان َّ‬
‫أن ال َّله مل َيأمره بأن َي َّ‬
‫صلت له كرب ٌة مثَل‬
‫فمن َح ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫التوجه إىل غيره ال َيحصل يف كل زمان ومكان‪َ ،‬‬
‫مسافر ومعبوده من دون ال َّله – كالضريح ‪ -‬بعيدٌ عنه ال يستطيع أن‬
‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫يتوجه إليه وهو يف ٍ‬
‫كربة‪.‬‬ ‫َ ي‬
‫وجل فأبواب السماء مفتوحة إليه سبحانه وتعاىل ليَل‬ ‫عز َّ‬ ‫أ يما ال َّله َّ‬
‫هنارا؛ كما قال النبي ﷺ‪َ « :‬يد ال َّل ِه َم ْألَى َال َت ِغيض َها َن َف َق ٌة َس َّحاء ال َّل ْي َل‬
‫َوالن ََّه َار»(‪.)1‬‬
‫ومن دعا غير ال َّله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لشخص‪ :‬ال َتطلب من هذا الوثن حاجتك‪.‬‬ ‫قلت‬
‫فلو َ‬
‫ضرين ْ‬
‫إن دعوته‪.‬‬ ‫فقال لك‪ :‬دعني أسأله؛ ألنه لن َي ي‬
‫إن تركتَه‪ ،‬ي‬
‫فدل عىل أ َّنه ال‬ ‫يضرك ْ‬
‫يضرك! يعني‪ :‬ال ُّ‬
‫فتقول له‪ :‬ال ُّ‬
‫استنجدت به ال َينفعك‪ ،‬ولو تركتَه ال يضرك‪ ،‬ي‬
‫فدل عىل أنَّه عد ٌم‬ ‫َ‬ ‫شيء‪ ،‬فإن‬
‫كالَلوجود‪.‬‬
‫وجوده َّ‬

‫بحانَه َس يحاء ال َّلي ِل والن ِ‬


‫َّهار‪ ،‬ال‬ ‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله‪( :‬و َيده س َ‬
‫تغيضه)‪.‬‬
‫‪305‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أعرضت عنه فإن‬


‫َ‬ ‫إن دعو َته استجاب لك‪ْ ،‬‬
‫وإن‬ ‫وجل ْ‬
‫عز َّ‬
‫أ يما ال َّله َّ‬
‫واستكبار عىل ال َّله‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إعراض‬
‫ٌ‬ ‫ذلك‬
‫مأمور بعبادته‪.‬‬‫ٌ‬ ‫توجه القلب له‪ ،‬وأ َّنك‬
‫فدل عىل وجوب ي‬ ‫ي‬

‫ث يم قال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ‬
‫اعبدوه﴾‬
‫اآلية) هذا من قول إبراهيم عليه السَلم لقومه؛ أي‪ :‬إذا أردتم أن َتبحثوا‬
‫عن الرزق فابتغوه عند ال َّله‪ ،‬تجدوه عنده سبحانه‪.‬‬
‫أن طلب الرزق دعا ٌء‪ ،‬فطلب الرزق من غير ال َّله فيما ال‬
‫والشاهد َّ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يقدر عليه إال ال َّله؛‬
‫طلب‬
‫َ‬ ‫فدل عىل أن‬ ‫(﴿فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ‬
‫اعبدوه﴾)‪َّ ،‬‬

‫الرزق ‪ -‬من المال‪ ،‬والمأكل‪ ،‬والعافية ‪ -‬تطلب من ال َّله‪ ،‬ومن َ‬


‫صرفها‬
‫لغير ال َّله وقع يف الشرك؛ ألن طلب الرزق عباد ٌة وال تكون إال ل َّله‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك‬ ‫فَل يقول رج ٌل‪ :‬يا محمد ارزقني ماال ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪-‬؛ هذا‬
‫أكبر‪.‬‬
‫شخص من رج ٍل ٍ‬
‫قادر عىل إعطائه المال‪ ،‬فقال‪ :‬أعطني‬ ‫ٌ‬ ‫طلب‬
‫أ َّما لو َ‬
‫حي؛ فَل بأس به‪.‬‬
‫ماال‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪306‬‬

‫شخص إىل ٍ‬
‫وثن أو ضريحٍ أو لقبر النبي ﷺ‪ ،‬فيقول‪ :‬يا‬ ‫ٌ‬ ‫فلو َذهب‬

‫رسول ال َّله ه ييئ يل وظيفة‪ ،‬أو يا رسول ال َّله ي‬


‫زوجني‪.‬‬
‫شرك أكبر؛ قال تعاىل‪﴿ :‬وفِي السم ِ‬
‫اء‬ ‫ٌ‬ ‫فهذا – والعياذ بال َّله –‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِر ْزقك ْم﴾ [الذاريات‪ ]22:‬وليس يف األرض! وقال‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه ه َو َّ‬
‫الر َّزاق ذو‬
‫الق َّو ِة ال َمتِين﴾ [الذاريات‪.]58:‬‬
‫أ يما ما كان يف أيدي البشر من الرزق؛ مع عدم ركون القلب إليهم؛‬
‫وقلت‪ :‬هل عندك وظيفة؟‪،‬‬
‫َ‬ ‫ذهبت إىل رجلٍ‪،‬‬
‫َ‬ ‫مباح‪ ،‬مثل‪ :‬لو‬
‫سبب ٌ‬‫ٌ‬ ‫فهذا‬
‫ذهبت له من باب ف ْعل األسباب‪،‬‬
‫َ‬ ‫أن ال َّله هو الرزاق‪ ،‬ولكنَّك‬
‫لكنَّك َتعلم َّ‬
‫مباح‪.‬‬
‫أمر ٌ‬‫فالقلب مع يل ٌق بال َّله‪ ،‬والجوارح َتعمل بالسبب؛ فهذا ٌ‬
‫أن بيد المخلوق مقاليد الرزق‪ ،‬وبيده ي‬
‫كل‬ ‫أن تذهب و َتعتقد َّ‬
‫أ يما ْ‬
‫ٍ‬
‫شيء‪ ،‬وتقول‪ :‬يا فَلن ارزقني وأعطني وظيفة؛ فهذا من الشرك‪ ،‬ويناله‬
‫من الشرك بحسب تعلقه وتوكله عىل الشخص المطلوب‪.‬‬
‫أن طلب ودعاء غير ال َّله فيما‬ ‫والحصر يف قوله‪ِ ( :‬ع ْند ال َّل ِه) ُّ‬
‫يدل عىل َّ‬
‫ٍ‬
‫ذنوب‬ ‫ٍ‬
‫وإماتة‪ ،‬ومغفرة‬ ‫ٍ‬
‫وإحياء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وشفاء‪،‬‬ ‫ال َيقدر عليه إال ال َّله‪ ،‬من ٍ‬
‫رزق‪،‬‬
‫شرك أكبر – والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫ٌ‬ ‫وغير ذلك؛‬
‫‪307‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ث يم َذكر المصنف اآلية الثالثة؛ وهي شاهد الباب‪ ،‬فقال‪( :‬وق ْوله‪:‬‬
‫جيب له إِلى ي ْو ِم ال ِقيام ِة﴾‬ ‫﴿وم ْن أض ُّل ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ‬
‫ون ال َّل ِه م ْن َّل ي ْست ِ‬
‫َّ‬
‫اآليت ْي ِن)‪.‬‬
‫أن دعوة غير ال َّله فيما ال‬
‫وساقها المصنَّف رمحه ال َّله؛ للداللة عىل َّ‬
‫الضَلل الذي ال َضَلل بعده‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪ ،‬وأعظم َ‬ ‫يقدر عليه إال ال َّله؛‬
‫(﴿وم ْن أض ُّل) أي‪ :‬ال أحدَ يف الكون ُّ‬
‫أضل من هذا المشرك‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫ون ال َّل ِه)‪ ،‬والسبب عدة ٍ‬ ‫(ِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ‬‫ِ‬
‫أمور‪:‬‬ ‫َّ‬
‫األمر َّ‬
‫األول‪ :‬أنَّه دعا أحدا غير ال َّله‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬صفات الذي يدعوه‪ ،‬فقال‪( :‬م ْن َّل ي ْست ِ‬
‫جيب له إِلى‬
‫قبر يدعوه‪ ،‬فلو َجلس إىل يوم‬ ‫ي ْو ِم ال ِقيام ِة﴾) أي‪ :‬لو َجلس أحدٌ عند ٍ‬

‫القيامة؛ لن يحقق له سؤله‪.‬‬


‫﴿وه ْم َع ْن د َعائِ ِه ْم‬
‫َ‬ ‫األمر الثالث‪ :‬الغفلة؛ قال ال َّله‪:‬‬
‫َغافِل َ‬
‫ون﴾ [األحقاف‪ ،]5:‬فهذا الصنم‪ ،‬أو القبر ٌ‬
‫غافل عنه‪ ،‬فهو يف قبره إ َّما‬
‫معذب َا‪.‬‬
‫من َّعما‪ ،‬وإما َّ‬

‫أنَِ هذا الذي دعاه من دون ال َّله َينقلب ي‬


‫عدوا له يوم‬ ‫واألمر الرابع‪َّ :‬‬
‫﴿وإِ َذا ح ِش َر النَّاس كَانوا َله ْم َأعْدَ اء﴾‪.‬‬
‫القيامة؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪308‬‬

‫يرض بعبادهتم له؛ فإنَّه ال َيأثم‪،‬‬


‫فيمن َرضي بالعبادة‪ ،‬وأ يما َمن مل َ‬
‫والنبي عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مِثل‪َ :‬م ْن دعا عيسى عليه السَلم‪،‬‬
‫يعني‪ :‬الذي تدعوه‪ ،‬و َتطلب منه النفع‪ ،‬يوم القيامة سوف يعاديك‪،‬‬
‫عدوا يف ن ْفسك يوم‬ ‫ويقول‪ :‬لماذا دعوتني ومل تدع ال َّله؟‪َ ،‬‬
‫وأنت ستَجعله ي‬
‫بب يف هَلكك‪ ،‬ودخولك النَّار‪.‬‬ ‫القيامة؛ َّ‬
‫ألن ف ْعلك هذا س ٌ‬
‫إذا هذه األسباب‪ :‬عدم االستجابة‪ ،‬الغفلة‪ ،‬العداوة‪ ،‬والكفر؛‬
‫لت دعوة غير ال َّله من الضَلل‪.‬‬
‫َج َع ْ‬
‫يعني‪ :‬لو قال لك شخص‪ :‬ل ِ َم تقول َّ‬
‫أن الشرك من أعظم الذنوب؟‬
‫ٌ‬
‫وغافل عنك‪ ،‬ويوم القيامة بينك وبينه‬ ‫تقول له‪ :‬ال َيستجيب لك‪،‬‬
‫أصبحت بذلك من أهل الكفر‪.‬‬
‫َ‬ ‫توجه العبادة ل َّله‪ ،‬وأيضا‬
‫عداوةٌ؛ ألنك مل ي‬
‫المدعو َيكفر بعبادة ذلك الداعي الذي أتى إىل‬ ‫َّ‬ ‫واألمر الخامس‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿وكَانوا بِع َبا َدت ِه ْم كَاف ِري َ‬
‫ن﴾ [األحقاف‪.]6:‬‬ ‫ق ْبره يدعوه؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫أن دعوة غير ال َّله ال ن ْف َع فيها البتة؛ بل تسخط ال َّله وال‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫تحقق المبتغى‪.‬‬
‫وجل فكما قال زكريا‪َ ﴿ :‬و َل ْم َأك ْن بِد َعائِ َك َرب‬
‫َّ‬ ‫وأ َّما ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫َش ِق ييا﴾ [مريم‪]4:‬؛ أي‪ :‬مل َتر َّد يل دعوة‪.‬‬
‫‪309‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ولما انتهى رمحه ال َّله من ِذكر اآليات يف دعاء غير ال َّله؛ انتَقل بعد‬
‫َّ‬
‫ذلك إىل االستغاثة‪ ،‬فقال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬أ َّم ْن ي ِ‬
‫جيب الم ْضط َّر إِذا دعاه‬
‫ٍ‬ ‫كمن َأوشك عىل‬ ‫ِ‬
‫حريق‪ ،‬أو عىل‬ ‫السوء﴾ اآلية) أي‪ :‬المكروب َ‬ ‫وي ْكشف ُّ‬
‫ٍ‬
‫مرض‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حادث‪ ،‬أو‬
‫أن االستغاثة بغير ال َّله‪ ،‬فيما ال‬
‫وساقها المصنَّف رمحه ال َّله؛ لبيان َّ‬
‫يقدر عليه إال ال َّله؛ ك ْف ٌر‪.‬‬
‫فَل يجيب المضطر سوى ال َّله‪ ،‬وال َيكشف السوء سوى ال َّله‪ ،‬ف َمن‬
‫صرف تلك األفعال لغير ال َّله؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر‪.‬‬
‫َ‬
‫عز َّ‬
‫وجل هو الذي يجيب الدعاء‪ ،‬و َيكشف عنك ذلك الذي‬ ‫فال َّله َّ‬
‫طلبتَه‪ ،‬فَل حاجة لدعاء غير ال َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فغير ال َّله ال َيملك شيئا‪،‬‬
‫إنَّما الذي يملك هو ال َّله؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬له م ْلك السماو ِ‬
‫ات‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫َواألَ ْر ِ‬
‫ض﴾ [البقرة‪.]107:‬‬
‫ث يم َذك ََر رمحه ال َّله الحديث األخير يف الباب أيضا يف االستغاثة‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪310‬‬

‫(روى ال َّطبرانِ ُّي‪« :‬أنَّه كان فِي زم ِن ال َّنبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي المؤْ ِمنِين‪،‬‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ ِم ْن هذا المنافِ ِق‪ ،‬فقال‬ ‫فقال ب ْعضه ْم‪ :‬قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ‬

‫النَّبِ ُّي ﷺ‪« :‬إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّل ِه»)‪.‬‬
‫قال‪( :‬روى ال َّطبرانِ ُّي‪« :‬أنَّه كان فِي زم ِن النَّبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي‬
‫المؤْ ِمنِين») وهو عبد ال َّله ابن أ يبي بن سلول‪.‬‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ) أي‪ :‬نَطلب منه‬ ‫(فقال ب ْعضه ْم‪ :‬قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ‬

‫بشر؛ بل حتى هو آذوه عليه‬


‫كف أذى هذا المنافق عنا‪ ،‬فالنبي ﷺ ٌ‬
‫أن َي ي‬
‫الصَلة السَلم‪.‬‬
‫(فقال النَّبِ ُّي ﷺ‪ :‬إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي) أي‪ :‬ال يطلب مني الغوث‪،‬‬
‫إال ال َّله‪.‬‬ ‫عليه‬ ‫َيقدر‬ ‫ال‬ ‫فيما‬ ‫وهذا‬ ‫الكربة‪،‬‬ ‫وتفريج‬
‫ِ‬
‫(وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّله) ْ‬
‫وحده سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫يعني‪ :‬كيف تطلبون مني شيئا‪.‬‬
‫بشر‪ ،‬هو َيمرض وأنا أمرض‪ ،‬هو يموت وأنا أموت؛‬
‫بشر وأنا ٌ‬
‫فهو ٌ‬
‫فاستغيثوا بال َّله‪.‬‬
‫أن الداعي إذا ذكِر له الخطأ؛ يب يين الصواب‪.‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫‪311‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شخص‪ :‬أين قبر النبي ﷺ؟ أريد ْ‬


‫أن أدعوه؛ تقول له‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫فلو قال لك‬
‫ال يجوز‪ ،‬وادع ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫فَل تقل‪ :‬ال يجوز فقط و َتسكت؛ بل توجهه للصواب‪.‬‬
‫شخص‪ :‬أريد قراءة التوراة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ولو قال لك‬
‫تقول له‪ :‬ال يجوز‪ ،‬واقرأ القرآن‪ ،‬فتب يين له الخطأ والصواب‪.‬‬
‫وهذا منهج القرآن والسنة‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها النَّاس ا ْعبدوا َر َّبكم ا َّل ِذي‬
‫َخ َل َقك ْم﴾ [البقرة‪ ،]21:‬والخطأ‪َ ﴿ :‬ف ََل َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا َو َأنْت ْم‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ]22:‬وهكذا‪.‬‬ ‫َت ْع َلم َ‬
‫وكل ٍ‬
‫نداء مصدَّ ٌر بكلمة‪[ :‬يا]؛ فهو دعا ٌء‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫قلت‪ :‬يا خالد بن الوليد‪ ،‬ق ْم‪ ،‬و َأصلح األمة‪.‬‬
‫فلو َ‬
‫رب َأصلح‬ ‫ٌ‬
‫شرك أكبر؛ بل قل‪ :‬يا ي‬ ‫فنقول‪- :‬والعياذ بال َّله ‪ -‬هذا‬
‫ضرك‪ ،‬وال‬
‫أحوال األ َّمة‪ ،‬فخالد بن الوليد يف قبره ال َينفعك‪ ،‬وال َي ُّ‬
‫َيسمعك؛ بل قد ال َتعرف أين قبره؟‪ ،‬ولو عرفتَه؛ قال ال َّله‪﴿( :‬وم ْن أض ُّل‬
‫جيب له﴾)‪.‬‬ ‫ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ‬
‫ون ال َّل ِه م ْن َّل ي ْست ِ‬
‫َّ‬
‫أخف‪.‬‬
‫ي‬ ‫َصماه؛ ليست دعاء؛ وإنَّما ندبة‪ ،‬والنُّدبة‬
‫لكن كلمة‪ :‬وامعت َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪312‬‬

‫أ َّما إذا كان المخلوق ح ييا‪ ،‬حاضرا‪ ،‬قادرا عىل كشف الكربة؛‬
‫فيجوز‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لشخص وهو يف السيارة‪ ،‬وقال لمن حوله‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫حادث‬ ‫مِثل‪ :‬لو َوقع‬
‫اونوا َع َلى البِر‬ ‫أغثني‪ ،‬أو َأنقذين؛ فهذا يجوز‪ ،‬لقوله سبحانه‪َ :‬‬
‫﴿و َت َع َ‬
‫َوال َّت ْق َوى﴾ [المائدة‪.]2:‬‬
‫أ َّما الذي ال َيقدر عليه إال ال َّله؛ فقال سبحانه‪﴿ :‬إِ ْذ َت ْست َِغيث َ‬
‫ون َر َّبك ْم‬
‫قدير‪ ،‬تستغيثه؛ يستجيب‬
‫قوي ٌ‬‫سميع ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫اب َلك ْم﴾ [األنفال‪ ،]9:‬فال َّله‬ ‫َف ْ‬
‫است ََج َ‬
‫لك‪ ،‬تدعوه؛ يستجيب لك‪.‬‬
‫حتى الكافر إذا كان مضطرا يستجيب ال َّله دعاءه‪َ ﴿ ،‬فإِ َذا َركِبوا فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الف ْلك َد َعوا ال َّل َه م ْخلِص َ‬
‫ين َله الدي َن َف َل َّما ن ََّجاه ْم إِ َلى البَر إِ َذا ه ْم‬
‫ون﴾ [العنكبوت‪]65:‬؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله‪:‬‬ ‫ي ْش ِرك َ‬
‫وحصلت له الضراء؛‬
‫فلما َركب البحر‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫دل عىل َّ‬
‫« ي‬
‫أن الكافر قد يسلم‪ .‬ي‬
‫مما فيه من ال َك َرب»(‪.)1‬‬ ‫َأسلم‪ ،‬ي‬
‫فنجاه ال َّله َّ‬

‫(‪ )1‬الجواهر المضية (ص‪.)21‬‬


‫‪313‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن ال َّله هو القادر؛‬


‫أن يؤمن ب َّ‬
‫قال القرطبي رمحه ال َّله‪« :‬و َمن أراد ْ‬
‫فل َيركب البحر‪ ،‬فإذا َح يلت األمواج؛ يستغيث بال َّله»(‪.)1‬‬

‫فيجب عىل المسلم أن يعلق قلبه بال َّله ْ‬


‫وحده سبحانه‪ ،‬وأن ينزل به‬
‫حب ذلك‪.‬‬
‫وجل ي ُّ‬ ‫حاجاته؛ بل ي ِنزل به تفاصيل حاجاته‪ ،‬وال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫***‬

‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)341/7‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪314‬‬

‫[‪]1٥‬‬
‫باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم‬
‫ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾ اآلية‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن قِ ْط ِميرٍ﴾ اآلية‪.‬‬
‫س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬ش َّج النَّبِ ُّي ﷺ ي ْوم‬ ‫حيحِ ‪ :‬ع ْن أن ٍ‬ ‫فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫أح ٍد‪ ،‬فقال‪ :‬ك ْيف ي ْفلِح ق ْو ٌم ش ُّجوا نبِ َّيه ْم؟! فنزل ْت‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ‬

‫ش ْي ٌء﴾‪.‬‬
‫وفِ ِيه‪ :‬ع ِن ا ْب ِن عمر ر ِضي ال َّله ع ْنهام‪« :‬أنَّه س ِمع رسول ال َّل ِه ﷺ ‪ -‬إِذا‬
‫اآلخر ِة ِمن الف ْجرِ ‪ -‬يقول‪ :‬ال َّله َّم الع ْن‬
‫رفع ر ْأسه ِمن الركو ِع فِي الر ْكع ِة ِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫فَلن ًا‪ ،‬وفَلن ًا‪ ،‬وفَلن ًا؛ ب ْعدما يقول‪« :‬س ِمع ال َّله لِم ْن ح ِمده‪ ،‬ربَّنا ولك‬
‫الح ْمد»؛ فأ ْنزل ال َّله‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾‪.‬‬
‫وفِي ِرواي ٍة‪« :‬ي ْدعو على ص ْفوان ْب ِن أم َّية‪ ،‬وسه ْي ِل ْب ِن ع ْمرٍو‪،‬‬
‫ث ْب ِن ِهشامٍ؛ فنزل ْت‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾‪.‬‬
‫ار ِ‬
‫والح ِ‬
‫‪315‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وفِ ِيه‪ :‬ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬قام رسول ال َّل ِه ﷺ ِحين‬
‫أ ْنزل عل ْي ِه‪﴿ :‬وأ ْن ِذ ْر ع ِشيرتك األ ْقربِين﴾؛ قال‪« :‬يا م ْعشر قر ْي ٍ‬
‫ش! ‪ -‬أ ْو‬
‫كلِم ًة ن ْحوها ‪ْ -‬اشتروا أ ْنفسك ْم؛ َّل أ ْغنِي ع ْنك ْم ِمن ال َّل ِه شيئ ًا‪.‬‬
‫ب! َّل أ ْغنِي ع ْنك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا‪.‬‬ ‫يا ع َّباس ْبن ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬

‫ك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا‪.‬‬ ‫ول ال َّل ِه! َّل أ ْغنِي ع ْن ِ‬ ‫يا ص ِفية عمة رس ِ‬
‫َّ َّ‬
‫ت ِم ْن مالِي؛ َّل أ ْغنِي ع ْن ِك‬ ‫ويا فاطِمة بِ ْنت ُمم ٍد! سلِينِي ما ِش ْئ ِ‬
‫َّ‬
‫ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا‬
‫وه ْم ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾ اآلية)‪.‬‬
‫عظيم ساقه المصنف؛ لبيان بطَلن عبادة المشركين‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫باب‬
‫هذا ٌ‬
‫دعوة غير ال َّله ال َتنفع؛ بل تضر‪.‬‬
‫مشر ٍك‪ ،‬سواء يدعو المَلئكة‪ ،‬أو‬
‫وهذا الباب فيه الر ُّد عىل كل ِ‬

‫األنبياء‪ ،‬أو الصالحين‪ ،‬أو األصنام‪ ،‬أو األنداد‪.‬‬


‫وفيه الر ُّد عىل حال المدعوين الذين َيدعوهنم من دون ال َّله‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪316‬‬

‫أن مِن الشرك أن يستغيث بغير ال َّله‪ ،‬أو يدعو‬


‫ففي الباب السابق َب َّي َن َّ‬
‫غيره‪ ،‬وهنا عا ٌّم يف االستغاثة‪ ،‬ويف الدعاء‪ ،‬ويف الذبح‪ ،‬ويف النَّذر‪ ،‬ويف‬
‫الطواف‪ ،‬ويف الرجاء‪ ،‬والخوف‪ ،‬والتو ُّكل عىل المعبودات وغير ذلك‪.‬‬
‫فساق المصنف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان َّ‬
‫أن المعبودات من‬
‫دون ال َّله ضعيف ٌة‪ ،‬ال تحقق المبت َغى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نصوص‪:‬‬ ‫وساق المصنف رمحه ال َّله يف هذا الباب ستة‬
‫األول‪ :‬ساق اآلية – (﴿أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم‬
‫النَّص َّ‬
‫أن المعبودات من دون ال َّله ال َتخلق‪ ،‬وال َتنصر‬
‫ي ْخلقون﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫غيرها‪ ،‬وال َتنصر ن ْفسها‪.‬‬
‫النَّص الثاين – (﴿وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن‬
‫قِ ْط ِميرٍ﴾) ‪ :-‬ساقها؛ لبيان َّ‬
‫أن المعبودات من دون ال َّله ال َتملك شيئا وال‬
‫طميرا سواء من المَلئكة‪ ،‬أو من غيرهم‪.‬‬ ‫قِ ِ‬

‫النَّص الثالث ‪ -‬حديث ٍ‬


‫أنس رضي ال َّله عنه ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن النبي ﷺ‬
‫مل يستطع أن يدفع عن نفسه األذى يوم أ ٍ‬
‫حد‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪317‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫النَّص الرابع – حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما ‪َّ :-‬‬
‫أن النبي ﷺ‬
‫ٍ‬
‫أناس؛‬ ‫وهو يف الصَلة‪ ،‬و َيؤ ُّم الناس والصحابة خ ْلفه ي ْؤمن َ‬
‫ون ويدعو عىل‬
‫و َأنزل ال َّله‪َ ﴿ :‬ل ْي َس َل َك مِ َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء﴾؛ فهدايتهم ليست عندك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ألحد‪ ،‬أو جلب‬ ‫أن النبي ﷺ ال َيملك نفعا‬ ‫النَّص الخامس؛ لبيان َّ‬
‫ألحد‪ ،‬فالذين كان يدعو عليهم‪ ،‬الثَلثة مجيعهم َأسلموا‪ ،‬مع دعائه‬ ‫ٍ‬ ‫ضر‬
‫ٍّ‬
‫عليه الصَلة والسَلم عليهم باللعنة‪.‬‬
‫والنَّص السادس‪ :‬ساقه المصنف؛ لبيان َّ‬
‫أن النبي ﷺ ال َيملك‬
‫لعشيرته األقربين شيئا؛ حتى ابنته ال َيملك لها شيئا‪.‬‬
‫لذلك قال المصنف رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪:‬‬
‫﴿أي ْشرِكون)‪.‬‬
‫َجعل المصنَّف رمحه ال َّله عنوان هذا الباب اآلية؛ لعظمة هذا الباب‪،‬‬
‫لق ْطع دابِر الشرك‪.‬‬
‫إنكاري‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫قال‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أي ْشرِكون) هذا استفها ٌم‬
‫وتعنيف عىل َمن يشرك بال َّله شيئا‪ ،‬فكيف تشرك بما ال َيخلق‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وتوبيخ‪،‬‬
‫شيئا!‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪318‬‬

‫(ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا) فكيف َيدْ عون نبيا‪ ،‬أو صنما‪ ،‬أو شجرا‪ ،‬وهذه‬
‫ٍ‬
‫شيء؛ فالخ ْلق ك ُّله ل َّله‪ ،‬واألمر‬ ‫مخلوق ٌة من ال َّله‪ ،‬وليست قادرة عىل خ ْلق‬
‫ل َّله‪.‬‬
‫فهذه التي تدعى من دون ال َّله ال َتخلق شيئا‪ ،‬فلماذا تعبدوهنم؟‬
‫َخ َل َق السماو ِ‬
‫ات‬ ‫وال َّله يقول‪﴿ :‬إِ َّن َر َّبكم ال َّله ا َّل ِذي‬
‫َّ َ َ‬
‫َواألَ ْر َض﴾ [األعراف‪ ،]54:‬فلم يشاهدوا وأنا َأخلق‪ ،‬ومل يكونوا مساعدين‬
‫وهوهنم‪ ،‬فهم ال‬ ‫ومعاونين يل يف خ ْلق السماوات واألرض؛ لضعفهم ْ‬
‫يستطيعون أن يخلقوا شيئا‪ ،‬ومع ذلك هم المخلوقين‪﴿ :‬أو َلئِ َك ا َّل ِذي َن‬
‫ون‬ ‫ون إِ َلى َرب ِهم ال َو ِسي َل َة َأ ُّيه ْم َأ ْق َرب َو َي ْرج َ‬
‫ون َر ْح َمتَه َو َي َخاف َ‬ ‫ون َي ْبتَغ َ‬
‫َيدْ ع َ‬
‫توجه إىل ال َّله‬ ‫َع َذ َابه﴾ [اإلسراء‪ ،]57:‬فالواجب عىل الداعي هذا ْ‬
‫أن َي َّ‬
‫بالعبادة والدعاء‪.‬‬
‫فمن صفات المعبود أنه َيخلق‪ ،‬واألصنام ال َتخلق؛ ف َبطلت‬ ‫ِ‬

‫األول‪ ،‬قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ت َب َار َك ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه الم ْلك‬


‫عبادهتم‪ ،‬وهذا السبب َّ‬
‫َوه َو َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير * ا َّل ِذي َخ َل َق ال َم ْو َت َوال َح َياةَ﴾ [الملك‪،]2-1:‬‬
‫﴿خ َل َق السماو ِ‬
‫ات َواألَ ْر َض﴾ [األنعام‪.]73:‬‬ ‫وقال‪َ :‬‬
‫َّ َ َ‬
‫‪319‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والسبب الثاين‪ :‬أنَّها ال تستحق العبادة‪ ،‬وأنَّها مخلوق ٌة؛ قال سبحانه‪:‬‬
‫أمر ٌ‬
‫باطل‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫فمخلوق َيطلب مخلوقا؛ هذا ٌ‬ ‫(وه ْم ي ْخلقون)‪،‬‬
‫والسبب الثالث‪ :‬أنَّها ال تستطيع أن َتنفع غ ْيرها؛ لذلك قال‪( :‬وَّل‬
‫ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾) أي‪ :‬اآللهة ‪ -‬من األموات‪ ،‬واألصنام ‪ -‬ال‬
‫َتنصر أحدا يستغيث هبا‪.‬‬
‫نصر األحياء؛ بل ي‬
‫إن األحياء هم الذين‬ ‫فتلك المعبودات ال تستطيع ْ‬
‫ٍ‬
‫مكان آخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مكان إىل‬ ‫َيحملون األموات‪ ،‬ويأخذوهنم من‬
‫نصر ن ْفسها‪ ،‬لذلك قال‪َ ﴿ :‬و َال‬
‫والسبب الرابع‪ :‬أنَّها ال تستطيع أيضا ْ‬
‫نصر أنفسهم‪ ،‬فلو أتاهم‬ ‫َأنْف َسه ْم َينْصر َ‬
‫ون﴾ [األعراف‪ ،]192:‬ال يستطيعون ْ‬
‫ما ٌء؛ ما استطاعوا ْ‬
‫أن ير يدوا الماء عنهم‪ ،‬ولو أتاهم شي ٌء من حشرات‬
‫األرض؛ ما استطاعوا ر َّده عن أجسادهم أيضا‪.‬‬
‫فالميت – مثَل ‪ -‬تقلبه وال يستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه شيئا؛ بل قد‬
‫ت ِ‬
‫حرقه وال يستطيع أن َيمنع عن ن ْفسه النَّار‪.‬‬
‫فدل عىل بطَلن عبادة غير ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫َّ‬
‫فال َّله سبحانه وتعاىل يستحق العبادة؛ ألنه َي ْخلق‪ ،‬وألنه َينْصر‬
‫ب‬ ‫﴿و َق َال ربكم ا ْدعونِي َأست ِ‬
‫َج ْ‬ ‫َ‬ ‫سبحانه وتعاىل؛ قال تعاىل‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ ُّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪320‬‬

‫َلك ْم﴾ [غافر‪﴿ ،]60:‬إِ ْن َتنْصروا ال َّل َه َينْص ْرك ْم﴾ [محمد‪ ،]7:‬وقال‪َ ﴿ :‬و َما‬
‫الن َّْصر إِ َّال مِ ْن ِعن ِْد ال َّل ِه﴾ [األنفال‪.]10:‬‬
‫وهاتان الصفتان‪﴿( :‬وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا وَّل أ ْنفسه ْم‬
‫نصر َمن يدعوه من دون ال َّله؛‬
‫ي ْنصرون﴾) أبلغ من السابقة‪ ،‬فَل يستطيع ْ‬
‫نصر ن ْفسه‪.‬‬
‫بل ال يستطيع ْ‬
‫المستحق‬
‫ي‬ ‫القوي القدير العظيم؛ هو‬
‫ي‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن الخالق الناصر‬ ‫ي‬
‫للعبادة سبحانه‪.‬‬
‫ففيما ساقه المصنَّف رمحه ال َّله ر ٌّد عىل كل َمن دعا غير ال َّله‪.‬‬
‫ث يم قال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن‬
‫قِ ْط ِميرٍ﴾)‪.‬‬
‫ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان حال المدْ َع ْون من‬
‫فكل ما يدعى من دون ال َّله ال َيملك شيئا يف الكون‪ ،‬حتى لو‬ ‫دون ال َّله‪ُّ ،‬‬
‫َم َل َك شيئا جزئ ييا سيموت و َيرحل عنه‪ ،‬لذلك قال‪﴿( :‬وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن‬
‫دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن قِ ْط ِميرٍ﴾)‪.‬‬
‫‪321‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والقطمير‪ :‬هو اللفافة الرقيقة الخفيفة التي فوق نواة التمر(‪ ،)1‬فهذه‬
‫أن َتخلقها‪.‬‬
‫القشرة ال تستطيع المَلئكة ْ‬
‫فإذا كان هذا الشيء اليسير‪ ،‬وأعظم خ ْلق ال َّله – المَلئكة – ال‬
‫فمن باب ْأوىل غيرهم ال َيخلقون شيئا حتى القشرة‬ ‫يستطيعون خ ْلقها؛ ِ‬

‫الرقيقة‪.‬‬
‫أن من ِصفات المعبود الملك؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ت َب َار َك‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه الم ْلك﴾ [الملك‪.]1:‬‬
‫زائل؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ك ُّل َم ْن َع َل ْي َها‬ ‫أ َّما المخلوق فملكه ٌ‬
‫ان﴾ [الرمحن‪ ،]26:‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬فتِ ْل َك َم َساكِنه ْم َل ْم ت ْس َك ْن مِ ْن َب ْع ِد ِه ْم إِ َّال‬ ‫َف ٍ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [القصص‪.]58:‬‬ ‫َقلِيَل َوكنَّا ن َْحن ال َو ِارث َ‬
‫ِ‬
‫﴿إِ ْن َتدْ عوه ْم َال َي ْس َمعوا د َعا َءك ْم َو َل ْو َسمعوا َما ْ‬
‫است ََجابوا َلك ْم َو َي ْو َم‬
‫ِ‬ ‫ال ِقيام ِة ي ْكفر َ ِ ِ‬
‫أي‪ :‬ال ينبئك‬ ‫ون بِش ْركك ْم َو َال ينَبئ َك م ْثل َخبِ ٍير﴾ [فاطر‪]14:‬؛ ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫المدعوين بأ َّنهم ال َيسمعون دعاءكم‪ ،‬ولو َسمعوا ال يستجيبون‬
‫ي‬ ‫بحال‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪.)797/2‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪322‬‬

‫لكم‪ ،‬ويوم القيامة َيكفرون بشرككم‪ ،‬فَل ينبئك مِثل هذه األخبار؛ َّإال‬
‫خبير وعاملٌ بأحوالهم‪ ،‬وهو ال َّله سبحانه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ولما ب َّين المعبودات السابقة سواء كانت من المَلئكة‪ ،‬أو مِن‬
‫َّ‬
‫غيرهم؛ َذكر بعد ذلك حقيقة النبي ﷺ الذي هو أفضل َ‬
‫الخلق أنه ال‬
‫ألحد‪ ،‬وال يستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه الضر‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫َيملك نفعا‬
‫حيحِ ) أي‪ :‬صحيح البخاري‪.‬‬ ‫(فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬ش َّج النَّبِ ُّي ﷺ ي ْوم أح ٍد) (ش َّج) أي‪:‬‬ ‫(ع ْن أن ٍ‬

‫والوجه(‪ ،)1‬والوجه فيها‬


‫َ‬ ‫رح‪َّ ،‬‬
‫الش َّجة‪ :‬الجرح عىل الرأس‬ ‫أصابه ج ٌ‬
‫أخص‪.‬‬
‫ي‬
‫ضعت عليه‬
‫ْ‬ ‫فش َّج النبي ﷺ حتى أتت فاطمة رضي ال َّله عنها َ‬
‫وو‬
‫الر َماد؛ فتو َّقف الدم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(وكسر ْت رباعيته)‪( ،‬رباعيته)‪ :‬السنَّان َّ‬
‫األوالن من النبي ﷺ‪ ،‬ومل‬
‫يسير‪.‬‬
‫الرباعية أصلها‪ ،‬وإنَّما شي ٌء ٌ‬
‫كسر ي‬
‫ت َ‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪.)323/1‬‬


‫‪323‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ول ال َّل ِه ﷺ‪َ ،‬وك ِس َر ْت‬ ‫مسلم(‪« :)1‬ج ِر َح َو ْجه رس ِ‬


‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ويف‬
‫اع َيته ‪ -‬الرباعية‪ :‬الس ُّن األَ ْي َمن‪ ،‬واألَ ْي َسر ا َّلذي ِعندَ الثني األَ ْع َلى‬ ‫رب ِ‬
‫ََ‬
‫َت َفاطِ َمة بِنْت‬ ‫ت ال َب ْي َضة َع َلى َر ْأ ِس ِه‪َ ،‬ف َكان ْ‬ ‫واألَس َفل ـ‪ ،‬وه ِشم ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ب َي ْسكب َع َل ْي َها‬ ‫َان َعلِ ُّي ْبن َأبِي َطال ِ ٍ‬ ‫ول ال َّل ِه ﷺ َت ْغ ِسل الدَّ َم‪َ ،‬وك َ‬ ‫رس ِ‬
‫َ‬
‫بِال ِم َجن‪َ ،‬ف َل َّما َر َأ ْت َفاطِ َمة َأ َّن ال َما َء َال َي ِزيد الدَّ َم إِ َّال َك ْث َرة‪َ ،‬أ َخ َذ ْت قِ ْط َع َة‬
‫ِ‬
‫َحص ٍير َف َأ ْح َر َقتْه َحتَّى َص َار َر َمادا‪ ،‬ث يم َأ ْل َص َقتْه بِالج ْر ِح‪َ ،‬ف ْ‬
‫است َْم َس َك الدَّ م»‪.‬‬
‫(فقال‪ :‬ك ْيف ي ْفلِح ق ْو ٌم ش ُّجوا نبِ َّيه ْم؟!) أي‪ :‬لن يفلح قو ٌم َش ُّجوا‬
‫نبيهم‪ ،‬فنفى النبي ﷺ الفَلح عن الذين قاتلوه؛ لكوهنم َش ُّجوا نبيهم‪.‬‬
‫(فنزل ْت‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾)؛ أي‪ :‬ليس لك أن َتمنع‬
‫الضر؛ بل سال‬
‫ي‬ ‫الفَلح عنهم‪ ،‬فهذا ليس بيدك‪ ،‬فالنبي ﷺ مل َيستطع د ْفع‬
‫وكسرها عبد ال َّله بن َق ِم َئه‪.‬‬
‫الدم عن وجهه‪ ،‬وكسرت رباعيته‪َ ،‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل النبي أن َينفي السعادة‪ ،‬والظفر‪ ،‬والفوز عن‬ ‫وهنى ال َّله َّ‬
‫غيره‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب غزوة أحد‪ ،‬رقم (‪ ،)1790‬من حديث سهل بن‬
‫سعد الساعدي رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪324‬‬

‫الضر عن ن ْفسه؛ فغير‬


‫ي‬ ‫حي أن َيدفع‬
‫فإذا كان النبي ﷺ مل يستطع وهو ٌّ‬
‫ميت وهو غير النبي ﷺ َأوىل و َأوىل‪.‬‬ ‫النبي ﷺ َأوىل‪ ،‬وكذا لو كان ٌ‬
‫ث يم قال‪( :‬وفِ ِيه ع ِن ا ْب ِن عمر ر ِضي ال َّله ع ْنهام‪« :‬أنَّه س ِمع‬
‫اآلخر ِة ِمن الف ْجرِ)‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ ‪ -‬إِذا رفع ر ْأسه ِمن الركو ِع فِي الر ْكع ِة ِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫أي‪ :‬األخيرة‪.‬‬
‫(يقول‪ :‬ال َّله َّم الع ْن فَلن ًا‪ ،‬وفَلن ًا‪ ،‬وفَلن ًا؛ ب ْعد ما يقول‪ :‬س ِمع ال َّله‬
‫لِم ْن ح ِمده‪ ،‬ربَّنا ولك الح ْمد»؛ فأ ْنزل ال َّله‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫ش ْي ٌء﴾)‪( .‬وفِ ِيه)‪ :‬يف البخاري‪ ،‬وأيضا يف‬
‫أي‪ :‬ال َتلعن أحدا وال تستطيع ذلك؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ما َع َلى‬
‫ْت ن َِذ ٌير﴾ [هود‪،]12:‬‬ ‫ول إِ َّال ال َب ََلغ﴾ [المائدة‪ ،]99:‬وقال‪﴿ :‬إِن ََّما َأن َ‬ ‫الرس ِ‬
‫َّ‬
‫الرسول َبل ْغ َما أن ِْز َل إِ َل ْي َك مِ ْن َرب َك َوإِ ْن َل ْم َت ْف َع ْل َف َما َب َّل ْغ َت‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها َّ‬
‫ِر َسا َلتَه﴾ [المائدة‪.]67:‬‬
‫فالنبي ﷺ هنا يف الصَلة ويدعو ويؤمن خ ْلفه الصحابة؛ وال َّله‬
‫يقول‪﴿( :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾) هدايتهم بيد ال َّله‪﴿ ،‬إِن ََّك َال َت ْه ِدي‬
‫َم ْن َأ ْح َب ْب َت َو َلكِ َّن ال َّل َه َي ْه ِدي َم ْن َي َشاء﴾ [القصص‪.]56:‬‬
‫‪325‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(وفِي ِرواي ٍة‪ :‬ي ْدعو على ص ْفوان ْب ِن أم َّية‪ ،‬وسه ْي ِل ْب ِن ع ْمرٍو‪،‬‬
‫ث ْب ِن ِهشا ٍم) وكل هؤالء أسلموا‪( ،‬فنزل ْت‪﴿ :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ‬ ‫ار ِ‬
‫والح ِ‬

‫ش ْي ٌء﴾)‪.‬‬
‫واللعن أقسا ٌم‪:‬‬
‫األول‪ :‬ل ْعن عموم الكافرين‪ ،‬والظالمين؛ فهذا يجوز‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫الفساق‪ ،‬مثل‪ :‬ل َعن ال َّله السارق‪ ،‬ل َعن ال َّله‬ ‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬ل ْعن عموم َّ‬
‫الزاين؛ فهذا يجوز‪.‬‬
‫والقسم الثالث‪ :‬ل ْعن المؤمن؛ وهذا ال يجوز؛ قال النبي ﷺ‪َ « :‬ل ْعن‬ ‫ِ‬

‫الم ْؤمِ ِن َك َقتْلِ ِه»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األَدب‪ ،‬باب ما ينهى من السباب واللعن‪،‬‬


‫رقم (‪ ،)6047‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب غلظ تحريم قتل اإلنسان‬
‫الجنَّة إال‬ ‫ٍ‬ ‫ن ْفسه‪َّ ،‬‬
‫وأن من قتل نفسه بشيء عذب به يف النَّار‪ ،‬وأنه ال يدخل َ‬
‫مسلمة‪ ،‬رقم (‪ ،)110‬من حديث ثابت بن الضحاك رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫نفس‬
‫ٌ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪326‬‬

‫ِ‬
‫والقسم الرابع‪ :‬ل ْعن الكافر المع َّين؛ وهذا الراجح ال يجوز؛‬
‫ِ‬
‫وجل أنزل‪﴿( :‬ل ْيس لك من األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾)‪َّ ،‬‬
‫لما ع َّين‬ ‫َّ‬ ‫ألن ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫النبي ﷺ أشخاصا‪.‬‬
‫جائز‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والقسم الخامس‪ :‬ل ْعن المنافقين عىل سبيل العموم؛ فهذا ٌ‬
‫ِ‬
‫والقسم السادس‪ :‬ل ْعن الفاسق بعينه؛ وهذا ال يجوز‪ ،‬مِثل‪ :‬ال َّلهم‬
‫العن زيدا؛ ألنَّه َيحلق لحيته؛ هذا ال يجوز‪.‬‬
‫وهذا الحديث ُّ‬
‫يدل عىل عدي ة مسائل‪:‬‬
‫دل عىل أ َّنه عند النوازل يجوز ْ‬
‫أن َيقنت الشخص‬ ‫المسألة األولى‪ :‬ي‬
‫المشركين‪ ،‬فالنبي ﷺ َقنَ َت عىل المشركين‪.‬‬
‫عىل ْ‬
‫‪327‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫دل عىل َّ‬


‫أن القنوت يف الركعة األخيرة يف صَلة‬ ‫المسألة الثانية‪ :‬ي‬
‫وو َرد َفِي‬
‫جر وال َم ْغ ِرب(‪َ ،)1‬‬
‫فورد يف َصَلة ال َف ٍ‬
‫الفجر‪ ،‬وأيضا يف غيرها؛ َ‬
‫ص ِ‬
‫َلة ال َع ْص ِر وال َم ْغ ِر ِ‬
‫ب(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬ي‬
‫دل عىل أ َّنه يف حال النوازل ال يطيل الشخص يف‬
‫القنوت‪.‬‬
‫دل عىل َّ‬
‫أن القنوت َيرفع صوته فيه‪ ،‬فقوله‪( :‬أنَّه‬ ‫المسألة الرابعة‪ :‬ي‬
‫س ِمع)؛ ي‬
‫دل عىل َّ‬
‫أن النبي ﷺ َرفع صوته فيها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ثَلثة بأعياهنم‬ ‫والشاهد من الحديث‪َّ :‬‬
‫أن النبي ﷺ دعا عىل‬
‫وبأسمائهم بالل ْعن والطرد من رمحة ال َّله‪ ،‬ومع ذلك ليس له من األمر‬
‫شي ٌء‪ ،‬والهداية والضَلل بيد ال َّله؛ بل و َأسلموا مجيعهم‪ ،‬وحسن‬
‫إسَلمهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬أبواب الوتر‪ ،‬باب القنوت قبل الركوع وبعده‪ ،‬رقم (‪،)1004‬‬
‫ٍ‬
‫مالك رضي ال َّله عنه‪ ،‬ومسلم‪ ،‬كتاب المساجد‬ ‫من حديث أنس بن‬
‫ومواضع الصَلة‪ ،‬باب استحباب القنوت يف مجيع الصَلة إذا نَزلت‬
‫نازلة‪ ،‬رقم (‪ ،)678‬من حديث البراء رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫بالمسلمين ٌ‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)2746‬من حديث ابن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪328‬‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن النبي ﷺ ال َيملك شيئا‪.‬‬ ‫ي‬
‫إىل جواز ل ْعن الكافر بعينه؛ لهذا‬ ‫ِ‬
‫العلم(‪)1‬‬ ‫و َذهب بعض أهل‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وقال بعضهم(‪ :)2‬أنَّه أتى النهي‪﴿( :‬ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾)؛‬
‫فدل عىل عدم تخصيص األعيان‪ ،‬وإنَّما يجوز ل ْعن الكافرين عىل العموم؛‬ ‫ي‬
‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َل ْعنَة ال َّل ِه َع َلى ال َكافِ ِري َن﴾ [البقرة‪ ،]89:‬وقال‪َ ﴿ :‬أ َال‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [هود‪.]18:‬‬ ‫َل ْعنَة ال َّله َع َلى ال َّظالم َ‬
‫ث يم بعد ذلك قال‪( :‬وفِ ِيه‪ :‬ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪« :‬قام‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ ِحين أ ْنزل عل ْي ِه‪﴿ :‬وأ ْن ِذ ْر ع ِشيرتك األ ْقربِين﴾)‪ ،‬نذار ٌة‬

‫(‪ )1‬وهم بعض المالكية والحنابلة‪ .‬أحكام القرآن البن العربي (‪ ،)74/1‬الفروع‬
‫البن مفلح (‪ ،)1119/10‬اإلنصاف للمرداوي (‪.)250/10‬‬
‫(‪ )2‬وهم الحنفية وبعض المالكية والشافعية‪ ،‬واختاره شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله‪.‬‬
‫حاشية ابن عابدين (‪ ،)416/3‬أحكام القرآن البن العربي (‪ ،)74/1‬أسنى‬
‫المطالب لزكريا األنصاري (‪ ،)346/4‬مختصر الفتاوى المصرية‬
‫للبعيل (‪.)512/1‬‬
‫‪329‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ولما نزلت‪َ ﴿ :‬أ ْن َأن ِْذ ِر‬


‫َّ‬ ‫المقربين إليك‪،‬‬
‫َّ‬ ‫خاص ٌة؛ يعني‪ :‬قومك‬
‫ي‬
‫َّاس﴾ [يونس‪]2:‬؛ هذه نذار ٌة عا َّم ٌة‪.‬‬
‫الن َ‬
‫نزلت‪﴿( :‬وأ ْن ِذ ْر ع ِشيرتك األ ْقربِين﴾)؛ نادى ﷺ فقال‪( :‬يا‬
‫ْ‬ ‫ولما‬
‫َّ‬
‫م ْعشر قر ْي ٍ‬
‫ش!)‪ ،‬و(م ْعشر) مجاعة‪.‬‬
‫احا ْه»(‪.)1‬‬
‫فنادى النبي ﷺ عىل الصفا‪َ « :‬يا َص َب َ‬
‫ش! ‪ -‬أ ْو كلِم ًة‬‫ث يم َبدأ ينادي فروع قريش‪ ،‬فقال‪( :‬يا م ْعشر قر ْي ٍ‬

‫ن ْحوها ‪ْ -‬اشتروا أ ْنفسك ْم) يعني‪َ :‬أنقذوا أنفسكم‪َّ( ،‬ل أ ْغنِي ع ْنك ْم‬
‫فمن مات عىل الكفر مِن قبيلته؛ فالنبي ﷺ ال يستطيع منْعه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من ال َّله شيئ ًا)‪َ ،‬‬
‫مِن دخول النَّار‪.‬‬
‫عمم النبي ﷺ عىل القبيلة؛ بدأ يخصص األفراد‪ ،‬فقال‪( :‬يا‬ ‫ولما َّ‬ ‫َّ‬
‫ب!) ف َبدأ بعمه‪َّ( ،‬ل أ ْغنِي ع ْنك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا)‪.‬‬
‫ع َّباس ْبن ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬

‫اس َت ْغ ِف ْره‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬


‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪َ ،‬باب َق ْوله‪َ ﴿ :‬ف َسب ْح بِ َح ْمد َرب َك َو ْ‬
‫َان َت َّوابا﴾ [النصر‪ ،]3 :‬رقم (‪ ،)4971‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ٌ ،‬‬
‫باب يف‬ ‫إِنَّه ك َ‬
‫﴿و َأن ِْذ ْر َع ِش َير َت َك األَ ْق َربِي َن﴾ [الشعراء‪ ،]214 :‬رقم (‪،)208‬‬
‫قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫من حديث ابن عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪330‬‬

‫ك ِمن ال َّل ِه‬


‫ول ال َّل ِه! َّل أ ْغنِي ع ْن ِ‬
‫ثم نادى عمته‪( :‬يا ص ِفية عمة رس ِ‬
‫َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ي‬
‫ش ْيئ ًا)‪.‬‬
‫ث يم نادى َمن هي بضعة مِنه؛ وهي ابنته فاطمة رضي ال َّله عنها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ك ِمن ال َّل ِه‬
‫ت ِم ْن مالِي؛ َّل أ ْغنِي ع ْن ِ‬
‫(ويا فاطِمة بِ ْنت ُمم ٍد! سلِينِي ما ِش ْئ ِ‬
‫َّ‬
‫ش ْيئ ًا)‪.‬‬
‫وعمتَه‪ ،‬وع َّمه‪ ،‬وقبيلته؛‬
‫فإذا كان النبي ﷺ ال يستطيع أن َينفع ابنته‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫فمن باب َأوىل أنَّه ال يستطيع ْ‬
‫أن َينفع غيرهم أيضا‪.‬‬
‫﴿وإِ ْن‬
‫الضار هو ال َّله سبحانه وتعاىل؛ كما قال تعاىل‪َ :‬‬ ‫ي‬ ‫فالنافع‬
‫ف َله إِ َّال ه َو﴾ [يونس‪.]107:‬‬ ‫يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫َاش َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫أن التع َّلق باألموات أو غيرهم من َّ‬
‫األولياء‪ ،‬أو الصالحين‪،‬‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫كل ذلك ٌ‬
‫باطل‪ ،‬ومن الشرك األكبر ‪ -‬والعياذ‬ ‫أو ِ‬
‫الج ين‪ ،‬أو المَلئكة؛ ُّ‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫( ْاشتروا أ ْنفسك ْم) أنقذوها باإليمان‪ ،‬فاشتروا اآلخرة بالدنيا‪.‬‬
‫لك يا ابنتي هو المال‪،‬‬‫ت ِم ْن مالِي) الذي َأملكه ِ‬‫(سلِينِي ما ِش ْئ ِ‬
‫ِ‬
‫شئت من المال‪ ،‬لكن اس ِع إىل طريق الهداية والرشاد‪ ،‬فأنا ال‬ ‫فخذي ما‬
‫َأملك ِ‬
‫لك شيئا‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن النبي ﷺ ال َيملك لغيره نفعا وال ضرا‪.‬‬ ‫ي‬
‫ٌ‬
‫وبيان من النبي ﷺ لجميع األ َّمة أنه ال َيملك‬ ‫إقرار‬
‫ٌ‬ ‫(َّل أ ْغنِي) هذا‬
‫نفعا وال ضرا‪.‬‬
‫فإذا كان النبي ﷺ قد بين و َأعلن أنَّه ال يملك مغفرة؛ ِ‬
‫فمن باب َأوىل‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ال َيملك ضرا وال نفعا‪.‬‬
‫والمراد من الباب‪ :‬الرد عىل كل ْ ٍ‬
‫مشرك َيتع يلق َ‬
‫بالمشرو َكات من‬ ‫ُّ‬
‫دون ال َّله ‪ -‬مِن المَلئكة إىل النيمل ‪.-‬‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪332‬‬

‫[‪]16‬‬
‫باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا‬
‫قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه ع ِن ال َّنبِي ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬إِذا‬
‫فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫ت المَلئِكة بِأ ْجنِحتِها خضعان ًا لِق ْولِ ِه‪،‬‬‫قضى ال َّله األمر فِي السام ِء؛ ضرب ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ان‪ ،‬ي ْنفذه ْم ذلِك‪﴿ ،‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا‬‫كأنَّه ِس ْل ِسل ٌة على ص ْفو ٍ‬
‫ِ‬
‫ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العل ُّي الكبِير﴾‪ ،‬في ْسمعها م ْسترِق َّ‬
‫الس ْمعِ‪،‬‬
‫ض ‪ -‬وصفه س ْفيان بِكف ِه فح َّرفها‪،‬‬ ‫الس ْم ِع هكذا‪ ،‬ب ْعضه ف ْوق ب ْع ٍ‬ ‫وم ْسترِق َّ‬
‫وبدَّ د ب ْين أصابِ ِع ِه ـ‪.‬‬
‫في ْسمع الكلِمة في ْل ِقيها إِلى م ْن ت ْحته‪ ،‬ث َّم ي ْل ِقيها اآلخر إِلى م ْن ت ْحته‪،‬‬
‫احرِ أ ِو الك ِ‬
‫ان الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ِن‪.‬‬ ‫ح َّتى ي ْلقيها على لس ِ َّ‬
‫فربَّام أ ْدركه الشهاب ق ْبل أنْ ي ْل ِقيها‪ ،‬وربَّام أ ْلقاها ق ْبل أنْ ي ْد ِركه‪،‬‬
‫في ْك ِذب معها ِمئة ك ْذب ٍة‪ ،‬فيقال‪ :‬أل ْيس ق ْد قال لنا ي ْوم كذا وكذا‪ :‬كذا وكذا؟‬
‫السام ِء»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فيصدَّ ق بِت ْلك الكلمة ا َّلتي سمع ْت من َّ‬
‫‪333‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اس ْب ِن س ْمعان ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪:‬‬ ‫وع ِن الن ََّّو ِ‬

‫ات ِم ْنه‬
‫ت السمو ِ‬
‫َّ‬
‫«إِذا أراد ال َّله أنْ يو ِحي بِاألمرِ؛ تك َّلم بِالو ْح ِي‪ ،‬أخذ ِ‬
‫ْ‬
‫ر ْجف ٌة ‪ -‬أ ْو قال‪ِ :‬ر ْعد ٌة ش ِديد ٌة ‪ -‬خ ْوف ًا ِمن ال َّل ِه عزَّ وج َّل‪.‬‬
‫ات؛ ص ِعقوا‪ ،‬وخ ُّروا لِ َّل ِه س َّجد ًا‪ ،‬فيكون‬ ‫فإِذا س ِمع ذلِك أ ْهل السمو ِ‬
‫َّ‬
‫أ َّول م ْن ي ْرفع ر ْأسه ِج ْبرِيل‪ ،‬فيكلمه ال َّله ِم ْن و ْحيِ ِه بِام أراد‪.‬‬
‫ث َّم يم ُّر ِج ْبرِيل على المَلئِك ِة‪ ،‬ك َّلام م َّر بِسام ٍء سأله مَلئِكتها‪ :‬ماذا قال‬
‫ر ُّبنا يا ِج ْبرِيل؟ فيقول ِج ْبرِيل‪ :‬قال الح َّق‪ ،‬وهو العلِ ُّي الكبِير‪.‬‬
‫قال‪ :‬فيقولون ك ُّله ْم ِم ْثل ما قال ِج ْبرِيل‪.‬‬
‫في ْنت ِهي ِج ْبرِيل بِالو ْح ِي إِلى ح ْيث أمره ال َّله عزَّ وج َّل»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫بوب المصنف رمحه ال َّله هذا الباب عىل ٍ‬
‫آية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫جمَل‪ ،‬وأحيانا‬ ‫ٍ‬
‫يبوب عىل حديث‪ ،‬وأحيانا يذكر حكما م َ‬ ‫وأحيانا ي‬
‫ِ‬
‫مستفهما‪.‬‬ ‫يذكر سؤاال‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم‬
‫قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪334‬‬

‫عظيم ْين‬
‫َ‬ ‫ساق المصنف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان حال مخلو َق ْين‬
‫وجل إذا َتك َّلم سبحانه وتعاىل بالوحي؛ كيف يكون حالهم‬
‫عز َّ‬
‫مع ال َّله َّ‬
‫من الخضوع والذل والخوف منه سبحانه وتعاىل‪ ،‬والتعظيم له‪.‬‬
‫العظيم ْين بتعظيمهم ل َّله‬
‫َ‬ ‫فإذا كان هذا هو حال هذين المخلو َق ْين‬
‫وخوفهم فيذ يلون‪ ،‬ويص َعقون‪ ،‬ويغمى عليهم‪ ،‬ويغشى عليهم؛ ي‬
‫دل عىل أنَّه‬
‫ال يصرف لهم شي ٌء مِن العبادة‪.‬‬
‫وف‪ ،‬و َي ُّ‬
‫ذل‪ ،‬و َيخضع‪ ،‬و َينكسر؛ كيف يع َبد؟!‬ ‫فمن يأخذه َخ ٌ‬‫َ‬
‫فمن باب أوىل ما هو أدنى يف ِ‬
‫الخلقة ال يع َبد؛ من األصنام واألوثان‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫واألنبياء والصالحين‪.‬‬
‫أن هؤالء ال َيصلحون للعبادة‪ ،‬وغيرهم من باب َأوىل؛‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫لذلك يقال(‪« :)1‬هذه اآلية‪﴿( :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم) َتقطع عروق‬
‫أنَِها ح َّج ٌة قوي ٌة يف إخراج الشرك من القلب‪.‬‬
‫الشرك من أصوله»؛ يعني‪َّ :‬‬
‫والمصنف رمحه ال َّله َذكر آية وحديثين‪.‬‬

‫(‪ )1‬قاله ابن القيم رمحه ال َّله‪ .‬الصواعق المرسلة (‪.)461/2‬‬


‫‪335‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫اآلية األولى – (﴿ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم) ‪-‬‬
‫‪ :‬بيان حال المَلئكة إذا َتك َّلم ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫والنَّص الثاين – حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه ‪ :-‬بيان ِصفة‬
‫تلك الحال‪.‬‬

‫والنَّص الثالث – حديث ي‬


‫النواس رضي ال َّله عنه ‪ :-‬صفة المخلوق‬
‫عز َّ‬
‫وجل باألمر‪.‬‬ ‫الثاين‪ ،‬وهي السماوات إذا َتك َّلم ال َّله َّ‬
‫قال‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم) هذا من‬
‫بآية‪ ،‬كصنيع كبار‬ ‫بديع تصنيف المؤلف رمحه ال َّله؛ إذ بوب عىل الباب ٍ‬
‫َّ‬
‫والنسائي(‪ ،)2‬وغيرمها‪.‬‬
‫ي‬ ‫األئمة؛ كاإلمام البخاري رمحه ال َّله(‪،)1‬‬
‫َّ‬
‫قال‪﴿( :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم) أي‪ :‬عن قلوب المَلئكة بعد ْ‬
‫أن‬
‫أصاهبم من الفزع والخوف ما يأيت وصفه‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزب ْه‬
‫الجعفي موالهم البخاري‪ ،‬ولد سنة (‪194‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪ .)256‬تذكرة‬
‫الحفاظ للذهبي (‪.)104/2‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو عبد الرمحن أمحد بن شعيب بن عيل بن سنان بن بحر الخراساين‪ ،‬ولد‬
‫سنة (‪215‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪303‬هـ)‪.‬تذكرة الحفاظ للذهبي (‪.)194/2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪336‬‬

‫وجل إذا َّتكلم بالوحي ‪ -‬كما‬


‫عز َّ‬
‫أن ال َّله َّ‬
‫(قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم) أي‪َّ :‬‬
‫سيأيت يف حديث النواس ‪-‬؛ يغشى عىل المَلئكة‪ ،‬فيكون َّأول من يفيق‬
‫هو جبريل عليه السَلم‪ ،‬فيكلمه ال َّله بالوحي بما أراد‪.‬‬
‫ربنا؟‬
‫ث يم إذا أفاق بق َّية المَلئكة يقولون لجبريل‪ :‬ماذا قال ُّ‬
‫فيقول‪َ :‬ق َال‪( :‬الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾)‪.‬‬
‫فك ُّلهم يقولون‪َ :‬ق َال‪( :‬الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾)‪.‬‬
‫ث يم ينفذ جبريل عليه السَلم أمر ال َّله كما شاء سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فزع مِن‬ ‫فقوله‪﴿( :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم) ُّ‬
‫يدل عىل أن المَلئكة ت َ‬
‫كَلم ال َّله‪.‬‬
‫ويدل عىل َّ‬
‫أن للمَلئكة قلوبا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫(قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم)‪ ،‬قوله‪( :‬قال ر ُّبك ْم) فيه إثبات القول والكَلم‬
‫ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬قالوا الح َّق) فيه إثبات اسم الحق ل َّله عز وجل‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫حق‪،‬‬
‫حق سبحانه وتعاىل‪.‬‬‫حق‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫حق‪ ،‬ووعده ٌّ‬ ‫موصوف بالحق أيضا‪ ،‬فقوله ٌّ‬
‫العلو ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ي‬ ‫(وهو العلِ ُّي) فيه إثبات صفة‬
‫‪337‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(الكبِير﴾) فيه إثبات صفة الكِ َبر ل َّله سبحانه وتعاىل عىل ما يليق‬
‫بجَلله وعظمته‪.‬‬
‫وروى نحوه مسلم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصحيحِ ) صحيح البخاري‪َ ،‬‬
‫ث يم قال‪( :‬في َّ‬
‫يب يين هذا الحديث ما هو حال المَلئكة عند كَلم ال َّله ي‬
‫عز وجل‪،‬‬
‫وأ ْم ِرهم باألمر‪.‬‬
‫(ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه ع ْن النَّبِي ﷺ قال‪« :‬إِذا قضى ال َّله‬
‫السام ِء») أي‪ :‬إذا َتك َّلم به ‪ -‬كما يف حديث الن ََّّواس رضي ال َّله‬ ‫ِ‬
‫األ ْمر في َّ‬
‫عنه ‪.-‬‬
‫أن ال َّله َيتك يلم‪ ،‬وهو سبحانه يتك يلم بما شاء‪،‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا الحديث ُّ‬
‫متى شاء‪ ،‬كيف شاء‪ ،‬إذا شاء سبحانه‪.‬‬
‫ت المَلئِكة بِأ ْجنِحتِها) ِ‬
‫تذ يل وتخضع ذ يال وانكسارا وخوفا‬ ‫(ضرب ِ‬

‫وذعرا من ال َّله عز وجل‪.‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪338‬‬

‫أن للمَلئكة أجنحة؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬أولِي َأ ْجن ِ َح ٍة‬


‫فيدل عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫أن « ِج ْب ِر َيل َع َل ِيه‬ ‫الصحيحين(‪)1‬‬
‫اع﴾ [فاطر‪ ،]1:‬ويف‬‫ث َور َب َ‬ ‫َم ْثنَى َوث ََل َ‬
‫كل جناح منها قد َسدَّ األفق‪.‬‬ ‫الس ََلم َله ِس ُّت مِ َئ ِة َجن ٍ‬
‫َاح»‪ُّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫وضرب المَلئكة بأجنحتها‪( :‬خضعان ًا لِق ْولِ ِه) أي‪ :‬خضوعا له‬ ‫ْ‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فإذا كانت المَلئكة َتخضع لكَلم ال َّله إذا َتك َّلم‪ ،‬ويغشى عليها؛‬
‫َّ‬
‫فدل عىل أنَّه ال يجوز أن يصرف لها شي ٌء من العبادة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مخلوق عبِدَ من دون ال َّله؛ لذلك َذكر النبي ﷺ‬ ‫والمَلئكة هم أكبر‬
‫حالهم هذه‪.‬‬
‫َّ‬
‫وجل‬ ‫أنَِ كَلم ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫قال‪( :‬كأنَّه ِس ْل ِسل ٌة على ص ْفو ٍ‬
‫ان) أي‪ :‬ك َّ‬
‫ان) السلسلة معروفة‪ ،‬وهي‪ِ :‬ح َلق الحديد المتداخلة‪،‬‬ ‫( ِس ْل ِسل ٌة على ص ْفو ٍ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب بدْ ء الخلق‪ ،‬باب إذا قال أحدكم‪ :‬آمين والمَلئكة يف‬
‫فوافقت إحدامها األخرى؛ غفر له ما َتقدم من ذنْبه‪،‬‬
‫السماء‪ ،‬آمين َ‬
‫﴿و َل َقدْ َرآه ن َْز َلة أ ْخ َرى﴾‬
‫رقم (‪ ،)3232‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب‪َ :‬‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫[النجم‪ ،]13 :‬رقم (‪ ،)174‬من حديث ابن‬
‫‪339‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قوي‪ ،‬فالسلسة عىل الصفوان‬


‫دوي ٌّ‬
‫الحجر األملس؛ أي‪ٌّ :‬‬ ‫(على ص ْفو ٍ‬
‫ان) َ‬
‫تخرج صوتا قويا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صفوان‪َ ،‬تخضع منه‬ ‫كأن كَلمه سلسل ٌة عىل‬
‫فإذا َتك يلم ال َّله َّ‬
‫المَلئكة‪.‬‬
‫(ي ْنفذه ْم ذلِك) أي‪ :‬ذلك الصوت َينفذ إىل قلوب المَلئكة‪،‬‬
‫ويفزعهم‪ ،‬و َيخضعون ل َّله عز وجل‪.‬‬
‫ث يم استشهد النبي ﷺ هبذا الموقف بقوله‪﴿( :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن‬
‫قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾)؛ يعني‪ :‬مل‬
‫يقل إال حقا سبحانه‪.‬‬

‫فإذا َتك َّلم ال َّله؛ قال النبي ﷺ‪( :‬في ْسمعها م ْسترِق َّ‬
‫الس ْم ِع) َيعني‪:‬‬
‫الذي َيسرق السمع من الشياطين‪.‬‬
‫ض ‪ -‬وصفه س ْفيان بِكف ِه‬ ‫الس ْم ِع هكذا‪ ،‬ب ْعضه ف ْوق ب ْع ٍ‬ ‫(وم ْسترِق َّ‬
‫أي‪ :‬أمالها‪( ،‬وبدَّ د ب ْين أصابِ ِع ِه) يعني‪َّ :‬فرق‪.‬‬
‫فح َّرفها) ْ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪340‬‬

‫ٍ‬
‫بعض إىل‬ ‫شيطان؛ بعضهم فوق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شيطان‪ ،‬فوق‬ ‫ٌ‬
‫شيطان‪ ،‬فوق‬ ‫بمعنى‪:‬‬
‫السماء الدنيا؛ لذلك يف الحديث اآلخر قال‪« :‬إِ َّن ال َم ََلئِ َك َة َتن ِْزل فِي‬
‫ِ‬
‫ال َعنَان»(‪ )1‬؛ يعني‪ :‬إىل العنان‪َ ،‬وه َو َّ‬
‫الس َحاب‪.‬‬
‫وأن جبريل ي َبلغ كَلم ال َّله‪.‬‬
‫وجل َيتك َّلم‪َّ ،‬‬
‫عز َّ‬
‫فدل عىل أن ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بعض‬ ‫صطف بعضهم فوق‬
‫ُّ‬ ‫قو ٌة خارق ٌة‪ ،‬ف َي‬ ‫ويدل عىل أن ِ‬
‫الج ين لهم َّ‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫شاهق‪.‬‬ ‫علو‬
‫إىل ٍّ‬
‫قال‪( :‬في ْسمع الكلِمة) أي‪ :‬الشيطان‪( ،‬في ْل ِقيها إِلى م ْن ت ْحته‪ ،‬ثم‬
‫احرِ أ ِو الك ِ‬
‫ان الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ِن)‬ ‫ي ْلقيها اآلخر إِلى م ْن ت ْحته‪ ،‬ح َّتى ي ْلقيها على لس ِ َّ‬
‫َّ‬
‫فدل عىل أن السحرة يستعينون بالشياطين‪ ،‬وكذلك الك يهان‪.‬‬
‫احرِ) هو من َيعمل أعماال شيطانية تكون سببا يف ضرر‬ ‫و(الس ِ‬
‫َّ‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫أما (الك ِ‬
‫اه ِن) هو الذي يدَّ عي ِعلم الغيب يف الزمن المستقبل‪.‬‬ ‫َّ‬
‫والعراف‪ :‬الذي يدَّ عي ِعلم الغيب يف المكان‪.‬‬
‫َّ‬

‫(‪)1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب بدْ ء الخلق‪ ،‬باب ذكْر المَلئكة‪ ،‬رقم (‪ ،)3210‬من‬
‫حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬
‫‪341‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقوله‪( :‬فربَّام أ ْدركه الشهاب ق ْبل أنْ ي ْل ِقيها)‪.‬‬


‫ٍ‬
‫كانت الشياطين قبْل بعثة النبي ﷺ َتسترق السمع بكثرة‪َّ ،‬‬
‫ولما بعث‬
‫النبي ﷺ َحفظ ال َّله السماء منهم؛ كما قال سبحانه عن ِ‬
‫الج ين‪َ ﴿ :‬و َأنَّا كنَّا‬
‫لس ْم ِع َف َم ْن َي ْست َِم ِع اآل َن َي ِجدْ َله ِش َهابا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن ْقعد من َْها َم َقاعدَ ل َّ‬
‫صدا﴾ [ ِ‬
‫الج ين‪.]9:‬‬ ‫َر َ‬
‫كمة من ال َّله يجعلهم َيأخذون شيئا من الكَلم؛ فتنة للناس‪،‬‬‫فلح ٍ‬‫ِ‬

‫عن طريق السحرة والكهان كما سيأيت‪.‬‬


‫قال‪( :‬وربَّام أ ْلقاها) الشيطان عىل لِسان الساحر‪ ،‬أو الكاهن (ق ْبل أنْ‬
‫ي ْد ِركه) الشهاب‪.‬‬
‫(في ْك ِذب) أي‪ :‬الساحر‪ ،‬أو الكاهن (معها ِمئة ك ْذب ٍة) أي‪ :‬مع تلك‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعض إىل ما َيتك يلمه المَلئكة فيما‬ ‫فالشياطين َيرتقي بعضهم عىل‬
‫يقول رهبم‪ ،‬وأحيانا يرتقون إىل ال َعنان ‪ -‬إىل السماء الدنيا ‪-‬؛ ف َيسمعون‬
‫ما َتتك يلمه المَلئكة بما قضى ال َّله به األمر‪ ،‬مثَل قول‪ :‬فَلن سيموت‪.‬‬
‫فيسمعها مسترق السمع‪ ،‬فإذا َسمعها األعىل؛ يلقيها إىل َمن تحته‪،‬‬
‫فربما هذا الذي تحته قد يدركه الشهاب؛ فيقتله ق ْبل ْ‬
‫أن يلقيها‪ ،‬فَل‬ ‫َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪342‬‬

‫يعلمون ماذا ق ِض َي يف السماء‪ ،‬وقد يلقيها ق ْبل ْ‬


‫أن يدركه الشهاب؛ فتنة‬
‫وبَلء وامتحانا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ث يم يلقوهنا إىل َمن ك َفر بال َّله من ي‬
‫الكهان؛ فيلقيها عىل الكاهن‪ ،‬أو‬
‫الساحر‪ ،‬أو العراف؛ فتكون فتنة عىل الناس‪ ،‬ويكذب معها مئة ٍ‬
‫كذبة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫(فيقال‪ :‬أل ْيس ق ْد قال لنا ي ْوم كذا وكذا‪ :‬كذا وكذا؟) فيقول ْ‬
‫أهل‬
‫بعض – ْ‬
‫إن قيل لهم‪ :‬كيف تصدي قون هذا الكاهن؛‬ ‫ٍ‬ ‫الباطل بعضهم إىل‬
‫وص َ‬
‫دق‪.‬‬ ‫كاذب ‪ :-‬إنَّه قال يوم كذا سيموت ٌ‬
‫فَلن؛ َ‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫فنَسوا ما كان َيكذب فيه‪ ،‬و َأخذوا ما َصدق فيه‪.‬‬
‫السام ِء) يعني‪ :‬مل يستطع ْ‬
‫أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫(فيصدَّ ق بِت ْلك الكلمة التي سمعت من َّ‬
‫مما خطِف له من السماء‪.‬‬ ‫َيعلم شيئا من الغيب‪ ،‬وإنيما ي‬
‫ٍ‬
‫واحدة‪ ،‬ومئة كلمة ك ُّلها‬ ‫ٍ‬
‫بكلمة‬ ‫فدل عىل َضعف اإلنسان؛ إذ يصدق‬‫َّ‬
‫كذب‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ويدل أيضا عىل أ َّن باطل السحرة والشياطين أضعاف أضعاف‬‫ُّ‬

‫ِصدقهم؛ أي‪ :‬ليس عندهم مِن الصدق إال ْ‬


‫النزر اليسير؛ ليدلسوا به عىل‬
‫الناس‪.‬‬
‫‪343‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫مثل‪ :‬لو َسمعوا كلمة «زيدٌ » من السماء؛ فيزيدون كلمة «زيدٌ‬


‫سيموت يف يوم كذا‪ ،‬وكذا»‪.‬‬
‫فساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان أ َّنه ال يجوز أن‬
‫وأن مجيع المخلوقات ْ‬
‫وإن عظمت؛ فهي‬ ‫وحده‪َّ ،‬‬
‫تصرف العبادة إال ل َّله ْ‬
‫ضعيف ٌة‪ ،‬وخاضع ٌة‪ ،‬وذا َّل ٌة ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫الكهان‪ ،‬وعىل ض ْعف عقول الناس‬ ‫ِ‬ ‫وهذا الحديث ُّ‬
‫يدل عىل كذب َّ‬
‫الذين يأتون إليهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أخبار‪ ،‬لكنَّه َيكذب يف مخسة‬ ‫صاحب يتك يلم يف عشرة‬
‫ٌ‬ ‫فإذا كان لك‬
‫أي‪ :‬يف نصف األخبار‪ ،‬أتصدي قه وتتخذه صاحبا لك؟ ولو كان‬ ‫ٍ‬
‫أخبار؛ ْ‬
‫اب ال أصاحبه‪.‬‬ ‫يكذب يف ٍ‬
‫ثمان‪ ،‬ويصدق يف اثنين؛ فستقول‪ :‬هذا َّ‬
‫كذ ٌ‬ ‫َ‬
‫كذبة‪ ،‬و َيصدق يف واحدة؟‬‫فكيف يصدي ق الناس بمن يكذب مئة ٍ‬
‫َ‬
‫يدل عىل وجوب عدم تصديقهم؛ أل َّن الغالب فيهم‬ ‫ِ‬
‫فمن باب أوىل ُّ‬
‫الكذب‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪344‬‬

‫ولما سألت عائشة رضي ال َّله عنها النبي ﷺ عن حال الك يهان الذين‬
‫َّ‬
‫َيت َك َّهنون يف أخبار المستقبل؛ قال يف صحيح البخاري(‪َ « :)1‬ليسوا‬
‫ٍ‬
‫قدر؛‬ ‫بِ َشيء»‪ ،‬فهذه كلم ٌة جامع ٌة يف ْ‬
‫وصفهم‪ ،‬ولو كانوا شيئا‪ ،‬أو لهم ٌ‬
‫لنَفعوا أنفسهم‪ ،‬و َأسرعوا بالتوبة قبل ْ‬
‫أن يموتوا؛ فيكونوا خالدين‬
‫مخ َّلدين يف النَّار‪.‬‬
‫فهم ال َيعلمون َغيب أنفسهم من الموت وعدم االستعداد له؛ فمن‬
‫باب َأ ْوىل عدم اإلخبار لغيرهم من الغيب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كذبة‪ ،‬وأهنم ليسوا بشيء؛‬ ‫فإذا كان هذا حال الك يهان يف كذهبم مئة‬
‫ي‬
‫دل عىل تحريم الذهاب إليهم‪.‬‬
‫خرج اإلنسان من هذا الدين؛ كما قال ﷺ‪:‬‬ ‫أن تصديقهم ي ِ‬ ‫ودل عىل َّ‬
‫ي‬
‫«من َأ َتى ك ِ‬
‫َاهنا‪َ ،‬أ ْو َع َّرافا‪َ ،‬ف َصدَّ َقه بِ َما َيقول‪َ ،‬ف َقدْ َك َف َر بِ َما أن ِْز َل َع َلى‬ ‫َ ْ‬
‫م َح َّم ٍد»(‪.)2‬‬

‫بحق‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشيء‪ ،‬وهو ينوي أنه ليس ٍّ‬ ‫(‪ )1‬كتاب األدب‪ ،‬باب قول الرجل للشيء‪ :‬ليس‬
‫رقم (‪.)6213‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)9536‬من حديث أبي هريرة والحسن‬
‫رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪345‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والشاهد من هذا الحديث‪َّ :‬‬


‫أن النبي ﷺ ب َّين حال المَلئكة عند‬
‫جل وعَل بال ي‬
‫ذل واالنكسار‬ ‫كَلم ال َّله عز وجل‪ ،‬وأنَّهم يخضعون له َّ‬
‫والخوف‪ ،‬فإذا كان هذا حال هؤالء الخلق العظيم‪ ،‬ومنهم‪ :‬جبريل عليه‬
‫وعظم هذا‬ ‫جناح‪ ،‬الجناح الواحد يسدُّ األفق مِن كبر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫السَلم وله ست مئة‬
‫َ‬
‫ك مِ ْن َم ََلئِ َك ِة ال َّل ِه‬
‫ث َعن م َل ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫الخلق‪ ،‬ويف الحديث اآلخر‪« :‬أذ َن لي َأ ْن أ َحد َ ْ َ‬
‫ش‪ ،‬إِ َّن َما َب ْي َن َش ْح َم ِة أذنِ ِه إِ َلى َعاتِ ِق ِه َم ِس َيرة َس ْب ِع مِ َئ ِة‬‫مِ ْن َح َم َل ِة ال َع ْر ِ‬

‫َعا ٍم»(‪.)1‬‬
‫وصف الم َلك يف ِخلقته؛ فكيف بالج َّبار سبحانه الذي‬ ‫فإذا كان هذا ْ‬
‫الس ِميع ال َب ِصير﴾ [الشورى‪.]11:‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫قال عن ن ْفسه‪َ ﴿ :‬ل ْي َس كَمثْله َش ْي ٌء َوه َو َّ‬
‫غشى عليهم‪ ،‬ويذ يلون ل َّله إذا تك يلم‬
‫فإذا كانت المَلئكة يصعقون‪ ،‬وي َ‬
‫صرف لهم شي ٌء مِن أنواع العبادة؛ من‬ ‫بالكَلم فقط؛ ي‬
‫دل عىل أنه ال ي َ‬
‫ٍ‬
‫عبادة‪ ،‬أو ٍ‬
‫ذبح أو نحو ذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صَلة‪ ،‬أو‬
‫أن غيرهم أضعف وأضعف؛ فعبادهتم من دون ال َّله باطل ٌة‪.‬‬
‫ودل عىل َّ‬
‫ي‬

‫باب يف الجهم يية‪ ،‬رقم (‪ ،)4727‬من حديث‬


‫(‪ )1‬رواه أبو داوود‪ ،‬كتاب السنة‪ٌ ،‬‬
‫جابر بن عبد ال َّله رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪346‬‬

‫اس ْب ِن س ْمعان ر ِضي ال َّله ع ْنه قال‪ :‬قال‬‫قال رمحه ال َّله‪( :‬وع ِن الن ََّّو ِ‬

‫رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬إِذا أراد ال َّله أنْ يو ِحي بِاأل ْمرِ؛ تك َّلم بِالو ْحيِ …)‪.‬‬
‫هذا الحديث تكمل ٌة لآلية والحديث السابق؛ يب يين أنَّه إذا كان هذا‬
‫حال أعظم المخلوقات إذا سمعوا كَلم ال َّله عز وجل؛ يصعقوا وي ِ‬
‫خ ُّروا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي نو ٍع من أنواع العبادة‪.‬‬
‫صرف ي‬ ‫ل َّله س يجدا؛ ي‬
‫فدل عىل أ َّنهم ال يستحقون ْ‬
‫أن ما دوهنم يف الخ ْلق من ْ‬
‫األولياء واألشجار واألحجار‬ ‫ودل عىل َّ‬
‫ي‬
‫صرف لهم شي ٌء من العبادة‪.‬‬ ‫وغير ذلك؛ ال َيصلح ْ‬
‫أن ي َ‬
‫أن العبادة ال تص َرف إال ل َّله‬ ‫دل عىل َّ‬ ‫وإذا تب يين َض ْعف المخلوقين؛ ي‬
‫اط‬‫﴿و َأ ِن ا ْعبدونِي َه َذا ِص َر ٌ‬ ‫القهار سبحانه وتعاىل؛ كما قال‪َ :‬‬ ‫القوي ي‬
‫يم﴾ [يس‪ ،]61:‬وقال‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها النَّاس ا ْعبدوا َر َّبكم ا َّل ِذي َخ َل َقك ْم‬ ‫ِ‬
‫م ْستَق ٌ‬
‫الج ين َو ِ‬
‫اإلن َْس إِ َّال‬ ‫﴿وما َخ َل ْقت ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا َّل ِذ ِ‬
‫ين م ْن َق ْبلك ْم﴾ [البقرة‪ ،]22:‬وقال‪َ َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لِيعبد ِ‬
‫ون﴾ [الذاريات‪.]56:‬‬ ‫َْ‬
‫َيذكر هنا رمحه ال َّله حال الخ ْلق الثاين العظيم من مخلوقات ال َّله إذا‬
‫فسبق حال المَلئكة‪ ،‬وهنا رمحه ال َّله َيذكر حال‬
‫تك يلم ال َّله عز وجل‪َ ،‬‬
‫اوات إذا َتك َّلم بالوحي‪.‬‬
‫السم َ‬
‫َ‬
‫‪347‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫فقال‪( :‬إِذا أراد ال َّله أنْ يوحي بِاأل ْمرِ) أي‪ :‬إذا أراد أن ي‬
‫يدبر أمرا من‬
‫األمور يتكلم سبحانه؛ كما قال جل وعَل عن نفسه‪﴿ :‬إِن ََّما َأ ْمره إِ َذا َأ َرا َد‬
‫َش ْيئا َأ ْن َيق َ‬
‫ول َله ك ْن َف َيكون﴾ [يس‪.]82:‬‬
‫(تك َّلم بِالو ْح ِي) فيه إثبات صفة الكَلم ل َّله عز وجل‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫تك يلم ويتك يلم وسيتك يلم‪ ،‬متى شاء‪ ،‬إذا شاء‪ ،‬كيف شاء‪ ،‬بما شاء سبحانه‬
‫الس ِميع‬ ‫ِ ِِ‬
‫وتعاىل؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ل ْي َس كَم ْثله َش ْي ٌء َوه َو َّ‬
‫الب ِصير﴾ [الشورى‪﴿ ،]11:‬يس َأله من فِي السماو ِ‬
‫ات َواألَ ْر ِ‬
‫ض ك َّل َي ْو ٍم ه َو‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫موصوف بالكَلم‪ ،‬تك يلم‪ ،‬ويتك يلم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فِي َش ْأ ٍن﴾ [الرمحن‪ ،]29:‬وهو سبحانه‬
‫﴿ال ي ْس َأل َع َّما َي ْف َعل َوه ْم ي ْس َأل َ‬
‫ون﴾ [األنبياء‪.]23:‬‬ ‫وسيتك يلم‪َ ،‬‬
‫ت السمو ِ‬
‫ات‬ ‫فإذا َتك يلم بما أراده سبحانه‪ ،‬فلِكَلم ال َّله‪ :‬قال‪( :‬أخذ ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫م ْنه ر ْجف ٌة) الرجفة‪ :‬الحركة واالضطراب؛ أي‪ :‬إذا َتك يلم ال َّله ي‬
‫تحركت‬
‫السماوات‪ ،‬واضطربت‪.‬‬
‫لماذا هذه الحركة واالضطراب؟‬
‫قال‪( :‬خ ْوف ًا ِمن ال َّل ِه عزَّ وج َّل)‪ ،‬وقوله‪ -( :‬أ ْو قال‪ِ :‬ر ْعد ٌة ش ِديد ٌة ‪-‬‬
‫التحرك واالضطراب‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫شك من الراوي يف اللفظ؛‬ ‫ي‬ ‫) ِ‬
‫الرعْدَ ة‪ :‬هو‬
‫لكن المعنى واحدٌ ‪.‬‬
‫َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪348‬‬

‫اوات َتخاف إذا‬


‫السم َ‬
‫َ‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن هذا المخلوق العظيم وهي‬ ‫َّ‬
‫َتك يلم ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫َّ‬
‫فدل عىل أن غ ْي َرها من المخلوقات الضعيفة من األموات‪ ،‬أو من‬
‫عموم البشر ال يستح يقون شيئا من َص ْرف العبادة لهم‪.‬‬
‫ففيه حال السماوات إذا تك يلم ال َّله بالوحي ترتجف خوفا من ال َّله‬
‫وذعرا‪ ،‬وحال من يف السماوات من المَلئكة يصعقون‪ ،‬وي ِ‬
‫خ ُّرون ل َّله‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س يجدا‪.‬‬
‫السم َوات َتسمع‬
‫َ‬ ‫وقوله‪( :‬ر ْجف ٌة) أو ( ِر ْعد ٌة ش ِديد ٌة)‪ُّ ،‬‬
‫يدل عىل أن‬
‫لكَلم ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫اسمه‪ ،‬إِ َذا َق َضى َأ ْمرا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ويف لفظ لمسلم‪َ « :‬و َلك ْن َر ُّبنَا َت َب َار َك َو َت َعا َلى ْ‬
‫ِ ِ‬
‫الس َماء ا َّلذ َ‬
‫ين َيلونَه ْم‪َ ،‬حتَّى َي ْبل َغ‬ ‫ش‪ ،‬ث يم َس َّب َح َأ ْهل َّ‬ ‫َس َّب َح َح َم َلة ال َع ْر ِ‬

‫اء الدُّ ْن َيا»(‪.)1‬‬‫التَّسبِيح َأه َل ه ِذ ِه السم ِ‬


‫َّ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬

‫الكهان‪،‬‬
‫َّ‬ ‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب السَلم‪ ،‬باب تحريم الكهانة وإتيان‬
‫رقم (‪ ،)2229‬من حديث ابن عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫‪349‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وحرك ٌة من المَلئكة‪ ،‬ويف‬


‫وف‪َ ،‬‬ ‫ففي حال كَلم ال َّله‪َ :‬ف َز ٌع‪َ ،‬‬
‫وخ ٌ‬
‫السم َوات‪.‬‬
‫َ‬
‫قال‪( :‬فإِذا س ِمع ذلِك أ ْهل السمو ِ‬
‫ات) أي‪َ :‬سمعت المَلئكة‬ ‫َّ‬
‫كَلم ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫(ص ِعقوا) وهو الغشي؛ يعني‪ :‬يغشى عليهم‪( ،‬وخ ُّروا لِ َّل ِه س َّجد ًا)‪،‬‬
‫فيحدث منهم األمران‪ :‬الغشي‪ ،‬والسجود ل َّله‪ ،‬وذلك إذا َسمعوا‬
‫كَلم ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫وأ َيهم يأول‪ :‬الصعق ث يم السجود‪ ،‬أم السجود ث يم الصعق؟‬
‫ال َّله أعلم‪ ،‬واألمر عند ال َّله سبحانه‪.‬‬
‫(فيكون أ َّول م ْن ي ْرفع ر ْأسه) يعني‪ :‬من ي ِفيق ‪ -‬كما يف الرواية‬
‫األخرى ‪ِ ( -‬ج ْبرِيل) عليه السَلم‪.‬‬
‫أن ِج ْبريل م َق َّر ٌب من ال َّله‪ ،‬وأنَّه أفضل المَلئكة؛ فهو َس ِف ٌير‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل وبين رسله‪.‬‬ ‫بين ال َّله َّ‬
‫وسجدوا؛ يأول َمن يرفع رأسه جبريل عليه‬
‫فإذا غشي عليهم َ‬
‫السَلم‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪350‬‬

‫قال‪( :‬فيكلمه ال َّله ِم ْن و ْحيِ ِه بِام أراد) فيك يلمه ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل بما شاء‬
‫من الوحي‪.‬‬
‫(ث َّم يم ُّر ِج ْبرِيل على المَلئِك ِة‪ ،‬ك َّلام م َّر بِسام ٍء)‪ُّ ،‬‬
‫يدل عىل سرعة‬
‫يمر عىل الس َم َوات السبع‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫جبريل عليه السَلم؛ ففي لحظة ي‬
‫فيقولون‪( :‬ماذا قال ر ُّبنا يا ِج ْبرِيل؟)‪.‬‬
‫الحق‪( ،‬وهو العلِ ُّي الكبِير)‪.‬‬
‫فيقول‪( :‬قال الح َّق) أي‪ :‬قال القول ي‬
‫(فيقولون ك ُّله ْم ِم ْثل ما قال ِج ْبرِيل)‪.‬‬
‫(في ْنت ِهي ِج ْبرِيل بِالو ْح ِي) أي‪ :‬بتبليغ الوحي إىل من أراد ال َّله مِن‬
‫رسله (إِلى ح ْيث أمره ال َّله عزَّ وج َّل)‪.‬‬
‫فجبريل هو سفير المَلئكة بين ال َّله وبين خ ْلقه‪.‬‬
‫فإذا أراد ال َّله أن يوحي شيئا إىل األنبياء والرسل؛ يبلغه لجبريل عليه‬
‫والمشرف بالرسالة بين ال َّله وخ ْلقه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫المكرم‬
‫َّ‬ ‫السَلم؛ أل َّنه هو‬
‫فمن ذلك َّ‬
‫أن امرأة‬ ‫ويدل أيضا عىل سرعة جبريل عليه السَلم‪ِ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫ثابت بن قيس بن شماس تجادل يف زوجها‪ ،‬وهي مل تبعد عن‬
‫‪351‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫النبي ﷺ ‪ -‬ال زالت تجادله ‪ ،-‬فنَزل جبريل من السماء السابعة إىل‬


‫األرض وهي مل َتتعدَّ مكاهنا(‪.)1‬‬
‫الجن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عبادة لغير ال َّله من المَلئكة‪ ،‬أو من ِ‬ ‫أي‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫صرف ي‬
‫أن ْ‬
‫أو من األموات؛ باطل ٌة؛ ألنَّهم مخلوقون ضعفاء‪.‬‬
‫السم َوات تخاف‬‫َ‬ ‫فإذا كان هذا الخ ْلق العظيم من المَلئكة‪ ،‬أو من‬
‫ٍ‬
‫شيء منها إال ل َّله سبحانه‬ ‫صرف‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫من ال َّله؛ َّ‬
‫أن العبادة ال َيصلح ْ‬
‫وتعاىل‪.‬‬
‫ويدل الحديث عىل ض ْعف المَلئكة؛ يف الصعق‪ ،‬والسجود ل َّله مع‬ ‫ُّ‬
‫﴿وإِ ْن مِ ْن َش ْي ٍء إِ َّال ي َسبح بِ َح ْم ِد ِه َو َلكِ ْن َال‬
‫عظمة خ ْلقتهم؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ات َو َما فِي‬ ‫ون َتسبِيحهم﴾ [اإلسراء‪﴿ ،]44:‬يسبح ل ِ َّل ِه ما فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َت ْف َقه َ ْ َ ْ‬
‫ات َو َما فِي‬ ‫ض﴾ [الجمعة‪﴿ ،]1:‬سبح ل ِ َّل ِه ما فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫األَ ْر ِ‬
‫ض﴾ [الحشر‪َ ﴿ ، ]1:‬أ َلم َتر َأ َّن ال َّله يسبح َله من فِي السماو ِ‬
‫ات‬ ‫األَ ْر ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ٍ‬
‫يحه﴾ [النور‪،]41:‬‬ ‫ض َوال َّط ْير َصا َّفات ك ٌّل َقدْ َع ِل َم َص ََل َته َو َت ْسبِ َ‬ ‫َواألَ ْر ِ‬

‫ض﴾ [الرعد‪﴿ ،]15:‬إِ ْن ك ُّل َم ْن فِي‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫﴿ول ِ َّل ِه يسجد من فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ ْ‬

‫(‪ )1‬تفسير البغوي (‪.)38/5‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪352‬‬

‫ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫ض إِ َّال آتي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْبدا * َل َقدْ َأ ْح َصاه ْم َوعَدَّ ه ْم‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫عَدي ا * َوك ُّله ْم آتِ ِيه َي ْو َم ال ِق َيا َم ِة َف ْردا﴾ [مريم‪.]95-93:‬‬
‫شيء من أنواع العبادة‬ ‫ٍ‬ ‫صرف‬ ‫ي‬
‫فدل عىل أ َّنه ال يجوز عقَل وال شرعا ْ‬
‫ٍ‬
‫بمعبود‬ ‫يتمسك‬ ‫أن‬ ‫لمن يص َعق و َيخاف ويغشى عليه؛ أل َّن العبد يريد ْ‬
‫ي‬
‫أن توجد هذه الصفات‬ ‫عظيم‪ ،‬وال يمكن ْ‬ ‫ٍ‬ ‫قدير‪ٍ ،‬‬
‫محيد‪،‬‬ ‫ار‪ٍ ،‬‬ ‫ار‪ ،‬ج يب ٍ‬ ‫قه ٍ‬‫قوي‪ ،‬ي‬
‫ٍّ‬
‫صرف العبادة إال له سبحانه‪.‬‬ ‫الرب ي‬
‫جل وعَل‪ ،‬فَل ت َ‬ ‫إال يف ي‬
‫***‬
‫‪353‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]17‬‬
‫الشفاع ِة‬
‫باب َّ‬
‫وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬وأ ْن ِذ ْر بِ ِه ا َّل ِذين يخافون أنْ ي ْحشروا إِلى رب ِه ْم‬
‫يع﴾‪.‬‬ ‫ل ْيس له ْم ِم ْن دونِ ِه ولِ ٌّي وَّل ش ِف ٌ‬
‫الشفاعة ج ِميع ًا﴾‪.‬‬ ‫وق ْوله‪﴿ :‬ق ْل لِ َّل ِه َّ‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬م ْن ذا ا َّل ِذي ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾‪.‬‬
‫ات َّل ت ْغنِي شفاعته ْم ش ْيئ ًا إِ ََّّل ِم ْن‬‫ك فِي السمو ِ‬
‫َّ‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬وكم ِم ْن مل ٍ‬
‫ْ‬
‫ب ْع ِد أنْ ي ْأذن ال َّله لِم ْن يشاء وي ْرضى﴾‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه َّل ي ْملِكون ِم ْثقال ذ َّر ٍة‬
‫وق ْوله‪﴿ :‬ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن د ِ‬

‫يهام ِم ْن ِش ْر ٍك وما له ِم ْنه ْم ِم ْن‬ ‫ض وما له ْم فِ ِ‬ ‫ات وَّل فِي األ ْر ِ‬ ‫فِي السمو ِ‬
‫َّ‬
‫الشفاعة ِع ْنده إِ ََّّل لِم ْن أ ِذن له﴾ اآلية‪.‬‬ ‫ظ ِهيرٍ * وَّل ت ْنفع َّ‬
‫اس‪« :‬نفى ال َّله ع َّام ِسواه ك َّل ما يتع َّلق بِ ِه‬ ‫قال أبو الع َّب ِ‬

‫الم ْشرِكون ‪ -‬فنفى أنْ يكون لِغ ْيرِ ِه م ْل ٌك‪ ،‬أ ْو قِ ْس ٌط ِم ْنه‪ ،‬أ ْو يكون ع ْون ًا‬
‫ِ‬ ‫لِ َّل ِه ‪ -‬ول ْم ي ْبق إِ ََّّل َّ‬
‫الر ُّب‪ ،‬كام‬‫الشفاعة‪ ،‬فب َّين أنَّها َّل ت ْنفع إِ ََّّل لم ْن أ ِذن له َّ‬
‫قال‪﴿ :‬وَّل ي ْشفعون إِ ََّّل لِم ِن ْارتضى﴾‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪354‬‬

‫القيام ِة؛ كام نفاها‬


‫الشفاعة ا َّلتِي يظ ُّنها الم ْشرِكون ِهي م ْنت ِفي ٌة ي ْوم ِ‬
‫فه ِذ ِه َّ‬
‫الق ْرآن‪.‬‬
‫الشفاع ِة‬
‫وأ ْخبر النَّبِ ُّي ﷺ‪ :‬أنَّه ي ْأتِي في ْسجد لِرب ِه وي ْحمده‪َّ ،‬ل ي ْبدأ بِ َّ‬
‫َّل‪ ،‬ثم يقال له‪ْ :‬ارف ْع ر ْأسك‪ ،‬وق ْل ي ْسم ْع‪ ،‬وس ْل ت ْعط‪ ،‬و ْاشف ْع تش َّف ْع‪.‬‬
‫أ َّو ً‬
‫َّاس بِشفاعتِك ي ْوم‬ ‫سعد الن ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال له أبو هر ْيرة رضي ال َّله ع ْنه‪« :‬م ْن أ ْ‬
‫القيام ِة؟‬
‫ِ‬

‫قال‪ :‬م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ خالِص ًا ِم ْن ق ْلبِ ِه»‪.‬‬
‫ص ‪ -‬بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه ‪ -‬وَّل تكون لِم ْن‬ ‫الشفاعة ِأل ْه ِل ِ‬
‫ال ْخَل ِ‬ ‫فتِ ْلك َّ‬
‫أ ْشرك بِال َّل ِه‪.‬‬
‫وح ِقيقته‪ :‬أ َّن ال َّله س ْبحانه هو ا َّل ِذي يتف َّضل على أ ْه ِل ِ‬
‫ال ْخَل ِ‬
‫ص‬
‫اء م ْن أذِن له أنْ ي ْشفع؛ لِي ْكرِمه‪ ،‬وينال المقام‬
‫اسط ِة دع ِ‬ ‫في ْغ ِفر لهم بِو ِ‬
‫ْ‬
‫الم ْحمود‪.‬‬
‫الشفاعة‬ ‫الشفاعة ا َّلتِي نفاها الق ْرآن ما كان فِيها ِش ْر ٌك‪ ،‬ولِهذا أ ْثبت َّ‬
‫ف َّ‬
‫اضع‪ ،‬وق ْد بين النَّبِي ﷺ أنَّها َّل تكون إِ ََّّل ِأل ْه ِل الت ْو ِح ِ‬
‫يد‬ ‫بِإ ْذنِ ِه فِي مو ِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫و ِال ْخَل ِ‬
‫ص» ا ْنتهى كَلمه‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشفاع ِة)‪.‬‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب َّ‬
‫الش ْفع يف اللغة‪ :‬ضد الوتر‪ ،‬والشفاعة‪ :‬هي طلب الخير للغير(‪،)1‬‬
‫َّ‬
‫أن َيطلب رج ٌل من‬
‫والتي تسمى عند الناس اليوم «الواسطة»؛ يعني‪ْ :‬‬
‫أمر عند آخر؛ ْ‬
‫أن يخلص أ ْمر ذلك اآلخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عظيم أو بيده ٌ‬ ‫رج ٍل‬
‫الجنَّة‪ ،‬وتفريج‬
‫والمراد هبا هنا‪ :‬سؤال الوقاية من النَّار‪ ،‬ودخول َ‬
‫ال َكرب ونحو ذلك‪.‬‬
‫وشفاعة المشركين َيطلبوهنا من دون ال َّله‪.‬‬
‫والشفاعة تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫شفاعة منف َّي ٌة‪ :‬وهي التي تطلب من غير ال َّله فيما ال‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫َيقدر عليه إال ال َّله‪.‬‬
‫شخص إىل ٍ‬
‫قبر‪ ،‬وقال للميت‪ :‬اشفع يل عند ال َّله؛‬ ‫ٌ‬ ‫مثل‪ :‬لو ذهب‬
‫ليغفر يل ذنوبي‪ ،‬فمغفرة الذنوب ال يقدر عليها الميت‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فسؤال الميت هذا األمر‬

‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور (‪.)184/8‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪356‬‬

‫شفاعة مثب ٌتة‪ :‬وهي ما تطلب من ال َّله سبحانه‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪:‬‬
‫ويشترط لها شرطان‪:‬‬
‫األول‪ :‬إِ ْذن ال َّله للشافع أن َيشفع‪.‬‬
‫الشرط َّ‬
‫والشرط الثاين‪ :‬رضاه عن المشفوع له‪.‬‬
‫وال تكون الشفاعة يوم القيامة إال لمن كان موحدا سواء الشافع أو‬
‫المشفوع له‪.‬‬
‫منهي عنها هي‪ْ :‬‬
‫أن َيطلب العبد من‬ ‫يعني‪ :‬الشفاعة الصحيحة الغير ٍّ‬
‫الجنَّة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ربه ْ‬
‫أن َيغفر ذنْب فَلن‪ ،‬أو ال يدخله النَّار‪ ،‬أو َيرفع درجاته يف َ‬
‫أهل التوحيد‪،‬‬ ‫َّل‪ْ :‬‬
‫أن يكون هذا الشافع من ْ‬ ‫ويشترط يف الشفاعة َّأو ً‬
‫فالمش ِرك ال َيشفع‪ ،‬ويف البخاري‪ :‬سأل أبو هريرة النبي ﷺ‪َ « :‬م ْن َأ ْس َعد‬ ‫ْ‬
‫اعتِ َك َيا َرس ْو َل ال َّل ِه؟ قال‪َ « :‬م ْن َق َال َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله‪َ ،‬خالِصا مِ ْن‬
‫َّاس بِ َش َف َ‬
‫الن ِ‬

‫َق ْلبِ ِه»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب ِ‬


‫العلم‪ ،‬باب الحرص عىل الحديث‪ ،‬رقم (‪ ،)99‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪357‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ثم ال يشفع هذا المر َت َضى إال إذا ِ‬


‫أذن ال َّله له؛ يعني‪ :‬ال يقوم يف‬ ‫ي َ‬
‫أن َتغفر له‪ْ ،‬أو ترفع درجاته؛‬ ‫ٍ‬
‫فَلن ْ‬ ‫المحشر‪ ،‬ويقول‪ :‬يا رب أنا َأشفع يف‬
‫حتى يأذن ال َّله للشافع ْ‬
‫أن َيشفع‪ ،‬كما سيأيت يف األدلة‪.‬‬
‫وجل عن المشفوع له‪ْ ،‬‬
‫بأن يكون المشفوع‬ ‫َّ‬ ‫ثانيا‪ :‬رضا ال َّله َّ‬
‫عز‬

‫له – ْ‬
‫أي‪ :‬صاحب الذنْب ‪ -‬من أهل التوحيد‪.‬‬
‫وشفاعة المشركين َيطلبون من األنداد واألوثان ْ‬
‫أن َيطلبوا من ربهم‬
‫إنزال المطر‪ ،‬أو شفاء المريض ونحوه؛ وهذه شفاع ٌة منف َّي ٌة‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬لو رج ٌل استحق دخول النَّار‪ ،‬وهو من أهل التوحيد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صالح من قراباته ‪ -‬مثَل ‪ -‬أن َيشفع له أن ال َيدخل‬ ‫فإذا ِ‬
‫أذ َن ال َّله لرج ٍل‬
‫النَّار؛ فهذه شفاع ٌة مث َبت ٌة‪ ،‬وصحيح ٌة‪ ،‬وشرع َّي ٌة‪.‬‬
‫أن ما يفعلونه ليس‬‫ولكون أهل الشرك َتع يلقوا يف شركهم بزعمهم َّ‬
‫ٍ‬
‫بشرك؛ قالوا‪ :‬نَطلب منهم الشفاعة؛ ألهنم لو قالوا‪ :‬إنَّا ندعوا الميت‪،‬‬
‫بحيلة ويقولون‪ :‬نَطلب‬ ‫ٍ‬ ‫أكبر؛ لذلك يأتون‬ ‫ٌ‬
‫شرك ٌ‬ ‫فسيقال لهم مباشرة‪ :‬هذا‬
‫ون ال َّل ِه ش َف َعا َء ق ْل َأ َو َل ْو‬
‫خذوا مِن د ِ‬
‫ْ‬ ‫منهم الشفاعة؛ لذلك قال ال َّله‪َ ﴿ :‬أ ِم ا َّت َ‬
‫اعة َجميعا﴾ [الزمر‪-43:‬‬
‫ِ‬ ‫ون * ق ْل ل ِ َّل ِه َّ‬
‫الش َف َ‬ ‫ون َش ْيئا َو َال َي ْع ِقل َ‬
‫كَانوا َال َي ْملِك َ‬
‫‪.]44‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪358‬‬

‫َوج ُّل الشرك اآلن؛ بز ْعم الشفاعة‪.‬‬


‫وشبهتهم يف هذا‪ :‬قياسهم عىل حال أهل الدنيا‪ ،‬فيقولون‪ :‬نحن ال‬
‫عظيم ونحن ال نستطيع أن نقابله بذنوبنا؛‬‫ٌ‬ ‫نستطيع أن ندعو ال َّله؛ ألن ال َّله‬
‫ميت ويقولون له‪ :‬أنت ادع ال َّله‪.‬‬ ‫فيذهبون إىل ٍ‬

‫وجل أن ذلك كِ ْب ٌر؛ ألنَّهم مل يتوجهوا إليه سبحانه؛‬ ‫عز َّ‬ ‫و َأ ْخ َب َر ال َّله َّ‬
‫يب أ ِجيب َد ْع َو َة الدَّ ا ِع إِ َذا‬ ‫ِ ِ‬
‫لذلك قال‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َس َأ َل َك ع َبادي َعني َفإِني َق ِر ٌ‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ،]186:‬وقال‬ ‫َجيبوا لِي َو ْلي ْؤمِنوا بِي َل َع َّله ْم َي ْرشد َ‬ ‫ان َف ْل َيست ِ‬
‫ْ‬
‫د َع ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ون َع ْن‬ ‫ين َي ْس َت ْكبِر َ‬ ‫لما َأمر بالدعاء‪﴿ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬ ‫سبحانه يف اآلية األخرى َّ‬
‫ون جهنَّم د ِ‬
‫اخ ِري َن﴾ [غافر‪]60:‬؛ لذلك‬ ‫ِ ِ‬
‫ع َبا َدتي﴾؛ أي‪ :‬دعائي؛ ﴿ َس َيدْ خل َ َ َ َ َ‬
‫ب َلك ْم﴾ [غافر‪.]60:‬‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬ا ْدعونِي َأست ِ‬
‫َج ْ‬ ‫ْ‬
‫إعراض عن ال َّله سبحانه؛‬ ‫ٌ‬ ‫وال َتدعوا األموات‪ ،‬فدعاء األموات‬
‫لذلك قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه َي ْحكم َب ْينَه ْم فِي َما ه ْم فِ ِيه َي ْ‬
‫خ َتلِف َ‬
‫ون إِ َّن ال َّل َه َال‬
‫َاذ ٌب َك َّف ٌار﴾ [الزمر‪َ ،]3:‬ف َح َك َم ال َّله سبحانه وتعاىل‬ ‫يه ِدي من هو ك ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫بك ْفرهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫المشركون يف‬ ‫والشفاعة من الشبهات واألبواب التي ا َّتخذها‬
‫إن ذنوبنا كثيرةٌ‪ ،‬وال نستطيع ْ‬
‫أن نطلب‬ ‫شركهم بال َّله عز وجل‪ ،‬فقالوا‪ :‬ي‬
‫‪359‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫من ال َّله شيئا؛ فنَذهب إىل األنداد واألموات‪ ،‬ونَطلب منهم ْ‬


‫أن َيشفعوا لنا‬
‫وجل ْ‬
‫بأن َيغفر لنا‪ ،‬فيأيت إىل القبر ويقول‪ :‬يا فَلن‪ ،‬أو يا‬ ‫عز َّ‬
‫عند ال َّله َّ‬
‫يزوجني‬
‫أن ي‬ ‫رسول ال َّله‪ ،‬اطلب مِن ربك ْ‬
‫أن َيغفر يل‪ ،‬أو اشفع يل عند ربك ْ‬
‫مثَل‪.‬‬
‫فهذه شفاع ٌة شرك َّي ٌة؛ أل َّن النبي ﷺ م يي ٌت‪ ،‬والشفاعة ال تكون إال يوم‬
‫المحشر‪.‬‬
‫إن أراد المرء ْ‬
‫أن يدعو فيقول‪ :‬يا رب شفع يفي نب ييك‪ ،‬وال‬ ‫وإنيما ْ‬
‫َيذهب للنبي ﷺ ويقول‪ :‬يا رسول ال َّله اشفع يل؛ فالنبي ﷺ ال َيملك‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وساق المصنَّف رمحه ال َّله مخس ٍ‬
‫آيات يف الشفاعة‪:‬‬
‫اآلية األولى – (﴿وأ ْن ِذ ْر بِ ِه ا َّل ِذين يخافون أنْ ي ْحشروا إِلى‬
‫رب ِه ْم﴾) ‪-‬؛ لبيان ض ْعف المدعوين من دون ال َّله يف طلب الشفاعة؛‬
‫الجنَّة هم الذين مل َيدعوا مع ال َّله‬ ‫ألنَّهم يخافون‪ ،‬ويب يين َّ‬
‫أن أصحاب َ‬
‫شفعاء وشركاء‪.‬‬
‫أن َمن ا َّتخذ من دون ال َّله شفعاء وشركاء قد َأشرك؛‬ ‫ومما يدلك عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿وا َّل ِذي َن ا َّت َخذوا مِ ْن دون ِ ِه َأ ْول ِ َيا َء َما َن ْعبده ْم إِ َّال لِي َقربونَا‬
‫قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪360‬‬

‫إِ َلى ال َّل ِه ز ْل َفى إِ َّن ال َّل َه َي ْحكم َب ْينَه ْم فِي َما ه ْم فِ ِيه َي ْختَلِف َ‬
‫ون إِ َّن ال َّل َه َال‬
‫الجنَّة‪ :‬الذين مل‬ ‫َاذ ٌب َك َّف ٌار﴾ [الزمر‪ ،]3:‬ي‬ ‫يه ِدي من هو ك ِ‬
‫وإال فأصحاب َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫يدعوا مع ال َّله أحدا‪.‬‬
‫الشفاعة ج ِميع ًا﴾) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن الشفاعة‬ ‫واآلية الثانية – (﴿ق ْل لِ َّل ِه َّ‬
‫أن ال َّله هو الذي يملك الشفاعة‪ ،‬فَل تذهب‬
‫ك يلها ل َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فب يين َّ‬
‫إىل األنداد واألصنام وتطلبها‪.‬‬
‫وتفضل‬
‫َّ‬ ‫واآلية الثالثة؛ ل َّما كانت الشفاعة ل َّله؛ فال َّله سبحانه َت َّ‬
‫كرم‬
‫بأن َيشفع عنده من َيأذن له سبحانه وتعاىل بالشفاعة؛ فقال‪﴿ :‬م ْن ذا ا َّل ِذي‬
‫ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾‪َ ،‬ذكر لك شرطا من شروط الشفاعة المثبتة‪ ،‬وهو‬
‫اإل ْذن للشافع بأن يشفع‪.‬‬
‫ات َّل ت ْغنِي شفاعته ْم‬
‫ك فِي السمو ِ‬
‫َّ‬
‫واآلية الرابعة – (﴿وكم ِم ْن مل ٍ‬
‫ْ‬
‫َّ‬
‫وجل عن‬ ‫ش ْيئ ًا﴾) ‪ -‬ساقها؛ لبيان الشرط اآلخر‪ ،‬وهو‪ :‬رضا ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫الشافع‪ ،‬والمشفوع له‪.‬‬
‫ون ال َّل ِه َّل‬
‫واآلية الخامسة – (﴿ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن د ِ‬

‫ي ْملِكون﴾) ‪ :-‬ب يين قوة ال َّله َّ‬


‫عز َّ‬
‫وجل وأنه ال يحتاج إىل شفعاء‪ ،‬وال إىل‬
‫شركاء‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ولبيان أسباب منْع ال َّله سبحانه وتعاىل الشفاعة الشركية‪ ،‬و َذكر‬
‫ٍ‬
‫أسباب سيأيت ذكرها بإذن ال َّله‪.‬‬ ‫تعاىل ثَلثة‬
‫مهم للرد عىل من يدعو غير ال َّله؛ ْ‬
‫بزعم الشفاعة؛ لكثرة‬ ‫وهذا الباب ٌّ‬
‫شبهة المشركين فيه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صحيحة؟‬ ‫فإن قيل لك‪ :‬هل الشفاعة صحيح ٌة‪َ ،‬أم غير‬ ‫ْ‬
‫فقل‪ :‬الشفاعة تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫شفاع ٌة شركي ٌة؛ وهي المنف َّية‪.‬‬
‫وشفاع ٌة مث َبت ٌة‪.‬‬
‫و َمن كان ليس مِن أهل التوحيد؛ ال تق َبل شفاعته‪.‬‬
‫فإذا كان يوم القيامة وأذن ال َّله للشافع أن َيشفع؛ فلن يشفع لمشرك؛‬
‫ين﴾ [المدثر‪.]48:‬‬ ‫اعة َّ ِ ِ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َما َتنْ َفعه ْم َش َف َ‬
‫الشافع َ‬
‫عمه أبي طالب حتى خ يفف‬ ‫ْ‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف بشفاعة النبي ﷺ يف ي‬
‫عذابه يف النَّار؟‬
‫المشرك الوحيد الذي أ ِذن‬
‫ِ‬ ‫خاص ٌة فقط‪ ،‬وهو‬
‫ي‬ ‫نقول‪ :‬هذه شفاع ٌة‬
‫للنبي ﷺ ْ‬
‫أن َيشفع فيه‪ ،‬وشفاعته فيه ليست يف منْع دخوله النَّار‪ ،‬أو دخوله‬
‫الجنَّة؛ وإنَّما يف التخفيف عنه من عذاب النَّار ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪362‬‬

‫ين﴾ [المدثر‪]48:‬؛ ُّ‬


‫تدل عىل‬ ‫اعة َّ ِ ِ‬ ‫فقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َما َتنْ َفعه ْم َش َف َ‬
‫الشافع َ‬
‫أن المشرك ال يشفع له أحدٌ ‪ ،‬وال َتنفعه شفاعة ٍ‬
‫أحد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫قال المصنَّف رمحه ال َّله‪( :‬وق ْول ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬وأ ْن ِذ ْر بِ ِه) يعني‪:‬‬
‫نذير‪.‬‬
‫فدل عىل أن القرآن ٌ‬ ‫و َأ ِنذر بالقرآن‪َّ ،‬‬
‫وهو أيضا ذكرى‪ ،‬وموعظ ٌة؛ كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َه َذا‬
‫﴿و َم ْو ِع َظة﴾ [آل عمران‪.]138:‬‬ ‫ِ‬
‫ذك ٌْر﴾ [األنبياء‪ ،]50:‬وكما قال‪َ :‬‬
‫(ا َّل ِذين يخافون أنْ ي ْحشروا إِلى رب ِه ْم) وهم المؤمنون األتقياء‬
‫الصالحون؛ يعني‪ :‬أن القرآن َينتفع به من يخاف ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وصفتهم‪( :‬ل ْيس له ْم ِم ْن دونِ ِه ولِ ٌّي) يعني‪َ :‬يتو َّلى أمورهم وينجيهم‬
‫ِ‬

‫يع) َيشفع لهم‪.‬‬ ‫من العذاب‪( ،‬وَّل ش ِف ٌ‬


‫فهم إذا ال َيتيخذون أولياء من دون ال َّله‪ ،‬وال َيتخذون شفعاء من‬
‫دون ال َّله‪.‬‬
‫فمن تجنيب الشفاعة المنف َّية‪ ،‬واحتَرز من نواقض اإلسَلم‪ ،‬وأتى‬
‫َ‬
‫بدعائم اإلسَلم؛ فإنيه يكون داخَل يف هذه اآلية‪.‬‬
‫واألولياء من دون ال َّله؛‬
‫َّ‬ ‫فدل مفهوم اآلية عىل َّ‬
‫أن طلب الشفاعة‬ ‫ي‬
‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬وهي الشفاعة المنفية‪.‬‬
‫‪363‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل َّ‬


‫أن‬ ‫المدعوون هذا حالهم؛ وهو خوفهم من ال َّله؛ َّ‬
‫ُّ‬ ‫فإذا كان‬
‫ٍ‬
‫مخلوق َيخاف‬ ‫صح‪ ،‬فكيف نَطلب الشفاعة من‬
‫طلب الشفاعة منهم ال ي ُّ‬
‫َ‬
‫من ال َّله!‬
‫فتع َّين أنَّا نَطلبها من ال َّله سبحانه وتعاىل ْ‬
‫وحده‪.‬‬
‫الشفاعة ج ِميع ًا﴾) يخبر ال َّله َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل بأنَّه‬ ‫قال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬ق ْل لِ َّل ِه َّ‬
‫ال أحد َيملك الشفاعة؛ ال األنبياء‪ ،‬وال األولياء‪ ،‬وال الصالحين؛ بل‬
‫الشفاعة ك ُّلها ل َّله فاطلبوها منه‪.‬‬
‫اجعل النبي ﷺ يوم القيامة َيشفع يل؛ ألنَّه ال‬
‫رب ْ‬
‫يعني‪ :‬تقول‪ :‬يا ي‬
‫أن َيشفع من غير إذن ال َّله‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل ض ْعف المخلوقين؛‬ ‫أحد يستطيع ْ‬
‫لذلك نَطلبها من ال َّله‪ ،‬قال ال َّله‪َ ﴿ :‬له م ْلك السمو ِ‬
‫ات‬ ‫َّ َ َ‬
‫َواألَ ْر ِ‬
‫ض﴾ [البقرة‪]107:‬‬

‫و َمن تطلب منه الشفاعة من دون ال َّله ال َيملك السموات وال َيملك‬
‫األرض‪.‬‬
‫ث يم قال المصنَّف‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬م ْن ذا ا َّل ِذي ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾)‬
‫أي‪ :‬ال أحد َيشفع عند ال َّله إال إذا َأذن ال َّله له‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪364‬‬

‫أن األب وولده – مثَل ‪ -‬يف المحشر‪ ،‬وحكِ َم َّ‬


‫أن الولد من‬ ‫أي‪ :‬لو َّ‬
‫أهل النَّار؛ ال يستطيع األب أن َيشفع له إال إذا َأذن ال َّله له‪.‬‬
‫ْ‬
‫شرطا من شروط الشفاعة المثبتة الغير منف َّية؛ وهو‬ ‫َ‬
‫فذكر يف اآلية ْ‬
‫إ ْذن ال َّله للشافع؛ يعني‪ :‬ال أحدَ يستطيع يف الحشر ْ‬
‫أن َيشفع حتى‬
‫َيأذن ال َّله‪ ،‬فَلبدي من إ ْذن ال َّله للشافع ْ‬
‫أن َيشفع‪.‬‬
‫والقوة ل َّله جل وعَل؛ قال تعاىل‪﴿ :‬إِ ْن‬
‫ي‬ ‫يدل عىل تمام الملك‬ ‫وهذا ُّ‬
‫ِ‬ ‫ك ُّل من فِي السمو ِ‬
‫ض إِ َّال آتي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْبدا﴾ [مريم‪ ،]93:‬وقال‪:‬‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿ َف ََل َت ْس َمع إِ َّال َه ْمسا﴾ [طه‪]108:‬؛ مِن خوفهم من ال َّله‪ ،‬فَل أحد يستطيع‬
‫ِ‬
‫ون إِ َّال َم ْن َأذ َن َله َّ‬
‫الر ْح َمن‬ ‫﴿ال َي َت َك َّلم َ‬ ‫أن يتك يلم‪َ ،‬‬
‫وكما يف آخر سورة النبأ‪َ :‬‬ ‫ْ‬
‫َو َق َال َص َوابا﴾ [النبأ‪.]38:‬‬
‫عز و َّ‬
‫جل ال َيأذن إال ألهل التوحيد‪.‬‬ ‫وال َّله َّ‬
‫وكذلك محرو ٌم من الشفاعة َمن أتى فيه النيص يف قول النبي ﷺ‪:‬‬
‫ون ش َهدَ ا َء َو َال ش َف َعا َء َي ْو َم ال ِق َيا َم ِة»(‪ ،)1‬فيحرم من‬
‫ين َال َيكون َ‬‫ِ‬
‫إن ال َّل َعان َ‬
‫« ي‬
‫الشفاعة َمن َيلعن – والعياذ بال َّله ‪.-‬‬

‫لعن الدواب‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب النهي عن ْ‬
‫‪365‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن‬ ‫ِ‬
‫وتبج ٌيل للشافع‪ ،‬ومعناه‪َّ :‬‬ ‫تعظيم‬ ‫وإ ْذن ال َّله للشافع ْ‬
‫أن َيشفع؛ فيه‬
‫ٌ‬
‫له منزلة عظيمة عند ال َّله‪ ،‬فلو كان مسخوطا عليه؛ مل ْيؤذن له بالشفاعة‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫فليس َع العبد أل ْن يكون رجَل صالحا عالِما؛ ليكون ال َّله َّ‬
‫ْ‬
‫راضيا عنه‪ ،‬ويؤذن له بالشفاعة يوم القيامة‪.‬‬
‫يدل عىل َّ‬
‫أن‬ ‫ك فِي السمو ِ‬
‫ات﴾) ُّ‬ ‫ثم قال‪( :‬وق ْوله‪﴿ :‬وكم ِم ْن مل ٍ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬
‫ألن ال َّله َّ‬
‫عز‬ ‫أشرف من األرض؛ َّ‬
‫مساكن المَلئكة يف السماء‪ ،‬والسماء ْ‬
‫وجل يف السماء‪.‬‬ ‫َّ‬
‫(﴿َّل ت ْغنِي شفاعته ْم ش ْيئ ًا﴾) َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن شفاعة المَلئكة ال يمكن‬
‫أن تتح َّقق؛ إال إذا َأذن ال َّله لهم‪.‬‬
‫فإذا كان هذا حال المَلئكة ال يشفعون إال إذا َأذن ال َّله لهم؛ ِ‬
‫فمن‬ ‫َ‬
‫المدعوون من األموات من اإلنس ومن الصالحين األحياء‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫باب َأوىل‬
‫(﴿إِ ََّّل ِم ْن ب ْع ِد أنْ ي ْأذن ال َّله لِم ْن يشاء وي ْرضى﴾)‪ ،‬وفيه الشرطان‪:‬‬
‫اإلذن والرضا‪.‬‬

‫وغيرها‪ ،‬رقم (‪ ،)2598‬من حديث أبي الدرداء رضي ال َّله عنه‪.‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪366‬‬

‫(م ْن ب ْع ِد أنْ ي ْأذن ال َّله)؛ كما قال عز وجل‪﴿( :‬م ْن ذا‬


‫الشرط األول‪ِ :‬‬
‫َّ‬
‫ا َّل ِذي ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾)‪ ،‬فيأذن لمن يشاء مِن الرسل‪ ،‬واألنبياء‪،‬‬
‫واألولياء‪ ،‬والشهداء‪ ،‬واألفراط(‪.)1‬‬
‫الشرط الثاين‪( :‬وي ْرضى﴾)؛ أي‪َ :‬يرضى عن المشفوع له‪ ،‬فَل يشفع‬
‫لرج ٍل ٍ‬
‫كافر‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل عن الشافع والمشفوع له؛ بأن يكون‬ ‫فَل بدي أن َيرضى ال َّله َّ‬
‫لما سأل‬ ‫من أهل التوحيد‪ ،‬كما يف الصحيح(‪ )2‬من حديث أبي هريرة َّ‬
‫َّاس بِ َش َفا َعتِ َك؟ َق َال‪َ :‬م ْن َق َال‪َ :‬ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله؛‬
‫النبي ﷺ‪َ « :‬م ْن َأ ْس َعد الن ِ‬

‫فالمشرك ال َيشفع وال يشفع له‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َخالِصا مِ ْن َق ْلبِ ِه»‪،‬‬


‫ون ال َّل ِه﴾)‪ ،‬فيبين تمام‬
‫قال‪﴿( :‬ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن د ِ‬

‫قدْ رة ال َّله‪ ،‬وم ْلكه‪ ،‬وه ْي َمنَتِه‪ ،‬وجبروته‪ ،‬وكمال حكمه عىل خ ْلقه سبحانه‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجع فر ٍ‬
‫ط‪ ،‬وهم األوالد الذين ماتوا صغارا‪ .‬لسان العرب البن‬ ‫َ‬
‫منظور (‪.)367/7‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (ويشترط يف الشفاعة َّأوال‪ْ :‬‬
‫أن يكون هذا‬
‫أهل التوحيد)‪.‬‬
‫الشافع من ْ‬
‫‪367‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫تعجيز‬
‫ٌ‬ ‫قال عنها ابن القيم‪« :‬إنَّها َتقطع الشرك مِن عروقه»(‪ ،)1‬فيها‬
‫لجميع الخ ْلق‪.‬‬
‫يعني‪ :‬الذين تدعوهنم سواء يف الشفاعة‪ ،‬أو غير الشفاعة؛ ضعفا ٌء‪.‬‬
‫وأسباب منْعهم من الشفاعة‪ ،‬وتحريم دعوهتم من غير ال َّله؛ ثَلث ٌة‪:‬‬
‫ات وَّل فِي‬ ‫السبب األول‪َّ﴿( :‬ل يملِكون ِم ْثقال ذر ٍة فِي السمو ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫الذرة‪ :‬الشي اليسير الخفيف جدا والصغير‪.‬‬
‫ض﴾)‪َّ ،‬‬ ‫األ ْر ِ‬
‫فإذا كان المخلوق ال يملك هذه؛ ِ‬
‫فمن باب َأوىل أنه ال يستطيع أن‬ ‫َ‬
‫َيشفع‪.‬‬
‫يهام ِم ْن ِش ْر ٍك) يعني‪ :‬ليسوا شركاء‬
‫والسبب الثاين‪( :‬وما له ْم فِ ِ‬

‫مع ال َّله يف الكون‪.‬‬


‫السبب الثالث‪( :‬وما له ِم ْنه ْم ِم ْن ظ ِهيرٍ) يعني‪ :‬ليسوا أعوانا ل َّله‬
‫سبحانه وتعاىل يف الكون‪.‬‬
‫فلما مل يكونوا مالكين شيئا يف الكون‪.‬‬
‫َّ‬
‫وال شركاء مع ال َّله فيه‪.‬‬

‫(‪ )1‬الصواعق المرسلة (‪.)461/2‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪368‬‬

‫ومل يكونوا م ِعينين له‪.‬‬


‫فدل عىل بطَلن شفاعتهم؛ لذلك قال ال َّله تعاىل يف اآلية‪( :‬وَّل ت ْنفع‬ ‫َّ‬
‫الشفاعة ِع ْنده إِ ََّّل لِم ْن أ ِذن له﴾)‪ ،‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ما َأ ْش َهدْ ته ْم َخ ْل َق‬ ‫َّ‬
‫َّخ َذ الم ِضلي َن‬ ‫ض و َال َخ ْل َق َأنْف ِس ِهم وما كنْت مت ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫الس َم َوات َواألَ ْر ِ َ‬ ‫َّ‬
‫َعضدا﴾ [الكهف‪]51:‬؛ يعني‪ :‬يساعدونني يف السموات واألرض‪.‬‬
‫وأيضا ال َيملكون الشفاعة‪.‬‬
‫فماذا بقي لهم؟ ما بقي لهم شيء‪.‬‬

‫ومعنى ذلك كأن ال َّله يقول‪ :‬وال أعطي الشفاعة – َّ‬


‫لما تب يين لكم‬
‫القوي ‪ -‬إال لمن أذنت له‪ ،‬ول ِ َما علمتم أنَّه ليس لهم ٌّ‬
‫حق وال‬ ‫ي‬ ‫م ْلكي‬
‫نصيب يف هذا الكون ال بالملك‪ ،‬وال بالشراكة‪ ،‬وال بالمعاونة‪ ،‬وال‬
‫ٌ‬
‫بالشفاعة؛ َّإال َمن أذنت له ْ‬
‫أن َيشفع‪.‬‬
‫أن الشفاعة ال تكون إال ل َّله بعد إ ْذن ال َّله‬
‫دل عىل َّ‬
‫فلما تب يين ذلك؛ ي‬
‫ي‬
‫للشافع‪ ،‬ورضاه عن المشفوع له‪.‬‬
‫والذي َيشفع يوم القيامة‪ :‬المَلئكة‪ ،‬واألنبياء‪ ،‬والرسل‪،‬‬
‫والصديقون‪ ،‬والصالحون‪ ،‬والشهداء‪.‬‬
‫‪369‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ويتفضل عىل‬ ‫يتكرم‬ ‫عز َّ‬


‫أن ال َّله َّ‬ ‫ِ‬
‫والحكمة من الشفاعة المثبتة؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫وجل َّ‬
‫بأن أعىل مكانته‪ ،‬و َقبِل شفاعته‪.‬‬
‫الشافع ْ‬
‫ويتفضل أيضا سبحانه وتعاىل عىل المشفوع له بعدم دخوله النَّار‪،‬‬
‫َّ‬
‫أو خروجه منها‪ ،‬أو ر ْفع درجته يف َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫أن ملِكا من ملوك الدنيا قال‪ :‬أنا ال َأقبل شفاعة ٍ‬
‫أحد‬ ‫مثال ذلك‪ :‬لو َّ‬
‫أن زيدا َشفع َقبِلت شفاعته؛ فهذا فيه‬ ‫يف السجين الفَلين؛ إال من ٍ‬
‫زيد؛ فلو َّ‬
‫تكريم لزيدٌ ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وإذا َشفع زيدٌ وقال‪ :‬نعم‪ ،‬أنا أريد إخراج السجين من السجن؛ فهو‬

‫َت َّ‬
‫كرم عىل ذلك المسجون أيضا بإخراجه من السجن‪.‬‬
‫فكَلمها َحصل عىل تشريف الملِك لهما‪.‬‬
‫أ َّما يف الدنيا فالشفاعة تنقسم إىل ثَلثة أقسا ٍم‪:‬‬
‫ربه أن يشفع فيه النبي‪ ،‬أو‬ ‫األول‪ْ :‬‬ ‫ِ‬
‫أن يدعو اإلنسان َّ‬ ‫القسم َّ‬
‫الصالحين أو غير ذلك؛ مِثل أن يقول الشخص‪ :‬ال َّلهم شفع يفَّ نب َّيك أن‬
‫ٍ‬
‫عالية يف‬ ‫ٍ‬
‫منزلة‬ ‫الجنَّة‪ ،‬أو‪ :‬شفع يفَّ أبي أن أكون أنا وإياه يف‬
‫يرفع درجتي يف َ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫َ‬
‫فهذا مشروع؛ أل َّنَِه دعاء ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪370‬‬

‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬أن يدعو ميتا‪ ،‬أو ح ييا فيما ال يقدر عليه إال ال َّله‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫فهذا‬
‫ِ‬
‫والقسم الثالث‪ :‬شفاع ٌة دنيو يي ٌة‪.‬‬
‫إنسان آلخر كي َيدخل الجامعة ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مِثل‪ :‬أن َيشفع‬

‫فهذه مشروع ٌة ْ‬
‫بشرطين‪:‬‬

‫حر ٍم‪ ،‬فَل َيعمل مثَل يف أ ْم ٍر َّ‬


‫محر ٍم‪.‬‬ ‫اَّلول‪َّ :‬أال تكون يف م َّ‬
‫الشرط َّ‬
‫ٍ‬
‫ألحد‪.‬‬ ‫والشرط الثاين‪َّ :‬أال يكون فيه ظلم‬
‫لذلك قال سبحانه ‪ -‬إذا َتح َّقق الشرطان ‪ -‬يف ذلك‪َ ﴿ :‬م ْن َي ْش َف ْع‬
‫يب مِن َْها﴾‪ ،‬وإن مل َيتحقق الشرطان قال سبحانه‪:‬‬ ‫ِ‬
‫اعة َح َسنَة َيك ْن َله نَص ٌ‬ ‫َش َف َ‬
‫ِ ِ‬
‫زر‪.‬‬ ‫اعة َسي َئة َيك ْن َله ك ْف ٌل من َْها﴾ [النساء‪]85:‬؛ يعني ِو ٌ‬
‫﴿و َم ْن َي ْش َف ْع َش َف َ‬
‫َ‬
‫‪371‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والنبي ﷺ قال يف الشفاعة المتوفرة فيها الشرطان يف الدنيا‪:‬‬


‫وش َف َع الن َُّّبي ﷺ فِي َزوجِ َبر ْي َرة ِعندَ َب ِر َيرة(‪.)2‬‬ ‫« ْاش َفعوا َف ْلت ْؤ َجروا»(‪َ ،)1‬‬
‫أن الشفاعة قِسمان‪:‬‬ ‫مما َسبق َّ‬
‫فتب يين َّ‬
‫األول‪ :‬شفاع ٌة منف َّي ٌة‪ ،‬شرك َّي ٌة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫َمن طلبها – والعياذ بال َّله –؛ َوقع يف الشرك‪ ،‬وهي التي تط َلب من‬
‫واألولياء‪ ،‬والصالحين ونحو ذلك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األموات‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب تعاون المسلمين بعضهم بعضا‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)6026‬ومسلم ‪ ،‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب استحباب‬
‫الشفاعة فيما ليس بحرامٍ‪ ،‬رقم (‪ ،)2627‬من حديث أبي موسى رضي ال َّله‬
‫عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الطَلق‪ ،‬باب شفاعة النبي ﷺ يف زوج بريرة‪،‬‬
‫اس رضي ال َّله عنهما‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن َز ْو َج‬ ‫رقم (‪ ،)5283‬من حديث ْاب ِن َع َّب ٍ‬

‫يث ‪َ -‬ك َأني َأنْظر إِ َل ْي ِه َيطوف َخ ْل َف َها؛ َي ْبكِي‬ ‫َان َع ْبدا‪ - ،‬ي َقال َله‪ :‬م ِغ ٌ‬ ‫َب ِر َير َة ك َ‬
‫اس‪َ :‬يا َع َّباس‪َ ،‬أ َال َت ْع َجب مِ ْن‬ ‫َودموعه َت ِسيل َع َلى ل ِ ْح َيتِ ِه‪َ ،‬ف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ ل ِ َع َّب ٍ‬

‫اج ْعتِ ِه‪.‬‬ ‫ِ‬


‫ض َب ِر َير َة مغيثا؟ َف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ‪َ :‬ل ْو َر َ‬ ‫يث َب ِر َيرةَ‪َ ،‬ومِ ْن ب ْغ ِ‬
‫حب م ِغ ٍ‬

‫يه»‪.‬‬ ‫ول ال َّل ِه‪َ ،‬ت ْأمرنِي؟ َق َال‪ :‬إِنَّما َأنَا َأ ْش َفع‪َ .‬قا َل ْت‪َ :‬ال حاج َة لِي فِ ِ‬
‫َقا َل ْت‪َ :‬يا َرس َ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪372‬‬

‫كبير‪ ،‬وبا ٌب من أبواب‬


‫دخل ٌ‬‫أي الشفاعة المنف ًّية – َم ٌ‬
‫وهذه – ْ‬
‫الشبهة عىل المشركين؛ لوقوعهم يف الشرك‪.‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬الشفاعة المثبتة‪ :‬وهي التي تط َلب من ال َّله‪ ،‬لكن‬
‫بشرطين‪:‬‬
‫األول‪ :‬إذن ال َّله للشافع‪.‬‬
‫الشرط َّ‬
‫الشرط الثاين‪ :‬رضا ال َّله عن المشفوع له‪.‬‬
‫خاصا‬
‫ي‬ ‫خاص بالنبي ﷺ‪ ،‬ومنها ما ليس‬
‫ٌّ‬ ‫والشفاعة منها ما هو‬
‫بالنبي ﷺ‪.‬‬
‫الخاصة بالنبي ﷺ ثَلث شفاعات هي‪:‬‬
‫ي‬ ‫فالشفاعة‬
‫الشفاعة األولى‪ :‬الشفاعة يف الموقف العظيم؛ ْ‬
‫بأن َيطلب من‬
‫للفصل بين الخَلئق‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫خلص العباد ْ‬ ‫الرب سبحانه‪ ،‬و َيشفع؛ ْ‬
‫بأن ي َ‬ ‫ي‬
‫المقام المحمود الذي َيحمده و َيغبطه عليه مجيع الخَلئق؛ كما يف‬
‫العقيدة الواسطية(‪.)1‬‬
‫الشفاعة الثانية‪ :‬الشفاعة يف أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة‪.‬‬

‫(‪ )1‬متون طالب العلم‪ ،‬المستوى الثالث‪ ،‬العقيدة الواسطية (ص‪.)150‬‬


‫‪373‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الشفاعة الثالثة‪ :‬يشفع يف عمه أبي طالب أن يخفف عنه‪.‬‬


‫والشفاعة العامة‪ ،‬وهي تكون للرسول ﷺ ويشاركه فيها من‬
‫شاء ال َّله من المَلئكة والنبيين والصالحين‪ :‬كالشفاعة ألناس قد دخلوا‬
‫النَّار يف أن يخرجوا منها‪ ،‬والشفاعة ألناس قد استحقوا النَّار يف أن ال‬
‫يدخلوها‪.‬‬
‫الشهير وال َع َلم الكبير‬ ‫اس) هو اإلمام َّ‬ ‫قال رمحه ال َّله‪( :‬قال أبو الع َّب ِ‬

‫شيخ اإلسَلم ابن َتيم َّية رمحه ال َّله‪«( :‬نفى ال َّله ع َّام ِسواه ك َّل ما يتع َّلق بِ ِه‬
‫ربنا يف آية‪﴿( :‬ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن‬ ‫الم ْشرِكون) يعني‪ :‬نفى ُّ‬
‫يع ما َيتع َّلق به أهل الشرك عىل سواه‪( ،‬فنفى أنْ يكون‬ ‫ِ‬ ‫د ِ ِ‬
‫ون ال َّله﴾) َجم َ‬
‫لِغ ْيرِ ِه م ْل ٌك‪ ،‬أ ْو قِ ْس ٌط ِم ْنه) فنفى الم ْلك بقوله‪َّ﴿( :‬ل ي ْملِكون ِم ْثقال ذ َّر ٍة‬
‫يهام‬ ‫الش ِركَة بقوله‪﴿( :‬وما له ْم فِ ِ‬
‫ات وَّل فِي األ ْرض﴾)‪ ،‬ونفى َّ‬ ‫فِي السمو ِ‬
‫َّ‬
‫ِم ْن ِش ْر ٍك﴾)‪( ،‬أ ْو يكون ع ْون ًا لِ َّل ِه) ونفى ال َّظ ِهير ‪ -‬وهو الم ِعين ‪ -‬بقوله‪:‬‬
‫(﴿وما له ِم ْنه ْم ِم ْن ظ ِهيرٍ﴾)‪( ،‬ول ْم ي ْبق) لهم شيء َيتش َّبثون به (إِ ََّّل‬
‫َّ‬
‫الشفاعة)‪.‬‬
‫الشفاعة ِع ْنده إِ ََّّل لِم ْن أ ِذن له﴾) (أنَّها َّل‬
‫(فب َّين) بقوله‪﴿( :‬وَّل ت ْنفع َّ‬
‫ِ‬
‫الرب‪( ،‬كام قال‪:‬‬ ‫الر ُّب) يعني‪ :‬عن رضا َّ‬ ‫ت ْنفع) ال تكون (إِ ََّّل لم ْن أ ِذن له َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪374‬‬

‫الشفاعة ا َّلتِي يظ ُّنها الم ْشرِكون ِهي‬ ‫﴿وَّل ي ْشفعون إِ ََّّل لِم ِن ْارتضى﴾ فه ِذ ِه َّ‬
‫الشافِ َع َيتقدَّ م و َي ْش َفع‬ ‫القيام ِة كام نفاها الق ْرآن) وحقيقتها‪َّ :‬‬
‫أنَِ َّ‬ ‫م ْنت ِفي ٌة ي ْوم ِ‬

‫لهم عند ال َّله من غير إذنه‪ ،‬كما َي ْش َفع المخلوق عند المخلوق‪ ،‬و َدلِيلها‬
‫الشافِ ِعي َن﴾‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫والسنَّة‪ :‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َما َتنْ َفعه ْم َش َفا َعة َّ‬‫من الكتاب ُّ‬
‫يع﴾‪( ،‬وأ ْخبر النَّبِ ُّي ﷺ‪ :‬أنَّه ي ْأتِي في ْسجد‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َل ْي َس َله ْم م ْن دونه َول ٌّي َو َال َشف ٌ‬
‫الشفاع ِة أ َّو ً‬
‫َّل‪ ،‬ث َّم يقال له‪ْ :‬ارف ْع ر ْأسك‪ ،‬وق ْل‬ ‫لِرب ِه وي ْحمده‪َّ ،‬ل ي ْبدأ بِ َّ‬
‫ي ْسم ْع‪ ،‬وس ْل ت ْعط‪ ،‬و ْاشف ْع تش َّف ْع)‪.‬‬
‫َّاس بِشفاعتِك ي ْوم‬
‫سعد الن ِ‬ ‫(وقال له أبو هر ْيرة رضي ال َّله عنه‪« :‬م ْن أ ْ‬
‫حق النَّاس و َأ ْو َالهم مِ ْن أ َّمتِك يا َرس َ‬
‫ول ال َّله‪( ،‬قال)‬ ‫القيام ِة؟) يعني‪َ :‬م ْن َأ ُّ‬
‫ِ‬

‫فأجابه الن َُّّبي ﷺ‪( ،‬م ْن قال‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ خالِص ًا ِم ْن ق ْلبِ ِه») يصدق قلبه‬
‫لسانه‪ ،‬ولسانه قلبه‪.‬‬
‫ص بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه) ويف هذا قيد وشرط‪.‬‬ ‫الشفاعة ِأل ْه ِل ِ‬
‫ال ْخَل ِ‬ ‫(فتِ ْلك َّ‬
‫(وَّل تكون لِم ْن أ ْشرك بِال َّل ِه) فأبطل ﷺ زعمهم الكاذب‪ ،‬وأخبر‬
‫ِ‬
‫الصالحين‪.‬‬ ‫أنَِها تنال بتَجريد التَّوحيد ل َّله وحده‪ ،‬ال االلتجاء إىل َّ‬ ‫َّ‬
‫ص)‬‫ال ْخَل ِ‬ ‫(وح ِقيقته أ َّن ال َّله س ْبحانه هو ا َّل ِذي يتف َّضل على أ ْه ِل ِ‬

‫اء م ْن أ ِذن له أنْ ي ْشفع لِي ْكرِمه) إ َّما يف الدُّ نيا‬


‫اسط ِة دع ِ‬
‫خاصة‪( ،‬في ْغ ِفر لهم بِو ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫‪375‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬ ‫الرب وإِ‬


‫حسان منه َّ‬
‫للشاف ِع‬ ‫أو يف اآلخرة؛ فهي َمحض َف ْض ٍل من َّ‬
‫والمشفو ِع له‪.‬‬
‫َ‬
‫ص بنَبينا ﷺ ﴿ َع َسى َأ ْن َي ْب َع َث َك‬
‫خص ٌ‬
‫(وينال المقام الم ْحمود) هذا م َّ‬
‫َر ُّب َك َم َقاما َم ْحمودا﴾‪.‬‬
‫الشفاعة ا َّلتِي نفاها الق ْرآن ما كان فِيها ِش ْر ٌك) أي‪ :‬هي التي تط َلب‬ ‫(ف َّ‬
‫الشفاعة بِإِ ْذنِ ِه فِي مو ِ‬
‫اضع وق ْد ب َّين النَّبِ ُّي ﷺ‬ ‫من غير ال َّله‪( ،‬ولِهذا أ ْثبت َّ‬
‫ص» ا ْنتهى كَلمه) وكَلم ِ‬
‫شيخ‬ ‫ال ْخَل ِ‬ ‫أنَّها َّل تكون إِ ََّّل ِأل ْه ِل الت ْو ِح ِ‬
‫يد و ِ‬ ‫َّ‬
‫شاف يف تفسير اآليات(‪.)1‬‬ ‫كاف ٍ‬ ‫اإلسَل ِم رمحه ال َّله ٍ‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)79/7‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪376‬‬

‫[‪]18‬‬

‫باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت ولكِ َّن ال َّله‬
‫يهْ ِدي م ْن يشاء﴾‪.‬‬
‫ب‪ ،‬ع ْن أبِ ِيه قال‪« :‬ل َّام حضر ْت أبا‬ ‫حيحِ ‪ :‬ع ِن ا ْب ِن الـمس َّي ِ‬ ‫فِي الص ِ‬
‫َّ‬
‫ب الوفاة؛ جاءه رسول ال َّل ِه ﷺ و ِع ْنده ع ْبد ال َّل ِه ْبن أبِي أم َّية وأبو‬ ‫طالِ ٍ‬

‫اج لك بِها ِع ْند ال َّل ِه‪.‬‬


‫جهْ ٍل‪ ،‬فقال له‪ :‬يا عم! ق ْل‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪ ،‬كلِم ًة أح ُّ‬
‫ب؟! فأعاد عل ْي ِه‬ ‫فقاَّل له‪ :‬أت ْرغب ع ْن ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬

‫ب‪،‬‬ ‫آخر ما قال‪ :‬هو على ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬ ‫رسول ال َّل ِه ﷺ‪ ،‬فأعادا‪ ،‬فكان ِ‬

‫وأبى أنْ يقول‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪.‬‬


‫ست ْغ ِفر َّن لك ما ل ْم أ ْنه ع ْنك؛ فأ ْنزل ال َّله تعالى ع َّز‬
‫فقال ال َّنبِ ُّي ﷺ‪ :‬أل ْ‬
‫وج َّل‪﴿ :‬ما كان لِلنَّبِي وا َّل ِذين آمنوا أنْ ي ْست ْغ ِفروا لِ ْلم ْشرِكِين ول ْو كانوا‬
‫ب‪﴿ :‬إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت‬ ‫أولِي ق ْربى﴾‪ ،‬وأ ْنزل ال َّله فِي أبِي طالِ ٍ‬

‫ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾»‪.‬‬


‫الشرح‪:‬‬
‫‪377‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت‬
‫ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾)‪.‬‬
‫أن ال َّله تعاىل نفى عن‬
‫ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان َّ‬
‫ٍ‬
‫توفيق وإلها ٍم‪.‬‬ ‫النبي ﷺ أن يهدي أحدا هداية‬
‫لما كانت الهداية هي أعظم نفع لإلنسان‪ ،‬والنبي ﷺ ال َيملك أن‬
‫و َّ‬
‫أن النبي ﷺ ال يستطيع أن َينفع أحدا إال بإذن ال َّله‪.‬‬ ‫دل عىل َّ‬ ‫يعطيها أحدا؛ َّ‬
‫وإذا كان هذا يف حق النبي ﷺ؛ فغ ْيره من المخلوقين مِن باب َأوىل‬
‫ٍ‬
‫ألحد نفعا إال بإذن ال َّله‪.‬‬ ‫ال َيملكون‬
‫ألحد نفعا‪ ،‬ولو كان أقرب الناس إليه؛‬ ‫ٍ‬ ‫أن النبي ﷺ ال َيملك‬ ‫فب يين َّ‬
‫عمه أبو طالب‪.‬‬
‫وهو ي‬
‫فإذا كان النبي ﷺ ال َيملك حتى ألقاربه نفعا‪ :‬ال نجاة من النَّار‪،‬‬
‫أن غيرهم ‪ -‬مِن غير أقاربه – كذلك ال‬ ‫دل عىل َّ‬
‫الجنَّة؛ ي‬
‫وال دخوال إىل َ‬
‫َيملك لهم نفعا‪.‬‬
‫ودل عىل َّ‬
‫أن غير النبي ﷺ من األولياء والصالحين أيضا ال َيملكون‬ ‫ي‬
‫ٍ‬
‫ألحد نفعا وال ضرا‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪378‬‬

‫والفرق بين هذا الباب‪ ،‬وبين الباب الذي قبله ببابين وهو‪( :‬باب‬ ‫ْ‬
‫ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم ي ْخلقون * وَّل‬
‫ي ْستطِيعون له ْم ن ْصرا﴾ اآلية) ‪ -‬والذي َذكر فيه قصة النبي ﷺ عندما‬
‫شج يوم ٍ‬
‫أحد‪:‬‬ ‫َّ‬
‫أن ذاك الباب‪ :‬النبي ﷺ ال َيستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه ي‬
‫ضرا‪ ،‬وهذا‬ ‫َّ‬
‫الباب‪ :‬النبي ﷺ ال َيجلب لغيره نفعا‪.‬‬
‫أن األمر ك َّله ل َّله‪.‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬
‫وساق المصنَّف رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ح َّتى إِذا فزع‬
‫ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾) ‪-‬؛ لبيان‬
‫العبادة ال َتصلح لهم‪.‬‬ ‫وأن ِ‬
‫عجز المَلئكة‪ ،‬وض ْعفهم‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫وأن العبادة ال َتصلح أن تصرف‬
‫عجز النبي ﷺ‪ ،‬وض ْعفه‪َّ ،‬‬
‫وهنا ب َّين ْ‬
‫له‪.‬‬
‫فإذا كان المَلئكة‪ ،‬واألنبياء ال يجوز أن يصرف لهم شي ٌء؛ فغ ْيرهم‬
‫من باب َأوىل‪.‬‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله يف هذا الباب آية َّبوب عليها‪ ،‬وحديثا‪:‬‬
‫أن النبي ﷺ ال يملك نفعا ألي ٍ‬
‫أحد‪.‬‬ ‫فساق اآلية؛ لبيان َّ‬
‫َ‬
‫‪379‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫ألحد‪ ،‬ولو من‬ ‫وساق الحديث؛ لبيان َّ‬
‫أن النبي ﷺ ال َيملك نفعا‬
‫أ ْقرب الناس إليه‪ ،‬وأنْفعهم له يف دعوته‪.‬‬
‫لذا قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت‬
‫ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾)‪.‬‬
‫النبي ﷺ َيهدي‪.‬‬
‫أن َّ‬‫آيات َّ‬
‫جاءت ٌ‬
‫أن النبي ﷺ ال َيهدي‪.‬‬ ‫آيات َّ‬
‫وجاءت ٌ‬
‫﴿وإِن ََّك‬ ‫فمن اآليات التي جاءت يف َّ‬ ‫ِ‬
‫أن النبي ﷺ َيهدي؛ قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫يم﴾ [الشورى‪.]52:‬‬‫اط م ْست َِق ٍ‬
‫َلتَه ِدي إِ َلى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أن النبي ﷺ ال َيهدي؛ هذه اآلية‪﴿( :‬إِ َّنك َّل‬‫ومِن التي جاءت يف َّ‬
‫ِ‬
‫تهْ دي م ْن أ ْحب ْبت)‪.‬‬

‫فكيف نَجمع بين هذه اآليات؟‬


‫أن الهداية تنقسم إىل قِسمين‪:‬‬ ‫والجواب‪ :‬ب َّ‬
‫األول‪ :‬هداي ٌة ال َيملكها إال ال َّله‪ ،‬وهي‪ :‬هداية التوفيق‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫واإللهام‪.‬‬
‫وهذه بيد ال َّله؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ي ِض ُّل َم ْن َي َشاء َو َي ْه ِدي َم ْن‬
‫َي َشاء﴾ [النحل‪.]93:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪380‬‬

‫وهي من مقتضيات ربوبيته سبحانه؛ فهي من أفعاله‪.‬‬


‫وألمهية الهداية؛ مل يجعلها سبحانه بيد ٍ‬
‫أحد من مخلوقاته‪.‬‬ ‫َ‬
‫أن ال َّله هو الذي َيملك القلب‪ ،‬ويوفقه‪ ،‬ويلهمه‪ ،‬ويد يله‪،‬‬
‫وهي‪َّ :‬‬
‫ويه ييئ له الصَلح‪ ،‬وأسباب الصَلح‪ ،‬واالستقامة‪.‬‬
‫فَل َيملك هذه الهداية إال ال َّله؛ والدليل قوله تعاىل‪﴿( :‬إِنَّك َّل‬
‫تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾)‪ ،‬ويف اآلية األخرى‪:‬‬
‫﴿ َل ْي َس َع َل ْي َك هدَ اه ْم َو َلكِ َّن ال َّل َه َي ْه ِدي﴾ [البقرة‪ ،]272:‬وقوله سبحانه‪:‬‬
‫ف‬ ‫ض َج ِميعا َما َأ َّل ْف َت َب ْي َن قلوبِ ِه ْم َو َلكِ َّن ال َّل َه َأ َّل َ‬
‫﴿ َل ْو َأ ْن َف ْق َت َما فِي األَ ْر ِ‬

‫يم﴾ [األنفال‪ ،]63:‬وقوله عليه الصَلة والسَلم‪« :‬إِ َّن‬ ‫ِ‬


‫َب ْينَه ْم إِنَّه َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫اح ٍد‪،‬‬
‫بو ِ‬
‫الر ْح َم ِن‪َ ،‬ك َق ْل ٍ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب َبني آ َد َم ك َّل َها َبيْ َن إِ ْص َب َع ْي ِن م ْن َأ َصابِ ِع َّ‬
‫قل َ‬
‫ي َصرفه َح ْيث َي َشاء»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب القدَ ر‪ ،‬باب تصريف ال َّله تعاىل القلوب كيف شاء‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)2654‬من حديث عبد ال َّله بن عمرو بن العاص رضي ال َّله عنهما‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫وب َبني آ َد َم ك َّل َها َب ْي َن إِ ْص َب َع ْي ِن م ْن َأ َصابِ ِع َّ‬
‫الر ْح َم ِن‪َ ،‬ك َق ْل ٍ‬ ‫ولفظه‪« :‬إِ َّن قل َ‬
‫اح ٍد‪ ،‬ي َصرفه َح ْيث َي َشاء»‪.‬‬
‫و ِ‬
‫َ‬
‫‪381‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فهداية التوفيق واإللهام‪ ،‬وج ْعل الق ْلب يهتدي بتغييره؛ هذه ال‬
‫َيملكها إال ال َّله‪ ،‬وهي المذكورة يف صدْ ر هذا الباب‪﴿( :‬إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن‬
‫يم﴾ [الفاتحة‪.]6:‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿اه ِدنَا الص َر َ‬
‫اط الم ْستَق َ‬ ‫أ ْحب ْبت)‪ ،‬وكما يف قوله‪ْ :‬‬
‫والقسم الثاين‪ :‬هداية الداللة‪ ،‬واإلرشاد‪ ،‬والتوجيه‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وجل للنبي ﷺ‬ ‫َّ‬ ‫سبب من أسباب الهداية َجعلها ال َّله َّ‬


‫عز‬ ‫ٌ‬ ‫وهذه‬
‫أحد؛ قال سبحانه‪﴿ :‬وإِن ََّك َلتَه ِدي إِ َلى ِصر ٍ‬
‫اط‬ ‫ٍ‬ ‫ولكل‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الجنَّة؛ التباعه‪،‬‬‫يدل عىل طريق َ‬ ‫م ْست َِق ٍ‬
‫يم﴾ [الشورى‪]52:‬؛ يعني‪ :‬النبي ﷺ ُّ‬
‫أن يوصل الناس إليه‪.‬‬ ‫وي َحذر من طريق النَّار؛ الجتنابه‪ ،‬لكنَّه ال َيملك ْ‬
‫َّك َلت َْه ِدي إِ َلى‬
‫﴿وإِن َ‬
‫فهو ﷺ فقط يد يلهم؛ والدليل قوله عز وجل‪َ :‬‬
‫ْت إِ َّال ن َِذ ٌير﴾ [فاطر‪،]23:‬‬ ‫يم﴾ [الشورى‪ ،]52:‬وقوله‪﴿ :‬إِ ْن َأن َ‬ ‫اط م ْست َِق ٍ‬
‫ِصر ٍ‬
‫َ‬
‫ول إِ َّال ال َب ََلغ‬ ‫﴿وما َع َلى الرس ِ‬ ‫فَل َيملك هداية‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫َاك بِال َحق َب ِشيرا َون َِذيرا َوإِ ْن مِ ْن‬ ‫المبِين﴾ [النور‪ ،]54:‬وقوله‪﴿ :‬إِنَّا َأ ْر َس ْلن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أ َّمة إِ َّال َخ ََل ف َيها نَذ ٌ‬
‫ير﴾ [فاطر‪.]34:‬‬

‫فَل َيملك أحدٌ الهداي َة إال ال َّله‪ ،‬والنبي ﷺ فقط ي‬


‫يدل بالنذارة‪،‬‬
‫والبشارة‪ ،‬والرسالة‪ ،‬والبيان‪ ،‬واإلرشاد‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪382‬‬

‫يضل المهتدي؛ كما قال‬ ‫الضال‪ ،‬أو َّ‬ ‫ي‬ ‫أن َيهدي‬‫فَل َيملك وال غيره ْ‬
‫ان َق ْومِ ِه لِي َبي َن َله ْم﴾‪ ،‬فالرسل‬
‫ول إِ َّال بِلِس ِ‬
‫َ‬
‫﴿وما َأرس ْلنَا مِ ْن رس ٍ‬
‫َ‬ ‫سبحانه‪َ ْ َ َ :‬‬
‫فقط يب يينون؛ ﴿ َفي ِض ُّل ال َّله َم ْن َي َشاء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َشاء﴾ [إبراهيم‪.]4:‬‬
‫حيحِ )‪.‬‬ ‫ثم قال رمحه ال َّله‪( :‬فِي الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ي‬
‫أحيانا يف الحديث الصحيح‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫وأحيانا يف صحيح البخاري أو صحيح‬
‫وأحيانا معناها‪ :‬يف البخاري ومسلم‪.‬‬
‫أي‪ :‬يف الحديث الصحيح الذي ا يتفق عليه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصحيحِ ) ْ‬
‫وهنا (فـي َّ‬
‫ومسلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫البخاري‬
‫ُّ‬
‫ب‪ ،‬ع ْن أبِ ِيه قال‪« :‬ل َّام حضر ْت أبا طالِ ٍ‬
‫ب الوفاة)‪.‬‬ ‫(ع ِن ا ْب ِن المس َّي ِ‬

‫عم النبي ﷺ‪ ،‬وقد كان يدافع عن النبي ﷺ‪ ،‬ويأمره‬


‫أبو طالب‪ :‬هو ُّ‬
‫بتبليغ دعوته‪ ،‬وهو ِ‬
‫مشر ٌك‪.‬‬
‫أن النبي ﷺ قال‪« :‬إِ َّن ال َّل َه َلي َؤيد َه َذا الدي َن‬
‫َّ‬ ‫الصحيحين(‪)1‬‬ ‫ويف‬
‫بِالرج ِل ال َف ِ‬
‫اج ِر»‪.‬‬ ‫َّ‬

‫إن ال َّله يؤيد الدين بالرجل الفاجر‪،‬‬


‫(‪ )1‬البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب َّ‬
‫‪383‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وقاهر؛ فينصره من كان من‬


‫ٌ‬ ‫أنَِ دين ال َّله ٌّ‬
‫قوي‪،‬‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫ٌ‬
‫مشرك و َيأمر‬ ‫أتباعه‪ ،‬و َينصره من كان ليس من أتباعه؛ فهذا أبو طالب‬
‫النبي ﷺ ْ‬
‫أن يدعو النَّاس إىل التوحيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طالب اشتَدَّ أذى المشركين للنبي ﷺ السيما ب ْعد‬ ‫ولما مات أبو‬
‫َّ‬
‫بعده ب َث َمانية أيا ٍم؛ لذا س يمي «عام‬ ‫عنها(‪)1‬‬ ‫موت خديجة رضي ال َّله‬
‫الحزن»‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬ل َّام حضر ْت أبا طالِ ٍ‬
‫ب الوفاة) أي‪ :‬أمارات الوفاة وعَلماهتا؛‬
‫كشدة الضعف ونحو ذلك‪.‬‬
‫قال‪( :‬جاءه رسول ال َّل ِه ﷺ) َّ‬
‫فدل عىل جواز زيارة المشرك حتى يف‬
‫آخر حياته؛ لدعوته إىل ال َّله سبحانه وتعاىل‪ ،‬ولبيان الطريق المستقيم له‪.‬‬

‫رقم (‪ ،)3062‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب غلظ تحريم قتْل اإلنسان‬


‫ٍ‬
‫وأن َمن َقتَل نفسه بشيء عذب به يف النَّار‪ ،‬وأنَّه ال َيدخل َ‬
‫الجنَّة إال‬ ‫ن ْفسه‪َّ ،‬‬
‫نفس مسلِم ٌة‪ ،‬رقم (‪ ،)111‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫(‪ )1‬هي‪ :‬خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية األسدية‪،‬‬
‫توفيت (‪3‬ق‪.‬هـ) وقيل (‪4‬ق‪.‬هـ)‪ .‬االستيعاب البن عبد البر (‪.)1817/4‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪384‬‬

‫أن المسلِم يدعو غيره ولو كان قد َأوشك عىل‬


‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫الرحيل‪.‬‬
‫قال‪( :‬و ِع ْنده ع ْبد ال َّل ِه ْبن أبِي أم َّية وأبو جهْ ٍل) عبد ال َّله بن أبي أم َّية‬
‫جه ٍل فقتل يف ٍ‬
‫بدر عىل الكفر‪.‬‬ ‫َأس َلم وحس َن إسَلمه‪ ،‬أ َّما أبو ْ‬
‫يدل عىل مشروعية تل ُّطف الداعية‬
‫فقال له النبي ﷺ‪( :‬يا عم) هذا ُّ‬
‫يف األلفاظ للمدعو وإن كان ِ‬
‫مشركا‪.‬‬
‫ويدل عىل رأفة النبي ﷺ بعمه؛ لخوفه أنه إن مل يسلِم ‪ -‬والعياذ‬
‫ُّ‬
‫بال َّله ‪ -‬كان يف الهاوية‪.‬‬
‫تسمى كلمة أيضا؛‬
‫أن الجمل َّ‬ ‫(ق ْل‪َّ :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله‪ ،‬كلِم ًة) فد َّل عىل َّ‬
‫فقوله‪َّ( :‬ل إِله إِ ََّّل ال َّله) أكثر من ج ٍ‬
‫ملة وسميت كلم ٌة‪.‬‬
‫اج لك بِها ِع ْند ال َّل ِه) أي‪َ :‬تمنعك بإذن ال َّله من دخول النَّار‪،‬‬
‫(أح ُّ‬
‫مت عىل التوحيد؛ يعني‪ :‬أشهد هبا عند ال َّله أنَّك‬
‫وأحاج ربي لك بأنَّك َّ‬
‫ُّ‬
‫من الموحدين‪ ،‬فأسلِ ْم حتى وأنت يف آخر الحياة‪.‬‬
‫أن َمن ختِم له باإلسَلم‪ ،‬ولو مل َيعمل أعماال صالحة؛‬‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫أهل َ‬ ‫فإنَّه يكون مِن ْ‬
‫‪385‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن األعمال بالخواتيم؛ كما قال ﷺ‪َ « :‬ف َو ا َّل ِذي َال‬
‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫ي‬
‫الجنَّة َحتَّى َما َيكون َب ْينَه َو َب ْين ََها إِ َّال‬ ‫إِ َل َه َغ ْيره إِ َّن َأ َحدَ ك ْم َل َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل َ‬
‫اع‪َ ،‬ف َي ْسبِق َع َل ْي ِه الكِتَاب؛ َف َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل النَّار‪َ ،‬ف َيدْ خل َها‪َ ،‬وإِ َّن‬ ‫ذ َر ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫اع‪َ ،‬فيَ ْسبِق‬ ‫َأ َحدَ ك ْم َل َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل النَّار‪َ ،‬حتَّى َما َيكون َب ْينَه َو َب ْين ََها إِ َّال ذ َر ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫البخاري‬
‫ُّ‬ ‫َع َل ْيه الكتَاب؛ َف َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل َ‬
‫الجنَّة‪َ ،‬ف َيدْ خل َها» رواه‬
‫ومسلم(‪.)1‬‬
‫ٌ‬
‫أن يدعو كثيرا ْ‬
‫بأن‬ ‫فاألعمال بالخواتيم؛ لهذا َينبغي للمسلِم ْ‬
‫حسن ال َّله له الخاتِمة؛ فَل َيعلم ماهي الخاتمة التي يختَم له هبا‪.‬‬
‫ي ِ‬

‫ٍ‬
‫طالب َيعلم معنى هذه الكلمة؛ مل َينطق هبا‪ ،‬ألنَّه َيعلم‬ ‫ولما كان أبو‬
‫ي‬
‫التبرؤ من المشركين‪ ،‬ومِن آلهتهم‪ ،‬وعنده عبد ال َّله بن أبي‬ ‫ب َّ‬
‫أن معناها‪ :‬ي‬
‫جهلٍ‪.‬‬
‫أم َّية‪ ،‬وأبو ْ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب قوله تعاىل‪﴿ :‬و َل َقدْ سب َق ْت كَلِمتنَا ل ِ ِعب ِ‬
‫ادنَا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾ [الصافات‪ ،]171 :‬رقم (‪ ،)7454‬ومسلم‪ ،‬كتاب القدر‪ ،‬باب‬ ‫الم ْر َسلِ َ‬
‫ِ‬
‫وشقاوته‬ ‫ِ‬
‫وعمله‬ ‫ِ‬
‫وأجله‬ ‫كيفية خ ْلق اآلدمي يف بطن أ يمه وكتابة ْ‬
‫رزقه‬
‫ٍ‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وسعادته‪ ،‬رقم (‪ ،)2643‬من حديث عبد ال َّله ابن‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪386‬‬

‫مرق مِن دينه‪ ،‬ف َبقي عىل األَ َنفة‬ ‫لئَل ي َت َك يلم ب َّ‬
‫أنَِه يف آخر حياته َ‬ ‫و َّ‬
‫جل وعَل وغيره يف القرآن‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِنَّه ْم كَانوا‬ ‫واالستكبار‪ ،‬كما َوصفه ي‬
‫ون﴾ [الصافات‪.]35:‬‬‫إِ َذا قِ َيل َله ْم َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َي ْس َت ْكبِر َ‬
‫ٍ‬
‫طالب عن قول تلك‬ ‫فبحضور هذين الصاحبين؛ استكبر أبو‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫والقلوب بيد ال َّله‪ ،‬يق يلبها كيف يشاء‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ويدل عىل شفقة النبي ﷺ بجميع أفراد أ َّمته‪ ،‬فحتى َمن حضره‬
‫النزع؛ يذهب إليه و َيدعوه كما يف هذا الحديث‪.‬‬
‫ْ‬
‫اليهودي؛ زاره‬ ‫ي‬ ‫مر َض الغ ََلم‬ ‫لما ِ‬
‫وكما يف صحيح البخاري(‪َّ « :)1‬‬
‫اإل ٍس ََل ِم‪َ ،‬فنَظر الغَلم إِ َلى َأبِ ِيه‪َ ،‬ف َق َال َله‪َ :‬أطِ ْع َأ َبا‬
‫النبي ﷺ‪َ ،‬و َد َعاه إِىل ِ‬
‫ُّ‬
‫خرج النَّبي ﷺ مِن ِع ِ‬ ‫ِ‬
‫ند َهذا الغ ََلم َو َو ْجهه َيت ََأل َأل»‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ال َقاسم‪َ ،‬فأس َلم‪َ ،‬ف َ َ َ‬
‫كافر؛ ليدعوه إىل اإلسَلم عند النزع‪.‬‬
‫فزار النبي ﷺ الغَلم الصغير وهو ٌ‬
‫السن‪ ،‬وهو أبو طالب؛ ليدعوه إىل اإلسَلم‪.‬‬
‫وزار الشيخ الكبير يف ي‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب إذا أسلم الصبي فمات‪ ،‬هل يصىل عليه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أنس‬ ‫وهل يعرض عىل الصبي اإلسَلم‪ ،‬رقم (‪ ،)1356‬من حديث‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪387‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ُّ‬
‫فيدل هذا عىل أنَّه ال احتقار يف دعوة اآلخرين مهما كان الذي‬
‫أمامك‪ ،‬حتى ولو يف آخر َر َم ٍق يف حياته؛ فإنَّك تدعوه إىل الخير‪ ،‬وإىل‬
‫الصراط المستقيم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طالب هو الذي َيحوط النبي ﷺ‪ ،‬ويناصره‪ ،‬ويؤازره‬ ‫وقد كان أبو‬
‫كافر؛ لكنه كان يدافع عنه مح يية‪ ،‬وعصب يية‪ ،‬ومل يدافع‬
‫عىل هذا الدين‪ ،‬وهو ٌ‬
‫عنه ألجل هذا الدين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طالب؛ توفيت خديجة رضي ال َّله عنها بعده‬ ‫لما مات أبو‬
‫ث يم ي‬
‫بأيا ٍم‪ - ،‬وهي التي أيضا كانت تحوطه ﷺ ‪-‬؛ فسمي هذا العام عام ٍ‬
‫حزن‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫فكل َمن كان ينصره من البشر يف ذلك الزمن قد تو يفي‪.‬‬
‫عىل النبي ﷺ؛ ُّ‬
‫طالب؛ اشتدي ْأزر المشركين ألذية النبي ﷺ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولما مات أبو‬
‫َّ‬
‫(فقاَّل له) أي‪ :‬رفقاء السوء‪( :‬أت ْرغب ع ْن ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬
‫ب؟!)‬
‫أن َتترك الشرك‪ ،‬وتدخل يف اإلسَلم؟ ي َعنفانه‪.‬‬
‫يعني‪ :‬هل تريد ْ‬
‫ٍ‬
‫طالب َيعلمون‬ ‫أن أبا جهلٍ‪ ،‬وعبد ال َّله بن أبي أم َّية‪ ،‬وأبا‬
‫فدل عىل َّ‬
‫َّ‬

‫بحق إال ال َّله؛ أي‪ :‬ال ُّ‬


‫يصح أن‬ ‫معنى كلمة «ال إله إال ال َّله» وأنَّها ال معبود ٍّ‬
‫تصرف العبادة إال ل َّله‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪388‬‬

‫ممن َينتسب إىل هذه الكلمة ال َيعرف‬ ‫ويدل عىل َّ‬


‫أن بعض المسلمين َّ‬ ‫ُّ‬
‫معناها‪ ،‬فيقولها ويشرك بال َّله ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ -‬من الطواف عىل القبور‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫طالب قال‪َ « :‬ل ْو َال َأ ْن ت َعي َرنِي ق َر ْي ٌش‪َ ،‬يقول َ‬
‫ون‪ :‬إِن ََّما‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫رواية َّ‬
‫أن أبا‬ ‫ويف‬
‫َح َم َله َع َلى َذل ِ َك ال َج َزع َألَ ْق َر ْرت بِ َها َع ْين ََك»(‪.)1‬‬
‫أن مراقبة الناس وعدم مراقبة ال َّله؛ من أسباب دخول‬
‫يدل عىل َّ‬
‫وهذا ُّ‬
‫أجل الناس‪.‬‬ ‫النَّار ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ ،-‬فمنَع ن ْفسه من نعيم َ‬
‫الجنَّة من ْ‬
‫أن قريشا‬ ‫ويدل أيضا قوله‪( :‬أت ْرغب ع ْن ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬
‫ب؟!) عىل َّ‬ ‫ُّ‬
‫خاصا هبم ‪ -‬والعياذ‬
‫ي‬ ‫فجعلوا ألنفسهم م َّلة؛ أي‪ :‬دينا‬
‫معروف ٌة بالشرك‪َ ،‬‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫ومع ذلك فالنبي ﷺ مل ييأس وأعاد عليه‪( ،‬فأعاد عل ْي ِه‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ) يعني‪ :‬كلمة التوحيد‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب َّأول اإليمان قول ال إله إال ال َّله‪ ،‬رقم (‪،)25‬‬
‫من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪389‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فدل عىل أنه يشرع تلقين من َحضر ْته الوفاة كلمة التوحيد؛ لف ْعل‬
‫َّ‬
‫النبي ﷺ هنا‪ ،‬ولقوله عليه الصَلة والسَلم‪َ « :‬لقنوا َم ْو َتاك ْم َال إِ َل َه‬
‫إِ َّال ال َّله»(‪)1‬‬

‫ِِ‬ ‫وجزاؤها‪« :‬من ك َ ِ‬


‫الجنَّة»(‪.)2‬‬ ‫َان آخر ك َََلمه َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َد َخ َل َ‬ ‫َ ْ‬
‫أن المحت َِضر تعاد عليه هذه الكلمة؛ كما ف َعل ﷺ‪.‬‬ ‫ويدل عىل َّ‬
‫ُّ‬
‫وقوله‪( :‬فأعادا) يعني‪ :‬فأعادا عليه كلمة‪( :‬أت ْرغب ع ْن ِم َّل ِة ع ْب ِد‬
‫ب) ‪.‬‬‫الم َّطلِ ِ‬
‫وهذا أيضا ُّ‬
‫يدل عىل ق ْبح رفقة السوء؛ فكانا سببا يف تخليد أبي طالب‬
‫يف النَّار أبد اآلبدين؛ لذا يجب عىل المسلِم أن َيبتعد عن الصحبة السيئة‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب تلقين الموتى ال إله إال ال َّله‪ ،‬رقم (‪،)916‬‬
‫من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال َّله عنه‪.‬‬

‫(‪ )2‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من مات ال يشرك بال َّله شيئا؛ دخل َ‬
‫الجنَّة‪،‬‬
‫ذر رضي ال َّله‬ ‫ومن مات مشركا؛ دخل النَّار‪ ،‬رقم (‪ ،)154‬من حديث أبي ٍّ‬
‫ات َع َلى َذل ِ َك إِ َّال َد َخ َل‬
‫عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬ما مِ ْن َع ْب ٍد َق َال‪َ :‬ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله‪ ،‬ث َّم َم َ‬
‫الجنَّة»‪.‬‬
‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪390‬‬

‫فيدل عىل َّ‬


‫أن رفيق السوء شؤمه يكون أيضا عند الموت‪ ،‬فلم َيدَ َعاه‬ ‫ُّ‬
‫ْ‬
‫وشأنه؛ بل َجلسا عنده ليموت عىل الكفر‪.‬‬
‫وهذا يد ُّلك عىل َّ‬
‫أن أهل السوء يتسابقون إىل َمن كان معهم يف‬
‫السوء‪ ،‬وال َيدَ عونه‪ ،‬حتى تتي يقن نفوسهم أنَّه َدخل النَّار‪ ،‬وال َيرمحون‬
‫ف‬ ‫ٍ‬
‫طالب وهو يف هذه الحال التي فيها ع ْط ٌ‬ ‫صديقهم‪ ،‬فهما مل َيدَ عا أبا‬
‫ورمح ٌة؛ بل َوقفا عىل رأسه‪ ،‬ومل َيدَ عاه؛ حتى َيدخل النَّار‪.‬‬
‫وهذا فيه الحذر مِن رفقة السوء‪.‬‬
‫ندامة ال محالة‪ ،‬سيندم‬ ‫ٍ‬ ‫أن رفيق السوء رفيق‬ ‫وجل َّ‬ ‫عز َّ‬ ‫وب يين ال َّله َّ‬
‫﴿و َي ْو َم َي َع ُّض ال َّظالِم‬ ‫اإلنسان عليه يف الدنيا واآلخرة؛ كما قال عز وجل‪َ :‬‬
‫ول َسبِيَل * َيا َو ْي َلتَى َل ْيتَنِي َل ْم‬
‫َع َلى َيدَ ْي ِه َيقول َيا َل ْيتَنِي ا َّت َخ ْذت م َع الرس ِ‬
‫َ َّ‬
‫ِ‬
‫ن الذك ِْر َب ْعدَ إِ ْذ َجا َءني﴾ [الفرقان‪-27:‬‬ ‫خ ْذ ف ََلنا َخلِيَل * َل َقدْ َأ َض َّلنِي َع ِ‬ ‫َأ َّت ِ‬

‫الحسرة؛‬
‫يعض عىل يديه‪ ،‬وهذه كناية عىل شدة َ‬
‫فمن صاحب سيئا؛ ي‬
‫‪َ ،]29‬‬
‫بأ َّنه ا يتخذ رفيق ٍ‬
‫سوء‪.‬‬
‫ورفيق السوء مر ٍد لك إىل األعمال ال َّطال ِحة‪ ،‬وم ِ‬
‫بعدك عن األعمال‬ ‫ْ‬
‫الصالحة‪.‬‬
‫‪391‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الشاب؛ أ ْن يبتعد عن رفقاء السوء‪،‬‬


‫ي‬ ‫وخاصة‬
‫َّ‬ ‫لهذا يجب عىل المسلِم‬
‫وأن يحرص و َيقرب من الرفقة الصالحة‪ ،‬ومن طَلب ال ِعلم‪ ،‬ومن أهل‬‫ْ‬
‫ليقوي و َيحفظ إيمانه‪ ،‬و َيبتعد عن طريق الضَللة‪ ،‬وطريق‬ ‫ِ‬
‫العلم؛ ي‬
‫االنحراف‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل هبا‬ ‫عظيم يف اإلسَلم؛ أ َمر ال َّله َّ‬
‫ٌ‬ ‫والصحبة الصالحة لها ٌ‬
‫شأن‬
‫كثيرا‪ ،‬ويف صحيح البخاري(‪ :)1‬قالت عائشة رضي ال َّله عنها‪َ « :‬ل ْم َأ ْع ِق ْل‬
‫ين‪َ ،‬و َل ْم َيم َّر َع َل ْينَا َي ْو ٌم إِ َّال َي ْأتِينَا فِ ِيه‬ ‫ِ ِ‬
‫َأ َب َو َّي إِ َّال َوه َما َيدينَان الد َ‬
‫ار‪ :‬ب ْك َرة َو َع ِش َّية» يعني‪ :‬كان النبي ﷺ يزور‬ ‫َرسول ال َّل ِه ﷺ‪َ ،‬ط َر َف ِي الن ََّه ِ‬

‫كل يو ٍم يف الصباح ويف المساء‪.‬‬ ‫بكر رضي ال َّله عنه َّ‬ ‫أبا ٍ‬

‫فدل عىل أنه َينبغي لإلنسان ْ‬


‫أن َيتيخذ صاحبا‪ ،‬صالحا‪ ،‬مَلزما له‪،‬‬ ‫ي‬
‫َينفعه‪ ،‬وأما الذي يضره؛ ف َيبتعد عنه‪.‬‬
‫من رفقة السوء‪ ،‬فحتى عند الموت؛‬
‫وهذا الحديث فيه التحذير ْ‬
‫وهم معه‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب اللباس‪ ،‬باب هل يزور صاحبه كل يو ٍم‪ ،‬أو بكرة وعشيا‪ ،‬رقم (‪.)6079‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪392‬‬

‫آخر ما قال‪ :‬هو على ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬


‫ب‪ ،‬وأبى أنْ يقول‪:‬‬ ‫قال‪( :‬فكان ِ‬

‫َّل إِله إِ ََّّل ال َّله)‪.‬‬


‫ِ‬
‫(أبى) استكبر؛ مثل ما قال ال َّله‪﴿ :‬إِ َّال إِ ْبلِ َ‬
‫يس َأ َبى‬
‫اس َت ْك َب َر﴾ [البقرة‪.]34:‬‬
‫َو ْ‬
‫فما منَع الك يفار من اإلسَلم إال االستكبار‪ ،‬واإلعراض عن هذا‬
‫الدين‪ ،‬ولو كانوا خاضعين ذا يلين ل َّله؛ مل يستكبروا عن طاعته؛ كما قال‬
‫ون َع ْن ِع َبا َدتِي َس َيدْ خل َ‬
‫ون َج َهن ََّم‬ ‫ِ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين َي ْس َت ْكبِر َ‬
‫ِ‬
‫ن﴾ [غافر‪.]60:‬‬ ‫َداخ ِري َ‬
‫طالب‪ ،‬وأبو جهلٍ‪،‬‬‫ٍ‬ ‫قال المصنَّف رمحه ال َّله فيها‪« :‬فت يبا ل ِ َمن كان أبو‬
‫وابن أبي أم َّية؛ أعرف منه هبذه الكلمة»(‪.)1‬‬

‫جه ٍل – وكنيته‪ :‬أبو َ‬


‫الح َكم؛ فكنَّاه النبي ﷺ أبا‬ ‫فأهل الكفر‪ :‬أبو ْ‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫طالب؛ َيعرفون معنى هذه الكلمة‬ ‫جه ٍل ‪ ،-‬وعبد ال َّله بن أبي أم َّية‪ ،‬وأبو‬
‫بحق إال ال َّله‪.‬‬
‫أهنا‪ :‬ال معبود ٍّ‬

‫(‪ )1‬كتاب التوحيد (ص ‪.)259‬‬


‫‪393‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وبعض الناس ال َيعلمون ما معنى هذه الكلمة؛ َينطقها بلسانه‪ ،‬وال‬


‫َيعلم معناها‪ ،‬لكن هذا أبو طالب‪ ،‬و َمن معه مِن المشركين‪َ ،‬يعلمون َمعنى‬
‫هذه الكلمة‪.‬‬
‫ب)‪ ،‬ويف المسند‪( :‬أنا على ِم َّل ِة ع ْب ِد‬ ‫(هو على ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ‬
‫ٍ‬
‫كلمة قالها أبو طالب‪ :‬اإلقرار‪.‬‬ ‫ب)(‪)1‬؛ يعني‪ :‬آخر‬ ‫الم َّطلِ ِ‬

‫وتصرف الراوي من كلمة‪( :‬أنا)‪ ،‬إىل‪( :‬هو)؛ الستبشاعها يف‬


‫ي‬
‫ال يلسان‪.‬‬
‫طالب عىل هذه الكلمة؛ فكان مِن أهل النَّار‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فمات أبو‬
‫وأتى النيص عىل أ َّنه مِن أهل النَّار؛ لقول النبي ﷺ‪ْ « :‬‬
‫أهون َأ ْه ِل النَّار‬
‫ين َي ْغلِي مِنه َما ِدماغه» متفق عليه(‪،)2‬‬
‫ب َوه َو منت َِع ٌل نَع َل ِ‬
‫َع َذابا َأبو َطال ِ ٍ‬

‫فخ يف َ‬
‫ف عنه العذاب؛ لنصرته للنبي ﷺ‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪.)23674‬‬


‫الجنَّة والنَّار‪ ،‬رقم (‪ ،)6561‬من‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب صفة َ‬
‫حديث النعمان بن ٍ‬
‫بشير رضي ال َّله عنه‪ ،‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب أهون‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪،‬‬ ‫أهل النَّار عذابا‪ ،‬رقم (‪ ،)212‬من حديث ابن‬
‫ٍ‬
‫لمسلم‪.‬‬ ‫واللفظ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪394‬‬

‫ست ْغ ِفر َّن لك ما ل ْم أ ْنه ع ْنك)‬ ‫ٍ‬


‫طالب؛ قال النبي ﷺ‪( :‬أل ْ‬ ‫فلما مات أبو‬
‫َّ‬
‫يعني‪ :‬أدعو لك بالمغفرة حتى لو مِ َّت عىل الكفر؛ ما مل أن َه عن االستغفار‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طالب‪ ،‬و َيعرف‬ ‫عمه أبو‬
‫نبي‪ ،‬وأمامه ُّ‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن النبي ﷺ وهو ٌّ‬
‫معنى كلمة التوحيد‪ ،‬وسيفارق هذه الحياة ‪ -‬أي‪ :‬لن يعبد ال َّله لحظة ‪-‬‬
‫؛ ومل َيستطع هداية عمه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكلمة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ألحد حتى لو بالنطق‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن النبي ﷺ ال َيملك نفعا‬
‫فدل عىل أن النافع هو ال َّله؛ فيجب أن تتعلق القلوب به‪.‬‬ ‫َّ‬
‫(فأ ْنزل ال َّله عزَّ وج َّل‪﴿ :‬ما كان لِلنَّبِي وا َّل ِذين آمنوا أنْ ي ْست ْغ ِفروا‬
‫لِ ْلم ْشرِكِين ول ْو كانوا أولِي ق ْربى﴾) يعني‪ :‬ال يجوز للنبي ﷺ‪ ،‬وال‬
‫ِ‬
‫للمشرك‪ ،‬ولو كان من قراباته‪.‬‬ ‫للمؤمن أن َيدعو بالمغفرة‬
‫ٍ‬
‫طالب مات عىل الكفر‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن أبا‬
‫نبي ال َّله‪ ،‬وال َيستغفر أيضا المؤمنون للمشركين‬
‫يعني‪ :‬ال َتستغفر يا َّ‬
‫فمنهي عن االستغفار لهم‪ ،‬والدعاء لهم‬
‫ٌّ‬ ‫حتى لو كانوا أقارب لهم‪،‬‬
‫بالمغفرة‪.‬‬
‫دعى له بالمغفرة‪ ،‬وال يد َعى له بالرمحة‪ ،‬وال‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن الكافر ال ي َ‬ ‫ي‬
‫يدعى له ٍ‬
‫بخير‪.‬‬
‫‪395‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫لما استأذن النبي ﷺ ْ‬


‫أن يزور قبر أ يمه؛‬ ‫وهذه اآلية نَزلت أيضا َّ‬
‫َفأذن ال َّله له‪ ،‬فاستأذن مِن ربه ْ‬
‫أن يستغفر لها؛ فأنزل ال َّله هذه اآلية(‪.)1‬‬
‫إذا كان نزول اآلية يف الموقفين‪:‬‬
‫ٍ‬
‫طالب‪.‬‬ ‫يف أبي‬
‫ربه ْ‬
‫أن يستغفر ألمه التي ماتت عىل‬ ‫وأيضا عند استئذان النبي ﷺ َّ‬
‫الكفر‪.‬‬
‫ب‪﴿ :‬إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت‬
‫قال‪( :‬وأ ْنزل ال َّله فِي أبِي طالِ ٍ‬

‫ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾) يعني‪ :‬يف شأن وحال أبي طالب‪ ،‬وعدم‬
‫قدرة النبي ﷺ عىل هدايته‪.‬‬
‫أي‪ :‬يا محمد‪ :‬ن ْقل القلوب من الكفر إىل اإليمان‪ ،‬ومن اإليمان إىل‬
‫ْ‬
‫الكفر ليست لك؛ وإنَّما مِن مقتضيات ربوبيتنا‪ ،‬فالذي يملك القلوب‬
‫هو ال َّله‪.‬‬
‫نظرت إىل أسباب الهداية؛ فهي متوفرةٌ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ولو‬

‫(‪ )1‬تفسير البغوي (‪.)349/2‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪396‬‬

‫وكبير يف السن‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عمه ﷺ‪ ،‬وقريبه‪َ ،‬ينصره‪ ،‬و َيحوطه‪،‬‬
‫فهو ُّ‬
‫والنبي ﷺ كان ح ييا؛ بل َحضر إليه‪ ،‬ول يقنه‪ ،‬وأعاد عليه كلمة التوحيد؛ بل‬
‫ست ْغ ِفر َّن لك)‪ ،‬ومع ذلك مل َيملك النبي ﷺ شيئا من ذلك‪.‬‬ ‫قال‪( :‬أل ْ‬
‫لمن هو إليه أقرب يف النسب من‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن النبي ﷺ ال َيملك َ‬ ‫ي‬
‫﴿و َال َتدْ ع‬ ‫غيره شيئا‪ ،‬وعىل أ َّنه ال َيملك لغيره نفعا وال ضرا؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ون ال َّل ِه َما َال َينْ َفع َك َو َال َيض ُّر َك َفإِ ْن َف َع ْل َت َفإِن ََّك إِذا مِ َن ال َّظال ِ ِمي َن *‬
‫مِن د ِ‬
‫ْ‬
‫ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك بِ َخ ْي ٍر َف ََل َرا َّد‬‫َاش َ‬‫وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ‬
‫ٍّ‬ ‫َ َْ َ ْ‬
‫ال َغفور‬ ‫َوه َو‬ ‫اد ِه‬
‫ِعب ِ‬
‫َ‬ ‫مِ ْن‬ ‫َي َشاء‬ ‫َم ْن‬ ‫بِ ِه‬ ‫ل ِ َف ْضلِ ِه‬
‫ي ِصيب‬
‫الر ِحيم﴾ [يونس‪.]107 - 106:‬‬‫َّ‬
‫فإذا كان هذا النبي ﷺ يف هذا المقام العظيم‪ ،‬ويف حضور عمه‪ ،‬ال‬
‫أن ال َّله هو الذي َيملكه بالهداية واإللهام؛ ي‬
‫دل عىل أ َّنه‬ ‫يملك ق ْلب ٍ‬
‫أحد‪ ،‬و َّ‬ ‫َ‬
‫تتوجه القلوب إىل ال َّله ْ‬
‫وحده‪،‬‬ ‫أن ي‬ ‫يجب ْ‬
‫كما يف صحيح مسلم(‪ :)1‬يف آخر الليل يدعو يف‬ ‫إن النبي ﷺ َ‬‫بل ي‬
‫دعاء االستفتاح‪ ،‬فيقول‪« :‬ال َّله َّم َر َّب َج ْب َرائِ َيل‪َ ،‬ومِي َكائِ َيل‪َ ،‬وإِ ْس َرافِ َيل‪،‬‬

‫(‪ )1‬كتاب صَلة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب الدعاء يف صَلة الليل وقيامه‪،‬‬
‫‪397‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ْت َتحكم بين ِعب ِ‬ ‫ب و َّ ِ‬ ‫ات واألَر ِ ِ‬ ‫َفاطِر السم ِ‬


‫اد َك‬ ‫الش َها َدة‪َ ،‬أن َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ض‪َ ،‬عال َم ال َغ ْي ِ َ‬ ‫او َ ْ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ف فِ ِيه مِ َن ال َحق بِإِ ْذنِ َك‪ ،‬إِن ََّك‬ ‫ون‪ْ ،‬اه ِدنِي ل ِ َما ْ‬
‫اختلِ َ‬ ‫يما كَانوا فِ ِيه َي ْختَلِف َ‬
‫ف َ‬
‫ِ‬

‫يم»‪.‬‬ ‫اط م ْست َِق ٍ‬


‫َته ِدي من َت َشاء إِ َلى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫صَلة‬ ‫أن يقولوا يف كل‬ ‫فالنبي ﷺ يقول‪ْ « :‬اه ِدنِي»‪ ،‬وأمِر هو وأ يمتَه ْ‬
‫فدل عىل أ َّن‬ ‫يم﴾ [الفاتحة‪ ،]6:‬ي‬ ‫ِ‬ ‫﴿اه ِدنَا الص َر َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اط الم ْستَق َ‬ ‫ونافلة‪ْ :‬‬ ‫مفروضة‪،‬‬
‫البشر ال َيملكون تلك الهداية؛ وهي هداية التوفيق‪ ،‬وهداية اإللهام‪.‬‬
‫طلب الهداية‪ ،‬وطلب النيفع؛ ال َيملكه إال ال َّله؛‬ ‫أن َ‬ ‫ومِن هذا يتب يين لنا َّ‬
‫َّاس مِ ْن َر ْح َم ٍة َف ََل م ْم ِس َك َل َها َو َما‬
‫كما قال عز وجل‪َ ﴿ :‬ما َي ْفت َِح ال َّله لِلن ِ‬

‫يكرر‪« :‬ال َّله َّم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ي ْمس ْك َف ََل م ْرس َل َله م ْن َب ْعده﴾ [فاطر‪ ،]2:‬وكان النبي ﷺ ي‬
‫َال َمانِ َع ل ِ َما َأ ْع َط ْي َت‪َ ،‬و َال م ْعطِ َي ل ِ َما َمنَ ْع َت‪َ ،‬و َال َينْ َفع َذا ال َجد مِن َْك ال َجدُّ‬
‫ك ت ْؤتِي الم ْل َك َم ْن َت َشاء‬ ‫جل وعَل‪﴿ :‬ق ِل ال َّلهم مال ِ َك الم ْل ِ‬
‫َّ َ‬ ‫»(‪ ،)1‬ويقول ي‬

‫رقم (‪ ،)770‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬


‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب االذان‪ ،‬باب الذكر بعد الصَلة‪ ،‬رقم ( ‪ ،)844‬من‬
‫حديث المغيرة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ومسلم‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب ما يقول إذا رفع‬
‫رأسه مِن الركوع‪ ،‬رقم (‪ ،)477‬من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال َّله‬
‫عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪398‬‬

‫َو َتن ِْزع الم ْل َك مِ َّم ْن َت َشاء َوت ِع ُّز َم ْن َت َشاء َوت ِذ ُّل َم ْن َت َشاء بِ َي ِد َك ال َخ ْير إِن ََّك‬
‫َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [آل عمران‪.]26:‬‬
‫والضر بيد ال َّله وحده‪ ،‬و َمن تع َّلق بال َّله كفاه ال َّله‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل أن النفع‬
‫كل شأنه؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو َح ْسبه﴾ [الطَلق‪.]3:‬‬
‫َّ‬
‫***‬
‫‪399‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]19‬‬
‫باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم هو الغل ُّو‬
‫حين‬‫فِي الصالِ ِ‬
‫َّ‬
‫اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾‪.‬‬ ‫وق ْول ال َّل ِه عزَّ وج َّل‪﴿ :‬يا أ ْهل الكِت ِ‬

‫اس ر ِضي ال َّله عنهام فِي ق ْو ِل ال َّل ِه ع َّز وج َّل‪:‬‬ ‫فِي الص ِ‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬ ‫َّ‬
‫﴿وقالوا َّل تذر َّن آلِهتك ْم وَّل تذر َّن ود ًا وَّل سواع ًا وَّل يغوث ويعوق‬
‫حين ِم ْن ق ْو ِم نوحٍ ‪ ،‬فل َّام هلكوا؛ أ ْوحى‬ ‫ال صالِ ِ‬‫ون ْسر ًا﴾؛ قال‪ :‬ه ِذ ِه أسامء ِرج ٍ‬
‫ْ‬
‫الش ْيطان إِلى ق ْو ِم ِه ْم‪ :‬أ ِن ا ْن ِصبوا إِلى َمالِ ِس ِهم ا َّلتِي كانوا ي ْجلِسون فِيها‬‫َّ‬
‫سامئِ ِه ْم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬فل ْم ت ْعب ْد‪ ،‬ح َّتى إِذا هلك أولئِك‬
‫أ ْنصاب ًا‪ ،‬وس ُّموها بِأ ْ‬
‫ون ِسي ِ‬
‫الع ْلم؛ عبِد ْت»‪.‬‬
‫اح ٍد ِمن السل ِ‬
‫ف‪ :‬ل َّام ماتوا؛ عكفوا على‬ ‫وقال ابن القي ِم‪« :‬قال غير و ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ور ِه ْم‪ ،‬ثم ص َّوروا تامثِيله ْم‪ ،‬ثم طال عل ْي ِهم األمد؛ فعبدوه ْم»‪.‬‬
‫قب ِ‬

‫وع ْن عمر ر ِضي ال َّله عنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪َّ« :‬ل ت ْطرونِي كام‬
‫أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم‪ ،‬إِنَّام أنا ع ْب ٌد‪ ،‬فقولوا‪ :‬ع ْبد ال َّل ِه ورسوله»‬
‫أ ْخرجاه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪400‬‬

‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪« :‬إِ َّياك ْم‬‫وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬

‫يح‪.‬‬ ‫ح ٌ‬‫يث ص ِ‬
‫والغل َّو‪ ،‬فإِنَّـام أهلك م ْن كان ق ْبلكم الغل ُّو» ح ِد ٌ‬

‫ولِـم ْسلِمٍ‪ :‬ع ِن ا ْب ِن م ْسعودٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪:‬‬
‫«هلك المتنطعون ‪ -‬قالها ثَلث ًا ‪.»-‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫دونه ال َيملكون‬
‫فمن ْ‬ ‫لما َذكر المصنف رمحه ال َّله َّ‬
‫أن النبي ﷺ َ‬ ‫َّ‬
‫مضرة‬ ‫ٍ‬
‫أبواب ك ُّلها يف الغلو؛ ليب يين‬ ‫ٍ‬
‫ألحد نفعا وال ضرا؛ َأعقبها بثَلثة‬
‫َّ‬
‫الغلو‪ ،‬وأنَّه سبب الكفر‪.‬‬
‫فساق هذا الباب؛ قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫األول‪.‬‬
‫الصالحين)‪ ،‬هذا هو الباب َّ‬ ‫وت ْرك ِه ْم دينه ْم هو الغل ُّو في َّ‬
‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله‬
‫ثم بعد ذلك الباب الثاين‪( :‬باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬ ‫ي‬
‫ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!)‪.‬‬
‫ور الصالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حين يصيرها‬ ‫والباب الثالث‪( :‬باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ‬
‫ون ال َّل ِه)‪.‬‬
‫أ ْوثان ًا ت ْعبد ِم ْن د ِ‬

‫يعني‪َ :‬ذكر رمحه ال َّله السبب‪ ،‬ث يم التغليظ‪ ،‬ث يم بعد ذلك ماذا َيؤول‬
‫وعقد هذه الثَلثة األبواب متتالية؛ ألمهيتها‪.‬‬
‫الغلو‪َ ،‬‬
‫ي‬ ‫إليه هذا‬
‫‪401‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬وكانوا عىل الحنيف َّية‪.‬‬ ‫ولما َخلق ال َّله األرض مل يكن عليها‬
‫َّ‬
‫لما َهلك الصالحون من قوم نوحٍ ؛ َوضعوا لهم تماثيل؛ ليزدادوا‬
‫ث يم َّ‬
‫من العبادة‪ ،‬فك َّلما رأوا صورة ذلك الرجل الصالح؛ َيزدادون من العبادة‪،‬‬
‫هذا كان قصدهم فقط؛ من باب المح َّبة والتعظيم ألولئك الصالحين؛‬
‫لينشطوا يف العبادة‪.‬‬
‫فلما طال عليهم األمد ‪ -‬كما سيأيت ‪-‬؛ َأتى الشيطان إىل َمن‬ ‫َّ‬
‫إن هذه الصور مل تج َعل إال لتع َبد؛ فعبِدَ ت‪.‬‬
‫بعدهم‪ ،‬وقال‪ :‬ي‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫ث يم بعد ذلك َأرسل ال َّله الرسل؛ لبيان َّ‬
‫أن هذا‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن سبب وقوع الكفر يف األرض؛ التصوير‪.‬‬ ‫ي‬
‫فإذا قيل لك‪ :‬كيف َوقع الشرك يف األرض؟‬
‫تقول‪ :‬بسبب التصوير‪.‬‬
‫وهنا قال المصنَّف‪( :‬ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم‬
‫ٍ‬
‫عباس‪.‬‬ ‫حين) بتصوير صورهم‪ ،‬كما هو قول ابن‬ ‫هو الغل ُّو فِي الصالِ ِ‬
‫َّ‬
‫ت عىل‬ ‫ولهذا يحرم التصوير بجميع أنواعه وألوانه‪ :‬مِن نح ٍ‬
‫ْ‬ ‫َي‬
‫ٍ‬
‫رسم باليد‪ ،‬ومن تصوير المتحرك‪ ،‬ومن‬ ‫الصخور‪ ،‬أو األحجار‪ ،‬ومن‬
‫تصوير الثابت‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪402‬‬

‫والحديث‪َ « :‬ل َع َن ال َّله الم َصو َر»(‪ ،)1‬عا ٌّم؛ فاأللف والَلم للعموم‪.‬‬
‫كل م َص يو ٍر فِي النَّار»‪.‬‬
‫وأيضا يف مسلم(‪ُّ « :)2‬‬
‫الق َيا َم ِة ا َّل ِذي َن ي َضاه َ‬
‫ون‬ ‫َّاس َع َذابا يوم ِ‬
‫َْ َ‬ ‫وقال النبي ﷺ‪َ « :‬أ َشدُّ الن ِ‬

‫بِ َخ ْل ِق ال َّل ِه»‪ - ،‬يعني‪ :‬الم َص يور ْون ‪« ،-‬ويقال َلهم‪َ :‬أ ْحيوا َما َخ َل ْقت ْم»‪،‬‬
‫البخاري ومسلم(‪ ،)3‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬
‫ي‬ ‫والحديث يف‬
‫والتصوير المتحرك أشد يف الفتنة من التصوير الثابت‪.‬‬
‫أن َترى رجَل وهو َيتحرك ويتك يلم؟ أو تريد‬
‫فلو قيل لك‪ :‬هل تريد ْ‬
‫صورة ٍ‬
‫ثابتة؟‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫أن ترى رجَل وهو يف‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اللباس‪ ،‬باب َمن ل َعن المصور‪ ،‬رقم (‪ ،)5962‬من‬
‫حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َّ « :‬‬
‫أن الن ََّّبي ﷺ‬
‫َل َع َن الم َصو َر»‪.‬‬

‫(‪ )2‬كتاب اللباس والزينة‪ ،‬باب ال َتدخل المَلئكة بيتا فيه ٌ‬


‫كلب وال صور ٌة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫رقم (‪ ،)2110‬من حديث ابن‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اللباس‪ ،‬باب ما وطئ من التصاوير‪ ،‬رقم (‪،)5954‬‬

‫ومسلم‪ ،‬كتاب اللباس والزينة‪ ،‬باب ال َتدخل المَلئكة بيتا فيه ٌ‬


‫كلب وال‬
‫صورة‪ ،‬رقم (‪ ،)2107‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬
‫‪403‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فَل شك أنك تقول‪ :‬المتحرك‪.‬‬


‫وكذا الخاطِب‪ ،‬لو قيل له‪ :‬هل تريد ْ‬
‫أن ترى مخطوبتك وهي‬
‫تحرك‪ ،‬وتقوم‪ ،‬و َتتكلم؟ أم تريد ْ‬
‫أن ترى صورة ثابتة؟‬ ‫َت َّ‬
‫المتحركة‪.‬‬
‫ي‬ ‫يقول‪ :‬ال‪ ،‬أريد‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن الفتنة بالمتحرك كالفيديو ونحوه؛ أشد فتنة وتعظيما‬ ‫ي‬
‫من الصور الثابتة‪.‬‬
‫حبس للظل‪.‬‬
‫وإذا قيل‪ :‬الصور الثابتة هي ٌ‬
‫نقول‪ :‬ال‪ ،‬ليست ح ْبسا للظل؛ فَل تقاس عىل صورة الشخص يف‬
‫الماء مثَل؛ يعني‪ :‬ال تقاس عىل ِ‬
‫المرآة؛ ألنَّهم يقيسون التصوير الثابت‬
‫عىل ِ‬
‫المرآة‪.‬‬
‫نقول‪ :‬ال؛ َتختلف ِ‬
‫المرآة؛ فلو أتى رج ٌل ونَظر إىل المرآة‪ ،‬ث يم َذهب‪،‬‬

‫وأتى رج ٌل آخر؛ فصورة الرجل َّ‬


‫األول ال تثبت‪ ،‬فإذا الفتنة زالت‪.‬‬
‫وكذا‪ :‬لو نَظر رج ٌل يف ٍ‬
‫هنر‪ ،‬ث يم َذهب‪ ،‬وأتى رج ٌل آخر؛ فَل تظهر‬
‫األول‪.‬‬
‫صورة الرجل َّ‬
‫أردت أن تشاهد صورة ذلك‬
‫َ‬ ‫إذا‪ :‬فاإلشكال يف الثبوت؛ فمتى ما‬
‫الرجل‪ ،‬أو المرأة؛ تشاهدها‪ ،‬فهنا الفتنة‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪404‬‬

‫لكن ِ‬
‫المرآة ليس فيها فتن ٌة؛ ألهنا ال َتثبت‪ ،‬وتزول صورة الناظر‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فهذا الفرق بين الثابت‪ِ ،‬‬
‫والمرآة‪.‬‬
‫سلوكية‪ ،‬وأخَلق َّي ٍة‪ ،‬وأحيانا‬
‫ٍ‬ ‫عما يف الصور من مفاسد‬
‫هذا ناهيك َّ‬
‫وأنواع من الشرك‪ ،‬كمثل ما عند الطوائف‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ألوان‬ ‫مما يوضع فيها‬
‫عقد َّية؛ َّ‬
‫األخرى‪.‬‬
‫فقال‪( :‬باب ما جاء) أي‪ :‬من اآليات‪ ،‬ومِن قول الصحابة‪ ،‬وأهل‬
‫العلم‪ ،‬واألحاديث‪( ،‬أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم) بعد أن كان بنو آدم عىل‬
‫ِ‬

‫التوحيد‪( ،‬وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم) أي‪ :‬ما جاء يف سبب ْترك بني آدم دينهم وهو‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫وترك الم َّلة‬ ‫فأول ك ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فر يف األرض‪ْ ،‬‬ ‫الصالحين) ي‬
‫(هو الغل ُّو فـي َّ‬
‫الحنيف َّية؛ كان بسبب الغلو يف الصالحين بتصويرهم‪.‬‬
‫والغلو‪ :‬هو مجاوزة الحد(‪.)1‬‬
‫ُّ‬

‫(‪ )1‬الصحاح للجوهري (‪.)2448/6‬‬


‫‪405‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والغلو يف الصالحين‪ :‬إنزالهم فوق منزلتهم التي َوضعهم ال َّله َّ‬


‫عز‬ ‫ُّ‬
‫وجل عليها؛ مِثل‪ :‬أن يعتقد يف الرجل الصالح سواء أكان ح ييا أو ميتا؛ أنَّه‬
‫َّ‬
‫الجنَّة‪ ،‬ويباعد عن النَّار‪.‬‬
‫َيغفر الذنوب‪ ،‬ويشفي المرضى‪ ،‬ويدخل َ‬
‫والصالحون ال يخلو‪ :‬إ َّما أن يكونوا أحياء‪ ،‬وإما ْ‬
‫أن يكونوا أمواتا‪.‬‬
‫ْ‬
‫فإن كانوا أمواتا؛ فمثلهم كغيرهم من أموات المسلمين‪ ،‬يدعى لهم‬
‫بالمغفرة والرمحة‪.‬‬
‫ْ‬
‫وإن كانوا أحياء؛ فَل نَغلو يف محبتهم‪ ،‬وال يف تعظيمهم‪.‬‬
‫فن َبجلهم‪ ،‬ون َقدرهم‪ ،‬ونَحترمهم‪ ،‬ونعطيهم قدْ رهم‪ ،‬ونتأ يدب‬
‫باآلداب الدينية أمامهم‪ ،‬وال نرفع الصوت‪ ،‬وال نتعنَّت يف السؤال‪.‬‬
‫نَأخذ منهم ِ‬
‫العلم‪ ،‬وال نجادل‪ ،‬وال ِ‬
‫نماري معهم‪.‬‬
‫لكن ال نع يظمهم فوق ما أمرنا ال َّله بتعظيمنا إياهم‪.‬‬
‫فَل نَخضع لهم‪ ،‬وال نَركع لهم‪ ،‬وال نَسجد لهم‪ ،‬وال ندعوهم من‬
‫دون ال َّله؛ وإنما نتأ يدب معهم ٍ‬
‫بأدب رفي ٍع كما َيتأ يدب الولد مع والده‪.‬‬
‫والسبب يف َّ‬
‫أن الناس يغلون يف الصالحين حتى يوصلوهم إىل‬
‫الصالح‪،‬‬
‫َ‬ ‫الشرك بال َّله؛ بسبب أمرين‪ :‬المح َّبة‪ ،‬والتعظيم؛ في ُّ‬
‫حب الرجل‬
‫ويع يظمه‪ ،‬حتى َيجعله يف منزلة األلوهية – والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪406‬‬

‫ٌ‬
‫وسط بين اإلفراط‪ ،‬والتفريط‪.‬‬ ‫وهذه األ َّمة‬
‫فالنصارى َأفرطوا يف عيسى‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنَّه ابن ال َّله‪.‬‬
‫بغي ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫واليهود َّفرطوا يف عيسى‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنَّه ابن ٍّ‬
‫وسط قالت‪ :‬هو عبد ال َّله ورسوله‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وهذه األ َّمة‬
‫شرك الناس هو يف الصالحين؛ ألن النفوس مجبول ٌة عىل‬ ‫ِ‬ ‫وأكثر‬
‫محبتهم‪ ،‬وتعظيمهم‪.‬‬
‫فأتى اإلسَلم بالنهي عن إعطاءهم شيئا من الربوبية‪ ،‬فحقهم‬
‫االحترام‪ ،‬والتبجيل‪ ،‬وعدم إيذاءهم‪ ،‬والدعاء لهم؛ لكن َيحرم ْ‬
‫أن نَرفعهم‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫إىل منزلة األلوهية فهو‬
‫َهض َمهم ح َّقهم باألذية‪ ،‬أو عدم احترامهم؛ قال‬ ‫ويحرم أيضا أن ن ِ‬
‫َ‬
‫عليه الصَلة والسَلم‪ :‬قال ال َّله عز وجل‪َ « :‬م ْن َعا َدى لِي َول ِ ييا َف َقدْ آ َذنْته‬

‫بِ َ‬
‫الح ْر ِ‬
‫ب»(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب التواضع‪ ،‬رقم (‪ ،)6502‬من حديث أبي‬
‫هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪407‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الغلو يف‬
‫ُّ‬ ‫لما َّبوب هبذه الترمجة العظيمة‪ ،‬و َّ‬
‫أن السبب يف الكفر هو‬ ‫ث يم ي‬
‫ٍ‬
‫نصوص‪:‬‬ ‫الصالحين؛ َذكر األد َّلة عىل ذلك‪ ،‬فساق ستة‬
‫اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾) ‪-‬؛ لبيان‬
‫األول – (﴿يا أ ْهل الكِت ِ‬
‫الن َُّّص َّ‬
‫النهي عن الغلو‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما ‪-‬؛ لبيان أ َّن‬ ‫والنَّص الثاين – حديث ابن‬
‫سبب من أسباب الغلو‪.‬‬
‫التصوير هو ٌ‬
‫سبب من‬ ‫الن َُّّص الثالث ‪ -‬وهو قول ابن القيم ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن العكوف ٌ‬
‫أسباب الغلو يف الصالحين‪.‬‬
‫أن النبي ﷺ هنى أن يغلو أحدٌ فيه؛ فقال‪َّ« :‬ل‬ ‫والن َُّّص الرابع؛ لبيان َّ‬
‫ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم»‪.‬‬
‫والن َُّّص الخامس‪« :‬إِ َّياك ْم والغل َّو»؛ لبيان التحذير من الغلو حتى يف‬
‫غير النبي ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬
‫الغال متوعَّدٌ‬ ‫والنَّص السادس‪« :‬هلك المتنطعون»؛ لبيان َّ‬
‫أن‬
‫بالهَلك ‪-‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫اب َّل ت ْغلوا فِي‬
‫فقال رمحه ال َّله‪( :‬وق ْول ال َّل ِه عزَّ وج َّل‪﴿ :‬يا أ ْهل الكِت ِ‬

‫ِدينِك ْم﴾)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪408‬‬

‫الغلو يخرج الشخص مِن هذا الدين؛ إذا كان غل يوا يوصل إىل مرتبة‬
‫ُّ‬
‫األلوهية أو الربوبية‪.‬‬
‫حذرهم ال َّله من ذلك فقال‪﴿( :‬يا‬ ‫وألن اليهود والنصارى غ َلوا؛ َّ‬‫َّ‬
‫أ ْهل الكِت ِ‬
‫اب َّل ت ْغلوا﴾)‪ ،‬ويف اآلية األخرى قال‪﴿ :‬ق ْل َيا َأ ْه َل الكِت ِ‬
‫َاب َال‬
‫َت ْغلوا﴾ [المائدة‪.]77:‬‬
‫اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾) فَل ت َع يظموا األنبياء‪ ،‬وال‬
‫(﴿يا أ ْهل الكِت ِ‬

‫الصالحين‪.‬‬
‫ِ‬
‫وحده‬
‫فردوه ْ‬ ‫﴿و َال َتقولوا َع َلى ال َّله إِ َّال ال َح َّق﴾ [النساء‪]171:‬؛ ْ‬
‫أي‪َ :‬أ ِ‬ ‫َ‬
‫بالعبادة‪ ،‬وال َتجعلوا غيره من المخلوقين يف مرتبة األلوهية‪.‬‬
‫ربا‪ ،‬والنصارى َغ َلوا أيضا يف‬ ‫وجعلوه ي‬ ‫واليهود َغ َلوا يف ع َزير‪َ ،‬‬
‫ت ال َيهود ع َز ْي ٌر ْابن ال َّل ِه‬ ‫عيسى‪ ،‬وجعلوه إلها؛ كما قال تعاىل‪﴿ :‬و َقا َل ِ‬
‫َ‬
‫اه ِهم ي َض ِ‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َق ْو َل‬‫اهئ َ‬ ‫َو َقا َلت الن ََّص َارى ال َمسيح ْابن ال َّله َذل َك َق ْوله ْم بِ َأ ْف َو ْ‬
‫ن َق ْبل﴾ [التوبة‪.]30:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َفروا م ْ‬ ‫ا َّلذ َ‬
‫الخطاب لليهود والنصارى‪ ،‬وهو أيضا أل َّمة محمد؛ يعني‪ :‬يا‬ ‫وهذا ِ‬

‫محمد ال َتغلوا يف نب ييكم كما َغلت النصارى يف عيسى‪ ،‬وكما َغلت‬ ‫ٍ‬ ‫أ يمة‬
‫اليهود يف ع َز ٍير‪.‬‬
‫‪409‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫محم ٍد ﷺ؟‬
‫إذا كيف نَنظر إىل نب يينا َّ‬
‫نقول‪ :‬كما قال هو عن ن ْفسه‪«( :‬فقولوا‪ :‬ع ْبد ال َّل ِه ورسوله») بعد ما‬
‫قال‪َّ«( :‬ل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم‪ ،‬إِنَّام أنا ع ْب ٌد»)‪.‬‬
‫ومعنى (ع ْبد ال َّل ِه ورسوله)‪ :‬منزل ٌة عظيم ٌة‪ ،‬جليل ٌة‪ ،‬فالرسالة ال‬
‫ألحد بعده؛ فإذا أعطيناه منزلة عالية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن أن تكون‬
‫والعبودية التي هي العبودية الخاصة؛ رتب ٌة عالي ٌة ال ينالها إال َمن‬
‫وجعله عبدا من عباده الخاصين‪.‬‬ ‫اصطفاه ال َّله ي‬
‫عز وجل‪َ ،‬‬
‫وإال‪﴿ :‬ك ُّل َم ْن‬
‫الخاصة‪ ،‬وليست العبودية العامة؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫فالمراد‪ :‬العبودية‬
‫ِ‬ ‫فِي السماو ِ‬
‫ض إِ َّال آتي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْبدا﴾ [مريم‪ ،]93:‬والعبودية‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫الخاصة ال تكون إال لمن أطاع ال َّله‪.‬‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫قلت‪( :‬ع ْبد ال َّله ورسوله) تقول‪ :‬يا ي‬
‫محمد أنت من الع يباد‬ ‫فكأنك إذا َ‬
‫الخالصين ل َّله‪ ،‬وأنت الرسول الذي اصطفاك ال َّله بالرسالة‪.‬‬
‫فأنت أعطيته قدْ ره‪ ،‬وأيضا مل تتجاوز‪ ،‬ومل َتطعن يف مقام الربوبية‪،‬‬
‫أنت عبدٌ ل َّله‪ ،‬وأنت‬ ‫فلم تقل‪ :‬أنت يا محمد َتملك نفعا أو ضرا؛ بل َ‬
‫قلت‪َ :‬‬
‫رسول ل َّله‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪410‬‬

‫وال َينال هذا الوصف؛ إال هو ﷺ؛ ولذلك أثنى ال َّله عليه يف ي‬


‫أجل‬
‫المقامات‪:‬‬
‫ان ا َّل ِذي َأ ْس َرى بِ َع ْب ِد ِه َل ْيَل مِ َن ال َم ْس ِج ِد‬
‫ففي اإلسراء قال‪﴿ :‬س ْب َح َ‬
‫ِ‬
‫صى﴾ [اإلسراء‪]1:‬‬ ‫ال َح َرا ِم إِ َلى ال َم ْس ِجد األَ ْق َ‬
‫وقال يف إنزال كتابه‪﴿ :‬ال َح ْمد ل ِ َّل ِه ا َّل ِذي َأن َْز َل َع َلى َع ْب ِد ِه‬
‫ب مِ َّما ن ََّز ْلنَا َع َلى َع ْب ِدنَا َف ْأتوا‬
‫﴿وإِ ْن كنْت ْم فِي َر ْي ٍ‬‫َاب﴾ [الكهف‪َ ،]1:‬‬ ‫الكت َ‬
‫ِ‬

‫ور ٍة مِ ْن مِ ْثلِ ِه﴾ [البقرة‪.]23:‬‬ ‫بِس َ‬


‫وتعظيم‪ ،‬ومنزل ٌة عالي ٌة؛ فهو المطيع ل َّله‪ ،‬الم َعظم له‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ففيه ثنا ٌء‪،‬‬
‫فَل َتغلوا أيتها األ َّمة المحمدية يف نب ييكم‪ ،‬كما َغلت األ َّم َت ْين‬
‫السابقتين يف نب ييهما‪.‬‬
‫الملل السابقة ال تخلو‪:‬‬
‫كتاب؛ كاليهود لهم التوراة‪ ،‬والنصارى لهم‬
‫ٌ‬ ‫إما أن يكون هلم‬
‫اإلنجيل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫قريش يف زمن النبي ﷺ وما‬ ‫كتاب؛ كع َّباد األصنام من‬
‫ٌ‬ ‫أو ليس هلم‬
‫ق ْبله‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪411‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأهل الكتاب كانت لهم م َّل ٌة صحيح ٌة؛ لكنَّها ن َ‬


‫سخت‪ ،‬واآلن‬ ‫ْ‬
‫حرفت‪.‬‬
‫لكن ع َّباد األصنام ليس لهم م َّل ٌة صحيح ٌة يف األصل؛ فهي من‬
‫أصلها باطل ٌة‪.‬‬
‫محمد عليه‬ ‫ٍ‬ ‫تبق إال م َّلة‬ ‫وبب ْعثة النبي ﷺ نسخت مجيع األديان؛ فلم َ‬
‫الصَلة والسَلم؛ قال سبحانه‪﴿ :‬ق ْل َيا َأ ُّي َها النَّاس إِني َرسول ال َّل ِه إِ َل ْيك ْم‬
‫َج ِميعا﴾ [األعراف‪.]158:‬‬
‫محم ٍد؛ أي‪:‬‬ ‫ي‬ ‫اب﴾) هو أيضا ندا ٌء أل َّمة‬ ‫وقوله‪﴿( :‬يا أ ْهل الكِت ِ‬

‫مما حذر منه أهل الكتاب‪.‬‬ ‫احذروا َّ‬


‫محم ٍد ال تغلوا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫(﴿يا أ ْهل الكِت ِ‬
‫اب َّل ت ْغلوا في دينك ْم﴾) أي‪ :‬يا أ َّمة ي‬
‫أيضا يف دينكم كما َغلت اليهود والنصارى‪.‬‬
‫لو يف عيسى‪َّ ،‬‬
‫وأن سبب ترك‬ ‫فدل عىل َّ‬
‫أن سبب كفر النصارى؛ الغ ُّ‬ ‫َّ‬
‫الغلو يف ع ٍ‬
‫زير‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫اليهود لدينهم؛ هو‬
‫أن َتغلوا يف نبيكم محم ٍد ﷺ‪ ،‬أو يف‬
‫وهذه األ َّمة يقال لها‪ :‬احذروا ْ‬
‫الصالحين؛ فتقعوا يف المحذور الذي َوقع فيه أهل الكتاب من ق ْبلكم‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪412‬‬

‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام فِي‬ ‫ثم بعد ذلك قال‪( :‬فِي الص ِ‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ي ْ‬
‫ق ْو ِل ال َّل ِه عزَّ وج َّل‪﴿ :‬وقالوا َّل تذر َّن آلِهتك ْم وَّل تذر َّن ود ًا وَّل سواع ًا وَّل‬
‫حين ِم ْن ق ْو ِم نوحٍ )‪،‬‬
‫ال صالِ ِ‬ ‫يغوث ويعوق ون ْسر ًا﴾؛ قال‪ :‬ه ِذ ِه أسامء ِرج ٍ‬
‫ْ‬
‫نوح عليهما السَلم كانت األرض عىل التوحيد‬ ‫أن مِن زمن آدم إىل ٍ‬ ‫وذلك َّ‬
‫ٌ‬
‫شرك‪.‬‬ ‫ال يوجد فيها‬
‫وجل نوحا إىل‬‫عز َّ‬
‫نوح؛ لذلك َبعث ال َّله َّ‬
‫عهد ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وأول شرك َحدث يف ْ‬ ‫َّ‬
‫سنة ‪ -‬عىل التوحيد‪،‬‬ ‫قرون ‪ -‬يعني‪ :‬أ ْلف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قومه وكانوا مِن ق ْبل عشرة‬
‫ض﴾؛ أي‪ :‬بالشرك والمعاصي‪َ ﴿ ،‬ب ْعدَ‬ ‫وال َّله قال‪َ ﴿ :‬و َال ت ْف ِسدوا فِي األَ ْر ِ‬

‫إِ ْص ََل ِح َها﴾ [األعراف‪]56:‬؛ أي‪ :‬ب ْعد أن كانت عىل التوحيد‪.‬‬
‫(فل َّام هلكوا) يعني‪ :‬لما مات هؤالء الصالحون‪.‬‬
‫ِ‬
‫الش ْيطان إِلى ق ْوم ِه ْم) يعني‪َّ :‬‬
‫لما ماتوا صار قومهم َيتحدثون‬ ‫(أ ْوحى َّ‬
‫ليتنشطوا عىل العبادة‪ ،‬فقال لهم الشيطان ‪ -‬وهو‬ ‫َّ‬ ‫بأفعالهم الصالحة؛‬
‫بقوة عىل العبادة‪( :‬ا ْن ِصبوا إِلى َمالِ ِس ِهم) أي‪:‬‬
‫يمكر هبم ‪ :-‬حتى تتنشطوا ٍ‬
‫َ‬
‫مجالس الصالحين التي كانوا يجلسون فيها (أ ْنصاب ًا) يعني‪ :‬ضعوا فيها‬
‫تماثيل‪ ،‬ليس ألجل أن تعبدوهم؛ وإنَّما إذا رأيتم صورهم َتنشطون عىل‬
‫سامئِ ِه ْم)‪.‬‬
‫العبادة‪( ،‬وس ُّموها بِأ ْ‬
‫‪413‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫(ففعلوا) ومل َيعبدوها‪.‬‬


‫منهي عنه وهو التصوير بن ْحت التماثيل كما ف َعل قوم‬
‫أمر ٌّ‬
‫وهذا ٌ‬
‫نوح‪ ،‬حتى ولو كانت ن ييتهم حسنة‪ ،‬فهنا كانت نيتهم ال َّت َقوي عىل العبادة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صحت النية؛ فالعبرة بما‬
‫لما كان أمرا مبتَدَ عا؛ حرم ذلك حتى ولو َّ‬
‫لكنَّه َّ‬
‫جاء به ال َّشرع‪.‬‬
‫قال‪( :‬ففعلوا‪ ،‬فل ْم ت ْعب ْد ح َّتى إِذا هلك أولئِك) يعني‪ :‬مات الذين‬
‫عاصروا‪ ،‬و َعرفوا الصالحين‪ ،‬والذين نَصبوا األنصاب لهم‪.‬‬
‫وضع الصور؛ لينشطوا يف العبادة ك َّلما رأوهم؛‬
‫ز يين لهم الشيطان ْ‬
‫وجيل‪ ،‬حتى مكثت‬‫ٌ‬ ‫وصوروهم‪ ،‬فلم يع َبدوا‪ ،‬حتى مات ٌ‬
‫جيل‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ف َفعلوا‪،‬‬
‫سنة‪ ،‬وب ْعد ألف سن ٍَة والشيطان يستدرج األجيال‪،‬‬
‫قرون؛ أي‪ :‬أ ْلف ٍ‬‫ٍ‬ ‫عشرة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلما (طال عل ْي ِهم األمد)‪( ،‬ونسي الع ْلم) الذي هو َ‬
‫الح َذر من الشرك‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ون ِسي ِ‬
‫العلم أيضا بأ َّنهم مل يضعوا هذه الصور إال للتذ ُّكر‪ ،‬ومل يجعلوها‬
‫فلما ن ِس َي ذلك؛ عبِدَ ت من دون ال َّله‪ ،‬والسبب يف ذلك التصوير‪.‬‬
‫للعبادة‪َّ ،‬‬
‫فانظر كيف يستدرج الشيطان األجيال واألفراد أ ْلف سن ٍَة‪ ،‬حتى‬
‫عصى ال َّله به‪ ،‬وهو الشرك بال َّله‪.‬‬ ‫يوقعهم يف أعظم ٍ‬
‫ذنب ي َ‬
‫(ون ِسي ِ‬
‫الع ْلم؛ عبِد ْت)‪ ،‬فوقع الشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪414‬‬

‫وجل الكتب‪ ،‬و َأرسل الرسل‪ ،‬وجاءت الشرائع؛‬


‫َّ‬ ‫َفأنزل ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫بسبب هذا الذنْب العظيم الذي هو أعظم ذن ٍ‬
‫ْب يف األرض؛ كما قال عليه‬
‫ْب َأ ْع َظم‬ ‫لما سئل‪َ « :‬أ ُّي َّ‬
‫الذن ِ‬ ‫البخاري(‪)1‬‬ ‫الصَلة والسَلم يف صحيح‬
‫ِعنْدَ ال َّل ِه؟ َق َال‪َ :‬أ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا َوه َو َخ َل َق َك»‪.‬‬
‫عما كان سببا للشرك‪ ،‬وهو‬ ‫فدل عىل أن اإلنسان يجب عليه ْ‬
‫أن َيبتعد َّ‬ ‫َّ‬
‫التصوير؛ بسبب فتنته؛ ألنَّه ي َسبب فتنة‪ ،‬وهي الشرك؛ ألنَّه حتى لو مل يفعل‬
‫اآلن قد يفعل يف المستق َبل‪.‬‬
‫ودل أيضا عىل َّ‬
‫أن من أسباب منْع الشرك يف األرض؛ وجود العلماء‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عباس‪( :‬ون ِسي ِ‬
‫الع ْلم)؛ َوقع‬ ‫ٍ‬ ‫فلما َهلك العلماء يف وقتهم كما قال ابن‬
‫َّ‬
‫الشرك‪.‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن العلماء الربانيين هم الحافظون للناس من الشرك‬ ‫َّ‬
‫فوجب‬ ‫ِ‬
‫غضب ال َّله عىل اإلنسان؛ َ‬ ‫بإذن ال َّله‪ ،‬وهم السبب يف عدم وقوع‬
‫علينا أن نَحترم العلماء؛ فهم سبب كل ٍ‬
‫خير لأل َّمة‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلى‪َ ﴿ :‬فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا‬
‫َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾ [البقرة‪ ،]22 :‬رقم (‪ ،)4477‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب‬
‫كون الشرك أقبح الذنوب‪ ،‬وبيان أعظمها بعده‪ ،‬رقم (‪.)86‬‬
‫‪415‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فأرسل ال َّله رسوال َيتلو رسوال؛ حتى ينهاهم عن هذا الذنْب الذي‬
‫َوقع يف األرض بسبب التصوير؛ لذلك يجب أن ال يتهاون المسلِم يف‬
‫التصوير‪ ،‬كما قد هتاون الناس فيه هتاونا ملحوظا‪.‬‬
‫المصورين‪ ،‬وإنَّما ينظر إىل الحرمة‪،‬‬
‫ي‬ ‫وال َينظر الشخص إىل كثرة‬
‫حتى لو ا َّتفق مجيع الناس أو تواطؤوا عىل التصوير‪.‬‬
‫فَل تصور ذوات األرواح‪ ،‬أ َّما الشجر‪ ،‬والحجر‪ ،‬والجبل؛ ما فيه‬
‫بأس‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مما يتن يفس ويموت؛ فهذا ال يجوز تصويره؛‬
‫أ َّما من ذوات األرواح َّ‬
‫ٍ‬
‫ومسلم‪.‬‬ ‫لألحاديث السابقة التي يف البخاري‬
‫استدل المصنَّف رمحه ال َّله بقول بعض السلف‪ ،‬الذي‬ ‫ي‬ ‫ث يم بعد ذلك‬
‫َن َقله ابن القيِم‪( :‬وقال ا ْبن القي ِم ر ِحمه ال َّله) يف كتابه إغاثة ال َّلهفان(‪:)1‬‬
‫ور ِه ْم)‪،‬‬
‫ف‪ :‬ل َّام ماتوا؛ عكفوا على قب ِ‬ ‫اح ٍد ِمن السل ِ‬
‫َّ‬
‫(قال غير و ِ‬
‫ْ‬
‫والبركة‪.‬‬ ‫الحب‪ ،‬والتعظيم‪،‬‬ ‫مكان؛ ِ‬
‫معتقدا فيه‬ ‫ٍ‬ ‫العكوف‪ :‬هو المكث يف‬
‫َ‬ ‫ُّ‬

‫(‪ )1‬إغاثة ال َّلهفان من مصائد الشيطان (‪.)184/1‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪416‬‬

‫ٍ‬ ‫مِثل‪ :‬لو َّ‬


‫أن شخصا يأيت إىل شجرة يف كل أسبو ٍع َّ‬
‫مرة‪ ،‬و َيجلس عندها؛‬
‫معظما لها‪ ،‬ويقال له‪ :‬لماذا َتجلس؟‬
‫يقول‪َّ :‬‬
‫ألن بجلوسي عندها تنالني البركة؛ بسبب تلك الشجرة‪.‬‬
‫هو ‪ -‬أي‪:‬‬ ‫بل‬ ‫الشرك؛‬ ‫بال َّله ‪ -‬مفتاح‬ ‫فهذا ‪ -‬والعياذ‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫التبرك ‪-‬‬
‫ُّ‬
‫فساق المصنَّف رمحه ال َّله قول ابن القيم؛ لبيان َّ‬
‫أن سببا من أسباب‬
‫الشرك‪ :‬العكوف‪.‬‬
‫صوروا‬
‫التدرج يف الشرك‪َ :‬عكفوا عىل قبورهم‪ ،‬ث يم ي‬ ‫ي‬ ‫وب يين لك‬
‫تماثيلهم‪ ،‬ث يم بعد ذلك عبِدَ ت من دون ال َّله‪.‬‬
‫وسبب العكوف‪ :‬التعظيم‪ ،‬يأتون إليها‪ ،‬ويقفون عندها‪ ،‬و َينظرون‬
‫إليها؛ مح يبة‪ ،‬وتعظيما‪ ،‬ويكثِرون التردد عليها‪ ،‬وهذا هو العكوف‪،‬‬
‫والمكث؛ وهو من وسائل الشرك‪ ،‬ث يم بعد ذلك َعبدوهم من دون ال َّله؛‬
‫بسبب التصوير‪.‬‬
‫قال‪( :‬ثم ص َّوروا تامثِيله ْم)‪ ،‬من األسباب أيضا‪ :‬التصوير؛ كما َسبق‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬ ‫يف قول ابن‬
‫‪417‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال‪( :‬ثم طال عل ْيهم األمد؛ فعبدوه ْم)‪ - ،‬والعياذ بال َّله ‪ ،-‬فيحرم‬
‫شخص ‪ -‬مثَل ‪ -‬عند ٍ‬
‫قبر و َيجلس عنده معظما له طالبا عنده‬ ‫ٌ‬ ‫أن يذهب‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر‪.‬‬ ‫البركة؛ فهذا‬
‫ويحرم أيضا أن َيمكث عند القبر ولو مل َيعرفه‪ ،‬و َيجلس عنده؛‬
‫البركة؛ ال يجوز؛ ألنه وسيل ٌة‬‫معظما لصاحب ذلك القبر ولو مل َيعتقد فيه َ‬
‫إىل عبادته من دون ال َّله‪ ،‬لذلك قال النبي ﷺ‪َ « :‬ال َتت ِ‬
‫َّخذوا َق ْب ِري‬
‫مر ٍة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عيدا»(‪)1‬؛ يعني ي َعاد َّ‬
‫مرة بعد َّ‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬وع ْن عمر ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪:‬‬
‫«َّل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم)‪.‬‬
‫ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان تحريم الغلو يف‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫الغلو‬
‫ي‬ ‫وإذا كان النبي ﷺ هنى عن الغلو فيه؛ فمن باب َأوىل ال يجوز‬
‫الغلو هو سبب كفر بني آدم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يف غيره من الصالحين؛ ألن‬
‫الغلو يف الصالحين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شرك َوقع يف األرض بسبب‬ ‫فأول‬
‫ي‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)8804‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪418‬‬

‫قال‪َّ( :‬ل ت ْطرونِي) اإلطراء‪ :‬مجاوزة الحد سواء يف الكَلم‪ ،‬أو يف‬
‫األعمال‪ ،‬أو يف االعتقادات(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫منزلة أعىل من‬ ‫فَل يجوز إطراء النبي ﷺ بالقول؛ بأن ي ْجعل يف‬
‫عز َّ‬
‫وجل إ َّياها‪.‬‬ ‫المنزلة التي أنزله ال َّله َّ‬
‫الغلو فيه يف االعتقاد بأنَّه َينفع‪ ،‬أو َيضر‪ ،‬ولو مل يتك َّلم‬
‫ُّ‬ ‫وكذا ال يجوز‬
‫باللسان‪.‬‬
‫الغلو يف النبي ﷺ بالجوارح؛ مثل‪ :‬االنحناء‪ ،‬أو‬
‫ي‬ ‫وكذلك ال يجوز‬
‫الخضوع يف الجسد حال السَلم عىل النبي ﷺ‪.‬‬
‫لذلك قال‪َّ( :‬ل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم)‪ ،‬فيحذر ﷺ‬
‫أ يمته؛ أل َّن األمم السابقة َهلكت بسبب التعظيم‪ ،‬والنصارى ما َهلكت إال‬
‫ٍ‬
‫ثَلثة»‪ ،‬وقالوا‪« :‬ثاين‬ ‫بسبب عيسى؛ قالوا‪« :‬إنَّه إل ٌه»‪ ،‬وقالوا‪« :‬ثالث‬
‫اثنين»‪ ،‬وكذلك اليهود َغلت يف ع َز ٍير؛ فجعلوه ابن ال َّله‪.‬‬
‫لما رأى َمن َهلك من األمم السابقة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫فالنبي ﷺ ي‬
‫حذر أ َّمته؛ َّ‬
‫(َّل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم) وقالوا‪ :‬إ َّنه إله‪.‬‬

‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور (‪.)6/15‬‬


‫‪419‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ولما ب َّين النبي ﷺ أنَّه ال يجوز إطراءه؛ ب َّين منزلته عليه الصَلة‬
‫َّ‬
‫والسَلم؛ فقال‪( :‬إِنَّام أنا ع ْب ٌد) أي‪ :‬ليس يل شي ٌء من مقتضيات الربوبية‬
‫من النفع‪ ،‬أو د ْفع الضر‪ ،‬أو مغفرة الذنوب‪ ،‬أو شفاء المرضى ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فإذا ماذا نقول لك؟ قال‪( :‬فقولوا) أي‪ :‬بالكَلم العدْ ل الوسط‪:‬‬
‫(ع ْبد ال َّل ِه ورسوله) وهي منزل ٌة عظيم ٌة‪.‬‬
‫الخاصة التي يمدح عليها المرء‪ ،‬وقد َبلغ‬
‫َّ‬ ‫(ع ْبد ال َّل ِه) هذه العبودية‬
‫النبي ﷺ غايتها؛ فَل يجوز أن يعبد من دون ال َّله‪.‬‬
‫(ورسوله) أي‪ :‬أعطي مقام الرسالة؛ فتجب طاعته‪.‬‬
‫ورسول‪ ،‬ال َأملك نفعا‬
‫ٌ‬ ‫فالنبي ﷺ هنى أ َّمته عن الغلو‪ ،‬وقال‪ :‬أنا عبدٌ‬
‫وال ضرا‪.‬‬
‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬فإِن ََّما َع َلى َرسولِنَا البَ ََلغ المبِين﴾ [التغابن‪،]12:‬‬
‫﴿و َما َأنَا َع َل ْيك ْم بِ َوكِيلٍ﴾ [يونس‪،]108:‬‬ ‫ِ‬
‫﴿وإِن ََّما َأنَا نَذ ٌير﴾ [العنكبوت‪َ ،]50:‬‬ ‫َ‬
‫﴿و َما َأنَا َع َل ْيك ْم‬ ‫َ‬ ‫ْت َع َل ْي ِه ْم بِ َوكِيلٍ﴾ [األنعام‪،]107:‬‬ ‫﴿و َما َأن َ‬ ‫َ‬
‫َاك بِال َحق َب ِشيرا َون َِذيرا َوإِ ْن مِ ْن أ َّم ٍة إِ َّال‬
‫يظ﴾ [األنعام‪﴿ ،]104:‬إِنَّا َأ ْر َس ْلن َ‬‫بِح ِف ٍ‬
‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪420‬‬

‫ان َق ْومِ ِه لِي َبي َن‬‫ول إِ َّال بِلِس ِ‬


‫َ‬
‫﴿وما َأرس ْلنَا مِ ْن رس ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫َخ ََل ف َيها نَذ ٌير﴾ [فاطر‪َ ْ َ َ ،]34:‬‬
‫يم﴾ [الشورى‪.]52:‬‬ ‫اط م ْست َِق ٍ‬‫َلهم﴾ [إبراهيم‪﴿ ،]4:‬وإِن ََّك َلتَه ِدي إِ َلى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ألحد ضرا وال‬ ‫ٍ‬ ‫فمهمته ورسالته‪ :‬البيان والتبليغ فقط‪ ،‬وال َيملك‬ ‫ي‬
‫نفعا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومسلم‪.‬‬ ‫البخاري‬
‫ي‬ ‫(أ ْخرجاه) فالحديث يف‬
‫و َذكر النبي ﷺ العبودية والرسالة‪ ،‬ومل يذكر الس َيا َدة؛ يعني‪ :‬يا سيد‪،‬‬
‫أو سيدنا رسول ال َّله ﷺ؛ َّ‬
‫ألن مقام العبودية والرسالة أكمل‪ ،‬وأعىل‪،‬‬
‫وأكثر مدحا من السيادة؛ َّ‬
‫ألن األسياد يف أ َّمته و َمن هم قبل أ َّمته كثير‪،‬‬
‫بخَلف الرسالة؛ فليس يف أ َّمته سوى هو عليه الصَلة والسَلم‪.‬‬
‫فإذا هنى النبي ﷺ عن الغلو فيه؛ فيحرم أن نَغلو يف غيره أيضا‪.‬‬
‫اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪:‬‬
‫ث يم قال‪( :‬وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬

‫«إِ َّياك ْم والغل َّو)‪.‬‬


‫كل ٍ‬
‫أحد حتى‬ ‫الغلو يف ي‬ ‫َذكر المصنَّف هذا الحديث؛ لبيان النهي عن‬
‫ي‬
‫غ ْير النبي ﷺ‪.‬‬
‫الغلو يف‬
‫ُّ‬ ‫غلو؛ يهلِك‪ ،‬وأعظم الغلو المهلِك هو‬ ‫ُّ‬
‫فكل شيء فيه ٌّ‬
‫الدين‪.‬‬
‫‪421‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أن ترفع رجَل فوق منزلته‪ ،‬وتدعوه من دون ال َّله؛ هذا ٌّ‬
‫غلو‪.‬‬ ‫يعني‪ْ :‬‬
‫والطواف بالكعبة‪ :‬ف َيغلو يف الكعبة‪ ،‬و َيعتقد أهنا تنفع وتضر‪،‬‬
‫تبرك هبا؛ فيهلك‪.‬‬
‫ويتمسح هبا‪ ،‬و َي َّ‬
‫ي‬
‫يتبرك بت ْر َبتها ونحو ذلك؛ فيه َلك‪.‬‬
‫والمشاعر كذلك؛ َّ‬
‫وكذلك قبور الصالحين واألولياء؛ يعتقد أهنا تنفع وتضر؛ فيغلو‬
‫و َيهلك‪.‬‬
‫است َِق ْم ك ََما‬
‫أن اإلنسان ال َيغلو؛ كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫واألصل َّ‬

‫ين َأ َحدٌ إِ َّال َغ َل َبه»(‪)1‬؛‬ ‫ِ‬


‫أم ْر َت﴾ [هود‪ ،]112:‬والنبي ﷺ قال‪َ « :‬و َل ْن ي َشا َّد الد َ‬
‫وسط‪ ،‬قيم‪ ،‬بين‪ ،‬واضح‪ٍ ،‬‬
‫هاد‪ ،‬ال إفراط وال‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ يٌ ٌ‬ ‫عظيم‪ٌ ،‬‬
‫سبيل‬ ‫ٌ‬ ‫متين‪،‬‬
‫دين ٌ‬
‫فهو ٌ‬
‫وحي إِ َلي َك إِن ََّك َع َلى ِصر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اط‬ ‫َ‬ ‫است َْمس ْك بِا َّلذي أ َ ْ‬ ‫تفريط؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫يم﴾ [الزخرف‪ ،]43:‬وكما قال النبي ﷺ‪«( :‬إِ َّياك ْم والغل َّو‪ ،‬فإِنَّام أهلك‬ ‫م ْست َِق ٍ‬
‫م ْن كان ق ْبلكم الغل ُّو»)‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الدين يسر‪ ،‬رقم (‪ ،)39‬من حديث أبي‬
‫هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪422‬‬

‫غلوه؛ ك َّلما كان أقبل‬


‫وهكذا ك َّلما كان اإلنسان عىل سج ييته‪ ،‬وعدم ي‬
‫للنفوس‪ ،‬وأطهر لقلبه‪ ،‬وأر َيح يف نفسه‪ ،‬ويف قلبه وبدنه وماله ومأكله‬
‫ومشربه‪.‬‬
‫لهذا كان النبي ﷺ ال َيتك يلف موجودا‪ ،‬وال َيطلب مفقودا يف أكله‪،‬‬
‫يقدم الموجود‪ ،‬وال يطلب ما هو معدوما عنده‪ ،‬يأتون َيطلبون منه طعاما؛‬
‫ف َيطلب من أبياته‪َ :‬ه ْل ِعندَ كم مِن َط َعا ٍم؟ فيقولون‪ :‬ما عندنا شي ٌء وال ماء‪،‬‬
‫فيقول للسائل‪َ :‬ما ِعندَ نَا َشي ٌء؛ فَل يتك يلف‪.‬‬
‫َتطرق اليهودية عىل بيت عائشة رضي ال َّله عنها َتطلب الطعام‪،‬‬
‫وس ِج َّيتِها‬ ‫ِ‬
‫و َتبحث فَل تجد يف بيتها سوى تمرتين‪ ،‬وعىل فطرهتا َ‬
‫تعطيها(‪.)1‬‬

‫فَل َيتك يلف اإلنسان ال يف الم ْلبس‪ ،‬وال يف الكَلم‪ ،‬وال يف المط َعم‬
‫والمشرب‪ ،‬وال َيتك َّلف يف المشية‪ ،‬وال َيتك َّلف يف المسكن؛ فيكون عىل‬
‫َ‬
‫سج ييته يف كل شيء‪.‬‬
‫قال‪( :‬إِ َّياك ْم) أي‪ :‬أحذركم من (الغل ُّو)‪ ،‬لماذا؟‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)25089‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪.‬‬
‫‪423‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ألنَّه هو سبب الهَلك‪ ،‬فقال‪( :‬فإِنَّام أهلك م ْن كان ق ْبلكم الغل ُّو)‪،‬‬
‫وهلك اليهود بالشرك بسبب‬
‫فهلك النصارى بالشرك بسبب الغلو‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫نوح بالشرك بسبب الغلو‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫وهلك قوم ٍ‬‫الغلو‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫شيء َيهلك‪ ،‬فمن غَل يف الملبس فوق ما أمِ َر به؛ َيهلك‪.‬‬ ‫ومن غَل يف‬
‫بغض‪.‬‬‫ومن غَل يف مشيته يتبختر؛ هلك‪ ،‬وأ ِ‬
‫ومن تشدَّ ق يف كَلمه؛ َهلك‪ ،‬وأ ِ‬
‫بغض‪.‬‬ ‫َ‬
‫و َمن غَل يف اإلسراف؛ َهلك؛ قال ال َّله‪﴿ :‬إِ َّن الم َبذ ِري َن كَانوا إِ ْخ َو َ‬
‫ان‬
‫الش َياطِ ِ‬
‫ين﴾ [اإلسراء‪.]27:‬‬ ‫َّ‬
‫وعدم التك ُّلف وعدم الغلو؛ هو الذي َجعل النبي ﷺ مقبوال يف‬
‫األرض‪ ،‬ومقبوال بين الصحابة‪ ،‬وسبب مح َّبة الصحابة رضي ال َّله عنهم‬
‫له‪.‬‬
‫والحديث رواه أمحد عن ابن عباس(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬يف المسند‪ ،‬رقم (‪.)1851‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪424‬‬

‫مسلم‪ :‬قال‪( :‬ولِم ْسلِ ٍم‪ :‬ع ِن‬


‫ٍ‬ ‫ث يم بعد ذلك ذكر حديثا آخر يف صحيح‬
‫ود ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬هلك‬ ‫اب ِن مسع ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫المتنطعون ‪ -‬قالها ثَلث ًا ‪.)»-‬‬
‫ِ‬
‫والغال يف الف ْعل‪ ،‬أو‬ ‫َذكر المصنَّف هذا الحديث؛ لبيان َّ‬
‫أن المتنطع‪،‬‬
‫ٌ‬
‫هالك‪.‬‬ ‫يف الكَلم‪ ،‬أو يف اإلسراف يف المال؛‬
‫وإذا كان المتنطع هالكا؛ فيجب عليه أن ينقذ ن ْفسه من ذلك‬
‫الهَلك‪.‬‬
‫فب َّين لك ما هو مآل المتنطع‪.‬‬
‫فإن كان الشخص يتن َّطع يف الكَلم‪ ،‬ويتن َّطع يف الحركة‪ ،‬ما هو مآله؟‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫ألن ال َّله َّ‬
‫قال النبي ﷺ‪( :‬هلك المتنطعون)‪ ،‬ولن يفلحوا؛ َّ‬
‫َجعل يف هذه الحياة موازين‪ ،‬من زاد عليها َهلك‪ ،‬ومن نَقص عنها َهلك؛‬
‫لذلك قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وك ََذل ِ َك َج َع ْلنَاك ْم أ َّمة َو َسطا﴾ [البقرة‪ ،]143:‬وقال‬
‫سبحانه‪َ ﴿ :‬و َال َت ْج َع ْل َيدَ َك َم ْغلو َلة إِ َلى عن ِق َك َو َال َت ْبس ْط َها ك َّل‬
‫ط﴾ [اإلسراء‪.]29:‬‬ ‫البس ِ‬
‫َْ‬
‫قال‪( :‬قالها ثَلث ًا) يعني‪َّ :‬‬
‫كررها ثَلثا؛ لخطورة الغلو‪.‬‬
‫‪425‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأشدُّ الهالكين ‪ -‬كما َسبق ‪ -‬هو المتنطع يف الدين‪ ،‬بالغلو يف‬


‫الج ين؛ مِن ْ‬
‫أن َيذبح لهم‪،‬‬ ‫الغلو يف ِ‬
‫ي‬ ‫األولياء والصالحين والمَلئكة‪ ،‬حتى‬
‫َّ‬
‫أن يدعوهم من دون ال َّله‪ ،‬أو َيعتقد أهنم ينفعون أو ي‬
‫يضرون‪.‬‬ ‫أو ْ‬
‫مضرة‬
‫َّ‬ ‫لذلك ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الباب العظيم؛ ليبين‬
‫الغلو يف الصالحين‪ ،‬وأنه سبب الكفر‪.‬‬
‫وسبب الغلو يف الصالحين هو التصوير؛ لذا يجب علينا الحذر من‬
‫لئَل نقع يف الغلو ونَهلك‪.‬‬
‫هذه المنهيات‪َّ ،‬‬
‫***‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪426‬‬

‫[‪]20‬‬
‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل‬
‫باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬
‫صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!‬
‫حيحِ ‪ :‬ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله عنها‪« :‬أ َّن أ َّم سلمة ذكر ْت‬ ‫فِـي الص ِ‬
‫َّ‬
‫الصو ِر؛ فقال‪:‬‬ ‫ض الحبش ِة‪ ،‬وما فِيها ِمن ُّ‬ ‫ول ال َّل ِه ﷺ كنِيس ًة رأ ْتها بِأ ْر ِ‬
‫لِرس ِ‬

‫الصالِح ‪ -‬بن ْوا على ق ْبرِ ِه‬ ‫ِ‬


‫الصالح ‪ -‬أ ِو الع ْبد َّ‬ ‫الرجل َّ‬ ‫يهم َّ‬‫ك إِذا مات فِ ِ‬ ‫«أولئِ ِ‬

‫ك ِشرار الخ ْل ِق ِع ْند ال َّل ِه»‪.‬‬ ‫الصور‪ ،‬أولئِ ِ‬


‫جد ًا‪ ،‬وص َّوروا فِ ِيه تِ ْلك ُّ‬ ‫م ْس ِ‬

‫ور‪ ،‬وفِ ْتن ِة ال َّتامثِ ِ‬


‫يل‪.‬‬ ‫الف ْتنت ْي ِن‪ :‬فِ ْتن ِة القب ِ‬
‫فهؤَّل ِء جمعوا بين ِ‬
‫ْ‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ‪ ،‬ط ِفق‬ ‫ولهام‪ :‬ع ْنها رضي ال َّله عنها قال ْت‪« :‬لام ن ِزل بِرس ِ‬
‫َّ‬
‫اغت َّم بِها كشفها‪ ،‬فقال ‪ -‬وهو‬ ‫ي ْطرح خ ِميص ًة له على و ْج ِه ِه‪ ،‬فإِذا ْ‬
‫ود والنَّصارى‪ ،‬اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم‬ ‫كذلِك ‪« :-‬ل ْعنة ال َّل ِه على اليه ِ‬

‫اجد ‪ -‬يحذر ما صنعوا‪ ،‬ول ْوَّل ذاك أ ْبرِز ق ْبره؛ غ ْير أنَّه خ ِشي أنْ ي َّتخذ‬
‫مس ِ‬
‫م ْس ِ‬
‫جد ًا ‪ »-‬أ ْخرجاه‪.‬‬
‫‪427‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ب رضي ال َّله عنه قال‪ :‬س ِم ْعت رسول ال َّل ِه ﷺ‬ ‫ولِم ْسلِ ٍم‪ :‬ع ْن ج ْند ٍ‬

‫س وهو يقول‪« :‬إِني أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه أنْ يكون لِي ِم ْنك ْم‬ ‫ق ْبل أنْ يموت بِخ ْم ٍ‬

‫اهيم خلِي ً‬
‫َل‪.‬‬ ‫َل كام اتَّخذ إِبر ِ‬
‫ْ‬ ‫خلِ ٌيل‪ ،‬فإِ َّن ال َّله ق ِد اتَّخذنِي خلِي ً‬
‫َل؛ َّلتَّخ ْذت أبا ب ْكرٍ خلِي ً‬
‫َل‪.‬‬ ‫خذ ًا ِم ْن أ َّمتِي خلِي ً‬
‫ول ْو ك ْنت مت ِ‬
‫َّ‬
‫اجد‪ ،‬أَّل فَل‬ ‫خذون قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬ ‫أَّل وإِ َّن م ْن كان قبلكم كانوا يت ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ ْ‬
‫اجد؛ إِني أ ْنهاك ْم ع ْن ذلِك»‪.‬‬
‫خذوا القبور مس ِ‬ ‫تت ِ‬
‫َّ‬
‫آخرِ حياتِ ِه‪ ،‬ثم إِنَّه لعن ‪ -‬وهو فِـي السي ِ‬
‫اق ‪ -‬م ْن‬ ‫فق ْد نهى ع ْنه فِي ِ‬

‫فعله‪.‬‬
‫ج ٌد ‪ -‬وهو م ْعنى قولِها‪:‬‬ ‫الصَلة ِع ْندها ِم ْن ذلِك ‪ -‬وإِنْ ل ْم ي ْبن م ْس ِ‬
‫و َّ‬
‫الصحابة ل ْم يكونوا لِي ْبنوا ح ْول ق ْبرِ ِه‬ ‫«خ ِشي أنْ ي َّتخذ م ْس ِ‬
‫جد ًا»؛ فإِنْ َّ‬
‫م ْس ِ‬
‫جد ًا‪.‬‬
‫جد ًا؛ ب ْل ك ُّل م ِ‬
‫الصَلة فِ ِيه فق ِد اتخذ م ْس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وض ٍع‬ ‫وك ُّل موض ٍع قصدت َّ‬
‫جد ًا‬‫جد ًا؛ كام قال النَّبِ ُّي ﷺ‪« :‬ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ‬
‫يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ‬

‫وطهور ًا»‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪428‬‬

‫ود رضي ال َّله عنه م ْرفوع ًا‪« :‬إِ َّن ِم ْن‬ ‫و ِأل ْحمد بِسن ٍد جي ٍد‪ :‬ع ْن اب ِن مسع ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫خذون القبور‬ ‫َّاس‪ :‬م ْن ت ْد ِركهم الساعة وهم أ ْحيا ٌء‪ ،‬وا َّل ِذين يت ِ‬‫ِشر ِار الن ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫يح ِه»‪.‬‬
‫ح ِ‬‫اجد»‪ .‬ورواه أبو حاتِ ٍم فِي «ص ِ‬ ‫مس ِ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‬ ‫كأن سائَل يسأل‪ :‬ما الحكم إذا صليت ل َّله َّ‬
‫يف هذه الترمجة َّ‬
‫مخلِصا يف هذه الصَلة له وحده‪ ،‬لكن عند قبر رجلٍ‪ ،‬ما الحكم يف ذلك؟‬
‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛‬
‫الجواب‪( :‬باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬
‫فكِيف إِذا عبده؟!)‪.‬‬
‫يعني‪ :‬ما حكم ْ‬
‫أن َيفعل المسلم طاعة من الطاعات عند القبور؟‬
‫الحكم يف ذلك‪ :‬ال يجوز‪ ،‬وهو وسيل ٌة كبير ٌة إىل الشرك؛ بل قال‬
‫شيخ اإلسَلم‪« :‬الصَلة عند القبور – يعني‪ :‬ل َّله ‪ -‬هو عين المحا يدة ل َّله‬
‫ورسوله»(‪.)1‬‬
‫المسلِم ركعتين ‪ -‬مثَل ‪ -‬عند ٍ‬
‫قبر‪.‬‬ ‫فَل يجوز ْ‬
‫أن يصلي ْ‬
‫فإذا قيل‪ :‬ما حكم الصَلة يف المسجد الذي فيه قبر؟‬

‫(‪ )1‬اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ اإلسَلم (‪.)193/2‬‬


‫‪429‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ِ‬
‫نقول‪َ :‬ذهب أهل العلم إىل بطَلن الصَلة يف المسجد الذي فيه ٌ‬
‫قبر‪.‬‬
‫فإذا كان المسجد محاطا بأربعة جدران‪ ،‬والقبر يف داخله؛ ال يجوز‬
‫الصَلة فيه؛ بل هي باطل ٌة؛ كما قال ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم‬
‫رمحه ال َّله(‪ ،)1‬وكما َذكر ذلك الشيخ ابن ٍ‬
‫باز رمحه ال َّله(‪)2‬؛ ببطَلن الصَلة‬
‫قبر‪.‬‬
‫يف المسجد الذي فيه ٌ‬
‫قبر؛ ال تجوز‪ ،‬إال ما جاء النيص هبا‪ ،‬وهو‬ ‫ٍ‬
‫عبادة عند ٍ‬ ‫وهكذا ُّ‬
‫كل‬
‫الدعاء للميت فقط‪.‬‬
‫أن َيتصدي ق العبد يف المقابر؛ ألهنا عباد ٌة ل َّله ال يجوز‬
‫يعني‪ :‬ال يجوز ْ‬
‫ف ْعلها يف المقابر‪ ،‬وكذلك ال َيأخذ المصحف و َيقرأ القرآن يف المقابر‪.‬‬
‫ومنهي ْ‬
‫أن تتَّخذ المقابر أماكن‬ ‫ٌّ‬ ‫فالعبادات ال تف َعل يف المقابر‪،‬‬
‫للعبادات‪.‬‬
‫لذلك قال النبي ﷺ‪َ « :‬و َال َت ْج َعلوا بيو َتك ْم قبورا»(‪)3‬؛ يعني‪ :‬ال‬
‫َتجعلوها كالمقابر؛ ال ي َص َّلى فيها‪ ،‬وال يؤ َّدى فيها عبادةٌ؛ بمعنى‪ :‬أ َّنه‬

‫(‪ )1‬شرح كتاب التوحيد (ص ‪.)407‬‬


‫(‪ )2‬مجموع فتاوى ابن باز (‪.)296/10‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)8804‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪430‬‬

‫ٍ‬ ‫عبادة يف المقبرة ال تجوز؛ مِن‬


‫ٍ‬
‫صدقة‪ ،‬أو قراءة‬ ‫متقر ٌر عند الصحابة أ َّن ي‬
‫أي‬ ‫ي‬
‫بات ونحو ذلك‪.‬‬ ‫قرآن‪ ،‬أو تفريج كر ٍ‬
‫ٍ‬

‫وإنما تزار المقابر لثَلثة ٍ‬


‫أمور‪:‬‬
‫تذكير باآلخرة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬
‫األمر َّ‬
‫األمر الثاين‪ :‬الدعاء للميت‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬وفا ٌء للميت إذا ع ِرف بعينه؛ كما زار النبي عليه‬
‫الصَلة والسَلم قبر أمه آمنة(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫كصَلة‪ ،‬وصيا ٍم؛ كأن يكون صائما ويفطر عند‬ ‫ٍ‬
‫عبادة‬ ‫أي‬
‫فف ْعل ي‬
‫المقابر؛ ال يجوز؛ فليست المقابر أماكن للعبادات‪ ،‬وإنما تزار لألمور‬
‫الثَلثة السابقة؛ كما َذكر ذلك أيضا ابن القيم يف زاد المعاد(‪ )2‬فيما هو‬
‫المقصد من زيارة المقابر‪ ،‬و َّ‬
‫أن المقصد الشرعي هي األمور الثَلثة‪:‬‬
‫الدعاء للميت‪ ،‬تذكُّر اآلخرة‪ ،‬الوفاء للميت من ٍ‬
‫أب‪ ،‬أو أخٍ ‪ ،‬أو ٍّ‬
‫عم‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫أوصديق ونحوه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قريب‪،‬‬

‫ربه عز وجل يف زيارة قبر‬


‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب استئذان النبي ﷺ َّ‬
‫أمه‪ ،‬رقم (‪ ،)976‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪.)507/1( )2‬‬
‫‪431‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫شخص يف المقبرة صَلة العصر – مثَل ‪ ،-‬فما‬


‫ٌ‬ ‫فإذا قيل‪ :‬لو ص يلى‬
‫حكم هذه الصَلة؟‬
‫نقول‪ :‬يعيد الصَلة؛ وهي باطل ٌة‪.‬‬
‫ويف صحيح البخاري(‪َّ )1‬‬
‫أن عمر بن الخطاب رضي ال َّله عنه رأى‬

‫َأ َنسا رضي ال َّله عنه يصلي إىل القبر؛ فقال عمر‪« :‬ال َق ْبر الق ْبر»؛ ْ‬
‫أي‪ :‬احذر‬
‫القبر‪ ،‬وابتَعد عنه‪.‬‬
‫متقر ٌر عند الصحابة تحريم الصَلة عند القبر‪ ،‬والبعد عنه‪.‬‬
‫فهو ي‬
‫ٍ‬
‫شيء من هذه‬ ‫لصرف‬ ‫والشيطان له َم ٌ‬
‫كبير يف إغواء بني آدم؛ ْ‬
‫دخل ٌ‬
‫العبادة للميت‪ ،‬أو الخضوع له‪ ،‬أو ي‬
‫الذل له‪ ،‬أو الخوف منه‪ ،‬أو طلب‬
‫الرجاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عبادة عند القبور؛ بل‬ ‫أي‬
‫لذلك سدي ا لباب الذريعة؛ ال يجوز ف ْعل ي‬
‫غ يلظ النبي ﷺ يف ذلك؛ بل ل َعن؛ بل َذكر أهنم من شرار القوم عند ال َّله‪،‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية‪ ،‬ويتَّخذ‬
‫مكاهنا مساجد‪ ،‬رقم (‪.)427‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪432‬‬

‫وحتى يف آخر حياته ﷺ ي‬


‫يحذر من ذلك الفعل؛ فَل يجوز أن تؤ يدى‬
‫العبادة عند القبور؛ لخطورة ذلك‪.‬‬
‫يظ) أي‪ :‬من الوعيد والتهديد‪.‬‬‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬
‫(فِيم ْن عبد ال َّله) أي‪ :‬أنَّه َأخلص يف عبادته هذه ل َّله‪ ،‬ولكن المكان‬
‫منهي عن تلك العبادة فيه‪ ،‬ف َف َعل هذه العبادة خالصا ل َّله‪ ،‬لك ين المكان‬ ‫ٌّ‬
‫خطأ‪ ،‬وهو‪ِ ( :‬ع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ فكِيف إِذا عبده؟!)‪.‬‬
‫ٌ‬

‫فكأنه يقول لك‪ :‬فِ ْعل العبادة ل َّله عند القبر وسيل ٌة للشرك األكبر‪،‬‬
‫فكيف إذا عبده؟‬
‫يعني‪ :‬احذر فقد يؤ يدي بك الشيطان إىل عبادته من دون ال َّله‪.‬‬
‫دعوت ربك‪ ،‬ث يم يخيل لك الشيطان َّ‬
‫أن استجابة الدعاء بسبب‬ ‫َ‬ ‫فلو‬
‫ذلك الم ييت‪ ،‬فيزيغ الشيطان قلبك؛ فتؤدي العبادات لذلك القبر من‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪.‬‬ ‫دون ال َّله َّ‬
‫بمن‬
‫محذور؛ فكيف َ‬
‫ٌ‬ ‫فإذا كان هذا النهي وهي عباد ٌة ل َّله َّ‬
‫لكن المكان‬
‫َيفعل عبادة يصرفها لغير ال َّله‪ ،‬كمثل َمن يطوف عىل القبر‪ ،‬أو يدعوه من‬
‫دون ال َّله‪ ،‬أو يذبح له وغير ذلك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫‪433‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫كل‬ ‫صدقة‪ ،‬أو تَلوة ٍ‬


‫قرآن؛ ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صَلة‪ ،‬أو‬ ‫ألن عبادة ال َّله عند القبور من‬
‫َّ‬
‫ذلك وسيل ٌة للشرك‪.‬‬
‫النص فيه‬
‫فيبتعد عن أماكن القبور يف أداء العبادات فيها؛ إال ما جاء ُّ‬
‫كصَلة الجنازة(‪ ،)1‬أو الدعاء للميت بعد د ْفنه(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب كنْس المسجد والتقاط الخرق والقذى‬
‫والعيدان‪ ،‬رقم (‪ ،)458‬ومسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب الصَلة عىل القبر‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)956‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬أ َّن ا ْم َر َأة َس ْو َدا َء‬
‫َت َتق ُّم ال َم ْس ِجدَ ‪َ -‬أ ْو َش يابا ‪َ -‬ف َف َقدَ َها َرسول ال َّل ِه ﷺ‪َ ،‬ف َس َأ َل َعن َْها ‪َ -‬أ ْو‬
‫كَان ْ‬
‫ات‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أ َف ََل كنْت ْم آ َذنْتمونِي» َق َال‪َ :‬ف َك َأنَّه ْم َص َّغروا‬ ‫َعنْه ‪َ -‬ف َقالوا‪َ :‬م َ‬
‫َأ ْم َر َها ‪َ -‬أ ْو َأ ْم َره ‪َ -‬ف َق َال‪« :‬د ُّلونِي َع َلى َق ْب ِر ِه» َفدَ ُّلوه‪َ ،‬ف َص َّلى َع َل ْي َها‪ ،‬ث َّم َق َال‪:‬‬
‫ور َم ْملو َء ٌة ظ ْل َمة َع َلى َأ ْهلِ َها‪َ ،‬وإِ َّن ال َّل َه َع َّز َو َج َّل ينَور َها َله ْم‬ ‫ِ ِ‬
‫«إِ َّن َهذه القب َ‬
‫بِ َص ََلتِي َع َل ْي ِه ْم»‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب االستغفار عند القبر للميت يف وقت‬
‫االنصراف‪ ،‬رقم (‪ ،)3221‬من حديث عثمان رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ :‬‬
‫ان‬
‫اس َت ْغ ِفروا ِألَ ِخيك ْم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ف َع َليْه‪َ ،‬ف َق َال‪ْ « :‬‬
‫النَّبِي ﷺ‪ ،‬إِ َذا َفر َغ مِن د ْف ِن المي ِ‬
‫ت َو َق َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وسلوا َله بِال َّت ْثبِ ِ‬
‫يت‪َ ،‬فإِنَّه اآل َن ي ْس َأل»‪.‬‬ ‫َ َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪434‬‬

‫ث يم َذكر رمحه ال َّله أحاديث تب يين التغليظ يف ذلك بأنه وسيل ٌة من‬
‫وسائل الشرك‪.‬‬
‫والتع يلق بالصالحين بعد مماهتم هو أكبر أبواب الشرك‪ ،‬والدخول‬
‫خاصة من العوام‪.‬‬
‫فيها‪ ،‬والولوغ فيه َّ‬
‫فإذا رأوا رجَل صالحا‪ ،‬أو عابدا‪ ،‬أو زاهدا‪ ،‬أو عالما مات؛ تتعلق‬
‫القلوب به‪ ،‬بالعكوف عنده‪ ،‬وبطلب استجابة الدعوات‪ ،‬وتفريج‬
‫الكربات‪ ،‬واالستغاثات؛ بسبب جهلهم؛ فنفوسهم تتع يلق بالصالحين‪.‬‬
‫وسبق (‪َّ )1‬‬
‫أن المصنَّف رمحه ال َّله َذكر ثَلثة أبواب يف هذا المعنى يف‬ ‫َ‬
‫الغلو يف الصالحين يف هذا الباب‪ ،‬والباب السابق‪ ،‬ث يم الباب القادم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نصوص يف هذا الباب‪:‬‬ ‫والمصنَّف رمحه ال َّله َذكر أربعة‬
‫الصالِح) ‪-‬؛ لبيان‬
‫الرجل َّ‬ ‫ك إِذا مات فِ ِ‬
‫يهم َّ‬
‫النَّص األول – (أولئِ ِ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫صور للميت فيها من عادة اليهود‬ ‫ووضع‬
‫أن بناء القبور عىل المساجد ْ‬ ‫َّ‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫(‪( )1‬ص) عند قوله (أعقبها بثَلثة أبوا ٍ‬


‫ب ك ُّلها يف الغلو)‪.‬‬
‫‪435‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والنَّص الثاين – (ل ْعنة ال َّل ِه على اليهودِ والنَّصارى‪ ،‬اتَّخذوا قبور‬


‫فدل عىل َّ‬
‫أنَِه كبير ٌة‬ ‫توعدهم باللعن؛ َّ‬
‫أن ال َّله َّ‬ ‫أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬
‫اجد) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫والنَّص الثالث – (إِني أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه أنْ يكون لِي ِم ْنك ْم خلِ ٌيل) ‪-‬؛‬
‫لبيان َّ‬
‫أن النبي ﷺ هنى أ َّمته عن مشاهبتهم يف بناء المساجد عىل القبور‬
‫واتخاذ الصور فيها‪.‬‬
‫والنَّص الرابع – (إِ َّن ِم ْن ِشر ِار الن ِ‬
‫َّاس‪ :‬م ْن ت ْد ِركهم َّ‬
‫الساعة وه ْم‬
‫أ ْحيا ٌء) ‪-‬؛ َّ‬
‫أن َمن ف َعل ذلك من هذه األ َّمة؛ فهو من شرار‬
‫الخ ْلق ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫وقال المصنَّف رمحه ال َّله عن النص األَول‪( :‬فِي الص ِ‬
‫حيحِ )‪ ،‬يف‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ومسلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫البخاري‬
‫ُّ‬ ‫الحديث الصحيح الذي رواه‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ‬
‫(ع ْن عائِشة رضي ال َّله عنها‪ ،‬أ َّن أم سلمة‪ ،‬ذكر ْت لِرس ِ‬
‫َّ‬
‫ألن أ يم سلمة رضي ال َّله عنها‬‫ض الحبش ِة)؛ وذلك َّ‬ ‫كنِيس ًة رأ ْتها بِأ ْر ِ‬

‫هاجرت يف الهجرة األوىل إىل الحبشة‪.‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪436‬‬

‫ولما تو يفي أبو سلمة؛ َسمعت قول النبي ﷺ‪« :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه‬ ‫َّ‬
‫ف لِي َخ ْيرا مِن َْها»(‪.)1‬‬‫ون‪ ،‬ال َّله َّم ْأج ْرنِي فِي م ِصي َبتِي‪َ ،‬و َأ ْخلِ ْ‬ ‫ر ِ‬
‫اجع َ‬ ‫َ‬
‫فقالت‪َ :‬من يل خير مِن أبي سلمة؟‪ ،‬وقالت هذا الدعاء إيقانا بال َّله‬
‫خير من أبي سلمة‪ ،‬والحديث يف‬ ‫عز َّ‬
‫وجل بالنبي ﷺ ٌ‬ ‫فعوضها ال َّله َّ‬
‫أيضا؛ ي‬
‫المسنَد(‪.)2‬‬
‫َفرأت تلك الكنيسة‪( ،‬وما فِيها ِمن ُّ‬
‫الصو ِر) أي‪ :‬مِن صور معبوداهتم‬
‫من دون ال َّله من صالحيهم وغير ذلك‪ ،‬أو من الصور المع َّظمة عندهم‪.‬‬
‫فلما كانت يف الحبشة هناك؛ رأت كنيسة؛ َّ‬
‫ألن الحبشة كانت يف ذلك‬ ‫َّ‬
‫للنبي ﷺ ما رأت يف الكنيسة‪ ،‬وما فيها من‬
‫الزمان أرض نصارى‪ ،‬فحكت ي‬
‫ألن مِن فِرق النصارى َمن يصور يف كنائسهم؛ يصور مريم‪ ،‬أو‬
‫التصاوير؛ َّ‬
‫يصور عيسى‪ ،‬وبعض الفرق ال تصور‪ ،‬وال يضعون تصاوير ال لمريم وال‬
‫لعيسى عليهما السَلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما يقال عند المصائب‪ ،‬رقم (‪،)918‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪.)16344‬‬
‫‪437‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فذكرت أ ُّم سلمة رضي ال َّله عنها ذلك للنبي ﷺ؛ فقال النبي ﷺ‬ ‫َ‬
‫ك) بالكسر؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫محذرا لها‪ ،‬ومنبها من فعلهم وصنيعهم (فقال‪ :‬أولئِ ِ‬
‫ْ‬
‫ك إِذا مات فِ ِ‬
‫يه ِم َّ‬
‫الرجل‬ ‫المخا َطب أنثى ‪ -‬يعني‪ :‬يا أم سلمة ‪( -‬أولئِ ِ‬
‫الصالِح ‪ -‬أ ِو العبد الصالِح ‪ ،)-‬فالنفوس منذ ِ‬
‫القدَ م تتع َّلق بالصالحين‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫أكثر إذا ماتوا‪ ،‬والشيطان يحرص عىل هذا؛ كما ف َعل يف قوم نوحٍ ‪.‬‬
‫صالح؛ سعى الشيطان إىل إغواء العوا يم يف تع يلق‬ ‫ٌ‬ ‫فإذا مات رج ٌل‬
‫ٍ‬
‫متتالية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قرون‬ ‫القلب به؛ لتصرف العبادة له من دون ال َّله‪ ،‬ولو بعد‬
‫فهنا َيفعلون أمرين‪:‬‬
‫األول‪( :‬بن ْوا على ق ْبرِ ِه م ْس ِ‬
‫جد ًا) أي‪َ :‬يجعلون قبره يف داخل‬ ‫األمر َّ‬
‫مكان ث يم يبنون حوله مسجدا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫معبدهم‪ ،‬أو يضعونه يف‬
‫وليس المراد فقط تشييد المسجد باألعمدة والبناء؛ وإنَّما َيجعلون‬
‫عنده مكانا للصَلة‪ ،‬فيأتون عنده‪ ،‬ويعكفون عنده‪ ،‬ويزورونه‪.‬‬
‫سمى مسجدا؛ كما يفسر هذا شيخ اإلسَلم ‪ -‬كما‬ ‫والصَلة ت َّ‬
‫الصَلة فِ ِيه فق ِد ا ُّتخذ م ْس ِ‬
‫جد ًا؛ ب ْل ك ُّل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫سيأيت ‪( :-‬وك ُّل موض ٍع قصدت َّ‬
‫بن؛ بدليل قول النبي ﷺ‪:‬‬ ‫وإن مل ي َ‬‫جد ًا)‪ْ ،‬‬‫وض ٍع يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ‬
‫م ِ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪438‬‬

‫«ج ِع َل ْت ل ِ َي األَ ْرض َم ْس ِجدا َو َطهورا»(‪ ،)1‬فالمراد هنا‪َ :‬بنوا عىل قبره‬
‫مسجدا؛ يأتون ويص يلون عنده ل َّله‪.‬‬
‫واألمر الثاين الذي َيفعلونه؛ قال‪( :‬وص َّوروا فِ ِيه تِ ْلك ُّ‬
‫الصور)؛‬
‫ليتذكروا ذلك الرجل الصالح‪.‬‬
‫َمن هؤالء الصنف؟ وما موقف اإلسَلم منهم؟ وما مقدارهم‬
‫عند ال َّله؟‬
‫ك) يعني‪ :‬يا أم سلمة‪ِ ( ،‬شرار الخ ْل ِق‬
‫قال رسول ال َّله ﷺ‪( :‬أولئِ ِ‬

‫ِع ْند ال َّل ِه)؛ بسبب ف ْعلهم ذلك األمرين‪.‬‬


‫فشر الخ ْلق الذي يبني عىل القبور‪.‬‬
‫ي‬
‫وشر الخ ْلق الذي يصور تماثيلهم‪ ،‬و َيعكف عندهم‪.‬‬
‫هؤالء هم شرار الخ ْلق عند ال َّله‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب قول النبي ﷺ‪« :‬ج ِع َل ْت لِي األَ ْرض‬
‫َم ْس ِجدا َو َطهورا»‪ ،‬رقم (‪ ،)438‬ومسلم‪ ،‬كتاب المساجد ومواضع‬
‫الصَلة‪ ،‬باب جعلت يل األرض مسجدا وطهورا‪ ،‬رقم (‪ ،)521‬من حديث‬
‫جابر رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫‪439‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وضع‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل تحريم تعظيم قبور الصالحين سواء بالبناء عليها‪ ،‬أو ْ‬
‫عليها مسجدا‪ ،‬أو ج ْعل الدفن يف المسجد‪.‬‬
‫لما مات د َفنه الصحابة يف بيته يف بيت عائشة‬
‫وأ َّما ق ْبر النبي ﷺ‪ ،‬فإنَّه َّ‬
‫لما قال لهم أبو بكر‪ :‬سمعت‬ ‫رضي ال َّله عنها وليس يف المسجد؛ َّ‬
‫ِ‬
‫ح ْيث ي ْق َبض»(‪.)1‬‬‫النبي ﷺ يقول‪َ « :‬ما قبِ َض نَبِ ٌّي إِ َّال دف َن َ‬
‫َّ‬
‫فلما مات الخلفاء الراشدون رضي ال َّله عنهم‪ ،‬ومل َ‬
‫يبق أحدٌ من‬ ‫َّ‬
‫الصحابة يف المدينة؛ َأدخل الوليد بن عبد الملك توسعة شرقية َ‬
‫فجعلها‬
‫داخل المسجد‪ ،‬وإال فالنبي ﷺ مل يدفن يف المسجد وإنَّما يف بيته‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪( :‬فهؤَّل ِء جمعوا ب ْين الف ْتنتين‪ :‬فِ ْتن ِة القب ِ‬
‫ور)؛ ألنَّهم َبنوا‬
‫يل)؛ ألنَّهم َص َّوروا عليها تلك الصور‪.‬‬ ‫عليها‪( ،‬وفِ ْتن ِة ال َّتامثِ ِ‬

‫وهاتان المسألتان مها الباب إىل الشرك‪:‬‬

‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ذكْر وفاته ﷺ‪ ،‬رقم (‪ ،)1628‬من‬
‫حديث ابن عباس رضي ال َّله عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪440‬‬

‫‪ .1‬العكوف عند القبر؛ وال َّله يقول‪﴿ :‬و َال تب ِ‬


‫اشروه َّن َو َأنْت ْم‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫اج ِد﴾ [البقرة‪ ،]187:‬والعكوف المراد به‪:‬‬


‫ون فِي المس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َعاكِف َ‬

‫المكث‪.‬‬

‫‪ .2‬والصَلة عنده؛ فيأيت ويصيل ث يم َيذهب‪ ،‬ث يم يأيت ويصلي ث يم‬

‫َيذهب‪.‬‬

‫(وفِ ْتن ِة ال َّتامثِ ِ‬


‫يل) يعني‪ :‬التصوير‪ ،‬فيصورون صورة ذلك الرجل‬
‫صوروا مريم عليها‬
‫صوروا عيسى عليه السَلم‪ ،‬وكما ي‬
‫الصالح‪ ،‬كما ي‬
‫السَلم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متطاولة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قرون‬ ‫األول للشرك‪ ،‬ولو بعد‬
‫المدخل َّ‬‫والتصوير هو َ‬
‫حد من الصحابة و ِجدت؛ كيف ستتهافت‬ ‫أن صورة أل ٍ‬
‫فهب َّ‬
‫ْ‬
‫القلوب إليها‪ ،‬والنظر إليها؟‬
‫أن اإلسَلم‬ ‫أن يغلِق هذا الباب‪ ،‬كما َّ‬ ‫فدل عىل أ َّنه عىل اإلنسان ْ‬
‫ي‬
‫كل م َص يو ٍر فِي‬‫َأغلقه؛ كما قال النبي ﷺ‪َ « :‬ل َع َن ال َّله الم َصو َر»(‪ُّ « ،)1‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله‪( :‬والحديث‪َ « :‬ل َع َن ال َّله الم َصو َر»)‪.‬‬
‫‪441‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ون بِ َخ ْل ِق ال َّل ِه»(‪،)2‬‬


‫ين ي َضاه َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫النَّار»(‪َ « ،)1‬أ َشدُّ الن ِ‬
‫َّاس َع َذابا َي ْو َم الق َيا َمة ا َّلذ َ‬
‫ٍ‬
‫ومسلم‪.‬‬ ‫واألحاديث يف البخاري‬
‫أن وجود الصور‪ ،‬وإتيان الشخص للعكوف‬ ‫دل عىل َّ‬
‫فهذا الحديث ي‬
‫ك ِشرار الخ ْل ِق ِع ْند ال َّل ِه)‪.‬‬
‫عندها؛ هذا أمر مغ َّلظ؛ بدليل‪( :‬أولئِ ِ‬
‫ٌ‬
‫ث يم ب ْعد ذلك قال المصنَّف رمحه ال َّله‪( :‬ولهام) أيضا للبخاري‬
‫ول ال َّل ِه ﷺ) يعني‪:‬‬
‫ومسلم‪( ،‬ع ْنها رضي ال َّله عنها قال ْت‪ :‬لام ن ِزل بِرس ِ‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫َحضر ْته الوفاة‪( ،‬ط ِفق ي ْطرح خ ِميص ًة له على و ْج ِه ِه‪ ،‬فإِذا ْ‬
‫اغت َّم بِها كشفها)‬
‫يعني‪َ :‬جعل ينزع غطاء كان َيتغطى به من شدة الكرب؛ فينزعه من شدة‬
‫الكرب‪.‬‬
‫ود والنَّصارى؛ اتَّخذوا‬ ‫(فقال ‪ -‬وهو كذلِك ‪ :-‬ل ْعنة ال َّل ِه على اليه ِ‬

‫رمق يف حياة النبي ﷺ‪ ،‬وانظر إىل‬ ‫اجد)‪ ،‬فانظر إىل آخر ٍ‬ ‫قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬

‫عظيم‪«( :‬ل ْعنة ال َّل ِه على‬


‫ٍ‬ ‫نبوته؛ يحذر من ٍ‬
‫أمر‬ ‫حاله يف النزع‪ ،‬وانظر إىل آخر َّ‬

‫كل م َص يو ٍر فِي النَّار)‪.‬‬


‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله‪ :‬وأيضا يف البخاري(‪ُّ « :)1‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه (ص) عند قوله‪( :‬وقال النبي ﷺ‪َ « :‬أ َشدُّ الن ِ‬
‫َّاس)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪442‬‬

‫ود والنَّصارى‪ ،‬اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬


‫اجد») يعني‪َّ :‬‬
‫أن اليهود‬ ‫اليه ِ‬

‫والنصارى من عقيدهتم أهنم يتَّخذون القبر؛ يذهب إليه‪ ،‬ويعكفون عنده‪.‬‬


‫قبر وهو يف السماء‪ ،‬فكيف ا َّتخذوا قبر‬ ‫فإذا قيل‪ :‬ي‬
‫إن عيسى ليس له ٌ‬
‫نبيِهم مسجدا؟‬
‫نقول‪ :‬هذا يف معتقدهم‪ ،‬ففي معتقدهم‪ :‬أنَّهم َيفعلون ذلك‪ ،‬ويبنون‬
‫نبي مل يرفع؛ ل َفعلوا ذلك‪.‬‬
‫عىل قبورهم مساجد‪ ،‬ولو كان لهم ٌّ‬
‫كما أنَّه من معتقدهم عدم إعفاء اللحية‪ ،‬حتى ْ‬
‫إن أعفى منهم َمن‬
‫أعفى؛ لكنَّه ليس من معتقدهم‪.‬‬
‫وكذلك من معتقدهم‪ :‬الكذب‪ْ ،‬‬
‫وأخذهم الربا‪ ،‬ولو َصدقوا‪ ،‬ومل‬
‫يأخذوا الربا؛ فهذا ليس مِن معتقدهم‪.‬‬
‫فالنبي ﷺ ل َعن ٍ‬
‫ألمر ٍ‬
‫مهم؛ (يحذر ما صنعوا) أي‪ :‬ال َتفعلوا بي كما‬
‫َتفعل اليهود والنصارى فتدفنوين يف المسجد أو تبرزون قبري‪.‬‬
‫قالت عائشة‪( :‬ول ْوَّل ذاك) يعني‪ :‬ذلك النهي من النبي ﷺ؛ (أ ْبرِز‬

‫ق ْبره) يعني‪ :‬ألَبرز الصحابة قبره؛ لكن َّ‬


‫لما َعلموا بن ْهي النبي ﷺ عن‬
‫ذلك؛ مل َيدفنوه يف المسجد‪ ،‬وإنَّما دفنوه يف بيته رضي ال َّله عنهم؛ لئَل‬
‫‪443‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫تصاب هذه األمة باللعنة؛ باتخاذ قبره مسجدا‪ ،‬حتى أتى حديث أبو ٍ‬
‫بكر‬
‫أن األنبياء يدفنون يف المكان الذي قبِضوا فيه‪.‬‬
‫رضي ال َّله عنه َّ‬
‫فكان قبره ﷺ مصونا محفوظا يف بيت عائشة رضي ال َّله عنها؛ من‬
‫فسلِمت هذه األمة من اتخاذ قبر نبيها‬
‫أن يأيت الناس‪ ،‬ويص ُّلون إىل قبره‪َ ،‬‬
‫ْ‬
‫مسجدا‪.‬‬
‫ي‬
‫ودل الحديث عىل أنَّه ال يجوز اتخاذ قبور األولياء‪ ،‬وال األنبياء؛‬
‫مكانا يعبد ال َّله فيه‪.‬‬
‫فإذا كان المسجد الذي تؤ َّدى فيه العبادة ل َّله‪ ،‬ال يجوز أن يصىل فيه‬
‫قبر ألنَّه كبير ٌة من كبائر الذنوب؛ فكيف بمن يصلي‪ ،‬أو‬
‫إذا كان فيه ٌ‬
‫َيصرف العبادة لغير ال َّله؟!‬
‫الغلو يف قبور الصالحين‪.‬‬
‫ي‬ ‫ألن مِن أسباب الشرك‬
‫ونهي عن ذلك؛ َّ‬
‫وقد َذكر ابن القيم رمحه ال َّله بطَلن الصَلة يف المسجد الذي فيه‬
‫قبر(‪.)1‬‬
‫ٌ‬

‫(‪ )1‬زاد المعاد البن القيم (‪.)501/3‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪444‬‬

‫لما ص َّلى جهة‬ ‫ويف صحيح البخاري(‪ )1‬عن ٍ‬


‫أنس رضي ال َّله عنه َّ‬
‫القبر؛ قال له عمر‪« :‬ال َق ْب َر ال َق ْب َر»؛ يعني‪ :‬ابتعد عن القبر‪ ،‬فَل تجوز الصَلة‬
‫قبر ولو كانت الصَلة فيه ل َّله‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يف مسجد فيه ٌ‬
‫ب رضي ال َّله عنه‪ ،‬قال‪ :‬س ِم ْعت‬
‫قال رمحه ال َّله‪( :‬ولِم ْسلِ ٍم‪ :‬ع ْن ج ْند ٍ‬

‫رسول ال َّل ِه ﷺ ق ْبل أنْ يموت‪.)..‬‬


‫ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الدليل؛ ليبين لك التغليظ يف أنَّه ال‬
‫أي عبادة عند القبور‪.‬‬
‫يجوز أن تفعل ي‬
‫نبي‪ ،‬أو رج ٍل صالحٍ ؛‬ ‫عز َّ‬
‫وجل عند قبر أي ٍّ‬ ‫فلما كانت عبادة ال َّله َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫تحذير؛ بل إنَّه ل َعن من ف َعل‬ ‫وسيلة إىل الشرك؛ َّ‬
‫حذر منها النبي ﷺ أشدَّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫لئَل يتَّخذ‬ ‫وحذر النبي ﷺ أمته حتى ق ْبل أن يموت بخمس ٍ‬
‫ليال؛ َّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫قبره عليه الصَلة والسَلم مسجدا ويعبد من دون ال َّله‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية‪ ،‬ويتخذ‬
‫مكاهنا مساجد‪ ،‬رقم (‪.)427‬‬
‫‪445‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فقوله‪( :‬بِخ ْم ٍ‬
‫س) أي‪ :‬مخسة أيا ٍم؛ أي‪ :‬أن هذا الحكم مل ينسخ‪ ،‬فهو‬
‫من آخر ما قاله النبي ﷺ‪.‬‬
‫أن مطلع دعوة النبي ﷺ يف التوحيد؛ «قولوا َال إِ َل َه‬
‫ويدل أيضا عىل َّ‬
‫ًّ‬
‫إِ َّال ال َّله ت ْفلِحوا»(‪ ،)1‬وختامها بالتمسك بالتوحيد‪ ،‬والتحذير من وسائل‬
‫الشرك‪.‬‬
‫قال سمعته وهو يقول‪( :‬إِني أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه)‪ ،‬التبري‪ :‬كلمة وعيد‪،‬‬
‫والمراد به ليس من أتباع النبي ﷺ‪.‬‬
‫والمراد هنا‪( :‬أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه) أي‪ :‬أعلن وأبرئ ذمتي يف أنَّه ليس يف‬
‫ألحد من الخلق‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ن ْفسي خ َّل ٌة‬
‫يحب شخصا ل َّله؛‬
‫ُّ‬ ‫(أنْ يكون لِي ِم ْنك ْم خلِ ٌيل)‪ ،‬فمثَل لو َّ‬
‫أن شخصا‬
‫يحب البشر بعضهم بعضا ل َّله من الرسل‬
‫َّ‬ ‫فهذه المحبة عبادةٌ‪ ،‬فيجوز ْ‬
‫أن‬
‫ويحب النبي ﷺ صحابته‪ ،‬والصحابة يح يبون النبي ﷺ‬‫ي‬ ‫ومن دوهنم‪،‬‬
‫محبة ال ت ِ‬
‫خ ُّل بمحبة ال َّله‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)16023‬من حديث ربيعة بن عباد الدييل‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪446‬‬

‫الخ َّلة‪ :‬مرتب ٌة أعظم من المحبة؛ تخلو بالقلب كله؛ ْ‬


‫أي‪ :‬هذا القلب‬
‫ميل ٌء بالخ َّلة‪.‬‬
‫أن ما يف ق ْلب‬
‫فما يف ق ْلب النبي ﷺ من الخ َّلة مصروفا ل َّله‪ ،‬كما َّ‬
‫إبراهيم عليه السَلم من الخ َّلة مصروفا ل َّله‪.‬‬
‫وهذا من كمال العبودية ل َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫اهيم خلِي ً‬
‫َل) هذه‬ ‫ثم قال‪( :‬فإِ َّن ال َّله ق ِد اتَّخذنِي خلِيَل ًكام اتَّخذ إِبر ِ‬
‫ْ‬ ‫ي‬
‫معترض ٌة بينها وبين الجملة اآلتية‪( :‬ول ْو ك ْنت مت ِ‬
‫خذ ًا)‪ ،‬فمعنى‬ ‫ِ‬ ‫مجل ٌة‬
‫َّ‬
‫الكَلم‪ :‬أبرأ إىل ال َّله أن يكون يل منكم خليَل‪.‬‬

‫أن َأصرف ْ‬
‫مرتبة الخ َّلة له؛ كما َّ‬
‫أن إبراهيم‬ ‫(اتَّخذنِي)‪ :‬اصطفاين ْ‬
‫عليه السَلم خليل ال َّله‪.‬‬
‫وجل ا َّتخذ النبي ﷺ خليَل‪ ،‬فقوله‪(:‬فإ ِ َّن ال َّله ق ِد‬
‫عز َّ‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫ث يم بين َّ‬
‫يدل عىل إثبات صفة الخ َّلة ل َّله سبحانه وتعاىل كما‬ ‫َل)‪ ،‬هذا ُّ‬ ‫اتَّخذنِي خلِي ً‬
‫يليق بجَلله وعظمته‪ ،‬وهي منزل ٌة أعىل من المحبة‪.‬‬
‫بأن ال َّله ا َّتخذ خليلين له؛ إبراهيم‪ ،‬ومحمد ص َّلى ال َّله‬
‫وجاء النص َّ‬
‫عليهما وس َّلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجل ا َّتخذ خليَل غيرمها؛ لكن مل يأت به ٌّ‬
‫نص‪.‬‬ ‫عز َّ‬
‫وقد يكون ال َّله َّ‬
‫‪447‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫أي‪ :‬أنه يجوز للمسلم أن يدعو ال َّله أن يتَّخذه خليَل كما ا َّتخذ‬
‫إبراهيم خليَل‪.‬‬
‫تكر ٌم‬ ‫اهيم خلِي ً‬
‫َل) وهذا ُّ‬
‫َل كام اتَّخذ إِبر ِ‬
‫ْ‬ ‫(فإِ َّن ال َّله ق ِد اتَّخذنِي خلِي ً‬
‫وجل عىل إبراهيم ومحمد ص َّلى ال َّله عليهما وس َّلم‪.‬‬ ‫عز َّ‬‫من ال َّله َّ‬
‫َل َّلتَّخ ْذت أبا ب ْكرٍ خلِي ً‬
‫َل)‬ ‫خذ ًا ِم ْن أ َّمتِي خلِي ً‬
‫قال‪( :‬ول ْو ك ْنت مت ِ‬
‫َّ‬
‫ألحد لكانت ألبي ٍ‬
‫بكر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يعني‪ :‬لو كان يف قلبي خ َّل ٌة‬
‫رواية؛ قال‪« :‬و َلكِن َأ ِخي وص ِ‬
‫احبِي«؛‬ ‫ٍ‬ ‫ويف صحيح البخاري(‪ )1‬يف‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫يعني‪ :‬مح َّبة وليست خ َّلة‪.‬‬
‫الشاهد‪( :‬أَّل وإِ َّن م ْن كان ق ْبلك ْم) أي‪ :‬األمم السابقة من اليهود‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬باب قول النبي ﷺ‪َ « :‬ل ْو كنْت‬
‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪،‬‬ ‫مت ِ‬
‫َّخذا َخلِيَل»‪ ،‬رقم (‪ ،)3656‬من حديث ابن‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رضي ال َّله تعاىل عنهم‪ ،‬باب من فضائل‬
‫ٍ‬
‫مسعود‬ ‫الصديق أبي ٍ‬
‫بكر رضي ال َّله عنه‪ ،‬رقم (‪ ،)2383‬من حديث ابن‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪448‬‬

‫خذون قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬


‫اجد) يعني‪ :‬يتَّخذون ما حول القبر‬ ‫(كانوا يت ِ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫مسجد ‪ -‬كما سيأيت ‪.-‬‬ ‫مكانا لصَلهتم‪ ،‬وليس المراد فقط بناء‬
‫(أَّل فَل تت ِ‬
‫خذوا القبور) يعني‪ :‬ما حولها‪( ،‬مس ِ‬
‫اجد) يعني‪ :‬ال تص ُّلوا‬ ‫َّ‬
‫حول القبور‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مكان‬ ‫(إِني أ ْنهاك ْم ع ْن ذلِك) فنهى النبي ﷺ أن تفعل عباد ٌة ل َّله يف‬
‫قبر؛ قال شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله‪« :‬والصَلة عند القبر هو عين‬
‫فيه ٌ‬
‫المحا يدة ل َّله ورسوله»(‪)1‬؛ يعني‪ :‬عين العصيان؛ ألنَّه وسيل ٌة قوي ٌة‬
‫للشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫فمن أراد ْ‬
‫أن يصلي فل َيبتعد عن مكان القبور‪.‬‬ ‫َ‬
‫محر ٌم ووسيل ٌة للشرك‪.‬‬
‫تصريح بأنَّه َّ‬
‫ٌ‬ ‫ففي هذا‬
‫فهنا ق ْبل وفاته بخمسة أيا ٍم‪ ،‬وحديث عائشة رضي ال َّله عنها عند‬
‫النزع؛ ي‬
‫فدل عىل خطورة هذا األمر‪.‬‬
‫ث يم َذكر المصنَّف رمحه ال َّله قول شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله يف هذه‬
‫آخرِ حياتِ ِه‪ ،‬ثم إِنَّه‬
‫المسألة وإيضاحها‪ ،‬فقال‪( :‬فق ْد نهى ع ْنه فِي ِ‬

‫(‪ )1‬اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ اإلسَلم (‪.)193/2‬‬


‫‪449‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الصَلة ِع ْندها ِم ْن ذلِك ‪ -‬وإِنْ ل ْم‬ ‫لعن ‪ -‬وهو فِـي السي ِ‬


‫اق ‪ -‬م ْن فعله‪ ،‬و َّ‬
‫الصحابة‬ ‫ج ٌد ‪ -‬وهو م ْعنى قولِها‪« :‬خ ِشي أنْ ي َّتخذ م ْس ِ‬
‫جد ًا»‪ ،‬فإِ َّن َّ‬ ‫ي ْبن م ْس ِ‬

‫الصَلة فِ ِيه فق ِد‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫جد ًا‪ ،‬وك ُّل موض ٍع قصدت َّ‬ ‫ل ْم يكونوا لِي ْبنوا ح ْول ق ْبرِ ِه م ْس ِ‬

‫جد ًا؛ كام قال‬ ‫وض ٍع يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ‬‫جد ًا؛ ب ْل ك ُّل م ِ‬ ‫خذ م ْس ِ‬‫ا ُّت ِ‬

‫جد ًا وطهور ًا»)‪.‬‬ ‫النَّبِ ُّي ﷺ‪« :‬ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ‬

‫ب َّين شيخ اإلسَلم هنا ثَلث مسائل‪:‬‬


‫المسألة األولى‪ :‬تعدُّ د صيغ النهي عن اتخاذ القبور مساجد‪،‬‬
‫فالنبي ﷺ هنى بل لعن من فعل ذلك؛ كما قال‪«( :‬ل ْعنة ال َّل ِه على اليه ِ‬
‫ود‬ ‫َ َ َ‬
‫والنَّصارى‪ ،‬اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬
‫اجد»)‪.‬‬
‫الصَلة ِع ْندها ِم ْن ذلِك) يعني‪:‬‬
‫مهم ٌة؛ قال‪( :‬و َّ‬
‫المسألة الثانية‪ :‬وهي َّ‬
‫يت عليها مسجدا؛‬ ‫الصَلة عند القبور من اتخاذها مسجدا‪ ،‬كأنك بن َ‬
‫الصحابة ل ْم يكونوا لِي ْبنوا ح ْول ق ْبرِ ِه م ْس ِ‬
‫جد ًا)؛ وإنَّما‬ ‫لذلك قال‪( :‬فإ ِ َّن َّ‬
‫َخشي أن يأتوا ويص ُّلوا ل َّله عند قبر النبي ﷺ؛ لذلك كانت ترمجة الباب‪:‬‬
‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ )؛ ألنَّه وسيل ٌة‬
‫(باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬
‫للشرك‪.‬‬
‫والمسألة الثالثة‪َ :‬ذكر شيخ اإلسَلم َّ‬
‫بأن المسجد يطلق عىل أمرين‪:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪450‬‬

‫ٍ‬
‫مكان فهو مسجدٌ ‪ ،‬فإذا قصدت‬ ‫قصدت الصَلة يف‬ ‫األول‪ :‬إذا‬
‫َ‬ ‫األمر َّ‬
‫تبن عليه شيئا‪.‬‬‫قبر فيعتبر مسجدا وإن مل ِ‬ ‫الصَلة عند ٍ‬
‫ت الصَلة فِ ِيه فق ِد ا ُّت ِ‬
‫خذ م ْس ِ‬
‫جد ًا)؛‬ ‫وض ٍع ق ِصد ِ‬
‫واألمر الثاين‪( :‬وك ُّل م ِ‬
‫َّ‬
‫مثل‪ :‬الحرم ق ِصد فيه الصَلة؛ فهو مسجدٌ ‪ ،‬وكذلك مسجد الحي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مكان يص َّلى فيه فهو مسجدٌ ‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫فكل‬
‫مكان فيه قبر‪ ،‬ال ِ‬
‫تأت وتصل فيه؛ ألن النبي ﷺ ل َعن َمن ا يتخذ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬
‫ٌ‬
‫القبور مساجد‪.‬‬
‫يت مسجدا بناية عىل قبر؛ فهو مسجد‪ ،‬وإذا مل ِ‬
‫تبن عىل‬ ‫يعني‪ :‬إذا بن َ‬
‫صليت من غير بن ٍ‬
‫اية؛ فهو أيضا مسجدٌ ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫القبر بناية وإنما‬
‫واستدَ َّل بما يف الصحيحين‪«( :‬ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ‬
‫جد ًا‬
‫فكل األرض إذا صلي فيها تعتبر مسجدا للمسلِم‪.‬‬
‫وطهور ًا»)‪ُّ ،‬‬
‫شخص‪ :‬النبي ﷺ ل َعن من بنى المساجد عىل القبور‬
‫ٌ‬ ‫فلو قال لك‬
‫وعبدَ ها‪ ،‬ونحن مل نعبدْ ها؛ وإنَّما نحن نريد أن نصلي عند القبر من‬
‫غير بن ٍ‬
‫اء؟‬
‫تقول‪ :‬هذا َيدخل يف النهي‪.‬‬
‫‪451‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ثم بعد ذلك قال رمحه ال َّله‪( :‬و ِأل ْحمد بِسن ٍد جي ٍد‪ :‬ع ْن اب ِن مسع ٍ‬
‫ود‬ ‫ْ ْ‬ ‫ي‬
‫رضي ال َّله عنه م ْرفوع ًا‪« :‬إِ َّن ِم ْن ِشر ِار الن ِ‬
‫َّاس‪ :‬م ْن ت ْد ِركهم َّ‬
‫الساعة وه ْم‬
‫أ ْحيا ٌء»)‪.‬‬
‫شرا ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬ ‫(إِ َّن ِم ْن ِشر ِار الن ِ‬
‫َّاس) أي‪ :‬أشدُّ الناس ي‬
‫شر الخ ْلق صنفان‪:‬‬
‫و ُّ‬
‫األول‪( :‬م ْن ت ْد ِركهم َّ‬
‫الساعة وه ْم أ ْحيا ٌء) يعني‪ :‬الذين تقوم‬ ‫الصنف َّ‬
‫عليهم الساعة‪.‬‬
‫فالساعة تقوم وال يوجد أحدٌ يقول‪( :‬ال َّله ال َّله)‪ ،‬فتأيت آخر الزمان‬
‫إيمان – حتى لو كان يف ٍ‬
‫غار‪-‬؛‬ ‫ٍ‬ ‫ريح باردةٌ‪ ،‬فَل َتدع رجَل يف قلبه ذر ٌة من‬
‫ٌ‬
‫إال و َتنزع َ‬
‫روحه‪.‬‬
‫ث يم تقوم الساعة عىل ِشرار الخلق؛ ألهنم ال َيعبدون ال َّله‪.‬‬
‫اجد)‪ ،‬وهم الذين‬ ‫خذون القبور مس ِ‬ ‫والصنف الثاين‪( :‬وا َّل ِذين يت ِ‬
‫َّ‬
‫يأتون إليها‪ ،‬و َيعكفون‪ ،‬ويص ُّلون‪ ،‬حتى لو كانت العبادة مصروفة ل َّله؛‬
‫فكيف إذا َعبدوا أصحاب القبور‪.‬‬

‫فهم ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪ُّ -‬‬


‫شر الناس‪.‬‬

‫فإذا ا َّتخذوها مسجدا للصَلة ل َّله عندها؛ فهم ُّ‬


‫شر الناس‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪452‬‬

‫ٌ‬
‫شرك بال َّله‪.‬‬ ‫وإذا َعبدوا صاحب القبر؛ فهذا‬
‫فمن يفعل ذلك؛ فهو‬ ‫ٍ‬
‫بحجر ونحوه‪َ ،‬‬ ‫وإذا بنوا عليه مسجدا حسيا‬
‫من شرار الناس ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫قال‪( :‬ورواه أبو حاتِ ٍم)‪.‬‬
‫فدل الباب عىل َّ‬
‫أن العبادات ال تؤدى عند القبور حتى وإن كانت‬ ‫ي‬

‫خالصة ل َّله؛ فكيف َ‬


‫بمن يصرفها لصاحب القبر؛ فهذا أعظم وأعظم‪.‬‬
‫ودل عىل أن القبور يحرم البناء عليها‪ ،‬أو تجصيصها‪ ،‬أو تمييز ٍ‬
‫قبر‬ ‫َّ‬
‫عن آخر‪ ،‬أو أن يص َّلى عند أي ٍ‬
‫قبر ‪ -‬ولو كان صاحب القبر كافرا ‪ ،-‬ومن‬
‫ٌ‬
‫شرك أكبر ‪ -‬والعياذ‬ ‫باب َأوىل ال يجوز أن يدعى صاحب ذلك القبر؛ ألنه‬
‫بال َّله ‪.-‬‬
‫خاصة ما َذكره شيخ‬ ‫َّ‬ ‫فيجب عىل المسلم أن َيعلم هذه المسألة‪،‬‬
‫خذ م ْس ِ‬
‫جد ًا؛ ب ْل ك ُّل‬ ‫ت الصَلة فِ ِيه فق ِد ا ُّت ِ‬
‫وض ٍع ق ِصد ِ‬
‫أن (ك ُّل م ِ‬ ‫اإلسَلم َّ‬
‫َّ‬
‫جد ًا)؛ وهذا هو خَلصة ما يف هذا الباب‪.‬‬ ‫وض ٍع يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ‬
‫م ِ‬

‫***‬
‫‪453‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫[‪]21‬‬
‫ور الصالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حين يصيرها أ ْوثان ًا‬ ‫باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ‬
‫ون ال َّل ِه‬
‫ت ْعبد ِم ْن د ِ‬
‫روى مالِ ٌك فِـي «المو َّطأ»؛ أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬ال َّله َّم َّل ت ْجع ْل‬
‫ق ْبرِي وثن ًا ي ْعبد‪ْ ،‬اشتدَّ غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم‬
‫مس ِ‬
‫اجد»‪.‬‬
‫اه ٍد فِـي ق ْولِ ِه‪:‬‬ ‫و َِّل ْب ِن جرِيرٍ بِسن ِد ِه‪ :‬ع ْن س ْفيان‪ ،‬ع ْن م ْنص ٍ‬
‫ور‪ ،‬ع ْن َم ِ‬

‫الَلت والعزَّى﴾‪.‬‬
‫﴿أفرأ ْيتم َّ‬
‫الس ِويق‪ ،‬فامت؛ فعكفوا على ق ْبرِ ِه»‪.‬‬ ‫قال‪ :‬كان يل ُّت لهم َّ‬
‫اس رضي ال َّله عنهام‪« :‬كان يل ُّت‬ ‫اء‪ ،‬ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬‫وكذا قال أبو الج ْوز ِ‬

‫الس ِويق لِ ْلحاج»‪.‬‬‫َّ‬


‫اس ر ِضي ال َّله عنهام قال‪« :‬لعن رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ‬
‫ات‬ ‫وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬

‫السن ِن‪.‬‬
‫السرج» رواه أ ْهل ُّ‬‫اجد و ُّ‬ ‫خ ِذين عل ْيها المس ِ‬ ‫ور‪ ،‬والمت ِ‬
‫َّ‬ ‫القب ِ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪454‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫ور الصالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حين يصيرها‬ ‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ‬
‫ون ال َّل ِه)‪.‬‬
‫أ ْوثان ًا ت ْعبد ِم ْن د ِ‬

‫(باب ما جاء) أي‪ :‬من األد َّلة‪ ،‬والبراهين‪ ،‬واألمثلة التي َوقعت عىل‬
‫ور الصالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حين) أو غير الصالحين‪،‬‬ ‫(أ َّن الغل َّو) وهو مجاوزة الحد‪( ،‬في قب ِ َّ‬
‫ألن النفوس َتضعف عند ق ْبر َّ‬
‫الرجل الصالح‪.‬‬ ‫ص الصالحين؛ َّ‬
‫ولكن خ َّ‬
‫المسلِم ْ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫الغلو يف الصالحين‪ ،‬فعىل ْ‬
‫ُّ‬ ‫فمن أعظم وسائل الشرك‪:‬‬
‫يكون هنْجه الوسط فَل َيرفعهم فوق مرتبتهم‪ ،‬وال َيحقرهم؛ بل الواجب‬
‫تبجيلهم‪ ،‬واحترامهم؛ فهم ورثة األنبياء ِ‬
‫بالعلم ال بالدرهم وال بالدينار‪.‬‬
‫أن لهم شأنا عظيما‪ ،‬و َّ‬
‫أن لهم من مرتبة‬ ‫ولما اعتقد بعض الناس َّ‬
‫َّ‬
‫وقوع يف الشرك؛ ف َعقد المصنف رمحه ال َّله هذه‬
‫ٌ‬ ‫الربوب َّية ما لهم؛ كان منهم‬
‫ٍ‬
‫أبواب‪ :‬هذا الباب‪ ،‬والبابين السابقين‪.‬‬ ‫المسألة يف ثَلثة‬
‫درأ ليس خشي َة ْ‬
‫أن يعبدوا مجيعهم؛ وإنَّما لو‬ ‫والغلو يف الصالحين ي َ‬
‫ُّ‬
‫شخص واحدٌ ؛ فهنا تقع المفسدة؛ لهذا َذكر المصنف رمحه ال َّله‬
‫ٌ‬ ‫عبِدَ حتى‬
‫وب يين لك َّ‬
‫أن سبب عبادة الَلت التي َعكف عليها آالف البشر كان بسبب‬
‫الغلو‪.‬‬
‫ي‬
‫‪455‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فالغلو يف الصالحين وسيل ٌة للشرك‪ ،‬والَلت عبدت من دون ال َّله‬


‫ُّ‬
‫يلت‬
‫نظرت إىل عمله؛ لوجدته يسيرا‪ ،‬فكان ُّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫متفاوتة‪ ،‬ولو‬ ‫ٍ‬
‫قرون‬ ‫بعد‬
‫فوضعوا له صنما عىل قبره حتى صار وثنا‪.‬‬ ‫العجين للح َّجاج‪ ،‬فمات؛ َ‬
‫يأت يف هذه األ َّمة َّإال من باب األموات؛ لذلك يجب عىل‬ ‫والشرك مل ِ‬

‫أمور‪:‬‬ ‫المسلِم ْ‬
‫أن يكون متوازنا يف زيارة القبور‪ ،‬ف َيجعل َمقصده ثَلثة ٍ‬ ‫ْ‬
‫وها َفإِن ََّها‬
‫األول‪ :‬العظة والعبرة؛ كما يف الحديث‪َ « :‬فزور َ‬ ‫األمر َّ‬
‫ت َذكرك ِم اآل ِخ َر َة»(‪.)1‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬وفاء للميت إذا ق ِصد بعينه كاألب أو األ يم أو األخ‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬الدعاء للميت‪.‬‬
‫فمن زاد عن هذه األمور الثَلثة؛ فقد َوقع يف المحظور‪.‬‬
‫َ‬
‫فَل يع َكف عندها‪ ،‬وال ي َ‬
‫دعى عندها‪ ،‬وال تد َعى هي‪.‬‬
‫ويأيت الشيطان بشبهة القبور؛ َّ‬
‫ألن الرجل الصالح م يي ٌت ال يستطيع‬
‫أن ينكِر ما َوقع عىل قبره‪.‬‬
‫ْ‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)1236‬من حديث عيلٍ رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪456‬‬

‫(يصيرها أ ْوثان ًا) أي‪ :‬أن ُّ‬


‫الغلو يصير تلك القبور بعد ْ‬
‫أن كانت قبورا؛‬
‫تصبح أوثانا تعبد‪ ،‬وتزار‪ ،‬وتدعى‪ ،‬وهذا ما سعى إليه الشيطان بعد عشرة‬
‫ٍ‬
‫قرون؛ فقد استدرج بني آدم حتى َوقعوا يف الشرك‪ ،‬حتى َبعث ال َّله نوحا؛‬
‫وإال َق ْبله كان الناس أ يمة واحدة حتى َوقع الشرك‪.‬‬
‫أي‪َ :‬أصبحت أوثانا‪ ،‬وقد سبق أنَّه بسبب غلو‬ ‫(تعبد ِم ْن د ِ ِ‬
‫ون ال َّله) ْ‬
‫أن َعبدوهم من دون ال َّله‪.‬‬
‫نوح يف صالحيهم؛ ْ‬
‫قوم ٍ‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله الترمجة عىل حال َّ‬
‫الَلت‪ :‬كان قبرا لرج ٍل‬
‫فلما مات؛ َعبدوه‬
‫لت العجين؛ أي‪ :‬يضع معه الماء والسمن‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫صالح‪َ ،‬ي ُّ‬
‫من دون ال َّله‪.‬‬
‫ولو مات الرجل الصالح ودفِن‪ ،‬ومل تف َعل معه سوى األمور الثَلثة‬
‫مِن الدعاء له‪ ،‬وزيارته‪ ،‬وتذكُّر الموت فقط ال يزاد عن ذلك؛ فَل بأس‪،‬‬
‫خطير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫باب‬
‫أ يما العكوف عنده‪ ،‬وكثرة اعتياد زيارته‪ ،‬حتى يغَل فيه؛ فهذا ٌ‬
‫ٍ‬
‫نصوص يف هذا الباب‪:‬‬ ‫و َذكر المصنف رمحه ال َّله ثَلثة‬
‫‪457‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫األول – (ال َّله َّم َّل ت ْجع ْل ق ْبرِي وثن ًا ي ْعبد) ‪-‬؛ لبيان خطورة‬
‫النَّص َّ‬
‫الغلو يف قبور الصالحين؛ فالنبي ﷺ دعا َّأال يكون وثنا(‪ ،)1‬وهنى – كما‬
‫سيأيت ‪ -‬أن يتَّخذ قبره عيدا(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫عباس ومجاهد ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن سبب عبادة‬ ‫والنَّص الثاين – قول ابن‬
‫ٍ‬
‫صالح‪.‬‬ ‫الغلو يف رج ٍل‬
‫ُّ‬ ‫الَلت هو‬
‫ور) ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن‬ ‫والنَّص الثالث – (لعن رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ‬
‫ات القب ِ‬

‫السرج عليها‪ ،‬وإيقادها‪ ،‬و َتطييبها؛‬


‫ووضع ُّ‬
‫الصَلة عند قبور الصالحين‪ْ ،‬‬
‫وسيل ٌة من وسائل الشرك؛ ألنَّه من الغلو فيها‪.‬‬
‫األول‪( :‬روى مالِ ٌك فِي «المو َّطأ»؛ أ َّن‬‫َّص َّ‬ ‫وقال رمحه ال َّله عن الن ي‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ قال‪« :‬ال َّله َّم َّل ت ْجع ْل ق ْبرِي وثن ًا ي ْعبد)‪ ،‬واتخاذه وثنا يعبد‬
‫ِ‬
‫واتخاذه عيدا‪.‬‬ ‫بك ْثرة العكوف عنده‬

‫ٌ‬
‫مالك يف الموطأ‪ ،‬كتاب الصَلة‪ ،‬باب جامع الصَلة‪ ،‬رقم (‪ ،)85‬من‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫حديث عطاء بن يسار رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬ال َّله َّم َال َت ْج َع ْل َق ْب ِري َو َثنا‬
‫ي ْع َبد»‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)8804‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪،‬‬
‫َّخذوا َق ْب ِري ِعيدا»‪.‬‬
‫ولفظه‪َ « :‬ال َتت ِ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪458‬‬

‫لئ ََّل يغَل يف قبره؛ أي‪ :‬يصلي الناس إليه سواء بتحديد ٍ‬
‫زمن كيوم‬
‫العيد أو الجمعة‪ ،‬أو يكون قبره مكانا يعاد مرة بعد أخرى‪.‬‬
‫وجل َيشتدي غضبه من ذلك الف ْعل؛ فقال‪ْ ( :‬اشتدَّ‬ ‫عز َّ‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫ثم ب َّين َّ‬
‫الغلو‬
‫ُّ‬ ‫اجد)‪ ،‬أيضا بسبب‬ ‫غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬

‫أي‪ :‬مكانا يع َبد فيه‪.‬‬


‫خذت قبورهم مساجد؛ ْ‬
‫ْ‬ ‫فيهم؛ فا يت‬
‫والمقابر ليس هذا ما يصنَع فيها‪ ،‬وليس هذا ما و ِض َعت له؛ وإنما‬
‫وضعت لستر الميت ال ْ‬
‫أن تج َعل مساجد‪ ،‬أو أضرحة ظاهرة‪.‬‬
‫ودل هذا الحديث عىل إثبات صفة الغضب ل َّله عىل ما يليق بجَلله‬
‫َّ‬
‫وعظمته‪.‬‬
‫أن غضب ال َّله َيشتدُّ ؛ فمنه ما هو شديدٌ ‪ ،‬ومنه ما هو‬
‫ودل أيضا عىل َّ‬
‫َّ‬
‫أشد‪.‬‬
‫ومما اشتد فيه غضب ال َّله‪( :‬على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم‬
‫َّ‬
‫مس ِ‬
‫اجد) يعني‪ :‬يص ُّلون عندها‪.‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن من أعظم وسائل عبادة النبي ﷺ هو الغل ُّو يف قبره‬ ‫َّ‬
‫باتخاذه عيدا يعاد‪ ،‬ثم وثنا يعبد؛ بسبب الوصول إىل قبره والصَلة عنده‪.‬‬
‫‪459‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وجل قد استجاب لدعاء النبي ﷺ فَل أحد يستطيع أن‬ ‫عز َّ‬
‫وال َّله َّ‬
‫وجل بجدران‪ ،‬ومِن خ ْلف الجدران‬
‫َّ‬ ‫َيصل إىل قبره‪ ،‬وأحاطه ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫حواجز؛ فلذا ال أحد يستطيع أن يصل إىل قبره؛ وهذا من ح ْفظ ال َّله َّ‬
‫عز‬
‫لئَل ي ْعبد‪ ،‬وكذلك من رمحة ال َّله بالناس؛ َّ‬
‫لئَل يقعوا يف‬ ‫َّ‬
‫وجل للنبي ﷺ؛ َّ‬
‫الشرك‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬هل يع َقل َّ‬
‫أن قبر رج ٍل صالحٍ يج َعل وثنا؟ نقول‪ :‬نعم‪.‬‬
‫يخذ قبره‬ ‫خشي ْ‬
‫أن يت َ‬ ‫َ‬ ‫فإذا قيل‪ :‬ما هو الدليل؟ نقول‪َّ :‬‬
‫أن النبي ﷺ‬
‫وثنا من دون ال َّله‪.‬‬
‫وبعض أهل ِ‬
‫العلم(‪َ )1‬ذهب إىل َّ‬
‫أن ال َّله استجاب دعوته؛ فحمى قبره‬
‫بالحيطان التي ق ْبل قبره فَل يوصل إليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬كابن الق ييم رمحه ال َّله؛ حيث يقول يف نونيته – الكافية الشافية ‪( -‬ص‪:)252‬‬
‫ضمه وثنا من األوثان‬
‫قد َّ‬ ‫ودعا بأن ال يجعل القبر الذي‬
‫ِ‬
‫الجدران‬ ‫ِ‬
‫بثَلثة‬ ‫وأحاطه‬ ‫رب العالمين دعا َءه‬
‫فأجاب ُّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪460‬‬

‫ٍ‬
‫لحكمة‪،‬‬ ‫عز َّ‬
‫وجل مل يستجبها؛‬ ‫أن ال َّله َّ‬
‫وبعض أهل العلم َذهب إىل َّ‬
‫أن قبره قد يج َعل يف بعض األوثان‪ ،‬يع َبد من دون ال َّله‪ ،‬وليس المقصود‬
‫و َّ‬
‫فكل ما عبد من دون ال َّله يط َلق عليه وثن‪.‬‬
‫يوضع صنما؛ ُّ‬ ‫ْ‬
‫أن َ‬
‫ويدل الحديث عىل ِعظم وتحريم بناء المساجد عىل القبور‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫غضب ال َّله‪ ،‬وعبادهتا من دون ال َّله‬
‫ودعوهتا من دون ال َّله؛ ألنَّها توجب َ‬
‫أشدي وأشدي ‪.‬‬
‫لذا يجب إذا دفِن الرجل الصالح‪ ،‬وغير الصالح من المسلمين؛ أ ْن‬
‫يدفن يف مقابر المسلمين فَل ير َفع‪ ،‬وال ي َم ييز عن غيره؛ وإنَّما هو كغيره‬
‫من ِعباد ال َّله يدفن يف المقابر‪.‬‬
‫والنبي ﷺ دعا َّأال يج َعل قبره وثنا يع َبد‪ ،‬واللفظة الثانية شاهد ٌة عىل‬ ‫ي‬
‫الباب‪ْ ( :‬اشتدَّ غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ‬
‫اجد)‪.‬‬
‫‪461‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الطبري يف تفسيره‪( ،‬بِسن ِد ِه‪ :‬ع ْن س ْفيان)‬


‫ي‬ ‫ثم قال‪( :‬و َِّل ْب ِن جرِيرٍ) أي‪:‬‬
‫اه ٍد فِي ق ْولِ ِه) أي‪ :‬يف تفسير‬
‫معتمر(‪( ،)2‬ع ْن َم ِ‬
‫ٍ‬ ‫الثوري(‪( )1‬ع ْن م ْنص ٍ‬
‫ور) بن‬
‫والَلت كانت إحدى ثَلثة أصنا ٍم‬
‫الَلت والعزَّى﴾)‪َّ ،‬‬
‫قوله‪﴿( :‬أفرأ ْيتم َّ‬
‫هي أكبر أصنام العرب‪ ،‬وهي يف الطائف‪.‬‬
‫واللت‪ :‬هو خ ْلط الدقيق‪ ،‬أو الحنطة‬ ‫ُّ‬ ‫الس ِويق)‪،‬‬
‫(قال‪ :‬كان يل ُّت لهم َّ‬
‫بالماء أو السمن(‪)3‬؛ (فامت؛ فعكفوا على ق ْبرِ ِه)‪ ،‬وهو ليس له منقبة عالية‬
‫لما َغلو يف قبره؛ جعل‬ ‫ِ‬
‫لكن َّ‬
‫النبوة‪ ،‬أو الرسالة؛ وإنَّما َيصنع طعاما ْ‬ ‫مثل َّ‬
‫قبره مِن أعظم األصنام‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري‪ ،‬ولد‬
‫النبَلء‬ ‫أعَلم‬ ‫سير‬ ‫سنة (‪126‬هـ)‪.‬‬ ‫وتويف‬ ‫سنة (‪97‬هـ)‪،‬‬
‫للذهبي (‪.)229/7‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو عتاب منصور بن المعتمر السلمي‪ ،‬تويف سنة (‪132‬هـ)‪ .‬سير أعَلم‬
‫النبَلء للذهبي (‪.)402/5‬‬
‫(‪ )3‬مقاييس اللغة البن فارس (‪ ،)200/5‬لسان العرب البن منظور (‪.)83/2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪462‬‬

‫ك َّ‬
‫أن المصنف يقول‪ :‬أنا سقت لك هذه الترمجة‪ ،‬وب َّينت لك معبودا‬
‫ٍ‬
‫عباس‬ ‫كثير من البشر‪ ،‬وهو الَلت‪ ،‬وسقت لك تفسير ابن‬ ‫واحدا ي‬
‫ضل فيه ٌ‬
‫الغلو فيه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أن سبب عبادة الَلت من دون ال َّله هو‬
‫ومجاهد عىل َّ‬
‫ويلت لهم العجين‬
‫ُّ‬ ‫فكان يغتنم َمقدم الحجاج من الطائف إىل مكة‪،‬‬
‫حتى يصبح لينا‪ ،‬و َيطبخه‪ ،‬ويقدمه لهم‪.‬‬
‫فلما مات؛ عبدوه من دون ال َّله‪.‬‬
‫َّ‬
‫ولشنيع ف ْعلهم؛ نَزل القرآن بالتحذير مما يف َعل عنده‪﴿( :‬أفرأ ْيتم‬
‫الَلت والعزَّ ى﴾)؛ بسبب الغلو يف الصالحين‪.‬‬ ‫َّ‬
‫اس رضي ال َّله عنهام‪« :‬كان‬ ‫قال‪( :‬وكذا قال أبو الج ْوز ِ‬
‫اء‪ ،‬ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ‬
‫ٍ‬
‫عباس‪ ،‬واألثر يف‬ ‫ٌ‬
‫تلميذ البن‬ ‫الس ِويق لِ ْلحاج»)‪ ،‬وأبو الجوزاء(‪ )1‬هو‬ ‫يل ُّت َّ‬
‫البخاري(‪ ،)2‬وأثر ابن جرير وأبو الجوزاء صحيحان‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو الجوزاء أوس بن عبد ال َّله الربعي البصري‪ ،‬قتل يوم الجماجم‬
‫سنة (‪83‬هـ)‪ .‬سير أعَلم النبَلء للذهبي (‪.)371/4‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪َ ،‬باب ﴿ َأ َف َر َأ ْيتم َّ‬
‫الَل َت َوالع َّزى﴾‬
‫[النجم‪ ،]19:‬رقم (‪.)4859‬‬
‫‪463‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ٍ‬
‫عباس رضي ال َّله عنهما‪( :‬لعن‬ ‫ثم بعد ذلك َذكر حديث ابن‬
‫السرج)‪.‬‬ ‫خ ِذين عل ْيها المس ِ‬
‫اجد و ُّ‬
‫ور والمت ِ‬
‫َّ‬
‫رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ‬
‫ات القب ِ‬

‫الغلو يف القبور إسراجها‪ ،‬وإضاءهتا‪،‬‬


‫َّ‬ ‫ومناسبته للترمجة‪َّ :‬‬
‫بأن‬
‫ووضع بنايات عليها‪ ،‬واألضرحة ونحو ذلك‪.‬‬
‫ْ‬
‫وزيارة القبور يف الشرع مرت بمراحل‪:‬‬
‫َّأو ً‬
‫َّل‪ :‬كان الجميع يزور‪.‬‬
‫ثم جاء الشرع بنهي الجميع ‪ -‬الرجال والنساء ‪ -‬عن زيارة‬
‫خشى عليها التع ُّلق بالمعبودات‬ ‫القبور(‪)1‬؛ َّ‬
‫ألن النفوس يف صدْ ر اإلسَلم ي َ‬
‫من دون ال َّله من األموات‪.‬‬
‫فلام قوي اإليمان يف النفوس؛ أبيح للرجال‪ ،‬وبقي النهي عىل النساء؛‬ ‫َّ‬
‫وها َفإِن ََّها ت َذكرك ِم‬ ‫قال ﷺ‪« :‬إِني كنْت ن ََه ْيتك ْم َع ْن ِز َي َار ِة القب ِ‬
‫ور َفزور َ‬
‫اآل ِخ َر َة»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬لحديث‪« :‬إِني كنْت ن ََه ْيتك ْم َع ْن ِز َي َار ِة القب ِ‬


‫ور»‪ .‬سبق تخريجه (ص)‪ .‬عند‬
‫األول‪ :‬العظة والعبرة)‪.‬‬
‫قوله (األمر َّ‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه (ص)‪ .‬عند قوله (العظة والعبرة؛ كما يف الحديث‪:‬‬
‫« َفزور َ‬
‫وها)‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪464‬‬

‫ويف هذا الحديث مفهوم إباحة الزيارة للرجال‪ ،‬والمرأة قلبها‬


‫ضعيف‪ ،‬و َيتع َّلق باألموات يف دعائهم‪ ،‬ويخشى عليها من الشرك‪،‬‬
‫ٌ‬
‫والتسخط‪ ،‬وعدم الستر‪ ،‬وعدم العفاف‪ ،‬فقد َت َّ‬
‫تكشف عند‬ ‫ي‬ ‫والتجزع‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ٌ‬
‫مكان للعظة والعبرة؛ فنهيت‬ ‫الخروج‪ ،‬وقد َت ي‬
‫تجمل يف هذا المكان‪ ،‬وهو‬
‫زيارة النساء لها‪.‬‬
‫وليس المراد بالمسجد يف القبور هو التشييد بالمبنى؛ وإنَّما وقوع‬
‫العبادة‪ ،‬وإذا ش ييدت؛ كان التحريم أغلظ‪.‬‬
‫َّ‬
‫وجل‪ ،‬فالرسول َيلعن من‬ ‫ودل عىل إثبات صفة اللعن ل َّله َّ‬
‫عز‬ ‫َّ‬
‫ور)؛ َّ‬
‫فدل عىل‬ ‫لعن ال َّله؛ لذلك قال‪( :‬لعن رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ‬
‫ات القب ِ‬

‫صحابيات ك َّن َيزرن القبور‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫تحريم زيارة النساء للقبور؛ لذلك ال يعرف‬
‫السرج) أي‪ :‬يص ُّلون عندها‬ ‫خ ِذين عل ْيها المس ِ‬
‫اجد و ُّ‬
‫قال‪( :‬والمت ِ‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫أن الصَلة عند القبور‪ ،‬وإيقادها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل‬ ‫ويوقدوهنا؛‬
‫وضع الحبوب‬ ‫وإسراجها – يعني‪ْ :‬‬
‫وضع السرج عليها ‪ ،-‬وكذلك ْ‬
‫‪465‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫كل ذلك من الغلو فيها‪َّ ،‬‬


‫فدل عىل‬ ‫عليها‪ ،‬والبناء عليها‪ ،‬والكتابة عليها؛ ُّ‬
‫وجوب الحذر من الغلو يف أي ٍ‬
‫قبر بأي نو ٍع من األنواع‪.‬‬
‫السن ِن)‪.‬‬
‫قال‪( :‬رواه أ ْهل ُّ‬
‫الغلو يف الصالحين‬
‫ي‬ ‫كرر وأكيد خطورة‬
‫أن المصنف َّ‬ ‫مما َسبق‪َّ :‬‬‫فتب يين َّ‬
‫ونوع فيها اآليات‪ ،‬واألحاديث‪ ،‬واآلثار؛ ليتي يقن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أبواب متتالية‪ ،‬ي‬ ‫يف ثَلثة‬
‫عظيم لوقوع الشرك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫باب‬ ‫العبد َّ‬
‫أن هذا ٌ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪466‬‬

‫[‪]22‬‬
‫باب ما جاء فِـي ِحامي ِة الـم ْصطفى ﷺ جناب الت ْو ِح ِ‬
‫يد‬ ‫َّ‬
‫وصل إِلى الش ْر ِك‬
‫وسد ِه ك َّل ط ِر ٍيق ي ِ‬

‫ول ِم ْن أ ْنف ِسك ْم ع ِز ٌيز عل ْي ِه ما عن ِ ُّت ْم‬


‫وق ْوله تعالى‪﴿ :‬لق ْد جاءك ْم رس ٌ‬

‫يص عل ْيك ْم﴾ اآلية‪.‬‬ ‫حر ِ ٌ‬


‫عن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله عنه قال‪ :‬قال رسول ال َّله ﷺ‪َّ« :‬ل ت ْجعلوا‬
‫بيوتك ْم قبور ًا‪ ،‬وَّل ت ْجعلوا ق ْبرِي ِعيد ًا‪ ،‬وص َّل ْوا عل َّي فإِ َّن صَلتك ْم ت ْبلغنِي‬
‫ات‪.‬‬‫اد حس ٍن‪ ،‬رواته ثِق ٌ‬ ‫حيث ك ْنتم» رواه أبو داود بِإِسن ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫جيء إِلى ف ْرج ٍة كان ْت ِع ْند‬ ‫وع ْن علِي ْب ِن الحس ْي ِن‪« :‬أنَّه رأى رج ً‬
‫َل ي ِ‬

‫ق ْبرِ النَّبِي ﷺ‪ ،‬في ْدخل فِيها‪ ،‬في ْدعو‪ ،‬فنهاه‪.‬‬


‫وقال‪ :‬أَّل أحدثك ْم ح ِديث ًا س ِم ْعته ِم ْن أبِي‪ ،‬ع ْن جدي‪ ،‬ع ْن‬
‫خذوا ق ْبرِي ِعيد ًا‪ ،‬وَّل بيوتك ْم قبور ًا‪.‬‬ ‫ول ال َّل ِه ﷺ قال‪َّ« :‬ل تت ِ‬
‫َّ‬ ‫رس ِ‬

‫فإِ َّن ت ْسلِيمك ْم ي ْبلغنِي أ ْينام ك ْنت ْم» رواه فِـي «الم ْختار ِة»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬
‫‪467‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫قال رمحه ال َّله‪( :‬باب ما جاء فِي ِحامي ِة الم ْصطفى ﷺ جناب‬
‫وصل إِلى الش ْر ِك)‪.‬‬
‫يق ي ِ‬
‫يد وسد ِه ك َّل طرِ ٍ‬
‫الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫قوله‪( :‬باب ما جاء) أي‪ :‬من األد َّلة‪( ،‬فِي ِحامي ِة الم ْصطفى ﷺ)‬
‫و(حامي ِة الم ْصطفى)‬
‫(الـم ْصطفى) أي‪ :‬المختار‪ ،‬فاختاره ال َّله للرسالة‪ِ ،‬‬

‫يد وسد ِه) أي‪ :‬من ِْعه‪،‬‬


‫يعني‪ :‬ح ْفظ النبي ﷺ‪( ،‬جناب) أي‪ :‬جانب (الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫وصل إِلى الش ْر ِك)‪.‬‬
‫يق ي ِ‬
‫(ك َّل طرِ ٍ‬

‫ُّ‬
‫فكل ما َيقدح يف التوحيد سواء الواجب أو المستحب؛ سدَّ ه‬
‫ٍ‬
‫طريق يوصل إىل الشرك؛ فقد َأغلقه النبي ﷺ؛ لشفقته‪،‬‬ ‫النبي ﷺ‪ُّ ،‬‬
‫وكل‬
‫ونصحه لأل َّمة‪.‬‬
‫ْ‬
‫وساق المصنف رمحه ال َّله يف الباب قبل األخير من الكِتاب‪( :‬باب‬
‫يد‪ ،‬وسد ِه طرق الش ْر ِك)‪.‬‬
‫ما جاء فِي ِحامي ِة النَّبِي ﷺ ِحمى الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫أي‪ :‬ما‬
‫والفرق بين هذا الباب وذاك‪ :‬هنا يف محاية جانب التوحيد؛ ْ‬‫ْ‬
‫وأعم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َقرب منه‪ ،‬وذاك الباب يف ِحماه‪ ،‬وهو أوسع‬
‫ِ‬
‫كأن المصنف رمحه ال َّله يب يين للمسلم ما َيحمي جانب التوحيد َّ‬
‫مما‬ ‫َّ‬
‫خل به‪ ،‬ثم بعد ذلك كأن اإليمان ِ‬
‫والعلم بالتوحيد قد ازدادا عند طالب‬ ‫ي ُّ‬
‫مما َيقدح فيه‪.‬‬
‫العلم؛ فيوسع الدائرة‪ ،‬فيبين محى التوحيد البعيد َّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪468‬‬

‫وأيضا يف هذا الباب ب يين المصنف رمحه ال َّله األفعال التي ي َ‬


‫حمى‬
‫منها التوحيد‪ ،‬وما ق ْبل األخير‪ :‬يف األقوال‪.‬‬
‫الفرقين السابقين‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫تكرار؛ وإنَّما فيه ْ‬
‫ٌ‬ ‫ظن المتع يلم َّ‬
‫أن هذا‬ ‫فَل َي ُّ‬
‫ٍ‬
‫طريق يوصل إىل الشرك فقد َأغلقه النبي ﷺ‪.‬‬
‫لهذا أتت الشريعة بقاعدتين؛ كما قال الشاطبي(‪« :)1‬تأ َّملت‬

‫الشريعة‪ ،‬فإذا هي ج ْلب المصالح‪ْ ،‬‬


‫ودرء المفاسد‪ ،‬ث َّم تأ َّملتها فإذا هي‬
‫درء المفاسد»(‪.)2‬‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫نصوص‪:‬‬ ‫والمصنف رمحه ال َّله َذكر يف هذا الباب ثَلثة‬
‫ول ِم ْن أ ْنف ِسك ْم ع ِز ٌيز عل ْي ِه ما‬
‫األول – (﴿لق ْد جاءك ْم رس ٌ‬ ‫النَّص َّ‬
‫حرص النبي ﷺ عىل هذه األ َّمة من‬ ‫عن ِ ُّت ْم حرِ ٌ‬
‫يص عل ْيك ْم﴾) ‪-‬؛ لبيان ْ‬
‫الوقوع يف الشرك‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي‪ .‬تويف‬
‫المالكية‬ ‫طبقات‬ ‫يف‬ ‫الزكية‬ ‫النور‬ ‫شجرة‬ ‫سنة (‪790‬هـ)‪.‬‬
‫لمخلوف (‪.)332/1‬‬
‫(‪ )2‬الموافقات للشاطبي (‪.)318/1‬‬
‫‪469‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫والنَّص الثاين‪ -‬حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه ‪-‬؛ لبيان َّ‬
‫أن من‬
‫حرص النبي ﷺ َّأال تقع هذه األ َّمة يف الشرك؛ هنى أن يجعل قبره عيدا‪.‬‬
‫ْ‬
‫والنَّص الثالث ‪ -‬عن علي بن الحسين ‪-‬؛ ب َّين فيه طريقة مِن طرق‬
‫اتخاذ القبر عيدا؛ وهي كثرة المجيء إليه‪.‬‬
‫قال‪( :‬وق ْوله تعالى‪﴿ :‬لق ْد جاءك ْم رس ٌ‬
‫ول﴾) أي‪ :‬ما يبلغكم به فهو‬
‫حق‪ِ ﴿( ،‬م ْن أ ْنف ِسك ْم﴾) َيعني‪َ :‬تعرفون صدْ قه وأمانته‪ ،‬وذلك أبلغ يف‬
‫ٌّ‬
‫الحجة؛ فهو منكم من اإلنس‪ ،‬فليس من المَلئكة يتع َّبد أكثر منكم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إقامة‬
‫بشر منهم‬ ‫ِ‬
‫وال من الجن عنده من الخوارق ما ال َيملكها البشر؛ بل هو ٌ‬
‫وب ْينهم‪ ،‬ل َّقبوه بالصادق األمين‪.‬‬
‫وعسر‬
‫ٌ‬ ‫ضيق‬ ‫كل ٍ‬
‫أمر فيه ٌ‬ ‫(﴿ع ِز ٌيز عل ْي ِه ما عن ِ ُّت ْم﴾) أي‪َ :‬يشق عليه ُّ‬
‫عليكم؛ بمعنى‪َّ :‬‬
‫أنَِه َيخشى أن َينزل عىل األ َّمة من التكاليف ما ال تطيق؛‬
‫مِثل‪ :‬تر ُّدده يف اإلسراء حتى خ يففت الصَلة من مخسين صَلة إىل مخس‬
‫أن يص ُّلوا‬
‫فرض عليهم صَلة التراويح؛ فنهاهم ْ‬ ‫وخشي ْ‬ ‫ٍ‬
‫صلوات‪َ ،‬‬
‫أن ت َ‬
‫بصَلته‪.‬‬
‫شر إال َّ‬
‫حذرها منه‪.‬‬ ‫دل األ َّم َة عليه‪ ،‬وما من ٍّ‬ ‫فما من ٍ‬
‫خير إال ي‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪470‬‬

‫فإذا كان النبي ﷺ ع َّلم الصحابة حتى آداب الخَلء‪ ،‬ودخول‬


‫المنزل‪ ،‬والنكاح‪ ،‬واألكل‪ ،‬والشرب؛ فقد ب َّين ما هو َأوىل‪ ،‬وهو الواجب‬
‫ٍ‬
‫طريق َيقدح يف هذا‬ ‫الذي خلِق اإلنسان له؛ وهو التوحيد‪ ،‬وسدي كل‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫أهم ٍ‬
‫أمر يف الدين؛‬ ‫(﴿حرِ ٌ‬
‫يص عل ْيك ْم﴾)‪ ،‬وحيث أن التوحيد هو ُّ‬
‫ٍ‬
‫وسيلة‬ ‫ٍ‬
‫سبب‪ ،‬أو‬ ‫كان أحرص الناس عليه ﷺ بالحفاظ عليه ومنْع كل‬
‫تؤدي إىل ضده – وهو الشرك ‪.-‬‬
‫رحيم بأ َّمته‬ ‫يم﴾)‪ ،‬ومع ِحرصه فهو‬ ‫(﴿بِالمؤْ ِمنِين رء ٌ ِ‬
‫ٌ‬ ‫وف رح ٌ‬
‫كبيرهم وصغيرهم‪ِ ،‬‬
‫ذكرهم وأنثاهم‪ ،‬ويزور مريضهم‪ ،‬ويتيبع جنائزهم‪،‬‬
‫ويتحمل َدين َمن عليه َدين‪.‬‬
‫ي‬ ‫ويدعو لهم‪،‬‬
‫اه ِد‬
‫وجل‪﴿ :‬يا َأيها النَّبِي ج ِ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ ُّ َ‬ ‫عز َّ‬‫وأ َّما عىل الكافرين فقد قال ال َّله َّ‬
‫فدل عىل ِحرص‬ ‫اغل ْظ َع َل ْي ِه ْم﴾ [التحريم‪]9:‬؛ َّ‬ ‫ِِ‬
‫الك َّف َار َوالمنَافق َ‬
‫ين َو ْ‬
‫أن َيقع فيه أحدٌ ؛ فكيف لو َوقع‬ ‫النبي ﷺ عىل محاية َجناب التوحيد مِن ْ‬
‫أحد يف الشرك؟!‬
‫أن النبي ﷺ محى َجناب التوحيد‪ ،‬وسدي َّ‬
‫كل‬ ‫فالشاهد من اآلية‪َّ :‬‬

‫وصفه بأنَّه (﴿حرِ ٌ‬


‫يص عل ْيك ْم﴾)‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طريق يوصل إىل الشرك؛ أل َّن ال َّله َ‬
‫‪471‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫وأشدي وأعظم وأبلغ ما حرص عليه النبي ﷺ عىل أمته هو التوحيد‪،‬‬


‫ْب َأ ْع َظم؟ َق َال‪:‬‬
‫الذن ِ‬
‫حذرها منه هو الشرك؛ لذا لما سئل‪« :‬أ ُّي َّ‬ ‫وأشدي ما َّ‬
‫« َأ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا َوه َو َخ َل َق َك»(‪.)1‬‬
‫وأول ما دعا ﷺ قومه قال‪« :‬ق ْولوا َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله ت ْفلِح ْوا»(‪)2‬؛ بل‬ ‫ي‬
‫أجل هذا األمر العظيم‪ ،‬وهو التوحيد‪ ،‬وقوتِل‪ ،‬وحاولوا قتْله‬ ‫أوذي من ْ‬
‫وك َأ ْو‬ ‫ين َك َفروا لِي ْثبِت َ‬
‫وك َأ ْو َي ْقتل َ‬ ‫ِ‬
‫﴿وإِ ْذ َي ْمكر بِ َك ا َّلذ َ‬
‫ٍ‬
‫عدَّ ة مرات؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫َاك بِال َحق َب ِشيرا‬ ‫وك﴾ [األنفال‪ ،]30:‬وقال‪﴿ :‬إِنَّا َأ ْر َس ْلن َ‬ ‫ي ْخ ِرج َ‬
‫َونَذيرا﴾ [البقرة‪.]119:‬‬
‫ِ‬

‫ثم قال‪( :‬ع ْن أبِي هر ْيرة رضي ال َّله عنه قال‪ :‬قال رسول ال َّل ِه ﷺ‪:‬‬
‫«َّل ت ْجعلوا بيوتك ْم قبور ًا) أي‪ :‬ال َتجعلوها كالمقابر‪ :‬ال تؤ َّدى فيها‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا‬
‫َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ‬
‫ون﴾‪ ،‬رقم (‪ ،)4477‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب كون الشرك‬
‫ٍ‬
‫مسعود‬ ‫أقبح الذنوب‪ ،‬وبيان أعظمها بعده‪ ،‬رقم (‪ ،)86‬من حديث ابن‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)16023‬من حديث ربيعة بن عباد الدييل‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪472‬‬

‫لئَل تهجر‬ ‫النوافل فِي الب ِ‬


‫يت(‪)1‬؛ َّ‬ ‫َ‬ ‫الصَلة؛ لذلك كان النبي ﷺ يصلي‬
‫َ‬
‫الطاعة يف البيت‪.‬‬
‫اجعلوا فيها نصيبا من العبادة؛ لهذا‬ ‫فَل َتجعلوا بيوتكم كالمقابر؛ بل ْ‬
‫وب َة»(‪ ،)2‬وقال‪َ « :‬ص ََلة‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْكت َ‬
‫الص ََل َة َ‬‫الم ْرء في َب ْيته إِ َّال َّ‬
‫قال‪َ « :‬أ ْف َض َل َص ََلة َ‬
‫الم ْس ِج ِد»(‪.)3‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ال َم ْر َأة في َب ْيت َها َأ ْف َضل م ْن َص ََلت َها في َ‬

‫(‪ )1‬وردت أحاديث يف ذلك منها ما رواه مسلم‪ ،‬كتاب صَلة المسافرين وقصرها‪،‬‬
‫باب جواز النافلة قائما وقاعدا‪ ،‬وفعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا‪،‬‬
‫َان ي َصلي فِي‬ ‫رقم (‪ ،)730‬من حديث عائشة رضي ال َّله عنها‪ ،‬ولفظه‪« :‬ك َ‬
‫َب ْيتِي َق ْب َل ال ُّظ ْه ِر َأ ْر َبعا‪ ،‬ث َّم َي ْخرج َفي َصلي بِالن ِ‬
‫َّاس‪ ،‬ث َّم َيدْ خل َفي َصلي َر ْك َعتَ ْي ِن‪،‬‬
‫َّاس ال َم ْغ ِر َب‪ ،‬ث َّم َيدْ خل َفي َصلي َر ْك َع َت ْي ِن‪َ ،‬وي َصلي بِالن ِ‬
‫َّاس‬ ‫َان ي َصلي بِالن ِ‬ ‫َوك َ‬
‫ال ِع َشاء‪ ،‬ويدْ خل بيتِي َفيصلي ر ْكع َتي ِن‪ ،‬وكَا َن يصلي مِن ال َّلي ِل تِسع ر َكع ٍ‬
‫ات‬ ‫َ ْ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ََ‬
‫فِ ِيه َّن ال ِو ْتر»‪.‬‬
‫والسنَّة‪ ،‬باب ما يكره من كثرة‬ ‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب االعتصام بالكِتاب‬
‫السؤال وتكلف ما ال يعنيه‪ ،‬رقم (‪ ،)7290‬ومسلم‪ ،‬كتاب صَلة‬
‫المسافرين وقصرها‪ ،‬باب استحباب صَلة النافلة يف بيته‪ ،‬وجوازها يف‬
‫المسجد‪ ،‬رقم (‪ ،)781‬من حديث زيد بن ٍ‬
‫ثابت رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)27090‬من حديث أم ٍ‬
‫محيد رضي ال َّله عنها‪،‬‬
‫‪473‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫ونوافل الرجل يف البيت أفضل من المسجد‪ ،‬والبيت الذي ت ْق َرأ فِ ْي ِه‬


‫ال َب َق َرة َي ِنفر مِنه َّ‬
‫الش ْي َطان(‪.)1‬‬
‫أن تط َفأ العبادات عند المقابر؛ ألنَّه ليس مح يلها‪.‬‬
‫ويجب ْ‬
‫ٍ‬
‫مقبرة؛ قل‪ :‬ال تصل فيها‪.‬‬ ‫وجدت رجَل يصلي يف‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫فإذا قال‪ :‬أين أصلي؟؛ فقل‪ :‬األفضل يف بيتك‪ ،‬والدليل‪َ « :‬أ ْف َض َل‬
‫وب َة»(‪ ،)2‬والنبي ﷺ كان يصلي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْكت َ‬ ‫الم ْرء في َب ْيته إِ َّال َّ‬
‫الص ََل َة َ‬ ‫َص ََلة َ‬
‫بيته‪ ،‬وأيضا لهذا الحديث‪َ « :‬ال َت ْج َعلوا بيو َتك ْم قبورا»(‪ ،)3‬وكان‬ ‫النوافل يف ِ‬

‫النبي ﷺ يقوم الليل؛ قال تعاىل‪﴿ :‬ق ِم ال َّل ْي َل إِ َّال َقلِيَل﴾ [المزمل‪،]2:‬‬
‫فيصلي نصف الليل‪ ،‬وثلثه؛ يحيِي تلك الصَلة يف بيته‪.‬‬

‫ك فِي مس ِج ِد َقومِ ِ‬
‫ك»‪.‬‬ ‫ك مِن ص ََلتِ ِ‬
‫ك فِي د ِار ِك َخير َل ِ‬
‫ولفظه‪« :‬وص ََلت ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٌْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫(‪ )1‬كما يف الحديث الذي رواه مسلم‪ ،‬كتاب صَلة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب‬
‫استحباب صَلة النافلة يف بيته‪ ،‬وجوازها يف المسجد‪ ،‬رقم (‪ ،)780‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬ال َت ْج َعلوا بيو َتك ْم َم َقابِ َر‪ ،‬إِ َّن‬
‫ورة ال َب َق َر ِة»‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الشي َط َ ِ ِ‬
‫ان َينْفر م َن ال َب ْيت ا َّلذي ت ْق َرأ فيه س َ‬ ‫َّ ْ‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه (ص)‪ .‬عند قوله (فيها نصيبا من العبادة؛ لهذا قال)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)7821‬من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪474‬‬

‫فالنبي ﷺ‬
‫ي‬ ‫(وَّل ت ْجعلوا ق ْبرِي ِع ْيد ًا) هذا هو الشاهد من الحديث؛‬
‫طريق يوصل إىل الشرك؛ قال‪( :‬وَّل ت ْجعلوا ق ْبرِي ِع ْيد ًا)‪ :‬فَل يكن‬
‫ٍ‬ ‫سدي َّ‬
‫كل‬
‫قبري عيدا تأتون إليه باستمرار‪.‬‬
‫والعيد‪ :‬ما يعود‪ ،‬وس يمي العيد بذلك؛ ألنَّه يعود يف السنَة مرتين؛‬
‫مر ٍة‪.‬‬
‫مرة بعد َّ‬
‫فقبر النبي ﷺ ليس مكانا يعاد عليه َّ‬
‫والمراد بالعيد هنا‪ :‬سواء العيد الزمني؛ يحدَّ د يوما لزيارته‪ ،‬أو‪ :‬عيدا‬
‫مكان ييا؛ َيجتمع الناس عنده باستمرار؛ أي‪ :‬يعوده الناس كثيرا‪ ،‬ومن‬
‫فيؤز بعض الناس إىل دعوة‬ ‫ِحرصه علينا‪ ،‬وشفقته علينا؛ َّ‬
‫لئَل يأيت الشيطان ي‬
‫النبي ﷺ مع ال َّله‪.‬‬
‫قال‪( :‬وص َّل ْوا عل َّي؛ فإِ َّن صَلتك ْم ت ْبلغنِي ح ْيث ك ْنت ْم) يعني‪ :‬قد‬
‫ٍ‬
‫مكان‪.‬‬ ‫عيل يف كل‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َخفف ال َّله َّ‬
‫عز وجل عليكم اإلتيان إىل قبري؛ فصلوا َّ‬
‫الس ََلم‪ ،‬ومل يخبِر‬ ‫ِ‬ ‫و َأخبر ﷺ ب َّ‬
‫عرض َع َليه‪ ،‬وي َب يلغ َّ‬
‫أن الصَلة عليه ت َ‬
‫بأنه َيسمع الصَلة والسَلم؛ يعني‪ :‬كأنَّه يقول لك‪ :‬أنا ال َأسمع صَلتكم‪،‬‬
‫وال سَلمكم‪ ،‬فأنا م يي ٌت‪ ،‬ومن رمحة ال َّله بي وبكم َّ‬
‫أن هناك مَلئكة يبلغوين‬
‫عيل؛ فصَلتكم‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫عن أمتي السَلم؛ فحيث ما كنتم‪ ،‬وصليتم‪ ،‬وسلمتم ي‬
‫‪475‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫عيل روحي؛ وأر يد السَلم؛ فَل تجعلوا قبري عيدا‪،‬‬ ‫َّ‬


‫عيل‪ ،‬و َير يد الله ي‬
‫تعرض ي‬
‫وال تتزامحوا عند قبري‪.‬‬
‫قال الحسن(‪« :)1‬أنتم و َمن يف األندلس سواء يف الصَلة عىل‬
‫فضل ال َّله وكرمِه ْ‬
‫بأن َتنال ْ‬
‫فضل الصَلة والسَلم‬ ‫النبي ﷺ»(‪ ،)2‬وهذا مِن ْ‬
‫ٍ‬
‫مكان‪.‬‬ ‫مكان مخصوص؛ بل ج ِعلت يف كل‬ ‫ٍ‬ ‫عىل النبي ﷺ‪ ،‬فلم تج َعل يف‬
‫(ص َّلى ال َّله َع َل ْي ِه َو َس َّل َم)‪ :‬يا رب ا ِ‬
‫ثن‬ ‫نوع من الدعاء؛ أل َّن معنى َ‬
‫وهي ٌ‬
‫ٍ‬
‫مكروه‪.‬‬ ‫وسلمه مِن كل‬ ‫عليه عندك يف المأل األعىل من المَلئكة‪َ ،‬‬
‫والدعاء ليس له مكان مخصوص عند القبر‪.‬‬
‫فالنبي ﷺ سدي هذا الباب؛ وهو العكوف عند القبر‪ ،‬والدعاء عنده‪،‬‬
‫وزيارته‪ ،‬وج ْعله عيدا‪.‬‬
‫و َأرشد النبي ﷺ إىل األمر المشروع؛ وهو‪( :‬فإِ َّن صَلتك ْم ت ْبلغنِي‬
‫المسل ِمين عليه ﷺ؛ كما قال‬ ‫َ‬ ‫ح ْيث ك ْنت ْم) أي‪ :‬تبلغ المَلئكة سَلم‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬الحسن بن الحسن بن عيل بن أبي طالب رضي ال َّله عنه‪ ،‬تويف‬
‫سنة (‪97‬هـ)‪ .‬هتذيب التهذيب البن حجر (‪.)263/2‬‬
‫ٍ‬
‫منصور يف (سننه)‪ .‬اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ‬ ‫(‪ )2‬رواه سعيد بن‬
‫ِاإلسَلم (‪.)339/1‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪476‬‬

‫ون َع ْن أ َّمتِي‬
‫ين ي َبلغ َ‬ ‫ِ‬ ‫وجل فِي األَر ِ ِ‬
‫ض َم ََلئ َكة َس َّياح َ‬ ‫ْ‬ ‫النبي ﷺ‪« :‬إِ َّن ل ِ َّل ِه َّ‬
‫عز َّ‬
‫الس ََل َم»(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫اد حس ٍن‪ ،‬رواته ثِق ٌ‬
‫ات)‪.‬‬ ‫قال‪( :‬رواه أبو داود بِإِسن ٍ‬
‫ْ‬
‫فدل عىل أنَّه ال يجوز أن يفعل ذلك عند قبر النبي ﷺ؛ ومِن باب‬
‫َّ‬
‫َأوىل قبر غيره‪ ،‬فإذا كان أشرف القبور وهو قبر النبي ﷺ؛ ونَهى عن ذلك؛‬
‫فما ظنُّك بقبر غيره؟!‬
‫ثم قال‪( :‬وع ْن علِي ْب ِن الحس ْي ِن) الملقب بزين العابدين(‪ )2‬وهو‬
‫طالب رضي ال َّله عنه‪ ،‬وهو من الفقهاء‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حفيد عيل بن أبي‬
‫جيء إِلى ف ْرج ٍة كان ْت ِع ْند ق ْبرِ النَّبِي ﷺ) يعني‪:‬‬
‫َل ي ِ‬
‫(أنَّه رأى رج ً‬
‫ألن ذلك خَلف ما كان‬ ‫عند قبر النبي ﷺ؛ (في ْدخل فِيها‪ ،‬في ْدعو‪ ،‬فنهاه)؛ َّ‬

‫الصحابة عليه؛ فَل يأتون إىل قبر النبي ﷺ باستمرا ٍر يعودونه‪َّ ،‬‬
‫فلما رأى‬

‫ٍ‬
‫مسعود‬ ‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)3666‬من حديث عبد ال َّله بن‬
‫رضي ال َّله عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو الحسن عيل بن الحسين بن عيل بن أبي طالب رضي ال َّله عنهم‪ ،‬ولد‬
‫سنة (‪38‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪94‬هـ)‪ ،‬وقيل (‪99‬هـ)‪ .‬وفيات األعيان البن‬
‫خ ْلكان (‪ ،)266/3‬تقريب التهذيب البن حجر (‪.)400/1‬‬
‫‪477‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫الرجل؛ مل يتركْه‪ ،‬ومل يقل‪ :‬هذا جدي َفأجعل الناس يع يظمونه؛ بل هناه عن‬
‫أن هذا فعَل يوصل إىل الغلو يف النبي ﷺ‪ ،‬ومِن ثم عبادته‪،‬‬
‫لعلمه َّ‬ ‫ذلك؛ ِ‬

‫فما َطرأت العبادة عىل األرض عند القبور؛ إال بسبب الغلو‪.‬‬
‫(وقال‪ :‬أَّل أحدثك ْم ح ِديث ًا س ِم ْعته ِم ْن أبِي‪ ،‬ع ْن جدي‪ ،‬ع ْن‬
‫خذوا ق ْبرِي ِعيد ًا) يعني‪ :‬تعودونه مرة بعد مرة‪،‬‬ ‫ول ال َّل ِه ﷺ قال‪َّ :‬ل تت ِ‬
‫َّ‬ ‫رس ِ‬

‫(وَّل بيوتك ْم قبور ًا؛ فإِ َّن ت ْسلِيمك ْم ي ْبلغنِي أ ْينام ك ْنت ْم)‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن كثرة‬
‫اإلتيان إىل القبر من اتخاذه عيدا؛ وقد هنى النبي ﷺ عن اتخاذ قبره عيدا‪.‬‬
‫ودل أيضا عىل أنه َينهى عن اتخاذ قبر غيره عيدا؛ ألنَّه وسيل ٌة من‬
‫َّ‬
‫وسائل الشرك ‪ -‬والعياذ بال َّله ‪.-‬‬
‫(الم ْختار ِة) تأليف ضياء المقدسي(‪َ ،)1‬وضع أحاديث اختارها؛ قال‬
‫شيخ اإلسَلم‪« :‬ما يف المختارة أص يح مما يف المستدرك»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو عبد ال َّله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أمحد بن عبد الرمحن‬
‫الم ْق ِدسي‪ ،‬الصالحي‪ ،‬الحنبيل‪ ،‬ولد سنة (‪569‬هـ)‪ ،‬وتويف‬ ‫الس ْعدي َ‬ ‫َّ‬
‫سنة (‪643‬هـ)‪ .‬سير أعَلم النبَلء للذهبي (‪ ،)126/23‬المقصد األرشد‬
‫البن مفلح (‪.)450/2‬‬
‫(‪ )2‬مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (‪.)13/33‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪478‬‬

‫أن َّ‬
‫كل ما َيطرأ عىل‬ ‫فساق المصنف رمحه ال َّله اآلية والحديثين؛ ليب يين َّ‬
‫القلب إىل غير ال َّله سواء إىل قبر النبي ﷺ‪ ،‬أو قبر غيره؛ قد سدي ه ﷺ؛ كما‬
‫قال تعاىل‪﴿( :‬حرِ ٌ‬
‫يص عل ْيك ْم﴾)‪ ،‬فأتى النهي بخصوص قبره‪ ،‬وكذا قبر‬
‫غيره‪.‬‬
‫***‬
‫‪479‬‬ ‫مقرر الثلث األول‬

‫فِهْ رِس الم ْوضوع ِ‬


‫ات‬

‫المقدمة‪2 .................................................................................‬‬
‫[‪ ]1‬كِتاب الت ْو ِح ِ‬
‫يد‪1٤ .....................................................................‬‬ ‫َّ‬
‫يد‪ ،‬وما يكفر ِمن ُّ‬
‫الذن ِ‬
‫وب‪60 ..........................................‬‬ ‫[‪ ]2‬باب ف ْض ِل الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫[‪ ]٣‬باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ‬
‫اب ‪89 ...................................‬‬

‫ف ِمن الش ْر ِك‪127 ..........................................................‬‬


‫[‪ ]٤‬باب الخ ْو ِ‬

‫اء إِلى شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله‪1٤9 .............................................‬‬


‫الدع ِ‬
‫[‪ ]٥‬باب ُّ‬

‫يد وشهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله ‪176 .......................................‬‬


‫[‪ ]6‬باب ت ْف ِسيرِ الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬

‫ط ون ْح ِو ِهام؛ لِر ْف ِع البَل ِء أ ْو د ْف ِع ِه ‪19٣ ...............‬‬


‫اب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫[‪ ]7‬ب ٌ‬

‫الرقى وال َّتامئِ ِم‪208 ....................................................‬‬ ‫ِ‬


‫[‪ ]8‬باب ما جاء في ُّ‬

‫[‪ ]9‬باب م ْن تب َّرك بِشجرةٍ أ ْو حجرٍ ون ْح ِو ِهام ‪2٣٤ ..........................................‬‬

‫الذبْحِ لِغ ْيرِ ال َّل ِه‪2٥1 .................................................‬‬


‫[‪ ]10‬باب ما جاء فِي َّ‬

‫ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه‪26٤ ......................................‬‬


‫اب َّل ي ْذبح ل َّل ِه بِمك ٍ‬
‫[‪ ]11‬ب ٌ‬

‫اب ِمن الش ْر ِك الن َّْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه‪272 ..................................................‬‬
‫[‪ ]12‬ب ٌ‬

‫ستِعاذة بِغ ْيرِ ال َّل ِه ‪281 .............................................‬‬ ‫ِ‬ ‫[‪ ]1٣‬ب ٌ ِ‬


‫اب من الش ْرك اَّل ْ‬

‫اب ِمن الش ْر ِك أنْ ي ْست ِغيث بِغ ْيرِ ال َّل ِه؛ أ ْو ي ْدعو غ ْيره ‪29٣ ............................‬‬
‫[‪ ]1٤‬ب ٌ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪480‬‬

‫[‪ ]1٥‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم‬
‫ن ْصر ًا﴾ اآلية ‪٣1٤ .........................................................................‬‬

‫[‪ ]16‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ربُّك ْم قالوا الح َّق وهو‬
‫العلِ ُّي الكبِير﴾ ‪٣٣2 .......................................................................‬‬

‫الشفاع ِة‪٣٥٣ ...................................................................‬‬


‫[‪ ]17‬باب َّ‬

‫[‪ ]18‬باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى‪﴿ :‬إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾‪٣76 .. .‬‬
‫[‪ ]19‬باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وتركِ ِهم ِدينهم هو الغل ُّو فِي الصالِ ِ‬
‫حين‪٣99 ........‬‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬

‫يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!‪٤26 ..‬‬
‫[‪ ]20‬باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ‬
‫َّ‬

‫ون ال َّل ِه ‪٤٥٣ ......‬‬


‫حين يصيرها أ ْوثان ًا ت ْعبد ِم ْن د ِ‬
‫ور الصالِ ِ‬ ‫ِ‬
‫[‪ ]21‬باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ‬
‫يق ي ِ‬
‫وصل إِلى‬ ‫يد وسد ِه ك َّل طرِ ٍ‬
‫[‪ ]22‬باب ما جاء فِـي ِحامي ِة الـم ْصطفى ﷺ جناب الت ْو ِح ِ‬
‫َّ‬
‫الش ْر ِك ‪٤66 ...............................................................................‬‬
‫فِهْ رِس الم ْوضوع ِ‬
‫ات‪٤79 .................................................................‬‬

You might also like