Professional Documents
Culture Documents
21 - شرح كتاب التوحيد
21 - شرح كتاب التوحيد
المقدمة
ِ ِ ِ الر ِح ِ ِ
الح ْمد ل َّله َرب ال َعا َلمي َنَ ،و َّ
الص ََلة يمَ ، بِ ْس ِم ال َّله َّ
الر ْح َم ِن َّ
ِ ِ ِ ٍ
الس ََلم َع َلى َنبِينَا م َح َّمدَ ،و َع َلى آلهَ ،و َأ ْص َحابِه َأ ْج َمع َ
ينَ ،أ َّما َب ْعد: َو َّ
فهذا أحد مؤ َّلفات اإلمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن
عيل التميمي ،المولود سنة ألف ومئة ومخس عشرة ()1115
سليمان بن ٍّ
ل َّلهجرة ،ببلدة الع َي ْينَة ،وهي تقع شمال الرياض بقرابة مخسين ( )50كيلو
مترا ،وترعرع فيها.
وبيته بيت ِع ٍ
لم ،فوالده كان قاضيا رمحه ال َّله ،وكان عىل هنْج السلف
الصالح.
ناشئ عىل الذكاء والحذاقة والنباهة وقوة الحفظ،
ٌ ومنذ نشأته وهو
ٍ
سنوات؛ بل إنه َبلغ الحلم يف س ٍّن مبكرة، فقد َحفظ القرآن وعمره عشر
فقد َبلغ وعمره أحد عشر ( )11عاما رمحه ال َّله.
بالعلم من والده ،ومِن علماء أهل بلده؛ انتقل إىل وبعد أن َتزود ِ
َّ
ِ
األحساء؛ ليتزود من العلم ،وسافر إىل الحجاز ،و َت َّ
وجه أيضا إىل العراق،
وصنَّف كتابه هذا يف البصرة.
3 مقرر الثلث األول
يأت ٍ
بشيء وكان َنهجه رمحه ال َّله يف دينه اقتفاء السلف الصالح ،فلم ِ
ْ
ِ ِ
من عنده من تلقاء ن ْفسه؛ بل كان حريصا عىل اتباع الكتاب ُّ
والسنَّة؛ لذلك
السنَّة ،فمثَل يف ِ ِ ِ
يكثر يف مصنَّفاته من ذكْر الدليل سواء من الكتاب أو من ُّ
متن ليس بالواسع -فيه أكثر من مخسين دليَل، ثَلثة األصول -وهو ٌ
والسنَّة كما
ُّ ومأل كتابه هذا -كتاب التوحيد -باألد َّلة من الكِتاب
سيأيت؛ لهذا مل يكن ألخصامه عليه َمدخَل يف أنَّه أتى ببدْ ٍع من الدين؛ بل
ِ ٍ ِ
سلف هذه باستنباط منهما عىل هنْج كل ما َأتى به من الكتاب ُّ
والسنَّة ،أو ُّ
األ َّمة.
وعاش رمحه ال َّله يف حياته داعيا ومصنفا وعابدا ل َّله سبحانه ،فكان
داعيا منذ ِصغره ،يدعو إىل توحيد ال َّله سبحانه وتعاىل ،وآزره اإلمام
مرة بن
( )1هو :محمد بن سعود بن مح َّمد بن مقرن بن مرخان ،من بني مانع المنسوب إىل َّ
ذهل بن شيبان ،من عدنان ،تويف سنة ( 1179هـ) .الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن
قاسم ( ،)347/16األعَلم للزركيل (.)138/6
شرح كتاب التوحيد 4
صنَّف فيه.
ففي الحديث مثَل :أ َّلف كِتابا يف األحكام ،وهو من أكبر الكتب
ف غيره ،من عَلمات الساعة يف آخره المصنَّفة فيه ،وأضاف فيه ما مل ِ
يض ْ
وغير ذلك ،واختصر أيضا «فتح الباري».
ويف الفقه :اختصر الشرح الكبير البن قدامة( ،)1واإلنصاف ،وأ َّلف
شروط الصَلة وأركاهنا وواجباهتا ،وآداب المشي إىل الصَلة.
ويف العقيدة :أ َّلف ثَلثة األصول ،وأ َّلف القواعد األربع ،وكتابه هذا
كشف الشبهات -الذي هو خَلصة دعوته فيما ألقاه العظيم ،وأ َّلف ْ
مختصرا لكتاب التوحيد .- ٍ
شبهات ،وهو يعتبر عليه أخصامه من
َ
وامتاز رمحه ال َّله يف تصنيفه بسهولة العبارة؛ ل َيفهم المخا َطبون ما
يريد.
وامتاز أيضا رمحه ال َّله بذكر دلي ِل ما َيذكر من المسائل؛ ليأخذ
والسنَّة. ِ ٍ ِ
بيقين؛ ألنَّه أعطاه شيئا من الكتاب ُّ المستمع أو القارئ ما ذكَره له
الجماعييل،
ي ( )1هو :موفق الدين أبو محمد عبد ال َّله بن أمحد بن محمد بن قدامة المقدسي،
ولد سنة (541هـ) ،وتويف سنة ( 620هـ) .ذيل طبقات الحنابلة البن
رجب ( ،)281/3سير أعَلم النبَلء للذهبي (.)165/22
5 مقرر الثلث األول
ومما امتاز به رمحه ال َّله أنَّه َيجمع شتات المسائل ،فمثَل« :ثَلثة
َّ
األصول» ال تجد مصنَّفا قط يذكر فيه المسائل الثَلثة
العظيمة -معرفة ال َّله ،ومعرفة نبيه ،ومعرفة دين اإلسَلم ،-فهو مجَع
ٍ ٍ
مسألة كل مسألة عليها أد َّلةَ ،
وصنَّف يف كل وجعل َّهذه الثَلث المسائل َ
ٍ
مسألة الدليل عىل ما َيذكره. تفرع منها؛ بل ويزيد يف كل
ما َي َّ
ِ ِ
وكان رمحه ال َّله من أخَلقه وصدق دعوته فيما يخاطب به َ
غيره؛ أنَّه
يدعو ألخصامه يف السجود ،وذلك أنَّه يف ب ْعث رسائله يكتب ألخصامه:
أن ال َّله يهديك»(.)1
«وأنت ممن أدعو له يف سجودي ب َّ
ممن يؤذيه أو يخالِف دعوته أو ي َؤلب وكان يعفو عن أخصامه َّ
عليه ،وال َينظر إىل مِثل ذلك.
سمى به
سمى أوالده بما َّ
وكان مح يبا لهدي النبي ﷺ كثيرا؛ بل إنه َّ
عيل والحسن والحسين وإبراهيم
النبي ﷺ أوالده وأحفاده؛ فأوالدهٌّ :
ُّ
وعبد ال َّله ،فأسماء أوالده :أسماء أوالد أو أحفاد النبي ﷺ ،وليس له
وسماها باسم بنت النبي ﷺ :فاطمة. ٍ ٍ
سوى بنت واحدة َّ
ٍ
تسمية بأوالد النبي ﷺ نج ٍد أكثر بيت مِن ْ
أهل ْ ولهذا يقال :ال يوجد ٌ
وأحفاده مِن بيت الشيخ رمحه ال َّله؛ ولهذا ال َم ْط َعن فيما يقال عنه يف أنَّه
جاف للنبي ﷺ أو أنَّه ِ
مبتعدٌ ال يحب النبي عليه الصَلة والسَلم ،أو بأنه ٍ
َّ ُّ
سماهم بأسماء أوالد وأحفاد النبي عليه
عن دعوته؛ بل حتى أوالده َّ
الصَلة والسَلم.
ِ
مما َتع َّلق به أهل بلده ،أو َّ
ممن انتَشر فيهم الشرك؛ ومن رأفته بما رآه َّ
بالملتزم ودعا ربه بأن يظهر دعوته
َ للملتزم عند الكعبة ،والتَزم
َ أنَّه َذهب
َّ
وجل له دعوته ،فانتشرت وأن يكتب لها القبول؛ فاستجاب ال َّله َّ
عز
دعوته بتجديد ما اندَ ثر من معامل اإلسَلم يف عصره إىل اآلفاق.
مما َأتى
عصره عصرا قد َأ ْو َغل يف الشرك؛ بل َأتوا بأعظم َّ
وقد كان ْ
الز ْل َفى وحسب؛ بل ِ
طلب الشفاعة أو ُّ به أبو جهلٍ؛ فلم ِ
يصلوا إىل
الز ْل َفى ،وإنَّما
َجعلوهم أولياء من دون ال َّله ال َيطلبوهنم الوسيلة أو ُّ
يدعوهنم كإله من دون ال َّله.
نج ٍد وما حولها منتشرا فيها الشرك من عبادة وكانت آنذاك ديار ْ
األحجار واألشجار ،فضَل عن القبور ،فرمح ٌة مِن ال َّله َّ
عز َّ
وجل بأهل
بلدته و َمن بعدهم ْ
أن بعث هذا اإلمام المجدد؛ لبيان التوحيد ،وإحَلل
7 مقرر الثلث األول
التوحيد ،يؤ َذى؛ لرفع درجاته ،وليتساقط أهل الباطل مع باطلهم ،ويبقى
الحق ناصعا مخ َّلصا.
عز َّ
وجل ٍ
جهيد من الدعوة والتصنيف والعبادة أمدَّ ال َّله َّ عم ٍر
وبعد ْ
يف عمره إىل عام ألف ومئتين وستة ( )1206ل َّلهجرة ،ثم تويف رمحه ال َّله
يف ذلك العام ،وقد عمر رمحه ال َّله؛ فقد َبلغ من العمر حين وفاته :واحدا
وتسعين ( )91عاما رمحه ال َّله.
هذه حياة الشيخ باختصار ،وما َقدَّ مه لهذه األ َّمة َرمحه ال َّله رمحة
واسعة.
شرح كتاب التوحيد 8
والذب عنه
ُّ ونشر مصنَّفاته، ُّ
وأقل ما يقدمه المسلمون له :الدعاء لهْ ،
عند من َيجهل حاله وحال دعوته فيقع فيه.
وأ َّما كِتابه -وهو هذا الكتاب – اسمه« :كتاب التوحيد الذي هو
حق ال َّله على العبيد»؛ فهو أعظم مصن ٍ
َّف له؛ بل ال يوجد من المصنَّفات
والسنَّة عن التوحيد مثله ،ال قبل الشيخ وال بعده
التي َجمعت الكتاب ُّ
رمحه ال َّله ،فهو فريدٌ يف زمانه ،اقتَصر فيه عىل النصوص من الكِتاب
ٍ
يسيرة لبعض أعَلم األ َّمة فيه؛ لتوضيح معنى من ٍ
أقوال والسنَّةِ ،
وذكْر ُّ
والذهبي(،)3
ي كأقوال لشيخ اإلسَلم( ،)1وابن القيم(،)2
ٍ المعاين
( )1هو :أبو العباس تقي الدين أمحد بن عبد الحليم بن عبد السَلم ابن تيمية الحراين ،ث َّم
الدمشقي ،ولد سنة (661هـ) ،وتويف سنة (728هـ) .ذيل طبقات الحنابلة البن
رجب (.)491/4
( )2هو :أبو عبد ال َّله شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي األصل ثم الدمشقي
ابن قيم الجوزية ،ولد سنة (691هـ) ،وتويف سنة (751هـ) .الرد الوافر البن ناصر
الدين (.)68/1
( )3هو :أبو عبد ال َّله شمس الدين محمد بن أمحد بن عثمان بن قايماز التركماين الذهبي.
الكبرى الشافعية طبقات سنة (.)748 وتويف سنة (673هـ)، ولد
للسبكي (.)100/9
9 مقرر الثلث األول
حز ٍم( ،)2أ َّما هو فلم َيذكر يف الكِتاب مِن َّأوله إىل آخره
والبغوي( ،)1وابن ْ
أي كلمة منه؛ وإنَّما َجمع نصوصا؛ بل ومل َيجعل له مقدمة؛ ليكون
ٍ
يسيرة ِجدي ا ألئمة الدين. ٍ
أقوال مقتصرا عىل النصوص فحسب ،مع
أجمع -ما صنف يف هذا الباب.
أجمع -إن مل يكن ْ
فهو من ْ
َّ
وإن الشخص لو اقتَصر عىل مسائل توحيد األلوهية عىل هذا
الكتاب ،واعتقد ما فيه؛ فإنَّه -بإذن ال َّله -يغنيه عن بق يية الكتب يف
توحيد األلوهية ،قال يف حاشية كتاب التوحيد« :هذا الكتاب ليس له نظير
يف الوجود»(.)3
واسم هذا الكتاب« :كتاب التوحيد الذي هو حق ال َّله»؛ يعني:
الواجب« ،على العبيد»؛ أيْ :
أن يحققوه و َيعملوا بما فيه.
وموضوع كتاب التوحيد عدة ٍ
أمور:
( )1هو :أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي .طبقات الشافعية الكبرى
للسبكي (.)75/7
( )2هو :أبو محمد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الفارسي األصل ،ثم األندلسي القرطبي،
ولد سنة (384هـ) ،وتويف سنة (456هـ) .سير أعَلم النبَلء للذهبي (.)184/18
( )3حاشية كتاب التوحيد (.)7/1
شرح كتاب التوحيد 10
ووصل فيه إىل آخر باب ما جاء يف منكري القدر ،ومل العزيز الحميدَ ،
ي ِ
كم ْله؛ ألنه قتل شهيدا صغيرا وعمره ثَلثة وثَلثون ( )33عاما فقط.
ثم بعد ذلك أتى حفيده اآلخر وهو الشيخ عبد الرمحن بن حسن بن
محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله(َّ )1
فهذب و َأكمل ما مل يكمله ابن عمه
سليمان المحدث إىل هناية كتاب التوحيد.
ِ
شرح
شرح هذا الكتاب العظيم؛ مثلْ : ثم بعد ذلك َتتابع العلماء يف ْ
قرة عيون الموحدين( ،)3ومِثل كِتاب: ()2
ابن عتيق رمحه ال َّله ،ومثل :شرح ي
سنة (1200هـ) ،وتويف سنة (1233هـ) .الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن
قاسم ( ،)384/16األعَلم للزركيل (.)129/3
( )1هو :عبد الرمحن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب .ولد سنة (1193هـ) ،وتويف
سنة ( .)1285الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم ( ،)404/16األعَلم
للزركيل (.)304/3
( )2اسم كتابه :إبطال التننديد يف مختصر شرح كتاب التوحيد .وابن عتيق هو :محد بن عيل بن
محمد بن عتيق بن راشد بن محيضة ،ولد سنة (1227هـ) ،وتويف سنة ( 1301هـ).
الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم ( ،)430/16األعَلم للزركيل (.)272/2
( )3قرة عيون الموحدين ،للشيخ عبد الرمحن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله.
الدرر السنية للشيخ عبد الرمحن بن قاسم ( ،)409/16األعَلم للزركيل ( .)304/3
13 مقرر الثلث األول
( )1هو :أبو عبد ال َّله عبد الرمحن بن محمد ابن قاسم العاصمي القحطاين ،ولد
سنة (1319هـ) ،وتويف سنة (1392هـ) .األعَلم للزركيل (.)336/3
شرح كتاب التوحيد 14
اجتنِبوا
َّل أ ِن ْاعبدوا ال َّله و ْ وق ْوله﴿ :ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة رسو ً
ال َّطاغوت﴾ اآلية.
وق ْوله تعالى﴿ :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾
إِلى ق ْولِ ِه﴿ :وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً فا َّتبِعوه﴾ اآلية.
وق ْوله﴿ :وقضى ر ُّبك أ ََّّل ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾ اآلية.
اعبدوا ال َّله وَّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا وبِالوالِد ْي ِن وق ْوله تعالى﴿ :و ْ
إِ ْحسان ًا﴾ اآلية.
ود ر ِضي ال َّله ع ْنه« :م ْن أراد أنْ ي ْنظر إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ قال ابن مسع ٍ
ْ ْ
ا َّلتِي عل ْيها خاتمه؛ ف ْلي ْقر ْأ﴿ :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه
ِ ِ ِ ِِ
السبل﴾ اآلية». ش ْيئ ًا﴾ إِلى ق ْوله﴿ :وأ َّن هذا صراطي م ْستقيامً فا َّتبِعوه وَّل ت َّتبِعوا ُّ
وع ْن معا ِذ ْب ِن جب ٍل ر ِضي ال َّله ع ْنه قال« :ك ْنت ر ِديف النَّبِي ﷺ على
15 مقرر الثلث األول
العب ِ
اد اد ،وما ح ُّق ِ
العب ِ
ِحام ٍر ،فقال :يا معاذ! أت ْد ِري ما ح ُّق ال َّل ِه على ِ
فق ْلت :يا رسول ال َّل ِه! أفَل أبشر النَّاس؟ قالَّ :ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»
حيح ْي ِن. أ ْخرجاه فِي الص ِ
َّ
الشرح:
الر ِحيمِ). ِ
قال رمحه ال َّله تعاىل( :بِ ْس ِم ال َّله َّ
الر ْحم ِن َّ
ِ
اقتَصر المصنف رمحه ال َّله عىل البسملة يف َّأول كتابه ومل ْ
يضع مقدمة
والسنَّة؛ حتى مل يكن قد ِ ِ
له؛ ليكون مجيع ما يف هذا الكتاب من الكتاب ُّ
وضع من عنده وال حرفا واحدا ،فلم يقل :وضعت يف هذا الكِتاب ،أو: َ
خصصت أو استد َل ْلت.
لئَل يقال وإنَّما قال( :بِس ِم ال َّل ِه الر ْحم ِن الر ِحيم ،كِتاب الت ْو ِح ِ
يد)؛ َّ َّ َّ َّ ْ
بشيء مِن تلقاء ن ْفسه ،فاقتصر عىل البسملة؛ تأسيا بالنبي ٍ َّ
أن الشيخ قد أتى
فأول ما فيه:
عليه الصَلة والسَلم يف مكاتباته ،واقتداء بالقرآن العظيمَّ ،
يم * ال َح ْمد ل ِ َّل ِه َرب ال َعا َل ِمي َن﴾ [الفاتحة.]2-1:
الر ِح ِ ِ
﴿بِ ْس ِم ال َّله َّ
الر ْح َم ِن َّ
شرح كتاب التوحيد 16
ٍ
لحديث رواه أبو داوود ،كتاب النوم ،باب ما يقول الرجل إذا َدخل بيته ،رقم (،)5096 ()1
الرجل َب ْيتَه، من حديث أبي مالك األشعري رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :إِ َذا َو َل َج َّ
َف ْل َيق ْل :ال َّله َّم إِني َأ ْس َأل َك َخ ْي َر ال َم ْو َلجِ َ ،و َخ ْي َر ال َم ْخ َر ِج ،بِ ْس ِم ال َّل ِه َو َل ْجنَاَ ،وبِ ْس ِم ال َّل ِه
َخ َر ْجنَاَ ،و َع َلى ال َّل ِه َربنَا َت َو َّك ْلنَا ،ث َّم لِي َسل ْم َع َلى َأ ْهلِ ِه».
17 مقرر الثلث األول
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)26616من حديث أ يم سلمة رضي ال َّله عنها ،ولفظهَ « :أ َّن
َان إِ َذا َخ َر َج مِ ْن َب ْيتِ ِهَ ،ق َال« :بِ ْس ِم ال َّل ِهَ ،ت َو َّك ْلت َع َلى ال َّل ِه ،ال َّله َّم إِني َأعوذ النَّبِ َّي ﷺ ك َ
ِ ِ
بِ َك م ْن َأ ْن ن َِز َّل َأ ْو نَض َّلَ ،أ ْو َن ْظلِ َم َأ ْو ن ْظ َل َمَ ،أ ْو ن ْ
َج َه َل َأ ْو ي ْج َه َل َع َل ْينَا».
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)26417من حديث فاطمة رضي ال َّله عنها ،ولفظه« :ك َ
َان
ول ال َّل ِه ،ال َّله َّم
الس ََلم َع َلى َرس ِ ِ َرسول ال َّل ِه ﷺ إِ َذا َد َخ َل ال َم ْس ِ
جدَ َق َال« :بِ ْس ِم ال َّلهَ ،و َّ
اب َر ْح َمتِ َك». ِ ِْ ِ
اغف ْر لي ذنوبِيَ ،وا ْفت َْح لي َأ ْب َو َ
( )3رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)26417من حديث فاطمة رضي ال َّله عنها ،ولفظهَ « :وإِ َذا
اغ ِف ْر لِي ذنوبِيَ ،وا ْفت َْح لِي
ول ال َّل ِه ،ال َّله َّم ْ
الس ََلم َع َلى َرس ِ ِ
َخ َر َج َق َال« :بِ ْس ِم ال َّلهَ ،و َّ
اب َف ْضلِ َك».
َأ ْب َو َ
شرح كتاب التوحيد 18
مطرف
( )1رواه أبو داوود ،كتاب األدب ،باب يف كراهية التمادح ،رقم ( ،)4806من حديث ي
السيد ال َّله َت َب َار َك َو َت َعا َلى».
رضي ال َّله عنه ،ولفظهَّ « :
( )2رواه أبو داوود ،كتاب األَدب ،باب يف تغيير االسم القبيح ،رقم ( ،)4955من حديث
ول ال َّل ِه ﷺ َم َع
شريح بن هانئ بن أبيه رضي ال َّله عنهما ،ولفظهَ « :ل َّما َو َفدَ إِ َلى َرس ِ
َق ْومِ ِه َس ِم َعه ْم َي ْكنونَه بِ َأبِي ال َح َك ِمَ ،فدَ َعاه َرسول ال َّل ِه ﷺَ ،ف َق َال« :إِ َّن ال َّل َه ه َو ال َح َكم،
اخ َت َلفوا فِي َش ْي ٍء َأ َت ْونِي،َوإِ َل ْي ِه الح ْكمَ ،فلِ َم ت ْكنَى َأ َبا ال َح َك ِم؟»َ ،ف َق َال :إِ َّن َق ْومِي إِ َذا ْ
َف َح َك ْمت َب ْينَه ْم َف َر ِض َي كِ ََل ال َف ِري َق ْي ِنَ ،ف َق َال َرسول ال َّل ِه ﷺَ « :ما َأ ْح َس َن َه َذاَ ،ف َما َل َك
مِ َن ال َو َل ِد؟»َ ،ق َال :لِي ش َر ْي ٌحَ ،وم ْسلِ ٌمَ ،و َع ْبد ال َّل ِهَ ،ق َالَ « :ف َم ْن َأ ْك َبره ْم؟» ،ق ْلت :ش َر ْي ٌح،
َق َالَ « :ف َأن َ
ْت َأبو ش َر ْي ٍح».
شرح كتاب التوحيد 20
( )1رواه البخاري ،كتاب الرقاق ،باب الرجاء مع الخوف ،رقم ( ،)6469ومسلم ،كتاب
التوبة ،باب يف سعة رمحة ال َّله تعاىل وأهنا َسبقت غضبه ،رقم ( ،)2752من حديث أبي
هريرة رضي ال َّله عنه.
21 مقرر الثلث األول
الر ِحيم):
الر ْحم ِن َّ ٍ
عباس( )1رضي ال َّله عنهما يف قوله ( َّ وقال ابن
«اسمان رقيقان -يعني واسعان -أحدمها ي
أرق -يعني أوسع -من
اآلخر» (.)2
خاص بالمؤمنين ،والرمحن ٌّ فالرمحن أوسع من الرحيم؛ َّ
ألن الرحيم
َان بِالم ْؤمِنِي َن
عا ٌّم لجميع الناس؛ قال سبحانهَ ﴿ :وك َ
َر ِحيما﴾ [األحزاب.]43:
الفرق بين الرمحن والرحيم؟
فإذا قيل :ما ْ
األول :الرمحن ال يجوز إطَلقه إال عىل ال َّله ،أ َّما الرحيم
الفرق َّ
ْ
رحيم ،وال
ٌ فيجوز إطَلقه عىل ال َّله وعىل غ ْير ال َّله ،فتقول :أنت رج ٌل
رمحن أو أنت الرمحن.
ٌ يجوز أن تقول :أنت
رب» ،فيقول :هذا
لكن لو أضيفت كلمة رمحن باإلضافة يجوز كـ « ي
رمحن هذه البلدة ،ويقال :هذا رمحن اليمامة وهكذا.
( )1هوَ :أبو العباس َعبد ال َّله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ،الق ِ
رش يي
ٍ
سنوات ،وتويف عم رسول ال َّله ﷺ ،ولد قبل الهجرة بثَلث الهاشمي ،ابن ي
سنة (68هـ) .اإلصابة يف تمييز الصحابة البن حجر (.)228/6
( )2تفسير البغوي ( ،)51/1تفسير ابن كثير (.)125/1
شرح كتاب التوحيد 22
وهو ينقسم إىل ثَلثة أقسام ،وتقسيمه استقر َأه السلف رمحهم ال َّله يف
يصح أن نَجعل قِسما يف التوحيد؛ ي مخالف
ٌ ظهر
ظهور المخالفين ،فإذا َ
للر يد عليه.
األول :وهو أصل األقسام كلها ،وهو توحيد الربوبية :وهو ِ
القسم َّ
أن ال َّله الخالق الرازق
إفراد ال َّله بأفعاله سبحانه وتعالى؛ أي :إثبات َّ
المدبر المحيي المميت وهكذا( ،)1فَل نقول :الذي يحيي هو غير ال َّله،
وال نقول :الذي يميت هو غير ال َّله.
أن ال َّله هو الذي ينزل المطر.
فمن قال مثَلَّ :
َ
نسبت
َ فردت ال َّله بفعله؛ فالفعل إنزال المطر ،وأنت
َ نقول :أنت َأ
هذا اإلنزال ل َّله؛ فهذا توحيد الربوبية.
وتوحيد الربوبية مل ي ِ
نازع به أحدٌ ،فأبو جه ٍل و َمن معه من كفار
قرون هبذا التوحيد؛ أل َّنه ال يمكن قريش و َمن َقبلهم ،و َمن بعدهم؛ ي ُّ
إنكاره؛ لهذا قال سبحانه﴿ :و َلئِن س َأ ْلتَهم من َخ َل َق السماو ِ
ات َواألَ ْر َض َّ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ
الش ْم َس َوال َق َم َر َليَقول َّن ال َّله َف َأ َّنى ي ْؤ َفك ْو َن﴾ [العنكبوت،]61:
َو َس َّخ َر َّ
تجعلها الثنين -ال َّله وغير ال َّله -؛ لذلك قال سبحانهَ ﴿ :و َق َال ال َّله َال
ِ
فرد ،فتصلي ل َّله ،و َتقرأ القرآن َتتَّخذوا إِ َل َه ْي ِن ا ْثنَ ْي ِن﴾ [النحل ،]51:وإنَّما ي َ
ل َّله.
أفردت فِعلك ل َّله ،فهذا توحيد األلوهية :إفراد ال َّله بأفعال
َ فهنا
العباد.
العلم من أجل ال َّله؛ هذا إفراد ال َّله ِبفعل العبد وهو
وكذا َتطلب ِ
عز َّ
وجل عن نوح عليه السَلم﴿ : ال َّطاغ ْو َت﴾ [النحل ،]36:وقال ال َّله َّ
شرح كتاب التوحيد 28
َو َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا نوحا إِ َلى َق ْومِ ِه َف َق َال َيا َق ْو ِم ا ْعبدوا ال َّل َه َما َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغ ْيره
َأ َف ََل َتتَّق ْو َن﴾ [المؤمنون.]23:
ٍ
ربوبية ،وإنَّما يدعوهنم إىل ُّ
فكل اآليات السابقة ما فيها توحيد
قرون بتوحيد الربوبية. توحيد األلوهية؛ ألهنم ي ُّ
وقال سبحانه﴿ :وإِ َلى َع ٍ
اد َأ َخاه ْم هودا َق َال َيا َق ْو ِم ا ْعبدوا ال َّل َه َما َ
ون﴾ [األعراف.]65: َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغيْره َأ َف ََل َتتَّق َ
اعبدوا ال َّل َهوقال سبحانهَ ﴿ :وإِ َلى َثمو َد َأ َخاه ْم َصالِحا َق َال َيا َق ْو ِم ْ
َما َلك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغ ْيره﴾ [األعراف.]73:
أجل توحيد األلوهية ،وهو الذي وقعت ِ
فجميع دعوة الرسل من ْ
فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم ،وهو أكثر ِش ْرك العالمين؛ وهو دعاء
والجن وغير ذلك. ِ مع ال َّله غيره كاألموات
ِ
القسم الثالث :توحيد األسماء والصفات.
ربا فتثبت أنه وهو يف أصله عائدٌ إىل توحيد الربوبية؛ أي :إذا َأ َّ
ثبت ي
حكيم وهكذا.
ٌ عليم
بصير ٌ
ٌ سميع
ٌ
29 مقرر الثلث األول
ٍ
حتريف، وهو إثبات ما أثبته ال َّله لن ْفسه ،وما أثبته رسوله ﷺ من غير
متثيلْ ،
ونفي ما نفاه ال َّله ع َّز َّ
وجل عن ٍ
تكييف ،وَّل ٍ ٍ
تعطيل ،ومن غير وَّل
نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصَلة والسَلم(.)1
ْ
ٍ
حتريف :ما أحرف المعنى فأقول اليد :النعمة؛ وإنما أثبت من غير
اليد ل َّله.
ٍ
تعطيل :فَل أقول :إن ال َّله ال َيسمع مثَل ،تعاىل ال َّله عن ذلك. وَّل
تكييف :ال أثبت صفة ل َّله عىل تكييفي ،فَل أقول مثَل: ٍ ومن غير
يد ال َّله مِثل يد فَلن -تعاىل ال َّله عن ذلك ،-أو يد ال َّله مِثل كذا؛ هذا
التكييف ،أو أقول :يد ال َّله ِ
كيف َّيتها كذا وكذا فأ َكيفها من غير تمثيل
ٍ
مخلوق. ب
بشيء من المخلوقات فأقول مثَل: ٍ وَّل ٍ
متثيل :ال أمثل هذه الصفة
فَلن ،تعاىل ال َّله عن ذلك وهكذا. سمع ال َّله مثل سمع ٍ
ْ ْ
مقر به إبليس؛ قال سبحانه عنهَ ﴿ :ق َال َفبِ ِع َّزتِ َك﴾، وهذا التوحيد ٌّ
أج َم ِع ْي َن﴾ [ص.]82: ﴿أل ْغ ِو َينَّه ْم َْأث َبت صفة من صفات ال َّله وهي العزةَ ،
( )1الجهمية :هم أتباع جهم بن صفوان .الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ،)199الملل
والنحل للشهرستاين (.)86/1
( )2المعتزلة :هم أصحاب واصل بن عطاء الغزايل ،اعتزل عن مجلس الحسن البصري.
التعريفات للجرجاين (ص ،)222الملل والنحل للشهرستاين (.)43/1
( )3األشعرية :هم أصحاب أبي الحسن عيل بن إسماعيل األشعري .الملل والنحل
والشهرستاين (.)94/1
مرت بعدة مراحل،
( )4الماتريدية :هم فرقة كَلمية تنسب إىل أبي منصور الماتريدي ،وقد َّ
ومل تعرف هبذا االسم إال بعد وفاة مؤسسها .الموسوعة الميسرة يف األديان والمذاهب
واألحزاب المعاصرة (.)95/1
31 مقرر الثلث األول
لذلك قال سبحانهَ ﴿ :ول ِ َّل ِه األَ ْس َماء الح ْسنَى َفا ْدعوه بِ َها َو َذروا
ون﴾ [األعراف،]180: ون فِي َأ ْس َمائِ ِه َسي ْج َز ْو َن َما كَانوا َي ْع َمل َ
ين ي ْل ِحد َ ِ
ا َّلذ َ
لحدين حتى ولو أتوا بتوحيد الربوبية أو بتوحيد األلوهية. فسماهم م ِ
َّ
وتوحيد الربوبية َيلزم منه توحيد األلوهية؛ ومعنى هذا الكَلم :أ َّن
أن ال َّله هو الذي َيرزقه ويميته ويحييه؛ ف َيلزم من
يقر َّ
الشخص إذا كان ُّ
ذلك أن يعبده.
وتوحيد األلوهية متضم ٌن لتوحيد الربوبية؛ يعنيَّ :
أن الشخص إذا
أثبت وجود ال َّله.
قال« :يا ال َّله» فمعناه َ
خلت الغرفة فمعنى ذلك أنَّك دخلت البيت؛ َّ
ألن الغرفة مثل :لو َد َ
داخل البيت.
أثبت أن ال َّله ِ
مستلز ٌم لتوحيد األلوهية؛ يعني :إذا َّ وتوحيد الربوبية
ينزل المطر؛ َيلزم منك َّأال َتعبد إال ال َّله سبحانه وتعاىل؛ قال ابن القيم
آية يف القرآن فهي متضمن ٌة للتوحيد ،شاهد ٌة به ،داعي ٌة كل ٍرمحه ال َّلهُّ « :
إليه»(.)1
الحكمة مِن خ ْلق اإلنس والجن، رمحه ال َّله كتابه هبذه اآلية؛ لبيان ِ
عز َّ
وجل من وأن ال َّله ما َخلقك إال للتوحيد ،تعرف ما الذي خلقك ال َّله َّ
َّ
أجله وهو التوحيد.
لي ْعبدون﴾) [الذاريات]56:؛
ال ْنس إِ ََّّل ِ
ج َّن و ِ
فقال﴿( :وما خل ْقت ال ِ
ويقالِ :
الحكمة من خ ْلق الخ ْلق العبادة ،وال يقال :المصلحة من
خ ْلق الخ ْلق العبادة.
عز َّ
وجل فكأن ال َّله َينتفع بعبادة الخ ْلق؛ وال َّله َّ
َّ فإذا قيل :المصلحة؛
ٍ
غني عن عباده ،فهو خ َلقهم ال ليستكثر هبم من ق َّلة ،وال َّ
ليتقوى هبم من ٌّ
كمة ،هي :أن يعبدوه ،وهم إن َق َّصروا يف عبادته لح ٍف؛ وإنما خلقهم َِضع ٍ
ْ
تضررون من ذلك. سبحانه فهم الذين َي َّ
محتاج ل َّله سبحانه وال يستغني عنه طرفة ٍ
واحد أن َّ
كل فدل عىل َّ
َّ
ٌ
الجنَّة ،و َمن َأشرك به غيره َّ
عذبه لكرمه عىل عبده َأدخله َ َع ٍ
ين ،وال َّله َ
سبحانه وتعاىل بعدْ له.
ٍ
عباس ال ْنس إِ ََّّل لِي ْعبدون﴾) قال ابن
ج َّن و ِ
فقال﴿( :وما خل ْقت ال ِ
آية َوردت يف كتاب ال َّله يعبدون؛ يعني: كل ٍ رضي ال َّله عنهماُّ « :
يوحدون»(.)1
قوله( :إِ ََّّل لي ْعبد ْو ِن﴾) قال ابن عباس :إال ليوح ِ
دون(.)1
أجل أن نستعين عز َّ
وجل أعطانا الهواء والماء والرزق؛ من ْ فال َّله َّ
هبا عىل توحيد ال َّله.
ثم قال رمحه ال َّله( :وق ْوله﴿ :ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة رسو ً
َّل أ ِن ْاعبدوا ال َّله
اجتنِبوا ال َّطاغ ْوت﴾ اآلية) ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ
أن مجيع الرسل َب َّينوا و ْ
ألقوامهم التوحيد ،و َأمروهم به ،و َنهوهم عن الشرك؛ َّ
فدل عىل أمهية
التوحيد.
عز َّ
وجل الجن أن دعوة الرسل مجيعا ِ
للحكمة التي خلق ال َّله َّ وب َّين َّ
واإلنس لها ،وهي العبادة.
فهنا يقول لك المصنف :ال َّله َخلقك للعبادة ،والرسل ب ِعثوا من
أجل بيان هذه العبادة؛ لذلك قال﴿( :ولق ْد بع ْثنا فِي كل أ َّم ٍة
ْ
رسو ً
َّل) [النحل.]36:
اختل ٍ
وإثبات ،ومها ركنا التوحيد؛ لو َّ فالتوحيد ال يكون إال بن ٍ
في
أحدمها مل يكن الشخص موحدا.
لذلك قال( :أ ِن ْ
اعبدوا ال َّله) يعنيَ :أفردوا العبادة ل َّله ،وهذا ال
اجتنِبوا ال َّطاغوت﴾) يعني :البدَّ أن يكفر َيكفي يف التوحيد؛ بل (و ْ
بالطاغوت -وهو ما عبد من دون ال َّله .-
والشرع ليس من مقاصده إقامة العبادة فقط؛ وإنَّما أن تخ َلص
أنَِ الكفار َيتع يبدون ال َّله ،لكنهم مل العبادة ل َّله؛ ولهذا َأخبر ال َّله َّ
عز وج َّل ب َّ
يخلصوا العبادة له؛ فذ يموا حتى ولو كانوا َيعملون أعماال صالحة؛ قال
ين َك َفروا ين ِْفق َ
ون َأ ْم َوا َله ْم﴾ [األنفال ،]36:فهذه عبادةٌ، ِ
سبحانه﴿ :إِ َّن ا َّلذ َ
َي َزال َ
ون ﴿ َو َال يقول: وال َّله القتال، العبادات:
ومن
ِ
ي َقاتلونَك ْم﴾ [البقرة ،]217:فَل ت َ
حمد العبادة لوحدها.
وكذلك َذكر عن المنافقين ،فقالَ ﴿ :و َما َمنَ َعه ْم َأ ْن ت ْق َب َل مِنْه ْم
َن َف َقاته ْم إِ َّال َأنَّه ْم َك َفروا بِال َّل ِه َوبِ َرسول ِ ِه﴾ [التوبة ،]54:فهم ي ِنفقون ومع
ذلك مل تقبل منهم النفقة؛ أل َّنَِ المقصود من العبادة هو إفراد ال َّله بالعبادة،
التبرؤ من عبادة غير ال َّله. لكنَّه َّ
اختل عندهم فذموا؛ فَل بدَّ من ُّ
إن ال َّله واحدٌ .
شخصَّ :
ٌ فلو قال
شرح كتاب التوحيد 38
ٍ
معبود غير ال َّله فعبادته نقول :ما يكفي؛ بل يجب أن َت ِزيد َّ
أن َّ
كل
باطل ٌه.
وقال( :وق ْوله تعالى﴿ :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا
بِ ِه ش ْيئ ًا﴾ إِلى ق ْولِ ِه﴿ :وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً فا َّتبِعوه﴾ اآلية).
محر ٍم نَهى عنه الرسل هو الشرك؛ ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ
أن َّأول َّ
وأول ما َيدعون إليه التوحيد؛ ألمهيته.
لخطورتهَّ ،
قال( :وق ْوله﴿ :وقضى ر ُّبك أ ََّّل ت ْعبدوا إ ِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾
ٍ
واجب يجب أن حق ل َّلهَّ ،
وأول اآلية) ساقها رمحه ال َّله؛ لبيان َّ
أن َّأول ٍّ
يفعله العبد؛ هو عبادة ال َّله ،أي :توحيد ال َّلهَّ ،
فدل عىل أمهية التوحيد.
ووصى.
(﴿وقضى) يعني :أ َمر َّ
واجب عىل
ٌ والمراد بالقضاء هنا القضاء الشرعي الديني؛ يعني :أنَّه
مجيع الخ ْلق أن يؤ ُّدوا هذا األمر ،فمن مل يؤده؛ أثِم لذلك؛ قال﴿( :وقضى)
شرعا ودينا.
(أ ََّّل ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه وبِالوالِد ْي ِن إِ ْحسان ًا﴾) يعني :يجب عليكم (أ ََّّل
عز َّ
وجل ت ْعبدوا إِ ََّّل إِ َّياه)َّ ،
فأول األوامر التي َصدرت هي وحدانية ال َّله َّ
وحده.
ْ
39 مقرر الثلث األول
َّ
فدل عىل أن أعظم األوامر هو التوحيد.
شخص إىل قو ٍم يعبدون ضريحا وهم ال يص ُّلون؛ نقول :ال
ٌ فلو أتى
ِ
يأت ويأمرهم بالصَلة َّأوال ،وإنما َّأوال يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن
الشرك ،ثم بعد ذلك بق َّية األوامر؛ ألن أوجب الواجبات التوحيد.
وأول ما َتدخل هذا المكان يقال لك: ٍ
كنت يف مكانَّ ، فمثَل :لو َ
اجلِس يف ذاك المكان ،وابتَعد عن ذاك المكانَّ ،
فإن ذاك المكان فيه
فأول أوامر ال َّله يف أي ٍ
أمر آخرَّ ، حيوانات مثَل ِ
مفترسة ،فما يقال لك ُّ ٌ
العبادات مجيعا هو التوحيد والتحذير من ضده؛ َّ
فدل عىل أمهيته.
ثم بعد ذلك بقية الشرائع؛ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى
والمساكين؛ َّ
ألن الصدقات ال تقبل إذا مل يكن أصل الدين موجودا
وصحيحا وسليما.
وكذا الجار وثوابه ال يثاب عىل اإلحسان إليه ،وأصل الدين فاسدٌ .
أصلِح األساس ،ثم ينبني بعد ذلك ما بعده من
فالمراد األساسْ ،
الفروع.
شرح كتاب التوحيد 40
َب»(.)1 مطِ ْرنَا بِن َْو ِء ك ََذا َوك ََذا َف َذل ِ َك كَافِ ٌر بِي م ْؤمِ ٌن بِال َك ْوك ِ
ون ِر ْز َقك ْم َأنَّك ْم ( )1رواه البخاري ،أبواب االستسقاء ،باب قول ال َّله تعاىلَ :
﴿و َت ْج َعل َ
ون﴾ [الواقعةَ ،]82 :ق َال ْابن َع َّب ٍ
اس« :ش ْك َرك ْم» ،رقم ( ،)1038ومسلم ،كتاب ت َكذب َ
ٍ
خالد اإليمان ،باب بيان كفر من قال :مطرنا بالنوء ،رقم ( ،)71من حديث زيد بن
شرح كتاب التوحيد 42
( )1هو :عبد ال َّله بن مسعود بن غافل بن حبيب أبو عبد الرمحن الهذيلَ .أسلم يف َّأول بزوغ
فجر اإلسَلم ،وتويف (32هـ أو 33هـ).أسد الغابة البن األثير (.)381/3
( )2رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلىَ ﴿ :فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا َو َأنْت ْم
َت ْع َلم َ
ون﴾ [البقرة ،]22 :رقم ( ،)4477ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب كون الشرك
أقبح الذنوب ،وبيان أعظمها بعده ،رقم (.)86
شرح كتاب التوحيد 44
بأرض ورأى فيها الشرك ورأى فيها الخمور ٍ حل داعي ٌة
فإذا َّ
ٍ
شيء َيبدَ أ به هو أن يدعوهم إىل والمنكرات المتعددة – مثَل -؛ َّ
فأول
توحيد ال َّله وينهاهم عن الشرك.
ود ر ِضي ال َّله ع ْنه« :م ْن أراد أنْ ي ْنظر
ثم بعد ذلك قال( :قال ابن مسع ٍ
ْ ْ َّ
إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ ا َّلتِي عل ْيها خاتمه).
وهذا األثر يف تفسير هذه اآلية﴿( :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم
عل ْيك ْم﴾) [األنعام.]151:
(ا َّلتِي عل ْيها خاتمه) خاتِمه أو خا َتمه؛ يعني :سواء َختم عليه أو
وضعت الوصية وختم عليها بالختم؛ أيَّ :
كأن وصية النبي ﷺ التي
ختمها بختمه؛ هي المذكورة يف قوله﴿( :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم
آيات يف عليكم﴾) ،وهي آيات المحرمات العشر المذكورة يف ثَلث ٍ
َ َّ ْ ْ
وأول ما حرم هو الشرك. أواخر سورة األنعامَّ ،
قال( :م ْن أراد أنْ ي ْنظر إِلى و ِص َّي ِة ُم َّم ٍد ﷺ ا َّلتِي عل ْيها خاتمه).
ِ
يوص إال النبي عليه الصَلة والسَلم لو أراد أن يوصي مل
يعنيُّ :
وصى بالتوحيد ،فقالَ « :م ْن النبي عليه الصَلة والسَلم َّ بالتوحيد ،مع أن َّ
ِِ ِ ك َ ِ
الجنَّة»(.)1 َان آخر كََلمه م َن الدُّ ْن َيا َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َد َخ َل َ
(ف ْلي ْقر ْأ﴿ :ق ْل تعال ْوا أ ْتل ما ح َّرم ر ُّبك ْم عل ْيك ْم أ ََّّل ت ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا﴾
ِ ِ ِ ِِ
إِلى ق ْوله﴿ :وأ َّن هذا صراطي م ْستقيامً فا َّتبِعوه وَّل ت َّتبِعوا ُّ
السبل﴾ اآلية»).
يعني كأن المصنَّف يقول :هذه اآليات ب َّين َْت أن أوجب الواجبات
أتت بأن أوجب الواجبات التوحيد.
والسنَّة أيضا ْ
التوحيدُّ ،
( )1رواه مسلم ،كتاب اإليمان ،باب من مات ال يشرك بال َّله شيئا َدخل الجنة ،ومن مات
ذر رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ « :ما مِ ْن مشركا َدخل النار ،رقم ( ،)154من حديث أبي ٍّ ِ
ِ
األرض هو الشرك بال َّله). ( )1سبق تخريجه (ص ،)31عند قوله (وأعظم ٍ
ذنب يفعل يف
47 مقرر الثلث األول
وأولها؛ َّ
دل عىل أن التوحيد هو فإذا كان الشرك أعظم النواهي َّ
تعظيم ل َّله ،وفيه إفراد ال َّله
ٌ أوجب الواجبات وهو أفضل األوامر؛ َّ
ألن فيه
وجل بالعبادة ،وفيه انصراف القلب بالكل َّية ل َّله.
عز َّ
َّ
هض ٌم للربوبية ،وقدْ ٌح يف ألوهية ال َّله عز وجل ،وتن ُّق ٌ
ص ويف الشرك ْ
له.
عز َّ
وجل وجل التي َوصف ال َّله َّ
عز َّ
وفيه عدم تحقيق صفات ال َّله َّ
ن ْفسه هبا من الوحدانية والقوة والعظمة والكبرياء.
فمن أشرك فإنه ال يحقق هذه الصفات ،فيتوجه إىل صاحب القبر
َ
ضعيف ال يستطيع أن يقضي حاجاته -والعياذ بال َّله -؛
ٌ ويف ق ْلبه أن ال َّله
شخص :أهل
ٌ ٍ
طريق ،فمثَل لو قال الحق له أكثر من
َّ فإذا قيلَّ :
إن
حق. حق واليهود عىل ٍّ حق والنصارى عىل ٍّ اإلسَلم عىل ٍّ
ٌ
صراط واحدٌ نقول :ال؛ ال َّله يقول﴿( :وأ َّن هذا ِصراطِي م ْست ِقيامً﴾)
طريق ،ومن س َلك هذا الصراط نجا. ٍ فقط ،ليس أكثر من
أ َّما األهواء واآلراء فليست هوى واحدا وال رأيا واحدا؛ بل متشعب ٌة
اد على ال َّل ِه؟ ق ْلت :ال َّله ورسوله أ ْعلم. العب ِ
وما ح ُّق ِ
اد أنْ ي ْعبدوه وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا ،وح ُّق العب ِ
قال :فإِ َّن ح َّق ال َّل ِه على ِ
فق ْلت :يا رسول ال َّل ِه! أفَل أبشر النَّاس؟ قالَّ :ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»
حيح ْي ِن).أ ْخرجاه فِي الص ِ
َّ
49 مقرر الثلث األول
يدل عىل تواضع النبي ﷺ قال( :ك ْنت ر ِديف النَّبِي ﷺ على ِحام ٍر) ُّ
إذ كان َيركب الحمار.
ويدل أيضا عىل جواز ِ
اإل ْر َداف. ُّ
خش ويدل أيضا عىل جواز ركوب أكثر من اثنين -إذا مل ت َ ُّ
واحدة ،وكذا ما يف حكم الدابة إذا كانت تطِيق ذلك،
ٍ داب ٍة
الفتنة -عىل َّ
قوة الدابة وض ْعفها ،فهذا الحمار الذي َركِبه
وهذا يختلف باختَلف َّ
يشق عليه ركوب اثنين.
النبي عليه الصَلة والسَلم ومعاذ مل ي
ُّ
ويدل أيضا عىل تواضع النبي ﷺ ومحبته لصحابته إذ كان يردفهم ُّ
معه عىل دابته ،فكان يقرهبم منه قلبا ِ
وح يسا ويجعلهم بجانبه عليه الصَلة
والسَلم.
قال( :فقال :يا معاذ!) ُّ
يدل عىل أنَّه يجوز أن ينا َدى الشخص باسمه؛
فهنا قال( :يا معاذ) من غير ٍ
لقب.
شرح كتاب التوحيد 50
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)22119من حديث معاذ بن جبل رضي ال َّله عنه.
51 مقرر الثلث األول
أعلم»(.)1
ويدل أيضا عىل ِحرص النبي عليه الصَلة والسَلم عىل ترسيخ
ُّ
التوحيد والعقيدة يف قلوهبم.
(ما ح ُّق ال َّل ِه على ال ِعب ِ
اد) يعني :ما هو الواجب عىل العباد أن
َيفعلوه؟
تكرم ال َّله َّ
عز الحق الذي َّ
ُّ اد على ال َّل ِه؟) أي :ما هو
(وما ح ُّق ال ِعب ِ
هذه المسألة العظيمة َخفيت عىل معاذ وهو من أكابر الصحابة ومن
علمائهم؛ لذلك قال عليه الصَلة والسَلم« :معاذ بن جب ٍل َأمام الع َلم ِ
اء َ َ ْ ََ َ َ
أعلم الصحابة ،ومع ذلك قال( :ال َّله ٍ
بخطوة ،فهو من ْ بِ َر ْت َو ٍة»( )1يعني:
ورسوله أ ْعلم).
ِ
العقيدة ويدل عىل َّ
أن المسؤول إذا كان ال َيعلم ولو شيئا من مسائ ِل ُّ
يقول :ال َّله أعلم.
ويدل عىل أنَّه يف حياة النبي ﷺ يجوز أن يقال( :ال َّله ورسوله
ُّ
أ ْعلم)؛ لنزول الوحي عليه ،أ َّما بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي ﷺ؛ فَل
النبي عليه يجوز أن يقال( :ال َّله ورسوله أ ْعلم)؛ وإنَّما «ال َّله أعلم»؛ َّ
ألن َّ
الصَلة والسَلم قد مات.
(قال :فإِن ح ُّق ال َّل ِه على ال ِعب ِ
اد) يعني :الذي يجب عىل العباد أن
َيفعلوه وإن مل يفعلوا ذلك؛ عذهبم ال َّله بالنَّار؛ قال تعاىل﴿ :إِنَّه َم ْن ي ْش ِر ْك
الجنَّة َو َم ْأ َواه النَّار َو َما لِل َّظال ِ ِمي َن مِ ْن ِ ِ
بِال َّله َف َقدْ َح َّر َم ال َّله َع َل ْيه َ
ار﴾ [المائدة.]72: َأن َْص ٍ
الجنَّة؛ كما قال سبحانه﴿ :إِ َّن وجل ََّ و َمن أطاعه َأدخله ال َّله َّ
عز
س َت َله ْم َجنَّات ال ِف ْر َد ْو ِ
ات كَان ْا َّل ِذين آمنوا و َع ِملوا الصالِح ِ
َّ َ َ َ َ
نزال﴾ [الكهف.]107:
فمما يجب عليك وحدانية ال َّله عز وجل؛ ألنَّه هو الذي َخلقك
َّ
ورزقك وأغدق عليك بالنعم ،وهو المستحق للعبادة ،فَل أحد سواه
َ
يستحق أن يركع له ،وأن يسجد له ،وأن تفرد أنواع العبادة إليه؛ إال ال َّله
وحده؛ ألنه هو الكبير العظيم.
وجهه للرب الواحد الكبير
والشخص أعظم ما يقدمه أن يعفر ْ
ٍ
شجر أو المتعال ،وال َيخنع بالقلب أو بالجسد لغير ال َّله عند ٍ
قبر أو عند
ٍ
حجر ونحو ذلك. عند
(أنْ ي ْعبدوه) يعني :أن يفردوه بالعبادة.
(وَّل ي ْشرِكوا بِ ِه ش ْيئ ًا) َّ
ألن المحذور أن تصرف النية لغير ال َّله.
فإذا انصرفت النية لغير ال َّله؛ انصرف معها العمل ،والعياذ بال َّله.
توجه القلب لغير ال َّله؛ فقد َيذبح لغير ال َّله؛ لذلك قال سبحانه: فإذا َّ
ِ ﴿وما أمِروا إِ َّال لِيعبدوا ال َّله م ْ ِ
خلِصي َن َله الد َ
ين حنَ َفا َء َويقيموا َّ
الص ََل َة َ َْ َ َ
الزكَا َة َو َذل ِ َك ِدين ال َقي َمة﴾ [البينة.]5:
َوي ْؤتوا َّ
شرح كتاب التوحيد 54
ٍ
طاعة، فيجب عىل العباد أن يصلحوا نياهتم يف إخَلصها ل َّله يف كل
وهذا هو التوحيد.
فإذا قيل :لماذا تأيت النصوص بعبادة ال َّله وحده والنهي عن الشرك،
والناس اليوم قد َتقدَّ موا ،فلم َيعبدوا صنما ومل َيعبدوا وثنا ،ونحن اآلن
يف عصر الحضارة ونحو ذلك؟
وجل َذكر عن إبراهيم قولهَ ﴿ :رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن عز َّنقول :ال َّله َّ
َّاس﴾ [إبراهيم ،]36:فالغالب عىل الناس يف األرض عدم كَثِيرا مِ َن الن ِ
اإلسَلم وهو الشرك؛ لآلية السابقة ،ولقوله سبحانهَ ﴿ :و َلكِ َّن َأ ْك َث َر الن ِ
َّاس
ون﴾ [غافر.]59: َال ي ْؤمِن َ
وأقل ِ
الق َّلة هم أهل اإلسَلم وكثير من أهل األرض ال َيعبد ال َّلهُّ ،
ٌ
كثير منهم َمن يعبد األصنام
شرق األرض ٌ الخالص من َّ
الش ْوب ،فمثَلْ :
من البوذية ونحو ذلك ،وهم مِن أكثر سكان أهل األرض؛ فقرابة ربع
ممن ال َيعتنق اإلسَلم -مِن
األرض يف تلك الجهة من غير المسلمينَّ ،
صرف العبادة للصنم والركوع له .-
ْ
لما دعاَ ﴿ :رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن كَثِيرا مِ َن
وصدَ ق إبراهيم َّ
الن ِ
َّاس﴾ [إبراهيم ،]36:والواقع َيشهد بذلك.
55 مقرر الثلث األول
ِ ِ ِ
عز َّ
وجل به قال( :وح ُّق العباد على ال َّله) يعني :الذي َت َّ
كرم ال َّله َّ
وجعله سبحانه وتعاىل فضَل منه ،ح يقا عليه لعباده إن َّ
وحدوا. َ
وهذا الحق ال يوجبه الخ ْلق عىل ال َّله؛ يعني :ما يقول الخ ْلق :ألز ْمنا
حق ال َّله َتفضل
وحدناك؛ وإنما هذا ُّ
الجنَّة ألننا َّ
عليك يا ربنا أن تدخلنا َ
وتكرما.
ُّ به عليك إنعاما منه وإحسانا
قال( :أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا) َّ
دل عىل َّ
أن مآل الموحد هو
الجنَّة.
َ
ويدل عىل أن الم َوحد ال يخ َّلد يف النَّار ،فقوله( :أ ََّّل يعذب) أي:
ُّ
عذابا مخ َّلدا.
وقد يعذب ال َّله الموحد إذا كان َيعمل الكبائر أو الصغائر ومل
يغفرها ال َّله؛ قال سبحانه﴿ :إِ ْن َت ْجتَنِبوا َك َبائِ َر َما تن َْه ْو َن َعنْه ن َكف ْر َعنْك ْم
﴿و َم ْن َي ْقت ْل م ْؤمِنا م َت َعمدا َف َج َزاؤه َسي َئاتك ْم﴾ [النساء ،]31:وقال سبحانهَ :
ِ
ِ ِ
َج َهنَّم َخالدا ف َ
يها﴾ [النساء.]93:
أ َّما خلود الموحد يف النَّار فَل ،فإن ال َّله وعد َّأال ي َعذب الموحد؛
لقوله( :أ ََّّل يعذب م ْن َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا) يعنيَّ :
كأن ال َّله يقول :إذا
لجنَّة؛ وهذا من إنعام ال َّله ْ
وفضله. وحدتني أنا أعدك با َ
َّ
شرح كتاب التوحيد 56
الجنَّة ،فقال( :أفَل وهنا َف ِرح معاذ رضي ال َّله عنه َّ
بأن الموحد مآله َ
الجنَّة. أبشر النَّاس؟) ،وأخبرهم هبذا الخبر العظيم َّ
بأن مآل الموحد َ
ويدل عىل مح يبة الصحابة رضي ال َّله عنهم للمسلمين؛ إذ نفوسهم
ُّ
ٍ
عظيم. تشوق لبشارة المسلمين ٍ
بأمر َت َّ
نصوص أخرى عىل أنه ٌ أن ال َّله ال يعذب الموحد ،ود َّلت ويدل عىل َّ ُّ
تحت المشيئة إن َعمل ذنوبا غير الشرك؛ كما قال تعاىل﴿ :إِ َّن ال َّل َه َال َي ْغ ِفر
ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن َي َشاء﴾ [النساء.]48:
َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ
يدل عىل أنه يخشى عىل الصالحين قالَّ( :ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا) هذا ُّ
من االتكال عىل ما عندهم من التوحيد ،وأنَّهم قد َيعملون المعاصي؛
لذلك قال( :أفَل أبشر النَّاس؟ قالَّ« :ل تبش ْره ْم في َّتكِلوا»).
النبي ﷺ ذلك؟
فإذا قيل :لماذا قال ُّ
فلما َرسخ الدين يف نفوسهم؛ َأخبر
نقول :هذا يف َّأول مطلع الدعوةَّ ،
وب َّشرهم هبا بعد وفاة النبي ﷺ.
معاذ الناس َ
أن المخا َطب إذا كان يخشى منه
ويدل أيضا هذا الحديث عىل َّ
ُّ
قصور يف العمل الصالح؛ ال يخ َبر.
ٌ
59 مقرر الثلث األول
[]2
يد ،وما يكفر ِمن ُّ
الذن ِ
وب باب ف ْض ِل الت ْو ِح ِ
َّ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ا َّل ِذين آمنوا ول ْم ي ْلبِسوا إِيامنه ْم بِظ ْل ٍم أولئِك لهم
األ ْمن وه ْم مهْ تدون﴾.
ت ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :قال رسول ال َّل ِه ﷺ« :م ْن
ام ِ
ع ْن عبادة ب ِن الص ِ
َّ ْ
ش ِهد أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله و ْحده َّل شرِيك له ،وأ َّن ُم َّمد ًا ع ْبده ورسوله.
وح ِم ْنه.
وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله ،وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ
والجنَّة ح ٌّق ،والنَّار ح ٌّق.
أ ْدخله ال َّله الجنَّة على ما كان ِمن العم ِل» أ ْخرجاه.
يث ِع ْتبان ر ِضي ال َّله ع ْنه« :فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْنولهام فِي ح ِد ِ
قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه».
يد ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا« :قال موسى :يا رب! عل ْمنِيوع ْن أبِي س ِع ٍ
الشرح:
واجب عىل العبد،
ٌ لما َذكر المصنف رمحه ال َّله كتاب التوحيد ،وأنَّه َّ
ٍ
بشيء تبين له ثواب ذلك الشيء. من حسن التعليم أنَّك إذا َأمرته
األول َّ
أن التوحيد هو أوجب فذكر المصنف رمحه ال َّله يف الكتاب َّ
َ
تقدح فيه.
َ َ
واخش أن واحرص عليه،
ْ الواجبات؛ فا ْفع ْله
فضَل عظيماَّ ،
وإن هذا فعلت ذلك َّ
فإن له ْ َ ثم بعد ذلك قال لك :إن
التوحيد يكفر الذنوب.
وساق المصنف رمحه ال َّله يف فضل التوحيد آية وأربعة أحاديث،
ِ
فمن فضائله:
أهل التوحيد لهم األمن التام. األولَّ :
أن ْ ْ
الفضل َّ
شرح كتاب التوحيد 62
َمرضي.
63 مقرر الثلث األول
األول ،لماذا؟
توسل الثاين أبلغ وأعظم وأحرى باإلجابة من َّ
نقولُّ :
ألنَّه ف َعل أعظم طاعة وهي التوحيد.
قال( :وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ا َّل ِذين آمنوا ول ْم ي ْلبِسوا إِيامنه ْم بِظ ْل ٍم
أولئِك لهم األ ْمن وه ْم مهْ تدون﴾)
َذكر المصنف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان َّ
أن من فضائل التوحيد
حلول األ ْمن التام يف الدنيا واآلخرة.
األمن يف النفس :بالطمأنينة والراحة.
واألمن بين األفراد :ال تعتدي عىل أحد وال يعتدي عليك أحد.
واألمن يف المجتمع :بعدم الخوف فيه من النهب والسرقة ونحو
ذلك.
لذلك قال ابن القيم« :فما خراب العا َلم إال بالجهل ،وال عمارته
الشر يف أهلها ،وإذا َخفي
قل ُّبلد أو مح َّل ٍة َّ
بالعلم ،وإذا َظهر العلم يف ٍ
إال ِ
ِ
العلم هناك ظهر الشر والفساد»(.)1
ٍ
تقاض. ولو َّ
أن الناس قد كمل توحيدهم؛ لما احتاجوا إىل
ِ
﴿وا َّت َخ َذ ال َّله إِ ْب َراه َ
يم ( )1رواه البخاري ،كتاب أحاديث األنبياء ،باب قول ال َّله تعاىلَ :
َخلِيَل﴾ [النساء ،]125:رقم ( ،)3360ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب ِصدْ ق اإليمان
ٍ
مسعود رضي ال َّله عنه. وإخَلصه ،رقم ( ،)124من حديث عبد ال َّله بن
65 مقرر الثلث األول
َاب َم ْر َي َم إِ ِذ
﴿وا ْذك ْر فِي الكِت ِ ِ
( )1رواه البخاري ،كتاب أحاديث األنبياءَ ،باب َق ْو ِل ال َّلهَ :
ا ْن َت َب َذ ْت مِ ْن َأ ْهلِ َها﴾ [مريم ،]16 :رقم ( ،)3445من حديث عمر رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 68
ٍ
ثَلثة -تعاىل ال َّله عن ذلك -؛ لذلك جعلوه إلها ،أو ابنا ل َّله ،أو ثالث
ٍ
كمحمد عليه الصَلة والسَلم قال( :وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله)؛ أي:
وكبقية الرسل.
وح ِم ْنه) (وكلِمته) يعنيَ :تشهد
وقوله( :وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ
ٍ
بكلمة من ال َّله بأن عيسى عليه السَلم َأتى يف بطن أمه جنينا بغير ٍ
أب؛
وهي «كن» ،فقال ال َّله عز وجل﴿ :ك ْن﴾ فكان عيسى يف بطن أمه من غير
ٍ
أب.
فهذه الكلمة ألقاها إىل مريم ،فنَفث جبريل عليه السَلم يف َجيب
فحملت به أ ُّمه من غير زوجٍ . ِ
د ْرعها -يعني :أعىل الصدر -؛ َ
وح ِم ْنه) أي :عيسى كبقية األرواح المخلوقة ،كما قال
وقوله( :ور ٌ
يسى ِعنْدَ ال َّل ِه ك ََمثَ ِل آ َد َم َخ َل َقه مِ ْن ت َر ٍ
اب ث َّم َق َال َله ِ
سبحانه﴿ :إِ َّن َم َث َل ع َ
روح من األرواح التي ك ْن َف َيكون﴾ [آل عمران]59:؛ يعنيَّ :
وأن عيسى ٌ
وجل ،مثله مثل غيره ،وهذا من باب التشريف ،مثل: َّ َخلقها ال َّله َّ
عز
بيت ال َّله وحرم ال َّله وهكذا ،فهذا معناها( ،وأ َّن ِعيسى ع ْبد ال َّل ِه ورسوله،
بأن قال :كن يا وح ِم ْنه) ال َّله َألقى إىل مريم ْ
وكلِمته أ ْلقاها إِلى م ْريم ور ٌ
شرح كتاب التوحيد 70
الجنَّة ،لذلك قال( :أ ْدخله ال َّله الجنَّة) هذا مآله ،ولهذا َأمجع العلماء َّ
وجل َ
الجنَّة.
عىل أن مآل الموحد يف َ
الجنَّة تكون عىل وقوله( :على ما كان ِمن العم ِل) أيَّ :
أن درجتك يف َ
الجنَّة ،لك َّن الموحدين
قدْ ر العمل الذي عملتَه يف الدنيا ،فمآل الموحد َ
درجات عىل قدْ ر أعمالهم بفضل ال َّله ورمحته ،فمآله إىل َ
الجنَّة ٌ الجنَّة
يف َ
وإن كان مقصرا يف بعض األعمال ،أو مرتكِبا لبعض الذنوب التي هي
دون الشرك.
حق َّ
فدل عىل فضيلة التوحيد ،وأنَّه يجب عىل العبد أن َيعرفه َّ
لما ح ِرم من الجنَّة إال به ،و َّ
أنَِ المشرك َّ المعرفة؛ ألنَّه ال سبيل لدخول َ
الجنَّة.
وجل عليه َ عز َّ حرم ال َّله َّ التوحيد؛ َّ
يث ِع ْتبان ر ِضي ال َّله ع ْنه« :فإِ َّن ال َّله ح َّرم على
وقوله( :ولهام فِي ح ِد ِ
النَّار م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»).
فضل التوحيد؛ لبيان َذكر المصنف رمحه ال َّله حديث ِعتبان يف باب ْ
عز َّ
وجل عليه دخول النَّار؛ حرم ال َّله َّ فضل التوحيد َّ
أنَِ صاحبه َّ َّ
أنَِ من ْ
عظيم.
ٌ يعني :ال يمكِن للموحد أن يكون مآله النَّار مطلقا ،وهذا ْ
فض ٌل
شرح كتاب التوحيد 72
( )1هو :أبو ذر جندب ْبن جنادة ْبن سفيان ْبن ع َب ْيد ْبن حرام الغفاري ،أسلم رابع أربعة وقيل
الخامس ،وتويف سنة (32هـ) .أسد الغابة البن األثير (.)357/1
( )2رواه البخاري ،كتاب الجنائز ،باب ما جاء يف الجنائز ،ومن كان آخر كَلمه :ال إله
إال ال َّله ،رقم (.)1237
73 مقرر الثلث األول
وهي َأ ُّ
حب الكَلم إىل ال َّله عز وجل.
أن مجيع حروفها ح ْلق َّي ٌة فَل تتحرك الشفتان حين النطق
ومن ميزاهتاَّ :
لئَل يرى المرء من ٍ
بعيد لو تك َّلم هبا. هبا؛ زيادة يف اإلخَلص؛ َّ
أن مجيع حروفها ليس عليها ٌ
نقط. ومِن ميزاهتاَّ :
ومِن ميزاهتا :أنَّها مركَّب ٌة مِن حرف األلف ،والَلم ،والهاء فقط.
ِ
فهي كلم ٌة عظيم ٌة تدخل صاحبها َ
الجنَّة وتحرم عليه الخلود يف
النَّار.
ثم قال( :ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّله) يعني :مخلِصا فيها ل َّلهَّ ،
فدل عىل
ٍ
بشروط حتى ٍ
بشروط ،فَل بد من اإلتيان فضل كلمة التوحيد يأيت لكن أن ْ
محرما عليه الخلود النَّار.
يكون من يقول كلمة التوحيد َّ
شرح كتاب التوحيد 74
فهنا قال( :ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّله( ،ويف لفظ «م ْستَ ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه»(،)1
كل َمن تك َّلم هبا تح َّققت له ويف لفظ « ِخالِصا مِ ْن َق ْلبِ ِه»( ،)2فليس ُّ
ٍ
شروط. الفضائل السابقة؛ وإنَّما هو مشروط بسبعة
وهذه الشروط مجموعة يف بيت واحد:
محب ٍة وان ِْقي ٍ
اد وال َقب ِ ِ ِ ِ
ول َلها()3
َ َ َ ع ْل ٌم َيق ْي ٌن َوإِ ْخ ََلْ ٌ
ص َوصدْ ق َك َم ْع َ َ َّ َ
ٍ
هذه سبعة شروط لكلمة ال إله إال ال َّله لتدخل صاحبها َ
الجنَّة
وشرحها ما ييل:
ْ
األولِ ( :ع ْل ٌم) أي :يجب عىل المسلم ْ
أن َيع َلم معنى ال إله الشرط َّ
إال ال َّله ،وهو نفي العبادة عن غير ال َّله وإثباهتا ل َّله وحده سبحانه وتعاىل؛
قال سبحانهَ ﴿ :فا ْع َل ْم َأنَّه َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله﴾ [محمد.]19:
( )1رواه مسلم ،كتاب اإليمان ،باب َمن َلقي ال َّله باإليمان وهو غير ٍّ
شاك فيه؛ دخل الجنة
وحرم عىل النار ،رقم ( ،)31من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
العلم ،باب الحرص عىل الحديث ،رقم ( ،)99من حديث أبي ( )2رواه البخاري ،كتاب ِ
ُّ
يشك فيها كما الشرط الثاينَ ( :ي ِق ْي ٌن) يعني :من غير ٍّ
شك فيها َ
مرض يصل إىل الشرك؛ كما قال النبي ﷺ:
المنافقون أو من يف قلبه ٌ
«م ْس َت ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه»( ،)1فالشاك يف وحدانية ال َّله ال تنفعه تلك الكلمة؛ بل
بأن ال َّله سبحانه وتعاىل واحدَّ ،
وأن مجيع المعبودات من يجب اليقين َّ
دون ال َّله باطل ٌة.
ص) أي :اإلخَلص يف قولها ،وضدُّ ذلك الشرط الثالثَ ( :وإِ ْخ ََلْ ٌ
النفاق ،فالمنافق يتك َّلم بتلك الكلمة لكنَّها ال تنفعه؛ ألنَّه ليس مخلِصا
فيها -والعياذ بال َّله .-
واإلخَلص ضده الشرك فلو قال الشخص :ال إله إال ال َّله ،وهو
وقعت يف الشرك.
َ أخلصت فيها؛ وإنَّما
َ يطوف حول القبر؛ نقول :ما
الشرط الرابعَ ( :و ِصدْ ق َك)؛ لقول النبي ﷺِ « :صدْ قا مِ ْن َق ْلبِه»()2؛
أي :ليس كاذبا فيها كالكفار إذا نَطقوا هبا ،أو المنافقين ،ففرعون قال:
( )1سبق تخريجه (ص) عند قوله( :ويف لفظ «م ْس َت ْي ِقنا بِ َها َق ْلبه).
بالعلم قوما دون قومٍ؛ كراهية َّأال َيفهموا، العلم ،باب من َخص ِ ()2رواه البخاري ،كتاب ِ
َّ
مالك رضي ال َّله عنه. رقم ( ،)128من حديث أنس بن ٍ
شرح كتاب التوحيد 76
﴿آ َمنْت َأنَّه َال إِ َل َه إِ َّال ا َّل ِذي آ َمن َْت بِ ِه َبنو إِ ْس َرائِ َيل﴾ [يونس]90:؛ لكنَّها مل
َتنفعه تلك الكلمة.
( َو ِصدْ ق َك) يعنيَ :يخرج من كان كاذبا يف قولها كالمنافقين ،فهم
يقولون ال إله إال ال َّله ،ويف قرارة أنفسهم تعلقهم بغير ال َّله يف طلب
الحاجات ونحو ذلك.
وتحب ال َّله عز
ُّ تحب هذه الكلمة
ُّ الشرط الخامسَ ( :م َحبَّ ٍة) أي:
وتحب ما د َّلت عليه و َتفرح بأوامر ال َّله عز وجل،
ُّ وجل؛ ألنَّه الواحد،
عمل عمَل وهو ألن من ِ بأن المعبودات من دون ال َّله باطل ٌة؛ َّ
و َتفرح َّ
مبغض له ك َفر -ولو َعمل به ،-كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ٌ
ذلك يف نواقض اإلسَلم(.)1
فم َّما َيلزم فيها أن اد) أي :اإلذعان لهاِ ، والشرط السادس( :وان ِْقي ٍ
َ َ
بأال َتعبد إال ال َّله وال تعبد غيره ،وضدُّ ذلك الكِ ْبر، َتنقاد ل ِ َما د َّلت عليه َّ
فمن مل ين َقدْ لها ملْ يحقق تلك الكلمة؛ قال سبحانه﴿ :إِنَّه ْم كَانوا إِ َذا قِ َيل
َله ْم َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َي ْس َت ْكبِر َ
ون﴾ [الصافات.]35:
( )1كالشيخ محمد بن إبراهيم رمحه ال َّله .شرح كتاب التوحيد (ص .)89
شرح كتاب التوحيد 78
َما كَان مِ َن العمل ،كحديث عبادة( ،)1وكحديث ِعتبان(«( :)2فإِ َّن ال َّله
ح َّرم على النَّار م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله ي ْبت ِغي بِذلِك و ْجه ال َّل ِه»)(. )3
( )1هو :أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سامل بن
عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرجَ ،شهد البيعتين ،وتويف سنة (34هـ) .معرفة
الصحابة ألبي نعيم (.)1919/4
( )2هو :عتبان بن مالك بن عمرو بن العجَلن األنصاري الخزرجي السالمي ،تويف أيام
معاوية رضي ال َّله عنه .أسد الغابة البن األثير (.)551/3
( )3رواه البخاري ،كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم ،رقم ( ،)6938ومسلم،
كتاب اإليمان ،باب من َل ِقي ال َّله باإليمان وهو غير ٍّ
شاك فيه؛ َدخل الجنة وحرم عىل
النار ،رقم (.)33
79 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،كتاب التوحيد ،باب كَلم الرب عز وجل يوم القيامة مع األنبياء وغيرهم،
رقم ( ،)22ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار،
ٍ
سعيد الخدري رضي ال َّله عنه. رقم ( ،)184من حديث أبي
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)13340من حديث أنس بن ٍ
مالك رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 80
عز َّ
وجل بمن يف السموات غير ال َّله َّ
فإذا كانت هذه الكلمة ترجح َ
دل عىل عظمة ما د َّل ْت عليه ،وهو توحيد ال َّله،
فيهن؛ َّ
َّ واألرضين و َمن
أن كلمته َترجح بالمخلوقات. فضل التوحيد حيث َّ فهذا من ْ
(قال موسى :يا رب! عل ْمنِي ش ْيئ ًا أ ْذكرك بِ ِه وأ ْدعوك بِ ِه)؛ أي :أثن ِي
أجل الطاعات فيما ِ به عليك ،وهذا ُّ
يدل عىل حرص األنبياء عىل َ
يرتضيه ال َّله عز وجل.
( )1هو :أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان وقيل :ابن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن األبجر بن
عوف بن الحارث بن الخزرج الخدري ،تويف سنة (74هـ) .معرفة الصحابة ألبي
نعيم (.)1260/3
شرح كتاب التوحيد 82
لذلك موسى يقول( :يا رب! عل ْمنِي ش ْيئ ًا أ ْذكرك بِ ِه وأ ْدعوك بِ ِه)
ٍ
مسألة، عبادة أو دعاءٍ َأذكرك من الذكر ،وأدعوك من الدعاء سواء دعاء
والمراد بالدعاء هنا :دعاء العبادة؛ يعني :أتع َّبد بذلك الشيء ،وأجعله
خاصا بي؛ لتكون منزلتي عالية عندك.
ي
(قال :ق ْل يا موسىَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله) يعني :قل هذه الكلمة ،فهي من
ب ال َك ََل ِم إِ َلى ال َّل ِه َأ ْر َب ٌع: كما يف صحيح مسلم « َأ َح ُّ أ ْعظم الذكرَ ،
ان ال َّل ِه ،والحمد ل ِ َّل ِه ،و َال إِ َله إِ َّال ال َّله ،وال َّله َأ ْكبر»( ،)1ويف ٍ
لفظ س ْب َح َ
َ َ َ َ َ َ ْ
الح ْمد ل ِ َّل ِهَ ،و َ
ال إِ َل َه للبخاريَ « :أ ْف َضل ال َكَلَ ِم َأربع :سبح َ ِ
ان ال َّلهَ ،و َ ْ َ ٌَْ
إِ َّال ال َّله َوال َّله َأ ْك َبر »(.)2
الجنَّة بحال. ِ
الجنَّةَ ،من مل يأت هبا مل يفتح له باب َ
وهي مفتاح َ
أن موسى َيطلب شيئا ادك يقولون هذا) يعنيَّ : (يا رب! ك ُّل ِعب ِ
( )1رواه مسلم ،كتاب اآلداب ،باب كراهة التسمي باألسماء القبيحة وبنافع وغيره،
رقم ( ،)2137من حديث سمرة بن جندب رضي ال َّله عنه.
( )2رواه البخاري ،كتاب األيمان والنذور ،باب إذا قال :وال َّله ال أتكلم اليوم ،فصىل ،أو قرأ،
أو سبح ،أو كبر ،أو محد ،أو هلل ،فهو عىل نيته ،رقم (.)6680
83 مقرر الثلث األول
ومع المَلئكة وغيرهم ،وال يزال َيتك َّلم سبحانه وتعاىل ،وسيتك َّلم يف
ٍ
تكييف لهذا الكَلم وال تمثي ٍل له. المستقبل سبحانه وتعاىل من غير
أن السموات السبع الس ْبع)؛ يعني :لو َّ ِ
السموات َّ
(يا موسى! ل ْو أ َّن َّ
امره َّن)؛ أي :المَلئكة التي تعمر السموات بذكر ال َّله. المخلوقة( ،وع ِ
عز َّ
وجل -كما هو (غ ْيرِي)؛ يعني :من َيسكنها غيري؛ َّ
ألن ال َّله َّ
معلو ٌم -يف السماء؛ كما قال سبحانهَ ﴿ :أ َأمِنْت ْم َم ْن فِي
است ََوى﴾ [طه،]5: ﴿الر ْح َمن َع َلى ال َع ْر ِ السم ِ
ش ْ َّ اء﴾ [الملك ،]16:وقال: َّ َ
أن ال َّله َيسكن يف السماء؛ وإنَّما نقول :ال َّله يف السماء. لكن ال يقال َّ
الس ْبع)؛ أي :جعلت السموات والعمار – المَلئكة - ِ
(واألرضين َّ
ميزان( ،وَّل إِله إِ ََّّل ال َّله فِي كِ َّف ٍة؛ مال ْت
ٍ ،واألرضين (فِي كِ َّف ٍة)؛ أي :كِ َّفة
فدل عىل ِعظم ْ
وزن تلك الكلمة. بِ ِه َّن َّل إِله إِ ََّّل ال َّله) َّ
يدل عليه؛ حديث البطاقة وهو َقول النبي ﷺ« :إِ َّن ال َّل َه َّ
عز والذي ُّ
وس ال َخ ََلئِ ِق َي ْو َم ال ِق َيا َم ِةَ ،ف َينْشر
َخلِص َرجَل مِ ْن أ َّمتِي َع َلى رء ِ وجل َي ْست ْ َّ
ين ِس ِج يَل ،ك ُّل ِس ِج ٍّل َمدَّ ال َب َص ِر. ِ ِ ِ ِ
َع َل ْيه ت ْس َعة َوت ْسع َ
ث َّم َيقول َلهَ :أتنْكِر مِ ْن َه َذا َش ْيئا؟ َأ َظ َل َمت َْك َك َت َبتِي ال َحافِظ َ
ون؟
َق َالَ :الَ ،يا َربَ .ف َيقولَ :أ َل َك ع ْذ ٌرَ ،أ ْو َح َسنَ ٌة؟
85 مقرر الثلث األول
اب رسول ال َّل ِه ﷺ يقول« :قال ال َّله تعالى :يا ا ْبن آ دم! إِنَّك ل ْو أت ْيتنِي بِقر ِ
ض خطايا ،ث َّم ل ِقيتنِي َّل ت ْشرِك بِي ش ْيئ ًا؛ ألت ْيتك بِقرابِها م ْغ ِفر ًة»). األ ْر ِ
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)6994من حديث عبد ال َّله بن عمرو رضي ال َّله عنهما.
شرح كتاب التوحيد 86
فضل التوحيد.
( )1هو :أبو محزة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن
عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج ،تويف سنة (93هـ).
معرفة الصحابة ألبي نعيم (.)231/1
87 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،كتاب الجنائز ،باب ما قيل يف أوالد المشركين ،رقم ( ،)1386من
ٍ
جندب رضي ال َّله عنه. حديث سمرة بن
شرح كتاب التوحيد 88
مطلق ،فيحمل ٌ وهنا ذكر ْترك الشرك ،ومل يب َّين التوحيد ،وهذا
المط َلق عىل المق َّيد( ،فإِ َّن ال َّله ح َّرم على النَّار م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله)؛
أي :ال بدي من ْترك الشرك وإثبات الوحدانية ل َّله سبحانه وتعاىل؛ ومها ركنا
التوحيد.
أن التوحيد يكفر مجيع الذنوب ،ومن ِ
عمل فدل هذا الحديث عىل َّ
َّ
َ
الجنَّة. الجنَّة ،لكن ُّ
تقل درجته يف َ سيئة بعده؛ فإنه َيدخل َ
رجحت سيئاته عن حسناته مع توحيده؛ فهو تحت المشيئة إن
ومن َ
عذبه؛ كما قال سبحانه﴿ :إِ َّن ال َّل َه َال وجل َغفر له وإن شاء َّ عز َّ شاء ال َّله َّ
ون َذل ِ َك ل ِ َم ْن َي َشاء﴾ [النساء.]48:
َي ْغ ِفر َأ ْن ي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِفر َما د َ
***
89 مقرر الثلث األول
[]٣
باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ
اب
اهيم كان أ َّم ًة قانِت ًا لِ َّل ِه حنِيف ًا ول ْم يك ِمن
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :إِ َّن إِبر ِ
ْ
الم ْشرِكِين﴾.
وقال﴿ :وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾.
ع ْن حصي ِن ب ِن عب ِد الر ْحم ِن ،قال« :ك ْنت ِع ْند س ِع ِ
يد ْب ِن جب ْيرٍ ،فقال: ْ ْ ْ َّ
ارحة؟ ق ْلت :أنا. أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب ا َّل ِذي ا ْنق َّض الب ِ
إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن ،أ ْو حم ٍة ،فقال :ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع.
شرح كتاب التوحيد 90
ث َّم نهض ،فدخل م ْن ِزله ،فخاض النَّاس فِي أولئِك ،فقال ب ْعضه ْم:
حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ. فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ
سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه وقال ب ْعضه ْم :فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ
ال ْ
ش ْيئ ًا -وذكروا أ ْشياء .-
فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّل ِه ﷺ فأ ْخبروه ،فقال :هم ا َّل ِذين َّل
ي ْست ْرقون ،وَّل ي ْكتوون ،وَّل يتط َّيرون ،وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون.
ِ
فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم ،فقال :أ ْنت
ِم ْنه ْم.
91 مقرر الثلث األول
ث َّم قام رج ٌل آخر ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم ،فقال :سبقك بِها
عكَّاشة».
الشرح:
فضل التوحيد أع َق َبه بعد ذلك َّ
بأن ْ لما َذكر المصنف ْ
فضل التوحيد؛ ْ َّ
ال يكون إال بتحقيق التوحيد.
ٍ
بإتقان وتمحيص. ومعنى تحقيق التوحيد :اإلتيان به
وتحقيق التوحيد ينقسم إىل قِسمين:
عما ينايف ِ
واجب ،وهو :أن َيبتعد الشخص َّ ٌ تحقيق
ٌ األول:
القسم َّ
التوحيد الواجب ،مِثل :الشرك األصغر ،أو ما َيقدح فيه من البِدع ،أو ما
ينقص ثوابه من السيئات؛ هذا التحقيق الواجب.
يعني :يجب عىل كل مسلِ ٍم ْ
أن يحقق التوحيد ،ف َيعمل جاهدا يف ف ْعل
هذا األمر عىل إتقانه وتمامه ،وهو االبتعاد عن الشرك األصغر -نحن
نتك َّلم عن المسلِم ،-فيبتعد عن الشرك األصغر و َيبتعد عن البدع وعن
المعاصي التي تنقص التوحيد ،وهذا هو التحقيق الواجب ،مِثلَّ :أال
يتعلق بالتمائم وال يجعلها سببا.
شرح كتاب التوحيد 92
ِ
القسم الثاين :تحقيق التوحيد المندوب – وهو المقصود يف هذا
مما به بأس ،هذا الضابط. الباب – وهوْ :ترك ما ال بأس به َّ
ألمر أصيب به ،مِثل :ما جاء يف حديث ومعنى ذلكْ :ترك المباح ٍ
المري َض َال يطلب مِ ْن َأحد َأن يرقِ َيه َت َو ُّكَل عىل ال َّله (،)2
أن ِ ح َصين( )1مِن َّ
والجامع لذلك؛ يعني :كيف يتحقق ذلك؟
ٍ
ألحد غيره وجل وتع ُّل ِقه به؛ فَل َيركن
عز َّ
بانجذاب القلب إىل ال َّله َّ
سبحانه وتعاىل.
( )1هو :أبو محمد الح َصين بن عبد الرمحن ابن عمرو بن سعد بن معاذ بن
متمم التابعين -البن
النعمان ،تويف سنة (126هـ) .الطبقات الكبرى -ي
ٍ
سعد (.)294/1
﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو
( )2رواه البخاري ،كتاب الرقاق ،باب قوله تعاىل َ :
َح ْسبه﴾ [الطَلق ،]3 :رقم ( ،)6472ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب الدليل
ٍ
عذاب، حساب وال ٍ عىل دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير
ونَ ،و َال َي َت َط َّير َ
ون، رقم ( ،)218ولفظه« :هم ا َّل ِذي َن َال َي ْست َْرق َ
ونَ ،و َال َي ْكتَو َ
َو َع َلى َرب ِه ْم َيت ََوكَّل َ
ون» .
93 مقرر الثلث األول
( )1هو :أبو محمد الحصين بن عبد الرمحن ابن عمرو بن سعد بن معاذ بن
متمم التابعين -البن
النعمان ،تويف سنة (126هـ) .الطبقات الكبرى -ي
ٍ
سعد (.)294/1
95 مقرر الثلث األول
( )1كتاب تفسير القرآن ،باب قوله تعاىل﴿ :إِ َّن الن َ
َّاس َقدْ َج َمعوا َلك ْم َف ْ
اخ َش ْوه ْم﴾
[آل عمران ]173 :اآل َي َة ،رقم (.)4564
97 مقرر الثلث األول
فمما يمدح به الشخص عند ال َّله؛ شكر النعم الم ْسدَ اة إليه من ال َّله
َّ
أنَِ عباد ال َّله الشاكرين ق َّل ٌة ،كما قال
وجل َذكر َّ
عز َّ عز وجل؛ لذلك ال َّله َّ
﴿و َقلِ ٌيل
ون﴾ [البقرة ،]243:وقالَ : ﴿و َلكِ َّن َأ ْك َث َر الن ِ
َّاس َال َي ْشكر َ سبحانهَ :
الشكور﴾ [سبأ.]13: مِن ِعب ِ
اد َي َّ ْ َ
(وقال﴿ :وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾)؛ لبيان َّ
أنَِ من عباد ال َّله
من مل يقع يف الشرك ،وح َّقق التوحيد ،فيجب علينا مجيعا أن نكون مثلهم؛
يعني :ال يكون الشخص محققا للتوحيد إال إذا كان نابذا للشرك.
فاألوىل :البراءة من الشرك وأهله (ول ْم يك ِمن الم ْشرِكِين﴾) ،مل
يقل :ومل يكن ِ
مشركا ،وإنما :مل يكن من المشركين؛ أي :منهم ومن
عبادهتم.
وهنا قوله﴿( :وا َّل ِذين ه ْم بِرب ِه ْم َّل ي ْشرِكون﴾)؛ َيدخل فيها أيضا
الشرك األصغر ،من تعليق التميمة ،والحلِف بغير ال َّله َّ
عز َّ
وجل كالنبي
واألمانة والكعبة وغير ذلك.
واجب للتوحيد باجتناب الشرك األكبر.
ٌ تحقيق
ٌ فاألول:
َّ
واجب للتوحيد باجتناب الشرك األصغر.
ٌ تحقيق
ٌ والثاين:
ثم بعد ذلك يأيت المندوب.
شرح كتاب التوحيد 98
أنا.
ث َّم ق ْلت :أما إِني ل ْم أك ْن فِي صَل ٍة ،ولكِني ل ِد ْغت.
قال :فامذا صن ْعت؟ ق ْلتْ :ارتق ْيت.
قال :فام حملك على ذلِك؟
الش ْعبِ ُّي ،قال :وما حدَّ ثك ْم؟ ق ْلت :ح ِد ٌ
يث حدَّ ثناه َّ
ب ر ِضي ال َّله ع ْنه أنَّه قالَّ :ل ر ْقية
ق ْلت :حدَّ ثنا ع ْن بر ْيدة ْب ِن حص ْي ٍ
إِ ََّّل ِم ْن ع ْي ٍن ،أ ْو حم ٍة ،فقال :ق ْد أ ْحسن م ِن ا ْنتهى إِلى ما س ِمع.
اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام ع ِن النَّبِي ﷺ قال :عرِض ْت
ولكِ ْن حدَّ ثنا ا ْبن ع َّب ٍ
ث َّم نهض ،فدخل م ْن ِزله ،فخاض النَّاس فِي أولئِك ،فقال ب ْعضه ْم:
حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ.
فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ
سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه وقال ب ْعضه ْم :فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ
ال ْ
ش ْيئ ًا -وذكروا أ ْشياء .-
فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّل ِه ﷺ فأ ْخبروه ،فقال :هم ا َّل ِذين َّل
ي ْست ْرقون ،وَّل ي ْكتوون ،وَّل يتط َّيرون ،وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون.
ِ
فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم ،فقال :أ ْنت
ِم ْنه ْم.
ث َّم قام رج ٌل آخر ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم ،فقال :سبقك بِها
عكَّاشة»).
هنا َيذكر الحديث يف تحقيق التوحيد المندوب.
فلما َذكر تحقيق التوحيد الواجب ،وهو تخليصه من الشرك سواء
ي
الشرك األكبر أو األصغر؛ َشرع بعد ذلك يف ِذكر تحقيق التوحيد
المندوب.
شرح كتاب التوحيد 100
قال( :ع ْن حصي ِن ب ِن عب ِد الر ْحم ِن ،قال :ك ْنت ِع ْند س ِع ِ
يد ْب ِن جب ْيرٍ، ْ ْ ْ َّ
ارحة؟) يعني :سعيدٌ (َ )1يسأل فقال :أ ُّيك ْم رأى الك ْوكب ا َّل ِذي ا ْنق َّض الب ِ
( )1هو :أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام األسدي الوالبي موالهم ،تويف
سنة (95هـ) .سير اعَلم النبَلء للذهبي (.)321/4
101 مقرر الثلث األول
ٍ ِ
أجل أن قال( :أما إِني ل ْم أك ْن في صَلة) يعني :مل أكن مستيقظا من ْ
بعمله ،ول ِ َّ
ئَل يمدح بما مل َيفعله ،كأنَّه أصلي؛ لد ْفع التهمة بأنَّه يرائي َ
تظن يا سعيد بن جبير َّ
أنِِي كنت مصليا يف تلك الساعة. يقول :فَل ي
أنَِ السلف يخشون من إظهار عم ٍل صالحٍ لهم ملْ يدل عىل َّ وهذا ُّ
ون بِ َما َأ َت ْوا
ين َي ْف َرح َ ِ
﴿ال َت ْح َس َب َّن ا َّلذ َ يفعلوه؛ حذرا من الوعيد يف اآليةَ :
اب َو َله ْم ون َأ ْن ي ْح َمدوا بِ َما َل ْم َي ْف َعلوا َف ََل َت ْح َس َبنَّه ْم بِ َم َف َاز ٍة مِ َن ال َع َذ َِوي ِح ُّب َ
ِ
يم﴾ [آل عمران.]188: اب َأل ٌَع َذ ٌ
عقرب يل ٍ قال( :ولكِني ل ِد ْغت) يعني :استيقظت بسبب لدغة
فلما استيقظت رأيت كوكبا ساقطا؛ يعني :لدَ َغ ْته
أيقظتني من النومَّ ،
نجم فرآه.
وانقض ٌ
َّ عقرب أو ح يي ٌة فلم ينم تلك الليلة
ٌ
وهذا يدل عىل ض ْعف اإلنسان؛ فلدْ غ ٌة َأيقظتْه طوال الليل.
ٍ
لبعض، (قال :فامذا صن ْعت؟) وهذا يدل عىل مح َّبة السلف بعضهم
ٍ
مكروه. شر أو عما أصاب اآلخر من ٍّ
ف َيسأل بعضهم بعضا َّ
شرح كتاب التوحيد 102
مسلم()1
ٍ (ق ْلت :ارتقيت) أي :طلبت من يرقيني ،واللفظ الذي يف
ْ ْ
«اس َت ْر َق ْيت» ،يعني :فعلت الرقية ،أو :طلبت الرقية.
يدل عىل تع ُّلق السلف بكتاب ال َّله
يعني :الرقية بالقرآن ،وهذا ُّ
سبحانه وتعاىل.
ِ
طلب الرقية من اآلخر ،وكذا جواز الذهاب ُّ
ويدل أيضا عىل جواز
للطبيب ونحوه لطلب العَلج ،ولكن كما سيأيت األفضل ما هو.
(قال :فام حملك على ذلِك؟) يعني :ما دليلك؟ ما هو الدليل عىل
لجأت إىل الرقية؟
َ لما لدغتْك عقربأنه َّ
فانظر إىل السلف ،ل ِدغ بعقرب ،ومع ذلك يقول :ما هو الدليل؟
ْ
وهكذا الشخص يف أمور الدين َيطلب الدليل حتى يزول عنه اإلشكال.
لما ٍ ِ يدل عىل َّ
وهذا ُّ
أن السلف يتباحثون يف العلم يف كل واقعة ،فهنا َّ
َذكر النجم ،وأتى بمسألة ال َّلدْ غ والرقية؛ فيسأله ما هو الدليل عىل أنك
الجنَّة بغير
( )1كتاب اإليمان ،باب الدليل عىل دخول طوائف من المسلمين َ
ٍ
عذاب ،رقم (.)220 ٍ
حساب وال
103 مقرر الثلث األول
طلب ِ
العلم ولو ِ طلبت الرقية ،وهذا ُّ
يدل عىل مشروعية التباحث يف َ
واضح.
ٌ باألمر الذي ي َظ ُّن أنه
حصين رمحه ال َّله يقول:
ٌ الش ْعبِ ُّي) يعني: (ق ْلت :ح ِد ٌ
يث حدَّ ثناه َّ
الدليل عىل أين ارت َق ْيت..
(فقال :وما حدَّ ثك ْم؟ ق ْلت :حدَّ ثنا ع ْن بر ْيدة ْب ِن حص ْي ٍ
ب أنَّه قالَّ :ل
ر ْقية) يعني :ال رقية َأوىل و َأفضل و َأنفع من رقية القرآن بسبب العين أو
الح َمة كما سيأيت.
أن الرقية فقط محصور ٌة يف هذين األمرين -ومهاوليس المقصود َّ
شاف لجميع األمراض؛ لذلك (َّلالعين ولدْ غ العقرب -؛ وإ َّنما القرآن ٍ
حق وأ َّنها تؤثر ،والنبي ﷺ قالَ « :أ ْك َثر َم ْن أن ال َعين ٌّ ويدل عىل َّ ُّ
َاب ال َّل ِه»( ،)1ويف الحديث اآلخر: س َب ْعدَ كِت ِ َيموت مِ ْن أ َّمتِي بِاألَنْف ِ
المحرم من الدواب، ِ ( )1رواه البخاري ،كتاب جزاء الصيد ،باب ما َيقتل
رقم ( ،)1829من حديث عائشة رضي ال َّله عنها ،ولفظهَ « :خ ْم ٌس مِ َن
اس ٌق ،ي ْقتلهن فِي الحرمِ :الغراب ،و ِ
الحدَ َأةَ ،وال َع ْق َرب، الدَّ واب ،ك ُّلهن َف ِ
َ َ ََ َّ َ َّ َ
َوال َف ْأ َرةَ ،وال َك ْلب ال َعقور».
النبوي (.)124/1
ي ( )2الطب
شرح كتاب التوحيد 106
صحيح؛
ٌ ين :الذي فعلتَه النَّبِي ﷺ قال) يعني :سعيد بن ٍ
جبير يقول لح َص ٍ
ِ
طلب لكن سوف أعطيك أمرا آخر أفضل من الذي فعلتَه؛ وهو عدم
الرقية من اآلخرين ،وإنَّما َت ْرقِي ن ْف َسك بن ْفسك ،وتتو َّكل عىل ال َّله ،فمن
ٍ
حساب. الجنَّة بغير
فعل ذلك؛ َدخل َ
يدل عىل َّ
أن علماء السلف َينظرون إىل الدرجات العىل وإن وهذا ُّ
كان األَ َّول أمرا مشروعا؛ لكنَّهم يطلبون ما هو األفضل من المشروع.
فضل النبي ﷺ (عرِض ْت عل َّي األمم) أي :يف المنام ،وهذا ُّ
يدل عىل ْ
إذ َعرض ال َّله عىل النبي األمم األخرى؛ ليستبشر َّ
بأن هذه األ َّمة هي أكثر
األمم ،وعند الترمذي(َ « :)1ل َّما أ ْس ِر َي بِالنَّبِي ﷺ َج َع َل َيم ُّر بِالنَّبِي
الر ْهط َوالنَّبِي َوالنَّبِ َّي ْين
َوالنَّبِ َّي ْي ِن َو َم َعهم ال َق ْوم َوالنَّبِي َوالنَّبِ َّي ْي ِن َو َم َعهم َّ
َو َل ْي َس َم َعه ْم َأ َحدٌ » ،فرأى النبي ﷺ آية من ال َّله عز وجل.
فما دون.
(الر ْهط) :العدد من عشرة َ (فرأ ْيت النَّبِ َّي ومعه َّ
الر ْهط) َّ
ف َسن ٍَة
أقل( ،)1مع طول م ْكثِ ِه يف قومه؛ كما قال تعاىلَ ﴿ :أ ْل َفقط ،وقِيل :ي
ِ
إِ َّال َخ ْمس َ
ين َعاما﴾ [العنكبوت.]14:
ِ ِ ِ
يم) يعني :لكثرة الناس فيروا كأهنم سوا ٌد (إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ
عظيم؛ بمعنى :إذا رأيت الرؤوس من ٍ
بعيد كاشفة؛ يظن أهنا سوا ٌد ٌ
كالليل.
ِ ِ ِ
يم) فرأيت ذلك السواد؛ يعني: لذلك قال( :إِ ْذ رفع لي سوا ٌد عظ ٌ
كثرة الناس( ،فظن ْنت أنَّه ْم أ َّمتِي) يعني :ظننت أهنم أ َّمة اإلجابة -ال
الدعوة -؛ َّ
ألن النبي محمد ﷺ َيطمع أن تكون أ َّمته خير األمم ،وكذا
كانت.
(ف ِقيل لِي :هذا موسى وق ْومه) مع َّ
أن موسى عليه السَلم ليس
وجل عنهَ ﴿ :و َال َي َكاد
َّ فصيحا يف الكَلم ،كما أخبر ال َّله َّ
عز
يبِين﴾ [الزخرف]52:؛ ومع ذلك أ َّمته هي أكثر األمم بعد أ َّمة محمد ﷺ.
فدل عىل َّ
أن البَلغة والفصاحة ليست شرطا يف قبول الناس؛ وإنَّما َّ
األصل هو صَلح النية واإلخَلص ل َّله سبحانه وتعاىل ،فموسى عليه
احل ْل ع ْقدَ ة مِ ْن ﴿و ْ السَلم ال يستطيع الكَلم؛ لذلك يدعو ربه يقولَ :
ل ِ َسانِي﴾ [طه ،]27:وفرعون َيسخر منه ويقولَ ﴿ :أ ْم َأنَا َخ ْي ٌر مِ ْن َه َذا ا َّل ِذي
لصدق هو م ِهين و َال ي َكاد يبِين﴾ [الزخرف ]52:ما يستطيع أن يتك َّلم؛ لكن ِ
َ َ َ ٌ َ َ
وصدق دعوته ِ
وحرصه؛ تبعه أ َّم ٌة كثر وإن كان ضعيفا يف البيان. إخَلصه ِ
لهذا الشخص إن كان ضعيفا يف تبليغ الدعوة سواء ضعفا ماديا أو
وجل هو الذي يسدد؛ لذلك يقول عز َّ بيانيا أو جسديا؛ فهو يبلغ وال َّله َّ
ِ
﴿و َما َر َم ْي َت إِ ْذ َر َم ْي َت َو َلك َّ
ن ال َّل َه َر َمى﴾ [األنفال]17: سبحانهَ :
يم ،ف ِقيل لِي :ه ِذ ِه أ َّمتك) يعني :أكثر من ِ
(فنظ ْرت فإِذا سوا ٌد عظ ٌ
األول ،والمراد بأ َّمتك يف هذا الحديث :أ َّمة اإلجابة؛ يعني :من
السواد َّ
استجاب للنبي ﷺ وآمن ،ال أ َّمة الدعوة؛ فأ َّمة الدعوة هم من بعث النبي
عليه الصَلة والسَلم إليهم مِن يوم بِ ْعثته إىل قيام الساعة.
ٍ
محمد؛ يعني :أ َّمة سمون أ َّمة ُّ
فكل الناس مؤمنهم وكافرهم ي َّ
إجابة؛ أي :أ َّمة استجابت ٍ الدعوة ،فمن آمن مِنهم يقال لهم أ َّمة
للنبي ﷺ.
شرح كتاب التوحيد 112
فمثَل :اليهود والنصارى بعد ب ْعثة النبي ﷺ يطلق عليهم أهنم مِن
أ َّمة محمد؛ لكن أ َّمة الدعوة :دعوا للتوحيد والتباع النبي عليه الصَلة
والسَلم.
ٍ
محمد ﷺ. وهذا ُّ
يدل عىل كثرة أ َّمة
(ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا ي ْدخلون الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ
اب وَّل عذ ٍ
اب) هذا
ٍ
عذاب، ٍ
حساب وال الجنَّة بغير ٍ الشاهد َّ
أن من أ َّمة محمد ﷺ َمن يدخل َ
وعددهم سبعون ألفا.
ين َأ ْلفا»( ،)1وهذا كر ٌم ِ ٍ
ويف رواية عند اإلمام أمحدَ « :م َع كل َأ ْلف َس ْبع َ
ألف سبعون ألفاوفضل؛ يعني :سبعون ألفا مع كل ٍ ٌ عز َّ
وجل من ال َّله َّ
أيضا ،وهذا من بعثة النبي عليه الصَلة والسَلم إىل قيام الساعة.
قليل عىل كثرة توارد القرون مِن هذه األ َّمة؛
نظرت إليه فهو عد ٌد ٌ
َ وإذا
ليس فيهم سوى هذا العدد القليل.
ِ ٍ
( )1سبق تخريجه (ص) ،عند قوله (ويف مسند اإلمام أمحد « َم َع كل َأ ْلف َس ْبع َ
ين
َأ ْلفا).
113 مقرر الثلث األول
لذلك قال( :ه ِذ ِه أ َّمتك ومعه ْم س ْبعون أ ْلف ًا ي ْدخلون الجنَّة) يعني:
فضل ال َّله
يدل عىل ْ ٍ
حساب ،وهذا ُّ الجنَّة بغير
وفيهم سبعون ألفا َيدخلون َ
عز َّ
وجل عىل هذه األ َّمة. َّ
قال( :ث َّم نهض) النبي ﷺ؛ أي :قام( ،فدخل م ْن ِزله)؛ يعنيَّ :
لما قال
الم ِز َّية
ذلك النبي عليه الصَلة والسَلم قام و َدخل بيته بعد أن َذكر هذه َ
العظيمة.
(فخاض النَّاس فِي أولئِك) أيَ :يتكلمواَ :من هؤالء السبعون؟
وعلم الصحابة رضي ال َّله عنهم، يدل عىل عمق إيمان ِ وهذا ُّ
ٍ
واحد َيذكر ِ
لعلمهم بأنه ال يصل أحدٌ لهذه المرتبة َّإال بالعمل؛ لذلك ُّ
كل
مما هو يف نظره.
عمَل فاضَل َّ
ويدل عىل ِحرص الصحابة أن يكونوا من أهل تلك الصفة ،وهيُّ
ٍ
عذاب. ٍ
حساب وال الجنَّة بغير
أن يدخلوا َ
أن َه َّم الصحابة رضي ال َّله عنهم هو يف اآلخرة إذ أمهَّهم
ويدل عىل َّ
ُّ
ذلك األمر.
شرح كتاب التوحيد 114
ٍ
لبعض يقولون :ما هي (فقال ب ْعضه ْم) يعني :الصحابة بعضهم
الجنَّة بغير ِ
األعمال التي َيعملها أو عملها السبعون ألفا حتى يدخلون َ
ٍ
حساب؟
حبوا رسول ال َّل ِه ﷺ) يعني :بعض
فقال بعضهم( :فلع َّلهم ا َّل ِذين ص ِ
( )1هو :عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف بن قصي بن كَلب ،ولد سنة (63هـ) ،وتويف
سنة (101هـ) .سير أعَلم النبَلء للذهبي (.)114/5
( )2هو :أبو عبد الرمحن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف ،أسلم قبل الفتح وعمره 18سنة ،وتويف
115 مقرر الثلث األول
ِ
بار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول ال َّله ﷺ ٌ
خير رمحه ال َّلهَ « :لغ ٌ
من عمر بن عبد العزيز»( ،)1وسئِل رمحه ال َّلهَ :من أفضل معاوية أو
عمر بن عبد العزيز؟ قال « :من رأى رسول ال َّله ﷺ ،وقال
رسول ال َّله ﷺ :خير الناس قرين»()2؛ ْ
لفضل الصحبة؛ لذلك قال شيخ
اإلسَلم عنهم« :ال كان وال يكون مثلهم»()3؛ يعني :الصحابة رضي ال َّله
عنهم.
بالجنَّة وهم أحيا ٌء؛ قال َ بشرهم مجيعا أن ال َّله َّ
ويكفيك َش َرف َّ
﴿ال َي ْست َِوي مِنْك ْم َم ْن َأ ْن َف َق مِ ْن َق ْب ِل ال َف ْتحِ َو َقا َت َل أو َلئِ َك َأ ْع َظم
سبحانهَ :
ين َأ ْن َفقوا مِ ْن َب ْعد َو َقا َتلوا َوك يَل َوعَدَ ال َّله الح ْسنَى﴾ [ ِ ِ
َد َر َجة م َن ا َّلذ َ
بالجنَّة؛ قال ابن حز ٍم
َ وعدهم ال َّله
الحديد]10:؛ فجميع الصحابة َ
رمحه ال َّله« :الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا»(.)4
سَل ِم ول ْم ي ْشرِكوا بِال َّل ِه (وقال ب ْعضه ْم :فلع َّلهم ا َّل ِذين ولِدوا فِي ِ
ال ْ
نشأ عىل الفطرة ومل يشرك بال َّله شيئا؛ قد يكون حاله أن َمن َلعلمهم َّ شيئ ًا)؛ ِ
ْ
مشركا ثم َأسلم. ممن كان ِ أفضل َّ
ٍ
واحد منهم َيذكر عمَل يظ ُّن أنه هو قال( :وذكروا أ ْشياء) يعنيُّ :
كل
الذي يدخل السبعين ألفا الجنة بغير حساب وال عذاب.
ِ
بأن سبعين أ ْلفا (فخرج عل ْي ِه ْم رسول ال َّله ﷺ)َّ ،
لما َذكر النبي ﷺ َّ
ٍ
عذاب؛ خاض الصحابة يف أولئك، ٍ
حساب وال الجنَّة بغير
َيدخلون َ
وبدؤوا َيتحدثون ما هي صفات أولئك القوم الذين أعطوا هذه الخاصية
العظيمة ،وهم يخوضون يف ذلك ويتحدثون؛ َخرج عليهم النبي عليه
الصَلة والسَلم.
يدل عىل ِعظم ِه َّمة الصحابة رضي ال َّله عنهم يف البحث عن
وهذا ُّ
الجنَّة بغير عز َّ
وجل ومن ذلك دخول َ أسباب ووسائل الرفعة عند ال َّله َّ
حساب وال ع ٍ
ذاب. ٍ
ِ
طلب محرم ٌة ،وإنما ْترك
َّ وليس معنى ذلك َّ
أن الرقية بالقرآن
الحاجات من الناس؛ يعلو به اإلنسان مرتبة.
ومِن ذلك :طلب الشفاء من اآلخرين وإن كان ذلك مباحا ،لكن
تركوا ما ال بأس به -وهو المباح -؛ مما به بأس -مما ينقصهم من
تلك الدرجة .-
فقال( :هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون) فطلب الرقية ت ِنقص الدرجة ،ولو
رقى اإلنسان ن ْفسه ال بأس به.
ِ
يرق ن ْفسه ،أو َيذهب للطبيب ولو َّ
أن اإلنسان إذا مل
للعَلج -وتو ُّكله ليس قويا -؛ ينقصه عن التع ُّلق بال َّله ،ويؤدي به إىل
ُّ
والتسخط ،وعدم اإليمان بالقضاء والقدر. التجزع
ُّ
نقول :يف حق هذا الرجل :أن َيطلب الدواء من غيره أفضل يف حقه
ألن اإليمان بالقضاء والقدر ويتجزع عىل القضاء والقدر؛ َّ
َّ َّ
يتسخط من أن
أجل ِ ِ
طلب كن من أركان اإليمان ،فَل يفعل المرء شيئا يخ ُّل بإيمانه من ْ
ر ٌ
ٍ
مندوب. ٍ
أمر
قوي وقال :أنا ال أريد أن يرقِ َين ِي غيري أو ٌ
إيمان ٌّ لكن من وجد له
أطلب الشفاء من غيري ،متوكَل عىل ال َّله تو ُّكَل قو ييا وأدعوه.
شرح كتاب التوحيد 120
ممن
نقول :يف حق من كانت هذه صفاته أفضل ،لكن عا يمة الناس َّ
ٍ
محظور وهو لئَل يقع يف ٍ
أمر يتجزع؛ نقول :طلب الدواء يف حقهم أفضل؛ َّ
َّ
التجزع عىل قدر ال َّله ،أو عدم الرضا بما
ُّ عدم الرضا بالقضاء والقدر ،أو
كَتبه ال َّله عليه.
لذلك قال( :هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون).
ثم َذكر صفة من صفات المتوكلين عىل ال َّله – أيضا -تو ُّكَل قو ييا
وذكرها بقوله( :وَّل ي ْكتوون) يعني :ال َيفعلون ال َك َّي يف العَلج.
وإن كان ذلك مباحا؛ فالنبي عليه الصَلة والسَلم « َب َع َث إِ َلى أ َبي
ب َطبِيباَ ،ف َق َط َع مِنْه ِع ْرقا ،ث َّم ك ََواه َع َل ْي ِه»( ،)1والنبي عليه الصَلة ْب ِن َك ْع ٍ
والسَلم قالِ « :ش َفاء أ َّمتِي فِي َثَلَ َث ٍة :فِي َش ْر َط ِة مِ ْح َج ٍمَ ،أ ْو َش ْر َب ِة َع َسلٍ،
َأ ْو َك َّي ٍة بِن ٍَار»(.)2
( )1رواه البخاري ،كتاب الطب ،باب الشفاء يف ثَلث ،رقم ( ،)5681من
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما. حديث ابن
شرح كتاب التوحيد 122
ٍ
ألوان -كاألسود ونحو ذلك ،-أو كثرة الوفيات يف ٍ
بأحوال أو أو تط ُّيرا
سمى نفس االسم يموت
سمى اسما معينا يموت ابنه ثم إذا َّ
أبنائه؛ إذا َّ
ابنه وهكذا.
فالتط ُّير ينقص التوكل عىل ال َّله عز وجل ،وإن كان شركا لكن ذكر
أمر مباحٍ أو ٍ
أمر يف هذا الحديث؛ أل َّنَِ ضعف التوكل إ َّما أن يكون يف ف ْعل ٍ
محرم يف التطير.
والكي ،أو يي مباح يف الرقية محر ٍم؛ ٌ
أمر ٌ َّ
لذلك قال( :هم ا َّل ِذين َّل ي ْست ْرقون وَّل ي ْكتوون وَّل يتط َّيرون).
ثم َعطف عطفا عا يما عىل ما َتقدَّ م فقال( :وعلى رب ِه ْم يتوكَّلون) هذا
مِن ع ْطف العام عىل الخاص ،فمن أمثلة التوكلْ :ترك الرقيةْ ،ترك الكي،
ْترك الطيرة.
بترك الشرك بن ْو َع ْيه ،وح َّقق التوحيد
إذا َمن ح َّقق التوحيد الواجب ْ
المندوب بقوة التوكل عىل ال َّله عز وجل؛ فإنَّه موعو ٌد بأن يكون من
ٍ
عذاب. ٍ
حساب وال السبعين أ ْلفا الذين َيدخلون َ
الجنَّة بغير
الجنَّة بغير أن مِن فضائل التوحيد َّ
أن َمن ح َّققه َيدخل َ فدل عىل َّ َّ
حاسب عىل ما فع َله من ٍ
عذاب ،فَل ي َّ
عذب بالنَّار الب َّتة ،وال ي َ ٍ
حساب وال
أعمال قد تكون م ِنقصة له.
ٍ
123 مقرر الثلث األول
ٍ
عذاب هم المتوكلون ٍ
حساب وال الجنَّة بغير
فصفة الذين يدخلون َ
أن تحقيق التوحيد َيتح َّقق بكمال التو ُّكل
عىل ال َّله ،وهذا هو الشاهد َّ
عىل ال َّله عز وجل.
ِ
طلب االستشفاء أو الدواء من اآلخرين ونحو ومِن ذلك :عدم
ذلك ،أ يما أن يرقي ن ْفسه أو يداوي ن ْفسه؛ فيجوز؛ ألنه مل َيعتمد عىل غيره،
فالنبي ﷺ رقى نفسه ،وكذا رقاه جبريل.
وضابط هذا األمر -الذي هو كمال التوكل عىل ال َّله يف حال
َّ
وجل كمال اإليمان بالقضاء أن يرزقه ال َّله َّ
عز المرض ونحوه ْ :-
والقدر ،وكمال التوكل عىل ال َّله سبحانه وتعاىل.
مما أصابه؛ َّ
فإن هذا األفضل يف فيتجزع و َي َّ
تسخط َّ َّ يتداو
َ أ َّما إذا مل
لئَل يقع يف النهي المحذور عنْه بعدم اإليمان بالقضاء
حقه أن يتداوى؛ َّ
والقدر.
ِ
قال( :فقام عكَّاشة ْبن ُمْص ٍن ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم) هذا
يدل عىل ع ْمق التوحيد يف قلوب الصحابة فما قال :اجعلني أنت منهم، ُّ
وإنَّما قال( :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم).
شرح كتاب التوحيد 124
ٍ
فبدعوة يصل اإلنسان إىل أعايل ويدل عىل ِعظم منزلة الدعاء؛
ُّ
الجنان.
ويدل أيضا عىل ِحرص الصحابة عىل تلك المنزلة.
ُّ
ِ
طلب الدعاء من الصالحين األحياء ومن ُّ
ويدل أيضا عىل جواز
ِ
طلب الدعاء من اآلخرين -من ولكن األفضل عدم
َّ ذلك الرسل،
الصالحين ونحوهم -؛ ألنه ينايف كمال التع ُّلق بال َّله سبحانه وتعاىل؛ قال
ٍ
بمحر ٍم ،ولكن األفضل َّأال َتطلب من أحد أن يدعو لك؛ وإنما ْ
اجعل َّ
قلبك مع َّلقا بال َّله.
نبي
أنَِ النبي عليه الصَلة والسَلم ٌّ (فقال :أ ْنت ِم ْنه ْم) هذا ُّ
يدل عىل َّ
ب بأن يكون من أولئك ،وقد قتل رضي ال َّله عنه فشهد له ٍ
بأمر مغ َّي ٍ حق؛ ِ
ٌّ
شهيدا.
قال( :ث َّم قام رج ٌل آخر ،فقال :ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم) ُّ
يدل عىل
أهل الفضائل؛ فهنا قام رج ٌل آخر (فقال: مسارعة الصحابة أن يكونوا من ْ
ا ْدع ال َّله أنْ ي ْجعلنِي ِم ْنه ْم)ُّ ،
ويدل عىل جواز التنافس يف الخير.
لق النبي ﷺ؛ إ ْذ مل ير يدهعلو خ ِ
يدل عىل ي (فقال :سبقك بِها عكَّاشة) ُّ
بر ٍّد يحزن طالب الدعاء؛ فلم يعنفه ،ومل يؤنبه ،ومل ْ
يقل أنت لست منهم؛
ٍ
سديد غير مؤملٍ( :سبقك بِها عكَّاشة). ٍ
بجواب وإنما قال
أن المرء إذا فتح له باب ٍ
خير؛ عليه أن ويدل أيضا هذا الحديث عىل َّ
ُّ
يسارع إليه فقد يغلق هذا الباب ،فهنا أغلق هذا الباب برج ٍل َسبقه وهو
ع َّكاشة رضي ال َّله عنه.
وهكذا فتْح أبواب الخير ال يتكرر؛ لذلك قال ابن القيم
رمحه ال َّله -يف فوائد غزوة تبوك « :-فتح باب الخير للصحابة فتخ َّلف
شرح كتاب التوحيد 126
وهَلل و َم َر َارة بن الربيع ومل يتكرر لهم هذا الغزو»( ،)1فلم يغز
ٌ كعب
ٌ
مر ٍة ،فإذا
الرسول عليه الصَلة والسَلم تبوك مرة أخرى ومل يغزها سوى ي
ِ
وسارع إليه فقد يغلق. فتِح باب الخير؛ ِ
بادر
أنَِ المسلِم عليه أن يحقق كمال التوحيد الواجب،
فدل ما تقدَّ م عىل َّ
َّ
والمستحب؛ لينال تلك المنزلة العالية.
***
[]٤
ف ِمن الش ْر ِكباب الخ ْو ِ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :إِ َّن ال َّله َّل ي ْغ ِفر أنْ ي ْشرك بِ ِه﴾.
اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد األ ْصنام﴾.
السَلم﴿ :و ْ ِ ِ
وقال الخليل عل ْيه َّ
يث« :أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك األ ْصغر ،فسئِل وفِي الح ِد ِ
وجوب الخوف من الشرك ،و َذكره بعد (باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل
شرح كتاب التوحيد 128
( )1متون طالب العلم ،المستوى األول ،األصول الثَلثة وأدلتها (ص.)47
131 مقرر الثلث األول
األمر الثاين :من َوقع فيه ال ينتقل من م َّلة اإلسَلم؛ وإنَّما يكون
زوج ،و َت ُّ
حل مسلما -وإن َوقع يف الشرك األصغر ،-فيص َّلى عليه ،وي َّ
ذبيحته وغير ذلك من األحكام المترتبة عىل اإلسَلم والكفر.
األمر الثالث :الشرك األصغر ال يحبِط مجيع األعمال؛ وإنَّما يحبط
قار َنه ،وق ْلنا العمل الصالح؛ أل َّن
َ العمل الصالح الذي
التميمة -مثَل -ليست عمَل صالحا ،وإنما نقول :يحبِط العمل
الصالح الذي قارنه ،مثل الرياء.
أن شخصا قام يصلي فز َّين صَلته من أ ْجل الناس؛ َتبطل تلك
فلو َّ
الصَلة فحسب ،أ َّما الحج والصيام فَل ،ويعا َقب عىل ذلك؛ ألنه َوقع يف
الشرك ،لكن ال يحبِط مجيع األعمال.
الجنَّة ،وال يخ َّلد يف النَّار كصاحب
فصاحب الشرك األصغر َيدخل َ
الشرك األكبر.
وشخص
ٌ أن شخصا يقع -والعياذ بال َّله -يف القتل والزنا،
ولو َّ
آخر يحلف بغير ال َّله؛ نقول :شرعا الذي يزين ويسرق ويقتل؛ ُّ
أقل جرما
من الذي َيحلف بغير ال َّله.
135 مقرر الثلث األول
ب إِ َل َّي ِ ِ ٍ
مسعود رضي ال َّله عنهَ « :ألَ ْن َأ ْحلِ َ
ف بِال َّله كَاذبا َأ َح ُّ قال ابن
ف بِ َغي ِر ِه ص ِ ِ
األول كبير ٌة وهو تحت المشيئة، ألن َّ ادقا»()1؛ َّ م ْن َأ ْن َأ ْحلِ َ ْ َ
ٌ
شرك وال َّله ال يغفر الشرك. والثاين
لذلك قال عليه الصَلة والسَلم « َال َأ َحدَ َأ ْص َبر َع َلى َأذى َي ْس َمعه
وجل ،قال« :إِنَّه
َّ مِ َن ال َّل ِه َع َّز َو َج َّل» ،مِن أذى؛ يعنيَ :يسمعه ال َّله َّ
عز
ي ْش َرك بِ ِهَ ،وي ْج َعل َله ال َو َلد ،ث َّم ه َو ي َعافِ ِيه ْم َو َي ْرزقه ْم»(.)1
فيجب عىل المسلِم أن َيبتعد عن الشرك سواء كان األكبر أو
أعظم ٍ
ذنب يف األرض. األصغر ،ويحذر غيره من الوقوع فيه ،فهو ْ
ٍ
نفس ،واآلخر يأيت إىل القبر يقول :يا فَلن شخص أ ْلف
ٌ فلو َقتل
أغثني أو اشفني.
ٍ
امرأة وك ُّلهن مح ْلن منه نفس وزنى بألف نقول :ذاك الذي قتل أ ْلف ٍ
ِ ِس َفاحا؛ ُّ
لما سئل النبي ﷺ أ ُّي أقل جرما من الذي َأشرك بال َّله؛ لذلك َّ
ْب.ْب َأ ْع َظم؟ َق َالَ « :أ ْن َت ْج َع َل ل ِ َّل ِه نِدي ا َوه َو َخ َل َق َك»( )2هذا أعظم ذن ٍ
الذن ِ
َّ
( )1رواه البخاري ،كتاب األدب ،باب الصبر عىل األذى ،رقم ( ،)6099ومسلم،
كتاب صفات القيامة و الجنة والنار ،باب ال أحد أصبر عىل أذى من ال َّله عز
وجل ،رقم ( ،)2803من حديث أبي موسى األشعري رضي ال َّله عنه.
( )2رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب قوله تعاىلَ ﴿ :فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا
َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ
ون﴾ ،رقم ( ،)٤٤77ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب كون الشرك
أقبح الذنوب ،وبيان أعظمها بعده ،رقم ( ،)86من حديث ابن مسعود
137 مقرر الثلث األول
أمر يف كتاب ال َّله األمر بالتوحيد؛ قال تعاىلَ ﴿ :يا َأ ُّي َها النَّاس وأول ٍ َّ
ون﴾ [البقرة.]21: ين مِ ْن َق ْبلِك ْم َل َع َّلك ْم َتتَّق َ ِ ِ
اعبدوا َر َّبكم ا َّلذي َخ َل َقك ْم َوا َّلذ َ
ْ
هني النهي عن الشرك؛ قال تعاىلَ ﴿ :ف ََل َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا وأول ٍ َّ
َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ
ون﴾ [البقرة.]22:
( )1رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلىَ ﴿ :فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا
َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ
ون﴾ [البقرة ،]22 :رقم ( ،)4477ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب
كون الشرك أقبح الذنوب ،وبيان أعظمها بعده ،رقم (.)86
شرح كتاب التوحيد 140
وك َّلما َقوي توحيد الشخص؛ ك َّلما زاد خوفه من الشرك ،وك َّلما
ضعف توحيد الشخص؛ ك َّلما هان يف ن ْفسه الخوف من الشرك.
وإبراهيم عليه السَلم خاف من الشرك بأمرين:
اجن ْبنِي) يعني :يا رب اجعل
األول :بالدعاء ،لذلك قال( :و ْ
األمر َّ
ٍ
جانب ،مل يقل ال أعبدها فقط؛ بل قال ال ٍ
جانب وأنا يف عبادة األصنام يف
أراها؛ وهذا من عظيم التوحيد.
مقتصرا لن ْفسه ،وإنما ِ
لعلمه بضرره قال: ِ وهذا الدعاء ليس
اجن ْبنِي وبن ِ َّي) يعني :حتى أبنائي ال يعبدوهنا ،يا رب جنبهم عبادة
(﴿و ْ
األصنام.
فخوف إبراهيم عليه السَلم بأمرين؛ األمر األول :بالدعاء له
ْ
ولذريته.
﴿رب إِنَّه َّن َأ ْض َل ْل َن
األمر الثاين :خافه إبراهيم يف اآلية التي بعدهاَ ،
الضَلل؛ َّاس﴾ [إبراهيم ،]36:فإذا كان األكثر من الناس عىل َّ كَثِيرا مِ َن الن ِ
أبعدين فخاف إبراهيم عىل ن ْفسه أن يكون مع أولئك الكثرة ،فقال :يا رب ِ
فإذا كان هذا دعاء إمام الحنفاء وإمام الموحدين؛ فغيره َأحرى
و َأوىل بالخوف من الشرك ،وأن يدعو المرء لن ْفسه بأن َيبتعد عن الشرك؛
لذلك من الدعوات التي ينبغي للمسلم أن يدعوها« :رب اجعلني من
اجعلها لك يا رب. عبادك المخلِصين» يعني :اجعلني مخلِصا ،وأعمايل ْ
اجن ْبنِي وبن ِ َّي أنْ ن ْعبد األ ْصنام) ،فهذه ويدعو الشخص أيضا( :و ْ
عظيم ،وال َّله يقول﴿ :أو َلئِ َك ا َّل ِذي َن َهدَ ى ال َّله
ٍ دعو ٌة عظيم ٌة من إما ٍم
َفبِهدَ اهم ا ْقت َِد ْه﴾ [األنعام ،]90:فيدعو الشخص بما دعا به أولئك.
يث) يعني :يف الحديث الذي رواه ثم بعد ذلك قال( :وفِي الح ِد ِ
َّ
أن النبي ﷺ قال«( :أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك أمحد()1 اإلمام
ِ
خاص (باب
ٌّ األ ْصغر ،فسئل ع ْنه؟ فقال :الرياء») ،يأيت إن شاء ال َّله ٌ
باب
الرياء) ،وهنا ساقه المصنف رمحه ال َّله يف باب الخوف من الشرك.
وساق المصنف هذا الحديث يف هذا الباب؛ لبيان أنَّه يجب أيضا
الخوف من الشرك األصغر ،وليس مقتصرا عىل الشرك األكبر.
لذلك قال«( :أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم الش ْرك األ ْصغر) فالنبي عليه
الصَلة والسَلم خاف عىل أصحابه الرياء؛ لذلك قال يف تيسير العزيز
فدل عىل أن الرياء أخوف ما يخاف عىل الصالحين»(.)1 الحميدَّ « :
يشم و َيتتبع قلوب الخ ْلق ويوقِع يف قلوهبم ما يفسد
والشيطان ُّ
أعمالهم الصالحة ،أو ي ِنقصها.
حب الغش والكذب.
فمثَلَ :يذهب إىل التجار ،و َيقذف يف قلوهبم َّ
و َيذهب – مثَل -إىل من ي ُّ
حب كثرة الكَلم فيلقي يف لسانه كثرة
الغيبة والنميمة.
و َيذهب إىل أولئك الزهاد الصالحين الذين ليس لهم ال يف البيع وال
يف الشراء وإنَّما هم منقطعون إىل ال َّله؛ فيفسد أعمالهم بالرياء.
وهكذا.
لذلك قال«( :أ ْخوف ما أخاف عل ْيك ْم) َّ
دل عىل خطورة الشرك؛ ألن
تنزل والنبي ﷺ بينهم.
النبي ﷺ خافه عىل الصحابة والوحي َي َّ
( )1رواه مسلم ،كتاب الزهد والرقائق ،باب من َأشرك يف عمله غير ال َّله،
رقم ( ،)2987من حديث جندب العلقي.
شرح كتاب التوحيد 144
لما أخبره النبي ﷺ أنَّه كان وأ َّما حديث أبي موسى األشعري َّ
يستمع إىل قراءته ،قالَ « :ل ْو َعلِ ْمت َل َح َّب ْرته َل َك َت ْحبِيرا»( )2ال للرياء؛ وإنما
ليستمتع النبي ﷺ بالقرآن العظيم.
ٍ
ظاهر ،وهو خفي؛ يعني :غير ٌ (( )1ص) عند قوله ( ِ
شرك أصغر ٌّ والقسم الثاين:
يسير الرياء).
( )2رواه البيهقي يف السنن ،كتاب الصَلة ،باب من َجهر هبا إذا كان من حوله ال
يتأذى بقراءته ،رقم (.)4770
145 مقرر الثلث األول
قال رمحه ال َّله( :وع ْن ا ْب ِن م ْسعودٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ
قال« :م ْن مات وهو ي ْدعو لِ َّل ِه نِد ًا؛ دخل النَّار» رواه البخ ِ
ار ُّي).
َذكر المؤلف رمحه ال َّله هذا الحديث يف باب الخوف من الشرك؛
أن مآل المشرك -والعياذ بال َّله -إىل النَّار وال َيدخل تحت لبيان َّ
المشيئة ،لذلك قال( :م ْن مات وهو ي ْدعو ل َّله نِد ًا) من األوثان واألصنام
واألولياء واألضرحة أو الصالحين ونحو ذلك؛ (دخل النَّار).
َار َحامِ َي ٌة﴾ [القارعة،]11: َّ
وجل بقوله﴿ :ن ٌ والنَّار وصفها ال َّله َّ
عز
وهي تحرق الجسد ،فيجب عىل المسلِم أن ينقذ ن ْفسه من ذلك الوعيد.
فإذا كان ذنْب الشرك ال يغفر ويؤدي إىل النَّار؛ ف َيجب عىل المسلِم
أن يخافه عىل ن ْفسه؛ لخطورته ،فهو الذنْب الوحيد الذي ال يغفر إال
ين َك َفروا إِ ْن َينْتَهوا ي ْغ َف ْر َله ْم َما َقدْ ِ ِ
بالتوبة؛ قال سبحانه﴿ :ق ْل ل َّلذ َ
َس َل َ
ف﴾ [األنفال.]38:
يدل عىل َّ
أن َمن كان ْ
مشركا ثم تاب؛ فقد وقوله( :م ْن مات) ُّ
ٍ
حسنات. عز َّ
وجل بأن يبدل سيئاته إىل تكرم ال َّله َّ
َّ
وأ َّما من مات عىل الشرك -والعياذ بال َّله -فعاقبته:
إذا كان شركا أكبر فهو مخ َّلدٌ يف النَّار.
شرح كتاب التوحيد 146
ثم قال( :ولِم ْسلِ ٍم :ع ْن جابِرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال:
«م ْن ل ِقي ال َّله َّل ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل الجنَّة ،وم ْن ل ِقيه ي ْشرِك بِ ِه ش ْيئ ًا؛ دخل
النَّار»).
َذكر المؤلف رمحه ال َّله هذا الحديث يف باب الخوف من الشرك؛
لبيان َّ
أن مجيع أنواع الشرك سواء كانت االستغاثة ،أو الدعاء من
دون ال َّله ،أو الذبح لغير ال َّله ،والنذر لغير ال َّله؛ عقوبتها الخلود يف النَّار.
[]٥
اء إِلى شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله
الدع ِ
باب ُّ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي أ ْدعو إِلى ال َّل ِه على ب ِصير ٍة
أنا وم ِن اتَّبعنِي﴾.
اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ ل َّام بعث معاذ ًا وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ
إِلى اليم ِن قال له« :إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ
اب؛ ف ْليك ْن أ َّول ما
ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه :شهادة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله -وفِي ِرواي ٍة :إِلى أنْ يوحدوا ال َّله -
.
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم خ ْمس
ات فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة. صلو ٍ
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم صدق ًة
تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم.
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فإِ َّياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم ،وات َِّق د ْعوة
اب» أ ْخرجاه. الم ْظلومِ؛ فإِنَّه ل ْيس ب ْينها وب ْين ال َّل ِه ِحج ٌ
ولهام :ع ْن سهْ ِل ْب ِن س ْع ٍد ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال ي ْوم
شرح كتاب التوحيد 150
فأ ْرسلوا إِل ْي ِه ،فأتِي بِ ِه ،فبصق فِي ع ْين ْي ِه ،ودعا له ،فبرأ ح َّتى كأنْ ل ْم
سلِك ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم. الراية ،وقال :ا ْنف ْذ على ِر ْ
ِ
يك ْن بِه وج ٌع ،فأ ْعطاه َّ
جب عل ْي ِه ْم ِم ْن حق ال َّل ِه تعالى سَلمِ ،وأ ْخبِ ْره ْم بِام ي ِال ْث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ
األول -اآلية﴿( :ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي أ ْدعو إِلى ال َّل ِه- )..؛ لبيان
الن َُّّص َّ
أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل ال َّله سبحانه وتعاىلَّ ،
وأول ما يبدأ به هو َّ
الدعوة إىل ال َّله عز وجل.
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما -؛ لبيان أ َّن والن َُّّص الثاين -حديث ابن
َّأول ما يبدأ به هو التوحيد يف حال األ ْمن.
والن َُّّص الثالث – حديث سه ٍل رضي ال َّله عنه -؛ لبيان َّ
أن َّأول
فدل عىل َّ
أن التوحيد هو َّأول ما يبدأ به يف حال الحرب أيضا هو التوحيدَّ ،
ما يبدأ به يف مجيع األحوال.
أن التوحيد َيعصم دم المرء وماله؛ فَل يقا َتل َمن
وكذا لبيان َّ
استجاب للتوحيد.
قال( :وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ق ْل ه ِذ ِه سبِيلِي) أي :قل يا محمد لجميع
الناس هذه سبييل وطريقي وهنجي.
ما هو هذا الطريق؟ قال( :أ ْدعو إِلى ال َّل ِه) أي :أدعو إىل توحيد ال َّله
سبحانه وتعاىل.
مهم ٍة للرسل هي دعوة الناس وتعليمهم. َّ
فدل عىل أن أ ْعظم َّ
شرح كتاب التوحيد 152
ٍ
ويقين من ال َّله َّ
عز ٍ
برهان ٍ
ومعرفة وعىل (على ب ِصير ٍة) أي :عىل ِع ٍ
لم
َّ
وجل ال عن جه ٍل.
(أنا وم ِن اتَّبعنِي﴾) أي :هنْج الرسل وأتباعهم هو الدعوة إىل
التوحيد.
أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل التوحيد؟ فإذا قيل :ما هو الدليل عىل َّ
ان ال َّل ِه َو َما َأنَا مِ َن
نقول :بق َّية اآليةَ ﴿ :وسبْ َح َ
ِ
ن﴾ [يوسف.]108: الم ْش ِركي َ
ان ال َّل ِه﴾ أي :وننزه ال َّله عن الشرك ،ونَحذر منه.
﴿ َوس ْب َح َ
ِ ِ
يدل عىل أن المشرك ال يكون داعية إىل ين﴾ ُّ﴿و َما َأنَا م َن الم ْش ِرك َ
َ
ٍ
بصيرة. اإلسَلم ،فالذي يدعو إىل التوحيد هو من هداه ال َّله عىل
وجل المسلِم أن يبين للناس ما أ َمر ال َّله َّ
عز َّ َّ
فدل عىل أنَّه يجب عىل ْ
به الرسل ،وهو إفراد ال َّله بالعبادة وتحذيرهم من الشرك ،والداعي ال
مش ِركا.
َيصلح أن يكون ْ
فمضمون اآلية :أنا موحدٌ وأتباعي كذلك ،وأدعو أنا وإ َّياهم إىل
توحيد ال َّله عز وجل.
َّ
فدل عىل أن هنْج األنبياء هو الدعوة إىل التوحيد.
153 مقرر الثلث األول
اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ ل َّام ثم قال( :وع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ
اب؛ ف ْليك ْن بعث معاذ ًا إِلى اليم ِن قال له« :إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ
أ َّول ما ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه :شهادة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله -وفِي ِرواي ٍة :إِلى أنْ
يوحدوا ال َّله .-
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم خ ْمس
ات فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة. صلو ٍ
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم صدق ًة
تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم.
فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فإِ َّياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم ،وات َِّق د ْعوة
اب» أ ْخرجاه). الم ْظلومِ؛ فإِنَّه ل ْيس ب ْينها وب ْين ال َّل ِه ِحج ٌ
شرح كتاب التوحيد 154
(ل َّام بعث معاذ ًا إِلى اليم ِن) ،وكان ذلك يف َّ
السنَة العاشرة؛ معلما
وقاضيا لهم.
ٍ
مكان فإذا قيل :كيف َيخرج من المكان الفاضل وهو المدينة إىل
وألن النبي ﷺ قالَ « :ال َّ مفضول وهو اليمن ،كما يف هذا الحديث، ٍ
( )1رواه مسلم ،كتاب الحج ،باب المدينة تنفي شرارها ،رقم ( ،)1381من
حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
155 مقرر الثلث األول
فيدل عىل مشروعية ب ْعث الدعاة إىل األمصار؛ لتعليم الناس الدين.ُّ
أن البلدان تتفاوت من حيث ِ
العلم ،ولكن هذا ويدل أيضا عىل َّ
ُّ
يقل فيها ِ
العلم التفاوت قد ينتقل؛ فقد تكون بلد ٌة فيها ِعلم ويف ٍ
قرن آخر ُّ ٌ
العلم يف مكا ٍن أو يف َن َس ٍ
ب وهكذا ،وهذا من فضل ال َّله؛ لئَل يكون ِ
ٍ
واحد؛ وإنَّما يتنقل.
وجل هو أ ْعلم بالقلوب فيما يستحق التشريف ِ
بالعلم. عز َّ وال َّله َّ
وقوله( :إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ
اب) يعني :أعطاه النبي ﷺ
لتوطِ َئتِه عىل َمن سيدعو.
خبرا؛ ْ
لذلك النبي عليه الصَلة والسَلم َأخبره ما هو األمر الذي يحتاجه
أهل اليمن هناك؛ يعني :ستأتيهم فخذ األ ْهبة يف ِ
العلم ،ويف استحضار ْ
َ
الحجج ،ونحو ذلك.
أهل ٍ
مكان؛ عليه أن َيعلم ما هي طبيعة ْ ف ُّ
يدل عىل أن من بعث إىل
ذلك البلد.
ُّ
ويدل أيضا عىل أن اإلنسان َيستعدُّ للدرس ،وللمحاضرة،
وللدعوة قبل أن يأيت المدعوين؛ وهذا من سنن المصطفى ﷺ.
شرح كتاب التوحيد 156
أهل الكِتاب
لم ،فهنا ْ ِ
وجل قد َيخفى عىل من كان عنده ع ٌ عز َّ توحيد ال َّله َّ
خاصة اليهود ،-ومع ذلك َيخفى عليهم أو َيستكبرون لم -ي أصحاب ِع ٍ
عن االنقياد للتوحيد.
لم ِ
كتاب وع ٌ
ٌ اب) عندهم لذلك قال( :إِنَّك ت ْأتِي ق ْوم ًا ِم ْن أ ْه ِل الكِت ِ
ومع ذلك قال( :ف ْليك ْن أ َّول ما ت ْدعوه ْم إِل ْي ِه) ُّ
يدل عىل أن الداعية َّأول ما
مكان -سواء كان فيه موحدون أم ال -؛ هو ٍ يبدأ يف الدعوة يف أي
توحيد ال َّله.
َّرون به لترسيخ عقيدة التوحيد يف فإذا كان أهله موحدين؛ فيذك َ
ين آ َمنوا آمِنوا بِال َّل ِه﴾ ]النساء]13 :؛ يعني: ِ
قلوهبم؛ قال سبحانهَ ﴿ :يا َأ ُّي َها ا َّلذ َ
زيدوا يف اإليمان.
رك؛ فذلك لتحذيرهم. المدعوون فيهم ِش ٌ ُّ وإذا كان
وقوله( :شهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) يعني :تعليم الشهادة ،ودعوهتم إىل
مما يناقضها؛ ألنَّهم َيجهلوهنا.
العمل بمعناها وتحذيرهم َّ
157 مقرر الثلث األول
وقوله( :فأ ْعلِمهم أ َّن ال َّله ا ْفترض علي ِهم خمس صلو ٍ
ات) يعني: ْ ْ ْ ْ ْ
وجل؛ ْفأمرهم بالصلوات الخمس.
عز َّ
ووحدوا ال َّله َّ
فإن استجابوا َّ
َت فرض؛ كما قال سبحانه﴿ :إِ َّن َّ
الص ََل َة كَان ْ يدل عىل أن الصلوات ٌ ف ُّ
ين كِتَابا َم ْوقوتا﴾ [النساء.]103: ِِ
َع َلى الم ْؤمن َ
الخمس ليست يدل عىل أن الصلوات َ وقوله( :فِي كل ي ْو ٍم ول ْيل ٍة) ُّ
فضل ال َّله أنَّها يف الليل والنهار؛يف النهار فقط وال يف الليل فقط ،وهذا من ْ
حتى يكون المسلِم مت َِّصَل بال َّله يف ليله وهناره.
وجل ْ
أن َفرض تلك الصلوات؛ لتكون صلة عز َّ
فضل ال َّله َّ
ومن ْ
العبد بربه قوية.
عز َّ
وجل الصلوات من بين شعائر اإلسَلم بخصائص وخص ال َّله َّ
َّ
ال توجد يف غيرها.
فَل يوجد شعير ٌة لها ٌ
أذان سوى الصَلة.
وال تفعل عباد ٌة خ ْلف رج ٍل إال الصَلة.
وشرعت يف السماء.
ٍ
واسطة. عز َّ
وجل فيها النبي عليه الصَلة والسَلم من غير وك َّلم ال َّله َّ
ولعظمتها كانت مخسين صَلة ثم خف َفت.
شرح كتاب التوحيد 160
والغني والفقير.
ُّ والحر،
ُّ ويؤمر هبا الذكر واألنثى ،والعبد
وال يعذر منها َّإال المجنون ،والحائض والنُّ َف َساء وحسب.
وملْ َيتخ َّلف النبي عليه الصَلة والسَلم يوما مِن غير ٍ
عذر عن أداء
ِ
مرضه عليه الصَلة والسَلم، صَلة الجماعة؛ فلم يتخ َّلف إال يف حال
فحتى يف السفر يصليها.
فدل عىل أمهية الصَلة ووجوهبا مجاعة يف بيوت ال َّله عز وجل؛ كما َّ
وت َأ ِذ َن ال َّله َأ ْن ت ْر َف َع َوي ْذك ََر فِ َيها
قال عز وجل﴿ :فِي بي ٍ
اسمه﴾ [النور.]36:
ْ
بضرب الصغير سوى الصَلة،
وال توجد هناك شعير ٌة فيها األمر ْ
وجل. عز َّ يدل عىل ع َظمة شأهنا وأمهيتها عند ال َّله َّ
مما ُّ
َّ
قال( :فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك؛ فأ ْعلِ ْمه ْم أ َّن ال َّله ا ْفترض عل ْي ِه ْم
صدق ًة) والمراد بذلك :يعني الزكاة المفروضة.
لتدرج :الشهادة ثم الصَلة ثم الزكاة. يدل عىل ا ُّ وهذا ُّ
(تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم) يعني :فيما تتو َّفر فيه شروط
أداء الزكاة.
حق يف ِ
مال الغني؛ أل َّنَِ المال مال ال َّله. يدل عىل َّ
أن الفقير له ٌّ ُّ
161 مقرر الثلث األول
أن الزكاة األفضل َّأال تنقل من و َأ َخذ بعض أهل العلم( )1من هذا َّ
البلد الذي فيه المال( ،تؤْ خذ ِم ْن أ ْغنِيائِ ِه ْم فتر ُّد على فقرائِ ِه ْم) ،هذا
لمصلحة؛ فَل بأس. ٍ األفضل لكن لو نقلت
قال( :فإِنْ ه ْم أطاعوك لِذلِك ف َّإياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم) يعني :إذا أ يدوا
الزكاة لك فَل تأخذ أن َفس ما عندهم من الزكاة ،مِثل :من هبيمة األنعام ال
يؤخذ مثَل الشاة الكبيرة السمينة وال البخيسة يف الثمن؛ وإنما يؤخذ
الوسط( ،ف َّإياك وكرائِم أ ْموالِ ِه ْم) يعني :األن َفس من أموالهم سواء من
هبيمة األنعام أو غيرها ،كذلك مثَل يف زكاة التمر ال يؤخذ أن َفس ما فيه
وإنَّما المتوسط.
وهذا من عدْ ل اإلسَلم؛ فإنَّه ال يريد اإلضرار بالغني ،وإنَّما يريد
تطهير مال الغني ون ْفع الفقير.
قال( :وات َِّق د ْعوة الم ْظلو ِم)؛ ألنَّه َذهب هناك قاضيا ،فقال( :وات َِّق
د ْعوة الم ْظلومِ) اجعل بينك وبين هذه الدعوة وقاية؛ وهي العدل ،وعدم
التسرع يف الحكم.
ُّ
ِ
َد َعوا ال َّل َه م ْخلِصي َن َله الد َ
ين َف َل َّما ن ََّجاه ْم﴾ [العنكبوت[65:؛ يعني:
( )1هوَ :أبو الوفاء عيل ْبن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي ،ولد
سنة (432هـ) ،وتويف سنة (513هـ) .طبقات الحنابلة ألبي
يعىل (.)259/2
( )2الفنون البن عقيل (.)750/2
شرح كتاب التوحيد 164
ول ال َّل ِه ﷺ ،ك ُّله ْم ي ْرجو أنْ ي ْعطاها، فلام أ ْصبحوا؛ غد ْوا على رس ِ
َّ
ب؟ ف ِقيل :هو ي ْشتكِي ع ْين ْي ِه. فقال :أ ْين علِ ُّي ْبن أبِي طالِ ٍ
فأ ْرسلوا إِل ْي ِه ،فأتِي بِ ِه ،فبصق فِي ع ْين ْي ِه ،ودعا له ،فبرأ ح َّتى كأنْ ل ْم
سلِك ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم. الراية ،وقال :ا ْنف ْذ على ِر ْ
ِ
يك ْن بِه وج ٌع ،فأ ْعطاه َّ
جب عل ْي ِه ْم ِم ْن حق ال َّل ِه تعالى سَلمِ ،وأ ْخبِ ْره ْم بِام ي ِال ْث َّم ا ْدعه ْم إِلى ِ
قال( :أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال ي ْوم خ ْيبر) ،وهي مدين ٌة تقع شمال
المدينة المنورة قرابة مئة ومخسين ( )150كيلو.
ٍ
قماش يف الغالبَ ،يرفعها ُّ
كل الراية) هي قطع ٌة من ِ
الراية) ( َّ
(أل ْعطي َّن َّ
ٍ
جيش؛ أمارة عىل وجود القائد فيه ،فإذا سقطت الراية فهو أمار ٌة عىل
هزيمة ذلك الجيش؛ لذلك كانوا ال يعطون الراية إال رجَل شجاعا؛ لئَل
تسقط منه الراية خشية العدو أو لضعفه.
وكانت راية النبي عليه الصَلة والسَلم يف القتال سوداء ،ول ِ َواؤه
لونه أبيض ،الراية لعموم الجيش ،يحملها أشجعهم ،واللواء يوضع عند
النبي عليه الصَلة والسَلم؛ يعني :هذا مكان النبي عليه الصَلة والسَلم
يف القتال.
يدل عىل شجاعة عيل رضي ال َّله عنه ،فالنبي عليه الصَلة وهذا ُّ
ب ال َّله ورسوله ،وي ِ
ح ُّبه ال َّله َل ي ِ
ح ُّ الراية غد ًا رج ً ِ
والسَلم قال( :أل ْعطي َّن َّ
ورسوله) يعني :أعطيه راية الجيش.
(غد ًا) هو اليوم المستقبل الذي ييل يومك.
شرح كتاب التوحيد 166
ِ َل ي ِ
ب، أنَِ ال َّله يح ُّ
ب وي َح ُّ يدل عىل َّ
ب ال َّله ورسوله) هذا ُّ
ح ُّ (رج ً
تدل عىل ِصدق اإليمان يف القلب ،و َّ
أنَِ المحبة التي وهذه منقب ٌة عظيم ٌة ُّ
يف القلب قد َقبِ َلها ال َّله عز وجل.
يحب ال َّله ورسوله ،وال َّله َّ
عز ُّ يعني :هذا المؤمن الذي سأعطيه
َّ
وجل أيضا يح ُّبه ،ورسوله يح ُّبه.
عز َّ
وجل ومحبة رسوله؛ وإنَّما وليس الشأن يف ادعاء محبة ال َّله َّ
َّ
وجل يح ُّبك ،فاإلنسان َيسعى بالطاعات؛ الفخر إذا كان ال َّله َّ
عز
ليح ُّبه ال َّله عز وجل ،و َمن أح َّبه ال َّله؛ رضي عنه و َأدخله جنَّاته.
ب ل َّله وللرسول يكون ِبفعل األوامر واجتناب النواهي؛ كما والح ُّ
ون ال َّل َه َفا َّتبِعونِي ي ْحبِ ْبكم ال َّله َو َي ْغ ِف ْر َلك ْم
قال سبحانه﴿ :ق ْل إِ ْن كنْت ْم ت ِح ُّب َ
ِ
يم﴾ [آل عمران.]31: ور َرح ٌ ذنو َبك ْم َوال َّله َغف ٌ
فدل عىل ح ُّبه ال َّله ورسوله) َّ والمنقبة العظيمة أيضا يف قوله( :وي ِ
إثبات صفة المح َّبة ل َّله سبحانه وتعاىل؛ كما يليق بجَلله وعظمته ،وال
يجوز تأويلها بنزول الخير أو الرمحة ونحو ذلك.
ب المؤمنين بَل ٍّ
شك. ِ (ورسوله) ُّ
يدل أيضا عىل أن النبي ﷺ يح َّ
167 مقرر الثلث األول
وقوله( :ي ْفتح ال َّله على يد ْي ِه) أيَ :يفتح حصون خيبر ويكون النصر
عىل يديه؛ وهذا َعلم من أعَلم النبوةِ ،
ففيه بيان َّ
أنَِ فتْح خيبر سيكون يوم ٌ
وحصل ما َأخبر به النبي ﷺ ،ففتحت خيبر عىل يدي النبي ﷺ ٍ
غدَ ،
عيل رضي ال َّله عنه.
والراية بيد ٍّ
صحابي َيتمنَّى بأن
ٍّ (فبات النَّاس) يعني :مل يناموا تلك الليلةُّ ،
كل
ينال تلك المنقبة؛ وهي صدْ ق اإليمان بالمحبة ل َّله وللرسول ﷺ ،وأيضا
َ
ب ال َّله ورسوله له.
ح ُّ
تحركون
(يدوكون ل ْيلته ْم ،أ ُّيه ْم ي ْعطاها) يعني :يخوضون و َي َّ
و َيلتفتون يمينا وشماال َمن الذي سيعطيه النبي ﷺ تلك البشارة العظيمة
أ ُّيهم يعطى هذه الراية.
وهنا بشروا ببشارتين:
يحب ال َّله ورسوله وال َّله يح ُّبه
ُّ البشارة األولىَّ :
بأن ذلك الرجل
ورسوله؛ وهذه بشار ٌة دين َّي ٌة.
أنَِ ِ
الحصن سيفتح. البشارة الثانية :دينية ودنيوية وهي َّ
عظيم ،وهو أن ال َّله يح ُّبه وهو
ٌ األول
فخوض الصحابة يف األمر َّ
فدل عىل َّ
أنَِ الصحابة يتنافسون يف األمر الفاضل إذا كان يحب ال َّله؛ َّ
ُّ
شرح كتاب التوحيد 168
ٍ
طالب رضي ال َّله ( )1رواه مسلم ،كتاب الفضائل ،باب من فضائل عيل بن أبي
عنه.
شرح كتاب التوحيد 170
ون()1؛
غار َ ِ
الص ْبح وه ْم ُّ ألن النبي ﷺ أغار عىل بني المصطلق ح ْي َن َط َ
لع ُّ َّ
يعني :وهم عىل ٍ
غفلة.
( )1رواه البخاري ،كتاب العتق ،باب من َملك من العرب رقيقا ،فوهب وباع
وجامع وفدى وسبى الذرية ،رقم ( ،)2541ومسلم ،كتاب الجهاد والسير،
باب جواز اإلغارة عىل الكفار الذين بلغتهم دعوة اإلسَلم ،من غير تقدم
شرح كتاب التوحيد 172
قال( :ح َّتى ت ْن ِزل بِساحتِ ِه ْم) يعني :حتى َتنزل قريبا من حصوهنم،
الحصن أو خارج الجدْ ر؛ يعنيِ :سر فإذا َقربتالساحة :ما كان خارج ِ
اإلعَلم باإلغارة ،رقم ( ،)1730من حديث عبد ال َّله بن عمر رضي ال َّله
ون، عنهما ،ولفظه« :إِ َّن النَّبِ َّي ﷺ َأ َغ َار َع َلى َبنِي الم ْص َطلِ ِق َوه ْم َغ ُّار َ
اب َي ْو َمئِ ٍذ ِ ِ
الماء؛ َف َقت ََل م َقات َلتَه ْمَ ،و َس َبى َذ َر ِار َّيه ْمَ ،و َأ َص َ
َو َأ ْن َعامه ْم ت ْس َقى َع َلى َ
ج َو ْي ِر َي َة» .ومعنى ( ُّ
غارون) :غافلون .لسان العرب البن منظور (.)22/5
173 مقرر الثلث األول
اح َفظوا َأ ْي َمانَك ْم﴾ [المائدة،]89: الدنيوي فال َّله يقولَ :
﴿و ْ ُّ أ َّما األمر
وجل وإن وكما سيأيت( )1يف آخر كتاب التوحيد بأن كثرة الحلِف بال َّله َّ
عز َّ َ
كان الشخص صادقا هذا َيقدح يف التوحيد؛ ألن المعظم ال َيحلف َّإال يف
عظيم ،أ َّما أن َيحلف به يف كل ٍ
حين؛ فليس هذا من التعظيم. ٍ ٍ
أمر
(خ ْي ٌر لك ِم ْن ح ْمرِ النَّع ِم) يعني :خ ٌير لك من ِ
الجمال الحمراء التي
كانت تتفاخر العرب بتم ُّلكها لنَفاستها.
عظيم يف
ٌ أجر وهذا ُّ
يدل عىل تشبيه أمور اآلخرة بالدنيا ،فهناك ٌ
اآلخرة؛ َ
فش َّب َه ذلك األجر ببهيمة األنعام الجميلة البه َّية العظيمة؛ لتقريب
تلك المسائل إىل النفوس.
يعني :أ ُّيهما أبلغ؟ لو قال :فوال َّله ألن َيهدي ال َّله بك رجَل واحدا؛
فال َّله يعطيك أجرا عظيما - ،والعرب َيتفاخرون باإلبل و َيتفاخرون
باألنعام – أو قال :إذا هدى ال َّله عىل يديك رجَل واحدا؛ خير مِن ن ٍ
َعم
عظيمة هب َّي ٍة يتمناها األثرياء منهم.
ٍ
شك َّ
أنَِ األمر الثاين ْأبلغ ،وهذا من أساليب الدعوة إىل هذا ال َّ
الدين :تقريب األمور والثواب إىل العقل؛ ليبادر الشخص إىل العمل.
أهم ما يدعى إليه هو التوحيد ،وأول ما يبدأ فتب َّين مِن هذا الباب َّ
أن َّ
به هو التوحيد.
﴿وإِ ْذ
األول الذي أخذ عىل بني آدم؛ كما قال سبحانهَ : وهو الميثاق َّ
ور ِه ْم ذر َّيتَه ْم َو َأ ْش َهدَ ه ْم َع َلى َأنْف ِس ِه ْم
َأ َخ َذ َرب َك مِ ْن بنِي آ َد َم مِ ْن ظه ِ
َ ُّ
اق َبنِي إِ ْس َرائِ َيل
﴿وإِ ْذ َأ َخ ْذنَا مِي َث َ
َأ َل ْست بِ َربك ْم َقالوا َب َلى﴾ [األعرافَ ،]172:
ِ
﴿وبِال َوالدَ ْي ِن إِ ْ
ح َسانا﴾ [البقرة.]83: ون إِ َّال ال َّل َه﴾ ثم َ
َال َت ْعبد َ
وهو الذي يف َطر عليه مجيع الخ ْلق؛ كما قال سبحانه﴿ :فِ ْط َر َت ال َّل ِه
َّاس َع َل ْي َها﴾ [الروم.]30: ِ
ا َّلتي َف َط َر الن َ
(ق ْوله« :يدوكون» أ ْي :يخوضون) يعني :يف قول (يدوكون ل ْيلته ْم)
يعني :يخوضون بالقول ،ويخوضون أيضا بالفعل وبالحركات؛
يذهبون ،ويأتون.
***
شرح كتاب التوحيد 176
[]6
يد وشهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله
باب ت ْف ِسيرِ الت ْو ِح ِ
َّ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة
أ ُّيه ْم أ ْقرب﴾ اآلية.
اهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا
وق ْوله تعالى﴿ :وإِ ْذ قال إِبر ِ
ْ
ت ْعبدون * إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾ اآلية.
ون ال َّل ِه﴾
وق ْوله تعالى﴿ :اتَّخذوا أ ْحباره ْم ور ْهبانه ْم أ ْرباب ًا ِم ْن د ِ
اآلية.
ون ال َّل ِه أ ْنداد ًا ي ِ
ح ُّبونه ْم خذ ِم ْن د ِ
َّاس م ْن يت ِ
وق ْوله﴿ :و ِمن الن ِ
َّ
كحب ال َّل ِه﴾ اآلية.
فِي الص ِ
حيحِ :ع ِن النَّبِي ﷺ؛ أنَّه قال« :م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله ،وكفر َّ
ون ال َّل ِه؛ حرم ماله ودمه ،و ِحسابه على ال َّل ِه».
بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ
وفضله ،والدعوة
لما َوضع المصنف لك قواعد يف أمهية التوحيدْ ،
َّ
وإن كان قد ب َّينه يف َّأول ٍ
باب؛ إليه ،والخوف من ضده؛ َذكر هنا تفسيرهْ ،
لكن أعاده هنا لبيان ٍ
مزيد من التوضيح.
قال رمحه ال َّله( :باب ت ْف ِسيرِ الت ْو ِح ِ
يد) يعني :معنى التوحيد. َّ
(وشهاد ِة أ ََّّل إِله إِ ََّّل ال َّله) هذا من ع ْطف الدال عىل المدلول؛ يعني:
أردت ْ
أن تكون موحدا؛ فلن يكون ذلك إال بالشهادة ،وهي التي َ إذا
تد ُّلك عىل التوحيد ،فَل إله إال ال َّله هي التي ُّ
تدل عىل التوحيد.
يرسخ يف
يعني :باب تفسير وتوضيح وبيان معنى التوحيد؛ حتى َ
ِذهنك.
وساق المصنف رمحه ال َّله أربع آ ٍ
يات وحديثا واحدا؛ لبيان التوحيد
ِ
وتوضيحه:
ففي اآلية األولى ﴿( -أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون ي ْبتغون إِلى رب ِهم) :-
بترك عبادة الصالحين واألصنام ،وعبادة ال َّله َّ
عز ب َّين أن التوحيد يتح َّقق ْ
وحده. َّ
وجل ْ
واآلية الثانية – (﴿وإِ ْذ قال إِ ْبرا ِهيم ِألبِ ِيه وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا
ت ْعبدون) َ :-يتح َّقق التوحيد بتحقيق البراء من الشرك وأهله.
شرح كتاب التوحيد 178
تحقيق التوحيد يكون بتحقيق المح َّبة ل َّله؛ مح َّبة التأ ُّله والتعظيم والعبادة.
والحديث – (م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله ،وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ
ون ال َّله) -
:ساقه المصنف رمحه ال َّله؛ لبيان َّ
أن تحقيق التوحيد يكون بالكفر
بالطاغوت وعبادة ال َّله وحده سبحانه وتعاىل.
وساق المصنف رمحه ال َّله هذه األد َّلة يف هذا الباب؛ لتفسير التوحيد
عىل أربعة ٍ
أمور:
األول :ببيان ضده ،فب َّين الشرك.
َّ
الثاين :بيان ركني التوحيد ،ومها :النفي واإلثبات.
الثالث :ب َّين ِشرك الطاعة ،فمن كان طائعا ل َّله فيما َأ َّ
حل وفيما َح َّرم؛
ِ
المشرك. فهو موحدٌ ،فمن َفعل ضدَّ ذلك فهو
فإن كان ِشرك المحبة شركا؛ فضدُّ ه
الرابع :يف ِشرك المحبةْ ،
التوحيد.
179 مقرر الثلث األول
لذلك قال رمحه ال َّله( :وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :أولئِك ا َّل ِذين ي ْدعون
ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة أ ُّيه ْم أ ْقرب﴾) ساق المصنف رمحه ال َّله هنا ما
هو ضد التوحيد وهو الشرك؛ لبيان َّ
أن التوحيد هو ضد ذلك.
وجل للمشركين﴿ :ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذي َن
عز َّ
فأول اآلية بخطاب ال َّله ََّّ
إن كنتم صادقين يف عبادتكم َز َع ْمت ْم مِ ْن دونِ ِه﴾ يعني :يا محمد قل لهمْ :
لهذه األصنام من دون ال َّله؛ ادعوهم.
زوال أي: َعنْك ْم﴾ الضر
ُّ ك َْش َ
ف َي ْملِك َ
ون ﴿ َف ََل
فمن كان مريضا؛ ال تشفيه األنداد ،وال تحيي الموتى،
المرض -مثَل ْ -
الحي.
وال تميت َّ
يحولون وال أي: ]اإلسراء]56:؛ ح ِويَل﴾
َت ْ ﴿و َال
َ
الض َّر – كالمرض -منكم إىل رج ٍل آخر فهي َتملك عدما ،عاجزة عن
ٍ
شيء. كل
أنَِهم يتنافسون يف عبادة ال َّله
أن حقيقة الصالحين َّ
وب َّين سبحانه َّ
أنَِهم يدْ َعون من وحده أ ُّيهم يرتقي درجة عالية ،وال َيدَّ َعون ألنفسهم َّ
ْ
دون ال َّله؛ لذلك قال﴿( :أولئِك﴾) أي :الصالحون واألنبياء( ،ا َّل ِذين
ي ْدعون) أي :يعبدوهنم ،والدعاء هنا دعاء العبادة.
شرح كتاب التوحيد 180
حال الذين يعبدوهنم﴿( :ي ْبتغون إِلى رب ِهم الو ِسيلة﴾) أي:
يتسابقون للقرب من ال َّله ،و َيطلبون رضا ال َّله والدرجة العالية﴿( ،أ ُّيه ْم
أ ْقرب﴾).
َو َي َخاف َ
ون َر ْح َمتَه ﴿ َو َي ْرج َ
ون أيضا: وحالهم
ْ
فإن كانوا َع َذ َابه﴾ [اإلسراءَ :[57:يخافون عذاب ال َّله ،ويخافونه،
يخافون ال َّله؛ فَل يستحقون العبادة من دون ال َّله.
فإذا كانت عبادة الصالحين واألصنام واألضرحة شركا؛ فالتوحيد
هو ْتركها وعبادة ال َّله وحده.
ِ
عظيم بدي ِع تصنيف المصنف رمحه ال َّله يف سياق اآليات. وهذا من
أن عبادة ال َّله هي التوحيد ،فالذي َيذهب إىل األنداد ال
ودل عىل َّ
َّ
المش ِركون ،فالموحد هو الذي التجأ
ْ ي َح يصل توحيدا؛ بل هؤالء هم
إىل ال َّله ،فضد الشرك :التوحيد.
وهذه اآلية َجمعت أركان العبادة؛ المحبة والخوف والرجاء:
(أ ُّيه ْم أ ْقرب) :المحبةَ ﴿ ،و َي ْرج َ
ون َر ْح َمتَه﴾ :الرجاءَ ﴿ ،و َي َخافو َن
َع َذ َابه﴾ :الخوف.
181 مقرر الثلث األول
ِ
المشركين التبرؤ والبعد عن
وب َّين أن توحيد الخليل عليه السَلم هو ُّ
وآلهتهم.
(﴿إِ ََّّل ا َّل ِذي فطرنِي﴾) فإني أ ْقرب منه وهو ال َّله سبحانه وتعاىل؛
أيَ :خلقني و َأدعوه ْ
وحده.
المسلمين ،واتفاقه مع المشركين فمواالة المشركين بالنصرة عىل ْ
اهيم ِألبِ ِيه
ضد المسلمين؛ هذا يضاد اإلسَلم؛ لذلك قال﴿( :وإِ ْذ قال إِبر ِ
ْ ُّ
وق ْو ِم ِه إِنَّنِي برا ٌء ِِمَّا ت ْعبدون) فهو بري ٌء من المشركين ،ومن عبادة
المشركين لألصنام ،وبري ٌء من مظاهرة المشركين ضد المسلمين ،وهو
﴿و َج َع َل َها كَلِ َمة ِ ِ
َمعنى :ال إله( ،إِ ََّّل ا َّلذي فطرني﴾) :هو معنى :إال ال َّلهَ ،
ون﴾ [الزخرف ،[28:كلمة التوحيد باقية يف ذريته َباقِ َية فِي َع ِقبِ ِه َل َع َّله ْم َي ْر ِجع َ
َيرجعون إليها.
ثم قال رمحه ال َّله( :وق ْوله تعالى﴿ :اتَّخذوا أ ْحباره ْم ور ْهبانه ْم
أهل الكِتاب؛ أي :ا َّتخذوا مشرعين يحللون ون ال َّل ِه﴾) أيْ :
أ ْرباب ًا ِم ْن د ِ
شرب الخمر ،هذا يف ِشرك لهم -مثَل أك َْل الخنزير ،-ويحللون لهم ْ
الطاعة.
183 مقرر الثلث األول
ح ُّبونه ْم كحب ال َّل ِه﴾) هذه اآلية الرابعة يف تفسير وتوضيح أ ْنداد ًا ي ِ
األول :مح َّب ٌة جبِل َّي ٌة ،كمح َّبة الرجل للطعام والماء. ِ
القسم َّ
ِ
والقسم الثاين :مح َّب ٌة عاطفي ٌة ،كمحبَّة الوالد لَلبن ،واألم لولدها.
هذا ال محذور فيه؛ كما قال النبي ﷺ عن الحسن والحسين
رضي ال َّله عنهما« :ال َّله َّم إِني أ ِح ُّبه َما َف َأ ِح َّبه َما»(.)1
حب اإلنسان شيئا مع َّظما كأنَّه إله. ِ
القسم الثالث :أن ي َّ
فهذه هي المحبة -والعياذ بال َّله -الشرك َّية.
ٌ
شرك ليس فمح َّبة التأ ُّله والتع ُّبد لو كانت ل َّله ولغير ال َّله أيضا؛ فهذا
ألن ال َّله َأثبت للمشركين أنَّهم يح ُّبون ال َّله كحب األوثان،
بتوحيد؛ َّ
فالتوحيد أن تكون محبة التع ُّبد والتأ ُّله ل َّله سبحانه وتعاىل.
أحب الصنم أو صاحب القبر محبة
ُّ شخص :أنا
ٌ فمثَل :ال يقول
المنهي عنه -المح َّبة الشرك َّية -
ُّ عظيمة؛ ألنَّه ينفعني أو يضرين؛ هذا هو
.
حيحِ :ع ِن ال َّنبِي ﷺ؛ أنَّه قال« :م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله،قال( :فِي الص ِ
َّ
ون ال َّل ِه؛ حرم ماله ودمه ،و ِحسابه على ال َّل ِه»). وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ
َّاس َحتَّى َيقولواَ :ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله م َح َّمدٌ ( )1كتاب اإليمان ،باب األَ ْم ِر بِ ِقت ِ
َال الن ِ َ
َرسول ال َّل ِه ،رقم ( ،)23من حديث أبي مالك عن أبيه رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 190
(ع ِن ال َّنبِي ﷺ؛ أنَّه قال«( :م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله) ،الركن ي
األول:
اإلثبات.
ويشترط مع القول :اليقين والمعرفة هبا ،و َّ
أنَِ معناها :ال معبود
بحق إال ال َّله.
ٍّ
ْ
وأن يحقق شروطها :العلم ،اليقين ،اإلخَلص ،الصدق ،المحبة،
االنقياد ،والقبول.
مع البعد عن نواقضها ،التي هي نواقض اإلسَلم.
ستحق
ُّ ون ال َّل ِه) الركن الثاين :النفي؛ أي :ال َي
(وكفر بِام ي ْعبد ِم ْن د ِ
العبادة أحدٌ إال ال َّله ،ف َيعتقد الشخص ويتك َّلم ويقول :كل ما يع َبد من
دون ال َّله من اآللهة؛ فهي باطل ٌة.
أخذ ماله ،وال يجوز َس ْفك دمه.
(حرم ماله ودمه) ال يجوز ْ
(و ِحسابه على ال َّل ِه) يف الدنيا يح َكم عليه باإلسَلم ،فمن قال أمامنا:
مسلم ،وال َّله هو الذي يحاسبه يف
ٌ ال إله إال ال َّله؛ فهو عندنا يف الدنيا
كافر هبا يف قلبه؟ َأ ْم
منافق؟ هل هو ٌ
ٌ ٌ
صادق فيها؟ هل هو اآلخرة ،هل هو
ال.
191 مقرر الثلث األول
أن التوحيد ال َيتح َّقق إال بالكفر بالمعبودات من دون ال َّله؛ فدل عىل َّ
َّ
وت َوي ْؤمِ ْن بِال َّل ِه﴾ [البقرة.[256:
كما قال سبحانهَ ﴿ :فمن ي ْكفر بِال َّطاغ ِ
َ ْ َ ْ
شخص يصلي ويقول :ال إله إال ال َّله ،ويقول :إن صاحب
ٌ فمثَل :لو
هذا القبر َينفع ويضر؛ هذا مل َيكفر بما يعبد من دون ال َّله.
إن عبادة هؤالء لألضرحة صحيح ٌة ،لهم دينهم ،وف ْعلهم
أو يقولَّ :
صحيح؛ هذا -والعياذ بال َّله -مل
ٌ صحيح ،ونحن نعبد ال َّله وديننا
ٌ هذا
يحقق التوحيد.
أن المعبودات من دون ال َّله باطل ٌة ،وهو
فتحقيق التوحيد :اعتقاد َّ
معنى ال إله إال ال َّله.
ثم قال( :وش ْرح ه ِذ ِه ال َّت ْرجم ِة ما ب ْعدها ِمن األ ْبو ِ
اب) يعني :اآلن
بين لك التوحيد ،وما بعد هذا الباب يفصل لك فيما ي ِ
خ ُّل بالتوحيد من َّ
الحلقة والخيط ،ومن الذبح لغير ال َّله ،والسحر ،وغيرها
تمائم ،ول ْبس َ
مما ينايف التوحيد.
َّ
فاآلن َوضع لك قاعدة يف التوحيد ،والدعوة إليه ،وتفسيره ،وبيان
فضله ،ثم يفصل لك ما يضا ُّد التوحيد مما يقع فيه الناس ،فهذه األبوابْ
التي َسبقت هي قواعد يف بيان التوحيد ،ثم سيبدأ يفصل يف وسائل شرك َّي ٍة
شرح كتاب التوحيد 192
[]7
ط ون ْح ِو ِهام؛ لِر ْف ِع البَل ِء
اب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ
ْ ْ ْ ب ٌ
أ ْو د ْف ِع ِه
ون ال َّل ِه إِنْ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ق ْل أفرأ ْيتم َّما ت ْدعون ِم ْن د ِ
َل فِي ي ِده خ ْي ٌط ِمن الح َّمى، وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه :أنَّه رأى رج ً
فقطعه ،وتَل ق ْوله تعالى﴿ :وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه إِ ََّّل وه ْم م ْشرِكون﴾
رواه ا ْبن أبِي حاتِ ٍم.
شرح كتاب التوحيد 194
الشرح:
ط ون ْح ِو ِهام؛
اب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ
ْ ْ ْ قال رمحه ال َّله( :ب ٌ
لِر ْف ِع البَل ِء أ ْو د ْف ِع ِه).
هذا َّأول ٍ
باب من األبواب التي يفصل فيها شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله
يف التوحيد أو ضد التوحيد؛ يعني :ما سبق من األبواب كالتمهيد
والقواعد لهذا الباب وما بعده.
ويصح بدون
ُّ اب)،
يصح أن يقال بالتنوين؛ أي :هذا (ب ٌاب) ُّقال( :ب ٌ
تنوين (باب)؛ أي :هذا (باب ِمن الشر ِك لبس الح ْلق ِة والخي ِ
ط.).. ْ ْ ْ
ِ ِ وقوله( :ب ٌ ِ
اب من الش ْرك) من هنا تبعيض َّي ٌة؛ أي :هذا ٌ
باب فيه بيان
الحلقة والخيط ونحومها.
حكم لبس َ
وهي تنقسم إىل قِسمين:
سبب يف ر ْفع ِ
القسم األول :إذا كان يعتقد َّ
أن لبس الخيط ونحوه
ٌ
البَلء أو د ْفعه.
ٌ
شرك أصغر ينايف كمال التوحيد الواجب ،وهو أكبر من فهذا
شرب الخمر ،ومن السرقة وغير ذلك.
الكبائر؛ يعني :أكبر من ْ
195 مقرر الثلث األول
ِ
والقسم الثاين :أن يعتقد َّ
أن هذا الخيط ،أو الخاتم ونحوه َينفع
و َيضر بذاته.
ٌ
شرك أكبر. فهذا -والعياذ بال َّله -
ِ
وقوله( :ل ْبس الح ْلقة) َ
الح ْلقة :الشيء المستدير( )1سواء كان من
ٍ
خرزات ونحوها. ٍ
ألماس ،أو من فضة ،أو من نحاس ،أو من ٍ
ٍ
وقوله( :والخي ِ
ط) هو الخيط المعروف ،سواء من ٍ
جلد ،أو من ْ
ٍ
قماش أو نحو ذلك.
وقوله( :لبس الح ْلق ِة والخي ِ
ط) ليس ذلك مق َّيدا بال ُّلبس ،فلو وضع ْ ْ
خيطا يف جيبه مثَل؛ يأخذ نفس الحكم.
وأيضا التعليق ليس لآلدمي فقط ،وإنَّما لو ع َّلق عىل السيارة مثَل،
عين مثَل.
لئَل تصيبها ٌ
أو عىل الدابة؛ َّ
فهي ال تخلو من الشرك؛ إ َّما من األكبر ،وإ َّما من األصغر.
نحو ل ْبس الح ْلقة والخيط ،مِثل :ل ْبس ما ِ
قوله( :ون ْح ِوهام) يعنيْ :
وضع نمشا أو وشما عىل جسده ان َيوضع عىل الصدر ،ومِثل :لو إنس ٌ
ٌ
شرك أصغر. فهذا
شخص يف أصبعه خاتما فيه الخرزات ،وما ِ
القسم الثالث :إذا لبِس
ٌ
َيمنع من العين من اللون األزرق – مثَل ،-وقال :أعرف َّ
أنَِها ال تنفع
للتجمل هبا.
ُّ تضر ،وإ َّنما ألبسها
وال ُّ
نقول :ال يجوز ،حتى لو مل يعتقد هبا؛ ألنَّها من مظاهر الشرك ،وال
وضع مظاهر الشرك.
يجوز ْ
ولما ب َّين المصنيف هذه الترمجة ،وهيَّ :
أنَِ التمائم والحلقات َّ
ٍ
بشيء وإنما َّبوبت ذلك ،وهذه أنَِه يقول :مل ِ
آت ٌ
شرك؛ أعطاك األد َّلة ،وك َّ
األد َّلة فخذها.
ون ال َّل ِه إِنْ
قال( :وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :ق ْل أفرأ ْيتم َّما ت ْدعون ِم ْن د ِ
ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك قال تعاىل﴿ :وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ
َاش َ ٍّ َ َْ َ ْ
ف َاش َ بِ َخي ٍر َف ََل راد ل ِ َف ْضلِ ِه﴾ [يونس﴿ ،[107:وإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ
ٍّ َ َْ َ ْ َ َّ ْ
َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن َي ْم َس ْس َك بِ َخ ْي ٍر َفه َو َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [األنعامَ ﴿ ،[17:ما
َّاس مِ ْن َر ْح َم ٍة َف ََل م ْم ِس َك َل َها َو َما ي ْم ِس ْك َف ََل م ْر ِس َل َله مِ ْن
َي ْفت َِح ال َّله لِلن ِ
( )1رواه البخاري ،كتاب األذان ،باب الذكر بعد الصَلة ،رقم ( ،)844ومسلم،
كتاب المساجد ومواضع الصَلة ،باب استحباب الذكر بعد الصَلة وبيان
صفته ،رقم (.)593
( )2هو :أبو عبد ال َّله المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن
مالك بن كعب ابن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثقفيَ ،أسلم عام
الخندق ،تويف سنة (50هـ) .االستيعاب البن عبد البر (.)1445/4
199 مقرر الثلث األول
وقوله سبحانه﴿( :ق ْل أفرأ ْيت ْم) أي :أ ُّيها المشركون( ،ما ت ْدعون ِم ْن
الح َلق والخيوط.ون ال َّل ِه) ،وكذلك ما تعلقونه من ِد ِ
ثم بعد ذلك قال رمحه ال َّله( :ع ْن ِع ْمران ْب ِن حص ْي ٍن ر ِضي ال َّله ع ْنهام
َل فِي ي ِد ِه ح ْلق ٌة ِم ْن ص ْفرٍ ،فقال« :ما ه ِذ ِه؟! قالِ :من أ َّن النَّبِ َّي ﷺ رأى رج ً
ت و ِهي عل ْيك؛ اهن ِة ،قال :ا ْن ِز ْعها؛ فإِنَّها َّل ت ِزيدك إِ ََّّل و ْهن ًا ،فإِنَّك ل ْو ِم َّ
الو ِ
أحمد بِسن ٍد َّل ب ْأس بِ ِه). ما أ ْفل ْحت أبد ًا» رواه ْ
أن لبس الح ْلقة َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان َّ
شرك ،لذلكٌ ٍ
وفَلح؛ ألهنا بعد عن كل ٍ
خير والخيط ونحومها فيه ضرر؛ فت ِ
ٌ
قال( :ع ْن ِع ْمران ْب ِن حص ْي ٍن ر ِضي ال َّله ع ْنهام أ َّن النَّبِ َّي ﷺ رأى رج ً
َل)،
ٍ
حصين. َ
عمران بن النبي ﷺ َرآنِي»()1؛ أي :رأى أنَِ َّ
ٍ
روايةَّ « : ويف
نحاس أصفر ،ومِنه ما يباع يف ٍ (فِي ي ِد ِه ح ْلق ٌة ِم ْن ص ْفرٍ) يعني :من
بعض المحَلَّت من قولهم أنَّها تنظم حركات القلب ونحو ذلك؛ هذا
من أنواع لبس الحلقة والخيط.
فصال.ِ ِِ
(فقال« :ما هذه؟») من باب االستنكار عليه ،أو االست َ
ع َّلقها وهو ٌ
كبير لن يفلح.
أن اإلنسان ال يعذر بالجهل يف الشرك ،لذا َيجب عىل يدل عىل َّ
وهذا ُّ
ٍ
شيء يضا ُّد المسلم أن يتع َّلم التوحيد وما يضا ُّد التوحيد؛ لئَل يقع يف
التوحيد أو ي ِنقصه ،وهو ال َيعلم.
والنبي ﷺ نفى الفَلح عن ذلك المعلق للنحاس يف يده حتى ولو
كان َيجهل ذلك -والعياذ بال َّله .-
المسلِم أمه َّية تع ُّلم التوحيد؛ بل تكرار ذلك يف قلبه ِ
ومن هنا َيعرف ْ
حينا بعد آخر؛ ليكون اإليمان قو ييا يف قلبه.
أحمد بِسن ٍد َّل ب ْأس بِ ِه).
قال( :رواه ْ
وهذا الحديث يفيد عدة ٍ
أمور:
أنَِ َم ْن رأى عىل غيره تميمة؛ يجب عليه أ ْن َينزعها.
األولَّ :
األمر َّ
أجلهْ ،
فإن كان فعلت من ْ
َ األمر الثاين :ل ْبس التميمة يأتيك به ضد ما
السحر؛ يأتيه ،وهكذا.
ْ ال يريد
أنَِ َمن ع َّلق تميمة؛ فإنَّه لن يفلح أبدا ،ال يف الدنيا،
األمر الثالثَّ :
ٌ
شرك. أنَِ التميمة يدل عىل َّ وال يف اآلخرة ،ون ْفي الفَلح المطلق ُّ
امرٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه م ْرفوع ًا« :م ْن تع َّلق
ثم قال( :وله :ع ْن ع ْقبة ب ِن ع ِ
ْ
ت ِميم ًة؛ فَل أت َّم ال َّله له ،وم ْن تع َّلق ودع ًة؛ فَل ودع ال َّله له».
203 مقرر الثلث األول
وقوله( :وم ْن تع َّلق ودع ًة) الو َدع :هو الحصى األبيض الذي عند
ساحل البحر الذي يخرجه البحر( ،)1أبيض مِثل ال َق ْو َق َعة.
الضر يف زعمها ،مثل:
ي كانت العرب تتخذه ت َّتقي به العين أو
الصدَ َفات ،يع َّلق عىل الصدر ،وأحيانا عىل اليد ،يزعمون أ َّنه يسكن
َّ
النفس.
فم ْن ع َّلقها؛ لن يح َّقق مراده ،ولن يفلح.
َ
(فَل ودع ال َّله له) أي :لن يدعه ال َّله ساكنا يف األمر الذي ا َّتخذه.
فمن ا َّتخذه ليزول عنه المرض؛ فالمرض سيكون فيه ولن يد َعه.
سحر؛ فلن يدعه ال َّله وسوف يسحر وهكذا.ومن ا َّتخذه لئَل ي َ
لمن يتخذ الِح َلق ،أو الخيوط ،أو التمائم
وهذا فيه وعيدٌ شديدٌ َ
وأن الواجب هو التع ُّلق بال َّله عز وجل.
ونحوهاَّ ،
وع َّلة تحريم ذلك :هو عدم االعتماد عىل ال َّله سبحانه وتعاىل،
واالعتماد عىل الجمادات؛ قال سبحانهَ ﴿ :وإِ ْن َي ْم َس ْس َك ال َّله بِض ٍّر َف ََل
ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك بِ َخيْ ٍر َف ََل َرا َّد ل ِ َف ْضلِ ِه﴾ [يونس.]107: ك ِ
َاش َ
َذكر هذه الرواية؛ لبيان حكم المع َّلق من الخيوط ونحوها من
ٌ
شرك. التمائم ،وأنَّه
فإذا سألك أحدٌ :ما حكم التميمة؟
قل له :قال النبي ﷺ( :م ْن تع َّلق ت ِميم ًة؛ فق ْد أ ْشرك).
سبب يف د ْفع الضرر أو ج ْلب النفع؛
ٌ فإن كان َيعتقد يف التميمة أهنا
ٌ
شرك أصغر. فهو
ٌ
شرك أكبر. وتضر؛ فهو
ُّ كان يعتقد أهنا بذاهتا تنفعوإن َ
َل فِي ي ِده خ ْي ٌط ثم قال( :وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه :أنَّه رأى رج ً
ِمن الح َّمى ،فقطعه ،وتَل ق ْوله تعالى﴿ :وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه إِ ََّّل وه ْم
م ْشرِكون﴾ رواه ا ْبن أبِي حاتِ ٍم).
ضرر هذا الذنْب ،ولبيان
َ َذكر المصنف رمحه ال َّله هذا األثر؛ ليبين
وجوب إنكار ل ْبس الخيوط ونحوها؛ لر ْفع البَلء ،أو د ْفعه ،و َّ
أنَِ َمن
أن يزيله؛ فيجب عليه ذلك. استطاع ْ
َل فِي ي ِده خ ْي ٌط ِمن
(وع ْن حذ ْيفة ر ِضي ال َّله ع ْنه :أنَّه رأى رج ً
الحمى.
َّ الحمى ،ف َيزعم َّ
أنَِ هذا الخيط َيدفع عنه َّ لئَل تصيبه
الح َّمى) أيَّ :
شرح كتاب التوحيد 206
(فقطعه) حذيفة رضي ال َّله عنه؛ ألنه يزيد الح َّمى وال َيرفعها عنه،
ٌ
شرك -والعياذ بال َّله .- وألنه
(وتَل ق ْوله تعالى﴿ :وما يؤْ ِمن أ ْكثره ْم بِال َّل ِه) أي :وما يؤمن أكثرهم
بتوحيد الربوبية( ،إِ ََّّل وه ْم م ْشرِكون﴾) بتوحيد األلوهية.
يدل عىل َف ْهم الصحابة رضي ال َّله عنهم لنصوص العقيدة
وهذا ُّ
وغيرها.
يصح االستدالل بآيات الشرك األكبر عىل
ُّ وأيضا ُّ
يدل عىل أنَّه
ٌ
شرك -والعياذ بال َّله .- الشرك األصغر؛ بجامع َّ
أنَِ كليهما
َّ
فدل عىل خطورة تعليق الخيوط ونحوها ،وأنَّه يجب إنكارها وإذا
ضرر؛ فتترك ويكتفى
كان ال ضرر يف إزالتها بالقطع؛ فتقطع ،وإذا كان فيه ٌ
باللسان -باإلنكار به .-
والس َلف
أن الصحابة َ وساق المصنف رمحه ال َّله هذا األثر ،ليبين َّ
يستد ُّلون بآيات الشرك األكبر عىل ف ْعل الشرك األصغر ،ومِثل اآلية
ون ال َّل ِه إِنْ أرادنِي ال َّله بِضر ه ْل ه َّن
األوىل﴿( :ق ْل أفرأ ْيت ْم ما ت ْدعون ِم ْن د ِ
اشفات ضر ِه﴾). ك ِ
[]8
الرقى وال َّتامئِ ِم ِ
باب ما جاء في ُّ
اري ر ِضي ال َّله ع ْنه« :أنَّه كان مع حيحِ :ع ْن أبِي ب ِشيرٍ األ ْنص ِ فِي الص ِ
َّ
َّل :أ ََّّل ي ْبقي َّن فِي رقب ِة ب ِعيرٍ
ار ِه ،فأ ْرسل رسو ً
سف ِ ضأ ْ ول ال َّل ِه ﷺ فِي ب ْع ِ رس ِ
فرخَّ ص فِ ِيه ب ْعضه ْم ،وب ْعضه ْم ل ْم يرخ ْص فِ ِيه ،وي ْجعله ِمن الم ْن ِهي
ود ر ِضي ال َّله ع ْنه .- ع ْنه ِ -منهم ابن مسع ٍ
ْ ْ
الرقىِ :هي ا َّلتِي تس َّمى العزائِم ،وخ َّص ِم ْنه الدَّ لِيل ما خَل ِمن و ُّ
الش ْر ِك؛ فق ْد رخَّ ص فِ ِيه رسول ال َّل ِه ﷺ ِمن الع ْي ِن والحم ِة.
209 مقرر الثلث األول
والتولة :ش ْي ٌء يضعونه ي ْزعمون أنَّه يحبب الم ْرأة إِلى ز ْو ِجها،
الرجل إِلى ا ْمرأتِ ِه.
و َّ
المام أ ْحمد :ع ْن رو ْي ِف ٍع ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :قال لِي وروى ِ
رسول ال َّل ِه ﷺ« :يا رو ْي ِفع! لع َّل الحياة ستطول بِك؛ فأ ْخبِرِ النَّاس أ َّن م ْن
ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة أ ْو ع ْظ ٍم؛ فإِ َّن ُم َّمد ًا ِ
عقد ل ْحيته ،أ ْو تق َّلد وتر ًا ،أ ْو ا ْ
برِي ٌء ِم ْنه».
ان؛ كان ك ِع ْد ِل
يد ْب ِن جب ْيرٍ قال« :م ْن قطع ت ِميم ًة ِم ْن إِ ْنس ٍ
وع ْن س ِع ِ
الشرح:
قال( :باب ما جاء فِي الرقى والتامئِ ِم) (الرقى) مجْع ر ٍ
قية ،وهي ما ُّ َّ ُّ
يستشفى به( ،)1وتنقسم إىل قِسمين:
ٌ
شرعية :وهي ما كانت بالقرآن ،وبالسنَّة ،أو األولٌ :
رقية ِ
القسم َّ
باألدعية المشروعة ،أو باألدوية المباحة.
ٍ
شروط: والرقية المشروعة لها ثَلثة
األول :أن تكون بالقرآن والسنَّة واألدعية المباحة.الشرط َّ
عربي مفهو ٍم ،ليس فيه َت ْم َت َم ٌ
ات. ٍ
الشرط الثاين :أن تكون بلسان ٍّ
سبب ،قد َتنفع وقد ال َتنفع.
الشرط الثالث :أن يعتَقد بأهنا ٌ
راق وال يستفيد منه ،و َيذهب إىل غيره فقد َيذهب الشخص إىل ٍ
فدل عىل أن ليس كل ٍ
رقية َتنفع ،فقد َينتفع من الراقي ،وقد ويستفيد منهَّ ،
ال َينتفع منه.
أنواع:
ٌ والرقية هلا
أن يرقي اإلنسان ن ْفسه؛ وهذه أكْملها ،وكان النبي ﷺ
األولْ :
النوع َّ
يرقي ن ْفسه(.)1
( )1رواه البخاري ،كتاب فضائل القرآن ،باب فضل المعوذات ،رقم (،)5016
ومسلم ،كتاب السَلم ،باب رقية المريض بالمعوذات والنفث،
رقم ( ،)2192من حديث عائشة رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ « :أ َّن النَّبِ َّي ﷺ ك َ
َان
إِ َذا ْاش َت َكى ي ْقرأ َع َلى َن ْف ِس ِه بِالمعو َذ ِ
اتَ ،و َينْفثَ ،ف َل َّما ْاشتَدَّ َو َجعه كنْت َأ ْق َرأ َ َ َ
211 مقرر الثلث األول
َع َل ْي ِهَ ،و َأ ْم َسح َعنْه بِ َي ِد ِهَ ،ر َجا َء َب َركَتِ َها».
( )1رواه مسلم ،كتاب السَلم ،باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة
والنظرة ،رقم ( ،)2199من حديث جابر بن عبد ال َّله رضي ال َّله عنهما.
﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو
( )2رواه البخاري ،كتاب الرقاق ،باب قوله تعاىل َ :
شرح كتاب التوحيد 212
ْ فلو ِ
شخص وقال :هل األفضل أن أذهب إىل شيخٍ يقرأ ي
عيل ٌ مر َض
أن ال َأذهب؟
القرآنْ ،أو األ ْفضل ْ
ي
والتسخط؛ التجزع
ي قوي َيمنعك من ٌ
إيمان ٌّ نقول :إذا كان عندك
فاألفضل عدم الذهاب ،وتقرأ أنت عىل نفسك.
ُّ
وتسخط عىل تجزع أ يما ْ
إن كان إيمانك ضعيفا ،و َينتج عن ذلك ُّ
القضاء والقدر؛ نقولَ :تذهب أفضل؛ َّ
لئَل يكون يف قلبك وصدرك عدم
المحرم -وهو عدم
ي الرضا بالقضاء والقدر ،وحتى ال تقع يف األمر
الجنَّة بغير
مستحب -وهو دخول َ
ٍّ ألجل ٍ
أمر الرضا بالقضاء والقدر -؛ ْ
ٍ
عذاب .- ٍ
حساب وال
شخص ،وقال :أيهما أ ْفضل
ٌ ومِثله الذهاب إىل الطبيب :فلو ِ
مرض
َأذهب إىل الطبيب أم ال َأذهب؟
َح ْسبه﴾ [الطَلق ،]3 :رقم ( ،)6472ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب الدليل
ٍ
عذاب، ٍ
حساب وال الجنَّة بغير
عىل دخول طوائف من المسلمين َ
رقم (.)218
213 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،كتاب الطب ،باب الحبة السوداء ،رقم ( ،)5688ومسلم،
كتاب السَلم ،باب التداوي بالحبة السوداء ،رقم ( ،)2215من حديث أبي
هريرة رضي ال َّله عنه.
( )2رواه مسلم ،كتاب فضائل الصحابة رضي ال َّله عنهم ،باب من فضائل أبي ٍ
ذر
رضي ال َّله عنه ،رقم ( ،)2473من حديث أبي ٍ
ذر رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 214
والس ْحر( ،)1وعجوة عالية المدينة «إِ َّن فِي َع ْج َو ِة ال َعال ِ َي ِة ِش َفاء َ -أ ْو إِن ََّها
اق َ -أ َّو َل الب ْك َر ِة»(.)2
تِ ْر َي ٌ
فهذه أدوي ٌة جاء الشرع هبا.
ولو كان هناك أدوي ٌة مباح ٌة للشفاء من السحر والعين ،مثل:
السحرْ ،أو ج يرب
بالسدر للمسحور ،واالغتسال بالملح يطرد ي
االغتسال ي
مباح ،و َيدخل يف ذلك حكم األدوية.
نفعه؛ فهو ٌ
ِ
والقسم الثاين :الرقية الممنوعة ،وتنقسم إىل قِسمين:
ٌ
شرك. ٌ
شرك؛ فهي -والعياذ بال َّله- األول :ما كان فيها ِ
القسم َّ
بمحرم ،مثل :التداوي بالخمر ونحو ذلك. ِ
والقسم الثاين :ما كانت
َّ
( )1رواه البخاري ،كتاب األطعمة ،باب العجوة ،رقم ( ،)5445ومسلم ،كتاب
فضل تمر المدينة ،رقم ( ،)2047من حديث سعد بن أبي االشربة ،باب ْ
وقاص رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :من َتصبح ك َّل يو ٍم سبع َتمر ٍ
ات َع ْج َوةَ ،ل ْم ٍ
َْ َ َْ ََ َ ْ َ َّ َ
ال ِس ْح ٌر».
َيض َّره فِي َذل ِ َك ال َي ْو ِم س ٌّم َو َ
فضل تمر المدينة ،رقم ( ،)2048من
( )2رواه مسلم ،كتاب االشربة ،باب ْ
حديث عائشة رضي ال َّله عنها.
215 مقرر الثلث األول
وإذا كانت من القرآن؛ فالراجح أنَّها ال تجوز أيضا؛ فلم َيثبت عن
رخصوا يف تعليق التميمة مِن القرآن كما
الصحابة رضي ال َّله عنهم أهنم َّ
سيأيت.
والفرق بين هذا الباب والباب السابق:
ْ
طلب زوال المرض بالرقية ،أو التميمة؛ أل َّن ِ أن هذا الباب يف َّ
أنَِ التميمة( :ش ْي ٌء يع َّلق على األ ْوَّل ِد ع ِنالمصنف رمحه ال َّله يرى َّ
الع ْين).
الضر ،أو َبعده؛ لذلك
ي وأ َّما الباب السابق فهو عا ٌّم سواء كان قبل
قال هناك( :لِر ْف ِع البَل ِء أ ْو د ْف ِع ِه).
وأيضا الباب السابق عا ٌّم يف التميمة وغير التميمة.
شخص مثَل يف جيبه قلما ونحو ذلك؛ يعتقد فيه ر ْفع
ٌ فلو َوضع
فخاص بالتميمة
ٌّ الضر؛ فهذا َيدخل يف الباب السابق ،وأ َّما هذا الباب
وكذا الرقية.
217 مقرر الثلث األول
ٍ
بشير قيس بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن الجعد من بنى ( )1قيل هو :أبو
أصح.
واألول ي
َّ مازن بن النجار ،تويف قيل :بعد الحرة ،وقيل :سنة (40هـ)،
االستيعاب البن عبد البر (.)1611/4
عكيم الجهنيَ ،أدرك النبي ﷺ ومل يره ،تويف
ٍ ٍ
معبد عبد ال َّله بن ( )2هو :أبو
سنة (88هـ) .معرفة الصحابة ألبي نعيم ( ،)1740/3سير أعَلم النبَلء
للذهبي (.)510/3
س َون َْح ِو ِه فِي
الج َر ِ ِ ِ
( )3رواه البخاري ،كتاب الجهاد والسيرَ ،باب َما ق َيل في َ
اإلبِ ِل ،رقم ( ،)3005ومسلم ،كتاب اللباس والزينةَ ،باب ك ََر َاه ِة َأ ْعن ِ
َاق ِ
شرح كتاب التوحيد 218
رضي ال َّله عنهم عىل رفقة النبي ﷺ؛ محبة له ،وإقامة للجهاد ،ولَلنتفاع
ِ
بعلمه وهدْ يه عليه الصَلة والسَلم.
أن النبي صىل ال َّله عليه سلم َبعث رسوال يف
َّل) أيَّ :
(فأ ْرسل رسو ً
ب رسول ال َّله صىل ال َّله عليه سلم زيد بن حارثة ِ
الجيش ،وهو ح ي
رضي ال َّله عنه.
( َّأَّل ي ْبقي َّن فِي رقب ِة ب ِعيرٍ قَِلد ٌة) وهي الشيء المستدير حول العنق،
كانوا يف الجاهلية يعلقون عليها تميمة؛ يعتقدون أن ال يصيبهم بسببها
شي ٌء.
( ِم ْن وترٍ) يعني :سواء كانت من األوتار -الوتر :هو الخيط الذي
يكون بين طريف القوس ليرمى به( ،- )1مِثل :المطاط اآلن ،وكانت
العرب إذا َبيل هذا الخيط يعلقونه ويتبركون به -والعياذ بال َّله .-
جزم. (أ ْو قَِلد ٌة) ،وعند أبي داود(« :)1و َال قِ ََلدة» ليس ٍ
بشك ،وإنما ْ َ َ
ٍ
قَلدة؛ فهي ممنوع ٌة، أي ٍ سواء كانت من ٍ
وتر ،أو ٍ
ثوب ،أو غترة ،أو ْ
فمن ع َّلقها فليقطعها سواء عىل العنق ،أو غير العنق. َ
الدواب ،أو عىل
ي قال( :إِ ََّّل قطِع ْت)؛ ألنَّه ال يجوز تعليق التمائم عىل
غيرها ،و َيجب التع ُّلق بال َّله سبحانه وتعاىل فهو النافع الضار ْ
وحدَ ه.
أن َيقرأ أوراد الصباح والمساء. وعىل المرء ْ
ود ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :س ِم ْعت
ثم بعد ذلك قال( :وع ْن اب ِن مسع ٍ
ْ ْ
الرقى) أي :التي ليست من الكِتاب وال من ِ
رسول ال َّله ﷺ يقول« :إِ َّن ُّ
رك ،مِثل:
السنَّة وال من األدعية المشروعة ،أو األدوية المباحة؛ فهي ِش ٌ ُّ
الرقية التي يقوم هبا بعض السحرة َيزعمون أنَّها تشفي ،باالستعانة
بالج ين ،والشياطين -والعياذ بال َّله .- ِ
تميمة ،والشرك منها ما كان مِن غير القرآن ،وأ َّما ٍ (وال َّتامئِم) مجْع
محرم وال يصل للشرك.
بالقرآن فهو َّ
( )1كتاب الجهاد ،باب يف تقليد الخيل باألوتار ،رقم ( ،)2552من حديث أبي
ٍ
بشير رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 220
قال( :وكِل إِل ْي ِه) يعني :أن ال َّله سبحانه وتعاىل َيتخ َّلى عنه ،ويوكَل
الح َلق ،أو التميمة ،وهي ال َتملك له نفعا والالشخص لذلك الخيط ،أو ِ
أ َّما الجمادات ،والتع ُّلق بالشياطين -والعياذ بال َّله ،-والتع ُّلق
احر َح ْيث بالسحرة؛ فلن ينفعوك؛ قال سبحانه﴿ :و َال ي ْفلِح الس ِ
َّ َ
شرح كتاب التوحيد 222
َأ َتى﴾ [طه ،]69:والذي ينفع هو الدعاء ،والتوكل عىل ال َّله؛ قال جل
﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو َح ْسبه﴾ [الطَلق ،]3:وقال سبحانه: وعَلَ :
﴿ َو َم ْن َيت َِّق ال َّل َه َي ْج َع ْل َله مِ ْن َأ ْم ِر ِه ي ْسرا﴾ [الطَلق.]4:
ٌ
شرك ،فما أضرار التميمة؟ حكمت َّ
أنَِ التميمة َ شخص:
ٌ ْ
فإن قال
نقولَ :أ ْو َج َزها النبي ﷺ يف هذا الحديث ،وهي:
توكَل إىل هذه التميمة.
أردت د ْفعه. حر ،أو ما ِ
َ ويصيبك س ٌ
فمن وكِ َل إىل غير ال َّله خاب وخسر. ْ
قال رمحه ال َّله( :ال َّتامئِم :ش ْي ٌء يع َّلق على األ ْوَّل ِد ع ِن الع ْي ِن).
ٌ
شرك؛ بدأ لما َذكر رمحه ال َّله حديث َّ
أن الرقى ،والتمائم ،والتولة َّ
يبين معنى ذلك.
ٍ
شيء يع َّلق سواء من الخيط ،أو من أي ِ
قال( :ال َّتامئم :ش ْي ٌء) يعنيُّ :
الخرزات ،أو من فصوص الفضة كاللون األزرق ونحو ذلك.
(ع ِن الع ْي ِن) أي :عن العين؛ َّ
لئَل تصيبه ،وكذا لو علق عىل غير
األوالد من الدواب ،أو السيارات ،أو عىل الكبار؛ َيأخذ نفس الحكم.
223 مقرر الثلث األول
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)17422من حديث عقبة بن عامر الجهني
رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 224
(َ )1ذكر شيخ اإلسَلم عن اإلمام أمحد رمحه ال َّله ف ْعل ذلك .مجموع فتاوى شيخ
ٍ
عباس وأبي اإلسَلم ( ،)64/19وكذا َذكر ابن القيم ف ْعل ذلك عن ابن
النبوي البن الق ييم (.)126/1
ي الطب
ي قَلبة رضي ال َّله عنهما.
شرح كتاب التوحيد 226
مشروع؛ لقول النبي ﷺَ « :فتَدَ َاو ْوا َو َال َتدَ َاو ْوا بِ َح َرا ٍم»(.)3
ٌ ٍ
لمرض؛ فهذا
بمحر ٍم ،مثل :الطَلسم -والعياذ ِ
القسم الثالث :إذا كان التداوي
َّ
محر ٍم -كالخنزير ،أو ٍ
مأكول ٍ
بمشروب أو بسح ٍر ،أو
ْ بال َّله ،-أو
َّ
الخمر .-
ٍ
ثَلث ،رقم ( ،)5681من ( )1رواه البخاري ،كتاب الطب ،باب الشفاء يف
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما. حديث ابن
يه ِش َفا ٌء لِلن ِ
َّاس﴾ ف َأ ْلوانه فِ ِ
اب م ْختَلِ ٌ َ
ِ ِ
( )2قال تعاىلَ ﴿ :ي ْخرج م ْن بطون َها َش َر ٌ
[النحل.]69 :
( )3رواه أبو داود ،كتاب الطب ،باب يف األدوية المكروهة ،رقم ( ،)3874من
حديث أبي الدرداء رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 228
الرقىِ :هي ا َّلتِي تس َّمى العزائِم، لذلك قال المصنف رمحه ال َّله( :و ُّ
مباحة ،وهو( :ما خَل ِمن ٍ وخ َّص ِم ْنه الدَّ لِيل) أي :والدليل أتى بأشيا َء
الش ْر ِك) ،عىل ما سبق التفصيل يف ذلك.
لذلك قال( :فق ْد رخَّ ص فِ ِيه رسول ال َّل ِه ﷺ) أي :بالرقية بالقرآن.
( ِمن الع ْي ِن والحم ِة) أي :لدغة العقرب.
وقولهِ ( :من الع ْين) أي :هذا َيشمل األمراض المعنو يية ،مثل:
السحر ،أو من ضيق الصدر ونحو ذلك. ْ التداوي من المس ،أو من
وقوله( :والحم ِة) َيشمل األمراض الحس يية مثل :الزكام ،أو الوجع
يف السن ونحو ذلك؛ يشرع فيه أيضا الرقية بالقرآن ،أو باألدوية ،أو
باألدعية ،أو بِما جاء من األحاديث.
السحر -والعياذ بال َّله -
ْ ثم قال( :والتولة :ش ْي ٌء) يعني :من أنواع
( ،يضعونه) السحرة؛ (ي ْزعمون أنَّه يحبب الم ْرأة إِلى ز ْو ِجها ،و َّ
الرجل
سمى أحيانا :المشروب ،تصنعه المرأة أحيانا ت ِ ِِ
شربه إِلى ا ْمرأته) ،وي ي
سح ٌرَ ،من ف َعله َيخرج من الدين.
زوجها؛ ليح َّبها؛ وهذا ْ
229 مقرر الثلث األول
رو ْي ِفع! لع َّل الحياة ستطول بِك؛ فأ ْخبِرِ النَّاس أ َّن م ْن عقد لِ ْحيته ،أ ْو تق َّلد
ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة أ ْو ع ْظ ٍم؛ فإِ َّن ُم َّمد ًا برِي ٌء ِم ْنه»).
وتر ًا ،أ ْو ا ْ
أن َمن تع َّلق تميمة
ساق المصنف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان َّ
فالنبي ﷺ بري ٌء منه.
فسر؛ ليكون َ
أبلغ وأردع. وهذا الوعيد يجري عىل ظاهره وال ي َّ
ٍ
حصين رضي ال َّله عنهما. ( )1رواه البزار ،رقم ( ،)3578من حديث عمران بن
( )2رواه النسائي ،كتاب تحريم الدم ،باب حكم السحرة ،رقم ( ،)4079من
حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 230
قال( :لع َّل الحياة ستطول بِك) وطالت الحياة به رضي ال َّله عنه
ب وو َقع، ست ومخسين (َ ،)56فأخبر النبي ﷺ عن ٍ
أمر مغ َّي ٍ حتى سنة ٍّ
فقد تويف يف السنة السادسة والخمسين ( )56من الهجرة.
(فأ ْخبِرِ النَّاس) ُّ
يدل عىل َّ
أن أمور العقيدة يخ َبر هبا عموم الناس سواء
كان جاهَل ،أو عالِما.
ِ ِ
(أ َّن م ْن عقد ل ْحيته) جدي َلة َيجدلها مثل النساء ،ت ي
سمى :العميلة،
وكانوا يعقدوهنا سواء يف الحرب أو غير الحرب ،ومِثل ما يفعل بعض
اليهود من عقد اللحية.
عميلة لل ْحية مِثل عميلة الرأس ،وهذا َيفعله
ٍ فتْل اللحية يعني :ج ْعل
اآلن بعض اليهود يضعون الفتل من قرابة األذن فتجد لهم شعرا طويَل
متدليا من اللحية معقودا.
وجاء النهي عن هذا؛ لعدم مشاهبة اليهود ،فم ْن ف َعل ذلك؛ فصاحبه
توعد بأن النبي ﷺ بري ٌء منه.
م ي
قال( :أ ْو تق َّلد وتر ًا) هذا هو الشاهد( ،تق َّلد وتر ًا) أي :من ع َّلق
تميمة من ٍ
وتر ،وهو الخيط الذي يكون بين طريف القوس.
231 مقرر الثلث األول
ست ْنجى بِر ِجي ِع دابَّ ٍة) َرجيع الدابة :فضَلت الدابة؛ ألنه طعام
(أ ْو ا ْ
ِ
الج ين ،وأخبر النبي ﷺ أهنا ال ت َطهر( ،)1وجاء يف الحديث اآلخر َّ
أن
الروث يكون طعاما لبهائم ِ
الجن(.)2 العظم يكون لحما ِ
للجن ،وأن ْ
(أ ْو ع ْظ ٍم) وكذا ال َع ْظم ،فَل يجوز االستنجاء بالعظم؛ ألنه بإذن ال َّله
اسم ال َّل ِه َع َل ْي ِه»()3؛ ِ ِ
لحم َيطعمه الج َنَ « ،لك ْم ك ُّل َع ْظ ٍم ذك َر ْ
َينقلب إىل ٍ
يعنيَ :ينقلب لحما بإذن ال َّله.
( )1رواه الدارقطني ،كتاب الطهارة ،باب االستنجاء ،رقم ( ،)152من حديث
أبي هريرة رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :إِ َّن النَّبِي ﷺ نَهى َأ ْن يس َتنْجى بِرو ٍ
ث َأ ْو ْ َ َ ْ َ َّ
َع ْظ ٍم ،و َق َال :إِنَّهما َال ت َطهر ِ
ان». َ َ َ
الج ين، ( )2رواه مسلم ،كتاب الصَلة ،باب الجهر بالقراءة يف الصبح والقراءة عىل ِ
اعي مسعود رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ « :أ َتانِي د ِ ٍ رقم ( ،)450من حديث ابن
َ
ال ِجن َف َذ َه ْبت َم َعه َف َق َر ْأت َع َل ْي ِهم الق ْر َ
آن» َق َالَ :فا ْن َط َل َق بِنَا َف َأ َرانَا آ َث َاره ْم َوآ َث َار
اسم ال َّل ِه َع َل ْي ِه َي َقع فِي ِ
الزا َد َف َق َالَ « :لك ْم ك ُّل َع ْظ ٍم ذك َر ْ نِ َيرانِ ِه ْم َو َس َألوه َّ
ف لِدَ َوابك ْمَ .ف َق َال َرسول ال َّل ِه ﷺ: َأ ْي ِديك ْم َأ ْو َف َر َما َيكون َل ْحما َوك ُّل َب ْع َر ٍة َع َل ٌ
« َف ََل َت ْس َتنْجوا بِ ِه َما َفإِنَّه َما َط َعام إِ ْخ َوانِك ْم».
للجن). أن العظم يكون لحما ِ ( )3سبق تخريجه (ص) .عند قوله( :اآلخر َّ
شرح كتاب التوحيد 232
(كان ك ِع ْد ِل رقب ٍة) يعني :كان ثوابه كثواب َمن َأعتق رجَل من النَّار،
ٌ
شرك. بأن َأدخله يف دين اإلسَلمَّ ،
فدل عىل أنَّها
وساق المصنف هذا األثر؛ لبيان ثواب َمن ق َطع تميمة ،وهذا
ٌ
مشروط َّأال َيترتب عليه مفسدة أكبر من ذلك.
فضل إنكار ذلك المن َكر. ُّ
ويدل عىل ْ
ولما َذكر التفصيل يف التمائم؛ َذكر رمحه ال َّله الدليل عىل َّ
أن مجيع َّ
محرمة ،فقال( :وله :ع ْن
َّ التمائم التي تع َّلق من القرآن وغير القرآن
إِبر ِ
اهيم) أي :النخعي( ،كانوا ي ْكرهون) الكراهة هنا :كراهة التحريم؛ ْ
َرب َك َان َسيئه ِعنْدَ
وجل﴿ :ك ُّل َذل ِ َك ك َ
َّ عز
َّ كما قال
233 مقرر الثلث األول
[]٩
باب م ْن تب َّرك بِشجر ٍة أ ْو حجرٍ ون ْح ِو ِهام
الَلت والع َّزى﴾ اآلي ِ
ات. وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :أفرأ ْيتم َّ
ول ال َّل ِه ﷺ ع ْن أبِي واقِ ٍد ال َّل ْيثِي ر ِضي ال َّله ع ْنه قال« :خر ْجنا مع رس ِ
إِلى حن ْي ٍن ،ون ْحن حدثاء عهْ ٍد بِك ْفرٍ ،ولِ ْلم ْشرِكِين ِس ْدر ٌة ي ْعكفون ِع ْندها
وينوطون بِها أسلِحتهم ،يقال لها :ذات أ ْنو ٍ
اط. ْ ْ
ط كام له ْم اجع ْل لنا ذات أ ْنوا ٍ فمر ْرنا بِ ِس ْدر ٍة ،فق ْلنا :يا رسول ال َّل ِه! ْ
السنن ،ق ْلت ْم وا َّل ِذي ِ ٍ
ذات أ ْنواط ،فقال رسول ال َّله ﷺ :ال َّله أ ْكبر! إِنَّها ُّ
﴿اجع ْل لنا إِله ًا كام له ْم آلِه ٌة
سرائِيل لِموسىْ : ِِ ِ
ن ْفسي بِيده ،كام قال ْت بنو إِ ْ
قال إِنَّك ْم ق ْو ٌم ت ْجهلون﴾ ،لت ْركب َّن سنن م ْن كان ق ْبلك ْم» رواه الت ْر ِم ِذ ُّي
وص َّححه.
الشرح:
قال رمحه ال َّله( :باب م ْن تب َّرك بِشجر ٍة أ ْو حجرٍ ون ْح ِو ِهام).
قوله( :باب م ْن) (م ْن) هذه :إما أن تكون َشرطية؛ أي :باب ِ
بيان ي َّ
مش ٌ
رك. بشجر و َح ٍ
جر ونحومها بأنَّه ْ ٍ تبرك
حكم َمن َّ
235 مقرر الثلث األول
ٍ
بشجرة أو ويصح أن تكون موصولة؛ أي :بيان حكم الذي َيتبرك
ُّ
َح ٍ
جر ونحومها.
وقوله( :تب َّرك) التبرك :هو طلب البركة ،ورجاؤها -أي :رجاء أن
تناله البركة ،-واعتقادها -أي :يعتقد يف ذلك الم َت َّبرك به أنه يجلب له
البركة .-
َ
بالتبرك :ج ْلب النفع ،أو د ْفع الضر.
ُّ والمراد
والبركة تنقسم إىل قِسمين: َ
إ يما مِن ال َّله.
وإ يما َبركة بالمخلوقين.
ان َع َلى َع ْب ِد ِه
المبارك؛ قال تعاىلَ ﴿ :ت َب َار َك ا َّل ِذي ن ََّز َل الف ْر َق َ
َ وال َّله هو
ين ن َِذيرا﴾ [الفرقانَ ﴿ ،]1:ت َب َار َك ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه الم ْلك َوه َو َع َلى لِيك َ ِ ِ
ون ل ْل َعا َلم َ َ
كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [الملكَ ﴿ ،]1:ت َب َار َك ا َّل ِذي إِ ْن َشا َء َج َع َل َل َك َخ ْيرا مِ ْن
َّات َت ْج ِري مِ ْن َت ْحتِ َها األَن َْهار َو َي ْج َع ْل َل َك قصورا﴾ [الفرقان]10:؛ َذل ِ َك جن ٍ
َ
مبارك ٌة.
البركة ،فأسماؤه وصفاته وأفعاله َ يعني :تعا َظم َ
وبلغ النهاية يف َ
شرح كتاب التوحيد 236
ِ
مبار ٌك؛ قال تعاىل﴿ :كت ٌ
َاب وكَلمه َّ
جل وعَل -وهو من صفاته -؛ َ
الش ُّر َل ْي َس َأن َْز ْلنَاه إِ َل ْي َك م َب َار ٌك﴾ [صَ ،]29:
والبركة من ال َّله؛ قال ﷺَ « :و َّ
إِ َل ْي َك»(.)1
وكلمة (تبارك) ال تط َلق سوى عىل ال َّله؛ لآليات الثَلث السابقة،
ومل تر ْد كلمة (تبارك) َّإال يف حق ال َّله.
شر ،كما يف وكلمة بعض الناس( :ك ُّلك برك ٌة)؛ ٌ
خطأ ،فاإلنسان فيه ٌّ
الحديثَ « :و َأعوذ بِ َك مِ ْن َشر َن ْف ِسي»(.)2
وكذا( :يفتح هذا من بركاتك) ،أو (فيك َبرك ٌة)؛ ال يصح.
وكذا قول( :تباركت علينا بالزيارة)؛ ال يجوز.
والبركة يف المخلوقين قِسمان:
َ
األول :من البشر.
القسم َّ
القسم الثاين :مِن غير البشر.
فالتي من البشر تنقسم إىل قِسمين:
السنَّة يوم النحر أن يرمي ،ثم ينحر ،ثم ( )1رواه مسلم ،كتاب الحج ،باب بيان َّ
أن ُّ
يحلق واالبتداء يف الحلق بالجانب األيمن من رأس المحلوق،
رقم ( ،)1305من حديث أنس رضي ال َّله عنه.
( )2رواه مسلم ،كتاب الفضائل ،باب طيب عرق النبي ﷺ والتبرك به،
رقم ( ،)2331من حديث أنس رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 238
العجوة.
ِ
القسم الرابع :برك ٌة يف األشربة ،مثل ماء زمز ٍم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة»(.)2
( )1رواه البخاري ،كتاب الدعوات ،باب فضل ذكر ال َّله عز وجل،
رقم ( ،)6408ومسلم ،كتاب الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار ،باب
فضل مجالس الذكر ،رقم ( ،)2689من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
(َ )2سبق تخريجه (ص) ،عند قوله( :ومِثل :زمزم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة).
239 مقرر الثلث األول
(َ )1سبق تخريجه (ص) ،عند قوله( :ومِثل :زمزم «إِن ََّها م َب َار َك ٌة).
241 مقرر الثلث األول
( )1كتاب الحج ،باب ما ذكر يف الحجر األسود ،رقم ( ،)1597ورواه مسلم،
كتاب الحج ،باب استحباب تقبيل الحجر األسود يف الطواف،
رقم (.)1270
شرح كتاب التوحيد 242
ِ
المشركون لهم عدَّ ة (﴿الَلت والعزَّ ى * ومناة الثَّالِثة األ ْخرى﴾)
َّ
أصنام ٍحول الكعبة ،ثَلث مئة وستون صنما ،فبعضهم كان َيتخذ صنما
صنم آخر أكبر منه.
له ،وله أيضا مع غيره أو مع قبيلته ٌ
وجل َذكر يف هذه اآليات ثَلثة أصنا ٍم ،هي من أكبر أصنام
عز َّ
وال َّله َّ
العرب:
(الَلت) :الَلت يف الطائف ،وهي لرج ٍل كان يل ُّت
األولَّ :
الصنم َّ
السويق للح َّجاج.
الصنم الثاين( :والعزَّ ى) :شجر ٌة بين مكة وبين الطائف.
الصنم الثالث( :ومناة) :عند قديد ،بين مكة والمدينة.
الذكَر َو َله األ ْن َثى * تِ ْل َك إِذا قِ ْس َم ٌة ِض َيزى﴾ [النجم،]21-20:
﴿ َأ َلكم َّ
أنَِ ل َّله المَلئكة وهم اإلناث،
فعلتم هذه األمور ،وجعلتم يف ز ْعمكم َّ
ولكم الذكور.
ٍ
حديث رواه البخاري ،كتاب الجهاد والسير ،باب ما يكره من التنازع ) )1ذكر يف
شرح كتاب التوحيد 244
مكة.
قال( :إِلى حني ٍن) وحنين :شرق مكة ،واآلن تسمى الشرائع؛ ٍ
واد يف ي ٌ ْ ْ
الطريق إىل الطائف.
قريب بالكفر و َأسلمنا
ٌ (ون ْحن حدثاء عهْ ٍد بِك ْفرٍ) يعني :ع ْهدنا
خرجنا مع النبي ﷺ ِسرنا. فلما ْ
حديثا؛ أيَّ :
(إِنَّها ُّ
السنن) السنَن أي :الطرق( ،)2بضم السين :سنن؛ أي :طرق،
طريق واحدٌ (.)3
ٌ وبالفتحَ :سنن:
أي :هذه طرق المشركين -والعياذ بال َّله -من بني اسرائيل ،و َمن
قبلهم ،أو بعدهم؛ طلب التبرك بالجمادات.
(ق ْلت ْم وا َّل ِذي ن ْف ِسي بِي ِد ِه) يعني :وال َّله الذي يستطيع ْنزع الروح.
أي :ح َلف النبي ﷺ؛ إنكارا لذلك الشرك.
سرائِيل لِموسى) بنو إسرائيل :هم أوالد يعقوب
(كام قال ْت بنو إِ ْ
عليه السَلم.
ون * إِ َّن
وجل َوصفهم بالجهل فقال﴿ :إِنَّك ْم َق ْو ٌم َت ْج َهل َ عز َّ وال َّله َّ
ون﴾ [األعراف.]139-138: َهؤ َال ِء م َت َّب ٌر َما ه ْم فِ ِيه َو َباطِ ٌل َما كَانوا َي ْع َمل َ
التبرك بالشجر والحجر من الشرك األكبر.
أن ي فدل عىل َّ
ي
***
251 مقرر الثلث األول
[]١٠
اب أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال« :دخل الجنَّة رج ٌل ار ِق ْب ِن ِشه ٍ وع ْن ط ِ
قال :م َّر رجَل ِن على ق ْو ٍم له ْم صن ٌم َّل يجوزه أح ٌد ح َّتى يقرب له
ش ْيئ ًا.
فقالوا ِألح ِد ِهام :قر ْب ،قال :ل ْيس ِع ْن ِدي ش ْي ٌء أقرب ،قالوا له :قر ْب
ول ْو ذباب ًا ،فق َّرب ذباب ًا ،فخ َّل ْوا سبِيله؛ فدخل النَّار.
شرح كتاب التوحيد 252
وقالوا لِ ْْلخرِ :قر ْب ،قال :ما ك ْنت ِألقرب ِألح ٍد ش ْيئ ًا دون ال َّل ِه ع َّز
وج ْل ،فضربوا عنقه؛ فدخل الجنَّة» رواه أ ْحمد.
الشرح:
مل َيذكر المصنف رمحه ال َّله أنَّه من الشرك األكبر؛ لبَ َشاعة هذا
الذنْب ،ولمعرفة أنه شرك أكبر.
ٍ
نصوص: والمصنف رمحه ال َّله َذكر أربعة
األول ﴿( -ق ْل إِ َّن صَلتِي ونسكِي وُمْياي ﴾..اآلية) -؛النَّص َّ
ٌ
شرك. أن الذبح لغير ال َّله
لبيان َّ
والنَّص الثاين – (﴿فصل لِربك وا ْنح ْر﴾) -؛ لبيان َّ
أن الذبح عباد ٌة
فَل يصرف إال ل َّله.
قال( :ع ْن علِي ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :حدَّ ثنِي رسول ال َّل ِه ﷺ بِأ ْرب ِع
ت :لعن ال َّله) اللعن -والعياذ بال َّله :-هو الطرد واإلبعاد من كلِام ٍ
رمحة ال َّله.
وال يجوز ل ْعن المسلِم؛ لقول النبي ﷺَ « :ل ْعن الـم ْؤمِ ِن َك َقتْلِ ِه»(.)1
دابة له ،فقال
وال يجوز أيضا ل ْعن الدواب؛ ألن رجَل لعن ي
ٍ
النبي ﷺ« :ان ِْز ْل َعنْهَ ،ف ََل َت ْص َح ْبنَا بِ َم ْلعون»()2؛ فتَركوها تسير ْ
وحدها.
عز َّ
وجل عىل العبد ،مثل: وكذا ال يجوز ل ْعن النعم التي أغدقها ال َّله َّ
ل ْعن السيارة ونحو ذلك.
قال( :لعن ال َّله م ْن ذبح لِغ ْيرِ ال َّل ِه) أيَّ :
أن َمن َذبح لغير ال َّله فقد
َطرده ال َّله من ْ
رحمته.
ويدل أيضا عىل جواز ل ْعن غير المع َّين ،كقوله – أيضا -عليه
ُّ
السا ِر َقَ ،ي ْس ِرق ال َب ْي َض َة»( ،)1وقال سبحانه:
الصَلة والسَلمَ « :ل َع َن ال َّله َّ
ِِ ِ
ين﴾ [ هود.]18: ﴿ َأ َال َل ْعنَة ال َّله َع َلى ال َّظالم َ
لما ل َعن ألن النبي ﷺ َّ أ َّما ل ْعن المع َّين ،فالراجح :عدم جوازه؛ َّ
صفوان و َمن معه يف الصَلة؛ أنزل ال َّله ﴿ َل ْي َس َل َك مِ َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء َأ ْو
ون﴾ [آل عمران.)2(]128: وب َع َل ْي ِه ْم َأ ْو ي َعذ َبه ْم َفإِنَّه ْم َظالِم َ
َيت َ
أن ال َّله َيلعن بالقول ،كما َيلعن بالف ْعل؛ كما قال
دليل عىل َّ
وفيه ٌ
﴿و َم ْن َي ْل َع ِن ال َّله َف َل ْن َت ِجدَ َله ن َِصيرا﴾ [النساء.]52:
تعاىلَ :
وقوله( :لعن ال َّله م ْن لعن والِد ْي ِه) -والعياذ بال َّله -ف َمن ل َعن
والديه؛ فقد ل َعنه ال َّله؛ لعظيم حقهما وكبير معروفهما.
( )1رواه البخاري ،كتاب الحدود ،باب لعن السارق إذا مل يسم ،رقم (،)6783
ومسلم ،كتاب الحدود ،باب حد السرقة ونصاهبا ،رقم ( ،)1687من
حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
ِ
( )2رواه البخاري ،كتاب المغازي ،باب ﴿ َل ْي َس َل َك م َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء َأ ْو َيت َ
وب
ون﴾ [آل عمران ،]128 :رقم ( ،)4069من َع َل ْي ِه ْم َأ ْو ي َعذ َبه ْم َفإِنَّه ْم َظالِم َ
حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما.
257 مقرر الثلث األول
( )1رواه أبو داوود ،كتاب األدب ،باب يف اللعن ،رقم ( ،)4905من حديث أبي
ت ال َّل ْعنَة إِ َلى الدرداء رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :إِ َّن العبدَ إِ َذا َلعن َشيئا ص ِعدَ ِ
َ َ ْ َ َْ
اء دون ََها ،ث َّم َت ْهبِط إِ َلى األَ ْر ِ
ض َفت ْغ َلق َأ ْب َواب َها اء َفت ْغ َلق َأبواب السم ِ السم ِ
َّ َ َْ َّ َ
دون ََها ،ث َّم َت ْأخذ َي ِمينا َو ِش َماالَ ،فإِ َذا َل ْم َت ِجدْ َم َساغا َر َج َع ْت إِ َلى ا َّل ِذي ل ِع َن،
َان ل ِ َذل ِ َك َأ ْهَل َوإِ َّال َر َج َع ْت إِ َلى َقائِلِ َها».
َفإِ ْن ك َ
شرح كتاب التوحيد 258
ٍ
بدعة ،أو نصره ،أو أ َّيده، أو (ُمْ ِدث ًا) أي :ل َعن ال َّله من آوى صاحب
بلد؛ فالواجب ر ْدعه أو دافع عنه؛ يعني :من فعل بدعة أو أمرا محدَ ثا يف ٍ
َ َ
نصره.
وعدم ْ
وقوله( :لعن ال َّله م ْن غ َّير منار األ ْر ِ
ض) يعني :عَلمات األرض.
خاص وعا ٍّم:
ٍّ وهذا يكون يف ٍ
أمر
خاص :كتغيير معامل ما بينك وب ْين جارك ،كأن يكون هناك
ٍّ ففي ٍ
أمر
حدٌّ ينتهي إليه دارك أو مزرعتك؛ فتغ ييرها.
مكتوب
ٌ أمر عا ٍّم :يف أمور الناس العامة ،مِثل :لوح ٌة إرشادي ٌة
ويف ٍ
عليها (مكة تتجه يسارا) ،فيأيت أحدٌ ويغ ييرها؛ في َتوه المسافر إىل مكة،
ويتجه يمينا.
ٍ
مسلم. قال( :رواه م ْسلِ ٌم) والحديث يف صحيح
وهنا لما َذكر رمحه ال َّله اللعن ِ
لمن ذبح لغير ال َّله؛ َذكر حديثا آخر َّ
أن ْ َّ
َم ْن َفعل ذلك َدخل النَّار.
اب أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال« :دخل الجنَّة
ار ِق ْب ِن ِشه ٍ
قال( :وع ْن ط ِ
اب) ،قد يكون هؤالء من بني إسرائيل ،فقد كان النبي ﷺ رج ٌل فِي ذب ٍ
دخول رج ٍل َ
الجنَّة ،وآخر النَّار!
ٍ
مخس من الدواب فواسق يقتلن يف ( )1رواه البخاري ،كتاب بدْ ء الخلق ،باب
الحرم ،رقم ( ،)3318ومسلم ،كتاب البر والصلة واآلداب ،باب تحريم
تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي ال يؤذي ،رقم ( ،)2619من
حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما.
فضل إزالة األذى عن الطريق،
( )2رواه مسلم ،كتاب البر والصلة واآلداب ،باب ْ
رقم ( ،)1914من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 260
فدل عىل قرب النَّار -والعياذ بال َّله -من اإلنسان وقد ال َيشعر فقد
َّ
فقرب ذبابا فدَ خل النَّار.
مسلماَّ ، كان ْ
(وقالوا لِ ْْلخرِ :قر ْب ،قال :ما ك ْنت ِألقرب ِألح ٍد ش ْيئ ًا دون ال َّل ِه ع َّز
فضربوا عنقه، موحدٌ ،لن َيذبح شيئا لغير ال َّله مط َلقاَ ، مؤمن ي ٌ وج َّل) هذا
مع أنه يجوز له أن َيفعل ذلك لإلكراه؛ كما قال سبحانهَ ﴿ :م ْن َك َف َر بِال َّل ِه
اإليم ِ ِ ِ مِن بع ِد إِ ِ ِ
ان﴾ [النحل ،]106:لكنَّه يمانه إِ َّال َم ْن أك ِْر َه َو َق ْلبه م ْط َمئ ٌّن بِ َ
َ ْ َْ
َجهر بالتوحيد.
الجنَّة شهيدا ِ
وهذا الرجل مل يدَ اهن ال بقلبه وال بلسانه؛ فدَ خل َ
الجنَّة. عز َّ
وجل ،وهذا جزاء الموحد ،وهو دخول َ موحدا ل َّله َّ
ي
قال( :فضربوا عنقه) أي :فمات( ،فدخل الجنَّة) َّ
فدل عىل قرب
الجنَّة من الموحد.
َ
ٍ
شيء أن عاقبة من َذبح لغير ال َّله النَّار ،وأنَّه ال يجوز ْ
ذبح أي وتب َّين َّ
للقبر ،ولو َصغر ذلك المذبوح -سواء دجاجة ،-أو كَبر -كالبعير
مثَل .-
قال( :رواه أ ْحمد).
شرح كتاب التوحيد 262
ٍ
كبعوضة قرب شيئا لغير ال َّله ،ولو يسيرا - دل الحديث عىل َّ
َّ
أنَِ َم ْن َّ
متوسطا -كالغنم أو الدجاج
ي ونحوها ،-أو شيئا كبيرا – كالناقة ،-أو
أو الطير -؛ فإنيه -والعياذ بال َّله -يقع يف الشرك األكبر.
وقلت له :ال َتذبح للصنم.
َ ٍ
شخص، أنكرت عىل
َ يعني :لو
فقال :أنا أع يظم الصنم فقط؛ أذبح تعظيما له ،وليس عبادة.
ٍ
لمحمد ﷺ﴿( :ق ْل إِ َّن عز َّ
وجل يقول فتقول له :الذبح عبادةٌ ،فال َّله َّ
فمن َذبح لغير ال َّله ِ ِ ِ ِ ِ ِ
صَلتي ونسكي وُمْياي وِماتي ل َّله رب العالمين﴾)َ ،
فقد َأشرك.
ِ
ودليَل آخر﴿( :فصل لربك وا ْنح ْر﴾)َ ،
فجعل ال َّله الذبح عبادة،
كما َّ
أن الصَلة عبادةٌ.
والفرق بين الشرك األكبر واألصغر:
ْ
﴿و َق ِد ْمنَا
أن الشرك األكبر يحبِط مجيع األعمال – والعياذ بال َّله َ :- َّ
إِ َلى َما َع ِملوا مِ ْن َع َم ٍل َف َج َع ْلنَاه َه َباء َمنْثورا﴾ [الفرقان.]23:
ين َو َأعَدَّ َله ْم َس ِعيرا * ِ
وي َخ يلد صاحبه يف النَّار﴿ :إِ َّن ال َّل َه َل َع َن ال َكاف ِر َ
ين فِ َيها َأ َبدا﴾ [األحزاب.]64: ِِ
َخالد َ
أ يما الشرك األصغر:
263 مقرر الثلث األول
ٌ
شرك ،ومل يصل إىل الشرك فهو ُّ
كل ما َورد لفظه يف النصوص بأ َّنه
األكبر.
وصاحبه ال يخ َّلد يف النَّار ،وإنما عىل أحد القولين :يكون تحت
المشيئة.
والقول اآلخر :أنَّه ال يغفر له ،فينظر يف حسناته ،ويح َبط منه ،ثم
الجنَّة ،أو َيدخل النَّار ،وال يخ َّلد فيها.
ينظر إذا بقي له من حسناته؛ َيدخل َ
و َمن ذبح لغير ال َّله؛ فهو خالدٌ -والعياذ بال َّله -يف النَّار ،ال َيدخل
الجنَّة ،وال َيجد ريحها.
َ
***
شرح كتاب التوحيد 264
[]11
ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه
اب َّل ي ْذبح ل َّل ِه بِمك ٍ
ب ٌ
وق ْول ال َّل ِه تعالىَّ﴿ :ل تق ْم فِ ِيه أبد ًا﴾ اآلية.
اك ر ِضي ال َّله ع ْنه قال« :نذر رج ٌل أنْ ي ْنحر إِبِ ً
َل الضح ِ ِ
ع ْن ثابِت ْب ِن َّ َّ
اهلِ َّي ِة
ان الج ِ
بِبوانة ،فسأل النَّبِ َّي ﷺ؟ فقال :ه ْل كان فِيها وث ٌن ِم ْن أ ْوث ِ
ف بِن ْذ ِرك ،فإِنَّه َّل وفاء لِن ْذ ٍر فِي فقال رسول ال َّل ِه ﷺ :أ ْو ِ
ِ ِ ِ ِ ِ
سناده على م ْعصية ال َّله ،وَّل فيام َّل ي ْملك ا ْبن آدم» رواه أبو داود ،وإِ ْ
ش ْرطِ ِهام.
الشرح:
ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه).
اب َّل ي ْذبح لِ َّل ِه بِمك ٍ
قال رمحه ال َّله( :ب ٌ
أنَِ من أنواع الشرك :الذبح لغير ال َّله؛
لما َذكر المصنف رمحه ال َّله َّ
َّ
َأع َق َبه بعد ذلك يف بيان خطورة الذبح لغير ال َّله ،بذكْر َّ
أن المكان الذي
أي ذبحٍ ل َّله سبحانه وتعاىل ،حتى ذبح فيه لغير ال َّله؛ ال يجوز ْ
أن يف َعل فيه ُّ ي َ
265 مقرر الثلث األول
ٍ
عقيقة لولده، ذبحقصد الذابح حسنا ،كإظهار شعيرة الذبح ،أو ْ
وإن كان ْ
عبادات؛ فَل يجوز أن تف َعل يف مكان
ٌ ضيفْ ،
وإن كانت تلك ٍ أو يف إكرام
ذبح فيه لغير ال َّله.
و َذكر المصنَّف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان تحريم الذبح ل َّله يف
ٍ
مكان يذبح فيه لغير ال َّله.
أن النَّذر لغير ال َّله ال يجوز. ٍ
تأكيد عىل َّ ويريد منه أيضا مزيد
ٍ
بشرك؛ فمن باب ٍ
مكان ذبح فيه ْ
فإن كانت الطاعة ال يجوز ف ْعلها يف
َأوىل النَّذر لغير ال َّله ال يجوز.
ان ي ْذبح فِ ِيه لِغ ْيرِ ال َّل ِه) أيَّ :
أن اب َّل ي ْذبح لِ َّل ِه بِمك ٍ
قال رمحه ال َّله( :ب ٌ
ٌ
شرك؛ وفيه من شعائر المشركين. العبادة هي ل َّله لكن المكان فيه
والنهي للتحريم؛ ألنه وسيل ٌة -والعياذ بال َّله -إىل الشرك ،وسواء
كانت هذه العبادة ذبحا ،أو صَلة ،أو غير ذلك.
بشاة فذهب عند ٍ
قبر ٍ شخص أن يضحي يوم العيد مِثل :لو أراد
ٌ
ٍ
مكان فيه وذبحها عنده ،وإن كان يقصدها ل َّله ،لكن ال يجوز أن تفعل يف
ٍ
شرك. ٌ
شرك أو مظنَّة
شرح كتاب التوحيد 266
أقيم لغير ال َّله ،ومقاصدهم فيه كما قال سبحانهَ ﴿ :وا َّل ِذي َن ا َّت َخذوا
ين َوإِ ْر َصادا ل ِ َم ْن َح َار َب ال َّل َهِِ ِ
َم ْس ِجدا ض َرارا َوك ْفرا َو َت ْف ِريقا َبيْ َن الم ْؤمن َ
ِ
فأسسوا مسجدا ،لكن لفساد ن ييتهم؛ َو َرسو َله م ْن َق ْبل﴾ [التوبة ،]107:ي
َأصبح هذا المحسوس -المسجد -ال يجوز ْ
أن تقام فيه العبادة ،وهذه
مكان للكفر -والعياذ بال َّله -فَل يجوز أن يص َّلى فيه.
ٌ ات قبيح ٌة؛ فهو
ن َّي ٌ
وكذا ال تجوز الصَلة يف الكنائس إذا كانوا يظهرون الشرك فيها.
أن النية تؤ يثر حتى يف البقاع ،فهذا مسجدٌ ،وأل َّن النية فيه
فدل عىل َّ
ي
( )1منها ما رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)22805من حديث سه ٍل رضي ال َّله
ول ال َّل ِه ﷺ فِي ال َم ْس ِج ِد ا َّل ِذيف َرج ََل ِن َع َلى َع ْه ِد َرس ِ اخ َت َل َ
عنه ،ولفظهْ « :
الرس ِ ِ
ولَ ،و َق َال اآل َخر :ه َو أس َس َع َلى ال َّت ْق َوى؟ َف َق َال َأ َحده َما :ه َو َم ْسجد َّ
مس ِجد قب ٍ
اءَ ،ف َأ َت َيا النَّبِ َّي ﷺ َف َس َأ َاله َف َق َال " :ه َو َم ْس ِج ِدي َه َذا». َ َ ْ
( )2منها ما رواه أبو داود ،كتاب الطهارة ،باب يف االستنجاء بالماء ،رقم (،)44
من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :ن ََز َل ْت ه ِذ ِه اآلية فِي َأه ِل قب ٍ
اء: ْ َ َ َ
يه﴾ يعود عىل ون َأ ْن ي َت َطهروا﴾» .والضمير يف قوله ﴿فِ ِ يه ِرج ٌال ي ِ
ح ُّب َ ﴿فِ ِ
َ َّ َ
مسجد قباء.
269 مقرر الثلث األول
وهو ق ْبل مدينة أملج اآلن للذاهب من مكة إىل أملج عىل ساحل البحر
األمحر.
موجودا؟
فدل عىل َّ
أن المكان حتى ولو أزيل منه معامل الشرك؛ ال (قالواَّ :ل) َّ
يجوز أن تقام فيه طاع ٌة.
اد ِه ْم؟) أي :أن الشرك ليس فيه
(قال :ه ْل كان فِيها ِع ٌيد ِم ْن أ ْعي ِ
(وَّل فِيام َّل ي ْملِك ا ْبن آدم) مِثل :لو نذر رج ٌل أن يبيع سيارة ِ
جاره
وهو ال يملكها؛ فَل ِ
يوف بنذره؛ ألنَّه ال وفاء فيما ال َيملكه؛ وإنَّما عليه
كفارة ٍ
يمين.
أن أخرج من مايل مئة ٍ
ريال؛ نقولَ :يلزم إذا كان نذر ْ
عيل ٌ
ولو قال :ي
يف الطاعة.
وكذلك الصَلة عند القبر قاصدا التوجه للقبر؛ قال شيخ اإلسَلم
رمحه ال َّله« :هذا عين المحا يدة -أي :العصيان -ل َّله ولرسوله»(.)1
أن عمر بن الخطاب رضي ال َّله عنه قال:
لذلك يف صحيح البخاري َّ
«ال َق ْب َر ال َق ْب َر»()2؛ يعني ال تصلي إىل القبر.
وإذا كان هذا الوعيد فيمن َيعبد ال َّله يف مكان ك ْف ٍر؛ فما ظنُّك بمن
يشرك بال َّله و َيكفر يف تلك األمكنة -والعياذ بال َّله .-
فدل عىل َّ
أن األماكن تتفاضل بالطاعة ،وأن الشرك يفسد عىل أهل َّ
الطاعة طاعاهتم يف األرض.
[]12
اب ِمن الش ْر ِك النَّ ْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه
ب ٌ
لِق ْولِه﴿ :يوفون بِالن َّْذ ِر﴾.
وق ْولِ ِه﴿ :وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾.
حيحِ :ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله ع ْنها ،أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال: وفِي الص ِ
َّ
«م ْن نذر أنْ يطِيع ال َّله ف ْليطِ ْعه ،وم ْن نذر أنْ ي ْع ِصي ال َّله فَل ي ْع ِص ِه».
الشرح:
اب ِمن الش ْر ِك) أي :من أنواع الشرك األكبر.
قال رمحه ال َّله( :ب ٌ
فم ْن نَذر شيئا لغير ال َّله؛ فقد ارتكب هذا الشرك األكبر. َ
(الن َّْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه) الن َّْذر :هو إيجاب اإلنسان عىل ن ْفسه ما مل يجب
عليه يف أصل الشرع(.)1
ٍ
بريال. نذر أن أتصدق َّ
كل يو ٍم مِ
عيل ٌ
َّ : قال شخصا أن لو : ثل
نذ ٌر ،وهذا الشخص َأوجب عىل ن ْفسه هذا األمر ،وصدق ٌة يف هذا ْ
بريال مل ي ِ
وجبها الشرع. ٍ كل يو ٍم
ٌ
شرك. أن أذبح للقبر الفَلين؛ فهذا نذ ٌر عيل ْ
شخصْ :
ٌ مثل :لو قال
َّ
ولهذا ِ
القسم َّبوب المصنَّف رمحه ال َّله هذ الباب.
فم ْن ن ََذ َر لغير ال َّله ٌ
شرك أكبرَ ، وال انقسام فيه؛ يعني :عىل كل أحواله
شيئا؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر.
َّذر عبادةٌ ،فإذا تب يين لك أنَّه وساق فيه آيتين وحديثا؛ ليب يين َّ
أن الن َ
ٌ
شرك. صرفه لغير ال َّله
عبادةٌ ،فإذا ْ
اآلية األولى – (﴿يوفون بِالن َّْذ ِر﴾) -؛ لبيان َّ
أن الن َّْذر المشروع
عز َّ
وجل من َوىف به األجر. عباد ٌة يكافئ ال َّله َّ
وساق اآلية الثانية – (﴿وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر
فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾) -؛ لبيان َّ
أن النَّذر عباد ٌة قرين الصدقة.
وساق الحديث – حديث عائشة رضي ال َّله عنها -؛ لبيان أنَّه إذا
معصية -وأعظم ذلك: ٍ وإن كان يف ٍ
طاعة؛ فيو َّفي بهْ ، كان النذر يف
الشرك -؛ فإنيه ال يجوز أن يوفي به.
قال عن اآلية األوىل( :لِق ْولِ ِه) ،وهذا هو الموضع الوحيد يف كتاب
التوحيد الذي قال فيه المصنَّف( :لِق ْولِ ِه) ،و َذكر هذه العبارة؛ إلثبات َّ
أن
275 مقرر الثلث األول
ٍ
بعبادة حتى ألن بعض من ينذر لغير ال َّله يقولَّ :
أن النَّذر ليس النَّذر عبادةٌ؛ َّ
يكون شركا ،فأثبت المصنَّف رمحه ال َّله َّ
أن النَّذر عبادةٌ.
أن مِن ِ ِ
لذلك قال( :لق ْوله﴿ :يوفون بِالن َّْذ ِر﴾) ثنا ٌء ألهل َ
الجنَّة ب َّ
يوجب
أعمالهم أنَّهم يوفون بالنَّذر ،فإذا كانوا يوفون بالنَّذر ،وهو مل َ
عليهم ،وإنما َأوجبوه هم عىل أنفسهم؛ ِ
فمن باب َأوىل أنَّهم يوفون بما
ٍ
وزكاة ونحو ذلك. ٍ
صَلة ،وصيا ٍم، َأوجب ال َّله عليهم ،من
وجل ال يثني عىل ٍ
فريق؛ إال لعمل الطاعات. عز َّ
وال َّله َّ
فدل ثناء ال َّله عليهم عىل َّ
أن النَّذر عبادةٌ ،وإذا كان عبادة فَل تصرف ي
فمن صرفه لغير ال َّله و َق َع يف الشرك األكبر.
إال ل َّلهَ ،
حج لغير ال َّله ،كأ ْن
شخص الصَلة لغير ال َّله ،أو ي
ٌ ف
كما لو َص َر َ
ويل – كما يزعم ،-أو ن ََذر ْ
أن يضع نورا أو طيبا يذهب ويطوف عىل قبر ٍّ
أن أضع طيبا أو شمعانذ ٌر عيل ْ أو أقمشة عند القبر الفَلين مِثل ْ
أن يقولْ :
ي
أو أتصدي ق بمبل ٍغ للقبر الفَلين ،أو للويل الفَلين.
وكما قال شيخ اإلسَلم رمحه ل َّله« :النَّذر لغير ال َّله أ ْعظم يف الحرمة
عظيم شديدٌ
يمين معقودةٌ ،فيها ت ٌ
ٌ من الحلِف بغير ال َّله»()1؛ أل َّن النَّذر
عظيم ْ
بأن أتصدي ق ٌ للمنذور ،فكأنك تقول :لك نذرت يا رب؛ ألنك
ٍ
لميت ،فإنه قد َعقد التعظيم يف قلبه بعشرة رياالت ،فكذلك َمن َ
نذر
صرفه تلك العبادة لغير ال َّله.
لذلك الميت ،فكان شركا يف ْ
وحكم النَّذر إذا كان ل َّله ،ينقسم إىل قِسمين:
عيل نذر االختبار يف نجحت إن : مثل ق، األول :النَّذر المع َّ
ل سم ِ
الق
َّ ٌ َّ
ٍ
رياالت. أن أتصدَّ ق بعشرة
وهذا النَّذر مكرو ٌه؛ ألن النبي ﷺ نَهى عن النَّذر ،وقال« :إِن ََّما
َخرج بِ ِه مِن الب ِ
خي ِل»(. )2 َ َ ي ْست ْ َ
عيل أن والقسم الثاين :النذر المط َلق ،مِثل :لو قال ِ
نذر َّ
شخصٌ : ٌ
شفاء ،أو ٍ ٍ
شيء من نجاحٍ ،أو فنذره هنا ليس مقابلأصلي اآلن ركعتينْ ،
غير ذلك.
عز َّ
وجل قال شيخ اإلسَلم عن هذا النوع« :وهذا الذي أثنى ال َّله َّ
ون بِالن َّْذ ِر﴾»(.)1
عىل الموفين به ،فقال﴿ :يوف َ
ٍ
شيء إال إذا كان عبادةَّ ، عز َّ
فدل عىل أن النَّذر وجل ال يثني عىل وال َّله َّ
عبادةٌَ ،فأثنى ال َّله عىل المؤدين له.
قال( :وق ْولِ ِه﴿ :وما أ ْنف ْقت ْم ِم ْن نفق ٍة﴾) سواء كانت واجبة ،أو نافلة؛
فإن ال َّله َيعلمها ،وهو يكافئ عليها سبحانه وتعاىل.
(﴿أ ْو نذ ْرت ْم ِم ْن ن ْذ ٍر فإِ َّن ال َّله ي ْعلمه﴾) أي :ويكافئكم عليه
ويجازيكم به.
دل عىل َّ
أن النَّذر عباد ٌة كالصدقة فمجازاته عليه ،وتوفيته أجورهم؛ َّ
واإلنفاق ،فكما َّ
أن البذل واإلنفاق ،والصدقة عىل الفقراء عبادةٌ ،فكذلك
النَّذر عباد ٌة.
صرفه لغير ال َّله فهو
فإذا كان عبادة؛ فإنه ال يصرف لغير ال َّله ،و َمن َ
ٌ
شرك أكبر.
نذر
قسيم -؛ أي :ليس هناك ٌ
ٌ كالتبرك ليس له
ي والنَّذر لغير ال َّله
ٌ
شرك أكبر ،-وإنما ك ُّله -والعياذ ونذر لغير ال َّله
ٌ ٌ
شرك أصغر لغير ال َّله
ٌ
شرك أكبر. بال َّله -
حيحِ :ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله ع ْنها ،أ َّن ثم قال( :وفِي الص ِ
َّ ي
رسول ال َّل ِه ﷺ قال« :م ْن نذر أنْ يطِيع ال َّله ف ْليطِ ْعه).
ٍ
طاعة، فدل عىل أنه عبادةٌ ،وأنه يجب الوفاء بالنذر إذا كان ل َّله ويف
َّ
ٍ
مقدور عليه. بذل أو ٍ
أمر ٍ
كصدقة أو ٍ
يمين ،وهي إطعام عشرةو َمن مل َيقدر عىل ذلك األمر؛ فليك يفر ك يفارة ٍ
مساكين ،أو كسوهتم ،أو تحرير ٍ
رقبة ،فإذا مل يستطع فيصوم ثَلثة أيا ٍم
ٍ
متتابعات.
عيل أن أسرق؛ فَل يجوز نذر يقول: كأن ، ٍ
معصية وإذا كان ل َّله ويف
َّ ٌ
أن يويف به.
قال( :وم ْن نذر أنْ ي ْع ِصي ال َّله فَل ي ْع ِص ِه).
سواء كان يف أصل النَّذر بأن َجعله لغير ال َّله.
نذر عيل أن أتصدَّ ق لهذا القبر؛ لج ْلب النفع ،أوْ :
نذ ٌر يقول: أن ثلمِ
َّ ٌ
عيل أن أصلي لهذا القبر.
َّ
279 مقرر الثلث األول
ٌ
شرك يف أصله -والعياذ بال َّله .- هذا
أو كان النَّذر يف معصية ال َّله؛ فَل َيعصه.
عص ال َّله ،ويصلي ،ومِن باب
أن َيترك الصَلة ،فَل َي ِ
إن َن َذ َر ْ
مثلْ :
َأ ْو َلى َمن ن ََذر لغير ال َّله؛ فيحرم الوفاء به؛ أل َّن النذر عبادةٌ ،وإذا كان عبادة؛
ٌ
شرك. يحرم الوفاء به ،وهو
وإذا ع ِقدَ النذر لغير ال َّله؛ فليس فيه ك َّفار ٌة -والعياذ بال َّله .-
ٍ
معصية كالسرقة؛ ففيه ك َّفار ٌة. وإذا عقد ل َّله ويف
فساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الحديث ،ليب يين هذين األمرين،
ومها:
األولَّ :
أن النَّذر عباد ٌة يجب الوفاء به ،كالوضوء والصَلة. األمر َّ
ٍ
معصية ،كذلك ال يجوز األمر الثاين :أنَّه ال يجوز ْ
أن يوف َي بالنَّذر يف
أن يو يف َي بالنَّذر إذا كان شركا لغير ال َّله.
ْ
صرفه لغير ال َّله فقد اقتَرف الشرك ودل عىل أنه عبادةٌ ،و َّ
أن َمن َ ي
األكبر – والعياذ بال َّله .-
شرح كتاب التوحيد 280
[]1٣
واالستعاذة تكون قبل وقوع األمر؛ فتستعيذ بال َّله َّأال يقع عليك
سح ٍر أو ٍ
عين وغيره. المكروه من ْ
وتكون أيضا بعد وقوع األمر؛ ْ
أن تستعيذ من شرور ما َوقع فيك.
واالستعاذة تنقسم اىل ثَلثة أقسا ٍم:
﴿وق ْل ِ
األول :االستعاذة بال َّله ،وهي واجب ٌة؛ قال سبحانهَ :
القسم َّ
ين﴾ [المؤمنون ،]97:وقال سبحانه:الش َياطِ ِ
ات َّرب َأعوذ بِ َك مِن َهم َز ِ
ْ َ َ
﴿ق ْل َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق﴾ [الفلق ،]1:وقال﴿ :ق ْل َأعوذ بِ َرب
الر ْح َم ِن مِن َْك﴾ [مريم.]18:
َّاس﴾ [الناس ،]1:وقالت مريم﴿ :إِني َأعوذ بِ َّ
الن ِ
( )1رواه البخاري ،كتاب أحاديث األنبياء ،باب ،رقم ( ،)3371من حديث ابن
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما.
( )2رواه البخاري ،كتاب أحاديث األنبياء ،باب ،رقم ( ،)3371من حديث ابن
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما.
283 مقرر الثلث األول
إال ال َّله ،مِثل :أن تستعيذ بال َّله من النَّار ،ومِن شرور ن ْفسك.
ومِن استعاذ بغير ال َّله فيما ال يقدر عليه إال ال َّله؛ َوقع يف الشرك
ٍ
بميت. ٍ
بغائب ،أو األكبر؛ كاالستعاذة
شخص إىل آخر ،وقال لهْ :
أعذين من شر ذنوبي. ٌ مِثل :لو َذهب
ومثال الغائب :استعاذة اإلنسان ِ
بالجني ،كأن يقول :يا جن يي ْ
أعذين
من اإلنس أو من ِ
الج ين -والعياذ بال َّله .-
ومثال االستعاذة باألموات؛ كأن يأيت شخص إىل ٍ
ميت؛ فيقول: ٌ
ْ
أعذين من شر أوالدي.
ٌ
شرك أكبر. فهذه
واالستعاذة بغير ال َّله فيما ال يقدر عليه إال ال َّله ليس لها قسيم؛ أي:
ٌ
شرك أكبر ليس فيها أصغر. إنما هي
ِ
والقسم الثالث -من أنواع االستعاذة :-استعاذ ٌة َيقدر عليها
البشر ،وهي االستعاذة بالحي الحاضر القادر.
شرح كتاب التوحيد 284
وهذه تجوز ،والدليل عىل ذلكَ « :أ َّن ا ْم َر َأة مِ ْن َبنِي َم ْخزو ٍم َس َر َق ْت،
َفأتِ َي بِ َها النَّبِ ُّي ﷺَ ،ف َعا َذ ْت بِأم َس َل َم َة َز ْوجِ النَّبِي ﷺَ ،ف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ:
َت َفاطِ َمة َل َق َط ْعت َيدَ َهاَ .فقطِ َع ْ
ت»(.)1 َوال َّل ِه َل ْو كَان ْ
ومِثل :لو أن طفَل َيضرب طفَل وأنت رج ٌل كبير ،وأتاك هذا الطفل
ضرب هذا الطفل؛ فتجوز هذه
قادر :-أعذين من ْ
وقال لك -وأنت ٌ
اللفظة.
أعذين من هذه الشوكة؛ فهو َيقدر أ ْن ومِثلْ :
أن تقول لصاحبكْ :
خلت سيارة وأغلق باهبا ،فيستطيع أن َيفتحه
يخرجها منك ،وكذا لو َد َ
لك.
أعذه مما هو فيه؛ ٍ
لشخصْ : أ يما ْ
إن كان الشخص مصروعا ،ويقال
فهذا ال يقدر عليه إال ال َّله.
والمصنَّف رمحه ال َّله ذكر يف هذا الباب آية وحديثا:
( )1رواه مسلم ،كتاب الحدود ،باب ق ْطع السارق الشريف وغيره ،والنهي عن
الشفاعة يف الحدود ،رقم ( ،)1689من حديث جابر بن عبد ال َّله
رضي ال َّله عنهما.
285 مقرر الثلث األول
وهكذا َمن تع َّلق بغير ال َّله من السحرة ونحوهم؛ يخوفونه ليتع َّلق
هبم أكثر؛ ليفسدوا عقيدته ،ويأخذوا أمواال بالباطل منه.
تضر. ٌ
شرك أكبر ،وأنَّها ال َتنفع بل ُّ أن االستعاذة بغير ال َّله
فدل عىل َّ
َّ
فمن استعاذ بغير ال َّله زاد ضرره.
﴿و َم ْن َي ْعت َِص ْم بِال َّل ِه َف َقدْ ه ِد َي ِ
و َمن استعاذ بال َّله عصم؛ قال تعاىلَ :
يم﴾ [آل عمران.]101: اط م ْست َِق ٍ
إِ َلى ِصر ٍ
َ
قال تعاىل﴿ :ق ْل َأعوذ بِ َرب ال َف َل ِق * مِ ْن َشر َما َخ َل َق * َومِ ْن َشر
اس ٍد إِ َذا
ات فِي الع َق ِد * ومِن َشر ح ِ
َ َ ْ
اس ٍق إِ َذا و َقب * ومِن َشر النَّ َّفا َث ِ
َ ْ َ َ
َغ ِ
ٍ
حكيم» .مسند ِ
زعمت المرأة الصالحة خولة بنت( )1بلفظ« :
287 مقرر الثلث األول
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)51من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
289 مقرر الثلث األول
( )1هو :أبو عبد ال َّله محمد بن أمحد بن أبي بكر بن ْفرح األنصاري الخزرجي
المفسرين طبقات سنة (671هـ). تويف القرطبي. المالكي
للسيوطي ( ،)92/1طبقات المفسرين للداوودي (.)70/2
ٍ
مسلم ،للقرطبي (.)36/7 ِ
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب ()2
المعوذتين ،رقم (،)1463
ي ( )3رواه أبو داود ،باب تقريع أبواب الوتر ،باب يف
من حديث عقبة بن عامر رضي ال َّله عنه.
( )4سبق تخريجه (ص) عند قوله (وكان إبراهيم عليه السَلم يعوذ أبناءه).
شرح كتاب التوحيد 290
قال ابن القيم رمحه ال َّله« :وحاجة العبد إىل االستعاذة هباتين
السورتين أحوج إليه من الطعام والشراب»(.)1
الصبح( ،)2غاسق :القمر ،وما يف الليل(َ ،)3وقب:
ومعنى الفلقُّ :
َخرج ،النفاثات :السواحر(.)4
شر إال وذكِر يف هذه السورة. ِ
فما من ٍّ
ِ
والجن. َّاس﴾ ،استعاذة ٌمِن شرور اإلنس ﴿مِ ْن َشر ال َو ْس َو ِ
اس ال َخن ِ
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما. ( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)2669من حديث ابن
شرح كتاب التوحيد 292
[]1٤
اب ِمن الش ْر ِك أنْ ي ْست ِغيث بِغ ْي ِر ال َّل ِه؛ أ ْو ي ْدعو غ ْيره
ب ٌ
ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك وَّل يض ُّرك
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :وَّل ت ْدع ِم ْن د ِ
اشف له فإِنْ فع ْلت فإِنَّك إِذ ًا ِمن ال َّظالِ ِمين * وإِنْ يمسسك ال َّله بِضر فَل ك ِ
ْ ْ
إِ ََّّل هو﴾ اآلية.
اعبدوه﴾ اآلية. وق ْوله﴿ :فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ
وق ْوله﴿ :وم ْن أض ُّل ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ
ون ال َّل ِه م ْن َّل ي ْست ِ
جيب له إِلى َّ
القيام ِة﴾ اآليت ْي ِن.
ي ْو ِم ِ
ِ وق ْوله﴿ :أ َّم ْن ي ِ
السوء﴾ اآلية. جيب الم ْضط َّر إِذا دعاه وي ْكشف ُّ
روى ال َّطبرانِ ُّي« :أنَّه كان فِي زم ِن ال َّنبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي المؤْ ِمنِين.
ول ال َّل ِه ﷺ ِم ْن هذا المنافِ ِق.فقال ب ْعضه ْم :قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ
فقال النَّبِ ُّي ﷺ :إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّل ِه.
الشرح:
َذكر المصنف رمحه ال َّله يف هذه الترمجة :االستغاثة والدعاء.
أعم من االستغاثة ،فك َّلما َ
قلت :يا رب؛ فهذا دعا ٌء. والدعاء ي
شرح كتاب التوحيد 294
فإذا قيل لك :ما هو الدليل عىل أ َّنه يجوز االستغاثة بالبشر؟
اس َت َغا َثه ا َّل ِذي مِ ْن ِشي َعتِ ِه َع َلى
تقول :كما قال ال َّله عز وجلَ ﴿ :ف ْ
وسى َف َق َضى َع َل ْي ِه﴾ [القصص.]15: ِ ِ ِ
ا َّلذي م ْن َعدوه َف َوك ََزه م َ
وأ يما االستغاثة فيما ال يقدر عليه إال ال َّله ،إذا طلِبت من البشر؛ فهذا
ٌ
شرك أكبر.
ٍ
كاهن ٍ
بساحر أو كمن يكون مريضا ،طريح الفراش ،ويستغيث أهله
َ
يف َّأال َتخرج روحه.
أمر ال يقدر عليه إال ال َّله ،فَل َيملك البشر ْنزع الروح أو ردها فهذا ٌ
لبدن ذلك المريض؛ كما قال تعاىلَ ﴿ :ف َلو َال إِ َذا ب َل َغ ِ
ت الح ْلقو َم * َو َأنْت ْم َ ْ َ
ون * َون َْحن َأ ْق َرب إِ َل ْي ِه مِنْك ْم َو َلكِ ْن َال ِحينَئِ ٍذ َتنْظر َ
ت ْب ِصر َ
ون﴾ [الواقعة.]85-83:
ٌ
شرك أكبر. فاالستغاثة بغير ال َّله ،فيما ال يقدر عليه إال ال َّله؛
دعوت غير ال َّله بما ال يقدر عليه سوى ال َّله؛ أيضا شر ٌك
َ كذلك لو
أكبر.
شرح كتاب التوحيد 296
والنصارى.
قادر ،مِثل ْ
أن تقول له :أعطني قلما؛ فهذا حاضر ٌ
ٌ إن دعو َته وهو
أ َّما ْ
﴿و َت َع َ
اونوا أمر ليس شرك ييا؛ وإنما مباحا ،والدليل عىل إباحته قوله تعاىلَ :
ٌ
َع َلى البِر َوال َّت ْق َوى﴾ [المائدة.]2:
أن من دعا غير ال َّله
تدل عىل َّ و َذكر المصنَّف رمحه ال َّله ثَلث ٍ
آيات ُّ
ٌ
شرك أكبر. فيما ال يقدر عليه إال ال َّله فإنه
و َذكر آية يف االستغاثة.
و َذكر الحديث يف االستغاثة فيما ال يقدر عليه إال ال َّله.
نوع من أنواع الدعاء ،فهو من ع ْطف العام -أي:
فاالستغاثة ٌ
الدعاء -عىل الخاص -وهو االستغاثة ـ.
ٍ
زيادة يف الرزق مثَل ،ومنه ما هو يف حال َّ
فإن الدعاء منه ما هو طلب
ٍ
كغريق. ٍ
شدة،
297 مقرر الثلث األول
واالستغاثة بغير ال َّله ،ودعاء غير ال َّله مها أكثر ما يقع بين الناس يف
الشرك -والعياذ بال َّله -مِن دعائهم لألصنام مثَل ،أو دعائهم األموات
ونحو ذلك.
وحده سبحانهلربه ْ
توجه دعاء اإلنسان ي
ودعوة مجيع الرسل أن َي َّ
وجمع بينهما المصنَّف يف ٍ
وتعاىل ،سواء كان طلب نفعٍ ،أو طلب غوثَ ،
هذا الباب؛ َّ
ألن من يدعو ال يخلو إ َما أن يكون دعاءه طلبا ،أو تفريج
ٍ
كربة.
ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك
و َذكر المصنَّف اآلية األولى – (﴿وَّل ت ْدع ِم ْن د ِ
عز َّ
وجل هو الذي يستغاث به يف الشدائد كما أن ال َّله َّ
السوء﴾) -؛ لبيان َّ
ُّ
يستغاث به يف الرخاء.
والنَّص الخامس – (إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّله) -؛
أن االستغاثة التي ال َيقدر عليها إال ال َّله ال تصرف حتى لألنبياء. لبيان َّ
والمصنَّف رمحه ال َّله قال يف اآلية األوىل( :وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :وَّل
ون ال َّل ِه ما َّل ي ْنفعك وَّل يض ُّرك فإِنْ فع ْلت فإِنَّك إِذ ًا ِمن
ت ْدع ِم ْن د ِ
ال َّظالِ ِمين * وإِنْ يمسسك ال َّله بِضر فَل ك ِ
اشف له إِ ََّّل هو﴾). ْ ْ
ون ال َّل ِه) أي :أي ٍ
أحد غير ال َّله، (﴿وَّل ت ْدع) أي :يا محمد ( ِم ْن د ِ
ي
(ما َّل ي ْنفعك) يعني :إذا دعو َته لن يعطيك سؤلك وال حاجتك( ،وَّل
واستكبرت
َ تركت دعوته ،ولكن لو مل تدع ربك،
َ يضرك لو
يض ُّرك) ال ي
يضرك ذلك.
عن عبادته؛ ي
ودعوت غير ال َّله؛ (﴿فإِنَّك إِذ ًا ِمن ال َّظالِ ِمين﴾) ،كما
َ (فإِنْ فع ْلت)
ِ
يم﴾ [لقمان.]13: قال سبحانه﴿ :إِ َّن الش ْر َك َلظ ْل ٌم َعظ ٌ
فظ ْلم العبد لن ْفسه بالشرك أعظم من ْ
أن َيظلم اآلخرين ويأخذ
أموالهم و َيهتك أعراضهم؛ فكونه أشرك بال َّله فهذا أعظم الظلم.
299 مقرر الثلث األول
وجل يف ذلك فقال﴿( :وإِنْ ي ْمس ْسك ال َّله بِضر فَل عز َّ فصل ال َّله َّ ث يم ي
أن الذي َيملك اشف له إِ ََّّل هو وإِنْ يرِ ْدك بِخ ْيرٍ فَل را َّد لِف ْضلِ ِه﴾) أيَّ :
ك ِ
وحده، الخير ود ْفع الضر هو ال َّله وحدَ ه؛ فيجب أن َيتع َّلق المرء بال َّله ْ
َّاس مِ ْن َر ْح َم ٍة َف ََل
ضر يرفعه ال َّله عنك؛ كما قالَ ﴿ :ما َي ْف َتحِ ال َّله لِلن ِ ي
فكل ٍّ
﴿وإِ ْن ِ ِ ِ ِ ِ ِ
م ْمس َك َل َها َو َما ي ْمس ْك َف ََل م ْرس َل َله م ْن َب ْعده﴾ [فاطرَ ،]2:
خ ْي ٍر َفه َو َع َلى كل ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن َي ْم َس ْس َك بِ َ يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ
َاش َ ٍّ َْ َ ْ
َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [ األنعام.]17:
صَلة َيقول« :ال َّله َّم َال َمانِ َع ل ِ َما َأ ْع َط ْي َتَ ،و َال ٍ والنبي ﷺ َب ْعدَ كل
م ْعطِ َي ل ِ َما َمنَ ْع َت»(.)1
فَل يعطي إال ال َّله ،وال َيمنع إال ال َّله ،فإن كان ُّ
الرب سبحانه بتلك
وأن نَرفع حاجاتنا ل َّله عز
نتوجه إليهْ ،
أن ي الصفات العظيمة؛ يجب علينا ْ
وجل.
( )1رواه البخاري ،كتاب األذان ،باب الذكر بعد الصَلة ،رقم ( ،)844ومسلم،
كتاب المساجد ومواضع الصَلة ،باب استحباب الذكر بعد الصَلة وبيان
صفته ،رقم (.)593
شرح كتاب التوحيد 300
﴿ب ْل
أن يدَ يه مبسوطتان؛ قال سبحانهَ : ومن كر ِم ال َّله سبحانه لخ ْلقه َّ
َان﴾ [المائدة.]64: يدَ اه مبسو َطت ِ
َ َْ
بحانَه َس يحاء ال َّلي ِل والن ِ
َّهار ،ال تغيضه َن َف َق ٌة (.)1 و َيده س َ
بدعوة إال ويستجيب له؛ ٍ فضله سبحانه :أنَّه ال يدعو المسلِم ومِن ْ
كما قال ﷺَ « :ما مِ ْن م ْسلِ ٍم َيدْ عو بِدَ ْع َو ٍة َل ْي َس فِ َيها إِ ْث ٌمَ ،و َال َقطِي َعة َر ِح ٍم،
ث :إِ َّما َأ ْن ت َع َّج َل َله َد ْع َوتهَ ،وإِ َّما َأ ْن َيدَّ ِخ َر َها
إِ َّال َأ ْع َطاه ال َّله بِها إِحدَ ى َث ََل ٍ
َ ْ
ف َعنْه مِن الس ِ
وء مِ ْث َل َها» َقالوا :إِذا ن ْكثِرَ ،ق َال: َله فِي اآل ِخ َر ِةَ ،وإِ َّما َأ ْن َي ْص ِر َ
َ ُّ
«ال َّله َأ ْكثَر»( – )2أي :ما عنده من الخير والعطاء أكثر.-
ٍ
حديث رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب قوله﴿ :وكان عرشه ( )1يشير إىل
عىل الماء﴾ [هود ،]7 :رقم ( ،)4684ومسلم ،كتاب الزكاة ،باب الحث
عىل النفقة وتبشير المنفق بالخلف ،رقم ( ،)993من حديث أبي هريرة
رضي ال َّله عنه.
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)11133من حديث أبي سعيد الخدري
رضي ال َّله عنه.
301 مقرر الثلث األول
( )1رواه الترمذي ،أبواب الدعوات ،باب ،رقم ( ،)3556من حديث سلمان
الفارسي رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 302
ث يم قال رمحه ال َّله( :وق ْوله﴿ :فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ
اعبدوه﴾
اآلية) هذا من قول إبراهيم عليه السَلم لقومه؛ أي :إذا أردتم أن َتبحثوا
عن الرزق فابتغوه عند ال َّله ،تجدوه عنده سبحانه.
أن طلب الرزق دعا ٌء ،فطلب الرزق من غير ال َّله فيما ال
والشاهد َّ
شرك أكبر. ٌ يقدر عليه إال ال َّله؛
طلب
َ فدل عىل أن (﴿فا ْبتغوا ِع ْند ال َّل ِه الر ْزق و ْ
اعبدوه﴾)َّ ،
شخص إىل ٍ
وثن أو ضريحٍ أو لقبر النبي ﷺ ،فيقول :يا ٌ فلو َذهب
ث يم َذكر المصنف اآلية الثالثة؛ وهي شاهد الباب ،فقال( :وق ْوله:
جيب له إِلى ي ْو ِم ال ِقيام ِة﴾ ﴿وم ْن أض ُّل ِِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِ
ون ال َّل ِه م ْن َّل ي ْست ِ
َّ
اآليت ْي ِن).
أن دعوة غير ال َّله فيما ال
وساقها المصنَّف رمحه ال َّله؛ للداللة عىل َّ
الضَلل الذي ال َضَلل بعده. ٌ
شرك أكبر ،وأعظم َ يقدر عليه إال ال َّله؛
(﴿وم ْن أض ُّل) أي :ال أحدَ يف الكون ُّ
أضل من هذا المشرك ،وهو:
ون ال َّل ِه) ،والسبب عدة ٍ (ِم ْن ي ْدعو ِم ْن د ِِ
أمور: َّ
األمر َّ
األول :أنَّه دعا أحدا غير ال َّله.
واألمر الثاين :صفات الذي يدعوه ،فقال( :م ْن َّل ي ْست ِ
جيب له إِلى
قبر يدعوه ،فلو َجلس إىل يوم ي ْو ِم ال ِقيام ِة﴾) أي :لو َجلس أحدٌ عند ٍ
ولما انتهى رمحه ال َّله من ِذكر اآليات يف دعاء غير ال َّله؛ انتَقل بعد
َّ
ذلك إىل االستغاثة ،فقال( :وق ْوله﴿ :أ َّم ْن ي ِ
جيب الم ْضط َّر إِذا دعاه
ٍ كمن َأوشك عىل ِ
حريق ،أو عىل السوء﴾ اآلية) أي :المكروب َ وي ْكشف ُّ
ٍ
مرض. ٍ
حادث ،أو
أن االستغاثة بغير ال َّله ،فيما ال
وساقها المصنَّف رمحه ال َّله؛ لبيان َّ
يقدر عليه إال ال َّله؛ ك ْف ٌر.
فَل يجيب المضطر سوى ال َّله ،وال َيكشف السوء سوى ال َّله ،ف َمن
صرف تلك األفعال لغير ال َّله؛ فقد َوقع يف الشرك األكبر.
َ
عز َّ
وجل هو الذي يجيب الدعاء ،و َيكشف عنك ذلك الذي فال َّله َّ
طلبتَه ،فَل حاجة لدعاء غير ال َّله سبحانه وتعاىل ،فغير ال َّله ال َيملك شيئا،
إنَّما الذي يملك هو ال َّله؛ كما قال سبحانهَ ﴿ :له م ْلك السماو ِ
ات َّ َ َ َ
َواألَ ْر ِ
ض﴾ [البقرة.]107:
ث يم َذك ََر رمحه ال َّله الحديث األخير يف الباب أيضا يف االستغاثة،
فقال:
شرح كتاب التوحيد 310
(روى ال َّطبرانِ ُّي« :أنَّه كان فِي زم ِن ال َّنبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي المؤْ ِمنِين،
ول ال َّل ِه ﷺ ِم ْن هذا المنافِ ِق ،فقال فقال ب ْعضه ْم :قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ
النَّبِ ُّي ﷺ« :إِنَّه َّل ي ْستغاث بِي؛ وإِنَّام ي ْستغاث بِال َّل ِه»).
قال( :روى ال َّطبرانِ ُّي« :أنَّه كان فِي زم ِن النَّبِي ﷺ منافِ ٌق يؤْ ِذي
المؤْ ِمنِين») وهو عبد ال َّله ابن أ يبي بن سلول.
ول ال َّل ِه ﷺ) أي :نَطلب منه (فقال ب ْعضه ْم :قوموا بِنا ن ْست ِغيث بِرس ِ
أ َّما إذا كان المخلوق ح ييا ،حاضرا ،قادرا عىل كشف الكربة؛
فيجوز.
ٍ
لشخص وهو يف السيارة ،وقال لمن حوله: ٌ
حادث مِثل :لو َوقع
اونوا َع َلى البِر أغثني ،أو َأنقذين؛ فهذا يجوز ،لقوله سبحانهَ :
﴿و َت َع َ
َوال َّت ْق َوى﴾ [المائدة.]2:
أ َّما الذي ال َيقدر عليه إال ال َّله؛ فقال سبحانه﴿ :إِ ْذ َت ْست َِغيث َ
ون َر َّبك ْم
قدير ،تستغيثه؛ يستجيب
قوي ٌسميع ٌّ
ٌ اب َلك ْم﴾ [األنفال ،]9:فال َّله َف ْ
است ََج َ
لك ،تدعوه؛ يستجيب لك.
حتى الكافر إذا كان مضطرا يستجيب ال َّله دعاءهَ ﴿ ،فإِ َذا َركِبوا فِي
ِ ِ
الف ْلك َد َعوا ال َّل َه م ْخلِص َ
ين َله الدي َن َف َل َّما ن ََّجاه ْم إِ َلى البَر إِ َذا ه ْم
ون﴾ [العنكبوت]65:؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رمحه ال َّله: ي ْش ِرك َ
وحصلت له الضراء؛
فلما َركب البحرَ ، ِ دل عىل َّ
« ي
أن الكافر قد يسلم .ي
مما فيه من ال َك َرب»(.)1 َأسلم ،ي
فنجاه ال َّله َّ
[]1٥
باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم
ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾ اآلية
وق ْوله﴿ :وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن قِ ْط ِميرٍ﴾ اآلية.
س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال« :ش َّج النَّبِ ُّي ﷺ ي ْوم حيحِ :ع ْن أن ٍ فِي الص ِ
َّ
أح ٍد ،فقال :ك ْيف ي ْفلِح ق ْو ٌم ش ُّجوا نبِ َّيه ْم؟! فنزل ْت﴿ :ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ
ش ْي ٌء﴾.
وفِ ِيه :ع ِن ا ْب ِن عمر ر ِضي ال َّله ع ْنهام« :أنَّه س ِمع رسول ال َّل ِه ﷺ -إِذا
اآلخر ِة ِمن الف ْجرِ -يقول :ال َّله َّم الع ْن
رفع ر ْأسه ِمن الركو ِع فِي الر ْكع ِة ِ
َّ ُّ
فَلن ًا ،وفَلن ًا ،وفَلن ًا؛ ب ْعدما يقول« :س ِمع ال َّله لِم ْن ح ِمده ،ربَّنا ولك
الح ْمد»؛ فأ ْنزل ال َّله﴿ :ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾.
وفِي ِرواي ٍة« :ي ْدعو على ص ْفوان ْب ِن أم َّية ،وسه ْي ِل ْب ِن ع ْمرٍو،
ث ْب ِن ِهشامٍ؛ فنزل ْت﴿ :ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾.
ار ِ
والح ِ
315 مقرر الثلث األول
وفِ ِيه :ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه قال« :قام رسول ال َّل ِه ﷺ ِحين
أ ْنزل عل ْي ِه﴿ :وأ ْن ِذ ْر ع ِشيرتك األ ْقربِين﴾؛ قال« :يا م ْعشر قر ْي ٍ
ش! -أ ْو
كلِم ًة ن ْحوها ْ -اشتروا أ ْنفسك ْم؛ َّل أ ْغنِي ع ْنك ْم ِمن ال َّل ِه شيئ ًا.
ب! َّل أ ْغنِي ع ْنك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا. يا ع َّباس ْبن ع ْب ِد الم َّطلِ ِ
ك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا. ول ال َّل ِه! َّل أ ْغنِي ع ْن ِ يا ص ِفية عمة رس ِ
َّ َّ
ت ِم ْن مالِي؛ َّل أ ْغنِي ع ْن ِك ويا فاطِمة بِ ْنت ُمم ٍد! سلِينِي ما ِش ْئ ِ
َّ
ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا».
الشرح:
قال رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا
وه ْم ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾ اآلية).
عظيم ساقه المصنف؛ لبيان بطَلن عبادة المشركين ،و َّ
أن ٌ باب
هذا ٌ
دعوة غير ال َّله ال َتنفع؛ بل تضر.
مشر ٍك ،سواء يدعو المَلئكة ،أو
وهذا الباب فيه الر ُّد عىل كل ِ
النَّص الرابع – حديث ابن عمر رضي ال َّله عنهما َّ :-
أن النبي ﷺ
ٍ
أناس؛ وهو يف الصَلة ،و َيؤ ُّم الناس والصحابة خ ْلفه ي ْؤمن َ
ون ويدعو عىل
و َأنزل ال َّلهَ ﴿ :ل ْي َس َل َك مِ َن األَ ْم ِر َش ْي ٌء﴾؛ فهدايتهم ليست عندك.
ٍ
ألحد ،أو جلب أن النبي ﷺ ال َيملك نفعا النَّص الخامس؛ لبيان َّ
ألحد ،فالذين كان يدعو عليهم ،الثَلثة مجيعهم َأسلموا ،مع دعائه ٍ ضر
ٍّ
عليه الصَلة والسَلم عليهم باللعنة.
والنَّص السادس :ساقه المصنف؛ لبيان َّ
أن النبي ﷺ ال َيملك
لعشيرته األقربين شيئا؛ حتى ابنته ال َيملك لها شيئا.
لذلك قال المصنف رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى:
﴿أي ْشرِكون).
َجعل المصنَّف رمحه ال َّله عنوان هذا الباب اآلية؛ لعظمة هذا الباب،
لق ْطع دابِر الشرك.
إنكاري،
ٌّ قال( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :أي ْشرِكون) هذا استفها ٌم
وتعنيف عىل َمن يشرك بال َّله شيئا ،فكيف تشرك بما ال َيخلق
ٌ ٌ
وتوبيخ،
شيئا!
شرح كتاب التوحيد 318
(ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا) فكيف َيدْ عون نبيا ،أو صنما ،أو شجرا ،وهذه
ٍ
شيء؛ فالخ ْلق ك ُّله ل َّله ،واألمر مخلوق ٌة من ال َّله ،وليست قادرة عىل خ ْلق
ل َّله.
فهذه التي تدعى من دون ال َّله ال َتخلق شيئا ،فلماذا تعبدوهنم؟
َخ َل َق السماو ِ
ات وال َّله يقول﴿ :إِ َّن َر َّبكم ال َّله ا َّل ِذي
َّ َ َ
َواألَ ْر َض﴾ [األعراف ،]54:فلم يشاهدوا وأنا َأخلق ،ومل يكونوا مساعدين
وهوهنم ،فهم ال ومعاونين يل يف خ ْلق السماوات واألرض؛ لضعفهم ْ
يستطيعون أن يخلقوا شيئا ،ومع ذلك هم المخلوقين﴿ :أو َلئِ َك ا َّل ِذي َن
ون ون إِ َلى َرب ِهم ال َو ِسي َل َة َأ ُّيه ْم َأ ْق َرب َو َي ْرج َ
ون َر ْح َمتَه َو َي َخاف َ ون َي ْبتَغ َ
َيدْ ع َ
توجه إىل ال َّله َع َذ َابه﴾ [اإلسراء ،]57:فالواجب عىل الداعي هذا ْ
أن َي َّ
بالعبادة والدعاء.
فمن صفات المعبود أنه َيخلق ،واألصنام ال َتخلق؛ ف َبطلت ِ
والسبب الثاين :أنَّها ال تستحق العبادة ،وأنَّها مخلوق ٌة؛ قال سبحانه:
أمر ٌ
باطل. ٌ
فمخلوق َيطلب مخلوقا؛ هذا ٌ (وه ْم ي ْخلقون)،
والسبب الثالث :أنَّها ال تستطيع أن َتنفع غ ْيرها؛ لذلك قال( :وَّل
ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا﴾) أي :اآللهة -من األموات ،واألصنام -ال
َتنصر أحدا يستغيث هبا.
نصر األحياء؛ بل ي
إن األحياء هم الذين فتلك المعبودات ال تستطيع ْ
ٍ
مكان آخر. ٍ
مكان إىل َيحملون األموات ،ويأخذوهنم من
نصر ن ْفسها ،لذلك قالَ ﴿ :و َال
والسبب الرابع :أنَّها ال تستطيع أيضا ْ
نصر أنفسهم ،فلو أتاهم َأنْف َسه ْم َينْصر َ
ون﴾ [األعراف ،]192:ال يستطيعون ْ
ما ٌء؛ ما استطاعوا ْ
أن ير يدوا الماء عنهم ،ولو أتاهم شي ٌء من حشرات
األرض؛ ما استطاعوا ر َّده عن أجسادهم أيضا.
فالميت – مثَل -تقلبه وال يستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه شيئا؛ بل قد
ت ِ
حرقه وال يستطيع أن َيمنع عن ن ْفسه النَّار.
فدل عىل بطَلن عبادة غير ال َّله سبحانه وتعاىل.
َّ
فال َّله سبحانه وتعاىل يستحق العبادة؛ ألنه َي ْخلق ،وألنه َينْصر
ب ﴿و َق َال ربكم ا ْدعونِي َأست ِ
َج ْ َ سبحانه وتعاىل؛ قال تعاىل:
ْ َ ُّ
شرح كتاب التوحيد 320
َلك ْم﴾ [غافر﴿ ،]60:إِ ْن َتنْصروا ال َّل َه َينْص ْرك ْم﴾ [محمد ،]7:وقالَ ﴿ :و َما
الن َّْصر إِ َّال مِ ْن ِعن ِْد ال َّل ِه﴾ [األنفال.]10:
وهاتان الصفتان﴿( :وَّل ي ْستطِيعون له ْم ن ْصر ًا وَّل أ ْنفسه ْم
نصر َمن يدعوه من دون ال َّله؛
ي ْنصرون﴾) أبلغ من السابقة ،فَل يستطيع ْ
نصر ن ْفسه.
بل ال يستطيع ْ
المستحق
ي القوي القدير العظيم؛ هو
ي فدل عىل َّ
أن الخالق الناصر ي
للعبادة سبحانه.
ففيما ساقه المصنَّف رمحه ال َّله ر ٌّد عىل كل َمن دعا غير ال َّله.
ث يم قال( :وق ْوله﴿ :وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن
قِ ْط ِميرٍ﴾).
ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذه اآلية؛ لبيان حال المدْ َع ْون من
فكل ما يدعى من دون ال َّله ال َيملك شيئا يف الكون ،حتى لو دون ال َّلهُّ ،
َم َل َك شيئا جزئ ييا سيموت و َيرحل عنه ،لذلك قال﴿( :وا َّل ِذين ت ْدعون ِم ْن
دونِ ِه ما ي ْملِكون ِم ْن قِ ْط ِميرٍ﴾).
321 مقرر الثلث األول
والقطمير :هو اللفافة الرقيقة الخفيفة التي فوق نواة التمر( ،)1فهذه
أن َتخلقها.
القشرة ال تستطيع المَلئكة ْ
فإذا كان هذا الشيء اليسير ،وأعظم خ ْلق ال َّله – المَلئكة – ال
فمن باب ْأوىل غيرهم ال َيخلقون شيئا حتى القشرة يستطيعون خ ْلقها؛ ِ
الرقيقة.
أن من ِصفات المعبود الملك؛ كما قال سبحانهَ ﴿ :ت َب َار َك
فدل عىل َّ َّ
ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه الم ْلك﴾ [الملك.]1:
زائل؛ كما قال سبحانه﴿ :ك ُّل َم ْن َع َل ْي َها أ َّما المخلوق فملكه ٌ
ان﴾ [الرمحن ،]26:وقال تعاىلَ ﴿ :فتِ ْل َك َم َساكِنه ْم َل ْم ت ْس َك ْن مِ ْن َب ْع ِد ِه ْم إِ َّال َف ٍ
ِ
ين﴾ [القصص.]58: َقلِيَل َوكنَّا ن َْحن ال َو ِارث َ
ِ
﴿إِ ْن َتدْ عوه ْم َال َي ْس َمعوا د َعا َءك ْم َو َل ْو َسمعوا َما ْ
است ََجابوا َلك ْم َو َي ْو َم
ِ ال ِقيام ِة ي ْكفر َ ِ ِ
أي :ال ينبئك ون بِش ْركك ْم َو َال ينَبئ َك م ْثل َخبِ ٍير﴾ [فاطر]14:؛ ْ َ َ َ
المدعوين بأ َّنهم ال َيسمعون دعاءكم ،ولو َسمعوا ال يستجيبون
ي بحال
لكم ،ويوم القيامة َيكفرون بشرككم ،فَل ينبئك مِثل هذه األخبار؛ َّإال
خبير وعاملٌ بأحوالهم ،وهو ال َّله سبحانه.
ٌ
ولما ب َّين المعبودات السابقة سواء كانت من المَلئكة ،أو مِن
َّ
غيرهم؛ َذكر بعد ذلك حقيقة النبي ﷺ الذي هو أفضل َ
الخلق أنه ال
ألحد ،وال يستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه الضر ،فقال: ٍ َيملك نفعا
حيحِ ) أي :صحيح البخاري. (فِي الص ِ
َّ
س ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :ش َّج النَّبِ ُّي ﷺ ي ْوم أح ٍد) (ش َّج) أي: (ع ْن أن ٍ
( )1كتاب الجهاد والسير ،باب غزوة أحد ،رقم ( ،)1790من حديث سهل بن
سعد الساعدي رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 324
(وفِي ِرواي ٍة :ي ْدعو على ص ْفوان ْب ِن أم َّية ،وسه ْي ِل ْب ِن ع ْمرٍو،
ث ْب ِن ِهشا ٍم) وكل هؤالء أسلموا( ،فنزل ْت﴿ :ل ْيس لك ِمن األ ْمرِ ار ِ
والح ِ
ش ْي ٌء﴾).
واللعن أقسا ٌم:
األول :ل ْعن عموم الكافرين ،والظالمين؛ فهذا يجوز. ِ
القسم َّ
الفساق ،مثل :ل َعن ال َّله السارق ،ل َعن ال َّله ِ
والقسم الثاين :ل ْعن عموم َّ
الزاين؛ فهذا يجوز.
والقسم الثالث :ل ْعن المؤمن؛ وهذا ال يجوز؛ قال النبي ﷺَ « :ل ْعن ِ
ِ
والقسم الرابع :ل ْعن الكافر المع َّين؛ وهذا الراجح ال يجوز؛
ِ
وجل أنزل﴿( :ل ْيس لك من األ ْمرِ ش ْي ٌء﴾)َّ ،
لما ع َّين َّ ألن ال َّله َّ
عز
النبي ﷺ أشخاصا.
جائز. ِ
والقسم الخامس :ل ْعن المنافقين عىل سبيل العموم؛ فهذا ٌ
ِ
والقسم السادس :ل ْعن الفاسق بعينه؛ وهذا ال يجوز ،مِثل :ال َّلهم
العن زيدا؛ ألنَّه َيحلق لحيته؛ هذا ال يجوز.
وهذا الحديث ُّ
يدل عىل عدي ة مسائل:
دل عىل أ َّنه عند النوازل يجوز ْ
أن َيقنت الشخص المسألة األولى :ي
المشركين ،فالنبي ﷺ َقنَ َت عىل المشركين.
عىل ْ
327 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،أبواب الوتر ،باب القنوت قبل الركوع وبعده ،رقم (،)1004
ٍ
مالك رضي ال َّله عنه ،ومسلم ،كتاب المساجد من حديث أنس بن
ومواضع الصَلة ،باب استحباب القنوت يف مجيع الصَلة إذا نَزلت
نازلة ،رقم ( ،)678من حديث البراء رضي ال َّله عنه.
بالمسلمين ٌ
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما. ( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)2746من حديث ابن
شرح كتاب التوحيد 328
( )1وهم بعض المالكية والحنابلة .أحكام القرآن البن العربي ( ،)74/1الفروع
البن مفلح ( ،)1119/10اإلنصاف للمرداوي (.)250/10
( )2وهم الحنفية وبعض المالكية والشافعية ،واختاره شيخ اإلسَلم رمحه ال َّله.
حاشية ابن عابدين ( ،)416/3أحكام القرآن البن العربي ( ،)74/1أسنى
المطالب لزكريا األنصاري ( ،)346/4مختصر الفتاوى المصرية
للبعيل (.)512/1
329 مقرر الثلث األول
ن ْحوها ْ -اشتروا أ ْنفسك ْم) يعنيَ :أنقذوا أنفسكمَّ( ،ل أ ْغنِي ع ْنك ْم
فمن مات عىل الكفر مِن قبيلته؛ فالنبي ﷺ ال يستطيع منْعه ِ ِ
من ال َّله شيئ ًا)َ ،
مِن دخول النَّار.
عمم النبي ﷺ عىل القبيلة؛ بدأ يخصص األفراد ،فقال( :يا ولما َّ َّ
ب!) ف َبدأ بعمهَّ( ،ل أ ْغنِي ع ْنك ِمن ال َّل ِه ش ْيئ ًا).
ع َّباس ْبن ع ْب ِد الم َّطلِ ِ
[]16
باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا
قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾
حيحِ :ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه ع ِن ال َّنبِي ﷺ ،قال« :إِذا
فِي الص ِ
َّ
ت المَلئِكة بِأ ْجنِحتِها خضعان ًا لِق ْولِ ِه،قضى ال َّله األمر فِي السام ِء؛ ضرب ِ
َّ ْ
ان ،ي ْنفذه ْم ذلِك﴿ ،ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالواكأنَّه ِس ْل ِسل ٌة على ص ْفو ٍ
ِ
ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العل ُّي الكبِير﴾ ،في ْسمعها م ْسترِق َّ
الس ْمعِ،
ض -وصفه س ْفيان بِكف ِه فح َّرفها، الس ْم ِع هكذا ،ب ْعضه ف ْوق ب ْع ٍ وم ْسترِق َّ
وبدَّ د ب ْين أصابِ ِع ِه ـ.
في ْسمع الكلِمة في ْل ِقيها إِلى م ْن ت ْحته ،ث َّم ي ْل ِقيها اآلخر إِلى م ْن ت ْحته،
احرِ أ ِو الك ِ
ان الس ِ ِ ِ
اه ِن. ح َّتى ي ْلقيها على لس ِ َّ
فربَّام أ ْدركه الشهاب ق ْبل أنْ ي ْل ِقيها ،وربَّام أ ْلقاها ق ْبل أنْ ي ْد ِركه،
في ْك ِذب معها ِمئة ك ْذب ٍة ،فيقال :أل ْيس ق ْد قال لنا ي ْوم كذا وكذا :كذا وكذا؟
السام ِء». ِ ِ ِ ِ ِ ِ
فيصدَّ ق بِت ْلك الكلمة ا َّلتي سمع ْت من َّ
333 مقرر الثلث األول
اس ْب ِن س ْمعان ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :قال رسول ال َّل ِه ﷺ: وع ِن الن ََّّو ِ
ات ِم ْنه
ت السمو ِ
َّ
«إِذا أراد ال َّله أنْ يو ِحي بِاألمرِ؛ تك َّلم بِالو ْح ِي ،أخذ ِ
ْ
ر ْجف ٌة -أ ْو قالِ :ر ْعد ٌة ش ِديد ٌة -خ ْوف ًا ِمن ال َّل ِه عزَّ وج َّل.
ات؛ ص ِعقوا ،وخ ُّروا لِ َّل ِه س َّجد ًا ،فيكون فإِذا س ِمع ذلِك أ ْهل السمو ِ
َّ
أ َّول م ْن ي ْرفع ر ْأسه ِج ْبرِيل ،فيكلمه ال َّله ِم ْن و ْحيِ ِه بِام أراد.
ث َّم يم ُّر ِج ْبرِيل على المَلئِك ِة ،ك َّلام م َّر بِسام ٍء سأله مَلئِكتها :ماذا قال
ر ُّبنا يا ِج ْبرِيل؟ فيقول ِج ْبرِيل :قال الح َّق ،وهو العلِ ُّي الكبِير.
قال :فيقولون ك ُّله ْم ِم ْثل ما قال ِج ْبرِيل.
في ْنت ِهي ِج ْبرِيل بِالو ْح ِي إِلى ح ْيث أمره ال َّله عزَّ وج َّل».
الشرح:
بوب المصنف رمحه ال َّله هذا الباب عىل ٍ
آية. َّ
جمَل ،وأحيانا ٍ
يبوب عىل حديث ،وأحيانا يذكر حكما م َ وأحيانا ي
ِ
مستفهما. يذكر سؤاال
قال رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم
قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾).
شرح كتاب التوحيد 334
عظيم ْين
َ ساق المصنف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان حال مخلو َق ْين
وجل إذا َتك َّلم سبحانه وتعاىل بالوحي؛ كيف يكون حالهم
عز َّ
مع ال َّله َّ
من الخضوع والذل والخوف منه سبحانه وتعاىل ،والتعظيم له.
العظيم ْين بتعظيمهم ل َّله
َ فإذا كان هذا هو حال هذين المخلو َق ْين
وخوفهم فيذ يلون ،ويص َعقون ،ويغمى عليهم ،ويغشى عليهم؛ ي
دل عىل أنَّه
ال يصرف لهم شي ٌء مِن العبادة.
وف ،و َي ُّ
ذل ،و َيخضع ،و َينكسر؛ كيف يع َبد؟! فمن يأخذه َخ ٌَ
فمن باب أوىل ما هو أدنى يف ِ
الخلقة ال يع َبد؛ من األصنام واألوثان ِ
ْ
واألنبياء والصالحين.
أن هؤالء ال َيصلحون للعبادة ،وغيرهم من باب َأوىل؛
فدل عىل َّ
َّ
لذلك يقال(« :)1هذه اآلية﴿( :ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم) َتقطع عروق
أنَِها ح َّج ٌة قوي ٌة يف إخراج الشرك من القلب.
الشرك من أصوله»؛ يعنيَّ :
والمصنف رمحه ال َّله َذكر آية وحديثين.
اآلية األولى – (﴿ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم) -
:بيان حال المَلئكة إذا َتك َّلم ال َّله عز وجل.
والنَّص الثاين – حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه :-بيان ِصفة
تلك الحال.
( )1هو :أبو عبد ال َّله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزب ْه
الجعفي موالهم البخاري ،ولد سنة (194هـ) ،وتويف سنة ( .)256تذكرة
الحفاظ للذهبي (.)104/2
( )2هو :أبو عبد الرمحن أمحد بن شعيب بن عيل بن سنان بن بحر الخراساين ،ولد
سنة (215هـ) ،وتويف سنة (303هـ).تذكرة الحفاظ للذهبي (.)194/2
شرح كتاب التوحيد 336
(الكبِير﴾) فيه إثبات صفة الكِ َبر ل َّله سبحانه وتعاىل عىل ما يليق
بجَلله وعظمته.
وروى نحوه مسلم. ِ ِ
الصحيحِ ) صحيح البخاريَ ،
ث يم قال( :في َّ
يب يين هذا الحديث ما هو حال المَلئكة عند كَلم ال َّله ي
عز وجل،
وأ ْم ِرهم باألمر.
(ع ْن أبِي هر ْيرة ر ِضي ال َّله ع ْنه ع ْن النَّبِي ﷺ قال« :إِذا قضى ال َّله
السام ِء») أي :إذا َتك َّلم به -كما يف حديث الن ََّّواس رضي ال َّله ِ
األ ْمر في َّ
عنه .-
أن ال َّله َيتك يلم ،وهو سبحانه يتك يلم بما شاء،
يدل عىل َّ
وهذا الحديث ُّ
متى شاء ،كيف شاء ،إذا شاء سبحانه.
ت المَلئِكة بِأ ْجنِحتِها) ِ
تذ يل وتخضع ذ يال وانكسارا وخوفا (ضرب ِ
( )1رواه البخاري ،كتاب بدْ ء الخلق ،باب إذا قال أحدكم :آمين والمَلئكة يف
فوافقت إحدامها األخرى؛ غفر له ما َتقدم من ذنْبه،
السماء ،آمين َ
﴿و َل َقدْ َرآه ن َْز َلة أ ْخ َرى﴾
رقم ( ،)3232ومسلم ،كتاب اإليمان ،بابَ :
مسعود رضي ال َّله عنه. ٍ [النجم ،]13 :رقم ( ،)174من حديث ابن
339 مقرر الثلث األول
فإذا َتك َّلم ال َّله؛ قال النبي ﷺ( :في ْسمعها م ْسترِق َّ
الس ْم ِع) َيعني:
الذي َيسرق السمع من الشياطين.
ض -وصفه س ْفيان بِكف ِه الس ْم ِع هكذا ،ب ْعضه ف ْوق ب ْع ٍ (وم ْسترِق َّ
أي :أمالها( ،وبدَّ د ب ْين أصابِ ِع ِه) يعنيَّ :فرق.
فح َّرفها) ْ
شرح كتاب التوحيد 340
ٍ
بعض إىل شيطان؛ بعضهم فوق ٍ ٍ
شيطان ،فوق ٌ
شيطان ،فوق بمعنى:
السماء الدنيا؛ لذلك يف الحديث اآلخر قال« :إِ َّن ال َم ََلئِ َك َة َتن ِْزل فِي
ِ
ال َعنَان»( )1؛ يعني :إىل العنانَ ،وه َو َّ
الس َحاب.
وأن جبريل ي َبلغ كَلم ال َّله.
وجل َيتك َّلمَّ ،
عز َّ
فدل عىل أن ال َّله َّ
َّ
ٍ
بعض صطف بعضهم فوق
ُّ قو ٌة خارق ٌة ،ف َي ويدل عىل أن ِ
الج ين لهم َّ ُّ
ٍ
شاهق. علو
إىل ٍّ
قال( :في ْسمع الكلِمة) أي :الشيطان( ،في ْل ِقيها إِلى م ْن ت ْحته ،ثم
احرِ أ ِو الك ِ
ان الس ِ ِ ِ ِ
اه ِن) ي ْلقيها اآلخر إِلى م ْن ت ْحته ،ح َّتى ي ْلقيها على لس ِ َّ
َّ
فدل عىل أن السحرة يستعينون بالشياطين ،وكذلك الك يهان.
احرِ) هو من َيعمل أعماال شيطانية تكون سببا يف ضرر و(الس ِ
َّ
اآلخرين.
أما (الك ِ
اه ِن) هو الذي يدَّ عي ِعلم الغيب يف الزمن المستقبل. َّ
والعراف :الذي يدَّ عي ِعلم الغيب يف المكان.
َّ
()1رواه البخاري ،كتاب بدْ ء الخلق ،باب ذكْر المَلئكة ،رقم ( ،)3210من
حديث عائشة رضي ال َّله عنها.
341 مقرر الثلث األول
ولما سألت عائشة رضي ال َّله عنها النبي ﷺ عن حال الك يهان الذين
َّ
َيت َك َّهنون يف أخبار المستقبل؛ قال يف صحيح البخاري(َ « :)1ليسوا
ٍ
قدر؛ بِ َشيء» ،فهذه كلم ٌة جامع ٌة يف ْ
وصفهم ،ولو كانوا شيئا ،أو لهم ٌ
لنَفعوا أنفسهم ،و َأسرعوا بالتوبة قبل ْ
أن يموتوا؛ فيكونوا خالدين
مخ َّلدين يف النَّار.
فهم ال َيعلمون َغيب أنفسهم من الموت وعدم االستعداد له؛ فمن
باب َأ ْوىل عدم اإلخبار لغيرهم من الغيب.
ٍ
كذبة ،وأهنم ليسوا بشيء؛ فإذا كان هذا حال الك يهان يف كذهبم مئة
ي
دل عىل تحريم الذهاب إليهم.
خرج اإلنسان من هذا الدين؛ كما قال ﷺ: أن تصديقهم ي ِ ودل عىل َّ
ي
«من َأ َتى ك ِ
َاهناَ ،أ ْو َع َّرافاَ ،ف َصدَّ َقه بِ َما َيقولَ ،ف َقدْ َك َف َر بِ َما أن ِْز َل َع َلى َ ْ
م َح َّم ٍد»(.)2
بحق، ٍ
بشيء ،وهو ينوي أنه ليس ٍّ ( )1كتاب األدب ،باب قول الرجل للشيء :ليس
رقم (.)6213
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)9536من حديث أبي هريرة والحسن
رضي ال َّله عنهما.
345 مقرر الثلث األول
َعا ٍم»(.)1
وصف الم َلك يف ِخلقته؛ فكيف بالج َّبار سبحانه الذي فإذا كان هذا ْ
الس ِميع ال َب ِصير﴾ [الشورى.]11: ِ ِِ
قال عن ن ْفسهَ ﴿ :ل ْي َس كَمثْله َش ْي ٌء َوه َو َّ
غشى عليهم ،ويذ يلون ل َّله إذا تك يلم
فإذا كانت المَلئكة يصعقون ،وي َ
صرف لهم شي ٌء مِن أنواع العبادة؛ من بالكَلم فقط؛ ي
دل عىل أنه ال ي َ
ٍ
عبادة ،أو ٍ
ذبح أو نحو ذلك. ٍ
صَلة ،أو
أن غيرهم أضعف وأضعف؛ فعبادهتم من دون ال َّله باطل ٌة.
ودل عىل َّ
ي
اس ْب ِن س ْمعان ر ِضي ال َّله ع ْنه قال :قالقال رمحه ال َّله( :وع ِن الن ََّّو ِ
رسول ال َّل ِه ﷺ« :إِذا أراد ال َّله أنْ يو ِحي بِاأل ْمرِ؛ تك َّلم بِالو ْحيِ …).
هذا الحديث تكمل ٌة لآلية والحديث السابق؛ يب يين أنَّه إذا كان هذا
حال أعظم المخلوقات إذا سمعوا كَلم ال َّله عز وجل؛ يصعقوا وي ِ
خ ُّروا َ َ
أي نو ٍع من أنواع العبادة.
صرف ي ل َّله س يجدا؛ ي
فدل عىل أ َّنهم ال يستحقون ْ
أن ما دوهنم يف الخ ْلق من ْ
األولياء واألشجار واألحجار ودل عىل َّ
ي
صرف لهم شي ٌء من العبادة. وغير ذلك؛ ال َيصلح ْ
أن ي َ
أن العبادة ال تص َرف إال ل َّله دل عىل َّ وإذا تب يين َض ْعف المخلوقين؛ ي
اط﴿و َأ ِن ا ْعبدونِي َه َذا ِص َر ٌ القهار سبحانه وتعاىل؛ كما قالَ : القوي ي
يم﴾ [يس ،]61:وقالَ ﴿ :يا َأ ُّي َها النَّاس ا ْعبدوا َر َّبكم ا َّل ِذي َخ َل َقك ْم ِ
م ْستَق ٌ
الج ين َو ِ
اإلن َْس إِ َّال ﴿وما َخ َل ْقت ِ ِ وا َّل ِذ ِ
ين م ْن َق ْبلك ْم﴾ [البقرة ،]22:وقالَ َ : َ َ
لِيعبد ِ
ون﴾ [الذاريات.]56: َْ
َيذكر هنا رمحه ال َّله حال الخ ْلق الثاين العظيم من مخلوقات ال َّله إذا
فسبق حال المَلئكة ،وهنا رمحه ال َّله َيذكر حال
تك يلم ال َّله عز وجلَ ،
اوات إذا َتك َّلم بالوحي.
السم َ
َ
347 مقرر الثلث األول
ِ
فقال( :إِذا أراد ال َّله أنْ يوحي بِاأل ْمرِ) أي :إذا أراد أن ي
يدبر أمرا من
األمور يتكلم سبحانه؛ كما قال جل وعَل عن نفسه﴿ :إِن ََّما َأ ْمره إِ َذا َأ َرا َد
َش ْيئا َأ ْن َيق َ
ول َله ك ْن َف َيكون﴾ [يس.]82:
(تك َّلم بِالو ْح ِي) فيه إثبات صفة الكَلم ل َّله عز وجل ،فهو سبحانه
تك يلم ويتك يلم وسيتك يلم ،متى شاء ،إذا شاء ،كيف شاء ،بما شاء سبحانه
الس ِميع ِ ِِ
وتعاىل؛ كما قال سبحانهَ ﴿ :ل ْي َس كَم ْثله َش ْي ٌء َوه َو َّ
الب ِصير﴾ [الشورى﴿ ،]11:يس َأله من فِي السماو ِ
ات َواألَ ْر ِ
ض ك َّل َي ْو ٍم ه َو َّ َ َ َْ َ ْ َ
موصوف بالكَلم ،تك يلم ،ويتك يلم،
ٌ فِي َش ْأ ٍن﴾ [الرمحن ،]29:وهو سبحانه
﴿ال ي ْس َأل َع َّما َي ْف َعل َوه ْم ي ْس َأل َ
ون﴾ [األنبياء.]23: وسيتك يلمَ ،
ت السمو ِ
ات فإذا َتك يلم بما أراده سبحانه ،فلِكَلم ال َّله :قال( :أخذ ِ
َّ
ِ
م ْنه ر ْجف ٌة) الرجفة :الحركة واالضطراب؛ أي :إذا َتك يلم ال َّله ي
تحركت
السماوات ،واضطربت.
لماذا هذه الحركة واالضطراب؟
قال( :خ ْوف ًا ِمن ال َّل ِه عزَّ وج َّل) ،وقوله -( :أ ْو قالِ :ر ْعد ٌة ش ِديد ٌة -
التحرك واالضطراب ،وهذا ٌّ
شك من الراوي يف اللفظ؛ ي ) ِ
الرعْدَ ة :هو
لكن المعنى واحدٌ .
َّ
شرح كتاب التوحيد 348
الكهان،
َّ ( )1رواه مسلم ،كتاب السَلم ،باب تحريم الكهانة وإتيان
رقم ( ،)2229من حديث ابن عباس رضي ال َّله عنهما.
349 مقرر الثلث األول
قال( :فيكلمه ال َّله ِم ْن و ْحيِ ِه بِام أراد) فيك يلمه ال َّله َّ
عز َّ
وجل بما شاء
من الوحي.
(ث َّم يم ُّر ِج ْبرِيل على المَلئِك ِة ،ك َّلام م َّر بِسام ٍء)ُّ ،
يدل عىل سرعة
يمر عىل الس َم َوات السبع. ٍ
جبريل عليه السَلم؛ ففي لحظة ي
فيقولون( :ماذا قال ر ُّبنا يا ِج ْبرِيل؟).
الحق( ،وهو العلِ ُّي الكبِير).
فيقول( :قال الح َّق) أي :قال القول ي
(فيقولون ك ُّله ْم ِم ْثل ما قال ِج ْبرِيل).
(في ْنت ِهي ِج ْبرِيل بِالو ْح ِي) أي :بتبليغ الوحي إىل من أراد ال َّله مِن
رسله (إِلى ح ْيث أمره ال َّله عزَّ وج َّل).
فجبريل هو سفير المَلئكة بين ال َّله وبين خ ْلقه.
فإذا أراد ال َّله أن يوحي شيئا إىل األنبياء والرسل؛ يبلغه لجبريل عليه
والمشرف بالرسالة بين ال َّله وخ ْلقه.
َّ المكرم
َّ السَلم؛ أل َّنه هو
فمن ذلك َّ
أن امرأة ويدل أيضا عىل سرعة جبريل عليه السَلمِ ، ُّ
ثابت بن قيس بن شماس تجادل يف زوجها ،وهي مل تبعد عن
351 مقرر الثلث األول
ض﴾ [الرعد﴿ ،]15:إِ ْن ك ُّل َم ْن فِي ات َواألَ ْر ِ ﴿ول ِ َّل ِه يسجد من فِي السماو ِ
َّ َ َ َ ْ َ َ ْ
ِ السماو ِ
ض إِ َّال آتي َّ
الر ْح َم ِن َع ْبدا * َل َقدْ َأ ْح َصاه ْم َوعَدَّ ه ْم ات َواألَ ْر ِ َّ َ َ
عَدي ا * َوك ُّله ْم آتِ ِيه َي ْو َم ال ِق َيا َم ِة َف ْردا﴾ [مريم.]95-93:
شيء من أنواع العبادة ٍ صرف ي
فدل عىل أ َّنه ال يجوز عقَل وال شرعا ْ
ٍ
بمعبود يتمسك أن لمن يص َعق و َيخاف ويغشى عليه؛ أل َّن العبد يريد ْ
ي
أن توجد هذه الصفات عظيم ،وال يمكن ْ ٍ قديرٍ ،
محيد، ارٍ ، ار ،ج يب ٍ قه ٍقوي ،ي
ٍّ
صرف العبادة إال له سبحانه. الرب ي
جل وعَل ،فَل ت َ إال يف ي
***
353 مقرر الثلث األول
[]17
الشفاع ِة
باب َّ
وق ْول ال َّل ِه تعالى﴿ :وأ ْن ِذ ْر بِ ِه ا َّل ِذين يخافون أنْ ي ْحشروا إِلى رب ِه ْم
يع﴾. ل ْيس له ْم ِم ْن دونِ ِه ولِ ٌّي وَّل ش ِف ٌ
الشفاعة ج ِميع ًا﴾. وق ْوله﴿ :ق ْل لِ َّل ِه َّ
وق ْوله﴿ :م ْن ذا ا َّل ِذي ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾.
ات َّل ت ْغنِي شفاعته ْم ش ْيئ ًا إِ ََّّل ِم ْنك فِي السمو ِ
َّ
وق ْوله﴿ :وكم ِم ْن مل ٍ
ْ
ب ْع ِد أنْ ي ْأذن ال َّله لِم ْن يشاء وي ْرضى﴾.
ون ال َّل ِه َّل ي ْملِكون ِم ْثقال ذ َّر ٍة
وق ْوله﴿ :ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن د ِ
يهام ِم ْن ِش ْر ٍك وما له ِم ْنه ْم ِم ْن ض وما له ْم فِ ِ ات وَّل فِي األ ْر ِ فِي السمو ِ
َّ
الشفاعة ِع ْنده إِ ََّّل لِم ْن أ ِذن له﴾ اآلية. ظ ِهيرٍ * وَّل ت ْنفع َّ
اس« :نفى ال َّله ع َّام ِسواه ك َّل ما يتع َّلق بِ ِه قال أبو الع َّب ِ
الم ْشرِكون -فنفى أنْ يكون لِغ ْيرِ ِه م ْل ٌك ،أ ْو قِ ْس ٌط ِم ْنه ،أ ْو يكون ع ْون ًا
ِ لِ َّل ِه -ول ْم ي ْبق إِ ََّّل َّ
الر ُّب ،كامالشفاعة ،فب َّين أنَّها َّل ت ْنفع إِ ََّّل لم ْن أ ِذن له َّ
قال﴿ :وَّل ي ْشفعون إِ ََّّل لِم ِن ْارتضى﴾.
شرح كتاب التوحيد 354
قال :م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ خالِص ًا ِم ْن ق ْلبِ ِه».
ص -بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه -وَّل تكون لِم ْن الشفاعة ِأل ْه ِل ِ
ال ْخَل ِ فتِ ْلك َّ
أ ْشرك بِال َّل ِه.
وح ِقيقته :أ َّن ال َّله س ْبحانه هو ا َّل ِذي يتف َّضل على أ ْه ِل ِ
ال ْخَل ِ
ص
اء م ْن أذِن له أنْ ي ْشفع؛ لِي ْكرِمه ،وينال المقام
اسط ِة دع ِ في ْغ ِفر لهم بِو ِ
ْ
الم ْحمود.
الشفاعة الشفاعة ا َّلتِي نفاها الق ْرآن ما كان فِيها ِش ْر ٌك ،ولِهذا أ ْثبت َّ
ف َّ
اضع ،وق ْد بين النَّبِي ﷺ أنَّها َّل تكون إِ ََّّل ِأل ْه ِل الت ْو ِح ِ
يد بِإ ْذنِ ِه فِي مو ِ
َّ ُّ َّ
و ِال ْخَل ِ
ص» ا ْنتهى كَلمه.
355 مقرر الثلث األول
الشرح:
الشفاع ِة).
قال رمحه ال َّله( :باب َّ
الش ْفع يف اللغة :ضد الوتر ،والشفاعة :هي طلب الخير للغير(،)1
َّ
أن َيطلب رج ٌل من
والتي تسمى عند الناس اليوم «الواسطة»؛ يعنيْ :
أمر عند آخر؛ ْ
أن يخلص أ ْمر ذلك اآلخر. ٍ
عظيم أو بيده ٌ رج ٍل
الجنَّة ،وتفريج
والمراد هبا هنا :سؤال الوقاية من النَّار ،ودخول َ
ال َكرب ونحو ذلك.
وشفاعة المشركين َيطلبوهنا من دون ال َّله.
والشفاعة تنقسم إىل قِسمين:
شفاعة منف َّي ٌة :وهي التي تطلب من غير ال َّله فيما ال
ٌ األول: ِ
القسم َّ
َيقدر عليه إال ال َّله.
شخص إىل ٍ
قبر ،وقال للميت :اشفع يل عند ال َّله؛ ٌ مثل :لو ذهب
ليغفر يل ذنوبي ،فمغفرة الذنوب ال يقدر عليها الميت.
ٌ
شرك أكبر. فسؤال الميت هذا األمر
له – ْ
أي :صاحب الذنْب -من أهل التوحيد.
وشفاعة المشركين َيطلبون من األنداد واألوثان ْ
أن َيطلبوا من ربهم
إنزال المطر ،أو شفاء المريض ونحوه؛ وهذه شفاع ٌة منف َّي ٌة.
مثال ذلك :لو رج ٌل استحق دخول النَّار ،وهو من أهل التوحيد،
ٍ
صالح من قراباته -مثَل -أن َيشفع له أن ال َيدخل فإذا ِ
أذ َن ال َّله لرج ٍل
النَّار؛ فهذه شفاع ٌة مث َبت ٌة ،وصحيح ٌة ،وشرع َّي ٌة.
أن ما يفعلونه ليسولكون أهل الشرك َتع يلقوا يف شركهم بزعمهم َّ
ٍ
بشرك؛ قالوا :نَطلب منهم الشفاعة؛ ألهنم لو قالوا :إنَّا ندعوا الميت،
بحيلة ويقولون :نَطلب ٍ أكبر؛ لذلك يأتون ٌ
شرك ٌ فسيقال لهم مباشرة :هذا
ون ال َّل ِه ش َف َعا َء ق ْل َأ َو َل ْو
خذوا مِن د ِ
ْ منهم الشفاعة؛ لذلك قال ال َّلهَ ﴿ :أ ِم ا َّت َ
اعة َجميعا﴾ [الزمر-43:
ِ ون * ق ْل ل ِ َّل ِه َّ
الش َف َ ون َش ْيئا َو َال َي ْع ِقل َ
كَانوا َال َي ْملِك َ
.]44
شرح كتاب التوحيد 358
وجل أن ذلك كِ ْب ٌر؛ ألنَّهم مل يتوجهوا إليه سبحانه؛ عز َّ و َأ ْخ َب َر ال َّله َّ
يب أ ِجيب َد ْع َو َة الدَّ ا ِع إِ َذا ِ ِ
لذلك قالَ ﴿ :وإِ َذا َس َأ َل َك ع َبادي َعني َفإِني َق ِر ٌ
ون﴾ [البقرة ،]186:وقال َجيبوا لِي َو ْلي ْؤمِنوا بِي َل َع َّله ْم َي ْرشد َ ان َف ْل َيست ِ
ْ
د َع ِ
َ
ِ
ون َع ْن ين َي ْس َت ْكبِر َ لما َأمر بالدعاء﴿ :إِ َّن ا َّلذ َ سبحانه يف اآلية األخرى َّ
ون جهنَّم د ِ
اخ ِري َن﴾ [غافر]60:؛ لذلك ِ ِ
ع َبا َدتي﴾؛ أي :دعائي؛ ﴿ َس َيدْ خل َ َ َ َ َ
ب َلك ْم﴾ [غافر.]60: قال سبحانه﴿ :ا ْدعونِي َأست ِ
َج ْ ْ
إعراض عن ال َّله سبحانه؛ ٌ وال َتدعوا األموات ،فدعاء األموات
لذلك قال تعاىل﴿ :إِ َّن ال َّل َه َي ْحكم َب ْينَه ْم فِي َما ه ْم فِ ِيه َي ْ
خ َتلِف َ
ون إِ َّن ال َّل َه َال
َاذ ٌب َك َّف ٌار﴾ [الزمرَ ،]3:ف َح َك َم ال َّله سبحانه وتعاىل يه ِدي من هو ك ِ
َ ْ َ َْ
بك ْفرهم.
ِ
المشركون يف والشفاعة من الشبهات واألبواب التي ا َّتخذها
إن ذنوبنا كثيرةٌ ،وال نستطيع ْ
أن نطلب شركهم بال َّله عز وجل ،فقالوا :ي
359 مقرر الثلث األول
إِ َلى ال َّل ِه ز ْل َفى إِ َّن ال َّل َه َي ْحكم َب ْينَه ْم فِي َما ه ْم فِ ِيه َي ْختَلِف َ
ون إِ َّن ال َّل َه َال
الجنَّة :الذين مل َاذ ٌب َك َّف ٌار﴾ [الزمر ،]3:ي يه ِدي من هو ك ِ
وإال فأصحاب َ َ ْ َ َْ
يدعوا مع ال َّله أحدا.
الشفاعة ج ِميع ًا﴾) -؛ لبيان َّ
أن الشفاعة واآلية الثانية – (﴿ق ْل لِ َّل ِه َّ
أن ال َّله هو الذي يملك الشفاعة ،فَل تذهب
ك يلها ل َّله سبحانه وتعاىل ،فب يين َّ
إىل األنداد واألصنام وتطلبها.
وتفضل
َّ واآلية الثالثة؛ ل َّما كانت الشفاعة ل َّله؛ فال َّله سبحانه َت َّ
كرم
بأن َيشفع عنده من َيأذن له سبحانه وتعاىل بالشفاعة؛ فقال﴿ :م ْن ذا ا َّل ِذي
ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾َ ،ذكر لك شرطا من شروط الشفاعة المثبتة ،وهو
اإل ْذن للشافع بأن يشفع.
ات َّل ت ْغنِي شفاعته ْم
ك فِي السمو ِ
َّ
واآلية الرابعة – (﴿وكم ِم ْن مل ٍ
ْ
َّ
وجل عن ش ْيئ ًا﴾) -ساقها؛ لبيان الشرط اآلخر ،وهو :رضا ال َّله َّ
عز
الشافع ،والمشفوع له.
ون ال َّل ِه َّل
واآلية الخامسة – (﴿ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن د ِ
ولبيان أسباب منْع ال َّله سبحانه وتعاىل الشفاعة الشركية ،و َذكر
ٍ
أسباب سيأيت ذكرها بإذن ال َّله. تعاىل ثَلثة
مهم للرد عىل من يدعو غير ال َّله؛ ْ
بزعم الشفاعة؛ لكثرة وهذا الباب ٌّ
شبهة المشركين فيه.
ٍ
صحيحة؟ فإن قيل لك :هل الشفاعة صحيح ٌةَ ،أم غير ْ
فقل :الشفاعة تنقسم إىل قِسمين:
شفاع ٌة شركي ٌة؛ وهي المنف َّية.
وشفاع ٌة مث َبت ٌة.
و َمن كان ليس مِن أهل التوحيد؛ ال تق َبل شفاعته.
فإذا كان يوم القيامة وأذن ال َّله للشافع أن َيشفع؛ فلن يشفع لمشرك؛
ين﴾ [المدثر.]48: اعة َّ ِ ِ قال تعاىلَ ﴿ :ف َما َتنْ َفعه ْم َش َف َ
الشافع َ
عمه أبي طالب حتى خ يفف ْ
فإن قيل :فكيف بشفاعة النبي ﷺ يف ي
عذابه يف النَّار؟
المشرك الوحيد الذي أ ِذن
ِ خاص ٌة فقط ،وهو
ي نقول :هذه شفاع ٌة
للنبي ﷺ ْ
أن َيشفع فيه ،وشفاعته فيه ليست يف منْع دخوله النَّار ،أو دخوله
الجنَّة؛ وإنَّما يف التخفيف عنه من عذاب النَّار -والعياذ بال َّله .-
َ
شرح كتاب التوحيد 362
و َمن تطلب منه الشفاعة من دون ال َّله ال َيملك السموات وال َيملك
األرض.
ث يم قال المصنَّف( :وق ْوله﴿ :م ْن ذا ا َّل ِذي ي ْشفع ِع ْنده إِ ََّّل بِإِ ْذنِ ِه﴾)
أي :ال أحد َيشفع عند ال َّله إال إذا َأذن ال َّله له.
شرح كتاب التوحيد 364
لعن الدواب
( )1رواه مسلم ،كتاب البر والصلة واآلداب ،باب النهي عن ْ
365 مقرر الثلث األول
أن ِ
وتبج ٌيل للشافع ،ومعناهَّ : تعظيم وإ ْذن ال َّله للشافع ْ
أن َيشفع؛ فيه
ٌ
له منزلة عظيمة عند ال َّله ،فلو كان مسخوطا عليه؛ مل ْيؤذن له بالشفاعة.
عز َّ
وجل فليس َع العبد أل ْن يكون رجَل صالحا عالِما؛ ليكون ال َّله َّ
ْ
راضيا عنه ،ويؤذن له بالشفاعة يوم القيامة.
يدل عىل َّ
أن ك فِي السمو ِ
ات﴾) ُّ ثم قال( :وق ْوله﴿ :وكم ِم ْن مل ٍ
َّ ْ ي
ألن ال َّله َّ
عز أشرف من األرض؛ َّ
مساكن المَلئكة يف السماء ،والسماء ْ
وجل يف السماء. َّ
(﴿َّل ت ْغنِي شفاعته ْم ش ْيئ ًا﴾) َّ
فدل عىل َّ
أن شفاعة المَلئكة ال يمكن
أن تتح َّقق؛ إال إذا َأذن ال َّله لهم.
فإذا كان هذا حال المَلئكة ال يشفعون إال إذا َأذن ال َّله لهم؛ ِ
فمن َ
المدعوون من األموات من اإلنس ومن الصالحين األحياء. ُّ باب َأوىل
(﴿إِ ََّّل ِم ْن ب ْع ِد أنْ ي ْأذن ال َّله لِم ْن يشاء وي ْرضى﴾) ،وفيه الشرطان:
اإلذن والرضا.
قدْ رة ال َّله ،وم ْلكه ،وه ْي َمنَتِه ،وجبروته ،وكمال حكمه عىل خ ْلقه سبحانه.
( )1مجع فر ٍ
ط ،وهم األوالد الذين ماتوا صغارا .لسان العرب البن َ
منظور (.)367/7
( )2سبق تخريجه (ص) عند قوله (ويشترط يف الشفاعة َّأوالْ :
أن يكون هذا
أهل التوحيد).
الشافع من ْ
367 مقرر الثلث األول
تعجيز
ٌ قال عنها ابن القيم« :إنَّها َتقطع الشرك مِن عروقه»( ،)1فيها
لجميع الخ ْلق.
يعني :الذين تدعوهنم سواء يف الشفاعة ،أو غير الشفاعة؛ ضعفا ٌء.
وأسباب منْعهم من الشفاعة ،وتحريم دعوهتم من غير ال َّله؛ ثَلث ٌة:
ات وَّل فِي السبب األولَّ﴿( :ل يملِكون ِم ْثقال ذر ٍة فِي السمو ِ
َّ َّ ْ َّ
الذرة :الشي اليسير الخفيف جدا والصغير.
ض﴾)َّ ، األ ْر ِ
فإذا كان المخلوق ال يملك هذه؛ ِ
فمن باب َأوىل أنه ال يستطيع أن َ
َيشفع.
يهام ِم ْن ِش ْر ٍك) يعني :ليسوا شركاء
والسبب الثاين( :وما له ْم فِ ِ
َت َّ
كرم عىل ذلك المسجون أيضا بإخراجه من السجن.
فكَلمها َحصل عىل تشريف الملِك لهما.
أ َّما يف الدنيا فالشفاعة تنقسم إىل ثَلثة أقسا ٍم:
ربه أن يشفع فيه النبي ،أو األولْ : ِ
أن يدعو اإلنسان َّ القسم َّ
الصالحين أو غير ذلك؛ مِثل أن يقول الشخص :ال َّلهم شفع يفَّ نب َّيك أن
ٍ
عالية يف ٍ
منزلة الجنَّة ،أو :شفع يفَّ أبي أن أكون أنا وإياه يف
يرفع درجتي يف َ
الجنَّة.
َ
فهذا مشروع؛ أل َّنَِه دعاء ال َّله عز وجل.
شرح كتاب التوحيد 370
ِ
القسم الثاين :أن يدعو ميتا ،أو ح ييا فيما ال يقدر عليه إال ال َّله.
ٌ
شرك أكبر. فهذا
ِ
والقسم الثالث :شفاع ٌة دنيو يي ٌة.
إنسان آلخر كي َيدخل الجامعة ونحو ذلك. ٌ مِثل :أن َيشفع
فهذه مشروع ٌة ْ
بشرطين:
( )1رواه البخاري ،كتاب األدب ،باب تعاون المسلمين بعضهم بعضا،
رقم ( ،)6026ومسلم ،كتاب البر والصلة واآلداب ،باب استحباب
الشفاعة فيما ليس بحرامٍ ،رقم ( ،)2627من حديث أبي موسى رضي ال َّله
عنه.
( )2رواه البخاري ،كتاب الطَلق ،باب شفاعة النبي ﷺ يف زوج بريرة،
اس رضي ال َّله عنهما ،ولفظهَ « :أ َّن َز ْو َج رقم ( ،)5283من حديث ْاب ِن َع َّب ٍ
يث َ -ك َأني َأنْظر إِ َل ْي ِه َيطوف َخ ْل َف َها؛ َي ْبكِي َان َع ْبدا - ،ي َقال َله :م ِغ ٌ َب ِر َير َة ك َ
اسَ :يا َع َّباسَ ،أ َال َت ْع َجب مِ ْن َودموعه َت ِسيل َع َلى ل ِ ْح َيتِ ِهَ ،ف َق َال النَّبِ ُّي ﷺ ل ِ َع َّب ٍ
يه». ول ال َّل ِهَ ،ت ْأمرنِي؟ َق َال :إِنَّما َأنَا َأ ْش َفعَ .قا َل ْتَ :ال حاج َة لِي فِ ِ
َقا َل ْتَ :يا َرس َ
َ َ َ
شرح كتاب التوحيد 372
شيخ اإلسَلم ابن َتيم َّية رمحه ال َّله«( :نفى ال َّله ع َّام ِسواه ك َّل ما يتع َّلق بِ ِه
ربنا يف آية﴿( :ق ِل ا ْدعوا ا َّل ِذين زع ْمت ْم ِم ْن الم ْشرِكون) يعني :نفى ُّ
يع ما َيتع َّلق به أهل الشرك عىل سواه( ،فنفى أنْ يكون ِ د ِ ِ
ون ال َّله﴾) َجم َ
لِغ ْيرِ ِه م ْل ٌك ،أ ْو قِ ْس ٌط ِم ْنه) فنفى الم ْلك بقولهَّ﴿( :ل ي ْملِكون ِم ْثقال ذ َّر ٍة
يهام الش ِركَة بقوله﴿( :وما له ْم فِ ِ
ات وَّل فِي األ ْرض﴾) ،ونفى َّ فِي السمو ِ
َّ
ِم ْن ِش ْر ٍك﴾)( ،أ ْو يكون ع ْون ًا لِ َّل ِه) ونفى ال َّظ ِهير -وهو الم ِعين -بقوله:
(﴿وما له ِم ْنه ْم ِم ْن ظ ِهيرٍ﴾)( ،ول ْم ي ْبق) لهم شيء َيتش َّبثون به (إِ ََّّل
َّ
الشفاعة).
الشفاعة ِع ْنده إِ ََّّل لِم ْن أ ِذن له﴾) (أنَّها َّل
(فب َّين) بقوله﴿( :وَّل ت ْنفع َّ
ِ
الرب( ،كام قال: الر ُّب) يعني :عن رضا َّ ت ْنفع) ال تكون (إِ ََّّل لم ْن أ ِذن له َّ
شرح كتاب التوحيد 374
الشفاعة ا َّلتِي يظ ُّنها الم ْشرِكون ِهي ﴿وَّل ي ْشفعون إِ ََّّل لِم ِن ْارتضى﴾ فه ِذ ِه َّ
الشافِ َع َيتقدَّ م و َي ْش َفع القيام ِة كام نفاها الق ْرآن) وحقيقتهاَّ :
أنَِ َّ م ْنت ِفي ٌة ي ْوم ِ
لهم عند ال َّله من غير إذنه ،كما َي ْش َفع المخلوق عند المخلوق ،و َدلِيلها
الشافِ ِعي َن﴾ ،وقوله: والسنَّة :قوله تعاىلَ ﴿ :ف َما َتنْ َفعه ْم َش َفا َعة َّمن الكتاب ُّ
يع﴾( ،وأ ْخبر النَّبِ ُّي ﷺ :أنَّه ي ْأتِي في ْسجد ِ ِِ ِ ِ
﴿ َل ْي َس َله ْم م ْن دونه َول ٌّي َو َال َشف ٌ
الشفاع ِة أ َّو ً
َّل ،ث َّم يقال لهْ :ارف ْع ر ْأسك ،وق ْل لِرب ِه وي ْحمدهَّ ،ل ي ْبدأ بِ َّ
ي ْسم ْع ،وس ْل ت ْعط ،و ْاشف ْع تش َّف ْع).
َّاس بِشفاعتِك ي ْوم
سعد الن ِ (وقال له أبو هر ْيرة رضي ال َّله عنه« :م ْن أ ْ
حق النَّاس و َأ ْو َالهم مِ ْن أ َّمتِك يا َرس َ
ول ال َّله( ،قال) القيام ِة؟) يعنيَ :م ْن َأ ُّ
ِ
فأجابه الن َُّّبي ﷺ( ،م ْن قالَّ :ل إِله إِ ََّّل ال َّله؛ خالِص ًا ِم ْن ق ْلبِ ِه») يصدق قلبه
لسانه ،ولسانه قلبه.
ص بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه) ويف هذا قيد وشرط. الشفاعة ِأل ْه ِل ِ
ال ْخَل ِ (فتِ ْلك َّ
(وَّل تكون لِم ْن أ ْشرك بِال َّل ِه) فأبطل ﷺ زعمهم الكاذب ،وأخبر
ِ
الصالحين. أنَِها تنال بتَجريد التَّوحيد ل َّله وحده ،ال االلتجاء إىل َّ َّ
ص)ال ْخَل ِ (وح ِقيقته أ َّن ال َّله س ْبحانه هو ا َّل ِذي يتف َّضل على أ ْه ِل ِ
[]18
باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت ولكِ َّن ال َّله
يهْ ِدي م ْن يشاء﴾.
ب ،ع ْن أبِ ِيه قال« :ل َّام حضر ْت أبا حيحِ :ع ِن ا ْب ِن الـمس َّي ِ فِي الص ِ
َّ
ب الوفاة؛ جاءه رسول ال َّل ِه ﷺ و ِع ْنده ع ْبد ال َّل ِه ْبن أبِي أم َّية وأبو طالِ ٍ
ب، آخر ما قال :هو على ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ رسول ال َّل ِه ﷺ ،فأعادا ،فكان ِ
قال رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت
ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾).
أن ال َّله تعاىل نفى عن
ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الباب؛ لبيان َّ
ٍ
توفيق وإلها ٍم. النبي ﷺ أن يهدي أحدا هداية
لما كانت الهداية هي أعظم نفع لإلنسان ،والنبي ﷺ ال َيملك أن
و َّ
أن النبي ﷺ ال يستطيع أن َينفع أحدا إال بإذن ال َّله. دل عىل َّ يعطيها أحدا؛ َّ
وإذا كان هذا يف حق النبي ﷺ؛ فغ ْيره من المخلوقين مِن باب َأوىل
ٍ
ألحد نفعا إال بإذن ال َّله. ال َيملكون
ألحد نفعا ،ولو كان أقرب الناس إليه؛ ٍ أن النبي ﷺ ال َيملك فب يين َّ
عمه أبو طالب.
وهو ي
فإذا كان النبي ﷺ ال َيملك حتى ألقاربه نفعا :ال نجاة من النَّار،
أن غيرهم -مِن غير أقاربه – كذلك ال دل عىل َّ
الجنَّة؛ ي
وال دخوال إىل َ
َيملك لهم نفعا.
ودل عىل َّ
أن غير النبي ﷺ من األولياء والصالحين أيضا ال َيملكون ي
ٍ
ألحد نفعا وال ضرا.
شرح كتاب التوحيد 378
والفرق بين هذا الباب ،وبين الباب الذي قبله ببابين وهو( :باب ْ
ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم ي ْخلقون * وَّل
ي ْستطِيعون له ْم ن ْصرا﴾ اآلية) -والذي َذكر فيه قصة النبي ﷺ عندما
شج يوم ٍ
أحد: َّ
أن ذاك الباب :النبي ﷺ ال َيستطيع أن َيدفع عن ن ْفسه ي
ضرا ،وهذا َّ
الباب :النبي ﷺ ال َيجلب لغيره نفعا.
أن األمر ك َّله ل َّله.
فدل عىل َّ
َّ
وساق المصنَّف رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :ح َّتى إِذا فزع
ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ر ُّبك ْم قالوا الح َّق وهو العلِ ُّي الكبِير﴾) -؛ لبيان
العبادة ال َتصلح لهم. وأن ِ
عجز المَلئكة ،وض ْعفهمَّ ، ْ
وأن العبادة ال َتصلح أن تصرف
عجز النبي ﷺ ،وض ْعفهَّ ،
وهنا ب َّين ْ
له.
فإذا كان المَلئكة ،واألنبياء ال يجوز أن يصرف لهم شي ٌء؛ فغ ْيرهم
من باب َأوىل.
وساق المصنف رمحه ال َّله يف هذا الباب آية َّبوب عليها ،وحديثا:
أن النبي ﷺ ال يملك نفعا ألي ٍ
أحد. فساق اآلية؛ لبيان َّ
َ
379 مقرر الثلث األول
ٍ
ألحد ،ولو من وساق الحديث؛ لبيان َّ
أن النبي ﷺ ال َيملك نفعا
أ ْقرب الناس إليه ،وأنْفعهم له يف دعوته.
لذا قال رمحه ال َّله( :باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت
ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾).
النبي ﷺ َيهدي.
أن َّآيات َّ
جاءت ٌ
أن النبي ﷺ ال َيهدي. آيات َّ
وجاءت ٌ
﴿وإِن ََّك فمن اآليات التي جاءت يف َّ ِ
أن النبي ﷺ َيهدي؛ قوله تعاىلَ :
يم﴾ [الشورى.]52:اط م ْست َِق ٍ
َلتَه ِدي إِ َلى ِصر ٍ
َ ْ
أن النبي ﷺ ال َيهدي؛ هذه اآلية﴿( :إِ َّنك َّلومِن التي جاءت يف َّ
ِ
تهْ دي م ْن أ ْحب ْبت).
( )1رواه مسلم ،كتاب القدَ ر ،باب تصريف ال َّله تعاىل القلوب كيف شاء،
رقم ( ،)2654من حديث عبد ال َّله بن عمرو بن العاص رضي ال َّله عنهما،
ِ ِ
ب وب َبني آ َد َم ك َّل َها َب ْي َن إِ ْص َب َع ْي ِن م ْن َأ َصابِ ِع َّ
الر ْح َم ِنَ ،ك َق ْل ٍ ولفظه« :إِ َّن قل َ
اح ٍد ،ي َصرفه َح ْيث َي َشاء».
و ِ
َ
381 مقرر الثلث األول
فهداية التوفيق واإللهام ،وج ْعل الق ْلب يهتدي بتغييره؛ هذه ال
َيملكها إال ال َّله ،وهي المذكورة يف صدْ ر هذا الباب﴿( :إِ َّنك َّل تهْ ِدي م ْن
يم﴾ [الفاتحة.]6: ِ ﴿اه ِدنَا الص َر َ
اط الم ْستَق َ أ ْحب ْبت) ،وكما يف قولهْ :
والقسم الثاين :هداية الداللة ،واإلرشاد ،والتوجيه. ِ
يضل المهتدي؛ كما قال الضال ،أو َّ ي أن َيهديفَل َيملك وال غيره ْ
ان َق ْومِ ِه لِي َبي َن َله ْم﴾ ،فالرسل
ول إِ َّال بِلِس ِ
َ
﴿وما َأرس ْلنَا مِ ْن رس ٍ
َ سبحانهَ ْ َ َ :
فقط يب يينون؛ ﴿ َفي ِض ُّل ال َّله َم ْن َي َشاء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َشاء﴾ [إبراهيم.]4:
حيحِ ). ثم قال رمحه ال َّله( :فِي الص ِ
َّ ي
أحيانا يف الحديث الصحيح.
ٍ
مسلم. وأحيانا يف صحيح البخاري أو صحيح
وأحيانا معناها :يف البخاري ومسلم.
أي :يف الحديث الصحيح الذي ا يتفق عليه ِ ِ
الصحيحِ ) ْ
وهنا (فـي َّ
ومسلم.
ٌ البخاري
ُّ
ب ،ع ْن أبِ ِيه قال« :ل َّام حضر ْت أبا طالِ ٍ
ب الوفاة). (ع ِن ا ْب ِن المس َّي ِ
أن األعمال بالخواتيم؛ كما قال ﷺَ « :ف َو ا َّل ِذي َال
ويدل أيضا عىل َّ
ي
الجنَّة َحتَّى َما َيكون َب ْينَه َو َب ْين ََها إِ َّال إِ َل َه َغ ْيره إِ َّن َأ َحدَ ك ْم َل َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل َ
اعَ ،ف َي ْسبِق َع َل ْي ِه الكِتَاب؛ َف َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل النَّارَ ،ف َيدْ خل َهاَ ،وإِ َّن ذ َر ٌ
ِ
ِ
اعَ ،فيَ ْسبِق َأ َحدَ ك ْم َل َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل النَّارَ ،حتَّى َما َيكون َب ْينَه َو َب ْين ََها إِ َّال ذ َر ٌ
ِ ِ
البخاري
ُّ َع َل ْيه الكتَاب؛ َف َي ْع َمل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل َ
الجنَّةَ ،ف َيدْ خل َها» رواه
ومسلم(.)1
ٌ
أن يدعو كثيرا ْ
بأن فاألعمال بالخواتيم؛ لهذا َينبغي للمسلِم ْ
حسن ال َّله له الخاتِمة؛ فَل َيعلم ماهي الخاتمة التي يختَم له هبا.
ي ِ
ٍ
طالب َيعلم معنى هذه الكلمة؛ مل َينطق هبا ،ألنَّه َيعلم ولما كان أبو
ي
التبرؤ من المشركين ،ومِن آلهتهم ،وعنده عبد ال َّله بن أبي ب َّ
أن معناها :ي
جهلٍ.
أم َّية ،وأبو ْ
( )1رواه البخاري ،كتاب التوحيد ،باب قوله تعاىل﴿ :و َل َقدْ سب َق ْت كَلِمتنَا ل ِ ِعب ِ
ادنَا َ َ َ َ َ
ين﴾ [الصافات ،]171 :رقم ( ،)7454ومسلم ،كتاب القدر ،باب الم ْر َسلِ َ
ِ
وشقاوته ِ
وعمله ِ
وأجله كيفية خ ْلق اآلدمي يف بطن أ يمه وكتابة ْ
رزقه
ٍ
مسعود رضي ال َّله عنه. ِ
وسعادته ،رقم ( ،)2643من حديث عبد ال َّله ابن
شرح كتاب التوحيد 386
مرق مِن دينه ،ف َبقي عىل األَ َنفة لئَل ي َت َك يلم ب َّ
أنَِه يف آخر حياته َ و َّ
جل وعَل وغيره يف القرآن ،فقال﴿ :إِنَّه ْم كَانوا واالستكبار ،كما َوصفه ي
ون﴾ [الصافات.]35:إِ َذا قِ َيل َله ْم َال إِ َل َه إِ َّال ال َّله َي ْس َت ْكبِر َ
ٍ
طالب عن قول تلك فبحضور هذين الصاحبين؛ استكبر أبو
الكلمة.
والقلوب بيد ال َّله ،يق يلبها كيف يشاء.
ُّ
ويدل عىل شفقة النبي ﷺ بجميع أفراد أ َّمته ،فحتى َمن حضره
النزع؛ يذهب إليه و َيدعوه كما يف هذا الحديث.
ْ
اليهودي؛ زاره ي مر َض الغ ََلم لما ِ
وكما يف صحيح البخاري(َّ « :)1
اإل ٍس ََل ِمَ ،فنَظر الغَلم إِ َلى َأبِ ِيهَ ،ف َق َال َلهَ :أطِ ْع َأ َبا
النبي ﷺَ ،و َد َعاه إِىل ِ
ُّ
خرج النَّبي ﷺ مِن ِع ِ ِ
ند َهذا الغ ََلم َو َو ْجهه َيت ََأل َأل»، ُّ ال َقاسمَ ،فأس َلمَ ،ف َ َ َ
كافر؛ ليدعوه إىل اإلسَلم عند النزع.
فزار النبي ﷺ الغَلم الصغير وهو ٌ
السن ،وهو أبو طالب؛ ليدعوه إىل اإلسَلم.
وزار الشيخ الكبير يف ي
( )1رواه البخاري ،كتاب الجنائز ،باب إذا أسلم الصبي فمات ،هل يصىل عليه،
ٍ
أنس وهل يعرض عىل الصبي اإلسَلم ،رقم ( ،)1356من حديث
رضي ال َّله عنه.
387 مقرر الثلث األول
ُّ
فيدل هذا عىل أنَّه ال احتقار يف دعوة اآلخرين مهما كان الذي
أمامك ،حتى ولو يف آخر َر َم ٍق يف حياته؛ فإنَّك تدعوه إىل الخير ،وإىل
الصراط المستقيم.
ٍ
طالب هو الذي َيحوط النبي ﷺ ،ويناصره ،ويؤازره وقد كان أبو
كافر؛ لكنه كان يدافع عنه مح يية ،وعصب يية ،ومل يدافع
عىل هذا الدين ،وهو ٌ
عنه ألجل هذا الدين.
ٍ
طالب؛ توفيت خديجة رضي ال َّله عنها بعده لما مات أبو
ث يم ي
بأيا ٍم - ،وهي التي أيضا كانت تحوطه ﷺ -؛ فسمي هذا العام عام ٍ
حزن ي ي
فكل َمن كان ينصره من البشر يف ذلك الزمن قد تو يفي.
عىل النبي ﷺ؛ ُّ
طالب؛ اشتدي ْأزر المشركين ألذية النبي ﷺ. ٍ ولما مات أبو
َّ
(فقاَّل له) أي :رفقاء السوء( :أت ْرغب ع ْن ِم َّل ِة ع ْب ِد الم َّطلِ ِ
ب؟!)
أن َتترك الشرك ،وتدخل يف اإلسَلم؟ ي َعنفانه.
يعني :هل تريد ْ
ٍ
طالب َيعلمون أن أبا جهلٍ ،وعبد ال َّله بن أبي أم َّية ،وأبا
فدل عىل َّ
َّ
( )1رواه مسلم ،كتاب اإليمان ،باب َّأول اإليمان قول ال إله إال ال َّله ،رقم (،)25
من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
389 مقرر الثلث األول
فدل عىل أنه يشرع تلقين من َحضر ْته الوفاة كلمة التوحيد؛ لف ْعل
َّ
النبي ﷺ هنا ،ولقوله عليه الصَلة والسَلمَ « :لقنوا َم ْو َتاك ْم َال إِ َل َه
إِ َّال ال َّله»()1
( )1رواه مسلم ،كتاب الجنائز ،باب تلقين الموتى ال إله إال ال َّله ،رقم (،)916
من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال َّله عنه.
( )2رواه مسلم ،كتاب اإليمان ،باب من مات ال يشرك بال َّله شيئا؛ دخل َ
الجنَّة،
ذر رضي ال َّله ومن مات مشركا؛ دخل النَّار ،رقم ( ،)154من حديث أبي ٍّ
ات َع َلى َذل ِ َك إِ َّال َد َخ َل
عنه ،ولفظهَ « :ما مِ ْن َع ْب ٍد َق َالَ :ال إِ َل َه إِ َّال ال َّله ،ث َّم َم َ
الجنَّة».
َ
شرح كتاب التوحيد 390
الحسرة؛
يعض عىل يديه ،وهذه كناية عىل شدة َ
فمن صاحب سيئا؛ ي
َ ،]29
بأ َّنه ا يتخذ رفيق ٍ
سوء.
ورفيق السوء مر ٍد لك إىل األعمال ال َّطال ِحة ،وم ِ
بعدك عن األعمال ْ
الصالحة.
391 مقرر الثلث األول
كل يو ٍم يف الصباح ويف المساء. بكر رضي ال َّله عنه َّ أبا ٍ
( )1كتاب اللباس ،باب هل يزور صاحبه كل يو ٍم ،أو بكرة وعشيا ،رقم (.)6079
شرح كتاب التوحيد 392
فخ يف َ
ف عنه العذاب؛ لنصرته للنبي ﷺ.
ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾) يعني :يف شأن وحال أبي طالب ،وعدم
قدرة النبي ﷺ عىل هدايته.
أي :يا محمد :ن ْقل القلوب من الكفر إىل اإليمان ،ومن اإليمان إىل
ْ
الكفر ليست لك؛ وإنَّما مِن مقتضيات ربوبيتنا ،فالذي يملك القلوب
هو ال َّله.
نظرت إىل أسباب الهداية؛ فهي متوفرةٌ.
َ ولو
وكبير يف السن،
ٌ عمه ﷺ ،وقريبهَ ،ينصره ،و َيحوطه،
فهو ُّ
والنبي ﷺ كان ح ييا؛ بل َحضر إليه ،ول يقنه ،وأعاد عليه كلمة التوحيد؛ بل
ست ْغ ِفر َّن لك) ،ومع ذلك مل َيملك النبي ﷺ شيئا من ذلك. قال( :أل ْ
لمن هو إليه أقرب يف النسب من فدل عىل َّ
أن النبي ﷺ ال َيملك َ ي
﴿و َال َتدْ ع غيره شيئا ،وعىل أ َّنه ال َيملك لغيره نفعا وال ضرا؛ قال تعاىلَ :
ون ال َّل ِه َما َال َينْ َفع َك َو َال َيض ُّر َك َفإِ ْن َف َع ْل َت َفإِن ََّك إِذا مِ َن ال َّظال ِ ِمي َن *
مِن د ِ
ْ
ف َله إِ َّال ه َو َوإِ ْن ي ِر ْد َك بِ َخ ْي ٍر َف ََل َرا َّدَاش َوإِ ْن يمسس َك ال َّله بِضر َف ََل ك ِ
ٍّ َ َْ َ ْ
ال َغفور َوه َو اد ِه
ِعب ِ
َ مِ ْن َي َشاء َم ْن بِ ِه ل ِ َف ْضلِ ِه
ي ِصيب
الر ِحيم﴾ [يونس.]107 - 106:َّ
فإذا كان هذا النبي ﷺ يف هذا المقام العظيم ،ويف حضور عمه ،ال
أن ال َّله هو الذي َيملكه بالهداية واإللهام؛ ي
دل عىل أ َّنه يملك ق ْلب ٍ
أحد ،و َّ َ
تتوجه القلوب إىل ال َّله ْ
وحده، أن ي يجب ْ
كما يف صحيح مسلم( :)1يف آخر الليل يدعو يف إن النبي ﷺ َبل ي
دعاء االستفتاح ،فيقول« :ال َّله َّم َر َّب َج ْب َرائِ َيلَ ،ومِي َكائِ َيلَ ،وإِ ْس َرافِ َيل،
( )1كتاب صَلة المسافرين وقصرها ،باب الدعاء يف صَلة الليل وقيامه،
397 مقرر الثلث األول
َو َتن ِْزع الم ْل َك مِ َّم ْن َت َشاء َوت ِع ُّز َم ْن َت َشاء َوت ِذ ُّل َم ْن َت َشاء بِ َي ِد َك ال َخ ْير إِن ََّك
َع َلى كل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾ [آل عمران.]26:
والضر بيد ال َّله وحده ،و َمن تع َّلق بال َّله كفاه ال َّله ي َّ
فدل عىل أن النفع
كل شأنه؛ قال تعاىلَ ﴿ :و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى ال َّل ِه َفه َو َح ْسبه﴾ [الطَلق.]3:
َّ
***
399 مقرر الثلث األول
[]19
باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم هو الغل ُّو
حينفِي الصالِ ِ
َّ
اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾. وق ْول ال َّل ِه عزَّ وج َّل﴿ :يا أ ْهل الكِت ِ
اس ر ِضي ال َّله عنهام فِي ق ْو ِل ال َّل ِه ع َّز وج َّل: فِي الص ِ
حيحِ :ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ َّ
﴿وقالوا َّل تذر َّن آلِهتك ْم وَّل تذر َّن ود ًا وَّل سواع ًا وَّل يغوث ويعوق
حين ِم ْن ق ْو ِم نوحٍ ،فل َّام هلكوا؛ أ ْوحى ال صالِ ِون ْسر ًا﴾؛ قال :ه ِذ ِه أسامء ِرج ٍ
ْ
الش ْيطان إِلى ق ْو ِم ِه ْم :أ ِن ا ْن ِصبوا إِلى َمالِ ِس ِهم ا َّلتِي كانوا ي ْجلِسون فِيهاَّ
سامئِ ِه ْم ،ففعلوا ،فل ْم ت ْعب ْد ،ح َّتى إِذا هلك أولئِك
أ ْنصاب ًا ،وس ُّموها بِأ ْ
ون ِسي ِ
الع ْلم؛ عبِد ْت».
اح ٍد ِمن السل ِ
ف :ل َّام ماتوا؛ عكفوا على وقال ابن القي ِم« :قال غير و ِ
َّ ْ ْ
ور ِه ْم ،ثم ص َّوروا تامثِيله ْم ،ثم طال عل ْي ِهم األمد؛ فعبدوه ْم».
قب ِ
وع ْن عمر ر ِضي ال َّله عنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قالَّ« :ل ت ْطرونِي كام
أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم ،إِنَّام أنا ع ْب ٌد ،فقولوا :ع ْبد ال َّل ِه ورسوله»
أ ْخرجاه.
شرح كتاب التوحيد 400
اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام قال :قال رسول ال َّل ِه ﷺ« :إِ َّياك ْموع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ
يح. ح ٌيث ص ِ
والغل َّو ،فإِنَّـام أهلك م ْن كان ق ْبلكم الغل ُّو» ح ِد ٌ
ولِـم ْسلِمٍ :ع ِن ا ْب ِن م ْسعودٍ ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال:
«هلك المتنطعون -قالها ثَلث ًا .»-
الشرح:
دونه ال َيملكون
فمن ْ لما َذكر المصنف رمحه ال َّله َّ
أن النبي ﷺ َ َّ
مضرة ٍ
أبواب ك ُّلها يف الغلو؛ ليب يين ٍ
ألحد نفعا وال ضرا؛ َأعقبها بثَلثة
َّ
الغلو ،وأنَّه سبب الكفر.
فساق هذا الباب؛ قال رمحه ال َّله( :باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم
ِ ِ ِ ِ ِ
األول.
الصالحين) ،هذا هو الباب َّ وت ْرك ِه ْم دينه ْم هو الغل ُّو في َّ
يظ فِيم ْن عبد ال َّله
ثم بعد ذلك الباب الثاين( :باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ
َّ ي
ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!).
ور الصالِ ِ ِ
حين يصيرها والباب الثالث( :باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ
ون ال َّل ِه).
أ ْوثان ًا ت ْعبد ِم ْن د ِ
يعنيَ :ذكر رمحه ال َّله السبب ،ث يم التغليظ ،ث يم بعد ذلك ماذا َيؤول
وعقد هذه الثَلثة األبواب متتالية؛ ألمهيتها.
الغلوَ ،
ي إليه هذا
401 مقرر الثلث األول
ٌ
شرك ،وكانوا عىل الحنيف َّية. ولما َخلق ال َّله األرض مل يكن عليها
َّ
لما َهلك الصالحون من قوم نوحٍ ؛ َوضعوا لهم تماثيل؛ ليزدادوا
ث يم َّ
من العبادة ،فك َّلما رأوا صورة ذلك الرجل الصالح؛ َيزدادون من العبادة،
هذا كان قصدهم فقط؛ من باب المح َّبة والتعظيم ألولئك الصالحين؛
لينشطوا يف العبادة.
فلما طال عليهم األمد -كما سيأيت -؛ َأتى الشيطان إىل َمن َّ
إن هذه الصور مل تج َعل إال لتع َبد؛ فعبِدَ ت.
بعدهم ،وقال :ي
ٌ
شرك. ث يم بعد ذلك َأرسل ال َّله الرسل؛ لبيان َّ
أن هذا
فدل عىل َّ
أن سبب وقوع الكفر يف األرض؛ التصوير. ي
فإذا قيل لك :كيف َوقع الشرك يف األرض؟
تقول :بسبب التصوير.
وهنا قال المصنَّف( :ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم
ٍ
عباس. حين) بتصوير صورهم ،كما هو قول ابن هو الغل ُّو فِي الصالِ ِ
َّ
ت عىل ولهذا يحرم التصوير بجميع أنواعه وألوانه :مِن نح ٍ
ْ َي
ٍ
رسم باليد ،ومن تصوير المتحرك ،ومن الصخور ،أو األحجار ،ومن
تصوير الثابت.
شرح كتاب التوحيد 402
والحديثَ « :ل َع َن ال َّله الم َصو َر»( ،)1عا ٌّم؛ فاأللف والَلم للعموم.
كل م َص يو ٍر فِي النَّار».
وأيضا يف مسلم(ُّ « :)2
الق َيا َم ِة ا َّل ِذي َن ي َضاه َ
ون َّاس َع َذابا يوم ِ
َْ َ وقال النبي ﷺَ « :أ َشدُّ الن ِ
بِ َخ ْل ِق ال َّل ِه» - ،يعني :الم َص يور ْون « ،-ويقال َلهمَ :أ ْحيوا َما َخ َل ْقت ْم»،
البخاري ومسلم( ،)3من حديث عائشة رضي ال َّله عنها.
ي والحديث يف
والتصوير المتحرك أشد يف الفتنة من التصوير الثابت.
أن َترى رجَل وهو َيتحرك ويتك يلم؟ أو تريد
فلو قيل لك :هل تريد ْ
صورة ٍ
ثابتة؟ ٍ ْ
أن ترى رجَل وهو يف
( )1رواه البخاري ،كتاب اللباس ،باب َمن ل َعن المصور ،رقم ( ،)5962من
حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي ال َّله عنه ،ولفظهَّ « :
أن الن ََّّبي ﷺ
َل َع َن الم َصو َر».
لكن ِ
المرآة ليس فيها فتن ٌة؛ ألهنا ال َتثبت ،وتزول صورة الناظر. َّ
فهذا الفرق بين الثابتِ ،
والمرآة.
سلوكية ،وأخَلق َّي ٍة ،وأحيانا
ٍ عما يف الصور من مفاسد
هذا ناهيك َّ
وأنواع من الشرك ،كمثل ما عند الطوائف
ٌ ٌ
ألوان مما يوضع فيها
عقد َّية؛ َّ
األخرى.
فقال( :باب ما جاء) أي :من اآليات ،ومِن قول الصحابة ،وأهل
العلم ،واألحاديث( ،أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم) بعد أن كان بنو آدم عىل
ِ
التوحيد( ،وت ْركِ ِه ْم ِدينه ْم) أي :ما جاء يف سبب ْترك بني آدم دينهم وهو
التوحيد.
وترك الم َّلة فأول ك ٍ ِ ِ ِ
فر يف األرضْ ، الصالحين) ي
(هو الغل ُّو فـي َّ
الحنيف َّية؛ كان بسبب الغلو يف الصالحين بتصويرهم.
والغلو :هو مجاوزة الحد(.)1
ُّ
ٌ
وسط بين اإلفراط ،والتفريط. وهذه األ َّمة
فالنصارى َأفرطوا يف عيسى ،وقالوا :إنَّه ابن ال َّله.
بغي -والعياذ بال َّله .-
واليهود َّفرطوا يف عيسى ،وقالوا :إنَّه ابن ٍّ
وسط قالت :هو عبد ال َّله ورسوله.
ٌ وهذه األ َّمة
شرك الناس هو يف الصالحين؛ ألن النفوس مجبول ٌة عىل ِ وأكثر
محبتهم ،وتعظيمهم.
فأتى اإلسَلم بالنهي عن إعطاءهم شيئا من الربوبية ،فحقهم
االحترام ،والتبجيل ،وعدم إيذاءهم ،والدعاء لهم؛ لكن َيحرم ْ
أن نَرفعهم
ٌ
شرك. إىل منزلة األلوهية فهو
َهض َمهم ح َّقهم باألذية ،أو عدم احترامهم؛ قال ويحرم أيضا أن ن ِ
َ
عليه الصَلة والسَلم :قال ال َّله عز وجلَ « :م ْن َعا َدى لِي َول ِ ييا َف َقدْ آ َذنْته
بِ َ
الح ْر ِ
ب»(. )1
( )1رواه البخاري ،كتاب الرقاق ،باب التواضع ،رقم ( ،)6502من حديث أبي
هريرة رضي ال َّله عنه.
407 مقرر الثلث األول
الغلو يف
ُّ لما َّبوب هبذه الترمجة العظيمة ،و َّ
أن السبب يف الكفر هو ث يم ي
ٍ
نصوص: الصالحين؛ َذكر األد َّلة عىل ذلك ،فساق ستة
اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾) -؛ لبيان
األول – (﴿يا أ ْهل الكِت ِ
الن َُّّص َّ
النهي عن الغلو.
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما -؛ لبيان أ َّن والنَّص الثاين – حديث ابن
سبب من أسباب الغلو.
التصوير هو ٌ
سبب من الن َُّّص الثالث -وهو قول ابن القيم -؛ لبيان َّ
أن العكوف ٌ
أسباب الغلو يف الصالحين.
أن النبي ﷺ هنى أن يغلو أحدٌ فيه؛ فقالَّ« :ل والن َُّّص الرابع؛ لبيان َّ
ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم».
والن َُّّص الخامس« :إِ َّياك ْم والغل َّو»؛ لبيان التحذير من الغلو حتى يف
غير النبي ﷺ.
ِ
الغال متوعَّدٌ والنَّص السادس« :هلك المتنطعون»؛ لبيان َّ
أن
بالهَلك -والعياذ بال َّله .-
اب َّل ت ْغلوا فِي
فقال رمحه ال َّله( :وق ْول ال َّل ِه عزَّ وج َّل﴿ :يا أ ْهل الكِت ِ
ِدينِك ْم﴾).
شرح كتاب التوحيد 408
الغلو يخرج الشخص مِن هذا الدين؛ إذا كان غل يوا يوصل إىل مرتبة
ُّ
األلوهية أو الربوبية.
حذرهم ال َّله من ذلك فقال﴿( :يا وألن اليهود والنصارى غ َلوا؛ ََّّ
أ ْهل الكِت ِ
اب َّل ت ْغلوا﴾) ،ويف اآلية األخرى قال﴿ :ق ْل َيا َأ ْه َل الكِت ِ
َاب َال
َت ْغلوا﴾ [المائدة.]77:
اب َّل ت ْغلوا فِي ِدينِك ْم﴾) فَل ت َع يظموا األنبياء ،وال
(﴿يا أ ْهل الكِت ِ
الصالحين.
ِ
وحده
فردوه ْ ﴿و َال َتقولوا َع َلى ال َّله إِ َّال ال َح َّق﴾ [النساء]171:؛ ْ
أيَ :أ ِ َ
بالعبادة ،وال َتجعلوا غيره من المخلوقين يف مرتبة األلوهية.
ربا ،والنصارى َغ َلوا أيضا يف وجعلوه ي واليهود َغ َلوا يف ع َزيرَ ،
ت ال َيهود ع َز ْي ٌر ْابن ال َّل ِه عيسى ،وجعلوه إلها؛ كما قال تعاىل﴿ :و َقا َل ِ
َ
اه ِهم ي َض ِِ ِ ِ ِ ِ
ون َق ْو َلاهئ َ َو َقا َلت الن ََّص َارى ال َمسيح ْابن ال َّله َذل َك َق ْوله ْم بِ َأ ْف َو ْ
ن َق ْبل﴾ [التوبة.]30:
ِ ِ
ين َك َفروا م ْ ا َّلذ َ
الخطاب لليهود والنصارى ،وهو أيضا أل َّمة محمد؛ يعني :يا وهذا ِ
محمد ال َتغلوا يف نب ييكم كما َغلت النصارى يف عيسى ،وكما َغلت ٍ أ يمة
اليهود يف ع َز ٍير.
409 مقرر الثلث األول
محم ٍد ﷺ؟
إذا كيف نَنظر إىل نب يينا َّ
نقول :كما قال هو عن ن ْفسه«( :فقولوا :ع ْبد ال َّل ِه ورسوله») بعد ما
قالَّ«( :ل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم ،إِنَّام أنا ع ْب ٌد»).
ومعنى (ع ْبد ال َّل ِه ورسوله) :منزل ٌة عظيم ٌة ،جليل ٌة ،فالرسالة ال
ألحد بعده؛ فإذا أعطيناه منزلة عالية. ٍ يمكن أن تكون
والعبودية التي هي العبودية الخاصة؛ رتب ٌة عالي ٌة ال ينالها إال َمن
وجعله عبدا من عباده الخاصين. اصطفاه ال َّله ي
عز وجلَ ،
وإال﴿ :ك ُّل َم ْن
الخاصة ،وليست العبودية العامة؛ َّ
َّ فالمراد :العبودية
ِ فِي السماو ِ
ض إِ َّال آتي َّ
الر ْح َم ِن َع ْبدا﴾ [مريم ،]93:والعبودية ات َواألَ ْر ِ َّ َ َ
الخاصة ال تكون إال لمن أطاع ال َّله.
َّ
ِ
قلت( :ع ْبد ال َّله ورسوله) تقول :يا ي
محمد أنت من الع يباد فكأنك إذا َ
الخالصين ل َّله ،وأنت الرسول الذي اصطفاك ال َّله بالرسالة.
فأنت أعطيته قدْ ره ،وأيضا مل تتجاوز ،ومل َتطعن يف مقام الربوبية،
أنت عبدٌ ل َّله ،وأنت فلم تقل :أنت يا محمد َتملك نفعا أو ضرا؛ بل َ
قلتَ :
رسول ل َّله.
شرح كتاب التوحيد 410
اس ر ِضي ال َّله ع ْنهام فِي ثم بعد ذلك قال( :فِي الص ِ
حيحِ :ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ َّ ي ْ
ق ْو ِل ال َّل ِه عزَّ وج َّل﴿ :وقالوا َّل تذر َّن آلِهتك ْم وَّل تذر َّن ود ًا وَّل سواع ًا وَّل
حين ِم ْن ق ْو ِم نوحٍ )،
ال صالِ ِ يغوث ويعوق ون ْسر ًا﴾؛ قال :ه ِذ ِه أسامء ِرج ٍ
ْ
نوح عليهما السَلم كانت األرض عىل التوحيد أن مِن زمن آدم إىل ٍ وذلك َّ
ٌ
شرك. ال يوجد فيها
وجل نوحا إىلعز َّ
نوح؛ لذلك َبعث ال َّله َّ
عهد ٍ ٍ
وأول شرك َحدث يف ْ َّ
سنة -عىل التوحيد، قرون -يعني :أ ْلف ٍ ٍ قومه وكانوا مِن ق ْبل عشرة
ض﴾؛ أي :بالشرك والمعاصيَ ﴿ ،ب ْعدَ وال َّله قالَ ﴿ :و َال ت ْف ِسدوا فِي األَ ْر ِ
إِ ْص ََل ِح َها﴾ [األعراف]56:؛ أي :ب ْعد أن كانت عىل التوحيد.
(فل َّام هلكوا) يعني :لما مات هؤالء الصالحون.
ِ
الش ْيطان إِلى ق ْوم ِه ْم) يعنيَّ :
لما ماتوا صار قومهم َيتحدثون (أ ْوحى َّ
ليتنشطوا عىل العبادة ،فقال لهم الشيطان -وهو َّ بأفعالهم الصالحة؛
بقوة عىل العبادة( :ا ْن ِصبوا إِلى َمالِ ِس ِهم) أي:
يمكر هبم :-حتى تتنشطوا ٍ
َ
مجالس الصالحين التي كانوا يجلسون فيها (أ ْنصاب ًا) يعني :ضعوا فيها
تماثيل ،ليس ألجل أن تعبدوهم؛ وإنَّما إذا رأيتم صورهم َتنشطون عىل
سامئِ ِه ْم).
العبادة( ،وس ُّموها بِأ ْ
413 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب َق ْول ِ ِه َت َعا َلىَ ﴿ :فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا
َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ
ون﴾ [البقرة ،]22 :رقم ( ،)4477ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب
كون الشرك أقبح الذنوب ،وبيان أعظمها بعده ،رقم (.)86
415 مقرر الثلث األول
فأرسل ال َّله رسوال َيتلو رسوال؛ حتى ينهاهم عن هذا الذنْب الذي
َوقع يف األرض بسبب التصوير؛ لذلك يجب أن ال يتهاون المسلِم يف
التصوير ،كما قد هتاون الناس فيه هتاونا ملحوظا.
المصورين ،وإنَّما ينظر إىل الحرمة،
ي وال َينظر الشخص إىل كثرة
حتى لو ا َّتفق مجيع الناس أو تواطؤوا عىل التصوير.
فَل تصور ذوات األرواح ،أ َّما الشجر ،والحجر ،والجبل؛ ما فيه
بأس.
ٌ
مما يتن يفس ويموت؛ فهذا ال يجوز تصويره؛
أ َّما من ذوات األرواح َّ
ٍ
ومسلم. لألحاديث السابقة التي يف البخاري
استدل المصنَّف رمحه ال َّله بقول بعض السلف ،الذي ي ث يم بعد ذلك
َن َقله ابن القيِم( :وقال ا ْبن القي ِم ر ِحمه ال َّله) يف كتابه إغاثة ال َّلهفان(:)1
ور ِه ْم)،
ف :ل َّام ماتوا؛ عكفوا على قب ِ اح ٍد ِمن السل ِ
َّ
(قال غير و ِ
ْ
والبركة. الحب ،والتعظيم، مكان؛ ِ
معتقدا فيه ٍ العكوف :هو المكث يف
َ ُّ
قال( :ثم طال عل ْيهم األمد؛ فعبدوه ْم) - ،والعياذ بال َّله ،-فيحرم
شخص -مثَل -عند ٍ
قبر و َيجلس عنده معظما له طالبا عنده ٌ أن يذهب
ٌ
شرك أكبر. البركة؛ فهذا
ويحرم أيضا أن َيمكث عند القبر ولو مل َيعرفه ،و َيجلس عنده؛
البركة؛ ال يجوز؛ ألنه وسيل ٌةمعظما لصاحب ذلك القبر ولو مل َيعتقد فيه َ
إىل عبادته من دون ال َّله ،لذلك قال النبي ﷺَ « :ال َتت ِ
َّخذوا َق ْب ِري
مر ٍة. ِ
عيدا»()1؛ يعني ي َعاد َّ
مرة بعد َّ
قال رمحه ال َّله( :وع ْن عمر ر ِضي ال َّله ع ْنه أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال:
«َّل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم).
ساق المصنَّف رمحه ال َّله هذا الحديث؛ لبيان تحريم الغلو يف
النبي ﷺ.
الغلو
ي وإذا كان النبي ﷺ هنى عن الغلو فيه؛ فمن باب َأوىل ال يجوز
الغلو هو سبب كفر بني آدم.
َّ يف غيره من الصالحين؛ ألن
الغلو يف الصالحين. ٍ
شرك َوقع يف األرض بسبب فأول
ي
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)8804من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 418
قالَّ( :ل ت ْطرونِي) اإلطراء :مجاوزة الحد سواء يف الكَلم ،أو يف
األعمال ،أو يف االعتقادات(.)1
ٍ
منزلة أعىل من فَل يجوز إطراء النبي ﷺ بالقول؛ بأن ي ْجعل يف
عز َّ
وجل إ َّياها. المنزلة التي أنزله ال َّله َّ
الغلو فيه يف االعتقاد بأنَّه َينفع ،أو َيضر ،ولو مل يتك َّلم
ُّ وكذا ال يجوز
باللسان.
الغلو يف النبي ﷺ بالجوارح؛ مثل :االنحناء ،أو
ي وكذلك ال يجوز
الخضوع يف الجسد حال السَلم عىل النبي ﷺ.
لذلك قالَّ( :ل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم) ،فيحذر ﷺ
أ يمته؛ أل َّن األمم السابقة َهلكت بسبب التعظيم ،والنصارى ما َهلكت إال
ٍ
ثَلثة» ،وقالوا« :ثاين بسبب عيسى؛ قالوا« :إنَّه إل ٌه» ،وقالوا« :ثالث
اثنين» ،وكذلك اليهود َغلت يف ع َز ٍير؛ فجعلوه ابن ال َّله.
لما رأى َمن َهلك من األمم السابقة ،فقال: فالنبي ﷺ ي
حذر أ َّمته؛ َّ
(َّل ت ْطرونِي كام أ ْطر ْت النَّصارى ا ْبن م ْريم) وقالوا :إ َّنه إله.
ولما ب َّين النبي ﷺ أنَّه ال يجوز إطراءه؛ ب َّين منزلته عليه الصَلة
َّ
والسَلم؛ فقال( :إِنَّام أنا ع ْب ٌد) أي :ليس يل شي ٌء من مقتضيات الربوبية
من النفع ،أو د ْفع الضر ،أو مغفرة الذنوب ،أو شفاء المرضى ونحو
ذلك.
فإذا ماذا نقول لك؟ قال( :فقولوا) أي :بالكَلم العدْ ل الوسط:
(ع ْبد ال َّل ِه ورسوله) وهي منزل ٌة عظيم ٌة.
الخاصة التي يمدح عليها المرء ،وقد َبلغ
َّ (ع ْبد ال َّل ِه) هذه العبودية
النبي ﷺ غايتها؛ فَل يجوز أن يعبد من دون ال َّله.
(ورسوله) أي :أعطي مقام الرسالة؛ فتجب طاعته.
ورسول ،ال َأملك نفعا
ٌ فالنبي ﷺ هنى أ َّمته عن الغلو ،وقال :أنا عبدٌ
وال ضرا.
قال تعاىلَ ﴿ :فإِن ََّما َع َلى َرسولِنَا البَ ََلغ المبِين﴾ [التغابن،]12:
﴿و َما َأنَا َع َل ْيك ْم بِ َوكِيلٍ﴾ [يونس،]108: ِ
﴿وإِن ََّما َأنَا نَذ ٌير﴾ [العنكبوتَ ،]50: َ
﴿و َما َأنَا َع َل ْيك ْم َ ْت َع َل ْي ِه ْم بِ َوكِيلٍ﴾ [األنعام،]107: ﴿و َما َأن َ َ
َاك بِال َحق َب ِشيرا َون َِذيرا َوإِ ْن مِ ْن أ َّم ٍة إِ َّال
يظ﴾ [األنعام﴿ ،]104:إِنَّا َأ ْر َس ْلن َبِح ِف ٍ
َ
شرح كتاب التوحيد 420
أن ترفع رجَل فوق منزلته ،وتدعوه من دون ال َّله؛ هذا ٌّ
غلو. يعنيْ :
والطواف بالكعبة :ف َيغلو يف الكعبة ،و َيعتقد أهنا تنفع وتضر،
تبرك هبا؛ فيهلك.
ويتمسح هبا ،و َي َّ
ي
يتبرك بت ْر َبتها ونحو ذلك؛ فيه َلك.
والمشاعر كذلك؛ َّ
وكذلك قبور الصالحين واألولياء؛ يعتقد أهنا تنفع وتضر؛ فيغلو
و َيهلك.
است َِق ْم ك ََما
أن اإلنسان ال َيغلو؛ كما قال تعاىلَ ﴿ :ف ْ
واألصل َّ
( )1رواه البخاري ،كتاب اإليمان ،باب الدين يسر ،رقم ( ،)39من حديث أبي
هريرة رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 422
فَل َيتك يلف اإلنسان ال يف الم ْلبس ،وال يف الكَلم ،وال يف المط َعم
والمشرب ،وال َيتك َّلف يف المشية ،وال َيتك َّلف يف المسكن؛ فيكون عىل
َ
سج ييته يف كل شيء.
قال( :إِ َّياك ْم) أي :أحذركم من (الغل ُّو) ،لماذا؟
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)25089من حديث عائشة رضي ال َّله عنها.
423 مقرر الثلث األول
ألنَّه هو سبب الهَلك ،فقال( :فإِنَّام أهلك م ْن كان ق ْبلكم الغل ُّو)،
وهلك اليهود بالشرك بسبب
فهلك النصارى بالشرك بسبب الغلوَ ،
َ
نوح بالشرك بسبب الغلو ،وهكذا. وهلك قوم ٍالغلوَ ،
ٍ
شيء َيهلك ،فمن غَل يف الملبس فوق ما أمِ َر به؛ َيهلك. ومن غَل يف
بغض.ومن غَل يف مشيته يتبختر؛ هلك ،وأ ِ
ومن تشدَّ ق يف كَلمه؛ َهلك ،وأ ِ
بغض. َ
و َمن غَل يف اإلسراف؛ َهلك؛ قال ال َّله﴿ :إِ َّن الم َبذ ِري َن كَانوا إِ ْخ َو َ
ان
الش َياطِ ِ
ين﴾ [اإلسراء.]27: َّ
وعدم التك ُّلف وعدم الغلو؛ هو الذي َجعل النبي ﷺ مقبوال يف
األرض ،ومقبوال بين الصحابة ،وسبب مح َّبة الصحابة رضي ال َّله عنهم
له.
والحديث رواه أمحد عن ابن عباس(.)1
[]20
يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل
باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ
َّ
صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!
حيحِ :ع ْن عائِشة ر ِضي ال َّله عنها« :أ َّن أ َّم سلمة ذكر ْت فِـي الص ِ
َّ
الصو ِر؛ فقال: ض الحبش ِة ،وما فِيها ِمن ُّ ول ال َّل ِه ﷺ كنِيس ًة رأ ْتها بِأ ْر ِ
لِرس ِ
اجد -يحذر ما صنعوا ،ول ْوَّل ذاك أ ْبرِز ق ْبره؛ غ ْير أنَّه خ ِشي أنْ ي َّتخذ
مس ِ
م ْس ِ
جد ًا »-أ ْخرجاه.
427 مقرر الثلث األول
ب رضي ال َّله عنه قال :س ِم ْعت رسول ال َّل ِه ﷺ ولِم ْسلِ ٍم :ع ْن ج ْند ٍ
س وهو يقول« :إِني أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه أنْ يكون لِي ِم ْنك ْم ق ْبل أنْ يموت بِخ ْم ٍ
اهيم خلِي ً
َل. َل كام اتَّخذ إِبر ِ
ْ خلِ ٌيل ،فإِ َّن ال َّله ق ِد اتَّخذنِي خلِي ً
َل؛ َّلتَّخ ْذت أبا ب ْكرٍ خلِي ً
َل. خذ ًا ِم ْن أ َّمتِي خلِي ً
ول ْو ك ْنت مت ِ
َّ
اجد ،أَّل فَل خذون قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ أَّل وإِ َّن م ْن كان قبلكم كانوا يت ِ
َّ ْ ْ
اجد؛ إِني أ ْنهاك ْم ع ْن ذلِك».
خذوا القبور مس ِ تت ِ
َّ
آخرِ حياتِ ِه ،ثم إِنَّه لعن -وهو فِـي السي ِ
اق -م ْن فق ْد نهى ع ْنه فِي ِ
فعله.
ج ٌد -وهو م ْعنى قولِها: الصَلة ِع ْندها ِم ْن ذلِك -وإِنْ ل ْم ي ْبن م ْس ِ
و َّ
الصحابة ل ْم يكونوا لِي ْبنوا ح ْول ق ْبرِ ِه «خ ِشي أنْ ي َّتخذ م ْس ِ
جد ًا»؛ فإِنْ َّ
م ْس ِ
جد ًا.
جد ًا؛ ب ْل ك ُّل م ِ
الصَلة فِ ِيه فق ِد اتخذ م ْس ِ ِ ِ ِ
وض ٍع وك ُّل موض ٍع قصدت َّ
جد ًاجد ًا؛ كام قال النَّبِ ُّي ﷺ« :ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ
يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ
وطهور ًا».
شرح كتاب التوحيد 428
ود رضي ال َّله عنه م ْرفوع ًا« :إِ َّن ِم ْن و ِأل ْحمد بِسن ٍد جي ٍد :ع ْن اب ِن مسع ٍ
ْ ْ
خذون القبور َّاس :م ْن ت ْد ِركهم الساعة وهم أ ْحيا ٌء ،وا َّل ِذين يت ِِشر ِار الن ِ
َّ ْ َّ
يح ِه».
ح ِاجد» .ورواه أبو حاتِ ٍم فِي «ص ِ مس ِ
الشرح:
عز َّ
وجل كأن سائَل يسأل :ما الحكم إذا صليت ل َّله َّ
يف هذه الترمجة َّ
مخلِصا يف هذه الصَلة له وحده ،لكن عند قبر رجلٍ ،ما الحكم يف ذلك؟
يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛
الجواب( :باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ
َّ
فكِيف إِذا عبده؟!).
يعني :ما حكم ْ
أن َيفعل المسلم طاعة من الطاعات عند القبور؟
الحكم يف ذلك :ال يجوز ،وهو وسيل ٌة كبير ٌة إىل الشرك؛ بل قال
شيخ اإلسَلم« :الصَلة عند القبور – يعني :ل َّله -هو عين المحا يدة ل َّله
ورسوله»(.)1
المسلِم ركعتين -مثَل -عند ٍ
قبر. فَل يجوز ْ
أن يصلي ْ
فإذا قيل :ما حكم الصَلة يف المسجد الذي فيه قبر؟
ِ
نقولَ :ذهب أهل العلم إىل بطَلن الصَلة يف المسجد الذي فيه ٌ
قبر.
فإذا كان المسجد محاطا بأربعة جدران ،والقبر يف داخله؛ ال يجوز
الصَلة فيه؛ بل هي باطل ٌة؛ كما قال ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم
رمحه ال َّله( ،)1وكما َذكر ذلك الشيخ ابن ٍ
باز رمحه ال َّله()2؛ ببطَلن الصَلة
قبر.
يف المسجد الذي فيه ٌ
قبر؛ ال تجوز ،إال ما جاء النيص هبا ،وهو ٍ
عبادة عند ٍ وهكذا ُّ
كل
الدعاء للميت فقط.
أن َيتصدي ق العبد يف المقابر؛ ألهنا عباد ٌة ل َّله ال يجوز
يعني :ال يجوز ْ
ف ْعلها يف المقابر ،وكذلك ال َيأخذ المصحف و َيقرأ القرآن يف المقابر.
ومنهي ْ
أن تتَّخذ المقابر أماكن ٌّ فالعبادات ال تف َعل يف المقابر،
للعبادات.
لذلك قال النبي ﷺَ « :و َال َت ْج َعلوا بيو َتك ْم قبورا»()3؛ يعني :ال
َتجعلوها كالمقابر؛ ال ي َص َّلى فيها ،وال يؤ َّدى فيها عبادةٌ؛ بمعنى :أ َّنه
َأ َنسا رضي ال َّله عنه يصلي إىل القبر؛ فقال عمر« :ال َق ْبر الق ْبر»؛ ْ
أي :احذر
القبر ،وابتَعد عنه.
متقر ٌر عند الصحابة تحريم الصَلة عند القبر ،والبعد عنه.
فهو ي
ٍ
شيء من هذه لصرف والشيطان له َم ٌ
كبير يف إغواء بني آدم؛ ْ
دخل ٌ
العبادة للميت ،أو الخضوع له ،أو ي
الذل له ،أو الخوف منه ،أو طلب
الرجاء.
ٍ
عبادة عند القبور؛ بل أي
لذلك سدي ا لباب الذريعة؛ ال يجوز ف ْعل ي
غ يلظ النبي ﷺ يف ذلك؛ بل ل َعن؛ بل َذكر أهنم من شرار القوم عند ال َّله،
( )1رواه البخاري ،كتاب الصَلة ،باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ،ويتَّخذ
مكاهنا مساجد ،رقم (.)427
شرح كتاب التوحيد 432
فكأنه يقول لك :فِ ْعل العبادة ل َّله عند القبر وسيل ٌة للشرك األكبر،
فكيف إذا عبده؟
يعني :احذر فقد يؤ يدي بك الشيطان إىل عبادته من دون ال َّله.
دعوت ربك ،ث يم يخيل لك الشيطان َّ
أن استجابة الدعاء بسبب َ فلو
ذلك الم ييت ،فيزيغ الشيطان قلبك؛ فتؤدي العبادات لذلك القبر من
عز َّ
وجل. دون ال َّله َّ
بمن
محذور؛ فكيف َ
ٌ فإذا كان هذا النهي وهي عباد ٌة ل َّله َّ
لكن المكان
َيفعل عبادة يصرفها لغير ال َّله ،كمثل َمن يطوف عىل القبر ،أو يدعوه من
دون ال َّله ،أو يذبح له وغير ذلك -والعياذ بال َّله .-
433 مقرر الثلث األول
( )1رواه البخاري ،كتاب الصَلة ،باب كنْس المسجد والتقاط الخرق والقذى
والعيدان ،رقم ( ،)458ومسلم ،كتاب الجنائز ،باب الصَلة عىل القبر،
رقم ( ،)956من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ « :أ َّن ا ْم َر َأة َس ْو َدا َء
َت َتق ُّم ال َم ْس ِجدَ َ -أ ْو َش يابا َ -ف َف َقدَ َها َرسول ال َّل ِه ﷺَ ،ف َس َأ َل َعن َْها َ -أ ْو
كَان ْ
اتَ ،ق َالَ « :أ َف ََل كنْت ْم آ َذنْتمونِي» َق َالَ :ف َك َأنَّه ْم َص َّغروا َعنْه َ -ف َقالواَ :م َ
َأ ْم َر َها َ -أ ْو َأ ْم َره َ -ف َق َال« :د ُّلونِي َع َلى َق ْب ِر ِه» َفدَ ُّلوهَ ،ف َص َّلى َع َل ْي َها ،ث َّم َق َال:
ور َم ْملو َء ٌة ظ ْل َمة َع َلى َأ ْهلِ َهاَ ،وإِ َّن ال َّل َه َع َّز َو َج َّل ينَور َها َله ْم ِ ِ
«إِ َّن َهذه القب َ
بِ َص ََلتِي َع َل ْي ِه ْم».
( )2رواه أبو داود ،كتاب الجنائز ،باب االستغفار عند القبر للميت يف وقت
االنصراف ،رقم ( ،)3221من حديث عثمان رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ :
ان
اس َت ْغ ِفروا ِألَ ِخيك ْم، ِ
ف َع َليْهَ ،ف َق َالْ « :
النَّبِي ﷺ ،إِ َذا َفر َغ مِن د ْف ِن المي ِ
ت َو َق َ َ ْ َ َ ُّ
وسلوا َله بِال َّت ْثبِ ِ
يتَ ،فإِنَّه اآل َن ي ْس َأل». َ َ
شرح كتاب التوحيد 434
ث يم َذكر رمحه ال َّله أحاديث تب يين التغليظ يف ذلك بأنه وسيل ٌة من
وسائل الشرك.
والتع يلق بالصالحين بعد مماهتم هو أكبر أبواب الشرك ،والدخول
خاصة من العوام.
فيها ،والولوغ فيه َّ
فإذا رأوا رجَل صالحا ،أو عابدا ،أو زاهدا ،أو عالما مات؛ تتعلق
القلوب به ،بالعكوف عنده ،وبطلب استجابة الدعوات ،وتفريج
الكربات ،واالستغاثات؛ بسبب جهلهم؛ فنفوسهم تتع يلق بالصالحين.
وسبق (َّ )1
أن المصنَّف رمحه ال َّله َذكر ثَلثة أبواب يف هذا المعنى يف َ
الغلو يف الصالحين يف هذا الباب ،والباب السابق ،ث يم الباب القادم.
ٍ
نصوص يف هذا الباب: والمصنَّف رمحه ال َّله َذكر أربعة
الصالِح) -؛ لبيان
الرجل َّ ك إِذا مات فِ ِ
يهم َّ
النَّص األول – (أولئِ ِ
َّ
ٍ
صور للميت فيها من عادة اليهود ووضع
أن بناء القبور عىل المساجد ْ َّ
والنصارى.
ولما تو يفي أبو سلمة؛ َسمعت قول النبي ﷺ« :إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه َّ
ف لِي َخ ْيرا مِن َْها»(.)1ون ،ال َّله َّم ْأج ْرنِي فِي م ِصي َبتِيَ ،و َأ ْخلِ ْ ر ِ
اجع َ َ
فقالتَ :من يل خير مِن أبي سلمة؟ ،وقالت هذا الدعاء إيقانا بال َّله
خير من أبي سلمة ،والحديث يف عز َّ
وجل بالنبي ﷺ ٌ فعوضها ال َّله َّ
أيضا؛ ي
المسنَد(.)2
َفرأت تلك الكنيسة( ،وما فِيها ِمن ُّ
الصو ِر) أي :مِن صور معبوداهتم
من دون ال َّله من صالحيهم وغير ذلك ،أو من الصور المع َّظمة عندهم.
فلما كانت يف الحبشة هناك؛ رأت كنيسة؛ َّ
ألن الحبشة كانت يف ذلك َّ
للنبي ﷺ ما رأت يف الكنيسة ،وما فيها من
الزمان أرض نصارى ،فحكت ي
ألن مِن فِرق النصارى َمن يصور يف كنائسهم؛ يصور مريم ،أو
التصاوير؛ َّ
يصور عيسى ،وبعض الفرق ال تصور ،وال يضعون تصاوير ال لمريم وال
لعيسى عليهما السَلم.
( )1رواه مسلم ،كتاب الجنائز ،باب ما يقال عند المصائب ،رقم (،)918
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم (.)16344
437 مقرر الثلث األول
فذكرت أ ُّم سلمة رضي ال َّله عنها ذلك للنبي ﷺ؛ فقال النبي ﷺ َ
ك) بالكسر؛ َّ
ألن محذرا لها ،ومنبها من فعلهم وصنيعهم (فقال :أولئِ ِ
ْ
ك إِذا مات فِ ِ
يه ِم َّ
الرجل المخا َطب أنثى -يعني :يا أم سلمة ( -أولئِ ِ
الصالِح -أ ِو العبد الصالِح ،)-فالنفوس منذ ِ
القدَ م تتع َّلق بالصالحين َّ ْ َّ
أكثر إذا ماتوا ،والشيطان يحرص عىل هذا؛ كما ف َعل يف قوم نوحٍ .
صالح؛ سعى الشيطان إىل إغواء العوا يم يف تع يلق ٌ فإذا مات رج ٌل
ٍ
متتالية. ٍ
قرون القلب به؛ لتصرف العبادة له من دون ال َّله ،ولو بعد
فهنا َيفعلون أمرين:
األول( :بن ْوا على ق ْبرِ ِه م ْس ِ
جد ًا) أيَ :يجعلون قبره يف داخل األمر َّ
مكان ث يم يبنون حوله مسجدا. ٍ معبدهم ،أو يضعونه يف
وليس المراد فقط تشييد المسجد باألعمدة والبناء؛ وإنَّما َيجعلون
عنده مكانا للصَلة ،فيأتون عنده ،ويعكفون عنده ،ويزورونه.
سمى مسجدا؛ كما يفسر هذا شيخ اإلسَلم -كما والصَلة ت َّ
الصَلة فِ ِيه فق ِد ا ُّتخذ م ْس ِ
جد ًا؛ ب ْل ك ُّل ِ ِ ِ
سيأيت ( :-وك ُّل موض ٍع قصدت َّ
بن؛ بدليل قول النبي ﷺ: وإن مل ي َجد ًا)ْ ،وض ٍع يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِ
م ِ
شرح كتاب التوحيد 438
«ج ِع َل ْت ل ِ َي األَ ْرض َم ْس ِجدا َو َطهورا»( ،)1فالمراد هناَ :بنوا عىل قبره
مسجدا؛ يأتون ويص يلون عنده ل َّله.
واألمر الثاين الذي َيفعلونه؛ قال( :وص َّوروا فِ ِيه تِ ْلك ُّ
الصور)؛
ليتذكروا ذلك الرجل الصالح.
َمن هؤالء الصنف؟ وما موقف اإلسَلم منهم؟ وما مقدارهم
عند ال َّله؟
ك) يعني :يا أم سلمةِ ( ،شرار الخ ْل ِق
قال رسول ال َّله ﷺ( :أولئِ ِ
( )1رواه البخاري ،كتاب الصَلة ،باب قول النبي ﷺ« :ج ِع َل ْت لِي األَ ْرض
َم ْس ِجدا َو َطهورا» ،رقم ( ،)438ومسلم ،كتاب المساجد ومواضع
الصَلة ،باب جعلت يل األرض مسجدا وطهورا ،رقم ( ،)521من حديث
جابر رضي ال َّله عنه.
439 مقرر الثلث األول
وضع َّ
فدل عىل تحريم تعظيم قبور الصالحين سواء بالبناء عليها ،أو ْ
عليها مسجدا ،أو ج ْعل الدفن يف المسجد.
لما مات د َفنه الصحابة يف بيته يف بيت عائشة
وأ َّما ق ْبر النبي ﷺ ،فإنَّه َّ
لما قال لهم أبو بكر :سمعت رضي ال َّله عنها وليس يف المسجد؛ َّ
ِ
ح ْيث ي ْق َبض»(.)1النبي ﷺ يقولَ « :ما قبِ َض نَبِ ٌّي إِ َّال دف َن َ
َّ
فلما مات الخلفاء الراشدون رضي ال َّله عنهم ،ومل َ
يبق أحدٌ من َّ
الصحابة يف المدينة؛ َأدخل الوليد بن عبد الملك توسعة شرقية َ
فجعلها
داخل المسجد ،وإال فالنبي ﷺ مل يدفن يف المسجد وإنَّما يف بيته.
قال ابن تيمية( :فهؤَّل ِء جمعوا ب ْين الف ْتنتين :فِ ْتن ِة القب ِ
ور)؛ ألنَّهم َبنوا
يل)؛ ألنَّهم َص َّوروا عليها تلك الصور. عليها( ،وفِ ْتن ِة ال َّتامثِ ِ
( )1رواه ابن ماجه ،كتاب الجنائز ،باب ذكْر وفاته ﷺ ،رقم ( ،)1628من
حديث ابن عباس رضي ال َّله عنهما.
شرح كتاب التوحيد 440
المكث.
َيذهب.
( )1سبق تخريجه (ص) عند قوله( :والحديثَ « :ل َع َن ال َّله الم َصو َر»).
441 مقرر الثلث األول
رمق يف حياة النبي ﷺ ،وانظر إىل اجد) ،فانظر إىل آخر ٍ قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ
تصاب هذه األمة باللعنة؛ باتخاذ قبره مسجدا ،حتى أتى حديث أبو ٍ
بكر
أن األنبياء يدفنون يف المكان الذي قبِضوا فيه.
رضي ال َّله عنه َّ
فكان قبره ﷺ مصونا محفوظا يف بيت عائشة رضي ال َّله عنها؛ من
فسلِمت هذه األمة من اتخاذ قبر نبيها
أن يأيت الناس ،ويص ُّلون إىل قبرهَ ،
ْ
مسجدا.
ي
ودل الحديث عىل أنَّه ال يجوز اتخاذ قبور األولياء ،وال األنبياء؛
مكانا يعبد ال َّله فيه.
فإذا كان المسجد الذي تؤ َّدى فيه العبادة ل َّله ،ال يجوز أن يصىل فيه
قبر ألنَّه كبير ٌة من كبائر الذنوب؛ فكيف بمن يصلي ،أو
إذا كان فيه ٌ
َيصرف العبادة لغير ال َّله؟!
الغلو يف قبور الصالحين.
ي ألن مِن أسباب الشرك
ونهي عن ذلك؛ َّ
وقد َذكر ابن القيم رمحه ال َّله بطَلن الصَلة يف المسجد الذي فيه
قبر(.)1
ٌ
( )1رواه البخاري ،كتاب الصَلة ،باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ،ويتخذ
مكاهنا مساجد ،رقم (.)427
445 مقرر الثلث األول
فقوله( :بِخ ْم ٍ
س) أي :مخسة أيا ٍم؛ أي :أن هذا الحكم مل ينسخ ،فهو
من آخر ما قاله النبي ﷺ.
أن مطلع دعوة النبي ﷺ يف التوحيد؛ «قولوا َال إِ َل َه
ويدل أيضا عىل َّ
ًّ
إِ َّال ال َّله ت ْفلِحوا»( ،)1وختامها بالتمسك بالتوحيد ،والتحذير من وسائل
الشرك.
قال سمعته وهو يقول( :إِني أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه) ،التبري :كلمة وعيد،
والمراد به ليس من أتباع النبي ﷺ.
والمراد هنا( :أ ْبرأ إِلى ال َّل ِه) أي :أعلن وأبرئ ذمتي يف أنَّه ليس يف
ألحد من الخلق. ٍ ن ْفسي خ َّل ٌة
يحب شخصا ل َّله؛
ُّ (أنْ يكون لِي ِم ْنك ْم خلِ ٌيل) ،فمثَل لو َّ
أن شخصا
يحب البشر بعضهم بعضا ل َّله من الرسل
َّ فهذه المحبة عبادةٌ ،فيجوز ْ
أن
ويحب النبي ﷺ صحابته ،والصحابة يح يبون النبي ﷺي ومن دوهنم،
محبة ال ت ِ
خ ُّل بمحبة ال َّله.
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)16023من حديث ربيعة بن عباد الدييل
رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 446
أن َأصرف ْ
مرتبة الخ َّلة له؛ كما َّ
أن إبراهيم (اتَّخذنِي) :اصطفاين ْ
عليه السَلم خليل ال َّله.
وجل ا َّتخذ النبي ﷺ خليَل ،فقوله(:فإ ِ َّن ال َّله ق ِد
عز َّ أن ال َّله َّ
ث يم بين َّ
يدل عىل إثبات صفة الخ َّلة ل َّله سبحانه وتعاىل كما َل) ،هذا ُّ اتَّخذنِي خلِي ً
يليق بجَلله وعظمته ،وهي منزل ٌة أعىل من المحبة.
بأن ال َّله ا َّتخذ خليلين له؛ إبراهيم ،ومحمد ص َّلى ال َّله
وجاء النص َّ
عليهما وس َّلم.
ِ
وجل ا َّتخذ خليَل غيرمها؛ لكن مل يأت به ٌّ
نص. عز َّ
وقد يكون ال َّله َّ
447 مقرر الثلث األول
أي :أنه يجوز للمسلم أن يدعو ال َّله أن يتَّخذه خليَل كما ا َّتخذ
إبراهيم خليَل.
تكر ٌم اهيم خلِي ً
َل) وهذا ُّ
َل كام اتَّخذ إِبر ِ
ْ (فإِ َّن ال َّله ق ِد اتَّخذنِي خلِي ً
وجل عىل إبراهيم ومحمد ص َّلى ال َّله عليهما وس َّلم. عز َّمن ال َّله َّ
َل َّلتَّخ ْذت أبا ب ْكرٍ خلِي ً
َل) خذ ًا ِم ْن أ َّمتِي خلِي ً
قال( :ول ْو ك ْنت مت ِ
َّ
ألحد لكانت ألبي ٍ
بكر. ٍ يعني :لو كان يف قلبي خ َّل ٌة
رواية؛ قال« :و َلكِن َأ ِخي وص ِ
احبِي«؛ ٍ ويف صحيح البخاري( )1يف
َ َ َ ْ
يعني :مح َّبة وليست خ َّلة.
الشاهد( :أَّل وإِ َّن م ْن كان ق ْبلك ْم) أي :األمم السابقة من اليهود
والنصارى.
( )1رواه البخاري ،كتاب أصحاب النبي ﷺ ،باب قول النبي ﷺَ « :ل ْو كنْت
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما، مت ِ
َّخذا َخلِيَل» ،رقم ( ،)3656من حديث ابن
ومسلم ،كتاب فضائل الصحابة رضي ال َّله تعاىل عنهم ،باب من فضائل
ٍ
مسعود الصديق أبي ٍ
بكر رضي ال َّله عنه ،رقم ( ،)2383من حديث ابن
رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 448
جد ًا؛ كام قال وض ٍع يص َّلى فِ ِيه يس َّمى م ْس ِجد ًا؛ ب ْل ك ُّل م ِ خذ م ْس ِا ُّت ِ
جد ًا وطهور ًا»). النَّبِ ُّي ﷺ« :ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ
ٍ
مكان فهو مسجدٌ ،فإذا قصدت قصدت الصَلة يف األول :إذا
َ األمر َّ
تبن عليه شيئا.قبر فيعتبر مسجدا وإن مل ِ الصَلة عند ٍ
ت الصَلة فِ ِيه فق ِد ا ُّت ِ
خذ م ْس ِ
جد ًا)؛ وض ٍع ق ِصد ِ
واألمر الثاين( :وك ُّل م ِ
َّ
مثل :الحرم ق ِصد فيه الصَلة؛ فهو مسجدٌ ،وكذلك مسجد الحي.
ٍ
مكان يص َّلى فيه فهو مسجدٌ . ُّ
فكل
مكان فيه قبر ،ال ِ
تأت وتصل فيه؛ ألن النبي ﷺ ل َعن َمن ا يتخذ ٍ ُّ
وكل
ٌ
القبور مساجد.
يت مسجدا بناية عىل قبر؛ فهو مسجد ،وإذا مل ِ
تبن عىل يعني :إذا بن َ
صليت من غير بن ٍ
اية؛ فهو أيضا مسجدٌ . َ القبر بناية وإنما
واستدَ َّل بما يف الصحيحين«( :ج ِعل ْت لِي األ ْرض م ْس ِ
جد ًا
فكل األرض إذا صلي فيها تعتبر مسجدا للمسلِم.
وطهور ًا»)ُّ ،
شخص :النبي ﷺ ل َعن من بنى المساجد عىل القبور
ٌ فلو قال لك
وعبدَ ها ،ونحن مل نعبدْ ها؛ وإنَّما نحن نريد أن نصلي عند القبر من
غير بن ٍ
اء؟
تقول :هذا َيدخل يف النهي.
451 مقرر الثلث األول
ثم بعد ذلك قال رمحه ال َّله( :و ِأل ْحمد بِسن ٍد جي ٍد :ع ْن اب ِن مسع ٍ
ود ْ ْ ي
رضي ال َّله عنه م ْرفوع ًا« :إِ َّن ِم ْن ِشر ِار الن ِ
َّاس :م ْن ت ْد ِركهم َّ
الساعة وه ْم
أ ْحيا ٌء»).
شرا -والعياذ بال َّله .- (إِ َّن ِم ْن ِشر ِار الن ِ
َّاس) أي :أشدُّ الناس ي
شر الخ ْلق صنفان:
و ُّ
األول( :م ْن ت ْد ِركهم َّ
الساعة وه ْم أ ْحيا ٌء) يعني :الذين تقوم الصنف َّ
عليهم الساعة.
فالساعة تقوم وال يوجد أحدٌ يقول( :ال َّله ال َّله) ،فتأيت آخر الزمان
إيمان – حتى لو كان يف ٍ
غار-؛ ٍ ريح باردةٌ ،فَل َتدع رجَل يف قلبه ذر ٌة من
ٌ
إال و َتنزع َ
روحه.
ث يم تقوم الساعة عىل ِشرار الخلق؛ ألهنم ال َيعبدون ال َّله.
اجد) ،وهم الذين خذون القبور مس ِ والصنف الثاين( :وا َّل ِذين يت ِ
َّ
يأتون إليها ،و َيعكفون ،ويص ُّلون ،حتى لو كانت العبادة مصروفة ل َّله؛
فكيف إذا َعبدوا أصحاب القبور.
ٌ
شرك بال َّله. وإذا َعبدوا صاحب القبر؛ فهذا
فمن يفعل ذلك؛ فهو ٍ
بحجر ونحوهَ ، وإذا بنوا عليه مسجدا حسيا
من شرار الناس -والعياذ بال َّله .-
قال( :ورواه أبو حاتِ ٍم).
فدل الباب عىل َّ
أن العبادات ال تؤدى عند القبور حتى وإن كانت ي
***
453 مقرر الثلث األول
[]21
ور الصالِ ِ ِ
حين يصيرها أ ْوثان ًا باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ
ون ال َّل ِه
ت ْعبد ِم ْن د ِ
روى مالِ ٌك فِـي «المو َّطأ»؛ أ َّن رسول ال َّل ِه ﷺ قال« :ال َّله َّم َّل ت ْجع ْل
ق ْبرِي وثن ًا ي ْعبدْ ،اشتدَّ غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم
مس ِ
اجد».
اه ٍد فِـي ق ْولِ ِه: و َِّل ْب ِن جرِيرٍ بِسن ِد ِه :ع ْن س ْفيان ،ع ْن م ْنص ٍ
ور ،ع ْن َم ِ
الَلت والعزَّى﴾.
﴿أفرأ ْيتم َّ
الس ِويق ،فامت؛ فعكفوا على ق ْبرِ ِه». قال :كان يل ُّت لهم َّ
اس رضي ال َّله عنهام« :كان يل ُّت اء ،ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍوكذا قال أبو الج ْوز ِ
السن ِن.
السرج» رواه أ ْهل ُّاجد و ُّ خ ِذين عل ْيها المس ِ ور ،والمت ِ
َّ القب ِ
شرح كتاب التوحيد 454
الشرح:
ور الصالِ ِ ِ
حين يصيرها قال رمحه ال َّله( :باب ما جاء أ َّن الغل َّو فـي قب ِ َّ
ون ال َّل ِه).
أ ْوثان ًا ت ْعبد ِم ْن د ِ
(باب ما جاء) أي :من األد َّلة ،والبراهين ،واألمثلة التي َوقعت عىل
ور الصالِ ِ ِ
حين) أو غير الصالحين، (أ َّن الغل َّو) وهو مجاوزة الحد( ،في قب ِ َّ
ألن النفوس َتضعف عند ق ْبر َّ
الرجل الصالح. ص الصالحين؛ َّ
ولكن خ َّ
المسلِم ْ
أن ِ
الغلو يف الصالحين ،فعىل ْ
ُّ فمن أعظم وسائل الشرك:
يكون هنْجه الوسط فَل َيرفعهم فوق مرتبتهم ،وال َيحقرهم؛ بل الواجب
تبجيلهم ،واحترامهم؛ فهم ورثة األنبياء ِ
بالعلم ال بالدرهم وال بالدينار.
أن لهم شأنا عظيما ،و َّ
أن لهم من مرتبة ولما اعتقد بعض الناس َّ
َّ
وقوع يف الشرك؛ ف َعقد المصنف رمحه ال َّله هذه
ٌ الربوب َّية ما لهم؛ كان منهم
ٍ
أبواب :هذا الباب ،والبابين السابقين. المسألة يف ثَلثة
درأ ليس خشي َة ْ
أن يعبدوا مجيعهم؛ وإنَّما لو والغلو يف الصالحين ي َ
ُّ
شخص واحدٌ ؛ فهنا تقع المفسدة؛ لهذا َذكر المصنف رمحه ال َّله
ٌ عبِدَ حتى
وب يين لك َّ
أن سبب عبادة الَلت التي َعكف عليها آالف البشر كان بسبب
الغلو.
ي
455 مقرر الثلث األول
أمور: المسلِم ْ
أن يكون متوازنا يف زيارة القبور ،ف َيجعل َمقصده ثَلثة ٍ ْ
وها َفإِن ََّها
األول :العظة والعبرة؛ كما يف الحديثَ « :فزور َ األمر َّ
ت َذكرك ِم اآل ِخ َر َة»(.)1
األمر الثاين :وفاء للميت إذا ق ِصد بعينه كاألب أو األ يم أو األخ.
األمر الثالث :الدعاء للميت.
فمن زاد عن هذه األمور الثَلثة؛ فقد َوقع يف المحظور.
َ
فَل يع َكف عندها ،وال ي َ
دعى عندها ،وال تد َعى هي.
ويأيت الشيطان بشبهة القبور؛ َّ
ألن الرجل الصالح م يي ٌت ال يستطيع
أن ينكِر ما َوقع عىل قبره.
ْ
( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)1236من حديث عيلٍ رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 456
األول – (ال َّله َّم َّل ت ْجع ْل ق ْبرِي وثن ًا ي ْعبد) -؛ لبيان خطورة
النَّص َّ
الغلو يف قبور الصالحين؛ فالنبي ﷺ دعا َّأال يكون وثنا( ،)1وهنى – كما
سيأيت -أن يتَّخذ قبره عيدا(.)2
ٍ
عباس ومجاهد -؛ لبيان َّ
أن سبب عبادة والنَّص الثاين – قول ابن
ٍ
صالح. الغلو يف رج ٍل
ُّ الَلت هو
ور) -؛ لبيان َّ
أن والنَّص الثالث – (لعن رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ
ات القب ِ
ٌ
مالك يف الموطأ ،كتاب الصَلة ،باب جامع الصَلة ،رقم ( ،)85من ( )1رواه
حديث عطاء بن يسار رضي ال َّله عنه ،ولفظه« :ال َّله َّم َال َت ْج َع ْل َق ْب ِري َو َثنا
ي ْع َبد».
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)8804من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه،
َّخذوا َق ْب ِري ِعيدا».
ولفظهَ « :ال َتت ِ
شرح كتاب التوحيد 458
لئ ََّل يغَل يف قبره؛ أي :يصلي الناس إليه سواء بتحديد ٍ
زمن كيوم
العيد أو الجمعة ،أو يكون قبره مكانا يعاد مرة بعد أخرى.
وجل َيشتدي غضبه من ذلك الف ْعل؛ فقالْ ( :اشتدَّ عز َّ أن ال َّله َّ
ثم ب َّين َّ
الغلو
ُّ اجد) ،أيضا بسبب غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ
وجل قد استجاب لدعاء النبي ﷺ فَل أحد يستطيع أن عز َّ
وال َّله َّ
وجل بجدران ،ومِن خ ْلف الجدران
َّ َيصل إىل قبره ،وأحاطه ال َّله َّ
عز
حواجز؛ فلذا ال أحد يستطيع أن يصل إىل قبره؛ وهذا من ح ْفظ ال َّله َّ
عز
لئَل ي ْعبد ،وكذلك من رمحة ال َّله بالناس؛ َّ
لئَل يقعوا يف َّ
وجل للنبي ﷺ؛ َّ
الشرك.
فإذا قيل :هل يع َقل َّ
أن قبر رج ٍل صالحٍ يج َعل وثنا؟ نقول :نعم.
يخذ قبره خشي ْ
أن يت َ َ فإذا قيل :ما هو الدليل؟ نقولَّ :
أن النبي ﷺ
وثنا من دون ال َّله.
وبعض أهل ِ
العلم(َ )1ذهب إىل َّ
أن ال َّله استجاب دعوته؛ فحمى قبره
بالحيطان التي ق ْبل قبره فَل يوصل إليه.
( )1كابن الق ييم رمحه ال َّله؛ حيث يقول يف نونيته – الكافية الشافية ( -ص:)252
ضمه وثنا من األوثان
قد َّ ودعا بأن ال يجعل القبر الذي
ِ
الجدران ِ
بثَلثة وأحاطه رب العالمين دعا َءه
فأجاب ُّ
شرح كتاب التوحيد 460
ٍ
لحكمة، عز َّ
وجل مل يستجبها؛ أن ال َّله َّ
وبعض أهل العلم َذهب إىل َّ
أن قبره قد يج َعل يف بعض األوثان ،يع َبد من دون ال َّله ،وليس المقصود
و َّ
فكل ما عبد من دون ال َّله يط َلق عليه وثن.
يوضع صنما؛ ُّ ْ
أن َ
ويدل الحديث عىل ِعظم وتحريم بناء المساجد عىل القبور، ُّ
غضب ال َّله ،وعبادهتا من دون ال َّله
ودعوهتا من دون ال َّله؛ ألنَّها توجب َ
أشدي وأشدي .
لذا يجب إذا دفِن الرجل الصالح ،وغير الصالح من المسلمين؛ أ ْن
يدفن يف مقابر المسلمين فَل ير َفع ،وال ي َم ييز عن غيره؛ وإنَّما هو كغيره
من ِعباد ال َّله يدفن يف المقابر.
والنبي ﷺ دعا َّأال يج َعل قبره وثنا يع َبد ،واللفظة الثانية شاهد ٌة عىل ي
البابْ ( :اشتدَّ غضب ال َّل ِه على ق ْو ٍم اتَّخذوا قبور أ ْنبِيائِ ِه ْم مس ِ
اجد).
461 مقرر الثلث األول
( )1هو :أبو عبد ال َّله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري ،ولد
النبَلء أعَلم سير سنة (126هـ). وتويف سنة (97هـ)،
للذهبي (.)229/7
( )2هو :أبو عتاب منصور بن المعتمر السلمي ،تويف سنة (132هـ) .سير أعَلم
النبَلء للذهبي (.)402/5
( )3مقاييس اللغة البن فارس ( ،)200/5لسان العرب البن منظور (.)83/2
شرح كتاب التوحيد 462
ك َّ
أن المصنف يقول :أنا سقت لك هذه الترمجة ،وب َّينت لك معبودا
ٍ
عباس كثير من البشر ،وهو الَلت ،وسقت لك تفسير ابن واحدا ي
ضل فيه ٌ
الغلو فيه.
ُّ أن سبب عبادة الَلت من دون ال َّله هو
ومجاهد عىل َّ
ويلت لهم العجين
ُّ فكان يغتنم َمقدم الحجاج من الطائف إىل مكة،
حتى يصبح لينا ،و َيطبخه ،ويقدمه لهم.
فلما مات؛ عبدوه من دون ال َّله.
َّ
ولشنيع ف ْعلهم؛ نَزل القرآن بالتحذير مما يف َعل عنده﴿( :أفرأ ْيتم
الَلت والعزَّ ى﴾)؛ بسبب الغلو يف الصالحين. َّ
اس رضي ال َّله عنهام« :كان قال( :وكذا قال أبو الج ْوز ِ
اء ،ع ِن ا ْب ِن ع َّب ٍ
ٍ
عباس ،واألثر يف ٌ
تلميذ البن الس ِويق لِ ْلحاج») ،وأبو الجوزاء( )1هو يل ُّت َّ
البخاري( ،)2وأثر ابن جرير وأبو الجوزاء صحيحان.
( )1هو :أبو الجوزاء أوس بن عبد ال َّله الربعي البصري ،قتل يوم الجماجم
سنة (83هـ) .سير أعَلم النبَلء للذهبي (.)371/4
( )2رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآنَ ،باب ﴿ َأ َف َر َأ ْيتم َّ
الَل َت َوالع َّزى﴾
[النجم ،]19:رقم (.)4859
463 مقرر الثلث األول
ٍ
عباس رضي ال َّله عنهما( :لعن ثم بعد ذلك َذكر حديث ابن
السرج). خ ِذين عل ْيها المس ِ
اجد و ُّ
ور والمت ِ
َّ
رسول ال َّل ِه ﷺ زائِر ِ
ات القب ِ
[]22
باب ما جاء فِـي ِحامي ِة الـم ْصطفى ﷺ جناب الت ْو ِح ِ
يد َّ
وصل إِلى الش ْر ِك
وسد ِه ك َّل ط ِر ٍيق ي ِ
فإِ َّن ت ْسلِيمك ْم ي ْبلغنِي أ ْينام ك ْنت ْم» رواه فِـي «الم ْختار ِة».
الشرح:
467 مقرر الثلث األول
قال رمحه ال َّله( :باب ما جاء فِي ِحامي ِة الم ْصطفى ﷺ جناب
وصل إِلى الش ْر ِك).
يق ي ِ
يد وسد ِه ك َّل طرِ ٍ
الت ْو ِح ِ
َّ
قوله( :باب ما جاء) أي :من األد َّلة( ،فِي ِحامي ِة الم ْصطفى ﷺ)
و(حامي ِة الم ْصطفى)
(الـم ْصطفى) أي :المختار ،فاختاره ال َّله للرسالةِ ،
ُّ
فكل ما َيقدح يف التوحيد سواء الواجب أو المستحب؛ سدَّ ه
ٍ
طريق يوصل إىل الشرك؛ فقد َأغلقه النبي ﷺ؛ لشفقته، النبي ﷺُّ ،
وكل
ونصحه لأل َّمة.
ْ
وساق المصنف رمحه ال َّله يف الباب قبل األخير من الكِتاب( :باب
يد ،وسد ِه طرق الش ْر ِك).
ما جاء فِي ِحامي ِة النَّبِي ﷺ ِحمى الت ْو ِح ِ
َّ
أي :ما
والفرق بين هذا الباب وذاك :هنا يف محاية جانب التوحيد؛ ْْ
وأعم.
ُّ َقرب منه ،وذاك الباب يف ِحماه ،وهو أوسع
ِ
كأن المصنف رمحه ال َّله يب يين للمسلم ما َيحمي جانب التوحيد َّ
مما َّ
خل به ،ثم بعد ذلك كأن اإليمان ِ
والعلم بالتوحيد قد ازدادا عند طالب ي ُّ
مما َيقدح فيه.
العلم؛ فيوسع الدائرة ،فيبين محى التوحيد البعيد َّ
شرح كتاب التوحيد 468
( )1هو :أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي .تويف
المالكية طبقات يف الزكية النور شجرة سنة (790هـ).
لمخلوف (.)332/1
( )2الموافقات للشاطبي (.)318/1
469 مقرر الثلث األول
والنَّص الثاين -حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه -؛ لبيان َّ
أن من
حرص النبي ﷺ َّأال تقع هذه األ َّمة يف الشرك؛ هنى أن يجعل قبره عيدا.
ْ
والنَّص الثالث -عن علي بن الحسين -؛ ب َّين فيه طريقة مِن طرق
اتخاذ القبر عيدا؛ وهي كثرة المجيء إليه.
قال( :وق ْوله تعالى﴿ :لق ْد جاءك ْم رس ٌ
ول﴾) أي :ما يبلغكم به فهو
حقِ ﴿( ،م ْن أ ْنف ِسك ْم﴾) َيعنيَ :تعرفون صدْ قه وأمانته ،وذلك أبلغ يف
ٌّ
الحجة؛ فهو منكم من اإلنس ،فليس من المَلئكة يتع َّبد أكثر منكم،
َّ إقامة
بشر منهم ِ
وال من الجن عنده من الخوارق ما ال َيملكها البشر؛ بل هو ٌ
وب ْينهم ،ل َّقبوه بالصادق األمين.
وعسر
ٌ ضيق كل ٍ
أمر فيه ٌ (﴿ع ِز ٌيز عل ْي ِه ما عن ِ ُّت ْم﴾) أيَ :يشق عليه ُّ
عليكم؛ بمعنىَّ :
أنَِه َيخشى أن َينزل عىل األ َّمة من التكاليف ما ال تطيق؛
مِثل :تر ُّدده يف اإلسراء حتى خ يففت الصَلة من مخسين صَلة إىل مخس
أن يص ُّلوا
فرض عليهم صَلة التراويح؛ فنهاهم ْ وخشي ْ ٍ
صلواتَ ،
أن ت َ
بصَلته.
شر إال َّ
حذرها منه. دل األ َّم َة عليه ،وما من ٍّ فما من ٍ
خير إال ي
شرح كتاب التوحيد 470
ثم قال( :ع ْن أبِي هر ْيرة رضي ال َّله عنه قال :قال رسول ال َّل ِه ﷺ:
«َّل ت ْجعلوا بيوتك ْم قبور ًا) أي :ال َتجعلوها كالمقابر :ال تؤ َّدى فيها
( )1رواه البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب قوله تعاىلَ ﴿ :فَلَ َت ْج َعلوا ل ِ َّل ِه َأنْدَ ادا
َو َأنْت ْم َت ْع َلم َ
ون﴾ ،رقم ( ،)4477ومسلم ،كتاب اإليمان ،باب كون الشرك
ٍ
مسعود أقبح الذنوب ،وبيان أعظمها بعده ،رقم ( ،)86من حديث ابن
رضي ال َّله عنه.
( )2رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)16023من حديث ربيعة بن عباد الدييل
رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 472
( )1وردت أحاديث يف ذلك منها ما رواه مسلم ،كتاب صَلة المسافرين وقصرها،
باب جواز النافلة قائما وقاعدا ،وفعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا،
َان ي َصلي فِي رقم ( ،)730من حديث عائشة رضي ال َّله عنها ،ولفظه« :ك َ
َب ْيتِي َق ْب َل ال ُّظ ْه ِر َأ ْر َبعا ،ث َّم َي ْخرج َفي َصلي بِالن ِ
َّاس ،ث َّم َيدْ خل َفي َصلي َر ْك َعتَ ْي ِن،
َّاس ال َم ْغ ِر َب ،ث َّم َيدْ خل َفي َصلي َر ْك َع َت ْي ِنَ ،وي َصلي بِالن ِ
َّاس َان ي َصلي بِالن ِ َوك َ
ال ِع َشاء ،ويدْ خل بيتِي َفيصلي ر ْكع َتي ِن ،وكَا َن يصلي مِن ال َّلي ِل تِسع ر َكع ٍ
ات َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َْ َ ََ
فِ ِيه َّن ال ِو ْتر».
والسنَّة ،باب ما يكره من كثرة ُّ ( )2رواه البخاري ،كتاب االعتصام بالكِتاب
السؤال وتكلف ما ال يعنيه ،رقم ( ،)7290ومسلم ،كتاب صَلة
المسافرين وقصرها ،باب استحباب صَلة النافلة يف بيته ،وجوازها يف
المسجد ،رقم ( ،)781من حديث زيد بن ٍ
ثابت رضي ال َّله عنه.
( )3رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)27090من حديث أم ٍ
محيد رضي ال َّله عنها،
473 مقرر الثلث األول
النبي ﷺ يقوم الليل؛ قال تعاىل﴿ :ق ِم ال َّل ْي َل إِ َّال َقلِيَل﴾ [المزمل،]2:
فيصلي نصف الليل ،وثلثه؛ يحيِي تلك الصَلة يف بيته.
ك فِي مس ِج ِد َقومِ ِ
ك». ك مِن ص ََلتِ ِ
ك فِي د ِار ِك َخير َل ِ
ولفظه« :وص ََلت ِ
ْ َ ْ ْ َ ٌْ َ َ َ
( )1كما يف الحديث الذي رواه مسلم ،كتاب صَلة المسافرين وقصرها ،باب
استحباب صَلة النافلة يف بيته ،وجوازها يف المسجد ،رقم ( ،)780من
حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه ،ولفظهَ « :ال َت ْج َعلوا بيو َتك ْم َم َقابِ َر ،إِ َّن
ورة ال َب َق َر ِة». ِ ِ ِ ِ الشي َط َ ِ ِ
ان َينْفر م َن ال َب ْيت ا َّلذي ت ْق َرأ فيه س َ َّ ْ
( )2سبق تخريجه (ص) .عند قوله (فيها نصيبا من العبادة؛ لهذا قال).
( )3رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)7821من حديث أبي هريرة رضي ال َّله عنه.
شرح كتاب التوحيد 474
فالنبي ﷺ
ي (وَّل ت ْجعلوا ق ْبرِي ِع ْيد ًا) هذا هو الشاهد من الحديث؛
طريق يوصل إىل الشرك؛ قال( :وَّل ت ْجعلوا ق ْبرِي ِع ْيد ًا) :فَل يكن
ٍ سدي َّ
كل
قبري عيدا تأتون إليه باستمرار.
والعيد :ما يعود ،وس يمي العيد بذلك؛ ألنَّه يعود يف السنَة مرتين؛
مر ٍة.
مرة بعد َّ
فقبر النبي ﷺ ليس مكانا يعاد عليه َّ
والمراد بالعيد هنا :سواء العيد الزمني؛ يحدَّ د يوما لزيارته ،أو :عيدا
مكان ييا؛ َيجتمع الناس عنده باستمرار؛ أي :يعوده الناس كثيرا ،ومن
فيؤز بعض الناس إىل دعوة ِحرصه علينا ،وشفقته علينا؛ َّ
لئَل يأيت الشيطان ي
النبي ﷺ مع ال َّله.
قال( :وص َّل ْوا عل َّي؛ فإِ َّن صَلتك ْم ت ْبلغنِي ح ْيث ك ْنت ْم) يعني :قد
ٍ
مكان. عيل يف كل ُّ َّ َخفف ال َّله َّ
عز وجل عليكم اإلتيان إىل قبري؛ فصلوا َّ
الس ََلم ،ومل يخبِر ِ و َأخبر ﷺ ب َّ
عرض َع َليه ،وي َب يلغ َّ
أن الصَلة عليه ت َ
بأنه َيسمع الصَلة والسَلم؛ يعني :كأنَّه يقول لك :أنا ال َأسمع صَلتكم،
وال سَلمكم ،فأنا م يي ٌت ،ومن رمحة ال َّله بي وبكم َّ
أن هناك مَلئكة يبلغوين
عيل؛ فصَلتكم ي َّ
عن أمتي السَلم؛ فحيث ما كنتم ،وصليتم ،وسلمتم ي
475 مقرر الثلث األول
( )1هو :الحسن بن الحسن بن عيل بن أبي طالب رضي ال َّله عنه ،تويف
سنة (97هـ) .هتذيب التهذيب البن حجر (.)263/2
ٍ
منصور يف (سننه) .اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ ( )2رواه سعيد بن
ِاإلسَلم (.)339/1
شرح كتاب التوحيد 476
ون َع ْن أ َّمتِي
ين ي َبلغ َ ِ وجل فِي األَر ِ ِ
ض َم ََلئ َكة َس َّياح َ ْ النبي ﷺ« :إِ َّن ل ِ َّل ِه َّ
عز َّ
الس ََل َم»(.)1
َّ
اد حس ٍن ،رواته ثِق ٌ
ات). قال( :رواه أبو داود بِإِسن ٍ
ْ
فدل عىل أنَّه ال يجوز أن يفعل ذلك عند قبر النبي ﷺ؛ ومِن باب
َّ
َأوىل قبر غيره ،فإذا كان أشرف القبور وهو قبر النبي ﷺ؛ ونَهى عن ذلك؛
فما ظنُّك بقبر غيره؟!
ثم قال( :وع ْن علِي ْب ِن الحس ْي ِن) الملقب بزين العابدين( )2وهو
طالب رضي ال َّله عنه ،وهو من الفقهاء. ٍ حفيد عيل بن أبي
جيء إِلى ف ْرج ٍة كان ْت ِع ْند ق ْبرِ النَّبِي ﷺ) يعني:
َل ي ِ
(أنَّه رأى رج ً
ألن ذلك خَلف ما كان عند قبر النبي ﷺ؛ (في ْدخل فِيها ،في ْدعو ،فنهاه)؛ َّ
الصحابة عليه؛ فَل يأتون إىل قبر النبي ﷺ باستمرا ٍر يعودونهَّ ،
فلما رأى
ٍ
مسعود ( )1رواه أمحد يف المسند ،رقم ( ،)3666من حديث عبد ال َّله بن
رضي ال َّله عنه.
( )2هو :أبو الحسن عيل بن الحسين بن عيل بن أبي طالب رضي ال َّله عنهم ،ولد
سنة (38هـ) ،وتويف سنة (94هـ) ،وقيل (99هـ) .وفيات األعيان البن
خ ْلكان ( ،)266/3تقريب التهذيب البن حجر (.)400/1
477 مقرر الثلث األول
الرجل؛ مل يتركْه ،ومل يقل :هذا جدي َفأجعل الناس يع يظمونه؛ بل هناه عن
أن هذا فعَل يوصل إىل الغلو يف النبي ﷺ ،ومِن ثم عبادته،
لعلمه َّ ذلك؛ ِ
فما َطرأت العبادة عىل األرض عند القبور؛ إال بسبب الغلو.
(وقال :أَّل أحدثك ْم ح ِديث ًا س ِم ْعته ِم ْن أبِي ،ع ْن جدي ،ع ْن
خذوا ق ْبرِي ِعيد ًا) يعني :تعودونه مرة بعد مرة، ول ال َّل ِه ﷺ قالَّ :ل تت ِ
َّ رس ِ
(وَّل بيوتك ْم قبور ًا؛ فإِ َّن ت ْسلِيمك ْم ي ْبلغنِي أ ْينام ك ْنت ْم)َّ ،
فدل عىل َّ
أن كثرة
اإلتيان إىل القبر من اتخاذه عيدا؛ وقد هنى النبي ﷺ عن اتخاذ قبره عيدا.
ودل أيضا عىل أنه َينهى عن اتخاذ قبر غيره عيدا؛ ألنَّه وسيل ٌة من
َّ
وسائل الشرك -والعياذ بال َّله .-
(الم ْختار ِة) تأليف ضياء المقدسي(َ ،)1وضع أحاديث اختارها؛ قال
شيخ اإلسَلم« :ما يف المختارة أص يح مما يف المستدرك»(.)2
( )1هو :أبو عبد ال َّله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أمحد بن عبد الرمحن
الم ْق ِدسي ،الصالحي ،الحنبيل ،ولد سنة (569هـ) ،وتويف الس ْعدي َ َّ
سنة (643هـ) .سير أعَلم النبَلء للذهبي ( ،)126/23المقصد األرشد
البن مفلح (.)450/2
( )2مجموع فتاوى شيخ اإلسَلم (.)13/33
شرح كتاب التوحيد 478
أن َّ
كل ما َيطرأ عىل فساق المصنف رمحه ال َّله اآلية والحديثين؛ ليب يين َّ
القلب إىل غير ال َّله سواء إىل قبر النبي ﷺ ،أو قبر غيره؛ قد سدي ه ﷺ؛ كما
قال تعاىل﴿( :حرِ ٌ
يص عل ْيك ْم﴾) ،فأتى النهي بخصوص قبره ،وكذا قبر
غيره.
***
479 مقرر الثلث األول
المقدمة2 .................................................................................
[ ]1كِتاب الت ْو ِح ِ
يد1٤ ..................................................................... َّ
يد ،وما يكفر ِمن ُّ
الذن ِ
وب60 .......................................... [ ]2باب ف ْض ِل الت ْو ِح ِ
َّ
[ ]٣باب م ْن ح َّقق ال َّت ْو ِحيد؛ دخل الجنَّة بِغ ْيرِ ِحس ٍ
اب 89 ...................................
اب ِمن الش ْر ِك الن َّْذر لِغ ْيرِ ال َّل ِه272 ..................................................
[ ]12ب ٌ
اب ِمن الش ْر ِك أنْ ي ْست ِغيث بِغ ْيرِ ال َّل ِه؛ أ ْو ي ْدعو غ ْيره 29٣ ............................
[ ]1٤ب ٌ
شرح كتاب التوحيد 480
[ ]1٥باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :أي ْشرِكون ما َّل ي ْخلق ش ْيئ ًا وه ْم ي ْخلقون * وَّل ي ْستطِيعون له ْم
ن ْصر ًا﴾ اآلية ٣1٤ .........................................................................
[ ]16باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :ح َّتى إِذا فزع ع ْن قلوبِ ِه ْم قالوا ماذا قال ربُّك ْم قالوا الح َّق وهو
العلِ ُّي الكبِير﴾ ٣٣2 .......................................................................
[ ]18باب ق ْو ِل ال َّل ِه تعالى﴿ :إِنَّك َّل تهْ ِدي م ْن أ ْحب ْبت ولكِ َّن ال َّله يهْ ِدي م ْن يشاء﴾٣76 .. .
[ ]19باب ما جاء أ َّن سبب ك ْفرِ بنِي آدم وتركِ ِهم ِدينهم هو الغل ُّو فِي الصالِ ِ
حين٣99 ........ َّ ْ ْ ْ
يظ فِيم ْن عبد ال َّله ِع ْند ق ْبرِ رج ٍل صالِحٍ ؛ فكِيف إِذا عبده؟!٤26 ..
[ ]20باب ما جاء ِمن الت ْغلِ ِ
َّ