Professional Documents
Culture Documents
حب الوطن
حب الوطن
أمثن ما يف الوجود هو الوطن ،الذي يضحي اإلنسان حبياته دفاعًا عن ترابه املقدس ،ألنه يستمد منه
انتمائه وكيانه اإلنساين؛ وأصعب شيء على النفس البشرية أن تكتب عن شيء ضاع منها ،وضع
العديد من اإلحتماالت عن مالمح مكان وجوده يف زمان معني اعتمادًا على الذاكرة ،والذاكرة مهما
فالذاكرة أحيانا ال تقول األشياء اليت تعيها ،واملكان يف حاالت كثرية ليس حيزًا جغرافيًا فقط ،فهو
أيضًا البشر يف زمن معني لتكشف العالقة اجلدلية بني عناصر متعددة ،متشابكة ومتفاعلة ،وهي يف
حركة دائمة وتغري مستمر ،وكيفية النظر إليها من أي زاوية ويف أي وقت وبأية عواطف وأن تبحث
عمن حتب ،وكيف إذا كان ذلك هو الوطن؟ ،حني تكون بعيدًا أو مبعدًا عنه الذي متتع اإلنسان
بالنظر والعيش بني مناظره الطبيعية اخلالبة ،ومسائه ،وغيومه ،مشسه ،قمره ،سهوله ،طيوره ،أشجاره،
وزهوره مباركة هلذا اجلمال ،وكما يقول اآلباء جوهرة ناندر؛ فهو ال يقتصر على طيب هوائه ومائه
يف الوطن مثره اللذيذ وأهله البسطاء ،وكرمهم الوفري ،وما أدراك إذا كان مسقط الرأس الذي ترعرع
فيه وترىب فوق ترابه وارتوى وتنفس من هوائه وتدثر بسمائه وذاق حالوة السعادة ليصبح رمزًا لكل
ما مضى ،وقد طرد منه وال يسمح له بالعودة ثانية؛ وما عليه إال أن يفتش عنه يف دفاتر الزمن وأزقة
الذاكرة ،أو ممن تبقوا من الذين عاصروه إلظهار هويته الوطنية والتارخيية ،هبدف إحياء اجلذور
ساكنيه جسدًا وروحًا؛ تتجسد معاملها وتضاريسها ومبانيها وطبيعتها يف العيون لكل األجيال القادمة،
وبذكراها العطرة اليت هتب بر األثري ببيارات برتقاهلا وبساتني فواكهها وأزهار ربيعها اليت يندر
وجودها يف أماكن أخرى كي نسجلها لألجيال القادمة ليتشرف تراهبا فيزداد التصاقًا هبا ،حىت يكون
حافزا هلا على أن حيثهم وحيفزهم ليعملو للعودة إىل هذا الوطن.
إن تدوين التاريخ شيء مهم يف الكتابة عن البلد الذي حيبه ،فأنت تقوم بتحويل األحجاز واألزهار
والناس واملاء واهلواء إىل كلمات ،لكن الكلمات نفسها مهما كانت متقنة لرسم اللوحات اليت
تتخيلها من أمكنة وأزمنة مضت أو ما زالت ،فهي ال تتعدى أن تكون ظالًال باهتة مهما وعت
الذاكرة حلياة كانت أغىن وأكثر مجاًال وكثافة ،ومليئة بالتفاصيل اليت يصعب استعادهتا مرة أخرى يف
ذاكرة األجيال اجلديدة ،إال أن عظمة األوطان تقاس بغظمة تارخيها الذي تصنعه العقول ،وعرق أبنائه
وسواعدهم.
وأخريا إن من ال ميلك انتماًء لألرض اليت رىب عليها آباؤه وأجداده وهو نفسه ،ال ميلك احلق ألن
حيمل جنسيتها ويأكل من خرياهتا ويعيش على أرضها وبني أهلها وينال من رزقها .الوطن الوطن هو
املكان الذي ولدت فيه ،وعشت يف كنفه ،وكربت وترعرعت على أرضه وحتت مسائه ،وأكلت من
خرياته وشربت من مياهه ،وتنّف ست هواءه ،واحتميت يف أحضانه ،فالوطن هو األم اليت ترعانا
ونرعاها ،وهو األسرة اليت ننعم بدفئها ،فال معىن لألسرة دون الوطن ،فهو األمن والسكينة واحلرية،