Professional Documents
Culture Documents
أما بعد
اعلم -رمحك اهلل -أن العبد يف دنياه تعرتضه االبتالءاُت ؛ اختباًر ا من اهلل وامتحاًنا ,فتواجهه
فٌنت من شهوات وشبهات ،أو تلم به اآلالم من أمراض وأحزان ,ليمحص أهل التقوى
واإلميان ,فيغتنم ذلك الشيطاُن ،ويتسلط على العبد إن وافق ووجد ضعف أثر الدين يف نفسه،
فيوسوس له بتتبع الرخص ،ويصورها له وكأهنا بر األمان ,ويزين له الفتاوى الشاذة اليت ليس
عليها من اهلل برهان ,لكن من كان قلبه مشرًبا اإلميان ,منقاًدا لرب األنام جبميل العرفان,
مذعًنا حلكم اهلل عز وجل ورسوله صلى اهلل عليه وسلمَ ،و ّقاًفا عند حدودمها ،عارًفا باحلالل
واحلرام ،منقاًدا لإلسالم غري مضطرب اجلنان ,فإنه يظل جبال شاًخما وال هتتز له أركان ,وجتده
صابًر ا على ابتالء اهلل معاًجلا نفسه جبميل التوكل وعظيم الرجاء ،وحمتسًبا ما أمل به عند اهلل
الكرمي املنان ,ال يرجو من اخللق نفًعا ،وال خيشى منهم ضًّر ا ،فتعلقه باهلل ورجاؤه له هو سلوة
القلب له وهبجة اخلاطر واألمل الذي ال ينقطع ما دام الزمانَ ،أْيًس ا مبا عند الناس؛ ال يسأل
فالًنا وال فالًنا ،ولسان حاله يقول:
يا مـن ألـوُذ به فيما أؤمـُله = ومـن أعوُذ به مـما أحاذُر ه
ال جيُرب الناُس عظًم ا أنت كاسُر ه = وال َيِه يضون عظًم ا أنت جابُر ه
وبعد...
قال تعاىلِ{ :إْن ْجَتَتِنُبوا َك َباِئَر َم ا ُتْنَه ْو َن َعْنُه ُنَك ِّف ْر َعنُك ْم َس ِّيَئاِتُك ْم َو ُنْد ِخ ْلُك م مُّْد َخ اًل َك ِر ًميا}
[النساء ،]31 :فتبني أن السالمة من الكبائر من مهمات الدين.
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ،وإذا هنيتكم
عن شيء فاجتنبوه) ،قال أبو بكر السيوطي على احلديث :ومن مث سومح يف ترك بعض
الواجبات بأدىن مشقة ،ومل يسامح يف اإلقدام على املنهيات وخصوصًا الكبائر.
ويقول حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه" :كان الناس يسألون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
عن اخلري ،وكنت أسأله عن الشر خمافة أن يدركين" [رواه البخاري ومسلم وغريمها].
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :اجتنبوا السبع املوبقات :الشرك باهلل والسحر ،)...رواه
البخاري ومسلم وغريمها.
ِإ َّلِذ
والسحر من كبائر الذنوب ،وقد قرنه اهلل عز وجل بالشرك؛ قال تعاىلَ{ :أْمَل َتَر ىَل ا يَن
ِم ِء ِل ِذ ِت ِك ِب ِم ِب ِجْل ِت ِص
ُأوُتوا َن يًبا مَِّن اْل َتا ُيْؤ ُنوَن ا ْب َو الَّطاُغو َو َيُقوُلوَن َّل يَن َك َف ُر وا َهُؤ اَل َأْه َد ى َن
اَّلِذيَن َآَم ُنوا َس ِبياًل ُأوَلِئَك اَّلِذيَن َلَعَنُه ُم الَّلُه َو َم ن َيْلَعِن الَّلُه َفَلن ِجَت َد َلُه َنِص ًريا} [النساء-50 :
،]51ومعىن اجلبت أي السحر ,وإن مسألة التداوي بالسحر أو ما يسـمـى بالنشرة املمنوعة
صفوة علماء السلف واخللف باإلنكار بناء على الدليل .يف حني ترتدد اآلن يف ُ مسألة قابلها
األوساط االجتماعية فتوى شاذة ،يفرح هبا متصيدو الفتاوى ومتتبعو الرخص ،رجح فيها
صاحبها جواز التداوي بالسحر للمسحور ،وذلك بناء على تومهات واستنباطات عقلية
معارضة للدين ،واعتمادًا على عبارات من أقوال السلف بعضها ثابت وبعضها حيتمل أكثر من
معىن.
وحجج اجمليزين قدميًا وحديثًا قد استوقفتين ،وحرت يف اجلواب عنها يف بادئ األمر ،لكن
اتضح بالربهان بعد البحث أن االحتجاج هبا باطل ،وردها متيسر ألدىن من يطلب العلم ,بل
إنه ال يستساغ طرحها من بعضهم ملكانته العلمية ,فال خيفى على ذوي العلم والعقل الرشيد
بطالن استدالالهتم وعدم هنوضها إلثبات الإذن ،مع وفرة األدلة اليت تدحض هذه الفكرة نقال
ُ
وعقال وتقتلعها من جذورها؛ ألن الضابط -واحلمد هلل -واضح ،وخطوط احلرام وعالماته
بارزة لكل متبصر يف أحكام الدين ......إن السحر حرام باإلمجاع ،بل هو من الكبائر
واملهلكات التي تردي صاحبها يف النار إن مل يتب.
فالنشرة السحرية باطلة لعلة مالزمة هلا ،وهي السحر الذي هو وسيلة كفرية ممنوعة يف
الشرع؛ قال احلنابلة :إن عاد النهي لوصف مالزم فإنه باطل .واحلكم العام يف السحر وإتيان
السحرة الذي ثبت بالنصوص العامة الشرعية باقٍ على عمومه النتفاء القرينة الصحيحة الثابتة
اليت تنقله عن العموم...
فهذا حبث دونت فيه مُج لة مآخذي على جميزي النشرة السحرية ،بعد حصر حججهم
لست أهال لذلك ،وال ممن ينتصب هلذه
ُ واستدالالهتم والبحث يف صحتها ،وإن كنت
املهام ...ولله احلمد ريب الذي شرح صدري لذلك ،ال سيما وأين قد شغلت هبذه الفتوى اليت
أراها متس العقيدة وأدت لتساهل الناس يف الذهاب للسحرة واللجوء إليهم ..فإن أصبت احلق
فمن اهلل وحده له احلمد والفضل أوال وآخرًا ،واخلطأ أعزوه لنفسي والشيطان.
مفاتيح للخري
َ أسأل اهلل جل وعال أن يعصمين وإياهم من مضالت الفنت ,وأن جيعلنا وإياهم
مغاليق للشر ,ممن يستنون ويهتدون هبدي حممد صلى اهلل عليه وسلم ,ومن دعاة اهلدى ال من
َ
دعاة الضاللة ,إنه قريب جميب الدعاء.
الباب األول
( واقع السحر )
وأما أهل اهلند فحسبنا أن نعلم أن أحد أسفار الفيدا األربعة وهو سفر أترافا خمصص ملعرفة
2
الرقى والسحر .والفيدا هو الكتاب املقدس لدى اهلندوس
ويف بالد الإغريق حنا اليونانيون هذا املنحى من االعتقاد بتأثري الرقى الشركية والعزائم
والطالسم يف حياة البشر ،فألفوا فيه الكتب ودرسوا علم النجوم.
واليهود بلغ فيهم األمر إىل ترك الشرعة املنزلة واتباع السحر؛ قال اهلل فيهم يف سورة البقرة:
ِك ِك ِذ ِع ِد ِه
{َو َلَّم آ َج آَءُه ْم َرُس وٌل مِّْن ن الَّل ُمَص ِّدٌق لَِم ا َمَعُه ْم َنَبَذ َفِر يٌق مَِّن اَّل يَن ُأوُتوْا اْل َتاَب َتاَب
الَّلِه َو َر آَء ُظُه وِر ِه ْم َك َأَّنُه ْم َال َيْع َلُم وَن َو اَّتَبُعوْا َم ا َتْتُلوْا الَّش َياِط ُني َعَلٰى ُمْلِك ُس َلْيَم اَن }..
[البقرة ،]102 :ونسبت اليهود السحر إىل نيب اهلل سليمان عليه السالم ،وتنكر أن يكون
سليمان نبيا مرسال ،بل يزعمون أنه ساحر انقادت له اجلن واإلنس والطري والريح بأخذه
للسحر ،فنزلت تربئته من هذه الفرية يف القرآن الكرمي؛ قال تعاىلَ{ :و َم ا َك َف َر ُس َلْيَم اُن َو َلِكَّن
الَّش َياِط َني َك َف ُر وا ُيَعِّلُم وَن الَّناَس الِّس ْح َر } [البقرة.]102 :
1شهاب الدين القرافي ،كتاب أنوار البروق في أنواع الفروق ,الفرق .242
2عالم السحر والشعوذة ،د .عمر سليمان األشقر.
واختلف يف املراد باآلية؛ فقيل :إن سليمان كان مجع كتب السحر والكهانة فدفنها حتت
كرسيه ،فلم يكن أحد من الشياطني يستطيع أن يدنو من الكرسي ،فلما مات سليمان
وذهبت العلماء الذين يعرفون األمر ،جاءهم شيطان يف صورة إنسان فقال لليهود :هل أدلكم
على كنز ال نظري له؟ قالوا :نعم ،قال :فاحفروا حتت الكرسي ،فحفروا -وهو متنح عنهم-
فوجدوا تلك الكتب ،فقال هلم :إن سليمان كان يضبط الإنس واجلن هبذا ،ففشا فيهم أن
سليمان كان ساحرًا ،فلما نزل القرآن بذكر سليمان يف األنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا:
1
إمنا كان ساحرًا ا.هـ
تعريف السحر
السحُر لغةً اُألْخ َذ ُة ،وكُّل ما َلُطَف َم ْأَخ ُذ ه َو َدَّق فهو ِس ْح ٌر ،والـجمع َأسحار وُسُح وٌر ،وَأصل
الِّس ْح رَ :ص ْر ُف الشيء عن حقـيقته ِإلـى غريه ،فكَأَّن الساحر لـما َأَر ى الباطَل فـي صورة الـحق
وَخ َّيَل الشيَء علـى غري حقـيقته قد سحر الشيء عن وجهه َأي صرفه ،وقال الفراء فـي قوله
تعالـىَ{ :فَأىّن ُتْس َح ُر ونَ} معناه َفَأىَّن ُتْص َر فون؛ وقال يونس :تقول العرب للرجل :ما َسَح َر ك
2
عن وجه كذا وكذا؟ َأي ما صرفك عنه؟
هل للسحر أنواع تتباين يف ماهيتها ،وتبعًا هلذا التباين هل يفرتق احلكم؟
اعلم أن أنواع السحر اليت عددها أهل العمل ال خترج عن هذه األقسام الثالثة:
-1السحر احلقيقي
-2السحر التخيلي
(وهذان ال يتمان إال بالكفر والعبودية للشيطان).
-3السحر اجملازي
-ومنه الطالسمَ :و َح ِق يَق ُتَه ا َنْف َأَمْساٍء َخ اَّصٍة َهَلا َتَعُّلٌق باألفالِك َو اْلَك َو اِكِب َعَلى َزْع ِم َأْه ِل
ُس
َه َذ ا اْلِعْلِم ،يِف َأْج َس اٍم ِم َن اْلَم َعاِد ِن َأْو َغِرْي َه اْ ،حَتُدُث َهَلا آَثاٌر َخ اَّصٌة ُر ِبَطْت َهِبا يِف َجَماِر ي
اْل اَداِت َ ،فاَل َّد يِف الطلسِم ِم ِذِه الَّثاَل َثِة اَأْلَمْساِء اْل ْخ و ِة ُّلِق ا ِب ِض َأ اِء اْلَف َلِك
َم ُص َص َو َتَع َه َبْع ْجَز ْن َه ُب َع
ِل ِذِه ِل ِم ِة ٍس ِم ِل ا يِف ِج ٍم ِم
ْس َن اَأْلْج َس ا َ ،و اَل ُبَّد َمَع َذ َك ْن ُقَّو َنْف خاصة َهِل اَأْلْع َم ا َ ،فَلْيَس َو َج ْع َه
ِل
ُك ُّل الُّنُف وِس ْجَمُبوَلًة َعَلى َذ َك
1
-ومنه :النظر يف حركات األفالك والنجوم ودوراهنا وطلوعها وغروهبا واقرتاهنا وافرتاقها ،مع
اعتقاد أن لكل جنم تأثريًا من ضرر أو نفع عند انفرادها أو افرتاقها؛ من غالء األسعار أو
وقوع احلوادث ،ومنه االستقاء باألنواء .2
قال الرسول صلى هلل عليه وسلم( :من اقتبس شعبة من النجوم ،فقد اقتبس شعبة من السحر،
زاد ما زاد) رواه أبو داود.
وعن َز ْيِد بِن َخ اِلدٍ اُجْلَه ِّيِن ،أَّنُه قاَل َ« :ص َّلى َلَنا َرُس وُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم َص َالَة الُّصْبِح
باُحْلَد ْيِبَيِة يِف إْثِر َمَساِء َك اَنْت ِم َن الَّلْيِل َ ،فَلَّم ا اْنَص َر َف أْقَبَل َعَلى الَّناِس َفَق اَل َ :ه ْل َتْد ُر وَن َم اَذا
ِف ِم ِم ِع ِد
قاَل َر ُّبُك ْم ؟ قاُلوا :اهلل َو َرُس وُلُه أْع َلُم .قاَل :قاَل :أْص َبَح ْن َبا ي ُمْؤ ٌن يِب َو كا ٌر ؛ َفَأَّم ا َمْن
قاَل ِ :ط َنا ِب ِل اهلل ِب ِتِه ،فذلكَ ِم يِب كاِف ِباْلَك اَك ِب ،أَّم ا قاَل ِ :ط َنا ِب ِء
ُم ْر َنْو َو َمْن ٌر ْو ُمْؤ ٌن َو َر َمْح ُم ْر َفْض
َك َذ ا َو َك َذ ا ،فذلَِك كاِفٌر يِب ُمْؤ ِم ٌن ِباْلَك َو اَك ِب » ،رواه أبو داود
-ومنه النظر يف منازل القمر الثمانية والعشرين ،مع اعتقاد التأثريات يف اقرتان القمر بكل منها
3
أو مفارقته؛ من سعادة أو حنوس ،وهذا ادعاء لعلم الغيب
-اهليمياء :بكسر اهلاء ،قيل :هو ما تركب من خواص مساوية تضاف ألحوال األفالك حيصل
ملن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة ،وقد يبقى له إدراك ،وقد يسلبه بالكلية
فتصري أحواله كحاالت النائم من غري فرق حىت يتخيل مرور السنني الكثرية يف الزمن اليسري،
وحدوث األوالد وانقضاء األعمار ،وغري ذلك يف ساعة وحنوها من الزمن اليسري ،ومن مل
يعمل له ذلك ال جيد شيئا مما ذكر وكل ما يتصوره املسحور يف هذه احلالة من األوهام اليت
2
ال حقيقة هلا.
فتفريقه بني املرء وزوجه :ختييله بسحره إىل كل واحد منهما شخَص اآلخر على خالف ما
هو به يف حقيقته من ُح ْس ن ومجال ،حىت يقبحه عنده ،فينصرف بوجهه ويعرض عنه ،حىت
مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة
فراقا ،فيكون الساحر ً
حيدث الزوج المرأته ً
3
ما بينهما.
وقد يكون التفريق مبا يلقيه الشيطان يف قلب أحدمها جتاه اآلخر.
أبو عبد هللا الرازي ,التفسير الكبير( ,م ,3/ص )212/بتصرف 2
1فتح المجيد.ص253/
2ابن كثير .تفسير القرآن العظيم ,ج .1/ص205/
3ابن كثير .تفسير القرآن العظيم ،ج .1/ص204/
اخلامس :البيان
عن ابن عمر أن رسول الله صلى اهلل عليه وسلم قال( :إن من البيان لسحرًا) ،قال صعصعة
بن صوحان" :صدق نيب اهلل؛ فإن الرجل يكون عليه احلق وهو أحلن من صاحب احلق،
فيسحر القوم ببيانه ،فيذهب باحلق".
يعين لتضمنه التخييل ،فيخيل الباطل باحلق ،وإمنا عنى بالبيان املفاخرة واخلصومات بالباطل،
كما يدل عليه أصل القصة يف التميميني اللذين تفاخرا عنده بأحساهبما وطعن أحدمها حبسب
اآلخر ونسبه .وأما البيان باحلق لنصرة احلق فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع لذلك
1
سبيال
وقد قسم بعض أهل العلم السحر إىل أنواع أخرى؛ منها :سحر اخلمول ,سحر اهلواتف ,سحر
املرض ،سحر احملبة (التولة) ،سحر التفريق ،سحر النزيف (الاستحاضة) ،سحر التخييل ،سحر
اجلنون ،سحر تعطيل الزواج.
ومن أنواع السحر العقد والنفث :قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم( :من عقد عقدة مث نفث
فيها فقد سحر) ،ومن السحر :زجر الطري ،واخلط باألرض ،والطرية ،قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم( :العيافة والطرية والطرق من اجلبت) ،رواه أبو داود وأمحد .والعيافة :هي زجر
الطري والتفاؤل بأصواهتا وممرها وبأمسائها ,والطرق :هو اخلط باألرض ،قال ابن األثري" :هو
الضرب باحلصى الذي يفعله النساء" ،والطرية :أصلها التطري بالطري والظباء ،وهي من الشرك
املنايف لكمال التوحيد الواجب؛ لكوهنا من إلقاء الشيطان وختويفه ووسوسته ،واجلبت :هو
2
السحر ،قاله عمر رضي اهلل عنه ،وابن عباس وجماهد واحلسن وغريهم
َفَه ِذِه َأْنَو اُع الِّس ْح ِر َقْد َتَق ُع ِبَلْف ٍظ ُه َو ُكْف ٌر َ ،أْو اْع ِتَق اٍد ُه َو ُكْف ٌر َ ،أْو ِفْع ٍل ُه َو ُكْف ٌر َ ،فاَأْلَّو ُل :
َسّبُه ُكْف ٌر َ ،و الَّثايِن َ :ك اْع ِتَق اِد اْنِف َر اِد اْلَك َو اِكِب َأْو َبْع ِض َه ا ِبالُّر ُبوِبَّيِة،
َك الَّسِّب اْلُم َتَعِّلِق َمِبْن ُ
ِه ِذِه ِظ ِم ِك ِب ِلِث ِإ ِة
َو الَّثا َ :ك َه اَن َم ا َأْو َج َب الَّلُه َتْع يَم ُه ْن اْل َتا اْلَعِز يِز َو َغِرْي ؛ َفَه الَّثاَل َثُة َمىَت َو َقَع َش ْي ٌء
ِم ْنَه ا يِف الِّس ْح ِر َفَذ ِلَك الِّس ْح ُر ُكْف ٌر اَل ِم ْر َيَة ِفيِه ،3ومىت وقعت هذه الأنواع بشيء مباح ،مل
1حافظ الحكمي ,معارج القبول .م.1ص379/
2فتح المجيد.ص250/
3القرافي .أنوار البروق في أنواع الفروق ,الفرق 242
يكن ذلك السحر كفرًا ،بل إما حمرم؛ إن كان ال يروج ذلك املباح إال بنحو الزنا واللواط,
وإما مباح؛ إن راج بدون ذلك ،نعم ويكون كفرًا من جهة خارجة كقصد إضراره صلى اهلل
1
عليه وسلم
يقول النووي" :علم السحر حرام ،وهو من الكبائر باإلمجاع ،وقد عده النيب صلى اهلل عليه
وسلم من السبع املوبقات ،ومنه ما يكون كفًر ا ،ومنه ما ال يكون كفًر ا ،بل معصية كبرية،
2
فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر ،وإال فال"
حكم الساحر
الساحر كافر؛ والدليل قوله تعاىلَ{ :و َلْو َأَّنُه ْم آَم ُنوا َو اَّتَق ْو ا َلَم ُثوَبٌة ِم ْن ِعْنِد الَّلِه َخ ْيٌر َلْو َك اُنوا
َيْع َلُم وَن } ،وجه الداللة :أن اآلية تدل على نفي اإلميان عن السحرة ،قال ابن كثري :وقد
استدل بقولهَ{ :و َلْو َأَّنُه ْم َءاَم ُنوْا واَّتَق ْو ا} من ذهب إىل تكفري الساحر ،كما هو رواية عن
3
اإلمام أمحد بن حنبل وطائفة من السلف
وقال تعاىلَ{ :و َلَقْد َعِلُم وا َلَم ِن اْش َتَر اُه َم ا َلُه يِف اَآْلِخ َر ِة ِم ْن َخ اَل ٍق } [البقرة ،]102 :أي من
استبدل بدينه السحر فماله من نصيب ،قال احلسن :ليس له دين ،وقال الرسول صلى اهلل عليه
وسلم( :من تعلم شيئًا من السحر قليال كان أو كثريا كان آخر عهده من اهلل) ،وهذا مرسل
4
وقال تعاىلَ{ :و اَل ُيْف ِلُح الَّس اِح ُر َح ْيُث َأَتى} [طه ]69 :وجه الداللة :أن اهلل سبحانه وتعاىل
نفى الفالح عن الساحر نفًيا عاًم ا حيث توجه وسلك ،وذلك دليل كفره؛ ألن الفالح ال ينفى
بالكلية نفًيا عاًم ا إال عمن ال خري فيه وهو الكافر ،ذلك أنه قد عرف باستقراء القرآن أن
الغالب فيه أن لفظه "ال يفلح" يراد هبا الكافر؛ كقوله تعاىلُ{ :ق ِإَّن اَّلِذي ْف وَن َلى الَّلِه
َن َي َتُر َع ْل
اْلَك ِذَب ال ُيْف ِلُح وَن َم َتاٌع يِف الُّد ْنَيا َّمُث ِإَلْيَنا َمْر ِج ُعُه ْم َّمُث ُنِذيُقُه ُم اْلَعَذ اَب الَّش ِديَد َمِبا َك اُنوا
عقوبة الساحر
حد الساحر القتل ،وروي عن كثري من الصحابة ومل ينكر عليهم أحد ذلك فكان إمجاعا
سكوتًّيا.
قال ابن املنذر :وإذا أقّر الرجل أنه سحر بكالم يكون كفًر ا وجب قتله إن مل َيُتب ،وكذلك
لو ثبتت به عليه بّينة ووصفت البينة كالًم ا يكون كفًر ا .وإن كان الكالم الذي ذكر أنه َسَح َر
به ليس بكفر مل جيز قتله ،فإن كان أحدث يف املسحور جناية توجب القصاص اقُتّص منه إن
2
كان َعَمد ذلك؛ وإن كان مما ال قصاص فيه ففيه ِدَية ذلك
َعْن َحُمَّم ِد ْبِن َعْبِد الَّر ْح مِن ْبِن َس ْع ِد ْبِن ُز َر اَر َة َأَّنُه َبَلَغُه َأَّن َح ْف َص َة َز ْو َج الَّنِّيِب َقَتَلْت َج اِر َيًة َهَلا
ِح ِل ِت
َسَح رهتاَ ،و َقْد َك اَنْت َدَّبَر ْتَه اَ ،فَأَم َر ْت َهِبا َفُق َلْت َ ،قاَل َم ا ٌك :الَّس ا ُر اَّلذي َيْع َم ُل الِّس ْح َر َ ،و ْمَل
ِل ِك ِذ ِل
َيْع َم لْ ذ َك َلُه َغْيُر ُهُ ،ه َو مثل اَّل ي َقاَل اهلل َتَباَر َك َو َتَعاىَل يف َتاِبهَ{ :و َلَقْد َع ُم وا َلَم ِن اْش َتَر اُه
َم ا َلُه يِف اآلِخ َر ِة ِم ْن َخ َالق} [البقرةَ ،]102 :فَأَر ى َأْن ُيْق َتَل ذِلَك إَذا َعِم ل ذِلَك ُه َو َنْف ُس ُه.
[موطأ اإلمام مالك -كتاب العقول].
وروي عن جندب بن عبداهلل عن النيب أنه قال« :حد الساحر ضربه بالسيف» ،رواه الرتمذي
فحد الساحر القتل؛ روي ذلك عن عمر ،وعثمان بن عفان ،وابن عمر ،وحفصة وجندب بن
عبداهلل ،وجندب بن كعب ،وقيس بن سعد ،وعمر بن عبد العزيز ،وهو قول أيب حنيفة
ومالك ،ومل ير الشافعي عليه القتل مبجرد السحر ،ووجه ذلك أن عائشة رضي اهلل عنها
باعت مدبرة سحرهتا ،ولو وجب قتلها ملا حل بيعها ،وألن النيب قال« :ال حيل دم امرئ
مسلم إال بإحدى ثالث :كفر بعد إميان ،أو زنا بعد إحصان ،أو قتل نفس بغري حق» ،ومل
2
يصدر منه أحد الثالثة ،فوجب أن ال حيل دمه.
فيجاب عنه :أن األمة مل تصنع السحر ،إمنا ذهبت لساحر يصنع هلا السحر ،أو أهنا قد تكون
تابت بعدها ,أو أن يكون سحرها من النوع الذي باألدوية وخفة اليد واخلداع ،فلم يشمل
كفرًا فال تعترب مرتدة لتقتل.
وزاد أبو حنيفة فقال :وان قتل بسحره مل يقتل ،إال أن يتكرر ذلك منه.
ودليلنا على أنه يقتل وإن مل يتكرر منه الفعل عموم اخلرب يف قوله( :حد الساحر ضربة
3
بالسيف) ،وألن كل فعل أوجب القتل تكراره أوجب القتل عند ابتدائه
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة جاءهتا ،فجعلت تبكي بكاء شديًد ا،
وقالت :يا أم املؤمنني ،إن عجوزًا ذهبت يب إىل هاروت وماروت ،ليعلماين السحر فقاال :اتقي
اهلل وال تكفري؛ فإنك على رأس أمرك ،فقلت :علماين السحر ،فقاال :اذهيب إىل ذلك التنور
فبويل فيه ،ففعلت ،فرأيت كأن فارًس ا مقنًعا يف احلديد خرج مين حىت طار ،فغاب يف السماء،
فرجعت إليهما فأخربهتما ،فقاال :ذلك إميانك ،فذكرت باقي القصة إىل أن قالت :واهلل يا أم
املؤمنني ،ما صنعت شيًئا غري هذا ،وال أصنعه أبًد ا ،فهل يل من توبة؟ قالت عائشة :ورأيتها
تبكي بكاء شديًد ا ،فطافت يف أصحاب رسول اهلل وهم متوافرون تسأهلم هل هلا من توبة؟
فما أفتاها أحد إال أن ابن عباس قال هلا :إن كان أحد من أبويك حًيا فربيه ،وأكثري عن
عمل الرب ما استطعت.
ويكفر بتعلم السحر ،والعمل به؛ لقوله تعاىلَ{ :و َم ا َك َف َر ُس َلْيَم اُن َو َلِكَّن الَّش َياِط َني َك َف ُر وا
ا ِّل اِن ِم َأ ٍد ِب ِب
ُيَعِّلُم وَن الَّناَس الِّس ْح َر َو َم ا ُأْنِز َل َعَلى اْلَم َلَك ِنْي َبا َل َه اُر وَت َو َم اُر وَت َو َم ُيَع َم ْن َح
َح ىَّت َيُقواَل ِإَمَّنا ْحَنُن ِفْتَنٌة َفاَل َتْك ُف ْر } [البقرة ،]102 :فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه السحر.
وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر ألحد أمرين :إما لتمييز ما فيه كفر من غريه ،وإما إلزالته
عمن وقع فيه؛ فأما األول فال حمذور فيه إال من جهة االعتقاد ،فإذا سلم االعتقاد فمعرفة
أ -قال تعاىلَ{ :يا َأُّيَه ا الَّناُس َقْد َج اَءْتُك ْم َمْو ِعَظٌة ِم ْن َر ِّبُك ْم َو ِش َف اٌء ِلَم ا يِف الُّص ُد وِر َو ُه ًد ى
َو َر َمْحٌة ِلْلُم ْؤ ِمِنَني } [يونس]57 :
لوا َأْر ِج ْه َو َأَخ اُه واْبَعْث يِف اْلَم َد آِئِن َح اِش ِر ي * َيْأُتوَك ِبُك ل َس َّح اٍر َعِليٍم ب -قال تعاىلَ{ :قا ْ
َن
َفُج ِم َع الَّس َح َر ُة ِلِم يَق اِت َيْو ٍم َّم ْع ُلوٍم * َو ِقيَل ِللَّناِس َه ْل َأنُتْم ْجُّمَتِم ُعوَن * َلَعَّلَنا َنَّتِبُع الَّس َح َر َة ِإن
َك اُنوْا ُه ُم اْلَغاِلِبَني * َفَلَّم ا َج آَء الَّس َح َر ُة َقاُلوْا ِلِف ْر َعْو َن َأِئَّن َلَنا َألْج ًر ا ِإن ُك َّنا ْحَنُن اْلَغاِلِبَني * َقاَل
ِعِص ِح ِإ ِإ ِم
َنَعْم َو َّنُك ْم ًذا َّل َن اْلُم َقَّر ِبَني * َقاَل ُهَلْم ُّم وَس ى َأْلُقوْا َم آ َأنُتْم ُّم ْلُقوَن * َفَأْلَق ْو ْا َباُهَلْم َو َّيُه ْم
ِق ْأِف ِإ ِه ِل ِإ ِبِع ِة ِف
َو َقاُلوْا َّز ْر َعوَن َّنا َلَنْح ُن اْلَغا ُبوَن * َفَأْلَق ى ُموَس ى َعَص اُه َف َذا َي َتْلَق ُف َم ا َي ُك وَن * َفُأْل َي
الَّس َح َر ُة َس اِج ِديَن * َقاُلوْا آَم َّنا ِبَر ب اْلَعاَلِم َني *} [الشعراء]47-36 :
ِم ِم َّل
ج -قال تعاىلَ{ :و َلْو َجَعْلَناُه ُقْر آًنا أْع َج ًّيا َق اُلوْا َلْو َال ُفصَِّلْت آَياُتُه َءاْع َج ٌّي َو َعَر ٌّيِب ُقْل ُه َو
ِلَّلِذيَن آَم ُنوْا ُه ًد ى وِش َف آٌء واَّلِذيَن َال ُيْؤ ِم ُنوَن يِف آَذاِهِنْم َو ْقٌر َو ُه َو َعَلْيِه ْم َعًم ى ُأْو لِئَك ُيَناَدْو َن
ِم ن َّم َك اٍن َبِعيٍد} [فصلت..]44 :
وآية الكرسي واملعوذتان وسورة الكافرون ،وهذه اآليات مع اليت قبلها يف رقية املسحور
باإلضافة إىل آيات الشفاء.
وتكون الرقية بالنفث مباشرة على املسحور ،أو بقراءهتا على ماء نظيف مث االحتساء منه مع
االغتسال به يف مكان طاهر.
-عن ابِن َعَّباٍس قاَل « :كاَن َرُس وُل اهلل ُيَعِّو ُذ اَحْلَسَن واُحلَس نْي ؛ َيُقوُل ُ :أِعيُذ ُك َم ا ِبَك ِلَم اِت اهلل
الَّتاَّم ِةِ ،م ْن ُك ِّل َش ْيَطاٍن وَه اَّم ٍة ،وِم ْن ُك ِّل َعٍنْي َالَّم ٍةَ .و َيُقوُل َ :ه َكَذ ا كاَن إبراهيُم ُيَعِّو ُذ ِإْسَح اَق
وِإَمْساِعيَل عليهم السالم» ،سنن أيب داود.
-عن ابِن عّباٍس قال« :كان النُّيب صلى اهلل عليه وسلم َيْد عو عنَد الكْر ب؛ يقول :ال إلَه إّال
الَّلُه العظيُم احلليم ،ال إله إّال الَّلُه رُّب السماواِت واألرض ورُّب الَعرِش العظيم» ،صحيح
البخاري.
-عن ِه شام بن عروة قال :أخربين أيب عن عائشَة «أَّن رسوَل اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان
يرقي؛ يقول :امسح البأس ،رَّب الناس ،بيدَك الشفاء ،ال كاشَف له إال أنت» ،رواه البخاري.
_ َعْن ُعْثَم اَن ْبِن َأيِب اْلَعاِص الَّثَق ِف ِّي َأَّنُه َش َك ا ِإىَل ٰ َرُس وِل الّلِه َو َجًعا ِجَي ُد ُه يِف َج َس ِدِه ُمْنُذ َأْس َلَم ،
ِه ِب ِد ِم ِذ ِه
َفَق اَل َلُه َرُس وُل الّل َ« :ض ْع َيَد َك َعَل ٰى اَّل ي َتَأَمَّل ْن َج َس َك َ .و ُقْل :اْس ِم الّل َ ،ثَالًثاَ .و ُقْل َ ،س ْبَع
َم َّر اٍت َ :أُعوُذ ِبالّلِه َو ُقْد َر ِتِه ِم ْن َشِّر َم ا َأِج ُد َو ُأَح اِذُر » ،رواه مسلم.
-عن أيِب الَّد ْر َداِء قاَل ِ :مَس ْعُت َرُس وَل اهلل صلى اهلل عليه وسلم َيُقوُل َ« :م ن اْش َتَك ى ِم ْنُك م َش ْيًئا
أو اْش َتَك اُه أٌخ َلُه َفْلَيُقْل َ :ر ُّبَنا اهلل اَّلِذي يف الَّس ماءَ ،تَق َّد َس اُمْسَك َ ،أْم ُر َك يف الَّس َم اِء َو األْر ِض ،
ِف
كما َر َمْحُتَك يف الَّس َم اء فاْجَعْل َر َمْحَتَك يف األْر ِض ،اْغ ْر َلَنا ُح وَبَنا َو َخ َطاَياَنا أْنَت َر ُّب الَّطِّيِبَني
أْنِز ْل َر َمْحًة ِم ن َر َمْحِتَك َو ِش َف اًء ِم ْن ِش َف اِئَك َعَلى َه َذ ا اْلَو َج ِع َفَيْبَر ُأ» ،رواه أبو داود
اهلل صلى اهلل عليه وسلم كاَن ُيَعِّلُم ُه ْم -عن َعْم ِر و بِن ُش َعْيٍب عن أِبيِه عن َج ِّد ِه« :أَّن َرُس وَل
َو َشِّر ِعَباِدِهَ ،و ِم ْن َمَهَز اِت الَّش َياِط ِني َو أْن ِم الَف ِع َك ِل اٍت :أ وُذ ِبَك ِل اِت اهلل الَّتاَّمِة ِم َغ ِبِه
ْن َض َم ُع َم َن َز
ْحَيُضُر وَن » ،رواه أبو داود
-التصبح كل يوم بسبع مترات من عجوة املدينة؛ فعن عائشة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال« :يف َعْج َو ِة العاِلَيِة َأَّو َل الُبْك َر ِة على ِر يِق الّنفِس شفاٌء ِم ْن ُك ِّل ِس ْح ٍر َأْو سم» ،رواه
أمحد وأبو داود.
وعن عامر بن سعد عن أبيه قال :قال صلى اهلل عليه وسلم" :من اصطبح كل يوم بتمرات
عجوة مل يضره سم وال سحر ذلك اليوم إىل الليل".
وكون العجوة تنفع من السم والسحر إمنا هو بربكة دعوة النيب صلى اهلل عليه وسلم لتمر
1
املدينة ال خلاصية يف التمر
-استعمال احلجامة؛ أي استفراغ الدم من العضو الذي يصل إليه أذى السحر؛ فعْن أيب
ِبِه
ُه َر ْيَر َة أَّن َرُس وَل اهلل صلى اهلل عليه وسلم قاَل « :إْن كاَن يِف َش ْي ء َّمِما َتَد اَو ْيُتْم َخ ْيٌر
حر. فاِحْلَج اَم ُة» ،رواه أبو داود .وروي أن الرسول احتجم بقرن ملا طُب أي ملا سُ ِ
قال ابن القيم يف زاد املعاد:
"النوع الثاين :الاستفراغ يف احملل الذي يصل إليه أذى السحر؛ فإن للسحر تأثًريا يف الطبيعة
وهيجان أخالطها وتشويش مزاجها ،فإذا ظهر أثره يف عضو وأمكن استفراغ املادة الرديئة من
ذلك العضو ،نفع جًد ا .وقد ذكر أبو عبيد يف كتاب غريب احلديث له بإسناده عن عبد
الرمحن بن أيب ليلى أن النيب صلى اهلل عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حني طب ،قال أبو
عبيد :معىن طب سحر".
-قال ابن حجر" :وأما النشرة فإنه جيمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد املفازة وورد
البساتني ،مث يلقيها يف إناء نظيف وجيعل فيها ماء عذبًا ،مث يغلي ذلك الورد يف املاء غليًا
يسريا ،مث ميهل حىت إذا فرت املاء أفاضه عليه ،فإنه يربأ بإذن اهلل".
ً
-ومن أجنح األدوية أيضًا الوصول إىل مكان السحر بعد البحث عنه ،واستخراجه إلبطاله
صدفا ،أو إذابته إن كان
ودعا أو ًبقراءة املعوذات عليه وآيات السحر ،مث كسره إن كان ً
(بودرة) ،أو حرقه بعد القراءة عليه ،وكما صح عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه سأل اهلل سبحانه
وتعاىل يف ذلك فأرشده إليه ،وال سبيل إىل ذلك إال بسؤال اهلل تعاىل مع اإلحلاح يف الدعاء
بأن يكشف له مكان السحر ،واعلم أن اهلل مسيع قريب ،ويجيب الدعاء إذا دعاه عبده بصدق
وإخالص ،مع متام المسكنة وكامل التوكل ،واعلم أيضًا أن اهلل حيي كرمي ويستحيي أن يرد
يدي عبده صفرًا ،فجد يف املسألة وثق باإلجابة بإذن اهلل ،فقد مين اهلل على عبده بأن يريه
رؤيا تدله على مكان السحر والرؤيا جزء من أجزاء النبوة؛ فعن َأنس بن مالٍك َأَّن رسوَل اِهلل
ٍة
صلى اهلل عليه وسلم قال« :الُّر ؤيا احلسنُة مَن الرُج ِل الصاحل ُج زٌء من ست وَأربعَني جزًءا مَن
النَّبوة» ،رواه البخاري.
أو أن يقدر اهلل بأن يتكلم اجلين املوكل بالسحر فيخرب عن مكان السحر.
-قال ابن حجر( :أخرج عبد الرزاق من طريق الشعيب قال :ال بأس بالنشرة العربية اليت إذا
وطئت ال تضره ،وهي أن خيرج اإلنسان يف موضع عضاه ،فيأخذ عن ميينه وعن مشاله من
كل ،مث يدقه ويقرأ فيه مث يغتسل به) ،أي يأخذ من أوراق أشجار الشوك اليت عن ميينه وعن
مشاله يف البقعة اليت هو فيها.
-أما السحر املطعوم أو املشروب فإن عالجه باستسهال البطن للمسحور مع أخذ الرقية
الشرعية.
2ابن حجر العسقالني ,فتح الباري( ,ج ،10ص .)233/والَقِض يب :الُغ ْص ُن .
والَقِض يب :كُّل َنْب ٍت من اَألغصان ُيْقَضب ،والجمع ُق ُض ٌب وُقْضب ،وُقْضبان
وِقْضبان اَألخيرة اسم للجمع .قاله ابن منظور في لسان العرب..
الباب الثالث
( فك السحر بالسحر )
-عن جابر بن عبداهلل -رضي اهلل عنهما -قال :سئل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن
النشرة ،فقال( :هي من عمل الشيطان) ،رواه الإمام أمحد وأبو داود
و(النشرة) :هي ضرب من العالج والرقيةُ ،يعاجل به من يظن أن به مًس ا من اجلن ،مُس يت
نشرة؛ ألنه ينشر هبا عنه ما خامره من الداء :أي ُيكشف وُيزال.
قال ابن اجلوزي :النشرة حل السحر عن املسحور ،وال يكاد يقدر عليه إال من يعرف السحر،
ويف كالمه إشارة منه أنه ال يرى جوازها ملا فيها من السحر .وقد سئل احلسن عن النشرة
فقال :ال حيل السحر إال ساحر ،والساحر كافر ،وحكمه القتل ،وال يستعان به ،وقال اإلمام
أمحد :ابن مسعود يكره هذا كله ،أي الرقى كلها.
قال ابن القيم -رمحه اهلل:-
"النشرة :حل السحر عن املسحور ،وهي نوعان :حل السحر مبثله والذي هو من عمل
الشيطان ،وعليه حيمل قول احلسن ،فيتقرب الناشر واملنتشر إىل الشيطان مبا حيب فيبطل عمله
عن املسحور.
والثاين :بالرقية والتعوذات واألدوية املباحة فهذا جائز" انتهى كالم ابن القيم.
والشاهد على أن الرقية بالقرآن تسمى نشرة ما جاء يف احلديث.." :فنشره بـ(قل أعوذ برب
الناس)" أي رقاه.
ويف عون املعبود قال" :قوله( :هو من عمل الشيطان) :أي من النوع الذي كان أهل اجلاهلية
يعاجلون به ويعتقدون فيه ،وأما ما كان من اآليات القرآنية واألمساء والصفات الربانية
والدعوات املأثورة النبوية فال بأس به"..
-حكاية الصحابية زوجة عبداهلل بن مسعود يف األثر املشهور ،وملخصها أهنا كانت عندها
راقية ترقي بالسحر خبيط تربطه يف كتفها ،فدخل ابن مسعود فاختبأت الساحرة حتت السرير،
فرأى ابن مسعود اخليط يف كتف امرأته ،فعلم أنه سحر فنزع اخليط وقال( :إن ابن أم عبد
وآله أغنياء عن الشرك).
-وعْن ُأِّم الَّد ْر َداِء عْن أيب الَّد ْر َداِء ،قاَل :قاَل َرُس وُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إَّن اهلل أْنَز َل
الَّداَء َو الَّد َو اَءَ ،و َجَعَل ِلُك ِّل َداٍء َدَو اءًَ ،فَتَد اَو ْو ا َو َال َتَتَد اَو ْو ا َحِبَر اٍم » ،سنن أيب داود كتاب
الطب ،وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة بلفظ( :إن اهلل تعاىل خلق الداء والدواء،
َفَتَد اَو ْو ا َو َال َتَتَد اَو ْو ا َحِبَر اٍم ).
-ويف رواية :سئل ابن مسعود عن التداوي بشيء من احملرمات فأجاب( :إن اهلل مل جيعل
ِض
شفاءكم فيما حرم عليكم) ،علقه البخاري يف صحيحه ،ويف الحديث :ر يُت ُألَّم يت ما رضَي
هلا ابُن ُأِّم َعْبٍد ،ملعرفته بشفقته علـيهم ونصيحته هلم ،وابُن ُأم َعْبٍد :هو عبداهلل بن مسعود.
-قالت أم سلمة -رضي اهلل عنها :-اشتكت ابنة يل ،فنبذت هلا يف كوز ،فدخل النيب صلى
اهلل عليه وسلم وهو يغلي ،فقال :ما هذا؟ فقلت :إن ابنيت اشتكت فنبذنا هلا هذا ،فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :إن اهلل مل جيعل شفاءكم فيما حرم عليكم) ،ويف رواية( :إن اهلل مل
جيعل يف حرام شفاء) ،انظر السلسلة الصحيحة.
-عن أيب هريرة -رضي اهلل عنه -قال :إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هنى عن الدواء
اخلبيث ،سنن أيب داود ،والرتمذي كتاب الطب ،ورواه أمحد ،وقيل :هو النجس أو احلرام أو
1
ما ينفر عنه الطبع
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية -رمحه اهلل( :-واملسلمون وإن تنازعوا يف جواز التداوي باحملرمات
كامليتة واخلنزير ،فال يتنازعون يف أن الكفر والشرك ال جيوز التداوي به حبال؛ ألن ذلك حمرم
يف كل حال ،وليس هذا كالتكلم به عند اإلكراه ،فإن ذلك إمنا جيوز إذا كان قلبه مطمئنًا
باإلميان ،والتكلم به إمنا يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ،ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه باإلميان مل
2
يؤثر)
قال الشيخ حممد بن إبراهيم -رمحه اهلل( :-قال بعض احلنابلة :جيوز احلل بسحر ضرورة،
والقول اآلخر أنه ال حيل ،وهذا الثاين هو الصحيح ،وحقيقته أنه يتقرب الناشر واملنتشر إىل
الشيطان مبا حيب من ذبح شيء أو السجود له أو غري ذلك ،فإذا فعل ذلك ساعد الشيطان،
وجاء إىل إخوانه الشياطني الذين عملوا ذلك العمل ،فيبطل عمله عن املسحور ،أفيعمل الكفر
لتحيا نفوس مريضة أو مصابة؟ مع أن الغالب يف املسحور أنه ميوت أو خيتل عقله ،فالرسول
3
صلى اهلل عليه وسلم منع وسد الباب ،ومل يفصل يف عمل الشيطان وال يف املسحور)
قال الشيخ حممد األمني الشنقيطي( :التحقيق الذي ال ينبغي العدول عنه يف هذه املسألة :أن
استخراج السحر إن كان بالقرآن كاملعوذتني ،وآية الكرسي ،وحنو ذلك مما جتوز الرقية به،
فال مانع من ذلك ،وإن كان بسحر ،أو ألفاظ أعجمية ،أو مبا ال يفهم معناه ،أو بنوع آخر
4
مما ال جيوز ،فإنه ممنوع ،وهذا واضح ،وهو الصواب إن شاء اهلل تعاىل كما ترى)
أما حجج جميزي فك السحر بالسحر ،فالغالب أنه ال دليل هلم عليها ،وما هي إال تقدمي
للرأي على النص ،وتعظيم لكالم األشياخ أو قواعد تنتفي مناسباهتا يف هذه املسألة.
وهذه استدالالهتم وحججهم وما توصل إليه البحُث يف حقها:
أواًل :يرد اجمليزون قـول الرسول صلى اهلل عليه وسلم ملا سأل عن النشرة فقال( :هي من عمل
الشيطان) عن كونه يدل على هني النيب عن النشرة ،فريون أن قولـه( :هي من عمل الشيطان)
إشارة ألصلها وال يـرون أن فيه أي أمر بالنهي عنها ,وذكر احلافظ ابن حجر مثل ذلك يف
1
فتح الباري
قال مصنف كتاب التوحيد شيخ اإلسالم اجملدد حممد بن عبد الوهاب -رمحه اهلل تعاىل– يف
باب النشرة :عن جابر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُس ئل عن النشرة ،فقال( :هي من
عمل الشيطان) ،رواه أمحد بسند جيد ،وأبو داود وقال :سئل أمحد عنها فقال :ابن مسعود
يكره هذا كله.
ويقول أهل العلم هو حديث صحيح ،رجاله رجال الصحيحني ,وقال أهل العلم :هذا حممول
على ما إذا كانت خارجة عما يف كتاب اهلل وسنة رسوله عليه السالم ،وعن املداواة املعروفة.
2
قال الشارح الشيخ حسن آل الشيخ -رمحه اهلل تعاىل :-قوله" :سئل عن النشرة" :األلف
والالم يف (النشرة) للعهد أي النشرة املعهودة اليت كان أهل اجلاهلية يصنعوهنا هي من عمل
الشيطان".
ونرد عليهم من قواعد األصول؛ فإن األلفاظ اليت تتلقى منها األحكام إما أن تأيت بصيغة األمر
أو بصيغة خرب يراد به األمر فتستدعي الفعل ,وإما أن تأيت بصيغة النهي أو بصيغة خرب يراد به
النهي فتستدعي الرتك ،3فالرسول صلى اهلل عليه وسلم ليس يف حديثه لفظ صريح بأمر أو هني
1صحيح مسلم ،كتاب القدر ,مسند الإمام أحمد ،في مسند أبي هريرة
2صحيح مسلم ،باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية ,مسند اإلمام أحمد،
في مسند أنس بن مالك
وبنو إسرائيل ملا أراد السامري إغواءهم وصدهم عن توحيد اهلل أتاهم بالعجل ليعبدوه ,يقول
ابن كثري" :قالت فرقة من بين إسرائيل :هذا من عمل الشيطان -أي الشرك -وليس بربنا ال
نؤمن به وال نصدق".
ويف فتح الباري قال احلافظ :وثبت النهي عن األكل بالشمال وأنه من عمل الشيطان ،من
حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم.
فاألمثلة الشرعية السابقة هي برهان على بطالن حجتهم ودليل على دحض شبهتهم وردها
عليهم .وهي إثبات لعكس ما يقولون .فمن اخلطأ أن يقال :إن قول النيب صلى اهلل عليه وسلم
عن النشرة" :هي من عمل الشيطان" ال حيمل داللة على النهي عن النشرة ،مع أهنا قرنت فيه
هبذه الصفة املقتضية للنهي !!..فـ"منهج الشريعة" هو الذي أكد استدعاء النهي؛ ألن عمل
الشيطان عمل حقري خبيث حيمل عليه هو؛ فيزين القبيح ،ويغوي اخللق به ،ويضلل به العباد
عن احلق وعن الصراط السوي ,وعمله من األعمال اليت تسخط اهلل وال ترضيه ،وليست هي
من األعمال اليت يرتضيها اهلل لصفوة عباده املسلمني ....قال عز وجل { :اَل َّتِب وا ُط اِت
َو َت ُع ُخ َو
ِخَّت ِن
الَّش ْيَطا ِإَّنُه َلُك ْم َعُد ٌّو ُمِبٌني } [البقرة ،]168 :وقال تعاىلِ{ :إَّن الَّش ْيَطاَن َلُك ْم َعُد ٌّو َفا ُذ وُه
َعُد ًّو ا} [فاطر ،]6 :يقول املفسرون :أي ال تتبعوا طرائقه ومسالكه اليت أضل هبا أتباعه.
مث إن النهي حيمل على التحرمي ال الكراهة ،وليس يف النص إشارة كافية للحمل سواء على
التحرمي أو الكراهة ،ولكن أدلة السحر العامة يف حكمه وحكم فاعله وحكم طالبه ترجح محل
هذا النهي على التحرمي لورود الزجر والعقاب وترتب اإلمث الكبري على ذلك ,ومنها ..قوله
تعاىلَ{ :و َلَقْد َعِلُم وا َلَم ِن اْش َتَر اُه َم ا َلُه يِف اَآْلِخ َر ِة ِم ْن َخ اَل ٍق } [البقرة ،]102 :أي من استبدل
دينه بالسحر فإنه ال نصيب له ،وعد الرسول صلى اهلل عليه وسلم السحر عامة من املوبقات
املهلكات يف احلديث الذي أخرجه البخاري ،وقال( :ليس منا من تطري أو تطري له ،أو تكهن
أو تكهن له ،أو سحر أو سحر له).
واألدلة يف هذا املعىن كثرية ،ويستفاد منها التحرمي ال الكراهة ،والنصوص القرآنية تبني أن
السحر كفر والساحر كافر ،وتنهى عن طلب السحر واستبداله بالدين؛ فالنصوص عامة أو قد
تكون جمملة ،وإن كانت جمملة فهي حتتاج ملا يبينها ،ويف السنة ما يبينها؛ فالنشرة قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيها( :هي من عمل الشيطان) ،وبني الرسول أن إتيان الساحر كفر
مبا أنزل اهلل وهو القرآن ،وهذا عام؛ سواء كان اإلتيان لتعلم السحر ،أو كان لسؤال الساحر
عن املغيبات ،أو لعمل السحر لآلخرين ،أو كان للنشرة ،كما دلت النصوص ،والتفريق بني
ما مجع بينه النص بغري قرينة صحيحة ال جيوز.
مث إن الرسول صلى اله عليه وسلم مل يصدر هنا حكمًا جديدًا أو وصفًا خاصًّا بالنشرة؛ ألن
السحر أخرب اهلل عنه أنه من عمل الشيطان بداللة قوله تعاىلَ{ :و اَّتَبُعوا َم ا َتْتُلو الَّش َياِط ُني َعَلى
ُمْلِك ُس َلْيَم اَن َو َم ا َك َف َر ُس َلْيَم اُن َو َلِكَّن الَّش َياِط َني َك َف ُر وا ُيَعِّلُم وَن الَّناَس الِّس ْح َر } [البقرة:
،]102قال ابن باز -رمحه اهلل" :-هنا يف هذه اآلية حتذير من تعلم السحر وتعليمه؛ ألنه من
عمل الشيطانَ ،وألنه كفر ينايف اإلميان" ا.هـ.
فالذي خيلص إليه بعد النظر يف األدلة والقرائن ،وبعد التتبع هلذه العبارة يف أحكام القرآن
كافيا لنعلم أن النيب صلى اهلل عليه والسنة ،بيان أن وصف النشرة بأهنا من عمل الشيطان كان ً
دائما ،وال يدل على مقتض للنهي يف الشرع ً ٍ ٍ
بوصف وسلم قد أراد فيها التحرمي؛ ألنه ألصقها
اإلباحة ...فما زعموه مغاير ملقتضى الكتاب والسنة.
يقول بعض اجمليزين" 1 :أخذ البعض يستدلون مبا ال دليل فيه ،وخيلطون بني الساحر والكاهن،
ويستدلون بقوله( :من أتى كاهًنا أو عراًفا فصدقه مبا يقول فقد كفر مبا أنزل على حممد)،
والكاهن والعراف مها اللذان خيربان بالغيب املستقبل الذي ال يعرفه إال اهلل ،وهلذا فإن الشيخ
حممد بن عبد الوهاب -رمحه اهلل -عقد باًبا فيما جاء يف الكهان وحنوهم ،مث عقد باًبا آخر
فقال" :باب ما جاء يف النشرة" ،مما يدل على التفريق".
قال اإلمام أمحد" :العرافة طرف من السحر ,والساحر أخبث؛ ألن السحر شعبة من الكفر.
والساحر والكاهن حكمهما القتل أو احلبس حىت يتوبا؛ ألهنما يلبسان أمرمها" ا.هـ ,2والكاهن
هو من خيرب بواسطة النجم عن املغيبات يف املستقبل .3وما يقوم به العراف والكاهن من ادعاء
علم الغيب ُيعُد من السحر بداللة أن التنجيم ادعاء لعلم الغيب ودجل وكذب ،وعده الرسول
أيضًا من السحر؛ فعن العباس رضي اهلل عنهما قال" :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
عرافا أو
مث إن العالمة األلباين -رمحه اهلل تعاىل -صحح احلديث برواية أخرى( :من أتى ً
كاهنا يؤمن مبا يقول ،فقد كفر مبا أنزل على حممد صلى اهلل عليه وسلم) ،وحديث
ساحرًا أو ً
آخر على هذا املعىن( :ليس منا من تطري أو تطري له ،أو تكهن أو تكهن له ،أو سحر أو سحر
له) ،فيبطل احتجاجهم من غري ريب وال شك.
وقال الشيخ حفظه اهلل أيًض ا" :الذين يأمرون الناس باالقتصار على الرقية خيالفون ما فعله من
استخراج السحر وحله".
إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم استخرجه بالوحي ،ومل يستخرجه بالسحر والشعوذة،
وحاشاه من ذلك ،وإن من أجنح األدوية الوصول إىل مكان السحر وإتالفه وإبطاله ،لكن ال
يباح إن كان ذلك بالسحر الذي حرمه اهلل يف كتابه وعلى لسان نبيه ،وعده من املوبقات
املهلكة ملا فيه من األمور املوغلة يف الكفر والشرك..
قال الشيخ أيًض اُ" :يستدُل بنهي النيب صلى اهلل عليه وسلم عن التداوي باحلرام ....فإن حل
السحر ليس من تعاطي األدوية احملرمة املأكولة واملشروبة ،فاحلديث هو يف التداوي بأكل
الطعام احملرم أو شرب ما هو حمرم؛ كاخلمر ولو على سبيل التداوي ،أما السحر فهو حبل عقد
وإتالف ما وضع فيه السحر واستخراجه كما فعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم".
إن لفظ التداوي الوارد يف احلديث الشريف لفظ عام ال يسوغ ختصيصه بالدواء املأكول
واملشروب؛ ألن املفهوم الظاهر للحديث هو عموم الدواء ,واألدوية متنوعة اهليئة واألساليب
ليست فقط مأكولة أو مشروبه؛ فمنها ما هو على هيئة البخور ،ومنها ما يكون عن طريق
الرقى أو احلجامة ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال( :إَّن َأْفَض َل َم ا َتَد اَو ْيُتْم ِبه
اِحْلَج اَم ة) ،رواه الرتمذي ،أو الكي أو التدليك أو الاستفراغ ،أو حرق احلصري كما ثبت ذلك
بفعل فاطمة رضي اهلل عنها ،أو احلمية أو االغتسال بالسدر وغريه من األعشاب ،وكذلك
حل العقد وإتالفها فهي من األساليب الناجحة يف دواء املسحور.
مث إنه ال أحد يستطيع أن ينكر أن حل عقد وإتالف ما وضع فيه السحر واستخراجه كما
فعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم هو من أسباب الشفاء وإزالة البأس .والرسول صلى اهلل عليه
وسلم قيد أسباب الشفاء فقال( :إن اهلل مل جيعل شفاءكم فيما حرم عليكم) ،أخرجه البخاري
يف صحيحه .فطلب الشفاء عن طريق السحر حمرم؛ ألن السحر حمرم يف ذاته ،وألن اهلل
ِه َّط ِت ِحُي
سبحانه وتعاىل مل جيعل يف حمرم شفاء ،وقال اهلل تعاىلَ{ :و ُّل ُهَلُم ال ِّيَبا َو َحُيِّر ُم َعَلْي ُم
اَخْلَباِئَث } [سورة األعراف ،]157 :وهذا عام يف حترمي كل ما هو خبيث ،ويشمل التداوي
بالسحر.
ثالثا :يستدل اجمليزون مبا رواه البخاري عن قتادة قال :قلت البن املسيب :رجل به طب أو
يؤخذ عن امرأته ،أحيل عنه أو ينشر؟ قال :ال بأس إمنا يريدون به اإلصالح ,فأما ما ينفع فلم
ينه عنه.
وهذا من ابن املسَّيب حُي مل على نوع من النشرة ال ُيعلم أنه سحر.
ألن سؤال قتادة يف النشرة عن املسحور ،وكان جواب ابن املسيب ال بأس -أي بالنشر-
ألهنم يريدون اإلصالح ,فأما ما ينفع فلم ينه عنه .فدل على أنه أراد الرقية الشرعية أو النشرة
املباحة اخلالية من الشرك؛ ألهنا منفعة ال تلحقها مضرة ال دنيوية أو أخروية ،والنيب مل يأذن
بفك السحر إال بالرقية الشرعية واألدوية املباحة؛ كما يف احلديث :فلعل طبا أصابه ،مث نشره
بـ(قل أعوذ برب الناس) ،أي رقاه ،وطلب من الصحابة الكرام أن يعرضوا رقاهم عليه فقال:
شركا.
اعرضوا علي رقاكم؛ ال بأس بالرقى ما مل تكن ً
وأما محل كالم ابن املسيب على جواز النشر عن املسحور بالسحر فال يصح ،وإن صح عنه
ذلك فإنه ال يؤخذ بقوله؛ ألنه قول خمالف للنصوص العامة واخلاصة ,والسحر عرف منذ القدم
وعرفته العرب ،وكان يستخدم على الوجهني :يف الشر والضرر ,ويف النشر وحل السحر عن
املسحور ,وبعد اإلسالم نزلت آيات السحر يف ذمه والنهي عنه ,آيات عامة بدون ختصيص,
وكذلك أقوال الرسول صلى اهلل عليه وسلم تأمر باجتنابه وتبني كفر طاِلـِبه واخلطاب فيها
عام ،فالنهي يشمل الوجهين.
يقول ابن قدامة يف روضة الناظر وجنة املناظر" :إمجاع الصحابة رضوان اهلل عليهم؛ فإهنم من
أهل اللغة ،بأمجعهم أجروا ألفاظَ الكتاب والسنة على العموم إال ما دل على ختصيصه دليل،
فإهنم كانوا يطلبون دليل اخلصوص ال دليل العموم ،واإلمجاع حجة ،فاألصل استصحاب
عموم الدليل حىت يرد املخصص".
والعموم ال حيمل على غريه إال بقرينة .وال توجد قرينة تنقله للخصوص ,فأدلة السـ ــحر القرآنية
واحلديثية ,أدلة تشتمل على ألفاظ وصيغ تعرب عن العموم ،وهي معروفة ومدونة يف كتب
العلم ،فإن وردت يف النصوص كان دليلا عامًّا.
كاهنا يؤمن مبا يقول فقدعرافا أو ساحرًا أو ً
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :من أتى ً
كفر مبا أنزل على حممد صلى اهلل عليه وسلم).
فيه من صيغ العموم "من" للعاقل ,و"ما" فيما ال يعقل ,أي عموم اإلتيان للساحر واالستعانة به
وقصد سحره يرتتب عليه الكفر ,بأي غاية كانت ،وتصديقه بأي شيء قاله دون ختصيص أو
استثناء ,فهذا هو املفهوم الظاهر للحديث ،فيبقى املعىن واحلكم كما هو النتفاء الناسخ أو
املخصص أو اإلمجاع على خالف العموم.
فلم خيصصون الدليل؟
وقال أيضًا صلوات ريب وسالمه عليه( :ليس منا من تطري أو تطري له ،أو تكهن أو تكهن له،
أو سحر أو سحر له) ،فيه (من) وهي من ألفاظ العموم؛ ففيه كفر من تطلب عمل السحر،
وال شك أن الشخص املسحور الذي ينشر عنه بالسحر يدخل يف هذا العموم ,والسحر هنا
لفظ عام يشمل الوجهين.
وقال صلى اهلل عليه وسلم( :اجتنبوا السبع املوبقات :الشرك باهلل /والسحر .....اخل) ،والسحر
اسم جنس حملى بـ(ال) التعريف فيوجب العموم ،أي يشمل ِس ـحرًا ُقـِص د للشـِِر واألذية أو
التفريق أو للنشر عن املسحور ملا فيه من األمور الكفرية ،فاألمر عام باالجتناب ،واألصل يف
األوامر احلتم ,يقول شارح كتاب التوحيد" :قوله :اجتنبوا أي ابعدوا ,وهو أبلغ من قوله دعوا
واتركوا؛ ألن النهي عن القربان أبلغ" ،وغريه من األدلة.
وهكذا األدلة مجيعها ،فالناظر إليها جيدها أدلة عامة .فليست هي خاصة ملن قصد السحر
إلرادة اإلضرار.
واملخصصات هي :النص ،والعقل ،واحلس ،واملفهوم ،واإلقرار ،والفعل ،واإلمجاع ,وال أحد
يستطيع أن يثبت شيًئا منها.
فاألوىل محل كالم ابن املسيب على نوع من النشرة ال ُيعلم أنه سحر.
الضرورة اليت تباح هبا احملرمات ُ محلنا على اإلباحةرابعا :يقولون َ
استنباطًا من قول اهلل تعاىلَ{ :و َقْد َفَّصَل َلُك ْم َم ا َح َّر َم َعَلْيُك ْم ِإاَّل َم ا اْض ُطِر ْر ْمُت ِإَلْيِه} [األنعام:
.]119
فهذا احتجاج فاسد ال اعتبار له؛ ألن علماء األصول وضعوا هلذه القاعدة شروطًا تضبطها
وحتكمها ،فال بد من حتققها واستيفائها أوال ,ومن هذه الشروط -بل هو أوهلا -أن يتعني
احملظور طريقًا لدفع الضرورة ,أي انتفاء البديل عدا األخذ باحملظور ,واملعلوم أن البدائل
موجودة وطرق عالج السحر كثرية ،كما تبني سابًق ا ,فال يرى إذن ما يسوغ فعل احملظور.
-ويف بيان للجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء عن عالج السحر ،جاء فيـه:
( ..وال يصح القول جبواز حل السحر بسحر مثله بناء على قاعدة الضرورات تبيح
احملظورات؛ ألن من شرط هذه القاعدة أن يكون احملظور أقل من الضرورة ،كما قرره علماء
األصول ،وحيث إن السحر كفر وشرك ،فهو أعظم ضرًر ا؛ بداللة قول النيب صلى اهلل عليه
وسلم( :ال بأس بالرقى ما مل يكن فيها شرك) ،أخرجه مسلم ،والسحر ميكن عالجه باألسباب
املشروعة ،فال اضطرار لعالجه مبا هو كفر وشرك)..ا.هـ.
مث إن التداوي ال يعد ضرورة ،وال تستحل به احملرمات ،والدليل على ذلك ما قاله ابن تيمية
يف الرد على من أباح التداوي باحملرمات؛ قال" :أما إباحة احملرمات للضرورة فحق؛ وليس
التداوي بضرورة لوجوه:
أحدها :أن أكثر املرضى يشفون بال تداو ،ويشفيهم اهلل مبا خلق فيهم من القوى املطبوعة يف
أبداهنم الرافعة للمرض ،وفيما ييسره هلم من نوع حركة وعمل ،أو دعوة مستجابة ،أو رقية
نافعة ،أو قوة قلب وحسن التوكل ،إىل غري ذلك من األسباب الكثرية ظاهرة وباطنة ,روحانية
وجسدية.
وثانيها :أن التداوي غري واجب ،ومن نازع فيه َخصَمتْه السنةُ يف املرأة السوداء اليت خريها
النيب صلى اهلل عليه وسلم بني الصرب على البالء ودخول اجلنة ،وبني الدعاء بالعافية ،فاختارت
وخصََمه حالُ أنبياء اهلل
البالء واجلنة .ولو كان رفع املرض واجبًا مل يكن للتخري موضعَ ،
املبتلني الصابرين على البالء حني مل يتعاطوا األسباب الدافعة له؛ مثل أيوب عليه السالم
وغريه ،وكذلك السلف الصاحل.
ثالثها :أن الدواء ال يستيقن ،بل ويف كثري من األمراض ال يظن دفعه للمرض ،إذ لو اطرد
ذلك مل ميت أحد.
رابعها :أن املرض يكون له أدوية شىت ،وحمال أن ال يكون له يف احلالل شفاء أو دواء ،والذي
أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إال املوت ،وال جيوز أن يكون أدوية األدواء يف القسم احملرم،
وهو سبحانه الرؤوف الرحيم كما جاء يف احلديث املروي" :إن اهلل مل جيعل شفاء أميت فيما
حرم عليها" .1
مث قال يف موضع آخر -رمحه اهلل( :-واملسلمون وإن تنازعوا يف جواز التداوي باحملرمات
كامليتة واخلنزير ،فال يتنازعون يف أن الكفر والشرك ال جيوز التداوي به حبال).
1الدكتور محمد صدقي البورنو ,الوجيز في إيضاح فواعد الفقه الكلية ص43
2ابن حجر ,فتح الباري ،ك الوضوء ،باب أبوال اإلبل( ,ص)404/
اآلية :أي ال يظفر الساحر بسحره بـما طلب أين كان ،1واملفلح :هو الذي ينال املطلوب
وينجو من املرهوب ،فالساحر ال حيصل له ذلك .2
فالفعل يف سياق النفي يدل على العموم؛ قال تعاىل( :ال يفلح) أي يعم نفي مجيع أنواع الفالح
عن الساحر ،والفالح يطلق يف العربية على الفوز باملطلوب؛ قال تعاىل( :حيث أتى) تأكيًد ا
للعموم ،أي حيث توجه وسلك ،وهذا أسلوب عريب معروف ،يقصد به التعميم كقوهلم :فالن
متصف بكذا أينما كان ،3وإن قوهلم بأن السحرة يفلحون يف إيقاع الضرر والنفع فإنه
مصادمة مع كتاب اهلل؛ ألن األصل هو إثبات ما أثبته اهلل يف كتابه ونفي ما نفاه .واهلل أثبت
هلم إيقاع الضرر بعد مشيئته سبحانه فقالُ{ :يَفِّرُقوَن ِبِه َبَنْي اْلَمْر ِء َو َز ْو ِج ِه} [البقرة،]102 :
لكن النفع نفاه اهلل عز وجل فقالَ{ :و َيَتَعَّلُم وَن َم ا َيُضُّر ُه ْم َو اَل َيْنَف ُعُه ْم } [البقرة،]102 :
وحقيقة النفع :لذة ال يعقبها عقاب وال يلحقها ندامة ،ونفي فالحهم بعملهم مقيد خيرج عنه
ما أثبته هلم من التفريق واألذية.
فبطل احتجاجهم بالقاعدة؛ ألهنا قاعدة مقيدة وليست على اإلطالق ،فتبني زيف ادعائهم؛
ألن النصوص اإلهلية تنفي النفع عن السحر ،بل على العكس ثبت مضرته وفساده على العقائد
والنفوس ،فمن ادعى أن يف السحر مصلحة فإهنا مصلحة متومهة ،وهي مصلحة ملغاة؛
لتعارضها مع عموم هني الرسول صلى اهلل عليه وسلم عندما قال( :إن اهلل تعاىل خلق الداء
والدواء ،فتتداووا وال تتداووا حبرام) [السلسلة الصحيحة] ,فعلى تقدير رجحان املصلحة يلزم
انتفاء احلرمة كما قرر ذلك علماء األمة.
سابعا :قالوا :إن مسألة فك السحر بالسحر قد تعرض هلا علماء أجالء من السلف وقالوا
جبوازها؛ كالإمام أمحد ،وابن اجلوزي ،واإلمام البخاري ،وابن حجر ،والطربي ،وابن بطال،
والشعيب ،وبعض علماء احلنابلة؛ رمحهم اهلل تعاىل مجيعًا.
وهذا مرود عليه؛ لأن األصل أن ال يقدم قول أحد البشر على قول اهلل وقول رسوله صلى اهلل
عليه وسلم .قال ابن عباس( :يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ,أقول :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،وتقولون :قال أبو بكر وعمر؟)
قال اإلمام مالك" :ما منا إال رادّ ومردود عيه ،إال صاحب هذا القرب صلى اهلل عليه وسلم"،
وكالم األئمة يف هذا املعىن كثري .وما زال العلماء جيتهدون يف الوقائع؛ فمن أصاب فله
أجران ,ومن أخطأ فله أجر كما يف احلديث ,لكن إذا استبان هلم الدليل أخذوا به وتركوا
اجتهادهم ،وعلى هذا فيجب اإلنكار على من ترك الدليل لقول أحد العلماء كائنًا من كان،
قال أبو حنيفة رمحه اهلل" :إذا جاء احلديث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فعلى الرأس
والعني ,وإذا جاء عن الصحابة رضي اهلل عنهم فعلى الرأس والعني ,وإذا جاء عن التابعني
فنحن رجال وهم رجال" ،فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب اهلل وسنة
رسوله ،وفهم معىن ذلك أن ينتهي إليه ويعمل به ،وإن خالفه من خالفه؛ كما قال تعاىل:
{اَّتِبُعوا َم ا ُأْنِز َل ِإَلْيُك ْم ِم ْن َر ِّبُك ْم َو اَل َتَّتِبُعوا ِم ْن ُدوِنِه َأْو ِلَياَء َقِلياًل َم ا َتَذ َّك ُر وَن } [األعراف،]3 :
وقال تعاىلَ{ :أَو ْمَل َيْك ِف ِه ْم َأَّنا َأْنَز ْلَنا َعَلْيَك اْلِكَتاَب ُيْتَلى َعَلْيِه ْم ِإَّن يِف َذِلَك َلَر َمْحًة َو ِذ ْك َر ى
ِلَق ْو ٍم ُيْؤ ِم ُنوَن } [العنكبوت ،]51 :فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ،ونظر
فيها ،وعرف أقواهلم ،أن يعرضها على ما يف الكتاب والسنة .واألئمة رمحهم اهلل مل يقصروا يف
هذا البيان ,بل هنوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة؛ لعلمهم أن من العلم شيًئا مل يعلموه وقد
يبلغ غريهم ,قال أبو حنيفة :إذا قلت قوال وكتاب اهلل خيالفه فاتركوا قويل لكتاب اهلل ،وقال
الربيع :مسعت الشافعي -رمحه اهلل -يقول :إذا وجدمت يف كتايب خالف سنة رسول اهلل صلى
1
اهلل عليه وسلم فخذوا سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ودعوا ما قلت.
وأما قوهلم :إن اإلمام أمحد جييزه فهذا خطأ؛ ألنه ملا سئل عن الرجل حيل السحر قال :قد
رخص فيه بعض الناس ،قيل :إنه جيعل يف الطنجري ماء ،ويغيب فيه ،فنفض يده وقال :ال
أدري ما هذا ،قيل له :أترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال :ال أدري ما هذا .وهذا دليل على أنه ال
جييزه.
ومما ميكن أن ُيستدل به على عدم جواز فـك السحر بالسحر أمور:
أ -اجمليزون اجتهدوا فرأوا أن يف النشرة السحرية علة التداوي فأباحوها هلذه العلة ,واملانعون
يرون أن فيها علة األقوال واألفعال واالعتقادات الكفرية ،فالذي دعاهم إىل املنع هذه العلة,
ويقول الشريازي يف التبصرة" 2 :إذا كانت إحدى العلتني تقتضي احلظر واألخرى تقتضي
اإلباحة ،فاليت تقتضي احلظر أوىل ،وألن احلظر أحوط؛ ألن يف اإلقدام على احملظور إمثًا ،وليس
يف ترك املباح إمث" ،فهذا هو الفيصل يف أمور االجتهاد ،واحلق الذي ال بد أن يتأمله اجملتهد
وال يغفل عنه؛ ألنه موقع عن اهلل جال جالله.
ب -أن القاعدة اليت حتكم املتناوالت كافة ,كاألدوية واألطعمة واألشربة والزينة واأللبسة,
3
تقول" :ما أبيح لصفته حرم لسببه".
فاألدوية األصل فيها اإلباحة الشتماهلا على مصلحة التعاجل والشفاء ,وحترم ألسباب؛ كأن
يكون الدواء مغصوًبا ،أو أن يكون مسروًقا ،أو أن يكون الدواء خبيثًا أو حمرًم ا ،كما نصت
أحاديث الرسول على ذلك؛ فعن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :إن الرسول صلى اهلل عليه
وسلم هنى عن الدواء اخلبيث .رواه الرتمذي [صحيح اجلامع] ,والنشرة هذه الشتماهلا على
1لسان العرب
وعلى اجملتمع ثانًيا ،فالسحر هنا زالت عنه إرادة األذية ،بل على العكس ُأِر يـد به جلب منفعة
حمضة ودفع مضرة التفكك والفرقة وابتغاء لألنس والطمأنينة -كما يظن -وهي منفعة قريبة ملا
يراه اجمليزون يف النشرة .فالزوجة من اخلري هلا أن تلجأ للوسائل اليت حتبب زوجها فيها ،لكن
عندما يصل األمر إىل العقيدة واإلخالل هبا...نقف!
فكان حكم التولة الشرك؛ ألن الوسيلة املستخدمة هي وسيلة كفرية حبد ذاهتا ،العلة هي
وجود السحر ملا فيه من الكفر والشرك والتعلق بغري اهلل ،والنشرة هي كذلك؛ فهي إزالة
وكشف الداء وحل السحر عن املسحور ،ففيها جلب للمنفعة كما يظن ،فالنشرة ُتشِبُه التولة
للجامع الذي بينهما يف كوِن السحر الكفري أداة هلما ،وأيضًا ما ُعِم َد إليهما إال جللِب املنافع
ودفع املضار ،فكالمها طلب ألمر مشروع؛ النفع ورفع األذى ،بطريقة غري مشروعة حمرمة هي
السحر.
ِفلَم يثبتون احلكم يف التولة وينفونه عن النشرة؟ مع وجود األوصاف املشرتكة بينهما من حيث
الغرض والوسيلة والكيفية والعلة ،ومع انتفاء املانع أو الناقض يف هذا القياس!!
-استنباط العلة الصحيحة اليت من أجلها ُح رَِّم الذهاب للساحر وسؤاله ،أي العلة اليت ال
يزول املنع إال بزواهلا.
كاهنا يؤمن مبا يقول فقد
عرافا أو ساحرًا أو ً
فرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال( :من أتى ً
كفر مبا أنزل على حممد صلى اهلل عليه وسلم) [صحيح اجلامع] ،ويقول صلى اهلل عليه وسلم:
(ليس منا من تطري أو تطري له ،أو تكهن أو تكهن له ،أو سحر أو سحر له) [صحيح اجلامع
والسلسلة الصحيحة] ،فهنا بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كفر من أتى الساحر وطلب
السحر عموًم ا ،واجمليزون يثبتون ويسلمون بكفر من أتى الساحر إلضرار أحد اخللق ،وهو
كفر ال خيرج عن امللة يف املشهور عن اإلمام أمحد ،لكن من قصَد السحرة للتداوي وحل
السحر فاستعان هبم على ذلك يف حال الضرورة -كما يقولون -يرون أنه ال يدخل يف
أحدا بذلك،
احلكم ،فينازعون يف إثبات احلكم عليه؛ ألنه كما يرون هم أنه مل يذهب ليضر ً
فلم يقصد أن يفرق بني املتحابني ومل يؤذ أحًد ا ,إذن ..أال يلزم من قوهلم هذا أن تكون علة
املنع يف الذهاب هي قصد اإلضرار ,فبزواهلا يزول املنع.
والشرع والعقل يتفقان يف عدم قبول أن هذه العلة هي اليت قصدها الشارع؛ ألن أحكام
الشرع كلها حق وعدل ال ظلم فيه ,وألن احلكم على الشخص بالكفر بالقرآن أمر عظيم،
ليس باهلني أن يطلق على املسلم املوحد إال إن كان بسبب قوي يستدعي ويوجب ذلك ,بل
إن االستعانة بأهل وأرباب الكفر ،وبأعماهلم ورقاهم وعزائمهم وطالمسهم الشركية حبد ذاته
هو السبب والعلة التي قصدها الشارع يف النهي ،فهي تتناسب مع حكم الكفر املنصوص.
والعلة الصحيحة عند األصوليني ال بد إلثباهتا من شروط منها أن تكون العلة مطردة يف
معلوالهتا.
فيخرج هبذا الشرط قصد الإضرار للخلق عن كونه علة املنع يف إتيان الساحر باالستقراء
إطالقا مع احلكم السابق الكفر.
والتتبع هلذه العلة يف أحكام الشرع؛ ألهنا ليست مطردة ً
فقصد إضرار أحد اخللق؛ سواء الإضرار الحسي أو المعنوي ,ليس سببًا يتأتى معه الكفر أبًد ا،
خبالف قصد إضرار النيب صلى اهلل عليه وسلم ,فإذن زوال قصد اإلضرار عند الذهاب للساحر
مباحا؛ ألنه بقي يف النشرة السحرية ما يستدعي بقاء احلكم ،فال ال جيعل أبًد ا من النشرة أمرًا ً
يتخلف عنها احلكم إال إذا ختلف موجب احلكم ،وهو فعل أو قول أو اعتقاد الكفر.
إن عند فك السحر بالسحر أموًر ا توجب الكفر؛ كأن يعزم الساحر على اجلن املوجود مع
املسحور ليرتكه ،فيقسم حبق أبالسة الشياطني وملوك اجلن بأن خيرج ،أو يقوم باسرتضائه عن
طريق القرابني من ذبح وزار يف طقوس غريبة شاذة ,أو أن يقوم باستحضار شياطني لتبعد
شياطني املسحور ويقدم هلم ما يشاءون من األشياء اليت ترضيهم ،فُيَتقرب هلم بالذبح وإهانة
املصحف بالنجاسات والزنا وشرب املسكرات ،ويستخدمون لذلك طالسم ورقى ومتائم
موغلة يف الكفر والشرك.
وتلك الرقى املنهي عنها هي اليت يستعملها املعزم وغريه ممن يدعي تسخري اجلن له ،فيأيت بأمور
مشتبهة مركبة من حق وباطل ،جيمع إىل ذكر اهلل وأمسائه ما يشوبه من ذكر الشياطني
1
واالستعانة هبم والتعوذ مبردهتم.
فاملعزم الذي يستعني باجلن ،ذكره القاضي وأبو اخلطاب يف مجلة السحرة قال :فأما املعزم الذي
يعزم على املصروع ،ويزعم أنه جيمع اجلن ،وأهنا تطيعه ،والذي حيل السحر ،فذكرمها أصحابنا
من السحرة الذين ذكرنا حكمهم .وسئل ابن سريين عن امرأة تعذهبا السحرة ،فقال رجل:
قال ابن تيمية :يكفي املسلم أن يعلم أن اهلل تعاىل مل حيرم شيًئا إال ومفسدته حمضة أو غالبة،
وأما ما كانت مصلحته حمضة أو راجحة ،فإن اهلل شرعه؛ إذ الرسل بعثت بتحصيل املصاحل
وتكميلها ،وتعطيل املفاسد وتقليلها ،والسحر قرن بالشرك؛ قال تعاىلَ{ :أْمَل َتَر ِإىَل اَّلِذيَن ُأوُتوا
ِم َّلِذ ِء ِل ِذ ِت ِص ِم ِك ِب ِم ِب ِجْل ِت
َن يًبا َن اْل َتا ُيْؤ ُنوَن ا ْب َو الَّطاُغو َو َيُقوُلوَن َّل يَن َك َف ُر وا َهُؤ اَل َأْه َد ى َن ا يَن
َآَم ُنوا َس ِبياًل ُأوَلِئَك اَّلِذيَن َلَعَنُه ُم الَّلُه َو َمْن َيْلَعِن الَّلُه َفَلْن ِجَت َد َلُه َنِص ًريا} [النساء.]52-51 :
ويف الذهاب للسحرة خمالفة ألمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم بقتلهم ،ناهيك عن الإقرار
للسحر دون اإلنكار ،وقد أمرنا أن نكفر به وهذا ال جيوز ،فكيف إن كان يطلبه ،فهذا تعاون
على اإلمث والعدوان ،وهو حمرم ،واهلل يقولَ{ :و َتَعاَو ُنوا َعَلى اْلِّرِب َو الَّتْق َو ى َو اَل َتَعاَو ُنوا َعَلى
اِإْلِمْث َو اْلُعْد َو اِن } [املائدة.]2 :
قال شيخ اإلسالم( :من حضر إىل مكان فيه منكر مل يستطع تغيريه مل جيز له احلضور) ،وقال
تعاىلَ{ :فاَل َتْق ُعُد وا َمَعُه ْم َح ىَّت ُخَيوُضوا يِف َح ِديٍث َغِرْي ِه ِإَّنُك ْم ِإًذا ِم ْثُلُه ْم } [النساء]140 :
ومن أشد الضرر الرتويج لبضاعتهم الكاسدة املزجاة ،والعمل على انتشارها ،والتقوية
لشوكتهم؛ قال د .إبراهيم أدهم" :فتلمع أمساء بعض السحرة وتشتهر ،ويزداد اإلميان والتسليم
بأقواهلم وقدراهتم ،ويزداد نفوذهم يف اجملتمع ،وينظر إليهم نظرة املنقذ واملخلص ،وأصحاب
احللول اليت ال ختطئ ،فيتنفس السحرة الصعداء ،ويكشرون عن أنياهبم وأظافرهم ،ليبذروا
حب الفتنة والفساد يف أرض اجملتمع الغافل عن نداء السماء".
ناهيك عن تسهيل أكل أموال الناس بالباطل ,وإن كثرة الرتدد عليهم واللجوء هلم وسؤاهلم
يفتح األبواب لتسلط مجوع اجلن والشياطني ومتردهم؛ ألهنا ملا رأت كثرة خضوع اإلنس
واستعاذهتم هبا ومبلوكها لقضاء احلاجات زاد طغياهنم وجورهم على بالد اإلسالم بسبب
ضعاف اإلميان الذين يتمسكون هبذه الفتاوى الشاذة.
ومن أعظم البالء أن االستعانة بالسحرة والكهنة سبب لبعد القلوب عن فطرها السوية
وعقيدهتا السليمة ،وسبب لدخول الشك يف عون اهلل عند امللمات ،ومن الضرر احملض التعلق
بغري اهلل؛ فعن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :من تعلق شيئا وكل إليه)
رواه النسائي .والتعلق قد يكون يف القلب أيضًا ,أي التعلق بشيء واالعتقاد أنه قد جيلب نفعًا
أو يدفع ضررًا من دون اهلل .فالساحر يعتقد أنه يشقي ويسعد ويشفي وميرض مبعاونة اجلن
وروحانيات الكواكب ،ويف ذلك شرك عظيم..
ومن المفاسد العظمى اليت ال ختفى على كل ذي لب :أنه قد يتوسع البعض فيلجؤون إىل
الكهان والسحرة يف مجيع حوائجهم كما كانوا يف اجلاهلية يفعلون.
ومن البالء أنه قد يكذب الساحر ويقول كالًم ا يكون سبًبا يف تقطيع األرحام؛ كأن يقول:
سحرك أخوك ،أو سحرتك أختك ،وهكذا ،ويتبع ذلك نشر العداوة والبغضاء واالنتقام
واحلقد والنميمة والكذب والظلم بني الناس.
وإن الضرر ال يزال بالضرر ،فصاحب العقيدة السليمة حري به أن يبتعد عن السقوط بيد
أمثال أولئك حفظًا لدينه وإبراء لذمته أمام اهلل.
يقول ابن قدامة :مىت لزم من ترتب احلكم على الوصف املتضمن للمصلحة مفسدة مساوية
للمصلحة أو راجحة عليها فقيل إن املناسبة تنتفي؛ فإن حتصيل املصلحة على وجه يتضمن
فوات مثلها أو أكرب منها ليس من شأن العقالء لعدم الفائدة..
وأخًريا وصية لكل مسلم:
وصلى اهلل وسلم على سيدنا وحبيبنا حممد ،وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى
أثره إىل يوم الدين ،وَس َّلَم تسليًم ا كثًريا.،,,