Professional Documents
Culture Documents
تطـــور ســـياسة الجزائر الخارجيـــة - 1962 2012
تطـــور ســـياسة الجزائر الخارجيـــة - 1962 2012
أ.موسى العيدي
كلية االداب واتلغات والعلوماالنسانية
قسم اعالم واتصال
جامعة المدية
Résumé
La politique éxterieure de l’Algérie est une étape importante dans le processus du développement du
pays depuis l'indépendance, grâce au dynamique et à la richesse qui caractérise le résultat de ses
réalisations, par rapport à la nouveautéde l'existence même de l'Etat et de l'ampleur des défis qui
les entourent, dans un contexte de transformation géopolitique rapide et extrêmement complexe.
Cet article évoque le contexte historique de l'évolution de la politique éxterieure de l'Algérie en
quatre étapes, dont chacune reflète le chemin de ce développement, les déterminants internes et
externes de la plus influente dans la formulation et la mise en œuvre de la politique exterieure et les
modalités de traitement des questions de politique international .
الملخص
تعد سياسة الجزائر الخارجية عالمة فارقة في مسار تطور البالد منذ االستقالل ،بفضل طابع الديناميكية والثراء
اللذان مي از حصيلة منجزاتها ،قياسا الى حداثة وجود الدولة نفسها وحجم التحديات المحيطة بها ،في بيئة جيوسياسية
سريعة التحول وبالغة التعقيد .تستحضر هذه المقالة السياق التاريخي لتطور سياسة الجزائر الخارجية ضمن أربع
مراحل ،تعكس كل منها مسار ذلك التطور ،المحددات الداخلية والخارجية األكثر تأثي ار في صياغة وتنفيذ السلوك
السياسي الخارجي وأنماط التعاطي مع قضايا السياسة الدولية.
مقدمة
محدد للمبادئ وشبكة
ورثت الجزائر المستقلة من حرب التحرير تجربة غنية في مجال السياسة الخارجية..إطار ّ
طيعالقات متعددة وحركية ،وحضور ديبلوماسي نشط في بيئة دولية مواتية.هذه المعطيات ساعدت صانع القرار على تخ ّ
المرحلة اإلنتقالية -على مستوى السلوك الخارجي -من دولة مستعمرة إلى دولة مستقلة وذات سيادة ،ومكنته من صياغة
سلوك سياسي خارجي يعكس حضو اًر ايجابيا على المستوى االقليمي والدولي.
فبعد سنوات قليلة من استقاللها ،وفي منحى تصاعدي ،أصبحت الجزائر قوة مؤثرة في صياغة السياسات االقليمية
والدولية ،توازيا مع استقرار داخلي ومسار تطور اقتصادي واجتماعي الفت ،غير أن هذا المسار تحول إلى تراجع وانكفاء
تكرس خصوصا خالل سنوات األزمة األمنية ،لتلتفت الجزائر من جديد إلى جوارها اإلقليمي وتبدأ مسار البحث عن استعادة
مجدها الدبلوماسي في مطلع القرن العشرين.
تبحث هذه الورقة في مدى تأثير التحول في البيئة الداخلية والخارجية على صياغة وتنفيذ سياسة الجزائر الخارجية
خالل نصف قرن عبر تمييزها إلى أربع مراحل تعكس كل واحدة منها مسار التطور والمحددات األكثر تأثي ار ونمط التعاطي
مع قضايا السياسة الدولية.
-المرحلة األولى :سنوات االزدهار
كان الرهان األساسي غداة االستقالل هو إيجاد توافق بين الحاجة إلى تأمين "اإلنتقال نحو االستقالل" ومتطلباته
الداخلية (االستقرار السياسي ،التنمية االجتماعية واالقتصادية ،)...وبين ضرورة التموقع في السياسات اإلقليمية والدولية،
بصورة تالئم الرمزية التي اكتسبتها الجزائر من ثورتها ،وسرعان ماأدرك القادة السياسيون أن االنفتاح على العالم الخارجي
يمثل أولوية ورهانا حتميا.
انطالقا من فكرة بسيطة لكنها عميقة :الجزائر التي حررت بثورتها إفريقيا ومثلت للعالم الثالث أنموذج التحرر
يجب أن تتبوأ موقعا قياديا في السياسات اإلقليمية والعالمية ،فانعكست مخرجات هذه الفكرة على توجهات السياسية
الخارجية في السنوات األولى لالستقالل .خالل حكم الرئيس أحمد بن بلة ( ،)3691-3691والتي هيمنت عليها مسألة
تحرير إفريقيا ،والعالقات العربية ،خصوصا مع مصر الناصرية ،مما يعكس إرادة غير معلنة في فرض الجزائر "كمحاور
()2
البديل عنه للقوى الكبرى في القضايا اإلفريقية".
في نهاية 3691وافقت الجزائر على احتضان المؤتمر األفرو آسيوي الثاني بعد مؤتمر باندونغ ،3611وجرى
التحضير له كحدث تاريخي يعكس االتجاه التحرري لسياسة الجزائر المستقلة ،وطموح الرئيس بن بلة في الزعامة على
مستوى العالم الثالث ،غير أن التغيير الذي حدث في هرم السلطة في ( 36جوان )3691من جهة ،والخالفات الصينية
الروسية ،وتزامن الحدث مع قمة منظمة الوحدة اإلفريقية في أك ار ACCRAبغانا ،أدى إلى انعقاد المؤتمر على مستوى
()1
وزراء الخارجية ( 21-23أكتوبر .)3691
يمكن وصف سياسة الجزائر الخارجية ،حتى سنة 3691بأنها "ثورية وافريقية بامتياز" .لتفسير ذلك يجب أن نذكر
أن الخالفات الحدودية وااليدولوجية حالت دون االتجاه إلى المغرب العربي ،وبالنسبة آلسيا وأمريكا الالتينية كان العامل
()4
بقيت إفريقيا...كانت الساحة اإلفريقية عذراء بالنظر إلى الروابط التي الجغرافي معيقا لبناء عالقات سياسية عميقة،
تشكلت طيلة السنوات السابقة "وضعية دفعت الرئيس بن بلة إلى جعلها بوابة سياسته نحو العالم الثالث" ،مستفيدا في ذلك
من صداقاته الشخصية مع زعامات إفريقية أثناء تواجده في (تيركوان) Turquantو(أولنوي) ،Aulnoyفزار كال من
غانا ،غينيا ،مالي ،السنغال ،ليبيريا وأثيوبيا ،واستقبل عدداُ من الزعماء األفارقة ،مثل (سيكوتوري) Sekou Touréو
(موديبو كايتا) .Modibo Keita
فتحت الجزائر أبوابها أمام حركات التحرر اإلفريقية ودعمتها سياسيا وماليا ،فبدءاً من جانفي 3691وصل عدد
غرار (الحركة الشعبية لتحرير أنغوال (M.P.L.A -و(جبهة تحرير الموزمبيق - من ممثليها إلى الجزائر ،على
)-F.R.EL.I.M.Oو(الحزب اإلفريقي الستقالل غينيا والرأس األخضر ...)- P.A.I.G.C -و ممثلي حركات
()1
كما كانت الجزائر أحد األعضاء التسعة المؤسسيين للجنة التحرير وتنظيمات بلدان أخرى مثل الكونغو ،تنزانيا وغينيا،
" "Comité de Liberationالتي أنشأتها منظمة الوحدة اإلفريقية ( ، )O.U.Aومقابل الدعم الحكومي أخذ الكفاح من
()9
أجل تحرير افريقيا طابعا شعبيا تجلى في المهرجانات والتظاهرات المختلفة ،فصارت الجزائر "منتدى لتحرير افريقيا".
ورغم التعقيدات التي واجهت سياسة الجزائر االفريقية ،خصوصا تعمق الخالفات بين الدول االفريقية نفسها،
وانقسامها بين مجموعتي "الدار البيضاء" و "منروفيا"(*) ،والفشل النسبي في تحقيق أهداف ثالثة تعكس تصور الرئيس بن
()7
رغم ذلك فإن النشاط بلة وزعماء أفارقة لمستقبل القارة(**) ،وهي :تحرير إفريقيا ،الثورة في الكونغو ،وتوحيد القارة.
مهد ألداء الجزائر دو ار أوسع وأكثر طموحاً.
السياسي الخارجي في تللك المرحلة ّ
بدأ الدور الجزائري في الظهور بدءا من مؤتمر األمم المتحدة للتجارة والتنمية .C.N.U.C.E.Dفي جنيف ما
بين ماي وجوان ، 3694أين دافعت الجزائر آنذاك عن مصالح البلدان النامية في االستفادة من التقدم الصناعي ،وقد
مهدت هذه الدورة لتوحيد الموقف حول "المراجعة الجذرية للنظام االقتصادي" ،في قمة عدم االنحياز بالقاهرة في أكتوبر
.3694
مع نهاية سنة ،3691بدى تأثير التحوالت الداخلية والخارجية جليا في سياق الصعود المتنامي للدور الجزائري
إقليميا ودوليا ،فعلى الصعيد الداخلي كان اختفاء بن بلة عن المشهد السياسي ومجئ الرئيس بومدين إلى السلطة ،البداية
الفعلية لسنوات من االستقرار اقترنت بازدهار سياسة الجزائر الخارجية ،وعلى المستوى الدولي شهد النصف الثاني من عقد
الستينات انقسام العالم الثالث بين ايديولوجيتين ،الصين واالتحاد السوفييتي ،ونهاية عهد "الزعماء المحافظين" على غرار
"نهرو" " ،)3694( Nehroنكروما" N'Krumahو "سوكارنو" " ،)3699( Soekarnoموديبو كاتيا" Modibo Keita
()1
( )3691و "عبد الناصر" (.)3671
في هذا السياق باشر الرئيس بومدين ،إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية من خالل حل المشاكل الداخلية
أوال ،وتسوية النزاعات مع دول الجوار ،ومن ثم مباشرة عملية صعود بطيء نحو النفوذ والزعامة بدءاً من سنة 3691إلى
()6
ورغم العراقيل التي واجهت عملية إعادة التموقع هذه فإنها أدت في النهاية إلى بناء سياسة خارجية أكثر واقعية ،3696
وثراءاً.
عزز
في نوفمبر 3697استضافت الجزائر دورة هامة لمجموعة ،77وتم اعتماد "ميثاق الجزائر" كإطار مرجعي ّ
()31
وفي 3691تم جالء القوات البحرية الفرنسية عن قاعدة المرسى الكبير مكانتها كفاعل مشترك في السياسة الدولية،
بوهران ،وعلى المستوى اإلفريقي مثّل تنظيم المهرجان الثقافي اإلفريقي ( ،)3696تأكيدا على أهمية الدائرة اإلفريقية ولكن
وفق "سياسة الممكن" وفي اطار منظمة الوحدة اإلفريقية ،كان ذلك إيذاناً بنهاية السياسة اإلفريقية القائمة على مركزية
التحالفات االيدولوجية .وأثناء شغلها لمقعد غير دائم في مجلس األمن الدولي سنة ،3696عملت الجزائر على تشديد
()33
ضد روديسيا (زيمبابوي) ،وادانة نظام األبارتيد ( )Apartheidفي جنوب إفريقيا واحتالله لناميبيا.
العقوبات االقتصادية ّ
عمل النظام السياسي الجزائري آنذاك على تحويل السياسة الخارجية إلى عنصر أساسي للمشروعية ،فالنجاحات
وتدعم مشروعيته ،لذلك أخذ النشاط الخارجي منحى تصاعديا ،فقامت الجزائر منذ حرب
الديبلوماسية تزيد من قوة النظام ّ
جوان (حزيران) ،3697وطوال سنوات االستنزاف ،3673-3696بمساندة القضية الفلسطينية ماديا وديبلوماسيا وعملت
على حل النزاعات الناشئة بين دول الجوار عبر الوساطة ،بين كل من( :المغرب -موريتانيا ( )3696تونس -ليبيا )3674
()32
كما عملت على محاصرة النفوذ االسرائلي المتزايد في افريقيا وكسب الدعم االفريقي للعرب في (مصر -ليبيا .)3671
روج لها الرئيسان بومدين وعبد الناصر ،ولقيت مساندة كل من القائد الليبي معمر
صراعهم مع اسرائيل من خالل مقاربة ّ
القذافي والعاهل السعودي الملك فيصل ،وتقوم على أساس المقارنة والتماثل بين خطر النظام الصهيوني والنظام العنصري
()31
في جنوب افريقيا.
وبعد أن استجمع الرئيس بومدين عوامل القوة أقدم على تأميم المحروقات في 24فبراير ،3673مستفيدا من
تجربة تأميم قناة السويس وانعكاساتها على مصر ،وكان للديبلوماسية الجزائرية دور حيوي في تأمين نجاح ذلك القرار ،من
خالل اقناع وتحضير عواصم البلدان الصناعية خاصة في الضفة الشمالية للمتوسط ،وضمان تأييد دول المعسكر
()34
وربما كانت الترتيبات الديبلوماسية لقرار التأميم ايذاناً ببدء مرحلة االشتراكي ،وتضامن كل من ليبيا وبلدان الخليج،
الزعامة وعصر النجاحات (.)3671-3671
بدءاً من سنة 3672قررت الجزائر تقديم نفسها "كدولة رائدة" ،والبداية كانت من نجاح قمة مجموعة عدم االنحياز
التي عقدت بالجزائر في سبتمبر(3671الدورة الرابعة) ،وقد سبقت هذه الخطوة تحركات ديبلوماسية نشطة ،إذا كان الحضور
الجزائري بار اًز في سياق ردود الفعل على األزمة النقدية ( )3673بعضويتها للجنة الخاصة التي أنشأتها مجموعة ( )77في
مارس ،3672ولجنة العشرين التي أنشأها صندوق النقد الدولي FMIفي سبتمبر ،3672كما عرفت الشبكة الديبلوماسية
توسعا في هذه الفترة ،وانتشا ار باتجاه أمريكا الالتينية على الخصوص( :فنزويال ( ،)3673البيرو ( ،)3672االيكوادور
:)3671وافريقيا أيضا ،بتطبيع العالقات مع غانا ( ،)3673تعزيز المبادالت التجارية مع افريقيا التي بلغت في 3671
()31
نسبة 3226من الصادرات الجزائرية و 3261من الواردات.
أعطى نجاح الدورة الرابعة لدول عدم االنحياز دفعاً للمطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد يضع حدا لالستغالل
البشع لموارد الدول النامية من قبل الدول المصنعة .لقد أدركت الجزائر أن أحسن طريقة للدفاع عن مصالحها بفاعلية هي
المعركة الجماعية" :نريد الدفاع عن مصالحنا في اطار التضامن" ...قال الرئيس بومدين في افتتاح الدورة بهدف تأمين
()39
وتعزيز دور دول عدم االنحياز على الساحة الدولية".
كانت الظروف الدولية مالئمة خصوصا بعد حرب أكتوبر 3671والدور الجزائري البارز فيها ،فقد عمل الرئيس
بومدين على إحداث تقارب عربي إفريقي على أساس التضامن المشترك والمصالح المتبادلة ،وبعدها الحظر البترولي مما
مهد الطريق أمام عقد الدورة االستثنائية للجمعية العامة لألمم المتحدة ( 16أفريل 12 -3674ماي )3674وانتهت إلى
وقرار ثالث مكمل صدر عن الدورة العادية ( ،)*( )26التي ()37
إصدار ق اررين حول النظام االقتصادي العالمي الجديد،
ترأسها وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ،كما حظيت المبادرة الجزائرية بنقاش واسع في مؤتمر التعاون
()31
االقتصادي الدولي بباريس -أكتوبر .3671
أخذ العمل من أجل نظام اقتصادي دولي جديد حي از هاما من سياسة الجزائر الخارجية واصبح سفرائها خبراء في
()36
فقد كان بومدين يريد بناء دولة قوية بمشروع اقتصادي ضخم ،لذلك وجه السياسة الخارجية ديبلوماسية المؤتمرات،
لمحاربة العوامل الخارجية للتخلف ،وبفضل عائدات البترول صارت الجزائر قطبا تنمويا)Pole de developpement( ،
ودولة بإمكانها التأثير في السياسة الدولية ،فاتجهت إلى استثمار هذا الرصيد في حل النزاعات اإلقليمية ،وكان "اتفاق
()21
وباألخص الجزائر" في 19مارس 3671بين العراق وايران ،انجا از ديبلوماسيا ورسالة قوية إلى المجموعة الدولية،
الفاعلون التقليديون في منطقة الشرق األوسط ،إضافة إلى المساهمة في حل النزاعات الدائرة حول حدودها الجنوبية ،بين
()23
السنغال وموريتانيا وبين حركات التوارق وكل من مالي والنيجر.
دفعت التحوالت الدولية واإلقليمية الحاصلة ،بدءاً من صيف 3671إلى خلق مناخ جديد أقل مالئمة لنشاط
الديبلوماسية الجزائرية ،فقد تبين أن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد يمر عبر تعديل موازين القوى الدولية ،الذي تهيمن
عليه أطراف ترفض التغيير كما أن التفكك واالنقسامات بين دول العالم الثالث تعيق هذا المسار ،وعلى الصعيد اإلقليمي
انعكس بروز مشكلة الصحراء الغربية عقب االنسحاب اإلسباني على ترتيب أولويات سياسة الجزائر الخارجية ،إذ أخذ
طابعها "العالمي" في االنكفاء رغم الجهود الديبلوماسية في اطار التعاون جنوب-جنوب ،الذي برز في أعقاب فشل الحوار
()22
وكذا زعامة شمال -جنوب ،خصوصا مع الشركاء األفارقة في قطاعات الطاقة ،االتصاالت والبحث العلمي ...إلخ،
جبهة الصمود والتصدي بعد اتفاقيات "كامب ديفيد" عام .3677
-المرحلة الثانية :االنكفاء على الذات
فرضت التحوالت الدولية واإلقليمية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين على صناع السياسة الخارجية للجزائر
مراجعة توجهها القائم على "مقترب شمولي" يهدف إلى اكتساب النفوذ من خالل سياسة المؤتمرات الدولية ،وتعمقت هذه
المراجعة غداة رحيل الرئيس هواري بومدين في ديسمبر ،3671لتبدأ مرحلة ترويض السياسة الخارجية بالتخفيف من
()21
فبدى أن نفوذ الجزائر المكتسب بين الستينات والسبعينات طابعها الثوري وتوجيهها نحو االهتمام بالقضايا الداخلية،
تعرض لحركات عكسية ،بسبب مواقف القوى العظمى تجاه المطالبة بنظام اقتصادي دولي جديد ،وتشكل بيئة إقليمية
ضاغطة ووضع داخلي قابل للتأثر بالتحوالت الخارجية.
وتكشف معاينة نشاط الجزائر الخارجي في بداية الثمانينات عن حالة تراجع تدريجي ،فقد خفت المطالبة باصالح
عراب مجموعة عدم االنحياز وراعي المؤتمؤات الدولية ،وبالمقابل اتجه النشاط الخارجي إلى
النظام الدولي ،ولم تعد الجزائر ّ
تسوية المشاكل الحدودية مع دول الجوار ،واحتواء النزاعات المتفجرة خصوصا في دول الحزام األمني ،واستثمار الرصيد
الديبلوماسي في سياسة الوساطات.
طغى البعد األمني على التحرك الجزائري باتجاه تسوية حدودها مع دول الجوار ،إذ أدى بروز مسألة الصحراء
الغربية إلى جعل األمن القومي الجزائري أكثر انكشافا ،وأصبحت الجزائر في شبه عزلة إقليمية ،مما جعل تأمين الحدود
الجنوبية أولوية قصوى ،وكانت أولى ثمار هذا التوجه إنشاء "مجموعة البلدان الصحراوية" التي تضم الجزائر ،النيجر،
()24
سهل النشاط ضمن هذا الفضاء اإلقليمي حل إشكالية الحدود مع البلدان المجاورة،
مالي وموريتانيا سنة .3611وقد ّ
فتمت تسوية الحدود مع النيجر في 11جانفي ،3611ومع مالي في 11ماي ،3611ومع موريتانيا في 31ديسمبر
()29
تطبيقا لمبدأ حسن الجوار االيجابي(*) المتضمن انهاء الخالفات الحدودية والتأسيس لتعاون جهوي. ()21
،3611
وأبرمت معاهدة وفاق مع تونس في 36مارس .3611
وشكل العمل على احتواء النزاعات الركيزة الثانية لنشاط الجزائر اإلقليمي الهادف إلى تأمين االستقرار في محيطها
المباشر ،إذ تمكنت الديبلوماسية الجزائرية من تسوية النزاع الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو ،كما قامت بدور نشط لتسوية
األزمة التشادية الداخلية والخالف التشادي الليبي بشأن شريط "أوزو" الحدودي ،وتدخلت لتطويق النزاع الحدودي بين
السلم عبر الوساطة بين المتمردين التوارق والحكومات المركزية في كل من مالي ()27
موريتانيا والسنغال ،والسعي إلى احالل ّ
()21
والنيجر ،والتي توجت بتوسيع اتفاق يخص توارق مالي عام 3662بتمنراست وآخر يخص توارق النيجر عام .3661
أما سياسة الوساطات على الصعيد الدولي كخيار ديبلوماسي فإن مرجعية نجاحها هي حادثة الرهائن األمريكيين
في إيران ،جانفي ،3613إذ قادت الجزائر أكبر عملية مفاوضات دون لقاء مباشر بين أطراف األزمة وانتهت بنقل الرهائن
من طهران على متن طائرة للخطوط الجوية الجزائرية .عّلق على ذلك رئيس الوفد األمريكي المفاوض "وارن كريستوفر"
إن هذا النجاح لم يكن ممكنا دون مساعدة الجزائر ،بصفة خاصة وزير خارجيتها وفريق المفاوضة وديبلوماسيتها.
بالقولّ " :
()26
أن مقتل وزيركما نجح المفاوضون الجزائريون في 21أفريل 3611في إطالق سراح طائرة كويتية تم اختطافها ،غير ّ
الخارجية الجزائري "دمحم الصديق بن يحي" في حادث تحطم طائرة ،عندما كان يقود وساطة جزائرية إلنهاء الحرب العراقية
()11
بالتزامن مع اإليرانية ،يعد نقطة تحول فاصلة ،إذ يؤشر النسحاب الديبلوماسية الجزائرية من قضايا الشرق األوسط،
اإلجتياح اإلسرائيلي للبنان وبداية اإلعتراف بدولة اسرائيل ،وان كان هذا التراجع قد تم بتحفظ ودون اإلخالل بااللتزامات
األساسية ،فقد احتضنت الجزائر سنة 3611أول دورة للمجلس الوطني الفلسطيني منذ ،3677وكانت أول بلد اعترفت
()13
بالدولة الفلسطينية المعلنة بالجزائر في 31نوفمبر .3611
ويؤشر رحيل بن يحي أيضا إلى البداية الفعلية لمرحلة االنكفاء على الذات ،ففي أواسط عقد الثمانينات ،وفي ظل
فترة ذات رهانات عالية ،بدأت األزمة االقتصادية والمالية ( ،)3619فأصبحت مخرجات السياسة الخارجية (المواقف
تعبر عن أوضاع السياسة الداخلية .وعندما بدأت أعمق التحوالت العالمية منذ سنة ( 3616انهيار
والق اررات واألفعالّ )...
أن صورة السياسة الخارجية هيالمعسكر االشتراكي ،حرب الخليج ،أحداث البوسنة ...إلخ) ،بدى غياب الجزائر جليا و ّ
()12
ويعكس الموقف الجزائري من حرب الخليج ( )3663-3661مثال هذه الوضعية، انعكاس لوضعية داخلية غير مستقرة،
فقد أدانت الحكومة الجزائرية الغزو العراقي للكويت ثم عملت على بلورة حل عربي وحينما تم إفشال محاوالت أي حل سلمي
رفضت المشاركة أو الموافقة على الحرب ضد العراق ،وهو موقف ينم عن "ذكاء وواقعية" ولكنه بالمقابل يختزل حالة
()11
التراجع المستمر التي انتهت إلى ما يمكن التعبير عنه بـ "فقدان الدولة لبوصلة قيادة سياستها الخارجية".
والواقع أن حالة االنكفاء هذه بدت طبيعية في صيرورتها بالنظر إلى التحوالت الحاصلة في البيئة العملية الداخلية
والخارجية خصوصا عقب أحداث أكتوبر ،3611إذ يعتقد بعض الباحثين أن التغيرات الداخلية والهيكلية أفرزت سياسة
()14
فاالنتقال السياسي الموسوم بعدم االستقرار فرض إعادة ترتيب خارجية جديدة أو قامت بإعادة توجيه السياسة الخارجية،
أن البيئة الدولية الناشئة منذ ،3616لم تعد تتيح للدول النامية استخدام مواقعها االستراتيجية لمساومة القوى
األولويات ،كما ّ
العظمى )11(،لذلك عمل صناع السياسة الخارجية الجزائرية على توجيهها لالنخراط في بناءات عضوية جديدة (االتحاد
()19
بيد أن بداية التسعينات شكلت منعطفا جديدا في سياسة المغاربي ،مجموعة الـ )...31والعمل على حل قضية التوارق،
الجزائر الخارجية ،عنوانه "سياسة بلد في حالة أزمة".
الهوامش