You are on page 1of 380

‫دراســــات إبــســـتــمـــولـــوجـيــــة ( ‪) 1‬‬

‫المعرفةّ‬
‫ّ‬ ‫نظريّـةّّ‬
‫وبحـوثٌ ٌ‬
‫دراسـاتٌٌ ٌ‬

‫الجزءٌاألولٌ ٌ‬
‫ٌ‬
‫المفاهيمّالتأسيسية‬
‫اسم الكتاب‪ :‬نظرية املعرفة؛ دراسات وبحوث‪ /‬اجلزء األول‪ :‬املفاهيم التأسيسية‪.‬‬
‫إعداد وتحرير‪ :‬د‪ .‬عامر عبد الرزاق الصغري‪.‬‬
‫التصحيح اللغوي‪ :‬د‪ .‬فضاء ذياب‪.‬‬
‫التصميم واإلخراج الفني‪ :‬أمحد الرصايف‪.‬‬
‫النارش‪ :‬العتبة العباسية املقدسة‪ /‬املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيجية‪.‬‬
‫الطبعة‪ :‬األوىل‪ ،‬العراق‪ ،‬النجف األرشف ‪2023 /‬م‪.‬‬

‫‪www.iicss.com‬‬
‫‪islamic.css@gmail.com‬‬
‫دراسات إبستمولوجيّة‬
‫« ‪ّ ٌ»ّ1‬‬

‫ة‬
‫نـظـريّـةّّالـمـعـ ّرفـ ّ‬
‫دراساتٌوبحوثٌ ٌ‬

‫لٌ‬
‫الجزءٌاألو ٌ‬
‫ٌ‬
‫ةّ‬
‫فـاهـيـمّالتأسيـسـيّ ّ‬
‫المـ ّ‬

‫إعدادٌوتحريرٌ ٌ‬
‫الرزاقّالصّغيرّ ّ‬
‫د‪ّ.‬عمارّعبدّ ّ‬
‫ّ‬
‫املحتويات‬
‫ّ‬

‫ّ‬

‫ّ‬
‫ّ‬

‫ّ‬

‫مقدّ مة املركز‪7 .................................................................................................‬‬

‫‪ .1‬مفهوم نظر ّية املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة ‪ ‬الشيخ غالم رضا الف ّياض‪11 ...........‬‬

‫‪ .2‬أدوات املعرفة ومراحلها ‪ ‬املرجع الديني الشيخ جعفر السبحان‪33 ................................‬‬

‫وعنارصها ‪ ‬السيد يد الله يزدان بناه‪101 ................................‬‬


‫ُ‬ ‫‪ .3‬أركان املعرفة اليقين ّية‬

‫‪ .4‬املعرفة الحضور ّية والحصول ّية ‪ ‬الشيخ سامر توفيق عجمي‪133 .................................‬‬

‫النص ّية ‪ ‬الشيخ األسعد قيدارة‪191 ............‬‬


‫‪ .5‬موانع املعرفة بي املعالجات الفلسف ّية واملقاربة ّ‬

‫‪ .6‬العقل من منظار نظر ّية املعرفة ‪ ‬د‪ .‬محمد حسي زاده‪235 ......................................‬‬

‫‪ .7‬معيار البداهة التص ّورية ف املفاهيم البديه ّية ‪ ‬السيد يد الله يزدان بناه‪309 ..............‬‬

‫‪ .8‬مالك الحقيقةومعيارمتييزالحقائقعناألوهام ‪ ‬املرجع الديني الشيخجعفرالسبحان‪351.....‬‬


‫مـقـدّ مـة الـمـركــز‬
‫كبريا من اهتامم‬
‫من بني سائر مباحث الفلسفة أخذت نظر ّية املعرفة ح ّي ًزا ً‬
‫ٍ‬
‫عديدة‪ ،‬وتناوهلا جلميع اجتاهات‬ ‫ٍ‬
‫صات‬ ‫تخص‬ ‫الباحثني؛ وذلك لتع ّلق موضوعها ب‬
‫ّ‬
‫املعرفة اإلنسان ّية بوصفها فلسف ًة للعلوم‪ .‬ومن جهة فهي تشكّل املرتكز الذي‬
‫ٍ‬
‫ونزعات ومناهج تب ًعا‬ ‫ٍ‬
‫اهات‬ ‫تتنوع إىل مدارس ومذاهب ّ‬
‫واجت‬ ‫حدا بالفلسفة ْ‬
‫ألن ّ‬
‫عول عليها فـي تـحديد نوعها‪.‬‬
‫لـمصادر استقائها التي ي ّ‬
‫إن تشكّل نظر ّية املعرفة الفلسف ّية بوصفها نظر ّي ًة مستق ّل ًة ظهر منذ ثالثة‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫اإلسالمي فقد ط ِر َحت ٌ‬
‫كثري من‬ ‫ّ‬ ‫قرون عىل يد الفالسفة الغرب ّيني‪ ،‬أ ّما يف الفكر‬
‫متفرق ًة يف مباحث الفلسفة‪ ،‬واملنطق‪ ،‬وأصول‬
‫ّ‬ ‫مسائلها ومصادرها ومناهجها‬
‫تتطور معها إىل يومنا احلارض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واستمرت‬
‫ّ‬ ‫الفقه منذ زمن تأسيس تلك العلوم‪،‬‬
‫ومنذ ذلك الـحني وهي ذات ٍ‬
‫شأن فـي فرز األصيل عن الدخيل من مناهج‬
‫الـمعرفة وأبحاثها الـمعارصة‪ ،‬كالشكوك ّية والتجريب ّية‪ ،‬والنسب ّية‪ ،‬والتعدّ د ّية‪،‬‬
‫وبيان الصحيح منها‪ ،‬ومتييزه عن السقيم‪.‬‬
‫هتدف نظر ّية املعرفة إىل الكشف عن حقيقة املعرفة اإلنسان ّية وطبيعتها‪،‬‬
‫وحدودها‪ ،‬ومصادرها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وقيمتها‪ ،‬وموانعها‪ ،‬وصدقها وخطئها‪،‬‬
‫ً‬
‫مدخال‬ ‫نموها بوصفها‬
‫والرشوط املوضوع ّية لتشكّلها‪ ،‬ووسائل إنتاجها‪ ،‬وسبل ّ‬
‫كثري من املعارف الرامية إلنتاج اليقني‪ .‬وتعنى نظر ّية‬
‫ٌ‬ ‫تؤسس عليه‬
‫رضور ًّيا َّ‬
‫أيضا بنقد العلوم وتقويمها‪ ،‬وحتديد األسس التي ترتكز عليها‪ ،‬لتؤ ّمن‬
‫املعرفة ً‬
‫الوصول إىل املعرفة السليمة‪.‬‬

‫وتتم ّثل أ ّ‬
‫مهيتها يف تعميق الوعي بمصادر املعرفة‪ ،‬واالختيار السليم هلا‪،‬‬
‫وتعـزيـز القـدرة علـى تعيني بؤر الـخطـأ فـي الفكـر‪ ،‬وتشخيـص الص ـواب فـي‬
‫أي إشكال ّي ٍة معرف ّي ٍة عرب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫البحث العلمي‪ ،‬بوساطة مـمـارسة دقيقة الستقراء ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪8‬‬

‫فهمها وحتليلها؛ ليكون االستدالل قائـ ًام عىل أ ٍ‬


‫سس رصينة‪ ،‬ويأيت االستنتاج‬
‫بأوثق النتائج‪.‬‬
‫املوضوعي فحسب؛‬
‫ّ‬ ‫وال تقف نظر ّية املعرفة يف عالقتها بالعلوم عىل إطارها‬
‫دورا منهج ًّيا تنطلق منه ملعاجلة العالقة بني الذات واملوضوع‪،‬‬
‫وإنّمـا تـامرس ً‬
‫وضبط طبيعتها؛ لتحصني سالمة اآلليات واألدوات الـمعرف ّية بينهمـا وتوليد‬
‫نتائج معرف ّي ٍة أمينة‪.‬‬
‫مهمة نظر ّية املعرفة هي البحث حول املعارف الصحيحة التي‬
‫وما زالت ّ‬
‫يمكن اعتامدها وطرح احلقائق يف ضوئها‪ ،‬وحماكمة احلقائق والقضايا األخرى‬
‫التي تنتج صور ًة خاطئ ًة عن الواقع؛ فهي إ ًذا حتمل ّ‬
‫مهمة إنتاج اليقني أو بيان‬
‫فتؤسس للوصول إىل اليقني الكاشف عن الواقع ‪-‬ألنّه احلقيقة نفسها‪-‬‬
‫ّ‬ ‫طريقه؛‬
‫والفلسفي إىل اجلزم بمطابقة الواقع والكشف‬
‫ّ‬ ‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫بشكل يتجاوز اجلزم‬
‫عنه‪ ،‬وهو ما يفصح عنه قسمـا الـمعرفة احلضور ّية واحلصول ّية ّ‬
‫بأن وظيفتهام‬
‫الكشف عن مطابقة الواقع وحتصيل اليقني‪.‬‬
‫ومع تـمكّن الـمعرفة من الكشف عن الواقع لكنّه ال بدّ من ارتفاع املوانع‬
‫لتحصيل مقتىض ذلك؛ فقد تتوفر سبل الـمعرفة للكشف عن الـحقائق لكن‬
‫واس‪،‬‬ ‫قـد يواجـه اإلنسـان مان ًعا يـحول دون تـح ّققها‪ ،‬ناشئ عن خلـ ٍ‬
‫ل فـي الـحـ ّ‬
‫أو الذهن‪ ،‬أو النفس‪ ،‬أو سائر املعوقات الوجود ّية األخرى؛ لذا ال بدّ من تأمني‬
‫سالمتها‪.‬‬
‫إذ مهام يكن للمعرفة من ٍ‬
‫دور يف فهم الوجود ومعرفة األشياء غري ّأّنا تبقى‬
‫‪-‬ولتأثري عوامل عديدة‪ -‬قابل ًة للخطأ واالبتعاد عن الصواب ومعرفة الواقع؛‬
‫لصحة املدخالت املعرف ّية ومقدار سيطرهتا عىل النفس‪ ،‬وعدم امليل‬ ‫ّ‬ ‫تابع‬
‫وذلك ٌ‬
‫الذايت؛ أي سالمة سائر املدخالت احل ّس ّية‪ ،‬والذهن ّية‪ ،‬واملؤ ّثرات االجتامع ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واهلوى‬
‫واألخالق ّية‪ ،‬والنفس ّية‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫مقدّمة املركز |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اإلسالمي للدراسات‬
‫ّ‬ ‫ويمثل تأسيس (دراسات إبستمولوج ّية) من قبل (املركز‬
‫ٍ‬
‫حارضة يف واقع الفكر املعارص‪،‬‬ ‫ت معرف ّي ٍة‬
‫االسرتاتيجية) استجاب ًة واعي ًة ملتطلب ّا ٍ‬
‫ّ‬
‫معريف حاس ٍم يف املسائل األساس ّية‬ ‫ٍ‬
‫يسعى بوساطتها الـمركز إىل ا ّتـخاذ موقف‬
‫ٍّ‬
‫لنظر ّية املعرفة‪ ،‬ممّا يسهم يف معاجلة قضاياها املركز ّية‪ ،‬وبيان مآالهتا الفكر ّية‪.‬‬
‫البحثي سلسل َة أعامله بإصداره ّ‬
‫األول (نظر ّية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يستهل هذا الـمرشوع‬ ‫هنا‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫استقل ُّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫املعرفة‪ :‬دراسات وبحوث)‪ ،‬الذي انتظم يف أربعة حماور رئيسة‪،‬‬
‫خاص‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بكتاب‬ ‫منها‬
‫ً‬
‫متناوال‬ ‫األول بعنوان‪( :‬الـمفاهيم التأسيس ّية لنظر ّية الـمعرفة)‪،‬‬
‫جاء املحور ّ‬
‫مفهوم نظر ّية املعرفة‪ ،‬وتأرخيها‪ ،‬وعالقتها بالعلوم املسانخة هلا‪ ،‬ومراحل املعرفة‪،‬‬
‫وأدواهتا‪ ،‬وأركاّنا‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬وموانعها‪ ،‬ومعيار متييز احلقائق فيها‪.‬‬
‫ليبني معامل نظر ّية الـمعرفة يف‬
‫وجاء املحور الثاين بعنوان‪( :‬الـمعرفة الدين ّية) ّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وأخالق ّيات حتصيل املعنى‪ ،‬واحلدود املمكنة واملمتنعة يف ذلك‪.‬‬
‫اإلسالمي)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما املحور الثالث املوسوم بــ(الت ّيارات واملدارس املعرف ّية يف الفكر‬
‫لنظرية املعرفة عند املدارس الفلسف ّية‪ ،‬والكالم ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتقييام‬
‫ً‬ ‫تضمن وص ًفا‬
‫ّ‬ ‫فقد‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والعرفان ّية‪ ،‬واألصول ّية يف الفكر‬
‫الغرب)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وجاء املحور الرابع املعنون بــ(الت ّيارات واملدارس املعرف ّية يف الفكر‬
‫ليختتم حماور اإلصدار األول‪ ،‬متناوالً بيان نظر ّية املعرفة عند املدارس الغرب ّية‬
‫مثل‪ :‬الشكوك ّية السفسطائ ّية‪ ،‬اهلرمنيوطيق ّية‪ ،‬والتفكيك ّية‪ ،‬والسيميائ ّيـة‪.‬‬
‫وعـلـى هـذا التأسـيس جاءت مـحـاور الدراسـة لتغـ ّ‬
‫طـي مسـاحة األهـداف‬
‫والغـايـات الـمطـلوبة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جمموعة‬ ‫اجلامعي أخذ طريقه إىل االكتامل بمشاركة‬ ‫يب‬
‫ّ‬ ‫هذا املرشوع االستكتا ّ‬
‫وأخالقي‪،‬‬ ‫علمي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مستويات رئيسة‪:‬‬ ‫من الباحثني‪ ،‬وكان العمل فيه عىل ثالثة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كذات علم ّي ٍة فـي‬
‫ٍ‬ ‫األول تـح ّقق موضوع الباحث وحضوره‬ ‫ومنهجي‪ ،‬يتابع ّ‬
‫ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪10‬‬

‫االختصاص نفسه‪ ،‬وقدرته عىل اإلنجاز وتـحقيق الـموضوع‪ ،‬مضا ًفا إلـى الدقة‬
‫وهيتم الثاين بتحقيق أخالق ّيات البحث وأمانته العلم ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العلم ّية يف اإلنجاز‪،‬‬
‫املنهجي فهو ملتابعة استيعاب الباحث ألسس املوضوع‪ ،‬وتبويبه‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما الثالث‬
‫املنهجي‪ ،‬وتراتب ّية موضوعاته‪ ،‬واستعامله للمصادر‪ ،‬وطبيعة توظيفها‪ ،‬ونوعها‪،‬‬
‫ّ‬
‫والنتائج التي ح ّققها‪.‬‬
‫ـثي يتقـدّ م‬
‫وعرفـانًا بإسهـامات البـاحثـني املشاركني فـي هذا الـمشــروع البح ّ‬
‫اإلسالمي لـهم بوافر الشكر والتقدير علـى ما جادت به أفكارهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الـمركز‬
‫جهود علم ّي ٍة كريمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وس ّ‬
‫طرتـه أقالمهم من‬
‫املؤسسات التي رفدت املرشوع‬ ‫ٍ‬
‫يرسنا أن نتقدّ م بمزيد من الشكر إىل ّ‬
‫كذلك ّ‬
‫مؤسسة الدليل للدّ راسات‬
‫كل من‪ّ :‬‬‫ـمهمة للكتاب‪ ،‬وهي ٌّ‬
‫ببعض البحوث ال ّ‬
‫والبحوث العقد ّية التابعة للعتبة احلسين ّية املقدّ سة‪ ،‬ومركز الـحضارة لتنمية‬
‫الفكر اإلسالمي‪ ،‬ودار املعارف ِ‬
‫احلكم ّية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تنضم إىل ما كتب يف هذا املجال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن يـح ّقق هذا الكتاب إضاف ًة علم ّي ًة‬
‫نأمل ْ‬
‫مواكبات عرص ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫وبذلك يشارك املركز اإلسالم ّي يف رفد الفكر بام يتط ّلب من‬
‫مهم ٍة فـي الـمعرفة والـمنهج‪.‬‬
‫ّ‬
‫أهل بـيت ِـه‬
‫حمم ٍد وعىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وصىل اهلل عىل رسوله األمني ّ‬ ‫رب العاملني‪،‬‬
‫والـحمد هللِ ِّ‬
‫ـني الطاهرين‪.‬‬
‫الطـ ّيب َ‬

‫عّمر عبد الر ّزاق الصغري‬


‫د‪ّ .‬‬
‫العراق ‪ /‬ال ّنجف األرشف‬
‫‪ّ1‬‬
‫مـفـهـوم نظـريّة املـعـرفـة‬
‫(*)‬
‫وعالقـتها بالعـلوم املسـانخة‬

‫(**)‬
‫الشيخٌغالمٌرضاٌالفياضي‬

‫(*) مصدر البحث‪ :‬كتاب املدخل إىل نظريّة املعرفة‪،‬‬


‫(الفصل األول والثان)‪ .‬تعريب أيوب الفاضيل‪ .‬مركز‬
‫الرساج للتأليف والتحقيق والرتجمة‪ ،‬ط‪.2013 ،1‬‬
‫(**) أستاذ العلوم العقلية يف الحوزة العلمية ‪ /‬قم‪.‬‬
‫الـمـلـخ ّـص‬
‫النشاط الذهني خصوص ّي ٌة أساس ّي ٌة يف اإلنسان‪ُ ،‬ولدت معه ورافقته عرب التاريخ‪،‬‬
‫فاستطاع باالعتامد عىل عقله وذهنه أن يس ّلط الضوء عىل الوجود‪ ،‬وخيضعه للبحث‬
‫والتساؤل‪ ،‬كام فتح يف هذا املضامر أبوا ًبا من العلوم‪ ،‬وأزاح الستار عن الكثري من‬
‫أن إدراك األشياء قاده يف غري موض ٍع إىل الطريق اخلاطئ وعدم‬ ‫األرسار والرموز‪ .‬غري ّ‬
‫ٍ‬
‫واحد ممّن‬ ‫ات خمتلف ٌة أثارها غري‬
‫االهتداء إىل الواقع‪ .‬ويف سياق ذلك ُطرحت إشكال ّي ٌ‬
‫تساؤالت أساس ّي ٍة أمام‬
‫ٍ‬ ‫يدعو إىل توسيط العقل يف معرفة األشياء‪ ،‬ما أ ّدى إىل انبثاق‬
‫اإلنسان من قبيل‪ :‬ما هي حقيقة عقيل وذهني الذي استعني به يف تشخيص الواقع؟‬
‫وما هي العنارص التي يتأ ّلف منها؟ ما هي املعارف التي تنتج نشاطي الفكري وتفيض‬
‫وأي منها يقود إلی االنحراف عن جا ّدة الطريق وعدم الوصول‬ ‫به إىل معرفة الواقع؟ ّ‬
‫إىل احلقيقة؟ وهل املعارف البرش ّية مرتابط ٌة بعضها مع اآلخر؟ وما ماه ّية هذا النحو‬
‫من الرتابط؟‬
‫مر التأريخ‪ ،‬كام اختلف اجلواب‬
‫هذه األسئلة وغريها شغلت الفكر البرشي عىل ّ‬
‫واضحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عنها اختال ًفا‬
‫أن ثمرة اإلجابة املناسبة عن هذه األسئلة تتج ّلی يف خروج اإلنسان من‬
‫وال خيفى ّ‬
‫ّ‬
‫الشك‬ ‫ب ٍ‬
‫واف من شأنه تبديل‬ ‫أن عدم العثور عىل جوا ٍ‬
‫الشك إىل دائرة اليقني‪ّ ،‬إال ّ‬
‫ّ‬ ‫حرية‬
‫واالجتامعي من اإلنسان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬ ‫كل أنحاء الرشد والتكامل‬ ‫إىل تعطي ٍل دائ ٍم‪ ،‬وسلب ّ‬
‫حذر منه من حرص عىل مصري البرش ّية ووقف ضدّ ه بشتّى‬ ‫وهو اخلطر الذي طاملا ّ‬
‫كل ٍ‬
‫إيامن‪ :‬سواء كان باملعنى املعهود عند‬ ‫الوسائل‪ ،‬الس ّيام إذا كانت املعرفة رش ًطا يف ّ‬
‫أتباع األديان اإلهل ّية أم غريه‪.‬‬
‫التصورات املكتسبة حول العامل واإلنسان‬
‫ّ‬ ‫أن املعرفة التي تتع ّلق بنوع‬
‫وال ريب ّ‬
‫وبداية حياته وهنايتها وموقعه يف هذا العامل تستتبع إيامنًا مع ّينًا وبالنتيجة سلوكًا خمتل ًفا‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪14‬‬

‫ذلك السلوك الذي يقع معناه ّ‬


‫واّتاهه حتت تأثري طبيعة اإليامن الذي خيتاره الفرد‬
‫ور يف حتديد سعادة اإلنسان وشقائه‪.‬‬
‫ويكون له د ٌ‬
‫ويف ضوء هذا يمكن عدّ األسئلة التالية من املسائل األساس ّية التي شغلت فكر‬
‫اإلنسان ورؤيته وهي‪ :‬هل معرفة الواقع ممكن ٌة بصورته الفعل ّية؟‬
‫وإذا كان اجلواب باإلجياب‪ ،‬فام نطاق هذا اإلمكان ومساحته؟ وهل جيري يف ّ‬
‫كل‬
‫املعارف أم بعضها؟ وما هو معيار املعارف الذي يو ّفر لنا إمكانية متييز الصحيح من‬
‫غري الصحيح منها‪ ،‬وتصحيح اعتقاداتنا بموجبه؟‪.‬‬
‫تتضمن باجلملة حيث ّيتني‪ :‬األوىل إجياب ّية والثانية سلب ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل ٍ‬
‫علم‬ ‫إن ماه ّية ّ‬
‫يتضمنه العلم من التعريف‪ ،‬واملوضوع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عمـا‬
‫أ ّما احليث ّية اإليـجاب ّية للعلم فهي عبار ٌة ّ‬
‫والغاية‪ ،‬والـمنهج‪ ،‬والـمسائل‪ ،‬والفصول الـمختلفة‪ ،‬واخلطوط العا ّمة له‪ّ ،‬‬
‫وكل ما‬
‫يرتبط ببنية ذلك العلم وهيأته‪.‬‬
‫وأ ّمـا الـحيـث ّيـة السـلب ّيـة ف ُتـعـنى بـبيـان حدود العـلم وهو ّيتـه وبيان الـميـز بينه وبني‬
‫سائر العـلـوم‪.‬‬
‫أثر يف معرفة العلوم‪ ،‬فكذلك‬
‫مطلوب وله ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أمر‬ ‫وكام ّ‬
‫أن االهتامم باألبعاد الثبوت ّية ٌ‬
‫معرفة األبعاد السلب ّية وأوجه الفرق عن سائر العلوم تساهم يف تعميق هذه املعرفة‬
‫واال ّطالع علی حقيقة ذلك العلم وماه ّيته‪.‬‬
‫عام سواه من العلوم‪ ،‬ال س ّيام العلوم والفنون‬
‫فت ّبني متايز هذا احلقل من املعرفة ّ‬
‫املُامثلة له والقريبة منه‪ ،‬وحتديد نحو العالقة بني نظر ّية املعرفة وسائر العلوم‪.‬‬

‫الكلمـات الـمفتاح ّية‪ :‬الواقع‪ ،‬االعتبار‪ ،‬الشك‪ ،‬اليقني‪ ،‬الـمنطق‪ ،‬الفلسفة‪،‬‬


‫علم النفس اإلدراكي‪ ،‬األخالق والدين‪.‬‬

‫***‬
‫ّ‬
‫املبـحـث األول‬
‫تعريف نظر ّية املعرفة‬
‫رضورة البحث يف نظر ّية املعرفة‬
‫نحو من الـميل وانعقاد القلب‬ ‫أن املعرفة رشط اإليامن‪ّ ،‬‬
‫وأن اإليامن الذي هو ٌ‬ ‫تقدّ م ّ‬
‫التصور والوعي‪ ،‬وإن مل يكن األمر كذلك‬ ‫ّ‬ ‫سابقة معرف ّي ٍة من سنخ‬‫ٍ‬ ‫ال يتبلور من دون‬
‫بصورة م ّط ٍ‬
‫ردة بعد العلم واملعرفة(‪ ،)1‬ولذا‬ ‫ٍ‬ ‫ألن االيامن حال ٌة اختيار ّي ٌة‪ ،‬فال يتج ّلی‬
‫دائام؛ ّ‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫رشط من‬ ‫ألن املعرفة‬ ‫ِ‬
‫العامل ُ تعل ًقا قلب ًّيا بام علم وأدرك يف احلاالت كا ّفة؛ وذلك ّ‬ ‫ال جيد‬
‫رشوط اإليامن‪ ،‬ال ع ّلة تا ّمة له‪ ،‬وما مل تتح ّقق سائر الرشوط التي من مجلتها (غريزة‬
‫احلق) ال يتح ّقق اإليامن‪.‬‬‫طلب ّ‬
‫والذي ينبغي التن ّبه له‪ّ :‬‬
‫أن انتصار الثورة يف إيران‪ ،‬وإقامة نظا ٍم عىل أساس الدين‬
‫هيدّ د مصالح االستكبار العاملي الالمرشوعة‪ ،‬فجعل االستكبار يسعى إىل إسقاط هذه‬
‫خمتلفة منها‪ :‬احلصار االقتصادي‪ ،‬واحلرب املفروضة ثامين‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وحيل‬ ‫احلكومة بأساليب‬
‫سنوات عىل مجهور ّية إيران اإلسالم ّية‪ ،‬وهناك عرشات بل مئات املحاوالت الرخيصة‬ ‫ٍ‬

‫لغرض الوصول إىل هذا اهلدف‪ّ ،‬إال ّأهنا باءت بالفشل؛ إذ كانت ترتطم بسدٍّ مني ٍع ّ‬
‫ّتسد‬
‫بإيامن القائد والشعب بمواجهة هذه األخطار‪.‬‬
‫جبهة ُأخرى أكثر خطورةً‪ ،‬وهي الغزو الثقايف؛‬‫ٍ‬ ‫التحرك عىل‬ ‫العدو‬ ‫ومن هنا حاول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خمتلفة داخل ّي ٍة وخارج ّي ٍة لطرح‬
‫ٍ‬ ‫هبدف زلزلة إيامن املجتمع اإلسالمي والعمل بطرق‬
‫وبث منهج‬‫الشبهات‪ ،‬وتضعيف ُأسس إيامن األفراد‪ ،‬والرتويج لسياسة نفي اليقني ّ‬
‫التشكيك‪ .‬ومن ُ‬
‫األمور اهلا ّمة التي سامهت يف فضح هذه السياسة انتشار الكتب واملقاالت‬
‫واملنهج االنتقائي يف ترمجة بعض الكتب الغرب ّية‪ ،‬وإقامة الندوات‪ ،‬واملؤمترات‪،‬‬
‫واخلطب واملحارضات‪ .‬ومن هنا ُتعد الدراسة الراهنة الباحثة عن املسائل ذات العالقة‬
‫ٍ‬
‫كبرية؛‬ ‫مه ّي ٍة‬
‫باملعرفة وأقسامها ‪-‬ال س ّيام طريق اليقني وبيان املعرفة الصحيحة‪ -‬ذات أ ّ‬

‫وبعبارة فلسفيّ ٍة‪ :‬ليس العلم واملعرفة ع ّل ًة تا ّم ًة لإليامن (املرتجم)‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪16‬‬

‫قديمـا‬
‫حب البـحـث حول الـجواب عـن الـمسائـل الـمطروحة ً‬ ‫ّ‬
‫ألن من غـرائـز اإلنسـان ّ‬
‫فـي هذا الـمجال‪.‬‬
‫فإن بلورة اإليامن الصحيح والثابت منوط ٌة باإلجابة عن هذه‬ ‫جهة ُأخرى ّ‬ ‫ومن ٍ‬
‫ٍ‬
‫كثرية ما زالت آثارها‬ ‫ٍ‬
‫شبهات‬ ‫ٍ‬
‫شافية‪ .‬كام ُيالحظ اليوم إثارة‬ ‫ٍ‬
‫وافية‬ ‫ٍ‬
‫بأجوبة‬ ‫األسئلة‬
‫ات مستقبل ّي ٍة‪ ،‬ما‬
‫ولعل بعضها يؤول إىل إشكالي ٍ‬
‫ّ‬ ‫السلب ّية ملحوظ ًة عىل بعض األفراد‪ّ ،‬‬
‫يكشف عن رضورة طرح مباحث تندرج اليوم ضمن العلوم الفلسف ّية حتت عنوان‬
‫(نظر ّية املعرفة)‪.‬‬

‫تعريف نظر ّية املعرفة‬


‫ٍ‬
‫بيشء‬ ‫ٍ‬
‫فاعل‪ ،‬كذلك ال بدّ من تع ّلق هذه املعرفة‬ ‫كام تفتقر معرفة اإلنسان وعلمه إىل‬
‫يكون معلوما للفاعل‪ .‬وعليه فلعملية اكتساب املعرفة جهتان‪ِ :‬‬
‫العامل واملعلوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫أن‬‫أن دائرة املعلومات املتع ّلقة بمعرفة اإلنسان واسع ٌة جدًّ ا‪ ،‬كام ّ‬
‫ومن الواضح ّ‬
‫خاص‪ ،‬فأحد فروع هذه‬ ‫ٍّ‬ ‫وكل معلو ٍم يرجع إىل موضو ٍع‬ ‫فروع العلم غن ّي ٌة باملعارف‪ّ ،‬‬
‫قسم‬
‫قسم آخر منها احليوانات‪ ،‬فيام يبحث ٌ‬ ‫مثال‪ ،‬ويتناول ٌ‬ ‫خيتص بعلم النباتات ً‬
‫العلوم ّ‬
‫ثالث احلقوق والقوانني واألُمور االعتبار ّية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أن ما ُيبحث يف مجيع العلوم املذكورة آن ًفا هي حقائق وقضايا ال‬ ‫وّتدر اإلشارة إىل ّ‬
‫مت ّثل العلم واملعرفة‪ .‬أ ّما البحث عن العلم واملعرفة فهو من فروع العلم الذي موضوعه‬
‫املعرب عنه بعلم املعرفة‪ .‬و ُيتناول يف هذا الفرع العلمي مسائل منها‪ :‬هل‬
‫العلم نفسه‪ ،‬وهو ّ‬
‫يمكن معرفة حقائق العامل؟ وإذا كان اجلواب باإلجياب‪ ،‬فهل املعارف التي ندركها ك ّلها‬
‫صادق ٌة وصحيح ٌة‪ ،‬أم ال يتّصف هبذه الصفة ّإال مجل ٌة منها؟‬
‫وإذا كـان بعضـها ي ّتـصـف بـالصـ ّحة‪ ،‬فمـا هي خصـائـص هذا النـحـو من الـمعـرفـة؟‬
‫وكيف يمكن متييزها من غري الصحيح من املعارف؟ وما هو نحو العالقة بني معارف‬
‫صحة غريها من املعارف األُخر‪ ،‬من دون‬ ‫اإلنسان؟ وهل يمكن أن يربهن بعضها عىل ّ‬
‫التصورات عالق ٌة متبادل ٌة‪ ،‬بمعنی‪:‬‬ ‫إن عالقة‬ ‫احلاجة إىل تصو ٍ‬
‫رات ومعارف ُأخر؟ أم ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪17‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التصورات األُخرى‪ ،‬ليربهن هو بدوره عليها؟‬


‫ّ‬ ‫تصو ٍر ُيربهن عليه عرب‬ ‫ّ‬
‫أن كل ّ‬
‫إ ًذا فالعلم الباحث حول هذه املسائل والقضايا التي تقع يف أفقها ُت ّ‬
‫سمى بنظر ّية‬
‫املعرفة أو علم املعرفة(‪.)1‬‬
‫وغاية هذا العلم هو البحث حول املعارف اإلنسان ّية الصحيحة التي يمكن‬
‫االعتامد عليها وطرح احلقائق يف ضوئها‪ ،‬كالبحث عن احلقائق والقضايا التي ال يمكن‬
‫االعتامد عليها ممّا حيكي صور ًة خاطئ ًة عن الواقع‪.‬‬
‫ومن هنا يمكن تعريف نظرية املعرفة بام يأيت‪" :‬هو العلم الباحث حول معارف‬
‫صحتها وسقمها وبيان املعيار يف ذلك"‪.‬‬
‫اإلنسان وأنواعها‪ ،‬وحتديد ّ‬
‫نظر ّية املعرفة علم من الدرجة الثانية‬
‫ٍ‬
‫خمتلفة‪ ،‬منها‬ ‫ٍ‬
‫باعتبارات‬ ‫ٍ‬
‫كثرية‬ ‫يمكن تقسيم علوم اإلنسان ومعارفه إىل أقسام‬
‫ٍ‬
‫ومعرفة من الدرجة الثانية‪ .‬ومالك هذا التقسيم‬ ‫ٍ‬
‫معرفة من الدرجة األوىل‬ ‫تقسيمها إىل‬
‫هو موضوع املعرفة ومتعلقها‪.‬‬
‫تقرر آن ًفا‪ :‬أنّنا تار ًة نبحث عن األمور الواقع ّية‪ :‬كالسامء واألرض واحليوانات‬
‫وقد ّ‬
‫والنباتات واألمور االعتبارية والعقد ّية من قبيل قوانني املرور‪ ،‬وأخرى نبحث عن‬
‫املعرفة ذاهتا‪.‬‬
‫تسمى املعرفة الناّتة من البحث بـ(املعرفة من الدرجة‬ ‫ففي الصورة األوىل ّ‬
‫األوىل)‪ ،‬فيام ُيطلق علی املعرفة يف الصورة الثانية (املعرفة من الدرجة الثانية)‪.‬‬
‫والوجه يف إطالق املعرفة من الدرجة األوىل عليها ّأهنا توصلنا إىل احلقائق‪ ،‬التي‬
‫مزيد من املعرفة‪ ،‬بحيث تغدو هذه املعرفة احلاصلة‬‫ال حاجة يف صريورهتا وحت ّققها إلی ٍ‬

‫األول‪،Epistemology :‬‬ ‫(‪ )1‬للتعبري عن نظر ّية املعرفة يف اللغة اإلنجليز ّية يف العرص احلديث لفظان أو تعبريان‪ّ ،‬‬
‫مشتق من كلمتني‪ Episteme :‬بمعنى املعرفة و‪ Logos‬بمعنى النظر ّية التي ُأخذت‬ ‫ٌّ‬ ‫وهذا اللفظ اليوناين األصل‬
‫منها كلمة (‪ )Theory‬واستُعملت بمعنى نظر ّية املعرفة‪ .‬الثاين‪ Theory of Knowledge :‬أي‪ :‬نظر ّية‬
‫األول وما زال هو اللفظ الشائع‪ .‬الحظ‪:‬‬
‫املعرفة‪ ،‬وهذا التعبري مل يكن سائدً ا قبل قرن بل كان اللفظ ّ‬
‫‪D. D. Runes (ed.), The Dictionary of Philosophy (London: Vision Press, 1942), p. 94.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪18‬‬

‫ٍ‬
‫إنسان‪ ،‬أو مع فرض عدم‬ ‫موض ًعا للدراسة‪ ،‬بل هي ثابت ٌة حتّى مع فرض عدم وجود‬
‫فإن هذه احلقائق ثابت ٌة جدًّ ا‪ ،‬ويمكن أن مت ّثل اخلطوة األُوىل يف‬ ‫ٍ‬
‫معرفة لديه؛ ّ‬ ‫حصول‬
‫معرفة اإلنسان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ثم يقع البحث يف هذه‬ ‫قسام من العلوم يتو ّقف عىل معرفة أخری‪ّ ،‬‬
‫ولكن هناك ً‬
‫بنظرة خارج ّي ٍة إلی تلك املعرفة نفسها‪ .‬فموضوع البحث والدراسة فيها املعرفة‬
‫ٍ‬ ‫العلوم‬
‫نفسها‪.‬‬
‫سمى معارف من الدرجة‬ ‫وهذه العلوم التي يكون موضوع البحث فيها املعرفة ُت ّ‬
‫ٍ‬
‫توضيحات‬ ‫علم ال ُيقدّ م أ ّية‬
‫الثانية‪ ،‬كاملنطق الذي ُيعدّ من معارف الدرجة الثانية؛ فإنّه ٌ‬
‫عن العامل والواقع ّيات املوجودة فيه‪ ،‬بل وظيفته تصحيح املعلومات الذهن ّية لإلنسان‬
‫ٍ‬
‫جديدة ُأخر عىل‬ ‫ٍ‬
‫معلومات‬ ‫وبيان نحو االستخدام الصحيح هلا‪ ،‬لغرض احلصول عىل‬
‫التصورات والتصديقات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مستوى‬
‫والغرض‪ّ :‬‬
‫أن علم املعرفة يندرج حتت علوم الدرجة الثانية‪ ،‬كام أشري إىل ذلك غري‬
‫يتم البحث حول معلومات اإلنسان من خالل النظر إلی‬ ‫ٍ‬
‫مرة‪ ،‬ويف هذا الفرع من العلم ّ‬
‫ّ‬
‫اخلارج وإعامل املنهج العقيل‪.‬‬
‫لكن الغرض األسايس هنا هو تقييم اعتبار املعارف‪ ،‬وبيان ما تنقسم إليه معارف‬
‫اإلنسان‪ ،‬وطرق الوصول إليها‪ ،‬وحتديد ما هو الصحيح والسقيم من املعلومات‬
‫ٍ‬
‫واحد من هذه الطرق‪ ،‬وبيان ضابطة‬ ‫احلاصلة من هذه الطرق املتك ّثرة‪ ،‬وقيمة ّ‬
‫كل‬
‫املعارف الصحيحة‪ ،‬إلی غري ذلك من األسئلة املبحوث عنها يف هذا العلم‪.‬‬

‫أقسام نظر ّية املعرفة‬


‫تنقسم نظر ّية الـمعرفة إلـى قسمني‪ :‬نظر ّية الـمعرفة الـمطلقة‪ ،‬ونظر ّية الـمعرفة‬
‫الـمضافة أو الـمق ّيدة‪.‬‬
‫ونظرا إىل ّ‬
‫أن نظر ّية املعرفة بقسميها تتناول معارف اإلنسان وتقييمها وحتديد‬ ‫ً‬
‫معيار الصدق والكذب فيها‪ ،‬جيب البحث عن جذور ثنائ ّية املعارف املطلقة واملضافة‬
‫‪19‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫واحد منهام‪.‬‬ ‫يف حدود املعرفة املبحوث عنها يف ّ‬
‫كل‬
‫إن املعارف التي تقع موض ًعا‬ ‫ٍ‬
‫ببيان آخر نقول‪ّ :‬‬ ‫نوضح التقسيم‬
‫ولو أردنا أن ّ‬
‫معني‪ ،‬بل تشمل مجيع معارف اإلنسان‪ ،‬و ُأخرى تتناول‬ ‫ٍ‬
‫بمجال ّ ٍ‬ ‫ختتص‬
‫للبحث تار ًة ال ّ‬
‫خاصا من العلوم البرش ّية‪ .‬ففي الصورة األُوىل ُيوصف علم املعرفة بوصف‬‫ًّ‬ ‫نطا ًقا‬
‫(املطلق)‪ ،‬ويف الصورة الثانية ُيوصف بـ(املضاف) أو (املق ّيد)‪.‬‬
‫أنموذجا من نظر ّية املعرفة املضافة؛‬
‫ً‬ ‫أن علم الـمعرفة الدين ّية يم ّثل‬
‫ومن هنا يتّضح ّ‬
‫إذ ُيبحث فـي هذا القسم من املعارف الدين ّية عن مسائل من قبيل‪ :‬وجود التعارض يف‬
‫للتغري وعدمها‪ ،‬وقابل ّية الـمفاهيم‬
‫ّ‬ ‫القضايا الدين ّية وعدمه‪ ،‬وقابل ّية الـمعارف الدين ّية‬
‫والقضايا املبحوث عنها يف النصوص الدين ّية للفهم وعدمها‪ ،‬وواقع ّية الفرض ّيات الدين ّية‬
‫وحقيقتها‪ ،‬وأمثال ذلك‪.‬‬
‫أن مساحة البحث يف علم املعرفة الدين ّية ال تشمل ّإال املعارف‬ ‫ومن الواضح ّ‬
‫الدين ّية‪ ،‬وال عالقة له باملعارف البرش ّية األُخرى‪.‬‬
‫وكيفام كان فموضوع البحث يف الفصول القادمة نظر ّية املعرفة املطلقة واملسائل‬
‫ذات الصلة هبا‪.‬‬

‫تأريخ البحث يف نظر ّية املعرفة‬


‫مرت هبا عرب الزمن‬ ‫وروادها والتجاذبات التي ّ‬ ‫إن تت ّبع جذور نظر ّية املعرفة ّ‬ ‫ّ‬
‫موسعٍ‪ ،‬وملّا كان الكتاب مبن ًّيا عىل االختصار‪ ،‬كان ال بدّ لنا أن ُنلقي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل بحث ّ‬
‫كل من علامء الغرب واملسلمني‪.‬‬ ‫نظر ًة ك ّل ّي ًة عىل تاريخ هذه البحوث عند ٍّ‬

‫تأريخ نظر ّية املعرفة يف الغرب‬


‫أن الفالسفة قبل سقراط‬ ‫يظهر من مراجعة أقوال الباحثني يف تاريخ الفلسفة(‪ّ )1‬‬
‫ألن جهودهم كانت منص ّب ًة عىل‬
‫خاص بمسائل نظر ّية املعرفة‪ّ ،‬‬
‫ٌّ‬ ‫لـم يكن لدهيم اهتام ٌم‬
‫تغري الطبيعة ومنشأ ظهور العامل‪ ،‬وكان الفالسفة آنذاك يفرتضون ّ‬
‫أن معرفة‬ ‫قضايا ّ‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬فردريك كايلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحة‪.56 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪20‬‬

‫الطبيعة يش ٌء ممك ٌن‪ ،‬ولذا مل يكن يصدر منهم ّإال ما ينسجم مع مسائل نظر ّية املعرفة‬
‫فرجح‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ‪ ،‬فكان بعضهم ً‬
‫مصدر آخر‪ّ ،‬‬ ‫مصدرا من املعرفة عىل‬
‫ً‬ ‫مثال ُيقدّ م‬ ‫املعهودة‬
‫كل من هرقليطس(‪ )1‬وبارمنيدس(‪ )2‬العقل عىل سائر مصادر املعرفة‪ ،‬فيام طرح علامء‬ ‫ٌّ‬
‫مر ٍة بحث الشعور(‪ ،)3‬وم ّيز بارمنيدس بني احلقيقة والظاهر(‪.)4‬‬
‫ألول ّ‬
‫الذرة ّ‬
‫ّ‬
‫ستمر احلال عىل هذا املنوال إىل زمان‬
‫ولكن هذه املباحث مل تأخذ طاب ًعا جدّ ًّيا‪ ،‬وا ّ‬
‫السوفسطائ ّيني الذين كانوا يشكّكون يف حصول املعرفة مطل ًقا‪.‬‬
‫الشك والشكّاكني هو سقراط‪ ،‬فأثبت إمكان‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫فيلسوف وقف أمام ت ّيار‬ ‫ثم ّ‬
‫إن ّأول‬ ‫ّ‬
‫ثم‬
‫حصول املعرفة‪ ،‬فيام طرح بعده تلميذه أفالطون الـمسائل األساس ّية فـي الـمعرفة‪ّ ،‬‬
‫ثم قدّ م الباحثون والـمفكّرون‬ ‫تصوراته عن نظـر ّية الـمعرفة ‪ّ ،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ليحرر ّ‬
‫ّ‬ ‫جاء أرسطو‬
‫واستمر الـحال إلـى القرون الوسطـى وإلـى ما‬
‫ّ‬ ‫ارائهم املختلفة ذات الصلة بالـمعرفة‪،‬‬
‫بعد عرص النهضة‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن نظر ّية الـمعرفة حينها لـم تكن مـح ًّطا لألنظار بوصفها فر ًعا‬
‫علمـ ًّيا مستـ ًّ‬
‫قال‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشك عىل املرسح‬ ‫وقد ظهرت إىل الوجود يف تلك احلقبة الزمن ّية الطويلة مذاهب‬
‫ات‪ ،‬وإن واجهت مبانيهم النقد الالذع من أتباع القائلني بإمكان املعرفة‬‫املعريف عدّ ة مر ٍ‬
‫ّ‬
‫واليقني(‪.)6‬‬
‫علمـا مكتو ًبا‪.‬‬
‫ويف ضوء هذا اخ ُتلف حول ّأول من أسس نظر ّية الـمعرفة بوصفها ً‬
‫بحث حول فهم اإلنسان) للفيلسوف‬ ‫ٍ‬
‫كتاب فـي نظر ّية املعرفة هو ( ٌ‬ ‫(‪)7‬‬ ‫ّ‬
‫ولعل ّأول‬

‫(‪ )1‬فردريك كايلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحتان‪ 57 :‬و‪.58‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة‪.63 :‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة‪.62 :‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة‪.63 :‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )6‬ملزيد من اال ّطالع راجع‪ :‬ديفيد هاملني‪ ،‬تاريخ نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫(‪ )7‬ملزيد من اال ّطالع انظر‪ :‬فردريك كايلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحات‪ 319 :‬إىل ‪365‬؛ وانظر‪ :‬برتراند‬
‫راسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغرب ّية‪ ،‬الصفحات‪ 228 :‬إىل ‪.305‬‬
‫‪21‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫جان لوك (‪ )1704-1623‬التجريبي الربيطاين الذي عاش فـي القرن السابع عرش‬
‫الـميالدي‪.‬‬
‫التحوالت الفلسفية بعد عرص النهضة نظر ّية املعرفة كفر ٍع من العلوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولقد أفرزت‬
‫وشغلت السجاالت الكالم ّية حول موضوعاته ومسائله أذهان وألسنة الكثري من‬
‫متنوع ٌة ومتعدّ د ٌة يف نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫العلامء‪ ،‬كام ظهرت عىل أثر ذلك مذاهب ّ‬
‫تأريخ نظر ّية املعرفة عند العلامء املسلمي‬
‫يمر عىل نشوئها وظهورها يف‬ ‫ٌ‬
‫طويل‪ ،‬وأنّه مل ّ‬ ‫ٌ‬
‫تاريخ‬ ‫أن نظر ّية املعرفة ليس هلا‬ ‫تقدّ م ّ‬
‫أيضا أنّه مل ُتطرح مباحث نظر ّية املعرفة يف‬ ‫ٍ‬
‫قرون‪ ،‬كام ُيالحظ ً‬ ‫الغرب سوى ثالثة‬
‫مستقل‪ ،‬وإن تناولت بعض أبحاث الفلسفة اإلسالم ّية غري‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫الفلسفة اإلسالم ّية‬
‫ٍ‬
‫واحدة من مسائل نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بنحو مستق ٍّل هو ثبات مكانة العقل‬ ‫دليل عىل عدم طرح هذه البحوث‬ ‫أهم ٍ‬ ‫ّ‬
‫ولعل ّ‬
‫يف الفلسفة اإلسالم ّية‪ ،‬وإن طعن البعض ّ‬
‫وبث الشبهات يف موقع العقل عند العلامء‬
‫رضرا حقيق ًّيا بمكانته وعدم تزلزله‬ ‫املسلمني‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن هذه الشبهات مل تستطع أن ُتلحق ً‬
‫عندهم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬عىل إثر دخول األفكار واملذاهب واال ّتـجاهات الغرب ّية ذات الصلة بنظر ّية‬
‫املعرفة إىل الدول اإلسالم ّية‪ ،‬أدىل بعض املفكّرين املسلمني بدلوه يف بيان ُأطروحته يف‬
‫نظر ّية املعرفة‪ ،‬وبذلك ُأتيح ٌ‬
‫مناخ جديدٌ هلذا النوع من البحوث‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل ّأول من بادر إلـى تنظيم مباحث نظر ّية الـمعرفة عىل الصعيد اإلسالمي هو‬
‫حمد حسني الطباطبائي‪ ،‬فإنّه من خالل طرحه آلرائه فـي كتابه‬ ‫ّ‬
‫العالمة الشهري مـ ّ‬
‫( ُأصول الفلسفة واملذهب الواقعي)‪ ،‬خطى اخلطوة األُوىل ّتاه إعطاء مباحث نظر ّية‬
‫ثم أكمل هذه الـمسرية من بعده بعض تالمذته وغريهم من‬ ‫ًّ‬
‫مستقال‪ّ ،‬‬ ‫الـمعرفة طاب ًعا‬
‫املفكّرين والباحثني(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬ملزيد من اال ّطالع راجع‪ :‬حسن مع ّلمي‪ ،‬نظرة حول نظر ّية املعرفة يف الفلسفة اإلسالم ّية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪22‬‬

‫واحد من الباحثني‬‫ٍ‬ ‫علم جديدٌ ‪ ،‬شغلت أبحاثه غري‬ ‫واحلاصل‪ّ :‬‬


‫أن نظر ّية املعرفة ٌ‬
‫وأن علی الطلبة تلقيح أوراق وأغصان شجرة الفلسفة اإلسالم ّية املثمرة‬ ‫واملح ّققني‪ّ ،‬‬
‫جديد من علم الـمعرفة الـمعارص‪ ،‬وذلك باالعتمـاد عىل الرتاث الفلسفي‬ ‫ٍ‬ ‫فـي مناخٍ‬
‫اإلسالمي الواسع من جهة‪ ،‬واإلفادة من اإلبداعات اجلديدة واألُطروحات املعارصة‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫حلوال‬ ‫من جهة ُأخرى؛ ّ‬
‫ليمهدوا بذلك الطريق أمام املح ّققني والباحثني‪ ،‬وليوجدوا‬
‫ناجح ًة للخروج من معضالت نظر ّية املعرفة املعارصة واإلجابة عن شبهاهتا بالنحو‬
‫املطلوب‪.‬‬
‫خالصة املبحث األول‬
‫الشك ألجل االرتقاء العلمي فـي الـمجاالت الـمختلفة‪ ،‬وإرضاء غريزة‬‫ّ‬ ‫‪ .1‬حماربة‬
‫اس رصـ ٍ‬
‫ني فـي األُصـول‬ ‫ب اال ّطـالع‪ ،‬وتعـزيز الديـن واإليمـان‪ ،‬والتـوافـر علـى أسـ ٍ‬
‫حـ ّ‬
‫ّ‬
‫واالّتاهات‬ ‫األخالق ّية والقيم ّية‪ ،‬والدفاع عن اإلسالم إزاء سائر النظر ّيات واملذاهب‬
‫الـمتنـافسـة‪ ،‬يكشـف عن أهـ ّمـ ّيـة نظـر ّية الـمعـرفـة ومكانـتها العـليـا ورضورة دراسـتـها‬
‫وتـعلـيمـهـا‪.‬‬
‫ويبني أقسامها‪ ،‬ويم ّيز ما هو‬
‫علم يتناول معارف اإلنسان‪ّ ،‬‬ ‫‪ .2‬نظر ّية املعرفة ٌ‬
‫صحتها وسقمها‪.‬‬‫الصحيح من غري الصحيح منها‪ ،‬ويطرح املعيار يف ّ‬
‫‪ .3‬تنقسم املعارف اإلنسان ّية باعتبار املتع ّلق واملوضوع إىل معارف من الدرجة‬
‫األُوىل ومعارف من الدرجة الثانية‪ :‬فإن كان موضوع املعرفة ما كان من قبيل‪ :‬السامء‬
‫واألرض والرتاب والقوانني االجتامع ّية ونحوها فهي من الدرجة األُوىل‪.‬‬
‫وأ ّما لو كان موضوع املعرفة‪ ،‬املعرفة نفسها ‪-‬كام يف علم املنطق ونظر ّية املعرفة‬
‫ونحومها‪ -‬فهي معرف ٌة من الدرجة الثانية‪.‬‬
‫دة‪ .‬أ ّما األُوىل فتبحث عن مطلق‬‫مطلقة ومقي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫‪ .4‬يمكن تقسيم نظر ّية املعرفة إىل‬
‫ّ‬
‫خاص نظري‪ :‬الدّ ين‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫نطاق‬ ‫املعرفة اإلنسان ّية‪ .‬وأ ّما الثانية فتتناول معارف اإلنسان يف‬
‫(املعرفة الدين ّية) واألخالق (املعرفة األخالق ّية) وهكذا‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أن سقراط وأفالطون وأرسطو‬ ‫‪ .5‬يمتدّ تاريخ علم املعرفة إىل ما قبل سقراط‪ّ ،‬إال ّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل واسعٍ‪ ،‬وتصدّ وا للر ّد‬ ‫تناولوا املباحث ذات الصلة بنظر ّية املعرفة يف فلسفتهم‬
‫ّ‬
‫الشك السائدة آنذاك‪.‬‬ ‫علی ت ّيارات‬
‫ٍّ‬
‫مستقل فـي القرون األخرية حتّى انترش‬ ‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫وال خيفى أنّه مل تظهر نظر ّية املعرفة‬
‫ًّ‬
‫مستقال‬ ‫علمـا‬
‫بحث حول فهم اإلنسان) للمفكّر جان لوك‪ ،‬فظهر بوصفه ً‬ ‫كتاب ( ٌ‬
‫بالتدريج فـي األوساط الغرب ّية‪.‬‬
‫واحد من مسائل ومباحث نظر ّية املعرفة‬‫ٍ‬ ‫أ ّما عىل مستوى العامل اإلسالمي ّ‬
‫فإن غري‬
‫وإن كانت مبثوث ًة يف آثار علامئنا املنطق ّية والفلسف ّية والكالم ّية‪ ،‬غري ّأهنم إىل عرصنا‬
‫ًّ‬
‫مستقال‪.‬‬ ‫الراهن مل يفردوا له بح ًثا‬
‫إن ّ‬
‫العالمة الطباطبائي كان ّأول من طرح مباحث نظر ّية املعرفة‬ ‫ويمكن أن ُيقال‪ّ :‬‬
‫ٍ‬
‫ومنتظمة عىل الصعيد اإلسالمي‪.‬‬ ‫بصورة منهج ّي ٍة‬
‫ٍ‬

‫***‬
‫ّ‬
‫املبحث الثـان‬
‫نظر ّية املعرفة والعلوم املسانخة لها‬
‫نظر ّية املعرفة واملنطق‬
‫أن‬ ‫مر ٍة ّ‬
‫أن علم املنطق ونظر ّية املعرفة علامن من الدرجة الثانية‪ ،‬بمعنى ّ‬ ‫مر غري ّ‬
‫ّ‬
‫كليهام يبحث عن معارفنا وأحكامها وقوانينها(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫ويدور البحث هنا حول املائز بني هذين العلمني‪ ،‬الذي أ ّدى إىل اعتبار ّ‬
‫كل‬
‫ٍ‬
‫منفصلة عن اآلخر‪.‬‬ ‫مستقال ذا هو ّي ٍة‬
‫ًّ‬ ‫علام‬
‫منهام ً‬
‫إن التاميز الذي أ ّدى إىل انفصال ٍّ‬
‫كل من العلمني عن اآلخر‬ ‫والذي ينبغي أن ُيقال‪ّ :‬‬
‫يكمن يف نحو الرؤية والنظر يف ٍّ‬
‫كل منهام‪.‬‬
‫املعرف واحل ّجة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن املتأ ّمل يف مسائل علم املنطق وموضوعه يرى أنّه يبحث يف ّ‬
‫التصور ّية والتصديق ّية‪ ،‬ليغدو املجهول معلو ًما عندنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويتناول طرق تنظيم معلوماتنا‬
‫ٍ‬
‫وبعبارة ُأخرى‪ :‬ك ّلام أمكن لنا أن نن ّظم املفاهيم طب ًقا للرشوط املب ّينة يف موطنها‪ ،‬كنّا‬
‫التعرف عىل املجهول(‪ )2‬الذي ليس لنا معرف ٌة به أو ال نملك معرف ًة دقيق ًة عنه‪.‬‬
‫أقدر عىل ّ‬
‫قررنا املعلومات التصديق ّية بالشكل الصحيح ووف ًقا للضوابط واملعايري‬ ‫ثم إنّنا إذا ّ‬
‫ّ‬
‫املعهودة‪ ،‬فإننا سنتمكن من تبديل الـمجهول التصديقي إىل معلو ٍم‪ ،‬وسنستطيع يف كال ٍم‬
‫ٍ‬
‫واستدالل علمي صحيح‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تعريف‬ ‫ٍ‬
‫واحد تقديم‬
‫ينصب حول الفكر والـمعرفة‪ ،‬ولذا أطلق عليه بعضهم‬
‫ّ‬ ‫إ ًذا فالكالم يف املنطق‬
‫(منهج الفكر)‪.‬‬
‫يبني لنا ً‬
‫مثال الطريقة العمل ّية لالستدالل‪ ،‬وإنّا إذا أردنا أن‬ ‫أن املنطق ّ‬‫والغرض‪ّ :‬‬
‫صحيحا ما ّد ًة وصورة‪،‬‬ ‫نستدل علی ٍ‬
‫يشء ما كيف نن ّظم املقدّ مات حتّى يكون االستدالل‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫(‪ )1‬إ ّن هذا العلم يتناول العلم احلضوري واحلصويل عىل حدٍّ سواء‪ ،‬بخالف علم املنطق الذي يبحث يف العلم احلصويل‬
‫خاص ًة‪ .‬وبام ّ‬
‫أن العلمني يبحثان يف العلم احلصويل ويشرتكان يف بيان أحكامه وقوانينه‪ ،‬فال بدّ من معرفة وجه‬ ‫ّ‬
‫االفرتاق بينهام من هذه اجلهة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي‪ :‬جاز لنا تعريفه يف ضوء اصطالح املناطقة‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ومثمرا نتائج صحيحة‪.‬‬


‫ً‬ ‫منتجا‬
‫ويصبح ً‬
‫ٍ‬
‫بمحتمل‬ ‫وأهيا ليس‬
‫وأهيا ظنّ ّية ّ‬
‫أي املواد صحيحة ويقين ّية ّ‬
‫ولكن تعيني وتشخيص ّ‬
‫أساسا من مهام نظر ّية املعرفة‪ ،‬وال دخل لعلم املنطق بتلك املسائل‪ .‬فنظر ّية املعرفة يف‬
‫ً‬
‫ألن نظر ّية املعرفة تقوم بتحديد وتشخيص قيمة‬ ‫الواقع تشكّل األساس لعلم املنطق‪ّ ،‬‬
‫املعلومات‪ ،‬ليفاد املنطق من تلك املواد اليقينية والصحيحة يف تنظيمها يف إطار عملي ٍ‬
‫ات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فكر ّي ٍة‪ ،‬سواء بالتعريف أو االستدالل‪.‬‬
‫هيتم بمالحظة املعلومات وكيفية ترتيبها وتنظيمها‬ ‫ومن هنا يتّضح‪ّ :‬‬
‫أن املنطق ّ‬
‫تصور ًّيا أم تصديق ًّيا‪ .‬وأ ّما نظر ّية املعرفة فتبحث يف‬
‫توصل إىل املجهول‪ ،‬سواء كان ّ‬
‫ل ُي ّ‬
‫تشخيص ما هو الصحيح من غريه واليقني ممّا سواه وقيمة هذا اليقني‪.‬‬

‫نظر ّية املعرفة وعلم الفلسفة‬


‫الفلسفة وإن كانت كنظر ّية املعرفة تتناول املسائل ذات الصلة باملعرفة وتبحث‬
‫علام واحدً ا فار ًدا‪.‬‬ ‫حوهلا‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن هذين احلقلني من املعرفة ليسا ً‬
‫إن موضوع الفلسفة هو الوجود‪ ،‬إذ ُيبحث يف هذا العلم عن ما هو موجو ٌد وما‬ ‫ّ‬
‫هو معدو ٌم‪ ،‬وإن من مجلة مسائل علم الفلسفة البحث يف ّ‬
‫أن العلم موجو ٌد أم ال‪،‬‬
‫مثال‪ّ :‬‬
‫إن اإلنسان عندما‬ ‫ٍ‬
‫بشكل واسعٍ‪ ،‬فيقال ً‬ ‫والبحث عن العلم احلصويل وحقيقته‬
‫طة‪ ،‬بل عن طريق الصورة‬ ‫يدرك ما حوله من األشياء‪ ،‬فإنّه ال يدركها مبارش ًة وبال وسا ٍ‬
‫ُ‬
‫الذهن ّية‪.‬‬
‫إن الوظيفة التي يقوم هبا الذهن يف احلقيقة ليست ّإال التقاط الصور من اخلارج‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهذه الصور تعكس وحتكي حقيقة أشياء كثرية ُأخر‪ .‬واألشياء التي حتكيها الصور‬
‫أصال‪ ،‬بمعنى‪ّ :‬‬
‫أن‬ ‫الذهن ّية تار ًة تكون موجودةً‪ ،‬وأخرى ال يكون هلا وجو ٌد خارجي ً‬
‫اليشء الذي تشكّلت صورته يف ذهننا تار ًة يكون موجو ًدا يف اخلارج يف ظرف تشكّل‬
‫صورته وبعدها‪ ،‬و ُأخری يتالشى بعد انطباع صورته عن صقع الذهن وإن بقيت‬
‫متامدية‪ ،‬وثالث ًة ال حتكي الصورة الذهنية عن ٍ‬
‫يشء‬ ‫ٍ‬ ‫صورته حمفوظ ًة يف الذهن إىل سنني‬
‫ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪26‬‬

‫أصال‪ ،‬بل عن يشء ال يمكن حت ّققه يف اخلارج‪ ،‬كمـا يف مفهوم‬ ‫ٍ‬


‫موجود يف هذا العامل ً‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬غري ّ‬ ‫اجتامع النقيضني؛ إذ الصورة الذهن ّية حتكي اجتامع نقيضني يف موضوع ٍ‬
‫أن اجتامع النقيضني ال يتح ّقق يف اخلارج أبـدً ا‪ّ ،‬‬
‫ألن هذا االجتمـاع لو كان‬ ‫من الواضح ّ‬
‫ٍ‬
‫حينئذ للقول باستحالة اجتمـاع النقيضني‪.‬‬ ‫قابـ ًال للثبوت‪ ،‬فال معنى‬
‫غض النظر عن وجود‬
‫سمى بالعلم احلصويل ‪-‬مع ّ‬
‫وعليه فالصورة الذهن ّية التي ُت ّ‬
‫يشء حتكيه‪ -‬موجو ٌد من موجودات عامل الوجود‪.‬‬ ‫وعدم وجود ٍ‬
‫عرضا فمن‬
‫عرض؟ ولو كان ً‬ ‫جوهر أم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أن هذا املوجود هل هو‬ ‫ّإال ّ‬
‫أن الكالم يف ّ‬
‫ثم هل‬
‫أي الـمقوالت العرض ّية هو؟ هل هو من مقـولة الكيف أم اإلضافة أم غـريها؟ ّ‬ ‫ّ‬
‫فضال عن وجودها الذهني؟‬ ‫للصور الذهن ّية الك ّل ّية (الك ّل ّيات) وجو ٌد خارجي‪ً ،‬‬
‫فهذا ك ّله مما يندرج ضمن مباحث الفلسفة‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن البحث يف ّ‬
‫أن أ ًّيا من الصور الذهن ّية‬
‫مهام نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫يكشف عن الواقع بام هو ليس من شؤون علم الفلسفة‪ ،‬بل هو من ّ‬
‫ولـمزيد من التوضيح إليك الـمثال التايل‪:‬‬
‫لو ذهب أحدكم إىل السوق لرشاء ٍ‬
‫مرآة‪ ،‬فإنّه سيقوم بعملني بح ًثا يف املرايا؛ إذ ينظر‬
‫زجاجا‪ ،‬وهبذا العمل يكون قد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وأرق‬ ‫وأهيا أضخم‬ ‫ٍ‬
‫مجيل‪ّ ،‬‬ ‫أي املرايا ذات ٍ‬
‫إطار‬ ‫ّأو ًال ّ‬
‫ٍ‬
‫موجود من املوجودات‪ّ ،‬إال أنّه يقوم تار ًة‬ ‫صب اهتاممه عىل ٍ‬
‫يشء من األشياء وعلی‬ ‫ّ‬
‫أي املرايا تعكس صورته‬ ‫ُأخرى بنظر آخر بمعزل عن جودة املرآة ونوعها‪ ،‬وهو ّ‬
‫ٍ‬
‫بنحو مص ّغ ٍر‪ ،‬كام إذا كانت املرآة‬ ‫بوضوحٍ ؟ وهل تعكس الصورة كام هي‪ ،‬أم تعكسها‬
‫ينصب ّ‬
‫جل اهتامم‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بنحو أكرب‪ ،‬كام لو كانت مق ّعرةً؟ ويف هذا النظر‬ ‫حمدّ ب ًة؟ أم تعكسها‬
‫الناظر عىل كيف ّية إراءة الصور وانعكاسها‪ ،‬وال شأن له بنوع املرايا وإطارها‪.‬‬
‫نظرا‬
‫وال خيتلف األمر هاهنا فيام يرتبط ببحث املعرفة؛ فإنّنا تار ًة ننظر إليها ً‬
‫جوهر أم‬
‫ٌ‬ ‫وجود ًّيا‪ ،‬فنبحث يف مسائل من قبيل‪ :‬هل العلم وجو ٌد أم ماه ّي ٌة؟ وهل العلم‬
‫بالقوة والعلم بالفعل‪ ،‬وهذا النحو من املعرفة هو من مسائل‬
‫عرض؟ كام نتناول العلم ّ‬
‫ٌ‬
‫هتتم بالعلم بوصفه‬
‫الفلسفة التي تعترب مسائلها من معارف الدرجة األوىل‪ ،‬أل ّهنا ّ‬
‫موجو ًدا من املوجودات فقط‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫نظرة أخرى بلحاظ إراءة العلم للواقع وعدمها‪،‬‬ ‫وقد ننطلق يف احلكم من خالل‬
‫أي‪ :‬النظر إىل قيمة هذه املعارف‪ ،‬ويف هذا الفرض يكون نظرنا يف قضايا نظرية املعرفة‬
‫التي ُتعدّ من معارف الدرجة الثانية‪.‬‬

‫نظر ّية املعرفة وعلم النفس اإلدراك‬


‫علم النفس اإلدراكي أحد فروع علم النفس ّ‬
‫واّتاهاته التي تتناول كيف ّية رؤية‬
‫تتم عمل ّية السمع؟ كام يبحث يف املسائل‬
‫اإلنسان لألشياء‪ ،‬وما هي آل ّية النظر‪ ،‬وكيف ّ‬
‫احلواس اخلمس يعمل‬
‫ّ‬ ‫خاص ٌة للسمع؟ ّ‬
‫وأي‬ ‫ٌ‬
‫ورشوط ّ‬ ‫خمصوص‬
‫ٌ‬ ‫التالية‪ :‬هل هناك ٌ‬
‫زمان‬
‫ّأو ًال يف حال البلوغ‪ :‬هل الذوق أم السمع أم ّ‬
‫الشم أم النظر أم اللمس؟ وكيف تعمل؟‬
‫احلواس‬ ‫ٍ‬
‫واحدة من تلك‬ ‫احلواس باألعصاب والدماغ؟ وهل ُتدرك ّ‬
‫كل‬ ‫وما هي عالقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قادر منذ طفولته عىل إدراك‬
‫خاص من دماغ اإلنسان؟ وهل اإلنسان ٌ‬
‫ٍّ‬ ‫بوساطة قس ٍم‬
‫يتم ذلك ّإال يف حال الرشد؟ وكيف تتشكّل هذه ّ‬
‫القوة؟ وما هو‬ ‫املفاهيم الك ّل ّية‪ ،‬أو ال ّ‬
‫تأثريها عىل الدماغ واألعصاب؟‬
‫وباجلملة‪ ،‬فاملسائل املتقدّ مة مت ّثل اإلطار العا ّم فـي علم النفس اإلدراكي‪ ،‬وال يقع‬
‫التصورات الذهن ّية مع احلقائق‬
‫ّ‬ ‫يف هذا احلقل من املعرفة البحث حول مطابقة‬
‫والواقع ّيات وعدم مطابقتها‪ ،‬خال ًفا لنظر ّية املعرفة التي ال ُتعنى بالبحوث املذكورة‬
‫صحـة أو مطـابقـة‬
‫أعاله‪ ،‬بـل يـقع البحث فيها ‪-‬كمـا مـ ّر‪ -‬حول قيمة الـمعرفـة‪ ،‬أي‪ّ :‬‬
‫معارفنا للواقع‪.‬‬
‫أن بعض القضايا ‪-‬كتقسيم العلم إىل حصويل وحضوري‪-‬‬ ‫وينبغي االلتفات إىل ّ‬
‫وإن كانت ُتبحث يف علم املعرفة‪ّ ،‬إال ّأهنا مقدّ م ٌة لبحث قيمة املعرفة‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن قيمة‬
‫واحد يف مجيع أقسام العلم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫املعرفة ليست عىل ٍ‬
‫نسق‬
‫أن مباحث علم النفس اإلدراكي من املعارف الدرجة األُوىل‪،‬‬
‫كام ينبغي التنبيه عىل ّ‬
‫وأن منهج الدراسات والتحقيقات فيها هو املنهج التجريبي‪ ،‬بخالف مسائل نظر ّية‬ ‫ّ‬
‫املعرفة وغريها من معارف الدرجة الثانية؛ ّ‬
‫فإن منهج البحث فيها هو املنهج العقيل‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪28‬‬

‫نظر ّية املعرفة وفلسفة العلم‬


‫بنظرة فوقان ّي ٍة دراسة العلوم‬
‫ٍ‬ ‫فلسفة العلم من فروع العلوم الفلسف ّية التي تتناول‬
‫التجريب ّية‪.‬‬
‫يدرس هذا احلقل العلمي مسائل من قبيل‪ :‬مبادئ العلوم ومنهج البحث وتاريخ‬
‫التحوالت والغايات يف العلوم التجريب ّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫أن منهج الدراسة والبحث يف فلسفة العلم هو املنهج العقيل‪ ،‬فيتناول العلوم‬‫كام ّ‬
‫بنظرة معرف ّي ٍة‪ ،‬ويطرح مسائل من قبيل‪ :‬هل العلم التجريبي‬
‫ٍ‬ ‫التجريب ّية (‪)Science‬‬
‫تتغري‬ ‫ٍ‬
‫الظن؟ بمعنى‪ :‬هل يمكن للعلم التجريبي أن يتوافر علی معرفة ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ينتج اليقني أم‬
‫و ال تزول‪ ،‬بل مطلقة مطابقة للواقع؟ أم ّ‬
‫أن ما ُيدرك عن طريق املنهج العلمي يش ٌء ال‬
‫والتحول‬
‫ّ‬ ‫التغري‬
‫ّ‬ ‫الظن واالحتامل‪ّ ،‬‬
‫وإن حاصل املعرفة التجريب ّية يف معرض‬ ‫ّ‬ ‫يعدو‬
‫ٍ‬
‫دائمة؟‬ ‫ٍ‬
‫بصورة‬
‫إن االتّفاق ال يكون دائم ًّيا‬ ‫وقد حاول بعضهم ‪-‬بالرجوع إلی القواعد القائلة‪ّ :‬‬
‫وال أكثر ًّيا‪ّ ،‬‬
‫وأن حكم األمثال فيام جيوز وال جيوز واحدٌ ‪ -‬إثبات يقين ّية املعارف التجريب ّية‪،‬‬
‫فيام أنكر آخرون إنتاج املعارف التجريب ّية اليقني من خالل التشكيك يف أصل هذه‬
‫القواعد‪ ،‬أو يف تطبيقها عىل املوارد عىل فرض القول بصحة ٍ‬
‫مجلة منها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وكيف كان ففلسفة العلم كنظر ّية املعرفة يف تناوهلا للمعارف البرش ّية‪ ،‬مع فارق ّ‬
‫أن‬
‫فلسفة العلم تبحث املعارف التجريب ّية وقيمتها املعرف ّية‪ ،‬فيام تتناول نظر ّية املعرفة مجيع‬
‫األعم من التجريب ّية وغريها وقيمتها املعرف ّية مطل ًقا‪ .‬ومنه يتّضح ّ‬
‫أن كال‬ ‫ّ‬ ‫املعارف البرش ّية‬
‫وأن ًّ‬
‫كال منهام يعتمد عىل املنهج العقيل يف دراساته وبحوثه‪،‬‬ ‫العلمني من الدرجة الثانية‪ّ ،‬‬
‫مضاف ومق ّيدٌ ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫علم‬
‫مطلق‪ ،‬وفلسفة العلم ٌ‬ ‫علم ٌ‬ ‫فيام يفرتقان يف ّ‬
‫أن نظر ّية املعرفة ٌ‬

‫نظر ّية املعرفة وفلسفة األخالق والدين‬


‫بنظرة عقالئ ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫فلسفة األخالق إحدی فروع الفلسفات املضافة التي تتناول‬
‫التصور ّية والتصديق ّية ومبادئه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفوقان ّي ٍة مباين علم األخالق‬
‫‪29‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫جهات‬ ‫واملقوالت األخالق ّية املبحوث عنها يف فلسفة األخالق يمكن دراستها من‬
‫ٍ‬
‫ثالث‪:‬‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫األُوىل‪ :‬من ناحية معاين املفاهيم املستخدمة يف املقوالت األخالق ّية‪،‬‬
‫املفاهيم التي تقع يف املحمول أو املسند فيها‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬من الناحية املعرف ّية التي ُيبحث فيها عن مسألة الصدق والكذب‬
‫ومعيارمها يف املقوالت األخالق ّية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من الناحية الوجود ّية‪ ،‬أعني‪ :‬البحث عن نحو وجود هذه املقوالت‬
‫وحقيقة وجودها أو اعتبار ّيته ونحو ذلك‪.‬‬
‫أثرا بال ًغا عىل بحوث‬ ‫ومنه يتّضح‪ّ :‬‬
‫أن قضايا نظر ّية املعرفة ونتائج أبحاثها ترتك ً‬
‫فلسفة األخالق‪.‬‬
‫أيضا نظر ًة عقالن ّي ًة ونقد ّي ًة للمفاهيم واملسائل‬
‫أن لفلسفة الدين ً‬ ‫ومن نافلة القول ّ‬
‫أيضا ارتبا ًطا وثي ًقا بنظر ّية املعرفة‪ّ ،‬‬
‫فإن تأثري نظر ّية املعرفة عىل‬ ‫الدين ّية‪ّ ،‬‬
‫وأن هلذا العلم ً‬
‫ٍ‬
‫ناحية ُأخرى لو بحثنا‬ ‫ُأ ّمهات مسائل فلسفة الدين ممّا ال ينبغي االرتياب فيه‪ ،‬ومن‬
‫وتأ ّملنا يف بعض معطيات فلسفة الدين‪ ،‬الهتدينا الطريق إىل غري واح ٍد من قضايا‬
‫نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫ومثال عىل ذلك مقولة (اإليامن) التي هي من مباحث فلسفة الدين ونظر ّية املعرفة‬
‫الدين ّية عىل حد سواء؛ إذ ُيبحث عن ماه ّية اإليامن‪ ،‬وطبيعة العالقة بني اإليامن واملعرفة‪،‬‬
‫كام يقع الكالم فيها يف املسائل التالية‪ :‬هل اإليامن من سنخ املعرفة أو من سنخ العمل‬
‫اجلانحي والتصديق القلبي؟ وهل تساهم املعرفة يف زيادة اإليامن؟ وهل يؤ ّثر اإليامن‬
‫ّ‬
‫يف نضوج العلم أو ال؟‬
‫وكذا القضايا الباحثة حول لغة الدين وتعدّ د القراءات يف النصوص الدين ّية‬
‫ّ‬
‫متجذرة‬ ‫أهم مسائل فلسـفة الدين الـ‬
‫والتعدّ د ّية الدين ّية وحقيقة الوحي وأمثالـها فتـشكّل ّ‬
‫فـي نظـر ّيـة الـمعـرفـة‪.‬‬
‫واضحا عىل البحوث املذكورة‪ ،‬فعىل‬
‫ً‬ ‫تأثريا‬ ‫أن ّ‬
‫الّتاهات نظر ّية املعرفة ً‬ ‫و ُيالحظ‪ّ :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪30‬‬

‫مثال ال يمكن يف فلسفة الدين االعرتاف بنظر ّية القبض‬ ‫االّتاه التأسييس ً‬ ‫أساس ّ‬
‫والبسط‪ ،‬خال ًفا للقول بالنزعة الرتابط ّية‪ ،‬حيث يمكن القبول هبذه النظر ّية القائمة عىل‬
‫ٍ‬
‫ضعيفة جدًّ ا‪.‬‬ ‫ُأ ٍ‬
‫سس‬

‫خالصة املبحث الثان‬


‫‪ .1‬لغرض اال ّطالع عىل أبحاث نظر ّية املعرفة‪ ،‬كان ال بدّ لنا من تناول األبعاد‬
‫اإلجياب ّية هلذا العلم‪ ،‬والرتكيز عىل األبعاد السلب ّية التي ُتعنى ببيان امليز بينه وبني سائر‬
‫العلوم‪.‬‬
‫إن علم املنطق كنظر ّية املعرفة من علوم ومعارف الدرجة الثانية‪ ،‬ومها ال‬‫‪ّ .2‬‬
‫يفرتقان ّإال يف زاوية نظرمها إىل املعرفة والعلم وسنخه‪.‬‬
‫ففي علم املنطق ُينظر إىل املعطيات واملعلومات من ناحية ترتيبها وتنظيمها‪،‬‬
‫لغرض تبديل املجهول إىل معلو ٍم‪ ،‬أ ّما يف نظر ّية املعرفة ف ُيبحث يف معيار الصدق‬
‫والصحة وعدمها يف املعطيات‪ ،‬وتشخيص ما هو الصحيح من أقسام املعرفة‬
‫ّ‬ ‫والكذب‬
‫وما هو اليقيني منها واملوصل إىل الواقع‪.‬‬
‫جمر ٌد‬
‫‪ُ .3‬يبحث يف علم الفلسفة املعريف عن وجود العلم وكيف ّية وجوده‪ ،‬وهل هو ّ‬
‫عرض؟ وهل هو من مقولة الكيف أم اإلضافة أم غريمها من املقوالت؟‬
‫جوهر أم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أم ما ّدي؟‬
‫بأي من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وبصورة عا ّمة ُيبحث يف الفلسفة عن علم الوجود املعريف‪ ،‬وال ربط له ٍّ‬
‫الصور الذهن ّية واملعارف الكاشفة عن الواقع بام هو وغريها‪ ،‬الختصاص البحث يف‬
‫هذه املسائل بنظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫أن هذا العلم من‬ ‫أيضا‪ّ ،‬إال أنّه ُيالحظ ّ‬
‫‪ .4‬يتناول علم النفس اإلدراكي املعرفة ً‬
‫سنخ الدرجة األُوىل ّأو ًال‪ ،‬كام تفرتق حيث ّية النظر إىل املعرفة فيه عن حيث ّية النظر يف‬
‫نظر ّية املعرفة ثان ًيا‪.‬‬
‫تكون أقسام املعرفة‪،‬‬
‫يتناول علم النفس اإلدراكي طرق بلورة املعرفة‪ ،‬وزمان ّ‬
‫احلواس اخلمس بالدماغ واألعصاب ونحو ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وارتباط‬
‫‪31‬‬ ‫مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫صحة املعرفة أو مطابقتها‬


‫أ ّما يف نظر ّية املعرفة فالغرض األسايس هو البحث يف ّ‬
‫اإلدراكي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أثر يف علم النفس‬
‫عني وال ٌ‬
‫مع الواقع‪ ،‬وهذا البحث ليس له ٌ‬
‫كال منهام من‬ ‫أن ًّ‬
‫‪ .5‬هناك عالق ٌة وثيق ٌة بني نظر ّية املعرفة وفلسفة العلم؛ لوضوح ّ‬
‫وأن منهج البحث يف كليهام عقيل‪ ،‬مع فارق ّ‬
‫أن نظر ّية املعرفة‬ ‫معارف الدرجة الثانية‪ّ ،‬‬
‫معرف ٌة مطلق ٌة وفلسفة العلم معرفة مق ّيد ٌة ومضاف ٌة‪.‬‬
‫‪ .6‬لفلسفة األخالق وفلسفة الدين عالق ٌة وطيدة ً‬
‫أيضا بنظر ّية املعرفة؛ بداهة‬
‫تناول ٍّ‬
‫كل منهام بح ًثا معرف ًّيا عن املفاهيم والقضايا األخالق ّية والدين ّية‪.‬‬
‫تصوراتنا يف قضايا فلسفة‬
‫مبارشا عىل ّ‬
‫ً‬ ‫تأثريا‬ ‫‪ّ .7‬‬
‫إن ملوقفنا ّتاه مباحث علم املعرفة ً‬
‫األخالق وفلسفة الدين‪.‬‬
‫***‬

‫قامئة املصادر‬
‫‪ .1‬برتراند راسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغرب ّية‪ ،‬ترمجة نجف دريابندري‪ ،‬طهران ن نرش بروانه‪.1373 ،‬‬
‫‪ .2‬حسن مع ّلمي‪ ،‬نظرة إىل نظر ّية املعرفة يف الفلسفة اإلسالم ّية‪ .‬طهران‪ ،‬حتقيقات الثقافة والفكر‬
‫اإلسالمي‪.1378 ،‬‬
‫‪ .3‬ديفيد هاملني‪ ،‬تاريخ نظر ّية املعرفة‪ .‬ترمجة شابور اعتامد‪ ،‬طهران‪ ،‬حتقيقات العلوم اإلنسانية‬
‫واملطالعات الثقافية‪.1374 ،‬‬
‫‪ .4‬فردريك كايلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬ترمجة جالل الدين جمتبوي‪ ،‬طهران‪ ،‬نرش العلمي والثقايف‪،‬‬
‫‪.1362‬‬
‫‪5. D. D. Runes (ed.), The Dictionary of Philosophy (London: Vision Press,‬‬
‫‪1942),.‬‬
‫***‬
‫‪ّ2‬‬
‫( *)‬
‫أدوات املعرفة ومراحلها‬

‫(**)‬
‫المرجعٌالدينيٌالشيخٌجعفرٌالسبحاني‬

‫(*) مصدر البحث‪ :‬نظر ّية املعرفة‪ :‬املدخل اىل العلم والفلسفة‬
‫واإللهيات‪( ،‬الفصل الرابع)‪ .‬بقلم الشيخ حسن ميك العاميل‪.‬‬
‫إيران‪ :‬قم‪ ،‬مؤسسة اإلمام الصادق‪1429 ،‬هـ‪.‬‬
‫(**) من مـراجـع التـقـليـد الشـيعـة ‪ /‬قــم املـقـدسـة‪.‬‬
‫الـمـلـ ّخـص‬
‫تشكّل أدوات املعرفة عند اإلنسان طري ًقا إلدراك املعارف واكتساهبا‪ ،‬إذ من دوهنا‬
‫ال يمكن حتصيل املعرفة‪ ،‬ويف هذا البحث يعدّ آية اهلل السبحاين احلس‪ ،‬والقلب‪،‬‬
‫واإلهلام‪ ،‬واإلرشاق‪ ،‬والوحي‪ ،‬من أبرز أدوات املعرفة باإلضافة إىل التمثيل واالستقراء‬
‫واحلس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جيا من العقل‬
‫والتجربة‪ ،‬عا ًّدا الثالثة األخرية مز ً‬
‫احلس يتجهز العقل اإلنساين بالبدهي ّيات والنظر ّيات واملسلامت‪،‬‬
‫بوساطة أدوات ّ‬
‫احلس طري ًقا منفر ًدا لتحصيل املعرفة‪ ،‬وإنّام هو قاعد ٌة تستند إليها األدوات‬
‫ّ‬ ‫وليس‬
‫التصورات‬
‫ّ‬ ‫فاحلس هو البنية األساس ّية التي تقوم عىل معطياهتا‬
‫ّ‬ ‫املعرف ّية األخرى‪،‬‬
‫التصورات عنها‪ .‬أ ّما العقل‬
‫ّ‬ ‫احليس ال يتعدّ ى املحسوسات‪ ،‬ونقل‬ ‫البرش ّية‪ ،‬واإلدراك ّ‬
‫ّخذا من االستنتاج وإدراك املفاهيم‬ ‫ٍ‬
‫إدراك إىل آخر‪ ،‬مت ً‬ ‫فمجاله اإلدراك واالنتقال من‬
‫ً‬
‫وجماال ينتقل هبا‬ ‫الكل ّية‪ ،‬والتجزئة والتحليل والرتكيب ساح ًة لعمل ّياته العقل ّية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫فكرة إىل أخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫معلومة أو‬ ‫لتحصيل املعرفة من‬
‫يشء إىل ٍ‬
‫يشء آخر‬ ‫ويعدّ التمثيل أدا ًة للمعرفة بام له من منهجي ٍة يف إرساء حك ٍم من ٍ‬
‫ّ‬
‫معرفة أسبق‪ ،‬فام يثبت لألصل يثبت للفرع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مشرتكة بينهام؛ فهو ّيولد املعرفة من‬ ‫ٍ‬
‫جلهة‬
‫احلس‪ ،‬ومن جهة إحراز‬ ‫ّ‬ ‫حتصل املعرفة بأداة‬
‫فمن جهة املشاهبة بني األصل والفرع ّ‬
‫حتصل املعرفة بأداة العقل‪ .‬وعىل‬
‫بأن الفرع مثل األصل يف احلكم ّ‬ ‫املالك يف ثبوت احلكم ّ‬
‫هذا املبدأ جاء االستقراء والتجربة من خالل اجتامع اجلزئ ّيات لتوليد معرفة كل ّية‪.‬‬
‫تتطهر‬
‫يتجهز هبام من ّ‬
‫ّ‬ ‫أيضا اإلهلام واإلرشاق اللذان‬
‫ومن أدوات املعرفة األخرى ً‬
‫قلوهبم‪ ،‬وتصفو أذهاهنم لتتل ّقى املعارف ممّا وراء الطبيعة‪ ،‬ال س ّيام عند اإلهليني ال‬
‫حس وال‬
‫خاص وليس كسائر أدوات املعرفة‪ ،‬فال هو ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫إدراك‬ ‫املا ّديني‪ .‬وأ ّما الوحي فهو‬
‫شك فيه‪ ،‬وال حيتاج إىل إعامل ٍ‬
‫نظر‪ ،‬أو التامس دليل‪.‬‬ ‫عقل‪ ،‬وال ُيغلط يف إدراكه‪ ،‬وال ُي ّ‬‫ٌ‬
‫األول من البحث‪ ،‬أ ّما عن القسم الثاين منه فهو مراحل املعرفة‪،‬‬
‫ما تقدّ م هو القسم ّ‬
‫بأهنا مرحل ٌة‬
‫تضمن بيان األقوال املختلفة يف مراحل املعرفة‪ ،‬التي كانت بني قول ّ‬
‫وقد ّ‬
‫احلس أو العقل ‪ -‬فديكارت ً‬
‫مثال‬ ‫واحدةٌ؛ ّ‬
‫ألن أداة املعرفة عنده واحدة‪ ،‬كأن تكون ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪36‬‬

‫ألن أدوات املعرفة عنده‬ ‫ٍ‬


‫وقول آخر بتعدّ دها؛ ّ‬ ‫يقول بانحصار املعرفة بأداة العقل‪-‬‬
‫األول فهو اّتاه أصحاب الفلسفة‬
‫متعدّ دة‪ ،‬وهذا القول فيه ثالثة اّتاهات‪ :‬االجتاه ّ‬
‫قسموا مراحل املعرفة إىل ثالث مراحل‪ّ :‬أوهلا املعرفة احلس ّية التي ال‬ ‫العلم ّية الذين ّ‬
‫احلس‪ ،‬وثانيها املعرفة العلم ّية‪ ،‬التي حتصل حينام يستطيع العقل انتزاع مفهو ٍم‬
‫تتجاوز ّ‬
‫ٍ‬
‫وقانون عا ٍّم بسبب تكرار العمل عليه يف ظروف شتّى‪ ،‬وثالثها املعرفة الفلسف ّية‬ ‫كيل‬
‫ٍّ‬
‫املنتزعة من مجيع العلوم‪.‬‬
‫أن‬‫أ ّما االجتاه الثان فهو اّتاه أصحاب الفلسفة املاد ّية الديالكتيك ّية‪ ،‬الذين يرون ّ‬
‫تصوري للمعلومات‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حتصيل ّ‬ ‫احلس إذ تبتني عىل‬
‫مراحل املعرفة ثالث‪ ،‬وهي مرحلة ّ‬
‫ومرحلة التع ّقل وتأيت بعد معرفة تلك املعلومات والعلل الكامنة ورائها فهي مرحلة‬
‫صحة الفروض لتمييز الصحيح‬
‫إجياد الفروض‪ ،‬ومرحلة التجربة وهي مرحلة إثبات ّ‬
‫منها من الباطل‪.‬‬
‫وأ ّما ّ‬
‫االجتاه الثالث ممّن يرى تعدّ د مراحل املعرفة‪ ،‬فهو اّتاه الفالسفة اإلسالميني‬
‫أن مراحل املعرفة ثالث‪ :‬حس ّية‪ ،‬وعقل ّية‪ ،‬وآيو ّية‪ .‬فاحلس ّية منها تعتمد‬ ‫الذين يرون ّ‬
‫خاصا‪ ،‬وتتع ّلق بام يقع‬
‫احلواس الظاهر ّية؛ لذا فهي معرف ٌة جزئ ّي ٌة ال تتجاوز موضو ًعا ًّ‬
‫احليس فقط‪ ،‬وهي حمدود ٌة بالزمان واملكان واجلهة‪ .‬وأ ّما املعرفة العقل ّية فهي‬
‫يف اإلطار ّ‬
‫املفاهيم الكل ّية التصور ّية أو القضايا الكل ّية التصديق ّية التي يناهلا العقل‪ .‬واملعرفة‬
‫اآليو ّية هي االنتقال من املعرفة السطح ّية إىل املعرفة العميقة عرب االستدالل باآلثار عىل‬
‫صاحبها‪ ،‬وباملحسوس عىل غري املحسوس‪ ،‬مثل االستدالل بإتقان الصنع عىل علم‬
‫الصانع وقدرته‪ ،‬وقد ركز القرآن الكريم عىل هذا النوع من املعرفة بالدعوة إىل النظر‪،‬‬
‫والتد ّبر يف اآلثار الكون ّية‪ ،‬لالستدالل عىل حكمة اهلل‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وقدرته‪ ،‬ومجاله‪،‬‬
‫ال ألفا ًظا مثل (يتفك ُرون‪ ،‬يع ِق ُلون)‪ ،‬وغري ذلك من األلفاظ‬
‫وإتقانه‪ ،‬وجربوته‪ ،‬مستعم ً‬
‫التي تقارهبا يف املعنى والداللة‪.‬‬
‫الـ ُمـحــ ِّرر‬
‫ّ‬‫القـســم األول‬
‫أدوات الـمـعــرفـة‬
‫صفرا من كل معرفة‪ ،‬ثم يكتسب بعد ذلك مجيع علومه ومعارفه‬ ‫ّ‬
‫إن كل إنسان يولد ً‬
‫عـن طريـق أدوات خاصة تربـطه بالواقع الـخـارجـي وإلـى ذلك يشـري قوله سـبحانـه‪:‬‬
‫﴿ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ‬
‫ﲽ ﲾ ﲿ﴾(‪.)1‬‬
‫شذ يف هذا املجال من قال ّ‬
‫بأن النفس اإلنسانية كانت قبل تعلقها بالبدن‬ ‫وقد ّ‬
‫جمردة نورانية‪ ،‬فتعرفت عليها‪ ،‬وملا‬
‫متحرر ًة عن كل قيد‪ ،‬فأمكنها االتّصال بموجودات ّ‬
‫هبطت من ذلك املقام‪ ،‬وتع ّلقت بالبدن املادي‪ ،‬فقدت كل ما كانت تعلمه وذهلت عنه‬
‫ذهوال تا ًما‪ .‬وعندما تقع األشياء يف ُأفق ّ‬
‫حسها‪ ،‬تبدأ بتذكر ما كانت قد تعلمته من قبل‪،‬‬ ‫ً‬
‫وتسرتجع إدراكاهتا بصورة مفاهيم كلية‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬فليس ألدوات املعرفة دور سوى‬
‫إلفات النفس إىل العامل ا ّلذي هبطت منه‪ ،‬لتستذكر ما كانت قد نسيته‪.‬‬
‫ولو أغمضنا النظر عن هذه النظرية‪ ،‬نجد اتّفاق الكل عىل ّ‬
‫أن مجيع املعارف‬
‫واإلدراكات يكتسبها اإلنسان عن طريق أدوات املعرفة‪ ،‬ولو ال ّتهز اإلنسان هبا لكان‬
‫صفرا من كل معرفة‪.‬‬
‫ً‬
‫أن الفالسفة اختلفوا يف تعيني األدوات ا ّلتي يكتسب اإلنسان هبا معارفه‬
‫غري ّ‬
‫وإدراكاته‪ ،‬وانقسموا إىل طوائف‪:‬‬
‫‪ .1‬طائفة جينحون إىل احلس ويرونه الرصيد الوثيق لالتّصال باخلارج واإلذعان به‪،‬‬
‫وهؤالء هم احلس ّيون‪.‬‬
‫‪ .2‬وطائفة يركزون عىل العقل ويرونه األداة الوحيدة لكسب املعارف‪ ،‬وهؤالء هم‬
‫العقليون‪.‬‬
‫‪ .3‬وطائفة ثالثة يرفضون احلس والعقل ويركزون عىل اإلهلام واإلرشاق‪ ،‬وهؤالء‬
‫هم اإلرشاقيون‪.‬‬
‫)‪ (1‬النحل‪.78 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪38‬‬

‫ويف ضوء ذلك‪ ،‬ال بدّ لنا من حتليل أدوات املعرفة‪ ،‬واحدة بعد األُخرى لنستكشف‬
‫مدى اعتبار كل منها‪.‬‬
‫***‬
‫األوىل‪ :‬الـحـس‬
‫احلس يقع ضمن ُأمور‪:‬‬
‫البحث يف أداة ّ‬
‫الحس من أدوات املعرفة‬
‫ّ‬ ‫األمر األ ّول‪:‬‬
‫احلس من أوثق مصادر املعرفة‪ ،‬إليه تنتهي كل املعارف الرضورية والنظرية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولواله ملا كانت هناك معرفة عقلية وال إرشاقية‪ .‬وهذا ال يعني انحصار أداة املعرفة به‪،‬‬
‫فإن هذا ضالل وخداع‪ ،‬بل إ ّن لنا إىل ذلك‬ ‫وأنّه ليس لنا إىل دار املعرفة طريق سواه‪ّ ،‬‬
‫أن إعامل األدوات األُخر يتوقف عىل ّ‬
‫ّتهز‬ ‫أن املراد هو ّ‬
‫طر ًقا خمتلفة يأيت بياهنا‪ ،‬بيد ّ‬
‫ألن ذلك ك ّله معدّ إلدراك العقل‬
‫احلس‪ ،‬وارتباطه باملحسوسات‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان بأدوات‬
‫علام‪ .‬ولو ُوجد إنسان فاقدٌ‬
‫حسا فقد فقد ً‬
‫البدهييات والنظريات‪ .‬ولذلك قيل‪ :‬من فقد ًّ‬
‫عاجزا عن تصور املعارف البسيطة ً‬
‫فضال عن املعارف النظرية‬ ‫ً‬ ‫جلميع احلواس‪ ،‬لكان‬
‫الدقيقة‪.‬‬
‫الحيس قيمة علمية؟‬
‫ّ‬ ‫األمر الثان‪ :‬هل لإلدراك‬
‫قد سبق أن وقوف اإلنسان عىل بعض األخطاء يف اإلدراكات احلس ّية خري دليل‬
‫أن هناك حقائق مس ّلمة تدركها البارصة بالعني‪ ،‬والسامعة باألُذن‪ ،‬والالمسة باليد‬
‫عىل ّ‬
‫وغريها‪ ،... ،‬إذ لو ال كونه كاش ًفا عن املعرفة الصحيحة‪ ،‬فمن أين وقف عىل ّ‬
‫أن هذا‬
‫احليس أو ذاك خطأ غري صحيح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلدراك‬
‫باحلس أن يعطوا‬
‫ّ‬ ‫وقد كان املرتقب من احلسيني الذين حيرصون أدوات املعرفة‬
‫املعرفة احلس ّية سمة املعرفة اليقينية الصحيحة‪ ،‬ولكنهم ذهبوا إىل خالفه‪ ،‬وحرصوا‬
‫قيمتها يف اإلعانة عىل ُأمور احلياة ومشاكلها‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬كام عرفته يف فلسفتي «ديكارت» و‬
‫حس اإلنسان ال يعدو عن كونه يدفع عنه أمل اجلوع‪ ،‬والعطش‪،‬‬
‫«لوك»‪ .‬فكل ما يؤ ّديه ّ‬
‫‪39‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫والربد القارس‪ ،‬واحلرارة الالفحة‪ ..‬ويساعده عىل متييز النافع من الضار‪ ،‬واملصالح من‬
‫وأهنا تنتهي إىل الشك يف كثري من املجاالت‪.‬‬
‫املفاسد‪ .‬وقد وقفت عىل فساد هذه النظرية ّ‬
‫الحس هو األداة الوحيدة لإلدراك؟‬
‫ّ‬ ‫األمر الثالث‪ :‬هل‬
‫ّ‬
‫إن احلسيني ويف مقدمهم «جان لوك» حاولوا إرجاع مجيع التصورات واألفكار‬
‫احلس‪ ،‬وقد شاعت هذه النظرية بعده بني فالسفة أوروبا وقضت إىل حدّ ما عىل‬ ‫إىل ّ‬
‫نظرية األفكار الفطرية ا ّلتي كان يقول هبا «ديكارت»(‪.)1‬‬
‫وحاصل هذه النظرية ّ‬
‫أن ذهن اإلنسان حني يولد يكون خال ًيا من كل معرفة‪ ،‬ثم‬
‫تبدأ صور األشياء املحسوسة باالنتقاش فيه من خالل ما يرد إليه عن طريق احلواس‪.‬‬
‫وبعد ذلك يأيت دور العقل والفكر‪ ،‬وهو ال خيرج عن أحد األمرين التاليني‪ :‬الرتكيب‬
‫والتجزئة؛ والتجريد والتعميم‪.‬‬
‫أ ّما عمل الذهن يف جمال التجزئة والرتكيب‪ ،‬فكام لو رأى عن طريق البارصة ً‬
‫جبال‬
‫وذه ًبا يف اخلارج‪ ،‬فريكب الذهن بينهام ويتصور ً‬
‫جبال من ذهب‪ .‬أو يرى حيوانًا‬
‫فيجزئهام إىل أعضاء وأجزاء‪.‬‬
‫وشجرا‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫وجيردها عن‬ ‫وأ ّما عمله يف جمال التجريد والتعميم فهو ّ‬
‫بأن يفرز خصائص الصور ّ‬
‫عام حييط‬
‫فيجردهم ّ‬
‫وبكرا‪ِّ ،‬‬
‫وعمرا ً‬
‫ً‬ ‫مشخصاهتا ويرتك مفاهيمها العامة‪ ،‬كام إذا رأى زيدً ا‬
‫باحلس ليس فكرة جديدة ظهرت بني األوروبيني‪ ،‬بل هلا جذور يف التاريخ‪ .‬فإن «السمنِ ّية»‬
‫ّ‬ ‫إن حرص مناشئ العلم‬ ‫)‪ّ (1‬‬
‫من حكامء اهلند والصني‪ ،‬زعموا أنّه ال ُيعلم يشء ّإال من طريق احلواس اخلمس‪ ،‬وأبطلوا العلوم النظرية‪ .‬وألجل‬
‫ذلك شطبوا عىل املذاهب ك ّلها‪.‬‬
‫صحة مذهبكم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫(املتوّف ‪ 429‬هـ)‪« :‬ويلزمهم عىل هذا القول إبطال مذهبهم‪ ،‬إذ يقال هلم‪ :‬بامذا عرفتم ّ‬ ‫قال البغدادي‬
‫فإن قالوا‪ :‬بالنظر واالستدالل‪ ،‬لزمهم إثبات النظر واالستدالل طري ًقا إىل العلم بصحة يشء ما‪ ،‬وهذا خالف قوهلم‪.‬‬
‫باحلس يشرتك يف معرفته أهل احلواس السليمة‪ ،‬فام بالنا ال نعرف صحة قولكم‬
‫ّ‬ ‫باحلس‪ ،‬قيل هلم‪ّ :‬‬
‫إن العلم‬ ‫ّ‬ ‫وإن قالوا‪:‬‬
‫باحلس‪ ،‬ولكنكم جحدّ تم ما عرفتموه‪ ،‬مل ينفصلوا ممن عكس‬
‫ّ‬ ‫بحواسنا‪ .‬فإن قالوا‪ :‬إنّكم قد عرفتم صحة قولنا‪،‬‬
‫عليهم هذه الدعوى وقال هلم‪ :‬بل أنتم عارفون بصحة قول خمالفيكم وفساد قولكم بالرضورة احلس ّية‪ ،‬ولكنكم‬
‫حسا»‪( .‬الحظ‪ُ :‬أصول الدين‪.)11-10 :‬‬‫جحدّ تم ما عرفتموه ًّ‬
‫ويف هذه املناسبة نذكر ّأهنم اختلفوا يف الفاضل من العلوم احلسية والنظرية‪ ،‬فقدّ م أبو العباس القالنيس العلوم النظرية‬
‫ألهنا ُأصول هلا‪( .‬املصدر السابق‪.)10 :‬‬ ‫عىل احلس ّية‪ ،‬وقدّ م أبو احلسن األشعري العلوم احلس ّية عىل النظرية ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪40‬‬

‫هبم ويالبسهم من املشخصات‪ ،‬ويأخذ بالقدر املشرتك وهو اإلنسانية‪ .‬وهكذا احلال‬
‫احلس‪.‬‬
‫يف سائر أدوات ّ‬
‫وقد اشتهر قول املبرش هبذه النظرية‪« :‬ليس من يشء يف العقل ّإال وله أثر يف ّ‬
‫احلس»‪.‬‬
‫احلس ومعطياته‪،‬‬
‫وعىل ضوء ما تقدم يكون الرصيد الوحيد للمعارف البرشية هو ّ‬
‫وأ ّمـا دور الذهـن والعقل فينـحصـر فـي األُمور األربعة‪ :‬التجـزئـة والرتكيب والتـجـريد‬
‫والتعمـيم‪.‬‬
‫وحتليل هذه النظرية يقع ضمن األُمور التالية‪:‬‬
‫أقرت به‬ ‫إن ما ذكروه من ّ‬
‫أن اإلنسان يولد خايل الذهن عن كل معرفة‪ ،‬أمر مسلم ّ‬ ‫‪ّ .1‬‬
‫ورصح به الذكر احلكيم كام تقدّ م(‪ ،)1‬وإليه يشري قول أمري املؤمنني‬
‫الفالسفة مجي ًعا‪ّ ،‬‬
‫عيل بن أيب طالب‪« :‬وإنّام قلب احلدث كاألرض اخلالية»(‪.)2‬‬
‫احلس هو الينبوع األسايس للتصورات والتصديقات البدهيية‬‫أن ّ‬ ‫‪ .2‬من املس ّلم ً‬
‫أيضا ّ‬
‫احلس‪ ،‬ال يستطيع أن يتصور املعاين الكل ّية‬ ‫والنظرية ّ‬
‫وأن من حرم لونًا من ألوان ّ‬
‫احلس اخلاص‪ ،‬ومن فقد مجيع حواسه‪ ،‬عجز عن إدراك أبسط‬
‫ذات العالقة بذلك ّ‬
‫املعارف وتصورها‪.‬‬
‫‪ .3‬إنّا نفنّد حتديد دور العقل يف جمال املعرفة بالتجزئة والرتكيب‪ ،‬والتجريد والتعميم‪،‬‬
‫احلس هو الينبوع األسايس للتصورات‪ ،‬ال يسلب عن الذهن قدرة‬ ‫بأن ّ‬‫فإن القول ّ‬‫ّ‬
‫باحلس‪ ،‬فليس من الرضوري أن يكون قد سبق‬
‫ّ‬ ‫توليد معان جديدة مل تدرك‬
‫تصوراتنا البسيطة مجي ًعا‪ ،‬اإلحساس بمعانيها‪.‬‬
‫فاحلس‪ ،‬عىل ضوء ما أثبتته التجارب‪ ،‬هو البنية األساسية ا ّلتي يقوم عىل قاعدهتا‬
‫رصح التصورات البرشية‪ ،‬ولكن ذلك ال يعني ّتريد الذهن عن ابتكار تصورات‬
‫احلس‪ .‬كيف‪ ،‬وقد سبق منا‬
‫وتصديقات جديدة عىل ضوء التصورات املستوردة من ّ‬
‫القول ‪-‬عند البحث عن تعريف العلم‪ّ -‬‬
‫بأن هناك مفاهيم تصورية باسم املعقوالت‬
‫)‪ (1‬النحل‪.78 :‬‬
‫)‪ (2‬هنج البالغة‪ ،‬الكتاب ‪ :31‬كتابه ‪ - -‬لولده احلسن ‪.- -‬‬
‫‪41‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫احلس واخلارج‪ ،‬كام ّ‬


‫أن‬ ‫الثانوية‪ ،‬تناهلا النفس وتقف عليها من دون أن يكون هلا أثر يف ّ‬
‫هناك تصديقات تنالـها النفس من دون أن تعتمد فـي نيلها عىل اإلدراكات الـحسـية‪،‬‬
‫كاحلكم بامتناع اجتمـاع النقيضني وارتفاعهمـا‪ ،‬أو امتناع الدور والتسلسل‪ .‬فمحـاولة‬
‫احلس‪ ،‬بنحو من األنحاء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احلسيني إرجاع كل الـمعارف التصورية والتصديقية إىل‬
‫حماولة فاشلة‪ .‬وسيوافيك بيان واف عند البحث عن العقل‪.‬‬
‫فالفرق ‪-‬إذن‪ -‬بني منهجنا ومنهج احلسيني هو ّأهنم حيرصون أداة املعرفة به‪ ،‬بينام‬
‫احلسية ممهدة لتسنّم العقل منصة إدراك أمور ليس هلا يف اخلارج من‬
‫نحن نجعل املعرفة ّ‬
‫أثر‪ ،‬يف جمايل التصور والتصديق‪ ،‬عىل ما عرفت‪ .‬وكم فرق بني حرص املعرفة باحلس ّية‬
‫احلس ومعارفه ممهدة حلصول معارف‬
‫ّ‬ ‫فقط وحرص أدواهتا باحلس فحسب؛ وجعل‬
‫أرقى وأعىل‪ ،‬كام عليه فالسفة اإلسالم‪.‬‬
‫***‬
‫الثانية‪ :‬العقل‬
‫احلس ال يتعدى‬
‫ّ‬ ‫احلس‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫العقل من أدوات املعرفة‪ ،‬ويتم ّيز عمله عن عمل ّ‬
‫املحسوسات‪ ،‬بل يقترص عمله عىل نقل صور عنها من دون أن يكشف عن يشء آخر‬
‫سوى ما تع ّلق به‪.‬‬
‫أ ّما العقل‪ ،‬فاألمر فيه عىل العكس تـام ًما‪ ،‬فإنّه ينتقل من إدراكات إىل ُأخرى‪،‬‬
‫بعمليات متعددة ستقف عليها‪.‬‬
‫عمليات العقل‬
‫أ ّو ًل‪ :‬السـتــنتــاج‬
‫كيل مستنبط‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مشخص‪ ،‬من حكم ّ‬ ‫املراد من االستنتاج استخراج حكم موضوع‬
‫يسمى بالقياس الربهاين يف‬
‫وهذا من أسمى عمليات العقل يف جمال املعارف‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫اصطالح املنطقيني(‪.)1‬‬
‫)‪ّ (1‬‬
‫إن القياس إذا كان برهان ًيا‪ ،‬فبام أنّه يتألف من اليقينيات وأصوهلا الستة املتقدمة‪ ،‬فهو يفيد اليقني‪ .‬وأ ّما األقسام‬
‫األُخرى للقياس وهي‪ :‬اجلدل والسفسطة واخلطابة والشعر‪ ،‬فك ّلها وإن كانت من عمليات العقل يف جمال =‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪42‬‬

‫فالعقل يف هذه العملية ينتقل من حكم ّ‬


‫كيل إىل حال موضوع خاص‪ ،‬وألجل‬
‫إيضاحه نرضب بعض األمثلة‪:‬‬
‫أن لكل ظاهرة طبيع ّية‪ ،‬عل ٌة‪ ،‬حيكم ّ‬
‫بأن للثورة‬ ‫مثال ّأول‪ :‬إذا وقف العقل عىل ّ‬
‫الفرنسية ع ّلة‪ ،‬وللحريق الواقع يف غابة أو معمل سبب‪ ،‬كام حيكم ‪-‬يف ظل هذه القاعدة‬
‫لكل موجود إمكاين‪ ،‬كاإلنسان واحليوان والنبات واجلامد‪ ،‬ع ّل ًة أخرجته‬
‫بأن ِّ‬
‫الكل ّية‪ّ -‬‬
‫من كتم العدم إىل ساحة الوجود‪.‬‬
‫مثال ثان‪ُ :‬أفرض ّ‬
‫أن اإلنسان وقف عن طريق الربهان عىل ّ‬
‫أن زوايا املثلث تساوي‬
‫استقر عقله عىل هذا احلكم ّ‬
‫الكيل‪ ،‬فكل مثلث ُيعرض عليه يف أي‬ ‫ّ‬ ‫‪ 180‬درجة‪ .‬وقد‬
‫حصله بالربهان‪ّ -‬‬
‫بأن زواياه ‪ 180‬درجة‪.‬‬ ‫نقطة من نقاط الدنيا‪ ،‬حيكم ‪-‬بفضل ما ّ‬
‫التغري يالزم احلدوث‪،‬‬
‫أن ّ‬ ‫مثال ثالث‪ :‬إذا استخرج عن طريق الربهان الفلسفي ّ‬
‫متغري حادث‪ .‬ويف‬
‫أن كل ّ‬ ‫حكام كل ًّيا من الربهان‪ ،‬وهو ّ‬
‫أي الوجود بعد العدم‪ ،‬فيستنبط ً‬
‫وأرضه‪ ،‬ذرتِه‬
‫ِ‬ ‫الكيل‪ ،‬كلام ُعرض عليه جزء من هذا العامل املتغري‪ ،‬سامئِه‬
‫ضوء هذا احلكم ّ‬
‫وجمرتِه‪ ،‬حيكم بأنّه حادث‪.‬‬
‫وقس عىل ذلك مجيع الرباهني العقلية يف جمال الرياضيات والفلسفة واالجتامع‪،‬‬
‫فالعقل ُحي ِرض احلكم ّ‬
‫الكيل عن طريق الربهان ثم يطبقه عىل املوارد املعروضة عليه‪.‬‬
‫بأن الدور حمال‪ .‬وذلك ّ‬
‫ألن معنى‬ ‫مثال رابع‪ :‬العقل حيكم عن طريق الربهان ّ‬
‫الدور أن يتوقف (أ) عىل (ب)‪ ،‬ويف الوقت نفسه يتوقف (ب) عىل (أ) فتوقف (أ) عىل‬
‫ومفاضا عنه‪ ،‬فيستلزم تقدّ م (ب) عىل (أ) زمانًا أو‬
‫ً‬ ‫(ب)‪ ،‬معناه كون وجوده ناش ًئا منه‬
‫رتبة‪ .‬فلو فرضنا يف الوقت نفسه توقف (ب) عىل (أ) ‪-‬ا ّلذي معناه تأخر (ب) عن (أ)‬
‫لكون وجوده ناش ًئا منه‪ -‬يلزم أن يكون يشء واحدٌ ‪ ،‬يف آن واحد‪ ،‬وحلاظ فارد‪ ،‬متقد ًما‬
‫ومتأخرا‪ ،‬وليس هذا ّإال اجتامع للمتضادين وهو حمال‪ .‬وكل ما استلزم املحال‪ ،‬حمال‪،‬‬
‫ً‬
‫فالدور حمال‪.‬‬

‫ألن اجلديل يتألف من املشهورات واملس ّلامت‪ ،‬والسفسطي من الومهيات‬


‫= االستنتاج‪ ،‬لكنها ال تفيد اليقني‪ّ ،‬‬
‫واملشبّهات‪ ،‬واخلطايب من املقبوالت واملظنونات‪ ،‬والشعر من املخيّالت‪ ،‬ولذا اقترصنا هنا عىل الربهاين‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فهذا ما يستلزمه الدور‪ .‬وعىل ضوئه‪ ،‬ف ُكل فرضية علمية تعرض عىل العقل‪،‬‬
‫بأهنا حمال‪ ،‬من غري فرق بني أن تكون يف باب‬
‫وكانت متضمنة للدور‪ ،‬حيكم العقل ّ‬
‫الطبيعيات أو الرياضيات أو اإلهليات‪.‬‬
‫وفيام ذكرناه من األمثلة كفاية يف تبيني هذا النوع من عمليات العقل‪ .‬نعم‪ ،‬ها هنا‬
‫إشكال باسم مشكلة الدور يف طريق االستنتاج‪ ،‬نتعرض هلا‪.‬‬
‫مشكلة الدور وحلـها‬
‫كيل‪ ،‬وهي‪:‬‬‫ذكروا مشكلة يف طريق استنتاج حكم موضوع من حكم ِّ‬
‫ّ‬
‫إن استكشاف حكم املوضوع املفروض‪ ،‬يتوقف عىل احلكم الكيل احلاصل لدى‬
‫العقل‪ ،‬مع ّ‬
‫أن كل ّية هذا احلكم وصدقه عىل وجه العموم‪ ،‬يتوقف عىل إحراز وضع هذا‬
‫املوضوع املطروح‪ ،‬ولوال تبيني حاله‪ ،‬ملا كان للعقل احلكم بالكل ّية‪ ،‬فاملعرفة العقلية عن‬
‫هذا الطريق تستلزم الدور‪.‬‬
‫أي درجة من احلرارة‬ ‫ً‬
‫مثال‪ :‬إذا أردنا أن نعرف حال املاء املاثل بني أيدينا‪ ،‬وأنّه عىل ِّ‬
‫بأن كل ماء يغيل عىل درجة (‪ .)100‬مع‬ ‫الكيل القائل ّ‬
‫يغيل‪ ،‬نستكشف حاله من احلكم ّ‬
‫بأن ّ‬
‫كل فرد من أفراد املياه‪،‬‬ ‫أن العلم هبذا احلكم‪ ،‬بوصف الكل ّية‪ ،‬يتوقف عىل العلم ّ‬ ‫ّ‬
‫حتّى هذا الفرد املاثل بني أيدينا‪ ،‬يغيل عند هذه الدرجة‪ .‬فلزم توقف التعرف عىل حكم‬
‫الكيل‪ ،‬مع ّ‬
‫أن العلم بكليته وعمومه وشموله‪ ،‬يتوقف‬ ‫اجلزئي‪ ،‬عىل العلم هبذا احلكم ّ‬
‫عىل التعرف عىل حكم هذا املاء املاثل بني أيدينا‪ ،‬ا ّلذي نريد أن نتعرف عليه‪ .‬وهذا ما‬
‫أن االستدالل بالعقل عن طريق الشكل األول يستلزم الدور‪.‬‬ ‫يقال من ّ‬
‫ففي املثال املتقدم‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا‪ ،‬ما ٌء يغيل‪.‬‬
‫‪ -‬وكل ماء يغيل‪ ،‬درجة حرارته (‪.)100‬‬
‫فهذا‪ ،‬درجة حرارته )‪.(100‬‬
‫فالعلم بالنتيجة موقوف عىل العلم بكل ّية الكربى‪ ،‬كام ّ‬
‫أن العلم هبا موقوف عىل‬
‫العلم بالنتيجة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪44‬‬

‫وهذا إشكال معروف طرحه الفالسفة اإلسالميون يف كتبهم وأجابوا عنه‪ ،‬وقد‬
‫روي ّ‬
‫أن الشيخ العارف‪ ،‬أبا سعيد بن أيب اخلري (ت‪440:‬هـ)‪ ،‬أورد هذه الشبهة عىل‬
‫رئيس احلكامء ابن سينا إلثبات ّ‬
‫أن الفكر غري موصل لإلنسان إىل استكشاف املجاهيل‪،‬‬
‫ألن االستنتاجات ك ّلها حتصل من طريق الشكل األول‪ ،‬واألشكال الثالثة األُخرى‬
‫ّ‬
‫منتهية إىل األول‪ ،‬وهو مستلزم للدور‪.‬‬
‫الجواب‬
‫ُأجيب عن هذه املشكلة بوجوه خمتلفة‪ ،‬أظهرها ّ‬
‫أن العلم بالنتيجة‪ ،‬وإن كان‬
‫موقو ًفا عىل العلم بكلية الكربى‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن العلم بكل ّية الكربى موقوف عىل الربهان‬
‫ّ‬
‫الدال عىل املالزمة بني بلوغ احلرارة درجة (‪ ،)100‬وغليان املاء‪ ،‬من غري‬ ‫العلمي‬
‫مالحظة مصداق دون مصداق‪ .‬فليست صحة الكربى وال كليتها متوقفتان عىل العلم‬
‫أن هذا احلكم‪ ،‬حكم ّتريبي‪،‬‬ ‫بالنتيجة أبدً ا‪ ،‬بل متوقفتان عىل وجود تلك املالزمة‪ ،‬وبام ّ‬
‫يتوقف العلم بكليته عىل قياس عقيل‪ ،‬وهو ما قدمنا بيانه من ّ‬
‫أن حكم األمثال فيام جيوز‬
‫وال جيوز واحد‪ ،‬وال يتوقف أبدً ا عىل العلم بالصغرى‪.‬‬
‫وا ّلذي أوقعهم يف الشبهة‪ ،‬هو تومههم ّ‬
‫أن الكربى حصل هبا العلم من طريق‬
‫ً‬
‫تفصيال‬ ‫أن احلكم الكيل فيه‪ ،‬يتوقف عىل العلم بحكم املصاديق‬ ‫االستقراء‪ ،‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن العلم باحلكم الكيل‪ ،‬تارة حيصل‬‫إمجاال‪ ،‬فيلزم عندئذ الدور‪ .‬ولكنهم غفلوا عن ّ‬ ‫أو ً‬
‫من االستقراء التا ّم‪ ،‬فيحصل العلم بالنتيجة قبل العلم باحلكم الكيل‪ ،‬و ُأخرى بالربهان‬
‫ّ‬
‫الدال عىل املالزمة بني املوضوع‪ ،‬واملحمول‪ .‬ويف مثله‪ ،‬ال يتوقف العلم باحلكم الكيل‪،‬‬
‫تفصيال‪ ،‬بل إذا علم من طريق الربهان ّ‬
‫أن بني‬ ‫ً‬ ‫عىل العلم بأحكام األفراد‪ ،‬ال ً‬
‫إمجاال وال‬
‫غليان املاء‪ ،‬وبلوغه درجة حرارة (‪ )100‬مالزمة‪ ،‬حيكم ّ‬
‫بأن درجة احلرارة هي (‪)100‬‬
‫لكل مصاديق املاء ا ّلذي يغيل‪ .‬فالعلم بأحكام املصاديق‪ ،‬حيصل من العلم باحلكم‬
‫الكيل‪ ،‬ال العكس‪ ،‬كام هو مبنى الشبهة‪.‬‬
‫متغري حادث‪ ،‬فالعامل حادث‪ .‬هذا الربهان‬
‫متغري‪ ،‬وكل ّ‬
‫مثال‪ :‬إنّا نقول‪ :‬العامل ّ‬
‫مركب من صغرى وكربى‪ ،‬وكل منهام مربهن بالدليل العقيل‪ ،‬بالبيان التايل‪:‬‬
‫‪45‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أ ّما الصغرى‪ ،‬فقد كشفت نظرية احلركة اجلوهرية(‪ )1‬عن ّ‬


‫أن ذات املادة بصميمها‬
‫وجوهرها يف حالة السيالن والتدرج واحلدوث والزوال‪ّ ،‬‬
‫وأن احلركة ليست خمتصة‬
‫تعم صلبها وجوهرها كذلك‪ .‬فالكون بجميع‬ ‫بظواهرها وسطوحها (أعراضها)‪ ،‬بل ّ‬
‫وتغري مستمرين‪ ،‬وما ُيرتاءى للناظر من الثبات واالستقرار ليس ّإال من‬
‫ذراته يف حتول ّ‬
‫ّ‬
‫للتغري‬
‫ّ‬ ‫ذرات املادة‪ ،‬خاضعة‬
‫ذرة من ّ‬ ‫أن ّ‬
‫كل ّ‬ ‫خطأ احلواس وخداعها‪ ،‬ولكن احلقيقة ّ‬
‫اجلوهري‪.‬‬
‫متغري حادث»‪ّ ،‬‬
‫فإن املراد من املتغري يف موضوعها‪،‬‬ ‫«كل ّ‬‫وأ ّما الكربى‪ ،‬أعني كون ِّ‬
‫أيضا‪،‬‬‫واللب ً‬
‫ّ‬ ‫ليس هو املتغري يف الصفات واألعراض فحسب‪ ،‬بل املتغري يف الصميم‬
‫أن كل مرتبة متقدمة‪ ،‬حتتضن عد ًما‬‫املتغري هبذا املعنى مسبو ًقا بالعدم‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ّ‬ ‫فيكون‬
‫للوجود املتأخر‪ ،‬وليس احلدوث ّإال الوجود بعد العدم‪.‬‬
‫تغري يف الذات والصفات‪ ،‬حسب تلك النظرية التي أثبتتها الرباهني‪.‬‬ ‫فالعامل ُم ِّ ٌ‬
‫ٌ‬
‫حادث‪ ،‬إذ ليس احلدوث‬ ‫متغري يف الذات والصفات‪ ،‬بام أنّه مل يكن ثم كان‪،‬‬
‫وكل ّ‬
‫ّإال الوجود بعد العدم‪.‬‬
‫فينتج‪ّ :‬‬
‫أن العامل حادث‪.‬‬
‫فها إنّك ترى ّ‬
‫أن العلم بكل واحدة من الصغرى والكربى مل يتوقف عىل يشء‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬الفرق بني األحكام العقلية املعتمدة عىل الرباهني العقلية‪ ،‬واألحكام الكل ّية‬
‫احلس يف الصغرى‬ ‫ّ‬ ‫أن الرباهني العقلية ال تعتمد عىل‬ ‫املعتمدة عىل التجربة‪ ،‬هو ّ‬
‫احلس يف الصغرى‪ ،‬وعىل قياس‬ ‫والكربى‪ ،‬يف حني ّ‬
‫أن األحكام التجريب ّية تعتمد عىل ّ‬
‫خفي يف الكربى وهو ّ‬
‫أن حكم األمثال فيام جيوز وما ال جيوز واحد‪.‬‬ ‫عقيل ّ‬
‫هذا‪ّ ،‬‬
‫وإن األحكام العقلية عىل قسمني‪:‬‬
‫فتارة يكون موضوع الكربى ع ّلة للحكم يف الكربى‪ ،‬كام يف قولنا‪ :‬كل ّ‬
‫متغري حادث‪.‬‬
‫و ُأخرى تكون الع ّلة غري املوضوع املأخوذ يف الكربى‪ ،‬كام يف قولنا‪ :‬زوايا املثلث‬
‫مساوية لزاويتني قائمتني‪ ،‬فإنّنا نقول‪ :‬هذا مثلث‪ ،‬وكل مثلث تساوي زواياه زاويتني‬
‫)‪ (1‬الحظ األسفار‪ 280/7 :‬و ‪ 292‬و ‪ 293‬و ‪.297‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪46‬‬

‫قائمتني‪ ،‬فينتج‪ :‬هذا تساوي زواياه زاويتني قائمتني‪ .‬وا ّلذي ّ‬


‫يدل عىل صحة الكربى‬
‫هنا‪ ،‬إنّام هو الربهان اهلنديس ا ّلذي أثبت ّ‬
‫أن زوايا املثلث تتساوى مع الزاويتني‬
‫القائمتني (‪ 180‬درجة) من دون أن يتوقف العلم بالكربى عىل العلم بالنتيجة يف‬
‫تفصيال وال ً‬
‫إمجاال‪ .‬فافهم واغتنم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املثلث الشخيص‪ ،‬ال‬
‫ثان ًيا‪ :‬إدراك املفاهيم الكل ّية‬
‫من العمليات ا ّلتي يقوم هبا العقل‪ ،‬درك املفاهيم الكل ّية ا ّلتي ال تأبى الصدق‬
‫واالنطباق عىل ازيد من فرد واحد‪ .‬والضيق املوجود يف املفاهيم اجلزئية منتف فيها‪.‬‬
‫فاألعالم ال تصدق ّإال عىل من ُس ّميت به‪ ،‬بخالف «اإلنسان»‪ ،‬فهو ينطبق عىل أفراد‬
‫كثريين(‪.)1‬‬
‫ويف كيفية إدراك العقل نظريتان‪:‬‬
‫األُوىل‪ :‬نظرية التجريد واالنتزاع‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬نظرية تبديل املعرفة احلس ّية إىل املعرفة العقلية باخللق أو باالرتقاء من‬
‫درجة إىل درجة‪.‬‬
‫وإليك فيام ييل بياهنام‪.‬‬
‫النظرية األُوىل‪ :‬نظرية التجريد واالنتزاع‬
‫ِّ‬
‫واملشخصات‬ ‫حقيقة التجريد واالنتزاع قائمة عىل سلب العقل‪ ،‬اخلصوصيات‬
‫وبكرا متميزون يف‬
‫ً‬ ‫وعمرا‬
‫ً‬ ‫مثال‪ّ :‬‬
‫إن زيدً ا‬ ‫عن األفراد‪ ،‬واستخراج القدر املشرتك بينها‪ً .‬‬
‫جهات شتى من الطول والقرص والبياض والسواد وسائر اإلضافات‪ ،‬ومع ذلك يدرك‬
‫املسمى باإلنسانية‪ ،‬فينتزع‬
‫العقل أن بينها اشرتاكًا يف أمر يفصلها عن سائر األنواع‪ ،‬وهو ّ‬
‫ِّ‬
‫املشخصات‪.‬‬ ‫هذا املفهوم الكيل بعد ّتريد تلك األفراد من‬
‫النظرية الثانية‪ :‬نظرية التبديل‬
‫أن درك املفاهيم الكلية ليست ّإال‬ ‫وهناك نظرية ُأخرى حققها صدر ّ‬
‫املتأهلني‪ ،‬وهي ّ‬
‫مثال‪ ،‬ال يصدق ّإال عىل النبي األكرم‪ ،‬لكن بالنسبة إىل الوضع املخصوص به‪ ،‬ولو صدق عىل فرد‬
‫)‪ (1‬فلفظ «أمحد» ً‬
‫آخر فإنّام هو بلحاظ وضع آخر‪ .‬وهذا بخالف لفظ «اإلنسان»‪ ،‬فإنّه يصدق بوضع واحد‪ ،‬عىل كثريين‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫من باب تبديل املعرفة احلس ّية باملعرفة العقل ّية‪ .‬وحاصلها ّ‬
‫أن للمعرفة مراحل ثالث‪:‬‬
‫أ‪ .‬مرحلة اإلحساس‪.‬‬
‫ب‪ .‬مرحلة احلفظ‪.‬‬
‫ج‪ .‬مرحلة إدراك مفهوم كيل‪.‬‬
‫وإليك بياهنا‪.‬‬
‫أطل اإلنسان بنظره عىل بحرية يرى ماءها الشفاف فضة مذابة‪ ،‬تغطيها صفحات‬ ‫أ‪ .‬إذا ّ‬
‫من األمواج امللتوية التواء خفي ًفا‪ ،‬فيعطيه منظر اهتزاز النسيم الرقيق‪ ،‬والرياض‬
‫املط ّلة عىل ضفاف تلك البحرية‪ ،‬العبقة باألزاهري والورود‪ ،‬والشجية بأنغام تغاريد‬
‫وهتتز هلا الروح‪ .‬فام دام‬
‫صورا هب ّية خالّبة رائعة‪ ،‬تنرشح هلا النفس‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫الطيور‪ ،‬تعطيه‬
‫ً‬
‫مشغوال بالتقاط تلك املناظر البهية‪ ،‬فالصورة الواردة من املُبرص إىل الذهن‪،‬‬ ‫احلس‬
‫ّ‬
‫تسم صورة حس ّية‪ ،‬من غري فرق بني البرص وغريه من احلواس‪ .‬وهذه املرحلة هي‬
‫ّ‬
‫مرحلة اإلحساس‪.‬‬
‫ب‪ .‬عندما تتم عملية اإلحساس وتتعطل القوى عن العمل يبقى هناك أثر يف النفس‪،‬‬
‫عرب عنه قدماء الفالسفة بالصورة احلادثة يف اخليال‬
‫وهو الصورة اخليال ّية ‪ .‬وهو ما ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫بعد حدوث الصورة احلس ّية‪ ،‬يستحرضها اإلنسان بعد فناء احلس ّية متى شاء‪ ،‬ويف‬
‫جرب ودرب‪.‬‬ ‫أي وقت أراد‪ ،‬وهو أمر واضح لكل من ّ‬
‫مثال‪ :‬بعد أن يغادر اإلنسان ضفاف البحرية و ُيق ِفل عائدً ا إىل منزله‪ ،‬ربام حياول أن‬
‫ً‬
‫يستحرض ما رأى من املناظر البديعة‪ ،‬فرتاه ينتقل إىل تلك الصور بال ترو‪ ،‬وهذا يكشف‬
‫خاصة ليس هلا شأن ّإال صيانة تلك الصور عن الزوال‪ ،‬لريجع‬ ‫أن يف النفس قوة ّ‬ ‫عن ّ‬
‫إليها اإلنسان عندما متس احلاجة‪ ،‬وليس هذا شي ًئا حيتاج إىل دليل‪.‬‬
‫وهكذا األُستاذ عندما يرد إىل قاعة من قاعات الكل ّية‪ ،‬املكتظة بالطالب والباحثني‪،‬‬
‫فيلقي هناك دراسة يف موضوع‪ ،‬ويأخذون بالنقاش‪ ،‬وبعد ساعة تنتهي املحارضة‪،‬‬
‫متس احلاجة يف وقت من‬
‫فيغادرها‪ ،‬ثم يغفل عن وقائعها مدّ ة ال يستهان هبا‪ .‬لكن ربام ّ‬
‫)‪ (1‬املراد من اخليال معناه الفلسفي‪ ،‬وهو قوة يف النفس شأهنا صيانة الصور الواردة من احلواس‪ ،‬ال املعنى العريف‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪48‬‬

‫األوقات إىل رسد أو تسجيل ما شاهده من قبل وما ألقاه من نكات أو سمعه من نقاش‪،‬‬
‫فريجع إىل خزانة الصور‪ ،‬ويسرتجع منها ما شاء‪.‬‬
‫التوجه‬
‫ّ‬ ‫والتوجه إليها يف هذا الوقت هو‬
‫ّ‬ ‫فهذه الصور‪ ،‬هي الصور اخليالية‪،‬‬
‫واإلدراك اخليايل‪ ،‬واملِحفطة ا ّلتي حفظت فيها تلك الصور هي خزانة اخليال‪.‬‬
‫والفرق بني الصورتني احلس ّية واخليالية من وجوه‪:‬‬
‫إن احلس ّية أوضح عند اإلنسان من اخليالية‪.‬‬‫‪ّ .1‬‬
‫ِ‬
‫ب رشائط خاصة‪ ،‬ككون املرئي واق ًعا أمام‬ ‫‪ .2‬الصورة احلس ّية ال تدرك ّإال غ ّ‬
‫مسموعا بكيفية خاصة‪ ،... ،‬وأ ّما الصورة اخليالية‪ ،‬فيمكن‬
‫ً‬ ‫الرائي‪ ،‬والصوت‬
‫جمردة عن هذه األوضاع‪ ،‬ومتثيلها يف الذهن من دون أن‬
‫استحضارها بذاهتا ّ‬
‫تقرتن بيشء منها‪.‬‬
‫‪ .3‬الصورة احلس ّية ال تقع يف ُأفق اإلدراك ّإال بإعامل القوى الظاهرية‪ ،‬ويدور‬
‫وجودها وعدمها مدار إعامهلا وتعطيلها‪ ،‬فيكن وجود الصورة احلس ّية‬
‫رضوري التح ّقق عند اجتامع الرشائط‪ ،‬كام يكون عدمها رضور ًّيا متى فقد‬
‫أحدها‪.‬‬
‫وأ ّما الصورة اخليالية‪ ،‬فيمكن استحضارها بال معونة القوى الظاهرية احلس ّية‪ ،‬بل‬
‫املالك يف وجودها هو تعطيل احلواس عن العمل‪ ،‬واالعتامد عىل اإلرادة‪.‬‬
‫وعىل ذلك يمكن إحضار صورة الغائب أو صوته‪ ،‬باالعتامد عىل القوة اخليالية‪،‬‬
‫وأ ّما صورته احلس ّية فتتوقف عىل حضور املرئي وتك ّلمه والنظر إىل وجهه واالستامع‬
‫إىل صوته‪.‬‬
‫املخصصات عن‬‫ِّ‬ ‫صورا متشاهبة أو متامثلة يف ذهنه‪ ،‬وميز‬
‫ً‬ ‫ج‪ .‬إذا استحرض اإلنسان‬
‫املشرتكات‪ ،‬وترك األُوىل وأخذ بالثانية‪ ،‬فالصورة املأخوذة هي الصورة العقلية‪،‬‬
‫وذلك كام لو أحرض صور زيد وعمرو وبكر من خزانة اخليال‪ ،‬فرأى بينها عدّ ة‬
‫ومشخصات‪ ،‬من طول وقرص‪ ،‬وبياض وسواد‪ ،‬فيرتك املميزات ويأخذ‬ ‫ّ‬ ‫مميزات‬
‫املشرتك أو املشرتكات‪ ،‬وهذه الصورة احلاصلة املشرتكة هي الصورة العقلية‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وقد اختلف اإلسالميون يف كيفية وقوف اإلنسان عىل هذا املفهوم الكيل إىل‬
‫نظريتني‪:‬‬
‫‪ .1‬نظرية اإلبداع واخلالقية‬
‫ذهب الشيخ الرئيس ابن سينا إىل ّ‬
‫أن النفس فاعل إهلي ختلق الصور واملفاهيم‬
‫الكل ّية يف الذهن‪ .‬فوقوفها عىل الصورة احلس ّية واخليالية يعطيها قدرة اخللق واإلبداع‪،‬‬
‫فتخلق املفاهيم الكل ّية يف صقع الذهن‪.‬‬
‫‪ .2‬نظرية التكامل واالرتقاء‬
‫أن وقوف النفس عىل هذه الصور(‪ )1‬العقلية‪ ،‬إنّام هو من‬ ‫املتأهلني إىل ّ‬
‫ذهب صدر ّ‬
‫باب تر ّقي املعرفة من درجة إىل ُأخرى‪ ،‬فكام ّ‬
‫أن الصورة احلس ّية تأخذ باالرتقاء وتتبدل‬
‫إىل املعرفة اخليالية ا ّلتي هي ألطف من األُوىل‪ ،‬فهكذا ترتقى املعرفة اخليالية إىل معرفة‬
‫ألطف وأكمل‪ ،‬وهو الـمفهوم الكلـي الصادق عىل أفراد كثريين‪ .‬وليست الرابطة بني‬
‫الصورتني رابطة التوليد واإلنتاج وإنّام هو ارتقاء صورة من منزلة إىل منزلة ُأخرى‪.‬‬
‫جردة عن الـجهـة‬
‫نعم‪ ،‬هناك فرق بني الـخيالية والعقلية‪ ،‬فالـخيالية وإن كانت مـ ّ‬
‫واخلصوصيات‪ ،‬لكنها جزئية ال تنطبق ّإال عىل فرد واحد‪ ،‬بخالف الصورة العقلية‪،‬‬
‫فإهنا كل ّية(‪.)2‬‬
‫ّ‬
‫***‬
‫ثالثًا‪ :‬تصنيف املوجودات‬
‫ّ‬
‫إن من عمليات العقل‪ ،‬تصنيف الـموجودات وتأليف املختلفات تـحت مفهوم‬
‫واحد‪ ،‬ف ُيدخل األنواع الكثرية تـحت الـجوهر‪ ،‬وعدّ ة من األعراض تـحت الكيف‪،‬‬
‫و ُأخرى حتت الكم‪ .‬وهكذا‪.‬‬

‫أيضا عىل املفاهيم الكلية املوجودة‬


‫)‪ (1‬ليست الصور يف مصطلح الفالسفة مساوقة للصور احلسية واخليالية‪ ،‬بل تطلق ً‬
‫يف صقع الذهن‪.‬‬
‫)‪ (2‬راجع األسفار‪ .319/1 :‬وتعليقة صدر املتأهلني عىل الشفاء‪ .129 :‬وللفالسفة الغربيني رأيان يف كيفية إدراك‬
‫العقل للمفاهيم الكلية سنذكرمها عند البحث عن مراحل املعرفة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪50‬‬

‫وقد قالوا من قديم األيام‪ّ :‬‬


‫إن الـجوهـر ينقسم إلـى العقـل‪ ،‬والنفس‪ ،‬والـهيـولـى‪،‬‬
‫والصورة‪ ،‬واجلسم‪.‬‬
‫وذكروا يف انحصاره يف األُمور اخلمسة ما هذا حاصله‪:‬‬
‫اجلوهر هو املاهية ا ّلتي إذا وجدت وجدت ال يف موضوع‪ ،‬وعندئذ فإ ّما أن يكون‬
‫جمر ًدا‪.‬‬
‫جمر ًدا عنها يف ذاته دون فعله‪ ،‬أو ال يكون ّ‬
‫جمر ًدا يف ذاته وفعله عن املادة‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬
‫فاألول هو العقل‪.‬‬
‫والثاين هو النفس‪.‬‬
‫حمال جلوهر‪ ،‬أو ً‬
‫حاال يف جوهر‪ ،‬أو مرك ًبا منهام‪.‬‬ ‫والثالث إ ّما أن يكن ً‬
‫واألول هو اهليويل‪.‬‬
‫والثاين هو الصورة‪.‬‬
‫والثالث هو اجلسم‪.‬‬
‫يقول احلكيم السبزواري‪:‬‬
‫ني ال موضـوع لـه‬ ‫إذا غدت يف الع ـ ِ‬ ‫الـجـوهـ ُر الـم ـ ـ ِه ـي ـ ـ ُة الـمـح ـ ـ ِّصـ ـل ـ ـه‬
‫ه ـي ـ ـولـ ًى أو ح ـ ـ ّل ب ـ ـه م ـ ـن صـ ـ ـور‬ ‫فـ ـجـ ـوهـ ـ ٌر كـ ـان مـ ـحـ ـ ـل جـ ـوه ـ ـ ـر‬
‫إن مـن ـهـ ـمـا ُر ِّك ـب جـ ـسـ ـ ًمـا ُأخـ ـذا‬ ‫وج ـ ـوه ـ ـ ـ ٌر لـ ـي ـ ـ ـس بـ ـ ـ ـذاك وبـ ـ ـ ـذا‬
‫ِ (‪)1‬‬ ‫جـس ـ ـ ًمـا ّ‬
‫وإال ع ـ ـق ـ ـ ًال الـمـفـارق‬ ‫ودون ـ ـ ـ ـه نـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ٌس إذا تـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـق‬
‫كام ّأهنم قالوا‪ّ :‬‬
‫إن العرض ماهية مستقلة يف نفسها مفهو ًما‪ ،‬ولكنها إذا وجدت يف‬
‫اخلارج وجدت يف موضوع‪.‬‬
‫وهذا يف مقابل اجلوهر فإنّه ماهية مستقلة إذا وجدت وجدت ال يف موضوع كام‬
‫فإهنا غري مستقالت مفهو ًما وحت ّق ًقا‪ ،‬فاألعراض‬
‫تقدّ م‪ ،‬ويف مقابل املعاين احلرفية‪ّ ،‬‬
‫متوسطات بني اجلواهر واملعاين احلرفية‪.‬‬

‫)‪ (1‬رشح املنظومة‪.131 :‬‬


‫‪51‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ويطلق عىل وجود اجلوهر(‪ :)1‬الوجود النفيس‪ ،‬وعىل وجود األعراض‪ :‬الوجود‬
‫الرابطي‪ ،‬وعىل وجود احلرف‪ :‬الوجود الرابط‪.‬‬
‫قال احلكيم السبزواري‪:‬‬
‫ث ـم ـة نـف ـسـ ـي فـ ـه ـاك فـ ـاض ـ ـبـ ـ ِ‬
‫ط‬ ‫إن ال ـ ـ ـوج ـ ـ ـود راب ـ ـ ـ ٌط ورابـ ـ ـط ـ ـ ـي‬
‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ُ‬ ‫ٌّ‬
‫قسموا األعراض إىل أقسام تسعة‪ ،‬وهي‪ :‬الكم‪ ،‬والكيف‪ ،‬والوضع‪ ،‬واألين‪،‬‬
‫وقد ّ‬
‫واجلدة‪ ،‬ومتى‪ ،‬والفعل‪ ،‬واالنفعال‪ ،‬واملضاف‪.‬‬
‫قال احلكيم السبزواري‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فِـعـ ـ ٌل مـضـ ـ ٌ‬
‫اف وان ـف ـعـ ـ ٌال ثـ ـبـتـ ـا‬ ‫ف وض ـ ُع ع ـني ل ـه مـتـ ـى‬
‫ك ـ ٌم وكـيـ ـ ٌ‬
‫وربام جيعلوهنا ثالثة‪ :‬الكم‪ ،‬والكيف‪ ،‬واألعراض النسبية‪ ،‬وهي شاملة لبقية‬
‫األعراض‪.‬‬
‫وليس التصنيف والتأليف وإدخال األُمور املختلفة حتت مفهوم واحد‪ً ،‬‬
‫خمتصا‬
‫باألُمور املادية‪ ،‬بل يقوم به العقل يف األُمور النفسية ً‬
‫أيضا‪ ،‬فيقول ً‬
‫مثال‪ :‬البخل‪ ،‬واحلسد‪،‬‬
‫والعشق واملحبة‪ ،‬من احلاالت النفسانية‪ .‬وك ّلها تدخل حتت كيف نفساين‪ .‬كام يقول‪:‬‬
‫إن األلوان واألشكال ‪-‬من مربع ومثلث‪ -‬ك ّلها من حاالت اجلسم‪ ،‬وتدخل حتت‬ ‫ّ‬
‫كيف جسامين‪ .‬إىل غري ذلك من عمليات التصنيف والتأليف يف كل علم‪.‬‬
‫***‬
‫راب ًعا‪ :‬التجزئة والتحليل‬
‫ّ‬
‫إن من عمليات العقل‪ّ ،‬تزئة مفهوم واحد إىل مفاهيم كثرية‪ ،‬كتحليل اإلنسان إىل‬
‫احليوان الناطق‪ ،‬وحتليل احليوان إىل اجلسم املتحرك باإلرادة‪ ،‬وحتليل اجلسم إىل ما له‬
‫أبعاد ثالثة‪ ،‬وغري ذلك من التحليالت اجلسامنية والنفسانية‪.‬‬
‫والفرق بني التصنيف والتجزئة واضح جدً ا‪ّ ،‬‬
‫فإن عمليتي التصنيف والتحليل‬
‫)‪ (1‬والواجب أي ًضا‪.‬‬
‫)‪ (2‬رشح املنظومة‪.56 :‬‬
‫)‪ (3‬املصدر السابق‪.132 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪52‬‬

‫أشبه ببناء املخروط‪ .‬فالتصنيف يرشع من قاعدة املخروط حتّى يصل إىل رأسه‪ ،‬فيجمع‬
‫املختلفات حتت مفهوم واحد‪ .‬والتحليل يرشع من رأس املخروط‪ ،‬ثم حيلل شي ًئا فشي ًئا‬
‫حتّى ينتهي إىل قاعدته‪.‬‬
‫***‬
‫خامسا‪ :‬الرتكيب والتلفيق‬
‫ً‬
‫ومن عمليات العقل‪ ،‬التلفيق والرتكيب‪:‬‬
‫أ ّما التلفيق‪ ،‬فيكون يف جمال التصور‪ ،‬حيث يقوم العقل باجلمع بني بسيطني وإبداع‬
‫يشء ثالث منهام يف صقع الذهن‪ ،‬كتصور فرس بجناحني‪.‬‬
‫وأ ّما الرتكيب‪ ،‬فيكون يف جمال التصديق‪ ،‬حيث يقوم العقل برتكيب قضيتني‬
‫ويستنتج منهام نتيجة قاطعة‪.‬‬
‫وقد اعتنت الفلسفة الغربية هبذا القسم من عمليات العقل‪ ،‬وركز عليهام الفيلسوف‬
‫الطائر الصيت «جان لوك» وبعده «كانت»‪ ،‬فجاءا بمفاهيم جديدة يف الفلسفة‪.‬‬
‫***‬
‫سادسا‪ :‬درك املفاهيم اإلبداعية‬
‫ً‬
‫وإن من عمليات العقل‪ ،‬صنع مفاهيم ليس هلا يف اخلارج مصداق تنطبق عليه‪،‬‬
‫وإن كان العقل ال يستغني عن حلاظ اخلارج يف صنعها‪ .‬وبعبارة ُأخرى‪ :‬ليس هلا مصداق‬
‫يف اخلارج‪ ،‬وإن كان هلا منشأ انتزاع‪.‬‬
‫وهذا كمفهومي اإلمكان واالمتناع‪ ،‬فليس لنا فـي الـخارج يشء نسميه باإلمكان‬
‫أو نسميـه باالمتنـاع‪ ،‬وإنّمـا هـمـا من الـمفاهيم اإلبداعية للنفـس بعـد قيـاس الـمـاهيـة‬
‫إلـى الـخارج‪ .‬فإذا الحظ مفهوم «اإلنسان»‪ ،‬ورأى ّ‬
‫أن نسبة الوجود والعـدم إليـه فـي‬
‫الـخارج سواء‪ ،‬يصفـه بأن ّـه مـمكن الوجود‪ ،‬ويبـدع مفهوم اإلمكان وليـس لـه مصـداق‬
‫فـي الـخارج‪ ،‬إذ ليست التسوية أمـ ًرا متحق ًقا فيـه حتّى تـقـع مصدا ًقا لإلمكان‪ ،‬ومثـله‬
‫االمتناع‪ ،‬كمـا إذا الحظ مفهوم اجتامع النقيضني ورأى ّ‬
‫أن ا ّتصافه بالوجود يف اخلارج‬
‫‪53‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫غري قابل للتحقق‪ ،‬فيصفه بأنّه مـمتنع الوجود‪ ،‬فيبدع مفهوم االمتناع‪ ،‬وليس لالمتناع‬
‫مصداق فـي اخلارج‪.‬‬
‫وكم للنفس من مفاهيم إبداعية ليس هلا مصاديق خارجية‪ ،‬وإن كان هلا مناشئ‪.‬‬
‫وإن املفاهيم االعتبارية‪ ،‬ا ّلتي عليها مدار احلياة يف املجتمع البرشي‪ ،‬ك ّلها مفاهيم‬
‫ّ‬
‫إبداعية‪ ،‬وإن كان للخارج تأثري يف انتقال النفس إىل هذه املفاهيم وصنعها وجعلها‪،‬‬
‫كمفهوم الرئاسة واملرؤوسية‪ ،‬والبيع واإلجارة يف االعتباريات االجتامعية‪ ،‬والسببية‬
‫والرشطية واملانعية يف األُمور االعتبارية الترشيعية‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬والفالسفة اإلسالميون يعدّ ون مفهوم الوجود من املفاهيم اإلبداعية‪ ،‬ا ّلتي‬
‫ليس هلا مصداق يف اخلارج‪ ،‬فليس نسبة مفهوم «الوجود» إىل اخلارج‪ ،‬كنسبة مفهوم‬
‫«اإلنسان» إىل زيد وعمرو‪ .‬وال يعني ذلك إقرارهم باعتبارية الوجود وأصالة املاهية‪،‬‬
‫أيضا يعرتفون به‪ .‬وقد أفاضوا القول يف إثبات ذلك(‪.)1‬‬
‫بل القائلون بأصالة الوجود هم ً‬
‫***‬
‫الثالثة‪ :‬التمثيل‬
‫من الوسائل ا ّلتي يتوصل هبا اإلنسان إىل املعرفة‪ ،‬ويرفع هبا األستار عن وجه‬
‫(‪.)2‬‬
‫احلقائق‪ :‬التمثيل‪ ،‬االستقراء‪ ،‬والتجربة‬
‫وقد كان األغارقة ‪-‬وباألخص أرسطو (‪ 322-384‬ق‪ .‬م) يف منطقه‪ -‬يعتمدون‬
‫يف أبواب املعرفة عىل هذه الوسائل‪ ،‬وإن كان اعتامدهم عىل التجربة أقل‪ ،‬وإنّام شاع‬
‫سالحا صار ًما يف كشف احلقائق‪ ،‬يف عرص النهضة الغربية(‪،)3‬‬ ‫االعتامد عليها ِ‬
‫واختذت‬
‫ً‬
‫حتّى ّأهنا احتلت مكان التعقل والربهنة يف العلوم الطبيعية‪ ،‬ولقد كان هذا االحتالل‬
‫يف حم ّله‪ ،‬غفل عنه األقدمون من الطبيعيني حني كانوا يعتمدون يف كشف احلقائق‬

‫)‪ (1‬الحظ منظومة السبزواري‪.5-4 :‬‬


‫واحلس كام ستعرف‬
‫ّ‬ ‫)‪ (2‬وهذه األدوات الثالث مزيج من العقل‬
‫عمت أوروبا يف القرنني اخلامس عرش والسادس عرش‪،‬‬
‫)‪ .Renaissance (3‬وقد بدأت هذه النهضة يف إيطاليا ثم ّ‬
‫وجاءت نتيجة انفتاح الغربيني عىل دراسة احلضارات القديمة‪ ،‬واإلسالمية عىل اخلصوص‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪54‬‬

‫الطبيعية عىل االستدالل والربهنة من دون جعلها حتت بوتقة التجربة‪ .‬ونخص البحث‬
‫يف هذا املقام بالتمثيل(‪ ،)1‬فنقول‪:‬‬
‫التمثيل‪ :‬هو إرساء حكم من يشء إىل يشء آخر جلهة مشرتكة بينهام‪.‬‬
‫جزئي آخر مشابه له‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫جزئي‪ ،‬لثبوته يف‬
‫ٍّ‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ :‬هو إثبات حكم يف‬
‫و ُيعرف التمثيل يف عرف الفقهاء بالقياس‪ ،‬وهو أحد احلجج ا ّلتي تعتمد عليه أكثر‬
‫املذاهب الفقهية السنية‪ ،‬وسيظهر لك فيام يأيت مدى إمكان االعتامد عليه‪.‬‬
‫ومثال التمثيل يف الرشيعة‪ :‬استنباط حكم النبيذ من حكم اخلمر لتشاهبهام يف جهة‬
‫اإلسكار‪ ،‬فيقال ّ‬
‫إن النبيذ حرام كاخلمر‪ ،‬الشرتاكهام يف اإلسكار‪.‬‬
‫ً‬
‫مأخذا يف املسائل‬ ‫كثريا ما يكون‬
‫وال تنحرص االستفادة منه يف جمال الفقه‪ ،‬فإنّه ً‬
‫ً‬
‫مشتمال‬ ‫الفردية واالجتامعية‪ُ .‬أفرض أنك قرأت كتا ًبا من كاتب‪ ،‬فوجدته كتا ًبا ناف ًعا‬
‫عىل دقائق علمية‪ .‬ثم سمعت أنّه قد ُنرش له كتاب آخر‪ ،‬فتحكم ‪-‬بواسطة التمثيل‪-‬‬
‫أيضا نافع‪ ،‬الشرتاكهام يف كوهنام صادرين من مؤلف ومفكّر واحد‪.‬‬
‫بأنّه ً‬
‫وللتمثيل أركان أربعة‪:‬‬
‫األول املعلوم ثبوت احلكم له‪ ،‬كاخلمر‪.‬‬
‫‪ .1‬األصل‪ ،‬وهو اجلزئي ّ‬
‫‪ .2‬الفرع‪ ،‬وهو اجلزئي الثاين املطلوب إثبات احلكم له‪ ،‬كالنبيذ‪.‬‬
‫‪ .3‬اجلامع‪ ،‬وهو جهة الشبه بني األصل والفرع‪ ،‬كاإلسكار‪.‬‬
‫‪ .4‬احلكم‪ ،‬وهو ما ُعلم ثبوته لألصل‪ ،‬والغرض إثباته للفرع‪ ،‬كاحلرمة‪.‬‬
‫فإذا تو ّفرت هذه األركان‪ ،‬حتقق التمثيل‪ ،‬ولو فقد واحد منها‪ ،‬اختلت أركانه‪.‬‬
‫وثبوت اجلامع ووجه الشبه حيصل بطرق ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬الدوران‪ ،‬وهو ترتب احلكم عىل الوصف ا ّلذي له صالحية العل ّية‪ ،‬وجو ًدا‬
‫ّ‬
‫مسكرا‪ ،‬حرا ٌم‪ ،‬فإذا زال عنه‬
‫ً‬ ‫وعد ًما‪ ،‬كرتتب احلرمة يف اخلمر‪ ،‬عىل اإلسكار‪ ،‬فإنّه ما دام‬
‫اإلسكار‪ ،‬زالت احلرمة‪ .‬والدوران عالم ُة كون املدار ‪-‬أعني الوصف‪ -‬ع ّلة للدائر‪ ،‬أي‬
‫احلكم‪.‬‬
‫)‪ (1‬وسيأيت الكالم يف كل من االستقراء والتجربة منفر ًدا‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أوال أوصاف األصل‪،‬‬ ‫يتفحص ً‬


‫أن ّ‬ ‫يسمى بالسرب والتقسيم‪ .‬وهو ّ‬
‫الثان‪ :‬الرتديد‪ ،‬و ّ‬
‫كل ٍّ‬
‫كل حتّى يستقر‬ ‫أن ع ّلة احلكم هذه الصفة أو تلك‪ ،‬ثم يبطل ثان ًيا حكم علية ٍّ‬
‫وير ّدد ّ‬
‫عىل وصف واحد‪ .‬ويستفاد من ذلك كون هذا الوصف عل ًة‪ ،‬كام يقال‪ :‬ع ّلة حرمة اخلمر‬
‫االختاذ من العنب‪ ،‬أو امليعان‪ ،‬أو اللون املخصوص‪ ،‬أو الطعم املخصوص‪ ،‬أو‬ ‫إ ّما ّ‬
‫األول ليس بع ّلة‪ ،‬لوجوده يف الدِّ بس‪ ،‬مع كونه‬
‫الرائحة املخصوصة‪ ،‬أو اإلسكار‪ .‬لكن ّ‬
‫فتعني اإلسكار للعل ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫غري حمرم‪ .‬وكذا البواقي ‪-‬ما سوى اإلسكار‪ -‬بمثل ما ذكر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التنصيص‪ ،‬واملراد منه أن يرصح بع ّلة احلكم يف دليل حكم األصل‪ ،‬بأن‬
‫يقال اخلمر حرام ألنّه مسكر‪.‬‬
‫يسمى «ع ّلة مستنبطة»‪ ،‬وا ّلذي يثبت‬
‫واجلامع ا ّلذي يثبت بالدوران أو الرتديد‪ّ ،‬‬
‫يسمى «علة منصوصة»‪.‬‬
‫بالتنصيص‪ّ ،‬‬
‫قيمته العلم ّية‬
‫يقع الكالم يف قيمته العلمية يف موضعني‪ :‬أحدمها التمثيل مستنبط الع ّلة‪ ،‬واآلخر‬
‫التمثيل منصوص الع ّلة‪.‬‬
‫أن املشاهدة البسيطة ربام ال تفيد االحتامل‪ً ،‬‬
‫فضال عن الظ ّن‪،‬‬ ‫شك ّ‬
‫األول‪ ،‬فال ّ‬
‫أ ّما ّ‬
‫فإذا رأينا إنسانًا ذا هيبة خميفة‪ ،‬وشارب كبري‪ ،‬وعضالت مفتولة‪ ،‬وحكم عليه بأنّه جمرم‬
‫شخصا آخر هبذه الصفات‪ ،‬مل يمكننا القول بأنّه جمرم وقاتل‪،‬‬
‫ً‬ ‫قاتل‪ ،‬ثم رأينا بعد ذلك‬
‫بحجة اشرتاكهام يف تلك الصفات‪.‬‬
‫ّ‬
‫نعم‪ ،‬ك ّلام كثرت وقويت وجوه الشبه بني األصل والفرع‪ ،‬يتدرج اإلنسان من‬
‫االحتامل إىل الظن‪ ،‬ومنه إىل االطمئنان‪ .‬ومن ذلك إحلاق الناس بعضهم ببعض لشباهة‬
‫بينهم يف الشكل واحلركة والصوت ونحو ذلك‪ ،‬ف ُيلحق األوالد باآلباء عن طريق‬
‫املشاهبة املتواجدة بينهم(‪.)1‬‬
‫كثريا‪ ،‬ربام حيصل للمم ِّثل العلم اجلازم ّ‬
‫بأن هذا هو‬ ‫نعم‪ ،‬لو تو ّفرت املشاهبة تو ّف ًرا ً‬
‫العلة الوحيدة لثبوت احلكم يف األصل‪ ،‬كام هو احلال يف اخلمر‪ ،‬فإنّه لو فرض أنّه مل يرد‬
‫)‪ (1‬وهو إحلاق عىل خالف املوازين الرشعية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪56‬‬

‫نص يف وجه حرمتها‪ّ ،‬إال أن السرب والتقسيم قد يوقفان الفقيه عىل ّ‬


‫أن مدار احلرمة هو‬ ‫ٌّ‬
‫اإلسكار وزوال العقل‪ ،‬ولكن ال بحث مع اليقني‪.‬‬
‫مشكل جدً ا‪ّ ،‬إال ما ّ‬
‫شذ‬ ‫ٌ‬ ‫إالّ ّ‬
‫أن حتصيل هذه املرتبة من اليقني يف املسائل الرشعية‬
‫وقل ِمن مورد يكون وضوح الع ّلة فيه مثل وضوحها يف اخلمر‪ .‬بل الوقوف عىل‬ ‫وندر‪ّ ،‬‬
‫مصالح األحكام عىل نحو تكون علة تامة للحكم‪ ،‬ال يعلم ّإال من طريق ِّ‬
‫املرشع نفسه‪.‬‬
‫حذر أئمة أهل البيت ‪ - -‬من االعتامد عىل القياس يف الرشيعة‬ ‫وألجل ذلك ّ‬
‫«إن السنة إذا قيست‪ُ ،‬حمق الدين»(‪ .)1‬هذا ك ّله حول مستنبط الع ّلة‪.‬‬
‫وقالوا‪ّ :‬‬
‫وأ ّما منصوصها‪ ،‬فال خالف بني الفقهاء يف العمل به‪ .‬ويف احلقيقة ّ‬
‫إن التمثيل‬
‫أن اجلامع ع ّلة تامة عند املقنِّن‪ ،‬يكون من باب القياس الربهاين‪ ،‬وخيرج من‬
‫املعلوم فيه ّ‬
‫باب القياس الفقهي‪.‬‬
‫مثال‪ :‬لو ورد‪« :‬ماء البئر واسع ال يفسده يشء‪ّ ...‬‬
‫ألن له مادة»(‪ ،)2‬فإنّه يستنبط منه‬ ‫ً‬
‫أن كل ما له ما ّدة فهو ال يفسده يشء‪ .‬ويف احلقيقة يتشكل منه صورة الربهان‪ ،‬ويكون‬‫ّ‬
‫الفرع أصغر‪ ،‬واحلكم أكرب‪ ،‬واجلامع حدًّ ا أوسط‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫املاء النابع‪ ،‬له مادة‪.‬‬
‫وكل ما له ما ّدة‪ ،‬واسع ال يفسده يشء‪.‬‬
‫فينتج‪ :‬املاء النابع‪ ،‬واسع ال يفسده يشء‪.‬‬
‫احلس والعقل‪،‬‬ ‫ويف اخلتام‪ ،‬ننبه إىل ّ‬
‫أن التمثيل ‪-‬يف احلقيقة‪ -‬هو مزاج من عمل ّ‬
‫يصح بأن يوصف بأنّه أداة حس ّية بحتة‪ ،‬وال أنّه من فروع العقل‪ ،‬بل اإلدراك‬
‫ّ‬ ‫فال‬
‫فألن املم ّثل يدرك املشاهبة‬
‫ّ‬ ‫بالتمثيل يبتني عىل إحساس واستدالل‪ ،‬أ ّما اإلحساس‪،‬‬
‫التا ّمة بني األصل والفرع يف جهات‪ .‬ثم إنّه يقوم بعد ذلك بإحراز ما هو املالك يف ثبوت‬
‫حصل‬‫احلكم عىل األصل بإحدى عمليتني‪ :‬إ ّما الدوران أو السرب والتقسيم‪ ،‬فإذا ّ‬
‫أيضا مثل األصل يف احلكم‪ ،‬الشرتاكهام فيه‪ .‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن‬ ‫املالك‪ ،‬حيكم ّ‬
‫بأن الفرع ً‬

‫)‪ (1‬الوسائل‪ ،18 :‬كتاب القضاء‪ ،‬الباب ‪ 6‬من أبواب صفات القايض‪ ،‬احلديث ‪ .10‬والحظ أحاديث الباب‪.‬‬
‫)‪ (2‬الوسائل‪ ،1 :‬أبواب املاء املطلق‪ ،‬الباب ‪ ،14‬احلديث ‪ 6‬و ‪ .7‬صحيحة إسامعيل بن بزيع عن اإلمام الرضا ‪.- -‬‬
‫‪57‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫احلس والعقل‪ .‬ومثل‬


‫هذه املراحل عقلية ال حس ّية‪ .‬وألجل ذلك فصلنا التمثيل عن ّ‬
‫التمثيل يف ذلك االستقراء والتجربة‪ ،‬كام سيوافيك‪.‬‬
‫***‬
‫الرابعة‪ :‬الستقراء‬
‫كيل‪.‬‬
‫هو تصفح اجلزئيات إلثبات حكم ّ‬
‫حكام كل ًّيا كام إذا‬
‫ً‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ :‬دراسة الذهن لعدّ ة جزئيات‪ ،‬ليستنبط منها‬
‫حيرك فكّه األسفل عند املضغ‪،‬‬ ‫شاهد عدّ ة أنواع من احليوانات‪ ،‬فوجد ّ‬
‫أن كل نوع منها ّ‬
‫حيرك فكّه األسفل عند املضغ‪.‬‬ ‫كل حيوان ّ‬‫أن ّ‬
‫فيستنبط منها قاعدة عا ّمة‪ ،‬وهي ّ‬
‫فحقيقة االستقراء هي االستدالل باخلاص عىل العا ّم‪ ،‬كام ّ‬
‫أن حقيقة التمثيل هي‬
‫اخلاص‪ .‬فمالك االستنباط يف التمثيل هو التشابه بني جزئيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باخلاص عىل‬
‫ّ‬ ‫االستدالل‬
‫جزئي مل ندرس حاله‪ ،‬وجزئ ّيات درسنا حاهلا‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫بينام مالكه يف االستقراء هو التشابه بني‬
‫فنُل ِحق اجلزئي املجهول‪ ،‬باجلزئيات املعلومة احلال(‪.)1‬‬
‫وأركان االستقراء ‪-‬كالتمثيل‪ -‬أربعة‪:‬‬
‫‪ .1‬األصل‪ ،‬وهو اجلزئيات ا ّلتي درسنا حاهلا ‪.‬‬
‫‪ .2‬الفرع‪ ،‬وهو اجلزئي ا ّلذي نريد أن ّ‬
‫نتعرف عىل حاله‪.‬‬
‫‪ .3‬اجلامع‪ ،‬وهو جهة املشاهبة بني األصل والفرع‪ ،‬كاحليوانية يف املقام‪.‬‬
‫‪ .4‬احلكم‪ ،‬وهوما علم ثبوته لألصل‪ ،‬والغرض إثباته للفرع‪ ،‬كتحريك ّ‬
‫الفك‬
‫األسفل‪.‬‬
‫ثم ّ‬
‫إن املعروف تقسيم االستقراء إىل قسمني‪ :‬تام وناقص‪.‬‬
‫فاالستقراء التا ّم هو تص ّفح حال مجيع اجلزئيات بأرسها‪ ،‬كام إذا ّ‬
‫ّتول يف مجيع‬
‫مشجرة‪ ،‬معبدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شوارع بلد خاص‪ ،‬ومل يستثن أي شارع منها‪ ،‬فرآها مجيعها نظيفة‪،‬‬
‫مشجرة‪ ،‬ومع ّبدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيقول عند توصيف هذا البلد‪ :‬شوارع هذا البلد ك ّلها نظيفة‪،‬‬

‫)‪ (1‬وأ ّما الربهان‪ ،‬فال صلة له بالتمثيل واالستقراء‪ ،‬إذ ليس اجلزئي هناك موجبًا للمعرفة‪ ،‬بل هو االستدالل بالعام‬
‫عىل اخلاص‪ ،‬أعني االستدالل بالكربى الكليّة عىل مقدمة كليّة‪ ،‬كام سيوافيك بيانه‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪58‬‬

‫واالستقراء الناقص هو أن ال يفحص املستقرئ ّإال بعض اجلزئيات‪ ،‬كمثال‬


‫حترك فكّها األسفل عند‬
‫احليوان‪ ،‬فإنّه باستقراء الكثري من أنواعه ‪-‬ال مجيعها‪ -‬جيد ّأهنا ّ‬
‫مؤس ًسا قاعدة كل ّية هي‪ :‬كل حيوان‬
‫املضغ‪ ،‬فيحكم عىل ما مل يره من احليوانات بذلك‪ِّ ،‬‬
‫حيرك فكّه األسفل عند املضغ‪.‬‬
‫ّ‬
‫قيمته العلم ّية‬
‫االستقراء التام يف احلقيقة‪ ،‬ليس من مقولة االستدالل واالستنباط‪ ،‬وال يستكشف‬
‫فيه حال جمهول من معلوم‪ ،‬وإنّام هو إعادة مجع وصياغة ما شاهده اإلنسان‪ ،‬يف قالب‬
‫كل انطباعاته عن شوارع البلد ا ّلذي ّ‬
‫ّتول‬ ‫واحد‪ ،‬ففي املثال املذكور يصب اإلنسان ّ‬
‫فيه‪ ،‬يف قالب جامع‪ ،‬ويقول‪ :‬كل الشوارع كذا وكذا‪ .‬فهو بد ًال من أن يتكلم بالتفصيل‪،‬‬
‫يكتفي باإلمجال‪.‬‬
‫إنّام الكالم يف االستقراء الناقص‪ ،‬ا ّلذي يعد من أقسام االستدالل‪.‬‬
‫املعروف عند القدماء ّ‬
‫أن االستقراء الناقص غري مفيد للعلم‪ ،‬ألنّه ما دمنا مل ندرس‬
‫مثال‪ -‬فكيف يـجوز لنا احلكم ّ‬
‫بأن كل حيـوان يتحرك فكّه‬ ‫مجـيع جزئيات احليـوان ‪ً -‬‬
‫األسفل عند املضغ‪ ،‬إذ من املحتمل أن يكون هناك حيوان يعيش يف الغابات وأعامق‬
‫البحار ‪-‬لـم ندركه‪ -‬يتحرك فكّه األعىل عند املضغ‪ ،‬كام ثبت بعد ذلك يف التمساح‪،‬‬
‫وألجل ذلك قالوا ّ‬
‫إن االستقراء الناقص ال يفيد اليقني‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال شك أنّه يفيد الظن‪ ،‬والظن ُيلحق اليشء باألعم األغلب‪.‬‬
‫واحلق أن يقال إنّه إذا هتاون املستقرئ يف استقرائه‪ ،‬وترك الكثري ممّا يمكن التفحص‬
‫عنه‪ ،‬واكتفى بالقليل‪ ،‬فال شك أنّه ربام ال يفيد حتّى الظن‪ .‬ولو أفاده ملا ّتاوز عنه‪ .‬وأ ّما‬
‫لو بذل جهده‪ ،‬وسعى سعيه إىل حدٍّ كبري‪ ،‬ومل ير با ًبا ّإال طرقه‪ ،‬ووصل إىل نتيجة خاصة‪،‬‬
‫ً‬
‫ضئيال ال يتوجه إليه الذهن وإن كان موجو ًدا يف زواياه‪،‬‬ ‫ً‬
‫احتامال‬ ‫وصار احتامل خمالفها‪،‬‬
‫فعند ذلك يفيد العلم‪ ،‬أي العلم العريف‪ ،‬باعتبار فرض االحتامل املخالف كالعدم‪ .‬وك ّلام‬
‫اتّسع نطاق االستقراء‪ ،‬يبتعد صحة االحتامل املخالف‪ ،‬إىل حدٍّ ينساه الذهن يف مقام‬
‫القضاء‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وما ذكره القدماء أمر متني‪ ،‬إذا فرسنا العلم باالعتقاد اجلازم ا ّلذي ال نحتمل‬
‫أن االستقراء الناقص ال ينتج هذه‬‫خالفه أبدً ا‪ ،‬حتّى واحدً ا يف املليار‪ .‬ومن املعلوم ّ‬
‫النتيجة‪ ،‬إذ االحتامل املخالف ‪-‬ولو بصورة ضئيلة‪ -‬موجود يف الضمري‪ ،‬وهو عىل‬
‫طرف النقيض من العلم‪.‬‬
‫والعلم هبذا املعنى هو مصطلح منطقي‪ ،‬غري ّ‬
‫أن العقالء ‪-‬يف فروضهم العلمية‪-‬‬
‫يكتفون بام هو أدون من ذلك‪ .‬فلو تبني حال موضوع بنحو يطمئن إليه الفؤاد‪ ،‬وكان‬
‫ضئيال إىل حدّ ال تتوجه إليه النفس‪ ،‬يسمون االستقراء ً‬
‫دليال علم ًيا‬ ‫ً‬ ‫االحتامل املخالف‬
‫ال ظن ًيا‪ ،‬وذلك إلمهاهلم االحتامل املخالف الضئيل املكنون يف الذهن‪ .‬وهذا هو الرائج‬
‫يف التحليالت االجتامعية والعلمية‪ .‬وإليك مثال يف غري االستقراء‪:‬‬
‫لو وقع حريق مهيب يف معمل من املعامل‪ ،‬وجاء اخلُرباء لتحقيق منشئه‪ ،‬وحتديد‬
‫يستقر نظرهم‬
‫ّ‬ ‫فاعله‪ ،‬فيفرتضون عدّ ة فروض‪ ،‬ثم ير ّدون الواحد منها تلو اآلخر‪ ،‬حتّى‬
‫مثال‪ -‬أن تكون النار قد انقدحت من احتكاك أسالك كهربائية‬ ‫عىل أقواها وهو ‪ً -‬‬
‫أوجدت يف البداية حري ًقا فـي زاوية معينة من املعمل ثم انترشت إلـى سائر أرجائه‪.‬‬
‫فيخرجون هبذه النتيجة‪ ،‬ويعلنون عىل املأل أن سبب احلريق هو ذلك‪.‬‬
‫ومع ذلك ك ّله‪ ،‬فاخلرباء لـم يـحصل لـهم اليقني القاطع ّ‬
‫بأن هذا هو سبب احلريق‬
‫مرت فوق‬‫ال غري‪ ،‬علـ ًام ال حيتمل معه أي احتامل آخر‪ ،‬كاحتامل أن تكون الطائرة ا ّلتي ّ‬
‫املعمل قبل احرتاقه‪ ،‬قد أحدثت رشارة أوجدت احلريق‪ّ .‬‬
‫فإن هذا االحتامل غري معدوم‬
‫ً‬
‫ضئيال للغاية‪ .‬ومع ذلك فاملحللون للقضية هيملون هذا القدر‬ ‫عىل القطع‪ ،‬وإن كان‬
‫من االحتامل وال يعتنون به‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪ ،‬فهناك نسبة خاصة بني التوغل يف االستقراء‪ ،‬وضآلة االحتامل‬
‫املخالف‪ ،‬فك ّلام اتّسع نطاق االستقراء‪ ،‬وطرق املستقرئ كل باب يواجهه‪ ،‬وقطع كل‬
‫طريق يعرتضه‪ ،‬وإن مل يستوف مجيع الطرق لعدم مت ّكنه منه‪ ،‬أو لوجود مانع عنه‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫ضئيال‪.‬‬ ‫لوجود صوارف خاصة‪ ،‬كان االحتامل املخالف لنتيجة االستقراء‬
‫وكلام ضاق نطاق االستقراء‪ ،‬واكتفى املستقرئ باألقل من الكثري‪ ،‬صار االحتامل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪60‬‬

‫ماثال يف الذهن غري غائب عنه‪ .‬فغيبوبة االحتامل املخالف شدّ ة وضع ًفا‪ ،‬أو‬
‫املخالف ً‬
‫ظهوره كذلك‪ ،‬تابع الستفراغ الوسع وبذل اجلهد‪.‬‬
‫ولو أردنا أن نفرغ ذلك يف قالب االصطالح الريايض‪ ،‬نقول‪ّ :‬‬
‫إن بني قوة االستقراء‬
‫وضعفه من جهة‪ ،‬وقوة االحتامل وضعفه من جهة ُأخرى‪ ،‬تناسب عكيس‪ .‬فكلام قوي‬
‫االستقراء وطال نطاقه‪ ،‬ضعف االحتامل املخالف‪ ،‬وكلام قوي االحتامل املخالف للنتيجة‬
‫ا ّلتي يفيدها االستقراء‪ ،‬يكشف عن ضعف االستقراء‪ .‬فلو أراد املستقرئ أن يصل إىل‬
‫القمة من العلم العريف واالطمئنان العقالئي‪ ،‬فعليه أن يستفرغ وسعه إىل حدّ ينتفي‬
‫معه االحتامل املخالف من زوايا الذهن‪ ،‬وإن كان ال ينعدم أبدً ا ّإال إذا كان االستقراء‬
‫تـا ًّمـا‪.‬‬
‫أن مالك احلكم يف االستقراء هو التشابه بني الشيئني‪ ،‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن‬ ‫ول ُيعلم ّ‬
‫املتشاهبني قد خيتلفان يف احلكم‪ّ ،‬إال أنّا إذا نظرنا إىل األكثرية فوجدناها حمكومة بحكم‬
‫خاص‪ُ ،‬نلحق البقية هبا‪ ،‬ولذلك ال يمكن القطع باحلكم‪ ،‬إذ ليس هنا دليل عقيل ُيربه ُن‬
‫به عىل وحدة املتشاهبني يف احلكم‪.‬‬
‫وأ ّما التجربة ‪-‬اآليت بحثها‪ -‬فاألساس يف رسيان احلكم فيها إىل مجيع األفراد‪ ،‬هو‬
‫والتوحد يف املاهية‪ ،‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن املتامثلني جيب أن يتحدا يف احلكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التامثل يف احلقيقة‬
‫حسب الربهان العقيل ا ّلذي سيوافيك بيانه‪.‬‬
‫وممّا تقدم يعلم ّ‬
‫أن أداة االستقراء ليست أداة حس ّية حمضة وال أداة عقلية كذلك‪،‬‬
‫احلس والعقل‪ّ ،‬‬
‫فإن االستقراء الكامل يرجع إىل بيان ما أدركه‬ ‫ّ‬ ‫بل هي مزيج من‬
‫بحسه‪ ،‬حتت ضابطة عامة‪ ،‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن احلكم عىل اجلزئيات املتشتتة‬ ‫املستقرئ ّ‬
‫احلس‪.‬‬
‫بحكم واحد هو من عمل العقل ال ّ‬
‫وأ ّما االستقراء الناقص فهو استدالل باخلاص عىل العام‪ ،‬وال شك يف اشرتاك‬
‫يتفحص ّإال‬ ‫ألن هذا االستقراء قائم عىل ّ‬
‫أن املستقرئ ال ّ‬ ‫احلس والعقل م ًعا يف ذلك ّ‬
‫ّ‬
‫بحسه‪ ،‬ومن املعلوم ّ‬
‫أن االنتقال منها إىل حكم عام شامل ملا مل‬ ‫عن بعض اجلزئيات ّ‬
‫يتع ّلق به االستقراء‪ ،‬يستمدّ من العقل‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الخامسة‪ :‬التجربة‬
‫أيضا‪ ،‬وذلك‬
‫التجربة إحدى أدوات املعرفة الرئيسية(‪ ،)1‬ومنها يتشكل الربهان ً‬
‫ألن الربهان يتأ ّلف من اليقينيات‪ ،‬و ُأصول اليقينيات ‪-‬كام عرفت ساب ًقا‪ -‬ستة‪ ،‬منها‬
‫ّ‬
‫التجريبيات‪.‬‬
‫فالتجريبيات إذن‪ ،‬إحدى اليقينيات ا ّلتي تشكل أساس الرباهني العقلية‪ ،‬وهي‬
‫قضايا حيكم هبا العقل بواسطة تكرر املشاهدة منا يف حواسنا‪ ،‬فيحصل بتكرر املشاهدة‬
‫حكم ال شك فيه‪ ،‬كقولنا‪ّ :‬‬
‫«إن احلديد يتمدد باحلرارة»‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫رسخ يف النفس‬
‫ما يوجب أن ي ُ‬
‫مرات عديدة‪ ،‬فوجدناها مجيعها تتمدد باحلرارة‪،‬‬ ‫جربنا أفراد احلديد املختلفة‪ّ ،‬‬
‫بعد أن ّ‬
‫أن هبوطها يؤ ّثر يف‬
‫بأن ارتفاع درجة احلرارة مؤثر يف متدد احلديد‪ ،‬كام ّ‬
‫فإنّا نقطع جز ًما ّ‬
‫انقباضه وتقلصه‪.‬‬
‫وقد احتلت التجربة مكان ًة سامي ًة يف الغرب‪ ،‬وتربعت عرش املعرفة فيه‪ ،‬وشكلت‬
‫مبتكرا يف إعامهلا‪،‬‬
‫ً‬ ‫حجر األساس لكثري من االخرتاعات واالكتشافات‪ .‬وليس الغرب‬
‫بل سبقه إليها األغارقة واإلسالميون‪ ،‬وكان علامء الطبيعة يف‬
‫العصور اإلسالمية األوىل يركنون إليها يف مواضع كثرية‪ ،‬تشهد بذلك كتبهم‬
‫املدونة يف الطب والكيمياء‪ ،‬وستوافيك قبسات من عبارات الشيخ الرئيس حول‬
‫التجربة‪ ،‬كام سيوافيك بعض ما روي عن أئمة أهل البيت ‪ - -‬يف هذا املجال‪.‬‬
‫قيمتها العلم ّية‬
‫التجربة إحدى األدوات ا ّلتي تفيد اليقني بنتيجة كل ّية‪ ،‬عىل خالف التمثيل‬
‫واالستقراء‪ ،‬اللذين عرفت عدم إفادهتام ّإال الظن‪ ،‬كام عرفت ّ‬
‫أن االستقراء عىل فرض‬
‫إفادته اليقني‪ ،‬فإنّام يراد منه اليقني العريف‪ ،‬بتنايس االحتامل املخالف املاثل يف الذهن‪،‬‬
‫بينام التجربة تفيد القطع بحكم كيل شامل جلميع األفراد املاضية واحلارضة واملستقبلة‪.‬‬

‫املجرب عن طريق‬ ‫)‪ (1‬وسيظهر لك ممّا يأيت ّ‬


‫أن االستنتاج من التجربة يتوقف عىل ضم حكم عقيل إىل ما وقف عليه ّ‬
‫احلس والعقل‪ ،‬فال هي أداة حسيّة‬ ‫احلس‪ ،‬ولوال ذلك لكانت التجربة عقيمة‪ .‬ومنه يعلم ّ‬
‫أن التجربة مزيج من ّ‬ ‫ّ‬
‫حمضة وال عقلية كذلك‪ ،‬كام هو احلال يف التمثيل واالستقراء‪ ،‬كام تقدم‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪62‬‬

‫مصدرا للعلم واليقني‪،‬‬


‫ً‬ ‫وعندئذ ينطرح يف املقام سؤال وهو أنّه ملاذا صارت التجربة‬
‫بخالف التمثيل واالستقراء‪ ،‬مع اشرتاك اجلميع يف ّ‬
‫أن العملية تقع عىل أفراد حمدودة‬
‫ال عىل مجيع األفراد؟‪ .‬هذه شبهة مستعصية عىل األذهان وقف دوهنا الكثريون‪ ،‬فيجب‬
‫علينا حلها يف ضوء الضوابط العقلية فنقول‪:‬‬
‫أن مناط احلكم يف األولني هو تشابه‬ ‫الفرق بني التمثيل واالستقراء‪ ،‬والتجربة‪ّ ،‬‬
‫األفراد واشرتاكها من جهات واختالفها من جهات ُأخرى‪ .‬فال ُف ّقاع واخلمر‪ ،‬وإن كانا‬
‫متشاهبني ومشرتكني يف اإلسكار‪ ،‬لكنهام من نوعني خمتلفني‪ ،‬وهذا هو ا ّلذي دفعنا إىل‬
‫فإن أحدمها متّخذ من الشعري واآلخر من العنب‪.‬‬ ‫مخرا‪ّ ،‬‬
‫تسمية أحدمها ف ّقا ًعا واآلخر ً‬
‫وهكذا يف االستقراء‪ّ ،‬‬
‫فإن ما نشاهده من احليوانات الربية والبحرية‪ ،‬أنواع خمتلفة‪ ،‬واقعة‬
‫حتت جنس واحد هو احليوان‪ ،‬لكنها تتم ّيز بفصول وأشكال خمتلفة‪ .‬فلو رأينا هذا‬
‫الربي‪ ،‬وذلك احليوان البحري‪ ،‬كل حيرك فكه األسفل عند املضغ‪ ،‬نحكم بذلك‬
‫ّ‬ ‫احليوان‬
‫عىل سائر احليوانات‪ ،‬من دون أن تكون بينها وحدة نوعية‪ ،‬أو متاثل يف احلقيقة‪ ،‬والدافع‬
‫إىل ذلك التعدّ ي يف احلكم هو التشابه واالشرتاك املوجود بني أنواع اجلنس الواحد‪،‬‬
‫رغم االقرار باختالفها يف الفصول واألشكال‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ال يمكن اجلزم باحلكم والنتيجة‬
‫عىل وجهها ّ‬
‫الكيل‪ ،‬إلمكان اختالف أفراد نوعني خمتلفني‪ ،‬يف احلكم‪ .‬هذا كله يف‬
‫التمثيل واالستقراء‪.‬‬
‫وأ ّما التجربة‪ ،‬فتخالِ ُفهام من حيث مناط ومالك إرساء احلكم‪ّ ،‬‬
‫فإن املناط فيها هو‬
‫طرا ّإال الزمان‪.‬‬
‫الوحدة يف النوع واحلقيقة‪ ،‬والتامثل من مجيع اجلهات ً‬
‫مثال‪ :‬إذا أجرينا ّتربة عىل جزئيات من طبيعة واحدة‪ ،‬كاحلديد‪ ،‬حتت ظروف‬ ‫ً‬
‫معينة من الضغط اجلوي‪ ،‬واجلاذبية‪ ،‬واالرتفاع عن سطح البحر‪ ،‬وغريها مع ّاحتادها‬
‫ولنسمه (س) عند درجة خاصة‬
‫ّ‬ ‫مقدارا معينًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مجي ًعا يف الرتكيب‪ ،‬فوجدنا ّأهنا تتمدد‬
‫ولنسمها (ح)‪ .‬ثم كررنا هذه التجربة عىل هذه اجلزئيات‪ ،‬يف مراحل‬
‫ّ‬ ‫من احلرارة‪،‬‬
‫خمتلفه‪ ،‬يف أمكنة متعددة‪ ،‬وحتت ظروف متغايرة‪ ،‬ووجدنا النتيجة صادقة متا ًما‪ :‬متد ٌد‬
‫أن التمدد هبذا املقدار املعني‪ ،‬معلول‬ ‫بمقدار (س) عند درجة (ح)‪ .‬فهنا نستكشف ّ‬
‫‪63‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لتلك الدرجة اخلاصة‪ ،‬فقط‪ ،‬دون غريها من العوامل‪ ،‬وإالّ لزم أن تكون ظاهرة التمدد‬
‫بمقدار (س) معلولة بال ع ّلة‪ ،‬وحادثة بال جهة‪ ،‬لِصدق النتيجة يف مجيع الظروف‪،‬‬
‫ألن املفروض وحدة األفراد يف مجيع اخلصوصيات‪ّ ،‬إال‬
‫واألمكنة‪ ،‬وهو أمر حمال‪ّ ،‬‬
‫الزمان‪ ،‬واملفروض عدم تأثريه يف احلكم‪ .‬وعىل هذا حيكم العقل ّ‬
‫بأن احلديد‪ ،‬بجميع‬
‫جزئياته وتراكيبه‪ ،‬يتمدد بمقدار (س) عند درجة (ح)‪.‬‬
‫وعىل ضوء هذا‪ ،‬فام من ّتربة ّإال ويف جنبها حكم عقيل يوجب بسط احلكم إىل‬
‫مجيع األفراد ويف مجيع األزمنة‪ ،‬و ُيعرب عنه بالعبارات التالية‪:‬‬
‫أ‪ .‬إذا كانت مجيع اجلزئيات متحدة يف احلقيقة‪ ،‬ففرض وجود اخلصوصية (التمدد‬
‫بمقدار معني) يف بعضها دون بعضها اآلخر‪ ،‬يستلزم وجود هذه اخلصوصية بال‬
‫ع ّلة‪ ،‬وهو حمال‪.‬‬
‫ب‪ .‬إذا كانت مجيع اجلزئيات متحدة يف احلقيقة‪ ،‬وخمتلفة يف الزمان فقط‪ ،‬ففرض وجود‬
‫مرجح‪ ،‬وهو يف حكم‬
‫اخلصوصية يف بعضها دون اآلخر يستلزم الرتجيح بال ّ‬
‫فرض املعلول بال ع ّلة‪.‬‬
‫ج‪ .‬إذا كانت مجيع اجلزئيات متّحدة يف احلقيقة‪ ،‬ففرض وجود اخلصوصية يف بعضها‬
‫دون بعض‪ ،‬يناقض حكم العقل ّ‬
‫بأن حكم األمثال فيام جيوز وما ال جيوز واحد‪.‬‬
‫ففي ظل هذا احلكم العقيل ا ّلذي ّ‬
‫يعرب عنه بتعابري خمتلفة‪ ،‬حيكم العقل برسيان‬
‫احلكم إىل مجيع األفراد يف مجيع األزمنة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال يمكن إرساء احلكم إىل املوضوع ا ّلذي خيتلف مع مورد التجربة اختال ًفا‬
‫فضال عن االختالف الفاحش‪ ،‬فلو كنّا أجرينا التجربة عىل حديد خاص من‬ ‫جزئ ًيا‪ً ،‬‬
‫حيث الرتكيب‪ ،‬كاحلديد املطاوع‪ ،‬فال يمكن إرساء هذا احلكم عىل احلديد ا ّلذي يغايره‬
‫فيه‪ ،‬كالفوالذ‪.‬‬
‫هذا هو األساس النتزاع العلامء قوانني كل ّية عامة من التجربة‪.‬‬
‫ولنرضب ً‬
‫مثاال آخر‪ :‬لو أجرى عا ًملا كيميائ ًيا ّتربة عىل عقار خاص فوجده ناج ًعا‬
‫ومؤثرا يف أفراد معينني من الناس إذا‬
‫ً‬ ‫يف معاجلة الصداع‪ ،‬الناشئ من عوامل معينة‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪64‬‬

‫مرات عديدة ويف ظروف خمتلفة عىل الصداع‬ ‫ُأعطي بمقدار معني‪ .‬ثم كرر التجربة ّ‬
‫ا ّلذي له تلك اخلصوصيات‪ ،‬فوجده مؤ ّث ًرا يف مجيعها‪ ،‬يقطع بالنتيجة ا ّلتي ّ‬
‫توصل إليها‪،‬‬
‫وبعموميتها جلميع احلاالت املامثلة‪ ،‬وما ذلك ّإال ّ‬
‫ألن احلكم بالتخصيص ورفض‬
‫العموم يستلزم تفسري اخلصوصية بطريق غري ممكن‪.‬‬
‫وتلك النتيجة ال تصدُ ق‪ ،‬وذلك العقار ال ينجع يف معاجلة الصداع الناشئ من‬
‫عوامل ُأخرى‪ ،‬أو يف أفراد خمتلفني يف األمزجة‪ ،‬أو إذا ُأعطي بمقادير ّ‬
‫أقل أو أكثر‪ ،‬ففي‬
‫هذه املوارد ال يمكن احلكم بعمومية العالج ورسيانه‪.‬‬
‫وبذلك يعلم الفرق اجلوهري بني االستقراء والتجربة‪ ،‬فاملستقرئ ال جيري عملية‬
‫خاصة سوى املشاهدة‪ ،‬وال يستنبط ع ّلة احلكم أبدً ا‪ ،‬وليس له دافع إىل إرساء احلكم‬
‫املجرب‪ ،‬فإنّه يتس ّلط عىل ع ّلة احلكم ومناطه بحكم الربهان‬
‫ّإال املشاهبة‪ .‬وهذا بخالف ّ‬
‫أن ع ّلة اخلصوصية (التمدّ د بمقدار معني والربء) ليس ّإال نو ًعا‬
‫والعقل‪ ،‬ويقف عىل ّ‬
‫خاصة‪ ،‬أو تأثري العقار يف الداء واملزاج املُعينني‪ ،‬وباملقدار‬
‫معينًا من احلديد يف حرارة ّ‬
‫أن كـل حديد من الرتكيب‬ ‫كيل هو ّ‬ ‫الـمحدّ د‪ ،‬وبعد ذلك يستعدّ العقل النتزاع حكم ّ‬
‫الفالين‪ ،‬ينبسط بمقدار كذا عند حرارة كذا‪ ،‬وهذا العقار ناجع يف إبراء كل صداع‬
‫ناشئ من العوامل الفالنية‪ ،‬يف املزاج الفالين وباملقدار الفالين‪ .‬ولوال التس ّلط عىل‬
‫املناط واإلحاطة بالع ّلة‪ ،‬ملا قدر العقل عىل إرساء احلكم وتوسعته‪.‬‬
‫ومن هنا يتبني أنّه ما من معرفة طبيعية ّتريبية ّإال ويف جنبها معرفة عقلية قطعية‬
‫لوالها لكانت التجربة عقيمة غري مفيدة‪.‬‬
‫وممّن تن ّبه إىل ما ذكرنا الشيخ الرئيس‪ :‬فقد أجاب يف سؤال من سأله عن ع ّلة إيراث‬
‫بأن التجربة ليست بمعنى ّ‬
‫أن تكرار املشاهدات يفيد اليقني‪ ،‬وإنّام‬ ‫التجربة اليقني‪ّ ،‬‬
‫املشاهدات (العملية) تفيد اليقني بضميمة قياس عقيل(‪.)1‬‬
‫وكذلك احلكيم السبزواري‪ ،‬قال‪ :‬العلم يف التجربة منوط بأمرين‪ :‬أحدمها‬
‫دائام وال أكثر ًيا‪ ،‬ثم‬
‫املشاهدة‪ ،‬واآلخر القياس اخلفي‪ ،‬وهو أنّه لو كان اتّفاق ًّيا‪ ،‬ملا كان ً‬
‫)‪ (1‬منطق الشفاء‪.96 :‬‬
‫‪65‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يستثني نقيض التايل لنقيض املقدم(‪.)1‬‬


‫ولألسف‪ّ ،‬‬
‫إن التجربة هبذا املعنى قد نسيت يف اجلامعات العلمية‪ ،‬فرتى ّأهنم‬
‫يفرسوهنا بعملية تعميم وبسط ما تدركه احلواس الظاهرية والباطنية‪ .‬وقد تطرق هذا‬
‫اخلطأ إليهم بسبب تبعيتهم للغربيني حيث يستعملون املشاهدة والتجربة مرتادفني‪ ،‬مع‬
‫أصل من ُأصول اليقينيات الست‪ ،‬كام تقدّ م‪.‬‬
‫كال منهام ٌ‬
‫فإن ً‬
‫أن املشاهدة غري التجربة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫نعم‪ ،‬إنّام تفيد املشاهد ُة اليقني‪ ،‬يف موردها‪ ،‬وال تكون مبدً ا النتزاع حكم ّ‬
‫كيل‪،‬‬
‫فإهنا تكون مبدً ا لقاعدة كل ّية بحكم القياس العقيل‪ .‬فإذا أردنا تفسري‬
‫بخالف التجربة ّ‬
‫تفسري ناقص‪ ،‬وإنّام‬
‫ٌ‬ ‫فلنفرسه باملشاهدة‪ ،‬وأ ّما التجربة‪ ،‬فتفسريها باملشاهدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االستقراء‪،‬‬
‫احلس الظاهري أو الباطني‪ ،‬ثم‬
‫هي عمليات كثرية خمتلفة‪ ،‬يف أجواء متنوعة‪ ،‬يشهدها ّ‬
‫يعمم نتيجتها يف ضوء حكم العقل‪.‬‬
‫ّ‬
‫نقل وتـحليل‬
‫قد عرفت ّ‬
‫أن تعميم حكم التجربة يف مورد‪ ،‬إىل مجيع أفراد الطبيعة ومصاديقها‬
‫ا ّلتي مل ّتر فيها التجربة‪ ،‬إنّام هو بحكم العقل القائل ّ‬
‫بأن حكم األمثال فيمـا يـجوز وما‬
‫للمجرب‪ ،‬بعد تكرر التجربة‪ ،‬اليقني ّ‬
‫بأن النتيجة‬ ‫ّ‬ ‫ال جيوز واحد‪ .‬وبعبارة ُأخرى‪ :‬حيصل‬
‫ا ّلتي أفادهتا راجعة إىل نفس طبيعة اليشء بام هي هي‪ ،‬من دون أ ّية دخالة لغريها من‬
‫واملجرب الخ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الظروف الزمانية واملكانية وآلة التجربة‬
‫أن بعض الغربيني‪ ،‬أعني الفيلسوف جان استوارت ميل (ت‪ ،)1873:‬ذهب‬ ‫غري ّ‬
‫أن تعميم نتيجة التجربة إنّام هو يف ظل قاعدة مس ّلمة هي‪ّ :‬‬
‫إن الطبيعة ‪-‬يف مجيع‬ ‫إىل ّ‬
‫األمكنة واألزمنة‪ -‬متحدة احلقيقة واالقتضاء‪ ،‬فهي تعمل يف مجيع الظروف عىل نسق‬
‫الفلز) يقتيض ذلك األثر‬
‫لفلز معني‪ ،‬ذوبان عند حرارة معينة‪ ،‬فهو (أي ّ‬ ‫واحد‪ .‬فلو كان ّ‬
‫يف مجيع املواطن‪ ،‬سواء أكانت ممّا ُأجريت فيها التجربة أو ال‪.‬‬
‫ولكن أشكل عليه بالدور‪ ،‬وهو ّ‬
‫أن تعميم نتيجة التجربة إىل مجيع األفراد‪ ،‬يتوقف‬
‫عىل ثبوت هذا األصل (الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء)‪ ،‬مع أنّه ليس ً‬
‫أصال عقل ًيا‬
‫)‪ (1‬رشح املنظومة‪ ،‬لناظمها‪.90 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪66‬‬

‫حتّى يعتمد يف ثبوته عىل العقل‪ ،‬وإنّام هو أصل ّتريبي‪ ،‬حيصل بالتجربة‪ .‬ومن املعلوم‬
‫أن عملية التجربة لكشف وحدة الطبيعة حقيق ًة واقتضا ًء‪ ،‬ال يمكن أن تتحقق يف مجيع‬‫ّ‬
‫أفراد الطبيعة‪ ،‬وإنّام تتحقق يف املوارد ا ّلتي ّتري فيها التجربة‪ .‬فتعميم نتيجة هذه‬
‫العمليات املحدودة‪ ،‬يتوقف عىل ثبوت هذا األصل‪ ،‬وهو بعدُ غري ثابت‪ .‬ف ُينتج ّ‬
‫أن‬
‫إثبات كون الطبيعة متّحدة احلقيقة واالقتضاء‪ ،‬يتوقف عىل ثبوت كون الطبيعة متحدة‬
‫احلقيقة واالقتضاء‪ ،‬وهذا دور واضح‪.‬‬
‫لكن «ميل» خت ّلص من هذا الدور بام هذا حاصله‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن وقوف اإلنسان عىل هذا األصل (الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء)‪ ،‬ال يتوقف‬
‫عىل استقراء تام وّتارب متعددة‪ ،‬بل يكفي يف ثبوته ّتربة ناقصة حتصل لإلنسان البسيط‬
‫قبل خوضه يف املباحث العقلية‪ ،‬وهو ما أسامه ب ـ«االستقراء السطحي»‪ .‬وذلك بحجة ّ‬
‫أن‬
‫الطفل إذا أدنى يده من النار وآذته بلهيبها‪ ،‬فإنّه لن يمدّ يده بعد ذلك إىل أ ّية نار‬
‫علام بأنّه سوف يواجه يف املرة الثانية بمثل ما ُوجه به‬ ‫يصادفها‪ّ ،‬‬
‫ألن تلك التجربة تفيده ً‬
‫ّ‬
‫فكأن الطبيعة عنده متحدة احلقيقة واالقتضاء‪.‬‬ ‫يف املرة األُوىل‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬ثبوت هذا األصل عىل الوجه العلمي‪ ،‬يتوقف عىل ّتارب كثرية غري متناهية‪،‬‬
‫يف خمتلف أصناف الطبيعة وأنواعها‪ ،‬حتّى حيصل له العلم هبذا األصل‪ ،‬وهوما أسامه‬
‫ب ـ«االستقراء العلمي»‪ ،‬ويتمكن بالتايل من تدوين العلوم والقوانني والسنن‪ ،‬يف ضوء‬
‫هذا األصل‪ .‬فالقول ّ‬
‫بأن الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء‪ ،‬عبارة إمجالية عن هذه‬
‫التجارب غري املتناهية(‪.)1‬‬
‫يالحظ عليه‪ّ :‬‬
‫إن التجارب املتضافرة الكثرية ا لتي أسامها ب ـ«االستقراء العلمي»‪،‬‬
‫أيضا غري مفيدة للعلم هبذا األصل (الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء)‪ّ .‬‬
‫ألن‬ ‫هي ً‬
‫كثريا منس ًقا‪ ،‬ولكنه بعدُ حمدود‪ ،‬فمن أين علم برسيان النتيجة إىل‬
‫استقراءه‪ ،‬وإن كان ً‬
‫ما تبقى من املوارد غري املتناهية‪ ،‬ا ّلتي ال يفي عمر اإلنسان إلجراء التجربة فيها‪،‬‬
‫أن هذا األصل غري ثابت بعد‪ ،‬ونحن يف طريق إثباته‪.‬‬ ‫واملفروض ّ‬
‫بترصف وتوضيح منّا‪.‬‬
‫)‪ (1‬الحظ الفلسفة العلمية‪ ،‬ل ـ«فيليسني شاله ‪ ،«Felicien Challaye‬ص ‪ّ 112-111‬‬
‫‪67‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وبذلك تصري نتائج التجارب العلمية‪ ،‬ظنونًا مرتاكمة‪ ،‬مشوبة بالشك‪ ،‬وبذلك‬
‫ينسلخ عن العلوم وصف اجلزم والقطعية‪ .‬وقد اعرتف «ميل» بذلك إذ يقول‪ :‬العلوم‬
‫التجريبية ال توجب اليقني املطلق‪ ،‬وليس عندنا اطمئنان مطلق ّ‬
‫بأن غدً ا سيأيت هنار بعد‬
‫هذه الليلة‪ .‬ولكن هذا الشك شك نظري فقط‪ ،‬وإن كانت لتلك العلوم قاطعية‬
‫عملية(‪.)1‬‬
‫واحلق يف إضفاء القطعية والكلية عىل نتائج التجارب‪ ،‬هو ما ذكرنا‪.‬‬
‫التجربة واحلضارة اإلسالمية‬
‫التجربة من أسمى أدوات املعرفة يف العلوم الطبيعية‪ ،‬ويف ظ ّلها يصل‬
‫اإلنسان إىل سنن الكون الكل ّية الصادقة يف مجيع الظروف‪ ،‬من دون أن ختتص‬
‫بزمان أو مكان‪ .‬وهبا يتسامى موكب احلضارة وركب اإلنسانية إىل قمة املعرفة الشاخمة‪،‬‬
‫وكل ما نعايشه من تطور وتس ّلط عىل القوى الطبيعية‪ ،‬مدين للتجربة‪.‬‬
‫ومل هيمل أئمة املسلمني التأكيد عىل هذه الناحية احليوية‪ ،‬وجيد املرء يف كثري من‬
‫عيل بن أيب طالب ‪ ،- -‬تشجي ًعا وح ًّثا عىل ّاختاذ التجربة أداة‬
‫كلامت أمري املؤمنني ّ‬
‫يسريا منها‪:‬‬
‫نزرا ً‬
‫يف عامة نواحي املعرفة‪ ،‬ونذكر فيام ييل ً‬
‫قال ‪:- -‬‬
‫أ‪ .‬التجارب علم مستفاد(‪.)2‬‬
‫ب‪ .‬العقل عقالن‪ :‬عقل الطبع وعقل التجربة‪ ،‬وكالمها يؤ ّدي إىل املنفعة(‪.)3‬‬
‫ت‪ .‬األُمور بالتجربة‪ ،‬واألعامل باخلربة(‪.)4‬‬
‫كام ّ‬
‫أن اإلسالم قد أنتج فطاحل وأساطني عظام يف العلوم الطبيعية‪ ،‬سلكوا‬
‫مسلك التجارب واالختبارات العلمية‪ ،‬فخرجوا بنتائج باهرة‪ ،‬واكتشافات عظيمة‪،‬‬

‫)‪ (1‬املصدر السابق نفسه‪.‬‬


‫)‪ (2‬غرر احلكم لآلمدي‪.224 :‬‬
‫)‪ (3‬بحار األنوار‪.119/17 :‬‬
‫)‪ (4‬غرر احلكم لآلمدي‪224 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪68‬‬

‫دفعت عجلة العلوم البرشية إىل األمام‪ ،‬وأرست قواعد احلضارة املدنية احلديثة‪ .‬وفيام‬
‫بعضا من نوابغهم‪:‬‬
‫ييل نذكر ً‬
‫جابر بن ح ّيان الكويف (‪160-80‬هـ)‬
‫جابر بن ح ّيان‪ ،‬أول رائد مسلم احتضن العلوم الكونية‪ ،‬وعكف عليها بقلبه‬
‫وعقله‪ ،‬وامتزج هبا بروحه ودمه‪ ،‬يدرسها ويبحثها ليدرك أرسارها‪ ،‬ويكتشف جمهوالهتا‬
‫عىل أساس مبدأ التجربة واالختبار‪ ،‬وعىل أساس تفسري الطبيعة بالطبيعة‪ ،‬ال بالفرضيات‬
‫واألشكال املنطقية‪ ،‬فهو من قمم الفكر والثقافة اإلسالمية‪ ،‬ومن مفاخر املسلمني ا ّلتي‬
‫عتز هبا‪ ،‬حتّى لقب بأيب الكيمياء‪ ،‬وقال عنه برتيلو(‪« :)1‬جابر بن حيان ما ألرسطو‬
‫ُي ّ‬
‫طاليس يف املنطق«‪.‬‬
‫وتبدو عبقرية جابر ومواهبه بأنّه كان عالـ ًمـا بالكيمياء بالـمعنى الصحيح‪ ،‬فقد‬
‫درسها دراسة وافية‪ ،‬ووقف عىل ما أنتجه الذين سبقوه‪ ،‬وعىل ما بلغته الـمعرفة فـي‬
‫هذا العلم يف عرصه‪ ،‬وبأنّه أخضع الكيمياء للتجربة واملالحظة واالختبار‪ .‬وهو من‬
‫وموج ًها‬
‫ّ‬ ‫تالمذة اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬حيث وجد يف إمامه سندً ا ومعينًا‪ ،‬ورائدً ا أمينًا‪،‬‬
‫ال يستغني عنه‪.‬‬
‫وأول من اكتشف‬
‫وسامه زيت الزاج‪ّ .‬‬
‫وجابر أول من استخرج حامض الكربيتيك‪ّ ،‬‬
‫«الصـودا الكاويـة» وأول من استحـرض مـاء الذهـب‪ ،‬ومركبـات ُأخـرى كـكربونـات‬
‫البـوتـاسيـوم‪ ،‬وكـربونـات الصـوديوم وغـريها‪ .‬كمـا درس خصـائـص مركبـات الـزئبـق‬
‫واستحرضها‪.‬‬
‫قال «لوبون»‪« :‬تتألف من كتب جابر‪ ،‬موسوعة علمية حتتوي عىل خالصة ما‬
‫وصل إليه علم الكيمياء عند املسلمني يف عرصه‪ ،‬وقد اشتملت كتبه عىل بيان مركبات‬
‫كيميائية‪ ،‬كانت جمهولة قبله‪ ،‬وهو أول من وصف أعامل التقطري والتبلور والتذويب‬
‫والتحويل وغري ذلك»(‪.)2‬‬

‫)‪ (1‬عامل كيميائي فرنيس(‪1907-1827‬م)‪ ،‬له مؤلفات ممتازة يف علم الكيمياء‪.‬‬


‫)‪ (2‬الحظ‪ :‬فالسفة الشيعة‪ ،‬للشيخ عبد اهلل نعمة‪230-184 :‬؛ واألعالم للزركيل‪.104-103/2 :‬‬
‫‪69‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حممد بن زكريا الرازي (‪313-251‬هـ)‬


‫أبو بكر مـحمد بن زكريـا الرازي من أئمـة صنـاعة الطـب‪ ،‬واشتغـل بالسيـمـياء‬
‫والكيمياء‪ ،‬ثم عكف عىل الطب والفلسفة يف كربه‪ ،‬فنبغ واشتهر‪.‬‬
‫وقد ُس ِّمي من تصانيفه ‪ 232‬كتا ًبا ورسالة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫«احلاوي» يف صناعة الطب‪ ،‬وهو أج ّل كتبه‪ .‬ترجم إىل الالتينية‪.‬‬
‫«الطب املنصوري» ترجم إىل الالتينية‪.‬‬
‫«الفصول يف الطب»‪ ،‬ويسمى املرشد‪.‬‬
‫«اجلدري واحلصبة»‪.‬‬
‫«برء الساعة»‪.‬‬
‫وغري ذلك من التآليف(‪.)1‬‬
‫الرئيس ابن سينا (‪428-370‬هـ)‬
‫هو أملع اسم يف تاريخ العلم والفكر والطب‪ ،‬ومن أكرب الفالسفة املسلمني الذين‬
‫بـرزوا فـي الفلسفـة والطـبيعـيات والطـب‪ ،‬ومن الذين دفعـوا عجلة العـلم إلـى األمـام‬
‫خطوات كثرية‪.‬‬
‫وتقوم شهرة الرئيس ‪-‬يف األكثر‪ -‬عىل الفلسفة والطب‪ ،‬وعىل كتبه العميقة ا ّلتي‬
‫وضعها‪ ،‬كاإلشارات‪ ،‬والشفاء‪ ،‬والنجاة والقانون وغريها‪.‬‬
‫وكتابه القانون موسوعة طبية أودع فيها الشيخ كل ما يتع ّلق بالطب‪ ،‬وهو يتألف‬
‫معو ًال‬
‫من مخسة كتب‪ ،‬وفيه يظهر اعتامده عىل االختيار والتجربة‪ .‬وقد بقي هذا الكتاب ّ‬
‫عليه يف علم الطب وعمله ستة قرون من الزمن‪ ،‬وترمجه اإلفرنج إىل لغاهتم‪ ،‬وكانوا‬
‫يتعلمونه يف معاهدهم‪.‬‬
‫وقسم الطبيعيات من كتاب الشفاء‪ ،‬ميلء بالتجارب ا ّلتي أجراها فيها‪ ،‬يقول ً‬
‫مثال‬
‫مرارا‪،‬‬
‫عند البحث عن اهلالة وقوس قزح‪« :‬وقد تواترت مني هذه التجربة بعد ذلك ً‬

‫)‪ (1‬األعالم للزركيل‪.130/6 :‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪70‬‬

‫فظهر يل ّ‬
‫أن السحاب الكدر‪ ،‬ليس يصلح أن يكون مرآ ًة البتة‪ ...‬الخ»(‪.)1‬‬
‫الـحسن بن الـهيثم (‪43-354‬هـ)‬
‫أبو عيل احلسن بن اهليثم‪ ،‬فلكي ريايض وعامل طبيعي‪ ،‬كان أكثر عمله بالبرصيات‪،‬‬
‫والعدسات‪ ،‬واملشهور أنّه هو خمرتع املِجهر‪ .‬له كتاب يف علم املناظر‪ ،‬وقد طبع إىل‬
‫الالتينية وأصبح كتـا ًبا مدرسـ ًّيا فـي أوروبا فـي العصور الوسطى إلـى عرص روجـر‬
‫بيكون (‪1292-1214‬م)‪ .‬وله مقالة يف الضوء(‪.)2‬‬
‫نصري الدين الطويس (‪672-597‬هـ)‬
‫املحقق املشهور حممد بن حممد بن احلسن الطويس من عباقرة الدهر الذين مل تنتج‬
‫منهم الدنيا ّإال القليل‪ .‬نبغ يف الفلسفة والكالم والرياضيات والفلك واإلرصاد‪.‬‬
‫واملحقق الطويس رغم تعمقه يف الفلسفة والكالم‪ّ ،‬‬
‫فإن شهرته لدى باحثي العصور‬
‫املتأخرة‪ ،‬قائمة عىل مواهبه وآثاره يف الرياضيات والفلك واجلغرافية‪ .‬وقد بنى يف مراغة‬
‫(آذربيجان) مرصدً ا يف مجادى األُوىل عام ‪657‬هـ‪ ،‬ورصد ومجاعته الكواكب‪ ،‬وعينوا‬
‫أطواهلا ودرجات عرضها‪.‬‬
‫وقد طلب املحقق إلمتام هذا املرشوع الضخم‪ ،‬من البالد اإلسالمية‪ ،‬نخبة فريدة‬
‫من كرباء علامء الفلك املشهود هلم باملقدرة العلمية‪ .‬وكانت النفقات ا ّلتي رصفت يف‬
‫هذا السبيل باهظة جدً ا‪ .‬وقد ذكر التاريخ أسامء هؤالء العلامء(‪.)3‬‬
‫تم بناء املرصد يف نفس السنة ا ّلتي تويف فيها املحقق‪ ،‬سنة ‪ ،672‬واستغرق‬
‫وقد ّ‬
‫بناؤه مخسة عرش عا ًما‪.‬‬
‫وقد استنبط املحقق الطويس زجيه املعروف بالزيج اإليلخاين يف املرصد املذكور‪،‬‬
‫ونرشه يف كتاب خاص‪ ،‬احتوى عىل جداول وطرائف حسابية جديدة مل تكن معروفة‬

‫)‪ (1‬الشفاء ِقسم الطبيعيات‪ ، 266 :‬الحظ يف أحوال ابن سينا فالسفة الشيعة‪ ،‬لنعمة‪284-256 :‬؛ واألعالم‪:‬‬
‫‪.242-241/2‬‬
‫)‪ (2‬الحظ رحيانة األدب‪ ،‬ملحمد عيل املدرس‪.281/6 :‬‬
‫)‪ (3‬انظر «تاريخ علم الفلك يف العراق»‪ ،39-32 :‬كام يف فالسفة الشيعة‪.484 :‬‬
‫‪71‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫من قبل‪ ،‬لذلك كان هذا الزيج هو املعتمد عليه يف ُأوربا يف عرص النهضة(‪.)1‬‬
‫***‬
‫السادسة‪ :‬اإللهام واإلرشاق‬
‫املادي يف نظرته الكونية إىل العامل‪ ،‬تفرض عليه أن ال يعتقد‬
‫ّ‬ ‫األُصول ا ّلتي يتبناها‬
‫واحلس وما يعتمد عليه من متثيل واستقراء‬‫ّ‬ ‫ّإال بأداتني من أدوات املعرفة‪ :‬العقل‪،‬‬
‫يتجهز هبا عدّ ة‬
‫ّ‬ ‫أن هناك وراء هذه األدوات‪ ،‬أداة ُأخرى‪،‬‬
‫وّتربة‪ .‬وأ ّما اإلهلي‪ ،‬فيعتقد ّ‬
‫ممن طهرت قلوهبم‪ ،‬وصفت أذهاهنم‪ ،‬وصقلت أنفسهم‪ ،‬فاستعدوا لتل ّقي املعارف من‬
‫احلس والشهود‪.‬‬
‫عامل الغيب‪ ،‬وما وراء ّ‬
‫فاملادي‪ ،‬حيث إنّه يعتقد بتساوي الوجود مع املادة‪ ،‬ال يرى للغيب واملعارف‬
‫صحيحا‪ ،‬وربام خيطئه‪ ،‬أو يسكت عنه‬
‫ً‬ ‫املفاضة منه إىل قلوب العرفاء واألولياء‪ ،‬مفهو ًما‬
‫بأن العلم واملختربات مل تكشف عنه شي ًئا‪.‬‬‫قائال ّ‬
‫ً‬
‫وأ ّما اإلهلي املعتقد بكون دائرة الوجود أوسع من املادة‪ ،‬فيعتقد ّ‬
‫بأن هناك شهادة‬
‫وهناك غي ًبا‪ ،‬وأنّه يمكن لإلنسان أن يتصل بعامل الغيب‪ ،‬ويقف عىل أشياء ال يقف عليه‬
‫بحسه وال بعقله‪ ،‬وليست حقيقة هذا الوقوف ّإال إفاضة املعاين واحلقائق والصور‬ ‫ال ّ‬
‫من ذلك العامل إىل نفس العارف السالك امل ّطهر من درن املعايص ورذائل األوصاف‪.‬‬
‫وأ ّما كيف يتصل اإلنسان‪ ،‬املأسور باملادة‪ ،‬بعامل الغيب‪ ،‬فإليك بيانه‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن النفس اإلنسانية بمنزلة املرآة‪ ،‬تنعكس عىل صفحتها حقائق األشياء من عامل‬
‫باحلس والعقل‪ ،‬ولكن كام أن‬
‫ّ‬ ‫الغيب‪ ،‬فيقف عىل صور ومعاين ال يمكن الوقوف عليها‬
‫انعكاس الصور من اخلارج عىل املرآة يتوقف عىل صفائها ووجود رشائط متكّن من‬
‫انعكاسها عليها مثل وقوعها يف زاوية خاصة‪ ،‬وارتفاع احلجب بينها وبني املرئي‪،‬‬
‫كذلك ال بدّ يف انعكاس حقائق األشياء من عامل الغيب‪ ،‬من صفاء النفس وصقالتها‬

‫)‪ (1‬الحظ فالسفة الشيعة‪ .484-472 :‬ومن أراد الوقوف عىل كيفية استخدام املسلمني أداة التجربة للفحص عن‬
‫احلقائق‪ ،‬فعليه الرجوع إىل الكتاب املؤلفة يف هذا املضامر‪ .‬ونكتفي بذكر كتابني منها‪« :‬مرياث اإلسالم»‪ ،‬بقلم‬
‫عدّ ة من املسترشقني‪ .‬و»شمس العرب تسطع عىل الغرب»‪ ،‬تأليف املسترشقة «زيگرند هونكه»‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪72‬‬

‫وطهارهتا من آثار الذنب والعصيان وكل مناف لألخالق والشيم‪ ،‬وحتررها من قيود‬
‫الطبيعة‪ ،‬حتّى يسمع كالم جنود ر ِّبه ووحيهم‪.‬‬
‫ويصب العرفاء الرشائط الالزمة إلمكان التل ّقي من الغيب‪ ،‬يف أمور‪ ،‬ال بدّ من‬
‫حتققها يف النفس‪:‬‬
‫ّ‬
‫تتجىل هلا املعلومات‬ ‫‪ .1‬عدم نقصان جوهرها‪ ،‬بأن ال تكون كنفس الصبي ا ّلتي ال‬
‫لنقصاهنا‪.‬‬
‫‪ .2‬صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة وخبائث املعايص‪ ،‬وهو بمنزلة الصيقل عن‬
‫اخلبث والصدأ‪.‬‬
‫‪ .3‬توجهها الكامل إىل عامل الغيب‪ ،‬وانرصاف فكرها إىل املطلوب‪ ،‬بأن ال تكون‬
‫غارقة يف األُمور الدنيوية‪ ،‬وهو بمنزلة حماذاة املرآة‪.‬‬
‫التعصب والتقليد‪ ،‬وهو بمنزلة ارتفاع احلجب‪ .‬وربام يزيدون قوهلم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .4‬ختليتها عن‬
‫‪ .5‬التوصل إىل املطلوب بتأليف مقدمات مناسبة للوصول إليه عىل الرتتيب‬
‫املخصوص والرشائط املقررة‪.‬‬
‫فإذا ارتفعت حجب العصبية والسيئات عن النفس‪ ،‬وحازت شطر احلق األول‬
‫جل وعال)‪ّ ،‬ت ّلت هلا صورة عامل امللك والشهادة ً‬
‫إمجاال‪ ،‬بحسب ما تستطيعه من‬ ‫(اهلل ّ‬
‫األخذ والتل ّقي‪.‬‬
‫وما يتل ّقاه اإلنسان الطاهر‪ ،‬من عامل الغيب بال إعامل ّ‬
‫احلس والعقل‪ ،‬إن كان راج ًعا‬
‫يسمى إهلا ًما تارة‪ ،‬وإرشا ًقا ُأخرى‪ ،‬وإن كان راج ًعا إىل تربية‬
‫إىل شخص اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫فيسمى‬
‫ّ‬ ‫الناس وتكميل نفوسهم بترشيع قوانني وتعاليم يرتقي هبا املجتمع إىل الكامل‪،‬‬
‫وح ًيا‪ ،‬واإلنسان املتل ّقي له نب ًّيا‪.‬‬
‫ولكن بعض من يدّ عون اإلهلام واإلرشاق‪ ،‬ال يكيلون العقل بصاع‪ ،‬ويردونه عىل‬
‫والبت‪ ،‬ويش ّبهون من يميش طريق املعرفة بالعقل‪ ،‬بمن يميش برجل‬
‫ّ‬ ‫وجه القطع‬
‫خشبية‪.‬‬
‫غري ّ‬
‫أن ذلك مغاالة يف القول‪ ،‬ال يصدقه العقل‪ ،‬فكيف بالكتاب العزيز؟!‬
‫‪73‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مع أنّا نؤاخذ عليهم ّ‬


‫بأن ما ذكروه‪ ،‬هو استدالل بالعقل والربهان عىل إبطال‬
‫العقل‪ ،‬والربهان‪ ،‬حيث يش ّبهون املايش يف طريق كسب املعرفة عىل ضوء العقل‪ ،‬بمن‬
‫يميش برجل خشبية‪ ،‬فكام ّ‬
‫أن الرجل اخلشبية تعرقل اإلنسان عن إدامة امليش‪ ،‬فهكذا‬
‫ّ‬
‫يستدل به عىل حرص أدوات‬ ‫العقل‪ .‬إذ لو مل يكن العقل من أدوات املعرفة‪ ،‬فكيف‬
‫املعرفة باإلهلام واإلرشاق‪.‬‬
‫احلس والعقل أوسع نف ًعا من‬ ‫إن ّ‬‫ولو رفضنا املغاالة يف القول‪ ،‬فاحلق أن نقول‪ّ :‬‬
‫يعم االنتفاع هبام كل الناس‪ ،‬بينام األخريين ال ينتفع هبام‬ ‫اإلهلام واإلرشاق‪ّ ،‬‬
‫فإن األولني ّ‬
‫ّإال ق ّلة ممّن ذكرنا أوصافهم‪ ،‬وليسا رمي ًة ّ‬
‫لكل ن ّبال‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬والذكر احلكيم كام دعا إىل هذا النوع من املعرفة كام سيوافيك‪ ،‬دعا إىل االنتفاع‬
‫كثريا‪ ،‬من ذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ‬
‫باحلس والعقل وأكّد عليه ً‬
‫ّ‬
‫ﱽﱾ﴾(‪.)1‬‬
‫خيص‬ ‫ّ‬
‫املتقشف‪ ،‬فاألخري ّ‬ ‫وهبذا تقف عىل الفرق بني العارف اإلسالمي والصويف‬
‫باحلس‬
‫ّ‬ ‫أداة املعرفة باإلهلام‪ ،‬بينام العارف اإلسالمي‪ ،‬كام يستيضء هبذه األداة‪ ،‬يستيضء‬
‫كال حقه‪.‬‬ ‫والعقل‪ ،‬ويعطي ً‬
‫أيضا املحقق الطويس‪ ،‬كالم‬
‫وللشيخ الرئيس ابن سينا يف اإلشارات‪ ،‬ولشارحه ً‬
‫يف املقام‪ ،‬نذكر منه املقتطفات التالية‪:‬‬
‫قال الشيخ‪ّ :‬‬
‫«إن للعارفني مقامات ودرجات ُخيصون هبا‪ ،‬وهم يف حياهتم الدنيا‪،‬‬
‫وّتردوا عنها إىل عامل‬
‫نضوها ّ‬‫فكأهنم وهم يف جالبيب من أبداهنم‪ ،‬قد ّ‬
‫دون غريهم‪ّ ،‬‬
‫القدس‪ ،‬وهلم ُأمور خفية فيهم‪ ،‬و ُأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها‪ ،‬ويستكربها‬
‫من يعرفها»‪.‬‬
‫وقال املحقق يف رشحه‪« :‬إن نفوسهم الكاملة‪ ،‬وإن كانت يف ظاهر احلال ملتحفة‬
‫وّتردت عن مجيع الشوائب‬
‫بجالبيب األبدان‪ ،‬لكنها كأن قد خلعت تلك اجلالبيب‪ّ ،‬‬
‫املاد ّية‪ ،‬وخلصت إىل عامل القدس متصلة بتلك الذوات الكاملة الربيئة من النقصان‬
‫)‪ (1‬يونس‪.101 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪74‬‬

‫ّ‬
‫وتكل عن‬ ‫والرش‪ ،‬وهلم ُأمور خفية‪ ،‬وهي مشاهداهتم ملا تعجز عن إدراكه األوهام‪،‬‬‫ّ‬
‫بيانه األلسنة‪ ،‬وابتهاجاهتم بام ال عني رأت وال ُأذن سمعت»(‪.)1‬‬
‫أن عار ًفا حدّ ث عن غيب‪،‬‬
‫وقال الشيخ الرئيس يف موضع آخر‪« :‬وإذا بلغك ّ‬
‫يتعرس ّن عليك اإليامن به‪ّ ،‬‬
‫فإن لذلك يف‬ ‫فأصاب‪ ،‬متقدِّ ًما ببرشى أو نذير‪ ،‬فصدِّ ق‪ ،‬وال ّ‬
‫مذاهب الطبيعة أسبا ًبا معلومة»(‪.)2‬‬
‫يرصح ّ‬
‫بأن النفوس القوية إذا كانت غالبة عىل الشواغل‬ ‫ثم ّ‬
‫إن الشيخ الرئيس ِّ‬
‫احلس ّية‪ ،‬تقدر عىل االتّصال بعامل القدس‪ ،‬وتنتقش فيها صور ومعان من ذلك العامل‪،‬‬
‫فكأن انغامر النفس يف عامل الطبيعة‪ ،‬واشتغاهلا باألُمور احلس ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم يعود فيخرب بام أدرك‪.‬‬
‫يمنعها عن االتّصال‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫قوة‪ ،‬كان انفعاهلا عن املحاكيات(‪ّ )3‬‬
‫أقل‪ ،‬وكان ضبطها‬ ‫»كلام كانت النفس اقوى ّ‬
‫للجانبني أشدّ ‪ .‬وكلام كانت بالعكس‪ ،‬كان ذلك عىل العكس»(‪.)4‬‬
‫وقد أشار صدر ّ‬
‫املتأهلني إىل إمكان اإلهلام واإلرشاق بوجه عام‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫رهبا ملشاهدة آياته الكربى‪،‬‬
‫ّتردت عن البدن مهاجرة إىل ّ‬ ‫» ّ‬
‫إن الروح اإلنسانية إذا ّ‬
‫وتطهرت عن املعايص والشهوات والتع ّلقات‪ ،‬الح هلا نور املعرفة واإليامن باهلل وملكوته‬ ‫ّ‬
‫جوهرا قدس ًيا يسمى عند احلكامء يف لسان‬
‫ً‬ ‫األعىل‪ .‬وهذا النور إذا تأكّد وّتوهر‪ ،‬كان‬
‫احلكمة النظرية بالعقل الف ّعال‪ ،‬ويف لسان الرشيعة النبوية بالروح القديس‪.‬‬
‫وهبذا النور الشديد العقيل‪ ،‬يتألأل فيها (أي الروح اإلنسانية) أرسار ما يف األرض‬
‫احليس البرصي‪ ،‬األشباح‬
‫ّ‬ ‫والسامء‪ ،‬وترتاءى منها حقائق األشياء‪ ،‬كام ترتاءى بالنور‬
‫قوة البرص إذا مل يمنعها حجاب‪ .‬واحلجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل‬
‫املثالية يف ّ‬
‫ألن القلوب واألرواح ‪-‬بحسب أصل فطرهتا‪ -‬صاحلة لقبول نور‬ ‫هذا األدنى‪ .‬وذلك ّ‬

‫)‪ (1‬اإلشارات مع رشحه‪ ،‬ج ‪ ،3‬النمط التاسع يف مقامات العارفني‪.364-363 :‬‬


‫)‪ (2‬املصدر السابق‪.398 :‬‬
‫)‪ (3‬أي الشواغل احلسيّة‪.‬‬
‫)‪ (4‬املصدر السابق‪.406 :‬‬
‫‪75‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫احلكمة واإليامن إذا مل يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر‪ ،‬أو حجاب حيجبها كاملعصية‬
‫وما جيري جمراها‪.‬‬
‫وقال‪ :‬إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلامت اهلوى‪ ،‬وو ّلت بوجهها‬
‫رس امللكوت‪،‬‬
‫شطر احلق‪ ،‬وتلقاء عامل امللكوت‪ ،‬اتّصلت بالسعادة القصوى‪ ،‬فالح هلا ّ‬
‫وانعكس عليها قدس الالهوت«(‪.)1‬‬
‫اإللهام واإلرشاق‪ ،‬وعلّمء الغرب‬
‫ّ‬
‫إن علامء الغرب كانوا غارقني يف العلوم الطبيعية‪ ،‬فلم يبحثوا عن هذا النوع من‬
‫أدوات املعرفة ّإال ً‬
‫عابرا‪ .‬ومن أبرز من التفت إىل هذه األداة هو الفيلسوف الفرنيس‬
‫گسن«‪ ،‬يف آراء منفردة له يف األوساط الغربية‪ ،‬حيث ذهب إىل ّ‬
‫أن اإلنسان‬ ‫«هنري بِر ُ‬
‫إنّام يدرك بعقله ظواهر األشياء وقشورها‪ ،‬وأ ّما إدراك حقائقها فإنّام يتم له باملراقبة‬
‫املستمرة التي تنتهي إىل املكاشفة وشهود الوقائع‪ .‬فمث ُل من يريد درك املعارف عن‬
‫طريق العقل‪ ،‬كمثل من يريد أن يطلع عىل ما يف البيت بتفحص جدرانه وسطوحه من‬
‫اخلارج‪ .‬وأ ّما من يريد درك احلقيقة باإلهلام واإلرشاق‪ ،‬فمثله مثل من يلج البيت‬
‫ويتفحص األشياء املوجودة فيه واحدة بعد األُخرى(‪.)2‬‬
‫أن اإلهلام كان العامل الوحيد‬ ‫أن عدّ ة من املكتشفني واملخرتعني ا ّدعوا ّ‬
‫كام ّ‬
‫النتقاهلم إىل بعض املكتشفات واملخرتعات‪ ،‬وربام ا ّدعوا ّأهنم أهلموا ُأ ً‬
‫مورا‪ ،‬وهم يف‬
‫غفلة‪ ،‬وعدم اشتغال بالكشف واالختبار‪.‬‬
‫وقد اعرتف من اعرتف منهم هبذه األداة من دون أن حيدد طريق الوصول إليها‬
‫وكيفية االستضاءة هبا‪ .‬وبعبارة ُأخرى‪ :‬هم حدّ دوا طريق املعرفة بآلية ّ‬
‫احلس والعقل‪،‬‬
‫فطرحوا مباحث ق ّيمة يف كيف ّية االستضاءة هبام‪ ،‬وإزالة املوانع ا ّلتي تعرقل مسرية‬
‫اإلنسان الكتساب املعرفة هبام‪ .‬ولكنهم سكتوا عن آلية اإلرشاق‪ ،‬وأنّه كيف يصل‬

‫)‪ (1‬األسفار األربعة‪.25-24/7 :‬‬


‫)‪ (2‬وله يف ذلك كالم مفصل أتى به الكاتب حممد عيل فروغي يف كتابه «مسرية الفلسفة يف أوروبا»‪،273-264/3 :‬‬
‫فالحظ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪76‬‬

‫اإلنسان إىل تلك األداة‪ ،‬وكيف يستيضء منها‪ ،‬وما هي ُم ِعدّ ُاهتا ورشائطها‪ ،‬وما هي‬
‫موانعها‪.‬‬
‫حرروا هذا اجلانب فكشفوا عن آلية القلب(‪ ،)1‬وقالوا‬ ‫إالّ ّ‬
‫أن العرفاء اإلسالميني ّ‬
‫إن اإلنسان يصل إىل مرتبة خاصة من االسترشاق واالستلهام إذا طوى منازل خاصة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫هي‪:‬‬
‫‪ .1‬اليقظة‪.‬‬
‫‪ .2‬التوبة‪.‬‬
‫‪ .3‬املحاسبة‪.‬‬
‫‪ .4‬اإلنابة‪.‬‬
‫‪ .5‬التفكّر‪.‬‬
‫‪ .6‬التذكر‪.‬‬
‫‪ .7‬االعتصام‪.‬‬
‫‪ .8‬االنقطاع‪.‬‬
‫‪ .9‬كبح مجاح النفس‪.‬‬
‫‪ .10‬درك اللطائف‪.‬‬
‫وقد فصلوا الكالم يف هذه املنازل ا ّلتي ّ‬
‫تسمى عندهم «منازل السائرين»‪.‬‬
‫وفيام ييل نذكر هنا ً‬
‫إمجاال آل ّية هذه األداة‪:‬‬

‫آلية القلب ف إدراك املعارف‬


‫ّ‬
‫إن تفصيل هذه الـمنازل يتوقف عـىل عرض عرفان إسالمي عىل الباحثـني‪ ،‬وهذا‬
‫طي هذه املنازل يف احلياة العلمية‪.‬‬
‫ال يناسب موضوع الكتاب‪ ،‬وإنّام نذكر أثر ِّ‬

‫)‪ (1‬ليس املراد من القلب اجلسم الصنوبري ا ّلذي ليس له وظيفة سوى ّ‬
‫ضخ الد ّم إىل أجزاء البدن‪ ،‬بل املراد نفس‬
‫اإلنسان وروحه الواعية‪ .‬وإليه يشري قوله سبحانه‪﴿ :‬ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ‬
‫ﱜ ﱝ﴾ (ق‪ ،)37 :‬ومن املعلوم أن ليس املراد من القلب هنا هو القلب اجلسامين‪ّ ،‬‬
‫ألن كل إنسان يمتلك‬
‫هذا القلب وإنّام املراد من كان له عقل مدرك وواع‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لطي هذه املنازل أثرين بارزين يف الوقوف عىل املعارف‪:‬‬


‫إن ّ‬ ‫ّ‬
‫إن البارصة الظاهرية تقدر عىل رؤية األشياء البعيدة عنها‪ .‬ولكن إذا كان هناك‬‫‪ّ .1‬‬
‫ضباب أو غبار‪ ،‬ينحرص البرص برؤية األشياء القريبة فقط‪ ،‬فالضباب والغبار‬
‫مانعان عن الرؤية‪ ،‬ولكن البارصة مستعدة هلا‪.‬‬
‫احلس‬
‫ّ‬ ‫التعرف عىل احلقائق املوجودة يف جمال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن النفس اإلنسانية قادرة عىل‬
‫منكرا للمحسوس‬
‫ً‬ ‫والعقل‪ .‬لكن العصبية واهلوى يعميان اإلنسان‪ ،‬فيعود‬
‫جمر ًدا‬
‫خالصا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫واملعقول‪ ،‬فأدنى أثر لطي هذه املنازل هو صريورة اإلنسان‪ ،‬إنسانًا‬
‫كامال ال يطلب ّإال الواقع وال يعشق ّإال احلقيقة‪،‬‬
‫عن اهلوى والعصبية املعميني‪ً ،‬‬
‫سواء أكانت لصاحله أم ال‪ ،‬وافقت انتامءه القومي أم ال‪ ،‬وغري ذلك من موانع‬
‫املعرفة‪.‬‬
‫واقتدارا عىل االتّصال بعامل الغيب‪ ،‬وإرشاق‬
‫ً‬ ‫قوة‬
‫طي هذه املنازل يعطي للنفس ّ‬
‫إن ّ‬‫‪ّ .2‬‬
‫صور ومعان منه عليها‪ ،‬و ُيلهم مفاهيم وحقائق ال يتوصل اإلنسان العادي إليها‬
‫بأدوات املعرفة احلس ّية والعقلية‪.‬‬
‫وحيذرون من ُأمور‪ :‬يوصون باإليثار والتقوى‬
‫ّ‬ ‫وعلامء األخالق يوصون ُبأمور‪،‬‬
‫والشجاعة واالستقامة‪ .‬ويـ ّ‬
‫حذرون من البخل‪ ،‬واالنحالل‪ ،‬والـجبن واالنخذال‬
‫ولكنهم يكتفون باإليصاء بتلك والتحذير من هذه‪ ،‬من دون اإلفاضة يف كيفية‬
‫توصل اإلنسان إليها‪ ،‬وأنّه يف ظل أي عامل يقدر عىل حتصيل الفضائل‪ ،‬وحتت‬
‫ّ‬
‫أي حافز يستطيع اجتناب الرذائل‪ ،‬فهذه النقطة احلساسة قد ُأهـملت فـي كتب‬
‫األخالق‪ ،‬فال ّتد فيها سوى الدعوة إىل الفضائل ولزوم التحيل هبا‪ ،‬والتحذير‬
‫عن الرذائل ولزوم اجتناهبا‪ ،‬من دون بيان الطرق ا ّلتي يصل هبا اإلنسان إىل تلك‬
‫األُمنية الكربى‪.‬‬
‫وقد سدّ العرفاء اإلسالميون هذه الثغرة‪ ،‬وب ّينوا الوسيلة ا ّلتي يبلغ هبا اإلنسان‬
‫تلك األمهية‪ ،‬وهي سلوك املنازل العرشة املتقدم ذكرها‪ ،‬ليصري اإلنسان بعدها‪،‬‬
‫حس وعقل وشهود‪.‬‬ ‫إنسانًا ً‬
‫كامال ذا ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪78‬‬

‫الفتوحات الغيبية والذكر الحكيم‬


‫ّ‬
‫املتحيل بالفضائل‪،‬‬ ‫ترصح ّ‬
‫بأن اإلنسان املتّقي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن يف الذكر احلكيم آليات كثرية ِّ‬
‫تنزه عن الرذائل‪ ،‬ترعاه عناية اهلل تعاىل‪ ،‬وتفيض عليه اهلداية بعد اهلداية‪ ،‬والعلم‬
‫وامل ّ‬
‫بعد العلم‪ ،‬وال يزال يرقى مدارج املعرفة حتّى يبلغ مقام شهود عامل الغيب‪ .‬ونذكر فيام‬
‫ييل نبذة منها‪.‬‬
‫عز ّ‬
‫وجل‪﴿ :‬ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ﴾(‪. )1‬‬ ‫أ‪ .‬يقول ّ‬
‫احلق والباطل‪ ،‬ومت ّيزون به بني الصحيح‬
‫تفرقون به بني ّ‬
‫نورا ّ‬
‫أي جيعل يف قلوبكم ً‬
‫والزائف‪ ،‬تارة بالربهنة واالستدالل‪ ،‬و ُأخرى بالشهود واملكاشفة‪.‬‬
‫ب‪ .‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ‬
‫ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ﴾(‪ ،)2‬واملراد‬
‫بالنور‪ ،‬النور ا ّلذي يميش املؤمن يف ضوئه يف دينه ودنياه وآخرته‪ ،‬وهذا النور‬
‫نتيجة إيامنه وتقاه‪ .‬ويوضحه قوله سبحانه‪﴿ :‬ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ‬
‫ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙ﴾(‪.)3‬‬
‫ت‪ .‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ﴾(‪.)4‬‬
‫ف ّ‬
‫إن العطف حيكي عن وجود صلة بني التّقى والتعليم‪.‬‬
‫ث‪ .‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ﴾(‪ .)5‬واملراد رؤية اجلحيم‬
‫ألهنا من‬
‫قبل يوم القيامة‪ ،‬رؤية قلبية‪ .‬وهذه الرؤية غري متحققة ملن أهلاه التكاثر‪ّ ،‬‬
‫آثار اليقني‪ ،‬ومن أهلاه التكاثر خلو منه‪.‬‬
‫ج‪ .‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ﴾(‪ .)6‬فلو أقام اإلنسان‬
‫)‪ (1‬األنفال‪.29 :‬‬
‫)‪ (2‬احلديد‪.28 :‬‬
‫)‪ (3‬األنعام‪.122 :‬‬
‫)‪ (4‬البقرة‪282 :‬‬
‫)‪ (5‬التكاثر‪ 3 :‬و ‪.4‬‬
‫)‪ (6‬حممد‪.17 :‬‬
‫‪79‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هدى وآتاه تقواه‪ .‬وال‬


‫ً‬ ‫نفسه يف مسري اهلداية‪ ،‬وطلبها من اهلل سبحانه‪ ،‬زاده تعاىل‬
‫ختتص اهلداية بالعمل حتّى ُتفرس بتوفيقه سبحانه للطاعات‪ ،‬بل هي أوسع من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫تبني‬
‫ح‪ .‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ﴾ ‪ ،‬واآلية ِّ‬
‫(‪)1‬‬

‫وتغربوا حف ًظا لدينهم‪ ،‬فزاد اهلل من‬


‫حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ّ‬
‫هداه فيهم‪ ،‬وربط عىل قلوهبم‪ ،‬كام يقول سبحانه‪﴿ :‬ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ‬
‫ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ﴾(‪.)2‬‬
‫فهذه اآليات ُتعرب عن ّ‬
‫أن نافذة الفتوحات الباطنية‪ ،‬واملكاشفات واملشاهدات‬
‫غري مسدودة‪ ،‬بل هي تتنزل عىل األمثل فاألمثل من‬
‫الروحية‪ ،‬واإللقاءات يف الروع‪ُ ،‬‬
‫أفراد األُ ّمة‪.‬‬
‫اإلمام عيل واإلنسان املثايل‬
‫ولإلمام عيل بن أيب طالب ‪ ،- -‬ترصحيات وإشارات إىل انفتاح هذه النافذة‬
‫يف وجه اإلنسان‪:‬‬
‫‪ .1‬يقول ‪ - -‬يف املتّقي‪« :‬قد أحيا عقله‪ ،‬وأمات نفسه‪ ،‬حتّى دق جلي ُله‪ ،‬ولطف‬
‫المع كثري الربق‪ ،‬فأبان له الطريق‪ ،‬وسلك به السبيل«(‪.)3‬‬
‫غليظه‪ ،‬وبرق له ٌ‬
‫‪ .2‬ويقول ‪ - -‬يف حجج اهلل تعاىل يف أرضه‪« :‬هجم هبم العلم عىل حقيقة‬
‫البصرية‪ ،‬وبارشوا روح اليقني«(‪.)4‬‬
‫‪ .3‬ويقول ‪« :- -‬ومابرح هلل عزت آالؤه‪ ،‬يف الربهة بعد الربهة‪ ،‬ويف أزمان‬
‫الفرتات‪ ،‬عبا ٌد ناجاهم اهلل يف فكرهم‪ ،‬وكلمهم يف ذات عقوهلم«(‪.)5‬‬

‫)‪ (1‬الكهف‪.13 :‬‬


‫)‪ (2‬الكهف‪.14 :‬‬
‫)‪ (3‬هنج البالغة‪ ،‬اخلطبة ‪.215‬‬
‫)‪ (4‬هنج البالغة‪ ،‬الكلم القصار‪ ،‬الرقم ‪ .147‬من كالم له ‪.- -‬‬
‫)‪ (5‬هنج البالغة‪ ،‬اخلطبة ‪117‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪80‬‬

‫أن املعرفة احلقيقية ا ّلتي حتيا هبا نفس اإلنسان‪،‬‬


‫هذه اآليات والروايات توقفنا عىل ّ‬
‫ال ُتستوّف بالسرب الفكري‪ ،‬وإنّام بتهذيب النفس‪ ،‬وتطهريالقلب‪ ،‬واالنقطاع عن كل‬
‫يشء‪ ،‬حتّى يرفع دوهنا كل حجاب مرضوب‪ ،‬وكل ستار مسدول‪ ،‬فريى عامل الغيب‬
‫ويعاين معارفه وحقائقه بعني القلب‪.‬‬
‫وإكامل هذا البحث يتوقف عىل رشح األسفار ا ّلتي يسلكها العارف يف سريه‬
‫الروحي واملعنوي‪ ،‬ولكنه بحث واسع‪ ،‬ال يسعه املقام‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وال حيق للباحث الكريم أن يستنتج ممّا تقدّ م ّ‬
‫أن دعوى آل ّية القلب واملكاشفة‬
‫والشهود واإلهلام‪ ،‬يف كسب املعرفة احل ّقة‪ ،‬إحباط ملقام ّ‬
‫احلس والعقل‪ ،‬وإنكار لفضلهام‬
‫إن ّ‬
‫لكل أداة مقامها‪ ،‬وجمال عملها‪،‬‬ ‫ولزوم إعامهلام‪ .‬ال‪ ،‬ليس األمر كذلك البتّة‪ ،‬بل ّ‬
‫وسيأيت مدى قيمة هذه األداة‪.‬‬
‫الـوحـي‬
‫املسامة بالوحي يف‬
‫تقرب من اإلهلام واإلرشاق‪ ،‬وهي ّ‬ ‫إن هناك أدا ًة ُأخرى ُ‬
‫ثم ّ‬
‫مصطلح الرشع‪ ،‬وهو ا ّلذي ّ‬
‫خيص به اخلالق تعاىل أنبياءه‪.‬‬
‫احلس وال العقل‬
‫والوحي إدراك خاص متم ّيز عن سائر اإلدراكات‪ ،‬وليس نتاج ّ‬
‫وال الغريزة‪ ،‬وإنّام هو شعور خاص يوجده سبحانه يف بعض عباده الصاحلني‪ ،‬وهو‬
‫يغاير الشعور الفكري املشرتك بني أفراد اإلنسان عا ّمة‪ .‬ومن ينزل عليه الوحي ال يغلط‬
‫أن ا ّلذي يوحي إليه هو اهلل تعاىل‪،‬‬
‫يف إدراكه‪ ،‬وال خيتلجه شك‪ ،‬وال يعرتضه ريب يف ّ‬
‫من غري أن حيتاج إىل إعامل نظر أو التامس دليل أو إقامة حجة‪ .‬ولو افتقر إىل يشء من‬
‫ذلك لكان اكتسا ًبا عن طريق القوة النظرية ال تلق ًّيا من الغيب‪.‬‬
‫والفرق بني الوحي وما تقدم من اإلهلام واإلرشاق هو ّ‬
‫أن الوحي يتضمن تعاليم‬
‫يف جمايل العقيدة والعمل‪ ،‬فيكون املوحى إليه نب ًيا مبعو ًثا من جانب اخلالق تعاىل لرتبية‬
‫الناس وتزكيتهم‪.‬‬
‫فإهنام ال يتضمنان ترشي ًعا وال تقنينًا‪ ،‬وال يكون‬
‫وهذا بخالف اإلهلام واإلرشاق‪ّ ،‬‬
‫املُله ُم مبعو ًثا من جانبه سبحانه لتبليغ ما ُأهلم‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قيمة اإللهام واإلرشاق‬


‫ّ‬
‫إن قبول قول بال حجة وال برهان‪ ،‬خروج عن الفطرة‪ ،‬فاإلنسان العاقل هو من‬
‫يصح له تعميم‬
‫ّ‬ ‫يقبل الدعوى إذا قورنت بالدليل‪ ،‬فصاحب املعرفة احلس ّية أو العقلية‬
‫معرفته إىل غريه‪ ،‬فريشدنا إىل ُمبرصاته ومسموعاته‪ ،‬فنقبلها ألجل تطابق احلسني‪،‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ويرشدنا إىل ما عقله بالربهان‪ ،‬فنتعقله به ً‬
‫أمرا غري حمسوس وال معلوم بالربهان‪ ،‬فيكون‬ ‫وأ ّما مدّ عي اإلهلام‪ ،‬فبام أ ّنه يدّ عي ً‬
‫ودليال له ال للغري‪ .‬وال يمكنه تعميم ما ُأ ِهلم وأرشق‬
‫ً‬ ‫شهوده حج ًة عىل نفسه فحسب‪،‬‬
‫عىل قلبه‪ ،‬وإراءته لغريه ليشاهده ويعاينه ويرشق عىل قلبه‪ّ ،‬‬
‫ألن لإلهلام واإلرشاق‬
‫مبادئ ومؤهالت خاصة‪ ،‬كام تقدّ م‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك‪ ،‬ال ّ‬
‫يكذب مدّ عي الشهود والكشف‪ ،‬غاية األمر أنّه ال يمكن‬
‫تعدية ما انكشف له ليكون قاعدة مطردة يف جماالت العلم واملعرفة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إذا تضمن االتّصال بعامل الغيب تن ّب ًؤا بالوظائف اإلنسانية يف جمايل العمل‬
‫والعمل‪ ،‬كام يف الوحي‪ ،‬يكون حجة عىل اجلميع‪ ،‬ويكون املخرب نب ًيا‪ ،‬والتابعون له ُأمة‪،‬‬
‫وللبحث يف هذا جمال آخر(‪.)1‬‬
‫***‬

‫)‪ (1‬انظر‪ :‬كتاب اإلهليات‪ ،‬مباحث النبوة العا ّمة‪ ،‬الوحي‪.‬‬


‫ّ‬‫القسـم الثـان‬
‫مـراحـل الـمـعـرفـة‬
‫ملراحل املعرفة صلة وثيقة بالبحث عن أداهتا‪ّ ،‬‬
‫إن الفالسفة يف هذا املجال عىل‬
‫طائفتني‪ :‬فمنهم من يقول ّ‬
‫بأن للمعرفة مرحلة واحدة فقط‪ .‬ومنهم من يعتقد بتعدد‬
‫مراحلها‪.‬‬
‫والنظرية األُوىل‪ ،‬أعني وحدة مراحل املعرفة مرتتبة عىل القول بوحدة أداة املعرفة‪،‬‬
‫كام ّ‬
‫أن النظرية الثانية مرتتبة عىل تعدد أدواهتا‪.‬‬
‫احلس‪ ،‬أو يف العقل‪-‬‬
‫أ ّما القائلون بوحدة أداة املعرفة ‪-‬كالقائلني بانحصارها يف ّ‬
‫فيحاولون إرجاع مجيع مراحلها إىل مرحلة واحدة‪.‬‬
‫باحلس‪ ،‬إذا واجهوا املفاهيم الكلية ا ّلتي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مثال‪ :‬القائلون بانحصار أدوات املعرفة‬
‫للحس إليها سبيل‪ ،‬يقولون ّ‬
‫بأن املفاهيم‬ ‫ّ‬ ‫يدركها اإلنسان يف ذهنه من دون أن يكون‬
‫الكل ّية ليست ّإال الفرد املبهم من دون أن يكون وراءه يشء آخر‪ .‬فكل فرد إذا أدركه‬
‫حمسوسا‪ ،‬ولكن ربام حياول اإلنسان‬
‫ً‬ ‫اإلنسان بمشخصاته ومميزاته‪ ،‬يكون املدرك جزئ ًّيا‬
‫تنايس املشخصات واملميزات‪ ،‬فعند ذلك يتبلور هذا‬
‫الفرد الشخيص بصورة الفرد املبهم‪ ،‬ويطلق عليه اإلنسان الكيل‪ .‬فليس اإلنسان‬
‫الكيل إ ّال الفرد املبهم ا ّلذي حذفت أو نسيت مشخصاته ومم ّيزاته‪ .‬فام أشبه هذا الفرد‬
‫بالعملة املعدنية الرائجة إذا ُطمست نقوشها من كثرة التداول‪ ،‬فلم يبق منها ّإال جسم‬
‫العملة دون مشخصاهتا‪.‬‬
‫ّ‬
‫املشاق يف حتليل املفاهيم‬ ‫وأنت ترى كيف يتحمل هذا القائل بوحدة األداة‪،‬‬
‫العقلية‪ .‬وما هذا ّإال ألنّه مل يعتقد ّإال بأداة واحدة‪ ،‬ولو كان مؤمنًا بأداتني لصدّ ق‬
‫ِّ‬
‫مشخصاته‪.‬‬ ‫باملفاهيم الكلية العقلية ا ّلتي هي بمنأى عن الفرد ا ّلذي نسيت‬
‫للحس وزنًا‪ .‬فهذا‬
‫ّ‬ ‫وهكذا القائل بانحصار األداة بالعقل ك ـ«ديكارت»‪ ،‬فإنّه ال يقيم‬
‫إذا واجه املحسوسات ‪-‬ا ّلتي يدركها اإلنسان بحواسه‪ -‬يضيق عليه اخلناق‪ ،‬ويقول ّ‬
‫إن‬
‫احلس ال يوصلنا إىل حقيقة األشياء وإنّام هو لينتفع به اإلنسان يف حياته ال أكثر‪ ،‬كام تقدم‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪83‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ونظري ذينك املنهجني‪ ،‬منهج القائلني بانحصار معرفة احلقائق باإلهلام واإلرشاق‪،‬‬
‫املنقول عن الفيلسوف الغريب ِ‬
‫«بر ُگسن«‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪ ،‬فنحن نرضب الصفح دون البحث حول هذه املناهج النابعة عن‬
‫القول بوحدة األداة‪ّ ،‬‬
‫ألن إنكار تعددها وكثرهتا‪ ،‬أشبه بإنكار الرضوريات كام عرفت‪.‬‬
‫ونعطف عنان البحث إىل املراحل املتعددة للمعرفة‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫أيضا عىل طوائف نعرب عنهم بالعناوين التالية‪:‬‬ ‫ّ‬
‫إن القائلني بتعدد املراحل هم ً‬
‫أ‪ .‬أصحاب الفلسفة العلمية‪.‬‬
‫ب‪ .‬أصحاب الفلسفة املاد ّية الديالكتيك ّية‪.‬‬
‫ج‪ .‬الفالسفة اإلسالم ّيون‪.‬‬
‫***‬
‫أ ‪ .‬نظرية الفلسفة العلمية ف تعدد مراحل املعرفة‬
‫يقسمون مراحل املعرفة إىل األقسام التالية‪:‬‬ ‫ّ‬
‫إن أصحاب هذه النظرية ّ‬
‫‪ .1‬املعرفة احلس ّية‪.‬‬
‫‪ .2‬املعرفة العلمية‪.‬‬
‫‪ .3‬املعرفة الفلسفية‪.‬‬
‫فكل معرفة متقدمة‪ ،‬تكون مقدِّ م ًة حلصول معرفة أوسع وأكمل‪ ،‬وإليك البيان‪:‬‬
‫خاصا كالرصاص‪ ،‬فرأى انّه يذوب عند درجة‬ ‫عرض اإلنسان للنار معدنًا ًّ‬
‫إذا ّ‬
‫مبتىل بالصداع ً‬
‫مثال‪ ،‬قد برئ عند استعامل عشبة طب ّية‬ ‫مريضا ما ً‬
‫ً‬ ‫خاصة؛ أو الحظ ّ‬
‫أن‬
‫احلس‪.‬‬
‫معينة‪ ،‬فهذه املرحلة يطلق عليها املرحلة احلس ّية‪ ،‬إذ هي ال تتجاوز إطار ّ‬
‫مرات عديدة ويف ظروف خمتلفة‪ ،‬استطاع العقل أن ينتزع‬
‫كرر هذا العمل ّ‬‫ثم إذا ّ‬
‫منه قانونًا كل ًّيا وهو ّ‬
‫أن الرصاص يذوب عند درجة كذا‪ ،‬والنبات الفالين مرب ٌء من‬
‫الصداع‪ ،‬فهذه املرحلة هي املرحلة العلمية‪ ،‬ومنها يستنتج قاعدة وقانونًا علم ًيا عا ًما‪.‬‬
‫وأ ّما املعرفة الفلسفية فهي عندهم عبارة عن املعرفة ا ّلتي ال ختتص بعلم دون علم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪84‬‬

‫أو موضوع دون موضوع‪ ،‬وإن شئت قلت‪ :‬هي عبارة عن املعرفة العامة املنتزعة من‬
‫غالب العلوم أو مجيعها‪.‬‬
‫ً‬
‫مثال‪ :‬القوانني الرياضية خمتصة بموضوعها كالكم املنفصل واملتصل (األعداد‪،‬‬
‫والسطوح)‪ ،‬وهكذا قوانني العلوم الفيزيائية والكيميائية‪ .‬وأ ّما إذا انتزع اإلنسان من‬
‫هذه القوانني والعلوم قاعد ًة تثبتها مجيعها أو غالبها فهي قانون فلسفي‪ ،‬كقانون‬
‫التكامل العام ا ّلذي تدعمه مجيع العلوم التجريبية‪ .‬فالتكامل أمر يثبته علم األحياء‬
‫وعلم االجتامع وغريمها‪ .‬فاملطلع عىل هذه العلوم يصل إىل معرفة فلسفية وينتزع منها‬
‫قانونًا كل ًّيا سائدً ا عىل الكون أمجع‪.‬‬
‫وهذه املرحلة من املعرفة فوق املرحلة العلمية‪ّ ،‬‬
‫فإن املعرفة العلم ّية ختتص بموضوع‬
‫خاص ال تتجاوزه‪ ،‬بينام املعرفة الفلسفية هي معرفة حكم يعم موضوعات كثرية‪.‬‬
‫وعىل ضوء ذلك‪ ،‬فاملسائل الفلسفية‪ ،‬نتيجة العلوم‪ ،‬وال ختتلف عن املسائل‬
‫العلمية ّإال بعلو درجة املعرفة‪ ،‬فإذا كانت املعرفة راجعة إىل موضوع خاص‪ّ ،‬‬
‫تسمى‬
‫املعرفة معرف ًة علمي ًة‪ ،‬واملسألة املعلومة مسأل ًة علمي ًة‪ .‬وأ ّما إذا ّتاوزت املعرفة موضو ًعا‬
‫وعمت غالب املوضوعات أو مجيعها‪ ،‬فاملعرفة فلسفية واملسألة املعلومة مسألة‬
‫معينًا ّ‬
‫جوهرا مع املسائل العلمية‪.‬‬
‫ً‬ ‫فلسفية‪ ،‬فليست املسائل الفلسفية متغايرة‬
‫هذا ما يذهب إليه أصحاب الفلسفة العلمية ونحن نع ّلق عليه ما ييل‪:‬‬
‫‪ّ .1‬‬
‫إن ما ذكره أصحاب الفلسفة العلمية من هذه املراحل الثالث ال ننكر منه شي ًئا‪،‬‬
‫عقيل إليها‪ ،‬وأ ّما‬
‫ّ‬ ‫ولكن املعرفة العلمية عن طريق التجربة حتتاج إىل ضم حكم‬
‫نفس التجربة فال تعطي قانونًا كل ًّيا يف جمال العلم‪ ،‬بل العقل إذا الحظ وجود‬
‫التامثل بني مورد التجربة وغريها‪ ،‬حيكم برسيان احلكم إىل مجيع املوارد بحجة ّ‬
‫أن‬
‫املتامثلني متساويان يف األحكام‪ .‬ولوال هذا احلكم ملا ّتاوز حكم التجربة‬
‫مواردها‪ .‬وقد تقدم الكالم يف ذلك‪.‬‬
‫جوهرا وذاتًا‪ ،‬وليست املعرفة‬
‫ً‬ ‫إن املسائل الفلسفية ختتلف عن املسائل العلمية‬ ‫‪ّ .2‬‬
‫الفلسفية نتيجة لرت ّقي املعرفة العلمية حتّى يلزم كون املعرفة علمي ًة إذا كان احلكم‬
‫‪85‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عمت مجيع املوضوعات‪ّ ،‬‬


‫فإن هذا التفسري خاطئ‬ ‫خمتصا بموضوع‪ ،‬وفلسفية إذا ّ‬‫ً‬
‫جدً ا‪ ،‬بل املسائل الفلسفية تفرتق عن العلمية موضو ًعا‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ان كل معرفة‬
‫ختتص بالبحث عن أحوال املوجود الطبيعي املادي املتح ِّيث بحيث ّية جسامنية أو‬
‫عم احلكم‬
‫رياضية أو هندسية‪ ،‬فهو معرفة علمية‪ ،‬وأبحاثها أبحاث علمية‪ ،‬وإن ّ‬
‫مجيع هذه املوضوعات‪.‬‬
‫فالعلم الباحث عن اخلواص الظاهرية والباطنية لألجسام‪ ،‬كعلمي الفيزياء‬
‫والكيمياء‪ ،‬والباحث عن أحكام الكم املنفصل كاحلساب‪ ،‬والكم املتصل كاهلندسة‪،‬‬
‫و‪ ،...‬كلها مسائل علمية‪ّ ،‬‬
‫ألن املوضوع فيها مق ّيدٌ بحيثية طبيع ّية ماد ّية متبلورة يف‬
‫احليثية الطبيعية أو التعليمية احلسابية أو اهلندسية‪.‬‬
‫احلي املادي‪ ،‬سواء أكان راج ًعا إىل اإلنسان‬
‫أن البحث عن عوارض املوجود ّ‬ ‫كام ّ‬
‫أم احليوان أم النبات‪ ،‬بحث علمي طبيعي‪ .‬وهكذا كل األبحاث العلمية ا ّلتي تأخذ‬
‫لنفسها موضو ًعا ماد ًيا وتبحث عن عوارضه‪ ،‬فهي كلها بحوث علمية حتّى ولو انتزع‬
‫من الكل قانون عام يشمل أكثر العلوم أو مجيعها‪ ،‬كالتكامل‪ ،‬فإنّه نتيجة العلوم‬
‫املتنوعة‪ ،‬وليس نتيجة العلوم ّإال نفس العلوم ال غري‪.‬‬
‫عام يأخذ لنفسه موضو ًعا عا ًّما غري متق ِّيد بحيثية‬
‫وأ ّما املسائل الفلسفية فهي عبارة ّ‬
‫طبيعية أو تعليمية‪ ،‬بل تبحث عن املوجود بام هو هو‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫املوجود إ ّما واجب‪ ،‬أو ممكن‪.‬‬
‫واملمكن إ ّما جوهر‪ ،‬أو عرض‪.‬‬
‫واجلوهر إ ّما نفس‪ ،‬أو عقل‪ ،‬أو جسم‪ ،‬أو صورة‪ ،‬أو هيويل‪.‬‬
‫والعرض إ ّما كم‪ ،‬أو كيف‪ ،‬أو وضع‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو انفعال‪ ،‬أو أين‪ ،‬أو متى‪ ،‬أو‬
‫ملك‪ ،‬أو إضافة‪.‬‬
‫إىل غري ذلك من التقسيامت الواردة عىل املوجود من حيث هو هو‪ ،‬حتّى قولنا‪:‬‬
‫املوجود إ ّما علة أو معلول‪ ،‬وغري ذلك من األحكام العارضة عىل املوجود من حيث‬
‫هو هو‪ ،‬من دون أن يتق ّيد بحيثية طبيعية أو تعليم ّية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪86‬‬

‫وبذلك تظهر رئاسة املسائل الفلسفية عىل العلوم ّ‬


‫ألن العلوم يف إثبات موضوعاهتا‪،‬‬
‫حمتاجة إىل الفلسفة‪ ،‬كإثبات الكم يف احلساب واهلندسة‪ ،‬كام يظهر أن تغري العلوم‬
‫يغري شي ًئا يف املسائل الفلسفية ّ‬
‫فإن قولنا‪ :‬كل ممكن حيتاج‬ ‫وتبدل الفروض العلمية ال ّ‬
‫إن واجب الوجود غني عن الع ّلة‪ ،‬مسائل ثابتة ال يزعزعها ّ‬
‫تغري الفروض‬ ‫إىل ع ّلة‪ ،‬أو‪ّ :‬‬
‫العلمية وتبدّ هلا‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬من جعل املسائل الفلسفية منتزعة من العلوم‪ ،‬جعلها مسائل متزلزلة غري‬
‫التغري والتبدّ ل‪.‬‬
‫مهب ّ‬ ‫يقينية لتبع ّيتها ملسائل العلوم ا ّلتي هي بدورها يف ّ‬
‫ب ‪ .‬نظرية أصحاب الفلسفة املادية الديالكتيكية‬
‫ّ‬
‫إن أصحاب هذه الفلسفة يعتقدون بتعدد مراحل الفلسفة‪ ،‬كأصحاب الفلسفة‬
‫العلمية‪ ،‬غري ّأهنم يبينون تعدد املراحل بالشكل التايل‪:‬‬
‫احلس‪.‬‬
‫‪ .1‬مرحلة ّ‬
‫‪ .2‬مرحلة التعقل‪.‬‬
‫‪ .3‬مرحلة العمل والتجربة‪.‬‬
‫نقرر ذلك يف ظل مثال‪:‬‬
‫ونحن ّ‬
‫ّ‬
‫كالسل‪ ،‬فرييد أن يقف عىل‬ ‫أن إنسانًا يريد أن ي ّطلع عىل ع ّلة مرض خاص‬
‫افرض ّ‬
‫عالئمه وآثاره‪ ،‬وعلله وموجباته‪ ،‬ودوائه الناجع يف اقتالعه من املجتمع‪ ،‬فعند ذلك‬
‫ّ‬
‫بالسل وكيفية عيشهم وأماكن سكنهم‬ ‫حيني أوان املرحلة األوىل‪ ،‬فيتفحص حياة املبتلني‬
‫إن السائد عليهم هو‬ ‫وحميطهم‪ ،‬فيجمع عن اجلميع معلومات خاصة جيمعها قولنا‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫ويتغذون بأطعـمة فاقـدة للقيـمة‬ ‫العيـش فـي أمكنـة مظـلمة ملـوثة بالدخـان والغبـار‪،‬‬
‫الصح ّية والغذائية‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك يأيت أوان املرحلة الثانية‪ ،‬وهي مرحلة التعقل‪ ،‬وهي عبارة عن مطالعة‬
‫وتكون‬
‫ّ‬ ‫تلك املعلومات‪ ،‬وحدس العلة احلقيقية الكامنة وراء حدوث هذا املرض‬
‫جراثيمه يف البدن‪ .‬وعند ذاك توضع الفرضيات العلمية‪ ،‬إذ حيدس هذا العامل ّ‬
‫أن العلة‬
‫‪87‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هي ذي‪ ،‬وآخر أهنا ِذه وثالث ّأهنا تلك‪.‬‬


‫ثم إذا متّت املرحلة الثانية‪ ،‬وعرض العلامء واملفكّرون فروضهم لظهور هذا املرض‪،‬‬
‫فإن الفروض ال ُتعلم صحتها ّإال بالتجربة‪ ،‬فإذا قام ّ‬
‫املجربون‬ ‫يأيت أوان مرحلة التجربة‪ّ ،‬‬
‫بعملياهتم التجريبية يف املختربات‪ُ ،‬يمي ُز الفرض الصحيح من الفروض الباطلة‪.‬‬
‫هذه هي مراحل املعرفة املختلفة‪ .‬واملعرفة يف ضوء املثال املتقدم تبدأ من احلس إىل‬
‫العقل‪ ،‬ومن العقل إىل التجربة‪.‬‬
‫وإن شئت قلت‪ :‬املعرفة عبارة عن حركة املادة إىل جانب الشعور والتعقل ومنه‬
‫إىل جانب املادة اخلارجية‪.‬‬
‫إن هذه املراحل ليست شي ًئا ينكر‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ونحن ال نع ّلق عليه شي ًئا غري أنّا نقول ّ‬
‫تكامل العلوم مبني عىل هذه املراحل‪ ،‬وقد عرفت دور التجربة وأمهيتها‪ ،‬غري ّ‬
‫أن املهم‬
‫أن هناك معرفة عقلية غري ّتريبية غفلت عنها كلتا الفلسفتني املاضيتني‪ ،‬وإنّام‬ ‫تبيني ّ‬
‫استوفت ح ّقها الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬وإليك بياهنا‪.‬‬
‫***‬
‫ج ‪ .‬نظرية الفالسفة اإلسالميي ف مراحل املعرفة‬
‫تعرتف الفلسفة اإلسالمية بوجود معرفة عقلية وراء املعرفة احلس ّية والتجريبية‪،‬‬
‫وقد قرصت سائر الفلسفات عن إدراكها‪ .‬كام ختتص الفلسفة اإلسالمية بنوع ثالث‬
‫من املعرفة هو املعرفة اآليوية‪ ،‬وإليك فيام ييل توضيحها‪:‬‬
‫أ ّو ًل املعرفة الحس ّية‬
‫تنقسم املعرفة إىل حس ّية وعقلية‪ ،‬واحلس ّية عبارة عن املعرفة السطحية املشرتكة بني‬
‫اإلنسان واحليوان‪ ،‬بل ربام تكون يف احليوان أقوى منها يف اإلنسان‪ ،‬فال ُعقاب يرى‬
‫األشياء البعيدة جدً ا ا ّلتي ال تناهلا أبصار غريه‪ ،‬والكالب ّ‬
‫تشم الروائح اخلفية‪،‬‬
‫حتس املوانع يف الليايل الظلامء‪ ،‬فتتجنّبها‪ ...‬وعىل ّ‬
‫كل تقدير فاملعرفة احلس ّية‬ ‫واخلفافيش ّ‬
‫تعم اإلنسان وغريه‪.‬‬‫ا ّلتي تقوم باحلواس الظاهرية ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪88‬‬

‫وللمعرفة احلس ـية خصائص‪:‬‬


‫مبرصا أم مسمو ًعا أم مشمو ًما‬
‫ً‬ ‫خاصا‪ ،‬سواء أكان‬
‫‪ّ .1‬إهنا جزئية ال تتجاوز موضو ًعا ً‬
‫ملموسا أم مذو ًقا‪ .‬وليس للطفل معرفة سوى املعرفة احلس ّية‪ ،‬فهو ال يدرك‬
‫ً‬ ‫أم‬
‫سوى اللون املشخص والفرد املعني‪ ،‬وأ ّما اللون واإلنسان الك ِّليني فبعيدان عن‬
‫ُأفق معرفته‪.‬‬
‫احلس وسلطانه‪ ،‬دون اخلارج عنه‪ ،‬فاإلنسان‬
‫‪ .2‬املعرفة احلس ّية تتعلق بام يقع يف مرمى ّ‬
‫يقف عىل األعراض والكيفيات الظاهرية لإلجسام كاأللوان والروائح واألشكال‪،‬‬
‫والليونة واخلشونة‪ ...،‬وأ ّما اخلارج عنها‪ ،‬فال‪ ،‬كقانون العلية واملعلولية‪ ،‬أو رضورة‬
‫فإهنا معان عقلية خارجة عن ُأفق ّ‬
‫احلس‪.‬‬ ‫وجود املعلول عند وجود ع ّلته‪ّ ،‬‬
‫فاحلس يقف عىل األشياء املتحققة يف الزمن‬
‫ّ‬ ‫‪ّ .3‬‬
‫إن املعرفة احلس ّية حمدّ دة بالزمان‪،‬‬
‫احلال‪ ،‬دون ا ّلتي حتققت يف غابر الزمان‪ ،‬أو ستتحقق يف مستقبله وإن كانت أشياء‬
‫حمسوسة‪ ،‬بل البدّ يف إدراك املايض واآليت من أداة ُأخرى‪.‬‬
‫أن اإلنسان ال يدرك ّإال األشياء الواقعة‬
‫‪ .4‬املعرفة احلس ّية حمدّ دة باملكان واجلهة‪ ،‬فكام ّ‬
‫يف الزمن احلارض‪ ،‬فهكذا ال يدركها ّإال يف مكان أو جهة خاصة‪.‬‬
‫وأ ّما املعرفة العقلية فهي عىل النقيض من املعرفة احلس ّية‪ّ ،‬إهنا معرفة كل ّية ال جزئية‪،‬‬
‫احلس‪ ،‬كام هي غري مق ّيدة بالزمان واملكان واجلهة‪ ،‬سواء‬ ‫تتع ّلق بمفاهيم خارجة عن ّ‬
‫الكيل‪ ،‬أم تصديق ّية‪ ،‬كالقوانني ا ّلتي يستنبطها اإلنسان‬
‫أكانت معرفة تصورية‪ ،‬كاإلنسان ّ‬
‫من التدبر يف الطبيعة‪.‬‬
‫عنارص عقلية يف املعارف احلس ّية‬
‫ّ‬
‫إن هناك معارف تبدو للرأي العام ّأهنا حس ّية‪ ،‬مع ّأهنا يف احلقيقة معارف عقلية‪،‬‬
‫وإليك نامذج منها‪.‬‬
‫‪ .1‬نحن نعتقد بوجود اإلسكندر املقدوين ذلك الفاتح العاملي‪ ،‬ووجود نابليون‬
‫بونابرت ذلك القائد العسكري‪ ،‬ونخال أن معرفتنا بوجودمها معرفة حس ّية ولكن‬
‫‪89‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الواقع ّأهنا معرفة عقلية‪ ،‬إذ نحن مل نر أ ًّيا منهام‪ ،‬وال شاهدنا شي ًئا من بطوالهتام‬
‫وفتوحاهتام‪ ،‬وإنّام قرأنا ذلك يف الكتب‪ .‬فاملحسوس لنا يف احلقيقة هو املكتوب‬
‫واملقروء ال نفس الرجلني وما قاما به من أعامل‪.‬‬
‫ونحن نحتمل ‪-‬وراء ذلك‪ -‬أن يكون كل ما نقرؤه ونسمعه عنهام ً‬
‫باطال وكذ ًبا‪،‬‬
‫أن العقل يدفع هذا االحتامل ويقول‪ّ :‬‬
‫إن من املمتنع أن تكون تلك األخبار املتضافرة‬ ‫غري ّ‬
‫املؤرخني عىل اختالف مشارهبم‪ ،‬عىل‬
‫كاذبة‪ ،‬إذ من املحال أن يتواطأ عرب القرون مجيع ّ‬
‫جعل األكاذيب حول الرجلني‪ .‬فعند ذلك نذعن بصحة وجودمها وبطولتهام وآثارمها‪.‬‬
‫أن وجود تلكام الشخصيتني وما اتّسمتا به‪ ،‬ليس من األُمور احلس ّية‪ ،‬بل‬
‫فالنتيجة ّ‬
‫من األُمور االستنباطية العقلية املعلومة حتت ضوابط عقلية‪.‬‬
‫‪ .2‬نحن نعتقد بوجود حضارات ازدهرت عرب التاريخ ثم اندثرت ومل يبق منها ّإال‬
‫األطالل ا ّلتي ترشد إليها‪ .‬ولكن معرفتنا هبا معرفة عقلية ال حس ّية‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ألن‬
‫املشاهد لنا هو اآلثار الباقية‪ ،‬وأ ّما نفس احلضارات ا ّلتي كانت مزدهرة‪ ،‬فهي غائبة‬
‫ّ‬
‫نستدل عليها باآلثار‪:‬‬ ‫عن حواسنا وإنّام‬
‫فـ ـانـ ـظ ـ ـ ـروا بـ ـع ـ ـ ـدنا إلـ ـى اآلثـ ـ ـ ـار‬ ‫إن آثـ ـ ـ ـ ـارنـ ـ ـ ـ ـا تـ ـ ـ ـ ـ ّ‬
‫دل ع ـ ـ ـل ـ ـ ـيـ ـنـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ّ‬
‫إن هناك أممًا كبرية عفا عليها الزمن‪ ،‬ونحن نذعن بوجودها ونتصور ّ‬
‫أن معرفتنا‬ ‫‪ّ .3‬‬
‫هبا حس ّية‪ ،‬مع ّأهنا يف احلقيقة عقلية مستنبطة فاإلنسان إذا رأى األهرام يف «اجليزة»‬
‫فورا عىل وجود أ ّمة يف غابر األزمان‪ ،‬كانت واقفة عىل ُأصول اهلندسة‪،‬‬ ‫يستدل ً‬‫ّ‬
‫العامل مكّنها كل ذلك من تشييد هذه‬
‫عظيام من ّ‬ ‫ً‬
‫وجيشا ً‬ ‫ومتتلك رافعات عمالقة‪،‬‬
‫األهرام(‪.)1‬‬
‫‪ .4‬نحن نعتقد بوجود عواصم كبرية كلندن وموسكو وطهران وطوكيو‪ ،‬كام ّ‬
‫أن‬
‫القاطنني يف هذه العواصم يعتقدون بوجود عواصم ُأخرى يف رشق العامل وغربه‪،‬‬
‫يسمي هذه املعرفة وسابقتها معرفة «آيوية» وهي الوقوف باآلية وخصائصها‪ ،‬عىل ذي اآلية وصفاته‪،‬‬
‫)‪ (1‬والقرآن ّ‬
‫ّ‬
‫وحيث عليها يف كثري من آياته‪ .‬وعىل ذلك فمعرفة وجود خالق الكون ال ختتلف عن معرفة احلضارات وأصحاهبا‪،‬‬
‫فاالستدالل عليها من باب واحد وهو االستدالل باآلية عىل ذهيا‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪90‬‬

‫ومل يروها بأ ّمهات أعينهم ولكنّهم مذعنون بذلك‪.‬‬


‫وليست هذه املعرفة حس ّية بل عقلية مستنبطة‪ ،‬حيث تتواتر األخبار عن وجودها‬
‫والرحالة‪ ،‬فيحكم العقل باستحالة أن يتواطأ هؤالء‬
‫ّ‬ ‫وعظمتها عن طريق املسافرين‬
‫مجي ًعا يف إخبارهم‪ .‬فاملحسوس لنا يف الواقع هو نفس اإلخبار وأ ّما وجود البلدان فعقيل‬
‫مستنبط‪.‬‬
‫‪ .5‬يقول راسل (ت‪ :)1970‬نحن نعتقد بوجود الشمس يف السامء‪ ،‬وأنّه ليست لدينا‬
‫معرفة حس ّية أوضح منها‪ .‬ولكن املحسوس لنا يف الواقع هو ضوء الشمس‬
‫ونورها ال ذاهتا ووجودها‪ ،‬بل إنّه يمكن التشكيك بوجودها بالقول ّ‬
‫بأن ضوء‬
‫املنورات الضوئية‪ .‬ولوال استبعاد العقل ذلك‬
‫النهار ناتج عن تفجري املاليني من ِّ‬
‫وإحالته ملا أذعنّا يقينًا بوجودها‪.‬‬
‫بأن له ُأ ًما وأ ًبا‪ ،‬ويتخيل ّ‬
‫أن معرفته هبام إذ يرامها حس ّية‪ ،‬مع ّأهنا يف‬ ‫‪ٌّ .6‬‬
‫كل منّا يعتقد ّ‬
‫الواقع عقلية‪ ،‬ألنّه إذا لقيهام يف اخلارج‪ ،‬فمن املحتمل عند العقل أن يكون من‬
‫والترصف والصوت و‪ ...‬ولوال دحض هذا‬‫ّ‬ ‫شاهده مشا ًهبا هلام يف الشكل والقيافة‬
‫بأهنام ُأمه وأبوه‪.‬‬
‫االحتامل بحكم عقيل ملا أمكنه اإلذعان ّ‬
‫‪ .7‬الفلسفة املاركسية تنبئ عن حركة التاريخ االجتامعية واالقتصادية‪ ،‬فتقول ّ‬
‫إن‬
‫اإلنسان كان عىل االشرتاكية األُوىل فتبدّ ل منها إىل اإلقطاعية ومنها إىل الربجوازية‬
‫ثم يتبدل منها إىل االشرتاكية ثم إىل الشيوعية ا ّلتي هي اجلنة املوعودة يف الكتب‬
‫الساموية‪.‬‬
‫ولكن مجيع ما أنبأت به استنباطات عقلية وليست معارف حس ّية‪.‬‬
‫واحلاصل ّ‬
‫أن العنارص العقلية موجودة يف كثري من اإلدراكات احلس ّية‪ ،‬ولوالها ملا‬
‫اتّصفت اإلدراكات احلس ّية بالعلم واليقني‪ .‬وبام ّ‬
‫أن الذهن ينتقل إىل تلك العنارص برسعة‪،‬‬
‫فلذا ربام يغفل اإلنسان عن وجودها ودخالتها يف اإلدراكات احلس ّية‪ .‬وألجل ذلك‬
‫احلس وإن كان من أدوات املعرفة‪ ،‬ولكنه ال يورث العلم يف كثري من املوارد‬
‫إن ّ‬ ‫نقول‪ّ :‬‬
‫بمعنى‪ ،‬وعقل ّي ًة بمعنى آخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّإال بضم استدالالت عقلية ومنطقية تعطي معرفة حسية‬
‫‪91‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ثانيًا‪ :‬املعرفة العقلية‬


‫املعرفة العقلية هي املفاهيم الكلية التصورية أو القضايا الك ّل ّية التصديقية ا ّلتي‬
‫يناهلا العقل يف ظل عمليات خاصة‪ .‬فاالنتقال إىل مفهوم اإلنسان ّ‬
‫الكيل من مشاهدة‬
‫أن انتزاع قاعدة كل ّية (كانصهار احلديد‬ ‫عدّ ة أفراد متامثلة‪ ،‬معرفة عقلية تصورية‪ ،‬كام ّ‬
‫عند درجة خاصة) من عمليات ّتريبية متكررة‪ ،‬معرفة عقلية تصديقية‪.‬‬
‫وقد أوضحنا فيام تقدّ م كيفية انتقال اإلنسان إىل املفاهيم والقوانني الكل ّية‪ ،‬غري ّ‬
‫أن‬
‫غموضا يف كفية صنع الكليات من مشاهدة اجلزئيات‪ ،‬والرابطة املنطقية القائمة‬
‫ً‬ ‫هناك‬
‫بني املعرفة احلس ّية واملعرفة العقلية‪ّ .‬‬
‫فان اإلنسان عندما يطل بنظره إىل أفراد حمدودة‪،‬‬
‫كيف يصنع منها مفهو ًما ك ّل ًيا يشملها وغريها؟ أو أنّه عندما جيري عملية التجربة عىل‬
‫جربه وغريه؟‬
‫عنارص خاصة‪ ،‬كيف يصنع منها قاعدة كلية تعم ما ّ‬
‫إن هذا العمل يشبه يف بادئ النظر‪ ،‬عمل املصور ا ّلذي يلتقط صورة لعدة أشخاص‬
‫ّ‬
‫معينني يف جملس ما‪ ،‬ثم يد ّلس يف الصورة‪ُ ،‬فيدخل فيها صور أشخاص مل يكونوا مع‬
‫الذين التقطت صورهتم‪ّ .‬‬
‫فإن عمل العقل يف جمايل التصور والتصديق من قبيل تبديل‬
‫ً‬
‫داخال يف املعرفة احلسية‪.‬‬ ‫املعرفة احلسية املحدودة إىل معرفة عقلية ك ّلية تشمل ما مل يكن‬
‫املصور‪ ،‬فام هو؟‬
‫ّ‬ ‫أن هناك فر ًقا بني عمل العقل وعمل ذاك‬ ‫ولكن احلقيقة ّ‬
‫الرابطة املنطقية بي املعرفة الحسية واملعرفة العقلية‬
‫ّ‬
‫إن هذه املعضلة (كيفية صنع الكليات من مشاهدة اجلزئيات) مطروحة يف الفلسفة‬
‫الغربية‪ ،‬وقد حاول الكثري من الباحثني يف نظرية املعرفة اإلجابة عنها‪ ،‬أمثال‪« :‬كانت»‬
‫و «هيجل»‪ ،‬ولكنهم مل يصلوا إىل يشء مقنع‪ ،‬وسنذكر فيام يأيت ما أجابوا به‪.‬‬
‫وقد سبقتهم الفلسفة اإلسالمية إىل ح ّلها ببيان يظهر ممّا تقدم إيضاحه عند البحث‬
‫عن عمليات أداة العقل‪ ،‬فقلنا ّ‬
‫إن منها إدراكه للمفاهيم الكل ّية وذلك بنحوين‪ :‬إ ّما عن‬
‫طريق التجريد واالنتزاع؛ أو عن طريق تبديل املعرفة احلس ّية إىل املعرفة العقلية باخللق‬
‫واإلبداع‪ ،‬كام ذهب إليه الشيخ الرئيس أو االرتقاء من درجة إىل ُأخرى كام ذهب إليه‬
‫صدر ّ‬
‫املتأهلني‪ ،‬فال نعيد‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪92‬‬

‫املصور ا ّلذي يقصد إرشاك‬ ‫ِّ‬ ‫وعىل ضوء ذلك يظهر الفرق بني عمل العقل وعمل ذاك‬
‫فإن العقل ال يزيد عىل املعرفة احلس ّية شي ًئا‪ ،‬وإنّام ير ِّقي معرفته إ ّما‬
‫من مل يكن يف املجلس‪ّ ،‬‬
‫عن طريق حذف املشخصات واألخذ باملشرتكات‪ ،‬أو ّ‬
‫بأن النفس بعد مشاهدة املميزات‬
‫واملشرتكات تستطيع خلق مفهوم ّ‬
‫كيل‪ ،‬أو ّأهنا هي بذاهتا تتكامل إىل معرفة أرقى‪.‬‬
‫املصور‪ ،‬بل‬
‫ِّ‬ ‫فليست املسألة من قبيل التدخل يف املعرفة احلس ّية كام هو احلال يف عمل‬
‫املعرفة احلس ّية باقية عىل حاهلا‪ ،‬ولكنها ‪-‬بام هي‪ -‬تعطي للنفس مقدرة خاصة عىل انتزاع‬
‫الكيل أو صنعه يف ُأفق الذهن‪ ،‬أو تنتقل إىل معرفة ُأخرى‪ .‬فبني العملني فرق جوهري‪.‬‬
‫ّ‬
‫جوابان للفالسفة الغربيي‬
‫لـ ّام وقف الفالسفة الغربيون عىل هذه املعضلة‪ ،‬حاولوا ح ّلها‪ ،‬فجا ُءوا بجوابني‬
‫نش ـري إليهمـا‪:‬‬
‫أ‪ .‬تعميم املعرفة الحسيّة‬
‫وحاصل هذا اجلواب ّ‬
‫أن الذهن يقوم بتعميم املعرفة احلس ّية املحدودة إىل معرفة‬
‫وسيعة غري حمدودة‪ ،‬هي املفاهيم الكل ّية‪.‬‬
‫وال خيفى ّ‬
‫أن هذا مصادرة واضحة‪ ،‬إذ ال يزال السؤال باق بحاله‪ ،‬فاملستشكل‬
‫يسأل عن الفرق بني تعميم العقل املعرفة املحدودة إىل غري حمدودة‪ ،‬وتعميم املصور‬
‫تلك الصورة بالتالعب فيها وزيادة أشخاص غرباء‪ ،‬وملاذا يعدّ أحد العملني جر ًما‬
‫دون اآلخر؟‬
‫حيل العقدة‪ ،‬كرر اإلشكال‪ ،‬بخالف الفالسفة اإلسالميني‬ ‫بدال من أن ّ‬
‫فاملستشكل ً‬
‫فقد ح ّلوها إ ّما بحديث االنتزاع‪ ،‬وإ ّما بخالقية النفس‪ ،‬أو برتقي املعرفة من احلس ّية إىل‬
‫درجة فوقها‪.‬‬
‫ب‪ .‬تبدل التغريات الكمية إىل الكيفية‬
‫تذهب الفلسفة الديالكتيكية إىل ّ‬
‫أن التبدالت اجلزئية التدرجيية املستمرة الطارئة‬
‫عىل الطبيعة ربام تصل إىل حدّ يفقد فيه اجلسم قدرته عىل حتمل هذه التغريات بشكلها‬
‫‪93‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اخلاص‪ ،‬فيقع يف اجلسم حتول فجائي آين حتصل عىل أثره كيفية جديدة‪.‬‬
‫كمي‬
‫تغري ّ‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ّ :‬‬
‫إن التطور الديالكتيكي للامدة عىل قسمني‪ :‬أحدمها ّ‬
‫تغري فجائي حيصل بصورة دفعية نتيجة للتغريات الكمية املتدرجة‪،‬‬‫حيصل ببطء‪ ،‬واآلخر ّ‬
‫بمعنى ّ‬
‫أن التغريات الكمية تبلغ إىل مرحلة تتغري فيها من الكمية إىل كيفية جديدة‪.‬‬
‫مثال‪ّ :‬‬
‫إن املاء عند تسخينه ترتفع درجة حرارته تدريـج ًّيا‪ ،‬ويـحصل بسبب هذا‬ ‫ً‬
‫االرتفاع التدرجيي‪ ،‬تغريات كمية بطيئة‪ ،‬حتّى إذا وصلت درجة حرارته إىل املائة‪،‬‬
‫فينقلب يف تلك اللحظة من حالة السيالن إىل البخارية‪ ،‬وتنقلب فجأة تلك التغريات‬
‫الكمية إىل حالة كيفية جديدة‪.‬‬
‫فإهنا ال تزال تنخفض شي ًئا فشي ًئا إىل أن تصل إىل حدّ‬
‫وهكذا يف جانب الربودة‪ّ ،‬‬
‫ال تقبل معه طبيعة املاء االنخفاض التدرجيي يف برودهتا‪ ،‬فيتحول املاء فجأة إىل اجلليد‪.‬‬
‫وقد أبدع هذا األصـل الفيـلسوف األلـامنـي «هـيـجـل» (‪1836-1761‬م)‪ ،‬وق ـد‬
‫استخدمته الفلسفة الديالكتيكية يف توجيه نظرياهتا االجتامعية والفلسفية‪ .‬ويف ظل هذا‬
‫األصل قالوا‪ :‬يتبدّ ل النظام اإلقطاعي إىل الرأساملية‪ ،‬وهي إىل االشرتاكية‪ .‬ويف املقام‬
‫يفرسون تبدل الـمعرفة الـحسـ ّية إىل العقلية بأنّه من قبيل انتقال التبدالت الكمية إىل‬
‫ّ‬
‫التبدالت الكيفية ‪.‬‬
‫يالحظ عليه‪:‬‬
‫إن هذا األصل عىل فرض صحته‪ ،‬غري صحيح يف مثال املاء املعروف عندهم‪.‬‬ ‫ّأو ًال‪ّ :‬‬
‫وذلك ّ‬
‫أن التبدالت الطارئة عىل املاء عند تزايد احلرارة إنّام هي من قبيل التبدالت‬
‫الكيفية ال الكمية‪ّ ،‬‬
‫ألن التبدالت الكمية احلاصلة يف املاء عبارة عن تزايد املاء وتناقصه‪.‬‬
‫وأ ّما تصاعد السخونة فليس من تزايد املاء وتناقصه يف يشء‪ ،‬وهلذا ال يكون من قبيل‬
‫سمى «هيجل» تصاعد السخونة‬
‫التبدالت الكمية‪ ،‬بل هو من التبدالت الكيفية‪ ،‬فكيف ّ‬
‫بالتبدّ ل الكمي؟‬
‫ً‬
‫حاصال يف املاء نوع جديد يغاير‬ ‫إن تبدّ ل املاء احلار إىل بخار ليس تبدّ ًال كيف ًيا‬
‫ثم ّ‬
‫يعرب «هيجل» عن مقصوده ّ‬
‫بأن التغريات الكيفية‬ ‫املاء بدليل تغاير آثارمها‪ .‬فاألوىل أن ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪94‬‬

‫التدرجيية ربام تبلغ درجة تنقلب فيها الطبيعة إىل نوع آخر‪ .‬فينبغي أن يقال يف مثل املاء‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن التبدّ الت الكيفية التدرجيية يف املاء تتحول إىل تبدالت نوعية‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬وذلك ملا عرفت من ّ‬
‫أن‬ ‫يصح يف هذا املقام ً‬
‫صح هذا األصل‪ ،‬فال ّ‬
‫وثان ًيا‪ :‬لو ّ‬
‫هذا التبدّ ل ينتهي إىل تبدالت ماهوية وتغريات جوهرية‪ ،‬فعند ذلك تفقد املعرفة‬
‫العقلية صلتها باملعرفة احلس ّية‪ ،‬فكيف تكون حاكية عنها‪ ،‬مع ّأهنام من نوعني خمتلفني‬
‫جوهرا وماهية‪.‬‬
‫ً‬
‫وإن شئت قلت‪ّ :‬‬
‫إن نسبة املعرفة العقلية إىل املعرفة احلس ّية‪ ،‬كنسبة البخار إىل املاء‪،‬‬
‫أن بعض الكيميائيني القدماء كانوا‬ ‫بل كنسبة الذهب إىل النحاس عىل ما هو املنقول من ّ‬
‫يستطيعون بمعاجلات كيميائية قلب النحاس إىل الذهب‪ ،‬فعندئذ تكون الصورة احلس ّية‬
‫كالنحاس‪ ،‬واملعرفة العقلية كالذهب‪ ،‬وبينهام بون شاسع بعيد‪ ،‬واختالف يف اجلوهر‪،‬‬
‫فال يمكن جعل أحدمها حاك ًيا عن اآلخر‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪ ،‬فالقائل هبذا األصل جيب أن ُيعدّ من املثاليني الذين ينكرون كاشفية‬
‫العلم عن الواقع‪ ،‬وقد تعرفت فيام مىض عىل ّ‬
‫أن الصلة املوجودة بني العلم وحمك ّيه هي‬
‫صلة الكاشفية واملكشوفية‪ ،‬ال صلة التوليد واإلنتاج‪ّ ،‬‬
‫وأن نسبة العلم إىل حمكيه ليس‬
‫كنسبة الوالدين إىل ولدمها أو نسبة الندى إىل البخار‪ّ ،‬‬
‫فإن تصوير الرابطة هبذه الصورة‬
‫يستتبع املغايرة وهي تنتهي إىل نفي الكاشفية املنجر إىل إنكار احلقائق اخلارجية أو‬
‫التشكيك فيها‪.‬‬
‫فليس للفيلسوف املوضوعي ّإال ولوج الباب ا ّلذي ولج فيه الفالسفة اإلسالميون‪،‬‬
‫وتفسري املعرفة العقلية بإحدى الصور الثالث املتقدمة‪.‬‬
‫ثالثَا‪ :‬املعرفة اآليوية عند الفالسفة اإلسالميي‬
‫وتسمى باملعرفة اآليوية أو تبديل‬
‫ّ‬ ‫وهناك معرفة ُأخرى عند الفالسفة اإلسالميني‬
‫املعرفة السطحية إىل معرفة ُعم ِق ّية‪.‬‬
‫أشخاصا معينني‪ ،‬تقدر النفس عىل إدراك مفهوم كيل‬
‫ً‬ ‫توضيح ذلك‪ :‬إنّا إذا رأينا‬
‫يصدق عىل هؤالء وغريهم‪ .‬وهذا املفهوم بام أنّه يصدق عىل غري هؤالء من األفراد‬
‫‪95‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املوجودين يف زمن اإلدراك‪ ،‬يكون تبسي ًطا عرض ًيا للمعرفة‪ .‬وبام أنّه يصدق حتّى عىل‬
‫األفراد الغابرة واآلتية يكون تبسي ًطا طول ًيا للمعرفة‪ .‬فهذه املعرفة ال تتجاوز البسط‬
‫والتعميم يف كال البعدين‪.‬‬
‫ولكن هناك معرفة ُأخرى أعىل وأكمل‪ ،‬وهي التكميل العمقي للمعرفة‪ ،‬وبسطها‬
‫إىل آفاق عليا‪ّ ،‬إال وهي االستدالل باملرئي عىل غريه‪ ،‬وباآلثار عىل ذهيا‪ ،‬وباآليات عىل‬
‫صاحبها‪.‬‬
‫واالستدالل باآلية عىل ذهيا عىل قسمني‪:‬‬
‫األول‪ :‬االستدالل باآلثار احلس ّية والطبيعية عىل يشء مادي ولكنه ليس بمحسوس‬
‫ّ‬
‫للمستدل يف ظرف إحساس اآلثار وإدراكها‪ .‬فاآلثار الباقية من أصحاب املالحم‬ ‫ّ‬
‫والدواوين قابلة لالستدالل هبا عىل أنّه كان هناك نوابغ يف الشعر واألدب نظموا هذه‬
‫القصائد والدواوين‪ ،‬كام هو احلال يف اآلثار العلمية املوروثة‪.‬‬
‫فهذه اآلثار أعني الدواوين والكتب‪ ،‬حمسوسة‪ ،‬ولكن مؤلفيها ليسوا حمسوسني‬
‫ّ‬
‫فيستدل ‪-‬إذن‪-‬‬ ‫فـي زمان إدراك اآلثار‪ ،‬ولكنها بالذات ُأمور مـحسوسة فـي ظرفها‪.‬‬
‫ً‬
‫استدالال آيو ًيا‪.‬‬ ‫باملحسوس يف اآلن‪ ،‬عىل املحسوس بالذات‪،‬‬
‫الثان‪ :‬االستدالل باملحسوس عىل غري املحسوس بالذات‪ ،‬وهذا االستدالل بإتقان‬
‫أيضا‪ ،‬االستدالل‬
‫املصنوع عىل علم الصانع وقدرته‪ ،‬وبجامله عىل ذوقه وبراعته‪ .‬ومن هذا ً‬
‫أن له صان ًعا عا ًملا ً‬
‫قادرا قام بتنظيم الكون وتنسيقه‬ ‫باآليات املوجودة يف عامل الكون عىل ّ‬
‫حتري العقول‪.‬‬
‫وفق قوانني وسنن ّ‬
‫يفرقون بينهام يف حياهتم العملية‪ .‬فهم كام‬
‫يقرون بكال االستداللني وال ّ‬
‫واملاديون ّ‬
‫يستد ّلون بالكتاب الفلسفي عىل وجود فيلسوف ألفه وكتبه‪ ،‬يستد ّلون بأفعال الرجل‬
‫وترصفاته‪ ،‬عىل روحياته ونفسياته من حسن وسوء‪ ،‬وصفاء وخبث‪ ،‬وإخالص وخيانة‪،‬‬
‫أن حسن الرسيرة وسوءها‪ ،‬وصفاء النفس وخبثها‪ ...‬كلها ُأمور غيبية غري مرئية‬ ‫مع ّ‬
‫وال واقعة يف ُأفق احلواس‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك ك ّله تراهم إذا وصل األمر إىل الـمسـائل العقـائديـة وما يرجع إلـى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪96‬‬

‫ما وراء الطبيعة‪ ،‬ينكرون االستدالل الثاين‪ ،‬أو يشكّون فيه‪ ،‬مع ما عرفت من جريان‬
‫سريهتم العملية عليه يف أمورهم العادية‪ .‬وهذا ممّا ينقيض منه العجب‪!!.‬‬
‫وبرهان النظم ا ّلذي يعترب من أهم أد ّلة اإلهليني عىل إثبات صانع العامل‪ ،‬يرتكز‬
‫أساسا عىل االستدالل باآلية عىل ذهيا بصور وتقارير خمتلفة ‪.‬‬
‫ً‬
‫وجممل القول فيه هو ّ‬
‫أن العقل إذا الحظ النظام البديع بام فيه من النواميس املبنية‬
‫عىل القواعد الدقيقة‪ ،‬يذعن بأنّه صادر عن فاعل عامل حميط باملادة وخصوصياهتا‪،‬‬
‫يصح أن‬
‫ّ‬ ‫جمرته‪ ،‬وأنّه ال‬
‫ذرته إىل ّ‬
‫والقوانني والنواميس املتحكمة يف أجزاء الكون‪ ،‬من ّ‬
‫الصامء ويعدّ من آثارها‪ ،‬أو يستند إىل الصدفة‪ .‬وهذا‬
‫يستند هذا النظام إىل نفس املادة ّ‬
‫استدالل عقيل آيوي‪.‬‬
‫القرآن واملعرفة اآليوية‬
‫ركز القرآن الكريم عىل هذا النوع من املعرفة‪ ،‬وكرر يف كثري من آياته قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﱭ ﱮ﴾(‪ ،)1‬و‪﴿ :‬ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ﴾(‪ )2‬ونحو ذلك ممّا يفيد تأكيده عىل لزوم‬
‫التعرف عىل ذاته سبحانه وأسامئه وصفاته وما فيه من الكامل واجلامل‪ ،‬عن طريق النظر‬
‫تبحر مؤلفها وجامعيته‬
‫والتدبر يف آثاره وآياته‪ ،‬نظري االستدالل باملوسوعة العلمية عىل ّ‬
‫يف املعرفة‪.‬‬
‫فذاته سبحانه‪ ،‬بام ّأهنا جمهولة الكنه‪ ،‬ال يسع العقل البرشي املمكن أن يتعرف عليها‪،‬‬
‫فلذا مل يكن بدٌّ من اللجوء إىل آثاره‪ ،‬والنظر فيها‪ ،‬واالستدالل هبا عىل ما يف مؤثرها من‬
‫كامل ومجال‪ ،‬وهذا الطريق متاح للجميع‪.‬‬
‫ونكتفي يف املقام بذكر بعض اآليات من سورة الروم املباركة‪ ،‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ‬

‫فصلت‪ 37 :‬و ‪ ،39‬الشورى‪ 29 :‬و ‪.32‬‬


‫)‪ (1‬الروم‪ 20 :‬و ‪ 21‬و ‪ 22‬و ‪ 23‬و ‪ 24‬و ‪ 25‬و ‪ّ ،46‬‬
‫)‪ (2‬يونس‪ ،67 :‬الرعد‪ 3 :‬و ‪ ،4‬إبراهيم‪ ،5 :‬احلجر‪ ،75 :‬النحل‪ 12 :‬و ‪ ،79‬مريم‪ ،128 :‬املؤمنون‪ ،30 :‬النمل‪،86 :‬‬
‫العنكبوت‪ ،24 :‬الروم‪ 21 :‬و ‪ 22‬و ‪ 23‬و ‪ 24‬و ‪ ،37‬لقامن‪ ،31 :‬السجدة‪ ،26 :‬سبأ‪ ،19 :‬الزمر‪ 42 :‬و ‪،52‬‬
‫الشورى‪ ،33 :‬اجلاثية‪.13 :‬‬
‫‪97‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆﲇ ﲈ ﲉ‬
‫ﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓﲔ‬
‫ﲕ ﲖﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ‬
‫ﲥﲧﲨﲩﲪﲫﲬﲭﲮﲯﲰ‬
‫ﲦ‬ ‫ﲣﲤ‬
‫ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ‬
‫ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ‬
‫ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ﴾(‪.)1‬‬
‫يفرقون بني اخللق والتدبري‪ ،‬فينسبون اخللق إىل اهلل‬
‫لقد كان العرب اجلاهليون ّ‬
‫سبحانه‪ ،‬والتدبري إىل أرباب األصنام‪ ،‬فكانوا يعبدوهنا لتكون هلم شفعاء عند اهلل‪،‬‬
‫فجاءت اآليات لرت ّد تلك املزعمة‪ ،‬وتثبت ّ‬
‫أن اخللق والتدبري كليهام هلل سبحانه‪ ،‬وأنّه‬
‫الرب(‪ )2‬دون غريه‪ ،‬مستدلة بالشهود عىل الغيب‪ ،‬وباآلية عىل‬
‫ّ‬ ‫هو املد ّبر وبالتايل هو‬
‫ذهيا‪ .‬وقد رتّبت اآليات املذكورة وصيغت عىل وجه بديع‪ ،‬آخذة من بدء خلق اإلنسان‬
‫وتكونه‪ ،‬ثم تصنيفه صنفني‪ :‬ذكر وأنثى‪ ،‬ثم ارتباط وجوده بالسامء واألرض(‪،)3‬‬
‫ّ‬
‫واختالف ألسنة الناس وألواهنم‪ ،‬ثم سعيهم يف طلب الرزق‪ ،‬وسكوهنم يف منامهم‪ ،‬ثم‬
‫إراءة الربق‪ ،‬وتنزيل األمطار حتّى حتيا األرض وتصلح الستفادة اإلنسان منها‬
‫مسمى‪ ،‬ليتم هلذا‬
‫واستنامئها؛ إىل أن تنتهي اآليات إىل قيام السامء واألرض إىل أجل ّ‬
‫النوع اإلنساين ما قدّ ر له من أمد احلياة‪.‬‬
‫وقد جاء يف فواصل اآليات قوله‪﴿ :‬ﲍ﴾‪﴿ ،‬ﲬ﴾‪﴿ ،‬ﳃ﴾‪،‬‬
‫مشري ًة إىل ّ‬
‫أن دراسة هذه اآليات يوقفنا عىل أنّه سبحانه هو املد ّبر كام هو اخلالق‪ ،‬ببيان‬
‫أن اإلمعان فيها يعرب عن ّ‬
‫أن اخللق والتدبري ممتزجان‪ ،‬بحيث ال يمكن أن ينسب‬ ‫ّ‬
‫)‪ (1‬الروم‪.25-20 :‬‬
‫)‪ (2‬الرب يف اللغة بمعنى الصاحب‪ ،‬يقال‪ :‬رب البستان ورب الدار ورب القطيع ويراد به من إليه تدبري أمر البستان‬
‫والدار والقطيع وتلبية مجيع مستلزمات نموها وعيشها وبقائها‪.‬‬
‫أن الـمراد من قوله‪﴿ :‬ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ‪ ،﴾...‬ثبات السمـاء واألرض عىل وضعهام‬ ‫)‪ (3‬إشارة إىل ّ‬
‫الطبيعي املالئم حلياة النوع اإلنساين املرتبط هبام‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫| نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬ ‫‪98‬‬

‫ً‬
‫منفصال‬ ‫اخللق إىل فاعل والتدبري إىل فاعل آخر‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك إنّام يتصور إذا كان التدبري‬
‫رب البستان وغريه‪ ،‬فإنّه إنّام هييئ له ما يضمن بقاءه من تنظيف‬
‫عن اخللق‪ ،‬كام يف ّ‬
‫األرض‪ ،‬وشق اجلداول وتنقيتها‪ ،‬وإيصال املاء إىل األصول‪ ،‬وتسميد األرض وغري‬
‫ذلك ممّا يصلح األشجار وهي ِّيئها لإلثامر‪ ،‬من دون أن يكون هو خال ًقا لألشجار والثامر‬
‫بوجه من الوجوه‪ .‬وأ ّما العامل ا ّلذي يشاهده اإلنسان‪ ،‬وجاء ذكره يف اآليات‪ ،‬فإنّام هو‬
‫سبيكة واحدة امتزج فيها اخللق والتدبري‪ ،‬فال يمكن الفصل بينهام‪.‬‬
‫استدل إبراهيم ‪ - -‬عىل بطالن ربوبية الكوكب والقمر والشمس بآثارها‬ ‫ّ‬ ‫وقد‬
‫احلس ّية‪ ،‬وهي ُأفوهلا وغيبتها عن اإلنسان‪ ،‬وال ّ‬
‫يصح أن يكون الرب غائ ًبا عن مربوبه‪،‬‬
‫فكيف يمكن أن ُتعد األفالك أربا ًبا لإلنسان ا ّلذي حيتاج إىل التدبري يف مجيع آنات عمره‬
‫وحلظات حياته؟‬
‫يقول تعاىل حاك ًيا هذا االستدالل‪﴿ :‬ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ‬
‫ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ‬
‫ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ‬
‫ﱺﱻﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂﲃﲄﲅﲆﲇﲈ‬
‫ﲉﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ‬
‫ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ﴾(‪.)1‬‬
‫***‬

‫)‪ (1‬األنعام‪.79-75 :‬‬


‫‪99‬‬ ‫أدوات املعرفة ومراحلها |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مصادر البحث‬
‫القرآن الكريم‬
‫اإلمام عيل‪ ،‬هنج البالغة‪ ،‬مجعه الرشيف الريض‪.‬‬
‫‪ .1‬صدر ّ‬
‫املتأهلني الشريازي‪ ،‬األسفار األربعة‪.‬‬
‫‪ .2‬الشيخ الرئيس ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪.‬‬
‫‪ .3‬عبد القاهر البغدادي‪ُ ،‬أصول الدين‪.‬‬
‫‪ .4‬خري الدين للزركيل‪ ،‬األعالم‪.‬‬
‫‪ .5‬حممد باقر املجليس‪ ،‬بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار األئمة األطهار‪.‬‬
‫‪ .6‬حممد عيل املدرس‪ ،‬رحيانة األدب‪.‬‬
‫‪ .7‬املال هادي السبزواري‪ ،‬املنظومة ورشحها‪.‬‬
‫‪ .8‬ابن سينا الشيخ الرئيس‪ ،‬الشفاء‪.‬‬
‫‪ .9‬اآلمدي‪ ،‬غرر احلكم‪.‬‬
‫‪ .10‬عبد اهلل نعمة‪ ،‬فالسفة الشيعة‪.‬‬
‫‪ .11‬فيليسني شاله‪ ،‬الفلسفة العلمية‪.‬‬
‫‪ .12‬حممد عيل فروغي‪ ،‬مسرية الفلسفة يف أوروبا‪.‬‬
‫‪ .13‬حممد بن احلسن احلر العاميل‪ ،‬وسائل الشيعة‪.‬‬

‫***‬
‫‪ّ3‬‬
‫(*)‬
‫رصها‬
‫أركان املعرفة اليقين ّية وعنا ُ‬

‫(**)‬
‫السيدٌيدٌاللهٌيزدانٌبناه‬

‫(*) مصدر البحث‪ :‬كتاب‪ :‬تأ ّمالت يف فلسفة الفلسفة‬


‫اإلسالم ّية‪ :‬مباحث يف نظرية املعرفة واملنهج املعريف‪،‬‬
‫(الفصل الثان)‪ .‬ترجمة‪ :‬أحمد وهبة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار املعارف‬
‫الحكمية‪.2021 ،‬‬
‫(**) أستاذ الفلسفة والعرفان يف الحوزة العلمية ‪ /‬قم‪.‬‬
‫الـمـلـ ّخـص‬
‫بعد اإلثبات اإلمجايل للحقائق واملوجودات احلقيق ّية يقول ّ‬
‫العالمة الطباطبائي يف‬
‫خطئ أحيانًا فـي إثبات وجود بعض األشياء‬
‫بيان وجه احلاجة إلـى الفلسفة‪" :‬إ ّننا قد ُن ُ‬
‫ولكن البعض يعتقد‬
‫ّ‬ ‫أو عدم وجودها‪ ،‬فاحلظ عىل سبيل املثال ال وجود له يف الواقع‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بحاجة‬ ‫بوجوده‪ ،‬والعقل الف ّعال موجود‪ ،‬ولكن البعض يظنّه غري موجود؛ وهلذا فنحن‬
‫عام‬
‫خواصه [لتمييز ما هو موجود ّ‬
‫ّ‬ ‫للبحث عن املوجود من حيث إ ّنه موجود‪ ،‬ومعرفة‬
‫هو غري موجود]"‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشك‬ ‫ثم يطرح قيدً ا آخر‪ ،‬وهو رضورة أن يكون البحث مفيدً ا لليقني‪ ،‬وإال فإن‬
‫بحاجة إىل ٍ‬
‫بحث يزيل الشك‬ ‫ٍ‬ ‫بحقيقة األشياء لن يزول من أنفسنا‪ ،‬فنحن ‪-‬يف احلقيقة‪-‬‬
‫و ُينتج اليقني‪.‬‬
‫جب لـحصول اليـقـني أن يكون البحث بـرهان ًّيا‪ ،‬وعلـى هذا‬
‫ونحـن نعرف أ ّنه يـ ُ‬
‫يكون تعـريف الفلسفة‪ :‬هي العلم الباحث عن األعراض الذات ّية للموجود بمـا هو‬
‫موجود وفـق الـمنهج الربهانـي‪.‬‬
‫نتجا لليقني ال بدّ‬
‫يقول العالمة‪ :‬إ ّنه لكي يكون البحث عن الواقع بام هو واقع ُم ً‬
‫من استعامل القياس الربهاين‪ ،‬وبالنتيجة فإ ّنه ال يمكن اإلفادة من سائر أنواع القياس‬
‫من اجلديل واخلطايب والشعري واملغالطي يف الفلسفة‪.‬‬
‫املهم يف الفلسفة من بني سائر أنواع التصديق واالعتقاد هو‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫إن ّ‬
‫الظني أو التقليدي؛ إذ نتيجة التصديق اجلديل هي االعتقاد‬
‫ّ‬ ‫التصديق واالعتقاد اليقيني ال‬
‫نوعا من االعتقاد‬
‫اجلديل‪ ،‬ونتيجة التصديق السفسطي هي اجلهل املركب‪ ،‬وهو وإن كان ً‬
‫بيد أ ّنه ليس كاش ًفا عن الواقع‪ ،‬وال ينفع يف الفلسفة‪ .‬واالعتقاد الكاشف عن الواقع‪،‬‬
‫أيضا ينحرص باالعتقاد اليقيني(‪.)1‬‬ ‫ّ‬
‫للشك ً‬ ‫والرافع‬

‫الكلمـات الـمفتاح ّية‪ :‬الشك‪ ،‬الربهان‪ ،‬اليقني‪ ،‬التصديق‪ ،‬االعتقاد‪.‬‬

‫(‪ُ )1‬ينظر‪ :‬حممد حسني الطباطبائي‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬الصفحة‪.4 :‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 104‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫دوافع البحث ف صناعة الربهان‬


‫خاص أ ّدى بأرسطو إىل وضع القياس‬
‫موضوع ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫يف مبحث الصناعات اخلمس ّ‬
‫الربهاين يف مقابل سائر أنواع القياس‪ ،‬أي املغالطي واجلديل واخلطايب والشعري‪ ،‬فقد‬
‫أي‬ ‫ٍ‬
‫تن ّبه إىل نكتة ٍهي أ ّنه إذا أردنا الظفر بالواقع‪ ،‬والوقوف عليه بحيث ال يبقى لدينا ّ‬
‫ٍ‬
‫خمالف يف البني‪ ،‬فال بدّ لنا من أن نسلك طريق الربهان‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫احتامل‬
‫أمر‬ ‫وال بدّ من االلتفات إىل ّ‬
‫أن اليقني والوصول إىل الواقع عن طريق الربهان هو ٌ‬
‫فإن اإلنسان ‪-‬يف احلقيقة‪ -‬عندما ُيقيم ارتبا ًطا معرف ًيا مع‬
‫واقعي عند اإلنسان؛ ّ‬
‫ٌّ‬ ‫طبيع ٌّي‬
‫املوجودات فإنه يستطيع الوصول إىل واقعيتها‪ ،‬وفطرته حتكم بذلك؛ وهلذا ومن باب‬
‫األول للقياس مل يبتدعه أرسطو‪.‬‬ ‫فإن الشكل ّ‬ ‫املثال‪ّ ،‬‬
‫تفصييل دقيق‪ ،‬ولك ّن هذا‬
‫ّ‬ ‫طب ًعا للربهان ضوابطه‪ ،‬وجيب البحث فيها بنح ٍوعلم ّي‬
‫موضوع آخر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫األمر‬
‫إن ما قام به أرسطو هو أ ّنه ن ّظم هذه األمور‪ ،‬ورتّبها عىل شكل عل ٍم ٍّ‬
‫خاص‪ ،‬فأبحاثه‬ ‫ّ‬
‫جعلت األنظار حتدّ ق بنحو أشدّ ‪ ،‬والتدقيق يزداد أكثر‪ ،‬فقد وضع أرسطو هذه املطالب‬
‫نصب األعني‪ ،‬ونحن نالحظ أحيانًا ّ‬
‫أن الناس العاد ّيني غري الدارسني للمنطق يتحدّ ثون‬
‫أحيانًا وفق االستدالل املنطقي‪ ،‬ويستعملون أشكال القياس املنتجة من دون أن يشعروا‬
‫بذلك‪.‬‬
‫أن بعض املتك ّلمني الذين كانوا هيامجون الفلسفة‪ ،‬وحيملون عليها رضخوا يف‬ ‫كام ّ‬
‫واضحا وج ّيدً ا‪،‬‬
‫ً‬ ‫هناية املطاف للقبول بالطريقة الربهان ّية‪ ،‬فام حصل مع الغزايل يعد ً‬
‫مثاال‬
‫أخريا ُح ّج ّية‬
‫ً‬ ‫فبينام قام يف (تـهافت الفالسفة) بمهامجة الفلسفة املشائ ّية‪ ،‬نراه قد ِقبل‬
‫الطريق الربهاين‪ ،‬وقد أ ّلف كتا ًبا يف موضوع املنطق باسم (القسطاس املستقيم)‪ ،‬بل‬
‫يتضمن‬
‫ّ‬ ‫خاصا‬
‫طرحا ًّ‬
‫وذهب إىل االعتقاد بوجود القضايا املنطق ّية يف القرآن الكريم‪ ،‬وقدّ م ً‬
‫ٍ‬
‫اصطالحات خمتلفة‪ ،‬فهو الذي كان ُيعد من زعامء متك ّلمي األشاعرة‪ ،‬وكان قد تألأل‬
‫أخريا إىل نتيجة مفادها‬
‫نجمه أكثر من اجلميع يف املدرسة النظام ّية يف بغداد‪ ،‬لكنّه وصل ً‬
‫أن كل األبحاث الكالم ّية السابقة كانت جدل ّية‪ ،‬أي إنه وافق الفالسفة املشائني يف‬‫ّ‬
‫‪105‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نظرهتم للكالم املوجود‪ ،‬وقام برشح ذلك‪ .‬فقد كان الفالسفة يعتقدون ّ‬
‫بأن الكالم‬
‫املوجود بحث ٌجدلـ ٌّي ال يوصل إىل الواقع‪ ،‬وإن كان يمكن أن يكون مقن ًعا‪.‬‬
‫واملتك ّلم قد يصل إىل الواقع أحيانًا‪ ،‬ولكن ليس ّ‬
‫ألن طريقته تقتيض ذلك‪ ،‬فاجلدل‬
‫ُينتج اإلقناع فحسب(‪.)1‬‬
‫معارضا للفلسفة الـمشائ ّية‪ ،‬انتهى به‬
‫ً‬ ‫أيضا فبعد أن كان‬
‫وكذلك الفخر الرازي ً‬
‫أيضا ُح ّج ّيـة الطريق الربهانـي‪ ،‬وغاية قوله ّ‬
‫إن‬ ‫الـحال إلـى الـنتيـجة نفسها‪ ،‬وقبـِل ً‬
‫الفالسفة الـمشـائني ال يستد ّلون أحيانًا بنحو برهاين‪ ،‬ولك ّن هذا معناه نقل النزاع من‬
‫نات صغرو ّية‪.‬‬‫جماله الكربوي إىل عي ٍ‬
‫ّ‬
‫ولك ّن الوحيد الذي مل يقبل املنطق‪ ،‬سواء املنطق املا ّدي أم الصوري‪ ،‬هو ابن تيمية‪،‬‬
‫غري أ ّنه إ ّنام حارب املنطق باملنطق!‬
‫والسؤال اآلن عن السبب يف ظهور بحث صناعة الربهان‪ ،‬فام هو الدافع والباعث‬
‫الكامن وراء ذلك؟‬
‫لقد كانت الرغبة يف الوصول إىل الواقع‪ ،‬كام هو‪ ،‬هي الدافع باألساس للبحث يف‬
‫باب الربهان‪ ،‬وكان هدف تشكيل قضايا ح ّقة وصادقة‪ ،‬حتكي متن الواقعية‪ ،‬و ُتنتج‬
‫يقينًا مطاب ًقا للواقع؛ هو الذي أ ّدى إىل نشوء البحث يف الربهان بجميع تفاصيله وفروعه‪.‬‬

‫املقصود من اليقي‬
‫خاص فـي بحث الربهان‪ ،‬وقد يـحصل الـخلط بني أمور أخرى‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫اصطالح‬
‫ٌ‬ ‫اليقني‬
‫وهذا اليقني‪ ،‬فال بدّ من االنتباه إىل ّ‬
‫أن املراد من اليقني هنا هو اليقني نفس األمري ال‬
‫اليقني السيكولوجي النفيس؛ إذ اليقني السيكولوجي ليس من الرضوري أن يكون‬
‫مطاب ًقا للواقع‪ ،‬بل قد يكون مرتاف ًقا مع اجلهل املركّب‪ ،‬فمن يقع يف اجلهل املركّب‬
‫يكون عنده يقني سيكولوجي ال يقني نفس أمري‪ .‬واليقني نفس األمري واملنطقي هو‬
‫وتصديق مطابق للواقع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اعتقا ٌد‬

‫(‪ُ )1‬ينظر‪ :‬أبو حامد حممد الغزايل‪ ،‬املنقذ من الضالل‪ ،‬الصفحتان‪.28 - 27 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 106‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫إن اليقني نفس األمري هو العلم واملعرفة احلقيقية أنفسهام‪،‬‬
‫ونحن يف الربهان نبحث عن مثل هذا اليقني وهذه املعرفة‪.‬‬
‫كحالة نفس ّية‪ ،‬ومن جهة أخرى له‬ ‫ٍ‬ ‫جهة‪ -‬وص ًفا للعالِـم‪،‬‬
‫ويعد هذا اليقني ‪-‬من ٍ‬
‫كاشف عن الواقع‪ ،‬ومن هنا فهو يتّصف باحل ّقان ّية‬ ‫ٌ‬ ‫ارتباط باخلارج؛ وهلذا فهو اعتقا ٌد‬
‫[أي من حيث مطابقته للواقع]‪.‬‬
‫جمرد االعتقاد واجلزم‪ ،‬بل‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فال يكفي لليقني نفس األمري واملنطقي ّ‬
‫ٍ‬
‫وكاشف عنه(‪.)1‬‬ ‫ٍ‬
‫مطابق للواقع‬ ‫ال بدّ من تع ّلق هذا االعتقاد واجلزم بتصدي ٍق‬
‫وعىل كل حال‪ّ ،‬‬
‫فإن دراسة حقيقة املعرفة وكذلك دراسة اليقني وأركانه تعد من‬
‫وخاصة الفلسفة‪ ،‬ومن هنا ّ‬
‫فإن هذا الـموضوع‬ ‫ّ‬ ‫ألي عل ٍم حقيقي‪،‬‬
‫مهمة ّ‬
‫األسس الـ ّ‬
‫يستحق التحقيق والبحث اجلاد‪.‬‬‫ّ‬
‫نظرة تارخي ّي ٍة هلذا البحث نجد ّ‬
‫أن ابن سينا قد رشح آراء أرسطو‬ ‫ٍ‬ ‫ومن خالل‬
‫والفارايب املتع ّلقة هبذا املجال بنح ٍو ٍ‬
‫دقيق‪ .‬ومن جهة أخرى نجد ّ‬
‫أن اخلواجة نصري‬
‫الدين الطويس له رأي آخر‪.‬‬
‫فنستعرض‬
‫ُ‬ ‫ني الشخص ّيت ِ‬
‫ني‪،‬‬ ‫وعىل هذا األساس سوف نركّز جهدنا عىل آراء هات ِ‬
‫أركان اليقني واملعرفة من وجهة نظرمها‪ ،‬كام نقوم بمقارنة بني هذي ِن الرأي ِ‬
‫ني‪ ،‬وندرس‬
‫أخريا أركان املعرفة اليقين ّية‪.‬‬
‫ً‬
‫وقبل استعراض رأي ابن سينا من اجلدير اإلشارة إىل آراء أفالطون‪ ،‬وأرسطو‪،‬‬
‫والفارايب يف املعرفة احلقيقية‪.‬‬
‫يبدو ّ‬
‫أن أفالطون هو الذي بدأ البحث حول ماه ّية املعرفة احلقيق ّية‪ ،‬ومن بعده خاض‬
‫أرسطو عباب هذا املوضوع‪ ،‬وقام بالتحقيق حوله‪ ،‬وهو من أهم مسائل علم الربهان‪.‬‬

‫(‪ )1‬وقـد سـ ّببـت هذه الـمسألـة ‪-‬وهي كون اليقـني ذا وجهـني‪ -‬مشكل ًة للبعـض‪ ،‬فقد كان تصـ ّور إمكـان الوصـول من‬
‫االعتقاد الـمـرتبـط بالشـخص العالِـم (فـاعـل الـمـعـرفـة) إلـى الـمطـابقـة للواقع من الـمشكالت الـمسـتعـصيـة فـي‬
‫بعض بحوث نظر ّية الـمعرفة عند الغربيني‪ ،‬حتى اعتقد البعض أن طريق الوصول إلـى الواقع كمـا هو مسدود‬
‫أساسا‪ .‬وال بـدّ من التع ّرض هلذا الـموضوع يف مـح ّله‪.‬‬
‫ً‬
‫‪107‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تعرض الفارايب هلذا البحث‪ ،‬وأ ّلف رسال ًة مستق ّل ًة يف هذا‬


‫ويف العرص اإلسالمي ّ‬
‫أيضا‪ .‬ومن بعده تابع ابن سينا البحث يف ذلك‪ .‬لذا وقبل استعراض رأي ابن‬
‫املجال ً‬
‫سينا سوف نلقي نظر ًة عىل آراء أسالفه يف املعرفة اليقين ّية‪.‬‬

‫أركان اليقي‬
‫رأي أفالطون‬
‫تعرض أفالطون هلذا املوضوع وملاه ّية العلم احلقيقي يف رسالة (ثياتيتوس)(‪ ،)1‬وأ ّنه‬
‫ّ‬
‫ما هو املعنى الدقيق لعبارة "أنا أعلم شي ًئا"؟ وعدّ د يف هذه الرسالة أركان املعرفة‬
‫ٍ‬
‫تصديق‪ ،‬وعىل‬ ‫ٍ‬
‫اعتقاد أو‬ ‫األول للمعرفة ‪ِ -‬من وجهة نظره‪ -‬هو وجود‬
‫احلقيق ّية‪ ،‬فالرشط ّ‬
‫لدي معرف ًة‪ ،‬عندما يكون لدّ ي اعتقا ٌد وتصديق‪ .‬والرشط‬ ‫فإنام يمكنني اال ّدعاء ّ‬
‫بأن ّ‬ ‫هذا ّ‬
‫الثاين برأيه هو كون االعتقاد صاد ًقا ًّ‬
‫وحقا‪ ،‬فاملعرفة هي االعتقاد الصادق‪ ،‬واملطابق للواقع‬
‫أو (التصديق الصحيح)‪ .‬والرشط الثالث هو أن يكون مع التصديق الصحيح أو االعتقاد‬
‫وتوضيح‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الصادق ٌ‬
‫بيان‬
‫لقد ذكر أفالطون يف تلك الرسالة هذه الرشوط الثالثة للمعرفة احلقيق ّية‪ ،‬ولكنّه‬
‫ٍ‬
‫راض متا ًما عن هذا التعريف‪ .‬وقد قدّ م ثالثة‬ ‫أهنى البحث بنحو يبدو منه وكأ ّنه غري‬
‫ورجح ثالثها‪ ،‬وإن مل يكن راض ًيا متا ًما عن ذلك‪.‬‬
‫تفسريات لـ (البيان والتوضيح) ّ‬
‫وشاب‬
‫ٍّ‬ ‫يبدأ أفالطون رسالة (ثياتيتوس)‪ ،‬التي ُكتبت عىل شكل حوا ٍر بني سقراط‬
‫احليس ال يمكنه أن يكون معرف ًة حقيقية‪:‬‬ ‫اسمه (ثياتيتوس)؛ بالقول ّ‬
‫إن اإلدراك ّ‬
‫"سقراط‪ :‬ولكنّنا مل نبدأ البحث من أجل معرفة ما هو ليس بمعرفة‪ ،‬بل كان غرضنا‬
‫ٍ‬
‫بمقدار أننا لن نبحث بعد اآلن‬ ‫معرفة ما هي املعرفة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فعىل األقل قد تقدّ منا‬
‫احليس‪ ،‬بل أصبحنا نعتقد ّ‬
‫أن املعرفة هي تلك احلالة التي حتصل‬ ‫عن املعرفة يف اإلدراك ّ‬
‫(‪ ،Theaetetus )1‬وقد ترمجها بعضهم إىل (تياتتوس)‪ ،‬ويف الرتمجات العربية القديمة (ثاأطاطس)‪ .‬وللتفصيل يف‬
‫الوقوف عىل املحاورات األفالطونية وموضوعاهتا وزماهنا ونسبتها انظر‪ :‬فردريك كوبلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪،‬‬
‫ترمجة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحة‪201 :‬؛ وللوقوف عىل رأي أفالطون يف نظر ّية املعرفة بشكّل‬
‫مفصل انظر‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحات‪[ .238 - 213 :‬الربيعي]‬
‫ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 108‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫للروح عندما تلتفت هي‪ ،‬ومن أجل نفسها؛ لـام هو موجود وتواجهه(‪ .)1‬فسـ ّمها اآلن‬
‫ما تشاء‪.‬‬
‫يسمى تصدي ًقا أو عقيدة"(‪.)2‬‬ ‫ثياتيتوس‪ :‬سقراط‪ ،‬أظن ّ‬
‫أن هذا هو ما ّ‬
‫مجيال حول ماه ّية التفكري‪ ،‬ويتبني من خالل ذلك ّ‬
‫أن مراده هو‬ ‫ثم يذكر كال ًما ً‬
‫االعتقاد والتصديق‪:‬‬
‫"ثياتيتوس‪ :‬برأيك ما هو التفكري؟‬
‫حوار ّتريه الروح مع نفسها حول اليشء الذي ُتريد الوصول إىل ُكنهه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫سقراط‪:‬‬
‫رجل جاهل‪ ،‬وما أستطيع قوله حول التفكري هو كالم رج ٍل جاهل(‪ .)3‬وعىل‬‫وطب ًعا فأنا ٌ‬
‫تسأل نفسها ِ‬
‫ومن‬ ‫أن الروح حني التفكري ال تفعل شي ًئا سوى ّأهنا ُ‬ ‫أي ٍ‬
‫حال‪ ،‬فأنا أعتقد ّ‬ ‫ّ‬
‫نفسها التي تقبل ذلك اجلواب أو ترفضه‪ .‬وبعد‬ ‫ّتيب عىل ذلك‪ ،‬وهي ُ‬ ‫نفسها ُ‬
‫ثم هي ُ‬
‫ٍ‬
‫نتيجة وقبوهلا‪ ،‬وعدم بقاء أي‬ ‫التقدّ م يف هذا البحث الرسيع أو البطيء والوصول إىل‬
‫نسمي تلك النتيجة ُحكم النفس أو اعتقادها؛ ولذا أقول‪ّ :‬‬
‫بأن‬ ‫ترديد حياهلا‪ ،‬فإننّا ّ‬
‫االعتقاد هو نوع من الكالم‪ ،‬والتصديق هو كالم‪ ،‬ولكنه ليس كال ًما ُيقال لآلخر‬
‫بواسطة الصوت‪ ،‬بل هو كالم تقوله الروح ِ‬
‫لنفسها يف حالة صمت"(‪.)4‬‬

‫عرب عن االتّصال بالواقع ‪ -‬املوجود يف املعرفة احلقيق ّية ‪ -‬بااللتفات إىل الوجود ومواجهته‪ ،‬وهو بيان حسن‪.‬‬
‫(‪ّ )1‬‬
‫(‪ )2‬أفالطون‪ ،‬املجموعة الكاملة آلثار أفالطون‪ ،‬ترمجه (إىل الفارسية)‪ :‬حممد حسن لطفي‪ ،‬اجلزء ‪ ،3‬الصفحتان‪:‬‬
‫‪( ،1429-1428‬رسالة تئتتوس)‪.‬‬
‫حتري الد ّقة املتناهية‪ً .‬‬
‫علام أنه قد ترجم‬ ‫وقد اعتمد املؤ ّل ُ‬
‫ف الرتمجة الفارسية ونحن ترمجناها إىل العربية من هناك مع ّ‬
‫هذه املحاورة إىل اللغة العربية الدكتورة أمرية حلمي مطر‪ ،‬وقدّ مت هلا بمقدّ مة مفيدة وطبعت يف دار غريب‬
‫بالقاهرة حتت عنوان (حماورة ثياتيتوس ألفالطون أو عن العلم)‪ ،‬فانظر فيام نحن بصدده‪ :‬من الصفحة‪ 95 :‬فام‬
‫بعد‪[ .‬الربيعي]‬
‫(‪ )3‬هكذا يتحدّ ث سقراط؛ أل ّنه يرى أن طريقته هي التوليد‪ ،‬فهو يعتقد أ ّنه ال يمنح التفكري ألحد‪ ،‬وإنام يساعد‬
‫اآلخرين كي خيرجوا األفكار املوجودة بداخلهم إىل اخلارج‪ ،‬وهذا األسلوب لسقراط مناسب جدًّ ا للتفكري‬
‫والتفلسف احلقيقي‪ ،‬فهو يطرح األسئلة عىل خماطبه وهبذه الطريقة يضعه عمل ًيا يف ساحة التفكري والفلسفة‪.‬‬
‫(‪ )4‬أفالطون‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪ .1434 :‬ما قيل هنا حول ماهيّة التفكري ُملفت للنظر جدًّ ا‪ ،‬وما زال له‬
‫مؤ ّيدون إىل اآلن‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التصديق نفسه؛ غري ّ‬


‫أن العلم احلقيقي‬ ‫ُ‬ ‫وعىل هذا نالحظ ّ‬
‫أن املراد من (احلكم) هو‬
‫صحيحا أو غري صحيح‪،‬‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫وتصديق؛ إذ التصديق من املمكن أن يكون‬ ‫جمرد حك ٍم‬
‫ليس ّ‬
‫صحيحا ومطاب ًقا للواقع‪.‬‬
‫ً‬ ‫والعلم جيب أن يكون‬
‫ألن االعتقاد‬ ‫ٍ‬
‫اعتقاد معرف ٌة؛ ّ‬ ‫"ثياتيتوس‪ :‬سقراط‪ ،‬ال يمكنني القول ّ‬
‫بأن كل‬
‫أيضا‪ .‬ربام يمكن القول ّ‬
‫بأن املعرفة هي اعتقا ٌد صحيح"(‪.)1‬‬ ‫اخلاطئ موجود ً‬
‫ويستمر البحث يف موض ٍع آخر عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫ّ‬
‫"سقراط‪ :‬إ ًذا‪ ،‬فهل جيب علينا التصديق بوجود االعتقاد اخلاطئ؟‬
‫ثياتيتوس‪ :‬طب ًعا‪.‬‬
‫أيضا؟‬
‫سقراط‪ :‬واالعتقاد الصحيح ً‬
‫أيضا موجود‪.‬‬
‫ثياتيتوس‪ :‬نعم‪ ،‬االعتقاد الصحيح ً‬
‫سقراط‪ :‬إ ًذا فهل استطعنا يف النهاية اإلثبات بنحو قطعي بوجود نوعني من‬
‫االعتقاد؟‬
‫ثياتيتوس‪ :‬نعم‪ ،‬أثبتنا ذلك"(‪.)2‬‬
‫وبنا ًء عليه نالحظ أن أفالطون يتحدّ ث عن االعتقاد الصادق‪ ،‬ويعترب ّ‬
‫أن الصدق‬
‫ٌ‬
‫رشط للمعرفة احلقيق ّية‪.‬‬ ‫أيضا‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫اخلطأ إىل االعتقاد‪:‬‬ ‫يوضح كيف ينسل‬ ‫ويف موض ٍع آخر ّ‬
‫"سقراط‪ :‬رغم كل هذا فاالعتقاد غري الصحيح ممك ٌن؛ هبذا الشكل‪ :‬وهو أ ّنه‬
‫عندما يمد اإلنسان يده ليتناول إحدى معلوماته‪ّ ،‬‬
‫فإن معلوماته تطري إىل هنا وهناك(‪،)3‬‬
‫فيقع ذلك الشخص يف اخلطأ‪ ،‬وبدل أن يتناول معرفة مطلوبه فإ ّنه يتناول معرفة ٍ‬
‫يشء‬
‫آخر‪...‬‬
‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1429 :‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1442 :‬‬
‫(‪ )3‬يرمز سقراط للروح بقفص الطيور‪ ،‬وللمعلومات بالطيور التي يف داخله‪ ،‬وهذا القفص يكون خاليًا عند‬
‫األطفال‪ ،‬وأن كل ما نكسبه من معلومات نضعه يف هذا القفص‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 110‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ثياتيتوس‪ :‬هذا التربير مقبول‪.‬‬


‫سقراط‪ :‬غري أ ّنه إذا التقط املعرفة املطلوبة‪ ،‬فإ ّنه يبقى مصونًا من اخلطأ‪ ،‬ويعتقد‬
‫الصحيح‪ ،‬واالعتقا ُد غري‬
‫ُ‬ ‫بالـموضوع كام هو عليه(‪ ،)1‬وهبذا الشكل يـحصل االعتقا ُد‬
‫الصحيح"(‪.)2‬‬
‫علام؛ ّ‬
‫ألن‬ ‫أن االعتقاد غري الصحيح هو يف احلقيقة ٌ‬
‫جهل وليس ً‬ ‫ويوضح بعد ذلك ّ‬
‫ّ‬
‫حكم عىل اليشء الذي ال يعرفه اإلنسان؛ إذ لو‬
‫ٌ‬ ‫االعتقاد غري الصحيح هو ‪-‬يف الواقع‪-‬‬
‫كان يعرف الواقع لكان جيب أن جيده هو‪:‬‬
‫"ثياتيتوس‪ :‬سقراط‪ ،‬ربام سبب اخلطأ أ ّننا ظننا ّ‬
‫أن مجيع الطيور التي يف القفص‬
‫يمد يده‬ ‫ٌ‬
‫جمهول‪ ،‬ومن ُ‬ ‫إن بعضها معلو ٌم‪ ،‬وبعضها‬ ‫معلومة‪ ،‬فكان من األفضل أن نقول‪ّ :‬‬
‫ل ُيمسك بإحدى املعلومات‪ ،‬فإنه أحيانًا يلتقط معلومة وأخرى جمهولة(‪ ،)3‬فإذا التقط‬
‫املعلوم فإ ّنه حيصل عىل اعتقاد صحيح حول املوضوع املقصود‪ ،‬وإذا التقط املجهول‬
‫فإنه حيصل عىل اعتقاد غري صحيح"(‪ .)4‬وعىل هذا‪ ،‬فاملعرفة هي اإلدراك الصحيح‪.‬‬
‫موض ًحا‪:‬‬
‫خلص نتيجة البحث ّ‬
‫ثم بعد ذلك يست ُ‬
‫منزه عن‬
‫"ثياتيتوس‪ :‬املعرفة هي االعتقاد الصحيح؛ ألن االعتقاد الصحيح ّ‬
‫اخلطأ‪ ،‬وكل ما ينتج عنه فهو حس ٌن ومجيل"(‪.)5‬‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ثم ُيقال‪ّ :‬‬
‫إن هذا الـمقدار ال يكفي لتعريف الـمعرفـة‪ ،‬بل ال بدّ من قيد آخر ً‬
‫فالـمعرفة ليست هي االعتقاد الصحيح نفسه‪ ،‬ولتوضيح هذا القيد ُيطرح مثال عىل‬

‫(‪ )1‬أي يصل إىل املعرفة والعلم املطابق للواقع‪.‬‬


‫(‪ )2‬أفالطون‪ ،‬املجموعة الكاملة آلثار أفالطون‪ ،‬اجلزء ‪ ،3‬الصفحة‪.1449 :‬‬
‫تعبريا دقي ًقا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬إذا قل ُت‪ :‬إن يف الواقع (أ) هي‬
‫ً‬ ‫(‪ )3‬نلحظ كيف وضع اجلهل مقابل العلم‪ ،‬مستخد ًما‬
‫(ب)‪ ،‬واحلال ّأهنا يف الواقع ليست كذلك‪ ،‬فأنا ال علم يل بالواقع‪ ،‬بل جهل‪ .‬وهذا العلم واجلهل هو علم وجهل‬
‫أيضا‪.‬‬
‫منطقي وفلسفي‪ ،‬ولكنّه يف العرف يطلق العلم عىل اجلهل املركّب ً‬
‫(‪ )4‬أفالطون‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1450 :‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1451 :‬‬
‫‪111‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫النحو التـايل(‪" :)1‬فـي الـمحكمـة يقـوم شخـص بحكاية واقعـة كان قـد رآها ِ‬
‫بنفسـه‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫فيحكم القـايض ‪-‬الذي مل يشهد الواقعة‪ -‬بالـحكم بنا ًء عىل شهادة الشاهد‪ ،‬وهنا يكون‬
‫ٍ‬
‫اعتقاد صحيح‪.‬‬ ‫القايض قد حصل عىل‬
‫وكذلك فإ ّنه أحيانًا تقوم شواهدُ وقرائ ُن عىل إدانة املتّهم‪ ،‬وتكون مصطنع ًة يف‬
‫الواقع‪ ،‬ولكنّه بنا ًء عىل القاعدة ال بد للقايض من اعتبار املتّهم مذن ًبا استنا ًدا إىل تلك‬
‫شخصا يقوم يف األثناء بإلقاء خطاب يؤ ّثر يف عواطف القايض بنحو‬ ‫ً‬ ‫القرائن‪ ،‬غري ّ‬
‫أن‬
‫أيضا يكون قد حصل للقايض اعتقا ٍد صحيح‪.‬‬ ‫جيعله يعتقد برباءة املتّهم‪ .‬وهنا ً‬
‫بيد أنّه هل يمكن يف مثل هذه املوارد التي حصل فيها للقايض اعتقا ٍد صحيحٍ أن‬
‫نقول‪ّ :‬‬
‫بأن القايض (يعلم) برباءة املتّهم؟‬
‫ويقني برباءة املتّهم(‪ ،)2‬وعىل هذا‪ ،‬فالعلم‬‫ٌ‬ ‫علم‬
‫اجلواب بالنفي؛ فالقايض ليس لديه ٌ‬
‫أن االعتقاد الصحيح قد حيصل أحيانًا‬ ‫جمرد االعتقاد الصحيح‪ ،‬فقد رأينا ّ‬ ‫واملعرفة ليسا مها ّ‬
‫صحيح عىل‬ ‫أوخطابية‪ ،‬ويف هذا املورد مل يكن هناك ٌ‬
‫دليل‬ ‫ٍ‬ ‫وبطريقة جدل ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫إثر اإلقناع‬
‫ٌ‬
‫االعتقاد؛ لذا ف ُيقرتح أن ُيذكر يف تعريف املعرفة ّأهنا‪ :‬االعتقاد الصحيح الذي معه بيان‪.‬‬
‫واقعة مع ّي ٍنة اعتقا ًدا ال يمكن‬
‫ٍ‬ ‫شخص يف قضاة املحكمة ّتاه‬
‫ٌ‬ ‫"سقراط‪ :‬فإذا أوجد‬
‫أيضا بنا ًء عىل أساس هذا‬ ‫ألحد أن يعتقده إال من شاهد الواقعة بعينه‪ ،‬وحكم ال ُقضاة ً‬ ‫ٍ‬
‫صحيحا‪ ،‬فإنه جيب‬
‫ً‬ ‫االعتقاد الذي وجد عندهم عن طريق السمع‪ ،‬فإذا كان حكمهم‬
‫ٍ‬
‫اعتقاد صحيحٍ بدون أن تكون‬ ‫بأن أولئك القضاة قد حكموا عىل أساس‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ ّ‬ ‫القول‬
‫لدهيم معرفة‪ ...‬ولكن يا صديقي العزيز‪ ،‬لو كان االعتقاد الصحيح واملعرفة واحدً ا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واقعة ما بدون أن‬ ‫صحيح يف‬ ‫ملا كان من املمكن ألفضل احلكّام أن يوجد لديه اعتقا ٌد‬
‫ٌ‬
‫فيتبني إ ًذا أن املعرفة غري االعتقاد الصحيح"(‪.)3‬‬
‫تتح ّقق لديه املعرفة‪ّ ،‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1452 :‬‬


‫املتهم مذنب"‪ ،‬وهو قط ًعا ال ينسجم‬
‫بأن ّ‬ ‫(‪ )2‬وردت يف النص الفاريس هبذا الشكل "فالقايض ليس لديه علم ويقني ّ‬
‫مع املعنى املطلوب‪[ .‬الربيعي]‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 112‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ثم ينقل ثياتيتوس عن أحدهم أ ّنه كان يقول‪« :‬املعرفة هي االعتقاد الصحيح الذي‬
‫يمكن تقديم بيان معقول حوله‪ ،‬وأن ما ال يكون معه تعريف وبيان فليس بمعرفة»(‪.)1‬‬
‫ثم يصل الكالم إىل هذه النقطة وهي أ ّنه ما هو املقصود بالبيان‪ ،‬فمن املمكن أن‬
‫تتبني‬
‫أيضا أن يكون بمعنى أن ّ‬ ‫يكون املقصود منه هو البيان والرشح اللفظي‪ .‬كام يمكن ً‬
‫العنارص األساس ّية لليشء‪ .‬واالحتامل الثالث أن يكون املقصود بالبيان هو معرفة مم ّيزات‬
‫رجح االحتامل الثالث ً‬
‫إمجاال‪" :‬ثياتيتوس‪ ... :‬املعنى األول‪ ،‬بيان الفكرة‬ ‫اليشء‪ ،‬وقد ّ‬
‫بمعونة األصوات والكلامت‪ .‬واملعنى الثاين‪ ،‬تعداد اجلزئ ّيات والوصول منها إىل الكل‪.‬‬
‫وال بدّ اآلن من دراسة املعنى الثالث‪ .‬سقـراط‪ :‬املعنى الثـالث هو ما يفهمـه أكـثر النـاس‬
‫من اصطـالح التعريف؛ أي بيـان اخلصوص ّيات التي مت ّيز اليشء اخلاص عن سائر األشياء‬
‫[وتفصله عنها]»(‪.)2‬‬
‫يسمونه يف نظرية املعرفة املعارصة بـ (املُ ِّ‬
‫صحح)(‪ .)3‬وكام‬ ‫املقصود بالبيان هو ما ّ‬
‫أيضا‪ّ -‬‬
‫فإن البيان الزم‪ ،‬ولكنّه البيان الرضوري‬ ‫سوف يأيت ‪-‬وهو ما يعتقد به أرسطو ً‬
‫الذي هو الع ّلة احلقيقية والرضور ّية لالعتقاد‪.‬‬
‫أن املعرفة هي االعتقاد‬ ‫أن أفالطون يعترب ‪-‬يف هذه الرسالة‪ّ -‬‬ ‫ونتيجة البحث هي ّ‬
‫الصادق الذي يرافقه البيان‪ ،‬وهبذا فهو يضع أسس نظر ّية املعرفة ول ِبناهتا األوىل‪.‬‬

‫رأي أرسطو‬
‫يعتقد أرسطو ّ‬
‫أن اليقني هو املعرفة املطلقة ذاهتا‪ ،‬أي العلم احلقيقي(‪ )4‬وهو يقول‬
‫ٍ‬
‫واحد من األمور عىل اإلطالق ال عىل طريق‬ ‫كل‬‫يف هذا الصدد‪" :‬قد يظ ّن بنا أن نعرف ّ‬
‫السوفسطائيني الذي هو بطريق العرض [غري ذايت وغري حقيقي](‪ ،)5‬متى ُظ ّن بنا أنا قد‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪.‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.1463 :‬‬
‫املوجه‪[ .‬الربيعي]‬ ‫ربر‪ ،‬أو املُ ّ‬
‫سوغ‪ ،‬وقد ُيقال له ّ‬ ‫(‪ )3‬أو املُ ّ‬
‫علام حقيق ًيا‪.‬‬
‫(‪ )4‬ما جيدر ذكره أن اجلهل املركّب ليس ً‬
‫البني بنفسه =‬
‫(‪ )5‬مل يذهب السوفسطائيون من طريق الذايت‪ ،‬وعىل هذا فال علم لـهم‪ .‬والـمقصود بالطريق الذايت هو ّ‬
‫‪113‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وأهنا هي العلة وأ ّنه ال يمكن أن يكون األمر عىل‬


‫تعرفنا العلة التي من أجلها األمر‪ّ ،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ّ‬
‫البني ّ‬
‫أن هذا هو معنى أن يعلم"(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬ومن ّ‬
‫ويؤكّد أرسطو أ ّنه إ ّنام يمكن القول ّ‬
‫بأن املعرفة قد حصلت بالقضية فيام لو تم معرفة‬
‫أيضا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬حصول املعرفة احلقيقية بقضية (أ هي ب) عن‬ ‫ع ّلة تلك القضية ً‬
‫طريق ع ّلتها احلقيقية‪ ،‬يعني إما أن تكون ب ّين ًة بنفسها أو حصلت بواسطة حدٍّ أوسط‪،‬‬
‫أيضا ّأهنا ال يمكن أن تكون غري ذلك؛ بأن تكون (أ) ليست (ب)‪ ،‬ويف هذه‬
‫وأن أعلم ً‬
‫بأن هذه القضية مطابق ًة للواقع‪،‬‬
‫حاصال هبذه القضية‪ ،‬وسوف نعلم ّ‬
‫ً‬ ‫احلالة يكون العلم‬
‫وأ ّنه من املحال أن يكون نقيضها صاد ًقا‪ .‬فإذا ُعرفت علة التصديق بالقضية‪ ،‬فاملعرفة‬
‫هبا سوف تكون رضورية‪ ،‬وسوف ينتفي احتامل اخلالف‪ .‬وسوف نرى ّ‬
‫أن هذا املعنى‬
‫للعلم واليقني هو نفس ما ب ّينه ابن سينا‪.‬‬
‫يوضح أرسطو ع ّلة العلم بالقضية اليقينية ً‬
‫قائال‪" :‬فإن كان معنى أن يعلم هو‬ ‫ثم ّ‬
‫عىل ما وضعناه فقد يلزم رضور ًيا أن يكون العلم الربهاين من القضايا الصادقة وأوائل‬
‫أن معنى أن تعلم األشياء التي هي عليها برهان ال بطريق‬ ‫غري ذات وسط‪ ...‬وذلك ّ‬
‫العرض‪ ،‬إ ّنام هو تقتني الربهان عليه"(‪.)3‬‬
‫رأي الفاراب‬
‫حتدّ ث الفارايب عن اليقني يف عدّ ة مواضع من بحوثه املنطق ّية‪ ،‬ومن مجلة ذلك‬
‫قوله‪" :‬اليقني هو أن تعتقد يف الصادق الذي حصل التصديق به أ ّنه ال يمكن ً‬
‫أصال أن‬
‫يكون وجود ما نعتقده يف ذلك األمر بخالف ما نعتقده‪ ،‬ونعتقد مع ذلك يف اعتقاده هذا‬
‫أ ّنه ال يمكن غريه"(‪.)4‬‬
‫= أو املبني ٍ‬
‫بحد أوسط‪ ،‬وسوف يأيت احلديث عنه الح ًقا‪ .‬والسوفسطائي يستدل ً‬
‫أيضا‪ ،‬لكن استدالله ليس ذاتيًّا‬ ‫ّ‬
‫عريض‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫بل‬
‫(‪ )1‬املقصود هبا العلة التي تعطي النتيجة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أرسطو‪ ،‬منطق أرسطو‪ ،‬اجلزء ‪ ،2‬الصفحة‪.332 :‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.333 :‬‬
‫(‪ )4‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬املنطقيات‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحة‪.267 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 114‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويف رسالة أخرى أ ّلفها يف اليقني ‪ -‬وهي نفيسة للغاية ومفيدة يف هذا املوضوع ‪-‬‬
‫قام بتعداد رشوط اليقني ً‬
‫قائال‪(":‬أ) اليقني عىل اإلطالق [(اليقني احلقيقي)] هو أن‬
‫يعتقد يف اليشء أ ّنه كذا‪ ،‬أو ليس بكذا(‪( .)1‬ب) ويوافق أن يكون مطاب ًقا غري مقابل‬
‫(‪)2‬‬

‫لوجود اليشء من خارج‪( .‬ج) ويعلم أنه مطابق له‪( .‬د) وأنه غري ممكن ّأال يكون قد‬
‫طابقه أو أن يكون قد قابله"(‪.)3‬‬
‫وقد ذكر الفارايب هنا أربعة رشوط لليقني‪ ،‬ورشحها بعد ذلك‪ ،‬والرشط الرابع‬
‫منها هو استحالة ّأال تكون القضية املُتيقنة كذلك‪ ،‬وقال يف رشح هذا الرشط‪" :‬وقولنا‪:‬‬
‫ً‬
‫مقابال) هو التأكيد والوثاقة التي بـها يدخل‬ ‫(إ ّنه غري ممكن ّأال يكون مطاب ًقا أو أن يكون‬
‫اضطرارا(‪ )5‬أن يكون قد طابقه‪ ،‬وأ ّنـه ما‬
‫ً‬ ‫االعتقاد والرأي فـي حد اليقني(‪ ،)4‬وأ ّنه يـجب‬
‫كـان يمكن أن ال يكـون يطابقـه وأ ّنـه بحـال ما ال يمكن أن يـكون قـد قابـله‪ ،‬بـل هـو‬
‫بحال يـجب لـها رضورة أن يكون قد طابقه‪ ،‬ولـم يناقضه‪ ،‬وال ضا ّده‪ .‬وهذه الوثاقة‬
‫والتأكيد فـي االعتـقـاد نفـسـه استـفادة عن اليشء الذي أوقعـه(‪ ،)6‬كان ذلك اليشء هو‬
‫الطبيـعة(‪ )7‬أو القيـاس"(‪.)8‬‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فاملوجب لكون االعتقاد بكذب نقيض القض ّية اليقين ّية ال يمكن‬
‫األول ّيات‪،‬‬
‫زواله ‪-‬برأي الفارايب‪ -‬هو علة االعتقاد هبا؛ أي إ ّنه إ ّما أن تلك القض ّية من ّ‬
‫أو ّأهنا نتيجة قياس‪ ،‬وهذا املضمون نفسه الذي ذكره أرسطو ورشحه ابن سينا كام‬
‫سوف يأيت‪.‬‬
‫(‪ )1‬أي سواء كانت القضية موجبة أم سالبة‪.‬‬
‫(‪ )2‬املقابل هنا بمعنى النقيض‪.‬‬
‫(‪ )3‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.350 :‬‬
‫(‪ )4‬من الواضح ّ‬
‫أن املراد منه هو اليقني نفس األمري الفلسفي املبحوث عنه يف نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫(‪ )5‬وهو احلتميّة واالضطرار والوجوب العقيل‪.‬‬
‫(‪ )6‬أي إن الذي أوجب هذا التأكيد والوثاقة هو علة التصديق هبذه القضية‪.‬‬
‫(‪ )7‬مراد الفارايب من الطبيعة هنا هي األ ّوليّات‪ُ .‬ينظر‪ :‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬املنطقيّات‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحتان‪- 269 :‬‬
‫‪.270‬‬
‫(‪ )8‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.352 :‬‬
‫‪115‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫رأي ابن سينا‬


‫ذكر ابن سينا يف بحوثه ثالثة عنارص لليقني الـمنطقي‪ ،‬ونفس األمري‪ ،‬والـمعرفة‬
‫بأن (ألف هي ب)‪،‬‬‫احلقيق ّية‪ :‬فالشخص الـمت ّيقن يعتقد ّأو ًال بصدق القض ّية القائلة‪ّ :‬‬
‫األول)‪ .‬ويعتقد ثان ًيا بأ ّنه ال يمكن أن تكون هذه القض ّية غري‬
‫وهذا هو (االعتقاد ّ‬
‫صادقة‪ ،‬أي يستحيل أن تكون (ألف ليست ب)‪ ،‬وهذا هو (االعتقاد الثاين)‪ .‬ويعتقد‬
‫ثال ًثا ّ‬
‫أن هذا االعتقاد الثاين ال يمكن زواله‪ ،‬وهذا هو املراد من العلم واليقني املنطقي‬
‫ونفس األمري‪.‬‬
‫وتدقيقات كثري ٌة ح ّتى تم الوصول إىل هذه العنارص‬
‫ٌ‬ ‫وكام الحظنا فقد ُبذلت جهو ٌد‬
‫لليقني املنطقي‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا خترج الصور األخرى لالعتقاد من دائرة اليقني املنطقي‪،‬‬
‫وللمثال‪ّ ،‬‬
‫فإن االعتقاد بقض ّية ما بسبب أن أكثر الناس أو مجيعهم يعتقدون هبا لن يكون‬
‫يقينًا نفس أمري؛ وهلذا السبب يقولون بأنّه ال يمكن استعامل املقبوالت واملشهورات يف‬
‫مقدّ مات الربهان‪.‬‬
‫إن التصديق(‪ )1‬عىل مراتب‪ ،‬فمنه يقيني‬‫يقول ابن سينا يف بداية برهان الشفاء‪ّ " :‬‬
‫بالقوة القريبة من الفعل‪ ،‬إ ّن املصدق به ال يمكن‬ ‫ٍ‬
‫ُيعتقد معه اعتقا ٌد ثان‪ ،‬إما بالفعل أو ّ‬
‫ّأال يكون عىل ما هو عليه؛ إذا كان ال يمكن زوال هذا االعتقاد فيه"(‪ .)2‬ومـراد ابن سـينـا‬
‫من «االعتـقـاد الثـاين» هو استحالة أن تكون القض ّية الـ ُمصدّ ق بـها علـى نح ٍو آخر‪.‬‬
‫بالقوة القريبة من الفعل‪،‬‬
‫ومراده من قوله بأن هذا االعتقاد هو إما بالفعل وإما ّ‬
‫القوة القريبة من الفعل‪،‬‬
‫بالقوة‪ ،‬ولكنّها ّ‬
‫هو إمكان أن االعتقاد الثاين يمكن أن يكون ّ‬
‫بمجرد حضور نقيض القض ّية‬
‫ّ‬ ‫وكام أوضح ذلك ابن سينا نفسه يف مكان آخر(‪)3‬؛ هو أنه‬
‫املُعتقد هبا يف ذهن الشخص فإنه يعتقد بأن نقيضها غري ممكن‪.‬‬

‫وإنام ُتعطي خت ّي ًال فقط‪ .‬وأما‬ ‫ً‬


‫وتصديقا‪ّ ،‬‬ ‫(‪ )1‬عندما ُيقال «تصديق» فالشعر ّيات خترج من تعريف اليقني؛ ألهنا ال ُتنتج اعتقا ًدا‬
‫التصديق ‪-‬أعم من التصديق اليقيني الربهاين‪ ،‬والتصديق اجلديل‪ ،‬والتصديق اخلطايب‪ ،‬والتصديق املغالطي‪ -‬ففيه حكم‪،‬‬
‫سواء كان ظن ًّيا أم يقين ًّيا‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة‪.51 :‬‬
‫(‪ )3‬وهو قوله‪" :‬إذا أخطر بالبال اعتقد"‪ .‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.256 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 116‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن مقابله ونقيضه مل ُيتصور بعد‪ .‬فإذا كان‬‫للمعت ِقد تصديق بيد ّ‬
‫فأحيانًا حيصل ُ‬
‫تصور النقيض يتم احلكم بعدم إمكانه‪ ،‬فإننا نقول ّ‬
‫بأن االعتقاد الثاين‬ ‫بمجرد ّ‬
‫ّ‬ ‫بحيث إ ّنه‬
‫القوة القريبة من الفعل؛ ولذا نرى ّ‬
‫أن الشيخ الرئيس قد طرح‬ ‫بالقوة‪ ،‬ولكنّها ّ‬
‫موجو ٌد ّ‬
‫ثالثة رشوط لالعتقاد اليقيني‪.‬‬
‫بأن ما طرحه الشيخ الرئيس ُيعدّ من أنجح ما قيل؛ ّ‬
‫ألن بدايته‬ ‫وال بدّ من القول ّ‬
‫طبيع ّية‪ .‬وال بدّ من االلتفات إىل هذه النكتة هي ّ‬
‫أن (املطابقة للواقع) مل ُتذكر يف هذه‬
‫واضح جدًّ ا‪ ،‬وال جمال للنقاش فيه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫العبارات؛ ّ‬
‫ألن لزوم صدق مثل هكذا قض ّية‬
‫أيضا ً‬
‫قائال‪" :‬فالعلم الذي هو‬ ‫وقد ذكر الشيخ يف مكان آخر هذه العنارص الثالثة ً‬
‫أن كذا كذا‪ ،‬ويعتقد أ ّنه ال يمكن ّأال يكون كذا‬
‫باحلقيقة يقني(‪ )1‬هو الذي يعتقد فيه ّ‬
‫اعتقا ًدا ال يمكن أن يزول"(‪.)2‬‬
‫مهم ًة حوله‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أيضا تناول ابن سينا املوضوع ذاته‪ ،‬وذكر توضيحات ّ‬
‫ويف مكان آخر ً‬
‫وذكر هناك نكت ًة ورشحها بنح ٍو دقي ٍق‪ ،‬وقد وردت هذه النكتة يف بحوث أرسطو‬
‫بمجرده ليس يقينًا؛ ّ‬
‫ألن هذا االعتقاد‬ ‫ّ‬ ‫األول‬ ‫أيضا‪ ،‬فهو يقول ّ‬
‫بأن االعتقاد ّ‬ ‫والفارايب ً‬
‫أيضا؛‬
‫نوع من االعتقاد ً‬
‫أيضا يف اجلهل املركّب‪ ،‬بل حتّى التصديق الظنّي هو ٌ‬ ‫موجو ٌد ً‬
‫ولذا ّ‬
‫فإن االعتقاد الثاين [أي االعتقاد بأنه من غري املمكن أن تكون هذه القضية غري‬
‫أيضا‪.‬‬
‫صادقة] وكذلك االعتقاد بعدم إمكان الزوال رضوريان ً‬
‫ولكن ما هو اليشء الذي ُينتج االعتقاد بعدم إمكان الزوال؟ اجلواب هو ّ‬
‫أن األمر‬
‫الذي كان سب ًبا للتصديق بالقضية هو السبب لالعتقاد بعدم إمكان الزوال‪ .‬فالشيخ‬
‫األول ّيات‪ ،‬أي من القضايا التي يكون ِرصف‬ ‫الرئيس يقول‪ّ :‬‬
‫إن تلك القضية إ ّما ّأهنا من ّ‬
‫(‪ )1‬استُعملت كلمتا العلم واليقني باملعنى نفسه فـي هذا البحث‪ ،‬فاملقصود بالعلم هو العلم اليقيني ونفس األمري‬
‫فإن العلم كاشف عن الواقع ومن دون هذه الكاشفية ال‬‫وأساسا ّ‬
‫ً‬ ‫والـمعرفـي‪ ،‬أي الوارد فـي نظر ّية الـمعرفة‪،‬‬
‫وجود للعلم‪ ،‬وهذا النص البن سينا له أمه ّية ُمضاعفة من جهة اعتباره ّ‬
‫أن اليقني احلقيقي هو نفس العلم واملعرفة‪،‬‬
‫وااللتفات إىل هذه املالحظة يمكن أن يكون مفيدً ا للغاية يف فهم آراء الفالسفة املسلمني يف باب تعريف «املعرفة»‬
‫يف أبحاث نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن سينا‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.78 :‬‬
‫‪117‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تصور املوضوع واملحمول فيها مؤ ّد ًيا إىل التصديق هبا‪ ،‬أي ب ّينة بنفسها‪ ،‬وإ ّما ّأهنا ليست‬
‫ّ‬
‫وإنام ُتكتسب باالستعانة بحدٍّ أوسط(‪ ،)1‬وبواسطة هذا احلدّ األوسط يمكن‬
‫كذلك ّ‬
‫وأيضا ال تقبل الزوال‪،‬‬ ‫القول بأ ّن تلك القض ّية صادق ٌة وال يمكن أن يصدق ُ‬
‫نقيضها‪ً ،‬‬
‫وال يمكن صدق نقيضها حتت أ ّية ظروف‪" .‬العلم التصديقي هو أن يعتقد يف اليشء‬
‫أ ّنه كذا‪ ،‬واليقني منه هو أن يعتقد يف اليشء أنه كذا‪ ،‬ويعتقد أ ّنه ال يمكن ّأال يكون كذا‪،‬‬
‫اعتقا ًدا وقوعه من حيث ال يمكن زواله؛ فإنّه إن كان ب ّينًا بنفسه مل يمكن زواله‪ ،‬وإن مل‬
‫يكن ب ّينًا بنفسه‪ ،‬فال يصري غري ممكن الزوال‪ ،‬أو يكون احلدّ األوسط األعىل أوقعه"(‪.)2‬‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فقد طوى ابن سينا هذا املسري‪ ،‬ومعنى هذا الكالم هو ّ‬
‫أن لدينا‬
‫طري ًقا من الداخل جيد سالكه ال حمالة ً‬
‫سبيال منه إىل اخلارج‪ ،‬ويصل إىل املعرفة بالواقع‪.‬‬
‫واخلالصة هي ّ‬
‫أن ابن سينا قد طرح ثالثة رشوط لليقني نفس األمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬االعتقاد بالقض ّية والتصديق هبا‪ ،‬وهذا الرشط خيرج الشعر ّيات‪.‬‬
‫الثان‪ :‬االعتقاد بعدم إمكان صدق نقيض هذه القض ّية‪ ،‬وهذا الرشط خيرج‬
‫التصديقات الظنّية مثل اخلطاب ّيات؛ أل ّنه يف التصديقات الظنّ ّية ال ينتفي احتامل صدق‬
‫كم بقض ّي ٍة ما‪،‬‬ ‫نقيض القض ّية املُصدق هبا‪ ،‬فمن املمكن أن حيصل عند شخ ٍ‬
‫ص اعتقا ٌد ُحم ٌ‬
‫أيضا؛ تزلزل‬ ‫بأن احتامل صدق الطرف املقابل هلذه القض ّية موجو ٌد ً‬‫غري أ ّنه إذا ُأخرب ّ‬
‫اعتقاده السابق‪ ،‬وبتعبري ابن سينا "بحيث لو عسى أن ن ّبه عليه بطل استحكام التصديق‬
‫أيضا‪.‬‬
‫األول"(‪ ،)3‬فالرشط الثاين ُخيرج مثل هذه املوارد ً‬
‫الثالث‪ :‬عدم إمكان زوال االعتقاد الثاين(‪ ،)4‬وقد ذكر الشيخ ّ‬
‫أن هناك سب ًبا لعدم‬
‫إمكان زوال هذا االعتقاد‪ ،‬وقد تقدّ م رشحه آن ًفا‪.‬‬
‫وحارضا يف الذهن كي تكون القضيّة من الفطريات (وهي القضايا التي‬ ‫ً‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫(‪ )1‬سواء كان هذا احلد األوسط‬
‫قياساهتا معها)‪ ،‬أم مل يكن كذلك‪ .‬وال بدّ من مراعاة الد ّقة الفنّيّة حول هذا احلد األوسط والقياس الذي ينتج عنه‬
‫تلك القض ّية‪ ،‬سواء من حيث املا ّدة أم الصورة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن سينا‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.256 :‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.51 :‬‬
‫أيضا يطرح عدم إمكان الزوال‪ ،‬ولكنّه يريد به معنى آخر‪.‬‬
‫(‪ )4‬سوف نالحظ أن اخلواجة نصري الدين الطويس ً‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 118‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫مهم ٍة‪ ،‬وهي ّ‬


‫أن عدم إمكان الزوال (أي الرشط‬ ‫ٍ‬
‫ومن اجلدير هنا التأكيد عىل نقطة ّ‬
‫الثالث) يرتبط باالعتقاد الثاين؛ أي ّ‬
‫إن االعتقاد بـ(استحالة صدق نقيض القض ّية‬
‫املُصدّ ق هبا)‪ ،‬ال يمكن زواله‪ ،‬وهبذا القيد خيرج اجلدل‪ ،‬واجلهل املركّب‪ ،‬والسفسطة‪،‬‬
‫شخصا اعتقد‬
‫ً‬ ‫واملغالطة‪ ،‬ويضيف ابن سينا بأن هذه األمور "شبيهة باليقني"(‪ ،)1‬فلو ّ‬
‫أن‬
‫بقض ّية ما‪ ،‬وكذلك اعتقد بعدم إمكان صدق نقيضها‪ ،‬ولكنّه يف حقيقة األمر كان واق ًعا‬
‫فإن اعتقاده الثاين‬ ‫ٍ‬
‫مغالطة‪ ،‬حينها ّ‬ ‫يف مغالطة‪ ،‬فإذا أخربوه ّ‬
‫بأن اعتقاده كان مبن ًّيا عىل‬
‫أن االعتقاد اليقيني‬ ‫إن الرشط الثالث قد وضع ّ‬
‫ليدل عىل ّ‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ ،‬‬ ‫سيزول‪.‬‬
‫ٍ‬
‫درجة أنه ال يمكن زواله‪.‬‬ ‫كم إىل‬
‫نفس األمري ُحم ٌ‬
‫بأن عدم إمكان الزوال يرجع إىل أن القض ّية‬ ‫أن ابن سينا يقول ّ‬ ‫وقد تقدّ م معنا ّ‬
‫أن ألرسطو‬ ‫أن هلا حدًّ ا أوسط‪ ،‬وقد رأينا ساب ًقا ّ‬
‫األول ّيات‪ ،‬وإما ّ‬
‫املصدّ ق هبا إ ّما ّأهنا من ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والفارايب نفس هذا الرأي ً‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فاملقصود باليقني هو اليقني نفس األمري‪ ،‬وليس السيكولوجي‬
‫النفيس‪ ،‬والقضية اليقين ّية تكون مطابق ًة للواقع بالرضورة‪ .‬والنتيجة فإننا إذا استخدمنا‬
‫ٍ‬
‫ومطابقة للواقع‪.‬‬ ‫نتيجة يقين ّي ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫يف الربهان قضايا يقين ّية فسوف نصل إىل‬
‫وقد بذل ابن سينا جهده يف توضيح هذه األمور‪ ،‬وكان عمله ُمتقنًا من الناحية الفنّية‬
‫بتوسط حدٍّ‬ ‫واملنهج ّية‪ ،‬فهو يقول ّ‬
‫بأن القضايا اليقين ّية إما ب ّينة بنفسها‪ ،‬وإما ّأهنا حصلت ّ‬
‫أوسط يقيني‪ ،‬وهكذا األمر‪ ،‬فأصل التفكري الربهاين خيرج من عمق مبحث اليقني‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫إن حمور علم الربهان ومداره يرتبط هبذا التحقيق يف باب املعرفة‬
‫احلقيقية واليقني نفس األمري‪ ،‬ومجيع ما ُيذكر كرشوط للربهان فإنام هو لتحصيل‬
‫حقيقة املعرفة واليقني نفس األمري‪.‬‬

‫رأي الخواجة نصري الدين الطوس‬


‫وقد ُطرح تعريف آخر لليقني‪ ،‬وبحسب ما قمنا به من تتبع‪ ،‬فإنه يرجع إىل ّ‬
‫املحقق‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.51‬‬


‫‪119‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أيضا يف كلامت تلميذي ِه الكبريي ِن العال ّمة ّ‬


‫احليل (يف كشف املراد)‬ ‫الطويس‪ ،‬ومن بعده ورد ً‬
‫وقطب الدين الشريازي (يف رشح حكمة اإلرشاق)‪ ،‬ومن ثم أورد هذا التعريف قطب الدين‬
‫الرازي‪ ،‬وهو تلميذ القطب الشريازي‪ ،‬يف (رشح الشمس ّية)‪ ،‬وقد رشح السبزواري هذا‬
‫أيضا يف رشح املنظومة‪.‬‬
‫التعريف ً‬
‫وقد عدّ املح ّقق الطويس يف رسالة (تعديل املعيار يف نقد تنزيل األفكار)(‪ّ )1‬‬
‫أن‬
‫عرف األهبري اليقني والظن بام‬
‫تعريف أثري الدين األهبري ليس مان ًعا من األغيار؛ فقد ّ‬
‫والظن هو‬
‫ّ‬ ‫أن اليشء كذا مع أ ّنه ال يمكن أن يكون ّإال كذا‪.‬‬
‫نصه‪" :‬اليقني هو اعتقاد ّ‬
‫ّ‬
‫احلكم عىل اليشء مع الشعور بإمكان نقيضه"(‪.)2‬‬
‫ويقول اخلواجة بأ ّنه إذا كان رصف (االعتقاد) هو املراد يف هذا التعريف فهو‬
‫أيضا‪ ،‬وأما إذا كان املراد هو (االعتقاد الصادق واملطابق لنفس‬ ‫يشمل اجلهل املركّب ً‬
‫األمر)‪ ،‬فهو وإن كان خيرج اجلهل املركّب إال أ ّنه يشمل اعتقاد املق ِّلد اجلازم؛ ولذا يقول‬
‫بأ ّنه ال بدّ من تعريف اليقني عىل النحو التايل‪" :‬والصواب أن ُيفرس اليقني بـ(االعتقاد‬
‫املقلد ا ُملصيب بـ(االعتقاد اجلازم املطابق‬
‫اجلازم املطابق الذي ال يمكن أن يزول)‪ ،‬واعتقاد ِّ‬
‫الذي يمكن أن يزول)‪ ،‬واعتقاد اجلاهل باجلهل املركّب بـ(اجلازم غري املطابق)‪ ،‬والظن‬
‫املقابل لليقني بـ(االعتقاد الذي ال يكون جاز ًما أو مطاب ًقا أو كان ممكن الزوال)‪ ،‬والظن‬
‫الرصف الذي يكون مع الشعور بإمكان النقيض بـ(االعتقاد غري اجلازم)"(‪.)3‬‬ ‫ِ‬
‫ومن هذه التوضيحات نستخلص أربعة رشوط لليقني‪:‬‬
‫أيضا‬
‫األول والثان‪ :‬اليقني اعتقا ٌد صادق‪ ،‬وعليه فال بدّ من أخذ املطابقة للواقع ً‬
‫يف تعريفه كي خيرج (اجلهل املركّب)‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اليقني اعتقا ٌد جازم‪ ،‬وعىل هذا األساس فال بدّ من أخذ اجلزم يف تعريف‬
‫ّ‬
‫(متوّف عام ‪ 660‬قمري)‪ .‬وقد ألف اخلواجة نصري‬ ‫(‪ )1‬تنزيل األفكار رسالة منطقيّة من تأليفات أثري الدين األهبري‬
‫الدين الطويس يف نقدها رسالة تعديل املعيار يف نقد تنزيل األفكار‪ ،‬وقد ُطبعت ضمن جمموعة املنطق ومباحث‬
‫األلفاظ بإرشاف املسترشق تويش هيكو إيزوتسو ومهدي حم ّقق‪.‬‬
‫(‪ )2‬نصري الدين حممد الطويس‪ ،‬تعديل املعيار يف نقد تنزيل األفكار‪ ،‬يف‪ :‬املنطق ومباحث األلفاظ‪ ،‬الصفحة‪.226 :‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 120‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫اليقني كي خيرج (الظن)‪ ،‬فاالعتقاد اجلازم هو اعتقاد ٌيالزمه اعتقا ٌد آخر ّ‬


‫بأن نقيض‬
‫مبني لالعتقاد الثاين‪ ،‬والظن اعتقاد وتصديق‪،‬‬
‫األول غري ممكن‪ ،‬وعليه فاجلزم ّ‬
‫االعتقاد ّ‬
‫غري أ ّنه ال يالزمه عدم إمكان صدق نقيض ذلك االعتقاد‪.‬‬
‫ثابت ال يمكن زواله‪ ،‬أي مالزم العتقاد آخر ّ‬
‫بأن نقيضه غري‬ ‫الرابع‪ :‬اليقني اعتقا ٌد ٌ‬
‫صاد ٍق‪ ،‬وال يمكن أن يزول هذا االعتقاد الثاين‪ .‬وأما املق ِّلد فيمكن أن حيصل لديه‬
‫بأن نقيض ما يعتقده ليس صاد ًقا‪ ،‬ولكن‬
‫صادق جاز ٌم‪ ،‬أي يمكن أن يعتقد ّ‬
‫ٌ‬ ‫اعتقاد‬
‫اعتقاده الثاين يمكن زواله‪ ،‬وعليه فال بدّ من أخذ ٍ‬
‫قيد راب ٍع يف تعريف اليقني ليخرج‬
‫اعتقاد املق ِّلد‪.‬‬
‫ٌ‬
‫صادق‪ ،‬جاز ٌم ثابت)‪.‬‬ ‫وعىل هذا فال بدّ من تعريف اليقني عىل النحو التايل‪( :‬اعتقا ٌد‬
‫تصور‬
‫وقد ذكر اخلواجة هذه املالحظة يف (جتريد االعتقاد) بقوله‪" :‬العلم وهو إ ّما ّ‬
‫أو تصديق جازم مطابق ثابت"(‪.)1‬‬
‫وقد رشح ّ‬
‫العالمة ّ‬
‫احليل الكالم الذي نقلناه عن رسالة تعديل املعيار بقوله‪" :‬إنام‬
‫رشط [املح ّقق الطويس] يف التصديق اجلزم؛ ّ‬
‫ألن اخلايل منه ليس بعل ٍم هبذا املعنى وإن‬
‫كان قد ُيطلق عليه اسم العلم باملجاز‪ ،‬وإنّام هو الظن‪ .‬ورشط املطابقة؛ ّ‬
‫ألن اخلايل منها‬
‫هو اجلهل املركّب‪ .‬ورشط الثبات؛ ّ‬
‫ألن اخلايل منه هو التقليد‪ .‬أما اجلامع هلذه الصفات‬
‫خاصة"(‪.)2‬‬
‫فهو العلم ّ‬
‫أيضا‪:‬‬
‫وقد وردت هذه التوضيحات نفسها يف كلامت قطب الدين الشريازي ً‬
‫أن اليشء كذا مع اعتقاد أ ّنه ال يكون ّإال كذا‪ ،‬ليخرج الظن‪ .‬مع‬
‫"اليقني هو اعتقاد ّ‬
‫تغريه‪ ،‬ليخرج اعتقاد املق ِّلد املصيب؛‬
‫مطابقته للواقع‪ ،‬ليخرج اجلهل املركّب‪ .‬وامتناع ّ‬
‫يتغري بالتشكيك"(‪.)3‬‬
‫أل ّنه قد ّ‬
‫(‪ )1‬احلسن بن يوسف احل ّيل‪ ،‬كشف املراد يف رشح جتريد االعتقاد‪ ،‬الصفحة ‪225‬؛ وقد ذكر اخلواجة يف أساس االقتباس‬
‫أيضا مثل هذه التوضيحات‪ُ ،‬ينظر‪ :‬نصري الدين حممد الطويس‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬الصفحتان‪.342 - 341 :‬‬
‫ً‬
‫(‪ )2‬احلسن بن يوسف احليل‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.225 :‬‬
‫(‪ )3‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬الصفحة‪116 :‬؛ وقد ذكر قطب الدين الرازي مثل ذلك يف رشح‬
‫الشمسيّة‪ ،‬انظر‪ :‬قطب الدين حممد الرازي‪ ،‬حترير القواعد املنطقيّة يف رشح الرسالة الشمسيّة‪ ،‬الصفحة‪458 :‬؛ =‬
‫‪121‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مقارنة بي آراء ابن سينا واملحقّق الطوس‬


‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫جاء يف تعريف املح ّقق الطويس إضافة قيد (املطابقة)‪ ،‬و ُف ّرس االعتقاد الثاين‬
‫خرج اعتقاد املق ِّلد من التعريف‪.‬‬ ‫ُخيرج الظن من التعريف‪ ،‬و ُأخذ قيد (الثابت) ً‬
‫أيضا لي ُ‬
‫بنحو ما‪ ،‬فقد ذكر أقسا ًما للتعليم (الصناعي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا ُخيرج اعتقاد املق ِّلد‬ ‫ّ‬
‫وإن ابن سينا ً‬
‫قسيام‬
‫والتلقيني‪ ،‬والتأديبي‪ ،‬والتقليدي‪ ،‬والتنبيهي‪ ،‬والذهني) وعدّ التعليم التقليدي ً‬
‫للتعليم الذهني والفكري(‪.)1‬‬
‫علام ومعرف ًة حقيقية‪ ،‬فلو سألوا املق ِّلد هل‬ ‫ّ‬
‫فإن العلم التقليدي ‪-‬يف احلقيقة‪ -‬ليس ً‬
‫ألن الشخص‬ ‫أنت تعلم حقيق ًة أن (أ هي ب)؟ ألجاب‪ :‬أنا بنفيس ال أعلم‪ ،‬ولكن ّ‬
‫الفالين قال ذلك وأنا قبلت منه هذا‪.‬‬
‫كام أن ابن سينا قد اشرتط يف اليقني عدم إمكان(‪ )2‬زوال االعتقاد بكذب النقيض‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ومن هنا فال توجد مشكلة يف تعريف ابن سينا يف‬
‫وهذا ُخيرج االعتقاد التقليدي ً‬
‫إخراج االعتقاد التقليدي‪.‬‬
‫وكذلك بالنسبة لقيد (املطابقة)‪ ،‬والذي أضافه اخلواجة يف تعريفه‪ ،‬فال بدّ من‬
‫أساسا يف اليقني نفس األمري‪ ،‬فيبدو ّ‬
‫أن‬ ‫ً‬ ‫القول بأ ّنه ال حاجة إليه؛ ذلك ّ‬
‫ألن البحث‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ويتضمن املطابقة ً‬
‫ّ‬ ‫الطريق الذي سلكه ابن سينا يف بحث اليقني طبيعي ودقيق‪،‬‬
‫وقد اعتربنا طريقه طبيع ًّيا ودقي ًقا‪ ،‬لرجوعه إىل طريق حتصيل املعرفة‪ ،‬فعندما يصل‬
‫ٍ‬
‫معرفة بأمر ما‪ ،‬فإ ّن الوصول إىل ذلك يكون عن طريق املعرفة واالعتقاد‪،‬‬ ‫اإلنسان إىل‬
‫وعليه فتكون املعرفة واالعتقاد أنفسهام مها املعرب الذي أوصل إىل ذلك‪.‬‬
‫وال بدّ من بيان أ ّنه متى وضمن أي رشوط يكون هلذا املعرب خاص ّية الكشف الذايت‬
‫فمجرد وجود قيد املطابقة للواقع (وليس العلم باملطابقة) ال‬
‫ّ‬ ‫عن األمر الواقعي‪ ،‬وإال‬

‫= والسبزواري يف رشح املنظومة‪ ،‬انظر‪ :‬رشح املنظومة‪ ،‬اجلزء‪ ،1‬الصفحة‪ .323 :‬وهؤالء العلامء مجي ًعا قد أخذوا‬
‫هذا التعريف والتوضيح من املح ّقق الطويس كام أرشنا إىل ذلك آن ًفا‪.‬‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪« ،‬الربهان»‪ ،‬الصفحة‪.57 :‬‬
‫(‪ )2‬هذا هو الصحيح‪ ،‬ولكنّها وردت يف النص الفاريس بام ترمجته «إمكان زوال االعتقاد‪[ .»...‬املرتجم]‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 122‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ِ‬
‫العامل [أي فاعل املعرفة]‬ ‫مطروحا كيف يستطيع اإلنسان‬ ‫ّ‬
‫حيل مشكلة‪ ،‬ويبقى السؤال‬
‫ً‬
‫إحراز هذا القيد؟‬
‫بأن االعتقاد اليقيني جيب أن يكون مستحيل‬ ‫ِ‬
‫العامل وقال ّ‬ ‫لقد بدأ ابن سينا من‬
‫حاصال من طريق ع ّلته‪ .‬والزم هذا الكالم ‪ -‬كام ّ‬
‫مر ساب ًقا ‪ -‬مطابقة‬ ‫ً‬ ‫الزوال وأن يكون‬
‫أيضا‪ .‬فالحظوا عبارة الشيخ‪" :‬أنّا نعني بالعلم ها هنا املكتسب‪ ،‬والذي‬
‫اليقني للواقع ً‬
‫خيالفه أصناف من االعتقاد‪ :‬اعتقاد يف اليشء الذي هو كذا رضورة أ ّنه كذا‪ ،‬مع اعتقاد‬
‫أنه ال يمكن ّأال يكون كذا‪ ،‬لكن يكون هذا االعتقاد يف نفسه ممكن الزوال؛ أل ّنه مل يقع‬
‫من حيث ال يمكن معه الزوال"(‪.)1‬‬
‫االعتقاد ممكن الزوال هو الذي مل يسلك ِ‬
‫العامل للوصول إليه الطريق اخلاص الذي‬
‫يبني ابن سينا هنا الطريق املوصل لليقني بالواقع عىل الشكل‬
‫ُينتج تلك النتيجة‪ ،‬وهبذا ّ‬
‫األول ّيات (أي ب ّينة بنفسها) وإما نتجت بواسطة‬
‫التايل‪ :‬القضية اليقين ّية إما أن تكون من ّ‬
‫حدٍّ أوسط‪.‬‬
‫توضيحي‪ ،‬وليست قيدً ا احرتاز ًّيا‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫وعىل هذا‪ ،‬فـ(املطابقة) يف هذا املقام قيدٌ‬
‫القيد ال ُخيرج شي ًئا عن شمول تعريف اليقني‪.‬‬
‫وخترج مجيع األغيار من‬ ‫أن الرشوط الثالثة التي ذكرها ابن سينا تكفي‪ُ ،‬‬
‫والواقع ّ‬
‫تعريف اليقني‪ ،‬برشط ّأال نأخذ (عدم إمكان الزوال) بمعنى الثابت‪ ،‬والذي ال ُخيرج ّإال‬
‫االعتقاد التقليدي فحسب‪ .‬فام أوضحه ابن سينا باالعتقاد القابل للزوال هو االعتقاد‬
‫ً‬
‫مطابقا‬ ‫الذي مل حيصل عن طريق ع ّلته‪ ،‬فإذا حصل االعتقاد عن طريق ع ّلته فسوف يكون‬
‫تقليد‪ ،‬وعليه فال حاجة ‪ٍ -‬‬
‫حينئذ‪ -‬إىل‬ ‫حينئذ‪ -‬عن ٍ‬‫للواقع‪ .‬ومثل هذا االعتقاد لن يكون ‪ٍ -‬‬
‫قيد (املطابقة للواقع)‪.‬‬
‫أيضا نو ًعا من الظن‬ ‫وال بدّ من االلتفات إىل ّ‬
‫أن الشيخ الرئيس يعترب اجلهل املركّب ً‬
‫(أي الظن الفلسفي)‪ ،‬فالشخص الذي لديه جهل مركّب‪ ،‬يكون لديه ‪-‬عىل الظاهر‪-‬‬
‫بأن نقيض القض ّية املصدِّ ق هبا ليس صاد ًقا؛ ولكنّه باعتبار أ ّنه‬
‫االعتقاد الثاين‪ ،‬أي يعتقد ّ‬
‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (اإلهليات)‪ ،‬الصفحة‪.256 :‬‬
‫‪123‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مل يسلك الطريق املوصل واملعترب‪ ،‬فاعتقاده يكون يف الواقع ممكن الزوال؛ ولذا فاجلهل‬
‫املركّب ليس بعل ٍم واق ًعا‪ ،‬ومن األفضل تسميته بالظن(‪.)1‬‬
‫أعم من الظن العريف‪ .‬فأحيانًا‬
‫يسمى يف املنطق والفلسفة بـ «الظن» هو ّ‬
‫ومن هنا فام ّ‬
‫يكون االعتقاد جاز ًما‪ ،‬ومع ذلك جيب اعتباره من أقسام الظن؛ أل ّنه ممكن الزوال‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فاملعيار بكون االعتقاد يقين ًّيا هو ما ذكره ابن سينا‪ ،‬وطب ًقا هلذا‬
‫املعيار ال يمكن االستعانة بأي قض ّية كانت للوصول إىل الواقع‪.‬‬

‫دراسة أركان اليقي واملعرفة الحقيقية‬


‫ُيشكّل البحث يف العنارص املك ّونة للمعرفة احلقيق ّية أساس أوقاعدة أبحاث نظر ّية‬
‫املعرفة‪ .‬وسيكشف التحقيق والتحليل يف هذا املجال ّ‬
‫أن ما قدّ مه ابن سينا يف هذا الباب‬
‫كان بيانًا دقي ًقا‪ .‬وسوف ُن ِ‬
‫درك أ ّنه ملاذا اشرتط األركان الثالثة املذكورة لليقني‪.‬‬
‫ونبدأ البحث من موضع يكون مفيدً ا ألبحاث نظر ّية املعرفة كام يكون مرشدً ا يف ذلك‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫ُيعرف العلم (التصديقي) عادة يف نظر ّية املعرفة بأ ّنه‪" :‬االعتقاد الصادق املربر"‪.‬‬
‫واملقصود يف نظر ّية املعرفة هو العلم احلقيقي التصديقي‪ ،‬وليس مطلق العلم التصديقي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫إن اجلهل املركّب ال يدخل يف نطاق موضوع البحث يف نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫إن أصل البحث يتمحور حول اليقني (اليقني نفس األمري)‪ ،‬أي‬ ‫وكام سلف ف ّ‬
‫العلم واملعرفة احلقيقي ِ‬
‫ني‪ ،‬الذي يمكن تسميته بالعلم الفلسفي أو املنطقي‪ .‬وقد ُطرح‬
‫أيضا فالسفة اإلسالم(‪.)2‬‬
‫تعرض له ً‬
‫هذا يف فلسفة أفالطون وأرسطو‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫سيكولوجي‪ ،‬ولكن ال‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحتني ‪ .257 - 256‬ويف مثل هذه املوارد يكون هناك يقني‬
‫يكون هناك يقني نفس أمري‪ ،‬وبتعبري ابن سينا (فهذا يشبه اليقني)‪.‬‬
‫(‪ّ )2‬‬
‫إن املراد من اليقني هو العلم احلقيقي نفسه كام تقدّ مت اإلشارة إليه‪ ،‬فاليقني رضوري للخروج من متاهة الشك‬
‫والدخول إىل وادي املعرفة‪ .‬وقد عد الفالسف ُة اليقني عني العلم تار ًة‪ ،‬والز ًما له تار ًة أخرى‪ ،‬ولكن أرسطو‬
‫تعرضوا‬ ‫والفالسفة املسلمني يرون أن العلم احلقيقي هو اليقني نفسه‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر ّ‬
‫أن العلامء املسلمني قد ّ‬
‫للكثري من أبحاث نظر ّية املعرفة يف علم املنطق ويف مبحث صناعة الربهان‪ ،‬ومن مجلة ذلك تعريف املعرفة =‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 124‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫والسؤال املطروح اآلن‪ :‬ما هي األركان األصل ّية للمعرفة احلقيق ّية؟ وما هي‬
‫العنارص التي جيعل وجو ُدها املعرفة حقيق ّي ًة ومن سنخ اليقني؟‬
‫تقدّ م ّ‬
‫أن طريق الربهان يوصلنا إىل الواقع‪ ،‬و ُينتج املعرفة احلقيقية واليقني‪ ،‬وقد‬
‫أيضا أركان اليقني يف كلامت الفالسفة الكبار‪ .‬وال بدّ اآلن من دراسة أركان‬
‫طالعنا ً‬
‫املعرفة احلقيق ّي ة وقيودها‪ ،‬وملاذا اشرتط ابن سينا وغريه تلك الرشوط وذكروا تلك‬
‫األركان هلا؟‬
‫وقبل الدخول يف البحث من املفيد االلتفات إىل مالحظتني‪:‬‬
‫ألف‪ّ :‬‬
‫إن العلم الذي نتكلم عنه هو ظاهر ٌة إنسان ّية‪ ،‬أي إ ّنه العلم الذي حيصل لنا نحن‬
‫حتققه عند غري اإلنسان؛ فنحن هنا ندرس‬ ‫بتحقق العلم أو عدم ّ‬
‫فعال ّ‬ ‫البرش(‪ .)1‬وال شغل لنا ً‬
‫متحق ًقا يف أنفسنا‪ ،‬ونريد دراسة وحتليل ما ُنشري إليه بقولنا (أعلم)‪.‬‬
‫العلم الذي نجده ّ‬
‫باء‪ :‬املقصود بالعلم يف هذا البحث ‪ -‬وكام ذكرنا ذلك ساب ًقا ‪ -‬هو العلم احلقيقي‪،‬‬
‫أيضا‬
‫أن (أ هي ب) يف الواقع(‪ .)2‬كام نقصد ً‬ ‫أي العلم الذي يعلم ِ‬
‫العامل بنا ًء عليه حقيقة ّ‬
‫أيضا العثور عىل مجلة من أبحاث نظر ّية املعرفة يف علم الفلسفة ويف‬ ‫= وأركاهنا‪ ،‬ومصادر املعرفة والتربير‪ .‬كام يمكن ً‬
‫ٌ‬
‫تاريخ‬ ‫مبحث «نفس األمر» باخلصوص‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فرغم أن علم «نظر ّية املعرفة» ‪-‬كعلم مستقل‪ -‬ليس له‬
‫ٍ‬
‫كثرية يف هذا‬ ‫ٍ‬
‫بدراسات‬ ‫أيضا‬
‫القدم‪ ،‬وقد قام املفكّرون املسلمون ً‬ ‫أن أبحاث نظرية املعرفة قد طرحت منذ ِ‬ ‫طويل‪ ،‬بيد ّ‬
‫ّ‬
‫املجال‪ .‬فمثل هذه األبحاث ليست جديد ًة عىل العلوم العقل ّية اإلسالم ّية‪.‬‬
‫(‪ )1‬بحثنا هنا ليس يف أصل وجود العلم‪ ،‬أي إ ّننا اآلن بصدد «ما احلقيق ّية»‪ ،‬وليس «ما الشارحة»‪ ،‬فأصل وجود العلم‬
‫علام‬
‫بدهيي‪ ،‬وخاصة العلوم احلصول ّية الناّتة عن العلوم الشهود ّية‪ ،‬فعندما يكون لدينا علم حضوري‪ ،‬ونأخذ منه ً‬
‫خاصية الكشف‪ ،‬ويكشف الواقع‪.‬‬
‫أن للعلم احلصويل ّ‬ ‫أن كال العلمني حارض عندنا‪ ،‬كام نجد ّ‬ ‫حصول ًيا‪ ،‬فإننا نجد ّ‬
‫أمر بدهيي‪ .‬والالف ُت للنظر يف مثل هذه املوارد هو أن كال العلمني حارض‬
‫وعليه فوجود العلم لدينا يف اجلملة هو ٌ‬
‫أيضا العلم احلضوري بالعلم احلصويل الناتج عن ذاك العلم احلضوري؛ ولذا‬ ‫لدينا‪ :‬العلم احلضوري‪ ،‬وكذلك ً‬
‫ِ‬
‫املطابق واملطابق)‪ ،‬وعندما ند ّقق يف املطابقة نجد أهنا موجودة‪ّ ،‬‬
‫وأن هذا العلم‬ ‫حارضا لدينا كال األمرين (أي‬
‫ً‬ ‫فيكون‬
‫ِ‬
‫احلصويل ُمطابق للواقع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إ ّن نا نشاهد االرتباط بني احلاكي واملحكي يف صقع أنفسنا‪ ،‬ونحكم باملطابقة‪ .‬وبكلامت أخرى‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫أن الصورة مطابق ًة لصاحب‬
‫هناك واقع ٌة موجود ٌة عندي وكذلك يوجد عندي صور ٌة عن تلك الواقعة‪ .‬فأجد ّ‬
‫الصورة‪ّ .‬‬
‫وأن هذه الصورة هي صورة تلك الواقعة‪.‬‬
‫أيضا يف القضية الرشطيّة‪ ،‬فيحصل لدينا علم‬
‫(‪ )2‬ليس املقصود يف هذا املقام القضية احلمليّة فحسب‪ ،‬فاألمر كذلك ً‬
‫ّ‬
‫باالحتاد يف القضية احلمليّة وعلم باللزوم أو العناد يف القضية الرشطيّة‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يف هذا املقام العلم التصديقي‪ ،‬فالتصديق هو عمدة ما نواجهه يف بحوث الربهان(‪.)1‬‬
‫ونقوم اآلن بتحليل العلم من حيثية ِ‬
‫العامل‪:‬‬ ‫ّ‬
‫إن ّأول ركن للعلم التصديقي هو (االعتقاد)‪ ،‬فاالعتقاد ال جيتمع مع الرتديد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فعندما أعلـم ّ‬
‫أن «أ هي ب»‪ ،‬فـإ ّننـي أعتـقـد بـذلـك‪ ،‬وهذا يعني أ ّنه ال يـخالـجنـي أي‬
‫تـرديـ ٍد فـي أن (أ هي ب)‪.‬‬
‫تصور‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫باالحتاد بني (أ) و(ب)‪ ،‬ال بد ّمن ّ‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬قبل التصديق واحلكم‬
‫نفس (أ) و(ب) و(النسبة بينهام)‪ .‬وأما قبل احلكم بوجود النسبة بني (أ) و(ب)‪ ،‬فإنّني‬
‫ال أستطيع القول بأنّني أعلم أن (أ هي ب)‪ .‬فإذا كان هناك ترديد بثبوت هذه النسبة‬
‫فإ ّنه ال يمكن احلكم وال حيصل االعتقاد هبا‪.‬‬
‫األول للعلم احلقيقي هو اشتامله عىل االعتقاد‪.‬‬
‫وعىل هذا‪ ،‬فالرشط والعنرص ّ‬
‫وهبذا القيد خترج الشعر ّيات من تعريف اليقني؛ فالشعر ّيات إ ّنام ِ‬
‫توجد التخ ّيالت‪،‬‬
‫تصورات‪ .‬والركن الثاين للعلم احلقيقي بقضية (أ هي‬
‫جمرد ّ‬
‫وهي ال تزيد عىل كوهنا ّ‬
‫ب)‪ ،‬هو (االعتقاد بصدق القضية)‪.‬‬
‫وال بدّ من االلتفات إىل هذه النقطة‪ ،‬وهي ّ‬
‫أن العلم التصديقي هو اعتقا ٌد بيشء‪،‬‬
‫إن (أ) مرتبطة مع (ب)‬ ‫أيضا يتع ّلق بمحكي القضية‪ ،‬أي ّ‬ ‫فله متعلق‪ .‬كام ّ‬
‫أن االعتقاد ً‬
‫وضح‬
‫يف اخلارج‪ .‬ومن الواضح أن متعلق االعتقاد ليس هو مفهوم هذه القضية‪ .‬وقد ّ‬
‫الفارايب هذه النقطة بنحو ج ّيد(‪.)2‬‬
‫فإهنا ُخترب عن‬
‫أمورا ذهن ّية‪ ،‬مثل (اإلنسان كيل)‪ّ ،‬‬
‫وحتى لو كان مضمون القضية ً‬
‫وعام وراءها مما يمكن تسميته (ذهنًا وراء الذهن)‪ .‬فاالعتقاد يتع ّلق ً‬
‫دائام بام وراء‬ ‫حمكي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫القضية‪ ،‬وإن كان واق ًعا باملعنى األعم الشامل لألمور الذهن ّية مثل (اإلنسان كيل)‪،‬‬
‫دائام عن‬ ‫وأساسا ّ‬
‫فإن العلم احلصويل ُخيرب ً‬ ‫ً‬ ‫واألمور اخلارج ّية مثل (هذا اللباس أبيض)‪.‬‬
‫يشء وراءه‪ ،‬ومن هنا يقولون ّ‬
‫بأن العلم احلصويل صورة الواقع‪ ،‬فخصوص ّية العلم‬

‫اخلاصة يف مبحث الربهان‪ ،‬وال بدّ من دراسته يف نظر ّية املعرفة‪ ،‬ولكنه ليس موضع بحثنا هنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا مكانته‬
‫للتصور ً‬
‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬املنطقيات‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحة‪.350 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 126‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫احلصويل هي احلكاية والكشف‪ ،‬فكل قضية ُخترب عن ٍ‬


‫يشء وراءها‪ ،‬حتى لو كانت تلك‬ ‫ّ‬
‫القض ّية كاذبة‪.‬‬
‫وبناء عىل هذا‪ ،‬فاالعتقاد ‪ -‬وإن كان من ٍ‬
‫جهة يربط النفس بيشء ‪ -‬لكنّه يتع ّلق بام‬ ‫ً‬
‫أن رشط‬ ‫دائام اعتقا ٌد بيشء‪ .‬وال بدّ هنا من إضافة ّ‬ ‫وراء القضية‪ ،‬أي ّ‬
‫إن االعتقاد هو ً‬
‫العلم هو االعتقاد بمطابقة القضية للواقع‪ ،‬وال يكفي ِرصف احلكاية من دون‬
‫الكشف؛ فالعلم هو كشف الواقعية؛ وهلذا يقولون ّ‬
‫بأن للعلم خاص ّية الكشف‪ .‬وعىل‬
‫هذا األساس فرشط العلم بأن (أ هي ب) هو االعتقاد بصدقها‪ .‬ومن الواضح أنّني إذا‬
‫علام هبا‪ .‬ونحن حال ًّيا‬
‫لدي ً‬
‫مل أكن أعتقد بصدق القض ّية فإنّني ال أستطيع القول بأن ّ‬
‫نتحدّ ث عن (االعتقاد) باملطابقة والصدق‪ ،‬وليس عن املطابقة والصدق أنفسهام‪.‬‬
‫األول؛ هو عبار ٌة عن جمموع‬
‫األول عند ابن سينا‪ ،‬أي االعتقاد ّ‬
‫أن الرشط ّ‬ ‫ويبدو ّ‬
‫العنرصين اللذين وصلنا إليهام يف حتليلنا للعلم‪ ،‬أي االعتقاد بصدق القض ّية‪.‬‬
‫برصف االعتقاد بصدق (أ هي ب) فإنّني ال أستطيع القول‪ :‬بأنّني أعلم‬ ‫ولكنّه ِ‬
‫يقينًا ّ‬
‫بأن (أ هي ب)‪ .‬فالركن الثالث هو لزوم انتفاء احتمـال صدق نقيض هذه القضية‬
‫أيضا‪ ،‬فمن يعتقد بقض ّية ما ويف الوقت نفسه حيتمل صدق نقيضها‪ ،‬ال يكون لديه ‪-‬يف‬
‫ً‬
‫علم هبا‪.‬‬
‫الواقع‪ٌ -‬‬
‫أيضا؛ إذ لو احتملنا صدق‬
‫وعىل هذا‪ ،‬فيجب أن يكون االعتقاد املذكور جزم ًّيا ً‬
‫نقيض قض ّية (أ هي ب) فإنّنا نكون غري عالـمني بصدق هذه القضية‪ ،‬بل إ ّنمـا يـخ ّيل لنا‬
‫علمـا‪.‬‬
‫فـي بادئ األمر أن لدينا ً‬
‫وهذه النقطة هي الرشط الثاين نفسه عند ابن سينا‪ ،‬فمضا ًفا إىل االعتقاد بصدق‬
‫القض ّية‪ ،‬جيب االعتقاد بعدم صدق نقيضها‪ ،‬وبدون االعتقاد الثاين‪ ،‬يكون املوجود هو‬
‫(الظن) ‪ -‬يف احلقيقة ‪ -‬وال وجود للعلم يف البني بعد‪.‬‬
‫ولكن هل يكفي ِرصف االعتقاد اجلزمي بصدق القض ّية للقول ّ‬
‫بأن لدينا حقيقة‬
‫ٍ‬
‫طريق‬ ‫أي‬
‫علام هبا؟ وهل يمكن اعتبار من لديه مثل هذا االعتقاد ‪-‬مع أ ّنه ال يدري من ّ‬
‫ً‬
‫وصل إليه‪ -‬عالـ ًمـا حقـيقـة؟‬
‫‪127‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بأن الركن اآلخر للعلم احلقيقي هو رضورة‬‫واجلواب بالنفي‪ ،‬فال بدّ من القول ّ‬
‫ً‬
‫حاصال من العلة‪ ،‬فال بدّ من‬ ‫ومصحح له‪ ،‬وأن يكون‬
‫ّ‬ ‫ربر‬
‫حيازة االعتقاد املذكور عىل م ّ‬
‫رب ٍر لالعتقاد بصدق القض ّية واالعتقاد بكذب نقيضها‪.‬‬ ‫وجود سب ٍ‬
‫ب وم ّ‬
‫شخصا اعتقد اعتقا ًدا جاز ًما ّ‬
‫بأن (غدً ا سوف متطر) وكان اعتقاده‬ ‫ً‬ ‫ولنفرتض ّ‬
‫أن‬
‫وتبني مطابقة هذا االعتقاد‬
‫هذا ناش ًئا من حدس ‪ ،‬فإذا أمطرت يف اليوم التايل‪ّ ،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫للواقع‪ ،‬فهل يمكن القول بأ ّنه كان لديه علم هبذه القض ّية؟‬
‫بأن تلك القض ّية صادقة بالرضورة؟ فمن لديه‬ ‫بأي ٍ‬
‫دليل يقول ّ‬ ‫ال بدّ من سؤاله ّ‬
‫علم بقض ّية ما ال بدّ أن يكون علمه مستندً ا إىل الدليل اخلاص عىل صدق تلك القضية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وإال فإ ّنه ال يمكنه اجلزم هبا واق ًعا؛ أي ّ‬
‫إن االعتقاد الثاين بكذب نقيض القض ّية مل حيصل‬
‫حقيقة‪ .‬وهذا الرشط الرابع الزم للرشوط الثالثة السابقة‪.‬‬
‫إنام حتصل حقيقة عندما يتح ّقق بتبعها‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫إن الرشوط الثالثة األوىل ّ‬
‫حتقق الرشوط السابقة وباألخص‬ ‫حتقق الرشط الرابع حيكي عن عدم ّ‬ ‫الرشط الرابع‪ ،‬وعدم ّ‬
‫الرشط الثالث؛ فهذا الشخص الذي حدس بنزول املطر غدً ا ولكنّه ال يملك أي ٍ‬
‫دليل‬
‫عىل رضورة هذه القض ّية هو يف احلقيقة ليس لديه (علم) برضورة هذه القض ّية‪.‬‬
‫ويمكن بيان هذه النقطة ‪-‬التي حصلنا عليها من خالل حتليل معنى العلم واملعرفة‪-‬‬
‫أيضا‪ :‬فلكي يصبح اإلنسان عا ًملا بيشء مل يكن له ٌ‬
‫علم به‪ ،‬حيتاج إىل انكشاف‬ ‫بنحو آخر ً‬
‫ً‬
‫حاصال له قبل ذلك‪ .‬ومن الطبيعي‬ ‫رضوري‪ .‬ومثل هذا األمر مل يكن‬
‫ّ‬ ‫املعلوم عنده بنحو ٍ‬
‫أمر أوجب انكشاف ذلك املعلوم عنده بنحو رضوري؛ إذ‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ أنه ال بدّ من وجود ٍ‬
‫ٍ‬
‫بشكل تلقائي‪ ،‬ولذا فالطريق الوحيد هو‬ ‫من الواضح ّ‬
‫أن ذلك املعلوم مل حيصل عنده‬
‫رب ٍر أ ّدى إىل انكشاف املعلوم بنحو رضوري‪.‬‬
‫ومصححٍ وم ّ‬
‫ّ‬ ‫القول بلزوم وجود ٍ‬
‫دليل‬
‫وهبذا الرشط خترج أمور مثل احلدس العريف واالعتقاد التقليدي‪ ،‬فاملق ِّلد يستطيع‬
‫وأال حيتمل نقيضها‬ ‫بأن (أ هي ب)‪ ،‬اعتام ًدا عىل شخص جعله يعتقد هبا تقليدً ا‪ّ ،‬‬
‫العلم ّ‬

‫(‪ )1‬املراد باحلدس هنا هو احلدس العريف‪ ،‬وليس احلدس الفلسفي الذي ُيعدّ من اليقينيّات‪ ،‬فبعض األشخاص لدهيم‬
‫هذه احلالة النفسيّة بحيث إ ّنه حيصل لدهيم اليقني واجلزم برسعة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 128‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أيضا‪ ،‬ولكنّه ال يدري ما هو مستند علمه؛ وهلذا ّ‬


‫فإن اعتقاده بكذب نقيض القض ّية ال‬ ‫ً‬
‫علام حقيق ًة بتلك‬ ‫يمكنه أن يكون دائم ًيا‪ ،‬فمثل هذا الشخص ال يستطيع القول ّ‬
‫بأن لديه ً‬
‫القض ّية‪.‬‬
‫ولكنّه إىل اآلن مل تكتمل بعدُ رشوط العلم احلقيقي‪ ،‬فمن املمكن أن يعتقد شخص‬
‫أيضا بانتفاء احتامل نقيض ذلك‪ ،‬ويكون قد وصل إىل‬
‫أن (أ هي ب) ويعتقد ً‬ ‫بصدق ّ‬
‫هذا االعتقاد من طريق الدليل‪ ،‬غري ّ‬
‫أن (أ) ال تكون (ب) يف الواقع بل تكون (ج)‪،‬‬
‫ويكون قد أخطأ يف جمموع هذه االعتقادات ومل يكن دليله إال مغالطة‪.‬‬
‫فنقول يف هذه الصورة إ ّن هذا الشخص قد وقع يف اجلهل املركّب‪ ،‬كام إ ّنه من‬
‫جدال‪ ،‬مع أ ّنه صحيح‪ ،‬ومطابق للواقع‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫باعتقاد ما ً‬ ‫شخص‬ ‫املمكن أن يعتقد‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫رشط آخر حتّى يتم ّيز العلم احلقيقي عن اجلهل املركّب‪،‬‬ ‫وهلذا فال بدّ من اشرتاط‬
‫واالعتقاد الناتج عن اجلدل‪.‬‬
‫ربره ً‬
‫دليال ذات ًّيا حقيق ًّيا نفس‬ ‫والرشط اخلامس هو أن يكون دليل االعتقاد وم ّ‬
‫أمري‪ .‬وتوضيح ذلك هو‪ :‬أ ّن الزم األركان الثالثة األوىل أن يكون دليل وم ّ‬
‫ربر‬
‫ً‬
‫موصال لنا إىل الواقع يقينًا‪.‬‬ ‫االعتقاد ‪ -‬الذي ُيفرتض أنه مطابق للواقع وجازم ‪-‬‬
‫علة بحسب ِ‬
‫العامل‪.‬‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬جيب أن تكون ع ّلة االعتقاد ع ّل ًة بحسب العلم ال ً‬
‫تم سلوك طريق يؤ ّدي‬ ‫ربر الذايت)‪ ،‬فإذا ّ‬ ‫ونعرب عن هذه الع ّلة وم ّ‬
‫ربر االعتقاد بـ (الدليل وامل ّ‬ ‫ّ‬
‫بالرضورة وبحسب الواقع إىل علم‪ ،‬فسوف يكون ذلك العلم حقيق ًّيا‪ .‬ويف هذه احلالة‬
‫ً‬
‫حقيقة‪ .‬فالزم كون االعتقاد جاز ًما ‪-‬أي استحالة‬ ‫يمكن القول ّ‬
‫بأن هذا الشخص يعلم‬
‫صدق نقيضه‪ -‬أن يكون قد حصل من طريق دليله الذايت ونفس األمري‪ .‬وعىل هذا‪،‬‬
‫ربر‪.‬‬‫ربر الذايت ال جمرد امل ّ‬
‫فالالزم هو امل ّ‬
‫حينئذ من البحث عن األمور التي هلا أن تلعب مثل هذا الدور‪ ،‬وأن تكون‬ ‫ٍ‬ ‫وال بد‬
‫ِ‬
‫العامل؛‬ ‫رب ًرا ذات ًّيا لالعتقاد‪ ،‬وع ّل ًة نفس أمر ّي ٍة‪ ،‬ال نفس ّية‪ ،‬وبحسب العلم‪ ،‬ال بحسب‬
‫م ّ‬
‫أي ال بدّ من دراسة كيفية حت ّقق العلم‪ ،‬ال كيف جيزم ِ‬
‫العامل‪ .‬وهذه العلة ال بد أن تكون‬
‫يقين ّية ال تقبل اخلطأ‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫األوليات‪ ،‬وقيام‬
‫ربر الذايت للعلم هو كونه ب ّينًا بنفسه يف ّ‬ ‫واجلواب هو‪ّ :‬‬
‫إن امل ّ‬
‫الربهان عليه يف النظر ّيات [أي األمور النظر ّية]‪ ،‬فنحن يف الربهان نبحث عن العلة‬
‫ِ‬
‫العامل‪،‬‬ ‫يت وراء‬ ‫الذات ّية للعلم باألمور النظر ّية‪ ،‬وعليه فالعلم يرتبط ٍ‬
‫حقيقي وذا ّ‬
‫ّ‬ ‫بأمر‬
‫العامل وشخص علمه‪ ،‬وهبذا الشكل يمكن الوصول إىل العلم احلقيقي‪.‬‬ ‫ويتجاوز أفق ِ‬
‫فقول ابن سينا ّ‬
‫بأن االعتقاد الثاين ال بدّ أن يكون غري ممكن الزوال‪ ،‬إشارة إىل هذه‬
‫األوليات وإ ّما أن‬ ‫مر ساب ًقا‪ّ -‬‬
‫إن االعتقاد إ ّما أن يكون من ّ‬ ‫النقطة‪ .‬فهو يقول ‪-‬كام ّ‬
‫حيصل بواسطة حدٍّ أوسط ذايت‪ ،‬فقد اتّضح أننا إذا أردنا الوصول إىل اليقني يف األمور‬
‫إن سائر الصناعات ليس هلا مثل‬ ‫النظر ّية فال بدّ لنا من استخدام صناعة الربهان؛ إذ ّ‬
‫هذه القدرة عىل اإليصال‪.‬‬
‫وإنام ال بدّ من‬
‫ونحن نرى أ ّنه ال ينبغي ذكر (االعتقاد الصادق) يف تعريف العلم‪ّ ،‬‬
‫الرتكيز عىل (االعتقاد بالكشف والصدق)‪ .‬وما جاء يف كالم املح ّقق الطويس من‬
‫صحة هذه املالحظة [إلخراج اجلهل املركّب]‪-‬‬
‫إضافة قيد (املطابقة) ‪-‬عىل الرغم من ّ‬
‫وإنام الذي ينفعه هو‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّإال إ ّن هذا القيد غري ٍ‬
‫[ألن جمرد املطابقة ال تنفع العامل‪ّ ،‬‬ ‫كاف‬
‫أساسا يف اليقني نفس األمري كام تقدّ م]‪،‬‬
‫ً‬ ‫(االعتقاد باملطابقة)‪ ،‬ناهيك عن ّ‬
‫أن كالمنا‬
‫ومن هنا وجب ذكر (االعتقاد باملطابقة) يف التعريف [ال جمرد املطابقة]‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل هذا فالطريق الذي سلكه ابن سينا هو األصوب‪.‬‬
‫التعرض لبحث كيف ّية حصول االعتقاد باملطابقة والكشف‪،‬‬ ‫ومن ثم ال بدّ من ّ‬
‫ٍ‬
‫اعتقاد هو الذي بلحاظ كونه اعتقا ًدا يكون كاش ًفا عن احلقيقة‪ ،‬ويوصلنا إىل‬ ‫وأي‬
‫ّ‬
‫بأن االعتقاد باملطابقة يتط ّلب ع ّل ًة ذات ّي ًة‪.‬‬
‫الواقع؟ ال بدّ من القول ّ‬
‫والعامل‪ ،‬وهو طريق صحيح؛ فهذا الطريق‬ ‫ِ‬ ‫يلج ابن سينا البحث من طريق العلم‬
‫فإن اخلواجة نصري الدين‬‫مناسب ومنتج للوصول إىل (نفس األمر)‪ .‬وكام ذكرنا ساب ًقا ّ‬
‫ِ‬
‫العامل ال طريق له إلحراز قيد املطابقة ّإال من‬ ‫مل يسلك طري ًقا طبيع ًيا وال دقي ًقا؛ ّ‬
‫ألن‬
‫طريق العلم فقط‪ .‬فال بدّ إ ًذا من دراسة خصوص ّيات طريق العلم الذي يكشف عن‬
‫ودقيق يف دراسة‬
‫ٌ‬ ‫طبيعي‬
‫ٌ‬ ‫الواقع حقيق ًة وبالرضورة‪ ،‬وحي ّقق رشط املطابقة‪ ،‬فهذا الطريق‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 130‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫بحث املعرفة‪ ،‬واليقني نفس األمري‪ ،‬ومن ثم تأيت دراسة رشوط اليقني املطروح يف‬
‫املتفرعة عليه‪.‬‬
‫صناعة الربهان واألبحاث ّ‬
‫بأن هذا البحث سوف يكون ّبواب ًة ألبحاث نظر ّية املعرفة يف‬ ‫وهنا جيب التذكري ّ‬
‫باب التصديق؛ ذلك أ ّنه ال بدّ ّأو ًال من تعريف املعرفة بشك ٍل دقيق‪ ،‬ومعرفة أركاهنا‪،‬‬
‫واحد من أركاهنا ٌ‬
‫بحث عىل حدة(‪.)1‬‬ ‫ٍ‬ ‫ثم ُيعقد ّ‬
‫لكل‬
‫وقد ورد يف التعريف الشائع للمعرفة يف أبحاث نظر ّية املعرفة ّأهنا «االعتقاد‬
‫الصادق املربر»‪ ،‬أن يكون االعتقاد مرب ًرا‪ ،‬وكان هذا بنفسه سب ًبا يف بروز بعض‬
‫املشاكل؛ وكان ال بدّ من ذكر العلة الذات ّية الرضور ّية واالضطرار ّية لالعتقاد بالكشف‪،‬‬
‫تنحل املشكلة التي طرحها (أدموند غوتيه)‪.‬‬ ‫وهبذا ّ‬
‫واخلالصة هي‪ّ :‬‬
‫إن للمعرفة اليقين ّية مخسة أركان هي‪:‬‬
‫‪ .1‬االعتقاد‪.‬‬
‫‪ .2‬االعتقاد بالصدق‪.‬‬
‫‪ .3‬اجلزم (اعتقاد كذب النقيض)‪.‬‬
‫ربر والدليل‪.‬‬
‫‪ .4‬وجود امل ِّ‬
‫ربر والدليل ذات ًّيا حقيق ًّيا‪.‬‬
‫‪ .5‬كون امل ِّ‬
‫واملكونات ضمن الرشوط الثالثة التي ذكرها‬
‫ّ‬ ‫وقد مجع ابن سينا كل هذه العنارص‬
‫األول والثاين‪ .‬والرشط الثاين(‪ )3‬حيكي عن‬
‫يتضمن الركنني ّ‬
‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫األول‬
‫لليقني‪ :‬فالرشط ّ‬
‫يتضمن الركنني الرابع واخلامس(‪.)5‬‬
‫ّ‬
‫(‪)4‬‬
‫الركن الثالث‪ .‬والرشط الثالث‬
‫(‪ )1‬يبدو أ ّنه جيب تنظيم أبحاث نظر ّية املعرفة ضمن قسمني‪ :‬العلم احلصويل‪ ،‬والعلم احلضوري‪ .‬وتقسيم العلم‬
‫أيضا مها‪ :‬العلم التص ّوري والعلم التصديقي‪ ،‬كام فعل ذلك فالسفتنا ومناطقتنا‪ .‬والتعريف‬
‫احلصويل إىل قسمني ً‬
‫املطروح هنا للمعرفة يرتبط بالعلم احلصويل التصديقي‪.‬‬
‫(‪ ..." )2‬يعتقد فيه ّ‬
‫أن كذا كذا"؛ ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة‪.78 :‬‬
‫(‪ ..." )3‬يعتقد أ ّنه ال يمكن أال يكون كذا"؛ املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ ..." )4‬اعتقا ًدا ال يمكن أن يزول"؛ املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )5‬كام قال هو ذلك يف مكان آخر من برهان الشفاء‪ ،‬وقد نقلناه ساب ًقا‪ ،‬حيث قال‪ ..." :‬اعتقا ًدا وقوعه من حيث =‬
‫‪131‬‬ ‫رصها |‬
‫أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وحمكام‪ ،‬وأما حتليل املح ّقق‬


‫ً‬ ‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬يكون حتليل الشيخ لليقني دقي ًقا جدًّ ا‬
‫مر ‪ -‬حيتاج إىل ترمي ٍم وإصالحٍ ‪ ،‬وال بدّ من اعتبار قيد «املطابقة»‬‫الطويس‪ ،‬فإنه ‪ -‬وكام ّ‬
‫قيدً ا توضيح ًّيا‪ ،‬وإرجاع «الثبات» إىل املعنى الذي طرحه ابن سينا‪.‬‬
‫***‬
‫املصادر‬
‫‪ .1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬حتقيق سعيد زايو واخرون‪ ،‬قم مكتبة السيد املرعيش النجفي‬
‫‪ 1404‬ق‪.‬‬
‫‪ .2‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬املنطقيات‪ ،‬حتقيق حممد تقي دانش‪ ،‬قم‪ ،‬مكتبة املرعيش النجفي‪ 1408 ،‬ق‪.‬‬
‫‪ .3‬ارسطو‪ ،‬منطق أرسطو‪ ،‬حتقيق عبد الرمحن بدوي‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار القلم‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬أفالطون‪ ،‬املجموعة الكاملة آلثار أفالطون‪ ،‬ترمجه‪ :‬حممد حسن لطفي‪ ،‬طهران‪ ،‬اخلوارزمي‪،‬‬
‫‪2001‬م‪.‬‬
‫‪ .5‬احليل‪ ،‬احلسن بن يوسف‪ ،‬كشف املراد يف رشح جتريد االعتقاد‪ ،‬تصحيح وتعليق‪ ،‬حسن حسن‬
‫زادة آميل‪ ،‬قم‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي‪1413 ،‬ق‪.‬‬
‫‪ .6‬الرازي‪ ،‬قطب الدين‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬طهران‪ ،‬مجعية االثار واملفاخر الثقافية‪.2004 ،‬‬
‫‪ .7‬الرازي‪ ،‬قطب الدين‪ ،‬حترير القواعد املنطقية يف رشح الرسالة الشمسية‪ ،‬تقديم وتصحيح حمسن‬
‫بيدارفر‪ ،‬قم‪2005،‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬قم‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي‪1404 ،‬ق‪.‬‬
‫‪ .9‬الطويس‪ ،‬نصري الدين حممد‪ ،‬تعديل املعيار يف نقد تنزيل األفكار‪ ،‬يف‪ :‬املنطق ومباحث األلفاظ‪،،‬‬
‫ارشاف تويش هيكو إزوتسو ومهدي حمقق‪ ،‬طهران‪ ،‬جامعة طهران‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .10‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد حممد‪ ،‬املنقذ من الضالل‪ ،‬تعليق ورشح‪ :‬عيل بوملحم‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار اهلالل‪،‬‬
‫‪.1993‬‬
‫‪ .11‬فردريك كوبلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬ترمجة إمام عبد الفتاح إمام‪.‬‬

‫= ال يمكن زواله‪ ،‬فإنه إن كان بيّنًا بنفسه مل يمكن زواله‪ ،‬وإن مل يكن بيّنًا بنفسه‪ ،‬فال يصري غري ممكن الزوال‪ ،‬أو‬
‫يكون احلد األوسط األعىل أوقعه"؛ املصدر السابق‪ ،‬الصفحة ‪.256‬‬
‫‪4‬‬
‫املعرفة الحضور ّية والحصول ّية‬
‫دراسة تحليل ّية ‪ -‬مقارنة‬

‫(*)‬
‫الشيخٌسامرٌتوفيقٌعجمي‬

‫(*) بــاحـــث فــي الـفــكــر اإلســالمــي‪ ،‬لـبـنـان‪.‬‬


‫ملخص البحث‬
‫املعرفة‪ ،‬لع ّلها ّ‬
‫أهم موضوع شغل التفكري البرشي‪ ،‬وأقلق الفالسفة‪ ،‬ورغم بذل‬
‫اجلهود الكثرية يف دراستها وحتليلها‪ ،‬ما زال سؤال املعرفة جيدّ د ذاته‪ ،‬وتبتكر األطروحات‬
‫املتعدّ دة يف اجلواب عنه‪ ،‬ونقطة االنطالق يف دراسة املعرفة تبدأ من اجلواب عن األسئلة‬
‫املنطقية املعهودة‪ :‬ما هي املعرفة؟ وهل املعرفة موجودة؟ وإذا كانت املعرفة موجودة‬
‫فهل ّ‬
‫كل معرفة هي مضمونة احلقان ّية؟ وما هي أقسام املعرفة؟‬
‫يس ّلط هذا البحث الضوء عىل أقسام الـمعرفة‪ ،‬وبالتحديد يعالج انقسام الـمعرفة‬
‫إىل حضورية وحصولية‪ ،‬مركّز ًا عىل تـحليل طبيعة ٍّ‬
‫كل منهمـا‪ ،‬مع بيان وجوه االشرتاك‬
‫واالختالف بني املعرفتني‪.‬‬
‫تشرتك الـمعرفتان بكون حقيقتهمـا الكشف واإلراءة‪ ،‬فالـمقسم الـمنطقي لـهمـا‪،‬‬
‫هو االنكشاف‪ ،‬فإن كان املعلوم منكشف ًا بذاته وحارض ًا بواقعه مبارشة لدى ِ‬
‫العامل فهو‬
‫حضوري‪ ،‬وإن كان بواسطة صورته فهو حصويل‪.‬‬
‫فاملعرفة احلصولية هي اتصال واسطي بالواقع املوضوعي‪ ،‬حيث حتصل بواسطة‬
‫احلواس والعقل والصور الذهنية‪ ،‬ولذلك تكون ثمة ثنائية يف املعرفة احلصولية بني‬
‫ِ‬
‫العامل وبني املعلوم‪ ،‬ومن هنا ينشأ احتامل وقوع اخلطأ يف املعرفة احلصولية‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫ّ‬
‫الشك فيها‪ ،‬فإن طابقت الصورة الواقع فاملعرفة صادقة‪ ،‬وإن خالفتها فكاذبة‪.‬‬
‫أما املعرفة احلضورية فهي اتصال ِ‬
‫مبارش بل احتاد وجودي بني الذات والواقع‪ ،‬أي‬ ‫ّ‬
‫العامل‪ ،‬فال يكون ثمة اثنينية واقعية بني ِ‬
‫العامل واملعلوم‪،‬‬ ‫أن واقع اليشء حيرض بذاته لدى ِ‬
‫ّ‬
‫إال باختالف اللحاظ االعتباري‪ ،‬ومن هنا ليس ثمة جمال للشك أو اخلطأ إىل املعرفة‬
‫كل معرفة حضورية هي بلحاظ ذاهتا صادقة‪ ،‬وإن كان ثمة خطأ يف املعارف‬‫احلضورية‪ ،‬بل ّ‬
‫ِ‬
‫العامل باعتبار حتويله املعرفة احلضورية إىل حصولية ووقوع‬ ‫احلضورية فهو اشتباه من‬
‫اخلطأ يف الثانية فيرسي ِ‬
‫العامل حكم الثانية إىل األوىل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫املجرد (الواجب‪ ،‬العقول‪ ،‬النفوس) بذاته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومن أقسام املعرفة احلضورية‪ :‬علم‬
‫علم النفس بأفكارها ومشاعرها وحاالهتا الوجدانية‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 136‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫بأهنا وراء الصور اإلدراكية والـمفاهيم العقلية‪ ،‬وبالتالـي‬


‫وتتم ّيز الـمعرفة احلضورية ّ‬
‫ال تشكّل موضوع ًا للدرس املنطقي بخالف املعرفة احلصولية التي تنقسم إىل تصور‬
‫وكيل وجزئي‪...‬‬
‫وتصديق‪ّ ،‬‬
‫هذا التاميز بني املعرفتني ينعكس عىل طبيعة العالقة بني املعرفة العرفانية واملعرفة‬
‫الربهاين‪ ،‬أي فهم املائز بني الفيلسوف واملتك ّلم من جهة‪ ،‬وبني العارف من جهة ثانية‪...‬‬
‫فـاألول يتـعـامل مـع عـامل الذهـن‪ ،‬والـمفـاهيـم‪ ،‬والقضـايا‪ ،‬واللغـة واأللفـاظ‪ ،‬والربهنـة‬
‫يوسط‬ ‫ِ‬
‫واالستدالل‪ ،‬والعارف يتعامل مع عامل الواقع باالتصال الوجودي املبارش‪ ،‬فال ّ‬
‫احلق تعاىل عامل الذهن‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والربهنة‪ ،‬واللغة‪...‬‬
‫بينه وبني ّ‬
‫وقد وقع كثريون فـي الـخلط بني الـمعرفتني‪ ،‬فأعطى أحكام األولـى للثانيـة وكـذا‬
‫العكس‪ ،‬مما ورطهم يف شبهات كثرية‪ ،‬ولذلك فإن الدقة يف فهم املعرفة احلضورية‬
‫ومتييزها بشكل صحيح عن احلصولية من رشائط فهم العديد من النظريات الفلسفية‬
‫ال ما نجدّ من مل ّ‬
‫تزل‬ ‫الدقيقة كتجرد النفس واحتاد العقل والعاقل واملعقول‪ ،‬ولذا قلي ً‬
‫قدمه يف هذا امليدان‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬تظهر أمهية البحث عن املعرفتني‪ :‬احلصول ّية واحلضور ّية‪ ،‬لتربز طبيعة ٍّ‬
‫كل‬
‫منهام يف ضوء مؤرشات حمدّ دة وواضحة‪ ،‬بنحو تتم ّيز فيه أحدامها عن األخرى‪.‬‬

‫***‬

‫الكلامت املفتاح ّية‪ :‬الـمعرفة احلضورية‪ ،‬الـمعرفة احلصولية‪ ،‬النفس‪ ،‬األنا‪،‬‬


‫الذهن‪ ،‬الصورة‪ ،‬الواقع‪ ،‬املفهوم‪ ،‬املصداق‪ ،‬املعلوم بالذات‪ ،‬املعلوم بالعرض‪،‬‬
‫الصدق‪ ،‬الـخطأ‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬العرفان‪.‬‬

‫***‬
‫‪137‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫توطئة‪ :‬سؤال املعرفة‬


‫أهم املشكالت الفلسف ّية‪ ،‬التي ال ينرصم البحث عنها‪ ،‬فك ّلام ُط ِرح ٌّ‬
‫حل هلا‪،‬‬ ‫واحد من ّ‬
‫أعادت املشكلة إنتاج نفسها بصي ٍغ أكثر تعقيد ًا‪ .‬ولع ّلنا ال نعثر عىل موضو ٍع للتفكري‬
‫كـ(املعرفة) أقلق مدلو ُله العقل البرشي‪ ،‬وشغل ُ‬
‫حتليل طبيعته الفكر الفلسفي والبحث‬
‫العلمي‪.‬‬
‫معرب ًا عن هذا القلق‪" :‬كنت زمان ًا شديد االشتغال‪ ،‬كثري الفكر‬‫يقول السهروردي ِّ‬
‫والرياضة‪ ،‬وكان يصعب عيل مسألة العلم‪ ،‬وما ُذكِر يف الكتب مل يتن ّقح يل‪.)1("...‬‬
‫ّ‬
‫ثمة معرفة يف العالـم‬
‫العلمي برتراند رسل‪" :‬هل ّ‬
‫ّ‬ ‫كمـا نلمسه يف تساؤل الفيلسوف‬
‫تبلغ إىل درجة من اليقني ال يستطيع اإلنسان العاقل ّ‬
‫الشك فيها؟ هذا السؤال الذي ال يبدو‬
‫عند النظرة األوىل عسري ًا‪ ،‬هو يف احلقيقة من أصعب ما يمكن التساؤل عنه‪.)2("...‬‬
‫فإن املالحظة اجلديرة بال ّطرح‪ ،‬هي الوصف الذي أطلقه صدر‬ ‫السياق ّ‬‫ويف هذا ّ‬
‫الشريازي عىل الشيخ الرئيس قائالً‪" :‬تب ّلد ذهنُه وظهر منه العجز"(‪ ،)3‬مشري ًا‬
‫املتأهلني ّ‬
‫بذلك إىل عجز ابن سينا ‪-‬من وجهة نظره‪ -‬عن ّ‬
‫حل بعض القضايا الوجود ّية منها تلك‬
‫واحليس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وّترد العلم اخليا ّيل‬ ‫املتع ِّلقة ب ـ(املعرفة)‪ّ ،‬‬
‫كاحتاد العقل والعاقل واملعقول‪ّ ،‬‬
‫واملعرفة احلضور ّية للكائن احلي بذاته‪...‬‬
‫الصدر عن أطروحته األسس املنطق ّية لالستقراء يف ضوء‬ ‫الس ّيد حممد باقر ّ‬
‫وحيدِّ ثنا ّ‬
‫بأهنا "نظر ّية جديدة‪ ،‬استطاعت أن متأل فراغ ًا كبري ًا يف نظر ّية‬ ‫املذهب ّ‬
‫الذايت للمعرفة‪ّ ،‬‬
‫املعرفة البرش ّية‪ ،‬مل يستطع الفكر الفلسفي أن يمأله خالل ألفني سنة"(‪.)4‬‬
‫(‪ )1‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين حييى‪ ،‬التلوحيات‪ ،‬تصحيح وحتقيق هنري كوربان‪ ،‬مصنفات شيخ اإلرشاق‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫ص‪.70‬‬
‫(‪ )2‬رسل‪ ،‬برتراند‪ ،‬مشكالت الفلسفة‪ ،‬ترمجة سمري عبده‪ ،‬دار التكوين للتأليف والرتمجة‪ ،‬ط‪2016 ،1‬م‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫(‪ )3‬الشريازي‪ ،‬حممد (املعروف بمال صدرا أو صدر ّ‬
‫املتأهلني)‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقل ّية األربعة‪ ،‬دار إحياء‬
‫الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1981 ،3‬م‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.109‬‬
‫(‪ )4‬اهل اشمي الشاهرودي‪ ،‬حممود‪ ،‬بحوث يف علم األصول‪ ،‬تقريرات السيد حممد باقر الصدر‪ ،‬مؤسسة الفقه‬
‫ومعارف أهل البيت‪ ،‬ط‪1433 ،1‬ه‪2012-‬م‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.130‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 138‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وسيستمر تعبري الفالسفة واملفكّرين عن القلق الوجودي الذي يعيشونه أمام سؤال‬
‫املعرفة‪ ،‬أو ينبئنا منهم أنّه ابتكر أطروح ًة معرف ّي ًة جديد ًة‪ ،‬متكّنت من سدّ ثغرة عمرها‬
‫ألفني ومخسئة عام‪ ،‬ثالثة آالف عام‪ ،‬عرشة آالف عام‪...‬‬
‫طبيعي بلحاظ كون اهلندسة النّفس ّية لإلنسان تنجذب فطر ّي ًا نحو املعرفة‬
‫ٌّ‬ ‫أمر‬
‫وهذا ٌ‬
‫بمتقدِّ مة ال متناهية‪ ،‬إذ ال يمكن إشباع هنم طلب املعرفة والبحث عن احلقيقة(‪ .)1‬فتاريخ‬
‫اهلو ّية اإلنسان ّية هو تاريخ املعرفة‪ ،‬فبالتفكّر واملعرفة يرسم مساره اخلاص يف هرم‬
‫ثمة قراءة للنّصوص‬‫منامزا عن باقي الكائنات املشاركة له يف وحدة احلياة‪ .‬بل‪ّ ،‬‬
‫الوجود‪ً ،‬‬
‫خاصة بعطفه نحو املعرفة(‪ ،)2‬وقد اشتهر‬ ‫الوحيان ّية ُحتدّ د هدف الوجود عا ّمة‪ ،‬واإلنسان ّ‬
‫فأحببت أن ُأعرف (أ ِ‬
‫عرف)(‪،)3‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت كنز ًا خمف ّي ًا‬
‫عىل ألسنة العرفاء احلديث القديس‪ُ " :‬‬
‫فخلقت اخللق لكي أعرف"(‪.)4‬‬
‫ُ‬
‫تطور ًا بنيو ّي ًا يف االهتامم بمسألة املعرفة‪ ،‬بنحو‬
‫سجل الفكر الغريب احلديث ّ‬
‫هذا‪ ،‬وقد ّ‬
‫تفكري‪ ،‬إىل موضوع للتّفكري‪ُ ،‬فأنشأ فرع خاص يف املعارف‬ ‫ٍ‬ ‫حتولت فيه "املعرفة" من ِ‬
‫فعل‬ ‫ّ‬
‫اإلنسان ّية‪ ،‬اصطلح عليه ‪( Epistemology‬نظر ّية املعرفة)‪ ،‬أو (علم املعرفة)‪.‬‬

‫(‪ )1‬ثمة أحاديث عدّ ة مفادها‪" :‬منهومان ال يشبعان‪ :‬طالب علم‪ ."...‬انظر‪ :‬الريشهري‪ ،‬حممد‪ ،‬ميزان احلكمة‪ ،‬دار‬
‫احلديث‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪ ،3‬ص‪.2071‬‬
‫(‪ )2‬يقول املريداماد‪ّ ..." :‬‬
‫ألن املعرفة هو الغرض األصيل من خلقته‪ ."...‬الرواشح الساموية‪ ،‬ص‪ .45‬وقال املريزا‬
‫األشتياين‪ ..." :‬الغرض من اخللق املعرفة‪ ."...‬بحر الفوائد يف رشح الفرائد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .288‬وقال الشيخ‬
‫اجلواهري‪ ..." :‬ألن كامل العلم‪ ،‬الذي هو الغرض األصيل من خلقته‪ ." ...‬جواهر الكالم يف رشح رشائع اإلسالم‪،‬‬
‫ج‪ ،29‬ص‪ .31‬وامللفت أهنم استدلوا لتأييد وجهة نظرهم بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ﴾‪،‬‬
‫مفرسين العبادة باملعرفة (إال ليعرفون)‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )3‬ثمة قراءتان ملفردة‪" :‬أعرف"‪ ،‬األوىل‪ :‬بالضم‪ ،‬وهي املشهورة‪ ،‬والثانية‪ :‬بالفتح‪ ،‬يتبناها السيد اخلميني يف كتبه‬
‫العرفانية‪ .‬يقول يف تعليقة له عىل رشح فصوص احلكم للقيرصي‪ ..." :‬هذا موافق للحديث القديس‪( :‬كنت كنز ًا‬
‫خمف ّي ًا فأحببت أن أعرف) أي‪ :‬أحببت أن أ ِ‬
‫عرف ذايت بمقام الكنز ّية‪ ،‬التي هي مقام الواحدية التي فيها الكثرة األسامئية‬
‫املختفية‪( .‬فخلقت اخللق لكي) أّتىل من احلرضة األسامئية إىل أعيان اخللقية‪ .‬و(أعرف) نفيس يف املرائي التفصيلية"‪.‬‬
‫القيرصي‪ ،‬حممد داوود‪ ،‬رشح فصوص احلكم‪ ،‬حتقيق السيد جالل الدين آشتياين‪ ،‬ص‪ ،328‬التعليقة‪.)5-1(:‬‬
‫(‪ )4‬املجليس‪ ،‬حممد باقر‪ ،‬بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار األئمة األطهار‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪1403‬هـ‪1983-‬م‪ ،‬ج‪ ،84‬ص‪.199‬‬
‫‪139‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫خاص‪ ،‬ال تعني والد ًة‬ ‫علمي‬ ‫ٍ‬


‫حقل‬ ‫أن حداثة ِ‬
‫عهد مصطلحٍ ما‪ ،‬أو‬ ‫وال يـخفى‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جديد ًة لكافة املضامني التي يعاجلها‪ .‬فقد خضع سؤال املعرفة للدراسة والتحليل يف‬
‫الفلسفات اليونان ّية واملسيح ّية واإلسالم ّية‪...‬‬

‫سؤال املعرفة بي األنفس واآلفاق‬


‫توجه إىل الواقع‬
‫ال يرتاب فر ٌد سليم الفطرة يف قدرته عىل حتصيل الـمعرفة‪ ،‬فإذا ّ‬
‫أن هذا ماء‪ ،‬وتلك شجرة‪ ،‬وذلك عصفور‪ .‬وإذا استبطن ذاته‪،‬‬ ‫املادي املحيط به‪ ،‬يعرف ّ‬
‫يشعر بفرحه‪ ،‬شوقه‪ ،‬خوفه‪ ،‬وعطشه‪ ...‬ويم ّيز آل ّي ًا ‪-‬وإن من دون وعي‪ ،‬أو بنصف‬
‫وعي‪ -‬بني علمه باملاء والشجرة والعصفور بلحاظ‪ ،‬وبني شعوره بحاالته النفس ّية من‬
‫ألن املاء واقع ّي ٌة خارج ّي ٌة مستقل ٌة عن‬
‫الفرح والشوق واخلوف والعطش بلحاظ آخر؛ ّ‬
‫ذاته‪ ،‬لك ّن الشعور بالعطش واقع ّي ٌة داخل ّي ٌة متّحد ٌة مع ذاته غري مستق ّل ٍة عنها يف الوجود‪.‬‬
‫ِ‬
‫شديد الـحـ ِّر‪ ،‬وفـي أثنـاء‬ ‫وأحيـان ًا‪ُ ،‬يـخطِـئ الفـر ُد فـي إدراكـه‪ ،‬فـفي يـو ٍم شامـ ٍ‬
‫س‬
‫برصه من بعيـ ٍد نتيجة عوامل فـيزيائ ّية ‪-‬كسـخونة الـهواء‬ ‫قيـادته السـيارة‪ ،‬يتـوهم ُ‬
‫ٍ‬
‫مسافة‬ ‫ثمة ماء عىل سطح الطريق الرسيع‪ ،‬وعندما يقرتب إىل‬ ‫وانكسار الضوء‪ -‬أ ّنـه ّ‬
‫يتبني له أنّه رساب(‪.highway mirage )1‬‬
‫أدنى‪ّ ،‬‬
‫فالعلم بالظواهر املاد ّية قد يكون ميدان ًا للخطأ والشك‪ .‬ويف الوقت عينه‪ ،‬لو شعر‬
‫احلر الشديد‪ ،‬ملا أخطأ يف شعوره هذا‪ ،‬وإن تب ّينت رساب ّية املاء‪،‬‬
‫اإلنسان بالعطش نتيجة ّ‬
‫ّ‬
‫الشك واخلطأ‪.‬‬ ‫فاملشاعر الداخل ّية ال خترت ُقها سها ُم‬
‫صورة ذهن ّي ٍة ما عن الواقع املوضوعي‪ ،‬أو ثبت خطأ علمه‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫حكاية‬ ‫وإذا شك يف‬
‫الشك يف الصورة الذهن ّية ذاهتا بوصفها واقع ّي ًة حارض ًة يف‬
‫ّ‬ ‫بواقع ّية ماد ّية ما‪ ،‬ال يمكنه‬
‫عامله النفيس اخلاص‪ .‬ثم لو فرضنا شكه يف الصورة الذهن ّية‪ ،‬فال ُيعقل أن يشك يف‬
‫الشك ُمتعلق ًا للعلم ال للشك‪ ،‬وإال لزم التسلسل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شك ِّه‪ ،‬بل يعلم به‪ ،‬فيكون‬

‫(‪ )1‬أشـار القـرآن الكريم إلـى هذه الظاهـرة بقـوله‪﴿ :‬ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ﴾‬
‫سورة النـور‪ ،‬اآلية‪.39 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 140‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫حاالت ذهن ّية يعاينها بالوجدان‬


‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫والشك‪ ،‬والوهم‪،‬‬ ‫فكل فرد منّا‪ ،‬يشعر ّ‬
‫بأن العلم‪،‬‬
‫القطعي‪ .‬ذلك أنّه‪ ،‬حتى يف مورد اخلطأ‪ ،‬ال ينفصم علم الفرد منّا بموضوع ما ‪-‬ولو‬
‫انفك عن متعلقه اخلارجي؛ ّ‬
‫ألن‬ ‫ال مركّب ًا واقع ًا‪ -‬عن الصورة الذهن ّية‪ ،‬وإن ّ‬
‫كان جه ً‬
‫تتقوم بطرفني الذات‪ /‬املوضوع‪ ،‬وال بدّ له ‪-‬حتى‬
‫العلم من املقوالت اإلضاف ّية التي ّ‬
‫يف صورة اخلطأ‪ -‬من متعلق يرتبط به‪ ،‬وهو الصورة الذهن ّية‪ ،‬ويف احلالتني ‪-‬التصوبة‬
‫والتخطئة‪ -‬يدرك بوجدانه القطعي علمه بالصورة‪ّ .‬‬
‫كل ما يف األمر‪ ،‬أنّه حال مطابقتها‬
‫للواقع املوضوعي يكون علمه مصيب ًا‪ّ ،‬‬
‫وإال فال‪.‬‬
‫جوهري بني معرفة اإلنسان بوقائع‬
‫ٌّ‬ ‫متايز‬
‫والسؤال الذي يفرض نفسه‪ ،‬هل ثمة ٌ‬
‫العامل املوضوعي املادي أو اآلفاقي األوسع‪ ،‬وبني معرفته بوقائع العامل الذايت أو‬
‫األنفيس؟‬
‫ثمة أجوب ٌة عدّ ٌة تطرحها املدارس الفلسف ّية واالّتاهات املعرف ّية‪ .‬ويف السياق‪،‬‬
‫ّ‬
‫قدّ مت الفلسفة املتعالية أطروحة تتناغم مع مبانيها النظر ّية‪ ،‬يف ضوء حتليلها لطبيعة‬
‫املعرفة‪ ،‬وتفريعها ‪-‬بلحاظ زوايا نظر خمتلفة‪ -‬إىل أقسام متعدّ دة‪ ،‬يقع عىل رأسها‬
‫التقسيم األو ّيل بتش ّعب املعرفة إىل‪ :‬حصول ّية وحضور ّية‪.‬‬

‫بداهة تص ّور املعرفة والتصديق بها‬


‫ينطلق البحث عن املعرفة من نقطتني لـ ّخصهام ّ‬
‫العالمة الطباطبائي بقوله‪" :‬وجود‬
‫بدهيي لنا"(‪.)1‬‬
‫ٌّ‬ ‫رضوري عندنا بالوجدان‪ ،‬وكذلك مفهومه‬
‫ٌّ‬ ‫العلم‬
‫التصوري‪ ،‬جواب ًا عن سؤال‪ :‬ما حقيقة العلم؟‬
‫ّ‬ ‫فالنقطة األوىل‪- :‬من حيث املبدأ‬
‫تصوره وفهم معناه إلـى واسطة تعريف ّيـة من‬
‫هي‪ ،‬ال يـحتاج فـي ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫أن مفهوم العلم بديـ ّ‬
‫رسمي(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫حدي أو‬
‫ٍّ‬ ‫رشح‬

‫صححه وع ّلق عليه الشيخ عباس عيل الزارعي السبزواري‪ ،‬مؤسسة النرش‬ ‫(‪ )1‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ّ ،‬‬
‫اإلسالمي التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة‪ ،‬املرحلة‪ ،11:‬يف العقل والعاقل واملعقول‪ ،‬الفصل‪ ،1:‬ص‪.293‬‬
‫(‪ّ )2‬تدر اإلشارة إىل أنّه يف ضوء مباين الفلسفة املشائيّة يمكن تعريف العلم رسميّ ًا أو حد ّي ًا؛ وذلك ّ‬
‫ألن العلم من‬
‫عرض (أي ماهية قائمة يف موضوع)‪= ،‬‬
‫املقوالت املاهو ّية‪ ،‬حيث أدرجوه حتت مقولة الكيف النفساين‪ ،‬فهو ٌ‬
‫‪141‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بدوي إمجا ّيل‪ ،‬ال يلغي رضورة احلفر‬


‫ّ‬ ‫تصور املعرفة‬ ‫سجل ّ‬
‫أن هذا الوضوح يف ّ‬ ‫لكنّا ُن ِّ‬
‫العقيل العميق يف طبيعة املعرفة بنظرة حتليل ّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫التصديقي‪ ،‬جوا ًبا عن هل البسيطة‪ :‬هل العلم موجود؟‬
‫ّ‬ ‫والثانية‪- :‬من حيث املبدأ‬
‫ٍ‬
‫إنسان يدرك يف أعامق ذاته‬ ‫رضوري بالوجدان‪ّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫‪ّ -‬‬
‫أن التصديق بواقع ّية العلم‬
‫ّ‬
‫معرفته أشياء وجهله أخرى‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تكون الربهنة عىل حت ّقق املعرفة يف الذات البرش ّية‬
‫والسوفسطائي‪ ،‬ال استدالالً منطق ًّيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الالأدري‬
‫ّ‬ ‫تنبيها إليقاظ‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬عىل نحو القض ّية املهملة‪ ،‬إلثبات أصل وجود العلم يف الذات البرش ّية‬
‫وهذا ً‬
‫يف اجلملة‪ ،‬وال ينفي رضورة البحث باجلملة عن إثبات بعض أقسام املعرفة التي يل ّفها‬
‫الغموض ويغ ّلفها اإلهبام‪ ،‬أو تقع يف دائرة النفي واإلنكار‪.‬‬
‫حصة الـمعرفة‬
‫تصور العلم والتصديق به‪ ،‬بمـا هو مأنوس من ّ‬
‫ختتص بداهة ّ‬
‫ّ‬ ‫وال‬
‫احلصول ّية بالواقع املوضوعي‪ ،‬بل تشمل العلم احلضوري بطريق أوىل؛ ّ‬
‫ألن وجدانيته‬
‫أجىل وأوضح تصدي ًقا ومصدا ًقا‪ ،‬وإن كان ‪-‬أو لعله‪ -‬أكثر خفا ًء ّ‬
‫تصو ًرا ومفهو ًما‪،‬‬
‫فحق أن نتم ّثل فيه‪:‬‬
‫ور ِه‬
‫اهـ ـر ا ْلب ـاطِـن فــي ظـهـ ـ ِ‬
‫ظـ ِ‬
‫الـ ّ‬ ‫ور ِه‬ ‫اخ َتـ َفـى لِ َفـر ِ‬
‫ط نـ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن هـ َو ْ‬
‫يـا َمـ ْ‬
‫ّ‬
‫التجيل ر ّبام‬ ‫وال عجب من اختفاء يشء لشدّ ة ظهوره‪ّ " ،‬‬
‫فإن شدّ ة الظهور وغلبة‬

‫نفساين (أي ال يتع ّلق باألجسام)‪ ...‬أما يف ضوء مباين احلكمة‬


‫ٌّ‬ ‫كيف (أي ال يقبل القسمة وال النسبة لذاته)‪،‬‬ ‫=و ٌ‬
‫فإن العلم نحو من الوجود فال يمكن تعريفه حد ّيا أو رسميّ ًا‪ ،‬ألهنام خيتصان باملاهية ولوازمها‪ .‬فيكون‬ ‫املتعالية‪ّ ،‬‬
‫أن هذا ال ُيغني عن حتليل طبيعة املعرفة بنظرة عقليّة فاحصة‪.‬‬ ‫تعريف العلم بيانيّ ًا ولفظيّ ًا‪ ،‬ال منطقيّ ًا‪ّ ،‬إال ّ‬
‫يقول صدر املتأهلني حتت عنوان فصل يف حتدي العلم‪-‬بعد اعتباره العلم من العوارض الذاتية للموجود بام هو‬
‫موجود ليدخل ضمن دائرة أبحاث الفلسفة األوىل‪ " :-‬يشبه أن يكون العلم من احلقائق التي إن ّيتها عني ماهيتها‪،‬‬
‫متشخص‬ ‫ٍ‬
‫وجود‬ ‫أمور كل ّية‪ّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫ٍ‬ ‫ومثل تلك احلقائق ال يمكن حتديدها‪ ،‬إذ احلدود مر ّكبة من‬
‫ّ‬ ‫أجناس وفصول‪ ،‬وهي ٌ‬
‫بذاته‪ ،‬وتعريفه بالرسم التام أيض ًا ممتنع‪ ،‬كيف؟! وال يشء أعرف من العلم؛ ألنه حال ٌة وجدانيّ ٌة نفسانيّة جيدها‬
‫وألن ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫يتعذر أن ُيعرف بام هو أجىل وأظهر؛‬ ‫احلي العليم من ذاته ابتدا ًء من غري لبس وال اشتباه‪ ،‬وما هذا شأنه ّ‬ ‫ّ‬
‫يشء يظهر عند العقل بالعلم به‪ ،‬فكيف يظهر العلم بيشء غري العلم؟! نعم قد حيتاج بعض األمور اجلليّة إىل‬
‫تنبيهات وتوضيحات يتنبه هبا اإلنسان ويلتفت إىل ما يذهل عنه‪ ،‬ويلخص معناه‪ ،‬ويزيده كشف ًا ووضوح ًا‪"...‬‬
‫الشريازي‪ ،‬احلكمة املتعالية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.278‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 142‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫صارتا منشأي اخلفاء للمتجيل لفرط الظهور"(‪ ،)1‬ولنا يف (النور) نموذج ًا‪ ،‬فمع أنّه‬
‫ُ‬
‫اإلنسان األشياء إال بسقوط النور عليها‬ ‫ظهر لغريه‪ ،‬بحيث ال ي ِ‬
‫برص‬ ‫ِ‬
‫ظاه ٌر بذاته‪ُ ،‬م ِ‬
‫ُ‬
‫وانعكاسه منها‪ ،‬ي ُ‬
‫غفل عنه لشدّ ة ظهوره‪ ،‬والعلم احلضوري من أعىل مراتب النور‬
‫فتشبيها‪.‬‬
‫ً‬ ‫مسامه‪،-‬‬
‫املعنوي‪ ،‬فإن مل يكن حقيقة ‪-‬أل ّنه مصداق معناه وموضوع ّ‬
‫يكتنف املعرفة احلضور ّية‪ ،‬أن ُتنكِر املدرس ُة املشائ ّية‬
‫ُ‬ ‫الغموض الذي‬
‫ُ‬ ‫وقد س ّبب‬
‫داريس الفلسفة يف اخللط بينها وبني‬ ‫ِ‬ ‫كثري من‬
‫ويتورط ٌ‬
‫ّ‬ ‫بعض مصاديقها وأقسامها‪،‬‬
‫املعرفة احلصول ّية‪ ،‬فالتبست عليهم مسائل كثرية يف الفلسفة والعرفان‪ ،‬ودفعتهم الشبهة‬
‫إىل إنكار بعض القضايا املعرف ّية أو تعليق احلكم‪ .‬وعىل هذا األساس يقول الشيخ‬
‫مرتىض مطهري‪ّ " :‬‬
‫إن الدّ قة يف فهم حقيقة العلم احلضوري‪ ،‬ومتييزه بشكل صحيح من‬
‫مهم لفهم نظريات أثبت صحتها الفالسفة الكبار يف‬ ‫ٌ‬
‫رشط ٌّ‬ ‫العلم احلصويل‪ ،‬هي‬
‫بتجرد النفس‪ّ ،‬‬
‫واحتاد العاقل واملعقول‪ ،‬ووحدة مجع اجلمع للنفس‪،‬‬ ‫املباحث املتع ِّلقة ّ‬
‫وحتى بني الفالسفة ال نجد ّإال القليل ممّن مل تزل قد ُمه يف هذا املضامر‪ ،‬وهلذا نجد من‬
‫والتعمق الكثري لكي يتضح لنا املوضوع"(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫الالزم علينا املامرسة واملطالعة‬
‫من هنا نستظهر أمه ّية البحث عن املعرفتني‪ :‬احلصول ّية واحلضور ّية‪ ،‬لتربز طبيعة‬
‫ٍ‬
‫بنحو تتم ّيز فيه عن األخرى‪.‬‬ ‫دة وواضحة‪،‬‬‫مؤرشات حمدّ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ‬
‫كل منهام يف ضوء‬

‫تحليل طبيعة املعرفة الحصول ّية‬


‫نبدأ عملية حتليل املعرفة احلصول ّية لفهم طبيعتها‪ ،‬وأقسامها‪ ،‬وآليات حتصيلها‪،‬‬
‫تنظر إىل‬
‫ّتلس عىل شاطئ البحر حلظة الغروب‪ُ ،‬‬
‫تصور نفسك ُ‬
‫بطرح املشهد ّية التالية‪ّ :‬‬
‫مشهد سقوط قرص الشمس‪ ،‬وانعكاس أشعتها عىل سطح املياه‪ ،‬وانتشارها يف أفق‬
‫وتنطرب أذنك لصوت‬
‫ُ‬ ‫السامء‪ ،‬متقوزحة بألوان األمحر والربتقايل واألزرق والبنفسجي‪،‬‬

‫(‪ )1‬الشريازي‪ ،‬حممد بن إبراهيم (املعروف بصدر املتأهلني)‪ ،‬تفسري القرآن الكريم (تفسري آية النور)‪ ،‬انتشارات بيدار‪،‬‬
‫إيران‪-‬قم‪ ،‬ط‪1366 ،1‬ه‪.‬ش‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.348‬‬
‫(‪ )2‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬تعليق األستاذ الشهيد مرتىض مطهري‪ ،‬تعريب حممد‬
‫عبد املنعم اخلاقاين‪ ،‬دار التعارف للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.54‬‬
‫‪143‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املتكرسة عىل الصخور املحيطة بك‪ ،‬والرذاذ يتطاير مالمس ًا برشة وجهك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمواج‬
‫ويداعب النسيم املنعش خصالت شعرك‪...‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل آلـي عرشات الصور البرص ّية‪ ،‬والسمع ّية‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬تلتقط أجهزتك اإلدراك ّية‬
‫واللمس ّية‪ ،‬صورة الشمس‪ ،‬الشعاع‪ ،‬البحر‪ ،‬املوج‪ ،‬املاء‪ ،‬الرمل‪ ،‬الصخور‪ ...‬فتنطبع‬
‫ث جمموعة عمليات فيزيولوجية لرتميز الصورة‪،‬‬ ‫هذه الصورة أو تلك يف املخ‪ ،‬وحتد ُ‬
‫ثم تطرق عىل بابك الفلسف ُة املتعالي ُة؛ لتمنحك‬
‫تكشف عنها أبحاث العلم الطبيعي‪ّ .‬‬
‫أفق ًا أسمى يتجاوز قرص النظر عىل هذه الصور يف بعدها الفيزيقي فقط‪ ،‬لتعيش يف‬
‫فضاء امليتافيزيقيا أيض ًا‪ ،‬فالعني ليست ّإال آلة‪ ،‬تتح ّكم بقيادهتا قو ٌة نفسان ّي ٌة ُيصطلح‬
‫عليها (البارصة)‪ ،‬واألذن أداة (السامعة)‪ ،‬وظاهر البرشة آلة (الالمسة)‪ ...‬فهذه العمليات‬
‫احلس الظاهري والواقع املادي‬‫املادية الفيزيولوجية التي حتصل حلظة االتصال بني أداة ّ‬
‫جمردة عن املادة‪-‬‬ ‫اخلارجي‪ ،‬هي جمرد معدّ ٍ‬
‫لتحس البارصة ‪-‬كقوة نفس ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫ات ورشائط‬ ‫ّ‬
‫بالشمس‪ ،‬أو تدرك السامعة صوت املوج‪...‬‬
‫مرحلة معرف ّي ٍة بالواقع املادي‪ ،‬حيصل‬
‫ٍ‬ ‫احليس اجلزئي)‪ ،‬هو ّأول‬
‫ّ‬ ‫هذا (اإلدراك‬
‫بواسطة صورة ذهن ّية عنه‪ ،‬تلتقطها احلواس‪ ،‬ويندرج حتت أقسام العلم احلصويل‪.‬‬
‫ثم يتم حفظ هذه الصورة أو تلك يف خزانة خاصة‪ُ ،‬يصطلح عليها‪ :‬اخليال‪.‬‬
‫ويتمكّن الفرد حتت تأثري ظروف مع ّينة اختيار ّية أو اضطرار ّية‪ ،‬أن يسرتجع صورة‬
‫الشمس أو املاء‪ ،...‬بواسطة (قوة الذاكرة)‪ .‬ويطلق عىل الصورة املُسرتجعة من اخليال‬
‫أيضا‪.‬‬
‫اسم (العلم اخليايل)‪ ،‬وهو أحد أقسام العلم احلصويل ً‬
‫الترصف بالصور املستودعة يف خزانة‬
‫ّ‬ ‫ويمتلك اإلنسان قدر ًة ذهني ًة مدهش ًة عىل‬
‫وجيزئ‪ ،‬أو يركّب ويؤ ّلف‬ ‫ٍ‬
‫ذهنية‪ ،‬فيف ّكك وحي ّلل ّ‬ ‫ٍ‬
‫نشاطات‬ ‫اخليال‪ ،‬فيقوم بمجموعة‬
‫بالشكل الذي يرغب يف أن‬ ‫ٍ‬
‫لوحة ‪ّ -‬‬ ‫مثال‪ ،‬يمسك بريشته فريسم صورته عىل‬ ‫ويدمج‪ً ،‬‬
‫تكون عليه‪ ،‬من دون أن ينضبط بقوانني الواقع‪ -‬جالس ًا عىل صخرة يف وسط البحر‪،‬‬
‫املترصفة)‪ ،‬وهي متكّن‬
‫ّ‬ ‫واض ًعا قرص الشمس يف يمينه‪ ...‬يصطلح عىل هذه القوة‪( :‬‬
‫اإلنسان من (االنتزاع والتعميم) أي التس ّلط عىل الصور والتحكم هبا‪ ،‬حيث يقوم بالنظر‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 144‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويقرش عنها عوارضها‬‫ّ‬ ‫فيجردها من خصوصياهتا الفردية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إليها‪ ،‬ويقارن بينها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫املشخصة‪ُ ،‬مبقي ًا عىل‬
‫ِّ‬
‫اللب واجلوهر(‪ ،)1‬فيحصل عىل جام ٍع مشرتك ذا ّ‬
‫يت بينها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كيل ال يمتنع محله عىل كثري‪ ،‬وهو (العلم‬ ‫ٍ‬
‫ماهوي‪ ،‬هو مفهو ٌم ٌّ‬
‫ّ‬ ‫معقول‬ ‫كاجلسم ّية‪ ،‬أي عىل‬
‫املترصفة للرتكيب بني القضايا بكيفية خاصة‬‫ِّ‬ ‫التع ّقيل التصوري)‪ .‬وبإمكانه توظيف‬
‫ليستنبط منها نتيجة مالزمة هلا‪ ،‬كأن يقول‪ :‬هذا ماء‪ ،‬وكل ماء يروي من العطش‪ ،‬فهذا‬
‫املاء يروي من العطش‪ ،‬وهو (العلم التع ّقيل التصديقي)‪.‬‬
‫بأهنا‪" :‬انطباع صورة اليشء يف الذهن‪ .‬أو‪:‬‬
‫عرف املناطقة املعرفة احلصول ّية ّ‬
‫لذا‪ّ ،‬‬
‫حصول صورة اليشء يف العقل"‪.‬‬
‫ويمكن أن نصطلح عىل العلم احلصويل‪ :‬العلم الصوري‪ ،‬أو الواسطي‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫مرتسمة يف الذهن تعكس‬ ‫ٍ‬
‫صورة‬ ‫االرتسامي‪ ،‬أو االنعكايس؛ ذلك أنّه حاصل بواسطة‬
‫واقع اليشء وحتكي عنه‪.‬‬
‫وثمة خصائص عديدة للمعرفة احلصول ّية‪ ،‬ي ّتضح بعضها يف أثناء املقالة‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫مجلتها ّأهنا علم ماهوي‪ .‬فال يمكن بواسطة العلم احلصويل معرف ُة حقيقة الوجود‬
‫اخلارجي بام هو هو‪ ،‬أي هبويته العين ّية الشخص ّية؛ فاملرتسم يف الذهن عن الوجود‪ ،‬كيفام‬
‫ثان فلسفي عنه‪ ،‬ومفهوم اليشء وإن كان هو هو بنظر‬ ‫ُف ِرض‪ ،‬هو مفهومه‪ ،‬أي معقول ٍ‬
‫بنظرة فاحصة‪ ،‬بخالف املاهية فهي بنفسها ‪-‬من وجهة‬ ‫ٍ‬ ‫ّأويل‪ّ ،‬إال أنّه ليس هو حقيق ًة‬
‫نظرهم‪ -‬حترض يف الوجودين م ًعا‪ ،‬فيكون واقع العلم أي املعلوم بالذات (صورة‬
‫مغايرا لواقع املعلوم بالعرض (واقع الشمس) يف ذاته‪ ،‬فهناك‬
‫ً‬ ‫الشمس ً‬
‫مثال) كام يبدو لنا‬
‫تغاير وجودي‪ ،‬وإن كانت املاهية واحدة‪.‬‬
‫فمعرفة اإلنسان بواقع ّية الشمس يف عامل املادة إنّام حصلت بسبب الصورة الذهن ّية‬
‫ألهنا حصول صورة الواقع املعلوم (الشمس) يف‬
‫الكاشفة عنها‪ ،‬فهي معرفة وسائط ّية؛ ّ‬
‫أطروحات فلسفيّ ٌة عدّ ة لتفسري كيفية حصول الذهن البرشي عىل التصورات الكليّة‪ ،‬اكتفينا هبذه الرؤية؛‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬ثمة‬
‫وإال فثمة وجهتا نظر أعمق حول املسألة‪ ،‬األوىل‪ :‬لصدر‬‫لكوهنا أيرس وأسهل يف إيصال املراد الذي هندف إليه‪ّ ،‬‬
‫املتأهلني الشريازي‪ ،‬والثانية‪ :‬للسيد حممد حسني الطباطبائي‪.‬‬
‫‪145‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ِ‬
‫العامل‪ ،‬وال يمكن أن يأيت‬ ‫الذهن‪ ،‬دون حضور اليشء القائم يف اخلارج بواقعيته لدى‬
‫الواقع اخلاص مع تل ّبسه باخلارج ّية إىل الذهن‪ ،‬الستلزامه انقالب اليشء عن حقيقته‪،‬‬
‫يتجرد عن ثوب العين ّية‪ ،‬ويرتدي ثوب ًا‬
‫وهو حمال بنظر العقل‪ ،‬فعندما يأيت إىل الذهن ّ‬
‫جديد ًا مناسب ًا لعامله(‪.)1‬‬
‫فم ـا فـي الذهن عـن‪ :‬الـوج ـود ‪ /‬الـعـدم‪ ،‬العـ ّلـة ‪ /‬الـمعـلول‪ ،‬الق ـ ّوة ‪ /‬الفـع ـل ّية‪،‬‬
‫ثانية فلسف ّي ٍة دون حقائقها‬‫كمعقوالت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الوجوب ‪ /‬اإلمكان‪ ...‬هو مفاهيمها التحليل ّية‬
‫العين ّية‪ ،‬وهبذا اللحاظ ختتلف املعرفة احلصول ّية بأشخاص املاهيات عن املعرفة احلصول ّية‬
‫بالوجود وحمموالته الذات ّية‪ ،‬وهنا ينفتح باب البحث عىل مرصاعيه أمام طبيعة فوارق‬
‫املعرفة البرش ّية باملعقوالت األول ّية املاهو ّية‪ ،‬عن املعرفة باملعقوالت الثانية الفلسف ّية‪،‬‬
‫كال منهام حيكي عن واقع خارجي يطابقه‪ .‬لكنّنا نتجاوز هذه النقطة اآلن عىل‬ ‫أن ًّ‬
‫مع ّ‬
‫أمه ّيتها؛ كوهنا تقع خارج نطاق دراستنا‪.‬‬

‫ثنائية الذات‪ /‬املوضوع ف املعرفة الحصوليّة‬


‫وأن ما يكشف‬ ‫حتقق صور ٍة ما يف ذات ِ‬
‫العامل‪ّ ،‬‬ ‫العلم يف املعرفة احلصول ّية عبارة عن ّ‬
‫مستقل عن ذات‬‫ٍّ‬ ‫متحققة ٍ‬
‫بنحو‬ ‫ّ‬ ‫عنه العلم من ذي الصورة يف العامل املادي ً‬
‫مثال‪ ،‬هو واقع ّية‬
‫عاملِا ال يبقى‬
‫قائام بذاته‪ ،‬أما لو مل نفرتض ً‬ ‫العامل‪ ،‬فلو مل نفرتض ًِ‬
‫عاملا‪ ،‬يبقى ذلك الواقع ً‬
‫ِ‬
‫للصورة العلم ّية واق ًعا‪.‬‬
‫ِ‬
‫(العامل‪ /‬العامل)‪،‬‬ ‫فاملعرفة احلصول ّية تتضمن حالة ثنائية بني الذات واملوضوع‬
‫فالصورة املنطبعة عن الشمس يف أفق الذهن [ويصطلح عليها‪( :‬املعلوم بالذات)؛ ّ‬
‫ألن‬
‫العلم يتع ّلق هبا أوالً وبالذات‪ ،‬أو هي عني العلم‪ ،‬عىل اختالف املباين(‪ ])2‬كاشف ٌة عن‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الطباطبائي‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬مرحلة‪ ،3:‬فصل‪ ،1:‬األمر‪ ،3:‬ص‪.66‬‬
‫(‪ )2‬ثمة وجهتا نظر حول العالقة بني العلم واملعلوم بالذات ‪-‬أي الصورة الذهن ّية‪ ،-‬األوىل (السيد الطباطبائي)‪:‬‬
‫أن العلم واملعلوم بالذات يشء واحد واالختالف اعتباري‪ .‬هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة‪ ،11:‬الفصل‪ .2:‬ووجهة‬ ‫ترى ّ‬
‫النظر الثانية (الشيخ جوادي آميل)‪ ،‬ترى ّ‬
‫أن التغاير بني العلم واملعلوم بالذات يف املعرفة احلصوليّة حقيقي‪ .‬رحيق‬
‫خمتوم‪ -‬رشح حكمت متعاليه أسفار عقلية أربعة (فاريس)‪ ،‬نرش الزهراء‪ ،‬ط‪1372 ،1‬هـ‪.‬ش‪ ،‬ج‪ ،1‬ق‪ ،4‬ص‪.18‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 146‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫الشمس املادية يف عامل اخلارج [ويصطلح عليها‪( :‬املعلوم بالعرض)؛ لكوهنا تنكشف‬
‫لذات العاِمل بوساطة الصورة وتبع ًا هلا‪ ،‬أي ثاني ًا وبالعرض]‪ ،‬لكنها مستقلة يف الوجود‬
‫عن الذات‪ ،‬فهناك اثنينية بني صورة الشمس وواقع الشمس‪ ،‬فاألوىل قائمة يف العامل‬
‫األنفيس والوجود الذهني‪ ،‬والثانية متح ّققة يف العامل اآلفاقي والوجود اخلارجي‪ ،‬ومها‬
‫مرتبتان متقابلتان من الوجود العام‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ألنّنا افرتضنا حقيقة الذهن مرآة تعكس صورة الواقع‪ ،‬والعلم يكشف‬
‫عن الواقع ال يشء آخر‪ ،‬الحظنا‪ّ ،‬‬
‫أن هذه االثنينية بني الصورة‪ /‬الواقع‪ ،‬ال تصل إىل حدّ‬
‫ثمة مائز بني العلم‬
‫التباين التام‪ ،‬وإال انسدّ باب العلم بالواقع املوضوعي‪ ،‬ومل يكن ّ‬
‫ٍ‬
‫متاهة من‬ ‫ّ‬
‫الشك‪ ،‬أو تضيع يف‬ ‫ٍ‬
‫مفرغة من‬ ‫ٍ‬
‫حلقة‬ ‫واجلهل‪ ،‬ف ُتسجن الذات اإلنسانية يف‬
‫السفسطة‪.‬‬
‫وتباين بني الصورة والواقع‪ ،‬هناك أيض ًا جه ُة ّاحت ٍ‬
‫اد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اختالف‬ ‫ومثلام توجد جه ُة‬
‫ٍ‬
‫صححة التصاف النفس اإلنسان ّية باملعرفة احلصول ّية‬ ‫واشرتاك بينهام‪ ،‬تكون هي املُ ِّ‬
‫بالواقع ال بيشء آخر‪ ،‬فتاميز مرتبتي الوجود العام ذهن ًا وخارج ًا‪ ،‬ال يعني اختالف‬
‫ماه ّية ما يف الوجودين‪ ،‬فامهية الشمس أو املاء أو‪ ...‬يف اخلارج هي عني ماهياهتا يف‬
‫الذهن‪" ،‬بمعنى ّأهنا حترض عندنا بامه ّياهتا بعينها‪ ،‬ال بوجوداهتا اخلارج ّية التي ترتتّب‬
‫عليها آثارها اخلارج ّية"(‪ ،)1‬وهبذا يتح ّقق علم اإلنسان باألشياء اخلارجة عنه يف اجلملة‪.‬‬
‫وجودي واحتا ٌد ماهوي‪ ،‬فمركز‬‫ّ‬ ‫اختالف‬
‫ٌ‬ ‫ثمة بني الصورة والواقع‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ ،‬‬
‫الغريية يف الكون والوجود‪ ،‬ونقطة متوضع ّ‬
‫االحتاد أو العين ّية يف املاهية واحلقيقة‪ ،‬فاملاه ّية‬
‫الكونني م ًعا‪ ،‬وهذا معنى قول الفالسفة‪" :‬الذاتيات حمفوظة يف مجيع أنحاء‬ ‫ِ‬ ‫واحد ٌة يف‬
‫الوجود"‪ ،‬واشتهر بينهم‪( :‬الذايت ال خيتلف وال يتخ ّلف)‪ .‬إال إ ّن الذات أو املاه ّية يف‬
‫كون تلبس ثوبه‪ ،‬وتأخذ أحكامه وقوانينه اخلاصة به‪ ،‬ومن هنا ترتتب عليها يف‬ ‫كل ٍ‬ ‫ّ‬
‫الذهن آثار خاصة هبا متناغمة مع قوانني الذهن كطرد اجلهل‪ ،‬ويف اخلارج آثار أخرى‬

‫(‪ )1‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬بداية احلكمة‪ ،‬تصحيح وتدقيق الشيخ غالم رضا فيايض‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي‪،‬‬
‫املرحلة‪ ،11:‬الفصل‪ ،1:‬ص‪.138‬‬
‫‪147‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫منسجمة مع قوانني الواقع‪ ،‬كاإلحراق واإلرواء‪ ،‬فالشمس حترق البرشة‪ ،‬واملاء يروي‬
‫الظمأ‪ ،‬دون أن تصطحب هذه اآلثار معها من اخلارج إىل الذهن‪ ،‬فتصور املاء ال يرفع‬
‫عطشا‪ ،‬وتصور ّ‬
‫الشمس ال حيرق ذهنًا‪.‬‬ ‫ً‬
‫يف السياق‪ ،‬يقول املال هادي السبزواري‪:‬‬
‫كـ ـ ـون ب ـنـ ـفـ ـ ـسـ ـ ـه لـ ـ ـدى األذه ـ ـ ـ ـان‬ ‫لل ـ ّش ـ ـيء غـي ـ ـر الكـ ـون باألع ـي ـ ـان‬
‫(‪)1‬‬
‫‪................................‬‬ ‫والذات يف أنْحا الوجودات ُح ِفظ‬
‫هبذا‪ ،‬ي ّتضح سبب حدوث اخلطأ يف العلم احلصويل‪ ،‬إذ معنى اخلطأ املعريف هو خمالفة‬
‫الصورة العلم ّية للواقع الذي حتكي عنه‪ ،‬ويقابله الصواب أو الصدق‪ ،‬بمعنى مطابقة‬
‫يصح أن ُيفرض مع‬
‫الصورة الذهن ّية للواقع الذي تكشف عنه‪ .‬فاخلطأ ‪-‬أوالشك‪ -‬إنام ّ‬
‫وجود ثنائية بني العلم واملعلوم‪ ،‬ف ُيطرح السؤال عن ّ‬
‫أن العلم أو املعلوم بالذات‪ ،‬هل‬
‫بالصدق‪،‬‬
‫يوافق الواقع أي املعلوم بالعرض؟ فتكون املعرفة مضمونة احلقان ّية وتوصف ّ‬
‫أن العلم خمالف للمعلوم؟ فتوصف املعرفة باخلطأ والكذب‪.‬‬ ‫أم ّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان نفسه يتصل‬ ‫لظن‬
‫ويتبني‪ ،‬أنّه لوال وقوع اخلطأ فـي الـمعرفة الـحصول ّية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يوسط بينه وبينها‬
‫بالواقع مبارشة‪ ،‬أي أنّه ال ينال من الواقع إال األعيان اخلارجية دون أن ِّ‬
‫صورة عنها‪.‬‬
‫وقد أثار العالمة الطباطبائي هذه النقطة يف مواضع عدّ ة من كتبه‪ ،‬منها‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫"اإلنسان البسيط يف أوائل نشأته حني ما يطأ موطأ احلياة‪ ،‬ال يرى من نفسه ّإال أنّه ُ‬
‫ينال‬
‫وسط بينه وبينها وصف العلم‪ ،‬وال‬
‫من األشياء أعياهنا اخلارج ّية‪ ،‬من غري أن يتن ّبه أنّه ُي ِّ‬
‫ّ‬
‫الشك أو الظن‪ ،‬وعند ذلك يتنبه‪:‬‬ ‫يزال عىل هذا احلال حتى يصادف يف بعض مواقفه‬ ‫ُ‬
‫أنّه ال ّ‬
‫ينفك يف سريه احليوي ومعاشه الدنيوي عن استعامل العلم ال سيام وهو ربام‬
‫خيطئ ويغلط يف متيزاته‪ ،‬وال سبيل للخطأ والغلط إىل خارج األعيان‪ ،‬فيتيقن عند ذلك‬
‫بوجود صفة العلم (وهو اإلدراك املانع من النقيض) فيه"(‪.)2‬‬
‫(‪ )1‬السبزواري‪ ،‬هادي‪ ،‬املنظومة‪ :‬قسم الفلسفة‪ ،‬املقصد ‪ ،1‬الفريدة‪ ،1 :‬غرر‪ 7 :‬يف الوجود الذهني‪.‬‬
‫(‪ )2‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم املقدسة‪ ،‬ج‪= ،1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 148‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫طبيعة املعرفة الحضورية وأقسامها‬


‫تلمس اإلنسان بوجدانه الفطري املائز بني‬ ‫بالنظر إىل ما تقدّ م يف سؤال املعرفة‪ ،‬من ّ‬
‫أن العلم يف‬‫علمه بالواقع اخلارجي‪ ،‬ومعرفته بالصورة الذهن ّية أو بمشاعره النفس ّية‪ ،‬ب ّ‬
‫احلالة األوىل يتع ّلق بواقعية مستق ّلة عن الذات البرشية‪ ،‬ويف الثانية يتع ّلق بواقع ّيات‬
‫متحدة مع الذات البرشية‪ ،‬وأن العلم بالواقع اخلارجي يصلح أن يكون موطن ًا للصدق‬
‫والكذب يف قضاياه‪ ،‬بينام العلم بالصورة الذهن ّية ذاهتا أو املشاعر واالنفعاالت النفس ّية‬
‫ال يكون عرضة للخطأ والشك‪.‬‬
‫رئيسا‪ :‬إذا كان علمي بالواقع املادي‬
‫يطرح الفرد منّا استفها ًما ً‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫فبالنظر إىل ذلك‬
‫وجودي بني الصورة والواقع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تباين‬
‫وثمة ٌ‬‫كالشمس أو املاء‪ ...‬يـحصل بوساطة الصورة‪ّ ،‬‬
‫والوعاء الواقعي حلضور الصورة العلم ّية هو ذاته وعاء ذايت‪ ،‬أي واقع الصورة العلم ّية‬
‫ثمة تباين بينهام بلحاظ ثنائية الذهن‪ /‬اخلارج‪،‬‬
‫متّحد مع واقعيتي يف الوجود‪ ،‬وليس ّ‬
‫فالسؤال‪ :‬هل معرفتي بالصورة العلم ّية‪ ،‬وكذلك معرفتي بحااليت النفس ّية والوجدان ّية‬
‫(عواطفي‪ ،‬مشاعري‪ ،‬غرائزي‪ ،‬رغبايت‪ ،‬ميويل‪ ،‬وملكايت األخالق ّية‪ )...‬هي عىل حدّ‬
‫معرفتي بذي الصورة املتح ّقق يف الواقع املادي (كالشمس‪ ،‬املاء‪ ،)...‬فتؤول حصول ّية‪،‬‬
‫أم ّأهنا طور من املعارف وراء طور اإلدراك احلصو ّيل؟‬
‫تنعـطف بنـا اإلجابـة عـن هـذا السـؤال نحـو تـحلي ـل طبيـعـة الـمعـرفـة الـحضـور ّي ـة‬
‫وبـيـان أقسـامـها‪:‬‬
‫‪ .1‬القسم األول‪ :‬علم النفس بالصورة الذهن ّية‬
‫إذا ركّز الفرد نظره عىل الصورة الذهن ّية‪ ،‬وأخضعها للتحليل‪ ،‬فيمكنه أن يدرسها‬
‫من زاويتي نظر‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬اللحاظ االستقاللـي‪ ،‬أو حلاظ ما فيه ُينظر‪ ،‬أي رؤية الصورة بام هي هي‪،‬‬

‫أيضا ‪ :‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬حاشية عىل كفاية األصول‪ ،‬مؤسسة العالمة الطباطبائي العلمية‬
‫= ص‪ .49‬انظر ً‬
‫والفكرية‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪ ،2‬ص‪.177‬‬
‫‪149‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عام وراءها يف عامل اآلفاق‪ ،‬فلها واقع ّية وهو ّية عين ّية‬‫بغض الطرف عن حكايتها ّ‬
‫ٍ‬
‫وجود يف نفسه‪ ،‬وإن كان لغريه‪.‬‬ ‫شخص ّية مستقلة يف عامل النفس‪ ،‬أي هلا نح ُو‬
‫الثانية‪ :‬اللحاظ اآليل‪ ،‬أو حلاظ ما به ُينظر‪ ،‬باعتبار الصورة الذهن ّية بمنزلة الـمرآة‬
‫التي تعكس الواقع وتكشفه‪ .‬وهي من هذه الزاوية يطلق عليها العلم احلصويل‪،‬‬
‫مقارنة بام هو وراءها من الواقع الذي حتكي عنه‪.‬‬
‫هنا‪ُ ،‬يطرح السؤال‪ :‬هل علم النفس البرشية بالصورة الذهن ّية (صورة الشمس‬
‫ٍ‬
‫صورة‬ ‫علم بالصورة ذاهتا مبارشة؟ أم حيصل العلم بصورة الشمس بوساطة‬
‫مثالً) هو ٌ‬
‫أخرى ينتزعها الذهن عن الصورة األوىل‪ ،‬فيكون هناك صور ٌة عن صورة الشمس‪،‬‬
‫صورة عن صورة الشمس؟‬ ‫ٍ‬ ‫فيحصل العلم بصورة الشمس بوساطة‬
‫حضور صورة اليشء يف الذهن ال‬
‫ُ‬ ‫عرفوه‪ّ -‬‬
‫إن العلم احلصويل هو‬ ‫إذا قلنا ‪-‬كام ّ‬
‫واقع اليش عينه‪ ،‬فيكون العلم بالصورة الذهن ّية بام ّأهنا حارضة بواقعها عىل ما هي عليه‬
‫علام حصول ًّيا‪ ،‬ألنّه‬
‫علام بوساطة‪ ،‬بل علم مبارش‪ ،‬وعليه ال يكون ً‬
‫لدى النفس ليس ً‬
‫افرتضنا يف العلم احلصويل أن يتوسط بينه ومعلومه بالعرض صور ٌة‪ ،‬وال صورة‬
‫تتوسط بني ِ‬
‫العامل وبني الصورة ذاهتا‪.‬‬
‫الشق الثاين من الرشط ّية املنفصلة‪ -‬لو فرضنا ّ‬
‫أن العلم بالصورة‬ ‫ألنّه‪- ،‬وهو ّ‬
‫بتوسط صورة ذهنية ثانية عن الصورة الذهن ّية األوىل‪ ،‬فسنقع يف إشكالية‬
‫الذهن ّية حيصل ّ‬
‫املرتاجعة الالهنائية‪ ،‬إذ حينها ينتقل الكالم إىل الصورة الذهن ّية الثانية‪ ،‬فإن مل تكن‬
‫بوساطة صورة‪ ،‬فثبت أنّه ثمة صورة حارضة بذاهتا دون توسط صورة‪ ،‬وملاذا نفرتضها‬
‫الثانية ‪-‬كمن يمدّ يده اليمنى من خلف رأسه ليلتقط أذنه اليرسى؟!‪ -‬فلتكن هي األوىل‬
‫مبارشة!! وإن كانت بواسطة صورة‪ ،‬فالعلم بالصورة الثانية حيتاج إىل صورة عنها‪،‬‬
‫نقطة حمدّ ٍ‬
‫دة‪ ،‬وبسبب هذه‬ ‫والثالثة إىل رابعة‪ ...‬وهكذا تتسلسل الصور بنحو ال يقف عند ٍ‬
‫أي واقعية رأس ًا يف الذات البرش ّية(‪.)1‬‬
‫علم ب ّ‬
‫املرتاجعة غري النهائية‪ ،‬ال حيصل ٌ‬
‫وهبذا يثبت أن العلم بالصورة الذهنية حيصل باالحتاد الوجودي ِ‬
‫املبارش هبا دون‬ ‫ّ‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الصدر‪ ،‬رضا‪ ،‬الفلسفة العليا‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1986 ،1‬م‪ ،‬ص‪.285‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 150‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وساطة صورة ذهنية أخرى عنها‪ ،‬فال يكون العلم هبا حصول ًّيا؛ ّ‬
‫ألن املأخوذ يف تعريفه‬
‫هو الوساطة الصور ّية‪ ،‬فال ينطبق عليها حدّ العلم احلصويل‪ ،‬واصطلح عىل هذا اللون‬
‫من العلم باليشء باالحتاد الوجودي ِ‬
‫املبارش‪( :‬املعرفة احلضور ّية)(‪.)1‬‬
‫واملحصلة‪ ،‬إذا مل يكن العلم بالصورة حصول ًّيا‪ ،‬فهو حضوري رضورة‪ .‬وذلك؛‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬
‫ألن تقسيم املعرفة إىل حصول ّية وحضور ّية أو ّيل‪ ،‬بالقسمة العقلية احلارصة‪ ،‬الدائرة بني‬
‫النفي واإلثبات‪ ،‬بمعنى أنّه ال يمكن عق ً‬
‫ال فرض قسم ثالث كقسيم هلام‪.‬‬
‫توسط يشء‪ ،‬وإ ّما‬
‫وبعبارة منطقية أوىل‪ :‬العلم بيشء إما أن حيصل مبارشة من دون ّ‬
‫بوساطة‪ ،‬واألول هو املعرفة احلضورية‪ ،‬والثاين احلصول ّية‪ .‬والنتيجة‪ :‬املعرفة إما‬
‫حضور ّية وإما حصولية‪ ،‬وهي قضية رشط ّية حقيقية منفصلة(‪.)2‬‬
‫وبعبارة منطقية ثانية‪" :‬انقسام العلم إىل القسمني قسمة حارصة‪ ،‬فحضور املعلوم‬
‫ِ‬
‫للعامل‪ ،‬إما بامهيته وهو العلم احلصويل‪ ،‬أو بوجوده وهو العلم احلضوري"(‪.)3‬‬
‫فالبيان األول يعتمد عىل املبارشة والوساطة‪ ،‬والثاين عىل املاه ّية والوجود‪.‬‬
‫وهبذا يظهر وجه تسمية هذا اللون من اإلدراك باملعرفة احلضور ّية؛ ّ‬
‫ألن املعلوم‬
‫حارض بذاته مبارشة دون وسا ٍ‬
‫طة يف نفس ِ‬
‫العامل(‪.)4‬‬
‫أن حقيقة العلم مطلق ًا هو الكشف واإلراءة‪ ،‬سواء أكان حصول ًّيا‬
‫يتضح مما تقدم‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ِ (‪)5‬‬
‫مشرتك بني‬ ‫جامع‬
‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫أم حضور ًّيا‪ ،‬فمعنى العلم بيشء انكشافه للعامل ‪ ،‬وعليه يكون ّ‬
‫املعرفتني احلصول ّية واحلضور ّية‪ ،‬يشكّل املقسم املنطقي هلام‪ ،‬وهو االنكشاف‪ ،‬فإن كان‬

‫(‪ )1‬ال نعرف ّأول من استخدام مصطلح (العلم احلضوري)‪ ،‬لكن ثمة نص للشيخ السهروردي يقول فيه‪ ..." :‬فكأنه‬
‫استبرش‪ ،‬وقال‪ :‬أولئك هم الفالسفة واحلكامء حق ًا‪ ،‬ما وقفوا عند العلم الرسمي‪ ،‬بل جاوزوا إىل العلم احلضوري‬
‫االتصايل الشهودي‪ ."...‬التلوحيات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.74‬‬
‫(‪ )2‬انظر ‪ :‬اليزدي‪ ،‬حممد تقي مصباح‪ ،‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين‪ ،‬نرش مجاعة‬
‫املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم املقدسة‪ ،‬ج‪ ،2‬درس‪ ،49‬ص‪.232‬‬
‫(‪ )3‬الطباطبائي‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة‪ ،11:‬الفصل‪ ،1:‬ص‪.294‬‬
‫(‪ )4‬انظر ‪ :‬األشتياين‪ ،‬مهدي مدرس‪ ،‬تعليقة بر رشح منظومة حكمت سبزواري‪ ،‬باهتامم عبد اجلواد فالطورى‬
‫ومهدي حمقق‪ ،‬هتران‪1353 ،‬هـ‪.‬ش‪ ،‬ص‪.479‬‬
‫(‪ )5‬انظر‪ :‬الصدر‪ ،‬الفلسفة العليا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.284‬‬
‫‪151‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ِ‬
‫العامل فهو حضوري‪ ،‬وإن كان‬ ‫املعلوم منكش ًفا بذاته وحا ً‬
‫رضا بواقعه مبارشة لدى‬
‫بوساطة صورته فهو حصويل(‪.)1‬‬

‫‪ .2‬القسم الثان‪ :‬علم النفس بحاالتها الوجدان ّية‬


‫إذا تأ ّمل الفرد داخل نفسه‪ ،‬مستبطِن ًا ذاته‪ ،‬هل يرى علمه بعواطفه ومشاعره‬
‫احلب واخلوف واحلزن والفرح والشوق و‪ -...‬بحضور واقعها يف ذاته‪،‬‬ ‫الوجدان ّية ‪-‬من ّ‬
‫صورة ذهني ٍة جزئي ٍة منتز ٍ‬
‫عة منها؟‬ ‫ٍ‬ ‫أم أنّه يدركها بوساطة‬
‫ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫حارض لدى واقع النفس البرشية‪ ،‬ومتّحدٌ معها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫باحلب بذاته وواقعيته‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن الشعور‬
‫مستقال يف الواقع قائ ًام خارج ذات اإلنسان‪ ،‬بل هو من مراتب‬ ‫ً‬ ‫احلب موضو ًعا‬
‫ّ‬ ‫فليس‬
‫صورة ذهن ّي ٍة عنه‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬ ‫بتوسط‬
‫بحب اهلل تعاىل ليس ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجود اجلوهر النفساين‪ ،‬فشعوري‬
‫بوساطة اال ّتصال الوجودي املبارش بني النفس وهذا املصداق من الشعور الوجداين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صورة عن هذه احلالة النفس ّية‪،‬‬ ‫يتوسط اجلهاز اإلدراكي الذهني يف انتزاع‬
‫دون أن ّ‬
‫لتنطبع صورة عن ح ّبي هلل تعاىل يف ذهني‪ ،‬فتنظر نفيس إىل لوح الذهن‪ ،‬فرتى صورة‬
‫أحب اهلل)‪.‬‬
‫حتب اهلل‪ ،‬فتشكّل قضية تصديق ّية‪( :‬أنا ّ‬
‫ح ّبها هلل تعاىل‪ ،‬فتدرك ّأهنا ّ‬
‫يف ذلك‪ ،‬يقول ّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪ ..." :‬بني معلوماتنا‪ ،‬ما ال نتوقف يف إطالق‬
‫وأحب كذا‬
‫ّ‬ ‫الرؤية عليه واستعامهلا فيه‪ ،‬نقول‪ :‬أرى ّأين أنا‪ ،‬وأراين أريد كذا وأكره كذا‬
‫وأبغض كذا وأرجو كذا وأمتنى كذا‪ ،‬أي أجد ذايت وأشاهدها بنفسها من غري أن أحتجب‬
‫عنها بحاجب‪ ،‬وأجد وأشاهد إراديت الباطنة التي ليست بمحسوسة وال فكرية‪ ،‬وأجد‬
‫وبغضا ورجا ًء ومتنّـ ًيا وهكذا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف باطن ذايت كراه ًة وح ًبا‬

‫(‪ )1‬هبذا يتّضح ّ‬


‫أن تعريف العلم بأنّه عبارة عن حصول صورة اليشء يف الذهن خيتص باملعرفة احلصوليّة‪ ،‬أما إذا أردنا‬
‫توسعة دائرة املفهوم ليشمل املعرفتني مع ًا‪ ،‬فثمة تعريفات عدّ ة‪ ،‬منها‪ :‬تعريف ّ‬
‫مال صدرا‪" :‬اإلدراك عبارة عن‬
‫ُ‬
‫حصول‬ ‫وجود يشء ليشء وحضوره له"‪ .‬احلكمة املتعالية‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ .416‬وتعريف العالمة الطباطبائي‪ " :‬العلم‬
‫جمرد‪ ،‬وإن شئت قلت‪ :‬حضور يشء ليشء" هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة‪ ،11:‬الفصل‪،2:‬‬
‫جمرد من املا ّدة ألمر ّ‬
‫أمر ّ‬
‫ص‪ .240‬وتعريف الشيخ حممد تقي مصباح اليزدي‪" :‬العلم عبارة عن حضور نفس اليشء أو صورته اجلزئية‬
‫جمرد"‪ .‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬درس‪ ،9:‬ص‪.153‬‬
‫أو مفهومه الكيل عند موجود ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 152‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وهذا غري قول القائل‪ :‬رأي ُتك حتب كذا وتبغض كذا وغري ذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن معنى كالمه‪:‬‬
‫وبغضا ونحو ذلك‪ ،‬وأما حكاية‬
‫ً‬ ‫أبرصتك يف هيئة‪ ،‬استدللت هبا عىل ّ‬
‫أن فيك ح ًّبا‬
‫اإلنسان عن نفسه أنّه يراه يريد ويكره وحيب ويبغض‪ ،‬فإنّه يريد به أنّه جيد هذه األمور‬
‫بنفسها وواقعيتها‪ ،‬ال أنّه يستدل عليها فيقيض بوجودها من طريق االستدالل‪ ،‬بل‬
‫جيدها من نفسه من غري حاجب حيجبها وال توسل بوسيلة تدل عليها البتة‪...‬‬
‫وتسمية هذا القسم من العلم الذي جيد فيه اإلنسان نفس املعلوم بواقعيته اخلارجية‬
‫رؤية مطردة‪ ،‬وهي علم اإلنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية‬
‫وليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسامنية أخرى غريها‪.)1("...‬‬

‫‪ .3‬القسم الثالث‪ :‬علم النفس بذاتها‬


‫هل يمكن أن تغيب ذات اإلنسان عنه؟ فيغفل عن كونه هو هو!! وهل ُيعقل أن‬
‫صورة ذهن ّي ٍة عن ذاته؟! فإذا نسيت النفس‬
‫ٍ‬ ‫بتوسط‬
‫تكون معرفة اإلنسان بذاته حصول ّية ّ‬
‫تصور أن ينسى الفرد كونه‬
‫تلك الصورة أو غفلت عنها ينسى ذاته ويغفل عنها؟ وهل ُي ّ‬
‫موجو ًدا‪ ،‬وماهيته عني إن ّيته‪ ،‬وهو ّيته الوجود ّية؟!‬
‫وعلوا(‪،)2‬‬
‫ً‬ ‫ظلام‬
‫ال يوجد فر ٌد سليم الفطرة ينكر واقعية ذاته وجيحد وجودها‪ ،‬إال ً‬
‫مريضا نفس ًّيا‪ ،‬وإال كيف ينكر الفرد‬
‫ً‬ ‫أو مصا ًبا باضطراب معريف واعتالل إدراكي‪ ،‬أو‬
‫ذاته أو ّ‬
‫يشك فيها‪ ،‬فهل املنفي أو املشكوك إال الـ (أنا) ذاهتا؟! فقوله ‪-‬ولو بالكالم‬
‫النفيس‪ُ :-‬أنكر‪ُ ،‬أشكّك‪ ،‬يستبطن فاع ً‬
‫ال هو الضمري (أنا)‪ .‬فاحلق‪ ،‬أنّه "إذا ألقينا نظرة‬
‫بسيطة‪ ،‬ال ُكلفة فيها‪ ،‬سوف نجد ّ‬
‫أن ذاتنا الـ (أنا) غري خف ّية عىل ذاتنا"(‪.)3‬‬
‫املهم هو‪ :‬هل يمكن أن تغيب ذات اإلنسان‬ ‫هذه مقدّ مة واضحة‪ّ ،‬إال إ ّن السؤال ّ‬
‫بأي ٍ‬
‫حال من‬ ‫عن ذاته بحيث ينعدم شعوره بواقعيتها‪ ،‬أو يغفل عن كون ذاته هي ذاته ّ‬
‫نائام أم مستيق ًظا‪ ،‬منتبه ًا أم ً‬
‫غافال؟‬ ‫ال أم فيلسو ًفا‪ً ،‬‬
‫األحوال سواء أكان طف ً‬
‫(‪ )1‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.239‬‬
‫(‪ )2‬اقتباس من قوله تعاىل‪﴿ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ﴾ سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬
‫(‪ )3‬الطباطبائي‪ ،‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.348-347‬‬
‫‪153‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إذا أردنا أن نحفر يف هذه املسألة‪ ،‬يمكن طرح فرض ّيات ثالث‪:‬‬
‫احليس يف معرفة الذات أو الـ (أنا)‪ ،‬بمعنى أن يعرف اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬األوىل‪ :‬املنهج‬
‫واقعية ذاته املشار إليها بكلمة (أنا)‪ ،‬بوساطة الصورة العلم ّية املأخوذة من اال ّتصال‬
‫احليس‪ ،‬واإلدراك اجلزئي بني أدوات احلس كالعني واللمس‪ ...‬وبني أعضائه وحركاته‬ ‫ّ‬
‫وحيرك أنامله أو رأسه‪ ،‬ويرمش بعينيه‪ ،‬ويتن ّفس‪ ،‬ويلمس‬ ‫وأفعاله‪ ،‬فهو يرى لون برشته‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مكان إىل مكان‪ ...‬فاحلدّ األوسط الذي يستدل به عىل شعوره بذاته‬ ‫ويتحرك من‬ ‫أعضاءه‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومعرفته هبا هو اال ّتصال احليس بأعضائه وأفعاله‪ ،‬وتأ ّثره وانفعاله باملحيط املادي من‬
‫ٍ‬
‫ونعومة وخشونة‪ ،...‬فإذا انعدم اال ّتصال احليس ينعدم شعور الفرد بذاته‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وبرودة‬ ‫ٍ‬
‫حرارة‬
‫‪ -2‬الفرضية الثانية‪ :‬املنهج العقيل‪- ،‬ووجه تغايره عن السابق ّ‬
‫أن األول معرفة‬
‫جزئية حس ّية‪ ،‬أ ّما يف هذا املنهج نجعل احلدّ األوسط هو الصورة الذهن ّية عن الذات‬
‫درك اإلنسان ذاته بوساطة مفهوم عن ذاته‪ ،‬لنصطلح عليه الـ (األنا‬ ‫كمفهوم‪ ،-‬أن ُي ِ‬
‫يشء ما بواسطة حصول‬ ‫أن حقيقة العلم احلصويل هي انكشاف ٍ‬ ‫املتصورة)‪ ،‬إذ ذكرنا ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫صورة عنه يف الذهن البرشي‪ ،‬وبالتايل يف املقام‪ُ ،‬حي ِّصل الفرد منّا العلم بذاته بوساطة‬
‫ارتسام صورة عن ذاته يف ذهنه‪ ،‬وبعد أن تنطبع تلك الصورة عن ذاته أي (تصور األنا)‪،‬‬
‫يوسط‬ ‫ِ‬
‫ينتقل إىل العلم بذاته ‪-‬أي (واقع األنا) ويشعر هبا‪ .‬فالعامل الذي هو اإلنسان‪ِّ ،‬‬
‫التّصور عن أناه [الذي هو املعلوم بالذات]‪ ،‬ليحصل له علم بـ(أناه) ‪-‬التي هي املعلوم‬
‫بالعرض‪ ،-‬فك ّلام أراد أن يشعر بواقعية ذاته يستحرض تلك الصورة‪ ،‬ولوال ذلك التصور‬
‫عن الذات ملا استطاع اإلنسان أن يدرك ذاته ويشعر بإن ّيته ووجوده‪ ،‬فهو ‪-‬أي الفرد‪-‬‬
‫من حيث يفكّر يف ذاته‪ ،‬ويملك صور ًة عن ذاته‪ ،‬يعتقد بوجود ذاته؛ ّ‬
‫ألن العلم باليشء‬
‫يتصور (أنا)‪ ،‬ويتصور (موجود)‪ ،‬والنسبة‬
‫ّ‬ ‫تصوره الذهني‪ ،‬فهو‬
‫فرع ّ‬‫والتصديق بوجوده ُ‬
‫بينهام‪ ،‬فيحكم بموجودية نفسه‪( :‬أنا موجود)‪ .‬وسنناقش هاتني الفرضيتني الح ًقا‪.‬‬
‫‪ -3‬الفرض ّية الثالثة‪ :‬املنهج الوجداين‪ ،‬أي ّ‬
‫أن يشعر اإلنسان بذاته ويعلم بواقعيتها‬
‫وإن ّيتها بالـمعرفة الشهودية والذوق الوجداين‪ ،‬فأول ّيـة معرفة الفـرد بذاته سنخ معرفة‬
‫احليس أو اخليا ّيل أو الومهي أو العقيل‪ ،‬ووراء التصديق واالعتقاد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وراء التصور الذهني‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 154‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فاملقصود من هذا العلم ليس قضية‪( :‬أنا موجود)‪ ،‬املركّبة من مفاهيم ونسب ذهنية‬
‫متعدّ دة‪ ،‬من سنخ املعرفة احلصول ّية‪ ،‬بل املراد هو حضور الذات لدى الذات بنحو‬
‫واقعي‪ ،‬بحيث لو غفل اإلنسان عن أعضائه وأفعاله واملحيط املادي‪ ،‬ومل يكن له أي‬
‫الوجداين‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫حيس باطني بحاالته‬
‫ّ‬ ‫أي اتصال‬
‫بأي ظاهرة ماد ّية‪ ،‬بل حتى ّ‬
‫حيس ّ‬
‫ّ‬ ‫اتصال‬
‫صورة علم ّي ٍة عن ذاته‪- ،‬لو لـم‬
‫ٍ‬ ‫ا ّتصال معريف ذهني‪ ،‬فأغمض عينيه عن استحضار‬
‫كل ذلك‪ -‬ال تغيب ذاته عنه‪ ،‬بل يبقى شعوره هبا وإحساسه بوجوده متح ّق ًقا‪،‬‬ ‫حيصل ّ‬
‫وطور وراء‬ ‫ٌ‬ ‫طور وراء ِ‬
‫طور العلم احلصويل بأقسامه‪،‬‬ ‫فشعور اإلنسان بنفسه وإدراكه هلا ٌ‬
‫ٍ‬
‫صورة‬ ‫ِ‬
‫طور املعرفة احلضور ّية بقسميها السابقني‪ ،‬فال حيصل إدراكه لذاته بوساطة‬
‫ٍ‬
‫ذهنية‪ ،‬وال تب ًعا لنشاط فكري استداليل‪ ،‬وال بوساطة انفعاالته النفس ّية والشعور هبا‪،‬‬
‫فالعامل ‪-‬أي‬ ‫ِ‬ ‫بل هو عبارة عن حضور واقعية ذات الفرد لدى ذاته‪ ،‬أي بمعنى هو هو‪،‬‬
‫النفس‪-‬هو عني العلم واملعلوم‪-‬أي النفس ذاهتا أيض ًا‪ ،-‬فال اثنين ّية وال ا ّحتاد ‪ّ -‬‬
‫ألن‬
‫عامل وهي علم وهي‬ ‫االحتاد يفرتض وجود جهة تغاير ما‪ ،-‬بل هوية عينية واحدة هي ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صح التعبري‪ -‬ليس من باب ّ‬
‫االحتاد يف‬ ‫معلوم‪ ،‬وتصادق هذه املفاهيم الثالثة ‪-‬إن ّ‬
‫عامل من حيث كوهنا معلوم ًا‪ ،‬ومعلوم ًا‬ ‫الصدق فقط‪ ،‬بل يف حيثية الصدق أيض ًا‪ ،‬أي هي ِ‬
‫وعلام من حيث كوهنا عاملِ ًا ومعلو ًما‪ .‬كام سيأيت بيانه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫من حيث كوهنا عامل ًا‪ً ،‬‬

‫دليال ّ‬
‫العالمة الطباطبايئ عىل حضور ّية علم النفس بذاتها‬
‫نص‬
‫يطرح العالمة الطباطبائي دليلني عىل حضورية علم النفس بذاهتا‪ ،‬نعرض ّ‬
‫أيضا علم الواحد‬
‫كالمه ‪-‬مكتفني بتوضيحهام يف احلاشية‪ ،-‬حيث يقول‪" :‬ومن العلم ً‬
‫ويعرب عنها بـ(أنا)‪ ،‬فإنّه ال يلهو عن نفسه‪ ،‬وال يغفل عن‬
‫ّ‬ ‫منّا بذاته التي يشري إليها‬
‫مشاهدة ذاته‪ ،‬وإن فرضت غفلته عن بدنه وأجزائه وأعضائه‪.‬‬
‫وليس ِعل ُم ُه هذا بذاته بحضور ماه ّية ذاته عند ذاته حضور ًا مفهوم ّي ًا وعل ًام حصول ّي ًا؛‬
‫ألن املفهوم احلارض يف الذهن كيفام فرض ال يأبى بالنظر إىل نفسه الصدق عىل كثريين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أمر‬
‫ويعرب عنه بـ(أنا) ٌ‬ ‫اخلارجي‪ ،‬وهذا الذي يشاهده من نفسه ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتشخص بالوجود‬ ‫ّ‬ ‫وإنّام‬
‫‪155‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التشخص بالوجود‪ِ ،‬‬


‫فعل ُمنا‬ ‫ّ‬ ‫شخيص بذاته‪ ،‬غري قابل للرشكة بني كثريين‪ ،‬وقد حت ّقق ّ‬
‫أن‬ ‫ٌّ‬
‫الشخيص‬
‫ّ‬ ‫اخلارجي الذي هو عني وجودنا‬ ‫ّ‬ ‫إنام هو بحضورها لنا بوجودها‬ ‫بذاتنا ّ‬
‫املرتتّب عليه اآلثار(‪.)1‬‬
‫[الدليل الثانـي‪ ]:‬وأيض ًا لو كان الـحارض لذواتنا عند ِعل ِمنا هبا هو ماه ّية ذواتنا‬
‫أن لوجودنا ماه ّي ًة قائم ًة به‪ ،‬كان لوجود واحد ماه ّيتان موجودتان‬
‫دون وجودها‪ ،‬واحلال ّ‬
‫حمال‪ .‬فإذن ِعل ُمنا بذواتنا بحضورها لنا وعدم غيبتها عنّا‬ ‫به‪ ،‬وهو اجتامع املثلني‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ويسمى‪( :‬العـلـم‬
‫ّ‬ ‫قسم آخر من العلم‪،‬‬
‫خارجي ال بـمـاهـ ّيتـها فقـط ‪ .‬وهذا ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫ّ‬ ‫بوجـودهـا الـ‬
‫وري)(‪.)3‬‬
‫الـحـضـ ّ‬
‫نظرية ابن سينا ف علم النفس بذاتها‬
‫أحدٌ من الفالسفة املسلمني كون علم النفس بذاهتا شهود ًّيا وحضور ًّيا‪،‬‬
‫مل ينكر ّ‬
‫وليس حصول ًّيا‪.‬‬
‫فابن سينا رغم إنكاره للقسمني السابقني من الـمعرفة الـحضور ّية‪ ،‬كان متشدِّ ًدا‬

‫بالشخص‪،‬‬ ‫(‪ )1‬بعبارة أخرى‪ :‬لو كان علم اإلنسان بذاته‪ ،‬وذاته املشار إليها بــ(أنا)‪ ،‬هي هوية عينية خارجية‪ ،‬أي واحد ّ‬
‫والتشخص بالوجود‪ ،‬وبالتايل يمتنع وقوع الرشكة فيها؛ ّ‬
‫ألن الرشكة بمعنى الكيل الذي ال يمتنع فرض صدقه عىل كثري‬ ‫ّ‬
‫حصول ّي ًا (والعلم احلصويل هو بمعنى حضور ماهية اليشء يف الذهن)‪ ،‬لزم منه أن يكون علمه بذاته كل ًّيا (أي قاب ً‬
‫ال‬
‫للصدق عىل كثري؛ ّ‬
‫ألن الصورة العلم ّية الذهن ّية عن اليشء كيفام فرضت هي كل ّية‪ ،‬حتى العلم باجلزئي هو كيل لكنه‬
‫أخص دائرة)‪ ،‬فال يمنع وقوع الرشكة فيه‪ ،‬وهذا خالف الفرض (الذي هو كون الذات وحدً ا شخص ًّيا ال يقبل االنطباق‬
‫صح‬ ‫ٍ‬
‫خيص ال يقبل الصدق عىل كثري‪ ،‬وإال ّ‬ ‫أمر ش ّ‬ ‫عىل كثري)‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬ما يعاينه اإلنسان من ذاته عند علمه هبا هو ٌ‬
‫أن علمه بذاته حضوري‪ .‬انظر‪ :‬جمموعة املصنفات للشيخ‬ ‫أن يكون هو هو‪ ،‬ويف الوقت عينه هو غريه‪ ،‬فثبت ّ‬
‫السهروردي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .484‬وج‪ ،4‬ص‪ .222‬واحلكمة املتعالية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ .289‬وج‪ ،6‬ص‪ .165‬وج‪ ،8‬ص‪.47‬‬
‫(‪ )2‬بعبارة أخرى‪ :‬لو كان علم النفس بذاهتا حصوليًّا‪ ،‬لزم اجتامع املثلني‪ ،‬والتايل باطل فاملُقدم مثله‪ .‬بيان وجه‬
‫املالزمة‪ :‬لو فرضنا ّ‬
‫أن اإلنسان يعلم بذاته بوساطة صورة ذهنية عنها‪ ،‬ال وجداهنا يف ذاهتا عند ذاته‪ ،‬فسيكون‬
‫للنفس وجودان‪ ،‬أو قل ماهيتان‪ :‬األوىل بام هي يف ذاهتا كموجود مستقل عن الذهن وعامل اإلدراك‪ ،‬فتكون ماهيتها‬
‫متّحدة مع وجودها اخلارجي‪ ،‬والثانية بام هي موضوع قائم يف عامل اإلدراك‪ ،‬فيكون هلا ماهية ُمدركة بالذهن‪ ،‬هي‬
‫التي ‪-‬حسب الفرض‪ -‬يشار إليها بـ(أنا)‪ ،‬ويلزم من هذا اجتامع املثلني‪ ،‬وهو باطل‪ .‬وال يمكن النقض بالعلم‬
‫احلصويل بالذات؛ ألنه وإن كان ال يمكن إنكاره‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن تصور مفهوم األنا هو غري إدراك واقع األنا‪.‬‬
‫(‪ )3‬هناية احلكمة‪ ،‬مرحلة‪ ،11:‬فصل‪.1:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 156‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ً‬
‫استدالال‬ ‫فـي إثبات املعرفة احلضورية للذات بذاتـها‪ ،‬وقد اسـ ّ‬
‫تدل ابن سينا [وهو ليس‬
‫وجداين] بام ُع ِرف الح ًقا بربهان (الرجل الطائر)‪ ،‬أو (الرجل املعلق يف‬
‫ّ‬ ‫منطق ًّيا بل تنبيه‬
‫ّترد النفس‪ ،‬وكون معرفتها بذاهتا حضورية‪.‬‬ ‫تتضمن‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫اهلواء)‪ ،‬ل ُيثبت نتيج ًة مزدوج ًة‬
‫تصور الفرد منّا نفسه قد ُخلِق ً‬
‫كامال دفع ًة واحد ًة‪،‬‬ ‫وخالصة تنبيه ابن سينا‪ ،‬أنّه لو ّ‬
‫ساق ًطا يف اهلواء أو اخلالء‪ ،‬بحيث ال يشعر باألشياء اخلارجية املحيطة به‪ ،‬وقد ّفرق بني‬
‫تتامس‪ ،‬فتع ّطل إحساسه الظاهري هبا‪" ...‬ثم يتأ ّمل‪ ،‬أنّه هل‬
‫ّ‬ ‫أعضائه فلم تتالق ومل‬
‫يثبت وجود ذاته وال يشك ّف إثباته لذاته موجو ًدا؟!"(‪.)1‬‬
‫ٌ‬
‫إنسان دفعة واحدة‪،‬‬ ‫ويقول ابن سينا يف موض ٍع آخر من كتاب الشفاء‪" :‬لو ُخلِق‬
‫متاست‪ ،‬ومل يسمع‬
‫يمسها‪ ،‬وال ّ‬ ‫ُ‬
‫وخلق متباين األطراف‪ ،‬ومل يبرص أطرافه‪ ،‬واتفق أن مل ّ‬
‫صوت ًا‪[ ،‬النتيجة‪ ]:‬جهل وجود مجيع أعضائه‪ ،‬وعلم وجود إنيته شيئ ًا واحد ًا‪ ،‬مع جهل‬
‫مجيع ذلك‪ .‬وليس املجهول بعينه هو املعلوم‪.)2("...‬‬
‫أيضا يف كتاب اإلشارات والتنبيهات‪" :‬ارجع إىل نفسك‪ ،‬وتأ ّمل‪ ،‬هل إذا‬
‫ويقول ً‬
‫صحيحا‪ ،‬بل وعىل بعض أحوالك غريها‪ ،‬بحيث تفطن لليشء فطن ًة صحيح ًة‪،‬‬‫ً‬ ‫كنت‬
‫أن هذا يكون للمستبرص‪ .‬حتى‬ ‫هل تغفل عن وجود ذاتك؟ وال تثبت نفسك؟ ماعندي ّ‬
‫إن النائم يف نومه‪ ،‬والسكران يف سكره‪ ،‬ال يعزب ذاته عن ذاته [هذه هي املعرفة احلضورية‬ ‫ّ‬
‫بالذات]‪ ،‬وإن مل يثبت مت ّثله لذاته يف ِذكره [هذه هي املعرفة احلصول ّية بالذات]‪.‬‬
‫أن ذاتك قد خلقت أول خلقها‪ ،‬صحيحة العقل واهليأة‪ ،‬و ُفرض ّأهنا‬ ‫ولو تومهت ّ‬
‫عىل مجلة من الوضع واهليأة‪ ،‬ال تبرص أجزاءها‪ ،‬وال تتالمس أعضاؤها‪ ،‬بل هي منفرجة‬
‫ومع ّلقة حلظة ما‪ ،‬يف هواء طلق‪ ،‬وجدهتا قد غفلت عن ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬إال عن ثبوت إن ّيتها‬
‫[أي وجودها وواقعيتها]"(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬أبو عيل حسني بن عبد اهلل‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق الشيخ حسن حسن زاده اآلميل‪ ،‬مركز النرش‬
‫التابع ملكتب اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‪.27-26‬‬
‫(‪ )2‬املصدر نفسه‪ ،‬الفصل السابع من املقالة اخلامسة من هذا الفن السادس‪ .‬ص‪349- 348‬‬
‫(‪ )3‬ابن سينا‪ ،‬أبو عيل‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬مع رشح نصري الدين الطويس‪ ،‬حتقيق سليامن دنيا‪ ،‬مؤسسة النعامن‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬النمط الثالث‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬القسم الثاين‪ ،‬ص‪.344-343‬‬
‫‪157‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فاإلنسان سواء أكان يتمتع باإلدراك الكامل كاملستيقظ الواعي‪ ،‬أم كان إدراكه‬
‫ناقصا كاملستيقظ الغافل عن األشياء املحيطة به بفعل تركيزه الذهني عىل فكرة مع ّينة‪،‬‬
‫ً‬
‫أم كالسكران‪ ،‬أو النائم‪ ،‬أو املُغمى عليه‪ ،‬بل حتى ال ّطفل حديث الوالدة‪ ،‬كل هؤالء‬
‫ال يغفل أحدهم عن ذاته‪.‬‬
‫شعورا باطن ًّيا‪ ،‬وهناك فرق‬
‫ً‬ ‫فالفرد النائم ً‬
‫مثال ملتفت إىل ذاته‪ ،‬ويشعر بواقعيتها‬
‫بأين مستيقظ‪ ،‬والشعور بواقعيتي‪ ،‬فإن غفلت حال نومي عن اإلحساس‬
‫كبري بني الشعور ّ‬
‫الظاهري بأعضائي والظواهر املاد ّية املحيطة يب‪ ،‬لكن ال أغفل عن ذايت‪ ،‬ويبقى شعوري‬
‫واملؤرش التنبيهي عىل ذلك‪ ،‬وعي الفرد بذاته يف املنامات واألحالم‪ّ ،‬‬
‫وأن له‬ ‫ّ‬ ‫هبا واقع ًّيا‪،‬‬
‫واقعية‪ ،‬وأنّه هو الشخص الذي حيلم ال آخر غريه‪ ،‬بحيث ختتلط عليه األمور‪ ،‬وتلتبس‬
‫درجة من درجات‬ ‫ٍ‬ ‫بأي‬
‫عليه ذاته بشخص آخر‪ ،‬ولو فقد أثناء النوم الشعور بذاته ّ‬
‫الشعور‪ ،‬لكان استيقاظه والدة جديدة‪ ،‬ال تصطحب معها أي وعي عن ذاته يف عامل الرؤى‬
‫واألحالم‪ ،‬ومل يقل‪" :‬أنا حلمت" و"أنا رأيت"‪.)1(...‬‬
‫وذلك ك ّله‪ ،‬بخالف ما لو فرضنا ّ‬
‫أن العلم احلاصل للنفس بذاهتا هو بوساطة‬
‫ٍ‬
‫عقلية‪ ،‬فإنّه يقبل الغفلة والنسيان كأي علم حصويل آخر‪.‬‬ ‫صورة حس ّي ٍة أو ومه ّي ٍة أو‬
‫ٍ‬
‫ويمكن تشكيل قياس منطقي استثنائي‪ ،‬نثبت فيه كذب التايل وصدق نقيضه‪ ،‬لنثبت‬
‫كذب املقدّ م وصدق نقيضه‪ ،‬عىل الشكل التايل‪:‬‬
‫لو كان علم النفس بذاهتا حصول ًّيا‪ ،‬ألمكن حت ّقق الغفلة والنسيان فيه‪ ،‬ولك ّن‬
‫اإلنسان ال يغفل عن ذاته وواقعيته‪ ،‬فعلم النفس بذاهتا ليس حصول ًّيا‪ .‬وإن مل يكن‬
‫حصول ًّيا‪ ،‬فهو حضوري‪ ،‬إذ ال واسطة بينهام كام تقدّ م‪.‬‬
‫وهبذا‪ ،‬تتضح أبرز مصاديق الـمعرفة الـحضورية وأوضحها‪ ،‬فالـمعرفة الشهودية‬
‫أو العلم احلضوري للنفس بذاهتا هو االتصال الوجودي بني العالِـم (الذات) واملعلو ِم‬
‫(الذات) ذاهتا‪ ،‬بنحو يكون الـمعلوم (أي الذات) حارض ًا بواقعيته لدى العالِـم (أي‬
‫(‪ )1‬مطهري‪ ،‬مرتىض‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬ترمجة عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مؤسسة البعثة‪ ،‬قسم الدراسات اإلسالميّة‪ ،‬قم‪،‬‬
‫‪1413‬هـ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.19‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 158‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ٍ‬
‫ذهنية عنه‪ ،‬أي إ ّن واقع الـمدرك حاضـر بذاتـه لـدى‬ ‫ٍ‬
‫صورة‬ ‫بتوسط‬
‫الـذات نفسـها) ال ّ‬
‫واقـع الـمـ ِ‬
‫درك(‪.)1‬‬

‫أقسام املعرفة الحضوريّة بي التفاق والختالف‬


‫خالف بني املدرسة املشائية‪ ،‬واملدرستني اإلرشاقية واملتعالية يف أقسام املعرفة‬
‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫ّ‬
‫احلضورية‪ ،‬ونسب إىل املشائية ّأهنا حرصت العلم احلضوري بعلم الذات بذاهتا(‪،)2‬‬
‫وسعت أفقها ملصاديق خمتلفة سنعرضها يف‬ ‫حني ّ‬
‫أن املدرستني اإلرشاقية واملتعالية ّ‬
‫اجلدول‪.‬‬
‫قال احلكيم السبزواري‪:‬‬
‫يف الذات ما احلـض ـور باملحصـور‬ ‫وه ـو ح ـص ـولـي ك ـ ـذا حض ـ ـوري‬
‫كـص ـور فـي عل ـمـنـا الـح ـص ـولـي‬ ‫بـ ـل ثـابـ ـت فـي العلم بالـمعلـول‬

‫املعرفة الحضور ّية بي املشائية والحكمة املتعال ّية‬


‫ابن سينا مال صدرا‬ ‫الفرضية‬ ‫الرقم‬
‫✓‬ ‫✓‬ ‫علم واجب الوجود بذاته‬ ‫‪1‬‬
‫✓‬ ‫✓‬ ‫علم العقول املج ّردة بذاتها‬ ‫‪2‬‬ ‫علم املج ّرد‬
‫علم النفس البرشية بذاتها‬ ‫‪3‬‬ ‫بذاته(‪)3‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫علم الحيوانات بذاتها‬ ‫‪4‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫علم الواجب مبعلوالته‬ ‫‪1‬‬ ‫علم العلة‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫علم العقول مبعلوالتها‬ ‫‪2‬‬ ‫مبعلولها‬ ‫‪2‬‬
‫مطلقا(‪)4‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫علم النفس مبعلوالتها‬ ‫‪3‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬اليزدي‪ ،‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 172‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪ )2‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .235-234‬وص‪.253‬‬
‫(‪ )3‬األشتياين‪ ،‬مهدي‪ ،‬تعليقة بر رشح منظومة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.480‬‬
‫(‪ّ )4‬تدر اإلشارة إىل وجود خالف يف تفسري كلامت املشائني بني من ينسب إليهم نفيهم املعرفة احلضور ّية يف غري علم‬
‫فإهنم حرصوه يف علم كل‬ ‫الذات بذاهتا (السبزواري‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬ص‪ :)489-488‬يقول‪ ..." :‬خالف ًا للمشائني ّ‬
‫وخصوا العلم بالغري باحلصويل حتى إهنم رأوا ّ‬
‫أن علمه تعاىل بالغري قبل اإلجياد حصويل ارتسامي"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عامل بذاته‬
‫وبني معارض لوجهة النظري هذه‪ ،‬يقول الـميزرا مهدي اآلشتيانـي تعليق ًا عىل السبزواري‪" :‬هذا ليس مذهب =‬
‫‪159‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫الصورة العلمية الذهن ّية‬ ‫علم النفس ‪1‬‬


‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫الحاالت الوجدانية والنفسية‬ ‫‪2‬‬ ‫البرشيّة‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫القوى والغرائز التكوينية‬ ‫بكامالتها ‪3‬‬ ‫‪3‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫األفعال واألنشطة االختيارية‬ ‫‪4‬‬ ‫الثانوية‬
‫ومعلوالتها(‪)1‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫األفعال واألنشطة االضطرارية‬ ‫‪5‬‬
‫✓‬ ‫‪‬‬ ‫علم املج ّرد باملج ّرد (معلوالن لعلة واحدة)‬ ‫‪4‬‬

‫الجهاز اإلدرايك بي املعرفتي الحضور ّية والحصول ّية‬


‫تتحقق املعرفة احلصول ّية يف ضوء قوى إدراك ّية حمدّ دة‪ ،‬أي إ ّن اجلهاز اإلدراكي له‬
‫آالت وأدوات تـمكّن النفس من تـحصيل الـمعرفة بموضوع ما‪ ،‬كالبارصة‪ ،‬السامعة‪،‬‬
‫املترصفة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الـمتخ ّيلة‪،‬‬
‫أما يف املعرفة احلضور ّية‪ ،‬فالنفس البرش ّية ت ّتحد مع واقع املعلوم بالذات‪ ،‬وال‬
‫وسط بينها‪ ،‬وبني واقع املعلوم أدا ًة أو آل ًة خاصة من أدوات اجلهاز اإلدراكي؛ فهي‬‫ُت ّ‬
‫معرفة مبارشة دون أدوات ووسائط‪.‬‬
‫إن العلم احلضوري ال تتدخل فيه قوة خاصة وال‬ ‫يقول الشيخ مرتىض مطهري‪ّ " :‬‬
‫آلة معينة‪ ،‬وإنام ِ‬
‫العامل يدرك واقع املعلوم حقيقة‪ ،‬وأما يف العلم احلصويل فإنه تتدخل فيه‬
‫قوة معينة من قوى النفس املختلفة‪ ،‬عملها أخذ الصور‪ ،‬والنفس تصبح عاملة بوساطة‬
‫حضورا إرادته فإ ّنه يدرك نفس‬
‫ً‬ ‫مثال عندما يريد ِ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهو يدرك‬ ‫تلك القوة‪ً .‬‬
‫ِ‬
‫اإلرادة حقيقة‪ ،‬أي إ ّن الذي يدرك اإلرادة هو (األنا) بال واسطة والنفس تدرك‪-‬‬
‫بصورة متشاهبة‪-‬مجيع الوقائع النفس ّية املتعلقة بجهات خمتلفة إدراكية أو شوقية مثل‬

‫رصح رئيسهم يف كتاب الشفا وتعليقاته‪ ،‬واملع ّلم الثاين يف تعليقاته وغريها‪ ،‬بكون علم النفس‬
‫= مجيع املشائني‪ ،‬بل ّ‬
‫املجردة بالصورة احلاصلة فيها حضور ًّيا‪ ،‬ال حصول ًّيا‪ ،‬بل ال ُيتصور من هؤالء األفاضل أن‬
‫والواجب تعاىل والعقول ّ‬
‫جيعلوا هذا العلم حصول ًّيا مع استلزامه لتضاعف الصور وخمالفته للوجدان"‪ .‬تعليقة بر رشح منظومة حكمت‬
‫سبزواري‪ ،‬ص‪ .477‬أنظر‪ :‬النراقي‪ ،‬مهدي‪ ،‬جامع األفكار وناقد األنظار‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.190 ،128‬‬
‫فإهنا ملّا كانت صور ًة‬
‫املجردة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬يقول الطباطبائي (هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة‪ ،8:‬الفصل‪ ..." :)7:‬كالنفس اإلنسانيّة‬
‫أخري ًة لنوعها كانت عىل بساطتها مبدء ًا جلميع كامالهتا الثانية التي هي لع ّليتها واجد ٌة هلا يف ذاهتا‪ ،‬وعلمها‬
‫احلضوري بذاهتا علم بتفاصيل كامالهتا وإن مل يتميّز بعضها من بعض"‪.‬‬
‫ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 160‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫العواطف والشهوات ِ‬
‫واإلرادة واألفكار واألحكام‪ ،‬أما إذا حصل له علم بواقع خارجي‬
‫املتنوعة‪ ،‬وهي‬
‫من لون العلم احلصويل فإنه سيكون بوساطة قوة خاصة من قوى النفس ّ‬
‫قوة اخليال التي أعدّ ت صورة لذلك الواقع‪ .‬وبناء عىل هذا ال يكون العلم احلضوري‬
‫متعلق ًا بجهاز خاص من األجهزة النفسية املختلفة‪ ،‬لكن العلم احلصويل متعلق بجهاز‬
‫سمى بجهاز الذهن أو جهاز ِ‬
‫اإلدراك"(‪.)1‬‬ ‫خاص ُي ّ‬
‫ّتر ًدا تا ًّما عن املادة ‪-‬كام يف واجب الوجود والعقول‬
‫جمر ًدا ّ‬
‫فإذا فرضنا موجو ًدا ما‪ّ ،‬‬
‫ثمة جهاز إدراكي ذهـني لـهذا الـموجود‪ ،‬إذ ستكون معارفه ك ّلها‬ ‫املجردة‪ ،-‬فال يكون ّ‬
‫ّ‬
‫حضورية‪ ،‬أي تـحصل بوساطة اال ّتصال الوجودي بني الذات والواقع الـمعلوم‪.‬‬
‫جردة عن الـمـادة ذا ًتا‪،‬‬
‫فالعلم الـحصو ّيل مـختص بذوات األنفس‪ ،‬أي الـجواهر الـ ُم ّ‬
‫الـمتع ّلقة بـها فـي مقام الفعل‪.‬‬
‫املفارقات‪ ،‬بل ذاوت املعاليل‪ ،‬حارضة‬ ‫ِ‬ ‫كام ّ‬
‫أن املعارف احلصول ّية التي يف معاليل‬
‫املجردة هلا معرفة حضورية بذوات‬
‫ّ‬ ‫عند العقول املجردة باملعرفة احلضورية‪ ،‬فالعقول‬
‫معاليلها وعلومها احلصول ّية‪.‬‬
‫منزه ٌة عن العلم احلصويل‪،‬‬ ‫يقول الشيخ جوادي آميل‪ّ " :‬‬
‫إن املجردات العالية‪ّ ...‬‬
‫فإن العلم احلصويل والتصور والتصديق والتفكري املنطقي وترتيب األجناس والفصول‬‫ّ‬
‫خمتصة باملوجود الذي ال يملك إرشاف ًا كام ً‬
‫ال‬ ‫واألنواع وتنظيم املفاهيم واملاهيات‪ّ ...‬‬
‫وإرشاف ٌ‬
‫كامل عىل اخلارج كاملوجود‬ ‫ٌ‬ ‫حمض‬‫ّتر ٌد ٌ‬
‫عىل وجودات األشياء‪ ،‬لك ّن من له ّ‬
‫املجرد‪ّ ،‬‬
‫فإن الواقع مشهود له‪ ،‬وهبذا فهو يعلم باخلارج دون حاجة إىل تصور أو تصديق‪،‬‬
‫فإن أساس العلم احلصويل هو استمداد املفاهيم من املحسوسات املجردة‪ ،‬واملوجود‬ ‫ّ‬
‫الذي ال يصري عامل ًا عن طريق احلس‪ ،‬فال يمكن أن يكون علمه حصول ًّيا"(‪.)2‬‬
‫وّتدر اإلشارة‪ ،‬إىل أنّه رغم كون املعرفة احلضور ّية غري أداتية وبعيدة عن اجلهاز‬
‫اإلدراكي الذهني‪ّ ،‬إال أنّه يتمتع ّ‬
‫بقوة النظر إىل املعارف احلضور ّية‪ ،‬واحلاالت الوجدان ّية‬
‫(‪ )1‬أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .49‬وانظر‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫(‪ )2‬رحيق خمتوم‪ -‬رشح حكمت متعاليه‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ق‪ ،4‬ص‪.362‬‬
‫‪161‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التي يعيشها الفرد يف داخله‪ ،‬فيلتقط صورة عن ح ّبه هلل تعاىل‪ ،‬فتنطبع تلك الصورة يف‬
‫احلب ذاته‪ ،‬بل مفهوم عنه‪ ،‬وهو مغاير لواقع‬
‫الذهن‪ ،‬بنحو ال تكون الصورة هي واقع ّ‬
‫ٍ‬
‫وكشف‬ ‫ٍ‬
‫حكاية‬ ‫احلب كشعور ت ّتحد به النفس البرشية‪ .‬نعم‪ ،‬تكون هلذه الصورة قو ُة‬
‫ّ‬
‫ثمة علم حصويل‬ ‫عن واقع احلب‪ ،‬وهنا نحصل عىل ثنائية الصورة‪ /‬الواقع‪ ،‬فيكون ّ‬
‫كاحلب‪...‬‬
‫ّ‬ ‫لإلنسان بحالته النفس ّية‬
‫إن معرفتي بحبي هلل احلاصلة بوساطة صورة عنه‪ ،‬ليست هي احلب ذاته ّأو ًال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وصورته متحدة مع املرتبة الذهن ّية للنفس ثان ًيا‪ ،‬وتعلم النفس باحلب بوساطتها ثال ًثا‪،‬‬
‫أن الذي نعينه بالعلم احلضوري باحلب‪ ،‬هو‬‫لكنه علم حصويل للنفس باحلب‪ ،‬يف حني ّ‬
‫شعور النفس باحلب باال ّتصال الوجودي به ّ‬
‫واحتاده معها‪ ،‬بنحو يمكّنها من املعرفة‬
‫توسط صورة ذهنية عنه‪.‬‬
‫باحلب مبارشة دون ّ‬
‫كثريا ما يقع اخللط بني العلم احلصويل والعلم احلضوري‪ّ ،‬‬
‫فإن انطباع صورة‬ ‫هنا‪ً ،‬‬
‫ذهنية عن حاالت نفسية خاصة‪ ،‬ثم صياغتها بوساطة التعبري اللغوي يف شكل قضية‬
‫أحب)‪،‬‬
‫منطقية وجدان ّية شخص ّية وخمصوصة‪ ،‬بحيث يقول اإلنسان‪( :‬أنا أفكر)‪ ،‬أو (أنا ّ‬
‫ألهنا صورة عن الواقع دون الواقع ذاته‪ ،‬أما‬
‫أو (أنا عطشان)‪ ...‬هي معارف حصول ّية؛ ّ‬
‫ذات واقعية التفكري‪ ،‬أو واقع احلب‪ ،‬أو الشعور بالعطش‪ ...‬فهي متّحدة بالنفس مبارشة‪،‬‬
‫وهو معنى العلم احلضوري‪.‬‬
‫فاخللط يقع بني جمالني‪:‬‬
‫األول‪ :‬املعرفة احلضورية بام هي هي يف ذاهتا‪.‬‬
‫والثان‪ :‬املعرفة احلضورية بلحاظ كوهنا متعلق ًا للمعرفة احلصول ّية‪.‬‬
‫إن معرفة الصورة الذهنية أو اإلحساس‬ ‫عندما يقول فالسفة احلكمة املتعالية‪ّ :‬‬
‫باحلب من أقسام املعرفة احلضورية‪ ،‬فذلك بلحاظ حضور واقع هذه احلاالت يف النفس‬
‫ّ‬
‫البرشية‪ ،‬بغض النظر عن حصول مفهومها يف الذهن‪ ،‬فحتى مع الغفلة احلصول ّية‪ ،‬وعدم‬
‫االلتفات الذهني إليها كام يف حال النوم‪ ،‬تبقى هلا واقع ّية يف النفس البرش ّية‪ ،‬وهذا‬
‫احلضور الواقعي هلا يف النفس هو معنى املعرفة احلضورية هبا؛ ّ‬
‫ألن واقعية اليشء‪ ،‬والعلم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 162‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫باحلب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫واحدة يف املعرفة احلضورية‪ ،‬فليست جهة واقعية الشعور‬ ‫ٍ‬
‫حقيقة‬ ‫به تعبريان عن‬
‫ّ‬
‫وجهة معلوميته للنفس متغايرتان‪ ،‬بل مها يش ٌء واحدٌ ‪ ،‬واالختالف بينهام يف االعتبار‬
‫الذهني واللحاظ العقيل كام تقدّ م‪ ،‬فالنائم يعيش الشعور باخلوف ممّا قد يطارده يف‬
‫يوجه التفاته إليه‪ ،‬وعدم توجيه االلتفات هو غفلة حصول ّية‪،‬‬
‫أحالمه من رعب‪ ،‬ولك ّنه ال ّ‬
‫ولكن هذا ال يعني أنّه ال يمتلك معرف ًة حضوري ًة عن حالته النفسية‪ ،‬فالشعور باخلوف‬
‫قائم يف النفس البرشية حال األحالم املرعبة‪ ،‬وهذا احلضور للخوف يف النفس البرشية‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫هو املعرفة احلضورية‪ ،‬أما االلتفات إىل اخلوف بحصول صورة عنه يف الذهن‪ ،‬فهو معرفة‬
‫حصول ّية باخلوف‪ ،‬أي معرفة حصول ّية باملعرفة احلضور ّية‪.‬‬
‫وعليه‪ّ ،‬‬
‫فإن النفس قد تنتزع صور ًة عن ذاهتا‪ ،‬أو عن كامالهتا الثانوية‪ ،‬فيحصل هلا‬
‫العلم بتلك الصورة‪ ،‬فيكون هذا اللون من العلم معرف ًة حصولي ًة باملعرفة احلضورية؛‬
‫فأي تصور عن واقع ّي ٍة ما‪ ،‬هو معرف ٌة‬
‫ألن األخرية خارج ٌة عن دائرة الصور الذهن ّية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫حصولي ٌة ال حضورية‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل الوجدانيات يف املنطق‪ ،‬فهي بعنوان كوهنا قضايا‪ ،‬تكون من‬
‫أقسام التصديق‪ ،‬أي املعرفة احلصول ّية البدهيية‪ ،‬وإن كان مطابقها وما حتكي عنه هو‬
‫معرفة حضورية‪.‬‬
‫فاملعارف احلضورية‪ ،‬تكون متعل ًقا وموضوع ًا للمعرفة احلصول ّية‪ ،‬بحيث تلتقط‬
‫بحواسها الباطنة وجهازها اإلدراكي الذهني صور ًة عن هذه احلاالت النفسية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النفس‬
‫ويمتلك اجلهاز اإلدراكي الذهني هذه القدرة عىل النظر إىل احلاالت النفسية بوصفها‬
‫موضوعا‪ ،‬وأخذ صورة أو مفهو ًما عنها‪ ،‬وحتليلها وتفسريها مفاهيم ًّيا‪ ،‬كأن يشعر اإلنسان‬
‫ً‬
‫وخيزهنا‪ ،‬ويستعيدها‪،‬‬
‫بالفرح‪ ،‬فيقوم الذهن بالتقاط صورة عن هذه احلالة النفسية‪ّ ،‬‬
‫ويربطها بمفاهيم أخرى‪.‬‬
‫موضحا ذلك مفص ًال‪" :‬علم ّ‬
‫كل إنسان بذاته وبحاالته‬ ‫ًّ‬ ‫يقول الشيخ مرتىض مطهري‬
‫النفسية عىل شكلني‪:‬‬
‫َأحدمها‪ :‬هو ذلك ِ‬
‫اإلدراك االبتدائي الذي يتمتع به كل شخص منذ أول تكونه‬
‫‪163‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وحدوثه‪ ،‬فهو ليس خمف ًّيا عن نفسه‪ ،‬وكذا حاالته النفس ّية فهي ليست خمف ّية عن ذاهتا‪،‬‬
‫وهو يدرك هذه مجي ًعا من دون وساطة الصور الذهن ّية‪.‬‬
‫صور األشياء‬ ‫ألن قوته املُ ِ‬
‫دركة ُت ّ‬ ‫والثان‪ :‬تلك الصور التي تظهر له تدرجي ًّيا‪ ،‬وذلك ّ‬
‫اخلارجية وبعد مدة ترتاكم فيها صور األشياء‪ ،‬القادمة عن طريق احلواس فتنضج قوته‬
‫املدركة‪ ،‬وتنعطف نحو عامله الباطني‪ ،‬وتعدّ صور ًا لنفسه وحاالته النفسية ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫فيصبح عاملِ ًا هبا بالعلم احلصويل‪.‬‬
‫إذن ينبغي لنا أن نم ّيز تصور (األنا)‪ ،‬وتصور اللذة واحلزن ِ‬
‫واإلرادة التي هي من‬
‫ألوان العلم احلصويل‪ ،‬من ذات (األنا)‪ ،‬ونفس اللذة واحلزن ِ‬
‫واإلرادة‪ ،‬التي هي من‬
‫ألوان العلم احلضوري"(‪.)1‬‬
‫يرصح به بعض الفالسفة كالفخر الرازي والشهيد مطهري وغريمها(‪،)2‬‬
‫وعليه‪ ،‬فام ّ‬
‫تعبريا عن املعرفة احلضور ّية للنفس بذاهتا‪،‬‬
‫من كون االعتقاد بوجود األنا أمر بدهيي‪ ،‬ليس ً‬
‫بل هو تعبري عن مرتبة املعرفة احلصول ّية للمعرفة احلضور ّية للنفس بذاهتا؛ ّ‬
‫ألن املعرفة‬
‫بأهنا بدهي ّية أو نظر ّية بلحاظ الفقر والغنى بالنسبة للدليل‪.‬‬
‫احلصول ّية هي التي تتصف ّ‬

‫إشكاليّة تعدد املفاهيم ووحدة املصداق‬


‫ثمة إشكال ّية قد تطرح فـي السياق‪ ،‬وهي ّ‬
‫أن هذه الـمفاهيم الـمتعدّ دة (علم‪،‬‬ ‫تبقى ّ‬
‫يؤرش إىل تعدّ د‬
‫فإن تعدد املفاهيم ّ‬‫عامل‪ ،‬معلوم) من أين تتو ّلد يف املعرفة احلضورية؟ ّ‬
‫املصاديق؟!‬
‫واجلواب‪ّ ،‬‬
‫أن هذه املفاهيم املتعدِّ دة سواء أكانت عىل نحو االثنينية‪ ،‬أم الثالث ّية‪ ،‬أم‬
‫(‪ )1‬أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.51-50‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الفخر الرازي‪ ،‬الـمباحث الـمرشقية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .414‬يقول‪" :‬اعلم أنّا قد بيّنا أن نفس اإلنسان هي ذاته‬
‫أمر واحدٌ ال أمور كثرية‪ .‬وباجلملة فعلم اإلنسان‬ ‫وحقيقته‪ ،‬وكل عاقل يعلم ببداهة عقله‪ّ ،‬‬
‫أن ذاته وحقيقته ٌ‬
‫جيل‪ ،‬فكيف يكون ذلك مطلوب ًا بالربهان؟"‪ .‬ومطهري‪ ،‬أسس الفلسفة‪ ،‬ج‪،2‬‬‫بوجوده ووحدته علم بدهيى ّ‬
‫لكل شخص‪ّ ... ،‬‬
‫فكل‬ ‫كل إنسان بوجوده‪ ،‬إنّمـا هو بديـهـي ّ‬
‫إن الوعي بالذات‪ ،‬وهو معرفة ّ‬
‫ص‪ .54‬يقول‪ّ " :‬‬
‫إنسان يدرك بالرضورة (إ ّنـي موجود)‪ ... ،‬وليست بحاجة إلـى االستدالل‪ ،‬وقد رصف العلمـاء استدالهلم إلـى‬
‫حقيقة هذه (األنا) وليس إىل بني أصل وجودها ألن وجود (األنا) أمر بديـهي"‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 164‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أكثر‪ ،‬هي ليست بلحاظ املعرفة احلضور ّية يف ذاهتا‪ ،‬وإنّام بلحاظ النشاط العقيل التحلييل‬
‫ٍ‬
‫واحدة بسيطة‪ ،‬وتعدّ د املفاهيم ال يالزمه‬ ‫ٍ‬
‫واقعية‬ ‫يف قدرته عىل انتزاع مفاهيم متعدّ دة من‬
‫املترصفة القادرة عىل‬
‫ّ‬ ‫منطق ًّيا تعدّ د املصاديق‪ ،‬فإذا تع ّقل اإلنسان واقع ّي ًة ما‪ ،‬يستطع بقوة‬
‫التحليل والتجزئة والتفكيك‪ ،‬أن ينتزع مفاهيم عدّ ة‪ ،‬ولنفرتضها ثالثة‪ ،‬املفهوم األول‪:‬‬
‫العاقل أو العاِمل‪ ،‬والثاين‪ :‬العلم أو العقل‪ ،‬والثالث‪ :‬املعلوم أو املعقول‪.‬‬
‫ِ‬
‫وخيضعها للترشيح عىل‬‫وهنا‪ ،‬يتّخذ العقل املعرفة احلضورية موضو ًعا للدراسة‪ُ ،‬‬
‫بساط البحث‪ ،‬فينظر إىل الواقعية البسيطة الواحدة من زوايا نظ ٍر خمتلفة‪ ،‬فينتزع بلحاظ‬
‫مصطلحا‪ ،‬وهذا النشاط العقيل ال خيتص‬
‫ً‬ ‫خاصا‪ ،‬يضع مقابله‬ ‫كل زاوية ٍ‬
‫نظر مفهوم ًا ً‬ ‫ّ‬
‫باملوجودات املمكنة‪ ،‬بل حتى ذات واجب الوجود وخصائصه وصفاته‪ ،‬يتعامل معها‬
‫اجلهاز اإلدراكي هبذه اآللية واملنهج ّية(‪.)1‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬تكون االثنين ّية أو الثالث ّية املفاهيمية وليدة النشاط الذهني فال تكشف‬
‫عن تعدّ د يف الواقعية ذاهتا‪ .‬أما يف الواقع فقد تكون عىل نحو الوحدة والعينية كام يف‬
‫علم النفس بذاهتا‪ ،‬أو عىل نحو االحتاد كام يف علم النفس بحاالهتا النفس ّية‪ ،‬وصورها‬
‫الذهن ّية‪.‬‬
‫فهذه املفاهيم بالنظر إليها كصور قائمة يف عامل الذهن‪ ،‬هي ذوات مستقلة عن‬
‫بعضها البعض‪ ،‬بمعنى ّأهنا متباينة ذا ًتا يف عامل الذهن‪ ،‬فال عينية بينها وال ٍ‬
‫تساو‪ ،‬فيصح‬
‫ألن ما ُيفهم من معنى من أحدها‬ ‫سلب ّ‬
‫كل مفهوم منها عن اآلخر بلحاظ املفهومية؛ ّ‬
‫ِ‬
‫والعامل غري املعلوم‪ ،‬واملعلوم‬ ‫غري ما يفهم من اآلخر‪ ،‬فمفهوم العلم غري مفهوم ِ‬
‫العامل‪،‬‬
‫الكيل بني املفاهيم‪ّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫ّ‬ ‫غري العلم‪ ،‬إذ من خصائص عامل الذهن التباين الذايت‪ ،‬والتغاير‬
‫ثمة اشرتاك بني مفهوم وآخر‬
‫مفهوم هو مباين املعنى ومغاير للمفهوم اآلخر‪ ،‬فإن كان ّ‬
‫فهو ليس بلحاظ ذاتيهام يف عامل الذهن‪ ،‬بل بالنظر إىل التصادق اخلارجي للمفهومني‪،‬‬
‫أو الثالثة يف مصداق واحد‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬إذا نظرنا إىل مفهوم ِ‬
‫العامل بام هو مفهوم‪ ،‬فهو يغاير مفهوم العلم؛ إذ العامل‬ ‫ً‬
‫(‪ )1‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.234‬‬
‫‪165‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ناظر‬
‫ذات ثبت هلا صفة العلم‪ ،‬أما العلم فهو الصفة عينها‪ ،‬ولكن التباين املعنائي بينهام ٌ‬
‫إىل عامل املفهومية‪ ،‬وإال بالنظر إىل عامل املصداق تكون النسبة أحد أربع‪ :‬التباين‪،‬‬
‫التساوي‪ ،‬العموم املطلق‪ ،‬العموم من وجه‪.‬‬
‫عامل وهو علم وهو معلوم بنحو العينية‪ ،‬فعلمه‬ ‫واملثال الواضح‪ ،‬واجب الوجود‪ ،‬فهو ِ‬
‫عني ذاته‪ ،‬وعلمه عني معلوميته‪ ،‬ومعلوميته عني عامليته‪ ،‬فهو علم ك ّله‪ ،‬بل قدرة ك ّله‪ ،‬حياة‬
‫كل جهة‪ ،‬وصدق هذه‬ ‫بسيطة من ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حقيقة واحد ٌة‬ ‫ك ّله؛ ففي اخلارج ال تعدّ د وال تك ّثر‪ ،‬بل‬
‫املفاهيم عىل الواجب هو بالتساوي من حيث الصدق وحيثية الصدق أيض ًا‪ .‬واملقصود‬
‫ِ‬ ‫واحد‪ ،‬فهو مالك الصدق‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فمثال اإلنسان عامل ٌ‬ ‫مصداق‬ ‫بحيثية الصدق‪ ،‬ليس التواجد يف‬
‫لكن علم اإلنسان غري‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وقادر‪ ،‬والعاملِ ّية والقادر ّية ت ّتحدان يف‬
‫خارجا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫واحد‬ ‫مصداق‬ ‫ٌ‬
‫قدرته‪ ،‬فهنا اختلفت حيثية الصدق‪ ،‬فهو ليس عامل ًا من حيث هو قادر‪ ،‬بل من حيثيتني‬
‫عامل ٌ من حيث هو قادر‪ ،‬وقادر من حيث‬ ‫خمتلفتني‪ .‬أما يف واجب الوجود يف اخلارج فهو ِ‬
‫ّ‬
‫عامل‪ ،‬وإال لو اختلفت احليثيات يف اخلارج للزم الرتكيب يف الذات؛ ّ‬
‫ألن التح ّيث إن‬ ‫هو ِ‬
‫ٍ‬
‫وتغاير‪ ،‬واثنين ّية بني احليثيات‪ ،‬إال أن يفرض‬ ‫كان واقع ًّيا كيفام فرض يستلزم جهة تباي ٍن‬
‫حت ّي ًثا اعتبار ًّيا بلحاظ عامل الذهن‪ ،‬والتحليل العقيل‪.‬‬
‫وهكذا علم النفس بذاهتا‪ ،‬هناك عين ّية ّ‬
‫واحتاد بني املفاهيم الثالثة‪ :‬علم‪ ،‬عامل‪،‬‬
‫ومعلوم‪ ،‬يف الصدق وحيثية الصدق‪ ،‬أما يف علم النفس بحاالهتا وصورها فيمكن فرض‬
‫االثنينية بالتحيث الواقعي‪ ،‬مع االحتاد يف الصدق‪ .‬وليس االختالف‪ ،‬بني ِ‬
‫العامل والعلم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملعلوم يف املعرفة احلضور ّية إال حيثيات حتليلية يضطر العقل العتامهلا وصناعتها يف‬
‫ضوء قانون تكويني ذهني‪ ،‬ولذا اشتهر‪" :‬لوال احليثيات لبطلت احلكمة"(‪.)1‬‬
‫ويف هذه النقطة‪ ،‬تتم ّيز أيض ًا املعرفة احلضورية عن املعرفة احلصول ّية‪ ،‬حيث التعدّ د‬
‫الوجودي بني العلم‪ ،‬واملعلوم بالعرض‪.‬‬

‫(‪ )1‬الـخميني‪ ،‬روح اهلل‪ ،‬مصباح اهلداية إلـى اخلالفة والوالية‪ ،‬تـحقيق جالل الدين آشتيانـي‪ ،‬مؤسسة تنظيم ونرش آثار‬
‫اإلمام الـخميني‪1392 ،‬هـ‪ .‬ش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .35‬ومري داماد‪ ،‬حممد بن حممد‪ ،‬كتاب القبسات‪ ،‬باهتمـام مهدي حمقق‪،‬‬
‫‪1367‬هـ‪.‬ش‪ ،‬ص‪.351‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 166‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن جوهر النفس هو علمها بذاهتا ‪-‬بل هذه قاعدة كربوية كل ّية‪،‬‬ ‫واخلالصة‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫عامل بذاته حضور ّي ًا‪ -‬فهي ُم ِ‬ ‫جوهر ٍ‬
‫درك (اسم فاعل) و ُمدرك‬ ‫جمرد هو ٌ‬ ‫ٍ ّ‬ ‫مفادها‪ّ :‬‬
‫كل‬
‫دركيتها و ُمدركيتها واقعية واحدة‪ ،‬وليست ثمة ثنائية يف اخلارج بني‬ ‫(اسم مفعول) و ُم ِ‬
‫علم النفس بذاهتا‪ ،‬وواقعية ذاهتا‪ ،‬فعلمها بذاهتا هو عني واقعيتها وإن ّيتها‪ .‬وعليه يمكن‬
‫إن غفلة اإلنسان عن ذاته معرف ًّيا [باملعرفة الشهودية] يساوق عدمها وجود ًّيا‪،‬‬‫القول‪ّ :‬‬
‫وهذه قاعدة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بنحو تكون فيه يف عني ّأهنا واقع ّي ٌة‬ ‫فاهلل سبحانه وتعاىل قد هندس النفس البرشية‬
‫كل القوى‪ ،‬والذهن البرشي واقع ّية‬ ‫واحد ٌة بسيطة‪ ،‬هلا قوى متعدّ دة‪ ،‬فالنفس يف وحدهتا ّ‬
‫واحدة مشكّكة هلا مراتب متعدّ دة‪ ،‬ولبعض املراتب نظارة عىل البعض اآلخر‪.‬‬
‫تسمى‬
‫إىل ذلك يقول الشيخ مصباح اليزدي‪" :‬هناك مرتبة من وجود النفس ّ‬
‫الذهن‪ ،‬تعترب ظرف ًا للعلوم احلصول ّية‪ ،‬وهي بنفسها هلا مراتب وشؤون خمتلفة‪ ،‬ولبعض‬
‫إرشاف عىل املراتب األخرى‪ ،‬بشكل يصبح فيه للمرتبة األخفض حكم اخلارج‬
‫ٌ‬ ‫مراتبها‬
‫بالنسبة للذهن فيتعلق هبا علم آخر"(‪)1‬؛ فمث ً‬
‫ال ثمة مرتبة من الذهن حترض فيها ماهية‬
‫نعرفها بـ‪( :‬حيوان ناطق)‪ ،‬دون أن يكون‬ ‫الكيل الطبيعي‪ ،‬التي ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان بام هي هي أي‬
‫مأخو ًذا فيها أي قيد أو رشط زائد عىل ذاهتا وذاتياهتا كالكل ّية أو اجلزئية ً‬
‫مثال‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ثمة مرتبة ثانية فـي الذهن‪ ،‬لـها النظارة عىل الـمرتبة األوىل‪ ،‬فتنظر إلـى ماهية‬
‫ثم ّ‬
‫اإلنسان احلارضة يف الطابق الواقع أسفل منها يف البناء الذهني‪ ،‬وتقوم بدراستها وحتليلها‬
‫ومقارنتها‪ ،...‬فتجد ّأهنا متلك صالح ّية احلمل عىل كثري من األفراد اخلارجية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫(حمـمد إنسـان)‪ ،‬و(عـيل إنسـان)‪ ،‬و(فاطمـة إنسـان)‪ .‬فتـصف اإلنسـان ‪-‬الكيل الطبيعي‪:‬‬
‫حيوان ناطق‪ -‬بوصف الكل ّية ‪-‬الكيل املنطقي‪ :‬ما ال يمتنع فرض صدقه عىل كثري‪ ،‬فتحليل‬
‫متحرك‬
‫حساس ّ‬ ‫ماهية اإلنسان إىل عنارصها األول ّية جيعلنا نعثر عىل أنّه‪ :‬جوه ٍر جس ٍم نام ّ‬
‫باإلرادة ناطق‪ ،‬وإذا استبطناه أكثر وأعمق لن نحصل عىل مفهوم الكل ّية كمحمول‬
‫حتلييل ملوضوع إنسان‪ ،‬فالكلية املنطقية وصف عارض ملاهية اإلنسان يف الذهن دون‬
‫(‪ )1‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.233‬‬
‫‪167‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أن حيمل عىل أفرادها اخلارجية‪ ،‬ومن هنا قيل‪ّ :‬‬


‫إن املعقول املنطقي ما يكون االتصاف‬
‫أن عروض املحمول عىل املوضوع يف الذهن‪ ،‬كام ّ‬
‫أن‬ ‫والعروض كالمها ذهني‪ ،‬أي ّ‬
‫اتصاف املوضوع باملحمول يف الذهن أيض ًا‪.‬‬
‫وعىل حدّ تعبري املال هادي السبزواري‪:‬‬
‫قلك فالـمعقول بالثانـي ِصف‬ ‫إن كان االتِّصاف كال ُعروض فـي‬
‫ْ‬
‫فالـمعقوالت الثانية الـمنطقية ال تقع أوصا ًفا لألعيان اخلارجية‪ ،‬فاملتصف هبا هي‬
‫املاهيات ال بلحاظ وجودها اخلارجي‪ ،‬بل بام هي قائمة يف عامل الوجود الذهني‪ ،‬فاإلنسان‬
‫فمتشخص الوجود جزئي فلسفي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كيل‪ ،‬أما اإلنسان اخلارجي‬
‫الذهني ٌّ‬
‫هذا بخالف معقول الناطق ّية مثالً‪ ،‬حيث إنّه مفهو ٌم حتلييل ملاهية اإلنسان‪ ،‬مأخوذ‬
‫يف ذاهتا عىل نحو العنرص الذايت اخلاص املُم ِّيز‪ ،‬أي الفصل‪ ،‬فإنّه كام حيمل عىل ماهية‬
‫أيضا بالرساية عىل أفراد اإلنسان يف‬
‫ككيل طبيعي (اإلنسان ناطق)‪ ،‬حيمل ً‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬
‫اخلارج‪( ،‬حممد إنسان)‪ ،‬و(عيل إنسان)‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إنسان ناطق‪،‬‬ ‫يصح يف املقام تشكيل قيا ٍ‬
‫س منطقي‪ :‬حممدٌ إنسان‪ ،‬وكل‬ ‫ومن هنا‬
‫ّ‬
‫فمحمدٌ ناطق‪.‬‬
‫يصح تشكيل قياس ٍمنطقي كذلك‪ ،‬فال يصح‪:‬‬ ‫لكن يف القضايا من اللون األول ال ّ‬
‫ً‬
‫حمموال يف القض ّية‬ ‫ألن اإلنسان ّية املأخوذة‬ ‫ٍ‬
‫إنسان نوع‪ ،‬فمحمدٌ نوع؛ ّ‬ ‫حممدٌ إنسان‪ ،‬وكل‬
‫األوىل ليست مشرتكة املعنى مع اإلنسان ّية املأخوذة موضوع ًا يف القضية الثانية‪ ،‬فلم‬
‫تشرتك القضيتان يف احلدّ األوسط‪ ،‬فال ينتج القياس ويكون عق ًيام‪ ،‬فال يوصف حممد أو‬
‫خاص باإلنسان بوصفه موضو ًعا قائ ًام يف الذهن‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫وصف‬
‫ٌ‬ ‫كيل منطقي‪ ،‬فالكلية‬‫عيل بأ ّنه ّ‬
‫خاص باإلنسان الذهني دون أن تكون هذه املحموالت‬
‫وصف ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫وكذلك النوعية املنطقية‬
‫العارضة لإلنسان الذهني قابل ًة للحمل عىل أفراده يف اخلارج‪ ،‬ويصطلح عىل هذه‬
‫املحموالت واملفاهيم‪ ،‬مثل‪ :‬الكلية‪ ،‬النوعية‪ ،‬اجلنس ّية‪ ،‬الفصل ّية‪ ،‬باملعقوالت الثانية‬
‫املنطقية‪ ،‬وهي موضوع علم املنطق عىل أحد الرأيني‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 168‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫مناط املعرفة الحضورية ومالك مت ّيزها عن الحصول ّية‬


‫ثمة كال ٌم ق ّي ٌم للمريزا مهدي األشتياين يكفينا مؤونة البحث عن املسألة‪ ،‬ننقله‬
‫ّ‬
‫بنصه‪" :‬مناط كون العلم حضور ًّيا‪ ،‬ومالكه‪ ،‬عدة أمور‪:‬‬
‫ّ‬
‫ذات ِ‬
‫املدرك‪ ،‬أو قواه اإلدراك ّية‪.‬‬ ‫منها‪ :‬عدم احتياجه إىل الصور اإلدراكية احلاصلة يف ِ‬
‫ّ‬
‫والثاين‪ :‬أن يكون الوجود اخلارجي‪ ،‬والكون النفس األمري‪ ،‬عني الوجود اإلدراكي‪.‬‬
‫والثالث‪ّ :‬أال يتحقق هنا أمران‪ :‬أحدمها معلوم بالذات واآلخر معلوم بالعرض‪،‬‬
‫بل يكون عني وجوده النفيس العيني معلو ًما بالذات‪.‬‬
‫والرابع‪ّ :‬أال حيتاج املُ ِ‬
‫درك إىل ّتريد املُدرك عن الغوايش املادية‪ ،‬بل وال حيتاج إىل‬
‫عمل‪ ،‬ونزع صورة‪ ،‬وّتريد مدرك ً‬
‫أصال‪.‬‬
‫واخلامس‪ :‬أن يتّحد ا ُمل ِ‬
‫درك مع املدرك‪ ،‬احتاد األصل مع الفرع أو بالعكس‪ ،‬أو احتاد‬
‫اليشء مع نفسه‪.‬‬
‫السادس‪ّ :‬أال يمكن أن يغيب املدرك عن ِ‬
‫املدرك‪.‬‬
‫السابع‪ :‬عدم إمكان اتصافه بالتصور والتصديق‪.‬‬
‫والثامن‪ :‬عدم اتصافه باحلدّ والرسم‪.‬‬
‫والتاسع‪ :‬قبوله للشدة والضعف‪.‬‬
‫والعارش‪ :‬عدم اتصافه باإلمجال بمعن اإلهبام إىل غري ذلك‪ ،‬مما ذكر يف حم ّله"(‪.)1‬‬
‫الـمعرفة التي تشكّل موضوع ًا للدرس املنطقي هي خصوص الـمعرفة احلصول ّية‪،‬‬
‫أما املعرفة احلضورية بام هي فال تقع موضوع ًا للمعرفة املنطقية‪.‬‬
‫يقول الشيخ حممد رضا املظفر‪" :‬املبحوث عنه هنا [يف علم املنطق]‪ ،‬هو العلم‬
‫املعرب عنه يف لسان الفالسفة ب ـ(العلم احلصويل)‪.‬‬
‫أما (العلم احلضوري) ‪-‬كعلم النفس بذاهتا وبصفاهتا القائمة بذاهتا وبأفعاهلا‬
‫وأحكامها وأحاديثها النفس ّية‪ ،‬وكعلم اهلل تعاىل بنفسه وبمخلوقاته‪ -‬فال تدخل فيه‬
‫(‪ )1‬األشتياين‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.479‬‬
‫‪169‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫األبحاث اآلتية يف الكتاب‪ ،‬ألنه ليس حصوله للعامل بارتسام صورة املعلوم يف نفسه‪،‬‬
‫بل بحضور نفس املعلوم بوجوده اخلارجي العيني للعامل‪ّ ،‬‬
‫فإن الواحد منّا جيد من نفسه‬
‫حق اإلدراك‪ ،‬ولكن ال بانتقاش صورها‪ ،‬وإنّام اليشء‬
‫أنّه يعلم بنفسه وشؤوهنا ويدركها ّ‬
‫دائام بنفس وجوده‪ ،‬وكذا املخلوقات حارضة خلالقها بنفس‬
‫املوجود هو حارض لذاته ً‬
‫وجودها‪.‬‬
‫فيكون الفرق بني احلصويل واحلضوري‪:‬‬
‫‪ّ .1‬‬
‫إن احلصويل هو حضور صورة املعلوم لدى العامل‪ ،‬واحلضوري هو حضور املعلوم‬
‫نفسه لدى العامل‪.‬‬
‫‪ّ .2‬‬
‫إن املعلوم بالعلم احلصويل وجوده العلمي غري وجوده العيني وإن املعلوم بالعلم‬
‫احلضوري وجوده العلمي عني وجوده العيني‪.‬‬
‫‪ّ .3‬‬
‫إن احلصويل هو الذي ينقسم إىل التصور والتصديق‪ ،‬واحلضوري ال ينقسم إىل‬
‫التصور والتصديق‪.‬‬
‫ويضيف الشيخ غالم رضا الفيايض يف تعليقته‪ ..." :‬والفرق الرابع‪ّ :‬‬
‫أن العلم‬
‫احلصويل يقبل اخلطأ‪ ،‬والعلم احلضوري ال يقبل اخلطأ"(‪.)1‬‬

‫فوارق أ ّوليّة بي املعرفتي الحضوريّة والحصول ّية‬


‫املعرفة الحضوريّة‬ ‫املعرفة الحصول ّية‬ ‫الرقم‬
‫حضور واقع املعلوم‬ ‫حصول صورة املعلوم‬ ‫‪1‬‬
‫املعلوم بالذات واقعية خارجية‬ ‫املعلوم بالذات صورة ذهنية‬ ‫‪2‬‬
‫الوجود العلمي لليشء عني وجوده العيني‬ ‫الوجود العلمي لليش غري وجوده العيني‬ ‫‪3‬‬
‫عينية أو اتحاد بني عالِم‪ /‬معلوم‬ ‫اثنينية عالِم‪/‬معلوم‬ ‫‪4‬‬
‫ال يقبل الخطأ‬ ‫‪ 5‬يتصف بالصدق أو الكذب (إمكانيّة الخطأ)‬
‫غري قابل للنسيان‬ ‫قابل للنسيان‬ ‫‪6‬‬
‫‪‬‬ ‫ينقسم إىل تص ّور وتصديق‬ ‫‪7‬‬

‫(‪ )1‬املظفر‪ ،‬حممد رضا‪ ،‬املنطق‪ ،‬تعليق غالم رضا الفيايض‪ ،‬مؤسسة النرش التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة‪ ،‬ص‪،10‬‬
‫احلاشية رقم (‪.)1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 170‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫‪‬‬ ‫ينقسم إىل مفاهيم وقضايا‬ ‫‪8‬‬


‫‪‬‬ ‫بديهي ونظر ّي‬
‫ّ‬ ‫ينقسم إىل‬ ‫‪9‬‬
‫‪‬‬ ‫ئ‬
‫ل وجز ّ‬ ‫ينقسم إىل كُ ّ ّ‬ ‫‪10‬‬
‫‪‬‬ ‫يجري فيه التعريف من حدود ورسوم‬ ‫‪11‬‬
‫‪‬‬ ‫فيه انتزاع وتعميم‪..‬‬ ‫‪12‬‬
‫ال ميكن االستدالل عليها‬ ‫ميكن االستدالل والربهنة عليها‬ ‫‪13‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫قواعد منطق ّية حاكمة‬ ‫‪14‬‬
‫ال مكان للقواعد املنطقية‬
‫االتصال الوجودي بواقع اليشء‬ ‫يحصل بجهاز إدرايك خاص وأداة وآلة‬ ‫‪15‬‬
‫‪‬‬ ‫التصف يف املعطيات حسب الرغبة‬ ‫ّ‬ ‫قدرة‬ ‫‪16‬‬
‫مشكّك قابل للشدة والضعف والكامل والنقص‬ ‫متواطئ غري قابل للش ّدة والضعف‬ ‫‪17‬‬
‫معرفة مبارشة ليشء حاض‬ ‫معرفة من وراء حجاب ليشء غائب‬ ‫‪18‬‬
‫الوضوح والظهور‬ ‫قابلية الغموض واإلبهام‬ ‫‪19‬‬

‫املفِّسة لوقوع الخطأ ف املعارف الحضورية‬


‫النظريات ِّ‬
‫عرفنا اخلطأ بأنّه خمالفة الصورة للواقع‪ ،‬فإنّه يلزم منه أن يكون العلم باليشء‬
‫إذا ّ‬
‫مغايرا لواقعيته‪ ،‬وبالتايل يكون هناك اثنينية‪ :‬علم‪ /‬واقع‪ ،‬وهنا ينفتح باب اخلطأ يف‬
‫ً‬
‫املعرفة يف صورة عدم اإلصابة‪ .‬أما إذا افرتضنا ّ‬
‫أن العلم باليشء هو واقعيته ذاهتا‪،‬‬
‫أن املعرفة ليست بواسطة صورة بل باال ّتصال الوجودي ِ‬
‫املبارش بواقعية اليشء‬ ‫بمعنى ّ‬
‫ثمة جمال للخطأ يف‬
‫عينه‪ ،‬فال يمكن افرتاض االثنين ّية بني املعرفة‪ /‬الواقع‪ ،‬فال يكون ّ‬
‫ألهنا عني الواقع‪ ،‬وال جمال للخطأ والتناقض يف الواقع ذاته‪.‬‬
‫املعرفة احلضور ّية؛ ّ‬
‫مهم بني املعرفتني احلصول ّية واحلضورية من حيث بحث‬
‫يتبني فارق منهجي ّ‬
‫وهبذا ّ‬
‫قيمة املعرفة‪ ،‬فاملعرفة احلضورية‪ ،‬لكوهنا ال تنطوي عىل ثنائية معلوم بالذات‪ /‬معلوم‬
‫أن ّ‬
‫كل معرفة‬ ‫بالعرض‪ ،‬ال ينفتح باب البحث عن اخلطأ فيها بالذات‪ ،‬إذ ُيفرتض حينها ّ‬
‫حضورية هي صادقة من حيث كوهنا معرفة حضورية [قيد‪ :‬بالذات‪ ،‬ومن حيث هي‬
‫معرفة حضور ّية]‪ ،‬احرتازي عن وقوع اخلطأ فيها بالعرض بتحويلها إىل معرفة حصول ّية‬
‫بواسطة الوجود املفهومي والوجود اللفظي‪ ،‬والذي قد يوقع يف اشتباهات كثرية ‪-‬كام‬

‫(‪ )1‬احلكمة املتعالية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،396‬حاشية الطباطبائي (‪.)1‬‬


‫‪171‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫إدراك ال يقبل‬ ‫سيأيت بحثه‪ ،-‬فمعرفة اإلنسان بصورته الذهنية وحاالته النفس ّية نحو‬
‫الشك‪ ،‬حتى من قبل السوفسطائيني الذين أنكروا أو شككوا يف ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬لكنّهم مل‬ ‫ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬‫يشكّوا يف علم اإلنسان بذاته‪ ،‬بلحاظ كونه معيار ّ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ ،‬‬
‫إن الصدق واخلطأ بمعنامها املنطقي أو الفلسفي مها مطابقة الصورة‬
‫تصوران فيام‬
‫العلمية أو النسبة يف القضية للواقع‪ ،‬أو عدم مطابقتها له‪ ،‬وإنّام يمكن أن ُي ّ‬
‫ثمة اثنين ّية بني املعرفة والواقع‪ ،‬بأن تكون املعرفة أمر وراء الواقع ومغايرة‬
‫لو فرضنا أنّه ّ‬
‫عام إذا كانت مطابقة فهي صادقة‪ ،‬أو غري مطابقة فهي خاطئة أو كاذبة‪ ،‬أما‬
‫له‪ ،‬فنبحث ّ‬
‫إذا كانت املعرفة هي عني الواقع‪ ،‬ال صورة ذهن ّية‪ ،‬فال معنى للصدق باالصطالح‬
‫املذكور من باب السالبة بانتفاء املوضوع‪.‬‬
‫وإن كانت املعرفة احلضورية صادقة فباصطالح آخر‪ ،‬بمعنى ّأهنا كاشفة عن‬
‫الواقع بنحو ال يكون ثمة جمال للخطأ فيها؛ ّ‬
‫ألن كون اليشء هو ذاته رضوري‪ ،‬وإال‬
‫لزم سلب اليشء عن نفسه‪.‬‬
‫أ ّما كيفية معاجلة إشكالية حصول اخلطأ يف اإلدراكات احلضورية‪ ،‬فيمكن القول ّ‬
‫إن‬
‫ٍ‬
‫برسعة عالية‪ ،‬فيتالزم‬ ‫بمعرفة حصول ّي ٍة تعارصها‪ ،‬حتصل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫معرفة حضور ّية‪ ،‬تقرتن‬ ‫ّ‬
‫كل‬
‫تصور له ذلك‬
‫إحساس خاص كحالة نفسية حضورية مع انتزاع صورة ذهنية عنه‪ّ ،‬‬
‫اإلحساس عىل أنّه العطش‪ ،‬ومن هنا يكون اخلطأ هو يف الصورة الذهن ّية عن العطش‬
‫التي مل تطابق الواقع‪ ،‬إذ مل يكن ذلك اإلحساس اخلاص حقيقة هو العطش‪ ،‬ولكن‬
‫اإلنسان لعامل أو آخر أخطأ يف عملية االنتزاع كام حيصل اخلطأ يف احلواس عندما يتصور‬
‫الرساب ما ًء‪ ،‬فخطأ اجلهاز اإلدراكي الذهني لإلنسان غري خمتص بام يلتقطه بواسطة‬
‫أيضا عن احلاالت النفس ّية‬
‫احلواس الظاهرة عن الظواهر املادية فقط‪ ،‬بل بام يلتقطه ً‬
‫الداخلية‪ .‬وهذه النقطة حتتاج إىل ٍ‬
‫يشء من التأ ّمل والتفكّر العميق فيها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واألخطاء التي حتصل يف وجدان ّيات اإلنسان أو مكاشفات العارف هي من هذا‬
‫القبيل‪ ،‬حيث ختتلط احلاالت الوجدان ّية مع التفاسري الذهن ّية‪ ،‬فينشأ اخلطأ من ِقبل‬
‫التفسري الذهني ثم ينسبه العقل خدا ًعا إىل الشعور الوجداين‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 172‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫كام أنّه قد نفرتض صورة أخرى للخطأ‪ ،‬وهي أنّه قد يكون اإلحساس بالعطش‬
‫صاد ًقا يف حينه‪ ،‬والصورة املنتزعة عنها صادقة ً‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن يتبدّ ل هذا اإلحساس‪ ،‬ثم‬
‫ترتسم صورة أخرى‪ ،‬فيعترب اإلنسان بفعل قوة مقارنة الصورة الثانية باألوىل‬
‫أن إحساسه خاطئ نتيجة الغفلة عن الصورة األوىل‪ ،‬عىل نحو قاعدة‬ ‫ومقايستها هبا‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫املوجب‬ ‫اليقني املبحوثة يف أصول الفقه‪ ،‬أي الشك الساري إىل متع ّلق اليقني السابق‬
‫لليقني بزواله وانعدام حدوثه‪.‬‬
‫ويظهر هذا املعنى من نصوص الشيخ مصباح اليزدي‪ّ ،‬‬
‫أن اخلطأ ليس يف املعرفة‬
‫احلضورية‪ ،‬ولكن الذهن خيدع النفس فيجعلها تظن ّأهنا منه‪ ،‬وذلك أن الذهن يقوم‬
‫بعملية مقايسة بني اإلحساس الذي يعارصها اآلن وبني إحساساته السابقة عن احلالة‪،‬‬
‫بأن علة هذا اإلحساس هي احلاجة إىل الغذاء ً‬
‫مثال وقد كانت‬ ‫مما يؤدي به إىل االعتقاد " ّ‬
‫هذه املقارنة خطأ‪ ،‬ومن هنا ترسب اخلطأ إىل جمال تعيني العلة والتفسري الذهني‪،‬‬
‫أيضا"(‪.)1‬‬
‫واألخطاء التي حتدث يف املكاشافات العرفانية هي من هذا الباب ً‬
‫ويرصح الشيخ مرتىض مطهري ّ‬
‫أن اخلطأ حيصل يف مرحلة التطبيق‪ ،‬فالذهن البرشي‬ ‫ّ‬
‫ُمنِح قدرة حتويل املعارف احلضورية إىل حصولية بإنشاء صورة‪ ،‬فاألخطاء حتصل يف‬
‫مرحلة العلم احلصويل عندما حياول الذهن معرفة مصداق هذا املعلوم احلضوري‪،‬‬
‫فيحصل االشتباه حني ذاك‪ ،‬فتنسبها النفس خطأ إىل املعرفة احلضور ّية‪.‬‬
‫وفـي السياق‪ ،‬يعتقد الشيخ جوادي آملـي ّ‬
‫أن حصول الـخطأ فـي الـمعرفة الشهودية‬
‫‪-‬كمصداق للمعرفة احلضور ّية‪ -‬يرجع إىل اخللط بني عامل املثال املتصل واملثال املنفصل‪،‬‬
‫بمعنى أن يعترب السالك غري الواصل ما يراه يف عامل املثال املتصل جز ًءا من عامل املثال‬
‫املنفصل‪ ،‬وبام أنه ال وجود ألي فطور أو تفاوت وخالف يف املثال املنفصل؛ كونه الصنع‬
‫احلق غري املشوب‪،‬‬ ‫املنزه عن كل عيب ونقص‪ّ ،‬‬
‫فإن السالك يظن أنّه رأى ّ‬ ‫البديع للخالق ّ‬
‫كام يف الرؤى غري الصادقة حيث تتمثل اهلواجس النفسانية‪ ،‬ويظن الرائي ّ‬
‫أن جز ًءا من‬
‫أجزاء النبوة اإلنبائية ‪-‬ال الترشيعية‪ -‬قد صارت من نصيبه‪ ،‬يف حني ّ‬
‫أن ما متثل لديه‬
‫(‪ )1‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.177‬‬
‫‪173‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اخلاصة أو أوصافه املخصوصة‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ليس إال جز ًءا من أفكاره‬
‫وقد يتنبه عىل أثر مدركاته القبل ّية ومعتقداته السابقة‪ ،‬فرياه عىل أساس مالحظاته‬
‫اخلاصة ومن زاوية نظره األحول‪ ،‬وهلذا قد حيصل له االشتباه‪ ،‬فمن املمكن ً‬
‫مثال أن‬ ‫ّ‬
‫يشاهد ما هو احلق أحيا ًنا يف املثال املنفصل أو أعىل من عامل املثال لكن االشتباه حيصل‬
‫تنزله من حالة الشهود إىل نشأة العلم احلصويل‪ ،‬أي عندما يريد أن يرشح‬
‫له بعد ّ‬
‫مدركاته التي حصل عليها يف قالب األفكار البرشية؛ وذلك ألنّه مسبوق بسلسلة‬
‫خاصة من األفكار‪ ،‬فاخلطأ يف هذه املوارد هو يف العلم احلصويل ال احلضوري"(‪.)1‬‬

‫مرجعية العلم الحصويل إىل املعرفة الحضورية‬


‫الصورة العلم ّية احلارضة يف الذهن معلومة بالذات باملعرفة احلضورية للنفس‪،‬‬
‫وهي واسطة للكشف عن معلوم بالعرض وراءها‪ ،‬وهبذا اللحاظ يمكن القول ّ‬
‫إن‬
‫املعرفة احلضورية هي منشأ املعرفة احلصول ّية‪ ،‬لذا يقول العالمة الطباطبائي ّ‬
‫بأن "العلم‬
‫احلصويل ال ينفصل عن العلم احلضوري‪ ،‬وال عكس‪ ،‬فقد ينفك احلضوري عن‬
‫أخيه"(‪.)2‬‬
‫بل حيفر العالمة الطباطبائي بشكل أعمق فيقول‪" :‬هذا ما يؤدي إليه النظر البدوي‬
‫واحلضوري‪ ،‬والذي هيدي إليه النظر العميق أن احلصو ّيل‬
‫ّ‬ ‫من انقسام العلم إىل احلصو ّيل‬
‫حضوري"(‪.)3‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا ينتهي إىل علم‬
‫منه ً‬
‫كل علم حصويل فهو مسبوق‬ ‫أن ّ‬
‫كيل يؤسس له العالمة الطباطبائي‪ّ :‬‬ ‫فثمة قانون ّ‬
‫بعلم حضوري‪ ،‬سواء أكانت هذه املعرفة احلضور ّية حاصلة بواسطة احلواس الظاهرة‪،‬‬
‫أم احلواس الباطنية‪ ،‬بل لو كانت حاصلة بواسطة حاسة أخرى وراء هذه احلواس‬
‫العاد ّية خف ّية عىل الناس عادة‪ ،‬كمكاشفات العرفاء وإهلامات األولياء‪.‬‬
‫وتكّمن لـم ّية هذه القاعدة الكل ّية‪ ،‬يف ّ‬
‫أن النفس البرشية يف مرحلة العلم احلصويل‪،‬‬
‫(‪ )1‬جوادي آميل‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬نظر ّية املعرفة يف القرآن‪ ،‬ترمجة دار اإلرساء للتحقيق والنرش‪ ،‬دار الصفوة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.333‬‬
‫(‪ )2‬الفلسفة العليا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.285‬‬
‫(‪ )3‬هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة‪ ،11:‬الفصل‪ ،1:‬ص‪.294‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 174‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فإهنا يف ضوء نظرية العالمة الطباطبائي‬


‫عند إرادة التقاط صورة ذهنية عن موجود ما‪ّ ،‬‬
‫نحوا من احلضور الشهودي‪،‬‬‫تتّحد وجود ّي ًا مع ذي الصورة‪ ،‬فيكون حارض ًا عند النفس ً‬
‫لتتمكّن من انتزاع صورة عنه‪ ،‬وإال ملا أمكن للنفس أن تقوم بذلك‪.‬‬
‫خلص لنا مرتىض مطهري هذه النظرية بقوله‪ّ " :‬‬
‫إن القوة املدركة أو قوة اخليال هي‬ ‫وقد ّ‬
‫قوة عملها أخذ الصور لألشياء والواقعيات‪ ،‬سواء أكانت واقعيات خارجية أم واقعيات‬
‫باطنية (نفسية)‪ ،‬وهذه القوة هي التي هت ّيـئ مجيع الصور الذهن ّية املتمركزة يف احلافظة والتي‬
‫ّتري فيها أعامل الذهن املختلفة‪ .‬وال تستطيع هذه القوة أن تولد تصور ًا من ذاهتا‪ ،‬وإنام‬
‫صال وجودي بواقع من الواقعيات‪،‬‬ ‫العمل الوحيد الذي تستطيعه هو أهنا إذا ظفرت با ّت ٍ‬
‫ّ‬
‫صور له صور ًة ثم تدّ خرها يف احلافظة‪ .‬إذن الرشط األسايس لظهور صور األشياء‬ ‫فإهنا ُت ّ‬
‫ّ‬
‫والواقعيات يف الذهن هو اال ّتصال واالرتباط الوجودي بني تلك الواقعيات والقوة‬
‫املدركة‪ ،‬ومن الواضح أن القوة ِ‬
‫املدركة ‪-‬التي عملها التصوير‪ -‬ليس هلا وجود مستقل بذاته‬ ‫ِ‬
‫تم ا ّت ٌ‬
‫صال‬ ‫وإ ّنام هي فرع من القوى النفسية‪ ،‬وال يتم ا ّتصاهلا الوجودي بواق ٍع ما إال إذا ّ‬
‫بأن الرشط األسايس لظهور صور‬ ‫وجودي بني النفس ذاهتا وذلك الواقع‪ .‬إذن يمكن القول ّ‬
‫ٌّ‬
‫األشياء والواقعيات يف الذهن هو اال ّتصال الوجودي احلاصل بني تلك الواقعيات وواقع‬
‫اإلتصال الوجودي بني واقع معني وحقيقة النفس يؤدي بالنفس لتدرك ذلك‬ ‫فإن ِ‬
‫النفس‪ّ ،‬‬
‫فإن نشاط الذهن أو القوة ِ‬
‫املدركة يبدأ من هنا أي‬ ‫الواقع بالعلم احلضوري‪ .‬وبناء عىل هذا ّ‬
‫عندما تظفر النفس بعني الواقع‪ ،‬وتدركه بالعلم احلضوري‪ّ ،‬‬
‫فإن القوة املدركة (قوة اخليال)‬
‫بالقوة التي تبدّ ل العلم احلضوري إىل علم حصويل‪ -‬تصوغ‬ ‫سمى يف هذه املقالة ّ‬ ‫‪-‬التي ُت ّ‬
‫صورة له وتودعها يف احلافظة‪ ،‬وب ِ‬
‫االصطالح فإهنا تصوغ منه معلو ًما بالعلم احلصويل‪.‬‬
‫كل علم حصويل‪-‬أي مجيع معلوماتنا‬ ‫فإن مبنى أومأخذ ّ‬‫وحسب هذه النظرية ّ‬
‫الذهن ّية العادية بالنسبة للعامل اخلارجي والعامل الباطني (النفيس)‪ -‬هو العلم احلضوري‪،‬‬
‫ّ‬
‫واالحتاد الوجودي بني واقع اليشء‬ ‫ومالك ومناط العلم احلضوري هو اال ّتصال‬
‫املدرك‪ ،‬وواقع اليشء ِ‬
‫املدرك"(‪.)1‬‬
‫أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.48‬‬
‫(‪ )1‬مطهري‪ّ ،‬‬
‫‪175‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وبعبارة أخرى‪ ،‬يتوقف فهم نظرية العالمة الطباطبائي يف تفسري العلم احلصويل‪،‬‬
‫عىل جمموعة مقدمات هي‪:‬‬
‫‪ .1‬إ ّن الوجود ّ‬
‫املجرد أشدّ مرتبة من الوجود املادي‪.‬‬
‫‪ .2‬إ ّن العالقة بني الوجود الـ ّ‬
‫مجرد والوجود الـمـادي هي عالقة العل ّية والـمعلول ّية‬
‫املجردة هي مبادئ فاعل ّية للوجودات املاد ّية‪.‬‬
‫فاملوجودات ّ‬
‫جمرد عن املادة‪.‬‬
‫‪ .3‬إن العلم بجميع أقسامه (اإلحسايس‪ ،‬اخليايل‪ ،‬العقيل) ّ‬
‫جمردة‪.‬‬
‫وبالتايل‪ :‬الصور العلمية موجودات ّ‬
‫‪ .4‬إ ّن املوجود ّ‬
‫املجرد يفيض الصور العلمية عىل الذات البرشية‪.‬‬
‫‪ .5‬وعليه‪ ،‬الصور العلمية ال تؤخذ من اخلارج املادي‪ ،‬وال تتع ّلق به مبارشة‪.‬‬
‫‪ .6‬إ ّن آثار الوجود اخلارجي ليست آثارا للمعلوم احلارض عند ِ‬
‫العامل‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ .7‬إ ّن االتصال بالعامل املادي بواسطة األدوات احلس ّية جيعل النفس مستعد ًة حللول‬
‫الصورة العلم ّية فيها(‪.)1‬‬
‫فالقراءة الصحيحة للعلم احلصويل من وجهة نظر العالمة الطباطبائي‪ ،‬تقوم عىل‬
‫أنّه باإلضافة إىل املعلوم بالذات‪ ،‬واملعلوم بالعرض (الواقع اخلارجي)‪ ،‬ثمة عنرص‬
‫ِ‬
‫املفارق ‪-‬الـمثايل والعقيل‪ -‬لتلك الصـور العلم ّيـة‪ ،‬وهي‬ ‫مجرد‬
‫ثالث‪ ،‬وهو الوجود الـ ّ‬
‫معلومة باملعرفة احلضور ّية‪ ،‬ويف احلقيقة هو (املعلوم بالذات)‪ ،‬أ ّما الصورة العلم ّية فهي‬
‫حضورا‪ ،‬وهي العلم احلصويل‪ ،‬فهنا ثالثة عنارص‪:‬‬
‫ً‬ ‫مأخوذة من املعلوم بالذات‬
‫الواقع املادي (املعلوم بالعرض الثانوي)‪ .‬ويمكن القول إنّه معلوم بالعرض‬
‫بوساطتني‪.‬‬
‫املجرد (املعلوم بالذات باملعرفة احلضورية)‪.‬‬
‫والواقع ّ‬
‫والعلم احلصويل (الصورة العلمية املنتزعة من املعرفة احلضورية وهي املعلوم‬
‫األويل)‪.‬‬
‫بالعرض ّ‬
‫(‪ )1‬نـهاية الـحكمة‪ ،‬م‪ ،12‬ف‪ .15‬وانظر‪ :‬الـحكمة الـمتعالية‪ ،‬حوايش الطباطبائي‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ ،284‬حاشية‪ .4‬وج‪،3‬‬
‫ص‪ ،280‬حاشية‪.1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 176‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وعليه‪ ،‬تكون النسبة املنطقية بني العلم احلضوري والعلم احلصويل هي أشبه بالعموم‬
‫واخلصوص املطلق‪ ،‬فكلام كان هناك علم حصويل فهو مستندٌ إىل علم حضوري‪ ،‬دون‬
‫العكس‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هندسية‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫مصم ٌم‬ ‫ثمة جهاز إدراكي يف النفس البرشية‬
‫ّ‬ ‫ثم‪- ،‬كام أرشنا‪ّ -‬‬
‫خاصة تقوم عىل التقاط الصور تلقائي ًا‪ ،‬واستنساخ املعارف احلضورية‪ ،‬يطلق عليه العالمة‬
‫الطباطبائي قوة تبديل العلم احلضوري إىل حصويل‪ ،‬فمجرد حت ّقق املعرفة احلضورية يف‬
‫ِ‬
‫واملفارق‪ ،‬تقوم قو ٌة أو أدا ٌة من أدوات‬ ‫املجرد‬
‫ّ‬ ‫النفس نتيجة اال ّتصال الوجودي مع‬
‫اجلهاز اإلدراكي بأخذ صورة آل ًّيا‪ ،‬وبنحو قهري اضطراري عن املعرفة احلضورية‪،‬‬
‫وتطبق تلك الصورة العلمية عىل الواقع املادي‪ ،‬فيتحقق العلم احلصويل‪.‬‬
‫فاملعلوم بالذات (الصورة العلمية) مل تؤخذ مبارشة من الواقع اخلارجي املادي‪،‬‬
‫بل من الوجود املثايل أو العقيل للصورة العلم ّية‪ ،‬وهذا ال يعني ّ‬
‫أن العامل املادي ال دور‬
‫املجردة‪،‬‬
‫له يف املعرفة‪ ،‬بل االرتباط باملادة رشط معد التصال النفس بتلك املوجودات ّ‬
‫علام حضور ًّيا‪.‬‬
‫وتلقيها فيض تلك الصورة من مبدئها الفاعيل‪ ،‬فتعلم هبا ً‬
‫أن كون هذا االرتباط ضعي ًفا‪ ،‬هو الذي حيجب عنها ترتب اآلثار‬ ‫مع اإلشارة إىل ّ‬
‫اخلارجية‪ ،‬وهذا هو الذي خدع العقل البرشي وأومهه ّ‬
‫بأن الصورة العلم ّية مأخوذة من‬
‫الواقع املادي (املعلوم بالعرض) مبارشة‪ ،‬وحينها حيسب العقل عند مقايسة الصورة‬
‫العلم ّية مع الواقع املادي من حيث عدم تر ّتب اآلثار اخلارجية عليها‪ّ ،‬‬
‫بأن الصورة‬
‫العلمية هي ماه ّية اليشء اخلارجي‪ ،‬حيث خلعت رداء اخلارج ولبست ثوب الوجود‬
‫الذهني‪ ،‬فالعلم احلصويل هو وليد هذا النشاط من القوة الوامهة‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ال يعني ّ‬
‫أن الصورة العلمية ال حتكي عن الواقع املادي‪ ،‬فعدم كوهنا منتزعة‬
‫منه ال يالزمه منطق ًّيا عدم حكايتها عنه‪.‬‬
‫يقول العالمة الطباطبائي‪ّ " :‬‬
‫إن حقيقة علومنا احلصول ّية عىل ما تعطيه األصول‬
‫السالفة‪ ،‬أنّا نجد وجودات جمردة عقلية أو مثالية بحقيقة ما هلا من الوجود اخلارجي‬
‫املرتتب عليه آثاره‪ ،‬وهذه علوم حضورية‪ ،‬ثم نجد من طريق اتصالنا باملادة ّ‬
‫أن آثار‬
‫‪177‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الوجود املادي ال يرتتب عليها‪ ،‬فنحسب ّ‬


‫أن ما عندنا من تلك الوجودات املجردة‬
‫ذوات اآلثار‪ ،‬هي هذه األشياء الطبيعية وجدت يف أذهاننا بوجود ذهني غري ذي آثار‪،‬‬
‫وعند ذلك تنشأ املاهيات واملفاهيم‪ ،‬وهي العلوم احلصول ّية‪ ،‬فهذا العرض الومهي‬
‫للصور العلمية عىل الذوات الطبيعية املادية من طريق االتصال باملادة‪ ،‬هو الذي أوجد‬
‫العلوم احلصول ّية‪ ،‬وأنشأ املاه ّيات‪ ،‬واملفاهيم الذهن ّية التي ال يرتتب عليها اآلثار‪ .‬ومن‬
‫أن املجردات العقلية املحضة التي ال ا ّتصال هلا باملادة البتة‪ ،‬ال منشأ عندها‬ ‫هنا‪ ،‬يظهر ّ‬
‫لظهور املاه ّيات واملفاهيم‪ ،‬وال موطن فيها للعلوم احلصول ّية‪ ،‬بل إنام تنال من األشياء‬
‫ِ ٍّ‬
‫رسايب‪ ،‬فافهم ذلك"(‪.)1‬‬ ‫نفس وجوداهتا ً‬
‫نيال حضور ًّيا غري‬

‫املعرفة البرشيّة بي العرفان والربهان‬


‫املائز احلقيقي بني الفيلسوف والـمتك ّلم من جهة‪ ،‬وبني العارف من جهة ثانية‪،‬‬
‫يكمن فـي ّ‬
‫أن األول (الفيلسوف) يتعامل مع عامل الذهن‪ ،‬واملفاهيم‪ ،‬والقضايا‪ ،‬واللغة‬
‫واأللفاظ‪ ،‬والربهنة واالستدالل‪ ،‬أي أن حركته يف نطاق املعرفة احلصول ّية‪ .‬أ ّما الثاين‬
‫يوسط بينه وبني‬ ‫ِ‬
‫(العارف)‪ ،‬فيتعامل مع عامل الواقع باالتصال الوجودي املبارش‪ ،‬فال ّ‬
‫احلق تعاىل عامل الذهن‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والربهنة‪ ،‬واالستدالل‪ ،‬والعلوم العقائدية والفلسفية‬
‫ّ‬
‫و‪ ...‬وبالتايل ميدان اشتغاله هو املعرفة احلضور ّية‪.‬‬
‫وهذه النقطة حتيلنا إىل البحث عن طبيعة الفلسفة‪ ،‬ومائزها عن العرفان من حيث‬
‫ّ‬
‫إن نطاق األوىل هو املعرفة احلصول ّية‪ ،‬والثاين هو احلضورية‪.‬‬
‫يعرفه معرف ًة ِ‬
‫وعرفا ًنا‪ ،‬فهو مطلق املعرفة من أي طريق‬ ‫العرفان لغة من عـرفـه ِ‬
‫حواس الـخمس‪ ،‬أم غـريها كالتجـربة‪ ،‬العقـل‪ ،‬اإللـهـام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حصلت‪ ،‬سواء عن طريق الـ‬
‫والوجدان الباطني‪ ،‬أي سواء أكانت معرفة حصول ّية أم حضورية‪.‬‬
‫اصطالحا‪ ،‬فله ثالثة استعامالت‪:‬‬
‫ً‬ ‫أما العرفان‬
‫األول‪ :‬تارة يستعمل مطل ًقا دون قيد‪ ،‬فرياد به لون خاص من املعرفة احلضور ّية‬

‫(‪ )1‬احلكمة املتعالية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،455-454‬حاشية الطباطبائي (‪.)2‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 178‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫باهلل تعاىل احلاصلة عن طريق جهاد النفس وتزكية الباطن(‪.)1‬‬


‫وأخرى يستعمل ُمقيدً ا بإضافته إىل النظر أو العمل‪ ،‬فاألول هو العرفان النظري‪،‬‬
‫والثاين هو العرفان العميل‪.‬‬
‫ومن الواضح‪ ،‬أنّه ليست ّ‬
‫كل معرفة حضورية هي عرفان باملعنى االصطالحي‪،‬‬
‫واحلب‪ ،‬هي معارف‬
‫ّ‬ ‫فاملعرفة بالصورة الذهنية أو احلاالت النفسية كاحلزن واخلوف‬
‫حضورية دون أن تكون عرفا ًنا باالصطالح اخلاص‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فاملباحث الفلسف ّية والدراسات الكالم ّية ك ّلها تندرج حتت املعرفة احلصولية‪،‬‬
‫إن العرفان النظري والعرفان العميل بوصفهامحقلني علميني هلام هندستهام املعرفية‬ ‫بل ّ‬
‫اخلاصة بـهمـا‪ :‬الـموضوع‪ ،‬الـمباين‪ ،‬املسائل‪ ،‬املنهج‪ ،‬املعجم االصطالحي ولغة العلم‪،‬‬
‫األغـراض والغـايات‪ ،‬والتي ُتـدرس و ُتـدرس فـي ضوء كتب مع ّينة(‪ ،)2‬هـمـا من سنخ‬
‫املعرفة احلصول ّية‪.‬‬
‫فالعرفان العميل‪ ،‬علم (حصويل) يتك ّفل بيان برنامج السري والسلوك‪ ،‬ومقامات‬
‫العارفني‪ ،‬ومنازل السائرين‪ ،‬ودرجات السالكني إىل اهلل تعاىل باملجاهدة‪ ،‬والتزكية‪،‬‬
‫والتحلية‪ ،‬والتخلية‪ ،‬والتجلية‪ ،‬لغرض املعرفة الشهودية باهلل‪.‬‬
‫تتم فيه عقلنة املعرفة احلضورية‬
‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫أما العرفان النظري فهو علم (حصويل) خاص ً‬
‫بالربهان(‪ .)3‬وذلك ّ‬
‫أن املكاشفات العرفانية واملشاهدات‪ ،‬هي من سنخ املعرفة احلضورية‪،‬‬
‫يعرب عن مكاشفاته يف مقام التعليم‬
‫أي حضور عني الواقع‪ ،‬وبالتايل إذا أراد العارف أن ّ‬
‫والتفهم يف السفر الرابع يف اخللق‪ ،‬فيحتاج إىل أمرين‪ :‬املفاهيم‬
‫ّ‬ ‫واإلرشاد والتفهيم‬
‫الذهنية‪ ،‬والتواصل اللغوي ‪-‬مشافهة أو كتابة‪.)4(-‬‬
‫(‪ )1‬اليزدي‪ ،‬حممد تقي مصباح‪ ،‬حماولة للبحث يف العرفان اإلسالمي‪ ،‬ترمجة حممد عبد املنعم اخلاقاين‪ ،‬دار التعارف‬
‫للمطبوعات‪ ،‬ص‪.34-33‬‬
‫(‪ )2‬مثالً يف ميدان العرفان النظري‪ :‬متهيد القواعد البن تركة األصفهاين‪ ،‬فصوص احلكم البن عريب‪ ،‬مصباح األنس‬
‫البن الفناري‪ ،...‬ويف ميدان العرفان العميل‪ :‬منازل السائرين للهروي ورشوحاته كرشح التلمساين والكاشاين‪...‬‬
‫(‪ )3‬أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.62‬‬
‫(‪ )4‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.125‬‬
‫‪179‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حيول الـمكاشفات العرفان ّية إلـى قضايا معرف ّية‪ ،‬حيتاج إىل الربهنة‬
‫وإذا أراد أن ّ‬
‫واالستدالل‪.‬‬
‫ثمة معاينات ومشاهدات عرفان ّية ال يمكن التعبري‬ ‫هذا مع اعرتاف العرفاء‪ّ ،‬‬
‫بأن ّ‬
‫بأن هناك درجات من‬ ‫ال يعتقد ابن سينا ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فمث ً‬
‫عنها بالعبارة ورشحها‪ ،‬بل الفالسفة ً‬
‫العرفان "ال ُيفهمها احلديث‪ ،‬وال ترشحها العبارة‪ ،‬وال يكشف املقال عنها‪ ،‬غري اخليال‪.‬‬
‫يتعرفها‪ ،‬فليتدرج إىل أن يصري من أهل املشاهدة‪ ،‬دون املشافهة‪ ،‬ومن‬
‫أحب أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫الواصلني للعني دون السامعني لألثر"(‪.)1‬‬
‫يتصورها‬
‫ّ‬ ‫ويع ّلق نصري الدين الطويس مع ّل ًال‪ ،‬أن العبارات موضوعة للمعاين التي‬
‫تعليام وتع ّل ًام‪ ،‬أما تلك املعاين التي ال يصل إليها إال غائب عن‬
‫أهل اللغات‪ ،‬ثم يتفهموهنا ً‬
‫ذاته ‪-‬أي العارف‪ -‬فليس يمكن أن يوضع هلا ألفاظ‪ ،‬وكام ّ‬
‫أن املعقوالت ال ُتدرك‬
‫باألوهام‪ ،‬واملتخ ّيالت باحلواس‪ ،‬كذلك ما من شأنه أن يعاين فال يمكن أن يدرك‬
‫باملعرفة احلصول ّية وعلم اليقني‪ ،‬وعليه الواجب عىل من يريد تلك احلقائق أن جيتهد يف‬
‫الوصول إليها بالعيان دون أن يطلب بالربهان‪.‬‬
‫وعىل ّ‬
‫كل حال‪ ،‬املعارف العرفانية ما مل تتم الربهنة عليها‪ ،‬تبقى جمرد دعوى‪ ،‬تكون‬
‫كوشف هبا‪ ،‬وال تشمل اآلخرين حتى‬‫حجيتها ‪-‬عىل فرض كشفها العلمي‪ -‬ذاتية ملن ِ‬
‫لو كان ا ُملكاشف هبا صاد ًقا يف إخباره واق ًعا‪ ،‬فمعيار صدق القضية العرفانية كأي قضية‬
‫هو مطابقتها للواقع‪ ،‬ولكن معيار معرفيتها أي أن تكون مسألة علم ّية‪ ،‬هو أن تكون‬
‫ٍ‬
‫وحممول‬ ‫حولناه إىل قضية محل ّية مركّبة من موضو ٍع‬ ‫ُمستدلة؛ ّ‬
‫ألن الكشف العرفاين إذا ّ‬
‫كوشف هبا هي من الوجدانيات البدهي ّية التي‬‫فإن هذا القضية بالنسبة إىل من ِ‬
‫ونسبة مثالً‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫للواجد‪ ،‬أما‬ ‫ال حتتاج إىل دليل‪ ،‬ولكن القضية الوجدانية اخلاصة‪ ،‬هي رضور ّية بالنسبة‬
‫بالنسبة إىل غريه فهي قضية نظرية حتتاج إىل دليل إلثبات األكرب يف األصغر‪ ،‬وال تأخذ‬
‫صورة القضية العلمية إال بالربهنة‪ ،‬فاملسألة العرفان ّية ‪-‬باعتبار كوهنا قضية نظرية حتتاج‬
‫إىل دليل‪ -‬تبقى يف دائرة املطلب واملدعى‪ ،‬وال ُتنكر‪ ،‬بل توضع يف دائرة اإلمكان حتى‬
‫(‪ )1‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.100-99‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 180‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫يقوم الربهان عىل إثباهتا أو نفيها؛ ّ‬


‫ألن عدم الدليل ليس دلي ً‬
‫ال عىل العدم‪ ،‬وعدم الوجدان‬
‫دليال عىل عدم الوجود‪.‬‬ ‫ليس ً‬
‫منكرا‬
‫يقول ابن سينا‪" :‬إياك أن تكون تك ّيسك وتربؤك عن العامة‪ ،‬هو أن تنربي ً‬
‫لكل يشء‪ ،‬فذلك طيش وعجز‪ ،‬وليس اخلرق يف تكذيبك ما مل يستبن لك بعد جل ّية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫دون اخلرق يف تصديقك به ما مل تقم بني يديك ب ّينة‪ ،‬بل عليك االعتصام بحبل التو ّقف‪،‬‬
‫وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما مل تتربهن استحالته لك‪ .‬فالصواب أن ترسح‬
‫أمثال ذلك إىل بقعة اإلمكان ما مل يذدك عنه قائم الربهان"(‪.)1‬‬
‫أن رشط إمكانية جعل‬ ‫وعليه‪ ،‬تفيد العبارة األخرية (ما مل يذدك عند قائم الربهان)‪ّ ،‬‬
‫املكاشفة العرفانية قضية قابلة للربهنة‪ ،‬هي ّأال تكون مناقضة للربهان اليقيني‪ ،‬والقوانني‬
‫العقلية القطعية‪ ،‬أو القضايا الدينية الثابتة بالقطع واليقني‪ّ ،‬‬
‫وإال فإنّه ال معنى جلعلها قضية‬
‫فضال عن االستدالل عليها‪ .‬فاملكاشفة إنّام يمكن حتويلها إىل معرفة حصولية مع‬ ‫أصال ً‬ ‫ً‬
‫إمكاهنا الذايت‪.‬‬
‫يتبني‪ ،‬أن املعارف احلضور ّية ال قيمة علم ّية هلا ما مل تتم صياغتها يف صورة‬
‫وهبذا ّ‬
‫قضايا منطقية ُمستدلة‪ .‬وهبذا يكون العرفان النظري عبارة عن علم االستدالل العقيل‬
‫عىل املشاهدات القلبية(‪.)2‬‬
‫إن العرفان جيعل من املكاشفة ماد ًة رئيس ًة يف‬ ‫يقول الشيخ مرتىض مطهري‪ّ " :‬‬
‫أن العارف يدّ عي إخضاع‬ ‫استدالله‪ ،‬وبعد ذلك يقوم بتوضيحها وتربيرها عقل ًّيا‪ ...‬أي ّ‬
‫ما شاهده ببصريته ووجوده إىل التفسري العقيل"(‪.)3‬‬
‫وحينها خيتص العرفان احلقيقي باملعرفة احلضورية باهلل تعاىل‪ ،‬أي اال ّتصال الوجودي‬
‫وجل‪ ،‬فال يقال ملن درس العرفان النظري أو العميل (عارف)‪.‬‬ ‫عز ّ‬ ‫به ّ‬
‫وعليه تكون العالقة بني هذه الدوائر العرفانية الثالث عىل الشكل التايل‪:‬‬
‫(‪ )1‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.161‬‬
‫(‪ )2‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬الدرس‪ ،9:‬ص‪.125‬‬
‫(‪ )3‬مطهري‪ ،‬العرفان‪ ،‬ترمجة حسن عيل مطر اهلاشمي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتاب اإلسالمي‪1421 ،‬هـ‪2001-‬م‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫‪181‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العرفان العميل (دراسة برنامج السري والسلوك) ‪( ‬تطبيق برنامج السري والسلوك)‬
‫‪ ‬العرفان (حصول الـمكاشـفات والـمشـاهـدات والـمعـرفـة الـحضوريـة ب ـاهلل تـعـاىل)‬
‫‪( ‬تـحويل الـمكاشفات إلـى قضايا مسـتـدلة والتعـبري عنها بمعجم معرفـي خاص)‬
‫العرفـان النظـري‪.‬‬
‫وّتدر اإلشارة إىل ّ‬
‫أن العارف يف سريه وسلوكه ال يسلم من تلبسات إبليس‬
‫وجنوده‪ ،‬وبالتايل قد يقع يف التخ ّيالت الفاسدة واألوهام واألغلوطات‪ ،‬يقول صدر‬
‫أن ألهل الكشف يف مكاشفاهتم ومشاهداهتم ووارداهتم‬ ‫الدين القونوي‪" :‬اعلم ّ‬
‫أغلوطات شتى ال يعرف كنهها‪ ،‬وال يسلم من غوائلها ّإال ّ‬
‫الكمل واألفراد من أهل‬ ‫ٌ‬
‫العناية واالختصاص‪ ...‬منها ما يوجب سوء أدب مع احلق‪ ،‬وفساد اعتقاد‪ ...‬ومنها ما‬
‫تباسا وختلي ًطا‪.)1("...‬‬ ‫يوجب تب ّلدً ا ّ ً‬
‫وحتريا‪ ...‬ومنها ما يوجب ال ً‬
‫بل العارف ال حيتاج إىل املعرفة احلصول ّية لتحويل مكاشفاته إىل قضايا ُمستدلة‪،‬‬
‫وإنّام حيتاج إىل املعارف العقلية القبلية والقطعيات الرشع ّية(‪ )2‬كميزان لتشخيص صحة‬
‫بأهنا كشف ح ّقاين‪ ،‬أو تلبيس إبليس‪.‬‬‫مشاهداته ّ‬
‫فإذا خالفت املكاشفات العرفانية املدّ عاة العقل الرصيح‪ ،‬أو ما هو ثبات بالقطع‬
‫من الدين‪ ،‬فيرضب هبا عرض احلائط؛ ّ‬
‫ألن الكشف اليقيني ال يناقض العقل اليقيني‪.‬‬
‫طورا وراء العقل‪ ،‬ولكنه ال خيالف‬ ‫يقول السيد اخلميني‪ّ " :‬‬
‫إن طور العرفاء‪ ،‬وإن كان ً‬
‫العقل الرصيح والربهان الفصيح‪ ،‬حاشا املشاهدات الذوقية أن ختالف الرباهني"(‪.)3‬‬
‫أن أبا حامد األصفهاين املعروف برتكة يف رسالته قواعد‬ ‫ويف السياق‪ ،‬نالحظ ّ‬
‫التوحيد‪ ،‬ذكر يف املطلب (‪ )65‬مبح ًثا ًّ‬
‫مهام حتت عنوان‪( :‬يف بيان ميزان أهل املعرفة‬
‫ملعرفة الصحيح من السقيم من املكاشفات)‪ً ،‬‬
‫قائال‪" :‬ال بدّ للسالكني من أصحاب‬

‫(‪ )1‬القونوي‪ ،‬صدر الدين حممد بن إسحاق‪ ،‬النفحات اإلهلية‪ ،‬صححه وقدم له حممد خواجوي‪ ،‬انتشارات موىل‪،‬‬
‫ط‪1417 ،1‬هـ‪ ،‬ص‪.113‬‬
‫(‪ )2‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬الدرس‪ ،9:‬ص‪.125‬‬
‫(‪ )3‬اخلميني‪ ،‬مصباح اهلداية إىل اخلالفة والوالية‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 182‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫حيصلوا العلوم احلقيقية الفكرية النظرية ّأو ًال بعد تصفية القلب‪ ...‬حتى‬
‫املجاهدة أن ّ‬
‫تصري هذه العلوم النظرية‪ ...‬بالنسبة إىل املعارف الذوق ّية‪ ،‬كالعلم اآليل املنطقي بالنسبة‬
‫إىل العلوم النظر ّية‪.)1("...‬‬

‫نظرية العقل عند العرفاء‬


‫املعرفة الشهود ّية احلضور ّية طور وراء طور العقل‪ ،‬دون أن يعني ذلك ّأهنا تناقض‬
‫كثريا ما توقع البعض يف التباس‪،‬‬
‫العقل يف معارفه احلصول ّية القطع ّية‪ ،‬وهذه النقطة ً‬
‫نوضح نظر ّية عرفاء اإلمام ّية يف التمييز بني جماالت إدراك العقل‪:‬‬
‫ولدفعه‪ّ ،‬‬
‫األول‪ :‬دائرة عدم اإلدراك (غري املستقالت العقلية)‪ ،‬أي ّ‬
‫أن ثمة حقائق ال يدركها‬
‫العقل من تلقاء ذاته لسبب أو آخر‪ ،‬كأن تكون خارجة عن حدود اإلدراك العقيل‪،‬‬
‫فيحتاج إىل دعم ومساندة من اخلارج‪ ،‬كالوحي والشهود‪.‬‬
‫والثان‪ :‬دائرة إدراك رضورة العدم‪ ،‬أي ّ‬
‫أن العقل يدرك امتناع قضايا واستحالتها‪،‬‬
‫كاجتامع النقيضني حمال‪ ،‬حيث يدرك العقل عدم إمكانية ذلك‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬دائرة إدراك رضورة الثبوت‪ ،‬أي ثمة قضايا يستقل العقل بإدراكها من‬
‫ناحية إثبات حمموهلا ملوضوعها‪ ،‬كقضية واجب الوجود بسيط‪ ،‬رصف‪...‬‬
‫والرابع‪ :‬دائرة إدراك ال رضورة العدم وال رضورة الثبوت‪ ،‬وهي دائرة التجويزات‬
‫العقلية أو اإلمكانات العقلية‪ ،‬أي ما حيكم العقل بإمكانه وجوازه مع عدم امتالكه‬
‫ً‬
‫دليال عىل اإلثبات أو النفي‪ ،‬كام يف حكمه بجواز عذاب القرب وإمكانه‪ ،‬ولكنه ال يملك‬
‫ً‬
‫مستقال عليه‪ ،‬فيستعني بنور الوحي أو الكشف العرفاين ليكشف له عن هذه‬ ‫ً‬
‫دليال‬
‫احلقيقة الغيبية ويثبتها‪.‬‬
‫جيوزه‬
‫وهذه الدائرة عىل قسمني‪ :‬األول‪ :‬ما يستقل العقل بتجويزه‪ ،‬والثان‪ :‬ما ّ‬
‫العقل بعد كشف الشهود له‪ ،‬كالتكامل الربزخي‪.‬‬

‫(‪ )1‬الرتكة‪ ،‬صائن الدين عيل‪ ،‬متهيد القواعد‪ -‬كتاب التمهيد يف رشح قواعد التوحيد‪ ،‬صححه وع ّلق عليه األستاذ‬
‫حسن زاده آميل‪ ،‬النارش‪ :‬ألف الم ميم‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪1481 ،1‬هـ‪ ،‬ص‪.239‬‬
‫‪183‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وعليه‪ ،‬يشرتط يف املعرفة الشهودية‪ ،‬أن تدخل بدو ًا يف دائرة التجويزات العقلية‪،‬‬
‫أي أن حيكم العقل بإمكاهنا الذايت‪.‬‬
‫أما إذا حكم العقل باستحالتها لتعارضها مع قوانني عقلية قطعية أو نقلية قطعية‪،‬‬
‫فحينها يكشف ذلك عن خطأ لكنّه ليس يف الشهود ذاته؛ ّ‬
‫ألن الشهود معاينة الواقع‬
‫وال سبيل للخطأ إىل الواقع كام ذكرنا‪ ،‬بل يف املعرفة احلصولية باملعرفة احلضورية‪ ،‬أي‬
‫تبديل الشهود بصورة قضية منطقية‪ ،‬أو يف ادعاء العارف قضية ما كذ ًبا دون أن يكون‬
‫قد كوشفت له نتيجة تلبيسات إبليس‪ ،‬أو غريها من األسباب التي تتع ّلق باألمراض‬
‫األخالقية واالضطرابات املعرف ّية‪.‬‬
‫واملرتبة الثانية‪ :‬هي أنّه ال يكفي أن حيكم العقل بجواز القضية الشهودية كي يثبت‬
‫صدق املدّ عى الشهودي تلقائ ًّيا‪ ،‬بل ال بد من أن ُيقيم العارف الدليل عىل صدق دعواه‬
‫بالربهان اليقيني‪.‬‬
‫ونختم الفقرة بام يقوله الشيخ جوادي آميل يف هذا السياق‪ّ " :‬‬
‫إن العلم احلصويل‬
‫يكون مطابق ًا للواقع تارة‪ ،‬وتارة ال يطابقه‪ ،‬وطريق معرفة صحته وسقمه يعود ً‬
‫أيضا‬
‫إىل املنطق وحماولة إرجاع اإلدراكات النظرية إىل البدهييات‪.‬‬
‫فإن ما جيده البعض قد يكون صاد ًقا يطابق الواقع‪،‬‬‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫ويف العلم احلضوري ً‬
‫وقد يكون البعض كاذ ًبا خيالف الواقع‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فتكون املكاشافات التي ال يكون صدقها رضور ًّيا بحاجة إىل ميزان‪ ،‬يم ِّيز‬
‫صواهبا عن خطئها‪ ،‬وهذا امليزان إما أن يكون كشف املعصوم [أي تعرض املكاشفة‬
‫عـىل كشـف الـمعصـوم فإن طابقته فبها‪ ،‬وإال فال] إذا كان الـمكشوف جزئـ ًّيـا [التقيـيد‬
‫باجلزئي ألنه ال جيري فيه الربهان عىل مبنى مشهور املنطقيني]‪ ،‬وإما أن يكون الربهان‬
‫أمرا كل ًّيا‪ ،‬بيد ّ‬
‫أن أصل اإلمكان يمكن إثباته يف‬ ‫العقيل‪ ،‬يف صورة ما إذا كان املكشوف ً‬
‫مورد الكشف اجلزئي‪.‬‬
‫وحماولة إثبات املكاشفات الباطنية بالرباهني العقلية أمر يتخ ّلله الكثري من الصعاب‪،‬‬
‫إن النتائج املفهومية للمكاشفات هي فـي الغالب أمور جزئية وخاصة‪ ،‬والتي‬ ‫حيث ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 184‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫تـنحـرص كـليـاتـها فـي كونـها قابلة للمتابعة الربهانية العقلية‪ ،‬وتضحي األمور الـجزئية‬
‫ال كاسبة وال مكتسبة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وكاف‪ ،‬نستطيع من خالله توزين جـمـيع‬ ‫لكن كشف الـمعصومني طريق كامل‬
‫كشوفات اآلخرين يف مجيع املراتب احلضورية واحلصول ّية‪ ،‬فلكي يؤمن غري املعصوم‬
‫بكشوفاته عليه أن يثبت صحتها‪ ،‬وبدهيي فإن عدم استطاعته لذلك ال يبقى له جمال‬
‫لتسويغ إيامنه هبا‪.‬‬
‫بيد أنّه باإلمكان أن ُيبتىل الشخص يف مقام اإلثبات بجهل مر ّكب جراء االنحراف‬
‫عن الطريق الربهاين‪ ،‬ويعتقد صواب مكاشفاته‪ ،‬لك ّن هذا اللون من اإليامن اجلائي عن‬
‫إن عدم ارتكازه عىل مبنى صحيح‪ ،‬جيعله عرضة للتغري‬ ‫باطال‪ ،‬إذ ّ‬
‫ً‬ ‫هذا الطريق يعدّ‬
‫والتحول بمجرد اتضاح بطالن مبناه"(‪.)1‬‬

‫خامتة‪ :‬معرفة واجب الوجود تعاىل بي الحضور والحصول‬


‫معلوال يعرف حضور ًّيا ع ّلته املحيطة به (اهلل سبحانه وتعاىل)‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإلنسان بوصفه‬
‫واملتع ّلق هبا وجود ًّيا باإلمكان الفقري‪ ،‬وهي ليست معرفة إحاط ّية اكتناهية؛ المتناعها‬
‫ً‬
‫عقال‪ ،‬فهي تستلزم كون املمكن أوسع وجو ًدا من الواجب(‪ ،)2‬بل هو نحو من اال ّتصال‬
‫الوجودي بني املمكن وع ّلته بمقدار سعته الوجودية‪ّ ،‬‬
‫فكل معرفة حضورية باهلل تعاىل‬
‫فإهنا معرفة‬
‫هلا مرتبة وجودية مسانخة للمرتبة الوجودية لذات العارف‪ ،‬ومن هنا‪ّ ،‬‬
‫اشتدادية تتناسب مع الدرجة الوجودية التي حتتلها ذات العارف باهلل تعاىل(‪.)3‬‬
‫يقول الشيخ البهائي‪" :‬املراد بمعرفة اهلل تعاىل االطالع عىل نعوته وصفاته اجلاللية‬
‫واجلاملية‪ ،‬بقدر الطاقة البرشية‪ ،‬وأ ّما اال ّطالع عىل حقيقة الذات املقدسة ّ‬
‫فمام ال مطمح‬

‫(‪ )1‬جوادي آميل‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬رشيعت در آينه معرفت (فاريس)‪ ،‬ويراستار‪ ،‬هتيه كننده فهرست حجة اإلسالم محيد‬
‫بارسا‪ ،‬النارش مركز نرش فرهنكي رجاء‪ ،‬جاب اول ‪1372‬هـ‪ ،‬ص‪.145-144‬‬
‫(‪ )2‬أكّد القرآن الكريم هذه القاعدة ﴿ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ﴾ سورة طه‪ ،‬اآلية‪ .110:‬وورد يف األحاديث واألدعية‪:‬‬
‫«يا من ال يعلم ما هو إال هو‪.»...‬‬
‫(‪ )3‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.179‬‬
‫‪185‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فيه للمالئكة الـمقربني واألنبياء الـمرسلني فض ً‬


‫ال عن غريهم‪ ،‬وكفى فـي ذلك قول‬
‫عر َفتِ َ‬
‫ك (‪.)2(»)1‬‬ ‫حق َم ِ‬ ‫س ّيد البرش‪« :‬ما َع َرفن َ‬
‫َاك َّ‬
‫ويعرب السيد اخلميني بالتعبري ذاته يف ّ‬
‫أن هويته الغيبية تعاىل‪ ..." :‬منقطع عنها آمال‬ ‫ّ‬
‫تزل لدى رسادقات جاللـها أقدام السالكني‪ ،‬مـحجوب عن ساحة قـدسهـا‬ ‫العارفني‪ّ ،‬‬
‫قلوب األولياء الكاملني‪ ،‬غري معـروفة ألحد من األنبياء والـمرسلني‪ ...‬وال مقصودة‬
‫ألصحاب الـمعرفة من املكاشفني‪ ،‬حتّى قال أرشف اخلليقة أمجعني‪« :‬ما عرفناك حق‬
‫عرفتِك‪.)3("»...‬‬
‫م ِ‬
‫نعم‪ّ ،‬‬
‫إن الذات البرشية وإن كانت متصلة وجود ًّيا باهلل تعاىل عىل نحو قهري‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫أن هذا االتصال الوجودي التكويني‪ ،‬قد يغفل عنه اإلنسان باملعرفة احلصول ّية‪ ،‬نتيجة‬
‫االشتغال بام يزاحم تركيز النظر عليه وااللتفات إليه‪ ،‬فتبقى معرفة غري شعور ّية أو‬
‫نصف واعية‪ ،‬وااللتفات احلضوري إليها حيتاج إىل صقل مرآة القلب‪ ،‬واستبطان‬
‫الذات؛ ّ‬
‫ألن الرين عىل القلب حيجب رؤية احلقيقة‪ ،‬وااللتفات احلصويل حيتاج إىل‬
‫املن ّبهات والتأمل يف اآليات املنترشة يف األنفس واآلفاق(‪.)4‬‬
‫أن املعرفة احلضورية باهلل تعاىل موجودة ‪-‬وإن بمرتبة ضعيفة‪ -‬يف‬‫واخلالصة‪ّ ،‬‬
‫ذات ّ‬
‫كل إنسان‪ ،‬وإنّام تشتد مرتبة هذه املعرفة باشتداد الوعاء الوجودي للنفس البرشية‬
‫واتساعها بنحو تكون درجة املعرفة متناسب ًة مع مرتبة النفس يف سريها وسلوكها إىل‬
‫لقاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫قوة االرتباط بني األخالق العملية من جهة وبني الفلسفة‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫هبذا‪ ،‬تتضح ّ‬
‫التقرب إىل اهلل تعاىل يزيد من نسبة الوعي الفلسفي بالذات‬
‫هتذيب النفس يف حمراب ّ‬
‫والوجود‪.‬‬
‫(‪ )1‬ابن أيب مجهور األحسائي‪ ،‬حممد بن عيل‪ ،‬عوايل اللئايل العزيزية يف األحاديث الدينيّة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،132‬ح‪.227‬‬
‫(‪ )2‬البهائي‪ ،‬حممد بن حسني العاميل‪ ،‬األربعون حديث ًا‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة‪،‬‬
‫ط‪1415 ،1‬هـ‪ ،‬ص‪.80‬‬
‫(‪ )3‬اخلميني‪ ،‬مصباح اهلداية إىل اخلالفة والوالية‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫(‪ )4‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.240-239‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 186‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أما املعرفة احلصول ّية باهلل تعاىل‪ ،‬فيمكن أن نفرتضها عىل نحوين‪:‬‬
‫إما أن تكون بدهيية ‪-‬بغض النظر عن كوهنا من أي أقسام البدهييات هي‪ ،-‬كام‬
‫هو رأي العالمة الطباطبائي حيث يقول‪ ..." :‬إن أصل وجود الواجب بالذات رضوري‬
‫عند اإلنسان والرباهني املثبتة له تنبيهات باحلقيقة"(‪.)1‬‬
‫وفـي ضوء الـمنطق الوحيـانـي(‪ ،)2‬نعتقد بفطرية معرفة اإلنسان باهلل تعـاىل‪ ،‬لك ّن‬
‫هـذه الفطـرة قد تـدخل بعـض العوامـل الرتبويـة واالجتمـاعيـة والدينيـة التي تـحجبها‬
‫حق‪ ،‬فحينها تـحتاج إلـى تنبيهات وجدان ّية تـثـري ميثـاق الفطـرة الـمنسـي فـي‬
‫عن رؤية الـ ّ‬
‫دفـائـن العـقـول‪.‬‬
‫وإما أن نفرتضها معرفة نظرية حتتاج إىل إقامة األدلة والرباهني الفلسف ّية والكالم ّية‬
‫والعلم ّية‪ ،‬وحينها تدخل دائرة البحث الفلسفي أو الكالمي من املعرفة احلصول ّية‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ )1‬احلكمة املتعالية‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،14‬احلاشية رقم (‪.)1‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬الكايف‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،12‬باب فطرة اخللق عىل التوحيد‪ .‬والصدوق‪ ،‬حممد بن عيل‪،‬‬
‫ّ‬
‫وجل اخللق عىل التوحيد‪ ،‬ص‪.328‬‬ ‫التوحيد‪ ،‬باب فطرة اهلل عزّ‬
‫‪187‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قامئة املصادر واملراجع‬


‫‪ .1‬ابن أيب مجهور األحسائي‪ ،‬حممد بن عيل‪ ،‬عوايل اللئايل العزيزية يف األحاديث الدين ّية‪ ،‬حتقيق‬
‫جمتبى العراقي‪ ،‬مطبعة سيد الشهداء‪ ،‬قم‪-‬إيران‪.‬‬
‫‪ .2‬ابن سينا‪ ،‬أبو عيل حسني بن عبد اهلل‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق الشيخ حسن حسن زاده‬
‫اآلميل‪ ،‬مركز النرش التابع ملكتب اإلعالم اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ .3‬ابن سينا‪ ،‬أبو عيل‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬مع رشح نصري الدين الطويس‪ ،‬حتقيق سليامن دنيا‪،‬‬
‫مؤسسة النعامن‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .4‬األشتياين‪ ،‬مهدي مدرس‪ ،‬تعليقة بر رشح منظومة حكمت سبزواري‪ ،‬باهتامم عبد اجلواد‬
‫فالطورى ومهدي حمقق‪ ،‬هتران‪1353 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .5‬األشتياين‪ ،‬حممد حسن‪ ،‬بحر الفوائد يف رشح الفرائد‪ ،‬مؤسسة التاريخ العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪2008‬م‪.‬‬
‫‪ .6‬آميل‪ ،‬عبد اهلل جوادي‪ ،‬نظرية املعرفة يف القرآن‪ ،‬ترمجة دار اإلرساء للتحقيق والنرش‪ ،‬دار‬
‫الصفوة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1417 ،1‬هـ‪1996-‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬آميل‪ ،‬عبد اهلل جوادي‪ ،‬رحيق خمتوم‪ -‬رشح حكمت متعاليه أسفار عقلية أربعة (فاريس)‪ ،‬نرش‬
‫الزهراء‪ ،‬ط‪1372 ،1‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .8‬آميل‪ ،‬عبد اهلل جوادي‪ ،‬رشيعت در آينه معرفت (فاريس)‪ ،‬ويراستار‪ ،‬هتيه كننده فهرست حجة‬
‫اإلسالم محيد بارسا‪ ،‬النارش مركز نرش فرهنكي رجاء‪ ،‬جاب اول ‪1372‬هـ‪.‬‬
‫‪ .9‬البهائي‪ ،‬حممد بن حسني العاميل‪ ،‬األربعون حدي ًثا‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي التابعة جلامعة‬
‫املدرسني بقم املرشفة‪ ،‬ط‪1415 ،1‬هـ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ .10‬الرتكة‪ ،‬صائن الدين عيل‪ ،‬متهيد القواعد‪ -‬كتاب التمهيد يف رشح قواعد التوحيد‪ ،‬صححه‬
‫وع ّلق عليه األستاذ حسن زاده آميل‪ ،‬النارش‪ :‬ألف الم ميم‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪1481 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪ .11‬اجلواهري النجفي‪ ،‬حممد حسن‪ ،‬جواهر الكالم يف رشح رشائع اإلسالم‪ ،‬حتقيق وتعليق‬
‫الشيخ عباس القوجاين‪ ،‬دار الكتب اإلسالمية‪ ،‬هتران‪1367 ،‬ه‪.‬‬
‫‪ .12‬اخلميني‪ ،‬روح اهلل‪ ،‬مصباح اهلداية إىل اخلالفة والوالية‪ ،‬حتقيق جالل الدين آشتياين‪ ،‬مؤسسة‬
‫تنظيم ونرش آثار اإلمام اخلميني‪1392 ،‬هـ‪ .‬ش‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 188‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫‪ .13‬رسل‪ ،‬برتراند‪ ،‬مشكالت الفلسفة‪ ،‬ترمجة سمري عبده‪ ،‬دار التكوين للتأليف والرتمجة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪2016‬م‪.‬‬
‫‪ .14‬الريشهري‪ ،‬حممد‪ ،‬ميزان احلكمة‪ ،‬دار احلديث‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .15‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين حييى‪ ،‬التلوحيات‪ ،‬تصحيح وحتقيق هنري كوربان‪ ،‬مصنفات شيخ‬
‫اإلرشاق‪.‬‬
‫‪ .16‬الشريازي‪ ،‬حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪1981 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ .17‬الشريازي‪ ،‬حممد بن إبراهيم (املعروف بصدر املتأهلني)‪ ،‬تفسري القرآن الكريم (تفسري آية‬
‫النور)‪ ،‬انتشارات بيدار‪ ،‬إيران‪-‬قم‪ ،‬ط‪1366 ،1‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .18‬الصدر‪ ،‬رضا‪ ،‬الفلسفة العليا‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫صححه وع ّلق عليه الشيخ عباس عيل الزارعي‬
‫‪ .19‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ّ ،‬‬
‫السبزواري‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة‪.‬‬
‫‪ .20‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬أسس الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬تعليق األستاذ الشهيد مرتىض‬
‫مطهري‪ ،‬تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين‪ ،‬دار التعارف للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .21‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬بداية احلكمة‪ ،‬تصحيح وتدقيق الشيخ غالم رضا فيايض‪ ،‬مؤسسة‬
‫النرش اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ .22‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم‬
‫املقدسة‪.‬‬
‫مؤسسة العالمة الطباطبائي العلم ّية‬
‫‪ .23‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬حاشية عىل كفاية األصول‪ّ ،‬‬
‫والفكر ّية‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .24‬الفخر الرازي‪ ،‬حممد بن عمر‪ ،‬املباحث املرشقية‪ ،‬انتشارات بيدار‪ ،‬ط‪1370 ،1‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫صححه وقدّ م له حممد خواجوي‪،‬‬
‫‪ .25‬القونوي‪ ،‬صدر الدين حممد بن إسحاق‪ ،‬النفحات اإلهل ّية‪ّ ،‬‬
‫انتشارات موىل‪ ،‬ط‪1417 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪ .26‬القيرصي‪ ،‬حممد داوود‪ ،‬رشح فصوص احلكم‪ ،‬حتقيق السيد جالل الدين آشتياين‪ ،‬رشكة‬
‫انتشارات علمي وفرهنكي‪ ،‬هتران‪ ،‬ط‪1375 ،1‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪189‬‬ ‫املعرفة الحضوريّة والحصوليّة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ .27‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬الكايف‪ ،‬تصحيح وتعليق عيل أكرب الغفاري‪ ،‬دار الكتب اإلسالم ّية‪،‬‬
‫هتران‪ ،‬ط‪ 1363 ،5‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫األئمة األطهار‪ ،‬دار إحياء الرتاث‬
‫ّ‬ ‫‪ .28‬املجليس‪ ،‬حممد باقر‪ ،‬بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1403 ،3‬هـ‪1983-‬م‪.‬‬
‫‪ .29‬مطهري‪ ،‬العرفان‪ ،‬ترمجة حسن عيل مطر اهلاشمي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتاب اإلسالمي‪1421 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪2001‬م‪.‬‬
‫مؤسسة البعثة‪ ،‬قسم الدراسات‬
‫‪ .30‬مطهري‪ ،‬مرتىض‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬ترمجة عبد اجلبار الرفاعي‪ّ ،‬‬
‫اإلسالم ّية‪ ،‬قم‪1413 ،‬هـ‪.‬‬
‫املدرسني‬
‫مؤسسة النرش التابعة جلامعة ِّ‬
‫حممد رضا‪ ،‬املنطق‪ ،‬تعليق غالم رضا الفيايض‪ّ ،‬‬
‫‪ .31‬املظفر‪ّ ،‬‬
‫بقم املرشفة‪ ،‬ص‪ ،10‬احلاشية رقم (‪.)1‬‬
‫‪ .32‬مري داماد‪ ،‬حممد بن حممد‪ ،‬كتاب القبسات‪ ،‬باهتامم مهدي حمقق‪1367 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .33‬املريداماد‪ ،‬حممد باقر احلسيني‪ ،‬الرواشح السامو ّية‪ ،‬حتقيق غالحمسني قيرصيه ها‪ ،‬نعمة اهلل‬
‫اجللييل‪ ،‬دار احلديث للطباعة والنرش‪ ،‬قم املقدسة ط‪1422 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪ .34‬النراقي‪ ،‬حممد مهدي بن أيب ذر‪ ،‬جامع األفكار وناقد األنظار‪ ،‬تصحيح وتقديم جميد هادي‬
‫يزاده‪ ،‬انتشارات حكمت‪ ،‬هتران‪1423 ،‬هـ‪.‬‬
‫حممد باقر الصدر‪،‬‬
‫‪ .35‬اهلاشمي الشاهرودي‪ ،‬حممود‪ ،‬بحوث يف علم األصول‪ ،‬تقريرات السيد ّ‬
‫مؤسسة الفقه ومعارف أهل البيت‪ ،‬ط‪1433 ،1‬هـ‪2012-‬م‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ .36‬اليزدي‪ ،‬حممد تقي مصباح‪ ،‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة‪ ،‬تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين‪،‬‬
‫نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلم ّية يف قم املقدّ سة‪.‬‬
‫حمم د تقي مصباح‪ ،‬حماولة للبحث يف العرفان اإلسالمي‪ ،‬ترمجة حممد عبد املنعم‬
‫‪ .37‬اليزدي‪ّ ،‬‬
‫اخلاقاين‪ ،‬دار التعارف للمطبوعات‪.‬‬

‫***‬
‫‪ّ5‬‬
‫مـوانـع الـمـعـرفـة‬
‫النص ّية‬
‫بي املعالجات الفلسف ّية واملقاربة ّ‬

‫(*)‬
‫الشيخٌاألسعدٌبنٌعليٌقيدارة‬

‫إسالمي تونسـ ّي ‪ -‬أستـاذ بجامعة املصطفى‬


‫ّ‬ ‫(*) باحث‬
‫العالـم ّية – بريوت‪.‬‬
‫الـ ُمـلـ ّخـص‬
‫منذ أن استق ّلت نظر ّية املعرفة بالبحث عنوا ًنا قائ ًام بذاته يف فجر الفلسفة احلديثة‪،‬‬
‫تنامت وا ّطردت الدراسات إلشكال ّياهتا وأسئلتها العديدة‪.‬‬
‫الفلسفي فـي معالـجة إمكان املعرفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و ُيالحظ فـي هذا السياق‪ ،‬استغراق العقل‬
‫اجلزئي لسؤال املوانع‪ .‬وال ختفى أمهية هذه القض ّية‪ ،‬فال معنى لتنقيح اإلمكان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واإلمهال‬
‫والطرق‪ ،‬واالسرتاتيجيات‪ ،‬والتغايض عن العوائق التي حتول دون الوصول إىل املعرفة‪.‬‬
‫قناعة يقين ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫الديني عن البحث يف اإلمكان‪ ،‬وانطلق من‬
‫ّ‬ ‫ويف املقابل أعرض النص‬
‫خاص ًة إلشكال ّية‬‫وتأصلها يف خلقة اإلنسان وكينونته‪ ،‬و‪ ،‬وأوىل عناي ًة ّ‬
‫ّ‬ ‫بأصالة املعرفة‬
‫موانع املعرفة والعوائق التي حتول دون كشف حقائق الوجود واحلياة‪.‬‬
‫أهم املعاجلات الفلسف ّية للموضوع‪،‬‬ ‫لدراسة أولي ٍة ِ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وهذا البحث حماول ٌة‬
‫مقارنة بني ّ‬ ‫ّ‬
‫واملقاربة النص ّية يف القرآن الكريم والروايات الرشيفة‪.‬‬
‫ِ‬
‫املسلكني‪ ،‬ولوازم ذلك من‬ ‫وتوجت هذه املحاولة بتنقيح الفوارق اجلوهر ّية بني‬
‫ّ‬
‫رضورة العناية املنهج ّية بنظرية املعرفة من خالل النصوص‪ ،‬وباخلصوص إعادة النظر‬
‫يف املنهج ّية املعرف ّية يف القرآن الكريم‪.‬‬

‫الكلامت املفاتيح‪ :‬املانع ‪ -‬العائق ‪ -‬موانع املعرفة ‪ -‬العائق االبستمولوجي‬


‫ّ‬
‫الشك الـمنهجي ‪ -‬سلطة‬ ‫اجلمعي ‪ -‬اتّباع الظنون ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أوهام الـمعرفة ‪ -‬العقل‬
‫الرتاث ‪ -‬سلطة النُخب – الـموانع النفس ّية – الـموانع االجتمـاع ّية – الـموانع‬
‫األخالق ّية السلوك ّية‪.‬‬
‫***‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 194‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫النص ّية‬
‫موانع املعرفة بي املعالجات الفلسف ّية واملقاربة ّ‬
‫التمهيد‬
‫بكل حمموالهتا التساؤل ّية عن اإلمكان‪ ،‬األدوات‪ ،‬والقيمة‪...‬‬ ‫تش ّكل نظرية املعرفة ّ‬
‫ماس ٌة يف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كل‬ ‫التحتي أل ّية مدرسة فكر ّية أو فلسف ّية‪ ،‬بل هي رضور ٌة منهج ّي ٌة ّ‬
‫ّ‬ ‫إلخ‪ ،‬البناء‬
‫أي موضو ٍع من‬ ‫أي ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جمال من جماالت النظر‪ ،‬ويف ّ‬ ‫مغامرة من مغامرات التفكري‪ ،‬ويف ّ‬
‫موضوعات التف ّكر‪ ،‬والتفلسف‪ ،‬والتد ّبر‪.‬‬
‫هتتم هبذه الرؤية الكل ّية للعلوم‬
‫ولذا قامت هيكل ّية الفلسفة القديمة ‪-‬التي كانت ّ‬
‫ِ‬
‫املعرفة يف هذا‬ ‫وخرائطها الكربى‪ -‬عىل ثالث ّية‪ :‬املعرفة‪ ،‬والوجود‪ ،‬والقيم‪ .‬وأ ّكدت أولو ّية‬
‫البناء‪.‬‬
‫كثري من قضاياها‪ -‬مسأل ٌة حيو ّي ٌة يف وجودنا وحياتنا‪،‬‬ ‫فاملعرفة ‪-‬مع ّتريد ّية ٍ‬
‫املستمر هبا طوال التاريخ البرشي إىل يومنا احلايل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والدليل أفضل عىل ذلك من االهتامم‬
‫املجرد إىل جمال التطبيقات العلم ّية‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫وارتقاء البحث فيها من جمال التفلسف‬
‫والتقن ّية‪ ،‬وإدارة احلياة يف خمتلف جماالهتا السياس ّية‪ ،‬واالقتصاد ّية‪ ،‬واالجتامع ّية‪،‬‬
‫والثقاف ّية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫أصيلة من حاجاته الفطر ّية منذ مسريته‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كحاجة‬ ‫ارتبطت الـمعرفة باإلنسان‬
‫األولـى‪ ،‬وظ ّلـت التسـاؤالت التي تطـرق ذهـنـه ووجدانـه‪ ،‬وهو يـالمـس الواقـع‪ ،‬ويسـرب‬
‫بأجوبة قد تركن النفس إليها‪ ،‬وقد ال تذعن‬ ‫ٍ‬ ‫تزوده‬
‫أغـوار ذاتـه‪ ،‬والطبيعة من حوله‪ّ ،‬‬
‫تنوعت وتعدّ دت مصادر الـمعرفة‪،‬‬ ‫متحري ًة إزاء قيمتها‪ ،‬وهكذا ّ‬
‫ّ‬ ‫هلا‪ ،‬وقد تبقى‬
‫وجماالتـها بتش ّعب دروب احلياة‪ ،‬واحلضارة وبتنامي الـملكات الذهن ّية والفكر ّية‬
‫لإلنسان‪ ،‬والفتوحات العلم ّية التي تـح ّققت عرب الزمن‪.‬‬
‫املوانع التي‬
‫ُ‬ ‫ومن اهلواجس التي الحقت الفكر اإلنساين يف هذا املجال وما تزال‪،‬‬
‫والعوائق التي حتول دون إدراك الوقائع‪ ،‬وبلوغ احلقائق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫متنع اإلنسان من املعرفة‪،‬‬
‫مسعى يف هذا الصعيد الـمقفر ‪-‬فالبحوث يف هذا املوضوع نادرة‬
‫ً‬ ‫وهذا البحث‬
‫‪195‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الفلسفي‪ ،‬ويف النصوص الدين ّية (القرآن‬


‫ّ‬ ‫جدًّ ا‪ -‬لدراسة هذه املوانع والعوائق يف الفكر‬
‫الكريم‪ ،‬والروايات الرشيفة)‪.‬‬

‫ما املوانع؟ وما أهم ّية البحث يف املوانع؟‬


‫تعريفي عن املانع واملوانع‪ ،‬ولك ّن الرضورة املنهج ّية‬
‫ّ‬ ‫ال نريد أن نستغرق يف جدل‬
‫كبري يف إيضاح‬‫الذهني للقارئ يسهم إىل حدٍّ ٍ‬
‫ّ‬ ‫تقتيض توضيح ذلك‪ ،‬وإن كان االرتكاز‬
‫املعنى‪ ،‬واكتناه الداللة‪.‬‬
‫اإلع ِ‬
‫طاء‪،‬‬ ‫خالف ِ‬‫ُ‬ ‫فاملن ُع يف اللغة "أن ُحتول بني الرجل وبني اليشء الذي يريده‪ ،‬وهو‬
‫وع ومانِ ٌع‬
‫حتجري اليشء‪ ،‬منعه يمن ُعه من ًعا ومنعه فامتنع منه ومتنع‪ .‬ورجل م ُن ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ويقال‪ :‬هو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومناع‪ :‬ضنِ ٌ ِ‬
‫يع‪:‬‬ ‫وعا‪ .‬ومن ٌ‬ ‫ني ُممس ٌك‪ .‬ويف التنزيل‪﴿ :‬ﲵ ﲶ﴾‪ ،‬وفيه‪ :‬وإذا مسه ُ‬
‫اخلري م ُن ً‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫ص ِإليه يف قوم ُمنعاء‪ ،‬واالسم املنع ُة واملنع ُة واملنع ُة"(‪ ،)1‬أ ّما املانع لغ ًة فهو‪" :‬احلائل‬
‫ال ُخيل ُ‬
‫بني شيئني‪ ،‬وهو اسم فاعل من منع‪ ،‬واالمتناع هو الكف عن اليشء"(‪.)2‬‬
‫أن العجز ُيضاد القدرة‪ ،‬مضاد‬ ‫ويف الفروق اللغو ّية‪ ":‬الفرق بني العجز واملنع‪ّ :‬‬
‫الرتك‪ ،‬ويتع ّلق بمتع ّلقها عىل العكس‪ ،‬واملنع ما ألجله ّ‬
‫يتعذر الفعل عىل القادر فهو ُيضاد‬
‫سمى من ًعا ّإال إذا كان مع القدرة‪ ،‬فليس هو من‬
‫الفعل وليس ُيضا ّد القدرة‪ ،‬بل ليس ُي ّ‬
‫العجز يف يشء"(‪.)3‬‬
‫ٍ‬
‫بمعان خمتلفة‪ ،‬ولكنّها‬ ‫جماالت عدّ ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ويف العلوم ُاستعمل مصطلح (املانع) يف‬
‫تنقيحا ملصطلح املانع (الفقه‪،‬‬
‫ً‬ ‫تتناسب مع الدالالت اللغو ّية‪ ،‬وأكثر العلوم اإلسالم ّية‬
‫عرف الفقها ُء واألصوليون املانع بأنّه‪ :‬مايلزم من وجوده العد ُم‪ ،‬أي‬
‫واألصول)‪ ،‬فقد ّ‬
‫السبب؛ فإنه يلزم من وجوده‬
‫ُ‬ ‫يلزم من وجود املانع عدم احلكم‪ .‬وخرج هبذا القيد‬
‫مظاهنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفصلوا أقسام املانع والتفاصيل تطلب من‬
‫الوجود‪ّ .‬‬
‫(‪ )1‬ابن منظور‪ ،‬حممد بن مكرم بن عيل‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة منع‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪4276‬‬
‫(‪ )2‬الفيومي‪ ،‬أمحد بن حممد‪ ،‬املصباح املنري‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪ ،‬دط‪ ،‬ج‪ 2‬ص ‪580‬‬
‫(‪ )3‬أبو هالل العسكري‪ ،‬الفروق اللغوية‪ ،‬تح حممد إبراهيم سليم‪ ،‬دار العلم والثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪،‬‬
‫ص ‪.112‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 196‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أي ٍ‬
‫جمال‬ ‫وما يعنينا يف املقام‪ :‬موانع املعرفة‪ :‬وهي العوائق التي تواجه ِ‬
‫املدرك‪ ،‬يف ّ‬
‫من جماالت اإلدراك وحتول دونه‪ ،‬ودون الوصول إىل املدركات التي يسعى لبلوغها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رشوط املعرفة ومقتضياهتا‬ ‫حس ّي ًة كانت هذه املدركات‪ ،‬أم ذهن ّي ًة‪ ،‬أم وجدان ّي ًة مع تو ّفر ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫مقومات العلم‪.‬‬
‫من سالمة احلواس‪ ،‬وسالمة الذهن‪ ،‬وسائر ّ‬
‫املعوقات تبدو جدير ًة بالبحث والدراسة؛ إذ ال معنى لتنقيح طرق املعرفة‬
‫وهذه ّ‬
‫وأدواهتا‪ ،‬كام ُينجز عاد ًة يف نظر ّية املعرفة‪ ،‬دون االعتناء باملوانع‪ ،‬والعوائق التي حتول‬
‫ٍ‬
‫واسرتاتيجيات‬ ‫ٍ‬
‫أدوات‪ ،‬وطرائق‪،‬‬ ‫دون إدراك الواقع واإلحاطة به‪ ،‬فمهام ُأويت الباحث من‬
‫يتمرس‬
‫للمعرفة فال ثمرة فيها إن مل يعرف العراقيل والعوائق التي تعرتض طريقه‪ ،‬ومل ّ‬
‫عىل سبل تذليلها وخت ّطيها؛ ألنه دون ذلك يظل أسري املزالق‪ ،‬ويف معرض اخلطأ‪.‬‬
‫نفيس‪ ،‬وبعضها‬
‫لغوي‪ ،‬وبعضها ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫جذر‬
‫واملوانع متعدّ دة‪ ،‬ومتش ّعبة املناشئ فبعضها هلا ٌ‬
‫واجتامعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وسيايس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تارخيي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اآلخر‬
‫عزز رضورة الدراسة التشخيص ّية التحليل ّية هلا‪ ،‬وبيان كيفية‬‫التنوع يف املوانع ُي ّ‬
‫وهذا ّ‬
‫حيلولتها دون الوصول إىل احلقائق‪ ،‬سواء أكانت حقائق كون ّي ًة وجود ّي ًة‪ ،‬أم حس ّي ًة‬
‫ّتريب ّي ًة‪ ،‬أم اعتبار ّي ًة اجتامع ّية‪.‬‬
‫خاصة يف نطاق الفلسفة الواقع ّية التي‬
‫وال تـخفى الفائدة القصوى لتشخيصها‪ّ ،‬‬
‫تؤمن بانفتاح سبل الـمعرفة‪ ،‬وإمكان الوصول إىل احلقيقة‪ ،‬بل تعد هذه الفلسفة ّ‬
‫أن‬
‫أسمى غايات الفلسفة أن ترى الواقع كام هو‪ ،‬فقد جاء يف كال ٍم مرفوع إىل النبي‪:‬‬
‫اللهم أرنا احلقائق كام هي»(‪.)2‬‬
‫اللهم أرنا األشياء كام هي» ‪ ،‬ويف حديث آخر « ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫« ّ‬
‫ينمي خرباتنا هبذه‬ ‫ِ‬
‫وما كشف عنه الرتاث الفلسفي عىل هذا الصعيد من شأنه أن ّ‬
‫الوانع‪ ،‬وخماطر السقوط يف مط ّباهتا‪ ،‬واالستفادة القصوى من إمكانات املعرفة وأدواهتا‬
‫ِ‬
‫طاقاته التي توا ّفرت له عىل هذا السبيل‪.‬‬ ‫التي زود هبا دون أن هيدر أية ٍ‬
‫طاقة من‬ ‫ّ‬

‫(‪ )1‬هو كالم مأثور وليس حديثًا كام ّ‬


‫يتوهم كثريون‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن أيب مجهور اإلحسائي‪ ،‬عوايل اللئايل‪ ،‬حتق آغا جمتبى العراقي‪ ،‬مطبعة سيد الشهداء‪ ،‬قم‪ ،1985 ،‬ج‪ 4‬ص ‪.132‬‬
‫ّ‬
‫املـبحـث األول‬
‫موانع املعرفة ف الفلسفة‬
‫كثري من الفالسفة يف بحوثهم للعوائق يف طريق السري املعريف‪ ،‬ولـ ّام كان‬‫تعرض ٌ‬ ‫ّ‬
‫كل أولئك الفالسفة ُيـخرج املقالة عن أطرها املحدّ دة‪ ،‬سنكتفي ببعض‬ ‫استقصاء آراء ّ‬
‫ٍ‬
‫النظريات التي تعـطـي مـؤشـرات عن الـمح ّطـات الكـربى الـتى مـ ّر بـها العقـل الفلسـ ّ‬
‫في‬
‫علـى هذا الصعيد‪ ،‬والـمح ّطات هي‪:‬‬
‫‪ .1‬اّتاه السفسطة يف تاريخ الفلسفة اليونان ّية‪.‬‬
‫‪ّ .2‬تربة أيب حامد الغزايل التي تأ ّثر هبا إىل حدّ ٍ‬
‫بعيد أبو الفلسفة الغرب ّية احلديثة‬
‫ديكارت‪.‬‬
‫‪ .3‬فرنسيس بيكون واألرغانون اجلديد‪.‬‬
‫‪ .4‬باشالر والعوائق االبستمولوج ّية‪.‬‬

‫‪ -1-1‬الفلسفة اليونان ّية والسفسطة‬


‫مستقال بذاته‪ ،‬بل كانت ممتزج ًة‬
‫ً‬ ‫مل تكن نظر ّية املعرفة ّف الفلسفة القديمة ً‬
‫جماال‬
‫وداخل ًة ضمن اإلطار العام للفيلسوف فـى تلك الـمرحلة‪ .‬فعند هـرياقلطيـس كانت‬
‫الـمعـرفة مرتبطـ ًة بالكـون ّيـات‪ ،‬ونظـريـاته حـول علمـى الـجمـال واألخـالق‪ .‬وعنـد‬
‫سقـراط امتـزجت بأبحـاثـه الـ ُخلق ّية‪ ،‬فقد ربط بني الفضيلة والـمعرفة حيث ذهب إلـى‬
‫ّ‬
‫أن الفضـيلة هى ثمرة الـمعرفة‪ ،‬وأ ّما الرذيلة فهى نتيجة اجلهل‪ ،‬فاإلنسان ال يمكنه أن‬
‫يعيش سعيدً ا ّإال إذا ح ّقق عمليا القاعدة التى تقول‪" :‬اعرف نفسك ِ‬
‫بنفسك"‪ .‬فهو‬ ‫ً‬
‫يستطيع عن طريق معرفة نفسه أن يعلم ما ينفعه‪ ،‬وأن يستمدّ من احلياة ما يفيده‪ ،‬فمتى‬
‫عرف اخلري حرص عىل فعله‪ ،‬ومتى عرف الرش حرص عىل ّتنّبه‪.‬‬
‫وقد ر ّد سقراط املعرفة واألخالق إىل العقل‪ ،‬وكانت طريقته ّف املعرفة هى اجلدل‬
‫الذي يو ّلد احلقيقة‪ .‬وعند أفالطون ال يمكن فصل نظر ّية املعرفة عن نظريته العا ّمة ّف‬
‫األول هى معرف ٌة ظن ّي ٌة‪،‬‬
‫الوجود؛ فهو ُيم ّيز بني العامل املحسوس والعامل املعقول‪ ،‬ومعرفة ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 198‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أ ّما معرفة الثانى فهى معرفة يقين ّي ٌة‪ ،‬وقد قرن أفالطون أبحاثه التى تتع ّلق باملعرفة‬
‫ً‬
‫ونازال‪ ،‬ونظرية الـ ُم ُثل‪ ،‬واالستذكار‪.‬‬ ‫باجلدل صاعدً ا‬
‫أما أرسطو فقد ارتبطت املعرفة عنده بأبحاثه فيام وراء الطبيعة فال توجد عنده‬
‫حدو ٌد فاصل ٌة بني املعرفة بوصفها نظرية‪ ،‬وما يرتبط بامليتافيزيقا من مشكالت وقضايا‪،‬‬
‫وما ي ّتصل باألبحاث املنطقية اخلالصة‪.‬‬
‫إن التحدّ ي الكبري الذي واجهه فالسفة اليونان هي‪ :‬نزعات الشك اهلدّ ام التي‬ ‫ّ‬
‫منغلقة‪ ،‬تغدو معها احلقائق تدور مدار‬ ‫ٍ‬ ‫سعت لتنسف أسس املعرفة‪ ،‬والرتويج لنسب ّي ٍة‬
‫روج هذا االّتاه (السفسطة)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الفرد ذاته "فاإلنسان مقياس ّ‬
‫كل يشء" كام ُي ّ‬
‫لقد ارتبط مفهوم السفسطة باحلركة السوفسطائ ّية‪ ،‬وهي حرك ٌة فكر ّي ٌة واجتامع ّي ٌة‬
‫نشأت وترعرعت يف اليونان القديمة خالل القرن اخلامس قبل امليالد‪ ،‬ورفعت شعار‬
‫"اإلنسان مقياس ّ‬
‫كل يشء"‪ ،‬ودافعت عن نسب ّية احلقيقة وارتباطها بالظروف املتغرية‪،‬‬
‫فانتهت إىل تأكيد أمه ّية اللجوء للحيل اخلطاب ّية‪ ،‬واألالعيب القول ّية لتحقيق املصالح‬
‫مرسحا‬
‫ً‬ ‫الشخص ّية‪ ،‬وعىل رأسها التأييد اجلامهريي يف املعارك السياس ّية التي كانت أثينا‬
‫هلا خالل تلك احلقبة‪.‬‬
‫يكتف السوفسطائيون بمامرسة السفسطة وحدهم‪ ،‬بل مت ّكنوا من إقناع صفوة‬ ‫ِ‬ ‫ومل‬
‫دروس يف هذا املجال إن كانوا يرغبون يف حتقيق مصالح‬ ‫ٍ‬ ‫املجتمع آنذاك برضورة تل ّقي‬
‫ثروات عظيمة‪ .‬غري ّ‬
‫أن هذه‬ ‫ٍ‬ ‫اجتامع ّية وسياس ّية واقتصاد ّية‪ ،‬فتم ّكنوا بفضل ذلك من مجع‬
‫ستتعرض لنقد الذ ٍع من طرف املدرسة العقل ّية يف الفلسفة اليونان ّية مم ّثل ًة بشكل‬
‫ّ‬ ‫احلركة‬
‫أسايس يف سقراط‪ ،‬وأفالطون‪ ،‬وأرسطو‪ .‬فقد حاول هؤالء الكشف عن مظاهر التمويه‬
‫واخلداع يف أساليب احلجاج والنظر واملناظرة عند السوفسطائيني‪ ،‬ممّا أ ّدى إىل انحسار‬
‫التصور العقالين املؤمن بالقيمة املطلقة‬
‫نفوذ هذه احلركة تدرجي ًّيا لتفسح املجال أمام ّ‬
‫للحقيقة‪ ،‬والذي سيغدو عالم ًة مم ّيز ًة للفكر اليوناين‪ ،‬وملختلف املدارس التي تأ ّثرت به‬
‫نظرا عقل ًّيا‪ ،‬غايته السري يف طريق احلقيقة‪،‬‬ ‫التصور مت ّثله الفلسفة بوصفها ً‬
‫ّ‬ ‫الح ًقا‪ ،‬وهذا‬
‫ٍ‬
‫باطلة وخمادعة‪ ،‬كام غدت شخص ّية‬ ‫ممارسة فكر ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫أما السفسطة فأصبحت مرادف ًة ّ‬
‫لكل‬
‫‪199‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫السوفسطائي معادل ًة لشخصية املخادع الذي يتحايل بالكالم واخلطاب قصد الوصول‬
‫إىل أغراضه الس ّيئة يف الغالب‪.‬‬
‫ومن هنا ي ّتضح ّ‬
‫أن حقيقة السفسطة تكمن يف إنكار العلم ‪-‬اإلدراك املطابق‬
‫للواقع‪ -‬واألدلة التي ُنقلت عن هذه اجلامعة تدور حول هذا املحور‪ ،‬الذي تتكئ هذه‬
‫اجلامعة عمو ًما عليه‪" ،‬فجورجياس ً‬
‫مثال علم من أعالمهم قد ُنقلت عنه براهني تؤكد‬
‫استحالة وجود اليشء‪ ،‬وإذا وجد من باب فرض املحال‪ ،‬فهو اليمكن معرفته‪ ،‬وإذا‬
‫عرف من باب فرض املحال فهوال يمكن تعريفه وحتديد سامته لآلخرين"(‪.)1‬‬
‫أن السفسطة تقوم عىل إلغاء أساس مبدأ عدم‬ ‫تقرر الفلسفة ّ‬
‫وعىل هذا األساس ّ‬
‫ألن ّ‬
‫كل املعلومات تعتمد هذا املبدأ‪ ،‬ومع التسليم به ال يمكن إنكار احلقيقة‪،‬‬ ‫التناقض؛ ّ‬
‫ومع إنكاره ال يمكن إثبات حقيقة من احلقائق"(‪ .)2‬ففي التجربة اليونان ّية تعد‬
‫ومظهرا حليلولة العقل املغالط دون الوصول‬
‫ً‬ ‫السفسطة أس املوانع العقل ّية للمعرفة‪،‬‬
‫إلدراك املعارف واحلقائق‪.‬‬

‫املنهجي‬
‫ّ‬ ‫‪ -2-1‬الغزايل وتجربة الشكّ‬
‫مقياس اليقني عند الغزايل هو األمان‪ ،‬ومعنى األمان هو الثقة يف جمانبة الغلط‬
‫واخلطأ‪ ،‬ومقياس الثقة هو انكشاف املعلوم انكشا ًفا ينتفي معه كل ريب "وقد كان‬
‫التع ّطش إىل درك األمور دأيب وديدين من ّأول أمري وريعان عمري‪ .‬غريزة وفطرة من‬
‫اهلل له وضعتا يف جبلتي ال باختياري وحيلتي حتى انحلت عني رابطة التقليد"(‪.)3‬‬
‫كان هاجس الغزايل العلم اليقيني الذي ينكشف فيه املعلوم انكشا ًفا ال يبقى معه‬
‫مرص ًحا‪" :‬فظهر يل ّ‬
‫أن العلم اليقيني‬ ‫ريب وال يقارن ُه إمكان الغلط والريب‪ ،‬وهبذا ُ‬
‫يقول ِّ‬ ‫ٌ‬
‫هو الذي ينكشف فيه املعلوم انكشا ًفا اليبقى معه ريب‪ ،‬وال يقارنه إمكان الغلط‬
‫(‪ )1‬السيد الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ :‬أصول الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬تر‪ .‬عامر أبو رغيف‪ ،‬منتدى الكتاب الشيعي‪،‬‬
‫‪ ،2012‬ج‪ 1‬ص ‪.96‬‬
‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.106‬‬
‫(‪ )3‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ :‬املنقذ من الضالل‪ ،‬تح مجيل صليبا‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بريوت‪ ،1967 ،‬ط‪ ،10‬ص‪.161‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 200‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫والوهم‪ ،‬وال ي ّتسع العقل لتقدير ذلك‪ ،‬بل األمان من اخلطأ جيب أن يكون مقار ًنا‬
‫لليقني مقارن ًة لو حتدّ ى بإظهار بطالنه ً‬
‫مثال من يقلب احلجر ذه ًبا والعصا ثعبا ًنا‪ ،‬لو‬
‫علمت ّ‬
‫أن العرشة أكثر من ثالثة‪ ،‬فلو قال يل قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فإين إذا‬
‫وإنكارا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫يورث ذلك ش ًّكا‬
‫وشاهدت‬
‫ُ‬ ‫ال بل الثالثة أكثر من العرشة بدليل ّأين أقلب هذه العصا ثعبا ًنا‪ ،‬وقلبها‪،‬‬
‫التعجب من كيفية قدرته عليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك منه مل ّ‬
‫أشك بسببه يف معرفتي‪ ،‬ومل حيصل يل منه إال ّ‬
‫علمت فال"(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الشك فيام‬ ‫فأ ّما‬
‫تبني له‬
‫احلس بعدما ّ‬ ‫فطفق يتأ ّمل يف طرق املعرفة عنده‪ ،‬لقد ّ‬
‫شك الغزايل ابتدا ًء يف ّ‬
‫صغريا‬
‫ً‬ ‫وأن احلواس يف معرض اخلطأ‪ ،‬فهي ترى الكبري‬‫أن اخلطأ يمكن أن يتس ّلل إليه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫واملتحرك ثاب ًتا‪ ،‬فانتقل إىل األول ّيات ‪ّ -‬‬
‫ولعل النفس ترك ُن إىل حكم العقل‪ -‬فتناهى إليه‬ ‫ّ‬
‫حاكم آخر ُخي ّطئ العقل كام خ ّطأ العقل ّ‬
‫احلس؟ وهذا‬ ‫ٌ‬ ‫إشكال آخر‪ :‬من قال اليوجد‬ ‫ٌ‬
‫احلاكم الثاين وإن مل يتجل لنا يف عامل اإلدراك‪ ،‬فذلك ال يعني استحالته‪ .‬ثم تر ّقى فـي‬
‫بحس أوعق ٍل‬ ‫ّ‬
‫الشك إىل أن تساءل‪ ":‬بام تأمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك ٍّ‬ ‫مسار‬
‫حق باإلضافة إىل حالتك التي أنت فيها‪ ،‬لكن يمكن أن تطرأ عليك حال ٌة أخرى‬
‫هو ّ‬
‫تكون نسبتها إىل يقظتك كنسبة يقظتك إىل منامك؟ وتكون يقظتك نو ًما باإلضافة‬
‫إلـيـها!!!(‪.)2‬‬
‫وولج الغزايل دوامة السفسطة‪ ،‬وقد حدّ ثنا يف كتابه املنقذ من الضالل عن احلرية‬
‫التي عاشها‪ ،‬وعاصفة السفسطة التي جرفته طيلة شهرين ممتتاليني‪":‬فأعضل هذا الداء‬
‫ودام قري ًبا من شهرين أنا فيهام عىل مذهب السفسطة بحكم احلال‪ ،‬ال حكم املنطق‬
‫الصحة‬
‫ّ‬ ‫واملقال‪ ،‬حتى شفى اهلل تعاىل من ذلك املرض واالعتالل‪ ،‬وعادت النفس إىل‬
‫ٍ‬
‫ويقني‪ ،‬ومل يكن‬ ‫واالعتدال‪ ،‬ورجعت الرضورات العقل ّية مقبول ًة موثو ًقا هبا عىل ٍ‬
‫أمن‬
‫بنور قذفه اهلل تعاىل يف الصدور"‪.‬‬‫دليل وترتيب كال ٍم‪ ،‬بل ٍ‬
‫ذلك بنظم ٍ‬
‫بعدما عاد إليه اليقني بالرضوريات العقلية طفق يبحث يف أصحاب املذاهب‬

‫(‪ )1‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ :‬املنقذ من الضالل‪ :‬ص‪.163‬‬


‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.116‬‬
‫‪201‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫بحث وتتب ٍع‪ ،‬ركن‬ ‫واآلراء‪ :‬املتكلمني‪ ،‬والباطن ّية‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬والصوف ّية‪ ،‬وبعد مسرية‬
‫إىل طريقة الصوف ّية التي بان له "بالرضورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة‬
‫وخاص ّيتها"(‪.)1‬‬
‫طور حيصل‬
‫طور وراء طور احلس والعقل‪" :‬فالنبوة ٌ‬
‫النبوة التي يذهب الغزايل ّأهنا ٌ‬
‫ّ‬
‫وأمور ال يدركها العقل"(‪.)2‬‬
‫ٌ‬ ‫نور يظهر يف نورها الغيب‪،‬‬
‫عني هلا ٌ‬
‫فيها ٌ‬
‫ٍ‬
‫سنوات من العزلة واخللوة وانقطاع عن التعليم والتدريس‪ ،‬استأنف الغزايل‬ ‫وبعد‬
‫شم ًرا ساعد ِ‬
‫اجلدّ عىل األخذ بيد السالكني وكشف الشبهات‬ ‫حياته ونشاطه العلمي ُم ِّ‬
‫الغمة‬
‫بعد أن شاعت الفتن الفكر ّية‪ ،‬خماط ًبا نفسه‪ ":‬متى تشتغل أنت بكشف هذه ّ‬
‫ُ‬
‫زمان الفرتة‪ ،‬والدورة دور ُة الباطل"‪.‬‬ ‫ومصادمة هذه الظلمة‪ ،‬والزمان‬
‫باملؤرشات عىل حضور إشكال ّية موانع‬
‫ّ‬ ‫هذه ّتربة الغزايل (‪ )3‬التي كام ّ‬
‫تتجىل حبىل‬
‫ّ‬
‫الشك البنّاء الذي ال يقف يف حدود‬ ‫مؤسس منهج‬
‫املعرفة‪ ،‬بل عدّ ه بعض الباحثني ّ‬
‫االرتياب ودوائره‪ ،‬وال ينهزم أما العوائق واملوانع لبلوغ احلقيقة والوصول إىل اليقني‪.‬‬
‫الشك الديكاريت (‪ )1650-1596‬إىل الغزايل؛ فقد تأ ّثر ديكارت‬
‫ّ‬ ‫و ُينسب منهج‬
‫هبذه التجربة‪ ،‬وّتربته تشبه ّتربة الغزايل يف البحث عن اليقني الفلسفي‪ ،‬فقد بدأت‬
‫الشك مبك ًّرا لديه منذ كان يف مقعد الدراسة؛ ألنّه عاش يف ٍ‬
‫عرص ساد فيه الشك ّاكون‬ ‫مسرية ّ‬
‫والالأدر ّيون‪ .‬ومن الراجح ا ّطالع ديكارت ‪-‬وهو أبو الفلسفة الغربية الـحديثة‪ -‬علـى‬
‫تـجـربـة الغ ـزايل(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ :‬املنقذ من الضالل‪ :‬ص‪.267‬‬


‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.271‬‬
‫ويفرسها بدوافع‬‫(‪ّ )3‬تنّبنا السجال مع أطروحة بعض من ُيش ّكك يف الدوافع املعرف ّية عند الغزايل يف مسريته الفكر ّية‪ّ ،‬‬
‫خطرا عىل الدولة‪ ،‬وحتّى‬‫سياسيّة أسهمت السلطة السلجوقيّة يف حتريضه عليها‪ ،‬ملحاربة الباطنيّة حيث كانت متثّ ُل ً‬
‫رجوعه إىل التدريس يف نيسابور بعد عزلته وخلوته‪ ،‬فإنّه يرصح ّأهنا كانت ٍ‬
‫بأمر من اخلليفة كام جاء يف كتابه (املنقذ‬
‫من الضالل)‪.‬‬
‫(‪ )4‬يف املؤمتر العارش للفكر اإلسالمي‪ ،‬الذي انعقد يف عنابة يف اجلزائر عام ‪1971‬م‪ ،‬كشف عثامن الكعاك (‪-1903‬‬
‫‪ )1976‬عن حقيقة أذهلت مجيع الـمؤتـمرين‪ ،‬ذكر ّ‬
‫أن مـحمد عبد الـهادي أبو ريدة (‪1991-1909‬م) ‪-‬الذي =‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 202‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ومن الذين أ ّك دوا رسقة ديكارت لبعض أفكار الغزايل ‪-‬ال س ّيام من كتاب (املنقذ‬
‫كل من حممود محدي زقزوق (‪2020-1933‬م) يف كتابه (املنهج‬ ‫من الضالل) ‪ٌّ -‬‬
‫الفلسفي بني الغزايل وديكارت) ‪ ،1983‬ونجيب حممد البهبيتي (‪)1992-1908‬‬
‫أقر زكي‬‫يف كتابه (املدخل إىل دراسة التاريخ واألدب العربيني) ‪ .1985‬وكذلك ّ‬
‫نجيب حمفوظ (‪1993 -1905‬م)‪ ،‬يف كتابه (رؤية إسالمية)‪ .‬وحقيقة األمر أ ّن الشبه‬
‫شديد بني الغزايل وديكارت من حيث املنهج‪ ،‬وليس من حيث املحتوى‪ ،‬فاقرأ عن‬
‫خطوات املنهج الذي يؤدي باإلنسان إىل اليقني يف كتاب (حمك النظر) للغزايل‪ّ ،‬تد‬
‫نفسك عىل وشك أن تتساءل‪ :‬ماذا بقي بعد ذلك لديكارت؟(‪.)1‬‬

‫‪ -3-1‬فرنسيس بيكون واألورغانون الجديد‬


‫ينتقد بيكون مناهج التفكري السائدة يف عرصه‪ ،‬وينادي بتجديدها‪ ،‬وإعادة بنائها‬
‫لفهم الطبيعة فهام يطابق العقل اإلهلي‪ ،‬فيقول بيكون‪" :‬هناك أربعة أنوا ٍع من األوهام‬
‫اسام (بغية التمييز بينها)‪ .‬فأطلقت عىل‬
‫لكل منها ً‬‫البرشي‪ ،‬وقد قيضنا ّ‬
‫ّ‬ ‫حتدق بالعقل‬
‫األول أوهام القبيلة‪ ،‬وعىل النوع الثاين أوهام الكهف‪ ،‬وعىل الثالث أوهام‬
‫النوع ّ‬
‫السوق‪ ،‬وعىل الرابع أوهام املرسح"(‪.)2‬‬
‫والتصورات‬
‫ّ‬ ‫و ُينّبه إىل خطورة هذه األوهام يف طريق املعرفة‪ " :‬تلك األوهام‬
‫متجذر ًة فيه بعمق ال ت ِرين فقط‬
‫ِّ‬ ‫الزائفة التي استحوذت عىل الذهن البرشي وما زالت‬
‫بحثي يتو ّفر عليه أبو ريدة بخصوص تأثري‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫عمل‬ ‫= كانت تربطه بالكعاك عالقة وثيقة‪ -‬طلب إليه أن يعاونه يف‬
‫الغزايل يف الفكر الغريب‪ ،‬وبام أن الكعاك كان يعمل أمينًا عا ًما للمكتبة الوطن ّية‪ ،‬فإنه استطاع أن يصل إىل مكتبة‬
‫ديكارت‪ ،‬فوصل إليها وبدأ يطالع‪ ،‬و ُفجئ الكعاك بنسخة من كتاب الغزايل (املنقذ من الضالل) مرتمجة إىل‬
‫الالتينية يف مقتنيات ديكارت‪ ،‬وبقلم ديكارت خطوط محراء حتت أكثر من فكرة من أفكار الغزايل‪ ،‬منها قول‬
‫الغزايل‪" :‬الشك أوىل مراتب اليقني"‪ ،‬ومكتوب عليها‪" :‬ينقل هذا إىل منهجنا"‪ ،‬أي إىل كتابه (مقال يف املنهج)‪،‬‬
‫وهذه رسقة واضحة بخط ديكارت نفسه‪ .‬وّتاه هذه احلقيقة اخلطرية‪ ،‬يف اليوم التايل للمؤمتر وجد الكعاك ميت ًا‬
‫يف غرفته! وحينها قال حممد سعيد البوطي (‪2013-1929‬م)‪" :‬ال ندري ماذا حصل؟"‪ ،‬فال أحد يعرف إن‬
‫وافته املنية أم ُقتل‪( .‬انظر اجلبوري‪ ،‬عامد الدين‪ ،‬موقع اندبندت بالعربية ‪2021-2- 18‬م)‪.‬‬
‫(‪ )1‬حمفوظ‪ ،‬زكي نجيب‪ ،‬رؤية إسالمية‪ ،‬مؤسسة اهلنداوي‪ ،‬اململكة املتحدة‪2017 ،‬م‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫(‪ )2‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ ،‬تر عادل مصطفى‪ ،‬مؤسسة هنداوي اململكة املتحدة‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪203‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫منفذا إليها‪ ،‬بل حتى إذا وجدت احلقيق ُة منف ًذا ّ‬


‫فإن‬ ‫عىل عقول البرش فال ّتد احلقيق ُة ً‬
‫هذه األوهام سوف تالحقنا مر ًة أخرى يف عملية ّتديد العلوم نفسها‪ ،‬وتضع أمامنا‬
‫وحي ِّصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون"(‪.)1‬‬‫البرش ِحذرهم ُ‬
‫ُ‬ ‫العوائق ما مل يأخذ‬
‫ّ‬
‫الشك‪ ،‬ولك ّنه خيتلف عنهم يف أ ّنه يبتغي‬ ‫وهو يعرتف أ ّنه يشرتك يف منطلقاته مع أهل‬
‫منهجنا يف بداية الطريق‬
‫ُ‬ ‫الشك‪ ،‬وبلوغ اليقني‪ ،‬فيقول يف ذلك‪" :‬يتفق‬‫ّ‬ ‫االنعتاق من‬
‫بعض اليشء مع منهج أولئك الذين أنكروا إمكان الوصول إىل اليقني‪ ،‬غري ّأهنام يفرتقان‬
‫التعارض؛ فهم يذهبون ببساطة إىل أ ّننا ال‬
‫ُ‬ ‫يف النهاية غاية االختالف ويتعارضان كل‬
‫أيضا أذهب إىل أ ّننا ال يمكننا أن نعرف شي ًئا ُيذكر يف الطبيعة‬
‫يمكننا أن نعرف شي ًئا‪ ،‬وأنا ً‬
‫بوساطة املنهج املستخدم اآلن‪ ،‬إال ّأهنم يمضون إذاك لكي يد ّمروا سلطة احلس والفهم‪،‬‬
‫بينام نميض نحن لكي نبتكر هلام مساعدات ونزودمها بدعائم"(‪.)2‬‬
‫ويش ّبه دوره يف تنقيح موانع الـمعرفة وتـجاوزها بعمل أرسطو فـي دحض مقوالت‬
‫التصورات والـمبادئ بوساطة االستقراء الصحيح‬
‫ّ‬ ‫شك ّ‬
‫أن تكوين‬ ‫السفسطائيني‪" :‬ال ّ‬
‫أيضا‬ ‫هو العالج الناجع للتخ ّلص من األوهام وإزالتها‪ ،‬إال ّ‬
‫أن التعرف عىل األوهام هو ً‬
‫أدا ٌة مفيد ٌة للغاية‪ ،‬فدراسة األوهام هي بالنسبة لتفسري الطبيعة مثل دراسة الدحوضات‬
‫السوفساط ّية (إشارة إىل كتاب أرسطو يف الدحوضات السوفسطائية) بالنسبة للمنطق‬
‫العادي"(‪.)3‬‬
‫ويرشح بيكون هذه األوهام‪:‬‬

‫‪ -1-3-1‬أوهام القبيلة‬
‫اإلنساين من حيث هو كذلك‪ ،‬ولذا فهي‬
‫ّ‬ ‫الطبيعي يف العقل‬
‫ّ‬ ‫وهي تعود إىل النقص‬
‫طبيع ٌة إنسان ّي ٌة مشرتك ٌة بني مجيع األفراد حتول دون إصدار األحكام الواقع ّية‪ .‬يقول‬
‫بيكون‪" :‬أوهام القبيلة مب ّيتة يف الطبيعة البرش ّية‪ ،‬ويف القبيلة البرش ّية نفسها‪ ،‬أو اجلنس‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫(‪ )3‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 204‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫رأي خاطئ؛‬ ‫البرشي نفسه‪ ،‬فالرأي القائل ّ‬


‫بأن حواس اإلنسان هي مقياس األشياء هو ٌ‬
‫فاإلدراكات مجي ًعا احلس ّية والعقل ّية هي عىل العكس منسوبة لإلنسان وليس إلـى‬
‫ٍ‬
‫مستوية تـتل ّقى األش ّعة من األشياء‪ ،‬وتـمزج‬ ‫ٍ‬
‫بمرآة غري‬ ‫العالـم‪ ،‬والذهن البرشي أشبـه‬
‫فتشوهها وتفسدها"(‪.)1‬‬
‫طبيعتها اخلاصة بطبيعة األشياء ّ‬
‫يعمم بالنظر إلـى احلاالت الـمؤ ِّيدة‪ ،‬وال يعري‬ ‫ومن مظاهر هذا الوهم ّ‬
‫أن العقل ّ‬
‫أمهي ًة للحاالت املعارضة وإن كانت معتربة‪ ،‬وهذا ما نراه يف التنجيم واألحالم والفأل‪.‬‬
‫شخصا لإليمـان باآللـهة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويستشهد بيكون هبذا املثال‪" :‬الذين حاولوا أن يدفعوا‬
‫فعرضوا عليه صورة فـئـ ٍة من الناس نجت من الطوفان بعد أن أ ّدت نذورها إليها‪.‬‬
‫قائال‪ :‬وأين هي صورة تـلك الفـئـة التي غرقت رغم أ ّنـها قدّ مت النذور؟ ومن‬ ‫فتساءل ً‬
‫أيضـا ّ‬
‫أن العقـل اإلنسانـ ّي مستعدٌّ بطبيعته الفرتاض نظا ٍم فـي هذا العالـم‪ ،‬وهذا‬ ‫مظـاهره ً‬
‫يرجع إلـى وه ٍم فـي هـذا العقل يتم ّثل فـي ح ّبـه للرياضيات‪ ،‬فـريى الطـبيـعة ك ّلها ميـدانًا‬
‫مسارا هندس ًّيا‬
‫ً‬ ‫تنطبق عليـه الـحقـائق الريـاض ّيـة‪ ،‬فريى ّ‬
‫أن حركة الكواكب تتّخذ دائ ـ ًام‬
‫اوي أو الـمستقيم‪ .‬باختصار ّ‬
‫إن أوهام القبيلة تـجعل العقل‬ ‫الدائري أو البيـضـ ّ‬
‫ّ‬ ‫كالـمسار‬
‫فرضا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صورة ما‪ ،‬يـجتهد فـي فرضها علـى الواقع ً‬ ‫حينمـا يسرتيح إلـى‬
‫وأورد بـيكون أمثلة علـى أوهـام القـبيـلة‪ :‬كالفهـم البشـري الذي يميل إلـى‬
‫التجريد‪ ،‬والقبول بمقولة اجلوهر‪ ،‬والنفور من األمور الصعبة؛ ألهنا ّ‬
‫ّتشمه الصرب فـي‬
‫البحث‪ ،‬ونبذ االعتدال‪ "....‬وهكذا هي أوهام القبيلة‪ ،‬التي تنشأ إ ّما عن اطراد ِجبِلة‬
‫الروح البرش ّية‪ ،‬أو عن حت ّيزاهتا‪ ،‬أو قصور ملكاهتا‪ ،‬أو حركتها الدائبة‪ ،‬أو عن تأثري‬
‫االنفعاالت‪ ،‬أو عن عجز احلواس‪ ،‬أو عن شكل انطباعاهتا"(‪.)2‬‬
‫‪ -2-3-1‬أوهام الكهف‬
‫اخلاص‬ ‫إن له مزاجه‬ ‫ٍ‬
‫إنسان‪ ،‬من حيث ّ‬ ‫تعود أوهام الكهف إىل الطبيعة الفرد ّية ّ‬
‫لكل‬
‫ّ‬
‫بمكوناته الفطر ّية واملكتسبة عىل السواء؛ فهي تصدر عن االستعدادات األصيلة وعن‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.21‬‬
‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪205‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العادات املكتسبة عن طريق الرتبية والعالقات االجتامع ّية والتعليم‪.‬‬


‫إن لكل ٍ‬
‫فرد باإلضافة‬ ‫ويف ذلك قال بيكون‪" :‬فهي األوهام اخلاصة باإلنسان الفرد‪ّ ،‬‬
‫خاصا به يعرتض ضياء الطبيعة ويشوهها‪،‬‬ ‫إىل أخطاء الطبيعة البرش ّية بعا ّمة كه ًفا أو ً‬
‫غارا ٍّ‬
‫قد حيدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة واخلاصة لكل إنسان‪ ،‬أو بسبب تربيته وصالته‬
‫اخلاصة‪ ،‬أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين ُيكِن هلم االحرتام واإلعجاب‪ ،‬أو الختالف‬
‫ٍ‬
‫رصني‬ ‫قلق متحيز‪ ،‬أو ٍ‬
‫ذهن‬ ‫ذهن ٍ‬
‫االنطباعات التي ترتكها األشياء يف أذهان خمتلفة‪ :‬يف ٍ‬
‫ٍ‬
‫مطمئن‪ ...‬إلخ‪ .‬الروح البرشية إ ًذا (بمختلف ميوهلا لدى خمتلف األفراد) هي يش ٌء متغري‪،‬‬
‫وغري ُمطرد عىل اإلطالق‪ ،‬وره ٌن للمصادفة العشواء‪ ،‬وقد صدق هرياقليطس حني‬
‫اخلاصة‪ ،‬وليس يف العامل األكرب أو‬
‫ّ‬ ‫قال‪ّ :‬‬
‫إن الناس تلتمس املعرفة يف عواملهم الصغرى‬
‫العام"(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫إنسان (باإلضافة إىل األخطاء العا ّمة‬ ‫ألن ّ‬
‫كل‬ ‫كل ٍ‬
‫فرد؛ ّ‬ ‫"أوهام الكهف هي أوهام ّ‬
‫اخلاص أو غاره الذي يعرتض طبيعة الضوء أو ُيفسده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البرشي)‪ ،‬له كهفه‬
‫ّ‬ ‫لدى اجلنس‬
‫الفردي‪ ،‬أم ثقافته واتّصاله باآلخرين‪ ،‬أم قراءاته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اخلاص‬
‫ّ‬ ‫سوا ٌء بموجب وضعه‬
‫وكذلك السلطة التي يكسبها من حيرتمهم ويعجب هبم‪ .‬أم بموجب ما حيدث يف‬
‫مشغوال وم ّي ًاال ليشء‪ ،‬أو رصينًا‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫انطباعات خمتلفة‪ ،‬كام حيدث عندما يكون‬ ‫ّ‬
‫الذهن من‬
‫متغريا‬
‫وهادئًا وما إىل ذلك‪ ،‬بحيث يكون عقل اإلنسان (حسب أوضاعه املتعددة) ّ ً‬
‫وخمتل ًطا‪ ،‬ومن ثمة ُحت ِّركه الصدفة‪.‬‬
‫األفالطوين‪ ،‬وما دام‬ ‫ٍ‬
‫إنسان هو بمثابة الكهف‬ ‫والنفيس ّ‬
‫لكل‬ ‫البدين‬ ‫هذا الوضع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البرشي سجينًا يف هذا الكهف فال يرى العامل ّإال من خالله‪ ،‬وال يمكن له إدراك‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫احلقائق خارج الظالل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فحص فقط ألنّه جديد‪ ،‬ويف‬ ‫من مظاهر أوهام الكهف النزوع إىل اجلديد دون‬
‫تصح‬
‫التمسك بالقديم‪ .‬ومن مظاهره من تستأثر بعقله فكر ٌة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫املقابل هناك اإلفراط يف‬
‫الغلو يدفعه‬
‫ّ‬ ‫خاص‪ ،‬لكنّه ال يعود يرى موضو ًعا آخر ّإال من خالهلا‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫ّإال يف ٍ‬
‫جمال‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.21‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 206‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫إىل الضالل‪ .‬ويف هذا املجال يعترب بيكون أرسطو أبرز أفراد هذه املجموعة؛ ألنّه‬
‫وبسبب اندكاكه يف املنطق‪ ،‬ر ّد العلوم ك ّلها إىل املنطق وقواعده‪.‬‬

‫‪ -3-3-1‬أوهام السوق‬
‫األوهام الناشئة من األلفاظ ُس ّميت أوهام السوق؛ ّ‬
‫ألن الناس إذا اجتمعوا يف‬
‫األسواق يتناقشون ويتبادلون األفكار عن طريق األلفاظ‪ .‬واأللفاظ تنشأ يف األصل‬
‫تصوراتنا لألشياء‪.‬‬
‫ثم ال تلبث أن تسيطر عىل ّ‬
‫لتلبية حاجاتنا العمل ّية ّ‬
‫أيضا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتامعهم‬ ‫أوضح بيكون ذلك ً‬
‫قائال‪" :‬ثمة ً‬
‫بعضهم ببعض‪ ،‬والتي أسميها النظر إىل ما جيري بني الناس هناك من تبادل واجتامع‪،‬‬
‫والكلامت يتم اختيارها بام‬
‫ُ‬ ‫(أوهام السوق)؛ فالناس إ ّنام تتحادث عن طريق القول‪،‬‬
‫يالئم فهم العا ّمة‪ ،‬وهكذا تنشأ ُمدون ٌة من الكلامت سيئ ٌة بليد ٌة تعيق العقل إعاق ًة‬
‫التعريفات والرشوح التي دأب املثقفون عىل التحصن هبا‬
‫ُ‬ ‫عجيبة‪ ،‬إعاق ًة ال ُّتدي فيها‬
‫وقع اخللط يف كل يشء‪ِ ،‬‬
‫وتوقع‬ ‫بشكل واضحٍ ‪ ،‬و ُت ِ‬
‫ٍ‬ ‫أحيانًا‪ :‬فام تزال األلفاظ تنتهك الفهم‬
‫الناس يف جمادالت فارغة ومغالطات ال حرص هلا"(‪.)1‬‬
‫أيضا أوها ٌم تنشأ عن جمتمع الناس وتواصلهم املتبادل بعضهم مع البعض‪،‬‬
‫و"هناك ً‬
‫وّتمع الناس مع بعض؛ وذلك‬ ‫ونطلق عليها أوهام السوق آخذين اللفظ من التجارة ّ‬
‫ولكن الكلامت تصوغها إرادة األغلب ّية‪ ،‬وينجم عن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألن الناس تتحدّ ث بواسطة اللغة‪.‬‬
‫عائق عجيب للعقل‪ .‬وليس يمكن للتعريفات‬
‫الصياغة السيئة وغري املالئمة للكلامت ٌ‬
‫والتفسريات التي اعتاد العلامء يف بعض األمثلة أن يقوا أنفسهم وحيموها هبا‪ ،‬ليس يمكن‬
‫بكل ٍ‬
‫يشء‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة ب ّينة‪ ،‬وتؤ ّدي ّ‬ ‫عالجا تا ًّما‪ ..‬فاأللفاظ رغم ذلك تقرس الذهن‬ ‫هلا أن تو ّفر‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫تناقضات وأخطاء ال حرص هلا وال طائل منها"‪.‬‬ ‫إىل اخللط وتؤ ّدي باإلنسان إىل‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وهذه األلفاظ نوعان‪ :‬األلفاظ التي هلا معان غامض ٌة مبهم ٌة‪ ،‬واأللفاظ التي ّ‬
‫تم‬
‫وضعها ألشياء ال وجود هلا‪ .‬أ ّما األلفاظ ذات املعاين املبهمة فهي ال تعريف واضح هلا؛‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.21‬‬
‫‪207‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إذ يطلقها اإلنسان عىل بعض اخلصائص حني يلتفت إىل بعض وجوه الشبه العابرة‪،‬‬
‫ويغفل عن الفوارق األساس ّية‪ .‬ويطرح بيكون لفظ (رطب) الذي كان ُيطلق يف عرصه‬
‫أمر مشرتك‪.‬‬
‫عىل أشياء متباينة ليس فيها ٌ‬
‫ٍ‬
‫موجودة فهي من قبيل األلفاظ التي شاع‬ ‫وأ ّما األلفاط التي ُوضعت ألشياء غري‬
‫جمرد‬ ‫استعامهلا يف الفلسفة؛ ّ‬
‫لتدل عىل أشياء اعتقد الفالسفة وجودها‪ ،‬ويراها بيكون ّ‬
‫األول‪ ،‬والصدفة‪ .‬هذه األوهام ترجع إىل غرور اإلنسان‪،‬‬
‫املحرك ّ‬
‫ّ‬ ‫أوهام‪ ،‬من قبيل‬
‫ٌ‬
‫ألفاظ جوفاء‪ .‬فهي إن أمكن‬ ‫الغرور الذي جيعله يدّ عي العلم بينام ليس يف ذهنه سوى‬
‫أن تصلح يف جمال املناقشة واملساومة يف األسواق‪ ،‬فهي ال تصلح يف جمال العلم‪.‬‬

‫‪ -4-3-1‬أوهام املرسح‬
‫وأخريا هناك تلك األوهام التي انرسبت إىل عقول البرش من‬
‫ً‬ ‫يقول بيكون‪" :‬‬
‫املعتقدات املتعدّ دة (أوهام املرسح) للفلسفات املختلفة‪ ،‬وكذلك من القواعد املغلوطة‬
‫الناس وابتكروها‬‫ُ‬ ‫كل الفلسفات التي تعلمها‬ ‫للربهان‪ ،‬وهذه أسميها ذلك أين أعد ّ‬
‫حتى اآلن‪ ،‬هي أشبه بمرسحيات عديدة ِجدٍّ ا‪ُ ،‬تقدم وتؤدى عىل املرسح‪ ،‬خالق ًة عوامل‬
‫من عندها زائف ًة ومه ّية‪ ،‬وال ينسحب حديثي عىل الفلسفات واملذاهب الرائجة اليوم‬
‫فحسب‪ ،‬وال حتى عىل املذاهب القديمة‪ ،‬فام يزال باإلمكان تأليف الكثري من‬
‫وتقديمها الطريقة املصطنعة نفسها وإضفاء‬
‫ُ‬ ‫املرسحيات األخرى من النمط نفسه‪،‬‬
‫أسباب أغالطها الشديدة التعارض هي أسباب مشرتكة إىل‬
‫ُ‬ ‫االتفاق عليها‪ ،‬ما دامت‬
‫كثريا من‬
‫أيضا ً‬ ‫حدٍّ كبري‪ ،‬ولست أقرص حديثي عىل الفلسفة الكل ّية‪ ،‬وإ ّنام أشمل ً‬
‫العنارص واملبادئ اخلاصة بالعلوم‪ ،‬والتي اكتسبت قوهتا اإلقناع ّية من خالل التقليد‪،‬‬
‫والتصديق الساذج‪ ،‬والقصور الذايت"(‪.)1‬‬
‫وانطال ًقا من ذلك حيمل بيكون عىل الفلسفة اليونانية عا ّمة‪ ،‬ال عىل سفسطائيها‬
‫فحسب‪ ،‬ناس ًبا إ ّياهم مجي ًعا إىل السفسطة‪ ،‬فيقول‪" :‬تأيت العلوم التي لدينا ‪-‬يف معظمها‪-‬‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.21‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 208‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫إن ما أضافه الرومان والعرب أو ال ُكتاب األحدث هو يش ٌء ٌ‬


‫قليل وحمدو ُد‬ ‫من اليونان؛ إذ ّ‬
‫ٍ‬
‫أساس من كشوف اليونان‪ّ ،‬إال أن حكمة اليونان كانت‬ ‫ومبني كيفام كان عىل‬
‫ٌّ‬ ‫األمهية‪،‬‬
‫معاكس للبحث عن احلقيقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫احرتاف ّي ًة وم ّيال ًة إىل اجلدل‪ ،‬وذلك ٌ‬
‫لون من ألوان احلكمة‬
‫ً‬
‫فالسفة‪،‬‬ ‫وهكذا ّ‬
‫فإن اسم السوفسطائيني الذي رفضه بازدراء أولئك الذين و ّدوا أن ُيعدّ وا‬
‫وأطلقوه عىل اخلطباء‪ :‬جورجياس‪ ،‬بروتاغوراس‪ ،‬هيباس‪ ،‬بولس‪ .‬هذا االسم يمكن أن‬
‫ينطبق عىل العشرية بأكملها‪ :‬أفالطون‪ ،‬وأرسطو‪ ،‬وزينون‪ ،‬وأبيقور‪ ،‬ثيوفراسطس‪...،‬‬
‫أن األولني كانوا مرتزق ًة ّ‬
‫جوالني يطوفون بني‬ ‫والفارق الوحيد بني أولئك‪ ،‬وهؤالء ّ‬
‫أجرا عليها‪ ،‬يف حني ّ‬
‫أن اآلخرين كانوا‬ ‫البلدان املختلفة‪ ،‬ويعرضون حكمتهم ويطلبون ً‬
‫تبجيال وسع ًة‪ ،‬إذ كانت هلم مقارهم الثابتة ومدارسهم املفتوحة‪ ،‬وكانوا يع ّلمون‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫الفلسفة‪ ،‬إال ّ‬
‫أن كلتا املجموعتني ‪-‬عىل الرغم من اختالفهام يف اجلوانب األخرى‪ -‬كانت‬
‫كل موضو ٍع إىل جمادالت‪ ،‬وتؤسس مذاهب وفلسفات عقائدية وتنافح‬ ‫وحتول ّ‬
‫احرتافية‪ّ ،‬‬
‫ثم كانت مذاهبهم يف معظمها ‪-‬كام قال ديونيوزيوس بحق عن أفالطون‪-‬‬
‫عنها‪ ،‬ومن ّ‬
‫حديث عجائز مط ّبلني إىل ش ّبان جاهلني"(‪.)1‬‬
‫ويعد بيكون أوهام العقول هي سبب ّ‬
‫تأخر العلوم‪ ..." :‬وأرجعت األسباب األكثر‬
‫خفاء التي تندّ عن إدراك العامة ومالحظتهم‪ ،‬إىل ما قيل عن أوهام العقول"(‪.)2‬‬
‫وينظر بيكون يف ضوء نظرية (هيمنة هذه األوهام عىل العقل البرشي) إىل التاريخ‬
‫قاحل عىل مستوى األفكار‪ ،‬وال يعرتف إال بثالث ثورات كربى‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تاريخ‬ ‫البرشي أ ّنه‬
‫"‪ ...‬ففي القرون اخلمسة والعرشين التي حتيط هبا الذاكرة واملعرفة البرشيتان لن تستطيع‬
‫أن تفرد أكثر من ستة قرون كانت خصبة يف العلوم ومواتية لتقدمها‪ّ .‬‬
‫إن للزمن فيافيه‬
‫حق إال ثالث ثورات وفرتات‬
‫وقفاره مثل أصقاع األرض‪ ،‬ونحن ال نستطيع أن نعدّ عن ّ‬
‫ذروة يف الفلسفة‪ ،‬األوىل بني اليونان‪ ،‬والثانية بني الرومان‪ ،‬والثالثة بيننا نحن األمم‬
‫الغربية‪ .....‬وليس ما يدعو إىل ذكر العرب واالسكوالئيني الذين حمقوا العلم برسائلهم‬
‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.41‬‬
‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪209‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العديدة يف الزمن الوسيط أكثر ممّا أضافوا إىل وزهنا‪ ،‬مجلة القول‪ّ :‬‬
‫إن السبب األول هلذا‬
‫التقدّ م اهلزيل يف العلوم يعود إىل ضآلة الفرتت الزمنية التي كانت مواتية للعلم"(‪.)1‬‬
‫ويف إقصائه للحضارة اإلسالم ّية العرب ّية هنا‪ -‬مضا ًفا إىل إشارته السابقة أن العرب‬
‫جهل واضح بام وصل إليه التفكري العلمي واملنهجي‬ ‫مل يضيفوا عىل املنطق اليوناين شيئ ًا‪ٌ -‬‬
‫منحاز ضد احلضارة اإلسالم ّية كام هو ديدن كثري من العلامء‬
‫ٌ‬ ‫موقف‬
‫ٌ‬ ‫عندهم‪ ،‬أو هو‬
‫مالئام لالستطراد يف مناقشة هذا املوقف‪.‬‬
‫ً‬ ‫الغربيني‪ ،‬وليس املقام‬

‫‪ -4-1‬باشالر والعوائق اإلبستمولوجية‬


‫ُيعدّ غاستون باشالر (‪1962-1884‬م) واحد ًا من أهم الفالسفة الفرنسـيـني؛‬
‫متميزة يف جمال‬
‫ّ‬ ‫كرس جزء ًا كبري ًا من حياته وعمله لفلسفة العلوم‪ ،‬وقدّ م أفكار ًا‬
‫فقد ّ‬
‫اإلبستمولوجيا‪ ،‬إذ مت ّثل مفاهيمه يف العقبة املعرف ّية والقطيعة املعرف ّية واجلدلية املعرف ّية‬
‫سهامت بارز ًة يف فلسفة العلوم‪ ،‬أثرت يف عرصه‪ ،‬ويف الفلسفات‬ ‫ٍ‬ ‫والتاريخ الرتاجعي‪ ،‬أ‬
‫التي جاءت من بعده‪.‬‬
‫إن الفلسفة‬ ‫مل تنتقد فلسفة باشالر األنساق الفلسف ّية الـمثال ّية والعقالن ّية فقط‪ .‬بل ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فقد كان يف منطقة وسطي بني العقالنية املثال ّية‬ ‫التجريب ّية البحتة كانت ًّ‬
‫حمال لنقده ً‬
‫والتجريب ّية املثال ّية التي ُيطلق عليها (العقالن ّية التطبيق ّية)‪ ،‬وعنون هبا كتابه الذي صدر‬
‫يف (‪1948‬م)‪.‬‬
‫والعقـالنيـة التطـبيقـ ّية فلسـف ٌة تقوم علـى الـحوار بني العقـل والتجربـة‪ ،‬وترفـض‬
‫حس والواقع‬
‫العلمي بمعطيات الـ ّ‬
‫ّ‬ ‫االنطالق من مبادئ قبليّة‪ ،‬كمـا ترفض ربط الفكر‬
‫وحدها‪ .‬وتقوم العقالن ّية التطبيق ّية عىل أربعة مبادئ تقف ضدّ مفاهيم الفكر العلمي‬
‫القديم‪ ،‬وهي(‪:)2‬‬

‫(‪ )1‬بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ :‬ص‪.45‬‬


‫(‪ )2‬باشالر‪ ،‬غاستون‪ ،‬العقالنية التطبيقية‪ ،‬تر بسام هاشم‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1984‬م‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 210‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ثابت حيكم مجيع أنامط معرفتنا؛ فالعقل نتيج ٌة من نتائج العلم‪،‬‬


‫عقل ٌ‬‫ثمة ٌ‬‫أ‪ .‬ليس ّ‬
‫الحق غايته اإلفصاح عن املناهج العلم ّية حيث إ ّن االعتقاد الشائع يف‬
‫ٌ‬ ‫وهو إنشا ٌء‬
‫مقوالت مطلقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ثابت من حيث ِ‬
‫بنيته‪ ،‬وأ ّنه يوجد يف داخله‬ ‫السابق كان يرى ّ‬
‫أن العقل ٌ‬
‫ويرجع باشالر سبب ذلك إىل عدم وجود فلسفة صحيحة للعلوم يف السابق‪ .‬وهذا‬
‫االعتقاد ب ٍ‬
‫نحو عا ٍّم ليس من العلم بيشء؛ ّ‬
‫ألن العقل الثابت واملطلق عند بشالر ليس‬
‫خالصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّإال و ً‬
‫مها فلسف ًّيا‬
‫منهج شامل؛ فاملنهج مثل العقل‪ُ ،‬يبنى الح ًقا انطال ًقا من العمل‬
‫ٌ‬ ‫ثمة‬
‫ب‪ .‬ليس ّ‬
‫الواقعي للعامل‪.‬‬
‫ِ‬
‫بسيط يقترص العامل ُ عىل معاينته ورشحه‪ ،‬بل هو مع ّقدٌ ومر ّك ٌ‬
‫ب‬ ‫ٌ‬ ‫واقع‬
‫ثمة ٌ‬ ‫ج‪ .‬ليس ّ‬
‫ٍ‬
‫متكاملة من‬ ‫من عنارص متعدّ دة‪ ،‬مت ّث ُل الظواهر املشاهدة عين ًة واحد ًة ضمن ٍ‬
‫بنية‬
‫الظواهر‪.‬‬
‫د‪ .‬عىل فلسفة العلم أن تفتح املكان لإلستمولوجيا بوصفها الدراسة النقدية لتكوين‬
‫التخصيص‪ ،‬وليس بالنسبة لنظرية املعرفة‬
‫ّ‬ ‫املفاهيم العلم ّية الرئيسة‪ ،‬وتوظيفها يف حقلها‬
‫عمو ًما‪.‬‬

‫عوائق املعرفة عند باشالر‬


‫العائق اإلبستمولوجي مفهو ٌم وضعه غاستون باشالر يف إطار املنهج الذي‬
‫والتصورات‬
‫ّ‬ ‫اقرتحه لفهم تاريخ العلوم‪ ،‬فالعائق اإلبستمولوجي هو جمموع األفكار‬
‫ِ‬
‫العامل‬ ‫املسبقة أو اخلاطئة‪ ،‬أو األفكار التي ترجع إىل املعرفة العا ّمة‪ ،‬التي تؤ ّثر يف عمل‬
‫وعي منه‪ ،‬وتعوقه عن بلوغ احلقيقة املوضوع ّية للظواهر التي يدرسها‪.‬‬
‫دون ٍّ‬
‫تطور العلوم‪،‬‬
‫يفرس باشالر مسار ّ‬ ‫ويف ضوء هذا املفهوم للعائق اإلبستمولوجي ّ‬
‫مسار‬
‫ٌ‬ ‫تراكمي‪ ،‬واملسار هو‬
‫ّ‬ ‫نتاج‬ ‫فهو ال يقبل بالنظر ّية التي تقول‪ّ :‬‬
‫إن تقدّ م العلوم هو ٌ‬
‫استمرار للمعرفة القديمة‪ ،‬بل يرى ّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫جديدة هي‬ ‫ٍ‬
‫معرفة‬ ‫ّصل دون انقطاع‪ّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫مت ٍ‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫ثورات‬ ‫والتطور العلمي حصل عرب‬ ‫انقطاعات وتع ّثرات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مسار العلم حصلت فيه‬
‫ّ‬
‫‪211‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫وّتاوز للمعارف القديمة التي مل تعد‬ ‫ٍ‬
‫وقفزات نوع ّية‪ ،‬فتاريخ العلم هو تاريخ فص ٍل‬
‫قادر ًة عىل تفسري املستجدات واملعطيات اجلديدة التي ظهرت‪ ،‬والعقل العلمي هو ذو‬
‫ٍ‬
‫مبارش‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫تطور املعارف نفسها‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫متغرية ومتطورة عىل الدوام بفعل ّ‬
‫بنية ّ‬
‫متغري ٌة ومتبدّ ل ٌة وغري هنائية‪ ،‬ومن ث ّم ّ‬
‫فإن تاريخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن كل احلقائق العلم ّية هي حقائق‬
‫العلوم هو تاريخ تصحيحٍ لألخطاء العلم ّية‪.‬‬
‫ويف ضوء ما تقدّ م نستطيع أن نفهم ما هو الرابط بني العقبة اإلبستيمولوج ّية‬
‫والقطيعة اإلبستيمولوج ّية؛ وكام يرى باشالر " ّ‬
‫إن تاريخ العلوم ما هو إال تاريخ جد ّيل‬
‫ما بني العوائق والقطيعات االبستمولوجية "‪ .‬ولذلك يشدّ د عىل أمه ّية أن تكون‬
‫التطورات العلم ّية؛ لكي تكتشف العقبات‪ ،‬ثم تقوم‬
‫ّ‬ ‫االبستمولوجيا يقظ ًة ً‬
‫دائام مع‬
‫بدورها عرب ّتاوزها‪ ،‬أو إزالتها‪.‬‬
‫ويستنتـج باشـالر من خـالل دراستـه للمعـرفة العلم ّيـة عـد ًدا مـن العـوائـق‬
‫االبستمولوج ّية‪:‬‬
‫العائق األول‪ :‬التجربة األوىل‪ ،‬أي التجربة السابقة عىل النقد؛ ّ‬
‫ألن التجربة األوىل‬
‫حتققت يف ظروف متقدّ ٍ‬
‫مة زمان ًّيا‪ ،‬مم ّا يفقدها النقد الذي حيصل نتيجة الرتاكم املعريف‪.‬‬
‫أن الوقوف عند التجربة األوىل املتم ّثلة يف االتصال األول باملوضوع‬ ‫ويرى باشالر ّ‬
‫فة تريد أن حتمل صفة العلم ّية ال حيصل هلا ذلك‬‫فكل معر ٍ‬ ‫عائ ًقا معرف ًّيا للموضوع ّية‪ّ ،‬‬
‫ّإال عندما ّتعل التجربة األوىل ّمما ينبغي ّتاوزه‪.‬‬
‫دورا دينام ًيا يف تقدّ م التفكري العلمي‪ ،‬و يف‬
‫أن للتعميم ً‬‫العائق الثان‪ :‬يرى باشالر ّ‬
‫تفرق الوقائع‪ ،‬وتشتتها إىل وحدة القوانني‬ ‫ألن التعميم ينقل الفكر من ّ‬ ‫فهم الظواهر؛ ّ‬
‫واقعي‪ ،‬ويكون دافعها‬
‫ٌّ‬ ‫أساس‬
‫ٌ‬ ‫يفرسها‪ .‬ولكنه حيذر من التعميامت التي ليس هلا‬ ‫التي ّ‬
‫ٍ‬
‫معرفة عا ّمة‪ ،‬فيندفع أصحاهبا إىل أولوية التعميم من دون مراعاة‬ ‫وتقديم‬ ‫املتع ُة العقل ّية‪،‬‬
‫ُ‬
‫إبستمولوجي آخر‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫عائق‬
‫اختالف الظواهر‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫أن هناك ألفا ًظا تأخذ يف أثناء استعامهلا‬
‫العائق الثالث‪ :‬العائق اللفظي‪ ،‬ويعني ّ‬
‫ومبهام إىل حدٍّ كبري‪ ،‬فهي‬ ‫مشو ًشا‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫دالالت خارج داللتها األصل ّية مم ّا جيعل من استعامهلا ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 212‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ٍ‬
‫مماثلة ال تستند إىل‬ ‫ابستمولوجي‪ ،‬وعىل العلم أن يتجاوزه‪ ،‬بأن يبعد نفسه عن ّ‬
‫كل‬ ‫عائق‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مصطلحات دقيقة‪.‬‬ ‫موضوعي‪ ،‬وأن يستعمل‬ ‫أساس‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫العائق الرابع‪ :‬هو العائق اجلوهري‪ ،‬ويعني فكرة (اجلوهر) التي تس ّببت يف حرية‬
‫بدال من ظواهرها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طويلة بح ًثا عن جواهر األشياء ً‬ ‫ٍ‬
‫لعصور‬ ‫العلامء‬
‫ٍ‬
‫جماالت غري‬ ‫العائق اخلامس‪ :‬العائق اإلحيائي‪ ،‬ويعني به إدخال بعض العلوم يف‬
‫خصوصا إدخال علم األحياء (البيولوجيا) يف علم الكيمياء‬
‫ً‬ ‫جماالهتا التي تعمل فيها‪،‬‬
‫والفيزياء‪ ،‬فنسقط صفات األحياء عىل املادة‪ ،‬وعنارص العلوم األخرى‪.‬‬
‫ِ‬
‫توقف العلم‪ ،‬ويوكل‬ ‫تلك إ ًذا هي بعض العوائق االبستمولوج ّية بوصفها مرحلة‬
‫باشالر مهمة الكشف عن هذه العقبات إىل التحليل النفيس للمعرفة‪ ،‬والكشف عنها‬
‫من أجل ّتاوز املرحلة ما قبل العلم ّية‪.‬‬
‫ولتوضيح مقصوده من التحليل النفيس للمعرفة نقول‪ّ :‬‬
‫إن التحليل النفيس‬
‫الفرويدي كام هو معروف‪ ،‬يدعي الكشف عن الرغبات والدوافع الالشعورية املكبوتة‬
‫أن هذه املكبوتات الالشعورية تعيق‬‫زاعام ّ‬
‫التي تؤ ّثر يف السلوك اإلنساين الواعي‪ً ،‬‬
‫أحيا ًنا هذا السلوك عندما ُ‬
‫تنتقل عىل شكل أنوا ٍع من االضطرابات التي تطفو عىل‬
‫سطح الوعي‪ ،‬وتتمظهر يف بعض السلوك ّيات‪.‬‬
‫وهذا ما يـحدث بالكيف ّية نفسها تقري ًبا برأي باشالر فـي أثناء عملية إنتاج الـمعرفة‬
‫أيضا لديه مكبوتات غريشعور ّية مثل‪:‬‬ ‫ِ‬
‫فالعامل أو الباحث فـي جمال العلوم هو ً‬ ‫العلم ّية‪،‬‬
‫اآلراء الشخص ّية‪ ،‬واألحكام املسبقة‪ ،‬أو معتقدات علم ّية شائعة وخاطئة‪ ،‬كام أ ّنه حيمل‬
‫قيام أيديولوج ّي ًة وفكر ّي ًة مرتسخ ًة يف داخله‪ ،‬وهذه املكبوتات ‪-‬حسب رأي باشالر‪-‬‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫وعي منه؛ فالعالـم يف هناية األمر‬
‫العلمي حتى من دون ٍّ‬‫ّ‬ ‫يمكن أن تؤثر يف عمله وإنتاجه‬
‫كل الناس يف تكوينه النفيس‪ ،‬أي مهام حاول واجتهد أن يكون موضوع ًّيا‬ ‫هو مثل ّ‬
‫ومهن ًّيا ومنهج ًّيا يبقى حتت تأثري تكوينه النفيس‪.‬‬
‫ٍ‬
‫الفتة يف مسرية باشالر العلم ّية‪ ،‬وهي إعراضه يف املدّ ة‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫وتبقى اإلشارة إىل‬
‫الثانية من عمره عن إبستمولوجيا العلوم إىل دراسة التخ ّيل الشعري وفلسفة اجلامل‬
‫‪213‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫والفن‪ .‬لقد أصبح املوضع الرئيس عند باشالر يف آخر حياته‪ ،‬هو التخ ّيل أو عمل املخ ّيلة‬
‫بعد أن كان العقل‪ ،‬وأصبح هاجسه الدراسة الفلسف ّية الشاملة لإلبداع الشعري‪.‬‬
‫التوجه لدى باشالر باالستسالم لداف ٍع ال ُيقاوم‪ ،‬جذبه‬
‫ّ‬ ‫ربر بعض الدارسني هذا‬
‫وي ّ‬
‫للتعاطي مع القوى التي تصنع املعرفة وتوجدها‪ ،‬ال التي حتص ّلها كام هو احلال يف‬
‫املعرفة العلم ّية‪ ،‬واملجال الوحيد الذي يأمل أن يرى فيه تلك القوى وهي تعمل هو‬
‫الشعر‪ ،‬والف ّن؛ لذلك كتب جمموع ًة من الكتب يف اجلزء الثاين من حياته ط ّبق فيها‬
‫منهجه هذا‪.‬‬
‫ولكن أال حيق لنا أن نتساءل ‪-‬ويف ضوء نظريته يف التحليل النفيس للمعرفة‪ ،‬ومن‬
‫باب (ألزموهم بام ألزموا هبم أنفسهم)‪ -‬كيف يعرض باشالر عن املعرفة العلم ّية وهو‬
‫كل الشوائب الدخيلة‪،‬‬ ‫الذي نافح وكافح طوال هذا العمر لتنقيحها وختليصها من ّ‬
‫والعوائق التي حتول دون بلوغها؟ كيف يعرض عنها إىل الشعر واألدب؟ وكيف ّ‬
‫يتخىل‬
‫عن العقل والعقالن ّية الذي استامت يف الدفاع عنها ضدّ كهنوت الدين والفلسفة ‪-‬كام‬
‫يعرب أنصاره‪ -‬إىل اخليال والوهم؟ أال يعكس ذلك يف ضوء التحليل النفيس للمعرفة‬
‫وصدمات ٍ‬
‫قاتلة واجهها باشالر إزاء احلقيقة؟!!!!!‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عميقة‬ ‫عن ٍ‬
‫أزمة‬

‫***‬
‫ّ‬
‫املبحث الثـان‬
‫موانع املعرفة من مقاربة نصية‬
‫نخصصه للمعاجلة من داخل النص الديني‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫القسم الثاين من هذه الدراسة‬
‫القرآن والروايات‪ ،‬وهذه املعاجلة كام سيتّضح يف سياق البحث‪ ،‬تفارق املعاجلة الفلسف ّية‬
‫من جهات عدّ ة‪.‬‬

‫‪ -1-2‬املوانع يف القرآن الكريم‬


‫قد يبدو غري ًبا لدى بعض الباحثني أو املعنيني يف الشأن الفلسفي االستنا ُد إىل مرجع ّية‬
‫سو ًغا‬
‫معريف‪ ،‬وهذا االستيحاش ال نرى له يف الواقع م ِّ‬ ‫ٍ‬
‫إشكال‬ ‫النص الديني ملعاجلة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫سوى الغفلة‪ ،‬أو اجلهل لتأسيسات القرآن واحلديث يف نظر ّية املعرفة وأسئلتها الكربى؛‬
‫هداية‪﴿ :‬ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ‬ ‫ٍ‬ ‫فالقرآن الكريم بوصفه كتاب‬
‫ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ﴾ (سورة اإلرساء‪.)9 :‬‬
‫يبني للناس الذين خاطبهم القضايا الوجود ّية الكربى‪ :‬من أين‪ ،‬ويف‬
‫كان ال بدّ أن ّ‬
‫أن‬ ‫أين‪ ،‬وإىل أين «رحم اهلل ً‬
‫رجال عرف من أين‪ ،‬و يف أين‪ ،‬وإىل أين»‪ ،‬ومن الرضوري ّ‬
‫هيتم القرآن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫كل منظومة فكر ّية ُتؤسس عىل أصول معرف ّية؛ ولذا كان من الطبيعي أن ّ‬
‫بقضايا املعرفة وأسئلتها‪ .‬ومن هنا نفهم استناد اآليات األوىل من سورة العلق ‪-‬بوصفها‬
‫رؤية معرف ّي ٍة وحضار ّي ٍة‬
‫أصول و ٍ‬
‫ٍ‬ ‫طليعة اآليات األوىل النازلة عىل قلب النبي‪ -‬عىل‬
‫مجعت بني عامل الطبيعة وما وراء الطبيعة‪ ،‬بني الغيب والشهادة‪ ،‬فهي تدعو اإلنسان‬
‫احليس والبعد املاورائي‪،‬‬
‫لألخذ يف قراءته الكون ّية الوجود ّية ببعدين حموريني‪ :‬البعد ّ‬
‫وهذا املنهج احلضاري الذي أشاد اإلسالم رسالته عليه‪ ،‬هوالذي فرض عليه مسل ًكا‬
‫أيضا حتى‬
‫مغايرا لذلك املنهج الذي ساد يف العصور القديمة‪ ،‬والذي هيمن ً‬
‫ً‬ ‫معرف ًّيا‬
‫عىل النموذج احلضاري الغريب(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬حاج محد‪ ،‬حممد أبو القاسم‪ ،‬جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة (العاملية اإلسالميّة الثانية)‪ ،‬دار اهلادي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،2004 ،‬ط‪ ،1‬ونظر ّية اجلمع بني القراءتني‪ :‬قراءة باسم اهلل وقراءة مع اهلل‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫رس التعاطي املغاير للقرآن والنصوص الدين ّية عمو ًما مع‬ ‫ّ‬
‫ولعل يف ذلك يكمن ّ‬
‫موانع املعرفة‪ ،‬فنحن إزاء معاجلة تتسم باإلحاطة بأبعاد اإلنسان‪ ،‬ومهيمنة عىل الواقع‬
‫تشخص مكامن اخلطأ بد ّق ٍة وشمول ّي ٍة‪﴿ :‬ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ﴾‬ ‫ك ّله‪ ،‬و ّ‬
‫(سورة ا ُمللك‪.)14 :‬‬
‫رب املفكر اإلسالمي الشهيد مطهري ‪ ‬عن دهشته هلذا األمر‪ ،‬ملا التفت‬
‫ولقد ع ّ‬
‫لتعرض القرآن إىل أخطاء املا ّدة يف التفكري (مقابل أخطاء الصورة)‪ :‬حيث يقول‪":‬اهلل‬
‫ّ‬
‫وجدت ّ‬
‫أن مجيع ما يذكره هؤالء] يقصد الفالسفة‬ ‫ُ‬ ‫يعلم ّأين ُأصبت بالدهشة عندما‬‫ُ‬
‫األوربيني الذين بحثوا وضوع منطق املادة‪ ،‬وعوامل اخلطأ كبيكون وديكارت [موجو ٌد‬
‫يف القرآن‪ .‬فيام يتع ّلق بمنطق املا ّدة يف القرآن فقد تو ّفر ً‬
‫كثريا عىل ذكر سبل اخلطأ يف‬
‫املكرر فيام يصدر عن النّاس من فكر وقول"(‪.)1‬‬
‫الفكر‪ ،‬فالقرآن عالج مسألة اخلطأ ّ‬
‫احلساسة يف الرؤية‬
‫ور ّبام كان من الطبيعي أن يعالج القرآن الكريم هذه املسألة ّ‬
‫ٍ‬
‫مغاير؛ فهو لـم‬ ‫ٍ‬
‫بأسلوب‬ ‫النص الذي تـم ّيز حديثه عن العقل وفعاليياته‬ ‫الـمعرف ّية‪ ،‬وهو ّ‬
‫أقل‬‫ُي ِعر أمه ّي ًة الب ّتة للمـاهـ ّيـة‪ ،‬والسجال حوهلا ‪-‬كام خاض يف ذلك الفالسفة‪ ،‬وبدرجة ّ‬
‫جل اهتمـامه عىل األدوار‪ ،‬ولذا ال نجد استخدا ًما‬ ‫انصب ّ‬
‫ّ‬ ‫املتك ّلمون واألصوليون‪ -‬بل‬
‫ِ‬
‫صيغته الفعل ّية‬ ‫ُ‬
‫اللفظ يف‬ ‫للفظ (العقل) يف صيغته االسم ّية يف القرآن الكريم‪ ،‬وإ ّنام ورد‬
‫(يعقلون‪ ،‬تعقلون‪ ،‬نعقل‪ ،‬يعقلها) يف (‪ )49‬مور ًدا‪ ،‬مع االلتفات إىل املجال الداليل‬
‫ٍ‬
‫مفردات عديد ًة تنتمي إىل املجال الداليل ملفردة‬ ‫ملفهوم العقل‪ ،‬وهو جمال وسيع‪ ،‬فنجد‬
‫املرات‬
‫وتكرر بعضها عرشات ّ‬
‫ّ‬ ‫(العقل) قد احت ّلت مساح ًة شاسع ًة يف القرآن الكريم‪،‬‬
‫مر ًة‪ ،‬التف ّكر (‪ّ )17‬‬
‫مر ًة‪ ،‬و(فكّر) مر ًة واحد ًة يف سورة املدثر ﴿ﳟ ﳠ‬ ‫مثل‪ :‬الفكر(‪ّ )18‬‬
‫مر ًة ‪-‬عدا كلمة الذكر بمعنى القرآن أو ذكر‬
‫ﳡ﴾‪( ،‬التذكّر) بمشتقاته أكثر من(‪ّ )200‬‬
‫مر ًة‪ ،‬الفؤاد‬
‫مرات‪ ،‬أويل األلباب (‪ّ )16‬‬
‫مر ًة‪ ،‬التد ّبر(‪ّ )4‬‬
‫مر ًة‪ ،‬الفقه (‪ّ )20‬‬
‫اهلل‪ ،‬النظر (‪ّ )36‬‬
‫مر ًة‪ ،‬القلب (‪)132‬‬‫مرتني‪ ،‬العلم ومشت ّقات جذر علم (‪ّ )582‬‬ ‫مر ًة‪ ،‬أويل النهى ّ‬
‫(‪ّ )16‬‬
‫مر ًة بصي ٍغ خمتلفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬مرتىض‪ ،‬مطهري‪ ،‬النبوة‪ ،‬تر جواد عيل كسار‪ ،‬دار احلوراء‪ ،‬بريوت‪ ،‬الط‪ ،‬الت‪ ،‬ص ‪.388‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 216‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أهم املوانع التي قاد إليها التت ّبع والبحث‪ ،‬وال تدّ عي هذه الدراسة‬
‫وفيام يأيت ّ‬
‫االستقصاء ّ‬
‫الكيل‪:‬‬

‫‪ -1-1-2‬هيمنة امليول الذات ّية واتّباع الهوى‬


‫وأن اتباعه يقو ُد إلـى مـجانبـ ِة الـحـ ّق‬
‫آيات كثري ٌة تنهى عن ا ّتباع الـهوى‪ّ ،‬‬
‫فـي القرآن ٌ‬
‫الصواب‪ ،‬ويـحجب العقل والقلب عن احلقائق الراسخة‪ ،‬من ذلك‬
‫والتنكّب عن جادة ّ‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ‬
‫ﲈﲊﲋﲌﲍ‬
‫ﲉ‬ ‫ﲀﲂﲃﲄﲅﲆﲇ‬
‫ﱺﱼﱽﱾﱿ ﲁ‬
‫ﱻ‬
‫ﲚ ﲜ ﲝﲞ‬
‫ﲛ‬ ‫ﲎﲐﲑﲒﲓﲔﲕﲖﲗﲘﲙ‬
‫ﲏ‬
‫(سور ُة امل ِائدة‪.)48 :‬‬
‫ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ﴾ ُ‬
‫﴿ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ‬
‫ﱞﱠﱡﱢﱣ‬
‫ﱟ‬ ‫ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ‬
‫(سور ُة النِّساء‪.)135 :‬‬
‫ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ﴾ ُ‬
‫﴿ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ‬
‫(سور ُة الرعد‪.)37 :‬‬
‫ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ﴾ ُ‬
‫وفـي آيات ُأخر يـنهـى القـرآن عن ا ّتـباع أصحـاب األهـواء؛ ّ‬
‫ألن اتـباعهم يقـود إلـى‬
‫﴿ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ‬ ‫ال ـردى والـخ ـس ـران‪:‬‬
‫ﱊﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ‬
‫(سور ُة الكهف‪﴿ ،)28 :‬ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ‬
‫ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ﴾ ُ‬
‫(سور ُة طه‪.)16 :‬‬
‫ﱦ ﱧ﴾ ُ‬
‫بل أرجع الـمنطق القرآنـي الضالل الفكري واالنحرافات التي وقع فيها‬
‫الـمرشكون إىل اتباع األهواء‪﴿ :‬ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ‬
‫(سور ُة‬
‫ﲺ ﲻﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ﴾ ُ‬
‫النجم‪﴿ ،)23 :‬ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ‬
‫‪217‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ﲴ ﲵﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ﴾ ( ُسور ُة ُحممد‪.)16 :‬‬


‫ؤسـس الـخطـاب القرآنـي إلـى مفاضلة بني الـمؤمن الذي‬
‫ومن هذا الـمنـطلـق يـ ّ‬
‫وحج ٍة من ر ّبه‪ ،‬وبني من ُز ّين له أخطاؤه وخطيئاته‪ ،‬وخضع لألهواء‬
‫ّ‬ ‫يسري علـى ب ّي ٍنة‬
‫عوض الركون لـموازيـن الب ـ ّي ـنـات والـحـقـائـق‪﴿ :‬ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ‬
‫(سور ُة ُحممد‪ ،)14 :‬ويعـدّ القرآن الكريم االستغراق فـي‬
‫ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ﴾ ُ‬
‫للحق‪ ،‬وتعطيل للحواس والقوى الناطـقـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األهواء‪ ،‬تألـيـ ًها للميـول الذاتيـة الـمجانبـة‬
‫وتنـكّب عن سـبيـل الـهـدايـة دون رجـوع‪﴿ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ‬
‫ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖﱗ ﱘ ﱙ﴾‬
‫(سور ُة اجلاثِية‪.)23 :‬‬
‫ُ‬
‫ويتصاعد الـخطاب القرآنـي إلـى عدّ ا ّتباع األهواء ‪-‬مضا ًفا إلـى ما ّيؤدي إليه من‬
‫الضالل الفكري والنفيس وضياع احلقيقة‪ -‬سب ًبا لفساد الساموات واألرض‪﴿ :‬ﲱ ﲲ‬
‫ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ‬
‫(سور ُة املُؤ ِمنُون‪.)71 :‬‬
‫ﳁ﴾ ُ‬
‫فرتكوا و ما‬
‫يقول السيد الطباطبائي فـي تفسري اآلية‪" :‬إذ لو اتبع الـحق أهواءهم ُ‬
‫هيوونه من االعتقاد و العمل‪ ،‬فعبدوا األصنام‪ ،‬واختذوا األرباب‪ ،‬ونفوا الرسالة و‬
‫املعاد‪ ،‬واقرتفوا ما أرادوه من الفحشاء و املنكر و الفساد‪ ،‬جاز أن ي ّتبعهم احلق يف غري‬
‫احلق ٌ‬
‫فرق‪ ،‬فأعطي‬ ‫احلق و ّ‬ ‫باحلق؛ إذ ليس بني ّ‬
‫ذلك من اخلليقة والنظام الذي جيري فيها ّ‬
‫كال منهم ما يشتهيه من جريان النظام وفيه فساد السمـاوات واألرض ومن فيهن‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫البني ّ‬
‫أن اهلوى ال‬ ‫واختالل النظام‪ ،‬وانتقاض القوانني الكل ّية اجلارية يف الكون‪ ،‬فمن ّ‬
‫يستقر عىل قرار‪ ،‬و بتقرير آخر ّ‬
‫أدق وأوفق لـمـا يعطيه القرآن من‬ ‫ّ‬ ‫يقف عىل حدٍّ ‪ ،‬وال‬
‫أن اإلنسان حقيق ٌة كون ّي ٌة مرتبط ٌة فـي وجودها بالكون العام‪ ،‬وله‬
‫حقيقة الدين القيم‪ّ :‬‬
‫يف نوعيته غاية هي سعادته‪ ،‬وقد ُخ ّط له طريق إىل سعادته وكامله يناهلا بطي الطريق‬
‫الـمنصوب إليها نظري غريه من األنواع الـموجودة‪ ،‬وقـد جهزه الكون العا ّم وخلقته‬
‫خاصة به من القوى واآلالت بمـا يناسب سعادته والطريق الـمنصوب إليها‪ ،‬وهي‬
‫الـ ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 218‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫االعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إىل سعادته"(‪.)1‬‬

‫‪ -2-1-2‬هيمنة الظنون‬
‫باع الظنون؛ فالظ ّن قد يعصف بأجىل‬
‫من الـموانع التي تـحول دون الـحقـيقـة ا ّت ُ‬
‫حقيقة كون ّي ٍة وأعظم البدهييات‪ ،‬وهي اإليامن بالذات اإلهلية؛ ّ‬
‫ألن املنطق القرآين يرى‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫الشك‪﴿ :‬ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ‬ ‫أن الذات اإلهل ّية حقيق ٌة ال يرقى إليها‬
‫ّ‬
‫ﲦ ﲧﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﲲ ﲳ ﲴ‬
‫ﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿﳀﳁ‬
‫اهيم‪ .)10 :‬وعىل أسـاس ذلك عدّ ت اآليـات دعـوات املشـركني‬ ‫ﳂ﴾ (سور ُة ِإبر ِ‬
‫ُ‬
‫وكل عـقـائد الض ـالل والتزييف‪ ،‬ا ّتبا ًعا للظ ّن‪ ،‬ووقو ًعا فـي رشاك األوهام‬‫والـملحـدين ّ‬
‫والتخمينات‪ ،‬بل هو أعىل درجات الشذوذ النفيس يف إنكار البدهيي واإلعراض عن‬
‫احل ّق‪﴿ :‬ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ‬
‫(سور ُة ُيو ُنس ‪.)66‬‬
‫ﱿ ﲀ ﲁﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ﴾ ُ‬
‫﴿ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ‬
‫ﲀﲂﲃ‬
‫ﲁ‬ ‫ﱷﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿ‬
‫ﱯﱱﱲﱳﱴﱵﱶ ﱸ‬
‫ﱰ‬ ‫ﱮ‬
‫(سور ُة النِّساء‪.)157 :‬‬
‫ﲄ﴾ ُ‬
‫يتورطون يف ُحجب الظنون‬ ‫واألخطر من ذلك يف الرؤية القرآن ّية ّ‬
‫أن أغلب الناس ّ‬
‫ويقعون فريسة التخمينات الظن ّية‪ ،‬وال يركنون إىل ركن اليقني الوثيق‪﴿ :‬ﱶ ﱷ ﱸ‬
‫(سور ُة ُيو ُنس‪.)36 :‬‬
‫ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾ ُ‬
‫﴿ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ‬
‫ﲹ ﲺ﴾ (سور ُة األنعام‪ ،)116 :‬ويف مقام ِ‬
‫احلجاج مع هؤالء الضالني‪ ،‬عقد ًّيا‬ ‫ُ‬
‫وسلوك ًّيا يأمر القرآن نب ّيه أن يطالبهم بعل ٍم خيرجوه ويظهروه‪ ،‬فليكن العلم واليقني ً‬
‫حكام‬
‫ولكن القرآن يؤ ّكد أن هؤالء لن يستجيبوا؛ ّ‬
‫ألهنم أرسى ظنوهنم التي حتول دون‬ ‫ّ‬ ‫بيننا‪،‬‬
‫(‪ )1‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ :‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬مؤسسة األعلمي‪ ،‬بريوت‪ ،1997 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.46‬‬
‫‪219‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اتباع اهلدى الذي جاءت به دعوات األنبياء والرسل‪﴿ :‬ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ‬


‫ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ‬
‫ﱭ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ﴾‬
‫ﱥﱧﱨﱩﱪﱫﱬ ﱮ‬
‫ﱦ‬
‫(سور ُة األنعام‪.)148 :‬‬
‫ُ‬
‫﴿ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻﲼ ﲽ ﲾ ﲿ‬
‫ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ﴾ ( ُسور ُة النجم‪.)23 :‬‬

‫‪ -3-1-2‬سلطة العقل الجمعي‬


‫ً‬
‫جمانبة للعلم والعقل‬ ‫يذم القرآن الكريم األكثر ّية‪ ،‬ويعدّ ها يف الغالب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يف آيات كثرية ّ‬
‫ولإليامن‪:‬‬
‫(سور ُة البقرة‪:‬‬
‫ﲫ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ﴾ ُ‬
‫ﲬ‬ ‫﴿ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ‬
‫‪.)100‬‬
‫﴿ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ‬
‫(سور ُة األنعام‪.)37 :‬‬
‫ﱟ ﱠ ﱡ﴾ ُ‬
‫﴿ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ‬
‫(سور ُة األنعام‪.)111 :‬‬
‫ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ﴾ ُ‬
‫﴿ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ‬
‫ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ﴾ ( ُسور ُة األعراف‪.)131 :‬‬
‫ﱎ‬ ‫ﱍ‬ ‫﴿ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ‬
‫(سور ُة األنفال‪.)34 :‬‬
‫ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ﴾ ُ‬
‫فأكثرية هؤالء األقوام وهذه اجلامعات التي حتدّ ثت عنها اآليات‪ٍّ -‬‬
‫كل حسب‬
‫سياقها‪ -‬ال يعلمون وال يعقلون بل هم جيهلون وال يؤمنون!!!‬
‫ٍ‬
‫واحدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ككتلة‬ ‫والظاهر من اآليات أن القرآن الكريم يتحدّ ث عن هذه األكثريات‬
‫ٍ‬
‫واستدالل‪ ،‬ثم اليقني‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بصرية وتفك ٍّر وتد ّب ٍر‬ ‫ّ‬
‫وأن وحدة املوقف فيام بينهم ال تقوم عىل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 220‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫بل ّ‬
‫إن هذا التواطؤ عىل اخلطأ ينطلق من اجتامعهم كجامعة‪ ،‬وهو ما يطلق عليه يف‬
‫األدب ّيات املعارصة بالعقل اجلمعي‪ ،‬فالنّاس حينام يفكّرون بإحياء من قناعات اجلامعة‬
‫وتوجهاهتا يفقدون وعيهم‪ ،‬ويقعون فريس ًة الظنون‬
‫ّ‬ ‫ومتبنّياهتا‪ ،‬وبخضوع لرأي اجلموع‬
‫﴿ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾‬
‫(سور ُة ُيو ُنس‪.)36 :‬‬
‫ُ‬
‫ومن املفردات القرآن ّية التي تقرتب داللتها ممّا نسميه بالعقل اجلمعي عبارة (املأل)‪،‬‬
‫فقد جاءت يف القرآن الكريم يف حوايل تسعة عرش مور ًدا‪ ،‬ويف الكثري منها ّ‬
‫يدل عىل اجلامعة‬
‫رأي ويكون هلذا الرأي سطوته ونفوذه بحكم هيبة اجلامعة ومظهرها الذي‬
‫التي تتفق عىل ّ‬
‫رأي فيملؤون العيون‬
‫يمأل العني‪ ،‬قال الراغب يف مفرداته‪" :‬املأل مجاعة جيتمعون عىل ّ‬
‫وجالال‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ﴾‪ ،‬و﴿ﱪ‬ ‫ً‬ ‫ومنظرا والنفوس هبا ًء‬
‫ً‬ ‫روا ًء‬
‫ﱫ ﱬ ﱭ﴾‪ ،‬و﴿ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ﴾‪ ،‬و﴿ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ‬
‫ﲖ﴾ وغري ذلك من اآليات"(‪.)1‬‬
‫وللتخ ّلص من سطوة هذا العقل اجلامعي وضغوطه ناشد القرآن هؤالء أن ّ‬
‫يتحرروا‬
‫من أجواء اجلامعة املحمومة‪ ،‬ومن سلطة (الكتلة) الغارقة يف عصبيات القوم‪ ،‬بشتّى‬
‫أشكاهلا‪ ،‬بالقيام فرادى أو مثنى‪ ،‬ليتأ ّملوا بعيدً ا عن صخب اجلامعة وضجيجها‪ ،‬فصوت‬
‫احلق يتالشى يف أرجائها‪ ،‬وأن يطلقوا العنان ‪-‬ال للغرائز والشعارات‪ -‬للفكر والتأ ّمل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ﲴﲶﲷﲸﲹﲺﲻ‬
‫ﲵ‬ ‫فحينذاك يدركون احلقيقة‪﴿ :‬ﲱ ﲲ ﲳ‬
‫ﳁ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ﴾‬
‫ﳂ‬ ‫ﲼﲾﲿﳀ‬
‫ﲽ‬
‫(سور ُة سبأ‪.)46 :‬‬
‫ُ‬

‫‪ -4-1-2‬سلطة املاض والرتاث (اتباع اآلباء واألجداد)‬


‫من الطبيعي أن يتأ ّثر األبناء بعادات اآلباء واألجداد‪ ،‬حسب قانون التمرير الثقايف‬

‫(‪ )1‬الراغب‪ ،‬األصفهاين‪( ،‬أبو القاسم احلسني بن حممد)‪ ،‬املفردات‪ ،‬تح سيد كيالين‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬د‪.‬ط‪،‬‬
‫ص‪.473‬‬
‫‪221‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بني املجتمعات‪ ،‬ولكن ليس من الطبيعي أن ينسحق الفرد أمام أفكار اجلامعة وثقافتها‬
‫مهام تاهت وض ّلت وانحرفت‪ ،‬ومن غري الطبيعي أن يغدو خليارات اآلباء واألجداد‪،‬‬
‫الفكر ّية والعقد ّية سلطة حاكمة عىل األبناء‪ ،‬حتدّ د أفكارهم ورؤاهم‪ ،‬بل وترشيعاهتم!‬
‫تعرض القرآن الكريم يف أكثر من مورد هلذه اإلشكالية‪ ،‬عا ًّدا سلطة اآلباء مان ًعا‬
‫وقد ّ‬
‫احلق‪ ،‬وموكب الرسالة‪ ،‬وا ّتباع رشعة األنبياء‪ .‬وقد أبطل ُحجج هذه األجيال‬
‫من حلوق ّ‬
‫نقدي‪ ،‬ف ُيحرمون نتيجة ذلك من‬ ‫ٍ‬
‫وعقل‬ ‫بصرية ٍ‬
‫ثاقبة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫اخلاضعة لتقليد اآلباء من دون‬
‫ّ‬
‫نور احلقيقة وّتل ّيات املعرفة‪﴿ .‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ‬
‫(سور ُة البقرة‪.)170 :‬‬
‫ﱎ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ﴾ ُ‬ ‫ﱏ‬ ‫ﱍ‬
‫فاآلية حتاججهم ّ‬
‫بأن مقياس العاقل يف اال ّتباع واالقتداء نور العقل وبصرية اهلداية‪،‬‬
‫أي أساس تتّبعوهنم؟ فقوله تعاىل‪﴿ :‬ﱒ ﱓ‬
‫وآباؤكم ال يملكون من ذلك شي ًئا‪ ،‬فعىل ّ‬
‫ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ﴾‪" ،‬مفاده ّ‬
‫أن العقل ‪-‬لو كان هناك عقل‪ -‬ال يبيح‬
‫لإلنسان الرجوع إىل من ال علم عنده وال اهتداء‪ ،‬فهذه ُس ّنة احلياة ال تبيح سلوك طريق‬
‫ال تؤمن خماطره‪ ،‬وال يعلم وصفه ال باالستقالل‪ ،‬وال باتباع من له به خربة‪ .‬ولعل إضافة‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﱘ ﱙ﴾ إىل قوله‪﴿ :‬ﱕ ﱖ ﱗ﴾ لتتميم قيود الكالم بحسب‬
‫احلقيقة‪ ،‬فإن رجوع اجلاهل إىل مثله وإن كان مذمو ًما لك ّنه إ ّنام ُيذم إذا كان املسؤول‬
‫املتبوع مثل السائل التابع يف جهله‪ ،‬واليمتاز منه بيشء‪ ،‬وأ ّما إذا كان املتبوع نفسه يسلك‬
‫خبري به وداللته‪ ،‬فهو ٍ‬
‫مهتد يف سلوكه‪ ،‬وال ذ ّم عىل من اتبعه يف مسريه‪،‬‬ ‫الطريق هبداية عاملٍ ٍ‬
‫وق ّلده يف سلوك الطريق؛ ف ّ‬
‫إن األمر ينتهي إىل العلم باآلخرة‪ ،‬كمن يتبع عا ًملا بأمر الطريق‪،‬‬
‫ثم يتبعه آخر جاهل به"(‪.)1‬‬
‫ويف ٍ‬
‫آية أخرى يفنّد القرآن هذا اخلضوع لسلطة إرث اآلباء واألجداد‪ ،‬ودعوى‬
‫االكتفاء به املتم ّثلة بقوهلم‪﴿ :‬ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ﴾ ُ‬
‫(سور ُة املائدة‪.)104 :‬‬
‫(سور ُة الشعراء‪ .)74 :‬يفنّدُ القرآن الكريم‬
‫و﴿ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ﴾ ُ‬
‫احلجة الدامغة الـمتقدّ مة فـي سورة البقرة نفسها‪ :‬هل أنتم ملزمون بـهذا‬
‫هذه املقولة ب ّ‬
‫(‪ )1‬الطبطبايب‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬امليزان‪ :‬ج ‪ ،6‬ص‪.156‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 222‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫الـمنهج الـموروث حتى لوكان آباؤكم فـي ظلمـات اجلهل يرتددون وعن سبل اهلداية‬
‫معرضني؟!‪﴿ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ‬
‫(سور ُة املائِدة‪.)104:‬‬
‫ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ﴾ ُ‬
‫ِ‬
‫لغواية الشيطان الذي‬ ‫فهل خيضع هؤالء هلذا املرياث حتى لوكان يف ذلك استجاب ٌة‬
‫يدعوهم إىل الضياع والسعري؟!‪﴿ :‬ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ‬
‫(سور ُة ُلقامن‪.)21 :‬‬
‫ﱮ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ﴾ ُ‬
‫ﱯ‬ ‫ﱭ‬
‫وحسب التتبع القرآين يتصاعد هذا الشذوذ املعريف عند هؤالء يف حتديد مناهج‬
‫الفكر والسلوك‪ ،‬إىل مرتبة تربير الفواحش العمل ّية واألخالق ّية بسلطة تراث اآلباء (وجدنا‬
‫عليها آباءنا)‪ ،‬بل أكثر من ذلك إلباس هذا املوروث قداس ًة دين ّية إهل ّي ًة‪ ،‬وهذا ديدن‬
‫ارات الهوت ّي ٍة وغيب ّي ٍة قصد‬
‫املجتعات الدينية حينام يربرون ضالهلم وانحرافاهتم بمرب ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التمويه عىل اآلخرين‪﴿ :‬ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ‬
‫ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ﴾ ( ُسور ُة األعراف‪.)28 :‬‬
‫ٍ‬
‫مناقشة أخرى يبطل القرآن الكريم طريقة هؤالء ب ّأهنم ال يملكون عىل‬ ‫ويف‬
‫نقل‪﴿ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ‬ ‫عقل والمن من ٍ‬
‫منهجهم ُح ّج ًة‪ ،‬ال من ٍ‬
‫ﱑﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚ‬
‫ﱒ‬ ‫ﱊﱋﱌﱍﱎﱏﱐ‬
‫ﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱣﱤﱥﱦﱧﱨﱩﱪﱫﱬ‬
‫ﱮ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱺ ﱻ‬
‫ﱯ‬ ‫ﱭ‬
‫(سور ُة‬
‫ﲃ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾ ُ‬
‫ﲄ‬ ‫ﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂ‬
‫ُلقامن‪.)22-20 :‬‬
‫وتبقى يف هذا املقام إشار ٌة قرآن ّي ٌة جيدر الوقوف عندها‪ ،‬أال وهي املنطلقات الرتف ّية‬
‫ملوقف هؤالء أو عىل األقل فئة منهم ممّن يلوذون بسلطة تراث اآلباء وموروث األجداد‪:‬‬
‫﴿ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ‬
‫ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ﴾‬
‫خرف‪ ،)23-22 :‬فاآلية تؤ ّكد ا ّطراد اخلطاب يف تاريخ الرساالت‪ ،‬وتعاقب‬
‫(سور ُة الز ُ‬
‫ُ‬
‫‪223‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املجتمعات‪ّ ،‬‬
‫وأن املرتفني هم طليعة هذا التربير وهذا احلجاج‪:‬جاء يف تفسري امليزان يف‬
‫خيتص هبؤالء فقد كان ذلك دأب‬
‫ّ‬ ‫تفسري اآلية‪" :‬أي إن التشبث بذيل التقليد ليس ممّا‬
‫أسالفهم من األمم املرشكني وما أرسلنا من قبلك يف قرية من نذير‪ ،‬وهو النبي إال تش ّبث‬
‫متن ّعموها بذيل التقليد وقالوا‪ :‬إنا وجدنا أسالفنا عىل دين و إنا عىل آثارهم مقتدون لن‬
‫نرتكها و لن نخالفهم‪ .‬ونسبة القول إىل مرتفيهم لإلشارة إىل أن اإلتراف والتنعم هو‬
‫الذي يدعوهم إىل التقليد ويرصفهم عن النظر يف احلق"(‪.)1‬‬

‫‪ -5-1-2‬سلطة الزعامء (التبعية للسادة والكرباء)‬


‫احلق‪ ،‬واإلعراض عن‬ ‫اتباع السادة والكرباء ٌ‬
‫عامل آخر من عوامل االنحراف عن ّ‬
‫اهلدى‪ ،‬وهذا يف الواقع قد يشبه ما أسامه فرنسيس بيكون أصنام املرسح‪ ،‬فهؤالء السادة‬
‫ٍ‬
‫نافذة يف املجتمع‪ ،‬وور ّبام امتالك للقرار‬ ‫وجاهة‪ ،‬وموقع ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫والكرباء بام يملكون من‬
‫والسلطة‪ ،‬يـحولون دون التفكري العميق‪ ،‬واإلرادة احلرة‪ ،‬واالختيار الـمسؤول للناس‪،‬‬
‫ال س ّيمـا أولئك املستضعفني يف املجتمع‪﴿ :‬ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ‬
‫(سور ُة األحزاب‪ .)67 :‬وحينام تنكشف احلقائق يف النشأة اآلخرة وتنجيل‬‫ﱸ﴾ ُ‬
‫مآالت اجلميع‪ ،‬يعرتف هؤالء التابعني اخلائبني ّ‬
‫بأن السادة والكرباء الذين الذوا هبم‬
‫قد أض ّلوهم‪ ،‬فينقلب يف تلك النشأة املشهد‪ ،‬فبعد أن كان املوقف موقف ٍ‬
‫تبعية وخضو ٍع‬
‫املتفرج؛ بل يتربؤون‬
‫واهتام‪ ،‬وباملقابل لن يقف السادة والكرباء موقف ّ‬ ‫ربي ّ‬‫يغدو موقف ت ّ‬
‫بدورهم من أولئك التابعني‪ ،‬وينفون عن أنفسهم أ ّية مسؤول ّي ٍة يف اإلضالل‪.‬‬
‫تتكرر يف أكثر من سورة‬
‫ونقل لنا القرآن الكريم نامذج ش ّتى هلذه املشاهد التي ّ‬
‫قرآن ّي ٍة ومن ذلك‪:‬‬
‫الـمشـهد األول‪ :‬مـن سـورة البقـرة‪:‬‬
‫يقول تعاىل‪﴿ :‬ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ‬
‫ﲧﲩﲪ‬
‫ﲚﲛﲜﲝﲞﲟﲠﲡﲢﲣﲤﲥﲦ ﲨ‬

‫(‪ )1‬الطبطبايب‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬امليزان‪ :‬ج ‪ ،18‬ص ‪94‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 224‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫(سور ُة البقر ِة‪.)167-166 :‬‬


‫ﲮ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ﴾ ُ‬
‫ﲯ‬ ‫ﲫﲬﲭ‬

‫يصور لنا التربي املتبادل من الطرفني‪ ،‬واحلرسة العظيمة التي ّترعها‬


‫فهذا املشهد ّ‬
‫التابعون الذين صدمهم موقف ساداهتم وكربائهم برتكهم ملصريهم‪ ،‬بل أكثر من ذلك‬
‫إهنم يعلنون الرباءة منهم! حينذاك يتمنّى األتباع لو متنح هلم فرصة للعود إىل الدنيا‬
‫شأن آخر مع هؤالء السادة والكرباء! ولكن هيهات!!‬‫حتى يكون هلم ٌ‬
‫الـمشـهد الثـان‪ :‬فـي سـورة (ص)‪:‬‬
‫يقول تعاىل‪﴿ :‬ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ‬
‫ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ‬
‫ﳞﳟﳠﳡﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍﱎﱏ‬
‫(سور ُة ص‪.)64-59 :‬‬
‫ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ﴾ ُ‬
‫إنّه مشهد من ختاصم أهل النار "وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ‪-‬إىل‬
‫قوله‪ -‬ﳟ ﳠ﴾ اآليات الثالث ‪-‬عىل ما يعطيه السياق‪ -‬حكاية ما جيري بني التابعني‬
‫واملتبوعني من الطاغني يف النار من التخاصم واملجاراة‪.‬‬
‫خطاب ُخياطب به املتبوعون‪ ،‬ويشار به‬
‫ٌ‬ ‫فقوله‪﴿ :‬ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ﴾‪،‬‬
‫فوجا‪ ،‬واالقتحام الدخول يف اليشء بشدّ ٍة‬
‫إىل التابعني الذين يدخلون النار مع املتبوعني ً‬
‫جواب املتبوعني ملن خياطبهم بقوله‪:‬‬ ‫وصعوبة‪ .‬وقوله‪﴿ :‬ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ﴾‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫﴿ﲼ ﲽ﴾‪ ،‬و﴿ﳁ﴾ حت ّي ًة للوارد معناه عرض رحب الدار وسعتها له‪ ،‬فقوهلم‪:‬‬
‫﴿ﳀ ﳁ ﳂ﴾‪ ،‬معناه نفي الرحب والسعة عنهم‪ ،‬وقوهلم‪﴿ :‬ﳄ ﳅ ﳆ﴾‪ ،‬أي‪:‬‬
‫داخلوها ومقاسوا حرارهتا‪ ،‬أو متبعوها‪ ،‬تعليل لتحيتهم بنفي التحية‪ .‬وقوله‪﴿ :‬ﳈ‬
‫ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔ﴾‪ُ ،‬‬
‫نقل كالم التابعني وهم القائلون‬
‫يردون إىل متبوعيهم نفي التحية‪ ،‬ويذ ّمون القرار يف النار‪ .‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﳖ ﳗ ﳘ‬
‫ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ﴾‪ ،‬مل يذكر تعاىل جواب املتبوعني لقوهلم‪:‬‬
‫﴿ﳏ ﳐ ﳑ﴾ إلخ‪ ،‬وقد ذكره يف سورة الصافات فيام حكى من تساؤهلم بقوله‪:‬‬
‫‪225‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫﴿ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ﴾ إلخ‪:‬‬
‫اآلية ‪ .30‬فقوهلم‪﴿ :‬ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ﴾ كالمهم بعد‬
‫االنقطاع عن املخاصمة"(‪.)1‬‬

‫الـمشـهد الثـالـث مـن سـورة األعـراف‬


‫﴿ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ‬
‫ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ‬
‫ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ‬
‫(سور ُة األعراف‪.)39-38 :‬‬
‫ﱵﱶﱷﱸﱹﱺﱻ ﴾ ُ‬
‫فمعنى اآلية‪﴿ :‬ﱕ ﱖ ﱗ﴾ واجتمعوا بلحوق أخراهم ألوالهم ﴿ﱘ﴾‬
‫أي يف النار تـخاصموا‪ ،‬و﴿ﱚ ﱛ﴾ وهم الالحقون مرتب ًة أو زما ًنا من التابعني‬
‫﴿ﱜ﴾ وهم امللحوقون الـمتبوعون من رؤسائهم وأئمتهم‪ ،‬ومن آبائهم واألجيال‬
‫السابقة عليهم زما ًنا املُ ّ‬
‫مهدين هلم الطريق إىل الضالل أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه‬
‫ّ‬
‫فلتعذبوا بأشدّ من عذابنا فسألوا رهبم ذلك‪ ،‬وقالوا‪﴿ :‬ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ‬
‫ألهنم ض ّلوا يف أنفسهم‪ ،‬وأض ّلوا غريهم باإلعانة‬
‫ﱢ ﱣ ﱤ﴾ يكون ضعف عذابنا؛ ّ‬
‫﴿ﱦ﴾ اهلل سبحانه ﴿ﱧ ﴾ من األوىل واألخرى ﴿ﱨ﴾ من العذاب‪ ،‬أ ّما أوالكم؛‬
‫فإهنم ض ّلوا‪ ،‬وأعانوكم عىل الضالل‪ ،‬وأما أنتم فإ ّنكم ضللتم‪ ،‬وأعنتموهم عىل اإلضالل‬
‫ّ‬
‫باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم‪ ،‬وتكثري سواد السابقني منهم باللحوق هبم‬
‫فإن العذاب إ ّنام يتح ّقق أو ّ‬
‫يتم يف مرحلة اإلدراك والعلم‪.‬‬ ‫﴿ﱩ ﱪ ﱫ﴾‪ّ ،‬‬
‫فتتومهون ّ‬
‫أن‬ ‫وأنتم تشاهدوهنم أمثال أنفسكم يف شمول العذاب وإحاطة النار ّ‬
‫عذاهبم مثل عذابكم‪ ،‬وليس كذلك بل هلم من العذاب ما ال طريق لكم إىل إدراكه‬
‫والشعور به كام ّأهنم بالنسبة إليكم كذلك‪ ،‬فام عندكم وعندهم من العذاب ضعف‪،‬‬
‫ولكن إحاطة العذاب شغلكم عن العلم بذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الطبطبائي‪ ،‬تفسري امليزان‪ :‬ج‪ ،17‬ص‪.2020 -2019‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 226‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫مبني عىل القهر‪ ،‬واإلذالل فيه تعذيب هلم يسمعه أوالهم‪،‬‬


‫إهلي ٌّ‬
‫وهذا خطاب ٌّ‬
‫وأخراهم مجي ًعا فتعود به أوالهم ألخراهم بالتهكم‪ ،‬وتقول كام حكى اهلل‪﴿ :‬ﱭ‬
‫بخ ّفة العذاب ﴿ﱶ ﱷ ﱸ‬ ‫ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ﴾‬
‫ﱹ ﱺ﴾ يف الدنيا من الذنوب واآلثام(‪.)1‬‬

‫‪ -2-2‬املوانع يف الروايات‬
‫ما يالحظه الباحث للوهلة األوىل ‪-‬وهو يتت ّبع الرويات ويتأ ّملها‪ -‬املشرتك الذي‬
‫النص القرآين مع املوروث الروائي يف التنبيه عىل العديد من موانع املعرفة‪،‬‬
‫يلتقي حوله ّ‬
‫وتفر ّد الروايات بالتنصيص عىل موانع أخرى ال يتحدّ ث عنها القرآن الكريم مبارش ًة‪،‬‬
‫أو رصاح ًة؛ ألجل ذلك ارتأينا اإلشارة إىل املشرتك القرآين الروائي ّأو ًال‪ُ ،‬ث ّم التفصيل‬
‫قسمناها موضوع ًّيا كام سيأيت‪.‬‬
‫النسبي للموانع الروائ ّية التي ّ‬
‫حتذير من ا ّتباع األهواء‪« ،‬آفة العقل اهلوى‪ ،‬اهلوى‬
‫ٌ‬ ‫ففي العرشات من املرويات‬
‫آفة األلباب‪ ،‬طاعة اهلوى تفسد العقل‪.)2( » .....‬‬
‫ومن الطبيعي ّ‬
‫أن االستغراق يف امليول الذات ّية والرغبات اإلن ّية والشهوات النفس ّية‬
‫(يف العديد من الروايات إشارة إىل ذهاب الشهوة بلوامع التفكري وبريق العقل)‪،‬‬
‫حيجب النفس عن الواقع‪ ،‬وحيول دون إدراك احلقائق‪ ،‬ويقابل هذا يف عامل املعنو ّيات‬
‫ُ‬
‫حالة العشق الذي يعمي‪ ،‬فأسري األنا‪ ،‬وعبد الشهوات‪ ،‬حاهلام حال العاشق الوهلان‬
‫عام سواه‪ ،‬اليرى غريه‪ ،‬فكيف ُيدرك ما حوله؟ أو يعرف‬
‫املستغرق بمعشوقه الذاهل ّ‬
‫ما ُحييط به؟‬
‫إضافة إىل ذلك نرصد عوامل أخرى يف الروايات تندرج حتت آفات العقل وموانع‬
‫التفكري الصحيح‪ ،‬وهي كثرية(‪ )3‬يمكن أن نصنّفها موضوع ًّيا حتت العناوين اآلتية‪:‬‬
‫(‪ )1‬الطباطبائي‪ ،‬امليزان‪ :‬ج‪ ،8‬ص ‪.114‬‬
‫(‪ )2‬ري شهري‪ ،‬حممد‪ ،‬موسوعة العقائد اإلسالميّة‪ ،‬دار احلديث للطباعة والنرش‪ ،‬قم املقدّ سة‪1429 ،‬هـ‪ ،‬ط‪ ،3‬ج‪،1‬‬
‫ص ‪.303‬‬
‫(‪ )3‬حتدّ ثت موسوعة الريشهري عن ‪ً 20‬‬
‫عامال‪ ،‬انظر الفصل السادس‪.‬‬
‫‪227‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ -1-2-2‬موانع مشرتكة (عناوين عامة)‬


‫حب الدنيا‪ ،‬أو السكر بمعنى‬
‫يف بعض الروايات وردت عناوين كل ّية كعنوان ّ‬
‫فقدان اال ّتزان املعريف والعقيل‪ ،‬فعن اإلمام عيل‪« :‬ارفض الدنيا؛ ّ‬
‫فإن حب الدنيا‬
‫عام بني يديه»‪،‬‬
‫صم و ُيبكم‪ ،‬ويذل الرقاب»‪ ،‬و«من غلبت الدنيا عليه عمي ّ‬ ‫ُيعمي و ُي ّ‬
‫ويوجب أليم العقاب»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫احلكمة‪،‬‬ ‫و«حب الدنيا ُيفسد العقل‪ ،‬و ُيصم القلب عن سام ِع‬
‫ُ‬
‫وعن عنوان (السكر) جاء عن اإلمام عيل‪« :‬ينبغي للعاقل أن حيرتس من‬
‫سكر املال‪ ،‬وسكر القدرة‪ ،‬وسكر العلم‪ ،‬وسكر املدح‪ ،‬وسكر الشباب‪ّ ،‬‬
‫فإن لكل ذلك‬
‫وتستخف الوقار»(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫رياحا خبيثة تسلب العقل‪،‬‬
‫ً‬
‫حاجب للحقيقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أيضا إىل خطورة الغرور مهام كان سببه‪ ،‬فإ ّنه‬
‫والرواية تشري ً‬
‫ومانع ملقتضيات العقل واالتزان النفيس والشعوري‪ ،‬والعجيب يف الرواية ّ‬
‫أن يكون‬
‫مغرورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫غرور العلم هو اآلخر يف الئحة األسباب‪ ،‬فالعاقل كام جاء يف املأثور ال يلفى‬

‫‪ -2-2-2‬موانع نفسية‬
‫شخصت الرويات موانع نفس ّي ًة عديدةً‪ ،‬نورد منها بعض النامذج‪:‬‬ ‫ّ‬
‫يذهب العقل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪ .1‬ا ّتباع األمل‪ :‬عن اإلمام عيل‪« :‬اعلموا عباد اهللِ ّ‬
‫أن األمل‬
‫ث احلرسة»‪ .‬و«ما ع ِقل من أطال أمله»‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ويور ُ‬ ‫كذ ُب الوعد‪ ،‬ويـ ُحث عىل الغفل ِة‪،‬‬
‫وي ِ‬
‫ُ‬
‫و«األماين تعمي أعني البصائر»(‪.)3‬‬
‫ينبت يف‬
‫السهل‪ ،‬وال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ينبت يف‬ ‫‪ .2‬الكرب‪ :‬روي عن اإلمام الكاظم‪ّ « :‬‬
‫إن الزرع ُ‬
‫ِّ‬
‫املتكرب اجل ّبار»‪،‬‬ ‫تعمر يف ِ‬
‫قلب‬ ‫ِ‬
‫القلب املتواضع‪ ،‬وال ُ‬ ‫تعمر يف‬
‫الصفا‪ ،‬فكذلك احلكمة ُ‬
‫رب»(‪.)4‬‬‫ِ ِ‬ ‫وعن اإلمام عيل‪« :‬رش ِ‬
‫العقل الك ُ‬ ‫آفات‬
‫وجاء يف الرواية السابعة من باب صفة العلامء يف كتاب فضل العلم من أصول‬
‫(‪ )1‬موسوعة العقائد اإلسالم ّية‪ :‬ج‪ ،2‬ص ‪168‬‬
‫حممد الريشهري‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.1322‬‬
‫(‪ )2‬ميزان احلكمة‪ّ ،‬‬
‫(‪ )3‬موسوعة العقائد اإلسالميّة‪ :‬ج‪ ،2‬ص ‪.176‬‬
‫(‪ )4‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪186‬و‪.187‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 228‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ينبت الزرع ال يف اجلبل»(‪.)1‬‬


‫بالتكرب‪ ،‬ويف السهل ُ‬
‫ّ‬ ‫تعمر احلكمة ال‬
‫الكايف «بالتواضع ُ‬
‫ب‬‫جب ُيفسدُ العقل»‪ ،‬و«آف ُة ال ّل ِ‬
‫‪ .3‬ال ُعجب‪ :‬ورد عن اإلمام عيل‪« :‬ال ُع ُ‬
‫امرئ يش ٌء من الكِرب ّإال نقص من عقله‬ ‫ٍ‬ ‫ال ُعجب»‪ ،‬وعن الباقر‪« :‬ما دخل قلب‬
‫مثل ما دخله من ذلك ّ‬
‫قل ذلك أو كثر»(‪.)2‬‬
‫ِ‬
‫قلوب العلامء»‪،‬‬ ‫يذهب احلكمة من‬‫ُ‬ ‫‪ .4‬الطمع‪ :‬جاء عن رسول اهلل‪« :‬الطمع‬
‫العقول حتت ِ‬
‫بروق املطامع» (‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫أكثر مصار ِع‬
‫وعن اإلمام عيل‪ُ « :‬‬
‫يف وصية اإلمام الكاظم‪ ‬هلشام بن احلكم‪« :‬يا هشا ُم‪ ،‬إ ّياك والطمع‪ ،‬وعليك‬
‫مفتاح ِّ‬
‫للذل‪،‬‬ ‫وأمت الطمع من املخلوقني‪ّ ،‬‬
‫فإن الطمع‬ ‫ِ‬ ‫باليأس ممّا يف أيدي الن ِ‬
‫ّاس‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتدنيس العرض‪ ،‬والذها ِ‬
‫ب بالعلم»(‪.)4‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واختالق املروات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واختالس العقل‪،‬‬
‫احلس»‪ ،‬وعنه‬ ‫ِ‬
‫فإهنا من فساد ّ‬
‫‪ .5‬الغفلة‪ :‬عن اإلمام عيل‪« :‬احذروا الغفلة؛ ّ‬
‫ِ‬
‫الغفلة ُيعمي البصرية»(‪.)5‬‬ ‫أيضا‪« :‬دوا ُم‬
‫«من غفل جهل»‪ ،‬وعنه ً‬

‫‪ -3-2-2‬موانع اجتامع ّية‬


‫يف الروايات حتذير من اآلثار السلبية لبعض السلوكات االجتامعية‪ ،‬وانعكاساهتا‬
‫التفهم والتع ّقل لألمور‪،‬‬
‫عىل اجلانب الـمعرفـي واإلدراكي لإلنسان‪ ،‬وتعطيل طاقات ّ‬
‫ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬البطالة‪ :‬عن الصادق‪« :‬من ترك التجارة ذهب ثلثا عقلِه»(‪.)6‬‬
‫جاهال نقص من عقلِه»‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ .2‬مصاحبة اجلاهل‪ :‬عن اإلمام عيل‪« :‬من صحب‬

‫(‪ )1‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬أصول الكايف‪ ،‬دار املرتىض‪ ،‬بريوت‪ ،2005 ،‬ط‪ ،1‬ج ‪ ،1‬ص ‪.29‬‬
‫(‪ )2‬موسوعة العقائد اإلسالم ّية‪ :‬ج‪ ،2‬ص ‪.187‬‬
‫(‪ )3‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪181‬‬
‫(‪ )4‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )5‬موسوعة العقائد اإلسالميّة‪ :‬ج‪ 2‬ص ‪.176‬‬
‫(‪ )6‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.315‬‬
‫‪229‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ِ‬
‫العقل مصاحب ُة ذوي اجلهل» (‪.)1‬‬ ‫أيضا‪« :‬من عدم‬
‫وعنه ً‬
‫‪ .3‬الـمراء واللجاج‪ :‬عن اإلمام عيل‪« :‬من كثر مراؤه بالباطل دا َم عمـاه‬
‫حق»‪ ،‬وعنه‪« :‬من كثر مراؤه لـم يأمن الغلط»‪ ،‬و«اللجاجة ُّ‬
‫تسل‬ ‫عن الـ ّ‬
‫الرأي» (‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫رأي له»‪ ،‬و«اللجاج يفسد‬
‫الرأي»‪ ،‬و«اللجوج ال َ‬
‫َ‬

‫‪ -4-2-2‬موانع أخالق ّية سلوك ّية‬


‫ولع ّله من أبرز العناوين‪ ،‬وقد جاء تار ًة جمم ً‬
‫ال كعنوان الذنب‪ ،‬ويف موارد‬
‫قارف ذن ًبا فارقه ٌ‬
‫عقل ال‬ ‫َ‬ ‫مفصال (الذنب)‪ :‬عن رسول اهلل‪« :‬من‬‫ًّ‬ ‫أخرى جاء‬
‫يرجع إليه أبدً ا»(‪.)3‬‬
‫ومن العناوين التفصيل ّية للموانع األخالق ّية (كثرة اللهو)‪ :‬عن اإلمام عيل‪:‬‬
‫ِ‬
‫العقل مع اللعب»(‪ .)4‬وكذلك‬ ‫قل عقله»‪ ،‬وعنه‪« :‬ال يثوب‬ ‫كثر هلوه َّ‬
‫«من َ‬
‫الكفر‪ ،‬والفسق‪ ،‬واإلرساف‪ ،‬والظلم(‪.)5‬‬
‫***‬

‫(‪ )1‬موسوعة العقائد اإلسالميّة‪ :‬ج‪ ،1‬ص ‪.316‬‬


‫(‪ )2‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ 316‬و‪.317‬‬
‫(‪ )3‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.306‬‬
‫(‪ )4‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.183‬‬
‫(‪ )5‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.172‬‬
‫ّ‬
‫املبحث الثالث‬
‫مـوانـع املعـرفـة‪ :‬الوصـل والفصـل‬
‫النّص)‬
‫(بي الطرح الفلسفي والطرح ّ‬
‫الفلسفي‪ ،‬يف بعض حمطاته األساس ّية‬
‫ّ‬ ‫بعد هذا االستعراض املوجز للموانع بني الفكر‬
‫أهم النصوص الدين ّية‪ّ ،‬ت ّلت الفوارق بني املسارين‪.‬‬
‫ومدلوالت ّ‬
‫وهذا االختالف يبدو نتيج ًة منطق ّي ًة لفوارق جوهر ّية عدّ ة بني الرؤية النص ّية‬
‫الدينية‪ ،‬واملعاجلات الفلسف ّية‪:‬‬
‫والنيص يف تشخيص ماه ّية املعرفة وحقيقتها‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫خيتلف االّتاهان‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أوال‪:‬‬
‫حتديد بعض مصادرها‪ ،‬وأمهيتها‪ ،‬وأهدافها‪ ،‬وأدواهتا‪ ،‬وهذا البحث يفصل يف مظانه(‪.)1‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬أعرضت النصوص عن إشكال ّية (إمكان الـمعرفة)‪ ،‬التي استنزفت العقل‬
‫وأهنا من الوضوح ما جيعل اإلنسان يشعر‬
‫النص موقنًا بإمكاهنا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫طويال‪ ،‬وبدا ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ّ‬
‫النص للمعرفة ً‬
‫أصال ر ّبان ًّيا متتد جذوره إىل ما قبل‬ ‫هبا كشعوره بوجوده‪ ،‬بل لقد أعطى ّ‬
‫اخللق‪﴿ :‬ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ‬
‫(سـور ُة األعـراف‪،)172:‬‬
‫ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ﴾ ُ‬
‫رتسخ فـي فجـر تـاريخ اإلنسـان‪﴿ :‬ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳔ‬
‫ﳓﳕﳖﳗ‬ ‫وتـ ّ‬
‫ﱄﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍﱎﱏ‬
‫ﱅ‬ ‫ﳘﳙﱁﱂﱃ‬
‫ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ﴾ ُ‬
‫(سور ُة البقرة‪.)38 ،37 :‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬االّتاه ّ‬
‫النيص‪ :‬ير ّكز عىل املعرفة الوحيان ّية بوصفها ً‬
‫قسام من أقسام املعرفة‪،‬‬
‫أساسا يف تسديد العقل يف أدواره‪ ،‬وخت ّطي املوانع ك ّلها التي تعرتض طريقه‬
‫ً‬ ‫ويعدّ ها‬
‫للوصول إىل احلقيقة‪ ،‬ويف هذا السياق نفهم ما ورد عن اإلمام عيل‪« :‬من استغنى‬
‫واهتموا عقولكم فإ ّنه من الثقة هبا يكون اخلطاء»(‪.)2‬‬ ‫بعقله ّ‬
‫ضل»‪ّ « ،‬‬

‫(‪ )1‬انظر ً‬
‫مثال‪ :‬الكردي‪ ،‬راجح عبد احلميد‪ ،‬نظر ّية املعرفة بني القرآن والفلسفة‪ ،‬مكتبة املؤ ّيد‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪.1992 ،1‬‬
‫(‪ )2‬موسوعة العقائد اإلسالميّة‪ :‬ج‪ ،1‬ص ‪.311‬‬
‫‪231‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫دائام القضايا التي تعاجلها ك ّلها (املعرف ّية‪ ،‬االجتامع ّية‪،‬‬ ‫راب ًعا‪ُ :‬‬
‫تربط القراءة الدين ّية ً‬
‫بالرؤية الكون ّية التوحيد ّية‪ ،‬فاألصالة للغيب املهيمن عىل‬ ‫ِ‬ ‫األخالق ّية‪ ،‬السياس ّية)‪،‬‬
‫الوجود والتاريح واحلياة‪ ،‬واإلنسان يف مسريته يكدح نحو اهلل أدرك ذلك أم مل يدرك‬
‫االنشقاق‪.)6 :‬‬‫ِ‬ ‫(سور ُة‬
‫﴿ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﴾ ُ‬
‫﴿ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ‬
‫(سور ُة النور‪.)39ِ :‬‬
‫ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ﴾ ُ‬
‫بينام غال ًبا ما تقطع الـمدارس الفلسف ّية اإلنسان عن انتامئه للغيب‪ ،‬وتتعاطى مع‬
‫الكون‪ ،‬والـحياة‪ ،‬واإلنسان فـي نطاق األبعـاد الـحسـ ّيـة الـمـاد ّيـة‪ ،‬وفـي أحسن األحوال‬
‫ٍ‬
‫متعال عن واقعنا‪ ،‬أو تقرتح عالقة إشكال ّية‬ ‫تـؤمن إيمـا ًنا شكل ًّيا بالـميتافيزيقا‪ ،‬كعالـم‬
‫بني العالـم‪ ،‬وما وراء الطبيعة‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬تركّز القراءة الدين ّية عىل وحدة الشخص ّية اإلنسان ّية‪ ،‬وعدم التفكيك بني‬
‫ً‬
‫كل عام ٍل من هذه العوامل عىل األخرى‪،‬‬ ‫اجلنبة العقل ّية‪ ،‬والنفس ّية‪ ،‬والسلوك ّية وتأثري ّ‬
‫ولذا رصدنا يف الروايات العديد من موانع املعرفة ترتبط باجلنبة العقل ّية‪ ،‬وأخرى‬
‫بالرتكيبة النفس ّية لإلنسان‪ ،‬وثالثة ترتبط بمواقفه السلوك ّية‪.‬‬
‫النص ّية لكل قضايا اإلنسان‪ ،‬اإلنسان عن‬
‫تفصل الـمعاجلات ّ‬ ‫ُ‬ ‫سادسا‪ :‬مثلمـا ال‬
‫ً‬
‫أيضا عن املآل واملصري‪ ،‬ومن هنا التالزم بني الدنيا واآلخرة‪ ،‬بني العمل‬
‫املبدأ‪ ،‬ال تفصله ً‬
‫واجلزاء‪ ،‬وحتى يف املستوى املعريف حترض هذه املعادلة يف اإلجابة عن إشكال ّيات املوضوع‪.‬‬
‫وهـذا يفـ ّرس لنـا منـطق الروايـات فـي باب الـموانـع باستحـضار الثـواب والعقـاب‬
‫األخرويني‪ ،‬واحلديث عن العاقبة احلسنة‪ ،‬ومصري السوء يف نصوص أخرى‪.‬‬
‫ساب ًعا‪ :‬لـم تـهمل الـمعاجلة النص ّية االمتداد اإلنسانـي األفقي (املجتمع)‪ ،‬واالمتداد‬
‫بقو ٍة يف إشكاالت املعرفة وقضاياها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العامودي (التاريخ)‪ .‬فهذان البعدان حارضان ّ‬
‫وهكذا تتخ ّطى املعاجلة الدين ّية النظرة الفلسف ّية االختزال ّية ملسألة املوانع حيث‬
‫وامليتولوجي‪ ،‬وإن التفت بعض الفالسفة‬
‫ّ‬ ‫االبستمولوجي‬
‫ّ‬ ‫يطغى عىل املعاجلة اجلانب‬
‫إىل عوامل اجتامع ّي ٍة وتارخي ّي ٍة‪ ،‬ولكنها تظل يف إطارها الض ّيق‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 232‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فاملقاربة النص ّية وإن تقاطعت مع املقاربة الفلسف ّية موضع ًّيا يف بعض العناوين‪،‬‬
‫لكنها ختتلف عنها يف العمق‪ ،‬واالمتداد‪ ،‬واألبعاد‪.‬‬
‫***‬

‫كلمة أخرية‬
‫تدعو املغايرة العميقة بني املسلكني واملنهجني‪ ،‬بإحلاح إىل إعادة النظر يف نظر ّية‬
‫املعرفة من زاوية نصوص ّي ٍة وروائ ّي ٍة‪ ،‬فلألسف ما كتب حول نظر ّية املعرفة يف القرآن‬
‫الكريم ال يرقى الكثري منه إىل املستوى املطلوب‪.‬‬
‫إن أكثر مشاهد القصور يف هذه األطروحات عدم اإلحاطة بالنصوص القرآن ّية‬ ‫ّ‬
‫والروائ ّية ك ّلها التي ترتبط بالبحث‪ ،‬والوقوع يف املنحى التجزيئي الذي حيجب الرؤية‬
‫النص‪ ،‬عوض‬
‫الشاملة واملوضوعية‪ .‬وإسقاط الباحثني متبنياهتم وأفكارهم املسبقة عىل ّ‬
‫وّترد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫استنطاقه بحياد ّ‬
‫كام يغفل أغلب الباحثني يف هذا السياق عن طبيعة (املذهب ّية اإلسالم ّية) التي تنطلق‬
‫كوين ال يفصل املعرفة عن الوجود‪ ،‬واحلياة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والغيب‪ ،‬واآلخرة‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫من وع ٍّي‬
‫قادرا عىل بلوغ أعىل مراتب‬
‫خطريا جيعلة ً‬
‫ً‬ ‫كوين يمنح اإلنسان موق ًعا وجود ًيا‬
‫ٍّ‬ ‫وع ٍّي‬
‫االرتقاء والكامل والتكامل معرف ًّيا‪.‬‬
‫بالـمقابل سجنت الفلسفة اإلنسان تار ًة يف سجن ذاته‪ ،‬وتار ًة أخرى يف سجن‬
‫الطبيعة والعامل الـمـادي‪ ،‬وثالث ًة فـي سجن جمتمعه وتاريـخه الزمني‪ .‬فأنّى لفلسفات‬
‫حرر اإلنسان من أوهامه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تـنبثـق من رؤيـة وجود ّيـة قابعـة وراء هذه القضـبان أن تـ ّ‬
‫وحت ّطم عوائق الـمعرفـة من أمام سبيله؟!‬
‫***‬
‫‪233‬‬ ‫موانع املعرفة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الـمـصــادر‪:‬‬
‫القرآن الكريم‬ ‫‪.1‬‬
‫ابن أيب مجهور اإلحسائي‪ ،‬عوايل اللئايل‪ ،‬حتق آغا جمتبى العراقي‪ ،‬مطبعة سيد الشهداء‪ ،‬قم‪.1985 ،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬حممد بن مكرم بن عيل‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة (منع)‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫أبو هالل العسكري‪ ،‬الفروق اللغوية‪ ،‬تح حممد إبراهيم سليم‪ ،‬دار العلم والثقافة للنرش‬ ‫‪.4‬‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪.‬‬
‫باشالر‪ ،‬غاستون‪ ،‬العقالن ّية التطبيق ّية‪ ،‬تر بسام هاشم‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش‬ ‫‪.5‬‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪.1،1984‬‬
‫باشالر‪ ،‬غاستون‪ ،‬ابستولوجيا‪ :‬نصوص خمتارة‪ ،‬ترمجة وتقديم درويش احللوجي‪ ،‬دار‬ ‫‪.6‬‬
‫املستقبل العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1998 ،1‬‬
‫بيكون‪ ،‬فرنسيس‪ :‬األورجانون‪ ،‬تر عادل مصطفى‪ ،‬مؤسسة هنداوي اململكة املتحدة ‪.2018‬‬ ‫‪.7‬‬
‫حاج محد‪ ،‬حممد أبو القاسم‪ ،‬جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة (العاملية اإلسالمية الثانية)‪ ،‬دار‬ ‫‪.8‬‬
‫اهلادي بريوت‪.2004 ،‬‬
‫ري شهري‪ ،‬حممد‪ ،‬موسوعة العقائد اإلسالم ّية‪ ،‬دار احلديث للطباعة والنرش‪ ،‬قم املقدّ سة‪،‬‬ ‫‪.9‬‬
‫‪1429‬هـ‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫الطبا طبائي‪ ،‬حممد حسني‪ :‬أصول الفلسفة واملذهب الواقعي‪ ،‬تر‪ .‬عامر أبو رغيف‪ ،‬منتدى‬ ‫‪.10‬‬
‫الكتاب الشيعي‪.2012 ،‬‬
‫الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ :‬املنقذ من الضالل‪ ،‬تح مجيل صليبا‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بريوت‪ ،1967 ،‬ط‪.10‬‬ ‫‪.11‬‬
‫الفيومي‪ ،‬أمحد بن حممد‪ ،‬املصباح املنري‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪ ،‬دط‪ ،‬ج‪.2‬‬ ‫‪.12‬‬
‫الكردي‪ ،‬راجح عبد احلميد‪ ،‬نظرية املعرفة بني القرآن والفلسفة‪ ،‬مكتبة املؤ ّيد‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪.13‬‬
‫‪.1992‬‬
‫الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬أصول الكايف‪ ،‬دار املرتىض‪ ،‬بريوت‪ ،2005 ،‬ط‪.1‬‬ ‫‪.14‬‬
‫حمفوظ‪ ،‬زكي نجيب‪ ،‬رؤية إسالمية‪ ،‬مؤسسة اهلنداوي‪ ،‬اململكة املتحدة‪ ،2017،‬الط‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫مطهري‪ ،‬مرتىض‪ ،‬النبوة‪ ،‬تر جواد عيل كسار‪ ،‬دار احلوراء‪ ،‬بريوت‪ ،‬الط‪ ،‬الت‪.‬‬ ‫‪.16‬‬

‫املواقع اإللكرتونية‪:‬‬
‫موقع اندبندت بالعربية ‪2021-2-18‬م‪.‬‬

‫***‬

‫رب العاملني‬
‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل ّ‬
‫‪ّ6‬‬
‫(*)‬
‫العقل من منظار نظر ّية املعرفة‬

‫(**)‬
‫د‪ٌ.‬محمدٌحسينٌزاده‬

‫(*) مصدر البحث‪ :‬مصادر املعرفة‪( ،‬الباب الثالث)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد عيل محيطي‪ ،‬تعريب‪ :‬حيدر الحسيني‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬نرش مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية‪،‬‬
‫العتبة الحسينية‪.2019 ،‬‬
‫متخصص يف نظريـة املعـرفة‪ ،‬وأستـاذ العـلوم‬‫ّ‬ ‫(**)‬
‫العقل ّية يف الحوزة العلم ّية ‪ /‬قم‪.‬‬
‫الـمـلـ ّخـص‬
‫أهم مصادر أو طرق املعرفة‪ .‬ويمكن البحث حول العقل من زوايا‬
‫العقل هو أحد ّ‬
‫نعرف العقل من‬
‫معريف‪ .‬واهلدف هو أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫منظار‬ ‫نتعرض له من‬
‫خمتلفة‪ ،‬ويف ٰهذا البحث ّ‬
‫مصدر للمعرفة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫منظار نظر ّية املعرفة بلحاظ أنّه‬
‫والعميل‪ ،‬وبعدها نبحث حقيقة‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫ثم نبحث أقسام العقل بام يشمل العقل‬
‫ونتطرق يف مطاوي البحث إىل ّ‬
‫حل‬ ‫ّ‬ ‫والعميل وخصائصهام أو امتيازاهتام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫أيضا يف نظر ّية املعرفة أم ليس كذلك؟‬‫العميل مقصو ٌد وغاي ٌة ً‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‪ ،‬وهي هل العقل‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مسألة أخرى‪ ،‬وهي هل العقل‬ ‫حل‬‫مبني عىل ّ‬ ‫من الواضح ّ‬
‫أن جواب السؤال األخري ٌّ‬
‫مصدرا أو أدا ًة معرف ّية؟‬
‫ً‬ ‫أيضا؟ وهل ُيعد‬
‫العميل مفيدٌ للمعرفة ً‬
‫ّ‬
‫النظري‪ ،‬ونشاط‬
‫ّ‬ ‫مستقل حول بحث وظائف العقل‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫فصل‬ ‫ثم نواصل البحث يف‬
‫كل منهام‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫واحد من املفاهيم والقضايا‪ ،‬والدور ا ّلذي يمكن أن يؤ ّديه يف ّ‬ ‫العقل يف ّ‬
‫كل‬
‫وأخريا يف ختام ٰهذا القسم نشري إىل دور العقل يف القضايا القبل ّية‪ ،‬ودور مثل ٰهذه‬
‫ً‬
‫القضايا يف املعارف اإلنسان ّية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بمكان ال حيتاج‬ ‫مه ّية البحث حول العقل‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬ووظائفه‪ ،‬وقيمته‪ ،‬من الوضوح‬
‫أ ّ‬
‫معه إىل كال ٍم وبيان‪.‬‬
‫وال ُينكر دوره يف صناعة املفاهيم الك ّل ّية‪ ،‬وتعريف املفاهيم‪ ،‬وصناعة القضايا‪،‬‬
‫وخاصة القضايا الك ّل ّية وإقامة االستدالل؛ بل يمكن إضافة‪ّ :‬‬
‫أن اإلنسان ينال معرف ًة‬ ‫ّ‬
‫عميق ًة وواسع ًة باألشياء مستفيدً ا من العقل عرب نشاطاته ووظائفه املختلفة من قبيل‬
‫انتزاع املفاهيم الك ّل ّية وإدراكها‪ ،‬والتعريف أو التحليل‪ ،‬واحلكم‪ ،‬وصناعة القض ّية‪،‬‬
‫وتأليف االستدالل‪ ،‬وأمثاهلا؛ وال ُتنال ٰهذه املعرفة بواسطة احلواس‪.‬‬

‫النظري‪ ،‬العقل العملـ ّي‪ ،‬القضايا الق ْبل ّية‪ ،‬التصورات‬


‫ّ‬ ‫الكلمـات الـمفتاح ّية‪ :‬العقل‬
‫األول ّية‪ ،‬القوة اإلدراك ّية‪ ،‬التقسيم‪ ،‬التحليل والرتكيب‪ ،‬التعريف‪،‬‬
‫والتصديقات‪ ،‬األفكار ّ‬
‫التجريد والتعميم‪ ،‬املقايسة واملقارنة‪ ،‬االستدالل واالستنتاج‪ ،‬االستقراء‪.‬‬
‫ّ‬
‫املبحـث األ ّول‬
‫العقل‪ ،‬ماه ّيته وأقسامه وخصائصه‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬تاريخ البحث‬
‫البحث حول العقل وقيمتِه ذو تاريخٍ طوي ٍل ممتدٍّ إىل عرص اليونان القديمة‪ .‬وقد‬
‫مطروحا يف تلك العصور قبل سقراط‪ .‬وقد اعتمد اإليليون(‪ )1‬عىل‬
‫ً‬ ‫كان ٰهذا البحث‬
‫العقل متبعني بارمينيدس (‪ 540-475‬ق‪.‬م)‪ ،‬ورأوا ّ‬
‫أن العقل هو الطريق املعترب‬
‫الوحيد‪ .‬وقد آمنوا بأنّه يمكن معرفة واقع ّية األشياء‪ ،‬بل وجود احلركة عن طريق‬
‫ومهي‪ .‬وعىل من رغم إذعان‬
‫ّ‬ ‫جمرد ظهور [لألشياء]‪ ،‬وأمر‬
‫باحلواس ّ‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ .‬وما ندركه‬
‫قوة إدراك احلس والعقل يف اإلنسان‪ٰ ،‬لكنّه ين ّبه عىل ّ‬
‫أن إدراك احلس‬ ‫بارمينيدس بوجود ّ‬
‫بحواسه الظاهر(‪ )2‬ال واقع‬
‫ّ‬ ‫يعرف‬
‫ُ‬ ‫ميلء بالتناقضات وال ُينتج سوى (الظن)‪ .‬واإلنسان‬
‫يسمي بارمينيدس الشـيء‬
‫األشياء ‪ ،‬وأ ّما واقع األشياء فيدركه عن طريق العقل‪ّ .‬‬
‫(‪)3‬‬

‫فيسميها‬
‫ّ‬ ‫احلواس إياه (العقيدة)(‪)4‬؛ وأما املعلومات ا ّلتي يعطينا ُ‬
‫العقل إياها‬ ‫ّ‬ ‫ا ّلذي متنحنا‬
‫(املعرفة)‪ .‬و ٰهبذا يم ّيز بني طريق احلقيقة أو املعرفة‪ ،‬وطريق العقيدة‪ ،‬و ُيرص عىل ٰهذا‬
‫احلواس مليئة بالتناقضات من قبيل أن يرى الشخص‬ ‫ّ‬ ‫التاميز بينهام‪ .‬وبام ّ‬
‫أن ُمدركات‬
‫واعتبارا سوى‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫مستطيل‪ ،‬دائري ًة‪ ،‬فهو ال يرى قيم ًة‬ ‫البناية ا ّلتي هي عىل شكل مك ّع ٍ‬
‫ب‬
‫لطريق العقل ا ّلذي يمكن بواسطته الوصول إىل احلقيقة واملعرفة‪ .‬ومن هنا فعىل رأي‬
‫بارمينيدس وأتباعه يكون الطريق املعترب الوحيد للمعرفة هو العقل ا ّلذي ُيمكن به‬
‫معرفة حقائق العامل وظاهراته(‪.)5‬‬
‫(‪ )1‬الفالسفة املنسوبون إىل مدينة ‪.Elea‬‬
‫‪)2( noumenon.‬‬
‫‪)3( Phenomenon.‬‬
‫‪)4( Opinion.‬‬
‫‪)5( See: F. M. Cornford, Plato and Parmenides, p.30-48; C. C. W. Taylor (ed.),‬‬
‫;‪From the Beginning to Plato, p.145-148‬‬
‫كوبلستون‪ ،‬فريدريک‪( ،‬تاريخ فلسفه) [تاريخ الفلسفة]‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪62-61‬؛ =‬
‫‪239‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫واصل أفالطون (‪ 347-428‬ق‪.‬م) بحث ٰهذه املسألة‪ ،‬وأرص عىل حرص االعتبار‬
‫بالعقل وإدراك الكل ّيات فقط(‪ .)1‬وأ ّما تلميذه أرسطو (‪ 322-384‬ق‪.‬م) فقد اعتقد‬
‫أيضا‪ ،‬وث ّبت القيمة املعرف ّية لكلتا القوتني اإلدراكيتني‪ ،‬وأسس علم‬
‫احلس ً‬
‫ّ‬ ‫باعتبار‬
‫املنطق من أجل الصيانة من اخلطأ يف الفكر‪ ،‬الشامل للتعريف واالستدالل ومها من‬
‫حسيون‬‫أيضا عىل الرغم من كل ما قيل عنهم ‪-‬من ّأهنم ّ‬ ‫عمل العقل(‪ .)2‬والرواقيون ً‬
‫بنحو ما‪ .‬وبحسب رأهيم "يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫احلسـ ّية‪ٰ -‬لكنّهم عقالنيون‬ ‫ويستندون إىل التجارب ّ‬
‫ٍ‬
‫زاوية‬ ‫معرفة نظام الواقع عن طريق العقل فقط"(‪ً .)3‬‬
‫فضال عن ّأهنم يتقبلون العقل من‬
‫أخرى‪ ،‬وهي اإلذعان بتح ّقق املفاهيم القبل ّية أو املتقدّ مة عىل التجربة(‪.)4‬‬
‫الفلسفي الغريب منذ املايض‬
‫ّ‬ ‫مطروح فـي الفكر‬
‫ٌ‬ ‫فإن بحث العقل واعتباره‬‫وعليه ّ‬
‫البعيد‪ ،‬ومازال يبحث إىل اآلن‪ .‬وقد تواصل النزاع حول اعتبار العقـل ا ّلذي ُأ ِّسس‬
‫وفـ ًقا لرؤية األبيقوريني طوال التاريخ‪ ،‬وخا ّصة فـي أوساط الـمتكلمني املسيحيني‬
‫حس ّـي‪ٰ ،‬لك ّن‬
‫مؤسسا للمذهب الـ ّ‬
‫ً‬ ‫واإليمـانيني‪ .‬ومـع ّ‬
‫أن أبيقـور ُعد فـي تاريخ الفلسفة‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫مثل ٰهذا االّتاه كان ساب ًقا عليه ‪ .‬واألبيقوريون مثل الرواقيني كانوا ّ‬
‫حس ّيني‬ ‫(‪)5‬‬

‫حس ّـي‪ٰ ،‬لكنّهم يرون ّ‬


‫أن‬ ‫ٍ‬
‫تناقض‪ .‬فاألبيقوريون عىل رغم من ا ّتـجاههم الـ ّ‬ ‫ال يـخلو من‬
‫بعض األمـور يمكن معرفتها عن طريق العقـل أو اللوغـوس(‪ )6‬فقـط‪ ،‬وآمنوا أ ّنـه عن‬
‫= يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪34-27‬؛ لفان (‪( ،)Levine‬فلسفه يا پژوهش حقيقت) [الفلسفة‬
‫أو بحث احلقيقة]‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬ص‪.58-57‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬كوبلستون‪ ،‬فريدريک‪( ،‬تاريخ فلسفه) [تاريخ الفلسفة]‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫ص‪.192-171‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.330-319‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.444‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.444-443‬‬
‫‪(5) Jonathan Dancy & Ernest Sosa, A Companion to Epistemology, P. 152-153.‬‬
‫(‪ )6‬اللوغوس ‪ :Logos‬لفظ يوناين يعني الكلمة أو العقل أو القانون‪ ،‬وهو مصطلح شائع االستعامل يف األدبيات‬
‫الفلسفيّة والدينيّة‪ ،‬فهو عند أفالطون وأرسطو قانون الوجود وأحد املبادئ املنطقيّة‪ ،‬وعند الرواقيني قانون‬
‫العاملني الطبيعي والروحي يف إطار وحدة الوجود‪ .‬كان ّأول من استعمل مفهوم اللوغوس يف الفلسفة اليونانية‬
‫[نقال عن موقع‪ :‬املوسوعة العربية‪ .https://www.arab-ency.com/ar :‬املرتجم]‪.‬‬ ‫هرياقليطس ً‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 240‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫طريق العقل فقط يمكن نيل مثل تلك األمور‪.‬‬


‫وأسايس حول تعارض العقل والدين‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫رصاع جا ٌّد‬
‫ٌ‬ ‫وقد نشب يف الثقافة املسيح ّية‬
‫اعتبار العقل يف نظر ٍ‬
‫كثري من الفالسفة والالهوتيني املسيحيني‪ٰ .‬‬
‫وكذلك اختلف‬ ‫ُ‬ ‫و ُن ِفي‬
‫املتكلمون املسيحيون منذ القرون األوىل حول عالقة العقل بالدين‪ .‬ويف القرون الوسطى‬
‫اعتقد بعضهم ‪-‬تب ًعا ألوغسطينوس‪ّ -‬‬
‫بأن اإليامن مقدّ ٌم عىل العقل‪ .‬وقد كان شعار‬
‫صدى‬
‫ً‬ ‫أوغسطينوس‪" :‬إذا أردت أن تفهم‪ ،‬فعليك أن تؤمن"(‪ .)1‬وكان هلٰذا الشعار‬
‫واسع يف أوساط الكثري من املتكلمني وأتباع الديانة املسيحية‪ ،‬ومنهم آنسلم القائل‪:‬‬
‫ٌ‬
‫"أنا ال أسعى وراء أن أفهم ّأو ًال ثم أؤمن‪ ،‬بل أؤم ُن لكي أفهم"(‪ .)2‬وبحسب رؤيته‬
‫ّ‬
‫فإن اإلنسان ما مل يؤمن لن يصل إىل الفهم واملعرفة(‪.)3‬‬
‫فريق آخر من املتكلمني املسيحيني بأنّه مع وجود الكتاب املقدّ س‪ ،‬ال حاجة‬
‫واعتقد ٌ‬
‫إىل العلوم اإلنسان ّية‪ ،‬فالوحي يغنينا عن مجيع املعارف اإلنسان ّية‪ ،‬سواء العلوم الفلسف ّية‬
‫أم التجريب ّية وأمثاهلا‪ .‬وبحسب رؤية ٰهؤالء فإن التعاليم الدين ّية وتعاليم الكتاب املقدّ س‬
‫يرصون عىل تع ّلم الرشيعة فقط‪،‬‬ ‫تتعارض مع املعارف اإلنسان ّية‪ .‬ومن هنا كانوا ّ‬
‫فهؤالء مل ُينكروا اعتبار العقل يف جمال‬
‫ويمنعون الناس من االنشغال بالفكر‪ .‬وعليه ٰ‬
‫فهم التعاليم الدين ّية العقد ّية فحسب‪ ،‬بل أنكروا اعتباره يف معرفة القوانني التجريب ّية‬
‫والرياض ّية وأمثاهلا‪ ،‬ونفوا قيمة العقل واألحكام العقل ّية مطل ًقا‪.‬‬
‫الفريق الثالث من ٰهؤالء وهم املشهورون بـ(الرشديني الالتني)(‪ )4‬كانوا يؤمنون‬
‫(‪ )1‬أوغسطينوس‪" ،‬دربارهی اختيار" [حول االختيار]‪ ،‬الباب الثاين‪ ،‬الفقرتني الثانية والسادسة‪ً ،‬‬
‫نقال عن‪ :‬إتيان‬
‫جيلسون‪" ،‬عقل ووحى در قرون وسطى" [العقل والوحي يف القرون الوسطى]‪ ،‬ترمجة شهرام پازوكی‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫أيضا‪ :‬ديفيد السكم [‪ David Luscombe‬املرتجم]‪( ،‬تفكر در دوره قرون وسطا) [التفكري يف القرون‬
‫راجع ً‬
‫الوسطى]‪ ،‬ترمجة حممد سعيد حنايي كاشاين‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫(‪ )2‬آنسلم‪( ،‬كتاب حديث با نفس) [كتاب احلديث مع النفس]‪ً ،‬‬
‫نقال عن‪ :‬إتيان جيلسون‪( ،‬عقل ووحى در قرون‬
‫وسطى) [العقل والوحي يف القرون الوسطى]‪ ،‬ترمجة شهرام پازوكی‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬إتيان جيلسون‪( ،‬عقل ووحى در قرون وسطى) [العقل والوحي يف القرون الوسطى]‪ ،‬ترمجة شهرام‬
‫پازوكی‪ ،‬واملؤلف نفسه‪( ،‬روح فلسفه قرون وسطى) [روح الفلسفة الوسيطية]‪ ،‬ترمجة ع‪ .‬داودي‪ ،‬ص‪.9-8‬‬
‫(‪ )4‬نسبة إىل الفيلسوف األندليس املسلم أبو الوليد حممد بن أمحد ابن رشد (‪ 595 - 520‬هـ)‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪241‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ّ‬
‫بأن املعارف اإلنسان ّية ‪-‬ومنها الفلسفة‪ -‬ال تتعارض مع اإليامن والتعاليم الدين ّية‪ .‬يف‬
‫ريام رسم ًّيا شمل‬
‫أواخر القرن الثالث عرش امليالدي أصدر أسقف باريس إتيان تامبيه حت ً‬
‫تعليام من تعاليم الرشديني‪ .‬وقد جاء يف بعض ٰهذه التعاليم‪" :‬ال توجد يف العامل‬
‫(‪ً )219‬‬
‫حكمة سوى ما يرتبط بالفالسفة" (القض ّية ‪ )154‬و"ال ينبغي اإليامن إال بام كان بده ًّيا‬
‫بالذات أو ما يستنتج من القضايا البدهية" (القض ّية ‪.)1()37‬‬
‫يف عرص النهضة ا ّتسعت دائرة اختالف الرأي حول اعتبار العقل‪ ،‬وانتهى األمر‬
‫إىل الشكوك ّية الشاملة‪ ،‬وخاصة يف جمال تعاليم املسيح ّية‪ٰ .‬هذه الشكوك ّية خلقت أزم ًة‬
‫ملنتجات عرص التنوير‪ ،‬وعىل الرغم من تصدّ ي علامء من قبيل ديكارت (‪ )2‬وأتباعه هلا‪،‬‬
‫ٰلكنّها استمرت يف اال ّتساع وتركت تأثريها عىل الكثريين‪ .‬ويف القرن الثامن عرش‬
‫امليالدي جاء رد فعل ايامنويل كانط عىل تيار الشكوك ّية بتصدّ يه لنقد العقل‪ ،‬ووصل يف‬
‫النظري يف نطاق‬
‫ّ‬ ‫النهاية إىل االنسداد أو االنغالق املعريف‪ ،‬وخلق أزمة العتبار العقل‬
‫القضايا الفلسف ّية والكالم ّية‪ ،‬ووضع فر ًقا بني حقيقة الشـيء (النومينون) وظاهره‬
‫(الفينومينون)(‪ ،)3‬واستنتج أنّه ال يمكن معرفة النومينون أو اليشء يف نفسه‪ ،‬بل ّ‬
‫إن ما‬

‫(‪ )1‬جيلسون‪ ،‬إتيان‪( ،‬عقل و وحى در قرون وسطى) [العقل والوحي يف القرون الوسطى]‪ ،‬ترمجة شهرام پازوكی‪،‬‬
‫ص‪.44-43‬‬
‫احلسيّة بنرش الشكوكية يف نطاق القضايا املحسوسة‪ ،‬وما‬‫(‪ )2‬وبالرغم من ٰذلك فقد أسهم عرب تشكيكه باإلدراكات ّ‬
‫تزال املشاكل الناشئة عن ٰذلك حتارص املفكرين الغربيني‪ .‬ومضا ًفا إىل ٰذلك ربام يمكن ادعاء ّ‬
‫أن نظريته انتهت إىل‬
‫حممدحسني زاده‪" ،‬پژوهشی‬
‫الذاتانية [‪]subjectivism‬؛ كام ذهب البعض إىل أنّه باين الذاتانية (راجع‪ّ :‬‬
‫تطبيقی در معرفت شناسی معارص" [دراسة مقارنة يف نظر ّية املعرفة املعارصة]‪ ،‬ص‪.)23-22‬‬
‫(‪ )3‬العقل يف مذهب كانت ال يعرف ّإال الظواهر الطبيعية ‪ Phenomena‬وال ينفذ إىل حقائق األشياء يف ذواهتا‬
‫فلسفي ويقصد به ويرادفه‬
‫ّ‬ ‫(‪ ،)Noumena‬وورد يف ويكيبديا‪ :‬النومينون (بالالتينية‪ )noumenon :‬هو مصطلح‬
‫الفلسفي اليشء يف ذاته (باإلنكليزية‪ thing in itself :‬وباألملانية‪ .)Ding an sich :‬ومصطلح‬
‫ّ‬ ‫يف االستخدام‬
‫ثم أصبح مصطلح النومينون مرتب ًطا بالفلسفة‬
‫األملاين إيامنويل كانت ّ‬
‫ّ‬ ‫النومينون مل يكن شائ ًعا حتّى جاء به الفيلسوف‬
‫الكانتية‪ .‬واملقصود باليشء يف ذاته هو احلقيقة األساسية لليشء التي تكمن وراء الظواهر‪ .‬أصل كلمة نومينون هو‬
‫أصل يوناين من كلمة (‪ )νοούμενoν‬املشتقة من الفعل (‪ )νοέω‬ومعنى ٰهذه الكلمة هو أعتقد أو أعني‪ .‬ومجع‬
‫ٰهذه الكلمة باللغة اليونانية هو (‪ )νοούμενα‬وباللغة الالتينية ‪ .noumena‬يستعمل مصطلح نومينون بشكل‬
‫معاكسة مع مصطلح فينومينن ‪ .)Phenomenon‬ويقصد بمصطلح =‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عالقة‬ ‫مصطلحا مضا ًدا‪ ،‬وذا‬ ‫عام بوصفه‬
‫ً‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 242‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫احلساس ّية والفامهة‪،‬‬


‫احلسـ ّية يف مرحلة ّ‬
‫نعرفه من الواقع هو ما يرتكّب مع املعطيات ّ‬
‫والنتيجة هي أ ّننا نعرف ما يظهر‪ ،‬ال ما هو واقع؛ ونعرف الفينومينن ال النومينون‪.‬‬
‫أيضا يف مستنقع النسب ّية املعرف ّية‪ ،‬ودافع برصاحة عن الذاتان ّية‬
‫و ٰهبذا سقط كانط ً‬
‫املشاهد مقابل ِصدق املشاهد‪ ،‬بل عد ٰهذا أهم نتائج فلسفته‪ .‬وبعد أن نفى‬
‫ِ‬ ‫وصدق‬‫ِ‬
‫عميل‪ ،‬بل‬
‫النظري يف نطاق ما وراء الطبيعة وأمثاهلا‪ ،‬قبل اعتبار العقل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫اعتبار العقل‬
‫العميل إثبات قض ّية (اهلل موجود)‪ ،‬وأقام‬
‫ّ‬ ‫ذهب إىل أنّه يمكن من خالل العقل‬
‫ٍ‬
‫استدالالت يف ٰهذا املجال(‪.)1‬‬
‫كبريا يف الفلسفات الغرب ّية‪ ،‬وخاصة الفلسفات األورب ّية‪،‬‬
‫تأثريا ً‬
‫تركت آراء كانط ً‬
‫كثري من املدارس الفكر ّية منذ عرصه إىل يومنا‬
‫وظهرت نتيجة للتأثر بتعاليمه وأفكاره ٌ‬
‫مؤسس الليربال ّية الدين ّية فريدريك شاليرماخر(‪ )2‬كر ّد ٍ‬
‫فعل عىل رؤية كانط‬ ‫ٰهذا‪ .‬يقول ّ‬
‫العميل يف ٰ‬
‫اإلهل ّيات‪ :‬ال يمكن احلصول عىل الرشيعة عن طريق‬ ‫ّ‬ ‫يف جمال اعتبار العقل‬
‫وإنام يمكن الوصول إىل الرشيعة عن‬
‫العقل النظري‪ ،‬وال عن طريق العقل العلمي‪ّ ،‬‬
‫طريق التجربة الدين ّية‪.‬‬
‫أي حال فالبحث حول العقل واعتباره استمر يف الغرب‪ ،‬وبرغم أزمات‬ ‫وعىل ّ‬
‫الشكوك ّية أو النسب ّية أو التجريب ّية‪ ،‬فقد ظهر يف العقود األخرية بعض الباحثني ا ّلذين‬
‫مرة أخرى عىل اعتبار العقل‪ ،‬وقاموا بإحياء تأسيس ّية أصحاب التيار العقالين‪.‬‬
‫أكدوا ّ‬
‫مستمرا حول اعتبار العقل(‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫ومن هنا ما يزال البحث‬

‫= فينومينن‪ :‬الظاهرة‪ ،‬أي ظواهر األشياء أو األشياء من اخلارج أو املواضيع التي تتلقاها احلواس‪ .‬والفينومنون هو‬
‫سيتم‬
‫أن ٰهذا اليشء أو ٰهذا احلدث ّ‬‫أي يشء من األشياء وأي حدث من احلوادث مهام كان‪ٰ ،‬لكن له رشط واحد هو ّ‬
‫استقباله من طريق احلواس‪( .‬املرتجم)‬
‫(‪ )1‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬فلسفه دين) [فلسفة الدين]‪ ،‬الفصل األول والثاين والرابع؛ املؤلف نفسه‪( ،‬شكاكيت‬
‫ونسبيت گرايی) [الشكوكية والنسبية]‪ ،‬فصليه معرفت فلسفی‪ ،‬العدد ‪ ،5‬خريف‪ ،1383‬ص‪.108-57‬‬
‫(‪.Friedrich Schleiermacher )2‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬فلسفه دين) [فلسفة الدين]‪ ،‬الفصل األول؛ املؤلف نفسه‪( ،‬شكاكيت ونسبيت‬
‫گرايی) [الشكوكية والنسبية]‪ ،‬فصليه معرفت فلسفی‪ ،‬العدد‪ ،5‬خريف‪ ،1383‬ص‪.92-91‬‬
‫‪243‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ثانيًا‪ :‬العقل يف رؤية املفكرين املسلمي‬


‫يتط ّلب البحث حول تاريخ مسألة اعتبار العقل عند املف ّكرين املسلمني ً‬
‫جماال أوسع‬
‫ويستحق ٰهذا املوضوع‬
‫ّ‬ ‫مم ّا نحن فيه كام هو احلال يف مسألة عالقة العقل والدين عندهم‪،‬‬
‫موسع ًة‪ .‬وموقف املفكرين املسلمني يف ٰهذه املسألة مأخوذ غال ًبا من النصوص‬
‫دراس ًة ّ‬
‫اخلاصة والبارزة للعقل يف املعرفة‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم ّية‪ ،‬إذ أكّدت تلك النصوص عىل املكانة‬
‫اإلنسان ّية‪ .‬وهناك الكثري من اآليات والروايات ا ّلتي امتدحت العقل‪ ،‬وقد ب ّينت جمموعة‬
‫احلجة الظاهرة (‪ .)1‬ومن هنا وف ًقا لتعاليم‬
‫ّ‬ ‫احلجة الباطنة‪ ،‬إىل جنب‬
‫ّ‬ ‫من الروايات أنّه‬
‫احلجة‬
‫احلجة الظاهرة‪ ،‬والعقول هي ّ‬ ‫واألئمة األطهار هم ّ‬
‫ّ‬ ‫أهل البيت‪ّ ‬‬
‫فإن األنبياء‬
‫حج ّية األنبياء واألئمة‪ ‬يتم متييزها وحتديدها عن طريق‬ ‫الباطنة‪ .‬ومن الواضح ّ‬
‫أن ّ‬
‫واألئمة األطهار‪‬‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬واالستدالل العقيل‪ .‬مضا ًفا إىل ٰذلك ّ‬
‫فإن النبي األكرم‪‬‬
‫كرموا دور العقل يف سريهتم العمل ّية والعلمية‪ ،‬واستخدموه ً‬
‫عمال واستفادوا منه يف إثبات‬ ‫ّ‬
‫التعاليم العقد ّية‪ .‬واالحتجاجات املنقولة عن النبي‪ ‬واألئمة املعصومني‪ ‬تعد‬
‫ً‬
‫دليال قو ًّيا إلثبات ٰهذا املدّ عى(‪.)2‬‬
‫واللطيف يف األمر أ ّننا بمراجعة النصوص الدين ّية ندرك ّ‬
‫أن القيمة واالعتبار املعريف‬
‫مبني عىل دليل العقل وتأييده‪ .‬وقد أثبت اإلما ُم الصادق‪ ‬يف‬
‫احلسـ ّية ٌّ‬
‫لإلدراكات ّ‬
‫احلواس الظاهر ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إحدى مناظراته ألحد املرشكني حدوث العامل عن طريق إدراكات‬
‫قائال‪" :‬أخربت فأوجزت‪ ،‬وقلت‬ ‫فقبِل ٰذلك الشخص الدليل‪ ،‬وامتدح اإلمام‪ً ‬‬
‫فأحسنت‪ ،‬وقد ِ‬
‫علمت أ ّنا ال نقبل إال ما أدركناه بأبصارنا‪ ،‬أو سمعناه بآذاننا‪ ،‬أو شممناه‬
‫احلواس‬
‫ّ‬ ‫بمناخرنا أو ذقناه بأفواهنا أو ملسناه بأكفنا‪ ،...‬قال أبو عبد اهلل‪« :‬ذكرت‬
‫اخلمس وهي ال تنفع شيئًا بغري دليل كام ال يقطع الظلمة بغري مصباح»(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ ،‬الكايف‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬كتاب العقل واجلهل‪ ،‬ص‪29-10‬؛ املجليس‪ ،‬حممدباقر‪ ،‬بحار األنوار‪ ،‬كتاب العقل‬
‫واجلهل‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪161-81‬؛ كتاب االحتجاج‪ ،‬ج ‪ 9‬و‪ 10‬وغريها‪.‬‬
‫حممد بن بابويه‪ ،‬التوحيد‪ ،‬الباب‪ ،42‬ص‪ ،293-292‬ح‪1‬؛ املجليس‪ ،‬حممدباقر‪ ،‬بحار األنوار‪،‬‬
‫عيل بن ّ‬
‫(‪ )3‬الصدوق‪ّ ،‬‬
‫وكذلك راجع‪ :‬ج ‪ ،10‬ص ‪ ،211‬ح ‪.12‬‬‫ج ‪ ،3‬ص ‪ ،39‬ح ‪13‬؛ ٰ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 244‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وبمالحظة روح اإلسالم النق ّية ا ّلتي تؤ ّكد قيمة العقل واعتباره‪ ،‬وتعرضه عىل أنّه‬
‫احلجة الباطنة‪ ،‬بل األساس للحجة الظاهرة‪ ،‬فقد التزم أتباع اإلسالم يف ظل هداية‬ ‫ّ‬
‫أهم ٍ‬
‫طريق‬ ‫مر التاريخ‪ ،‬وعدوا العقل ّ‬ ‫دائام وعىل ِّ‬
‫النبي‪ ‬وأهل البيت‪ٰ ‬هبذا النهج ً‬
‫أداة للمعرفة اإلنسان ّية‪ .‬وأما التيار األخباري من بني أتباع مدرسة أهل البيت‪‬‬ ‫أو ٍ‬
‫حج ّية العقل مطل ًقا‪،‬‬
‫املعروف بتقديم روايات املعصومني‪ ‬عىل العقل‪ ،‬فهو الينفي ّ‬
‫بل ّ‬
‫إن األخباريني املعتدلني يؤمنون باعتبار العقل يف التعاليم االعتقاد ّية اإلسالم ّية‪.‬‬
‫والرؤية األساس ّية األهم عندهم هي إيامهنم بعجز العقل عن تشخيص مالكات األحكام‬
‫الرشع ّية ومصاحلها‪ ،‬ويوصون بعدم إدخال العقل يف ٰهذا املجال‪ .‬أ ّما املواقف املتشدّ دة‬
‫املنقولة عن بعض علامء ٰهذا التيار يف معارضة الفلسفة واملنطق‪ ،‬فهي خمصوصة بالفلسفة‬
‫أن تلك املواقف ملخالفة العقل‪ .‬و ٰهبذا ّ‬
‫فإن نزاع‬ ‫واملنطق املأخوذين من اليونانيني‪ ،‬ال ّ‬
‫األخباريني ال يدور حول اعتبار العقل‪ .‬فهم من جهة يف نزاع مع األصوليني‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى يف نزاع مع الفالسفة‪ .‬أ ّما يف نزاعهم مع األصوليني فيتم ّثل يف نفي ّ‬
‫حج ّية‬
‫ِ‬
‫بوصفه رابع األ ّدلة يف الفقه‪ ،‬ال من باب كونه أدا ًة لفهم النصوص(‪ ،)1‬وأ ّما‬ ‫العقل‬
‫احتجاجا بأنّه‬
‫ً‬ ‫موقفهم من الفلسفة فيتم ّث ُل يف إنكار بعضهم رضورة العقل يف اإليامن‪،‬‬
‫وبدال عنها جيب اتباع االستدالالت‬ ‫ً‬ ‫مل يؤمن حلد اآلن شخص عن طريق الفلسفة‪،‬‬
‫الواردة يف نصوص اآليات والروايات‪ ،‬واالستفادة منها يف إثبات التعاليم الدين ّية من‬
‫قبيل وجود اهلل‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬وسائر صفاته‪ ،‬والنبوة‪ ،‬واإلمامة وأمثاهلا‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى ّ‬
‫فإن االّتاه النقيل للمحدّ ثني يف بداية عرص الغيبة ال يعني نفي‬
‫يبني أسمى املفاهيم العقل ّية وأرقاها يف باب‬
‫اعتبار العقل‪ .‬فكتاب توحيد الصدوق ّ‬
‫رواد ٰهذا التيار‪.‬‬
‫التوحيد‪ ،‬والصدوق أشهر ّ‬
‫والـحاصل هو أ ّننا نالحظ وجود الـخالف بني أتباع مدرسة أهل البيت‪ ‬فـي‬
‫حج ّية العقل واعتباره ويف رؤية األخباريني ودراسة كلامهتم بحاجة إىل ٍ‬
‫جمال آخر‪ .‬الرؤية التي‬ ‫(‪ )1‬البحث حول ّ‬
‫نسبناها لعا ّمة األخباريني املعتدلني ناشئة عن نظرة عابرة إىل مؤلفاهتم ومؤلفات منتقدهيم‪ .‬ويف كتاب آخر بحثنا‬
‫ٰهذا املوضوع بالتفصيل وهو‪( :‬معرفت دينی؛ عقالنيت ومنابع) [املعرفة الدينيّة؛ العقالنية واملصادر]‪ ،‬الفصل‬
‫السادس والثامن‪.‬‬
‫‪245‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫رضورة االستفادة من الفلسفة السائدة‪ ،‬بل ويف اعتبارها‪ ،‬أو يف مسألة إمكان ّية االستناد‬
‫إىل العقل يف تشخيص بعض املسائل العمل ّية‪ٰ ،‬لكن ال يمكن العثور عىل شخص ّية بارزة‬
‫تش ّكك باجلملة يف اعتبار العقل أو تنفيه‪ .‬فاجلميع ّ‬
‫متفقون عىل اعتبار العقل يف االستدالل‬
‫عىل املسائل االعتقاد ّية‪ٰ ،‬‬
‫وكذلك اعتباره يف فهم النصوص الدين ّية‪ .‬و ٰهبذا ال يمكن‬
‫حج ّية العقل؛ ّ‬
‫ألن نفيه ال ينسجم مع مبناهم؛ فهم أخباريون يعملون‬ ‫لألخباريني نفي ّ‬
‫بالروايات ومنها الروايات املؤ ّكدة عىل ّ‬
‫حج ّية العقل‪ ،‬وعىل ٰهذا األساس كيف يمكنهم‬
‫ّتاهل مثل ٰهذه الروايات‪ ،‬وخاصة الروايات ا ّلتي تعد العقل ّ‬
‫حج ًة باطن ًة؟ ً‬
‫فضال عن‬
‫ٰذلك ال ُيالحظ وجود اختالف كبري يف ال ُبعد الفقهي بني صاحب اجلواهر وصاحب‬
‫احلدائق(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إىل جمال آخر‪،‬‬ ‫صحة أو سقم ٰهذا التحليل‬ ‫وعىل أ ّية ٍ‬
‫حال‪ّ ،‬‬
‫فإن دراسة ّ‬
‫ٍ‬
‫وبحث أوسع يدور حول اعتبار العقل عىل رأي األخباريني‪ٰ .‬لكن يمكن القول هنا‬
‫مر التاريخ بتأييد أتباع القرآن وأهل البيت‪‬‬
‫بشكل إمجايل‪ :‬لقد حظي العقل عىل ِّ‬
‫واملف ّكرين املتأثرين هبام‪ .‬وأما ا ّلذين ابتعدوا عن القرآن وأهل البيت‪ ‬فقد سقطوا‬
‫لذلك واستنا ًدا لشهادة تاريخ الفكر فقد ُابتىل ٌ‬
‫بعض‬ ‫يف مستنقعات خطرية‪ .‬وكنموذج ٰ‬
‫وبعض آخر بالتفريط يف جمال البحث املعريف حول اعتبار العقل وأحكامه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫باإلفراط‪،‬‬
‫حتّى ّأهنم أنكروا دور العقل يف جمال املسائل االعتقاد ّية ا ّلتي ت ُ‬
‫ثبت بالعقل‪ ،‬أو يف فهم‬
‫املتطرف‪ ،‬فقالوا بتجسي ِم اهلل سبحانه وتعاىل؛‬
‫ّ‬ ‫النصوص‪ ،‬وا ّ‬
‫ختذوا املسلك الظاهري‬
‫فوصل هبم احلال إىل محل آيات من قبيل‪﴿ :‬ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ﴾(‪ )2‬و﴿ﱹ‬
‫ﱺ ﱻﱼ﴾(‪ ،)3‬علـى مـعنـاها الظـاهـري‪ .‬ومقـابـل ٰهؤالء أكد احلكامء مجيعهم‪،‬‬
‫وحجيته؛ فأ ّيدوا الدفاع‬
‫ّ‬ ‫وسنّ ًة‪ ،‬قيمة العقل‬
‫ومجهور املتكلمني املسلمني البارزين شيع ًة ُ‬
‫العقيل عن أصول الدين‪ ،‬أوتعاليمه األساس ّية االعتقاد ّية‪ .‬وأ ّما احلكامء املسلمون فمنذ‬
‫(‪ )1‬صاحب اجلواهر هو الشيخ حممد حسن النجفي (‪1192‬هـ ‪1266 -‬هـ) من كبار العلامء األصوليني‪ ،‬وصاحب‬
‫احلدائق هو الشيخ يوسف البحراين (‪1107‬هـ ‪1186 -‬هـ) من كبار العلامء األخباريني‪( .‬املرتجم)‬
‫(‪ )2‬سورة الفجر‪.22 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة ٰط ٰه‪.5 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 246‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫اليوم األول لظهور احلكمة واملنطق بينهم إىل اآلن فمن الواضح أهنم مجي ًعا اختذوا‬
‫منهجا‪ ،‬وأكّدوا اعتبار العقل واحلس‪ ،‬وعدوا العقل أهم أدا ٍة أو‬
‫ً‬ ‫مجيعهم ٰهذا االّتاه‬
‫ٍ‬
‫طريق للمعرفة اإلنسان ّية‪.‬‬
‫أهم طرق أو أدوات املعرفة اإلنسان ّية يف رأي الفالسفة‬ ‫أن العقل يعد ّ‬ ‫واحلاصل ّ‬
‫واملتك ّلمني‪ ،‬بل وسائر املفكرين املسلمني‪ .‬ومكانة العقل يف املعرفة اإلنسان ّية قو ّية إىل‬
‫درجة أنّه ال ُيمكن التشكيك فيها أو إنكارها إال عن طريق العقل نفسه‪ .‬وإذا مل يكن‬
‫ربا للمعرفة‪ ،‬فكيف يمكن بوساطة ٰهذا الطريق غري املعترب إقامة‬ ‫العقل طري ًقا معت ً‬
‫إن نفي اعتبار العقل عن طريق العقل واالستدالل‬ ‫عقيل معترب ٍعىل عدم اعتباره؟ ّ‬ ‫ٍ‬
‫استدالل ّ‬
‫مبني عىل اعتبار‬
‫احلواس ٌّ‬
‫ّ‬ ‫فضال عن ٰهذا‪ّ ،‬‬
‫إن اعتبار‬ ‫إثبات العتباره‪ً .‬‬
‫ٌ‬ ‫العقيل هو يف الواقع‬
‫أن العقل هو معيار أو طريق تقويم تفسريات املكاشفات العرفان ّية‪ ،‬أو عىل‬ ‫العقل‪ ،‬كام ّ‬
‫وكذلك عىل‬‫األقل هو أحد طرق تقويمها‪ ،‬فبوساطته يتم متييز صدقها من كذهبا‪ٰ .‬‬
‫الرغم من أنّه يف نظر ّية املعرفة ونظر ّية املعرفة الدين ّية ال اعتبار للمرجع ّية املعرف ّية(‪ )1‬يف‬
‫كن اعتبارها يف علم الدين أو نظر ّية املعرفة الدين ّية ُحيرز بالعقل يف صورة‬ ‫نفسها‪ٰ ،‬ل ّ‬
‫باب‬
‫استنادها إلـى قول الـمعصوم‪ ‬وعمله‪ .‬وبربكة اعتبار املرجع ّية يف الدين‪ ،‬ينفتح ٌ‬
‫واسع أمام اإلنسان‪ .‬والنتيجة هي أنّه بمساعدة العقل وضميمة الوحي واإللـهام إلـى‬ ‫ٌ‬
‫الـمرجع ّية تتو ّفر جمموع ٌة كبري ٌة وشامل ٌة من الـمعارف اليقين ّية والـمعتربة؛ سواء املعارف‬
‫ا ّلتي ال تـتوفر لعـا ّمة الناس عادة بوساطة سائر األدوات والطرق‪ ،‬أم ا ّلـتي ال يمكن‬
‫حصوهلا عرب باقي األدوات والطرق‪ ،‬أم املعارف ا ّلتي يمكن حصوهلا هلم بسائر األدوات‬
‫والطرق(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬سيأيت البحث حول املرجعية [مرجعيت‪ ]Authority-‬يف الفصل الثامن‪ ،‬واملرجعية املعرفية تعني االعتامد عىل‬
‫كل فرع من العلوم والفنون‪ ،‬من جهة كوهنم أصحاب رأي وأهل خربة‬ ‫آراء وأقوال أهل الرأي واخلربة يف ّ‬
‫ومهارة‪ .‬فيام يرتبط باملرجعية واعتبارها راجع‪ :‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬مبانی معرفت دينی) [أسس املعرفة الدين ّية]‪،‬‬
‫ص‪( .44-43‬املح ّقق)‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬مبانی معرفت دينی) [أسس املعرفة الدينيّة]‪ ،‬الفصل الثاين والثالث‪ ،‬واملؤلف نفسه‪،‬‬
‫(معرفت دينی؛ عقالنيت ومنابع) [املعرفة الدينيّة؛ العقالنية واملصادر]‪ ،‬القسم الثاين‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ثالثًا‪ :‬حقيقة العقل‬


‫مستعمل يف علوم عديدة من قبيل الكالم‪ ،‬والفلسفة وعلم‬ ‫ٌ‬ ‫مصطلح (العقل)‬
‫ٍ‬
‫معان أو‬ ‫الوجود [األنطولوجيا]‪ ،‬واملنطق‪ ،‬وفلسفة األخالق‪ ،‬ونظر ّية املعرفة‪ ،‬وله‬
‫أن استعراض املصطلحات‬ ‫استعامالت عديدة يف اصطالح الفلسفة والكالم‪ .‬ومع ّ‬
‫كثري‪ٰ ،‬لكن يمكن هنا‬ ‫ٍ‬
‫بحث واس ٍع وحتقي ٍق ٍ‬ ‫مفص ًال حيتاج إىل‬ ‫ً‬
‫حتليال ّ‬ ‫ورشحها وحتليلها‬
‫ٍ‬
‫جممل فيام يأيت‪:‬‬ ‫استعراضها ب ٍ‬
‫نحو‬
‫قوة التع ّقل واإلدراك العقيل‪.‬‬
‫النظري أو ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .1‬العقل‬
‫قوة تدبري شؤون احلياة‪.‬‬
‫العميل أو ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬العقل‬
‫املجرد ا ّلذي هو ّ‬
‫جمر ٌد من املادة واملا ّد ّيات يف ذاته وأفعاله‪.‬‬ ‫املجرد التام أو ّ‬
‫‪ّ .3‬‬
‫‪ .4‬الصادر األول ا ّلذي ّ‬
‫يعرب عنه عادة بـ(العقل األول)‪.‬‬
‫األول ّية ا ّلتي هي مبادئ التصورات والتصديقات‪.‬‬
‫‪ .5‬املعلومات واألفكار ّ‬
‫‪ .6‬املعلومات أو األفكار االكتساب ّية املأخوذة من تلك املبادئ‪.‬‬
‫درك‪ ،‬أعم من العقل أو النفس أو غريمها(‪.)1‬‬ ‫‪ .7‬مطلق املُ ِ‬
‫القوة اإلدراك ّية‪ ،‬وأحيـانًا علـى‬ ‫وعليـه ّ‬
‫فإن العقـل فـي الفلسـفة يطلـق أحيـانًا عىل ّ‬
‫القوة‪ ،‬وأحيانًا عىل اإلدراكات البده ّية فقط‪ ،‬وأحيانًا عىل‬
‫اإلدراكات احلاصلة من تلك ّ‬
‫وهكذا‪ .‬ويقصد الفالسفة الـمسلمون يف احلكمة‬
‫اإلدراكات النظر ّية والكسب ّية فقط‪ٰ ،‬‬
‫صطلحا آخر منه يف احلكمة‬
‫ً‬ ‫خاصا للعقل‪ ،‬ويقصدون م‬
‫العمل ّية وعلم األخالق معنى ً‬
‫مصطلح آخر وهو العقالن ّيـة‪ ،‬أو‬
‫ٌ‬ ‫النظر ّية (‪ .)2‬وفـي العرص احلارض أحيانًا يراد من العقل‬
‫اآلراء السائدة واملشهورة املقبولة لدى مجيع الناس أو غالبيتهم‪ .‬واملهم يف ٰهذا الكتاب‬
‫أي معنى هو املقصود من ٰهذا املصطلح يف نظر ّية املعرفة؟ وبعبارة أخرى ما‬
‫هو أن نرى ّ‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ 419-418‬و‪-513‬‬
‫‪514‬؛ الـمؤلف نفسه‪ ،‬رشح أصول الكافـي‪ ،‬ص‪20-18‬؛ ابن سينا‪ ،‬كتاب احلدود‪ ،‬فـي‪ :‬رسائل ابن سينا‪ ،‬ص‪88‬؛‬
‫التهانوي‪ ،‬حممدعيل‪ ،‬موسوعة كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬حتقيق عيل دحروج‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.1201-1194‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.419‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 248‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫هي حقيقة العقل يف ٰهذا املجال وبمالحظة ٰهذا االستعامل ا ّلذي هو أحد الطرق املعرف ّية‬
‫عند اإلنسان‪ ،‬بل أمهها وأكثرها أصالة؟‬
‫النظري يف نظر ّية املعرفة عىل أساس بعض‬‫ّ‬ ‫أن اصطالح العقل‪ ،‬والعقل‬ ‫يبدو ّ‬
‫القوة اإلدراك ّية ا ّلتي يمكن هبا إدراك‬
‫التعريفات كام سيأيت التعرض له‪ ،‬يأيت بمعنى ّ‬
‫اص ٌة ُت ّ‬
‫سمى‬ ‫قو ٌة خ ّ‬
‫أدق‪ :‬اإلنسان لديه ّ‬‫كيل‪ ،‬ونيل املعرفة هبا‪ .‬وببيان ّ‬
‫الواقعيات بنحو ٍ ّ‬
‫(العقل)‪ ،‬ومن مجلة شؤونه أو وظائفه إدراك املفاهيم الك ّل ّية‪ ،‬والتعريف واالستدالل‪.‬‬
‫مبني عىل وظائف عدّ ة للعقل‪ .‬وعليه فمن أجل الوصول إىل‬
‫التعريف املذكور ٌّ‬
‫القوة اإلدراك ّية يلزم البحث يف وظائفه‪.‬‬
‫تعريف دقيق هلٰذه ّ‬
‫قوة إدراك ّية تقوم‬
‫وعىل أساس ٰهذا البحث يمكن تعريف العقل بام ييل‪ :‬العقل ّ‬
‫بصناعة املفاهيم الك ّل ّية‪ ،‬وإدراكها بمساعدة القوى األخرى أو بدون مساعدهتا‪ ،‬وتقوم‬
‫بتحليل املفاهيم ومن خالل ٰذلك تصل إىل تعريفها أو تقوم برتكيبها‪ ،‬وتصنع القض ّية‬
‫خاصة تقوم‬‫من ٰهذا الرتكيب‪ ،‬وبتأليف القضايا وتنظيمها جن ًبا إىل جنب وف ًقا لرشوط ّ‬
‫بعمل ّية االستنباط واالستدالل‪ ،‬ا ّلذي هو بنفسه ٌ‬
‫نوع من التفكري‪ .‬ومن الواضح أنّه يف‬
‫مثل ٰهذا التعريف يستعمل العقل يف ٍ‬
‫قوة من القوى اإلدراك ّية للنفس‪ٰ .‬لك ّن ً‬
‫كثريا ما‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ُيراد من ٰهذا املصطلح يف نظر ّية املعرفة مفهوم آخر‪ :‬يستعمل العقل يف اإلدراكات‬
‫عم من البده ّية والنظر ّية‪ .‬ومن هنا وطب ًقا هلٰذا املصطلح يكون العقل بمعنى‬
‫العقل ّية األ ّ‬
‫اإلدراك العقيل‪.‬‬
‫واحلاصل هو أنّه يف نظر ّية املعرفة‪ ،‬استعامل العقل شائع ومتداول يف معنيني ومها‪:‬‬
‫اخلاصة للنفس الناطقة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القوة اإلدراك ّية‬
‫‪ّ .1‬‬
‫القوة اإلدراك ّية‪.‬‬
‫‪ .2‬اإلدراك العقيل الذي هو نتاج ّ‬
‫ومن الواضح أنّه يمكن حتديد املعنى املراد منهام بمساعدة القرائن والشواهد‪ .‬وعىل‬
‫أ ّية ٍ‬
‫حال يمكن القول‪ّ :‬‬
‫إن العقل يف نظر ّية املعرفة يستعمل بمعنى اإلدراك العقيل أكثر من‬
‫القوة اإلدراك ّية؛ ألنّه ّأو ًال‪ّ :‬‬
‫إن البحث حول العقل باملعنى األخري أنسب‬ ‫استعامله بمعنى ّ‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بعلم النفس‬
‫‪249‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الفلسفي حينام جيري احلديث عن قوى النفس اإلدراك ّية والتحريكية‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ويف علم النفس‬
‫القوة اإلدراك ّية للعقل‪.‬‬
‫يتم البحث بلحاظ وجودي بنحو أكرب حول ّ‬
‫إن البحث ا ّلذي ُيطرح حول العقل واحلس وأمثاهلام يف نظر ّية املعرفة يدور‬ ‫وثان ًيا‪ّ :‬‬
‫حول مسألة اعتبار اإلدراكات‪ ،‬الس ّيام اإلدراكات العقل ّية‪ ،‬ومنشئها وترتيبها وبحوث‬
‫قوة إدراك ّية‬
‫بحث حول خصوص ّ‬ ‫أخرى من ٰهذا القبيل‪ .‬وعليه ال يوجد يف نظر ّية املعرفة ٌ‬
‫من قبيل العقل‪.‬‬
‫حتّى أنّه حينام نبحث حول طرق املعرفة ومصادرها وأدواهتا‪ ،‬ونتطرق هلا من زاوية‬
‫معـرف ّية‪ ،‬فإن نظرنا يتجه غالـ ًبا نحو اإلدراكات ا ّلتي تـحصل من خالل ٰهـذه الطـرق‬
‫واألدوات‪ ،‬ال نحو القوى اإلدراك ّية نفسها (‪.)1‬‬
‫ويف ٰهذا البحث ال يرتكّز اهتاممنا يف القوى اإلدراك ّية‪ ،‬و ٰلكنّنا ال نتجاهلها ً‬
‫أيضا‪ ،‬بل‬
‫قوة العقل‪ٰ .‬‬
‫وكذلك يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫نقوم ببيان وبحث وظائف ّ‬
‫وخاصة ّ‬‫ّ‬ ‫واحدة من القوى‬ ‫كل‬
‫ٍ‬
‫بشكل جدّ ّي آلل ّية عمل ٰهذه اإلدراكات‪ ،‬وكيف ّية‬ ‫نتعرض‬
‫إضافة أنه‪ :‬يف نظر ّية املعرفة ال ّ‬
‫حصول الذهن عليها‪ ،‬ومثل ٰهذه البحوث نوكلها إىل علم نفس اإلدراك وأمثاله‪.‬‬
‫يل‬
‫النظري والعقل العم ّ‬
‫ّ‬ ‫راب ًعا‪ :‬العقل‬
‫النظري‬
‫ّ‬ ‫من املايض البعيد وإىل يومنا ٰهذا جرى تقسيم العقل إىل قسمني‪ :‬العقل‬
‫أي قس ٍم من أقسام‬
‫كثريا من األسئلة‪ ،‬منها‪ّ :‬‬
‫العميل‪ .‬ويف ٰهذا املجال نواجه ً‬
‫ّ‬ ‫والعقل‬
‫العقل هو املقصود يف بحوث نظر ّية املعرفة؟ هل البحث حول العقل بوصفه أحد طرق‬
‫العميل يمكن عدّ ه طري ًقا أو أداة‬
‫ّ‬ ‫العميل؟ وهل العقل‬
‫ّ‬ ‫املعرفة ومصادرها‪ ،‬يشمل العقل‬
‫أيضا؟ ومن أجل احلصول عىل إجابة هلٰذه األسئلة‪ ،‬جيب ّأو ًال تعريف العقل‬
‫للمعرفة ً‬
‫(‪ )1‬نتائج مثل ٰهذا الـمنهج أو الرؤية يف نظر ّية املعرفة يف غاية العمق؛ منها تـجنيب الباحث االبتالء واخلوض يف‬
‫بحوث متأخرة رتبة عن نظر ّية املعرفة‪ .‬مضا ًفا إىل ٰذلك توفر األرضية للرد عىل كثري من شبهات الشكاكني‪ .‬وعىل‬
‫أساس ٰهذا املنهج فلن تبقى هناك حاجة إىل إثبات اعتبار قوة العقل اإلدراكية لكي ُيطرح اإلشكال القائل بأنكم‬
‫إن إحراز صدق اإلدراكات‬ ‫تثبتون اعتبار العقل عن طريق ٰهذه القوة ومثل ٰهذا االستدالل يستلزم الدور؛ بل ّ‬
‫العقلي ة بنحو القضايا ميسور عن طريق حل خاص يف مسألة معيار الصدق وال حاجة إىل جهد جديد وإقامة‬
‫جواب آخر‪ .‬وبعون اهلل سنتعرض هلٰذا البحث بشكل مفصل يف جمال آخر‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 250‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫والعلمي‬ ‫النظري‬ ‫عابرة عىل حقيقتهام‪ ،‬فنقول للعقل‬‫ٍ‬ ‫النظري والعقل العميل‪ ،‬وإلقاء ٍ‬
‫نظرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اصطالحات متعدّ دةٌ‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫تعريفات أو‬
‫ٌ‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة ُيدرك هبا اإلنسان الوجودات واألعدام‪.‬‬
‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫األول‪ :‬العقل‬
‫التعريف ّ‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة يدرك هبا اإلنسان ما ينبغي فـعله وما ينبغي‬
‫العميل وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫ويف املقابل‪ ،‬العقل‬
‫تركه؛ ويشمل ٰذلك جمايل األخالق والقانون وأمثاهلام(‪.)1‬‬
‫النظري‪ .‬ومن‬
‫ّ‬ ‫قو ًة إدراك ّي ًة كالعقل‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫بنا ًء عىل ٰهذا االصطالح يكون العقل‬
‫هنا يتم يف نظر ّية املعرفة بحث كال القوتني اإلدراكيتني‪ ،‬أو إدراكاهتام وتقويمهام‪ .‬و ٰلكن‬
‫هل يمكن العثور عىل مثل ٰهذا االصطالح بني احلكامء املتأخرين‪ ،‬أم أهنم يقصدون‬
‫معنى آخر من ٰهذين املصطلحني؟‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة تدرك مطلق املوجودات أو املعدومات‬
‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫التعريف الثان‪ :‬العقل‬
‫العميل ا ّلذي ليس من سنخ العلم واإلدراك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وما ينبغي وما ال ينبغي‪ .‬ويف املقابل العقل‬
‫نوع من اجلهد والعمل‪ ،‬ونتيجته التحريك ال اإلدراك‪ ،‬ومجيع امليول واألعامل ترتبط‬
‫هو ٌ‬
‫العميل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالعقل‬
‫يرصح ّ‬
‫بأن العقل‬ ‫يمكن العثور عىل مثل ٰهذا االصطالح يف كالم هبمنيار‪ .‬فهو ّ‬
‫الترصف يف قوى البدن‪" :‬وليس من شأهنا‬
‫ّ‬ ‫قو ٌة عامل ٌة وغري إدراك ّي ٍة‪ ،‬ووظيفتها‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬
‫عمـالة فقـط‪ ...‬والقـ ّوة ا ّلتي ّ‬
‫تسمى عقـ ًال عمـل ًّيا هي عامـل ٌة ال‬ ‫أن تـدرك شـي ًئا بـل هـي ّ‬
‫أن العقل‬ ‫أيضا ذهب إىل ٰذلك‪ ،‬ورأى ّ‬ ‫بأن القطب الرازي ً‬ ‫ُمدرك ٌة"(‪)2‬؛ بل يمكن القول‪ّ :‬‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬جوادي آميل‪ ،‬عبد اهلل‪( ،‬فطرت در قرآن) [الفطرة يف القرآن]‪ ،‬ص ‪ ،29‬وربام يكون التعريف الذي نسبه‬
‫املحقق السبزواري إىل الفارايب قري ًبا من ٰهذا التعريف‪" :‬والعملية هي التي يعرف هبا ما شأنه أن يعمله اإلنسان‬
‫املال هادي‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬ص ‪ .]310‬والتعريفات ا ّلتي عثرنا عليها يف مؤلفات الفارايب‬‫بإرادته" [السبزواري‪ّ ،‬‬
‫ما ييل‪" :‬العقل العميل قوة هبا حيصل لإلنسان‪ ،‬عن كثرة ّتارب األمور وعن طول مشاهدة األشياء املحسوسة‪،‬‬
‫وهذا العقل إنام يكون ً‬
‫عقال بالقوة ما دامت التجربة مل حتصل‪ ،‬فإذا حصلت التجارب‬ ‫مقدّ مات يمكنه هبا فعلها‪ٰ ...‬‬
‫وحفظت صار ً‬
‫عقال بالفعل" [آل ياسني‪ ،‬جعفر‪ ،‬الفارايب يف حدوده ورسومه‪ ،‬ص ‪]370‬؛ "هو القوة التي تعقل‬
‫من املوجودات‪ ،‬التي يمكن أن يوجدها اإلنسان بالفعل يف األشياء الطبيعية" [املصدر السابق]‪ .‬فهل تنطبق ٰهذه‬
‫التعريفات‪ ،‬وخاصة التعريف األول‪ ،‬عىل التعريف الذي نسبه السبزواري إليه؟‬
‫(‪ )2‬هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪ ،‬ص‪.790-789‬‬
‫‪251‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قو ٌة عامل ٌة ال إدراك ّي ٌة(‪ٰ .)1‬لكن هل اختار فيلسوف آخر غري ٰهذين مثل ٰهذا‬ ‫العميل ّ‬
‫ّ‬
‫أن املال هادي السبزواري‬ ‫العميل‪ ،‬واستعمله ٰهبذا املعنى؟ ربام يبدو ّ‬
‫ّ‬ ‫االصطالح للعقل‬
‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬للنفس باعتبار‬ ‫العميل مثل ٰهذا املعنى؛ إذ يقول‪" :‬‬ ‫أيضا أراد من العقل‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫قو ٌة نظر ّية‪ ،‬وباعتبار فعلها فيام دوهنا ‪-‬أعني‬
‫انفعاهلا مم ّا فوقها ‪-‬أعني العقل الف ّعال‪ّ -‬‬
‫حركة يف‬ ‫قوة عمل ّية‪ ،‬وبوجه مها يف اإلنسان بام هو إنسان كاملُ ِ‬
‫دركة واملُ ِّ‬ ‫البدن‪ّ -‬‬
‫أي‬‫احليوان"(‪ٰ .)2‬لك ّن ٰهذا االستظهار ‪-‬كام سيأيت‪ -‬يمكن مناقش ُته‪ ،‬بل رفضه‪ .‬وعىل ّ‬
‫ٍ‬
‫حال فق ّلام ُيمكن العثور عىل فيلسوف استعمل مثل ٰهذا االصطالح‪.‬‬
‫والعميل‪ٰ ،‬لك ّن‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫ومع ّ‬
‫أن كلامت احلكامء املسلمني خمتلفة يف تفسري العقل‬
‫ورواجا بينهم هو‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استعامال‬ ‫أكثر التعريفات‬
‫تني‪ُ ،‬أطلِق عىل أحدهـمـا‬ ‫خاص ِ‬
‫تني ّ‬‫قو ِ‬
‫التعريف الثالث‪ :‬النفس اإلنسان ّية تـمتلك ّ‬
‫قوة تدرك األمور الك ّل ّية‪.‬‬
‫القوة األوىل هي ّ‬
‫املحركة‪ّ .‬‬
‫اسم العالـمـة واألخرى العاملة أو ِّ‬
‫النظري‪ ،‬ويشمل ٰذلك‪ ،‬األحكام املرتبطة باألمور‬
‫ّ‬ ‫فاألحكام الك ّل ّية ُتدرك ً‬
‫دائمـا بالعقل‬
‫واملحركة‬
‫ِّ‬ ‫القوة الشوق ّية‬
‫العميل فهو يستعمل ّ‬
‫ّ‬ ‫النظر ّية أو األمور العمل ّية‪ .‬أما العقل‬
‫قوة للنفس تقبل‬ ‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫ليح ّقق فـي الـخارج الصور اجلزئ ّيـة ا ّلتي أدركها‪" :‬فالعقل‬
‫قوة للنفـس هي مبـدأ‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫مـاه ّيـات األمور الك ّلـ ّيـة من جهة ما هي ك ّلـ ّيـة‪ ،‬والعقل‬
‫التـحـريكـات للقـ ّوة الشوق ّيـة إلـى ما يـختـار من الـجزئيـات من أجل غايـة مظـنونـة أو‬
‫معـلومـة"(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الرازي‪ ،‬قطب الدين حممد‪ ،‬تعليقة عىل رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح‬
‫اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.353-352‬‬
‫(‪ )2‬السبزواري‪ ،‬املال هادي‪ ،‬تعليقة عىل األسفار‪ ،‬يف‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية‬
‫األربعة‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪ ،82‬تعليقة ‪ٰ .1‬لكن يف التعليقة ‪ 2‬ينتفي ٰهذا االحتامل‪ .‬حيث يقول‪" :‬القوة األخرى ّ‬
‫املسامة‬
‫دركة ّإال ّأهنا ختتص بإدراك أمور متعلقة بالعمل جزئيّة كاستعامل القوى اجلزئيّة ِ‬
‫املدركة‬ ‫أيضا قوة ُم ِ‬
‫بالعقل العميل ً‬
‫والقوة األوىل بإدراك أمور غري متعلقة بالعمل جزئ ّية‪ ،‬وعليها تدور دائرة احلكمة النظر ّية واحلكمة‬
‫ّ‬ ‫واملحركة‬
‫ِّ‬
‫العملية‪ ،‬واملراد باألمور اجلزئيّة أعم من األعامل املعاد ّية كالعدل واإلحسان ‪ -‬للغايات اآلجلة املحكمة واألعامل‬
‫املعاشيّة كبناء البيت بحيث يكون متقنًا يرتتّب عليه اآلثار املطلوبة منه"‪( .‬املح ّقق)‪.‬‬
‫(‪ )3‬ابن سينا‪ ،‬كتاب احلدود‪ ،‬يف‪ :‬رسائل ابن سينا‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 252‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫العميل اإلدراكات اجلزئ ّية املرتبطة‬


‫ّ‬ ‫عىل أساس ٰهذا التعريف تشمل دائرة العقل‬
‫قوة إدراك ّية ومفيدة للمعرفة‪.‬‬‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫بالعمل فقط وختتص هبا‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن العقل‬
‫العميل بنا ًء عىل ٰهذا االصطالح عىل الرغم من ارتباطه بالقوى التحريك ّية‪ ،‬وأنّه‬
‫ّ‬ ‫والعقل‬
‫ا ّلذي يقوم بتدبريها‪ٰ ،‬لكنّه ليس حتريك ًّيا رص ًفا؛ بل خيتار الفعل الالئق أو الواجب ويريده‬
‫ختتص باالعتقاد واآلراء الك ّل ّية‪ ،‬وتفكّر‬
‫ّ‬ ‫قوة من النفس الناطقة‬
‫ويفعله‪ .‬وعليه توجد ّ‬
‫القوة‬
‫فيها‪ ،‬وتتصدّ ى للتعريف واالستدالل ومت ّيز صحتها من سقمها‪ ،‬ويف مقابل ٰهذه ّ‬
‫ترتوى يف األمور اجلزئ ّية‪ ،‬وتدرك قبيحها ومجيلها‪ ،‬أو جيدها وسيئها أو‬
‫قو ٌة أخرى ّ‬ ‫هناك ّ‬
‫أن ٰهذا الرأي اجلزئي ال يتع ّلق باألمور الواجبة أو املمتنعة‬
‫ُحسنها و ُقبحها‪ .‬ومن الواضح ّ‬
‫كن منشأه األمور املمكنة ا ّلتي مل تتحقق بعد‪ .‬وعليه فبعد أن حيصل‬
‫أو إجياد ما قد حتقق؛ ٰل ّ‬
‫وحي ّقق‬
‫العميل العمل‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫رأي حول فع ٍل من أفعال القوى التحريك ّية يبدأ العقل‬ ‫للنفس ٌ‬
‫متوقف عىل‬
‫ٌ‬ ‫املطلوب اجلزئي يف عامل اخلارج‪ٰ .‬لكن بام ّ‬
‫أن صدور الرأي يف األمور اجلزئ ّية‬
‫العميل‪ ،‬ويقدّ م له النتائج‬
‫ّ‬ ‫النظري ملساعدة العقل‬
‫ّ‬ ‫الرأي يف األمور الك ّل ّية‪ ،‬هيب العقل‬
‫العميل عرب االستفادة من النتائج الك ّل ّية ا ّلتي‬
‫ّ‬ ‫الك ّل ّية ا ّلتي ّ‬
‫توصل إليها لينتفع منها‪ .‬فالعقل‬
‫النظري واستنباطها ضمن دائرته‪ ،‬ينتقل إىل األمور واألفعال‬
‫ّ‬ ‫هي من شؤون العقل‬
‫مبني عىل أحكام‬
‫العميل ٌّ‬
‫ّ‬ ‫اجلزئ ّية وحيصل عىل حكمها‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن صدور أحكام العقل‬
‫ٍ‬
‫قياس ُتؤخذ كرباه من العقل النظري‪ ،‬حيكم العقل يف األمور‬ ‫النظري‪ .‬وبرتتيب‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫العميل ودوره وف ًقا لرؤية املدافعني عن‬
‫ّ‬ ‫اجلزئ ّية العمل ّية‪ .‬ولزيادة وضوح مفهوم العقل‬
‫التعريف الثالث‪ ،‬الحظوا القياس التايل‪:‬‬
‫الصغرى‪ :‬الصدق حس ٌن‬
‫واجب‬
‫ٌ‬ ‫كل ٍ‬
‫عمل حسن فهو‬ ‫الكربى‪ّ :‬‬
‫النتيجة‪ :‬الصدق واجب‪.‬‬
‫تم هنا استنتاج احلكم بوجوب العمل بالصدق من الكربى الك ّل ّية القائلة ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫كيل يتم استنتاجه بالعقل‬
‫عمل حسن جيب القيام به‪ٰ .‬هذا إدراك للرأي واعتقاد ّ‬ ‫ٍ‬
‫العميل يقوم بتطبيقه عىل املوارد اجلزئ ّية‪ .‬وعىل ٰهذا األساس ّ‬
‫فكل‬ ‫ّ‬ ‫النظري‪ ،‬والعقل‬
‫‪253‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫صدق جيعله صغرى لتلك الكربى‪ ،‬ويؤ ّلف املقدّ مات كام ييل‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫مورد ّ‬
‫يشخص العقل أنّه‬
‫ٌ‬
‫صدق‪.‬‬ ‫الصغرى‪ٰ :‬هذا القول‬
‫واجب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الكربى‪ :‬كل صدق‬
‫واجب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫النتيجة‪ٰ :‬هذا القول‬
‫فإن تطبيق الكربى الك ّل ّية عىل املصاديق اجلزئ ّية املرتبطة بالعمل ّ‬
‫يتم عن‬ ‫وعليه ّ‬
‫وهذا احلكم اجلزئي مأخو ٌذ من النتائج املستنتجة من األوليات أو‬ ‫العميل‪ٰ .‬‬
‫ّ‬ ‫طريق العقل‬
‫املشهورات أو التجربيات‪" :‬فمن قواها ما هلا بحسب حاجتها إىل تدبري البدن‪ ،‬وهي‬
‫العميل‪ ،‬وهي ا ّلتي تستنبط الواجب فيام جيب أن يفعل‬
‫ّ‬ ‫ختتص باسم العقل‬
‫ّ‬ ‫القوة ا ّلتي‬
‫ّ‬
‫من األمور اإلنسان ّية جزئ ّية ليتوصل به إىل أغراض اختيار ّية من مقدمات ّأول ّية وذائعة‬
‫النظري يف الرأي ّ ّ‬
‫الكيل إىل أن ينتقل به إىل اجلزئي"(‪.)1‬‬ ‫ّ‬ ‫وّترب ّية وباستعانة بالعقل‬
‫العميل هو ُمد ِّبر البدن‪ ،‬فهو بوساطة تس ّلطه عىل القوى التحريك ّية‬
‫ّ‬ ‫وعليه ّ‬
‫فإن العقل‬
‫يقوم بتدبري البدن واألفعال اجلزئ ّية‪ ،‬ومن أجل التدبري ي ّتجه إىل االستنتاج واالستنباط‪،‬‬
‫العميل‬
‫ّ‬ ‫النظري يف دائرة احلكمة العمل ّية‪ .‬وعليه فالعقل‬
‫ّ‬ ‫ويستفيد من نتائج قياسات العقل‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة مد ّبر ٌة ألفعال النفس البدن ّية‪ ،‬وبه ُتدرك األمور اجلزئ ّية‪ ،‬و ُت ّ‬
‫شخص املنافع من‬ ‫ّ‬
‫املضار‪ ،‬وما ينبغي وال ينبغي‪ ،‬والالئق من غري الالئق‪ ،‬والقبيح من اجلميل‪ ،‬والنتيجة هي‬
‫أنّه بمساعدة ٰهذه اإلدراكات يمكنه متييز األمور األخالق ّية‪ ،‬واملنافع واملضار‪ ،‬واملصالح‬
‫واملفاسد‪ ،‬ومعرفتها وإدارة احلاالت االنفعال ّية من قبيل اخلجل‪ ،‬واحلياء‪ ،‬والبكاء‪،‬‬
‫والضحك وأمثاهلا والسيطرة عليها‪.‬‬
‫قوة إدراك ّية يتصدّ ى‬
‫العميل هو ّ‬
‫ّ‬ ‫واحلاصل أنّه بناء عىل ٰهذا االصطالح ّ‬
‫فإن العقل‬
‫لتمييز ما ينبغي مما ال ينبغي‪ ،‬وما يليق مما ال يليق‪ ،‬وما هو حسن مما هو س ّي ٌئ‪ ،‬وعىل‬
‫أساس ما استنبطه يقوم باستعامل قوى البدن لتدبريها والسيطرة عليها‪ .‬واستنباط ٰهذه‬
‫القوة اإلدراك ّية حاصل عن طريق االستنباط والتأمل يف آراء العقل النظر ّي الك ّل ّية‪،‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬املؤلف نفسه‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪352‬؛‬
‫املصدر السابق‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص‪.446-445‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 254‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويف الواقع يقوم بتطبيق اآلراء الك ّل ّية املرتبطة بالعمل عىل مصاديقها (‪ .)1‬وببيان ٍ‬
‫آخر‪:‬‬
‫العميل يصل إىل ٰهذه األحكام اجلزئ ّية عن طريق القياس‪ ،‬واالستدالل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العقل‬
‫القوة التحريك ّية‪ ،‬وتنفذ‬
‫القوة الشوق ّية ثم ّ‬
‫والتفكري‪ ،‬وبعد حصول ٰهذا احلكم‪ُ ،‬تثار ّ‬
‫العميل ٰهبذا املعنى أو‬
‫ّ‬ ‫العميل‪ .‬وعليه فاألشخاص ا ّلذين رأوا ّ‬
‫أن العقل‬ ‫ّ‬ ‫حكم العقل‬
‫العميل هي قوى أخرى من قبيل‬
‫ّ‬ ‫أن املن ّفذ أو ّ‬
‫قوة تنفيذ حكم العقل‬ ‫بذلك‪ ،‬يرون ّ‬
‫عرفوه ٰ‬‫ّ‬
‫املتأهلني ٰهبذا األمر ً‬
‫قائال‪" :‬فلإلنسان إذن‬ ‫رصح صدر ّ‬ ‫القوة الشوق ّية والتحريك ّية‪ .‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫ختتص بالرؤية يف األمور اجلزئ ّية‬
‫ّ‬ ‫ختتص باآلراء الك ّل ّية واالعتقادات ّ‬
‫وقوة‬ ‫ّ‬ ‫قوة‬
‫قوتان‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫واملرضة‪ ،‬وممّا هو مجيل وقبيح ومما هو خري ورش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ممّا ينبغي أن يفعل ويرتك من املنفعة‬
‫ب من القياس والتفكر‪ ...‬وإذا حصل الرأي اجلزئي يتبع‬ ‫ويكون حصوله تاب ًعا لرض ٍ‬
‫سامة‬‫القوة الشوق ّية الغائ ّية املُ ّ‬
‫قوة أخرى يف أفعاهلا التحريك ّية‪ ،‬أوالها ّ‬ ‫القوة املرو ّية ّ‬
‫حكم ّ‬
‫قوتان‪ :‬نظر ّية‬ ‫سامة باملحركة‪ ...‬فللنفس يف ذاهتا ّ‬ ‫القوة الفاعل ّية املُ ّ‬
‫بالباعثة‪ ،‬واألخرى ّ‬
‫وهذه للخري والرش يف اجلزئيات‪ .‬وتلك للواجب‬
‫وعمل ّية وتلك للصدق والكذب‪ٰ .‬‬
‫وهذه للجميل والقبيح واملباح"(‪.)2‬‬
‫واملمكن واملمتنع‪ٰ ،‬‬
‫العميل هو منشأ أفعال النفس‪ .‬والنفس تستعمل القوى التحريك ّية‬ ‫ّ‬ ‫وعليه ّ‬
‫فإن العقل‬
‫القوة اإلدراك ّية‪ .‬وكيف ّية حتقق ٰهذه األفعال من النفس هي‪ّ :‬أو ًال‬
‫والعاملة عن طريق ٰهذه ّ‬
‫النظري بالفعال ّية و ُيصدر أحكا ًما حول األمور الك ّل ّية املرتبطة بالعمل‪ ،‬وحينها‬
‫ّ‬ ‫يبدأ العقل‬
‫العميل بتنفيذ تلك اإلدراكات الك ّل ّية يف جمال األمور اجلزئ ّية‪ ،‬وتطبيقها عىل‬
‫ّ‬ ‫يقوم العقل‬
‫مصاديقها يف اخلارج‪ .‬و ٰهبذا تؤدي النفس الفعل ا ّلذي تصورت غايته وعرفتها عن طريق‬
‫العميل‪ .‬وعليه‬
‫ّ‬ ‫القوة التحريك ّية ا ُملثارة بواسطة ّ‬
‫القوة الشوق ّية (الباعثة) حتت تدبري العقل‬ ‫ّ‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬املؤلف نفسه‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص‪84‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬التعليقات‪،‬‬
‫حتقيق عبد الرمحن بدوي‪ ،‬ص‪ 30‬؛ الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪،‬‬
‫ج‪ ،8‬ص‪ 130‬وج‪ ،9‬ص‪ 84-82‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين‪،‬‬
‫ص‪ 261-260‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬الشواهد الربوبية‪ ،‬تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين‪ ،‬ص‪201-200‬؛‬
‫املؤلف نفسه‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬تصحيح حممد اخلواجوي‪ ،‬ص‪.541-515‬‬
‫(‪ )2‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين‪ ،‬ص‪.261-260‬‬
‫‪255‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العميل‪ ،‬وّتعلها حتت تدبري العقل‪،‬‬


‫ّ‬ ‫تترصف يف القوى البدن ّية عن طريق العقل‬ ‫ّ‬
‫فإن النفس ّ‬
‫أن مراتب‬‫وعن طريقه يمكنها احلصول عىل الكامالت وامللكات الفاضلة‪ .‬وطبيعي ّ‬
‫ٍ‬
‫كامالت أكثر وأسمى عرب‬ ‫أيضا كثريةٌ‪ ،‬واالنسان يمكنه أن ينال‬
‫والعميل ً‬ ‫النظري‬ ‫العقل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوصول إىل الدرجات األعىل منها(‪.)1‬‬
‫العميل لألمور‬
‫ّ‬ ‫وعىل كل حال‪ ،‬فبنا ًء عىل ٰهذا التعريف أو االصطالح يتصدّ ى العقل‬
‫واحلرف والصنائع‪ٰ ،‬‬
‫وكذلك يم ّيز ما‬ ‫العملية اجلزئية‪ ،‬ويشمل ٰذلك األمور األخالقية ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يرتبط منها بالربح واخلسارة‪ ،‬واحلسن والسوء‪ ،‬وما ينبغي وما ال ينبغي؛ وأما العقل‬
‫النظري فهو يلتفت إىل األمور العلم ّية‪ ،‬ويم ّيز الصحيح من غري الصحيح‪ ،‬والصدق من‬
‫ّ‬
‫الكذب‪ ،‬والواجب واملمتنع واملمكن يف الكليات‪ ،‬بام يشمل اآلراء الك ّل ّية املرتبطة‬
‫النظري أن حيكم قوى البدن بواسطة العقل‬
‫ّ‬ ‫بالعمل وغري املرتبطة به‪ .‬وإذا استطاع العقل‬
‫العميل فسوف يستطيع أن جيعل ُمدركاته عمل ّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫بأن النفس تدرك األمور الك ّل ّية‬
‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫ويمكن حتليل الرؤية املذكورة حول العقل‬
‫أيضا‪ .‬وإدراك األمور الك ّل ّية سواء املرتبطة بالنظر أم الـمرتبطة بالعمل‬
‫واألمور الـجزئ ّية ً‬
‫وهذا العقل يساعد النفس اإلنسان ّية يف نيل اآلراء‬ ‫يتم عن طريق العقل النظري‪ٰ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫النفس يف األمور الك ّل ّية املرتبطة بالعمل‬ ‫واالعتقادات املرتبطة باألمور الك ّل ّية‪ .‬وتصـر ُ‬
‫ف‬
‫مبني عىل اكتساب النفس اعتقا ًدا هبا‪ .‬وأما االعتقاد الراجع إىل األمور الك ّل ّية فال يؤدي‬
‫ٌّ‬
‫ٍ‬
‫معني من االعتقاد وحده‬ ‫بنفسه إىل نتيجة يف العمل‪ .‬ومثال ٰذلك أنّه ال يمكن بناء منزل ّ‬
‫والرتوي يف األمور اجلزئ ّية‬
‫ّ‬ ‫بكيف ّية بناء املنزل‪ ،‬وإ ّنام لكي نصل إىل ٰهذا اهلدف جيب التفكري‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة أخرى جيب أن تتأمل يف األمور‬
‫النظري هناك ّ‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ .‬وعليه ففي مقابل العقل‬ ‫ً‬
‫الـجزئ ّية‪ ،‬وتكتشف احلسن والسوء‪ ،‬والربح والـخسارة‪ ،‬وما ينبغي وما ال ينبغي منها‪،‬‬
‫العميل)(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫القوة هي (العقل‬
‫وتلك ّ‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬املصدر السابق‪ :‬ص‪274-261‬؛ مفاتيح الغيب‪ ،‬تصحيح حممد اخلواجوي‪ ،‬ص‪.523‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪84-82‬؛ ابن سينا‪،‬‬
‫النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص‪.284‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 256‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫واحلاصل هو أنّه عىل رأي الفارايب‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وصدر ّ‬


‫املتأهلني‪ ،‬بل وكثري من‬
‫قو ًة إدراك ّي ًة ُمدرك ًة لألمور اجلزئ ّية‪ ،‬وما هو خري‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫احلكامء املسلمني يعد العقل‬
‫القوة باللحاظ‬
‫ورش‪ ،‬وحسن وقبيح‪ ،‬وما ينبغي وما ال ينبغي منها‪ .‬وإدراك أو حكم ٰهذه ّ‬
‫بلحاظ وجودي يقع من جهة حتت أمر‬ ‫ٍ‬ ‫مبني عىل أحكام العقل النظري‪ ،‬كام أنّه‬
‫املعريف ّ‬
‫واملحركة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أو إدراك العقل النظري‪ ،‬ومن جهة أخرى لديه إرشاف عىل القوى الشوق ّية‬
‫العميل مضا ًفا إىل إدراكها األمور القبيحة واجلميلة‬
‫ّ‬ ‫أن النفس عن طريق العقل‬‫واملهم هو ّ‬
‫أو احلسنة والسيئة‪ ،‬أو ما ينبغي وما ال ينبغي‪ ،‬لدهيا تس ّل ٌط وقدر ٌة عليها‪ ،‬ويمكنها التح ّكم‬
‫هبا‪ ،‬وإخضاعها ألوامرها‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬بحث وتقويم‬


‫ً‬
‫عىل الرغم من اجلهود الكبرية ا ّلتي ُبذلت يف سبيل الفهم الصحيح هلٰذين املفهومني‬
‫العميل‬
‫ّ‬ ‫أن التعريفات والتحليالت املطروحة حول حقيقة العقل‬ ‫وتبيينهام‪ٰ ،‬لكن يبدو ّ‬
‫ٍ‬
‫إشكاالت أمهها‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫غموض أو‬ ‫والنظري ال ختلو من‬
‫ّ‬
‫قو ًة عامل ًة‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .1‬بنا ًء عىل تعريف هبمنيار وقطب الدين الرازي يكون العقل‬
‫قو ًة معرف ّي ًة‪.‬‬
‫قو ًة عامل ًة‪ ،‬فمن الواضح أنّه لن يكون ّ‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن ّفذةً‪ .‬فإذا كان العقل‬
‫قو ٌة عامل ٌة‪.‬‬
‫مصدرا للمعرفة فيام لو مل نر أنّه ّ‬
‫ً‬ ‫العميل طري ًقا أو‬
‫ّ‬ ‫فإنام يمكننا عدّ العقل‬
‫وعليه ّ‬
‫والسؤال العويص ا ّلذي يواجه ٰهذا التعريف هو‪ :‬كيف يمكن عىل أساسه إدراك اآلراء‬
‫مصدر يمكن مأل الفراغ املوجود بني اإلدراك الكيل‬ ‫ٍ‬ ‫وبأي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طريق‬ ‫أي‬
‫اجلزئ ّية؟ وعن ّ‬
‫القوة ا ّلتي تتصدى لتدبري‬
‫والعمل وهو إدراك جزئي ناشئ عن قياس كيل؟ وما هي ّ‬
‫البدن واألفعال اجلزئ ّية‪ ،‬ثم تتجه من التدبري نحو االستنتاج واالستنباط وتنتفع من‬
‫القوة ا ّلتي ُتدرك األمور‬
‫النظري يف جمال احلكمة العمل ّية؟ وما هي ّ‬
‫ّ‬ ‫نتائج قياسات العقل‬
‫ّ‬
‫وتشخص املنافع من املضار‪ ،‬وما ينبغي مما ال ينبغي‪ ،‬وما يليق مما ال يليق‪ ،‬وما‬ ‫اجلزئ ّية‪،‬‬
‫وهذا التعريف مل يقدّ م لنا إجاب ًة غامض ًة عن ٰهذه التساؤالت‬‫هو قبيح مما هو مجيل؟ ٰ‬
‫ً‬
‫فضال عن اإلجابة الواضحة‪.‬‬
‫‪257‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وكثري من احلكامء اآلخرين‬


‫ٌ‬ ‫‪ .2‬بنا ًء عىل التحليل أو التعريف ا ّلذي قدّ مه ابن سينا‪،‬‬
‫قو ًة إدراك ّية باسم (العقل‬
‫فإن اإلنسان يملك ّ‬ ‫والنظري ّ‬
‫ّ‬ ‫العميل‬
‫ّ‬ ‫يف باب حقيقة العقل‬
‫النظري) تقوم بالتأ ّمل يف األمور الك ّل ّية‪ ،‬سواء األمور املرتبطة بالوجودات أم األمور‬
‫بالرتوي‬
‫ّ‬ ‫عميل) تقوم‬
‫تسمى (العقل ال ّ‬ ‫قو ٌة أخرى ّ‬‫املرتبطة باالنبغاءات أو بالعمل‪ .‬ولديه ّ‬
‫ّ‬
‫وتشخص املصالح من املفاسد‪ .‬وبنا ًء عىل ٰهذا التعريف‪ ،‬ال‬ ‫والتف ّكر يف األمور اجلزئ ّية‪،‬‬
‫العميل اختال ًفا جوهر ًّيا عن العقل النظري‪ ،‬بل ّ‬
‫إن متايزمها يكون يف‬ ‫ّ‬ ‫خيتلف العقل‬
‫فمتعلق أحدمها هو الكل ّيات من الوجودات‪ ،‬وما ينبغي وما ال‬
‫متعلقاهتام فحسب‪ُ :‬‬
‫ينبغي أو اآلراء‪ ،‬و ُمتعلق اآلخر هو اجلزئيات مما ينبغي وما ال ينبغي أو اآلراء‪ .‬وإذا كان‬
‫ني أحدمها عن‬ ‫ني ومتاميزت ِ‬ ‫ني منفصلت ِ‬‫قوت ِ‬
‫والنظري ّ‬
‫ّ‬ ‫العميل‬ ‫كذلك فلامذا ُيعد العقل‬ ‫األمر ٰ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫واحدة؟‬ ‫قو ٍة‬
‫قو ًة واحد ًة أو مرتّبتني يف ّ‬
‫األخرى؛ بينام يمكن عدّ مها ّ‬
‫قو ًة عامل ًة‪ ،‬جيب عدّ ه ّ‬
‫قو ًة‬ ‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫أن ٰهذا اإلشكال وار ٌد‪ ،‬فإذا مل يكن العقل‬ ‫يبدو ّ‬
‫درك ًة) ويف ٰهذه الصورة ال خيتلف اختال ًفا أساس ًّيا عن العقل النظري‪ ،‬بل‬ ‫إدراك ّي ًة ( ُم ِ‬
‫هو إما عينه أو من شؤونه‪ .‬ومن هنا يالحظ وجود اّتاه بني املتأخرين واملعارصين‬
‫ٍ‬ ‫لقو ٍة‬
‫وهذه النتيجة‬
‫واحدة‪ٰ .‬‬ ‫والنظري كليهام أدا ٌة إدراك ّي ٌة ّ‬
‫ّ‬ ‫العميل‬
‫ّ‬ ‫يذهب إىل ّ‬
‫أن العقل‬
‫مصدرا أو أدا ًة معرف ّية يف نظر ّية املعرفة‪.‬‬
‫ً‬ ‫انطالقة جيدة للبحث حول العقل بوصفه‬
‫قو ٌة‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫أن العقل‬‫‪ .3‬الحظنا يف العبارات املنقولة عن ابن سينا وأتباعه أهنم يرون ّ‬
‫حلسن من القبح‪ ،‬أو ما ينبغي وما ال ينبغي؛‬
‫متييز اخلري من الرش‪ ،‬والربح من اخلرسان‪ ،‬وا ُ‬
‫قو ٌة تتصدى ملعرفة الصدق والكذب أو احلقيقة واخلطإ‪.‬‬‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫ٰلكنّهم يرون ّ‬
‫أن العقل‬
‫الرتوي والتفكّر‪ ،‬فهل يقترص دوره عىل إدراك األمور‬
‫ّ‬ ‫العميل يمتلك‬
‫ّ‬ ‫ومع ّ‬
‫أن العقل‬
‫املذكورة فحسب‪ ،‬أم يدرك مضا ًفا إىل ٰذلك صدقها وكذهبا أو حقيقتها وزيفها ً‬
‫أيضا؟ بل‬
‫العميل ٰهكذا جيب القول‪ :‬إ ّن‬
‫ّ‬ ‫يمكن إضافة أنه‪ :‬هل عىل رأي احلكامء ا ّلذين ّ‬
‫عرفوا العقل‬
‫حلسن والسوء والربح واخلسارة وما‬‫أمور غري معرف ّية‪ ،‬كا ُ‬
‫العميل هي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ما يدركه العقل‬
‫العميل‬
‫ّ‬ ‫ينبغي وما ال ينبغي‪ ،‬أم إ ّن ما يدركه ال يقترص عىل األمور املذكورة‪ ،‬ويمكن للعقل‬
‫قو ًة معرف ّي ًة‪ ،‬و ُم ِ‬
‫درك ًة مفيد ًة للمعرفة؟‬ ‫أن يكون ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 258‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫العميل فقط‪ ،‬وكيف ّية إدراكه وأدائه‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يرتبط ٰهذا الغموض ‪-‬كام هو واضح‪ -‬بالعقل‬
‫وكذلك‬ ‫النظري بام هو مصدر أو أداة معرف ّية‪ٰ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫مشكلة معرف ّية للعقل‬ ‫بأي‬
‫ّ‬ ‫وال يتس ّبب ّ‬
‫ٍ‬
‫مشكلة لنطاقه‪.‬‬ ‫بأي‬
‫ال يتس ّبب ّ‬
‫العميل‪ ،‬وأ ّما‬
‫ّ‬ ‫‪ .4‬إدراك األمور اجلزئ ّية وف ًقا للتعريف املشهور هو من وظيفة العقل‬
‫إدراك األمور الك ّل ّية‪ ،‬سواء النظر ّية أم العمل ّية فهو وظيفة العقل النظري‪ .‬وهنا ُيطرح‬
‫القوة ا ّلتي ُتدرك اإلدراكات أو القضايا اجلزئ ّية غري العمل ّية؟ فإن‬
‫ٰهذا السؤال‪ :‬ما هي ّ‬
‫فضال عن إدراكه القضايا الك ّل ّية‪ ،‬يدرك ً‬
‫أيضا ٰهذه األمور‬ ‫النظري‪ ،‬فهو ً‬‫ّ‬ ‫قيل هي العقل‬
‫لقياس‪ .‬فمن جهة يتعارض ٰهذا مع‬ ‫ٍ‬ ‫من قبيل قضية (سقراط ٍ‬
‫فان) ا ّلتي هي نتيجة‬ ‫ّ‬
‫درك للكليات‪ ،‬ومن جهة أخرى يتناّف مع مقولة‬ ‫بأن العقل ُم ٌ‬
‫القاعدة املشهورة القائلة ّ‬
‫متجه نحو ما فوقه (العقل الف ّعال) ويتل ّقى معارفه منه‪ .‬وما‬
‫النظري ّ‬
‫ّ‬ ‫احلكامء‪ :‬العقل‬
‫ُيتل ّقى من فوق هي املعارف الك ّل ّية ال املعارف اجلزئ ّية ا ّلتي تأيت من مرحلة اإلحساس‬
‫بالتجرد الكامل تصل إىل العقل ومرحلة اإلدراك العقيل‪ .‬وبنا ًء عىل ٰهذا‬
‫ّ‬ ‫إىل اخليال‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬
‫وتكميل أو إيضاحٍ من ٰهذه اجلهة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فإن حتليل ابن سينا وأتباعه بحاجة إىل إصالحٍ‬
‫األول‪ ،‬بل عدم‬‫حل التعارض ّ‬‫جدير بالذكر أنّه عىل الرغم من الصعوبة البالغة يف ّ‬
‫إمكان ِ‬
‫رفعه ‪-‬كام يبدو‪ٰ -‬لك ّن التعارض أو عدم االنسجام األخري يمكن حل ُه بقليل من‬
‫البحث يف آثار احلكامء والتأ ّمل يف مؤلفاهتم‪ .‬فقول املشهور‪" :‬إ ّن العقل ُمدرك للكليات"‪،‬‬
‫أن املفاهيم الك ّل ّية أو املعقوالت ُتدرك من قبل العقل فقط‪.‬‬
‫ناظر إىل املفاهيم‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ٌ‬
‫فإن املعقوالت ‪-‬ا ّلتي هي املفاهيم الك ّل ّية نفسها‪ -‬هلا مثل ٰهذا احلكم‪ ،‬والقاعدة‬
‫وعليه ّ‬
‫ختتص بنطاق املفاهيم وال تشمل القضايا؛ ٰلك ّن التصديق العلمي واحلكم يف‬ ‫املذكورة ّ‬
‫مجيع القضايا حتّى القضايا الشخص ّية يف عهدة العقل‪ .‬وطبيعي أنّه يف نطاق القضايا‬
‫احلواس بمساعدة العقل‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‪ ،‬سواء كانت من املحسوسات أم التجريب ّيات‪ ،‬تقوم‬
‫ّ‬
‫يف التصديق واحلكم‪.‬‬
‫فإن ٰهذا الكتاب يرى ّ‬
‫أن اإلدراكات أو القضايا الشخص ّية غري‬ ‫وعىل أ ّية ٍ‬
‫حال‪ّ ،‬‬
‫النظري يـدرك القضايا الشخص ّية مضا ًفا إلـى إدراكه‬
‫ّ‬ ‫العمل ّيـة ُتدرك بالعقل‪ .‬فالعقل‬
‫‪259‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أيضا قضية (سقراط ٍ‬


‫فان) ا ّلتي‬ ‫لذلك العقل يدرك ً‬ ‫القضايا واملفاهيم الك ّل ّية‪ .‬وكمثال ٰ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫لقياس‪ .‬ومن هنا جيب نقد الرؤية املتقدمة وإصالحها ٰهبذه الطريقة‪.‬‬ ‫هي نتيجة‬
‫قو ًة إدراك ّي ًة‪ ،‬فأحكام من قبيل (العدل جيب فعله)‪،‬‬
‫أيضا ّ‬
‫العميل ً‬
‫ّ‬ ‫‪ .5‬إذا كان العقل‬
‫قو ٍة تصدر؟ وهل حتكم هبا النفس مبارشة‬‫أي ّ‬‫أو (الظلم ال جيوز)‪ ،‬ب ُعهدة من تقع‪ ،‬وعن ّ‬
‫العميل تؤدي ٰهذا‬
‫ّ‬ ‫قو ٌة أخرى غري العقل‬
‫متصورة؟ وهل للنفس ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو هناك وجوه أخرى‬
‫بأن األحكام ترجع إىل إدراك العقل ومعرفته؛ بمعنى ّ‬
‫أن النفس‬ ‫العمل؟ أم جيب القول ّ‬
‫والعقل يدركان ما ينبغي وما ال ينبغي والقبيح واجلميل فقط‪ٰ ،‬لكن ال يصدران ً‬
‫حكام‬
‫أن العدل مجيل‬‫حوهلام‪ ،‬وقولنا‪( :‬العدل واجب‪ ،‬وال جيوز ارتكاب الظلم)‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ٌّ‬
‫مستقل سوى ٰهذه‬ ‫حكم‬
‫ٌ‬ ‫وينبغي‪ ،‬والظلم قبيح وال ينبغي‪ .‬وليس عند النفس أو العقل‬
‫املعرفة‪ ،‬ومثل ٰهذه األحكام تعبريات أخرى عن تلك اإلدراكات ا ّلتي ُتبني بنحو إنشائي‪.‬‬
‫والعميل‪ ،‬يمكن طرح الكثري من األسئلة‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫وهكذا وبمالحظة حقيقة العقل‬ ‫ٰ‬
‫العميل حاكم؟ وبعبارة‬ ‫النظري ِ‬
‫مدرك والعقل‬ ‫ّ‬ ‫حول وجوه اختالفهام‪ ،‬منها‪ :‬هل العقل‬
‫ّ‬
‫العميل احلكم؟ وإذا كان العقل‬
‫ّ‬ ‫النظري اإلدراك‪ ،‬وشأن العقل‬
‫ّ‬ ‫أخرى هل شأن العقل‬
‫قو ٌة‬ ‫قو ًة معرف ّي ًة ً‬
‫أيضا‪ ،‬أو أنّه ّ‬ ‫قو ًة حاكم ًة‪ ،‬فهل هو مع ٰذلك يمكن أن يكون ّ‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬
‫العميل ‪-‬كالوجوب‪ ،‬والرضورة‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫عامل ٌة فحسب؟ وهل أحكام أو مدركات العقل‬
‫ينبغي‪ ،‬وما ال ينبغي‪ ،‬والقبيح واجلميل‪ ،‬واحلسن والقبح‪ -‬هي أمور اعتبار ّية ال وجود‬
‫هلا خارج وعاء اإلدراك‪ ،‬أو أهنا مفاهيم واقع ّية ومن سنخ املفاهيم الفلسف ّية؟ وهل‬
‫منحرص‬
‫ٌ‬ ‫العميل وإدراكاته‪ ،‬أم االستدالل فيها‬
‫ّ‬ ‫هناك جمال للربهان يف أحكام العقل‬
‫بطريقة اجلدل‪ ،‬ويتألف من املشهورات واملس ّلامت؟ وما إىل ٰذلك من التساؤالت‪.‬‬
‫واسع جدً ا‪ ،‬فال يسعنا‬
‫ٌ‬ ‫والنظري ومتايزمها‬
‫ّ‬ ‫العميل‬
‫ّ‬ ‫وبام ّ‬
‫أن البحث حول حقيقة العقل‬
‫العميل‬
‫ّ‬ ‫اخلوض هنا يف أبعاده ك ّلها‪ ،‬ونكتفي بالتعرض هلٰذه املسألة فقط‪ ،‬وهي ّ‬
‫أن العقل‬
‫القوة يمكنها إدراك ربح‬
‫وهذه ّ‬‫قو ٌة معرف ّي ٌة ومفيد ٌة للمعرفة‪ٰ .‬‬
‫وف ًقا للتعريف الشائع‪ ،‬هو ّ‬
‫األفعال والسلوكيات اإلنسان ّية وخرساهنا‪ ،‬واخلري والرش‪ ،‬واملصلحة واملفسدة‪ ،‬وما ينبغي‬
‫حكم فعيل‬
‫ُ‬ ‫وما ال ينبغي‪ ،‬والقبيح واجلميل‪ ،‬واحلسن واليسء منها‪ .‬وتشخيص ما هو‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 260‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫جزئي مرتبط بالسلوك‪ ،‬وهل جيب القيام به أم ال؟ وهل هو‬‫ٌ‬ ‫اخلاص ٰهذا‪ ،‬ا ّلذي هو فعل‬
‫العميل‪ .‬والعقل‬
‫ّ‬ ‫نافع أم ضار؟ وهل فيه مصلحة أم ال؟ وما إىل ٰذلك يقع يف عهدة العقل‬
‫أيضا؛ ّ‬
‫ألن الصدق أو‬ ‫العميل بإدراكه مثل ٰهذه األمور يدرك الصدق املرتبط بوعائها ً‬
‫ّ‬
‫مطابقة قض ّية للواقع‪ ،‬ختتلف بحسب مفاهيمها وحمكيها (أو مطابقها)‪ .‬ومن باب املثال‬
‫الحظوا ٰهذه القضايا‪( :‬السامء اليوم ُمل ّبدة بالغيوم‪ ،‬والثلج هيطل‪ ،‬وقد اكتست مجيع‬
‫ٍ‬
‫حالة‬ ‫بح ّلة بيضاء وانخفضت مستويات درجات احلرارة بشدّ ة الخ)‪ ،‬يف أ ّية‬ ‫املناطق ُ‬
‫أن صدق ٰهذه القضايا منوط بأن تكون سامء‬ ‫واضح ّ‬
‫ٌ‬ ‫تكون مثل ٰهذه القضايا صادقة؟‬
‫منطقتنا غائمة اليوم‪ ،‬والثلج هيطل‪ ،‬ومستوى كثافة هطول الثلج بمستوى يكسو مجيع‬
‫احلسـ ّية تكون صادقة فيام لو كان مطابقها‬ ‫األماكن الخ‪ .‬و ٰهبذا يمكن القول‪ّ :‬‬
‫إن القضايا ّ‬
‫وأهنا تشري ح ًقا إىل العامل املحسوس‪ .‬وإذا‬ ‫ِ‬
‫مطاب ٌق هلا يف وعاء وظرف عامل املحسوسات‪ّ ،‬‬
‫األرض كرو ّي ٌة وتدور حول الشمس)‪ ،‬فيجب أن يكون األمر‬ ‫قيل يف علم النجوم‪ُ ( :‬‬
‫أن األرض كرو ّية وتدور حول الشمس‪ ،‬وخالف ٰذلك يكون‬ ‫كذلك يف الواقع‪ ،‬يعني ّ‬ ‫ٰ‬
‫ٍ‬
‫واحدة من قضايا العلوم الفلسف ّية‪ ،‬أو الرياضية‪ ،‬أو‬ ‫فإن صدق ّ‬
‫كل‬ ‫كاذ ًبا‪ .‬وعىل ٰهذا ّ‬
‫مبني عىل انطباقها عىل الشـيء ا ّلذي حتكي عنه يف وعائها وظرفها‪.‬‬
‫التجريب ّية ٌّ‬
‫واآلن ُيطرح ٰهذا السؤال عن كيف ّية صدق القضايا ا ّلتي ندركها بوساطة العقل‬
‫يتم تقويمها أو إحراز صدقها؟ ولإلجابة عن ٰهذا السؤال‪ ،‬جيب حل‬ ‫العميل‪ ،‬وكيف ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫مسائل كثرية تعد مبان ًيا هلٰذه املسألة‪ ،‬من قبيل ما هي طبيعة املفاهيم القيم ّية مثل‬
‫الوجوب أو احلرمة‪ ،‬واحلسن أو القبح‪ ،‬وما ينبغي وما ال ينبغي وأمثاهلا وهي من‬
‫العميل‪ ،‬وما هي مكانتها يف تبويب املفاهيم؟ وهل هي‬ ‫ّ‬ ‫أحكام أو ُمدركات العقل‬
‫مفاهيم حقيق ّية أم اعتبار ّية؟ وبعبارة أخرى‪ ،‬إذا كان العقل العميل ِ‬
‫مدركًا‪ ،‬فهل األمور‬ ‫ّ‬
‫مفاهيم‬
‫ُ‬ ‫ا ّلتي يدركها هي ٌ‬
‫أمور اعتبار ّي ٌة حمض ٌة ال حت ّقق هلا خارج وعاء اإلدراك‪ ،‬أم ّأهنا‬
‫واقع ّي ٌة وحقيق ّي ٌة من قبيل املفاهيم الفلسف ّية التي تصف الواقع اخلارجي؟ إذا قلنا ّ‬
‫بأن‬
‫ٰهذه املفاهيم اعتبار ّي ٌة ال حت ّقق هلا خارج وعاء اإلدراك‪ ،‬فمن الواضح أنّه ال يمكن‬
‫القول بصدق أو كذب القضايا املكونة من مثل ٰهذه املفاهيم‪ .‬فالصدق أو الكذب من‬
‫‪261‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أوصاف القضايا احلقيق ّية املكونة من مفاهيم حقيق ّية غري اعتبارية‪ ،‬ال من أوصاف شبه‬
‫أن املفاهيم ِ‬
‫القيم ّية املتقدمة اعتباري ٌة‪ ،‬لكن هلا منشأ انتزا ٍع‬ ‫القضايا‪ .‬وا ّلذين رأوا ّ‬
‫والنظري وإدراكاهتام‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫العميل‬
‫ّ‬ ‫خارجي‪ ،‬وعن ٰهذا الطريق وضعوا التاميز بني العقل‬
‫ّ‬
‫بأن القضايا املكونة من مثل ٰهذه املفاهيم تتصف بالصدق أو الكذب‬ ‫يمكنهم القبول ّ‬
‫أمورا‬
‫املكونة هلا ً‬‫(‪ .)1‬وإ ّنام يمكن عد ٰهذه القضايا صادق ًة أو كاذب ًة فيام لو كانت املفاهيم ِّ‬
‫أن هناك مفاهيم يف فلسفة األخالق حتكي عن واقع ّي ٍة يف‬ ‫غري اعتبار ّي ٍة‪ .‬ونحن نرى ّ‬
‫وعائها‪ ،‬من قبيل القبيح أو اجلميل‪ ،‬واملصلحة أو املفسدة‪ ،‬والنفع أو الرضر‪ ،‬واخلري أو‬
‫الرش‪ ،‬واحلُسن أو السوء‪ ،‬وما جيب أو ما ال جيب‪ ،‬وهي كاملفاهيم الفلسف ّية بل من‬
‫نامذجها ومصاديقها‪ ،‬ومن هنا فالقضايا املؤلفة منها ت ّتصف بالصدق أو الكذب‪.‬‬
‫نتعرض له أكثر من ٰذلك‪.‬‬
‫األصيل هلٰذا البحث هو فلسفة األخالق؛ لذا ال ّ‬
‫ّ‬ ‫املكان‬
‫ونكتفي هنا باإلشارة إىل ٰهذه النقطة وهي ّ‬
‫أن الرضورة‪ ،‬والوجوب‪ ،‬واللزوم مفاهيم‬
‫حتكي عن الرضورة بالقياس بني أفعال اإلنسان ونتائجها‪ ،‬أو الفعل وكامل الفاعل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫موضوعات ملثل ٰهذه القضايا‬ ‫ومفهوم احلسن أو الس ّيـئ‪ ،‬بل املفاهيم التي تكون‬
‫أيضا‪.‬‬
‫لدهيا مثل ٰهذه امليزة ً‬
‫وعىل ٰهذا األساس ّ‬
‫فإن القضايا املؤلفة من مثل ٰهذه املفاهيم‪ ،‬كام أهنا ليست ذوق ّية‬
‫أمورا اعتبار ّي ًة حمض ًة‬ ‫ٍ‬
‫أيضا ليست ً‬ ‫فإهنا ً‬
‫أو حاكية عن إحساسات وعواطف قائلها‪ّ ،‬‬
‫توجد يف وعاء اعتبارها وإدراكها وال حتقق هلا خارج وعاء إدراكها‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل مثل ٰهذا املبنى يف فلسفة األخالق‪ ،‬ندرك بمثل ٰهذه القضايا‬
‫املوضوعات أو األمور املعرف ّية‪ ،‬وننال املعرفة هبا‪.‬‬
‫واحلسـ ّية‪ ،‬وبالقضايا‬ ‫ِ‬
‫املحسوسات اخلارج ّية بالقضايا التجريب ّية‬ ‫ُ‬
‫ندرك‬ ‫ومن هنا نحن‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬يقول ّ‬
‫العالمة الطباطبائي حول ٰهذا املوضوع‪« :‬والثالث‪ :‬أن قولنا‪ :‬جيب عليه كذا وال جيوز عليه كذا حكم عقيل‪،‬‬
‫قائم بالعقل جمعول له ال أمر‬
‫فعل ٌ‬‫أن احلكم الذي يف القضية ٌ‬‫مدرك آخذ بمعنى ّ‬‫قاض ال ِ‬‫ٍ‬ ‫والعقل يف ٰذلك حاكم‬
‫أن العقل الذي كالمنا فيه هو العقل العميل الذي موطن عمله‬ ‫قائم بنفسه حيكيه العقل نوعا من احلكاية‪ ...‬و ٰذلك ّ‬
‫العمل من حيث ينبغي أو ال ينبغي وجيوز أو ال جيوز‪ ،‬واملعاين التي ٰهذا شأهنا أمور اعتبارية ال حت ّقق هلا يف اخلارج‬
‫عن موطن التع ّقل واإلدراك» [الطباطبائي‪ ،‬حممدحسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬ج ‪ ،14‬ص ‪.]98‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 262‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫الرياض ّية والفلسف ّية‪ ،‬ندرك ما يطابقها يف وعائه‪ ،‬وبالقضايا األخالق ّية‪ ،‬واحلقوق ّية‬
‫ض آخر من‬ ‫وأمثاهلا ندرك القبح‪ ،‬والسوء‪ ،‬وعدم عدالة بعض السلوكيات‪ ،‬وعدالة بع ٍ‬
‫وحسنها ومجاهلا وخري ّيتها وانبغاءها‪ ،‬أو وجوهبا‪.‬‬
‫سلوكيات اإلنسان وأعامله‪ُ ،‬‬
‫من هنا ومضا ًفا إىل إدراك النفع أو الرضر‪ ،‬واملصلحة أو املفسدة‪ ،‬واحلسن أو‬
‫أيضا صدقها أو ك؛‬
‫السوء‪ ،‬والقبح أو اجلامل‪ ،‬وما جيب أو ما ال جيب من أفعالنا‪ ،‬ندرك ً‬
‫إذ هلا مطابق يف وعائها‪.‬‬
‫ٰلكن اإلنشاءات من قبيل (اذهب‪ ،‬وال تذهب‪ ،‬وتعال‪ ،‬وال ِ‬
‫تأت‪ ،‬واجلب املاء‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬
‫لذلك ال تتصف بالصدق أو الكذب‪ ،‬وأما‬‫تأكل الخ) هي شبه قضايا وليست قضايا؛ ٰ‬
‫فإهنا ترجع إىل القض ّية أو اإلخبار‪.‬‬
‫األحكام األخالق ّية‪ ،‬حتّى لو ظهرت هبيأة اإلنشاء‪ّ ،‬‬
‫أن الظلم ال جيوز؛ ّ‬
‫ألن فيه‬ ‫مثال ٰذلك قض ّية‪( :‬ال تظلم) التي ُحت ّلل إىل معنى وهو ّ‬‫و ُ‬
‫أن قض ّية (العدل جيب أن يقام) ُحتلل إىل معنى‪ ،‬وهو ّ‬
‫أن‬ ‫وقبحا؛ كام ّ‬
‫ً‬ ‫ورضرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مفسد ًة‪،‬‬
‫ومجاال‪ .‬ومن هنا فبالرغم‬‫ً‬ ‫وحسنًا‪،‬‬‫ألن يف ٰهذا الفعل مصلح ًة‪ ،‬ونف ًعا‪ُ ،‬‬
‫العدل واجب؛ ّ‬
‫من كون اإلنشاء ليس قض ّية منط ًقا‪ٰ ،‬لك ّن األحكام األخالق ّية سواء كانت عىل شكل‬
‫فإهنا تفيد املعنى وتتصف بالصدق أو الكذب‪ .‬وهي أمور واقع ّية وحقيق ّية‬ ‫ٍ‬
‫إنشاء أم إخبار‪ّ ،‬‬
‫هلا واقع ّية عين ّية خارج وعاء إدراك واعتبار ِ‬
‫املعترب‪ ،‬وهلا واقع ّي ٌة عين ّي ٌة مثل مطابق املفاهيم‬
‫الفلسف ّية‪ٰ .‬هذا النوع من املفاهيم هي أوصاف لواقعيات عين ّي ٍة وبنحو ما تصف تلك‬
‫الواقعيات وحتكي عنها‪.‬‬
‫قو ٌة إدراك ّية تدرك‬ ‫ٍ‬ ‫أن ّ‬‫واحلاصل ّ‬
‫النظري هو أنّه‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫تعريف يمكن تقديمه للعقل‬ ‫أدق‬
‫األمور الك ّل ّية‪ ،‬ومقدمات االستدالل والنتائج الك ّل ّية غري العمل ّية احلاصلة منها‪ ،‬بل‬
‫دائام بالعقل النظري‪ ،‬ويشمل‬ ‫وكل نتيجة وإن كانت جزئ ّية‪ .‬فاألحكام الك ّل ّية تدرك ً‬ ‫ّ‬
‫ٰذلك األحكام املرتبطة باألمور النظر ّية والوجودات واألعدام واملرتبطة باألمور‬
‫العمل ّية أو كليات ما ينبغي وما ال ينبغي‪ ،‬كام ّ‬
‫أن األمور اجلزئ ّية النظر ّية وغري العمل ّية‬
‫أيضا و ٰذلك بمساعدة بعض املصادر األخرى طب ًعا‪.‬‬‫القوة ً‬
‫تدرك ٰهبذه ّ‬
‫عرف بأنّه‪:‬‬
‫العميل ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫ٰلكن بحسب رؤية املشهور ا ّلتي هي أتقن الرؤى‪ّ ،‬‬
‫فإن العقل‬
‫‪263‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قو ٌة إدراك ّية ُتدرك اآلراء اجلزئ ّية وتتصدّ ى لتدبري البدن واألمور العمل ّية‪ ،‬وتطبيق‬
‫ّ‬
‫األحكام الك ّل ّية عىل األمور اجلزئ ّية‪ .‬وبمالحظة ٰهذه النتيجة نحصل ً‬
‫أيضا عىل إجابة‬
‫أيضا مقصو ٌد يف نظر ّية املعرفة؟)‪.‬‬
‫العميل ً‬
‫ّ‬ ‫عن السؤال املتقدم (هل العقل‬
‫مسألة‪ ،‬وهي هل يعد العقل‬‫ٍ‬ ‫مبني عىل حل‬‫وكام تقدم فجواب السؤال األخري ٌّ‬
‫العميل مفيدٌ للمعرفة‬
‫ّ‬ ‫أن العقل‬ ‫ومصدرا أو أدا ًة معرف ّية؟ وبام ّ‬
‫ً‬ ‫العميل مفيدً ا للمعرفة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫در ٌك للحقائق والقيم العمل ّية اجلزئ ّية ‪-‬كام ا ّتضح قبل قليل‪ -‬فيجب أن يكون مور ًدا‬ ‫و ُم ِ‬
‫لالهتامم يف نظر ّية املعرفة‪ ،‬وأن جيري البحث حوله‪ .‬واملحل املناسب لذلك البحث هو‬
‫نظرية معرفة القضايا ِ‬
‫القيم ّية من قبيل القضايا األخالق ّية والقانون ّية‪ ،‬وجيب يف ٰهذا‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫البحث حول ٰهذا املصدر أو األداة املعرف ّية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫النوع من نظر ّية املعرفة املق ّيدة‬
‫ٍ‬
‫مالحظة أخرى يف باب التعريفات املتقدّ مة‬ ‫وكذلك بقليل من التأمل نحصل عىل‬ ‫ٰ‬
‫النظري ُم ِ‬
‫در ٌك‬ ‫مشرتكان يف ٍ‬
‫ميزة‪ ،‬وهي ّ‬
‫أن العقل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التعريفني األول والثالث‬ ‫وهي‪ّ :‬‬
‫أن‬
‫ّ‬
‫لألمور الك ّل ّية املرتبطة بالرأي والعمل‪ .‬مضا ًفا إىل ٰذلك ي ّتضح ّ‬
‫أن أفضل حتليل ألداء‬
‫ٍ‬
‫إهبامات جيب مالحظتها يف‬ ‫العميل وآليته هو حتليل ابن سينا؛ مع أنّه ال خيلو من‬ ‫العقل‬
‫ّ‬
‫حملها وعالجها‪.‬‬
‫النظري هو انطالقة‬
‫ّ‬ ‫حال فإن ٰهذا التعريف أو التحليل حول العقل‬ ‫وعىل أي ٍ‬
‫وهذا‬
‫جيدة للبحث حول العقل كمصدر أو أداة للمعرفة يف نظر ّية املعرفة املطلقة‪ٰ ،‬‬
‫املقدار ٍ‬
‫كاف لبحث نظر ّية املعرفة املطلقة‪.‬‬
‫األمر ا ّلذي حيظى بأ ّ‬
‫مه ّية معرف ّية يف مواصلة البحث حول النظرة املعرف ّية للعقل‬
‫هو البحث حول الوظائف ا ّلتي سيتم طرحها يف الفصل السابع‪ ،‬وهي من نشاطات‬
‫النظري كام هو واضح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العقل‬

‫النتيجة‬
‫العقل أحد أهم مصادر أو طرق املعرفة اإلنسان ّية‪ .‬وقد تعرضنا يف ٰهذا الفصل‬
‫للبحث حوله من منظار معريف‪ .‬وطرحنا يف ٰهذا املجال العقل يف ضوء علم نظر ّية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 264‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫والعميل‪ ،‬بام‬
‫ّ‬ ‫نظري‬
‫ّ‬ ‫مصدر معرفـ ٌّي‪ ،‬وقمنا بتعريفه‪ ،‬وتقسيمه إىل ال‬
‫ٌ‬ ‫املعرفة‪ ،‬وبلحاظ أنّه‬
‫له من نتائج معرف ّية‪ .‬وبعد عرض التعريفات والتحاليل املطروحة حول حقيقة العقل‬
‫العميل والنظري‪ ،‬وتوصلنا أثناء البحث إىل ما‬
‫ّ‬ ‫العميل والنظري‪ ،‬بحثنا يف حقيقة العقل‬
‫ّ‬
‫هلام من خصائص أو ما بينهام من اختالفات‪.‬‬
‫النظري وف ًقا‬
‫ّ‬ ‫النظري وصلنا إىل ٰهذه النتيجة وهي ّ‬
‫أن العقل‬ ‫ّ‬ ‫ويف تعريف العقل‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة يدرك األحكام الك ّل ّية‪ ،‬بل ومقدمات االستدالل‬
‫لرؤية ٰهذا الكتاب هو ّ‬
‫والنتائج غري العمل ّية احلاصلة منه وإن كانت جزئ ّية‪ ،‬كام ّ‬
‫أن األمور اجلزئ ّية النظر ّية وغري‬
‫أيضا تدرك ٰهبذا املصدر أو األداة بمساعدة بعض آخر من املصادر طب ًعا‪.‬‬
‫العمل ّية ً‬
‫أن اجلواب‬ ‫أيضا مقصود يف نظر ّية املعرفة؟ ورأينا ّ‬
‫العميل ً‬
‫ّ‬ ‫ثم بحثنا يف هل ّ‬
‫أن العقل‬
‫العميل هل هو مصدر أو أداة معرف ّية أم‬ ‫أن العقل‬ ‫ِ‬
‫مسألة ّ‬ ‫مبني عىل ّ‬
‫حل‬
‫ّ‬ ‫عن ٰهذا السؤال ٌّ‬
‫ليس كذلك؟‬
‫قو ٌة معرف ّي ٌة مفيد ٌة‬
‫العميل ّ‬
‫ّ‬ ‫توصلنا إىل ّ‬
‫أن العقل‬ ‫ويف اجلواب عن السؤال األخري ّ‬
‫للمعرفة وف ًقا للتعريف السائد‪.‬‬
‫وهـذه القـ ّوة يمكـنها إدراك نفـع األفعـال والسـلوكيـات اإلنسـان ّية وضـررها‪ ،‬ومـا‬
‫ٰ‬
‫فـيها مـن خـري وشـر‪ ،‬ومصـلحة ومفسـدة‪ ،‬وما ينبـغي وما ال ينبـغي‪ ،‬والقبـح والـجمـال‪،‬‬
‫والـحسن والسـوء مـنها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نتيجة هي أنّه‬ ‫ومن هنا ‪-‬وعلـى أساس الرؤية أو رد الفعل الـمذكور‪ -‬وصلنا إلـى‬
‫القيمية‪ ،‬سواء كانت قضايا أخالق ّية‪ ،‬أم قانون ّية‬ ‫فـي نظرية الـمعرفة الـمرتبطة بالقضايا ِ‬
‫ّ‬
‫قو ٌة إدراك ّي ٌة لـمثل‬
‫مصدر أو ّ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫البحث فـي العقل العملـ ّي بمـا هو‬ ‫وأمثـالـها‪ ،‬ينبغي أن يتم‬
‫ٰهذه القضايا‪.‬‬
‫النظري ونشاطاته يف ٍّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫مستقل لبحث وظائف العقل‬ ‫ٍ‬
‫فصل‬ ‫نتطرق يف‬
‫وفيام يأيت ّ‬
‫من املفاهيم والقضايا‪ ،‬والدور ا ّلذي يمكن أن يؤديه يف ٍ‬
‫كل منهام‪.‬‬
‫ّ‬
‫املبحث الثـان‬
‫النظري‪ ...‬الوظائف والقضايا الق ْبل ّية‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫مقدّ مة‬
‫نواصل يف ٰهذا الفصل بحوث العقل املعرف ّية‪ ،‬حيث س ُنلقي نظر ًة عابر ًة عىل وظائف‬
‫كل من املفاهيم والقضايا‪ ،‬والدور ا ّلذي‬‫النظري باستعراض نشاطات العقل يف ٍّ‬‫ّ‬ ‫العقل‬
‫كل منهام‪ ،‬ويف اخلتام نبحث دور العقل يف القضايا القبل ّية‪.‬‬ ‫يمكن أن يؤ ّديه يف ٍّ‬
‫النظري‬
‫ّ‬ ‫أن املقصود من العقل‬ ‫النظري ُنن ّبه إىل ّ‬
‫ّ‬ ‫قبل اخلوض يف بحث وظائف العقل‬
‫دركة للوجودات واألعدام‪،‬‬ ‫اخلاصة بالنفس الناطقة‪ ،‬ا ُمل ِ‬
‫ّ‬ ‫القوة اإلدراك ّية‬
‫يف ٰهذا البحث هو ّ‬
‫وكذلك ِ‬
‫املدركة ملا ينبغي وما ال ينبغي‪ .‬ومن هنا ‪-‬وفيام يأيت من ٰهذا البحث‪ -‬ك ّلام استعملنا‬ ‫ٰ‬
‫مصطلح (العقل)‪ ،‬فنحن نقصد العقل النظري ٰهبذا االصطالح‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬وظائف العقل‬
‫ٍ‬
‫بنظرة‬ ‫النظري‪ -‬يمكن أن نذكرها‬ ‫أهم وظائف العقل وشؤونه ‪-‬ونريد به العقل‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫إن ّ‬
‫ّأول ّي ٍة يف املخطط التايل‪:‬‬
‫صناعة املفاهيم الك ّليّة‬
‫إدراك املفاهيم الك ّل ّية‬
‫التقسيم‬
‫يف نطاق املفاهيم‬
‫الرتكيب (توحيد الكثري)‬
‫التعريف‬
‫االنتزاع أو التجريد‬ ‫وظائف العقل‬
‫املقارنة‬
‫الحكم يف القضايا‬
‫يف نطاق القضايا‬
‫االستدالل (تأليف مجموعة قضايا بعضها‬
‫جنب ٍ‬
‫بعض‪ ،‬وترتيبها واالستنتاج منها)‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 266‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ٍ‬
‫واحد من الشؤون أو الوظائف املذكورة ودراسته‪ .‬بعد‬ ‫واآلن نبدأ ببيان ّ‬
‫كل‬
‫وكذلك ندرك ّ‬
‫أن ٰهذه الوظيفة ترتبط بنطاق‬ ‫ص رسي ٍع تتضح الوظيفة وأدائها‪ٰ ،‬‬‫تفح ٍ‬
‫ّ‬
‫القضايا أم املفاهيم‪ .‬ونبدأ البحث باملفاهيم الك ّل ّية‪:‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬املفاهيم الكلّ ّية؛ الصناعة واإلدراك‬


‫صناعة املفاهيم الك ّل ّية وإدراكها هي من وظائف العقل بنا ًء عىل رؤية أكثر احلكامء‬
‫أخص خصائص النفس اإلنسان ّية‪ ،‬ويعتقد‬
‫املسلمني‪ .‬فابن سينا يعد ٰهذا الشأن أو األداء ّ‬
‫أن العقل بصناعته ٰهذا النمط من الـمفاهيم وتـحصيلها‪ ،‬يمكنه الوصول إلـى معرفة‬‫ّ‬
‫الـمجـهـوالت التـصـور ّيـة عن طريق التعـريف‪ ،‬والـمجهـوالت التصـديـق ّيـة عن طـريـق‬
‫تصور املعاين الك ّل ّية العقل ّية‬
‫االستدالل واالستنتاج إذ يقول‪" :‬وأخص اخلواص باإلنسان ّ‬
‫وتصورا من‬
‫ً‬ ‫املجردة عن املادة كل التجريد‪ ،...‬والتوصل إىل معرفة املجهوالت تصدي ًقا‬
‫ّ‬
‫املعلومات العقلية"(‪.)1‬‬
‫وهناك كثري من األسئلة املطروحة حول ٰهذه الوظيفة‪ ،‬منها‪ :‬كيف يصل العقل إىل‬
‫املفاهيم الك ّل ّية؟ وهل يصل إىل املفهوم الكيل من خالل تقشري (ّتريد) إحدى املاه ّيات‬
‫تقشريا ً‬
‫كامال من عوارضها املا ّد ّية‪ ،‬أم ال توجد حاجة لتجريد املاه ّية عن العوارض‬ ‫ً‬
‫والعقل حيصل عىل املفهوم الكيل بطريقة أخرى؟ وما هي حقيقة الكيل؟ وهل الكل ّيات‬
‫جمردة عن الزمان واملكان باسم (املُ ُثل)‪ ،‬أم‬
‫عيني خارج الذهن وهناك أمور ّ‬
‫ٌّ‬ ‫واقع‬
‫هلا ٌ‬
‫قوة (العقل) اإلدراك ّية وتنال إدراكها وفهمها؟‬
‫تصورات ومفاهيم ذهن ّية تصنعها ّ‬
‫هي ّ‬
‫جمردة (املُ ُثل)‪ ،‬أم مشاهد ٌة‬
‫ذكار حلقائق ّ‬
‫ويف الصورة األوىل‪ ،‬هل إدراك الكليات است ٌ‬
‫جمردة؟ وأسئلة أخرى‪.‬‬
‫حلقائق ّ‬
‫والبحث حول ٰهذه التساؤالت واإلجابة عنها ‪-‬وهي يف الغالب تدخل يف نطاق‬
‫ٍ‬
‫باختصار‪ّ :‬‬
‫إن املفاهيم‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل جمال آخر‪ٰ .‬لكن يمكن هنا أن نقول‬ ‫أنطولوجيا العلم‪-‬‬
‫اخلاصة للنفس‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫قو ُة العقل اإلدراك ّية وهي ّ‬
‫تصورات تصنعها وتدركها ّ‬
‫ٌ‬ ‫الك ّل ّية‬

‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬املقالة اخلامسة‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬ص‪.284‬‬
‫‪267‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الناطقة‪ .‬ومثل ٰهذه املفاهيم متعدّ دة ويمكن تصنيفها ضمن طبقات خمتلفة‪ .‬وااللتفات‬
‫إىل ٰهذا التقسيم أو التصنيف ينجينا من أخطاء فادحة يف نظر ّية املعرفة (‪.)1‬‬

‫ثالثًا‪ :‬التقسيم‬
‫التقسـيم (القسـمة) من الوظـائف األخـرى للذهـن أو العقل فـي مـجال الـمفاهيم‬
‫وهذه الوظيفة هلا دور مهم يف معرفة احلقائق واملفاهيم أو التصورات‪،‬‬
‫والتصورات‪ٰ .‬‬
‫ّ‬
‫وهي إحدى طرق نيل املعرفة وكشف املجهوالت التصورية‪" :‬والقسمة أيضا إحدى‬
‫الطرق املوصلة إىل اكتساب العلم باملجهول‪ .‬والقسمة الفاصلة هي ا ّلتي تكون لألجناس‬
‫لئال تقع طفر ًة من درجة إىل غري ا ّلتي تليها‪.‬‬
‫إىل األنواع بالفصول حمفوظا فيها الرتتيب‪ّ ،‬‬
‫أيضا باخلواص واألعراض"(‪.)2‬‬
‫وقد تكون ً‬
‫ومن هنا فالتقسيم له دور يف التعريف والوصول إىل املعرفة‪ .‬والبحث حول دور‬
‫القسمة يف التعريف والوصول إىل املعرفة يعدّ من البحوث املهمة املطروحة يف املنطق‬
‫عادة‪ .‬ومن الواضح ّ‬
‫أن العقل له الدور األهم يف ٰهذا النشاط الذهني‪.‬‬
‫يقترص دور التقسيم عىل كشف املجهوالت يف نطاق التصورات‬
‫ُ‬ ‫فض ً‬
‫ال عن ذلك ال‬
‫واملفاهيم املجهولة وكسب معارف جديدة‪ ،‬بل ّ‬
‫إن ٰهذا النشاط الذهني يمكنه مساعدتنا‬
‫أيضا يف الوصول إىل املعرفة يف نطاق التصديقات والقضايا؛ ألنّه يمكن بالتقسيم وف ًقا لرؤية‬
‫ً‬
‫عامة املنطقيني األرسطيني الوصول إىل احلدود الذات ّية لألشياء‪ .‬واحلدود يف التعريف‬
‫فهذا يعني أ ّننا حصلنا‬
‫مشرتكة مع احلدود الوسطى يف الربهان‪ ،‬فإذا حصلنا عىل حدّ الشـيء‪ٰ ،‬‬
‫عىل حدّ ه األوسط‪ .‬وباحلصول عىل حدود األشياء وذاتياهتا يمكن الوصول إىل عللها‬
‫وحدودها الوسطى(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬ملزيد من التوضيح راجع‪ :‬حممدحسني زاده‪( ،‬معرفت برشي؛ زيرساختها) [أسس املعرفة البرشية]‪ ،‬الفصل‬
‫الثالث؛ املؤلف نفسه‪( ،‬معرفت شنايس) [نظر ّية املعرفة]‪ ،‬الفصلني السادس والسابع‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .2 ،‬املقوالت‪ ،‬حتقيق إبراهيم مدكور‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬املؤلف نفسه‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .5 ،‬الربهان‪ ،‬تصحيح أبو العالء عفيفي‪ ،‬ص‪317-288‬؛ املؤلف نفسه‪،‬‬
‫النجاة‪ ،‬ص‪84-78‬؛ املصدر السابق‪ ،‬تصحيح حممدتقي دانشپژوه‪ ،‬ص‪159-157‬؛ الشريازي‪ ،‬صدر الدين =‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 268‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫مهام يف معرفة احلقائق وهو بنفسه عىل‬


‫دورا ًّ‬ ‫وعىل ٰهذا ّ‬
‫فإن للتقسيم أو القسمة ً‬
‫قسمني‪:‬‬
‫‪ .1‬التحليل أو تقسيم الكل إىل أجزائه‪ ،‬من قبيل حتليل املاء إىل عنرصي األوكسجني‬
‫واهليدروجني‪ ،‬وحتليل ماه ّية اإلنسان إىل احليوان والناطق‪.‬‬
‫سمى (التحليل أو التقسيم‬
‫وهذا التقسيم ُي ّ‬
‫‪ .2‬التحليل أو تقسيم الكيل إىل جزئياته‪ٰ .‬‬
‫املنطقي [القسمة املنطق ّية])‪.‬‬
‫أيضا عىل قسمني‪:‬‬
‫والقسم األول ً‬
‫أ‪ .‬التحليل أو التقسيم العقيل‪ :‬تقسيم أو حتليل املفهوم عىل أساس ذاتياته‪ ،‬كام أننا‬
‫بتحليل مفهوم اإلنسان نحصل عىل مفهومي (احليوان والناطق)‪ .‬ويف مقابل التحليل أو‬
‫ِ‬
‫مفهومني يف الذهن‪ ،‬للحصول‬ ‫التقسيم العقيل‪ ،‬يوجد الرتكيب العقيل‪ ،‬الذي يكون بدمج‬
‫عىل ماه ّي ٍة تا ّم ٍة كاإلنسان‪ .‬ومن الواضح أنّه يف كلتا العمل ّيتني املذكورتني ‪-‬أي التحليل‬
‫والرتكيب‪ -‬تكون عالقة اإلنسان مع احليوان والناطق هي عالقة الكل واجلزء‪ ،‬ال الكيل‬
‫واجلزئي‪.‬‬
‫سمى‬
‫ب‪ .‬التحليل أو التقسيم اخلارجي‪ :‬تقسيم الكل إلـى أجزائه اخلارج ّية‪ ،‬و ُي ّ‬
‫(التحـليـل أو التقسـيم الـخارجي)‪ ،‬من قـبيـل تـجزئـة الـمـاء إلـى عنرصي األوكسـجـني‬
‫واهليدروجني‪ ،‬أو حتليل جسم اإلنسان إىل األعضاء واجلوارح‪.‬‬
‫التحليل أو التقسيم اخلارجي بدوره عىل نوعني‪ :‬الطبيعي والصناعي‪ .‬ومقابل‬
‫التحليل أو التقسيم اخلارجي‪ ،‬هناك عمل الرتكيب‪ .‬فبرتكيب عدّ ة عنارص مع بعضها‬
‫بعضا يمكن إجياد ظاهرة طبيع ّية جديدة‪ ،‬كام أنّه برتكيب وانضامم عدّ ة مواد يمكن إجياد‬
‫ً‬
‫ظاهرة صناع ّية جديدة‪.‬‬

‫= حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪26‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪،‬‬
‫ص‪252-250‬؛ الطـوسـي‪ ،‬نصـري الديـن‪ ،‬أسـاس االقـتبـاس‪ ،‬تصـحيح مـحمد تقـي مـدرس رضـوي‪ ،‬ص‪.345‬‬
‫بحاجة إىل ٍ‬
‫بحث واس ٍع ال يسعه ٰهذا املخترص‪ ،‬وأغلب‬ ‫ٍ‬ ‫أن مسألة كيف ّية مشاركة احلدّ والربهان وتبيني ٰذلك‬
‫طبيعي ّ‬
‫ٌّ‬
‫تطرقت هلٰذا املوضوع‪.‬‬
‫املصادر املذكورة ّ‬
‫‪269‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫والتاميز بني ٰهذين القسمني يف ّ‬


‫أن التقسيم أو التحليل اخلارجي ال يمكن فيه محل‬
‫كل من األجزاء عىل ّ‬
‫الكل‪ ،‬ومثال ٰذلك أنّه ال يمكن القول‪ :‬السكنجبني (‪ )1‬خل أو‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫واحد من األجزاء عىل الكل‬ ‫سك ٌّر‪ٰ .‬لكن يف التقسيم أو التحليل العقيل يمكن محل ّ‬
‫كل‬
‫وحصول عالقة ( ٰهذا ذاك)‪ ،‬أو (هو هو) بينهام من قبيل أنّه يمكن القول (اإلنسان‬
‫حيوان)؛ ّ‬
‫ألن اجلنس (احليوان يف املثال املذكور) عىل الرغم من‬ ‫ٌ‬ ‫ناطق)‪ ،‬أو (اإلنسان‬
‫ٌ‬
‫أنّه جز ٌء مبه ٌم وربام يكون واس ًعا يشمل أنوا ًعا أخرى‪ ،‬أو الفصل عىل الرغم من أنّه‬
‫ٍ‬
‫واحد منهام يف الواقع يساوي‬ ‫أخص من الذات‪ٰ ،‬لك ّن ّ‬
‫كل‬ ‫جز ٌء وبحسب الظاهر‬
‫ّ‬
‫حصة من احليوان متح ّققة ضمن اإلنسان‪ ،‬والفصل هو ا ّلذي يشكّل‬ ‫الذات‪ .‬واجلنس ّ‬
‫كل‬ ‫وحي ِّصل احليوان ّية (اجلنس)‪ .‬ومن هنا يمكن محل املاه ّية عىل ّ‬
‫متام حقيقة اإلنسان ّية ُ‬
‫ٍ‬
‫واحد من األجزاء عىل املاه ّية‪ ،‬وذات الشـيء والقول‪:‬‬ ‫واحد من األجزاء‪ ،‬أو محل ّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫(الناطق هو اإلنسان)‪ ،‬أو (احليوان هو اإلنسان)‪ .‬وينبغي التنبيه عىل ّ‬
‫أن احليوان ّية‬
‫املقصودة يف قض ّية (احليوان هو اإلنسان) حص ٌة من احليوان ّية وهي الكائنة يف اإلنسان‪.‬‬
‫وأما إذا كان املراد من احليوان ّية هو املعنى العام‪ ،‬ففي ٰهذه احلالة يكون محل اإلنسان‬
‫جمازا‪.‬‬
‫عىل احليوان يف قض ّية (احليوان إنسان) ً‬
‫أيضا ال يمكن محل األجزاء عىل ّ‬
‫الكل‬ ‫وقد يبدو أنّه يف التحليل أو التقسيم العقيل ً‬
‫أن محل ّ‬
‫الكل عىل األجزاء غري جائز؛ ألنّه يف ٰهذا‬ ‫كالتحليل أو التقسيم اخلارجي‪ ،‬كام ّ‬
‫كل مفهو ٍم بام هو مفهوم ليست عني ذات‬ ‫املقسم مفهو ٌم‪ .‬وأجزاء ّ‬
‫ُ‬ ‫التحليل أو التقسيم‪،‬‬
‫ٰذلك املفهوم وال توجد عالقة ( ٰهذا ذاك) بني الكل وأجزائه‪ .‬وبالنتيجة ال يمكن محل‬
‫الكل عىل أي واحد من األجزاء‪ .‬وحتدّ ث املح ّق ُق‬ ‫الكل‪ ،‬وال ّ‬
‫واحد من األجزاء عىل ّ‬‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ّ‬
‫قائال‪ّ " :‬‬
‫إن أنفس املعاين واملاه ّيات ال ُحيمل‬ ‫الشهري آقا عيل حكيم حول ٰهذا املوضوع ً‬
‫فإهنا من جهة أنفسها متباين ٌة‬ ‫بعضها عىل بعض من دون وساطة توجب ّ‬
‫االحتاد بينها‪ّ ،‬‬
‫معزول عن مفهوم ال يكون بينهام جهة ّاحتاد‬‫ٌ‬ ‫فكل مفهوم‪ ،‬من حيث هو‪،‬‬ ‫بينونة ٍ‬
‫عزلة‪ّ .‬‬
‫محال ّأول ًّيا أو ً‬
‫محال للشـيء عىل نفسه‪...‬‬ ‫يصح هبا محل أحدمها عىل اآلخر ً‬
‫مفهومي‪ ،‬حتّى ّ‬
‫حلو‪ ،‬من قبيل اخلل والسكّر أو اخلل والعسل‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫حامض واآلخر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رشاب مركّب من شيئني أحدمها‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 270‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فمعنى اإلنسان‪ ،‬نفسه‪ ،‬وغري معنى الناطق ومعنى احليوان"(‪.)1‬‬


‫ٍ‬
‫لسؤال هو‪ :‬هل وجود املفهوم بام هو مفهوم مرا ٌد بذاته‪،‬‬ ‫كن ٰهذا الكالم فيه ٌ‬
‫جمال‬ ‫ٰل ّ‬
‫أن الوجود اخلارجي ‪-‬وإن كان‬ ‫األول من الواضح ّ‬ ‫ٍ‬
‫أم من جهة أنّه حاك عنها؟ وباللحاظ ّ‬
‫يشء‪ ،‬وال يمكن محل‬ ‫الوجود اخلارجي للمفاهيم والصور الذهنية‪ -‬ال يمكن محله عىل ٍ‬
‫ّ‬
‫يشء عليه‪ .‬وأ ّما باللحاظ الثاين‪ ،‬أي املفهوم بلحاظ كونه حاك ًيا‪ ،‬فهو قابل للحمل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فاملفاهيم غري البسيطة التي هلا أجزاء ذهنية‪ ،‬يمكن محل بعضها عىل بعض‪ ،‬ويمكن محلها‬
‫عىل الكل‪ ،‬نعم طريقة احلمل فيها خمتلف ٌة‪ .‬وعليه ففي قبال الرأي املذكور‪ ،‬رأي العالمة‬
‫أن محل اجلنس أو الفصل عىل‬ ‫ٍ‬
‫نتيجة هي ّ‬ ‫مفصل يصل إىل‬‫الطباطبائي إذ إنّه بعد بيان ّ‬
‫أويل‪ .‬مضا ًفا‬ ‫الكل‪ ،‬هو ٌ‬
‫محل ٌّ‬ ‫النوع‪ ،‬وببيان آخر‪ ،‬محل أي واحد من األجزاء العقل ّية عىل ّ‬
‫فإن األجزاء (اجلنس والفصل) يمكن محل بعضها عىل بعض‪ ،‬واحلمل فيها‬ ‫إىل ٰهذا ّ‬
‫يكون بالنحو الشائع (‪ .)2‬وأما محل املفاهيم البسيطة بعضها عىل بعض فهو ال شك فيه‬
‫شائع؟‬
‫أويل أم ٌ‬ ‫أيضا؛ مع أنّه ُيطرح فيها ٰهذا السؤال‪ّ :‬‬
‫أن احلمل فيها ٌّ‬ ‫ً‬
‫أيضا‬
‫أيضا‪ ،‬ويف ٰهذا النوع من التحليل ً‬ ‫يقال ّ‬
‫إن التحليل أو التقسيم املنطقي ٰهكذا ً‬
‫اجلزئي عىل ّ ّ‬
‫الكيل‪ ،‬وحصول عالقة ( ٰهذا‬ ‫ّ‬ ‫مثل التقسيم أو التحليل العقيل يمكن محل‬
‫وبكر والخ)؛‬
‫وعمرو‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ذاك) بني الكيل وجزئياته‪ .‬ومن هنا يمكن القول‪( :‬اإلنسان زيدٌ ‪،‬‬
‫أناس) (‪.)3‬‬
‫وبكر‪ ،‬والخ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وعمرو‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اجلزئي والقول‪( :‬زيدٌ ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كام أنّه يمكن محل ّ ّ‬
‫الكيل عىل‬
‫وبكر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وعمرو‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اجلزئي عىل ّ ّ‬
‫الكيل بأن يقال‪( :‬اإلنسان زيدٌ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٰلكن هل ح ًقا يمكن محل‬
‫ِ‬
‫االنسان‬ ‫والخ)؟ هل ٰهذا احلمل حقيقي‪ ،‬أم جمازي؟ وهل يمكن القبول حقيق ًة ّ‬
‫بأن متام‬
‫زيدٌ ‪ ،‬أم فقط يمكن القول ّ‬
‫بأن زيدً ا متا ُم اإلنسان؟ هل يمكن أن يأيت هنا التوجيه‬
‫(‪ )1‬آقا عيل املدرس الزنوزي‪ ،‬رسالة محلية‪ ،‬ص‪.36-35‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬الطباطبائي‪ ،‬حممدحسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬تصحيح غالمرضا فيايض‪ ،‬املرحلة اخلامسة‪ ،‬الفصل اخلامس؛‬
‫املؤلف نفسه‪ ،‬تعليقة عىل األسفار‪ ،‬يف‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪،‬‬
‫ج‪ ،2‬ص‪ ،22‬تعليقة ‪.1‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬تصحيح حممدتقي مدرس رضوي‪ ،‬ص‪429-425‬؛ احليل‪،‬‬
‫احلسن بن يوسف‪ ،‬اجلوهر النضيد‪ ،‬ص ‪ 340‬و‪341‬؛ املظفر‪ ،‬حممدرضا‪ ،‬املنطق‪ ،‬ص ‪.138-127‬‬
‫‪271‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املطروح ساب ًقا يف محل اجلزء عىل ّ‬


‫الكل يف التقسيم العقيل كام يف محل الناطق عىل احليوان‬
‫يف قض ّية‪( :‬احليوان ناط ٌق)؟‬
‫أن للتقسيم وظيف ًة أخرى سيأيت احلديث عنها‪.‬‬
‫جدير بالذكر ّ‬

‫راب ًعا‪ :‬التحليل والرتكيب‬


‫أهم وظائف العقل‪ .‬وللتحليل والرتكيب‬
‫التحليل ويقابله الرتكيب مها من ّ‬
‫اصطالحات أو استعامالت عديدة‪ .‬منها عىل األقل إطالقه عىل نوع من التقسيم وهو‬
‫تقسيم الكل إىل أجزاءه‪ ،‬و ُيطلق عىل حتليل ّ‬
‫كل أصناف ٰهذا النوع من قبيل التقسيم أو‬
‫وهذا االصطالح ا ّلذي يرجع إىل التقسيم‪ ،‬بل‬
‫التحليل العقيل‪ ،‬والصناعي وأمثاهلام‪ٰ .‬‬
‫نتطرق له يف ٰهذا البحث‪.‬‬
‫اصطالحا جديدً ا مقابل التقسيم‪ .‬ومن هنا ال ّ‬
‫ً‬ ‫هو عينه‪ ،‬ليس‬
‫و ٰلكن ‪-‬كمـا ن ّبهنا عليه ساب ًقا‪ -‬ال يقترص استعمـال التحليل عىل االصطالح أو املعنى‬
‫املذكور‪ ،‬بل مضا ًفا إىل ٰذلك االصطالح‪ ،‬له استعامل آخر يف املنطق‪ .‬والتحليل وف ًقا‬
‫أيضا (حتليل القياس)‪ ،‬أو (التحليل إىل العكس)‪ ،‬وهو‬
‫سمى ً‬‫لالستعامل املذكور ا ّلذي ُي ّ‬
‫عبارة عن إرجاع االستدالالت القياس ّية إىل مقدماهتا ومبادئها‪ٰ .‬هذه الوظيفة من‬
‫وببيان أوضح هو حيكي عن ميزة‪ ،‬أو نوع خاص من االستدالل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شؤون االستدالل‪،‬‬
‫و ٰهبذه الف ّعال ّية [الوظيفة] يمكن تقويم القياسات املركّبة وحتليلها إىل قياسات بسيطة‪،‬‬
‫إن حتليل القياس هو سري فكري‬‫ومعرفة هيأة أو شكل االستدالل‪ .‬وببيان آخر نقول‪ّ :‬‬
‫من النتيجة إىل املقدمات‪.‬‬
‫يتم التأ ّمل والبحث يف مقدّ مات االستدالل‪ ،‬وعن أي مقدّ مات‬
‫ويف ٰهذا السري ّ‬
‫وهذا النشاط‬
‫يستمر إىل أن ينتهي إىل املبادئ األوىل‪ٰ .‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا السري الفكري‬
‫أخرى نتجت‪ٰ .‬‬
‫الذهني يقف مقابل تركيب القياس وهو عبارة عن ترتيب املقدمات وتأليفها من أجل‬
‫تشكيل االستدالل والوصول إىل املطلوب (‪.)1‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الرازي‪ ،‬قطب الدين حممد‪ ،‬رشح املطالع يف املنطق‪ ،‬ص‪332‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪،‬‬
‫ص‪ 107‬و‪171-165‬؛ الساوي‪ ،‬ابن سهالن‪ ،‬البصائر النصريية‪ ،‬ص ‪188‬؛ ابن سينا‪ ،‬النجاة‪ ،‬تصحيح حممد تقي‬
‫دانشپژوه‪ ،‬ص‪96-93‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .4 ،‬القياس‪ ،‬حتقيق سعيد زايد‪ ،‬ص‪ 9-8‬و‪.470-460‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 272‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن التحليل عىل أساس االصطالح‬ ‫ٍ‬


‫نتيجة وهي ّ‬ ‫وبمالحظة ما تقدّ م نصل إىل‬
‫األخري جيري يف دائرة القضايا ويقترص عليها‪ ،‬وال جيري يف دائرة املفاهيم‪ .‬وستتضح‬
‫النتيجة املتقدّ مة أكثر فيام يأيت‪.‬‬
‫ويعد التحليل باملعنى أو االصطالح األخري من األنحاء التعليم ّية‪ .‬وتوضيح ٰذلك‬
‫أنّه من أجل إثبات املطلوب يمكن االستناد أو االستدالل بإحدى طرق أربع‪:‬‬
‫‪ .4‬الربهان‪.‬‬ ‫‪ .3‬التحديد‪.‬‬ ‫‪ .2‬التحليل‪.‬‬ ‫‪ .1‬التقسيم‪.‬‬
‫التقسيم‪ٰ :‬هذا النشاط هو تكثري من فوق‪ ،‬بمعنى أننا نلتفت إىل املطلوب أو النتيجة‪،‬‬
‫ونحدّ د فيها املوضوع واملحمول‪ ،‬ونواصل االستدالل مع مراعاة رشوط االستدالل‬
‫يف األشكال األربعة إىل أن ننتهي إىل النتيجة‪ .‬وعىل ٰهذا ففي أسلوب التقسيم يكون‬
‫املطلوب بني أيدينا‪ ،‬وعن طريق تكثري املحمول واملوضوع نصل إىل املطلوب باحلد‬
‫األوسط ا ّلذي هو ع ّلة ثبوت األكرب لألصغر‪.‬‬
‫التحليل‪ :‬أسلوب التحليل مقابل التقسيم وعىل العكس منه متا ًما‪ .‬ففي ٰهذا‬
‫نقوم االستدالل من خالل ّتزئة املقدمات وحتليلها‪ ،‬وإرجاعها إىل مبادئها‬
‫األسلوب ّ‬
‫وكذلك معرفة مرتبة القياس ومكانته بني أشكاله‪ ،‬ومعرفة‬‫ملعرفة صحتها من سقمها‪ٰ ،‬‬
‫نوعه من االقرتاين أو االستثنائي‪.‬‬
‫التعريف أو التحليل احلدّ ي (احلصول عىل حدود األشياء وتعريفها احلدي)‪ :‬من‬
‫أجل احلصول عىل التعريف يـجب أن يكون هدفنا هو الـمطلوب التصوري وجـميع‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ نف ّكك الذاتيات عن األمور العرضية‪ ،‬و ٰهبذا ننال التعريف احلدّ ي‪.‬‬ ‫حمموالته؛‬
‫وإنّنا إذا حصلنا عىل مثل ٰهذا التعريف‪ ،‬نكون قد حصلنا من خالله عىل احلد األوسط‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫يقيني بلحاظ املضمون [املا ّدة]‬ ‫قيايس‪ ،‬وهو‬ ‫ٍ‬
‫استدالل‬ ‫نوع‬ ‫ُ‬
‫الربهان ُ‬ ‫الربهان‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫ٍّ‬
‫والشكل(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .4 ،‬القياس‪ ،‬حتقيق سعيد زايد‪ ،‬ص ‪449-446‬؛ الفارايب‪ ،‬أبو نصـر‪ ،‬األلفاظ‬
‫املستعملة يف املنطق‪ ،‬ترمجة ورشح حسن ملكشاهي‪ ،‬ص‪159-157‬؛ اليزدي‪ ،‬املال عبد اهلل‪ ،‬احلاشية عىل هتذيب =‬
‫‪273‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫من الواضح ّ‬
‫أن االصطالحات األخرى املتقدّ مة من التقسيم‪ ،‬والتجزئة‪ ،‬والتحليل‪،‬‬
‫والرتكيب ختتلف عن ٰهذه االصطالحات األربعة األخرية؛ ألن ٰهذه االصطالحات‬
‫تبني طريقة االستدالل والتعريف وهي مرتبطة بكيف ّية هاتني الوظيفتني أو النشاطني‬
‫ّ‬
‫أن كل ٰهذه النشاطات األربعة تعد من نشاطات العقل‪،‬‬ ‫العقليني‪ .‬وعليه فبالرغم من ّ‬
‫ٰلكنّها ليست نشاطات ووظائف مستق ّلة عن التعريف واالستدالل‪ ،‬إذ يمكن إرجاعها‬
‫مجي ًعا إىل وظيفتي التعريف واالستدالل؛ بل يمكن بقلي ٍل من التأ ّمل الوصول إىل ٰهذه‬
‫فإن سائر النشاطات هي أساليب أو طرق‬ ‫النتيجة‪ :‬باستثناء التحديد أو التحليل احلدّ ي ّ‬
‫العتبار معني‪ ،‬واسم الرتكيب ٍ‬
‫جلهة‪ ،‬واسم‬ ‫ٍ‬ ‫لالستدالل‪ ،‬وقد أطلقوا عليها اسم التحليل‬
‫التقسيم ٍ‬
‫جلهة أخرى‪ .‬وعليه فمن بني األمور األربعة املتقدّ مة‪ ،‬التحديد أو حتليل احلدّ‬
‫فقط ليس من شؤون االستدالل‪ ،‬وإنام يرتبط باملفاهيم والتصورات وحتليل احلدود‬
‫وتعريفاهتا ومثل ٰهذا النشاط يعد وظيف ًة مستق ّل ًة من وظائف العقل وسيأيت الكالم‬
‫عنها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نتيجة هي‪ :‬أنّه يف االستدالل القيايس ُتالحظ طرق‬ ‫وبناء عىل ما تقدّ م نصل إىل‬
‫وهذه األمور تعد من شؤون االستدالل‬
‫خمتلفة منها التقسيم‪ ،‬والتحليل‪ ،‬والربهان‪ٰ .‬‬
‫وطرقه‪ ،‬ومن هنا يمكن جعلها حتت عنوان االستدالل‪ .‬وعليه ال يكون التحليل‬
‫ِ‬
‫ومنفصلني عن االستدالل بناء عىل ٰهذا االصطالح؛ ولذا ال‬ ‫أمرين مستق ّل ِ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫والتقسيم‬
‫ِ‬
‫منفصلتني‪ ،‬بل مها من فروع االستدالل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وظيفتني‬ ‫ينبغي عدّ مها‬
‫وتوضيح ٰذلك أنّه يمكن يف دائرة التصديقات ُ‬
‫إقامة االستدالل بطرق عدّ ة‪ :‬طريق‬
‫وكذلك يمكن تقويم االستدالل القيايس‬ ‫القياس‪ ،‬وطريق االستقراء‪ ،‬وطريق التمثيل‪ٰ .‬‬
‫ويسهل طريق‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بطرق خمتلفة‪ .‬حتليل املقدّ مات أو تقسيم املطلوب يوصلنا إىل ٰهذا املقصود‪،‬‬
‫تقويم القياسات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جديدة ُيراد منها‬ ‫ٍ‬
‫اصطالحات‬ ‫مضا ًفا إىل الوظائف املذكورة‪ ،‬يمكننا احلصول عىل‬
‫خاصة من خالل إضافة بعض القيود إىل مصطلح (التحليل)؛ اصطالحات نظري‬ ‫ٍ‬
‫معان ّ‬
‫درة التاج‪ ،‬تصحيح السيد حممد مشكوة‪ ،‬ص‪.152-151‬‬
‫= املنطق‪ ،‬ص‪123-121‬؛ الشريازي‪ ،‬قطب الدين حممود‪ّ ،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 274‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫حتليل احلد‪ ،‬وحتليل الرسم‪ ،‬والتحليل الوجودي أو التحليل بالعكس‪ ،‬والتحيل‬


‫الذهني‪ ،‬والتحليل اخلارجي‪ ،‬والتحليل العقيل (‪ .)1‬التحليل الذهني‪ ،‬واخلارجي‪،‬‬
‫والعقيل‪ ،‬التي ُتعدّ كلها أنوا ًعا من التقسيم وقد تقدّ م الكالم عنها‪ .‬وحتليل الرسم‬
‫وهذا النشاط ا ّلذي‬‫وحتليل احلد مها من التعريف الرسمي واحلدّ ّي ملفهو ٍم أو ملاه ّي ٍة‪ٰ .‬‬
‫هو وظيفة عقل ّية مستقلة‪ ،‬يعد نو ًعا من التحليل ومن األنحاء التعليم ّية وقد ُأطلِق‬
‫عليها اسم (حتليل القياس)‪ .‬وسنتعرض له يف هناية البحث حول وظيفة التعريف‪.‬‬
‫وكذلك مقابله الرتكيب‪ّ -‬‬
‫فإن‬ ‫ومع كثرة استعامالت التحليل واختالف معانيه ‪ٰ -‬‬
‫مجيع االستعامالت أو االصطالحات املطروحة باستثناء التحليل والرتكيب اخلارجيني‪،‬‬
‫هي مشرتكة يف كوهنا تعدّ من وظائف العقل ونشاطاته‪.‬‬
‫تنوع استعامالت التحليل والرتكيب عند ٰهذا احلد‪ ،‬بل هلام استعامالت‬
‫وال يقف ّ‬
‫أخرى يمكن االطالع عليها بمراجعة كتب املنطق‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬التعريف‬
‫ً‬
‫التعريف هو أحد طرق أو أنواع التفكري‪ ،‬ويلعب العقل الدور األساس فيه‪ .‬وتذكر‬
‫ٰهذه الوظيفة يف علم املنطق بعناوين خمتلفة من قبيل (التحليل‪ ،‬والتحديد‪ ،‬والتجزئة)‪.‬‬
‫والتعريف نوع من التحليل أو التجزئة الذهن ّية ا ّلتي ّ‬
‫تتحقق يف عامل الذهن‪ .‬وتوضيحه ّ‬
‫أن‬
‫التجزئة الذهن ّية نوعان‪:‬‬
‫‪ّ .1‬تزئة املفهوم الذهني إىل عدّ ة مفاهيم أخرى‪ ،‬من قبيل تعريف ماه ّية اإلنسان‬
‫وحتليلها إىل (احليوان‪ ،‬والناطق)‪ ،‬أو حتليل اجلسم إىل (اجلوهر‪ ،‬وثالثي األبعاد)‪ ،‬مع‬
‫أنّه ال وجود فعل ًّيا هل ٰذه األجزاء يف اخلارج‪ ،‬أو بعبارة ٍأخرى ليس هلا وجود خارجي‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صورة جزئ ّية إىل صور عديدة‪ ،‬من قبيل فصل الصورة الذهن ّية ألعضاء‬ ‫‪ّ .2‬تزئة‬
‫الفرس‪ ،‬وتفكيك أعضائه يف الذهن‪.‬‬

‫(‪ )1‬احليل‪ ،‬احلسن بن يوسف‪ ،‬اجلوهر النضيد‪ ،‬ص ‪.341‬‬


‫‪275‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ويف مقابل التجزئة والتحليل‪ ،‬توجد عمل ّية الرتكيب؛ وبام ّ‬


‫أن التجزئة والتحليل‬
‫أيضا عىل معنيني‪ ،‬فهو إ ّما تركيب عدة مفاهيم مع بعضها‪ ،‬من‬
‫عىل معنيني‪ ،‬فالرتكيب ً‬
‫قبيل تركيب مفهوم احليوان والناطق ونتيجته ظهور ماه ّية اإلنسان التامة‪ ،‬أو تركيب‬
‫عدّ ة صور مع بعضها‪ ،‬من قبيل تركيب صورة رأس الفرس مع جسم اإلنسان‪.‬‬
‫من الواضح ّ‬
‫أن التجزئة والرتكيب باملعنى الثاين ليسا من وظائف العقل وشؤونه‪،‬‬
‫القوة اإلدراك ّية‬ ‫كام ّ‬
‫أن التجزئة والرتكيب باملعنى األول من وظائف العقل وشؤونه وهلٰذه ّ‬
‫القوة‬
‫دور مبارش فيهام‪ .‬وطبيعي أنّه ‪-‬عىل األقل‪ -‬عىل رأي ابن سينا وأتباعه تساعد ّ‬
‫قوة ُم ِ‬
‫عينة‬ ‫املترصفة ّ‬ ‫املترصفة العقل يف ٰهذه الوظيفة أو النشاط‪ .‬ويعتقد ٰهؤالء ّ‬
‫أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالترصف يف‬
‫ّ‬ ‫تسمى (املتف ّكرة) وهي تقوم‬
‫لإلدراك‪ ،‬وإذا وقعت يف استخدام العقل ّ‬
‫والتصورات أو القضايا والتصديقات‪ ،‬وعن ٰهذا الطريق حتصل عىل التعريف‬ ‫ّ‬ ‫املفاهيم‬
‫فإهنا يطلق عليها (املتخ ّيلة)‪.‬‬
‫القوة إذا وقعت يف استخدام الوهم‪ّ ،‬‬ ‫واالستدالل‪ٰ .‬ل ّ‬
‫كن ٰهذه ّ‬
‫وعمل املتخ ّيلة حتليل املعاين اجلزئ ّية والصور وتركيبها‪ ،‬وعمل املتف ّكرة حتليل املعاين‬
‫القوة حيصل العقل عىل االستدالل والتعريف‪ .‬ومن‬ ‫الك ّل ّية وتركيبها‪ .‬وباستخدام ٰهذه ّ‬
‫نامذج ٰذلك أنّه بتحليل مفهوم اإلنسان إىل (الناطق)‪ ،‬و(احليوان) حيصل عىل تعريفه‪ ،‬أو‬
‫ب من‬ ‫برتكيب املفاهيم البسيطة من قبيل (احليوان‪ ،‬والناطق) حيصل عىل مفهو ٍم مر ّك ٍ‬
‫قبيل اإلنسان‪ ،‬أو برتكيب جمموعة قضايا يصنع االستدالل‪ .‬ومن هنا يقوم الفيلسوف‬
‫ترصف يف املعاين الك ّل ّية‪ ،‬ويقوم الفنان سواء‬
‫أساسا بعمل ّية االستدالل والتعريف‪ ،‬وهو ّ‬
‫ً‬
‫الشاعر أم الرسام بتجزئة وتركيب الصور واملعاين اجلزئ ّية(‪.)1‬‬
‫أن التعريف هو أحد وظائف العقل‪ٰ ،‬لك ّن العقل يقوم ٰهبذا العمل مست ً‬
‫عمال‬ ‫ومع ّ‬
‫سمى املتف ّكرة يف ٰهذه احلالة‪ .‬ومن الواضح ّ‬
‫أن مثل ٰهذا التفسري لوظيفته‬ ‫املترصفة ا ّلتي ُت ّ‬
‫ّ‬
‫احلواس الباطن ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اخلاصة يف باب أنطولوجيا‬
‫ّ‬ ‫أو آليته مبني عىل قبول رؤية القدماء‬
‫وعىل أي ٍ‬
‫حال فإ ّنه بوساطة التحليل أو التجزئة باملعنى األول‪ُ ،‬تكشف املفاهيم‬
‫املجهولة‪ ،‬و ُتصبح معلوم ًة بوساطة املفاهيم املعلومة ا ّلتي هي عنارص تلك املفاهيم‬
‫(‪ )1‬راجع‪ٰ :‬هذا الكتاب‪ ،‬الفصل الثاين‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 276‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ِ‬
‫وهذا العمل هو التعريف ا ّلذي ُخصص له ٌ‬
‫قسم من علم املنطق‪ .‬وحتى لو‬ ‫املجهولة‪ٰ ،‬‬
‫اخلاصة يف باب التعريف‬
‫ّ‬ ‫سلكنا مسلك شيخ اإلرشاق يف شكّه برؤية األرسطيني‬
‫ورفضناها (‪ٰ ،)1‬لكن ال شك يف حت ّقق التعريف ودور العقل املبارش يف ظهوره‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من اختالف الرأي بني املشائني واإلرشاقيني يف باب التعريف‪ٰ ،‬لكنّهم متفقون‬
‫ُ‬
‫العقل مسؤول ّية القيام به‪.‬‬ ‫يتحمل‬
‫ّ‬ ‫نوع من التفكري ا ّلذي‬ ‫مجي ًعا عىل ّ‬
‫أن التعريف ٌ‬

‫سادسا‪ :‬االنتزاع أو التجريد والتعميم‬


‫ً‬
‫مفهوم (االنتزاع) يف الفلسفة واملنطق له استعامالت أو اصطالحات خمتلفة‪ .‬ومن‬
‫قوة العقل اإلدراك ّية‬
‫استعامالته الشائعة‪ ،‬التجريد والتعميم اللذان يعدّ ان من نشاطات ّ‬
‫أو جهاز الذهن‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جمموعة من الصور املوجودة يف اخلارج‪.‬‬ ‫يبدأ ٰهذا النشاط بعد أن حيصل الذهن عىل‬
‫خارجا يوجد يف اخلارج مع عوارضه؛ وال‬‫ً‬ ‫أن اليشء املا ّد ّي املتح ّقق‬
‫ومن الواضح ّ‬
‫أن اإلنسان ال يوجد يف اخلارج بال ٍ‬
‫لون وحج ٍم‪ ،‬وسائر‬ ‫ِ‬
‫ينفصالن عن بعضهام‪ .‬مثاله ّ‬
‫ٍ‬
‫ومقدار‬ ‫خاص‪ ،‬وحج ٍم‬ ‫ٍ‬
‫بلون‬ ‫وإنام اإلنسان موجو ٌد يف اخلارج‬
‫ٍّ‬ ‫العوارض األخرى‪ّ ،‬‬
‫احلواس عىل ٰهذه الصور اخلارج ّية‪ ،‬يقوم العقل‬
‫ّ‬ ‫خاصني‪ .‬وبعد أن حيصل الذهن بوساطة‬
‫ّ‬
‫بتفكيكها عن بعض‪ :‬فيقوم بتمييز أوفصل املعدود عن العدد‪ ،‬والعوارض عن اجلواهر‪،‬‬
‫واللون عن احلجم وأمثاهلا‪ .‬وبعد إدراك عدة أفراد من اإلنسان أو أحد عوارضه‪ ،‬يقوم‬
‫بمقايستها مع بعض‪ ،‬ومتييز األوصاف املشرتكة بني األفراد أو املصاديق عن األوصاف‬
‫اخلاصة‪ ،‬ويصنع مفهو ًما ك ّل ًّيا من الوصف املشرتك بني مجيع األفراد واملصاديق‪ .‬و ً‬
‫متثيال‬ ‫ّ‬
‫أن اإلنسان ّية هي‬ ‫ٍ‬
‫لذلك نذكر املثال املتقدم نفسه ا ّلذي يصل فيه العقل إىل نتيجة هي‪ّ :‬‬
‫ٰ‬
‫األمر املشرتك بني األفراد مجيعهم‪ٰ ،‬لكن اللون أو احلجم يمكن أن خيتلف من ٍ‬
‫فرد إىل‬ ‫ّ‬
‫مثال طول رضا (‪175‬سم)‪ ،‬وطول جواد (‪120‬سم)‪ ،‬وطول حسن (‪155‬سم)‪.‬‬ ‫آخر‪ً .‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬شهاب الدين السهروردي‪ ،‬جمموعة مصنفات شيخ‬
‫اإلرشاق‪ ،‬تصحيح هنري كوربان‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ ،22-21‬و‪74-73‬؛ الشريازي‪ ،‬قطب الدين حممود‪ ،‬رشح حكمة‬
‫اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.63-59‬‬
‫‪277‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫و ٰهبذا يصل العقل إىل مفهوم (اإلنسان ّ ّ‬


‫الكيل) عرب انتزاع مفهوم اإلنسان من أفراده‪،‬‬
‫وبعبارة أوضح عن طريق التجريد والتعميم‪.‬‬
‫أيضا يصدق األمر املذكور‪ .‬فالعقل يرى أنّه مع اختالف‬
‫ويف جمال حجمهم ً‬
‫احلجم بني رضا وجواد وحسن‪ٰ ،‬لكنّهم مشرتكون يف أصل االتصاف باحلجم‪ ،‬وصدق‬
‫الكم ّية ّ ّ‬
‫الكيل من مثل ٰهذه العوارض‪،‬‬ ‫الكم ّية عليهم‪ .‬ومن هنا يمكن انتزاع مفهوم ّ‬
‫ّ‬
‫وهكذا‪ .‬وعليه فالعقل بعد حصول الذهن عىل صور األشياء‪ ،‬يقوم بتجريد املفهوم‬ ‫ٰ‬
‫عن عوارضه‪ ،‬ويعمل عىل إعاممه‪ ،‬فينتزع منه مفهو ًما ك ّل ًّيا (‪.)1‬‬
‫أمور ليست قابلة للتشكيك أو‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫إن التجريد والتعميم أو االنتزاع ٰهبذا املعنى‬
‫اإلنكار باللحاظ املعريف‪ ،‬فيمكن النظر إىل األشياء اخلارج ّية واملفاهيم املوجودة يف‬
‫الذهن ٰهبذا املنظار وّتريدها وانتزاعها عن عوارضها‪ .‬وأ ّما بحث ما هي حقيقة‬
‫احلس ّـي‪ ،‬واخليايل‪ ،‬والعقيل‪ ،‬وكيف نحصل عىل مثل ٰهذه اإلدراكات واملفاهيم‬
‫اإلدراك ّ‬
‫وجودي يدخل يف نطاق أنطولوجيا العلم‪ .‬ومن هنا يبدو ألول وهلة ّ‬
‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫فهو بحث‬
‫رؤية احلكامء السابقني عىل صدر ّ‬
‫املتأهلني يف باب آل ّية الوصول إىل اإلدراكات الثالثة‪،‬‬
‫ومقابلها نظر ّية صدر ّ‬
‫املتأهلني‪ ،‬ال تصطدم بالتحليل املعريف املتقدم‪ ،‬و ٰهبذا الوجه يمكن‬
‫رفع التعارض بينهام‪.‬‬
‫وضوحا هلٰذه‬
‫ً‬ ‫جيب أن نلقي نظر ًة عابر ًة عىل نظر ّية التجريد لكي نجد ًّ‬
‫حال أكثر‬
‫احلس ّـي بنا ًء عىل ٰهذه النظر ّية ا ّلتي ُتدعى عاد ًة (التقشري)‪ ،‬بتجريد‬
‫املسألة‪ .‬يتح ّقق اإلدراك ّ‬
‫صورة اليشء عن مادته‪ ،‬دون ّتريده عن عوارضه املا ّد ّية‪ ،‬ودون قطع ارتباطه باملادة‪.‬‬
‫واإلدراك اخليايل ا ّلذي هو املرحلة الثانية من اإلدراك يتم فيه ‪-‬مضا ًفا إىل التجريد عن‬
‫أيضا‪ .‬وبمثل ٰهذا التجريد ينقطع ارتباط‬ ‫املادة‪ّ -‬تريده عن بعض عوارضه املا ّد ّية ً‬
‫وأخريا بالتع ّقل أو اإلدراك العقيل ا ّلذي‬
‫ً‬ ‫الشـيء باملا ّدة ‪-‬ال بعوارضها‪ -‬انقطا ًعا تا ًما‪.‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص ‪85 - 81‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪،‬‬
‫تصحيح مرتضـى مطهري‪ ،‬ص ‪ 745‬و‪746‬؛ مطهري‪ ،‬مرتضـى‪( ،‬جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات]‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص‬
‫‪66‬؛ ج ‪ ،5‬ص ‪.100‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 278‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫يتجرد اليشء عن املادة ومجيع العوارض املا ّد ّية (‪.)1‬‬


‫هو املرحلة الثالثة يف اإلدراك ّ‬
‫وعليه فبنا ًء عىل نظر ّية التقشري أو التجريد‪ ،‬تكون مراتب اإلدراك مبن ّي ًة عىل مقدار‬
‫وبتجريد أكثر نحصل عىل‬ ‫ٍ‬ ‫احلس ّـي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ناقص نحصل عىل اإلدراك ّ‬ ‫فبتجريد‬ ‫التجريد‪.‬‬
‫اإلدراك اخليايل‪ ،‬وبالتجريد التام ننال اإلدراك العقيل‪ .‬وعىل أساس ٰهذا احلل‪ ،‬ال يرتقي‬
‫درك وال ا ُملدرك؛ وخال ًفا للرؤية الصدرائ ّية ففي ٰهذه املراحل يرتقي ا ُمل ِ‬
‫درك وا ُملدرك‬ ‫ا ُمل ِ‬
‫أيضا‪ .‬وبحسب رؤية احلكمة الصدرائية‪ ،‬مانع اإلدراك ليس هو مقارنة إحدى املاه ّيات‬ ‫ً‬
‫بالعوارض‪ ،‬بل كيف ّية الواقع ّية ا ّلتي تتح ّقق املاه ّية هبا(‪ .)2‬وعىل أساس رؤيته فإنّه باإلدراك‬
‫احلس ّـي ترتقي الصورة اخلارج ّية إىل الصورة املحسوسة‪ ،‬ويف مرحلة الحقة ترتقي‬ ‫ّ‬
‫وهذا نفسه يستلزم‬
‫الصورة املحسوسة إىل الصورة اخليال ّية‪ ،‬ثم ترتقي إىل اإلدراك العقيل‪ٰ ،‬‬
‫أيضا مع ارتقاء اإلدراك وا ُملدرك وكامهلام(‪.)3‬‬
‫درك ً‬‫أن يرتقي وجود ا ُمل ِ‬

‫بأن التجريد واالنتزاع ال يتصادمان‬ ‫وبمالحظة ما تقدّ م فهل يمكن اآلن القول ّ‬
‫املتأهلني؟ بالرغم من أنّه يف بادئ األمر يبدو أنّه ال تصادم بينهام‪ٰ ،‬لكن‬
‫مع رؤية صدر ّ‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إىل طريق آخر‪ ،‬إذ‬ ‫أن رؤية صدر ّ‬
‫املتأهلني يف ٰهذه املسألة‬ ‫بقليل من التأ ّمل نجد ّ‬
‫بأن ّتريد إحدى املاه ّيات عن عوارضها وإن كان ممكنا‪،‬‬ ‫يرصح ّ‬ ‫إن صدر ّ‬
‫املتأهلني نفسه ّ‬ ‫ّ‬
‫ٰل ّ‬
‫كن ٰهذا النشاط الذهني ال دور له يف ظهور اإلدراك العقيل‪ ،‬واإلدراك العقيل ال يتح ّقق‬
‫عن ٰهذا الطريق‪" :‬وال حاجة يف التع ّقل إىل ّتريد ماه ّيته عن ماه ّية العوارض بأن حيذف‬
‫ميس ًـرا‪ٰ ،‬لك ّن الواجب يف التع ّقل هو التجريد عن‬
‫أيضا ّ‬ ‫منها ما عداها وإن كان ٰذلك ً‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪152‬؛ الطويس‪،‬‬
‫نصري الدين‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪423 - 415‬؛ ابن سينا‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق‬
‫حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص ‪ 85-81‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح‬
‫اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص ‪ 415‬و‪416‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى‬
‫مطهري‪ ،‬ص ‪ 745‬و‪.746‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪363‬؛ ج ‪ ،9‬ص‪.99‬‬
‫الفلسفي للحكمة املتعالية [ترمجة كتاب‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬راجع‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪366‬؛ عبوديت‪ ،‬عبد الرسول‪ ،‬النظام‬
‫(درآمدی به نظام حكمت صدرائی)]‪ ،‬ج ‪ ،2‬الفصل التاسع‪.‬‬
‫‪279‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نحو ٰهذا الوجود الوضعي ا ّلذي ال بدّ أن يكون يف ٍ‬


‫جهة من جهات ٰهذا العامل املا ّد ّي"(‪.)1‬‬ ‫ّ‬
‫ومن هنا يبدو ّ‬
‫أن الرؤية الوجود ّية يف باب حقيقة مراحل ومراتب اإلدراك (اإلدراك‬
‫رئيس يف تبيني الرؤية‬
‫دور ٌ‬‫احلس ّـي‪ ،‬واإلدراك اخليايل‪ ،‬واإلدراك العقيل)‪ ،‬سيكون هلا ٌ‬
‫ّ‬
‫مبني عىل منهج‬
‫املعرف ّية‪ .‬فالقبول بالتجريد والتعميم واالنتزاع بحسب ٰهذه الوظيفة‪ّ ،‬‬
‫املتأهلني‪ٰ ،‬لكن عىل أساس رؤية صدر ّ‬
‫املتأهلني‬ ‫خاص للفالسفة السابقني عىل صدر ّ‬
‫أن حت ّقق ٰهذا النشاط (يعني التقشري أو‬
‫وحكمته ال حاجة إىل ٰهذا النشاط الذهني‪ ،‬مع ّ‬
‫التجريد) ممك ٌن‪ ،‬وللذهن أو العقل القابل ّية عىل القيام بمثل ٰهذا العمل‪.‬‬
‫ويف اخلتام جيب التنبيه عىل أنّه مضا ًفا إىل وظيفة االنتزاع بمعنى التجريد والتقشري‪،‬‬
‫فإن االنتزاع له وظائف أخرى يف العلوم الفلسف ّية‪ ،‬وأمهها انتزاع املفاهيم الثانية‬ ‫ّ‬
‫الفلسف ّية واملنطق ّية من املفاهيم األوىل‪ ،‬عىل الرغم من أ ّنه يمكن انتزاع املفاهيم الفلسف ّية‬
‫أيضا‪ .‬ويف باب كيف ّية انتزاع املفاهيم الفلسف ّية واحلصول عليها‬
‫من العلوم احلضور ّية ً‬
‫يمكن طرح نظريتني‪ .1 :‬االنتزاع من العلوم احلضور ّية؛ ‪ .2‬االنتزاع من الرابط بني‬
‫القضايا‪ .‬وال يتيرس هنا رشح ٰهذا البحث وبيان واآلراء املطروحة فيه‪ .‬وبام ّ‬
‫أن نشاط‬
‫نتعرض له ونتابعه يف ختام بحث‬
‫املقايسة يرتبط بمثل ٰهذا املعنى لالنتزاع‪ ،‬فسوف ّ‬
‫وظيفة املقايسة‪.‬‬
‫ساب ًعا‪ :‬املقايسة أو املقارنة‬
‫أيضا‪ .‬فالذهن يمكنه عن طريق ٰهذا النشاط‬
‫املقايسة هي إحدى وظائف العقل ً‬
‫أن حيصل عىل مفاهيم كثرية‪ٰ .‬هذا النشاط يبدأ حينام توجد يف الذهن املفاهيم والصور‬
‫‪-‬مفهومان أو صورتان عىل األقل‪ -‬وبعد وجودها يف الذهن‪ ،‬يقوم العقل بمشاهدهتا‬
‫والتأمل فيها‪ ،‬ويقارن بعضها ببعضها اآلخر ويقايس بينها‪ .‬وعليه فحينام تتح ّقق يف‬
‫ذهن اإلنسان جمموع ُة مفاهيم من قبيل (رضا‪ ،‬وجواد‪ ،‬وفاين‪ ،‬والبياض‪ ،‬واحلالوة‪،‬‬
‫والسواد) وغريها‪ ،‬ينظر العقل إىل ٰهذه املجموعة من جوانب شتّى‪ ،‬ويتصدّ ى للتأ ّمل‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ :‬ص ‪.506‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 280‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن‬ ‫ُ‬
‫العقل بمقايسة مفهومي البياض واحلالوة‪ ،‬ويستنتج ّ‬ ‫والبحث فيها‪ .‬فعندما يقو ُم‬
‫بياضا؛ و ٰلك ّن احلالوة حالوةٌ‪ .‬ومن أجل أن‬
‫البياض ليس حالوةً‪ ،‬واحلالوة ليست ً‬
‫يصدر العقل مثل ٰهذه األحكام ال حيتاج إىل احلدّ األوسط؛ ألنّه يقترص عىل محل مفهوم‬
‫عىل مفهوم آخر واملقايسة بينهام‪ .‬وعليه فمثل ٰهذه األحكام اإلجياب ّية والسلب ّية ليست‬
‫ٍ‬
‫جمموعة‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل احلد األوسط‪ .‬والعقل أو الذهن يمكنه عرب ٰهذا الطريق الوصول إىل‬
‫ٍ‬
‫كبرية من الـمفاهيم من قبيل الوحدة‪ ،‬والكثرة‪ ،‬واإلمكان‪ ،‬والوجوب أو الرضورة‪،‬‬
‫واالمتناع‪ ،‬والعدم‪ ،‬والوجود (‪ .)1‬وقد ُبنيت عىل ٰهذه املفاهيم كافة القضايا يف علوم من‬
‫قبيل علم الوجود [األنطولوجيا]‪ ،‬وفلسفة الدين‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬بل وأكثر قضايا فلسفة‬
‫تتعمق معرفة اإلنسان بذاته وباخلالق واملخلوقات‪.‬‬
‫العلوم التجريب ّية‪ .‬و ٰهبذه املفاهيم ّ‬
‫وهـذه‬
‫ومن باب املثال الحظوا مفاهيم الرضورة (الوجوب)‪ ،‬واإلمكان‪ ،‬واالمتناع‪ٰ .‬‬
‫الـمفـاهيـم الثـالثـة هـي مـوا ّد القضـايا‪ .‬ومواد القضـايا تـحكي عن كيف ّيـة العالقـة بـني‬
‫مفـهـومـني‪.‬‬
‫والعقل بعد أن ُيالحظ القضايا يرى ّ‬
‫أن ثبوت حمموهلا ملوضوعها ال خيرج عن‬
‫رضوري له‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫حاالت ثالث‪ :‬إما ّ‬
‫أن املحمول ال يمكن انفكاكه عن املوضوع وهو‬
‫لذلك املوضوع ويمكن سلبه عنه‪ ،‬أو‬ ‫يمكن انفكاكه عنه وبالنتيجة هو ممكن الثبوت ٰ‬
‫ال يمكن محله عىل ٰذلك املوضوع فحمله عليه ممتنع‪ .‬ومن هنا فالعقل ينتزع املفاهيم‬
‫الثالثة أي الوجوب أو الرضورة‪ ،‬واإلمكان‪ ،‬واالمتناع من كيف ّية العالقة بني موضوع‬
‫وحممول القضايا‪ ،‬ثم عن طريق تلك املفاهيم املنطق ّية ‪-‬ا ّلتي هي وصف للقضايا‪-‬‬
‫يمكنه الوصول إىل املفاهيم الفلسف ّية من الرضورة أو الوجوب‪ ،‬واإلمكان‪ ،‬واالمتناع‪.‬‬
‫وتوضيحه‪ّ :‬‬
‫أن العقل بوساطة نظرة أخرى إىل قضايا اهلل ّية البسيطة يستطيع أن‬
‫يلتفت إليها ويالحظ ثبوت املحمول (املوجود) للموضوع وهو مفهوم يشء من األشياء‪.‬‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬مطهري‪ ،‬مرتضـى‪( ،‬جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات]‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ 287-286‬وج‪ ،9‬ص‪305-300‬؛‬
‫الطباطبائي‪ ،‬حممدحسني‪( ،‬اصول فلسفه وروش رئاليسم) [أصول الفلسفة واملنهج الواقعي]‪ ،‬يف‪ :‬مرتضـى‬
‫مطهري‪( ،‬جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات]‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.295-286‬‬
‫‪281‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ويف ٰهذا اللحاظ واملقايسة إذا كان الوجود رضور ًّيا له‪ ،‬ينتزع مفهوم الوجوب أو‬
‫أي منهام‬
‫الرضورة‪ ،‬وإذا كان العدم رضور ًّيا له‪ ،‬ينتزع مفهوم االمتناع‪ ،‬وإذا مل يكن ٌّ‬
‫رضور ًّيا ال الوجود وال العدم‪ ،‬ينتزع مفهوم اإلمكان‪ٰ .‬‬
‫وبذلك تتصف األشياء اخلارج ّية‬
‫باملفاهيم الثالث(‪.)2(.)1‬‬
‫إن عمل ّية الـمقايسة ال تقترص عىل مالحظة العالقة بني القضايا فقط‪ ،‬بل يبدو أنّه‬
‫مضا ًفا إىل ٰذلك تشمل املفاهيم والصور الذهن ّية ومقايسة األفعال واحلاالت النفسان ّية‬
‫أيضا‪ .‬توضيحه‪ :‬إ ّن اإلنسان بمالحظة فعل من أفعال‬
‫احلضوري ً‬
‫ّ‬ ‫ا ّلتي ُتدرك بالعلم‬
‫نفسه املبارشة‪ ،‬وبال وساطة من قبيل التفكري‪ ،‬والعزم واإلرادة‪ ،‬يمكنه أن يقيسها بنفسه‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫أن حت ّقق ّ‬
‫أي‬ ‫وأن حيصل عىل عالقتها الوجود ّية مع ذاته‪ .‬وهو يف ٰهذا احلني يشاهد ّ‬
‫مبني عىل وجود النفس‪ ،‬وال يمكن حت ّققها ما مل تتحقق النفس‪ٰ ،‬لك ّن‬ ‫من تلك األفعال ٌّ‬
‫النفس من أجل حتقق ذاهتا ليست بحاجة إليها‪ ،‬وحت ّقق النفس ليس مرشو ًطا بتح ّقق‬
‫تلك األفعال‪ .‬و ٰهبذا يصل العقل من خالل مقايسة وجود نفسه مع أفعاهلا‪ ،‬إىل مفاهيم‬
‫من قبيل االحتياج والفقر‪ ،‬وعدم االحتياج‪ ،‬والعل ّية‪ ،‬واملعلول ّية‪ ،‬واالستقالل واالرتباط‪،‬‬
‫وعرب ٰهذا النشاط الذهني ينتزع مفاهيم من ٰهذا القبيل(‪.)3‬‬
‫أن ٰهذا النشاط يمكن أن يتحقق بطرق عدّ ة‪ .‬ومن هنا يمكن‬ ‫اتّضح ممّا تقدّ م ّ‬
‫ِ‬
‫الطريقتني‪ ،‬وعرب كال الطريقني‪ ،‬وال ينبغي حرص‬ ‫الوصول إىل بعض املفاهيم بكال‬
‫طريق الوصول إىل املفاهيم بإحدى املقايسات فقط‪.‬‬
‫وإنام هو أوسع منه‪ .‬ومن موارد املقايسة‬
‫ال يتحدّ د نطاق املقايسة بام هو مطروح‪ّ ،‬‬
‫األخرى مقايسة األعراض من قبيل الكيف ّيات أو الكم ّيات مع بعض؛ فعندما نضع‬
‫ٍ‬
‫واحد منهام بوساطة اللمس‬ ‫قلمني أمحر وأزرق جن ًبا إىل جنب‪ ،‬نحصل عىل طول كل‬
‫(‪ٰ )1‬لكن بلحاظ خاص يف مورد االمتناع‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬زاده‪ ،‬حممدحسني‪( ،‬فلسفهی دين) [فلسفة الدين]‪ ،‬الفصل الرابع‪ ،‬الرد األول عىل نقد هوب برين‬
‫لالستدالل بطريق اإلمكان‪.‬‬
‫(‪ )3‬الطريقة الثانية استقيتها من احلكيم الكبري األستاذ آية اهلل مصباح يزدي‪ :‬راجع‪ :‬مصباح يزدي‪ ،‬حممدتقي‪،‬‬
‫(آموزش فلسفه) [املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة]‪ ،‬ج ‪ ،1‬الدرس السابع‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 282‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن القلم األزرق أطول من األمحر بكم‬‫أو النظر‪ .‬ثم نقايس طول أحدمها باآلخر لنعلم ّ‬
‫بأن القلم األزرق أطول من القلم األمحر‪ّ ،‬‬
‫وأن القلم األمحر أقرص‬ ‫سنتيمرت‪ .‬وهنا نحكم ّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫نوعان من الرشاب‪ ،‬فنتذوقهام‪ ،‬نجد ّ‬ ‫من القلم األزرق‪ .‬وعندما يوضع أمامنا‬
‫وهكذا‪ .‬ومن الواضح ّ‬
‫أن مثل ٰهذا النشاط هو نوع من‬ ‫أحدمها أشد حالو ًة من اآلخر ٰ‬
‫أيضا‪ٰ .‬لك ّن السؤال هنا‪ :‬من هو احلاكم يف مثل ٰهذه القضايا؟ هل ّ‬
‫احلس‬ ‫املقايسة الذهن ّية ً‬
‫احلس املشرتك واخليال من خالل تقديم مثل ٰهذه الصور إىل‬
‫ّ‬ ‫املشرتك حيكم هنا‪ ،‬أم‬
‫النفس أوالعقل‪ ،‬فيجعالنه يف معرض احلكم واملقايسة؟ ربام ُيتصور ّ‬
‫أن القدماء كانوا‬
‫احلس املشرتك يؤ ّدي مثل ٰهذا النشاط‪ .‬وعىل أساس رؤيتهم ّ‬
‫فإن احلس‬ ‫بأن ّ‬ ‫يؤمنون ّ‬
‫احلسـ ّية احلاصلة‬
‫احلواس والصور ّ‬
‫ّ‬ ‫املشرتك شبيه باخلزانة ا ّلتي ّتري نحوها معطيات‬
‫عن طريق احلواس(‪.)1‬‬
‫فاحلس املشرتك‬
‫ّ‬ ‫ايضا هو من عمل العقل أو النفس‪.‬‬ ‫ٰلكن يبدو ّ‬
‫أن ٰهذا النشاط ً‬
‫احلواس الظاهر ّية‪ ،‬يؤ ّدي ٌّ‬
‫كل منهام دور املساعد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واخليال يف ٰهذه املوارد حاهلام حال‬
‫احلس املشرتك‬
‫ومن هنا فاملقايسة يف املورد املذكور واملوارد املشاهبة ليست من عمل ّ‬
‫وحده(‪.)2‬‬
‫والـحاصل هو ّ‬
‫أن الدور األسـاس فـي ٰهذا النشاط الذهني هو للعقـل‪ ،‬وللنـفـس‬
‫احلواس الظاهر ّية أو الباطن ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالنهاية‪ ،‬ال‬
‫نحو رسي ٍع نشاطات العقل ووظائفه يف جمال املفاهيم والصور‬‫استعرضنا إىل اآلن ب ٍ‬
‫ألن البحث يف ّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل جمال آخر؛ ّ‬ ‫املوسع حول ٰهذا األمر‬ ‫الذهن ّية‪ .‬والبحث ّ‬
‫واحدة من ٰهذه الوظائف يستدعي دراسة وتقويم نظر ّيات علم النفس‪ ،‬وعلم األحياء‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫(‪ )1‬ابن سينا يف معرض إثباته احلس املشرتك له عبارة ُيستفاد منها ّ‬
‫أن مثل ٰهذا النشاط من عمل العقل‪ .‬ويطلق عىل ٰهذه‬
‫العملية الذهنية اسم (التمييز)‪ ،‬ويستعمل مصطلح (التمييز)‪ ،‬ومشتقاته يف ٰهذا املجال‪" :‬وهب أن ٰهذا التم ّيز هو‬
‫للعقل‪ ،‬فيجب ال حمالة أن يكون العقل جيدمها معا حتّى يتميز بينهام" [ابن سينا‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬تصحيح‬
‫حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص ‪ .]227‬وبناء عىل ٰهذا ليس من الصحيح نسبة الرؤية املتقدمة إىل عامة القدماء‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬تصحيح حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص‪ 84-83‬و‪229-227‬؛ ٰهذا‬
‫الكتاب‪ ،‬الفصل الثاين‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الفلسفي‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والعلوم املعرف ّية‬


‫ّ‬ ‫وعلم نفس اإلحساس واإلدراك‪ ،‬وعلم النفس‬
‫وأمثاهلا‪.‬‬
‫إن بحث الوظائف يف ضوء نظر ّية املعرفة تكفي فيه ٰهذه النظرة الرسيعة إىل ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫واحدة من تلك الوظائف والنشاطات العقل ّية‪.‬‬
‫وقد حان الوقت اآلن لكي نلقي نظر ًة إمجال ّي ًة عىل نشاطات العقل ووظائفه يف‬
‫جمال القضايا والتصديقات عىل أساس ٰهذا املنهج ويف ضوء ٰهذه الطريقة‪ ،‬وسنسعى‬
‫إىل ّتنب البحوث املنطق ّية‪ ،‬والفلسف ّية‪ ،‬وخاصة فلسفة اللغة ا ّلتي يمكن طرحها فـي‬
‫وأهم وظائف العقل يف دائرة القضايا والتصديقات هو احلكم‬
‫ّ‬ ‫ٰهذا الـمجال‪.‬‬
‫واالستدالل‪ .‬وسنتابع البـحث بمبحث احلكم‪.‬‬

‫ثامنًا‪ :‬الحكم يف القضايا أو التصديقات‬


‫مكوناهتا‪ّ ،‬‬
‫فإن احلكم‬ ‫بغض النظر عن حقيقة القضايا (‪ )1‬أو التصديقات وعديد ّ‬
‫ومقوماهتا؛ بل يمكن القول ّ‬
‫بأن قوامها باحلكم وال جمال للتشكيك يف‬ ‫ّ‬ ‫هو أحد أركاهنا‬
‫ً‬
‫حمموال عىل موضو ٍع فـي القض ّية احلمل ّية‪ ،‬أو نرتّب تال ًيا‬ ‫ٰهذه املسألة؛ أل ّننا حينمـا نحمل‬
‫ٍ‬
‫تصور‬‫خاص آخر مضا ًفا إىل ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫بنشاط‬ ‫علـى مقدّ ٍم فـي القض ّية الرشط ّية‪ ،‬يقوم الذهن‬
‫املوضوع واملحمول أو املقدّ م والتايل‪ .‬وعىل إثر ٰهذا النشاط الذهني يتح ّقق ٌ‬
‫نوع آخر‬
‫من املعرفة احلصول ّية يف الذهن‪ ،‬والتـمـايـز األساس بني الـمفاهيم والقضايا‪ ،‬أو بني‬
‫التصورات والتصديقات كام ٌن فـي ٰهذه النقـطـة‪.‬‬
‫احلكم من األمور النفسان ّية‪ ،‬وكام هو فعال ّية نفس ّية يشتمل عىل حيث ّية احلكاية‬
‫أيضا؛ و ٰذلك خال ًفا لإلرادة‪ ،‬والعزم‪ ،‬وامليول والرغبات (‪ ،)2‬فعىل الرغم من كوهنا من‬
‫ً‬

‫(‪ )1‬املراد هنا من القضية‪ ،‬التصديق أو القضية املنطقيّة‪ ،‬ال متع ّلق التصديق‪.‬‬
‫أن اإلرادة‪ ،‬والعزم‪ ،‬واحلكم ومجيع امليول هي برأينا من فعاليات النفس‪ٰ ،‬لكن احلكامء عادة حني تصنيف األشياء‬‫(‪ )2‬مع ّ‬
‫يف بحث املقوالت عدّ وها يف دائرة األعراض (راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار‬
‫العقلية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪117-113‬؛ الطباطبائي‪ ،‬حممدحسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬تصحيح غالمرضا فيايض‪ ،‬املرحلة‬
‫السادسة‪ ،‬الفصل اخلامس عرش)‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 284‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فعاليات النفس ونشاطاهتا‪ٰ ،‬لكنّها ال حتكي عن ٍ‬


‫يشء‪ ،‬وال تفيد املعرفة‪.‬‬
‫سمى (اإلذعان‪ ،‬واحلكم)‬ ‫وعىل أي حال‪ّ ،‬‬
‫إن احلكم من جهة أنّه نشاط النفس ُي ّ‬
‫سمى (التصديق)(‪ٰ .)1‬لكن يف ٍ‬
‫كثري من املوارد‬ ‫ٍ‬
‫وأمثاهلام‪ ،‬ومن جهة كونه حيكي عن يشء ُي ّ‬
‫خطأ؛ ّ‬
‫ألن التصديق‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫تشويش يف االستعامالت‪ ،‬فيستعمل أحدها مكان اآلخر‬ ‫حيدث‬
‫لفظي له معنيان عىل األقل‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫مشرتك‬
‫‪ .1‬اإليامن‪ ،‬والقبول‪ ،‬واالعتقاد‪ ،‬واإلذعان‪.‬‬
‫‪ .2‬فهم صدق القض ّية‪ ،‬وببيان آخر‪ ،‬إدراك مطابقة أو عدم مطابقة النسبة بني‬
‫املوضوع واملحمول (أو العالقة بني املقدم والتايل) مع الواقع‪.‬‬
‫لغوي‪ .‬والتصديق باملعنى‬
‫ٌّ‬ ‫منطقي‪ ،‬وأما املعنى األول فهو‬
‫ٌّ‬ ‫واملعنى الثاين اصطالح‬
‫مرادف لإلذعان‪ ،‬واالعتقاد‪ ،‬والقبول وأمثاهلا‪ ،‬وأ ّما باملعنى الثاين فهو خمتلف‬
‫ٌ‬ ‫األول‬
‫عنها‪ .‬ويمكن طرح ٰهذا البحث هنا وهو‪ :‬هل التصديق باملعنى الثاين مستلزم للمعنى‬
‫أي حال‪ ،‬فإ ّن املعنى أو االصطالح‬ ‫ٍ‬
‫مقتض له‪ ،‬أم ليس شي ًئا منهام؟ وعىل ّ‬ ‫األول‪ ،‬أم‬
‫أساسا التصديق بمعنى فهم صدق‬
‫ً‬ ‫املستعمل يف باب التصديق من نظر ّية املعرفة هو‬
‫وهذا الكالم ال يعني نفي االستعامل‬
‫القض ّية‪ ،‬وإدراك املطابقة أو عدم املطابقة للواقع‪ٰ ،‬‬
‫أيضا فإنام‬
‫األول يف نظر ّية املعرفة‪ .‬وإذا اس ُتعمل التصديق يف نظر ّية املعرفة باملعنى األول ً‬
‫ٍ‬
‫مقتض للمعنى األول‪.‬‬ ‫هو بمالحظة املعنى الثاين‪ ،‬من جهة ّ‬
‫أن املعنى الثاين مستلزم أو‬
‫ٌ‬
‫بحوث كثرية يف‬ ‫ويف جمال املعنى األول وهو التصديق بمعنى االعتقاد (‪ُ ،)2‬طرحت‬
‫منهج الفالسفة التحليليني يف نظر ّية املعرفة منها‪ :‬هل ُيعد االعتقاد أحد عنارص وأركان‬
‫تكوين املعرفة يف املعرفة التصديق ّية‪ ،‬أم ال؟ وجواب ٰهذا السؤال واملسائل املشاهبة يمكن‬
‫تقديمه ضمن مسألة االعتقاد‪ ،‬وليس هنا جمال البحث والنقاش حوله(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬مطهري‪ ،‬مرتضـى‪( ،‬جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات]‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.295-293‬‬
‫(‪ )2‬سوف نستعمل فيام يأيت مصطلح (احلكم) للمعنى األول‪ ،‬ومصطلح (التصديق) للمعنى الثاين‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬حممد حسني زاده‪( ،‬پژوهشی تطبيقی در معرفت شناسی معارص) [دراسة مقارنة يف نظر ّية املعرفة‬
‫املعارصة]‪ ،‬الفصل الثالث‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أن احلكم ٰ‬
‫وكذلك التصديق بمعناه املنطقي يعد من مجلة وظائف‬ ‫واحلاصل هو ّ‬
‫أمر ال شك فيه‪ .‬وينبغي‬
‫الذهن ونشاطاته‪ .‬وكون ٰهذه الوظيفة إحدى وظائف الذهن ٌ‬
‫أن ٰهذه الوظيفة هل هي من نشاطات العقل أو النفس أم‬ ‫ٍ‬
‫ملسألة‪ ،‬وهي ّ‬ ‫التعرض‬
‫هنا ّ‬
‫احلس‪ ،‬ويف القضايا‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية احلاكم هو‬
‫أهنا ختتلف بلحاظ القضايا؛ ففي القضايا ّ‬
‫احلس املشرتك‪ ،‬ويف غريها احلاكم هو العقل؟‬
‫باحلواس الباطن ّية احلاكم هو ّ‬
‫ّ‬ ‫املرتبطة‬
‫كال من احلكم والتصديق من شؤون‬ ‫يبدو أنّه يف مجيع القضايا والتصديقات‪ ،‬يكون ً‬
‫اختالف بني القضايا من ٰهذه اجلهة‪ .‬وأ ّما القول املشهور ّ‬
‫بأن‬ ‫ٌ‬ ‫العقل ووظائفه‪ ،‬وال يوجد‬
‫أن املفاهيم الك ّل ّية (املعقوالت)‬
‫ناظر إىل املفاهيم‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫درك للكليات‪ ،‬فهو ٌ‬ ‫العقل ُم ِ‬
‫ُتدرك بوساطة العقل فقط؛ ٰلك ّن ٰهذا الكالم ال يشمل القضايا‪ ،‬فاحلكم يف القضايا‬
‫احلسـ ّية‬
‫وطبعي أنّه يف القضايا ّ‬
‫ٌّ‬ ‫مجي ًعا بعهدة العقل سواء القض ّية الشخص ّية أم غريها‪.‬‬
‫احلواس بمساعدة العقل يف احلكم‪.‬‬‫ّ‬ ‫سواء يف املحسوسات أو التجريب ّيات تقوم‬
‫احلواس الظاهر ّية أو الباطن ّية يف‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل مساعدة‬ ‫فإن العقل والنفس‬ ‫ومن هنا ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا لكي حيكم يف مثل ٰهذه‬ ‫باحلواس الظاهر ّية وباحلافظة ً‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‪ .‬فالعقل يستعني‬
‫القضايا ّ‬
‫فإن ذوي احلافظة الضعيفة‪ ،‬أو من مل تعد ذاكرهتم تعمل بشكل صحيح‬ ‫القضايا؛ ومن هنا ّ‬
‫ألهنم ما إن يتصوروا املوضوع يف أذهاهنم حتّى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ملرض أو شيخوخة‪ ،‬ال ُيمكنهم احلكم؛ ّ‬
‫يتصوروا املحمول أو ُحيرضونه يف أذهاهنم‪ ،‬حتّى ينسوا املوضوع‪.‬‬
‫ينسوا املحمول‪ ،‬وما إن ّ‬
‫ونحن ال ننكر دور مثل ٰهذه القوى اإلدراك ّية‪ ،‬بل ودور أدوات اإلدراك املا ّد ّية‪،‬‬
‫ترضرت أعصاب اللمس أو اإلبصار‪ ،‬فال يمكنهام أن يكونا عاملني‬ ‫واجلسامن ّية‪ .‬فإذا ّ‬
‫شك يف لزوم حت ّقق‬ ‫احلس ّـي املرتبط بتلك احلواس‪ .‬وال ّ‬
‫مساعدين لإلحساس واإلدراك ّ‬
‫احلسـ ّية‪ٰ .‬ل ّ‬
‫كن األمر‬ ‫مثل ٰهذه القوى واألدوات من أجل ظهور املعطيات واإلدراكات ّ‬
‫احلسـ ّية احلاكم‬
‫احلس ّـي نفسه‪ .‬ويف القضايا ّ‬ ‫ا ّلذي نرص عليه هو ّ‬
‫أن ٰهذه األمور ليست اإلدراك ّ‬
‫احلواس لكي حيكم يف مثل ٰهذه القضايا‪ .‬ويبدو أنّه من‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ٰ ،‬لكنّه بحاجة إىل‬
‫هو العقل ً‬
‫املمكن نسبة ٰهذه الرؤية إىل الكثري من أكابر الفلسفة اإلسالم ّية واملنطق؛ مع أنّه قد ُيعثر يف‬
‫مؤلفات احلكامء واملناطقة املسلمني عىل بعض العبارات الدّ الة عىل خمالفة بعضهم هلٰذه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 286‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫احلسـ ّية‪" :‬أ ّما‬


‫احلواس هي احلاكمة يف القضايا ّ‬‫ّ‬ ‫رصح ّ‬
‫بأن‬ ‫الرؤية‪ ،‬ومنهم القطب الرازي؛ إذ ّ‬
‫احلس أو املركّب‬ ‫فست‪ّ :‬‬
‫ألن احلاكم بصدق القضايا اليقين ّية إ ّما العقل أو ّ‬ ‫الرضور ّيات ّ‬
‫احلس فهي (املشاهدات)‪.‬‬
‫احلس والعقل‪ ...‬وإن كان احلاكم هو ّ‬
‫منهام‪ ،‬النحصار املدرك يف ّ‬
‫ٌ‬
‫مضيئة‪ .‬وإن كان‬ ‫حس ّيات) كاحلكم ّ‬
‫بأن الشمس‬ ‫سميت ( ّ‬‫احلواس الظاهرة ّ‬
‫ّ‬ ‫فإن كان من‬
‫بأن لنا خو ًفا وغض ًبا‪ .‬وإن كان مر ّك ًبا‬
‫سميت (وجدان ّيات) كاحلكم ّ‬
‫احلواس الباطنة ّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫حس السمع فهي‬
‫حس السمع أو غريه‪ ،‬فإن كان ّ‬
‫فاحلس إ ّما أن يكون ّ‬
‫ّ‬ ‫احلس والعقل‪:‬‬
‫من ّ‬
‫(املتواترات)"(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫بعض‬ ‫احلواس الظاهر ّية‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫رصح هنا ب ّ‬
‫إن احلاكم يف بعض القضايا هي‬ ‫فهو ي ّ‬
‫ّب من العقل واحلس الظاهري‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بعض ثالث احلاكم مرك ٌ‬ ‫احلواس الباطن ّية‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫آخر‬
‫وبرصف النظر عن االنتقادات واإلشكاالت املوجودة يف تعريفه للحواس الباطن ّية‬
‫والنامذج ا ّلتي ذكرها هلا(‪ ،)2‬ال ُيمكن القبول برأيه حول احلاكم يف القضايا‪.‬‬
‫ٰل ّ‬
‫كن عبارات ابن سينا(‪ ،)3‬والكاتبي(‪ ،)4‬ونصري الدين الطويس(‪ )5‬الواردة يف تعريف‬
‫احلسـ ّية (وهي القضايا ا ّلتي ُيستفاد من احلس للتصديق هبا) ال تنسجم مع كال‬
‫القضايا ّ‬
‫الوجهني‪ ،‬أو ربام ُيتصور أهنا ناظرة إىل فهم القطب الرازي؛ ٰلك ّن عبارات أخرى يف‬
‫مؤلفات احلكامء واملناطقة املسلمني‪ ،‬ومنهم ابن سينا‪ ،‬ونصري الدين الطويس‪ ،‬والعالمة‬
‫تدل بوضوح عىل خالف ٰذلك‪ .‬ومن أوضح العبارات ا ّلتي تؤيد ّ‬
‫صحة الرؤية‬ ‫احليل ّ‬
‫املذكورة هي كالم املح ّقق الطويس يف رشحه عىل اإلشارات‪" :‬و ٰذلك ّ‬
‫ألن العقل إ ّما‬
‫(‪ )1‬الرازي‪ ،‬قطب الدين حممد‪ ،‬حترير القواعد املنطقيّة‪ ،‬حتقيق حمسن بيدارفر‪ ،‬ص ‪.459- 458‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬مروری بر تعريف وجايگاه زيرساختهای معرفت برشی‪ :‬حمسوسات‬
‫ووجدانيات) [استعراض لتعريف ومكانة أسس املعرفة اإلنسانية‪ :‬املحسوسات والوجدانيات]‪ ،‬فصلية معرفت‬
‫فلسفی‪ ،‬العدد ‪ 1383 ،6‬هـ‪.‬ش‪ ،‬ص‪.115 - 97‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬حتقيق حسن‬
‫حسن زاده آميل‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪215‬؛ املؤ ّلف نفسه‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬تصحيح حمسن بيدارفر‪ ،‬ص ‪.457‬‬
‫(‪ )4‬راجع‪ :‬الكاتبي‪ ،‬نجم الدين عيل‪ ،‬الرسالة الشمسية‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين حممد الرازي‪ ،‬حترير القواعد املنطقيّة‪،‬‬
‫تصحيح حمسن بيدارفر‪ ،‬ص ‪.457‬‬
‫(‪ )5‬راجع‪ :‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 215‬و‪.216‬‬
‫‪287‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫األول ّيات‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫واألول هو ّ‬
‫ّ‬ ‫تصور طريف احلكم‪ ،‬أو حيتاج‪،‬‬
‫أن ال حيتاج فيه إىل يشء غري ّ‬
‫والثاين ال خيلو إما أن حيتاج إىل ما ينضم إليه ويعينه عىل احلكم أو ينضم إىل املحكوم‬
‫واألول هو املشاهدات"(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫عليه أو إليهام م ًعا‪،‬‬
‫تصور طريف احلكم‬ ‫ٍ‬ ‫ثم يضيف ً‬
‫قائال‪" :‬أحدها ما ال حيتاج فيه العقل إىل يشء غري ّ‬ ‫ّ‬
‫باحلواس وهو املشاهدات‪ ،‬وثالثها ما حيتاج فيه‬
‫ّ‬ ‫األول ّيات‪ ،‬وثانيها ما يستعان فيه‬
‫وهو ّ‬
‫تصور الطرفني"(‪.)2‬‬
‫إىل غري ّ‬
‫احليل يف تعريف املحسوسات ‪-‬بعد ترصحيه ّ‬
‫بأن احلاكم فيها هو العقل‬ ‫والعالمة ّ ّ‬
‫ا ّلذي حيكم ويذعن بواسطة احلواس‪ -‬يضيف ً‬
‫قائال‪" :‬فإنّه لو ال اإلحساس مل حيكم‬
‫علام يؤ ّدي إليه ٰذلك‬
‫حسا فقد ً‬ ‫العقل بمثل ٰهذه القضايا؛ وهلٰذا قال املع ّلم ّ‬
‫األول من فقد ًّ‬
‫لكل ٍ‬
‫أحد"(‪.)3‬‬ ‫احلس بخالف القضايا البده ّية احلاصلة ّ‬ ‫ّ‬
‫احلس املشرتك‪ ،‬يذكر عبار ًة يستفاد‬ ‫وقد ن ّبهنا ساب ًقا عىل ّ‬
‫أن ابن سينا حينام ُيثبت ّ‬
‫ويسمي ٰهذا النشاط الذهني (التمييز)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن مثل ٰهذا النشاط من عمل العقل‪.‬‬ ‫منها ّ‬
‫ويستعمل كلمة (التمييز) ومشتقاهتا فيه‪ ،‬ويقول‪" :‬وهب ّ‬
‫أن ٰهذا التم ّيز (‪ )4‬هو للعقل‪،‬‬
‫فيجب ال حمالة أن يكون العقل جيدمها معا حتّى يتميز بينهام"(‪.)5‬‬
‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.214-213‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫احليل‪ ،‬احلسن بن يوسف‪ ،‬اجلوهر النضيد‪ ،‬ص ‪.311‬‬ ‫(‪ّ ّ )3‬‬
‫ٍ‬
‫(‪ )4‬ورد يف نسخة أخرى عبارة ( ٰهذا التمييز)‪ ،‬و(حتى ُيم ّيز بينهام) ً‬
‫بدال من العبارة املذكورة يف النص أعاله‪ :‬راجع‪:‬‬
‫ابن سينا‪ :‬الشفاء‪ ،‬الطبيعيات‪ .6 ،‬كتاب النفس‪ ،‬حتقيق سعيد زايد‪ ،‬و‪ ،...‬ص‪.145‬‬
‫(‪ )5‬املؤ ّلف نفسه‪ ،‬النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده آميل‪ ،‬ص‪ّ .227‬‬
‫ثم ّ‬
‫إن ابن سينا يف ٰهذا الكتاب‬
‫احليس‪ ،‬وإدراك احلاكم اخليايل‪ ،‬وإدراك احلاكم‬
‫(املقالة األوىل‪ ،‬الفصل الثاين‪ ،‬ص‪ّ )84‬فرق بني إدراك احلاكم ّ ّ‬
‫الومهي‪ ،‬وإدراك احلاكم العقيل؛ ٰلكن عىل أساس الشواهد الكثرية التي يمكن العثور عليها يف ٰهذا الفصل‬
‫والفصول األخرى من ٰهذا الكتاب‪ ،‬بل ومؤلفاته األخرى ومؤلفات أتباعه‪ ،‬وخاصة بمالحظة عبارة صدر‬
‫احلس ّية‪ ،‬واخليالية‪،‬‬ ‫املتأهلني اآلتية‪ّ ،‬‬
‫أن ابن سينا مل يكن يف عبارته املذكورة بصدد بيان رفض دور العقل يف القضايا ّ‬
‫والومهية؛ وإنام يف مقام بيان أقسام التجريد وبالنتيجة متايز مراتب اإلدراك يف نظره‪ .‬ومضا ًفا إىل ٰذلك هناك‬
‫احلواس سواء الباطنية أم الظاهرية‪ ،‬وهل تفيد املفهوم واإلدراك التصوري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫موضوع يستحق البحث وهو رأيه يف‬
‫أم القضية واإلدراك التصديقي‪ .‬إدراك احلاكم احليس واخليايل و‪ ...‬يشمل املفاهيم والقضايا؛ إذا مل نستظهر أنّه =‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 288‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن القطب الرازي عىل الرغم من اختياره الرأي‬ ‫أي ٍ‬


‫حال فمن العجب ّ‬ ‫وعىل ّ‬
‫املذكور يف رشح الشمسية‪ ،‬نراه خيتار الرأي املخالف له يف تعليقته عىل رشح‬
‫احلسـ ّية(‪.)1‬‬ ‫اإلشارات‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن العقل هو احلاكم يف القضايا ّ‬
‫فلو أنّه يف تعليقته اقترص عىل رشح رأي املحقق الطويس أو ابن سينا‪ ،‬وجيب هنا‬
‫ٍ‬
‫أيضا أن ين ّبه عىل نقطة وهي أن يرشح ّأو ًال رأهيام ثم ّ‬
‫يبني رأيه إىل جانب ذلك‪ ،‬ثم بعد‬ ‫ً‬
‫رشح نظريتهام وبحثها يقوم ببيان نظريته والدفاع عنها‪.‬‬
‫احلواس حاكم ًة ‪-‬كام هو‬
‫ّ‬ ‫املتأهلني أ ّال تكون‬
‫ومن املنهجي أنّه عىل أساس مبنى صدر ّ‬
‫واضح‪ -‬بل هي أدوات إدراك ّية يمكن للنفس بوساطتها الوصول إىل معرفة‬
‫القوة البارصة ليس هي ا ُمل ِ‬
‫دركة يف اإلدراك‬ ‫املحسوسات اجلزئ ّية(‪)2‬؛ فبحسب رأيه إن ّ‬
‫درك هي النفس(‪.)3‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وإنام املُ ِ‬
‫البصـري‪ ،‬وال السامعة يف اإلدراك السمعي ٰ‬
‫واللطيف يف األمر أنّه ينسب ٰهذه الرؤية إىل ابن سينا ومجيع احلكامء البارزين ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫احلواس‪ ،‬بل ال مدرك‬
‫ّ‬ ‫املدرك للمحسوسات هي‬ ‫أن ِ‬ ‫أن مذهب الشيخ ّ‬ ‫"فبأنّا ال نس ّلم ّ‬
‫ملتذ وال ّ‬
‫متأمل عند الشيخ وغريه من الراسخني يف احلكمة غري النفس‪،‬‬ ‫وال حاكم وال ّ‬
‫احلواس من‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫برضب من املجاز‪ ،‬وإسناد معانيها إىل‬ ‫احلواس‬
‫ّ‬ ‫وإطالق ٰهذه األلفاظ عىل‬
‫أغالط املتأخرين‪ ...‬إال ّ‬
‫أن إدراكها خيتلف فمن املدركات ما يدركها بذاهتا كالكليات‪.‬‬
‫ومنها ما يدركها بوساطة اآلالت وهي اجلزئيات"(‪.)4‬‬

‫جمرد‬ ‫= خمتص باملفاهيم‪ .‬وعىل أي حال إذا كان مقصوده من كالمه املذكور هو ّ‬
‫أن احلس‪ ،‬واخليال‪ ،‬والوهم تفيد ّ‬
‫حلواس الظاهرية والباطنية‪ ،‬فمن الواضح أنّه يف ٰهذه الصورة لن يوجد تعارض مع‬
‫ّ‬ ‫التصور‪ ،‬كام لوحظ يف بحث ا‬
‫املبنى املختار القائل بأن العقل له دور مبارش يف مجيع القضايا‪.‬‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الرازي‪ ،‬قطب الدين حممد‪ ،‬تعليقة عىل رشح اإلشارات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح اإلشارات‬
‫والتنبيهات‪ ،‬ص‪ ،215-213‬التعليقة‪.1‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪137‬؛ املؤلف نفسه‪،‬‬
‫املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين‪ ،‬ص‪.238‬‬
‫(‪ )3‬راجع‪ :‬املؤلف نفسه‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ 166‬وج‪ ،8‬ص‪ 225-224‬وج‪،4‬‬
‫ص‪.138‬‬
‫(‪ )4‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.138‬‬
‫‪289‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫درك‪ ،‬واحلاكم‪،‬‬‫بأن ا ُمل ِ‬


‫إن مجيع الفالسفة الكبار يعتقدون ّ‬
‫املتأهلني ّ‬
‫ويف رأي صدر ّ‬
‫واحلواس ليست سوى أدوات للنفس أو العقل‪ ،‬تؤ ّدي دور‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وامللتذ هي النفس‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واملتأمل‪،‬‬
‫املساعد يف اإلدراك‪ ،‬أو التصديق واحلكم يف األمور املحسوسة‪ .‬ومن هنا يؤ ّكد املحقق‬
‫احلسـ ّية‪ٰ -‬هذه النقطة ً‬
‫قائال‪" :‬فإذن‪ ،‬الصواب واخلطأ‬ ‫الطويس ‪-‬يف اجلواب عن األخطاء ّ‬
‫إنّمـا يعرضان لألحكام العقل ّية ال عىل املحسوسات من حيث هي حمسوسات"(‪.)1‬‬
‫احلسـ ّية‬ ‫احلواس ال حكم هلا‪ّ ،‬‬
‫وأن احلكم يف القضايا ّ‬ ‫ّ‬ ‫مرص ًحا ّ‬
‫بأن‬ ‫ثم يواصل كالمه ّ‬ ‫ّ‬
‫مر ّ‬
‫أن احلس ال حكم له‪ ،‬ال يف اجلزئيات وال يف‬ ‫من شأن العقل إذ يقول‪" :‬قد ظهر ممّا ّ‬
‫الكل ّيات‪ّ ،‬إال أن يكون املراد من حكم احلس حكم العقل عىل املحسوسات"(‪.)2‬‬
‫بعـد نظـرة عابرة عىل مؤلفات الفالسفة الكبـار كابـن سينـا‪ ،‬والـمحقق الطـويس‪،‬‬
‫احلسـ ّية ليس من شؤون‬
‫أن احلكم والتصديق يف القضايا ّ‬ ‫املتأهلني وأمثاهلم يتضح ّ‬
‫وصدر ّ‬
‫ووظائف احلس‪ ،‬وإنّمـا هو مساعد لإلدراك‪ ،‬واحلكم والتصديق يف مثل ٰهذه القضايا‪،‬‬
‫كالقضايا القبل ّية والعقل ّية من وظائف العقل أو النفس وشـؤونـهمـا‪.‬‬
‫يتيرس يف ٰهذا املجال وال‬ ‫ومن الواضح ّ‬
‫أن بحث املباين الوجود ّية هلٰذه النظر ّية ال ّ‬
‫ٍ‬
‫بحاجة اىل جمال آخر‪.‬‬ ‫يناسبه‪ ،‬فالتعرض له‬

‫تاس ًعا‪ :‬االستدالل أو االستنتاج‬


‫نوع من الوالدة‬
‫أهم وظائف العقل هي االستدالل أو االستنتاج‪ .‬واالستدالل ٌ‬
‫وصف عدّ ة قضايا معلومة ومرتابطة جن ًبا‬
‫ِّ‬ ‫ناتج عن ترتيب أ‬
‫الفكر ّية أو التوليد الذهني‪ٌ ،‬‬
‫سمى (مقدمات االستدالل) وهي التي ُترشد إىل‬ ‫وهذا النوع من القضايا ُت ّ‬
‫إىل جنب‪ٰ .‬‬
‫املترصفة تساعد العقل ‪-‬وله‬ ‫الفلسفي يسود االعتقاد ّ‬
‫بأن‬ ‫ٍ‬
‫نتيجة خاصة‪ .‬ويف علم النفس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدور املبارش والرئيس‪ -‬يف ٰهذه الوظيفة‪ ،‬و ُتقدّ م له العون يف ترتيب املقدّ مات وتنظيمها‪،‬‬
‫يتم فيه تركيب‬
‫نوع من الرتكيب‪ّ ،‬‬
‫وبالنتيجة يف إعداد االستدالل‪ .‬واالستدالل يف الواقع ٌ‬
‫املحصل‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬نقد‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.26-14‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 290‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫جمموعة قضايا‪ ،‬وبامتزاجها وتركيبها تنتج قض ّية جديدة‪ .‬ومقابل االستدالل يوجد‬
‫خاص من الرتكيب‪ :‬تركيب املفاهيم‬‫ّ‬ ‫ونوع‬
‫ٌ‬ ‫نوع آخر من التفكري‪،‬‬
‫التعريف‪ .‬والتعريف ٌ‬
‫كل من االستدالل‬ ‫والتصورات مع بعض والنتيجة مفهوم جديد‪ .‬و ٰهبذا يكون ٌّ‬
‫وتفكريا بنحو ما‪ .‬االستدالل تفكري يأيت من تركيب قضايا عدة معلومة‬
‫ً‬ ‫والتعريف تركي ًبا‬
‫نوع آخر من التفكري حيصل من امتزاج وتركيب عدّ ة مفاهيم‬
‫ومرتابطة‪ ،‬والتعريف ٌ‬
‫معلومة ومرتابطة‪ .‬وباالستدالل حتصل قض ّية جديدة‪ ،‬وبالتعريف حيصل مفهو ٌم جديد‪.‬‬
‫وعرب ٰهذين النمطني(‪ )1‬من التفكري‪ ،‬ومها نشاط أوفعال ّية ذهن ّية‪ ،‬يمكن توسيع معرفتنا‬
‫بالوجود والواقعيات وتعميقها‪ .‬وعليه فمن خالل تأليف املعلومات الذهن ّية ا ّلتي يأيت‬
‫أغلبها من اخلارج وترتيبها‪ ،‬وتنظيم املعلومات املرتابطة مع بعض نصل إىل معارف‬
‫جديدة‪.‬‬
‫ِ‬
‫طريقتني‪ ،‬وببيان آخر هو نوعان‪:‬‬ ‫االستدالل أو االستنتاج يتم ب‬
‫‪ .2‬غري املبارش‪.‬‬ ‫‪ .1‬املبارش‪.‬‬
‫ويتم االستنتاج فيه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مبني عىل قض ّية واحدة فقط‪ّ ،‬‬ ‫االستدالل املبارش هو استدالل ٌّ‬
‫عن طريق تلك القض ّية فقط‪ ،‬ومن هنا يكفي يف ٰهذا االستدالل قض ّي ٌة واحد ٌة للوصول‬
‫ٌ‬
‫استدالل‬ ‫إىل النتيجة‪ .‬واالستدالل غري املبارش هو ا ّلذي ُيدعى يف املنطق بـ( ّ‬
‫احلجة) هو‬
‫كون من قضيتني عىل األقل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حيتاج إىل أكثر من قض ّية من أجل الوصول إىل النتيجة‪ ،‬ويت ّ‬
‫وكال االستداللني املبارش وغري املبارش لـهمـا عدّ ة أقسام‪ .‬وأهم أنواع االستدالل‬
‫املبارش هي‪:‬‬
‫‪ .1‬العكس املستوي‪ .2 ،‬عكس النقيض‪ .3 ،‬نقض املحمول‪ .4 ،‬التناقض فـي‬
‫القضايا‪.‬‬
‫أيضا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬يشمل‬
‫(‪ )1‬و ٰهبذا يكون للتفكري الذي هو نشاط عقيل معنى واسع‪ :‬يشمل التعريف واالستدالل ً‬
‫أيضا‪ .‬ومن هنا فتخصيصه بالقضايا أو التصديقات غري صحيح‪ .‬يقول صدر املتأهلني‬
‫املفاهيم كام يشمل القضايا ً‬
‫يف ٰهذا املجال‪" :‬منها الفكر وهو انتقال النفس من املعلومات التصورية والتصديقية احلارضة فيها إىل جمهوالهتا‬
‫املستحرضة‪ .‬وختصيص جريان الفكر يف باب التصديقات دون التصورات كام فعله صاحب امللخص مما ال وجه‬
‫له" [الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.]516‬‬
‫‪291‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫واحدة‬ ‫يتم االستنتاج فيه بمساعدة قض ّي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫وكل واحد من ٰهذه االستدالالت‪ّ ،‬‬
‫ستنتج ِصد ُق نقيضها؛ كام أنّه‬ ‫ُ‬ ‫فقط‪ .‬ومثال ٰذلك يف تناقض القضايا أنّه من كِذب قض ّي ٍة ُي‬
‫من ِصدق قض ّي ٍة ُيستنتج كِذ ُب نقيضها‪.‬‬
‫احلجة فهو عىل ثالثة أنواع؛ ألنّه يف ٰهذا النمط من‬ ‫أ ّما االستدالل غري املبارش أو ّ‬
‫جزئي آخر بسبب الشبه بينهام و ٰهذا‬ ‫ّ‬ ‫جزئي إىل‬
‫ّ‬ ‫عمم احلكم الثابت ٍ‬
‫ألمر‬ ‫االستدالل إ ّما أن ُن ّ‬
‫ويسمى ٰهذا‬
‫ّ‬ ‫أمور جزئ ّي ٍة‬
‫سمى (التمثيل)‪ ،‬وإ ّما أن نحصل عىل حكم كيل من عدّ ة ٍ‬
‫ّ‬ ‫النوع ُي ّ‬
‫قسمني‪ :‬االستقراء التام‪ ،‬واالستقراء الناقص‪ ،‬وإ ّما أن نسري‬ ‫ِ‬ ‫النوع (االستقراء)‪ ،‬وهو عىل‬
‫سمى (القياس)‪ ،‬وينقسم إىل عدّ ة أقسا ٍم بلحاظ‬ ‫وهذا النوع ُي ّ‬
‫الكيل إىل اجلزئي ٰ‬
‫ّ‬ ‫من احلكم‬
‫الشكل واملادة(‪.)1‬‬
‫اجلزئي ‪-‬كمـا هو واضح‪ -‬املعنى املطلق الواسع الذي يشمل ًّ‬
‫كال من‬ ‫ّ‬ ‫واملراد من‬
‫غالبي‪ ،‬وقد‬
‫ٌّ‬ ‫اإلضايف‪ ،‬بل يمكن القول‪ّ :‬‬
‫إن قيد (اجلزئي)‬ ‫ّ‬ ‫واجلزئي‬
‫ّ‬ ‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫اجلزئي‬
‫ّ‬
‫عمل من أجل التسهيل يف التعليم‪ ،‬ومن أجل إيضاح مكانة القياس بني أساليب‬ ‫اس ُت ِ‬
‫أن القياس يقف مقابل االستقراء‪ ،‬وإ ّال ّ‬
‫فإن نطاق‬ ‫االستدالل‪ ،‬وكيف ّية السري فيه‪ ،‬وتبيني ّ‬
‫القيـاس أوسـع من ٰذلك‪ ،‬ويشمل األمـرين الـمتـسـاويني الـمتـالزمني‪ .‬ومن هنـا يمكـن‬
‫االستدالل بأحد املتالزمني عىل اآلخر(‪.)2‬‬
‫شا‪ :‬االستقراء والعقل‬
‫عا ً‬
‫نشاطات ذهني ٌة‪ ،‬وهي من‬
‫ٌ‬ ‫من الواضح ّ‬
‫أن مجيع أقسام االستدالل واالستنتاج‬
‫دور مبارش فيها‪ .‬وهنا نواجه مشكلة وهي‪ :‬أنّه عىل الرغم من‬
‫وظائف العقل‪ ،‬وللعقل ٌ‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪ ،212-177‬و‪238-229‬؛ ابن سينا‪،‬‬
‫االشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬املصدر السابق؛ املظفر‪ ،‬حممدرضا‪ ،‬املنطق‪ ،‬ص ‪252-101‬؛‬
‫هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪ ،‬ص‪ ،111-77‬و‪.192-187‬‬
‫وهذا القبيل إذ يقول‪" :‬فال يبقى‬ ‫إن العالمة الطباطبائي وف ًقا ملبناه يرى ّ‬
‫أن مجيع الرباهني الفلسف ّية من ٰهذا النوع ٰ‬ ‫(‪ )2‬بل ّ‬
‫الفلسفي ّإال برهان ( ّ‬
‫اإلن) الذي يعتمد فيه عىل املالزمات العا ّمة‪ ،‬فيسلك فيه من أحد املتالزمني إىل اآلخر"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫للبحث‬
‫[الطباطبائي‪ ،‬حممدحسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬تصحيح غالمرضا فيايض‪ ،‬املدخل‪ ،‬ص ‪16‬؛ املؤلف نفسه‪ ،‬تعليقة عىل‬
‫األسفار‪ ،‬يف‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪ ،29‬التعليقة ‪.]1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 292‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫إمكان عدِّ مجيع أقسام االستدالل املبارش والقياس ‪-‬من أقسام االستدالل غري املبارش‪-‬‬
‫نشا ًطا عقل ًّيا‪ٰ ،‬لكن هل يمكن عد االستقراء نشا ًطا ووظيف ًة عقل ّية ً‬
‫أيضا‪ .‬مع العلم ّ‬
‫أن‬
‫متقو ٌم باجلزئيات‪ ،‬واجلزئيات ُتدرك عن طريق املشاهدة وسائر احلواس؟‬
‫االستقراء ّ‬
‫أيضا؛ ّ‬
‫ألن االستقراء‬ ‫احلقيقة هي أ ّنه جيب عدّ االستقراء من شؤون العقل ووظائفه ً‬
‫ليس مشاهدة بضعة أمور جزئ ّية فحسب‪ّ ،‬‬
‫فإن مشاهدة بضعة ظواهر جزئ ّية ال دخل له‬
‫يف حقيقة االستقراء؛ بل ّ‬
‫إن االستقراء عبارة عن إعامم حكم ناشئ عن مشاهدة عدّ ة‬
‫اجلزئي إىل‬
‫ّ‬ ‫ظواهر جزئ ّية‪ .‬ومن هنا قالوا يف تعريف االستقراء‪ :‬االستقراء س ٌري من‬
‫ّّ‬
‫الكيل‪ .‬ويف االستقراء يشاهد العقل عدّ ة نامذج‪ ،‬ثم يقوم بترسية احلكم إىل موارد ونامذج‬
‫مقوم لالستقراء‪،‬‬ ‫حكام ك ّل ًّيا‪ .‬وعليه ّ‬ ‫ِ‬
‫فإن اإلعامم من وظائف العقل‪ ،‬وهو ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬ف ُيصدر ً‬
‫أساس فيه‪ .‬ومن هنا عرف هبمنيار االستقراء ً‬
‫قائال(‪" :)1‬االستقراء هو احلكم‬ ‫ٌ‬ ‫ورك ٌن‬
‫ٍ‬ ‫كيل بام ُو ِجد يف جزئياته الكثرية‪ ،‬كام ُحيكم عىل ّ‬
‫حيرك عند املضغ فكه‬
‫كل حيوان أنّه ّ‬ ‫عىل ّ ّ‬
‫األسفل"(‪.)2‬‬
‫رشط لتح ّقق االستقراء يف أغلب املوارد‪ ،‬ال ّأهنا داخل ٌة يف‬
‫ٌ‬ ‫فإن املشاهدة‬‫وعليه ّ‬
‫دورا يف العلوم الفلسف ّية والرياض ّية‬
‫فإن االستقراء يلعب ً‬‫ومعيار لتح ّققه؛ لذا ّ‬
‫ٌ‬ ‫حقيقته‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ومنها يف القض ّية الرياض ّية (العدد إما زوج أو فرد)‪ ،‬إذ يمكن القول إ ّن ُك ًّال من‬
‫ً‬
‫الفرد ّية والزوج ّية ُتعدّ من أقسام العدد‪ ،‬وهو حاصل عن طريق االستقراء‪ .‬أو يف القض ّية‬
‫واجب أو ممك ٌن)‪ ،‬فتقسيم املوجود إىل الواجب واملمكن عىل‬
‫ٌ‬ ‫الفلسف ّية (املوجود إ ّما‬
‫يقيني ال يقبل التشكيك(‪)3‬؛ ٰ‬
‫وكذلك تقسيم البدهيات‬ ‫ٌّ‬ ‫أساس االستقراء التام‪ ،‬وهو أمر‬
‫إىل األوليات‪ ،‬واملحسوسات‪ ،‬واملتواترات إلخ‪ ،‬من ٰهذا القبيل‪ .‬وال يقترص دور االستقراء‬
‫دورا يف العلوم العقل ّية نظري‬
‫أنواع من االستقراء تلعب ً‬
‫ٌ‬ ‫عىل العلوم التجريب ّية‪ ،‬بل هناك‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق ‪ .5‬الربهان‪ ،‬تصحيح أبو العالء عفيفي‪ ،‬املقالة األوىل‪ ،‬الفصل التاسع‪ ،‬ص‪-95‬‬
‫‪96‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪ ،‬ص‪.188-187‬‬
‫(‪ )2‬هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪ ،‬ص‪.187‬‬
‫(‪ )3‬ويمكن طب ًعا إرجاع القضية الفلسفيّة املذكورة إىل احلصـر العقيل والقول بإمكان إدراكها عن طريق العقل‪،‬‬
‫واحلرص العقيل‪ ،‬من دون حاجة إىل االستقراء العقيل‪.‬‬
‫‪293‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العلوم الفلسف ّية والعلوم الرياض ّية‪ .‬ومثل ٰهذه االستدالالت هي يف احلقيقة مستفادة‬
‫مبني عىل‬
‫أن االستقراء ٌّ‬‫تصور ّ‬
‫من االستقراء واستعامله يف العلوم العقل ّية نو ًعا ما‪ .‬إ ًذا ّ‬
‫احلواس باطل‪ ،‬وحيتاج االستقراء إىل املشاهدة يف العلوم‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية ومعطيات‬
‫املشاهدات ّ‬
‫مقومة ملاه ّية االستقراء‪ ،‬بل حت ّققه‬
‫التجريب ّية فقط‪ ،‬وحتى يف ٰهذه العلوم املشاهدة ليست ّ‬
‫مشاهدات‪ .‬وطبيعي أنّه يمكن من خالل االستفادة من التجربة‬ ‫ٍ‬ ‫مش ٌ‬
‫ـروط بتحقق‬
‫احلضوري‪ ،‬حتصيل وتقويم صحة‬
‫ّ‬ ‫الذهن ّية والتأ ّمالت الباطن ّية ا ّلتي هي ٌ‬
‫نوع من العلم‬
‫أو سقم االستقراء العقيل من قبيل أقسام القضايا البده ّية‪.‬‬

‫الحادي عرش‪ :‬امتياز التجربة عن االستقراء‬


‫السؤال اآلخر ا ّلذي ُيمكن أن خيطر يف الذهن هنا هو‪ :‬ما هو وجه االمتياز بني‬
‫االستقراء والتجربة؟ وما هي الفروق بينهام؟ وهل يمكن القول ّ‬
‫بأن االستقراء هو‬
‫التجربة نفسها‪ ،‬والتجربة هي االستقراء نفسه؟‬
‫بمالحظة تعريف األقسام الثالثة لالستدالل غري املبارش‪ ،‬يمكن فهم االختالف‬
‫اخلاص إىل العا ّم ومن اجلزئي إىل الكيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بني االستقراء والتجربة‪ .‬فاالستقراء س ٌري من‬
‫ويف ٰهذا األسلوب ومن خالل البحث يف اجلزئيات نقوم بإعامم حكمها إىل ّ ّ‬
‫الكيل‪.‬‬
‫والتجربة وإن كانت يف األدبيات املعارصة ترادف االستقراء وتستعمل يف املعنى نفسه‪،‬‬
‫نوع من القياس‪ .‬ومن هنا فالتجربة وف ًقا‬‫ٰلكن يف املنطق السينوي(‪ )1‬واألرسطي هي ٌ‬
‫ٍ‬
‫نوع من التفكري القيايس‪ ،‬وببيان آخر هي س ٌري من ّ ّ‬
‫الكيل إىل‬ ‫الصطالح القدماء هي ٌ‬
‫ٍ‬
‫نتيجة‬ ‫نكتشف يف التجربة عرب مشاهدة عدّ ة نامذج ع ّلة احلكم‪ ،‬ونحصل عىل‬
‫ُ‬ ‫اجلزئي‪ .‬إذ‬
‫ّ‬
‫ك ّل ّي ٍة(‪ .)2‬وبام أ ّننا يف التجربة ُ‬
‫نصل إىل ع ّلة احلكم؛ لذا يمكننا تطبيقه عىل النامذج األخرى‬
‫ٍ‬
‫واستقراء‪ ،...‬وليس كاالستقراء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قياس‬ ‫ٌ‬
‫خملوط من‬ ‫أيضا "وأ ّما الكائن بالتجربة فكأنّه‬ ‫ً‬
‫(‪ )1‬نسبة إىل الفيلسوف املسلم ابن سينا‪[ .‬املرتجم]‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .5 ،‬الربهان‪ ،‬تصحيح أبو العالء عفيفي‪ ،‬املقالة األوىل‪ ،‬الفصل التاسع‪ ،‬ص‪-95‬‬
‫وكذلك املقالة الثالثة‪ ،‬الفصل اخلامس‪ ،‬ص‪224-222‬؛ هبمنيار‪ ،‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضـى مطهري‪،‬‬ ‫‪ٰ ،98‬‬
‫ص‪.190-187‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 294‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ّ‬
‫فإن االستقراء ال يوقع من جهة التقاط اجلزئيات علام كل ًّيا يقين ًيا وإن كان قد يكون‬
‫ٍ‬
‫بقياس‬ ‫حيس‬
‫فإن فيها [(التجربة)] اختالط استقراء ّ‬ ‫من ّبها‪ .‬وأ ّما التجربة فتوقع‪ّ ،...‬‬
‫وإن ا ّلذي بالعرض ال يدوم"(‪.)1‬‬ ‫مبني عىل اختالف ما بالذات وما بالعرض‪ّ ،‬‬ ‫عقيل ّ‬
‫ّ‬
‫جدير بالذكر ّ‬
‫أن القضايا التجريب ّية ٰهبذا املعنى نادر ٌة يف العلوم الطبيع ّية‪ ،‬ويف ٰهذه‬
‫العلوم ُيستفاد عاد ًة من االستقراء الناقص‪ ،‬والتمثيل والتخ ّيل ّ‬
‫اخلالق (وهو احلدس‬
‫بمعنى التخمني والظن)‪ .‬وعليه فاملقصود من التجربة إ ّما هو االستقراء فقط‪ ،‬واستعامله‬
‫أعم من االستقراء والتمثيل والتخ ّيل ّ‬
‫اخلالق‪ ،‬واالستعامل‬ ‫نادر‪ ،‬أو بمعنى ّ‬
‫يف ٰهذا املعنى ٌ‬
‫شائع ومجيعها أساليب وطرق من االستدالل غري اليقيني ُتنتج االحتامل‬ ‫ٌ‬ ‫يف ٰهذا املعنى‬
‫التجريبي عاد ًة هلام‬
‫ّ‬ ‫أو الظن واملعرفة الظنّ ّية عىل أكثر تقدير‪ .‬و ٰهبذا ّ‬
‫فإن التجربة واملنهج‬
‫التجريبي يستعمل اليوم يف‬
‫ّ‬ ‫اليوم معنى آخر يف العلوم الطبيع ّية وفلسفتها‪ .‬فاملنهج‬
‫االستدالل غري القيايس الشامل لالستقراء والتمثيل(‪.)2‬‬

‫الثان عرش‪ :‬وظائف العقل بنظرة عابرة‬


‫ٍ‬
‫وواسعة باألشياء بوساطة نشاطات العقل ووظائفه‬ ‫ٍ‬
‫عميقة‬ ‫ٍ‬
‫معرفة‬ ‫يصل اإلنسان إىل‬
‫املختلفة من قبيل انتزاع املفاهيم الك ّل ّية وإدراكها‪ ،‬والتعريف أو التحليل‪ ،‬واحلكم يف‬
‫إن التعريفات والتحليالت ا ّلتي ُتذكر‬ ‫القضايا أو التصديقات‪ ،‬واالستدالل وأمثاهلا‪ّ .‬‬
‫معارف يناهلا‬
‫ُ‬ ‫للمفاهيم أو االستدالالت ا ّلتي ُتقام إلثبات بعض القضايا‪ ،‬إ ّنام هي‬
‫آلة هي العقل‪ .‬والتعريفات املنطق ّية ملفاهيم اإلنسان‪ ،‬والنبات‪،‬‬‫بمصدر أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫اإلنسان‬
‫حدة من ٰهذه املفاهيم‪ ،‬كام ّ‬
‫أن‬ ‫بكل وا ٍ‬‫واجلسم‪ ،‬والزمان‪ ،‬واملكان وأمثاهلا هي معرفة ّ‬
‫االستدالالت ا ّلتي تقام إلثبات القض ّية من قبيل (جمموع زوايا املثلث تساوي ‪180‬‬
‫درجة)‪ ،‬هي معرف ٌة ٰهبذه القض ّية‪ .‬ومن الواضح أننا يف اهلندسة وسائر العلوم الرياض ّية‬
‫ا ّلتي هي أكثر العلوم اإلنسان ّية يقين ّية‪ ،‬نصل إىل املعارف اليقين ّية عن طريق مصدر العقل‪.‬‬
‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .5 ،‬الربهان‪ ،‬تصحيح أبو العالء عفيفي‪ ،‬ص‪.224-223‬‬
‫املوسع هلٰذا الباب هو يف بحث (القضايا البعدية واالستقراء من منظار نظر ّية املعرفة)‪ .‬وبحول اهلل‬
‫(‪ )2‬مكان البحث ّ‬
‫نتعرض هلٰذه املسألة يف كتاب آخر‪.‬‬
‫تعاىل سوف ّ‬
‫‪295‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وعادة ما يكون الوصول إىل املعارف يف العلوم الفلسف ّية ‪-‬من قبيل علم الوجود‪ ،‬وعلم‬
‫الفلسفي‪ ،‬وفلسفة األخالق‪ ،‬وفلسفة الدين‪ ،‬ونظر ّية املعرفة‪ -‬مبن ٌّي عىل ٰهذه األداة‬
‫ّ‬ ‫النفس‬
‫املكونة هلا يتح ّقق عن‬
‫أو الطريق‪ .‬والتصديق واحلكم يف تلك القضايا بل ومفاهيمها ِّ‬
‫عقيل‪ .‬وبالنتيجة ال يمكن‬ ‫فإن منهج التحقيق يف مثل ٰهذه القضايا ٌّ‬ ‫طريق العقل‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫باحلواس الظاهر ّية‬ ‫ٍ‬
‫واحدة من قضايا العلوم املذكورة إثباتًا أو نف ًيا يقين ًّيا‬ ‫أي‬
‫ّ‬ ‫إثبات أو نفي ّ‬
‫بأهنا قد تفيد التأييد االحتاميل أو الظني(‪.)1‬‬ ‫واملنهج غري العقيل؛ وإن أمكن القول ّ‬
‫وظيفة من وظائف العقل املختلفة‪ .‬وهو س ٌري عقيل وعمل ّية‬ ‫ٍ‬ ‫أهم‬
‫واالستدالل هو ّ‬
‫ونشاط من نشاطاته‪ ،‬واالستدالل له أنواع عدّ ة‪ ،‬وأكثرها‬ ‫ٌ‬ ‫عقالن ّية يقوم هبا العقل‪،‬‬
‫وكذلك‬ ‫يقيني بلحاظ املادة واملحتوى‪ٰ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫استدالل ٌّ‬ ‫اعتبارا ما ُيدعى بـ(الربهان)‪ .‬والربهان‬
‫ً‬
‫بلحاظ الشكل وترتيب املقدمات‪.‬‬
‫وربام خيطر يف الذهن ٰهذا السؤال‪ :‬ملاذا املعترب يف قضايا العلوم العقل ّية هو العقل‬
‫إن سبب ٰذلك هو كون‬ ‫اختصارا بلحاظ ما تقدّ م‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫واملنهج العقيل فقط؟ ما يمكن قوله‬
‫بحاجة إىل توضيح وبيان‪ .‬ورشحه‬ ‫ٍ‬ ‫قضايا تلك العلوم عقل ّي ًة أو قبل ّي ًة‪ٰ .‬لك ّن ٰهذا اجلواب‬
‫مبني عىل ا ّتضاح نسبة العقل مع القضايا القبل ّية‪ ،‬وحقيقة ٰهذا النوع من القضايا‪ .‬وفيام‬ ‫ٌّ‬
‫يأيت سنبحث نسبة العقل إىل القضايا القبل ّية وحقيقة ٰهذه القضايا وماه ّيتها‪ ،‬وهي ا ّلتي‬
‫ُتدعى يف فلسفتنا التقليد ّية (القضايا العقلية)؛ ومع ا ّتضاح حقيقتها سوف ي ّتضح دور‬
‫العقل فيها من منظار نظر ّية الـمعرفة‪ ،‬وهو الـهدف األساس للبحث‪ ،‬وسي ّتضح ضمنًا‬
‫احلل املذكور‪.‬‬

‫الثالث عرش‪ :‬العقل والقضايا الق ْبلية‬


‫أهم آثار القبول بالعقل واعتباره‪ ،‬وأشد بحوث وظائف العقل احتدا ًما يف‬
‫من ّ‬
‫القوة اإلدراك ّية يف القضايا القبل ّية‪.‬‬
‫عرصنا الراهن هو البحث يف الدور اخلاص هلٰذه ّ‬
‫أن إدراك مثل ٰهذه القضايا وتصديقها‬ ‫وعند تعريف القضايا القبل ّية سوف ي ّتضح ّ‬
‫ٍ‬
‫فرصة مناسبة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل توضيح أكثر‪ .‬وسوف نتابع ٰهذا البحث يف‬ ‫(‪ٰ )1‬هذا الكالم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 296‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫بحاجة إىل أي ٍ‬
‫أداة أخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مبني عىل العقل فقط‪ ،‬وهي من ٰهذه اجلهة ليست‬
‫ّ‬ ‫واعتبارها ٌّ‬
‫أهم ميزاهتا هو ّ‬
‫أن املصدر الوحيد لتحقيقها هو العقل‪ ،‬واألسلوب الناجع‬ ‫وعليه ّ‬
‫فإن ّ‬
‫العقيل ال غري‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن النزاع‬ ‫ّ‬ ‫والصحيح للبحث حوهلا هو األسلوب واملنهج‬
‫واحلسيني هو‪ :‬هل املعارف أو القضايا القبل ّية متح ّققة أم غري‬
‫ّ‬ ‫الرئيس بني العقليني‬
‫متح ّققة؟ وعىل فرض حت ّققها هل هي قضايا حتليل ّية (طوطولوجية) حمضة(‪ )1‬أم تركيبية؟‬
‫أعم من القضايا التحليل ّية‬
‫واجلواب باإلجياب عن ٰهذا السؤال‪ ،‬والقبول بالقضايا القبل ّية ّ‬
‫(الطوطولوجية)‪ ،‬وغريها هو املم ّيز احلقيقي بني املنهج العقيل واحليس‪ .‬ومضا ًفا إىل‬
‫حسـ ّية والقضايا التحليل ّية (الطوطولوجية)‪ ،‬يمكن‬
‫القبول بالـحواس‪ ،‬والـمعطيات الـ ّ‬
‫اإلذعان بتحقق القضايا القبل ّية ا ّلتي هي ليست طوطولوجية حمضة‪ّ ،‬‬
‫ألن احلس ّيني كام‬
‫نحو ٍ‬
‫مربر وعىل‬ ‫احلواس ونفي اعتبار العقل‪ -‬أن يقبلوا ب ٍ‬
‫ّ‬ ‫يبدو ال يمكنهم ‪-‬استنا ًدا إىل‬
‫أساس معقول القضايا القبل ّية حتّى القضايا التحليل ّية (الطوطولوجية)‪ ،‬فقبوهلا مستلز ٌم‬
‫قوة العقل اإلدراك ّية(‪.)2‬‬ ‫لنوع من املنحى العقيل واإلذعان يف اجلملة باعتبار ّ‬
‫احلواس الظاهر ّية‬
‫ّ‬ ‫ويمكن اإلضافة عىل ماتقدّ م‪ّ :‬‬
‫أن القضايا البعد ّية تـحتاج إلـى‬
‫حسـ ّية‪ ،‬ومن ٰهذه اجلهة تـمتاز عن القضايا القبلية‪ٰ ،‬لكنّها بنظر الـمؤلف ال‬
‫والتجربة الـ ّ‬
‫قوة العقل‪ .‬التصديق والـحكم فـي ٰهذه الـمجموعة من القضايا وإثبات‬
‫تستغني عن ّ‬
‫قوة العقل‬
‫أيضا يرتبط بالعقل‪ .‬وبدون تـحقق ّ‬‫تـح ّقق مصداقها العيني فـي الـخارج ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫اإلدراك ّية واالستناد إليها‪ ،‬سوف يتوقف التصديق واحلكم يف القضايا البعد ّية ً‬
‫إنام يمكنه التصديق هبا واحلكم عليها فيام لو استند إىل التجربة‬ ‫وطبيعي ّ‬
‫أن العقل ّ‬
‫احلواس الظاهر ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية أو‬
‫ّ‬
‫ويمكن توسيع البحث حول القضايا القبلية‪ ،‬وطرح الكثري من األسئلة واملسائل(‪.)3‬‬
‫‪)1( Tautology.‬‬
‫‪)2( See: Laurence, Bonjour, In Defense of pure Reason, Ch.2.‬‬
‫(‪ )3‬تعرضنا بحمد اهلل للبحث يف ٰهذه املسائل يف الكتاب الرابع من جمموعة (كاوشی در ژرفای معرفت شناسی)‬
‫[دراسة يف أعامق نظر ّية املعرفة]‪ ،‬حتت عنوان (مؤلفهها وساختارهای معرفت برشی؛ تصديقات يا قضايا)‬
‫ٍ‬
‫عابرة علـى األسئلة التي =‬ ‫ٍ‬
‫نظرة‬ ‫[عنارص وبنى الـمعرفة اإلنسانية؛ التصديقات أو القضايا]‪ .‬ونكتفي هنا بإلقاء‬
‫‪297‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫وحتقيق واس ٍع للمسائل ا ّلتي ُيمكن طرحها يف ٰهذا‬ ‫ٍ‬
‫ببحث شام ٍل‪،‬‬ ‫وال يمكن اآلن القيام‬
‫ِ‬
‫وبحث دور العقل يف ٰهذا‬ ‫ِ‬
‫تعريف (القبيل) وتبيني حقيقته‪،‬‬ ‫املضامر‪ .‬ونكتفي هنا ب‬
‫األسايس والبنيوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النشاط‬

‫الرابع عرش‪ :‬حقيقة القبْيل‬


‫والرضوري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بغض النظر عن طريقة التاميز بني التحلييل والرتكيبي‪ ،‬وبني املمكن‬
‫فلسفي أو منطقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معريف‪ ،‬ال‬
‫ٌّ‬ ‫متايز‬
‫أن التاميز بني القبيل والبعدي هو ٌ‬ ‫غري أنّه ال شك يف ّ‬
‫والقبل ّية أو البعد ّية مبن ّية عىل ضوابط ورشائط‪ .‬وبحسب رؤية ٰهذا الكتاب ّ‬
‫فإن القض ّية‬

‫= يمكن طرحها يف ٰهذا الباب‪:‬‬


‫ما هي املعرفة أو القضية القبلية؟‬
‫الفلسفي‪ ،‬وتقديم صورة صحيحة عنها‪ ،‬أم‬
‫ّ‬ ‫وصحيحا باللحاظ‬
‫ً‬ ‫أمرا تا ًما‬
‫هل يمكن عد القضية أو املعرفة القبلية ً‬
‫أن القبول هبا يشتمل عىل تناقضات؟‬ ‫ّ‬
‫ما هي العنارص‪ ،‬واألركان‪ ،‬والرشوط الرضورية من أجل كون القضية أو املعرفة قبلية؟‬
‫هل يستطيع اإلنسان الوصول إىل الـمعرفة القبلية عن طريق توفري ٰهذه الرشوط؟ وبعبارة مـخترصة هل عند‬
‫اإلنسان نوع من املعرفة القبلية؟‬
‫يضا؟ ويف حالة إمكان ٰذلك‬
‫يف صورة حتقق القضايا القبلية هل هي حتليلية فقط أم يمكن أن يكون بعضها تركيبيًّا أ ً‬
‫فام هو معيار وخصائص القضية الرتكيبية القبلية؟‬
‫ما هي العالقة بني كون القضية قبلية و رضورية؟ هل القضايا القبلية رضورية فقط‪ ،‬أم يمكن أن تكون بعض‬
‫القضايا املمكنة قبلي ًة وصادقة بنحو القبلية؟‬
‫أيضا؟‬
‫خيتص بالقضايا أم يشمل املفاهيم ً‬
‫هل تقسيم املعرفة إىل قبلية وبعدية ّ‬
‫ما هي عالقة القضايا احلقيقيّة يف علمي األصول واملنطق بالقضايا القبلية؟‬
‫هل يمكن إبطال أو إثبات القضايا القبلية بالتجربة؟ وملاذا؟‬
‫ٍ‬
‫معيار يمكن معرفة احلقائق القبلية؟ وما هي مواصفات‬ ‫ما هي خصيصة أو خصائص القضايا القبلية؟ وبأي‬
‫القضايا أو احلقائق التي ُتدرك بشكل قبيل؟ وما هو املعيار األفضل بني املعايري التي قدمتها خمتلف النظريات؟‬
‫هل يمكن وقوع اخلطإ يف القضايا القبلية أم يمتنع اخلطأ فيها؟ ويف حالة عدم إمكان وقوع اخلطإ فيها فام هو طريق‬
‫إحرازه؟‬
‫قد نقض عدم إمكان وقوع اخلطإ يف القضايا القبلية باهلندسة اإلقليدية وما شاهبها‪ .‬فام هي احللول التي يمكن هبا‬
‫عالج ٰهذه املشكلة؟‬
‫أن أحدمها عني اآلخر مصدا ًقا؟ أم ّ‬
‫أن‬ ‫ينبغي قبل كل يشء أن نبحث ما هي العالقة بني البدهي والقبيل؟ وهل ّ‬
‫قسام من القضايا النظر ّية قبلي ٌة؟‬
‫القبيل أعم وأن ً‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 298‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫احلواس‬
‫ّ‬ ‫القبل ّية هي قض ّي ٌة ال حيتاج إدراكها والتصديق هبا إىل التجربة ّ‬
‫احلسـ ّية أو‬
‫الظاهر ّية‪ ،‬وهي قائم ٌة عىل العقل فقط؛ من قبيل قضايا الرياضيات واملنطق‪ ،‬واحلمل‬
‫إنسان)‪ ،‬وأمثاهلا‪ .‬ويف املقابل القض ّية البعد ّية هي ا ّلتي‬
‫ٌ‬ ‫األويل من قبيل قض ّية (اإلنسان‬
‫أيضا‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن املعرفة‬ ‫احلواس الظاهر ّية ً‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية أو‬
‫يقوم التصديق هبا عىل التجربة ّ‬
‫أيضا تنقسم إىل قسمني‪ :‬القبل ّية والبعد ّية‪ .‬فاملعرفة القبل ّية هي معرف ٌة ال تقوم عىل التجربة‬
‫ً‬
‫واحلواس الظاهر ّية‪ ،‬من قبيل املعارف الرياض ّية والفلسف ّية‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬املعرفة‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‬
‫ّ‬
‫حواس الظاهر ّية‪ ،‬من قبيل العلوم‬ ‫ّ‬ ‫البعـد ّية هي معرفـ ٌة قائمة علـى التجربة الـ ّ‬
‫حسـ ّية والـ‬
‫التجـريـب ّيـة(‪.)1‬‬
‫إنام‬ ‫احلواس الظاهر ّية)‪ً ،‬‬
‫بدال منها ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن تقييد التجربة بمصطلح (احليس)‪ ،‬أو ذكر (‬ ‫ّ‬
‫هو إلزالة الغموض‪ ،‬أو احتامل اإلطالق املوجود فـي مصطلح (التجربة)‪ .‬ومصطلح‬
‫(التجربة)‪ ،‬دون القيد املذكور له معنى عا ٌّم يشمل التجارب الذهن ّية ا ّلتي هي ٌ‬
‫نوع من‬
‫والشهودي‪ .‬ويمكن توسيع مفهوم التجربة ليشمل التجارب الشهود ّية‬
‫ّ‬ ‫احلضوري‬
‫ّ‬ ‫العلم‬
‫احلضوري‪ .‬وعىل‬
‫ّ‬ ‫وكذلك التأمالت الذهن ّية ا ّلتي هي ٌ‬
‫نوع من العلم‬ ‫احلضوري ٰ‬
‫ّ‬ ‫والعلم‬
‫احلواس‬
‫ّ‬ ‫أساس التعريف أو االصطالح األول ‪-‬وهو اختصاص التجربة بمعطيات‬
‫خاصة ال هي‬
‫معارف ّ‬
‫ُ‬ ‫احلسـ ّية‪ -‬توجد بني القضايا القبل ّية والبعد ّية‬
‫الظاهر ّية والتجربة ّ‬
‫ٍ‬
‫تعريف للقبيل والبعدي‪،‬‬ ‫قبل ّي ٌة وال بعدي ٌة‪ ،‬وهي املعارف احلضور ّية‪ .‬وعىل أساس ّأو ِل‬
‫أيضا ال قبل ّية وال‬ ‫فإن ٰهذه املعارف ال قبل ّي ٌة وال بعد ّي ٌة‪ ،‬كام ّ‬
‫أن القضايا احلاكية عنها ً‬ ‫ّ‬
‫بعد ّية‪ .‬و ٰلكن عىل أساس التعريف أو االصطالح الثاين‪ ،‬تكون ٰهذه املعارف أو القضايا‬
‫بعد ّية والتجربة شامل ٌة هلا‪ .‬ويمكن ً‬
‫أيضا تعريف مفهوم القبيل بنحو يشمل املعارف‬
‫احلضور ّية والقضايا احلاكية عنها‪.‬‬
‫وعليه ّ‬
‫فإن اجلواب عن هذا السؤال‪ :‬هل تقسيم املعارف أو القضايا إىل بعد ّية وقبل ّية‬
‫‪(1) See: Laurence, Bonjour, In Defense of pure Reason, Ch.2; Paul Moser (ed.),‬‬
‫;‪Apriori Knowledge, p.3-10‬‬
‫بالنتينجا‪ ،‬ألفني‪( ،‬مفاهيم بنيادين در معرفتشناسی) [مفاهيم أساسيّ ٌة يف نظر ّية املعرفة]‪ ،‬ترمجة حممدحسنيزاده‪،‬‬
‫الفصل الثالث‪.‬‬
‫‪299‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حرصي يدور مدار النفي واإلثبات أم ال؟ مبن ٌّي عىل التعريف املختار للقبيل والبعدي‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫وهو يف احلقيقة يرجع إىل التعاقد وجعل اإلصطالح‪.‬‬
‫مضا ًفا إىل قيد التجربة‪ ،‬هناك مشكلة أخرى يمكن أن تطرح حول تعريف املعرفة‬
‫احلواس‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية وعدم بنائها عىل‬
‫أو القض ّية القبل ّية ترجع إىل استقالهلا عن التجربة ّ‬
‫بأي‬
‫احلسـ ّية ّ‬ ‫يصح عىل أساس ٰهذا الرشط ُ‬
‫ربط املعرفة القبل ّية بالتجربة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الظاهر ّية‪ .‬وال‬
‫أن بعض القضايا ا ّلتي ُعدت قبل ّية مفاهيمها ‪-‬وهي عنارصها‬ ‫وجه كان‪ .‬لكن نجد ّ‬ ‫ٍ‬
‫واحلواس الظاهر ّية‪ .‬والكثري من‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‬
‫وأجزائها األصلية‪ -‬مأخوذة من التجارب ّ‬
‫القضايا ا ّلتي تعد نامذج ألصل امتناع اجتامع النقيضني وارتفاعهام عىل الرغم من كوهنا‬
‫احلواس الظاهر ّية؛ من قبيل أن يكون اجلسم الواحد‬
‫ّ‬ ‫قبلية‪ٰ ،‬لك ّن مفاهيمها حاصلة من‬
‫ومتحر ًكا وساكنًا ٰ‬
‫كذلك‪ ،‬ومتح ّي ًزا يف مكان‬ ‫ّ‬ ‫أسود ك ّله ويف الوقت نفسه غري أسود ك ّله‪،‬‬
‫وغري متح ّي ٍز الخ‪.‬‬
‫رضوري‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رشط‬ ‫أن التجربة املرتبطة باللون‪ ،‬واحلركة وغريمها‬ ‫واحلاصل هو ّ‬
‫لتحصيل املعرفة بمثل ٰهذه القضايا‪.‬‬
‫مربرة فيام لو استندت إىل التجارب‬ ‫ومن هنا ّ‬
‫فإن مثل ٰهذه القضايا إ ًّنام تكون ّ‬
‫احلسـ ّية رش ًطا رضور ًّيا لتربير القبول ٰهبذه القضايا‬
‫احلسـ ّية‪ .‬ويف احلقيقة ُتعد التجربة ّ‬
‫ّ‬
‫أمرا قبل ًّيا‪.‬‬
‫والتصديق هبا‪ .‬ومن هنا ال يمكن عد املعرفة ٰهبذه القضايا وتربيرها ً‬
‫بمالحظة االختالف بني وظائف العقل يف صناعة املفهوم وصناعة احلكم‪ ،‬يمكن‬
‫احلواس الظاهر ّية التمهيد لعمل ّية‬
‫ّ‬ ‫حل املشكلة املتقدمة بسهولة‪ .‬فعىل الرغم من إمكان‬ ‫ّ‬
‫الوصول إىل ٍ‬
‫كثري من املفاهيم الك ّل ّية‪ٰ ،‬لك ّن ٰهذا األمر ال يمنع قبل ّية القض ّية ّ‬
‫املكونة من‬
‫مثل ٰهذه املفاهيم وال احلكم فيها وتربير املعرفة هبا‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل التعريف‪ّ ،‬‬
‫فإن القض ّية أو املعرفة القبل ّية ال حتتاج يف التصديق والقبول‬
‫احلسـ ّية؛ ٰلكن ال يوجد‬
‫احلواس الظاهر ّية والتجربة ّ‬
‫ّ‬ ‫من حيث مها تصديق وقبول إىل‬
‫املقوم لقبل ّية املعرفة‬
‫احلسـ ّية من جهة املفهوم‪ .‬فاألمر ّ‬
‫مانع أن تكون مبن ّية عىل التجربة ّ‬
‫احلسـ ّية‪.‬‬
‫أو القض ّية هو أن يكون احلكم أو التصديق فيها مستغن ًيا عن التجربة ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 300‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن أغلب املفاهيم الفلسف ّية واملنطق ّية بلحاظ التحقق‪ ،‬هي‬ ‫وجيب االلتفات إىل ّ‬
‫مفاهيم ثانية‪ ،‬وعادة ما تتح ّقق بعد املفاهيم األوىل واملفاهيم اجلزئ ّية ّ‬
‫احلسـ ّية والشهود ّية‬
‫احلواس الظاهر ّية والتجربة‬
‫ّ‬ ‫عن طريق املقايسة واالنتزاع‪ ،‬والكثري منها يتح ّقق عن طريق‬
‫احلواس الظاهر ّية هي ا ّلتي تو ّفر األرض ّية املناسبة للحصول عليها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية؛ وبتعبري ّ‬
‫أدق‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أن قبل ّية التصديق‪ ،‬والقبول‪ ،‬واحلكم يف قض ّي ٍة ال يستلزم أن تكون‬ ‫واحلاصل هو ّ‬
‫احلسـ ّية‪ ،‬بل املهم هو أن يكون التصديق‬
‫أيضا غري مبن ّية عىل التجربة ّ‬ ‫املكونة هلا ً‬
‫املفاهيم ّ‬
‫ومستقال عنها‪ .‬ويف بحث تصنيف‬‫ً‬ ‫احلسـ ّية‪،‬‬
‫احلواس والتجربة ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحلكم فيها مستغن ًيا عن‬
‫وقلام نجد‬
‫متهد األرض ّية للوصول إىل كثري من املفاهيم‪ّ .‬‬
‫احلواس ّ‬
‫ّ‬ ‫املفاهيم ن ّبهنا عىل ّ‬
‫أن‬
‫مبارشا أو غري مبارش يف حتققه(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫دورا‬
‫احلواس أو العلوم احلضور ّية ً‬
‫ّ‬ ‫مفهو ًما مل تلعب‬
‫إذا كان الرشط يف املعرفة أو القض ّية القبل ّية مضا ًفا إىل احلكم والتصديق‪ّ ،‬أال تكون‬
‫املكونة هلا مأخوذ ًة عن طريق احلواس‪ ،‬فحينئذ تصبح دائرة القضايا القبل ّية‬
‫املفاهيم ّ‬
‫فإن موضوعات الكثري من القضايا‬ ‫ضيق ًة جدً ا‪ ،‬وق ّلام توجد عندنا قض ّية قبل ّية؛ ّ‬
‫وحمموالهتا من قبيل مصاديق أصل امتناع اجتامع النقيضني أو امتناع ارتفاعهام‪ ،‬وأصل‬
‫واحلواس ُ ِّحتقق أرض ّية‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اهلوهو ّية‪ ،‬مأخوذ ٌة ب ٍ‬
‫نحو غري مبارش من التجربة‬
‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫إنسان) مبن ّي ٌة‬
‫ٌ‬ ‫الوصول إليها‪ .‬حتّى قضايا احلمل األويل من قبيل قض ّية (اإلنسان‬
‫ألن مفاهيمها وموضوعاهتا وحمموالهتا منتزع ٌة من التجربة‬ ‫أيضا؛ ّ‬
‫ما عىل التجربة ً‬
‫أيضا مفاهيم ال تبتني‬ ‫احلسـ ّية ُحتقق أرض ّية الوصول إليها‪ .‬نعم هناك ً‬
‫احلسـ ّية‪ ،‬والتجربة ّ‬
‫ّ‬
‫واحلواس الظاهر ّية؛ من قبيل املفاهيم الك ّل ّية الشهود ّية‬
‫ّ‬ ‫مطل ًقا عىل التجربة ّ‬
‫احلسـ ّية‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وسعنا مفهوم التجربة لتشملها ً‬
‫للخوف‪ ،‬واحلب وأمثاهلام؛ إال إذا ّ‬
‫فإن القض ّية أو املعرفة القبل ّية هي ا ّلتي ال حيتاج‬
‫واحلاصل هو أنّه وف ًقا لرؤيتنا ّ‬
‫احلسـ ّية؛ حتّى لو‬
‫التصديق هبا‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وإدراكها‪ ،‬والقبول هبا‪ ،‬وتربيرها إىل التجربة ّ‬
‫احلسـ ّية‪.‬‬
‫احلواس والتجارب ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت مفاهيمها مبن ّية عىل‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬حممدحسني زاده‪( ،‬معرفت برشي؛ زيرساختها) [أسس املعرفة البرشية]‪ ،‬الفصل الثالث؛ املؤلف نفسه‪،‬‬
‫"معرفتشناسی" [نظر ّية املعرفة]‪ ،‬الفصل السابع‪ ،‬والثامن‪ ،‬والتاسع‪.‬‬
‫‪301‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وبمالحظة ما تقدّ م ُيعلم ّ‬


‫أن ما طرحناه يف بداية البحث من تعريف املعرفة‪ ،‬أو‬
‫وجهة إليه‪ .‬فالقض ّية أو املعرفة القبل ّية بغض‬
‫القض ّية القبل ّية متق ٌن ال ترد عليه النقود امل ّ‬
‫النظر عن كوهنا بده ّي ًة أم نظر ّي ًة‪ ،‬هي قض ّي ٌة أو معرف ٌة يتح ّقق التصديق هبا‪ ،‬وقبوهلا‬
‫واحلكم عليها عن طريق العقل فقط‪ ،‬وال حتتاج يف التصديق واحلكم إىل التجربة‬
‫أن املفاهيم املستعملة فيها قد تكون مبن ّي ًة‬
‫احلواس الظاهر ّية عىل الرغم من ّ‬
‫ّ‬ ‫احلسـ ّية أو‬
‫ّ‬
‫احلواس قد مهدت األرض ّية لنشوئها‪ .‬وطبيعي أنّه جيب‬ ‫ّ‬ ‫احلسـ ّية‪ ،‬وأن‬
‫عىل التجربة ّ‬
‫أن التصديق‪ ،‬والقبول‪ ،‬والتربير يف القضايا القبل ّية النظر ّية ال يتح ّقق إال عن‬ ‫التنبيه عىل ّ‬
‫طريق العقل واالستدالل الربهاين املعترب ا ّلذي يمتلك القيمة املعرف ّية‪ ،‬ومن ٰهذه اجلهة‬
‫احلواس الظاهر ّية مطل ًقا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال يبتني عىل‬
‫حمضة‪ ،‬بل مضا ًفا إىل سلب‬ ‫ٍ‬ ‫وبنية سلب ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫فإن التعريف السابق ليس ذا هو ّي ٍة‬ ‫وعليه ّ‬
‫قوة‬
‫أن ّ‬‫أيضا؛ ألنّه يتم تأكيدُ قـض ّيـ ِة ّ‬ ‫حسـ ّية له هو ّي ٌة إيـجاب ّي ٌة ً‬
‫ونفي االبتناء علـى التجربة الـ ّ‬
‫صحـته من دون الـحاجـة إلـى‬ ‫العقـل اإلدراك ّيـة هي ا ّلتي تدركه وتصـدق به‪ ،‬وتؤيد ّ‬
‫حواس أو التجارب احلـ ّسـ ّية(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫الـ‬
‫ٍ‬
‫عميقة يف املعرفة اإلنسان ّية؛ فبمثل‬ ‫ٍ‬
‫نتيجة‬ ‫والوصول إىل مثل ٰهذه املعرفة يؤ ّدي إىل‬
‫ٍ‬
‫عظيمة من العلوم العقل ّية املبن ّية عىل‬ ‫ٍ‬
‫جمموعة‬ ‫ٰهذه املعرفة يستطيع اإلنسان أن يصل إىل‬
‫العقل رص ًفا وعىل القضايا املستعملة يف تلك العلوم‪ ،‬وهي قضايا قبل ّية فقط (كام يف‬
‫العلوم الرياض ّية والفلسف ّية واملنطق ّية)‪.‬‬
‫ويمكـن أحيـانًا يف بعض تلك العلوم ‪-‬كالعلوم الفلسف ّية‪ -‬االستفادة من القضايا‬
‫كل مؤيدي القضايا القبلية رشو ًطا يف مسألة القبلية‪ ،‬وهم يرون أنّه إذا‬ ‫(‪ )1‬عرض أتباع التيار العقيل الكالسيكي بل ّ‬
‫فإن القضية القبلية هي التي يكون التصديق هبا‬ ‫حت ّققت ٰهذه الرشوط يف قضية ما‪ ،‬تكون قضي ًة قبل ّي ًة‪ .‬وبحسب رأهيم ّ‬
‫احلواس والتجارب احلسية‪ ،‬بل تكون مربر ًة باستنادها إىل العقل املحض ال غري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واحلكم فيها ال يستند مطل ًقا إىل‬
‫ٍ‬
‫ومتقن؛ استدالل متشكّل من قضايا قبلية فقط أو‬ ‫قوي‬ ‫ٍ‬
‫استدالل ٍّ‬ ‫مضا ًفا إىل ٰذلك إذا مل تكن بده ّية جيب أن تقوم عىل‬
‫ينتهي إليها‪ .‬مضا ًفا إىل ٰذلك اشرتطوا صدق تلك القضية ومطابقتها للواقع ( ‪See: Laurence, Bonjour, In‬‬
‫‪.)Defense of pure Reason, p6-8‬‬
‫وبمالحظة التعريف الـمختار والرشح الـمتقدم لقيوده وعنارصه‪ ،‬يمكن دراسة وتقويم التعريف أعاله وسائر‬
‫التعريفات البديلة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 302‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أيضا‪ ،‬ووضعها يف مقدّ مات االستدالل‪ .‬وعىل أ ّية ٍ‬


‫حال يرى املؤ ِّلف‬ ‫واملعارف البعد ّية ً‬
‫أن القضايا القبل ّية املستعملة يف ٰهذه العلوم إما بده ّي ٌة ال حتتاج إىل االستدالل‪ ،‬أو نظر ّية‬
‫ّ‬
‫مكو ٍنة من مقدّ مات قبل ّية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يمكن االستدالل عليها بأدلة ّ‬
‫أن ٰهذه القضايا‬‫وجيدر يف جمال تقويم القضايا القبل ّية وإحراز صدقها أن يقال‪ :‬بام ّ‬
‫ٌّ‬
‫مستقل‪ .‬والقضايا النظر ّية‬ ‫حكم‬
‫ٌ‬ ‫تنقسم إىل نظر ّي ٍة وبده ّي ٍة‪ ،‬فكل قسم منهام سيكون له‬
‫فيتم إحراز قيمة صدقها أو كذهبا‪.‬‬ ‫يتم تقويمها وتربيرها عرب إرجاعها إىل البده ّية ّ‬
‫ّ‬
‫وعليه ّ‬
‫فإن معيار صدق القضايا النظر ّية هو إرجاعها إىل القضايا البده ّية‪.‬‬
‫األول ّية قدّ م العلامء املسلمون معيارين‪:‬‬
‫ويف جمال صدق البدهيات ّ‬
‫‪ .1‬كوهنا ّأول ّي ًة‪ .2 .‬إرجاعها إىل التجارب الذهن ّية والعلوم احلضور ّية‪.‬‬
‫إن البحث يف معيار صدق القضايا أو التصديقات‪ ،‬ومنها البده ّيات ا ّلذي يعد‬ ‫ّ‬
‫بحث واسع جدً ا‪ .‬وقد بحثنا(‪ )1‬يف كتب سابقة حول‬ ‫ٍ‬
‫مسألة يف نظر ّية املعرفة‪ ،‬هو ٌ‬ ‫أهم‬
‫ّ‬
‫مفص ٍل‪ ،‬وسنبحثه بحوله تعاىل بتفصيل أكرب يف الكتاب الرابع(‪ ،)2‬كام‬ ‫بشكل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٰهذا األمر‬
‫سنبحث يف بق ّية األسئلة ا ّلتي ُيمكن طرحها يف باب التصديقات القبل ّية والرتكيب ّية‬
‫مفصل يف ٰهذا الكتاب هو البحث حول‬
‫والتحليل ّية وأمثاهلا‪ .‬وما جيب بحثه بشكل ّ‬
‫حقيقة التصديقات القبل ّية‪ ،‬ودراسة دور العقل فيها من منظار معريف‪.‬‬
‫النتيجة‬
‫واصلنا يف ٰهذا الفصل بحوث العقل املعرف ّية‪ ،‬فألقينا نظر ًة عابر ًة عىل وظائف‬
‫كل من املفاهيم والقضايا‪،‬‬‫القوة يف نطاق ّ‬ ‫العقل النظري‪ ،‬واستعرضنا نشاطات ٰهذه ّ‬
‫أن وظائف العقل كثرية جدً ا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫نتيجة هي ّ‬ ‫وتوصلنا إىل‬ ‫والدور ا ّلذي يلعبه يف ّ‬
‫كل منهام‪،‬‬
‫ّ‬
‫وواسعة باألشياء من خالل نشاطات العقل ووظائفه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عميقة‬ ‫ٍ‬
‫معرفة‬ ‫واإلنسان حيصل عىل‬
‫(‪ )1‬راجع‪ :‬حممدحسني زاده‪( ،‬پژوهشی تطبيقی در معرفت شناسی معارص) [دراسة مقارنة يف نظر ّية املعرفة‬
‫املعارصة]‪ ،‬الفصل السابع؛ املؤلف نفسه‪( ،‬درآمدی بر معرفتشناسی ومبانی معرفت دينی) [مدخل يف نظر ّية‬
‫املعرفة وأسس املعرفة الدينيّة]‪ ،‬القسم األول‪ ،‬الفصل السادس‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬املؤلف نفسه‪( ،‬مؤلفهها وساختارهای معرفت برشی؛ تصديقات يا قضايا) [عنارص وبنى املعرفة‬
‫اإلنسانية؛ التصديقات أو القضايا]‪( .‬املح ّقق)‪.‬‬
‫‪303‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الـمختلفة من قبيل انتزاع الـمفاهيم الك ّل ّية وإدراكها‪ ،‬والتعريف أو التحليل‪ ،‬واحلكم‪،‬‬
‫وصناعة القض ّية‪ ،‬واالستدالل‪ .‬التعريفات والتحليالت ا ّلتي تذكر للمفاهيم أو‬
‫االستدالالت ا ّلتي تقام إلثبات بعض القضايا وغريها‪ ،‬هي جـمي ًعا معارف ينالـها‬
‫اإلنسان بوساطة مصدر أو آلة العقل‪.‬‬
‫توصلنا إىل أ ّن التصديق العلمي واحلكم فـي مجيع القضايا حتّى القضايا‬ ‫ٰ‬
‫وكذلك ّ‬
‫احلسـ ّية الشخص ّية أو املحسوسات هو من وظائف العقل‪ ،‬و ٰذلك خال ًفا لـام خيطر يف‬
‫ّ‬
‫بأن العقل ُم ٌ‬
‫درك للك ّليات ال يتناّف مع ٰهذه‬ ‫الذهن بادئ ذي بدء‪ .‬والقول املشهور ّ‬
‫أن املفاهيم الك ّل ّية (املعقوالت)‪ُ ،‬تدرك عن‬
‫ألهنا ناظر ٌة إىل املفاهيم‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫الرؤية؛ ّ‬
‫طريق العقل فقط‪ٰ .‬لك ّن ٰهذا القول ال يشمل القضايا‪ .‬احلكم يف مجيع القضايا يف عهدة‬
‫العقل سواء الشخص ّية أم غريها‪.‬‬
‫احلواس يف احلكم‬
‫ّ‬ ‫ومن الواضح ّ‬
‫أن النتيجة املذكورة ال تستلزم نفي مساعدة‬
‫احلسـ ّية الشاملة للمحسوسات أو التجريب ّيات‪.‬‬
‫والتصديق يف القضايا ّ‬
‫نوع من‬ ‫ٍ‬
‫ثم ذكرنا آخر وظيفة للعقل وهي االستدالل أو االستنتاج‪ .‬واالستدالل ٌ‬
‫الوالدة الفكر ّية أو اإلنتاج الذهني حيصل عن طريق ترتيب عدّ ة قضايا معلومة‬
‫وهذا النشاط أو الوظيفة العقل ّية له أشدّ التأثري‬
‫ومرتابطة‪ ،‬وهو بدوره له أنواع كثرية‪ٰ .‬‬
‫يف دائرة املعرفة اإلنسان ّية وتنميتها‪.‬‬
‫وكذلك الدور ا ّلذي تلعبه ٰهذه القضايا‬
‫ثم ن ّبهنا عىل دور العقل يف القضايا القبل ّية‪ٰ ،‬‬
‫يف املعارف اإلنسان ّية‪ ،‬وب ّينا حقيقتها‪.‬‬
‫فإن القبل ّية قض ّي ٌة يبتني إدراكها وتصديقها واعتبارها‬
‫وبحسب رؤية ٰهذا الكتاب ّ‬
‫عىل العقل فقط وال ُحيتاج من ٰهذه اجلهة إىل أي مصدر أو آلة أخرى‪.‬‬
‫أن‬‫ويف تقويم التعريف املختار حول القضايا القبل ّية وصلنا إىل نتيجة مفادها ّ‬
‫وبنية سلب ّي ٍة فقط‪ ،‬بل يشتمل عىل هو ّي ٍة إجياب ّي ٍة‬‫ٍ‬ ‫التعريف املطروح ال يشتمل عىل هو ّي ٍة‬
‫درك تلك القضايا‬ ‫قوة العقل اإلدراك ّية ا ّلتي ُت ِ‬ ‫مضا ًفا إىل السلب؛ ألنّه ّ‬
‫تم التأكيد فيه عىل ّ‬
‫احلسـ ّية‪.‬‬
‫احلواس أو التجارب ّ‬
‫ّ‬ ‫وتصدّ قها‪ ،‬وتؤ ّكد ّ‬
‫صحة مفادها من دون حاجة إىل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 304‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فإن أهم ميزة يف القضايا القبل ّية هي ّ‬


‫أن مصدر إدراكها وفهمها وحتقيقها‬ ‫وعليه ّ‬
‫هو العقل ال غري‪ّ ،‬‬
‫وأن املنهج العقيل هو العامل فيها دون غريه‪.‬‬
‫ويف علم الـهندسة وسائر العلوم الرياض ّية نصل إىل الـمعارف القبل ّية عن طريق‬
‫مصدر العقل‪.‬‬
‫ومضا ًفا إىل ٰذلك فإن احلصول عىل املعرفة يف العلوم الفلسف ّية من قبيل علم الوجود‪،‬‬
‫الفلسفي‪ ،‬وفلسفة األخالق‪ ،‬وفلسفة الدين‪ ،‬ونظر ّية املعرفة وأمثاهلا عادة‬
‫ّ‬ ‫وعلم النفس‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ُيبنى عىل ٰهذه األداة أو الطريق‪ ،‬ومنهج التحقيق فيها عقيل ً‬
‫أن العقل يف القضايا أو التصديقات‬ ‫ٍ‬
‫نتيجة هي ّ‬ ‫وعىل أساس ما تقدّ م وصلنا إىل‬
‫خاصا‪.‬‬
‫دورا ًّ‬
‫القبل ّية يلعب ً‬
‫كبريا من التصديقات واملعارف‬
‫قوة العقل اإلدراك ّية سيخرس اإلنسان كـ ًّام ً‬
‫ومن دون ّ‬
‫وخاصة الـمعارف األساس ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أعم من النظر ّية والبده ّية‪،‬‬
‫التي هي ّ‬
‫***‬
‫‪305‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الـمـصـادر‬
‫‪ .1‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪،‬‬
‫حتقيق حسن حسن زاده اآلميل‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪ 1383 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .2‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬دفرت نرش كتاب‪ ،‬طهران‪ 1403 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .3‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬الطبيعيات‪ .6 ،‬النفس‪ ،‬حتقيق سعيد زايد وجود قنوايت‪ ،‬مكتبة آية اهلل‬
‫املرعيش النجفي‪ 1404 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .4‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .2،‬املقوالت‪ ،‬حتقيق ابراهيم مدكور‪ ،‬مكتبة آية اهلل املرعيش النجفي‪،‬‬
‫قم ‪ 1404‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .5‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬املنطق‪ .3،‬العبارة‪ ،‬حتقيق حممود خرضي‪ ،‬مكتبة آية اهلل املرعيش النجفي‪،‬‬
‫قم ‪ 1404‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .6‬ابن سينا‪ ،‬النجاة‪ ،‬تصحيح حممد تقي دانش‪ ،‬منشورات جامعة طهران‪ ،‬طهران‪1364 ،‬‬
‫هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .7‬ابن سينا النفس من كتاب الشفاء‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده اآلميل‪ ،‬مركز النرش التابع ملكتب‬
‫اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬قم‪ 1375 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .8‬ابن سينا‪ ،‬كتاب احلدود‪ ،‬يف‪ :‬رسائل ابن سينا‪ ،‬بيدار‪ ،‬قم‪ 1400 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .9‬اآلشتياين‪ ،‬سيد جالل الدين‪ ،‬رشح مقدمه قيرصى بر فصوص احلكم (رشح مقدمة القيرصي‬
‫عىل فصوص احلكم)‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬أمري كبري‪ ،‬طهران‪ 1370 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .10‬آل ياسني‪ ،‬جعفر‪ ،‬الفارايب يف حدود ورسومه‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ 1405 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .11‬بالنتينجا‪ ،‬ألفني وآخرون‪( ،‬مفاهيم بنيادين در معرفت شنايس) [مفاهيم أساسة يف نظرية‬
‫املعرفة[‪ ،‬ترمجة حممد حسني زاده‪ ،‬زالل كوثر‪ ،‬قم‪ 1382 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .12‬التحصيل‪ ،‬تصحيح مرتضيى املطهري‪ ،‬منشورات جامعة طهران‪ ،‬طهران ‪ 1349‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .13‬التهانوي‪ ،‬حممد عيل‪ ،‬موسوعة كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬حتقيق عيل دحروج‪،‬‬
‫مكتبة لبنان نارشون‪ ،‬بريوت‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .14‬جيلسون‪ ،‬إتيان‪( ،‬عقل ووحي در قرون وسطا) ]العقل والوحي يف القرون الوسطى[‪ ،‬ترمجة‬
‫شهرام بازوكي‪ ،‬وزارة الثقافة والتعليم العايل‪ ،‬طهران‪ 1371 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 306‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫‪ .15‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬مدخل يف نظرية املعرفة وأسس املعرفة الدينية)‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مؤسسة‬
‫اإلمام اخلميني‪ ‬للتعليم والبحث‪ ،‬قم‪ 1385 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .16‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪ ،‬فصلية (معرفت فلسفى) العدد ‪ ،5‬خريف ‪ 1383‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .17‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬فلسفة الدين)‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪ 1388 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .18‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬أسس املعرفة الدين ّية)‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬مؤسسة اإلمام اخلميني‪ ‬للتعليم‬
‫والبحث‪ ،‬قم‪ 1381 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .19‬حسني زاده‪ ،‬حممد‪( ،‬املعرفة الدين ّية؛ العقالنية واملصادر)‪ ،‬مؤسسة اإلمام اخلميني ‪ ‬للتعليم‬
‫والبحث‪ ،‬قم‪ 1389 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .20‬احليل‪ ،‬احلسن بن يوسف‪ ،‬اجلوهر النضيد يف رشح منطق التجريد‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بيدار‪ ،‬قم‪،‬‬
‫‪ 1381‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .21‬الرازي‪ ،‬فخر الدين حممد‪ ،‬املباحث املرشقية‪ ،‬أسدي‪ ،‬طهران‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .22‬الرازي‪ ،‬قطب الدين حممد‪ ،‬تعليقة عىل رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬يف‪ :‬نصري الدين الطويس‪،‬‬
‫رشح اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دفرت نرش كتاب‪ ،‬طهران‪ 1403 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .23‬الزنوزي‪ ،‬مال عبد اهلل‪ ،‬ملعات إهلية‪ ،‬تصحيح سيد جالل الدين اآلشتياين‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫مؤسسه مطالعات وحتقيقات فرهنكي‪ ،‬طهران‪ 1361 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .24‬الساوي‪ ،‬ابن سهالن‪ ،‬البصائر النصريية‪ ،‬املدرسة املرتضوية‪ ،‬قم‪ 1316 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .25‬السبحاين جعفر‪ ،‬كليات يف عليم الرجال‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مركز مديرية حوزه علميه قم‪،‬‬
‫‪ 1366‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .26‬السبزواري‪ ،‬مال هادي‪ ،‬تعليقة عىل السفار‪ ،‬يف‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬احلكمة املتعالية‬
‫يف االسفار العقلية االربعة‪ ،‬دار احياء الرتاث العريب بريوت‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .27‬السبزواري‪ ،‬مال هادي‪ ،‬رشح املنظومة‪ ،‬مصطفوي‪ ،‬قم‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ .28‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين‪ ،‬األلواح العامدية‪ ،‬يف‪ :‬شهاب الدين السهروردي‪( ،‬ثالث رسائل‬
‫لشيخ اإلرشاق)‪ ،‬تصحيح جمفقيل حبيبي‪ ،‬طهران‪ 1356 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .29‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة‪ ،‬مصطفوي‪ ،‬قم‪،‬‬
‫(د‪ .‬ت) ودار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪307‬‬ ‫العقل من منظار نظريّة املعرفة |‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ .30‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح سيد جالل الدين اآلشتياين‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪ 1354‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫درة التاج‪ ،‬تصحيح حممد مشكوة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬حكمت‪،‬‬
‫‪ .31‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين حممد‪ّ ،‬‬
‫طهران‪ 1369 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .32‬الشريازي‪ ،‬قطب الدين حممود‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬بيدار‪ ،‬قم‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ .33‬الصدر‪ ،‬السيد حممد باقر‪ ،‬فلسفتنا الطبعة الثالثة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬قم‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .34‬الصدوق كتاب التوحيد‪ ،‬مؤسسة النرش‬
‫‪ .35‬الطباطبائي‪ ،‬السيد حممد حسني‪( ،‬اصول الفلسفة)‪ ،‬يف‪ :‬مرتىض املطهري‪( ،‬اصور الفلسفة‬
‫واملنهج الواقعي)‪ ،‬دار بالعلم‪ ،‬قم‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ .36‬الطباطبائي‪ ،‬السيد حممد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية‪،‬‬
‫قم‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ .37‬الطباطبائي‪ ،‬السيد حممد حسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬تصحيح غال مرضا فيايض‪ ،‬مؤسسة االمام‬
‫اخلميني‪ ‬للتعليم والبحث‪ ،‬قم‪ 1386 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .38‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬اساس االقتباس‪ ،‬تصحيح حممد تقي مدرس رضوي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫منشورات امعة طهران‪ ،‬طهران‪ 1355 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .39‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬رشح االشارات والتنبيهات‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دفرت نرش كتاب‪ ،‬طهران‬
‫‪ 1403‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .40‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬رشح االشارات والتنبيهات‪ ،‬حتقيق حسن حسن زاده اآلميل‪ ،‬بوستان‬
‫كتاب‪ ،‬قم‪ 1383 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .41‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬منطق التجريد‪ ،‬يف‪ :‬احلسن بن يوسف احليل‪ ،‬اجلوهر النضيد يف رشح‬
‫منطق التجريد‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بيدار‪ ،‬قم‪ 1380 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .42‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬نقد املحصل‪ ،‬باهتامم عبد اهلل نوراين‪ ،‬منشورات جامعة طهران‪،‬‬
‫طهران‪ 1359 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .43‬عبوديت‪ ،‬عبد الرسول‪ ،‬النظام الفليس للحكمة املتعالية [ترمجة كتاب در آمدى به نظام‬
‫حكمت صدرائي‪ ،‬سمت ومؤسسة االمام اخلميني‪ ‬للتعليم والبحث‪ ،‬طهران وقم‪1385 ،‬‬
‫هـ‪.‬ش[‪ ،‬تعريب السيد عيل عباس املوسوي‪ ،‬مراجعة د‪.‬خنجر محية‪ ،‬مركز لتنمية الفكر‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 308‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫االسالمي‪ ،‬بريوت‪2010 ،‬م‪.‬‬


‫‪ .44‬الفارايب‪ ،‬ابونرص‪ ،‬األلفاظ املستعملة يف املنطق‪ ،‬ترمجة ورشح ملكشاهى‪ ،‬رسوش‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪ 1377‬هـ‪ِ.‬ش‪.‬‬
‫‪ .45‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب بن اسحاق‪ ،‬الكايف(ط‪ -‬اإلسالم ّية)‪ ،‬حمقق‪/‬مصحح‪ :‬غفاري‪ ،‬عيل‬
‫اكرب ومحد آخوندي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار الكتب اإلسالم ّية‪ ،‬طهران‪ 1407 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .46‬كوبلستون‪ ،‬فريدريك‪( ،‬تاريخ الفلسفة)‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬املجلد االول‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬رسوش‪ ،‬طهران‪ 1368 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .47‬لوين وآخرون‪( ،‬فلسفة أو بحث احلقيقية)‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬مؤسسة‬
‫انتشارات جاويدان‪ ،‬طهران‪ 1351 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .48‬الكليني‪ ،‬حممد بن يعقوب بن اسحاق‪ ،‬الكايف (ط‪ -‬اإلسالم ّية)‪ ،‬حمقق ‪ /‬مصحح‪ :‬غفاري‪،‬‬
‫عيل اكرب آخوندي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار الكتب اإلسالم ّية‪ ،‬طهران‪ 1407 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .49‬كوبلستون‪ ،‬فريدريك‪( ،‬تاريخ الفلسفة)‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬املجلد األول‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬رسوش‪ ،‬طهران‪ 1368 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .50‬لوين وآخرون‪( ،‬الفلسفة أو بحث احلقيقة)‪ ،‬ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي‪ ،‬مؤسسة‬
‫انتشارات جاويدان‪ ،‬طهران‪ 1351 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .51‬املجليس‪ ،‬حممد باقر‪ ،‬بحار االنوار‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مؤسسة الوفاء‪ ،‬بريوت‪ 1403 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ .52‬مصباح اليزدي‪ ،‬حممد تقي‪( ،‬املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة)‪ ،‬سازمان تبليغات إسال ّمي‪،‬‬
‫طهران‪ 1364 ،‬و‪ 1379‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫‪ .53‬املطهري‪ ،‬مرتىض‪( ،‬جمموعة املؤلفات)‪ ،‬املجلد السادس‪ ،‬والثامن‪ ،‬والتاسع‪ ،‬الطبعة السادسة‪،‬‬
‫صدرا‪ ،‬قم‪ 1377 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬قم‪ 1423 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .54‬املظفر‪ ،‬حممد رضا‪ ،‬املنطق‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مؤسسة النرش‬
‫اإلسالمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .55‬اليزدي‪ ،‬مال عبد اهلل‪ ،‬احلاشية عىل هتذيب املنطق‪ ،‬الطبعة العارشة‪ ،‬مؤسسة النرش‬
‫قم‪ 1363 ،‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫***‬
‫‪ّ7‬‬
‫معيار البداهة التص ّورية‬
‫فـي املفـاهـيـم البـديهـ ّية‬
‫( *)‬

‫(**)‬
‫دٌيدٌاللهٌيزدانٌبنا ٌه‬
‫السي ٌ‬

‫(*) مصـــدر البحث‪ :‬تأ ّمالت يف فلســـفة الفلســـفة‬


‫اإلسـالم ّية‪( ،‬الفصـل األول)‪ :‬مباحث يف نظرية املعرفة‬
‫واملنهج املعريف‪ .‬ترجمـة‪ :‬أحمـد وهبـة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار املعـارف‬
‫الحكمية‪.2021 ،‬‬
‫(**) أستاذ الفلسفة والعرفان يف الحوزة العلمية ‪ /‬قم‪.‬‬
‫الـمـلـ ّخـص‬
‫يذهب الفالسفة املسلمون إىل ّ‬
‫أن موضوع الفلسفة ‪-‬أي املوجود بام هو موجود‪-‬‬
‫التصورية بالنسبة ملوضوع‬
‫ّ‬ ‫التصورية والتصديق ّية م ًعا‪ ،‬واملقصود بالبداهة‬
‫ّ‬ ‫يتمتّع بالبداهة‬
‫وأن إدراك العقل له ال يتو ّقف عىل إدراك‬
‫بني وواضح‪ّ ،‬‬ ‫الفلسفة هي ّ‬
‫أن مفهوم (املوجود) ّ ٌ‬
‫ٍ‬
‫بمعلومات أخرى أو‬ ‫مفهو ٍم آخر قبله‪ ،‬فإلدراك مفهوم الوجود ال حاجة إىل االستعانة‬
‫ٍ‬
‫عملية فكر ّية‪.‬‬ ‫ترتيب‬
‫التصور ّية ملفهوم (املوجود)؟ ولإلجابة عىل هذا‬‫ّ‬ ‫ولكن ما هو املعيار يف البداهة‬
‫السؤال ال بدّ ّأو ًال من معرفة ما هو معيار بداهة املفهوم؛ أل ّننا إذا علمنا معنى البداهة‬
‫حينئذ توضيح ِمالك بداهة مفهوم‬ ‫ٍ‬ ‫ومالك ذلك فإنّنا نستطيع‬ ‫التصورية للمفهوم ِ‬
‫ّ ّ‬
‫ٌ‬
‫بحث يف علم املعرفة ونظر ّية‬ ‫أيضا‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا فالبحث املطروح هنا‬ ‫(املوجود) ً‬
‫املعرفة؛ أل ّنه يبحث يف معيار بداهة املفاهيم‪.‬‬
‫أيضا جز ٌء من أبحاث علم املعرفة‪ ،‬فاملفاهيم‬
‫التصورات هو ً‬
‫ّ‬ ‫أن بحث‬ ‫ونحن نعتقد ّ‬
‫البدهي ّية هي أساس تعريف املفاهيم األخرى وحتصيلها‪.‬‬
‫أن ِمعيار بداهة املفاهيم األساس ّية وكذلك دور هذه املفاهيم يف عملية‬ ‫وغري ٍ‬
‫خاف ّ‬
‫التصورات‪ .‬ومع‬
‫ّ‬ ‫املهمة يف باب‬
‫إدراك التصورات األخرى يعد من مسائل علم املعرفة ّ‬
‫التصور ّية ملفهوم املوجود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا ِمعيار البداهة‬
‫اتّضاح ِمعيار بداهة املفاهيم يتّضح ً‬
‫ولذا فإ ّننا سوف نبحث هنا ِمعيار بداهة املفاهيم طب ًقا آلراء الفالسفة املسلمني‪،‬‬
‫وبعد استعراض آراء ابن سينا وشيخ اإلرشاق واخلواجة نصري الدين الطويس واملال‬
‫صدرا والعالمة الطباطبائي واألستاذ مصباح يزدي‪ ،‬سوف نقوم بالتحقيق يف هذه املسألة؛‬
‫نقسم املفاهيم ابتدا ًء إىل قسمني‪ :‬مفاهيم جزئ ّية ومفاهيم كل ّية‪ ،‬ثم نبحث‬
‫وهلذا فسوف ّ‬
‫كل منهام‪ ،‬ويف النهاية ‪-‬ومن أجل إمتام البحث وتوضيح بعض النقاط األخرى‬ ‫يف بداهة ٍّ‬
‫نتعرض ملسألة تعريف املفاهيم‪.‬‬
‫املرتبطة باملفاهيم البدهيية والنظرية‪ -‬سوف ّ‬
‫الكلمـات املفـتاحيـة‪ :‬البديـهيات‪ ،‬املحسوسات‪ ،‬احلضوري‪ ،‬املفهوم الكيل‪،‬‬
‫التعريف‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 312‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫معيار بداهة املفاهيم عند الفالسفة املسلمي‬


‫رأي ابن سينا‬
‫يعتقد ابن سينا أنّنا يف دائرة املحسوسات ُنشاهد ّأو ًال اجلزئ ّيات املا ّد ّية‪ ،‬ثم ُندرك‬
‫الكل ّيات بعد ُمشاهدة اجلزئ ّيات املحسوسة(‪ ،)1‬فيذهب ابن سينا ‪-‬تب ًعا ألرسطو‪ -‬إىل‬
‫احلس‪ ،‬وأما عند العقل فاألمور العا ّمة‬
‫ف عند ّ‬ ‫أن املحسوسات الشخص ّية اجلزئية أعر ُ‬ ‫ّ‬
‫يتم إدراكها ومعرفتها قبل‬
‫والكل ّيات هي األعرف‪ ،‬ومقصوده من كوهنا أعرف أنه ّ‬
‫سائر املفاهيم‪.‬‬
‫إن العقل عندما ُيدرك (ذات)‬ ‫يستحق التأ ّمل البن سينا يقول فيه‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫مهم‬
‫وثمة كال ٌم ٌّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫يشء ما فإ ّنه يكون قد أدرك ّأو ًال األمر الذي يكون عنده أعرف‪ ،‬أي األمر ال ُك ّ ّيل‪ ،‬وللمثال‪،‬‬
‫املتحرك‬
‫ّ‬ ‫احلساس‬ ‫درك ّأو ًال احليوان (اجلسم النامي ّ‬‫فإ ّنه قبل إدراك ذات اإلنسان‪ُ ،‬ي ِ‬
‫باإلرادة)‪ّ .‬‬
‫فكل مفهو ٍم يكون كل ًّيا أكثر يكون هو األعرف عند العقل؛ أي ّ‬
‫يتم إدراكه يف‬
‫ٍ‬
‫سابقة عىل غريه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مرتبة‬
‫فإذا قمنا بتحليل عمل ّية املعرفة العقل ّية فام هو املسار الذي نجده؟ يقول الفالسفة‪:‬‬
‫إن العقل ُيسانخ الكل ّيات ويتناسب معها؛ وهلذا ّ‬
‫فإن ما يكون أشبه بالعموم والكل ّية‬ ‫ّ‬
‫يكون أعرف عند العقل(‪.)2‬‬
‫فإن اجلزئيات املحسوسة هي التي ّ‬
‫حتتل املرتبة‬ ‫احلس ّ‬
‫وأما إذا الحظنا األعرف عند ّ‬
‫املجردة يف املراتب التالية‪.‬‬
‫األوىل يف اإلدراك‪ ،‬وتأيت بعدها الصور اخليال ّية والصور العقل ّية ّ‬
‫ولكن األمر ليس كذلك عند العقل؛ فلكي ُيدرك العقل ذات النوع ال بدّ له من‬
‫سابقة‪ ،‬فالذي يكون كل ًّيا أكثر يكون هو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مرتبة‬ ‫إدراك أجناسه وفصوله مجيعها يف‬
‫ويتحرك منها باّتاه‬
‫ّ‬ ‫األعرف عند العقل‪ ،‬فالعقل يبدأ من أكثر املفاهيم سع ًة وكل ّي ًة‪،‬‬
‫املفاهيم األخص‪.‬‬

‫املشاؤون عملي ًة إلدراك املفهوم الكيل ُيطلق عليها (نظر ّية التقشري)‪.‬‬
‫(‪ )1‬يطرح ّ‬
‫يتم تعريف املفاهيم الوجود ّية بام يشبه اجلنس‪.‬‬
‫خيتص العموم اجلنيس أحيانًا‪ ،‬باملفاهيم املاهو ّية؛ ولذلك ّ‬
‫(‪ّ )2‬‬
‫‪313‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أعم املفاهيم (مثل الوجود واليشء و‪ )...‬أعرف‬ ‫وطب ًقا هلذه القاعدة تكون ّ‬
‫املفاهيم‪ ،‬والعقل ُي ِ‬
‫دركها قبل إدراكه ومعرفته لسائر املفاهيم األخرى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فليس هناك مفهو ٌم أكثر كل ّي ًة من ّ‬
‫أعم املفاهيم كي يرجع إليه‬
‫أعم املفاهيم أهنا بدهيية‪ .‬وعليه فيكفينا إلثبات‬‫خاصية ّ‬
‫العقل يف معرفتها؛ ولذا فمن ّ‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ لن يكون ذلك‬ ‫ألعم املفاهيم‬ ‫أن ذلك املفهوم مصداق‬‫بداهة مفهوم ما أن ُنثبت ّ‬
‫ّ‬
‫بحاجة إىل تعريف‪ .‬ومن هنا فقد عد الشيخ الرئيس األمور العا ّمة داخل ًة ضمن‬‫ٍ‬ ‫املفهوم‬
‫أبده البدهييات‪.‬‬
‫ويوجد للشيخ الرئيس تـ ٌ‬
‫حليل مشاب ٌه لـهذا‪ ،‬ذكره فـي الـمقارنة بني الـمفاهيم‬
‫حس‪ ،‬بينمـا البسائط أعرف‬‫الـمركّبة والبسيطة‪ ،‬حيث يقول إن الـمركّبات أعرف عند الـ ّ‬
‫عند العقل‪ .‬فك ّلام كان اليشء أبسط كان أعرف وأوضح عند العقل؛ ولذا ّ‬
‫فإن الـمفاهيم‬
‫البسيطة تكون بدهي ّية عند العقل‪.‬‬
‫وأصل هذا البحث طرحه أرسطو يف بداية بحث (السامع الطبيعي)(‪ ،)1‬وقد طرحه‬
‫أيضا‪ ،‬وقد‬
‫ابن سينا يف الشفاء ‪-‬تب ًعا ألرسطو‪ -‬يف بداية أبحاث (السامع الطبيعي) ً‬
‫رصح بتبع ّيته يف ذلك ألرسطو يف برهان الشفاء(‪)2‬؛ وهلذا يقول ابن سينا يف بداية إهل ّيات‬
‫ّ‬
‫الشفاء أن مفاهيم مثل‪ :‬املوجود‪ ،‬واليشء‪ ،‬والرضورة (رضورة الوجود ورضورة‬
‫العدم)‪ ،‬واإلمكان ترتسم يف النفس ارتسا ًما ّأول ًيا‪ ،‬أي ّإهنا بدهيية‪ ،‬وهذا نص كالمه‪:‬‬
‫متصور ًة ألنفسها(‪ ،)3‬األشياء العا ّمة لألمور ك ّلها‪ ،‬كاملوجود‬
‫ّ‬ ‫"أوىل األشياء بأن تكون‬
‫واليشء والواحد وغريه؛ هلذا ليس يمكن أن يبني يشء منها ٍ‬
‫ببيان ال دور فيه الب ّتة‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬أرسطو‪ ،‬السامع الطبيعي‪ ،‬ترمجه إىل الفارسيّة حممد حسن لطفي‪ ،‬الصفحتني‪.16-15 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (الطبيعيات)‪ ،‬السامع الطبيعي‪ ،‬الصفحات ‪ ،10 - 8‬والصفحة ‪12‬؛ الشفاء (املنطق)‪،‬‬
‫الربهان‪ ،‬الصفحات‪.109 - 107 :‬‬
‫أيضا إىل كلامت ابن سينا؛ انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬األسفار‪،‬‬
‫وكالم املال صدرا يف هذا املجال ناظر ً‬
‫اجلزء ‪ ،5‬الصفحات ‪ .266 - 264‬مالحظة‪ُ :‬نشري يف هذا الكتاب إىل كتاب (احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية‬
‫األربعة) باسمه املشهور واملخترص (األسفار)‪.‬‬
‫تصورات أخرى‪.‬‬
‫تصوره إىل ّ‬
‫(‪ )3‬أي‪ّ :‬بني بنفسه وبدهيي ّأو ّيل‪ ،‬وال حيتاج يف ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 314‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ببيان ٍ‬
‫يشء أعرف منها"(‪.)1‬‬ ‫ِ‬

‫وأولي ًة هو كوهنا‬
‫واملالك يف كون األمور العا ّمة أوىل من غريها بأن تكون بدهي ّي ًة ّ‬
‫أعرف عند العقل؛ وهلذا ّ‬
‫فإن األمور العا ّمة ال تقبل التعريف احلقيقي‪ ،‬وإذا ما ُع ّرفت‬
‫فال حميص لتعريفها من الوقوع يف الدور(‪.)2‬‬
‫واحلاصل أن ِمعيار بداهة املفاهيم التي هلا األولوية بالبداهة مثل مفهوم (املوجود)‬
‫هو عموم ّيتها وبساطتها‪.‬‬
‫وبمالحظة أبحاث التعريف يف علم املنطق يمكن القول بأ ّنه ال بدّ يف التعريف‬
‫أيضا ‪-‬أي الفصل‪ -‬وأ ّما األمر البسيط فال‬
‫خاص ً‬
‫ٍّ‬ ‫احلقيقي من عا ٍّم ‪-‬أي اجلنس‪ -‬ومن‬
‫خمتص باملركّبات‪ ،‬فاألمر غري املركّب من‬
‫احلدي ٌّ‬
‫ّ‬ ‫حدي حقيقي له؛ ّ‬
‫ألن التعريف‬ ‫ّ‬ ‫تعريف‬
‫حقيقي‬
‫ّ‬ ‫حدي‬
‫ّ‬ ‫احلدي‪ .‬كذلك ّ‬
‫فإن أعم املفاهيم ال تعريف‬ ‫ّ‬ ‫جنس وفصل ال يقبل التعريف‬
‫نتممه‬
‫األعم‪ ،‬ثم ّ‬
‫ّ‬ ‫له؛ أل ّنه ال جنس له حتى يؤتى به يف تعريفه‪ ،‬ففي التعريف نبدأ من األمر‬
‫اخلاص إليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بإضافة األمر‬
‫خاصة ليحصل منها‬ ‫أعم املفاهيم ال يمكن مجعها مع ٍ‬
‫أمور ّ‬ ‫ومن جهة أخرى ّ‬
‫فإن ّ‬
‫أعم مع ٍ‬
‫أمر‬ ‫أعم املفاهيم لو كانت ناّت ًة عن تركيب ٍ‬
‫أمر ّ‬ ‫مركّب يقبل التعريف؛ ّ‬
‫ألن ّ‬
‫أمر أعم منها قد اجتمع‬ ‫ٍ‬
‫أعم املفاهيم‪ ،‬وسوف يكون هناك ٌ‬
‫فإهنا حينئذ لن تكون ّ‬ ‫خاص‪ّ ،‬‬
‫ٍّ‬
‫خاص‪ ،‬وقد تشكّلت هي [عىل الفرض] من جمموع ذلك‪ .‬مضا ًفا إىل ّ‬
‫أن اجلزء‬ ‫ٍّ‬ ‫مع ٍ‬
‫أمر‬
‫أعم املفاهيم‬
‫ألن حقيقة ّ‬‫خاصا؛ ّ‬
‫أمرا ً‬‫أساسا أن يكون ً‬
‫ً‬ ‫ألعم املفاهيم ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫الذايت‬
‫أعم الـمفاهيم بسيط بالرضورة‪ .‬فالبساطة‬ ‫فإن ّ‬‫خاص‪ .‬والنتيجة ّ‬ ‫ّ‬ ‫كونـه أعـ ّم من كـ ّل‬
‫واألعم ّيـة سـبب ألعرف ّيـة هذه األمـور عند العقـل‪ ،‬واألعرف ّية عند العقـل هي الـ ِمالك‬
‫األصيل لبداهة هذه الـمفاهيم‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (اإلهليات)‪ ،‬الصفحة‪.30 :‬‬


‫(‪ )2‬ملطالعة تعليق املال صدرا يف هذا املجال انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬احلاشية عىل إهليات الشفاء‪ ،‬الصفحة‪:‬‬
‫‪ ،24‬وقد استفاد املال صدرا يف هذا املبحث من كلامت الفخر الرازي يف املباحث املرشقية‪ ،‬انظر‪ :‬فخر الدين حممد‬
‫الرازي‪ ،‬املباحث املرشقية‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحتني‪.12-11 :‬‬
‫‪315‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التصورية هو‬
‫ّ‬ ‫أن املِالك األصيل للبداهة‬
‫ومن اجلدير االلتفات إىل هذه النقطة وهي ّ‬
‫بأن األعم ّية أو البساطة مها ِمعيار البداهة‪ ،‬فليس‬
‫األعرف ّية عند العقل‪ ،‬وإذا قيل أحيانًا ّ‬
‫املقصود أن البساطة نفسها أو األعم ّية مها سبب البداهة يف احلقيقة‪ ،‬بل حقيقة األمر ّ‬
‫أن‬
‫األعم ّية والبساطة مها من خصوص ّيات األعرف ّية عند العقل‪.‬‬
‫نابع من ذاته‬
‫وضوحا من سائر املفاهيم‪ ،‬وهذا الوضوح ٌ‬ ‫ً‬ ‫فالبدهيي هو األمر األكثر‬
‫مر آن ًفا أ ّن ابن سينا قد استعمل عبارة‬
‫هو ومل يكتسبه من وضوح املفاهيم األخرى‪ .‬وكام ّ‬
‫فالتصور الذي حيتاج يف وضوحه‬
‫ّ‬ ‫(متصورة ألنفسها) يف املفاهيم البدهي ّية‪ ،‬وعىل هذا‬
‫إىل مفاهيم أخرى لن يكون بدهي ًيا بل كسب ًيا(‪.)1‬‬
‫فإن املفهوم ك ّلام كان أكثر كل ّي ًة فإنه يكون أعرف عند العقل‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل ما ذكرناه ّ‬
‫والعقل يف معرفته لذات احلقائق يبدأ حركته من أكثر األمور كل ّي ًة ً‬
‫سائرا باّتاه األمور‬
‫األكثر جزئ ّي ًة‪.‬‬
‫وعىل سبيل املثال‪ّ ،‬‬
‫فإن العقل جيد احليوان يف ذات اإلنسان‪ ،‬وجيد اجلسم يف ذات‬
‫تصور‬
‫درك] احليوان قبل ّ‬ ‫يتصور [و ُي ِ‬
‫ّ‬ ‫احليوان‪ ،‬وجيد اجلوهر يف ذات اجلسم‪ .‬فالعقل‬
‫ويتصور اجلوهر قبل اجلسم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تصور احليوان‪،‬‬
‫ويتصور اجلسم قبل ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان [وإدراكه]‪،‬‬
‫تصور اإلنسان ال بدّ من املرور عرب‬
‫ويف مقام التحليل والتفصيل ُيقال بأ ّنه عند ّ‬
‫تصور احليوان واجلسم واجلوهر إىل أن نصل إىل مفهوم ال‬ ‫مراحل سابقة؛ إذ ال بدّ من ّ‬
‫تصو ُر مفهو ٍم أكثر كل ّي ًة منه‪.‬‬
‫تصوره ّ‬
‫يسبق ّ‬
‫ُ‬
‫وعىل هذا ّ‬
‫فإن مفهوم اإلنسان ومفهوم احليوان ليسا ب ّينني يف أنفسهام؛ ألهنام ليسا‬
‫دائام من أعم األمور؛ ولذا ّ‬
‫فكل‬ ‫أعرف عند العقل‪ .‬فالعقل يف معرفة احلقائق يبدأ ً‬
‫دائام تكون‬
‫فالتصورات األوىل ً‬
‫ّ‬ ‫أعم منه فإ ّنه يكون كسب ًيا‪،‬‬
‫مفهوم يكون هناك ما هو ّ‬
‫واخلاص يصل إىل معرفة الذوات‪ .‬ومغزى الكالم هو‬‫ّ‬ ‫عا ّمة‪ ،‬وبرتكيب العقل بني العا ّم‬
‫تصو ًرا كسب ًيا‪ ،‬وال بدّ يف معرفة‬
‫تصور مجيع األمور املركّبة من اجلنس والفصل يكون ّ‬
‫أن ّ‬ ‫ّ‬

‫األولية ّ‬
‫بأن نفس القضية البدهييّة األ ّولية تكفي للتصديق هبا‪ ،‬وال‬ ‫أيضا يف التصديقات ّ‬ ‫(‪ )1‬كمـا ال بدّ من قول ذلك ً‬
‫يتو ّقف التصديق هبذا النوع من القضايا عىل التصديق بقضايا أخرى‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 316‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫املركّبات من االنتهاء إىل معرفة البسائط‪.‬‬


‫أعم املفاهيم‬
‫األول ّية هي ّ‬
‫التصورات البدهي ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫وحاصل هذه املباين املذكورة هو أن‬
‫أعم‬
‫ألن العقل ال حيتاج يف إدراكها إىل ما هو ّ‬‫وأبسطها‪ .‬فهذه األمور ب ّينة بنفسها؛ ّ‬
‫أمور أعم وأعرف منها كي ُيدركها العقل بمساعدهتا‪.‬‬
‫وأعرف منها‪ ،‬بل ال توجد ٌ‬
‫وقد أفضت هذه البحوث واملباين وأمثاهلا يف منطق التعريف إىل تكوين نظام‬
‫التعريف اجلنيس والفصيل‪ ،‬وقد أوضح ابن سينا أن جنس األجناس بسيط وال يقبل‬
‫احلدي(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫التعريف احلقيقي‬
‫رأي شيخ اإلشاق‬
‫التصورية(‪ ،)2‬وعمدة كالمه تدور‬
‫ّ‬ ‫املشاء يف البداهة‬ ‫مل يرت ِ‬
‫ض شيخ اإلرشاق آراء ّ‬
‫باحلس الظاهر‬
‫ّ‬ ‫األول ّية هي املحسوسات (أعم من املحسوسات‬ ‫حول ّ‬
‫أن البدهي ّيات ّ‬
‫باحلس الباطن) واملشاهدات القلبية‪ .‬فوضوح املحسوسات واملشاهدات‬
‫ّ‬ ‫واملحسوسات‬
‫وبداهتها ب ّينة‪.‬‬
‫وينتقدُ ّ‬
‫املشاء يف عدّ هم الوجود أبده البدهييات عىل الرغم من كثرة اخلطأ‪ ،‬واخلبط‬
‫الواقع يف أمره‪ ،‬أ ّما هو فال يعد الوجود بدهي ًّيا ّأول ًّيا؛ بل يرا ُه من املعقوالت الثانية التي‬
‫أمورا ذهني ًة حمضة‪.‬‬
‫يعدّ ها ً‬
‫املتصورة‬
‫ّ‬ ‫ذهني‪ ،‬ومن خصائص األمور‬
‫انتزاعي ّ‬
‫ٌّ‬ ‫أمر‬
‫أن الوجود ٌ‬ ‫فشيخ اإلرشاق يرى ّ‬
‫نتصور لونًا ما ‪ً -‬‬
‫مثال‪ -‬فإنّنا ننتزع منه ‪-‬يف الذهن‪ -‬املوجودية؛ ولذا‬ ‫ّ‬ ‫يف الذهن‪ ،‬فعندما‬
‫تتحصل يف الذهن بعد‬
‫ّ‬ ‫أمور عقل ّي ٌة حمضة‪،‬‬ ‫يرى شيخ اإلرشاق ّ‬
‫أن مجيع األمور العا ّمة ٌ‬
‫(‪ )1‬وقد قيل‪ :‬إنه يمكن تعريف جنس األجناس وبعض البسائط باللوازم (أي تعري ًفا رسميًّا)؛ وعىل هذا األساس‬
‫فمن املمكن تعريف هذه األمور‪.‬‬
‫وإنام يكون هذا فيام إذا كان الالزم أعرف‪ ،‬وأما بالنسبة إىل األمور العا ّمة ‪-‬مثل اليشء والوجود‪ -‬فإنه ليس هناك‬
‫أيضا‪ ،‬وال بدّ من مالحظتها هي نفسها يف إدراك‬‫ِمن الزم أعرف منها‪ .‬فهذه األمور أعرف حتّى من لوازمها ً‬
‫لوازمها‪ ،‬والنتيجة أن األمور العا ّمة ال تقبل التعريف مطل ًقا‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكرنا رأي شيخ اإلرشاق يف هذا املجال بالتفصيل يف كتاب حكمة اإلرشاق [انظر‪ :‬يد اهلل يزدان پناه‪ ،‬حكمت إرشاق‬
‫ونتعرض هنا لبعض جوانب هذا الرأي بنحو اإلمجال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫[حكمة اإلرشاق]‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحة‪ 154 :‬وبعدها]‪،‬‬
‫‪317‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املحسوسات واملشاهدات‪ .‬وعليه فال يمكن لشيخ اإلرشاق عدّ هذه األمور من‬
‫األولية‪.‬‬
‫البدهي ّيات ّ‬
‫مرص ًحا إ ّن األعراض‬
‫أيضا‪ ،‬ويقول ّ‬ ‫كام يعتقد ّ‬
‫أن البسائط اخلارجية بسيطة يف الذهن ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهلذا فإ ّنه ال يصح القول ّ‬
‫بأن‬ ‫البسيطة اخلارجية ‪-‬كالسواد‪ -‬بسيطة يف الذهن ً‬
‫كونان بمجموعهام‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫السواد يف الذهن عبارة عن لون مع ضميمة خصوصية مع ّينة ُي ّ‬
‫السواد‪ ،‬وعىل هذا فالبسائط اخلارجية أمور بدهي ّية‪ ،‬واملفاهيم الكسب ّية هي مفاهيم‬
‫احلس‬
‫أن معيار البداهة عند شيخ اإلرشاق هو ّ‬ ‫األمور املرك ّبة من البسائط(‪ .)1‬والنتيجة ّ‬
‫والشهود(‪.)2‬‬

‫رأي الخواجة نصري الدين الطوس‬


‫طـرح الـمحـ ّقـ ُق الطـوسـي فـي أساس االقتبـاس معيـ ًارا مر ّكـ ًبا للبداهـة(‪ ،)3‬حاصـله‬
‫التصورات والعلوم البدهيية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التصورات والعلوم الكسبية جيب انتهاؤها إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن‬
‫والتصورات البدهيية إما أن تكون بدهيي ًة عند العقل (كاألمور العا ّمة)‪ ،‬أو عند ّ‬
‫احلس‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫(كاملحسوسات الظاهرية والباطنية)‪ .‬وبعبـارة أخـرى‪ :‬البديـهي هو ما يأيت رصيـ ًحا من‬
‫حس (الظاهر والباطن) أو رصيـ ًحا مـن العـقـل‪.‬‬‫الـ ّ‬
‫املشائني ورأي شيخ اإلرشاق‪ ،‬ومع ّ‬
‫أن‬ ‫جيا من رأي ّ‬
‫ومن هنا ُيعد هذا الرأي مز ً‬
‫حس‪ ،‬غري ّأهنم حرصوا‬
‫التصورات هي األعرف عند الـ ّ‬
‫ّ‬ ‫املشائني يعتقدون ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫التصورات البديـهـية األولية بالبدهييات الكل ّية العقل ّية‪[ ،‬يقول املح ّقق الطويس يف هذا‬
‫ّ‬
‫املجال ما ترمجته]‪" :‬فالعلوم املكتسبة تنتهي بالتحليل إىل علوم حتصل بغري اكتساب‪،‬‬

‫ً‬
‫مستقال‬ ‫معيارا‬
‫ً‬ ‫(‪ )1‬البسائط عند شيخ اإلرشاق هي مصاديق املحسوسات واملشاهدات؛ وهلذا فليست هي ‪ -‬عنده ‪-‬‬
‫للبداهة‪ ،‬وإنام يعتقد أن املحسوسات واملشاهدات هي البدهيية‪.‬‬
‫(‪ )2‬ومن الواضح أن املشائني يقبلون بداهة املحسوسات واملشاهدات‪ ،‬وكام أرشنا ساب ًقا فإن ابن سينا يرى أن‬
‫احلس‪.‬‬
‫املحسوسات أعرف عند ّ‬
‫(‪ )3‬وقبل اخلواجة الطويس كان فخر الدين الرازي قد ذكر هذا األمر يف كتاب املحصل‪ .‬انظر‪ :‬نصري الدين حممد‬
‫الطويس‪ ،‬تلخيص املحصل‪ ،‬الصفحتني‪.10 - 9 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 318‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أمور عا ّم ٌة مثل املوجود والواحد‪ ،‬وبعض املقوالت‬


‫التصورات ٌ‬
‫ّ‬ ‫وتلك العلوم هي يف‬
‫وأصناف املحسوسات كالسواد والبياض"(‪.)1‬‬
‫املتصورة‬ ‫أدق مضي ًفا بعض املالحظات‪ّ " :‬‬
‫إن الـمعاين‬ ‫ٍ‬
‫بعبارات ّ‬ ‫ويقول يف موضع آخر‬
‫ّ‬
‫يف العقول واألذهان إما ب ّينة بنفسها ومستغنية عن االكتساب‪ ،‬أو ال‪ ،‬والقسم األول إ ّما‬
‫معقول حمض كالوجود والوجوب واإلمكان واالمتناع‪ ،‬وإما حمسوس باحلواس الظاهرة‬
‫مثل احلرارة والربودة والسواد والبياض والنور والظلمة(‪ ،)2‬وإما ُمدرك باحلواس الباطنة‪،‬‬
‫والغم واخلوف والشبع واجلوع"(‪.)3‬‬
‫ّ‬ ‫ووجدان النفس مثل الرسور‬
‫ويقول بعد ذلك‪ّ " :‬‬
‫وكل ما كان ب ّينًا مطل ًقا بحسب العقل أو احلس فال فائدة من‬
‫االشتغال بتعريفه؛ أل ّنه ليس لتعريفه بيان يستطيع أن يفيد تلك املعرفة احلاصلة بالعقل‬
‫أو احلس‪ً ،‬‬
‫فضال عن الزيادة"(‪.)4‬‬
‫ٍ‬
‫كامل عىل ما ذكره اخلواجة من أ ّنه ال فائدة من تعريف‬ ‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫ال يمكن املوافقة‬
‫البدهييات احلس ّية؛ ذلك أل ّنه يمكن قول ذلك يف مقام اإلمجال‪ ،‬وأ ّما يف مقام التفصيل‬
‫جزئي‪ ،‬والعقل ‪-‬من خالل ط ّيه ملسريه‬
‫ٌّ‬ ‫أمر‬
‫فالتعريف ممكن ومفيد‪ ،‬فالبياض املحسوس ٌ‬
‫كيل للبياض‪ ،‬ثم يقوم‬‫يسميه املشاؤون التجريد والتقشري)‪ -‬يصل إىل مفهو ٍم ّ‬
‫(الذي ّ‬
‫بياضا‪،‬‬
‫أعم من كونه ً‬ ‫ويفصله‪ ،‬حيث يرى العقل ّ‬
‫أن كونه لونًا ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتحليل هذا املفهوم‬
‫أعم من كونه لونًا‪.‬‬ ‫وكونه كي ًفا ُم ً‬
‫برصا ّ‬
‫تصور ذات اللون‪ ،‬وال‬ ‫تصوره لذات البياض إىل ّ‬
‫فالعقل ‪-‬يف الواقع‪ -‬حيتاج يف ّ‬
‫تصور الكيف املُبرص قبل ذلك يف مرتبة سابقة؛ وهلذا‬
‫تصور ذات اللون من ّ‬ ‫بدّ له يف ّ‬
‫أمرا بسي ًطا وبدهي ًيا‪،‬‬ ‫فإن العقل عندما يد ّقق يف مالحظته يرى ّ‬
‫أن مفهوم البياض ليس ً‬ ‫ّ‬
‫التصورات الكسبية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتصوره من‬
‫ّ‬ ‫بل جيده من الذوات املركّبة‬
‫(‪ )1‬نصري الدين حممد الطويس‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬الصفحة ‪.345‬‬
‫(‪ )2‬يف هذه األمثلة نجد ّ‬
‫أن رأي اخلواجة يميل إىل رأي شيخ اإلرشاق‪.‬‬
‫(‪ )3‬حممد الطويس‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬الصفحة‪.412 :‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.416 :‬‬
‫‪319‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ويمكن القول‪ :‬إ ّنه يف مقام اإلمجال يمكن أن يكون مفهوم البياض مفهو ًما بسي ًطا‪،‬‬
‫حيس‪،‬‬
‫وبدهيي ّ‬
‫ٌّ‬ ‫حمسوس‬
‫ٌ‬ ‫ولكن األمر ليس كذلك عند التفصيل‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا فالبياض‬
‫ّ‬
‫ولكن يف مقام التحليل والتفصيل العقيل فإ ّنه يمكن العثور عىل جنسه وفصله‪ ،‬ومن‬
‫تصوري أو ّيل (أي باإلمجال)‪،‬‬ ‫هيي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فإن ّ‬
‫ث ّم تعريفه‪ .‬وبشكل عا ّم ّ‬
‫ّ‬ ‫كل يشء مشهود هو بد ّ‬
‫ولكنه يف مقام التفصيل العقيل قد ال يكون بدهي ًيا‪ ،‬وبالتايل يمكن تعريفه‪.‬‬
‫التصورية إىل عقلية حمضة وحس ّية ( ُمدركة‬
‫ّ‬ ‫و ُيشري اخلواجة بعد تقسيمه البدهييات‬
‫حس الباطن) إلـى الفوارق الـموجودة بني هذين القسمني وإلـى‬
‫باحلس الظـاهـر والـ ّ‬
‫ّ‬
‫سـبب وجـود نوعني من البدهييات‪ ،‬فهو يعتقد ّ‬
‫أن الفرق بني هذين القسمني ‪-‬أي‬
‫والبدهيي املحسوس‪ -‬ال يكمن يف ك ّلية أحدمها وجزئية اآلخر؛‬
‫ّ‬ ‫العقيل املحض‬
‫ّ‬ ‫البدهيي‬
‫ّ‬
‫العقيل‬ ‫البدهيي‬ ‫التصور‬ ‫الكيل‪ ،‬فريى أن‬ ‫ِ‬ ‫إذ ّ‬
‫إن كالمه يف كال القسمني يدور حول املفهوم ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫احلس‪ ،‬حتّى ولو كانت بعض احلقائق ‪-‬مثل‬‫ّ‬ ‫أساسا من طريق‬
‫ً‬ ‫املحض ال حيصل‬
‫الوجود‪ُ -‬م ِ‬
‫قارنة للمحسوسات؛ ولذا فعندما يالحظ البياض يف اخلارج فإن وجوده‬
‫باحلس‬
‫ّ‬ ‫أيضا يكون متح ّق ًقا يف اخلارج‪ ،‬ولكنّه باعتبار أن هذه احلقائق ال يمكن إدراكها‬
‫ً‬
‫بنحو جزئي‪ ،‬وإ ّنام العقل فقط هو الذي يستطيع إدراكها؛ فيقوم العقل بتجريدها من‬ ‫ٍ‬
‫الـمحسوسات ويصل من خالل ذلك إلـى املفاهيم الكل ّية؛ ولذا تكون هذه املفاهيم‬
‫درك مفاهيمها اجلزئية فـي الـخارج‪.‬‬‫عقلي ًة حمض ًة وال عالقة هلا باحلواس‪ ،‬واحلس ال ُي ِ‬
‫فإهنا مرتبطة‬
‫احلس الظاهر ‪ّ -‬‬
‫دركها ّ‬ ‫وأما القسم الثاين ‪ -‬أي املحسوسات التي ُي ِ‬
‫احلس يصل العقل‬
‫احلس‪ ،‬وعن طريق ّ‬
‫ويتم إدراك مفاهيمها اجلزئية بوساطة ّ‬ ‫باحلس‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫إىل مفاهيمها الك ّل ّية‪.‬‬
‫إن مفاهيم مثل‬ ‫ويواجه الـمح ّقق الطويس هنا مشكل ًة يـحاول ح ّلها؛ فمن جهة ّ‬
‫البياض والـجوع ‪-‬التي تـحصل من طريق احلس الظاهر أو الباطن‪ -‬لكي تصبح كلـ ّيـ ًة‬
‫فإن اخلواجة‬ ‫جهة أخرى ّ‬ ‫تـحتاج إىل طي مسري شبيه بمسري االكتساب النظري‪ ،‬ومن ٍ‬
‫ّ‬
‫التصورية‬ ‫ّ‬ ‫الطويس يعدّ ها مفاهيم بدهيي ًة‪ .‬فهل ينسجم هذا النوع من الكسب مع البداهة‬
‫هلذه املعقوالت؟‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 320‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫فاملح ّقق الطويس ُيدرك أ ّنه للوصول إىل املفاهيم الك ّل ّية للبياض أو اجلوع ال بدّ‬
‫طي مسري يشبه‬‫احلس‪ ،‬وال بدّ من ّ‬ ‫متكر ٍر عن طريق ّ‬ ‫ٍ‬
‫بنحو ّ‬ ‫من إدراك مفاهيمها اجلزئية‬
‫االستقراء كي يتم اكتساب مفاهيمها الك ّل ّية‪ ،‬ومن الطبيعي أ ّنه ال بدّ خالل هذا املسري‬
‫من القيام بنو ٍع من االكتساب شبيه باالستقراء‪ ،‬فكيف ينسجم هذا األمر مع عدِّ هذه‬
‫املفاهيم الك ّلية املأخوذة من املحسوسات مفاهيم بدهيي ًة؟‬
‫التصورات الك ّل ّية مع أنه حيصل يف البداية‬
‫ّ‬ ‫وجييب اخلواجة عن ذلك ّ‬
‫بأن حتصيل هذه‬
‫الكيل للبياض أو اجلوع‬
‫ّ‬ ‫عرب نو ٍع من االكتساب شبيه باالستقراء‪ ،‬لكنه بعد ّ‬
‫تقرر املفهوم‬
‫أن هلذه األمور تصو ٍ‬
‫رات واضح ًة عنده‪ ،‬وأ ّنه ال حيتاج يف‬ ‫فإن العقل جيد ّ‬
‫يف العقل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بنحو واضح‪ ،‬وإن كان‬ ‫احلسية ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تصورات أخرى؛ أل ّنه قد أدركها يف املرحلة ّ‬
‫تصورها إىل ّ‬
‫ّ‬
‫احلسية‪،‬‬
‫جذور يف وضوح املفهوم يف املرحلة ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الكيل له‬
‫ّ‬ ‫ذلك بنحو جزئي‪ ،‬فوضوح املفهوم‬
‫الكيل‪ ،‬وبعد انتهائه من املرحلة االكتسابية‬
‫ّ‬ ‫طي مسري اكتساب هذا املفهوم‬
‫فالعقل بعد ّ‬
‫التي تشبه االستقراء‪ ،‬واستقرار هذه الصورة الك ّلية يف العقل‪ ،‬فإ ّنه عندما ينظر إىل هذه‬
‫تصو ٍر آخر؛ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ألن هذه املفاهيم أصبحت‬ ‫الصورة الك ّلية يراها ليست بحاجة إىل صورة أو ّ‬
‫طي مراحل صريورهتا ك ّلية‪.‬‬
‫واضح ًة عنده من طريق احلس بعد ّ‬
‫سمي هذه املجموعة من املفاهيم البدهيية باملفاهيم‬
‫وهذا هو السبب الذي جيعلنا ُن ّ‬
‫احلس الباطن‪ ،‬مع ّ‬
‫أن هذه املفاهيم البدهيية مفاهيم كل ّية‪.‬‬ ‫باحلس الظاهر أو ّ‬
‫ّ‬ ‫املحسوسة‬
‫القسمني(‪ )2‬هو(‪ )3‬أننا نريد باملعقول‬
‫َ‬ ‫"والفرق بني القسم األول(‪َ )1‬‬
‫وهذين‬
‫الصـور الك ّلية التي ال طريق للحواس إىل إدراك جزئ ّياهتا‪ ،‬ورغم أن جزئ ّياهتا ِ‬
‫مقارنة‬
‫جمرد ًة‬
‫قوة متييزه‪ -‬أن يالحظها وحدها ّ‬ ‫للمحسوسات إال ّ‬
‫أن من شأن العقل ‪-‬بوساطة ّ‬
‫(‪)4‬‬
‫عن املحسوسات‪ ،‬فتصبح ك ّلي ًة بتجريدها عن الـمحسوسات‪ .‬ونريد بالـمحسوس‬
‫(‪ )1‬أي‪ :‬املعقول املحض مثل الوجود والوجوب‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي‪ :‬املحسوس باحلواس الظاهرة واملُدرك باحلواس الباطنة‪.‬‬
‫(‪ )3‬حيدّ ث اخلواجة عن املحسوسات الظاهرية والباطنية فقط‪ ،‬ولكن البحث عام وال بد من تعميمه جلميع أنواع‬
‫املشهودات‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي‪ :‬املحسوس باحلس الظاهر‪.‬‬
‫‪321‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫والـ ُمدرك(‪ )1‬الصور الكلية التي ينتزعها العقل من الـجزئيات‪ ،‬فتكون جزئ ّياهتا ُمدرك ًة‬
‫التصورات يف مبادئ الفطرة‬
‫ّ‬ ‫للحواس الظاهرة أو الباطنة‪ ،‬ورغم أن اقتناص(‪ )2‬هذه‬
‫تقرر‬ ‫يرجع إلـى نوع من االكتساب شبيه باالستقراء كمـا ذكرنا ذلك‪ ،‬إال ّ‬
‫أن العقل بعد ّ‬
‫الصور(‪ )3‬عنده ال يبقى له التفات إلـى وجه اكتساهبا؛ ولـهذا السبب كانت ب ّين ًة ّ‬
‫وأولية‬ ‫ّ‬
‫التصور"(‪.)4‬‬
‫ّ‬
‫خاص ٍة؛ فهو يكشف خلفية ومنعطفات آراء اخلواجة يف‬ ‫ٍ‬
‫حيظى هذا النص بأمه ّية ّ‬
‫أيضا ‪-‬مثل الوجود والوجوب واإلمكان‪-‬‬ ‫هذا البحث‪ .‬ونحن نعتقد ّ‬
‫أن املفاهيم الفلسفية ً‬
‫أيضا ُيلحق باملحسوسات‬‫يتم إدراكها من خالل الشهود العقيل‪ ،‬واملشهود العقيل ً‬ ‫ّ‬
‫فرق بني البدهيي العقيل املحض واملحسوسات‪ ،‬يف حني‬ ‫واملشاهدات(‪)5‬؛ ولذا فلن يبقى ٌ‬
‫أن اخلواجة قد ّفرق بني هذ ِ‬
‫ين النوعني‪ ،‬وخلط بني مقامي اإلمجال والتفصيل‪ .‬واملشكلة‬
‫درك العقل املفاهيم الكلية للمحسوس ‪-‬مثل البياض واجلوع‪-‬‬ ‫أ ّنه يف مقام اإلمجال ُي ِ‬
‫بنحو ٍبدهيي‪ ،‬بينام يف مقام التفصيل حيتاج تصور هذه املفاهيم عند العقل إىل تصو ٍ‬
‫رات‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫التصورات كسبي ًة ونظري ًة وليست بدهيية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخرى؛ وهلذا تكون هذه‬
‫واحلاصل هو أنّه يبدو ّ‬
‫أن اخلواجة الطويس قد مجع بني آراء ّ‬
‫املشائني وشيخ‬
‫التصورية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاق يف مسألة البدهييات‬

‫رأي املال صدرا‬


‫املشائني وشيخ اإلرشاق ونصوصهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بنحو تا ٍّم عىل آراء ّ‬ ‫كان املال صدرا متسل ًطا‬
‫سطرا‪ ،‬وقد أبدى‬ ‫ً‬ ‫سطرا‬
‫ً‬ ‫فقد كتب حاشي ًة عىل كتاب (حكمة اإلرشاق)‪ ،‬ومت ّعن فيه‬
‫احلساسة ِقبال آراء شيخ اإلرشاق وطرح قضايا مفتاحي ًة طب ًقا‬ ‫آراءه يف بعض املواضع ّ‬
‫(‪ )1‬أي‪ :‬املُدرك باحلس الباطن‪.‬‬
‫التصورات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬أي‪ :‬األخذ والتحصيل‪ ،‬واملراد كسب وحتصيل هذه‬
‫طي مسري شبيه باالستقراء‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي‪ :‬استقرار الصور الكلية بعد حتصيل الصور اجلزئية و ّ‬
‫(‪ )4‬حممد الطويس‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬الصفحتان‪.413 - 412 :‬‬
‫(‪ )5‬وسوف نتحدّ ث عن الشهود العقيل يف الفصل الثالث‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 322‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫اخلاصة يف احلكمة املتعالية؛ وهلذا فإ ّننا سوف ندرس آراء املال صدرا بعناية أكثر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ملبانيه‬
‫لقد تـحدّ ث السهروردي فـي ثالثة مواضع من حكمة اإلرشاق عن البديـهيات‬
‫التصورية(‪ ،)1‬وقال يف املوضع الثالث‪" :‬الـمحسوسات بسائطها ال ُتعرف ً‬
‫أصال‪ ،‬فإن‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫معلومات ال حـاجـة فـيها إلـى التعـريـف‪ ،‬وإال تسـلسـل‬ ‫التعريفات ال بدّ أن تنتهي إلـى‬
‫إلـى غري النهـايـة‪ .‬وإذا انتهى‪ ،‬وليـس أظهـر من املحسوسات حتى ينتهى إليه‪ ،‬إذ مجيع‬
‫علومنا منتزعة من املحسوسات‪ ،‬فهي الفطرية(‪ )2‬التي ال تعريف هلا ً‬
‫أصال"(‪.)3‬‬
‫أمور بدهيية‪.‬‬
‫فإن املحسوسات البسيطة ‪-‬وفق رأي شيخ اإلرشاق‪ٌ -‬‬ ‫وبنا ًء عىل هذا ّ‬
‫مهم ٍة للغاية‪ ،‬وقد تساءل عن املراد‬ ‫ٍ‬
‫وقد ع ّلق املال صدرا عىل هذا الكالم بتعليقات ّ‬
‫باملحسوسات التي عدّ ها شيخ اإلرشاق بدهيي ًة‪ ،‬فإذا كان املراد هو املحسوس من حيث‬
‫هو حمسوس‪ ،‬وأنّه من اهلو ّيات الوجود ّية‪ ،‬فال ريب يف بداهته؛ ّ‬
‫ألن اهلو ّيات الوجود ّية‬
‫أن مفاهيمها مستغن ّي ٌة عن التعريف‪ ،‬فلون‬
‫أساسا ال تقبل التعريف‪ ،‬لك ّن هذا ال يعني ّ‬
‫ً‬
‫البياض ‪-‬بلحاظ أنه هو ّية وجودية وإلدراكها ال بدّ من حت ّقق ارتباط وجودي مع‬
‫اخلارج‪ -‬ال يقبل التعريف‪.‬‬
‫فاألساس الذي بنى عليه املال صدرا أبحاثه يف الوجود هو ّ‬
‫أن احلقيقة اخلارجية‬
‫للوجود ليس هلا جنس وال فصل؛ وهلذا فهي ال تقبل التعريف‪.‬‬
‫حكم آخر‪ ،‬يقول املال صدرا‪(" :‬قوله‪ :‬الـمحسوسات بسائطها‬ ‫ٌ‬ ‫وأما املفاهيم فلها‬
‫يعرف)؛ ّ‬
‫ألن التعريف للمفهومات النوع ّية(‪ )4‬ال للهو ّيات الوجود ّية‪ ،‬واملحسوس بام‬ ‫ال ّ‬
‫احلاس‪ ،‬والوجود ال يمكن تعريفه‪ .‬فبهذا الوجه‬
‫ّ‬ ‫هو حمسوس عبارة عن وجوده للجوهر‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬جمموعة مصنّفات شيخ اإلرشاق‪ ،‬اجلزء ‪( 2‬حكمة اإلرشاق)‪ ،‬الصفحة ‪ 18‬وما بعدها‪( ،‬الضابط السابع)؛‬
‫أن ّ‬
‫املشائني أوجبوا أن ال يعرف يشء من األشياء)؛ والصفحة‪.104 :‬‬ ‫والصفحتني‪( ،74 - 73 :‬حكومة أخرى يف بيان ّ‬
‫وللمال صدرا يف هذه املواضع تعليقات مفيدة‪ .‬انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪:‬‬
‫قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق (الطبعة احلجرية)‪ ،‬الصفحة‪ ،60 :‬والصفحة‪ ،204 :‬والصفحة‪.278 :‬‬
‫(‪ )2‬أي‪ :‬بدهيية‪.‬‬
‫(‪ )3‬جمموعة مصنّفات شيخ اإلرشاق‪ ،‬اجلزء ‪( 2‬حكمة اإلرشاق)‪ ،‬الصفحة‪.104 :‬‬
‫خمتصة (فصل)‪.‬‬
‫(‪ )4‬هذا التعبري لبيان أن هذه املفاهيم مركّبة من أمور مشرتكة (جنس) وأمور ّ‬
‫‪323‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫صح قول من قال‪ّ :‬‬


‫إن املحسوسات ال تعريف هلا‪ .‬أما املعاين املنتزعة منها(‪ )1‬احلاصلة‬ ‫ّ‬
‫للنفس بوساطة اإلحساس بجزئياهتا‪ ،‬وإدراك املشاركات هلا واملبائنات بينها فال استحالة‬
‫يف تعريفها"(‪.)2‬‬
‫إنام ذهب إىل بداهة املحسوسات‬ ‫ويوضح املال صدرا بعد ذلك ّ‬
‫أن شيخ اإلرشاق ّ‬ ‫ّ‬
‫البسيطة بسبب اعتقاده باعتبارية الوجود وأصالة املاهيات‪ ،‬وعىل هذا األساس فهو [أي‬
‫ٌ‬
‫بسيط‬ ‫عقيل‪ّ ،‬‬
‫وأن البسيط اخلارجي‬ ‫أن املركّب اخلارجي مركّب ّ ّ‬ ‫شيخ اإلرشاق] يرى ّ‬
‫عقيل‪ ،‬وإن ما كان بسي ًطا عقل ًيا ال يكون مر ّك ًبا من جن ٍ‬
‫س وفصل‪ ،‬ومن ث ّم ال تعريف‬ ‫ّ‬
‫له‪ ،‬ثم يرشح املال صدرا رأيه هو فيقول‪" :‬وأما قوله‪( :‬فال يشء أظهر من املحسوسات)‬
‫احلس املنفعلة عنها‪،‬‬
‫فإن أراد به املحسوسات بام هي حمسوسات‪ ،‬أي موجودات آلالت ّ‬
‫فهي ليست من هذه اجلهة أظهر األشياء‪ ،‬بل أخفاها عند العقل؛ فإن الكليات أعرف‬
‫أيضا مم ّا يكون‬
‫تقرر‪ ،‬وال هي ً‬
‫عند العقل واجلزئيات أعرف عند اخليال واحلس كام ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫مبادئ للربهان‪ ،‬وال أجزاء للحدّ ‪ .‬وإن أراد به معانيها االنتزاعية(‪ ،)4‬فهي وإن كانت‬
‫معروفة عند العقل‪ ،‬لك ّن أجزاءها العقل ّية أعرف منها(‪ )5‬وليس هي بام هي عند العقل‬
‫األوليات مثل الكل أعظم من اجلزء وكمفهوم الشيئ ّية‬
‫حمسوسة‪ ،‬بل معقولة‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫حس أو ّتربة أو إخبار أو شهادة‪.‬‬
‫واملوجودية مما ال حيتاج إىل يشء آخر غري العقل من ّ‬
‫أن معنى كون املحسوسات مبادئ‬ ‫والشيخ قد أشار يف فن الربهان من بعض كتبه(‪ )6‬إىل ّ‬
‫للربهان ليس ّأهنا بام هي حمسوسات يقع يف الربهان بل إنام ذلك شأن مفهوماهتا(‪.)7‬‬
‫(‪ )1‬أي‪ :‬املعاين الكلية العقلية كذات البياض‪.‬‬
‫(‪ )2‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح حكمة‬
‫اإلرشاق‪ ،‬الصفحة‪.278 :‬‬
‫مر ساب ًقا أن ابن سينا ً‬
‫أيضا يرى ذلك‪ ،‬وقد أوضح هذه النقطة ورشحها بنحو واف‪.‬‬ ‫(‪ّ )3‬‬
‫(‪ )4‬أي‪ :‬املعاين الكلية‪ ،‬مثل املفهوم الكيل للبياض‪ ،‬واملفهوم الكيل للربودة وأمثال ذلك‪.‬‬
‫(‪ )5‬وعىل هذا فاملفهوم الكيل مثل البياض وإن كان معرو ًفا عند العقل؛ لكنه ليس بدهي ًيا عقل ًيا‪ ،‬وأجزاؤه العقلية أعرف منه‪.‬‬
‫(‪ )6‬أي برهان الشفاء‪ .‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪« ،‬الربهان»‪ ،‬الفصل اخلامس من املقالة الثالثة (يف ذكر كيفية‬
‫باحلس يف املعقوالت)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انتفاع النفس‬
‫حمسوسا ال يقع يف مقدّ مات الربهان‪ ،‬بل هذا شأن املفاهيم الكلية =‬
‫ً‬ ‫(‪ )7‬يقول ابن سينا إن املحسوس من حيث كونه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 324‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وقوله‪( :‬إذ مجيع علومنا منتزعة من املحسوسات فهي الفطرية التي ال تعريف هلا) فيه‬
‫أن املحسوس اخلارجي‬ ‫مغالطة؛ فإن كون العلوم منتزعة من املحسوسات‪ ،‬إن أريد به ّ‬
‫يصري مبدأ الربهان واحلدّ ‪ ،‬فليس كذلك؛ إذ اجلزئي غري كاسب وال مكتسب(‪ ،)1‬وإن‬
‫احلس لتحصل‬
‫أن علومنا موقوفة عىل حتريك النفس للبدن واستعامهلا آلالت ّ‬‫أريد به ّ‬
‫املعرف؛ ّ‬
‫ألن احلاصل يف‬ ‫يف العقل صورة معقوالهتا الكل ّية‪ ،‬فال يلزم منه استغناؤها عن ّ‬
‫وخمتصة‬
‫ّ‬ ‫أن حي ّللها إىل أجزاء مشرتكة‬
‫العقل من املحسوسات ّأو ًال صورة جمملة‪ ،‬فللعقل ّ‬
‫عند املقايسة بني الكل ّيات بحسب املشاركات واملباينات فيعرف أجزاءها ً‬
‫أوال‪ ،‬ثم‬
‫يعرفها بتلك األجزاء ثان ًيا‪ .‬وهذا عني التف ّكر وحتصيل القول الشارح"(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫شديدة األمه ّية‪ ،‬فهو يقول ‪-‬يف‬ ‫ويشري املال صدرا يف آخر عبارته السابقة إىل ٍ‬
‫نقطة‬ ‫ُ‬
‫جمرد كون بعض علومنا تبدأ من احلس ال يغني يف‬ ‫مواجهة كالم شيخ اإلرشاق‪ّ -‬‬
‫إن ّ‬
‫مرات‬
‫اعتبار بداهة املفاهيم احلس ّية؛ فالنفس بعد إدراكها للمفهوم اجلزئي للبياض عدّ ة ّ‬
‫تستعدّ إلدراك املفهوم ّ‬
‫الكيل واملعقول للبياض‪ .‬فاملال صدرا ‪-‬وبخالف املشائني‪ -‬ال‬
‫الكيل تكون بنحو (التقشري)‪ ،‬بل يرى ّ‬
‫أن النفس تستعدّ بعد‬ ‫ّ‬ ‫يرى أن عملية الوصول إىل‬
‫إدراك املفاهيم اجلزئية لالرحتال واالنتقال إىل العامل الذي يتح ّقق فيه الكيل‪ .‬والنفس‬
‫درك ذات البياض‬‫درك يف هذا املسري ذات البياض نفسه(‪ ،)3‬ولكنّها ‪-‬يف هذا احلال‪ُ -‬ت ِ‬ ‫ُت ِ‬
‫طي‬ ‫بنحو اإلمجال‪ .‬ولكي تصبح هذه الذات معلوم ًة للعقل ٍ‬
‫بنحو تفصي ّيل فإنه ال بدّ من ّ‬
‫ّب من أمور أخرى‪ ،‬وتلك األمور‬ ‫مسري آخر؛ إذ العقل جيد ّ‬
‫أن ذات البياض نفسه مرك ٌ‬
‫هي يف الواقع أعرف عنده‪ .‬وعليه ّ‬
‫فإن ذلك املفهوم الذي أدركه بنحو اإلمجال لن يكون‬

‫= املنتزعة من املحسوسات‪ ،‬فاملحسوس جيعل العقل مستعدًّ ا إلدراك املفهوم الكيل‪.‬‬


‫(‪ )1‬املحسوس من حيث إنه حمسوس جزئي‪ ،‬وال يمكن استحصال نتيجة ك ّلية منه سواء يف الربهان أو يف التعريف‪.‬‬
‫وأساسا فإنه ال يمكن استحصال أي نتيجة من اجلزئي‪ ،‬ال جزئية وال كلية‪ .‬فاجلزئي ال يكشف إال عن نفسه‪ ،‬وال يدل‬
‫ً‬
‫حتى عىل جزئي آخر‪.‬‬
‫(‪ )2‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح حكمة‬
‫اإلرشاق‪ ،‬الصفحتان‪.279 - 278 :‬‬
‫(‪ )3‬وسوف نتحدّ ث يف الفصل الرابع (العقل املُ ِ‬
‫درك للكيل) حول هذا املوضوع بشكل أوسع‪.‬‬
‫‪325‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بدهي ًيا‪ .‬فالعقل يرى يف تلك الذات الك ّل ّية التي أدركها بنحو اإلمجال ً‬
‫أمورا موجود ًة‬
‫ٍ‬
‫بصورة غري تفصيل ّية‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫أن ذلك املفهوم ّ ّ‬
‫الكيل اإلمجا ّيل ليس بدهي ًيا بلحاظ‬
‫والتصورات السابقة عليه‪ ،‬بل هو نظري‪ .‬ولكي يصبح‬
‫ّ‬ ‫األجزاء املفهوم ّية واملفاهيم‬
‫معلو ًما فإ ّنه حيتاج إىل مفاهيم سابقة عليه‪ .‬والسبب يف صريورة ذلك املفهوم معلو ًما‬
‫تفصييل اآلن هو إدراك العقل لتلك املفاهيم يف مرحلة سابقة(‪ .)1‬ونظرية املفهوم‬ ‫ٍ‬
‫بنحو‬
‫ّ‬
‫وحاجته للتعريف ليست شي ًئا غري ذلك‪ .‬وبنا ًء عىل هذا فاملفاهيم املنتزعة من املحسوسات‬
‫ليست مفاهيم بدهيية‪.‬‬
‫وخمتصاته‬
‫ّ‬ ‫إن قيام العقل بتحليل املفهوم والبحث عن مشرتكاته‬ ‫يقول املال صدرا ّ‬
‫فالتصور‬
‫ّ‬ ‫ومن ث ّم الوصول إىل تعريفه هو نفسه عني التفكري‪ ،‬وهذا كالم يف غاية الد ّقة؛‬
‫والتصور النظري ما‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫واكتساب فكري‪،‬‬ ‫البدهيي هو الذي ال حيتاج يف معلوم ّيته إىل ٍ‬
‫فكر‬
‫واكتساب‪ ،‬فعندما نقوم بتحليل مفهوم ما ً‬
‫مثال كالبياض‬ ‫ٍ‬ ‫حيتاج يف معلوم ّيته إىل ٍ‬
‫فكر‬
‫خمتصة‪ُ ،‬يدركها العقل ّأو ًال‪ ،‬وبوساطتها ُيدرك‬
‫ونجده مر ّك ًبا من أجزاء مشرتكة وأجزاء ّ‬
‫مفهوم البياض‪ ،‬نكون ‪-‬يف الواقع‪ -‬قد قمنا بعملية التفكري والعثور عىل القول الشارح‪،‬‬
‫أي التعريف‪.‬‬
‫بنحو ج ّي ٍد رؤية‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫ويدل عىل أ ّنه قد استوعب‬ ‫رس املسألة‪،‬‬
‫يبني ّ‬
‫ورش ُح املال صدرا ّ‬
‫املشائني حول التعريف‪ .‬وعىل هذا‪ ،‬جيب ‪-‬بحسب رؤية املال صدرا‪ -‬التفريق بني مقامي‬
‫التصور يف مقام اإلمجال‪ ،‬غري ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫بدهيي‬
‫ّ‬ ‫اإلمجال والتفصيل‪ ،‬فقد يكون املفهوم ّ ّ‬
‫الكيل‬
‫تصوره يف مقام التفصيل حيتاج إىل ٍ‬
‫فكر ونظر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فنجده يف األسفار قد‬
‫وقد ذكر املال صدرا هذه النقطة يف مواضع أخرى ً‬
‫استعان بكالم شيخ اإلرشاق يف جوابه عىل اإلشكال املطروح عىل تعريف احلركة‪ ،‬حيث‬
‫القوة إىل الفعل"‪ ،‬وقد أشكلوا‬
‫عرفوا احلركة بأهنا "خروج تدرجيي ‪-‬وليس دفع ًيا‪ -‬من ّ‬
‫ّ‬
‫عىل هذا التعريف ّ‬
‫بأن تعريف مفاهيم مثل (التدريج والدفعة) حتتاج إىل معرفة احلركة‬
‫وترجع إليها؛ ّ‬
‫ألن األمر الدفعي هو الذي حيصل يف (اآلن)‪ ،‬و(اآلن) هو طرف الزمان‪،‬‬
‫(‪ )1‬ليس املقصود بالسبق التقدّ م الزماين‪ ،‬بل التقدّ م الرتبي‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 326‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫والزمان هو مقدار احلركة‪ ،‬وهبذا يرجع حتليل تعريف األمر الدفعي إىل احلركة‪ ،‬واحلال‬
‫أن تعريف احلركة تعريف دوري‪،‬‬ ‫أن عدم الدفعة جز ٌء من تعريف احلركة‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫ّ‬
‫وأنه قد ُأخذ اليشء يف تعريف نفسه‪.‬‬
‫تصورات هذه األمور ‪-‬أي‬
‫ويكتب املال صدرا حاذ ًيا حذو شيخ اإلرشاق‪" :‬إن ّ‬
‫حلس عليها(‪ )1‬وإن كان معرفتها بحدودها‬
‫الدفعة والتدريج ونحوه‪ -‬بدهيية بإعانة ا ّ‬
‫مقوماهتا الذات ّية من الزمان واآلن فذلك هو املحتاج إىل الربهان(‪.)3(")2‬‬
‫حموجة إىل ّ‬
‫أن بعض املفاهيم الكل ّية ‪-‬مثل الدفعة والتدريج‪ُ -‬تنتزع‬ ‫مهمة هنا هي ّ‬
‫والنقطة الـ ّ‬
‫احلس‪ ،‬وهبذا اللحاظ تكون بدهيي ًة‪ ،‬وهذه النقطة ناظر ٌة إىل مقام اإلمجال‪ ،‬فمفهوم‬
‫من ّ‬
‫(الدفعة) ّ‬
‫الكيل أدركناه بعد مشاهدة موارده اجلزئية‪.‬‬
‫احلس‪ ،‬ويف‬
‫الكيل‪ ،‬لك ّن ذلك بمعونة ّ‬ ‫وبتعبري املال صدرا‪ّ :‬‬
‫إن العقل ُيدرك املفهوم ّ‬
‫الكيل مل يؤخذ من مفهوم ّ ّ‬
‫كيل آخر؛‬ ‫هذا املقام ‪ -‬أي مقام اإلمجال ‪ّ -‬‬
‫فإن هذا املفهوم ّ‬
‫التصور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بدهيي‬
‫ّ‬ ‫وهلذا يمكن القول بأ ّنه‬
‫وأ ّما يف مقام التفصيل ‪-‬حيث نبحث عن األجزاء الذات ّية هلذه املفاهيم‪ ،‬ونكون‬
‫فإن هذه املفاهيم‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة إىل الفكر والنظر؛ وهلذا ّ‬ ‫بصدد معرفة تعريفاهتا احلد ّية‪ -‬فإننا‬
‫(‪ )1‬ال بد من االلتفات إىل أن هذا الرأي منقول عن شيخ اإلرشاق‪ ،‬واملال صدرا ال يرى أن مثل هذه املفاهيم احلاصلة‬
‫احلس مفاهيم بدهيية واق ًعا من مجيع اجلهات‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إذا كان املقصود بالبداهة هنا البداهة يف‬
‫بمعونة ّ‬
‫مقام اإلمجال ومع حلاظ املنشأ (وسوف يأيت توضيح هذه النقطة) فالكالم صحيح‪ .‬وأما إذا كان املقصود البداهة‬
‫أيضا يف‬
‫تتمة كالمه‪ ،‬وذكر ذلك ً‬ ‫رصح املال صدرا بذلك يف ّ‬ ‫عند العقل ويف مقام التفصيل فاألمر ليس كذلك؛ كام ّ‬
‫رشح اهلداية األثريية [انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬رشح اهلداية األثريية‪ ،‬الصفحة‪ .]104 :‬فالعقل ُيدرك‬
‫احلس‪ ،‬وهبذا اللحاظ‪ ،‬أي مع حلاظ منشأ إدراك املفاهيم‪ ،‬تكون هذه املفاهيم بدهيية‪.‬‬
‫تلك املفاهيم بمعونة ّ‬
‫احلس‬
‫ّ‬ ‫وقال املال صدرا يف موضع آخر‪" :‬اعلم أن معنى كون احلركة والسكون حمسوسني أن العقل بإعانة‬
‫ُيدركهام" [صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬األسفار‪ ،‬اجلزء ‪ ،8‬الصفحة‪ .]203 :‬و ّبني مراده هناك‪.‬‬
‫التصورات عىل نحو التعريف‪ ،‬ويف التصديقات عىل‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )2‬ذكروا يف قسم الربهان من املنطق ّ‬
‫أن الربهان عىل نحوين‪ :‬يف‬
‫التصورات‪ ،‬أي التعريف واحلدّ ‪ ،‬وإن كانت الد ّقة تقتيض‬
‫ّ‬ ‫نحو االستدالل‪ .‬واملراد من الربهان هنا هو الربهان يف‬
‫تسمية كتاب الربهان بـ(كتاب احلدّ والربهان) [انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة‪ ،]53 :‬وال‬
‫ٍ‬
‫حينئذ من التعبري عن التعريف باحلدّ ‪.‬‬ ‫بدّ‬
‫(‪ )3‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬األسفار‪ ،‬اجلزء ‪ ،3‬الصفحة ‪.22‬‬
‫‪327‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تصبح يف مقام التفصيل نظري ًة وحتتاج‬


‫ُ‬ ‫التصور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نفسها التي كانت يف مقام اإلمجال بدهيية‬
‫إىل تعريف(‪.)1‬‬
‫أيضا لكالم شيخ اإلرشاق حول مفهوم الوجود‪ ،‬حيث يعتقد‬
‫ويتعرض املال صدرا ً‬‫ّ‬
‫شيخ اإلرشاق أ ّنه قد وقع اخللط واخلبط الكثري يف موضوع الوجود‪ّ ،‬‬
‫وأن هذا املفهوم‬
‫ليس بدهي ًّيا(‪ ،)2‬يقول الـمال صدرا إ ّنه إذا كان الـمقصود من (الوجود) هو حقيقة الوجود‬
‫اخلارج ّية‪ ،‬فحيث إنه ال جنس له وال فصل‪ ،‬فهو ال يقبل التعريف‪ ،‬سواء التعريف احلدّ ي‬
‫أعم األشياء‪ ،‬وأظهر األشياء‪ ،‬وأعرف األشياء عند‬
‫ولكن مفهوم (الوجود) ّ‬
‫ّ‬ ‫أم الرسمي‪.‬‬
‫بدهيي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العقل؛ ولذا فهو‬
‫"(قوله‪ :‬وأما مثل الوجود الذي م ّثلوا به‪ )...‬الوجود ّ‬
‫أحق األشياء بأن يكون‬
‫وأعمها يف‬
‫ّ‬ ‫مستغن ًيا عن التعريف‪ ،‬أما [الوجود] العام البدهيي فلكونه أظهر األشياء‬
‫التصور‪ ،‬وأعرفها عند العقل‪ ،‬وأما اهلو ّيات الوجود ّية‪ ،‬فألهنّا ال صورة مساوية هلا عند‬
‫ّ‬
‫ألهنا نفس الصورة العين ّية فال يمكن تعريفها بحدّ إذ ال جنس هلا وال فصل‪،‬‬
‫العقل ؛ ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫وال برسم إذ ال مظهر هلا لكوهنا أظهر األشياء وأنورها فال يمكن معرفتها إال برصيح‬
‫ٍ‬
‫معان‬ ‫املشاهدة(‪ )4‬احلضورية(‪ ،)5‬وأ ّما املحسوسات فلها مه ّيات ك ّلية مشتملة عىل‬
‫ٍ‬
‫بخواص‬ ‫أخص وترسيمها‬ ‫وذايت‬ ‫أعم‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يت ّ‬ ‫وخمتصة‪ ،‬فيمكن حتديدها بذا ّ‬
‫ّ‬ ‫مشرتكة‬
‫ٍ‬
‫بوجه عند العقل"(‪.)6‬‬ ‫ٍ‬
‫وعوارض هي أعرف‬
‫(احلسيات)‪ ،‬مثل السواد‬
‫ّ‬ ‫احلس الظاهر‬
‫(‪ )1‬كام يطرح املال صدرا يف كتاب (مفاتيح الغيب) ثالثة أنواع للبدهيي‪ :‬بدهيي ّ‬
‫احلس الباطن (الوجدانيات)‪ ،‬مثل ّ‬
‫اللذة واألمل‪ ،‬والبدهيي العقيل‪ ،‬مثل الوجود والوحدة والكثرة‪،‬‬ ‫والبياض‪ ،‬وبدهيي ّ‬
‫طراري ومن دون اختيار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ألن هذه األمور حترض يف نفس اإلنسان وتصبح معلوم ًة له بنحو اض‬‫ويعدّ ها مجي ًعا بدهيي ًة؛ ّ‬
‫وهذا هو مقام اإلمجال الذي حتدّ ثنا عنه‪ .‬انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬الصفحة‪.300 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬جمموعة مصنفات شيخ اإلرشاق‪ ،‬اجلزء ‪( 2‬حكمة اإلرشاق)‪ ،‬الصفحة‪.104 :‬‬
‫أن الوجود اخلارجي ال يأيت إىل الذهن مطل ًقا‪ ،‬فهو ال يقبل التعريف‪.‬‬ ‫(‪ )3‬بلحاظ ّ‬
‫(‪ )4‬يعتقد املال صدرا أنه ال يمكن مشاهدة حقيقة الوجود إال بالعلم احلضوري‪ ،‬وأما بالعلم احلصويل فيمكن إدراك‬
‫وجهه فقط‪ .‬انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬األسفار‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحتني‪38 - 37 :‬؛ املشاعر‪ ،‬الصفحة ‪.24‬‬
‫(‪ )5‬كذلك انظر‪ :‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح‬
‫حكمة اإلرشاق‪ ،‬الصفحة ‪.204‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة ‪.279‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 328‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويقول شيخ اإلرشاق يف موضع آخر من كتاب (حكمة اإلرشاق) إنه ال بدّ لنا يف‬
‫دائام يف التعريف‪ ،‬ويع ّلق‬
‫التعريف من الرجوع إىل األمور املحسوسة‪ ،‬فنحن بحاجة هلا ً‬
‫املال صدرا عىل هذا الكالم ً‬
‫قائال‪(" :‬قوله‪ :‬فليس العود إال إىل أمور حمسوسة) أقول‪:‬‬
‫ٌ‬
‫داخل يف القسم‬ ‫كل ما يكفي حلصول صورته يف العقل اإلحساس بجزئ ّياته فهو‬ ‫ّ‬
‫أن املحسوس‬ ‫املعرف‪ ،‬وقد علمت ّ‬
‫الرضوري من العلوم فيام [ال] حيتاج معرفتها إىل ِّ‬
‫(‪)1‬‬

‫ٍ‬
‫كاسب وال مكتسب‪ .‬نعم اإلحساس بالصورة اجلزئية مما ُيعد‬ ‫[بـ] ما هو حمسوس غري‬
‫النفس ألن يفيض عليها من املبدأ صورة كلي ًة رضوري ًة"(‪.)2‬‬
‫ويتّضح من هذا الكالم للمال صدرا أ ّنه يذهب إىل رضورة وبداهة الصور الك ّلية‬
‫املعقولة احلاصلة من املحسوسات‪.‬‬
‫وبمالحظة ما سبق نقله من كالمه يبدو أنه ُيشري هنا إىل مقام اإلمجال ال التفصيل‪.‬‬
‫إن ما نقلناه ساب ًقا عن اخلواجة نصري الدين الطويس‪ ،‬وأوضحناه‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ :‬‬
‫التصور ّ‬
‫الكيل البدهيي احلاصل من املحسوس‪ ،‬هو نفسه مفاد كالم املال صدرا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بصفته‬
‫ناظر إىل مقام اإلمجال ال التفصيل‪.‬‬
‫ولكن هذا الكالم ٌ‬
‫أن شيخ اإلرشاق يقول ّ‬
‫بأن املحسوسات بسيطة سواء يف اخلارج أم‬ ‫وقد أرشنا إىل ّ‬
‫فإهنا بدهيي ٌة ال تعريف هلا‪ ،‬ولك ّن املال صدرا يقول يف قبال ذلك ّ‬
‫بأن‬ ‫يف الذهن؛ وهلذا ّ‬
‫أمر ُمسل ٌم به‪ ،‬بيد ّ‬
‫أن معناها‬ ‫بساطتها اخلارجية‪ ،‬وعدم ترك ّبها من املا ّدة والصورة ٌ‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫الذهني ليس كذلك‪ ،‬فالبياض لون وكيف ُمبرص‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬إن كون‬
‫الكيل احلاصل من احلس ‪-‬مثل البياض‪ -‬بدهي ًيا يف مقام اإلمجال ال يعني أ ّنه ال أجزاء‬
‫له‪(":‬قوله‪ :‬فبسائط املحسوسات ال جزء هلا) كوهنا ممّا ال جزء هلا يف الوجود العيني بأن‬
‫يكون هلا ما ّدة وصورة‪ُ ،‬مسل ٌم‪ ،‬وأما كوهنا بحسب املعنى بسيطة‪ ،‬فغري معلوم بل عدمه‬
‫ألن األلوان ‪ً -‬‬
‫مثال‪ -‬واقعة حتت جنس الكيفية ثم املحسوس‪ ،‬ثم الـ ُمبرص"(‪.)3‬‬ ‫معلوم؛ ّ‬
‫(‪ )1‬املراد بالعلم الرضوري بقرينة السياق هو العلم البدهيي‪.‬‬
‫(‪ )2‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح حكمة‬
‫اإلرشاق‪ ،‬الصفحة ‪.60‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.279 :‬‬
‫‪329‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فإن املال صدرا ال يأبى قبول بداهة املفاهيم الك ّلية احلاصلة من ّ‬
‫احلس‪،‬‬ ‫وكام ذكرنا ّ‬
‫ناظر يف ذلك إىل مقام اإلمجال‪ .‬وقد أكّد عىل هذه النقطة يف‬
‫لكن ينبغي االلتفات إىل أنّه ٌ‬
‫بأن البسائط يمكن تعريفها بسبعة‬‫موضع آخر‪ ،‬فهو يقول ‪-‬يف قبال شيخ اإلرشاق‪ّ -‬‬
‫بدهيي‬
‫ّ‬ ‫ض اخلاص الذي يكون بنفسه‬ ‫أنحاء‪ .‬والنحو السابع هو التعريف عن طريق العر ِ‬
‫األوليات أو‬
‫التصور‪ ،‬إما من ّ‬
‫ّ‬ ‫أن األمر اخلاص قد يكون بدهيي‬ ‫التصور‪ ..." :‬ومنها ّ‬
‫ّ‬
‫احلسيات‪ ،‬فال حاجة إىل أن يكتسب من مفهوم آخر ّ‬
‫فإن من األشياء ما هو معلوم بذاته‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ال بأمر آخر‪ .‬ولو كان ّ‬
‫كل معرفة إ ّنام حيصل بمعرفة قبلها لزم الدور أو التسلسل‪ ،‬وكثري‬
‫التصوري(‪،)1‬‬
‫ّ‬ ‫احلسيات من هذا القبيل‪ .‬وليس اإلحساس اجلزئي من قبيل الكاسب‬
‫من ّ‬
‫احلواس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تومهه بعض الناس؛ إذ اإلحساس ال حيصل به إال صورة جزئ ّية يف إحدى‬‫كام ّ‬
‫وليست الصورة الشخص ّية موقعة لصورة ك ّلية يف العقل ً‬
‫أصال‪ ،‬ال صورهتا الكلية و[ال]‬
‫صورة كلية أخرى وال صورة شخص ّية أخرى كام ُبرهن عليه"(‪.)2‬‬
‫معر ًفا للبسائط ال بدّ أن‬
‫اخلاص الذي يمكن له أن يكون ّ‬
‫ّ‬ ‫يقول املال صدرا ّ‬
‫إن األمر‬
‫احلسيات‪ .‬ولكن هل املقصود‬
‫األوليات العقلية أو من ّ‬
‫يكون بدهي ًيا بنفسه‪ ،‬إ ّما بكونه من ّ‬
‫احلسيات اجلزئية؟ اجلواب بالنفي؛ ألن املحسوس اجلزئي ليس كاس ًبا وال‬
‫باحلسيات هي ّ‬ ‫ّ‬
‫باحلسيات إ ًذا هي املفاهيم الك ّلية احلاصلة من املحسوسات ّ‬
‫اجلزئية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مكتس ًبا‪ ،‬فاملقصود‬
‫التصور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فهذه املفاهيم الك ّلية ليست مأخوذة من مفاهيم كل ّية أخرى؛ وهلذا فهي بدهي ّية‬
‫التصور‪ ،‬يقصد به‬
‫ّ‬ ‫بدهيي‬
‫ّ‬ ‫احلسيات هو من هذا القبيل"‪ ،‬أي‬
‫وقوله‪" :‬وكثري من ّ‬
‫املفاهيم الك ّلية املأخوذة من املحسوسات اجلزئ ّية‪ ،‬ال املحسوسات اجلزئية نفسها؛ ّ‬
‫ألن‬
‫املفاهيم اجلزئية ال فائدة منها يف التعريف‪.‬‬
‫احلسية الك ّلية هي‬
‫أن املفاهيم ّ‬‫فإن املال صدرا قد عدّ يف كالمه املتقدّ م ّ‬
‫وعىل هذا ّ‬
‫مر ساب ًقا‪ ،‬إن املقصود ببداهة هذه املفاهيم يف هذه العبارات‬
‫أيضا‪ .‬وكام ّ‬
‫مفاهيم بدهيية ً‬
‫املذكورة هو ّأهنا مل ُتؤخذ من مفهوم أو مفاهيم ك ّلية أخرى‪ ،‬غري ّأهنا ُمتصورة بنحو‬
‫(‪ )1‬أي ليس شيئًا يمكن بسببه إدراك مفهوم جمهول‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.62 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 330‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫التصور التفصييل هلذه املفاهيم فإ ّنه جيد ّ‬


‫أن هلا أجزا ًء‬ ‫ّ‬ ‫اإلمجال‪ ،‬وعندما ينتقل العقل إىل مقام‬
‫فإن هذه املفاهيم ليست مستغني ًة عن التعريف يف مقام التفصيل‪.‬‬ ‫يمكن تعريفها‪ .‬ومن هنا ّ‬

‫و ُيرجع املال صدرا بداهة املفهوم ّ ّ‬


‫الكيل املأخوذ من املحسوسات إىل االرتباط‬
‫احلضوري بالوجودات [أي احلصص الوجودية]‪ ،‬ولكنه ُيلفت النظر إىل أ ّنه يف جمال‬
‫االرتباط احلضوري ‪-‬الذي يقع يف االرتباط مع املحسوس اجلزئي‪ -‬ال معنى للتعريف‬
‫التصورية ً‬
‫أصال؛ وذلك بسبب كون هذا اإلدراك إدراكًا حضور ًيا‬ ‫ّ‬ ‫واحلركة الفكرية‬
‫بعيدً ا عن ساحة املفهوم‪.‬‬
‫وكان شيخ اإلرشاق يقول إ ّن حقيقة الصوت تعد ً‬
‫أمرا بدهي ًيا بالنسبة للشخص‬
‫درك الصوت ً‬
‫أصال‪،‬‬ ‫القوة فإ ّنه ال ُي ِ‬
‫حس السمع‪ ،‬وأ ّما الذي ال يملك هذه ّ‬
‫الذي لديه ّ‬
‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫ٍ‬
‫يشء نرتبط به‬ ‫درك كل‬ ‫أن املال صدرا يقول‪ :‬هذا صحيح؛ ولذلك فإننا ُن ِ‬
‫إال ّ‬
‫وجودي‪ ،‬لك ّن الوجود هو الذي حي ّقق االرتباط بيننا وبني العامل اخلارجي؛ ولذلك فإنّنا‬
‫ّ‬
‫درك الصوت من اخلارج‪ ،‬غري ّ‬
‫أن‬ ‫حس ًيا فإننا ُن ِ‬
‫عندما نرتبط باخلارج ارتبا ًطا وجود ًّيا ّ‬
‫أيضا‪(" :‬قوله‪ :‬فحقيقة الصوت ال يعرف‬
‫هذا ال يعني بداهة املفهوم االنتزاعي للصوت ً‬
‫ٍ‬
‫يشء هو وجوده اخلاص‬ ‫أن حقيقة ّ‬
‫كل‬ ‫حاسة السمع) منشأ ذلك ّ‬ ‫ً‬
‫أصال ملن ليس له ّ‬
‫ّ‬
‫الشخصية‪ ،‬وال ُيعرف الوجود إال بحضور عينه(‪)1‬؛ إذ ال صورة هلا يف الذهن كام‬ ‫وهو ّيته‬
‫مر‪ ،‬وال خصوص ّية هلذا احلكم بالصوت وال بغريه من البسائط واملركبات؛ ولذلك قيل‪:‬‬
‫ّ‬
‫ليس اخلرب كاملعاينة"(‪.)2‬‬
‫وقد ذكر املال صدرا يف موض ٍع آخر هذا الكالم نفسه معل ًقا عىل قول شيخ اإلرشاق‪:‬‬
‫(إن من شاهد السواد استغنى عن التعريف)‪ ،‬فقال املال صدرا يف التعليق عىل هذا‬
‫شك يف ذلك؛ إذ ليس اخلرب كاملشاهدة وال البيان كالعيان يف كل يشء؛ ّ‬
‫ألن‬ ‫الكالم‪" :‬ال ّ‬
‫املشاهدة تتع ّلق بالوجود والتعريف للمه ّية من جهة املفهومات الك ّلية‪ ،‬والوجود هو‬

‫(‪ )1‬أي إن الوجود إنام ُيدرك فقط من خالل االرتباط احلضوري الوجودي‪ ،‬وهذه العبارات من املال صدرا قريبة من‬
‫أمرا حضور ًيا‪.‬‬
‫فضاء كون حقيقة اإلدراك احليس ً‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫األصل يف كل يشء‪ ،‬فمن عاينه استغنى عن طلب نعته"(‪.)1‬‬


‫وطب ًقا لتعليق املال صدرا عىل شيخ اإلرشاق ّ‬
‫فإن التعريف يرتبط باملفاهيم‪ ،‬وأ ّما‬
‫املشاهدة فتحصل من طريق االرتباط احلضوري الوجودي‪.‬‬
‫أن املال صدرا يعتقد ّ‬
‫بأن التعريف جماله العلم احلصويل‬ ‫وخالصة الكالم هي ّ‬
‫واحلركة من املعلوم إىل املجهول‪ ،‬أي االستعانة باملفاهيم املعلومة ملعرفة املفهوم املجهول‪،‬‬
‫اجلزئي فإنه ُيدرك عن طريق االرتباط الوجودي واحلضوري باخلارج‪،‬‬‫ّ‬ ‫وأ ّما املحسوس‬
‫اجلزئي ليس كاس ًبا وال مكتس ًبا وال يمكن تعريفه وإدراكه من‬
‫ّ‬ ‫مضا ًفا إىل ّ‬
‫أن املحسوس‬
‫إن الـمحسوس‬ ‫خالل احلركة الفكرية من املعلوم إىل املجهول‪ .‬وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فحيث ّ‬
‫اجلزئي ال تعريف له‪ ،‬أما املفاهيم‬
‫ّ‬ ‫الـجزئي ال يمكن تعريفه‪ ،‬جاز القول إ ّن املحسوس‬
‫الك ّلية املنتزعة من هذه املحسوسات فإن هلا ً‬
‫حكام آخر‪ ،‬وهي تقبل التعريف‪ .‬وأما الذي‬
‫يكون معلو ًما بالعلم احلضوري‪ ،‬ومعلوم ّيته تنشأ من االرتباط الوجودي‪ ،‬فهو ال يقع ‪-‬‬
‫أصال‪ -‬ضمن نطاق العلم احلصويل‪ ،‬وال جمال فيه للحديث عن التعريف‪.‬‬ ‫ً‬

‫رأي ّ‬
‫العالمة الطباطبائ‬
‫العالمة الطباطبائي يف مواضع عدّ ة من كتبه(‪ )2‬لكيفية ظهور اإلدراكات‬ ‫تعرض ّ‬ ‫ّ‬
‫التصورية‪ ،‬وعىل الرغم ّمما يبدو ‪-‬أحيانًا‪ -‬من اختالف حتليالته فيام بينها‪ ،‬لكنّه ‪-‬ب ٍ‬
‫شكل‬ ‫ّ‬
‫التصورات ّ‬
‫بأن منشأ املفاهيم الكلية هو مصاديقها التي نرتبط هبا‪ ،‬سواء‬ ‫ّ‬ ‫عام‪ -‬حي ّلل ظهور‬
‫ّ‬
‫عام‪-‬‬ ‫ٍ‬
‫وبنحو ّ‬ ‫كانت املحسوسات الظاهرية أم املحسوسات الباطنية‪ ،‬وعىل هذا األساس ‪-‬‬
‫فاملفاهيم إ ّنام نأخذها من املشهودات‪ ،‬وما مل يتم إدراك املصداق فال حت ّقق للمفهوم‬
‫ّ‬
‫الكيل(‪)3‬و(‪.)4‬‬
‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة ‪.204‬‬
‫العالمة الطباطبائي هلذا البحث يف هناية احلكمة (الفصل الثالث والتاسع من املرحلة احلادية عرش)‪،‬‬ ‫تعرض ّ‬ ‫(‪ّ )2‬‬
‫وكذلك يف أصول الفلسفة واملذهب الواقعي (املقالة اخلامسة‪ ،‬ظهور الكثرة يف اإلدراكات)‪.‬‬
‫املشائني‪ ،‬فاملشاؤون يعتقدون ّ‬
‫بأن مجيع املفاهيم تؤخذ من احلس‬ ‫وثمة شبه بني رأي العالمة الطباطبائي ورأي ّ‬ ‫(‪ّ )3‬‬
‫ِ‬
‫[ولذا قالوا]‪َ « :‬من َف َقدَ ح ًّسا َف َقد ع ً‬
‫َلام»‪.‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬حممد حسني الطباطبائي‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬املرحلة احلادية عرش‪ ،‬الفصل التاسع‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 332‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫إن أخذ املفهوم وانتزاعه من مصداقه يتو ّقف عىل نو ٍع من االتّصال باملصداق‪،‬‬
‫" ّ‬
‫احليس باخلارج‪،‬‬
‫احلس يف العلم ّ‬
‫واالرتباط باخلارج سواء كان بال وساطة كاتّصال أدوات ّ‬
‫احلس باخلارج‪ ،‬وكاتصال العقل‬
‫أم مع الوساطة كاتّصال اخليال يف العلم اخليايل بوساطة ّ‬
‫يف العلم العقيل من طريق إدراك اجلزئيات باحلس واخليال باخلارج"(‪.)1‬‬
‫العالم ُة يف الفصل التاسع من املرحلة احلادية عرش من (هناية احلكمة) ‪-‬‬
‫وقد قدّ م ّ‬
‫خصصه لتقسيم العلم احلصويل إىل بدهيي ونظري‪ -‬بعض املفاهيم (مثل الوجود‬
‫الذي ّ‬
‫تصورية‪ ،‬وبعض املفاهيم األخرى (مثل ماه ّية‬‫والوحدة واليشء) عىل ّأهنا بدهي ّيات ّ‬
‫ّب من أجزاء ذات ّية‬ ‫تصورية؛ ّ‬
‫ألن مفهوم اإلنسان مرك ٌ‬ ‫اإلنسان والفرس) عىل ّأهنا نظر ّية ّ‬
‫أيضا مركّب من أجزاء ذات ّية(‪.)2‬‬ ‫هي احليوان والناطق‪ ،‬ومفهوم احليوان ً‬
‫أن بعض املفاهيم الك ّلية (مثل اإلنسان والفرس) قد أخذت من‬ ‫وعليه فمع ّ‬
‫املصاديق املحسوسة لإلنسان والفرس‪ّ ،‬إال ّأهنا نظري ٌة ال بدهيية‪ .‬فليس ّ‬
‫كل مفهو ٍم‬
‫يؤخذ من األمور املشهودة يكون بدهي ًيا‪.‬‬

‫رأي األستاذ مصباح اليزدي‬


‫األستاذ مصباح اليزدي من الـمتأ ّثرين برأي شيخ اإلرشاق والعالمة الطباطبائي‬
‫كالعالمة الطباطبائي‪ّ -‬‬
‫أن مجيع الـمفاهيم‬ ‫التصورات‪ ،‬فهو يعتقد ‪ّ -‬‬ ‫ّ‬ ‫فـي معيار بداهة‬
‫أن البداهة معلول ٌة لالرتباط احلضوري بالعالـم‬
‫تؤخذ من الـمصاديق‪ ،‬ولكنّه يرى ّ‬
‫نحو أساس‪ -‬مصدا ًقا لالرتباط احلضوري‪ ،‬ومن هنا‬ ‫اخلارجي‪ ،‬ويعدّ الوجدانيات ‪-‬ب ٍ‬
‫فبحسب نظرته هذه تكون الـمفاهيم الـمأخوذة من الوجدانيات مجيعها بـدهييـة‪ .‬ويعتقد‬
‫أيضا مأخوذ ٌة من الوجدانيات؛ وهلذا يعدّ ها بدهيي ًة‬ ‫ّ‬
‫أن الـمعقوالت الثانية الفلسفية ً‬
‫أيضا‪" :‬وهبذا يظهر ّ‬
‫أن معيار بداهـة هذه الـمفاهيم ‪-‬كالـمفـاهيم التصـ ّوريـة‪ -‬هو أنـها‬ ‫ً‬
‫تـؤخـذ من الـمعـلومات الـحضوريـة بال وسا ٍ‬
‫طة واكتساب"(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬وقد رشح العالمة بعد ذلك كيفية ظهور بعض املفاهيم مثل اجلوهر‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.252 :‬‬
‫(‪ )3‬مـحمد تقي مصباح اليزدي‪ ،‬تعليقة عىل نـهاية احلكمة‪ ،‬الصفحة‪231 :‬؛ ولـمطالعة أوسع حول آراء األستاذ =‬
‫‪333‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فاألستاذ مصباح ‪-‬كشيخ اإلرشاق‪ -‬يرى ّ‬


‫أن معيار البداهة‪ ،‬يكمن يف املشاهدة‪،‬‬
‫أيضا تؤخذ من‬ ‫لكنه خيالف شيخ اإلرشاق يف االعتقاد ب ّ‬
‫أن املعقوالت الفلسف ّية ً‬
‫وأهنا بدهيية‪ ،‬بينام يرى شيخ اإلرشاق ّ‬
‫أن هذه املفاهيم اعتبارية‪ ،‬أي ذهن ّية‪،‬‬ ‫املشهودات‪ّ ،‬‬
‫كثريا قد وقع يف بعض املفاهيم كالوجود‪ .‬والواقع ّ‬
‫أن‬ ‫أن هناك خطأ وخب ًطا ً‬ ‫ويرى ّ‬
‫األصل الذي بنى عليه األستاذ مصباح بحثه هو نفسه الذي بنى عليه شيخ اإلرشاق‪،‬‬
‫لك ّنهام خيتلفان يف مصداق العلم احلضوري والشهودي الذي هو أساس بداهة البدهيي‪.‬‬

‫التحقيق ف املسألة‬
‫ولكي تكون للبحث منهج ّية مناسبة‪ ،‬ونتمكن من الوصول إىل نتائج صحيحة‪،‬‬
‫سندرس املوضوع من خالل ثالثة أبعاد‪ :‬املفاهيم اجلزئ ّية‪ ،‬واملفاهيم الكل ّية‪ ،‬وتعريف‬
‫املفاهيم‪.‬‬
‫‪ .1‬املفاهيم الجزئية املأخوذة من الشهود‪:‬‬
‫حضوري‬
‫ٌّ‬ ‫علم‬
‫عند االرتباط واالتصال احلضوري باملصاديق اخلارج ّية حيصل لدينا ٌ‬
‫باحلس‬
‫ّ‬ ‫هبا؛ وهلذا االرتباط والعلم احلضوري ُشعب متعدّ دة‪ :‬العلم احلضوري ّ‬
‫احليس‬
‫حس الباطن‪ ،‬العلم الـحضوري بالشهود العقيل(‪ ،)2‬والعلم الـحضوري‬
‫الظاهر(‪ )1‬والـ ّ‬
‫بالشهود القلبي‪.‬‬
‫فعندما ُن ِ‬
‫درك حقائق مثل احلرارة والربودة‪ ،‬واجل ّيد والرديء‪ّ ،‬‬
‫واللذة واألمل‪ ،‬والبياض‬
‫باحلس)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والسواد‪ ،‬والوجود والعدم‪ ،‬وذوات مثل ذات البياض (ال البياض املتع ّلق‬

‫= مصباح وبعض عباراته يراجع‪ :‬عباس عاريف‪ ،‬البدهيي ودوره يف نظر ّية املعرفة (قم‪ :‬مؤسسة اإلمام اخلميني‬
‫للتعليم والتحقيق‪ ،)2010 ،‬الصفحات‪.227 - 224 :‬‬
‫(‪ )1‬وقد حتدّ ثنا عن ذلك يف كتاب حكمة اإلرشاق‪ ،‬انظر‪ :‬يد اهلل يزدان بناه‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬اجلزء ‪ ،1‬الصفحتني‪:‬‬
‫‪ ،280 - 279‬واجلزء ‪ ،2‬الصفحات‪285 ،279 ،269 - 262 :‬؛ كذلك انظر‪ :‬فصل (ابتداء الفلسفة مع‬
‫الواقعية البدهيية) يف الكتاب الثاين من هذه املجموعة (تأ ّمالت يف فلسفة الفلسفة اإلسالميّة) [والكتاب ملّا ُيطبع‬
‫بعد (الربيعي)]‪.‬‬
‫(‪ )2‬سوف نتحدّ ث عن الشهود العقيل بالتفصيل يف الفصل الثالث‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 334‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ووجودي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حضوري‬
‫ّ‬ ‫وذات اإلنسان‪ ،‬و‪ ...‬فإننا يف الواقع نكون قد ارتبطنا باحلقائق ٍ‬
‫بنحو‬
‫احلضوري‪ ،‬فهذه األمور مجيعها حقائق وجودية بل نفس‬
‫ّ‬ ‫وعلمنا هبا بنحو العلم‬
‫احلضوري هو احلقائق‬
‫ّ‬ ‫أمرية(‪ )1‬قد أصبحت ُمتعل ًقا للعلم احلضوري‪ ،‬و ُمتعلق العلم‬
‫ّ‬
‫متشخصة يف اخلارج‪.‬‬ ‫اخلارج ّية‪ ،‬والنفس األمر ّية‪ ،‬وهذه األمور‬
‫احلس الظاهر أو الباطن إ ّنام حتصل بوساطة العقل‬
‫وهذه املفاهيم املأخوذة من ّ‬
‫الشهودي والعقل التحلييل والعقل املُخرتع للمشابه‪ ،‬فاملفاهيم الفلسف ّية ّ‬
‫يتم إدراكها‬
‫بوساطة العقل الشهودي‪ ،‬ثم يلتقط العقل املش ّبه [املُخرتع ُ‬
‫للمشابه] صورة هلا(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫وبعبارة أخرى‪ّ ،‬‬
‫إن العقل املش ّبه يقوم بالتقاط صورة لألمور التي ُندركها بالعلم‬
‫ويكون هلا مفاهيم حصول ّية‪ ،‬ومن هذه املرحلة نكون قد دخلنا جمال العلم‬‫ّ‬ ‫احلضوري‬
‫شعوري‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بفعل‬ ‫دائام‪ ،‬فال يلزم علينا القيام‬
‫احلصويل‪ .‬والعقل املش ّبه ال ينفك عن العمل ً‬
‫ٍ‬
‫صور ملشهوداتنا يف خزانة اخليال‪ ،‬بل يمكن القول إ ّن هذه الصور يتم‬ ‫كي نحصل عىل‬
‫آيل تلقائي‪ .‬فحاصل نشاط العقل املش ّبه صور جزئية مأخوذة من الشهود‪،‬‬ ‫أخذها ٍ‬
‫بنحو ّ‬
‫وهذه الصور مفاهيم جزئية وحصولية(‪.)3‬‬
‫(باحلس الظاهر أو الباطن)‪ ،‬أم‬
‫ّ‬ ‫احلس ّية‬ ‫فهل ّ‬
‫أن هذه املفاهيم اجلزئية‪ ،‬سواء املفاهيم ّ‬
‫املفاهيم الفلسف ّية‪ ،‬املأخوذة من الوجودات اخلارجية بوساطة العقل الشهودي‪ ،‬بدهيية؟‬
‫أيضا‪.‬‬
‫(‪ )1‬األمر نفسه يشمل العدم والعدميات ً‬
‫(‪ )2‬سوف نتحدّ ث عن أنواع ف ّعاليات العقل النظري يف الفصل الرابع‪.‬‬
‫احلسية ‪-‬سواء كان احلس الظاهر أم الباطن‪ -‬تظهر عىل شكل‬
‫بأن مجيع الصور ّ‬ ‫يبني املشاؤون هذه الفعالية للنفس ّ‬‫(‪ّ )3‬‬
‫صورة خيال ّية وتتجمع يف خزانة اخليال‪ ،‬وبتعبري املشائني ّ‬
‫فإن الصورة اخليالية تشبه الصورة املحسوسة‪ ،‬لكن مع‬
‫هذا االختالف وهو أهنا ليس هلا ما ّدة‪.‬‬
‫أن هذه األمور مثل البياض اخلاص هي صورة وليست معنى‪ ،‬واملقصود‬ ‫مهم ٍة وهي ّ‬ ‫ٍ‬
‫وال بد من االلتفات إىل نقطة ّ‬
‫بالصورة هو املوجود املتقدّ ر‪ ،‬واملقصود باملعنى هو املوجود غري املتقدّ ر؛ ولذا ّ‬
‫فإن ذات البياض والوجود والوحدة‬
‫قوة‬ ‫و‪ ...‬معاين ال صور‪ ،‬والبياض اخلاص هو صورة‪ .‬ويذهب املشاؤون إىل ّ‬
‫أن إدراك املعاين اجلزئية هو عمل ّ‬
‫الوهم‪ ،‬وإدراك املعاين الك ّلية هو عمل العقل‪.‬‬
‫وقد ّبني املال صدرا ‪-‬بنحو صحيح‪ّ -‬‬
‫أن الوهم عقل ساقط‪ .‬وبنا ًء عىل هذا فإننا نستطيع إطالق اصطالح (العقل)‬
‫القوة املدركة للمعاين والصور اجلزئية‪ .‬وعىل هذا األساس نقول إ ّن العقل املشبّه هو الذي يأخذ الصور‬ ‫عىل ّ‬
‫واملعاين اجلزئية من الشهود ويدركها‪.‬‬
‫‪335‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اجلواب باإلجياب؛ إل ّن هذه املفاهيم قد ُأخذت من االرتباط احلضوري‪ ،‬و ُيطلق‬


‫احليس تعبري (بدهيي عند احلس)‪ ،‬ويمكن لنا إطالق‬ ‫عىل املفاهيم املأخوذة من االرتباط ّ‬
‫تعبري (بدهيي عند العقل الشهودي) عىل املفاهيم الفلسف ّية املأخوذة من ّ‬
‫حاق املحسوسات‬
‫اخلارج ّية أو املوجودات اخلارج ّية(‪ .)1‬وحيث ّ‬
‫إن هذه املفاهيم مأخوذ ٌة من الشهود فنحن‬
‫نعرفها‪ ،‬فمعلوم ّيتها ليست مرتبطة بمعلوم ّية مفاهيم أخرى‪ ،‬وهذا نحو من البداهة وما‬
‫احلس‬
‫اجلزئي ليس كاس ًبا وال مكتس ًبا‪ ،‬فالبدهييات عند ّ‬
‫ّ‬ ‫هو ّبني بنفسه‪ .‬ولكن املفهوم‬
‫ٍ‬
‫اكتسابية إال ّأهنا ال تنفع يف التعريف‪.‬‬ ‫وعند العقل الشهودي مع ّأهنا ب ّين ٌة وغري‬
‫‪ .2‬املفاهيم الكلية‬
‫أن الفهم الشهودي يف موطن الشهود ُيدرك (الفرد بالذات)‬
‫(‪)2‬‬ ‫نبني الح ًقا ّ‬
‫سوف ّ‬
‫حظ من الك ّلية‪ ،‬وال بدّ من‬
‫ذات جزئ ّي ٌة هلا ٌّ‬
‫أيضا‪ .‬والفرد بالذات ‪-‬كام سوف يأيت‪ -‬هو ٌ‬
‫ً‬
‫طي مسري احلصول عىل الكل ّية للوصول منها إىل املفهوم ّ‬
‫الكيل (الذات الكلية)‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فإن العقل التحلييل ‪-‬ومضا ًفا إىل الوحدة اجلزئ ّية التي أدركها بالفهم‬
‫وكمثال عىل ذلك‪ّ ،‬‬
‫أيضا ذات الوحدة وينتزعها من هناك‪ ،‬وعىل‬
‫الذي حصل له من الفرد بالذات‪ُ -‬يدرك ً‬
‫هذا فالعقل التحلييل يقوم بتحليل هذين األمرين املوجودين يف الفهم الشهودي‪،‬‬
‫اجلزئي‪ ،‬وذات ذلك اجلزئي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويفصلهام عن بعضهام إىل املفهوم‬
‫وطب ًقا هلذا التوضيح فإ ّننا نصل من داخل ذلك الفهم الشهودي إىل الك ّلية‪،‬‬
‫فالعقل التحلييل ُيدرك الكلية‪ ،‬ولكنّه يأخذها من الشهود والفهم الشهودي‪ ،‬والعقل‬
‫التحلييل ينتزع الفرد بالذات الذي له ٌّ‬
‫حظ من الكل ّية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫طي هذه املرحلة ‪-‬أي انتزاع الفرد بالذات وفرزه‪ -‬يبدأ العقل التحلييل‬
‫وبعد ّ‬
‫الكيل‬
‫ّ‬ ‫املرحلة الثانية‪ ،‬فاالنتقال والصعود املعريف يكون بعد الفرز‪ ،‬والوصول إىل إدراك‬
‫يتم باالنتقال والصعود املعريف(‪.)3‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬سوف نتحدّ ث عن العقل الشهودي يف الفصل الرابع‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الفصل الرابع (بحث العقل املُ ِ‬
‫درك للكيل)‪.‬‬
‫الكيل =‬
‫ّ‬ ‫يصور املشاؤون إدراك الكيل بنحو (التقشري)‪ ،‬وهذه الرؤية ليست تا ّمة‪ ،‬بيد ّأهنم ملتفتون إىل ّ‬
‫أن املفهوم‬ ‫(‪ّ )3‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 336‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أيضا تذكر هذه النقطة وهي أ ّنه يف املاه ّيات ال بدّ ابتدا ًء من حصول‬
‫ومن اجلدير ً‬
‫الفهم للفرد بالذات من أفراده اجلزئ ّية‪ ،‬ومن ث ّم إدراك الذات الكل ّية‪ .‬وأ ّما يف املفاهيم‬
‫يتم من حني ابتداء عملية‬ ‫فإن إدراك الفرد بالذات فيها ّ‬ ‫الفلسف ّية مثل الوحدة والكثرة ّ‬
‫للكيل فقط؛ ّ‬
‫ألن هذه األمور هي يف‬ ‫طي مسري الوصول ّ ّ‬
‫الشهود العقيل‪ ،‬وال بدّ فيها من ّ‬
‫األساس من سنخ املعنى والذات‪ ،‬وهذه املراحل والعمليات حتصل يف ساحة العلم‬
‫احلصويل‪ ،‬فاملفهوم الكيل ال حيصل مبارشة من الشهود‪.‬‬
‫الكيل‪،‬‬
‫معلوم للعقل عرب عملية إدراك ّ‬
‫ٌ‬ ‫احلس أو الشهود‬ ‫إن املفهوم ّ‬
‫الكيل احلاصل من ّ‬ ‫ّ‬
‫يتعرف هذا املفهوم بوساطة مفاهيم أخرى؛ إل ّن‬
‫ني بنفسه‪ ،‬والعقل مل ّ‬‫وهذا املفهوم ب ّ ٌ‬
‫العقل ‪-‬يف الواقع‪ -‬قد أدرك هذه املفاهيم بمالحظة منشأ هذه الذوات ال بمالحظة‬
‫يتعرف عىل هذه املفاهيم من‬ ‫الكيل مل ّ‬
‫ّ‬ ‫ذاهتا وذات ّياهتا؛ أي ّ‬
‫إن العقل يف أثناء عملية إدراك‬
‫فإن هذه املفاهيم تعدّ بدهيي ًة ٍ‬
‫بنحو من األنحاء‪ ،‬أي ب ّينة يف نفسها‪،‬‬ ‫طريق الذات ّيات؛ وهلذا ّ‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إىل الكسب والفكر يف معرفتها‪.‬‬ ‫والعقل ليس‬
‫ولكن البدهيي يف املنطق والفلسفة ‪-‬الذي هو أساس األمور النظر ّية‪ -‬له معنى آخر‪،‬‬
‫ّ‬
‫التصور أو التصديق الذي مل حيصل بالكسب ومل ّ‬
‫يتحقق من طريق الفكر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فالبدهيي بمعنى‬
‫ّ‬
‫= غري (اخليال الـمنترش) [انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحتني ‪ 107‬و‪122‬؛ كذلك‪ :‬الشفاء‬
‫(الطبيعيات)‪ ،‬السامع الطبيعي‪ ،‬الصفحة ‪.]10‬‬
‫تم إلغاء بعض قيوده مثل‬ ‫اجلزئي ليس بمعنى إدراك الذات الكلية للبياض‪ ،‬كام أ ّنه إذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن إدراك مفهوم البياض‬
‫إن ذلك املفهوم ما زال يف مرحلة اخليال املنترش‪ ،‬فإ ّننا‬ ‫خاص‪ ،‬فالذات الكليّة مل يتم إدراكها بعد‪ ،‬بل ّ‬
‫ّ‬ ‫التقيّد بمكان‬
‫عندما نرى (حسنًا وجميد ًا) ‪ً -‬‬
‫مثال‪ُ -‬ندرك مفهو ًما جزئيًا عن اإلنسان‪ ،‬وبعد مشاهدة أفراد عدّ ة من اإلنسان يمكن‬
‫لنا أن نحصل عىل تصور أكثر كلي ًة عنه‪ ،‬هبذا النحو‪ :‬موجود له رأس ويدان ورجالن و‪ ...‬وليس مقيدً ا بزمانٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكيل‪ ،‬بل هو اخليال املنترش؛ أي الصورة اخلياليّة‬ ‫خاص‪ ،‬ولكنّه إىل اآلن ليس هو ذات اإلنسان‬ ‫ٍ‬
‫ولون‬ ‫ٍ‬
‫ومكان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واحد فقط‪ ،‬وللوصول إىل اخليال‬ ‫ٍ‬ ‫الصادقة عىل أفراد متعدّ دين‪ ،‬بخالف املفهوم اجلزئي الذي يصدق عىل ٍ‬
‫فرد‬
‫املتحرك‬
‫ّ‬ ‫املنترش يكفي حذف التقيّد ببعض العوارض‪ ،‬ولكنّه إلدراك ذات اإلنسان‪ ،‬أي اجلسم النامي احلساس‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ‪ ،‬فإذا واجهنا موجو ًدا له هذه‬ ‫باإلرادة الناطق‪ ،‬ال بد من الوصول إىل جوهر اإلنسان وجنسه وفصله‪،‬‬
‫أيضا بأ ّنه إنسان‪ ،‬وإن مل‬ ‫الذاتيّات غري أنه ً‬
‫مثال ليس له يد أو قدم وكان وجهه وشكله بنحو آخر فإننا سوف نقول ً‬
‫ٍ‬
‫بشكل تام‪ .‬وبنا ًء عىل هذا فليس مقصود املشائني من التقشري حذف بعض العوارض‬ ‫شبيها للناس العاديني‬
‫يكن ً‬
‫فقط‪ ،‬بل جيب إزالة غري الذاتيات مجي ًعا حتى تظهر الذات‪.‬‬
‫‪337‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وواضحا يف‬ ‫التصوري أو التصديقي هو الذي يكون ب ّينًا‬ ‫أدق‪ :‬البدهيي‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫واضحة أخرى‪ ،‬وإال‬ ‫ٍ‬
‫تصديقات‬ ‫نفسه‪ ،‬وال حيتاج يف هذا الوضوح إىل تصو ٍ‬
‫رات أو‬ ‫ّ‬
‫فسوف يكون كسب ًيا ونظر ًيا(‪ .)1‬والبدهييات مجيعها كذلك‪ ،‬وإن كان يوجد من بينها‬
‫أبده البدهييات‪ ،‬إ ًذا فليست بداهة هذه املفاهيم البدهيية بحسب منشئها ‪ -‬الذي ّ‬
‫عربنا‬
‫إن هذه املفاهيم البدهي ّية بدهي ّي ٌة بحسب ذاهتا‪.‬‬
‫عنه بالبدهيي يف مقام اإلمجال ‪ -‬بل ّ‬
‫واحلقيقة هي أ ّنه يف نظام التفكري‪ ،‬أي الوصول من املعلوم إىل املجهول (سواء يف‬
‫التصورات أم فـي التصديقات)‪ ،‬ال بدّ من وجود معلومات أساسية؛ أي ال تكون‬
‫ّ‬
‫معلوم ّيتها مستند ًة إلـى معلومات أخرى(‪ ،)2‬ويطلقون عىل هذه الـمعلومات اصطالح‬
‫(بدهيية)‪.‬‬
‫وأما العقل التحلييل واملُدرك للكيل فإ ّنه يصل إىل املفاهيم الك ّل ّية‪ ،‬لكنّه يصل إليها‬
‫عرب املنشأ(‪ ،)3‬أي إنه يفهم ّأو ًال الفرد بالذات من خالل مشاهدة املصاديق اجلزئية‪ ،‬ثم‬
‫الكيل‪ .‬غري ّ‬
‫أن للعقل أن ينظر إىل هذه‬ ‫ّ‬ ‫وبطي مسري العثور عىل الكيل‪ -‬يصل إىل املفهوم‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫املفاهيم ‪-‬التي أدركها وهي هبذا اللحاظ بدهيية وب ّينة يف نفسها‪ -‬بلحاظ ذاهتا‪ ،‬وبعبارة‬
‫إن هذه املفاهيم بدهي ّي ٌة بلحاظ املنشأ‪ ،‬فهل هي بدهي ّي ٌة بلحاظ الذات ً‬
‫أيضا؟‬ ‫أخرى‪ّ :‬‬
‫عندما ينظر العقل إىل ذات اليشء ‪-‬أي ذلك املفهوم الكيل بحسب النظرة العقل ّية‪-‬‬
‫أن لذلك املفهوم ّ ّ‬
‫الكيل‬ ‫باحلس أو الشهود؛ فإنه يسعى إىل معرفة هل ّ‬
‫ّ‬ ‫من دون االستعانة‬
‫بني بنفسه‪ ،‬وال حيتاج‬
‫خواصا جيب إدراكها؛ لندرك الذات بلحاظها‪ ،‬أم هو ّ ٌ‬ ‫ات أو‬‫ذاتي ٍ‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬
‫(‪)4‬‬
‫واخلواص؟‬
‫ّ‬ ‫يف معلوم ّيته إىل معلوم ّية الذات ّيات‬

‫عرب ابن سينا واملح ّقق الطويس عن البدهيي هبذا الشكل‪ ،‬فقد كان تعبري ابن سينا (متصورة‬
‫(‪ )1‬عرفنا فيام تقدّ م كيف ّ‬
‫ألنفسها) [ابن سينا‪ ،‬الشفاء (اإلهليات)‪ ،‬الصفحة‪ ،]30 :‬وكان تعبري اخلواجة "املعاين املتصورة يف العقول واألذهان‪:‬‬
‫إما بنفسها ب ّينة ومستغنية عن االكتساب أو ال" [نصري الدين الطويس‪ ،‬أساس االقتباس‪ ،‬الصفحة‪.]412 :‬‬
‫(‪ )2‬وإال وقع الدور أو التسلسل‪.‬‬
‫احلس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬وقد رأينا شيخ اإلرشاق يقول‪" :‬بإعانة من ّ‬
‫أيضا تكون البداهة بلحاظ الذوات‪ ،‬فعندما نقول‪( :‬الكل أكرب من اجلزء)‪ ،‬تكون ذات‬
‫األولية ً‬
‫(‪ )4‬يف التصديقات ّ‬
‫(الكل) تقتيض ذلك يف الواقع‪ ،‬أي أن تكون أكرب من (اجلزء)‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 338‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويف هذا املقام يكون الكالم يف البداهة بحسب الذات‪ ،‬ال بحسب املنشأ‪ ،‬ولو نظرنا‬
‫اجلزئي قد طوى مسري التحليل‪ ،‬وأعطى الذات‬
‫ّ‬ ‫بحسب املنشأ‪ ،‬لكان ذلك الفرد بالذات‬
‫الكل ّية [وكشف عنها]‪ ،‬فال حاجة إىل مفاهيم أخرى‪ .‬وأما إذا نظرنا بحسب الذات‪،‬‬
‫فاألمر ليس كذلك‪ ،‬ويكون العقل بصدد العثور عىل ذات ّيات تلك الذات‪ ،‬فإذا كان يف‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ لن يكون ذلك‬ ‫أن هلا ذاتي ٍ‬
‫ات‪،‬‬ ‫هذا املقام ونظر إىل الذات هبذه احليث ّية‪ ،‬ووجد ّ‬
‫ّ‬
‫املفهوم بدهي ًيا‪ ،‬فالعقل عندما ينظر إىل ذات املفاهيم بغض النظر عن املنشأ‪ ،‬ويضعها حتت‬
‫جمهر تدقيقه‪ ،‬جيد بعض املفاهيم مركّبة من مفاهيم أخرى وحتتاج إليها‪ ،‬ومن الطبيعي أن‬
‫تكون هذه املجموعة من املفاهيم مفاهيم نظري ًة‪ .‬كام جيد مفاهيم أخرى بنفسها وبحسب‬
‫تصور بشكل ّأويل ومن دون االستعانة بمفاهيم أخرى‪ ،‬وال بدّ من تسمية هذه‬
‫ذاهتا ُت ّ‬
‫املفاهيم باملفاهيم البدهي ّية‪.‬‬
‫وتفكيك هذين النوعني من اللحاظ هو ما أشار إليه املال صدرا بتعبري اإلمجال‬
‫والبدهيي بحسب‬
‫ّ‬ ‫البدهيي يف مقام اإلمجال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فالبدهيي بحسب املنشأ هو‬
‫ّ‬ ‫والتفصيل‪،‬‬
‫البدهيي يف مقام التفصيل‪ .‬وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فمن املمكن أن يكون مفهوم ما‬
‫ّ‬ ‫الذات هو‬
‫بدهي ًيا يف كال املقامني‪ ،‬مثل مفهوم الوجود‪ .‬وقد يكون بدهي ًّيا يف املقام األول فقط‪ ،‬مثل‬
‫مفهوم البياض واإلنسان‪.‬‬
‫وال بدّ هنا من تأكيد هذه النقطة وهي أ ّنه بنا ًء عىل ما سبق‪ّ ،‬‬
‫فإن البداهة والنظر ّية‬
‫وكاشف فقط هلذه اخلصوصية‬‫ٌ‬ ‫تكون من خصائص ذات املفهوم بنفسه‪ ،‬والعقل ُم ِ‬
‫در ٌك‬
‫األعمية والبساطة تعد من لوازم ذات املفهوم‬
‫ّ‬ ‫يف ذوات املفاهيم‪ ،‬فخصائص مثل‬
‫البدهيي‪ ،‬وأ ّما البداهة فهي ناشئة من ذات املفهوم نفسه‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن املقصود ببداهة املفاهيم الك ّلية أو نظر ّيتها ‪-‬وهو املراد عادة يف البحوث‬
‫ثم نقول ّ‬
‫املنطقية والفلسفية‪ -‬هو البداهة والنظر ّية بحسب الذات ويف مقام التفصيل‪ ،‬ففي هذا‬
‫ب وفكر‪.‬‬ ‫النظري بأ ّنه هو ما كانت معلوم ّيته حتتاج إىل كس ٍ‬
‫ّ‬ ‫نعرب عن املفهوم ّ ّ‬
‫الكيل‬ ‫املقام ّ‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إذا كانت معلومية مفهوم حتتاج إىل مفاهيم أخرى متقدّ ٍ‬
‫مة ُرتبة عقلية‬ ‫ّ‬
‫عليه يف املعلوم ّية‪ ،‬فذلك املفهوم يكون مفهو ًما نظر ًّيا‪.‬‬
‫‪339‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ومن هنا فرصف البداهة بحسب املنشأ ال تكفي للحكم ببداهة املفهوم ّ‬
‫الكيل‪،‬‬
‫فاملعيار يف بداهة املفهوم ّ‬
‫الكيل بداهته يف مقام التفصيل وبلحاظ الذات‪.‬‬
‫تفصييل عن‬
‫ّ‬ ‫لتصو ٍر‬
‫ّ‬ ‫الكيل لإلنسان من دون إدراكه‬ ‫ّ‬
‫إن العقل يستطيع إدراك املفهوم ّ‬
‫مفهومي احليوان والناطق‪ ،‬وهذا يرجع إىل مقام اإلمجال‪ .‬وأما إذا أراد معرفة ذات اإلنسان‬
‫جسم‪ ،‬نا ٍم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تتكون‪ ،‬فإ ّنه جيد يف النهاية ّأهنا‬
‫بالتفصيل ومعرفة ما هي هذه الذات واق ًعا وممّا ّ‬
‫ناطق‪ .‬ويف هذه احلالة‪ ،‬تتو ّقف معلوم ّية ذات اإلنسان يف مقام‬ ‫متحر ٌك باإلرادة‪ٌ ،‬‬
‫اس‪ّ ،‬‬ ‫حس ٌ‬
‫ّ‬
‫التفصيل وبحسب الذات عىل معلوم ّية ّ مفاهيم ك ّلية عدّ ة أخرى‪ .‬ومن هنا‪ ،‬جيد العقل ّ‬
‫أن‬
‫نظري كسبي‪ ،‬بل ّ‬
‫إن عمل العقل(‪ )1‬ووظيفته يف باب املفاهيم‬ ‫ٌّ‬ ‫مفهوم‬
‫ٌ‬ ‫املفهوم ّ‬
‫الكيل لإلنسان‬
‫ف من مفاهيم وحقائق‬
‫الكيل مؤل ٌ‬ ‫الك ّلية هي البحث عن الذات‪ ،‬وعن هل ّ‬
‫أن املفهوم ّ‬
‫أخرى أو ليس كذلك‪.‬‬
‫وعىل هذا‪ ،‬فالبدهيي عند العقل هو الذي يكون بدهي ًّيا واق ًعا يف مقام التفصيل‪ ،‬أي‬
‫البدهيي هو الذي يكون متصو ًرا واق ًعا بحسب ذات نفسه‪ ،‬ومن الطبيعي أ ّال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن املفهوم‬
‫البدهيي‬
‫ّ‬ ‫يكون مؤ ّل ًفا من أجزاء بحيث تكون معلوم ّيته تابعة ملعلوم ّية تلك األجزاء‪ .‬وأما‬
‫فـي مقام اإلجـمـال وبحسب الـمنشأ فيجب إطالق البديـهـ ّي عليه عند العقل من باب‬
‫حس أو الشهود‪ ،‬و ُيعدّ بدهي ًّيا عند العقل لكون‬
‫هي حاصل من الـ ّ‬
‫التسامح؛ ألنّه بديـ ّ‬
‫بدهيي عند العقل‪ .‬وبعبارة أخرى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫احلس أو الشهود‪ ،‬ال ألنه بحسب ذاته‬
‫حصوله من ّ‬
‫بدهيي [وله مثل هذه‬
‫ّ‬ ‫البدهيي ليس بدهي ًيا عند العقل بحسب العقل نفسه‪ ،‬بل هو‬
‫ّ‬ ‫هذا‬
‫احلس والشهود‪.‬‬
‫اخلصوص ّية] بحسب ّ‬
‫نعم‪ ،‬يمكن القول ّ‬
‫إن العقل يف موطن اإلمجال وإدراك ّ‬
‫الكيل بحسب املنشأ هو يف‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن عىل نحو اإلمجال‪ ،‬وعندما ينتقل العقل إىل مقام‬ ‫الواقع قد أدرك ذات ّياته ً‬
‫مكونات تلك‬ ‫ٍ‬
‫رصيح ّ‬ ‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫التفصيل والبسط‪ ،‬فإ ّنه يفتح ذلك الفهم ا ُملغلق‪ ،‬ويشاهد‬
‫تم إدراكه ٍ‬
‫بنحو‬ ‫مكونات الذات الك ّل ّية‪ ،‬وقد ّ‬
‫الذات الك ّل ّية‪ ،‬وعليه فام كان يف الواقع من ّ‬
‫أيضا‪ ،‬وللمثال انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪،‬‬
‫(‪ )1‬استعمل ابن سينا يف هذه املوارد عنوان العقل الرصيح ً‬
‫الصفحة‪ .280 :‬وسوف ننقل عبارته الح ًقا‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 340‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫احلجاب عن وجهه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إمجايل يف مقام إدراك ّ‬
‫الكيل‪ ،‬فإ ّنه يف مقام التفصيل يظهر وينكشف‬ ‫ّ‬
‫تم النظر بد ّقة يف مقام اإلمجال‬
‫أيضا؛ وهلذا‪ ،‬فإ ّنه إذا ّ‬ ‫فالعقل يف هذا املقام ُي ِ‬
‫درك الواقع ً‬
‫نفسه‪ ،‬فإ ّنه بحسب نظر العقل يكون تقدّ م املفاهيم األخرى عىل املفهوم النظري تقدّ ًما‬
‫تتم االستعانة بمفهوم آخر بسبب االتصال بالشهود‬
‫رتا‪ ،‬وإ ّنام يمكن القول إ ّنه مل ّ‬
‫مست ً‬
‫البدهيي من‬
‫ّ‬ ‫بدهيي من هذه اجلهة‪ .‬وبنا ًء عىل هذا فالتعبري بـ(‬
‫ّ‬ ‫واحلس فحسب؛ ولذا فهو‬ ‫ّ‬
‫البدهيي من جهة الذات)‪ ،‬هو تعبري أوضح ّ‬
‫وأدق‪ ،‬بالرغم من أن‬ ‫ّ‬ ‫جهة املنشأ)‪ ،‬يف مقابل (‬
‫يتضمن يف‬
‫ّ‬ ‫البدهيي بحسب املنشأ‬
‫ّ‬ ‫بدهيي باإلمجال) ُيشري إىل هذه النكتة وهي ّ‬
‫أن‬ ‫تعبري ( ّ‬
‫نفسه ‪-‬وبنحو اإلمجال‪ -‬مجيع ما جيب أن يكون له من الذات والذات ّيات‪.‬‬
‫واآلن يمكن النظر إىل نظام البدهي ّيات العقلية بحسب العقل نفسه‪ ،‬وفهم السبب‬
‫يف ّأولية بعض املفاهيم‪ .‬فمفاهيم مثل (اليشء) و(الوجود) مفاهيم بدهي ّية ّأولية‪ ،‬فهذه‬
‫األعمية والبساطة من‬
‫ّ‬ ‫تصورها بنفسها وبحسب ذاهتا‪ ،‬وخصائص مثل‬ ‫يتم ّ‬ ‫املفاهيم ّ‬
‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫لوازم مثل هذه املفاهيم البدهي ّية؛ وهلذا ّ‬
‫فإن بداهتها بحسب ذاهتا تنكشف للعقل‪،‬‬
‫أيضا االستدالل عىل بداهتها عن طريق بعض خصائصها ‪-‬أي عن طريق‬ ‫العقل يستطيع ً‬
‫أعم املفاهيم مثل‬ ‫واألعمية‪ ،‬ومن هنا ّ‬
‫فإن ّ‬ ‫ّ‬ ‫لوازم ذات املفاهيم البدهيية‪ -‬مثل البساطة‬
‫(اليشء) و(الوجود)‪ ،‬تكون بدهي ّي ًة ّأولي ًة؛ أل ّنه ال وجود ملفهوم أعىل منها رتب ًة يف‬
‫أعم املفاهيم واضحة بنفسها وجل ّية بذاهتا‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫أن ّ‬ ‫املعلوم ّية‪ ،‬فالعقل عندما يبحث جيد ّ‬
‫معلوم ّيتها ليست تابع ًة ملعلوم ّية مفهوم آخر‪.‬‬
‫فإن أعم املفاهيم ‪-‬يف األساس‪ -‬ليست مؤلف ًة من أجزاء‬
‫وكام ذكرنا ذلك ساب ًقا‪ّ ،‬‬
‫أعم املفاهيم‪.‬‬
‫جنس ّية وفصلية‪ ،‬ففرض اجلنس أو شبه اجلنس ال ينسجم مع كوهنا ّ‬
‫احلس ‪-‬أعم من‬
‫البدهيي عند ّ‬
‫ّ‬ ‫التصوري عىل قسمني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وهنا يمكن القول ّ‬
‫إن البدهيي‬
‫البدهيي يف مقام التفصيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والبدهيي عند العقل وهو‬
‫ّ‬ ‫احلس الظاهر واحلس الباطن‪-‬‬
‫جزئي ال تعريف له وال ينفع يف تعريف سائر املفاهيم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البدهيي عند احلس فهو‬
‫ّ‬ ‫أما املفهوم‬
‫البدهيي عند العقل فهو مفهوم ّ‬
‫كيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأما املفهوم‬
‫وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬فإ ّنه وبخالف شيخ اإلرشاق واخلواجة نصري الدين الطويس جيب‬
‫‪341‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بأن املفاهيم الك ّلية املأخوذة من احلس‪ ،‬أي الك ّليات ّ‬


‫احلسية‪ ،‬قابل ٌة للتعريف‬ ‫القول ّ‬
‫وغري بدهيية‪ّ ،‬‬
‫وأن املفاهيم املأخوذة من الشهود‪ ،‬ومع أهنا ب ّينة ونستعني هبا يف انتزاع‬
‫املفاهيم الكلية؛ لكنّها جزئية ال يمكن االستعانة هبا يف التعريف(‪.)1‬‬
‫ومفهوم الوجود مثال جيد؛ فالعقل عندما ينظر إىل الوجود بحسب ذاته جيده من‬
‫األمور التي مل تؤخذ من مفهوم آخر‪ ،‬فهو معلوم بنفسه‪ ،‬وكذلك هي سائر األمور‬
‫العا ّمة مثل اليشء والوحدة والكثرة وغريها‪.‬‬
‫وال بدّ من االلتفات إىل مالحظات أربع قبل متابعة البحث‪:‬‬
‫اخلاص ال الذات ّيات‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حقيقة ما عن طريق العرض‬ ‫تصور‬
‫ّ‬ ‫ألف‪ :‬أحيانًا ُيدرك العقل ّ‬
‫تصو ًرا بمالحظة عر ٍ‬
‫ض‬ ‫لكن العقل يدركه ّ‬‫حتى أنه من املمكن أن يكون اليشء بسي ًطا‪ّ ،‬‬
‫خاص أعرف من ذات ذلك اليشء‪ ،‬ويدخل‬
‫خاص‪ ،‬وفـي هذه احلالة يكون العرض الـ ّ‬
‫ّ‬
‫دائمـا االستعانة‬
‫ذلك العرض اخلاص فـي تعريف ذلك اليشء؛ ولذا فليس من الالزم ً‬
‫التصور الناتج عن العرض اخلاص ليس‬
‫ّ‬ ‫بالذات ّيات يف التعريف‪ .‬ومن الطبيعي ّ‬
‫أن يكون‬
‫لكن هذه‬
‫وضعف‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫فالتصور يمكن أن يكون له شدّ ٌة‬
‫ّ‬ ‫التصور الناتج عن الذات ّيات؛‬
‫ّ‬ ‫بقوة‬
‫ّ‬
‫املسألة ال ُتؤ ّثر يف بحثنا احلايل‪ ،‬فليس بحثنا يف أ ّنه هل يستطيع العقل العثور عىل مجيع أو‬
‫بعض ذات ّيات اليشء أم ال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حقيقة اقتضاءات‪ ،‬فذات البياض هي ّأهنا مركّب من الكيف‬ ‫كل‬‫إن لِذات ِّ‬
‫باء‪ّ :‬‬
‫و ُمبرص ولون خاص‪ ،‬وهذه املسألة ليست نسبي ًة‪ ،‬وليست هي بحيث ختتلف من شخص‬
‫بياضا(‪.)2‬‬
‫فإهنا لن تبقى ً‬
‫آلخر‪ ،‬فذات البياض هي هكذا بحيث إ ّهنا إذا كانت غري ذلك ّ‬
‫وعليه فبداهة املفاهيم الك ّلية وعدم بداهتها ليس ً‬
‫أمرا نسب ًيا‪.‬‬
‫(‪ )1‬وقد ّبني هذه النكات ابن سينا يف برهان الشفاء واملال صدرا يف العبارات التي نقلناها ساب ًقا من التعليقة عىل رشح‬
‫حكمة اإلرشاق‪ .‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الفصل اخلامس من املقالة الثالثة (يف ذكر كيفية انتفاع النفس باحلس يف‬
‫املعقوالت)؛ صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬يف‪ :‬قطب الدين الشريازي‪ ،‬رشح‬
‫حكمة اإلرشاق‪ ،‬الصفحتني‪.279-278 :‬‬
‫أيضا‪ ،‬فذات الكل أكرب من ذات اجلزء‪ .‬وهذه املسألة ليست‬ ‫(‪ )2‬كام أن األمر بالنسبة للبدهييات التصديقيّة هو هكذا ً‬
‫نسبية‪ ،‬وغري مرتبطة باألشخاص‪ ،‬فهذه القضية هي كذلك وصادقة سواء أدركها أحد أم مل يدركها‪ .‬واألمر هنا‬
‫كذلك‪ ،‬فذات ّ‬
‫الكيل له مثل هذا االقتضاء من حيث ذاته‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 342‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫جيم‪ :‬قد ُيقال‪ :‬إذا كان معيار البداهة عند العقل هو مالحظة العقل لذات املفهوم‪،‬‬
‫وبأي‬
‫وأ ّنه هل حيتاج إىل مفاهيم أخرى أم ال؛ فكيف يستطيع العقل الظفر هبذا املعيار؟ ّ‬
‫ٍ‬
‫بنحو صحيحٍ أم ال؟‬ ‫ٍ‬
‫ميزان يمكن معرفة هل ّ‬
‫أن العقل يفهم‬
‫أن العقل قد أدرك‬‫أن البحث يف اقتضاء ذات املفهوم‪ ،‬والفرض ّ‬ ‫واجلواب هو ّ‬
‫الذات‪ ،‬وأ ّنه يستطيع إدراك استقالل املفهوم أو عدم استقالله‪ ،‬فالعقل هو املُ ِ‬
‫درك‬
‫الوحيد وله خاص ّية الكشف عن الذات‪ ،‬فالعقل ُي ِ‬
‫درك ابتدا ًء املفهوم بنحو إمجايل‪ ،‬ثم‬
‫ٍّ‬
‫مستقل فإ ّنه يسعى‬ ‫يبحث ويد ّقق ذلك املفهوم نفسه يف مقام التفصيل‪ ،‬فإذا وجده غري‬
‫للوصول إىل ذات ّياته‪ ،‬فالعقل ‪-‬يف الواقع‪ُ -‬م ِ‬
‫درك‪ ،‬وال جمال للخطأ يف إدراكه‪ ،‬واألمر‬
‫األوليات التصديق ّية‪.‬‬
‫كذلك يف ّ‬
‫دال‪ :‬لقد بذلت جهود كبري ٌة يف مسألة معيار البداهة ِ‬
‫ومالكها يف باب املفاهيم البدهي ّية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫أن املالك هو أن يكون‬ ‫ِ‬ ‫األعمية تارة‪ ،‬وأخرى ذكروا البساطة‪ ،‬وثالثة ذكروا ّ‬ ‫وقد ذكروا‬
‫ّ‬
‫ّب‬ ‫احلس‪ ،‬كام ذكروا أحيانًا أخرى ّ‬
‫أن املعيار مرك ٌ‬ ‫املفهوم مأخو ًذا من العلم احلضوري أو ّ‬
‫من هذه األمور‪.‬‬
‫ّ‬
‫وكأن الفالسفة‬ ‫متت اإلشارة إليه فيام سبق هو ّ‬
‫احلل هلذه املسألة‪،‬‬ ‫ويبدو ّ‬
‫أن ما ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فبعض كلامت ابن‬
‫الكبار مثل ابن سينا واملال صدرا كانوا يميلون إىل هذا الرأي ً‬
‫سينا والتي نقلناها ساب ًقا (مما جاء فيه «متصورة ألنفسها»)‪ ،‬وبعض ما سوف ننقله يف‬
‫البحث التايل (يف ذيل عنوان التعريف) شاهد عىل هذا املدّ عى‪.‬‬

‫‪ .3‬التعريف‬
‫نسعى يف عملية التعريف إىل أن نعرف ما هي املفاهيم التي يتأ ّلف منها املفهوم‬
‫احلقيقي‪ ،‬وأ ّنه وفق معلوم ّي ِة أية مفاهيم يصبح معلو ًما‪ .‬وقد أكّدوا يف أبحاث الربهان‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أن التعريف جماله املفاهيم احلقيقية‪ ،‬وأ ّما املفاهيم االعتبار ّية واجلعل ّية فال بدّ يف تعريفها‬
‫من الرجوع إىل ُمراد اجلاعل ملعرفة ماذا جعل‪ ،‬وما هو مراده عىل وجه الد ّقة‪.‬‬
‫كذلك البحث احلايل ليس يف رشح االسم‪ ،‬فرشح االسم هو تعريف اليشء قبل‬
‫‪343‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حمال للنزاع؛ ذلك ّ‬


‫ألن التعريف فيه‬ ‫إثبات وجوده‪ ،‬وال يمكن لرشح االسم أن يشكّل ً‬
‫ُيطرح عىل أساس الصورة املأخوذة عن اليشء الذهني‪ ،‬وبحسب ارتكاز معنى مستقر‬
‫تصور العنقاء ثم تعريفها‪ .‬وأما بحثنا‬
‫يف الذهن للفظ من األلفاظ‪ ،‬وللمثال‪ ،‬فيمكن ّ‬
‫احلايل فهو حول (ما احلقيقية) التي ُتطرح للتعريف بعد إثبات الوجود وتتع ّلق باألمر‬
‫املوجود‪ ،‬فبعد أن نرى الشجرة موجود ًة نبحث عن تعريفها احلقيقي‪ ،‬ومثل هذه‬
‫التعريفات يقع فيها البحث والنزاع‪ ،‬فيمكن مالحظة األمر املوجود ومن ث ّم تقييم‬
‫التعريف املطروح له(‪ ،)1‬فمطلب ما احلقيقية هو البحث عن حقيقة الذات‪.‬‬
‫"مطلب (ما) عىل قسمني‪ :‬أحدمها الذي ُيطلب به معنى االسم كقولنا ما اخلالء؟‬
‫وما العنقاء؟ والثاين الذي ُتطلب به حقيقة الذات كقولنا ما احلركة؟ وما املكان؟"(‪.)2‬‬
‫"إن مطلب (ما) الذي بحسب الذات فهو بعد طلب (هل) وتابع له‪ ،‬لكنّه قد يسبق‬
‫من حيث هو مطلب (ما) بمعنى االسم"(‪.)4()3‬‬
‫تصور احلقائق نفس األمرية‪ ،‬التي تشمل العدم‬
‫أن البحث احلايل يدور حول ّ‬‫كام ّ‬
‫يتم البحث ‪-‬‬ ‫أيضا‪ .‬كام ّ‬
‫أن املقصود بالتعريف هو التعريف النفس األمري‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ً‬
‫عادة‪ -‬عن رشوطه يف كتاب الربهان(‪ ،)5‬وليس التعريف اجلديل(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬وقد ّبني ابن سينا هذه املالحظة‪ .‬انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة‪.283 :‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.68 :‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحتان‪.262 - 261 :‬‬
‫التصورات هو بحسب الذوات‪ ،‬وهو ما أرشنا‬‫ّ‬ ‫(‪ )4‬ومن الواضح يف هذه العبارة للشيخ الرئيس ّ‬
‫أن بحث التعريف يف‬
‫التصور البدهيي ُيفهم من هذا األمر [أي أن‬
‫ّ‬ ‫إليه ساب ًقا [يف ذيل العنوان السابق]‪ ،‬ونحن نعتقد ّ‬
‫أن معيار بداهة‬
‫يكون املفهوم البدهيي متصو ًرا بذاته وليس بحاجة إىل تصور مفهوم آخر]‪.‬‬
‫احلق ّ‬
‫أن الفن اخلامس هو (كتاب الربهان‬ ‫سمى ابن سينا الفن اخلامس من منطق الشفاء بـ(كتاب الربهان)‪ ،‬ولكن ّ‬
‫(‪ّ )5‬‬
‫رصح هو نفسه بذلك حيث قال‪" :‬فيجوز أن يكون إنام ُنسب هذا الكتاب إىل القياس دون احلد بأن‬
‫واحلد)؛ كام ّ‬
‫ُس ّمي (كتاب الربهان) هلذا املعنى‪ ،‬وأما يف احلقيقة فهو كتاب الربهان واحلدّ م ًعا" [املصدر السابق‪ ،‬الصفحة ‪.]53‬‬
‫يف (فن الربهان) تبدأ البحوث املنطق ّية يف املواد‪ ،‬وأما البحث يف الصورة فيتم يف األقسام السابقة عىل فن الربهان‪.‬‬
‫التصورية (وهو ما ُيطرح يف بحوث احلدّ )‪ ،‬واملا ّدة التصديقيّة (وهو ما ُيطرح يف‬
‫ّ‬ ‫أيضا عىل قسمني‪ :‬املا ّدة‬
‫واملا ّدة ً‬
‫بحوث الربهان)‪.‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.283 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 344‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫وبعض التعريفات تكون عىل أساس األمور املشهورة‪ ،‬ومن الطبيعي ّ‬


‫أن ذلك‬
‫سوف خيتلف بحسب اختالف املجتمعات واملجموعات التي تتح ّقق فيها الشهرة‪.‬‬
‫وبحثنا إ ّنام هو يف التعريف بحسب الذات واحلقيقة‪ ،‬يقول ابن سينا حول التعريف‬
‫اجلديل واختالفه عن التعريف احلقيقي‪ ..." :‬إ ّنام ُحد بام هو أعرف يف املشهور‪ ،‬ال بام‬
‫هو حقيقي املعرفة عند العقل الرصيح(‪ ،)1‬ور ّبام كان خف ًّيا بنفسه ولكن اشتهر‪ ،‬مثل‬
‫كثري من املقدّ مات التي هي خف ّية يف نفسها بالقياس إىل العقل النظري الرصيح‪ ،‬ولكن‬
‫بالقياس إىل الشهرة هي ب ّينة بنفسها أو مقبولة‪ّ ...‬‬
‫إن احلدّ املطلوب يف كتاب اجلدل هو‬
‫احلدّ بحسب قانون الشهرة ال بحسب قانون احلقيقة‪ ،‬فال جيب أن جيرى يف األحكام‬
‫احلقيقية جمرى احلدود احلقيقية"(‪.)2‬‬
‫التصورات احلقيقية والتعريفات نفس األمرية‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬ ‫وبنا ًء عىل هذا فبحثنا يف‬
‫يكون العقل الرصيح هو احلاكم فيها‪ ،‬والتعريف نفس األمري مو ّلد للمعرفة ومطابق‬
‫والتصور احلقيقي كاشف عن الواقع كام هو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للواقع(‪،)3‬‬
‫ٍ‬
‫معرفة مل تكن عندنا‪ ،‬ومثل هذا التعريف هو‬ ‫التعريف احلقيقي هو الوصول إىل‬
‫أيضا‪،‬‬
‫التصورات ً‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫عمل فكري للعقل(‪ ،)4‬وعىل هذا فإ ّنه يتم القيام بعمل فكري يف جمال‬
‫(‪ )1‬من اجلدير بالذكر أن هذه التعابري استعملت هنا بنحو دقيق‪ ،‬فعندما يكون البحث يف بيان احلدّ احلقيقي ونفس‬
‫األمري فالعقل الرصيح هو احلاكم‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.280 :‬‬
‫(‪ )3‬يقول الشيخ الرئيس يف (فن الربهان)‪ " :‬وإذا ذكرنا غرض الكتاب وهو إفادة الطرق املوقعة للتصديق اليقيني‬
‫التصور احلقيقي والتصديق اليقيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والتصور احلقيقي" [انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪ ،]53 :‬أي نحن نطلب‬
‫ّ‬
‫والتصور احلقيقي مطابق للواقع‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪ُ )4‬يستعمل أحيانًا تعبري (عمل ذهني) وهو أعم من الف ّعالية الفكرية واحلدسية والفهمية للعقل‪ .‬وهوية العمل الفهمي‬
‫تعرض ابن سينا هلذا يف حمله [انظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.]59 :‬‬
‫أيضا‪ ،‬وقد ّ‬
‫فكرية ً‬
‫ألعمية الذهني وشموله للفكري‬
‫ّ‬ ‫وقد استعمل الشيخ الرئيس عبارة (تعليم وتع ّلم ذهني) ّ‬
‫ورجحه عىل الفكري‬
‫وغريه‪ ،‬وهذه عبارته بتاممها‪" :‬والذي عندي هو ّ‬
‫أن الذهني أصلح من الفكري‪ ،‬فإن الذهني أعم من الفكري‬
‫تتحرك النفس إىل‬
‫واحلديس والفهمي‪ ،‬فإن الفكري هو الذي يكون بنوع من الطلب‪ ،‬فيكون هناك مطلوب ثم ّ‬
‫طلب األوسط عىل اجلهة املذكورة يف اكتساب القياس‪ ،‬فال تزال تستعرض األمور املناسبة إىل أن ّتد حدًّ ا أوسط‪.‬‬
‫وأما احلديس فهو أن يكون الـمطلوب إذا سنح للذهن مت ّثل احلد األوسط عن غري طلب‪ .‬وهذا ً‬
‫كثريا ما يكون‪= .‬‬
‫‪345‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وأساسا ّ‬
‫فإن املنطق يدور حول‬ ‫ً‬ ‫الكيل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫العقل الرصيحِ احلصو ّيل ّ‬ ‫ونعرب عنه بأ ّنه عمل‬
‫ّ‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫يسمى يف قسم التصديق باالستدالل‪ ،‬ويف قسم‬
‫العمل الفكري‪ ،‬العمل الذي ّ‬
‫بالتعريف‪.‬‬
‫اكتساب فكري‪ ،‬قسمني‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫"لـ ّمـا كان العلم الـ ُمكتسب بالفكرة‪ ،‬والـحاصل بغري‬
‫ً‬
‫حاصال لنا‬ ‫التصور‪ ،‬وكان املُكتسب بالفكرة من التصديق‬ ‫ّ‬ ‫أحدمها التصديق واآلخر‬
‫ً‬
‫حاصال لنا بحدٍّ ما‪.)1("»...‬‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بقياس ما‪ ،‬واملُكتسب بالفكرة من‬
‫معقول من شأنه أن يوقع‬ ‫ٍ‬ ‫بقول مسمو ٍع أو‬‫ٍ‬ ‫والفكري هو الذي ُيكتسب‬
‫ّ‬ ‫الذهني‬ ‫"‬
‫ّ‬
‫تصو ًرا ما مل يكن"(‪.)2‬‬
‫اعتقا ًدا أو رأ ًيا مل يكن‪ ،‬أو يوقع ّ‬
‫أن التعريف احلقيقي إ ّنام حيصل بالفكر والتع ّقل‪ ،‬وقد رأينا ‪-‬فيام سبق‪-‬‬‫وهلذا نرى ّ‬
‫بأن التعريف يرتبط باملفاهيم الك ّلية‪ ،‬بل احلدّ يرتبط بالك ّل ّيات‪،‬‬
‫أن املال صدرا يقول ّ‬ ‫ّ‬
‫كيل"(‪ ،)3‬وهذا ناشئ من أ ّننا نطلب بالتعريف احلقيقي الوصول‬ ‫"أن ّ‬
‫كل حدٍّ فمحدوده ّ‬
‫اجلزئي ال يقبل‬
‫ّ‬ ‫كيل(‪ .)4‬وكام قلنا ساب ًقا‪ّ ،‬‬
‫فإن األمر‬ ‫أمر ّ‬
‫إىل حقيقة الذات‪ ،‬والذات ٌ‬
‫التعريف‪ ،‬وأ ّنه ال ينفع يف تعريف يشء من األشياء‪.‬‬

‫= أو تكون إحدى املقدّ متني سانح ًة للذهن ُفيضاف إليها دفع ًة حدٌّ إما أصغر وإما أكرب‪ ،‬فتخلق نتيجة من غري‬
‫فكر وال طلب‪ .‬وأما الفهمي فهو ّأال يكون احلدّ األوسط حصل بطلب وال بسنوح‪ ،‬بل بسمع من مع ّلم من‬
‫أيضا؛ ّ‬
‫ألن النفس عندما تسمع‬ ‫إن الفهمي هو فكري ً‬ ‫خارج‪ ،‬والذهن هو الذي يتل ّقى مجيع هذا‪ .‬فإن قال قائل‪ّ :‬‬
‫التصور كان ذلك دفعة‪ ،‬ثم إذا انضاف‬
‫ّ‬ ‫إن املع ّلم كلام أورد حدًّ ا للقياس فعلمه املتع ّلم من جهة‬
‫تفكّر‪ ،‬فيقال له‪ّ :‬‬
‫شك فيها مل ينتفع بام قال املع ّلم‪ّ ،‬إال أن يفكّر يف نفسه فيعلم‪ ،‬فيكون هذا ً‬
‫تعليام‬ ‫إليه حدّ آخر فحصلت مقدّ مة‪ ،‬فإن ّ‬
‫ٍ‬
‫قياس من مجلته فهو تعليم مفرد‪ ،‬وكالمنا يف املفرد‪ .‬وإما‬ ‫مر ّكبًا من فهمي ومن فكري؛ إذ هو قياس مركّب‪ّ ،‬‬
‫وكل‬
‫إنام جاء مع القياس‪ ،‬وكالمنا يف ذلك القياس كهذا‬ ‫أن يرجع إىل املع ّلم فيفيده املع ّلم العلم بالقياس‪ ،‬فيكون العلم ّ‬
‫التصور دفعة بال فكرة" [املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الكالم‪ .‬فأما إن مل يشك املتع ّلم‪ ،‬فظاهر أن التصديق يتبع‬
‫‪[ .]59‬الربيعي]‪.‬‬
‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.51 :‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.57 :‬‬
‫أيضا‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحتان‪.281 - 280 :‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪ .268 :‬وانظر ً‬
‫األعم من احلدّ ي والرسمي‪ ،‬وانظر يف هذا املجال‪ :‬املصدر السابق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )4‬ال بدّ من االلتفات إىل ّ‬
‫أن املقصود من التعريف هو‬
‫الصفحة‪.52 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 346‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫أن مسألة وجود تعريف لليشء أو عدمه‪ ،‬أي كون اليشء‬ ‫وقد ا ّتضح اآلن أكثر ّ‬
‫بدهي ًّيا تصـ ّور ًيا أو ليس كذلك‪ ،‬إ ّنمـا هي ناظرة إلـى الفضاء العقلـي‪ّ ،‬‬
‫وأن البداهة عند‬
‫العقل فـي الـمالحظـة‪.‬‬
‫التصورية والتصديقية نصل إىل‬ ‫ّ‬ ‫وقد أرشنا ساب ًقا إىل أ ّننا يف مسري حتصيل املعارف‬
‫معارف أساس ّية ال تكون معلوم ّيتها مرتبط ًة بمعارف أخرى‪ ،‬وقد استد ّلوا عىل هذا‬
‫التصورات‬
‫ّ‬ ‫التصورية إىل بدهي ّي ٍة ونظر ّي ٍة‪ .‬فال بدّ لنا يف‬
‫ّ‬ ‫األمر(‪ ،)1‬ومن هنا تنقسم املعارف‬
‫أساسية‪ ،‬حاهلا حال التصديقات‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لية وتصو ٍ‬
‫رات‬ ‫من مبادئ أو ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫احلقيقي يكون يف الك ّل ّيات‪،‬‬ ‫احلقيقي‪ ،‬والتعريف‬ ‫ِ‬
‫التعريف‬ ‫إن البحث يف‬‫وحيث ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التصورات ال بدّ أن يكون بدهي ًّيا عند‬
‫ّ‬ ‫وعقيل‪ ،‬إ ًذا فأساس‬
‫ّ‬ ‫فكري‬
‫ّ‬ ‫إن التعريف ٌ‬
‫عمل‬ ‫وقلنا ّ‬
‫التصور األويل‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬ال بدهي ًّيا عند احلس‪ ،‬وقد استعمل الشيخ الرئيس لإلشارة إىل‬
‫صور بال واسطة)‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫للتصور)‪ ،‬و(األمر املت ّ‬
‫ّ‬ ‫األويل‬
‫األسايس التعبري التايل‪( :‬املبدأ ّ‬
‫إنام حيصل بعل ٍم سابق‪،‬‬ ‫تقرر أ ّنه كيف يكون التعليم والتع ّلم الذهني‪ّ ،‬‬
‫وأن ذلك ّ‬ ‫"فإذ قد ّ‬
‫للتصور‪ ،‬ومبادئ أوىل للتصديق‪ .‬ولو أ ّنه كان ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫فيجب أن تكون عندنا مبادئ أوىل‬
‫تعليم وتعلم بعل ٍم سابق‪ ،‬ثم كان ّ‬
‫كل عل ٍم بتعلي ٍم وتعل ٍم‪ ،‬لذهب األمر إىل غري النهاية‪،‬‬
‫فلم يكن تعليم وتعلم‪ .‬بل ال حمالة أن يكون عندنا أمور ُمصدق هبا بال واسطة‪ ،‬وأمور‬
‫والتصور"(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫ُمتصورة بال واسطة‪ ،‬وأن تكون هي املبادئ األوىل للتصديق‬
‫البني بنفسه‪ ،‬أي معلوم بذاته‪ ،‬ومعلوم ّيته ال‬
‫البدهيي هو ّ ٌ‬
‫ّ‬ ‫فالتصور‬
‫ّ‬ ‫وبنا ًء عىل هذا‬
‫حتتاج إىل معلوم ّية مفهوم آخر‪ .‬فعندما ُيدركه العقل ال يدركه من خالل مفاهيم أخرى‪،‬‬
‫(‪ )1‬وكمثال عىل ذلك قوهلم‪ :‬إ ّنه إذا مل تكن بعض املعارف ّأولي ًة فإ ّننا لن نحصل عىل أي معرفة‪ ،‬وكذا قالوا إ ّنه إذا‬
‫كانت مجيع املعارف نظر ّية فسينتهي األمر إىل الدور أو التسلسل‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة ‪.77‬‬
‫وتصور فإما أن يكتسب ببحث ما‪ ،‬وإما واقع ابتدا ًء"‪ .‬الصفحة‪.112 :‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪" :‬كل تصديق‬
‫وقال يف (النجاة) ً‬
‫وقال يف (إهليات الشفاء)‪" :‬فنقول‪ّ :‬‬
‫إن املوجود‪ ،‬واليشء‪ ،‬والرضوري‪ ،‬معانيها ترتسم يف النفس ارتسا ًما ّأول ًيا‪،‬‬
‫للتصور‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬ ‫التصورات أشياء هي مبادئ‬
‫ّ‬ ‫ليس ذلك االرتسام مما حيتاج إىل أن ُجيلب بأشياء أعرف منها [‪ ]...‬يف‬
‫ُمتصورة لذواهتا"‪ .‬الصفحة‪ .29 :‬وقال يف املصدر نفسه‪" :‬أوىل األشياء بأن تكون ُمتصور ًة ألنفسها األشياء‬
‫العا ّمة لألمور كلها‪ ،‬كاملوجود واليشء والواحد وغريه"‪ .‬الصفحة‪.30 :‬‬
‫‪347‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫النظري؛‬
‫ّ‬ ‫يتم إدراكه بوساطة مفاهيم أخرى فهو‬
‫بل يدركه بنفسه ويراه ب ّينًا بنفسه‪ .‬وأما ما ّ‬
‫وعقيل للوصول إلـى ذاهتا‬
‫ّ‬ ‫فكري‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بعمل‬ ‫ولذا فال بدّ لفهم الـمفاهيم النظر ّية من القيام‬
‫احلقيقية‪.‬‬
‫يقول الشيخ الرئيس يف الرسالة العالئية ما ترمجته‪":‬العلم علـى نحوين‪ :‬أحدمها‬
‫التصور)‪ ،‬كمـا لو قال شخص‪ :‬إنسان أو ج ّن‬
‫ّ‬ ‫االرتسام‪ ،‬و ُيطلق عليه فـي اللغة العربية (‬
‫وتتصور ويرتسم يف ذهنك منها يش ٌء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو ملك وغري ذلك مما يشاهبها‪ ،‬فتفهم أنت‬
‫بأن اجل ّن موجود‪ ،‬والناس مطيعون‪ّ ،‬‬
‫وكل ما كان من هذا‬ ‫وثانيهام االعتقاد‪ ،‬كاعتقادك ّ‬
‫القبيل‪ ،‬و ُيطلق عليه يف اللغة العربية (التصديق)‪ٌّ .‬‬
‫وكل من القسمني عىل شكلني‪:‬‬
‫أحدمها ما كان حيتاج إلـى فكر(‪ ،)1‬وال سبيل إال بطلبه من طريق العقل للوصول إليـه‪،‬‬
‫وتصورها(‪ ،)2‬ومثل االعتقاد بعدم فناء النفس‪ ،‬والتصديق‬
‫ّ‬ ‫مم تتأ ّلف‪،‬‬
‫مثل أن النفس ّ‬
‫نتصوره ونعتقد به ولكن‬
‫ّ‬ ‫بـذلك (أي التصديق ببقاء النفس وخلودها)‪ .‬وثانيهمـا ما‬
‫بأول العقل(‪ ،)3‬مثل علمنا ّ‬
‫بأن‬ ‫ليـس من طريق الفكر وال بطلب العقل‪ ،‬بل ندركه ّ‬
‫مساوي الـمساوي مـسـ ٍ‬
‫او"(‪.)4‬‬
‫ونستطيع اآلن أن نأخذ نتيج ًة يف خصوص مفهوم (الوجود)‪ّ ،‬‬
‫ونبني مالك بداهته‪،‬‬
‫فعندما ينظر العقل إىل مفهوم (الوجود) فإ ّنه يراه غري متو ّق ٍ‬
‫ف يف معلوم ّيته عىل مفهوم‬ ‫ُ‬
‫آخر‪ ،‬وأ ّنه يف ذاته ليس إال هو [أي إنه ال يتألف من مفاهيم جزئية أخرى]؛ وهلذا‬
‫أعم األشياء‪ ،‬يف حم ّله‬
‫السبب يكون مفهوم الوجود بدهي ًّيا‪ .‬وكونه أبده البدهي ّيات لكونه ّ‬
‫ومكانه‪ .‬فالوجود أظهر األشياء وأعرفها‪.‬‬
‫ويف هناية هذا البحث ال بدّ من االلتفات إىل عدّ ة مالحظات‪:‬‬
‫موضوع آخر ال عالقة له باملباحث‬
‫ٌ‬ ‫ألف‪ :‬التعريف املفهومي لشيخ اإلرشاق هو‬
‫أيضا‪.‬‬
‫(‪ )1‬وهو ما قلناه بأن التعريف هو عمل فكري ً‬
‫وتصور النفس أهنا أي يشء هي‪.‬‬‫ّ‬ ‫تصور ماهية النفس‪ ،‬أي إدراك‬
‫(‪ )2‬املقصود هو ّ‬
‫يتصور العقل األمور البدهيية فإنه جيدها معلوم ًة بنفسها وبدون واسطة وبدون احتياج إىل عمل‬
‫ّ‬ ‫بمجرد أن‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬أي إنه‬
‫فكري‪.‬‬
‫(‪ )4‬ابن سينا‪ ،‬منطق الرسالة العالئية‪ ،‬الصفحتان‪.6 - 5 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 348‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫رصح هو ّ‬
‫بأن هذا التعريف ال عالقة له باحلقائق اخلارج ّية‪ ،‬وأ ّنه‬ ‫املطروحة هنا؛ فقد ّ‬
‫ٍ‬
‫تعريف‬ ‫التفحص الذهني وطرح‬ ‫ّ‬
‫فاحلل الوحيد هو‬ ‫عندما ّ‬
‫يتعذر التعريف احلقيقي‪،‬‬
‫ّ‬
‫بلحاظ الذهن واملفهوم‪ .‬فقد يقطع هو هبذا صلة هذا التعريف باخلارج‪.‬‬
‫وكثريا ما ُيستعمل هذا النوع من التعريف يف االرتكازات ال ُعرفية‪ .‬وملثل هذا‬
‫ً‬
‫أيضا من زاوية ما‪ ،‬وذلك عندما ُنريد دراسة مدى مطابقة‬
‫التعريف دور يف الفلسفة ً‬
‫املفهوم املوجود يف ذهننا للواقع ّية اخلارجية‪.‬‬
‫باء‪ :‬التعريف احلقيقي يدّ عي الوصول إىل حقيقة اليشء‪ ،‬وتعريف هو ّيته‪ ،‬فالتعريف‬
‫واملفهوم احلقيقي ‪-‬مضا ًفا إىل احلكاية‪ ،‬التي تعدّ من خصائص كل املفاهيم‪ -‬له ً‬
‫أيضا‬
‫خصوص ّية الكشف وتوليد املعرفة وإنتاجها‪.‬‬
‫ولك ّن بعض العلمـاء ال يعتقد بذلك ويرى ّ‬
‫أن الـمفهوم له احلكاية فحسب دون‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ لن يكون التعريف‬ ‫الكشف‪ .‬واحلكاية وحدها ال عالقة هلا باملطابقة مع الواقع‪،‬‬
‫ُمنت ًجا للعلم‪ .‬لك ّن األمر ‪-‬فـي الواقع‪ -‬ليس كذلك؛ فالتعريف احلقيقي نفس األمري‪،‬‬
‫البدهيي متّصل باخلارج يف عني كون‬
‫ّ‬ ‫وحتى املفاهيم البدهي ّية؛ مرتبطة باخلارج‪ ،‬فاملفهوم‬
‫تصوره بنفسه‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاصية الكشف‪ ،‬ومن هنا ُتطرح مسألة اخلطأ يف التعريف‪،‬‬
‫فالتعاريف احلقيقية هلا ّ‬
‫صحة التعريف وسقمه‪ ،‬فالتعريف الذي ُيذكر يف اجلواب‬ ‫أي إمكان البحث والنزاع يف ّ‬
‫عىل مطلب (ما) احلقيقية جيب أن يكون مطاب ًقا للواقع‪ّ ،‬‬
‫وإال وقع النزاع و ُعد خاط ًئا‪.‬‬
‫يقول الشيخ الرئيس‪" :‬إ ّنام تقع املنازعة يف احلدود‪ ،‬إن وقعت‪ ،‬ال يف معنى التصديق‪،‬‬
‫التصور"(‪" .)1‬وهذا [أي رشح االسم] ال يمكن أن ُينازع فيه أو‬
‫ّ‬ ‫بل يف خطأ إن وقع يف‬
‫ُخياصم‪ ،‬كام ال ُينازع يف االسم‪ .‬وأما ّ‬
‫أن هذه الذات حدّ ها كذا وكذا فيمكن أن ُينازع‬
‫وخياصم"(‪.)2‬‬
‫فيه ُ‬
‫جيم‪ :‬ذكروا يف تعريف اإلنسان‪( :‬اإلنسان حيوان ناطق)‪ ،‬وهو منهم تعريف‬
‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬الصفحة‪.111 :‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة‪.283 :‬‬
‫‪349‬‬ ‫معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حدّ ي للامهية عىل نحو القضية‪ ،‬ومن هنا فقد ُيتوهم أن التعريف هو تصديق ‪-‬يف‬
‫ّ‬
‫فتنحل مشكلة الكشف يف التعاريف؛ ألن التصديق كشف عن‬ ‫تصو ًرا‪،‬‬
‫الواقع‪ -‬وليس ّ‬
‫الواقع‪.‬‬
‫أن األمر ليس كذلك‪ّ ،‬‬
‫وأن احلدّ مع أ ّنه ُيبني‬ ‫ٍ‬
‫بشكل واضحٍ ّ‬ ‫ولكن ابن سينا ذكر‬
‫ٍ‬
‫وتصديق؛ لكنّه ‪-‬يف احلقيقة‪ -‬ليس تصدي ًقا‪ ،‬فإ ّننا إذا محلنا عىل اإلنسان‬ ‫عىل شكل قض ّي ٍة‬
‫وتصديق وه ّل ّي ٌة مركبة‪ ،‬غري أنّنا يف تعريف اإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫شي ًئا ما فسوف تكون لدينا قض ّي ٌة‬
‫ال ُنريد محل مفاهيم عىل اإلنسان‪ ،‬وإ ّنام نريد العلم فقط بامه ّية ذات اإلنسان‪ ،‬فمجال‬
‫التعريف هو (ما) احلقيقية‪ ،‬وليس (هل) املركّبة‪ ،‬فنحن إ ّنام نصوغ التعريف عىل كل‬
‫ٍ‬
‫قضية يف الظاهر وعند البيان واإلبراز فحسب‪ .‬يقول الشيخ الرئيس‪" :‬وإن كان‬ ‫شكل‬
‫احلدّ قد ُيقال عىل هيئة مقدّ مة (‪ً ،)1‬‬
‫مثال كام لقائل أن يقول‪( :‬إن الوحدة هي ما ال ينقسم‬
‫ٌ‬
‫حممول ما‪ ،‬بل أن‬ ‫أن الغرض ليس أن يصدق عىل الوحدة‬ ‫بالكم)‪ .‬ووجه الـمخالفة (‪ّ )2‬‬
‫يتصور معنى اسم الوحدة [إذا كان يف جواب ما الشارحة] أو معنى ذات الوحدة [إذا‬
‫ّ‬
‫كان فـي جواب ما احلقيقية] (‪ ،)3‬ال ّأهنا هل هي كذا أو ليست كذا (‪ .)4‬ثم ال سبيل إلـى‬
‫ألن لكل‬ ‫ٍ‬
‫بقول ُيقال عىل هيئة املقدّ مة وال يكون يف ذلك منازعة البتّة؛ ّ‬ ‫تلقني ذلك إال‬
‫حدٍّ أن يوضع له ّ‬
‫كل اسم‪ .‬إ ّنمـا تقع الـمنازعة فـي الـحدود‪ ،‬إن وقعت‪ ،‬ال فـي معنى‬
‫التصور"(‪.)5‬‬
‫ّ‬ ‫التصديق‪ ،‬بل فـي خطأ إن وقع فـي‬

‫(‪ )1‬املقصود هيأة املقدّ مة التي ُنصدّ ق هبا ونستنتج منها‪.‬‬


‫(‪ )2‬املراد خمالفة احلدّ للقضيّة والتصديق‪.‬‬
‫مر ساب ًقا أننا يف التعريف احلقيقي نبحث عن ماه ّية الذات‬
‫إن تعبري (معنى ذات الوحدة) تعبري مجيل ودقيق‪ .‬وقد ّ‬‫(‪ّ )3‬‬
‫أن ابن سينا كان قد ذكر الوحدة من باب املثال‪ ،‬واستعمل تعبري (ذات‬ ‫مهمة وهي‪ّ :‬‬ ‫وحقيقتها‪ .‬وهذه نكتة ّ‬
‫الوحدة)‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يدل عىل أ ّنه إذا قيل يف أبحاث التعريف (الذات) فليس املراد هو املفاهيم املاهو ّية فقط‪ ،‬بل تشمل‬
‫أيضا‪ ،‬وال بدّ من إيضاح هذا املوضوع يف بحث الوجود الذهني كام فعل العالمة الطباطبائي‬ ‫املفاهيم الفلسفيّة ً‬
‫عندما ذكر رضورة طرح نوع من الرت ّقي من املفاهيم املاهوية إىل املفاهيم الفلسف ّية‪.‬‬
‫(‪ )4‬املراد أن جمال البحث ليس هو احلمل والقضية اهل ّلية‪ ،‬فعندما نريد تعريف ذات الوحدة فإن ّنا ال نريد محل يشء‬
‫عليها‪.‬‬
‫(‪ )5‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬الربهان‪ ،‬ص‪.110‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 350‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫الـمـصـادر‬
‫‪ .1‬ابن سينا‪ ،‬الشفاء (اإلهليات)‪ ،‬حتقيق سعيد زايو واخرون‪ ،‬قم مكتبة السيد املرعيش النجفي‬
‫‪ 1404‬هـ‪.‬‬
‫‪ ،---- .2‬الشفاء (الطبيعيات)‪ ،‬حتقيق سعيد زايو واخرون‪ ،‬قم مكتبة السيد املرعيش النجفي‬
‫‪1404‬هـ‪.‬‬
‫‪ ،---- .3‬الشفاء (املنطق)‪ ،‬حتقيق سعيد زايو واخرون‪ ،‬قم مكتبة السيد املرعيش النجفي ‪1404‬هـ‪.‬‬
‫‪ .4‬أرسطو‪ ،‬السامع الطبيعي‪ ،‬ترمجة حممد حسن لطفي‪ ،‬طهران‪ 1399 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .5‬الرازي حممد فخر الدين‪ ،‬املباحث املرشقية‪ ،‬قم‪ ،‬بيدار‪1411 .‬م‪.‬‬
‫‪ .6‬الرازي‪ ،‬قطب الدين‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬طهران‪ ،‬مجعية االثار واملفاخر الثقافية‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين‪ ،‬جمموعة مصنفات شيخ االرشاق‪ ،‬تصحيح‪ :‬هنري كوربن‬
‫والسيد حسني نرص‪ ،‬طهران‪ ،‬مؤسسة مطالعات وحتقيقات فرهنكى‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬صدر الدين حممد الشريازي‪ ،‬رشح اهلداية األثريية‪ ،‬تصحيح حممد مصطفى فوالدكار‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬مؤسسة التاريخ العريب‪1422 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ ،-------- .9‬احلاشية عىل إهليات الشفاء‪ ،‬قم‪ ،‬بيدار‪.‬‬
‫‪ ،-------- .10‬احلكمة املتعالية يف االسفار العقلية األربعة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار احياء الرتاث‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ ،-------- .11‬مفاتيح الغيب‪ ،‬تصحيح حممد خواجوي‪ ،‬طهران‪ ،‬مؤسسة مطالعات وحتقيقات‬
‫فرهنكى‪1363 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .12‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ ،‬هناية احلكمة‪ ،‬قم‪ ،‬مؤسسة النرش اإلسالمي‪1404 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ .13‬الطويس‪ ،‬نصري الدين‪ ،‬تلخيص املحصل‪ ،‬طهران‪ ،‬مؤسسة مطالعات إسالمي مك غيل‪1960 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .14‬عباس عاريف‪ ،‬البدهيي ودوره يف نظرية املعرفة‪ ،‬قم‪ :‬مؤسسة اإلمام اخلميني للتعليم والتحقيق‪،‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ .15‬يد اهلل يزدان پناه‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬حتقيق‪ :‬مهدي عيل بور‪ ،‬قم‪ ،‬مركز حتقيق احلوزة واجلامعة‪،‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ .16‬اليزدي‪ ،‬حممد تقي مصباح‪ ،‬تعليقة عىل هناية احلكمة‪ ،‬قم‪ ،‬مؤسسة در راه حق‪1405 ،‬هـ‪.‬‬

‫***‬
‫‪ّ8‬‬
‫مالك الحقيقة‬
‫(*)‬
‫ومعيار متييز الحقائق عن األوهام‬

‫(**) ّ‬
‫المرجعٌالدينيٌالشيخٌجعفرٌالسبحاني‬

‫(*) مصــدر البحث‪ :‬نظر ّية املعرفة‪ :‬املدخل اىل العلم‬


‫والفلسـفة واإللهيات‪( ،‬الفصـل السـادا والسـابع)‪ .‬بقلم‬
‫الشـيخ حسـن ميك العاميل‪ .‬إيران‪ :‬قم‪ ،‬مؤسـسـة اإلمام‬
‫الصادق‪1429 ،‬هـ‪.‬‬
‫(**) من مـراجـع التقـليـد الشـيعـة ‪ /‬قـم املقـدسـة‪.‬‬
‫الـمـلـخ ّـص‬
‫لقد طال احلوار حمتد ًما بني أنصار احلقائق واألوهام‪ ،‬وكان ٍّ‬
‫لكل أعوان‪ ،‬فلم يربح‬
‫ٍ‬
‫متطاولة بني الطرفني‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قرون‬ ‫قائام عىل ساق عرب‬
‫احلجاج ً‬
‫يتعرف مالك احلقيقة ما هو؟‪.‬‬
‫لب أن ّ‬ ‫فإذا كانت احلال هذه‪ ،‬فيجب عىل كل ذي ٍّ‬
‫ومالك الوهم ما هو؟‪ ،‬وأنّه كيف توصف قضية بكوهنا ح ّقة‪ ،‬و ُأخرى بكوهنا باطلة؟‪،‬‬
‫أو حيكم عىل فكر بالصواب‪ ،‬وعىل آخر باخلطأ؟ أو عىل خرب بأنّه صادق‪ ،‬وعىل آخر‬
‫بأنّه كاذب؟‬
‫ثم بعد التعرف عىل املالك ا ّلذي يكون به اليشء ح ًّقا أو ً‬
‫باطال‪ ،‬ال بدّ من معرفة‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫موصال إىل ما نتطلبه من‬ ‫الطريق ا ّلذي نستكشف به وجود ذلك املالك‪ ،‬ليكون سلوكه‬
‫ٍ‬
‫وصدق وصواب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حقيقة‬
‫يت‪ ،‬نبحث فيه عن املالك الواقعي التّصاف القضايا يف‬ ‫والبحث األول ٌ‬
‫بحث ثبو ّ‬
‫نفسها باحلقيقة أو البطالن‪ ،‬سواء أكانت هناك معرفة أم ال‪.‬‬
‫يت‪ ،‬وهو طريق معرفتنا باتّصاف القضية املطروحة أمامنا‬
‫وأ ّما البحث يف الثاين فإثبا ّ‬
‫ُ‬
‫مالك كون يشء‬ ‫فعرب عن البحث األول بقولك‪ :‬ما‬‫بأحد ذينك الوصفني‪ .‬وإن شئت ّ‬
‫مها؟وعن الثاين بقولك‪ :‬ما مالك ُمعرفة احلقيقة ومتييزها عن خالفها؟‬ ‫حقيق ًة أو و ً‬
‫خاصة‬ ‫ٍ‬ ‫األول ٌ‬
‫كيل‪ ،‬ال يمت إىل قض ّية ّ‬ ‫بحث ٌّ‬ ‫وإن أردت قلت بعبارة ثالثة‪ :‬البحث يف ّ‬
‫يقسم األفكار والقضايا إلـى ح ّقة وباطلة‪ ،‬فنسعى إلـى معرفة املالك‬ ‫ٍ‬
‫بصلة‪ ،‬وإنّام العقل ّ‬
‫ا ّلذي به تنقسم القضايا إىل ذينك القسمني‪ .‬ولك ّن البحث يف الثاين بحث عن قض ّي ٍة‬
‫علمي‪ ،‬نـريـد أن نعرف أ ّنـها قض ّيـ ٌة حقيـق ّي ٌة أو‬ ‫فلسفي أو‬ ‫ٍ‬
‫مطروحة يف باب‬ ‫شخص ّي ٍة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بـاطلـة‪ ،‬فنـسعـى إلـى إثبات وجود مـالك الـحقـيقـة أو ضـدّ ها فيها‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 354‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ِ‬
‫بالعاملِ الطبيعي ا ّلذي يبحث عن حقيقة الذهب والفضة‪ ،‬فبعد‬ ‫ولنمثل لذلك‬
‫معدين‪ ،‬أصفر اللون‪ ،‬رنّان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫طبيعي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫عنرص‬
‫ٌ‬ ‫البحث والتحليل يتوصل إىل ّ‬
‫أن الذهب هو‬
‫عنرص‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يذوب عند درجة (‪ )1063‬سانتيغراد‪ ،‬ويغيل عند درجة (‪ .)2970‬والفضة‬
‫معدين رمادي اللون‪ ،‬يذوب عند درجة (‪ 8‬و ‪ )970‬سانتيغراد‪ ،‬ويغيل عند‬
‫ٌّ‬ ‫طبيعي‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫درجة (‪.)2210‬‬
‫ثم بعد ما تب ّينت له احلقيقة بصورهتا العلمية‪ ،‬ربام يواجه قض ّي ًة جزئ ّي ًة‪ ،‬كتشخيص‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫هذا اخلاتم ا ّلذي يلبسه‪ ،‬هل هو ذهب أو فضة‪ ،‬فهنا حيتاج إىل مالك آخر‪ ،‬يوصله إىل‬
‫أي من مالكات حقيقة الذهب والفضة موجودة فيه؛ وألجـل ذلـك فصـلنا‬
‫معرفة ٍّ‬
‫مهمة فـي نظرية الـمعـرفـة‪.‬‬
‫األول‪ ،‬وهـمـا من الـمباحث الـ ّ‬
‫البـحث الثـانـي عن ّ‬

‫النسبي واملطلق‪ ،‬املعرفة‬


‫ّ‬ ‫الكلامت الـمفتاح ّيـة‪ :‬القضايا‪ ،‬احلقيقة والوهم‪،‬‬
‫البدهيية‪ ،‬التجربة‪.‬‬
‫***‬
‫ّ‬
‫املبـحـث األول‬
‫مالك الحقائق واألوهام‬
‫‪ 1‬ـ نظرية الفلسفة اإلسالمية‬
‫يرى الفالسفة اإلسالم ّيون ّ‬
‫أن القضية الصادقة هي املطابقة للواقع‪ ،‬والكاذبة هي‬
‫املخالفة له‪ .‬وإليك توضيح نظريتهم‪:‬‬
‫ٍ‬
‫موجود آخر‪ ،‬فإ ّما أن ينطبق أحدمها عىل اآلخر‪ ،‬كالذراع عىل‬ ‫إذا ِقيس موجو ٌد إىل‬
‫ٍ‬
‫فعندئذ يرى بينهام التوافق واالنطباق‪ ،‬والوئام والتآلف‪ .‬أو ال‪،‬‬ ‫الذراع‪ ،‬واملرت عىل مثله‪،‬‬
‫فإن ا ّلذي يرتاءى حينذاك هو‬
‫كل منهام مع النقطة اهلندسية (آخر اخلط)‪ّ ،‬‬ ‫كام لو لوحظ ٍّ‬
‫وكل ذلك رضوري‪.‬‬ ‫حالة التباين والتخالف‪ ،‬وفقدان االرتباط واالنسجام‪ّ ،‬‬
‫ختتصان باألمور اخلارجية‪ ،‬بل تتح ّقق ً‬
‫أيضا‬ ‫وهاتان احلالتان (االنطباق وعدمه) ال ّ‬
‫يشك يف ّ‬
‫أن قولنا‪( :‬األربعة أكثر‬ ‫يف اإلدراكات الذهن ّية إذا نسبت إىل اخلارج‪ ،‬فال أحد ّ‬
‫من الثالثة)‪ ،‬قضية تنطبق عىل الواقع‪ ،‬كام ّ‬
‫أن قولنا‪( :‬الثالثة أكثر من األربعة)‪ ،‬تباينه‬
‫وتعانده‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صائبة وخاطئة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫احلالتني أوجب تقسيم اإلدراكات التصديق ّية إىل‬ ‫ِ‬
‫هاتني‬ ‫والتد ّبر يف‬
‫فيقال‪ :‬قضية صادقة أو كاذبة‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬فالصواب واخلطأ ال يطلقان ّإال بعد حتقق‬
‫ُأمور‪:‬‬
‫‪ .1‬قياس النسبة املوجودة يف القضية إىل واقعها‪.‬‬
‫‪ .2‬حتقق ّ‬
‫االحتاد بني املقاس واملقاس عليه‪ ،‬وعدمه‪.‬‬
‫بأن هذا ذاك‪ ،‬أو ّ‬
‫أن هذا ليس بذاك‪.‬‬ ‫‪ .3‬احلكم ّ‬
‫األول‪ ،‬ال يعقل الصواب واخلطأ يف املعاين املفردة‪ ،‬واملفاهيم‬ ‫ويف ضوء األمر ّ‬
‫ألن املقايسة ال معنى هلا ّإال بوجود أمرين‪ :‬النسبة املوجودة املدركة‪ ،‬وواقعها‪.‬‬
‫التصورية؛ ّ‬
‫املجرد عن املحمول والنسبة مثل‪( :‬زيد)‪ ،‬ال يقاس إىل يشء آخر‪.‬‬
‫واملفهوم ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 356‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ويف ضوء األمر الثاين يظهر لزوم التجانس بني القضية املدركة وواقعها‪ ،‬فلو مل يكن‬
‫صح الوصف بالصواب واخلطأ‪ ،‬لـخروج الـمحل عن قابلية‬ ‫وتناسب لـام ّ‬
‫ٌ‬ ‫جانس‬
‫هناك تـ ٌ‬
‫ٍ‬
‫قضية‬ ‫االتّصاف بأحدمها‪ .‬فلو الحظت القضية املتقدمة (األربعة أكثر من الثالثة) مع‬
‫ُأخرى غري جمانسة‪ ،‬كقولنا‪( :‬األملاس يقطع الزجاج)‪ ،‬مل تتصف األُوىل بالصواب‬
‫واخلطأ‪.‬‬
‫ويف ضوء الرشط الثالث‪ ،‬يظهر ّ‬
‫أن التطابق الواقعي وعدمه‪ ،‬ال يكفيان يف حتقق‬
‫الصواب واخلطأ‪ ،‬بل يتوقف حت ّققهام عىل احلكم باالتّصاف أو بسلبه‪ ،‬وأن هذا ذاك أو‬
‫ومتصور‪ ،‬ملا حكم عىل قضية بالصواب‬
‫ِّ‬ ‫أنّه ليس بذاك‪ .‬فلو مل يكن يف الوجود متع ِّق ٌل‬
‫واخلطأ‪ ،‬لفقدان احلكم واإلذعان والتصديق‪.‬‬
‫فتلخص من ذلك ّ‬
‫أن ميزان الصواب واخلطأ يف الفلسفة اإلسالمية انطباق القضية‬ ‫ّ‬
‫املدركة مع واقعها‪.‬‬
‫أقسام القضايا ووقائعها‬
‫الصحة والبطالن‪ ،‬واخلطأ والصواب‪ ،‬انطباق القضايا عىل واقعها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ملا كان مالك‬
‫فال ُبدّ من بيان أقسام القضايا وواقع ّ‬
‫كل منها‪ ،‬وكيفية انطباقها عليه‪ ،‬فنقول‪ :‬تنقسم‬
‫القضايا إىل ثالثة أقسام رئيسة‪ :‬خارجية‪ ،‬وحقيقية‪ ،‬وذهنية(‪.)1‬‬
‫ت ّتصف القضية باخلارج ّية‪ ،‬إذا كان احلكم فيها عىل موضو ٍع ال ينطبق ّإال عىل‬
‫األفراد املوجودة يف زمان احلكم فقط‪ .‬كقولنا‪( :‬هلكت املوايش)‪ ،‬و( ُقتل من يف املعسكر)‪.‬‬
‫ناظرا إىل األفراد املح ّققة حال احلكم واآلتية‬
‫وت ّتصف باحلقيقية‪ ،‬إذا كان احلكم فيها ً‬
‫منقسم إىل غري النهاية)‪ .‬وت ّتصف بالذهن ّية‪،‬‬ ‫كل جس ٍم ٍ‬
‫متناه‪ ،‬أو متح ّي ٌز‪ ،‬أو‬ ‫بعده‪ ،‬كقولنا‪ّ ( :‬‬
‫ٌ‬
‫عريض‬
‫ّ‬ ‫يت كاحليوان‪ ،‬أو‬ ‫إذا كان احلكم فيها عىل األفراد الذهن ّية‪ ،‬كقولنا‪ّ ( :‬‬
‫الكيل إما ذا ّ‬
‫يت إ ّما جنس أو فصل)‪.‬‬ ‫كالضاحك‪ .‬والذا ّ‬
‫أ ّما مالك الصدق واالنطباق يف القضايا اخلارجية‪ ،‬فهو باعتبار نسبتها إىل ما يف‬
‫(‪ )1‬بام ّ‬
‫أن البحث يف الـمقام يف القضايا الـمستعملة يف العلوم‪ ،‬لذا لـم نذكر القضية الشخصية أو اجلزئية مثل قولنا‪:‬‬
‫(زيد قائم)‪ .‬ويظهر حاهلا ممّا نذكره يف القضايا اخلارجية‪.‬‬
‫‪357‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اخلارج حال احلكم‪ ،‬فإذا هلكت مجيع املوايش يف املرعى‪ ،‬أو مجيع من كان يف املعسكر‪،‬‬
‫وإال فكاذبتان‪ .‬ومثل ذلك القضايا احلقيقية‪ ،‬فهي صادقة‬ ‫كانت القضيتان صادقتني‪ّ ،‬‬
‫إذا طابقت نسبتها اخلارج الفعيل واملستقبيل‪ .‬أ ّما يف جانب األفراد املوجودة بالفعل‪،‬‬
‫فواضح‪.‬‬
‫بأهنا كذا‬ ‫ثم نحكم عىل ّ‬
‫الكل ّ‬ ‫وأ ّما يف جانب األفراد املقدّ رة فإنّا نفرضها موجودة‪ّ ،‬‬
‫أو كذا‪ .‬فإذا طابقتها النسبة كانت القضية صادقة‪ّ ،‬‬
‫وإال فكاذبة‪.‬‬
‫وأ ّما القضايا الذهنية‪ ،‬فالصدق فيها باعتبار مطابقة نسبتها ملا يف نفس األمر‪ ،‬إذ ال‬
‫خارج هلا حتّى تطابقه أو ال تطابقه‪ .‬واملراد من نفس األمر‪ ،‬ما يقابل فرض الفارض‪.‬‬
‫فقولنا‪ :‬اإلنسان كيل‪ ،‬أو اإلنسان نوع‪ ،‬أو‪ :‬احليوان ذايت لإلنسان‪ ،‬أو‪ :‬الضاحك عريض‬
‫لإلنسان‪ ،‬كلها قضايا ليس هلا مصاديق خارجية ملموسة حتّى تطابقها أو ال تطابقها‪.‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فلتلك القضايا واقعية يف نفس األمر‪ ،‬وليست واقعيتها حسب فرض الفارض‬
‫واعتبار املعترب‪ ،‬بدليل ّ‬
‫أن قولنا‪( :‬اإلنسان جزئي)‪ ،‬أو (ليس بنوع)‪ ،‬باطل‪ .‬وهذا‬
‫يكشف عن ّ‬
‫أن هنا واقعية تفرض علينا صدق بعض القضايا وكذب بعضها اآلخر‪.‬‬
‫فانطباقها عىل نفس األمر مالك الصدق‪ ،‬وعدمها مالك الكذب‪.‬‬
‫ومن هنا يعلم ّ‬
‫أن مالك الصدق يف القضايا الذهنية ويف مجيع القضايا املعنونة يف‬
‫املنطق هو االنطباق عىل نفس األمر ا ّلذي هو ّ‬
‫أعم من الوجود اخلارجي امللموس‪ .‬فنفس‬
‫األمر يف القضايا اخلارجية هو خارجها‪ ،‬وأ ّما يف القضايا الذهنية فهو واقعها‪ ،‬وإن مل يكن‬
‫هلا خارج ملموس‪.‬‬
‫فلو كنّا يف مقام حتديد اإلنسان بام هو هو‪ ،‬من دون نظر إىل اخلارج‪ ،‬نقول‪ :‬اإلنسان‬
‫حيوان ناطق‪ ،‬فهي مطابقة لنفس األمر وإن مل يكن هلا خارج ملموس‪.‬‬
‫فإهنا ليس هلا خارج وال واقع‪.‬‬ ‫ويقابله القضايا الكاذبة‪ ،‬كقولنا‪( :‬األربعة فرد)‪ّ ،‬‬
‫إن كثري ًا من القضايا املنطق ّية والرياض ّية واهلندس ّية‬
‫وألجل مزيد من اإليضاح نقول‪ّ :‬‬
‫املسمى بنفس األمر؛ وذلك‬
‫تفتقد للمصاديق اخلارج ّية‪ ،‬ومع ذلك فليست فاقدة للواقع ّ‬
‫ٌ‬
‫مصداق‬ ‫كيل)‪ ،‬وإن مل يكن هلا‬ ‫ّ‬
‫ألن القضايا املنطقية كقولنا‪( :‬اإلنسان نوع) أو (اإلنسان ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 358‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫صحح انتزاع هذه القضايا منه‪ ،‬وانتقال الذهن منه‬ ‫ٍ‬ ‫يف اخلارج‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن اخلارج عىل وجه ُي ّ‬
‫أن زيد ًا وعمر ًا وبكر ًا يشرتكون يف اإلنسانية‪ّ ،‬‬
‫وأن مفهومها مطر ٌد‬ ‫إليها‪ .‬فبام أنّه يرى ّ‬
‫وصادق عليهم صدق ًا متواطئ ًا‪ ،‬ينتقل من تلك احلقيقة امللموسة إىل مسألة منطقية‬
‫ٌ‬ ‫فيهم‬
‫مر توضيحه‪.‬‬ ‫كيل)‪ ،‬عىل ما ّ‬‫ويقول‪( :‬اإلنسان نوع)‪ ،‬أو (إنّه ّ‬
‫منصة النطالق الفكر إىل تلك القضية الك ّل ّية ا ّلتي ُيتخ ّيل ّأهنا ليس هلا‬ ‫فاخلارج ّ‬
‫صحح تلك القض ّية الكل ّية‪.‬‬ ‫مصداق يف اخلارج‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن هناك حقيق ًة خارجي ًة ُت ّ‬ ‫ٌ‬
‫وبذلك ُيعلم حال القضايا احلساب ّية‪ ،‬إذ ليس ملوضوعاهتا وجو ٌد يف اخلارج‪ .‬فليس‬
‫يف اخلارج عرشة وال مائة وال ألف‪ ،‬بل املوجود يف اخلارج هو الوحدات‪ ،‬ولكن تلك‬
‫صحح لنا انتزاع هذه املفاهيم واألعداد‪ ،‬بل صنع قضايا كل ّية منها‪ ،‬ا ّلتي‬
‫الوحدات ُت ّ‬
‫منها جدول الرضب ا ّلذي ابتكره (فيثاغورس) اليوناين‪ ،‬فإنّك ال ّتد يف اخلارج‬
‫أن هناك واقع ّية‬ ‫مصداق ًا لقولنا سبعة مرضوبة يف سبعة تساوي تسعة وأربعني ّإال ّ‬
‫ُتصحح تلك القضية‪ ،‬و ُتعد منشأ انتزاع هلا‪ ،‬وهي إ ّنا إذا كررنا سبعة أشياء سبع مر ٍ‬
‫ات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نصل إىل تلك النتيجة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومثلث‬ ‫ومثله القضايا اهلندس ّية‪ ،‬وما يرجع إىل األشكال اهلندس ّية من مرب ٍع‬
‫ال‪،‬‬ ‫فإهنا ك ّلها ال مصاديق هلا يف اخلارج‪ .‬خذ الدائرة مث ً‬ ‫ٍ‬
‫ودائرة‪ ،‬وقواعدها وضوابطها‪ّ ،‬‬
‫فإهنا عىل التحقيق ليست موجود ًة يف اخلارج‪ ،‬وإنّام املوجود هو اجلسم املادي‪ .‬وهكذا‬
‫ّ‬
‫واخلط ‪-‬باملعنى الفلسفي (ا ّلذي هو هناية‬
‫ّ‬ ‫ال‪ -‬فإنّام هو مشك ٌّل من خطوط‪،‬‬
‫املربع ‪-‬مث ً‬
‫عدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أمر‬
‫ألهنا (النهاية) ٌ‬
‫السطح) ال العريف‪ -‬ال وجود له يف اخلارج‪ّ ،‬‬
‫ومع ذلك ك ّله فاألحكام الواردة عىل هذه األشكال بني صحيح وباطل‪ ،‬وما ذلك‬
‫صحح األحكام الواردة‬
‫صحح تصويرها‪ ،‬كام ُت ّ‬ ‫ّإال ّ‬
‫ألن هلذه األشكال مناشئ انتقال ُت ّ‬
‫عليها‪ .‬وعىل مطابقتها وعدمه يدور مدار صدقها وبطالهنا‪.‬‬
‫إن الـحـاالت الروح ّيـة من حسـ ٍد وبخـ ٍل‪،‬‬
‫وبـذلك يعـلـم حـال العـلـوم النفـسـية‪ ،‬فـ ّ‬
‫خارجي كاألجسام‪ ،‬ولك ّنها بالقياس إىل العدم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أس‪ ،‬و‪ ،...‬ليس لـها وجو ٌد‬ ‫وكـر ٍم‪ ،‬ويـ ٍ‬
‫صحح كشفـها واالنتـقال إليـها‪ ،‬والـحكم بصـحـة أو‬ ‫أن لـها آثـار ًا ُت ّ‬
‫لـها واقعـيات‪ ،‬كمـا ّ‬
‫‪359‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بطـالن ما نقـيض عليـها من أحكام‪.‬‬


‫أن الفـالسفة اإلسالميـني يـجعـلون مـالك كون الشـيء حقيق ًة أو‬
‫ومن هنا نرى ّ‬
‫وهـمـ ًا‪ ،‬أحد أمرين‪:‬‬
‫‪ .1‬أن تكون القضية مطابقة للعين ّية اخلارج ّية أو خمالفة هلا‪.‬‬
‫‪ .2‬أن تكون القضية مطابق ًة للواقعية ا ّلتي تناسب تلك القضية‪ ،‬كام هو احلال يف‬
‫القضايا الـمبحوث عنها فـي الـمنطق وعلم النفس والعلوم احلسابية والـهندسية‪،‬‬
‫مر من نـمـاذج‪.‬‬
‫عىل ما ّ‬
‫شبهات وأجوبتها‬
‫بعد أن اتّضح لك معيار ومالك الصدق والكذب‪ ،‬والصواب واخلطأ عند الفالسفة‬
‫اإلسالميني‪ ،‬يمكنك أن تدفع كل ما ُأثري حوله من شبهات‪ ،‬من قبل بعض الغربيني‬
‫أمثال فيليسني شاله(‪ )1‬وغريه‪ .‬ونحن نذكر هنا بعضها ليعلم مدى ضآلتها‪:‬‬
‫الشبهة األُوىل‪ّ :‬‬
‫إن هذا التعريف ال ينطبق عىل احلقائق الرياض ّية؛ إذ ليس ملوضوعاهتا‬
‫خارجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجو ٌد‬
‫أمور نفس ّي ٌة وذهن ّي ٌة ليس‬
‫ألهنا ٌ‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬إنّه ال ينطبق عىل احلقائق النفسان ّية؛ ّ‬
‫خارجي حتّى يكون االنطباق مالك الصدق وعدمه مالك‬
‫ّ‬ ‫هلا وراء الذهن وجو ٌد‬
‫الكذب‪.‬‬
‫ويظهر اجلواب عنهام بوضوح ممّا قدّ مناه‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة‪ّ :‬‬
‫إن التعريف ال ينطبق عىل القضايا التارخي ّية املندثرة لزوال موضوعاهتا‪،‬‬
‫فلم يبق منها يشء يف زمان اإلدراك حتّى تطابقه أو ال تطابقه‪.‬‬
‫وهذه الشبهة بمكان من الضعف‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ألن القضايا التارخيية وإن مل تكن موجودة‬
‫يف ظرف اإلدراك واحلكم‪ّ ،‬إال ّأهنا موجودة يف ظروفها‪ .‬فإذا قلنا‪( :‬أرسطو تلميذ‬
‫صحيحا‪ ،‬وإذا قلنا‪( :‬أفالطون تلميذ أرسطو) كان كذ ًبا؛ وما ذاك ّإال‬
‫ً‬ ‫أفالطون) كان‬

‫(‪ Felicien Challaye )1‬يف كتابه الفلسفة العلمية‪.‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 360‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫خمالف له‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مطابق للواقع املتح ّقق يف ظرفه‪ ،‬واآلخر‬
‫ٌ‬ ‫األول‬
‫ألن ّ‬‫ّ‬
‫جيوز إنكار وجوده مطل ًقا حتّى يف‬
‫وكون يشء غري موجود يف زمان اإلدراك ال ّ‬
‫ظرفه؛ فاإلنسان احلاكم باحلكم يف قض ّي ٍة تارخي ّي ٍة‪ ،‬يعطف نظره إىل الوقائع السابقة‬
‫املندثرة‪ ،‬فيحكي عنها حكاية صادقة أو كاذبة (‪.)1‬‬
‫ينبع من النظر إىل الكون نظر ًة جامد ًة في ُتخ ّيل ّ‬
‫أن‬ ‫الشبهة الرابعة‪ّ :‬‬
‫إن هذا التعريف ُ‬
‫بأهنا عبار ٌة عن مطابقة‬
‫عرفوا احلقيقة ّ‬
‫متغري؛ ولذلك ّ‬
‫وثابت غري ّ‬
‫ٌ‬ ‫عامل الطبيعة جامدٌ ‪،‬‬
‫الذهن للعني‪.‬‬
‫أن الكون ملا يزل متبدّ ًال‬
‫وأ ّما عىل القول ا ّلذي تتبناه الفلسفة الديالكتيكية من ّ‬
‫واحدة‪ ،‬فكيف يمكن أن يكون مالك احلقيقة تطابق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حالة‬ ‫متغريا‪ ،‬وأنّه ال يبقى عىل‬
‫ًّ‬
‫تغري وتتبدّ ل‪ ،‬فال تبقى حتّى تطابقها القضية‬
‫فإن العني تذهب أو ت ّ‬ ‫الذهن والعني‪ّ ،‬‬
‫املوجودة يف الذهن‪.‬‬
‫واجلواب عنها بوجهني‪:‬‬
‫صح هذا اإلشكال‪ ،‬للزم بطالن مجيع القضايا احلاكية عن اخلارج‪ ،‬إذ ال‬ ‫‪ .1‬لو ّ‬
‫شك يف ّ‬
‫أن هناك قضايا علم ّية وعرف ّية يريد اإلنسان هبا رشح اخلارج وبيانه‪ ،‬فلو كان‬ ‫ّ‬
‫كل األحكام‬‫بطالن ّ‬
‫ُ‬ ‫اخلارج عىل وجه ال يستطيع الذهن أن حيكم عليه بيش ٍء‪ ،‬للزم‬
‫ألن ّ‬
‫كل موضو ٍع يتبدّ ل قبل احلكم عليه‪ .‬فال معنى لقولنا ‪-‬‬ ‫الصادرة عن اإلنسان؛ ّ‬
‫تغري املوضوع وتبدّ له‪.‬‬ ‫ً‬
‫مثال‪( :-‬هذه التفاحة طي ّبة الرائحة)‪ ،‬لو فرضنا ّ‬
‫ٍ‬
‫مغاير له من مجيع‬ ‫والتغري‪ ،‬ليس بمعنى تبدّ ل اخلارج إىل موضو ٍع‬
‫ّ‬ ‫‪ّ .2‬‬
‫إن التحول‬
‫التغري يف الطبيعة الثانية أشبه بتعاقب األمثال‪ .‬فالتفاحة الثانية استمرار‬
‫اجلهات‪ ،‬وإنّام ّ‬
‫للتفاحة األوىل حسب الوجود‪ ،‬فهي يف حالة البقاء التفاحة نفسها يف حالة حدوثها؛‬
‫يصح احلكم عليها بالطيب‪.‬‬
‫وألجل ذلك ّ‬
‫شامال للذات والصفات مع ًا‪ ،‬كام إذا صار احلطب‬
‫ً‬ ‫التغري‬
‫ويف ضوء ذلك‪ ،‬لو كان ّ‬
‫(‪ )1‬هذه اإلشكاالت الثالثة ذكرها (فيليسني شاله) يف كتابه (الفلسفة العلميّة)‪ ،‬الفصل العارش يف قيمة العلوم‬
‫وحدودها‪.223 :‬‬
‫‪361‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫تغري لون الفاكهة من البياض إىل احلمرة‪ ،‬فاحلكم‬ ‫نارا‪ ،‬أو يف الصفات‪ ،‬كام إذا ّ‬
‫ً‬
‫متغري ذا ًتا ووص ًفا‪ ،‬أو وص ًفا فقط‪ ،‬إن كان راجع ًا إلـى حاالته‬
‫عىل ذلك الـموضوع الـ ّ‬
‫السابقة‪ ،‬يكون أشبه بالـحكم عىل املوضوعات التارخي ّية املعدومة‪ ،‬فالذهن ُيـحرض‬
‫متغريا يف الذات‬
‫الصورة املنطبقة عىل احلالة املاضية وحيكم عليها بيشء‪ .‬وأ ّما إذا مل يكن ّ ً‬
‫ظاهرا‪ ،‬فيحكم عليه بأنّه كذا وكذا‪ .‬فكون‬
‫ً‬ ‫والصفات‪ ،‬بل بقي عىل ما كان عليه‪ ،‬ولو‬
‫يرض الـحكم واإلذعان به؛ لكون الالحق مـمـ ً‬
‫اثال للسابق من جـميع‬ ‫متغري ًة‪ ،‬ال ّ‬
‫الطبيعة ّ‬
‫الـجهات‪.‬‬
‫أن فالسفة الغرب مل يقفوا عىل معامل الفلسفة‬ ‫وهذه اإلشكاالت وأمثاهلا تعرب عن ّ‬
‫اإلسالمية وقو ًفا كاف ًيا‪ ،‬ومل ّ‬
‫يلموا بنظرياهتا إملا ًما واف ًيا‪.‬‬
‫تم الكالم يف بيان معيار احلقيقة والوهم يف الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬ونذكر فيام‬
‫إىل هنا ّ‬
‫يأيت معيارها عند الغربيني‪:‬‬

‫‪ 2‬ـ نظريات الفالسفة الغربيي‬


‫جنح عدّ ة من فالسفة الغرب إىل معايري ُأخرى لتمييز احلقيقة عن الوهم‪ ،‬نطرحها‬
‫عىل منضدة التحليل‪.‬‬
‫النظرية األوىل‪ :‬الحق هو املقبول واملوهوم هو املرفوض‬
‫اختار هذه النظرية الفيلسوف الفرنيس (أوغست كونت)(‪1857-1798( )1‬م)‬
‫وهو يضيف احلقيقة تار ًة إىل الفرد و ُأخرى إىل املجتمع‪ ،‬وإليك توضيح هذه النظرية‪:‬‬
‫إن فكر ًة ما إنّام تكون حقيق ًة لدى الفرد‪ ،‬عند ما تكون موافق ًة لسائر أفكاره ومالئم ًة‬
‫ّ‬
‫هلا‪ .‬وتكون خاطئ ًة إذا كانت هناك مطارد ٌة (تعارض) بينها وبني سائر أفكاره‪ .‬وتكون‬
‫ً‬
‫وعمال‪.‬‬ ‫الفكرة حقيق ًة لدى املجتمع‪ ،‬إذا كانت مقبول ًة لدى أبنائه‪ ،‬ي ّتفقون عليها ً‬
‫قوال‬
‫ٍ‬
‫فكرة ُأخرى‪،‬‬ ‫فام داموا متفقني عليها فهي موصوف ٌة باحلقيقة‪ ،‬فإذا ّ‬
‫تغريت آراؤهم إىل‬
‫(‪ Auguste comte )1‬أسس املذهب الوضعي ‪ Positivism‬القائل ّ‬
‫بأن املالحظة والتجربة مها السبيل الوحيد‬
‫للوصول إىل املعرفة الكاملة التامة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 362‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫تكون األوىل خاطئ ًة واألخري ُة هي الصائبة‪.‬‬


‫تتحرك‪،‬‬ ‫بأن األرض ٌ‬
‫ثابتة ال ّ‬ ‫ال‪ :‬إ ّن فرضية (بطليموس) (‪168-90‬م) القائلة ّ‬
‫مث ً‬
‫واألفالك تدور حوهلا‪ ،‬كانت مقبولة لدى الناس والعلامء يف العصور الغابرة مدة متتد‬
‫أكثر من مخسة عرش قر ًنا‪ .‬فهي ‪-‬إ ًذا‪ -‬كانت حقيق ًة وصحيح ًة يف تلك األعصار‪ ،‬وال‬
‫عدد ٍ‬
‫قليل من العلامء(‪ )1‬لبعض جزئياهتا‪.‬‬ ‫يرضها خمالف ُة ٍ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫تغريت هذه الفرضية إىل فرضية ُأخرى أسهم يف‬ ‫ويف مطلع احلضارة احلديثة‪ّ ،‬‬
‫إبداعها أقطاب علم اهليأة األربعة‪:‬‬
‫‪ .1‬كوبرنيك البولوين (‪1543-1473‬م)‪ ،‬فإنّه أنكر كون األرض مركز ًا تدور‬
‫حوله الشمس والسيارات‪ ،‬وبرهن عىل مركز ّية الشمس ودوران األرض وسائر‬
‫الكواكب الس ّيارة حوهلا‪.‬‬
‫كل سي ٍ‬
‫ارة تدور حول‬ ‫أن ّ ّ‬ ‫‪ .2‬كپلر األلـمـاين (‪1630-1571‬م)‪ ،‬فإنّه أثبت ّ‬
‫وأن السيارة القريبة من الشمس أرسع حرك ًة من البعيدة‬
‫الشمس يف مسار ٍبيضاوي‪ّ ،‬‬
‫عنها‪.‬‬
‫‪ .3‬غاليليو اإليطايل (‪1642-1564‬م)‪ ،‬فإنّه أثبت بمنظاره الفلكي وجود‬
‫كواكب كثرية مل تكن معروف ًة إىل ذلك العرص‪.‬‬
‫‪ .4‬نيوتن اإلنكليزي (‪1727-1642‬م)‪ ،‬فإنّه أثبت متاسك النظام الشميس بفضل‬
‫ٍ‬
‫سيارة تدور عىل مدار فيها‬ ‫قويت اجلذب والطرد املركزيتني عن الشمس وإليها‪ّ ،‬‬
‫فكل‬
‫القو ِ‬
‫تني‬ ‫ظل تعادل ّ‬ ‫قوتان‪ :‬قوة الطرد عن املركز (الشمس) وقوة االنجذاب إليها‪ ،‬ويف ّ‬
‫تستقر يف مدارها‪.‬‬
‫ّ‬
‫أيضا‪،‬‬
‫حمل نظرية بطليموس‪ ،‬حقيقية صادقة‪ً ،‬‬ ‫فهذه النظريات اجلديدة التي ح ّلت ّ‬
‫ونظرية بطليموس غدت باطل ًة بعد أن كانت صادق ًة‪ .‬وما دامت هذه النظرية مشهور ًة‬
‫(‪ )1‬فقد كان أبو الريـحان البريونـي (‪1048-973‬م) مـخال ًفا لسكون األرض وكوهنا مركزً ا للكون‪ .‬كمـا كان الشيخ‬
‫ّ‬
‫(املتوّف ‪1030‬ه) هلا أي ًضا‪ .‬ولكن ملا كانت األوساط العلمية خاضعة للنظرية‪ ،‬لـم تـخرجها تلك املخالفة‬ ‫البهائي‬
‫عن كوهنا حقيقة‪ ،‬عىل مذهب كونت‪.‬‬
‫‪363‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فرضيات ُأخر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مقبول ًة يف األوساط العلمية‪ ،‬فهي حقيقة‪ ،‬إىل أن حتل حملها‬
‫تحليل هذه النظرية‬
‫ّ‬
‫إن القائل هبذه النظرية خلط بني املسائل االجتامع ّية والسياس ّية التي ال مصدر هلا‬
‫صح ما ذكره‪،‬‬‫سوى تصويب الرأي العام‪ ،‬والقضايا الكون ّية احلاكية عن اخلارج‪ .‬فلو ّ‬
‫عني لون‬ ‫ٍ‬
‫شعب أن ُي ّ‬ ‫يصح يف القسم األول من املسائل؛ إذ من احلقوق املسلمة ّ‬
‫لكل‬ ‫فإنّام ّ‬
‫يصوت له الشعب‪ ،‬هو احلق‪ ،‬ما دام الشعب مؤ ّيدً ا له‪ ،‬فإذا‬ ‫النظام احلاكم عليه‪ّ ،‬‬
‫فكل ما ّ‬
‫احلق واحلقيقة‪.‬‬ ‫تبدّ لت رغبتهم إىل نظا ٍم آخر‪ ،‬بطل ّ‬
‫األول وكان الثاين هو ّ‬
‫وأ ّما القضايا احلاكية عن الكون‪ ،‬فليست املقبولية فيها مالك احلقيقة‪ ،‬وال الرفض‬
‫مالك اخلطأ‪ ،‬فمالك احلقيقة يف القضايا الرياض ّية والفيزيائ ّية والكيميائ ّية والفضائ ّية ليس‬
‫إن جمموع زوايا املثلث تساوي ‪ 180‬درجة‪ ،‬سواء اتّفق‬ ‫هو تصويت الرأي العام هلا‪ ،‬بل ّ‬
‫الرأي العام والعلمي عليه أم مل يتّفق‪ ،‬هو ذلك شا ُءوا أم أبوا‪ ،‬كام ّ‬
‫أن حميط الدائرة‬
‫مرضوب يف النسبة الثابتة‪ ،‬دائ ًام وأبد ًا(‪.)1‬‬
‫ٌ‬ ‫يساوي ُقطرها‬
‫وإن شئت قلت‪ّ :‬‬
‫إن القضايا عىل قسمني‪:‬‬
‫فإن ّ‬
‫لكل‬ ‫قضايا ال حتكي عن اخلارج‪ ،‬وهذه مثل احلقوق املجعولة للشعوب‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫شعب آخر ليشكّلوا‬ ‫شعب إىل ّ‬
‫االحتاد مع‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫شعب‪ ،‬احلرية يف اختيار مصريه‪ ،‬فإن جنح‬
‫دول ًة واحد ًة‪ ،‬فذلك هلم‪ .‬وإن جنح إىل االنفصال وترك احللف‪ ،‬فذلك له ً‬
‫أيضا‪ .‬وهو‬
‫ألن الشعب ُ‬
‫يميل إليه‪ .‬فهذه القضايا ليست حاكي ًة عن اخلارج‪،‬‬ ‫حق يف كلتا احلالتني؛ ّ‬
‫ٌّ‬
‫فال مناص من جعل املالك فيها‪ ،‬اإلمجاع والتصويت‪ ،‬وعدمهام‪.‬‬
‫وقضايا حتكي عن اخلارج‪ ،‬و ُتري احلقيقة الراهنة وراء الذهن‪ .‬وبام ّ‬
‫أن احلقيقة ليست‬
‫متعدّ د ًة‪ ،‬بل هي واحدة‪ ،‬فال يمكن أن تكون كلتا النظريتني موصوف ًة باحلقيقة‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫األرض إ ّما أن تدور حول الشمس‪ ،‬أو تدور الشمس حول األرض‪ ،‬وليست احلقيقة‬
‫بأن كلتا النظريتني صائب ًة وحقيقي ًة‪ّ ،‬‬
‫كل يف ظرفها اخلاص‪ ،‬يرجع‬ ‫خارج ًة عنهام‪ .‬فالقول ّ‬
‫(‪./227 /3 ،1416 )1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 364‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫إىل السفسطة وإنكار كاشفية العلم‪ ،‬فإذا كان املكشوف واحدً ا‪ ،‬فأحد ِ‬
‫العل ِ‬
‫مني خطأ‬
‫كشف وال إراءة‪ .‬فكان احلري هبذا الفيلسوف دراسة املسائل السياس ّية واملسائل‬
‫ٌ‬ ‫ليس له‬
‫الكون ّية‪ ،‬واإلمعان يف ٍّ‬
‫كل منها‪ ،‬ليعرف الفرق يف مالك احلقيقة واخلطأ بينهام‪.‬‬

‫الحق هو النافع واملوهوم هو الضار‬


‫النظرية الثانية‪ّ :‬‬
‫وهناك نظرية ثانية يف متييز احلقيقة من الوهم قالت هبا الفلسفة الرباغامتية(‪ ،)1‬وهي‬
‫ضار ًا فهو باطل‪ .‬فالعدل ٌّ‬
‫حق؛ إذ به يقوم‬ ‫حق‪ ،‬وكل ما كان ّ‬ ‫أن كل ما يكون نافع ًا فهو ٌّ‬
‫ّ‬
‫الـمجتمع وينسجم‪ ،‬والظلم ٌ‬
‫باطل؛ ألنّه يـهدم الـمجتمع ويش ّتت شمله‪ .‬وهكذا سائر‬
‫القوانني والسنن االجتامع ّية والسياس ّية‪.‬‬

‫يالحظ عليه أمران‪:‬‬


‫خيتص باألحكام الكل ّية والقوانني العا ّمة‪ ،‬فالصدق ‪-‬بام هو‬ ‫األول‪ّ :‬‬
‫إن ما ذكر إنّام ّ‬ ‫ّ‬
‫ضار‪ .‬ولكن اتّصاف الصدق بالنفع‪ ،‬والكذب بالرضر‪،‬‬
‫نافع‪ ،‬والكذب ‪-‬بام هو هو‪ٌّ -‬‬
‫هو‪ٌ -‬‬
‫ضارا‬
‫بالكيل منهام‪ ،‬وأ ّما يف موارد التطبيق فربام ينقلبان فيكون الصدق ً‬
‫ّ‬ ‫خيتص‬
‫ّ‬ ‫إنام‬
‫ٍ‬
‫بحادث‬ ‫بذبحة قلب ّي ٍة‪ ،‬ويف تلك األثناء مات ولده‬
‫ٍ‬ ‫والكذب ناف ًعا‪ .‬كام لو ُأصيب إنسان‬
‫ضار؛ ألنّه ربام يؤ ّدي إىل اشتداد‬ ‫ما‪ ،‬فسأل األب عنه‪ّ ،‬‬
‫فإن اإلخبار عن احلقيقة والواقع ٌّ‬
‫نافع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أزمته وموته‪ ،‬والكذب والقول ّ‬
‫بأن ولده ما زال ح ًّيا وبصحة ج ّيدة‪ٌ ،‬‬
‫خيتص بام يقع يف إطار حياة اإلنسان العمل ّية‪ ،‬وأ ّما األمور‬ ‫ّ‬ ‫الثان‪ّ :‬‬
‫إن هذا املالك‬
‫فإن جعل‬‫اخلارجة عن ذلك اإلطار‪ ،‬كالقوانني الفيزيائ ّية والكيميائ ّية والرياض ّية و‪ّ ،...‬‬
‫ضارا‪ ،‬بعيد غاية البعد‬ ‫ِ‬
‫والباطل واخلاطئ منها ما كان ًّ‬ ‫حلق والصائب منها ما كان ناف ًعا‪،‬‬
‫ا ِّ‬
‫عن التفسري بالواقع‪.‬‬
‫إن الـمالك الـمذكور يناسب الـمسائل األخالق ّية واالجتمـاع ّية‬ ‫وإن شئت قلت‪ّ :‬‬
‫بالضار‪ ،‬ال املسائل العلم ّية ا ّلتي يدور‬
‫ّ‬ ‫واالعتقاد ّية‪ ،‬فيفرس فيها احلق بالنافع‪ ،‬والباطل‬
‫(‪ .MSITAMGARP )1‬الحظ الفلسفة العلمية لفيلسني شاله‪ ،‬ص ‪ .203‬وسيأيت بحث مبادئ هذه الفلسفة يف‬
‫الفصل الثامن عند البحث عن دوافع إخراج العوامل الغيبية عن إطار املعرفة‪.‬‬
‫‪365‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الصواب والبطالن فيها مدار مطابقة الواقع وخمالفته‪ ،‬كام تقدّ م‪.‬‬
‫احلق والباطل‪ ،‬ينسب احلق إىل ما ينفع‪،‬‬
‫يصور نزاع ّ‬ ‫نعم‪ّ ،‬‬
‫إن الذكر احلكيم‪ ،‬عند ما ِّ‬
‫يرض‪ ،‬يقول‪﴿ :‬ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ‬
‫والباطل إىل ما ّ‬
‫ﲪﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ‬
‫ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉﳊ ﳋ ﳌ ﳍ‬
‫ﳎ﴾(‪.)1‬‬
‫ولكنها ال تناقض ما ذكرناه‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ألن اآلية يف جمال بيان االعتقادات الدينية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأن احلق منها يف نفس املؤمن مثل الـمـاء النازل من السامء‪ ،‬اجلاري يف األودية عىل‬
‫اختالف سعتها‪ ،‬وينتفع به الناس وتـحيا به قلوهبم‪ ،‬ويمكث فيها اخلري والربكة‪ .‬وأ ّما‬
‫االعتقادات الباطلة يف نفس املرشك‪ ،‬فهي كالزبد ا ّلذي يربو السيل‪ ،‬فإنّه ال يلبث أن‬
‫سدى(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫يذهب جفا ًء ويصري‬
‫وأين هذا من بيان احلق والباطل يف القضايا الشخصية والعلوم؟ ومثلها احلركات‬
‫تنطبق عليها مثل انطباقها عىل العقائد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫االجتامع ّية‪ ،‬فاآلية‬

‫النظرية الثالثة‪ :‬الحقيقة أمر نسبي ال مطلق‬


‫إن القائلني بنظرية النسب ّية يف باب املعرفة ينكرون أن تكون اإلدراكات البرشية‪،‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫باملدرك‪،‬‬ ‫ويرصون عىل ّ‬
‫أن احلقيقة ختتلف باختالف الظروف املحيطة‬ ‫ٍ‬
‫إدراكات مطلق ًة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وقد رشحنا نظريتهم عند البحث عن قيمة املعرفة‪ ،‬فال نعيد‪.‬‬
‫األخالء يف مدّ ٍة من ُمدد الرفقة‪ ،‬باإلخالص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويف ضوء هذا‪ ،‬يقولون‪ :‬إنّا نصف أحد‬
‫حق صحيح‪ ،‬وما ذلك ّإال ّ‬
‫ألن الظرف‬ ‫ون ِص ُف ُه يف فرتة ُأخرى باخليانة‪ .‬وكال القضاءين ّ‬
‫األول يوحي إلينا بالقضاء األ ّول‪ ،‬والظرف الثاين يوحي إلينا بالقضاء الثاين‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بأن األرض مركز العامل‪ ،‬ح ّق ٌة وصائبة‪ ،‬لكن بالنسبة إىل‬
‫ونظرية بطليموس القائلة ّ‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية‪.17 :‬‬
‫ُ‬
‫(‪ )2‬الحظ امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬ج ‪ ،11‬وسنذكر يف مباحث إعجاز القرآن من اإلهليات تصويرات أخرى بديعة‬
‫ملا تفيده اآلية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 366‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫تلك األعصار‪ ،‬وإن كانت باطلة بالنسبة إىل هذه األعصار‪ .‬والرأي ا ّلذي كان سائدً ا يف‬
‫عدد العنارص األساسية ا ّلتي تشكل الكون‪ّ ،‬‬
‫وأهنا أربعة ال غري وهي‪ :‬الرتاب واملاء‬
‫رأي صحيح‪ ،‬ولكن بالنسبة إىل تلك الظروف ا ّلتي مل تكن لتنتج‬
‫واهلواء والنار‪ ،‬هو ٌ‬
‫املجرب‪،‬‬
‫سوى هذا الرأي‪ .‬ولكن عند ما تبدّ لت الظروف‪ ،‬وخضعت الطبيعة لإلنسان ّ‬
‫حق‬ ‫ّ‬
‫فالكل ّ‬ ‫ّتاوز عددها املائة وأربعة عنارص‪ّ ،‬‬
‫ولعل الظروف اآلتية تنتج غري ذلك‪.‬‬
‫بالنسبة إىل األزمنة والظروف ا ّلتي تنتجه‪.‬‬
‫حق؛ ّ‬
‫ألن الظروف املحيطة‬ ‫املوحد وامللحد كالمها عىل ّ‬
‫ِّ‬ ‫يصح أن نقول‪ّ :‬‬
‫إن‬ ‫ّ‬ ‫بل‬
‫ّتره إىل التوحيد‪ ،‬والظروف املحيطة بامللحد تدفعه إىل اإلحلاد‪ .‬إىل غري ذلك من‬
‫باملوحد ّ‬
‫ِّ‬
‫أمر مرفوض‪ ،‬وإنّام كل األشياء تقع يف إطار‬ ‫وكل ذلك ينتج ّ‬
‫أن احلقيقة املطلقة ٌ‬ ‫األمثلة‪ّ ،‬‬
‫احلقيقة النسبية‪.‬‬
‫إن األمور عىل قسمني‪ :‬إضايف وحقيقي‪ ،‬والنسبيون خلطوا بينهام‪،‬‬ ‫يالحظ عليه‪ّ :‬‬
‫يصح يف األُمور‬
‫ّ‬ ‫ورضبوا أحدمها بسهم اآلخر‪ ،‬وإليك البيان‪ :‬ما ذكره النسبيون إنّام‬
‫النسب ّية اإلضاف ّية‪ ،‬وهي ما كان قوام حقيقتها بالنسبة واإلضافة‪ ،‬من دون أن يكون هلا‬
‫كل ٍ‬
‫حال‪ ،‬كالسعة والضيق‪ ،‬والكرب والصغر‪ ،‬والفوق ّية‬ ‫حمفوظ عىل ّ‬
‫ٌ‬ ‫واقع‬
‫يف حدّ ذاهتا ٌ‬
‫والتحت ّية ونحو ذلك‪.‬‬
‫رتا مرب ًعا‪ ،‬وآخر‬ ‫ٍ‬
‫حقري ال تتجاوز مساحته عرشين م ً‬ ‫ال‪ :‬خت ّيل إنسا ًنا يعيش يف كوخٍ‬
‫مث ً‬
‫تقل مساحتها عن‬ ‫عظيم حتيط به حدائق شاسعة مرتامية األطراف‪ ،‬ال ّ‬
‫ٍ‬ ‫غني يعيش يف ٍ‬
‫قرص‬
‫مدرسة أمامها ملعب‪ ،‬ولنفرض ّ‬
‫أن مساحتها بأكملها‬ ‫ً‬ ‫مخسني ألف مرت مربع‪ ،‬فإذا وردا‬
‫األول يستهوهلا ويصفها بالعظمة والكرب‪ ،‬بينام الثاين يستصغرها‬
‫مخسامئة مرت مربع‪ ،‬فإنّا نرى ّ‬
‫ِ‬
‫التوصيفني صحيح‪ ،‬لكن بالنسبة‬ ‫أن ًّ‬
‫كال من‬ ‫ويصفها بالضيق والصغر‪ .‬فال شك هنا يف ّ‬
‫فاألول إذ يصفها بالكرب والعظمة‪ ،‬إنّام يصفها بذلك بالقياس‬ ‫ٍ‬ ‫إىل ما يف نفس ِّ‬
‫كل واصف؛ ّ‬
‫إىل كوخه احلقري‪ ،‬والثاين إذ يصفها بالضيق والصغر‪ ،‬فإنّام هو باإلضافة إىل قرصه العظيم‪.‬‬
‫فإن كال القضاءين صحيح‪،‬‬ ‫وهكذا إذا قلنا‪ :‬األرض كبرية‪ ،‬وقلنا‪ :‬األرض صغرية‪ّ ،‬‬
‫لكن ًّ‬
‫كال بالنسبة إىل أمر‪ ،‬فاألرض كبرية بالنسبة إىل القمر‪ ،‬وصغرية بالنسبة إىل الشمس؛‬
‫‪367‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حمفوظ حتّى نقيس القضاءين إىل ذلك الواقع‪ ،‬ونصف‬ ‫ٌ‬ ‫واقع‬
‫ٌ‬ ‫فليس للصغر والكرب‬
‫حق‪ ،‬واآلخر بأنّه ٌ‬
‫باطل‪ .‬بل واقعيتهام هي باإلضافة نفسها‪ ،‬والنسبة القائمة‬ ‫أحدمها بأنّه ٌّ‬
‫يف النفس والذهن‪.‬‬
‫فام ذكره النسبيون إنّام يصح يف مثل هذه األُمور اإلضافية ا ّلتي ال واقعية هلا ّإال‬
‫مالحظة اإلضافة بني املقيس واملقيس عليه‪ .‬وأ ّما األُمور ا ّلتي هلا واقعية وراء النسبة‬
‫واإلضافة‪ ،‬وهلا حقيق ٌة حمدّ دة حيكي عنها العلم‪ ،‬ففيها يكون أحد القضاءين صحيح ًا‬
‫قطع ًا‪ ،‬وهو ما وافق الواقع وطابقه‪ ،‬واآلخر باط ً‬
‫ال قط ًعا‪ ،‬وهو ما خالفه‪ .‬فقولنا‪( :‬درس‬
‫أرسطو عند أفالطون)‪ ،‬وقولنا‪( :‬مل يدرس أرسطو عند أفالطون)‪ ،‬ال يمكن أن يكونا‬
‫حق قطع ًا واآلخر باطل قطع ًا‪.‬‬
‫صحيحني وصائبني‪ ،‬بل أحدمها ّ‬
‫فإهنا من الضآلة بمكان؛ أ ّما‬ ‫يظهر اجلواب عن األمثلة ا ّلتي ّ‬
‫متسكوا هبا‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وبذلك‬
‫يصح أن يكون‬
‫صحة توصيف الصديق باإلخالص واخليانة‪ ،‬أنّه ّ‬
‫األول‪ :‬فإن أرادوا من ّ‬
‫ّ‬
‫خملصا وخائنًا يف الواقع‪ ،‬فهذا ال يقبله أحدٌ ‪ ،‬كيف والصداقة واخليانة‬
‫خاص ً‬‫ٍّ‬ ‫يف ظرف‬
‫خمتلفان يف املبادئ واآلثار‪.‬‬
‫ثم يبدو له بعد‬ ‫ٍ‬
‫خملصا‪ّ ،‬‬
‫وإن أرادوا أنّه يمكن إلنسان أن يتخ ّيل خليله يف ظرف ً‬
‫األول‬
‫فإن الرأي ّ‬‫يمت إىل النسبية بصلة‪ّ ،‬‬
‫ذلك أنّه كان خائنًا يف ذلك الظرف‪ ،‬فهذا ال ّ‬
‫يرفض الرأي الثاين ويدفعه وال يصدّ قه‪ ،‬فأين اجتامع احلقيقتني املتغايرتني؟!‬
‫ومن هذا يظهر حال ما زعموه يف النظريتني املعروفتني يف األفالك والعنارص‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫العلم ‪-‬بام أنّه كاشف عن الواقع ومرآة له‪ -‬فال حمالة تكون إحدامها خاطئة مطل ًقا‪،‬‬
‫واألُخرى صحيحة مطل ًقا‪.‬‬
‫يتمسكون به يف أكثر كتبهم ورسائلهم‪،‬‬‫وأ ّما املثال املعروف لدى النسبيني‪ ،‬ا ّلذي ّ‬
‫ثم أخرجهام‬ ‫أن اإلنسان إذا أدخل إحدى يديه يف ماء بارد واألُخرى يف ماء ٍّ‬
‫حار‪ّ ،‬‬ ‫وهو ّ‬
‫ٍ‬
‫حقيقة ختالف‬ ‫كال من اليدين خترب عن‬ ‫فإن ًّ‬
‫دفع ًة واحد ًة وأدخلهام م ًعا يف ماء ثالث فاتر‪ّ ،‬‬
‫ما خترب به األُخرى‪ ،‬فهو مغالط ٌة واضح ٌة؛ إل ّهنم مل يم ّيزوا بني أمرين مها‪:‬‬
‫شيئني خمتلفني (احلرارة والربودة)‪.‬‬‫ِ‬ ‫ان خيربان عن‬ ‫ِ‬
‫احلس ِ‬
‫أ‪ّ .‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 368‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫ب‪ .‬املاء الثالث يف حدّ ذاته حار وبارد يف ٍ‬


‫آن واحد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬
‫تنفعل باملاء احلار‪ ،‬فتبقى‬ ‫األول؛ وذلك ّ‬
‫ألن إحدى اليدين‬ ‫فالصحيح يف املثال هو ّ‬
‫احلرارة يف عروقها ومسا ّمها‪ ،‬واليد األُخرى تنفعل باملاء البارد‪ ،‬فتبقى الربودة فيهام‪.‬‬
‫حتس باحلرارة؛ ّ‬
‫ألن حرارة‬ ‫احلارة ّ‬
‫أن اليد ّ‬‫شك يف ّ‬
‫فإذا وردتا بعد ذلك يف املاء الفاتر‪ ،‬فال ّ‬
‫حتس بالربودة؛ ّ‬
‫ألن برودهتا أشدّ من برودة املاء‪.‬‬ ‫املاء دون حرارهتا‪ ،‬واليد الباردة ّ‬
‫وأ ّما الـمـاء الثالث فـي حدّ ذاته‪ ،‬مع قطع النظر عن اليدين الـمختلفتني فـي التأ ّثر‬
‫ِ‬
‫اليدان فيه مدّ ة‪ ،‬حتّى‬ ‫معينة ال غري؛ ولذلك لو بقيت‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حرارة‬ ‫واالنفعال‪ّ ،‬‬
‫فإن له درجة‬
‫واحدة‪ .‬فاخللط حصل بني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحرارة‬ ‫زالت عنهام التأثرات واالنفعاالت‪ ،‬فإهنام حتس ِ‬
‫ان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بأمرين متضا ّدين‪ ،‬فالصحيح هو‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خمتلفني‪ ،‬وكون املاء متّص ًفا‬ ‫ِ‬
‫شيئني‬ ‫إخبار اليدين عن‬
‫األول دون الثاين‪.‬‬
‫تعمقهم يف دراسة وفهم مبادئ‬ ‫ٍ‬ ‫وكم هلم من ّ ٍ‬
‫زالت وعثرات ناّتة عن عدم ّ‬
‫الفلسفة اإلسالمية ونظرياهتا‪.‬‬
‫تم الكالم يف مقياس احلقيقة والوهم ومالكهام‪ ،‬وحان أوان البحث عن‬
‫إىل هنا ّ‬
‫األمر الثاين وهو بيان طريق الوصول إىل احلقائق‪ ،‬وكيف ّية متييزها عن األوهام‪.‬‬
‫***‬
‫ّ‬
‫املبحث الثـان‬
‫معيار متييز الحقائق عن األوهام‬
‫ما هو معيار متييز الحقائق عن األوهام؟‬
‫أكداسا من النظريات حول الكون واحلياة‪ ،‬وبام‬
‫ً‬ ‫يواجه اإلنسان يف حياته العلم ّية‬
‫بصحة بعض دون اآلخر‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ومسألة‪ ،‬واحد ٌة ال أكثر‪ ،‬فال بدّ أن حيكم‬ ‫كل ٍ‬
‫أمر‬ ‫أن احلقيقة يف ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ويستحيل تصحيح النظريات املتناقضة واملتخالفة ك ّلها‪ ،‬وإصباغ ثوب احلقيقة عليها‪،‬‬
‫مر يف الفصل السابق‪.‬‬
‫حسب ما ّ‬
‫كل إنسان يعدّ رأيه ح ًّقا‪ ،‬ونظريته هي الصائبة‪ ،‬فال يمكن االعتامد عىل‬‫أن ّ‬
‫وبام ّ‬
‫ٍ‬
‫ضابطة نم ّيز هبا احلقيقة من الوهم‪،‬‬ ‫تصديق القائل وإيامنه‪ ،‬بل ال بدّ من الرجوع إىل‬
‫احلساسة يف نظرية املعرفة‪.‬‬
‫والصواب من البطالن‪ ،‬وهذا من املباحث ّ‬
‫نظريات نستعرضها‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ويف هذا املجال‬
‫النظر ّية األوىل‪ :‬املعرفة البديه ّية هي املعيار‬
‫احلق‬ ‫يرى أرسطو‪ ،‬وبعده الفالسفة اإلسالميون ّ‬
‫أن احلجر األساس لتشخيص ّ‬
‫خارجا عن إطار املعرفة‪ ،‬بل املعرفة نفسها‬
‫ً‬ ‫من الباطل‪ ،‬والصواب من اخلطأ‪ ،‬ليس شي ًئا‬
‫ٍ‬
‫إنسان‬ ‫إن ّ‬
‫كل‬ ‫هي الوسيلة لتعيني املعرفة الصحيحة من املعرفة الزائفة‪ .‬بيان ذلك‪ّ :‬‬
‫ٍ‬
‫حاجة إىل‬ ‫يملك جمموع ًة من القضايا البدهي ّية جيدها يف باطن عقله‪ ،‬ويذعن هبا من دون‬
‫ٍ‬
‫إنسان مل خيضع مسبق ًا لرأي يؤ ّثر‬ ‫إقامة برهان‪ .‬وهذه القضايا الرضور ّية ُيس ّلم هبا كل‬
‫يف تفكريه‪.‬‬
‫فإذا ُطرحت أمام اإلنسان قض ّية ما‪ ،‬ال يدري هل هي صحيحة وصادقة أو زائفة‬
‫وموهومة‪ُ ،‬يرجعها إىل تلك القضايا واملعارف الرضور ّية‪ ،‬فإن صدّ قت تلك هذه‪،‬‬
‫كانت قضي ًة ح ّق ًة‪ ،‬وإن مل تصدّ قها كانت قضي ًة باطل ًة‪.‬‬
‫ومتحر للحقيقة جيب أن يصنّف قضاياه‪،‬‬ ‫للحق‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طالب‬ ‫ٍ‬
‫إنسان‬ ‫وعىل هذا‪ّ ،‬‬
‫فكل‬
‫ٍّ‬
‫ثم حيتفظ باألُوىل لتكون مفتاحه للوصول إىل‬ ‫ويقسمها إىل قسمني‪ :‬بدهي ّية ونظر ّية‪ّ ،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 370‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫الثانية‪ ،‬وح ّلها‪ ،‬وإدراك صدقها أو بطالهنا‪.‬‬


‫أن زاوية (أ) تساوي زاوية (ب)‪ ،‬وعلمنا أيض ًا ّ‬
‫أن زاوية (ب)‬ ‫ال‪ :‬إذا علمنا ّ‬
‫مث ً‬
‫تساوي زاوية (ج)‪ .‬ولكن لـم نعلم هل زاوية (أ) تساوي زاوية (ج) أو ال‪.‬‬
‫حل الـمشكلة‪ ،‬واكتشاف حكم القضية‬ ‫ِ‬
‫يكونان مفتاح ًا لـ ّ‬ ‫ِ‬
‫متقدمان‪،‬‬ ‫فالعلمـ ِ‬
‫ان الـ‬
‫بأن زاوية (أ) تساوي قطع ًا زاوية (ج)؛ وذلك ّ‬
‫ألن‬ ‫الثالثة‪ ،‬فال نتحرج هنا من القول ّ‬
‫قانون الـمساواة من القضايا البديـه ّية ا ّلتي يدركها العقل يف األمور الكم ّية‪ .‬وهكذا إذا‬
‫كان زيد وعمرو متساويني يف الطول‪ ،‬وعمرو وبكر متساويني فـي الطول‪ ،‬فزيد وبكر‬
‫هـمـا متساويان يف الطول‪.‬‬
‫بدهييات عقل ّي ٍة‪ ،‬ولو‬
‫ٍ‬ ‫فالقضايا الـمجهولة الـمشكوكة صح ًة وبطال ًنا‪ ،‬تنتهي إلـى‬
‫بوسائط متعدّ ٍ‬
‫دة‪ ،‬وهي الكاشفة لصدقها أو بطالهنا‪.‬‬
‫أن التجربة ا ّلتي احتلت الصدارة يف الفلسفة والعلوم احلديثة يف جمال‬ ‫وحتّى ّ‬
‫لصحة النتيجة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معرفة عقل ّي ٍة بدهي ّي ٍة هي الضامنة‬
‫ٍ‬ ‫اكتشاف احلقائق‪ ،‬ال تستغني عن‬
‫ٍ‬
‫كافية يف هذا املجال‪.‬‬ ‫والتجربة بحدّ ذاهتا غري‬
‫وقد سبق أن ذكرنا عند البحث عن أدوات املعرفة‪ ،‬أن تبسيط نتيجة التجربة‬
‫أساسا عىل قضاء العقل ّ‬
‫بأن حكم‬ ‫ً‬ ‫قائم‬
‫وإعاممها إىل مجيع األفراد واملوارد املتامثلة ٌ‬
‫األمثال فيام جيوز وما ال جيوز واحد‪.‬‬
‫أن الفلسفة األرسطية فلسفة فكرية بحتة‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫والكثري من الـمتجدّ دين يزعمون ّ‬
‫الفلسفة الغربية احلديثة ا ّلتي وضع (بيكون) (‪1626-1561‬م) أساسها علم ّية ّتريب ّية؛‬
‫فإهنم إن أرادوا ّأهنا ال تعتمد عىل التجربة‪ ،‬فهو‬ ‫ٍ‬
‫ولكنّه زع ٌم غري خال من املغالطة‪ّ ،‬‬
‫وأن التجريبيات من‬ ‫أن الربهان يتأ ّلف من اليقينيات ّ‬
‫خاطئ جدً ا‪ ،‬كيف وقد عرفت ّ‬
‫صحة النظريات ‪-‬يف تلك الفلسفة‪ -‬تعتمدُ عىل الفكر والتع ّقل‪،‬‬ ‫أن ّ‬‫ُأصوهلا‪ .‬وإن أرادوا ّ‬
‫حتّى اإلذعان بنتائج التجربة فإنّه ال يستغني عن سند عقلـ ّي ّأولـ ّي‪ ،‬فهذا ما أثبتناه عند‬
‫البحث عن أدوات املعرفة‪.‬‬
‫‪371‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫النظرية الثانية‪ :‬التجربة هي املعيار‬


‫قد عرفت ّ‬
‫أن السائد بني الفالسفة يف معيار متييز احلقائق من األوهام هو أنّه نفس‬
‫املعرفة‪ ،‬بمعنى إرجاع القضايا النظر ّية إىل القضايا البدهي ّية‪ ،‬حتّى تكون مطابقتها هلا‪،‬‬
‫ً‬
‫دليال عىل صدقها‪.‬‬
‫واستمر الفالسفة عىل هذا االعتقاد إىل أوائل نشوء احلضارة الغرب ّية الصناع ّية‪،‬‬
‫ّ‬
‫أن معيار متييز احلقائق من األوهام‪ ،‬وكشف صواب‬ ‫عند ما زعم (فرانسيس بيكون) ّ‬
‫بيشء‪ ،‬بل هو من سنخ العمل‪ ،‬أال وهو‬ ‫ٍ‬ ‫املعارف وخطئها‪ ،‬ليس من سنخ املعرفة‬
‫التجربة واالختبار‪.‬‬
‫وقد استغلت املاد ّية هذه النظر ّية إلنكار املغيبات‪ ،‬باعتبار عدم وقوعها يف إطار‬
‫قابلة للتعرف عليها‪.‬‬ ‫احلس والتجربة‪ .‬والعوامل الغيبية ‪-‬عىل فرض وجودها‪ -‬غري ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫سابقة عىل‬ ‫إن أنصار هذه النظر ّية ال يعرتفون بمعارف عقل ّي ٍة أول ّي ٍة‬
‫ومجلة القول‪ّ :‬‬
‫ويتفرع عىل هذه‬
‫ّ‬ ‫التجربة‪ ،‬بل يرون التجارب هي األساس الوحيد للحكم الصحيح‪.‬‬
‫املقالة‪ ،‬حتديد طاقة الفكر البرشي بحدود امليدان التجريبي‪ ،‬ويصبح من العبث ّ‬
‫كل‬
‫ميتافيزيقي أو دراسة ملسائل ما وراء الطبيعة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بحث‬
‫ّ‬
‫يالحظ عىل هذه النظرية‬
‫ّأو ًال‪ّ :‬‬
‫إن هؤالء خلطوا بني تفتح العلوم الطبيعية عن طريق التجربة‪ ،‬وكوهنا هي‬
‫شك يف ّ‬
‫أن العلوم‬ ‫األول دون الثاين‪ ،‬إذ ال ّ‬
‫فاحلق هو ّ‬
‫ّ‬ ‫املعيار لتمييز احلقائق من األوهام‪،‬‬
‫لش ّلت عجلة العلوم ومل تبلغ هذا‬
‫الطبيع ّية تفتحت ونضجت يف ظالل التجربة ولوالها ُ‬
‫وحري األلباب‪ .‬وأ ّما كون التجربة هي املسلك الوحيد‬‫ّ‬ ‫احلدّ ا ّلذي أدهش العقول‬
‫زائف‪ ،‬ملا ستقف‬
‫ٌ‬ ‫كل طريق آخر إىل ذلك فهو كال ٌم‬ ‫صحة العلوم‪ ،‬وانقطاع ّ‬
‫لكشف ّ‬
‫أن اإلنسان يملك علو ًما رضوري ًة كثري ًة قبل رشوعه يف ّتاربه‪.‬‬
‫عليه من ّ‬
‫وثان ًيا‪ّ :‬‬
‫إن هذه النظر ّية نفسها ‪-‬أي كون التجربة هي املعيار‪ -‬مل تثبت بالتجربة‪،‬‬
‫فيجب عىل القائلني هبذه النظرية الربهنة عليها إ ّما بتجربتها‪ ،‬وهو غري معقول‪ ،‬أو‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 372‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫با ّدعاء ّأهنا قض ّية بدهيية ال حتتاج إىل الدليل‪ ،‬وهو ما نريده‪.‬‬
‫وصحة الفرضية‪ ،‬بل قد‬ ‫ّ‬ ‫وثال ًثا‪ :‬ال مـالزمة بني ّ‬
‫صحة النتيجة فـي مقام العمل‪،‬‬
‫فإن النسبة بينهمـا نسبة العموم والـخصوص‬‫تكون النـتيـجة صحيح ًة والفرضية باطل ًة‪ّ ،‬‬
‫كل جـو ٍز‬
‫صحة النتيجة وال عكس‪ ،‬نظـري قولنا ( ّ‬
‫دليل عىل ّ‬‫فصحة الفرضية ٌ‬
‫ّ‬ ‫الـمطلق‪،‬‬
‫مدو ٍر جو ًزا)‪.‬‬
‫كل ّ‬‫مدو ٌر‪ ،‬وليس ّ‬
‫ّ‬
‫األعم‪ ،‬نظري‬
‫ّ‬ ‫األخص عىل وجود‬
‫ّ‬ ‫وإن شئت قلت‪ :‬هؤالء استد ّلوا بوجود‬
‫حي يف البيت عىل وجود إنسان‪ ،‬وهذا خاطئ‪ .‬والشهود‬ ‫ٍ‬
‫كائن ّ‬ ‫االستدالل بوجود‬
‫والعيان ينفيان تلك املالزمة‪ ،‬وهاك بعض النامذج‪:‬‬
‫إن نظرية بطليموس ا ّلتي سادت األوساط العلم ّية قرابة مخسة عرش قر ًنا من‬‫أ‪ّ .‬‬
‫الزمن‪ ،‬كانت مبني ًة عىل مركز ّية األرض وحركة الشمس واألفالك حوهلا‪ .‬ولك ّن هذه‬
‫أن األمر عىل العكس‪ ،‬مع ّ‬
‫أن‬ ‫وتبني ّ‬‫النظرية بطلت من أساسها يف احلضارة احلديثة‪ّ ،‬‬
‫النتائج ا ّلتي كان يستخلصها املنجمون والفلكيون‪ ،‬اعتام ًدا عىل هذه الفرضية الباطلة‪،‬‬
‫صحيـح ٌة ال غبـار عليـها‪ ،‬نظـري تعيـني قـواعد الـخسـوف والكسـوف وعالمـاته وأوقاتـه‬
‫الدقيقة‪ ،‬وأوضاع اهلالل ودورة القمر الشهرية‪ّ ،‬‬
‫واّتاه القبلة‪ ،‬وخطوط الطول والعرض‬
‫وغري ذلك‪.‬‬
‫املكونة للكون أربعة‪ :‬اهلواء والرتاب واملاء‬ ‫ب‪ .‬كان السائد عند العلامء ّ‬
‫أن العنارص ّ‬
‫والنار‪ .‬والعنارص األساسية ا ّلتي يتشكل منها الطبع البدين اإلنساين أربعة ً‬
‫أيضا‪ :‬الدم‬
‫والبلغم والصفراء والسوداء‪ .‬وكان األطباء يعاجلون هبذه الفرضية كثري ًا من األمراض‪،‬‬
‫صحة نتائجهم ٌ‬
‫دليل عىل‬ ‫وكانت عملياهتم ناجح ًة‪ .‬ومع ذلك ال يمكن القول ّ‬
‫بأن ّ‬
‫صحة فرضيتهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫صحة الفرضية‪ ،‬إلمكان أن تكون‬ ‫صحة النتيجة ً‬
‫دليال عىل ّ‬ ‫ج‪ .‬من السذاجة جعل ّ‬
‫نتيج ٌة واحد ٌة مرتتب ًة عىل فرضيتني خمتلفتني‪ً .‬‬
‫مثال‪ :‬إذا أخربت مدير ّية سكك احلديد‬
‫صباحا برسعة مخسني‬
‫ً‬ ‫قطارا سينطلق من دمشق إىل املدينة املنورة الساعة الثالثة‬
‫بأن ً‬‫ّ‬
‫سيتحرك يف الساعة نفسها من‬
‫ّ‬ ‫قطارا آخر‬
‫ً‬ ‫أيضا ّ‬
‫بأن‬ ‫رتا يف الساعة‪ ،‬وأخربت ً‬
‫كيلوم ً‬
‫‪373‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يصح ملن كان له إملا ٌم‬


‫ّ‬ ‫املدينة ّ‬
‫باّتاه دمشق برسعة مائة كيلومرت يف الساعة‪ .‬فعند ذلك‪،‬‬
‫بمواقع املحطات أن يتن ّبأ ّ‬
‫بأن القطارين سيلتقيان يف حمطة كذا‪ ،‬يف الساعة الثانية عرشة‬
‫صحة ما أخربت به‬ ‫مثال‪ -‬وخيرب عنه بجزم‪ .‬واإلنسان الساذج جيعله ً‬
‫دليال عىل ّ‬ ‫ليال ‪ً -‬‬
‫ً‬
‫حتركا عىل عكس ما أخربت به املدير ّية بأن كانت‬
‫املدير ّية‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بدليل أنّه لو ّ‬
‫املتوجه إىل املدينة مائة كيلومرت‪ ،‬واملتوجه إىل دمشق مخسني كيلومرت ًا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫رسعة القطار‬
‫تتح ّقق تلك النتيجة نفسها‪ ،‬والقطاران سيلتقيان يف الوقت ّ‬
‫املعني‪.‬‬
‫وراب ًعا‪ّ :‬‬
‫إن هناك قضايا حيكم العقل بامتناعها‪ ،‬كاستحالة الدور والتسلسل‪ ،‬وليس‬
‫ألحد إنكار امتناعها‪ ،‬فمن أين وقف أصحاب هذا املذهب (التجريبي) عىل‬ ‫ٍ‬
‫استحالتها؟ فهل وقفوا عليه من طريق التجربة؟ ومن املعلوم بطالنه‪،‬؛ ّ‬
‫ألن األمور‬
‫املستحيلة معدوم ٌة رصفة‪ ،‬فكيف يمكن إجراء التجارب عليها‪ ،‬ولو وقعت تـحت‬
‫إطار التجربة ّ‬
‫لدل ذلك علـى أ ّنـها موجود ٌة ال معدومة مستحيلة‪.‬‬
‫وخامس ًا‪ :‬نحن وأصحاب هذا املذهب (التجريبي) معرتفون باملادة بمفهومها‬
‫الفلسفي‪ ،‬ا ّلتي هلا ظواهر وأعراض وصفات‪ ،‬لك ّن املادة هبذا املفهوم ال تقع يف إطار‬
‫التجربة‪ ،‬وإنّام الواقع فيه آثارها‪ ،‬فالزهرة ا ّلتي نراها عىل الشجرة‪ ،‬أو نلمسها بأيدينا‪،‬‬
‫نحس ‪-‬يف مجيع األحوال‪ -‬اجلوهر‬
‫ونحس بنعومتها‪ ،‬ولسنا نرى وال ّ‬
‫ّ‬ ‫إنّام نرى لوهنا‪،‬‬
‫املادي ا ّلذي تكسوه هذه الظواهر واألعراض‪.‬‬
‫ولذلك ذهب السذج من الطبيعيني إىل إنكار املادة قائلني ‪-‬يف املثال‪ -‬بأنّه ليس لنا‬
‫نسميه زهر ًا‪ .‬مع ّ‬
‫أن القول‬ ‫وراء الرائحة الزكية واللون األمحر والطعم اخلاص يش ٌء ّ‬
‫بوجود املا ّدة هو األساس للمذهب التجريبي‪ ،‬فال يمكن اإليامن بوجودها ّإال عن‬
‫طريق العقل‪ ،‬كام سنشري إليه عند البحث عن حدود املعرفة‪.‬‬
‫والتجربة‪ ،‬وإن مل تكن معيار ًا لتمييز احلقائق عن األوهام‪ّ ،‬إال أنّك عرفت فيام‬
‫األول للمعرفة‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫مىض ّأهنا إحدى أدوات املعرفة‪ ،‬ونضيف هنا ّأهنا املفتاح ّ‬
‫ملتحري احلقيقة إذا أعمل التجربة‪ ،‬من أن ُيعمل مفتاح ًا آخر هو العقل‪ ،‬حتّى‬
‫ّ‬ ‫ُبدّ‬
‫تنكشف له ٌ‬
‫آفاق جديد ٌة من احلقائق‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 374‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫متداخلة ال يمكن إلنسان دخول الغرفة‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫بغرف‬ ‫فاحلقائق املاد ّية واملعنو ّية أشبه‬
‫الثانية ّإال بعد دخول األوىل‪ .‬فالتجربة تفتح الغرفة األوىل‪ ،‬وال بدّ لدخول الغرفة التالية‬
‫خاص‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مورد‬ ‫إن التجربة يف‬ ‫ٍ‬
‫وبعبارة ُأخرى‪ّ :‬‬ ‫من استعامل مفاتيح ُأخر غري التجربة‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعطي للمعرفة اإلنسانية ‪-‬بمعاونة حكم العقل‪ -‬بس ًطا عرض ًيا‪ ،‬فنحكم ّ‬
‫بأن نتيجتها‬
‫شامل ٌة لعا ّمة املوارد‪.‬‬
‫ّ‬
‫ليستدل من‬ ‫وأ ّما تعميق تلك املعرفة وبسطها عمق ًا‪ ،‬فهو يرجع إىل العقل املحض‪،‬‬
‫رؤية اآلية عىل ذهيا‪ ،‬ومن اآلثار عىل مؤ ّثرها‪ ،‬كام أوضحنا ذلك فيام سبق‪ .‬وتأيت اإلشارة‬
‫إليه عند البحث عن حدود املعرفة‪.‬‬

‫النظرية الثالثة‪ :‬الغلبة آية الحق‬


‫انترش يف هذه اآلونة األخرية بني الشباب املتأثرين باملاركسية(‪- )1‬ا ّلتي تداعت‬
‫احلق وعالمته‪ .‬وليست هذه الفكرة حديثة‪،‬‬ ‫ُأسسها وبدأت باالهنيار‪ّ -‬‬
‫بأن الغلبة آي ُة ّ‬
‫إن املُلك ملن غلب‪ ،‬يريدون ّ‬
‫أن احلق ملن‬ ‫جذور يف التاريخ‪ ،‬كيف وقد قيل قدي ًام‪ّ :‬‬
‫ٌ‬ ‫بل هلا‬
‫غلب‪ .‬وانترش يف األلسن قول شاعر العهد األموي‪:‬‬
‫وامل ْلك بعد أيب ليىل ملن َغ َلبا‬ ‫أرى ف ـتـن ـ ًة تـغ ـل ـي مـراجـلـهـا‬
‫ٍ‬
‫طائفة‬ ‫فرد أو‬‫وهذا املبدأ غري صحيحٍ عىل إطالقه‪ ،‬بل ال بدّ من التفريق بني غلبة ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يصح‬
‫احلق‪ ،‬فإنّام ّ‬
‫الغلبة آية ّ‬ ‫عىل فرد أو طائفة‪ ،‬وغلبة منهجٍ عىل منهجٍ ‪ ،‬ولو ّ‬
‫صح جعل‬
‫طائفة أو ٍ‬
‫دولة عىل مثلها‬ ‫ٍ‬ ‫فإن لغلبة ٍ‬
‫فرد أو‬ ‫يف القسم الثاين ‪-‬عىل ما سنرشحه‪ -‬ال األول‪ّ .‬‬
‫باحلق والباطل‪.‬‬
‫عوامل كثرية ال صلة هلا ّ‬
‫نعم‪ ،‬إذا كان اقتفاء منهجٍ سب ًبا لغلبة أصحاب املنهج اآلخر‪ ،‬فهذا من آيات أحق ّية‬
‫املنهج الغالب وبطالن املنهج املغلوب‪ ،‬كام يشري إليه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ‬
‫ﲍﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ﴾(‪ ،)2‬وإليك البيان‪:‬‬

‫‪)1( MSIXRAM.‬‬
‫(‪ )2‬سورة اإلرساء‪.81 :‬‬
‫‪375‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يتصور‬ ‫ٍ‬
‫طائفة ُأخرى وتتغ ّلب عليها‪ ،‬وقد‬ ‫أن طائف ًة تثور عىل‬
‫نحن نرى يف احلياة ّ‬
‫ّ‬
‫أن الغلبة هنا‪ ،‬غلبة منهاجٍ عىل منهاج‪ ،‬ولكن ً‬
‫كثريا ما ي ّتفق أن يكون‬ ‫اإلنسان الساذج ّ‬
‫ِ‬
‫املنهجني ال ّلذين تتبنامها أو‬ ‫ألي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫من قبيل غلبة طائفة عىل طائفة من دون أن يكون ّ‬
‫ٍ‬
‫دخالة يف تلك الغلبة واملغلوب ّية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طائفة‪ ،‬أدنى‬ ‫تنسب إليهام ّ‬
‫كل‬
‫وألجل إيضاح احلال نم ّثل بمثالني‪:‬‬
‫األول‪ :‬كان الرصاع بني أمري الـمؤمنني عيل بن أيب طالب‪ ،‬ومعاوية‪،‬‬
‫الـمثال ّ‬
‫استمر سنني عديدة‪ ،‬وانتهى بانتصار جيش معاوية‪ ،‬وانـهزام جيش‬
‫ّ‬ ‫رصا ًعا عني ًفا‪،‬‬
‫مترد عىل ويص‬
‫احلق‪ ،‬ومعاوية عىل الباطل حيث ّ‬ ‫عيل‪ .)1(‬وال ريب ّ‬
‫أن عل ًّيا كان عىل ّ‬
‫النبي ّأو ًأل‪ ،‬و ُمنتخب املهاجرين واألنصار ثاني ًا‪ ،‬فكيف ُتفرس إ ًذا هذه الغلبة؟‬
‫ٍ‬
‫طائفة عىل‬ ‫إن هذه الغلبة مل تكن غلبة منهجٍ عىل منهج‪ ،‬بل كانت من قبيل غلبة‬ ‫ّ‬
‫طائفة‪ ،‬وهناك فروض متعدّ دة يمكن االستعانة هبا عىل تفسري هذه الغلبة‪ ،‬مثل أن يقال‪:‬‬
‫إن العراقيني‪ ،‬لتخ ّلفهم عن منهاج اإلمام عيل‪،‬‬ ‫إن الشاميني تغ ّلبوا عىل العراقيني‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬
‫حالفتهم اهلزيمة‪ .‬والوقائع التارخي ّية تشهد عىل ذلك‪ ،‬كيف وقد كان عيل‪ ‬يشتكي‬
‫من أهل العراق ختاذهلم عنه‪ ،‬وتقاعسهم عن ح ّقه‪.‬‬
‫ِ‬
‫أن هؤالء القوم سيدالون‬ ‫ظن ّ‬‫يقول‪ ‬فـي إحدى ُخطبه لـهم‪« :‬إ ّنـي وال ّلـه ألَ ُّ‬
‫وتفر ِقك ْم عن ح ِّقك ْم‪ ،‬وبمعصيتك ْم إما َمكم‬ ‫ُّ‬ ‫منكم‪ ،‬باجتامعهم عىل باطلهم‪،‬‬
‫وبادائ ِه ْم األمانة إلـى صاحبهم وخيانتكم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وطاعت ِه ْم إما َمهم يف الباطل‪،‬‬ ‫يف احلق‪،‬‬
‫ب خلشيت ْ‬
‫أن‬ ‫وفسادكم‪ ،‬فلو ائتمنت َأ َحدَ كم عىل ق ْع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وبصالحهم فـي بالدهم‬
‫فأ ْب ِد ْلني‬
‫وسئِموين‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللهم ّإين قد َمل ْلته ْم وم ّلوين‪َ ،‬و َسئ ْمته ْم َ‬
‫ّ‬ ‫يذهب بعالقته‪،‬‬
‫رشا مني‪.‬‬
‫خريا منهم‪ ،‬وأبدهلم يب ًّ‬ ‫هبم ً‬
‫ث قلو َبـهم كمـا يمـاث الـ ِم ْلح فـي الـمـاء‪ .‬أما واهلل َل َو ِددت َأ َّن لـي‬ ‫اللهم ِم ْ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫فارس من بني فراس بن َغنْم‪.‬‬ ‫بكم ألف‬
‫املرة قبل وقوعها‪ ،‬نظري قوله يف إحدى خطبه‪« :‬أما واهلل ليسلط ّن عليكم غالم‬
‫عيل‪ ‬خيرب عن النتيجة ّ‬
‫(‪ )1‬لقد كان ٌّ‬
‫ِ‬
‫ثقيف‪ ،‬الذ ّيال امليّال‪ ،‬يأكل خرضت ُكم‪ ،‬ويزيل شحمت ُكم»‪ .‬الحظ هنج البالغة‪ ،‬اخلطبة‪.116 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 376‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫(‪)1‬‬
‫فوارس مثل ْأر ِم َي ِة احلميم»‬ ‫ت أتـاك منهـم‬
‫هنالك لو َد َعـ ْو َ‬
‫فاإلمام‪- ‬يف هذه الكلامت‪ -‬يكشف النقاب عن العوامل ا ّلتي أ ّدت إىل هزيمة‬
‫تتلخص يف خت ّلف أتباعه عن األصول احل ّقة ا ّلتي جيب عىل الشعب االلتزام‬
‫جيشه‪ ،‬وهي ّ‬
‫هبا ّتاه قائده‪ ،‬بينام كان أتباع معاوية جيسدوهنا يف جمتمعهم‪ .‬وهذه األُصول هي‪:‬‬
‫التفرق واالختالف‪.‬‬
‫‪ .1‬توحيد الكلمة ووحدهتا‪ ،‬ويقابله ّ‬
‫التمرد عليه وعصيانه‪.‬‬
‫‪ .2‬إطاعة القائد‪ ،‬ويقابلها ّ‬
‫‪ .3‬أداء األمانة إىل اإلمام‪ ،‬ويقابله خيانتها‪.‬‬
‫‪ .4‬إصالح البالد‪ ،‬ويقابله اإلفساد فيها‪.‬‬
‫حقة‪ ،‬وكان اإلمام‪،‬‬ ‫هذه األصول ا ّلتي جاءت فـي كالم اإلمام‪ ،‬وهي ُأصول ّ‬
‫داع ًام هلا‪ ،‬والنرص حليف العمل هبا‪ ،‬ولك ّن العراقيني خت ّلفوا عنها‪ ،‬بينام تفانى فيها‬
‫الشاميون‪ .‬فال ُتعدّ غلبتهم‪ ،‬غلب ًة لـمنهج معاوية ا ّلذي كان مبتن ًيا عىل مبادئ ال توافق‬
‫جسد ألصول اإلسالم ومبادئه‪.‬‬ ‫تعاليم اإلسالم‪ ،‬عىل منهج اإلمام عيل‪ ،‬املُ ِّ‬
‫أن البالد اإلسالم ّية قد صارت يف هذه األزمان فريس ًة للغربيني‪،‬‬
‫الثان‪ :‬نحن نرى ّ‬
‫وأن الغرب والرشق بمعسكريه االشرتاكي والرأساميل‪ ،‬رضبا املسلمني رض ًبا عني ًفا‪،‬‬‫ّ‬
‫يشء نالته أيدهيم‪،‬‬‫ٍ‬ ‫وأغارا عىل ثقافتهم ومعارفهم واقتصادهم وثرواهتم‪ّ ،‬‬
‫وكل‬
‫أن ذلك من قبيل غلبة منهج عىل منهج آخر‪ّ ،‬‬
‫وأن اإلسالم صار‬ ‫فاإلنسان الساذج يزعم ّ‬
‫ساذج ال يثبت ّإال بعد‬
‫ٌ‬ ‫زعم‬
‫مغلو ًبا باملسيح ّية املزعومة‪ ،‬أو املاركس ّية امللحدة‪ ،‬ولكنه ٌ‬
‫نفي سائر الفروض ا ّلتي تصلح لتفسري هذه الغلبة‪ ،‬ومنها ما سنوضحه‪.‬‬
‫ّ‬
‫استغل الغربيون هذه الفكرة للدعاية ملصاحلهم‪ ،‬فرتى املسترشقني والقسيسني‬ ‫وقد‬
‫إن الطريق الدمث لتمييز احلق عن الباطل هو مالحظة آثار الديانتني‪:‬‬ ‫يقولون‪ّ :‬‬
‫بلد أرشقت عليها شمس املسيح ّية تنعم بالرفاه ّية‬ ‫كل ٍ‬ ‫أن ّ‬
‫املسيح ّية واإلسالم‪ ،‬فإنّا نرى ّ‬
‫بلد حيكمه اإلسالم تسود فيه األم ّية والتخ ّلف‬ ‫وكل ٍ‬‫والعمران والتقدم احلضاري‪ّ ،‬‬
‫دليال عىل كون األوىل ح ّقة والثانية باطلة‪.‬‬
‫واالنحطاط‪ ،‬أو ليس هذا ً‬
‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ ،‬اخلطبة‪.25 :‬‬
‫‪377‬‬ ‫مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام |‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إن املسيحية واإلسالم شجرتان ُغرستا يف املجتمعات اإلنسان ّية‪ّ ،‬إال إ ّن‬
‫ويقولون‪ّ :‬‬
‫أن ثمرة شجرة املسيح ّية‬ ‫السبيل السهل ملعرفة حقيقة الشجرة هو ثمرهتا‪ ،‬ونحن نرى ّ‬
‫هي العلم والتمدّ ن‪ ،‬وثمرة شجرة اإلسالم خالف ذلك‪.‬‬
‫فيفرسون تقدّ م البالد‬
‫السذج‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مغالطات حمضة‪ ،‬يتأ ّثر هبا‬
‫ٌ‬ ‫ولك ّن هذه الكلامت‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫وتفوقه عىل املنهج‬ ‫املسيح ّية ّ‬
‫وتأخر اإلسالم ّية‪ ،‬بتقدم املنهج النرصاين ّ‬
‫ا ّدعا ٌء حمض‪ ،‬ال يثبت ّإال إذا كانت البالد اإلسالم ّية إسالمي ًة ح ًّقا‪ ،‬وكانت السيادة فيها‬
‫لإلسالم اإلسالم‪ ،‬وكانت البالد املسيح ّية مسيح ّية ح ًّقا والسائد عليها هو الدين‬
‫ّ‬
‫نستدل بنجاح أحد املنهجني عىل اآلخر بكونه ح ًّقا‬ ‫املسيحي‪ ،‬فعند ذلك يمكن أن‬
‫واآلخر ً‬
‫باطال‪.‬‬
‫فإن كال األمرين منتفيان‪ ،‬فليست البالد اإلسالم ّية إسالم ّي ًة‬
‫ولكن حلسن احلظ‪ّ ،‬‬
‫إسالمي‪ ،‬وال الـ ُح ّكام املتصدّ ون للحكومة إسالميون‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫حقيقي‪ ،‬وال النظام‬
‫ّ‬ ‫باملعنى الـ‬
‫القوانني اإلسالم ّية هي املط ّبقة يف املجتمع‪ ،‬وإنّام حيملون اسم اإلسالم يف تلك‬
‫ٍ‬
‫حدود ما‪ -‬سائدً ا فيها‪ ،‬كانت مزدهر ًة بالعلم‬ ‫املجاالت‪ .‬ويوم كان اإلسالم ‪-‬ولو إلـى‬
‫والعمران‪ ،‬حليفة الرقي والتقدّ م‪ ،‬وكانت البالد األوروب ّية والغرب ّية عا ّمة ‪-‬بام ّأهنا كانت‬
‫متمسك ًة باملسيح ّية املزعومة‪ -‬متدهور ًة‪ ،‬ال أثر لعل ٍم فيها وال حلضارة‪ ،‬يعيش أهلها عيش‬‫ّ‬
‫الوحوش وحتكمهم قوانني الغاب‪.‬‬
‫وعند ما انقلب األمر وخلعت البالد اإلسالم ّية ربقة اإلسالم عن عنقها‪ ،‬انقلبت‬
‫رأسا عىل عقب‪ ،‬ورحلت عنهم العلوم واملعارف؛ وبذلك ي ّتضح ّ‬
‫أن اهلزيمة‬ ‫حضارهتم ً‬
‫كانت ناّتة عن االبتعاد عن اإلسالم‪ ،‬واالنحالل من االلتزام بمبادئه و ُأصوله وفروعه‪،‬‬
‫أن غلبة الغرب ناّت ٌة عن طرده للمسيح ّية املزعومة ا ّلتي كانت حتارص العلم والعلامء‪،‬‬
‫كام ّ‬
‫ومتسكه بأسباب احلضارة‬‫وتعذب املكتشفني واملخرتعني‪ ،‬وتنرش اخلرافات واألساطري‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫واألُصول اإلنسان ّية التي لـم يزل اإلسالم داع ًيا إليها‪ ،‬واتّصاله باحلضارة اإلسالم ّيـة‬
‫واقـتبـاس علومها وإكامل مسريهتا‪ .‬واهلل تعاىل يعلم إىل متى تستمر هذه الغلبة ‪-‬وبوادر‬
‫انحاللـهم ويقظة الـمسلمني قد ظهرت‪ -‬وهلل سبحانه سنن ال تتخ ّلف‪ ،‬قال سبحانه‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ | 378‬نظر ّية املعرفة ‪ /‬ج‪ : 1‬املفاهيم التأسيس ّية‬

‫﴿ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ﴾(‪﴿ ،)1‬ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ‬


‫ﳉ﴾(‪﴿ ،)2‬ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ﴾(‪.)3‬‬
‫صحيح‪ّ ،‬إال أنّه جيب ضم‬ ‫شجرة ُتعرب عن ماهيتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬‫أن ثمرة ّ‬‫فام ذكروه من ّ‬
‫ٌ‬
‫أخر نتيـج ُة‬ ‫أن هذه الثمرة لـهذه الشجرة‪ّ ،‬‬
‫وأن التـ ّ‬ ‫أن نعلم ّ‬ ‫ٍ‬
‫معرفة ُأخرى إليـه‪ ،‬وهي ّ‬
‫تطبيـق اإلسالم فـي هـذه األعصـار‪ ،‬والتقـدّ م نتيج ُة تطبيق الـمسيح ّية كذلك‪ .‬وهذا‬
‫العلم منتـ ٍ‬
‫ف‪ ،‬بل الواقع هـو العـلم بخـالفـه‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫***‬

‫الـمـصـادر‬
‫‪ .1‬القرآن الكريم‬
‫‪ .2‬اإلمام عيل بن أيب طالب‪ .‬هنج البالغة‪ .‬مجعه‪ :‬الرشيف الريض‪.‬‬
‫‪ .3‬فيلسني شاله‪ .‬الفلسفة العلمية‪ .‬ترمجة‪ :‬د‪ .‬حييى مهدوي‬
‫‪ .4‬الطباطبائي‪ ،‬حممد حسني‪ .‬امليزان يف تفسري القرآن‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة الفتح‪.23 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة فاطر‪.43 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة آل عمران‪.140 :‬‬

You might also like