Professional Documents
Culture Documents
كتاب نظرية المعرفة الجزء الاول
كتاب نظرية المعرفة الجزء الاول
المعرفةّ
ّ نظريّـةّّ
وبحـوثٌ ٌ
دراسـاتٌٌ ٌ
الجزءٌاألولٌ ٌ
ٌ
المفاهيمّالتأسيسية
اسم الكتاب :نظرية املعرفة؛ دراسات وبحوث /اجلزء األول :املفاهيم التأسيسية.
إعداد وتحرير :د .عامر عبد الرزاق الصغري.
التصحيح اللغوي :د .فضاء ذياب.
التصميم واإلخراج الفني :أمحد الرصايف.
النارش :العتبة العباسية املقدسة /املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيجية.
الطبعة :األوىل ،العراق ،النجف األرشف 2023 /م.
www.iicss.com
islamic.css@gmail.com
دراسات إبستمولوجيّة
« ّ ٌ»ّ1
ة
نـظـريّـةّّالـمـعـ ّرفـ ّ
دراساتٌوبحوثٌ ٌ
لٌ
الجزءٌاألو ٌ
ٌ
ةّ
فـاهـيـمّالتأسيـسـيّ ّ
المـ ّ
إعدادٌوتحريرٌ ٌ
الرزاقّالصّغيرّ ّ
دّ.عمارّعبدّ ّ
ّ
املحتويات
ّ
ّ
ّ
ّ
ّ
.1مفهوم نظر ّية املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة الشيخ غالم رضا الف ّياض11 ...........
.4املعرفة الحضور ّية والحصول ّية الشيخ سامر توفيق عجمي133 .................................
.6العقل من منظار نظر ّية املعرفة د .محمد حسي زاده235 ......................................
.7معيار البداهة التص ّورية ف املفاهيم البديه ّية السيد يد الله يزدان بناه309 ..............
وتتم ّثل أ ّ
مهيتها يف تعميق الوعي بمصادر املعرفة ،واالختيار السليم هلا،
وتعـزيـز القـدرة علـى تعيني بؤر الـخطـأ فـي الفكـر ،وتشخيـص الص ـواب فـي
أي إشكال ّي ٍة معرف ّي ٍة عرب ٍ ٍ
البحث العلمي ،بوساطة مـمـارسة دقيقة الستقراء ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 8
اإلسالمي للدراسات
ّ ويمثل تأسيس (دراسات إبستمولوج ّية) من قبل (املركز
ٍ
حارضة يف واقع الفكر املعارص، ت معرف ّي ٍة
االسرتاتيجية) استجاب ًة واعي ًة ملتطلب ّا ٍ
ّ
معريف حاس ٍم يف املسائل األساس ّية ٍ
يسعى بوساطتها الـمركز إىل ا ّتـخاذ موقف
ٍّ
لنظر ّية املعرفة ،ممّا يسهم يف معاجلة قضاياها املركز ّية ،وبيان مآالهتا الفكر ّية.
البحثي سلسل َة أعامله بإصداره ّ
األول (نظر ّية ّ ّ
يستهل هذا الـمرشوع هنا
ٍ
واحد استقل ُّ
كل ّ املعرفة :دراسات وبحوث) ،الذي انتظم يف أربعة حماور رئيسة،
خاص:
ّ ٍ
بكتاب منها
ً
متناوال األول بعنوان( :الـمفاهيم التأسيس ّية لنظر ّية الـمعرفة)،
جاء املحور ّ
مفهوم نظر ّية املعرفة ،وتأرخيها ،وعالقتها بالعلوم املسانخة هلا ،ومراحل املعرفة،
وأدواهتا ،وأركاّنا ،وأنواعها ،وموانعها ،ومعيار متييز احلقائق فيها.
ليبني معامل نظر ّية الـمعرفة يف
وجاء املحور الثاين بعنوان( :الـمعرفة الدين ّية) ّ
القرآن الكريم ،وأخالق ّيات حتصيل املعنى ،واحلدود املمكنة واملمتنعة يف ذلك.
اإلسالمي)،
ّ وأ ّما املحور الثالث املوسوم بــ(الت ّيارات واملدارس املعرف ّية يف الفكر
لنظرية املعرفة عند املدارس الفلسف ّية ،والكالم ّية، ّ وتقييام
ً تضمن وص ًفا
ّ فقد
اإلسالمي.
ّ والعرفان ّية ،واألصول ّية يف الفكر
الغرب)،
ّ وجاء املحور الرابع املعنون بــ(الت ّيارات واملدارس املعرف ّية يف الفكر
ليختتم حماور اإلصدار األول ،متناوالً بيان نظر ّية املعرفة عند املدارس الغرب ّية
مثل :الشكوك ّية السفسطائ ّية ،اهلرمنيوطيق ّية ،والتفكيك ّية ،والسيميائ ّيـة.
وعـلـى هـذا التأسـيس جاءت مـحـاور الدراسـة لتغـ ّ
طـي مسـاحة األهـداف
والغـايـات الـمطـلوبة.
ٍ
جمموعة اجلامعي أخذ طريقه إىل االكتامل بمشاركة يب
ّ هذا املرشوع االستكتا ّ
وأخالقي، علمي، ٍ
مستويات رئيسة: من الباحثني ،وكان العمل فيه عىل ثالثة
ّ ّ
كذات علم ّي ٍة فـي
ٍ األول تـح ّقق موضوع الباحث وحضوره ومنهجي ،يتابع ّ
ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 10
االختصاص نفسه ،وقدرته عىل اإلنجاز وتـحقيق الـموضوع ،مضا ًفا إلـى الدقة
وهيتم الثاين بتحقيق أخالق ّيات البحث وأمانته العلم ّية،
ّ العلم ّية يف اإلنجاز،
املنهجي فهو ملتابعة استيعاب الباحث ألسس املوضوع ،وتبويبه
ّ وأ ّما الثالث
املنهجي ،وتراتب ّية موضوعاته ،واستعامله للمصادر ،وطبيعة توظيفها ،ونوعها،
ّ
والنتائج التي ح ّققها.
ـثي يتقـدّ م
وعرفـانًا بإسهـامات البـاحثـني املشاركني فـي هذا الـمشــروع البح ّ
اإلسالمي لـهم بوافر الشكر والتقدير علـى ما جادت به أفكارهم،
ّ الـمركز
جهود علم ّي ٍة كريمة.
ٍ وس ّ
طرتـه أقالمهم من
املؤسسات التي رفدت املرشوع ٍ
يرسنا أن نتقدّ م بمزيد من الشكر إىل ّ
كذلك ّ
مؤسسة الدليل للدّ راسات
كل منّ :ـمهمة للكتاب ،وهي ٌّ
ببعض البحوث ال ّ
والبحوث العقد ّية التابعة للعتبة احلسين ّية املقدّ سة ،ومركز الـحضارة لتنمية
الفكر اإلسالمي ،ودار املعارف ِ
احلكم ّية. ّ
تنضم إىل ما كتب يف هذا املجال،
ّ أن يـح ّقق هذا الكتاب إضاف ًة علم ّي ًة
نأمل ْ
مواكبات عرص ّي ٍة
ٍ وبذلك يشارك املركز اإلسالم ّي يف رفد الفكر بام يتط ّلب من
مهم ٍة فـي الـمعرفة والـمنهج.
ّ
أهل بـيت ِـه
حمم ٍد وعىل ِ ِ ّ
وصىل اهلل عىل رسوله األمني ّ رب العاملني،
والـحمد هللِ ِّ
ـني الطاهرين.
الطـ ّيب َ
(**)
الشيخٌغالمٌرضاٌالفياضي
***
ّ
املبـحـث األول
تعريف نظر ّية املعرفة
رضورة البحث يف نظر ّية املعرفة
نحو من الـميل وانعقاد القلب أن املعرفة رشط اإليامنّ ،
وأن اإليامن الذي هو ٌ تقدّ م ّ
التصور والوعي ،وإن مل يكن األمر كذلك ّ سابقة معرف ّي ٍة من سنخٍ ال يتبلور من دون
بصورة م ّط ٍ
ردة بعد العلم واملعرفة( ،)1ولذا ٍ ألن االيامن حال ٌة اختيار ّي ٌة ،فال يتج ّلی
دائام؛ ّ
ً
ٌ
رشط من ألن املعرفة ِ
العامل ُ تعل ًقا قلب ًّيا بام علم وأدرك يف احلاالت كا ّفة؛ وذلك ّ ال جيد
رشوط اإليامن ،ال ع ّلة تا ّمة له ،وما مل تتح ّقق سائر الرشوط التي من مجلتها (غريزة
احلق) ال يتح ّقق اإليامن.طلب ّ
والذي ينبغي التن ّبه لهّ :
أن انتصار الثورة يف إيران ،وإقامة نظا ٍم عىل أساس الدين
هيدّ د مصالح االستكبار العاملي الالمرشوعة ،فجعل االستكبار يسعى إىل إسقاط هذه
خمتلفة منها :احلصار االقتصادي ،واحلرب املفروضة ثامين ٍ ٍ
وحيل احلكومة بأساليب
سنوات عىل مجهور ّية إيران اإلسالم ّية ،وهناك عرشات بل مئات املحاوالت الرخيصة ٍ
لغرض الوصول إىل هذا اهلدفّ ،إال ّأهنا باءت بالفشل؛ إذ كانت ترتطم بسدٍّ مني ٍع ّ
ّتسد
بإيامن القائد والشعب بمواجهة هذه األخطار.
جبهة ُأخرى أكثر خطورةً ،وهي الغزو الثقايف؛ٍ التحرك عىل العدو ومن هنا حاول
ّ ّ
خمتلفة داخل ّي ٍة وخارج ّي ٍة لطرح
ٍ هبدف زلزلة إيامن املجتمع اإلسالمي والعمل بطرق
وبث منهجالشبهات ،وتضعيف ُأسس إيامن األفراد ،والرتويج لسياسة نفي اليقني ّ
التشكيك .ومن ُ
األمور اهلا ّمة التي سامهت يف فضح هذه السياسة انتشار الكتب واملقاالت
واملنهج االنتقائي يف ترمجة بعض الكتب الغرب ّية ،وإقامة الندوات ،واملؤمترات،
واخلطب واملحارضات .ومن هنا ُتعد الدراسة الراهنة الباحثة عن املسائل ذات العالقة
ٍ
كبرية؛ مه ّي ٍة
باملعرفة وأقسامها -ال س ّيام طريق اليقني وبيان املعرفة الصحيحة -ذات أ ّ
قديمـا
حب البـحـث حول الـجواب عـن الـمسائـل الـمطروحة ً ّ
ألن من غـرائـز اإلنسـان ّ
فـي هذا الـمجال.
فإن بلورة اإليامن الصحيح والثابت منوط ٌة باإلجابة عن هذه جهة ُأخرى ّ ومن ٍ
ٍ
كثرية ما زالت آثارها ٍ
شبهات ٍ
شافية .كام ُيالحظ اليوم إثارة ٍ
وافية ٍ
بأجوبة األسئلة
ات مستقبل ّي ٍة ،ما
ولعل بعضها يؤول إىل إشكالي ٍ
ّ السلب ّية ملحوظ ًة عىل بعض األفرادّ ،
يكشف عن رضورة طرح مباحث تندرج اليوم ضمن العلوم الفلسف ّية حتت عنوان
(نظر ّية املعرفة).
األول،Epistemology : ( )1للتعبري عن نظر ّية املعرفة يف اللغة اإلنجليز ّية يف العرص احلديث لفظان أو تعبريانّ ،
مشتق من كلمتني Episteme :بمعنى املعرفة و Logosبمعنى النظر ّية التي ُأخذت ٌّ وهذا اللفظ اليوناين األصل
منها كلمة ( )Theoryواستُعملت بمعنى نظر ّية املعرفة .الثاين Theory of Knowledge :أي :نظر ّية
األول وما زال هو اللفظ الشائع .الحظ:
املعرفة ،وهذا التعبري مل يكن سائدً ا قبل قرن بل كان اللفظ ّ
D. D. Runes (ed.), The Dictionary of Philosophy (London: Vision Press, 1942), p. 94.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 18
ٍ
إنسان ،أو مع فرض عدم موض ًعا للدراسة ،بل هي ثابت ٌة حتّى مع فرض عدم وجود
فإن هذه احلقائق ثابت ٌة جدًّ ا ،ويمكن أن مت ّثل اخلطوة األُوىل يف ٍ
معرفة لديه؛ ّ حصول
معرفة اإلنسان.
ٍ
ثم يقع البحث يف هذه قسام من العلوم يتو ّقف عىل معرفة أخریّ ،
ولكن هناك ً
بنظرة خارج ّي ٍة إلی تلك املعرفة نفسها .فموضوع البحث والدراسة فيها املعرفة
ٍ العلوم
نفسها.
سمى معارف من الدرجة وهذه العلوم التي يكون موضوع البحث فيها املعرفة ُت ّ
ٍ
توضيحات علم ال ُيقدّ م أ ّية
الثانية ،كاملنطق الذي ُيعدّ من معارف الدرجة الثانية؛ فإنّه ٌ
عن العامل والواقع ّيات املوجودة فيه ،بل وظيفته تصحيح املعلومات الذهن ّية لإلنسان
ٍ
جديدة ُأخر عىل ٍ
معلومات وبيان نحو االستخدام الصحيح هلا ،لغرض احلصول عىل
التصورات والتصديقات.
ّ مستوى
والغرضّ :
أن علم املعرفة يندرج حتت علوم الدرجة الثانية ،كام أشري إىل ذلك غري
يتم البحث حول معلومات اإلنسان من خالل النظر إلی ٍ
مرة ،ويف هذا الفرع من العلم ّ
ّ
اخلارج وإعامل املنهج العقيل.
لكن الغرض األسايس هنا هو تقييم اعتبار املعارف ،وبيان ما تنقسم إليه معارف
اإلنسان ،وطرق الوصول إليها ،وحتديد ما هو الصحيح والسقيم من املعلومات
ٍ
واحد من هذه الطرق ،وبيان ضابطة احلاصلة من هذه الطرق املتك ّثرة ،وقيمة ّ
كل
املعارف الصحيحة ،إلی غري ذلك من األسئلة املبحوث عنها يف هذا العلم.
ٍ
واحد منهام. يف حدود املعرفة املبحوث عنها يف ّ
كل
إن املعارف التي تقع موض ًعا ٍ
ببيان آخر نقولّ : نوضح التقسيم
ولو أردنا أن ّ
معني ،بل تشمل مجيع معارف اإلنسان ،و ُأخرى تتناول ٍ
بمجال ّ ٍ ختتص
للبحث تار ًة ال ّ
خاصا من العلوم البرش ّية .ففي الصورة األُوىل ُيوصف علم املعرفة بوصفًّ نطا ًقا
(املطلق) ،ويف الصورة الثانية ُيوصف بـ(املضاف) أو (املق ّيد).
أنموذجا من نظر ّية املعرفة املضافة؛
ً أن علم الـمعرفة الدين ّية يم ّثل
ومن هنا يتّضح ّ
إذ ُيبحث فـي هذا القسم من املعارف الدين ّية عن مسائل من قبيل :وجود التعارض يف
للتغري وعدمها ،وقابل ّية الـمفاهيم
ّ القضايا الدين ّية وعدمه ،وقابل ّية الـمعارف الدين ّية
والقضايا املبحوث عنها يف النصوص الدين ّية للفهم وعدمها ،وواقع ّية الفرض ّيات الدين ّية
وحقيقتها ،وأمثال ذلك.
أن مساحة البحث يف علم املعرفة الدين ّية ال تشمل ّإال املعارف ومن الواضح ّ
الدين ّية ،وال عالقة له باملعارف البرش ّية األُخرى.
وكيفام كان فموضوع البحث يف الفصول القادمة نظر ّية املعرفة املطلقة واملسائل
ذات الصلة هبا.
الطبيعة يش ٌء ممك ٌن ،ولذا مل يكن يصدر منهم ّإال ما ينسجم مع مسائل نظر ّية املعرفة
فرجح ٍ ٍ
حينئذ ،فكان بعضهم ً
مصدر آخرّ ، مصدرا من املعرفة عىل
ً مثال ُيقدّ م املعهودة
كل من هرقليطس( )1وبارمنيدس( )2العقل عىل سائر مصادر املعرفة ،فيام طرح علامء ٌّ
مر ٍة بحث الشعور( ،)3وم ّيز بارمنيدس بني احلقيقة والظاهر(.)4
ألول ّ
الذرة ّ
ّ
ستمر احلال عىل هذا املنوال إىل زمان
ولكن هذه املباحث مل تأخذ طاب ًعا جدّ ًّيا ،وا ّ
السوفسطائ ّيني الذين كانوا يشكّكون يف حصول املعرفة مطل ًقا.
الشك والشكّاكني هو سقراط ،فأثبت إمكان ّ ٍ
فيلسوف وقف أمام ت ّيار ثم ّ
إن ّأول ّ
ثم
حصول املعرفة ،فيام طرح بعده تلميذه أفالطون الـمسائل األساس ّية فـي الـمعرفةّ ،
ثم قدّ م الباحثون والـمفكّرون تصوراته عن نظـر ّية الـمعرفة ّ ،
()5
ليحرر ّ
ّ جاء أرسطو
واستمر الـحال إلـى القرون الوسطـى وإلـى ما
ّ ارائهم املختلفة ذات الصلة بالـمعرفة،
بعد عرص النهضةّ ،إال ّ
أن نظر ّية الـمعرفة حينها لـم تكن مـح ًّطا لألنظار بوصفها فر ًعا
علمـ ًّيا مستـ ًّ
قال.
ّ
الشك عىل املرسح وقد ظهرت إىل الوجود يف تلك احلقبة الزمن ّية الطويلة مذاهب
ات ،وإن واجهت مبانيهم النقد الالذع من أتباع القائلني بإمكان املعرفةاملعريف عدّ ة مر ٍ
ّ
واليقني(.)6
علمـا مكتو ًبا.
ويف ضوء هذا اخ ُتلف حول ّأول من أسس نظر ّية الـمعرفة بوصفها ً
بحث حول فهم اإلنسان) للفيلسوف ٍ
كتاب فـي نظر ّية املعرفة هو ( ٌ ()7 ّ
ولعل ّأول
جان لوك ( )1704-1623التجريبي الربيطاين الذي عاش فـي القرن السابع عرش
الـميالدي.
التحوالت الفلسفية بعد عرص النهضة نظر ّية املعرفة كفر ٍع من العلوم،
ّ ولقد أفرزت
وشغلت السجاالت الكالم ّية حول موضوعاته ومسائله أذهان وألسنة الكثري من
متنوع ٌة ومتعدّ د ٌة يف نظر ّية املعرفة.
العلامء ،كام ظهرت عىل أثر ذلك مذاهب ّ
تأريخ نظر ّية املعرفة عند العلامء املسلمي
يمر عىل نشوئها وظهورها يف ٌ
طويل ،وأنّه مل ّ ٌ
تاريخ أن نظر ّية املعرفة ليس هلا تقدّ م ّ
أيضا أنّه مل ُتطرح مباحث نظر ّية املعرفة يف ٍ
قرون ،كام ُيالحظ ً الغرب سوى ثالثة
مستقل ،وإن تناولت بعض أبحاث الفلسفة اإلسالم ّية غري ٍّ ٍ
بشكل الفلسفة اإلسالم ّية
ٍ
واحدة من مسائل نظر ّية املعرفة.
ٍ
بنحو مستق ٍّل هو ثبات مكانة العقل دليل عىل عدم طرح هذه البحوث أهم ٍ ّ
ولعل ّ
يف الفلسفة اإلسالم ّية ،وإن طعن البعض ّ
وبث الشبهات يف موقع العقل عند العلامء
رضرا حقيق ًّيا بمكانته وعدم تزلزله املسلمنيّ ،إال ّ
أن هذه الشبهات مل تستطع أن ُتلحق ً
عندهم.
نعم ،عىل إثر دخول األفكار واملذاهب واال ّتـجاهات الغرب ّية ذات الصلة بنظر ّية
املعرفة إىل الدول اإلسالم ّية ،أدىل بعض املفكّرين املسلمني بدلوه يف بيان ُأطروحته يف
نظر ّية املعرفة ،وبذلك ُأتيح ٌ
مناخ جديدٌ هلذا النوع من البحوث.
ّ
ولعل ّأول من بادر إلـى تنظيم مباحث نظر ّية الـمعرفة عىل الصعيد اإلسالمي هو
حمد حسني الطباطبائي ،فإنّه من خالل طرحه آلرائه فـي كتابه ّ
العالمة الشهري مـ ّ
( ُأصول الفلسفة واملذهب الواقعي) ،خطى اخلطوة األُوىل ّتاه إعطاء مباحث نظر ّية
ثم أكمل هذه الـمسرية من بعده بعض تالمذته وغريهم من ًّ
مستقالّ ، الـمعرفة طاب ًعا
املفكّرين والباحثني(.)1
( )1ملزيد من اال ّطالع راجع :حسن مع ّلمي ،نظرة حول نظر ّية املعرفة يف الفلسفة اإلسالم ّية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 22
أن سقراط وأفالطون وأرسطو .5يمتدّ تاريخ علم املعرفة إىل ما قبل سقراطّ ،إال ّ
ٍ
بشكل واسعٍ ،وتصدّ وا للر ّد تناولوا املباحث ذات الصلة بنظر ّية املعرفة يف فلسفتهم
ّ
الشك السائدة آنذاك. علی ت ّيارات
ٍّ
مستقل فـي القرون األخرية حتّى انترش ٍ
بنحو وال خيفى أنّه مل تظهر نظر ّية املعرفة
ًّ
مستقال علمـا
بحث حول فهم اإلنسان) للمفكّر جان لوك ،فظهر بوصفه ً كتاب ( ٌ
بالتدريج فـي األوساط الغرب ّية.
واحد من مسائل ومباحث نظر ّية املعرفةٍ أ ّما عىل مستوى العامل اإلسالمي ّ
فإن غري
وإن كانت مبثوث ًة يف آثار علامئنا املنطق ّية والفلسف ّية والكالم ّية ،غري ّأهنم إىل عرصنا
ًّ
مستقال. الراهن مل يفردوا له بح ًثا
إن ّ
العالمة الطباطبائي كان ّأول من طرح مباحث نظر ّية املعرفة ويمكن أن ُيقالّ :
ٍ
ومنتظمة عىل الصعيد اإلسالمي. بصورة منهج ّي ٍة
ٍ
***
ّ
املبحث الثـان
نظر ّية املعرفة والعلوم املسانخة لها
نظر ّية املعرفة واملنطق
أن مر ٍة ّ
أن علم املنطق ونظر ّية املعرفة علامن من الدرجة الثانية ،بمعنى ّ مر غري ّ
ّ
كليهام يبحث عن معارفنا وأحكامها وقوانينها(.)1
ٍ
واحد ويدور البحث هنا حول املائز بني هذين العلمني ،الذي أ ّدى إىل اعتبار ّ
كل
ٍ
منفصلة عن اآلخر. مستقال ذا هو ّي ٍة
ًّ علام
منهام ً
إن التاميز الذي أ ّدى إىل انفصال ٍّ
كل من العلمني عن اآلخر والذي ينبغي أن ُيقالّ :
يكمن يف نحو الرؤية والنظر يف ٍّ
كل منهام.
املعرف واحل ّجة، ّ
إن املتأ ّمل يف مسائل علم املنطق وموضوعه يرى أنّه يبحث يف ّ
التصور ّية والتصديق ّية ،ليغدو املجهول معلو ًما عندنا.
ّ ويتناول طرق تنظيم معلوماتنا
ٍ
وبعبارة ُأخرى :ك ّلام أمكن لنا أن نن ّظم املفاهيم طب ًقا للرشوط املب ّينة يف موطنها ،كنّا
التعرف عىل املجهول( )2الذي ليس لنا معرف ٌة به أو ال نملك معرف ًة دقيق ًة عنه.
أقدر عىل ّ
قررنا املعلومات التصديق ّية بالشكل الصحيح ووف ًقا للضوابط واملعايري ثم إنّنا إذا ّ
ّ
املعهودة ،فإننا سنتمكن من تبديل الـمجهول التصديقي إىل معلو ٍم ،وسنستطيع يف كال ٍم
ٍ
واستدالل علمي صحيح. ٍ
تعريف ٍ
واحد تقديم
ينصب حول الفكر والـمعرفة ،ولذا أطلق عليه بعضهم
ّ إ ًذا فالكالم يف املنطق
(منهج الفكر).
يبني لنا ً
مثال الطريقة العمل ّية لالستدالل ،وإنّا إذا أردنا أن أن املنطق ّوالغرضّ :
صحيحا ما ّد ًة وصورة، نستدل علی ٍ
يشء ما كيف نن ّظم املقدّ مات حتّى يكون االستدالل ّ
ً
( )1إ ّن هذا العلم يتناول العلم احلضوري واحلصويل عىل حدٍّ سواء ،بخالف علم املنطق الذي يبحث يف العلم احلصويل
خاص ًة .وبام ّ
أن العلمني يبحثان يف العلم احلصويل ويشرتكان يف بيان أحكامه وقوانينه ،فال بدّ من معرفة وجه ّ
االفرتاق بينهام من هذه اجلهة.
( )2أي :جاز لنا تعريفه يف ضوء اصطالح املناطقة.
25 مفهوم نظريّة املعرفة وعالقتها بالعلوم املسانخة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ٍ
نظرة أخرى بلحاظ إراءة العلم للواقع وعدمها، وقد ننطلق يف احلكم من خالل
أي :النظر إىل قيمة هذه املعارف ،ويف هذا الفرض يكون نظرنا يف قضايا نظرية املعرفة
التي ُتعدّ من معارف الدرجة الثانية.
ٍ
جهات واملقوالت األخالق ّية املبحوث عنها يف فلسفة األخالق يمكن دراستها من
ٍ
ثالث:
خصوصا
ً األُوىل :من ناحية معاين املفاهيم املستخدمة يف املقوالت األخالق ّية،
املفاهيم التي تقع يف املحمول أو املسند فيها.
الثانية :من الناحية املعرف ّية التي ُيبحث فيها عن مسألة الصدق والكذب
ومعيارمها يف املقوالت األخالق ّية.
الثالث :من الناحية الوجود ّية ،أعني :البحث عن نحو وجود هذه املقوالت
وحقيقة وجودها أو اعتبار ّيته ونحو ذلك.
أثرا بال ًغا عىل بحوث ومنه يتّضحّ :
أن قضايا نظر ّية املعرفة ونتائج أبحاثها ترتك ً
فلسفة األخالق.
أيضا نظر ًة عقالن ّي ًة ونقد ّي ًة للمفاهيم واملسائل
أن لفلسفة الدين ً ومن نافلة القول ّ
أيضا ارتبا ًطا وثي ًقا بنظر ّية املعرفةّ ،
فإن تأثري نظر ّية املعرفة عىل الدين ّيةّ ،
وأن هلذا العلم ً
ٍ
ناحية ُأخرى لو بحثنا ُأ ّمهات مسائل فلسفة الدين ممّا ال ينبغي االرتياب فيه ،ومن
وتأ ّملنا يف بعض معطيات فلسفة الدين ،الهتدينا الطريق إىل غري واح ٍد من قضايا
نظر ّية املعرفة.
ومثال عىل ذلك مقولة (اإليامن) التي هي من مباحث فلسفة الدين ونظر ّية املعرفة
الدين ّية عىل حد سواء؛ إذ ُيبحث عن ماه ّية اإليامن ،وطبيعة العالقة بني اإليامن واملعرفة،
كام يقع الكالم فيها يف املسائل التالية :هل اإليامن من سنخ املعرفة أو من سنخ العمل
اجلانحي والتصديق القلبي؟ وهل تساهم املعرفة يف زيادة اإليامن؟ وهل يؤ ّثر اإليامن
ّ
يف نضوج العلم أو ال؟
وكذا القضايا الباحثة حول لغة الدين وتعدّ د القراءات يف النصوص الدين ّية
ّ
متجذرة أهم مسائل فلسـفة الدين الـ
والتعدّ د ّية الدين ّية وحقيقة الوحي وأمثالـها فتـشكّل ّ
فـي نظـر ّيـة الـمعـرفـة.
واضحا عىل البحوث املذكورة ،فعىل
ً تأثريا أن ّ
الّتاهات نظر ّية املعرفة ً و ُيالحظّ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 30
مثال ال يمكن يف فلسفة الدين االعرتاف بنظر ّية القبض االّتاه التأسييس ً أساس ّ
والبسط ،خال ًفا للقول بالنزعة الرتابط ّية ،حيث يمكن القبول هبذه النظر ّية القائمة عىل
ٍ
ضعيفة جدًّ ا. ُأ ٍ
سس
قامئة املصادر
.1برتراند راسل ،تاريخ الفلسفة الغرب ّية ،ترمجة نجف دريابندري ،طهران ن نرش بروانه.1373 ،
.2حسن مع ّلمي ،نظرة إىل نظر ّية املعرفة يف الفلسفة اإلسالم ّية .طهران ،حتقيقات الثقافة والفكر
اإلسالمي.1378 ،
.3ديفيد هاملني ،تاريخ نظر ّية املعرفة .ترمجة شابور اعتامد ،طهران ،حتقيقات العلوم اإلنسانية
واملطالعات الثقافية.1374 ،
.4فردريك كايلستون ،تاريخ الفلسفة ،ترمجة جالل الدين جمتبوي ،طهران ،نرش العلمي والثقايف،
.1362
5. D. D. Runes (ed.), The Dictionary of Philosophy (London: Vision Press,
1942),.
***
ّ2
( *)
أدوات املعرفة ومراحلها
(**)
المرجعٌالدينيٌالشيخٌجعفرٌالسبحاني
(*) مصدر البحث :نظر ّية املعرفة :املدخل اىل العلم والفلسفة
واإللهيات( ،الفصل الرابع) .بقلم الشيخ حسن ميك العاميل.
إيران :قم ،مؤسسة اإلمام الصادق1429 ،هـ.
(**) من مـراجـع التـقـليـد الشـيعـة /قــم املـقـدسـة.
الـمـلـ ّخـص
تشكّل أدوات املعرفة عند اإلنسان طري ًقا إلدراك املعارف واكتساهبا ،إذ من دوهنا
ال يمكن حتصيل املعرفة ،ويف هذا البحث يعدّ آية اهلل السبحاين احلس ،والقلب،
واإلهلام ،واإلرشاق ،والوحي ،من أبرز أدوات املعرفة باإلضافة إىل التمثيل واالستقراء
واحلس.
ّ جيا من العقل
والتجربة ،عا ًّدا الثالثة األخرية مز ً
احلس يتجهز العقل اإلنساين بالبدهي ّيات والنظر ّيات واملسلامت،
بوساطة أدوات ّ
احلس طري ًقا منفر ًدا لتحصيل املعرفة ،وإنّام هو قاعد ٌة تستند إليها األدوات
ّ وليس
التصورات
ّ فاحلس هو البنية األساس ّية التي تقوم عىل معطياهتا
ّ املعرف ّية األخرى،
التصورات عنها .أ ّما العقل
ّ احليس ال يتعدّ ى املحسوسات ،ونقل البرش ّية ،واإلدراك ّ
ّخذا من االستنتاج وإدراك املفاهيم ٍ
إدراك إىل آخر ،مت ً فمجاله اإلدراك واالنتقال من
ً
وجماال ينتقل هبا الكل ّية ،والتجزئة والتحليل والرتكيب ساح ًة لعمل ّياته العقل ّية،
ٍ
فكرة إىل أخرى. ٍ
معلومة أو لتحصيل املعرفة من
يشء إىل ٍ
يشء آخر ويعدّ التمثيل أدا ًة للمعرفة بام له من منهجي ٍة يف إرساء حك ٍم من ٍ
ّ
معرفة أسبق ،فام يثبت لألصل يثبت للفرع. ٍ ٍ
مشرتكة بينهام؛ فهو ّيولد املعرفة من ٍ
جلهة
احلس ،ومن جهة إحراز ّ حتصل املعرفة بأداة
فمن جهة املشاهبة بني األصل والفرع ّ
حتصل املعرفة بأداة العقل .وعىل
بأن الفرع مثل األصل يف احلكم ّ املالك يف ثبوت احلكم ّ
هذا املبدأ جاء االستقراء والتجربة من خالل اجتامع اجلزئ ّيات لتوليد معرفة كل ّية.
تتطهر
يتجهز هبام من ّ
ّ أيضا اإلهلام واإلرشاق اللذان
ومن أدوات املعرفة األخرى ً
قلوهبم ،وتصفو أذهاهنم لتتل ّقى املعارف ممّا وراء الطبيعة ،ال س ّيام عند اإلهليني ال
حس وال
خاص وليس كسائر أدوات املعرفة ،فال هو ٌّ ٌّ ٌ
إدراك املا ّديني .وأ ّما الوحي فهو
شك فيه ،وال حيتاج إىل إعامل ٍ
نظر ،أو التامس دليل. عقل ،وال ُيغلط يف إدراكه ،وال ُي ٌّ
األول من البحث ،أ ّما عن القسم الثاين منه فهو مراحل املعرفة،
ما تقدّ م هو القسم ّ
بأهنا مرحل ٌة
تضمن بيان األقوال املختلفة يف مراحل املعرفة ،التي كانت بني قول ّ
وقد ّ
احلس أو العقل -فديكارت ً
مثال واحدةٌ؛ ّ
ألن أداة املعرفة عنده واحدة ،كأن تكون ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 36
ويف ضوء ذلك ،ال بدّ لنا من حتليل أدوات املعرفة ،واحدة بعد األُخرى لنستكشف
مدى اعتبار كل منها.
***
األوىل :الـحـس
احلس يقع ضمن ُأمور:
البحث يف أداة ّ
الحس من أدوات املعرفة
ّ األمر األ ّول:
احلس من أوثق مصادر املعرفة ،إليه تنتهي كل املعارف الرضورية والنظرية، ّ
ولواله ملا كانت هناك معرفة عقلية وال إرشاقية .وهذا ال يعني انحصار أداة املعرفة به،
فإن هذا ضالل وخداع ،بل إ ّن لنا إىل ذلك وأنّه ليس لنا إىل دار املعرفة طريق سواهّ ،
أن إعامل األدوات األُخر يتوقف عىل ّ
ّتهز أن املراد هو ّ
طر ًقا خمتلفة يأيت بياهنا ،بيد ّ
ألن ذلك ك ّله معدّ إلدراك العقل
احلس ،وارتباطه باملحسوساتّ ،
ّ اإلنسان بأدوات
علام .ولو ُوجد إنسان فاقدٌ
حسا فقد فقد ً
البدهييات والنظريات .ولذلك قيل :من فقد ًّ
عاجزا عن تصور املعارف البسيطة ً
فضال عن املعارف النظرية ً جلميع احلواس ،لكان
الدقيقة.
الحيس قيمة علمية؟
ّ األمر الثان :هل لإلدراك
قد سبق أن وقوف اإلنسان عىل بعض األخطاء يف اإلدراكات احلس ّية خري دليل
أن هناك حقائق مس ّلمة تدركها البارصة بالعني ،والسامعة باألُذن ،والالمسة باليد
عىل ّ
وغريها ،... ،إذ لو ال كونه كاش ًفا عن املعرفة الصحيحة ،فمن أين وقف عىل ّ
أن هذا
احليس أو ذاك خطأ غري صحيح.
ّ اإلدراك
باحلس أن يعطوا
ّ وقد كان املرتقب من احلسيني الذين حيرصون أدوات املعرفة
املعرفة احلس ّية سمة املعرفة اليقينية الصحيحة ،ولكنهم ذهبوا إىل خالفه ،وحرصوا
قيمتها يف اإلعانة عىل ُأمور احلياة ومشاكلها ،ال أكثر ،كام عرفته يف فلسفتي «ديكارت» و
حس اإلنسان ال يعدو عن كونه يدفع عنه أمل اجلوع ،والعطش،
«لوك» .فكل ما يؤ ّديه ّ
39 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والربد القارس ،واحلرارة الالفحة ..ويساعده عىل متييز النافع من الضار ،واملصالح من
وأهنا تنتهي إىل الشك يف كثري من املجاالت.
املفاسد .وقد وقفت عىل فساد هذه النظرية ّ
الحس هو األداة الوحيدة لإلدراك؟
ّ األمر الثالث :هل
ّ
إن احلسيني ويف مقدمهم «جان لوك» حاولوا إرجاع مجيع التصورات واألفكار
احلس ،وقد شاعت هذه النظرية بعده بني فالسفة أوروبا وقضت إىل حدّ ما عىل إىل ّ
نظرية األفكار الفطرية ا ّلتي كان يقول هبا «ديكارت»(.)1
وحاصل هذه النظرية ّ
أن ذهن اإلنسان حني يولد يكون خال ًيا من كل معرفة ،ثم
تبدأ صور األشياء املحسوسة باالنتقاش فيه من خالل ما يرد إليه عن طريق احلواس.
وبعد ذلك يأيت دور العقل والفكر ،وهو ال خيرج عن أحد األمرين التاليني :الرتكيب
والتجزئة؛ والتجريد والتعميم.
أ ّما عمل الذهن يف جمال التجزئة والرتكيب ،فكام لو رأى عن طريق البارصة ً
جبال
وذه ًبا يف اخلارج ،فريكب الذهن بينهام ويتصور ً
جبال من ذهب .أو يرى حيوانًا
فيجزئهام إىل أعضاء وأجزاء.
وشجراّ ،
ً
وجيردها عن وأ ّما عمله يف جمال التجريد والتعميم فهو ّ
بأن يفرز خصائص الصور ّ
عام حييط
فيجردهم ّ
وبكراِّ ،
وعمرا ً
ً مشخصاهتا ويرتك مفاهيمها العامة ،كام إذا رأى زيدً ا
باحلس ليس فكرة جديدة ظهرت بني األوروبيني ،بل هلا جذور يف التاريخ .فإن «السمنِ ّية»
ّ إن حرص مناشئ العلم )ّ (1
من حكامء اهلند والصني ،زعموا أنّه ال ُيعلم يشء ّإال من طريق احلواس اخلمس ،وأبطلوا العلوم النظرية .وألجل
ذلك شطبوا عىل املذاهب ك ّلها.
صحة مذهبكم. ّ
(املتوّف 429هـ)« :ويلزمهم عىل هذا القول إبطال مذهبهم ،إذ يقال هلم :بامذا عرفتم ّ قال البغدادي
فإن قالوا :بالنظر واالستدالل ،لزمهم إثبات النظر واالستدالل طري ًقا إىل العلم بصحة يشء ما ،وهذا خالف قوهلم.
باحلس يشرتك يف معرفته أهل احلواس السليمة ،فام بالنا ال نعرف صحة قولكم
ّ باحلس ،قيل هلمّ :
إن العلم ّ وإن قالوا:
باحلس ،ولكنكم جحدّ تم ما عرفتموه ،مل ينفصلوا ممن عكس
ّ بحواسنا .فإن قالوا :إنّكم قد عرفتم صحة قولنا،
عليهم هذه الدعوى وقال هلم :بل أنتم عارفون بصحة قول خمالفيكم وفساد قولكم بالرضورة احلس ّية ،ولكنكم
حسا»( .الحظُ :أصول الدين.)11-10 :جحدّ تم ما عرفتموه ًّ
ويف هذه املناسبة نذكر ّأهنم اختلفوا يف الفاضل من العلوم احلسية والنظرية ،فقدّ م أبو العباس القالنيس العلوم النظرية
ألهنا ُأصول هلا( .املصدر السابق.)10 : عىل احلس ّية ،وقدّ م أبو احلسن األشعري العلوم احلس ّية عىل النظرية ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 40
هبم ويالبسهم من املشخصات ،ويأخذ بالقدر املشرتك وهو اإلنسانية .وهكذا احلال
احلس.
يف سائر أدوات ّ
وقد اشتهر قول املبرش هبذه النظرية« :ليس من يشء يف العقل ّإال وله أثر يف ّ
احلس».
احلس ومعطياته،
وعىل ضوء ما تقدم يكون الرصيد الوحيد للمعارف البرشية هو ّ
وأ ّمـا دور الذهـن والعقل فينـحصـر فـي األُمور األربعة :التجـزئـة والرتكيب والتـجـريد
والتعمـيم.
وحتليل هذه النظرية يقع ضمن األُمور التالية:
أقرت به إن ما ذكروه من ّ
أن اإلنسان يولد خايل الذهن عن كل معرفة ،أمر مسلم ّ ّ .1
ورصح به الذكر احلكيم كام تقدّ م( ،)1وإليه يشري قول أمري املؤمنني
الفالسفة مجي ًعاّ ،
عيل بن أيب طالب« :وإنّام قلب احلدث كاألرض اخلالية»(.)2
احلس هو الينبوع األسايس للتصورات والتصديقات البدهييةأن ّ .2من املس ّلم ً
أيضا ّ
احلس ،ال يستطيع أن يتصور املعاين الكل ّية والنظرية ّ
وأن من حرم لونًا من ألوان ّ
احلس اخلاص ،ومن فقد مجيع حواسه ،عجز عن إدراك أبسط
ذات العالقة بذلك ّ
املعارف وتصورها.
.3إنّا نفنّد حتديد دور العقل يف جمال املعرفة بالتجزئة والرتكيب ،والتجريد والتعميم،
احلس هو الينبوع األسايس للتصورات ،ال يسلب عن الذهن قدرة بأن ّفإن القول ّّ
باحلس ،فليس من الرضوري أن يكون قد سبق
ّ توليد معان جديدة مل تدرك
تصوراتنا البسيطة مجي ًعا ،اإلحساس بمعانيها.
فاحلس ،عىل ضوء ما أثبتته التجارب ،هو البنية األساسية ا ّلتي يقوم عىل قاعدهتا
رصح التصورات البرشية ،ولكن ذلك ال يعني ّتريد الذهن عن ابتكار تصورات
احلس .كيف ،وقد سبق منا
وتصديقات جديدة عىل ضوء التصورات املستوردة من ّ
القول -عند البحث عن تعريف العلمّ -
بأن هناك مفاهيم تصورية باسم املعقوالت
) (1النحل.78 :
) (2هنج البالغة ،الكتاب :31كتابه - -لولده احلسن .- -
41 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا ما يستلزمه الدور .وعىل ضوئه ،ف ُكل فرضية علمية تعرض عىل العقل،
بأهنا حمال ،من غري فرق بني أن تكون يف باب
وكانت متضمنة للدور ،حيكم العقل ّ
الطبيعيات أو الرياضيات أو اإلهليات.
وفيام ذكرناه من األمثلة كفاية يف تبيني هذا النوع من عمليات العقل .نعم ،ها هنا
إشكال باسم مشكلة الدور يف طريق االستنتاج ،نتعرض هلا.
مشكلة الدور وحلـها
كيل ،وهي:ذكروا مشكلة يف طريق استنتاج حكم موضوع من حكم ِّ
ّ
إن استكشاف حكم املوضوع املفروض ،يتوقف عىل احلكم الكيل احلاصل لدى
العقل ،مع ّ
أن كل ّية هذا احلكم وصدقه عىل وجه العموم ،يتوقف عىل إحراز وضع هذا
املوضوع املطروح ،ولوال تبيني حاله ،ملا كان للعقل احلكم بالكل ّية ،فاملعرفة العقلية عن
هذا الطريق تستلزم الدور.
أي درجة من احلرارة ً
مثال :إذا أردنا أن نعرف حال املاء املاثل بني أيدينا ،وأنّه عىل ِّ
بأن كل ماء يغيل عىل درجة ( .)100مع الكيل القائل ّ
يغيل ،نستكشف حاله من احلكم ّ
بأن ّ
كل فرد من أفراد املياه، أن العلم هبذا احلكم ،بوصف الكل ّية ،يتوقف عىل العلم ّ ّ
حتّى هذا الفرد املاثل بني أيدينا ،يغيل عند هذه الدرجة .فلزم توقف التعرف عىل حكم
الكيل ،مع ّ
أن العلم بكليته وعمومه وشموله ،يتوقف اجلزئي ،عىل العلم هبذا احلكم ّ
عىل التعرف عىل حكم هذا املاء املاثل بني أيدينا ،ا ّلذي نريد أن نتعرف عليه .وهذا ما
أن االستدالل بالعقل عن طريق الشكل األول يستلزم الدور. يقال من ّ
ففي املثال املتقدم ،يقال:
-هذا ،ما ٌء يغيل.
-وكل ماء يغيل ،درجة حرارته (.)100
فهذا ،درجة حرارته ).(100
فالعلم بالنتيجة موقوف عىل العلم بكل ّية الكربى ،كام ّ
أن العلم هبا موقوف عىل
العلم بالنتيجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 44
وهذا إشكال معروف طرحه الفالسفة اإلسالميون يف كتبهم وأجابوا عنه ،وقد
روي ّ
أن الشيخ العارف ،أبا سعيد بن أيب اخلري (ت440:هـ) ،أورد هذه الشبهة عىل
رئيس احلكامء ابن سينا إلثبات ّ
أن الفكر غري موصل لإلنسان إىل استكشاف املجاهيل،
ألن االستنتاجات ك ّلها حتصل من طريق الشكل األول ،واألشكال الثالثة األُخرى
ّ
منتهية إىل األول ،وهو مستلزم للدور.
الجواب
ُأجيب عن هذه املشكلة بوجوه خمتلفة ،أظهرها ّ
أن العلم بالنتيجة ،وإن كان
موقو ًفا عىل العلم بكلية الكربىّ ،إال ّ
أن العلم بكل ّية الكربى موقوف عىل الربهان
ّ
الدال عىل املالزمة بني بلوغ احلرارة درجة ( ،)100وغليان املاء ،من غري العلمي
مالحظة مصداق دون مصداق .فليست صحة الكربى وال كليتها متوقفتان عىل العلم
أن هذا احلكم ،حكم ّتريبي، بالنتيجة أبدً ا ،بل متوقفتان عىل وجود تلك املالزمة ،وبام ّ
يتوقف العلم بكليته عىل قياس عقيل ،وهو ما قدمنا بيانه من ّ
أن حكم األمثال فيام جيوز
وال جيوز واحد ،وال يتوقف أبدً ا عىل العلم بالصغرى.
وا ّلذي أوقعهم يف الشبهة ،هو تومههم ّ
أن الكربى حصل هبا العلم من طريق
ً
تفصيال أن احلكم الكيل فيه ،يتوقف عىل العلم بحكم املصاديق االستقراء ،ومن املعلوم ّ
أن العلم باحلكم الكيل ،تارة حيصلإمجاال ،فيلزم عندئذ الدور .ولكنهم غفلوا عن ّ أو ً
من االستقراء التا ّم ،فيحصل العلم بالنتيجة قبل العلم باحلكم الكيل ،و ُأخرى بالربهان
ّ
الدال عىل املالزمة بني املوضوع ،واملحمول .ويف مثله ،ال يتوقف العلم باحلكم الكيل،
تفصيال ،بل إذا علم من طريق الربهان ّ
أن بني ً عىل العلم بأحكام األفراد ،ال ً
إمجاال وال
غليان املاء ،وبلوغه درجة حرارة ( )100مالزمة ،حيكم ّ
بأن درجة احلرارة هي ()100
لكل مصاديق املاء ا ّلذي يغيل .فالعلم بأحكام املصاديق ،حيصل من العلم باحلكم
الكيل ،ال العكس ،كام هو مبنى الشبهة.
متغري حادث ،فالعامل حادث .هذا الربهان
متغري ،وكل ّ
مثال :إنّا نقول :العامل ّ
مركب من صغرى وكربى ،وكل منهام مربهن بالدليل العقيل ،بالبيان التايل:
45 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من باب تبديل املعرفة احلس ّية باملعرفة العقل ّية .وحاصلها ّ
أن للمعرفة مراحل ثالث:
أ .مرحلة اإلحساس.
ب .مرحلة احلفظ.
ج .مرحلة إدراك مفهوم كيل.
وإليك بياهنا.
أطل اإلنسان بنظره عىل بحرية يرى ماءها الشفاف فضة مذابة ،تغطيها صفحات أ .إذا ّ
من األمواج امللتوية التواء خفي ًفا ،فيعطيه منظر اهتزاز النسيم الرقيق ،والرياض
املط ّلة عىل ضفاف تلك البحرية ،العبقة باألزاهري والورود ،والشجية بأنغام تغاريد
وهتتز هلا الروح .فام دام
صورا هب ّية خالّبة رائعة ،تنرشح هلا النفسّ ،
ً الطيور ،تعطيه
ً
مشغوال بالتقاط تلك املناظر البهية ،فالصورة الواردة من املُبرص إىل الذهن، احلس
ّ
تسم صورة حس ّية ،من غري فرق بني البرص وغريه من احلواس .وهذه املرحلة هي
ّ
مرحلة اإلحساس.
ب .عندما تتم عملية اإلحساس وتتعطل القوى عن العمل يبقى هناك أثر يف النفس،
عرب عنه قدماء الفالسفة بالصورة احلادثة يف اخليال
وهو الصورة اخليال ّية .وهو ما ّ
()1
بعد حدوث الصورة احلس ّية ،يستحرضها اإلنسان بعد فناء احلس ّية متى شاء ،ويف
جرب ودرب. أي وقت أراد ،وهو أمر واضح لكل من ّ
مثال :بعد أن يغادر اإلنسان ضفاف البحرية و ُيق ِفل عائدً ا إىل منزله ،ربام حياول أن
ً
يستحرض ما رأى من املناظر البديعة ،فرتاه ينتقل إىل تلك الصور بال ترو ،وهذا يكشف
خاصة ليس هلا شأن ّإال صيانة تلك الصور عن الزوال ،لريجع أن يف النفس قوة ّ عن ّ
إليها اإلنسان عندما متس احلاجة ،وليس هذا شي ًئا حيتاج إىل دليل.
وهكذا األُستاذ عندما يرد إىل قاعة من قاعات الكل ّية ،املكتظة بالطالب والباحثني،
فيلقي هناك دراسة يف موضوع ،ويأخذون بالنقاش ،وبعد ساعة تنتهي املحارضة،
متس احلاجة يف وقت من
فيغادرها ،ثم يغفل عن وقائعها مدّ ة ال يستهان هبا .لكن ربام ّ
) (1املراد من اخليال معناه الفلسفي ،وهو قوة يف النفس شأهنا صيانة الصور الواردة من احلواس ،ال املعنى العريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 48
األوقات إىل رسد أو تسجيل ما شاهده من قبل وما ألقاه من نكات أو سمعه من نقاش،
فريجع إىل خزانة الصور ،ويسرتجع منها ما شاء.
التوجه
ّ والتوجه إليها يف هذا الوقت هو
ّ فهذه الصور ،هي الصور اخليالية،
واإلدراك اخليايل ،واملِحفطة ا ّلتي حفظت فيها تلك الصور هي خزانة اخليال.
والفرق بني الصورتني احلس ّية واخليالية من وجوه:
إن احلس ّية أوضح عند اإلنسان من اخليالية.ّ .1
ِ
ب رشائط خاصة ،ككون املرئي واق ًعا أمام .2الصورة احلس ّية ال تدرك ّإال غ ّ
مسموعا بكيفية خاصة ،... ،وأ ّما الصورة اخليالية ،فيمكن
ً الرائي ،والصوت
جمردة عن هذه األوضاع ،ومتثيلها يف الذهن من دون أن
استحضارها بذاهتا ّ
تقرتن بيشء منها.
.3الصورة احلس ّية ال تقع يف ُأفق اإلدراك ّإال بإعامل القوى الظاهرية ،ويدور
وجودها وعدمها مدار إعامهلا وتعطيلها ،فيكن وجود الصورة احلس ّية
رضوري التح ّقق عند اجتامع الرشائط ،كام يكون عدمها رضور ًّيا متى فقد
أحدها.
وأ ّما الصورة اخليالية ،فيمكن استحضارها بال معونة القوى الظاهرية احلس ّية ،بل
املالك يف وجودها هو تعطيل احلواس عن العمل ،واالعتامد عىل اإلرادة.
وعىل ذلك يمكن إحضار صورة الغائب أو صوته ،باالعتامد عىل القوة اخليالية،
وأ ّما صورته احلس ّية فتتوقف عىل حضور املرئي وتك ّلمه والنظر إىل وجهه واالستامع
إىل صوته.
املخصصات عنِّ صورا متشاهبة أو متامثلة يف ذهنه ،وميز
ً ج .إذا استحرض اإلنسان
املشرتكات ،وترك األُوىل وأخذ بالثانية ،فالصورة املأخوذة هي الصورة العقلية،
وذلك كام لو أحرض صور زيد وعمرو وبكر من خزانة اخليال ،فرأى بينها عدّ ة
ومشخصات ،من طول وقرص ،وبياض وسواد ،فيرتك املميزات ويأخذ ّ مميزات
املشرتك أو املشرتكات ،وهذه الصورة احلاصلة املشرتكة هي الصورة العقلية.
49 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف اإلسالميون يف كيفية وقوف اإلنسان عىل هذا املفهوم الكيل إىل
نظريتني:
.1نظرية اإلبداع واخلالقية
ذهب الشيخ الرئيس ابن سينا إىل ّ
أن النفس فاعل إهلي ختلق الصور واملفاهيم
الكل ّية يف الذهن .فوقوفها عىل الصورة احلس ّية واخليالية يعطيها قدرة اخللق واإلبداع،
فتخلق املفاهيم الكل ّية يف صقع الذهن.
.2نظرية التكامل واالرتقاء
أن وقوف النفس عىل هذه الصور( )1العقلية ،إنّام هو من املتأهلني إىل ّ
ذهب صدر ّ
باب تر ّقي املعرفة من درجة إىل ُأخرى ،فكام ّ
أن الصورة احلس ّية تأخذ باالرتقاء وتتبدل
إىل املعرفة اخليالية ا ّلتي هي ألطف من األُوىل ،فهكذا ترتقى املعرفة اخليالية إىل معرفة
ألطف وأكمل ،وهو الـمفهوم الكلـي الصادق عىل أفراد كثريين .وليست الرابطة بني
الصورتني رابطة التوليد واإلنتاج وإنّام هو ارتقاء صورة من منزلة إىل منزلة ُأخرى.
جردة عن الـجهـة
نعم ،هناك فرق بني الـخيالية والعقلية ،فالـخيالية وإن كانت مـ ّ
واخلصوصيات ،لكنها جزئية ال تنطبق ّإال عىل فرد واحد ،بخالف الصورة العقلية،
فإهنا كل ّية(.)2
ّ
***
ثالثًا :تصنيف املوجودات
ّ
إن من عمليات العقل ،تصنيف الـموجودات وتأليف املختلفات تـحت مفهوم
واحد ،ف ُيدخل األنواع الكثرية تـحت الـجوهر ،وعدّ ة من األعراض تـحت الكيف،
و ُأخرى حتت الكم .وهكذا.
ويطلق عىل وجود اجلوهر( :)1الوجود النفيس ،وعىل وجود األعراض :الوجود
الرابطي ،وعىل وجود احلرف :الوجود الرابط.
قال احلكيم السبزواري:
ث ـم ـة نـف ـسـ ـي فـ ـه ـاك فـ ـاض ـ ـبـ ـ ِ
ط إن ال ـ ـ ـوج ـ ـ ـود راب ـ ـ ـ ٌط ورابـ ـ ـط ـ ـ ـي
ّ
()2
ُ ٌّ
قسموا األعراض إىل أقسام تسعة ،وهي :الكم ،والكيف ،والوضع ،واألين،
وقد ّ
واجلدة ،ومتى ،والفعل ،واالنفعال ،واملضاف.
قال احلكيم السبزواري:
()3
فِـعـ ـ ٌل مـضـ ـ ٌ
اف وان ـف ـعـ ـ ٌال ثـ ـبـتـ ـا ف وض ـ ُع ع ـني ل ـه مـتـ ـى
ك ـ ٌم وكـيـ ـ ٌ
وربام جيعلوهنا ثالثة :الكم ،والكيف ،واألعراض النسبية ،وهي شاملة لبقية
األعراض.
وليس التصنيف والتأليف وإدخال األُمور املختلفة حتت مفهوم واحدً ،
خمتصا
باألُمور املادية ،بل يقوم به العقل يف األُمور النفسية ً
أيضا ،فيقول ً
مثال :البخل ،واحلسد،
والعشق واملحبة ،من احلاالت النفسانية .وك ّلها تدخل حتت كيف نفساين .كام يقول:
إن األلوان واألشكال -من مربع ومثلث -ك ّلها من حاالت اجلسم ،وتدخل حتت ّ
كيف جسامين .إىل غري ذلك من عمليات التصنيف والتأليف يف كل علم.
***
راب ًعا :التجزئة والتحليل
ّ
إن من عمليات العقلّ ،تزئة مفهوم واحد إىل مفاهيم كثرية ،كتحليل اإلنسان إىل
احليوان الناطق ،وحتليل احليوان إىل اجلسم املتحرك باإلرادة ،وحتليل اجلسم إىل ما له
أبعاد ثالثة ،وغري ذلك من التحليالت اجلسامنية والنفسانية.
والفرق بني التصنيف والتجزئة واضح جدً اّ ،
فإن عمليتي التصنيف والتحليل
) (1والواجب أي ًضا.
) (2رشح املنظومة.56 :
) (3املصدر السابق.132 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 52
أشبه ببناء املخروط .فالتصنيف يرشع من قاعدة املخروط حتّى يصل إىل رأسه ،فيجمع
املختلفات حتت مفهوم واحد .والتحليل يرشع من رأس املخروط ،ثم حيلل شي ًئا فشي ًئا
حتّى ينتهي إىل قاعدته.
***
خامسا :الرتكيب والتلفيق
ً
ومن عمليات العقل ،التلفيق والرتكيب:
أ ّما التلفيق ،فيكون يف جمال التصور ،حيث يقوم العقل باجلمع بني بسيطني وإبداع
يشء ثالث منهام يف صقع الذهن ،كتصور فرس بجناحني.
وأ ّما الرتكيب ،فيكون يف جمال التصديق ،حيث يقوم العقل برتكيب قضيتني
ويستنتج منهام نتيجة قاطعة.
وقد اعتنت الفلسفة الغربية هبذا القسم من عمليات العقل ،وركز عليهام الفيلسوف
الطائر الصيت «جان لوك» وبعده «كانت» ،فجاءا بمفاهيم جديدة يف الفلسفة.
***
سادسا :درك املفاهيم اإلبداعية
ً
وإن من عمليات العقل ،صنع مفاهيم ليس هلا يف اخلارج مصداق تنطبق عليه،
وإن كان العقل ال يستغني عن حلاظ اخلارج يف صنعها .وبعبارة ُأخرى :ليس هلا مصداق
يف اخلارج ،وإن كان هلا منشأ انتزاع.
وهذا كمفهومي اإلمكان واالمتناع ،فليس لنا فـي الـخارج يشء نسميه باإلمكان
أو نسميـه باالمتنـاع ،وإنّمـا هـمـا من الـمفاهيم اإلبداعية للنفـس بعـد قيـاس الـمـاهيـة
إلـى الـخارج .فإذا الحظ مفهوم «اإلنسان» ،ورأى ّ
أن نسبة الوجود والعـدم إليـه فـي
الـخارج سواء ،يصفـه بأن ّـه مـمكن الوجود ،ويبـدع مفهوم اإلمكان وليـس لـه مصـداق
فـي الـخارج ،إذ ليست التسوية أمـ ًرا متحق ًقا فيـه حتّى تـقـع مصدا ًقا لإلمكان ،ومثـله
االمتناع ،كمـا إذا الحظ مفهوم اجتامع النقيضني ورأى ّ
أن ا ّتصافه بالوجود يف اخلارج
53 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غري قابل للتحقق ،فيصفه بأنّه مـمتنع الوجود ،فيبدع مفهوم االمتناع ،وليس لالمتناع
مصداق فـي اخلارج.
وكم للنفس من مفاهيم إبداعية ليس هلا مصاديق خارجية ،وإن كان هلا مناشئ.
وإن املفاهيم االعتبارية ،ا ّلتي عليها مدار احلياة يف املجتمع البرشي ،ك ّلها مفاهيم
ّ
إبداعية ،وإن كان للخارج تأثري يف انتقال النفس إىل هذه املفاهيم وصنعها وجعلها،
كمفهوم الرئاسة واملرؤوسية ،والبيع واإلجارة يف االعتباريات االجتامعية ،والسببية
والرشطية واملانعية يف األُمور االعتبارية الترشيعية.
هذا ،والفالسفة اإلسالميون يعدّ ون مفهوم الوجود من املفاهيم اإلبداعية ،ا ّلتي
ليس هلا مصداق يف اخلارج ،فليس نسبة مفهوم «الوجود» إىل اخلارج ،كنسبة مفهوم
«اإلنسان» إىل زيد وعمرو .وال يعني ذلك إقرارهم باعتبارية الوجود وأصالة املاهية،
أيضا يعرتفون به .وقد أفاضوا القول يف إثبات ذلك(.)1
بل القائلون بأصالة الوجود هم ً
***
الثالثة :التمثيل
من الوسائل ا ّلتي يتوصل هبا اإلنسان إىل املعرفة ،ويرفع هبا األستار عن وجه
(.)2
احلقائق :التمثيل ،االستقراء ،والتجربة
وقد كان األغارقة -وباألخص أرسطو ( 322-384ق .م) يف منطقه -يعتمدون
يف أبواب املعرفة عىل هذه الوسائل ،وإن كان اعتامدهم عىل التجربة أقل ،وإنّام شاع
سالحا صار ًما يف كشف احلقائق ،يف عرص النهضة الغربية(،)3 االعتامد عليها ِ
واختذت
ً
حتّى ّأهنا احتلت مكان التعقل والربهنة يف العلوم الطبيعية ،ولقد كان هذا االحتالل
يف حم ّله ،غفل عنه األقدمون من الطبيعيني حني كانوا يعتمدون يف كشف احلقائق
الطبيعية عىل االستدالل والربهنة من دون جعلها حتت بوتقة التجربة .ونخص البحث
يف هذا املقام بالتمثيل( ،)1فنقول:
التمثيل :هو إرساء حكم من يشء إىل يشء آخر جلهة مشرتكة بينهام.
جزئي آخر مشابه له.
ٍّ جزئي ،لثبوته يف
ٍّ وبعبارة ُأخرى :هو إثبات حكم يف
و ُيعرف التمثيل يف عرف الفقهاء بالقياس ،وهو أحد احلجج ا ّلتي تعتمد عليه أكثر
املذاهب الفقهية السنية ،وسيظهر لك فيام يأيت مدى إمكان االعتامد عليه.
ومثال التمثيل يف الرشيعة :استنباط حكم النبيذ من حكم اخلمر لتشاهبهام يف جهة
اإلسكار ،فيقال ّ
إن النبيذ حرام كاخلمر ،الشرتاكهام يف اإلسكار.
ً
مأخذا يف املسائل كثريا ما يكون
وال تنحرص االستفادة منه يف جمال الفقه ،فإنّه ً
ً
مشتمال الفردية واالجتامعيةُ .أفرض أنك قرأت كتا ًبا من كاتب ،فوجدته كتا ًبا ناف ًعا
عىل دقائق علمية .ثم سمعت أنّه قد ُنرش له كتاب آخر ،فتحكم -بواسطة التمثيل-
أيضا نافع ،الشرتاكهام يف كوهنام صادرين من مؤلف ومفكّر واحد.
بأنّه ً
وللتمثيل أركان أربعة:
األول املعلوم ثبوت احلكم له ،كاخلمر.
.1األصل ،وهو اجلزئي ّ
.2الفرع ،وهو اجلزئي الثاين املطلوب إثبات احلكم له ،كالنبيذ.
.3اجلامع ،وهو جهة الشبه بني األصل والفرع ،كاإلسكار.
.4احلكم ،وهو ما ُعلم ثبوته لألصل ،والغرض إثباته للفرع ،كاحلرمة.
فإذا تو ّفرت هذه األركان ،حتقق التمثيل ،ولو فقد واحد منها ،اختلت أركانه.
وثبوت اجلامع ووجه الشبه حيصل بطرق ثالثة:
األول :الدوران ،وهو ترتب احلكم عىل الوصف ا ّلذي له صالحية العل ّية ،وجو ًدا
ّ
مسكرا ،حرا ٌم ،فإذا زال عنه
ً وعد ًما ،كرتتب احلرمة يف اخلمر ،عىل اإلسكار ،فإنّه ما دام
اإلسكار ،زالت احلرمة .والدوران عالم ُة كون املدار -أعني الوصف -ع ّلة للدائر ،أي
احلكم.
) (1وسيأيت الكالم يف كل من االستقراء والتجربة منفر ًدا.
55 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
) (1الوسائل ،18 :كتاب القضاء ،الباب 6من أبواب صفات القايض ،احلديث .10والحظ أحاديث الباب.
) (2الوسائل ،1 :أبواب املاء املطلق ،الباب ،14احلديث 6و .7صحيحة إسامعيل بن بزيع عن اإلمام الرضا .- -
57 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
) (1وأ ّما الربهان ،فال صلة له بالتمثيل واالستقراء ،إذ ليس اجلزئي هناك موجبًا للمعرفة ،بل هو االستدالل بالعام
عىل اخلاص ،أعني االستدالل بالكربى الكليّة عىل مقدمة كليّة ،كام سيوافيك بيانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 58
وما ذكره القدماء أمر متني ،إذا فرسنا العلم باالعتقاد اجلازم ا ّلذي ال نحتمل
أن االستقراء الناقص ال ينتج هذهخالفه أبدً ا ،حتّى واحدً ا يف املليار .ومن املعلوم ّ
النتيجة ،إذ االحتامل املخالف -ولو بصورة ضئيلة -موجود يف الضمري ،وهو عىل
طرف النقيض من العلم.
والعلم هبذا املعنى هو مصطلح منطقي ،غري ّ
أن العقالء -يف فروضهم العلمية-
يكتفون بام هو أدون من ذلك .فلو تبني حال موضوع بنحو يطمئن إليه الفؤاد ،وكان
ضئيال إىل حدّ ال تتوجه إليه النفس ،يسمون االستقراء ً
دليال علم ًيا ً االحتامل املخالف
ال ظن ًيا ،وذلك إلمهاهلم االحتامل املخالف الضئيل املكنون يف الذهن .وهذا هو الرائج
يف التحليالت االجتامعية والعلمية .وإليك مثال يف غري االستقراء:
لو وقع حريق مهيب يف معمل من املعامل ،وجاء اخلُرباء لتحقيق منشئه ،وحتديد
يستقر نظرهم
ّ فاعله ،فيفرتضون عدّ ة فروض ،ثم ير ّدون الواحد منها تلو اآلخر ،حتّى
مثال -أن تكون النار قد انقدحت من احتكاك أسالك كهربائية عىل أقواها وهو ً -
أوجدت يف البداية حري ًقا فـي زاوية معينة من املعمل ثم انترشت إلـى سائر أرجائه.
فيخرجون هبذه النتيجة ،ويعلنون عىل املأل أن سبب احلريق هو ذلك.
ومع ذلك ك ّله ،فاخلرباء لـم يـحصل لـهم اليقني القاطع ّ
بأن هذا هو سبب احلريق
مرت فوقال غري ،علـ ًام ال حيتمل معه أي احتامل آخر ،كاحتامل أن تكون الطائرة ا ّلتي ّ
املعمل قبل احرتاقه ،قد أحدثت رشارة أوجدت احلريقّ .
فإن هذا االحتامل غري معدوم
ً
ضئيال للغاية .ومع ذلك فاملحللون للقضية هيملون هذا القدر عىل القطع ،وإن كان
من االحتامل وال يعتنون به.
وعىل ذلك ،فهناك نسبة خاصة بني التوغل يف االستقراء ،وضآلة االحتامل
املخالف ،فك ّلام اتّسع نطاق االستقراء ،وطرق املستقرئ كل باب يواجهه ،وقطع كل
طريق يعرتضه ،وإن مل يستوف مجيع الطرق لعدم مت ّكنه منه ،أو لوجود مانع عنه ،أو
ً
ضئيال. لوجود صوارف خاصة ،كان االحتامل املخالف لنتيجة االستقراء
وكلام ضاق نطاق االستقراء ،واكتفى املستقرئ باألقل من الكثري ،صار االحتامل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 60
ماثال يف الذهن غري غائب عنه .فغيبوبة االحتامل املخالف شدّ ة وضع ًفا ،أو
املخالف ً
ظهوره كذلك ،تابع الستفراغ الوسع وبذل اجلهد.
ولو أردنا أن نفرغ ذلك يف قالب االصطالح الريايض ،نقولّ :
إن بني قوة االستقراء
وضعفه من جهة ،وقوة االحتامل وضعفه من جهة ُأخرى ،تناسب عكيس .فكلام قوي
االستقراء وطال نطاقه ،ضعف االحتامل املخالف ،وكلام قوي االحتامل املخالف للنتيجة
ا ّلتي يفيدها االستقراء ،يكشف عن ضعف االستقراء .فلو أراد املستقرئ أن يصل إىل
القمة من العلم العريف واالطمئنان العقالئي ،فعليه أن يستفرغ وسعه إىل حدّ ينتفي
معه االحتامل املخالف من زوايا الذهن ،وإن كان ال ينعدم أبدً ا ّإال إذا كان االستقراء
تـا ًّمـا.
أن مالك احلكم يف االستقراء هو التشابه بني الشيئني ،ومن املعلوم ّ
أن ول ُيعلم ّ
املتشاهبني قد خيتلفان يف احلكمّ ،إال أنّا إذا نظرنا إىل األكثرية فوجدناها حمكومة بحكم
خاصُ ،نلحق البقية هبا ،ولذلك ال يمكن القطع باحلكم ،إذ ليس هنا دليل عقيل ُيربه ُن
به عىل وحدة املتشاهبني يف احلكم.
وأ ّما التجربة -اآليت بحثها -فاألساس يف رسيان احلكم فيها إىل مجيع األفراد ،هو
والتوحد يف املاهية ،ومن املعلوم ّ
أن املتامثلني جيب أن يتحدا يف احلكم، ّ التامثل يف احلقيقة
حسب الربهان العقيل ا ّلذي سيوافيك بيانه.
وممّا تقدم يعلم ّ
أن أداة االستقراء ليست أداة حس ّية حمضة وال أداة عقلية كذلك،
احلس والعقلّ ،
فإن االستقراء الكامل يرجع إىل بيان ما أدركه ّ بل هي مزيج من
بحسه ،حتت ضابطة عامة ،ومن املعلوم ّ
أن احلكم عىل اجلزئيات املتشتتة املستقرئ ّ
احلس.
بحكم واحد هو من عمل العقل ال ّ
وأ ّما االستقراء الناقص فهو استدالل باخلاص عىل العام ،وال شك يف اشرتاك
يتفحص ّإال ألن هذا االستقراء قائم عىل ّ
أن املستقرئ ال ّ احلس والعقل م ًعا يف ذلك ّ
ّ
بحسه ،ومن املعلوم ّ
أن االنتقال منها إىل حكم عام شامل ملا مل عن بعض اجلزئيات ّ
يتع ّلق به االستقراء ،يستمدّ من العقل.
61 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة :التجربة
أيضا ،وذلك
التجربة إحدى أدوات املعرفة الرئيسية( ،)1ومنها يتشكل الربهان ً
ألن الربهان يتأ ّلف من اليقينيات ،و ُأصول اليقينيات -كام عرفت ساب ًقا -ستة ،منها
ّ
التجريبيات.
فالتجريبيات إذن ،إحدى اليقينيات ا ّلتي تشكل أساس الرباهني العقلية ،وهي
قضايا حيكم هبا العقل بواسطة تكرر املشاهدة منا يف حواسنا ،فيحصل بتكرر املشاهدة
حكم ال شك فيه ،كقولناّ :
«إن احلديد يتمدد باحلرارة»، ٌ رسخ يف النفس
ما يوجب أن ي ُ
مرات عديدة ،فوجدناها مجيعها تتمدد باحلرارة، جربنا أفراد احلديد املختلفةّ ،
بعد أن ّ
أن هبوطها يؤ ّثر يف
بأن ارتفاع درجة احلرارة مؤثر يف متدد احلديد ،كام ّ
فإنّا نقطع جز ًما ّ
انقباضه وتقلصه.
وقد احتلت التجربة مكان ًة سامي ًة يف الغرب ،وتربعت عرش املعرفة فيه ،وشكلت
مبتكرا يف إعامهلا،
ً حجر األساس لكثري من االخرتاعات واالكتشافات .وليس الغرب
بل سبقه إليها األغارقة واإلسالميون ،وكان علامء الطبيعة يف
العصور اإلسالمية األوىل يركنون إليها يف مواضع كثرية ،تشهد بذلك كتبهم
املدونة يف الطب والكيمياء ،وستوافيك قبسات من عبارات الشيخ الرئيس حول
التجربة ،كام سيوافيك بعض ما روي عن أئمة أهل البيت - -يف هذا املجال.
قيمتها العلم ّية
التجربة إحدى األدوات ا ّلتي تفيد اليقني بنتيجة كل ّية ،عىل خالف التمثيل
واالستقراء ،اللذين عرفت عدم إفادهتام ّإال الظن ،كام عرفت ّ
أن االستقراء عىل فرض
إفادته اليقني ،فإنّام يراد منه اليقني العريف ،بتنايس االحتامل املخالف املاثل يف الذهن،
بينام التجربة تفيد القطع بحكم كيل شامل جلميع األفراد املاضية واحلارضة واملستقبلة.
لتلك الدرجة اخلاصة ،فقط ،دون غريها من العوامل ،وإالّ لزم أن تكون ظاهرة التمدد
بمقدار (س) معلولة بال ع ّلة ،وحادثة بال جهة ،لِصدق النتيجة يف مجيع الظروف،
ألن املفروض وحدة األفراد يف مجيع اخلصوصياتّ ،إال
واألمكنة ،وهو أمر حمالّ ،
الزمان ،واملفروض عدم تأثريه يف احلكم .وعىل هذا حيكم العقل ّ
بأن احلديد ،بجميع
جزئياته وتراكيبه ،يتمدد بمقدار (س) عند درجة (ح).
وعىل ضوء هذا ،فام من ّتربة ّإال ويف جنبها حكم عقيل يوجب بسط احلكم إىل
مجيع األفراد ويف مجيع األزمنة ،و ُيعرب عنه بالعبارات التالية:
أ .إذا كانت مجيع اجلزئيات متحدة يف احلقيقة ،ففرض وجود اخلصوصية (التمدد
بمقدار معني) يف بعضها دون بعضها اآلخر ،يستلزم وجود هذه اخلصوصية بال
ع ّلة ،وهو حمال.
ب .إذا كانت مجيع اجلزئيات متحدة يف احلقيقة ،وخمتلفة يف الزمان فقط ،ففرض وجود
مرجح ،وهو يف حكم
اخلصوصية يف بعضها دون اآلخر يستلزم الرتجيح بال ّ
فرض املعلول بال ع ّلة.
ج .إذا كانت مجيع اجلزئيات متّحدة يف احلقيقة ،ففرض وجود اخلصوصية يف بعضها
دون بعض ،يناقض حكم العقل ّ
بأن حكم األمثال فيام جيوز وما ال جيوز واحد.
ففي ظل هذا احلكم العقيل ا ّلذي ّ
يعرب عنه بتعابري خمتلفة ،حيكم العقل برسيان
احلكم إىل مجيع األفراد يف مجيع األزمنة.
نعم ،ال يمكن إرساء احلكم إىل املوضوع ا ّلذي خيتلف مع مورد التجربة اختال ًفا
فضال عن االختالف الفاحش ،فلو كنّا أجرينا التجربة عىل حديد خاص من جزئ ًياً ،
حيث الرتكيب ،كاحلديد املطاوع ،فال يمكن إرساء هذا احلكم عىل احلديد ا ّلذي يغايره
فيه ،كالفوالذ.
هذا هو األساس النتزاع العلامء قوانني كل ّية عامة من التجربة.
ولنرضب ً
مثاال آخر :لو أجرى عا ًملا كيميائ ًيا ّتربة عىل عقار خاص فوجده ناج ًعا
ومؤثرا يف أفراد معينني من الناس إذا
ً يف معاجلة الصداع ،الناشئ من عوامل معينة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 64
مرات عديدة ويف ظروف خمتلفة عىل الصداع ُأعطي بمقدار معني .ثم كرر التجربة ّ
ا ّلذي له تلك اخلصوصيات ،فوجده مؤ ّث ًرا يف مجيعها ،يقطع بالنتيجة ا ّلتي ّ
توصل إليها،
وبعموميتها جلميع احلاالت املامثلة ،وما ذلك ّإال ّ
ألن احلكم بالتخصيص ورفض
العموم يستلزم تفسري اخلصوصية بطريق غري ممكن.
وتلك النتيجة ال تصدُ ق ،وذلك العقار ال ينجع يف معاجلة الصداع الناشئ من
عوامل ُأخرى ،أو يف أفراد خمتلفني يف األمزجة ،أو إذا ُأعطي بمقادير ّ
أقل أو أكثر ،ففي
هذه املوارد ال يمكن احلكم بعمومية العالج ورسيانه.
وبذلك يعلم الفرق اجلوهري بني االستقراء والتجربة ،فاملستقرئ ال جيري عملية
خاصة سوى املشاهدة ،وال يستنبط ع ّلة احلكم أبدً ا ،وليس له دافع إىل إرساء احلكم
املجرب ،فإنّه يتس ّلط عىل ع ّلة احلكم ومناطه بحكم الربهان
ّإال املشاهبة .وهذا بخالف ّ
أن ع ّلة اخلصوصية (التمدّ د بمقدار معني والربء) ليس ّإال نو ًعا
والعقل ،ويقف عىل ّ
خاصة ،أو تأثري العقار يف الداء واملزاج املُعينني ،وباملقدار
معينًا من احلديد يف حرارة ّ
أن كـل حديد من الرتكيب كيل هو ّ الـمحدّ د ،وبعد ذلك يستعدّ العقل النتزاع حكم ّ
الفالين ،ينبسط بمقدار كذا عند حرارة كذا ،وهذا العقار ناجع يف إبراء كل صداع
ناشئ من العوامل الفالنية ،يف املزاج الفالين وباملقدار الفالين .ولوال التس ّلط عىل
املناط واإلحاطة بالع ّلة ،ملا قدر العقل عىل إرساء احلكم وتوسعته.
ومن هنا يتبني أنّه ما من معرفة طبيعية ّتريبية ّإال ويف جنبها معرفة عقلية قطعية
لوالها لكانت التجربة عقيمة غري مفيدة.
وممّن تن ّبه إىل ما ذكرنا الشيخ الرئيس :فقد أجاب يف سؤال من سأله عن ع ّلة إيراث
بأن التجربة ليست بمعنى ّ
أن تكرار املشاهدات يفيد اليقني ،وإنّام التجربة اليقنيّ ،
املشاهدات (العملية) تفيد اليقني بضميمة قياس عقيل(.)1
وكذلك احلكيم السبزواري ،قال :العلم يف التجربة منوط بأمرين :أحدمها
دائام وال أكثر ًيا ،ثم
املشاهدة ،واآلخر القياس اخلفي ،وهو أنّه لو كان اتّفاق ًّيا ،ملا كان ً
) (1منطق الشفاء.96 :
65 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حتّى يعتمد يف ثبوته عىل العقل ،وإنّام هو أصل ّتريبي ،حيصل بالتجربة .ومن املعلوم
أن عملية التجربة لكشف وحدة الطبيعة حقيق ًة واقتضا ًء ،ال يمكن أن تتحقق يف مجيعّ
أفراد الطبيعة ،وإنّام تتحقق يف املوارد ا ّلتي ّتري فيها التجربة .فتعميم نتيجة هذه
العمليات املحدودة ،يتوقف عىل ثبوت هذا األصل ،وهو بعدُ غري ثابت .ف ُينتج ّ
أن
إثبات كون الطبيعة متّحدة احلقيقة واالقتضاء ،يتوقف عىل ثبوت كون الطبيعة متحدة
احلقيقة واالقتضاء ،وهذا دور واضح.
لكن «ميل» خت ّلص من هذا الدور بام هذا حاصله:
ّ
إن وقوف اإلنسان عىل هذا األصل (الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء) ،ال يتوقف
عىل استقراء تام وّتارب متعددة ،بل يكفي يف ثبوته ّتربة ناقصة حتصل لإلنسان البسيط
قبل خوضه يف املباحث العقلية ،وهو ما أسامه ب ـ«االستقراء السطحي» .وذلك بحجة ّ
أن
الطفل إذا أدنى يده من النار وآذته بلهيبها ،فإنّه لن يمدّ يده بعد ذلك إىل أ ّية نار
علام بأنّه سوف يواجه يف املرة الثانية بمثل ما ُوجه به يصادفهاّ ،
ألن تلك التجربة تفيده ً
ّ
فكأن الطبيعة عنده متحدة احلقيقة واالقتضاء. يف املرة األُوىل،
نعم ،ثبوت هذا األصل عىل الوجه العلمي ،يتوقف عىل ّتارب كثرية غري متناهية،
يف خمتلف أصناف الطبيعة وأنواعها ،حتّى حيصل له العلم هبذا األصل ،وهوما أسامه
ب ـ«االستقراء العلمي» ،ويتمكن بالتايل من تدوين العلوم والقوانني والسنن ،يف ضوء
هذا األصل .فالقول ّ
بأن الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء ،عبارة إمجالية عن هذه
التجارب غري املتناهية(.)1
يالحظ عليهّ :
إن التجارب املتضافرة الكثرية ا لتي أسامها ب ـ«االستقراء العلمي»،
أيضا غري مفيدة للعلم هبذا األصل (الطبيعة متحدة احلقيقة واالقتضاء)ّ .
ألن هي ً
كثريا منس ًقا ،ولكنه بعدُ حمدود ،فمن أين علم برسيان النتيجة إىل
استقراءه ،وإن كان ً
ما تبقى من املوارد غري املتناهية ،ا ّلتي ال يفي عمر اإلنسان إلجراء التجربة فيها،
أن هذا األصل غري ثابت بعد ،ونحن يف طريق إثباته. واملفروض ّ
بترصف وتوضيح منّا.
) (1الحظ الفلسفة العلمية ،ل ـ«فيليسني شاله ،«Felicien Challayeص ّ 112-111
67 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبذلك تصري نتائج التجارب العلمية ،ظنونًا مرتاكمة ،مشوبة بالشك ،وبذلك
ينسلخ عن العلوم وصف اجلزم والقطعية .وقد اعرتف «ميل» بذلك إذ يقول :العلوم
التجريبية ال توجب اليقني املطلق ،وليس عندنا اطمئنان مطلق ّ
بأن غدً ا سيأيت هنار بعد
هذه الليلة .ولكن هذا الشك شك نظري فقط ،وإن كانت لتلك العلوم قاطعية
عملية(.)1
واحلق يف إضفاء القطعية والكلية عىل نتائج التجارب ،هو ما ذكرنا.
التجربة واحلضارة اإلسالمية
التجربة من أسمى أدوات املعرفة يف العلوم الطبيعية ،ويف ظ ّلها يصل
اإلنسان إىل سنن الكون الكل ّية الصادقة يف مجيع الظروف ،من دون أن ختتص
بزمان أو مكان .وهبا يتسامى موكب احلضارة وركب اإلنسانية إىل قمة املعرفة الشاخمة،
وكل ما نعايشه من تطور وتس ّلط عىل القوى الطبيعية ،مدين للتجربة.
ومل هيمل أئمة املسلمني التأكيد عىل هذه الناحية احليوية ،وجيد املرء يف كثري من
عيل بن أيب طالب ،- -تشجي ًعا وح ًّثا عىل ّاختاذ التجربة أداة
كلامت أمري املؤمنني ّ
يسريا منها:
نزرا ً
يف عامة نواحي املعرفة ،ونذكر فيام ييل ً
قال :- -
أ .التجارب علم مستفاد(.)2
ب .العقل عقالن :عقل الطبع وعقل التجربة ،وكالمها يؤ ّدي إىل املنفعة(.)3
ت .األُمور بالتجربة ،واألعامل باخلربة(.)4
كام ّ
أن اإلسالم قد أنتج فطاحل وأساطني عظام يف العلوم الطبيعية ،سلكوا
مسلك التجارب واالختبارات العلمية ،فخرجوا بنتائج باهرة ،واكتشافات عظيمة،
دفعت عجلة العلوم البرشية إىل األمام ،وأرست قواعد احلضارة املدنية احلديثة .وفيام
بعضا من نوابغهم:
ييل نذكر ً
جابر بن ح ّيان الكويف (160-80هـ)
جابر بن ح ّيان ،أول رائد مسلم احتضن العلوم الكونية ،وعكف عليها بقلبه
وعقله ،وامتزج هبا بروحه ودمه ،يدرسها ويبحثها ليدرك أرسارها ،ويكتشف جمهوالهتا
عىل أساس مبدأ التجربة واالختبار ،وعىل أساس تفسري الطبيعة بالطبيعة ،ال بالفرضيات
واألشكال املنطقية ،فهو من قمم الفكر والثقافة اإلسالمية ،ومن مفاخر املسلمني ا ّلتي
عتز هبا ،حتّى لقب بأيب الكيمياء ،وقال عنه برتيلو(« :)1جابر بن حيان ما ألرسطو
ُي ّ
طاليس يف املنطق«.
وتبدو عبقرية جابر ومواهبه بأنّه كان عالـ ًمـا بالكيمياء بالـمعنى الصحيح ،فقد
درسها دراسة وافية ،ووقف عىل ما أنتجه الذين سبقوه ،وعىل ما بلغته الـمعرفة فـي
هذا العلم يف عرصه ،وبأنّه أخضع الكيمياء للتجربة واملالحظة واالختبار .وهو من
وموج ًها
ّ تالمذة اإلمام جعفر الصادق ،حيث وجد يف إمامه سندً ا ومعينًا ،ورائدً ا أمينًا،
ال يستغني عنه.
وأول من اكتشف
وسامه زيت الزاجّ .
وجابر أول من استخرج حامض الكربيتيكّ ،
«الصـودا الكاويـة» وأول من استحـرض مـاء الذهـب ،ومركبـات ُأخـرى كـكربونـات
البـوتـاسيـوم ،وكـربونـات الصـوديوم وغـريها .كمـا درس خصـائـص مركبـات الـزئبـق
واستحرضها.
قال «لوبون»« :تتألف من كتب جابر ،موسوعة علمية حتتوي عىل خالصة ما
وصل إليه علم الكيمياء عند املسلمني يف عرصه ،وقد اشتملت كتبه عىل بيان مركبات
كيميائية ،كانت جمهولة قبله ،وهو أول من وصف أعامل التقطري والتبلور والتذويب
والتحويل وغري ذلك»(.)2
فظهر يل ّ
أن السحاب الكدر ،ليس يصلح أن يكون مرآ ًة البتة ...الخ»(.)1
الـحسن بن الـهيثم (43-354هـ)
أبو عيل احلسن بن اهليثم ،فلكي ريايض وعامل طبيعي ،كان أكثر عمله بالبرصيات،
والعدسات ،واملشهور أنّه هو خمرتع املِجهر .له كتاب يف علم املناظر ،وقد طبع إىل
الالتينية وأصبح كتـا ًبا مدرسـ ًّيا فـي أوروبا فـي العصور الوسطى إلـى عرص روجـر
بيكون (1292-1214م) .وله مقالة يف الضوء(.)2
نصري الدين الطويس (672-597هـ)
املحقق املشهور حممد بن حممد بن احلسن الطويس من عباقرة الدهر الذين مل تنتج
منهم الدنيا ّإال القليل .نبغ يف الفلسفة والكالم والرياضيات والفلك واإلرصاد.
واملحقق الطويس رغم تعمقه يف الفلسفة والكالمّ ،
فإن شهرته لدى باحثي العصور
املتأخرة ،قائمة عىل مواهبه وآثاره يف الرياضيات والفلك واجلغرافية .وقد بنى يف مراغة
(آذربيجان) مرصدً ا يف مجادى األُوىل عام 657هـ ،ورصد ومجاعته الكواكب ،وعينوا
أطواهلا ودرجات عرضها.
وقد طلب املحقق إلمتام هذا املرشوع الضخم ،من البالد اإلسالمية ،نخبة فريدة
من كرباء علامء الفلك املشهود هلم باملقدرة العلمية .وكانت النفقات ا ّلتي رصفت يف
هذا السبيل باهظة جدً ا .وقد ذكر التاريخ أسامء هؤالء العلامء(.)3
تم بناء املرصد يف نفس السنة ا ّلتي تويف فيها املحقق ،سنة ،672واستغرق
وقد ّ
بناؤه مخسة عرش عا ًما.
وقد استنبط املحقق الطويس زجيه املعروف بالزيج اإليلخاين يف املرصد املذكور،
ونرشه يف كتاب خاص ،احتوى عىل جداول وطرائف حسابية جديدة مل تكن معروفة
) (1الشفاء ِقسم الطبيعيات ، 266 :الحظ يف أحوال ابن سينا فالسفة الشيعة ،لنعمة284-256 :؛ واألعالم:
.242-241/2
) (2الحظ رحيانة األدب ،ملحمد عيل املدرس.281/6 :
) (3انظر «تاريخ علم الفلك يف العراق» ،39-32 :كام يف فالسفة الشيعة.484 :
71 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قبل ،لذلك كان هذا الزيج هو املعتمد عليه يف ُأوربا يف عرص النهضة(.)1
***
السادسة :اإللهام واإلرشاق
املادي يف نظرته الكونية إىل العامل ،تفرض عليه أن ال يعتقد
ّ األُصول ا ّلتي يتبناها
واحلس وما يعتمد عليه من متثيل واستقراءّ ّإال بأداتني من أدوات املعرفة :العقل،
يتجهز هبا عدّ ة
ّ أن هناك وراء هذه األدوات ،أداة ُأخرى،
وّتربة .وأ ّما اإلهلي ،فيعتقد ّ
ممن طهرت قلوهبم ،وصفت أذهاهنم ،وصقلت أنفسهم ،فاستعدوا لتل ّقي املعارف من
احلس والشهود.
عامل الغيب ،وما وراء ّ
فاملادي ،حيث إنّه يعتقد بتساوي الوجود مع املادة ،ال يرى للغيب واملعارف
صحيحا ،وربام خيطئه ،أو يسكت عنه
ً املفاضة منه إىل قلوب العرفاء واألولياء ،مفهو ًما
بأن العلم واملختربات مل تكشف عنه شي ًئا.قائال ّ
ً
وأ ّما اإلهلي املعتقد بكون دائرة الوجود أوسع من املادة ،فيعتقد ّ
بأن هناك شهادة
وهناك غي ًبا ،وأنّه يمكن لإلنسان أن يتصل بعامل الغيب ،ويقف عىل أشياء ال يقف عليه
بحسه وال بعقله ،وليست حقيقة هذا الوقوف ّإال إفاضة املعاين واحلقائق والصور ال ّ
من ذلك العامل إىل نفس العارف السالك امل ّطهر من درن املعايص ورذائل األوصاف.
وأ ّما كيف يتصل اإلنسان ،املأسور باملادة ،بعامل الغيب ،فإليك بيانه:
ّ
إن النفس اإلنسانية بمنزلة املرآة ،تنعكس عىل صفحتها حقائق األشياء من عامل
باحلس والعقل ،ولكن كام أن
ّ الغيب ،فيقف عىل صور ومعاين ال يمكن الوقوف عليها
انعكاس الصور من اخلارج عىل املرآة يتوقف عىل صفائها ووجود رشائط متكّن من
انعكاسها عليها مثل وقوعها يف زاوية خاصة ،وارتفاع احلجب بينها وبني املرئي،
كذلك ال بدّ يف انعكاس حقائق األشياء من عامل الغيب ،من صفاء النفس وصقالتها
) (1الحظ فالسفة الشيعة .484-472 :ومن أراد الوقوف عىل كيفية استخدام املسلمني أداة التجربة للفحص عن
احلقائق ،فعليه الرجوع إىل الكتاب املؤلفة يف هذا املضامر .ونكتفي بذكر كتابني منها« :مرياث اإلسالم» ،بقلم
عدّ ة من املسترشقني .و»شمس العرب تسطع عىل الغرب» ،تأليف املسترشقة «زيگرند هونكه».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 72
وطهارهتا من آثار الذنب والعصيان وكل مناف لألخالق والشيم ،وحتررها من قيود
الطبيعة ،حتّى يسمع كالم جنود ر ِّبه ووحيهم.
ويصب العرفاء الرشائط الالزمة إلمكان التل ّقي من الغيب ،يف أمور ،ال بدّ من
حتققها يف النفس:
ّ
تتجىل هلا املعلومات .1عدم نقصان جوهرها ،بأن ال تكون كنفس الصبي ا ّلتي ال
لنقصاهنا.
.2صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة وخبائث املعايص ،وهو بمنزلة الصيقل عن
اخلبث والصدأ.
.3توجهها الكامل إىل عامل الغيب ،وانرصاف فكرها إىل املطلوب ،بأن ال تكون
غارقة يف األُمور الدنيوية ،وهو بمنزلة حماذاة املرآة.
التعصب والتقليد ،وهو بمنزلة ارتفاع احلجب .وربام يزيدون قوهلم:
ّ .4ختليتها عن
.5التوصل إىل املطلوب بتأليف مقدمات مناسبة للوصول إليه عىل الرتتيب
املخصوص والرشائط املقررة.
فإذا ارتفعت حجب العصبية والسيئات عن النفس ،وحازت شطر احلق األول
جل وعال)ّ ،ت ّلت هلا صورة عامل امللك والشهادة ً
إمجاال ،بحسب ما تستطيعه من (اهلل ّ
األخذ والتل ّقي.
وما يتل ّقاه اإلنسان الطاهر ،من عامل الغيب بال إعامل ّ
احلس والعقل ،إن كان راج ًعا
يسمى إهلا ًما تارة ،وإرشا ًقا ُأخرى ،وإن كان راج ًعا إىل تربية
إىل شخص اإلنسانّ ،
فيسمى
ّ الناس وتكميل نفوسهم بترشيع قوانني وتعاليم يرتقي هبا املجتمع إىل الكامل،
وح ًيا ،واإلنسان املتل ّقي له نب ًّيا.
ولكن بعض من يدّ عون اإلهلام واإلرشاق ،ال يكيلون العقل بصاع ،ويردونه عىل
والبت ،ويش ّبهون من يميش طريق املعرفة بالعقل ،بمن يميش برجل
ّ وجه القطع
خشبية.
غري ّ
أن ذلك مغاالة يف القول ،ال يصدقه العقل ،فكيف بالكتاب العزيز؟!
73 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ّ
وتكل عن والرش ،وهلم ُأمور خفية ،وهي مشاهداهتم ملا تعجز عن إدراكه األوهام،ّ
بيانه األلسنة ،وابتهاجاهتم بام ال عني رأت وال ُأذن سمعت»(.)1
أن عار ًفا حدّ ث عن غيب،
وقال الشيخ الرئيس يف موضع آخر« :وإذا بلغك ّ
يتعرس ّن عليك اإليامن بهّ ،
فإن لذلك يف فأصاب ،متقدِّ ًما ببرشى أو نذير ،فصدِّ ق ،وال ّ
مذاهب الطبيعة أسبا ًبا معلومة»(.)2
يرصح ّ
بأن النفوس القوية إذا كانت غالبة عىل الشواغل ثم ّ
إن الشيخ الرئيس ِّ
احلس ّية ،تقدر عىل االتّصال بعامل القدس ،وتنتقش فيها صور ومعان من ذلك العامل،
فكأن انغامر النفس يف عامل الطبيعة ،واشتغاهلا باألُمور احلس ّية،
ّ ثم يعود فيخرب بام أدرك.
يمنعها عن االتّصال ،يقول:
قوة ،كان انفعاهلا عن املحاكيات(ّ )3
أقل ،وكان ضبطها »كلام كانت النفس اقوى ّ
للجانبني أشدّ .وكلام كانت بالعكس ،كان ذلك عىل العكس»(.)4
وقد أشار صدر ّ
املتأهلني إىل إمكان اإلهلام واإلرشاق بوجه عام ،بقوله:
رهبا ملشاهدة آياته الكربى،
ّتردت عن البدن مهاجرة إىل ّ » ّ
إن الروح اإلنسانية إذا ّ
وتطهرت عن املعايص والشهوات والتع ّلقات ،الح هلا نور املعرفة واإليامن باهلل وملكوته ّ
جوهرا قدس ًيا يسمى عند احلكامء يف لسان
ً األعىل .وهذا النور إذا تأكّد وّتوهر ،كان
احلكمة النظرية بالعقل الف ّعال ،ويف لسان الرشيعة النبوية بالروح القديس.
وهبذا النور الشديد العقيل ،يتألأل فيها (أي الروح اإلنسانية) أرسار ما يف األرض
احليس البرصي ،األشباح
ّ والسامء ،وترتاءى منها حقائق األشياء ،كام ترتاءى بالنور
قوة البرص إذا مل يمنعها حجاب .واحلجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل
املثالية يف ّ
ألن القلوب واألرواح -بحسب أصل فطرهتا -صاحلة لقبول نور هذا األدنى .وذلك ّ
احلكمة واإليامن إذا مل يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر ،أو حجاب حيجبها كاملعصية
وما جيري جمراها.
وقال :إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلامت اهلوى ،وو ّلت بوجهها
رس امللكوت،
شطر احلق ،وتلقاء عامل امللكوت ،اتّصلت بالسعادة القصوى ،فالح هلا ّ
وانعكس عليها قدس الالهوت«(.)1
اإللهام واإلرشاق ،وعلّمء الغرب
ّ
إن علامء الغرب كانوا غارقني يف العلوم الطبيعية ،فلم يبحثوا عن هذا النوع من
أدوات املعرفة ّإال ً
عابرا .ومن أبرز من التفت إىل هذه األداة هو الفيلسوف الفرنيس
گسن« ،يف آراء منفردة له يف األوساط الغربية ،حيث ذهب إىل ّ
أن اإلنسان «هنري بِر ُ
إنّام يدرك بعقله ظواهر األشياء وقشورها ،وأ ّما إدراك حقائقها فإنّام يتم له باملراقبة
املستمرة التي تنتهي إىل املكاشفة وشهود الوقائع .فمث ُل من يريد درك املعارف عن
طريق العقل ،كمثل من يريد أن يطلع عىل ما يف البيت بتفحص جدرانه وسطوحه من
اخلارج .وأ ّما من يريد درك احلقيقة باإلهلام واإلرشاق ،فمثله مثل من يلج البيت
ويتفحص األشياء املوجودة فيه واحدة بعد األُخرى(.)2
أن اإلهلام كان العامل الوحيد أن عدّ ة من املكتشفني واملخرتعني ا ّدعوا ّ
كام ّ
النتقاهلم إىل بعض املكتشفات واملخرتعات ،وربام ا ّدعوا ّأهنم أهلموا ُأ ً
مورا ،وهم يف
غفلة ،وعدم اشتغال بالكشف واالختبار.
وقد اعرتف من اعرتف منهم هبذه األداة من دون أن حيدد طريق الوصول إليها
وكيفية االستضاءة هبا .وبعبارة ُأخرى :هم حدّ دوا طريق املعرفة بآلية ّ
احلس والعقل،
فطرحوا مباحث ق ّيمة يف كيف ّية االستضاءة هبام ،وإزالة املوانع ا ّلتي تعرقل مسرية
اإلنسان الكتساب املعرفة هبام .ولكنهم سكتوا عن آلية اإلرشاق ،وأنّه كيف يصل
اإلنسان إىل تلك األداة ،وكيف يستيضء منها ،وما هي ُم ِعدّ ُاهتا ورشائطها ،وما هي
موانعها.
حرروا هذا اجلانب فكشفوا عن آلية القلب( ،)1وقالوا إالّ ّ
أن العرفاء اإلسالميني ّ
إن اإلنسان يصل إىل مرتبة خاصة من االسترشاق واالستلهام إذا طوى منازل خاصة، ّ
هي:
.1اليقظة.
.2التوبة.
.3املحاسبة.
.4اإلنابة.
.5التفكّر.
.6التذكر.
.7االعتصام.
.8االنقطاع.
.9كبح مجاح النفس.
.10درك اللطائف.
وقد فصلوا الكالم يف هذه املنازل ا ّلتي ّ
تسمى عندهم «منازل السائرين».
وفيام ييل نذكر هنا ً
إمجاال آل ّية هذه األداة:
) (1ليس املراد من القلب اجلسم الصنوبري ا ّلذي ليس له وظيفة سوى ّ
ضخ الد ّم إىل أجزاء البدن ،بل املراد نفس
اإلنسان وروحه الواعية .وإليه يشري قوله سبحانه﴿ :ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ
ﱜ ﱝ﴾ (ق ،)37 :ومن املعلوم أن ليس املراد من القلب هنا هو القلب اجلسامينّ ،
ألن كل إنسان يمتلك
هذا القلب وإنّام املراد من كان له عقل مدرك وواع.
77 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونظري ذينك املنهجني ،منهج القائلني بانحصار معرفة احلقائق باإلهلام واإلرشاق،
املنقول عن الفيلسوف الغريب ِ
«بر ُگسن«.
وعىل ذلك ،فنحن نرضب الصفح دون البحث حول هذه املناهج النابعة عن
القول بوحدة األداةّ ،
ألن إنكار تعددها وكثرهتا ،أشبه بإنكار الرضوريات كام عرفت.
ونعطف عنان البحث إىل املراحل املتعددة للمعرفة ،فنقول:
أيضا عىل طوائف نعرب عنهم بالعناوين التالية: ّ
إن القائلني بتعدد املراحل هم ً
أ .أصحاب الفلسفة العلمية.
ب .أصحاب الفلسفة املاد ّية الديالكتيك ّية.
ج .الفالسفة اإلسالم ّيون.
***
أ .نظرية الفلسفة العلمية ف تعدد مراحل املعرفة
يقسمون مراحل املعرفة إىل األقسام التالية: ّ
إن أصحاب هذه النظرية ّ
.1املعرفة احلس ّية.
.2املعرفة العلمية.
.3املعرفة الفلسفية.
فكل معرفة متقدمة ،تكون مقدِّ م ًة حلصول معرفة أوسع وأكمل ،وإليك البيان:
خاصا كالرصاص ،فرأى انّه يذوب عند درجة عرض اإلنسان للنار معدنًا ًّ
إذا ّ
مبتىل بالصداع ً
مثال ،قد برئ عند استعامل عشبة طب ّية مريضا ما ً
ً خاصة؛ أو الحظ ّ
أن
احلس.
معينة ،فهذه املرحلة يطلق عليها املرحلة احلس ّية ،إذ هي ال تتجاوز إطار ّ
مرات عديدة ويف ظروف خمتلفة ،استطاع العقل أن ينتزع
كرر هذا العمل ّثم إذا ّ
منه قانونًا كل ًّيا وهو ّ
أن الرصاص يذوب عند درجة كذا ،والنبات الفالين مرب ٌء من
الصداع ،فهذه املرحلة هي املرحلة العلمية ،ومنها يستنتج قاعدة وقانونًا علم ًيا عا ًما.
وأ ّما املعرفة الفلسفية فهي عندهم عبارة عن املعرفة ا ّلتي ال ختتص بعلم دون علم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 84
أو موضوع دون موضوع ،وإن شئت قلت :هي عبارة عن املعرفة العامة املنتزعة من
غالب العلوم أو مجيعها.
ً
مثال :القوانني الرياضية خمتصة بموضوعها كالكم املنفصل واملتصل (األعداد،
والسطوح) ،وهكذا قوانني العلوم الفيزيائية والكيميائية .وأ ّما إذا انتزع اإلنسان من
هذه القوانني والعلوم قاعد ًة تثبتها مجيعها أو غالبها فهي قانون فلسفي ،كقانون
التكامل العام ا ّلذي تدعمه مجيع العلوم التجريبية .فالتكامل أمر يثبته علم األحياء
وعلم االجتامع وغريمها .فاملطلع عىل هذه العلوم يصل إىل معرفة فلسفية وينتزع منها
قانونًا كل ًّيا سائدً ا عىل الكون أمجع.
وهذه املرحلة من املعرفة فوق املرحلة العلميةّ ،
فإن املعرفة العلم ّية ختتص بموضوع
خاص ال تتجاوزه ،بينام املعرفة الفلسفية هي معرفة حكم يعم موضوعات كثرية.
وعىل ضوء ذلك ،فاملسائل الفلسفية ،نتيجة العلوم ،وال ختتلف عن املسائل
العلمية ّإال بعلو درجة املعرفة ،فإذا كانت املعرفة راجعة إىل موضوع خاصّ ،
تسمى
املعرفة معرف ًة علمي ًة ،واملسألة املعلومة مسأل ًة علمي ًة .وأ ّما إذا ّتاوزت املعرفة موضو ًعا
وعمت غالب املوضوعات أو مجيعها ،فاملعرفة فلسفية واملسألة املعلومة مسألة
معينًا ّ
جوهرا مع املسائل العلمية.
ً فلسفية ،فليست املسائل الفلسفية متغايرة
هذا ما يذهب إليه أصحاب الفلسفة العلمية ونحن نع ّلق عليه ما ييل:
ّ .1
إن ما ذكره أصحاب الفلسفة العلمية من هذه املراحل الثالث ال ننكر منه شي ًئا،
عقيل إليها ،وأ ّما
ّ ولكن املعرفة العلمية عن طريق التجربة حتتاج إىل ضم حكم
نفس التجربة فال تعطي قانونًا كل ًّيا يف جمال العلم ،بل العقل إذا الحظ وجود
التامثل بني مورد التجربة وغريها ،حيكم برسيان احلكم إىل مجيع املوارد بحجة ّ
أن
املتامثلني متساويان يف األحكام .ولوال هذا احلكم ملا ّتاوز حكم التجربة
مواردها .وقد تقدم الكالم يف ذلك.
جوهرا وذاتًا ،وليست املعرفة
ً إن املسائل الفلسفية ختتلف عن املسائل العلمية ّ .2
الفلسفية نتيجة لرت ّقي املعرفة العلمية حتّى يلزم كون املعرفة علمي ًة إذا كان احلكم
85 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواقع ّأهنا معرفة عقلية ،إذ نحن مل نر أ ًّيا منهام ،وال شاهدنا شي ًئا من بطوالهتام
وفتوحاهتام ،وإنّام قرأنا ذلك يف الكتب .فاملحسوس لنا يف احلقيقة هو املكتوب
واملقروء ال نفس الرجلني وما قاما به من أعامل.
ونحن نحتمل -وراء ذلك -أن يكون كل ما نقرؤه ونسمعه عنهام ً
باطال وكذ ًبا،
أن العقل يدفع هذا االحتامل ويقولّ :
إن من املمتنع أن تكون تلك األخبار املتضافرة غري ّ
املؤرخني عىل اختالف مشارهبم ،عىل
كاذبة ،إذ من املحال أن يتواطأ عرب القرون مجيع ّ
جعل األكاذيب حول الرجلني .فعند ذلك نذعن بصحة وجودمها وبطولتهام وآثارمها.
أن وجود تلكام الشخصيتني وما اتّسمتا به ،ليس من األُمور احلس ّية ،بل
فالنتيجة ّ
من األُمور االستنباطية العقلية املعلومة حتت ضوابط عقلية.
.2نحن نعتقد بوجود حضارات ازدهرت عرب التاريخ ثم اندثرت ومل يبق منها ّإال
األطالل ا ّلتي ترشد إليها .ولكن معرفتنا هبا معرفة عقلية ال حس ّية ،وذلك ّ
ألن
املشاهد لنا هو اآلثار الباقية ،وأ ّما نفس احلضارات ا ّلتي كانت مزدهرة ،فهي غائبة
ّ
نستدل عليها باآلثار: عن حواسنا وإنّام
فـ ـانـ ـظ ـ ـ ـروا بـ ـع ـ ـ ـدنا إلـ ـى اآلثـ ـ ـ ـار إن آثـ ـ ـ ـ ـارنـ ـ ـ ـ ـا تـ ـ ـ ـ ـ ّ
دل ع ـ ـ ـل ـ ـ ـيـ ـنـ ـ ـ ـ ـا ّ
إن هناك أممًا كبرية عفا عليها الزمن ،ونحن نذعن بوجودها ونتصور ّ
أن معرفتنا ّ .3
هبا حس ّية ،مع ّأهنا يف احلقيقة عقلية مستنبطة فاإلنسان إذا رأى األهرام يف «اجليزة»
فورا عىل وجود أ ّمة يف غابر األزمان ،كانت واقفة عىل ُأصول اهلندسة، يستدل ًّ
العامل مكّنها كل ذلك من تشييد هذه
عظيام من ّ ً
وجيشا ً ومتتلك رافعات عمالقة،
األهرام(.)1
.4نحن نعتقد بوجود عواصم كبرية كلندن وموسكو وطهران وطوكيو ،كام ّ
أن
القاطنني يف هذه العواصم يعتقدون بوجود عواصم ُأخرى يف رشق العامل وغربه،
يسمي هذه املعرفة وسابقتها معرفة «آيوية» وهي الوقوف باآلية وخصائصها ،عىل ذي اآلية وصفاته،
) (1والقرآن ّ
ّ
وحيث عليها يف كثري من آياته .وعىل ذلك فمعرفة وجود خالق الكون ال ختتلف عن معرفة احلضارات وأصحاهبا،
فاالستدالل عليها من باب واحد وهو االستدالل باآلية عىل ذهيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 90
املصور ا ّلذي يقصد إرشاك ِّ وعىل ضوء ذلك يظهر الفرق بني عمل العقل وعمل ذاك
فإن العقل ال يزيد عىل املعرفة احلس ّية شي ًئا ،وإنّام ير ِّقي معرفته إ ّما
من مل يكن يف املجلسّ ،
عن طريق حذف املشخصات واألخذ باملشرتكات ،أو ّ
بأن النفس بعد مشاهدة املميزات
واملشرتكات تستطيع خلق مفهوم ّ
كيل ،أو ّأهنا هي بذاهتا تتكامل إىل معرفة أرقى.
املصور ،بل
ِّ فليست املسألة من قبيل التدخل يف املعرفة احلس ّية كام هو احلال يف عمل
املعرفة احلس ّية باقية عىل حاهلا ،ولكنها -بام هي -تعطي للنفس مقدرة خاصة عىل انتزاع
الكيل أو صنعه يف ُأفق الذهن ،أو تنتقل إىل معرفة ُأخرى .فبني العملني فرق جوهري.
ّ
جوابان للفالسفة الغربيي
لـ ّام وقف الفالسفة الغربيون عىل هذه املعضلة ،حاولوا ح ّلها ،فجا ُءوا بجوابني
نش ـري إليهمـا:
أ .تعميم املعرفة الحسيّة
وحاصل هذا اجلواب ّ
أن الذهن يقوم بتعميم املعرفة احلس ّية املحدودة إىل معرفة
وسيعة غري حمدودة ،هي املفاهيم الكل ّية.
وال خيفى ّ
أن هذا مصادرة واضحة ،إذ ال يزال السؤال باق بحاله ،فاملستشكل
يسأل عن الفرق بني تعميم العقل املعرفة املحدودة إىل غري حمدودة ،وتعميم املصور
تلك الصورة بالتالعب فيها وزيادة أشخاص غرباء ،وملاذا يعدّ أحد العملني جر ًما
دون اآلخر؟
حيل العقدة ،كرر اإلشكال ،بخالف الفالسفة اإلسالميني بدال من أن ّ
فاملستشكل ً
فقد ح ّلوها إ ّما بحديث االنتزاع ،وإ ّما بخالقية النفس ،أو برتقي املعرفة من احلس ّية إىل
درجة فوقها.
ب .تبدل التغريات الكمية إىل الكيفية
تذهب الفلسفة الديالكتيكية إىل ّ
أن التبدالت اجلزئية التدرجيية املستمرة الطارئة
عىل الطبيعة ربام تصل إىل حدّ يفقد فيه اجلسم قدرته عىل حتمل هذه التغريات بشكلها
93 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اخلاص ،فيقع يف اجلسم حتول فجائي آين حتصل عىل أثره كيفية جديدة.
كمي
تغري ّ وبعبارة ُأخرىّ :
إن التطور الديالكتيكي للامدة عىل قسمني :أحدمها ّ
تغري فجائي حيصل بصورة دفعية نتيجة للتغريات الكمية املتدرجة،حيصل ببطء ،واآلخر ّ
بمعنى ّ
أن التغريات الكمية تبلغ إىل مرحلة تتغري فيها من الكمية إىل كيفية جديدة.
مثالّ :
إن املاء عند تسخينه ترتفع درجة حرارته تدريـج ًّيا ،ويـحصل بسبب هذا ً
االرتفاع التدرجيي ،تغريات كمية بطيئة ،حتّى إذا وصلت درجة حرارته إىل املائة،
فينقلب يف تلك اللحظة من حالة السيالن إىل البخارية ،وتنقلب فجأة تلك التغريات
الكمية إىل حالة كيفية جديدة.
فإهنا ال تزال تنخفض شي ًئا فشي ًئا إىل أن تصل إىل حدّ
وهكذا يف جانب الربودةّ ،
ال تقبل معه طبيعة املاء االنخفاض التدرجيي يف برودهتا ،فيتحول املاء فجأة إىل اجلليد.
وقد أبدع هذا األصـل الفيـلسوف األلـامنـي «هـيـجـل» (1836-1761م) ،وق ـد
استخدمته الفلسفة الديالكتيكية يف توجيه نظرياهتا االجتامعية والفلسفية .ويف ظل هذا
األصل قالوا :يتبدّ ل النظام اإلقطاعي إىل الرأساملية ،وهي إىل االشرتاكية .ويف املقام
يفرسون تبدل الـمعرفة الـحسـ ّية إىل العقلية بأنّه من قبيل انتقال التبدالت الكمية إىل
ّ
التبدالت الكيفية .
يالحظ عليه:
إن هذا األصل عىل فرض صحته ،غري صحيح يف مثال املاء املعروف عندهم. ّأو ًالّ :
وذلك ّ
أن التبدالت الطارئة عىل املاء عند تزايد احلرارة إنّام هي من قبيل التبدالت
الكيفية ال الكميةّ ،
ألن التبدالت الكمية احلاصلة يف املاء عبارة عن تزايد املاء وتناقصه.
وأ ّما تصاعد السخونة فليس من تزايد املاء وتناقصه يف يشء ،وهلذا ال يكون من قبيل
سمى «هيجل» تصاعد السخونة
التبدالت الكمية ،بل هو من التبدالت الكيفية ،فكيف ّ
بالتبدّ ل الكمي؟
ً
حاصال يف املاء نوع جديد يغاير إن تبدّ ل املاء احلار إىل بخار ليس تبدّ ًال كيف ًيا
ثم ّ
يعرب «هيجل» عن مقصوده ّ
بأن التغريات الكيفية املاء بدليل تغاير آثارمها .فاألوىل أن ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 94
التدرجيية ربام تبلغ درجة تنقلب فيها الطبيعة إىل نوع آخر .فينبغي أن يقال يف مثل املاء:
ّ
إن التبدّ الت الكيفية التدرجيية يف املاء تتحول إىل تبدالت نوعية.
أيضا ،وذلك ملا عرفت من ّ
أن يصح يف هذا املقام ً
صح هذا األصل ،فال ّ
وثان ًيا :لو ّ
هذا التبدّ ل ينتهي إىل تبدالت ماهوية وتغريات جوهرية ،فعند ذلك تفقد املعرفة
العقلية صلتها باملعرفة احلس ّية ،فكيف تكون حاكية عنها ،مع ّأهنام من نوعني خمتلفني
جوهرا وماهية.
ً
وإن شئت قلتّ :
إن نسبة املعرفة العقلية إىل املعرفة احلس ّية ،كنسبة البخار إىل املاء،
أن بعض الكيميائيني القدماء كانوا بل كنسبة الذهب إىل النحاس عىل ما هو املنقول من ّ
يستطيعون بمعاجلات كيميائية قلب النحاس إىل الذهب ،فعندئذ تكون الصورة احلس ّية
كالنحاس ،واملعرفة العقلية كالذهب ،وبينهام بون شاسع بعيد ،واختالف يف اجلوهر،
فال يمكن جعل أحدمها حاك ًيا عن اآلخر.
وعىل ذلك ،فالقائل هبذا األصل جيب أن ُيعدّ من املثاليني الذين ينكرون كاشفية
العلم عن الواقع ،وقد تعرفت فيام مىض عىل ّ
أن الصلة املوجودة بني العلم وحمك ّيه هي
صلة الكاشفية واملكشوفية ،ال صلة التوليد واإلنتاجّ ،
وأن نسبة العلم إىل حمكيه ليس
كنسبة الوالدين إىل ولدمها أو نسبة الندى إىل البخارّ ،
فإن تصوير الرابطة هبذه الصورة
يستتبع املغايرة وهي تنتهي إىل نفي الكاشفية املنجر إىل إنكار احلقائق اخلارجية أو
التشكيك فيها.
فليس للفيلسوف املوضوعي ّإال ولوج الباب ا ّلذي ولج فيه الفالسفة اإلسالميون،
وتفسري املعرفة العقلية بإحدى الصور الثالث املتقدمة.
ثالثَا :املعرفة اآليوية عند الفالسفة اإلسالميي
وتسمى باملعرفة اآليوية أو تبديل
ّ وهناك معرفة ُأخرى عند الفالسفة اإلسالميني
املعرفة السطحية إىل معرفة ُعم ِق ّية.
أشخاصا معينني ،تقدر النفس عىل إدراك مفهوم كيل
ً توضيح ذلك :إنّا إذا رأينا
يصدق عىل هؤالء وغريهم .وهذا املفهوم بام أنّه يصدق عىل غري هؤالء من األفراد
95 أدوات املعرفة ومراحلها | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
املوجودين يف زمن اإلدراك ،يكون تبسي ًطا عرض ًيا للمعرفة .وبام أنّه يصدق حتّى عىل
األفراد الغابرة واآلتية يكون تبسي ًطا طول ًيا للمعرفة .فهذه املعرفة ال تتجاوز البسط
والتعميم يف كال البعدين.
ولكن هناك معرفة ُأخرى أعىل وأكمل ،وهي التكميل العمقي للمعرفة ،وبسطها
إىل آفاق علياّ ،إال وهي االستدالل باملرئي عىل غريه ،وباآلثار عىل ذهيا ،وباآليات عىل
صاحبها.
واالستدالل باآلية عىل ذهيا عىل قسمني:
األول :االستدالل باآلثار احلس ّية والطبيعية عىل يشء مادي ولكنه ليس بمحسوس
ّ
للمستدل يف ظرف إحساس اآلثار وإدراكها .فاآلثار الباقية من أصحاب املالحم ّ
والدواوين قابلة لالستدالل هبا عىل أنّه كان هناك نوابغ يف الشعر واألدب نظموا هذه
القصائد والدواوين ،كام هو احلال يف اآلثار العلمية املوروثة.
فهذه اآلثار أعني الدواوين والكتب ،حمسوسة ،ولكن مؤلفيها ليسوا حمسوسني
ّ
فيستدل -إذن- فـي زمان إدراك اآلثار ،ولكنها بالذات ُأمور مـحسوسة فـي ظرفها.
ً
استدالال آيو ًيا. باملحسوس يف اآلن ،عىل املحسوس بالذات،
الثان :االستدالل باملحسوس عىل غري املحسوس بالذات ،وهذا االستدالل بإتقان
أيضا ،االستدالل
املصنوع عىل علم الصانع وقدرته ،وبجامله عىل ذوقه وبراعته .ومن هذا ً
أن له صان ًعا عا ًملا ً
قادرا قام بتنظيم الكون وتنسيقه باآليات املوجودة يف عامل الكون عىل ّ
حتري العقول.
وفق قوانني وسنن ّ
يفرقون بينهام يف حياهتم العملية .فهم كام
يقرون بكال االستداللني وال ّ
واملاديون ّ
يستد ّلون بالكتاب الفلسفي عىل وجود فيلسوف ألفه وكتبه ،يستد ّلون بأفعال الرجل
وترصفاته ،عىل روحياته ونفسياته من حسن وسوء ،وصفاء وخبث ،وإخالص وخيانة،
أن حسن الرسيرة وسوءها ،وصفاء النفس وخبثها ...كلها ُأمور غيبية غري مرئية مع ّ
وال واقعة يف ُأفق احلواس.
ولكن مع ذلك ك ّله تراهم إذا وصل األمر إىل الـمسـائل العقـائديـة وما يرجع إلـى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 96
ما وراء الطبيعة ،ينكرون االستدالل الثاين ،أو يشكّون فيه ،مع ما عرفت من جريان
سريهتم العملية عليه يف أمورهم العادية .وهذا ممّا ينقيض منه العجب!!.
وبرهان النظم ا ّلذي يعترب من أهم أد ّلة اإلهليني عىل إثبات صانع العامل ،يرتكز
أساسا عىل االستدالل باآلية عىل ذهيا بصور وتقارير خمتلفة .
ً
وجممل القول فيه هو ّ
أن العقل إذا الحظ النظام البديع بام فيه من النواميس املبنية
عىل القواعد الدقيقة ،يذعن بأنّه صادر عن فاعل عامل حميط باملادة وخصوصياهتا،
يصح أن
ّ جمرته ،وأنّه ال
ذرته إىل ّ
والقوانني والنواميس املتحكمة يف أجزاء الكون ،من ّ
الصامء ويعدّ من آثارها ،أو يستند إىل الصدفة .وهذا
يستند هذا النظام إىل نفس املادة ّ
استدالل عقيل آيوي.
القرآن واملعرفة اآليوية
ركز القرآن الكريم عىل هذا النوع من املعرفة ،وكرر يف كثري من آياته قوله تعاىل:
﴿ﱭ ﱮ﴾( ،)1و﴿ :ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ﴾( )2ونحو ذلك ممّا يفيد تأكيده عىل لزوم
التعرف عىل ذاته سبحانه وأسامئه وصفاته وما فيه من الكامل واجلامل ،عن طريق النظر
تبحر مؤلفها وجامعيته
والتدبر يف آثاره وآياته ،نظري االستدالل باملوسوعة العلمية عىل ّ
يف املعرفة.
فذاته سبحانه ،بام ّأهنا جمهولة الكنه ،ال يسع العقل البرشي املمكن أن يتعرف عليها،
فلذا مل يكن بدٌّ من اللجوء إىل آثاره ،والنظر فيها ،واالستدالل هبا عىل ما يف مؤثرها من
كامل ومجال ،وهذا الطريق متاح للجميع.
ونكتفي يف املقام بذكر بعض اآليات من سورة الروم املباركة ،يقول تعاىل:
﴿ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ
ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆﲇ ﲈ ﲉ
ﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓﲔ
ﲕ ﲖﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ
ﲥﲧﲨﲩﲪﲫﲬﲭﲮﲯﲰ
ﲦ ﲣﲤ
ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ
ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ
ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ﴾(.)1
يفرقون بني اخللق والتدبري ،فينسبون اخللق إىل اهلل
لقد كان العرب اجلاهليون ّ
سبحانه ،والتدبري إىل أرباب األصنام ،فكانوا يعبدوهنا لتكون هلم شفعاء عند اهلل،
فجاءت اآليات لرت ّد تلك املزعمة ،وتثبت ّ
أن اخللق والتدبري كليهام هلل سبحانه ،وأنّه
الرب( )2دون غريه ،مستدلة بالشهود عىل الغيب ،وباآلية عىل
ّ هو املد ّبر وبالتايل هو
ذهيا .وقد رتّبت اآليات املذكورة وصيغت عىل وجه بديع ،آخذة من بدء خلق اإلنسان
وتكونه ،ثم تصنيفه صنفني :ذكر وأنثى ،ثم ارتباط وجوده بالسامء واألرض(،)3
ّ
واختالف ألسنة الناس وألواهنم ،ثم سعيهم يف طلب الرزق ،وسكوهنم يف منامهم ،ثم
إراءة الربق ،وتنزيل األمطار حتّى حتيا األرض وتصلح الستفادة اإلنسان منها
مسمى ،ليتم هلذا
واستنامئها؛ إىل أن تنتهي اآليات إىل قيام السامء واألرض إىل أجل ّ
النوع اإلنساين ما قدّ ر له من أمد احلياة.
وقد جاء يف فواصل اآليات قوله﴿ :ﲍ﴾﴿ ،ﲬ﴾﴿ ،ﳃ﴾،
مشري ًة إىل ّ
أن دراسة هذه اآليات يوقفنا عىل أنّه سبحانه هو املد ّبر كام هو اخلالق ،ببيان
أن اإلمعان فيها يعرب عن ّ
أن اخللق والتدبري ممتزجان ،بحيث ال يمكن أن ينسب ّ
) (1الروم.25-20 :
) (2الرب يف اللغة بمعنى الصاحب ،يقال :رب البستان ورب الدار ورب القطيع ويراد به من إليه تدبري أمر البستان
والدار والقطيع وتلبية مجيع مستلزمات نموها وعيشها وبقائها.
أن الـمراد من قوله﴿ :ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ،﴾...ثبات السمـاء واألرض عىل وضعهام ) (3إشارة إىل ّ
الطبيعي املالئم حلياة النوع اإلنساين املرتبط هبام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية 98
ً
منفصال اخللق إىل فاعل والتدبري إىل فاعل آخرّ ،
فإن ذلك إنّام يتصور إذا كان التدبري
رب البستان وغريه ،فإنّه إنّام هييئ له ما يضمن بقاءه من تنظيف
عن اخللق ،كام يف ّ
األرض ،وشق اجلداول وتنقيتها ،وإيصال املاء إىل األصول ،وتسميد األرض وغري
ذلك ممّا يصلح األشجار وهي ِّيئها لإلثامر ،من دون أن يكون هو خال ًقا لألشجار والثامر
بوجه من الوجوه .وأ ّما العامل ا ّلذي يشاهده اإلنسان ،وجاء ذكره يف اآليات ،فإنّام هو
سبيكة واحدة امتزج فيها اخللق والتدبري ،فال يمكن الفصل بينهام.
استدل إبراهيم - -عىل بطالن ربوبية الكوكب والقمر والشمس بآثارها ّ وقد
احلس ّية ،وهي ُأفوهلا وغيبتها عن اإلنسان ،وال ّ
يصح أن يكون الرب غائ ًبا عن مربوبه،
فكيف يمكن أن ُتعد األفالك أربا ًبا لإلنسان ا ّلذي حيتاج إىل التدبري يف مجيع آنات عمره
وحلظات حياته؟
يقول تعاىل حاك ًيا هذا االستدالل﴿ :ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ
ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ
ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ
ﱺﱻﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂﲃﲄﲅﲆﲇﲈ
ﲉﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ
ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ﴾(.)1
***
مصادر البحث
القرآن الكريم
اإلمام عيل ،هنج البالغة ،مجعه الرشيف الريض.
.1صدر ّ
املتأهلني الشريازي ،األسفار األربعة.
.2الشيخ الرئيس ابن سينا ،اإلشارات والتنبيهات.
.3عبد القاهر البغداديُ ،أصول الدين.
.4خري الدين للزركيل ،األعالم.
.5حممد باقر املجليس ،بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار األئمة األطهار.
.6حممد عيل املدرس ،رحيانة األدب.
.7املال هادي السبزواري ،املنظومة ورشحها.
.8ابن سينا الشيخ الرئيس ،الشفاء.
.9اآلمدي ،غرر احلكم.
.10عبد اهلل نعمة ،فالسفة الشيعة.
.11فيليسني شاله ،الفلسفة العلمية.
.12حممد عيل فروغي ،مسرية الفلسفة يف أوروبا.
.13حممد بن احلسن احلر العاميل ،وسائل الشيعة.
***
ّ3
(*)
رصها
أركان املعرفة اليقين ّية وعنا ُ
(**)
السيدٌيدٌاللهٌيزدانٌبناه
نظرهتم للكالم املوجود ،وقام برشح ذلك .فقد كان الفالسفة يعتقدون ّ
بأن الكالم
املوجود بحث ٌجدلـ ٌّي ال يوصل إىل الواقع ،وإن كان يمكن أن يكون مقن ًعا.
واملتك ّلم قد يصل إىل الواقع أحيانًا ،ولكن ليس ّ
ألن طريقته تقتيض ذلك ،فاجلدل
ُينتج اإلقناع فحسب(.)1
معارضا للفلسفة الـمشائ ّية ،انتهى به
ً أيضا فبعد أن كان
وكذلك الفخر الرازي ً
أيضا ُح ّج ّيـة الطريق الربهانـي ،وغاية قوله ّ
إن الـحال إلـى الـنتيـجة نفسها ،وقبـِل ً
الفالسفة الـمشـائني ال يستد ّلون أحيانًا بنحو برهاين ،ولك ّن هذا معناه نقل النزاع من
نات صغرو ّية.جماله الكربوي إىل عي ٍ
ّ
ولك ّن الوحيد الذي مل يقبل املنطق ،سواء املنطق املا ّدي أم الصوري ،هو ابن تيمية،
غري أ ّنه إ ّنام حارب املنطق باملنطق!
والسؤال اآلن عن السبب يف ظهور بحث صناعة الربهان ،فام هو الدافع والباعث
الكامن وراء ذلك؟
لقد كانت الرغبة يف الوصول إىل الواقع ،كام هو ،هي الدافع باألساس للبحث يف
باب الربهان ،وكان هدف تشكيل قضايا ح ّقة وصادقة ،حتكي متن الواقعية ،و ُتنتج
يقينًا مطاب ًقا للواقع؛ هو الذي أ ّدى إىل نشوء البحث يف الربهان بجميع تفاصيله وفروعه.
املقصود من اليقي
خاص فـي بحث الربهان ،وقد يـحصل الـخلط بني أمور أخرى، ٌّ اصطالح
ٌ اليقني
وهذا اليقني ،فال بدّ من االنتباه إىل ّ
أن املراد من اليقني هنا هو اليقني نفس األمري ال
اليقني السيكولوجي النفيس؛ إذ اليقني السيكولوجي ليس من الرضوري أن يكون
مطاب ًقا للواقع ،بل قد يكون مرتاف ًقا مع اجلهل املركّب ،فمن يقع يف اجلهل املركّب
يكون عنده يقني سيكولوجي ال يقني نفس أمري .واليقني نفس األمري واملنطقي هو
وتصديق مطابق للواقع.
ٌ اعتقا ٌد
(ُ )1ينظر :أبو حامد حممد الغزايل ،املنقذ من الضالل ،الصفحتان.28 - 27 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 106نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ٍ
وبعبارة أخرىّ :
إن اليقني نفس األمري هو العلم واملعرفة احلقيقية أنفسهام،
ونحن يف الربهان نبحث عن مثل هذا اليقني وهذه املعرفة.
كحالة نفس ّية ،ومن جهة أخرى له ٍ جهة -وص ًفا للعالِـم،
ويعد هذا اليقني -من ٍ
كاشف عن الواقع ،ومن هنا فهو يتّصف باحل ّقان ّية ٌ ارتباط باخلارج؛ وهلذا فهو اعتقا ٌد
[أي من حيث مطابقته للواقع].
جمرد االعتقاد واجلزم ،بل
وبنا ًء عىل هذا ،فال يكفي لليقني نفس األمري واملنطقي ّ
ٍ
وكاشف عنه(.)1 ٍ
مطابق للواقع ال بدّ من تع ّلق هذا االعتقاد واجلزم بتصدي ٍق
وعىل كل حالّ ،
فإن دراسة حقيقة املعرفة وكذلك دراسة اليقني وأركانه تعد من
وخاصة الفلسفة ،ومن هنا ّ
فإن هذا الـموضوع ّ ألي عل ٍم حقيقي،
مهمة ّ
األسس الـ ّ
يستحق التحقيق والبحث اجلاد.ّ
نظرة تارخي ّي ٍة هلذا البحث نجد ّ
أن ابن سينا قد رشح آراء أرسطو ٍ ومن خالل
والفارايب املتع ّلقة هبذا املجال بنح ٍو ٍ
دقيق .ومن جهة أخرى نجد ّ
أن اخلواجة نصري
الدين الطويس له رأي آخر.
فنستعرض
ُ ني الشخص ّيت ِ
ني، وعىل هذا األساس سوف نركّز جهدنا عىل آراء هات ِ
أركان اليقني واملعرفة من وجهة نظرمها ،كام نقوم بمقارنة بني هذي ِن الرأي ِ
ني ،وندرس
أخريا أركان املعرفة اليقين ّية.
ً
وقبل استعراض رأي ابن سينا من اجلدير اإلشارة إىل آراء أفالطون ،وأرسطو،
والفارايب يف املعرفة احلقيقية.
يبدو ّ
أن أفالطون هو الذي بدأ البحث حول ماه ّية املعرفة احلقيق ّية ،ومن بعده خاض
أرسطو عباب هذا املوضوع ،وقام بالتحقيق حوله ،وهو من أهم مسائل علم الربهان.
( )1وقـد سـ ّببـت هذه الـمسألـة -وهي كون اليقـني ذا وجهـني -مشكل ًة للبعـض ،فقد كان تصـ ّور إمكـان الوصـول من
االعتقاد الـمـرتبـط بالشـخص العالِـم (فـاعـل الـمـعـرفـة) إلـى الـمطـابقـة للواقع من الـمشكالت الـمسـتعـصيـة فـي
بعض بحوث نظر ّية الـمعرفة عند الغربيني ،حتى اعتقد البعض أن طريق الوصول إلـى الواقع كمـا هو مسدود
أساسا .وال بـدّ من التع ّرض هلذا الـموضوع يف مـح ّله.
ً
107 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أركان اليقي
رأي أفالطون
تعرض أفالطون هلذا املوضوع وملاه ّية العلم احلقيقي يف رسالة (ثياتيتوس)( ،)1وأ ّنه
ّ
ما هو املعنى الدقيق لعبارة "أنا أعلم شي ًئا"؟ وعدّ د يف هذه الرسالة أركان املعرفة
ٍ
تصديق ،وعىل ٍ
اعتقاد أو األول للمعرفة ِ -من وجهة نظره -هو وجود
احلقيق ّية ،فالرشط ّ
لدي معرف ًة ،عندما يكون لدّ ي اعتقا ٌد وتصديق .والرشط فإنام يمكنني اال ّدعاء ّ
بأن ّ هذا ّ
الثاين برأيه هو كون االعتقاد صاد ًقا ًّ
وحقا ،فاملعرفة هي االعتقاد الصادق ،واملطابق للواقع
أو (التصديق الصحيح) .والرشط الثالث هو أن يكون مع التصديق الصحيح أو االعتقاد
وتوضيح.
ٌ الصادق ٌ
بيان
لقد ذكر أفالطون يف تلك الرسالة هذه الرشوط الثالثة للمعرفة احلقيق ّية ،ولكنّه
ٍ
راض متا ًما عن هذا التعريف .وقد قدّ م ثالثة أهنى البحث بنحو يبدو منه وكأ ّنه غري
ورجح ثالثها ،وإن مل يكن راض ًيا متا ًما عن ذلك.
تفسريات لـ (البيان والتوضيح) ّ
وشاب
ٍّ يبدأ أفالطون رسالة (ثياتيتوس) ،التي ُكتبت عىل شكل حوا ٍر بني سقراط
احليس ال يمكنه أن يكون معرف ًة حقيقية: اسمه (ثياتيتوس)؛ بالقول ّ
إن اإلدراك ّ
"سقراط :ولكنّنا مل نبدأ البحث من أجل معرفة ما هو ليس بمعرفة ،بل كان غرضنا
ٍ
بمقدار أننا لن نبحث بعد اآلن معرفة ما هي املعرفة .ورغم ذلك ،فعىل األقل قد تقدّ منا
احليس ،بل أصبحنا نعتقد ّ
أن املعرفة هي تلك احلالة التي حتصل عن املعرفة يف اإلدراك ّ
( ،Theaetetus )1وقد ترمجها بعضهم إىل (تياتتوس) ،ويف الرتمجات العربية القديمة (ثاأطاطس) .وللتفصيل يف
الوقوف عىل املحاورات األفالطونية وموضوعاهتا وزماهنا ونسبتها انظر :فردريك كوبلستون ،تاريخ الفلسفة،
ترمجة إمام عبد الفتاح إمام ،اجلزء ،1الصفحة201 :؛ وللوقوف عىل رأي أفالطون يف نظر ّية املعرفة بشكّل
مفصل انظر :املصدر نفسه ،الصفحات[ .238 - 213 :الربيعي]
ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 108نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
للروح عندما تلتفت هي ،ومن أجل نفسها؛ لـام هو موجود وتواجهه( .)1فسـ ّمها اآلن
ما تشاء.
يسمى تصدي ًقا أو عقيدة"(.)2 ثياتيتوس :سقراط ،أظن ّ
أن هذا هو ما ّ
مجيال حول ماه ّية التفكري ،ويتبني من خالل ذلك ّ
أن مراده هو ثم يذكر كال ًما ً
االعتقاد والتصديق:
"ثياتيتوس :برأيك ما هو التفكري؟
حوار ّتريه الروح مع نفسها حول اليشء الذي ُتريد الوصول إىل ُكنهه،
ٌ سقراط:
رجل جاهل ،وما أستطيع قوله حول التفكري هو كالم رج ٍل جاهل( .)3وعىلوطب ًعا فأنا ٌ
تسأل نفسها ِ
ومن أن الروح حني التفكري ال تفعل شي ًئا سوى ّأهنا ُ أي ٍ
حال ،فأنا أعتقد ّ ّ
نفسها التي تقبل ذلك اجلواب أو ترفضه .وبعد ّتيب عىل ذلك ،وهي ُ نفسها ُ
ثم هي ُ
ٍ
نتيجة وقبوهلا ،وعدم بقاء أي التقدّ م يف هذا البحث الرسيع أو البطيء والوصول إىل
نسمي تلك النتيجة ُحكم النفس أو اعتقادها؛ ولذا أقولّ :
بأن ترديد حياهلا ،فإننّا ّ
االعتقاد هو نوع من الكالم ،والتصديق هو كالم ،ولكنه ليس كال ًما ُيقال لآلخر
بواسطة الصوت ،بل هو كالم تقوله الروح ِ
لنفسها يف حالة صمت"(.)4
عرب عن االتّصال بالواقع -املوجود يف املعرفة احلقيق ّية -بااللتفات إىل الوجود ومواجهته ،وهو بيان حسن.
(ّ )1
( )2أفالطون ،املجموعة الكاملة آلثار أفالطون ،ترمجه (إىل الفارسية) :حممد حسن لطفي ،اجلزء ،3الصفحتان:
( ،1429-1428رسالة تئتتوس).
حتري الد ّقة املتناهيةً .
علام أنه قد ترجم وقد اعتمد املؤ ّل ُ
ف الرتمجة الفارسية ونحن ترمجناها إىل العربية من هناك مع ّ
هذه املحاورة إىل اللغة العربية الدكتورة أمرية حلمي مطر ،وقدّ مت هلا بمقدّ مة مفيدة وطبعت يف دار غريب
بالقاهرة حتت عنوان (حماورة ثياتيتوس ألفالطون أو عن العلم) ،فانظر فيام نحن بصدده :من الصفحة 95 :فام
بعد[ .الربيعي]
( )3هكذا يتحدّ ث سقراط؛ أل ّنه يرى أن طريقته هي التوليد ،فهو يعتقد أ ّنه ال يمنح التفكري ألحد ،وإنام يساعد
اآلخرين كي خيرجوا األفكار املوجودة بداخلهم إىل اخلارج ،وهذا األسلوب لسقراط مناسب جدًّ ا للتفكري
والتفلسف احلقيقي ،فهو يطرح األسئلة عىل خماطبه وهبذه الطريقة يضعه عمل ًيا يف ساحة التفكري والفلسفة.
( )4أفالطون ،املصدر السابق ،الصفحة .1434 :ما قيل هنا حول ماهيّة التفكري ُملفت للنظر جدًّ ا ،وما زال له
مؤ ّيدون إىل اآلن.
109 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النحو التـايل(" :)1فـي الـمحكمـة يقـوم شخـص بحكاية واقعـة كان قـد رآها ِ
بنفسـه، ٌ
فيحكم القـايض -الذي مل يشهد الواقعة -بالـحكم بنا ًء عىل شهادة الشاهد ،وهنا يكون
ٍ
اعتقاد صحيح. القايض قد حصل عىل
وكذلك فإ ّنه أحيانًا تقوم شواهدُ وقرائ ُن عىل إدانة املتّهم ،وتكون مصطنع ًة يف
الواقع ،ولكنّه بنا ًء عىل القاعدة ال بد للقايض من اعتبار املتّهم مذن ًبا استنا ًدا إىل تلك
شخصا يقوم يف األثناء بإلقاء خطاب يؤ ّثر يف عواطف القايض بنحو ً القرائن ،غري ّ
أن
أيضا يكون قد حصل للقايض اعتقا ٍد صحيح. جيعله يعتقد برباءة املتّهم .وهنا ً
بيد أنّه هل يمكن يف مثل هذه املوارد التي حصل فيها للقايض اعتقا ٍد صحيحٍ أن
نقولّ :
بأن القايض (يعلم) برباءة املتّهم؟
ويقني برباءة املتّهم( ،)2وعىل هذا ،فالعلمٌ علم
اجلواب بالنفي؛ فالقايض ليس لديه ٌ
أن االعتقاد الصحيح قد حيصل أحيانًا جمرد االعتقاد الصحيح ،فقد رأينا ّ واملعرفة ليسا مها ّ
صحيح عىل أوخطابية ،ويف هذا املورد مل يكن هناك ٌ
دليل ٍ وبطريقة جدل ّي ٍة
ٍ إثر اإلقناع
ٌ
االعتقاد؛ لذا ف ُيقرتح أن ُيذكر يف تعريف املعرفة ّأهنا :االعتقاد الصحيح الذي معه بيان.
واقعة مع ّي ٍنة اعتقا ًدا ال يمكن
ٍ شخص يف قضاة املحكمة ّتاه
ٌ "سقراط :فإذا أوجد
أيضا بنا ًء عىل أساس هذا ألحد أن يعتقده إال من شاهد الواقعة بعينه ،وحكم ال ُقضاة ً ٍ
صحيحا ،فإنه جيب
ً االعتقاد الذي وجد عندهم عن طريق السمع ،فإذا كان حكمهم
ٍ
اعتقاد صحيحٍ بدون أن تكون بأن أولئك القضاة قد حكموا عىل أساس ٍ
حينئذ ّ القول
لدهيم معرفة ...ولكن يا صديقي العزيز ،لو كان االعتقاد الصحيح واملعرفة واحدً ا،
ٍ
واقعة ما بدون أن صحيح يف ملا كان من املمكن ألفضل احلكّام أن يوجد لديه اعتقا ٌد
ٌ
فيتبني إ ًذا أن املعرفة غري االعتقاد الصحيح"(.)3
تتح ّقق لديه املعرفةّ ،
ثم ينقل ثياتيتوس عن أحدهم أ ّنه كان يقول« :املعرفة هي االعتقاد الصحيح الذي
يمكن تقديم بيان معقول حوله ،وأن ما ال يكون معه تعريف وبيان فليس بمعرفة»(.)1
ثم يصل الكالم إىل هذه النقطة وهي أ ّنه ما هو املقصود بالبيان ،فمن املمكن أن
تتبني
أيضا أن يكون بمعنى أن ّ يكون املقصود منه هو البيان والرشح اللفظي .كام يمكن ً
العنارص األساس ّية لليشء .واالحتامل الثالث أن يكون املقصود بالبيان هو معرفة مم ّيزات
رجح االحتامل الثالث ً
إمجاال" :ثياتيتوس ... :املعنى األول ،بيان الفكرة اليشء ،وقد ّ
بمعونة األصوات والكلامت .واملعنى الثاين ،تعداد اجلزئ ّيات والوصول منها إىل الكل.
وال بدّ اآلن من دراسة املعنى الثالث .سقـراط :املعنى الثـالث هو ما يفهمـه أكـثر النـاس
من اصطـالح التعريف؛ أي بيـان اخلصوص ّيات التي مت ّيز اليشء اخلاص عن سائر األشياء
[وتفصله عنها]»(.)2
يسمونه يف نظرية املعرفة املعارصة بـ (املُ ِّ
صحح)( .)3وكام املقصود بالبيان هو ما ّ
أيضاّ -
فإن البيان الزم ،ولكنّه البيان الرضوري سوف يأيت -وهو ما يعتقد به أرسطو ً
الذي هو الع ّلة احلقيقية والرضور ّية لالعتقاد.
أن املعرفة هي االعتقاد أن أفالطون يعترب -يف هذه الرسالةّ - ونتيجة البحث هي ّ
الصادق الذي يرافقه البيان ،وهبذا فهو يضع أسس نظر ّية املعرفة ول ِبناهتا األوىل.
رأي أرسطو
يعتقد أرسطو ّ
أن اليقني هو املعرفة املطلقة ذاهتا ،أي العلم احلقيقي( )4وهو يقول
ٍ
واحد من األمور عىل اإلطالق ال عىل طريق كليف هذا الصدد" :قد يظ ّن بنا أن نعرف ّ
السوفسطائيني الذي هو بطريق العرض [غري ذايت وغري حقيقي]( ،)5متى ُظ ّن بنا أنا قد
ويف رسالة أخرى أ ّلفها يف اليقني -وهي نفيسة للغاية ومفيدة يف هذا املوضوع -
قام بتعداد رشوط اليقني ً
قائال(":أ) اليقني عىل اإلطالق [(اليقني احلقيقي)] هو أن
يعتقد يف اليشء أ ّنه كذا ،أو ليس بكذا(( .)1ب) ويوافق أن يكون مطاب ًقا غري مقابل
()2
لوجود اليشء من خارج( .ج) ويعلم أنه مطابق له( .د) وأنه غري ممكن ّأال يكون قد
طابقه أو أن يكون قد قابله"(.)3
وقد ذكر الفارايب هنا أربعة رشوط لليقني ،ورشحها بعد ذلك ،والرشط الرابع
منها هو استحالة ّأال تكون القضية املُتيقنة كذلك ،وقال يف رشح هذا الرشط" :وقولنا:
ً
مقابال) هو التأكيد والوثاقة التي بـها يدخل (إ ّنه غري ممكن ّأال يكون مطاب ًقا أو أن يكون
اضطرارا( )5أن يكون قد طابقه ،وأ ّنـه ما
ً االعتقاد والرأي فـي حد اليقني( ،)4وأ ّنه يـجب
كـان يمكن أن ال يكـون يطابقـه وأ ّنـه بحـال ما ال يمكن أن يـكون قـد قابـله ،بـل هـو
بحال يـجب لـها رضورة أن يكون قد طابقه ،ولـم يناقضه ،وال ضا ّده .وهذه الوثاقة
والتأكيد فـي االعتـقـاد نفـسـه استـفادة عن اليشء الذي أوقعـه( ،)6كان ذلك اليشء هو
الطبيـعة( )7أو القيـاس"(.)8
وبنا ًء عىل هذا ،فاملوجب لكون االعتقاد بكذب نقيض القض ّية اليقين ّية ال يمكن
األول ّيات،
زواله -برأي الفارايب -هو علة االعتقاد هبا؛ أي إ ّنه إ ّما أن تلك القض ّية من ّ
أو ّأهنا نتيجة قياس ،وهذا املضمون نفسه الذي ذكره أرسطو ورشحه ابن سينا كام
سوف يأيت.
( )1أي سواء كانت القضية موجبة أم سالبة.
( )2املقابل هنا بمعنى النقيض.
( )3أبو نرص الفارايب ،املصدر السابق ،الصفحة.350 :
( )4من الواضح ّ
أن املراد منه هو اليقني نفس األمري الفلسفي املبحوث عنه يف نظر ّية املعرفة.
( )5وهو احلتميّة واالضطرار والوجوب العقيل.
( )6أي إن الذي أوجب هذا التأكيد والوثاقة هو علة التصديق هبذه القضية.
( )7مراد الفارايب من الطبيعة هنا هي األ ّوليّاتُ .ينظر :أبو نرص الفارايب ،املنطقيّات ،اجلزء ،1الصفحتان- 269 :
.270
( )8املصدر السابق ،الصفحة.352 :
115 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن مقابله ونقيضه مل ُيتصور بعد .فإذا كانللمعت ِقد تصديق بيد ّ
فأحيانًا حيصل ُ
تصور النقيض يتم احلكم بعدم إمكانه ،فإننا نقول ّ
بأن االعتقاد الثاين بمجرد ّ
ّ بحيث إ ّنه
القوة القريبة من الفعل؛ ولذا نرى ّ
أن الشيخ الرئيس قد طرح بالقوة ،ولكنّها ّ
موجو ٌد ّ
ثالثة رشوط لالعتقاد اليقيني.
بأن ما طرحه الشيخ الرئيس ُيعدّ من أنجح ما قيل؛ ّ
ألن بدايته وال بدّ من القول ّ
طبيع ّية .وال بدّ من االلتفات إىل هذه النكتة هي ّ
أن (املطابقة للواقع) مل ُتذكر يف هذه
واضح جدًّ ا ،وال جمال للنقاش فيه.
ٌ العبارات؛ ّ
ألن لزوم صدق مثل هكذا قض ّية
أيضا ً
قائال" :فالعلم الذي هو وقد ذكر الشيخ يف مكان آخر هذه العنارص الثالثة ً
أن كذا كذا ،ويعتقد أ ّنه ال يمكن ّأال يكون كذا
باحلقيقة يقني( )1هو الذي يعتقد فيه ّ
اعتقا ًدا ال يمكن أن يزول"(.)2
مهم ًة حوله، ٍ
أيضا تناول ابن سينا املوضوع ذاته ،وذكر توضيحات ّ
ويف مكان آخر ً
وذكر هناك نكت ًة ورشحها بنح ٍو دقي ٍق ،وقد وردت هذه النكتة يف بحوث أرسطو
بمجرده ليس يقينًا؛ ّ
ألن هذا االعتقاد ّ األول أيضا ،فهو يقول ّ
بأن االعتقاد ّ والفارايب ً
أيضا؛
نوع من االعتقاد ً
أيضا يف اجلهل املركّب ،بل حتّى التصديق الظنّي هو ٌ موجو ٌد ً
ولذا ّ
فإن االعتقاد الثاين [أي االعتقاد بأنه من غري املمكن أن تكون هذه القضية غري
أيضا.
صادقة] وكذلك االعتقاد بعدم إمكان الزوال رضوريان ً
ولكن ما هو اليشء الذي ُينتج االعتقاد بعدم إمكان الزوال؟ اجلواب هو ّ
أن األمر
الذي كان سب ًبا للتصديق بالقضية هو السبب لالعتقاد بعدم إمكان الزوال .فالشيخ
األول ّيات ،أي من القضايا التي يكون ِرصف الرئيس يقولّ :
إن تلك القضية إ ّما ّأهنا من ّ
( )1استُعملت كلمتا العلم واليقني باملعنى نفسه فـي هذا البحث ،فاملقصود بالعلم هو العلم اليقيني ونفس األمري
فإن العلم كاشف عن الواقع ومن دون هذه الكاشفية الوأساسا ّ
ً والـمعرفـي ،أي الوارد فـي نظر ّية الـمعرفة،
وجود للعلم ،وهذا النص البن سينا له أمه ّية ُمضاعفة من جهة اعتباره ّ
أن اليقني احلقيقي هو نفس العلم واملعرفة،
وااللتفات إىل هذه املالحظة يمكن أن يكون مفيدً ا للغاية يف فهم آراء الفالسفة املسلمني يف باب تعريف «املعرفة»
يف أبحاث نظر ّية املعرفة.
( )2ابن سينا ،املصدر السابق ،الصفحة.78 :
117 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصور املوضوع واملحمول فيها مؤ ّد ًيا إىل التصديق هبا ،أي ب ّينة بنفسها ،وإ ّما ّأهنا ليست
ّ
وإنام ُتكتسب باالستعانة بحدٍّ أوسط( ،)1وبواسطة هذا احلدّ األوسط يمكن
كذلك ّ
وأيضا ال تقبل الزوال، القول بأ ّن تلك القض ّية صادق ٌة وال يمكن أن يصدق ُ
نقيضهاً ،
وال يمكن صدق نقيضها حتت أ ّية ظروف" .العلم التصديقي هو أن يعتقد يف اليشء
أ ّنه كذا ،واليقني منه هو أن يعتقد يف اليشء أنه كذا ،ويعتقد أ ّنه ال يمكن ّأال يكون كذا،
اعتقا ًدا وقوعه من حيث ال يمكن زواله؛ فإنّه إن كان ب ّينًا بنفسه مل يمكن زواله ،وإن مل
يكن ب ّينًا بنفسه ،فال يصري غري ممكن الزوال ،أو يكون احلدّ األوسط األعىل أوقعه"(.)2
وبنا ًء عىل هذا ،فقد طوى ابن سينا هذا املسري ،ومعنى هذا الكالم هو ّ
أن لدينا
طري ًقا من الداخل جيد سالكه ال حمالة ً
سبيال منه إىل اخلارج ،ويصل إىل املعرفة بالواقع.
واخلالصة هي ّ
أن ابن سينا قد طرح ثالثة رشوط لليقني نفس األمرين:
األول :االعتقاد بالقض ّية والتصديق هبا ،وهذا الرشط خيرج الشعر ّيات.
الثان :االعتقاد بعدم إمكان صدق نقيض هذه القض ّية ،وهذا الرشط خيرج
التصديقات الظنّية مثل اخلطاب ّيات؛ أل ّنه يف التصديقات الظنّ ّية ال ينتفي احتامل صدق
كم بقض ّي ٍة ما، نقيض القض ّية املُصدق هبا ،فمن املمكن أن حيصل عند شخ ٍ
ص اعتقا ٌد ُحم ٌ
أيضا؛ تزلزل بأن احتامل صدق الطرف املقابل هلذه القض ّية موجو ٌد ًغري أ ّنه إذا ُأخرب ّ
اعتقاده السابق ،وبتعبري ابن سينا "بحيث لو عسى أن ن ّبه عليه بطل استحكام التصديق
أيضا.
األول"( ،)3فالرشط الثاين ُخيرج مثل هذه املوارد ً
الثالث :عدم إمكان زوال االعتقاد الثاين( ،)4وقد ذكر الشيخ ّ
أن هناك سب ًبا لعدم
إمكان زوال هذا االعتقاد ،وقد تقدّ م رشحه آن ًفا.
وحارضا يف الذهن كي تكون القضيّة من الفطريات (وهي القضايا التي ً واضحا
ً ( )1سواء كان هذا احلد األوسط
قياساهتا معها) ،أم مل يكن كذلك .وال بدّ من مراعاة الد ّقة الفنّيّة حول هذا احلد األوسط والقياس الذي ينتج عنه
تلك القض ّية ،سواء من حيث املا ّدة أم الصورة.
( )2ابن سينا ،املصدر السابق ،الصفحة.256 :
( )3املصدر السابق ،الصفحة.51 :
أيضا يطرح عدم إمكان الزوال ،ولكنّه يريد به معنى آخر.
( )4سوف نالحظ أن اخلواجة نصري الدين الطويس ً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 118نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
= والسبزواري يف رشح املنظومة ،انظر :رشح املنظومة ،اجلزء ،1الصفحة .323 :وهؤالء العلامء مجي ًعا قد أخذوا
هذا التعريف والتوضيح من املح ّقق الطويس كام أرشنا إىل ذلك آن ًفا.
( )1انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق)« ،الربهان» ،الصفحة.57 :
( )2هذا هو الصحيح ،ولكنّها وردت يف النص الفاريس بام ترمجته «إمكان زوال االعتقاد[ .»...املرتجم]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 122نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ِ
العامل [أي فاعل املعرفة] مطروحا كيف يستطيع اإلنسان ّ
حيل مشكلة ،ويبقى السؤال
ً
إحراز هذا القيد؟
بأن االعتقاد اليقيني جيب أن يكون مستحيل ِ
العامل وقال ّ لقد بدأ ابن سينا من
حاصال من طريق ع ّلته .والزم هذا الكالم -كام ّ
مر ساب ًقا -مطابقة ً الزوال وأن يكون
أيضا .فالحظوا عبارة الشيخ" :أنّا نعني بالعلم ها هنا املكتسب ،والذي
اليقني للواقع ً
خيالفه أصناف من االعتقاد :اعتقاد يف اليشء الذي هو كذا رضورة أ ّنه كذا ،مع اعتقاد
أنه ال يمكن ّأال يكون كذا ،لكن يكون هذا االعتقاد يف نفسه ممكن الزوال؛ أل ّنه مل يقع
من حيث ال يمكن معه الزوال"(.)1
االعتقاد ممكن الزوال هو الذي مل يسلك ِ
العامل للوصول إليه الطريق اخلاص الذي
يبني ابن سينا هنا الطريق املوصل لليقني بالواقع عىل الشكل
ُينتج تلك النتيجة ،وهبذا ّ
األول ّيات (أي ب ّينة بنفسها) وإما نتجت بواسطة
التايل :القضية اليقين ّية إما أن تكون من ّ
حدٍّ أوسط.
توضيحي ،وليست قيدً ا احرتاز ًّيا ،وهذا
ّ وعىل هذا ،فـ(املطابقة) يف هذا املقام قيدٌ
القيد ال ُخيرج شي ًئا عن شمول تعريف اليقني.
وخترج مجيع األغيار من أن الرشوط الثالثة التي ذكرها ابن سينا تكفيُ ،
والواقع ّ
تعريف اليقني ،برشط ّأال نأخذ (عدم إمكان الزوال) بمعنى الثابت ،والذي ال ُخيرج ّإال
االعتقاد التقليدي فحسب .فام أوضحه ابن سينا باالعتقاد القابل للزوال هو االعتقاد
ً
مطابقا الذي مل حيصل عن طريق ع ّلته ،فإذا حصل االعتقاد عن طريق ع ّلته فسوف يكون
تقليد ،وعليه فال حاجة ٍ -
حينئذ -إىل حينئذ -عن ٍللواقع .ومثل هذا االعتقاد لن يكون ٍ -
قيد (املطابقة للواقع).
أيضا نو ًعا من الظن وال بدّ من االلتفات إىل ّ
أن الشيخ الرئيس يعترب اجلهل املركّب ً
(أي الظن الفلسفي) ،فالشخص الذي لديه جهل مركّب ،يكون لديه -عىل الظاهر-
بأن نقيض القض ّية املصدِّ ق هبا ليس صاد ًقا؛ ولكنّه باعتبار أ ّنه
االعتقاد الثاين ،أي يعتقد ّ
( )1ابن سينا ،الشفاء (اإلهليات) ،الصفحة.256 :
123 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مل يسلك الطريق املوصل واملعترب ،فاعتقاده يكون يف الواقع ممكن الزوال؛ ولذا فاجلهل
املركّب ليس بعل ٍم واق ًعا ،ومن األفضل تسميته بالظن(.)1
أعم من الظن العريف .فأحيانًا
يسمى يف املنطق والفلسفة بـ «الظن» هو ّ
ومن هنا فام ّ
يكون االعتقاد جاز ًما ،ومع ذلك جيب اعتباره من أقسام الظن؛ أل ّنه ممكن الزوال.
وبنا ًء عىل هذا ،فاملعيار بكون االعتقاد يقين ًّيا هو ما ذكره ابن سينا ،وطب ًقا هلذا
املعيار ال يمكن االستعانة بأي قض ّية كانت للوصول إىل الواقع.
والسؤال املطروح اآلن :ما هي األركان األصل ّية للمعرفة احلقيق ّية؟ وما هي
العنارص التي جيعل وجو ُدها املعرفة حقيق ّي ًة ومن سنخ اليقني؟
تقدّ م ّ
أن طريق الربهان يوصلنا إىل الواقع ،و ُينتج املعرفة احلقيقية واليقني ،وقد
أيضا أركان اليقني يف كلامت الفالسفة الكبار .وال بدّ اآلن من دراسة أركان
طالعنا ً
املعرفة احلقيق ّي ة وقيودها ،وملاذا اشرتط ابن سينا وغريه تلك الرشوط وذكروا تلك
األركان هلا؟
وقبل الدخول يف البحث من املفيد االلتفات إىل مالحظتني:
ألفّ :
إن العلم الذي نتكلم عنه هو ظاهر ٌة إنسان ّية ،أي إ ّنه العلم الذي حيصل لنا نحن
حتققه عند غري اإلنسان؛ فنحن هنا ندرس بتحقق العلم أو عدم ّ
فعال ّ البرش( .)1وال شغل لنا ً
متحق ًقا يف أنفسنا ،ونريد دراسة وحتليل ما ُنشري إليه بقولنا (أعلم).
العلم الذي نجده ّ
باء :املقصود بالعلم يف هذا البحث -وكام ذكرنا ذلك ساب ًقا -هو العلم احلقيقي،
أيضا
أن (أ هي ب) يف الواقع( .)2كام نقصد ً أي العلم الذي يعلم ِ
العامل بنا ًء عليه حقيقة ّ
أيضا العثور عىل مجلة من أبحاث نظر ّية املعرفة يف علم الفلسفة ويف = وأركاهنا ،ومصادر املعرفة والتربير .كام يمكن ً
ٌ
تاريخ مبحث «نفس األمر» باخلصوص ،وبنا ًء عىل هذا ،فرغم أن علم «نظر ّية املعرفة» -كعلم مستقل -ليس له
ٍ
كثرية يف هذا ٍ
بدراسات أيضا
القدم ،وقد قام املفكّرون املسلمون ً أن أبحاث نظرية املعرفة قد طرحت منذ ِ طويل ،بيد ّ
ّ
املجال .فمثل هذه األبحاث ليست جديد ًة عىل العلوم العقل ّية اإلسالم ّية.
( )1بحثنا هنا ليس يف أصل وجود العلم ،أي إ ّننا اآلن بصدد «ما احلقيق ّية» ،وليس «ما الشارحة» ،فأصل وجود العلم
علام
بدهيي ،وخاصة العلوم احلصول ّية الناّتة عن العلوم الشهود ّية ،فعندما يكون لدينا علم حضوري ،ونأخذ منه ً
خاصية الكشف ،ويكشف الواقع.
أن للعلم احلصويل ّ أن كال العلمني حارض عندنا ،كام نجد ّ حصول ًيا ،فإننا نجد ّ
أمر بدهيي .والالف ُت للنظر يف مثل هذه املوارد هو أن كال العلمني حارض
وعليه فوجود العلم لدينا يف اجلملة هو ٌ
أيضا العلم احلضوري بالعلم احلصويل الناتج عن ذاك العلم احلضوري؛ ولذا لدينا :العلم احلضوري ،وكذلك ً
ِ
املطابق واملطابق) ،وعندما ند ّقق يف املطابقة نجد أهنا موجودةّ ،
وأن هذا العلم حارضا لدينا كال األمرين (أي
ً فيكون
ِ
احلصويل ُمطابق للواقع.
ٍ
وبعبارة أخرى :إ ّن نا نشاهد االرتباط بني احلاكي واملحكي يف صقع أنفسنا ،ونحكم باملطابقة .وبكلامت أخرى: ٍ
أن الصورة مطابق ًة لصاحب
هناك واقع ٌة موجود ٌة عندي وكذلك يوجد عندي صور ٌة عن تلك الواقعة .فأجد ّ
الصورةّ .
وأن هذه الصورة هي صورة تلك الواقعة.
أيضا يف القضية الرشطيّة ،فيحصل لدينا علم
( )2ليس املقصود يف هذا املقام القضية احلمليّة فحسب ،فاألمر كذلك ً
ّ
باالحتاد يف القضية احلمليّة وعلم باللزوم أو العناد يف القضية الرشطيّة.
125 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يف هذا املقام العلم التصديقي ،فالتصديق هو عمدة ما نواجهه يف بحوث الربهان(.)1
ونقوم اآلن بتحليل العلم من حيثية ِ
العامل: ّ
إن ّأول ركن للعلم التصديقي هو (االعتقاد) ،فاالعتقاد ال جيتمع مع الرتديد. ّ
فعندما أعلـم ّ
أن «أ هي ب» ،فـإ ّننـي أعتـقـد بـذلـك ،وهذا يعني أ ّنه ال يـخالـجنـي أي
تـرديـ ٍد فـي أن (أ هي ب).
تصور ّ ٍ
باالحتاد بني (أ) و(ب) ،ال بد ّمن ّ وبعبارة أخرى :قبل التصديق واحلكم
نفس (أ) و(ب) و(النسبة بينهام) .وأما قبل احلكم بوجود النسبة بني (أ) و(ب) ،فإنّني
ال أستطيع القول بأنّني أعلم أن (أ هي ب) .فإذا كان هناك ترديد بثبوت هذه النسبة
فإ ّنه ال يمكن احلكم وال حيصل االعتقاد هبا.
األول للعلم احلقيقي هو اشتامله عىل االعتقاد.
وعىل هذا ،فالرشط والعنرص ّ
وهبذا القيد خترج الشعر ّيات من تعريف اليقني؛ فالشعر ّيات إ ّنام ِ
توجد التخ ّيالت،
تصورات .والركن الثاين للعلم احلقيقي بقضية (أ هي
جمرد ّ
وهي ال تزيد عىل كوهنا ّ
ب) ،هو (االعتقاد بصدق القضية).
وال بدّ من االلتفات إىل هذه النقطة ،وهي ّ
أن العلم التصديقي هو اعتقا ٌد بيشء،
إن (أ) مرتبطة مع (ب) أيضا يتع ّلق بمحكي القضية ،أي ّ فله متعلق .كام ّ
أن االعتقاد ً
وضح
يف اخلارج .ومن الواضح أن متعلق االعتقاد ليس هو مفهوم هذه القضية .وقد ّ
الفارايب هذه النقطة بنحو ج ّيد(.)2
فإهنا ُخترب عن
أمورا ذهن ّية ،مثل (اإلنسان كيل)ّ ،
وحتى لو كان مضمون القضية ً
وعام وراءها مما يمكن تسميته (ذهنًا وراء الذهن) .فاالعتقاد يتع ّلق ً
دائام بام وراء حمكيّ ،
ّ
القضية ،وإن كان واق ًعا باملعنى األعم الشامل لألمور الذهن ّية مثل (اإلنسان كيل)،
دائام عن وأساسا ّ
فإن العلم احلصويل ُخيرب ً ً واألمور اخلارج ّية مثل (هذا اللباس أبيض).
يشء وراءه ،ومن هنا يقولون ّ
بأن العلم احلصويل صورة الواقع ،فخصوص ّية العلم
اخلاصة يف مبحث الربهان ،وال بدّ من دراسته يف نظر ّية املعرفة ،ولكنه ليس موضع بحثنا هنا.
ّ أيضا مكانته
للتصور ً
ّ ()1
( )2انظر :أبو نرص الفارايب ،املنطقيات ،اجلزء ،1الصفحة.350 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 126نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
بأن الركن اآلخر للعلم احلقيقي هو رضورةواجلواب بالنفي ،فال بدّ من القول ّ
ً
حاصال من العلة ،فال بدّ من ومصحح له ،وأن يكون
ّ ربر
حيازة االعتقاد املذكور عىل م ّ
رب ٍر لالعتقاد بصدق القض ّية واالعتقاد بكذب نقيضها. وجود سب ٍ
ب وم ّ
شخصا اعتقد اعتقا ًدا جاز ًما ّ
بأن (غدً ا سوف متطر) وكان اعتقاده ً ولنفرتض ّ
أن
وتبني مطابقة هذا االعتقاد
هذا ناش ًئا من حدس ،فإذا أمطرت يف اليوم التايلّ ،
()1
للواقع ،فهل يمكن القول بأ ّنه كان لديه علم هبذه القض ّية؟
بأن تلك القض ّية صادقة بالرضورة؟ فمن لديه بأي ٍ
دليل يقول ّ ال بدّ من سؤاله ّ
علم بقض ّية ما ال بدّ أن يكون علمه مستندً ا إىل الدليل اخلاص عىل صدق تلك القضية،
ّ
وإال فإ ّنه ال يمكنه اجلزم هبا واق ًعا؛ أي ّ
إن االعتقاد الثاين بكذب نقيض القض ّية مل حيصل
حقيقة .وهذا الرشط الرابع الزم للرشوط الثالثة السابقة.
إنام حتصل حقيقة عندما يتح ّقق بتبعها ٍ
وبعبارة أخرىّ :
إن الرشوط الثالثة األوىل ّ
حتقق الرشوط السابقة وباألخص حتقق الرشط الرابع حيكي عن عدم ّ الرشط الرابع ،وعدم ّ
الرشط الثالث؛ فهذا الشخص الذي حدس بنزول املطر غدً ا ولكنّه ال يملك أي ٍ
دليل
عىل رضورة هذه القض ّية هو يف احلقيقة ليس لديه (علم) برضورة هذه القض ّية.
ويمكن بيان هذه النقطة -التي حصلنا عليها من خالل حتليل معنى العلم واملعرفة-
أيضا :فلكي يصبح اإلنسان عا ًملا بيشء مل يكن له ٌ
علم به ،حيتاج إىل انكشاف بنحو آخر ً
ً
حاصال له قبل ذلك .ومن الطبيعي رضوري .ومثل هذا األمر مل يكن
ّ املعلوم عنده بنحو ٍ
أمر أوجب انكشاف ذلك املعلوم عنده بنحو رضوري؛ إذ ٍ
حينئذ أنه ال بدّ من وجود ٍ
ٍ
بشكل تلقائي ،ولذا فالطريق الوحيد هو من الواضح ّ
أن ذلك املعلوم مل حيصل عنده
رب ٍر أ ّدى إىل انكشاف املعلوم بنحو رضوري.
ومصححٍ وم ّ
ّ القول بلزوم وجود ٍ
دليل
وهبذا الرشط خترج أمور مثل احلدس العريف واالعتقاد التقليدي ،فاملق ِّلد يستطيع
وأال حيتمل نقيضها بأن (أ هي ب) ،اعتام ًدا عىل شخص جعله يعتقد هبا تقليدً اّ ،
العلم ّ
( )1املراد باحلدس هنا هو احلدس العريف ،وليس احلدس الفلسفي الذي ُيعدّ من اليقينيّات ،فبعض األشخاص لدهيم
هذه احلالة النفسيّة بحيث إ ّنه حيصل لدهيم اليقني واجلزم برسعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 128نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
األوليات ،وقيام
ربر الذايت للعلم هو كونه ب ّينًا بنفسه يف ّ واجلواب هوّ :
إن امل ّ
الربهان عليه يف النظر ّيات [أي األمور النظر ّية] ،فنحن يف الربهان نبحث عن العلة
ِ
العامل، يت وراء الذات ّية للعلم باألمور النظر ّية ،وعليه فالعلم يرتبط ٍ
حقيقي وذا ّ
ّ بأمر
العامل وشخص علمه ،وهبذا الشكل يمكن الوصول إىل العلم احلقيقي. ويتجاوز أفق ِ
فقول ابن سينا ّ
بأن االعتقاد الثاين ال بدّ أن يكون غري ممكن الزوال ،إشارة إىل هذه
األوليات وإ ّما أن مر ساب ًقاّ -
إن االعتقاد إ ّما أن يكون من ّ النقطة .فهو يقول -كام ّ
حيصل بواسطة حدٍّ أوسط ذايت ،فقد اتّضح أننا إذا أردنا الوصول إىل اليقني يف األمور
إن سائر الصناعات ليس هلا مثل النظر ّية فال بدّ لنا من استخدام صناعة الربهان؛ إذ ّ
هذه القدرة عىل اإليصال.
وإنام ال بدّ من
ونحن نرى أ ّنه ال ينبغي ذكر (االعتقاد الصادق) يف تعريف العلمّ ،
الرتكيز عىل (االعتقاد بالكشف والصدق) .وما جاء يف كالم املح ّقق الطويس من
صحة هذه املالحظة [إلخراج اجلهل املركّب]-
إضافة قيد (املطابقة) -عىل الرغم من ّ
وإنام الذي ينفعه هو ِ ّ ّإال إ ّن هذا القيد غري ٍ
[ألن جمرد املطابقة ال تنفع العاملّ ، كاف
أساسا يف اليقني نفس األمري كام تقدّ م]،
ً (االعتقاد باملطابقة) ،ناهيك عن ّ
أن كالمنا
ومن هنا وجب ذكر (االعتقاد باملطابقة) يف التعريف [ال جمرد املطابقة].
وبنا ًء عىل هذا فالطريق الذي سلكه ابن سينا هو األصوب.
التعرض لبحث كيف ّية حصول االعتقاد باملطابقة والكشف، ومن ثم ال بدّ من ّ
ٍ
اعتقاد هو الذي بلحاظ كونه اعتقا ًدا يكون كاش ًفا عن احلقيقة ،ويوصلنا إىل وأي
ّ
بأن االعتقاد باملطابقة يتط ّلب ع ّل ًة ذات ّي ًة.
الواقع؟ ال بدّ من القول ّ
والعامل ،وهو طريق صحيح؛ فهذا الطريق ِ يلج ابن سينا البحث من طريق العلم
فإن اخلواجة نصري الدينمناسب ومنتج للوصول إىل (نفس األمر) .وكام ذكرنا ساب ًقا ّ
ِ
العامل ال طريق له إلحراز قيد املطابقة ّإال من مل يسلك طري ًقا طبيع ًيا وال دقي ًقا؛ ّ
ألن
طريق العلم فقط .فال بدّ إ ًذا من دراسة خصوص ّيات طريق العلم الذي يكشف عن
ودقيق يف دراسة
ٌ طبيعي
ٌ الواقع حقيق ًة وبالرضورة ،وحي ّقق رشط املطابقة ،فهذا الطريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 130نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
بحث املعرفة ،واليقني نفس األمري ،ومن ثم تأيت دراسة رشوط اليقني املطروح يف
املتفرعة عليه.
صناعة الربهان واألبحاث ّ
بأن هذا البحث سوف يكون ّبواب ًة ألبحاث نظر ّية املعرفة يف وهنا جيب التذكري ّ
باب التصديق؛ ذلك أ ّنه ال بدّ ّأو ًال من تعريف املعرفة بشك ٍل دقيق ،ومعرفة أركاهنا،
واحد من أركاهنا ٌ
بحث عىل حدة(.)1 ٍ ثم ُيعقد ّ
لكل
وقد ورد يف التعريف الشائع للمعرفة يف أبحاث نظر ّية املعرفة ّأهنا «االعتقاد
الصادق املربر» ،أن يكون االعتقاد مرب ًرا ،وكان هذا بنفسه سب ًبا يف بروز بعض
املشاكل؛ وكان ال بدّ من ذكر العلة الذات ّية الرضور ّية واالضطرار ّية لالعتقاد بالكشف،
تنحل املشكلة التي طرحها (أدموند غوتيه). وهبذا ّ
واخلالصة هيّ :
إن للمعرفة اليقين ّية مخسة أركان هي:
.1االعتقاد.
.2االعتقاد بالصدق.
.3اجلزم (اعتقاد كذب النقيض).
ربر والدليل.
.4وجود امل ِّ
ربر والدليل ذات ًّيا حقيق ًّيا.
.5كون امل ِّ
واملكونات ضمن الرشوط الثالثة التي ذكرها
ّ وقد مجع ابن سينا كل هذه العنارص
األول والثاين .والرشط الثاين( )3حيكي عن
يتضمن الركنني ّ
ّ
()2
األول
لليقني :فالرشط ّ
يتضمن الركنني الرابع واخلامس(.)5
ّ
()4
الركن الثالث .والرشط الثالث
( )1يبدو أ ّنه جيب تنظيم أبحاث نظر ّية املعرفة ضمن قسمني :العلم احلصويل ،والعلم احلضوري .وتقسيم العلم
أيضا مها :العلم التص ّوري والعلم التصديقي ،كام فعل ذلك فالسفتنا ومناطقتنا .والتعريف
احلصويل إىل قسمني ً
املطروح هنا للمعرفة يرتبط بالعلم احلصويل التصديقي.
( ..." )2يعتقد فيه ّ
أن كذا كذا"؛ ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحة.78 :
( ..." )3يعتقد أ ّنه ال يمكن أال يكون كذا"؛ املصدر السابق.
( ..." )4اعتقا ًدا ال يمكن أن يزول"؛ املصدر السابق.
( )5كام قال هو ذلك يف مكان آخر من برهان الشفاء ،وقد نقلناه ساب ًقا ،حيث قال ..." :اعتقا ًدا وقوعه من حيث =
131 رصها |
أركان املعرفة اليقينيّة وعنا ُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ال يمكن زواله ،فإنه إن كان بيّنًا بنفسه مل يمكن زواله ،وإن مل يكن بيّنًا بنفسه ،فال يصري غري ممكن الزوال ،أو
يكون احلد األوسط األعىل أوقعه"؛ املصدر السابق ،الصفحة .256
4
املعرفة الحضور ّية والحصول ّية
دراسة تحليل ّية -مقارنة
(*)
الشيخٌسامرٌتوفيقٌعجمي
***
***
137 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسيستمر تعبري الفالسفة واملفكّرين عن القلق الوجودي الذي يعيشونه أمام سؤال
املعرفة ،أو ينبئنا منهم أنّه ابتكر أطروح ًة معرف ّي ًة جديد ًة ،متكّنت من سدّ ثغرة عمرها
ألفني ومخسئة عام ،ثالثة آالف عام ،عرشة آالف عام...
طبيعي بلحاظ كون اهلندسة النّفس ّية لإلنسان تنجذب فطر ّي ًا نحو املعرفة
ٌّ أمر
وهذا ٌ
بمتقدِّ مة ال متناهية ،إذ ال يمكن إشباع هنم طلب املعرفة والبحث عن احلقيقة( .)1فتاريخ
اهلو ّية اإلنسان ّية هو تاريخ املعرفة ،فبالتفكّر واملعرفة يرسم مساره اخلاص يف هرم
ثمة قراءة للنّصوصمنامزا عن باقي الكائنات املشاركة له يف وحدة احلياة .بلّ ،
الوجودً ،
خاصة بعطفه نحو املعرفة( ،)2وقد اشتهر الوحيان ّية ُحتدّ د هدف الوجود عا ّمة ،واإلنسان ّ
فأحببت أن ُأعرف (أ ِ
عرف)(،)3 ُ كنت كنز ًا خمف ّي ًا
عىل ألسنة العرفاء احلديث القديسُ " :
فخلقت اخللق لكي أعرف"(.)4
ُ
تطور ًا بنيو ّي ًا يف االهتامم بمسألة املعرفة ،بنحو
سجل الفكر الغريب احلديث ّ
هذا ،وقد ّ
تفكري ،إىل موضوع للتّفكريُ ،فأنشأ فرع خاص يف املعارف ٍ حتولت فيه "املعرفة" من ِ
فعل ّ
اإلنسان ّية ،اصطلح عليه ( Epistemologyنظر ّية املعرفة) ،أو (علم املعرفة).
( )1ثمة أحاديث عدّ ة مفادها" :منهومان ال يشبعان :طالب علم ."...انظر :الريشهري ،حممد ،ميزان احلكمة ،دار
احلديث ،ط ،1ج ،3ص.2071
( )2يقول املريدامادّ ..." :
ألن املعرفة هو الغرض األصيل من خلقته ."...الرواشح الساموية ،ص .45وقال املريزا
األشتياين ..." :الغرض من اخللق املعرفة ."...بحر الفوائد يف رشح الفرائد ،ج ،1ص .288وقال الشيخ
اجلواهري ..." :ألن كامل العلم ،الذي هو الغرض األصيل من خلقته ." ...جواهر الكالم يف رشح رشائع اإلسالم،
ج ،29ص .31وامللفت أهنم استدلوا لتأييد وجهة نظرهم بقوله تعاىل﴿ :ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ﴾،
مفرسين العبادة باملعرفة (إال ليعرفون).
ّ
( )3ثمة قراءتان ملفردة" :أعرف" ،األوىل :بالضم ،وهي املشهورة ،والثانية :بالفتح ،يتبناها السيد اخلميني يف كتبه
العرفانية .يقول يف تعليقة له عىل رشح فصوص احلكم للقيرصي ..." :هذا موافق للحديث القديس( :كنت كنز ًا
خمف ّي ًا فأحببت أن أعرف) أي :أحببت أن أ ِ
عرف ذايت بمقام الكنز ّية ،التي هي مقام الواحدية التي فيها الكثرة األسامئية
املختفية( .فخلقت اخللق لكي) أّتىل من احلرضة األسامئية إىل أعيان اخللقية .و(أعرف) نفيس يف املرائي التفصيلية".
القيرصي ،حممد داوود ،رشح فصوص احلكم ،حتقيق السيد جالل الدين آشتياين ،ص ،328التعليقة.)5-1(:
( )4املجليس ،حممد باقر ،بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار األئمة األطهار ،دار إحياء الرتاث العريب ،بريوت ،ط،3
1403هـ1983-م ،ج ،84ص.199
139 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أشـار القـرآن الكريم إلـى هذه الظاهـرة بقـوله﴿ :ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ﴾
سورة النـور ،اآلية.39 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 140نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
صححه وع ّلق عليه الشيخ عباس عيل الزارعي السبزواري ،مؤسسة النرش ( )1الطباطبائي ،حممد حسني ،هناية احلكمةّ ،
اإلسالمي التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة ،املرحلة ،11:يف العقل والعاقل واملعقول ،الفصل ،1:ص.293
(ّ )2تدر اإلشارة إىل أنّه يف ضوء مباين الفلسفة املشائيّة يمكن تعريف العلم رسميّ ًا أو حد ّي ًا؛ وذلك ّ
ألن العلم من
عرض (أي ماهية قائمة يف موضوع)= ،
املقوالت املاهو ّية ،حيث أدرجوه حتت مقولة الكيف النفساين ،فهو ٌ
141 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صارتا منشأي اخلفاء للمتجيل لفرط الظهور"( ،)1ولنا يف (النور) نموذج ًا ،فمع أنّه
ُ
اإلنسان األشياء إال بسقوط النور عليها ظهر لغريه ،بحيث ال ي ِ
برص ِ
ظاه ٌر بذاتهُ ،م ِ
ُ
وانعكاسه منها ،ي ُ
غفل عنه لشدّ ة ظهوره ،والعلم احلضوري من أعىل مراتب النور
فتشبيها.
ً مسامه،-
املعنوي ،فإن مل يكن حقيقة -أل ّنه مصداق معناه وموضوع ّ
يكتنف املعرفة احلضور ّية ،أن ُتنكِر املدرس ُة املشائ ّية
ُ الغموض الذي
ُ وقد س ّبب
داريس الفلسفة يف اخللط بينها وبني ِ كثري من
ويتورط ٌ
ّ بعض مصاديقها وأقسامها،
املعرفة احلصول ّية ،فالتبست عليهم مسائل كثرية يف الفلسفة والعرفان ،ودفعتهم الشبهة
إىل إنكار بعض القضايا املعرف ّية أو تعليق احلكم .وعىل هذا األساس يقول الشيخ
مرتىض مطهريّ " :
إن الدّ قة يف فهم حقيقة العلم احلضوري ،ومتييزه بشكل صحيح من
مهم لفهم نظريات أثبت صحتها الفالسفة الكبار يف ٌ
رشط ٌّ العلم احلصويل ،هي
بتجرد النفسّ ،
واحتاد العاقل واملعقول ،ووحدة مجع اجلمع للنفس، املباحث املتع ِّلقة ّ
وحتى بني الفالسفة ال نجد ّإال القليل ممّن مل تزل قد ُمه يف هذا املضامر ،وهلذا نجد من
والتعمق الكثري لكي يتضح لنا املوضوع"(.)2
ّ الالزم علينا املامرسة واملطالعة
من هنا نستظهر أمه ّية البحث عن املعرفتني :احلصول ّية واحلضور ّية ،لتربز طبيعة
ٍ
بنحو تتم ّيز فيه عن األخرى. دة وواضحة،مؤرشات حمدّ ٍ
ٍ ٍّ
كل منهام يف ضوء
( )1الشريازي ،حممد بن إبراهيم (املعروف بصدر املتأهلني) ،تفسري القرآن الكريم (تفسري آية النور) ،انتشارات بيدار،
إيران-قم ،ط1366 ،1ه.ش ،ج ،4ص.348
( )2الطباطبائي ،حممد حسني ،أسس الفلسفة واملذهب الواقعي ،تعليق األستاذ الشهيد مرتىض مطهري ،تعريب حممد
عبد املنعم اخلاقاين ،دار التعارف للمطبوعات ،بريوت ،ج ،2ص.54
143 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
املتكرسة عىل الصخور املحيطة بك ،والرذاذ يتطاير مالمس ًا برشة وجهك،
ّ األمواج
ويداعب النسيم املنعش خصالت شعرك...
ٍ
بشكل آلـي عرشات الصور البرص ّية ،والسمع ّية، هنا ،تلتقط أجهزتك اإلدراك ّية
واللمس ّية ،صورة الشمس ،الشعاع ،البحر ،املوج ،املاء ،الرمل ،الصخور ...فتنطبع
ث جمموعة عمليات فيزيولوجية لرتميز الصورة، هذه الصورة أو تلك يف املخ ،وحتد ُ
ثم تطرق عىل بابك الفلسف ُة املتعالي ُة؛ لتمنحك
تكشف عنها أبحاث العلم الطبيعيّ .
أفق ًا أسمى يتجاوز قرص النظر عىل هذه الصور يف بعدها الفيزيقي فقط ،لتعيش يف
فضاء امليتافيزيقيا أيض ًا ،فالعني ليست ّإال آلة ،تتح ّكم بقيادهتا قو ٌة نفسان ّي ٌة ُيصطلح
عليها (البارصة) ،واألذن أداة (السامعة) ،وظاهر البرشة آلة (الالمسة) ...فهذه العمليات
احلس الظاهري والواقع املادياملادية الفيزيولوجية التي حتصل حلظة االتصال بني أداة ّ
جمردة عن املادة- اخلارجي ،هي جمرد معدّ ٍ
لتحس البارصة -كقوة نفس ّية ّ
ّ ات ورشائط ّ
بالشمس ،أو تدرك السامعة صوت املوج...
مرحلة معرف ّي ٍة بالواقع املادي ،حيصل
ٍ احليس اجلزئي) ،هو ّأول
ّ هذا (اإلدراك
بواسطة صورة ذهن ّية عنه ،تلتقطها احلواس ،ويندرج حتت أقسام العلم احلصويل.
ثم يتم حفظ هذه الصورة أو تلك يف خزانة خاصةُ ،يصطلح عليها :اخليال.
ويتمكّن الفرد حتت تأثري ظروف مع ّينة اختيار ّية أو اضطرار ّية ،أن يسرتجع صورة
الشمس أو املاء ،...بواسطة (قوة الذاكرة) .ويطلق عىل الصورة املُسرتجعة من اخليال
أيضا.
اسم (العلم اخليايل) ،وهو أحد أقسام العلم احلصويل ً
الترصف بالصور املستودعة يف خزانة
ّ ويمتلك اإلنسان قدر ًة ذهني ًة مدهش ًة عىل
وجيزئ ،أو يركّب ويؤ ّلف ٍ
ذهنية ،فيف ّكك وحي ّلل ّ ٍ
نشاطات اخليال ،فيقوم بمجموعة
بالشكل الذي يرغب يف أن ٍ
لوحة ّ - مثال ،يمسك بريشته فريسم صورته عىل ويدمجً ،
تكون عليه ،من دون أن ينضبط بقوانني الواقع -جالس ًا عىل صخرة يف وسط البحر،
املترصفة) ،وهي متكّن
ّ واض ًعا قرص الشمس يف يمينه ...يصطلح عىل هذه القوة( :
اإلنسان من (االنتزاع والتعميم) أي التس ّلط عىل الصور والتحكم هبا ،حيث يقوم بالنظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 144نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ويقرش عنها عوارضهاّ فيجردها من خصوصياهتا الفردية، ّ إليها ،ويقارن بينها،
ٍ املشخصةُ ،مبقي ًا عىل
ِّ
اللب واجلوهر( ،)1فيحصل عىل جام ٍع مشرتك ذا ّ
يت بينها، ّ
كيل ال يمتنع محله عىل كثري ،وهو (العلم ٍ
ماهوي ،هو مفهو ٌم ٌّ
ّ معقول كاجلسم ّية ،أي عىل
املترصفة للرتكيب بني القضايا بكيفية خاصةِّ التع ّقيل التصوري) .وبإمكانه توظيف
ليستنبط منها نتيجة مالزمة هلا ،كأن يقول :هذا ماء ،وكل ماء يروي من العطش ،فهذا
املاء يروي من العطش ،وهو (العلم التع ّقيل التصديقي).
بأهنا" :انطباع صورة اليشء يف الذهن .أو:
عرف املناطقة املعرفة احلصول ّية ّ
لذاّ ،
حصول صورة اليشء يف العقل".
ويمكن أن نصطلح عىل العلم احلصويل :العلم الصوري ،أو الواسطي ،أو
ٍ
مرتسمة يف الذهن تعكس ٍ
صورة االرتسامي ،أو االنعكايس؛ ذلك أنّه حاصل بواسطة
واقع اليشء وحتكي عنه.
وثمة خصائص عديدة للمعرفة احلصول ّية ،ي ّتضح بعضها يف أثناء املقالة ،ومن
ّ
مجلتها ّأهنا علم ماهوي .فال يمكن بواسطة العلم احلصويل معرف ُة حقيقة الوجود
اخلارجي بام هو هو ،أي هبويته العين ّية الشخص ّية؛ فاملرتسم يف الذهن عن الوجود ،كيفام
ثان فلسفي عنه ،ومفهوم اليشء وإن كان هو هو بنظر ُف ِرض ،هو مفهومه ،أي معقول ٍ
بنظرة فاحصة ،بخالف املاهية فهي بنفسها -من وجهة ٍ ّأويلّ ،إال أنّه ليس هو حقيق ًة
نظرهم -حترض يف الوجودين م ًعا ،فيكون واقع العلم أي املعلوم بالذات (صورة
مغايرا لواقع املعلوم بالعرض (واقع الشمس) يف ذاته ،فهناك
ً الشمس ً
مثال) كام يبدو لنا
تغاير وجودي ،وإن كانت املاهية واحدة.
فمعرفة اإلنسان بواقع ّية الشمس يف عامل املادة إنّام حصلت بسبب الصورة الذهن ّية
ألهنا حصول صورة الواقع املعلوم (الشمس) يف
الكاشفة عنها ،فهي معرفة وسائط ّية؛ ّ
أطروحات فلسفيّ ٌة عدّ ة لتفسري كيفية حصول الذهن البرشي عىل التصورات الكليّة ،اكتفينا هبذه الرؤية؛
ٌ ( )1ثمة
وإال فثمة وجهتا نظر أعمق حول املسألة ،األوىل :لصدرلكوهنا أيرس وأسهل يف إيصال املراد الذي هندف إليهّ ،
املتأهلني الشريازي ،والثانية :للسيد حممد حسني الطباطبائي.
145 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ِ
العامل ،وال يمكن أن يأيت الذهن ،دون حضور اليشء القائم يف اخلارج بواقعيته لدى
الواقع اخلاص مع تل ّبسه باخلارج ّية إىل الذهن ،الستلزامه انقالب اليشء عن حقيقته،
يتجرد عن ثوب العين ّية ،ويرتدي ثوب ًا
وهو حمال بنظر العقل ،فعندما يأيت إىل الذهن ّ
جديد ًا مناسب ًا لعامله(.)1
فم ـا فـي الذهن عـن :الـوج ـود /الـعـدم ،العـ ّلـة /الـمعـلول ،الق ـ ّوة /الفـع ـل ّية،
ثانية فلسف ّي ٍة دون حقائقهاكمعقوالت ٍ
ٍ الوجوب /اإلمكان ...هو مفاهيمها التحليل ّية
العين ّية ،وهبذا اللحاظ ختتلف املعرفة احلصول ّية بأشخاص املاهيات عن املعرفة احلصول ّية
بالوجود وحمموالته الذات ّية ،وهنا ينفتح باب البحث عىل مرصاعيه أمام طبيعة فوارق
املعرفة البرش ّية باملعقوالت األول ّية املاهو ّية ،عن املعرفة باملعقوالت الثانية الفلسف ّية،
كال منهام حيكي عن واقع خارجي يطابقه .لكنّنا نتجاوز هذه النقطة اآلن عىل أن ًّ
مع ّ
أمه ّيتها؛ كوهنا تقع خارج نطاق دراستنا.
الشمس املادية يف عامل اخلارج [ويصطلح عليها( :املعلوم بالعرض)؛ لكوهنا تنكشف
لذات العاِمل بوساطة الصورة وتبع ًا هلا ،أي ثاني ًا وبالعرض] ،لكنها مستقلة يف الوجود
عن الذات ،فهناك اثنينية بني صورة الشمس وواقع الشمس ،فاألوىل قائمة يف العامل
األنفيس والوجود الذهني ،والثانية متح ّققة يف العامل اآلفاقي والوجود اخلارجي ،ومها
مرتبتان متقابلتان من الوجود العام.
مع ذلك ،ألنّنا افرتضنا حقيقة الذهن مرآة تعكس صورة الواقع ،والعلم يكشف
عن الواقع ال يشء آخر ،الحظناّ ،
أن هذه االثنينية بني الصورة /الواقع ،ال تصل إىل حدّ
ثمة مائز بني العلم
التباين التام ،وإال انسدّ باب العلم بالواقع املوضوعي ،ومل يكن ّ
ٍ
متاهة من ّ
الشك ،أو تضيع يف ٍ
مفرغة من ٍ
حلقة واجلهل ،ف ُتسجن الذات اإلنسانية يف
السفسطة.
وتباين بني الصورة والواقع ،هناك أيض ًا جه ُة ّاحت ٍ
اد ٍ ٍ
اختالف ومثلام توجد جه ُة
ٍ
صححة التصاف النفس اإلنسان ّية باملعرفة احلصول ّية واشرتاك بينهام ،تكون هي املُ ِّ
بالواقع ال بيشء آخر ،فتاميز مرتبتي الوجود العام ذهن ًا وخارج ًا ،ال يعني اختالف
ماه ّية ما يف الوجودين ،فامهية الشمس أو املاء أو ...يف اخلارج هي عني ماهياهتا يف
الذهن" ،بمعنى ّأهنا حترض عندنا بامه ّياهتا بعينها ،ال بوجوداهتا اخلارج ّية التي ترتتّب
عليها آثارها اخلارج ّية"( ،)1وهبذا يتح ّقق علم اإلنسان باألشياء اخلارجة عنه يف اجلملة.
وجودي واحتا ٌد ماهوي ،فمركزّ اختالف
ٌ ثمة بني الصورة والواقع
وبعبارة أخرىّ ،
الغريية يف الكون والوجود ،ونقطة متوضع ّ
االحتاد أو العين ّية يف املاهية واحلقيقة ،فاملاه ّية
الكونني م ًعا ،وهذا معنى قول الفالسفة" :الذاتيات حمفوظة يف مجيع أنحاء ِ واحد ٌة يف
الوجود" ،واشتهر بينهم( :الذايت ال خيتلف وال يتخ ّلف) .إال إ ّن الذات أو املاه ّية يف
كون تلبس ثوبه ،وتأخذ أحكامه وقوانينه اخلاصة به ،ومن هنا ترتتب عليها يف كل ٍ ّ
الذهن آثار خاصة هبا متناغمة مع قوانني الذهن كطرد اجلهل ،ويف اخلارج آثار أخرى
( )1الطباطبائي ،حممد حسني ،بداية احلكمة ،تصحيح وتدقيق الشيخ غالم رضا فيايض ،مؤسسة النرش اإلسالمي،
املرحلة ،11:الفصل ،1:ص.138
147 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منسجمة مع قوانني الواقع ،كاإلحراق واإلرواء ،فالشمس حترق البرشة ،واملاء يروي
الظمأ ،دون أن تصطحب هذه اآلثار معها من اخلارج إىل الذهن ،فتصور املاء ال يرفع
عطشا ،وتصور ّ
الشمس ال حيرق ذهنًا. ً
يف السياق ،يقول املال هادي السبزواري:
كـ ـ ـون ب ـنـ ـفـ ـ ـسـ ـ ـه لـ ـ ـدى األذه ـ ـ ـ ـان لل ـ ّش ـ ـيء غـي ـ ـر الكـ ـون باألع ـي ـ ـان
()1
................................ والذات يف أنْحا الوجودات ُح ِفظ
هبذا ،ي ّتضح سبب حدوث اخلطأ يف العلم احلصويل ،إذ معنى اخلطأ املعريف هو خمالفة
الصورة العلم ّية للواقع الذي حتكي عنه ،ويقابله الصواب أو الصدق ،بمعنى مطابقة
يصح أن ُيفرض مع
الصورة الذهن ّية للواقع الذي تكشف عنه .فاخلطأ -أوالشك -إنام ّ
وجود ثنائية بني العلم واملعلوم ،ف ُيطرح السؤال عن ّ
أن العلم أو املعلوم بالذات ،هل
بالصدق،
يوافق الواقع أي املعلوم بالعرض؟ فتكون املعرفة مضمونة احلقان ّية وتوصف ّ
أن العلم خمالف للمعلوم؟ فتوصف املعرفة باخلطأ والكذب. أم ّ
ُ
اإلنسان نفسه يتصل لظن
ويتبني ،أنّه لوال وقوع اخلطأ فـي الـمعرفة الـحصول ّيةّ ،
ّ
يوسط بينه وبينها
بالواقع مبارشة ،أي أنّه ال ينال من الواقع إال األعيان اخلارجية دون أن ِّ
صورة عنها.
وقد أثار العالمة الطباطبائي هذه النقطة يف مواضع عدّ ة من كتبه ،منها ،قوله:
"اإلنسان البسيط يف أوائل نشأته حني ما يطأ موطأ احلياة ،ال يرى من نفسه ّإال أنّه ُ
ينال
وسط بينه وبينها وصف العلم ،وال
من األشياء أعياهنا اخلارج ّية ،من غري أن يتن ّبه أنّه ُي ِّ
ّ
الشك أو الظن ،وعند ذلك يتنبه: يزال عىل هذا احلال حتى يصادف يف بعض مواقفه ُ
أنّه ال ّ
ينفك يف سريه احليوي ومعاشه الدنيوي عن استعامل العلم ال سيام وهو ربام
خيطئ ويغلط يف متيزاته ،وال سبيل للخطأ والغلط إىل خارج األعيان ،فيتيقن عند ذلك
بوجود صفة العلم (وهو اإلدراك املانع من النقيض) فيه"(.)2
( )1السبزواري ،هادي ،املنظومة :قسم الفلسفة ،املقصد ،1الفريدة ،1 :غرر 7 :يف الوجود الذهني.
( )2الطباطبائي ،حممد حسني ،امليزان يف تفسري القرآن ،نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم املقدسة ،ج= ،1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 148نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أيضا :الطباطبائي ،حممد حسني ،حاشية عىل كفاية األصول ،مؤسسة العالمة الطباطبائي العلمية
= ص .49انظر ً
والفكرية ،قم ،ط ،1ج ،2ص.177
149 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عام وراءها يف عامل اآلفاق ،فلها واقع ّية وهو ّية عين ّيةبغض الطرف عن حكايتها ّ
ٍ
وجود يف نفسه ،وإن كان لغريه. شخص ّية مستقلة يف عامل النفس ،أي هلا نح ُو
الثانية :اللحاظ اآليل ،أو حلاظ ما به ُينظر ،باعتبار الصورة الذهن ّية بمنزلة الـمرآة
التي تعكس الواقع وتكشفه .وهي من هذه الزاوية يطلق عليها العلم احلصويل،
مقارنة بام هو وراءها من الواقع الذي حتكي عنه.
هناُ ،يطرح السؤال :هل علم النفس البرشية بالصورة الذهن ّية (صورة الشمس
ٍ
صورة علم بالصورة ذاهتا مبارشة؟ أم حيصل العلم بصورة الشمس بوساطة
مثالً) هو ٌ
أخرى ينتزعها الذهن عن الصورة األوىل ،فيكون هناك صور ٌة عن صورة الشمس،
صورة عن صورة الشمس؟ ٍ فيحصل العلم بصورة الشمس بوساطة
حضور صورة اليشء يف الذهن ال
ُ عرفوهّ -
إن العلم احلصويل هو إذا قلنا -كام ّ
واقع اليش عينه ،فيكون العلم بالصورة الذهن ّية بام ّأهنا حارضة بواقعها عىل ما هي عليه
علام حصول ًّيا ،ألنّه
علام بوساطة ،بل علم مبارش ،وعليه ال يكون ً
لدى النفس ليس ً
افرتضنا يف العلم احلصويل أن يتوسط بينه ومعلومه بالعرض صور ٌة ،وال صورة
تتوسط بني ِ
العامل وبني الصورة ذاهتا.
الشق الثاين من الرشط ّية املنفصلة -لو فرضنا ّ
أن العلم بالصورة ألنّه- ،وهو ّ
بتوسط صورة ذهنية ثانية عن الصورة الذهن ّية األوىل ،فسنقع يف إشكالية
الذهن ّية حيصل ّ
املرتاجعة الالهنائية ،إذ حينها ينتقل الكالم إىل الصورة الذهن ّية الثانية ،فإن مل تكن
بوساطة صورة ،فثبت أنّه ثمة صورة حارضة بذاهتا دون توسط صورة ،وملاذا نفرتضها
الثانية -كمن يمدّ يده اليمنى من خلف رأسه ليلتقط أذنه اليرسى؟! -فلتكن هي األوىل
مبارشة!! وإن كانت بواسطة صورة ،فالعلم بالصورة الثانية حيتاج إىل صورة عنها،
نقطة حمدّ ٍ
دة ،وبسبب هذه والثالثة إىل رابعة ...وهكذا تتسلسل الصور بنحو ال يقف عند ٍ
أي واقعية رأس ًا يف الذات البرش ّية(.)1
علم ب ّ
املرتاجعة غري النهائية ،ال حيصل ٌ
وهبذا يثبت أن العلم بالصورة الذهنية حيصل باالحتاد الوجودي ِ
املبارش هبا دون ّ
( )1انظر :الصدر ،رضا ،الفلسفة العليا ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط1986 ،1م ،ص.285
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 150نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
وساطة صورة ذهنية أخرى عنها ،فال يكون العلم هبا حصول ًّيا؛ ّ
ألن املأخوذ يف تعريفه
هو الوساطة الصور ّية ،فال ينطبق عليها حدّ العلم احلصويل ،واصطلح عىل هذا اللون
من العلم باليشء باالحتاد الوجودي ِ
املبارش( :املعرفة احلضور ّية)(.)1
واملحصلة ،إذا مل يكن العلم بالصورة حصول ًّيا ،فهو حضوري رضورة .وذلك؛ ِّ
ّ
ألن تقسيم املعرفة إىل حصول ّية وحضور ّية أو ّيل ،بالقسمة العقلية احلارصة ،الدائرة بني
النفي واإلثبات ،بمعنى أنّه ال يمكن عق ً
ال فرض قسم ثالث كقسيم هلام.
توسط يشء ،وإ ّما
وبعبارة منطقية أوىل :العلم بيشء إما أن حيصل مبارشة من دون ّ
بوساطة ،واألول هو املعرفة احلضورية ،والثاين احلصول ّية .والنتيجة :املعرفة إما
حضور ّية وإما حصولية ،وهي قضية رشط ّية حقيقية منفصلة(.)2
وبعبارة منطقية ثانية" :انقسام العلم إىل القسمني قسمة حارصة ،فحضور املعلوم
ِ
للعامل ،إما بامهيته وهو العلم احلصويل ،أو بوجوده وهو العلم احلضوري"(.)3
فالبيان األول يعتمد عىل املبارشة والوساطة ،والثاين عىل املاه ّية والوجود.
وهبذا يظهر وجه تسمية هذا اللون من اإلدراك باملعرفة احلضور ّية؛ ّ
ألن املعلوم
حارض بذاته مبارشة دون وسا ٍ
طة يف نفس ِ
العامل(.)4
أن حقيقة العلم مطلق ًا هو الكشف واإلراءة ،سواء أكان حصول ًّيا
يتضح مما تقدمّ ،
ٌ ِ ()5
مشرتك بني جامع
ٌ ثمة
أم حضور ًّيا ،فمعنى العلم بيشء انكشافه للعامل ،وعليه يكون ّ
املعرفتني احلصول ّية واحلضور ّية ،يشكّل املقسم املنطقي هلام ،وهو االنكشاف ،فإن كان
( )1ال نعرف ّأول من استخدام مصطلح (العلم احلضوري) ،لكن ثمة نص للشيخ السهروردي يقول فيه ..." :فكأنه
استبرش ،وقال :أولئك هم الفالسفة واحلكامء حق ًا ،ما وقفوا عند العلم الرسمي ،بل جاوزوا إىل العلم احلضوري
االتصايل الشهودي ."...التلوحيات ،مصدر سابق ،ص.74
( )2انظر :اليزدي ،حممد تقي مصباح ،املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين ،نرش مجاعة
املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم املقدسة ،ج ،2درس ،49ص.232
( )3الطباطبائي ،هناية احلكمة ،املرحلة ،11:الفصل ،1:ص.294
( )4انظر :األشتياين ،مهدي مدرس ،تعليقة بر رشح منظومة حكمت سبزواري ،باهتامم عبد اجلواد فالطورى
ومهدي حمقق ،هتران1353 ،هـ.ش ،ص.479
( )5انظر :الصدر ،الفلسفة العليا ،مصدر سابق ،ص.284
151 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ِ
العامل فهو حضوري ،وإن كان املعلوم منكش ًفا بذاته وحا ً
رضا بواقعه مبارشة لدى
بوساطة صورته فهو حصويل(.)1
وهذا غري قول القائل :رأي ُتك حتب كذا وتبغض كذا وغري ذلكّ ،
فإن معنى كالمه:
وبغضا ونحو ذلك ،وأما حكاية
ً أبرصتك يف هيئة ،استدللت هبا عىل ّ
أن فيك ح ًّبا
اإلنسان عن نفسه أنّه يراه يريد ويكره وحيب ويبغض ،فإنّه يريد به أنّه جيد هذه األمور
بنفسها وواقعيتها ،ال أنّه يستدل عليها فيقيض بوجودها من طريق االستدالل ،بل
جيدها من نفسه من غري حاجب حيجبها وال توسل بوسيلة تدل عليها البتة...
وتسمية هذا القسم من العلم الذي جيد فيه اإلنسان نفس املعلوم بواقعيته اخلارجية
رؤية مطردة ،وهي علم اإلنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية
وليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسامنية أخرى غريها.)1("...
إذا أردنا أن نحفر يف هذه املسألة ،يمكن طرح فرض ّيات ثالث:
احليس يف معرفة الذات أو الـ (أنا) ،بمعنى أن يعرف اإلنسان
ّ -1األوىل :املنهج
واقعية ذاته املشار إليها بكلمة (أنا) ،بوساطة الصورة العلم ّية املأخوذة من اال ّتصال
احليس ،واإلدراك اجلزئي بني أدوات احلس كالعني واللمس ...وبني أعضائه وحركاته ّ
وحيرك أنامله أو رأسه ،ويرمش بعينيه ،ويتن ّفس ،ويلمس وأفعاله ،فهو يرى لون برشتهّ ،
ٍ
مكان إىل مكان ...فاحلدّ األوسط الذي يستدل به عىل شعوره بذاته ويتحرك من أعضاءه،
ّ
ومعرفته هبا هو اال ّتصال احليس بأعضائه وأفعاله ،وتأ ّثره وانفعاله باملحيط املادي من
ٍ
ونعومة وخشونة ،...فإذا انعدم اال ّتصال احليس ينعدم شعور الفرد بذاته. ٍ
وبرودة ٍ
حرارة
-2الفرضية الثانية :املنهج العقيل- ،ووجه تغايره عن السابق ّ
أن األول معرفة
جزئية حس ّية ،أ ّما يف هذا املنهج نجعل احلدّ األوسط هو الصورة الذهن ّية عن الذات
درك اإلنسان ذاته بوساطة مفهوم عن ذاته ،لنصطلح عليه الـ (األنا كمفهوم ،-أن ُي ِ
يشء ما بواسطة حصول أن حقيقة العلم احلصويل هي انكشاف ٍ املتصورة) ،إذ ذكرنا ّ
ّ
ٍ
صورة عنه يف الذهن البرشي ،وبالتايل يف املقامُ ،حي ِّصل الفرد منّا العلم بذاته بوساطة
ارتسام صورة عن ذاته يف ذهنه ،وبعد أن تنطبع تلك الصورة عن ذاته أي (تصور األنا)،
يوسط ِ
ينتقل إىل العلم بذاته -أي (واقع األنا) ويشعر هبا .فالعامل الذي هو اإلنسانِّ ،
التّصور عن أناه [الذي هو املعلوم بالذات] ،ليحصل له علم بـ(أناه) -التي هي املعلوم
بالعرض ،-فك ّلام أراد أن يشعر بواقعية ذاته يستحرض تلك الصورة ،ولوال ذلك التصور
عن الذات ملا استطاع اإلنسان أن يدرك ذاته ويشعر بإن ّيته ووجوده ،فهو -أي الفرد-
من حيث يفكّر يف ذاته ،ويملك صور ًة عن ذاته ،يعتقد بوجود ذاته؛ ّ
ألن العلم باليشء
يتصور (أنا) ،ويتصور (موجود) ،والنسبة
ّ تصوره الذهني ،فهو
فرع ّوالتصديق بوجوده ُ
بينهام ،فيحكم بموجودية نفسه( :أنا موجود) .وسنناقش هاتني الفرضيتني الح ًقا.
-3الفرض ّية الثالثة :املنهج الوجداين ،أي ّ
أن يشعر اإلنسان بذاته ويعلم بواقعيتها
وإن ّيتها بالـمعرفة الشهودية والذوق الوجداين ،فأول ّيـة معرفة الفـرد بذاته سنخ معرفة
احليس أو اخليا ّيل أو الومهي أو العقيل ،ووراء التصديق واالعتقاد.
ّ وراء التصور الذهني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 154نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
فاملقصود من هذا العلم ليس قضية( :أنا موجود) ،املركّبة من مفاهيم ونسب ذهنية
متعدّ دة ،من سنخ املعرفة احلصول ّية ،بل املراد هو حضور الذات لدى الذات بنحو
واقعي ،بحيث لو غفل اإلنسان عن أعضائه وأفعاله واملحيط املادي ،ومل يكن له أي
الوجداين ،أو
ّ حيس باطني بحاالته
ّ أي اتصال
بأي ظاهرة ماد ّية ،بل حتى ّ
حيس ّ
ّ اتصال
صورة علم ّي ٍة عن ذاته- ،لو لـم
ٍ ا ّتصال معريف ذهني ،فأغمض عينيه عن استحضار
كل ذلك -ال تغيب ذاته عنه ،بل يبقى شعوره هبا وإحساسه بوجوده متح ّق ًقا، حيصل ّ
وطور وراء ٌ طور وراء ِ
طور العلم احلصويل بأقسامه، فشعور اإلنسان بنفسه وإدراكه هلا ٌ
ٍ
صورة ِ
طور املعرفة احلضور ّية بقسميها السابقني ،فال حيصل إدراكه لذاته بوساطة
ٍ
ذهنية ،وال تب ًعا لنشاط فكري استداليل ،وال بوساطة انفعاالته النفس ّية والشعور هبا،
فالعامل -أي ِ بل هو عبارة عن حضور واقعية ذات الفرد لدى ذاته ،أي بمعنى هو هو،
النفس-هو عني العلم واملعلوم-أي النفس ذاهتا أيض ًا ،-فال اثنين ّية وال ا ّحتاد ّ -
ألن
عامل وهي علم وهي االحتاد يفرتض وجود جهة تغاير ما ،-بل هوية عينية واحدة هي ِ
ّ ّ
صح التعبري -ليس من باب ّ
االحتاد يف معلوم ،وتصادق هذه املفاهيم الثالثة -إن ّ
عامل من حيث كوهنا معلوم ًا ،ومعلوم ًا الصدق فقط ،بل يف حيثية الصدق أيض ًا ،أي هي ِ
وعلام من حيث كوهنا عاملِ ًا ومعلو ًما .كام سيأيت بيانه. ِ
من حيث كوهنا عامل ًاً ،
دليال ّ
العالمة الطباطبايئ عىل حضور ّية علم النفس بذاتها
نص
يطرح العالمة الطباطبائي دليلني عىل حضورية علم النفس بذاهتا ،نعرض ّ
أيضا علم الواحد
كالمه -مكتفني بتوضيحهام يف احلاشية ،-حيث يقول" :ومن العلم ً
ويعرب عنها بـ(أنا) ،فإنّه ال يلهو عن نفسه ،وال يغفل عن
ّ منّا بذاته التي يشري إليها
مشاهدة ذاته ،وإن فرضت غفلته عن بدنه وأجزائه وأعضائه.
وليس ِعل ُم ُه هذا بذاته بحضور ماه ّية ذاته عند ذاته حضور ًا مفهوم ّي ًا وعل ًام حصول ّي ًا؛
ألن املفهوم احلارض يف الذهن كيفام فرض ال يأبى بالنظر إىل نفسه الصدق عىل كثريين، ّ
أمر
ويعرب عنه بـ(أنا) ٌ اخلارجي ،وهذا الذي يشاهده من نفسه ّ ّ يتشخص بالوجود ّ وإنّام
155 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالشخص، ( )1بعبارة أخرى :لو كان علم اإلنسان بذاته ،وذاته املشار إليها بــ(أنا) ،هي هوية عينية خارجية ،أي واحد ّ
والتشخص بالوجود ،وبالتايل يمتنع وقوع الرشكة فيها؛ ّ
ألن الرشكة بمعنى الكيل الذي ال يمتنع فرض صدقه عىل كثري ّ
حصول ّي ًا (والعلم احلصويل هو بمعنى حضور ماهية اليشء يف الذهن) ،لزم منه أن يكون علمه بذاته كل ًّيا (أي قاب ً
ال
للصدق عىل كثري؛ ّ
ألن الصورة العلم ّية الذهن ّية عن اليشء كيفام فرضت هي كل ّية ،حتى العلم باجلزئي هو كيل لكنه
أخص دائرة) ،فال يمنع وقوع الرشكة فيه ،وهذا خالف الفرض (الذي هو كون الذات وحدً ا شخص ًّيا ال يقبل االنطباق
صح ٍ
خيص ال يقبل الصدق عىل كثري ،وإال ّ أمر ش ّ عىل كثري) .وبعبارة أخرى :ما يعاينه اإلنسان من ذاته عند علمه هبا هو ٌ
أن علمه بذاته حضوري .انظر :جمموعة املصنفات للشيخ أن يكون هو هو ،ويف الوقت عينه هو غريه ،فثبت ّ
السهروردي ،ج ،1ص .484وج ،4ص .222واحلكمة املتعالية ،ج ،3ص .289وج ،6ص .165وج ،8ص.47
( )2بعبارة أخرى :لو كان علم النفس بذاهتا حصوليًّا ،لزم اجتامع املثلني ،والتايل باطل فاملُقدم مثله .بيان وجه
املالزمة :لو فرضنا ّ
أن اإلنسان يعلم بذاته بوساطة صورة ذهنية عنها ،ال وجداهنا يف ذاهتا عند ذاته ،فسيكون
للنفس وجودان ،أو قل ماهيتان :األوىل بام هي يف ذاهتا كموجود مستقل عن الذهن وعامل اإلدراك ،فتكون ماهيتها
متّحدة مع وجودها اخلارجي ،والثانية بام هي موضوع قائم يف عامل اإلدراك ،فيكون هلا ماهية ُمدركة بالذهن ،هي
التي -حسب الفرض -يشار إليها بـ(أنا) ،ويلزم من هذا اجتامع املثلني ،وهو باطل .وال يمكن النقض بالعلم
احلصويل بالذات؛ ألنه وإن كان ال يمكن إنكارهّ ،إال ّ
أن تصور مفهوم األنا هو غري إدراك واقع األنا.
( )3هناية احلكمة ،مرحلة ،11:فصل.1:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 156نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ً
استدالال فـي إثبات املعرفة احلضورية للذات بذاتـها ،وقد اسـ ّ
تدل ابن سينا [وهو ليس
وجداين] بام ُع ِرف الح ًقا بربهان (الرجل الطائر) ،أو (الرجل املعلق يف
ّ منطق ًّيا بل تنبيه
ّترد النفس ،وكون معرفتها بذاهتا حضورية. تتضمنّ :
ّ اهلواء) ،ل ُيثبت نتيج ًة مزدوج ًة
تصور الفرد منّا نفسه قد ُخلِق ً
كامال دفع ًة واحد ًة، وخالصة تنبيه ابن سينا ،أنّه لو ّ
ساق ًطا يف اهلواء أو اخلالء ،بحيث ال يشعر باألشياء اخلارجية املحيطة به ،وقد ّفرق بني
تتامس ،فتع ّطل إحساسه الظاهري هبا" ...ثم يتأ ّمل ،أنّه هل
ّ أعضائه فلم تتالق ومل
يثبت وجود ذاته وال يشك ّف إثباته لذاته موجو ًدا؟!"(.)1
ٌ
إنسان دفعة واحدة، ويقول ابن سينا يف موض ٍع آخر من كتاب الشفاء" :لو ُخلِق
متاست ،ومل يسمع
يمسها ،وال ّ ُ
وخلق متباين األطراف ،ومل يبرص أطرافه ،واتفق أن مل ّ
صوت ًا[ ،النتيجة ]:جهل وجود مجيع أعضائه ،وعلم وجود إنيته شيئ ًا واحد ًا ،مع جهل
مجيع ذلك .وليس املجهول بعينه هو املعلوم.)2("...
أيضا يف كتاب اإلشارات والتنبيهات" :ارجع إىل نفسك ،وتأ ّمل ،هل إذا
ويقول ً
صحيحا ،بل وعىل بعض أحوالك غريها ،بحيث تفطن لليشء فطن ًة صحيح ًة،ً كنت
أن هذا يكون للمستبرص .حتى هل تغفل عن وجود ذاتك؟ وال تثبت نفسك؟ ماعندي ّ
إن النائم يف نومه ،والسكران يف سكره ،ال يعزب ذاته عن ذاته [هذه هي املعرفة احلضورية ّ
بالذات] ،وإن مل يثبت مت ّثله لذاته يف ِذكره [هذه هي املعرفة احلصول ّية بالذات].
أن ذاتك قد خلقت أول خلقها ،صحيحة العقل واهليأة ،و ُفرض ّأهنا ولو تومهت ّ
عىل مجلة من الوضع واهليأة ،ال تبرص أجزاءها ،وال تتالمس أعضاؤها ،بل هي منفرجة
ومع ّلقة حلظة ما ،يف هواء طلق ،وجدهتا قد غفلت عن ّ
كل يشء ،إال عن ثبوت إن ّيتها
[أي وجودها وواقعيتها]"(.)3
( )1ابن سينا ،أبو عيل حسني بن عبد اهلل ،النفس من كتاب الشفاء ،حتقيق الشيخ حسن حسن زاده اآلميل ،مركز النرش
التابع ملكتب اإلعالم اإلسالمي ،ط ،1ص.27-26
( )2املصدر نفسه ،الفصل السابع من املقالة اخلامسة من هذا الفن السادس .ص349- 348
( )3ابن سينا ،أبو عيل ،اإلشارات والتنبيهات ،مع رشح نصري الدين الطويس ،حتقيق سليامن دنيا ،مؤسسة النعامن،
بريوت ،النمط الثالث ،الفصل األول ،القسم الثاين ،ص.344-343
157 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاإلنسان سواء أكان يتمتع باإلدراك الكامل كاملستيقظ الواعي ،أم كان إدراكه
ناقصا كاملستيقظ الغافل عن األشياء املحيطة به بفعل تركيزه الذهني عىل فكرة مع ّينة،
ً
أم كالسكران ،أو النائم ،أو املُغمى عليه ،بل حتى ال ّطفل حديث الوالدة ،كل هؤالء
ال يغفل أحدهم عن ذاته.
شعورا باطن ًّيا ،وهناك فرق
ً فالفرد النائم ً
مثال ملتفت إىل ذاته ،ويشعر بواقعيتها
بأين مستيقظ ،والشعور بواقعيتي ،فإن غفلت حال نومي عن اإلحساس
كبري بني الشعور ّ
الظاهري بأعضائي والظواهر املاد ّية املحيطة يب ،لكن ال أغفل عن ذايت ،ويبقى شعوري
واملؤرش التنبيهي عىل ذلك ،وعي الفرد بذاته يف املنامات واألحالمّ ،
وأن له ّ هبا واقع ًّيا،
واقعية ،وأنّه هو الشخص الذي حيلم ال آخر غريه ،بحيث ختتلط عليه األمور ،وتلتبس
درجة من درجات ٍ بأي
عليه ذاته بشخص آخر ،ولو فقد أثناء النوم الشعور بذاته ّ
الشعور ،لكان استيقاظه والدة جديدة ،ال تصطحب معها أي وعي عن ذاته يف عامل الرؤى
واألحالم ،ومل يقل" :أنا حلمت" و"أنا رأيت".)1(...
وذلك ك ّله ،بخالف ما لو فرضنا ّ
أن العلم احلاصل للنفس بذاهتا هو بوساطة
ٍ
عقلية ،فإنّه يقبل الغفلة والنسيان كأي علم حصويل آخر. صورة حس ّي ٍة أو ومه ّي ٍة أو
ٍ
ويمكن تشكيل قياس منطقي استثنائي ،نثبت فيه كذب التايل وصدق نقيضه ،لنثبت
كذب املقدّ م وصدق نقيضه ،عىل الشكل التايل:
لو كان علم النفس بذاهتا حصول ًّيا ،ألمكن حت ّقق الغفلة والنسيان فيه ،ولك ّن
اإلنسان ال يغفل عن ذاته وواقعيته ،فعلم النفس بذاهتا ليس حصول ًّيا .وإن مل يكن
حصول ًّيا ،فهو حضوري ،إذ ال واسطة بينهام كام تقدّ م.
وهبذا ،تتضح أبرز مصاديق الـمعرفة الـحضورية وأوضحها ،فالـمعرفة الشهودية
أو العلم احلضوري للنفس بذاهتا هو االتصال الوجودي بني العالِـم (الذات) واملعلو ِم
(الذات) ذاهتا ،بنحو يكون الـمعلوم (أي الذات) حارض ًا بواقعيته لدى العالِـم (أي
( )1مطهري ،مرتىض ،رشح املنظومة ،ترمجة عبد اجلبار الرفاعي ،مؤسسة البعثة ،قسم الدراسات اإلسالميّة ،قم،
1413هـ ،ج ،2ص.19
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 158نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ٍ
ذهنية عنه ،أي إ ّن واقع الـمدرك حاضـر بذاتـه لـدى ٍ
صورة بتوسط
الـذات نفسـها) ال ّ
واقـع الـمـ ِ
درك(.)1
( )1انظر :اليزدي ،املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،1ص 172وما بعد.
( )2املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،2ص .235-234وص.253
( )3األشتياين ،مهدي ،تعليقة بر رشح منظومة ،مصدر سابق ،ص.480
(ّ )4تدر اإلشارة إىل وجود خالف يف تفسري كلامت املشائني بني من ينسب إليهم نفيهم املعرفة احلضور ّية يف غري علم
فإهنم حرصوه يف علم كل الذات بذاهتا (السبزواري ،رشح املنظومة ،ص :)489-488يقول ..." :خالف ًا للمشائني ّ
وخصوا العلم بالغري باحلصويل حتى إهنم رأوا ّ
أن علمه تعاىل بالغري قبل اإلجياد حصويل ارتسامي". ّ عامل بذاته
وبني معارض لوجهة النظري هذه ،يقول الـميزرا مهدي اآلشتيانـي تعليق ًا عىل السبزواري" :هذا ليس مذهب =
159 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رصح رئيسهم يف كتاب الشفا وتعليقاته ،واملع ّلم الثاين يف تعليقاته وغريها ،بكون علم النفس
= مجيع املشائني ،بل ّ
املجردة بالصورة احلاصلة فيها حضور ًّيا ،ال حصول ًّيا ،بل ال ُيتصور من هؤالء األفاضل أن
والواجب تعاىل والعقول ّ
جيعلوا هذا العلم حصول ًّيا مع استلزامه لتضاعف الصور وخمالفته للوجدان" .تعليقة بر رشح منظومة حكمت
سبزواري ،ص .477أنظر :النراقي ،مهدي ،جامع األفكار وناقد األنظار ،ج ،2ص.190 ،128
فإهنا ملّا كانت صور ًة
املجردةّ ،
ّ ( )1يقول الطباطبائي (هناية احلكمة ،املرحلة ،8:الفصل ..." :)7:كالنفس اإلنسانيّة
أخري ًة لنوعها كانت عىل بساطتها مبدء ًا جلميع كامالهتا الثانية التي هي لع ّليتها واجد ٌة هلا يف ذاهتا ،وعلمها
احلضوري بذاهتا علم بتفاصيل كامالهتا وإن مل يتميّز بعضها من بعض".
ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 160نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
العواطف والشهوات ِ
واإلرادة واألفكار واألحكام ،أما إذا حصل له علم بواقع خارجي
املتنوعة ،وهي
من لون العلم احلصويل فإنه سيكون بوساطة قوة خاصة من قوى النفس ّ
قوة اخليال التي أعدّ ت صورة لذلك الواقع .وبناء عىل هذا ال يكون العلم احلضوري
متعلق ًا بجهاز خاص من األجهزة النفسية املختلفة ،لكن العلم احلصويل متعلق بجهاز
سمى بجهاز الذهن أو جهاز ِ
اإلدراك"(.)1 خاص ُي ّ
ّتر ًدا تا ًّما عن املادة -كام يف واجب الوجود والعقول
جمر ًدا ّ
فإذا فرضنا موجو ًدا ماّ ،
ثمة جهاز إدراكي ذهـني لـهذا الـموجود ،إذ ستكون معارفه ك ّلها املجردة ،-فال يكون ّ
ّ
حضورية ،أي تـحصل بوساطة اال ّتصال الوجودي بني الذات والواقع الـمعلوم.
جردة عن الـمـادة ذا ًتا،
فالعلم الـحصو ّيل مـختص بذوات األنفس ،أي الـجواهر الـ ُم ّ
الـمتع ّلقة بـها فـي مقام الفعل.
املفارقات ،بل ذاوت املعاليل ،حارضة ِ كام ّ
أن املعارف احلصول ّية التي يف معاليل
املجردة هلا معرفة حضورية بذوات
ّ عند العقول املجردة باملعرفة احلضورية ،فالعقول
معاليلها وعلومها احلصول ّية.
منزه ٌة عن العلم احلصويل، يقول الشيخ جوادي آميلّ " :
إن املجردات العاليةّ ...
فإن العلم احلصويل والتصور والتصديق والتفكري املنطقي وترتيب األجناس والفصولّ
خمتصة باملوجود الذي ال يملك إرشاف ًا كام ً
ال واألنواع وتنظيم املفاهيم واملاهياتّ ...
وإرشاف ٌ
كامل عىل اخلارج كاملوجود ٌ حمضّتر ٌد ٌ
عىل وجودات األشياء ،لك ّن من له ّ
املجردّ ،
فإن الواقع مشهود له ،وهبذا فهو يعلم باخلارج دون حاجة إىل تصور أو تصديق،
فإن أساس العلم احلصويل هو استمداد املفاهيم من املحسوسات املجردة ،واملوجود ّ
الذي ال يصري عامل ًا عن طريق احلس ،فال يمكن أن يكون علمه حصول ًّيا"(.)2
وّتدر اإلشارة ،إىل أنّه رغم كون املعرفة احلضور ّية غري أداتية وبعيدة عن اجلهاز
اإلدراكي الذهنيّ ،إال أنّه يتمتع ّ
بقوة النظر إىل املعارف احلضور ّية ،واحلاالت الوجدان ّية
( )1أسس الفلسفة واملذهب الواقعي ،ج ،2ص .49وانظر :املصدر نفسه ،ص.62
( )2رحيق خمتوم -رشح حكمت متعاليه ،مصدر سابق ،ج ،1ق ،4ص.362
161 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي يعيشها الفرد يف داخله ،فيلتقط صورة عن ح ّبه هلل تعاىل ،فتنطبع تلك الصورة يف
احلب ذاته ،بل مفهوم عنه ،وهو مغاير لواقع
الذهن ،بنحو ال تكون الصورة هي واقع ّ
ٍ
وكشف ٍ
حكاية احلب كشعور ت ّتحد به النفس البرشية .نعم ،تكون هلذه الصورة قو ُة
ّ
ثمة علم حصويل عن واقع احلب ،وهنا نحصل عىل ثنائية الصورة /الواقع ،فيكون ّ
كاحلب...
ّ لإلنسان بحالته النفس ّية
إن معرفتي بحبي هلل احلاصلة بوساطة صورة عنه ،ليست هي احلب ذاته ّأو ًال، ّ
وصورته متحدة مع املرتبة الذهن ّية للنفس ثان ًيا ،وتعلم النفس باحلب بوساطتها ثال ًثا،
أن الذي نعينه بالعلم احلضوري باحلب ،هولكنه علم حصويل للنفس باحلب ،يف حني ّ
شعور النفس باحلب باال ّتصال الوجودي به ّ
واحتاده معها ،بنحو يمكّنها من املعرفة
توسط صورة ذهنية عنه.
باحلب مبارشة دون ّ
كثريا ما يقع اخللط بني العلم احلصويل والعلم احلضوريّ ،
فإن انطباع صورة هناً ،
ذهنية عن حاالت نفسية خاصة ،ثم صياغتها بوساطة التعبري اللغوي يف شكل قضية
أحب)،
منطقية وجدان ّية شخص ّية وخمصوصة ،بحيث يقول اإلنسان( :أنا أفكر) ،أو (أنا ّ
ألهنا صورة عن الواقع دون الواقع ذاته ،أما
أو (أنا عطشان) ...هي معارف حصول ّية؛ ّ
ذات واقعية التفكري ،أو واقع احلب ،أو الشعور بالعطش ...فهي متّحدة بالنفس مبارشة،
وهو معنى العلم احلضوري.
فاخللط يقع بني جمالني:
األول :املعرفة احلضورية بام هي هي يف ذاهتا.
والثان :املعرفة احلضورية بلحاظ كوهنا متعلق ًا للمعرفة احلصول ّية.
إن معرفة الصورة الذهنية أو اإلحساس عندما يقول فالسفة احلكمة املتعاليةّ :
باحلب من أقسام املعرفة احلضورية ،فذلك بلحاظ حضور واقع هذه احلاالت يف النفس
ّ
البرشية ،بغض النظر عن حصول مفهومها يف الذهن ،فحتى مع الغفلة احلصول ّية ،وعدم
االلتفات الذهني إليها كام يف حال النوم ،تبقى هلا واقع ّية يف النفس البرش ّية ،وهذا
احلضور الواقعي هلا يف النفس هو معنى املعرفة احلضورية هبا؛ ّ
ألن واقعية اليشء ،والعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 162نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
باحلب، ٍ
واحدة يف املعرفة احلضورية ،فليست جهة واقعية الشعور ٍ
حقيقة به تعبريان عن
ّ
وجهة معلوميته للنفس متغايرتان ،بل مها يش ٌء واحدٌ ،واالختالف بينهام يف االعتبار
الذهني واللحاظ العقيل كام تقدّ م ،فالنائم يعيش الشعور باخلوف ممّا قد يطارده يف
يوجه التفاته إليه ،وعدم توجيه االلتفات هو غفلة حصول ّية،
أحالمه من رعب ،ولك ّنه ال ّ
ولكن هذا ال يعني أنّه ال يمتلك معرف ًة حضوري ًة عن حالته النفسية ،فالشعور باخلوف
قائم يف النفس البرشية حال األحالم املرعبة ،وهذا احلضور للخوف يف النفس البرشية
ٌ
ٍ
هو املعرفة احلضورية ،أما االلتفات إىل اخلوف بحصول صورة عنه يف الذهن ،فهو معرفة
حصول ّية باخلوف ،أي معرفة حصول ّية باملعرفة احلضور ّية.
وعليهّ ،
فإن النفس قد تنتزع صور ًة عن ذاهتا ،أو عن كامالهتا الثانوية ،فيحصل هلا
العلم بتلك الصورة ،فيكون هذا اللون من العلم معرف ًة حصولي ًة باملعرفة احلضورية؛
فأي تصور عن واقع ّي ٍة ما ،هو معرف ٌة
ألن األخرية خارج ٌة عن دائرة الصور الذهن ّيةّ ،
ّ
حصولي ٌة ال حضورية.
ومن هذا القبيل الوجدانيات يف املنطق ،فهي بعنوان كوهنا قضايا ،تكون من
أقسام التصديق ،أي املعرفة احلصول ّية البدهيية ،وإن كان مطابقها وما حتكي عنه هو
معرفة حضورية.
فاملعارف احلضورية ،تكون متعل ًقا وموضوع ًا للمعرفة احلصول ّية ،بحيث تلتقط
بحواسها الباطنة وجهازها اإلدراكي الذهني صور ًة عن هذه احلاالت النفسية،
ّ النفس
ويمتلك اجلهاز اإلدراكي الذهني هذه القدرة عىل النظر إىل احلاالت النفسية بوصفها
موضوعا ،وأخذ صورة أو مفهو ًما عنها ،وحتليلها وتفسريها مفاهيم ًّيا ،كأن يشعر اإلنسان
ً
وخيزهنا ،ويستعيدها،
بالفرح ،فيقوم الذهن بالتقاط صورة عن هذه احلالة النفسيةّ ،
ويربطها بمفاهيم أخرى.
موضحا ذلك مفص ًال" :علم ّ
كل إنسان بذاته وبحاالته ًّ يقول الشيخ مرتىض مطهري
النفسية عىل شكلني:
َأحدمها :هو ذلك ِ
اإلدراك االبتدائي الذي يتمتع به كل شخص منذ أول تكونه
163 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحدوثه ،فهو ليس خمف ًّيا عن نفسه ،وكذا حاالته النفس ّية فهي ليست خمف ّية عن ذاهتا،
وهو يدرك هذه مجي ًعا من دون وساطة الصور الذهن ّية.
صور األشياء ألن قوته املُ ِ
دركة ُت ّ والثان :تلك الصور التي تظهر له تدرجي ًّيا ،وذلك ّ
اخلارجية وبعد مدة ترتاكم فيها صور األشياء ،القادمة عن طريق احلواس فتنضج قوته
املدركة ،وتنعطف نحو عامله الباطني ،وتعدّ صور ًا لنفسه وحاالته النفسية ً
أيضا،
فيصبح عاملِ ًا هبا بالعلم احلصويل.
إذن ينبغي لنا أن نم ّيز تصور (األنا) ،وتصور اللذة واحلزن ِ
واإلرادة التي هي من
ألوان العلم احلصويل ،من ذات (األنا) ،ونفس اللذة واحلزن ِ
واإلرادة ،التي هي من
ألوان العلم احلضوري"(.)1
يرصح به بعض الفالسفة كالفخر الرازي والشهيد مطهري وغريمها(،)2
وعليه ،فام ّ
تعبريا عن املعرفة احلضور ّية للنفس بذاهتا،
من كون االعتقاد بوجود األنا أمر بدهيي ،ليس ً
بل هو تعبري عن مرتبة املعرفة احلصول ّية للمعرفة احلضور ّية للنفس بذاهتا؛ ّ
ألن املعرفة
بأهنا بدهي ّية أو نظر ّية بلحاظ الفقر والغنى بالنسبة للدليل.
احلصول ّية هي التي تتصف ّ
أكثر ،هي ليست بلحاظ املعرفة احلضور ّية يف ذاهتا ،وإنّام بلحاظ النشاط العقيل التحلييل
ٍ
واحدة بسيطة ،وتعدّ د املفاهيم ال يالزمه ٍ
واقعية يف قدرته عىل انتزاع مفاهيم متعدّ دة من
املترصفة القادرة عىل
ّ منطق ًّيا تعدّ د املصاديق ،فإذا تع ّقل اإلنسان واقع ّي ًة ما ،يستطع بقوة
التحليل والتجزئة والتفكيك ،أن ينتزع مفاهيم عدّ ة ،ولنفرتضها ثالثة ،املفهوم األول:
العاقل أو العاِمل ،والثاين :العلم أو العقل ،والثالث :املعلوم أو املعقول.
ِ
وخيضعها للترشيح عىلوهنا ،يتّخذ العقل املعرفة احلضورية موضو ًعا للدراسةُ ،
بساط البحث ،فينظر إىل الواقعية البسيطة الواحدة من زوايا نظ ٍر خمتلفة ،فينتزع بلحاظ
مصطلحا ،وهذا النشاط العقيل ال خيتص
ً خاصا ،يضع مقابله كل زاوية ٍ
نظر مفهوم ًا ً ّ
باملوجودات املمكنة ،بل حتى ذات واجب الوجود وخصائصه وصفاته ،يتعامل معها
اجلهاز اإلدراكي هبذه اآللية واملنهج ّية(.)1
وبناء عليه ،تكون االثنين ّية أو الثالث ّية املفاهيمية وليدة النشاط الذهني فال تكشف
عن تعدّ د يف الواقعية ذاهتا .أما يف الواقع فقد تكون عىل نحو الوحدة والعينية كام يف
علم النفس بذاهتا ،أو عىل نحو االحتاد كام يف علم النفس بحاالهتا النفس ّية ،وصورها
الذهن ّية.
فهذه املفاهيم بالنظر إليها كصور قائمة يف عامل الذهن ،هي ذوات مستقلة عن
بعضها البعض ،بمعنى ّأهنا متباينة ذا ًتا يف عامل الذهن ،فال عينية بينها وال ٍ
تساو ،فيصح
ألن ما ُيفهم من معنى من أحدها سلب ّ
كل مفهوم منها عن اآلخر بلحاظ املفهومية؛ ّ
ِ
والعامل غري املعلوم ،واملعلوم غري ما يفهم من اآلخر ،فمفهوم العلم غري مفهوم ِ
العامل،
الكيل بني املفاهيمّ ،
فكل ّ غري العلم ،إذ من خصائص عامل الذهن التباين الذايت ،والتغاير
ثمة اشرتاك بني مفهوم وآخر
مفهوم هو مباين املعنى ومغاير للمفهوم اآلخر ،فإن كان ّ
فهو ليس بلحاظ ذاتيهام يف عامل الذهن ،بل بالنظر إىل التصادق اخلارجي للمفهومني،
أو الثالثة يف مصداق واحد.
فمثال ،إذا نظرنا إىل مفهوم ِ
العامل بام هو مفهوم ،فهو يغاير مفهوم العلم؛ إذ العامل ً
( )1املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،2ص.234
165 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناظر
ذات ثبت هلا صفة العلم ،أما العلم فهو الصفة عينها ،ولكن التباين املعنائي بينهام ٌ
إىل عامل املفهومية ،وإال بالنظر إىل عامل املصداق تكون النسبة أحد أربع :التباين،
التساوي ،العموم املطلق ،العموم من وجه.
عامل وهو علم وهو معلوم بنحو العينية ،فعلمه واملثال الواضح ،واجب الوجود ،فهو ِ
عني ذاته ،وعلمه عني معلوميته ،ومعلوميته عني عامليته ،فهو علم ك ّله ،بل قدرة ك ّله ،حياة
كل جهة ،وصدق هذه بسيطة من ّ
ٌ ٌ
حقيقة واحد ٌة ك ّله؛ ففي اخلارج ال تعدّ د وال تك ّثر ،بل
املفاهيم عىل الواجب هو بالتساوي من حيث الصدق وحيثية الصدق أيض ًا .واملقصود
ِ واحد ،فهو مالك الصدقً ، ٍ ٍ
فمثال اإلنسان عامل ٌ مصداق بحيثية الصدق ،ليس التواجد يف
لكن علم اإلنسان غري ٍ ٍ وقادر ،والعاملِ ّية والقادر ّية ت ّتحدان يف
خارجاّ ،
ً واحد مصداق ٌ
قدرته ،فهنا اختلفت حيثية الصدق ،فهو ليس عامل ًا من حيث هو قادر ،بل من حيثيتني
عامل ٌ من حيث هو قادر ،وقادر من حيث خمتلفتني .أما يف واجب الوجود يف اخلارج فهو ِ
ّ
عامل ،وإال لو اختلفت احليثيات يف اخلارج للزم الرتكيب يف الذات؛ ّ
ألن التح ّيث إن هو ِ
ٍ
وتغاير ،واثنين ّية بني احليثيات ،إال أن يفرض كان واقع ًّيا كيفام فرض يستلزم جهة تباي ٍن
حت ّي ًثا اعتبار ًّيا بلحاظ عامل الذهن ،والتحليل العقيل.
وهكذا علم النفس بذاهتا ،هناك عين ّية ّ
واحتاد بني املفاهيم الثالثة :علم ،عامل،
ومعلوم ،يف الصدق وحيثية الصدق ،أما يف علم النفس بحاالهتا وصورها فيمكن فرض
االثنينية بالتحيث الواقعي ،مع االحتاد يف الصدق .وليس االختالف ،بني ِ
العامل والعلم ّ ّ
واملعلوم يف املعرفة احلضور ّية إال حيثيات حتليلية يضطر العقل العتامهلا وصناعتها يف
ضوء قانون تكويني ذهني ،ولذا اشتهر" :لوال احليثيات لبطلت احلكمة"(.)1
ويف هذه النقطة ،تتم ّيز أيض ًا املعرفة احلضورية عن املعرفة احلصول ّية ،حيث التعدّ د
الوجودي بني العلم ،واملعلوم بالعرض.
( )1الـخميني ،روح اهلل ،مصباح اهلداية إلـى اخلالفة والوالية ،تـحقيق جالل الدين آشتيانـي ،مؤسسة تنظيم ونرش آثار
اإلمام الـخميني1392 ،هـ .ش ،ج ،2ص .35ومري داماد ،حممد بن حممد ،كتاب القبسات ،باهتمـام مهدي حمقق،
1367هـ.ش ،ص.351
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 166نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أن جوهر النفس هو علمها بذاهتا -بل هذه قاعدة كربوية كل ّية، واخلالصةّ ،
ِ
عامل بذاته حضور ّي ًا -فهي ُم ِ جوهر ٍ
درك (اسم فاعل) و ُمدرك جمرد هو ٌ ٍ ّ مفادهاّ :
كل
دركيتها و ُمدركيتها واقعية واحدة ،وليست ثمة ثنائية يف اخلارج بني (اسم مفعول) و ُم ِ
علم النفس بذاهتا ،وواقعية ذاهتا ،فعلمها بذاهتا هو عني واقعيتها وإن ّيتها .وعليه يمكن
إن غفلة اإلنسان عن ذاته معرف ًّيا [باملعرفة الشهودية] يساوق عدمها وجود ًّيا،القولّ :
وهذه قاعدة.
ٍ
بنحو تكون فيه يف عني ّأهنا واقع ّي ٌة فاهلل سبحانه وتعاىل قد هندس النفس البرشية
كل القوى ،والذهن البرشي واقع ّية واحد ٌة بسيطة ،هلا قوى متعدّ دة ،فالنفس يف وحدهتا ّ
واحدة مشكّكة هلا مراتب متعدّ دة ،ولبعض املراتب نظارة عىل البعض اآلخر.
تسمى
إىل ذلك يقول الشيخ مصباح اليزدي" :هناك مرتبة من وجود النفس ّ
الذهن ،تعترب ظرف ًا للعلوم احلصول ّية ،وهي بنفسها هلا مراتب وشؤون خمتلفة ،ولبعض
إرشاف عىل املراتب األخرى ،بشكل يصبح فيه للمرتبة األخفض حكم اخلارج
ٌ مراتبها
بالنسبة للذهن فيتعلق هبا علم آخر"()1؛ فمث ً
ال ثمة مرتبة من الذهن حترض فيها ماهية
نعرفها بـ( :حيوان ناطق) ،دون أن يكون الكيل الطبيعي ،التي ّ
ّ اإلنسان بام هي هي أي
مأخو ًذا فيها أي قيد أو رشط زائد عىل ذاهتا وذاتياهتا كالكل ّية أو اجلزئية ً
مثال ...إلخ.
ثمة مرتبة ثانية فـي الذهن ،لـها النظارة عىل الـمرتبة األوىل ،فتنظر إلـى ماهية
ثم ّ
اإلنسان احلارضة يف الطابق الواقع أسفل منها يف البناء الذهني ،وتقوم بدراستها وحتليلها
ومقارنتها ،...فتجد ّأهنا متلك صالح ّية احلمل عىل كثري من األفراد اخلارجية ،مثل:
(حمـمد إنسـان) ،و(عـيل إنسـان) ،و(فاطمـة إنسـان) .فتـصف اإلنسـان -الكيل الطبيعي:
حيوان ناطق -بوصف الكل ّية -الكيل املنطقي :ما ال يمتنع فرض صدقه عىل كثري ،فتحليل
متحرك
حساس ّ ماهية اإلنسان إىل عنارصها األول ّية جيعلنا نعثر عىل أنّه :جوه ٍر جس ٍم نام ّ
باإلرادة ناطق ،وإذا استبطناه أكثر وأعمق لن نحصل عىل مفهوم الكل ّية كمحمول
حتلييل ملوضوع إنسان ،فالكلية املنطقية وصف عارض ملاهية اإلنسان يف الذهن دون
( )1املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،2ص.233
167 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
األبحاث اآلتية يف الكتاب ،ألنه ليس حصوله للعامل بارتسام صورة املعلوم يف نفسه،
بل بحضور نفس املعلوم بوجوده اخلارجي العيني للعاملّ ،
فإن الواحد منّا جيد من نفسه
حق اإلدراك ،ولكن ال بانتقاش صورها ،وإنّام اليشء
أنّه يعلم بنفسه وشؤوهنا ويدركها ّ
دائام بنفس وجوده ،وكذا املخلوقات حارضة خلالقها بنفس
املوجود هو حارض لذاته ً
وجودها.
فيكون الفرق بني احلصويل واحلضوري:
ّ .1
إن احلصويل هو حضور صورة املعلوم لدى العامل ،واحلضوري هو حضور املعلوم
نفسه لدى العامل.
ّ .2
إن املعلوم بالعلم احلصويل وجوده العلمي غري وجوده العيني وإن املعلوم بالعلم
احلضوري وجوده العلمي عني وجوده العيني.
ّ .3
إن احلصويل هو الذي ينقسم إىل التصور والتصديق ،واحلضوري ال ينقسم إىل
التصور والتصديق.
ويضيف الشيخ غالم رضا الفيايض يف تعليقته ..." :والفرق الرابعّ :
أن العلم
احلصويل يقبل اخلطأ ،والعلم احلضوري ال يقبل اخلطأ"(.)1
( )1املظفر ،حممد رضا ،املنطق ،تعليق غالم رضا الفيايض ،مؤسسة النرش التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة ،ص،10
احلاشية رقم (.)1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 170نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ٍ
إدراك ال يقبل سيأيت بحثه ،-فمعرفة اإلنسان بصورته الذهنية وحاالته النفس ّية نحو
الشك ،حتى من قبل السوفسطائيني الذين أنكروا أو شككوا يف ّ
كل يشء ،لكنّهم مل ّ
كل يشء.يشكّوا يف علم اإلنسان بذاته ،بلحاظ كونه معيار ّ
وبعبارة أخرىّ ،
إن الصدق واخلطأ بمعنامها املنطقي أو الفلسفي مها مطابقة الصورة
تصوران فيام
العلمية أو النسبة يف القضية للواقع ،أو عدم مطابقتها له ،وإنّام يمكن أن ُي ّ
ثمة اثنين ّية بني املعرفة والواقع ،بأن تكون املعرفة أمر وراء الواقع ومغايرة
لو فرضنا أنّه ّ
عام إذا كانت مطابقة فهي صادقة ،أو غري مطابقة فهي خاطئة أو كاذبة ،أما
له ،فنبحث ّ
إذا كانت املعرفة هي عني الواقع ،ال صورة ذهن ّية ،فال معنى للصدق باالصطالح
املذكور من باب السالبة بانتفاء املوضوع.
وإن كانت املعرفة احلضورية صادقة فباصطالح آخر ،بمعنى ّأهنا كاشفة عن
الواقع بنحو ال يكون ثمة جمال للخطأ فيها؛ ّ
ألن كون اليشء هو ذاته رضوري ،وإال
لزم سلب اليشء عن نفسه.
أ ّما كيفية معاجلة إشكالية حصول اخلطأ يف اإلدراكات احلضورية ،فيمكن القول ّ
إن
ٍ
برسعة عالية ،فيتالزم بمعرفة حصول ّي ٍة تعارصها ،حتصل
ٍ ٍ
معرفة حضور ّية ،تقرتن ّ
كل
تصور له ذلك
إحساس خاص كحالة نفسية حضورية مع انتزاع صورة ذهنية عنهّ ،
اإلحساس عىل أنّه العطش ،ومن هنا يكون اخلطأ هو يف الصورة الذهن ّية عن العطش
التي مل تطابق الواقع ،إذ مل يكن ذلك اإلحساس اخلاص حقيقة هو العطش ،ولكن
اإلنسان لعامل أو آخر أخطأ يف عملية االنتزاع كام حيصل اخلطأ يف احلواس عندما يتصور
الرساب ما ًء ،فخطأ اجلهاز اإلدراكي الذهني لإلنسان غري خمتص بام يلتقطه بواسطة
أيضا عن احلاالت النفس ّية
احلواس الظاهرة عن الظواهر املادية فقط ،بل بام يلتقطه ً
الداخلية .وهذه النقطة حتتاج إىل ٍ
يشء من التأ ّمل والتفكّر العميق فيها. ّ
واألخطاء التي حتصل يف وجدان ّيات اإلنسان أو مكاشفات العارف هي من هذا
القبيل ،حيث ختتلط احلاالت الوجدان ّية مع التفاسري الذهن ّية ،فينشأ اخلطأ من ِقبل
التفسري الذهني ثم ينسبه العقل خدا ًعا إىل الشعور الوجداين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 172نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
كام أنّه قد نفرتض صورة أخرى للخطأ ،وهي أنّه قد يكون اإلحساس بالعطش
صاد ًقا يف حينه ،والصورة املنتزعة عنها صادقة ً
أيضا ،ولكن يتبدّ ل هذا اإلحساس ،ثم
ترتسم صورة أخرى ،فيعترب اإلنسان بفعل قوة مقارنة الصورة الثانية باألوىل
أن إحساسه خاطئ نتيجة الغفلة عن الصورة األوىل ،عىل نحو قاعدة ومقايستها هباّ ،
ِ
املوجب اليقني املبحوثة يف أصول الفقه ،أي الشك الساري إىل متع ّلق اليقني السابق
لليقني بزواله وانعدام حدوثه.
ويظهر هذا املعنى من نصوص الشيخ مصباح اليزديّ ،
أن اخلطأ ليس يف املعرفة
احلضورية ،ولكن الذهن خيدع النفس فيجعلها تظن ّأهنا منه ،وذلك أن الذهن يقوم
بعملية مقايسة بني اإلحساس الذي يعارصها اآلن وبني إحساساته السابقة عن احلالة،
بأن علة هذا اإلحساس هي احلاجة إىل الغذاء ً
مثال وقد كانت مما يؤدي به إىل االعتقاد " ّ
هذه املقارنة خطأ ،ومن هنا ترسب اخلطأ إىل جمال تعيني العلة والتفسري الذهني،
أيضا"(.)1
واألخطاء التي حتدث يف املكاشافات العرفانية هي من هذا الباب ً
ويرصح الشيخ مرتىض مطهري ّ
أن اخلطأ حيصل يف مرحلة التطبيق ،فالذهن البرشي ّ
ُمنِح قدرة حتويل املعارف احلضورية إىل حصولية بإنشاء صورة ،فاألخطاء حتصل يف
مرحلة العلم احلصويل عندما حياول الذهن معرفة مصداق هذا املعلوم احلضوري،
فيحصل االشتباه حني ذاك ،فتنسبها النفس خطأ إىل املعرفة احلضور ّية.
وفـي السياق ،يعتقد الشيخ جوادي آملـي ّ
أن حصول الـخطأ فـي الـمعرفة الشهودية
-كمصداق للمعرفة احلضور ّية -يرجع إىل اخللط بني عامل املثال املتصل واملثال املنفصل،
بمعنى أن يعترب السالك غري الواصل ما يراه يف عامل املثال املتصل جز ًءا من عامل املثال
املنفصل ،وبام أنه ال وجود ألي فطور أو تفاوت وخالف يف املثال املنفصل؛ كونه الصنع
احلق غري املشوب، املنزه عن كل عيب ونقصّ ،
فإن السالك يظن أنّه رأى ّ البديع للخالق ّ
كام يف الرؤى غري الصادقة حيث تتمثل اهلواجس النفسانية ،ويظن الرائي ّ
أن جز ًءا من
أجزاء النبوة اإلنبائية -ال الترشيعية -قد صارت من نصيبه ،يف حني ّ
أن ما متثل لديه
( )1املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،1ص.177
173 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعبارة أخرى ،يتوقف فهم نظرية العالمة الطباطبائي يف تفسري العلم احلصويل،
عىل جمموعة مقدمات هي:
.1إ ّن الوجود ّ
املجرد أشدّ مرتبة من الوجود املادي.
.2إ ّن العالقة بني الوجود الـ ّ
مجرد والوجود الـمـادي هي عالقة العل ّية والـمعلول ّية
املجردة هي مبادئ فاعل ّية للوجودات املاد ّية.
فاملوجودات ّ
جمرد عن املادة.
.3إن العلم بجميع أقسامه (اإلحسايس ،اخليايل ،العقيل) ّ
جمردة.
وبالتايل :الصور العلمية موجودات ّ
.4إ ّن املوجود ّ
املجرد يفيض الصور العلمية عىل الذات البرشية.
.5وعليه ،الصور العلمية ال تؤخذ من اخلارج املادي ،وال تتع ّلق به مبارشة.
.6إ ّن آثار الوجود اخلارجي ليست آثارا للمعلوم احلارض عند ِ
العامل. ً
.7إ ّن االتصال بالعامل املادي بواسطة األدوات احلس ّية جيعل النفس مستعد ًة حللول
الصورة العلم ّية فيها(.)1
فالقراءة الصحيحة للعلم احلصويل من وجهة نظر العالمة الطباطبائي ،تقوم عىل
أنّه باإلضافة إىل املعلوم بالذات ،واملعلوم بالعرض (الواقع اخلارجي) ،ثمة عنرص
ِ
املفارق -الـمثايل والعقيل -لتلك الصـور العلم ّيـة ،وهي مجرد
ثالث ،وهو الوجود الـ ّ
معلومة باملعرفة احلضور ّية ،ويف احلقيقة هو (املعلوم بالذات) ،أ ّما الصورة العلم ّية فهي
حضورا ،وهي العلم احلصويل ،فهنا ثالثة عنارص:
ً مأخوذة من املعلوم بالذات
الواقع املادي (املعلوم بالعرض الثانوي) .ويمكن القول إنّه معلوم بالعرض
بوساطتني.
املجرد (املعلوم بالذات باملعرفة احلضورية).
والواقع ّ
والعلم احلصويل (الصورة العلمية املنتزعة من املعرفة احلضورية وهي املعلوم
األويل).
بالعرض ّ
( )1نـهاية الـحكمة ،م ،12ف .15وانظر :الـحكمة الـمتعالية ،حوايش الطباطبائي :ج ،1ص ،284حاشية .4وج،3
ص ،280حاشية.1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 176نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
وعليه ،تكون النسبة املنطقية بني العلم احلضوري والعلم احلصويل هي أشبه بالعموم
واخلصوص املطلق ،فكلام كان هناك علم حصويل فهو مستندٌ إىل علم حضوري ،دون
العكس.
ٍ
هندسية ٍ
بطريقة مصم ٌم ثمة جهاز إدراكي يف النفس البرشية
ّ ثم- ،كام أرشناّ -
خاصة تقوم عىل التقاط الصور تلقائي ًا ،واستنساخ املعارف احلضورية ،يطلق عليه العالمة
الطباطبائي قوة تبديل العلم احلضوري إىل حصويل ،فمجرد حت ّقق املعرفة احلضورية يف
ِ
واملفارق ،تقوم قو ٌة أو أدا ٌة من أدوات املجرد
ّ النفس نتيجة اال ّتصال الوجودي مع
اجلهاز اإلدراكي بأخذ صورة آل ًّيا ،وبنحو قهري اضطراري عن املعرفة احلضورية،
وتطبق تلك الصورة العلمية عىل الواقع املادي ،فيتحقق العلم احلصويل.
فاملعلوم بالذات (الصورة العلمية) مل تؤخذ مبارشة من الواقع اخلارجي املادي،
بل من الوجود املثايل أو العقيل للصورة العلم ّية ،وهذا ال يعني ّ
أن العامل املادي ال دور
املجردة،
له يف املعرفة ،بل االرتباط باملادة رشط معد التصال النفس بتلك املوجودات ّ
علام حضور ًّيا.
وتلقيها فيض تلك الصورة من مبدئها الفاعيل ،فتعلم هبا ً
أن كون هذا االرتباط ضعي ًفا ،هو الذي حيجب عنها ترتب اآلثار مع اإلشارة إىل ّ
اخلارجية ،وهذا هو الذي خدع العقل البرشي وأومهه ّ
بأن الصورة العلم ّية مأخوذة من
الواقع املادي (املعلوم بالعرض) مبارشة ،وحينها حيسب العقل عند مقايسة الصورة
العلم ّية مع الواقع املادي من حيث عدم تر ّتب اآلثار اخلارجية عليهاّ ،
بأن الصورة
العلمية هي ماه ّية اليشء اخلارجي ،حيث خلعت رداء اخلارج ولبست ثوب الوجود
الذهني ،فالعلم احلصويل هو وليد هذا النشاط من القوة الوامهة.
هذا ،ال يعني ّ
أن الصورة العلمية ال حتكي عن الواقع املادي ،فعدم كوهنا منتزعة
منه ال يالزمه منطق ًّيا عدم حكايتها عنه.
يقول العالمة الطباطبائيّ " :
إن حقيقة علومنا احلصول ّية عىل ما تعطيه األصول
السالفة ،أنّا نجد وجودات جمردة عقلية أو مثالية بحقيقة ما هلا من الوجود اخلارجي
املرتتب عليه آثاره ،وهذه علوم حضورية ،ثم نجد من طريق اتصالنا باملادة ّ
أن آثار
177 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيول الـمكاشفات العرفان ّية إلـى قضايا معرف ّية ،حيتاج إىل الربهنة
وإذا أراد أن ّ
واالستدالل.
ثمة معاينات ومشاهدات عرفان ّية ال يمكن التعبري هذا مع اعرتاف العرفاءّ ،
بأن ّ
بأن هناك درجات من ال يعتقد ابن سينا ّ
أيضا ،فمث ً
عنها بالعبارة ورشحها ،بل الفالسفة ً
العرفان "ال ُيفهمها احلديث ،وال ترشحها العبارة ،وال يكشف املقال عنها ،غري اخليال.
يتعرفها ،فليتدرج إىل أن يصري من أهل املشاهدة ،دون املشافهة ،ومن
أحب أن ّ
ّ ومن
الواصلني للعني دون السامعني لألثر"(.)1
يتصورها
ّ ويع ّلق نصري الدين الطويس مع ّل ًال ،أن العبارات موضوعة للمعاين التي
تعليام وتع ّل ًام ،أما تلك املعاين التي ال يصل إليها إال غائب عن
أهل اللغات ،ثم يتفهموهنا ً
ذاته -أي العارف -فليس يمكن أن يوضع هلا ألفاظ ،وكام ّ
أن املعقوالت ال ُتدرك
باألوهام ،واملتخ ّيالت باحلواس ،كذلك ما من شأنه أن يعاين فال يمكن أن يدرك
باملعرفة احلصول ّية وعلم اليقني ،وعليه الواجب عىل من يريد تلك احلقائق أن جيتهد يف
الوصول إليها بالعيان دون أن يطلب بالربهان.
وعىل ّ
كل حال ،املعارف العرفانية ما مل تتم الربهنة عليها ،تبقى جمرد دعوى ،تكون
كوشف هبا ،وال تشمل اآلخرين حتىحجيتها -عىل فرض كشفها العلمي -ذاتية ملن ِ
لو كان ا ُملكاشف هبا صاد ًقا يف إخباره واق ًعا ،فمعيار صدق القضية العرفانية كأي قضية
هو مطابقتها للواقع ،ولكن معيار معرفيتها أي أن تكون مسألة علم ّية ،هو أن تكون
ٍ
وحممول حولناه إىل قضية محل ّية مركّبة من موضو ٍع ُمستدلة؛ ّ
ألن الكشف العرفاين إذا ّ
كوشف هبا هي من الوجدانيات البدهي ّية التيفإن هذا القضية بالنسبة إىل من ِ
ونسبة مثالًّ ،
ِ
للواجد ،أما ال حتتاج إىل دليل ،ولكن القضية الوجدانية اخلاصة ،هي رضور ّية بالنسبة
بالنسبة إىل غريه فهي قضية نظرية حتتاج إىل دليل إلثبات األكرب يف األصغر ،وال تأخذ
صورة القضية العلمية إال بالربهنة ،فاملسألة العرفان ّية -باعتبار كوهنا قضية نظرية حتتاج
إىل دليل -تبقى يف دائرة املطلب واملدعى ،وال ُتنكر ،بل توضع يف دائرة اإلمكان حتى
( )1اإلشارات والتنبيهات ،ج ،4ص.100-99
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 180نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
العرفان العميل (دراسة برنامج السري والسلوك) ( تطبيق برنامج السري والسلوك)
العرفان (حصول الـمكاشـفات والـمشـاهـدات والـمعـرفـة الـحضوريـة ب ـاهلل تـعـاىل)
( تـحويل الـمكاشفات إلـى قضايا مسـتـدلة والتعـبري عنها بمعجم معرفـي خاص)
العرفـان النظـري.
وّتدر اإلشارة إىل ّ
أن العارف يف سريه وسلوكه ال يسلم من تلبسات إبليس
وجنوده ،وبالتايل قد يقع يف التخ ّيالت الفاسدة واألوهام واألغلوطات ،يقول صدر
أن ألهل الكشف يف مكاشفاهتم ومشاهداهتم ووارداهتم الدين القونوي" :اعلم ّ
أغلوطات شتى ال يعرف كنهها ،وال يسلم من غوائلها ّإال ّ
الكمل واألفراد من أهل ٌ
العناية واالختصاص ...منها ما يوجب سوء أدب مع احلق ،وفساد اعتقاد ...ومنها ما
تباسا وختلي ًطا.)1("... يوجب تب ّلدً ا ّ ً
وحتريا ...ومنها ما يوجب ال ً
بل العارف ال حيتاج إىل املعرفة احلصول ّية لتحويل مكاشفاته إىل قضايا ُمستدلة،
وإنّام حيتاج إىل املعارف العقلية القبلية والقطعيات الرشع ّية( )2كميزان لتشخيص صحة
بأهنا كشف ح ّقاين ،أو تلبيس إبليس.مشاهداته ّ
فإذا خالفت املكاشفات العرفانية املدّ عاة العقل الرصيح ،أو ما هو ثبات بالقطع
من الدين ،فيرضب هبا عرض احلائط؛ ّ
ألن الكشف اليقيني ال يناقض العقل اليقيني.
طورا وراء العقل ،ولكنه ال خيالف يقول السيد اخلمينيّ " :
إن طور العرفاء ،وإن كان ً
العقل الرصيح والربهان الفصيح ،حاشا املشاهدات الذوقية أن ختالف الرباهني"(.)3
أن أبا حامد األصفهاين املعروف برتكة يف رسالته قواعد ويف السياق ،نالحظ ّ
التوحيد ،ذكر يف املطلب ( )65مبح ًثا ًّ
مهام حتت عنوان( :يف بيان ميزان أهل املعرفة
ملعرفة الصحيح من السقيم من املكاشفات)ً ،
قائال" :ال بدّ للسالكني من أصحاب
( )1القونوي ،صدر الدين حممد بن إسحاق ،النفحات اإلهلية ،صححه وقدم له حممد خواجوي ،انتشارات موىل،
ط1417 ،1هـ ،ص.113
( )2املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،1الدرس ،9:ص.125
( )3اخلميني ،مصباح اهلداية إىل اخلالفة والوالية ،ص.36
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 182نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
حيصلوا العلوم احلقيقية الفكرية النظرية ّأو ًال بعد تصفية القلب ...حتى
املجاهدة أن ّ
تصري هذه العلوم النظرية ...بالنسبة إىل املعارف الذوق ّية ،كالعلم اآليل املنطقي بالنسبة
إىل العلوم النظر ّية.)1("...
( )1الرتكة ،صائن الدين عيل ،متهيد القواعد -كتاب التمهيد يف رشح قواعد التوحيد ،صححه وع ّلق عليه األستاذ
حسن زاده آميل ،النارش :ألف الم ميم ،قم ،ط1481 ،1هـ ،ص.239
183 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعليه ،يشرتط يف املعرفة الشهودية ،أن تدخل بدو ًا يف دائرة التجويزات العقلية،
أي أن حيكم العقل بإمكاهنا الذايت.
أما إذا حكم العقل باستحالتها لتعارضها مع قوانني عقلية قطعية أو نقلية قطعية،
فحينها يكشف ذلك عن خطأ لكنّه ليس يف الشهود ذاته؛ ّ
ألن الشهود معاينة الواقع
وال سبيل للخطأ إىل الواقع كام ذكرنا ،بل يف املعرفة احلصولية باملعرفة احلضورية ،أي
تبديل الشهود بصورة قضية منطقية ،أو يف ادعاء العارف قضية ما كذ ًبا دون أن يكون
قد كوشفت له نتيجة تلبيسات إبليس ،أو غريها من األسباب التي تتع ّلق باألمراض
األخالقية واالضطرابات املعرف ّية.
واملرتبة الثانية :هي أنّه ال يكفي أن حيكم العقل بجواز القضية الشهودية كي يثبت
صدق املدّ عى الشهودي تلقائ ًّيا ،بل ال بد من أن ُيقيم العارف الدليل عىل صدق دعواه
بالربهان اليقيني.
ونختم الفقرة بام يقوله الشيخ جوادي آميل يف هذا السياقّ " :
إن العلم احلصويل
يكون مطابق ًا للواقع تارة ،وتارة ال يطابقه ،وطريق معرفة صحته وسقمه يعود ً
أيضا
إىل املنطق وحماولة إرجاع اإلدراكات النظرية إىل البدهييات.
فإن ما جيده البعض قد يكون صاد ًقا يطابق الواقع،أيضاّ ،
ويف العلم احلضوري ً
وقد يكون البعض كاذ ًبا خيالف الواقع.
وعليه ،فتكون املكاشافات التي ال يكون صدقها رضور ًّيا بحاجة إىل ميزان ،يم ِّيز
صواهبا عن خطئها ،وهذا امليزان إما أن يكون كشف املعصوم [أي تعرض املكاشفة
عـىل كشـف الـمعصـوم فإن طابقته فبها ،وإال فال] إذا كان الـمكشوف جزئـ ًّيـا [التقيـيد
باجلزئي ألنه ال جيري فيه الربهان عىل مبنى مشهور املنطقيني] ،وإما أن يكون الربهان
أمرا كل ًّيا ،بيد ّ
أن أصل اإلمكان يمكن إثباته يف العقيل ،يف صورة ما إذا كان املكشوف ً
مورد الكشف اجلزئي.
وحماولة إثبات املكاشفات الباطنية بالرباهني العقلية أمر يتخ ّلله الكثري من الصعاب،
إن النتائج املفهومية للمكاشفات هي فـي الغالب أمور جزئية وخاصة ،والتي حيث ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 184نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
تـنحـرص كـليـاتـها فـي كونـها قابلة للمتابعة الربهانية العقلية ،وتضحي األمور الـجزئية
ال كاسبة وال مكتسبة.
ٍ
وكاف ،نستطيع من خالله توزين جـمـيع لكن كشف الـمعصومني طريق كامل
كشوفات اآلخرين يف مجيع املراتب احلضورية واحلصول ّية ،فلكي يؤمن غري املعصوم
بكشوفاته عليه أن يثبت صحتها ،وبدهيي فإن عدم استطاعته لذلك ال يبقى له جمال
لتسويغ إيامنه هبا.
بيد أنّه باإلمكان أن ُيبتىل الشخص يف مقام اإلثبات بجهل مر ّكب جراء االنحراف
عن الطريق الربهاين ،ويعتقد صواب مكاشفاته ،لك ّن هذا اللون من اإليامن اجلائي عن
إن عدم ارتكازه عىل مبنى صحيح ،جيعله عرضة للتغري باطال ،إذ ّ
ً هذا الطريق يعدّ
والتحول بمجرد اتضاح بطالن مبناه"(.)1
( )1جوادي آميل ،عبد اهلل ،رشيعت در آينه معرفت (فاريس) ،ويراستار ،هتيه كننده فهرست حجة اإلسالم محيد
بارسا ،النارش مركز نرش فرهنكي رجاء ،جاب اول 1372هـ ،ص.145-144
( )2أكّد القرآن الكريم هذه القاعدة ﴿ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ﴾ سورة طه ،اآلية .110:وورد يف األحاديث واألدعية:
«يا من ال يعلم ما هو إال هو.»...
( )3املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،ج ،1ص.179
185 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما املعرفة احلصول ّية باهلل تعاىل ،فيمكن أن نفرتضها عىل نحوين:
إما أن تكون بدهيية -بغض النظر عن كوهنا من أي أقسام البدهييات هي ،-كام
هو رأي العالمة الطباطبائي حيث يقول ..." :إن أصل وجود الواجب بالذات رضوري
عند اإلنسان والرباهني املثبتة له تنبيهات باحلقيقة"(.)1
وفـي ضوء الـمنطق الوحيـانـي( ،)2نعتقد بفطرية معرفة اإلنسان باهلل تعـاىل ،لك ّن
هـذه الفطـرة قد تـدخل بعـض العوامـل الرتبويـة واالجتمـاعيـة والدينيـة التي تـحجبها
حق ،فحينها تـحتاج إلـى تنبيهات وجدان ّية تـثـري ميثـاق الفطـرة الـمنسـي فـي
عن رؤية الـ ّ
دفـائـن العـقـول.
وإما أن نفرتضها معرفة نظرية حتتاج إىل إقامة األدلة والرباهني الفلسف ّية والكالم ّية
والعلم ّية ،وحينها تدخل دائرة البحث الفلسفي أو الكالمي من املعرفة احلصول ّية.
***
.13رسل ،برتراند ،مشكالت الفلسفة ،ترمجة سمري عبده ،دار التكوين للتأليف والرتمجة ،ط،1
2016م.
.14الريشهري ،حممد ،ميزان احلكمة ،دار احلديث ،ط.1
.15السهروردي ،شهاب الدين حييى ،التلوحيات ،تصحيح وحتقيق هنري كوربان ،مصنفات شيخ
اإلرشاق.
.16الشريازي ،حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،دار إحياء الرتاث العريب،
بريوت ،ط1981 ،3م.
.17الشريازي ،حممد بن إبراهيم (املعروف بصدر املتأهلني) ،تفسري القرآن الكريم (تفسري آية
النور) ،انتشارات بيدار ،إيران-قم ،ط1366 ،1هـ.ش.
.18الصدر ،رضا ،الفلسفة العليا ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط.1
صححه وع ّلق عليه الشيخ عباس عيل الزارعي
.19الطباطبائي ،حممد حسني ،هناية احلكمةّ ،
السبزواري ،مؤسسة النرش اإلسالمي التابعة جلامعة املدرسني بقم املرشفة.
.20الطباطبائي ،حممد حسني ،أسس الفلسفة واملذهب الواقعي ،تعليق األستاذ الشهيد مرتىض
مطهري ،تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين ،دار التعارف للمطبوعات ،بريوت.
.21الطباطبائي ،حممد حسني ،بداية احلكمة ،تصحيح وتدقيق الشيخ غالم رضا فيايض ،مؤسسة
النرش اإلسالمي.
.22الطباطبائي ،حممد حسني ،امليزان يف تفسري القرآن ،نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية يف قم
املقدسة.
مؤسسة العالمة الطباطبائي العلم ّية
.23الطباطبائي ،حممد حسني ،حاشية عىل كفاية األصولّ ،
والفكر ّية ،قم ،ط.1
.24الفخر الرازي ،حممد بن عمر ،املباحث املرشقية ،انتشارات بيدار ،ط1370 ،1هـ.ش.
صححه وقدّ م له حممد خواجوي،
.25القونوي ،صدر الدين حممد بن إسحاق ،النفحات اإلهل ّيةّ ،
انتشارات موىل ،ط1417 ،1هـ.
.26القيرصي ،حممد داوود ،رشح فصوص احلكم ،حتقيق السيد جالل الدين آشتياين ،رشكة
انتشارات علمي وفرهنكي ،هتران ،ط1375 ،1هـ.ش.
189 املعرفة الحضوريّة والحصوليّة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.27الكليني ،حممد بن يعقوب ،الكايف ،تصحيح وتعليق عيل أكرب الغفاري ،دار الكتب اإلسالم ّية،
هتران ،ط 1363 ،5هـ.ش.
األئمة األطهار ،دار إحياء الرتاث
ّ .28املجليس ،حممد باقر ،بحار األنوار اجلامعة لدرر أخبار
العريب ،بريوت ،ط1403 ،3هـ1983-م.
.29مطهري ،العرفان ،ترمجة حسن عيل مطر اهلاشمي ،ط ،1دار الكتاب اإلسالمي1421 ،هـ-
2001م.
مؤسسة البعثة ،قسم الدراسات
.30مطهري ،مرتىض ،رشح املنظومة ،ترمجة عبد اجلبار الرفاعيّ ،
اإلسالم ّية ،قم1413 ،هـ.
املدرسني
مؤسسة النرش التابعة جلامعة ِّ
حممد رضا ،املنطق ،تعليق غالم رضا الفيايضّ ،
.31املظفرّ ،
بقم املرشفة ،ص ،10احلاشية رقم (.)1
.32مري داماد ،حممد بن حممد ،كتاب القبسات ،باهتامم مهدي حمقق1367 ،هـ.ش.
.33املريداماد ،حممد باقر احلسيني ،الرواشح السامو ّية ،حتقيق غالحمسني قيرصيه ها ،نعمة اهلل
اجللييل ،دار احلديث للطباعة والنرش ،قم املقدسة ط1422 ،1هـ.
.34النراقي ،حممد مهدي بن أيب ذر ،جامع األفكار وناقد األنظار ،تصحيح وتقديم جميد هادي
يزاده ،انتشارات حكمت ،هتران1423 ،هـ.
حممد باقر الصدر،
.35اهلاشمي الشاهرودي ،حممود ،بحوث يف علم األصول ،تقريرات السيد ّ
مؤسسة الفقه ومعارف أهل البيت ،ط1433 ،1هـ2012-م. ّ
.36اليزدي ،حممد تقي مصباح ،املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة ،تعريب حممد عبد املنعم اخلاقاين،
نرش مجاعة املدرسني يف احلوزة العلم ّية يف قم املقدّ سة.
حمم د تقي مصباح ،حماولة للبحث يف العرفان اإلسالمي ،ترمجة حممد عبد املنعم
.37اليزديّ ،
اخلاقاين ،دار التعارف للمطبوعات.
***
ّ5
مـوانـع الـمـعـرفـة
النص ّية
بي املعالجات الفلسف ّية واملقاربة ّ
(*)
الشيخٌاألسعدٌبنٌعليٌقيدارة
النص ّية
موانع املعرفة بي املعالجات الفلسف ّية واملقاربة ّ
التمهيد
بكل حمموالهتا التساؤل ّية عن اإلمكان ،األدوات ،والقيمة... تش ّكل نظرية املعرفة ّ
ماس ٌة يف ّ ٍ ٍ ٍ ٍ
كل التحتي أل ّية مدرسة فكر ّية أو فلسف ّية ،بل هي رضور ٌة منهج ّي ٌة ّ
ّ إلخ ،البناء
أي موضو ٍع من أي ٍ ٍ
جمال من جماالت النظر ،ويف ّ مغامرة من مغامرات التفكري ،ويف ّ
موضوعات التف ّكر ،والتفلسف ،والتد ّبر.
هتتم هبذه الرؤية الكل ّية للعلوم
ولذا قامت هيكل ّية الفلسفة القديمة -التي كانت ّ
ِ
املعرفة يف هذا وخرائطها الكربى -عىل ثالث ّية :املعرفة ،والوجود ،والقيم .وأ ّكدت أولو ّية
البناء.
كثري من قضاياها -مسأل ٌة حيو ّي ٌة يف وجودنا وحياتنا، فاملعرفة -مع ّتريد ّية ٍ
املستمر هبا طوال التاريخ البرشي إىل يومنا احلايل،
ّ والدليل أفضل عىل ذلك من االهتامم
املجرد إىل جمال التطبيقات العلم ّية
ّ النظري
ّ وارتقاء البحث فيها من جمال التفلسف
والتقن ّية ،وإدارة احلياة يف خمتلف جماالهتا السياس ّية ،واالقتصاد ّية ،واالجتامع ّية،
والثقاف ّية ،وغري ذلك.
أصيلة من حاجاته الفطر ّية منذ مسريته ٍ ٍ
كحاجة ارتبطت الـمعرفة باإلنسان
األولـى ،وظ ّلـت التسـاؤالت التي تطـرق ذهـنـه ووجدانـه ،وهو يـالمـس الواقـع ،ويسـرب
بأجوبة قد تركن النفس إليها ،وقد ال تذعن ٍ تزوده
أغـوار ذاتـه ،والطبيعة من حولهّ ،
تنوعت وتعدّ دت مصادر الـمعرفة، متحري ًة إزاء قيمتها ،وهكذا ّ
ّ هلا ،وقد تبقى
وجماالتـها بتش ّعب دروب احلياة ،واحلضارة وبتنامي الـملكات الذهن ّية والفكر ّية
لإلنسان ،والفتوحات العلم ّية التي تـح ّققت عرب الزمن.
املوانع التي
ُ ومن اهلواجس التي الحقت الفكر اإلنساين يف هذا املجال وما تزال،
والعوائق التي حتول دون إدراك الوقائع ،وبلوغ احلقائق.
ُ متنع اإلنسان من املعرفة،
مسعى يف هذا الصعيد الـمقفر -فالبحوث يف هذا املوضوع نادرة
ً وهذا البحث
195 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي ٍ
جمال وما يعنينا يف املقام :موانع املعرفة :وهي العوائق التي تواجه ِ
املدرك ،يف ّ
من جماالت اإلدراك وحتول دونه ،ودون الوصول إىل املدركات التي يسعى لبلوغها،
ٍ
رشوط املعرفة ومقتضياهتا حس ّي ًة كانت هذه املدركات ،أم ذهن ّي ًة ،أم وجدان ّي ًة مع تو ّفر ّ
كل ّ
مقومات العلم.
من سالمة احلواس ،وسالمة الذهن ،وسائر ّ
املعوقات تبدو جدير ًة بالبحث والدراسة؛ إذ ال معنى لتنقيح طرق املعرفة
وهذه ّ
وأدواهتا ،كام ُينجز عاد ًة يف نظر ّية املعرفة ،دون االعتناء باملوانع ،والعوائق التي حتول
ٍ
واسرتاتيجيات ٍ
أدوات ،وطرائق، دون إدراك الواقع واإلحاطة به ،فمهام ُأويت الباحث من
يتمرس
للمعرفة فال ثمرة فيها إن مل يعرف العراقيل والعوائق التي تعرتض طريقه ،ومل ّ
عىل سبل تذليلها وخت ّطيها؛ ألنه دون ذلك يظل أسري املزالق ،ويف معرض اخلطأ.
نفيس ،وبعضها
لغوي ،وبعضها ٌّ
ٌّ جذر
واملوانع متعدّ دة ،ومتش ّعبة املناشئ فبعضها هلا ٌ
واجتامعي.
ّ وسيايس،
ّ تارخيي،
ّ اآلخر
عزز رضورة الدراسة التشخيص ّية التحليل ّية هلا ،وبيان كيفيةالتنوع يف املوانع ُي ّ
وهذا ّ
حيلولتها دون الوصول إىل احلقائق ،سواء أكانت حقائق كون ّي ًة وجود ّي ًة ،أم حس ّي ًة
ّتريب ّي ًة ،أم اعتبار ّي ًة اجتامع ّية.
خاصة يف نطاق الفلسفة الواقع ّية التي
وال تـخفى الفائدة القصوى لتشخيصهاّ ،
تؤمن بانفتاح سبل الـمعرفة ،وإمكان الوصول إىل احلقيقة ،بل تعد هذه الفلسفة ّ
أن
أسمى غايات الفلسفة أن ترى الواقع كام هو ،فقد جاء يف كال ٍم مرفوع إىل النبي:
اللهم أرنا احلقائق كام هي»(.)2
اللهم أرنا األشياء كام هي» ،ويف حديث آخر « ّ
()1
« ّ
ينمي خرباتنا هبذه ِ
وما كشف عنه الرتاث الفلسفي عىل هذا الصعيد من شأنه أن ّ
الوانع ،وخماطر السقوط يف مط ّباهتا ،واالستفادة القصوى من إمكانات املعرفة وأدواهتا
ِ
طاقاته التي توا ّفرت له عىل هذا السبيل. التي زود هبا دون أن هيدر أية ٍ
طاقة من ّ
أ ّما معرفة الثانى فهى معرفة يقين ّي ٌة ،وقد قرن أفالطون أبحاثه التى تتع ّلق باملعرفة
ً
ونازال ،ونظرية الـ ُم ُثل ،واالستذكار. باجلدل صاعدً ا
أما أرسطو فقد ارتبطت املعرفة عنده بأبحاثه فيام وراء الطبيعة فال توجد عنده
حدو ٌد فاصل ٌة بني املعرفة بوصفها نظرية ،وما يرتبط بامليتافيزيقا من مشكالت وقضايا،
وما ي ّتصل باألبحاث املنطقية اخلالصة.
إن التحدّ ي الكبري الذي واجهه فالسفة اليونان هي :نزعات الشك اهلدّ ام التي ّ
منغلقة ،تغدو معها احلقائق تدور مدار ٍ سعت لتنسف أسس املعرفة ،والرتويج لنسب ّي ٍة
روج هذا االّتاه (السفسطة). ٍ الفرد ذاته "فاإلنسان مقياس ّ
كل يشء" كام ُي ّ
لقد ارتبط مفهوم السفسطة باحلركة السوفسطائ ّية ،وهي حرك ٌة فكر ّي ٌة واجتامع ّي ٌة
نشأت وترعرعت يف اليونان القديمة خالل القرن اخلامس قبل امليالد ،ورفعت شعار
"اإلنسان مقياس ّ
كل يشء" ،ودافعت عن نسب ّية احلقيقة وارتباطها بالظروف املتغرية،
فانتهت إىل تأكيد أمه ّية اللجوء للحيل اخلطاب ّية ،واألالعيب القول ّية لتحقيق املصالح
مرسحا
ً الشخص ّية ،وعىل رأسها التأييد اجلامهريي يف املعارك السياس ّية التي كانت أثينا
هلا خالل تلك احلقبة.
يكتف السوفسطائيون بمامرسة السفسطة وحدهم ،بل مت ّكنوا من إقناع صفوة ِ ومل
دروس يف هذا املجال إن كانوا يرغبون يف حتقيق مصالح ٍ املجتمع آنذاك برضورة تل ّقي
ثروات عظيمة .غري ّ
أن هذه ٍ اجتامع ّية وسياس ّية واقتصاد ّية ،فتم ّكنوا بفضل ذلك من مجع
ستتعرض لنقد الذ ٍع من طرف املدرسة العقل ّية يف الفلسفة اليونان ّية مم ّثل ًة بشكل
ّ احلركة
أسايس يف سقراط ،وأفالطون ،وأرسطو .فقد حاول هؤالء الكشف عن مظاهر التمويه
واخلداع يف أساليب احلجاج والنظر واملناظرة عند السوفسطائيني ،ممّا أ ّدى إىل انحسار
التصور العقالين املؤمن بالقيمة املطلقة
نفوذ هذه احلركة تدرجي ًّيا لتفسح املجال أمام ّ
للحقيقة ،والذي سيغدو عالم ًة مم ّيز ًة للفكر اليوناين ،وملختلف املدارس التي تأ ّثرت به
نظرا عقل ًّيا ،غايته السري يف طريق احلقيقة، التصور مت ّثله الفلسفة بوصفها ً
ّ الح ًقا ،وهذا
ٍ
باطلة وخمادعة ،كام غدت شخص ّية ممارسة فكر ّي ٍة
ٍ أما السفسطة فأصبحت مرادف ًة ّ
لكل
199 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السوفسطائي معادل ًة لشخصية املخادع الذي يتحايل بالكالم واخلطاب قصد الوصول
إىل أغراضه الس ّيئة يف الغالب.
ومن هنا ي ّتضح ّ
أن حقيقة السفسطة تكمن يف إنكار العلم -اإلدراك املطابق
للواقع -واألدلة التي ُنقلت عن هذه اجلامعة تدور حول هذا املحور ،الذي تتكئ هذه
اجلامعة عمو ًما عليه" ،فجورجياس ً
مثال علم من أعالمهم قد ُنقلت عنه براهني تؤكد
استحالة وجود اليشء ،وإذا وجد من باب فرض املحال ،فهو اليمكن معرفته ،وإذا
عرف من باب فرض املحال فهوال يمكن تعريفه وحتديد سامته لآلخرين"(.)1
أن السفسطة تقوم عىل إلغاء أساس مبدأ عدم تقرر الفلسفة ّ
وعىل هذا األساس ّ
ألن ّ
كل املعلومات تعتمد هذا املبدأ ،ومع التسليم به ال يمكن إنكار احلقيقة، التناقض؛ ّ
ومع إنكاره ال يمكن إثبات حقيقة من احلقائق"( .)2ففي التجربة اليونان ّية تعد
ومظهرا حليلولة العقل املغالط دون الوصول
ً السفسطة أس املوانع العقل ّية للمعرفة،
إلدراك املعارف واحلقائق.
املنهجي
ّ -2-1الغزايل وتجربة الشكّ
مقياس اليقني عند الغزايل هو األمان ،ومعنى األمان هو الثقة يف جمانبة الغلط
واخلطأ ،ومقياس الثقة هو انكشاف املعلوم انكشا ًفا ينتفي معه كل ريب "وقد كان
التع ّطش إىل درك األمور دأيب وديدين من ّأول أمري وريعان عمري .غريزة وفطرة من
اهلل له وضعتا يف جبلتي ال باختياري وحيلتي حتى انحلت عني رابطة التقليد"(.)3
كان هاجس الغزايل العلم اليقيني الذي ينكشف فيه املعلوم انكشا ًفا ال يبقى معه
مرص ًحا" :فظهر يل ّ
أن العلم اليقيني ريب وال يقارن ُه إمكان الغلط والريب ،وهبذا ُ
يقول ِّ ٌ
هو الذي ينكشف فيه املعلوم انكشا ًفا اليبقى معه ريب ،وال يقارنه إمكان الغلط
( )1السيد الطباطبائي ،حممد حسني :أصول الفلسفة واملذهب الواقعي ،تر .عامر أبو رغيف ،منتدى الكتاب الشيعي،
،2012ج 1ص .96
( )2م.ن :ج ،1ص.106
( )3الغزايل ،أبو حامد :املنقذ من الضالل ،تح مجيل صليبا ،دار األندلس ،بريوت ،1967 ،ط ،10ص.161
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 200نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
والوهم ،وال ي ّتسع العقل لتقدير ذلك ،بل األمان من اخلطأ جيب أن يكون مقار ًنا
لليقني مقارن ًة لو حتدّ ى بإظهار بطالنه ً
مثال من يقلب احلجر ذه ًبا والعصا ثعبا ًنا ،لو
علمت ّ
أن العرشة أكثر من ثالثة ،فلو قال يل قائل: ُ فإين إذا
وإنكاراّ ،
ً يورث ذلك ش ًّكا
وشاهدت
ُ ال بل الثالثة أكثر من العرشة بدليل ّأين أقلب هذه العصا ثعبا ًنا ،وقلبها،
التعجب من كيفية قدرته عليه،
ّ ذلك منه مل ّ
أشك بسببه يف معرفتي ،ومل حيصل يل منه إال ّ
علمت فال"(.)1
ُ ّ
الشك فيام فأ ّما
تبني له
احلس بعدما ّ فطفق يتأ ّمل يف طرق املعرفة عنده ،لقد ّ
شك الغزايل ابتدا ًء يف ّ
صغريا
ً وأن احلواس يف معرض اخلطأ ،فهي ترى الكبريأن اخلطأ يمكن أن يتس ّلل إليهّ ،
ّ
واملتحرك ثاب ًتا ،فانتقل إىل األول ّيات ّ -
ولعل النفس ترك ُن إىل حكم العقل -فتناهى إليه ّ
حاكم آخر ُخي ّطئ العقل كام خ ّطأ العقل ّ
احلس؟ وهذا ٌ إشكال آخر :من قال اليوجد ٌ
احلاكم الثاين وإن مل يتجل لنا يف عامل اإلدراك ،فذلك ال يعني استحالته .ثم تر ّقى فـي
بحس أوعق ٍل ّ
الشك إىل أن تساءل ":بام تأمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك ٍّ مسار
حق باإلضافة إىل حالتك التي أنت فيها ،لكن يمكن أن تطرأ عليك حال ٌة أخرى
هو ّ
تكون نسبتها إىل يقظتك كنسبة يقظتك إىل منامك؟ وتكون يقظتك نو ًما باإلضافة
إلـيـها!!!(.)2
وولج الغزايل دوامة السفسطة ،وقد حدّ ثنا يف كتابه املنقذ من الضالل عن احلرية
التي عاشها ،وعاصفة السفسطة التي جرفته طيلة شهرين ممتتاليني":فأعضل هذا الداء
ودام قري ًبا من شهرين أنا فيهام عىل مذهب السفسطة بحكم احلال ،ال حكم املنطق
الصحة
ّ واملقال ،حتى شفى اهلل تعاىل من ذلك املرض واالعتالل ،وعادت النفس إىل
ٍ
ويقني ،ومل يكن واالعتدال ،ورجعت الرضورات العقل ّية مقبول ًة موثو ًقا هبا عىل ٍ
أمن
بنور قذفه اهلل تعاىل يف الصدور".دليل وترتيب كال ٍم ،بل ٍ
ذلك بنظم ٍ
بعدما عاد إليه اليقني بالرضوريات العقلية طفق يبحث يف أصحاب املذاهب
ٍ
بحث وتتب ٍع ،ركن واآلراء :املتكلمني ،والباطن ّية ،والفالسفة ،والصوف ّية ،وبعد مسرية
إىل طريقة الصوف ّية التي بان له "بالرضورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة
وخاص ّيتها"(.)1
طور حيصل
طور وراء طور احلس والعقل" :فالنبوة ٌ
النبوة التي يذهب الغزايل ّأهنا ٌ
ّ
وأمور ال يدركها العقل"(.)2
ٌ نور يظهر يف نورها الغيب،
عني هلا ٌ
فيها ٌ
ٍ
سنوات من العزلة واخللوة وانقطاع عن التعليم والتدريس ،استأنف الغزايل وبعد
شم ًرا ساعد ِ
اجلدّ عىل األخذ بيد السالكني وكشف الشبهات حياته ونشاطه العلمي ُم ِّ
الغمة
بعد أن شاعت الفتن الفكر ّية ،خماط ًبا نفسه ":متى تشتغل أنت بكشف هذه ّ
ُ
زمان الفرتة ،والدورة دور ُة الباطل". ومصادمة هذه الظلمة ،والزمان
باملؤرشات عىل حضور إشكال ّية موانع
ّ هذه ّتربة الغزايل ( )3التي كام ّ
تتجىل حبىل
ّ
الشك البنّاء الذي ال يقف يف حدود مؤسس منهج
املعرفة ،بل عدّ ه بعض الباحثني ّ
االرتياب ودوائره ،وال ينهزم أما العوائق واملوانع لبلوغ احلقيقة والوصول إىل اليقني.
الشك الديكاريت ( )1650-1596إىل الغزايل؛ فقد تأ ّثر ديكارت
ّ و ُينسب منهج
هبذه التجربة ،وّتربته تشبه ّتربة الغزايل يف البحث عن اليقني الفلسفي ،فقد بدأت
الشك مبك ًّرا لديه منذ كان يف مقعد الدراسة؛ ألنّه عاش يف ٍ
عرص ساد فيه الشك ّاكون مسرية ّ
والالأدر ّيون .ومن الراجح ا ّطالع ديكارت -وهو أبو الفلسفة الغربية الـحديثة -علـى
تـجـربـة الغ ـزايل(.)4
ومن الذين أ ّك دوا رسقة ديكارت لبعض أفكار الغزايل -ال س ّيام من كتاب (املنقذ
كل من حممود محدي زقزوق (2020-1933م) يف كتابه (املنهج من الضالل) ٌّ -
الفلسفي بني الغزايل وديكارت) ،1983ونجيب حممد البهبيتي ()1992-1908
أقر زكييف كتابه (املدخل إىل دراسة التاريخ واألدب العربيني) .1985وكذلك ّ
نجيب حمفوظ (1993 -1905م) ،يف كتابه (رؤية إسالمية) .وحقيقة األمر أ ّن الشبه
شديد بني الغزايل وديكارت من حيث املنهج ،وليس من حيث املحتوى ،فاقرأ عن
خطوات املنهج الذي يؤدي باإلنسان إىل اليقني يف كتاب (حمك النظر) للغزايلّ ،تد
نفسك عىل وشك أن تتساءل :ماذا بقي بعد ذلك لديكارت؟(.)1
-1-3-1أوهام القبيلة
اإلنساين من حيث هو كذلك ،ولذا فهي
ّ الطبيعي يف العقل
ّ وهي تعود إىل النقص
طبيع ٌة إنسان ّي ٌة مشرتك ٌة بني مجيع األفراد حتول دون إصدار األحكام الواقع ّية .يقول
بيكون" :أوهام القبيلة مب ّيتة يف الطبيعة البرش ّية ،ويف القبيلة البرش ّية نفسها ،أو اجلنس
( )1بيكون ،فرنسيس :األورجانون :ص .20
( )2م.ن ،ص .19
( )3م.ن ،ص.20
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 204نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
إىل الضالل .ويف هذا املجال يعترب بيكون أرسطو أبرز أفراد هذه املجموعة؛ ألنّه
وبسبب اندكاكه يف املنطق ،ر ّد العلوم ك ّلها إىل املنطق وقواعده.
-3-3-1أوهام السوق
األوهام الناشئة من األلفاظ ُس ّميت أوهام السوق؛ ّ
ألن الناس إذا اجتمعوا يف
األسواق يتناقشون ويتبادلون األفكار عن طريق األلفاظ .واأللفاظ تنشأ يف األصل
تصوراتنا لألشياء.
ثم ال تلبث أن تسيطر عىل ّ
لتلبية حاجاتنا العمل ّية ّ
أيضا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتامعهم أوضح بيكون ذلك ً
قائال" :ثمة ً
بعضهم ببعض ،والتي أسميها النظر إىل ما جيري بني الناس هناك من تبادل واجتامع،
والكلامت يتم اختيارها بام
ُ (أوهام السوق)؛ فالناس إ ّنام تتحادث عن طريق القول،
يالئم فهم العا ّمة ،وهكذا تنشأ ُمدون ٌة من الكلامت سيئ ٌة بليد ٌة تعيق العقل إعاق ًة
التعريفات والرشوح التي دأب املثقفون عىل التحصن هبا
ُ عجيبة ،إعاق ًة ال ُّتدي فيها
وقع اخللط يف كل يشءِ ،
وتوقع بشكل واضحٍ ،و ُت ِ
ٍ أحيانًا :فام تزال األلفاظ تنتهك الفهم
الناس يف جمادالت فارغة ومغالطات ال حرص هلا"(.)1
أيضا أوها ٌم تنشأ عن جمتمع الناس وتواصلهم املتبادل بعضهم مع البعض،
و"هناك ً
وّتمع الناس مع بعض؛ وذلك ونطلق عليها أوهام السوق آخذين اللفظ من التجارة ّ
ولكن الكلامت تصوغها إرادة األغلب ّية ،وينجم عن
ّ ّ
ألن الناس تتحدّ ث بواسطة اللغة.
عائق عجيب للعقل .وليس يمكن للتعريفات
الصياغة السيئة وغري املالئمة للكلامت ٌ
والتفسريات التي اعتاد العلامء يف بعض األمثلة أن يقوا أنفسهم وحيموها هبا ،ليس يمكن
بكل ٍ
يشء ٍ
بطريقة ب ّينة ،وتؤ ّدي ّ عالجا تا ًّما ..فاأللفاظ رغم ذلك تقرس الذهن هلا أن تو ّفر
ً
ٍ
تناقضات وأخطاء ال حرص هلا وال طائل منها". إىل اخللط وتؤ ّدي باإلنسان إىل
ٍ ِ
وهذه األلفاظ نوعان :األلفاظ التي هلا معان غامض ٌة مبهم ٌة ،واأللفاظ التي ّ
تم
وضعها ألشياء ال وجود هلا .أ ّما األلفاظ ذات املعاين املبهمة فهي ال تعريف واضح هلا؛
( )1بيكون ،فرنسيس :األورجانون :ص.21
207 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذ يطلقها اإلنسان عىل بعض اخلصائص حني يلتفت إىل بعض وجوه الشبه العابرة،
ويغفل عن الفوارق األساس ّية .ويطرح بيكون لفظ (رطب) الذي كان ُيطلق يف عرصه
أمر مشرتك.
عىل أشياء متباينة ليس فيها ٌ
ٍ
موجودة فهي من قبيل األلفاظ التي شاع وأ ّما األلفاط التي ُوضعت ألشياء غري
جمرد استعامهلا يف الفلسفة؛ ّ
لتدل عىل أشياء اعتقد الفالسفة وجودها ،ويراها بيكون ّ
األول ،والصدفة .هذه األوهام ترجع إىل غرور اإلنسان،
املحرك ّ
ّ أوهام ،من قبيل
ٌ
ألفاظ جوفاء .فهي إن أمكن الغرور الذي جيعله يدّ عي العلم بينام ليس يف ذهنه سوى
أن تصلح يف جمال املناقشة واملساومة يف األسواق ،فهي ال تصلح يف جمال العلم.
-4-3-1أوهام املرسح
وأخريا هناك تلك األوهام التي انرسبت إىل عقول البرش من
ً يقول بيكون" :
املعتقدات املتعدّ دة (أوهام املرسح) للفلسفات املختلفة ،وكذلك من القواعد املغلوطة
الناس وابتكروهاُ كل الفلسفات التي تعلمها للربهان ،وهذه أسميها ذلك أين أعد ّ
حتى اآلن ،هي أشبه بمرسحيات عديدة ِجدٍّ اُ ،تقدم وتؤدى عىل املرسح ،خالق ًة عوامل
من عندها زائف ًة ومه ّية ،وال ينسحب حديثي عىل الفلسفات واملذاهب الرائجة اليوم
فحسب ،وال حتى عىل املذاهب القديمة ،فام يزال باإلمكان تأليف الكثري من
وتقديمها الطريقة املصطنعة نفسها وإضفاء
ُ املرسحيات األخرى من النمط نفسه،
أسباب أغالطها الشديدة التعارض هي أسباب مشرتكة إىل
ُ االتفاق عليها ،ما دامت
كثريا من
أيضا ً حدٍّ كبري ،ولست أقرص حديثي عىل الفلسفة الكل ّية ،وإ ّنام أشمل ً
العنارص واملبادئ اخلاصة بالعلوم ،والتي اكتسبت قوهتا اإلقناع ّية من خالل التقليد،
والتصديق الساذج ،والقصور الذايت"(.)1
وانطال ًقا من ذلك حيمل بيكون عىل الفلسفة اليونانية عا ّمة ،ال عىل سفسطائيها
فحسب ،ناس ًبا إ ّياهم مجي ًعا إىل السفسطة ،فيقول" :تأيت العلوم التي لدينا -يف معظمها-
( )1بيكون ،فرنسيس :األورجانون :ص.21
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 208نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
العديدة يف الزمن الوسيط أكثر ممّا أضافوا إىل وزهنا ،مجلة القولّ :
إن السبب األول هلذا
التقدّ م اهلزيل يف العلوم يعود إىل ضآلة الفرتت الزمنية التي كانت مواتية للعلم"(.)1
ويف إقصائه للحضارة اإلسالم ّية العرب ّية هنا -مضا ًفا إىل إشارته السابقة أن العرب
جهل واضح بام وصل إليه التفكري العلمي واملنهجي مل يضيفوا عىل املنطق اليوناين شيئ ًاٌ -
منحاز ضد احلضارة اإلسالم ّية كام هو ديدن كثري من العلامء
ٌ موقف
ٌ عندهم ،أو هو
مالئام لالستطراد يف مناقشة هذا املوقف.
ً الغربيني ،وليس املقام
ٍ
وّتاوز للمعارف القديمة التي مل تعد ٍ
وقفزات نوع ّية ،فتاريخ العلم هو تاريخ فص ٍل
قادر ًة عىل تفسري املستجدات واملعطيات اجلديدة التي ظهرت ،والعقل العلمي هو ذو
ٍ
مبارش ٍ
بشكل تطور املعارف نفسها ،وهذا يعني ٍ ٍ ٍ
متغرية ومتطورة عىل الدوام بفعل ّ
بنية ّ
متغري ٌة ومتبدّ ل ٌة وغري هنائية ،ومن ث ّم ّ
فإن تاريخ ّ ّ
أن كل احلقائق العلم ّية هي حقائق
العلوم هو تاريخ تصحيحٍ لألخطاء العلم ّية.
ويف ضوء ما تقدّ م نستطيع أن نفهم ما هو الرابط بني العقبة اإلبستيمولوج ّية
والقطيعة اإلبستيمولوج ّية؛ وكام يرى باشالر " ّ
إن تاريخ العلوم ما هو إال تاريخ جد ّيل
ما بني العوائق والقطيعات االبستمولوجية " .ولذلك يشدّ د عىل أمه ّية أن تكون
التطورات العلم ّية؛ لكي تكتشف العقبات ،ثم تقوم
ّ االبستمولوجيا يقظ ًة ً
دائام مع
بدورها عرب ّتاوزها ،أو إزالتها.
ويستنتـج باشـالر من خـالل دراستـه للمعـرفة العلم ّيـة عـد ًدا مـن العـوائـق
االبستمولوج ّية:
العائق األول :التجربة األوىل ،أي التجربة السابقة عىل النقد؛ ّ
ألن التجربة األوىل
حتققت يف ظروف متقدّ ٍ
مة زمان ًّيا ،مم ّا يفقدها النقد الذي حيصل نتيجة الرتاكم املعريف.
أن الوقوف عند التجربة األوىل املتم ّثلة يف االتصال األول باملوضوع ويرى باشالر ّ
فة تريد أن حتمل صفة العلم ّية ال حيصل هلا ذلكفكل معر ٍ عائ ًقا معرف ًّيا للموضوع ّيةّ ،
ّإال عندما ّتعل التجربة األوىل ّمما ينبغي ّتاوزه.
دورا دينام ًيا يف تقدّ م التفكري العلمي ،و يف
أن للتعميم ًالعائق الثان :يرى باشالر ّ
تفرق الوقائع ،وتشتتها إىل وحدة القوانني ألن التعميم ينقل الفكر من ّ فهم الظواهر؛ ّ
واقعي ،ويكون دافعها
ٌّ أساس
ٌ يفرسها .ولكنه حيذر من التعميامت التي ليس هلا التي ّ
ٍ
معرفة عا ّمة ،فيندفع أصحاهبا إىل أولوية التعميم من دون مراعاة وتقديم املتع ُة العقل ّية،
ُ
إبستمولوجي آخر.
ٌّ عائق
اختالف الظواهر ،وهذا ٌ
أن هناك ألفا ًظا تأخذ يف أثناء استعامهلا
العائق الثالث :العائق اللفظي ،ويعني ّ
ومبهام إىل حدٍّ كبري ،فهي مشو ًشا ٍ
ً دالالت خارج داللتها األصل ّية مم ّا جيعل من استعامهلا ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 212نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ٍ
مماثلة ال تستند إىل ابستمولوجي ،وعىل العلم أن يتجاوزه ،بأن يبعد نفسه عن ّ
كل عائق
ّ
ٍ
مصطلحات دقيقة. موضوعي ،وأن يستعمل أساس
ّ ٍّ
العائق الرابع :هو العائق اجلوهري ،ويعني فكرة (اجلوهر) التي تس ّببت يف حرية
بدال من ظواهرها. ٍ
طويلة بح ًثا عن جواهر األشياء ً ٍ
لعصور العلامء
ٍ
جماالت غري العائق اخلامس :العائق اإلحيائي ،ويعني به إدخال بعض العلوم يف
خصوصا إدخال علم األحياء (البيولوجيا) يف علم الكيمياء
ً جماالهتا التي تعمل فيها،
والفيزياء ،فنسقط صفات األحياء عىل املادة ،وعنارص العلوم األخرى.
ِ
توقف العلم ،ويوكل تلك إ ًذا هي بعض العوائق االبستمولوج ّية بوصفها مرحلة
باشالر مهمة الكشف عن هذه العقبات إىل التحليل النفيس للمعرفة ،والكشف عنها
من أجل ّتاوز املرحلة ما قبل العلم ّية.
ولتوضيح مقصوده من التحليل النفيس للمعرفة نقولّ :
إن التحليل النفيس
الفرويدي كام هو معروف ،يدعي الكشف عن الرغبات والدوافع الالشعورية املكبوتة
أن هذه املكبوتات الالشعورية تعيقزاعام ّ
التي تؤ ّثر يف السلوك اإلنساين الواعيً ،
أحيا ًنا هذا السلوك عندما ُ
تنتقل عىل شكل أنوا ٍع من االضطرابات التي تطفو عىل
سطح الوعي ،وتتمظهر يف بعض السلوك ّيات.
وهذا ما يـحدث بالكيف ّية نفسها تقري ًبا برأي باشالر فـي أثناء عملية إنتاج الـمعرفة
أيضا لديه مكبوتات غريشعور ّية مثل: ِ
فالعامل أو الباحث فـي جمال العلوم هو ً العلم ّية،
اآلراء الشخص ّية ،واألحكام املسبقة ،أو معتقدات علم ّية شائعة وخاطئة ،كام أ ّنه حيمل
قيام أيديولوج ّي ًة وفكر ّي ًة مرتسخ ًة يف داخله ،وهذه املكبوتات -حسب رأي باشالر- ً
ِ
وعي منه؛ فالعالـم يف هناية األمر
العلمي حتى من دون ٍّّ يمكن أن تؤثر يف عمله وإنتاجه
كل الناس يف تكوينه النفيس ،أي مهام حاول واجتهد أن يكون موضوع ًّيا هو مثل ّ
ومهن ًّيا ومنهج ًّيا يبقى حتت تأثري تكوينه النفيس.
ٍ
الفتة يف مسرية باشالر العلم ّية ،وهي إعراضه يف املدّ ة ٍ
مسألة وتبقى اإلشارة إىل
الثانية من عمره عن إبستمولوجيا العلوم إىل دراسة التخ ّيل الشعري وفلسفة اجلامل
213 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفن .لقد أصبح املوضع الرئيس عند باشالر يف آخر حياته ،هو التخ ّيل أو عمل املخ ّيلة
بعد أن كان العقل ،وأصبح هاجسه الدراسة الفلسف ّية الشاملة لإلبداع الشعري.
التوجه لدى باشالر باالستسالم لداف ٍع ال ُيقاوم ،جذبه
ّ ربر بعض الدارسني هذا
وي ّ
للتعاطي مع القوى التي تصنع املعرفة وتوجدها ،ال التي حتص ّلها كام هو احلال يف
املعرفة العلم ّية ،واملجال الوحيد الذي يأمل أن يرى فيه تلك القوى وهي تعمل هو
الشعر ،والف ّن؛ لذلك كتب جمموع ًة من الكتب يف اجلزء الثاين من حياته ط ّبق فيها
منهجه هذا.
ولكن أال حيق لنا أن نتساءل -ويف ضوء نظريته يف التحليل النفيس للمعرفة ،ومن
باب (ألزموهم بام ألزموا هبم أنفسهم) -كيف يعرض باشالر عن املعرفة العلم ّية وهو
كل الشوائب الدخيلة، الذي نافح وكافح طوال هذا العمر لتنقيحها وختليصها من ّ
والعوائق التي حتول دون بلوغها؟ كيف يعرض عنها إىل الشعر واألدب؟ وكيف ّ
يتخىل
عن العقل والعقالن ّية الذي استامت يف الدفاع عنها ضدّ كهنوت الدين والفلسفة -كام
يعرب أنصاره -إىل اخليال والوهم؟ أال يعكس ذلك يف ضوء التحليل النفيس للمعرفة
وصدمات ٍ
قاتلة واجهها باشالر إزاء احلقيقة؟!!!!! ٍ ٍ
عميقة عن ٍ
أزمة
***
ّ
املبحث الثـان
موانع املعرفة من مقاربة نصية
نخصصه للمعاجلة من داخل النص الديني ،أي
ّ القسم الثاين من هذه الدراسة
القرآن والروايات ،وهذه املعاجلة كام سيتّضح يف سياق البحث ،تفارق املعاجلة الفلسف ّية
من جهات عدّ ة.
( )1انظر :حاج محد ،حممد أبو القاسم ،جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة (العاملية اإلسالميّة الثانية) ،دار اهلادي،
بريوت ،2004 ،ط ،1ونظر ّية اجلمع بني القراءتني :قراءة باسم اهلل وقراءة مع اهلل.
215 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رس التعاطي املغاير للقرآن والنصوص الدين ّية عمو ًما مع ّ
ولعل يف ذلك يكمن ّ
موانع املعرفة ،فنحن إزاء معاجلة تتسم باإلحاطة بأبعاد اإلنسان ،ومهيمنة عىل الواقع
تشخص مكامن اخلطأ بد ّق ٍة وشمول ّي ٍة﴿ :ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ﴾ ك ّله ،و ّ
(سورة ا ُمللك.)14 :
رب املفكر اإلسالمي الشهيد مطهري عن دهشته هلذا األمر ،ملا التفت
ولقد ع ّ
لتعرض القرآن إىل أخطاء املا ّدة يف التفكري (مقابل أخطاء الصورة) :حيث يقول":اهلل
ّ
وجدت ّ
أن مجيع ما يذكره هؤالء] يقصد الفالسفة ُ يعلم ّأين ُأصبت بالدهشة عندماُ
األوربيني الذين بحثوا وضوع منطق املادة ،وعوامل اخلطأ كبيكون وديكارت [موجو ٌد
يف القرآن .فيام يتع ّلق بمنطق املا ّدة يف القرآن فقد تو ّفر ً
كثريا عىل ذكر سبل اخلطأ يف
املكرر فيام يصدر عن النّاس من فكر وقول"(.)1
الفكر ،فالقرآن عالج مسألة اخلطأ ّ
احلساسة يف الرؤية
ور ّبام كان من الطبيعي أن يعالج القرآن الكريم هذه املسألة ّ
ٍ
مغاير؛ فهو لـم ٍ
بأسلوب النص الذي تـم ّيز حديثه عن العقل وفعاليياته الـمعرف ّية ،وهو ّ
أقلُي ِعر أمه ّي ًة الب ّتة للمـاهـ ّيـة ،والسجال حوهلا -كام خاض يف ذلك الفالسفة ،وبدرجة ّ
جل اهتمـامه عىل األدوار ،ولذا ال نجد استخدا ًما انصب ّ
ّ املتك ّلمون واألصوليون -بل
ِ
صيغته الفعل ّية ُ
اللفظ يف للفظ (العقل) يف صيغته االسم ّية يف القرآن الكريم ،وإ ّنام ورد
(يعقلون ،تعقلون ،نعقل ،يعقلها) يف ( )49مور ًدا ،مع االلتفات إىل املجال الداليل
ٍ
مفردات عديد ًة تنتمي إىل املجال الداليل ملفردة ملفهوم العقل ،وهو جمال وسيع ،فنجد
املرات
وتكرر بعضها عرشات ّ
ّ (العقل) قد احت ّلت مساح ًة شاسع ًة يف القرآن الكريم،
مر ًة ،التف ّكر (ّ )17
مر ًة ،و(فكّر) مر ًة واحد ًة يف سورة املدثر ﴿ﳟ ﳠ مثل :الفكر(ّ )18
مر ًة -عدا كلمة الذكر بمعنى القرآن أو ذكر
ﳡ﴾( ،التذكّر) بمشتقاته أكثر من(ّ )200
مر ًة ،الفؤاد
مرات ،أويل األلباب (ّ )16
مر ًة ،التد ّبر(ّ )4
مر ًة ،الفقه (ّ )20
اهلل ،النظر (ّ )36
مر ًة ،القلب ()132مرتني ،العلم ومشت ّقات جذر علم (ّ )582 مر ًة ،أويل النهى ّ
(ّ )16
مر ًة بصي ٍغ خمتلفة.
ّ
( )1مرتىض ،مطهري ،النبوة ،تر جواد عيل كسار ،دار احلوراء ،بريوت ،الط ،الت ،ص .388
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 216نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أهم املوانع التي قاد إليها التت ّبع والبحث ،وال تدّ عي هذه الدراسة
وفيام يأيت ّ
االستقصاء ّ
الكيل:
-2-1-2هيمنة الظنون
باع الظنون؛ فالظ ّن قد يعصف بأجىل
من الـموانع التي تـحول دون الـحقـيقـة ا ّت ُ
حقيقة كون ّي ٍة وأعظم البدهييات ،وهي اإليامن بالذات اإلهلية؛ ّ
ألن املنطق القرآين يرى ٍ
ّ
الشك﴿ :ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ أن الذات اإلهل ّية حقيق ٌة ال يرقى إليها
ّ
ﲦ ﲧﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﲲ ﲳ ﲴ
ﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿﳀﳁ
اهيم .)10 :وعىل أسـاس ذلك عدّ ت اآليـات دعـوات املشـركني ﳂ﴾ (سور ُة ِإبر ِ
ُ
وكل عـقـائد الض ـالل والتزييف ،ا ّتبا ًعا للظ ّن ،ووقو ًعا فـي رشاك األوهاموالـملحـدين ّ
والتخمينات ،بل هو أعىل درجات الشذوذ النفيس يف إنكار البدهيي واإلعراض عن
احل ّق﴿ :ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ
(سور ُة ُيو ُنس .)66
ﱿ ﲀ ﲁﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ﴾ ُ
﴿ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ
ﲀﲂﲃ
ﲁ ﱷﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿ
ﱯﱱﱲﱳﱴﱵﱶ ﱸ
ﱰ ﱮ
(سور ُة النِّساء.)157 :
ﲄ﴾ ُ
يتورطون يف ُحجب الظنون واألخطر من ذلك يف الرؤية القرآن ّية ّ
أن أغلب الناس ّ
ويقعون فريسة التخمينات الظن ّية ،وال يركنون إىل ركن اليقني الوثيق﴿ :ﱶ ﱷ ﱸ
(سور ُة ُيو ُنس.)36 :
ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾ ُ
﴿ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ
ﲹ ﲺ﴾ (سور ُة األنعام ،)116 :ويف مقام ِ
احلجاج مع هؤالء الضالني ،عقد ًّيا ُ
وسلوك ًّيا يأمر القرآن نب ّيه أن يطالبهم بعل ٍم خيرجوه ويظهروه ،فليكن العلم واليقني ً
حكام
ولكن القرآن يؤ ّكد أن هؤالء لن يستجيبوا؛ ّ
ألهنم أرسى ظنوهنم التي حتول دون ّ بيننا،
( )1الطباطبائي ،حممد حسني :امليزان يف تفسري القرآن ،مؤسسة األعلمي ،بريوت ،1997 ،ط ،1ص.46
219 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل ّ
إن هذا التواطؤ عىل اخلطأ ينطلق من اجتامعهم كجامعة ،وهو ما يطلق عليه يف
األدب ّيات املعارصة بالعقل اجلمعي ،فالنّاس حينام يفكّرون بإحياء من قناعات اجلامعة
وتوجهاهتا يفقدون وعيهم ،ويقعون فريس ًة الظنون
ّ ومتبنّياهتا ،وبخضوع لرأي اجلموع
﴿ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾
(سور ُة ُيو ُنس.)36 :
ُ
ومن املفردات القرآن ّية التي تقرتب داللتها ممّا نسميه بالعقل اجلمعي عبارة (املأل)،
فقد جاءت يف القرآن الكريم يف حوايل تسعة عرش مور ًدا ،ويف الكثري منها ّ
يدل عىل اجلامعة
رأي ويكون هلذا الرأي سطوته ونفوذه بحكم هيبة اجلامعة ومظهرها الذي
التي تتفق عىل ّ
رأي فيملؤون العيون
يمأل العني ،قال الراغب يف مفرداته" :املأل مجاعة جيتمعون عىل ّ
وجالال ،قال﴿ :ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ﴾ ،و﴿ﱪ ً ومنظرا والنفوس هبا ًء
ً روا ًء
ﱫ ﱬ ﱭ﴾ ،و﴿ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ﴾ ،و﴿ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ
ﲖ﴾ وغري ذلك من اآليات"(.)1
وللتخ ّلص من سطوة هذا العقل اجلامعي وضغوطه ناشد القرآن هؤالء أن ّ
يتحرروا
من أجواء اجلامعة املحمومة ،ومن سلطة (الكتلة) الغارقة يف عصبيات القوم ،بشتّى
أشكاهلا ،بالقيام فرادى أو مثنى ،ليتأ ّملوا بعيدً ا عن صخب اجلامعة وضجيجها ،فصوت
احلق يتالشى يف أرجائها ،وأن يطلقوا العنان -ال للغرائز والشعارات -للفكر والتأ ّمل،
ّ
ﲴﲶﲷﲸﲹﲺﲻ
ﲵ فحينذاك يدركون احلقيقة﴿ :ﲱ ﲲ ﲳ
ﳁ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ﴾
ﳂ ﲼﲾﲿﳀ
ﲽ
(سور ُة سبأ.)46 :
ُ
( )1الراغب ،األصفهاين( ،أبو القاسم احلسني بن حممد) ،املفردات ،تح سيد كيالين ،بريوت ،دار املعرفة ،د.ت ،د.ط،
ص.473
221 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بني املجتمعات ،ولكن ليس من الطبيعي أن ينسحق الفرد أمام أفكار اجلامعة وثقافتها
مهام تاهت وض ّلت وانحرفت ،ومن غري الطبيعي أن يغدو خليارات اآلباء واألجداد،
الفكر ّية والعقد ّية سلطة حاكمة عىل األبناء ،حتدّ د أفكارهم ورؤاهم ،بل وترشيعاهتم!
تعرض القرآن الكريم يف أكثر من مورد هلذه اإلشكالية ،عا ًّدا سلطة اآلباء مان ًعا
وقد ّ
احلق ،وموكب الرسالة ،وا ّتباع رشعة األنبياء .وقد أبطل ُحجج هذه األجيال
من حلوق ّ
نقدي ،ف ُيحرمون نتيجة ذلك من ٍ
وعقل بصرية ٍ
ثاقبة، ٍ اخلاضعة لتقليد اآلباء من دون
ّ
نور احلقيقة وّتل ّيات املعرفة﴿ .ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ
(سور ُة البقرة.)170 :
ﱎ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ﴾ ُ ﱏ ﱍ
فاآلية حتاججهم ّ
بأن مقياس العاقل يف اال ّتباع واالقتداء نور العقل وبصرية اهلداية،
أي أساس تتّبعوهنم؟ فقوله تعاىل﴿ :ﱒ ﱓ
وآباؤكم ال يملكون من ذلك شي ًئا ،فعىل ّ
ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ﴾" ،مفاده ّ
أن العقل -لو كان هناك عقل -ال يبيح
لإلنسان الرجوع إىل من ال علم عنده وال اهتداء ،فهذه ُس ّنة احلياة ال تبيح سلوك طريق
ال تؤمن خماطره ،وال يعلم وصفه ال باالستقالل ،وال باتباع من له به خربة .ولعل إضافة
قوله تعاىل﴿ :ﱘ ﱙ﴾ إىل قوله﴿ :ﱕ ﱖ ﱗ﴾ لتتميم قيود الكالم بحسب
احلقيقة ،فإن رجوع اجلاهل إىل مثله وإن كان مذمو ًما لك ّنه إ ّنام ُيذم إذا كان املسؤول
املتبوع مثل السائل التابع يف جهله ،واليمتاز منه بيشء ،وأ ّما إذا كان املتبوع نفسه يسلك
خبري به وداللته ،فهو ٍ
مهتد يف سلوكه ،وال ذ ّم عىل من اتبعه يف مسريه، الطريق هبداية عاملٍ ٍ
وق ّلده يف سلوك الطريق؛ ف ّ
إن األمر ينتهي إىل العلم باآلخرة ،كمن يتبع عا ًملا بأمر الطريق،
ثم يتبعه آخر جاهل به"(.)1
ويف ٍ
آية أخرى يفنّد القرآن هذا اخلضوع لسلطة إرث اآلباء واألجداد ،ودعوى
االكتفاء به املتم ّثلة بقوهلم﴿ :ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ﴾ ُ
(سور ُة املائدة.)104 :
(سور ُة الشعراء .)74 :يفنّدُ القرآن الكريم
و﴿ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ﴾ ُ
احلجة الدامغة الـمتقدّ مة فـي سورة البقرة نفسها :هل أنتم ملزمون بـهذا
هذه املقولة ب ّ
( )1الطبطبايب ،حممد حسني ،امليزان :ج ،6ص.156
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 222نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
الـمنهج الـموروث حتى لوكان آباؤكم فـي ظلمـات اجلهل يرتددون وعن سبل اهلداية
معرضني؟!﴿ :ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ
(سور ُة املائِدة.)104:
ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ﴾ ُ
ِ
لغواية الشيطان الذي فهل خيضع هؤالء هلذا املرياث حتى لوكان يف ذلك استجاب ٌة
يدعوهم إىل الضياع والسعري؟!﴿ :ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ
(سور ُة ُلقامن.)21 :
ﱮ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ﴾ ُ
ﱯ ﱭ
وحسب التتبع القرآين يتصاعد هذا الشذوذ املعريف عند هؤالء يف حتديد مناهج
الفكر والسلوك ،إىل مرتبة تربير الفواحش العمل ّية واألخالق ّية بسلطة تراث اآلباء (وجدنا
عليها آباءنا) ،بل أكثر من ذلك إلباس هذا املوروث قداس ًة دين ّية إهل ّي ًة ،وهذا ديدن
ارات الهوت ّي ٍة وغيب ّي ٍة قصد
املجتعات الدينية حينام يربرون ضالهلم وانحرافاهتم بمرب ٍ
ّ ّ ّ
التمويه عىل اآلخرين﴿ :ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ
ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ﴾ ( ُسور ُة األعراف.)28 :
ٍ
مناقشة أخرى يبطل القرآن الكريم طريقة هؤالء ب ّأهنم ال يملكون عىل ويف
نقل﴿ :ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ عقل والمن من ٍ
منهجهم ُح ّج ًة ،ال من ٍ
ﱑﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚ
ﱒ ﱊﱋﱌﱍﱎﱏﱐ
ﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱣﱤﱥﱦﱧﱨﱩﱪﱫﱬ
ﱮ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱺ ﱻ
ﱯ ﱭ
(سور ُة
ﲃ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ﴾ ُ
ﲄ ﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂ
ُلقامن.)22-20 :
وتبقى يف هذا املقام إشار ٌة قرآن ّي ٌة جيدر الوقوف عندها ،أال وهي املنطلقات الرتف ّية
ملوقف هؤالء أو عىل األقل فئة منهم ممّن يلوذون بسلطة تراث اآلباء وموروث األجداد:
﴿ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ
ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ﴾
خرف ،)23-22 :فاآلية تؤ ّكد ا ّطراد اخلطاب يف تاريخ الرساالت ،وتعاقب
(سور ُة الز ُ
ُ
223 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
املجتمعاتّ ،
وأن املرتفني هم طليعة هذا التربير وهذا احلجاج:جاء يف تفسري امليزان يف
خيتص هبؤالء فقد كان ذلك دأب
ّ تفسري اآلية" :أي إن التشبث بذيل التقليد ليس ممّا
أسالفهم من األمم املرشكني وما أرسلنا من قبلك يف قرية من نذير ،وهو النبي إال تش ّبث
متن ّعموها بذيل التقليد وقالوا :إنا وجدنا أسالفنا عىل دين و إنا عىل آثارهم مقتدون لن
نرتكها و لن نخالفهم .ونسبة القول إىل مرتفيهم لإلشارة إىل أن اإلتراف والتنعم هو
الذي يدعوهم إىل التقليد ويرصفهم عن النظر يف احلق"(.)1
﴿ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ﴾ إلخ:
اآلية .30فقوهلم﴿ :ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ﴾ كالمهم بعد
االنقطاع عن املخاصمة"(.)1
-2-2املوانع يف الروايات
ما يالحظه الباحث للوهلة األوىل -وهو يتت ّبع الرويات ويتأ ّملها -املشرتك الذي
النص القرآين مع املوروث الروائي يف التنبيه عىل العديد من موانع املعرفة،
يلتقي حوله ّ
وتفر ّد الروايات بالتنصيص عىل موانع أخرى ال يتحدّ ث عنها القرآن الكريم مبارش ًة،
أو رصاح ًة؛ ألجل ذلك ارتأينا اإلشارة إىل املشرتك القرآين الروائي ّأو ًالُ ،ث ّم التفصيل
قسمناها موضوع ًّيا كام سيأيت.
النسبي للموانع الروائ ّية التي ّ
حتذير من ا ّتباع األهواء« ،آفة العقل اهلوى ،اهلوى
ٌ ففي العرشات من املرويات
آفة األلباب ،طاعة اهلوى تفسد العقل.)2( » .....
ومن الطبيعي ّ
أن االستغراق يف امليول الذات ّية والرغبات اإلن ّية والشهوات النفس ّية
(يف العديد من الروايات إشارة إىل ذهاب الشهوة بلوامع التفكري وبريق العقل)،
حيجب النفس عن الواقع ،وحيول دون إدراك احلقائق ،ويقابل هذا يف عامل املعنو ّيات
ُ
حالة العشق الذي يعمي ،فأسري األنا ،وعبد الشهوات ،حاهلام حال العاشق الوهلان
عام سواه ،اليرى غريه ،فكيف ُيدرك ما حوله؟ أو يعرف
املستغرق بمعشوقه الذاهل ّ
ما ُحييط به؟
إضافة إىل ذلك نرصد عوامل أخرى يف الروايات تندرج حتت آفات العقل وموانع
التفكري الصحيح ،وهي كثرية( )3يمكن أن نصنّفها موضوع ًّيا حتت العناوين اآلتية:
( )1الطباطبائي ،امليزان :ج ،8ص .114
( )2ري شهري ،حممد ،موسوعة العقائد اإلسالميّة ،دار احلديث للطباعة والنرش ،قم املقدّ سة1429 ،هـ ،ط ،3ج،1
ص .303
( )3حتدّ ثت موسوعة الريشهري عن ً 20
عامال ،انظر الفصل السادس.
227 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-2-2-2موانع نفسية
شخصت الرويات موانع نفس ّي ًة عديدةً ،نورد منها بعض النامذج: ّ
يذهب العقل،
ُ .1ا ّتباع األمل :عن اإلمام عيل« :اعلموا عباد اهللِ ّ
أن األمل
ث احلرسة» .و«ما ع ِقل من أطال أمله»، ِ
ويور ُ كذ ُب الوعد ،ويـ ُحث عىل الغفل ِة،
وي ِ
ُ
و«األماين تعمي أعني البصائر»(.)3
ينبت يف
السهل ،وال ُ ِ ينبت يف .2الكرب :روي عن اإلمام الكاظمّ « :
إن الزرع ُ
ِّ
املتكرب اجل ّبار»، تعمر يف ِ
قلب ِ
القلب املتواضع ،وال ُ تعمر يف
الصفا ،فكذلك احلكمة ُ
رب»(.)4ِ ِ وعن اإلمام عيل« :رش ِ
العقل الك ُ آفات
وجاء يف الرواية السابعة من باب صفة العلامء يف كتاب فضل العلم من أصول
( )1موسوعة العقائد اإلسالم ّية :ج ،2ص 168
حممد الريشهري :ج ،2ص.1322
( )2ميزان احلكمةّ ،
( )3موسوعة العقائد اإلسالميّة :ج ،2ص .176
( )4م.ن ،ج ،2ص 186و.187
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 228نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
( )1الكليني ،حممد بن يعقوب ،أصول الكايف ،دار املرتىض ،بريوت ،2005 ،ط ،1ج ،1ص .29
( )2موسوعة العقائد اإلسالم ّية :ج ،2ص .187
( )3م.ن ،ج ،2ص 181
( )4الكليني ،حممد بن يعقوب ،م.س ،ج ،1ص .13
( )5موسوعة العقائد اإلسالميّة :ج 2ص .176
( )6م.ن ،ج ،1ص .315
229 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ِ
العقل مصاحب ُة ذوي اجلهل» (.)1 أيضا« :من عدم
وعنه ً
.3الـمراء واللجاج :عن اإلمام عيل« :من كثر مراؤه بالباطل دا َم عمـاه
حق» ،وعنه« :من كثر مراؤه لـم يأمن الغلط» ،و«اللجاجة ُّ
تسل عن الـ ّ
الرأي» (.)2
َ رأي له» ،و«اللجاج يفسد
الرأي» ،و«اللجوج ال َ
َ
( )1انظر ً
مثال :الكردي ،راجح عبد احلميد ،نظر ّية املعرفة بني القرآن والفلسفة ،مكتبة املؤ ّيد ،الرياض ،ط.1992 ،1
( )2موسوعة العقائد اإلسالميّة :ج ،1ص .311
231 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دائام القضايا التي تعاجلها ك ّلها (املعرف ّية ،االجتامع ّية، راب ًعاُ :
تربط القراءة الدين ّية ً
بالرؤية الكون ّية التوحيد ّية ،فاألصالة للغيب املهيمن عىل ِ األخالق ّية ،السياس ّية)،
الوجود والتاريح واحلياة ،واإلنسان يف مسريته يكدح نحو اهلل أدرك ذلك أم مل يدرك
االنشقاق.)6 :ِ (سور ُة
﴿ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﴾ ُ
﴿ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ
(سور ُة النور.)39ِ :
ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ﴾ ُ
بينام غال ًبا ما تقطع الـمدارس الفلسف ّية اإلنسان عن انتامئه للغيب ،وتتعاطى مع
الكون ،والـحياة ،واإلنسان فـي نطاق األبعـاد الـحسـ ّيـة الـمـاد ّيـة ،وفـي أحسن األحوال
ٍ
متعال عن واقعنا ،أو تقرتح عالقة إشكال ّية تـؤمن إيمـا ًنا شكل ًّيا بالـميتافيزيقا ،كعالـم
بني العالـم ،وما وراء الطبيعة.
خامسا :تركّز القراءة الدين ّية عىل وحدة الشخص ّية اإلنسان ّية ،وعدم التفكيك بني
ً
كل عام ٍل من هذه العوامل عىل األخرى، اجلنبة العقل ّية ،والنفس ّية ،والسلوك ّية وتأثري ّ
ولذا رصدنا يف الروايات العديد من موانع املعرفة ترتبط باجلنبة العقل ّية ،وأخرى
بالرتكيبة النفس ّية لإلنسان ،وثالثة ترتبط بمواقفه السلوك ّية.
النص ّية لكل قضايا اإلنسان ،اإلنسان عن
تفصل الـمعاجلات ّ ُ سادسا :مثلمـا ال
ً
أيضا عن املآل واملصري ،ومن هنا التالزم بني الدنيا واآلخرة ،بني العمل
املبدأ ،ال تفصله ً
واجلزاء ،وحتى يف املستوى املعريف حترض هذه املعادلة يف اإلجابة عن إشكال ّيات املوضوع.
وهـذا يفـ ّرس لنـا منـطق الروايـات فـي باب الـموانـع باستحـضار الثـواب والعقـاب
األخرويني ،واحلديث عن العاقبة احلسنة ،ومصري السوء يف نصوص أخرى.
ساب ًعا :لـم تـهمل الـمعاجلة النص ّية االمتداد اإلنسانـي األفقي (املجتمع) ،واالمتداد
بقو ٍة يف إشكاالت املعرفة وقضاياها. ِ ِ ِ
العامودي (التاريخ) .فهذان البعدان حارضان ّ
وهكذا تتخ ّطى املعاجلة الدين ّية النظرة الفلسف ّية االختزال ّية ملسألة املوانع حيث
وامليتولوجي ،وإن التفت بعض الفالسفة
ّ االبستمولوجي
ّ يطغى عىل املعاجلة اجلانب
إىل عوامل اجتامع ّي ٍة وتارخي ّي ٍة ،ولكنها تظل يف إطارها الض ّيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 232نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
فاملقاربة النص ّية وإن تقاطعت مع املقاربة الفلسف ّية موضع ًّيا يف بعض العناوين،
لكنها ختتلف عنها يف العمق ،واالمتداد ،واألبعاد.
***
كلمة أخرية
تدعو املغايرة العميقة بني املسلكني واملنهجني ،بإحلاح إىل إعادة النظر يف نظر ّية
املعرفة من زاوية نصوص ّي ٍة وروائ ّي ٍة ،فلألسف ما كتب حول نظر ّية املعرفة يف القرآن
الكريم ال يرقى الكثري منه إىل املستوى املطلوب.
إن أكثر مشاهد القصور يف هذه األطروحات عدم اإلحاطة بالنصوص القرآن ّية ّ
والروائ ّية ك ّلها التي ترتبط بالبحث ،والوقوع يف املنحى التجزيئي الذي حيجب الرؤية
النص ،عوض
الشاملة واملوضوعية .وإسقاط الباحثني متبنياهتم وأفكارهم املسبقة عىل ّ
وّترد. ٍ
استنطاقه بحياد ّ
كام يغفل أغلب الباحثني يف هذا السياق عن طبيعة (املذهب ّية اإلسالم ّية) التي تنطلق
كوين ال يفصل املعرفة عن الوجود ،واحلياة ،والتاريخ ،والغيب ،واآلخرة،
ٍّ من وع ٍّي
قادرا عىل بلوغ أعىل مراتب
خطريا جيعلة ً
ً كوين يمنح اإلنسان موق ًعا وجود ًيا
ٍّ وع ٍّي
االرتقاء والكامل والتكامل معرف ًّيا.
بالـمقابل سجنت الفلسفة اإلنسان تار ًة يف سجن ذاته ،وتار ًة أخرى يف سجن
الطبيعة والعامل الـمـادي ،وثالث ًة فـي سجن جمتمعه وتاريـخه الزمني .فأنّى لفلسفات
حرر اإلنسان من أوهامه، ٍ ٍ ٍ
تـنبثـق من رؤيـة وجود ّيـة قابعـة وراء هذه القضـبان أن تـ ّ
وحت ّطم عوائق الـمعرفـة من أمام سبيله؟!
***
233 موانع املعرفة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الـمـصــادر:
القرآن الكريم .1
ابن أيب مجهور اإلحسائي ،عوايل اللئايل ،حتق آغا جمتبى العراقي ،مطبعة سيد الشهداء ،قم.1985 ، .2
ابن منظور ،حممد بن مكرم بن عيل ،لسان العرب ،مادة (منع) ،دار املعارف ،القاهرة ،د.ت. .3
أبو هالل العسكري ،الفروق اللغوية ،تح حممد إبراهيم سليم ،دار العلم والثقافة للنرش .4
والتوزيع ،القاهرة ،دت.
باشالر ،غاستون ،العقالن ّية التطبيق ّية ،تر بسام هاشم ،املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش .5
والتوزيع ،ط.1،1984
باشالر ،غاستون ،ابستولوجيا :نصوص خمتارة ،ترمجة وتقديم درويش احللوجي ،دار .6
املستقبل العريب ،القاهرة ،ط.1998 ،1
بيكون ،فرنسيس :األورجانون ،تر عادل مصطفى ،مؤسسة هنداوي اململكة املتحدة .2018 .7
حاج محد ،حممد أبو القاسم ،جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة (العاملية اإلسالمية الثانية) ،دار .8
اهلادي بريوت.2004 ،
ري شهري ،حممد ،موسوعة العقائد اإلسالم ّية ،دار احلديث للطباعة والنرش ،قم املقدّ سة، .9
1429هـ ،ط.3
الطبا طبائي ،حممد حسني :أصول الفلسفة واملذهب الواقعي ،تر .عامر أبو رغيف ،منتدى .10
الكتاب الشيعي.2012 ،
الغزايل ،أبو حامد :املنقذ من الضالل ،تح مجيل صليبا ،دار األندلس ،بريوت ،1967 ،ط.10 .11
الفيومي ،أمحد بن حممد ،املصباح املنري ،دار املعارف ،القاهرة ،دت ،دط ،ج.2 .12
الكردي ،راجح عبد احلميد ،نظرية املعرفة بني القرآن والفلسفة ،مكتبة املؤ ّيد ،الرياض ،ط،1 .13
.1992
الكليني ،حممد بن يعقوب ،أصول الكايف ،دار املرتىض ،بريوت ،2005 ،ط.1 .14
حمفوظ ،زكي نجيب ،رؤية إسالمية ،مؤسسة اهلنداوي ،اململكة املتحدة ،2017،الط. .15
مطهري ،مرتىض ،النبوة ،تر جواد عيل كسار ،دار احلوراء ،بريوت ،الط ،الت. .16
املواقع اإللكرتونية:
موقع اندبندت بالعربية 2021-2-18م.
***
رب العاملني
وآخر دعوانا أن احلمد هلل ّ
ّ6
(*)
العقل من منظار نظر ّية املعرفة
(**)
دٌ.محمدٌحسينٌزاده
فيسميها
ّ احلواس إياه (العقيدة)()4؛ وأما املعلومات ا ّلتي يعطينا ُ
العقل إياها ّ ا ّلذي متنحنا
(املعرفة) .و ٰهبذا يم ّيز بني طريق احلقيقة أو املعرفة ،وطريق العقيدة ،و ُيرص عىل ٰهذا
احلواس مليئة بالتناقضات من قبيل أن يرى الشخص ّ التاميز بينهام .وبام ّ
أن ُمدركات
واعتبارا سوى
ً ٍ
مستطيل ،دائري ًة ،فهو ال يرى قيم ًة البناية ا ّلتي هي عىل شكل مك ّع ٍ
ب
لطريق العقل ا ّلذي يمكن بواسطته الوصول إىل احلقيقة واملعرفة .ومن هنا فعىل رأي
بارمينيدس وأتباعه يكون الطريق املعترب الوحيد للمعرفة هو العقل ا ّلذي ُيمكن به
معرفة حقائق العامل وظاهراته(.)5
( )1الفالسفة املنسوبون إىل مدينة .Elea
)2( noumenon.
)3( Phenomenon.
)4( Opinion.
)5( See: F. M. Cornford, Plato and Parmenides, p.30-48; C. C. W. Taylor (ed.),
;From the Beginning to Plato, p.145-148
كوبلستون ،فريدريک( ،تاريخ فلسفه) [تاريخ الفلسفة] ،ترمجة سيد جالل الدين جمتبوي ،ج ،1ص62-61؛ =
239 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واصل أفالطون ( 347-428ق.م) بحث ٰهذه املسألة ،وأرص عىل حرص االعتبار
بالعقل وإدراك الكل ّيات فقط( .)1وأ ّما تلميذه أرسطو ( 322-384ق.م) فقد اعتقد
أيضا ،وث ّبت القيمة املعرف ّية لكلتا القوتني اإلدراكيتني ،وأسس علم
احلس ً
ّ باعتبار
املنطق من أجل الصيانة من اخلطأ يف الفكر ،الشامل للتعريف واالستدالل ومها من
حسيونأيضا عىل الرغم من كل ما قيل عنهم -من ّأهنم ّ عمل العقل( .)2والرواقيون ً
بنحو ما .وبحسب رأهيم "يمكن ٍ احلسـ ّيةٰ -لكنّهم عقالنيون ويستندون إىل التجارب ّ
ٍ
زاوية معرفة نظام الواقع عن طريق العقل فقط"(ً .)3
فضال عن ّأهنم يتقبلون العقل من
أخرى ،وهي اإلذعان بتح ّقق املفاهيم القبل ّية أو املتقدّ مة عىل التجربة(.)4
الفلسفي الغريب منذ املايض
ّ مطروح فـي الفكر
ٌ فإن بحث العقل واعتبارهوعليه ّ
البعيد ،ومازال يبحث إىل اآلن .وقد تواصل النزاع حول اعتبار العقـل ا ّلذي ُأ ِّسس
وفـ ًقا لرؤية األبيقوريني طوال التاريخ ،وخا ّصة فـي أوساط الـمتكلمني املسيحيني
حس ّـيٰ ،لك ّن
مؤسسا للمذهب الـ ّ
ً واإليمـانيني .ومـع ّ
أن أبيقـور ُعد فـي تاريخ الفلسفة
ٍ
بشكل مثل ٰهذا االّتاه كان ساب ًقا عليه .واألبيقوريون مثل الرواقيني كانوا ّ
حس ّيني ()5
ّ
بأن املعارف اإلنسان ّية -ومنها الفلسفة -ال تتعارض مع اإليامن والتعاليم الدين ّية .يف
ريام رسم ًّيا شمل
أواخر القرن الثالث عرش امليالدي أصدر أسقف باريس إتيان تامبيه حت ً
تعليام من تعاليم الرشديني .وقد جاء يف بعض ٰهذه التعاليم" :ال توجد يف العامل
(ً )219
حكمة سوى ما يرتبط بالفالسفة" (القض ّية )154و"ال ينبغي اإليامن إال بام كان بده ًّيا
بالذات أو ما يستنتج من القضايا البدهية" (القض ّية .)1()37
يف عرص النهضة ا ّتسعت دائرة اختالف الرأي حول اعتبار العقل ،وانتهى األمر
إىل الشكوك ّية الشاملة ،وخاصة يف جمال تعاليم املسيح ّيةٰ .هذه الشكوك ّية خلقت أزم ًة
ملنتجات عرص التنوير ،وعىل الرغم من تصدّ ي علامء من قبيل ديكارت ( )2وأتباعه هلا،
ٰلكنّها استمرت يف اال ّتساع وتركت تأثريها عىل الكثريين .ويف القرن الثامن عرش
امليالدي جاء رد فعل ايامنويل كانط عىل تيار الشكوك ّية بتصدّ يه لنقد العقل ،ووصل يف
النظري يف نطاق
ّ النهاية إىل االنسداد أو االنغالق املعريف ،وخلق أزمة العتبار العقل
القضايا الفلسف ّية والكالم ّية ،ووضع فر ًقا بني حقيقة الشـيء (النومينون) وظاهره
(الفينومينون)( ،)3واستنتج أنّه ال يمكن معرفة النومينون أو اليشء يف نفسه ،بل ّ
إن ما
( )1جيلسون ،إتيان( ،عقل و وحى در قرون وسطى) [العقل والوحي يف القرون الوسطى] ،ترمجة شهرام پازوكی،
ص.44-43
احلسيّة بنرش الشكوكية يف نطاق القضايا املحسوسة ،وما( )2وبالرغم من ٰذلك فقد أسهم عرب تشكيكه باإلدراكات ّ
تزال املشاكل الناشئة عن ٰذلك حتارص املفكرين الغربيني .ومضا ًفا إىل ٰذلك ربام يمكن ادعاء ّ
أن نظريته انتهت إىل
حممدحسني زاده" ،پژوهشی
الذاتانية []subjectivism؛ كام ذهب البعض إىل أنّه باين الذاتانية (راجعّ :
تطبيقی در معرفت شناسی معارص" [دراسة مقارنة يف نظر ّية املعرفة املعارصة] ،ص.)23-22
( )3العقل يف مذهب كانت ال يعرف ّإال الظواهر الطبيعية Phenomenaوال ينفذ إىل حقائق األشياء يف ذواهتا
فلسفي ويقصد به ويرادفه
ّ ( ،)Noumenaوورد يف ويكيبديا :النومينون (بالالتينية )noumenon :هو مصطلح
الفلسفي اليشء يف ذاته (باإلنكليزية thing in itself :وباألملانية .)Ding an sich :ومصطلح
ّ يف االستخدام
ثم أصبح مصطلح النومينون مرتب ًطا بالفلسفة
األملاين إيامنويل كانت ّ
ّ النومينون مل يكن شائ ًعا حتّى جاء به الفيلسوف
الكانتية .واملقصود باليشء يف ذاته هو احلقيقة األساسية لليشء التي تكمن وراء الظواهر .أصل كلمة نومينون هو
أصل يوناين من كلمة ( )νοούμενoνاملشتقة من الفعل ( )νοέωومعنى ٰهذه الكلمة هو أعتقد أو أعني .ومجع
ٰهذه الكلمة باللغة اليونانية هو ( )νοούμεναوباللغة الالتينية .noumenaيستعمل مصطلح نومينون بشكل
معاكسة مع مصطلح فينومينن .)Phenomenonويقصد بمصطلح =ٍ ٍ
عالقة مصطلحا مضا ًدا ،وذا عام بوصفه
ً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 242نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
= فينومينن :الظاهرة ،أي ظواهر األشياء أو األشياء من اخلارج أو املواضيع التي تتلقاها احلواس .والفينومنون هو
سيتم
أن ٰهذا اليشء أو ٰهذا احلدث ّأي يشء من األشياء وأي حدث من احلوادث مهام كانٰ ،لكن له رشط واحد هو ّ
استقباله من طريق احلواس( .املرتجم)
( )1حسني زاده ،حممد( ،فلسفه دين) [فلسفة الدين] ،الفصل األول والثاين والرابع؛ املؤلف نفسه( ،شكاكيت
ونسبيت گرايی) [الشكوكية والنسبية] ،فصليه معرفت فلسفی ،العدد ،5خريف ،1383ص.108-57
(.Friedrich Schleiermacher )2
( )3راجع :حسني زاده ،حممد( ،فلسفه دين) [فلسفة الدين] ،الفصل األول؛ املؤلف نفسه( ،شكاكيت ونسبيت
گرايی) [الشكوكية والنسبية] ،فصليه معرفت فلسفی ،العدد ،5خريف ،1383ص.92-91
243 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبمالحظة روح اإلسالم النق ّية ا ّلتي تؤ ّكد قيمة العقل واعتباره ،وتعرضه عىل أنّه
احلجة الباطنة ،بل األساس للحجة الظاهرة ،فقد التزم أتباع اإلسالم يف ظل هداية ّ
أهم ٍ
طريق مر التاريخ ،وعدوا العقل ّ دائام وعىل ِّ
النبي وأهل البيتٰ هبذا النهج ً
أداة للمعرفة اإلنسان ّية .وأما التيار األخباري من بني أتباع مدرسة أهل البيت أو ٍ
حج ّية العقل مطل ًقا،
املعروف بتقديم روايات املعصومني عىل العقل ،فهو الينفي ّ
بل ّ
إن األخباريني املعتدلني يؤمنون باعتبار العقل يف التعاليم االعتقاد ّية اإلسالم ّية.
والرؤية األساس ّية األهم عندهم هي إيامهنم بعجز العقل عن تشخيص مالكات األحكام
الرشع ّية ومصاحلها ،ويوصون بعدم إدخال العقل يف ٰهذا املجال .أ ّما املواقف املتشدّ دة
املنقولة عن بعض علامء ٰهذا التيار يف معارضة الفلسفة واملنطق ،فهي خمصوصة بالفلسفة
أن تلك املواقف ملخالفة العقل .و ٰهبذا ّ
فإن نزاع واملنطق املأخوذين من اليونانيني ،ال ّ
األخباريني ال يدور حول اعتبار العقل .فهم من جهة يف نزاع مع األصوليني ،ومن
جهة أخرى يف نزاع مع الفالسفة .أ ّما يف نزاعهم مع األصوليني فيتم ّثل يف نفي ّ
حج ّية
ِ
بوصفه رابع األ ّدلة يف الفقه ،ال من باب كونه أدا ًة لفهم النصوص( ،)1وأ ّما العقل
احتجاجا بأنّه
ً موقفهم من الفلسفة فيتم ّث ُل يف إنكار بعضهم رضورة العقل يف اإليامن،
وبدال عنها جيب اتباع االستدالالت ً مل يؤمن حلد اآلن شخص عن طريق الفلسفة،
الواردة يف نصوص اآليات والروايات ،واالستفادة منها يف إثبات التعاليم الدين ّية من
قبيل وجود اهلل ،ووحدانيته ،وسائر صفاته ،والنبوة ،واإلمامة وأمثاهلا.
ومن جهة أخرى ّ
فإن االّتاه النقيل للمحدّ ثني يف بداية عرص الغيبة ال يعني نفي
يبني أسمى املفاهيم العقل ّية وأرقاها يف باب
اعتبار العقل .فكتاب توحيد الصدوق ّ
رواد ٰهذا التيار.
التوحيد ،والصدوق أشهر ّ
والـحاصل هو أ ّننا نالحظ وجود الـخالف بني أتباع مدرسة أهل البيت فـي
حج ّية العقل واعتباره ويف رؤية األخباريني ودراسة كلامهتم بحاجة إىل ٍ
جمال آخر .الرؤية التي ( )1البحث حول ّ
نسبناها لعا ّمة األخباريني املعتدلني ناشئة عن نظرة عابرة إىل مؤلفاهتم ومؤلفات منتقدهيم .ويف كتاب آخر بحثنا
ٰهذا املوضوع بالتفصيل وهو( :معرفت دينی؛ عقالنيت ومنابع) [املعرفة الدينيّة؛ العقالنية واملصادر] ،الفصل
السادس والثامن.
245 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رضورة االستفادة من الفلسفة السائدة ،بل ويف اعتبارها ،أو يف مسألة إمكان ّية االستناد
إىل العقل يف تشخيص بعض املسائل العمل ّيةٰ ،لكن ال يمكن العثور عىل شخص ّية بارزة
تش ّكك باجلملة يف اعتبار العقل أو تنفيه .فاجلميع ّ
متفقون عىل اعتبار العقل يف االستدالل
عىل املسائل االعتقاد ّيةٰ ،
وكذلك اعتباره يف فهم النصوص الدين ّية .و ٰهبذا ال يمكن
حج ّية العقل؛ ّ
ألن نفيه ال ينسجم مع مبناهم؛ فهم أخباريون يعملون لألخباريني نفي ّ
بالروايات ومنها الروايات املؤ ّكدة عىل ّ
حج ّية العقل ،وعىل ٰهذا األساس كيف يمكنهم
ّتاهل مثل ٰهذه الروايات ،وخاصة الروايات ا ّلتي تعد العقل ّ
حج ًة باطن ًة؟ ً
فضال عن
ٰذلك ال ُيالحظ وجود اختالف كبري يف ال ُبعد الفقهي بني صاحب اجلواهر وصاحب
احلدائق(.)1
ٍ
بحاجة إىل جمال آخر، صحة أو سقم ٰهذا التحليل وعىل أ ّية ٍ
حالّ ،
فإن دراسة ّ
ٍ
وبحث أوسع يدور حول اعتبار العقل عىل رأي األخبارينيٰ .لكن يمكن القول هنا
مر التاريخ بتأييد أتباع القرآن وأهل البيت
بشكل إمجايل :لقد حظي العقل عىل ِّ
واملف ّكرين املتأثرين هبام .وأما ا ّلذين ابتعدوا عن القرآن وأهل البيت فقد سقطوا
لذلك واستنا ًدا لشهادة تاريخ الفكر فقد ُابتىل ٌ
بعض يف مستنقعات خطرية .وكنموذج ٰ
وبعض آخر بالتفريط يف جمال البحث املعريف حول اعتبار العقل وأحكامه، ٌ باإلفراط،
حتّى ّأهنم أنكروا دور العقل يف جمال املسائل االعتقاد ّية ا ّلتي ت ُ
ثبت بالعقل ،أو يف فهم
املتطرف ،فقالوا بتجسي ِم اهلل سبحانه وتعاىل؛
ّ النصوص ،وا ّ
ختذوا املسلك الظاهري
فوصل هبم احلال إىل محل آيات من قبيل﴿ :ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ﴾( )2و﴿ﱹ
ﱺ ﱻﱼ﴾( ،)3علـى مـعنـاها الظـاهـري .ومقـابـل ٰهؤالء أكد احلكامء مجيعهم،
وحجيته؛ فأ ّيدوا الدفاع
ّ وسنّ ًة ،قيمة العقل
ومجهور املتكلمني املسلمني البارزين شيع ًة ُ
العقيل عن أصول الدين ،أوتعاليمه األساس ّية االعتقاد ّية .وأ ّما احلكامء املسلمون فمنذ
( )1صاحب اجلواهر هو الشيخ حممد حسن النجفي (1192هـ 1266 -هـ) من كبار العلامء األصوليني ،وصاحب
احلدائق هو الشيخ يوسف البحراين (1107هـ 1186 -هـ) من كبار العلامء األخباريني( .املرتجم)
( )2سورة الفجر.22 :
( )3سورة ٰط ٰه.5 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 246نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
اليوم األول لظهور احلكمة واملنطق بينهم إىل اآلن فمن الواضح أهنم مجي ًعا اختذوا
منهجا ،وأكّدوا اعتبار العقل واحلس ،وعدوا العقل أهم أدا ٍة أو
ً مجيعهم ٰهذا االّتاه
ٍ
طريق للمعرفة اإلنسان ّية.
أهم طرق أو أدوات املعرفة اإلنسان ّية يف رأي الفالسفة أن العقل يعد ّ واحلاصل ّ
واملتك ّلمني ،بل وسائر املفكرين املسلمني .ومكانة العقل يف املعرفة اإلنسان ّية قو ّية إىل
درجة أنّه ال ُيمكن التشكيك فيها أو إنكارها إال عن طريق العقل نفسه .وإذا مل يكن
ربا للمعرفة ،فكيف يمكن بوساطة ٰهذا الطريق غري املعترب إقامة العقل طري ًقا معت ً
إن نفي اعتبار العقل عن طريق العقل واالستدالل عقيل معترب ٍعىل عدم اعتباره؟ ّ ٍ
استدالل ّ
مبني عىل اعتبار
احلواس ٌّ
ّ فضال عن ٰهذاّ ،
إن اعتبار إثبات العتبارهً .
ٌ العقيل هو يف الواقع
أن العقل هو معيار أو طريق تقويم تفسريات املكاشفات العرفان ّية ،أو عىل العقل ،كام ّ
وكذلك عىلاألقل هو أحد طرق تقويمها ،فبوساطته يتم متييز صدقها من كذهباٰ .
الرغم من أنّه يف نظر ّية املعرفة ونظر ّية املعرفة الدين ّية ال اعتبار للمرجع ّية املعرف ّية( )1يف
كن اعتبارها يف علم الدين أو نظر ّية املعرفة الدين ّية ُحيرز بالعقل يف صورة نفسهاٰ ،ل ّ
باب
استنادها إلـى قول الـمعصوم وعمله .وبربكة اعتبار املرجع ّية يف الدين ،ينفتح ٌ
واسع أمام اإلنسان .والنتيجة هي أنّه بمساعدة العقل وضميمة الوحي واإللـهام إلـى ٌ
الـمرجع ّية تتو ّفر جمموع ٌة كبري ٌة وشامل ٌة من الـمعارف اليقين ّية والـمعتربة؛ سواء املعارف
ا ّلتي ال تـتوفر لعـا ّمة الناس عادة بوساطة سائر األدوات والطرق ،أم ا ّلـتي ال يمكن
حصوهلا عرب باقي األدوات والطرق ،أم املعارف ا ّلتي يمكن حصوهلا هلم بسائر األدوات
والطرق(.)2
( )1سيأيت البحث حول املرجعية [مرجعيت ]Authority-يف الفصل الثامن ،واملرجعية املعرفية تعني االعتامد عىل
كل فرع من العلوم والفنون ،من جهة كوهنم أصحاب رأي وأهل خربة آراء وأقوال أهل الرأي واخلربة يف ّ
ومهارة .فيام يرتبط باملرجعية واعتبارها راجع :حسني زاده ،حممد( ،مبانی معرفت دينی) [أسس املعرفة الدين ّية]،
ص( .44-43املح ّقق)
( )2راجع :حسني زاده ،حممد( ،مبانی معرفت دينی) [أسس املعرفة الدينيّة] ،الفصل الثاين والثالث ،واملؤلف نفسه،
(معرفت دينی؛ عقالنيت ومنابع) [املعرفة الدينيّة؛ العقالنية واملصادر] ،القسم الثاين.
247 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هي حقيقة العقل يف ٰهذا املجال وبمالحظة ٰهذا االستعامل ا ّلذي هو أحد الطرق املعرف ّية
عند اإلنسان ،بل أمهها وأكثرها أصالة؟
النظري يف نظر ّية املعرفة عىل أساس بعضّ أن اصطالح العقل ،والعقل يبدو ّ
القوة اإلدراك ّية ا ّلتي يمكن هبا إدراك
التعريفات كام سيأيت التعرض له ،يأيت بمعنى ّ
اص ٌة ُت ّ
سمى قو ٌة خ ّ
أدق :اإلنسان لديه ّكيل ،ونيل املعرفة هبا .وببيان ّ
الواقعيات بنحو ٍ ّ
(العقل) ،ومن مجلة شؤونه أو وظائفه إدراك املفاهيم الك ّل ّية ،والتعريف واالستدالل.
مبني عىل وظائف عدّ ة للعقل .وعليه فمن أجل الوصول إىل
التعريف املذكور ٌّ
القوة اإلدراك ّية يلزم البحث يف وظائفه.
تعريف دقيق هلٰذه ّ
قوة إدراك ّية تقوم
وعىل أساس ٰهذا البحث يمكن تعريف العقل بام ييل :العقل ّ
بصناعة املفاهيم الك ّل ّية ،وإدراكها بمساعدة القوى األخرى أو بدون مساعدهتا ،وتقوم
بتحليل املفاهيم ومن خالل ٰذلك تصل إىل تعريفها أو تقوم برتكيبها ،وتصنع القض ّية
خاصة تقوممن ٰهذا الرتكيب ،وبتأليف القضايا وتنظيمها جن ًبا إىل جنب وف ًقا لرشوط ّ
بعمل ّية االستنباط واالستدالل ،ا ّلذي هو بنفسه ٌ
نوع من التفكري .ومن الواضح أنّه يف
مثل ٰهذا التعريف يستعمل العقل يف ٍ
قوة من القوى اإلدراك ّية للنفسٰ .لك ّن ً
كثريا ما ّ ُ
ُيراد من ٰهذا املصطلح يف نظر ّية املعرفة مفهوم آخر :يستعمل العقل يف اإلدراكات
عم من البده ّية والنظر ّية .ومن هنا وطب ًقا هلٰذا املصطلح يكون العقل بمعنى
العقل ّية األ ّ
اإلدراك العقيل.
واحلاصل هو أنّه يف نظر ّية املعرفة ،استعامل العقل شائع ومتداول يف معنيني ومها:
اخلاصة للنفس الناطقة.
ّ القوة اإلدراك ّية
ّ .1
القوة اإلدراك ّية.
.2اإلدراك العقيل الذي هو نتاج ّ
ومن الواضح أنّه يمكن حتديد املعنى املراد منهام بمساعدة القرائن والشواهد .وعىل
أ ّية ٍ
حال يمكن القولّ :
إن العقل يف نظر ّية املعرفة يستعمل بمعنى اإلدراك العقيل أكثر من
القوة اإلدراك ّية؛ ألنّه ّأو ًالّ :
إن البحث حول العقل باملعنى األخري أنسب استعامله بمعنى ّ
الفلسفي.
ّ بعلم النفس
249 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعلمي النظري عابرة عىل حقيقتهام ،فنقول للعقلٍ النظري والعقل العميل ،وإلقاء ٍ
نظرة
ّ ّ ّ ّ
اصطالحات متعدّ دةٌ:
ٌ تعريفات أو
ٌ
قو ٌة إدراك ّي ٌة ُيدرك هبا اإلنسان الوجودات واألعدام.
النظري ّ
ّ األول :العقل
التعريف ّ
قو ٌة إدراك ّي ٌة يدرك هبا اإلنسان ما ينبغي فـعله وما ينبغي
العميل وهو ّ
ّ ويف املقابل ،العقل
تركه؛ ويشمل ٰذلك جمايل األخالق والقانون وأمثاهلام(.)1
النظري .ومن
ّ قو ًة إدراك ّي ًة كالعقل
العميل ّ
ّ بنا ًء عىل ٰهذا االصطالح يكون العقل
هنا يتم يف نظر ّية املعرفة بحث كال القوتني اإلدراكيتني ،أو إدراكاهتام وتقويمهام .و ٰلكن
هل يمكن العثور عىل مثل ٰهذا االصطالح بني احلكامء املتأخرين ،أم أهنم يقصدون
معنى آخر من ٰهذين املصطلحني؟
قو ٌة إدراك ّي ٌة تدرك مطلق املوجودات أو املعدومات
النظري ّ
ّ التعريف الثان :العقل
العميل ا ّلذي ليس من سنخ العلم واإلدراك،
ّ وما ينبغي وما ال ينبغي .ويف املقابل العقل
نوع من اجلهد والعمل ،ونتيجته التحريك ال اإلدراك ،ومجيع امليول واألعامل ترتبط
هو ٌ
العميل.
ّ بالعقل
يرصح ّ
بأن العقل يمكن العثور عىل مثل ٰهذا االصطالح يف كالم هبمنيار .فهو ّ
الترصف يف قوى البدن" :وليس من شأهنا
ّ قو ٌة عامل ٌة وغري إدراك ّي ٍة ،ووظيفتها
العميل ّ
ّ
عمـالة فقـط ...والقـ ّوة ا ّلتي ّ
تسمى عقـ ًال عمـل ًّيا هي عامـل ٌة ال أن تـدرك شـي ًئا بـل هـي ّ
أن العقل أيضا ذهب إىل ٰذلك ،ورأى ّ بأن القطب الرازي ً ُمدرك ٌة"()2؛ بل يمكن القولّ :
( )1راجع :جوادي آميل ،عبد اهلل( ،فطرت در قرآن) [الفطرة يف القرآن] ،ص ،29وربام يكون التعريف الذي نسبه
املحقق السبزواري إىل الفارايب قري ًبا من ٰهذا التعريف" :والعملية هي التي يعرف هبا ما شأنه أن يعمله اإلنسان
املال هادي ،رشح املنظومة ،ص .]310والتعريفات ا ّلتي عثرنا عليها يف مؤلفات الفارايببإرادته" [السبزواريّ ،
ما ييل" :العقل العميل قوة هبا حيصل لإلنسان ،عن كثرة ّتارب األمور وعن طول مشاهدة األشياء املحسوسة،
وهذا العقل إنام يكون ً
عقال بالقوة ما دامت التجربة مل حتصل ،فإذا حصلت التجارب مقدّ مات يمكنه هبا فعلهاٰ ...
وحفظت صار ً
عقال بالفعل" [آل ياسني ،جعفر ،الفارايب يف حدوده ورسومه ،ص ]370؛ "هو القوة التي تعقل
من املوجودات ،التي يمكن أن يوجدها اإلنسان بالفعل يف األشياء الطبيعية" [املصدر السابق] .فهل تنطبق ٰهذه
التعريفات ،وخاصة التعريف األول ،عىل التعريف الذي نسبه السبزواري إليه؟
( )2هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى مطهري ،ص.790-789
251 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قو ٌة عامل ٌة ال إدراك ّي ٌة(ٰ .)1لكن هل اختار فيلسوف آخر غري ٰهذين مثل ٰهذا العميل ّ
ّ
أن املال هادي السبزواري العميل ،واستعمله ٰهبذا املعنى؟ ربام يبدو ّ
ّ االصطالح للعقل
ٍ
وبعبارة أخرى :للنفس باعتبار العميل مثل ٰهذا املعنى؛ إذ يقول" : أيضا أراد من العقل ً
ّ
قو ٌة نظر ّية ،وباعتبار فعلها فيام دوهنا -أعني
انفعاهلا مم ّا فوقها -أعني العقل الف ّعالّ -
حركة يف قوة عمل ّية ،وبوجه مها يف اإلنسان بام هو إنسان كاملُ ِ
دركة واملُ ِّ البدنّ -
أياحليوان"(ٰ .)2لك ّن ٰهذا االستظهار -كام سيأيت -يمكن مناقش ُته ،بل رفضه .وعىل ّ
ٍ
حال فق ّلام ُيمكن العثور عىل فيلسوف استعمل مثل ٰهذا االصطالح.
والعميلٰ ،لك ّن
ّ النظري
ّ ومع ّ
أن كلامت احلكامء املسلمني خمتلفة يف تفسري العقل
ورواجا بينهم هو:
ً ً
استعامال أكثر التعريفات
تنيُ ،أطلِق عىل أحدهـمـا خاص ِ
تني ّقو ِ
التعريف الثالث :النفس اإلنسان ّية تـمتلك ّ
قوة تدرك األمور الك ّل ّية.
القوة األوىل هي ّ
املحركةّ .
اسم العالـمـة واألخرى العاملة أو ِّ
النظري ،ويشمل ٰذلك ،األحكام املرتبطة باألمور
ّ فاألحكام الك ّل ّية ُتدرك ً
دائمـا بالعقل
واملحركة
ِّ القوة الشوق ّية
العميل فهو يستعمل ّ
ّ النظر ّية أو األمور العمل ّية .أما العقل
قوة للنفس تقبل النظري ّ
ّ ليح ّقق فـي الـخارج الصور اجلزئ ّيـة ا ّلتي أدركها" :فالعقل
قوة للنفـس هي مبـدأ
العميل ّ
ّ مـاه ّيـات األمور الك ّلـ ّيـة من جهة ما هي ك ّلـ ّيـة ،والعقل
التـحـريكـات للقـ ّوة الشوق ّيـة إلـى ما يـختـار من الـجزئيـات من أجل غايـة مظـنونـة أو
معـلومـة"(.)3
( )1راجع :الرازي ،قطب الدين حممد ،تعليقة عىل رشح اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح
اإلشارات والتنبيهات ،ج ،2ص.353-352
( )2السبزواري ،املال هادي ،تعليقة عىل األسفار ،يف :صدر الدين حممد الشريازي ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية
األربعة ،ج ،9ص ،82تعليقة ٰ .1لكن يف التعليقة 2ينتفي ٰهذا االحتامل .حيث يقول" :القوة األخرى ّ
املسامة
دركة ّإال ّأهنا ختتص بإدراك أمور متعلقة بالعمل جزئيّة كاستعامل القوى اجلزئيّة ِ
املدركة أيضا قوة ُم ِ
بالعقل العميل ً
والقوة األوىل بإدراك أمور غري متعلقة بالعمل جزئ ّية ،وعليها تدور دائرة احلكمة النظر ّية واحلكمة
ّ واملحركة
ِّ
العملية ،واملراد باألمور اجلزئيّة أعم من األعامل املعاد ّية كالعدل واإلحسان -للغايات اآلجلة املحكمة واألعامل
املعاشيّة كبناء البيت بحيث يكون متقنًا يرتتّب عليه اآلثار املطلوبة منه"( .املح ّقق).
( )3ابن سينا ،كتاب احلدود ،يف :رسائل ابن سينا ،ص.88
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 252نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
صدق جيعله صغرى لتلك الكربى ،ويؤ ّلف املقدّ مات كام ييل:
ٌ مورد ّ
يشخص العقل أنّه
ٌ
صدق. الصغرىٰ :هذا القول
واجب.
ٌ الكربى :كل صدق
واجب.
ٌ النتيجةٰ :هذا القول
فإن تطبيق الكربى الك ّل ّية عىل املصاديق اجلزئ ّية املرتبطة بالعمل ّ
يتم عن وعليه ّ
وهذا احلكم اجلزئي مأخو ٌذ من النتائج املستنتجة من األوليات أو العميلٰ .
ّ طريق العقل
املشهورات أو التجربيات" :فمن قواها ما هلا بحسب حاجتها إىل تدبري البدن ،وهي
العميل ،وهي ا ّلتي تستنبط الواجب فيام جيب أن يفعل
ّ ختتص باسم العقل
ّ القوة ا ّلتي
ّ
من األمور اإلنسان ّية جزئ ّية ليتوصل به إىل أغراض اختيار ّية من مقدمات ّأول ّية وذائعة
النظري يف الرأي ّ ّ
الكيل إىل أن ينتقل به إىل اجلزئي"(.)1 ّ وّترب ّية وباستعانة بالعقل
العميل هو ُمد ِّبر البدن ،فهو بوساطة تس ّلطه عىل القوى التحريك ّية
ّ وعليه ّ
فإن العقل
يقوم بتدبري البدن واألفعال اجلزئ ّية ،ومن أجل التدبري ي ّتجه إىل االستنتاج واالستنباط،
العميل
ّ النظري يف دائرة احلكمة العمل ّية .وعليه فالعقل
ّ ويستفيد من نتائج قياسات العقل
قو ٌة إدراك ّي ٌة مد ّبر ٌة ألفعال النفس البدن ّية ،وبه ُتدرك األمور اجلزئ ّية ،و ُت ّ
شخص املنافع من ّ
املضار ،وما ينبغي وال ينبغي ،والالئق من غري الالئق ،والقبيح من اجلميل ،والنتيجة هي
أنّه بمساعدة ٰهذه اإلدراكات يمكنه متييز األمور األخالق ّية ،واملنافع واملضار ،واملصالح
واملفاسد ،ومعرفتها وإدارة احلاالت االنفعال ّية من قبيل اخلجل ،واحلياء ،والبكاء،
والضحك وأمثاهلا والسيطرة عليها.
قوة إدراك ّية يتصدّ ى
العميل هو ّ
ّ واحلاصل أنّه بناء عىل ٰهذا االصطالح ّ
فإن العقل
لتمييز ما ينبغي مما ال ينبغي ،وما يليق مما ال يليق ،وما هو حسن مما هو س ّي ٌئ ،وعىل
أساس ما استنبطه يقوم باستعامل قوى البدن لتدبريها والسيطرة عليها .واستنباط ٰهذه
القوة اإلدراك ّية حاصل عن طريق االستنباط والتأمل يف آراء العقل النظر ّي الك ّل ّية،
ّ
( )1املؤلف نفسه ،اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح اإلشارات والتنبيهات ،ج ،2ص352؛
املصدر السابق ،حتقيق حسن حسن زاده آميل ،ص.446-445
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 254نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ويف الواقع يقوم بتطبيق اآلراء الك ّل ّية املرتبطة بالعمل عىل مصاديقها ( .)1وببيان ٍ
آخر:
العميل يصل إىل ٰهذه األحكام اجلزئ ّية عن طريق القياس ،واالستدالل، ّ العقل
القوة التحريك ّية ،وتنفذ
القوة الشوق ّية ثم ّ
والتفكري ،وبعد حصول ٰهذا احلكمُ ،تثار ّ
العميل ٰهبذا املعنى أو
ّ العميل .وعليه فاألشخاص ا ّلذين رأوا ّ
أن العقل ّ حكم العقل
العميل هي قوى أخرى من قبيل
ّ أن املن ّفذ أو ّ
قوة تنفيذ حكم العقل بذلك ،يرون ّ
عرفوه ّٰ
املتأهلني ٰهبذا األمر ً
قائال" :فلإلنسان إذن رصح صدر ّ القوة الشوق ّية والتحريك ّية .وقد ّ
ّ
ختتص بالرؤية يف األمور اجلزئ ّية
ّ ختتص باآلراء الك ّل ّية واالعتقادات ّ
وقوة ّ قوة
قوتانّ :
ّ
واملرضة ،وممّا هو مجيل وقبيح ومما هو خري ورش.
ّ ممّا ينبغي أن يفعل ويرتك من املنفعة
ب من القياس والتفكر ...وإذا حصل الرأي اجلزئي يتبع ويكون حصوله تاب ًعا لرض ٍ
سامةالقوة الشوق ّية الغائ ّية املُ ّ
قوة أخرى يف أفعاهلا التحريك ّية ،أوالها ّ القوة املرو ّية ّ
حكم ّ
قوتان :نظر ّية سامة باملحركة ...فللنفس يف ذاهتا ّ القوة الفاعل ّية املُ ّ
بالباعثة ،واألخرى ّ
وهذه للخري والرش يف اجلزئيات .وتلك للواجب
وعمل ّية وتلك للصدق والكذبٰ .
وهذه للجميل والقبيح واملباح"(.)2
واملمكن واملمتنعٰ ،
العميل هو منشأ أفعال النفس .والنفس تستعمل القوى التحريك ّية ّ وعليه ّ
فإن العقل
القوة اإلدراك ّية .وكيف ّية حتقق ٰهذه األفعال من النفس هيّ :أو ًال
والعاملة عن طريق ٰهذه ّ
النظري بالفعال ّية و ُيصدر أحكا ًما حول األمور الك ّل ّية املرتبطة بالعمل ،وحينها
ّ يبدأ العقل
العميل بتنفيذ تلك اإلدراكات الك ّل ّية يف جمال األمور اجلزئ ّية ،وتطبيقها عىل
ّ يقوم العقل
مصاديقها يف اخلارج .و ٰهبذا تؤدي النفس الفعل ا ّلذي تصورت غايته وعرفتها عن طريق
العميل .وعليه
ّ القوة التحريك ّية ا ُملثارة بواسطة ّ
القوة الشوق ّية (الباعثة) حتت تدبري العقل ّ
( )1راجع :املؤلف نفسه ،النفس من كتاب الشفاء ،حتقيق حسن حسن زاده آميل ،ص84؛ املؤلف نفسه ،التعليقات،
حتقيق عبد الرمحن بدوي ،ص 30؛ الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة،
ج ،8ص 130وج ،9ص 84-82؛ املؤلف نفسه ،املبدأ واملعاد ،تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين،
ص 261-260؛ املؤلف نفسه ،الشواهد الربوبية ،تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين ،ص201-200؛
املؤلف نفسه ،مفاتيح الغيب ،تصحيح حممد اخلواجوي ،ص.541-515
( )2الشريازي ،صدر الدين حممد ،املبدأ واملعاد ،تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين ،ص.261-260
255 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جزئي مرتبط بالسلوك ،وهل جيب القيام به أم ال؟ وهل هوٌ اخلاص ٰهذا ،ا ّلذي هو فعل
العميل .والعقل
ّ نافع أم ضار؟ وهل فيه مصلحة أم ال؟ وما إىل ٰذلك يقع يف عهدة العقل
أيضا؛ ّ
ألن الصدق أو العميل بإدراكه مثل ٰهذه األمور يدرك الصدق املرتبط بوعائها ً
ّ
مطابقة قض ّية للواقع ،ختتلف بحسب مفاهيمها وحمكيها (أو مطابقها) .ومن باب املثال
الحظوا ٰهذه القضايا( :السامء اليوم ُمل ّبدة بالغيوم ،والثلج هيطل ،وقد اكتست مجيع
ٍ
حالة بح ّلة بيضاء وانخفضت مستويات درجات احلرارة بشدّ ة الخ) ،يف أ ّية املناطق ُ
أن صدق ٰهذه القضايا منوط بأن تكون سامء واضح ّ
ٌ تكون مثل ٰهذه القضايا صادقة؟
منطقتنا غائمة اليوم ،والثلج هيطل ،ومستوى كثافة هطول الثلج بمستوى يكسو مجيع
احلسـ ّية تكون صادقة فيام لو كان مطابقها األماكن الخ .و ٰهبذا يمكن القولّ :
إن القضايا ّ
وأهنا تشري ح ًقا إىل العامل املحسوس .وإذا ِ
مطاب ٌق هلا يف وعاء وظرف عامل املحسوساتّ ،
األرض كرو ّي ٌة وتدور حول الشمس) ،فيجب أن يكون األمر قيل يف علم النجومُ ( :
أن األرض كرو ّية وتدور حول الشمس ،وخالف ٰذلك يكون كذلك يف الواقع ،يعني ّ ٰ
ٍ
واحدة من قضايا العلوم الفلسف ّية ،أو الرياضية ،أو فإن صدق ّ
كل كاذ ًبا .وعىل ٰهذا ّ
مبني عىل انطباقها عىل الشـيء ا ّلذي حتكي عنه يف وعائها وظرفها.
التجريب ّية ٌّ
واآلن ُيطرح ٰهذا السؤال عن كيف ّية صدق القضايا ا ّلتي ندركها بوساطة العقل
يتم تقويمها أو إحراز صدقها؟ ولإلجابة عن ٰهذا السؤال ،جيب حل العميل ،وكيف ّ
ّ
ِ
مسائل كثرية تعد مبان ًيا هلٰذه املسألة ،من قبيل ما هي طبيعة املفاهيم القيم ّية مثل
الوجوب أو احلرمة ،واحلسن أو القبح ،وما ينبغي وما ال ينبغي وأمثاهلا وهي من
العميل ،وما هي مكانتها يف تبويب املفاهيم؟ وهل هي ّ أحكام أو ُمدركات العقل
مفاهيم حقيق ّية أم اعتبار ّية؟ وبعبارة أخرى ،إذا كان العقل العميل ِ
مدركًا ،فهل األمور ّ
مفاهيم
ُ ا ّلتي يدركها هي ٌ
أمور اعتبار ّي ٌة حمض ٌة ال حت ّقق هلا خارج وعاء اإلدراك ،أم ّأهنا
واقع ّي ٌة وحقيق ّي ٌة من قبيل املفاهيم الفلسف ّية التي تصف الواقع اخلارجي؟ إذا قلنا ّ
بأن
ٰهذه املفاهيم اعتبار ّي ٌة ال حت ّقق هلا خارج وعاء اإلدراك ،فمن الواضح أنّه ال يمكن
القول بصدق أو كذب القضايا املكونة من مثل ٰهذه املفاهيم .فالصدق أو الكذب من
261 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوصاف القضايا احلقيق ّية املكونة من مفاهيم حقيق ّية غري اعتبارية ،ال من أوصاف شبه
أن املفاهيم ِ
القيم ّية املتقدمة اعتباري ٌة ،لكن هلا منشأ انتزا ٍع القضايا .وا ّلذين رأوا ّ
والنظري وإدراكاهتام ،ال
ّ العميل
ّ خارجي ،وعن ٰهذا الطريق وضعوا التاميز بني العقل
ّ
بأن القضايا املكونة من مثل ٰهذه املفاهيم تتصف بالصدق أو الكذب يمكنهم القبول ّ
أمورا
املكونة هلا ً( .)1وإ ّنام يمكن عد ٰهذه القضايا صادق ًة أو كاذب ًة فيام لو كانت املفاهيم ِّ
أن هناك مفاهيم يف فلسفة األخالق حتكي عن واقع ّي ٍة يف غري اعتبار ّي ٍة .ونحن نرى ّ
وعائها ،من قبيل القبيح أو اجلميل ،واملصلحة أو املفسدة ،والنفع أو الرضر ،واخلري أو
الرش ،واحلُسن أو السوء ،وما جيب أو ما ال جيب ،وهي كاملفاهيم الفلسف ّية بل من
نامذجها ومصاديقها ،ومن هنا فالقضايا املؤلفة منها ت ّتصف بالصدق أو الكذب.
نتعرض له أكثر من ٰذلك.
األصيل هلٰذا البحث هو فلسفة األخالق؛ لذا ال ّ
ّ املكان
ونكتفي هنا باإلشارة إىل ٰهذه النقطة وهي ّ
أن الرضورة ،والوجوب ،واللزوم مفاهيم
حتكي عن الرضورة بالقياس بني أفعال اإلنسان ونتائجها ،أو الفعل وكامل الفاعل.
ٍ
موضوعات ملثل ٰهذه القضايا ومفهوم احلسن أو الس ّيـئ ،بل املفاهيم التي تكون
أيضا.
لدهيا مثل ٰهذه امليزة ً
وعىل ٰهذا األساس ّ
فإن القضايا املؤلفة من مثل ٰهذه املفاهيم ،كام أهنا ليست ذوق ّية
أمورا اعتبار ّي ًة حمض ًة ٍ
أيضا ليست ً فإهنا ً
أو حاكية عن إحساسات وعواطف قائلهاّ ،
توجد يف وعاء اعتبارها وإدراكها وال حتقق هلا خارج وعاء إدراكها.
وبنا ًء عىل مثل ٰهذا املبنى يف فلسفة األخالق ،ندرك بمثل ٰهذه القضايا
املوضوعات أو األمور املعرف ّية ،وننال املعرفة هبا.
واحلسـ ّية ،وبالقضايا ِ
املحسوسات اخلارج ّية بالقضايا التجريب ّية ُ
ندرك ومن هنا نحن
ّ
( )1يقول ّ
العالمة الطباطبائي حول ٰهذا املوضوع« :والثالث :أن قولنا :جيب عليه كذا وال جيوز عليه كذا حكم عقيل،
قائم بالعقل جمعول له ال أمر
فعل ٌأن احلكم الذي يف القضية ٌمدرك آخذ بمعنى ّقاض ال ٍِ والعقل يف ٰذلك حاكم
أن العقل الذي كالمنا فيه هو العقل العميل الذي موطن عمله قائم بنفسه حيكيه العقل نوعا من احلكاية ...و ٰذلك ّ
العمل من حيث ينبغي أو ال ينبغي وجيوز أو ال جيوز ،واملعاين التي ٰهذا شأهنا أمور اعتبارية ال حت ّقق هلا يف اخلارج
عن موطن التع ّقل واإلدراك» [الطباطبائي ،حممدحسني ،امليزان يف تفسري القرآن ،ج ،14ص .]98
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 262نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
الرياض ّية والفلسف ّية ،ندرك ما يطابقها يف وعائه ،وبالقضايا األخالق ّية ،واحلقوق ّية
ض آخر من وأمثاهلا ندرك القبح ،والسوء ،وعدم عدالة بعض السلوكيات ،وعدالة بع ٍ
وحسنها ومجاهلا وخري ّيتها وانبغاءها ،أو وجوهبا.
سلوكيات اإلنسان وأعاملهُ ،
من هنا ومضا ًفا إىل إدراك النفع أو الرضر ،واملصلحة أو املفسدة ،واحلسن أو
أيضا صدقها أو ك؛
السوء ،والقبح أو اجلامل ،وما جيب أو ما ال جيب من أفعالنا ،ندرك ً
إذ هلا مطابق يف وعائها.
ٰلكن اإلنشاءات من قبيل (اذهب ،وال تذهب ،وتعال ،وال ِ
تأت ،واجلب املاء ،وال ّ
لذلك ال تتصف بالصدق أو الكذب ،وأماتأكل الخ) هي شبه قضايا وليست قضايا؛ ٰ
فإهنا ترجع إىل القض ّية أو اإلخبار.
األحكام األخالق ّية ،حتّى لو ظهرت هبيأة اإلنشاءّ ،
أن الظلم ال جيوز؛ ّ
ألن فيه مثال ٰذلك قض ّية( :ال تظلم) التي ُحت ّلل إىل معنى وهو ّو ُ
أن قض ّية (العدل جيب أن يقام) ُحتلل إىل معنى ،وهو ّ
أن وقبحا؛ كام ّ
ً ورضرا،
ً مفسد ًة،
ومجاال .ومن هنا فبالرغمً وحسنًا،ألن يف ٰهذا الفعل مصلح ًة ،ونف ًعاُ ،
العدل واجب؛ ّ
من كون اإلنشاء ليس قض ّية منط ًقاٰ ،لك ّن األحكام األخالق ّية سواء كانت عىل شكل
فإهنا تفيد املعنى وتتصف بالصدق أو الكذب .وهي أمور واقع ّية وحقيق ّية ٍ
إنشاء أم إخبارّ ،
هلا واقع ّية عين ّية خارج وعاء إدراك واعتبار ِ
املعترب ،وهلا واقع ّي ٌة عين ّي ٌة مثل مطابق املفاهيم
الفلسف ّيةٰ .هذا النوع من املفاهيم هي أوصاف لواقعيات عين ّي ٍة وبنحو ما تصف تلك
الواقعيات وحتكي عنها.
قو ٌة إدراك ّية تدرك ٍ أن ّواحلاصل ّ
النظري هو أنّهّ :
ّ تعريف يمكن تقديمه للعقل أدق
األمور الك ّل ّية ،ومقدمات االستدالل والنتائج الك ّل ّية غري العمل ّية احلاصلة منها ،بل
دائام بالعقل النظري ،ويشمل وكل نتيجة وإن كانت جزئ ّية .فاألحكام الك ّل ّية تدرك ً ّ
ٰذلك األحكام املرتبطة باألمور النظر ّية والوجودات واألعدام واملرتبطة باألمور
العمل ّية أو كليات ما ينبغي وما ال ينبغي ،كام ّ
أن األمور اجلزئ ّية النظر ّية وغري العمل ّية
أيضا و ٰذلك بمساعدة بعض املصادر األخرى طب ًعا.القوة ً
تدرك ٰهبذه ّ
عرف بأنّه:
العميل ُي ّ
ّ ٰلكن بحسب رؤية املشهور ا ّلتي هي أتقن الرؤىّ ،
فإن العقل
263 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قو ٌة إدراك ّية ُتدرك اآلراء اجلزئ ّية وتتصدّ ى لتدبري البدن واألمور العمل ّية ،وتطبيق
ّ
األحكام الك ّل ّية عىل األمور اجلزئ ّية .وبمالحظة ٰهذه النتيجة نحصل ً
أيضا عىل إجابة
أيضا مقصو ٌد يف نظر ّية املعرفة؟).
العميل ً
ّ عن السؤال املتقدم (هل العقل
مسألة ،وهي هل يعد العقلٍ مبني عىل حلوكام تقدم فجواب السؤال األخري ٌّ
العميل مفيدٌ للمعرفة
ّ أن العقل ومصدرا أو أدا ًة معرف ّية؟ وبام ّ
ً العميل مفيدً ا للمعرفة،
ّ
ِ
در ٌك للحقائق والقيم العمل ّية اجلزئ ّية -كام ا ّتضح قبل قليل -فيجب أن يكون مور ًدا و ُم ِ
لالهتامم يف نظر ّية املعرفة ،وأن جيري البحث حوله .واملحل املناسب لذلك البحث هو
نظرية معرفة القضايا ِ
القيم ّية من قبيل القضايا األخالق ّية والقانون ّية ،وجيب يف ٰهذا ّ
ُ
البحث حول ٰهذا املصدر أو األداة املعرف ّية. ِ
النوع من نظر ّية املعرفة املق ّيدة
ٍ
مالحظة أخرى يف باب التعريفات املتقدّ مة وكذلك بقليل من التأمل نحصل عىل ٰ
النظري ُم ِ
در ٌك مشرتكان يف ٍ
ميزة ،وهي ّ
أن العقل ِ ِ
التعريفني األول والثالث وهيّ :
أن
ّ
لألمور الك ّل ّية املرتبطة بالرأي والعمل .مضا ًفا إىل ٰذلك ي ّتضح ّ
أن أفضل حتليل ألداء
ٍ
إهبامات جيب مالحظتها يف العميل وآليته هو حتليل ابن سينا؛ مع أنّه ال خيلو من العقل
ّ
حملها وعالجها.
النظري هو انطالقة
ّ حال فإن ٰهذا التعريف أو التحليل حول العقل وعىل أي ٍ
وهذا
جيدة للبحث حول العقل كمصدر أو أداة للمعرفة يف نظر ّية املعرفة املطلقةٰ ،
املقدار ٍ
كاف لبحث نظر ّية املعرفة املطلقة.
األمر ا ّلذي حيظى بأ ّ
مه ّية معرف ّية يف مواصلة البحث حول النظرة املعرف ّية للعقل
هو البحث حول الوظائف ا ّلتي سيتم طرحها يف الفصل السابع ،وهي من نشاطات
النظري كام هو واضح.
ّ العقل
النتيجة
العقل أحد أهم مصادر أو طرق املعرفة اإلنسان ّية .وقد تعرضنا يف ٰهذا الفصل
للبحث حوله من منظار معريف .وطرحنا يف ٰهذا املجال العقل يف ضوء علم نظر ّية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 264نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
والعميل ،بام
ّ نظري
ّ مصدر معرفـ ٌّي ،وقمنا بتعريفه ،وتقسيمه إىل ال
ٌ املعرفة ،وبلحاظ أنّه
له من نتائج معرف ّية .وبعد عرض التعريفات والتحاليل املطروحة حول حقيقة العقل
العميل والنظري ،وتوصلنا أثناء البحث إىل ما
ّ العميل والنظري ،بحثنا يف حقيقة العقل
ّ
هلام من خصائص أو ما بينهام من اختالفات.
النظري وف ًقا
ّ النظري وصلنا إىل ٰهذه النتيجة وهي ّ
أن العقل ّ ويف تعريف العقل
قو ٌة إدراك ّي ٌة يدرك األحكام الك ّل ّية ،بل ومقدمات االستدالل
لرؤية ٰهذا الكتاب هو ّ
والنتائج غري العمل ّية احلاصلة منه وإن كانت جزئ ّية ،كام ّ
أن األمور اجلزئ ّية النظر ّية وغري
أيضا تدرك ٰهبذا املصدر أو األداة بمساعدة بعض آخر من املصادر طب ًعا.
العمل ّية ً
أن اجلواب أيضا مقصود يف نظر ّية املعرفة؟ ورأينا ّ
العميل ً
ّ ثم بحثنا يف هل ّ
أن العقل
العميل هل هو مصدر أو أداة معرف ّية أم أن العقل ِ
مسألة ّ مبني عىل ّ
حل
ّ عن ٰهذا السؤال ٌّ
ليس كذلك؟
قو ٌة معرف ّي ٌة مفيد ٌة
العميل ّ
ّ توصلنا إىل ّ
أن العقل ويف اجلواب عن السؤال األخري ّ
للمعرفة وف ًقا للتعريف السائد.
وهـذه القـ ّوة يمكـنها إدراك نفـع األفعـال والسـلوكيـات اإلنسـان ّية وضـررها ،ومـا
ٰ
فـيها مـن خـري وشـر ،ومصـلحة ومفسـدة ،وما ينبـغي وما ال ينبـغي ،والقبـح والـجمـال،
والـحسن والسـوء مـنها.
ٍ
نتيجة هي أنّه ومن هنا -وعلـى أساس الرؤية أو رد الفعل الـمذكور -وصلنا إلـى
القيمية ،سواء كانت قضايا أخالق ّية ،أم قانون ّية فـي نظرية الـمعرفة الـمرتبطة بالقضايا ِ
ّ
قو ٌة إدراك ّي ٌة لـمثل
مصدر أو ّ
ٌ ُ
البحث فـي العقل العملـ ّي بمـا هو وأمثـالـها ،ينبغي أن يتم
ٰهذه القضايا.
النظري ونشاطاته يف ٍّ
كل ّ ٍّ
مستقل لبحث وظائف العقل ٍ
فصل نتطرق يف
وفيام يأيت ّ
من املفاهيم والقضايا ،والدور ا ّلذي يمكن أن يؤديه يف ٍ
كل منهام.
ّ
املبحث الثـان
النظري ...الوظائف والقضايا الق ْبل ّية
ّ العقل
مقدّ مة
نواصل يف ٰهذا الفصل بحوث العقل املعرف ّية ،حيث س ُنلقي نظر ًة عابر ًة عىل وظائف
كل من املفاهيم والقضايا ،والدور ا ّلذيالنظري باستعراض نشاطات العقل يف ٍّّ العقل
كل منهام ،ويف اخلتام نبحث دور العقل يف القضايا القبل ّية. يمكن أن يؤ ّديه يف ٍّ
النظري
ّ أن املقصود من العقل النظري ُنن ّبه إىل ّ
ّ قبل اخلوض يف بحث وظائف العقل
دركة للوجودات واألعدام، اخلاصة بالنفس الناطقة ،ا ُمل ِ
ّ القوة اإلدراك ّية
يف ٰهذا البحث هو ّ
وكذلك ِ
املدركة ملا ينبغي وما ال ينبغي .ومن هنا -وفيام يأيت من ٰهذا البحث -ك ّلام استعملنا ٰ
مصطلح (العقل) ،فنحن نقصد العقل النظري ٰهبذا االصطالح.
ً
أوال :وظائف العقل
ٍ
بنظرة النظري -يمكن أن نذكرها أهم وظائف العقل وشؤونه -ونريد به العقل ّ
ّ إن ّ
ّأول ّي ٍة يف املخطط التايل:
صناعة املفاهيم الك ّليّة
إدراك املفاهيم الك ّل ّية
التقسيم
يف نطاق املفاهيم
الرتكيب (توحيد الكثري)
التعريف
االنتزاع أو التجريد وظائف العقل
املقارنة
الحكم يف القضايا
يف نطاق القضايا
االستدالل (تأليف مجموعة قضايا بعضها
جنب ٍ
بعض ،وترتيبها واالستنتاج منها)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 266نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ٍ
واحد من الشؤون أو الوظائف املذكورة ودراسته .بعد واآلن نبدأ ببيان ّ
كل
وكذلك ندرك ّ
أن ٰهذه الوظيفة ترتبط بنطاق ص رسي ٍع تتضح الوظيفة وأدائهاٰ ،تفح ٍ
ّ
القضايا أم املفاهيم .ونبدأ البحث باملفاهيم الك ّل ّية:
( )1ابن سينا ،النفس من كتاب الشفاء ،حتقيق حسن حسن زاده آميل ،املقالة اخلامسة ،الفصل األول ،ص.284
267 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناطقة .ومثل ٰهذه املفاهيم متعدّ دة ويمكن تصنيفها ضمن طبقات خمتلفة .وااللتفات
إىل ٰهذا التقسيم أو التصنيف ينجينا من أخطاء فادحة يف نظر ّية املعرفة (.)1
ثالثًا :التقسيم
التقسـيم (القسـمة) من الوظـائف األخـرى للذهـن أو العقل فـي مـجال الـمفاهيم
وهذه الوظيفة هلا دور مهم يف معرفة احلقائق واملفاهيم أو التصورات،
والتصوراتٰ .
ّ
وهي إحدى طرق نيل املعرفة وكشف املجهوالت التصورية" :والقسمة أيضا إحدى
الطرق املوصلة إىل اكتساب العلم باملجهول .والقسمة الفاصلة هي ا ّلتي تكون لألجناس
لئال تقع طفر ًة من درجة إىل غري ا ّلتي تليها.
إىل األنواع بالفصول حمفوظا فيها الرتتيبّ ،
أيضا باخلواص واألعراض"(.)2
وقد تكون ً
ومن هنا فالتقسيم له دور يف التعريف والوصول إىل املعرفة .والبحث حول دور
القسمة يف التعريف والوصول إىل املعرفة يعدّ من البحوث املهمة املطروحة يف املنطق
عادة .ومن الواضح ّ
أن العقل له الدور األهم يف ٰهذا النشاط الذهني.
يقترص دور التقسيم عىل كشف املجهوالت يف نطاق التصورات
ُ فض ً
ال عن ذلك ال
واملفاهيم املجهولة وكسب معارف جديدة ،بل ّ
إن ٰهذا النشاط الذهني يمكنه مساعدتنا
أيضا يف الوصول إىل املعرفة يف نطاق التصديقات والقضايا؛ ألنّه يمكن بالتقسيم وف ًقا لرؤية
ً
عامة املنطقيني األرسطيني الوصول إىل احلدود الذات ّية لألشياء .واحلدود يف التعريف
فهذا يعني أ ّننا حصلنا
مشرتكة مع احلدود الوسطى يف الربهان ،فإذا حصلنا عىل حدّ الشـيءٰ ،
عىل حدّ ه األوسط .وباحلصول عىل حدود األشياء وذاتياهتا يمكن الوصول إىل عللها
وحدودها الوسطى(.)3
( )1ملزيد من التوضيح راجع :حممدحسني زاده( ،معرفت برشي؛ زيرساختها) [أسس املعرفة البرشية] ،الفصل
الثالث؛ املؤلف نفسه( ،معرفت شنايس) [نظر ّية املعرفة] ،الفصلني السادس والسابع.
( )2ابن سينا ،الشفاء ،املنطق .2 ،املقوالت ،حتقيق إبراهيم مدكور ،ص.4
( )3راجع :املؤلف نفسه ،الشفاء ،املنطق .5 ،الربهان ،تصحيح أبو العالء عفيفي ،ص317-288؛ املؤلف نفسه،
النجاة ،ص84-78؛ املصدر السابق ،تصحيح حممدتقي دانشپژوه ،ص159-157؛ الشريازي ،صدر الدين =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 268نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
= حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،1ص26؛ هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى مطهري،
ص252-250؛ الطـوسـي ،نصـري الديـن ،أسـاس االقـتبـاس ،تصـحيح مـحمد تقـي مـدرس رضـوي ،ص.345
بحاجة إىل ٍ
بحث واس ٍع ال يسعه ٰهذا املخترص ،وأغلب ٍ أن مسألة كيف ّية مشاركة احلدّ والربهان وتبيني ٰذلك
طبيعي ّ
ٌّ
تطرقت هلٰذا املوضوع.
املصادر املذكورة ّ
269 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1راجع :ابن سينا ،الشفاء ،املنطق .4 ،القياس ،حتقيق سعيد زايد ،ص 449-446؛ الفارايب ،أبو نصـر ،األلفاظ
املستعملة يف املنطق ،ترمجة ورشح حسن ملكشاهي ،ص159-157؛ اليزدي ،املال عبد اهلل ،احلاشية عىل هتذيب =
273 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الواضح ّ
أن االصطالحات األخرى املتقدّ مة من التقسيم ،والتجزئة ،والتحليل،
والرتكيب ختتلف عن ٰهذه االصطالحات األربعة األخرية؛ ألن ٰهذه االصطالحات
تبني طريقة االستدالل والتعريف وهي مرتبطة بكيف ّية هاتني الوظيفتني أو النشاطني
ّ
أن كل ٰهذه النشاطات األربعة تعد من نشاطات العقل، العقليني .وعليه فبالرغم من ّ
ٰلكنّها ليست نشاطات ووظائف مستق ّلة عن التعريف واالستدالل ،إذ يمكن إرجاعها
مجي ًعا إىل وظيفتي التعريف واالستدالل؛ بل يمكن بقلي ٍل من التأ ّمل الوصول إىل ٰهذه
فإن سائر النشاطات هي أساليب أو طرق النتيجة :باستثناء التحديد أو التحليل احلدّ ي ّ
العتبار معني ،واسم الرتكيب ٍ
جلهة ،واسم ٍ لالستدالل ،وقد أطلقوا عليها اسم التحليل
التقسيم ٍ
جلهة أخرى .وعليه فمن بني األمور األربعة املتقدّ مة ،التحديد أو حتليل احلدّ
فقط ليس من شؤون االستدالل ،وإنام يرتبط باملفاهيم والتصورات وحتليل احلدود
وتعريفاهتا ومثل ٰهذا النشاط يعد وظيف ًة مستق ّل ًة من وظائف العقل وسيأيت الكالم
عنها.
ٍ
نتيجة هي :أنّه يف االستدالل القيايس ُتالحظ طرق وبناء عىل ما تقدّ م نصل إىل
وهذه األمور تعد من شؤون االستدالل
خمتلفة منها التقسيم ،والتحليل ،والربهانٰ .
وطرقه ،ومن هنا يمكن جعلها حتت عنوان االستدالل .وعليه ال يكون التحليل
ِ
ومنفصلني عن االستدالل بناء عىل ٰهذا االصطالح؛ ولذا ال أمرين مستق ّل ِ
ني ِ والتقسيم
ِ
منفصلتني ،بل مها من فروع االستدالل. ِ
وظيفتني ينبغي عدّ مها
وتوضيح ٰذلك أنّه يمكن يف دائرة التصديقات ُ
إقامة االستدالل بطرق عدّ ة :طريق
وكذلك يمكن تقويم االستدالل القيايس القياس ،وطريق االستقراء ،وطريق التمثيلٰ .
ويسهل طريق
ّ ٍ
بطرق خمتلفة .حتليل املقدّ مات أو تقسيم املطلوب يوصلنا إىل ٰهذا املقصود،
تقويم القياسات.
ٍ
جديدة ُيراد منها ٍ
اصطالحات مضا ًفا إىل الوظائف املذكورة ،يمكننا احلصول عىل
خاصة من خالل إضافة بعض القيود إىل مصطلح (التحليل)؛ اصطالحات نظري ٍ
معان ّ
درة التاج ،تصحيح السيد حممد مشكوة ،ص.152-151
= املنطق ،ص123-121؛ الشريازي ،قطب الدين حممودّ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 274نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
خامسا :التعريف
ً
التعريف هو أحد طرق أو أنواع التفكري ،ويلعب العقل الدور األساس فيه .وتذكر
ٰهذه الوظيفة يف علم املنطق بعناوين خمتلفة من قبيل (التحليل ،والتحديد ،والتجزئة).
والتعريف نوع من التحليل أو التجزئة الذهن ّية ا ّلتي ّ
تتحقق يف عامل الذهن .وتوضيحه ّ
أن
التجزئة الذهن ّية نوعان:
ّ .1تزئة املفهوم الذهني إىل عدّ ة مفاهيم أخرى ،من قبيل تعريف ماه ّية اإلنسان
وحتليلها إىل (احليوان ،والناطق) ،أو حتليل اجلسم إىل (اجلوهر ،وثالثي األبعاد) ،مع
أنّه ال وجود فعل ًّيا هل ٰذه األجزاء يف اخلارج ،أو بعبارة ٍأخرى ليس هلا وجود خارجي
بالفعل.
ٍ
صورة جزئ ّية إىل صور عديدة ،من قبيل فصل الصورة الذهن ّية ألعضاء ّ .2تزئة
الفرس ،وتفكيك أعضائه يف الذهن.
ِ
وهذا العمل هو التعريف ا ّلذي ُخصص له ٌ
قسم من علم املنطق .وحتى لو املجهولةٰ ،
اخلاصة يف باب التعريف
ّ سلكنا مسلك شيخ اإلرشاق يف شكّه برؤية األرسطيني
ورفضناها (ٰ ،)1لكن ال شك يف حت ّقق التعريف ودور العقل املبارش يف ظهوره .وعىل
الرغم من اختالف الرأي بني املشائني واإلرشاقيني يف باب التعريفٰ ،لكنّهم متفقون
ُ
العقل مسؤول ّية القيام به. يتحمل
ّ نوع من التفكري ا ّلذي مجي ًعا عىل ّ
أن التعريف ٌ
بأن التجريد واالنتزاع ال يتصادمان وبمالحظة ما تقدّ م فهل يمكن اآلن القول ّ
املتأهلني؟ بالرغم من أنّه يف بادئ األمر يبدو أنّه ال تصادم بينهامٰ ،لكن
مع رؤية صدر ّ
ٍ
بحاجة إىل طريق آخر ،إذ أن رؤية صدر ّ
املتأهلني يف ٰهذه املسألة بقليل من التأ ّمل نجد ّ
بأن ّتريد إحدى املاه ّيات عن عوارضها وإن كان ممكنا، يرصح ّ إن صدر ّ
املتأهلني نفسه ّ ّ
ٰل ّ
كن ٰهذا النشاط الذهني ال دور له يف ظهور اإلدراك العقيل ،واإلدراك العقيل ال يتح ّقق
عن ٰهذا الطريق" :وال حاجة يف التع ّقل إىل ّتريد ماه ّيته عن ماه ّية العوارض بأن حيذف
ميس ًـراٰ ،لك ّن الواجب يف التع ّقل هو التجريد عن
أيضا ّ منها ما عداها وإن كان ٰذلك ً
( )1راجع :الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،6ص 152؛ الطويس،
نصري الدين ،رشح اإلشارات والتنبيهات ،ج ،2ص 423 - 415؛ ابن سينا ،النفس من كتاب الشفاء ،حتقيق
حسن حسن زاده آميل ،ص 85-81؛ املؤلف نفسه ،اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح
اإلشارات والتنبيهات ،حتقيق حسن حسن زاده آميل ،ص 415و416؛ هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى
مطهري ،ص 745و.746
( )2راجع :الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،6ص 363؛ ج ،9ص.99
الفلسفي للحكمة املتعالية [ترمجة كتاب
ّ ( )3راجع :املصدر السابق ،ج ،3ص 366؛ عبوديت ،عبد الرسول ،النظام
(درآمدی به نظام حكمت صدرائی)] ،ج ،2الفصل التاسع.
279 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن ُ
العقل بمقايسة مفهومي البياض واحلالوة ،ويستنتج ّ والبحث فيها .فعندما يقو ُم
بياضا؛ و ٰلك ّن احلالوة حالوةٌ .ومن أجل أن
البياض ليس حالوةً ،واحلالوة ليست ً
يصدر العقل مثل ٰهذه األحكام ال حيتاج إىل احلدّ األوسط؛ ألنّه يقترص عىل محل مفهوم
عىل مفهوم آخر واملقايسة بينهام .وعليه فمثل ٰهذه األحكام اإلجياب ّية والسلب ّية ليست
ٍ
جمموعة ٍ
بحاجة إىل احلد األوسط .والعقل أو الذهن يمكنه عرب ٰهذا الطريق الوصول إىل
ٍ
كبرية من الـمفاهيم من قبيل الوحدة ،والكثرة ،واإلمكان ،والوجوب أو الرضورة،
واالمتناع ،والعدم ،والوجود ( .)1وقد ُبنيت عىل ٰهذه املفاهيم كافة القضايا يف علوم من
قبيل علم الوجود [األنطولوجيا] ،وفلسفة الدين ،وعلم النفس ،بل وأكثر قضايا فلسفة
تتعمق معرفة اإلنسان بذاته وباخلالق واملخلوقات.
العلوم التجريب ّية .و ٰهبذه املفاهيم ّ
وهـذه
ومن باب املثال الحظوا مفاهيم الرضورة (الوجوب) ،واإلمكان ،واالمتناعٰ .
الـمفـاهيـم الثـالثـة هـي مـوا ّد القضـايا .ومواد القضـايا تـحكي عن كيف ّيـة العالقـة بـني
مفـهـومـني.
والعقل بعد أن ُيالحظ القضايا يرى ّ
أن ثبوت حمموهلا ملوضوعها ال خيرج عن
رضوري له ،أو
ّ حاالت ثالث :إما ّ
أن املحمول ال يمكن انفكاكه عن املوضوع وهو
لذلك املوضوع ويمكن سلبه عنه ،أو يمكن انفكاكه عنه وبالنتيجة هو ممكن الثبوت ٰ
ال يمكن محله عىل ٰذلك املوضوع فحمله عليه ممتنع .ومن هنا فالعقل ينتزع املفاهيم
الثالثة أي الوجوب أو الرضورة ،واإلمكان ،واالمتناع من كيف ّية العالقة بني موضوع
وحممول القضايا ،ثم عن طريق تلك املفاهيم املنطق ّية -ا ّلتي هي وصف للقضايا-
يمكنه الوصول إىل املفاهيم الفلسف ّية من الرضورة أو الوجوب ،واإلمكان ،واالمتناع.
وتوضيحهّ :
أن العقل بوساطة نظرة أخرى إىل قضايا اهلل ّية البسيطة يستطيع أن
يلتفت إليها ويالحظ ثبوت املحمول (املوجود) للموضوع وهو مفهوم يشء من األشياء.
( )1راجع :مطهري ،مرتضـى( ،جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات] ،ج ،6ص 287-286وج ،9ص305-300؛
الطباطبائي ،حممدحسني( ،اصول فلسفه وروش رئاليسم) [أصول الفلسفة واملنهج الواقعي] ،يف :مرتضـى
مطهري( ،جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات] ،ج ،6ص.295-286
281 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويف ٰهذا اللحاظ واملقايسة إذا كان الوجود رضور ًّيا له ،ينتزع مفهوم الوجوب أو
أي منهام
الرضورة ،وإذا كان العدم رضور ًّيا له ،ينتزع مفهوم االمتناع ،وإذا مل يكن ٌّ
رضور ًّيا ال الوجود وال العدم ،ينتزع مفهوم اإلمكانٰ .
وبذلك تتصف األشياء اخلارج ّية
باملفاهيم الثالث(.)2(.)1
إن عمل ّية الـمقايسة ال تقترص عىل مالحظة العالقة بني القضايا فقط ،بل يبدو أنّه
مضا ًفا إىل ٰذلك تشمل املفاهيم والصور الذهن ّية ومقايسة األفعال واحلاالت النفسان ّية
أيضا .توضيحه :إ ّن اإلنسان بمالحظة فعل من أفعال
احلضوري ً
ّ ا ّلتي ُتدرك بالعلم
نفسه املبارشة ،وبال وساطة من قبيل التفكري ،والعزم واإلرادة ،يمكنه أن يقيسها بنفسه
ٍ
واحد أن حت ّقق ّ
أي وأن حيصل عىل عالقتها الوجود ّية مع ذاته .وهو يف ٰهذا احلني يشاهد ّ
مبني عىل وجود النفس ،وال يمكن حت ّققها ما مل تتحقق النفسٰ ،لك ّن من تلك األفعال ٌّ
النفس من أجل حتقق ذاهتا ليست بحاجة إليها ،وحت ّقق النفس ليس مرشو ًطا بتح ّقق
تلك األفعال .و ٰهبذا يصل العقل من خالل مقايسة وجود نفسه مع أفعاهلا ،إىل مفاهيم
من قبيل االحتياج والفقر ،وعدم االحتياج ،والعل ّية ،واملعلول ّية ،واالستقالل واالرتباط،
وعرب ٰهذا النشاط الذهني ينتزع مفاهيم من ٰهذا القبيل(.)3
أن ٰهذا النشاط يمكن أن يتحقق بطرق عدّ ة .ومن هنا يمكن اتّضح ممّا تقدّ م ّ
ِ
الطريقتني ،وعرب كال الطريقني ،وال ينبغي حرص الوصول إىل بعض املفاهيم بكال
طريق الوصول إىل املفاهيم بإحدى املقايسات فقط.
وإنام هو أوسع منه .ومن موارد املقايسة
ال يتحدّ د نطاق املقايسة بام هو مطروحّ ،
األخرى مقايسة األعراض من قبيل الكيف ّيات أو الكم ّيات مع بعض؛ فعندما نضع
ٍ
واحد منهام بوساطة اللمس قلمني أمحر وأزرق جن ًبا إىل جنب ،نحصل عىل طول كل
(ٰ )1لكن بلحاظ خاص يف مورد االمتناع.
( )2راجع :زاده ،حممدحسني( ،فلسفهی دين) [فلسفة الدين] ،الفصل الرابع ،الرد األول عىل نقد هوب برين
لالستدالل بطريق اإلمكان.
( )3الطريقة الثانية استقيتها من احلكيم الكبري األستاذ آية اهلل مصباح يزدي :راجع :مصباح يزدي ،حممدتقي،
(آموزش فلسفه) [املنهج اجلديد يف تعليم الفلسفة] ،ج ،1الدرس السابع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 282نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أن القلم األزرق أطول من األمحر بكمأو النظر .ثم نقايس طول أحدمها باآلخر لنعلم ّ
بأن القلم األزرق أطول من القلم األمحرّ ،
وأن القلم األمحر أقرص سنتيمرت .وهنا نحكم ّ
أن ِ
نوعان من الرشاب ،فنتذوقهام ،نجد ّ من القلم األزرق .وعندما يوضع أمامنا
وهكذا .ومن الواضح ّ
أن مثل ٰهذا النشاط هو نوع من أحدمها أشد حالو ًة من اآلخر ٰ
أيضاٰ .لك ّن السؤال هنا :من هو احلاكم يف مثل ٰهذه القضايا؟ هل ّ
احلس املقايسة الذهن ّية ً
احلس املشرتك واخليال من خالل تقديم مثل ٰهذه الصور إىل
ّ املشرتك حيكم هنا ،أم
النفس أوالعقل ،فيجعالنه يف معرض احلكم واملقايسة؟ ربام ُيتصور ّ
أن القدماء كانوا
احلس املشرتك يؤ ّدي مثل ٰهذا النشاط .وعىل أساس رؤيتهم ّ
فإن احلس بأن ّ يؤمنون ّ
احلسـ ّية احلاصلة
احلواس والصور ّ
ّ املشرتك شبيه باخلزانة ا ّلتي ّتري نحوها معطيات
عن طريق احلواس(.)1
فاحلس املشرتك
ّ ايضا هو من عمل العقل أو النفس. ٰلكن يبدو ّ
أن ٰهذا النشاط ً
احلواس الظاهر ّية ،يؤ ّدي ٌّ
كل منهام دور املساعد. ّ واخليال يف ٰهذه املوارد حاهلام حال
احلس املشرتك
ومن هنا فاملقايسة يف املورد املذكور واملوارد املشاهبة ليست من عمل ّ
وحده(.)2
والـحاصل هو ّ
أن الدور األسـاس فـي ٰهذا النشاط الذهني هو للعقـل ،وللنـفـس
احلواس الظاهر ّية أو الباطن ّية.
ّ بالنهاية ،ال
نحو رسي ٍع نشاطات العقل ووظائفه يف جمال املفاهيم والصوراستعرضنا إىل اآلن ب ٍ
ألن البحث يف ّ
كل ٍ
بحاجة إىل جمال آخر؛ ّ املوسع حول ٰهذا األمر الذهن ّية .والبحث ّ
واحدة من ٰهذه الوظائف يستدعي دراسة وتقويم نظر ّيات علم النفس ،وعلم األحياء، ٍ
( )1ابن سينا يف معرض إثباته احلس املشرتك له عبارة ُيستفاد منها ّ
أن مثل ٰهذا النشاط من عمل العقل .ويطلق عىل ٰهذه
العملية الذهنية اسم (التمييز) ،ويستعمل مصطلح (التمييز) ،ومشتقاته يف ٰهذا املجال" :وهب أن ٰهذا التم ّيز هو
للعقل ،فيجب ال حمالة أن يكون العقل جيدمها معا حتّى يتميز بينهام" [ابن سينا ،النفس من كتاب الشفاء ،تصحيح
حسن حسن زاده آميل ،ص .]227وبناء عىل ٰهذا ليس من الصحيح نسبة الرؤية املتقدمة إىل عامة القدماء.
( )2راجع :ابن سينا ،النفس من كتاب الشفاء ،تصحيح حسن حسن زاده آميل ،ص 84-83و229-227؛ ٰهذا
الكتاب ،الفصل الثاين.
283 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1املراد هنا من القضية ،التصديق أو القضية املنطقيّة ،ال متع ّلق التصديق.
أن اإلرادة ،والعزم ،واحلكم ومجيع امليول هي برأينا من فعاليات النفسٰ ،لكن احلكامء عادة حني تصنيف األشياء( )2مع ّ
يف بحث املقوالت عدّ وها يف دائرة األعراض (راجع :الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار
العقلية األربعة ،ج ،4ص 117-113؛ الطباطبائي ،حممدحسني ،هناية احلكمة ،تصحيح غالمرضا فيايض ،املرحلة
السادسة ،الفصل اخلامس عرش).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 284نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
( )1راجع :مطهري ،مرتضـى( ،جمموعه آثار) [جمموعة املؤلفات] ،ج ،6ص.295-293
( )2سوف نستعمل فيام يأيت مصطلح (احلكم) للمعنى األول ،ومصطلح (التصديق) للمعنى الثاين.
( )3راجع :حممد حسني زاده( ،پژوهشی تطبيقی در معرفت شناسی معارص) [دراسة مقارنة يف نظر ّية املعرفة
املعارصة] ،الفصل الثالث.
285 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن احلكم ٰ
وكذلك التصديق بمعناه املنطقي يعد من مجلة وظائف واحلاصل هو ّ
أمر ال شك فيه .وينبغي
الذهن ونشاطاته .وكون ٰهذه الوظيفة إحدى وظائف الذهن ٌ
أن ٰهذه الوظيفة هل هي من نشاطات العقل أو النفس أم ٍ
ملسألة ،وهي ّ التعرض
هنا ّ
احلس ،ويف القضايا
ّ احلسـ ّية احلاكم هو
أهنا ختتلف بلحاظ القضايا؛ ففي القضايا ّ
احلس املشرتك ،ويف غريها احلاكم هو العقل؟
باحلواس الباطن ّية احلاكم هو ّ
ّ املرتبطة
كال من احلكم والتصديق من شؤون يبدو أنّه يف مجيع القضايا والتصديقات ،يكون ً
اختالف بني القضايا من ٰهذه اجلهة .وأ ّما القول املشهور ّ
بأن ٌ العقل ووظائفه ،وال يوجد
أن املفاهيم الك ّل ّية (املعقوالت)
ناظر إىل املفاهيم ،بمعنى ّ
درك للكليات ،فهو ٌ العقل ُم ِ
ُتدرك بوساطة العقل فقط؛ ٰلك ّن ٰهذا الكالم ال يشمل القضايا ،فاحلكم يف القضايا
احلسـ ّية
وطبعي أنّه يف القضايا ّ
ٌّ مجي ًعا بعهدة العقل سواء القض ّية الشخص ّية أم غريها.
احلواس بمساعدة العقل يف احلكم.ّ سواء يف املحسوسات أو التجريب ّيات تقوم
احلواس الظاهر ّية أو الباطن ّية يف ٍ
بحاجة إىل مساعدة فإن العقل والنفس ومن هنا ّ
ّ
أيضا لكي حيكم يف مثل ٰهذه باحلواس الظاهر ّية وباحلافظة ً
ّ احلسـ ّية .فالعقل يستعني
القضايا ّ
فإن ذوي احلافظة الضعيفة ،أو من مل تعد ذاكرهتم تعمل بشكل صحيح القضايا؛ ومن هنا ّ
ألهنم ما إن يتصوروا املوضوع يف أذهاهنم حتّى ٍ ٍ
ملرض أو شيخوخة ،ال ُيمكنهم احلكم؛ ّ
يتصوروا املحمول أو ُحيرضونه يف أذهاهنم ،حتّى ينسوا املوضوع.
ينسوا املحمول ،وما إن ّ
ونحن ال ننكر دور مثل ٰهذه القوى اإلدراك ّية ،بل ودور أدوات اإلدراك املا ّد ّية،
ترضرت أعصاب اللمس أو اإلبصار ،فال يمكنهام أن يكونا عاملني واجلسامن ّية .فإذا ّ
شك يف لزوم حت ّقق احلس ّـي املرتبط بتلك احلواس .وال ّ
مساعدين لإلحساس واإلدراك ّ
احلسـ ّيةٰ .ل ّ
كن األمر مثل ٰهذه القوى واألدوات من أجل ظهور املعطيات واإلدراكات ّ
احلسـ ّية احلاكم
احلس ّـي نفسه .ويف القضايا ّ ا ّلذي نرص عليه هو ّ
أن ٰهذه األمور ليست اإلدراك ّ
احلواس لكي حيكم يف مثل ٰهذه القضايا .ويبدو أنّه من
ّ أيضاٰ ،لكنّه بحاجة إىل
هو العقل ً
املمكن نسبة ٰهذه الرؤية إىل الكثري من أكابر الفلسفة اإلسالم ّية واملنطق؛ مع أنّه قد ُيعثر يف
مؤلفات احلكامء واملناطقة املسلمني عىل بعض العبارات الدّ الة عىل خمالفة بعضهم هلٰذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 286نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
جمرد = خمتص باملفاهيم .وعىل أي حال إذا كان مقصوده من كالمه املذكور هو ّ
أن احلس ،واخليال ،والوهم تفيد ّ
حلواس الظاهرية والباطنية ،فمن الواضح أنّه يف ٰهذه الصورة لن يوجد تعارض مع
ّ التصور ،كام لوحظ يف بحث ا
املبنى املختار القائل بأن العقل له دور مبارش يف مجيع القضايا.
( )1راجع :الرازي ،قطب الدين حممد ،تعليقة عىل رشح اإلشارات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح اإلشارات
والتنبيهات ،ص ،215-213التعليقة.1
( )2راجع :الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،4ص137؛ املؤلف نفسه،
املبدأ واملعاد ،تصحيح السيد جالل الدين اآلشتياين ،ص.238
( )3راجع :املؤلف نفسه ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،6ص 166وج ،8ص 225-224وج،4
ص.138
( )4الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،4ص.138
289 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمموعة قضايا ،وبامتزاجها وتركيبها تنتج قض ّية جديدة .ومقابل االستدالل يوجد
خاص من الرتكيب :تركيب املفاهيمّ ونوع
ٌ نوع آخر من التفكري،
التعريف .والتعريف ٌ
كل من االستدالل والتصورات مع بعض والنتيجة مفهوم جديد .و ٰهبذا يكون ٌّ
وتفكريا بنحو ما .االستدالل تفكري يأيت من تركيب قضايا عدة معلومة
ً والتعريف تركي ًبا
نوع آخر من التفكري حيصل من امتزاج وتركيب عدّ ة مفاهيم
ومرتابطة ،والتعريف ٌ
معلومة ومرتابطة .وباالستدالل حتصل قض ّية جديدة ،وبالتعريف حيصل مفهو ٌم جديد.
وعرب ٰهذين النمطني( )1من التفكري ،ومها نشاط أوفعال ّية ذهن ّية ،يمكن توسيع معرفتنا
بالوجود والواقعيات وتعميقها .وعليه فمن خالل تأليف املعلومات الذهن ّية ا ّلتي يأيت
أغلبها من اخلارج وترتيبها ،وتنظيم املعلومات املرتابطة مع بعض نصل إىل معارف
جديدة.
ِ
طريقتني ،وببيان آخر هو نوعان: االستدالل أو االستنتاج يتم ب
.2غري املبارش. .1املبارش.
ويتم االستنتاج فيه ٍ ٍ
مبني عىل قض ّية واحدة فقطّ ، االستدالل املبارش هو استدالل ٌّ
عن طريق تلك القض ّية فقط ،ومن هنا يكفي يف ٰهذا االستدالل قض ّي ٌة واحد ٌة للوصول
ٌ
استدالل إىل النتيجة .واالستدالل غري املبارش هو ا ّلذي ُيدعى يف املنطق بـ( ّ
احلجة) هو
كون من قضيتني عىل األقل. ٍ
حيتاج إىل أكثر من قض ّية من أجل الوصول إىل النتيجة ،ويت ّ
وكال االستداللني املبارش وغري املبارش لـهمـا عدّ ة أقسام .وأهم أنواع االستدالل
املبارش هي:
.1العكس املستوي .2 ،عكس النقيض .3 ،نقض املحمول .4 ،التناقض فـي
القضايا.
أيضا .وبعبارة أخرى :يشمل
( )1و ٰهبذا يكون للتفكري الذي هو نشاط عقيل معنى واسع :يشمل التعريف واالستدالل ً
أيضا .ومن هنا فتخصيصه بالقضايا أو التصديقات غري صحيح .يقول صدر املتأهلني
املفاهيم كام يشمل القضايا ً
يف ٰهذا املجال" :منها الفكر وهو انتقال النفس من املعلومات التصورية والتصديقية احلارضة فيها إىل جمهوالهتا
املستحرضة .وختصيص جريان الفكر يف باب التصديقات دون التصورات كام فعله صاحب امللخص مما ال وجه
له" [الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،3ص.]516
291 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ٍ
واحدة يتم االستنتاج فيه بمساعدة قض ّي ٍة ٍ ّ
وكل واحد من ٰهذه االستدالالتّ ،
ستنتج ِصد ُق نقيضها؛ كام أنّه ُ فقط .ومثال ٰذلك يف تناقض القضايا أنّه من كِذب قض ّي ٍة ُي
من ِصدق قض ّي ٍة ُيستنتج كِذ ُب نقيضها.
احلجة فهو عىل ثالثة أنواع؛ ألنّه يف ٰهذا النمط من أ ّما االستدالل غري املبارش أو ّ
جزئي آخر بسبب الشبه بينهام و ٰهذا ّ جزئي إىل
ّ عمم احلكم الثابت ٍ
ألمر االستدالل إ ّما أن ُن ّ
ويسمى ٰهذا
ّ أمور جزئ ّي ٍة
سمى (التمثيل) ،وإ ّما أن نحصل عىل حكم كيل من عدّ ة ٍ
ّ النوع ُي ّ
قسمني :االستقراء التام ،واالستقراء الناقص ،وإ ّما أن نسري ِ النوع (االستقراء) ،وهو عىل
سمى (القياس) ،وينقسم إىل عدّ ة أقسا ٍم بلحاظ وهذا النوع ُي ّ
الكيل إىل اجلزئي ٰ
ّ من احلكم
الشكل واملادة(.)1
اجلزئي -كمـا هو واضح -املعنى املطلق الواسع الذي يشمل ًّ
كال من ّ واملراد من
غالبي ،وقد
ٌّ اإلضايف ،بل يمكن القولّ :
إن قيد (اجلزئي) ّ واجلزئي
ّ احلقيقي
ّ اجلزئي
ّ
عمل من أجل التسهيل يف التعليم ،ومن أجل إيضاح مكانة القياس بني أساليب اس ُت ِ
أن القياس يقف مقابل االستقراء ،وإ ّال ّ
فإن نطاق االستدالل ،وكيف ّية السري فيه ،وتبيني ّ
القيـاس أوسـع من ٰذلك ،ويشمل األمـرين الـمتـسـاويني الـمتـالزمني .ومن هنـا يمكـن
االستدالل بأحد املتالزمني عىل اآلخر(.)2
شا :االستقراء والعقل
عا ً
نشاطات ذهني ٌة ،وهي من
ٌ من الواضح ّ
أن مجيع أقسام االستدالل واالستنتاج
دور مبارش فيها .وهنا نواجه مشكلة وهي :أنّه عىل الرغم من
وظائف العقل ،وللعقل ٌ
( )1راجع :الطويس ،نصري الدين ،رشح اإلشارات والتنبيهات ،ج ،1ص ،212-177و238-229؛ ابن سينا،
االشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،املصدر السابق؛ املظفر ،حممدرضا ،املنطق ،ص 252-101؛
هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى مطهري ،ص ،111-77و.192-187
وهذا القبيل إذ يقول" :فال يبقى إن العالمة الطباطبائي وف ًقا ملبناه يرى ّ
أن مجيع الرباهني الفلسف ّية من ٰهذا النوع ٰ ( )2بل ّ
الفلسفي ّإال برهان ( ّ
اإلن) الذي يعتمد فيه عىل املالزمات العا ّمة ،فيسلك فيه من أحد املتالزمني إىل اآلخر". ّ للبحث
[الطباطبائي ،حممدحسني ،هناية احلكمة ،تصحيح غالمرضا فيايض ،املدخل ،ص 16؛ املؤلف نفسه ،تعليقة عىل
األسفار ،يف :صدر الدين حممد الشريازي ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،ج ،6ص ،29التعليقة .]1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 292نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
إمكان عدِّ مجيع أقسام االستدالل املبارش والقياس -من أقسام االستدالل غري املبارش-
نشا ًطا عقل ًّياٰ ،لكن هل يمكن عد االستقراء نشا ًطا ووظيف ًة عقل ّية ً
أيضا .مع العلم ّ
أن
متقو ٌم باجلزئيات ،واجلزئيات ُتدرك عن طريق املشاهدة وسائر احلواس؟
االستقراء ّ
أيضا؛ ّ
ألن االستقراء احلقيقة هي أ ّنه جيب عدّ االستقراء من شؤون العقل ووظائفه ً
ليس مشاهدة بضعة أمور جزئ ّية فحسبّ ،
فإن مشاهدة بضعة ظواهر جزئ ّية ال دخل له
يف حقيقة االستقراء؛ بل ّ
إن االستقراء عبارة عن إعامم حكم ناشئ عن مشاهدة عدّ ة
اجلزئي إىل
ّ ظواهر جزئ ّية .ومن هنا قالوا يف تعريف االستقراء :االستقراء س ٌري من
ّّ
الكيل .ويف االستقراء يشاهد العقل عدّ ة نامذج ،ثم يقوم بترسية احلكم إىل موارد ونامذج
مقوم لالستقراء، حكام ك ّل ًّيا .وعليه ّ ِ
فإن اإلعامم من وظائف العقل ،وهو ّ أخرى ،ف ُيصدر ً
أساس فيه .ومن هنا عرف هبمنيار االستقراء ً
قائال(" :)1االستقراء هو احلكم ٌ ورك ٌن
ٍ كيل بام ُو ِجد يف جزئياته الكثرية ،كام ُحيكم عىل ّ
حيرك عند املضغ فكه
كل حيوان أنّه ّ عىل ّ ّ
األسفل"(.)2
رشط لتح ّقق االستقراء يف أغلب املوارد ،ال ّأهنا داخل ٌة يف
ٌ فإن املشاهدةوعليه ّ
دورا يف العلوم الفلسف ّية والرياض ّية
فإن االستقراء يلعب ًومعيار لتح ّققه؛ لذا ّ
ٌ حقيقته،
أيضا ،ومنها يف القض ّية الرياض ّية (العدد إما زوج أو فرد) ،إذ يمكن القول إ ّن ُك ًّال من
ً
الفرد ّية والزوج ّية ُتعدّ من أقسام العدد ،وهو حاصل عن طريق االستقراء .أو يف القض ّية
واجب أو ممك ٌن) ،فتقسيم املوجود إىل الواجب واملمكن عىل
ٌ الفلسف ّية (املوجود إ ّما
يقيني ال يقبل التشكيك()3؛ ٰ
وكذلك تقسيم البدهيات ٌّ أساس االستقراء التام ،وهو أمر
إىل األوليات ،واملحسوسات ،واملتواترات إلخ ،من ٰهذا القبيل .وال يقترص دور االستقراء
دورا يف العلوم العقل ّية نظري
أنواع من االستقراء تلعب ً
ٌ عىل العلوم التجريب ّية ،بل هناك
( )1راجع :ابن سينا ،الشفاء ،املنطق .5الربهان ،تصحيح أبو العالء عفيفي ،املقالة األوىل ،الفصل التاسع ،ص-95
96؛ هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى مطهري ،ص.188-187
( )2هبمنيار ،التحصيل ،تصحيح مرتضـى مطهري ،ص.187
( )3ويمكن طب ًعا إرجاع القضية الفلسفيّة املذكورة إىل احلصـر العقيل والقول بإمكان إدراكها عن طريق العقل،
واحلرص العقيل ،من دون حاجة إىل االستقراء العقيل.
293 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلوم الفلسف ّية والعلوم الرياض ّية .ومثل ٰهذه االستدالالت هي يف احلقيقة مستفادة
مبني عىل
أن االستقراء ٌّتصور ّ
من االستقراء واستعامله يف العلوم العقل ّية نو ًعا ما .إ ًذا ّ
احلواس باطل ،وحيتاج االستقراء إىل املشاهدة يف العلوم
ّ احلسـ ّية ومعطيات
املشاهدات ّ
مقومة ملاه ّية االستقراء ،بل حت ّققه
التجريب ّية فقط ،وحتى يف ٰهذه العلوم املشاهدة ليست ّ
مشاهدات .وطبيعي أنّه يمكن من خالل االستفادة من التجربة ٍ مش ٌ
ـروط بتحقق
احلضوري ،حتصيل وتقويم صحة
ّ الذهن ّية والتأ ّمالت الباطن ّية ا ّلتي هي ٌ
نوع من العلم
أو سقم االستقراء العقيل من قبيل أقسام القضايا البده ّية.
ّ
فإن االستقراء ال يوقع من جهة التقاط اجلزئيات علام كل ًّيا يقين ًيا وإن كان قد يكون
ٍ
بقياس حيس
فإن فيها [(التجربة)] اختالط استقراء ّ من ّبها .وأ ّما التجربة فتوقعّ ،...
وإن ا ّلذي بالعرض ال يدوم"(.)1 مبني عىل اختالف ما بالذات وما بالعرضّ ، عقيل ّ
ّ
جدير بالذكر ّ
أن القضايا التجريب ّية ٰهبذا املعنى نادر ٌة يف العلوم الطبيع ّية ،ويف ٰهذه
العلوم ُيستفاد عاد ًة من االستقراء الناقص ،والتمثيل والتخ ّيل ّ
اخلالق (وهو احلدس
بمعنى التخمني والظن) .وعليه فاملقصود من التجربة إ ّما هو االستقراء فقط ،واستعامله
أعم من االستقراء والتمثيل والتخ ّيل ّ
اخلالق ،واالستعامل نادر ،أو بمعنى ّ
يف ٰهذا املعنى ٌ
شائع ومجيعها أساليب وطرق من االستدالل غري اليقيني ُتنتج االحتامل ٌ يف ٰهذا املعنى
التجريبي عاد ًة هلام
ّ أو الظن واملعرفة الظنّ ّية عىل أكثر تقدير .و ٰهبذا ّ
فإن التجربة واملنهج
التجريبي يستعمل اليوم يف
ّ اليوم معنى آخر يف العلوم الطبيع ّية وفلسفتها .فاملنهج
االستدالل غري القيايس الشامل لالستقراء والتمثيل(.)2
وعادة ما يكون الوصول إىل املعارف يف العلوم الفلسف ّية -من قبيل علم الوجود ،وعلم
الفلسفي ،وفلسفة األخالق ،وفلسفة الدين ،ونظر ّية املعرفة -مبن ٌّي عىل ٰهذه األداة
ّ النفس
املكونة هلا يتح ّقق عن
أو الطريق .والتصديق واحلكم يف تلك القضايا بل ومفاهيمها ِّ
عقيل .وبالنتيجة ال يمكن فإن منهج التحقيق يف مثل ٰهذه القضايا ٌّ طريق العقل .ومن هنا ّ
باحلواس الظاهر ّية ٍ
واحدة من قضايا العلوم املذكورة إثباتًا أو نف ًيا يقين ًّيا أي
ّ إثبات أو نفي ّ
بأهنا قد تفيد التأييد االحتاميل أو الظني(.)1 واملنهج غري العقيل؛ وإن أمكن القول ّ
وظيفة من وظائف العقل املختلفة .وهو س ٌري عقيل وعمل ّية ٍ أهم
واالستدالل هو ّ
ونشاط من نشاطاته ،واالستدالل له أنواع عدّ ة ،وأكثرها ٌ عقالن ّية يقوم هبا العقل،
وكذلك يقيني بلحاظ املادة واملحتوىٰ ، ٌ
استدالل ٌّ اعتبارا ما ُيدعى بـ(الربهان) .والربهان
ً
بلحاظ الشكل وترتيب املقدمات.
وربام خيطر يف الذهن ٰهذا السؤال :ملاذا املعترب يف قضايا العلوم العقل ّية هو العقل
إن سبب ٰذلك هو كون اختصارا بلحاظ ما تقدّ مّ ،
ً واملنهج العقيل فقط؟ ما يمكن قوله
بحاجة إىل توضيح وبيان .ورشحه ٍ قضايا تلك العلوم عقل ّي ًة أو قبل ّي ًةٰ .لك ّن ٰهذا اجلواب
مبني عىل ا ّتضاح نسبة العقل مع القضايا القبل ّية ،وحقيقة ٰهذا النوع من القضايا .وفيام ٌّ
يأيت سنبحث نسبة العقل إىل القضايا القبل ّية وحقيقة ٰهذه القضايا وماه ّيتها ،وهي ا ّلتي
ُتدعى يف فلسفتنا التقليد ّية (القضايا العقلية)؛ ومع ا ّتضاح حقيقتها سوف ي ّتضح دور
العقل فيها من منظار نظر ّية الـمعرفة ،وهو الـهدف األساس للبحث ،وسي ّتضح ضمنًا
احلل املذكور.
بحاجة إىل أي ٍ
أداة أخرى. ٍ مبني عىل العقل فقط ،وهي من ٰهذه اجلهة ليست
ّ واعتبارها ٌّ
أهم ميزاهتا هو ّ
أن املصدر الوحيد لتحقيقها هو العقل ،واألسلوب الناجع وعليه ّ
فإن ّ
العقيل ال غري .ومن هنا ّ
فإن النزاع ّ والصحيح للبحث حوهلا هو األسلوب واملنهج
واحلسيني هو :هل املعارف أو القضايا القبل ّية متح ّققة أم غري
ّ الرئيس بني العقليني
متح ّققة؟ وعىل فرض حت ّققها هل هي قضايا حتليل ّية (طوطولوجية) حمضة( )1أم تركيبية؟
أعم من القضايا التحليل ّية
واجلواب باإلجياب عن ٰهذا السؤال ،والقبول بالقضايا القبل ّية ّ
(الطوطولوجية) ،وغريها هو املم ّيز احلقيقي بني املنهج العقيل واحليس .ومضا ًفا إىل
حسـ ّية والقضايا التحليل ّية (الطوطولوجية) ،يمكن
القبول بالـحواس ،والـمعطيات الـ ّ
اإلذعان بتحقق القضايا القبل ّية ا ّلتي هي ليست طوطولوجية حمضةّ ،
ألن احلس ّيني كام
نحو ٍ
مربر وعىل احلواس ونفي اعتبار العقل -أن يقبلوا ب ٍ
ّ يبدو ال يمكنهم -استنا ًدا إىل
أساس معقول القضايا القبل ّية حتّى القضايا التحليل ّية (الطوطولوجية) ،فقبوهلا مستلز ٌم
قوة العقل اإلدراك ّية(.)2 لنوع من املنحى العقيل واإلذعان يف اجلملة باعتبار ّ
احلواس الظاهر ّية
ّ ويمكن اإلضافة عىل ماتقدّ مّ :
أن القضايا البعد ّية تـحتاج إلـى
حسـ ّية ،ومن ٰهذه اجلهة تـمتاز عن القضايا القبليةٰ ،لكنّها بنظر الـمؤلف ال
والتجربة الـ ّ
قوة العقل .التصديق والـحكم فـي ٰهذه الـمجموعة من القضايا وإثبات
تستغني عن ّ
قوة العقل
أيضا يرتبط بالعقل .وبدون تـحقق ّتـح ّقق مصداقها العيني فـي الـخارج ً
أيضا.
اإلدراك ّية واالستناد إليها ،سوف يتوقف التصديق واحلكم يف القضايا البعد ّية ً
إنام يمكنه التصديق هبا واحلكم عليها فيام لو استند إىل التجربة وطبيعي ّ
أن العقل ّ
احلواس الظاهر ّية.
ّ احلسـ ّية أو
ّ
ويمكن توسيع البحث حول القضايا القبلية ،وطرح الكثري من األسئلة واملسائل(.)3
)1( Tautology.
)2( See: Laurence, Bonjour, In Defense of pure Reason, Ch.2.
( )3تعرضنا بحمد اهلل للبحث يف ٰهذه املسائل يف الكتاب الرابع من جمموعة (كاوشی در ژرفای معرفت شناسی)
[دراسة يف أعامق نظر ّية املعرفة] ،حتت عنوان (مؤلفهها وساختارهای معرفت برشی؛ تصديقات يا قضايا)
ٍ
عابرة علـى األسئلة التي = ٍ
نظرة [عنارص وبنى الـمعرفة اإلنسانية؛ التصديقات أو القضايا] .ونكتفي هنا بإلقاء
297 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ٍ
وحتقيق واس ٍع للمسائل ا ّلتي ُيمكن طرحها يف ٰهذا ٍ
ببحث شام ٍل، وال يمكن اآلن القيام
ِ
وبحث دور العقل يف ٰهذا ِ
تعريف (القبيل) وتبيني حقيقته، املضامر .ونكتفي هنا ب
األسايس والبنيوي.
ّ النشاط
احلواس
ّ القبل ّية هي قض ّي ٌة ال حيتاج إدراكها والتصديق هبا إىل التجربة ّ
احلسـ ّية أو
الظاهر ّية ،وهي قائم ٌة عىل العقل فقط؛ من قبيل قضايا الرياضيات واملنطق ،واحلمل
إنسان) ،وأمثاهلا .ويف املقابل القض ّية البعد ّية هي ا ّلتي
ٌ األويل من قبيل قض ّية (اإلنسان
أيضا .ومن هنا ّ
فإن املعرفة احلواس الظاهر ّية ً
ّ احلسـ ّية أو
يقوم التصديق هبا عىل التجربة ّ
أيضا تنقسم إىل قسمني :القبل ّية والبعد ّية .فاملعرفة القبل ّية هي معرف ٌة ال تقوم عىل التجربة
ً
واحلواس الظاهر ّية ،من قبيل املعارف الرياض ّية والفلسف ّية ،ويف املقابل ،املعرفة
ّ احلسـ ّية
ّ
حواس الظاهر ّية ،من قبيل العلوم ّ البعـد ّية هي معرفـ ٌة قائمة علـى التجربة الـ ّ
حسـ ّية والـ
التجـريـب ّيـة(.)1
إنام احلواس الظاهر ّية)ً ،
بدال منها ّ ّ إن تقييد التجربة بمصطلح (احليس) ،أو ذكر ( ّ
هو إلزالة الغموض ،أو احتامل اإلطالق املوجود فـي مصطلح (التجربة) .ومصطلح
(التجربة) ،دون القيد املذكور له معنى عا ٌّم يشمل التجارب الذهن ّية ا ّلتي هي ٌ
نوع من
والشهودي .ويمكن توسيع مفهوم التجربة ليشمل التجارب الشهود ّية
ّ احلضوري
ّ العلم
احلضوري .وعىل
ّ وكذلك التأمالت الذهن ّية ا ّلتي هي ٌ
نوع من العلم احلضوري ٰ
ّ والعلم
احلواس
ّ أساس التعريف أو االصطالح األول -وهو اختصاص التجربة بمعطيات
خاصة ال هي
معارف ّ
ُ احلسـ ّية -توجد بني القضايا القبل ّية والبعد ّية
الظاهر ّية والتجربة ّ
ٍ
تعريف للقبيل والبعدي، قبل ّي ٌة وال بعدي ٌة ،وهي املعارف احلضور ّية .وعىل أساس ّأو ِل
أيضا ال قبل ّية وال فإن ٰهذه املعارف ال قبل ّي ٌة وال بعد ّي ٌة ،كام ّ
أن القضايا احلاكية عنها ً ّ
بعد ّية .و ٰلكن عىل أساس التعريف أو االصطالح الثاين ،تكون ٰهذه املعارف أو القضايا
بعد ّية والتجربة شامل ٌة هلا .ويمكن ً
أيضا تعريف مفهوم القبيل بنحو يشمل املعارف
احلضور ّية والقضايا احلاكية عنها.
وعليه ّ
فإن اجلواب عن هذا السؤال :هل تقسيم املعارف أو القضايا إىل بعد ّية وقبل ّية
(1) See: Laurence, Bonjour, In Defense of pure Reason, Ch.2; Paul Moser (ed.),
;Apriori Knowledge, p.3-10
بالنتينجا ،ألفني( ،مفاهيم بنيادين در معرفتشناسی) [مفاهيم أساسيّ ٌة يف نظر ّية املعرفة] ،ترمجة حممدحسنيزاده،
الفصل الثالث.
299 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حرصي يدور مدار النفي واإلثبات أم ال؟ مبن ٌّي عىل التعريف املختار للقبيل والبعدي،
ٌّ
وهو يف احلقيقة يرجع إىل التعاقد وجعل اإلصطالح.
مضا ًفا إىل قيد التجربة ،هناك مشكلة أخرى يمكن أن تطرح حول تعريف املعرفة
احلواس
ّ احلسـ ّية وعدم بنائها عىل
أو القض ّية القبل ّية ترجع إىل استقالهلا عن التجربة ّ
بأي
احلسـ ّية ّ يصح عىل أساس ٰهذا الرشط ُ
ربط املعرفة القبل ّية بالتجربة ّ ّ الظاهر ّية .وال
أن بعض القضايا ا ّلتي ُعدت قبل ّية مفاهيمها -وهي عنارصها وجه كان .لكن نجد ّ ٍ
واحلواس الظاهر ّية .والكثري من
ّ احلسـ ّية
وأجزائها األصلية -مأخوذة من التجارب ّ
القضايا ا ّلتي تعد نامذج ألصل امتناع اجتامع النقيضني وارتفاعهام عىل الرغم من كوهنا
احلواس الظاهر ّية؛ من قبيل أن يكون اجلسم الواحد
ّ قبليةٰ ،لك ّن مفاهيمها حاصلة من
ومتحر ًكا وساكنًا ٰ
كذلك ،ومتح ّي ًزا يف مكان ّ أسود ك ّله ويف الوقت نفسه غري أسود ك ّله،
وغري متح ّي ٍز الخ.
رضوري
ّ ٌ
رشط أن التجربة املرتبطة باللون ،واحلركة وغريمها واحلاصل هو ّ
لتحصيل املعرفة بمثل ٰهذه القضايا.
مربرة فيام لو استندت إىل التجارب ومن هنا ّ
فإن مثل ٰهذه القضايا إ ًّنام تكون ّ
احلسـ ّية رش ًطا رضور ًّيا لتربير القبول ٰهبذه القضايا
احلسـ ّية .ويف احلقيقة ُتعد التجربة ّ
ّ
أمرا قبل ًّيا.
والتصديق هبا .ومن هنا ال يمكن عد املعرفة ٰهبذه القضايا وتربيرها ً
بمالحظة االختالف بني وظائف العقل يف صناعة املفهوم وصناعة احلكم ،يمكن
احلواس الظاهر ّية التمهيد لعمل ّية
ّ حل املشكلة املتقدمة بسهولة .فعىل الرغم من إمكان ّ
الوصول إىل ٍ
كثري من املفاهيم الك ّل ّيةٰ ،لك ّن ٰهذا األمر ال يمنع قبل ّية القض ّية ّ
املكونة من
مثل ٰهذه املفاهيم وال احلكم فيها وتربير املعرفة هبا.
وبنا ًء عىل التعريفّ ،
فإن القض ّية أو املعرفة القبل ّية ال حتتاج يف التصديق والقبول
احلسـ ّية؛ ٰلكن ال يوجد
احلواس الظاهر ّية والتجربة ّ
ّ من حيث مها تصديق وقبول إىل
املقوم لقبل ّية املعرفة
احلسـ ّية من جهة املفهوم .فاألمر ّ
مانع أن تكون مبن ّية عىل التجربة ّ
احلسـ ّية.
أو القض ّية هو أن يكون احلكم أو التصديق فيها مستغن ًيا عن التجربة ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 300نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أن أغلب املفاهيم الفلسف ّية واملنطق ّية بلحاظ التحقق ،هي وجيب االلتفات إىل ّ
مفاهيم ثانية ،وعادة ما تتح ّقق بعد املفاهيم األوىل واملفاهيم اجلزئ ّية ّ
احلسـ ّية والشهود ّية
احلواس الظاهر ّية والتجربة
ّ عن طريق املقايسة واالنتزاع ،والكثري منها يتح ّقق عن طريق
احلواس الظاهر ّية هي ا ّلتي تو ّفر األرض ّية املناسبة للحصول عليها.
ّ احلسـ ّية؛ وبتعبري ّ
أدق: ّ
أن قبل ّية التصديق ،والقبول ،واحلكم يف قض ّي ٍة ال يستلزم أن تكون واحلاصل هو ّ
احلسـ ّية ،بل املهم هو أن يكون التصديق
أيضا غري مبن ّية عىل التجربة ّ املكونة هلا ً
املفاهيم ّ
ومستقال عنها .ويف بحث تصنيفً احلسـ ّية،
احلواس والتجربة ّ ّ واحلكم فيها مستغن ًيا عن
وقلام نجد
متهد األرض ّية للوصول إىل كثري من املفاهيمّ .
احلواس ّ
ّ املفاهيم ن ّبهنا عىل ّ
أن
مبارشا أو غري مبارش يف حتققه(.)1
ً دورا
احلواس أو العلوم احلضور ّية ً
ّ مفهو ًما مل تلعب
إذا كان الرشط يف املعرفة أو القض ّية القبل ّية مضا ًفا إىل احلكم والتصديقّ ،أال تكون
املكونة هلا مأخوذ ًة عن طريق احلواس ،فحينئذ تصبح دائرة القضايا القبل ّية
املفاهيم ّ
فإن موضوعات الكثري من القضايا ضيق ًة جدً ا ،وق ّلام توجد عندنا قض ّية قبل ّية؛ ّ
وحمموالهتا من قبيل مصاديق أصل امتناع اجتامع النقيضني أو امتناع ارتفاعهام ،وأصل
واحلواس ُ ِّحتقق أرض ّية
ّ احلسـ ّية،
ّ اهلوهو ّية ،مأخوذ ٌة ب ٍ
نحو غري مبارش من التجربة
ٍ
بنحو إنسان) مبن ّي ٌة
ٌ الوصول إليها .حتّى قضايا احلمل األويل من قبيل قض ّية (اإلنسان
ألن مفاهيمها وموضوعاهتا وحمموالهتا منتزع ٌة من التجربة أيضا؛ ّ
ما عىل التجربة ً
أيضا مفاهيم ال تبتني احلسـ ّية ُحتقق أرض ّية الوصول إليها .نعم هناك ً
احلسـ ّية ،والتجربة ّ
ّ
واحلواس الظاهر ّية؛ من قبيل املفاهيم الك ّل ّية الشهود ّية
ّ مطل ًقا عىل التجربة ّ
احلسـ ّية
أيضا.
وسعنا مفهوم التجربة لتشملها ً
للخوف ،واحلب وأمثاهلام؛ إال إذا ّ
فإن القض ّية أو املعرفة القبل ّية هي ا ّلتي ال حيتاج
واحلاصل هو أنّه وف ًقا لرؤيتنا ّ
احلسـ ّية؛ حتّى لو
التصديق هبا ،وفهمها ،وإدراكها ،والقبول هبا ،وتربيرها إىل التجربة ّ
احلسـ ّية.
احلواس والتجارب ّ
ّ كانت مفاهيمها مبن ّية عىل
( )1راجع :حممدحسني زاده( ،معرفت برشي؛ زيرساختها) [أسس املعرفة البرشية] ،الفصل الثالث؛ املؤلف نفسه،
"معرفتشناسی" [نظر ّية املعرفة] ،الفصل السابع ،والثامن ،والتاسع.
301 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الـمختلفة من قبيل انتزاع الـمفاهيم الك ّل ّية وإدراكها ،والتعريف أو التحليل ،واحلكم،
وصناعة القض ّية ،واالستدالل .التعريفات والتحليالت ا ّلتي تذكر للمفاهيم أو
االستدالالت ا ّلتي تقام إلثبات بعض القضايا وغريها ،هي جـمي ًعا معارف ينالـها
اإلنسان بوساطة مصدر أو آلة العقل.
توصلنا إىل أ ّن التصديق العلمي واحلكم فـي مجيع القضايا حتّى القضايا ٰ
وكذلك ّ
احلسـ ّية الشخص ّية أو املحسوسات هو من وظائف العقل ،و ٰذلك خال ًفا لـام خيطر يف
ّ
بأن العقل ُم ٌ
درك للك ّليات ال يتناّف مع ٰهذه الذهن بادئ ذي بدء .والقول املشهور ّ
أن املفاهيم الك ّل ّية (املعقوالت)ُ ،تدرك عن
ألهنا ناظر ٌة إىل املفاهيم ،بمعنى ّ
الرؤية؛ ّ
طريق العقل فقطٰ .لك ّن ٰهذا القول ال يشمل القضايا .احلكم يف مجيع القضايا يف عهدة
العقل سواء الشخص ّية أم غريها.
احلواس يف احلكم
ّ ومن الواضح ّ
أن النتيجة املذكورة ال تستلزم نفي مساعدة
احلسـ ّية الشاملة للمحسوسات أو التجريب ّيات.
والتصديق يف القضايا ّ
نوع من ٍ
ثم ذكرنا آخر وظيفة للعقل وهي االستدالل أو االستنتاج .واالستدالل ٌ
الوالدة الفكر ّية أو اإلنتاج الذهني حيصل عن طريق ترتيب عدّ ة قضايا معلومة
وهذا النشاط أو الوظيفة العقل ّية له أشدّ التأثري
ومرتابطة ،وهو بدوره له أنواع كثريةٰ .
يف دائرة املعرفة اإلنسان ّية وتنميتها.
وكذلك الدور ا ّلذي تلعبه ٰهذه القضايا
ثم ن ّبهنا عىل دور العقل يف القضايا القبل ّيةٰ ،
يف املعارف اإلنسان ّية ،وب ّينا حقيقتها.
فإن القبل ّية قض ّي ٌة يبتني إدراكها وتصديقها واعتبارها
وبحسب رؤية ٰهذا الكتاب ّ
عىل العقل فقط وال ُحيتاج من ٰهذه اجلهة إىل أي مصدر أو آلة أخرى.
أنويف تقويم التعريف املختار حول القضايا القبل ّية وصلنا إىل نتيجة مفادها ّ
وبنية سلب ّي ٍة فقط ،بل يشتمل عىل هو ّي ٍة إجياب ّي ٍةٍ التعريف املطروح ال يشتمل عىل هو ّي ٍة
درك تلك القضايا قوة العقل اإلدراك ّية ا ّلتي ُت ِ مضا ًفا إىل السلب؛ ألنّه ّ
تم التأكيد فيه عىل ّ
احلسـ ّية.
احلواس أو التجارب ّ
ّ وتصدّ قها ،وتؤ ّكد ّ
صحة مفادها من دون حاجة إىل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 304نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
الـمـصـادر
.1ابن سينا ،اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح اإلشارات والتنبيهات،
حتقيق حسن حسن زاده اآلميل ،بوستان كتاب ،قم 1383 ،هـ.ش.
.2ابن سينا ،اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس ،رشح اإلشارات والتنبيهات،
الطبعة الثانية ،دفرت نرش كتاب ،طهران 1403 ،هـ.ق.
.3ابن سينا ،الشفاء ،الطبيعيات .6 ،النفس ،حتقيق سعيد زايد وجود قنوايت ،مكتبة آية اهلل
املرعيش النجفي 1404 ،هـ.ق.
.4ابن سينا ،الشفاء ،املنطق .2،املقوالت ،حتقيق ابراهيم مدكور ،مكتبة آية اهلل املرعيش النجفي،
قم 1404هـ.ق.
.5ابن سينا ،الشفاء ،املنطق .3،العبارة ،حتقيق حممود خرضي ،مكتبة آية اهلل املرعيش النجفي،
قم 1404هـ.ق.
.6ابن سينا ،النجاة ،تصحيح حممد تقي دانش ،منشورات جامعة طهران ،طهران1364 ،
هـ.ش.
.7ابن سينا النفس من كتاب الشفاء ،حتقيق حسن حسن زاده اآلميل ،مركز النرش التابع ملكتب
اإلعالم اإلسالمي ،قم 1375 ،هـ.ق.
.8ابن سينا ،كتاب احلدود ،يف :رسائل ابن سينا ،بيدار ،قم 1400 ،هـ.ق.
.9اآلشتياين ،سيد جالل الدين ،رشح مقدمه قيرصى بر فصوص احلكم (رشح مقدمة القيرصي
عىل فصوص احلكم) ،الطبعة الثالثة ،أمري كبري ،طهران 1370 ،هـ.ش.
.10آل ياسني ،جعفر ،الفارايب يف حدود ورسومه ،عامل الكتب ،بريوت 1405 ،هـ.ق.
.11بالنتينجا ،ألفني وآخرون( ،مفاهيم بنيادين در معرفت شنايس) [مفاهيم أساسة يف نظرية
املعرفة[ ،ترمجة حممد حسني زاده ،زالل كوثر ،قم 1382 ،هـ.ش.
.12التحصيل ،تصحيح مرتضيى املطهري ،منشورات جامعة طهران ،طهران 1349هـ.ق.
.13التهانوي ،حممد عيل ،موسوعة كشاف اصطالحات الفنون والعلوم ،حتقيق عيل دحروج،
مكتبة لبنان نارشون ،بريوت1996 ،م.
.14جيلسون ،إتيان( ،عقل ووحي در قرون وسطا) ]العقل والوحي يف القرون الوسطى[ ،ترمجة
شهرام بازوكي ،وزارة الثقافة والتعليم العايل ،طهران 1371 ،هـ.ش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 306نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
.15حسني زاده ،حممد( ،مدخل يف نظرية املعرفة وأسس املعرفة الدينية) ،الطبعة الثانية ،مؤسسة
اإلمام اخلميني للتعليم والبحث ،قم 1385 ،هـ.ش.
.16حسني زاده ،حممد ،فصلية (معرفت فلسفى) العدد ،5خريف 1383هـ.ش.
.17حسني زاده ،حممد( ،فلسفة الدين) ،الطبعة الثالثة ،بوستان كتاب ،قم 1388 ،هـ.ش.
.18حسني زاده ،حممد( ،أسس املعرفة الدين ّية) ،الطبعة الرابعة ،مؤسسة اإلمام اخلميني للتعليم
والبحث ،قم 1381 ،هـ.ش.
.19حسني زاده ،حممد( ،املعرفة الدين ّية؛ العقالنية واملصادر) ،مؤسسة اإلمام اخلميني للتعليم
والبحث ،قم 1389 ،هـ.ش.
.20احليل ،احلسن بن يوسف ،اجلوهر النضيد يف رشح منطق التجريد ،الطبعة الثانية ،بيدار ،قم،
1381هـ.ش.
.21الرازي ،فخر الدين حممد ،املباحث املرشقية ،أسدي ،طهران1996 ،م.
.22الرازي ،قطب الدين حممد ،تعليقة عىل رشح اإلشارات والتنبيهات ،يف :نصري الدين الطويس،
رشح اإلشارات والتنبيهات ،الطبعة الثانية ،دفرت نرش كتاب ،طهران 1403 ،هـ.ق.
.23الزنوزي ،مال عبد اهلل ،ملعات إهلية ،تصحيح سيد جالل الدين اآلشتياين ،الطبعة الثانية،
مؤسسه مطالعات وحتقيقات فرهنكي ،طهران 1361 ،هـ.ق.
.24الساوي ،ابن سهالن ،البصائر النصريية ،املدرسة املرتضوية ،قم 1316 ،هـ.ق.
.25السبحاين جعفر ،كليات يف عليم الرجال ،الطبعة الثانية ،مركز مديرية حوزه علميه قم،
1366هـ.ق.
.26السبزواري ،مال هادي ،تعليقة عىل السفار ،يف :صدر الدين حممد الشريازي ،احلكمة املتعالية
يف االسفار العقلية االربعة ،دار احياء الرتاث العريب بريوت1981 ،م.
.27السبزواري ،مال هادي ،رشح املنظومة ،مصطفوي ،قم( ،د.ت).
.28السهروردي ،شهاب الدين ،األلواح العامدية ،يف :شهاب الدين السهروردي( ،ثالث رسائل
لشيخ اإلرشاق) ،تصحيح جمفقيل حبيبي ،طهران 1356 ،هـ.ش.
.29الشريازي ،صدر الدين حممد ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة ،مصطفوي ،قم،
(د .ت) ودار إحياء الرتاث العريب ،بريوت1981 ،م.
307 العقل من منظار نظريّة املعرفة | ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.30الشريازي ،صدر الدين حممد ،املبدأ واملعاد ،تصحيح سيد جالل الدين اآلشتياين ،طهران،
1354هـ.ش.
درة التاج ،تصحيح حممد مشكوة ،الطبعة الثالثة ،حكمت،
.31الشريازي ،صدر الدين حممدّ ،
طهران 1369 ،هـ.ش.
.32الشريازي ،قطب الدين حممود ،رشح حكمة اإلرشاق ،بيدار ،قم( ،د.ت).
.33الصدر ،السيد حممد باقر ،فلسفتنا الطبعة الثالثة ،دار الفكر ،بريوت1970 ،م.
اإلسالمي ،قم( ،د.ت).
ّ .34الصدوق كتاب التوحيد ،مؤسسة النرش
.35الطباطبائي ،السيد حممد حسني( ،اصول الفلسفة) ،يف :مرتىض املطهري( ،اصور الفلسفة
واملنهج الواقعي) ،دار بالعلم ،قم( ،د.ت).
.36الطباطبائي ،السيد حممد حسني ،امليزان يف تفسري القرآن ،مجاعة املدرسني يف احلوزة العلمية،
قم( ،د.ت).
.37الطباطبائي ،السيد حممد حسني ،هناية احلكمة ،تصحيح غال مرضا فيايض ،مؤسسة االمام
اخلميني للتعليم والبحث ،قم 1386 ،هـ.ش.
.38الطويس ،نصري الدين ،اساس االقتباس ،تصحيح حممد تقي مدرس رضوي ،الطبعة الثانية،
منشورات امعة طهران ،طهران 1355 ،هـ.ش.
.39الطويس ،نصري الدين ،رشح االشارات والتنبيهات ،الطبعة الثانية ،دفرت نرش كتاب ،طهران
1403هـ.ق.
.40الطويس ،نصري الدين ،رشح االشارات والتنبيهات ،حتقيق حسن حسن زاده اآلميل ،بوستان
كتاب ،قم 1383 ،هـ.ش.
.41الطويس ،نصري الدين ،منطق التجريد ،يف :احلسن بن يوسف احليل ،اجلوهر النضيد يف رشح
منطق التجريد ،الطبعة الثانية ،بيدار ،قم 1380 ،هـ.ش.
.42الطويس ،نصري الدين ،نقد املحصل ،باهتامم عبد اهلل نوراين ،منشورات جامعة طهران،
طهران 1359 ،هـ.ش.
.43عبوديت ،عبد الرسول ،النظام الفليس للحكمة املتعالية [ترمجة كتاب در آمدى به نظام
حكمت صدرائي ،سمت ومؤسسة االمام اخلميني للتعليم والبحث ،طهران وقم1385 ،
هـ.ش[ ،تعريب السيد عيل عباس املوسوي ،مراجعة د.خنجر محية ،مركز لتنمية الفكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 308نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
(**)
دٌيدٌاللهٌيزدانٌبنا ٌه
السي ٌ
املشاؤون عملي ًة إلدراك املفهوم الكيل ُيطلق عليها (نظر ّية التقشري).
( )1يطرح ّ
يتم تعريف املفاهيم الوجود ّية بام يشبه اجلنس.
خيتص العموم اجلنيس أحيانًا ،باملفاهيم املاهو ّية؛ ولذلك ّ
(ّ )2
313 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعم املفاهيم (مثل الوجود واليشء و )...أعرف وطب ًقا هلذه القاعدة تكون ّ
املفاهيم ،والعقل ُي ِ
دركها قبل إدراكه ومعرفته لسائر املفاهيم األخرى.
ٍ
ومن جهة أخرى ،فليس هناك مفهو ٌم أكثر كل ّي ًة من ّ
أعم املفاهيم كي يرجع إليه
أعم املفاهيم أهنا بدهيية .وعليه فيكفينا إلثباتخاصية ّ
العقل يف معرفتها؛ ولذا فمن ّ
ٍ
وحينئذ لن يكون ذلك ألعم املفاهيم أن ذلك املفهوم مصداقبداهة مفهوم ما أن ُنثبت ّ
ّ
بحاجة إىل تعريف .ومن هنا فقد عد الشيخ الرئيس األمور العا ّمة داخل ًة ضمنٍ املفهوم
أبده البدهييات.
ويوجد للشيخ الرئيس تـ ٌ
حليل مشاب ٌه لـهذا ،ذكره فـي الـمقارنة بني الـمفاهيم
حس ،بينمـا البسائط أعرفالـمركّبة والبسيطة ،حيث يقول إن الـمركّبات أعرف عند الـ ّ
عند العقل .فك ّلام كان اليشء أبسط كان أعرف وأوضح عند العقل؛ ولذا ّ
فإن الـمفاهيم
البسيطة تكون بدهي ّية عند العقل.
وأصل هذا البحث طرحه أرسطو يف بداية بحث (السامع الطبيعي)( ،)1وقد طرحه
أيضا ،وقد
ابن سينا يف الشفاء -تب ًعا ألرسطو -يف بداية أبحاث (السامع الطبيعي) ً
رصح بتبع ّيته يف ذلك ألرسطو يف برهان الشفاء()2؛ وهلذا يقول ابن سينا يف بداية إهل ّيات
ّ
الشفاء أن مفاهيم مثل :املوجود ،واليشء ،والرضورة (رضورة الوجود ورضورة
العدم) ،واإلمكان ترتسم يف النفس ارتسا ًما ّأول ًيا ،أي ّإهنا بدهيية ،وهذا نص كالمه:
متصور ًة ألنفسها( ،)3األشياء العا ّمة لألمور ك ّلها ،كاملوجود
ّ "أوىل األشياء بأن تكون
واليشء والواحد وغريه؛ هلذا ليس يمكن أن يبني يشء منها ٍ
ببيان ال دور فيه الب ّتة ،أو ُ
( )1انظر :أرسطو ،السامع الطبيعي ،ترمجه إىل الفارسيّة حممد حسن لطفي ،الصفحتني.16-15 :
( )2انظر :ابن سينا ،الشفاء (الطبيعيات) ،السامع الطبيعي ،الصفحات ،10 - 8والصفحة 12؛ الشفاء (املنطق)،
الربهان ،الصفحات.109 - 107 :
أيضا إىل كلامت ابن سينا؛ انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،األسفار،
وكالم املال صدرا يف هذا املجال ناظر ً
اجلزء ،5الصفحات .266 - 264مالحظةُ :نشري يف هذا الكتاب إىل كتاب (احلكمة املتعالية يف األسفار العقلية
األربعة) باسمه املشهور واملخترص (األسفار).
تصورات أخرى.
تصوره إىل ّ
( )3أيّ :بني بنفسه وبدهيي ّأو ّيل ،وال حيتاج يف ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 314نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ببيان ٍ
يشء أعرف منها"(.)1 ِ
وأولي ًة هو كوهنا
واملالك يف كون األمور العا ّمة أوىل من غريها بأن تكون بدهي ّي ًة ّ
أعرف عند العقل؛ وهلذا ّ
فإن األمور العا ّمة ال تقبل التعريف احلقيقي ،وإذا ما ُع ّرفت
فال حميص لتعريفها من الوقوع يف الدور(.)2
واحلاصل أن ِمعيار بداهة املفاهيم التي هلا األولوية بالبداهة مثل مفهوم (املوجود)
هو عموم ّيتها وبساطتها.
وبمالحظة أبحاث التعريف يف علم املنطق يمكن القول بأ ّنه ال بدّ يف التعريف
أيضا -أي الفصل -وأ ّما األمر البسيط فال
خاص ً
ٍّ احلقيقي من عا ٍّم -أي اجلنس -ومن
خمتص باملركّبات ،فاألمر غري املركّب من
احلدي ٌّ
ّ حدي حقيقي له؛ ّ
ألن التعريف ّ تعريف
حقيقي
ّ حدي
ّ احلدي .كذلك ّ
فإن أعم املفاهيم ال تعريف ّ جنس وفصل ال يقبل التعريف
نتممه
األعم ،ثم ّ
ّ له؛ أل ّنه ال جنس له حتى يؤتى به يف تعريفه ،ففي التعريف نبدأ من األمر
اخلاص إليه.
ّ بإضافة األمر
خاصة ليحصل منها أعم املفاهيم ال يمكن مجعها مع ٍ
أمور ّ ومن جهة أخرى ّ
فإن ّ
أعم مع ٍ
أمر أعم املفاهيم لو كانت ناّت ًة عن تركيب ٍ
أمر ّ مركّب يقبل التعريف؛ ّ
ألن ّ
أمر أعم منها قد اجتمع ٍ
أعم املفاهيم ،وسوف يكون هناك ٌ
فإهنا حينئذ لن تكون ّ خاصّ ،
ٍّ
خاص ،وقد تشكّلت هي [عىل الفرض] من جمموع ذلك .مضا ًفا إىل ّ
أن اجلزء ٍّ مع ٍ
أمر
أعم املفاهيم
ألن حقيقة ّخاصا؛ ّ
أمرا ًأساسا أن يكون ً
ً ألعم املفاهيم ال يمكن
ّ الذايت
أعم الـمفاهيم بسيط بالرضورة .فالبساطة فإن ّخاص .والنتيجة ّ ّ كونـه أعـ ّم من كـ ّل
واألعم ّيـة سـبب ألعرف ّيـة هذه األمـور عند العقـل ،واألعرف ّية عند العقـل هي الـ ِمالك
األصيل لبداهة هذه الـمفاهيم.
التصورية هو
ّ أن املِالك األصيل للبداهة
ومن اجلدير االلتفات إىل هذه النقطة وهي ّ
بأن األعم ّية أو البساطة مها ِمعيار البداهة ،فليس
األعرف ّية عند العقل ،وإذا قيل أحيانًا ّ
املقصود أن البساطة نفسها أو األعم ّية مها سبب البداهة يف احلقيقة ،بل حقيقة األمر ّ
أن
األعم ّية والبساطة مها من خصوص ّيات األعرف ّية عند العقل.
نابع من ذاته
وضوحا من سائر املفاهيم ،وهذا الوضوح ٌ ً فالبدهيي هو األمر األكثر
مر آن ًفا أ ّن ابن سينا قد استعمل عبارة
هو ومل يكتسبه من وضوح املفاهيم األخرى .وكام ّ
فالتصور الذي حيتاج يف وضوحه
ّ (متصورة ألنفسها) يف املفاهيم البدهي ّية ،وعىل هذا
إىل مفاهيم أخرى لن يكون بدهي ًيا بل كسب ًيا(.)1
فإن املفهوم ك ّلام كان أكثر كل ّي ًة فإنه يكون أعرف عند العقل.
وبنا ًء عىل ما ذكرناه ّ
والعقل يف معرفته لذات احلقائق يبدأ حركته من أكثر األمور كل ّي ًة ً
سائرا باّتاه األمور
األكثر جزئ ّي ًة.
وعىل سبيل املثالّ ،
فإن العقل جيد احليوان يف ذات اإلنسان ،وجيد اجلسم يف ذات
تصور
درك] احليوان قبل ّ يتصور [و ُي ِ
ّ احليوان ،وجيد اجلوهر يف ذات اجلسم .فالعقل
ويتصور اجلوهر قبل اجلسم.
ّ تصور احليوان،
ويتصور اجلسم قبل ّ
ّ اإلنسان [وإدراكه]،
تصور اإلنسان ال بدّ من املرور عرب
ويف مقام التحليل والتفصيل ُيقال بأ ّنه عند ّ
تصور احليوان واجلسم واجلوهر إىل أن نصل إىل مفهوم ال مراحل سابقة؛ إذ ال بدّ من ّ
تصو ُر مفهو ٍم أكثر كل ّي ًة منه.
تصوره ّ
يسبق ّ
ُ
وعىل هذا ّ
فإن مفهوم اإلنسان ومفهوم احليوان ليسا ب ّينني يف أنفسهام؛ ألهنام ليسا
دائام من أعم األمور؛ ولذا ّ
فكل أعرف عند العقل .فالعقل يف معرفة احلقائق يبدأ ً
دائام تكون
فالتصورات األوىل ً
ّ أعم منه فإ ّنه يكون كسب ًيا،
مفهوم يكون هناك ما هو ّ
واخلاص يصل إىل معرفة الذوات .ومغزى الكالم هوّ عا ّمة ،وبرتكيب العقل بني العا ّم
تصو ًرا كسب ًيا ،وال بدّ يف معرفة
تصور مجيع األمور املركّبة من اجلنس والفصل يكون ّ
أن ّ ّ
األولية ّ
بأن نفس القضية البدهييّة األ ّولية تكفي للتصديق هبا ،وال أيضا يف التصديقات ّ ( )1كمـا ال بدّ من قول ذلك ً
يتو ّقف التصديق هبذا النوع من القضايا عىل التصديق بقضايا أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 316نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
املحسوسات واملشاهدات .وعليه فال يمكن لشيخ اإلرشاق عدّ هذه األمور من
األولية.
البدهي ّيات ّ
مرص ًحا إ ّن األعراض
أيضا ،ويقول ّ كام يعتقد ّ
أن البسائط اخلارجية بسيطة يف الذهن ً
أيضا ،وهلذا فإ ّنه ال يصح القول ّ
بأن البسيطة اخلارجية -كالسواد -بسيطة يف الذهن ً
كونان بمجموعهام ٍ ٍ ٍ
السواد يف الذهن عبارة عن لون مع ضميمة خصوصية مع ّينة ُي ّ
السواد ،وعىل هذا فالبسائط اخلارجية أمور بدهي ّية ،واملفاهيم الكسب ّية هي مفاهيم
احلس
أن معيار البداهة عند شيخ اإلرشاق هو ّ األمور املرك ّبة من البسائط( .)1والنتيجة ّ
والشهود(.)2
ً
مستقال معيارا
ً ( )1البسائط عند شيخ اإلرشاق هي مصاديق املحسوسات واملشاهدات؛ وهلذا فليست هي -عنده -
للبداهة ،وإنام يعتقد أن املحسوسات واملشاهدات هي البدهيية.
( )2ومن الواضح أن املشائني يقبلون بداهة املحسوسات واملشاهدات ،وكام أرشنا ساب ًقا فإن ابن سينا يرى أن
احلس.
املحسوسات أعرف عند ّ
( )3وقبل اخلواجة الطويس كان فخر الدين الرازي قد ذكر هذا األمر يف كتاب املحصل .انظر :نصري الدين حممد
الطويس ،تلخيص املحصل ،الصفحتني.10 - 9 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 318نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ويمكن القول :إ ّنه يف مقام اإلمجال يمكن أن يكون مفهوم البياض مفهو ًما بسي ًطا،
حيس،
وبدهيي ّ
ٌّ حمسوس
ٌ ولكن األمر ليس كذلك عند التفصيل ،وبنا ًء عىل هذا فالبياض
ّ
ولكن يف مقام التحليل والتفصيل العقيل فإ ّنه يمكن العثور عىل جنسه وفصله ،ومن
تصوري أو ّيل (أي باإلمجال)، هيي ٍ ٍ فإن ّ
ث ّم تعريفه .وبشكل عا ّم ّ
ّ كل يشء مشهود هو بد ّ
ولكنه يف مقام التفصيل العقيل قد ال يكون بدهي ًيا ،وبالتايل يمكن تعريفه.
التصورية إىل عقلية حمضة وحس ّية ( ُمدركة
ّ و ُيشري اخلواجة بعد تقسيمه البدهييات
حس الباطن) إلـى الفوارق الـموجودة بني هذين القسمني وإلـى
باحلس الظـاهـر والـ ّ
ّ
سـبب وجـود نوعني من البدهييات ،فهو يعتقد ّ
أن الفرق بني هذين القسمني -أي
والبدهيي املحسوس -ال يكمن يف ك ّلية أحدمها وجزئية اآلخر؛
ّ العقيل املحض
ّ البدهيي
ّ
العقيل البدهيي التصور الكيل ،فريى أن ِ إذ ّ
إن كالمه يف كال القسمني يدور حول املفهوم ّ
ّ ّ ّ
احلس ،حتّى ولو كانت بعض احلقائق -مثلّ أساسا من طريق
ً املحض ال حيصل
الوجودُ -م ِ
قارنة للمحسوسات؛ ولذا فعندما يالحظ البياض يف اخلارج فإن وجوده
باحلس
ّ أيضا يكون متح ّق ًقا يف اخلارج ،ولكنّه باعتبار أن هذه احلقائق ال يمكن إدراكها
ً
بنحو جزئي ،وإ ّنام العقل فقط هو الذي يستطيع إدراكها؛ فيقوم العقل بتجريدها من ٍ
الـمحسوسات ويصل من خالل ذلك إلـى املفاهيم الكل ّية؛ ولذا تكون هذه املفاهيم
درك مفاهيمها اجلزئية فـي الـخارج.عقلي ًة حمض ًة وال عالقة هلا باحلواس ،واحلس ال ُي ِ
فإهنا مرتبطة
احلس الظاهر ّ -
دركها ّ وأما القسم الثاين -أي املحسوسات التي ُي ِ
احلس يصل العقل
احلس ،وعن طريق ّ
ويتم إدراك مفاهيمها اجلزئية بوساطة ّ باحلسّ ،
ّ
إىل مفاهيمها الك ّل ّية.
إن مفاهيم مثل ويواجه الـمح ّقق الطويس هنا مشكل ًة يـحاول ح ّلها؛ فمن جهة ّ
البياض والـجوع -التي تـحصل من طريق احلس الظاهر أو الباطن -لكي تصبح كلـ ّيـ ًة
فإن اخلواجة جهة أخرى ّ تـحتاج إىل طي مسري شبيه بمسري االكتساب النظري ،ومن ٍ
ّ
التصورية ّ الطويس يعدّ ها مفاهيم بدهيي ًة .فهل ينسجم هذا النوع من الكسب مع البداهة
هلذه املعقوالت؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 320نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
فاملح ّقق الطويس ُيدرك أ ّنه للوصول إىل املفاهيم الك ّل ّية للبياض أو اجلوع ال بدّ
طي مسري يشبهاحلس ،وال بدّ من ّ متكر ٍر عن طريق ّ ٍ
بنحو ّ من إدراك مفاهيمها اجلزئية
االستقراء كي يتم اكتساب مفاهيمها الك ّل ّية ،ومن الطبيعي أ ّنه ال بدّ خالل هذا املسري
من القيام بنو ٍع من االكتساب شبيه باالستقراء ،فكيف ينسجم هذا األمر مع عدِّ هذه
املفاهيم الك ّلية املأخوذة من املحسوسات مفاهيم بدهيي ًة؟
التصورات الك ّل ّية مع أنه حيصل يف البداية
ّ وجييب اخلواجة عن ذلك ّ
بأن حتصيل هذه
الكيل للبياض أو اجلوع
ّ عرب نو ٍع من االكتساب شبيه باالستقراء ،لكنه بعد ّ
تقرر املفهوم
أن هلذه األمور تصو ٍ
رات واضح ًة عنده ،وأ ّنه ال حيتاج يف فإن العقل جيد ّ
يف العقلّ ،
ّ
بنحو واضح ،وإن كان احلسية ٍ ٍ
تصورات أخرى؛ أل ّنه قد أدركها يف املرحلة ّ
تصورها إىل ّ
ّ
احلسية،
جذور يف وضوح املفهوم يف املرحلة ّ ٌ الكيل له
ّ ذلك بنحو جزئي ،فوضوح املفهوم
الكيل ،وبعد انتهائه من املرحلة االكتسابية
ّ طي مسري اكتساب هذا املفهوم
فالعقل بعد ّ
التي تشبه االستقراء ،واستقرار هذه الصورة الك ّلية يف العقل ،فإ ّنه عندما ينظر إىل هذه
تصو ٍر آخر؛ ّ ٍ ٍ
ألن هذه املفاهيم أصبحت الصورة الك ّلية يراها ليست بحاجة إىل صورة أو ّ
طي مراحل صريورهتا ك ّلية.
واضح ًة عنده من طريق احلس بعد ّ
سمي هذه املجموعة من املفاهيم البدهيية باملفاهيم
وهذا هو السبب الذي جيعلنا ُن ّ
احلس الباطن ،مع ّ
أن هذه املفاهيم البدهيية مفاهيم كل ّية. باحلس الظاهر أو ّ
ّ املحسوسة
القسمني( )2هو( )3أننا نريد باملعقول
َ "والفرق بني القسم األول(َ )1
وهذين
الصـور الك ّلية التي ال طريق للحواس إىل إدراك جزئ ّياهتا ،ورغم أن جزئ ّياهتا ِ
مقارنة
جمرد ًة
قوة متييزه -أن يالحظها وحدها ّ للمحسوسات إال ّ
أن من شأن العقل -بوساطة ّ
()4
عن املحسوسات ،فتصبح ك ّلي ًة بتجريدها عن الـمحسوسات .ونريد بالـمحسوس
( )1أي :املعقول املحض مثل الوجود والوجوب.
( )2أي :املحسوس باحلواس الظاهرة واملُدرك باحلواس الباطنة.
( )3حيدّ ث اخلواجة عن املحسوسات الظاهرية والباطنية فقط ،ولكن البحث عام وال بد من تعميمه جلميع أنواع
املشهودات.
( )4أي :املحسوس باحلس الظاهر.
321 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والـ ُمدرك( )1الصور الكلية التي ينتزعها العقل من الـجزئيات ،فتكون جزئ ّياهتا ُمدرك ًة
التصورات يف مبادئ الفطرة
ّ للحواس الظاهرة أو الباطنة ،ورغم أن اقتناص( )2هذه
تقرر يرجع إلـى نوع من االكتساب شبيه باالستقراء كمـا ذكرنا ذلك ،إال ّ
أن العقل بعد ّ
الصور( )3عنده ال يبقى له التفات إلـى وجه اكتساهبا؛ ولـهذا السبب كانت ب ّين ًة ّ
وأولية ّ
التصور"(.)4
ّ
خاص ٍة؛ فهو يكشف خلفية ومنعطفات آراء اخلواجة يف ٍ
حيظى هذا النص بأمه ّية ّ
أيضا -مثل الوجود والوجوب واإلمكان- هذا البحث .ونحن نعتقد ّ
أن املفاهيم الفلسفية ً
أيضا ُيلحق باملحسوساتيتم إدراكها من خالل الشهود العقيل ،واملشهود العقيل ً ّ
فرق بني البدهيي العقيل املحض واملحسوسات ،يف حني واملشاهدات()5؛ ولذا فلن يبقى ٌ
أن اخلواجة قد ّفرق بني هذ ِ
ين النوعني ،وخلط بني مقامي اإلمجال والتفصيل .واملشكلة
درك العقل املفاهيم الكلية للمحسوس -مثل البياض واجلوع- أ ّنه يف مقام اإلمجال ُي ِ
بنحو ٍبدهيي ،بينام يف مقام التفصيل حيتاج تصور هذه املفاهيم عند العقل إىل تصو ٍ
رات ّ ُّ
التصورات كسبي ًة ونظري ًة وليست بدهيية.
ّ أخرى؛ وهلذا تكون هذه
واحلاصل هو أنّه يبدو ّ
أن اخلواجة الطويس قد مجع بني آراء ّ
املشائني وشيخ
التصورية.
ّ اإلرشاق يف مسألة البدهييات
اخلاصة يف احلكمة املتعالية؛ وهلذا فإ ّننا سوف ندرس آراء املال صدرا بعناية أكثر.
ّ ملبانيه
لقد تـحدّ ث السهروردي فـي ثالثة مواضع من حكمة اإلرشاق عن البديـهيات
التصورية( ،)1وقال يف املوضع الثالث" :الـمحسوسات بسائطها ال ُتعرف ً
أصال ،فإن ّ
ٍ
معلومات ال حـاجـة فـيها إلـى التعـريـف ،وإال تسـلسـل التعريفات ال بدّ أن تنتهي إلـى
إلـى غري النهـايـة .وإذا انتهى ،وليـس أظهـر من املحسوسات حتى ينتهى إليه ،إذ مجيع
علومنا منتزعة من املحسوسات ،فهي الفطرية( )2التي ال تعريف هلا ً
أصال"(.)3
أمور بدهيية.
فإن املحسوسات البسيطة -وفق رأي شيخ اإلرشاقٌ - وبنا ًء عىل هذا ّ
مهم ٍة للغاية ،وقد تساءل عن املراد ٍ
وقد ع ّلق املال صدرا عىل هذا الكالم بتعليقات ّ
باملحسوسات التي عدّ ها شيخ اإلرشاق بدهيي ًة ،فإذا كان املراد هو املحسوس من حيث
هو حمسوس ،وأنّه من اهلو ّيات الوجود ّية ،فال ريب يف بداهته؛ ّ
ألن اهلو ّيات الوجود ّية
أن مفاهيمها مستغن ّي ٌة عن التعريف ،فلون
أساسا ال تقبل التعريف ،لك ّن هذا ال يعني ّ
ً
البياض -بلحاظ أنه هو ّية وجودية وإلدراكها ال بدّ من حت ّقق ارتباط وجودي مع
اخلارج -ال يقبل التعريف.
فاألساس الذي بنى عليه املال صدرا أبحاثه يف الوجود هو ّ
أن احلقيقة اخلارجية
للوجود ليس هلا جنس وال فصل؛ وهلذا فهي ال تقبل التعريف.
حكم آخر ،يقول املال صدرا(" :قوله :الـمحسوسات بسائطها ٌ وأما املفاهيم فلها
يعرف)؛ ّ
ألن التعريف للمفهومات النوع ّية( )4ال للهو ّيات الوجود ّية ،واملحسوس بام ال ّ
احلاس ،والوجود ال يمكن تعريفه .فبهذا الوجه
ّ هو حمسوس عبارة عن وجوده للجوهر
( )1انظر :جمموعة مصنّفات شيخ اإلرشاق ،اجلزء ( 2حكمة اإلرشاق) ،الصفحة 18وما بعدها( ،الضابط السابع)؛
أن ّ
املشائني أوجبوا أن ال يعرف يشء من األشياء)؛ والصفحة.104 : والصفحتني( ،74 - 73 :حكومة أخرى يف بيان ّ
وللمال صدرا يف هذه املواضع تعليقات مفيدة .انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،تعليقة عىل حكمة اإلرشاق ،يف:
قطب الدين الشريازي ،رشح حكمة اإلرشاق (الطبعة احلجرية) ،الصفحة ،60 :والصفحة ،204 :والصفحة.278 :
( )2أي :بدهيية.
( )3جمموعة مصنّفات شيخ اإلرشاق ،اجلزء ( 2حكمة اإلرشاق) ،الصفحة.104 :
خمتصة (فصل).
( )4هذا التعبري لبيان أن هذه املفاهيم مركّبة من أمور مشرتكة (جنس) وأمور ّ
323 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مبادئ للربهان ،وال أجزاء للحدّ .وإن أراد به معانيها االنتزاعية( ،)4فهي وإن كانت
معروفة عند العقل ،لك ّن أجزاءها العقل ّية أعرف منها( )5وليس هي بام هي عند العقل
األوليات مثل الكل أعظم من اجلزء وكمفهوم الشيئ ّية
حمسوسة ،بل معقولة ،وكذلك ّ
حس أو ّتربة أو إخبار أو شهادة.
واملوجودية مما ال حيتاج إىل يشء آخر غري العقل من ّ
أن معنى كون املحسوسات مبادئ والشيخ قد أشار يف فن الربهان من بعض كتبه( )6إىل ّ
للربهان ليس ّأهنا بام هي حمسوسات يقع يف الربهان بل إنام ذلك شأن مفهوماهتا(.)7
( )1أي :املعاين الكلية العقلية كذات البياض.
( )2صدر الدين حممد الشريازي ،تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق ،يف :قطب الدين الشريازي ،رشح حكمة
اإلرشاق ،الصفحة.278 :
مر ساب ًقا أن ابن سينا ً
أيضا يرى ذلك ،وقد أوضح هذه النقطة ورشحها بنحو واف. (ّ )3
( )4أي :املعاين الكلية ،مثل املفهوم الكيل للبياض ،واملفهوم الكيل للربودة وأمثال ذلك.
( )5وعىل هذا فاملفهوم الكيل مثل البياض وإن كان معرو ًفا عند العقل؛ لكنه ليس بدهي ًيا عقل ًيا ،وأجزاؤه العقلية أعرف منه.
( )6أي برهان الشفاء .انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق)« ،الربهان» ،الفصل اخلامس من املقالة الثالثة (يف ذكر كيفية
باحلس يف املعقوالت).
ّ انتفاع النفس
حمسوسا ال يقع يف مقدّ مات الربهان ،بل هذا شأن املفاهيم الكلية =
ً ( )7يقول ابن سينا إن املحسوس من حيث كونه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 324نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
وقوله( :إذ مجيع علومنا منتزعة من املحسوسات فهي الفطرية التي ال تعريف هلا) فيه
أن املحسوس اخلارجي مغالطة؛ فإن كون العلوم منتزعة من املحسوسات ،إن أريد به ّ
يصري مبدأ الربهان واحلدّ ،فليس كذلك؛ إذ اجلزئي غري كاسب وال مكتسب( ،)1وإن
احلس لتحصل
أن علومنا موقوفة عىل حتريك النفس للبدن واستعامهلا آلالت ّأريد به ّ
املعرف؛ ّ
ألن احلاصل يف يف العقل صورة معقوالهتا الكل ّية ،فال يلزم منه استغناؤها عن ّ
وخمتصة
ّ أن حي ّللها إىل أجزاء مشرتكة
العقل من املحسوسات ّأو ًال صورة جمملة ،فللعقل ّ
عند املقايسة بني الكل ّيات بحسب املشاركات واملباينات فيعرف أجزاءها ً
أوال ،ثم
يعرفها بتلك األجزاء ثان ًيا .وهذا عني التف ّكر وحتصيل القول الشارح"(.)2
ٍ
شديدة األمه ّية ،فهو يقول -يف ويشري املال صدرا يف آخر عبارته السابقة إىل ٍ
نقطة ُ
جمرد كون بعض علومنا تبدأ من احلس ال يغني يف مواجهة كالم شيخ اإلرشاقّ -
إن ّ
مرات
اعتبار بداهة املفاهيم احلس ّية؛ فالنفس بعد إدراكها للمفهوم اجلزئي للبياض عدّ ة ّ
تستعدّ إلدراك املفهوم ّ
الكيل واملعقول للبياض .فاملال صدرا -وبخالف املشائني -ال
الكيل تكون بنحو (التقشري) ،بل يرى ّ
أن النفس تستعدّ بعد ّ يرى أن عملية الوصول إىل
إدراك املفاهيم اجلزئية لالرحتال واالنتقال إىل العامل الذي يتح ّقق فيه الكيل .والنفس
درك ذات البياضدرك يف هذا املسري ذات البياض نفسه( ،)3ولكنّها -يف هذا احلالُ -ت ِ ُت ِ
طي بنحو اإلمجال .ولكي تصبح هذه الذات معلوم ًة للعقل ٍ
بنحو تفصي ّيل فإنه ال بدّ من ّ
ّب من أمور أخرى ،وتلك األمور مسري آخر؛ إذ العقل جيد ّ
أن ذات البياض نفسه مرك ٌ
هي يف الواقع أعرف عنده .وعليه ّ
فإن ذلك املفهوم الذي أدركه بنحو اإلمجال لن يكون
بدهي ًيا .فالعقل يرى يف تلك الذات الك ّل ّية التي أدركها بنحو اإلمجال ً
أمورا موجود ًة
ٍ
بصورة غري تفصيل ّية .وهذا يعني ّ
أن ذلك املفهوم ّ ّ
الكيل اإلمجا ّيل ليس بدهي ًيا بلحاظ
والتصورات السابقة عليه ،بل هو نظري .ولكي يصبح
ّ األجزاء املفهوم ّية واملفاهيم
معلو ًما فإ ّنه حيتاج إىل مفاهيم سابقة عليه .والسبب يف صريورة ذلك املفهوم معلو ًما
تفصييل اآلن هو إدراك العقل لتلك املفاهيم يف مرحلة سابقة( .)1ونظرية املفهوم ٍ
بنحو
ّ
وحاجته للتعريف ليست شي ًئا غري ذلك .وبنا ًء عىل هذا فاملفاهيم املنتزعة من املحسوسات
ليست مفاهيم بدهيية.
وخمتصاته
ّ إن قيام العقل بتحليل املفهوم والبحث عن مشرتكاته يقول املال صدرا ّ
فالتصور
ّ ومن ث ّم الوصول إىل تعريفه هو نفسه عني التفكري ،وهذا كالم يف غاية الد ّقة؛
والتصور النظري ما
ّ ٍ
واكتساب فكري، البدهيي هو الذي ال حيتاج يف معلوم ّيته إىل ٍ
فكر
واكتساب ،فعندما نقوم بتحليل مفهوم ما ً
مثال كالبياض ٍ حيتاج يف معلوم ّيته إىل ٍ
فكر
خمتصةُ ،يدركها العقل ّأو ًال ،وبوساطتها ُيدرك
ونجده مر ّك ًبا من أجزاء مشرتكة وأجزاء ّ
مفهوم البياض ،نكون -يف الواقع -قد قمنا بعملية التفكري والعثور عىل القول الشارح،
أي التعريف.
بنحو ج ّي ٍد رؤية
ٍ ّ
ويدل عىل أ ّنه قد استوعب رس املسألة،
يبني ّ
ورش ُح املال صدرا ّ
املشائني حول التعريف .وعىل هذا ،جيب -بحسب رؤية املال صدرا -التفريق بني مقامي
التصور يف مقام اإلمجال ،غري ّ
أن ّ بدهيي
ّ اإلمجال والتفصيل ،فقد يكون املفهوم ّ ّ
الكيل
تصوره يف مقام التفصيل حيتاج إىل ٍ
فكر ونظر. ّ
أيضا ،فنجده يف األسفار قد
وقد ذكر املال صدرا هذه النقطة يف مواضع أخرى ً
استعان بكالم شيخ اإلرشاق يف جوابه عىل اإلشكال املطروح عىل تعريف احلركة ،حيث
القوة إىل الفعل" ،وقد أشكلوا
عرفوا احلركة بأهنا "خروج تدرجيي -وليس دفع ًيا -من ّ
ّ
عىل هذا التعريف ّ
بأن تعريف مفاهيم مثل (التدريج والدفعة) حتتاج إىل معرفة احلركة
وترجع إليها؛ ّ
ألن األمر الدفعي هو الذي حيصل يف (اآلن) ،و(اآلن) هو طرف الزمان،
( )1ليس املقصود بالسبق التقدّ م الزماين ،بل التقدّ م الرتبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 326نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
والزمان هو مقدار احلركة ،وهبذا يرجع حتليل تعريف األمر الدفعي إىل احلركة ،واحلال
أن تعريف احلركة تعريف دوري، أن عدم الدفعة جز ٌء من تعريف احلركة ،وهذا يعني ّ
ّ
وأنه قد ُأخذ اليشء يف تعريف نفسه.
تصورات هذه األمور -أي
ويكتب املال صدرا حاذ ًيا حذو شيخ اإلرشاق" :إن ّ
حلس عليها( )1وإن كان معرفتها بحدودها
الدفعة والتدريج ونحوه -بدهيية بإعانة ا ّ
مقوماهتا الذات ّية من الزمان واآلن فذلك هو املحتاج إىل الربهان(.)3(")2
حموجة إىل ّ
أن بعض املفاهيم الكل ّية -مثل الدفعة والتدريجُ -تنتزع مهمة هنا هي ّ
والنقطة الـ ّ
احلس ،وهبذا اللحاظ تكون بدهيي ًة ،وهذه النقطة ناظر ٌة إىل مقام اإلمجال ،فمفهوم
من ّ
(الدفعة) ّ
الكيل أدركناه بعد مشاهدة موارده اجلزئية.
احلس ،ويف
الكيل ،لك ّن ذلك بمعونة ّ وبتعبري املال صدراّ :
إن العقل ُيدرك املفهوم ّ
الكيل مل يؤخذ من مفهوم ّ ّ
كيل آخر؛ هذا املقام -أي مقام اإلمجال ّ -
فإن هذا املفهوم ّ
التصور.
ّ بدهيي
ّ وهلذا يمكن القول بأ ّنه
وأ ّما يف مقام التفصيل -حيث نبحث عن األجزاء الذات ّية هلذه املفاهيم ،ونكون
فإن هذه املفاهيم ٍ
بحاجة إىل الفكر والنظر؛ وهلذا ّ بصدد معرفة تعريفاهتا احلد ّية -فإننا
( )1ال بد من االلتفات إىل أن هذا الرأي منقول عن شيخ اإلرشاق ،واملال صدرا ال يرى أن مثل هذه املفاهيم احلاصلة
احلس مفاهيم بدهيية واق ًعا من مجيع اجلهات .وبعبارة أخرى ،إذا كان املقصود بالبداهة هنا البداهة يف
بمعونة ّ
مقام اإلمجال ومع حلاظ املنشأ (وسوف يأيت توضيح هذه النقطة) فالكالم صحيح .وأما إذا كان املقصود البداهة
أيضا يف
تتمة كالمه ،وذكر ذلك ً رصح املال صدرا بذلك يف ّ عند العقل ويف مقام التفصيل فاألمر ليس كذلك؛ كام ّ
رشح اهلداية األثريية [انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،رشح اهلداية األثريية ،الصفحة .]104 :فالعقل ُيدرك
احلس ،وهبذا اللحاظ ،أي مع حلاظ منشأ إدراك املفاهيم ،تكون هذه املفاهيم بدهيية.
تلك املفاهيم بمعونة ّ
احلس
ّ وقال املال صدرا يف موضع آخر" :اعلم أن معنى كون احلركة والسكون حمسوسني أن العقل بإعانة
ُيدركهام" [صدر الدين حممد الشريازي ،األسفار ،اجلزء ،8الصفحة .]203 :و ّبني مراده هناك.
التصورات عىل نحو التعريف ،ويف التصديقات عىل ّ ( )2ذكروا يف قسم الربهان من املنطق ّ
أن الربهان عىل نحوين :يف
التصورات ،أي التعريف واحلدّ ،وإن كانت الد ّقة تقتيض
ّ نحو االستدالل .واملراد من الربهان هنا هو الربهان يف
تسمية كتاب الربهان بـ(كتاب احلدّ والربهان) [انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحة ،]53 :وال
ٍ
حينئذ من التعبري عن التعريف باحلدّ . بدّ
( )3صدر الدين حممد الشريازي ،األسفار ،اجلزء ،3الصفحة .22
327 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وال برسم إذ ال مظهر هلا لكوهنا أظهر األشياء وأنورها فال يمكن معرفتها إال برصيح
ٍ
معان املشاهدة( )4احلضورية( ،)5وأ ّما املحسوسات فلها مه ّيات ك ّلية مشتملة عىل
ٍ
بخواص أخص وترسيمها وذايت أعم ٍ
ّ ّ يت ّ وخمتصة ،فيمكن حتديدها بذا ّ
ّ مشرتكة
ٍ
بوجه عند العقل"(.)6 ٍ
وعوارض هي أعرف
(احلسيات) ،مثل السواد
ّ احلس الظاهر
( )1كام يطرح املال صدرا يف كتاب (مفاتيح الغيب) ثالثة أنواع للبدهيي :بدهيي ّ
احلس الباطن (الوجدانيات) ،مثل ّ
اللذة واألمل ،والبدهيي العقيل ،مثل الوجود والوحدة والكثرة، والبياض ،وبدهيي ّ
طراري ومن دون اختيار.
ّ ٍ
ألن هذه األمور حترض يف نفس اإلنسان وتصبح معلوم ًة له بنحو اضويعدّ ها مجي ًعا بدهيي ًة؛ ّ
وهذا هو مقام اإلمجال الذي حتدّ ثنا عنه .انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،مفاتيح الغيب ،الصفحة.300 :
( )2انظر :جمموعة مصنفات شيخ اإلرشاق ،اجلزء ( 2حكمة اإلرشاق) ،الصفحة.104 :
أن الوجود اخلارجي ال يأيت إىل الذهن مطل ًقا ،فهو ال يقبل التعريف. ( )3بلحاظ ّ
( )4يعتقد املال صدرا أنه ال يمكن مشاهدة حقيقة الوجود إال بالعلم احلضوري ،وأما بالعلم احلصويل فيمكن إدراك
وجهه فقط .انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،األسفار ،اجلزء ،1الصفحتني38 - 37 :؛ املشاعر ،الصفحة .24
( )5كذلك انظر :صدر الدين حممد الشريازي ،تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق ،يف :قطب الدين الشريازي ،رشح
حكمة اإلرشاق ،الصفحة .204
( )6املصدر السابق ،الصفحة .279
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 328نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ويقول شيخ اإلرشاق يف موضع آخر من كتاب (حكمة اإلرشاق) إنه ال بدّ لنا يف
دائام يف التعريف ،ويع ّلق
التعريف من الرجوع إىل األمور املحسوسة ،فنحن بحاجة هلا ً
املال صدرا عىل هذا الكالم ً
قائال(" :قوله :فليس العود إال إىل أمور حمسوسة) أقول:
ٌ
داخل يف القسم كل ما يكفي حلصول صورته يف العقل اإلحساس بجزئ ّياته فهو ّ
أن املحسوس املعرف ،وقد علمت ّ
الرضوري من العلوم فيام [ال] حيتاج معرفتها إىل ِّ
()1
ٍ
كاسب وال مكتسب .نعم اإلحساس بالصورة اجلزئية مما ُيعد [بـ] ما هو حمسوس غري
النفس ألن يفيض عليها من املبدأ صورة كلي ًة رضوري ًة"(.)2
ويتّضح من هذا الكالم للمال صدرا أ ّنه يذهب إىل رضورة وبداهة الصور الك ّلية
املعقولة احلاصلة من املحسوسات.
وبمالحظة ما سبق نقله من كالمه يبدو أنه ُيشري هنا إىل مقام اإلمجال ال التفصيل.
إن ما نقلناه ساب ًقا عن اخلواجة نصري الدين الطويس ،وأوضحناه ٍ
وبعبارة أخرىّ :
التصور ّ
الكيل البدهيي احلاصل من املحسوس ،هو نفسه مفاد كالم املال صدرا، ّ بصفته
ناظر إىل مقام اإلمجال ال التفصيل.
ولكن هذا الكالم ٌ
أن شيخ اإلرشاق يقول ّ
بأن املحسوسات بسيطة سواء يف اخلارج أم وقد أرشنا إىل ّ
فإهنا بدهيي ٌة ال تعريف هلا ،ولك ّن املال صدرا يقول يف قبال ذلك ّ
بأن يف الذهن؛ وهلذا ّ
أمر ُمسل ٌم به ،بيد ّ
أن معناها بساطتها اخلارجية ،وعدم ترك ّبها من املا ّدة والصورة ٌ
التصور
ّ الذهني ليس كذلك ،فالبياض لون وكيف ُمبرص .وبعبارة أخرى :إن كون
الكيل احلاصل من احلس -مثل البياض -بدهي ًيا يف مقام اإلمجال ال يعني أ ّنه ال أجزاء
له(":قوله :فبسائط املحسوسات ال جزء هلا) كوهنا ممّا ال جزء هلا يف الوجود العيني بأن
يكون هلا ما ّدة وصورةُ ،مسل ٌم ،وأما كوهنا بحسب املعنى بسيطة ،فغري معلوم بل عدمه
ألن األلوان ً -
مثال -واقعة حتت جنس الكيفية ثم املحسوس ،ثم الـ ُمبرص"(.)3 معلوم؛ ّ
( )1املراد بالعلم الرضوري بقرينة السياق هو العلم البدهيي.
( )2صدر الدين حممد الشريازي ،تعليقة عىل رشح حكمة اإلرشاق ،يف :قطب الدين الشريازي ،رشح حكمة
اإلرشاق ،الصفحة .60
( )3املصدر السابق ،الصفحة.279 :
329 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن املال صدرا ال يأبى قبول بداهة املفاهيم الك ّلية احلاصلة من ّ
احلس، وكام ذكرنا ّ
ناظر يف ذلك إىل مقام اإلمجال .وقد أكّد عىل هذه النقطة يف
لكن ينبغي االلتفات إىل أنّه ٌ
بأن البسائط يمكن تعريفها بسبعةموضع آخر ،فهو يقول -يف قبال شيخ اإلرشاقّ -
بدهيي
ّ ض اخلاص الذي يكون بنفسه أنحاء .والنحو السابع هو التعريف عن طريق العر ِ
األوليات أو
التصور ،إما من ّ
ّ أن األمر اخلاص قد يكون بدهيي التصور ..." :ومنها ّ
ّ
احلسيات ،فال حاجة إىل أن يكتسب من مفهوم آخر ّ
فإن من األشياء ما هو معلوم بذاته ّ
ٍ ٍ ال بأمر آخر .ولو كان ّ
كل معرفة إ ّنام حيصل بمعرفة قبلها لزم الدور أو التسلسل ،وكثري
التصوري(،)1
ّ احلسيات من هذا القبيل .وليس اإلحساس اجلزئي من قبيل الكاسب
من ّ
احلواس،
ّ تومهه بعض الناس؛ إذ اإلحساس ال حيصل به إال صورة جزئ ّية يف إحدىكام ّ
وليست الصورة الشخص ّية موقعة لصورة ك ّلية يف العقل ً
أصال ،ال صورهتا الكلية و[ال]
صورة كلية أخرى وال صورة شخص ّية أخرى كام ُبرهن عليه"(.)2
معر ًفا للبسائط ال بدّ أن
اخلاص الذي يمكن له أن يكون ّ
ّ يقول املال صدرا ّ
إن األمر
احلسيات .ولكن هل املقصود
األوليات العقلية أو من ّ
يكون بدهي ًيا بنفسه ،إ ّما بكونه من ّ
احلسيات اجلزئية؟ اجلواب بالنفي؛ ألن املحسوس اجلزئي ليس كاس ًبا وال
باحلسيات هي ّ ّ
باحلسيات إ ًذا هي املفاهيم الك ّلية احلاصلة من املحسوسات ّ
اجلزئية، ّ مكتس ًبا ،فاملقصود
التصور.
ّ فهذه املفاهيم الك ّلية ليست مأخوذة من مفاهيم كل ّية أخرى؛ وهلذا فهي بدهي ّية
التصور ،يقصد به
ّ بدهيي
ّ احلسيات هو من هذا القبيل" ،أي
وقوله" :وكثري من ّ
املفاهيم الك ّلية املأخوذة من املحسوسات اجلزئ ّية ،ال املحسوسات اجلزئية نفسها؛ ّ
ألن
املفاهيم اجلزئية ال فائدة منها يف التعريف.
احلسية الك ّلية هي
أن املفاهيم ّفإن املال صدرا قد عدّ يف كالمه املتقدّ م ّ
وعىل هذا ّ
مر ساب ًقا ،إن املقصود ببداهة هذه املفاهيم يف هذه العبارات
أيضا .وكام ّ
مفاهيم بدهيية ً
املذكورة هو ّأهنا مل ُتؤخذ من مفهوم أو مفاهيم ك ّلية أخرى ،غري ّأهنا ُمتصورة بنحو
( )1أي ليس شيئًا يمكن بسببه إدراك مفهوم جمهول.
( )2املصدر السابق ،الصفحة.62 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 330نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
( )1أي إن الوجود إنام ُيدرك فقط من خالل االرتباط احلضوري الوجودي ،وهذه العبارات من املال صدرا قريبة من
أمرا حضور ًيا.
فضاء كون حقيقة اإلدراك احليس ً
( )2املصدر السابق.
331 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأي ّ
العالمة الطباطبائ
العالمة الطباطبائي يف مواضع عدّ ة من كتبه( )2لكيفية ظهور اإلدراكات تعرض ّ ّ
التصورية ،وعىل الرغم ّمما يبدو -أحيانًا -من اختالف حتليالته فيام بينها ،لكنّه -ب ٍ
شكل ّ
التصورات ّ
بأن منشأ املفاهيم الكلية هو مصاديقها التي نرتبط هبا ،سواء ّ عام -حي ّلل ظهور
ّ
عام- ٍ
وبنحو ّ كانت املحسوسات الظاهرية أم املحسوسات الباطنية ،وعىل هذا األساس -
فاملفاهيم إ ّنام نأخذها من املشهودات ،وما مل يتم إدراك املصداق فال حت ّقق للمفهوم
ّ
الكيل()3و(.)4
( )1املصدر السابق ،الصفحة .204
العالمة الطباطبائي هلذا البحث يف هناية احلكمة (الفصل الثالث والتاسع من املرحلة احلادية عرش)، تعرض ّ (ّ )2
وكذلك يف أصول الفلسفة واملذهب الواقعي (املقالة اخلامسة ،ظهور الكثرة يف اإلدراكات).
املشائني ،فاملشاؤون يعتقدون ّ
بأن مجيع املفاهيم تؤخذ من احلس وثمة شبه بني رأي العالمة الطباطبائي ورأي ّ (ّ )3
ِ
[ولذا قالوا]َ « :من َف َقدَ ح ًّسا َف َقد ع ً
َلام».
( )4انظر :حممد حسني الطباطبائي ،هناية احلكمة ،املرحلة احلادية عرش ،الفصل التاسع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 332نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
إن أخذ املفهوم وانتزاعه من مصداقه يتو ّقف عىل نو ٍع من االتّصال باملصداق،
" ّ
احليس باخلارج،
احلس يف العلم ّ
واالرتباط باخلارج سواء كان بال وساطة كاتّصال أدوات ّ
احلس باخلارج ،وكاتصال العقل
أم مع الوساطة كاتّصال اخليال يف العلم اخليايل بوساطة ّ
يف العلم العقيل من طريق إدراك اجلزئيات باحلس واخليال باخلارج"(.)1
العالم ُة يف الفصل التاسع من املرحلة احلادية عرش من (هناية احلكمة) -
وقد قدّ م ّ
خصصه لتقسيم العلم احلصويل إىل بدهيي ونظري -بعض املفاهيم (مثل الوجود
الذي ّ
تصورية ،وبعض املفاهيم األخرى (مثل ماه ّيةوالوحدة واليشء) عىل ّأهنا بدهي ّيات ّ
ّب من أجزاء ذات ّية تصورية؛ ّ
ألن مفهوم اإلنسان مرك ٌ اإلنسان والفرس) عىل ّأهنا نظر ّية ّ
أيضا مركّب من أجزاء ذات ّية(.)2 هي احليوان والناطق ،ومفهوم احليوان ً
أن بعض املفاهيم الك ّلية (مثل اإلنسان والفرس) قد أخذت من وعليه فمع ّ
املصاديق املحسوسة لإلنسان والفرسّ ،إال ّأهنا نظري ٌة ال بدهيية .فليس ّ
كل مفهو ٍم
يؤخذ من األمور املشهودة يكون بدهي ًيا.
التحقيق ف املسألة
ولكي تكون للبحث منهج ّية مناسبة ،ونتمكن من الوصول إىل نتائج صحيحة،
سندرس املوضوع من خالل ثالثة أبعاد :املفاهيم اجلزئ ّية ،واملفاهيم الكل ّية ،وتعريف
املفاهيم.
.1املفاهيم الجزئية املأخوذة من الشهود:
حضوري
ٌّ علم
عند االرتباط واالتصال احلضوري باملصاديق اخلارج ّية حيصل لدينا ٌ
باحلس
ّ هبا؛ وهلذا االرتباط والعلم احلضوري ُشعب متعدّ دة :العلم احلضوري ّ
احليس
حس الباطن ،العلم الـحضوري بالشهود العقيل( ،)2والعلم الـحضوري
الظاهر( )1والـ ّ
بالشهود القلبي.
فعندما ُن ِ
درك حقائق مثل احلرارة والربودة ،واجل ّيد والرديءّ ،
واللذة واألمل ،والبياض
باحلس)،
ّ والسواد ،والوجود والعدم ،وذوات مثل ذات البياض (ال البياض املتع ّلق
= مصباح وبعض عباراته يراجع :عباس عاريف ،البدهيي ودوره يف نظر ّية املعرفة (قم :مؤسسة اإلمام اخلميني
للتعليم والتحقيق ،)2010 ،الصفحات.227 - 224 :
( )1وقد حتدّ ثنا عن ذلك يف كتاب حكمة اإلرشاق ،انظر :يد اهلل يزدان بناه ،حكمة اإلرشاق ،اجلزء ،1الصفحتني:
،280 - 279واجلزء ،2الصفحات285 ،279 ،269 - 262 :؛ كذلك انظر :فصل (ابتداء الفلسفة مع
الواقعية البدهيية) يف الكتاب الثاين من هذه املجموعة (تأ ّمالت يف فلسفة الفلسفة اإلسالميّة) [والكتاب ملّا ُيطبع
بعد (الربيعي)].
( )2سوف نتحدّ ث عن الشهود العقيل بالتفصيل يف الفصل الثالث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 334نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ووجودي،
ّ حضوري
ّ وذات اإلنسان ،و ...فإننا يف الواقع نكون قد ارتبطنا باحلقائق ٍ
بنحو
احلضوري ،فهذه األمور مجيعها حقائق وجودية بل نفس
ّ وعلمنا هبا بنحو العلم
احلضوري هو احلقائق
ّ أمرية( )1قد أصبحت ُمتعل ًقا للعلم احلضوري ،و ُمتعلق العلم
ّ
متشخصة يف اخلارج. اخلارج ّية ،والنفس األمر ّية ،وهذه األمور
احلس الظاهر أو الباطن إ ّنام حتصل بوساطة العقل
وهذه املفاهيم املأخوذة من ّ
الشهودي والعقل التحلييل والعقل املُخرتع للمشابه ،فاملفاهيم الفلسف ّية ّ
يتم إدراكها
بوساطة العقل الشهودي ،ثم يلتقط العقل املش ّبه [املُخرتع ُ
للمشابه] صورة هلا(.)2
ٍ
وبعبارة أخرىّ ،
إن العقل املش ّبه يقوم بالتقاط صورة لألمور التي ُندركها بالعلم
ويكون هلا مفاهيم حصول ّية ،ومن هذه املرحلة نكون قد دخلنا جمال العلمّ احلضوري
شعوري
ّ ٍ
بفعل دائام ،فال يلزم علينا القيام
احلصويل .والعقل املش ّبه ال ينفك عن العمل ً
ٍ
صور ملشهوداتنا يف خزانة اخليال ،بل يمكن القول إ ّن هذه الصور يتم كي نحصل عىل
آيل تلقائي .فحاصل نشاط العقل املش ّبه صور جزئية مأخوذة من الشهود، أخذها ٍ
بنحو ّ
وهذه الصور مفاهيم جزئية وحصولية(.)3
(باحلس الظاهر أو الباطن) ،أم
ّ احلس ّية فهل ّ
أن هذه املفاهيم اجلزئية ،سواء املفاهيم ّ
املفاهيم الفلسف ّية ،املأخوذة من الوجودات اخلارجية بوساطة العقل الشهودي ،بدهيية؟
أيضا.
( )1األمر نفسه يشمل العدم والعدميات ً
( )2سوف نتحدّ ث عن أنواع ف ّعاليات العقل النظري يف الفصل الرابع.
احلسية -سواء كان احلس الظاهر أم الباطن -تظهر عىل شكل
بأن مجيع الصور ّ يبني املشاؤون هذه الفعالية للنفس ّ(ّ )3
صورة خيال ّية وتتجمع يف خزانة اخليال ،وبتعبري املشائني ّ
فإن الصورة اخليالية تشبه الصورة املحسوسة ،لكن مع
هذا االختالف وهو أهنا ليس هلا ما ّدة.
أن هذه األمور مثل البياض اخلاص هي صورة وليست معنى ،واملقصود مهم ٍة وهي ّ ٍ
وال بد من االلتفات إىل نقطة ّ
بالصورة هو املوجود املتقدّ ر ،واملقصود باملعنى هو املوجود غري املتقدّ ر؛ ولذا ّ
فإن ذات البياض والوجود والوحدة
قوة و ...معاين ال صور ،والبياض اخلاص هو صورة .ويذهب املشاؤون إىل ّ
أن إدراك املعاين اجلزئية هو عمل ّ
الوهم ،وإدراك املعاين الك ّلية هو عمل العقل.
وقد ّبني املال صدرا -بنحو صحيحّ -
أن الوهم عقل ساقط .وبنا ًء عىل هذا فإننا نستطيع إطالق اصطالح (العقل)
القوة املدركة للمعاين والصور اجلزئية .وعىل هذا األساس نقول إ ّن العقل املشبّه هو الذي يأخذ الصور عىل ّ
واملعاين اجلزئية من الشهود ويدركها.
335 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا تذكر هذه النقطة وهي أ ّنه يف املاه ّيات ال بدّ ابتدا ًء من حصول
ومن اجلدير ً
الفهم للفرد بالذات من أفراده اجلزئ ّية ،ومن ث ّم إدراك الذات الكل ّية .وأ ّما يف املفاهيم
يتم من حني ابتداء عملية فإن إدراك الفرد بالذات فيها ّ الفلسف ّية مثل الوحدة والكثرة ّ
للكيل فقط؛ ّ
ألن هذه األمور هي يف طي مسري الوصول ّ ّ
الشهود العقيل ،وال بدّ فيها من ّ
األساس من سنخ املعنى والذات ،وهذه املراحل والعمليات حتصل يف ساحة العلم
احلصويل ،فاملفهوم الكيل ال حيصل مبارشة من الشهود.
الكيل،
معلوم للعقل عرب عملية إدراك ّ
ٌ احلس أو الشهود إن املفهوم ّ
الكيل احلاصل من ّ ّ
يتعرف هذا املفهوم بوساطة مفاهيم أخرى؛ إل ّن
ني بنفسه ،والعقل مل ّوهذا املفهوم ب ّ ٌ
العقل -يف الواقع -قد أدرك هذه املفاهيم بمالحظة منشأ هذه الذوات ال بمالحظة
يتعرف عىل هذه املفاهيم من الكيل مل ّ
ّ ذاهتا وذات ّياهتا؛ أي ّ
إن العقل يف أثناء عملية إدراك
فإن هذه املفاهيم تعدّ بدهيي ًة ٍ
بنحو من األنحاء ،أي ب ّينة يف نفسها، طريق الذات ّيات؛ وهلذا ّ
ٍ
بحاجة إىل الكسب والفكر يف معرفتها. والعقل ليس
ولكن البدهيي يف املنطق والفلسفة -الذي هو أساس األمور النظر ّية -له معنى آخر،
ّ
التصور أو التصديق الذي مل حيصل بالكسب ومل ّ
يتحقق من طريق الفكر. ّ فالبدهيي بمعنى
ّ
= غري (اخليال الـمنترش) [انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحتني 107و122؛ كذلك :الشفاء
(الطبيعيات) ،السامع الطبيعي ،الصفحة .]10
تم إلغاء بعض قيوده مثل اجلزئي ليس بمعنى إدراك الذات الكلية للبياض ،كام أ ّنه إذا ّ
ّ ّ
إن إدراك مفهوم البياض
إن ذلك املفهوم ما زال يف مرحلة اخليال املنترش ،فإ ّننا خاص ،فالذات الكليّة مل يتم إدراكها بعد ،بل ّ
ّ التقيّد بمكان
عندما نرى (حسنًا وجميد ًا) ً -
مثالُ -ندرك مفهو ًما جزئيًا عن اإلنسان ،وبعد مشاهدة أفراد عدّ ة من اإلنسان يمكن
لنا أن نحصل عىل تصور أكثر كلي ًة عنه ،هبذا النحو :موجود له رأس ويدان ورجالن و ...وليس مقيدً ا بزمانٍ
ّ ّ
الكيل ،بل هو اخليال املنترش؛ أي الصورة اخلياليّة خاص ،ولكنّه إىل اآلن ليس هو ذات اإلنسان ٍ
ولون ٍ
ومكان
ّ ّ
واحد فقط ،وللوصول إىل اخليال ٍ الصادقة عىل أفراد متعدّ دين ،بخالف املفهوم اجلزئي الذي يصدق عىل ٍ
فرد
املتحرك
ّ املنترش يكفي حذف التقيّد ببعض العوارض ،ولكنّه إلدراك ذات اإلنسان ،أي اجلسم النامي احلساس
ٍ
وحينئذ ،فإذا واجهنا موجو ًدا له هذه باإلرادة الناطق ،ال بد من الوصول إىل جوهر اإلنسان وجنسه وفصله،
أيضا بأ ّنه إنسان ،وإن مل الذاتيّات غري أنه ً
مثال ليس له يد أو قدم وكان وجهه وشكله بنحو آخر فإننا سوف نقول ً
ٍ
بشكل تام .وبنا ًء عىل هذا فليس مقصود املشائني من التقشري حذف بعض العوارض شبيها للناس العاديني
يكن ً
فقط ،بل جيب إزالة غري الذاتيات مجي ًعا حتى تظهر الذات.
337 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وواضحا يف التصوري أو التصديقي هو الذي يكون ب ّينًا أدق :البدهيي ٍ
وبعبارة ّ
ً ّ
ٍ
واضحة أخرى ،وإال ٍ
تصديقات نفسه ،وال حيتاج يف هذا الوضوح إىل تصو ٍ
رات أو ّ
فسوف يكون كسب ًيا ونظر ًيا( .)1والبدهييات مجيعها كذلك ،وإن كان يوجد من بينها
أبده البدهييات ،إ ًذا فليست بداهة هذه املفاهيم البدهيية بحسب منشئها -الذي ّ
عربنا
إن هذه املفاهيم البدهي ّية بدهي ّي ٌة بحسب ذاهتا.
عنه بالبدهيي يف مقام اإلمجال -بل ّ
واحلقيقة هي أ ّنه يف نظام التفكري ،أي الوصول من املعلوم إىل املجهول (سواء يف
التصورات أم فـي التصديقات) ،ال بدّ من وجود معلومات أساسية؛ أي ال تكون
ّ
معلوم ّيتها مستند ًة إلـى معلومات أخرى( ،)2ويطلقون عىل هذه الـمعلومات اصطالح
(بدهيية).
وأما العقل التحلييل واملُدرك للكيل فإ ّنه يصل إىل املفاهيم الك ّل ّية ،لكنّه يصل إليها
عرب املنشأ( ،)3أي إنه يفهم ّأو ًال الفرد بالذات من خالل مشاهدة املصاديق اجلزئية ،ثم
الكيل .غري ّ
أن للعقل أن ينظر إىل هذه ّ وبطي مسري العثور عىل الكيل -يصل إىل املفهوم
ّ -
املفاهيم -التي أدركها وهي هبذا اللحاظ بدهيية وب ّينة يف نفسها -بلحاظ ذاهتا ،وبعبارة
إن هذه املفاهيم بدهي ّي ٌة بلحاظ املنشأ ،فهل هي بدهي ّي ٌة بلحاظ الذات ً
أيضا؟ أخرىّ :
عندما ينظر العقل إىل ذات اليشء -أي ذلك املفهوم الكيل بحسب النظرة العقل ّية-
أن لذلك املفهوم ّ ّ
الكيل باحلس أو الشهود؛ فإنه يسعى إىل معرفة هل ّ
ّ من دون االستعانة
بني بنفسه ،وال حيتاج
خواصا جيب إدراكها؛ لندرك الذات بلحاظها ،أم هو ّ ٌ ات أوذاتي ٍ
ًّ ّ
()4
واخلواص؟
ّ يف معلوم ّيته إىل معلوم ّية الذات ّيات
عرب ابن سينا واملح ّقق الطويس عن البدهيي هبذا الشكل ،فقد كان تعبري ابن سينا (متصورة
( )1عرفنا فيام تقدّ م كيف ّ
ألنفسها) [ابن سينا ،الشفاء (اإلهليات) ،الصفحة ،]30 :وكان تعبري اخلواجة "املعاين املتصورة يف العقول واألذهان:
إما بنفسها ب ّينة ومستغنية عن االكتساب أو ال" [نصري الدين الطويس ،أساس االقتباس ،الصفحة.]412 :
( )2وإال وقع الدور أو التسلسل.
احلس".
( )3وقد رأينا شيخ اإلرشاق يقول" :بإعانة من ّ
أيضا تكون البداهة بلحاظ الذوات ،فعندما نقول( :الكل أكرب من اجلزء) ،تكون ذات
األولية ً
( )4يف التصديقات ّ
(الكل) تقتيض ذلك يف الواقع ،أي أن تكون أكرب من (اجلزء).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 338نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
ويف هذا املقام يكون الكالم يف البداهة بحسب الذات ،ال بحسب املنشأ ،ولو نظرنا
اجلزئي قد طوى مسري التحليل ،وأعطى الذات
ّ بحسب املنشأ ،لكان ذلك الفرد بالذات
الكل ّية [وكشف عنها] ،فال حاجة إىل مفاهيم أخرى .وأما إذا نظرنا بحسب الذات،
فاألمر ليس كذلك ،ويكون العقل بصدد العثور عىل ذات ّيات تلك الذات ،فإذا كان يف
ٍ
فحينئذ لن يكون ذلك أن هلا ذاتي ٍ
ات، هذا املقام ونظر إىل الذات هبذه احليث ّية ،ووجد ّ
ّ
املفهوم بدهي ًيا ،فالعقل عندما ينظر إىل ذات املفاهيم بغض النظر عن املنشأ ،ويضعها حتت
جمهر تدقيقه ،جيد بعض املفاهيم مركّبة من مفاهيم أخرى وحتتاج إليها ،ومن الطبيعي أن
تكون هذه املجموعة من املفاهيم مفاهيم نظري ًة .كام جيد مفاهيم أخرى بنفسها وبحسب
تصور بشكل ّأويل ومن دون االستعانة بمفاهيم أخرى ،وال بدّ من تسمية هذه
ذاهتا ُت ّ
املفاهيم باملفاهيم البدهي ّية.
وتفكيك هذين النوعني من اللحاظ هو ما أشار إليه املال صدرا بتعبري اإلمجال
والبدهيي بحسب
ّ البدهيي يف مقام اإلمجال.
ّ فالبدهيي بحسب املنشأ هو
ّ والتفصيل،
البدهيي يف مقام التفصيل .وبنا ًء عىل هذا ،فمن املمكن أن يكون مفهوم ما
ّ الذات هو
بدهي ًيا يف كال املقامني ،مثل مفهوم الوجود .وقد يكون بدهي ًّيا يف املقام األول فقط ،مثل
مفهوم البياض واإلنسان.
وال بدّ هنا من تأكيد هذه النقطة وهي أ ّنه بنا ًء عىل ما سبقّ ،
فإن البداهة والنظر ّية
وكاشف فقط هلذه اخلصوصيةٌ تكون من خصائص ذات املفهوم بنفسه ،والعقل ُم ِ
در ٌك
األعمية والبساطة تعد من لوازم ذات املفهوم
ّ يف ذوات املفاهيم ،فخصائص مثل
البدهيي ،وأ ّما البداهة فهي ناشئة من ذات املفهوم نفسه.
ّ
إن املقصود ببداهة املفاهيم الك ّلية أو نظر ّيتها -وهو املراد عادة يف البحوث
ثم نقول ّ
املنطقية والفلسفية -هو البداهة والنظر ّية بحسب الذات ويف مقام التفصيل ،ففي هذا
ب وفكر. النظري بأ ّنه هو ما كانت معلوم ّيته حتتاج إىل كس ٍ
ّ نعرب عن املفهوم ّ ّ
الكيل املقام ّ
وبعبارة أخرى :إذا كانت معلومية مفهوم حتتاج إىل مفاهيم أخرى متقدّ ٍ
مة ُرتبة عقلية ّ
عليه يف املعلوم ّية ،فذلك املفهوم يكون مفهو ًما نظر ًّيا.
339 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن هنا فرصف البداهة بحسب املنشأ ال تكفي للحكم ببداهة املفهوم ّ
الكيل،
فاملعيار يف بداهة املفهوم ّ
الكيل بداهته يف مقام التفصيل وبلحاظ الذات.
تفصييل عن
ّ لتصو ٍر
ّ الكيل لإلنسان من دون إدراكه ّ
إن العقل يستطيع إدراك املفهوم ّ
مفهومي احليوان والناطق ،وهذا يرجع إىل مقام اإلمجال .وأما إذا أراد معرفة ذات اإلنسان
جسم ،نا ٍم،
ٌ تتكون ،فإ ّنه جيد يف النهاية ّأهنا
بالتفصيل ومعرفة ما هي هذه الذات واق ًعا وممّا ّ
ناطق .ويف هذه احلالة ،تتو ّقف معلوم ّية ذات اإلنسان يف مقام متحر ٌك باإلرادةٌ ،
اسّ ، حس ٌ
ّ
التفصيل وبحسب الذات عىل معلوم ّية ّ مفاهيم ك ّلية عدّ ة أخرى .ومن هنا ،جيد العقل ّ
أن
نظري كسبي ،بل ّ
إن عمل العقل( )1ووظيفته يف باب املفاهيم ٌّ مفهوم
ٌ املفهوم ّ
الكيل لإلنسان
ف من مفاهيم وحقائق
الكيل مؤل ٌ الك ّلية هي البحث عن الذات ،وعن هل ّ
أن املفهوم ّ
أخرى أو ليس كذلك.
وعىل هذا ،فالبدهيي عند العقل هو الذي يكون بدهي ًّيا واق ًعا يف مقام التفصيل ،أي
البدهيي هو الذي يكون متصو ًرا واق ًعا بحسب ذات نفسه ،ومن الطبيعي أ ّال
ّ ّ
إن املفهوم
البدهيي
ّ يكون مؤ ّل ًفا من أجزاء بحيث تكون معلوم ّيته تابعة ملعلوم ّية تلك األجزاء .وأما
فـي مقام اإلجـمـال وبحسب الـمنشأ فيجب إطالق البديـهـ ّي عليه عند العقل من باب
حس أو الشهود ،و ُيعدّ بدهي ًّيا عند العقل لكون
هي حاصل من الـ ّ
التسامح؛ ألنّه بديـ ّ
بدهيي عند العقل .وبعبارة أخرى:
ّ احلس أو الشهود ،ال ألنه بحسب ذاته
حصوله من ّ
بدهيي [وله مثل هذه
ّ البدهيي ليس بدهي ًيا عند العقل بحسب العقل نفسه ،بل هو
ّ هذا
احلس والشهود.
اخلصوص ّية] بحسب ّ
نعم ،يمكن القول ّ
إن العقل يف موطن اإلمجال وإدراك ّ
الكيل بحسب املنشأ هو يف
أيضا ،ولكن عىل نحو اإلمجال ،وعندما ينتقل العقل إىل مقام الواقع قد أدرك ذات ّياته ً
مكونات تلك ٍ
رصيح ّ ٍ
بنحو التفصيل والبسط ،فإ ّنه يفتح ذلك الفهم ا ُملغلق ،ويشاهد
تم إدراكه ٍ
بنحو مكونات الذات الك ّل ّية ،وقد ّ
الذات الك ّل ّية ،وعليه فام كان يف الواقع من ّ
أيضا ،وللمثال انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان،
( )1استعمل ابن سينا يف هذه املوارد عنوان العقل الرصيح ً
الصفحة .280 :وسوف ننقل عبارته الح ًقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 340نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
احلجاب عن وجهه.
ُ إمجايل يف مقام إدراك ّ
الكيل ،فإ ّنه يف مقام التفصيل يظهر وينكشف ّ
تم النظر بد ّقة يف مقام اإلمجال
أيضا؛ وهلذا ،فإ ّنه إذا ّ فالعقل يف هذا املقام ُي ِ
درك الواقع ً
نفسه ،فإ ّنه بحسب نظر العقل يكون تقدّ م املفاهيم األخرى عىل املفهوم النظري تقدّ ًما
تتم االستعانة بمفهوم آخر بسبب االتصال بالشهود
رتا ،وإ ّنام يمكن القول إ ّنه مل ّ
مست ً
البدهيي من
ّ بدهيي من هذه اجلهة .وبنا ًء عىل هذا فالتعبري بـ(
ّ واحلس فحسب؛ ولذا فهو ّ
البدهيي من جهة الذات) ،هو تعبري أوضح ّ
وأدق ،بالرغم من أن ّ جهة املنشأ) ،يف مقابل (
يتضمن يف
ّ البدهيي بحسب املنشأ
ّ بدهيي باإلمجال) ُيشري إىل هذه النكتة وهي ّ
أن تعبري ( ّ
نفسه -وبنحو اإلمجال -مجيع ما جيب أن يكون له من الذات والذات ّيات.
واآلن يمكن النظر إىل نظام البدهي ّيات العقلية بحسب العقل نفسه ،وفهم السبب
يف ّأولية بعض املفاهيم .فمفاهيم مثل (اليشء) و(الوجود) مفاهيم بدهي ّية ّأولية ،فهذه
األعمية والبساطة من
ّ تصورها بنفسها وبحسب ذاهتا ،وخصائص مثل يتم ّ املفاهيم ّ
ولكن
ّ لوازم مثل هذه املفاهيم البدهي ّية؛ وهلذا ّ
فإن بداهتها بحسب ذاهتا تنكشف للعقل،
أيضا االستدالل عىل بداهتها عن طريق بعض خصائصها -أي عن طريق العقل يستطيع ً
أعم املفاهيم مثل واألعمية ،ومن هنا ّ
فإن ّ ّ لوازم ذات املفاهيم البدهيية -مثل البساطة
(اليشء) و(الوجود) ،تكون بدهي ّي ًة ّأولي ًة؛ أل ّنه ال وجود ملفهوم أعىل منها رتب ًة يف
أعم املفاهيم واضحة بنفسها وجل ّية بذاهتاّ ،
وأن أن ّ املعلوم ّية ،فالعقل عندما يبحث جيد ّ
معلوم ّيتها ليست تابع ًة ملعلوم ّية مفهوم آخر.
فإن أعم املفاهيم -يف األساس -ليست مؤلف ًة من أجزاء
وكام ذكرنا ذلك ساب ًقاّ ،
أعم املفاهيم.
جنس ّية وفصلية ،ففرض اجلنس أو شبه اجلنس ال ينسجم مع كوهنا ّ
احلس -أعم من
البدهيي عند ّ
ّ التصوري عىل قسمني:
ّ وهنا يمكن القول ّ
إن البدهيي
البدهيي يف مقام التفصيل.
ّ والبدهيي عند العقل وهو
ّ احلس الظاهر واحلس الباطن-
جزئي ال تعريف له وال ينفع يف تعريف سائر املفاهيم،
ّ البدهيي عند احلس فهو
ّ أما املفهوم
البدهيي عند العقل فهو مفهوم ّ
كيل. ّ وأما املفهوم
وبنا ًء عىل هذا ،فإ ّنه وبخالف شيخ اإلرشاق واخلواجة نصري الدين الطويس جيب
341 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جيم :قد ُيقال :إذا كان معيار البداهة عند العقل هو مالحظة العقل لذات املفهوم،
وبأي
وأ ّنه هل حيتاج إىل مفاهيم أخرى أم ال؛ فكيف يستطيع العقل الظفر هبذا املعيار؟ ّ
ٍ
بنحو صحيحٍ أم ال؟ ٍ
ميزان يمكن معرفة هل ّ
أن العقل يفهم
أن العقل قد أدركأن البحث يف اقتضاء ذات املفهوم ،والفرض ّ واجلواب هو ّ
الذات ،وأ ّنه يستطيع إدراك استقالل املفهوم أو عدم استقالله ،فالعقل هو املُ ِ
درك
الوحيد وله خاص ّية الكشف عن الذات ،فالعقل ُي ِ
درك ابتدا ًء املفهوم بنحو إمجايل ،ثم
ٍّ
مستقل فإ ّنه يسعى يبحث ويد ّقق ذلك املفهوم نفسه يف مقام التفصيل ،فإذا وجده غري
للوصول إىل ذات ّياته ،فالعقل -يف الواقعُ -م ِ
درك ،وال جمال للخطأ يف إدراكه ،واألمر
األوليات التصديق ّية.
كذلك يف ّ
دال :لقد بذلت جهود كبري ٌة يف مسألة معيار البداهة ِ
ومالكها يف باب املفاهيم البدهي ّية، ٌ ُ
أن املالك هو أن يكون ِ األعمية تارة ،وأخرى ذكروا البساطة ،وثالثة ذكروا ّ وقد ذكروا
ّ
ّب احلس ،كام ذكروا أحيانًا أخرى ّ
أن املعيار مرك ٌ املفهوم مأخو ًذا من العلم احلضوري أو ّ
من هذه األمور.
ّ
وكأن الفالسفة متت اإلشارة إليه فيام سبق هو ّ
احلل هلذه املسألة، ويبدو ّ
أن ما ّ
أيضا ،فبعض كلامت ابن
الكبار مثل ابن سينا واملال صدرا كانوا يميلون إىل هذا الرأي ً
سينا والتي نقلناها ساب ًقا (مما جاء فيه «متصورة ألنفسها») ،وبعض ما سوف ننقله يف
البحث التايل (يف ذيل عنوان التعريف) شاهد عىل هذا املدّ عى.
.3التعريف
نسعى يف عملية التعريف إىل أن نعرف ما هي املفاهيم التي يتأ ّلف منها املفهوم
احلقيقي ،وأ ّنه وفق معلوم ّي ِة أية مفاهيم يصبح معلو ًما .وقد أكّدوا يف أبحاث الربهان ّ
ّ
أن التعريف جماله املفاهيم احلقيقية ،وأ ّما املفاهيم االعتبار ّية واجلعل ّية فال بدّ يف تعريفها
من الرجوع إىل ُمراد اجلاعل ملعرفة ماذا جعل ،وما هو مراده عىل وجه الد ّقة.
كذلك البحث احلايل ليس يف رشح االسم ،فرشح االسم هو تعريف اليشء قبل
343 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1وقد ّبني ابن سينا هذه املالحظة .انظر :ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحة.283 :
( )2املصدر السابق ،الصفحة.68 :
( )3املصدر السابق ،الصفحتان.262 - 261 :
التصورات هو بحسب الذوات ،وهو ما أرشناّ ( )4ومن الواضح يف هذه العبارة للشيخ الرئيس ّ
أن بحث التعريف يف
التصور البدهيي ُيفهم من هذا األمر [أي أن
ّ إليه ساب ًقا [يف ذيل العنوان السابق] ،ونحن نعتقد ّ
أن معيار بداهة
يكون املفهوم البدهيي متصو ًرا بذاته وليس بحاجة إىل تصور مفهوم آخر].
احلق ّ
أن الفن اخلامس هو (كتاب الربهان سمى ابن سينا الفن اخلامس من منطق الشفاء بـ(كتاب الربهان) ،ولكن ّ
(ّ )5
رصح هو نفسه بذلك حيث قال" :فيجوز أن يكون إنام ُنسب هذا الكتاب إىل القياس دون احلد بأن
واحلد)؛ كام ّ
ُس ّمي (كتاب الربهان) هلذا املعنى ،وأما يف احلقيقة فهو كتاب الربهان واحلدّ م ًعا" [املصدر السابق ،الصفحة .]53
يف (فن الربهان) تبدأ البحوث املنطق ّية يف املواد ،وأما البحث يف الصورة فيتم يف األقسام السابقة عىل فن الربهان.
التصورية (وهو ما ُيطرح يف بحوث احلدّ ) ،واملا ّدة التصديقيّة (وهو ما ُيطرح يف
ّ أيضا عىل قسمني :املا ّدة
واملا ّدة ً
بحوث الربهان).
( )6انظر :املصدر السابق ،الصفحة.283 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 344نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
وأساسا ّ
فإن املنطق يدور حول ً الكيل، ِ
العقل الرصيحِ احلصو ّيل ّ ونعرب عنه بأ ّنه عمل
ّ
التصور
ّ يسمى يف قسم التصديق باالستدالل ،ويف قسم
العمل الفكري ،العمل الذي ّ
بالتعريف.
اكتساب فكري ،قسمني: ٍ "لـ ّمـا كان العلم الـ ُمكتسب بالفكرة ،والـحاصل بغري
ً
حاصال لنا التصور ،وكان املُكتسب بالفكرة من التصديق ّ أحدمها التصديق واآلخر
ً
حاصال لنا بحدٍّ ما.)1("»... التصور
ّ ٍ
بقياس ما ،واملُكتسب بالفكرة من
معقول من شأنه أن يوقع ٍ بقول مسمو ٍع أوٍ والفكري هو الذي ُيكتسب
ّ الذهني "
ّ
تصو ًرا ما مل يكن"(.)2
اعتقا ًدا أو رأ ًيا مل يكن ،أو يوقع ّ
أن التعريف احلقيقي إ ّنام حيصل بالفكر والتع ّقل ،وقد رأينا -فيام سبق-وهلذا نرى ّ
بأن التعريف يرتبط باملفاهيم الك ّلية ،بل احلدّ يرتبط بالك ّل ّيات،
أن املال صدرا يقول ّ ّ
كيل"( ،)3وهذا ناشئ من أ ّننا نطلب بالتعريف احلقيقي الوصول "أن ّ
كل حدٍّ فمحدوده ّ
اجلزئي ال يقبل
ّ كيل( .)4وكام قلنا ساب ًقاّ ،
فإن األمر أمر ّ
إىل حقيقة الذات ،والذات ٌ
التعريف ،وأ ّنه ال ينفع يف تعريف يشء من األشياء.
= أو تكون إحدى املقدّ متني سانح ًة للذهن ُفيضاف إليها دفع ًة حدٌّ إما أصغر وإما أكرب ،فتخلق نتيجة من غري
فكر وال طلب .وأما الفهمي فهو ّأال يكون احلدّ األوسط حصل بطلب وال بسنوح ،بل بسمع من مع ّلم من
أيضا؛ ّ
ألن النفس عندما تسمع إن الفهمي هو فكري ً خارج ،والذهن هو الذي يتل ّقى مجيع هذا .فإن قال قائلّ :
التصور كان ذلك دفعة ،ثم إذا انضاف
ّ إن املع ّلم كلام أورد حدًّ ا للقياس فعلمه املتع ّلم من جهة
تفكّر ،فيقال لهّ :
شك فيها مل ينتفع بام قال املع ّلمّ ،إال أن يفكّر يف نفسه فيعلم ،فيكون هذا ً
تعليام إليه حدّ آخر فحصلت مقدّ مة ،فإن ّ
ٍ
قياس من مجلته فهو تعليم مفرد ،وكالمنا يف املفرد .وإما مر ّكبًا من فهمي ومن فكري؛ إذ هو قياس مركّبّ ،
وكل
إنام جاء مع القياس ،وكالمنا يف ذلك القياس كهذا أن يرجع إىل املع ّلم فيفيده املع ّلم العلم بالقياس ،فيكون العلم ّ
التصور دفعة بال فكرة" [املصدر السابق ،الصفحة:
ّ الكالم .فأما إن مل يشك املتع ّلم ،فظاهر أن التصديق يتبع
[ .]59الربيعي].
( )1املصدر السابق ،الصفحة.51 :
( )2املصدر السابق ،الصفحة.57 :
أيضا :املصدر السابق ،الصفحتان.281 - 280 : ( )3املصدر السابق ،الصفحة .268 :وانظر ً
األعم من احلدّ ي والرسمي ،وانظر يف هذا املجال :املصدر السابق،
ّ ( )4ال بدّ من االلتفات إىل ّ
أن املقصود من التعريف هو
الصفحة.52 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 346نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
أن مسألة وجود تعريف لليشء أو عدمه ،أي كون اليشء وقد ا ّتضح اآلن أكثر ّ
بدهي ًّيا تصـ ّور ًيا أو ليس كذلك ،إ ّنمـا هي ناظرة إلـى الفضاء العقلـيّ ،
وأن البداهة عند
العقل فـي الـمالحظـة.
التصورية والتصديقية نصل إىل ّ وقد أرشنا ساب ًقا إىل أ ّننا يف مسري حتصيل املعارف
معارف أساس ّية ال تكون معلوم ّيتها مرتبط ًة بمعارف أخرى ،وقد استد ّلوا عىل هذا
التصورات
ّ التصورية إىل بدهي ّي ٍة ونظر ّي ٍة .فال بدّ لنا يف
ّ األمر( ،)1ومن هنا تنقسم املعارف
أساسية ،حاهلا حال التصديقات. ٍ لية وتصو ٍ
رات من مبادئ أو ٍ
ّ ّ
احلقيقي يكون يف الك ّل ّيات، احلقيقي ،والتعريف ِ
التعريف إن البحث يفوحيث ّ
ّ ّ
التصورات ال بدّ أن يكون بدهي ًّيا عند
ّ وعقيل ،إ ًذا فأساس
ّ فكري
ّ إن التعريف ٌ
عمل وقلنا ّ
التصور األويل
ّ العقل ،ال بدهي ًّيا عند احلس ،وقد استعمل الشيخ الرئيس لإلشارة إىل
صور بال واسطة) ،إذ يقول:
للتصور) ،و(األمر املت ّ
ّ األويل
األسايس التعبري التايل( :املبدأ ّ
إنام حيصل بعل ٍم سابق، تقرر أ ّنه كيف يكون التعليم والتع ّلم الذهنيّ ،
وأن ذلك ّ "فإذ قد ّ
للتصور ،ومبادئ أوىل للتصديق .ولو أ ّنه كان ّ
كل ّ فيجب أن تكون عندنا مبادئ أوىل
تعليم وتعلم بعل ٍم سابق ،ثم كان ّ
كل عل ٍم بتعلي ٍم وتعل ٍم ،لذهب األمر إىل غري النهاية،
فلم يكن تعليم وتعلم .بل ال حمالة أن يكون عندنا أمور ُمصدق هبا بال واسطة ،وأمور
والتصور"(.)2
ّ ُمتصورة بال واسطة ،وأن تكون هي املبادئ األوىل للتصديق
البني بنفسه ،أي معلوم بذاته ،ومعلوم ّيته ال
البدهيي هو ّ ٌ
ّ فالتصور
ّ وبنا ًء عىل هذا
حتتاج إىل معلوم ّية مفهوم آخر .فعندما ُيدركه العقل ال يدركه من خالل مفاهيم أخرى،
( )1وكمثال عىل ذلك قوهلم :إ ّنه إذا مل تكن بعض املعارف ّأولي ًة فإ ّننا لن نحصل عىل أي معرفة ،وكذا قالوا إ ّنه إذا
كانت مجيع املعارف نظر ّية فسينتهي األمر إىل الدور أو التسلسل.
( )2ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحة .77
وتصور فإما أن يكتسب ببحث ما ،وإما واقع ابتدا ًء" .الصفحة.112 :
ّ أيضا" :كل تصديق
وقال يف (النجاة) ً
وقال يف (إهليات الشفاء)" :فنقولّ :
إن املوجود ،واليشء ،والرضوري ،معانيها ترتسم يف النفس ارتسا ًما ّأول ًيا،
للتصور ،وهي
ّ التصورات أشياء هي مبادئ
ّ ليس ذلك االرتسام مما حيتاج إىل أن ُجيلب بأشياء أعرف منها [ ]...يف
ُمتصورة لذواهتا" .الصفحة .29 :وقال يف املصدر نفسه" :أوىل األشياء بأن تكون ُمتصور ًة ألنفسها األشياء
العا ّمة لألمور كلها ،كاملوجود واليشء والواحد وغريه" .الصفحة.30 :
347 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النظري؛
ّ يتم إدراكه بوساطة مفاهيم أخرى فهو
بل يدركه بنفسه ويراه ب ّينًا بنفسه .وأما ما ّ
وعقيل للوصول إلـى ذاهتا
ّ فكري
ّ ٍ
بعمل ولذا فال بدّ لفهم الـمفاهيم النظر ّية من القيام
احلقيقية.
يقول الشيخ الرئيس يف الرسالة العالئية ما ترمجته":العلم علـى نحوين :أحدمها
التصور) ،كمـا لو قال شخص :إنسان أو ج ّن
ّ االرتسام ،و ُيطلق عليه فـي اللغة العربية (
وتتصور ويرتسم يف ذهنك منها يش ٌء.
ّ أو ملك وغري ذلك مما يشاهبها ،فتفهم أنت
بأن اجل ّن موجود ،والناس مطيعونّ ،
وكل ما كان من هذا وثانيهام االعتقاد ،كاعتقادك ّ
القبيل ،و ُيطلق عليه يف اللغة العربية (التصديق)ٌّ .
وكل من القسمني عىل شكلني:
أحدمها ما كان حيتاج إلـى فكر( ،)1وال سبيل إال بطلبه من طريق العقل للوصول إليـه،
وتصورها( ،)2ومثل االعتقاد بعدم فناء النفس ،والتصديق
ّ مم تتأ ّلف،
مثل أن النفس ّ
نتصوره ونعتقد به ولكن
ّ بـذلك (أي التصديق ببقاء النفس وخلودها) .وثانيهمـا ما
بأول العقل( ،)3مثل علمنا ّ
بأن ليـس من طريق الفكر وال بطلب العقل ،بل ندركه ّ
مساوي الـمساوي مـسـ ٍ
او"(.)4
ونستطيع اآلن أن نأخذ نتيج ًة يف خصوص مفهوم (الوجود)ّ ،
ونبني مالك بداهته،
فعندما ينظر العقل إىل مفهوم (الوجود) فإ ّنه يراه غري متو ّق ٍ
ف يف معلوم ّيته عىل مفهوم ُ
آخر ،وأ ّنه يف ذاته ليس إال هو [أي إنه ال يتألف من مفاهيم جزئية أخرى]؛ وهلذا
أعم األشياء ،يف حم ّله
السبب يكون مفهوم الوجود بدهي ًّيا .وكونه أبده البدهي ّيات لكونه ّ
ومكانه .فالوجود أظهر األشياء وأعرفها.
ويف هناية هذا البحث ال بدّ من االلتفات إىل عدّ ة مالحظات:
موضوع آخر ال عالقة له باملباحث
ٌ ألف :التعريف املفهومي لشيخ اإلرشاق هو
أيضا.
( )1وهو ما قلناه بأن التعريف هو عمل فكري ً
وتصور النفس أهنا أي يشء هي.ّ تصور ماهية النفس ،أي إدراك
( )2املقصود هو ّ
يتصور العقل األمور البدهيية فإنه جيدها معلوم ًة بنفسها وبدون واسطة وبدون احتياج إىل عمل
ّ بمجرد أن
ّ ( )3أي إنه
فكري.
( )4ابن سينا ،منطق الرسالة العالئية ،الصفحتان.6 - 5 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 348نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
رصح هو ّ
بأن هذا التعريف ال عالقة له باحلقائق اخلارج ّية ،وأ ّنه املطروحة هنا؛ فقد ّ
ٍ
تعريف التفحص الذهني وطرح ّ
فاحلل الوحيد هو عندما ّ
يتعذر التعريف احلقيقي،
ّ
بلحاظ الذهن واملفهوم .فقد يقطع هو هبذا صلة هذا التعريف باخلارج.
وكثريا ما ُيستعمل هذا النوع من التعريف يف االرتكازات ال ُعرفية .وملثل هذا
ً
أيضا من زاوية ما ،وذلك عندما ُنريد دراسة مدى مطابقة
التعريف دور يف الفلسفة ً
املفهوم املوجود يف ذهننا للواقع ّية اخلارجية.
باء :التعريف احلقيقي يدّ عي الوصول إىل حقيقة اليشء ،وتعريف هو ّيته ،فالتعريف
واملفهوم احلقيقي -مضا ًفا إىل احلكاية ،التي تعدّ من خصائص كل املفاهيم -له ً
أيضا
خصوص ّية الكشف وتوليد املعرفة وإنتاجها.
ولك ّن بعض العلمـاء ال يعتقد بذلك ويرى ّ
أن الـمفهوم له احلكاية فحسب دون
ٍ
وحينئذ لن يكون التعريف الكشف .واحلكاية وحدها ال عالقة هلا باملطابقة مع الواقع،
ُمنت ًجا للعلم .لك ّن األمر -فـي الواقع -ليس كذلك؛ فالتعريف احلقيقي نفس األمري،
البدهيي متّصل باخلارج يف عني كون
ّ وحتى املفاهيم البدهي ّية؛ مرتبطة باخلارج ،فاملفهوم
تصوره بنفسه.
ّ
خاصية الكشف ،ومن هنا ُتطرح مسألة اخلطأ يف التعريف،
فالتعاريف احلقيقية هلا ّ
صحة التعريف وسقمه ،فالتعريف الذي ُيذكر يف اجلواب أي إمكان البحث والنزاع يف ّ
عىل مطلب (ما) احلقيقية جيب أن يكون مطاب ًقا للواقعّ ،
وإال وقع النزاع و ُعد خاط ًئا.
يقول الشيخ الرئيس" :إ ّنام تقع املنازعة يف احلدود ،إن وقعت ،ال يف معنى التصديق،
التصور"(" .)1وهذا [أي رشح االسم] ال يمكن أن ُينازع فيه أو
ّ بل يف خطأ إن وقع يف
ُخياصم ،كام ال ُينازع يف االسم .وأما ّ
أن هذه الذات حدّ ها كذا وكذا فيمكن أن ُينازع
وخياصم"(.)2
فيه ُ
جيم :ذكروا يف تعريف اإلنسان( :اإلنسان حيوان ناطق) ،وهو منهم تعريف
( )1ابن سينا ،الشفاء (املنطق) ،الربهان ،الصفحة.111 :
( )2املصدر السابق ،الصفحة.283 :
349 معيار البداهة التص ّوريّة ف املفاهيم البديهيّة | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدّ ي للامهية عىل نحو القضية ،ومن هنا فقد ُيتوهم أن التعريف هو تصديق -يف
ّ
فتنحل مشكلة الكشف يف التعاريف؛ ألن التصديق كشف عن تصو ًرا،
الواقع -وليس ّ
الواقع.
أن األمر ليس كذلكّ ،
وأن احلدّ مع أ ّنه ُيبني ٍ
بشكل واضحٍ ّ ولكن ابن سينا ذكر
ٍ
وتصديق؛ لكنّه -يف احلقيقة -ليس تصدي ًقا ،فإ ّننا إذا محلنا عىل اإلنسان عىل شكل قض ّي ٍة
وتصديق وه ّل ّي ٌة مركبة ،غري أنّنا يف تعريف اإلنسان
ٌ شي ًئا ما فسوف تكون لدينا قض ّي ٌة
ال ُنريد محل مفاهيم عىل اإلنسان ،وإ ّنام نريد العلم فقط بامه ّية ذات اإلنسان ،فمجال
التعريف هو (ما) احلقيقية ،وليس (هل) املركّبة ،فنحن إ ّنام نصوغ التعريف عىل كل
ٍ
قضية يف الظاهر وعند البيان واإلبراز فحسب .يقول الشيخ الرئيس" :وإن كان شكل
احلدّ قد ُيقال عىل هيئة مقدّ مة (ً ،)1
مثال كام لقائل أن يقول( :إن الوحدة هي ما ال ينقسم
ٌ
حممول ما ،بل أن أن الغرض ليس أن يصدق عىل الوحدة بالكم) .ووجه الـمخالفة (ّ )2
يتصور معنى اسم الوحدة [إذا كان يف جواب ما الشارحة] أو معنى ذات الوحدة [إذا
ّ
كان فـي جواب ما احلقيقية] ( ،)3ال ّأهنا هل هي كذا أو ليست كذا ( .)4ثم ال سبيل إلـى
ألن لكل ٍ
بقول ُيقال عىل هيئة املقدّ مة وال يكون يف ذلك منازعة البتّة؛ ّ تلقني ذلك إال
حدٍّ أن يوضع له ّ
كل اسم .إ ّنمـا تقع الـمنازعة فـي الـحدود ،إن وقعت ،ال فـي معنى
التصور"(.)5
ّ التصديق ،بل فـي خطأ إن وقع فـي
الـمـصـادر
.1ابن سينا ،الشفاء (اإلهليات) ،حتقيق سعيد زايو واخرون ،قم مكتبة السيد املرعيش النجفي
1404هـ.
،---- .2الشفاء (الطبيعيات) ،حتقيق سعيد زايو واخرون ،قم مكتبة السيد املرعيش النجفي
1404هـ.
،---- .3الشفاء (املنطق) ،حتقيق سعيد زايو واخرون ،قم مكتبة السيد املرعيش النجفي 1404هـ.
.4أرسطو ،السامع الطبيعي ،ترمجة حممد حسن لطفي ،طهران 1399 ،هـ.
.5الرازي حممد فخر الدين ،املباحث املرشقية ،قم ،بيدار1411 .م.
.6الرازي ،قطب الدين ،رشح حكمة اإلرشاق ،طهران ،مجعية االثار واملفاخر الثقافية2004 ،م.
.7السهروردي ،شهاب الدين ،جمموعة مصنفات شيخ االرشاق ،تصحيح :هنري كوربن
والسيد حسني نرص ،طهران ،مؤسسة مطالعات وحتقيقات فرهنكى1996 ،م.
.8صدر الدين حممد الشريازي ،رشح اهلداية األثريية ،تصحيح حممد مصطفى فوالدكار،
بريوت ،مؤسسة التاريخ العريب1422 ،هـ.
،-------- .9احلاشية عىل إهليات الشفاء ،قم ،بيدار.
،-------- .10احلكمة املتعالية يف االسفار العقلية األربعة .بريوت ،دار احياء الرتاث1981 ،م.
،-------- .11مفاتيح الغيب ،تصحيح حممد خواجوي ،طهران ،مؤسسة مطالعات وحتقيقات
فرهنكى1363 ،هـ.
.12الطباطبائي ،حممد حسني ،هناية احلكمة ،قم ،مؤسسة النرش اإلسالمي1404 ،هـ.
.13الطويس ،نصري الدين ،تلخيص املحصل ،طهران ،مؤسسة مطالعات إسالمي مك غيل1960 ،م.
.14عباس عاريف ،البدهيي ودوره يف نظرية املعرفة ،قم :مؤسسة اإلمام اخلميني للتعليم والتحقيق،
2010م.
.15يد اهلل يزدان پناه ،حكمة اإلرشاق ،حتقيق :مهدي عيل بور ،قم ،مركز حتقيق احلوزة واجلامعة،
2010م.
.16اليزدي ،حممد تقي مصباح ،تعليقة عىل هناية احلكمة ،قم ،مؤسسة در راه حق1405 ،هـ.
***
ّ8
مالك الحقيقة
(*)
ومعيار متييز الحقائق عن األوهام
(**) ّ
المرجعٌالدينيٌالشيخٌجعفرٌالسبحاني
ِ
بالعاملِ الطبيعي ا ّلذي يبحث عن حقيقة الذهب والفضة ،فبعد ولنمثل لذلك
معدين ،أصفر اللون ،رنّان،
ّ طبيعي،
ٌّ عنرص
ٌ البحث والتحليل يتوصل إىل ّ
أن الذهب هو
عنرص،
ٌ يذوب عند درجة ( )1063سانتيغراد ،ويغيل عند درجة ( .)2970والفضة
معدين رمادي اللون ،يذوب عند درجة ( 8و )970سانتيغراد ،ويغيل عند
ٌّ طبيعي،
ٌّ
درجة (.)2210
ثم بعد ما تب ّينت له احلقيقة بصورهتا العلمية ،ربام يواجه قض ّي ًة جزئ ّي ًة ،كتشخيص
ّ
ٍ
هذا اخلاتم ا ّلذي يلبسه ،هل هو ذهب أو فضة ،فهنا حيتاج إىل مالك آخر ،يوصله إىل
أي من مالكات حقيقة الذهب والفضة موجودة فيه؛ وألجـل ذلـك فصـلنا
معرفة ٍّ
مهمة فـي نظرية الـمعـرفـة.
األول ،وهـمـا من الـمباحث الـ ّ
البـحث الثـانـي عن ّ
ويف ضوء األمر الثاين يظهر لزوم التجانس بني القضية املدركة وواقعها ،فلو مل يكن
صح الوصف بالصواب واخلطأ ،لـخروج الـمحل عن قابلية وتناسب لـام ّ
ٌ جانس
هناك تـ ٌ
ٍ
قضية االتّصاف بأحدمها .فلو الحظت القضية املتقدمة (األربعة أكثر من الثالثة) مع
ُأخرى غري جمانسة ،كقولنا( :األملاس يقطع الزجاج) ،مل تتصف األُوىل بالصواب
واخلطأ.
ويف ضوء الرشط الثالث ،يظهر ّ
أن التطابق الواقعي وعدمه ،ال يكفيان يف حتقق
الصواب واخلطأ ،بل يتوقف حت ّققهام عىل احلكم باالتّصاف أو بسلبه ،وأن هذا ذاك أو
ومتصور ،ملا حكم عىل قضية بالصواب
ِّ أنّه ليس بذاك .فلو مل يكن يف الوجود متع ِّق ٌل
واخلطأ ،لفقدان احلكم واإلذعان والتصديق.
فتلخص من ذلك ّ
أن ميزان الصواب واخلطأ يف الفلسفة اإلسالمية انطباق القضية ّ
املدركة مع واقعها.
أقسام القضايا ووقائعها
الصحة والبطالن ،واخلطأ والصواب ،انطباق القضايا عىل واقعها،
ّ ملا كان مالك
فال ُبدّ من بيان أقسام القضايا وواقع ّ
كل منها ،وكيفية انطباقها عليه ،فنقول :تنقسم
القضايا إىل ثالثة أقسام رئيسة :خارجية ،وحقيقية ،وذهنية(.)1
ت ّتصف القضية باخلارج ّية ،إذا كان احلكم فيها عىل موضو ٍع ال ينطبق ّإال عىل
األفراد املوجودة يف زمان احلكم فقط .كقولنا( :هلكت املوايش) ،و( ُقتل من يف املعسكر).
ناظرا إىل األفراد املح ّققة حال احلكم واآلتية
وت ّتصف باحلقيقية ،إذا كان احلكم فيها ً
منقسم إىل غري النهاية) .وت ّتصف بالذهن ّية، كل جس ٍم ٍ
متناه ،أو متح ّي ٌز ،أو بعده ،كقولناّ ( :
ٌ
عريض
ّ يت كاحليوان ،أو إذا كان احلكم فيها عىل األفراد الذهن ّية ،كقولناّ ( :
الكيل إما ذا ّ
يت إ ّما جنس أو فصل). كالضاحك .والذا ّ
أ ّما مالك الصدق واالنطباق يف القضايا اخلارجية ،فهو باعتبار نسبتها إىل ما يف
( )1بام ّ
أن البحث يف الـمقام يف القضايا الـمستعملة يف العلوم ،لذا لـم نذكر القضية الشخصية أو اجلزئية مثل قولنا:
(زيد قائم) .ويظهر حاهلا ممّا نذكره يف القضايا اخلارجية.
357 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اخلارج حال احلكم ،فإذا هلكت مجيع املوايش يف املرعى ،أو مجيع من كان يف املعسكر،
وإال فكاذبتان .ومثل ذلك القضايا احلقيقية ،فهي صادقة كانت القضيتان صادقتنيّ ،
إذا طابقت نسبتها اخلارج الفعيل واملستقبيل .أ ّما يف جانب األفراد املوجودة بالفعل،
فواضح.
بأهنا كذا ثم نحكم عىل ّ
الكل ّ وأ ّما يف جانب األفراد املقدّ رة فإنّا نفرضها موجودةّ ،
أو كذا .فإذا طابقتها النسبة كانت القضية صادقةّ ،
وإال فكاذبة.
وأ ّما القضايا الذهنية ،فالصدق فيها باعتبار مطابقة نسبتها ملا يف نفس األمر ،إذ ال
خارج هلا حتّى تطابقه أو ال تطابقه .واملراد من نفس األمر ،ما يقابل فرض الفارض.
فقولنا :اإلنسان كيل ،أو اإلنسان نوع ،أو :احليوان ذايت لإلنسان ،أو :الضاحك عريض
لإلنسان ،كلها قضايا ليس هلا مصاديق خارجية ملموسة حتّى تطابقها أو ال تطابقها.
ومع هذا ،فلتلك القضايا واقعية يف نفس األمر ،وليست واقعيتها حسب فرض الفارض
واعتبار املعترب ،بدليل ّ
أن قولنا( :اإلنسان جزئي) ،أو (ليس بنوع) ،باطل .وهذا
يكشف عن ّ
أن هنا واقعية تفرض علينا صدق بعض القضايا وكذب بعضها اآلخر.
فانطباقها عىل نفس األمر مالك الصدق ،وعدمها مالك الكذب.
ومن هنا يعلم ّ
أن مالك الصدق يف القضايا الذهنية ويف مجيع القضايا املعنونة يف
املنطق هو االنطباق عىل نفس األمر ا ّلذي هو ّ
أعم من الوجود اخلارجي امللموس .فنفس
األمر يف القضايا اخلارجية هو خارجها ،وأ ّما يف القضايا الذهنية فهو واقعها ،وإن مل يكن
هلا خارج ملموس.
فلو كنّا يف مقام حتديد اإلنسان بام هو هو ،من دون نظر إىل اخلارج ،نقول :اإلنسان
حيوان ناطق ،فهي مطابقة لنفس األمر وإن مل يكن هلا خارج ملموس.
فإهنا ليس هلا خارج وال واقع. ويقابله القضايا الكاذبة ،كقولنا( :األربعة فرد)ّ ،
إن كثري ًا من القضايا املنطق ّية والرياض ّية واهلندس ّية
وألجل مزيد من اإليضاح نقولّ :
املسمى بنفس األمر؛ وذلك
تفتقد للمصاديق اخلارج ّية ،ومع ذلك فليست فاقدة للواقع ّ
ٌ
مصداق كيل) ،وإن مل يكن هلا ّ
ألن القضايا املنطقية كقولنا( :اإلنسان نوع) أو (اإلنسان ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 358نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
صحح انتزاع هذه القضايا منه ،وانتقال الذهن منه ٍ يف اخلارجّ ،إال ّ
أن اخلارج عىل وجه ُي ّ
أن زيد ًا وعمر ًا وبكر ًا يشرتكون يف اإلنسانيةّ ،
وأن مفهومها مطر ٌد إليها .فبام أنّه يرى ّ
وصادق عليهم صدق ًا متواطئ ًا ،ينتقل من تلك احلقيقة امللموسة إىل مسألة منطقية
ٌ فيهم
مر توضيحه. كيل) ،عىل ما ّويقول( :اإلنسان نوع) ،أو (إنّه ّ
منصة النطالق الفكر إىل تلك القضية الك ّل ّية ا ّلتي ُيتخ ّيل ّأهنا ليس هلا فاخلارج ّ
صحح تلك القض ّية الكل ّية. مصداق يف اخلارجّ ،إال ّ
أن هناك حقيق ًة خارجي ًة ُت ّ ٌ
وبذلك ُيعلم حال القضايا احلساب ّية ،إذ ليس ملوضوعاهتا وجو ٌد يف اخلارج .فليس
يف اخلارج عرشة وال مائة وال ألف ،بل املوجود يف اخلارج هو الوحدات ،ولكن تلك
صحح لنا انتزاع هذه املفاهيم واألعداد ،بل صنع قضايا كل ّية منها ،ا ّلتي
الوحدات ُت ّ
منها جدول الرضب ا ّلذي ابتكره (فيثاغورس) اليوناين ،فإنّك ال ّتد يف اخلارج
أن هناك واقع ّية مصداق ًا لقولنا سبعة مرضوبة يف سبعة تساوي تسعة وأربعني ّإال ّ
ُتصحح تلك القضية ،و ُتعد منشأ انتزاع هلا ،وهي إ ّنا إذا كررنا سبعة أشياء سبع مر ٍ
ات ّ ّ ّ ّ
نصل إىل تلك النتيجة.
ٍ
ومثلث ومثله القضايا اهلندس ّية ،وما يرجع إىل األشكال اهلندس ّية من مرب ٍع
ال، فإهنا ك ّلها ال مصاديق هلا يف اخلارج .خذ الدائرة مث ً ٍ
ودائرة ،وقواعدها وضوابطهاّ ،
فإهنا عىل التحقيق ليست موجود ًة يف اخلارج ،وإنّام املوجود هو اجلسم املادي .وهكذا
ّ
واخلط -باملعنى الفلسفي (ا ّلذي هو هناية
ّ ال -فإنّام هو مشك ٌّل من خطوط،
املربع -مث ً
عدمي.
ّ أمر
ألهنا (النهاية) ٌ
السطح) ال العريف -ال وجود له يف اخلارجّ ،
ومع ذلك ك ّله فاألحكام الواردة عىل هذه األشكال بني صحيح وباطل ،وما ذلك
صحح األحكام الواردة
صحح تصويرها ،كام ُت ّ ّإال ّ
ألن هلذه األشكال مناشئ انتقال ُت ّ
عليها .وعىل مطابقتها وعدمه يدور مدار صدقها وبطالهنا.
إن الـحـاالت الروح ّيـة من حسـ ٍد وبخـ ٍل،
وبـذلك يعـلـم حـال العـلـوم النفـسـية ،فـ ّ
خارجي كاألجسام ،ولك ّنها بالقياس إىل العدم،
ّ أس ،و ،...ليس لـها وجو ٌد وكـر ٍم ،ويـ ٍ
صحح كشفـها واالنتـقال إليـها ،والـحكم بصـحـة أو أن لـها آثـار ًا ُت ّ
لـها واقعـيات ،كمـا ّ
359 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خمالف له.
ٌ مطابق للواقع املتح ّقق يف ظرفه ،واآلخر
ٌ األول
ألن ّّ
جيوز إنكار وجوده مطل ًقا حتّى يف
وكون يشء غري موجود يف زمان اإلدراك ال ّ
ظرفه؛ فاإلنسان احلاكم باحلكم يف قض ّي ٍة تارخي ّي ٍة ،يعطف نظره إىل الوقائع السابقة
املندثرة ،فيحكي عنها حكاية صادقة أو كاذبة (.)1
ينبع من النظر إىل الكون نظر ًة جامد ًة في ُتخ ّيل ّ
أن الشبهة الرابعةّ :
إن هذا التعريف ُ
بأهنا عبار ٌة عن مطابقة
عرفوا احلقيقة ّ
متغري؛ ولذلك ّ
وثابت غري ّ
ٌ عامل الطبيعة جامدٌ ،
الذهن للعني.
أن الكون ملا يزل متبدّ ًال
وأ ّما عىل القول ا ّلذي تتبناه الفلسفة الديالكتيكية من ّ
واحدة ،فكيف يمكن أن يكون مالك احلقيقة تطابق ٍ ٍ
حالة متغريا ،وأنّه ال يبقى عىل
ًّ
تغري وتتبدّ ل ،فال تبقى حتّى تطابقها القضية
فإن العني تذهب أو ت ّ الذهن والعنيّ ،
املوجودة يف الذهن.
واجلواب عنها بوجهني:
صح هذا اإلشكال ،للزم بطالن مجيع القضايا احلاكية عن اخلارج ،إذ ال .1لو ّ
شك يف ّ
أن هناك قضايا علم ّية وعرف ّية يريد اإلنسان هبا رشح اخلارج وبيانه ،فلو كان ّ
كل األحكامبطالن ّ
ُ اخلارج عىل وجه ال يستطيع الذهن أن حيكم عليه بيش ٍء ،للزم
ألن ّ
كل موضو ٍع يتبدّ ل قبل احلكم عليه .فال معنى لقولنا - الصادرة عن اإلنسان؛ ّ
تغري املوضوع وتبدّ له. ً
مثال( :-هذه التفاحة طي ّبة الرائحة) ،لو فرضنا ّ
ٍ
مغاير له من مجيع والتغري ،ليس بمعنى تبدّ ل اخلارج إىل موضو ٍع
ّ ّ .2
إن التحول
التغري يف الطبيعة الثانية أشبه بتعاقب األمثال .فالتفاحة الثانية استمرار
اجلهات ،وإنّام ّ
للتفاحة األوىل حسب الوجود ،فهي يف حالة البقاء التفاحة نفسها يف حالة حدوثها؛
يصح احلكم عليها بالطيب.
وألجل ذلك ّ
شامال للذات والصفات مع ًا ،كام إذا صار احلطب
ً التغري
ويف ضوء ذلك ،لو كان ّ
( )1هذه اإلشكاالت الثالثة ذكرها (فيليسني شاله) يف كتابه (الفلسفة العلميّة) ،الفصل العارش يف قيمة العلوم
وحدودها.223 :
361 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ٍ
عندئذ تغري لون الفاكهة من البياض إىل احلمرة ،فاحلكم نارا ،أو يف الصفات ،كام إذا ّ
ً
متغري ذا ًتا ووص ًفا ،أو وص ًفا فقط ،إن كان راجع ًا إلـى حاالته
عىل ذلك الـموضوع الـ ّ
السابقة ،يكون أشبه بالـحكم عىل املوضوعات التارخي ّية املعدومة ،فالذهن ُيـحرض
متغريا يف الذات
الصورة املنطبقة عىل احلالة املاضية وحيكم عليها بيشء .وأ ّما إذا مل يكن ّ ً
ظاهرا ،فيحكم عليه بأنّه كذا وكذا .فكون
ً والصفات ،بل بقي عىل ما كان عليه ،ولو
يرض الـحكم واإلذعان به؛ لكون الالحق مـمـ ً
اثال للسابق من جـميع متغري ًة ،ال ّ
الطبيعة ّ
الـجهات.
أن فالسفة الغرب مل يقفوا عىل معامل الفلسفة وهذه اإلشكاالت وأمثاهلا تعرب عن ّ
اإلسالمية وقو ًفا كاف ًيا ،ومل ّ
يلموا بنظرياهتا إملا ًما واف ًيا.
تم الكالم يف بيان معيار احلقيقة والوهم يف الفلسفة اإلسالمية ،ونذكر فيام
إىل هنا ّ
يأيت معيارها عند الغربيني:
فرضيات ُأخر.
ٌ مقبول ًة يف األوساط العلمية ،فهي حقيقة ،إىل أن حتل حملها
تحليل هذه النظرية
ّ
إن القائل هبذه النظرية خلط بني املسائل االجتامع ّية والسياس ّية التي ال مصدر هلا
صح ما ذكره،سوى تصويب الرأي العام ،والقضايا الكون ّية احلاكية عن اخلارج .فلو ّ
عني لون ٍ
شعب أن ُي ّ يصح يف القسم األول من املسائل؛ إذ من احلقوق املسلمة ّ
لكل فإنّام ّ
يصوت له الشعب ،هو احلق ،ما دام الشعب مؤ ّيدً ا له ،فإذا النظام احلاكم عليهّ ،
فكل ما ّ
احلق واحلقيقة. تبدّ لت رغبتهم إىل نظا ٍم آخر ،بطل ّ
األول وكان الثاين هو ّ
وأ ّما القضايا احلاكية عن الكون ،فليست املقبولية فيها مالك احلقيقة ،وال الرفض
مالك اخلطأ ،فمالك احلقيقة يف القضايا الرياض ّية والفيزيائ ّية والكيميائ ّية والفضائ ّية ليس
إن جمموع زوايا املثلث تساوي 180درجة ،سواء اتّفق هو تصويت الرأي العام هلا ،بل ّ
الرأي العام والعلمي عليه أم مل يتّفق ،هو ذلك شا ُءوا أم أبوا ،كام ّ
أن حميط الدائرة
مرضوب يف النسبة الثابتة ،دائ ًام وأبد ًا(.)1
ٌ يساوي ُقطرها
وإن شئت قلتّ :
إن القضايا عىل قسمني:
فإن ّ
لكل قضايا ال حتكي عن اخلارج ،وهذه مثل احلقوق املجعولة للشعوبّ ،
ٍ
شعب آخر ليشكّلوا شعب إىل ّ
االحتاد مع ٌ ٍ
شعب ،احلرية يف اختيار مصريه ،فإن جنح
دول ًة واحد ًة ،فذلك هلم .وإن جنح إىل االنفصال وترك احللف ،فذلك له ً
أيضا .وهو
ألن الشعب ُ
يميل إليه .فهذه القضايا ليست حاكي ًة عن اخلارج، حق يف كلتا احلالتني؛ ّ
ٌّ
فال مناص من جعل املالك فيها ،اإلمجاع والتصويت ،وعدمهام.
وقضايا حتكي عن اخلارج ،و ُتري احلقيقة الراهنة وراء الذهن .وبام ّ
أن احلقيقة ليست
متعدّ د ًة ،بل هي واحدة ،فال يمكن أن تكون كلتا النظريتني موصوف ًة باحلقيقةّ ،
فإن
األرض إ ّما أن تدور حول الشمس ،أو تدور الشمس حول األرض ،وليست احلقيقة
بأن كلتا النظريتني صائب ًة وحقيقي ًةّ ،
كل يف ظرفها اخلاص ،يرجع خارج ًة عنهام .فالقول ّ
(./227 /3 ،1416 )1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 364نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
إىل السفسطة وإنكار كاشفية العلم ،فإذا كان املكشوف واحدً ا ،فأحد ِ
العل ِ
مني خطأ
كشف وال إراءة .فكان احلري هبذا الفيلسوف دراسة املسائل السياس ّية واملسائل
ٌ ليس له
الكون ّية ،واإلمعان يف ٍّ
كل منها ،ليعرف الفرق يف مالك احلقيقة واخلطأ بينهام.
الصواب والبطالن فيها مدار مطابقة الواقع وخمالفته ،كام تقدّ م.
احلق والباطل ،ينسب احلق إىل ما ينفع،
يصور نزاع ّ نعمّ ،
إن الذكر احلكيم ،عند ما ِّ
يرض ،يقول﴿ :ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ
والباطل إىل ما ّ
ﲪﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ
ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉﳊ ﳋ ﳌ ﳍ
ﳎ﴾(.)1
ولكنها ال تناقض ما ذكرناه ،وذلك ّ
ألن اآلية يف جمال بيان االعتقادات الدينية،
ّ
وأن احلق منها يف نفس املؤمن مثل الـمـاء النازل من السامء ،اجلاري يف األودية عىل
اختالف سعتها ،وينتفع به الناس وتـحيا به قلوهبم ،ويمكث فيها اخلري والربكة .وأ ّما
االعتقادات الباطلة يف نفس املرشك ،فهي كالزبد ا ّلذي يربو السيل ،فإنّه ال يلبث أن
سدى(.)2
ً يذهب جفا ًء ويصري
وأين هذا من بيان احلق والباطل يف القضايا الشخصية والعلوم؟ ومثلها احلركات
تنطبق عليها مثل انطباقها عىل العقائد.
ُ االجتامع ّية ،فاآلية
تلك األعصار ،وإن كانت باطلة بالنسبة إىل هذه األعصار .والرأي ا ّلذي كان سائدً ا يف
عدد العنارص األساسية ا ّلتي تشكل الكونّ ،
وأهنا أربعة ال غري وهي :الرتاب واملاء
رأي صحيح ،ولكن بالنسبة إىل تلك الظروف ا ّلتي مل تكن لتنتج
واهلواء والنار ،هو ٌ
املجرب،
سوى هذا الرأي .ولكن عند ما تبدّ لت الظروف ،وخضعت الطبيعة لإلنسان ّ
حق ّ
فالكل ّ ّتاوز عددها املائة وأربعة عنارصّ ،
ولعل الظروف اآلتية تنتج غري ذلك.
بالنسبة إىل األزمنة والظروف ا ّلتي تنتجه.
حق؛ ّ
ألن الظروف املحيطة املوحد وامللحد كالمها عىل ّ
ِّ يصح أن نقولّ :
إن ّ بل
ّتره إىل التوحيد ،والظروف املحيطة بامللحد تدفعه إىل اإلحلاد .إىل غري ذلك من
باملوحد ّ
ِّ
أمر مرفوض ،وإنّام كل األشياء تقع يف إطار وكل ذلك ينتج ّ
أن احلقيقة املطلقة ٌ األمثلةّ ،
احلقيقة النسبية.
إن األمور عىل قسمني :إضايف وحقيقي ،والنسبيون خلطوا بينهام، يالحظ عليهّ :
يصح يف األُمور
ّ ورضبوا أحدمها بسهم اآلخر ،وإليك البيان :ما ذكره النسبيون إنّام
النسب ّية اإلضاف ّية ،وهي ما كان قوام حقيقتها بالنسبة واإلضافة ،من دون أن يكون هلا
كل ٍ
حال ،كالسعة والضيق ،والكرب والصغر ،والفوق ّية حمفوظ عىل ّ
ٌ واقع
يف حدّ ذاهتا ٌ
والتحت ّية ونحو ذلك.
رتا مرب ًعا ،وآخر ٍ
حقري ال تتجاوز مساحته عرشين م ً ال :خت ّيل إنسا ًنا يعيش يف كوخٍ
مث ً
تقل مساحتها عن عظيم حتيط به حدائق شاسعة مرتامية األطراف ،ال ّ
ٍ غني يعيش يف ٍ
قرص
مدرسة أمامها ملعب ،ولنفرض ّ
أن مساحتها بأكملها ً مخسني ألف مرت مربع ،فإذا وردا
األول يستهوهلا ويصفها بالعظمة والكرب ،بينام الثاين يستصغرها
مخسامئة مرت مربع ،فإنّا نرى ّ
ِ
التوصيفني صحيح ،لكن بالنسبة أن ًّ
كال من ويصفها بالضيق والصغر .فال شك هنا يف ّ
فاألول إذ يصفها بالكرب والعظمة ،إنّام يصفها بذلك بالقياس ٍ إىل ما يف نفس ِّ
كل واصف؛ ّ
إىل كوخه احلقري ،والثاين إذ يصفها بالضيق والصغر ،فإنّام هو باإلضافة إىل قرصه العظيم.
فإن كال القضاءين صحيح، وهكذا إذا قلنا :األرض كبرية ،وقلنا :األرض صغريةّ ،
لكن ًّ
كال بالنسبة إىل أمر ،فاألرض كبرية بالنسبة إىل القمر ،وصغرية بالنسبة إىل الشمس؛
367 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمفوظ حتّى نقيس القضاءين إىل ذلك الواقع ،ونصف ٌ واقع
ٌ فليس للصغر والكرب
حق ،واآلخر بأنّه ٌ
باطل .بل واقعيتهام هي باإلضافة نفسها ،والنسبة القائمة أحدمها بأنّه ٌّ
يف النفس والذهن.
فام ذكره النسبيون إنّام يصح يف مثل هذه األُمور اإلضافية ا ّلتي ال واقعية هلا ّإال
مالحظة اإلضافة بني املقيس واملقيس عليه .وأ ّما األُمور ا ّلتي هلا واقعية وراء النسبة
واإلضافة ،وهلا حقيق ٌة حمدّ دة حيكي عنها العلم ،ففيها يكون أحد القضاءين صحيح ًا
قطع ًا ،وهو ما وافق الواقع وطابقه ،واآلخر باط ً
ال قط ًعا ،وهو ما خالفه .فقولنا( :درس
أرسطو عند أفالطون) ،وقولنا( :مل يدرس أرسطو عند أفالطون) ،ال يمكن أن يكونا
حق قطع ًا واآلخر باطل قطع ًا.
صحيحني وصائبني ،بل أحدمها ّ
فإهنا من الضآلة بمكان؛ أ ّما يظهر اجلواب عن األمثلة ا ّلتي ّ
متسكوا هباّ ، ُ وبذلك
يصح أن يكون
صحة توصيف الصديق باإلخالص واخليانة ،أنّه ّ
األول :فإن أرادوا من ّ
ّ
خملصا وخائنًا يف الواقع ،فهذا ال يقبله أحدٌ ،كيف والصداقة واخليانة
خاص ًٍّ يف ظرف
خمتلفان يف املبادئ واآلثار.
ثم يبدو له بعد ٍ
خملصاّ ،
وإن أرادوا أنّه يمكن إلنسان أن يتخ ّيل خليله يف ظرف ً
األول
فإن الرأي ّيمت إىل النسبية بصلةّ ،
ذلك أنّه كان خائنًا يف ذلك الظرف ،فهذا ال ّ
يرفض الرأي الثاين ويدفعه وال يصدّ قه ،فأين اجتامع احلقيقتني املتغايرتني؟!
ومن هذا يظهر حال ما زعموه يف النظريتني املعروفتني يف األفالك والعنارصّ ،
فإن
العلم -بام أنّه كاشف عن الواقع ومرآة له -فال حمالة تكون إحدامها خاطئة مطل ًقا،
واألُخرى صحيحة مطل ًقا.
يتمسكون به يف أكثر كتبهم ورسائلهم،وأ ّما املثال املعروف لدى النسبيني ،ا ّلذي ّ
ثم أخرجهام أن اإلنسان إذا أدخل إحدى يديه يف ماء بارد واألُخرى يف ماء ٍّ
حارّ ، وهو ّ
ٍ
حقيقة ختالف كال من اليدين خترب عن فإن ًّ
دفع ًة واحد ًة وأدخلهام م ًعا يف ماء ثالث فاترّ ،
ما خترب به األُخرى ،فهو مغالط ٌة واضح ٌة؛ إل ّهنم مل يم ّيزوا بني أمرين مها:
شيئني خمتلفني (احلرارة والربودة).ِ ان خيربان عن ِ
احلس ِ
أّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 368نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
با ّدعاء ّأهنا قض ّية بدهيية ال حتتاج إىل الدليل ،وهو ما نريده.
وصحة الفرضية ،بل قد ّ وثال ًثا :ال مـالزمة بني ّ
صحة النتيجة فـي مقام العمل،
فإن النسبة بينهمـا نسبة العموم والـخصوصتكون النـتيـجة صحيح ًة والفرضية باطل ًةّ ،
كل جـو ٍز
صحة النتيجة وال عكس ،نظـري قولنا ( ّ
دليل عىل ّفصحة الفرضية ٌ
ّ الـمطلق،
مدو ٍر جو ًزا).
كل ّمدو ٌر ،وليس ّ
ّ
األعم ،نظري
ّ األخص عىل وجود
ّ وإن شئت قلت :هؤالء استد ّلوا بوجود
حي يف البيت عىل وجود إنسان ،وهذا خاطئ .والشهود ٍ
كائن ّ االستدالل بوجود
والعيان ينفيان تلك املالزمة ،وهاك بعض النامذج:
إن نظرية بطليموس ا ّلتي سادت األوساط العلم ّية قرابة مخسة عرش قر ًنا منأّ .
الزمن ،كانت مبني ًة عىل مركز ّية األرض وحركة الشمس واألفالك حوهلا .ولك ّن هذه
أن األمر عىل العكس ،مع ّ
أن وتبني ّالنظرية بطلت من أساسها يف احلضارة احلديثةّ ،
النتائج ا ّلتي كان يستخلصها املنجمون والفلكيون ،اعتام ًدا عىل هذه الفرضية الباطلة،
صحيـح ٌة ال غبـار عليـها ،نظـري تعيـني قـواعد الـخسـوف والكسـوف وعالمـاته وأوقاتـه
الدقيقة ،وأوضاع اهلالل ودورة القمر الشهريةّ ،
واّتاه القبلة ،وخطوط الطول والعرض
وغري ذلك.
املكونة للكون أربعة :اهلواء والرتاب واملاء ب .كان السائد عند العلامء ّ
أن العنارص ّ
والنار .والعنارص األساسية ا ّلتي يتشكل منها الطبع البدين اإلنساين أربعة ً
أيضا :الدم
والبلغم والصفراء والسوداء .وكان األطباء يعاجلون هبذه الفرضية كثري ًا من األمراض،
صحة نتائجهم ٌ
دليل عىل وكانت عملياهتم ناجح ًة .ومع ذلك ال يمكن القول ّ
بأن ّ
صحة فرضيتهم.
ّ
صحة الفرضية ،إلمكان أن تكون صحة النتيجة ً
دليال عىل ّ ج .من السذاجة جعل ّ
نتيج ٌة واحد ٌة مرتتب ًة عىل فرضيتني خمتلفتنيً .
مثال :إذا أخربت مدير ّية سكك احلديد
صباحا برسعة مخسني
ً قطارا سينطلق من دمشق إىل املدينة املنورة الساعة الثالثة
بأن ًّ
سيتحرك يف الساعة نفسها من
ّ قطارا آخر
ً أيضا ّ
بأن رتا يف الساعة ،وأخربت ً
كيلوم ً
373 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
)1( MSIXRAM.
( )2سورة اإلرساء.81 :
375 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتصور ٍ
طائفة ُأخرى وتتغ ّلب عليها ،وقد أن طائف ًة تثور عىل
نحن نرى يف احلياة ّ
ّ
أن الغلبة هنا ،غلبة منهاجٍ عىل منهاج ،ولكن ً
كثريا ما ي ّتفق أن يكون اإلنسان الساذج ّ
ِ
املنهجني ال ّلذين تتبنامها أو ألي ٍ ٍ
من قبيل غلبة طائفة عىل طائفة من دون أن يكون ّ
ٍ
دخالة يف تلك الغلبة واملغلوب ّية. ٍ
طائفة ،أدنى تنسب إليهام ّ
كل
وألجل إيضاح احلال نم ّثل بمثالني:
األول :كان الرصاع بني أمري الـمؤمنني عيل بن أيب طالب ،ومعاوية،
الـمثال ّ
استمر سنني عديدة ،وانتهى بانتصار جيش معاوية ،وانـهزام جيش
ّ رصا ًعا عني ًفا،
مترد عىل ويص
احلق ،ومعاوية عىل الباطل حيث ّ عيل .)1(وال ريب ّ
أن عل ًّيا كان عىل ّ
النبي ّأو ًأل ،و ُمنتخب املهاجرين واألنصار ثاني ًا ،فكيف ُتفرس إ ًذا هذه الغلبة؟
ٍ
طائفة عىل إن هذه الغلبة مل تكن غلبة منهجٍ عىل منهج ،بل كانت من قبيل غلبة ّ
طائفة ،وهناك فروض متعدّ دة يمكن االستعانة هبا عىل تفسري هذه الغلبة ،مثل أن يقال:
إن العراقيني ،لتخ ّلفهم عن منهاج اإلمام عيل، إن الشاميني تغ ّلبوا عىل العراقيني ،أو ّ
ّ
حالفتهم اهلزيمة .والوقائع التارخي ّية تشهد عىل ذلك ،كيف وقد كان عيل يشتكي
من أهل العراق ختاذهلم عنه ،وتقاعسهم عن ح ّقه.
ِ
أن هؤالء القوم سيدالون ظن ّيقول فـي إحدى ُخطبه لـهم« :إ ّنـي وال ّلـه ألَ ُّ
وتفر ِقك ْم عن ح ِّقك ْم ،وبمعصيتك ْم إما َمكم ُّ منكم ،باجتامعهم عىل باطلهم،
وبادائ ِه ْم األمانة إلـى صاحبهم وخيانتكم، ِ ِ
وطاعت ِه ْم إما َمهم يف الباطل، يف احلق،
ب خلشيت ْ
أن وفسادكم ،فلو ائتمنت َأ َحدَ كم عىل ق ْع ٍ ِ وبصالحهم فـي بالدهم
فأ ْب ِد ْلني
وسئِموينَ ، ِ ِ
اللهم ّإين قد َمل ْلته ْم وم ّلوينَ ،و َسئ ْمته ْم َ
ّ يذهب بعالقته،
رشا مني.
خريا منهم ،وأبدهلم يب ًّ هبم ً
ث قلو َبـهم كمـا يمـاث الـ ِم ْلح فـي الـمـاء .أما واهلل َل َو ِددت َأ َّن لـي اللهم ِم ْ
ّ
ٍ
فارس من بني فراس بن َغنْم. بكم ألف
املرة قبل وقوعها ،نظري قوله يف إحدى خطبه« :أما واهلل ليسلط ّن عليكم غالم
عيل خيرب عن النتيجة ّ
( )1لقد كان ٌّ
ِ
ثقيف ،الذ ّيال امليّال ،يأكل خرضت ُكم ،ويزيل شحمت ُكم» .الحظ هنج البالغة ،اخلطبة.116 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 376نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
()1
فوارس مثل ْأر ِم َي ِة احلميم» ت أتـاك منهـم
هنالك لو َد َعـ ْو َ
فاإلمام- يف هذه الكلامت -يكشف النقاب عن العوامل ا ّلتي أ ّدت إىل هزيمة
تتلخص يف خت ّلف أتباعه عن األصول احل ّقة ا ّلتي جيب عىل الشعب االلتزام
جيشه ،وهي ّ
هبا ّتاه قائده ،بينام كان أتباع معاوية جيسدوهنا يف جمتمعهم .وهذه األُصول هي:
التفرق واالختالف.
.1توحيد الكلمة ووحدهتا ،ويقابله ّ
التمرد عليه وعصيانه.
.2إطاعة القائد ،ويقابلها ّ
.3أداء األمانة إىل اإلمام ،ويقابله خيانتها.
.4إصالح البالد ،ويقابله اإلفساد فيها.
حقة ،وكان اإلمام، هذه األصول ا ّلتي جاءت فـي كالم اإلمام ،وهي ُأصول ّ
داع ًام هلا ،والنرص حليف العمل هبا ،ولك ّن العراقيني خت ّلفوا عنها ،بينام تفانى فيها
الشاميون .فال ُتعدّ غلبتهم ،غلب ًة لـمنهج معاوية ا ّلذي كان مبتن ًيا عىل مبادئ ال توافق
جسد ألصول اإلسالم ومبادئه. تعاليم اإلسالم ،عىل منهج اإلمام عيل ،املُ ِّ
أن البالد اإلسالم ّية قد صارت يف هذه األزمان فريس ًة للغربيني،
الثان :نحن نرى ّ
وأن الغرب والرشق بمعسكريه االشرتاكي والرأساميل ،رضبا املسلمني رض ًبا عني ًفا،ّ
يشء نالته أيدهيم،ٍ وأغارا عىل ثقافتهم ومعارفهم واقتصادهم وثرواهتمّ ،
وكل
أن ذلك من قبيل غلبة منهج عىل منهج آخرّ ،
وأن اإلسالم صار فاإلنسان الساذج يزعم ّ
ساذج ال يثبت ّإال بعد
ٌ زعم
مغلو ًبا باملسيح ّية املزعومة ،أو املاركس ّية امللحدة ،ولكنه ٌ
نفي سائر الفروض ا ّلتي تصلح لتفسري هذه الغلبة ،ومنها ما سنوضحه.
ّ
استغل الغربيون هذه الفكرة للدعاية ملصاحلهم ،فرتى املسترشقني والقسيسني وقد
إن الطريق الدمث لتمييز احلق عن الباطل هو مالحظة آثار الديانتني: يقولونّ :
بلد أرشقت عليها شمس املسيح ّية تنعم بالرفاه ّية كل ٍ أن ّ
املسيح ّية واإلسالم ،فإنّا نرى ّ
بلد حيكمه اإلسالم تسود فيه األم ّية والتخ ّلف وكل ٍوالعمران والتقدم احلضاريّ ،
دليال عىل كون األوىل ح ّقة والثانية باطلة.
واالنحطاط ،أو ليس هذا ً
( )1هنج البالغة ،اخلطبة.25 :
377 مالك الحقيقة ومعيار متييزها عن األوهام | ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن املسيحية واإلسالم شجرتان ُغرستا يف املجتمعات اإلنسان ّيةّ ،إال إ ّن
ويقولونّ :
أن ثمرة شجرة املسيح ّية السبيل السهل ملعرفة حقيقة الشجرة هو ثمرهتا ،ونحن نرى ّ
هي العلم والتمدّ ن ،وثمرة شجرة اإلسالم خالف ذلك.
فيفرسون تقدّ م البالد
السذجّ ، ّ مغالطات حمضة ،يتأ ّثر هبا
ٌ ولك ّن هذه الكلامت
اإلسالمي ،وهذا
ّ وتفوقه عىل املنهج املسيح ّية ّ
وتأخر اإلسالم ّية ،بتقدم املنهج النرصاين ّ
ا ّدعا ٌء حمض ،ال يثبت ّإال إذا كانت البالد اإلسالم ّية إسالمي ًة ح ًّقا ،وكانت السيادة فيها
لإلسالم اإلسالم ،وكانت البالد املسيح ّية مسيح ّية ح ًّقا والسائد عليها هو الدين
ّ
نستدل بنجاح أحد املنهجني عىل اآلخر بكونه ح ًّقا املسيحي ،فعند ذلك يمكن أن
واآلخر ً
باطال.
فإن كال األمرين منتفيان ،فليست البالد اإلسالم ّية إسالم ّي ًة
ولكن حلسن احلظّ ،
إسالمي ،وال الـ ُح ّكام املتصدّ ون للحكومة إسالميون ،وال
ّ حقيقي ،وال النظام
ّ باملعنى الـ
القوانني اإلسالم ّية هي املط ّبقة يف املجتمع ،وإنّام حيملون اسم اإلسالم يف تلك
ٍ
حدود ما -سائدً ا فيها ،كانت مزدهر ًة بالعلم املجاالت .ويوم كان اإلسالم -ولو إلـى
والعمران ،حليفة الرقي والتقدّ م ،وكانت البالد األوروب ّية والغرب ّية عا ّمة -بام ّأهنا كانت
متمسك ًة باملسيح ّية املزعومة -متدهور ًة ،ال أثر لعل ٍم فيها وال حلضارة ،يعيش أهلها عيشّ
الوحوش وحتكمهم قوانني الغاب.
وعند ما انقلب األمر وخلعت البالد اإلسالم ّية ربقة اإلسالم عن عنقها ،انقلبت
رأسا عىل عقب ،ورحلت عنهم العلوم واملعارف؛ وبذلك ي ّتضح ّ
أن اهلزيمة حضارهتم ً
كانت ناّتة عن االبتعاد عن اإلسالم ،واالنحالل من االلتزام بمبادئه و ُأصوله وفروعه،
أن غلبة الغرب ناّت ٌة عن طرده للمسيح ّية املزعومة ا ّلتي كانت حتارص العلم والعلامء،
كام ّ
ومتسكه بأسباب احلضارةوتعذب املكتشفني واملخرتعني ،وتنرش اخلرافات واألساطريّ ، ّ
واألُصول اإلنسان ّية التي لـم يزل اإلسالم داع ًيا إليها ،واتّصاله باحلضارة اإلسالم ّيـة
واقـتبـاس علومها وإكامل مسريهتا .واهلل تعاىل يعلم إىل متى تستمر هذه الغلبة -وبوادر
انحاللـهم ويقظة الـمسلمني قد ظهرت -وهلل سبحانه سنن ال تتخ ّلف ،قال سبحانه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ | 378نظر ّية املعرفة /ج : 1املفاهيم التأسيس ّية
***
الـمـصـادر
.1القرآن الكريم
.2اإلمام عيل بن أيب طالب .هنج البالغة .مجعه :الرشيف الريض.
.3فيلسني شاله .الفلسفة العلمية .ترمجة :د .حييى مهدوي
.4الطباطبائي ،حممد حسني .امليزان يف تفسري القرآن.