Professional Documents
Culture Documents
الخطاب النقدي عند المعتزلة ، الدكتور كريم الوائلي
الخطاب النقدي عند المعتزلة ، الدكتور كريم الوائلي
األستاذ الدكتور
كريم الوائلي
3
815,9
و 298الوائلي ،كريم
الخطاب النقدي عند المعتزلة /كريم الوائلي _ .
بغداد :مكتب زاكي 2021،
362ص ؛ 24 x 17سم
.أ .العنوان -1الخطاب العربي – نقد 2ــ المعتزلة
م .و.
2021/3460
4
المقدمة
5
6
ليست القراءة فعال فيزيولوجيا يتأتى بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب
ما تقتضيه األنظمة اللغوية ألي لغة ،وإنما القراءة ،سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا
يقع خارج الذات اإلنسانية ،أو نصا بوصفه تشكيال لغويا ،تعني :الفهم ،ومن ثم فإنها
تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة نظرته إلى
العالم أو النص ،والزاوية التي يتم الصدور عنها.
إن القراءة في ضوء هذا الفهم مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم
والنص ،ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء ،فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجود ،ويصبح
بعد القراءة موجودا آخر ،ألن القراءة ليست نقال للمقروء ،أو إحضا ار له ،وإنما يضفي
القارئ على المقروء رؤيته ،وذاته ،وخصوصيته ،ويتولد من العالقة بينهما مركب جديد،
ليس هو المقروء تماما ،وليس هو القارئ بما هو عليه ،وإنما هو مركب منهما معا بكيفية
خاصة ،ولذلك تتفاوت القراءات الختالف القراء ،وكأن المقروء ثابت قبل القراءة ،وتتغير
صورته ومعانيه ودالالته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته .
ويمكن القول تجاو از أن النص قبل القراءة يعرف استق ار ار نسبيا في داللته ومعانيه،
ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم ،إذ ال وجود حقيقي للنص إال في أثناء قراءته ،نعم
هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات اإلنسانية ـ متمثال في الكتب ـ التي
أنتجته ،أو تقرأه ،ولكنه وجود هامد ،ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته .
وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص
دالالتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خاللها ،وهناك قراءة غير ممكنة ،لعدم احتمال
النص داللتها ،وبخاصة القراءة االسقاطية .
إن قراءة النص بمعنى فهمه تتضمن األبعاد اآلتية :
1ـ الفهم المباشر دون حاجة إلى تفسير أو تأويل .
2ـ التفسير ،إذ حين يستعصي الفهم المباشر نشأت الحاجة إلى االنتقال إلى فهم آخر
يقتضيه السياق وقرائن اللغة ،فإن كلمة الوحي حين ترد دون سياق أو قرينة لغوية لها
داللة تعني الوحي الذي يتنزل من السماء على األنبياء ،متمثال في جبريل ،عليه السالم،
7
َن اتَّ ِخِذي ِم ْن
الن ْح ِل أ ْ
ُّك ِإَلى َّ
ومن ثم تختلف عن معناها في قوله تعالى َ « :وأ َْو َحى َرب َ
اْل ِجب ِ
ال ُبُيوتًا و ِم ْن َّ
الش َج ِر َو ِم َّما َي ْع ِرُشو َن ». َ َ
3ـ التأويل :وهو مرحلة متقدمة في فهم النص ،تعني إخراج اللفظ من معناه الحقيقي
الذي يدل عليه الفهم المباشر ،او سياقاته ،إلى معناه المجازي .ولذلك فإن التفسير بيان
وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن اللفظ ...فالتأويل
خاص والتفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويال.
وتتركب عملية القراءة من ثالثة مكونات :القارئ ،والمقروء ،وناتج القراءة ،وقد يوحي
ترتيب هذه األبعاد أوالية القارئ ،بمعنى فاعليته ،وانفعالية النص, ،بحيث تكون القراءة
مجرد نتيجة لعملية ميكانيكية ـ تتماثل فيها النتائج والمقدمات ،وليس هذا صحيحا في
الواقع ،ألن هناك جدال بين القارئ والمقروء ،يتولد من تفاعلهما المحتدم وتصارعهما بفعل
العالقات المتشابكة والمعقدة والمتداخلة ،ناتج القراءة ،ويشتمل كل من عنصري عملية
القراءة « القارئ /المقروء » على خصائص تميزه ،وإن إغفال هذه الخصوصية وأدراك
أهميتها يقود بالضرورة الى فهم سلبي لعملية القراءة والنتائج المتولدة منها ,بمعنى أن
إغفال هذه الخصوصية أو التهوين من قيمتها وأهميتها ،يعني هيمنة أحد طرفي عملية
القراءة ،فإما أن تكون الذات فاعلة إزاء موضوعها ،بحيث تلغي المقروء ،أو تقرأه خارج
دالالته وسياقاته ،أو أن يهيمن المقروء على القارئ ،فيتحول الى مجرد ناقل ،وكال
األمرين يعني ناتجا سلبيا ،يلغي أحد طرفي المعادلة ،ويقدم قراءة أقل ما يقال عنها أنها
قراءة سلبية .
وقد تكون القراءة السلبية ذاتية تتخذ من التراث وسيلة دفاعية يؤكد فيها القارئ ذاته ،بحيث
يستعيد المعايير التراثية ويضخم من جوانبها اإليجابية ،ويحاول إسقاطها على الحاضر
والمستقبل ،والهدف من ذلك االحتماء بالتراث في مواجهة تيارات معاصرة ،وعلى الرغم
من سلبية هذه القراءة فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تسهم في بداية لقراءة نقدية واعية،
ألنها تستبعد الجوانب السلبية في عصور االنحطاط ،واألهم من هذا أنها تحذر من
االنسياق وراء القراءة الشكلية والسقوط في اإلنجازات المستوردة ،غير أن التوقف عند هذه
الغاية لن يحقق جديدا ،ألن التراث يمارس سلطته على الحاضر والمستقبل ،وهذا ما
8
حصل فعال في القراءة اإلحيائية التي هيمنت فيها األصول القديمة بشكليتها وحرفيتها،
وأصبحت غاية مقصودة لذاتها .
إن القراءة الفاعلة التي يتبناها هذا الكتاب تعني :
1ـ تأكيد أهمية تاريخية المقروء ،بمعنى أنها تنفي المعايير واألحكام المسبقة القائمة على
أساس ديني ،أو مذهبي ،ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي
واالجتماعي ،أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي ،وأن وجوده محكوم
بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية ،وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة
له .
إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل ،وجزء من منظومة ،وينبغي فهمه في إطار
منظومته ،وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخال لطبيعته وماهيته .
2ـ إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي ال يعني بالضرورة أنه
منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دالالته .
3ـ نفي القراءة االنطباعية االنفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على األشياء وتقيم قراءة
تتأسس على عقالنية منهجية تؤكد أهمية النظر ،وتعلي من شأن التحليل والتعليل .
إن هذا النمط من الدراسة يوازن في الوعي بين إنجازات التراث النقدي وإمكاناته
ّ
الفكرية والفنية وبين الوعي بالحاضر الذي يرفدنا برؤى وأدوات وتقنيات إجرائية ،وتوّلد من
تالحم الوعيين ـ الماضي والحاضر ـ تجادل متفاعل يجعل الدارس متبص اًر بمعضالت
الحاضر النقدية ونظائرها في التراث ،وهذا من شأنه أن يدفع إلى تحسس هويتنا التي
أخذت تترنح بين التغريب والتجهيل ،كما أنه يبعث على إقامة حوار مستمر مثمر ال
قطيعة فيه بين ماضينا وحاضرنا ،ومن هنا تكتسب العالقة الجدلية الفاعلة بالتراث أهميتها
وحيويتها ،وتتأكد جدواها وفائدتها .
إن تركيز البحث على دراسة المعتزلة يعني الكشف عن تصورات هذه المدرسة ّ
الفكرية المتميزة في أثناء معالجتها للقضية النقدية من زواياها المختلفة ،كما أنه يساعد
على اإلحاطة الشاملة لوحدة تصور متكامل للمعضالت النقدية دون التشتت بين اآلراء
المختلفة والتيارات المتباينة ،كما أنه يكشف من ازوية أخرى عن مقدار انسجام أتباع هذه
9
المدرسة أو افتراقهم عن األصول الفكرية والعقائدية التي يصدرون عنها ،ومقدار التزامهم
بالتحليل العقلي العتبارهم العقل أداتهم الجوهرية المتميزة.
واتجه البحث إلى دراسة المقياس النقدي الذي يستخدمه الناقد في تفسير النص
األدبي وتحليله وتقويمه ،ويسعى البحث ـ من هذه الناحية ـ إلى الكشف عن آثار الفكر
االعتزالي في تحديد مكونات المقياس ،وتحديد دوره في التفاعل مع النص الشعري،
والكيفية التي يسهم فيها المقياس في تمكين الناقد من درس النص األدبي متجاوباً مع
تفكيره من ناحية ،ومستغالً أدواته النقدية من ناحية ثانية .
إن المقياس النقدي ال ينفصل عن الفكر الذي يصدر عنه ،وال يبتعد عن طبيعةّ
المشكالت التي أفرزها الواقع بل هو خاضع لهما بدرجات متفاوتة ،بحسب نوعية المقياس
ودوره في معالجة النص األدبي ،وبحسب إجابته عن المعضالت التي يشتمل عليها
أن المقياس النقدي ليس منفصالً عن العناصر الجوهرية المكونة للتصور
الواقع ،كما ّ
النظري النقدي إن لم يمثل الجوهر الذي يرتكز عليه هذا التصور ،ولذا ّ
فإن دراسة
المقياس النقدي تمثل تحاو اًر وتفاعالً بين الفكر وأدوات التحليل من ناحية ،وبين الفكر
والتصورات النقدية من ناحية ثانية ،كما أنه يمثل تأسيساً لـ »نظرية للشعر« في التراث
النقدي من ناحية ثالثة .
ويتأسس هذا البحث على تمهيد وأربعة فصول ،وخصصت التمهيد للعناية
بمحورين :يعنى أولهما :بوصف مصادر البحث وتقويم مراجعه ،وتتركز فيه العناية،
بوصف مصادر البحث من جهتي المضمون والبيبلوغرافيا من ناحية ،وتقويم الدراسات
التي تعرضت إلى موضوع بحثنا على نحو من األنحاء من ناحية ثانية ،ويعنى المحور
الثاني :باألصول الفكرية للمعتزلة التي يتجلى من خاللها موقفهم من هللا والعالم
واإلنسان.
ويتخصص الفصل األول بـ» المقياس اللغوي « وهو يهدف إلى الكشف عن
جماليات األنظمة اللغوية ـ صوتية ،وصرفية ،ونحوية ـ ويركز على التمايز بين معيارية
هذه األنظمة ومدى توظيفها لتأدية دالالت جمالية ،ويحاول الكشف عن القوانين التي
تتحكم في هذه األنظمة ومدى كشفها عن جماليات يسعى الناقد إلى تأصيلها .
10
أما الفصل الثاني فيعنى بـ »المقياس البالغي « الذي يعنى أساساً بالتمايز بين
األداء النمطي ـ العادي ـ واألداء الفني ـ األدبي ـ من حيث التشكيل ،ومن حيث التغير
الوظيفي ،ويعنى أيضاً باألنماط البالغية التي يعتمدها هذان المستويان من األداء ،مما
اقتضى تتبعاً لموضوعات عديدة :كالمحكم والمتشابه ،والمجاز ،والتشبيه ،واالستعارة،
ونحوها .
ويتخصص الفصل الثالث بـ» المقياس النقدي « الذي يعنى بأربعة مقومات
جوهرية في النظرية النقدية ،أولها :لغة الشعر من حيث تشكيل هذه اللغة وتمايزها عن
األنماط اللغوية األخرى ،وثانيها :اإليقاع ،ومقدار ما يؤديه من وظيفة من جهتي التشكيل
من ناحية ،والتأثير بالمتلقي من ناحية ثانية ،وثالثها :الصورة الشعرية ،من حيث وظيفتها
وأنماطها وكيفية تشكيلها ،ورابعها :بنية القصيدة في ضوء تركيب أبياتها ،وتتالي وحداتها
المختلفة .
ويعنى الفصل الرابع بـ» المقياس الجمالي « إذ يدرس » قيمة « الشعر من
حيث عالقتها بالحسن والقبح العقليين ،ومن حيث مكوناتها الخارجية والتشكيلية ،كما
يدرس »المثل األعلى « بوصفه معيا اًر جمالياً وعالقته بالصورة الذهنية من جهة ،وبالواقع
من جهة ثانية ،وكيفية تأدية دوره في تشكيل القصيدة،كما يعنى هذا الفصل بماهية الشعر
من حيث المكونات الشكلية والخصائص النوعية ،وتوقف أخي اًر عند مهمة الشعر ،إن
كانت توصيلية أو تزيينية أو نحوهما .
إن هذا البحث قد تتبع مقاييس نقد الشعر من أبسط مستوياتها إلى أكثرها شموالً،
ّ
بمعنى أنه تتبع المقاييس ابتداء من عنايتها الجزئية بالوحدات الصوتية منفصلة أو
ممزوجة بغيرها ،ومرو اًر بالعناية باألشكال البالغية المتعددة ،فضالً عن تتبعه لغة الشعر
واإليقاع والصورة وبنية القصيدة ،وانتهاء بتتبع األبعاد القيمية للنص الشعري ،وماهية
أن البحث قد أحاط في الوقت نفسه بمقومات
الشعر وتأديته للوظائف المختلفة ،وهذا يعني ّ
»نظرية الشعر « من زوايا مختلفة .
أن توزيع مقاييس نقد الشعر بأنماطها المختلفة ـ
وينبغي أن أؤكد قضية مفادها ّ
لغوية ،وبالغية ،ونقدية ،وجمالية ـ إنما هو تقسيم فرضته طبيعة البحث ،ألن هذه
11
المقاييس ليست مستقلة ـ في الحقيقة ـ عن بعضها ،فهي تتفاعل وتتقاطع وتشترك في
بعض المكونات والخصائص ،فالمقياس اللغوي ـ مثال ـ ليس مستقال عن أداء أبعاد
أن المقياس البالغي ليس منفصالً عن األنظمة اللغوية ،فالفصل ـ في هذا
جمالية ،كما ّ
السياق ـ متعمد فرضته طبيعة البحث .
12
التمهيد
13
14
القسم األول
وصف مصادر البحث وتقويم مراجعه
إن إسهامات المعتزلة الفكرية في القرن الرابع الهجري متعددة ومتنوعة ،ولسنا
ّ
بصدد عرض تفصيلي لكل مؤلفاتهم إال بمقدار ما يتصل بموضوعنا ،وهو مدى كشفها
فإن هذا القسم من التمهيد ال يشير إلى المؤلفات التي ال
عن تصورات نقدية ،ولذلك ّ
أن البحث قد يكون أفاد منها إفادة معينة في
تنطوي على تصور نقدي ما ،على الرغم من ّ
مجال آخر ،واقتضى هذا ذكرها في فهرس مصادر البحث ومراجعه ،وستتركز العناية ـ
هنا ـ بالمصادر التي اشتملت على تصورات نقدية ،وقد راعيت في تتبع هذه المصادر
الترتيب الزمني بحسب وفيات مؤلفيها .
ونلتقي هنا في مطلع هذا القرن بأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى سنة
322هـ في كتابه » الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية« وهو بتحقيق :حسين بن
فيض هللا الهمداني ،وقد طبع الجزء األول من هذا الكتاب طبعتين :األولى سنة 1956م
والثانية :سنة 1957م ،وهي التي اعتمدها البحث ،وكلتا الطبعتين عنيت بنشرهما دار
الكتاب العربي بمصر ،أما الجزء الثاني فقد نشرته مطبعة الرسالة في القاهرة سنة
1958م.
ويعنى كتاب » الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية « بجمع األلفاظ العربية
ُ
التي تغيرت داللتها عما كانت عليه في الجاهلية ،فهو من هذه الناحية ُيعنى بالتطور
اللغوي لداللة الكلمة ويحتويها بلون من التحديد والتعريف ،وهو ال يتوقف عند ذكر مستوى
داللتها وتطوره ،بل يستشهد بالقرآن الكريم والحديث النبوي وأشعار العربُ ،
ويعنى الكتاب
وتحدث بشكل عام عن العروضّ عناية بالغة بمعيارية بعض العلوم كالنحو والعروض،
15
والدوائر العروضية واألوزان الشعرية ،وتتجلى القيمة الحقيقية للكتاب ـ إضافة إلى عنايته
بالتطور الداللي لأللفاظ العربية ـ في تحديده لماهية الشعر ،ولعل أهم ما في هذا التحديد
اقتران الشعر بلون من المعرفة تَرقى في الجاهلية إلى منـزلة األنبياء ،إضافة إلى عناية
الكتاب بمهمة الشعر ودوره في التأثير في المتلقي واالحتجاج بالشعر في تفسير القرآن
الكريم ،ويتركز حديثه هذا في الجزء األول ،أما الجزء الثاني فقد شغل فيه المؤلف بأسماء
هللا سبحانه وتعالى ،وبتحديد كلمات إسالمية أخرى :كالكرسي ،والصراط ،والثواب،
والقيامة ،ونحوها .
أما أبو أحمد الحسن بن عبد هللا بن سعيد العسكري المتوفى سنة 382هـ فله
رسالة عنوانها » في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم « والرسالة غير محققة ،وقد
نشرت ضمن مجموعة من الرسائل تحت عنوان»التحفة البهية والطرفة الشهية « وقد
نشرتها مطبعة الجوائب في القسطنطينية سنة 1302هـ ،ورسالتنا هذه هي الرسالة السادسة
عشرة ،وتقع في الصفحات من ثالث عشرة ومائتين إلى إحدى وعشرين ومائتين ،وقد
أخطأ الناشر إذ نسبها في الفهارس إلى أبي هالل العسكري ،ولكنه نسبها إلى صاحبها
أن ذكر عنوانها ،والثابت ّأنها ألبي أحمد العسكري ،1وعلى الرغم من قصر الرسالة بعد ْ
فإن لها قيمة نقدية لما تتميز به من تحديد لماهية الشعر يتجاوز التحديد الشكلي النتظام
ّ
الكلمات الخارجي إلى خصائص تتصل بالدالالت واإليقاع والصياغة ،كما أنها تنطوي
على تمايز بين األداء النمطي ـ العادي ـ واألداء الفني ـ الشعري ـ في أثناء تعرض أبي
أحمد العسكري للغة الشعر ،والرسالة في جوهرها تحاول التمييز بين بالغة العرب وبالغة
العجم من خالل عرض آراء علماء البالغة ،إضافة إلى تحدثها عن فنون البالغة
ِ
يكتف المؤلف بهذا بل أسهب في تناول الروايات التي كالتشبيه واالستعارة ونحوهما ،ولم
تتحدث عن آراء علماء البالغة عرباً وأعاجم.
1ـ في صحة نسبة هذه الرسالة ألبي أحمد العسكري ،ينظر :بدوي طبانة ،أبو هالل العسكري ومقاييسه
البالغية والنقدية ،مكتبة االنجلو المصرية ،القاهرة 1960 ،م ،ص 40وما بعدها .
16
وألبي أحمد العسكري كتاب معروف هو » المصون في األدب « وقد نشرته
دائرة المطبوعات والنشر في الكويت سنة 1960م بتحقيق :عبد السالم هارون ،وتتجلى
عناية المؤلف بهذا الكتاب في موضوعات عديدة يمكن تصنيفها على النحو اآلتي :
التشبيه ،وتاريخ العربية ،ومختارات من الشعر والنثر ،والكتاب كله مبني على أساس ذكر
أخبار تعتمد على الرواية ،وهي أخبار يستقل بعضها ،ويجمعها باب يحتويها ،وال يهمنا
كثي اًر تاريخ العربية الذي ُعني فيه المؤلف بنشأة النحو وأضرابه من الموضوعات ،كما ال
يهمنا كثي اًر التوقف أمام مختاراته من الشعر والنثر ،قدر عنايتنا بنقد الشعر الذي يعتمد
فيه على الرواية ،وينقل فيه آراء نقدية لمن سبقه من النقاد ،وتتجلى قيمة الكتاب بعناية
المؤلف البالغة بالتشبيه من حيث :أنواعه ،وأمثلته ،وجيده ،لدى القدامى والمحدثين .
ولقد ترك علي بن عيسى الرماني المتوفى سنة 384هـ ـ وقيل سنة 386هـ ـ
بصمات واضحة على التراث النقدي والبالغي ،وتعد رسالته »النكت في إعجاز القرآن «
إن هذه الرسالة نشرها الدكتور عبد العليم في الهند
ذات قيمة نقدية وتاريخية مهمة ،وقيل ّ
عام 1934م تحت عنوان »كتاب النكت في مجاز القرآن « 1وقد نشرتها دار المعارف
بمصر دون تاريخ ضمن » ثالث رسائل في إعجاز القرآن« بتحقيق :محمد خلف هللا،
ومحمد زغلول سالم ،وتقع رسالة » النكت في إعجاز القرآن « في الصفحات من تسع
وستين إلى أربع ومائة ،وقد اعتمد البحث هذه الطبعة ،وتعد هذه الرسالة الصغيرة ذات
تأثير على التراث النقدي والبالغي لما تركته من بصمات واضحة على الالحقين سواء
أكان في الحدود البالغية والنقدية أم في األمثلة التي استشهد بها ،2وتتميز هذه الرسالة
بقيمتها النقدية التي تتعدد فيها عناية الرماني ابتداء من المستويات الصوتية واإليقاعية في
تالؤم الحروف في التأليف ،والفرق بين القافية في الشعر والفاصلة في القرآن ،إلى عنايته
1ـ ينظر :كارل بروكلمان ،تاريخ األدب العربي » الجزء الثاني « ترجمة عبد الحليم النجار ،دار المعارف،
مصر 1974 ،م . 189/2 ،
2ـ ينظر » ثالث رسائل في إعجاز القرآن « تحقيق محمد خلف هللا ،ومحمد زغلول سالم ،دار المعارف،
مصر ،د .ت ،ص 150ـ . 180
17
بالجناس في مستوياته المختلفة ،وتُعنى هذه الرسالة أيضا بتمايز مستويات األداء النمطي
والفني :من جهة اإلطناب ،واإليجاز ببعديه :الحذف والقصر ،ووظائفها وتحديد
ماهياتها ،وكذلك التشبيه واالستعارة وتحديد ماهياتهما ووظائفهما ،إضافة إلى عناية
المؤلف بالمبالغة والبيان ،ويضرب الرماني لهذا كله أمثلة من اآليات القرآنية الكريمة،
إضافة إلى عنايته بأمثلة شعرية ،وهو أمر نادر ،والرسالة على قصرها وقلة صفحاتها
ذات قيمة نقدية وبالغية.
وألبي عبد هللا محمد بن عمران بن موسى المرزباني المتوفى سنة 384هـ عدة
كتب أولها » :معجم الشعراء « وقد طبع هذا الكتاب مرتين ،األولى بتحقيق :فريتس
كرنكو ،ومعه كتاب » المؤتلف والمختلف « لآلمدي ،ونشرته مكتبة القدسي في القاهرة
أن بحثنا اعتمد طبعة أخرى ،وهي سنة 1354هـ ،وقد اطلعت على هذه الطبعة ،غير ّ
الطبعة الثانية التي قام بتحقيقها :عبد الستار أحمد فراج ،وقد ُعنيت بنشرها دار إحياء
الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،في القاهرة سنة 1960م ،قد أشار عبد الستار
أحمد فراج لنواقص عديدة في طبعة كرنكو ،1وقد ألحق فراج بطبعته فهارس نافعة ،
والكتاب مخصص لتراجم الشعراء ،وتتركز عنايته البالغة بالشاعر ،واستشهاده بنصوص
شعرية ولكن عنايته بالتحليل وإصدار األحكام النقدية نادرة ،وحتى في حالة إصداره
أحكاما نقدية ـ على ندرتها ـ فيمكن تصنيفها في إطار االستجابات االنطباعية العامة،
كأن يصف شاع اًر بأنه » بارد الشعر ضعيف القول « ،2وما وصل إلينا من الكتاب
ناقص من أوله ،وقد رتبه المرزباني ترتيباً هجائياً ،فابتدأ ما وصلنا منه بمن اسمه
بأن القيمة النقدية
«عمرو» من الشعراء ،وانتهى بحرف الياء ،ويمكن إجمال القول ّ
للكتاب ضئيلة.
1ـ المرزباني ،الموشح ،مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر ،تحقيق علي محمد
البجاوي ،دار نهضة مصر ،القاهرة ، 1965 ،ص :ط ـ ك .
2ـ نفسه ،ص . 386
18
أما كتابه المعروف بـ » الموشح « فقد تولت جمعية نشر الكتب العربية بالقاهرة
نشره في مصر سنة 1343هـ ،وقد تولت نشره المطبعة السلفية تحت عنوان «المـوشـح
في مآخـذ العلماء على الشعراء » وقد ألحقت بالكتاب فهارس نافعة ،وقد اطلعت على هذه
الطبعة ،غير أن بحثنا اعتمد على طبعة دار نهضة مصر التي نشرت الكتاب سنة
1965م في القاهرة بتحقيق :علي محمد البجاوي تحت عنوان » الموشح ،مآخـذ العلماء
على الشعراء في عـدة أنـواع من صناعة الشعر « ،وقد ألحق به محققه فهارس نافعة ،
وكتاب »الموشح« يدل عليه عنوانه ،فهو يعنى بمآخذ العلماء على الشعراء ،وتغلب على
الكتاب النـزعة التعليمية ،ويمكن تقسيم الكتاب إلى تراجم للشعراء ،والى خصائص الشعر
وعيوبه ،ففي القسم األول يؤرخ المؤلف للشعراء بحسب أزمانهم ،ويبدأ بشعراء الجاهلية
ويتلوهم بشعراء اإلسالم ،ومن ثم الشعراء المحدثين ،وتغلب على ترجمته للشعراء كثرة
نقول عن كتب نقدية ذات أثر في الحركة النقدية،
الروايات التي ينقلها ،وتتخللها أيضاً ٌ
ويعنى المرزباني في القسم الثاني بفنون الشعر وعيوبه،
مستدالً بها على عيوب الشعر ُ ،
إذ يتناول عيوب القافية :كاإلقواء ،واإلكفاء ،واإليطاء ،وتغلب عليه ـ هنا ـ الرواية أيضاً،
كما يعنى بألوان أخرى من عيوب الشعر ،وهي نقل حرفي من كتب نقدية معروفة ،يشير
إليها المرزباني ،ومن هذه الكتب » :عيار الشعر « البن طباطبا العلوي و»نقد الشعر «
إن الغاية التي يهدف
لقدامة بن جعفر ،وهذا ما يقلل من أهمية الكتاب وقيمته في آن ،إذ ّ
إليها المؤلف تعليمية ،ويقل فيها التأصيل إلى حد كبير ،ويتجلى ذلك في كثرة الرواية
وكثرة النقل من الكتب التي أشرنا إليها .
أما كتاب » نور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة واألدباء
والشعراء والعلماء « للمرزباني ،فقد حققه رودلف زلهايم ،ونشرته دار فرانتس شتاينر في
ويعنى هذا الكتاب بالتراجم ويختص بها ،وقد رتبه
فيسبادن سنة 1384هـ ـ 1964م ـُ ،
مؤلفه على أساس الحواضر اإلسالمية :البصرة ،والكوفة ،وبغداد ،وتحدث عن أخبار
علماء البصرة ونحاتها ورواتها ،وفعل مثل ذلك مع الكوفة وبغـداد ،وما في الكتاب من آراء
أدبيـة نادرة جـداً ،ال ترقـى في قيمتها لما في كتـاب »الموشح « من آراء ،ألن عناية
المؤلف متركزة في ذكر األخبار والروايات .
19
عباد ،المتوفى سنة 385هـ
عباد « المعروف بالصاحب بن ّ ولـ » إسماعيل بن ّ
إسهامات متعددة ُيعنينا منها اثنان :أولهما «:اإلقنـاع في الـعروض وتخريج القوافي »
والكتاب بتحقيق :الشيخ محمد حسن آل ياسين ،وقد نشرته مطبعة المعارف في بغداد
سنة 1379هـ ـ 1960م ،ويعنى كتاب »اإلقناع « بالعروض العربي من حيث حدوده،
وأوزانه ،وإرجاع األوزان إلى أصولها في الدوائر العروضية ،إضافة إلى تتبع األوزان
الشعرية باختالف أضربها ،وأعاريضها ،وزحافاتها ،موزعاً إياها على دوائرها العروضية
فيعنى المؤلف
المعروفة ،ويستشهد المؤلف لذلك بأمثلة شعرية ،أما في تخريج القوافي ُ
بأنواع القافية ،وعيوبها ،وأحرفها ،وحركاتها .
عباد الثاني فهو رسالته » الكشف عن مساوئ شعر أما إسهام الصاحب بن ّ
إن هذه الرسالة نشرت في القاهرة سنة 1342هـ ،1وقيل نشرتها مكتبة
المتنبي « ،وقيل ّ
القدسي في القاهرة أيضاً سنة 1346هـ ،2وقيل إنها طبعت بمطبعة المعاهد في مصر
سنة 1349هـ ،3وطبعت الرسالة مع كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي « ألبي سعيد
محمد بن أحمد العميدي ،بتحقيق :إبراهيم الدسوقي البساطي ،وقد نشرت الكتاب دار
المعـارف بمـصر سنة 1961م ،وعنـوان رسـالة الصاحب بن عبـّاد » الكشف عن مساوئ
المتنبي « ،وهي تقع في الصفحات من إحدى وعشرين ومائتين إلى خمسين ومائتين ،وقد
اعتمد البحث هذه الطبعة ،ويقال إن »الكشف عن مساوئ شعر المتنبي « نشرتها مكتبة
النهضة في بغداد سنة 1965م بتحقيق :الشيخ محمد حسن آل ياسين 4
وبل ـ ٍ
ـدة فـيهـا َزَوْر ََ ْ
صـعـراء تـخطى في صـَ َع ْر
إن شرحه يمثلأن هذه األرجوزة ال تمثل سوى محور يرتكز عليه ابن جني ،إذ ّ غير ّ
طوف فيها ابن جني بين علوم العربية ويستطرد ،ويحدد هدفه في مقدمة
موسوعة لغوية ُي ّ
كتابه حيث يقول »:سألت ـ أعزك هللا ـ أن أعرب لك أرجوزة أبي نواس التي أولها » وبلدة
أفسر ما فيها من معنى ولغة وإعراب وأورد في ذلك
فيها زور « وأن أشبع الكالم ،وأن ّ
النظائر» ، 1وقد شغلت ابن جني أمور منها أنه يشرح معاني بعض المفردات ويتوقف
1ـ ابن جني ،تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد واألمين ،تحقيق محمد بهجة
األثري ،مطبوعات مجمع اللغة العربية ،دمشق 1400 ،هـ ـ 1979م ،ص . 1
22
عندها ،وكأن غموض البيت الشعري مقترن بهذه المفرداتْ ،
فإن أميط اللثام عن معانيها
اتضحت داللة البيت الشعري كله ،غير أن قصد ابن جني لم يقتصر على شرح هذه
المعاني فحسب ،بل كان يتناول األبيات الشعرية في بعض مفرداتها إعراباً ،ويستطرد في
ألوان هذا اإلعراب وتقديراته المختلفة واحتماالته المتعددة ،ويستشهد لهذا كله بآيات قرآنية
إن ابن جني يغلب عليه ـ هنا ـ تناول
كريمة أو أبيات من الشعر العربي ،وأكثر من هذا ّ
بعض المفردات تناوالً معجمياً ،بحيث ال يكشف عن داللة الكلمة عبر سياقها ،وكان
يشغله في أحايين كثيرة الكشف عن مشكلة لغوية ،فجعل من أرجوزة أبي نواس محو اًر
ويعنى ابن جني أحياناً بالكشف عن داللة
تدور حولها قضايا ومعضالت لغوية عديدة ُ ،
الكلمة من خالل سياقها اللغوي ،ولكنه ال يتوقف طويالً عندها ،بل يذهب ـ في الغالب ـ
ليعدد دالالت هذه الكلمة في سياقات مختلفة ،ويستشهد لذلك بنصوص من القرآن الكريم
ويرجع الكلمة إلى أصل داللتها في الوضع ،وما تفرعت عنه من دالالت
والشعر العربيُ ،
ويعرج في الوقت نفسه على موضوعه األثير وهو الدرس العميق للقضايا اللغوية
أخرىّ ،
والنحوية والصرفية والعروضية .
ويؤكد ابن جني بهذا الشرح عنايته بالشعر المحدث ،على غرار ما فعل مع
أن تفسيره ألرجوزة أبي نواس ـ هنا ـ قد اشتمل على
المتنبي ـ مما سيأتي ذكره ـ وهو يؤكد ّ
» لغة ،وإعراب ،وشعر ،ومعنى ،ونظير ،وعروض ،وتصريف ،واشتقاق ،وشيء من علم
القوافي « . 1
أما كتاب » التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري « فقد
نشرته مطبعة العاني ببغداد سنة 1381هـ ـ 1962م ،بتحقيق :أحمد ناجي القيسي،
وخديجة عبد الرزاق الحديثي ،وأحمد مطلوب ،وراجعه مصطفى جواد ،والكتاب شأنه شأن
شروح الشعر لدى ابن جني موسوعة لغوية تتجاذبها عناية ابن جني اللغوية من جهة
تأصيل األصول اللغوية وإرجاع فروعها إليها ،إضافة إلى عنايته البالغة بالنظام الصرفي،
من حيث أوزان الصيغ الصرفية وإرجاعها إلى أصولها ،ولم تقتصر عناية ابن جني على
25
أما » سر صناعة اإلعراب « البن جني فقد طبع الجزء األول منه بتحقيق :
مصطفى السقا ومحمد الزفزاف وإبراهيم مصطفى وعبد هللا أمين ،وقد نشرت هذا الجزء
دار إحياء التراث القديم ،مصطفى البابي الحلبي وأوالده بمصر سنة 1374هـ ـ1954م،
أن هناك طبعة سبقتها ،وهذه الطبعة هي التي اعتمدها بحثنا ،ورجعت فيما
ولم أعرف ّ
تبقى من الكتاب إلى نسخة خطية ،وهي مخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم 120 :
لغة ،واستعنت بنسخة أخرى مصورة بالمايكرو فيلم في معهد المخطوطات العربية التابع
لجامعة الدول العربية تحت رقم 51 :نحو ،وعرفت فيما بعد أن حسن هنداوي قد حقق
كتاب » سر صناعة اإلعراب « كامالً ،ونشره في جزأين ،وقد تولت دار القلم نشره في
دمشق سنة 1985م .
إن كتاب » سر صناعة اإلعراب « وإن كان يعنى بالكالم على حروف المعجم ّ
التي تأتلف فيها األبنية الكالمية ،فهو يشتمل على دراسة األصوات من حيث :همسها،
وجهارتها ،وشدتها ،ورخاوتها ،ونحو ذلك ،كما أنه يتناول حروف المعجم كلها من حيث :
وصفها ،وصفاتها ،وما يعرض لها من تغير يؤدي إلى إعالل ،أو إبدال ،أو إدغام ،أو
حذف ،أو نحو ذلك كله بكالم العرب وأشعارهم .
و » سر صناعة اإلعراب « من هذه الناحية دراسة علمية رفيعة المستوى
أن ابن جني تجاوز الوصفتخصصت في دراسة النظام الصوتي ،وما يعنينا في دراستنا ّ
التفصيلي الدقيق لألصوات إلى الكشف عن جماليات األبنية الصوتية من حيث إفرادها
ومزجها ،ومن هنا تتأتى القيمة الجمالية للبناء الصوتي ،إضاف ًة إلى تجاوز ذلك في تحديد
أهمية النظام الصوتي في الكشف عن جماليات شعرية ،وبخاصة في تأليف األصوات،
كما أنه عني بخصائص البناء الصوتي في أثناء تركيب الجمل ،كما قد أفرد ابن جني
فصال في القسم المخطوط من الكتاب يذكر فيه مذهب العرب في مزج الحروف بعضها
ببعض ،وما يجوز في ذلك وما يمتنع وما يحسن وما يقبح.1
1ـ ابن جني ،سر صناعة االعراب ،مخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم 120لغة.303 :
26
إن كتاب » سر صناعة اإلعراب « ُيرسي في مدخله التمايز بين الصوت
والحرف والحركة ومعنى حروف المعجم ،ثم يعرض لتقسيم الحروف من حيث مخارجها
وصفاتها ،ويبدأ ابن جني في ترتيب الكتاب بحرف الهمزة ،ويتوقف الجزء المطبوع عند
نهاية حرف الكاف ،وال يختلف بناء القسم المخطوط من حيث تتبع حروف المعجم .
أن هذا الكتاب ال يخلو هو اآلخر من تتبع بعض القضايا ومن الجدير باإلشارة ّ
إن كان يمر عليها مرو اًر سريعاً ،وال يتوقف عندها كما
النحوية والصرفية والعروضية ،و ْ
كان يفعل ذلك في كتبه األخرى .
والبن جني كتاب » العروض « ،الذي قيل إنه طبع في بيروت سنة 1972م
بتحقيق حسن شاذلي فرهود ،1ولم يتيسر لي الحصول عليه ،فرجعت إلى نسخة خطية
مصورة بالميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية تحت رقم
17عروض وقو ٍ
اف .
وكتاب » العروض « يقع في ست وعشرين ورقةُ ،يعنى فيه ابن جني بالعروض
وتأسيس أصوله وتحديد قضاياه من حيث األوزان وإعادتها إلى دوائرها العروضية
المعروفة ،وكان يتتبع األوزان الشعرية مشي اًر إلى أضربها وأعاريضها المختلفة ،إضافة إلى
تحديد زحافاتها وعللها ،ويضرب ابن جني لذلك كله أمثلة من الشواهد الشعرية .
وقد عني ابن جني بالمتنبي وأفرد له شروحاً عديدة ،منها كتاب »الفتح الوهبي
على مشكالت المتنبي « ،وهو بتحقيق :محسن غياض ،وقد نشرته دار الحرية للطباعة
في بغداد سنة 1973م ،ويعمد ابن جني في الفتح الوهبي » إلى استخالص أبيات
المعاني ،وما يتصل بها مما هو جار في احتمال السؤال عنه من جملة ديوان أحمد بن
الحسين المتنبي وتجريدها ووضع اليد عليها وتحديدها ليقرب تناولها ومشارفتها« 2ويؤكد
ابن جني أيضاً أنه يجتنب » اإلطالة بشواهد لغتها وبسط القول على ما يعرض من
1ـ قاسم مومني ،نقد الشعر في القرن الرابع الهجري ،ص . 22
2ـ ابن جني ،الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي ،تحقيق محسن غياض ،دار الحرية للطباعة ،بغداد،
1973م ،ص . 25
27
ويعنى ابن جني بشرح معنى البيت كله ،فهو ال يتوقف ـ هنا ـ كثي ار 1
ملتبس إعرابها « ُ
عند بعض المفردات كما فعل في شروح أخرى إال بمقدار ما يكشف غموضا يقود إلى
شرح المعنى ،وتوقفه ،في هذا المجال ،مقترن بإيجاز شديد يذكر فيه قضايا نحوية عابرة
أو لغوية عارضة ونحوها.
ويلتزم ابن جني في شرحه هذا بإيراد معاني األبيات كما تمثلها هو ،أو كما كان
يراها المتنبي ،والتزم بهذا وحافظ عليه ،وأكده في مقدمة كتابه ، 2ورتب ابن جني كتابه
هذا على حروف المعجم ،وكان ال يتوقف عند كل أبيات القصيدة ،كما قد أهمل بعض
القصائد التي تناولها في شرحيه اآلخرين لشعر المتنبي ،ويعد هذا الكتاب شرحاً ميس اًر
لديوان المتنبي ،إذ ال يتوقف فيه ابن جني عند القضايا النحوية واللغوية طويالً كما فعل
في غيره ،كما أنه يشير إلى القضايا التي يريد معالجتها إشارات سريعة مقتضبة في أثناء
تعرضه لقضايا المجاز واالستعارة ونحوهما ،أو لبعض القضايا النحوية والعروضية،
وتتجلى قيمة الكتاب في الكشف عن الجوانب الداللية التي تنبئ عنها فاعلية السياق .
وإذا كان ابن جني قد عني بكتابه السالف » الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي» بأبيات
الف ْسر »
فإن « َ
معاني شعر المتنبي ،وأحال في بعض قضاياه إلى شرحه الموسع عنهّ ،
يعد شرحاً موسعاً ومفصالً لديوان المتنبي ،والفسر ليس كتاباً واحداً ،وإنما هو كتابان،
أحدهما :الفسر الصغير ،واآلخر الفسر الكبير ،ولم يطبع الفسر الصغير ـ في حدود
علمي ـ ولذلك رجعت إلى نسخة خطية تحت رقم 23أدب ،في دار الكتب المصرية ،أما
الفسر الكبير فقد رجعت إليه بتحقيق :صفاء خلوصي ،وقد نشره تحت عنوان «ديوان أبي
الطيب المتنبي ،بشرح أبي الفتح عثمان بن جني المسمى بالفسر« وقد نشرته دار
الجمهورية في بغداد سنة 1389هـ ـ 1969م ،والمطبوع قسم من الكتاب ،ولذا استعنت
بنسخة خطية موجزة مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة
الدول العربية تحت رقم 526أدب .
1ـ نفسه.
2ـ نفسه ،ص . 26
28
ووجد صفاء خلوصي حواشي في بعض نسخ مخطوطات الفسر ،وهذه الحواشي
ليست البن جني ،ولكنه ـ أي المحقق ـ قد أدرجها في متن الكتاب ،ـ وليس هذا مكانها ـ
أن المحقق قد أشار إليها ،ومنوقد يوحي ظاهرها أنها البن جني على الرغم من ّ
أن بعض هذه الحواشي ال تخلو من تحامل على المتنبي وعلى ابن جني أيضاً،
المالحظ ّ
يضارع دفاع ابن جني عن المتنبي واعتذاره عنه .
ولما كان الفسر الصغير شرحاً موج اًز والفسر الكبير شرحاً مفصالً لشعر المتنبي
فإن الحديث عن األخير يدل عليهما داللة واضحة من جهة المنهج ،ومن جهة ما ّ
ينطويان عليه من آراء ،ويمثل الفسر الكبير أوسع شروح ابن جني الشعرية ،ويعد من
المصنفات التي يمكنها أن تكشف عن العملية النقدية على نحو من األنحاء ،وبخاصة في
أن ابن جني يتتبع فيه معاني بعضمجال مستويات التطور الداللي لأللفاظ إذا علمنا ّ
المفردات ويتوقف عندها ،كأن يذكر جذورها ومصادرها ،ويتحدث عن صيغها واشتقاقها،
ويتناول إفرادها وجمعها ،ويتحدث عن االختالف في لغاتها ،ويتعرض لبعض الظواهر
اللغوية كظاهرة اإلبدال في حروف الكلمة ،ويستشهد على كل ظاهرة بأبيات من الشعر
تدعم رأيه ،كما يستدل على داللة األلفاظ بورودها في سياقات شعرية متعددة ،كأن
يستشهد لداللة الكلمات التي يستخدمها المتنبي بالداللة الثابتة نفسها في سياقات شعرية
سابقة للمتنبي ،عند شعراء الجاهلية واإلسالم ،وهذا كثير ،فمن الشعراء الذين استشهد
بأشعارهم ،على سبيل المثال ال الحصر :امرؤ القيس ،وزهير بن أبي ُسلمى ،وطرفة بن
العبد ،ولبيد بن ربيعة ،واألعشى ،والفرزدق ،وقيس بن الملوح ،ومن المحدثين :أبو
تمام،وأبو نواس ،والعباس بن األحنف ،وغيرهم .
إن ابن جني قد يعمد في شرحه هذا إلى التمييز بين داللة األلفاظ في السياقّ
والمعجم ،وقد ال يفعل ذلك ،حين تشغله الداللة المعجمية لذاتها ،وال يتوقف عند تفسير
داللة الكلمة ،وإنما يميل إلى شرح معنى البيت الشعري على نحو إجمالي ،ويشير أحياناً
إلى قرب داللته من شاعر سبقه ،وهو في كلتا الحالتين يستطرد استطرادات عديدة سنأتي
إلى التحدث عنها .
29
أن ابن جني في شرحه هذا ،كما هو الحال في أغلب شروحه ومما يثير االنتباه ّ
الشعرية ،يمر في بعض األحيان مرو اًر عاب اًر ببعض األبيات الشعرية ،ليشرح مفردة أو
أكثر ،أو يتوقف عند هذه المفردات طويالً ،وكأن إماطة اللثام عن غموض هذه األبيات
يتم بشرح هذه المفردة أو تلك.
ويثير شعر المتنبي قضايا نحوية ولغوية عديدة ،فيتوقف عندها ابن جني،
ويحللها ،ويستشهد لها بنماذج قرآنية أو شعرية ،وقد شغل ابن جني كثي اًر بتوثيق شعر
المتنبي من حيث استخدام مفرداته ،وأداؤه من حيث الداللة والتركيبين النحوي والصرفي
ونحو ذلك ،إذ تمثل ألفاظ شعر المتنبي محاور يتوقف عندها ابن جني ،ليطلع المتلقي
على ثرائها اللغوي ،بل إنه يفرط في ذلك إلى حد بعيد ،وكأن القضية اللغوية أو النحوية
أو الصرفية هي أحد أبرز غاياته من هذا الشرح .
أما استطرادات ابن جني فإنها متنوعة ،فقد يتوقف عند قضية نحوية ،ويعرض
فيها اآلراء المختلفة ،ويعمد إلى تقديرات إعرابية يرى أنها صحيحة ،كما قد يتوقف عند
قضية لغوية أو صرفية ،كاشفاً عن أصولها واشتقاقها ،ويدلل على صحة ما يذهب بشواهد
إن كتاب الفسر ،وكذا شروحه
من القرآن الكريم أومن الشعر العربي ،ويمكن إجمال القول ّ
الشعرية األخرى ،تُعنى عناية بالغة بالقضايا اللغوية والنحوية ،وتعرض أحياناً ألوجه
الخالف بين الكوفيين والبصريين ،وتكاد ال تخلو صفحة من شروحه الشعرية من تعرض
إن كان غالباً فيه ،ولكنه ُيعنى من زاوية
لهذه القضايا ،وال يقتصر األمر على ذلك ،و ْ
أخرى ببعض المواطن البالغية كالتشبيه واالستعارة ،أو يعنى ببعض القضايا اإليقاعية
فالف ْسر ،من هذه الناحية ،موسوعة لغوية تشتمل على آراء
في العروض والقافية ،إذنَ ،
ابن جني اللغوية والنحوية والصرفية والبالغية والعروضية ،وهو يتابع فيها هذه
الموضوعات الخالفية مستشهداً بكثير من األمثلة الشعرية ،وعارضاً آلراء من سبقه أو
عاصره من العلماء ،ومن هؤالء :سيبويه ،واألصمعي ،وأبو علي الفارسي ،والفراء،
وثعلب ،وغيرهم.
أن
إن ابن جني حتى في تعامله مع القضايا النحوية واللغوية لم يكن يهدف إلى ْ
ّ
أن بعض المفردات في البيت الشعري يكشف عن قضايا جمالية ،غاية ما في األمرّ ،
30
تمثل محو اًر تدور حوله القضية اللغوية أو النحوية ،ولم يكن ابن جني ُيعنى كثي اًر بالكشف
عن تغاير الدالالت في السياق إال بمقدار ما ينطوي عليه الشرح من التوقف عند المجاز،
أو بمقدار ما ينطوي عليه من تقديم وتأخير وحذف ونحو ذلك ،مما يدفعنا إلى القول ّ :
إن
ابن جني كان يروم الكشف عن الدالالت الغامضة ويطيل التوقف عند غريبها .
ومن مصنفات ابن جني الكبرى كتابه » المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات
واإليضاح عنها « ويقع هذا الكتاب في جزأين ،ويبدأ الجزء األول ـ بعد تقديم ابن جني ـ
بسورة الفاتحة وينتهي بسورة إبراهيم ،ويبدأ الجزء الثاني بسورة الحجر وينتهي بسورة الناس
،وقد َن َش َر الكتاب بجزأيه المجلس األعلى للشئون اإلسالميةُ ،
وعني بتحقيق الجزء األول :
علي النجدي ناصف ،وعبد الحليم النجار ،وعبد الفتاح إسماعيل شلبي ،ونشر هذا الجزء
في القاهرة سنة 1386هـ ـ 1966م ،أما الجزء الثاني فقد عنيت بتحقيقه لجنة التحقيق
نفسها ماعدا عبد الحليم النجار الذي وافته المنية بعد االنتهاء من تحقيق الجزء األول ،وقد
نشر الجزء الثاني في القاهرة أيضا سنة 1389هـ ـ 1969م .
وكتاب » المحتسب « شأنه شأن كتب ابن جني األخرى موسوعة لغوية ذات
قيمة فائقة تشتمل على آرائه في اللغة والنحو والصرف ونحو ذلك ،ومن الجدير باإلشارة
أن هذا الكتاب قد ألفه ابن جني في أخريات حياته ،1مما يدل على أنه ينطوي على أهم ّ
مخصص للقراءات الشاذة التي احتج لها
ٌ آرائه اللغوية والنقدية ،وعلى الرغم من أن الكتاب
ابن جني ،واعتقد أن لها قوة في اللغة وآخذة في سمت العربية فإنه ال يقتصر على ذلك،
فهو يعرض للقراءة القرآنية ومن ق أر بها ،ويذكر آراء العلماء فيها ،ثم يذهب يتلمس لها
«شاهداً فيرويه أو نظي اًر فيقيسه عليه ،أو لهج ًة فيردها إليها ويؤنسها بها ،أو تأويالً أو
توجيهاً فيعرضه في قصد واجمال «.2
1ـ ا بن جني ،المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها ،تحقيق علي النجدي ناصف ،وعبد
الحليم النجار ،وعبد الفتاح اسماعيل شلبي ،المجلس األعلى للشئون اإلسالمية ،القاهرة 1386 ،هـ ـ 1966م
ـ 1389هـ ـ 1969م . 12 /1 ،
2ـ نفسه.12/ 1 ،
31
إن القيمة النقدية للكتاب تتجلى ـ في الحقيقة ـ في الكشف عن قيمة األنظمة
ّ
اللغوية والكشف عن جمالياتها ،في مجال التعريف والتنكير ،وفي التأخير والتقديم ،وفي
الحذف ،وبخاصة في النظام النحوي ،وابن جني ال يكشف عن النظام النحوي بوصفه
ِن به الصواب والخطأ ،ولكنه يتجاوز ذلك إلى الكشف عن األبعاد درساً معيارياً َيزُ
الجمالية ،بحيث يفسرها ويعلل معطياتها في ضوء األنظمة اللغوية ،ومن الجدير بالذكر
أن شواهد ابن جني وآراءه تتكرر أحياناً ،ويحيل القارئ إليها في بعض كتبه ،غير
التأكيد ّ
أنه يتميز ـ في كتابه هذا ـ بشمول رؤيته وتكاملها من ناحية ،ونضج آ ارئـه وعمقها من
ناحية أخرى .
وبقي البن جني ـ أخي اًر ـ رسالة في القوافي عنوانها » مختصر القوافي « ،وهي
بتحقيق حسن شاذلي فرهود ،وقد نشرتها دار التراث في القاهرة سنة 1395هـ 1975م و
» مختصر القوافي « رسالة صغيرة تدرس القوافي من حيث حدها ،وأنواعها :كالمتكاوس،
والمتراكب ،والمتدارك ،والمتواتر ،والمترادف ،وحدود هذه األنواع ،كما يعرض ابن جني
لحروف القافية وحركاتها ،ويختم رسالته هذه في الحديث عن عيوب القافية :كاإلقواء،
واإلكفاء ،واإليطاء ،واإلسناد ،ويستشهد لهذا كله بأمثلة شعرية ،وتتجلى في هذه الرسالة
القيمة الصوتية اإليقاعية التي تكشف عن أبعاد جمالية في أثناء تعرض ابن جني لبعض
عيوب القافية ،وفي أثناء تعرضه لحركات القافية .
أما القاضي عبد الجبار بن أحمد المتوفى سنة 415هـ فله كتاب »تنـزيه القرآن
عن المطاعن « وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات ،إذ يقال إنه طبع سنة 1326هـ في
القاهرة ،1كما قد طبعته المطبعة الجمالية في مصر سنة 1329هـ ،وقد اطلعت عليها،
وهي طبعة غير محققة ،وقد ضمت هذه الطبعة في آخرها مقدمة تفسير الراغب
األصفهاني ،وقد اعتمد بحثنا الطبعة التي نشرتها الشركة الشرقية للنشر والتوزيع ودار
النهضة الحديثة في بيروت ،بدون تاريخ ،وهي من غير تحقيق.
1ـ فؤاد سزكين ،تاريخ التراث العربي ،ترجمة محمود فهمي حجازي ،وفهمي أبو الفضل ،الهيئة المصرية
العامة للكتاب ،القاهرة 1978 ،م . 411/ 2
32
ُّ
ويرد القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتابه هذا على من يطعن في اآليات
القرآنية الكريمة ،سواء في اإلعراب أو في المعاني أو في اللغة ،ويحدد القاضي عبد
الجبار غاية كتابه بمعرفة معاني القرآن الكريم ليقي الناس من الضالل ،الذي وقعوا فيه
بتمسكهم في المتشابه ،ولذلك فإن االنتفاع بالقرآن الكريم ال يتم ـ كما يرى ـ إال »بعد
الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه « . 1
وكتابه » تنـزيه القرآن عن المطاعن « تفسير موجز للقرآن الكريم ،عرض فيه
وبين فيه معاني ما تشابه ،وقد ابتدأه
المؤلف لسور القرآن الكريم على ترتيبها المعروفّ ،
بفاتحة الكتاب وأنهاه بسورة الناس ،وهو يتوقف عند اآليات القرآنية التي أثارت جدالً
وخالفاً ،محاوالً تفسيرها وتأويلها لتؤيد وجهة نظره االعتزالية .
أن المؤلف قد أملى كتابه هذا ،ثم ُجمع بعد ذلك ،إذ هو مبني على أساس
ويبدو ّ
المساءلة ،واإلجابة عنها ،وقد كرس المؤلف هذا الكتاب لعرض أفكاره االعتزالية ،سواء
األصول منها كالتوحيد ،والعدل ،والوعد والوعيد ،والمنـزلة بين المنـزلتين ،واألمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،أو ما يتفرع عنها من مسائل ،وتتجلى قيمة الكتاب في أنه يحاول
إظهار معاني اآليات القرآنية الكريمة في ضوء رؤيته االعتزالية ،معتمداً الدليل العقلي،
أن تفسيره يعتمد أساسا على
ومتكئاً على البعد الباطني لآلية القرآنية الكريمة ،وهذا يعني ّ
التفسير المجازي للقرآن الكريم .
وتتداخل في تضاعيف كتاب » تنـزيه القرآن عن المطاعن « القضايا النحوية ـ
ناد اًر ـ بالقضايا الكالمية ،وتتداخل معها قضايا المجاز واألصول والفلسفة ونحوها،
ويشملها كلها إطار عقلي يحكم اآلية القرآنية ،وتتفرع عنها مسائل وإجابات منطقية
وكالمية عديدة .
وللقاضي عبد الجبار بن أحمد كتاب » شرح األصول الخمسة« وقد عّلق على
الكتاب :اإلمام :أحمد بن الحسين بن أبي هاشم ،ونشرت الكتاب مكتبة وهبة في القاهرة
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،تنـزيه القرآن عن المطاعن ،الشركة الشرقية للنشر والتوزيع ،ودار النهضة
الحديثة ،بيروت ،د .ت ،ص 7
33
سنة 1965م بتحقيق عبد الكريم عثمان ،والكتاب يدل عليه عنوانه ،فهو شرح لألصول
الخمسة للفكر االعتزالي ،يبدأ فيها الشارح اإلمام أحمد بن الحسين بذكر نص أقوال
أن القاضييعرج على شرحها وتفسيرها ،ويبدو ّ
القاضي عبد الجبار بن أحمد ،ومن ثم ّ
عبد الجبار قد أملى الكتاب إمالء ،ويدل على ذلك سهولة عبارته ووضوحها ،وهذا ما
أن يكون المؤلف كان ُيلقيه في دروس تحضرها العامة ورجح ْ
فطن إليه محقق الكتابّ ،
والخاصة ،فأراد أن يبسط أصول المعتزلة وفروعها وييسر تناولها . 1
وقد تناول القاضي عبد الجبار بن أحمد في هذا الكتاب أصول الفكر االعتزالي
غير َّ
أن قيمة هذا الكتاب تتجلى بالنسبة لبحثنا في إطارين :أولهما :الكشف عن
األصول االعتزالية ،وثانيهما :تناوله قضايا جوهرية تكشف عن التصورات النقدية ،أو
يكشف عن تصورات تتأسس في ضوئها األصول النقدية ،ولقد غلب على الكتاب عناية
المؤلف بأصوله الفكرية والعقائدية وما تفرع عنها ،ويفيد الكشف عن هذه األصول جانبا
من مستويات التأويل العقلي والمجازي في أثناء تعرض المؤلف للقضايا العقائدية ،ولذلك
عمد المؤلف إلى االستشهاد باآليات القرآنية الكريمة في مواطن عديدة ،ليستدل بها على
إن كانت بصرية ْأو ال ،وتعزيز هذه التصورات بشواهد من
قضية عقائدية كالرؤية مثالْ ،
العربية ،وينطوي الكتاب على تحديد دقيق لمفهومي الحسن والقبح العقليين ،وكيفية
الكشف عنهما في الواقع وعالقة ذلك بالفعل اإلنساني ،سواء أكان فعالً أم حرك ًة أم كالما.
ويشتمل الكتاب على تصورات يفيد منها الدرس النقدي فيما يتصل بقضية خلق
القرآن ،وكون كالم هللا جنساً من كالم العرب ،وقد دفع هذا الحديث إلى العناية بالكالم
وماهيته وخصائصه ،وتتجلى أهمية الكتاب بوضوح أكثر في الحديث عن إعجاز القرآن
الكريم ،وحديث المؤلف عن المجاز في ثنايا متناثرة من الكتاب ،أو حصره لقضية المحكم
والمتشابه ،والحكمة التي تكتنف هذه القضية .
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،شرح األصول الخمسة ،بتعليق األمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم،
تحقيق عبد الكريم عثمان ،مكتبة وهبة ،القاهرة1965 ،م ،ص .31
34
ويمثل الكتاب إحاطة شاملة موجزة ألصول المعتزلة الفكرية وما تفرع عنها من
مسائل وقضايا ،ويشتمل الكتاب ـ في تناوله للقضايا العقائدية ـ على عرض آراء الخصوم
وحججهم ورد القاضي على هذه الحجج واآلراء ،فالكتاب يحيط بالمسائل االعتقادية التي
كان يدور الحديث حولها بين الفرق الكالمية :معتزلة ،وأشعرية ،ومجبرة ،وكرامية،
وغيرها.
وللقاضي عبد الجبار بن أحمد كتاب آخر هو » متشابه القرآن « وقد نشرت هذا
ويعد من كتبالكتاب دار التراث في القاهرة سنة 1966م بتحقيق عدنان محمد زرزورُ ،
تفسير القرآن الكريم من وجهة نظر المعتزلة ،وهو يسلط األضواء على دراسة اآليات
المتشابهة فيعمد إلى تأويلها في ضوء األدلة العقلية ،وال يغفل اآليات المحكمة بل يعمد
إلى تفسيرها واالستدالل بها ،وقد رتب المؤلف الكتاب على السور واآليات القرآنية ،فابتدأ
بسورة الفاتحة ،وانتهى بسورة الناس ،وتتجلى قيمة الكتاب في المقدمة التي يحدد فيها
القاضي عبد الجبار بن أحمد التمايز بين اآليات القرآنية المحكمة والمتشابهة ،معتمداً
بذلك على األدلة العقلية من ناحية ،واالستشهاد بشواهد لغوية ونحوها ،وهذا يتصل ـ دون
شك ـ بالدرس النقدي في مجال التمايز بين األداءين النمطي والفني في الكالم ،وبخاصة
أن القاضي عبد الجبار يستعين في تأويله لآليات المتشابهة باللغة سواء في مفرداتها ،أو
ّ
في قواعدها النحوية واإلعرابية ونحوها ،وتخضع مستويات التأويل شأنها شأن تأويالت
المعتزلة بعامة للدليل العقلي ،ومحاولة تعضيد آراء المعتزلة من خالل تأويالت اآليات
المتشابهة كي ال تتعارض مع األصول الفكرية التي يصدرون عنها .
أما موسوعة القاضي عبد الجبار بن أحمد الكالمية الكبرى وهي كتابه »المغني
في أبواب التوحيد والعدل « فقد كانت مفقودة وعثر عليها في اليمن :خليل نامي وفؤاد
أن األجزاء التي عث ار عليها كانت ناقصة ،إذ تم العثور على أربعة عشر جزءاً السيد ،غير ّ
من هذا الكتاب القيم ،وما زلنا نفتقد سائر األجزاء وهي :األول والثالث والعاشر والثامن
عشر والتاسع عشر ،ولقد نشرت كتاب » المغني في أبواب التوحيد والعدل « و ازرة الثقافة
واإلرشاد القومي في مصر بين سنة 1960م ـ و 1965م بإشراف لجنة مكونة من :
35
أن هذا الكتاب موسوعة كالمية عقائدية فلن نتوقف ـ هنا
طه حسين وإبراهيم مدكور ،وبما ّ
ـ إال عند األجزاء التي اشتملت على آراء وتصورات أفاد منها الدرس النقدي .
ففي الجزء الرابع المخصص لـ » رؤية الباري « ـ وهو بتحقيق :محمد مصطفى
حلمي وأبو الوفاء الغنيمي ـ تمثل الرؤية قضية اعتقادية يسعى القاضي عبد الجبار إلى
تأكيد داللتها االعتزالية معتمداً األدلة العقلية ،ومحاوالً تأويل ظاهر اآليات القرآنية التي
تدل على الرؤية الحسية ،ويعمد إلى التأويل العقلي في ضوء تساؤالت عديدة متالحقة
على الطريقة الجدلية التي عرف بها المتكلمون ،ويستشهد القاضي عبد الجبار بآراء
أساتذته في المسائل ،أو ينفرد بها ،وتمثل اآلية القرآنية محو اًر تدور حوله األبحاث العقلية
إن كان يغلب على ذلك البحث والكالمية واللغوية ومستويات التأويل »المجازي « و ْ
العقلي.
وفي الجزء الخامس المخصص لـ » الفرق غير اإلسالمية « ـ وهو بتحقيق :
محمود محمد الخضيري ـ فقد عني بدراسة غير المسلمين ،وقيمة هذا الجزء بالنسبة إلى
بحثنا ال تنحصر بالحديث عن الفرق غير اإلسالمية من الديانات والمذاهب ،وإنما تتأتى
من الحديث عن اللغة من حيث التوقيف والتواضع ،وثبات المعاني مهما تغايرت
المستويات إضافة إلى حديثه عن المجاز .
أما الجزء السابع المخصص لـ » خلق القرآن « ـ وهو بتحقيق :إبراهيم اإلبياري
ـ فتتركز عناية القاضي عبد الجبار بقضية المعتزلة الشهيرة » خلق القرآن « من حيث
كونها قضية عقائدية كالمية ،و من حيث ما تركته من آثار بوصفها محنة لحرية الفكر،
وتتجلى قيمة هذا الجزء في الحديث عن الكالم إن كان نفسياً أو محدثاً ،وصلة الكالم
بالخالق ،وقد شغل القاضي عبد الجبار بكالم هللا بوصفه من جنس الكالم العربي ،وعالقة
ذلك بمواضعة اللغة ،بحسب قصد المتكلم ودواعيه ،كما قد شغلته قضية ِق َدم الكالم أو
وتأتت هذه العناية بسبب تعارض األدلة العقلية واألدوات المنطقية بين المعتزلة
ْ حداثته،
واألشاعرة ،وهي التي دفعت إلى هذا البحث المسهب .
وفي الجزء السادس عشر المخصص لـ » إعجاز القرآن « ـ وهو بتحقيق :أمين
الخولي ـ يمهد القاضي عبد الجبار إلعجاز القرآن الكريم بمباحث عديدة تكاد تستوعب
36
قسماً كبي اًر من هذا الجزء ،مثل تقرير صحة القرآن وتواتر نقله ،أو ما يعقده من مساحة
كبيرة لقضية النسخ في القرآن الكريم ،وللمواطن التي يصح فيها النسخ والتي ال يصح أن
يقع فيها نسخ ،ثم يعرض للنبوة وثبوتها والحجج التي تدل عليها.
وحين يعرض إلعجاز القرآن الكريم ُيعنى بترك العرب معارضة القرآن ،ثم
يعرض لمفهوم الفصاحة الذي تتجلى فيه القيمة الحقيقية لهذا الجزء ،ومن أجل هذا يحدد
القاضي عبد الجبار مفهوم الفصاحة ويحيط بأبعاده ،ويعرض للكيفية التي يتفاضل فيها
الكالم بعضه على بعض ،وما هي العلوم التي ينبغي توافرها ليتم بها معرفة فصاحة
األداء اللغوي وإمكانية تأديته ،من حيث القدرة على إحداث الكالم الفصيح بوصفه من
جملة األفعال المحكمة ،ومن حيث الكيفية التي يتم بها التفاضل بين كالم فصيح وآخر
فصيح أيضاً ،ومن حيث العلوم الواجب توافرها لكي يتم التفاضل بين مستويات األداء،
أن الفصاحة ال تظهر في أفراد الكالم ،وإنما تظهر فيإضافة إلى عرضه المفصل في ّ :
الكالم بالضم على طريقة مخصوصة ،وعالقة ذلك بالمعنى واللفظ .
وتشغل قضية الفصاحة تفكير القاضي عبد الجبار بوصفها جزئية في إطار عام
من أوجه اإلعجاز القرآني ،ويتناولها بالطريقة ذاتها التي يتناول فيها أي مسألة كالمية
أخرى ،من حيث الجدل والحوار وإثارة اإلشكاالت والتساؤالت وطرح الحلول ،فالفصاحة
تمثل لديه قضية عقلية بحتة يتناولها في ضوء األسس العقلية التي يصدر عنها ،وحتى
في تناوله العابر للمحكم والمتشابه في هذا الجزء من الكتاب فإنه يتناولهما بالطريقة ذاتها
من النقاش والتأويل والجدل .
إذن فالقيمة النقدية تتجلى في الناحية النظرية القيمة التي تحدث فيها القاضي
عبد الجبار عن كيفية تضام الكلمات ،وكيفية التشكيل اللغوي ،وتغاير الداللة في
إن التضام أو الضم أو النظم إنما هي أوجه متعددة تكشف
مستويات األداء المختلفة ،و ّ
عن هذه الزاوية النقدية .
ونتوقف أخي اًر عند آثار الشريف المرتضى ،علي بن الحسين الموسوي ،المتوفى
سنة 436هـ ،ونتوقف أوالً عند كتابه الشهير » أمالي المرتضى « » غرر الفوائد ودور
إن هذا الكتاب طبع في طهران سنة 1273هـ ،وطبع في مصر
القالئد « ،ويقال ّ
37
بمطبعة السعادة سنة 1325هـ ـ 1907هـ ،وعليه شروح وتعليقات السيد محمد بدر الدين
النعساني ،ثم السيد أحمد أمين الشنقيطي ، 1وقد نشرت دار إحياء الكتب العربية،
عيسى البابي الحلبي كتاب » أمالي المرتضى « سنة 1954م بجزئين ،بتحقيق :محمد
أبو الفضل إبراهيم ،وهي الطبعة التي اعتمدها البحث .
وكتاب » أمالي المرتضى « يدل عليه عنوانه ،فهو أحاديث أمالها الشريف
المرتضى ،وكان محورها األساس ـ غالباً ـ آيات قرآنية ،وأحاديث نبوية ،يدل ظاهرها على
غموض يحاول الشريف المرتضى إماطة اللثام عنه ،فيعمد إلى تأويلها وتوجيهها على
طريقة أهل العدل التي تركن إلى األدلة العقلية في تأويل اآليات القرآنية واألحاديث
النبوية ،وليست عملية التأويل عمالً عقلياً صرفاً فحسب ،بل تسعفه في التفسير والتأويل
شواهد شعرية وفيرة ،وتدور حولها جميعا تصوراته الفكرية واألدبية ،ولذلك كانت اآليات
القرآنية واألحاديث النبوية محو اًر جوهرياً يلم شتات الموضوعات الكالمية أمثال :رؤية
هللا ،وخلق األفعال ،ونحوهما ،إضافة إلى الموضوعات النقدية والبالغية فيما يتصل
بالمجاز ،والمتشابه ،ولغة الشعر ،والحداثة والقدم ،وقضية السرقات الشعرية ،وماهية
التشبيه ،واالستعارة وأنواعهما ،ونحو ذلك من القضايا والمعضالت ،فضالً عن آرائه
النقدية في الرد على معاصريه أو سابقيه من النقاد مثل ابن قتيبة ،والجاحظ ،واآلمدي،
والمرزباني ،وغيرهم.
وللشريف المرتضى كتاب آخر هو » الشهاب في الشيب والشباب « وقد طبع
الكتاب مرتين ،األولى :في مطبعة الجوائب في القسطنطينية سنة 1302هـ ،ومعه كتاب
» سلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف « للجاحظ ،وقد اطلعت على هذه الطبعة ،
والثانية نشرتها دار الرائد العربي في بيروت سنة 1982م ،التي اعتمدها بحثنا ،وكلتا
الطبعتين من غير تحقيق ،ويعرض الكتاب ألقوال الشعراء في الشيب والشباب،
وانحصرت اختياراته فيه من شعر :أبي تمام ،والبحتري ،وشعر أخيه الشريف الرضي،
1ـ تعرض محمد أبو الفضل إبراهيم محقق كتاب أمالي المرتضى » غرر الفوائد ودرر القالئد « للشريف
المرتضى ،دار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة 1373 ،ه ـ 1954م الى هذه الطبعات
المختلفة ،ينظر :مقدمة تحقيق الكتاب25 / 1 ،
38
ومن شعره هو ،ويمكن تصنيف هذا الكتاب ضمن كتب االختيارات الشعرية ،ولكن
الشريف المرتضى كانت له فيه آراء نقدية متميزة في :الحداثة و ِ
الق َدم ،والتقليد واالبتكار،
والمحاكاة ،والمثل األعلى ،والطبع ،والتكلف ،ولغة الشعر ،والتشبيه ،واالستعارة ونحوها ،
أن له ردوداً على بعض النقاد ،وبخاصة اآلمدي .
كما ّ
أما كتاب » طيف الخيال « للشريف المرتضى فقد اعتمد بحثنا على الطبعة
التي نشرتها دار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،في القاهرة سنة 1381هـ ـ
1962م بتحقيق :حسن كامل الصيرفي ،ومراجعة إبراهيم اإلبياري ،وقد أشار المحقق
أن كتاب » طيف الخيال « قد نشرته مكتبة مصطفى البابي الحلبي في القاهرة سنة إلى ّ
1955م ،وقام بتصحيح هذه الطبعة سيد كيالني ،كما قد أشار إلى أن الكتاب قد نشرته
1
مرة أخرى دار المعرفة في بغداد سنة 1957م بتحقيق صالح خالص ،ويبدو ّ
أن كتاب
«طيف الخيال « قد ألفه الشـريف المرتضى في أخريات حياته ،إذ يشيـر فيه إلى كتابه »
الشهاب في الشيب والشباب « ويشير إلى أنه كان يؤلف فيه سنة نيف وعشرين وأربعمائة
،2وهو على غرار كتابه »الشهاب« بعد أن رأى إعجاب الناس بكتابه السالف ،فقام
باختيار ما في الشعر من طيف الخيال في شعر الطائيين :أبي تمام والبحتري ،وشعر
أخيه الشريف الرضي ،وأضاف اليه نماذج عديدة من شعراء قدامى ومحدثين يعنون
بطيف الخيال.
أن الكتاب يماثل صنوه » الشهاب « في كونه من االختيارات
وعلى الرغم من ّ
الشعرية فإنه ينطوي في الوقت ذاته على تصورات نقدية ،ويرد فيها على بعض النقاد،
وبخاصة اآلمدي ومن هذه التصورات :اللفظ والمعنى ،والتخيل ،والمحاكاة ،واالبتكار،
والتقليد ،والسرقات الشعرية ،ونحوها من الموضوعات .
1ـ تعرض حسن كامل الصيرفي محقق كتاب طيف الخيال ،للشريف المرتضى ،دار إحياء الكتب العربية،
عيسى البابي الحلبي ،القاهرة 1381 ،هـ ـ 1962م الى هذه الطبعات المختلفة ،ينظر مقدمة تحقيق الكتاب،
ص 45ـ . 46
2ـ الشريف المرتضى ،طيف الخيال ،ص . 95
39
) ( 2تقويم المراجع :
اث الذي ندرسه بعدان :أولهما :التحديد الزماني في القرن الرابع حد التر َ
َي ُ
الهجري ،وثانيهما :انحصاره في نقاد المعتزلة ،ولسنا أول من تناول هذا التراث بالدرس،
ويمكن تصنيف الدراسات السابقة إلى ثالث طوائف :
الطائـفة األولى :
عرجت على دراسة التراث الدراسات العامة ذات االستقصاء التاريخي التي ّ
النقدي في القرن الرابع الهجري في أثناء تعرضها لتاريخ النقد األدبي عند
العرب.
الطائفة الثانية :
الدراسات المتخصصة في القرن الرابع الهجري ،سواء أكانت معنية بالرصد
التاريخي لنقد هذا القرن ،أم تناولت التيارات النقدية ،أم قضية نقدية فيه .
40
أن هذه الدراسات قد امتدت امتداداً زمنياً متفاوتاً ،مما جعلها
ومما يثير االنتباه ّ
تميل إلى التعميم ،وتتوقف عند أعالم النقاد ،وتعرض آلرائهم وتصوراتهم ،مما دفع ،من
ثم ،إلى اإلطالة وتكرار الموضوعات المتداولة ،إضافة إلى مرورها السريع بالقضايا النقدية
النشغالها بقضية تتبع النقد األدبي بحسب أزمانه ،وتصنيفها إياه بحسب أعالمه
ومصنفاتهم أوالً ،ولوقوعها تحت تأثير االمتداد الزمني الواسع مما دفع إلى تناول عام
وسريع ثانياً .
وتعد محاولة طه أحمد إبراهيم » تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر
الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري « من المحاوالت األولية المتقدمة التي كان لها الفضل
في التنبيه إلى أهمية تاريخ النقد األدبي عند العرب وقيمته ،وقد تتبع المؤلف تطور النقد
عرج على أثر
األدبي عند العرب ابتداء من العصر الجاهلي ومرو اًر بصدر اإلسالم ،ثم ّ
متقدمي النحويين في النقد األدبي ،وتوقف عند ابن سالم الجمحي وكتابه »طبقات فحول
الشعراء « إضافة إلى توقفه عند الخصومة بين القدامى والمحدثين ،وأفرد فصالً لكل من
القرنين الثالث والرابع الهجريين ،ومما يالحظ امتداد الفترة الزمنية وضيق المساحة التي
أفردها لكل قرن ،مما جعله يميل إلى التعميم ،ويقتفي ما يراه ضرورياً ،فهو ال يتوقف في
القرن الرابع الهجري إال عند اآلمدي والجرجاني ،ويعرض آلرائهما عرضاً عاماً ،ويتوقف
عند بعض القضايا ،مقارناً بين الناقدين ،وقد أفاد الدارسون الالحقون من منهجه هذا ،بل
لقد ترك آثا اًر واضحة عليهم نتلمسها بوضوح في كتابات محمد مندور ،وإحسان عباس،
ومحمد زغلول سالم .
أن شرع بدراسة » تيارات النقد العربي في القرن الرابع
أما محمد مندور فبمجرد ْ
الهجري « أحس بأن هذا القرن له أصول نقدية سابقة ،كما قد امتدت له فروع فاضطر
لتوسيع مجاله مع تأكيده أنه سيحصر عنايته بالمتخصصين من النقاد ومؤرخي األدب،
ولذلك فقد امتد البحث لديه من ابن سالم الجمحي إلى ابن األثير ،كما أنه قد ُعني
بموضوعات النقد ومقاييسه ،وقد ضم هذا كله كتابه المعروف » النقد المنهجي عند
العرب «ويتحدد مفهوم » النقد المنهجي « لديه بأنه » النقد الذي يقوم على منهج تدعمه
أسس نظرية وتطبيقية عامة ،ويتناول بالدرس مدارس أدبية أو شعراء وخصومات يفصل
41
أن 1
ويبصر بمواضع الجمال والقبح فيها« غير أنه يؤكد ّ
ّ القول فيها ،ويبسط عناصرها
مركز بحثه ليس ما أشار إليه من مدارس أدبية قدر عنايته بناقدين هما :اآلمدي
والجرجاني ـ صاحب الوساطة ـ ولكنه على الرغم من هذا كله اضطر ليمتد بالبحث من
ابن سالم حتى ابن األثير ،كما أشرنا .
ويقع محمد مندور فيما وقع فيه دارسو تاريخ النقد األدبي من وصف لمصنفات
عباد »الكشف عن مساوئ المتنبي « ـ مثال
أعالم النقاد ،ففي دراسته لرسالة الصاحب بن ّ
عباد على المتنبي ،ويفطن
ـ ينحو فيها منحى وصفياً ،ويقف عند تعصب الصاحب بن ّ
عباد استقالل النقد عن غيره من العلوم ،والتفاتته إلى منهج إلى تأكيد الصاحب بن ّ
الصاحب في نقده المعتمد على الذوق والمعالجة الجزئية للقضايا النقدية ، 2ومثل هذا ما
فعله مع شروح ابن جني الشعرية وكونها ال تخلو من نقد ،ولكنه لم يتوقف عندها طويال
لضيق المساحة التي خصصها لها ،وألنه معني بالوصف ومقارنة ابن جني بغيره من
الشراح والنقاد ،وعلى الرغم من أنه توقف عند القاضي الجرجاني فقد بدأ يتحدث عن
حياة المؤلف وكتبه والمؤثرات التي كونت شخصيته العلمية ،ثم اتجه إلى منهجه النقدي،
وتغلب على مندور نـزعته في الوصف والمقارنة من جهة حديثه عن األشباه والنظائر3
1ـ محمد زغلول سالم ،تاريخ النقد العربي في القرن الرابع الهجري ،دار المعارف ،مصر 1964 ،م ،ص
.5
2ـ نفسه ،ص . 5
43
إن محمد زغلول سالم ـ والحالة هذه ـ يعنى بأعالم النقاد ويصف مؤلفاتهم
ّ
عباد في » الكشف
النقدية ،ويكثر من نقل النصوص ،سواء أكان في رسالة الصاحب بن ّ
عن مساوئ المتنبي « أم من كتاب »الوساطة بين المتنبي وخصومه « للجرجاني ،أم من
كتاب » الموشح « للمرزباني ،إذ يشغله وصف الكتاب وتلخيص مضامينه وتتبع بعض
مفرداته واالستشهاد بنماذج منه ،فهو لم يتوقف عند القضايا النقدية الكبرى ،ولم يتناولها
بوصفها موضوعات تستحق الدرس والتأمل ،ولقد دفعه تتبع مصنفات النقاد إلى التكرار،
أن عدداً كبي اًر من القضايا النقدية التي ُعني النقاد بدراستها تتكرر في كتبهم،
وبخاصة ّ
سواء اتفقوا أو اختلفوا في تحديد مفاهيمها ومدلوالتها .
إن االمتداد الزمني الذي ألزم به الباحثون دراساتهم وتتبعهم ألعالم النقاد في
مراحل التطور النقدي ،إضافة إلى تعاملهم الخاص مع المنهج التاريخي الذي يعمد فيه
هؤالء الدارسون إلى وصف الكتب النقدية وعرضها وتلخيص مضامينها ،كل هذا يقلل من
فإن هذه الدراسات قد تناولت النقاد
قيمة النتائج التي توصلوا إليها ،إضافة إلى هذا كله ّ
دون تمايز لرؤاهم الفكرية ومواقفهم الفلسفية ،وما تتركه هذه التصورات من آثار على
النشاط النقدي بأسره .
أما الطائفة الثانية من الدراسات المتخصصة في القرن الرابع الهجري فنلتقي
معها في دراسة :قاسم مومني » نقد الشعر في القرن الرابع الهجري « وتعد هذه الدراسة
شاملة للنشاط النقدي ،وعنيت برصد جوانبه التاريخية ،إضافة إلى رصد قضاياه األساسية،
ويقسم الباحث دراسته إلى قسمين :يعنى القسم األول :بالمهاد التاريخي الذي يتتبع فيه
مصادر النقد واتجاهاته ،ويعنى القسم الثاني :بالقضايا النقدية األساسية :ماهية الشعر،
ومهمته ،وأداته .
ولم يقتصر الباحث على الرصد التاريخي فحسب بل تجاوزه إلى تحليل نقدي
أن الباحث قد تناول القرن الرابع الهجري بكل بيئاته
للقضايا األساسية النقدية ،غير ّ
واتجاهاته ،فهو ،من هذه الناحية أمام كم هائل من اآلثار والمصنفات النقدية مما جعله
يمر ببعضها مرو ار سريعا ،أو يعمد إلى االنتقاء منها ،إضافة إلى اختالط البيئات النقدية
لديه ،ففي ماهية الشعر ـ مثال ـ تتجاور لديه آراء اآلمدي والجرجاني وابن فارس وأبي
44
حاتم الرازي دون الكشف عن المؤثرات العقائدية ،وبخاصة حين يتجاور لديه ابن جني
المعتزلي مع ابن فارس األشعري ،دون أن يكون آلرائهم وفلسفاتهم التي يصدرون عنها
أدنى تأثير في الكشف عن التصورات النقدية .
إن تقسيم النقد إلى بيئات لغوية وكالمية وفلسفية وأدبية له مخاطر عديدة ،وقد
ّ
أن الحدود الفاصلة بين هذه البيئات النقدية »لم تكن حدودا قاطعة فطن الباحث إلى ّ
فهناك دائما نقاط التداخل والتالقي« 1ولكنه عمد إلى الفصل بينهما » لسهولة التصنيف
والتوضيح الالزمين « ، 2إضافة إلى هذا كان الباحث متأث ار بدراسة جابر عصفور
«الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي « في مواطن عديدة ،إلى حد تتطابق لغتهما
في التعبير عن الموضوع المطروق وتتماثل هوامشهما إلى حد كبير ،لدرجة تبعث على
فإن هذا البحث يقدم صورة عامة لما عليه النقد في القرن
الشك ،وعلى الرغم من ذلك ّ
طوف في موضوعات عديدة :كالصورة ،والمحاكاة، الرابع الهجري ،ألن المؤلف قد ّ
واللفظ والمعنى ،ونحوها .
أما دراسة أحمد مطلوب » اتجاهات النقد األدبي في القرن الرابع الهجري « فهي
مخصصة ـ فيما يقرر المؤلف ـ التجاهات النقد في هذا القرن ،وتتحدد ،لديه بأربعة
اتجاهات ،وهي :النقد والبديع ،والنقد واإلعجاز ،والنقد وأبوتمام ،والنقد والمتنبي ، 3ومن
الجلي أن هذه العناصر ال تمثل اتجاهات قدر ما تعني محاور جذبت إليها الدارسين
بمختلف اتجاهاتهم وآرائهم ،إذ ُعني بأبي تمام والمتنبي ـ مثال ـ نقاد تتفاوت آراؤهم
أن هذه الدراسة بتناولها النقد الذي أثير حول شاعرين أو توقفها
وتصوراتهم ،وهذا يعني ّ
عند قضيتين ال يحتويها نسيج موحد ،سواء في تصنيف االتجاهات أو في معالجة نشوء
أن المؤلف ما يزال خاضعا
النقد وتطوره ،مما ألزم به الباحث دراسته ،واألخطر من هذا ّ
1ـ قاسم مومني ،نقد الشعر في القرن الرابع الهجري ،ص . 80
2ـ نفسه ،ص . 80
3ـ أحمد مطلوب ،اتجاهات النقد األدبي في القرن الرابع للهجرة ،وكالة المطبوعات ،الكويت 1973 ،م ،
ص.6
45
لمؤثرات الدراسات العامة ذات االستقصاء التاريخي من جهتي المنهج والمعالجة ،إذ
يتوقف عند أعالم النقاد ،وكان حريصا أن تكون دراسته » عرضا مفصال لجهودهم وأن ال
يكون لغير كالمهم سبيل إال ما تقتضي توضيحاً أو موازنة أو تفسي اًر « ،1ودفعه هذا إلى
متابعة مصنفات النقاد الذين انتقاهم بالعرض والوصف واإلكثار من االستشهاد بالنصوص
وقلة عنايته بالتحليل .
ونلتقي ضمن هذه الطائفة المتخصصة بالقرن الرابع الهجري بدراسة فايز الداية
«الجوانب الداللية في نقد الشعر في القرن الرابع الهجري » ،2وتُعنى هذه الدراسة
بالقضايا النقدية في ضوء علم الداللة ،ويتتبع فيها الباحث الظواهر النقدية من خالل
الوعي اللغوي المعاصر ،ولكنه فطن إلى مواطن االلتقاء والتنافر بين المناهج الحديثة لعلم
الداللة من ناحية ،والتراث النقدي من ناحية أخرى .
إن موضوعات علم الداللة متشعبة ومتعددة الجوانب واألبعاد ،ولذلك دفع هذا
األمر الباحث إلى تتبع مجاالته المختلفة لتأصيل مقومات علمية لهذا العلم في ثراثنا
النقدي ،وقد دفعه ـ أيضا ـ إلى تتبع القضايا اللغوية ـ سواء اتصلت بالعملية النقدية أو لم
تتصل ـ لتكشف عن تأصيل هذا العلم ،ولذلك تتبع الباحث الجوانب المعيارية في العلوم
اللغوية المختلفة من حيث الصحة والخطأ في األداء ،ووقف عند األلفاظ المحللة داللياً
وفق هذا المعيار في المصنفات النقدية واللغوية سواء بسواء ،وقد دار جانب من بحثه
حول التطور الداللي ليكشف عن تميز الشاعر باستخدام لغوي خاص ،وتابع األلفاظ
أن دراسة التطور الداللي إنما تقدم بعداً
والعبارات بحسب سياقاتها ،وهو يؤكد ـ في هذا ـ ّ
يهتدي به الناقد في أثناء تحليله للشعر ،ولم يتوقف الباحث عند هذا ،بل يتابع في ضوء
المنطق الداللي قضية اللفظ والمعنى ،وتمايز الداللة وتغايرها ،سواء في المعجم أو في
السياق اللغوي ،وينهي بحثه بدراسة األبحاث الداللية المتعلقة بالمجاز من مجال إلى
آخر.
1ـ نشرت هذا الكتاب دار الكتب المصرية في القاهرة ،بتحقيق :طه حسين ،وعبد الحميد العبادي ،سنة،
أن الكتاب البن وهب الكاتب ،وعنوانه » البرهان في وجوه البيان« وقام
1351هـ 1933م ،وقد ثبت ّ
بتحقيقه :أحمد مطلوب ،وخديجة الحديثي ،ونشرته مطبعة العاني ،ببغداد ،سنة . 1967
2ـ أمين الخولي ،مناهج تجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب ،دار المعرفة ،القاهرة1961 ،م ،ص :
125ـ 126و 159ـ . 163
47
اإلشارة إلى كتاب مصطفى ناصف » الصورة األدبية « الذي تعرض فيه لبعض آراء
المعتزلة وأثرها في النقد . 1
وتعد دراسة نصر حامد أبو زيد » االتجاه العقلي في التفسير ،دراسة في قضية
المجاز في القرآن عند المعتزلة « من الدراسات التي تخصصت بدراسة قضية أسهمت
المعتزلة في إنضاجها وتعميق الدرس حولها ،وتتسم هذه الدراسة بتتبع مبحث المجاز
وتقصي «ظروف نشأته ،وأثر القرآن في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ « 2
ليكشف ،من ثم ،عن مدى العالقة الوثيقة بين الفكر االعتزالي والمجاز ،ومن أجل أن
يحقق الباحث هدفه هذا في تقصي المجاز وفي الكشف عن مدى عالقته باألصول
الفكرية للمعتزلة راح يتقصى مصادر التفكير االعتزالي ،وقد قاده ثراء الكتب االعتزالية
وتنوعها في هذا المجال إلى الكشف عن العالقة الفاعلة بين األبحاث اللغوية والداللية
أن المجاز وسيلة
ودورها في الكشف عن وظيفة المجاز وتحديد ماهيته ،ألنه كان يدرك ّ
فإن فهم طبيعة المجاز ووظيفته يتصل بفهم أشمل من وسائل األداء اللغوي ،ولذلك ّ
لطبيعة اللغة ،وقاده هذا إلى متابعة أصول تاريخية وفكرية ولغوية أخذت مساحة ليست
قليلة من جهد الباحث ،فضال عن مقارنته أفكار المعتزلة باألشـاعرة ،إيمانا منه بأن هذه
المقارنة »تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر االعتزالي«. 3
وعلى الرغم من أن الباحث قد قصر جهده على واحدة من قضايا البحث
فإن دراسته توزعت على تمهيد تاريخي يعد طويال ،وفصلالبالغي ،وهي قضية المجازّ ،
ُعني كثي ار بمدى العالقة بين المعرفة والداللة اللغوية ،لتتأتى دراسته المتخصصة في
فصلين :أحدهما :يعنى بمفهوم المجاز من حيث نشأته وتطوره ،واآلخر :يعنى :
بعالقة المجاز بالتأويل.
1ـ مصطفى ناصف ،الصورة األدبية ،مكتبة مصر ،القاهرة 1958 ،م ،ص 74ـ .88
2ـ نصر حامد أبو زيد ،االتجاه العقلي في التفسير ،دراسة في قضية ،المجاز في القرآن عند المعتزلة ،دار
التنوير للطباعة والنشر ،بيروت 1982 ،م ،ص . 5
3ـ نفسه ،ص .7
48
إن هذا البحث يتتبع تطور مفهوم المجاز في ضوء المنهج التاريخي المقارن،
منذ بداياته األولى ،ويتوقف عند القرن الرابع الهجري ،وهي مساحة زمنية ليست قليلة ،مما
دفعه إلى تخصيص هذا البحث بعدد من كبار علماء المعتزلة ،وينحصر بحثه فيما يمكن
تسميته بالمتكلمين من المعتزلة غالبا ،على أن قضية في غاية األهمية مفادها :أن
الباحث كان يدرس كبار مؤلفي المعتزلة وهو متأثر بمناهج االستقصاء التاريخي في أثناء
تتبعه لمصنفات هؤالء الكتاب تتبعا تاريخيا ،ثم يعمد إلى عرضها ووصفها ،مما قاد إلى
ألوان من التكرار دون تتبع الظاهرة ضمن قضايا كلية تحكمها وتثري جوانبها .
وهناك بحث آخر تخصص بالمعتزلة وهو » أثر المعتزلة في التراث النقدي
والبالغي حتى نهاية القرن السادس الهجري « وهو رسالة دكتوراه أعدها :وليد إبراهيم
قصاب ،وتقدم بها إلى جامعة القاهرة سنة 1976م ،وتتناول هذه الدراسة جهود المعتزلة
منذ نشأتهم في القرن الثاني الهجري على أيدي :واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد،
وتتوقف عند نهاية القرن السادس الهجري عند الزمخشري ،وقد اتبع الباحث في دراسته
المنهج التاريخي في تتبع الشخصيات االعتزالية في القسم األول من دراسته ،فأفرد فصال
لنشأة البحث البالغي والنقدي عند المعتزلة في القرنين الثاني والثالث الهجريين ،وخصص
فصال آخر لتطور البحث البالغي والنقدي في القرنين الرابع والخامس الهجريين ،وجعل
فصال ثالثا للزمخشري بوصفه مستوعبا لما كتبه المعتزلة من تصورات وآراء في تفسيره
للقرآن الكريم المعروف بـ »الكشاف « كما قد تناول الباحث في القسم الثاني من دراسته
بعض القضايا كإعجاز القرآن ،والمجاز ،واللفظ والمعنى .
إن هذه الدراسة الممتدة في مساحتها الزمانية قد ركزت على أثر المعتزلة في
ّ
تأصيل التراث البالغي والنقدي ،وقد خضعت للمنهج التاريخي الذي ُيعنى بعرض
مصنفات المؤلفين ووصفها ،ففي تتبعه لرسـالة الرماني »النكت في إعجاز القرآن « ـ مثال
ـ إنما يتتبعها في قضاياها عارضا لها وواصفا موضوعاتها بحسب الترتيب والتسلسل
اللذين أرساهما المؤلف نفسه ،مستعينا بشروح وإيضاحات من أفاد من هذه الرسالة في
القرون الالحقة ،وفعل مثل هذا بغيرها من مصنفات المعتزلة .
49
وإذا كان هذا العرض التاريخي الوصفي لمؤلفات المعتزلة قد استنـزف من
فإن تناوله للقضايا التي ُعني بها ل ايقل عنها
الباحث جهدا واحتل مساحة من الدراسة ّ
من حيث استنـزاف الجهد مقروناً برؤية تقليدية تتابع القضايا وتعالجها .
إن امتداد هذا البحث في فترة زمنية طويلة ،واالستخدام الخاص للمنهج التاريخي
ّ
أن
الوصفي الذي تتبع فيه الباحث مصنفات المؤلفين تتبعا وصفيا ،إضافة إلى تأكيده » ّ
أن اثر االعتزال ال 1
المعتزلة مدرسة كالمية دينية أكثر منها مدرسة أدبية نقدية « و » ّ
يظهر إال عندما يعالج الناقد مسألة كالمية تتصل ببعض أمور العقيدة « ،2كما أن هذه
الدراسة قد عنيت بمقدار أثر المعتزلة في التراث النقدي ،وليست هادفة إلى الكشف عن
مقدار التأصيل ،كل هذه تقلل من قيمة النتائج التي توصل إليها الباحث ،وتدفع إلى
دراسات تتجاور االمتداد التاريخي الواسع ،وتعنى بقضايا محددة في إطار الفكر االعتزالي
مستعينة بمناهج تتجاوز الوصف إلى التأصيل والتحليل .
أما كتاب » بالغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات
البالغية« لعبد الفتاح الشين 3فإننا ال نريد التوقف عنده طويال ،النشغال الباحث بالدرس
التاريخي المقارن أوال ،ولطبيعة المنهج الذي ألزم به بحثه ثانيا ،فعلى صعيد التتبع
التاريخي عني الباحث بالبالغة ودراستها قبل اإلسالم وبعده ،ومرو ار بالجاحظ وابن قتيبة
وابن المعتز وابن طباطبا العلوي وأبي هالل العسكري ،وغيرهم ،ثم تتبع حياة القاضي عبد
الجبار بن أحمد وآثاره ،وتتبع أفكار المعتزلة ،كما أفرد فصوال لمن تأثر بالقاضي عبد
الجبار بن أحمد على كثرتهم .
1ـ ينظر :وليد قصاب ،أثر المعتزلة في التراث النقدي والبالغي حتى نهاية القرن السادس الهجري ،ص :
ج.
2ـ نفسه .
3ـ الكتاب في األصل رسالة علمية مقدمة الى جامعة األزهر ،ومن ثم نشرتها دار الفكر العربي ،القاهرة،
سنة . 1978
50
أن القاضي عبد الجبار لمأما من جهة المنهج فعلى الرغم من أنه يعي تماماً ّ
يكن يعرف بدقة تقسيم البالغة إلى ثالثة علوم فإنه قد ألزم بحثه بهذا التصنيف التقليدي
لعلوم البالغة ،وأخذ ينقب ويفتش في كتب القاضي عبد الجبار بن أحمد إلرجاع أية إشارة
إلى قضية في إطار علوم البيان والبديع والمعاني ،واألخطر من هذا كله أنه كان يؤسس
أصوال لمجرد إشارة قالها القاضي عبد الجبار ،أو ألنه أستشهد بآية قرآنية كريمة رأى فيها
المتأخرون قضية بالغية ،وهذا كثير في الكتاب ،وهذا من شأنه أن يقلل من أهمية
البحث والنتائج التي توصل إليها الباحث ،ألنها ـ في الحقيقة ـ ال تقدم جديداً ،وال تكشف
عن قضية جديدة في مجال الدرس النقدي والبالغي.
وأخي اًر هناك بحث تخصص بالقاضي الجرجاني أعده عبد العزيز قلقيلة ،وعنوانه
» :النقد األدبي عند القاضي الجرجاني « ونشر مرتين ،نشرته مكتبة االنجلو المصرية
في القاهرة سنة 1976م ،وسبق أن نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973م
في القاهرة أيضـا تحت عنـوان » القاضي الجرجاني والنقد األدبي « ،ويعنى هذا الكتاب
بالتأصيل التاريخي للنقد األدبي عند القاضي الجرجاني من حيث التوثيق والمقارنة ،فهو
يتتبع اآلراء النقدية قبل القرن الرابع الهجري ابتداء من العصر الجاهلي ومرو ار بابن سالم
الجمحي والجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن المعتز وقدامة بن جعفر وابن العميد واآلمدي،
كما يتتبع ترجمة المؤلف ونسبة كتاب »الوساطة « اليه ،ولم يكتف بهذا ،بل راح يتابع من
تأثر به من النقاد في القرون التالية كالثعالبي ،وعبد القاهر الجرجاني ،والباقالني،
والمرزوقي ،وابن بسام ،وابن خلدون ،وغيرهم ،وأكثر من هذا أنه عالج مواطن التقاء آراء
القاضي الجرجاني بآراء فالسفة ونقاد ،إغريق وغربيين ،كآرسطو وهوراس وهيجو وسانت
بيف وكروتشة وستانلي هايمن ،وغيرهم كثير ،وقد خصص فصال واحدا للنقد األدبي في
» الوساطة « وهوا لفصل الثالث الذي عالج فيه آراء القاضي الجرجاني النقدية ،وقسمه
إلى مبحثين :أولهما :يعنى بالقضايا النقدية كلغة الشعر والذوق األدبي والسرقات
الشعرية وعمود الشعر ونحوها ،والثاني :يعنى بالقضايا البالغية في كتاب »الوساطة «
ويهتم بالبديع ،واالستعارة ،والتشبيه ،والجناس ،والمطابقة ،ونحوها .
51
وعلى الرغم من تطواف المؤلف في التراث النقدي ابتداء من العصر الجاهلي
حتى ابن خلدون ،وفضال عن مقارناته العديدة بين القاضي الجرجاني وغيره من النقاد،
أن يتجاوز الدراسات السابقة كدراسة «النقد
عربا وأجانب ،قدامى ومحدثين ،فأنه لم يستطع ْ
المنهجي عند العرب« لمحمد مندور ،ودراسة إبراهيم سالمة » بالغة ارسطو بين العرب
واليونان « فقد وقع تحت تأثيرهما ،وبخاصة الدراسة الثانية ،حتى لتكاد تكون دراسته
توسيعا للبحث الذي عقده إبراهيم سالمة للقاضي الجرجاني في كتابه سالف الذكر ،وهذا
يدفعنا إلى اإلشارة إلى هذا الكتاب الذي يحاول الكشف عن الوشائج التي تربط النقد
األدبي عند العرب بأرسطو ،ومقدار تأثير البالغة األرسطية بالنقد العربي ،اذ تناول
المؤلف عدداً من النقاد منهم :قدامة بن جعفر ،وأبو هالل العسكري ،واآلمدي ،والقاضي
الجرجاني ،ويعنى إبراهيم سالمة بكتاب »الوساطة « من حيث التأثر ،والتأثير ،ولذا عقد
المقارنة بين آراء القاضي الجرجاني ومدام دي ستايل ،وسانت بيف ،مثال ،ويعقد المقارنة
إن انشغال المؤلف بالمقارنة والكشف عن آثار البالغة
بينه و بين عبد القاهر الجرجاني ّ ،
اآلرسطية في النقد العربي قد نأى بالبحث بعيدا عن التأصيل ،وحذا حذوه من تأثر به .
وأود اإلشارة ـ هنا ـ إلى دراسة مست موضوعنا مسا عارضا ،وهي دراسة محمد
زغلول سالم » أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري « وقد
توقف المؤلف فيما يخص بحثنا عند الرماني والقاضي الجرجاني ،وعرض لرسالة الرماني
«النكت في إعجاز القرآن« عرضا سريعا ،وتناول بعض آرائه البالغية بحسب ورودها
وتسلسلها في الرسالة ،وفعل مثلها في » وساطة « الجرجاني .
وال أريد اإلشارة إلى كل دراسة تعرضت ولو على نحو يسير لناقد من نقاد بحثنا
ألن هذا سيكون من الكثرة بحيث ال يمكن لهذا التمهيد أن يحيط به ،كما أننا قد أشرنا في
هوامش البحث وفهرس المصادر والمراجع ،إلى هذه المراجع التي أفدنا منها حقيقة .
52
القسم الثاني
األصول الفكرية للمعتزلة
إذا استثنينا المعرفة الضرورية التي أودعها هللا فطرياً في اإلنسان َّ
فإن للمعرفة
أن هذا التصنيف
لدى المعتزلة بعدين جوهريين :أحدهما عقلي ،واآلخر نقلي ،غير ّ
إن أحدهما يسبق اآلخر ويتأسس عليه ،ففي حين
لبعدي المعرفة ليس دقيقاً تماماً ،إذ ّ
ويعول عليه كغاية ومعيار في آن ،يتراجع النقل ـ الكتاب
يحتل العقل مكان الصدارةّ ،
والسنة ـ إلى أداة نصية تخضع ألبعاد العقل ،وحدوده ،ولذا حصل التفاوت بين هذين
البعدين ليكون العقل سابقاً ،ويستخدمه اإلنسان ليكشف به عن الحقيقة وعن الحكم
الشرعي على نحو إجمالي ،ويكون النقل الحقاً للعقل وخاضعاً له ،وقابالً للتفسير في
ضوء معطياته .
ولقد عني المعتزلة كثي اًر بالعقل واعتبروه أداتهم المعرفية األساسية ،واستخدموه
في الجدل والنقاش ،وأخضعوا له الظواهر الفلسفية الكبرى ،وأقاموا على أساسه تصورهم
وتحكمه فيه ،بل
ّ عن هللا والعالم واإلنسان ،ومن هنا جاء الحديث عن سبق العقل للسمع،
أن معرفة القرآن ومعرفة الرسول ال تتم إال 1
إن معرفة السمع ال تصح إال بالعقل ،بمعنى ّ ّ
بوجود العقل ألنهما ـ أي الرسول والقرآن ـ عرفا به ،ولم يعرف بهما.2
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل ،حقق بإشراف طه حسين وإبراهيم
مدكور ،و ازرة الثقافة واإلرشاد القومي مصر 1960 ،م ـ 1965م .151/14 ،
الرسي ،أصول العدل والتوحيد ،ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد« تحقيق محمد عمارة ،دار 2
ـ القاسم ّ
الهالل ،القاهرة 1971 ،م ،ص .96
53
وتتخلق المعرفة لدى اإلنسان أساساً ،فهو الذي يصنعها مستعيناً بقدرته وبفعله
النابع من هذه القدرة من ناحية ،ومعتمداً على حرية اإلرادة اإلنسانية من ناحية ثانية،
فإن المعرفة التي يتلقاها اإلنسان عن طريق الوحي ليست متقدمة على المعرفة
ولذلك ّ
أن األولى ـ أي الوحي ـ تزيد الثانية تخصيصاً ،ليخلص
اإلنسانية ،غاية ما في األمر ّ
أن ال تناقض بين المعقول والمنقول،أن بعدي المعرفة متطابقان ،و ْ
المعتزلة من هذا إلى ّ
أن النص يؤكدأن يميز بين الحسن والقبح ،والشر والخير ،و ّألن اإلنسان قادر بعقله على ْ
ّ
ما توصل اليه العقل ،ويزيـده تخصيصاً ،أو أنه يع ّـرفنا «بتفصيل الجملة المستقرة في
أن اإلنسان مكلف نـزل الوحي أو لم ينـزل ،ما دام اإلنسان 1
العقل» ولذلك أكد المعتزلة ّ
كائناً عاقالً قاد اًر بعقله على الكشف والتمييز بين الحسن والقبح.
فإن الدليل
وحين يتعارض العقل والسمع ،أو الدليل العقلي والدليل السمعيّ ،
أن رؤية اإلنسان ُتلقى ظاللها
السمعي يخضع للدليل العقلي تأويالً وتفسي اًر ،وهذا يعني ّ
أن المعتزلة تؤكد تطابق
على النص السمعي فتصبغه بطابعها الخاص ،على الرغم من ّ
الدليلين ،وتطابق نمطي المعرفتين العقلية والنقلية ،ويبقى التمايز بين المعرفتين قائماً،
فالمعرفة البشرية تمثل تصو اًر متخلقاً في داخل اإلنسان ،ونابعاً من إرادته وفعله ،ومقترناً
بعقله ،أما المعرفة اإللهية فإنها تمثل تصو اًر يفسر لإلنسان :هللا ،والعالم ،واإلنسان ،غير
متلق ،فهو ليس صانعاً للمعرفة ،وليس مسهماً فيأن اإلنسان يتحول إزاءها من مبدع إلى ٍ ّ
متلق سيكون على أحسن األحوال واعياً لمعطياتها .
إيجادها ،وإنما هو ٍ
أن المعتزلة أصحاب نـزعة عقلية متميزة ،فقد جعلوا العقلونخلص من هذا إلى ّ
أداتهم في معالجة القضايا والظواهر ،ألنه يمثل القوة القادرة على إرساء البناء الفكري،
وبدونه ال يمكن إدراك الحقائق ،كما أنه ال يمكنه أن يكشف عن القضايا إال إذا بلغ درجة
من النضج ،وليس شرطاً تحقيق هذا بالوحي ،ألنه ـ أي العقل ـ قادر بذاته ،والقدرة تعني
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المختصر في أصول الدين ،ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد «
تحقيق محمد عمارة ،دار الهالل ،القاهرة 1971 ،م ،ص 236
54
اشتماله على مجموعة من المعارف والعلوم الخاصة التي متى » صحت في المكلف صح
منه النظر واالستـدالل والقيام بأداء ما كلف « . 1
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل375/11 ،
2ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،شرح األصول الخمسة ،بتعليق األمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم،
تحقيق عبد الكريم عثمان ،مكتبة وهبة ،القاهرة1965 ،م ،ص . 28
55
ويتصل التوحيد من زاوية أخرى باإلنسان وكيفية توحيده هلل ،إذ ال يصح أن
يكون اإلنسان موحدا إال إذا علم بوحدانية هللا ،وما يستحق من صفات ،و ّ
البد له من
يقر ،أو أقرّ ولم يعلم لم يكن
االعتقاد مع العلم واإلقرار بذلك ،ألن اإلنسان « لو علم ولم ّ
موحداً ». 1
فإن العدل تنـزيه هللا
وإذا كان التوحيد تنـزيه هللا عن المماثلة والمشابهة لما سواهّ ،
يعرفه القاضي عبد الجبار بن أحمد ـ » وضع الشي في غير عن الظلم ،والظلم ـ كما ّ
فإن العدل يعني وضع الشيء في موضعه ، 2
موضعه « ،وفي ضوء مفهوم المخالفة ّ
أن أفعال هللا كلها حسنة ،وأنه ال يفعل القبيح ،وال يخل بما هو
ويقود مفهوم العدل إلى ّ
أن العدل تنـزيهه ـ سبحانه ـ عن أمور ثالثة :
واجب عليه ،أو ّ
أولـهـا :القبائح أجمع .
وثالثها :تنـزيهه عن التعبد بالقبيح وخالف المصلحة وإثبات جميع أفعاله حكمة
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،شرح األصول الخمسة ،ص 135ـ 136
2ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المختصر في أصول الدين ،ص 248
3ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،شرح األصول الخمسة ،ص .745
57
) ( 3حرية اإلنسان :
وقد عني المعتزلة بحرية اإلنسان لكونها تؤكد أهمية العقل ودوره في اختيار
اإلنسان ألفعاله من ناحية ،ولكونها تؤكد العدل اإللهي أحد أبرز أركان األيديولوجية
فإن انتفت
االعتزالية من ناحية ثانية ،وترتبط المسئولية بالحرية ارتباط المعلول بعلتهْ ،
الحرية انتفت المسئولية ،إذ كيف يكلف هللا سبحانه اإلنسان وهو مجبر على أفعاله،
وكيف يثيبه أو يعاقبه على فعل لم يرتكبه ؟ .
وقد حد المعتزلة الفعل بأنه » ما يحصل من قادر من الحوادث « 1وتتأتى
ألن كل ما يحدث من القادر يقال له فعله ،ويقاس
أهمية القدرة لتعني اإلحداث واإليجادّ ،
ان الكتابة تحدث من الكاتب ،ونقول إنها فعله ،كذلك يقال عن
الغائب على الشاهد ،فكما ّ
األجسام التي أحدثها هللا إنها فعله .
والفعل بهذا المعنى ال يصح صدوره عن اإلنسان كما ال يتم تحقيقه إال بقدرة
سابقة لوجود الفعل ،والقدرة ـ كما يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد ـ » معنى موجود في
الجسم ،يصح من العبد الفعل ،والتصرف بها ،ويمكن ألجله أن يتحرك بدالً من أن يسكن،
وأن يقوم بدالً من أن يقعد ،وهللا عز وجل ركبها في جسم العبد كي يطيع وال يعصي « 2
فالقدرة في ضوء هذا كله تتسم بالخصائص اآلتية :
أنها من أفعال هللا وقد ركبها في جسم اإلنسان .
تتميز القدرة بأنها أداة ،شأنها شأن السيف ،إذ يصلح السيف لقتل المؤمن،
ويصلح للجهاد في سبيل هللا ،وتكمن وظيفة القدرة في إحداث الفعل ،وإخراجه من
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل. 93/6 ،
2ـ الجرجاني ،التعريفات ،الدار التونسية للنشر ،تونس 1971 ،م ،ص .12
3ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،شرح األصول الخمسة ،ص .39
4ـ نفسه ،ص . 326
5ـ نفسه .
6ـ نفسه .
59
أن هللا أقدرهم
يتولد عنها ،وهي التي يصدق عليها أنه ال فاعل لها وال محدث سواهم ،و ّ
عليها ،أي أوجد القدرة فيهم لتمكينهم من خلق هذه األفعال . 1
إذن فالفعل اإلرادي ـ في ضوء ما سلف ـ هو ما توافر فيه عنصران :أولهما :
القدرة بكل خصائصها السالفة ،وثانيهما :اإلرادة التي تقتضي حدوث الفعل على هذا
الوجه دون سواه ،2كما أنها تمثل َميالً بالنفس باعتقاد النفع ،3ومن هنا تتأتى الرغبة في
إحداث الفعل أو العزم على تحقيقه ،وينطوي هذا المعنى لإلرادة على تفكير ومعرفةّ ،
ألن
إن االختيار ـ عند القاضي عبـد
أن تعرف وتختار ،بل ّ
النفس اإلنسانية ال تميل إال بعد ْ
الجبـار بن أحمد ـ إنما هـو إرادة بالنتيجة ،4ولذلك جاء الحديث عن القصود والدواعي
والكواره والصوارف ألنه بموجبها يقع الفعل أو يمتنع.
ويحدث اإلنسان األفعال ألنها واقعة من جهته بحسب قصده ودواعيه وعلمه ُ
أن هذه األفعال ال يتحقق وجودها في الواقع إال
وقدرته ،وأنه قد ُيمدح عليها وقد ُيذم ،و ّ
بأدوات وآالت ،وال يصح عقالً أن توصف هذه األفعال بأنها أفعال هللا ،ألنه يعيب عليه
أن يكون ظالماً بمحاسبة اإلنسان على فعل لم يفعله ،كما ّ
أن أفعال هللا ال تذم ألنها كلها ْ
أن هللا ال يحتاج إلى واسطة لتحقيق أفعاله.
حسنة ال قبح فيها ،و ّ
ويكمن الفرق بين الفعل اإللهي والفعل اإلنساني في ّ
أن اإلنسان يقصد إلى الفعل
بإرادته وعلمه ،ويتحقق وجود الفعل عبر قدرة اإلنسان ،فقيامه ،وقعوده ،وكالمه ،وكتابته،
كلها أفعال قصد اإلنسان وقوعها وحدوثها ،فهي مقترنة بإرادته هو ; أما الفعل اإللهي فهو
ما يتعذر على اإلنسان وقوعه بحسب قصد اإلنسان ودواعيه ،وليس اإلنسان مسئوالً عن
هذا الفعل ،ألنه فعل هللا ،وإنما يكون اإلنسان مسئوالً عن الفعل اإلنساني اإلرادي ،وما
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.3/8 ،
2ـ نفسه 94/ 6 ،و . 64/8
3ـ الجرجاني ،التعريفات ،ص . 11
4ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل. 56/6 ،
60
يتولد عنه ،ألنه يكون قد أحدثه عن وعي ومعرفة وقصد ،كما أن اإلنسان ليس مسئوالً
إن نسب اليه ،كفعل النائم والساهي .
عن فعل لم يقصد اليه و ْ
وتمثل الكتابة والصياغة فعلين إنسانيين ألنهما مرتبطان بقدرة اإلنسان وإرادته
وعلمه ،ويخضعان ،شأنهما شأن األفعال اإلرادية األخرى ،ألحكام الحسن والقبح » ألن
الفعل المقصود يجب كونه قبيحاً أو حسناً« 1أما الفعل الذي يصدر عن القادر دون قصد
فإن أحكام الحسن والقبح ليست منطبقة عليه ووعي منه ،فهو ليس مسئوالً عنه ،ومن ثمّ ،
ان الفعل اإلنساني ال يتحقق إذن إال إذا كان اإلنسان قاد اًر ومريداً ،وتقترن
أن ُبعدي القدرة واإلرادة ليسا منفصلين عن العقل ،ألن اإلرادة
باإلرادة المعرفة والعلم ،غير ّ
في أثناء ترددها بين األفكار المتغايرة إنما تميل نحو أحدها مسترشدة بالعقل ،ومن هنا
يتدخل العقل في أخطر عمليات إحداث الفعل ،وهو تأثيره في إرادة اإلنسان ،هذا من جهة
فإن الفعل يخضع بالنتيجة لحكم أخالقي عقلي،
إحداث الفعل ،أما من جهة الحكم عليه ّ
إن الحسن ليس قيمة
وهو كونه حسناً أو قبيحاً ،والحكم يرتكز على مقومات عقلية ،ولذا ف ّ
مفروضة على الفعل بوحي أو تشريع ،وكذلك القبح ،وإنما الحسن ـ على خالف األشاعرة
ـ كائن في الفعل ذاته ،بمعنى أن الحسن والقبح يمثالن قيمتين موجودتين في األفعال
ذاتها .
وقد اختلفت الفرق اإلسالمية في أصل نشأة اللغة بين الوقف واالصطالح،
ألن
وذهب المعتزلة إلى االصطالح ،ليرتبط هذا ببعدين :أحدهما :يتصل بالتوحيدّ ،
المعتزلة تسعى إلى تنـزيه هللا سبحانه عن المماثلة ،فاعتبرت الكالم واحداً من صفات
أن القرآن الكريم مخلوق
األفعال عند هللا ،وهذا يقود إلى أ ّن كالم هللا محدث ،كي يقرروا ّ
ألن الخطاب والتكليف ال يصحان من وليس قديماً ،وثانيهما :يتصل بتكليف اإلنسانّ ،
1ـ دي سوسير ،محاضرات في األلسنيةالعامة ،ص ،21ينظر ايضا Cuddon J. A Dictionary of
literary terms p .355
2ـ ابن جني ،الخصائص 17/1 ،ـ . 22
3ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل. 3/7 ،
4ـ نفسه.7/7 ،
65
فإن القاضي عبد
وإذا كان التحديد السالف يشير في بعض جوانبه إلى اللغة ّ
أن الكالم » هو الصـوت الواقع على بعض الوجوه
الجبار بن أحمد قد أكد في مكان آخر ْ
« ،1ليدل هذا على اللغة والكالم في آن واحد ،وداللته على اللغة تكمن في اإلشارة إلى
ألن وقوع الصوت
النظام الرمزي ،كما أنه يشتمل على االستخدام الفردي لهذا النظامّ ،
على وجه ،أو بعض الوجوه ،معناه تدخل اإلرادة اإلنسانية في إحداث الكالم ،ومن هنا
يتأتى الجانب الفردي للكالم.
ويمثل الكالم من ناحية أخرى بعداً إشارياً صوتياً يغاير الكتابة بوصفها » أمارة
للكالم « ،2وهي ـ الكتابة ـ نظام إشاري حسي مرئي ،يمكننا القول إنها تنطوي على أبعاد
مكانية ،في حين يمثل الكالم أبعاداً زمانية تتتابع فيها األصوات وتتضام إلى بعض لتقود
إلى الدالالت التي يقصدها المتكلم ،أما الكتابة فإنها تمثل بعداً مكانياً تكون حاسة البصر
أن اللغة أمر آخر غير الكتابة ،ألن اللغة نظام يعبرأداة اإلنسان في إدراكه ،وهذا يعني ّ
عنه بالرموز الصوتية ،في حين تمثل الكتابة الصورة اإلشارية لهذا النظام الرمزي،3
ويرفض المعتزلة أن يكون الكالم معنى في النفس ،رافضين بهذا مفهوم الكالم
النفسي عند األشاعرة ،ألن الكالم يمثل ظاهرة مادية محدثة ال يصح وجودها إال بعد
حدوثها ،أما ما يوجد في النفس فليس كالماً ،وإنما هو العلم بكيفية الكالم ،إذ تنطوي
النفس على فكر فيه القصد على إيجاد الكالم وإحداثه.4
إن مادة الكالم هي األلفاظ التي تواضع الناس عليها في اللغة ،ولذلك كان القرآن
الكريم من »جنس الكالم المعقول من الشاهد ،وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة « 5
وهذا يعني أن القرآن الكريم قد صيغ من المفردات التي تواضع الناس عليها ،والتي
69
70
جماليات النظام الصوتي :
إن الحديث عن الكالم لدى نقاد المعتزلة في القرن الرابع الهجري يقترب من ّ
حديث دي سوسير عن اللغة 1ولذلك فاللغة ـ في ضوء هذا التمايز ـ تتحدد أساسا بأنها
أصوات ،وهذا يؤكد بعدها الرمزي المنطوق ،وهو ينطوي بطبيعته على داللة ما ،ولذلك
أن محلها 2
ألفينا القاضي الجرجاني في الوساطة يؤكد بعدها السمعي ال البصري ،وعلى ّ
من األسماع محل النواظر من األبصار ،ليخلص من هذا إلى خصائص إيقاعية كائنة
في الكلمات ،فمنها ـ أي الكلمات ـ المحكم الوثيق ،والجزل القوي ،والمنمق الموشح.
ونلحظ تماي اًز جدي اًر بالتنويه لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد الذي يميز بين
الكالم والصوت ،ألن الصوت ـ لديه ـ قد يدل على ترميز له داللة لغوية أو ال يدل أصالً،
لكون اإلنسان قاد اًر على إحداث العديد من األصوات ،وليست لها أدنى عالقة باللغة
الفتقارها إلى دالالت متواضع عليها ،وألن » الصوت ـ الرمز « يقتضي وعيا لطبيعة
تأديته ،وطبيعة وظيفته ،ويقتضي ،أيضاً ،وعياً لكيفية استخدام جهاز النطق ،أو على حد
تعبير القاضي عبد الجبار بن أحمد » بأن الكالم يحتاج إلى العلم بتصريف اآللة التي
هي اللسان وغيرها على بعض الوجوه « .3
ويتجاوز القاضي عبد الجبار بن أحمد ذلك إلى ضرورة التمايز بين األصوات
اللغوية ذاتها ،وتعّقل هذا التمايز ،ليتمكن اإلنسان من المفارقة بين المتصل منها ببعض
1ـ دي سوسير ،محاضرات في األلسنية العامة ،ترجمة يوسف غازي ،ومجيد النصر ،دار نعمان للثقافة،
بيروت 1984 ،م ،ص 31ومابعدها .
2ـ الجرجاني ،الوساطة بين المتنبي وخصومه ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ،دار
إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة ،الطبعة الرابعة 1386 ،هـ ـ 1966م ،ص . 412
3ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.22/7 ،
71
أو الممتنع ،ومن هنا استخدم القاضي عبد الجبار بن أحمد مصطلح » الحروف المنظومة
جني والرماني،
على وجه مخصوص « بدال من مصطلح » التأليف « الذي يؤثره ابن ّ
ولذلك فإن الحروف ـ لدى القاضي عبد الجبار ـ تترتب في الحدوث على وجه وتتصل
لتدل على معنى معين ،1وهذا يتضمن بذاته حدوث الحروف زمانياً كي تتماثل مع
أن القاضي عبد الجبار بن أحمد ُيميز بين الرموز
الموسيقى بوصفها فناً زمانياً ،غير ّ
اللغوية المنظومة والرموز المكتوبة ،ألن المنظومة لديه هي »الصوت الواقع على وجه «
أن إرادة القصد ـ هنا ـ هي التي تحدد وجهته إلى هذه الناحية أو
معين من الداللة ،أي ّ
2
أن األصوات إنما هي تلك ،أما الكتابة فال تعدو أن تكون » أمارة للكالم « ،وهذا يعني ّ
رموز للدالالت الكائنة في الذهن ،أو رموز لألشياء الكائنة في الواقع الخارجي ،فهي رموز
للتصورات واألشياء ،في حين تكون الكتابة رم اًز للرمز ،ألنها »أمارة« للرمز أو للصوت
المنطوق ،ويقترب هذا التصور إلى حد ما من تصور بلومفيلد الذي يرى ّ
أن الكتابة ليست
اللغة ،وإنما هي الشكل اإلشاري لألصوات. 3
جني مفهوم الصوت بالحرف ،فالصوت لديه »عرض يخرج ويتداخل لدى ابن ّ
مع النفس مستطيال حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداداته
واستطالته ،فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا « 4فالحرف هو الصوت الذي يحدث من
جراء المقاطع التي تعترض الصوت الصادر من اإلنسان ،فيوجهها هذه الناحية ال تلك
فإن أجراس الحروف
ويكتسب صفة بحسب » المقاطع « ـ أي مخارج الحروف ـ ولذلك ّ
تختلف باختالف مقاطعها.
ويحدث جهاز النطق األصوات ،وهو يشبه إلى حد ما آلتين موسيقيتين هما :ُ
إن لم
الناي والعود ،فالصوت يخرج من الناي مستطيالً أملس ساذجاً ليشبه هذا األلف ْ
1
قشره . ـ نفسه ،ومعنى َي ُحتُّها َ
وي ْسُفًنها :يعركها ويهيجها ،من سفنه :إذا ّ
2ـ نفسه .
3ـ ابن جني ،الخصائص. 136 / 2 ،
4ـ ابن جني ،الخصائص. 5 / 1 ،
5ـ لمزيد من التفصيل ،ينظر نفسه ،136/2 ،5/1 ،نفسه . 136/2 ،وينظر :عثمان بن جني ،
المحتسب ،145/2 ،و . 137 ،136/2
77
و«حلى يحلي » فاألول يطلق على حاسة الذوق ،ألنك تقول « حال الشيء في فمي
يحلو» والثاني أنسب إلى حاسة البصر ،ألن الياء واأللف خفيفتان وضعيفتان ،و«حصة
الناظر أضعف من حس الذوق بالفم » ،1وما قيل عن أصوات الحروف وعالقتها
بالمعنى يقال أيضاً عن أصوات الحركات ،التي تتسم بالقوة والضعف ،فيما يرى ابن
جني ،فالضمة تدل على القوة ،والكسرة تدل على الضعف ،ولذلك أطلق العرب « الِّذل »
بكسر الذال على الدابة ،وهو ضد الصعوبة ،كما أطلقوا « ُّ
الذل » بضم الذال على
العز ،ليفصلوا بين المعنيين « ،ألن ما يلحق اإلنسان أكبر قد اًر مما
اإلنسان وهو ضد ّ
يلحق الدابة ،واختاروا الضمة لقوتها لإلنسان ،والكسرة لضعفها للدابة » ،2وكما تدل
الحركات عند ابن جني على المعنى قوة وضعفاً ،تدل عليه كثرة وقلة ،ولذلك الحظ فرقاً
واضحاً في الداللة بين العبارتين :
« ألن الماء ال يصح أن يعلو على رأس القدح ،كما يعلو الدقيق ونحوه على رأس
المكوك ،فجعلوا الضمة لقوتها فيما يكثر حجمه ،والكسرة لضعفها فيما يقل بل ُيعدم
فرق بين 3
ارتفاعه » ،وقد ارتبطت أصوات بعض الحروف بالداللة على القلة والكثرة ،فقد ّ
داللة صوتي الضاد والصاد في كلمتي َ « :قبضة ،وُقبصة » ،ورأى أن َ « :قبضة » تدل
على الكثرة ،لتفشي حرف الضاد واستطالة مخرجه ،أما كلمة ُ « :قبصة » فهي تدل على
القلة ،وذلك لصفاء حرف الصاد ،وانحصار مخرجه وضيق محله .
أن هناك قوانين تفسر الظواهر اللغوية المتعددة فإننا لسنا في
وعلى الرغم من ّ
سياق العناية ببعض القوانين الصوتية التي فصلها علماء األصوات قدر عنايتنا بما له من
تأثير في الكشف عن جماليات النص الشعري ،وفي هذا الصدد نلمح البن ّ
جني تأكيده
ظواهر معينة يمكنها أن تتحول إلى قاعدة أو قانون ،بحيث يمكنه اإلسهام في تفسير
التغيرات الصوتية والكشف عن جمالياتها أيضاً ،ومن هذه الظواهر ظاهرة »االستثقال «
أي ثقل الوحدة الصوتية في نطقها بذاتها ومستقلة عن سياقها ،أومقترنة بالسياق ،ومن
الطبيعي أن تكون هذه الوحدة الصوتية ثقيلة أيضاً في أثناء تركيبها في سياق ،ولم يكن
1ـ نفسه ،54/1 ،ينظر :مهدي المخزومي ،في النحو العربي ،قواعد وتطبيق ،دار الرائد للنشر والتوزيع,
، 1986ص . 66
جني ،المنصف.51/1 ، 2
ـ ابن ّ
80
أن هذا العامل ليس
عنها والتي تكلف جهداً يثقل على المتلقي أداؤه ،وعلى الرغم من ّ
بوسعه أن يفسر كل التغيرات الصوتية فإنه يسهم في تفسير بعض التغيرات التي تكشف
عن جوانب جمالية للوحدات الصوتية ،سواء في حالة إفرادها ،أو في حالة تراكبها،
وتضامها مع غيرها من الوحدات .1
جني بين طبيعة الحروف في الفصل الذي ذكر فيه مذهب العرب في
ويميز ابن ّ
ُ
مزج الحروف بعضها ببعض ،2وما يجوز في ذلك وما يمتنع وما يحسن وما يقبح،
ويقسم الحروف إلى قسمين :خفيف وثقيل ،وتختلف أحوال الخفيف ،فيكون بعضه أثقل
جني الصفات والخصائص التي تجعل هذا الحرف خفيفاً من بعض ،3ولم يحدد ابن ّ
أن أحرف الزيادة كلها خفيفة ،وهي :األلف ،والواو ،والياء،
واآلخر ثقيالً ،ولكنه أكد ّ
والهمزة ،والميم ،والنون ،والتاء ،والهاء ،والسين ،والالم ،وما تبقى من الحروف فهي
الحروف الثقيلة.
جني ،لوجدناها
ولو تتبعنا أحرف الزيادة ،وهي أحرف خفيفة في تصور ابن ّ
تختلط بين المجهور والمهموس ،فالمجهور :األلف ،والواو ،والياء ،والهمزة ،والميم،
والنون ،والهاء ،والالم ،والمهموس اثنان وهما :التاء ،والسين .ومن جهة الشدة والرخاوة
فمنها الشديد :كالهمزة ،والتاء ،ومنها التي بين الشدة والرخاوة وهي :األلف ،والياء،
حرف
ٌ والالم ،والنون ،والواو ،ومنها الرخو ،وهي :السين ،والميم ،والهاء ،وليس فيها
عل إذ كلها من األحرف المنخفضة ،وليس فيها حرف مطبق ،فكلها أحرف منفتحة . مست ٍ
وتتفاوت الحروف في نوع الجهد العضلي في نطقها ،فالتي تتطلب جهداً عضلياً
أكثر تعد ثقيلة في تصور الدرس الصوتي الحديث ،بل تعد حروفا رديئة الموسيقى ،4ولو
1ـ ينظر :أحمد مختار عمر ،دراسة الصوت اللغوي ،عالم الكتب ،القاهرة 1981 ،م ،ص 319ـ .320
جني ـ هنا ـ مصطلح المزج بين الحروف وليس التأليف الذي سبق له استخدامه ،ويتفق مع 2
ـ يستخدم ابن ّ
الرماني في استخدام مصطلح التأليف.
جني ،سر صناعة اإلعراب ،ورقة . 303 : 3
ـ ابن ّ
4ـ ابراهيم أنيس ،موسيقى الشعر ،مكتبة االنجلو المصرية ،القاهرة 1965 ،م ،ص . 584
81
جني من جهة وقانون الجهد العضلي أردنا المقارنة بين الحروف الخفيفة والثقيلة عند ابن ّ
من جهة ثانية ،فإننا نستطيع الكشف عن جوانب ذات قيمة في مفهوم الخفة والثقل ،ومن
إن الدراسات الحديثة تعتبر الهمزة من أشق الحروف وأعسرها حين النطق ،ومثلها
هذا ّ :
القاف ،وكذا أحرف اإلطباق ،وهي » :الصاد ،والضاد ،والطاء ،والظاء« 1
جني أنها أحرف خفيفة ليس فيها إال حرف الهمزة
إن أحرف الزيادة التي أكد ابن ّ
ّ
جني ،بل إنه يؤكد أنها من
من الوحدات الصوتية الثقيلة ،ولم يكن هذا خافياً على ابن ّ
وب ُع َد عن
أن الهمزة ثقيلة ألنها » حرف َسَف َل في الحلق َ
الحروف المستثقلة ،ويؤكد ّ
الحروف وحصل طرفا فكان النطق به تكلفا « 2وإذا كان التحديد السابق لثقلها من حيث
ألن الحذف
مخرجها ،فإنها ثقيلة من حيث حذفها ،وإبدالها فهي ثقيلة لسببين :األول ّ :
يدخلها ،والثاني :إبدالها بحرف آخر في كثير من الكالم.
فإن الهمزة لها خاصية تجعلها حرفاً خفيفاً لألسباب اآلتية :
وعلى الرغم من هذا ّ
القدرة على إعاللها وقلبها ،وهذا ال يمكن أن يتم بحرف من الحروف الثقيلة،
كالجيم والقاف.
إن مخرجها مجاور لمخرج أخف الحروف وهو األلف. ّ
جني لذلك بـ » دأب « وكون الهمزة تفصل بين الدال والباء ،وهو أحسن في
ابن ّ
تصوره في الفصل بينهما بالفاء مثال.
فإن أحرف الزيادة باستثناء الهمزة كلها
جني للهمزة ّ
ومهما يكن من تبرير ابن ّ
أن أغلب أحرف خفيفة ألنها ال تتطلب جهداً عضلياً يكلف المتكلم مشقة وعس اًر ،كما ّ
الزيادة ـ ما عدا السين ،والهاء ،وهما حرفان رخوان ـ من األحرف الشديدة ،وألن األصوات
أن أغلب أحرف الزيادة مجهور،
الرخوة أصعب من نظائرها الشديدة في النطق ،كما ّ
أن هذه
جني » :اعلم ّ
تأليف األحرف المتباعدة ،وهو أحسنها وأجملها ،يقول ابن ّ
الحروف كلما تباعدت في التأليف كانت أحسن ،وإذا تقارب الحرفان في
ٍ
حاجة كل ِمنى من قضينا َولما
َ
ماسح
ُ هـو من ِ
باألركان ومسح
األباطح
ُ المطي ِ
بأعناق وسالت
ْ
فاألحرف الخفيفة في البيتين الشعريين يزيدان على النصف في مقابل األحرف الثقيلة ،أذ
جني كان منحا از لهذا
إن ابن ّ
يبلغ عدد الحروف الخفيفة 65حرفاً ،يقابلها 26حرفاً ّ ،
1ـ الرماني ،النكت في إعجاز القرآن ،ضمن كتاب » ثالث رسائل في إعجاز القرآن « تحقيق محمد خلف
هللا ،ومحمد زغلول سالم ،دار المعارف ،مصر ،د .ت ،ص .88
2ـ ابن قتيبة ،الشعر والشعراء ،تحقيق محمد أحمد شاكر ،دار المعارف ،مصر 1982 ،م ،66/1 ،وقد
وصف ابن قتيبة هذه األبيات بأن ألفاظها »أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع ،وإنْ نظرت إلى ما تحتها
من المعنى وجدته :ولما قطعنا أيام منى ،واستلمنا األركان ،وعالينا إبلنا األنضاء ،ومضى الناس ال ينتظر
الغادي الرائح ،ابتدأنا في الحديث ،وسارت المطي في األبطح « الشعر والشعراء 66 /1 ،ـ . 67
88
النص الشعري وكان همه األساس أن يرد على ابن قتيبة ،ألن األخير قلل من قيمة
المعاني التي تنطوي عليها األلفاظ.
جني عند ذلك بل راح يعرض األصول العقلية ويجعلها متحكمة ولم يتوقف ابن ّ
دراسة الظواهر الصوتية ،ففي أثناء دراسته للقراءة القرآنية الكريمة »أَح ُّق أَن تُقوم ِف ِ
يه في
َ ْ َ َ
ال « 1يبدأ بتحديد المقومات العقلية التي يصدر عنها في درسه اللغوي والجمالي ِ
يه
ف ُ ِر َج ٌ
ويرى أن أصل حركة الهاء في القراءة القرآنية هي »الضم « وتكسر إذا سبقتها كسرة أو
ياء ساكنة ،وعلى الرغم من تأكيده األصول العقلية ـ هنا ـ فإنه يرى بعداً جمالياً يرجع هو
فيه ِ
فيه « أو اآلخر إلى أصل عقلي مؤداه المماثلة بين األجزاء ألنه لو كسرهما معا » ِ
جني إلى ضرورة
فيه « لكان جميالً حسناً ويرجع هذا الجمال لدى ابن ّ
فيه ُ
ضمهما معا » ُ
المماثلة الشكلية بين األجزاء والعناصر ،وهو جزء من التركيب العقلي الذي عنى به
أن
المعتزلة في المناظرة بين األشياء وضرورة أن يجمع مكوناتها نسيج عقلي موحد ،غير ّ
جني ـ في ضوئه ـ
ويسوغ ابن ّ
هذا التحديد يقع تحت تأثير آخر هو التفسير الصوتيّ ،
االختالف بين الحركتين لتكون إحداهما بالكسر ،والثانية بالضم ،ألن التكرار بذاته يكلف
فيه« ِ ِ
فيه ُ
الناطق جهداً عضلياً ،وهو استثقال النطق ،ألنه لو قال »:فيه فيه « أو » ُ
أن هذا
لتكرر اللفظ عينه حتى إنهم ال يتعاطونه إال داللة على قوة مراعاتهم له ،بمعنى ّ
مجاف للحس ،ويكلف عس اًر في النطق ،ولكنه يصبح سائغاً من أجل مراعاة ٍ الثقل
ٍ
التأكيد. 2
وعلى الرغم من النـزعة العقلية الجلية لدى المعتزلة ومحاولتهم ضبط الجماليات
جني
فإن مواقفهم ال تخلو من أحكام تأثرية ذوقية ـ وإذا كان ابن ّ
الصوتية بقواعد وقوانين ّ
والرماني والقاضي عبد الجبار بن أحمد ـ يمثلون الجدل العقلي ويميلون ناد اًر إلى تحكيم
الذوق فإن الصاحب بن عباد يميل إلى األحكام التأثرية التي ال تُعنى كثي اًر بالتحليل
يه ِف ِ
يه 1ـ هذه قراءة قرآنية ،والقراءة المشهورة هي َ » :لمس ِجد أ ُِسس عَلى التَّْقوى ِمن أََّو ِل يو ٍم أَح ُّق أَن تُقوم ِف ِ
َْ َ ْ َ َ ْ َ َْ ٌ ّ َ َ
َّللا ي ِح ُّب اْلم َّ
ط ِّه ِرينَ « سورة التوبة ،آية . 108 : ُ ط َّه ُروا َو َّ ُ ُ ال ُي ِحبُّو َن أ ْ
َن َيتَ َ ِرَج ٌ
جني،المحتسب.301/1 ، 2
ـ ابن ّ
89
والتفسير الصوتي للظواهر الجمالية ،فهو يفطن إلى مواطن الجمال والقبح في التشكيل
اللغوي ،وبخاصة الصوتي ،ولكنه ال يميل إلى تحليله أو تعليله ،فقد التفت إلى كلمات
رديئة التركيب والجمال يمكننا تفسيرها في ضوء الدرس اللغوي الحديث ،ومن هذه الكلمات
كلمة »مسبطر « في قصيدة المتنبي التي يرثي بها أم سيف الدولة :
طر
ُم ْسب ٌ حولك العز اق
رو ُ
ِ
كمال في ابنك علي ومْل ُك
ّ ُ
فطامه قبل
َ اب
التور ُ أيفطمه
ِ
األكل إلى البلوغ قبل ويأكله
عباد ،الكشف عن مساوئ المتنبي ،ضمن كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي « للعميدي، 1
ـ الصاحب بن ّ
تحقيق إبراهيم الدسوقي البساطي ،دار المعارف ،مصر ، 1961 ،ص . 234
90
ومثل كلمة » مسبطر « كلمة » التوراب « فهي تتكون من سبعة أحرف ،إضافة إلى
أن الذوق يمجها.
ندرة استخدامها ،ولذا فهي ثقيلة في النطق ،ويبدو ّ
أن النظام الصوتي قد شغل عدداً محدداً من النقاد،
ونخلص من هذا كله إلى ّ
وقد لفتت أنظارهم مظاهر صوتية كخفة الوحدات الصوتية واستثقالها في النطق ،وهي
ظواهر ال تشتمل على خصوصية تترك آثارها في تشكيل الشعر وإثراء داللته ،وهذه
الظواهر من العموم بحيث يصح أن تكون عيباً في الشعر أو النثر ،كما أنها تنطوي على
درجة من الثبات أيضاً ،إذ تُعد الكلمة معيبة سواء اندرجت في سياق أو انفصلت عنه،
إن كانت ضوابط صوتية في أساسها
أن ضوابط الخفة واالستثقال في النطق و ْوهذا يعني ّ
أن هذه المحاوالت بقيت مفتقرة إلى رؤية أرحب، فقد خلع عليها الناقد قيمة جمالية ،غير ّ
أن الناقد ـ كما اتضح مما سلف ـ لم يكن يعي العالقة الوثيقة بين اإليقاع
والسبب في ذلك ّ
أن الناقد قد أدرك حي اًز ضيقاً من هذه العالقة فإنه ركز
وعلم األصوات ،وعلى الرغم من ّ
جل جهده وعنايته بالجانب التعليمي والمعياري ،فقد تجلت العناية غالباً بإرساء األسس
ّ
المعيارية التي يضبط بها الناقد سليم الشعر من مكسوره باعتبار الوزن ـ مثالً ـ أحد أبرز
األسس التي تحدد ماهيته.
ولم يخطر ببال النقاد القدامى أن يعوا تمايز األصوات في إطار انتظامها في
تشكيالت إيقاعية ،بل شغلتهم النـزعة العقلية التي تحبذ رؤية األشياء محددة وثابتة ،ولذلك
إن كان النقاد قد التفتوا إلى جوانب
فإن األصوات لها سمات خاصة ثابتة أينما وضعت ،و ْ
ّ
أن القيمة ال
قيمية هزيلة في أثناء دراستهم النتظام بعض األصوات بجوار بعضها ،غير ّ
ترقى لديهم إلى انتظام هذه األصوات اللغوية على أساس موسيقي معين.
إن المحاوالت الحديثة التي حاولت دراسة اإليقاع في ضوء علم األصوات قد ّ
عمدت إلى ربط اإليقاع بالمقطع ،ألن توالي المقاطع بكيفية معينة هو الذي يحدد بعدها
اإليقاعي سواء أكانت في تشكيل شعري أم في أداء نثري ،1وقد أفاد الدارسون المحدثون
من الدراسات الغربية ،وبخاصة دراسة المستشرقين للعروض العربي ،حين ربط هؤالء
1ـ نفسه ،ص 49وما بعدها ،ينظر أيضاً :محمد مندور ،في الميزان الجديد ،دار النهضة ،مصر1973 ،
94
جماليات النظام الصرفي :
يمثل النظام الصوتي أساس النظامين الصرفي والنحوي اللذين يغلب عليهما لدى
أن األخير يكاد يكون مستقالً عنهما ،ولقد
علماء العربية انفصالهما عن النظام الصوتي ،و ّ
جني أن يربطه بفاعلية السياق مرة ،وأن يربطه بالنظام النحوي مرة أخرى، حاول ابن ّ
ولكن هذه المحاولة ال تعدو مجرد إشارات .
جني ببن النظامين الصرفي والنحوي ،فالنحو لديه ُيعنى بمعرفة أحوال
ويميز ابن ّ
الكلم المتنقلة ،في حين يعني الصرف بأنفس الكلم الثابتة ،وتتأسس على ذلك عناية ابن
جني البالغة بالصرف قبل النحو ،ارتكا از إلى مقـولة عقليـة ترجـع التـفكير كله إلى ضربّ
ألن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن تكون أصالً لمعرفة حاله المتنقلة»،1 من الثبات » ّ
وهذا يعني في أحد جوانبه أن هناك تماي اًز بين الذوات في حال الثبات ،وتماي اًز بينها في
جني بالثبات الذي يمثل األصل لمعرفة كل أثناء تغايرها وتنقلها ،وتتركز عناية ابن ّ
متغير ،وهو لون من السعي إلى تثبيت كل شيء ،وهو في النتيجة إرساء لقواعد الفكر
التي ترجع كل عنصر متغير إلى أصل ثابت ،وتخضع فيه األصل والفروع إلى عملية
عقلية محددة.
ويقودنا هذا إلى الحديث البالغ األهمية عن األصول والفروع التي أسهب ابن
جني في تأكيدها ،لتخضع فيه الثوابت والمتغيرات أو األصول والفروع إلى عملية هي
ّّ
القياس ،بحيث تتداخل هذه األبعاد وتتقاطع مع بعضها لتشكل هذا التفكير الذي يصدر
عن إحكامات عقلية تخضع كل شيء لمقومات عقلية ثابتة.
جني ،المنصف ،شرح كتاب التصريف للمازني ،تحقيق إبراهيم مصطفى ،وعبد هللا أمين ،دار إحياء 1
ـ ابن ّ
التراث القديم ،مصطفى البابي الحلبي ،مصر 1954 ،م . 4/1 ،
95
جني فمن جهة نشأة اللغة يعني
وتأخذ » األصلية « دالالت متعددة لدى ابن ّ
األصل وض ع اللغة ،وهو يدل على تأكيد للمقوالت االعتزالية التي تؤمن بالمواضعة وليس
التوقيف ،مما يقود إلى تأكيد قضية خلق القران ،ويعني » األصل « من ناحية أخرى بنية
الكلمات العربية من حيث عدد حروفها :ثالثية ،ورباعية ،ليعني الفرع التراكيب التي
تتكون من جذور الكلمات والزيادات المضافة اليها; أو أن يكون » األصل « تثبيت صيغة
أن كل لفظين
جني » إعلم ّلكلمتين أو أكثر رأى فيها اللغوي تقديماً أو تأخي اًر ،يقول ابن ّ
وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه
إن لم يكن ذلك حكمت بأن أحدهما مقلوب عن صاحبه،
فهو القياس الذي اليجوز غيره ،و ْ
ثم رأيت أيهما األصل وأيهما الفرع « ،1أو أن يكون » األصل « مذهبا للعرب حين
تسعى إلى تغير كلمة عن »صورة إلى أخرى أختارت أن تكون الثانية مشابهة ألصول
كالمهم ومعتاد أمثلتهم « 2ويرتكز المذهب العربي على أساس مشابهة اللفظ ألصول
أن يتحكمالكالم العربي ،وإذا كان مذهب العرب يقود إلى أنماط تجريدية ثابتة فإنه البد ْ
في الفروع من خالل »المشابهة« التي تتوافر في الفرع ليقاس على األصل ،وفي التشبيه ـ
جني بيتاً
أيضا ـ هناك أصل وفرع وهناك عادة وحكم يتحكمان فيهما ،وحين يعالج ابن ّ
لذي الرمة ،وهو:
الحنادس
ُ المظلمات
ُ ألبسته إذا
جني روعته في المبالغة ألن ذا الرمة » جعل األصل فرعاً والفرع أصالً«.3
يعلل ابن ّ
جل شأنه أخرجهم طفالً إنما هو » موضع أي أن مخاطبة هللا تعالى للناس بأنه ّ
تصغير لشأن اإلنسان وتحقير ألمره ،فالق به ذكر الواحد لقلته عن الجماعة « 1
َ
جني خرج بكلمة » طفل « من داللة األحادية إلى داللة أخرى ،ويتأتى
إن ابن ّ
ّ
هذا بسبب وعي فاعلية السياق ،أي أنه عمد إلى تفسير هذه الكلمة بعيداً عن
كد ذهنه ليفتش عن دالالتها في إطار فاعليتها ،ومادالالتها المعجمية ،وألنه ّ
يوحيه هذا السياق ،وما يلقيه عليها من ظالل ،وهذا يعني أن السياقات المختلفة
ال تجمد الكلمة في إطار دالالت ثابتة ،وإنما تضفي عليها دالالت متعددة ،وبهذا
لن تكون داللة الكلمة ثابتة أبداً إال في المعجمات ،وتكون الدالالت متغايرة في
السياقات لدرجة يصدق معها القول بأنه ال يمكن أن تتماثل داللة الكلمة الواحدة
في السياقات المختلفة.
أما الداللة الثانية فإنها تخرج من دالالت التعظيم والتحقير ،إذ ليست الجماعة
لداللة التعظيم ،كما أن اإلفراد ليس داالً على التحقير ،وإنما يخرج المعنى إلى
داللة في تصوير مراحل نمو اإلنسان ،من الوالدة حتى كونه مخلوقاً ناضجاً،
ولذلك تتغاير الدالالت ،ففي حين عنيت الداللة األولى بالعظم والحقارة ،أي
عنايتها بدالالت معنوية تتصل بقيمة أخالقية تجريدية ،تتجاوز الداللة ـ في
الحالة الثانية ـ هذا البعد التجريدي إلى جانب تصويري إذا جاز التعبير ـ فهو بعد
جني إن معناه »نخرج كل واحد منكم طفالً « وهو يتضمن حسي ،يقول ابن ّ
المعنى السابق على نحو اإلشارة والتلميح ،وليس على نحو اإلبانة والتوضيح،
إن كان التغاير
جني يعي هذه الكلمة في إطار السياق ،و ْ
أن ابن ّ
أن المهم ّ
غير ّ
نسبياً ،وهو لون من ألوان االتساع الذي يتجاوب مع جذور فكرية ،ألن وضع
جني ـ إنما هو اتساع في اللغة.
الواحد موضع الجماعة ـ لدى ابن ّ
1ـ نفسه.
100
جني على اإلفراد والجمع ولكنه ُيعنى بالتعريف والتنكير،ولم تقتصر دراسة ابن ّ
محمد
ٌ ويخضعهما بشكل أو بآخر إلى شيء من فاعلية السياق ففي القراءة القرآنية » َوما
لت من قبله ُرُس ٌل« 1يرى أن هذه القراءة حسنة في معناها ،ويرجع هذا
رسول قد َخ ْ
ٌ إال
الحسن إلى سببين :
أولهما :
إن القصر يشتمل على لون من االقتصاد في األداء فهذه القراءة ـ من هذه ّ
الزاوية ـ تقصر الرسالة على النبي محمد صلى هللا عليه وسلم.
ثانيهما :
إن هذه القراءة إعالم بالرسول محمد صلى هللا عليه وسلم وتنكير بالرسل الذين
ّ
أن التعريف ضرب سبقوه ،ذلك أن » التنكير ضرب من الكف والتصغير ،كما ّ
من اإلعالم والتشريف «.2
إن التعريف والتنكير خرجا من داللتيهما المحدودتين إلى أبعاد ترتبط بالسياق،
جني تشريف الرسول محمد صلى هللا عليه وسلم بوصفه معرفة ،بما يقصد بهما ابن ّ
وكأن التعريف يتجاوز
ّ تنطوي عليه داللة المعرفة في هذا السياق من دالالت التكريم،
إن الذي وهب التعريف هذه الداللة إنما هو السياق ،في
داللته المعروفة إلى آفاق أرحب ،و ّ
حين تخرج »النكرة « من أبعاد الجهل بها إلى دالالت التصغير.
ثانيهما :ثبات داللة الصيغة سواء تركبت في سياق ،أم أخرجت عنه ،وسواء
فعل «
أتغايرت جذور هذه الصيغة من حروف مختلفة أم لم تتغاير ،فصيغة » ّ
فعل « أقوى في المعنى من صيغة » َ
فعل « لزيادة كمية الحروف ،وألن صيغة » ّ
وكسر تنطوي على معنى التكثير والتكرير ،2فق ّ
طع تعني كثرة القطع وتكريرهّ ،
ِ 1
َّللا ِب َما تَ ْع َملُو َن َبص ٌ
ير« سورة ِ
ض َل َب ْيَن ُك ْم إ َّن َّ َ
نس ْوا اْلَف ْ
ـ هذه قراءة قرآنية ،والقراءة المشهورة هي َ » :وال َت َ
البقرة ،آية . 237 :
جني المحتسب 127/1 ،ـ .128 2
ـ ابن ّ
104
ص َيب َك ِم ْن ُّ
الد ْن َيا «تفعل» وقد أسندت إلى مفرد في اآلية القرآنية الكريمة »وال تَنس ن ِ
َ َ
وأ ِ
جني أن الصيغة المسندة إلى المفرد تنطوي َّللاُ « 1ويرى ابن ّ
َح َس َن َّ
َحس ْن َك َما أ ْ
َ ْ
أن العرف والعادة ال يحضان على ما حلله
على حض على ما هو محلل لإلنسان ،و ّ
هللا لإلنسان ،وكأن صيغة » تفاعل « إذا أسندت للجماعة إنما تنهى عن محرم في
حين يكون إسناد »تفعل« للمفرد ،إنما هو حض على المحلل ،هذا إذا حسنت ،أما إذا
لم تحسن لم تجز في غير هذين الوجهين على ما يبدو.
جني على الرغم من كونه يحاول الخروج بالصيغة من ثباتها ليربطها
إن ابن ّ
بفاعلية السياق فإنه في الوقت نفسه يثبت الصيغة الصرفية في إطار لونين إسناديين ـ
إسنادها إلى ضمير ،وكون الضمير جماعة المأمورين ـ يشتمالن على دالالت محددة
وثابتة سلفاً ،ويقترن حسن الصيغ الصرفية في ضوء إسنادها المحدد.
إن هذه المحاولة تمثل لونا من ألوان الجمود وتقعيد األصول المعيارية التي
ّ
أن يمزج بين
جني لم يستطع ْ
أن ابن ّتعطل فاعليات السياق وجمالياته ،واألخطر من هذا ّ
الصيغة الصرفية وسياقها اللغوي من ناحية ،وبينها وبين البناء النحوي من ناحية ثانية،
ولو فعل ذلك لتمكن من الكشف عن جماليات التفاعل المتشابك بين الصيغ الصرفية
أن هناك جماالًجني تحسس بذوقه ّ
وسياقاتها وتفاعالتها مع البناء النحوي ،ولكن ابن ّ
وحسناً بإسناد الصيغة الصرفية إلى واو الجماعة ،أما ما هي عناصر هذا الحسن وأبعاده
؟ فإنه لم يستطع الكشف عنها ،ألنه ما يزال مشغوفاً بثبات الدالالت العامة للصيغ
أن يخرج من هذا القيد إلى آفاق أرحب في الكشف عن الصرفية ،وألنه لم يستطع ْ
جماليات تفاعل الصيغة الصرفية في إطار السياق كله.
جني صيغة » تفاعل « نفسها من زاوية أخرى في القراءة القرآنية ويتناول ابن ّ
«تباركت األرض » لتفيد هذه الصيغة معنى التوكيد ،فهي ـ في هذا السياق ـ توكيد لمعنى
َّللاُ َع َّما ُي ْش ِرُكو َن« 2أبلغ من عال،
أن » تعالى « في قوله تعالى » :تَ َعاَلى َّ
البركة ،كما ّ
108
جماليات النظام النحوي :
إن الكالم لدى المعتزلة واحد من األفعال المحكمة التي ال تتأتى إال بتوافر ّ
إن المتكلم البد أن يكون عالماً بطبيعة الفعل أوالً ،وقاصداً إلى إحداثه
اإلرادة والقصد ،و ّ
أن يكون تفصيلياً شامالً ،وإنما يشترط فيه اإلجمال ،أما القصد
ثانياً ،وال يشترط في علمه ْ
فإنه ينطوي على أبعاد إعتقادية لكي يكون الكالم واحداً من األفعال التي يحاسب عليها
اإلنسان ثواباً أو عقاباً ،ولتكون له بالنتيجة خصيصة ذاتية ،وعلى الرغم من الفوارق بين
الكالم واألفعال المحكمة األخرى فإنها تلتقي بحقيقة مشتركة هي :التشكيل والتركيب،
أن التركيب هو أبرز مقوماتها ،سواء أكان بسيطاً أم معقداً ،فالنسيج ـ مثال ـ هو
بمعنى ّ
احد من هذه األفعال
تركيب وتشكيل بين الغزل وألوانه ،وكذلك البناء ونحوهما ،والكالم و ٌ
الذي يتميز بتشكيله وتركيبه على درجة عالية من التشابك والتعقيد.
ويتحدد الكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد بأنه » ما حصل فيه نظام
مخصوص من هذه الحروف المعقولة حصل في حرفين أو حروف« 1ويعني بالحروف
ألن الحرف وحده ال داللة له ،شأنه شأن
المعقولة األصوات الدالة إذا تراكبت مع غيرهاّ ،
صرير الباب ،كما أن الحروف لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد »أصوات مقطعة « وأن
الكالم » ال يكون حروفاً منظومة دون ذكر األصوات « .2
وإذا كان لألفعال المحكمة األخرى وظائفها المعروفة فإن وظيفة الكالم إنما هي
أن الكلمات تحضر لدى لإلنباء عما في النفس ،ويرى القاضي عبد الجبار بن أحمد ّ
المتكلم ،أي أنها » تصير كأنها في مشاهدته « ،3وحضورها لديه يقتضي العلم بها،
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل. 3/7 ،
2ـ نفسه.7/7 ،
3ـ نفسه. 202/16 ،
109
والقدرة على إيجادها لتأليف الكالم منها ،وحين يتكلم اإلنسان فإنه يتخير منها ،ويدل
التخير على قدرة عقلية يميز فيها المتكلم بعلمه درجات المفاضلة بين الكلمات ليدل على
المعاني التي يريد إيصالها.
أن االختيار في التأليف يرجع إلى خصيصةوينبئ هذا عن قضيتين :األولى ّ :
ذاتية تتحكم فيها إرادة المتكلم ،وهذه الخصيصة تجعل مستويات الكالم متفاوتة ،ومن ثم
يتم التفاضل بينهما بمقدار وعي المتكلم بخصائص الكالم وكيفية تركيبها وتضامها،
أن المعنى هو السابق ،ويمثل الثابت الذي يفتش له المتكلم عن صورة لفظية والثانيةّ :
أن المتكلم في أثناء تأديته
تعبر عن الصورة الذهنية الكائنة في عقله ،واألخطر من هذا ّ
وظيفته التعبيرية لإلنباء عما في النفس ،ال يفكر في المكونات الصوتية أو الصرفية قدر
عنايته بالمفردات وداللتها ،وكيفية تضامها متراكبة لتأدية المعنى.
إن تأليف الكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد البد له من عنصرين :القدرةّ
أن هناك علماً يختفي خلف هذه الطريقة على تأليفه ،والعلم بكيفية هذا التأليف ،ويرى َّ
التي يعرف بها المتكلم » مواقع جمل الكالم إذا تألفت فيفصل بين ما يأتلف من كلمات
مخصوصة وبين ما يأتلف من غيرها « 1ويلعب االختيار دو اًر في التأليف ،وإذا كان
االختيار يرجع إلى » العلم بالكلمات « والى » التجربة والعادة » فقد يتساوى في المعرفة
إن كان الذي يقصر عنه مثله في رجالن ،ولكن » أحدهما أقوى محاضرة من اآلخر ،و ْ
العلم ،أو أزيد ،لكنه يحتاج فيما نعلم إلى تثبيت وفكرة ،فالبد مع الوجه الذي ذكرناه من
قوة المحاضرة ،ولهذا الوجه يتفاضل العلماء بذلك ،فيـصح من بعضهم من الخطب والشعر
أن مرد هذا بكل جوانبه ليس عائداً إلى العلم بالكلمات ،أو مرده إلى التجربة 2
« غير ّ
والعادة ،وإنما هو مقترن ـ إضافة إلى ما سلف ـ بقضية غيبية خارجية عن ذات المبدع،
وهي » :تأييد وألطاف يرد من قبل هللا تعالى « 3وهذا التأييد الغيبي يأتي مرة،
جني في » الخصائص « هذه الرواية ،يقول » :وسألت يوما أبا ويروي ابن ّ
عبد هللا محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي ـ من تميم جوثة ـ فقلت له كيف تقول
:ضربت أخوك ؟ فقال :أقول ضربت أخاك ،فأدرته على الرفع فأبى ،وقال ال أقول
أخوك أبداً .فقلت فكيف تقول :ضربني أخوك ،فرفع ،فقلت ألست زعمت أنك ال تقول
أخوك أبداً ،فقال أيش هذا ؟ اختلفت جهتا الكالم ،فهل هذا إال أدل شيء على تأملهم
مواقع الكالم ،وإعطائهم إياه في كل موضع حقه وحصته من اإلعراب « 3ويكشف هذا
أن العناية ليست بأواخر الكالم فحسب،
النص عن عالقة اإلعراب بالمعنى ،ويوضح ّ
فإن الحذف
وإنما هي عناية بمواضع الكالم ،وهي عناية بالتركيب مقترناً بالمعنى ؛ ولذلك ّ
المعول
ّ ويتبنى القاضي عبد الجبار بن أحمد مفهوم الفصاحة بوصفه المعيار
إن كانت مفهوماً عاماً يحدده
عليه في الحكم على حسن النص األدبي وقبحه ،فالفصاحة و ْ
القاضي عبد الجبار بحسن المعنى وجزالة اللفظ 4وأن هذين البعدين البد من توافرهما
فإن تحقيق عنصري الفصاحة يقتضي العلم بإيراد الكالم بهما ،ويتحدد العلم على معاًّ ،
نحو إجمالي عند القاضي عبد الجبار بما يأتي :
معرفة الكلمات المفردة ،أي ما تنطوي عليه من داللة من حيث الوضع .
الكيفية التي تتضام بها الكلمات ،ويعمد القاضي عبد الجبار إلى تشبيه عملية
التضام بالكلمة ،فإن معرفة الكلمة تتم بإدراك الحروف المكونة لها ،فالعلم بالكلمة
بالكلمات المفردة ،وإنما » في الكالم بالضم على طريقة مخصوصة « 3إذ البد
من تضام الكلمات أوالً ،والبد أن تكون هناك طريقة ما في هذا التضام ثانياً ،وأن
التضام وحده مجرداً عن الكيفية التي يتم بها ال يعني إبداعاً أدبياً ،ألن التضام قد
فإن
يحققه من ال يمتلك أدوات العلوم التي يشترط فيها تحقيق الفصاحة ،ولذلك ّ
كيفية التضام بطريقة مخصوصة هي التي تضفي على النص األدبي حسنه
وجماله .
ويقترب من هذا تصور الرماني في أثناء تعرضه لتعريف البالغة ،إذ يرفض أن
تكون البالغـة مقتصرة على اإلبانة واإلفهام ،وإنما البالغـة »إيصال المعنى إلى القلب في
أحسن صورة من اللفظ « 4ألنه » قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر
عيي».5
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.199/16 ،
116
وقد شغف القاضي عبد الجبار بهذه الفكرة ،ودفعه إليها كون القرآن الكريم ليس
موزوناً ـ بالمعنى العروضي للوزن ـ و ْ
إن وجدت بعض اآليات يتطابق إيقاعها مع بعض
األوزان الشعرية ،ولذلك جرد القاضي عبد الجبار الشعر من إحدى خصائصه ليحتويه
مفهوم أشمل هو الطريقة ،ليتماثل الشعر والخطبة والقرآن بهذا المفهوم العام الذي يحتوي
أن لكل لون طريقته التي تتفاضل بينها 1ليرجع
النصوص قاطبة ،وهو يؤكد بهذا ّ
التفاضل إلى نظرته في الفصاحة بما تنطوي عليه من معنى عام ،وخصوصية في هذا
المعنى.
ولسنا نسعى إلى درس يفصل الوزن عن مجمل البناء اإليقاعي للقصيدة،
مؤكدين أن هذا البناء يترك هو اآلخر آثاره في تلوين التركيب اللغوي للنص األدبي بإيحاء
ما ،أو يترك في المتلقي تأثي اًر معيناً ،وإن النص األدبي ال يمكن دراسته وكأنه أجزاء
متناثرة وليس بين هذه األجزاء أدنى تفاعل ،إن هذه الطريقة في الفصل ،والتي نرفضها،
هي التي يتبناها القاضي عبد الجبار ،ولذلك فالمفردة التي أوالها عناية خاصة تستقل في
دراستها عن الوزن الشعري أوالً ،وتستقل عن السياق وتنفصل عنه ثانياً ،كما ّ
أن تركيب
الكلمات بطريقة مخصوصة ال يغير كثي اًر من فصاحتها سواء انتظمت بطريقة إيقاعية أو
لم تنتظم ،ولذلك خرج القاضي عبد الجبار بمفهوم النظم من خصوصية تخدم الشعر إلى
عموم يتجاوزه ،ويشتمل عليه وعلى غيره من النصوص ،لتتشابه األشكال المختلفة بطرائق
مختلفة من النظم ،وهذا يعني تجريدها عن مزاياها التي يمكن أن تشكل ملمحاً جمالياً
خاصاً.
ويعي القاضي عبد الجبار بن أحمد قضية في غاية األهمية وهي الفصل بين
داللتين مختلفتين لكلمة واحدة ،إذ إن للكلمة داللتها المعجمية خارج السياق ،ولها داللتها
في السياق ذاته ،ألن الكلمة » قد يكون لها عند االنضمام صفة « 2فالكلمة لديه تنطوي
على داللة معجمية خارج السياق غير أن توظيفها في السياق يضفي عليها دالالت
ويعنى الدرس النحوي ـ أساساً ـ بالخطأ والصواب في التركيب ،وال يهمه كثي اًر ـ
ُ
من هذه الزاوية ـ التغيرات الجمالية التي ينطوي عليها التركيب ،وبذلك يكون التركيب
محافظاً على داللة ثابتة ،أو تكاد تكون ثابتة ،وكأن التركيب النحوي يشتمل على
الدالالت ذاتها مهما أحدثنا فيها من تغيير ،شرط سالمة البناء من الخطأ النحوي.
أن التغير األعرابي مقترن بالداللة من ناحية وبالموقف العقائدي يرى ابن ّ
جني ّ
من ناحية أخرى ،إذ لو نصب الشاعر » فعوالن « خب اًر لـ » كان « الناقصة ،لتغيرت
الداللة بشكل يضاد التفكير االعتزالي ،وبخاصة مفهوم العدل اإللهي ،بمعنى أن داللة
أن هللا خلق هاتين العينين وأمرهما أن تفعال هذا الفعل،
البيت تصبح في حالة النصب ّ
وهذا ما يرفضه التفكير االعتزالي ،ألن الفعل راجع إلرادة اإلنسان وخاضع لحريته ،ولذلك
جني هذا المستوى من التركيب النحوي ،ويؤيد الشاعر في رفع » فعوالن «
يرفض ابن ّ
لتكون «كان» تامة ،وبذلك فهي غير محتاجة إلى خبر أصالً ،ويصبح تأويل البيت
الشعري بأن هللا سبحانه وتعالى قال لهاتين العينين «احدثا فحدثتا ،أو اخرجا إلى الوجود
فخرجتا » .1
جني قد أرجع تأويل البيت الشعري إلى قضية اعتقادية تتصل وإذا كان ابن ّ
ين « 2يعتبر ِِ ِ
ونوا ق َرَد ًة َخاسئ َ
اتصاالً مباش اًر بالتفكير االعتزالي فإنه في قوله تعالى ُ » :ك ُ
ض ْم
َه َ وال ِد ْق ٍة إلى جع
َي ْر ْ
فـ » ال « النافية للجنس تبنى مع اسمها النكرة فتصير كالجزء منه ،ويتجلى التالزم مع
أن االسم بني مع «ال»
صورة الفرس الذي لزم تلك الزفرة » فصيغ عليها ال يفارقها ،كما ّ
حتى خلط بها ال تفارقه وال يفارقها «2
ِ
أسمائه من السيف
و ُ قرنائه
ِ
ومضائه و ِ
إبائه ح ِ
سنه من
ُ
جني » :أين حسن الشمس من حسنه ؟ وأين النصر من إبائه ؟ وأين السيف يقول ابن ّ
من مضائه ؟ أي إذا أمر أقصر النصر عن عزيمته وإبائه ،فكأنه رجع في هذا البيت عما
أعطاه في البيت الذي قبله ولو قال » :وأين « بالواو لكان أعذب ،ألن الواو يخلط الثاني
باألول ،فال يجعل ألحدهما مزية على األخر في التقدم والتأخر ،وإذا لم يأت بالواو صار
الكالم كأنه منقطع « ،1وتؤدي الواو العاطفة ـ هنا ـ دو اًر داللياً وجمالياً في آن واحد ،فهي
تخلط المعطوف بالمعطوف عليه ،بحيث ال يبقى قيمة لمتقدم على متأخر ،فيشتركان في
أن »واو العطف « يمكن أن تؤدي وظيفة جمالية »يعذب « فيها األداء القيمة ،كما ّ
أن السياق ينبئ عن لون من االنبهار واإلعجاب في المثل الذي استشهد
ويحلو ،وبخاصة ّ
جني لتعزيز رأيه في قول أحد الشعراء :
به ابن ّ
جني ،الفسر الكبير » شرح ديوان المتنبي « تحقيق صفاء خلوصي ،دار الجمهورية ،بغداد1389 ، 1
ـ ابن ّ
هـ ـ 1969م ،ص . 49
128
جني » :ولو قال » :أين المدامة من ريقه « لم يكن له ماء الواو وال
يقول ابن ّ
رونقها»1
ويتجلى ـ مما سلف ـ العناية البالغة بالدالالت الثابتة والعناية بدراسة مكوناتها
مستقلة عن بعضها ،وهذا يعني دراسة الظاهرة من خالل النظرة الجزئية التي هي صدى
لألصول المنطقية التي يصدر عنها الناقد ،وهي تفرض عليه رؤية األشياء واضحة
ومحدودة ،وتدرك الماهية منفصلة عن عناصرها ومكوناتها ،وكأنها أفكار مجردة ال تعبر
عن شيء محدد ،وان كانت تعبر عن كل شيء.
هذه العقلية التي تؤمن بوجود التمايز بين العناصر وبوجود الفوارق بينها ،ترى
الشيء وبجنبه الشيء اآلخر ،وتشهد الماهية وتوازيها الماهية األخرى ،وتعالج الذات
والذات األخرى ،وتوزع العناصر واألشياء على طبقات ،فهناك طبقة متقدمة وأخرى
متأخرة ،وتتقدم واحدة لتكون أصالً ،وتتأخر الثانية لتكون فرعاً ،المهم ّ
أن هناك نظاما
يحافظ على المسافات ،ويتمسك بالوضوح والتحدد أساساً ،ومن هنا جاءت عنايتهم
بالتعريفات والحدود ،حد الشيء ،والعلم ،والموضوع ،ومعرفة طبائع األشياء والذوات .أما
أن تتقاطع األشياء أو تتفاعل ،أو أن يؤثر بعضها ببعض فهذا ما ال يمكن إدراكه ،أو ال
ْ
يمكن قبوله ،ألنه يضاد الرؤية التي ترى األشياء مستقلة ،واألفكار واضحة ،بل ّ
إن الناقد
يفك تقاطعهما وتشابكهما ،ويحاول دراستها مستقلة.
ومن هذه الفواصل الحادة الفصل بين األنظمة اللغوية ،فالنظام الصوتي يدرس
مستقالً دون أدنى فاعلية أو تأثر أو تأثير باألنظمة اللغوية األخرى ،وكأنه كيان مستقل ال
عالقة له بغيره ،ومثله النظام الصرفي ،ويستقل عنهما النظام النحوي ،ويستقل كل نظام
1ـ تامر سلوم ،نظرية اللغة والجمال في النقد العربي ،دار الحوار ،الالذقية ـ سوريا1983 ،م ،ص . 121
131
ولم يستطع تجليتها وتوظيفها في درسه النقدي ،وكانت عنايته متركزة في الجزئي لدرجة
إن الجزئي يكاد يتحكم في الكلي ،ويحدد مساراته ومعطياته وجمالياته.
يمكن معها القول ّ :
أن جماليات النص القرآني بقيت مالحظة جديرة بالعناية واالهتمام مفادها ّ
والشعري على السواء ليست كائنة في األنظمة اللغوية ،أي أنها ليست مقتصرة على
تجاوز االستثقال في البناء الصوتي ،أو تمكين الدالالت الثابتة للصيغ الصرفية في ذهن
المتلقي ،أو في جماليات الحذف والتقديم والتأخير في البناء النحوي ،وإنما ـ باإلضافة
إليها ـ في جوانب من الدرس البالغي كالتشبيه واالستعارة مثال ،وهذا ما سيأتي الحديث
عنه في الفصل التالي .
132
الفصل الثاني
المقياس البالغي
133
134
األداء الـنمطي واألداء الفني :
من أجل فهم مستويات األداء اللغوي ال بد من اإلشارة إلى تصور المعتزلة عن
أن اللغة تواضع واصطالح ،فهي ـ أي اللغة ـ تتكون من األلفاظ
نشأة اللغة ،فهم يرون ّ
التي تنطوي على الدالالت التي اتفق واصطلح عليها ،وهم يرون أيضاً ّ
أن كالم هللا من
جنس الكالم العربي ،لتأكيد قضية شغلتهم كثي اًر ،وهي قضية » خلق القرآن « ،وعلى
أن القرآن الكريم يتألف من جنس الكالم العربي ،من حيث مفرداته، الرغم من تأكيدهم ّ
وطبيعة تراكيبه ،فإنه ُيعد معج اًز ،وهذا يدل على مستويات متعددة من األداء اللغوي ،منها
المستوى العادي من األداء ،الذي ال يدل على نواح فنية ،وآثرنا أن نطلق عليه مصطلح
األداء النمطي ،وهناك مستوى آخر من األداء يتجاوز األداء النمطي ،وتتفاوت مستويات
فنيته ،أطلقت عليه األداء الفني ،ويكون في قمته من حيث اإلبداع :المستوى المعجز
المتمثل في القرآن الكريم .
أن هناك تفاوتاً في مراتب الفصاحة بين
ويعي القاضي عبد الجبار بن أحمد ّ
أن الكلمات
القرآن الكريم ومستويات األداء األخرى ،وحين يحلل أسباب هذا التفاوت يعي ّ
أن تأليف هذه الكلمات »يقع على طرائق العربية محصورة ومحدودة من حيث الكم ،و ّ
مختلفة ....فتختلف لذلك مراتبه في الفصاحة « 1فالطرائق المختلفة في التراكيب هي
التي تحدد التفاوت في األساليب ،ومن ثم التفاوت في القيم الفنية والمعرفية والجمالية التي
تشتمل عليها ،وهذا هو الذي يجعل أسلوباً ما رفيعاً ،ويجعل آخر دونه في الجودة
والجمال.
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.214/16 ،
135
وتتجلى بعض مظاهر هذه التصورات في تمييز النقاد بين الشعر والخطابة ،من
حيث تغاير كل منهما عن اآلخر ،من جهة األسلوب ،ومن جهة التوصيل ،فالشاعر ال
يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد ،ألنهما يخرجان الشعر من دائرة الفن .
ويمكن وعي تغاير األداءين النمطي والفني من خالل التحديد الوظيفي لهما،
أن
أن األداء النمطي يهدف إلى التوصيل واإلفهام ،ويمكن لهذا األداء ْ
والرماني يعي ّ
يؤدي وظيفته بتحقيق اللفظ على المعنى ،مهما كانت ماهية األلفاظ ،سواء أكانت غثة
مستكرهة ،أم نافرة متكلفة ،أم غير ذلك ،أما األداء الفني فعلى الرغم من أنه ال يقتصر
دوره على الوظيفة التوصيلية فإنه يهدف إلى تأدية قيمة جمالية ،وينبئ تعبير الرماني عن
ضرورة تجاور هذين البعدين أو تالحمهما ـ أعني التوصيل والفن ـ في أثناء تحديده
لطبيعة البالغة ،والتي تدل عنده على »إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من
اللفظ».1
إن الوظيفة التوصيلية لألداء تعمد إلى تحقيق اللفظ على المعنى وتأدية الداللة
لذاتها ،دون تجاوز ذلك إلى أبعاد فنية وجمالية ،وهذا ما يفعله اإلنسان العادي الذي ال
يفكر بأكثر من اإلفهام ،وال يهدف إلى أبعد من التوصيل ،ويمكن تلمس بعض مظاهر
هذا األداء أيضاً لدى الفالسفة والمناطقة على نحو العموم ،وهذا ما يلمح به الشريف
المرتضى في أثناء تعرضه للحديث عن طبيعة الشعر ،حين أبعد عن الشاعر الوظيفية
ألن الشاعر لو
التوصيلية التي يعمد فيها اإلنسان إلى مجرد تحقيق اللفظ على المعنىّ ،
عمد إلى ذلك أصبح شأنه شأن من يخاطب الفالسفة وأصحاب المنطق ،أو يأخذ
ألن هؤالء يتعاملون مع اللغة بوصفها أداة مجردة يهدف
بطريقتهم في األداء والتعبيرّ ،
منها تأدية المعاني في أسلوب ينطوي على الدقة العلمية .
وإذا كان الشريف المرتضى قد ألمح إلى الفوارق الوظيفية والتشكيلية لألداءين
فإن الجرجاني في وساطته يعيب على المتنبي أن يخرج األداء اللغوي
النمطي والفنيّ ،
أن الثاني
إن العالقة بين األداءين النمطي والفني عالقة تجاور وانتزاع ،بمعنى ّ
ّ
إن القدماء جعلوا األداء النمطي أصال يقيسونال يغفل األول ،بل يتأسس عليه ،حتى ّ
إن األداء 3
عليه األداء الفني ،ومن هنا جاء حديثهم عن األصل في المعنى والكالم ّ ،
إن وجود األخير البد أن
النمطي يمثل الثابت الذي يرجع إليه المتغير ـ أي األداء الفني ـ و ّ
يعتمد على األول ،ويتحقق وجوده بوجود سابقه ،فالمجاز ـ وهو أحد أوجه األداء الفني ـ ال
يصح وجوده في اللغة ـ فيما يرى القاضي عبد الجبار ـ دون أن تكون له حقيقة تسبقه.4
ويمثل األداء النمطي األصل أو السابق ويكون األداء الفني فرعاً والحقاً له ،فمن
جهة التركيب ـ مثال ـ نلتقي بالتركيب النحوي الذي ال تقديم فيه وال تأخير ،وهو يمثل
1ـ موركافسكي ،اللغة المعيارية واللغة الشعرية ،ترجمة إلفت الروبي ،مجلة فصول العدد األول ،اكتوبر ـ
ديسمبر ـ 1984م ،ص . 41
140
إن االنتهاك المتعمد لطبيعة األداء النمطي ـ متمثالً في أحد جوانبه بالعدول
إلغاء لألداء النمطي برمته ،ألنه يبقى محافظاً على بعض مكونات ً والنقل ـ ال يعني
أن التركيب الجديد ال يخلو نهائياً من
األصل الذي ُعدل عنه ،أو انتقل منه ،بمعنى ّ
أن
تضمن القديم ،سواء بألفاظه أو تراكيبه ،أو بتأويالته ،أو بكليهما معا ،وبمعنى آخر ّ
العدول والنقل عن األصل إلى فرع يبقى متواف اًر فيه جملة من خصائص األصل ،ولكن
الفرع يتميز بخصوصية تضاف إلى ما تضمنه من خصائص األصل ،ومن الجدير
أن االنحراف عن األصل تحكمه مقومات ،ويتميز بدرجات متعددة ،ولكنه ال يمكنبالذكر ّ
أن مخالفة الشاعر لألداء النمطي »ليست مطلقة ـ من أن يكون الكسر مطلقاً ،بمعنى ّ
ْ
جهة أولى ـ ال تخرج على قواعد اللغة العادية ،وإنما هو يخرج على » نظام « هذه اللغة
في التأليف بين الكلمات ونظمها وسياقها وتركيبها «. 1
فإن هذا ال يعني خلوه
أن األداء النمطي يهدف إلى التوصيل ّ وعلى الرغم من ّ
من آثار يلتقي فيها باألداء الفني لما يشتمل عليه من استعارات مثالً ،واالستعارة في أصل
أن االستخدام اليومي
تركيبها ونشأتها تمثل انحرافاً وانتهاكاً متعمدا لألداء النمطي ،غير ّ
الستعارة معينة يفقدها خصوصيتها الداللية وجمالها الفني في إثارة الدهشة واالنبهار،
وتتحول إلى إحدى أدوات التوصيل النمطي اليومي ،كما هو الحال في » ِرجل الكرسي «
إن هذه االستعارات قد فقدت وظيفتها الجمالية المؤثرة بحيث يصدق و » عين اإلبرة « ّ
إن »االستعارات في أغلب الحديث العادي ،كما في أغلب أنواع النثر ،إنما هي
معها القول ّ
نصف حية « . 2
إن الوظيفة الجمالية تمثل غاية جوهرية في األداء الفني ،ولكنها تتراجع في
ّ
أن
فإن االستعارات في أمثلتها الميتة ال توهم ّ
غيره ،لتتقدم الوظيفة التوصيلية ،ولذلك ّ
1ـ عبد المنعم تليمة ،مداخل إلى علم الجمال األدبي ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة 1978 ،م ،ص
.14
2ـ أرشيبالد مكليش ،الشعر والتجربة ،ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي ،ومراجعة توفيق صايغ ،دار اليقظة
العربية ،بيروت 1963 ،م ،ص .96
141
ألن وظيفة األداء هنا هي التوصيل ،ومن هنا يمكن القول إنه إذا
األداء أضحى فنياًّ ،
»كانت الوظيفة الجمالية متحققة في تراكيب لفظية أخرى غير لغة الشعر ،فإنها ال تسود
في هذه التراكيب ،أو تهيمن عليها ،بل تظل ثانوية بالقياس إلى وظيفة أخرى ،في حين
تظل هذه الوظيفة الجمالية هي األساس في لغة الشعر ،وتظل ـ من ثم ـ هي الوظيفة التي
تسود ماعداها في اللغة الشعرية«. 1
إذن فالوظيفة الجمالية ـ في األداء الفني ـ تتقدم على ما سواها من الوظائف
األخرى ،وتكون أكثرها أهمية وبرو اًز ،كما ّ
أن األداء الفني ـ في الشعر بخاصة ـ يشتمل
أن هذه اللغة الشعرية
على درجة من التكثيف يدفع بالتوصيل إلى التراجع ،على أساس ّ
أن نطلق عليها جمالية
هي الهدف من التعبير ،وبهذا يتم التوصيل بطريقة جديدة ،يمكن ْ
التوصيل ،وهي ال تعني التوصيل المقصود لذاته ،وإنما هي مزيج من الجمالية والتوصيل،
فإن كانت الوظيفة
وعلى الرغم من ذلك يبقى الكشف عن طبيعة األداء من خالل وظيفتهْ ،
فإن هذا يعني أننا نقترب من
التوصيلية هي السائدة في النص األدبي ومهيمنة عليه ّ
إن كانت الوظيفة الجمالية هي المتقدمة في النص سنكون حينئذ إزاء
األداء النمطي ،و ْ
ألن
أن الكسر المطلق لألداء النمطي إبداع وجمال أدبيّ ، أداء فني ،وال يعني هذا ّ
التحريف الجمالي أو االنتهاك المتعمد ليس غاية مقصودة لذاتها ،وإنما الغاية تأدية
الدالالت الجمالية التي يمكن تأديتها من خالل تجاوز األداء النمطي ،أما حين تتحول
فإن هذا يقود إلى الخلط بين ما هو أدبي وما ليس أدبياً بالمرة .
الوسيلة إلى غاية ّ
أن الخصائص التي تميز وظيفة األداء اللغوي ،ومن ثم ويدل ما سلف على ّ
تحديد طبيعته الفنية أو النمطية إنما تكمن في الخصائص النوعية للتشكيل اللغوي،
أن فنية األداء تعني تغي اًر شكلياً يتصل
وليست عائدة إلى ظواهر خارجة ،وال يعني هذا ّ
باأللفاظ ،ولكنه تغير داللي جمالي في آن واحد ،وتتجاور فيه داللتان ،تميل إحداهما إلى
إقرار العام في األداء النمطي ،وتميل الثانية إلى معنى خاص يحتوي الداللة السابقة،
ويتجاوزها .
1ـ إلفت الروبي ،تقديمها لمقال :موركافسكي ،اللغة المعيارية واللغة الشعرية ،ص 38ـ.39
142
ألن
فإن العالقة بين األداءين تشتمل على تأثير متبادلّ ، وعلى الرغم من هذا ّ
األداء الفني ال يمكن له تأدية دوره الجمالي إال في اقتباس تركيبه من األداء النمطي ،وفي
أن األداء النمطي يقتبسكيفية محددة خاصة من التحريف واالنتهاك المتعمد له ،كما ّ
الكثير من تراكيب األداء الفني ،وبخاصة بعد ضمور دالالتها الجمالية ،أي بعد أن تفقد
خصائصها االنحرافية ،وتتحول إلى معيارية ،كما هو الحال في االستعارات الميتة ،وبهذا
فإن كثي اًر من التراكيب المجازية تتحول من األداء الفني
يتم توسع اللغة وإمكاناتها ،ولذلك ّ
لتستقر في مخزون األداء النمطي .
إن الفوارق بين األداءين النمطي والفني تنمحي أو تكاد ،بمقدار اقترابهما من
ّ
بعضهما ،من جهتي الوظيفة أو من جهة التشكيل ،وتتضح الفوارق بمقدار افتراقهما
الوظيفي أو التشكيلي ،ويخضع هذا التمايز في بعض جوانبه للخصائص الفردية للمبدع،
أو لقوانين التطور اللغوي ،أو للتغير الحاصل في أذواق األجيال ومدى تطور نضجه
الفني أو تخلفه .
إن القيمة الفنية التي ينطوي عليها األداء الفني ال تحددها درجة انحرافه عن
ألن االفتراق الحاد ال يعني بالضرورة أداء جميال تحققت قيمته وأبعاده الفنية
النمطيّ ،
أن اقتراب األداءين من بعضهما ،ال يعني بالضرورة بانفراج الزاوية إلى أقصاها ،كما ّ
أن األمر يتأتى من أمور عدة ،فهو متأثر بطبيعة األداء النمطي
كذلك ،تخلفاً فنياً ،ويبدو ّ
أوالً ،وبكيفية االنحراف واالنتهاك المقصود بما يشتمل عليه من وظيفة جمالية ثانياً،
فإن هذا
وبكيفية تأديته لألبعاد الجمالية وعالقتها بخصوصية المبدع ثالثاً ،وعلى العموم ّ
ال يمكن تحديده بقانون ،وإنما هو خاضع لعدد هائل من المؤثرات المتفاعلة التي تؤدي
دورها مجتمعة.
فإن
وإذا كان األداء النمطي يتسم بالشيوع في تأدية وظائفه ،وفي كيفية تركيبهّ ،
األداء الفني يتميز بخصوصيته التي تقترن بمكونات ذاتية وفردية ،ويخضع األداء الفني
للون من الوعي الخاص من جهة طبيعة اللغة ،ومن جهة كيفية تركيبها في نص أدبي،
كما يخضع األداء الفني ـ أخي اًر ـ لرؤية المبدع وكيفية وعيه للعالم الذي يعيش فيه ويسعى
إلى التعبير عنه .
143
فإن االنحراف المتعمد في تركيب األداء الفني يتسم بخصوصية
وفي ضوء هذا ّ
معينة تتجاوز الشيوع ،وترجع هذه إلى لون معين من التركيب ،وال يعني هذا ّ
أن االنحراف
أن يكون مجرد تركيب شكلي ُيعنى بجوانب الزينة الخارجية ،كما أنه
في التركيب ال يعدو ّ
ال يعني تغي اًر لفظياً تستقل فيه المفردات عن سياقاتها ،وإنما تتفاعل من أجله مكونات
عديدة ،منها ما يتصل بطبيعة اللغة وأنظمتها الصوتية والصرفية والنحوية ،ومنها ما
يتصل بخصوصية العصر ومستويات التعبير التي يتميز بها ،ومنها ما يتصل بالمبدع
من حيث مكوناته الذاتية وخصائصه الفردية ،وطبيعة رؤيته للعالم واإلنسان ،وأخطر من
أن مستويات األداء الفني تتفاوت ـ كما هو معروف ـ في ضوء قوانين التطور األدبي
هذا ّ
عبر األجيال والعصور ،كما أنها تتفاوت بين شخصين يرومان التعبير عن قضية واحدة،
فإن التعبيرين ينقالن ـ مجرد نقل ـ خب اًر واحداً في لغة معينة ال يتفقان في تركيبهما
اللغوي ،بمعنى أنهما يختلفان من حيث استخدام المفردات وكيفية تضامها وتراكبها ،ومن
ثم يدل هذا على تفاوت في أسلوبيهما وداللتيهما .
ويمكننا أن نضرب مثالً جلياً للعدول عن األداء النمطي إلى األداء الفني
بالمساواة واإليجاز واإلطناب ،إذ تمثل المساواة األداء النمطي الذي يعني تحقيق اللفظ
على المعنى على حد تعبير الرماني 1أو » أن يكون اللفظ كالقالب للمعنى ال يفضل عنه
وال ينقص منه « 2كما يقول أبو أحمد العسكري ،فهو ال يهدف إلى أكثر من التوصيل،
وهو المعيار ،أو األصل ،أو الثابت ،الذي نقيس في ضوئه األداء الفني المتمثل في
اإليجاز واإلطناب ،فالمساواة تمثل المقابل لهما ،ألنها ستكون قارًة في مستويات األداء
ألن تمثل اإليجاز واإلطناب ال يتأتى وجود تشكيلهما ووظيفتهما إال بها ،فهي تمثل
كلها ،و ّ
1ـ عبد الحكيم راضي ،نظرية اللغة في النقد العربي ،ص .210
2ـ الرماني ،النكت في إعجاز القرآن ،ص . 73
3ـ نفسه ،ص . 72
4ـ أبو أحمد العسكري ،في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم ،ص 218ـ . 219
145
أن اإلطناب يتصل من زاوية بالمبدع ليسهب في تركيب عند المتلقي ،وهذا يعني ّ
المفردات وتضامها من أجل توسيع المعاني والتفصيل في معطياتها ،ويتصل من زاوية
أخرى بالمتلقي ،ليقود اإلطناب إلى توصيل المعنى أوالً ،وتأكيده في نفس المتلقي ثانياً،
أما اإليجاز فهو يشتمل على الداللة في أقل قدر ممكن من األلفاظ ،شرط أن تتم به
اإلفادة ،وال يخلو كالم بليغ منهما ـ أي اإليجاز واإلطناب ـ والبد أن يؤديا دوريهما دون
جني يؤكد أنهما » في كل كالم مفيد مستقل بنفسه،إخالل بمقاصدهما ،ولذلك رأينا ابن ّ
ولو بلغ بها اإليجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته ،مع أنه ال بد فيه
فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان وال استعذاب «.1
من تركيب الجملةّ ،
جني لطرائق محددة إلتمام الداللة
وإذا كان اإليجاز واإلطناب يخضعان لدى ابن ّ
فإن القاضي عبد الجبار يقرنهما بالداللة من ناحية ،وتأدية الدالالت
وتحقيق فائدتها ّ
ألن فصاحة الكالم لديه ليست إال صورة للمعاني من حيث دقةالجمالية من ناحية أخرىّ ،
التعبير عنها ،ومن حيث تأديتها الدالالت الجمالية ،ومن حيث االحتياج إليها ،يقول
القاضي عبد الجبار » إن فصاحة الكالم إذا كانت تظهر بحسن معانيه واستقامتها
والحاجة إليها فيجب أن يكون الكالم بحسبها « 2وبهذا تتداخل لدى القاضي عبد الجبار
الوظيفتان التوصيلية والجمالية في آن واحد.
ويمثل المعنى األساس الذي يحدد مكونات الفصاحة وطبيعتها من ناحية ،كما
يحدد أساليبها ـ كاإلطناب واإليجاز ـ من ناحية أخرى ،إذ يشترط القاضي عبد الجبار بن
أحمد سبق المعاني لأللفاظ ،والبد للمعاني من أوصاف كي يتأتى الكالم بحسبها ،وهي
تتحدد في حسن المعاني ،واستقامتها ،والحاجة إليها ،ويتضمن هذا تزايد المعاني وتفاضلها
أن تختلف أحوال المعاني في خصائصها السالفة في ،ومن الطبيعي ،والحالة هذهْ ،
الحسن واالستقامة والحاجة إليها ،كما تختلف في تزايدها وتفاضلها ،ويقتضي هذا كله
اختالفاً في أساليبها ،إطالة أو إيجا اًز ،أو نحو ذلك ،إذن فالمعنى يمثل أساس الفصاحة
إلى قوانين صوتية من حيث ثقل األصوات وخفتها ،ومن ذلك في اآلية
الكريمة»اْل ِقص ِ
اص َح َياةٌ « تأتي الحاء بعد الصاد ،وهي أفضل بكثير وأخف من َ
توازن المعتزلة بين الدليل العقلي والدليل النقلي ـ القرآن والسنة ـ وهي ال ترى
تعارضاً بينهما في النتيجة ،بل إنها تؤكد تطابق الدليلين وتطابق المعرفتين العقلية
إن كانت تدلل في الوصول إليهما معتمدة المعيار العقلي أساساً .
والنقلية ،و ْ
أن القرآن الكريم ،وهو من جنس الكالم وقد واجهت المعتزلة إشكالية مفادها ّ
العربي ،يشتمل على آيات محكمات وآخر متشابهات ،واآليات المحكمات تعبر بكيفية
تستقل فيه بنفسها في اإلنباء عن المراد ،ويتلقى اإلنسان داللتها دون إلباس أو غموض،
ولكن اآليات المتشابهات ال تدل على المراد بهذه الكيفية من الوضوح ،فهي ال تستقل
بنفسها في اإلنباء عنه ،بل تحتاج إلى غيرها .
أن اآليات
ويتحدد التغاير ـ في أحد جوانبه ـ بين المحكم والمتشابه ،في ّ
المحكمات توافق الدليل العقلي ،وكونها خالية من المجاز ،شأنها شأن األدلة العقلية » ،ال
يجوز فيها مجاز ،والما يخالف الحقيقة ،وهي القاضية على الكالم ،والتي يجب بناؤه
عليها ،والفروع أبدا تبنى على األصول « ،1ويضعنا هذا أمام مقارنة بين الدليلين العقلي
والنقلي ،فاألدلة العقلية » ال يدخلها االحتمال والمجاز ووجوه التأويالت « 2في حين يكون
ألن فصاحة
الدليل النقلي ـ الكتاب والسنة ـ مشتمالً على المجاز ،ويحتمل التأويالتّ ،
القرآن ـ وهي أعلى درجات الفصاحة ـ »ال تتم بالحقائق المجردة ،وانه البد من سلوك
طريق التجوز واالستعارة «. 3
ومن أجل هذا عمد المعتزلة إلى تأويل اآليات التي تعارض الدليل العقلي ،أو
تعارض المحكم الذي كشف الدليل العقلي عن إحكامه ،وافترضت المعتزلة لآليات التي
تقتضي تأويالً ظاه اًر وباطناً ،فظاهر اآليات يعارض الدليل العقلي ويعارض اآليات
1ـ الشريف الرضي ،المجازات النبوية ،تحقيق محمد الزيني ،مؤسسة الحلبي ،القاهرة 1967 ،م ،ص . 51
2ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل381/16 ،
3ـ الشريف الرضي ،المجازات النبوية ،ص . 52
4ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،متشابه القرآن. 7/1 ،
154
العقلي في التأويل وإرجاع المتشابه إلى المحكم ـ نوعاً في استدالل المعتزلي بالنص
القرآني.
وتتدخل ثنائية اللفظ والمعنى في تحديد داللتي المتشابه الظاهرة والباطنة ،إذ يرى
أن التفاضل إنما يتم باأللفاظ ،فتبين عنأن المعاني ثابتة ال تزايد فيها ،و ّ
المعتزلة ّ
أن االشتباه ليس قرين المعنى ،وإنما هو مرتبط باأللفاظ ،ولذلك
المعانيْ ،أو ال تبين ،و ّ
افترض المعتزلة للمتشابه صورتين لفظيتين :إحداهما :ظاهرة تنطوي على التركيب
ان الداللة الحقيقية المقصودة ِ
المتأول ،و ّ المتشابه وقرينته ،والثانية :صورة لفظية يقدرها
هي الداللة المقدرة ،ولذلك فليس هناك من اشتباه في الصورة اللفظية الثانية ،فهي بدرجة
أن الصورة اللفظية األولى ـ المتشابهة
المحكم ،ألنها تدل على المعنى المراد توصيله ،كما ّ
ـ تدل هي األخرى على المعنى ذاته بوجود القرينة ،فليس هناك اشتباه في المعنى ،وإنما
ِ
المتأول فيزيل غموضها بإرجاعها إلى الصورة الصورة اللفظية األولى موهمة ،ويأتي دور
أن يكون االشتباه في اآلية القرآنية
أن القاضي عبد الجبار ينفي ْ
المقدرة ،ولذلك الحظنا ّ
الكريمة من جهة المعنى ،وإنما اشتباهها يكون من جهة اللفظ ،وليس بمشتبه من جهة
المعنى. 1
ويثير المتشابه معضلة تتصل بالداللة وكيفية توصيلها فالمتشابه ـ دون شك ـ ال
فإن الغموض يالزمه ،وتتم إزالة
يدل على المراد بوضوح كما يدل عليه المحكم ،ومن ثم ّ
الغموض واإللباس بالتأويل عبر تحديد القرينة أو القرائن ،وبهذا يتحول التأويل إلى أداة
أن الشريف المرتضى يرى
تزيل الغموض عن المتشابه وتقربه من المحكم ،ولذلك يالحظ ّ
أن
في المتشابه معنى مشكوكاً يعارض األدلة العقلية ،ويتعارض مع المحكم ،فيحاول » ْ
يقضي على المعنى المشكوك فيه للفظ القرآن بروح علماء الكالم من المعتزلة ،بحيث
يقرر لهذا اللفظ عن طريق المعجم اللغوي داللة تحول بادئ ذي بدء دون ذلك الشك «.2
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل376/16 ،
2ـ جولد تسيهر ،مذاهب التفسير اإلسالمي ،ترجمة عبد الحليم النجار ،مكتبة الخانجي،القاهرة، 1955 ،
ص 152ـ .153
155
أن المتشابه يشتمل على تعمية في الداللة والتوصيل ،وقدوال يعني ما سلف ّ
أن التعمية في التركيب أثيرت هذه التهمة قديماً َّ
ورد عليها القاضي عبد الجبار مؤكداً ّ
إن القاضي عبد الجبار ال ينفي عن تعني عدوالً عن البيان ،وليس المتشابه كذلك ،بل ّ
المتشابه ما أثير حولـه من تعمية فحسب ،بل إنه يؤكد فسح المجال رحباً أمام المتلقي
ليكون المتشابه اكثر توكيداً وإبانة من أساليب األداء األخرى. 1
ومما يتميز به المتشابه ـ في هذا السياق ـ أنه يشتمل على دالالت متعددة،
بخالف المحكم الذي يدل على ظاهر ال خالف في ظاهريته ،أما باطن المتشابه فتتعدد
فإن الشريف المرتضى يرى ّ
أن » أكثر المتشابه قد يحتمل معطياته ،وتتلون أبعاده ،ولذلك ّ
الوجوه الكثيرة المطابقة للحق والموافقة ألدلة العقول« ،2إذن يغلب على المتشابه ـ بعد
أن تعدد الدالالت ليس خارجاً عن الضوابط، تأويله ـ أكثر من داللة يكتنفها تركيبه ،غير ّ
فهو من ناحية محكوم بمطابقة الحق ،وبموافقته ألدلة العقول من ناحية ثانية .
وقد تأسس التأويل للوفاء بحاجات عقائدية تنفي عن هللا صفات التشبيه
أن التأويل يخضع للمقومات العقلية فإنه يتكئ على مقومات
والتجسيم ،وعلى الرغم من ّ
لغوية ،بحيث يتم تأويل المتشابه ـ فيما يذهب القاضي عبد الجبار ـ » على مذهب العرب
من غير تكلف وال تعسف « 3ومن هنا جاء الحديث عن طريقة المعتزلة في التأويل «فهم
يحملون العبارات الدالة على التشبيه التي ال يليق ظاهرها بمقام األلوهية على تأويالت
أبعد ما تكون عن اإليهام بالتشبيه مع تدعيم ذلك باألدلة اللغوية المستخدمة من الشعراء
القدماء أو لغة العرب القدماء ».4
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.375/ 16 ،
2ـ الشريف المرتضى ،األمالي. 442/1 ،
القاضي عبد الجبار بن أحمد،المغني في أبواب التوحيد والعدل. 380/16 ، 3
4ـ جابر عصفور ،الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة 1974 ،م
،ص 152ـ .153
156
وقد أبدى الشريف المرتضى قدرة ومهارة في هذا السياق » ،فكلما أمكن شرح
تعبير كثير االحتماالت من جهة العقيدة عن طريق علم مفردات اللغة على أنه مشترك
لفظي ،أو بوساطة االعتماد على ظاهرة نحوية خاصة بذلك التعبير ال يجد نفسه مضط اًر
أن هذا أدخل في الفصاحة 1
إلى األخذ بالتأويل الحقيقي « وقد قدر الشريف المرتضى ّ
أن الكالم يعمد فيه إلى تأويل المتشابه على
أن القاضي عبد الجبار يعتبر ّ
والبالغة ،كما ّ
مذهب العرب » ْأزَيد في رتبة الفصاحة منه إذا كان محكماً«. 2
أن المعتزلة ذهبوا إلى الموازنة بين المحكم والمتشابه في
أمر أخير مفاده ّبقى ٌ
أن يكون القرآن الكريم
أن كليهما يؤديان الوظيفة اإلعجازية ،إذ ال يجوز ْ
القرآن الكريم ،و ّ
أن يكون كله متشابهاً ،ويفسر ذلك على أساس الوظيفة التوصيلية ،ألنه كله محكماً ،أو ْ
أن
لو كان على أسلوب واحد لقاد إلى تنفير المتلقي ،ولذلك أشار القاضي عبد الجبار إلى ّ
القرآن الكريم لو كان جميعه محكماً » لكان إلى التنفير أقرب «. 3
من أجل فهم المجاز البد من اإلشارة إلى التواضع في اللغة ،واإلشارة إلى
استعمال ما تواضع عليه الناس ،فإذا استخدم اللفظ ليدل على المعنى الذي اتفق واصطلح
عليه كان االستخدام حقيقياً ،أما إذا استخدم اللفظ بخالف ذلك لعالقة ما كان األداء فنياً
مجازياً ،فاألداء النمطي الحقيقي يعني إجراء الكالم على أصل وضعه في اللغة ،أو هو
ما أقر في االستعمال على أصل وضعه من اللغة ،أما األداء الفني فهو » أن يستعمل
اللفظ في غير ما وضع له في األصل «.1
ويمثل األداء النمطي األصل الذي يتأسس في ضوئه األداء الفني متمثالً في
المجاز ،وتتحدد العالقة بينهما في أن ينحرف المبدع بالداللة عن األداء النمطي انحرافاً
متعمداً لتأدية دالالت جمالية ،وهذا االنحراف ،أو االنتهاك المتعمد لألداء النمطي هو ما
جني ـ مثال ـ يرى ّ
أن المجاز يقع » ويعدل إليه عن أطلق عليه القدامى » العدول « فابن ّ
الحقيقة لمعان ثالثة « وكذلك القاضي عبد الجبار الذي يرى أنه يمكن في الحقائق »أن
يعدل عنها إلى المجاز في كتاب هللا «.2
وال يتأتى وجود المجاز دون حقيقة سابقة له ،والبد ْ
أن يشتمل على داللة ذات
وجهين ،ظاهرة وباطنة ،ألنه لو » لم يجز استعمال اللفظ إال على وجه واحد فقد بطل
المجاز أصالً « 3وهذا يضعنا أمام تشابك الداللة واستقاللها في آن ،فمن حيث تشابكها
فإن التركيبين المجازي والحقيقي
فإن العبارة تنطوي على داللتين ،وأما من حيث استقاللها ّ
ّ
يتجاوران ،والبد من إرجاع المجاز » الفرع « إلى الحقيقة » األصل « وال يمكن أن يكون
ألن اللفظة ال يجوز أن تكون مجا اًز وال حقيقة لهاّ ،
ألن المجاز مجا اًز وال تسبقه حقيقةّ » ،
أن لها حقيقة فوضعت في غير موضعها، التجويز باستعمال اللفظة في المجاز يقتضي ّ
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيدوالعدل. 209/7 ،
2ـ شفيع السيد ،التعبير البياني ،رؤية بالغية ونقدية ،مكتبة الشباب ،القاهرة 1977 ،م ،ص .115
159
ومرادفه الحرفي المباشر ،وهو بمثابة المعنى الصحيح الذي يشير إليه المستوى الظاهري
للصورة المجازية على جهة التضمن واللزوم «.1
ألن الحقيقة تمثل األصل الذي
إذن فالعالقة بين الحقيقة والمجاز عالقة مجاورةّ ،
أن المجاز نقل عن
جني ،أو ّيعدل عنه إلى الفرع ـ المجاز ـ كما هو الحال لدى ابن ّ
أن
أصل إلى فرع لتأدية داللة جمالية وبيانية كما هو الحال لدى الرماني ،وهذا يعني ّ
الحقيقة تمثل األصل الثابت المتقدم الذي يتفرع عنه المجاز ،ويمثل األخير خصوصية في
إن
هذا المعنى العام ،وبذلك تمثل الحقيقة المعيار الذي تخضع له تأويالت المجاز ،بل ّ
إن لم
وجود المجاز ال يتحقق إال بها ،وال يصح دراسة المجاز أو التمكن من تمثله وتلقيه ْ
نضع في االعتبار كون الحقيقة مجاو اًر آخر يوازيه أو يقاطعه ،ويطل كل حين من ثنايا
تركيبه ،وجوانب داللته .
وفي ضوء هذه المجاورة الملزمة يفقد المجاز جانباً من ثراء األداء المستقل ألنه
ال يعدو »إمكانية من جملة إمكانيات يمكن إخراج المعنى على مقتضاها وينحصر دورها
في تجميله أو إضافة بعض الخصوصيات كالتأكيد والمبالغة وما اليها بدون أن تؤثر في
جوهره وتتفاعل معه تفاعالً يغدو بمقتضاه في عالقة تأثر وتأثير بالصياغة «.2
إن األداء النمطي ـ الحقيقي ـ ينطوي على داللة واحدة ظاهرة ،في حين يدل
ّ
المجاز على معنى ظاهر ،ليس هو مقصود المتكلم ،ويدل في الوقت ذاته على معنى
باطن واحد في األقل ،وهو الذي يدل عليه التركيب اللغوي في ضوء وجود القرينة ،لفظية
أن هناك ثنائية داللية ال تكاد تفارق المجاز ،وهي في الوقت نفسه
أو عقلية ،وهذا يعني ّ
ثنائية تركيبية ،ففي المجاز يتجاور تركيبان :أحدهما :ظاهري ،والثاني :متخيل ُيقدره
َّ
المقدر األصل الذي يفسر الظاهري ،أما من حيث المتلقي ،ويمثل التركيب المتخيل
فإن األولى ـ المجازية الظاهرة ـ تنطوي على لبس وغموض ،أما
الداللتين المتجاورتينّ ،
1ـ جابر عصفور ،الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،ص .155
2ـ حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب ،أسسه وتطوره حتى القرن السادس ،مشروع قراءة ،منشورات
الجامعة التونسية ،تونس 1981 ،م ،ص 422ـ .423
160
المقدرة أو المتخيلة ـ أي الحقيقية ـ فهي التي تدل على المراد دون لبس ،ولذا يضطر
َّ
المتلقي إلى إرجاع الداللة الظاهرة إليها ،بحيث ال يتم إحضار إحداهما ـ اقصد الظاهرة ـ
أن
إال باألخرى ،إذن فالظاهر يدل على الباطن ،ويكتنفه ويحدد في الغالب أبعاده ،كما ّ
فإن المتلقي يقدره ويقيس عليه الظاهر ،ومن ثم يفك
الباطن موجود مع الظاهر ،ولذا ّ
غموض الظاهر ويزيل عنه اللبس.
وتتجاوب هذه الثنائية من جهتي التركيب والداللة مع المقوالت المنطقية التي
يصدر عنها التفكير االعتزالي ،فالمعتزلة ـ ومن تأثر بهم وأفاد منهم ـ يجعلون للمجاز
أصالً وفرعاً ،وظاه اًر وباطناً ،وتتجلى داللة هذه المكونات من خالل تتبع تحديد مفهوم
أن المجاز عدول جني والقاضي عبد الجبار بن أحمد يؤكدان ّ أن ابن ّالمجاز ،فقد أسلفنا ّ
أن المجاز نقل عن الحقيقة ،وسواء أكان المجاز عدوالً أمأن الرماني يؤكد ّ
عن الحقيقة ،و ّ
أن هناك أصالً يعدل عنه أو ينقل منه إلى آخر ،وهذه العملية التي يتمفإن هذا يعني ّ
نقالً ّ
بها العدول أو النقل إنما هي عملية قياسية تجعل عالقة ما بين األصل والفرع ،والبد من
علة تربط وقرينة تمنع .
ويتم العدول من الحقيقة إلى المجاز لتأدية داللة خصوصية إضافية ،ولذلك فإننا
ـ فيما يرى ابن ّ
جني ـ » ال نترك الحقيقة إلى المجاز إال لضرب من المبالغة ،ولوال ذلك
لكانت الحقيقة أولى من المجاز« 1وإذا كانت المبالغة تعني تكبير المعنى ،أي إضافة
دالالت ومعان أخر إلى التركيب أكثر مما ينطوي عليها في األصل ،فإنها من هذه
الناحية أدخل في الفن ،ومن هنا تتأتى أهميتها والعناية بها .
وإذا كان المجاز يدخل بالداللة أحياناً إلى المبالغة ،والمبالغة تعني تكبير المعنى
فإن هذا قد يكون موحياً بالكذب ،وقد ورد هذا في التراث ،مما قاد إلى رفض المجاز ّ
جني التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري ،تحقيق أحمد ناجي القيسي، 1
ـ ابن ّ
وخديجة الحديثي ،وأحمد مطلوب ،ومراجعة مصطفى جواد ،مطبعة العاني ،بغداد 1383 ،هـ ــ
1962م
،ص . 130
161
أن المجاز أخو الكذب والقرآن منـزه عنه »1وقد دفع هذا بابن قتيبة إلى الدفاع
بحجة « ّ
ألن اقتران المجاز بالكذب يعني إفساد أكثر الكالم ألنه » لو كان المجاز
عن المجاز ّ
كذباً ....لكان أكثر كالمنا فاسداً ،ألنا نقول :نبت البقل ،وطالت الشجرة ،وأينعت الثمرة،
وأقام الجبل ،ورخص السعر ،ونقول كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا ،والفعل لم يكن
كون« ،2ومن هذه الزاوية أيضا جاء دفاع المعتزلة عما يوحيه المجاز من بطالن
وإنما ّ
وغموض يكتنفان النص القرآني ،كما أنهم يؤكدون ّ
أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز
ليس عج اًز في التعبير ،وإال لكان القرآن الكريم ممثالً لهذا العجز لما يشتمل عليه من
مجازات ،وإنما هو أحد ألوان الغنى والثراء في األداء اللغوي ،فالمجاز ـ والحالة هذه ـ
»ليس كذباً إنه يقوم على حقيقة ،بيد أننا تجوزنا في دالالت الكلمات كي تعبر عن هذه
الحقيقة تعبي اًر خاصاً يحدث أث اًر أقوى وأشد مما لو استخدمنا الكلمات استخداماً تجريدياً
تبعاً ألصلها الذي وضعت له «.3
ومن هنا تأتت العناية بالمجاز ألنه يؤكد قضية عقائدية لدى المعتزلة ،مفادها
نفي التشبيه والتجسيم عن هللا ،كما أنه ينطوي على جوانب جمالية عديدة ،وتتجلى
مظاهر أسلوب المجاز أحياناً من خالل ضروب الحذف واالختصار ،ولذلك ألفينا الشريف
المرتضى يعنى بهذه الضروب ،ويلزم إمكانية تقدير المحذوف في حالة كونه ظاه اًر وإال
سيكون مختلطا بالحقيقة ،ولما كان المعتزلة يميلون إلى الفصل بين األشياء والظواهر
إلى درجة التحدد والوضوح فإنهم شغلوا كثي اًر في وضع الفوارق بين الحقيقة والمجاز،
اء
وعمدوا إلى الفصل بينهما وتحديد أيهما اكثر فصاحة وبالغة ،ففي قوله تعالى » َو َج َ
4
أمر ربك « صًّفا« يرى المعتزلة ّ
أن هذا تركيب مجازي حقيقته »وجاء ُ
ُّك واْلمَل ُك ًّ
ص فا َ
َ َرب َ َ َ
المتغلغال حبها
ّ إليها شكوت
ُ
1ـ لطفي عبد البديع التركيب اللغوي لالدب ،بحث في فلسفة اللغة واالستطيقا ،مكتبة النهضة المصرية،
القاهرة 1970 ،م ،ص .25
2ـ أولمان ،دور الكلمة في اللغة ،ترجمة كمال بشر ،مكتبة الشباب القاهرة 1975 ،م ،ص .76
جني ،الخصائص 447/2 ،ـ .448 3
ـ ابن ّ
4ـ نفسه.448/2 ،
164
أن الجنس
جني الفعل إلى االسم ،ويصدر عن التصور نفسه في ّ ويتجاوز ابن ّ
فإن
هو الذي يخرج بالتركيب من الحقيقة إلى المجاز ،ففي قولهم »خرجت فإذا األسد « ّ
جني ـ » تعريف الجنس ،كقولك األسد أشد من الذئب ،وأنت ال التعريف ـ فيما يرى ابن ّ
أن هذا المثال يتضمن معاني المجاز : تريد أنك خرجت وجميع األ ُْسد«1ويرى ابن ّ
جني ّ
االتساع والتوكيد والتشبيه » أما االتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد،
بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة ،وأما
وأما التوكيد فألنك عظمت قدر الواحد ّ
ألن كل واحد منها مثله في كونه أسداً « . 2
التشبيه فألنك شبهت الواحد بالجماعةّ ،
وفي ضوء هذا يمثل المجاز لوناً من الثراء الداللي ،فهو يضيف إلى اللغة
ويغنيها ،ويمثل االتساع أحد الوظائف التي يؤديها المجاز ،بمعنى أنه يمثل خاصية من
خواص التغير والتطور اللذين تخضع لهما اللغة في مراحل نموها العديدة ،ولذا فالمجاز ال
يتسم بطابع الثبات والتحدد ولكنه خاضع للتغير الذي تمر به اللغة على نحو من األنحاء،
لدرجة انه بتطورها يتحول بعض المجاز إلى حقيقة ،إما ألنه يصبح مألوفاً بالتكرار ،وإما
ألنه يصبح ميتاً ال يستخدم ،فيفقد إحساسنا بالدهشة بمقدار الفرق بين أدائه واألداء اليومي
المعتاد .
أن المجاز أخذت داللته االصطالحية في الضيق والتحدد في وعلى الرغم من ّ
القرن الرابع الهجري ،في بيئة المعتزلة فإننا نلحظ لدى ابن ّ
جني ـ في بعض جوانب تفكيره
ـ رواسب المصطلح المجازي الذي ينطوي على لون من العموم كما هو عند أبي عبيدة
في كتابه » مجاز القرآن « وكما هو عند الفراء في كتابه »معاني القرآن « ،كما أننا
إن كان شقيقه الشريف الرضي يحذو في
نلحظ ذلك بشكل أقل لدى الشريف المرتضى ،و ْ
المجازات القرآنية والنبوية حذو أبي عبيدة والفراء .
جني في المجاز كثي اًر مما اصطلح عليه » شجاعة العربية « في
ويدخل ابن ّ
الحذوف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف ،وهو في تصوره هذا
166
التشبيه :
أما التشبيه فقد أواله نقاد القرن الرابع الهجري جانباً كبي اًر من عنايتهم ،وكان
للغويين دورهم فيه ،وعلى الرغم من أننا لسنا حريصين على المتابعة لتطور تأصيل
فإن حرصنا ينصب على الكشف عن مكونات التشبيه ورموزه ،ويتحدد التشبيه التشبيهّ ،
بأنه عقد تسهم أداة التشبيه بتحقيقه بين عنصري التشبيه ،ويعني العقد » ّ
أن أحد الشيئين
يسد مسد اآلخر في حس أو عقل « 1أي عقد بين شيئين في القول ،أو هو مقاربة بينهما
في الهيئة أو الشكل ،أو » دنو في المعنى ،أي مقاربة واضحة بين األشياء أو العالقات
التي تنتمي إلى عالمنا المحسوس« .2
ويمكننا تمثل التشبيه من خالل العالقة بين عنصريه ،أعني المشبه والمشبه به،
وهما العنصران اللذان شغال النقاد كثي اًر ،ويمكن تصنيف العالقة بين هذين العنصرين
على النحو التالي :
المطابقة بين عنصري التشبيه .
أما تشبيه المطابقة فيلمح إليه الرماني والشريف المرتضى ،إذ يرى الرماني في
التشبيه الحسي أن يقوم » أحدهما مقام اآلخر « أو كونه »تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما
...كتشبيه الجوهر بالجوهر وتشبيه السواد بالسواد « 3أو أن تكون المطابقة ـ فيما يرى
وتتجلى وظيفة التشبيه عند الرماني1في الخروج من الغموض إلى الوضوح ،وتُمثل
اإلبانة الهدف الذي من أجله عقدت المقارنة بين عنصرين أو أكثر ،ويكمن الغموض ـ
مثال ـ في معنى حسي ،أو غير مألوف ،أو ما لم يدرك بداهة ،أو ما ليس له قوة في
الصفة ،ومن أجل الخروج من حاالت الغموض هذه عقدت المقارنة بالتشبيه ،للوصول
إلى الحسي والمألوف والمدرك بداهة أو ماله قوة في الصفة ،ففي اآليـة القرآنية الكريمة
اءهُ َل ْم َي ِج ْدهُ َش ْيًئا َوَو َج َد َّ ِ َّ اب ِب ِق ٍ
َعماُلهم َكسر ٍ َّ ِ
اء َحتى إ َذا َج َ
آن َم ً
يعة َي ْح َسُب ُه الظ ْم ُ
َ ين َكَف ُروا أ ْ َ ُ ْ َ َ « َوالذ َ
يع اْل ِح َسابِ « 2قد أخرج ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع َّللاَ ِع ْن َدهُ َف َوَّفاهُ ِح َس َاب ُه َو َّ
َّللاُ َس ِر ُ َّ
عليه ،ويؤكد الرماني الوظيفة التعبيرية للتشبيه إذ يرى ّ
أن الصورة اكثر وضوحا بعد عقد
المقارنة بين أعمال الذين كفروا والسراب.
أن الرماني قد أكد في التشبيه السالف على الجانب الحسي ومما يثير االنتباه ّ
وعني بوظيفة اللفظة من ناحية أخرى ،فهو يدرك قيمة استخدام كلمة من ناحيةُ ،
»الظمآن« ،ويعي بالغتها بالقياس إلى غيرها إذا استبدلت ـ مثال ـ بـ »الرائي« لما له من
أن كلمة » الرائي «
عالقة باألثر النفسي الذي تحدثه لفظة » الظمآن « ويؤكد الرماني ّ
ألن الظمآن أشد حرصا عليه وتعلق قلببليغة في موضعها ،وأبلغ منها » لفظ القرآنّ ،
به«. 3
إن جمال التشبيه في اآلية الكريمة قد تجلت أبعاده بسبب الخروج من غير
ّ
المحسوس إلى المحسوس يقول الرماني » :وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن
التشبيه ،فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ ،وكثرة الفائدة ،وصحة
إن زيداً كعمرو ،وفي هذا النمط تأكيد الداللة السابقة ،أي تأكيد مشابهة زيد
ّ
لعمرو.
كأن زيداً عمرو ،وهذا النمط يفيد » المبالغة في توكيد التشبيه« فقد تقدمت أداة
ّ
الحنادس
ُ المظلمات
ُ ألبست ُه
ْ إذا
شبه كثبان األنقاء بأعجاز النساء ،بمعنى أنه جعل هذا قد قلب العادة والعرف حين ّ
المعنى »ألعجاز النساء وصار كأنه األصل فيه « ،2وهذا يقود في أحد جوانبه إلى تأكيد
وغصن
ُ وليل
ٌ در
َب ٌ
قد
َو ُ وشعر
ٌ وج ٌه
ْ
در
َو ُ وورد
ٌ خمٌر
ْ
وخُد
َ وثغر
ٌ رْي ٌق
أما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة بن شداد في وصف الذباب :
البالي الحشف
ُ و العناب
ُ وكرها لدى
ِ
الرمق الوشاة من العيون خوف
َ
ط ِ
بق ُم ْ ليل ٍُ
ٍ تحت باتا ص ِ
بحان ُ
تَ ِ
تفل يب ٍ
وتقر ُ سرحان إرخاء
و ُ
178
وتشبيه خمسة بخمسة فمثل قول الوأواء الدمشقي :
وسقت
ْ ٍ
نرجس من لؤلؤاً لت
وأسب ْ
1 ِ
بالبرد ِ
العناب على وعض ْت ورداً
ّ
أن العرب تشبه على أربعة وقد عني أبو أحمد العسكري بأنواع التشبيه ويرى ّ
أضرب :تشبيه مفرط ،وتشبيه مصيب ،وتشبيه مقارب ،وتشبيه يحتاج إلى التفسير وال
يقوم بنفسه . 2
وقد أغفل النقاد ما يمكن أن يتركه التشبيه من أثر داللي من جهة التركيب ،ومن
جهة التأثير بالمتلقي ،ومدى تعبيره عن موقف الشاعر من ذاته ومن العالم الذي يعيش
فيه ،ولكن النقاد قد شغلتهم قضايا شكلية كعنصري التشبيه ،وأنواع التشبيه دون تجاوز
فإن عنصري التشبيه
ذلك ـ غالباً ـ إلى تحليل البنية الجمالية لماهية التشبيه ،وعلى العموم ّ
يبقيان محافظين على خواصهما إلى حد بعيد ،ويتأتى هذا بسبب درسهما المستقل عن
أن عناية النقاد قد
السياق وفاعليته ،والدالالت العميقة التي يولدها التركيب ،ومن المالحظ ّ
اتجهت نحو الجوانب المنطقية واألبعاد العقلية التي تحكم قضاياه ،وهذه العناية من شأنها
أن تركز على الجوانب الشكلية دون تجاوزها إلى فهم أبعد لما يختفي وراءها ،ولهذا يصح
إن التشبيه ال يخلق المعنى وال يحدث تغيي اًر في معاني الكلمات التي تنتمي إلى القول ّ
أسرته أو سياقه ،وتمثل فاعليته باستمرار وجوداً منفصالً عن السياق ومتمي اًز عنه .
إن هذا الفهم للتشبيه ينسجم مع طبيعة العقلية التي ترغب في رؤية األشياء
ّ
واضحة محددة ،ألنه ـ أي التشبيه ـ يساعد على تمكين المبدع من عقد المقارنات
الواضحة بين األشياء المادية التي يشتمل عليها الواقع ،أو مقارنتها بخصائص ومكونات
1ـ الشريف المرتضى ،األمالي 124/2 ،ـ . 129ينظر :أبا أحمد العسكري ،المصون في األدب ،ص 66
ـ .69
2ـ أبو أحمد العسكري ،المصون في األدب ،ص 57ـ .60
179
معنوية ،وتجذب المقارنة عناية الناقد إلى حد كبير ،وتدفعه إلى التفكير بطبيعة المقارنة
فإن هذا الوعي يجعل وظيفة التشبيه ضامرة إلى حد كبير ،فيخارج العمل الفني ،ولذلك ّ
حين يمكن تجاوز ذلك إلى وعي يجعل التشبيه يؤدي دو اًر في العالم الشعري بشكل أكثر
جماالً وتعقيداً 1وهذا في مجمله يعني أن تصور النقاد للتشبيه إنما يقلل من أهميته ودوره
في التشكيل اللغوي للشعر من ناحية ،ويقلل من دوره في التأثير في المتلقي من ناحية
ثانية .
واهتم النقاد باالستعارة ،وأولوها عناية فائقة ،فالقاضي علي بن عبد العزيز
ويشعرنا1
الجرجاني يعدها » أحد أعمدة الكالم ،وعليها المعول في التوسع والتصرف « ُ
بأهميتها الخاصة ليلتقي ببعض التصورات التي ترى في االستعارة عنص اًر جوهرياً في
ألن
الشعر ،إن لم يكن الشعر ذاته يتأسس عليها ،فمتى خال الشعر منها لم يعد شع اًرّ ،
االستعارة تمثل العنصر الثابت في الشعر ،ويخضع ما سواها من مكونات الشعر للتغير
إن الحكم على الشاعر أحياناً يتم من خالل استعراض استعاراته من
والتطور والتبدل ،بل ّ
إن أرسطو عدها دليالً على العبقرية. 2
حيث قوتها وجدتها وابتكارها ،حتى ّ
ويمثل النقل المحور المركزي الذي تعتمد عليه االستعارة وقد فطن إلى هذا
الرماني والجرجاني على السواء ،فاالستعارة لدى الرماني »تعليق العبارة على غير ما
وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل لإلبانة« 3وهي لدى الجرجاني » ما اكتفي
فيها باالسم المستعار عن األصل ،ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها ،ومالكها تقريب
الشبه ،ومناسبة المستعار له للمستعار منه ،وامتزاج اللفظ بالمعنى ،حتى ال يوجد بينهما
منافرة ،وال يتبين في أحدهما إعراض عن اآلخر « . 4
ألن االشتعال لملرْس َشيبا « 5
ّ اشتَ َع َل ا َّأ ُ ْ ً
وتتضح صورة النقل في اآلية القرآنية » َو ْ
ألن هناك
يستخدم في أصل وضعه في اللغة للشيب ،ولكن المعنى نقل إلى الشيبّ ،
اكب ُه
رُ أنت ظهر
ٌ الحب
و ُ
انصرفا عنان ُه
َ فت
صر َ فإذا
أن الحب مثل ظهر ،أو الحب كظهر تديره كيف شئت إذا ملكت ويرى ّ
أن معنى البيت » ّ
عنانه ،فهو إما ضرب مثل أو تشبيه شيء بشيء « . 4
وما عدا ذلك يتحول الغموض إلى قيمة مقصودة لذاتها وبخاصة في أبيات
المعاني التي يستوي فيها القديم والحديث ،يقول الجرجاني » :وليس في األرض بيت من
أبيات المعاني لقديم أو محدث إال ومعناه غامض مستتر ،ولوال ذلك لم تكن إال كغيرها
من الشعر». 1
ويتصل الغموض ـ من زاوية أخرى ـ باستخدام خاص لالستعارة هو البعد في
تركيبها وأدائها ،واإلفراط في استخدامها ،ويرى الجرجاني ّ
أن االعتدال والتوسط هو المعيار
الذي يحدد من خالله جمال االستعارة أو قيمتها ،كما أنه يستعين من ناحية أخرى بمذهب
العرب ،وبهذا يرجع إلى الموروث السابق فيجعله متحكماً في طبيعتي األداء والوظيفة
أن الشعراء كانت تجري على طريقة معينة أو نهج للتركيب اللغوي لالستعارة ،فهو يرى ّ
محدد تقتصد فيه في استخدام االستعارة » حتى استرسل فيه أبو تمام ومال إلى الرخصة
أن المعيار الذي يتقبل فيه 2
فأخرجه إلى التعدي ،وتبعه أكثر المحدثين بعده « والمالحظ ّ
الجرجاني نمطه األوسط في االستعارة ال يرجع إلى مقوم عقلي ،وإنما يرجعه ـ هنا ـ إلى
ألن تمييز حسن االستعارة من رديئها يتصل » بقبول النفس
مقومات ذاتية تأثريةّ ،
بصلبه طى
تم ّ لما له فقلت
ِ
بكلكل وناء أعجا اًز أردف
و َ
ويجعله مثاالً في االستعارة ال يصح تجاوزه إلى االستعارة المفرطة ،فامرؤ القيس جعل
لليل«صلباً وعج اًز وكلكالً لما كان ذا أول وآخر وأوسط مما يوصف بثقل الحركة إذا
استطيل ،وبخفة السير إذا استقصر ،وكل هذه األلفاظ مقبولة غير مستكرهة وقريبة
المشاكلة ظاهرة المشابهة ،وإنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكالم المولدين زائالً
عن هذا الموضع وغير مستمر على هذه السنن « . 1
إن التشخيص في االستعارة يحقق في أحد جوانبه توضيح الداللة التي يريد ّ
الشاعر إيصالها ،وهو لون من ألوان استخدام التركيب الداللي الذي يشتمل على أبعاد
حسية ،شأنها شأن التشبيه لدى الرماني في تشبيه ماال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه،
ان هذا اللون يقترب من النماذج الشائعة لالستعارة التي تستخدم الكلمات » ذات
بل ّ
المعاني المادية للداللة على المعاني المجردة « ،2ويلفتنا أولمان إلى نوع آخر من
االستعارات » يعتمد على التشبيه في الشعور على جانبي االستعارة ،وفي نوع اإلحساس
بهما أكثر من اعتماده على التشابه في الخصائص الجوهرية كما في قولنا » تحية
190
الفصل الثالث
المقياس النقدي
191
192
لغة الشعر :
تمثل لغة القصيدة وجوداً موضوعياً يتم من خالله التعرف عليها وإيصالها إلى
أن للنحت وجوداً موضوعياً يتمثل في كتلة الحجر التي مر عليها إزميل
المتلقي ،فكما ّ
النحات فحولها بكيفية ما إلى تمثال ،كذلك القصيدة لها وجود موضوعي ،وهو وجود
مكثف بالمعاني والدالالت التي يهدف الشاعر إلى إيصالها ،ويقوم المتلقي بالكشف عنها
أو اإلسهام في توليدها ،1ويتمثل هذا الوجود الموضوعي باللغة التي صاغها الشاعر
بكيفية معينة لتعبر عن موقفه من العالم واإلنسان ،فالقصيدة » بنية لغوية مركبة يكشف
تفاعل عناصرها عن موقف الشاعر«.2
أن يتفاوت توظيف اللغة في القصيدة عنه في ميادين المعرفة
ومن الطبيعي ْ
األخرى ،فإذا كانت ألوان المعرفة تسعى إلى تحقيق الكشف عن لون من الحقيقة بأداة
فإن وظيفة اللغة تكون مجردة لغرض التوصيل ،كما ّ
أن الحقيقة التي تسعى منضبطةّ ،
المعارف إلى الكشف عنها وتوصيلها هي حقيقة تنطوي على قدر من الثبات ،غير أن
للشعر حقيقته الخاصة ،ومادامت وظيفة الشعر تتجه في أحد جوانبها إلى تزويد المتلقي
بدراية ما بالواقع فإننا سنحتاج للشعر قطعاً في لون من الكشف ،ألنها تكشف عن لون من
المعرفة يتغاير عما يكشفه الشعر ،فالشعر اذن أحد الوسائل التي اليمكن االستغناء عنها
لفهم العالم وأنفسنا على السواء.3
1ـ Foersyer , Literary Scholarship , Its Aim And Methods , The University Of north
Carolina press , Chapel Hill ,1944 , P. 104 - 105
2ـ عبد المنعم تليمة ،مداخل إلى علم الجمال األدبي .100
3ـ Leroy Marxism And Modern Literature , New York , 1967 p. 6 - 8
193
وتتغاير ـ في ضوء ماسلف ـ األداة المستخدمة في التعبير عن الوظائف
المختلفة ،ألن وظيفة الشعر ليست التوصيل ،وإنما هي وظيفة المعارف والعلوم ،وإذا
تحولت لغة الشعر إلى وظيفة توصيلية فقدت خصائصها ومقوماتها ،وألن القصيدة
الشعرية تتغاير عن ألوان المعرفة األخرى الفلسفية والعلمية في أن القصيدة التسعى إلى
إيصال المعرفة المجردة ،وإنما تهدف إلى توصيل التجربة اإلنسانية إلى المتلقي بطـريقة
خاصة ،سواء في فهم هذا االنفعال وفي نوعية دوافعه.1
ويضعنا الشريف المرتضى 2أمام هذا التمايز بين لغة الشعر وغيره من ألوان
المعرفة ،إذ يعي التداخل بين طبيعة اللغة من ناحية ،وتأديتها الوظيفة من ناحية أخرى،
ومن خالل هذين البعدين يمكننا تمثل لغة الشعر ،ألن اإلخالل بأحدهما يعني اإلخالل
بمفهوم الشعر ذاته .
فإن مفهوم الشعر ال تتحدد عناصره دون وعي لوظيفة اللغةوفي ضوء هذا ّ
الشعرية ،ودون وعي لطبيعتها ،وهذا ما ألتفت إليه الشريف المرتضى في أثناء تعرضه
للغة الشعر ،مقارناً إياها ضمناً بلغة الفلسفة والمنطق ،ويعي أن وظيفة اللغة لدى الفالسفة
ـ مثال ـ تهدف إلى إيصال المعرفة مجردة ،ولذا كانت لغتهم قائمة على أساس التحقيق
والتحديد ،بمعنى أن الوظيفة تتحكم إلى حد بعيد في تحديد ماهية اللغة ،وما دامت
الوظيفة التوصيلية هي التي يستخدمها الفيلسوف في إيصال الحقيقة إلى اآلخرين ،وما
أن يتعامل الفيلسوف مع اللغة
دامت هذه الحقيقة منطقية ومجردة فإنه من الطبيعي إذن ْ
بلون من التجريد يسهم في إيصال الحقيقة ممتزجة بلون من الضبط العلمي القائم على
تحقيق المعاني وتحديد األلفاظ .
وال يهدف الشاعر بالضرورة إلى تحقيق هذا ،وحتى المعرفة التي يسعى
المعاصرون إلى تأكيد توافرها في الشعر فإنها تتمايز عن الحقيقة المنطقية والعلمية ،ألنها
1ـ Winters , The Function Of criticism , Routiedge & Kegan Paul , London ,1957
P. 6 - 8
2ـ الشريف المرتضى ،األمالي. 95/2 ،
194
حقيقة من نوع آخر ،بحيث يمكن القول إنها حقيقة شعرية ،ومادامت الحقيقة الجديدة
تتغاير ،وإن الكشف عنها ليس من أجل توصيل معرفة أو معلومة للمتلقي ،فإنه لهذا كله
تغايرت طبيعة اللغة لتتجاوز تحديد األلفاظ وتحقيق المعاني إلى غاية تشكيلية معينة،
تنبئ عن موقف جمالي ،وتنطوي على رؤية المبدع للعالم واإلنسان وموقفه منهما .
ولقد أدرك الشريف المرتضى هذه الخاصية في لغة الشعر ،فالشعر اليستخدم
اللغة لمجرد التوصيل ،وال يستخدمها لمجرد أن تدل األلفاظ على ٍ
معان محددة ،وإنما تخرج
اللغة لديه من تحقيق اللفظ على المعنى إلى » االشارات الخفية واإليماء على المعاني تارةً
أن هناك طريق ًة خاصة في التعبير عن المعاني من بعد وأخرى من قرب « ،1وهذا يعني َّ
يعمد الشاعر اليها من خالل تشكيله اللغوي للقصيدة ،وبهذا ينفي الشريف المرتضى
التقرير المباشر في التعبير ويهدف إلى تشكيل لغوي »تحمد فيه االشارة واالختصار
وااليماء إلى األغراض وحذف فضول القول «.2
إذن فالتغاير الوظيفي يحدد إلى حد كبير طبيعة التشكيل اللغوي للنص األدبي،
ويحدد تمايزه عن األشكال الفنية والمعرفية األخرى ،ولذلك فإن تغاير وظائف الشعر عن
النثر قاد إلى تمايز بين تشكيلهما اللغوي ،ومدى ما ينطوي عليه كل منهما من دالالت
جمالية .
وتتميز لغة الشعر ـ فيما تتميز به ـ بطريقة خاصة في استخدام األلفاظ ،وتتجاوز
هذه الطريقة ـ من حيث البدء ـ التحقيق والتحديد اللذين تنطوي عليهما تأدية المعاني التي
يقصد إليها الفالسفة والعلماء ،وحين تتجاوز األلفاظ ـ في القصيدة ـ التحقيق والتحديد إنما
تهدف إلى تأدية جمالية تتكئ على الترميز واإليحاء ،ويتضح هذا التجاوز من خالل وعي
طبيعة االنتهاك اللغوي المتعمد للخروج في التشكيل اللغوي من األداء النمطي إلى األداء
الفني .
1ـ أبو أحمد العسكري ،في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم ،ص .213
2ـ المرزباني ،معجم الشعراء ،تحقيق عبد الستار أحمد فراج ،دار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي
الحلبي ،القاهرة ، 1960 ،ص . 140
197
على الرغم من ذلك فإنه لم يدرك أن خفة اللفظة واستثقالها قد ترجع إلى كيفية تشكيلها في
النص الشعري أحياناً .
وفي ضوء هذا يرجع أبو أحمد العسكري لغة الشعر وقيمتها إلى بعد ذوقي
وتأثري ،وتكون ذاتية الناقد متحكمة في تحديد قيمة األلفاظ ،ومما يثير االنتباه أن أبا
أحمد العسكري يجعل األلفاظ تخضع لتأدية بعد توصيلي من ناحية ،ولمعيار كمي من
ناحية أخرى ،ألن أحسن األلفاظ لديه »ما يزيد في كشف المعنى واختصاره بأقل ما يمكن
من العبارة«.1
إن العناية البالغة باأللفاظ لدى الناقد العربي لها ما يبررها ألنها أول ما َيبدهنا
ّ
بالقصيدة ،فهي التي تطبع في إحساسنا أث اًر نفسياً من حيث وقعها السمعي والتخيلي ،أي
في مدى تأثيرها اإليقاعي والتصويري فنياً ،ومن الجدير باإلشارة َّ
أن الجانب اإليقاعي
أن نفهم األلفاظ فهماً عقلياً
لأللفاظ أسبق من تأمل صورها وداللتها ،ألنه » حتى قبل ْ
أن حركة األلفاظ وجرسها أن تكون األفكار التي تحدثها هذه األلفاظ وتتابعها نجد ْ
وقبل ْ
تؤثران تأثي اًر عميقاً مباش اًر في نـزعاتنا « .2وعلى الرغم من أن هذا التصور يعنى بتأثير
فإن المتلقي ال يدرك لأللفاظ إيقاعا محضاً ،بل تتداخلاأللفاظ وإيقاعها في ذات المتلقيّ ،
المكونات وتتفاعل مع بعضها لتترك أث اًر ما في المتلقي .
ألن
إن عناية الناقد باأللفاظ تمثل ـ أحياناً ـ غاية يسعى إلى إرسائها وتوظيفهاّ ،
ّ
القصيدة ال تعدو في النتيجة أن تكون أكثر من مجموعة من الكلمات المتضامة والتي
تربطها ببعضها عالقات داللية وتركيبية وجمالية ،وهذا ما أطلقنا عليه التشكيل اللغوي
للقصيدة ،ولذلك ألفينا الناقد العربي يعنى باأللفاظ من حيث بناؤها الصوتي ومن حيث
تنافر أصواتها أو تالؤمها ،ليخلص من هذا كله إلى تصنيف الكلمات إلى لونين :شعري،
وليس شعرياً ،وهو بهذا يرجع الخاصية الشعرية للكلمة إلى وجود مستقل عن السياق ،أي
1ـ أبو أحمد العسكري ،في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم ،ص 213
2ـ ريتشاردز ،العلم والشعر ،ترجمة مصطفى بدوي ،مراجعة سهير القلماوي ،مكتبة االنجلو المصرية،
القاهرة ،د .ت ،ص . 28
198
أنها شعرية بذاتها ال بغيرها ،ومن هنا جاء التفاضل بين الكلمات في تصور النقاد
القدامى.
وقد عزز هذا التصور نظرة الناقد التجزيئية التي تعنى بالجزئيات مستقلة عن
انساقها وبنياتها ،وهي نظرة عقلية ـ دون شك ـ تحاول أن تفض االشتباك والتعقيد
والغموض ،كما أنها ترى أال يتم البناء عبر تصور كلي تخضع فيه الجزئية ،وإنما هو
بناء يتم في ضوء تمثل حقيقي للجزئية التي سيتم تشييد البناء في ضوئها ،وإن دراسة
الجزئية إنما هو درس للبناء بالنتيجة مادام البناء حاصل مجموع األجزاء .
ويرجع هذا التصور في حقيقته إلى تصور فلسفي يحاول إرجاع كل شيء إلى
جوهره ،ومعرفة قيمة هذا الجوهر ،وكأن القصيدة الشعرية تتمثل في هذه الزاوية الهامة ـ
الكلمة ـ ولذا تركزت العناية بها ،وبطبيعة بنائها ،وقد أفاد النقاد من علوم العربية من حيث
درس بناء الكلمة الصوتي والصرفي ،وإرجاع ذلك إلى دالالت ثابتة .
ويرى ابن جني ان للشعر كلمات تليق به فليس كل مفردة تصلح أن تكون
شعرية ،فهناك كلمات من حلو الكالم وعذبه وغيره ال يصلح لتأدية هذا الدور ،إذن البد
أن ينتقي الشاعر كلماته ويتخير حلوها من رديئها ،ولذلك عاب ابن جني على المتنبي
جمعه كلمتي »الصيقلين « و » بابة « في قوله :
طهمه وال من عذبه«1وأرجع ابن ألن هاتين الكلمتين » ليستا من حلو الكالم وال من ُم ّ
جني هذا ألن المتنبي قد ارتجل هذا البيت من ضمن بيتين ،ولذا فقد كان المتنبي ـ هنا ـ
إن الناقد في تحديده لجماليات » المفردة « خارج السياق إنما يقوم بتصنيف
ّ
ذوقي للكلمات المعجمية ،ويخضع هذا التصنيف ـ في حقيقته ـ إلى عوامل عديدة ،منها
ما هو تأثري يتصل بالمقومات والخصائص الذاتية ـ الذوقية ،ومنها ما هو خارجي يتصل
بمدى استخدام » المفردة « بحيث يكون استخدامها المسرف في الواقع معيباً فيما لو
استخدمت في الشعر ،ويخضع للون من التطور التاريخي ،كما تخضع من زاوية أخرى
إلى تغيير المعايير ،سواء أكان هذا التغيير مقترناً بسياقه التاريخي أم مستقالً عنه ،وال
عيب
ٌ فيه لنا ليس مجلس
ٌ
إذ يرى أن هذا البيت ال يهجنه » إال لفظة » الدعوة « فإنها كلمة عادية قلما يستعملها
فصحاء الشعراء«.1
ويقودنا هذا إلى أن هناك ألفاظاً تصلح ألن تكون شعرية ،وغيرها ال يصلح
لتأدية هذه الوظيفة ،مما يعني أن الشعر البد أن يكون له معجم لغوي خاص في إطار
202
الجرجاني1رواية الشعر ركناً أساسياً يساعد الشاعر في تمكنه من تحقيق إبداعه ،ويتوقف
الناقد عند هذه الخاصية ،إذ يرى ّ
أن الثراء اللغوي الذي يغترف منه الشاعر يمكنه كثي اًر
في اإلبداع ،على أن هذه الخاصية ليست هي الخالقة للنص الشعري ،ألن » كمية األلفاظ
التي في متناول الشاعر ال تحدد منـزلته بين الشعراء ،وإنما الذي يحدد مكانته الطريقة
التي يستخدم بها هذه األلفاظ « .2
إذن فاأللفاظ لدى الناقد العربي تمثل قيمة مستقلة بذاتها لما تتضمنه من جمال
ذاتي ،ولذلك فإنها متقدمة في الكشف عن الداللة ،وتنحصر عناية الناقد بشكلها
فإن الجرجاني يرى أن »روعة اللفظ تسبق إلى الحكم وإنما تفضي إلى
وصياغتها ،ولذا ّ
المعنى عند التفتيش والكشف« .3
إن األلفاظ خارج سياقاتها ال تعدو أن تكون مجرد أدوات يشار بها إلى األشياء
َّ
أو األفكار ،ألنه »ليس للكلمات في ذاتها صفات أدبية خاصة ،وال توجد كلمة قبيحة أو
جميل ة في ذاتها ،أو من طبيعتها أن تبعث على اللذة أو عدمها ،ولكن لكل كلمة مجال
من التأثيرات الممكنة يختلف طبقاً للظروف التي توجد فيها« ،4وهذا التصور هو ما افتقر
إليه وعي الناقد العربي الذي ظل يختزل في الغالب الداللة الجديدة التي يولدها السياق،
ويضفيها على الكلمة ،وكان همه الحفاظ على ثبات داللة الكلمة بوصفها حجر األساس
في بناء القصيدة .
وما ينطبق على الكلمات بأنها ال تشتمل على خصائص تميزها عن غيرها
ينطبق كذلك على اللغة ذاتها ،فليست لغة من لغات البشر تتسم بخصائص شعرية وأخرى
إن كان نقادنا يذهبون إلى هذا التمايز ،وهذا ما نلحظه بوضوح لدى ابن
تفتقر إليها ،و ْ
وتخضع لغة الشعر لمؤثرات خارجية تتدخل في تحديد قيمتها وجمالها سواء
بسواء ،ومن هذه المؤثرات خضوعها لألطوار الحضارية التي تمر بها األمم ،كما أنها
تتأثر بطبيعة البيئة ان كانت حاضرة أو بادية ،وقد فطن إلى ذلك ابن سالم الجمحي ففي
حديثه عن لغة عدي بن زيد يرى أنها تختلف عن لغة شعراء البادية بسبب سهولتها
ولينها ،ويرجع ذلك إلى سكنه في الحاضرة ،يقول » :وعدي ابن زيد كان يسكن الحيرة
الن لسانه وسهل منطقه « ،3ويفيد القاضي الجرجاني من هذه الفكرة
ويراكن الريف َف َ
ويعمقها ويلفتنا إلى أثر الحضارة على لغة الشعر ،ويتكئ على قول الرسول الكريم صلى
هللا عليه وسلم «من بدا جفا « حيث يقول » :وترى الجافي الجلف منهم كز األلفاظ،
معقد الكالم ،وعر الخطاب ،حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته ،وفي جرسه
ولهجته ،ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك « فتعقيد الكالم وصالبة األلفاظ تتأتى ـ
أحياناً ـ بسبب البداوة ،ولذلك فالقاضي الجرجاني يرى أن شعر عدي بن زيد الجاهلي
1ـ أبو أحمد العسكري ،في التفصيل بين بالغتي العرب والعجم ،ص . 214
2ـ عبد المنعم تليمة ،مداخل إلى علم الجمال األدبي ،ص .114
3ـ ابن سالم ،طبقات فحول الشعراء ،تحقيق محمود محمد شاكر ،مطبعة المدني ،القاهرة ،د.ت . 140/1 ،
204
أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة اإلسالميين » ،لمالزمة عدي الحاضرة وايطانه
الريف وبعده عن جالفة البدو وجفاء األعراب «.1
وليس األمر مقتص اًر على شاعر دون آخر إذ يتحول األمر لدى القاضي
الجرجاني إلى قانون عام تخضع فيه القصيدة لطبيعة المرحلة الحضارية التي تمر بها،
ولذلك فقد أخذ الجرجاني يقارن بين اللغة قبل اإلسالم وبعده ،وبخاصة في المرحلة التي
اتسعت فيها ممالك العرب ،ولذلك مال الناس فيها إلى اختيار اسهل الكالم وألينه ،يقول
الجرجاني :ولما »كثرت الحواضر ،ونـزعت البوادي إلى القرى ،وفشا التأدب والتظرف
اختار الناس من الكالم ألينه وأسهله « .2
ويعي الجرجاني ـ في ضوء هذا ـ تطور اللغة ونموها بنوع الطور الحضاري الذي
تجتازه ،ألنه ال يمكن لها أن تنفصل عن المرحلة الحضارية التي تمر بها ،بل انها على
العكس » تلتحم بصورة مباشرة متينة بالتطور التاريخي لتكوين اإلنسان عضوياً وذهنياً،
كما أنها األداة الوحيدة التي يواكب نضجها تكوين المجتمعات البشرية ويحدد شروط
بقائها« .3
وإذا كانت الحضارة تمثل عنص اًر مؤث اًر في اللغة بشكل عام ،وفي لغة الشعر
فإن الطبع ـ وهو سمة داخلية ـ يمثل عامالً تتمايز في ضوئه لغة الشعر،
بشكل خاصّ ،
ألن أحوال الشعراء ـ فيما يرى القاضي الجرجاني ـ متباينة » فيرق شعر أحدهم ،ويصلب
شعر اآلخر ،ويسهل لفظ أحدهم ،ويتوعر منطق غيره« ،4ويرجع القاضي الجرجاني ذلك
إلى عصر ذاتي يتصل بالطبع والخلقة ،ويقيم في ضوئه قانوناً تخضع له األلفاظ مؤداه:
ان سالمة اللفظ تتبع سالمة الطبع ودماثة الكالم بقدر دماثة الخلقة« 5وكأن لغة الشعر
» َّ
يشتمل هذا البيت على لون من التعقيد ،وتتجلى داللته انطالقاً من إدراك طبيعة التركيب
اللغوي ذاته » فبمجرد أن تحدد عائد الضمائر في هذا البيت تكون كل المشكلة قد حلت،
ويكون المعنى قد اتضح تماما «.2
يرى الجرجاني أن هذا البيت » سليم النظم من التعقيد ،بعيد اللفظ عن االستكراه ،ال تشكل
كل كلمة بانفرادها على أدنى العامة« 1كما َّ
أن هذا البيت ال يتأتى غموضه من تعقيد
األلفاظ ،كما هو الحال في بيت الفرزدق سالف الذكر الذي لو حلت مشكلة الصياغة
لبانت داللة البيت ،ولكن بيت األعشى يختلف عنه ،إذ يرجع الغموض إلى قضية خارجية
تتصل بطبيعة الحال التي دعت األعشى إلى التعبير عنها ،وهذا يعني أننا خرجنا من
دائرة التعقيد إلى لون الغموض الذي ال يمكن تأدية داللته إال بوعي بعد خارجي ،وكأننا
إزاء لون من التأمل ،ولذلك قال الجرجاني »فإذا أردت الوقوف على مراد الشاعر فمن
المحال عندي والممتنع في رأيي أن يصل إليه إال من شاهد األعشى بقوله ،فاستدل بشاهد
الحال وفحوى الخطاب«. 2
ويخلص الجرجاني من التمييز بين التعقيد والغموض إلى أن شعر أبي الطيب
المتنبي لم يخل منهما ،وال يعد هذا عيباً من الشعر ألنه » لو كان التعقيد وغموض
المعنى يسقطان شاع اًر لوجب أن ال يرى ألبي تمام بيت واحد ،فإنا ال نعلم له قصيدة تسلم
من بيت أو بيتين قد وفر من التعقيد حظهما ،وأفسد به لفظهما ولذلك كثر االختالف في
معانيه « 3فالجرجاني يخلص إلى قضية مفادها َّ
أن الغموض إنما يمثل قيمة في النص
يمثل التكرار والتوقع األساس الجوهري الذي يرتكز عليه الوزن واإليقاع ،وقد
أدرك الناقد العربي هذه الخاصية في الشعر في كون الوزن تك ار اًر للحركة والصوت ،كما
قد أدرك أثر هذا التكرار من حيث تتابع الوحدات الصوتية المنتظمة والمتتالية في الزمن
كما هو الحال في البناء العروضي أو من حيث التماثل الصوتي في آخر كلمتين أو أكثر
كما هو الحال في السجع ،أو من حيث التكرار بصيغته األولية التي تعتمد تكرار حرف أو
كلمة أو جملة أو نحوها .
إن التكرار يكتنف القصيدة بأسرها ،فهو ينتظمها من جهة التتابع الصوتي في
التفعيالت المنتظمة في البيت الشعري ،ويتأسس هذا التتابع في ضوء أسس وأصول
معينة ،كما َّ
أن القصيدة من حيث بنيتها تمثل تك ار اًر من نوع آخر تتكرر فيه وحدة البيت،
وتتابع األبيات الواحد تلو اآلخر في أنساق معينة فضالً عن تماثل إيقاعي يحتوي آخر
كل بيت شعري مع األبيات التي تسبقه والتي تليه مما يعرف بالقافية ،وأخي اًر يحتوي
القصيدة تماثل شطري البيت ـ على وجه العموم ـ وهذا لون آخر من التكرار .
وتتمثل صورة اإليقاع بشكل أولي بحركات منتظمة تلتئم في مجموعات متساوية
ومتشابهة 1وهذا يعني أن هناك بعدين أساسيين يشكالن اإليقاع ويحددان طبيعته
ومكوناته ،وهما :الحركة والتنظيم ،ففي الحركة يتحدد الجانب المادي لإليقاع ،أي حركة
الوحدات الصوتية في بعد زماني معين ،وفي التنظيم يتحدد الجانب الذهني 2الذي يحكم
العملية اإليقاعية من حيث التماثل والتوقع والمساقات ،إذن يتم اإليقاع من خالل حركة
1ـ أحمد بن فارس ،الصاحبي ،ص ،467ينظر أيضا ،الفت الروبي ،نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين،
ص ،231وما بعدها
212
دالالت متضمنة في الوحدات الصوتية ،أو من جهة تأثيرها في مخيلة المتلقي من تشكيل
مكاني ـ التصوير ـ ومن شأن هذه كلها أن أن تؤثر في جملة التشكيل اللغوي للقصيدة،
غير أن هناك خاصية تنفرد بها الكلمة من حيث تأثير صوتها ،الذي يبلغ أقصى قوته
وتأثيره من خالل اإليقاع ،1إذن فاإليقاع يتصل ببنية الكلمة ومقدار تأثيرها وتفاعلها مع
غيرها من الكلمات ،وال يخضع اإليقاع لخاصية صوتية مستقلة عن الداللة ،وإنما تتحقق
هذه الخاصية في ضوء تأدية داللة يقصد الشاعر إلى إيصالها ،ألن » موسيقى األلفاظ ال
2
تصدر من مجرد صوتها العاري مفصوال عن معناها« ،كما ّ
أن اإليقاع يعبر بكيفية ما
عن موقف الشاعر ،وكيفية تخليق تجربته االنفعالية وعالقتها بالكلمات وكيفية تضامها .
أن اإليقاع مستقل عن هذه العناصر المختلفة ،بل على العكس منيعني هذا ّ
وال ِ
ذلك ،إذ تتمثل القصيدة من خالل هذه الوحدة المتشابكة ،التي يتم وجودها من خالل هذه
العناصر كلها ،بمعنى أن هناك تفاعالً على نحو من األنحاء بين موقف الشاعر وتجربته
االنفعالية من ناحية وكيفية تشكيل اإليقاع من ناحية أخرى ،وهذا ال يتم إال بتشكيل معين
تتراص فيه الكلمات التي يختارها الشاعر وينتقيها .
ويسهم اإليقاع بشكل فاعل في تأدية داللة جمالية تتشابك بفاعلية مع المعنى،
ان طبيعة اإليقاع تسهم بشكل أو بآخر في توصيل الداللة التي ال تستطيع الكلماتأي ّ
فإن » موسيقية القصيدة إنما توجد في هيكلها العام كوحدة ،وهذا الهيكل
أن تؤديها ولذا ّ
يتألف من نمطين ،نمط األصوات ونمط المعاني الثانوية التي تحكمها األلفاظ ،وهذان
النمطان متحدان في وحدة ال يمكن انفصامها ،فمن الخطأ اإلدعاء َّ
بأن موسيقى الشعر
تنشأ من صوته المجرد بصرف النظر عن معناه األول ومعانيه الثانوية «.3
1ـ جابر عصفور ،مفهوم الشعر ،دراسة في التراث النقدي ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة، 1978 ،
ص . 375
2ـ نفسه ،ص .377
3ـ ارشيبالد مكليش ،الشعر والتجربة ،ص . 23
215
فاإليقاع إذن يسهم في التعبير عن »ظالل المعاني وألوانها باإلضافة إلى داللة األلفاظ
والتراكيب اللغوية«.1
بقي أن أشير إلى أن اإليقاع ليس خاصية تتميز بها الفنون الزمانية كالموسيقى
والشعر ،ولكنه يتوافر أيضا في الفنون المكانية كالرسم والنحت ،واإليقاع في األخيرين ال
يخضع لحاسة السمع في التتابع والتوالي ،وإنما يرجع إلى حاسة البصر التي تتأمل إحداث
حركة من التكرار والتتابع البصري ،فاإليقاع في الرسم ـ مثال ـ هو » تكرار المساحات
مكوناً وحدات قد تكون متماثلة أو مختلفة أو متقاربة أو متباعدة ،ويقع بين كل وحدة
وأخرى مسافات تعرف بالفترات « 2ومن الجدير باإلشارة أن اإليقاع هنا ال يرجع للسياق
ألن العناصر اإليقاعية في الرسم »تكون آنية ال متتالية زمنية ،أي أنها قد توجد
الزمانيّ ،
جميعا في نفس اآلن واللحظة « .3
1ـ محمد مندور ،األدب وفنونه معهد الدراسات العربية ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ،القاهرة 1963 ،م ،
ص .29
2ـ عبد الفتاح رياض ،التكوين في الفنون التشكيلية ،دار النهضة العربية ،القاهرة 1973 ،م ،ص . 90
3ـ ريتشاردز ،مباديء النقد األدبي ،ص .193
216
بدراسة وزن القصيدة فإنه يوجه جل عنايته لتضام هذه الوحدات الصوتية ومقابلتها بمثالها
فإن عيباً سيحل بالقصيدة.
اإليقاعي الذي ال ينبغي لها أن تخرج عليه ،وإال ّ
أن » لألصوات اللغوية ال إن هذه العناية ال تربط اإليقاع بالداللة ،صحيح َّ
َّ
تصبح لها قيمة عروضية إال إذا انتظمت على أساس موسيقي « 1أما عالقة هذه
الوحدات الصوتية بداللتها من ناحية ،أو عالقتها بتشكيل الصورة الشعرية من ناحية ثانية،
ٍ
لمعان جديدة في ضوء إيقاعها الشعري من ناحية ثالثة ،فإن هذا كله لم أو مدى تأديتها
يخطر ببال الناقد العربي على اإلطالق .
إذن فالقصيدة ال يتأتى لها وجود موضوعي إال بالوحدات الصوتية التي انتظمت
أن تؤدي هذه الوحدات الصوتية عمالً متراكباً بالغ
على أساس موسيقى ،ومن الطبيعي ْ
التعقيد ،صوتياً ،وداللياً ،وإيقاعياً ،والمؤكد َّ
أن هذه األبعاد المختلفة ليست منفصلة التأثير
والتفاعل ،وإنما هي تؤدي دورها مرة واحدة في سياق واحد .
َّ
إن اإليقاع الموسيقي الذي يتولد عبر التأثير والتفاعل اللذين أشرت إليهما إنما
يؤدي دوره بتفاعله هو اآلخر مع الصورة الشعرية ،ألنه بها »تتحقق خاصية الشعر ،وهي
أن يحيل المعاني المجردة إلى امتثاالت عينية تنفعل لها الحواس انفعاال لذيذاً « ،2ولم
يكن الناقد العربي يعي هذه العالقة المتفاعلة بين هذه األبعاد من ناحية ،وعالقتها
بالصورة الشعرية من ناحية أخرى ،غاية ما في األمر أنه شغل بالمطابقة بين الوحدات
الصوتية ومثالها المعياري الذي ينبغي أن يحكم العالقة بأسرها .
ولقد أُقر المثال المعياري نتيجة استقراء ناقص للشعر العربي ،وتثار اليوم حوله
إشكاالت في أنه أثبت قيماً وزنية وعروضية لنماذج شعرية ،واغفل إمكانيات إيقاعية
متوافرة في نصوص أخرى 3وهذا يعني أن البناء النظري للعروضي لم يكن مستوعباً
1
ـ ينظر كمال ابو ديب ،في البنية اإليقاعية للشعر العربي ،ص 289وما بعدها .وهناك من يرى ّ
أن هناك
تنغيماً ونب اًر في التراث العربي الفلسفي ،ينظر :إلفت الروبي ،نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين ،ص
. 248 - 242
2ـ ينظر :عن المقطع القصير والطويل ،رمضان عبد التواب ،التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه ،مكتبة
الخانجي ،القاهرة 1977 ،م ،ص 62وما بعدها ،وعن النبر ص 87وما بعدها ،ينظر :كمال ابو ديب،
في البنية اإليقاعية للشعر العربي ،ص 287وما بعدها ،وابراهيم أنيس ،موسيقى الشعر ،وشكري عياد،
موسيقى الشعر العربي ،ص .37
3ـ الرماني ،النكت في اعجاز القرآن ،ص . 102
4ـ نفسه ،ص . 102
220
وإذا كان الوزن يمثل زينة خارجية ،ومستقال عن موقف الشاعر فإنه مجرد قالب
تحل فيه القصيدة بما تشتمل عليه من موقف ومشاعر وانفعال ،وكأن الوزن واإليقاع
منفصالن عن التجربة الشعرية في حين أن »كل تجربة شعرية تفرض وزنها الخاص ،كما
إن اختيار الشاعر للوزن إنما هو اختيار 1
تفرض كيفية خاصة في تشكيل اإليقاع « بل ّ
للون إيقاعي يتجاوب مع طبيعة التجربة الشعرية ،ومن هنا تتأتى قيمة اختيار الوزن
واستخدامه ،بحيث يكون مالئماً لطبيعة المضمون ،وال يعني هذا أن هناك تطابقاً غامضاً
بين األوزان والعواطف المعينة ،كما أنه ليس هناك أوزان سعيدة وأخرى حزينة 2إذن
فالشاعر » ال يبدأ بموضوع أو فكرة أو غرض ،وإنما هو يبدأ عمله عندما يهيمن عليه
اإليقاع الموجه إلى التشكيل ،توحي سيطرة اإليقاع على الشاعر بالخطة األولية للقصيدة
أن ينتهي من تشكيلها « .3
التي ال يعرف الشاعر عنها شيئاً قبل ْ
وتلتحم القافية بوصفها لوناً إيقاعيا مع الوزن وهي ال تختلف في تركيبها عن
إيقاع الوزن من حيث كونها أصواتاً متكررة لها نظامها وطريقتها ،وهي غالباً ما تلتزم آخر
البيت العربي لتكون » بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها ،ويستمتع بمثل هذا
التردد الذي يطرق اآلذان في فترات زمنية منتظمة «.4
اإلله َف َج َب ْر
الدين ُ
َق ْد َج َبر َ
والمتدارك :كل قافية وقع فيها متحركان بين ساكنين ،كقول الشاعر :
جاهال كنت ما األيام لك ستبدي
تزود
ّ لم من باألخبار ويأتيك
والمتواتر :كل قافية وقع فيها متحرك بين ساكنين كقول الشاعر :
1 أطالل
و ْ نعرفها ودمنة
ويلتفت النقاد إلى ما ينطوي عليه السجع من إيقاع ،وماله من تأثير على
المتلقي ،وماله من عالقة بالداللة ،ويلتفت ابن جني بإشارته الذكية لهذه األبعاد وهو
يتحدث عن المثل المسجوع في أثناء تعرضه للحديث عن عناية العرب باأللفاظ بوصفها
عنوان المعاني ،فهو يكشف من هذه الناحية عن عناية العرب بالجانب الصوتي مادام
لأللفاظ وقعها في السمع ،غير أن هذه العناية ال تقتصر على الجانب الصوتي وحده،
وإنما تتجاوزه إلى الداللة على القصد .
ويقارن ابن جني بين نمطين من األمثال :أحدهما مسجوع ،واآلخر غير
فإن كان المثل » مسجوعاً ل ّذ لسامعه ....ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس
مسجوعْ ،
) ( 5التكرار :
وال يخفى أنهم كانوا يدركون ما للتكرار من قيمة صوتية ـ إيقاعية ،وهي تتولد
بتكرار حرف أو كلمة أو عبارة ،والهدف من ذلك إحداث األثر الموسيقي ،غير أن هذا
1ـ نازك المالئكة ،قضايا الشعر المعاصر ،دار العلم للماليين ،بيروت 1983 ،م ،ص .263
2ـ الشريف المرتضى ،األمالي.133/1 ،
3ـ القاضي عبد الجبار ،المغني.398/16 ،
231
ونخلص من هذا أن التكرار كان يمثل غاية يسعى الناقد إلى تأصيلها ،وهي
متصلة بالمعنى أكثر من اتصالها باإليقاع .
أما الضرورة الشعرية فيتجاذبها عنصران ،وهما اللذان كانا السبب في إظهارهما
إلى الوجود قضية متعددة الوجود ،وهذان العنصران هما :النحو والعروض ،والسمة التي
يشترك فيها هذان العلمان هو معياريتهما ،بمعنى ان كل واحد منهما ينطوي على مجموعة
من الضوابط ،يراد منها ـ في النحو ـ صيانة األداء العربي من الخطأ ،وفي العروض،
حفظ النص الشعري من انكسار الوزن .
ويولي ابن جني الضرورة الشعرية عناية خاصة ليكشف عن مقوالت لغوية
ونحوية ،وليبرر للصيغ الصرفية واألبنية النحوية ما وقع فيها من تغير ،ألنه يدرك َّ
أن
«الشعر موضع اضطرار ،وموقف اعتذار ،وكثي اًر ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته وتحال
فيه المثل عن أوضاع صيغها ألجله « 1ولكنه على الرغم من هذا فإنه يحاول معالجة
الضرورة الشعرية في نطاق اثرها الشعري لتكون معيا اًر يزن فيه ابن جني أخطاء الشعراء
في ضوء الشعر القديم ،ألنه كما جاز أن يقيس المنثور المحدث على منثور العرب،
ويقيس الشعر المحدث على شعرهم ،كذلك يقيس الضرورة على ما كان عندهم » فما
أجازته الضرورة لهم أجازته لنا ،وما حظرته عليهم حظرته علينا «.2
وتمثل الضرورة الشعرية معيا اًر يتحكم في الشعر ،وال يجوز الخروج على
قوانينها ،وإذا كانت الضرورة على ضربين مقبولة ومرفوضة ،فإن قبولها ورفضها ال ٍ
لعلة ّ
أن نقيس
كائنة في ذاتها ،وإنما ألنها كانت حسنة أو قبيحة في أشعار العرب ،وينبغي ْ
234
الصورة الشعرية
أن نميز بعضها عن بعض ،فقد أن للصورة عدداً من المعاني ينبغي ْ ال ريب ّ
يبدو َّ
أن الصورة تعني فيما ُيبدهنا به جذرها اللغوي على أنها مجرد »تصوير « على الرغم
أن الصورة ال تنفك في حقيقتها عن عملية تشكيل يمثل التصوير أحد عناصرها، من ّ
ليقصد منه المشابهة أو التماثل ،ولكنه ـ أي التصوير ـ ليس العنصر الوحيد والحاسم ،كما
أن الصورة من زاوية ثانية ليست مجرد تعبير ذهني يقصد منه توصيل داللة معينة يهدف
ّ
منها اإليضاح واإلبانة ،وليس جمع هذين العنصرين » التصوير « و »التعبير الذهني «
ألن الصورة أبعد بكثير من مجرد التصوير أو
أن يولد »الصورة«ّ ، أو امتزاجهما يمكن ْ
التعبير الذهني عن فكرة أو داللة . 1
كما ال يمكن دراسة الصورة على أنها مجرد زينة خارجية قصد بعناصرها أو
ك يفية تشكيلها مجرد إحداث الدهشة واالنبهار في كيفية ترتيب مفرداتها ومكوناتها ،ألن
الصورة لو كانت مجرد زينة خارجية ألمكن اختزالها عن النص الشعري وتنحيتها عنه،
وبذلك ال تفقد قيمتها في أنها عنصر جوهري ومكون أساسي من مكونات النص الشعري،
أن دراسة الصورة بهذا الفهم تعني تحكم األبعاد الموضوعية والعقلية في تحديدكما ّ
عناصرها وماهيتها ،ويتركز الحديث ـ حينئذ ـ حول طبيعة العناصر التي تراكبت منها،
وليس البحث عما تعبر عنه هذه العناصر ،أو الكيفية التي تم بها تشكيلها ،فمن جهة
يكون جانبا من الصورة الشعرية تتركز العناية فيه بكيفية
التشبيه ـ مثال ـ وهو عنصر ّ
المقارنة بين طرفي التشبيه ،ويتوقف الدرس النقدي عندهما ،ليحقق االنبهار والدهشة
Ullmann Language And Style , Collected Papers , Barners And Noble , New York
1 , p 107 .
235
بكيفية المقارنة وإيقاع االئتالف بين العناصر المختلفة ،أما لماذا وقع هذا االئتالف ،وما
عالقة التجربة بهذه المقارنة ،واألكثر من هذا ،ما هو دور األداء اللغوي في تأدية الداللة
؟ فهذا ما ال يهتم به من يرى ّ
أن الصورة مجرد زينة خارجية .
أن تنفصل عن التجربة الشعرية ،وإذا تأتى لهاإن الصورة الشعرية ال يمكن لها ْ
ّ
هذا فإنها لن تكون معبرة ـ قطعا ـ عن موقف الشاعر ،ومن ثم يحدث هذا الفصل خلالً
في تركيب القصيدة وتشكيلها ،ألن الصورة الشعرية إنما هي ـ تجاو اًز ـ تشكيل لغوي يصور
تجربة الشاعر ،ال على نحو اإلبانة والوضوح ،ولكن على نحو اإلشارة واإليماء ـ كما يقول
أن هذا التصور ال يعني تقليالً 1
الشريف المرتضى ـ وينبغي التنويه ،في هذا السياق ،إلى ّ
من شأن الوضوح واإلبانة وعناية بالغموض ،قدر ما أريد به تأكيد تنحية الوظيفة
التوصيلية للوراء قليالً ،وتقديم التشكيل الجمالي للغة الذي تستخدم فيه الصورة لتأدية
إن الصورة إنما تعبر عن تجربة الشاعر ،وتمكنه الدالالت التي يريد الشاعر تشكيلها ،بل ّ
أن يؤديها بغير هذه الوسيلة. 2
من التعبير عن انفعاله بطريقة ال يمكن له ْ
وإذا كانت الصورة الشعرية ليست مستقلة عن التجربة ،فهي من هذه الناحية
ألن الشعر يراد منه تقديم القيمة المتراكبة ببعديها الفني
ليست مستقلة عن موقف الشاعرّ ،
إن موقف الشاعر ال يتأتى له تأدية دوره دون امتزاج التجربة بالنص الشعري والمعرفي ،و ّ
إن القصيدة إنما هي تجربة إنسانية
كله ،من جهة اإليقاع والصورة والبناء ،وبتعبير آخر ّ
تتشكل في بناء لغوي ،وبهذا يكون الموقف متغلغالً في ثنايا النص الشعري ،وتكون
الصورة ملتحمة به .
وال يمكن اجتزاء الصورة وفك عناصرها عن طبيعة سياقها ،أو دراستها مستقلة
ألن اجتزاء الصورة عن سياقها يمثل تشويهاً عن هذا السياق أو محاولة نثر داللتهاّ ،
ألن الجزئية ـ لو اعتبرنا الصورة تجاو اًز جزئية في
لطبيعة الصورة والشعر على السواءّ ،
القصيدة ـ ال يصح دراستها مستقلة عن الكل ،ولكن ينبغي دراسة الكل بجزيئاته في ضوء
أن تنعكس آثار الوظيفة على تحديد ماهية الصورة ،ففي الوقت ومن الطبيعي ْ
الذي تكون فيه وظيفة الصورة توصيلية يراد منها إيصال المعنى للمتلقي فمن الطبيعي ْ
أن
تتحدد الصورة بوصفها » وسيلة « تعبيرية يراد منها إيصال الفكرة ،ومن هنا تخضع
الصورة لكل ما تخضع له الوسيلة التعبيرية من عناصر حسية وعقلية تفقدها ،من ثم،
قيمتها الجمالية .
وحين نتابع التصورات النقدية لدى نقادنا نلحظ تأكيداً ملحاً على اإلبانة والتزيين،
فاالستعارة ـ مثال ـ تهدف إلى الوضوح واإلبانة لدى الرماني ،وتهدف إلى المبالغة لدى ابن
جني ،كما إنها تهدف إلى التزيين لدى الجرجاني وهذه التصورات قادت بعض النقاد إلى
بأن الصورة الشعرية » طريقة خاصة من طرق التعبير أو وجه من أوجه الداللة،
الجزم ّ
تنحصر أهميتها فيما تحدثه من معنى من المعاني من خصوصية وتأثير ،ولكن أياً كانت
فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته ،إنها ال
هذه الخصوصية أو ذاك التأثيرّ ،
237
تغير إال من طريقة عرضه وكيفية تقديمه ولكنها ـ بذاتها ـ ال يمكن أن تخلق معنى ،بل
إنها يمكن أن تُحذف دون أن يتأثر الهيكل الذهني لمجرد للمعنى الذي تحسنه وتزينه«،1
ويصدق هذا الوصف لو كانت اإلبانة يراد منها التوصيل الذي سيضعنا حتماً في إطار
األداء النمطي الذي ال ُيعنى بتأدية الدالالت الجمالية ،غير أن تمثلنا لتصور الرماني
لمفهوم اإلبانة في تعريف البالغة سيتجاوز قطعا التصور الذي قلل من قيمة الصورة في
التراث.
ويميز الرماني بين مصطلحي » اإلفهام « و » اإلبانة « إذ يمثل األول الوظيفة
التوصيلية بمفهومها اليومي المتكرر ،وتتضح داللة ذلك في أثناء تعرضه لطبيعة البالغة،
إذ » ليست البالغة إفهام المعنى ،ألنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر عيي
فإن الرماني يذكرها في حدود بعض أقسام البالغة وبخاصة في االستعارة
« أما اإلبانة ّ
والمبالغة ،فاالستعارة « تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة
النقل لإلبانة» ،2والمبالغة « هي الداللة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل
اللغة لتلك اإلبانة » ،3وتتضح صورة اإلبانة لو قرناها بتعريف البالغة ـ لدى الرماني ـ
ألن البالغة لديه تعني » إيصال التي يتداخل فيها عنص ار التوصيل والتأدية الجماليةّ ،
أن اإلبانة ال تعني 4
المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ « ومن هنا يتضح ّ
التوصيل وحده ،وإنما تعني شيئا آخر يضاف إليه هو تأدية الدالالت الجمالية ،ولذلك
قرنها الرماني باالستعارة مرة ،وبالمبالغة مرة أخرى .
وفي ضوء هذا فإن الوظيفة التوصيلية لم تتأخر خلف التأدية الجمالية ،ولم
تتفاعل معها إلى درجة التوحد ،ولكنها ـ في األقل ـ تقف معها على قدم المساواة،
فإن هذا التصور يقودنا إلى نتيجة
وتشاركها تأدية وظيفتها المزدوجة ،وعلى أية حالّ ،
1ـ أبو أحمد العسكري ،في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم ،ص . 213
2ـ نفسه ،ص .213
240
ولم يقرن ذلك بأدنى عالقة بكيفية تخليق التجربة ،إذ كيف يتسنى له ذلك وهو يستشهد
بآيات من القرآن الكريم .
وتتجلى عناصر اإليضاح لدى الرماني ـ في التشبيه ـ من إخراج ما ال تقع عليه
الحاسة إلى ما تقع عليه ،وإخراج ما لم تجربه العادة إلى ما جرت به ،وإخراج ما ال يعلم
بالبديهة إلى ما يعلم بها ،وإخراج ما ال قوة له في الصفة إلى ماله قوة في الصفة ،وتشتمل
هذه كلها على لون من ألوان الخروج من الغامض إلى الواضح ،أو إلى ما هو أكثر
أن تناولنا ذلك في الفصل الثاني من هذا البحث .
وضوحاً منه ،وقد سبق ْ
إن اإليضاح بالعناصر الحسية يقرن الصورة بشكل من الجالء أكثر دون شك،
وبخاصة في الجانب التشبيهي الذي تتحـدد فيه عناصر الصـورة من خالل التمثيل في أن
» أ« مثل » ب « ،ففي قوله تعالى » :مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به
الريح في يوم عاصف ال يقدرون مما كسبوا على شيء « يؤكد الرماني ّ
أن هذا » بيان قد
أخرج ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه ،وقد اجتمع المشبه والمشبه به في الهالك
وعدم االنتفاع ،والعجز عن االستدراك لما فات«.1
أن الرماني يؤكد » اجتماع « المشبه والمشبه به في صفة ومما يثير االنتباه ّ
يشتركان فيها ،فالصفة المنتزعة من السياق بين أعمال الكافرين والرماد هي» االجتماع «
أن الرماني يستخدم هذه
في الهالك وعدم االنتفاع والعجز عن االستدراك لما فات ،كما ّ
الكلمة » االجتماع « بين المشبه والمشبه به في كل األمثلة التي استشهد بها ،واالجتماع
يعني التجاور واالشتراك ،ال التداخل والتفاعل ،وهذا يعني أن عنصري التشبيه يبقيان
أن الصفة المشتركة تنتزع من طبيعة السياق .
متجاورين ،و ّ
أن ال
إن التأكيد على الجوانب الحسية في الصورة ليس عيباً في ذاته ،على ْ ّ
ألن لكل
تتحول هذه الجوانب إلى غاية تتحكم في القيم الجمالية للصورة الشعرية بإطالقّ ،
أن 2
صورة شيئا من العناصر الحسية حتى لو كانت عاطفية أو عقلية ،وال يعني هذا ّ
وفي االستعارة ال تزال صورة التشبيه ماثلة من جهة الوظيفة ومن جهة التركيب
بقدر من التجاوز ،وإذا كانت وظيفة التشبيه ـ كما أوضحنا ـ تخرج بالمشبه من الغموض
1ـ ينظر :جابر عصفور ،الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،ص 368ـ ،369ينظر عن
التوضيح والتوكيد والمبالغة :مصطفى ناصف،الصورة األدبية ،ص ،60وما بعدها.
245
أن عناية النقاد قد تركزت على دراسة هذه العناصر مستقلة
وأنماطهما ،واألكثر من هذا ّ
ومنفصلة عن سياقاتها ،وكأنها وحدات ال تربطها ببنائها أدنى عالقة ،ويتضح هذا من
جني والجرجاني في
معالجات الرماني لالستعارات والتشبيهات القرآنية ،أو ما يفعله ابن ّ
الشعر ،وتتركز حينئذ القيمة الجمالية لكل من التشبيه واالستعارة على ما تنطوي عليه
مستقلة بذاتها ،وبهذا تحتفظ الصورة بقيمتها على الرغم من انقطاعها عن سياقها ودراستها
منفصلة عنه .
وكأن ال عالقة بين
ّ ويتجاوز الناقد ذلك إلى فصل الصورة عن تجربة الشاعر
أن
التجربة والصورة ،ولعل هذا ـ في مجال القرآن الكريم ـ متعذر ألسباب عقائدية ،إال ّ
تعميمه على الشعراء قد قلل من قيمة الربط بين التجربة والصورة ومقدار تعبيرها عن
الدوافع الداخلية للمبدع .
أن هذه العناصر مجتمعة قد قللت من دور الصورة ،وجعلت دورها وال ريب ّ
باهتاً ،يراد منه ـ في الغالب ـ اإلبانة ،وعلى الرغم من اقتران اإلبانة بتأدية دالالت جمالية،
فإن هذه الدالالت تبقى عاجزة عن الكشف عن المكونات الجمالية مادام التصور العام
ّ
ُيعنى بكل هذه العوائق التي تفصل الصورة عن سياقاتها من ناحية وعن تجربة المبدع من
ناحية أخرى .
246
بنية القصيدة
يمثل التكرار عنص اًر أساسياً في بناء القصيدة العربية ،وهو يقوم على أساس
تتابع صوتي تتضام فيه األصوات بطريقة معينة ،ليكون البيت الوحدة األساسية المتكررة
التي يتشكل في ضوئها بناء القصيدة ،ويقع البيت الشعري تحت تأثيرين ،أحدهما :
القصيدة بوصفها كالً يشتمل على تراص األبيات الشعرية الواحد تلو اآلخر ،وثانيهما :
جزئيات البيت الشعري ،من حيث كونه يتألف من شطرين ،وتفعيالت يتضمنهما
وكأن البيت الشعري يقع بين بعدين يمكن تمثيلهما من خالل التركيب والتحليل،
الشطرانَّ ،
فمن جهة تركيب األبيات يتشكل لدينا البناء الكلي للقصيدة ،ومن جهة تحليل البيت
الشعري تفكيكه إلى شطرين ،والى تركيبات موسيقية في كل شطر ،ولذا فنحن إزاء تكرار
إيقاعي أقله المقطع في التفعيلة ،وأكبره البيت الذي يتسم هو اآلخر بطبيعة تك اررية في
القصيدة .
إن أساس بناء القصيدة هو البيت الشعري الذي تتضام اليه أبيات أخرى تتالى
ّ
أن مجرد التتابع ال يكشف عن بناء متماسك متراص ،كما أن اشتراك أبيات
وتتتابع ،غير ّ
القصيدة بقافية واحدة ووزن واحد ال يدعم هذا الرأي ،ولكن المهم ّ
أن القصيدة حين تتراكب
فكأن البناء الكلي للقصيدة هو
بطريقة معينة فإنه يحكمها تصور منطقي ـ فيما يبدو ـ ّ
حصيلة مجموع األبيات ،ليكون كل بيت وحدة مستقلة بذاتها ،وترتبط بالبيت الذي يسبقها
أن هذا الرابط ال يلغي استقاللية البيت ،فتتحول مجموعة من األبيات
والذي يليها ،غير ّ
إلى وحدة متراصة متماسكة ،أو تحول القصيدة كلها إلى بنية واحدة متراصة تتفاعل فيها
األبيات مكونة بناء القصيدة .
أن نبعد عن األذهان وحدة الغرض الشعري وفي حديثنا عن وحدة البناء ينبغي ْ
ألن الوحدة إنما هي » وحدة الموضوع ،ووحدة المشاعر التي يثيرها الموضوع ،وما يستلزم
ّ
247
ذلك من ترتيب الصور واألفكار ،ترتيباً به تتقدم القصيدة شيئاً فشيئاً ،حتى تنتهي إلى
أن تكون أجزاء القصيدة كالبنية الحية ،لكل
خاتمة يستلزمها ترتيب األفكار والصور على ْ
جزء وظيفته فيها ،ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير
والمشاعر«.1
فليس الغرض الشعري معيا اًر لتحديد بنية القصيدة ،وبخاصة ّ
أن القصيدة العربية
ألن
ان هذا التعدد ليس مدعاة للحكم على تفكك القصيدةّ ، غلب عليها تعدد األغراض ،و ّ
أن تحتوي القصيدة تجربة واحدة تكتنفها من جوانبها المختلفة ،وتكون بنية القصيدة
المهم ْ
معبرة عن هذه التجربة ،فمعلقة امريء القيس مثال تشتمل على موضوعات عديدة ولكنها
تحتوي تجربة واحدة ،تتمثل في ضوء جدلية الماضي والحاضر من ناحية ،والتواصل
واالنفصام من ناحية ثانية ،2إذ يمثل الماضي تواصالً لدى الشاعر من ناحيتي العشق
واللقاء الجنسي ،مما يجعل الشاعر يعيده ويكرره في ضوء حاضر مؤلم يمثل فيه
االنفصام أبرز عناصره ،فوقوفه على أطالل حبيبته انفصام ،يوازيه وحدته في ليل طويل
جاثم ،وغربته في الصحراء في أثناء تماثله مع الذئب ،كالهما غريب في صحراء موحشة،
ويعبر عن التواصل واالنفصام بأنماط مختلفة وألوان متعددة ،على الرغم من أن التجربة
إن بنية القصيدة
واحدة ،وهي التي تسهم بفاعلية في بناء القصيدة ،ومن هنا نستطيع القول ّ
ليست مستقلة عن تجربة الشاعر ،تعددت األغراض أو لم تتعدد ،فتعدد األغراض ليس
أن تعدد األغراض » كان
مدعاة للحكم على تفكك القصيدة العربية ،وبخاصة إذا أدركنا ّ
نابعاً من اختالط التجربة الذاتية بالتجربة الجماعية ،ومن امتزاج شخصية الشاعر بحياة
قبيلته «.3
بصلبه طى
تم ّ لما له فقلت
ُ
ِ
بكلكل وناء أعجا اًز ًُ وأردف
َ
ويرى المزرباني ّ
أن الشاعر لم يشرح هذا إال في البيت الثاني » فصار مضافاً اليه متعلقاً
أن القصيدة 2
به ...ألن خير الشعر ما لم يحتج بيت منه إلى بيت آخر « ،وال يعني هذا ّ
تخلو من وحدة تجمعها ،وإنما تمثل وحدة البيت المحور الذي تتأسس في ضوئه القصيدة،
به طلبت
َ ما انجح
ُ هللاُ
حل1
الر ِ حقيبة خير البر
َ و ُ
ويرى المرزباني أن الشطر األول مستقل بمعناه عن الثاني ،ولكنه ،هو اآلخر ،ال يخلو
من عيب كون الشطر الثاني معطوفا بحرف عطف »وما ليس فيه واو عطف أبلغ وأجود
« 2ومن الغريب أن تكون جودة البيت وبالغته قرينة هذا الترتيب الشكلي الذي يستقل
فيه كل شطر عن آخر ،حتى ولو كان الجامع بينهما حرف عطف.
ويتفق أبو أحمد العسكري مع المرزباني في فهمه هذا ،ويرى ّ
أن »خير الشعر ما
قام بنفسه وكمل معناه في بيته ،وقامت أجزاء قسمته بأنفسها ،واستغنى عن بعضها لو
سكت عن بعض « .3ويستشهد كالهما بقول النابغة الذبياني :
ولم يقتصر النقد على العناية البالغة الجزئية بالبيت الشعري ،سواء أكان مستقالً،
أم متفاعالً مع ما يسبقه ،أو ما يلحقه من أبيات ،وتنجلي العناية ـ هنا ـ بوحدات القصيدة
وبنائها الكلي ،والبد في هذا السياق من التعرض لتصور ابن قتيبة في بناء القصيدة ،وهو
تصور تحكمه مقوالت عقلية ترد الكثرة والتنوع والتعدد إلى وحدة ذات طابع شبه منطقي،
فهو يؤسس بنية القصيدة انطالقاً من المكان ،ويتطور بها وفق مسببات منطقية تقود إلى
نتائج تتوقف في النهاية عند المديح الذي يقود هو اآلخر إلى الجائزة والمكافأة التي
يحصل عليها الشاعر .
1ـ شكري عياد ،جماليات القصيدة التقليدية بين التنظير والخبرة الشعرية ،مجلة فصول ،ع 1986 / 2ص
.61
2ـ محمد زكي العشماوي ،فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ،دار النهضة العربية ،بيروت 1981 ،م ،ص
126
3ـ ابن قتيبة ،الشعر واشعراء 75/1 ،ـ . 76
4ـ إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري،
دار الثقافة ،بيروت 1981 ،م ،ص .32
254
ألن المتقدمين وقفوا على المنـزل الداثر ،والرسم العافي ،أو يرحل يبكي عند مشيد البنيانّ ،
على حمار أو بغل ويصفهما ،أل ّن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير .أو َي ِرُد على المياه
ألن المتقدمين وردوا على األواجن الطوامي ،أو يقطع إلى المروج منابتالعذاب الجواريّ ،
ألن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والع اررة«. 1
النرجس واآلس والوردّ ،
أن ابن قتيبة »يحتفظ من أن ناقداً يؤكد ّ
واستكماال لهذا التصور أود اإلشارة إلى ّ
الثقافة القديمة بمالمح رئيسية ،أولها :أنه ال يزال يفترض في الشعر أن يكون إنشاء على
الرغم من شيوع التدوين في عصره .....وثانيها :أنه ال يزال يتمسك بالعناصر البدوية
في القصيدة والسيما الوقوف على األطالل ووصف الراحلة ....وثالثها :كثرة االنتقاالت،
ولم تفلح الروابط التي افتعلها ابن قتيبة بين األجزاء في إظهار أي نوع من الوحدة ،يمكن
أن يسوغ اعتبار القصيدة عمالً واحداً «.2
وإذا كان ابن قتيبة قد فتت وحدة القصيدة إلى أجزاء تربطها ببعض روابط
فإن الحاتمي تتحول لديه القصيدة إلى بنية متراصة متالحمة تشبه الكائن الحي،
منطقيةّ ،
أن القصيدة »مثلها مثل خلق اإلنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض ،فمتى فهو يرى ّ
انفصل واحد عن اآلخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه
وتعفي معالم جماله « ،3ويقترب تصور الحاتمي من تصور افالطون حين » أبرز
التشابه بين وحدة الكالم والوحدة العضوية في األحياء «.4
فإن بعض
وعلى الرغم من األهمية البالغة لتصور الحاتمي في بنية القصيدة ّ
الدارسين يقلل من أهميته ألنه يرى أن وحدة القصيدة لدى الحاتمي » وحدة عضوية ال
1ـ إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب ،ص . 257
2ـ ينظر :مجدي وهبة وكامل المهندس ،معجم المصطلحات العربيةفي اللغة واألدب ،ص ،433ومحمد
زكي العشماوي ،فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ،ص ،118وما بعدها.
3ـ الجرجاني ،الوساطة بين المتنبي وخصومه ،ص .48
256
أن السابقين لم تغنهم كثي اًر
أن الجرجاني نفسه يؤكد ّ ولعل الذي يؤكد ما سلف ّ
أن العناية بها جاءت متأخرة،هذه الوحدات التي ينبغي أن تنطوي عليها القصيدة ،ويظهر ّ
أن البحتري ـ مثالً ـ حذا حذو
وأخذت بالظهور والتبلور مع الشعر المحدث ،ولذا فهو يرى ّ
القدامى إال في االستهالل » ،فإنه عني به فاتفقت له فيه محاسن ،فأما أبو تمام والمتنبي
فقد ذهبا في التخلص كل مذهب ،واهتما به كل اهتمام ،واتفق للمتنبي فيه خاصة ما بلغ
المراد وأحسن وزاد « .1
أما بناء القصيدة لدى الشريف المرتضى فيخضع إلى عنصرين :أحدهما :
كمي يتمثل في عدد أبيات القصيدة ،إذ يستحسن الشريف المرتضى قصيدة أبي نواس
التي مطلعها :
السكر
ُ امتنها منة يا
الشكر
ُ لها مني ينقضي ما
2
ألن هذه القصيدة دون العشرين بيتا ،وثانيهما :كيفيّ ،
ألن الشاعر في هذه القصيد«قد ّ
نسب في أولها ،ثم وصف الناقة بأحسن وصف ،ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه
حاجته ،كل ذلك بطبع يتدفق ،ورونق يترقرق ،وسهولة مع جزالة « ،3وتذكرنا هذه
الوحدات باألقسام المنطقية التي اشترطها ابن قتيبة في بناء القصيدة .
ويعيب الصاحب بن عباد ـ متبنيا رأي ابن العميد ـ كثي اًر من الشعراء ألنهم
أن يوضح الشعر ويبتدأ النسيج « ومن أجل تجاوز هذا يرى ّ
أن «ليس يدرون كيف يجب ْ
259
260
القيمة
لم َيَن ْل اقتران القيمة الجمالية بالخير واألخالق عناية كبيرة في التراث النقدي
ويعنى بالجوانب
والبالغي عند العرب ،بخالف التصور المضاد الذي ينفي هذا االقترانُ ،
أن الفهم
الشكلية للقصيدة في تحديد القيمة ،ويقلل من شأن المعطيات الخارجية ،ويظهر ّ
الخاص لآليات القرآنية الكريمة واألحاديث النبوية الشريفة التي تناولت الشعر قد ساعد
على تعميق التصور الذي يفصل بين القيم الجمالية والقيم الدينية واألخالقية ،فاآليات
القرآنية المكية1التي تعرضت للشعر كانت في موضع دفاع ،فهي تنفي عن الرسول صلى
هللا عليه وسلم صفة الشعر ،وتنفي عن القرآن الكريم أن يكون شع اًر ،أما اآليات المدنية2
ْ
فإنها تميز بين الشاعر الصالح والشاعر الطالح ،فاألول :ملتزم بتعاليم اإلسالم وقادر
على التعبير عنها أدبياً من غير ازدواج بين التصورات الفكرية واألداء الفني ،والثاني :ال
يؤدي هذا الدور ،وقد قلل القرآن الكريم من شأنه وأهميته ،فهو مصدر غواية ،وإنه يقول
وتبن ٍ
لنمط آخر، يدل على رفض لنمط من التعبير األدبيٍ ،أن َما ال يفعل ،وهذا من شأنه ْ
أن القرآن الكريم كان له موقف خاص من الشعر واضح المالمح ويؤكد من ناحية أخرى ّ
واألبعاد ،بخالف من يرى » ّ
أن القرآن الكريم لم يصدر حكماً بعينه على الشعر ،ولم يتخذ
1عبد القادر القط ،في الشعر اإلسالمي واألموي ،دار النهضة العربية ،بيروت 1976 ،م ،ص .120
2ـ أبو هالل العسكري ،الصناعتين ،ص . 162
3ـ األصمعي ،فحولة الشعراء ،تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ،وطه أحمد الزيني ،المطبعة المنيرية،
القاهرة ، 1953 ،ص ،42وينظر :ابن قتيبة ،الشعر والشعراء.305/1 ،
4ـ ابو بكر الصولي ،أخب أخبار أبي تمام ،تحقيق خليل عساكر ،ومحمد عبدة عزام ،ونظير اإلسالم
الهندي ،المكتب التجاري للطباعة والنشر ،بيروت ار أبي تمام ،ص . 173
262
أن جمال الشعر ال يخضع لمقومات دينية أو 1
أن إيماناً يزيد فيه « وهذا يعني ّ وال ّ
أخالقية ،وإنما ترجع القيمة من هذه الزاوية لمعطيات أخرى .
وقد تأكد الفصل بين القيمتين الجمالية واألخالقية لدى ابن جني في أثناء دفاعه
عن المتنبي حيث يقول » :فليست اآلراء واالعتقادات مما يقدح في جودة الشعر
ورداءته» ،2وقد أوضح القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بجالء الفصل بين الدين
والشعر فيم مقولته الشهيرة » :فلو كانت الديانة عا اًر على الشعر ،وكان سوء االعتقاد سببا
بتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ،ويحذف ذكره إذا عدت
عم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد األمة عليه بالكفر ،ولوجب أن يكون
الطبقات ،ولكان ّ
كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول رسول هللا ( ص ) وعاب أصحابه
خرساً وبكاء مفحمين ،ولكن األمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر «.3
إن هذه التصورات تجعل النص الشعري غايتها ،وتؤكد ضرورة الفصل بين ّ
المبدع وإبداعه أوالً ،وتعنى بالخصائص النوعية للشعر ثانياً ،وليس معيارها في تحديد
أن تعقد مقارنة بين النص الشعري ومعطيات خارجيةّ ،
ألن العناية بهذه المعطيات القيمة ْ
إنما تعني توجهاً نحو الدرس التاريخي والنفسي ،فالعناية باألخالق » تهتم بالعالقات بين
العمل وأشياء أخرى ـ ومن ثم فإنها تؤكد نتائج الفن ـ أي تأثيره في السلوك «.4
لقد تأثرت القيمة بالتطور الذي ط أر على الحياة العربية ،سواء في الرؤية :جاهلية
وإسالمية ،أو ما رافق ذلك من تطور في أذواق الناس ومواقفهم من القيم االجتماعية
والفنية على السواء ،إضافة إلى التطور الحاصل في القصيدة العربية ،وقد َّ
ولد هذا التطور
موقفين من قيمة الشعر :أحدهما :يجعل القيمة ثابتة في إطار زماني ،وثانيهما :ال يعد
الزمن معيا اًر للتفاضل بين النصوص الشعرية .
ويعمد الموقف األول إلى إحكام النصوص الشعرية في ضوء معطيات ثابتة ،وأكثر من
هذا أنه يجعل الزمن متحكماً في تحديد قيمة الشعر ،أي أنك كلما أوغلت في القدم أمسى
الشعر حسناً ،وكلما كان النص الشعري معاص اًر لك ،أو قريباً من زمانك ،أصبح قبيحاً،
أو أنه قليل القيمة.
إن الناقد الذي يؤمن بثبات القيمة ويرجعها إلى أبعاد زمانية معينة إنما يصنف
بفعله هذا النتاجات الشعرية إلى أنماط سابقة والحقة ،ويخضع القيمة إلى معطيات
خارجية ـ زمانية ،بحيث يكون القديم جيداً لقدمه ،والمحدث رديئاً لحداثته .
هم أبو عمرو بن العالء أن يكسر القاعدة في روايته الشعر المحدث ،إدراك ًا
وقد ّ
ألن تكوينه الفكري وعالقته
منه بأهمية قيمته ،ولكنه لم يكن مهيئاً ألداء هذا الدورّ ،
الوثيقة بالقراءات القرآنية ،ودوره في التأصيل اللغوي ،فضال عن المرحلة الزمنية التي
يعيشها ،والتي لم تكن تميل إلى المحدث ،كل هذا دفعه إلى اإلحجام عن رواية الشعر
سولت له رواية الشعر المحدث حيث يقول » :لقد كثر
أن نفسه َّ
المحدث ،على الرغم من ّ
هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته « ،1فهو يعترف بحسن الشعر المحدث،
ولكنه ليس قاد اًر على تقييمه إال في إطار زماني ،ومثل هذا ما فعله ابن األعرابي 2حين
ق أر عليه أحدهم أرجوزة أبي تمام :
ج ِ
هله من جاهل أني ظن
َ ٌ َف ّ
قال األصمعي :لمن تنشدني ؟ قال :لبعض األعراب ،قال :وهللا هذا هو الديباج
الخسرواني ،قال :فانهما ليلتهما ،فقال ال جرم أن أثر الصنعة والتكلف بين عليها« َّ 1
إن
األصمعي في انحيازه للقديم وتعصبه له ،وتقليله من شأن الشعر المحدث ،ال يرجع »
قيمة الشعر « إلى الخصائص النوعية للشعر ،وإنما يرجعها إلى أبعاد زمنية ،فالجودة لديه
قرينة القدم ،والرداءة قرينة الحداثة ،ولعلنا نجد في هذا سنداً دينياً فان الحداثة ترتبط
بالبدعة ،وكالهما مردود في ضوء األصول ،ويبدو أن تضافر بعدي الثقافة المزدوجة في
العصور اإلسالمية قد أثر في موقف األصمعي من الشعر بعامة والمحدث بخاصة .إذن
فقد أرجع األصمعي الشعر إلى أصل ثابت يحكم قيمته ويحدد جمالياته ،وهذا األصل هو
الشعر القديم ،ولذلك كان منحا اًز للقديم ،ولكنه على الرغم من ذلك يدرك التفاوت القيمي
بين الشعراء القدامى ،ولذلك أخذ يفاضل في القيمة واألهمية بين الشعراء القدامى أنفسه.
وحين ننتقل إلى القرن الرابع الهجري نلتقي بناقدين متميزين لهما تصوراتهما
المتميزة في تحديد قيمة الشعر ،وهما يعيشان األجواء الفكرية التي ازدهرت فيهما الحركة
االعتزالية ،وهذان الناقدان هما :ابن طباطبا العلوي ،وقدامة بن جعفر .
إن للقيمة لدى ابن طباطبا العلوي بعدين ،يتصل أحدهما بالوجود الموضوعي
ّ
أن الثاني
للقصيدة ،ويتصل اآلخر بمدى مطابقة القصيدة لمقتضى الحال ،ومن الجلي ّ
يركز على تأثير القصيدة في المتلقي من حيث المعاني التي يستخدمها الشاعر في
أغراضه الشعرية ،كما هو الحال في المدح والمفاخرة ،وكالمراثي في حال جزع المصاب،
وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق واهتياج شوقه » فإذا وافقت هذه المعاني هذه
الحاالت تضاعف حسن موقعها عند مستمعها ،وال سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من
الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها ،والتصريح بما كان يكتم منها
واالعتراف بالحق في جميعها « ،2وبهذا تكون موافقة الحال عنص اًر كائناً خارج النص
الشعري تحكمه معطيات ذوقية أو اجتماعية .
فإن ابن طباطبا يرجع فيه القيمة
أما البعد المتصل بالوجود الموضوعي للقصيدة ّ
ـ فيما يبدو ـ إلى عيار عقلي ،ويتأثر فيه بالتيار الفلسفي في تحديده للحسن والقبح ،إذ
1ـ ابن وهب الكاتب ،البرهان في وجوه البيان ،تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي ،مطبعة العاني ،بغداد،
1967م ،ص .176
2ـ نفسه ،ص . 184
3ـ نفسه ،ص . 173
4ـ نفسه ،ص . 184
278
فإن الناس يخبطون في
هذا الشعر فاسداً أو أكثره . . .فأما علم جيد الشعر من رديئه ّ
ذلك منذ تفقهوا من العلوم ،فقليال ما يصيبون « .1
أن قدامة بن جعفر قد تمثل التراث النقدي السابق له وأفاد منه ،ولعله أفاد
ويبدو ّ
من الجاحظ لعناية األخير بتمييز الخصائص النوعية للشعر لدى نقاد متخصصين ،فلقد
وجد الجاحظ العلماء متفاوتين في عنايتهم بالشعر ،فقد يتوقف عالم عند غريب األلفاظ،
ويتوقف آخر عند اإلعراب ،ويتوقف ثالث عند األخبار ،وهؤالء جميعا إما يعقدون مقارنة
بين النص الشعري وشيء آخر ،أو يعنون بجزئية في النص ال تكشف عن
جمالياته،والجاحظ يفتش عن الناقد المتخصص الذي يهمه جمال النص الشعري لذاته،
وليس بمقدار عالقته بغيره .2
ويدعم هذا التصور مقولة الجاحظ التي جعل فيها المعاني عامة ومطروحة في
الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي ،وأرجع القيمة للخصائص النوعية
للشعر ،فمزية الشعر والشأن فيه »إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء،
وفي صحة الطبع وجودة السبك ،فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من
التصوير « .3
ويتأثر قدامة بن جعفر بهذه التصورات ويفيد منها بشكل أكثر وعياً ،ربما بحكم
التراكم الثقافي والعلمي في القرن الرابع الهجري ،فيؤكد أن الشعر صناعة ،وأن لهذه
الصناعة طرفين »أحدهما غاية الجودة ،واآلخر غاية الرداءة ،وحدوده بينهما تسمى
الوسائط ،وكان كل قاصد لشيء من ذلك فإنما يقصد الطرف األجود ،فان كان معه من
فإن قصر عن ذلك نـزل له اسم
القوة في الصناعة ما يبلغه إياه ُسمي حاذقاً تام الحذقْ ،
بحسب الموضع الذي يبلغه في القرب من تلك الغاية والبعد عنها«.4
ومرضع قت
طر ُ قد حبلى فمثُلك
ِ
محول تمائم ذي عن فألهيتُها
َ
فهو رد على من يقرنون القيمة بأبعاد أخالقية ،ألنه »ليست فحاشة المعنى في نفسه مما
يزيل جودة الشعر فيه ،كما ال يعيب جودة النجار في الخشب مثال رداءته في ذاته«.4
ال يختلف األديب عن اإلنسان العادي بالنوع ،وإنما يتميز بحساسية مرهفة تجعله
أكثر ضبطا النفعاله وسيطرة عليه ،وقدرة في التعبير عنه بتشكيل لغوي ،ويلتقي الدارس
بنمطين من االنفعال ،أحدهما :سطحي ساذج يستجيب بسرعة للمثير الكائن في الخارج
،وثانيهما يتخلق في أعماق األديب ،ليس بوصفه رد فعل مفاجئ للمثير الخارجي ،
وإنما يتفاعل مع وجدان األديب ورؤاه وأحالمه بطريقة معينة ،وهذا النمط هو الذي
يسيطر عليه األديب ،ويعمد إلى التعبير عنه بطريقة فنية.
وفي ضوء هذا ال يتخلق إبداع النص األدبي إال بوجود مثير خارجي يقع خارج
الذات اإلنسانية المبدعة ،وليس شرطا أن يكون المثير عظيما ،أو عنيفا ،أو قويا ،فقد
تكون ومضة عيني طفل يحس بالخوف أو الطمأنينة اكبر باعث إلبداع نص لدي األديب
،ما دام هذا التأثير يسهم في تخليقه االنفعال اإلبداعي .
إن مرحلة تخليق االنفعال تمثل المرحلة السابقة للتشكيل اللغوي للنص األدبي
،وعلى الرغم من تسليمنا بأن النص األدبي ال وجود له قبل تشكيله اللغوي ،فإننا ،في
الوقت نفسه ،نؤكد أهمية هذه المرحلة ،ألنها تمثل األساس الذي ال يمكن ان يوجد
بدونها.
ويكشف الحديث عن المنطقة التي يتخلق فيها االنفعال كثير من الغموض ،
بسبب عدم اإلحاطة المادية بها ،وألنها منطقة لدنة لم يتمكن علماء النفس من تحديد
طبيعتها تحديدا منهجيا منضبطا ،ومن ثم فإن التحدث عنها ليس قطعيا ،ولكنه يخضع
281
لقدر من اإلحساس والحدس ،وان التعبير عنها أقرب إلى عملية إبداع أدبية ،ومن الجدير
بالذكر ان هذه المنطقة تكاد تكون محظورة في تراثنا النقدي بسبب معتقدات دينية ،ألنه
إذا كان من الممكن الحديث عن مرحلة انفعال المبدع والمنطقة التي يتخلق فيها االنفعال
فإن الحديث عن هذه المنطقة في النصوص المقدسة يعد أم ار محظو ار ،التصاله بالذات
اإللهية ،ولذلك الحظنا أن تراثنا النقدي قد صرف جل جهده نحو التشكيل اللغوي مثل
الدراسات المستفيضة في إعجاز القرآن الكريم ،أو الدرس النقدي لألنظمة اللغوية ،صوتية
،وصرفية ،ونحوية ،في النصوص الشعرية ،ولم يلتفت كثي ار إلى المرحلة السابقة لهذا
التشكيل .
مس هذه المنطقة في
وعلى الرغم من ذلك فإن الناقد العربي في تراثنا النقدي قد َّ
أحايين محددة ،وتعد محاولة ابن طباطبا العلوي أبرز هذه المحاوالت أكثرها أهمية .
ويتأسس تصور ابن طباطبا في ضوء المنجز العقلي /االعتزالي الذي يحاول
ضبط تحليل العملية النقدية واإلبداعية على أسس عقلية منضبطة ،ويحاول في الوقت
نفسه حل معضلة الشاعر المحدث الذي سبقه الشعراء في استنفاد المعاني واستخدامها ،
وفي ضوء هذه األبعاد أخذ يرسم للشاعر طرائق تعليمية في تحديد ماهية الشعر ومراحل
إبداع النص .
وال يمكن دراسة الخطاب النقدي عند ابن طباطبا بعيدا عن سياقه التاريخي
واالجتماعي ،ولما كان ابن طباطبا يندرج في سياق المدرسة العقلية في التراث فإنه يعتقد
أن الفعل اإلنساني له سمات ومزايا ،إذ ال يتأتى حدوث الفعل إال بوجود ركنين يكتنفانه ،
أولهما :القدرة ،وثانيهما :اإلرادة وإن اإلبداع الشعري هو اآلخر فعل وال بد له من هذه
األركان الثالثة مجتمعة ،على النحو اآلتي :
282
يقول ابن طباطبا « الشعر ـ أسعدك هللا ـكالم منظوم بائن عن المنثور الذي
يستعمله الناس في مخاطباتهم ،بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته
األسماع وفسد على الذوق ،فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى االستعانة على نظم
الشعر بالعروض التي هي ميزانه ،ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه
وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به ،حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي ال تكلف
معه »1
إذن يتجدد الشعر لديه في ضوء مكونين ،أولهما داخلي يحدد للشعر خصوصيته
من خالل السمات الداخلية ،ويتمثل من خالل بعدي :الكالم الذي يتضمن التأليف ،
وهو يدل على طريقة مخصوصة في األداء ،والنظم الذي يدل على خاصية تتجاوز
العروض ،وتلتقي ببعض سمات القرآن الكريم الذي كثي ار ما عبر عن إعجازه من خالل
نظمه ،وهي طريقة مخصوصة في اآلداء ،ومن خالل هذين البعدين ـ الكالم المؤلف
والنظم ـ حدد ابن طباطبا ماهية الشعر بسماته الداخلية ،وأضاف إلى هذا تحديدا من
خالل مغايرته للنثر الذي يبدو قسيما للشعر ،غير أن مفهوم النثر يتسع لديه ليشمل
ما«يستعمله الناس في مخاطباتهم » ،ولذلك فالشعر « كالم منظوم بائن عن المنثور
الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خص به من النظم الذي ان عدل عن جهته
مجته األسماع وفسد على الذوق » وإذا كان ما سلف يؤكد على دور المتلقي الذي يمايز
ويوظف المعتزلة العقل من أجل النظر إلى الظواهر والكشف عن عللها ،فهو ـ
أي العقل ـ القوة التي يستخدمها الناقد المعتزلي ليكشف بها عن الحقائق ،ويعالج من
خاللها قضاياه القيمية ،كمعالجته قضيتي الحسن والقبح العقليين في إطار النظرة
أن
األخالقية للمعتزلة ،فالفعل اإلنساني خاضع لدى المعتزلة لحرية اإلرادة اإلنسانية ،أي ّ
حرية الفعل وكيفية تأديته هي التي تحدد مكونات قيمته ،وهذا كله يخضع ـ في الحقيقة ـ
للمقومات العقلية التي يصدر عنها التفكير االعتزالي ،فحسن األفعال وقبحها راجع لهذه
أن
أن اإلنسان يستطيع بواسطة هذه القوة ْ
القوة العقلية التي تميز بين األشياء وعللها،كما ّ
أن القوة
يدرك الحسن والقبح بوصفهما قيمتين تخضعان لمقومات عقلية بحتة،إضافة إلى ّ
العقلية تمكن اإلنسان من اختيار نوع الفعل اإلنساني بما ينطوي عليه من قيمة حسنة أو
قبيحة .
إن القوة العقلية في مجال تأديتها لوظيفتها القيمية تؤدي دورين في آن واحد، ّ
فهي تميز القيمة وتدركها من ناحية ،وتعمد إلى اختيار نوع القيمة من ناحية ثانية ،وهذا
1ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المغني في أبواب التوحيد والعدل.177/6 ،
2ـ البير نصري نادر ،فلسفة المعتزلة.97/2 ،
3ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد ،المختصر في أصول الدين ،ص . 203
288
الساهي والنائم ،وهذا ال يوصف بقبح وال حسن ،وثانيهما :له صفة زائدة على وجوده،
أن يستحق الذم فيكون قبيحاً ،أو ال يستحق الذم فيكون حسناً.
فإما ْ
أن القيمة تتصل من ناحية بمنشئ الفعل ،إذ البد أنونخلص من هذا كله إلى ّ
أن يصدر عن إرادة اإلنسان وقدرته ،فال يوصف الفعل أو يصدر الفعل بالقصد ،أي ْ
ينطوي على قيمة مجرداً عن الوعي بحدوثه وأهمية إيجاده ،ولذلك ال يصح إطالق حكم
الحسن والقبح عليه ،وتتصل القيمة من هذه الزاوية بالفعل ذاته ،ألن القيمة ال تتحدد
أن الكشف عن أحد بعديها السلبي أو بمجرد القصد ،إذ قد تكون سالبة أو موجبة ،غير ّ
اإليجابي ،إنما نفتش في ذات الفعل ،وبأداة ال تخضع لألهواء ،وهي العقل .
ويخضع التحديد القيمي للتحسين والتقبيح للمقومات العقلية ،ويلفتنا أحد الباحثين
إلى لون آخر نسبي تخضع فيه القيمة العتبارات اجتماعية مستنداً في ذلك إلى بعض
أن هذه المنفعة
مقوالت المعتزلة التي ترجع الخير إلى المنفعة ،أو تقرنه بها ،على ّ
والضرر يتجاوزان » المفهوم الفردي المقصور على المصلحة الفردية لإلنسان ،ذلك أنهم
اعتبروا مصلحة اآلخرين معيا اًر لتحديد المنفعة والمضرة ،كما اعتمدوا المنفعة والمضرة
معيا اًر لتحديد الحسن والقبح « .1
وسواء أكانت قيمة الحسن أم القبح خاضعة للمقومات العقلية أو العتبارات
اجتماعية َّ
فإن الغالب في إطالق الحسن والقبح على ما له عالقة وثيقة بالمقوالت العقلية،
إن الباحثين ـ هنا ـ يؤكدون مواطن اتفاق العلماء وافتراقهم بمقدار كون العقل أداة فاعلة
بل ّ
في هذا االتفاق أو االختالف ،أما موضع االتفاق فهو »الحسن بمعنى المالءمة للطبع
أن » الحسن بمعنى الكمال والقبح بمعنى عدمه« 3وهذان 2
والقبح بمعنى عدمه « أو ّ
المعنيان ال بد للعقل من دور في إدراكهما وتحديدهما.
العروس ِ
ذيل مثل ذنب لها
ُ ٌ
دبر
ُ من فرجها
َ به ُّ
تسد
1ـ عبد المنعم تليمة ،مداخل إلى علم الجمال األدبي ،ص .16
291
أن » ذيل العروس مجرور ،وال يجب أن يكون ذنب الفرس طويالً
ويكمن العيب في ّ
مجرو اًر وال قصي اًر«. 1
وقد عابه أيضا في قوله :
منتشر
ْ سعف
ٌ وجهها
َ كسا
ومرضع قت
طر ُ قد حبلى فمثُلك
ِ
محول تمائم ذي عن فألهيتُها
َ
يتساءل المرزباني » كيف قصد للحبلى والمرضع دون البكر ،وهو ملك وابن ملوك ؟
مافعل هذا إال لنقص همته« 3وتتداخل بهذا لديه القيمة بالوظيفة األخالقية ليعيب على
امرئ القيس فجوره وعهره .
ومثلت الحداثة بعداً جوهرياً يكشف عن القيمة ومقوماتها ،وقد فطن النقاد إلى
أن الحداثة قد وّلدت ضجة في القرنين مفهوم الحداثة في بعدها الزمني ،وعلى الرغم من ّ
الثاني والثالث الهجريين ،وكان طريق االنتصار ممهداً لها في القرن الرابع الهجري ،فإنها
1ـ كريم الوائلي ،المواقف النقدية بين الذات والموضوع ،مكتبة العربي ،القاهرة 1986 ،م ،ص .43
294
ال تزال حية وماثلة أمام الناقد وكأنها قضية جديدة ،ولذلك راح الناقد االعتزالي يدافع عنها
بحماس معتمداً على المقومات العقلية التي ترفض التسليم المطلق للقديم لمجرد قدمه ،راداً
بذلك على أنصار القديم الذين يسلمون بإطالق لكل ما هو قديم .
ويصر الناقد االعتزالي على تجاوز تقويم النص الشعري في إطاره الزمني،
ويضع النصوص في مكانة واحدة ،ويمايز بينها بمقدار ما تنطوي عليه من خصائص،
ومن أجل هذا اعتمد الناقد منهجاً واحداً في درس القديم والحديث ،وعاب على النقاد
تبريراتهم واعتذارهم للشعر القديم لمجرد كونه قديماً ،كما عاب عليهم هجومهم على الشعر
المحدث لمجرد حداثته.
إن المعتزلة بعملهم هذا إنما يخضعون النص الشعري لمعيار عقلي يكشف عن
قيمة النص ،بعكس أنصار القديم الذين جعلوا من الزمن عنص اًر يحددون من خالله قيمة
النصوص الشعرية ،وإذا كان المعتزلة قد عمدوا إلى إلغاء هذا العنصر وإحالل األحكام
العقلية محله ،فإنهم لم يتمكنوا من إلغائه تماما ،وبخاصة أنهم ال يزالون متصلين بالتراث،
وهم بحاجة إلى موازنة وتواصل بين القديم والحديث .
وعلى الرغم من أن الجرجاني يرفض ـ أساساً ـ اقتران قيمة الشعر بالزمن فإنه ال
يزال متأث اًر في بعض جوانب تفكيره بهذا التقويم من جهة تفسير الظاهرة أوالً ،ومن جهة
أن القيمة تقترن في أحد
تأثره اللغوي في كون القديم أساساً في االحتجاج ثانياً ،وهذا يعني ّ
أبعادها بالقدم من أجل االحتجاج بالشعر ،وهذا ما فعله األصمعي ـ فيما يرويه عنه
عده » من جراميق الشام ال يحتج بشعره « 1وفعل مثل هذا
الكميت إذ ّ
الجرجاني ـ في ُ
مع الطرماح وذي الرمة .
ويثبت األصمعي وأضرابه من اللغويين والنقاد القيمة وينفونها لمجرد بعدها
الزمني سواء اتسمت القصيدة بمقومات وخصائص فنية أو افتقرت إليها ،حتى ليلتبس
األمر عليهم في التقويم ،حين يوهمهم أحد الشعراء ِب ِق َدم قصيدة ينشدها ،ولكنهم يتراجعون
بعد ذلك ،ملتزمين بتعصب مقيت جاعلين من كل قديم أصالً ،ومشتمالً على قيمة،
قد ُرِف َع ُ
الفخ فماذا تحذري
1ـ الجرجاني ،الوساطة بين المتنبي وخصومه ،ص . 27وهو يذكر بأثر القصيدة في المتلقي كما أثارها
ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء .75/1 :
2ـ ينظر الفصل األول من هذا الكتاب.
301
أن يكون كل شيء أو أي شيء معيا اًر يتحكم في يحكم أبعاد القيمة وعناصرها ،ويمكن ْ
ألن القيمة ال ترجعالقيمة الخارجية سواء أكان بعداً أخالقياً أم اجتماعيا أم سياسياًّ ،
للمكونات الجوهرية التي يتشكل منها النص الشعري ،قدر رجوعها إلى شيء آخر خارج
النص .
وإذا كانت القيمة في الحالة األولى كائنة في القصيدة فإنها في الحالة الثانية
كائنة خارجها ،وهذا التفاوت في الرؤية ،بين ما هو داخلي وما هو خارجي ،ففي حالة
الداخلي ـ أي كون القيمة في التشكيل اللغوي للقصيدة ـ فإن الناقد يتفاعل مع التركيب
اللغوي دون مؤثرات خارجية ،أما في حالة الخارجي ـ أي كون القيمة خارج النص الشعري
وخارج تشكيله اللغوي ـ فإن الناقد يضع القصيدة والمعيار الخارجي متجاورين ،بل ّ
ان
إن كان هذا النص ينطويالمعيار الخارجي هو الذي يتحكم في النص الشعري ،ليحدد ْ
على قيمة ما ومقدار درجة هذه القيمة فيه ،ويتحول »الخارج « إلى غاية ومعيار في آن
واحد ،إذ هو الغاية التي يسعى الناقد إلى الكشف عنها في النص الشعري ،كما أنه
المعيار الذي يتم من خالله إعطاء أهمية للنص الشعري ذاته.
302
المثل األعلى
لقد أرجع الناقد القيمة ـ فيما أسلفنا ـ إلى أحد بعدين :إما إلى مكونات خارج
النص الشعري ،وإما إلى مكونات في التشكيل اللغوي للنص الشعري ،وفي حالة البعد
الخارجي ترجع فيه القيمة إلى مقومات ال عالقة لها بالنص ،وإنما تخضع العتبارات
اجتماعية أو أخالقية أو نحو ذلك ،وتتحدد هذه المقومات بوصفها مثالً أعلى وبخاصة في
جانبه األخالقي.
فإن الناقد قد يخرج بالقيمة ـ في إطار المثل األعلى ـ إلى
وعلى الرغم من هذا ّ
قيمة جمالية تتحكم في كيفية صياغة القصيدة من ناحية ،وكيفية التصوير فيها من ناحية
أخرى ،فالمثل األعلى ـ من هذه الناحية ـ له بعدان :أحدهما :أخالقي ،وثانيهما :
جمالي ،وسنعنى بالمثل األعلى بوصفه معيا اًر جمالياً ،يعنى به الشاعر في أثناء تأدية
إبداعه الشعري .
ويرد المثل األعلى في مجاالت متعددة ،منها ما يتصل بتصوير موضوعات
طبيعية ،ومنها ما يتصل بتصوير موضوعات إنسانية ،ولكنه على أية حال يغدو الصورة
الذهنية المجردة التي انتزعها اإلنسان من واقعه وخبرته من ناحية ،ومن رؤيته التي حددت
له موقعه من العالم واإلنسان من ناحية ثانية ،ولذلك يسعى الشاعر إلى إرساء المثل
األعلى في نتاجه الشعري ليكون معيا اًر جمالياً يحدد جانبا من جماليات القصيدة ،وبهذا
فإن اشتملت القصيدة على جوانب منه تضمنت أبعاداً يكون الجمال منحص اًر في المثالْ ،
إن افتقرت إليها تضاءلت هذه األبعاد ،هذا بغض النظر عن مطابقة ما يصوره
جمالية ،و ْ
الشاعر للواقع الذي يعيش فيه .
ومن النماذج الطبيعية التي عني بها الناقد محاكاة الواقع مما عرضنا له سابقا،
أن
وكانت المحاكاة هناك تعني مماثلة التصوير في القصيدة لما هو كائن في الواقع ،أي ّ
المحاكاة الحرفية كانت هدف الناقد غالباً ،غير أننا نلتقي هنا ببعض األمثلة التي سبق لنا
دراستها ،ولكن زاوية المعالجة تختلف لتقع الصورة كلها في إطار المثل األعلى بوصفه
قيمة ذهنية مجردة .
303
أن النقاد قد عابوا على امرئ القيس ـ وغيره ـ أن يصف
أن عرضنا ّوقد سبق لنا ْ
ذيل فرسه بالطول في قوله :
ويتركز العيب في مجافاة الشاعر لما هو كائن في الواقع ،وما يشتمل عليه هذا الواقع من
قيم ،ولكننا نلتقي مع الشريف المرتضى في تصور ينفي أن تكون العالقة بين طول الذنب
وطول ذيل العروس إلى هذه المقارنة التي يعتمدها التشبيه ،والتي تمثل المحاكاة عنص اًر
حاسماً في تحديد قيمتها ،وإنما يرجع ذلك إلى لون من المبالغة ،ألن ام أر القيس ـ فيما
يرى الشريف المرتضى ـ » أراد السبوغ والكثرة والكثافة « 1ليخرج بالمحاكاة من المماثلة
أن تكون وظيفة الشاعر المطابقة الحرفية
والمطابقة إلى انتزاع صورة وداللة أخرى ،وينفي ْ
فإن
للواقع ،ألن الشاعر كما يقول » ال يجب أن يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد ّ
ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه« 2إذن فالتصوير لدى الشريف المرتضى ال يرجع
إلى مماثلة الواقع بما هو عليه ،وإنما تتفاعل لديه عناصر مختلفة ،يمثل الواقع أحد
األركان ،ويمثل المثل األعلى ركنا آخر ،وهو ركن جوهري لديه.
إن لم تكن هي المثل األعلى في
وتقترب المبالغة في التشبيه من المثل األعلى ْ
امر القيس إلى وصف ذنب فرسه بهذا الشكل ،ليستدل أحد جوانبه ،فالمبالغة دفعت أ
بمبالغته هذه على السبوغ والكثرة والكثافة ،ويستدل الشريف المرتضى لذلك بعجز البيت
«تسد به فرجها من دبر « لتأكيد تصوره هذا ،وأرجع الشريف المرتضى هذا إلى مذهب
أن تجري على الشيء الوصف الذي قد كان يستحقه،
العرب ألن شأنهم في المبالغة » ْ
ِ
خلف إلى تمشي فكأنها
الحنادس
ُ المظلمات
ُ جللته وقد
الحنادس
ُ المظلمات
ُ ألبسته إذا
وكانت غاية الشاعر في هذا قلب التعود من أجل المبالغة ،ولو ذهبنا لنـزاوج بين هذا
غير ثبات
ذا الرمة قد ّ أن
التصور وتصور الشريف المرتضى في المثل األعلى ألدركنا ّ
هذا ليس مطرداً بسبب أن
متحكما فيه ،غير ّ
ً المثل األعلى وجعله متغي اًر ،وجعل الجزئي
يتصل بالتغير الخارجي الشكلي الذي عمد اليه ذو الرمة في أثناء قلب المشبه به مشبهاً،
ألن طبيعة التركيب ال تزال محافظة على عنصري التشبيه دون تغيير والمشبه مشبهاً بهّ ،
جوهري في العالقة ،غاية ما في األمر أنه جعل المشبه به محل المشبه .
أن وظيفة
ولم يأخذ التشبيه وظائفه في التحسين والتقبيح وبخاصة إذا أدركنا ّ
أن الشريف المرتضى يعي
المحاكاة كانت تميل إلى أبعاد جمالية شكلية لدى النقاد ،غير ّ
تماماً أهمية التحسين والتقبيح وتأديتها أبعاداً أخالقية وجمالية في آن واحد ،وبخاصة في
حالتي المدح والهجاء ،ففي حالة المدح يقصد الشاعر مغرقاً في أحسن أوصاف الشيء
312
ماهية الشعر
ولقد شغلت الخصائص النوعية للشعر الدارسين قديماً وحديثاً ،وعني بها نقاد
القرن الرابع الهجري ،شأنهم شأن من سبقهم أو لحقهم من أجل تأصيل ماهية الشعر،
ومن أجل الكشف عن قيمته ووظيفته ،وتتداخل لدى النقاد أبعاد وظيفية مختلفة ،منها ما
يتصل بلغة الشعر بوصفها ممي اًز لماهية الشعر ،وأنها تمثل أحد المكونات النوعية التي
تحدد ماهية الشعر ،ومنها ما يتصل بخصائص خارجية تعنى بمجرد التراص للوحدات
الصوتية إحداها جنب األخرى ،ومنها ما يتجاوز ذلك إلى خصائص تنأى عن األبعاد
المعيارية العروضية إلى الكشف عن جوهر الشعر أو محاولة االقتراب منه.
وتتحدد ماهية الشعر في أحد أبعادها بالوزن والقافية ،أي العناية بالجانب
الشكلي والخارجي من الشعر ،وتتجلى هذه العناية في متابعة النقاد للجوانب العروضية
تأليفاً ،وهذا ما فعله ابن جني في رسالتيه »العروض « و» مختصر القوافي « ،وكذا ما
فعله المرزباني في »الموشح «من ذكر لعيوب الشعر ،فيما يتصل بالقافية بخاصة .
وقد أسهم نقاد متميزون في القرن الرابع الهجري في تعميق الخصائص النوعية
للشعر متمثلة في الوزن والقافية ،فابن طباطبا العلوي يقول في تعريفه للشعر » الشعر ـ
أسعدك هللا ـ كالم منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ،بما خص
به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته األسماع ،وفسد على الذوق ،ونظمه معلوم
محدود ،فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى االستعانة على نظم الشعر بالعروض التي
هي ميزانه ،ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض
والحذق به ،حتى تعتبر معرفته المستقاة كالطبع الذي ال تكلف معه« 1إن هذا الحد يؤكد
خاصية إيقاعية تحتوي الشعر وتحدد ماهيته ،فالنظم يمثل الفارق الجوهري الذي يميز بين
الشعر والنثر ،وهو فارق شكلي ،ال يتعرض إلى الخاصية النوعية التي تميز الشعر ،ومما
معشر
ٌ إنا الرحمن أخليف َة
فقال له عبد الملك ليس هذا شع اًر ،هذا شرح إسالم وقراءة آية ،1وهذا يعني أن المرزباني
ينفي الخاصية النوعية للشعر التي تميزه بما سلف تحديده على الرغم من انتظام هذ ه
ِ
غناهُ ومشيع
ٌ نفسه على
320
مطواع ًة سدت ُس َد ْته إذا
فيشك أنها لم تندر فلتة ،وتصدر بغتة ،وأن لها مقدمات سهلت سبيلها ،وأخوات قربت
مأخذها« .1
ويطالعنا أبو أحمد العسكري وهو يتحدث عن بالغة الشعر ويحددها بأربعة
عناصر ،منها ما يتصل باللفظ ،ومنها ما يتصل بالمعنى ،ومنها ما يتصل بالنظم ،ومنها
إن كان يحدد جانباً أساسياً من ماهية الشعر فإنه 2
ما يتصل بالمعرض ،وهذا الحديث و ْ
يتحدث في الوقت نفسه عن جوانب قيمية تقترن بتحديد الماهية .
ويحدد النظم جانباً من الخصائص النوعية للشعر الذي اشترط فيه أبو أحمد
العسكري االتساق ،أي انتظاما في كيفية تركيبه ،وتراص مفرداته ،وهو ما يوحي بلون
إيقاعي معين ،يتجاوز حدود الوزن المألوفة إلى مكونات إيقاعية أخرى ،تتراكب فيها
إن اتساق النظم يمثل في الترتيب العنصر الثالث في األصوات اللغوية بكيفية معينةّ ،
تحديد بالغة الشعر ،وتتقدم عليه » عذوبة األلفاظ ،وتقريب المعاني « وهذا أمر طبيعي،
إذ ال بد من تحديد المكونات األساسية ،متمثلة في التصور النقدي ـ أساسا ـ باللفظ
أن مشكلة اللفظ والمعنى تمثل قضية جوهرية في التفكير النقدي لدرجة تمثلوالمعنى ،كما ّ
أحد أبرز المقومات لتحديد ماهية الشعر لدى العديد من النقاد .3
ومن أجل أن تنسجم األلفاظ مع اتساق النظم من ناحية وتقريب المعاني من
أن تكون عذبة ،والعذوبة وصف حسي ذوقي، ناحية ثانية اشترط لها أبو أحمد العسكري ْ
استعاره الناقد لأللفاظ ،وكأنه يتحدث عن بعدها الصوتي الموسيقي ،أما تقريب المعاني
1ـ رينيه ويليك ،و وارين اوستن ،نظرية األدب ،ص .23
322
وتوصيله للمتلقي ،ويكمن العيب في شعر ابن الرومي ألنه » يورد المعنى ثم يأخذ في
شرحه في بيت آخر وإيضاحه وتشعيبه «.1
ويرى الشريف المرتضى في لغة الشعر أنها » تحمد فيها اإلشارة واالختصار
واإليماء إلى األغراض وحذف فضول القول « 2وهو بهذا يشير إلى الخاصية النوعية
ألن
للغة الشعر التي تتجاوز المماثلة في المحاكاة ،وتتجاوز التحديد في داللة األلفاظّ ،
غاية الشاعر ليست التوصيل واإليضاح وإنما اإلشارة واإليماء ،وهذا يعني استخداماً
أن قدرة الشاعر وإبداعه ليسا عائدين لقدرته في
خاصاً للغة وطريقة معينة في التخيل ،أي ّ
االنتظام الخارجي للكلمات ،قدر ما هما عائدان لقدرته في التشكيل والتصوير ،وكأن
التصوير هو في ذاته قمة الشعر ،أو أن عظمة الشعر هي في قدرته على التصوير
واستخداماته الخاصة لالستعارة. 3
وقد أوضح الشريف المرتضى قصده في أثناء تعرضه للمقارنة بين لغة الشعر
ولغة الفلسفة والمنطق ،إذ تتميز لغة العلم والفلسفة بالتحدد ،أي َّ
أن الفيلسوف والمنطقي
يتعامالن مع لغتهما تعامالً إشارياً ،ويقصدان التوصيل ال غير ،أما الشاعر فال يجب »أن
فإن ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه«.4
يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد َّ
ويعود التمايز بين لغتي الشعر والعلم إلى تمايز وظيفي ،ألن مهمة العلم
أن
التوصيل ،وهذا يقتضي إيضاحاً ،أو تحقيق اللفظ على المعنى ،بلغة الناقد القديم ،و ّ
مهمة الشعر تتجاوز التوصيل إلى التشكيل ،وهذا ال يقتضي تحقيقاً للفظ على المعنى،
ولذلك وصف الشريف المرتضى الشعر بأنه » مبني على التجوز والتوسع واإلشارات
تُ ُّ
عد الوظيفة التوصيلية واحدة من أبرز الوظائف التي يؤديها الشعر ،وقبل تناولنا
ألبعاد هذه الوظيفة ومكونـاتها ينبغي التمييز بين »اإلبانة « و» الوضوح « و«التوصيل»،
ألن هذه المصطلحات حين تتداخل تقود إلى نتائج غامضة ومعقدة ،وكثي اًر ما نلتقي ّ
أن التوصيلبتصورات تجعل الوضوح قرين اإلبانة ،واإلبانة قرينة التوصيل ،ومن الواضح ّ
ألن الجذر الحقيقي للتوصيل هو إفهام المتلقي ،وهذا ما يحققه
إنما يراد به مجرد اإلفهامّ ،
أن األداء النمطي قد ينطوي على استعارات األداء النمطي للغة ،ومن المفيد اإلشارة إلى ّ
فإن دراسة األداء النمطي ـ بوصفه
فقدت حيويتها ،فتحولت إلى حقائق في األداء ،ولذلك ّ
أن تأخذ بعين االعتبار هذا التحول الذي يدرك في إطار سياقه
يهدف إلى اإلفهام ـ يجب ْ
وتطوره التاريخي .
:والفيلسوف ـ فيما يشير إلى ذلك الشريف المرتضى ـ هو الذي أطلق عليه القدامى
«الحقيقة « ،وهو يهدف إلى غاية واحدة هي :إفهام المتلقي وإيصال المعرفة اليه دون
325
أصحاب الوظيفة التوصيلية ينأون عن االستعارة ويميلون إلى التشبيه ،لمحافظة األخير
على عنصريه مستقلين ،ويتم من خاللهما عقد المقارنة بين أمرين .
أن التشبيه يحافظ على
ويسهم التشبيه في تحقيق الوضوح بخاصة إذا أدركنا ّ
ألن التشبيه إنما هو عقد » على أن الشيئين
عنصريه مستقلين بسماتهما وخصائصهماّ ،
يسد أحدهما مسد اآلخر في حس أو عقل« 1ولذلك فهو مجال يتبارى فيه األدباء ،ألنه
«يكسب الكالم بياناً عجيباً « فيما يرى ذلك الرماني الذي يتتبع وظائف التشبيه في إخراج
ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه ،وإخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به،
وإخراج ما لم يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها ،وإخراج ما ال قوة له في الصفة إلى ما له قوة
في الصفة ،وهذا يقود في حقيقته إلى ضرورة اإليضاح ألنه يعني » االنتقال من الواضح
فإن النقلة من المعنوي
أو األقل وضوحا إلى األوضح . . .وما دام التوضيح هو األصل ّ
إلى الحسي تعني النقلة من المجهول إلى المعلوم ،والحسي أوضح من المعنوي أللفة
النفس به وتعودها عليه منذ بداية وعيها بالعالم ،أما النقلة من الحسي إلى المعنوي فإنها
بمثابة انتقال من معلوم إلى مجهول ،وفي ذلك خروج عن األصل العام لإلبانة
والتوضيح« .2
ومادامت الوظيفة التوصيلية تسعى إلى اإلفهام وضرورة إيصال المعنى إلى
أن تشتمل على قدر ما من الموضوعية ،وتجعل العقل متحكماً إلى المتلقي ،فمن الطبيعي ْ
حد كبير في كيفية األداء اللغوي وتحديد قيمته ،ومن الطبيعي ْ
أن يميل الشعر إلى ألوان
أن ينطوي على المواعظ والنصائح بمعنى أنه ينأى عن كل ما هو متشابك
الحكمة و ْ
وغامض ،ويميل إلى ما هو واضح محدد .
326
أن تكـون البـالغة مجرد » إفهام المعنى « أو »تحقيق اللفظ
ولقد رفض الرماني ْ
ألن إفهام المعنى يدل على أداء نمطي قد يوحي بغلبة السوقية عليه، على المعنى «1
ّ
ألنه يقرن اإلفهام بالتوصيل مجرداً ،حتى لو كان التركيب مختال ،ولذلك قال الرماني » قد
يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر عيي « 2أما تحقيق اللفظ على المعنى فهو
العناية بأداء المعنى مجرداً دون االلتفات إلى كيفية صياغته ،وينبغي ْ
أن أنبه إلى الفصل
أن الرماني على الرغم من عنايته البالغة بهذا الفصل فإنه
الحاد بين الدال والمدلول ،غير ّ
يعنى بأهمية التشكيل ،وما يؤديه من آثار في المتلقي من جهة إيقاع الكلمات واستثقال
وحداتها الصوتية ،ولذلك أخرج »تحقيق اللفظ على المعنى « من البالغة ،ألنه »قد يحقق
اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف « .3
إن مفهوم » اإلبانة « لدى الرماني يعني طريقة ما في األداء اللغوي ،وقد ّ
تعرض لهذا في أثناء تناوله لمفهوم االستعارة ،وضرورة كونها تبين عن الداللة ،ألن
»اإلبانة « التي نادى بها الرماني تخرج بالمفهوم من التوصيل والوضوح إلى أبعاد
تشكيلية ذات تأثير في المتلقي من جهة المعنى والصياغة في آن ،ولو جاورنا بين
مفهومي »اإلبانة « في االستعارة ومفهوم البالغة التي تعني لديه » إيصال المعنى إلى
أن اإلبانة ال تعني » التوصيل « قدر ما
القلب في أحسن صورة من اللفظ « ألدركنا ّ
أن
ألن اإليضاح ال يعدو ْ
تعني تشكيالً لغوياً يتجاوز الدالالت المحددة لإلفهام والتوصيلّ ،
يكون مجرد إدعاء في حالة االستعارة فيما يرى ريتشاردز ،ألن االستعارة ليست » إال
وسيلة للتعبير عن موقف المتكلم عن الموضوع الذي يتحدث عنه أو من الجمهور الذي
يتحدث اليه «.4
1ـ جابر عصفور ،الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،ص .403
328
يرى ذلك أبـو حاتم الرازي ـ »المعاني الغريبة واأللفاظ الشاردة ،فإذا أحوجوا إلى معرفة
معنى حرف مستصعب ولفظ نادر التمسوه في الشعر الذي هو ديوان لهم ،متفق عليه،
مرضي بحكمه ،مجتمع على صحة معانيه ،وإحكام أصوله ،محتج به على ما اختلف فيه
من معاني األلفاظ وأصول اللغة « . 1
ويكشف أبو حاتم الرازي عن الوظيفة النفعية المباشرة وهو في معرض ثنائه على
ألن كالمهم » صار رياض ًة للمرتاضين وأدباً للمتأدبين،
الشعراء وشدة عناية الناس بهمّ ،
واتخذت عليه الدواوين ،ورغب فيه الملوك من الناس واستحسنته األمم كافة « 2ولكنه في
هذا التصور يعد مهماً باعتباره مصد اًر للمعرفة المنطقية.
فإن الشعراء من شأنهم
وإذا كان الشعر يؤدي هذا الدور في الواقع االجتماعي ّ
أن أبا حاتم الرازي
أن يرتقوا في المكانة االجتماعية ،ويحتلوا قمة البناء االجتماعي لدرجة ّ
ْ
يرى أنه في العصر الجاهلي أصبحوا في مجتمعاتهم » بمنـزلة الحكام يقولون فيرضي
قولهم ،ويحكمون فيمضي حكمهم ،وصار ذلك فيه سنة يقتدى بها وإثارة يحتذى
عليها«،3أما على المستوى المعرفي في العصر الجاهلي فقد أصبح الشعراء المصدر
األول في المعرفة ،ويؤكد ذلك أبو حاتم الرازي فيما يرويه عن األصمعي بأن الشـعراء
أن هذه القيمة أخذت بالتدهور 4
كانوا » في الجاهلية بمنـزلة األنبياء في األمم « غير ّ
ألن القرآن الكريم ـ فيما يرى أبو حاتم الرازي ـ قد »
ألسباب عديدة ،ومن أبرزها العقائديةّ ،
أن القرآن الكريم يمثل المضاد المعرفي للمعرفة 5
نـزل بتهجين الشعر وتكذيبه « كما ّ
أن كان الشعراء يمثلون قمماً معرفية متناثرة في الجزيرة العربية جاء اإلسالم
الشعرية فبعد ْ
فإن الجميل يهدف لتحقيق لون من وإذا كان النافع يسعى إلحداث التأثير ّ
المتعة ،فهو » ال ُيعنى كثي اًر بتوجيه سلوك المتلقي أو مواقفه ،فال يقدم إال نوعاً شكلياً من
1
المتعة هي غاية في ذاتها ،وليست وسيلة ألية غاية أخرى « ولذلك ّ
فإن الناقد يحاول
التنصل من أية وظيفة اجتماعية أو تربوية ،ويكون تمرده أول األمر على الوظيفة
األخالقية بوصفها أبرز الوظائف وأكثرها وضوحاً وظهو ار لدى المتلقي .
وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم على األصول األخالقية وضرورة توافرها في
النص الشعري فإن النقد العربي نأى بعيداً عن هذا المضمار لدرجة فصل بين الفني
واألخالقي ،ولعل اقتران الشعر بالمعطيات األخالقية والتربوية إنما يقلل من شأنه ومن
قيمته ،وإذا كان هذا شأن الشعراء فإن النقاد لم يكونوا » منعزلين عن الشعراء فوقفوا
بجانبهم ،ولم يتخذوا من الدين واألخالق أساساً يرفعون به شاع اًر ويخفضون آخر،
واستبعدوا الخيرية في ميدان الحكم النقدي ،وربما أروا منـزع الشر أقرب إلى طبيعة الشعر،
أو أنه على األقل مما يحسن به فن الشعر « .2
وفي ضوء هذا تكون قيمة النص ووظيفته ليستا محددتين بأبعاد خارج النص
الشعري ،وإنما ترجعان إلى شكله والى كيفية الصناعة التي يحدثها الشـاعر في تراكيـبه
أن الناقد »يهتم بالعمل الفني في ذاته ال بالنتائج التي
واستعاراته وتشبيهاته ،وهذا يعني ّ
ولعل األصمعي من قدامى من ذهب إلى ترتبت عليه ،والتي تقع خارجه «.3
الفصل الحاد بين الفني واألخالقي ،ومقولته مشهورة في أثناء تعرضه لمقارنة قصائد
1ـ جابر عصفور ،الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،ص . 402
2ـ عز الدين اسماعيل ،األسس الجمالية في النقد العربي ،ص .185
3ـ ريتشاردز ،مباديء النقد األدبي ،ص .74
332
حسان بن ثابت الجاهلية واإلسالمية التي يقول فيها » :طريق الشعر إذا أدخلته في باب
الن « . 1وقد سبق أن تناولنا هذا في أثناء دراستنا لمبحث القيمة.
الخير َ
وإذا كان األصمعي من قدامى من فصل بين القيمة الشعرية والقيمة األخالقية
فإن هذا مهد السبيل لواحد من نقادنا في القرن الرابع الهجري ليؤكد ما ذهب إليه
األصمعي ،ولكي يرجع القيمة إلى خاصية كائنة في النص الشعري ،سواء أعبر النص
الشعري عن قيمة أخالقية أم لم يعبر ،وسواء أكان صاحبه سيء االعتقاد أم صحيحه ،بل
أن »الدين بمعزل عن الشعر « .2
انه يؤكـد ّ
إن الفصل الحاد بين الدين والشعر قد أتاح للنقاد إرجاع الوظيفة والقيمة على
السواء إلى مكونات في النص الشعري ،وليس مرجعهما إلى مقومات خارجه ،كاالعتقاد
ألن من يتأمله
واألخالق مثالً ،ولذلك رأينا من يؤكد هذا التصور في النقد العربي القديم ّ
لن يجد فيه» ما يشير إلى اعتناق النقاد لذلك المذهب التعليمي الذي يربط الشعر بغايات
أن المقاييس التي كان
أخالقية محددة ،ولكنه يجد فيه ما يشير إلى عكس ذلك ،والحق ّ
يقوم عليها نقد الشعر مقاييس فنية خالصة في عمومها ،أما األخالق التي كانت تعني في
نظرهم التعاليم الدينية واألهداف التعليمية فقد كانت خارجة عن مهمة الشعر « 3ولهذا
الرأي ما يعززه في التراث النقدي بوضوح وجالء لدى األصمعي وأبي بكر الصولي وابن
جني والجرجاني مما سبق تناوله .
ونحى جانباً القيم األخالقية ،وهو لم يستطع
إن الناقد قد انحاز للقيم الجماليةّ ،
أن القيم
أن يكشف عن التفاوت بين هذين المستويين من القيم بمعنى أنه لم يدرك » ّ ْ
أن القيم األخالقية قيم سلبية
الجمالية . . .قيم إيجابية ،تمدنا بلذات حقيقية ،في حين ّ
تقتصر مهمتها على اجتناب األلم ومحاربة الشر . . .فالقيم الجمالية إنما تحمل قيمتها
335
336
الخاتمة
337
338
لقد تركت المعتزلة اثا ار ايجابية على مجمل التفكير العربي /االسالمي ،ولقرون
طويلة ،وما زالت اثارها قائمة الى االن ،لكونها استخدمت العقل اداة اساسية في فهم
العالم والمجتمع واالنسان ،وقد وضعت كثي ار من االفكار موضع التساؤل ،وتجرأت
فطرحت افكا ار متقدمة على زمانها ،وحين يتعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي ـ
القرآن الكريم والسنة النبوية ـ تتبنى الدليل العقلي وتعمد الى تأويل الدليل النقلي .
وكانت اثارها على الدرسين االدبي والنقدي جلية الى حد كبير ،ولقد كان هناك
من المعتزلة كتاب كبار في العلوم المختلفة ،يكفي ان نشير الى الجاحظ ـ مثال ـ فضال
عن كبار المكلمين ـ كالقاضي عبد الجبار بن احمد ـ ،وال يخفى ان المعتزلة ارست
مفاهيم نقدية ـ كالمجاز مثال ـ على اسس واصول تجاوزت فيها كثي ار من الفهم السطحي
والظاهري الساذج .
ولم يكن الخطاب النقدي الذي اعتمدته مختصا بجانب من جوانب العملية النقدية
،بل شملت مجمل العملية االبداعية والنقدية ،وارست اسسا متميزة لجماليات االنظمة
اللغوية المختلفة :صوتية ،وصرفية ،ونحوية ،وداللية .وكذا االمر لقضايا الدرس
البالغي الذي كان اساسا ومهادا النجازات علماء الحقين في قرون اخرى ،كعبد القاهر
الجرجاني ،وبخاصة في كتابيه ،اسرار البالغة ودالئل االعجاز .
وتواشعت اثارها في لغة الشعر والصورة الشعرية وبناء القصيدة ،بحيث كان
العناية بالمفردة اللغوية مستقلة وفي سياقها اللغوي ،وكذا االمر في الصورة الشعرية ،
كونها تعتمد المتخيل الشعري ،فضال عن بناء القصيدة .
وقد ارست فرقة المعتزلة اصوال متقدمة في جمالية المثال االعلى في الفنون
والشعر ،فضال عن تحديد مساقات جديدة لماهية الشعر ومهمته .
339
340
المصادر والمراجع
341
342
أوالً :المصادر :
البجاوي ،دار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة ،الطبعة الرابعة،
1386هـ ـ 1966م
ابن جني » أبو الفتح عثمان بن جني « :
تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد واألمين ،تحقيق
محمد بهجة األثري ،مطبوعات مجمع اللغة العربية ،دمشق 1400 ،هـ ـ 1979م
التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري ،تحقيق أحمد ناجي
1956م .
سر صناعة اإلعراب ،الجزء األول تحقيق مصطفى السقا ومحمد الزفزاف ،وعبد
هللا أمين ،دار إحياء التراث القديم ،مصطفى البابي الحلبي ،مصر 1374 ،هـ ـ
1954م .ومخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم 120لغة .
العروض ،نسخة خطية مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية،
جامعة الدول العربية ،تحت رقم 17عروض وقو ٍ
اف .
الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي ،تحقيق محسن غياض ،دار الحرية للطباعة،
23أدب .
343
الفسر الكبير » شرح ديوان المتنبي « تحقيق صفاء خلوصي ،دار الجمهورية،
بغداد 1389 ،هـ ـ 1969م ومخطوطة معهد المخطوطات العربية ،جامعة الدول
العربية ،تحت رقم 526أدب
المبهج في تفسير أسماء شعراء ديوان الحماسة ،مكتبة القدس ،دمشق1348 ،هـ
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها ،تحقيق علي النجدي
ناصف ،وعبد الحليم النجار ،وعبد الفتاح اسماعيل شلبي ،المجلس األعلى
للشئون اإلسالمية ،القاهرة 1386 ،هـ ـ 1966م ـ 1389هـ ـ 1969م .
المنصف ،شرح كتاب التصريف للمازني ،تحقيق إبراهيم مصطفى ،وعبد هللا
أمين ،دار إحياء التراث القديم ،مصطفى البابي الحلبي ،مصر 1954 ،م .
مختصر القوافي ،تحقيق حسن شاذلي فرهود ،دار التراث ،القاهرة 1395 ،هـ ـ
1975م
الرازي » أحمد بن حمدان « :
الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية ،تحقيق حسين بن فيض هللا الهمداني،
نشرت الجزء األول دار الكتاب العربي بمصر 1957 ،م ،ونشرت الجزء الثاني،
مطبعة الرسالة ،القاهرة 1958 ،م .
الرماني » علي بن عيسى « :
الحدود في النحو ،ضمن كتاب » رسائل في النحو واللغة « تحقيق مصطفى
جواد ،ويوسف يعقوب مسكوني ،دار الجمهورية ،بغداد 1969 ،م .
منازل الحروف ،ضمن كتاب » رسائل في النحو واللغة « تحقيق مصطفى جواد
محمد خلف هللا ،ومحمد زغلول سالم ،دار المعارف ،مصر ،د .ت .
الشريف المرتضى » علي بن الحسين الموسوي « :
أمالي المرتضى » غرر الفوائد ودرر القالئد « تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم،
دار إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة 1373 ،ه ـ 1954م .
344
ديوان الشريف المرتضى ،تحقيق رشيد الصفار ،مراجعة مصطفى جواد ،دار
إحياء الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة 1958 ،م .
الشهاب في الشيب والشباب ،دار الرائد العربي ،بيروت 1982 ،م .
طيف الخيال ،تحقيق حسن كامل الصيرفي ،ومراجعة إبراهيم اإلبياري ،دار إحياء
الكتب العربية ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة 1381 ،هـ ـ 1962م .
الصاحب بن عباد » إسماعيل بن عباد « :
اإلقناع في العروض وتخريج القوافي ،تحقيق محمد حسن آل ياسين ،مطبعة
للعميدي ،تحقيق إبراهيم الدسوقي البساطي ،دار المعارف ،مصر. 1961 ،
عبد الجبار بن أحمد » قاضي القضاة المعتزلي « :
تنـزيه القرآن عن المطاعن ،الشركة الشرقية للنشر والتوزيع ،ودار النهضة
المختصر في أصول الدين ،ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد « تحقيق
الثقافة واإلرشاد القومي مصر 1960 ،م ـ 1965م ،واألجزاء التي أفاد منها
البحث هي :
-1الجزء الرابع » رؤية الباري « تحقيق محمد مصطفى حلمي وأبو الوفاء
التفتازاتي1965 ،م .
345
-2الجزء الخامس » الفرق غير اإلسالمية « تحقيق محمود محمد
الخضيري1962 ،م .
-3الجزء السادس » التعديل والتجوير« تحقيق أحمد فؤاد األهواني1962 ،م
-4الجزء السابع » خلق القرآن « تحقيق إبراهيم اإلبياري 1961 ،م .
-5الجزء الثامن » المخلوق « تحقيق توفيق الطويل ،وسعيد زايد د .ت .
-6الجزء التاسع » التوليد « تحقيق توفيق الطويل ،وسعيد زايد 1964 ،م
-7الجزء الحادي عشر » التكليف « تحقيق محمد علي النجار ،وعبد الحليم
النجار. 1965 ،
-8الجزء الثاني عشر » النظر والمعارف « تحقيق إبراهيم مدكور1962 ،م
.
-9الجزء الثالث عشر » اللطف « تحقيق أبو العال عفيفي 1962 ،م .
-10الجزء الرابع عشر » األصلح ـ استحقاق الذم ـ التوبة « تحقيق
مصطفى السقا 1965 ،م .
-11الجزء الخامس عشر » التنبؤات والمعجزات « تحقيق محمود
الخضيري ،ومحمود قاسم 1965 ،م .
-12الجزء السادس عشر » ،إعجاز القرآن « تحقيق أمين الخولي،
1960م .
العسكري » أبو أحمد الحسن بن عبد هللا «:
في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم ،ضمن مجموعة من الرسائل تحت عنوان
تحقيق رودلف زلهايم ،دار فرانتس شتاينر ،فيسبادن 1384 ،هـ ـ 1964م
موسيقى الشعر ،مكتبة االنجلو المصرية ،القاهرة 1965 ،م .
م.
أدونيس »علي أحمد سعيد « :
الثابت والمتحول » بحث في االتباع واإلبداع عند العرب « دار العودة ،بيروت،
1983م .
صدمة الحداثة ،دار العودة ،بيروت. 1983 ،
347
األصمعي » عبد الملك بن قريب « :
فحولة الشعراء ،تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ،وطه أحمد الزيني ،المطبعة
اإلسكندرية ،د .ت ،والجزء الثاني ،مطبعة الرابطة ،د .م 1951 ،م .
إلفت كمال الروبي :
نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد ،دار التنوير
1960م .
تامر سلوم :
نظرية اللغة والجمال في النقد العربي ،دار الحوار ،الالذقية ـ سوريا 1983 ،م
1981
جابر عصفور :
تعارضات الحداثة ،مجلة فصول ،العدد األول ،أكتوبر1980 ،م
الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة،
1974م
348
مفهوم الشعر ،دراسة في التراث النقدي ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة،
1978م .
الجاحظ » أبو عثمان عمرو بن بحر « :
البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة 1968 ،م .
الحيوان ،تحقيق عبد السالم هارون ،مصطفى البابي الحلبي ،القاهرة 1965 ،م .
1980
حسين نصار :
القافية في العروض واألدب ،دار المعارف ،مصر 1980 ،م .
349
زكريا ابراهيم :
فلسفة الفن في الفكر المعاصر ،مكتبة مصر ،القاهرة 1966 ،م .
شكري ّ
عياد :
موسيقى الشعر العربي ،دار المعرفة ،القاهرة 1968 ،م .
الصولي » أبو بكر محمد بن يحيى « :
أخبار أبي تمام ،تحقيق خليل عساكر ،ومحمد عبدة عزام ،ونظير اإلسالم
350
طه حسين :
البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر ،مقدمة كتاب »نقد النثر « المنسوب
خطأ لقدامة بن جعفر ،تحقيق طه حسين ،وعبد الحميد العبادي ،مطبعة دار
الكتب المصرية ،القاهرة 1351 ،هـ ـ 1933م .
ابن طباطبا »محمد بن أحمد « :
عيار الشعر ،تحقيق محمد زغلول سالم ،منشأة المعارف ـ اإلسكندرية1984 ،م
1980م
عبد الفتاح رياض :
التكوين في الفنون التشكيلية ،دار النهضة العربية ،القاهرة 1973 ،م .
في الشعر اإلسالمي واألموي ،دار النهضة العربية ،بيروت 1976 ،م .
مقدمة في نظرية األدب ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة 1973 ،م .
351
عبدة عبد العزيز قلقيلة :
النقد األدبي عند القاضي الجرجاني ،مكتبة االنجلو المصرية ،القاهرة 1976 ،م
األسس الجمالية في النقد العربي ،عرض وتفسير ومقارنة ،دار الفكر العربي،
مجلة الثقافة العربية ،طرابلس ،العدد الثامن ،أغسطس 1976 ،م .
فؤاد زكريا :
مع الموسيقى ،الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة. 1971 ،
352
كريم الوائلي :
قيمة الشعر عند المعتزلة ،المجلة العربية للعلوم اإلنسانية ،الكويت ،العدد 35
سنة 1989م
المواقف النقدية بين الذات والموضوع ،مكتبة العربي ،القاهرة 1986 ،م
الشعر الجاهلي ،قضاياه وظواهره الفنية ،الدار العالمية ،القاهرة. 1997 ،
الوحدة الفنية في سورة العاديات ،مجلة الثقافة العربية ،سنة 1976م .
353
محمد عمارة :
المعتزلة ومشكلة الحرية اإلنسانية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت،
1972م .
محمد غنيمي هالل :
النقد األدبي الحديث ،دار العودة ،بيروت 1986 ،م .
1963م .
النقد المنهجي عند العرب ،مكتبة النهضة المصرية ،لقاهرة 1948 ،م .
في الميزان الجديد ،دار النهضة ،مصر 1973 ،م .
نظرية المعنى في النقد العربي ،دار األندلس ،بيروت 1401 ،هـ ـ 1981م .
مهدي المخزومي ،في النحو العربي ،قواعد وتطبيق ،دار الرائد للنشر والتوزيع,
.1986
نازك المالئكة :
قضايا الشعر المعاصر ،دار العلم للماليين ،بيروت 1983 ،م .
354
نصر حامد أبو زيد :
االتجاه العقلي في التفسير ،دراسة في قضية ،المجاز في القرآن عند المعتزلة،
شكري عياد ،دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ،القاهرة 1967 ،م .
اولمان » ستيفن « :
دور الكلمة في اللغة ،ترجمة كمال بشر ،مكتبة الشباب القاهرة 1975 ،م
1955م .
درو » اليزابيث « :
الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ،،ترجمة محمد ابراهيم الشوش ،مكتبة منيمنة ،بيروت،
1961م
355
ديتشس » ديفيد « :
مناهج النقد األدبي بين النظرية والتطبيق ،ترجمة محمد يوسف نجم ،دار صادر،
. م1972 ، دمشق،واآلداب
Bloomfield , Leonard :
Language , Henry Holt & company , new York , 1933 .
Cuddon , John A . :
a dictionary of Literary Terms , Doubleday , new York ,
1977 .
Forster , Norman &Others :
Literary Scholarship , Its Aim And Methods , The University
Levin ,Samuel R :.
357
The Semantics Of Metaphor , The Johns Hopkins University
Press ,1977 .
Lewis , c . Day :
The Poetic Image , Jonathan Cape , London , 1965 .
Perrine , Laurence :
Sound And Sense , An Introduction To poetry , Harcourt ,
London ,1957 .
358
الفهرست
المقدمة 5 ...........................................................................
التمهيد 13 ................................................................
القسم األول :وصف مصادر البحث وتقويم مراجعه 15......................
أوال :وصف المصادر 15 ..................................................
ثانيا :تقويم المراجع 40....................................................
القسم الثاني :األصول الفكرية للمعتزلة 53..................................
1ـ المعرفـة العقلية 53................................................................
2ـ أركان الفكر االعتزالي 55.........................................................
3ـ حرية اإلنسان 58...............................................................
4ـ نشأة اللغة ـ اللغة والكالم 61.....................................................
الفصل األول
المقياس اللغوي
69
جماليات النظام الصوتي71...........................................................
1ـ الــوحدات الصـوتيـة 71...........................................................
2ـ الــقوانين الص ــوتيـة وجـمـال ـيـاتـه ـ ــا 79...............................................
ــ جماليات النظام الصرفي 95.........................................................
1ـ النـظام الصرفي واألصول العقلية 95...............................................
2ـ أثر السياق في الكشف عن الجماليات الصرفية 99................................
3ـ ج ــمالــيات الصيغ الصرفية 102...................................................
359
جماليات النظام النحوي 109.........................................................
1ـ الكالم والتركيب109...............................................................
2ـ دور اإلع ـ ـراب فـ ــي ال ـ ـ ــداللة 111.................................................
3ـ ت ـ ـ ـ ـضـ ـ ــام الـ ـكـ ـلـ ـمـ ـ ــات114........................................................
4ـ معيارية الدرس النحوي وجمالياته 118............................................
5ـ جماليات التقديم والتأخير والحذف والعطف 120..................................
6ـ معضالت النظام النحوي 129...................................................
الفصل الثاني
المقياس البالغي
133
األداء النمطي واألداء الفني 135.....................................................
1ـ مستويات األداء اللغوي 135.....................................................
2ـ العالقة بين األداءين …139.....................................................
3ـ أنماط األداءين144..............................................................
اإلبانة العقلي، الدليل ، وباطنها اآلية ظاهر والمتشابه، المحكم
والغموض151........................................................................
المجاز وظائف والداللة، التركيب ثنائية والنقل، العدول المجــــاز:
ومعانيه 158.........................................................................
التشــبيـه 167........................................................................
1ـ طبيعة التشبيه 167..............................................................
2ـ وظيفة التشبيه 171..............................................................
الفصل الرابع
المقياس الجمالي
259
القيمة الشعرية 261................................................................
1ـ قيمة الشعر بين الفن والدين واألخالق 261.......................................
2ـ أثر التطور في تحديد القيمة الشعرية 264........................................
3ـ مكونات القيمة الشعرية في القرن الرابع الهجري 275..............................
4ـ ابن طباطبا بناء القصيدة والفعل اإلنساني 281....................................
5ـ مكونات القيمة الشعرية عند المعتزلة 287........................................
6ـ أنماط القيمة الشعرية عند المعتزلة 291...........................................
7ـ الحداثة وأثرها في تحديد القيمة الشعرية 294.....................................
المقومات ، بالواقع األعلى المثل عالقة الشعر. و األعلى المثل
الحسية للمثل األعلى303.............................................................
الخصائص ، الشكلية الخصائص . الشعر ماهية
النوعي313..........................................................................
مهمة الشعر 325....................................................................
1ـ الوظيفة التوصيلية 325..........................................................
2ـ الوظيفة التزينية 332............................................................
الخاتمة 337...................................................................
المصادر والمراجع 341..............................................................
الفهرست 359......................................................................
362