You are on page 1of 361

2

‫الخطاب النقدي عند المعتزلة‬

‫األستاذ الدكتور‬
‫كريم الوائلي‬

‫‪3‬‬
‫‪815,9‬‬
‫و‪ 298‬الوائلي ‪ ،‬كريم‬
‫الخطاب النقدي عند المعتزلة ‪ /‬كريم الوائلي ‪_ .‬‬
‫بغداد‪ :‬مكتب زاكي ‪2021،‬‬
‫‪ 362‬ص ؛ ‪ 24 x 17‬سم‬
‫‪ .‬أ ‪ .‬العنوان‬ ‫‪ -1‬الخطاب العربي – نقد ‪2‬ــ المعتزلة‬

‫م‪ .‬و‪.‬‬
‫‪2021/3460‬‬

‫المكتبة الوطنية ‪ /‬الفهرسة أثناء النشر‬

‫رقم اإليداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (‪ )3460‬لسنة ‪2021‬‬

‫العنوان ‪ :‬الخطاب النقدي عند المعتزلة ‪.‬‬


‫المؤلف ‪ :‬األستاذ الدكتور كريم الوائلي ‪.‬‬
‫الغالف ‪ :‬تصميم وخطوط األستاذ الدكتور روضان بهية ‪.‬‬
‫حقوق النشر محفوظة للمؤلف ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المقدمة‬

‫‪5‬‬
6
‫ليست القراءة فعال فيزيولوجيا يتأتى بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب‬
‫ما تقتضيه األنظمة اللغوية ألي لغة‪ ،‬وإنما القراءة‪ ،‬سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا‬
‫يقع خارج الذات اإلنسانية‪ ،‬أو نصا بوصفه تشكيال لغويا‪ ،‬تعني ‪ :‬الفهم‪ ،‬ومن ثم فإنها‬
‫تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة نظرته إلى‬
‫العالم أو النص‪ ،‬والزاوية التي يتم الصدور عنها‪.‬‬
‫إن القراءة في ضوء هذا الفهم مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم‬
‫والنص‪ ،‬ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء ‪،‬فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجود‪ ،‬ويصبح‬
‫بعد القراءة موجودا آخر‪ ،‬ألن القراءة ليست نقال للمقروء‪ ،‬أو إحضا ار له‪ ،‬وإنما يضفي‬
‫القارئ على المقروء رؤيته‪ ،‬وذاته‪ ،‬وخصوصيته‪ ،‬ويتولد من العالقة بينهما مركب جديد‪،‬‬
‫ليس هو المقروء تماما‪ ،‬وليس هو القارئ بما هو عليه‪ ،‬وإنما هو مركب منهما معا بكيفية‬
‫خاصة‪ ،‬ولذلك تتفاوت القراءات الختالف القراء‪ ،‬وكأن المقروء ثابت قبل القراءة‪ ،‬وتتغير‬
‫صورته ومعانيه ودالالته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته ‪.‬‬
‫ويمكن القول تجاو از أن النص قبل القراءة يعرف استق ار ار نسبيا في داللته ومعانيه‪،‬‬
‫ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم‪ ،‬إذ ال وجود حقيقي للنص إال في أثناء قراءته‪ ،‬نعم‬
‫هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات اإلنسانية ـ متمثال في الكتب ـ التي‬
‫أنتجته‪ ،‬أو تقرأه ‪،‬ولكنه وجود هامد‪ ،‬ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته ‪.‬‬
‫وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص‬
‫دالالتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خاللها‪ ،‬وهناك قراءة غير ممكنة‪ ،‬لعدم احتمال‬
‫النص داللتها‪ ،‬وبخاصة القراءة االسقاطية ‪.‬‬
‫إن قراءة النص بمعنى فهمه تتضمن األبعاد اآلتية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الفهم المباشر دون حاجة إلى تفسير أو تأويل ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التفسير‪ ،‬إذ حين يستعصي الفهم المباشر نشأت الحاجة إلى االنتقال إلى فهم آخر‬
‫يقتضيه السياق وقرائن اللغة‪ ،‬فإن كلمة الوحي حين ترد دون سياق أو قرينة لغوية لها‬
‫داللة تعني الوحي الذي يتنزل من السماء على األنبياء‪ ،‬متمثال في جبريل‪ ،‬عليه السالم‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫َن اتَّ ِخِذي ِم ْن‬
‫الن ْح ِل أ ْ‬
‫ُّك ِإَلى َّ‬
‫ومن ثم تختلف عن معناها في قوله تعالى ‪َ « :‬وأ َْو َحى َرب َ‬
‫اْل ِجب ِ‬
‫ال ُبُيوتًا و ِم ْن َّ‬
‫الش َج ِر َو ِم َّما َي ْع ِرُشو َن »‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ 3‬ـ التأويل ‪ :‬وهو مرحلة متقدمة في فهم النص‪ ،‬تعني إخراج اللفظ من معناه الحقيقي‬
‫الذي يدل عليه الفهم المباشر‪ ،‬او سياقاته‪ ،‬إلى معناه المجازي ‪ .‬ولذلك فإن التفسير بيان‬
‫وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن اللفظ ‪ ...‬فالتأويل‬
‫خاص والتفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويال‪.‬‬
‫وتتركب عملية القراءة من ثالثة مكونات ‪ :‬القارئ‪ ،‬والمقروء‪ ،‬وناتج القراءة‪ ،‬وقد يوحي‬
‫ترتيب هذه األبعاد أوالية القارئ‪ ،‬بمعنى فاعليته‪ ،‬وانفعالية النص‪, ،‬بحيث تكون القراءة‬
‫مجرد نتيجة لعملية ميكانيكية ـ تتماثل فيها النتائج والمقدمات‪ ،‬وليس هذا صحيحا في‬
‫الواقع‪ ،‬ألن هناك جدال بين القارئ والمقروء‪ ،‬يتولد من تفاعلهما المحتدم وتصارعهما بفعل‬
‫العالقات المتشابكة والمعقدة والمتداخلة‪ ،‬ناتج القراءة‪ ،‬ويشتمل كل من عنصري عملية‬
‫القراءة « القارئ ‪ /‬المقروء » على خصائص تميزه‪ ،‬وإن إغفال هذه الخصوصية وأدراك‬
‫أهميتها يقود بالضرورة الى فهم سلبي لعملية القراءة والنتائج المتولدة منها ‪ ,‬بمعنى أن‬
‫إغفال هذه الخصوصية أو التهوين من قيمتها وأهميتها‪ ،‬يعني هيمنة أحد طرفي عملية‬
‫القراءة‪ ،‬فإما أن تكون الذات فاعلة إزاء موضوعها‪ ،‬بحيث تلغي المقروء‪ ،‬أو تقرأه خارج‬
‫دالالته وسياقاته‪ ،‬أو أن يهيمن المقروء على القارئ‪ ،‬فيتحول الى مجرد ناقل‪ ،‬وكال‬
‫األمرين يعني ناتجا سلبيا‪ ،‬يلغي أحد طرفي المعادلة‪ ،‬ويقدم قراءة أقل ما يقال عنها أنها‬
‫قراءة سلبية ‪.‬‬
‫وقد تكون القراءة السلبية ذاتية تتخذ من التراث وسيلة دفاعية يؤكد فيها القارئ ذاته‪ ،‬بحيث‬
‫يستعيد المعايير التراثية ويضخم من جوانبها اإليجابية‪ ،‬ويحاول إسقاطها على الحاضر‬
‫والمستقبل‪ ،‬والهدف من ذلك االحتماء بالتراث في مواجهة تيارات معاصرة‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من سلبية هذه القراءة فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تسهم في بداية لقراءة نقدية واعية‪،‬‬
‫ألنها تستبعد الجوانب السلبية في عصور االنحطاط‪ ،‬واألهم من هذا أنها تحذر من‬
‫االنسياق وراء القراءة الشكلية والسقوط في اإلنجازات المستوردة‪ ،‬غير أن التوقف عند هذه‬
‫الغاية لن يحقق جديدا‪ ،‬ألن التراث يمارس سلطته على الحاضر والمستقبل ‪،‬وهذا ما‬
‫‪8‬‬
‫حصل فعال في القراءة اإلحيائية التي هيمنت فيها األصول القديمة بشكليتها وحرفيتها‪،‬‬
‫وأصبحت غاية مقصودة لذاتها ‪.‬‬
‫إن القراءة الفاعلة التي يتبناها هذا الكتاب تعني ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تأكيد أهمية تاريخية المقروء ‪ ،‬بمعنى أنها تنفي المعايير واألحكام المسبقة القائمة على‬
‫أساس ديني ‪ ،‬أو مذهبي ‪ ،‬ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي‬
‫واالجتماعي ‪ ،‬أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي ‪ ،‬وأن وجوده محكوم‬
‫بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية ‪ ،‬وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة‬
‫له ‪.‬‬
‫إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل ‪ ،‬وجزء من منظومة ‪ ،‬وينبغي فهمه في إطار‬
‫منظومته ‪ ،‬وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخال لطبيعته وماهيته ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي ال يعني بالضرورة أنه‬
‫منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دالالته ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نفي القراءة االنطباعية االنفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على األشياء وتقيم قراءة‬
‫تتأسس على عقالنية منهجية تؤكد أهمية النظر ‪ ،‬وتعلي من شأن التحليل والتعليل ‪.‬‬
‫إن هذا النمط من الدراسة يوازن في الوعي بين إنجازات التراث النقدي وإمكاناته‬
‫ّ‬
‫الفكرية والفنية وبين الوعي بالحاضر الذي يرفدنا برؤى وأدوات وتقنيات إجرائية‪ ،‬وتوّلد من‬
‫تالحم الوعيين ـ الماضي والحاضر ـ تجادل متفاعل يجعل الدارس متبص اًر بمعضالت‬
‫الحاضر النقدية ونظائرها في التراث‪ ،‬وهذا من شأنه أن يدفع إلى تحسس هويتنا التي‬
‫أخذت تترنح بين التغريب والتجهيل‪ ،‬كما أنه يبعث على إقامة حوار مستمر مثمر ال‬
‫قطيعة فيه بين ماضينا وحاضرنا‪ ،‬ومن هنا تكتسب العالقة الجدلية الفاعلة بالتراث أهميتها‬
‫وحيويتها‪ ،‬وتتأكد جدواها وفائدتها ‪.‬‬
‫إن تركيز البحث على دراسة المعتزلة يعني الكشف عن تصورات هذه المدرسة‬ ‫ّ‬
‫الفكرية المتميزة في أثناء معالجتها للقضية النقدية من زواياها المختلفة‪ ،‬كما أنه يساعد‬
‫على اإلحاطة الشاملة لوحدة تصور متكامل للمعضالت النقدية دون التشتت بين اآلراء‬
‫المختلفة والتيارات المتباينة‪ ،‬كما أنه يكشف من ازوية أخرى عن مقدار انسجام أتباع هذه‬
‫‪9‬‬
‫المدرسة أو افتراقهم عن األصول الفكرية والعقائدية التي يصدرون عنها‪ ،‬ومقدار التزامهم‬
‫بالتحليل العقلي العتبارهم العقل أداتهم الجوهرية المتميزة‪.‬‬
‫واتجه البحث إلى دراسة المقياس النقدي الذي يستخدمه الناقد في تفسير النص‬
‫األدبي وتحليله وتقويمه‪ ،‬ويسعى البحث ـ من هذه الناحية ـ إلى الكشف عن آثار الفكر‬
‫االعتزالي في تحديد مكونات المقياس‪ ،‬وتحديد دوره في التفاعل مع النص الشعري‪،‬‬
‫والكيفية التي يسهم فيها المقياس في تمكين الناقد من درس النص األدبي متجاوباً مع‬
‫تفكيره من ناحية‪ ،‬ومستغالً أدواته النقدية من ناحية ثانية ‪.‬‬
‫إن المقياس النقدي ال ينفصل عن الفكر الذي يصدر عنه‪ ،‬وال يبتعد عن طبيعة‬‫ّ‬
‫المشكالت التي أفرزها الواقع بل هو خاضع لهما بدرجات متفاوتة‪ ،‬بحسب نوعية المقياس‬
‫ودوره في معالجة النص األدبي‪ ،‬وبحسب إجابته عن المعضالت التي يشتمل عليها‬
‫أن المقياس النقدي ليس منفصالً عن العناصر الجوهرية المكونة للتصور‬
‫الواقع‪ ،‬كما ّ‬
‫النظري النقدي إن لم يمثل الجوهر الذي يرتكز عليه هذا التصور‪ ،‬ولذا ّ‬
‫فإن دراسة‬
‫المقياس النقدي تمثل تحاو اًر وتفاعالً بين الفكر وأدوات التحليل من ناحية‪ ،‬وبين الفكر‬
‫والتصورات النقدية من ناحية ثانية‪ ،‬كما أنه يمثل تأسيساً لـ »نظرية للشعر« في التراث‬
‫النقدي من ناحية ثالثة ‪.‬‬
‫ويتأسس هذا البحث على تمهيد وأربعة فصول‪ ،‬وخصصت التمهيد للعناية‬
‫بمحورين ‪ :‬يعنى أولهما ‪ :‬بوصف مصادر البحث وتقويم مراجعه‪ ،‬وتتركز فيه العناية‪،‬‬
‫بوصف مصادر البحث من جهتي المضمون والبيبلوغرافيا من ناحية‪ ،‬وتقويم الدراسات‬
‫التي تعرضت إلى موضوع بحثنا على نحو من األنحاء من ناحية ثانية‪ ،‬ويعنى المحور‬
‫الثاني ‪ :‬باألصول الفكرية للمعتزلة التي يتجلى من خاللها موقفهم من هللا والعالم‬
‫واإلنسان‪.‬‬
‫ويتخصص الفصل األول بـ» المقياس اللغوي « وهو يهدف إلى الكشف عن‬
‫جماليات األنظمة اللغوية ـ صوتية‪ ،‬وصرفية‪ ،‬ونحوية ـ ويركز على التمايز بين معيارية‬
‫هذه األنظمة ومدى توظيفها لتأدية دالالت جمالية‪ ،‬ويحاول الكشف عن القوانين التي‬
‫تتحكم في هذه األنظمة ومدى كشفها عن جماليات يسعى الناقد إلى تأصيلها ‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫أما الفصل الثاني فيعنى بـ »المقياس البالغي « الذي يعنى أساساً بالتمايز بين‬
‫األداء النمطي ـ العادي ـ واألداء الفني ـ األدبي ـ من حيث التشكيل‪ ،‬ومن حيث التغير‬
‫الوظيفي‪ ،‬ويعنى أيضاً باألنماط البالغية التي يعتمدها هذان المستويان من األداء‪ ،‬مما‬
‫اقتضى تتبعاً لموضوعات عديدة ‪ :‬كالمحكم والمتشابه‪ ،‬والمجاز‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬واالستعارة‪،‬‬
‫ونحوها ‪.‬‬
‫ويتخصص الفصل الثالث بـ» المقياس النقدي « الذي يعنى بأربعة مقومات‬
‫جوهرية في النظرية النقدية‪ ،‬أولها ‪ :‬لغة الشعر من حيث تشكيل هذه اللغة وتمايزها عن‬
‫األنماط اللغوية األخرى‪ ،‬وثانيها ‪ :‬اإليقاع‪ ،‬ومقدار ما يؤديه من وظيفة من جهتي التشكيل‬
‫من ناحية‪ ،‬والتأثير بالمتلقي من ناحية ثانية‪ ،‬وثالثها ‪ :‬الصورة الشعرية‪ ،‬من حيث وظيفتها‬
‫وأنماطها وكيفية تشكيلها‪ ،‬ورابعها ‪ :‬بنية القصيدة في ضوء تركيب أبياتها‪ ،‬وتتالي وحداتها‬
‫المختلفة ‪.‬‬
‫ويعنى الفصل الرابع بـ» المقياس الجمالي « إذ يدرس » قيمة « الشعر من‬
‫حيث عالقتها بالحسن والقبح العقليين‪ ،‬ومن حيث مكوناتها الخارجية والتشكيلية ‪ ،‬كما‬
‫يدرس »المثل األعلى « بوصفه معيا اًر جمالياً وعالقته بالصورة الذهنية من جهة‪ ،‬وبالواقع‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬وكيفية تأدية دوره في تشكيل القصيدة‪،‬كما يعنى هذا الفصل بماهية الشعر‬
‫من حيث المكونات الشكلية والخصائص النوعية‪ ،‬وتوقف أخي اًر عند مهمة الشعر‪ ،‬إن‬
‫كانت توصيلية أو تزيينية أو نحوهما ‪.‬‬
‫إن هذا البحث قد تتبع مقاييس نقد الشعر من أبسط مستوياتها إلى أكثرها شموالً‪،‬‬
‫ّ‬
‫بمعنى أنه تتبع المقاييس ابتداء من عنايتها الجزئية بالوحدات الصوتية منفصلة أو‬
‫ممزوجة بغيرها‪ ،‬ومرو اًر بالعناية باألشكال البالغية المتعددة‪ ،‬فضالً عن تتبعه لغة الشعر‬
‫واإليقاع والصورة وبنية القصيدة‪ ،‬وانتهاء بتتبع األبعاد القيمية للنص الشعري‪ ،‬وماهية‬
‫أن البحث قد أحاط في الوقت نفسه بمقومات‬
‫الشعر وتأديته للوظائف المختلفة‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫»نظرية الشعر « من زوايا مختلفة ‪.‬‬
‫أن توزيع مقاييس نقد الشعر بأنماطها المختلفة ـ‬
‫وينبغي أن أؤكد قضية مفادها ّ‬
‫لغوية‪ ،‬وبالغية‪ ،‬ونقدية‪ ،‬وجمالية ـ إنما هو تقسيم فرضته طبيعة البحث‪ ،‬ألن هذه‬
‫‪11‬‬
‫المقاييس ليست مستقلة ـ في الحقيقة ـ عن بعضها‪ ،‬فهي تتفاعل وتتقاطع وتشترك في‬
‫بعض المكونات والخصائص ‪ ،‬فالمقياس اللغوي ـ مثال ـ ليس مستقال عن أداء أبعاد‬
‫أن المقياس البالغي ليس منفصالً عن األنظمة اللغوية‪ ،‬فالفصل ـ في هذا‬
‫جمالية‪ ،‬كما ّ‬
‫السياق ـ متعمد فرضته طبيعة البحث ‪.‬‬

‫أ ‪ .‬د ‪ .‬كريم عبيد هليل الوائلي‬ ‫بغداد‬

‫‪12‬‬
‫التمهيد‬

‫وصف مصادر البحث وتقويم مراجعه‬ ‫‪‬‬

‫األصول الفكرية للمعتزلة‬ ‫‪‬‬

‫‪13‬‬
14
‫القسم األول‬
‫وصف مصادر البحث وتقويم مراجعه‬

‫)‪ (1‬وصف المصادر ‪:‬‬

‫إن إسهامات المعتزلة الفكرية في القرن الرابع الهجري متعددة ومتنوعة‪ ،‬ولسنا‬
‫ّ‬
‫بصدد عرض تفصيلي لكل مؤلفاتهم إال بمقدار ما يتصل بموضوعنا‪ ،‬وهو مدى كشفها‬
‫فإن هذا القسم من التمهيد ال يشير إلى المؤلفات التي ال‬
‫عن تصورات نقدية‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أن البحث قد يكون أفاد منها إفادة معينة في‬
‫تنطوي على تصور نقدي ما‪ ،‬على الرغم من ّ‬
‫مجال آخر‪ ،‬واقتضى هذا ذكرها في فهرس مصادر البحث ومراجعه‪ ،‬وستتركز العناية ـ‬
‫هنا ـ بالمصادر التي اشتملت على تصورات نقدية‪ ،‬وقد راعيت في تتبع هذه المصادر‬
‫الترتيب الزمني بحسب وفيات مؤلفيها ‪.‬‬
‫ونلتقي هنا في مطلع هذا القرن بأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى سنة‬
‫‪ 322‬هـ في كتابه » الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية« وهو بتحقيق ‪ :‬حسين بن‬
‫فيض هللا الهمداني‪ ،‬وقد طبع الجزء األول من هذا الكتاب طبعتين ‪ :‬األولى سنة ‪ 1956‬م‬
‫والثانية ‪ :‬سنة ‪ 1957‬م‪ ،‬وهي التي اعتمدها البحث‪ ،‬وكلتا الطبعتين عنيت بنشرهما دار‬
‫الكتاب العربي بمصر‪ ،‬أما الجزء الثاني فقد نشرته مطبعة الرسالة في القاهرة سنة‬
‫‪1958‬م‪.‬‬
‫ويعنى كتاب » الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية « بجمع األلفاظ العربية‬
‫ُ‬
‫التي تغيرت داللتها عما كانت عليه في الجاهلية‪ ،‬فهو من هذه الناحية ُيعنى بالتطور‬
‫اللغوي لداللة الكلمة ويحتويها بلون من التحديد والتعريف‪ ،‬وهو ال يتوقف عند ذكر مستوى‬

‫داللتها وتطوره‪ ،‬بل يستشهد بالقرآن الكريم والحديث النبوي وأشعار العرب‪ُ ،‬‬
‫ويعنى الكتاب‬
‫وتحدث بشكل عام عن العروض‬‫ّ‬ ‫عناية بالغة بمعيارية بعض العلوم كالنحو والعروض‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫والدوائر العروضية واألوزان الشعرية‪ ،‬وتتجلى القيمة الحقيقية للكتاب ـ إضافة إلى عنايته‬
‫بالتطور الداللي لأللفاظ العربية ـ في تحديده لماهية الشعر‪ ،‬ولعل أهم ما في هذا التحديد‬
‫اقتران الشعر بلون من المعرفة تَرقى في الجاهلية إلى منـزلة األنبياء‪ ،‬إضافة إلى عناية‬
‫الكتاب بمهمة الشعر ودوره في التأثير في المتلقي واالحتجاج بالشعر في تفسير القرآن‬
‫الكريم ‪ ،‬ويتركز حديثه هذا في الجزء األول‪ ،‬أما الجزء الثاني فقد شغل فيه المؤلف بأسماء‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وبتحديد كلمات إسالمية أخرى ‪ :‬كالكرسي‪ ،‬والصراط‪ ،‬والثواب‪،‬‬
‫والقيامة‪ ،‬ونحوها ‪.‬‬
‫أما أبو أحمد الحسن بن عبد هللا بن سعيد العسكري المتوفى سنة ‪ 382‬هـ فله‬
‫رسالة عنوانها » في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم « والرسالة غير محققة‪ ،‬وقد‬
‫نشرت ضمن مجموعة من الرسائل تحت عنوان»التحفة البهية والطرفة الشهية « وقد‬
‫نشرتها مطبعة الجوائب في القسطنطينية سنة‪ 1302‬هـ‪ ،‬ورسالتنا هذه هي الرسالة السادسة‬
‫عشرة‪ ،‬وتقع في الصفحات من ثالث عشرة ومائتين إلى إحدى وعشرين ومائتين‪ ،‬وقد‬
‫أخطأ الناشر إذ نسبها في الفهارس إلى أبي هالل العسكري‪ ،‬ولكنه نسبها إلى صاحبها‬
‫أن ذكر عنوانها‪ ،‬والثابت ّأنها ألبي أحمد العسكري‪ ،1‬وعلى الرغم من قصر الرسالة‬ ‫بعد ْ‬
‫فإن لها قيمة نقدية لما تتميز به من تحديد لماهية الشعر يتجاوز التحديد الشكلي النتظام‬
‫ّ‬
‫الكلمات الخارجي إلى خصائص تتصل بالدالالت واإليقاع والصياغة‪ ،‬كما أنها تنطوي‬
‫على تمايز بين األداء النمطي ـ العادي ـ واألداء الفني ـ الشعري ـ في أثناء تعرض أبي‬
‫أحمد العسكري للغة الشعر‪ ،‬والرسالة في جوهرها تحاول التمييز بين بالغة العرب وبالغة‬
‫العجم من خالل عرض آراء علماء البالغة‪ ،‬إضافة إلى تحدثها عن فنون البالغة‬
‫ِ‬
‫يكتف المؤلف بهذا بل أسهب في تناول الروايات التي‬ ‫كالتشبيه واالستعارة ونحوهما‪ ،‬ولم‬
‫تتحدث عن آراء علماء البالغة عرباً وأعاجم‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ في صحة نسبة هذه الرسالة ألبي أحمد العسكري‪ ،‬ينظر ‪ :‬بدوي طبانة‪ ،‬أبو هالل العسكري ومقاييسه‬
‫البالغية والنقدية ‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1960 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 40‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫وألبي أحمد العسكري كتاب معروف هو » المصون في األدب « وقد نشرته‬
‫دائرة المطبوعات والنشر في الكويت سنة ‪ 1960‬م بتحقيق ‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬وتتجلى‬
‫عناية المؤلف بهذا الكتاب في موضوعات عديدة يمكن تصنيفها على النحو اآلتي ‪:‬‬
‫التشبيه‪ ،‬وتاريخ العربية‪ ،‬ومختارات من الشعر والنثر‪ ،‬والكتاب كله مبني على أساس ذكر‬
‫أخبار تعتمد على الرواية‪ ،‬وهي أخبار يستقل بعضها‪ ،‬ويجمعها باب يحتويها‪ ،‬وال يهمنا‬
‫كثي اًر تاريخ العربية الذي ُعني فيه المؤلف بنشأة النحو وأضرابه من الموضوعات‪ ،‬كما ال‬
‫يهمنا كثي اًر التوقف أمام مختاراته من الشعر والنثر‪ ،‬قدر عنايتنا بنقد الشعر الذي يعتمد‬
‫فيه على الرواية‪ ،‬وينقل فيه آراء نقدية لمن سبقه من النقاد‪ ،‬وتتجلى قيمة الكتاب بعناية‬
‫المؤلف البالغة بالتشبيه من حيث ‪ :‬أنواعه‪ ،‬وأمثلته‪ ،‬وجيده‪ ،‬لدى القدامى والمحدثين ‪.‬‬
‫ولقد ترك علي بن عيسى الرماني المتوفى سنة ‪ 384‬هـ ـ وقيل سنة ‪ 386‬هـ ـ‬
‫بصمات واضحة على التراث النقدي والبالغي‪ ،‬وتعد رسالته »النكت في إعجاز القرآن «‬
‫إن هذه الرسالة نشرها الدكتور عبد العليم في الهند‬
‫ذات قيمة نقدية وتاريخية مهمة ‪ ،‬وقيل ّ‬
‫عام ‪ 1934‬م تحت عنوان »كتاب النكت في مجاز القرآن « ‪ 1‬وقد نشرتها دار المعارف‬
‫بمصر دون تاريخ ضمن » ثالث رسائل في إعجاز القرآن« بتحقيق ‪ :‬محمد خلف هللا‪،‬‬
‫ومحمد زغلول سالم‪ ،‬وتقع رسالة » النكت في إعجاز القرآن « في الصفحات من تسع‬
‫وستين إلى أربع ومائة‪ ،‬وقد اعتمد البحث هذه الطبعة ‪ ،‬وتعد هذه الرسالة الصغيرة ذات‬
‫تأثير على التراث النقدي والبالغي لما تركته من بصمات واضحة على الالحقين سواء‬
‫أكان في الحدود البالغية والنقدية أم في األمثلة التي استشهد بها ‪ ،2‬وتتميز هذه الرسالة‬
‫بقيمتها النقدية التي تتعدد فيها عناية الرماني ابتداء من المستويات الصوتية واإليقاعية في‬
‫تالؤم الحروف في التأليف‪ ،‬والفرق بين القافية في الشعر والفاصلة في القرآن‪ ،‬إلى عنايته‬

‫‪ 1‬ـ ينظر ‪ :‬كارل بروكلمان‪ ،‬تاريخ األدب العربي » الجزء الثاني « ترجمة عبد الحليم النجار‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬
‫مصر‪ 1974 ،‬م ‪. 189/2 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ ينظر » ثالث رسائل في إعجاز القرآن « تحقيق محمد خلف هللا‪ ،‬ومحمد زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬د ‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪ 150‬ـ ‪. 180‬‬
‫‪17‬‬
‫بالجناس في مستوياته المختلفة ‪ ،‬وتُعنى هذه الرسالة أيضا بتمايز مستويات األداء النمطي‬
‫والفني ‪ :‬من جهة اإلطناب‪ ،‬واإليجاز ببعديه ‪ :‬الحذف والقصر‪ ،‬ووظائفها وتحديد‬
‫ماهياتها‪ ،‬وكذلك التشبيه واالستعارة وتحديد ماهياتهما ووظائفهما‪ ،‬إضافة إلى عناية‬
‫المؤلف بالمبالغة والبيان‪ ،‬ويضرب الرماني لهذا كله أمثلة من اآليات القرآنية الكريمة‪،‬‬
‫إضافة إلى عنايته بأمثلة شعرية‪ ،‬وهو أمر نادر ‪ ،‬والرسالة على قصرها وقلة صفحاتها‬
‫ذات قيمة نقدية وبالغية‪.‬‬
‫وألبي عبد هللا محمد بن عمران بن موسى المرزباني المتوفى سنة ‪ 384‬هـ عدة‬
‫كتب أولها ‪ » :‬معجم الشعراء « وقد طبع هذا الكتاب مرتين‪ ،‬األولى بتحقيق ‪ :‬فريتس‬
‫كرنكو‪ ،‬ومعه كتاب » المؤتلف والمختلف « لآلمدي‪ ،‬ونشرته مكتبة القدسي في القاهرة‬
‫أن بحثنا اعتمد طبعة أخرى‪ ،‬وهي‬ ‫سنة ‪ 1354‬هـ‪ ،‬وقد اطلعت على هذه الطبعة‪ ،‬غير ّ‬
‫الطبعة الثانية التي قام بتحقيقها ‪ :‬عبد الستار أحمد فراج‪ ،‬وقد ُعنيت بنشرها دار إحياء‬
‫الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬في القاهرة سنة ‪ 1960‬م‪ ،‬قد أشار عبد الستار‬
‫أحمد فراج لنواقص عديدة في طبعة كرنكو ‪ ،1‬وقد ألحق فراج بطبعته فهارس نافعة ‪،‬‬
‫والكتاب مخصص لتراجم الشعراء‪ ،‬وتتركز عنايته البالغة بالشاعر‪ ،‬واستشهاده بنصوص‬
‫شعرية ولكن عنايته بالتحليل وإصدار األحكام النقدية نادرة‪ ،‬وحتى في حالة إصداره‬
‫أحكاما نقدية ـ على ندرتها ـ فيمكن تصنيفها في إطار االستجابات االنطباعية العامة‪،‬‬
‫كأن يصف شاع اًر بأنه » بارد الشعر ضعيف القول « ‪ ،2‬وما وصل إلينا من الكتاب‬
‫ناقص من أوله‪ ،‬وقد رتبه المرزباني ترتيباً هجائياً‪ ،‬فابتدأ ما وصلنا منه بمن اسمه‬
‫بأن القيمة النقدية‬
‫«عمرو» من الشعراء‪ ،‬وانتهى بحرف الياء ‪ ،‬ويمكن إجمال القول ّ‬
‫للكتاب ضئيلة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر‪ ،‬تحقيق علي محمد‬
‫البجاوي‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ، 1965 ،‬ص ‪ :‬ط ـ ك ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 386‬‬
‫‪18‬‬
‫أما كتابه المعروف بـ » الموشح « فقد تولت جمعية نشر الكتب العربية بالقاهرة‬
‫نشره في مصر سنة ‪ 1343‬هـ ‪ ،‬وقد تولت نشره المطبعة السلفية تحت عنوان «المـوشـح‬
‫في مآخـذ العلماء على الشعراء » وقد ألحقت بالكتاب فهارس نافعة‪ ،‬وقد اطلعت على هذه‬
‫الطبعة‪ ،‬غير أن بحثنا اعتمد على طبعة دار نهضة مصر التي نشرت الكتاب سنة‬
‫‪ 1965‬م في القاهرة بتحقيق ‪ :‬علي محمد البجاوي تحت عنوان » الموشح‪ ،‬مآخـذ العلماء‬
‫على الشعراء في عـدة أنـواع من صناعة الشعر «‪ ،‬وقد ألحق به محققه فهارس نافعة ‪،‬‬
‫وكتاب »الموشح« يدل عليه عنوانه‪ ،‬فهو يعنى بمآخذ العلماء على الشعراء‪ ،‬وتغلب على‬
‫الكتاب النـزعة التعليمية‪ ،‬ويمكن تقسيم الكتاب إلى تراجم للشعراء‪ ،‬والى خصائص الشعر‬
‫وعيوبه‪ ،‬ففي القسم األول يؤرخ المؤلف للشعراء بحسب أزمانهم‪ ،‬ويبدأ بشعراء الجاهلية‬
‫ويتلوهم بشعراء اإلسالم‪ ،‬ومن ثم الشعراء المحدثين‪ ،‬وتغلب على ترجمته للشعراء كثرة‬
‫نقول عن كتب نقدية ذات أثر في الحركة النقدية‪،‬‬
‫الروايات التي ينقلها‪ ،‬وتتخللها أيضاً ٌ‬
‫ويعنى المرزباني في القسم الثاني بفنون الشعر وعيوبه‪،‬‬
‫مستدالً بها على عيوب الشعر ‪ُ ،‬‬
‫إذ يتناول عيوب القافية ‪ :‬كاإلقواء‪ ،‬واإلكفاء‪ ،‬واإليطاء‪ ،‬وتغلب عليه ـ هنا ـ الرواية أيضاً‪،‬‬
‫كما يعنى بألوان أخرى من عيوب الشعر‪ ،‬وهي نقل حرفي من كتب نقدية معروفة‪ ،‬يشير‬
‫إليها المرزباني‪ ،‬ومن هذه الكتب ‪ » :‬عيار الشعر « البن طباطبا العلوي و»نقد الشعر «‬
‫إن الغاية التي يهدف‬
‫لقدامة بن جعفر‪ ،‬وهذا ما يقلل من أهمية الكتاب وقيمته في آن‪ ،‬إذ ّ‬
‫إليها المؤلف تعليمية‪ ،‬ويقل فيها التأصيل إلى حد كبير‪ ،‬ويتجلى ذلك في كثرة الرواية‬
‫وكثرة النقل من الكتب التي أشرنا إليها ‪.‬‬
‫أما كتاب » نور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة واألدباء‬
‫والشعراء والعلماء « للمرزباني‪ ،‬فقد حققه رودلف زلهايم‪ ،‬ونشرته دار فرانتس شتاينر في‬
‫ويعنى هذا الكتاب بالتراجم ويختص بها ‪ ،‬وقد رتبه‬
‫فيسبادن سنة ‪ 1384‬هـ ـ ‪ 1964‬م ـ‪ُ ،‬‬
‫مؤلفه على أساس الحواضر اإلسالمية ‪ :‬البصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬وبغداد‪ ،‬وتحدث عن أخبار‬
‫علماء البصرة ونحاتها ورواتها‪ ،‬وفعل مثل ذلك مع الكوفة وبغـداد‪ ،‬وما في الكتاب من آراء‬
‫أدبيـة نادرة جـداً‪ ،‬ال ترقـى في قيمتها لما في كتـاب »الموشح « من آراء ‪ ،‬ألن عناية‬
‫المؤلف متركزة في ذكر األخبار والروايات ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫عباد‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 385‬هـ‬
‫عباد « المعروف بالصاحب بن ّ‬ ‫ولـ » إسماعيل بن ّ‬
‫إسهامات متعددة ُيعنينا منها اثنان ‪ :‬أولهما ‪ «:‬اإلقنـاع في الـعروض وتخريج القوافي »‬
‫والكتاب بتحقيق ‪ :‬الشيخ محمد حسن آل ياسين‪ ،‬وقد نشرته مطبعة المعارف في بغداد‬
‫سنة ‪ 1379‬هـ ـ ‪ 1960‬م‪ ،‬ويعنى كتاب »اإلقناع « بالعروض العربي من حيث حدوده‪،‬‬
‫وأوزانه‪ ،‬وإرجاع األوزان إلى أصولها في الدوائر العروضية‪ ،‬إضافة إلى تتبع األوزان‬
‫الشعرية باختالف أضربها‪ ،‬وأعاريضها‪ ،‬وزحافاتها‪ ،‬موزعاً إياها على دوائرها العروضية‬
‫فيعنى المؤلف‬
‫المعروفة‪ ،‬ويستشهد المؤلف لذلك بأمثلة شعرية ‪ ،‬أما في تخريج القوافي ُ‬
‫بأنواع القافية‪ ،‬وعيوبها‪ ،‬وأحرفها‪ ،‬وحركاتها ‪.‬‬
‫عباد الثاني فهو رسالته » الكشف عن مساوئ شعر‬ ‫أما إسهام الصاحب بن ّ‬
‫إن هذه الرسالة نشرت في القاهرة سنة ‪ 1342‬هـ ‪ ،1‬وقيل نشرتها مكتبة‬
‫المتنبي «‪ ،‬وقيل ّ‬
‫القدسي في القاهرة أيضاً سنة ‪ 1346‬هـ ‪ ،2‬وقيل إنها طبعت بمطبعة المعاهد في مصر‬
‫سنة ‪ 1349‬هـ ‪ ،3‬وطبعت الرسالة مع كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي « ألبي سعيد‬
‫محمد بن أحمد العميدي‪ ،‬بتحقيق ‪ :‬إبراهيم الدسوقي البساطي‪ ،‬وقد نشرت الكتاب دار‬
‫المعـارف بمـصر سنة ‪ 1961‬م‪ ،‬وعنـوان رسـالة الصاحب بن عبـّاد » الكشف عن مساوئ‬
‫المتنبي «‪ ،‬وهي تقع في الصفحات من إحدى وعشرين ومائتين إلى خمسين ومائتين‪ ،‬وقد‬
‫اعتمد البحث هذه الطبعة‪ ،‬ويقال إن »الكشف عن مساوئ شعر المتنبي « نشرتها مكتبة‬
‫النهضة في بغداد سنة ‪ 1965‬م بتحقيق ‪ :‬الشيخ محمد حسن آل ياسين ‪4‬‬

‫‪ 1‬ـ كارل بروكلمان‪ ،‬تاريخ األدب العربي‪ 84/ 2 ،‬و‪. 270‬‬


‫‪ 2‬ـ محمد مندور‪ ،‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬لقاهرة‪ 1948 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 181‬‬
‫‪ 3‬ـ قاسم مومني‪ ،‬نقد الشعر في القرن الرابع الهجري‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنسر ‪ ،1982 ،‬ص ‪ ،19‬وينظر‬
‫‪ :‬هامش رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي‪ ،‬ضمن كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي « للعميدي‪ ،‬تحقيق‬
‫إبراهيم الدسوقي البساطي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ، 1961 ،‬ص ‪.221‬‬
‫‪ 4‬ـ قاسم مومني‪ ،‬نقد الشعر في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪20‬‬
‫فإن هذه الرسالة تنطوي على قضايا‬
‫وإذا كان المؤلف متحامالً على المتنبي ّ‬
‫نقدية مهمة‪ ،‬منها ما يتصل بالنظام الصوتي وأثره في جماليات األداء اللغوي‪ ،‬كثقل‬
‫األصوات اللغوية وتكرارها‪ ،‬إضافة إلى أهمية اإليقاع وعالقته بالبناء الصوتي‪ ،‬وبخاصة‬
‫في سناد القافية‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ومنها ما يتصل بصفات الناقد والخصائص الواجب توافرها‬
‫عباد على ذكر تفاوت‬ ‫عرج الصاحب بن ّ‬ ‫فيه‪ ،‬ومنها ما يتصل ببنية القصيدة‪ ،‬وقد ّ‬
‫مستويات األداء الشعري عند المتنبي في اللفظ وتركيبه‪ ،‬واالستعارة وغلوها‪ ،‬وأمثال ذلك ‪،‬‬
‫عباد المالحظات الجزئية التي تفتقر غالباً إلى التعليل ‪،‬‬
‫وتغلب على نقد الصاحب بن ّ‬
‫عباد على المتنبي إلى حد السخرية‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫ومما يثير االنتباه تحامل الصاحب بن ّ‬
‫يرجح أن يكون عنوان هذه الرسالة » الكشف عن مساوئ المتنبي «‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد طبع كتاب » الوساطة بين المتنبي وخصومه « للقاضي علي بن عبد‬
‫العزيز الجرجاني المتوفى سنة ‪ 392‬هـ عدة مرات ‪ ،‬فقد نشرت الكتاب مطبعة العرفان في‬
‫صيدا سنة ‪ 1331‬هـ ـ ‪ 1912‬م بتحقيق ‪ :‬أحمد عارف الزين‪ ،‬وقد اطلعت على هذه‬
‫الطبعة التي ألحق بها المحقق فهارس نافعة‪ ،‬وهي ال تخلو من األخطاء ‪ ،‬وقيل إن‬
‫الكتاب طبع مرة أخرى بتحقيق ‪ :‬عبد المتعال الصعيدي وأحمد عارف الزين‪ ،‬بمطبعة‬
‫صبيح في القاهرة سنة ‪ 1984‬م ‪ ،1‬وقد أعاد محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد‬
‫البجاوي تحقيق الكتاب‪ ،‬وإعادة نشره أربع مرات‪ ،‬وقد نشرتها كلها دار إحياء الكتب‬
‫العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي وشركاه في القاهرة‪ ،‬وقد نشرت الطبعة الثانية سنة ‪1951‬‬
‫م‪ ،‬أما األولى والثالثة فهما بدون تاريخ‪ ،‬وأما الرابعة التي اعتمدها بحثنا فقد نشرت سنة‬
‫‪ 1386‬هـ ـ ‪ 1966‬م‪ ،‬وقد ألحق المحققان بهذه الطبعات فهارس نافعة ‪.‬‬
‫أن كتاب » الوساطة « من الكتب النقدية المتميزة‪ ،‬وقد حاول فيه‬ ‫ٍ‬
‫وغير خاف ّ‬
‫القاضي الجرجاني أن يتوسط في الحكم بين أنصار المتنبي وخصومه‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫فإن المؤلف لم يقتصر على ذلك‪،‬‬
‫أن شعر المتنبي يحتل مرك اًز تدور حوله اآلراء النقدية ّ‬
‫ّ‬
‫طوف في نقد شعراء آخرين‪ ،‬قدامى ومحدثين‪ ،‬كامريء القيس وزهير بن أبي ُسلمى‬ ‫بل ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 19‬‬


‫‪21‬‬
‫وجرير والفرزدق وأبي تمام وأبي نواس‪ ،‬والحديث عن تفاوت أشعارهم‪ ،‬وتمييز جيدها عن‬
‫رديئها ‪ ،‬وإذا كان الكتاب مليئاً بالشواهد للشعراء ‪ ،‬وبخاصة لشعر المتنبي ‪ ،‬فإنه يفيض‬
‫في الوقت نفسه باآلراء النقدية المتعددة في ماهية الشعر ومهمته وبنائه ولغته‪ ،‬إضافة إلى‬
‫التفصيل في األشكال البالغية المختلفة كالجناس والطباق والتشبيه واالستعارة‪ ،‬فضال عن‬
‫موضوع السرقات من حيث المعاني المشتركة والمتداولة‪ ،‬وكيفية التفاضل في الشعر‬
‫المتداول ‪ ،‬وقد أخذ درس السرقات مساحة ليست قليلة‪ ،‬إضافة إلى هذا كله الموازنات‬
‫التي أقامها الجرجاني بين المتنبي وغيره من الشعراء كالبحتري وابن الرومي وابن المع ّذل‪،‬‬
‫من أجل أن ينتصف للمتنبي‪ ،‬ويتوسط بينه وبين خصومه ‪.‬‬
‫جني المتوفى سنة ‪ 392‬هـ فقد تعددت آثاره بين الشروح‬‫أما أبو الفتح عثمان بن ّ‬
‫الشعرية والتأصيالت اللغوية التي تتداخل معها وبها آراؤه النقدية‪ ،‬فمن شروحه الشعرية »‬
‫تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريض الفضل بن الربيع وزير الرشيد واألمين « والكتاب من‬
‫مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق‪ ،‬وقد ُنشرت الطبعة الثانية التي اعتمدها بحثنا سنة‬
‫ويعنى ابن جني في هذا‬ ‫‪ 1400‬هـ ـ ‪1979‬م‪ ،‬وهي بتحقيق ‪ :‬محمد بهجة األثري ‪ُ ،‬‬
‫الكتاب بشرح أرجوزة أبي نواس التي أولها ‪:‬‬

‫وبل ـ ٍ‬
‫ـدة فـيهـا َزَوْر‬ ‫ََ ْ‬
‫صـعـراء تـخطى في صـَ َع ْر‬

‫إن شرحه يمثل‬‫أن هذه األرجوزة ال تمثل سوى محور يرتكز عليه ابن جني‪ ،‬إذ ّ‬ ‫غير ّ‬
‫طوف فيها ابن جني بين علوم العربية ويستطرد‪ ،‬ويحدد هدفه في مقدمة‬
‫موسوعة لغوية ُي ّ‬
‫كتابه حيث يقول ‪ »:‬سألت ـ أعزك هللا ـ أن أعرب لك أرجوزة أبي نواس التي أولها » وبلدة‬
‫أفسر ما فيها من معنى ولغة وإعراب وأورد في ذلك‬
‫فيها زور « وأن أشبع الكالم‪ ،‬وأن ّ‬
‫النظائر» ‪ ، 1‬وقد شغلت ابن جني أمور منها أنه يشرح معاني بعض المفردات ويتوقف‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد واألمين‪ ،‬تحقيق محمد بهجة‬
‫األثري‪ ،‬مطبوعات مجمع اللغة العربية‪ ،‬دمشق‪ 1400 ،‬هـ ـ ‪ 1979‬م ‪ ،‬ص ‪. 1‬‬
‫‪22‬‬
‫عندها‪ ،‬وكأن غموض البيت الشعري مقترن بهذه المفردات‪ْ ،‬‬
‫فإن أميط اللثام عن معانيها‬
‫اتضحت داللة البيت الشعري كله‪ ،‬غير أن قصد ابن جني لم يقتصر على شرح هذه‬
‫المعاني فحسب‪ ،‬بل كان يتناول األبيات الشعرية في بعض مفرداتها إعراباً‪ ،‬ويستطرد في‬
‫ألوان هذا اإلعراب وتقديراته المختلفة واحتماالته المتعددة‪ ،‬ويستشهد لهذا كله بآيات قرآنية‬
‫إن ابن جني يغلب عليه ـ هنا ـ تناول‬
‫كريمة أو أبيات من الشعر العربي‪ ،‬وأكثر من هذا ّ‬
‫بعض المفردات تناوالً معجمياً‪ ،‬بحيث ال يكشف عن داللة الكلمة عبر سياقها‪ ،‬وكان‬
‫يشغله في أحايين كثيرة الكشف عن مشكلة لغوية‪ ،‬فجعل من أرجوزة أبي نواس محو اًر‬
‫ويعنى ابن جني أحياناً بالكشف عن داللة‬
‫تدور حولها قضايا ومعضالت لغوية عديدة ‪ُ ،‬‬
‫الكلمة من خالل سياقها اللغوي‪ ،‬ولكنه ال يتوقف طويالً عندها‪ ،‬بل يذهب ـ في الغالب ـ‬
‫ليعدد دالالت هذه الكلمة في سياقات مختلفة‪ ،‬ويستشهد لذلك بنصوص من القرآن الكريم‬
‫ويرجع الكلمة إلى أصل داللتها في الوضع‪ ،‬وما تفرعت عنه من دالالت‬
‫والشعر العربي‪ُ ،‬‬
‫ويعرج في الوقت نفسه على موضوعه األثير وهو الدرس العميق للقضايا اللغوية‬
‫أخرى‪ّ ،‬‬
‫والنحوية والصرفية والعروضية ‪.‬‬
‫ويؤكد ابن جني بهذا الشرح عنايته بالشعر المحدث‪ ،‬على غرار ما فعل مع‬
‫أن تفسيره ألرجوزة أبي نواس ـ هنا ـ قد اشتمل على‬
‫المتنبي ـ مما سيأتي ذكره ـ وهو يؤكد ّ‬
‫» لغة‪ ،‬وإعراب‪ ،‬وشعر‪ ،‬ومعنى‪ ،‬ونظير‪ ،‬وعروض‪ ،‬وتصريف‪ ،‬واشتقاق‪ ،‬وشيء من علم‬
‫القوافي « ‪. 1‬‬
‫أما كتاب » التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري « فقد‬
‫نشرته مطبعة العاني ببغداد سنة ‪ 1381‬هـ ـ ‪ 1962‬م‪ ،‬بتحقيق ‪ :‬أحمد ناجي القيسي‪،‬‬
‫وخديجة عبد الرزاق الحديثي‪ ،‬وأحمد مطلوب‪ ،‬وراجعه مصطفى جواد ‪ ،‬والكتاب شأنه شأن‬
‫شروح الشعر لدى ابن جني موسوعة لغوية تتجاذبها عناية ابن جني اللغوية من جهة‬
‫تأصيل األصول اللغوية وإرجاع فروعها إليها‪ ،‬إضافة إلى عنايته البالغة بالنظام الصرفي‪،‬‬
‫من حيث أوزان الصيغ الصرفية وإرجاعها إلى أصولها‪ ،‬ولم تقتصر عناية ابن جني على‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫‪23‬‬
‫ذلك بل تتجاوزها إلى جوانب إيقاعية تتصل باألوزان والقوافي‪ ،‬إضافة إلى عنايته‬
‫بالدالالت والكشف عنها من خالل سياقاتها‪ ،‬فضال عن إشاراته المقتضبة الموجزة إلى‬
‫بعض القضايا البالغية ‪.‬‬
‫إن ابن جني في » التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري «‬ ‫ّ‬
‫يركز عنايته بالشعر‪ ،‬ويتوقف عند األبيات الشعرية ذاك اًر معانيها‪ ،‬ولكنه ـ في الحقيقة ـ ال‬
‫يتوقف عند إجمال معنى البيت‪ ،‬بل يذكر معنى كلمة أو أكثر‪ ،‬فيرى ّ‬
‫أن تفسيرها يعد‬
‫ضرورياً لفهم البيت الشعري كله‪ ،‬وكأن تفسير البيت الشعري وفهم داللته مقترٌن بفهم‬
‫بعض مفرداته من ناحية‪ ،‬وكأننا في الوقت ذاته أمام عالم لغوي ُيعنى بغريب اللغة من‬
‫ناحية أخرى ‪ ،‬إذن‪ ،‬فشرح البيت الشعري مقترٌن بشرح بعض مفرداته‪ ،‬وقد قاد هذا ابن‬
‫جني إلى التركيز على إعطاء معاني هذه المفردات المعجمية المختلفة‪ ،‬كما كان ُيعنى في‬
‫أن‬
‫الوقت نفسه بإيضاح القضايا النحوية وتحديد مواطنها في البيت الشعري‪ ،‬وال يغفل ْ‬
‫يعزز ذلك باألدلة والشواهد الشعرية والقرآنية ونحوها‪ ،‬كما كان ُيعنى بإيضاح بعض صور‬
‫المجاز المختلفة التي تنطوي عليها األبيات الشعرية ‪.‬‬
‫أما كتاب ابن جني المعروف » الخصائص « فقد نشر عدة مرات‪ ،‬إذ يقال إنه‬
‫طبع سنة ‪ 1914‬م فيما ينقل ذلك كارل بروكلمان ‪ ، 1‬وقد نشرته مطبعة الهالل بالفجالة‬
‫في مصر سنة ‪ 1931‬م وقد اطلعت على الجزء األول من هذه الطبعة‪ ،‬وهي غير محققة‬
‫‪ ،‬ثم نشرته دار الكتب المصرية في القاهرة سنة ‪ 1952‬م ـ ‪ 1956‬م بتحقيق ‪ :‬محمد‬
‫علي النجار بثالثة أجزاء‪ ،‬وقد اعتمد البحث هذه الطبعة‪ ،‬كما قد نشرت الكتاب دار الهدى‬
‫للطباعة والنشر في بيروت‪ ،‬من غير تاريخ‪ ،‬مصو اًر عن طبعة دار الكتب المصرية‪.‬‬
‫أن‬
‫إن كتاب » الخصائص « يشتمل على علوم عديدة في العربية‪ ،‬وال أحسب ّ‬
‫تصنيفه تحت أحدها يصدق تماماً إال على نحو اإلجمال‪ ،‬إذ تتداخل فيه دراسة األصول‬
‫بالقضايا النحوية والبالغية‪ ،‬وتتداخل فيه أيضا حدود اللغة واشتقاقاتها وتقليباتها بقضايا‬
‫عروضية وإعرابية وصرفية ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ كارل بروكلمان‪ ،‬تاريخ األدب العربي‪. 246/2 ،‬‬


‫‪24‬‬
‫وقد رتب ابن جني كتاب » الخصائص « في اثنين وستين ومائة باب‪ ،‬ولم يكن‬
‫ترتيب هذه األبواب يحكمه منطق معين‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬إذ تتتابع الموضوعات وتتداخل‬
‫وتتشعب بشكل فريد ‪ ،‬وال نريد أن نصنف موضوعات الكتاب تصنيفاً تقليدياً‪ ،‬نشير فيه‬
‫إلى موضوعات اللغة والنحو والصرف والبالغة والعروض‪ ،‬سواء من جهة تأسيس‬
‫األصول وضرورة إلزام الفروع بها‪ ،‬أو من جهة الحديث عن البناء واإلعراب والعلل‬
‫النحوية وعالقة النحو بالسياق‪ ،‬أو الحديث عن القيم الصرفية وعالقتها بالداللة‪ ،‬ودور‬
‫االشتقاق في ذلك‪ ،‬أو الحديث عن المجاز والتشبيه واالستعارة‪ ،‬وإنما يمكن تصنيف ذلك‬
‫في إطار فاعلية األنظمة اللغوية وعالقتها المتفاعلة بالسياق من جهة النظام الصرفي‬
‫والنحوي‪ ،‬وبخاصة في مجال الصيغ الصرفية واالشتقاق في النظام الصرفي‪ ،‬ومستويات‬
‫الحذف والتقديم والتأخير ونحوها ـ فيما أطلق عليها ابن جني ـ شجاعة العربية ـ في النظام‬
‫النحوي ‪ .‬أما من جهة لغة الشعر وتغاير مستويات األداء النمطي ـ العادي ـ واألداء الفني‬
‫ـ الشعري ـ فيتجلى في التمايز بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬إضافة إلى نظرة ابن جني في تحديد‬
‫المجاز الذي يتسع ليشمل اللغة بأسرها‪ ،‬ووعيه لوظيفة المجاز في اتساع اللغة‪ ،‬فضالً‬
‫عن عناية ابن جني البالغة بالدالالت من حيث ثباتها وتفاوتها ‪.‬‬
‫إن هذه الموضوعات المتعددة متداخلة ومتناثرة في ثنايا كتاب »الخصائص«‬ ‫ّ‬
‫أن األنظمة اللغوية والجمالية تتداخل مع بعضها إلى حد بعيد‪ ،‬ويحاول ابن جني‬
‫وبخاصة ّ‬
‫أن يكشف عنها ويؤسس أصولها‪ ،‬وفي ضوء هذا نستطيع القول ـ في األقل فيما يتصل‬‫ْ‬
‫إن كتاب»الخصائص« يغلب عليه في أحد جوانبه ما نطلق عليه فاعلية‬
‫بموضوع بحثنا ـ ّ‬
‫النظام الصرفي من ناحية‪ ،‬وفاعلية النظام النحوي من ناحية أخرى‪ ،‬وفي ضوء تغاير‬
‫أن » الخصائص « ال‬‫الدالالت عبر الكيفيات المختلفة لتراكيب الجملة‪ ،‬والسبب في ذلك ّ‬
‫يقتصر على هذا‪ ،‬بل يعنى بجوانب معيارية فيما يتصل بالصواب والخطأ من زاوية‪،‬‬
‫ويعنى من زاوية أخرى باللغة بوصفها تشكيالً تتمايز فيه مستويات األداء‪ ،‬إضافة إلى‬
‫اشتماله على موضوعات تتصل باإليقاع والصورة الشعرية وماهية الشعر ومهمته‪ ،‬ونحوها‬
‫من الموضوعات النقدية المتميزة ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫أما » سر صناعة اإلعراب « البن جني فقد طبع الجزء األول منه بتحقيق ‪:‬‬
‫مصطفى السقا ومحمد الزفزاف وإبراهيم مصطفى وعبد هللا أمين‪ ،‬وقد نشرت هذا الجزء‬
‫دار إحياء التراث القديم‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي وأوالده بمصر سنة ‪1374‬هـ ـ‪1954‬م‪،‬‬
‫أن هناك طبعة سبقتها‪ ،‬وهذه الطبعة هي التي اعتمدها بحثنا ‪ ،‬ورجعت فيما‬
‫ولم أعرف ّ‬
‫تبقى من الكتاب إلى نسخة خطية‪ ،‬وهي مخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم ‪120 :‬‬
‫لغة‪ ،‬واستعنت بنسخة أخرى مصورة بالمايكرو فيلم في معهد المخطوطات العربية التابع‬
‫لجامعة الدول العربية تحت رقم ‪ 51 :‬نحو ‪ ،‬وعرفت فيما بعد أن حسن هنداوي قد حقق‬
‫كتاب » سر صناعة اإلعراب « كامالً‪ ،‬ونشره في جزأين‪ ،‬وقد تولت دار القلم نشره في‬
‫دمشق سنة ‪ 1985‬م ‪.‬‬
‫إن كتاب » سر صناعة اإلعراب « وإن كان يعنى بالكالم على حروف المعجم‬ ‫ّ‬
‫التي تأتلف فيها األبنية الكالمية‪ ،‬فهو يشتمل على دراسة األصوات من حيث ‪ :‬همسها‪،‬‬
‫وجهارتها‪ ،‬وشدتها‪ ،‬ورخاوتها‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬كما أنه يتناول حروف المعجم كلها من حيث ‪:‬‬
‫وصفها‪ ،‬وصفاتها‪ ،‬وما يعرض لها من تغير يؤدي إلى إعالل‪ ،‬أو إبدال‪ ،‬أو إدغام‪ ،‬أو‬
‫حذف‪ ،‬أو نحو ذلك كله بكالم العرب وأشعارهم ‪.‬‬
‫و » سر صناعة اإلعراب « من هذه الناحية دراسة علمية رفيعة المستوى‬
‫أن ابن جني تجاوز الوصف‬‫تخصصت في دراسة النظام الصوتي‪ ،‬وما يعنينا في دراستنا ّ‬
‫التفصيلي الدقيق لألصوات إلى الكشف عن جماليات األبنية الصوتية من حيث إفرادها‬
‫ومزجها‪ ،‬ومن هنا تتأتى القيمة الجمالية للبناء الصوتي‪ ،‬إضاف ًة إلى تجاوز ذلك في تحديد‬
‫أهمية النظام الصوتي في الكشف عن جماليات شعرية‪ ،‬وبخاصة في تأليف األصوات‪،‬‬
‫كما أنه عني بخصائص البناء الصوتي في أثناء تركيب الجمل‪ ،‬كما قد أفرد ابن جني‬
‫فصال في القسم المخطوط من الكتاب يذكر فيه مذهب العرب في مزج الحروف بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وما يجوز في ذلك وما يمتنع وما يحسن وما يقبح‪.1‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬سر صناعة االعراب ‪ ،‬مخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم ‪ 120‬لغة‪.303 :‬‬
‫‪26‬‬
‫إن كتاب » سر صناعة اإلعراب « ُيرسي في مدخله التمايز بين الصوت‬
‫والحرف والحركة ومعنى حروف المعجم‪ ،‬ثم يعرض لتقسيم الحروف من حيث مخارجها‬
‫وصفاتها‪ ،‬ويبدأ ابن جني في ترتيب الكتاب بحرف الهمزة‪ ،‬ويتوقف الجزء المطبوع عند‬
‫نهاية حرف الكاف‪ ،‬وال يختلف بناء القسم المخطوط من حيث تتبع حروف المعجم ‪.‬‬
‫أن هذا الكتاب ال يخلو هو اآلخر من تتبع بعض القضايا‬ ‫ومن الجدير باإلشارة ّ‬
‫إن كان يمر عليها مرو اًر سريعاً‪ ،‬وال يتوقف عندها كما‬
‫النحوية والصرفية والعروضية‪ ،‬و ْ‬
‫كان يفعل ذلك في كتبه األخرى ‪.‬‬
‫والبن جني كتاب » العروض «‪ ،‬الذي قيل إنه طبع في بيروت سنة ‪ 1972‬م‬
‫بتحقيق حسن شاذلي فرهود ‪ ،1‬ولم يتيسر لي الحصول عليه‪ ،‬فرجعت إلى نسخة خطية‬
‫مصورة بالميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية تحت رقم‬
‫‪ 17‬عروض وقو ٍ‬
‫اف ‪.‬‬
‫وكتاب » العروض « يقع في ست وعشرين ورقة‪ُ ،‬يعنى فيه ابن جني بالعروض‬
‫وتأسيس أصوله وتحديد قضاياه من حيث األوزان وإعادتها إلى دوائرها العروضية‬
‫المعروفة‪ ،‬وكان يتتبع األوزان الشعرية مشي اًر إلى أضربها وأعاريضها المختلفة‪ ،‬إضافة إلى‬
‫تحديد زحافاتها وعللها‪ ،‬ويضرب ابن جني لذلك كله أمثلة من الشواهد الشعرية ‪.‬‬
‫وقد عني ابن جني بالمتنبي وأفرد له شروحاً عديدة‪ ،‬منها كتاب »الفتح الوهبي‬
‫على مشكالت المتنبي «‪ ،‬وهو بتحقيق ‪ :‬محسن غياض‪ ،‬وقد نشرته دار الحرية للطباعة‬
‫في بغداد سنة ‪ 1973‬م‪ ،‬ويعمد ابن جني في الفتح الوهبي » إلى استخالص أبيات‬
‫المعاني‪ ،‬وما يتصل بها مما هو جار في احتمال السؤال عنه من جملة ديوان أحمد بن‬
‫الحسين المتنبي وتجريدها ووضع اليد عليها وتحديدها ليقرب تناولها ومشارفتها«‪ 2‬ويؤكد‬
‫ابن جني أيضاً أنه يجتنب » اإلطالة بشواهد لغتها وبسط القول على ما يعرض من‬

‫‪ 1‬ـ قاسم مومني‪ ،‬نقد الشعر في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ص ‪. 22‬‬
‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي‪ ،‬تحقيق محسن غياض‪ ،‬دار الحرية للطباعة‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪ 1973‬م ‪ ،‬ص ‪. 25‬‬
‫‪27‬‬
‫ويعنى ابن جني بشرح معنى البيت كله‪ ،‬فهو ال يتوقف ـ هنا ـ كثي ار‬ ‫‪1‬‬
‫ملتبس إعرابها « ُ‬
‫عند بعض المفردات كما فعل في شروح أخرى إال بمقدار ما يكشف غموضا يقود إلى‬
‫شرح المعنى‪ ،‬وتوقفه‪ ،‬في هذا المجال‪ ،‬مقترن بإيجاز شديد يذكر فيه قضايا نحوية عابرة‬
‫أو لغوية عارضة ونحوها‪.‬‬
‫ويلتزم ابن جني في شرحه هذا بإيراد معاني األبيات كما تمثلها هو‪ ،‬أو كما كان‬
‫يراها المتنبي‪ ،‬والتزم بهذا وحافظ عليه‪ ،‬وأكده في مقدمة كتابه ‪ ، 2‬ورتب ابن جني كتابه‬
‫هذا على حروف المعجم‪ ،‬وكان ال يتوقف عند كل أبيات القصيدة‪ ،‬كما قد أهمل بعض‬
‫القصائد التي تناولها في شرحيه اآلخرين لشعر المتنبي‪ ،‬ويعد هذا الكتاب شرحاً ميس اًر‬
‫لديوان المتنبي‪ ،‬إذ ال يتوقف فيه ابن جني عند القضايا النحوية واللغوية طويالً كما فعل‬
‫في غيره‪ ،‬كما أنه يشير إلى القضايا التي يريد معالجتها إشارات سريعة مقتضبة في أثناء‬
‫تعرضه لقضايا المجاز واالستعارة ونحوهما‪ ،‬أو لبعض القضايا النحوية والعروضية‪،‬‬
‫وتتجلى قيمة الكتاب في الكشف عن الجوانب الداللية التي تنبئ عنها فاعلية السياق ‪.‬‬
‫وإذا كان ابن جني قد عني بكتابه السالف » الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي» بأبيات‬
‫الف ْسر »‬
‫فإن « َ‬
‫معاني شعر المتنبي‪ ،‬وأحال في بعض قضاياه إلى شرحه الموسع عنه‪ّ ،‬‬
‫يعد شرحاً موسعاً ومفصالً لديوان المتنبي‪ ،‬والفسر ليس كتاباً واحداً‪ ،‬وإنما هو كتابان‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬الفسر الصغير‪ ،‬واآلخر الفسر الكبير ‪ ،‬ولم يطبع الفسر الصغير ـ في حدود‬
‫علمي ـ ولذلك رجعت إلى نسخة خطية تحت رقم ‪ 23‬أدب‪ ،‬في دار الكتب المصرية ‪ ،‬أما‬
‫الفسر الكبير فقد رجعت إليه بتحقيق ‪ :‬صفاء خلوصي‪ ،‬وقد نشره تحت عنوان «ديوان أبي‬
‫الطيب المتنبي‪ ،‬بشرح أبي الفتح عثمان بن جني المسمى بالفسر« وقد نشرته دار‬
‫الجمهورية في بغداد سنة ‪ 1389‬هـ ـ ‪1969‬م‪ ،‬والمطبوع قسم من الكتاب‪ ،‬ولذا استعنت‬
‫بنسخة خطية موجزة مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة‬
‫الدول العربية تحت رقم ‪ 526‬أدب ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 26‬‬
‫‪28‬‬
‫ووجد صفاء خلوصي حواشي في بعض نسخ مخطوطات الفسر‪ ،‬وهذه الحواشي‬
‫ليست البن جني‪ ،‬ولكنه ـ أي المحقق ـ قد أدرجها في متن الكتاب‪ ،‬ـ وليس هذا مكانها ـ‬
‫أن المحقق قد أشار إليها ‪ ،‬ومن‬‫وقد يوحي ظاهرها أنها البن جني على الرغم من ّ‬
‫أن بعض هذه الحواشي ال تخلو من تحامل على المتنبي وعلى ابن جني أيضاً‪،‬‬
‫المالحظ ّ‬
‫يضارع دفاع ابن جني عن المتنبي واعتذاره عنه ‪.‬‬
‫ولما كان الفسر الصغير شرحاً موج اًز والفسر الكبير شرحاً مفصالً لشعر المتنبي‬
‫فإن الحديث عن األخير يدل عليهما داللة واضحة من جهة المنهج‪ ،‬ومن جهة ما‬ ‫ّ‬
‫ينطويان عليه من آراء‪ ،‬ويمثل الفسر الكبير أوسع شروح ابن جني الشعرية‪ ،‬ويعد من‬
‫المصنفات التي يمكنها أن تكشف عن العملية النقدية على نحو من األنحاء‪ ،‬وبخاصة في‬
‫أن ابن جني يتتبع فيه معاني بعض‬‫مجال مستويات التطور الداللي لأللفاظ إذا علمنا ّ‬
‫المفردات ويتوقف عندها‪ ،‬كأن يذكر جذورها ومصادرها‪ ،‬ويتحدث عن صيغها واشتقاقها‪،‬‬
‫ويتناول إفرادها وجمعها‪ ،‬ويتحدث عن االختالف في لغاتها‪ ،‬ويتعرض لبعض الظواهر‬
‫اللغوية كظاهرة اإلبدال في حروف الكلمة‪ ،‬ويستشهد على كل ظاهرة بأبيات من الشعر‬
‫تدعم رأيه‪ ،‬كما يستدل على داللة األلفاظ بورودها في سياقات شعرية متعددة‪ ،‬كأن‬
‫يستشهد لداللة الكلمات التي يستخدمها المتنبي بالداللة الثابتة نفسها في سياقات شعرية‬
‫سابقة للمتنبي‪ ،‬عند شعراء الجاهلية واإلسالم‪ ،‬وهذا كثير‪ ،‬فمن الشعراء الذين استشهد‬
‫بأشعارهم‪ ،‬على سبيل المثال ال الحصر ‪ :‬امرؤ القيس‪ ،‬وزهير بن أبي ُسلمى‪ ،‬وطرفة بن‬
‫العبد‪ ،‬ولبيد بن ربيعة‪ ،‬واألعشى‪ ،‬والفرزدق‪ ،‬وقيس بن الملوح‪ ،‬ومن المحدثين ‪ :‬أبو‬
‫تمام‪،‬وأبو نواس ‪ ،‬والعباس بن األحنف‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬
‫إن ابن جني قد يعمد في شرحه هذا إلى التمييز بين داللة األلفاظ في السياق‬‫ّ‬
‫والمعجم‪ ،‬وقد ال يفعل ذلك‪ ،‬حين تشغله الداللة المعجمية لذاتها‪ ،‬وال يتوقف عند تفسير‬
‫داللة الكلمة‪ ،‬وإنما يميل إلى شرح معنى البيت الشعري على نحو إجمالي‪ ،‬ويشير أحياناً‬
‫إلى قرب داللته من شاعر سبقه‪ ،‬وهو في كلتا الحالتين يستطرد استطرادات عديدة سنأتي‬
‫إلى التحدث عنها ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫أن ابن جني في شرحه هذا‪ ،‬كما هو الحال في أغلب شروحه‬ ‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫الشعرية‪ ،‬يمر في بعض األحيان مرو اًر عاب اًر ببعض األبيات الشعرية‪ ،‬ليشرح مفردة أو‬
‫أكثر‪ ،‬أو يتوقف عند هذه المفردات طويالً‪ ،‬وكأن إماطة اللثام عن غموض هذه األبيات‬
‫يتم بشرح هذه المفردة أو تلك‪.‬‬
‫ويثير شعر المتنبي قضايا نحوية ولغوية عديدة‪ ،‬فيتوقف عندها ابن جني‪،‬‬
‫ويحللها‪ ،‬ويستشهد لها بنماذج قرآنية أو شعرية‪ ،‬وقد شغل ابن جني كثي اًر بتوثيق شعر‬
‫المتنبي من حيث استخدام مفرداته‪ ،‬وأداؤه من حيث الداللة والتركيبين النحوي والصرفي‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬إذ تمثل ألفاظ شعر المتنبي محاور يتوقف عندها ابن جني‪ ،‬ليطلع المتلقي‬
‫على ثرائها اللغوي‪ ،‬بل إنه يفرط في ذلك إلى حد بعيد‪ ،‬وكأن القضية اللغوية أو النحوية‬
‫أو الصرفية هي أحد أبرز غاياته من هذا الشرح ‪.‬‬
‫أما استطرادات ابن جني فإنها متنوعة‪ ،‬فقد يتوقف عند قضية نحوية‪ ،‬ويعرض‬
‫فيها اآلراء المختلفة‪ ،‬ويعمد إلى تقديرات إعرابية يرى أنها صحيحة ‪ ،‬كما قد يتوقف عند‬
‫قضية لغوية أو صرفية‪ ،‬كاشفاً عن أصولها واشتقاقها‪ ،‬ويدلل على صحة ما يذهب بشواهد‬
‫إن كتاب الفسر‪ ،‬وكذا شروحه‬
‫من القرآن الكريم أومن الشعر العربي ‪ ،‬ويمكن إجمال القول ّ‬
‫الشعرية األخرى‪ ،‬تُعنى عناية بالغة بالقضايا اللغوية والنحوية‪ ،‬وتعرض أحياناً ألوجه‬
‫الخالف بين الكوفيين والبصريين‪ ،‬وتكاد ال تخلو صفحة من شروحه الشعرية من تعرض‬
‫إن كان غالباً فيه‪ ،‬ولكنه ُيعنى من زاوية‬
‫لهذه القضايا‪ ،‬وال يقتصر األمر على ذلك‪ ،‬و ْ‬
‫أخرى ببعض المواطن البالغية كالتشبيه واالستعارة‪ ،‬أو يعنى ببعض القضايا اإليقاعية‬
‫فالف ْسر‪ ،‬من هذه الناحية‪ ،‬موسوعة لغوية تشتمل على آراء‬
‫في العروض والقافية ‪ ،‬إذن‪َ ،‬‬
‫ابن جني اللغوية والنحوية والصرفية والبالغية والعروضية‪ ،‬وهو يتابع فيها هذه‬
‫الموضوعات الخالفية مستشهداً بكثير من األمثلة الشعرية‪ ،‬وعارضاً آلراء من سبقه أو‬
‫عاصره من العلماء‪ ،‬ومن هؤالء ‪ :‬سيبويه‪ ،‬واألصمعي‪ ،‬وأبو علي الفارسي‪ ،‬والفراء‪،‬‬
‫وثعلب‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫أن‬
‫إن ابن جني حتى في تعامله مع القضايا النحوية واللغوية لم يكن يهدف إلى ْ‬
‫ّ‬
‫أن بعض المفردات في البيت الشعري‬ ‫يكشف عن قضايا جمالية‪ ،‬غاية ما في األمر‪ّ ،‬‬
‫‪30‬‬
‫تمثل محو اًر تدور حوله القضية اللغوية أو النحوية‪ ،‬ولم يكن ابن جني ُيعنى كثي اًر بالكشف‬
‫عن تغاير الدالالت في السياق إال بمقدار ما ينطوي عليه الشرح من التوقف عند المجاز‪،‬‬
‫أو بمقدار ما ينطوي عليه من تقديم وتأخير وحذف ونحو ذلك‪ ،‬مما يدفعنا إلى القول ‪ّ :‬‬
‫إن‬
‫ابن جني كان يروم الكشف عن الدالالت الغامضة ويطيل التوقف عند غريبها ‪.‬‬
‫ومن مصنفات ابن جني الكبرى كتابه » المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات‬
‫واإليضاح عنها « ويقع هذا الكتاب في جزأين ‪ ،‬ويبدأ الجزء األول ـ بعد تقديم ابن جني ـ‬
‫بسورة الفاتحة وينتهي بسورة إبراهيم‪ ،‬ويبدأ الجزء الثاني بسورة الحجر وينتهي بسورة الناس‬
‫‪ ،‬وقد َن َش َر الكتاب بجزأيه المجلس األعلى للشئون اإلسالمية‪ُ ،‬‬
‫وعني بتحقيق الجزء األول ‪:‬‬
‫علي النجدي ناصف‪ ،‬وعبد الحليم النجار‪ ،‬وعبد الفتاح إسماعيل شلبي‪ ،‬ونشر هذا الجزء‬
‫في القاهرة سنة ‪ 1386‬هـ ـ ‪ 1966‬م‪ ،‬أما الجزء الثاني فقد عنيت بتحقيقه لجنة التحقيق‬
‫نفسها ماعدا عبد الحليم النجار الذي وافته المنية بعد االنتهاء من تحقيق الجزء األول‪ ،‬وقد‬
‫نشر الجزء الثاني في القاهرة أيضا سنة ‪ 1389‬هـ ـ ‪1969‬م ‪.‬‬
‫وكتاب » المحتسب « شأنه شأن كتب ابن جني األخرى موسوعة لغوية ذات‬
‫قيمة فائقة تشتمل على آرائه في اللغة والنحو والصرف ونحو ذلك‪ ،‬ومن الجدير باإلشارة‬
‫أن هذا الكتاب قد ألفه ابن جني في أخريات حياته ‪ ،1‬مما يدل على أنه ينطوي على أهم‬ ‫ّ‬
‫مخصص للقراءات الشاذة التي احتج لها‬
‫ٌ‬ ‫آرائه اللغوية والنقدية‪ ،‬وعلى الرغم من أن الكتاب‬
‫ابن جني‪ ،‬واعتقد أن لها قوة في اللغة وآخذة في سمت العربية فإنه ال يقتصر على ذلك‪،‬‬
‫فهو يعرض للقراءة القرآنية ومن ق أر بها‪ ،‬ويذكر آراء العلماء فيها‪ ،‬ثم يذهب يتلمس لها‬
‫«شاهداً فيرويه أو نظي اًر فيقيسه عليه‪ ،‬أو لهج ًة فيردها إليها ويؤنسها بها‪ ،‬أو تأويالً أو‬
‫توجيهاً فيعرضه في قصد واجمال «‪.2‬‬

‫‪ 1‬ـ ا بن جني‪ ،‬المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها‪ ،‬تحقيق علي النجدي ناصف‪ ،‬وعبد‬
‫الحليم النجار‪ ،‬وعبد الفتاح اسماعيل شلبي‪ ،‬المجلس األعلى للشئون اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪ 1386 ،‬هـ ـ ‪ 1966‬م‬
‫ـ ‪ 1389‬هـ ـ ‪ 1969‬م ‪. 12 /1 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪.12/ 1 ،‬‬
‫‪31‬‬
‫إن القيمة النقدية للكتاب تتجلى ـ في الحقيقة ـ في الكشف عن قيمة األنظمة‬
‫ّ‬
‫اللغوية والكشف عن جمالياتها‪ ،‬في مجال التعريف والتنكير‪ ،‬وفي التأخير والتقديم‪ ،‬وفي‬
‫الحذف‪ ،‬وبخاصة في النظام النحوي ‪ ،‬وابن جني ال يكشف عن النظام النحوي بوصفه‬
‫ِن به الصواب والخطأ‪ ،‬ولكنه يتجاوز ذلك إلى الكشف عن األبعاد‬ ‫درساً معيارياً َيزُ‬
‫الجمالية‪ ،‬بحيث يفسرها ويعلل معطياتها في ضوء األنظمة اللغوية ‪ ،‬ومن الجدير بالذكر‬
‫أن شواهد ابن جني وآراءه تتكرر أحياناً‪ ،‬ويحيل القارئ إليها في بعض كتبه‪ ،‬غير‬
‫التأكيد ّ‬
‫أنه يتميز ـ في كتابه هذا ـ بشمول رؤيته وتكاملها من ناحية‪ ،‬ونضج آ ارئـه وعمقها من‬
‫ناحية أخرى ‪.‬‬
‫وبقي البن جني ـ أخي اًر ـ رسالة في القوافي عنوانها » مختصر القوافي «‪ ،‬وهي‬
‫بتحقيق حسن شاذلي فرهود‪ ،‬وقد نشرتها دار التراث في القاهرة سنة ‪1395‬هـ ‪1975‬م و‬
‫» مختصر القوافي « رسالة صغيرة تدرس القوافي من حيث حدها‪ ،‬وأنواعها ‪ :‬كالمتكاوس‪،‬‬
‫والمتراكب‪ ،‬والمتدارك‪ ،‬والمتواتر‪ ،‬والمترادف‪ ،‬وحدود هذه األنواع‪ ،‬كما يعرض ابن جني‬
‫لحروف القافية وحركاتها‪ ،‬ويختم رسالته هذه في الحديث عن عيوب القافية ‪ :‬كاإلقواء‪،‬‬
‫واإلكفاء‪ ،‬واإليطاء‪ ،‬واإلسناد‪ ،‬ويستشهد لهذا كله بأمثلة شعرية‪ ،‬وتتجلى في هذه الرسالة‬
‫القيمة الصوتية اإليقاعية التي تكشف عن أبعاد جمالية في أثناء تعرض ابن جني لبعض‬
‫عيوب القافية‪ ،‬وفي أثناء تعرضه لحركات القافية ‪.‬‬
‫أما القاضي عبد الجبار بن أحمد المتوفى سنة ‪ 415‬هـ فله كتاب »تنـزيه القرآن‬
‫عن المطاعن « وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات‪ ،‬إذ يقال إنه طبع سنة ‪ 1326‬هـ في‬
‫القاهرة ‪ ،1‬كما قد طبعته المطبعة الجمالية في مصر سنة ‪ 1329‬هـ‪ ،‬وقد اطلعت عليها‪،‬‬
‫وهي طبعة غير محققة‪ ،‬وقد ضمت هذه الطبعة في آخرها مقدمة تفسير الراغب‬
‫األصفهاني‪ ،‬وقد اعتمد بحثنا الطبعة التي نشرتها الشركة الشرقية للنشر والتوزيع ودار‬
‫النهضة الحديثة في بيروت‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬وهي من غير تحقيق‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ فؤاد سزكين‪ ،‬تاريخ التراث العربي‪ ،‬ترجمة محمود فهمي حجازي‪ ،‬وفهمي أبو الفضل‪ ،‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م ‪. 411/ 2‬‬
‫‪32‬‬
‫ُّ‬
‫ويرد القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتابه هذا على من يطعن في اآليات‬
‫القرآنية الكريمة‪ ،‬سواء في اإلعراب أو في المعاني أو في اللغة‪ ،‬ويحدد القاضي عبد‬
‫الجبار غاية كتابه بمعرفة معاني القرآن الكريم ليقي الناس من الضالل‪ ،‬الذي وقعوا فيه‬
‫بتمسكهم في المتشابه‪ ،‬ولذلك فإن االنتفاع بالقرآن الكريم ال يتم ـ كما يرى ـ إال »بعد‬
‫الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه « ‪. 1‬‬
‫وكتابه » تنـزيه القرآن عن المطاعن « تفسير موجز للقرآن الكريم‪ ،‬عرض فيه‬
‫وبين فيه معاني ما تشابه‪ ،‬وقد ابتدأه‬
‫المؤلف لسور القرآن الكريم على ترتيبها المعروف‪ّ ،‬‬
‫بفاتحة الكتاب وأنهاه بسورة الناس‪ ،‬وهو يتوقف عند اآليات القرآنية التي أثارت جدالً‬
‫وخالفاً‪ ،‬محاوالً تفسيرها وتأويلها لتؤيد وجهة نظره االعتزالية ‪.‬‬
‫أن المؤلف قد أملى كتابه هذا‪ ،‬ثم ُجمع بعد ذلك‪ ،‬إذ هو مبني على أساس‬
‫ويبدو ّ‬
‫المساءلة‪ ،‬واإلجابة عنها‪ ،‬وقد كرس المؤلف هذا الكتاب لعرض أفكاره االعتزالية‪ ،‬سواء‬
‫األصول منها كالتوحيد‪ ،‬والعدل‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والمنـزلة بين المنـزلتين‪ ،‬واألمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬أو ما يتفرع عنها من مسائل ‪ ،‬وتتجلى قيمة الكتاب في أنه يحاول‬
‫إظهار معاني اآليات القرآنية الكريمة في ضوء رؤيته االعتزالية‪ ،‬معتمداً الدليل العقلي‪،‬‬
‫أن تفسيره يعتمد أساسا على‬
‫ومتكئاً على البعد الباطني لآلية القرآنية الكريمة‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫التفسير المجازي للقرآن الكريم ‪.‬‬
‫وتتداخل في تضاعيف كتاب » تنـزيه القرآن عن المطاعن « القضايا النحوية ـ‬
‫ناد اًر ـ بالقضايا الكالمية‪ ،‬وتتداخل معها قضايا المجاز واألصول والفلسفة ونحوها‪،‬‬
‫ويشملها كلها إطار عقلي يحكم اآلية القرآنية‪ ،‬وتتفرع عنها مسائل وإجابات منطقية‬
‫وكالمية عديدة ‪.‬‬
‫وللقاضي عبد الجبار بن أحمد كتاب » شرح األصول الخمسة« وقد عّلق على‬
‫الكتاب ‪ :‬اإلمام ‪ :‬أحمد بن الحسين بن أبي هاشم‪ ،‬ونشرت الكتاب مكتبة وهبة في القاهرة‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬تنـزيه القرآن عن المطاعن‪ ،‬الشركة الشرقية للنشر والتوزيع‪ ،‬ودار النهضة‬
‫الحديثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪7‬‬
‫‪33‬‬
‫سنة ‪ 1965‬م بتحقيق عبد الكريم عثمان‪ ،‬والكتاب يدل عليه عنوانه‪ ،‬فهو شرح لألصول‬
‫الخمسة للفكر االعتزالي‪ ،‬يبدأ فيها الشارح اإلمام أحمد بن الحسين بذكر نص أقوال‬
‫أن القاضي‬‫يعرج على شرحها وتفسيرها‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫عبد الجبار قد أملى الكتاب إمالء‪ ،‬ويدل على ذلك سهولة عبارته ووضوحها‪ ،‬وهذا ما‬
‫أن يكون المؤلف كان ُيلقيه في دروس تحضرها العامة‬ ‫ورجح ْ‬
‫فطن إليه محقق الكتاب‪ّ ،‬‬
‫والخاصة‪ ،‬فأراد أن يبسط أصول المعتزلة وفروعها وييسر تناولها ‪. 1‬‬
‫وقد تناول القاضي عبد الجبار بن أحمد في هذا الكتاب أصول الفكر االعتزالي‬
‫غير َّ‬
‫أن قيمة هذا الكتاب تتجلى بالنسبة لبحثنا في إطارين ‪ :‬أولهما ‪ :‬الكشف عن‬
‫األصول االعتزالية‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬تناوله قضايا جوهرية تكشف عن التصورات النقدية‪ ،‬أو‬
‫يكشف عن تصورات تتأسس في ضوئها األصول النقدية‪ ،‬ولقد غلب على الكتاب عناية‬
‫المؤلف بأصوله الفكرية والعقائدية وما تفرع عنها ‪ ،‬ويفيد الكشف عن هذه األصول جانبا‬
‫من مستويات التأويل العقلي والمجازي في أثناء تعرض المؤلف للقضايا العقائدية‪ ،‬ولذلك‬
‫عمد المؤلف إلى االستشهاد باآليات القرآنية الكريمة في مواطن عديدة‪ ،‬ليستدل بها على‬
‫إن كانت بصرية ْأو ال‪ ،‬وتعزيز هذه التصورات بشواهد من‬
‫قضية عقائدية كالرؤية مثال‪ْ ،‬‬
‫العربية‪ ،‬وينطوي الكتاب على تحديد دقيق لمفهومي الحسن والقبح العقليين‪ ،‬وكيفية‬
‫الكشف عنهما في الواقع وعالقة ذلك بالفعل اإلنساني‪ ،‬سواء أكان فعالً أم حرك ًة أم كالما‪.‬‬
‫ويشتمل الكتاب على تصورات يفيد منها الدرس النقدي فيما يتصل بقضية خلق‬
‫القرآن‪ ،‬وكون كالم هللا جنساً من كالم العرب‪ ،‬وقد دفع هذا الحديث إلى العناية بالكالم‬
‫وماهيته وخصائصه‪ ،‬وتتجلى أهمية الكتاب بوضوح أكثر في الحديث عن إعجاز القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وحديث المؤلف عن المجاز في ثنايا متناثرة من الكتاب‪ ،‬أو حصره لقضية المحكم‬
‫والمتشابه‪ ،‬والحكمة التي تكتنف هذه القضية ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬بتعليق األمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم‪،‬‬
‫تحقيق عبد الكريم عثمان‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪1965 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪34‬‬
‫ويمثل الكتاب إحاطة شاملة موجزة ألصول المعتزلة الفكرية وما تفرع عنها من‬
‫مسائل وقضايا‪ ،‬ويشتمل الكتاب ـ في تناوله للقضايا العقائدية ـ على عرض آراء الخصوم‬
‫وحججهم ورد القاضي على هذه الحجج واآلراء‪ ،‬فالكتاب يحيط بالمسائل االعتقادية التي‬
‫كان يدور الحديث حولها بين الفرق الكالمية ‪ :‬معتزلة‪ ،‬وأشعرية‪ ،‬ومجبرة‪ ،‬وكرامية‪،‬‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وللقاضي عبد الجبار بن أحمد كتاب آخر هو » متشابه القرآن « وقد نشرت هذا‬
‫ويعد من كتب‬‫الكتاب دار التراث في القاهرة سنة ‪ 1966‬م بتحقيق عدنان محمد زرزور‪ُ ،‬‬
‫تفسير القرآن الكريم من وجهة نظر المعتزلة‪ ،‬وهو يسلط األضواء على دراسة اآليات‬
‫المتشابهة فيعمد إلى تأويلها في ضوء األدلة العقلية‪ ،‬وال يغفل اآليات المحكمة بل يعمد‬
‫إلى تفسيرها واالستدالل بها ‪ ،‬وقد رتب المؤلف الكتاب على السور واآليات القرآنية‪ ،‬فابتدأ‬
‫بسورة الفاتحة‪ ،‬وانتهى بسورة الناس‪ ،‬وتتجلى قيمة الكتاب في المقدمة التي يحدد فيها‬
‫القاضي عبد الجبار بن أحمد التمايز بين اآليات القرآنية المحكمة والمتشابهة‪ ،‬معتمداً‬
‫بذلك على األدلة العقلية من ناحية‪ ،‬واالستشهاد بشواهد لغوية ونحوها‪ ،‬وهذا يتصل ـ دون‬
‫شك ـ بالدرس النقدي في مجال التمايز بين األداءين النمطي والفني في الكالم‪ ،‬وبخاصة‬
‫أن القاضي عبد الجبار يستعين في تأويله لآليات المتشابهة باللغة سواء في مفرداتها‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫في قواعدها النحوية واإلعرابية ونحوها ‪ ،‬وتخضع مستويات التأويل شأنها شأن تأويالت‬
‫المعتزلة بعامة للدليل العقلي‪ ،‬ومحاولة تعضيد آراء المعتزلة من خالل تأويالت اآليات‬
‫المتشابهة كي ال تتعارض مع األصول الفكرية التي يصدرون عنها ‪.‬‬
‫أما موسوعة القاضي عبد الجبار بن أحمد الكالمية الكبرى وهي كتابه »المغني‬
‫في أبواب التوحيد والعدل « فقد كانت مفقودة وعثر عليها في اليمن ‪ :‬خليل نامي وفؤاد‬
‫أن األجزاء التي عث ار عليها كانت ناقصة‪ ،‬إذ تم العثور على أربعة عشر جزءاً‬ ‫السيد‪ ،‬غير ّ‬
‫من هذا الكتاب القيم‪ ،‬وما زلنا نفتقد سائر األجزاء وهي ‪ :‬األول والثالث والعاشر والثامن‬
‫عشر والتاسع عشر‪ ،‬ولقد نشرت كتاب » المغني في أبواب التوحيد والعدل « و ازرة الثقافة‬
‫واإلرشاد القومي في مصر بين سنة ‪ 1960‬م ـ و ‪ 1965‬م بإشراف لجنة مكونة من ‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫أن هذا الكتاب موسوعة كالمية عقائدية فلن نتوقف ـ هنا‬
‫طه حسين وإبراهيم مدكور‪ ،‬وبما ّ‬
‫ـ إال عند األجزاء التي اشتملت على آراء وتصورات أفاد منها الدرس النقدي ‪.‬‬
‫ففي الجزء الرابع المخصص لـ » رؤية الباري « ـ وهو بتحقيق ‪ :‬محمد مصطفى‬
‫حلمي وأبو الوفاء الغنيمي ـ تمثل الرؤية قضية اعتقادية يسعى القاضي عبد الجبار إلى‬
‫تأكيد داللتها االعتزالية معتمداً األدلة العقلية‪ ،‬ومحاوالً تأويل ظاهر اآليات القرآنية التي‬
‫تدل على الرؤية الحسية‪ ،‬ويعمد إلى التأويل العقلي في ضوء تساؤالت عديدة متالحقة‬
‫على الطريقة الجدلية التي عرف بها المتكلمون‪ ،‬ويستشهد القاضي عبد الجبار بآراء‬
‫أساتذته في المسائل‪ ،‬أو ينفرد بها ‪ ،‬وتمثل اآلية القرآنية محو اًر تدور حوله األبحاث العقلية‬
‫إن كان يغلب على ذلك البحث‬ ‫والكالمية واللغوية ومستويات التأويل »المجازي « و ْ‬
‫العقلي‪.‬‬
‫وفي الجزء الخامس المخصص لـ » الفرق غير اإلسالمية « ـ وهو بتحقيق ‪:‬‬
‫محمود محمد الخضيري ـ فقد عني بدراسة غير المسلمين‪ ،‬وقيمة هذا الجزء بالنسبة إلى‬
‫بحثنا ال تنحصر بالحديث عن الفرق غير اإلسالمية من الديانات والمذاهب‪ ،‬وإنما تتأتى‬
‫من الحديث عن اللغة من حيث التوقيف والتواضع‪ ،‬وثبات المعاني مهما تغايرت‬
‫المستويات إضافة إلى حديثه عن المجاز ‪.‬‬
‫أما الجزء السابع المخصص لـ » خلق القرآن « ـ وهو بتحقيق ‪ :‬إبراهيم اإلبياري‬
‫ـ فتتركز عناية القاضي عبد الجبار بقضية المعتزلة الشهيرة » خلق القرآن « من حيث‬
‫كونها قضية عقائدية كالمية‪ ،‬و من حيث ما تركته من آثار بوصفها محنة لحرية الفكر‪،‬‬
‫وتتجلى قيمة هذا الجزء في الحديث عن الكالم إن كان نفسياً أو محدثاً‪ ،‬وصلة الكالم‬
‫بالخالق‪ ،‬وقد شغل القاضي عبد الجبار بكالم هللا بوصفه من جنس الكالم العربي‪ ،‬وعالقة‬
‫ذلك بمواضعة اللغة‪ ،‬بحسب قصد المتكلم ودواعيه‪ ،‬كما قد شغلته قضية ِق َدم الكالم أو‬
‫وتأتت هذه العناية بسبب تعارض األدلة العقلية واألدوات المنطقية بين المعتزلة‬
‫ْ‬ ‫حداثته‪،‬‬
‫واألشاعرة‪ ،‬وهي التي دفعت إلى هذا البحث المسهب ‪.‬‬
‫وفي الجزء السادس عشر المخصص لـ » إعجاز القرآن « ـ وهو بتحقيق ‪ :‬أمين‬
‫الخولي ـ يمهد القاضي عبد الجبار إلعجاز القرآن الكريم بمباحث عديدة تكاد تستوعب‬
‫‪36‬‬
‫قسماً كبي اًر من هذا الجزء‪ ،‬مثل تقرير صحة القرآن وتواتر نقله‪ ،‬أو ما يعقده من مساحة‬
‫كبيرة لقضية النسخ في القرآن الكريم‪ ،‬وللمواطن التي يصح فيها النسخ والتي ال يصح أن‬
‫يقع فيها نسخ‪ ،‬ثم يعرض للنبوة وثبوتها والحجج التي تدل عليها‪.‬‬
‫وحين يعرض إلعجاز القرآن الكريم ُيعنى بترك العرب معارضة القرآن‪ ،‬ثم‬
‫يعرض لمفهوم الفصاحة الذي تتجلى فيه القيمة الحقيقية لهذا الجزء ‪ ،‬ومن أجل هذا يحدد‬
‫القاضي عبد الجبار مفهوم الفصاحة ويحيط بأبعاده‪ ،‬ويعرض للكيفية التي يتفاضل فيها‬
‫الكالم بعضه على بعض‪ ،‬وما هي العلوم التي ينبغي توافرها ليتم بها معرفة فصاحة‬
‫األداء اللغوي وإمكانية تأديته‪ ،‬من حيث القدرة على إحداث الكالم الفصيح بوصفه من‬
‫جملة األفعال المحكمة‪ ،‬ومن حيث الكيفية التي يتم بها التفاضل بين كالم فصيح وآخر‬
‫فصيح أيضاً‪ ،‬ومن حيث العلوم الواجب توافرها لكي يتم التفاضل بين مستويات األداء‪،‬‬
‫أن الفصاحة ال تظهر في أفراد الكالم‪ ،‬وإنما تظهر في‬‫إضافة إلى عرضه المفصل في ‪ّ :‬‬
‫الكالم بالضم على طريقة مخصوصة‪ ،‬وعالقة ذلك بالمعنى واللفظ ‪.‬‬
‫وتشغل قضية الفصاحة تفكير القاضي عبد الجبار بوصفها جزئية في إطار عام‬
‫من أوجه اإلعجاز القرآني‪ ،‬ويتناولها بالطريقة ذاتها التي يتناول فيها أي مسألة كالمية‬
‫أخرى‪ ،‬من حيث الجدل والحوار وإثارة اإلشكاالت والتساؤالت وطرح الحلول‪ ،‬فالفصاحة‬
‫تمثل لديه قضية عقلية بحتة يتناولها في ضوء األسس العقلية التي يصدر عنها‪ ،‬وحتى‬
‫في تناوله العابر للمحكم والمتشابه في هذا الجزء من الكتاب فإنه يتناولهما بالطريقة ذاتها‬
‫من النقاش والتأويل والجدل ‪.‬‬
‫إذن فالقيمة النقدية تتجلى في الناحية النظرية القيمة التي تحدث فيها القاضي‬
‫عبد الجبار عن كيفية تضام الكلمات‪ ،‬وكيفية التشكيل اللغوي‪ ،‬وتغاير الداللة في‬
‫إن التضام أو الضم أو النظم إنما هي أوجه متعددة تكشف‬
‫مستويات األداء المختلفة‪ ،‬و ّ‬
‫عن هذه الزاوية النقدية ‪.‬‬
‫ونتوقف أخي اًر عند آثار الشريف المرتضى‪ ،‬علي بن الحسين الموسوي‪ ،‬المتوفى‬
‫سنة ‪ 436‬هـ‪ ،‬ونتوقف أوالً عند كتابه الشهير » أمالي المرتضى « » غرر الفوائد ودور‬
‫إن هذا الكتاب طبع في طهران سنة ‪ 1273‬هـ‪ ،‬وطبع في مصر‬
‫القالئد « ‪ ،‬ويقال ّ‬
‫‪37‬‬
‫بمطبعة السعادة سنة ‪ 1325‬هـ ـ ‪ 1907‬هـ‪ ،‬وعليه شروح وتعليقات السيد محمد بدر الدين‬
‫النعساني‪ ،‬ثم السيد أحمد أمين الشنقيطي ‪ ، 1‬وقد نشرت دار إحياء الكتب العربية‪،‬‬
‫عيسى البابي الحلبي كتاب » أمالي المرتضى « سنة ‪ 1954‬م بجزئين‪ ،‬بتحقيق ‪ :‬محمد‬
‫أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬وهي الطبعة التي اعتمدها البحث ‪.‬‬
‫وكتاب » أمالي المرتضى « يدل عليه عنوانه‪ ،‬فهو أحاديث أمالها الشريف‬
‫المرتضى‪ ،‬وكان محورها األساس ـ غالباً ـ آيات قرآنية‪ ،‬وأحاديث نبوية‪ ،‬يدل ظاهرها على‬
‫غموض يحاول الشريف المرتضى إماطة اللثام عنه‪ ،‬فيعمد إلى تأويلها وتوجيهها على‬
‫طريقة أهل العدل التي تركن إلى األدلة العقلية في تأويل اآليات القرآنية واألحاديث‬
‫النبوية‪ ،‬وليست عملية التأويل عمالً عقلياً صرفاً فحسب‪ ،‬بل تسعفه في التفسير والتأويل‬
‫شواهد شعرية وفيرة‪ ،‬وتدور حولها جميعا تصوراته الفكرية واألدبية ‪ ،‬ولذلك كانت اآليات‬
‫القرآنية واألحاديث النبوية محو اًر جوهرياً يلم شتات الموضوعات الكالمية أمثال ‪ :‬رؤية‬
‫هللا‪ ،‬وخلق األفعال‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬إضافة إلى الموضوعات النقدية والبالغية فيما يتصل‬
‫بالمجاز‪ ،‬والمتشابه‪ ،‬ولغة الشعر‪ ،‬والحداثة والقدم‪ ،‬وقضية السرقات الشعرية‪ ،‬وماهية‬
‫التشبيه‪ ،‬واالستعارة وأنواعهما‪ ،‬ونحو ذلك من القضايا والمعضالت‪ ،‬فضالً عن آرائه‬
‫النقدية في الرد على معاصريه أو سابقيه من النقاد مثل ابن قتيبة‪ ،‬والجاحظ‪ ،‬واآلمدي‪،‬‬
‫والمرزباني‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وللشريف المرتضى كتاب آخر هو » الشهاب في الشيب والشباب « وقد طبع‬
‫الكتاب مرتين‪ ،‬األولى ‪ :‬في مطبعة الجوائب في القسطنطينية سنة ‪ 1302‬هـ‪ ،‬ومعه كتاب‬
‫» سلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف « للجاحظ‪ ،‬وقد اطلعت على هذه الطبعة ‪،‬‬
‫والثانية نشرتها دار الرائد العربي في بيروت سنة ‪ 1982‬م‪ ،‬التي اعتمدها بحثنا‪ ،‬وكلتا‬
‫الطبعتين من غير تحقيق‪ ،‬ويعرض الكتاب ألقوال الشعراء في الشيب والشباب‪،‬‬
‫وانحصرت اختياراته فيه من شعر ‪ :‬أبي تمام‪ ،‬والبحتري‪ ،‬وشعر أخيه الشريف الرضي‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ تعرض محمد أبو الفضل إبراهيم محقق كتاب أمالي المرتضى » غرر الفوائد ودرر القالئد « للشريف‬
‫المرتضى ‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1373 ،‬ه ـ ‪1954‬م الى هذه الطبعات‬
‫المختلفة‪ ،‬ينظر ‪ :‬مقدمة تحقيق الكتاب‪25 / 1 ،‬‬
‫‪38‬‬
‫ومن شعره هو‪ ،‬ويمكن تصنيف هذا الكتاب ضمن كتب االختيارات الشعرية‪ ،‬ولكن‬
‫الشريف المرتضى كانت له فيه آراء نقدية متميزة في ‪ :‬الحداثة و ِ‬
‫الق َدم‪ ،‬والتقليد واالبتكار‪،‬‬
‫والمحاكاة‪ ،‬والمثل األعلى‪ ،‬والطبع‪ ،‬والتكلف‪ ،‬ولغة الشعر‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬واالستعارة ونحوها ‪،‬‬
‫أن له ردوداً على بعض النقاد‪ ،‬وبخاصة اآلمدي ‪.‬‬
‫كما ّ‬
‫أما كتاب » طيف الخيال « للشريف المرتضى فقد اعتمد بحثنا على الطبعة‬
‫التي نشرتها دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬في القاهرة سنة ‪1381‬هـ ـ‬
‫‪ 1962‬م بتحقيق ‪ :‬حسن كامل الصيرفي‪ ،‬ومراجعة إبراهيم اإلبياري‪ ،‬وقد أشار المحقق‬
‫أن كتاب » طيف الخيال « قد نشرته مكتبة مصطفى البابي الحلبي في القاهرة سنة‬ ‫إلى ّ‬
‫‪ 1955‬م ‪ ،‬وقام بتصحيح هذه الطبعة سيد كيالني‪ ،‬كما قد أشار إلى أن الكتاب قد نشرته‬
‫‪1‬‬
‫مرة أخرى دار المعرفة في بغداد سنة ‪ 1957‬م بتحقيق صالح خالص ‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫أن كتاب‬
‫«طيف الخيال « قد ألفه الشـريف المرتضى في أخريات حياته‪ ،‬إذ يشيـر فيه إلى كتابه »‬
‫الشهاب في الشيب والشباب « ويشير إلى أنه كان يؤلف فيه سنة نيف وعشرين وأربعمائة‬
‫‪ ،2‬وهو على غرار كتابه »الشهاب« بعد أن رأى إعجاب الناس بكتابه السالف‪ ،‬فقام‬
‫باختيار ما في الشعر من طيف الخيال في شعر الطائيين ‪ :‬أبي تمام والبحتري‪ ،‬وشعر‬
‫أخيه الشريف الرضي‪ ،‬وأضاف اليه نماذج عديدة من شعراء قدامى ومحدثين يعنون‬
‫بطيف الخيال‪.‬‬
‫أن الكتاب يماثل صنوه » الشهاب « في كونه من االختيارات‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫الشعرية فإنه ينطوي في الوقت ذاته على تصورات نقدية‪ ،‬ويرد فيها على بعض النقاد‪،‬‬
‫وبخاصة اآلمدي ومن هذه التصورات ‪ :‬اللفظ والمعنى‪ ،‬والتخيل‪ ،‬والمحاكاة‪ ،‬واالبتكار‪،‬‬
‫والتقليد‪ ،‬والسرقات الشعرية‪ ،‬ونحوها من الموضوعات ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تعرض حسن كامل الصيرفي محقق كتاب طيف الخيال‪ ،‬للشريف المرتضى‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪،‬‬
‫عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1381 ،‬هـ ـ ‪ 1962‬م الى هذه الطبعات المختلفة‪ ،‬ينظر مقدمة تحقيق الكتاب‪،‬‬
‫ص ‪ 45‬ـ ‪. 46‬‬
‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬طيف الخيال‪ ،‬ص ‪. 95‬‬
‫‪39‬‬
‫) ‪ ( 2‬تقويم المراجع ‪:‬‬

‫اث الذي ندرسه بعدان ‪ :‬أولهما ‪ :‬التحديد الزماني في القرن الرابع‬ ‫حد التر َ‬
‫َي ُ‬
‫الهجري‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬انحصاره في نقاد المعتزلة‪ ،‬ولسنا أول من تناول هذا التراث بالدرس‪،‬‬
‫ويمكن تصنيف الدراسات السابقة إلى ثالث طوائف ‪:‬‬
‫الطائـفة األولى ‪:‬‬
‫عرجت على دراسة التراث‬ ‫الدراسات العامة ذات االستقصاء التاريخي التي ّ‬
‫النقدي في القرن الرابع الهجري في أثناء تعرضها لتاريخ النقد األدبي عند‬
‫العرب‪.‬‬
‫الطائفة الثانية ‪:‬‬
‫الدراسات المتخصصة في القرن الرابع الهجري‪ ،‬سواء أكانت معنية بالرصد‬
‫التاريخي لنقد هذا القرن‪ ،‬أم تناولت التيارات النقدية‪ ،‬أم قضية نقدية فيه ‪.‬‬

‫الطائفة الثالثة ‪:‬‬


‫الدراسات التي تعرضت للنقد االعتزالي في أثناء دراستها لقضية من قضايا‬
‫الموروث النقدي والبالغي‪ ،‬أو الدراسات التي تخصصت في النقد االعتزالي أو‬
‫في قضية من قضاياه‪ ،‬أو ناقد من نقاده ‪.‬‬
‫أما الدراسات العامة ذات االستقصاء التاريخي فقد شغلتها العناية بعرض المصنفات‬
‫النقدية ووصفها وتلخيص مضامينها‪ ،‬وتعرضها لعدد من اآلراء النقدية ذات التأثير البالغ‬
‫في الحركة النقدية‪ ،‬ولم تتوقف هذه الدراسات كثي اًر عند القضايا النقدية األساسية من حيث‬
‫تحليل موقف النقاد من مفهوم الشعر ومهمته وتحديد لغته‪ ،‬ومقدار التغاير الذي تنطوي‬
‫عليه تصورات النقاد بتغاير الرؤى التي يصدرون عنها ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أن هذه الدراسات قد امتدت امتداداً زمنياً متفاوتاً‪ ،‬مما جعلها‬
‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫تميل إلى التعميم‪ ،‬وتتوقف عند أعالم النقاد‪ ،‬وتعرض آلرائهم وتصوراتهم‪ ،‬مما دفع‪ ،‬من‬
‫ثم‪ ،‬إلى اإلطالة وتكرار الموضوعات المتداولة‪ ،‬إضافة إلى مرورها السريع بالقضايا النقدية‬
‫النشغالها بقضية تتبع النقد األدبي بحسب أزمانه‪ ،‬وتصنيفها إياه بحسب أعالمه‬
‫ومصنفاتهم أوالً‪ ،‬ولوقوعها تحت تأثير االمتداد الزمني الواسع مما دفع إلى تناول عام‬
‫وسريع ثانياً ‪.‬‬
‫وتعد محاولة طه أحمد إبراهيم » تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر‬
‫الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري « من المحاوالت األولية المتقدمة التي كان لها الفضل‬
‫في التنبيه إلى أهمية تاريخ النقد األدبي عند العرب وقيمته‪ ،‬وقد تتبع المؤلف تطور النقد‬
‫عرج على أثر‬
‫األدبي عند العرب ابتداء من العصر الجاهلي ومرو اًر بصدر اإلسالم‪ ،‬ثم ّ‬
‫متقدمي النحويين في النقد األدبي‪ ،‬وتوقف عند ابن سالم الجمحي وكتابه »طبقات فحول‬
‫الشعراء « إضافة إلى توقفه عند الخصومة بين القدامى والمحدثين‪ ،‬وأفرد فصالً لكل من‬
‫القرنين الثالث والرابع الهجريين ‪ ،‬ومما يالحظ امتداد الفترة الزمنية وضيق المساحة التي‬
‫أفردها لكل قرن‪ ،‬مما جعله يميل إلى التعميم‪ ،‬ويقتفي ما يراه ضرورياً‪ ،‬فهو ال يتوقف في‬
‫القرن الرابع الهجري إال عند اآلمدي والجرجاني‪ ،‬ويعرض آلرائهما عرضاً عاماً‪ ،‬ويتوقف‬
‫عند بعض القضايا‪ ،‬مقارناً بين الناقدين ‪ ،‬وقد أفاد الدارسون الالحقون من منهجه هذا‪ ،‬بل‬
‫لقد ترك آثا اًر واضحة عليهم نتلمسها بوضوح في كتابات محمد مندور‪ ،‬وإحسان عباس‪،‬‬
‫ومحمد زغلول سالم ‪.‬‬
‫أن شرع بدراسة » تيارات النقد العربي في القرن الرابع‬
‫أما محمد مندور فبمجرد ْ‬
‫الهجري « أحس بأن هذا القرن له أصول نقدية سابقة‪ ،‬كما قد امتدت له فروع فاضطر‬
‫لتوسيع مجاله مع تأكيده أنه سيحصر عنايته بالمتخصصين من النقاد ومؤرخي األدب‪،‬‬
‫ولذلك فقد امتد البحث لديه من ابن سالم الجمحي إلى ابن األثير ‪ ،‬كما أنه قد ُعني‬
‫بموضوعات النقد ومقاييسه‪ ،‬وقد ضم هذا كله كتابه المعروف » النقد المنهجي عند‬
‫العرب «ويتحدد مفهوم » النقد المنهجي « لديه بأنه » النقد الذي يقوم على منهج تدعمه‬
‫أسس نظرية وتطبيقية عامة‪ ،‬ويتناول بالدرس مدارس أدبية أو شعراء وخصومات يفصل‬
‫‪41‬‬
‫أن‬ ‫‪1‬‬
‫ويبصر بمواضع الجمال والقبح فيها« غير أنه يؤكد ّ‬
‫ّ‬ ‫القول فيها‪ ،‬ويبسط عناصرها‬
‫مركز بحثه ليس ما أشار إليه من مدارس أدبية قدر عنايته بناقدين هما ‪ :‬اآلمدي‬
‫والجرجاني ـ صاحب الوساطة ـ ولكنه على الرغم من هذا كله اضطر ليمتد بالبحث من‬
‫ابن سالم حتى ابن األثير‪ ،‬كما أشرنا ‪.‬‬
‫ويقع محمد مندور فيما وقع فيه دارسو تاريخ النقد األدبي من وصف لمصنفات‬
‫عباد »الكشف عن مساوئ المتنبي « ـ مثال‬
‫أعالم النقاد‪ ،‬ففي دراسته لرسالة الصاحب بن ّ‬
‫عباد على المتنبي‪ ،‬ويفطن‬
‫ـ ينحو فيها منحى وصفياً‪ ،‬ويقف عند تعصب الصاحب بن ّ‬
‫عباد استقالل النقد عن غيره من العلوم‪ ،‬والتفاتته إلى منهج‬ ‫إلى تأكيد الصاحب بن ّ‬
‫الصاحب في نقده المعتمد على الذوق والمعالجة الجزئية للقضايا النقدية ‪ ، 2‬ومثل هذا ما‬
‫فعله مع شروح ابن جني الشعرية وكونها ال تخلو من نقد‪ ،‬ولكنه لم يتوقف عندها طويال‬
‫لضيق المساحة التي خصصها لها‪ ،‬وألنه معني بالوصف ومقارنة ابن جني بغيره من‬
‫الشراح والنقاد ‪ ،‬وعلى الرغم من أنه توقف عند القاضي الجرجاني فقد بدأ يتحدث عن‬
‫حياة المؤلف وكتبه والمؤثرات التي كونت شخصيته العلمية‪ ،‬ثم اتجه إلى منهجه النقدي‪،‬‬
‫وتغلب على مندور نـزعته في الوصف والمقارنة من جهة حديثه عن األشباه والنظائر‪3‬‬

‫ويعنى بعدد من القضايا النقدية كالذوق‬ ‫‪4‬‬


‫وتطور لغة الشعر ومقارنة ذلك باآلمدي ‪ُ ،‬‬
‫والسرقات إضافة إلى حديثه عن منهج كتاب الوساطة ‪.‬‬
‫فإن‬
‫وإذا كان طه أحمد إبراهيم ومحمد مندور قد جنحا نحو الرصد التاريخي ّ‬
‫إحسان عباس في كتابه » تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني‬
‫الهجري حتى القرن الثامن الهجري « يحذو حذوهما‪ ،‬ويتأثر بمنهجهما‪ ،‬وبخاصة منهج‬
‫محمد مندور في أثناء تعرضه لنقاد القرن الرابع الهجري‪ ،‬ويتوقف إحسان عباس في كتابه‬

‫‪ 1‬ـ محمد مندور‪ ،‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬ص أ ‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 182‬ـ ‪. 183‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 215‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 219‬ـ ‪. 222‬‬
‫‪42‬‬
‫ـ تاريخ النقد األدبي عند العرب ـ فيما يخص القرن الرابع الهجري‪ ،‬عند الصاحب بن‬
‫ويعنى عناية بالغة كما يظهر بأعالم‬
‫عباد‪ ،‬والقاضي الجرجاني‪ ،‬والرماني‪ ،‬وابن جني‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫النقاد‪ ،‬ويتوقف عند مصنفاتهم‪ ،‬وتقترن عنايته التاريخية بوصف مصنفات النقاد وعرض‬
‫آلرائهم واختصار لها‪ ،‬إذ يشغل إحسان عباس بوصف عام لما تنطوي عليه رسالة‬
‫عباد من آراء في أثناء تعرضه للكشف عن مساوئ شعر المتنبي‪ ،‬وكذا‬ ‫الصاحب بن ّ‬
‫األمر في أثناء تعرضه لشروح ديوان المتنبي‪ ،‬ويعني بمقارنة شرح ابن جني بغيره من‬
‫أن المساحة التاريخية الممتدة التي ألزم الباحث نفسه بدراستها ـ وهي تمتد‬
‫الشراح ‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ـ هي التي دفعت به إلى العرض الوصفي ‪.‬‬
‫ويحدد محمد زغلول سالم لكتابه » تاريخ النقد العربي إلى القرن الرابع الهجري«‬
‫بعداً زمنياً يتوقف فيه عند نهاية القرن الرابع الهجري‪ ،‬وهو مهتم‪ ،‬فيما يقرر‪ ،‬بعرض‬
‫«االتجاهات الفنية والمذاهب األدبية وأثرها في الذوق العام « ‪ ،1‬ويحاول الكشف عن‬
‫مدى تطور الذوق األدبي من عصر إلى آخر‪ ،‬إضافة إلى إطالع القارئ على الخصائص‬
‫فإن المؤلف يتابع‬ ‫‪2‬‬
‫الفنية واألسلوبية المتعلقة بالنصوص األدبية ‪ ،‬وعلى الرغم من هذا ّ‬
‫موضوعات متعددة ال يحتويها نسيج موحد‪ ،‬فهو يتناول من زاوية قضايا نقدية ‪:‬‬
‫كالطبقات‪ ،‬واللفظ والمعنى‪ ،‬والسرقات‪ ،‬في حين يعنى من زاوية أخرى بمصنفات أعالم‬
‫النقاد‪ ،‬مثل ‪» :‬الشعر والشعراء« البن قتيبة‪ ،‬و »البـديع « و » طبقات الشعراء « البن‬
‫المعتز‪ ،‬و « عيار الشعر» البن طباطبا العلوي‪ ،‬و»الموازنة « لآلمدي ‪ ،‬كما ُيعنى‬
‫بالكتب التي ألفت في القرن الرابع الهجري حول شعر المتنبي‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أن الكتاب ال‬
‫يحتويه منهج محدد يكشف عن االتجاهات الفنية والمذاهب األدبية‪ ،‬كما أكد المؤلف ذلك‬
‫أن كتابه لم يقتصر على نقد الشعر‪ ،‬بل تجاوزه إلى نقد‬
‫في مقدمته ‪ ،‬ومن الجدير بالذكر ّ‬
‫النثر ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ محمد زغلول سالم‪ ،‬تاريخ النقد العربي في القرن الرابع الهجري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1964 ،‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪.5‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 5‬‬
‫‪43‬‬
‫إن محمد زغلول سالم ـ والحالة هذه ـ يعنى بأعالم النقاد ويصف مؤلفاتهم‬
‫ّ‬
‫عباد في » الكشف‬
‫النقدية‪ ،‬ويكثر من نقل النصوص‪ ،‬سواء أكان في رسالة الصاحب بن ّ‬
‫عن مساوئ المتنبي « أم من كتاب »الوساطة بين المتنبي وخصومه « للجرجاني‪ ،‬أم من‬
‫كتاب » الموشح « للمرزباني‪ ،‬إذ يشغله وصف الكتاب وتلخيص مضامينه وتتبع بعض‬
‫مفرداته واالستشهاد بنماذج منه‪ ،‬فهو لم يتوقف عند القضايا النقدية الكبرى‪ ،‬ولم يتناولها‬
‫بوصفها موضوعات تستحق الدرس والتأمل ‪ ،‬ولقد دفعه تتبع مصنفات النقاد إلى التكرار‪،‬‬
‫أن عدداً كبي اًر من القضايا النقدية التي ُعني النقاد بدراستها تتكرر في كتبهم‪،‬‬
‫وبخاصة ّ‬
‫سواء اتفقوا أو اختلفوا في تحديد مفاهيمها ومدلوالتها ‪.‬‬
‫إن االمتداد الزمني الذي ألزم به الباحثون دراساتهم وتتبعهم ألعالم النقاد في‬
‫مراحل التطور النقدي‪ ،‬إضافة إلى تعاملهم الخاص مع المنهج التاريخي الذي يعمد فيه‬
‫هؤالء الدارسون إلى وصف الكتب النقدية وعرضها وتلخيص مضامينها‪ ،‬كل هذا يقلل من‬
‫فإن هذه الدراسات قد تناولت النقاد‬
‫قيمة النتائج التي توصلوا إليها‪ ،‬إضافة إلى هذا كله ّ‬
‫دون تمايز لرؤاهم الفكرية ومواقفهم الفلسفية‪ ،‬وما تتركه هذه التصورات من آثار على‬
‫النشاط النقدي بأسره ‪.‬‬
‫أما الطائفة الثانية من الدراسات المتخصصة في القرن الرابع الهجري فنلتقي‬
‫معها في دراسة ‪ :‬قاسم مومني » نقد الشعر في القرن الرابع الهجري « وتعد هذه الدراسة‬
‫شاملة للنشاط النقدي‪ ،‬وعنيت برصد جوانبه التاريخية‪ ،‬إضافة إلى رصد قضاياه األساسية‪،‬‬
‫ويقسم الباحث دراسته إلى قسمين ‪ :‬يعنى القسم األول ‪ :‬بالمهاد التاريخي الذي يتتبع فيه‬
‫مصادر النقد واتجاهاته‪ ،‬ويعنى القسم الثاني ‪ :‬بالقضايا النقدية األساسية ‪ :‬ماهية الشعر‪،‬‬
‫ومهمته‪ ،‬وأداته ‪.‬‬
‫ولم يقتصر الباحث على الرصد التاريخي فحسب بل تجاوزه إلى تحليل نقدي‬
‫أن الباحث قد تناول القرن الرابع الهجري بكل بيئاته‬
‫للقضايا األساسية النقدية‪ ،‬غير ّ‬
‫واتجاهاته‪ ،‬فهو‪ ،‬من هذه الناحية أمام كم هائل من اآلثار والمصنفات النقدية مما جعله‬
‫يمر ببعضها مرو ار سريعا‪ ،‬أو يعمد إلى االنتقاء منها‪ ،‬إضافة إلى اختالط البيئات النقدية‬
‫لديه‪ ،‬ففي ماهية الشعر ـ مثال ـ تتجاور لديه آراء اآلمدي والجرجاني وابن فارس وأبي‬
‫‪44‬‬
‫حاتم الرازي دون الكشف عن المؤثرات العقائدية‪ ،‬وبخاصة حين يتجاور لديه ابن جني‬
‫المعتزلي مع ابن فارس األشعري‪ ،‬دون أن يكون آلرائهم وفلسفاتهم التي يصدرون عنها‬
‫أدنى تأثير في الكشف عن التصورات النقدية ‪.‬‬
‫إن تقسيم النقد إلى بيئات لغوية وكالمية وفلسفية وأدبية له مخاطر عديدة‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫أن الحدود الفاصلة بين هذه البيئات النقدية »لم تكن حدودا قاطعة‬ ‫فطن الباحث إلى ّ‬
‫فهناك دائما نقاط التداخل والتالقي«‪ 1‬ولكنه عمد إلى الفصل بينهما » لسهولة التصنيف‬
‫والتوضيح الالزمين « ‪ ، 2‬إضافة إلى هذا كان الباحث متأث ار بدراسة جابر عصفور‬
‫«الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي « في مواطن عديدة‪ ،‬إلى حد تتطابق لغتهما‬
‫في التعبير عن الموضوع المطروق وتتماثل هوامشهما إلى حد كبير‪ ،‬لدرجة تبعث على‬
‫فإن هذا البحث يقدم صورة عامة لما عليه النقد في القرن‬
‫الشك‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك ّ‬
‫طوف في موضوعات عديدة ‪ :‬كالصورة‪ ،‬والمحاكاة‪،‬‬ ‫الرابع الهجري ‪ ،‬ألن المؤلف قد ّ‬
‫واللفظ والمعنى‪ ،‬ونحوها ‪.‬‬
‫أما دراسة أحمد مطلوب » اتجاهات النقد األدبي في القرن الرابع الهجري « فهي‬
‫مخصصة ـ فيما يقرر المؤلف ـ التجاهات النقد في هذا القرن‪ ،‬وتتحدد‪ ،‬لديه بأربعة‬
‫اتجاهات‪ ،‬وهي ‪ :‬النقد والبديع‪ ،‬والنقد واإلعجاز‪ ،‬والنقد وأبوتمام‪ ،‬والنقد والمتنبي ‪ ، 3‬ومن‬
‫الجلي أن هذه العناصر ال تمثل اتجاهات قدر ما تعني محاور جذبت إليها الدارسين‬
‫بمختلف اتجاهاتهم وآرائهم‪ ،‬إذ ُعني بأبي تمام والمتنبي ـ مثال ـ نقاد تتفاوت آراؤهم‬
‫أن هذه الدراسة بتناولها النقد الذي أثير حول شاعرين أو توقفها‬
‫وتصوراتهم‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫عند قضيتين ال يحتويها نسيج موحد‪ ،‬سواء في تصنيف االتجاهات أو في معالجة نشوء‬
‫أن المؤلف ما يزال خاضعا‬
‫النقد وتطوره‪ ،‬مما ألزم به الباحث دراسته‪ ،‬واألخطر من هذا ّ‬

‫‪ 1‬ـ قاسم مومني‪ ،‬نقد الشعر في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ص ‪. 80‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 80‬‬
‫‪ 3‬ـ أحمد مطلوب‪ ،‬اتجاهات النقد األدبي في القرن الرابع للهجرة‪ ،‬وكالة المطبوعات‪ ،‬الكويت‪ 1973 ،‬م ‪،‬‬
‫ص‪.6‬‬
‫‪45‬‬
‫لمؤثرات الدراسات العامة ذات االستقصاء التاريخي من جهتي المنهج والمعالجة‪ ،‬إذ‬
‫يتوقف عند أعالم النقاد‪ ،‬وكان حريصا أن تكون دراسته » عرضا مفصال لجهودهم وأن ال‬
‫يكون لغير كالمهم سبيل إال ما تقتضي توضيحاً أو موازنة أو تفسي اًر « ‪ ،1‬ودفعه هذا إلى‬
‫متابعة مصنفات النقاد الذين انتقاهم بالعرض والوصف واإلكثار من االستشهاد بالنصوص‬
‫وقلة عنايته بالتحليل ‪.‬‬
‫ونلتقي ضمن هذه الطائفة المتخصصة بالقرن الرابع الهجري بدراسة فايز الداية‬
‫«الجوانب الداللية في نقد الشعر في القرن الرابع الهجري »‪ ،2‬وتُعنى هذه الدراسة‬
‫بالقضايا النقدية في ضوء علم الداللة‪ ،‬ويتتبع فيها الباحث الظواهر النقدية من خالل‬
‫الوعي اللغوي المعاصر‪ ،‬ولكنه فطن إلى مواطن االلتقاء والتنافر بين المناهج الحديثة لعلم‬
‫الداللة من ناحية‪ ،‬والتراث النقدي من ناحية أخرى ‪.‬‬
‫إن موضوعات علم الداللة متشعبة ومتعددة الجوانب واألبعاد‪ ،‬ولذلك دفع هذا‬
‫األمر الباحث إلى تتبع مجاالته المختلفة لتأصيل مقومات علمية لهذا العلم في ثراثنا‬
‫النقدي‪ ،‬وقد دفعه ـ أيضا ـ إلى تتبع القضايا اللغوية ـ سواء اتصلت بالعملية النقدية أو لم‬
‫تتصل ـ لتكشف عن تأصيل هذا العلم‪ ،‬ولذلك تتبع الباحث الجوانب المعيارية في العلوم‬
‫اللغوية المختلفة من حيث الصحة والخطأ في األداء‪ ،‬ووقف عند األلفاظ المحللة داللياً‬
‫وفق هذا المعيار في المصنفات النقدية واللغوية سواء بسواء ‪ ،‬وقد دار جانب من بحثه‬
‫حول التطور الداللي ليكشف عن تميز الشاعر باستخدام لغوي خاص‪ ،‬وتابع األلفاظ‬
‫أن دراسة التطور الداللي إنما تقدم بعداً‬
‫والعبارات بحسب سياقاتها‪ ،‬وهو يؤكد ـ في هذا ـ ّ‬
‫يهتدي به الناقد في أثناء تحليله للشعر‪ ،‬ولم يتوقف الباحث عند هذا‪ ،‬بل يتابع في ضوء‬
‫المنطق الداللي قضية اللفظ والمعنى‪ ،‬وتمايز الداللة وتغايرها‪ ،‬سواء في المعجم أو في‬
‫السياق اللغوي‪ ،‬وينهي بحثه بدراسة األبحاث الداللية المتعلقة بالمجاز من مجال إلى‬
‫آخر‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪. 10 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ وهي رسالة دكتوراه‪ ،‬جامعة القاهرة‪. 1978 ،‬‬
‫‪46‬‬
‫إن الباحث في تتبعه لهذه القضايا المتعددة يجمع بينها ليكشف عن علم للداللة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وحّفزه هذا في النهاية إلى نشر هذه الدراسة مع بعض التقديم والتأخير ليصدق عليها‬
‫عنوان »علم الداللة العربي‪ ،‬النظرية والتطبيق‪ ،‬دراسة تاريخية تأصيلية نقدية « ‪.‬‬
‫وتطالعنا في الطائفة الثالثة من الدراسات التي تعرضت آلراء اعتزالية دراسة‬
‫ويعنى هذا الكتاب عناية‬
‫جابر عصفور »الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي «‪ُ ،‬‬
‫خاصة بقضية » الصورة « من حيث تأصيل مفهوم الخيال والكشف عن طبيعة الصورة‬
‫في مفهومها القديم‪ ،‬ويتوقف عندها المؤلف بوصفها أنواعا بالغية ‪ ،‬وقد دفع ذلك إلى‬
‫دراسة البيئات العلمية التي أسهمت في النشاط النقدي‪ ،‬كاللغويين والمتكلمين‪ ،‬والفالسفة‪،‬‬
‫وقاد هذا كله إلى دراسة المجاز والتشبيه واالستعارة‪ ،‬وكيفية تأدية التصوير وأدائه‪ ،‬ومن ثم‬
‫أن الكتاب يعنى بالصورة بوصفها محو ار‬ ‫معالجة الصورة ووظائفها‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫مركزيا تدور حوله الدراسة فلقد أفادت منه دراستنا فيما يتصل بمعالجته لتأثير المعتزلة‬
‫بخاصة‪ ،‬ودورهم في مبحث المجاز وتأصيل موضوعاته وتحديد طبيعته ومهمته بعامة ‪،‬‬
‫وهذا الكتاب ليس مخصصاً للنقد االعتزالي‪ ،‬وإنما هو مخصص بالصورة في مساحة‬
‫زمنية ممتدة‪ ،‬ولذا فإنه كان يمر بالقضايا االعتزالية لتأصيل قضيته المركزية ‪.‬‬
‫وال يفوتني ـ هنا ـ أن أشير إلى بعض الدراسات التي لفتت األنظار إلى أثر‬
‫المعتزلة في النقد العربي‪ ،‬ومهدت لها السبيل‪ ،‬ومن هذه دراسة طه حسين »البيان العربي‬
‫من الجاحظ إلى عبد القاهر « وهي مقدمة لكتاب »نقد النثر « المنسوب خطأ لقدامة بن‬
‫جعفر‪ ،1‬ومن هذه الدراسات أيضا دراسة أمين الخولي » مناهج تجديد في النحو والبالغة‬
‫والتفسير واألدب « في أثناء تعرضه للتمايز بين المدرسة األدبية والكالمية ‪ ،2‬والبد من‬

‫‪ 1‬ـ نشرت هذا الكتاب دار الكتب المصرية في القاهرة‪ ،‬بتحقيق ‪ :‬طه حسين‪ ،‬وعبد الحميد العبادي‪ ،‬سنة‪،‬‬
‫أن الكتاب البن وهب الكاتب‪ ،‬وعنوانه » البرهان في وجوه البيان« وقام‬
‫‪ 1351‬هـ ‪ 1933‬م‪ ،‬وقد ثبت ّ‬
‫بتحقيقه ‪ :‬أحمد مطلوب‪ ،‬وخديجة الحديثي‪ ،‬ونشرته مطبعة العاني‪ ،‬ببغداد‪ ،‬سنة ‪. 1967‬‬
‫‪ 2‬ـ أمين الخولي‪ ،‬مناهج تجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪1961 ،‬م ‪ ،‬ص ‪:‬‬
‫‪ 125‬ـ ‪ 126‬و ‪ 159‬ـ ‪. 163‬‬
‫‪47‬‬
‫اإلشارة إلى كتاب مصطفى ناصف » الصورة األدبية « الذي تعرض فيه لبعض آراء‬
‫المعتزلة وأثرها في النقد ‪. 1‬‬
‫وتعد دراسة نصر حامد أبو زيد » االتجاه العقلي في التفسير‪ ،‬دراسة في قضية‬
‫المجاز في القرآن عند المعتزلة « من الدراسات التي تخصصت بدراسة قضية أسهمت‬
‫المعتزلة في إنضاجها وتعميق الدرس حولها‪ ،‬وتتسم هذه الدراسة بتتبع مبحث المجاز‬
‫وتقصي «ظروف نشأته‪ ،‬وأثر القرآن في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ « ‪2‬‬
‫ليكشف‪ ،‬من ثم‪ ،‬عن مدى العالقة الوثيقة بين الفكر االعتزالي والمجاز ‪ ،‬ومن أجل أن‬
‫يحقق الباحث هدفه هذا في تقصي المجاز وفي الكشف عن مدى عالقته باألصول‬
‫الفكرية للمعتزلة راح يتقصى مصادر التفكير االعتزالي‪ ،‬وقد قاده ثراء الكتب االعتزالية‬
‫وتنوعها في هذا المجال إلى الكشف عن العالقة الفاعلة بين األبحاث اللغوية والداللية‬
‫أن المجاز وسيلة‬
‫ودورها في الكشف عن وظيفة المجاز وتحديد ماهيته‪ ،‬ألنه كان يدرك ّ‬
‫فإن فهم طبيعة المجاز ووظيفته يتصل بفهم أشمل‬ ‫من وسائل األداء اللغوي‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫لطبيعة اللغة ‪ ،‬وقاده هذا إلى متابعة أصول تاريخية وفكرية ولغوية أخذت مساحة ليست‬
‫قليلة من جهد الباحث‪ ،‬فضال عن مقارنته أفكار المعتزلة باألشـاعرة‪ ،‬إيمانا منه بأن هذه‬
‫المقارنة »تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر االعتزالي«‪. 3‬‬
‫وعلى الرغم من أن الباحث قد قصر جهده على واحدة من قضايا البحث‬
‫فإن دراسته توزعت على تمهيد تاريخي يعد طويال‪ ،‬وفصل‬‫البالغي‪ ،‬وهي قضية المجاز‪ّ ،‬‬
‫ُعني كثي ار بمدى العالقة بين المعرفة والداللة اللغوية‪ ،‬لتتأتى دراسته المتخصصة في‬
‫فصلين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يعنى بمفهوم المجاز من حيث نشأته وتطوره‪ ،‬واآلخر ‪ :‬يعنى ‪:‬‬
‫بعالقة المجاز بالتأويل‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ مصطفى ناصف‪ ،‬الصورة األدبية‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪ 1958 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 74‬ـ ‪.88‬‬
‫‪ 2‬ـ نصر حامد أبو زيد‪ ،‬االتجاه العقلي في التفسير‪ ،‬دراسة في قضية‪ ،‬المجاز في القرآن عند المعتزلة‪ ،‬دار‬
‫التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ 1982 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 5‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪48‬‬
‫إن هذا البحث يتتبع تطور مفهوم المجاز في ضوء المنهج التاريخي المقارن‪،‬‬
‫منذ بداياته األولى‪ ،‬ويتوقف عند القرن الرابع الهجري‪ ،‬وهي مساحة زمنية ليست قليلة‪ ،‬مما‬
‫دفعه إلى تخصيص هذا البحث بعدد من كبار علماء المعتزلة‪ ،‬وينحصر بحثه فيما يمكن‬
‫تسميته بالمتكلمين من المعتزلة غالبا‪ ،‬على أن قضية في غاية األهمية مفادها ‪ :‬أن‬
‫الباحث كان يدرس كبار مؤلفي المعتزلة وهو متأثر بمناهج االستقصاء التاريخي في أثناء‬
‫تتبعه لمصنفات هؤالء الكتاب تتبعا تاريخيا‪ ،‬ثم يعمد إلى عرضها ووصفها‪ ،‬مما قاد إلى‬
‫ألوان من التكرار دون تتبع الظاهرة ضمن قضايا كلية تحكمها وتثري جوانبها ‪.‬‬
‫وهناك بحث آخر تخصص بالمعتزلة وهو » أثر المعتزلة في التراث النقدي‬
‫والبالغي حتى نهاية القرن السادس الهجري « وهو رسالة دكتوراه أعدها ‪ :‬وليد إبراهيم‬
‫قصاب‪ ،‬وتقدم بها إلى جامعة القاهرة سنة ‪ 1976‬م‪ ،‬وتتناول هذه الدراسة جهود المعتزلة‬
‫منذ نشأتهم في القرن الثاني الهجري على أيدي ‪ :‬واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد‪،‬‬
‫وتتوقف عند نهاية القرن السادس الهجري عند الزمخشري ‪ ،‬وقد اتبع الباحث في دراسته‬
‫المنهج التاريخي في تتبع الشخصيات االعتزالية في القسم األول من دراسته‪ ،‬فأفرد فصال‬
‫لنشأة البحث البالغي والنقدي عند المعتزلة في القرنين الثاني والثالث الهجريين‪ ،‬وخصص‬
‫فصال آخر لتطور البحث البالغي والنقدي في القرنين الرابع والخامس الهجريين‪ ،‬وجعل‬
‫فصال ثالثا للزمخشري بوصفه مستوعبا لما كتبه المعتزلة من تصورات وآراء في تفسيره‬
‫للقرآن الكريم المعروف بـ »الكشاف « كما قد تناول الباحث في القسم الثاني من دراسته‬
‫بعض القضايا كإعجاز القرآن‪ ،‬والمجاز‪ ،‬واللفظ والمعنى ‪.‬‬
‫إن هذه الدراسة الممتدة في مساحتها الزمانية قد ركزت على أثر المعتزلة في‬
‫ّ‬
‫تأصيل التراث البالغي والنقدي‪ ،‬وقد خضعت للمنهج التاريخي الذي ُيعنى بعرض‬
‫مصنفات المؤلفين ووصفها‪ ،‬ففي تتبعه لرسـالة الرماني »النكت في إعجاز القرآن « ـ مثال‬
‫ـ إنما يتتبعها في قضاياها عارضا لها وواصفا موضوعاتها بحسب الترتيب والتسلسل‬
‫اللذين أرساهما المؤلف نفسه‪ ،‬مستعينا بشروح وإيضاحات من أفاد من هذه الرسالة في‬
‫القرون الالحقة‪ ،‬وفعل مثل هذا بغيرها من مصنفات المعتزلة ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وإذا كان هذا العرض التاريخي الوصفي لمؤلفات المعتزلة قد استنـزف من‬
‫فإن تناوله للقضايا التي ُعني بها ل ايقل عنها‬
‫الباحث جهدا واحتل مساحة من الدراسة ّ‬
‫من حيث استنـزاف الجهد مقروناً برؤية تقليدية تتابع القضايا وتعالجها ‪.‬‬
‫إن امتداد هذا البحث في فترة زمنية طويلة‪ ،‬واالستخدام الخاص للمنهج التاريخي‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫الوصفي الذي تتبع فيه الباحث مصنفات المؤلفين تتبعا وصفيا‪ ،‬إضافة إلى تأكيده » ّ‬
‫أن اثر االعتزال ال‬ ‫‪1‬‬
‫المعتزلة مدرسة كالمية دينية أكثر منها مدرسة أدبية نقدية « و » ّ‬
‫يظهر إال عندما يعالج الناقد مسألة كالمية تتصل ببعض أمور العقيدة «‪ ،2‬كما أن هذه‬
‫الدراسة قد عنيت بمقدار أثر المعتزلة في التراث النقدي‪ ،‬وليست هادفة إلى الكشف عن‬
‫مقدار التأصيل‪ ،‬كل هذه تقلل من قيمة النتائج التي توصل إليها الباحث‪ ،‬وتدفع إلى‬
‫دراسات تتجاور االمتداد التاريخي الواسع‪ ،‬وتعنى بقضايا محددة في إطار الفكر االعتزالي‬
‫مستعينة بمناهج تتجاوز الوصف إلى التأصيل والتحليل ‪.‬‬
‫أما كتاب » بالغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات‬
‫البالغية« لعبد الفتاح الشين‪ 3‬فإننا ال نريد التوقف عنده طويال‪ ،‬النشغال الباحث بالدرس‬
‫التاريخي المقارن أوال‪ ،‬ولطبيعة المنهج الذي ألزم به بحثه ثانيا‪ ،‬فعلى صعيد التتبع‬
‫التاريخي عني الباحث بالبالغة ودراستها قبل اإلسالم وبعده‪ ،‬ومرو ار بالجاحظ وابن قتيبة‬
‫وابن المعتز وابن طباطبا العلوي وأبي هالل العسكري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ثم تتبع حياة القاضي عبد‬
‫الجبار بن أحمد وآثاره‪ ،‬وتتبع أفكار المعتزلة‪ ،‬كما أفرد فصوال لمن تأثر بالقاضي عبد‬
‫الجبار بن أحمد على كثرتهم ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ينظر ‪ :‬وليد قصاب‪ ،‬أثر المعتزلة في التراث النقدي والبالغي حتى نهاية القرن السادس الهجري‪ ،‬ص ‪:‬‬
‫ج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الكتاب في األصل رسالة علمية مقدمة الى جامعة األزهر‪ ،‬ومن ثم نشرتها دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫سنة ‪. 1978‬‬
‫‪50‬‬
‫أن القاضي عبد الجبار لم‬‫أما من جهة المنهج فعلى الرغم من أنه يعي تماماً ّ‬
‫يكن يعرف بدقة تقسيم البالغة إلى ثالثة علوم فإنه قد ألزم بحثه بهذا التصنيف التقليدي‬
‫لعلوم البالغة‪ ،‬وأخذ ينقب ويفتش في كتب القاضي عبد الجبار بن أحمد إلرجاع أية إشارة‬
‫إلى قضية في إطار علوم البيان والبديع والمعاني‪ ،‬واألخطر من هذا كله أنه كان يؤسس‬
‫أصوال لمجرد إشارة قالها القاضي عبد الجبار‪ ،‬أو ألنه أستشهد بآية قرآنية كريمة رأى فيها‬
‫المتأخرون قضية بالغية‪ ،‬وهذا كثير في الكتاب ‪ ،‬وهذا من شأنه أن يقلل من أهمية‬
‫البحث والنتائج التي توصل إليها الباحث‪ ،‬ألنها ـ في الحقيقة ـ ال تقدم جديداً‪ ،‬وال تكشف‬
‫عن قضية جديدة في مجال الدرس النقدي والبالغي‪.‬‬
‫وأخي اًر هناك بحث تخصص بالقاضي الجرجاني أعده عبد العزيز قلقيلة‪ ،‬وعنوانه‬
‫‪ » :‬النقد األدبي عند القاضي الجرجاني « ونشر مرتين‪ ،‬نشرته مكتبة االنجلو المصرية‬
‫في القاهرة سنة ‪ 1976‬م‪ ،‬وسبق أن نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ‪1973‬م‬
‫في القاهرة أيضـا تحت عنـوان » القاضي الجرجاني والنقد األدبي « ‪ ،‬ويعنى هذا الكتاب‬
‫بالتأصيل التاريخي للنقد األدبي عند القاضي الجرجاني من حيث التوثيق والمقارنة‪ ،‬فهو‬
‫يتتبع اآلراء النقدية قبل القرن الرابع الهجري ابتداء من العصر الجاهلي ومرو ار بابن سالم‬
‫الجمحي والجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن المعتز وقدامة بن جعفر وابن العميد واآلمدي‪،‬‬
‫كما يتتبع ترجمة المؤلف ونسبة كتاب »الوساطة « اليه‪ ،‬ولم يكتف بهذا‪ ،‬بل راح يتابع من‬
‫تأثر به من النقاد في القرون التالية كالثعالبي‪ ،‬وعبد القاهر الجرجاني‪ ،‬والباقالني‪،‬‬
‫والمرزوقي‪ ،‬وابن بسام‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وأكثر من هذا أنه عالج مواطن التقاء آراء‬
‫القاضي الجرجاني بآراء فالسفة ونقاد‪ ،‬إغريق وغربيين‪ ،‬كآرسطو وهوراس وهيجو وسانت‬
‫بيف وكروتشة وستانلي هايمن‪ ،‬وغيرهم كثير ‪ ،‬وقد خصص فصال واحدا للنقد األدبي في‬
‫» الوساطة « وهوا لفصل الثالث الذي عالج فيه آراء القاضي الجرجاني النقدية‪ ،‬وقسمه‬
‫إلى مبحثين ‪ :‬أولهما ‪ :‬يعنى بالقضايا النقدية كلغة الشعر والذوق األدبي والسرقات‬
‫الشعرية وعمود الشعر ونحوها‪ ،‬والثاني ‪ :‬يعنى بالقضايا البالغية في كتاب »الوساطة «‬
‫ويهتم بالبديع‪ ،‬واالستعارة‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬والجناس‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬ونحوها ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫وعلى الرغم من تطواف المؤلف في التراث النقدي ابتداء من العصر الجاهلي‬
‫حتى ابن خلدون‪ ،‬وفضال عن مقارناته العديدة بين القاضي الجرجاني وغيره من النقاد‪،‬‬
‫أن يتجاوز الدراسات السابقة كدراسة «النقد‬
‫عربا وأجانب‪ ،‬قدامى ومحدثين‪ ،‬فأنه لم يستطع ْ‬
‫المنهجي عند العرب« لمحمد مندور‪ ،‬ودراسة إبراهيم سالمة » بالغة ارسطو بين العرب‬
‫واليونان « فقد وقع تحت تأثيرهما‪ ،‬وبخاصة الدراسة الثانية‪ ،‬حتى لتكاد تكون دراسته‬
‫توسيعا للبحث الذي عقده إبراهيم سالمة للقاضي الجرجاني في كتابه سالف الذكر ‪ ،‬وهذا‬
‫يدفعنا إلى اإلشارة إلى هذا الكتاب الذي يحاول الكشف عن الوشائج التي تربط النقد‬
‫األدبي عند العرب بأرسطو‪ ،‬ومقدار تأثير البالغة األرسطية بالنقد العربي‪ ،‬اذ تناول‬
‫المؤلف عدداً من النقاد منهم ‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬وأبو هالل العسكري‪ ،‬واآلمدي‪ ،‬والقاضي‬
‫الجرجاني ‪ ،‬ويعنى إبراهيم سالمة بكتاب »الوساطة « من حيث التأثر‪ ،‬والتأثير‪ ،‬ولذا عقد‬
‫المقارنة بين آراء القاضي الجرجاني ومدام دي ستايل‪ ،‬وسانت بيف‪ ،‬مثال‪ ،‬ويعقد المقارنة‬
‫إن انشغال المؤلف بالمقارنة والكشف عن آثار البالغة‬
‫بينه و بين عبد القاهر الجرجاني ‪ّ ،‬‬
‫اآلرسطية في النقد العربي قد نأى بالبحث بعيدا عن التأصيل‪ ،‬وحذا حذوه من تأثر به ‪.‬‬
‫وأود اإلشارة ـ هنا ـ إلى دراسة مست موضوعنا مسا عارضا‪ ،‬وهي دراسة محمد‬
‫زغلول سالم » أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري « وقد‬
‫توقف المؤلف فيما يخص بحثنا عند الرماني والقاضي الجرجاني‪ ،‬وعرض لرسالة الرماني‬
‫«النكت في إعجاز القرآن« عرضا سريعا‪ ،‬وتناول بعض آرائه البالغية بحسب ورودها‬
‫وتسلسلها في الرسالة‪ ،‬وفعل مثلها في » وساطة « الجرجاني ‪.‬‬
‫وال أريد اإلشارة إلى كل دراسة تعرضت ولو على نحو يسير لناقد من نقاد بحثنا‬
‫ألن هذا سيكون من الكثرة بحيث ال يمكن لهذا التمهيد أن يحيط به‪ ،‬كما أننا قد أشرنا في‬
‫هوامش البحث وفهرس المصادر والمراجع‪ ،‬إلى هذه المراجع التي أفدنا منها حقيقة ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫القسم الثاني‬
‫األصول الفكرية للمعتزلة‬

‫) ‪ ( 1‬المعرفـة العقلية ‪:‬‬

‫إذا استثنينا المعرفة الضرورية التي أودعها هللا فطرياً في اإلنسان َّ‬
‫فإن للمعرفة‬
‫أن هذا التصنيف‬
‫لدى المعتزلة بعدين جوهريين ‪ :‬أحدهما عقلي‪ ،‬واآلخر نقلي‪ ،‬غير ّ‬
‫إن أحدهما يسبق اآلخر ويتأسس عليه‪ ،‬ففي حين‬
‫لبعدي المعرفة ليس دقيقاً تماماً‪ ،‬إذ ّ‬
‫ويعول عليه كغاية ومعيار في آن‪ ،‬يتراجع النقل ـ الكتاب‬
‫يحتل العقل مكان الصدارة‪ّ ،‬‬
‫والسنة ـ إلى أداة نصية تخضع ألبعاد العقل‪ ،‬وحدوده‪ ،‬ولذا حصل التفاوت بين هذين‬
‫البعدين ليكون العقل سابقاً‪ ،‬ويستخدمه اإلنسان ليكشف به عن الحقيقة وعن الحكم‬
‫الشرعي على نحو إجمالي‪ ،‬ويكون النقل الحقاً للعقل وخاضعاً له‪ ،‬وقابالً للتفسير في‬
‫ضوء معطياته ‪.‬‬
‫ولقد عني المعتزلة كثي اًر بالعقل واعتبروه أداتهم المعرفية األساسية‪ ،‬واستخدموه‬
‫في الجدل والنقاش‪ ،‬وأخضعوا له الظواهر الفلسفية الكبرى‪ ،‬وأقاموا على أساسه تصورهم‬
‫وتحكمه فيه‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫عن هللا والعالم واإلنسان‪ ،‬ومن هنا جاء الحديث عن سبق العقل للسمع‪،‬‬
‫أن معرفة القرآن ومعرفة الرسول ال تتم إال‬ ‫‪1‬‬
‫إن معرفة السمع ال تصح إال بالعقل ‪ ،‬بمعنى ّ‬ ‫ّ‬
‫بوجود العقل ألنهما ـ أي الرسول والقرآن ـ عرفا به‪ ،‬ولم يعرف بهما‪.2‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬حقق بإشراف طه حسين وإبراهيم‬
‫مدكور‪ ،‬و ازرة الثقافة واإلرشاد القومي مصر‪ 1960 ،‬م ـ ‪ 1965‬م ‪.151/14 ،‬‬
‫الرسي‪ ،‬أصول العدل والتوحيد‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد« تحقيق محمد عمارة‪ ،‬دار‬ ‫‪2‬‬
‫ـ القاسم ّ‬
‫الهالل‪ ،‬القاهرة‪ 1971 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪53‬‬
‫وتتخلق المعرفة لدى اإلنسان أساساً‪ ،‬فهو الذي يصنعها مستعيناً بقدرته وبفعله‬
‫النابع من هذه القدرة من ناحية‪ ،‬ومعتمداً على حرية اإلرادة اإلنسانية من ناحية ثانية‪،‬‬
‫فإن المعرفة التي يتلقاها اإلنسان عن طريق الوحي ليست متقدمة على المعرفة‬
‫ولذلك ّ‬
‫أن األولى ـ أي الوحي ـ تزيد الثانية تخصيصاً‪ ،‬ليخلص‬
‫اإلنسانية‪ ،‬غاية ما في األمر ّ‬
‫أن ال تناقض بين المعقول والمنقول‪،‬‬‫أن بعدي المعرفة متطابقان‪ ،‬و ْ‬
‫المعتزلة من هذا إلى ّ‬
‫أن النص يؤكد‬‫أن يميز بين الحسن والقبح‪ ،‬والشر والخير‪ ،‬و ّ‬‫ألن اإلنسان قادر بعقله على ْ‬
‫ّ‬
‫ما توصل اليه العقل‪ ،‬ويزيـده تخصيصاً‪ ،‬أو أنه يع ّـرفنا «بتفصيل الجملة المستقرة في‬
‫أن اإلنسان مكلف نـزل الوحي أو لم ينـزل‪ ،‬ما دام اإلنسان‬ ‫‪1‬‬
‫العقل» ولذلك أكد المعتزلة ّ‬
‫كائناً عاقالً قاد اًر بعقله على الكشف والتمييز بين الحسن والقبح‪.‬‬
‫فإن الدليل‬
‫وحين يتعارض العقل والسمع‪ ،‬أو الدليل العقلي والدليل السمعي‪ّ ،‬‬
‫أن رؤية اإلنسان ُتلقى ظاللها‬
‫السمعي يخضع للدليل العقلي تأويالً وتفسي اًر‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أن المعتزلة تؤكد تطابق‬
‫على النص السمعي فتصبغه بطابعها الخاص‪ ،‬على الرغم من ّ‬
‫الدليلين‪ ،‬وتطابق نمطي المعرفتين العقلية والنقلية ‪ ،‬ويبقى التمايز بين المعرفتين قائماً‪،‬‬
‫فالمعرفة البشرية تمثل تصو اًر متخلقاً في داخل اإلنسان‪ ،‬ونابعاً من إرادته وفعله‪ ،‬ومقترناً‬
‫بعقله‪ ،‬أما المعرفة اإللهية فإنها تمثل تصو اًر يفسر لإلنسان ‪ :‬هللا‪ ،‬والعالم‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬غير‬
‫متلق‪ ،‬فهو ليس صانعاً للمعرفة‪ ،‬وليس مسهماً في‬‫أن اإلنسان يتحول إزاءها من مبدع إلى ٍ‬ ‫ّ‬
‫متلق سيكون على أحسن األحوال واعياً لمعطياتها ‪.‬‬
‫إيجادها‪ ،‬وإنما هو ٍ‬
‫أن المعتزلة أصحاب نـزعة عقلية متميزة‪ ،‬فقد جعلوا العقل‬‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫أداتهم في معالجة القضايا والظواهر‪ ،‬ألنه يمثل القوة القادرة على إرساء البناء الفكري‪،‬‬
‫وبدونه ال يمكن إدراك الحقائق‪ ،‬كما أنه ال يمكنه أن يكشف عن القضايا إال إذا بلغ درجة‬
‫من النضج‪ ،‬وليس شرطاً تحقيق هذا بالوحي‪ ،‬ألنه ـ أي العقل ـ قادر بذاته‪ ،‬والقدرة تعني‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المختصر في أصول الدين‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد «‬
‫تحقيق محمد عمارة‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬القاهرة‪ 1971 ،‬م ‪ ،‬ص ‪236‬‬
‫‪54‬‬
‫اشتماله على مجموعة من المعارف والعلوم الخاصة التي متى » صحت في المكلف صح‬
‫منه النظر واالستـدالل والقيام بأداء ما كلف « ‪. 1‬‬

‫)‪ (2‬أركان الفكر االعتزالي ‪:‬‬

‫يرتكز االعتزال على أصول خمسة هي بحسب أهميتها في الترتيب ‪ :‬التوحيد‪،‬‬


‫والعدل‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والمنـزلة بين المنـزلتين‪ ،‬واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪،‬‬
‫فبـ«التوحيد« ‪ :‬يتحدد موقف المعتزلة من هللا والعالم‪ ،‬وبـ » العدل « ‪ :‬يتحدد موقفهم من‬
‫اإلنسان وحريته‪ ،‬ويمثل التوحيد والعدل الركنين األساسين اللذين تتفرع عنهما بقية‬
‫األصول‪ ،‬إذ ينطوي » الوعد والوعيد « ‪ :‬على موقف المعتزلة من مصير اإلنسان‪،‬‬
‫ويتحدد في » المنـزلة بين المنـزلتين « ‪ :‬موقف المعتزلة من النظرية األخالقية‪ ،‬في حين‬
‫يحدد «األمر بالمعروف والنهي عن المنكر » ‪ :‬موقفهم من القضية السياسية ‪.‬‬
‫ويعني » التوحيد « لدى المعتزلة تنـزيه هللا سبحانه عن المماثلة والمشابهة لما‬
‫سواه‪ ،‬فهو القديم الذي » ال يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد‬
‫الذي يستحقه«‪ ،2‬والتوحيد متعلق بالذات اإللهية وتنـزيهها‪ ،‬وقد قاد هذا إلى الحديث عن‬
‫فإن هللا ال‬
‫صفات هللا‪ ،‬وقسمها المعتزلة إلى ‪ :‬صفات ذات‪ ،‬وصفات أفعال‪ ،‬أما األولى ‪ّ :‬‬
‫يوصف بأضدادها‪ ،‬وال بالقدرة على أضدادها‪ ،‬كالقدرة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والحياة‪ ،‬والوجود ‪ ،‬ويجوز‬
‫في الثانية ‪ :‬أن يوصف هللا بأضدادها‪ ،‬وبالقدرة على أضدادها‪ ،‬ومنها الكالم‪ ،‬أي كالم‬
‫هللا‪ ،‬الذي تفرعت عنه قضية خلق القرآن الشهيرة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪375/11 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬بتعليق األمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم‪،‬‬
‫تحقيق عبد الكريم عثمان‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪1965 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 28‬‬
‫‪55‬‬
‫ويتصل التوحيد من زاوية أخرى باإلنسان وكيفية توحيده هلل‪ ،‬إذ ال يصح أن‬
‫يكون اإلنسان موحدا إال إذا علم بوحدانية هللا‪ ،‬وما يستحق من صفات‪ ،‬و ّ‬
‫البد له من‬
‫يقر‪ ،‬أو أقرّ ولم يعلم لم يكن‬
‫االعتقاد مع العلم واإلقرار بذلك‪ ،‬ألن اإلنسان « لو علم ولم ّ‬
‫موحداً »‪. 1‬‬
‫فإن العدل تنـزيه هللا‬
‫وإذا كان التوحيد تنـزيه هللا عن المماثلة والمشابهة لما سواه‪ّ ،‬‬
‫يعرفه القاضي عبد الجبار بن أحمد ـ » وضع الشي في غير‬ ‫عن الظلم‪ ،‬والظلم ـ كما ّ‬
‫فإن العدل يعني وضع الشيء في موضعه ‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫موضعه « ‪ ،‬وفي ضوء مفهوم المخالفة ّ‬
‫أن أفعال هللا كلها حسنة‪ ،‬وأنه ال يفعل القبيح‪ ،‬وال يخل بما هو‬
‫ويقود مفهوم العدل إلى ّ‬
‫أن العدل تنـزيهه ـ سبحانه ـ عن أمور ثالثة ‪:‬‬
‫واجب عليه‪ ،‬أو ّ‬
‫أولـهـا ‪ :‬القبائح أجمع ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أن ال يفعل ما يجب من ثواب وغيره ‪.‬‬‫وثانيها ‪ :‬تنـزيهه عن ْ‬ ‫‪‬‬

‫وثالثها ‪ :‬تنـزيهه عن التعبد بالقبيح وخالف المصلحة وإثبات جميع أفعاله حكمة‬ ‫‪‬‬

‫وعدالً وصواباً ‪. 3‬‬


‫ويتصل مفهوم العدل من ناحية أخرى باإلنسان وحريته‪ ،‬ألن عدالة هللا تقتضي‬
‫أن اإلنسان حر في إرادته واختياره‪ ،‬وحر في‬
‫أن هللا ال يكلف اإلنسان ما ال يطيقه‪ ،‬كما ّ‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫قدرته على خلق أفعاله خيرها وشرها ‪ ،‬وإذا كان اإلنسان يصنع أفعاله بإرادته جاز ْ‬
‫نصفها بالحسن والقبح‪ ،‬ويرى المعتزلة أنه يمكن بالعقل إدراك قبح األشياء والظواهر‬
‫أن الحسن والقبح يمثالن قيماً ذاتية كائنة في األشياء واألفعال‪ ،‬ولهذا‬
‫واألعمال وحسنها‪ ،‬و ّ‬
‫فهما ُبعدان عقليان ثابتان‪ ،‬وليسا نسبيين يتغيران بتغير األزمان واألذواق ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.28‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 28‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المختصر في أصول الدين‪ ،‬ص ‪ 169‬ينظر له أيضاً ‪ :‬شرح األصول‬
‫الخمسة‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪56‬‬
‫أما الوعد والوعيد فعلى الرغم من أنهما محكمان بمنطق العقل ومرتبطان بالفعل‬
‫ألن اإلنسان مكلف في هذه‬‫اإلنساني فإنهما ينبئان عن مصير اإلنسان في العالم اآلخر‪ّ ،‬‬
‫فالبد له من حساب على أعماله هذه‪ ،‬وهذا يعني ارتباط أفعال اإلنسان بالعدالة‬
‫ّ‬ ‫الحياة‪،‬‬
‫فإن الوعد والوعيد مقترنان‬
‫اإللهية من ناحية‪ ،‬وبالحرية اإلنسانية من ناحية أخرى‪ ،‬ولذا ّ‬
‫بأن هللا » وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب‪ ،‬وأنه يفعل ما وعد‬
‫بوعي اإلنسان ّ‬
‫به وتوعد عليه ال محالة‪ ،‬وال يجوز عليه الخلف والكذب«‪. 1‬‬
‫ولقد ُعرفت المعتزلة بمقولتها الشهيرة » المنـزلة بين المنـزلتين « في حق مرتكب‬
‫الكبيرة‪ ،‬وقد اختلفت الفرق اإلسالمية في موقفها من مرتكب الكبيرة‪ ،‬فذهب بعضها إلى‬
‫أن المعتزلة توسطت في ذلك‪ ،‬وجعلت مرتكب‬ ‫إيمانه‪ ،‬وذهب بعضها إلى كفره‪ ،‬غير ّ‬
‫الكبيرة فاسقاً‪ ،‬فهو في منـزلة بين منـزلتي الكفر واإليمان‪ ،‬أي أنه ليس مؤمناً‪ ،‬ألن المؤمن‬
‫موحد مؤمن باهلل‪ ،‬فهو‬
‫ٌ‬ ‫ال يرتكب الكبيرة‪ ،‬وإن ارتكبها تاب عنها‪ ،‬وهو ليس كاف اًر‪ ،‬ألنه‬
‫فاسق‪ ،‬وأن أحكام المؤمن ال تجري عليه‪ ،‬وكـذلك أحـكام الكـافر‪ ،‬فله «اسـم بين االسمين‬
‫وحـكم بين الحكمين«‪. 2‬‬
‫ويمثل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أداة تغييرية يسعى المعتزلة إلى‬
‫تمكينها في الواقع االجتماعي لتقود إلى بعدين ‪ :‬أخالقي وسياسي في آن واحد‪ ،‬ويستدل‬
‫المعتزلة بالعقل لتحقيق هذا البعد‪ ،‬ألنه من الحسن العقلي أن يمنع المعتزلي فعل القبيح‪،‬‬
‫كما يستعينون بالنقل من اآليات القرآنية الكريمة واألحاديث النبوية لتعضيد وجهة نظرهم‪،‬‬
‫قسم المعتزلة المعروف إلى واجب ومندوب‪ ،‬أما المناكير فكلها من باب واحدة‪ ،‬ويجب‬
‫وقد ّ‬
‫ألن »النهي إنما يجب لقبحها‪ ،‬والقبح ثابت في الجميع « ‪. 3‬‬
‫النهي عنها‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪ 135‬ـ ‪136‬‬
‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المختصر في أصول الدين‪ ،‬ص ‪248‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪.745‬‬
‫‪57‬‬
‫) ‪ ( 3‬حرية اإلنسان ‪:‬‬

‫وقد عني المعتزلة بحرية اإلنسان لكونها تؤكد أهمية العقل ودوره في اختيار‬
‫اإلنسان ألفعاله من ناحية‪ ،‬ولكونها تؤكد العدل اإللهي أحد أبرز أركان األيديولوجية‬
‫فإن انتفت‬
‫االعتزالية من ناحية ثانية‪ ،‬وترتبط المسئولية بالحرية ارتباط المعلول بعلته‪ْ ،‬‬
‫الحرية انتفت المسئولية‪ ،‬إذ كيف يكلف هللا سبحانه اإلنسان وهو مجبر على أفعاله‪،‬‬
‫وكيف يثيبه أو يعاقبه على فعل لم يرتكبه ؟ ‪.‬‬
‫وقد حد المعتزلة الفعل بأنه » ما يحصل من قادر من الحوادث « ‪ 1‬وتتأتى‬
‫ألن كل ما يحدث من القادر يقال له فعله‪ ،‬ويقاس‬
‫أهمية القدرة لتعني اإلحداث واإليجاد‪ّ ،‬‬
‫ان الكتابة تحدث من الكاتب‪ ،‬ونقول إنها فعله‪ ،‬كذلك يقال عن‬
‫الغائب على الشاهد‪ ،‬فكما ّ‬
‫األجسام التي أحدثها هللا إنها فعله ‪.‬‬
‫والفعل بهذا المعنى ال يصح صدوره عن اإلنسان كما ال يتم تحقيقه إال بقدرة‬
‫سابقة لوجود الفعل‪ ،‬والقدرة ـ كما يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد ـ » معنى موجود في‬
‫الجسم‪ ،‬يصح من العبد الفعل‪ ،‬والتصرف بها‪ ،‬ويمكن ألجله أن يتحرك بدالً من أن يسكن‪،‬‬
‫وأن يقوم بدالً من أن يقعد‪ ،‬وهللا عز وجل ركبها في جسم العبد كي يطيع وال يعصي « ‪2‬‬
‫فالقدرة في ضوء هذا كله تتسم بالخصائص اآلتية ‪:‬‬
‫أنها من أفعال هللا وقد ركبها في جسم اإلنسان ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫تتميز القدرة بأنها أداة‪ ،‬شأنها شأن السيف‪ ،‬إذ يصلح السيف لقتل المؤمن‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫ويصلح للجهاد في سبيل هللا‪ ،‬وتكمن وظيفة القدرة في إحداث الفعل‪ ،‬وإخراجه من‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 324‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المختصر في أصول الدين‪ ،‬ص ‪216‬‬
‫‪58‬‬
‫العدم إلى الوجود ـ على حد تعبير القاضي عبد الجبار بن أحمد ‪ 1‬ـ أو أنها صفة‬
‫يتمكن بها اإلنسان من الفعل أو الترك‪.2‬‬
‫ال يتم الفعل إال بها‪ ،‬إذ يصح من اإلنسان الفعل والتصرف بها‪ ،‬بحيث يمكن أن‬ ‫‪‬‬

‫يتحرك وإن يسكن‪ ،‬وأن يقوم وأن يقعد ‪.‬‬


‫َّ‬
‫إن القدرة تسبق الفعل‪ ،‬فهي متقدمة عليه‪ ،‬وال تقع القدرة بوقوع الفعل‪ ،‬فالقدرة‬ ‫‪‬‬

‫»متقدمة على مقدورها غير مقارنة له « ‪. 3‬‬


‫أن هللا سبحانه أقدر البشر على خلق األفعال‪ ،‬وهذه‬ ‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫األفعال على ضربين ‪ :‬ضرب يصدر عن اإلنسان وتكون القدرة هي التي أحدثته‪ ،‬ولكنه‬
‫ألن القادر قد يحدث الفعل لمجرد كونه قاد اًر‪ ،‬وهو ما‬ ‫ٍ‬
‫خال من قصد اإلنسان وإرادته‪ّ ،‬‬
‫يصدر عن الساهي والنائم‪ ،‬وهو ما أطلق عليه القاضي عبد الجبار بن أحمد بأنه » ما له‬
‫صفة زائدة على حدوثه وصفة من جنسه « ‪ 4‬أما اآلخر فيقترن بقصد اإلنسان وإرادته‪ ،‬أو‬
‫هو » ما ليس له صفة زائدة على ذلك « ‪ 5‬إو » أنه فعل العالم بما يفعله« ‪ ، 6‬فالضرب‬
‫األول ‪ :‬يفتقر إلى القصد واإلرادة‪ ،‬والثاني ‪ :‬يقترن بهما‪ ،‬إذن فهناك أفعال مقترنة باإلرادة‪،‬‬
‫وأخرى مفتقرة إليها‪ ،‬وهي األفعال الالإرادية‪ ،‬واإلنسان ليس مسئوالً عنها‪ ،‬ألنها لم تقع‬
‫بحسب قصده ودواعيه‪ ،‬وال تنتفي بحسب كراهته‪ ،‬وهي بخالف األفعال اإلرادية التي تقع‬
‫بحسب قصد اإلنسان ودواعيه‪ ،‬أي أنها مقترنة بإرادته‪ ،‬وحين يؤكد القاضي عبد الجبار بن‬
‫أن أفعال العباد من تصرفهم‪ ،‬فإنه يقصد أفعالهم اإلرادية‪ ،‬وما‬
‫أحمد اتفاق أهل العدل على ّ‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 93/6 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪ 1971 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 326‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫أن هللا أقدرهم‬
‫يتولد عنها‪ ،‬وهي التي يصدق عليها أنه ال فاعل لها وال محدث سواهم‪ ،‬و ّ‬
‫عليها‪ ،‬أي أوجد القدرة فيهم لتمكينهم من خلق هذه األفعال ‪. 1‬‬
‫إذن فالفعل اإلرادي ـ في ضوء ما سلف ـ هو ما توافر فيه عنصران ‪ :‬أولهما ‪:‬‬
‫القدرة بكل خصائصها السالفة‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬اإلرادة التي تقتضي حدوث الفعل على هذا‬
‫الوجه دون سواه ‪ ،2‬كما أنها تمثل َميالً بالنفس باعتقاد النفع ‪ ،3‬ومن هنا تتأتى الرغبة في‬
‫إحداث الفعل أو العزم على تحقيقه‪ ،‬وينطوي هذا المعنى لإلرادة على تفكير ومعرفة‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫إن االختيار ـ عند القاضي عبـد‬
‫أن تعرف وتختار‪ ،‬بل ّ‬
‫النفس اإلنسانية ال تميل إال بعد ْ‬
‫الجبـار بن أحمد ـ إنما هـو إرادة بالنتيجة ‪ ،4‬ولذلك جاء الحديث عن القصود والدواعي‬
‫والكواره والصوارف ألنه بموجبها يقع الفعل أو يمتنع‪.‬‬
‫ويحدث اإلنسان األفعال ألنها واقعة من جهته بحسب قصده ودواعيه وعلمه‬ ‫ُ‬
‫أن هذه األفعال ال يتحقق وجودها في الواقع إال‬
‫وقدرته‪ ،‬وأنه قد ُيمدح عليها وقد ُيذم‪ ،‬و ّ‬
‫بأدوات وآالت‪ ،‬وال يصح عقالً أن توصف هذه األفعال بأنها أفعال هللا‪ ،‬ألنه يعيب عليه‬
‫أن يكون ظالماً بمحاسبة اإلنسان على فعل لم يفعله‪ ،‬كما ّ‬
‫أن أفعال هللا ال تذم ألنها كلها‬ ‫ْ‬
‫أن هللا ال يحتاج إلى واسطة لتحقيق أفعاله‪.‬‬
‫حسنة ال قبح فيها‪ ،‬و ّ‬
‫ويكمن الفرق بين الفعل اإللهي والفعل اإلنساني في ّ‬
‫أن اإلنسان يقصد إلى الفعل‬
‫بإرادته وعلمه‪ ،‬ويتحقق وجود الفعل عبر قدرة اإلنسان‪ ،‬فقيامه‪ ،‬وقعوده‪ ،‬وكالمه‪ ،‬وكتابته‪،‬‬
‫كلها أفعال قصد اإلنسان وقوعها وحدوثها‪ ،‬فهي مقترنة بإرادته هو ; أما الفعل اإللهي فهو‬
‫ما يتعذر على اإلنسان وقوعه بحسب قصد اإلنسان ودواعيه‪ ،‬وليس اإلنسان مسئوالً عن‬
‫هذا الفعل‪ ،‬ألنه فعل هللا‪ ،‬وإنما يكون اإلنسان مسئوالً عن الفعل اإلنساني اإلرادي‪ ،‬وما‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.3/8 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ 94/ 6 ،‬و ‪. 64/8‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪. 11‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 56/6 ،‬‬
‫‪60‬‬
‫يتولد عنه ‪ ،‬ألنه يكون قد أحدثه عن وعي ومعرفة وقصد‪ ،‬كما أن اإلنسان ليس مسئوالً‬
‫إن نسب اليه‪ ،‬كفعل النائم والساهي ‪.‬‬
‫عن فعل لم يقصد اليه و ْ‬
‫وتمثل الكتابة والصياغة فعلين إنسانيين ألنهما مرتبطان بقدرة اإلنسان وإرادته‬
‫وعلمه‪ ،‬ويخضعان‪ ،‬شأنهما شأن األفعال اإلرادية األخرى‪ ،‬ألحكام الحسن والقبح » ألن‬
‫الفعل المقصود يجب كونه قبيحاً أو حسناً«‪ 1‬أما الفعل الذي يصدر عن القادر دون قصد‬
‫فإن أحكام الحسن والقبح ليست منطبقة عليه‬ ‫ووعي منه‪ ،‬فهو ليس مسئوالً عنه‪ ،‬ومن ثم‪ّ ،‬‬
‫ان الفعل اإلنساني ال يتحقق إذن إال إذا كان اإلنسان قاد اًر ومريداً‪ ،‬وتقترن‬
‫أن ُبعدي القدرة واإلرادة ليسا منفصلين عن العقل‪ ،‬ألن اإلرادة‬
‫باإلرادة المعرفة والعلم‪ ،‬غير ّ‬
‫في أثناء ترددها بين األفكار المتغايرة إنما تميل نحو أحدها مسترشدة بالعقل‪ ،‬ومن هنا‬
‫يتدخل العقل في أخطر عمليات إحداث الفعل‪ ،‬وهو تأثيره في إرادة اإلنسان‪ ،‬هذا من جهة‬
‫فإن الفعل يخضع بالنتيجة لحكم أخالقي عقلي‪،‬‬
‫إحداث الفعل‪ ،‬أما من جهة الحكم عليه ّ‬
‫إن الحسن ليس قيمة‬
‫وهو كونه حسناً أو قبيحاً‪ ،‬والحكم يرتكز على مقومات عقلية‪ ،‬ولذا ف ّ‬
‫مفروضة على الفعل بوحي أو تشريع‪ ،‬وكذلك القبح‪ ،‬وإنما الحسن ـ على خالف األشاعرة‬
‫ـ كائن في الفعل ذاته‪ ،‬بمعنى أن الحسن والقبح يمثالن قيمتين موجودتين في األفعال‬
‫ذاتها ‪.‬‬

‫) ‪ ( 4‬نشأة اللغة ـــ اللغة والكالم ‪:‬‬

‫وقد اختلفت الفرق اإلسالمية في أصل نشأة اللغة بين الوقف واالصطالح‪،‬‬
‫ألن‬
‫وذهب المعتزلة إلى االصطالح‪ ،‬ليرتبط هذا ببعدين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يتصل بالتوحيد‪ّ ،‬‬
‫المعتزلة تسعى إلى تنـزيه هللا سبحانه عن المماثلة‪ ،‬فاعتبرت الكالم واحداً من صفات‬
‫أن القرآن الكريم مخلوق‬
‫األفعال عند هللا‪ ،‬وهذا يقود إلى أ ّن كالم هللا محدث‪ ،‬كي يقرروا ّ‬
‫ألن الخطاب والتكليف ال يصحان من‬ ‫وليس قديماً‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬يتصل بتكليف اإلنسان‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 63/11 ،‬‬


‫‪61‬‬
‫أن يتواضع البشر على اللغات‪ ،‬ولذا أكد القاضي عبد الجبار بن‬‫هللا ـ سبحانه ـ إال بعد ْ‬
‫أن يتواضع أهل العقول على لغة حتى يفهموا عن هللا ما يخاطبهم به‪ ،‬أي‬ ‫‪1‬‬
‫أحمد ضرورة ْ‬
‫أن أبرز غاية وأظهرها للتواضع على اللغات هي القدرة على تلقي الشرائع ‪.‬‬
‫آدم‬
‫وقد جاء الخالف بين المعتزلة واألشاعرة حول اآلية القرآنية الكريمة » وعّل َم َ‬
‫األسماء كّلها«‪ 2‬فذهب األشاعرة إلى الوحي واإللهام‪ ،‬أي إلى توقيفية اللغة‪ ،‬وذهب‬ ‫َ‬
‫المعتزلة إلى الوضع واالصطالح‪ ،‬ألنهم يرون أن المراد من اآلية الكريمة أن هللا سبحانه‬
‫» علمه ـ أي علم آدم ـ ما تقدمت المواضعة عليه « ‪ ،3‬بمعنى أن آدم قد عرف لغة‬
‫تواضع عليها‪ ،‬سواء بينه وبين حواء‪ ،‬أو بينه وبين المالئكة‪ ،‬ويجزم القاضي عبد الجبار‬
‫ألن‬
‫أن تعليم آدم األسماء على ما تقدمت المواضعة عليه ّ‬ ‫بأن ظاهر اآلية يدل على ّ‬
‫»االسم إنما ُيسمى اسما للمسمى بالقصد « ‪ ،4‬وهذا يعني أن االسم يتعلق بمسماه‪ ،‬وهذا‬
‫ألن » معاني األسماء ثابتة ال‬
‫التعلق بمنـزلة اإلخبار عن الشيء والعلم به والداللة عليه ّ‬
‫فإن معاني المسميات ثابتة ال ينتابها التغير‪،‬‬ ‫‪5‬‬
‫تتغير باختالف األسماء واللغات» ولذلك ّ‬
‫بينما تخضع المسميات للتطور اللغوي‪ ،‬في سياق اللغة الواحدة‪ ،‬وفي سياق اللغات‬
‫إن اللغات يصح لها التغير بحسب األغراض والدواعي‪،‬‬‫المختلفة‪ ،‬ومن هنا يصح القول ّ‬
‫ولما كانت المقاصد واألغراض والدواعي تتفاوت وتتغاير فإنها قد دفعت إلى تسمية‬
‫المسمى باالسم بحسبها وبحسب ما تواضع عليها اإلنسان‪ ،‬ومن هنا جاء اختالف‬
‫المقاصد في األسماء وتبعه اختالف مسمياتها بحسب اللغات ‪. 6‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 178/5 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة البقرة‪ ،‬آية ‪. 31 :‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬متشابه القرآن‪ ،‬تحقيق عدنان محمد زرزور‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪1966 ،‬‬
‫م ‪ ،‬ص ‪. 83‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 169/5 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 172/5 ،‬‬
‫‪ 6‬ـ نفسه‪.160/5 ،‬‬
‫‪62‬‬
‫إن المعتزلة عمدوا في جانب من دراستهم اللغة إلى التأويل في تحليل النصوص‬
‫ّ‬
‫وتفسيرها‪ ،‬فهم يرون ّ‬
‫أن المواضعة تقتضي اإلشارة إلى األشياء‪ ،‬ألنه باإلشارة نعلم أنه‬
‫أن تبليغ‬ ‫‪1‬‬
‫«قصد االسم المسمى المخصوص« ليعني هذا إرجاع المواضعة لإلنسان‪ ،‬و ّ‬
‫ألن هللا ال يجوز عليه‬
‫الرسالة السماوية إنما يتم في اللغة نفسها التي تواضع عليها الناس‪ّ ،‬‬
‫ألن طبيعة المواضعة بما فيها من إشارة لألشياء‪ ،‬وإيماء لها‬
‫أن يواضع أحداً من عباده‪ ،‬و ّ‬
‫ْ‬
‫بالجارحة‪ ،‬ال يصح إطالقها عليه سبحانه‪ ،‬ولذلك يبطل أن تتم المواضعة بين هللا وعباده‪،‬‬
‫من أجل تنـزيه هللا سبحانه عن التجسيم والتشبيه ‪. 2‬‬
‫أن يواضع رجل‬ ‫أما كيفية المواضعة فهي لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد ْ‬
‫آخر على جعل كلمة مخصوصة اسماً لمسمى‪ ،‬ومتى ما أطلقت هذه الكلمة فإنها تدل‬
‫على المسمى‪ ،‬وال يمتنع معرفة هذا الوضع لغيرها‪ ،‬ليصير لغة للجماعة‪ ،‬ولذلك يقال ‪:‬‬
‫»في اللغة العربية إنها لغة لسائر من تحدث إذا اتبع من تقدم في المواضعة « ‪. 3‬‬
‫وإذا كان القاضي عبد الجبار بن أحمد يقلل من أهمية البعد االجتماعي في نشأة‬
‫فإن ابن جني يعطيه أهمية خاصة إذ يرى ّ‬
‫أن الحاجة االجتماعية وضرورة اإلبانة‬ ‫اللغة ّ‬
‫فإن نشأة اللغة تتم بأن » يجتمع‬
‫عن األشياء هما اللذان يدفعان إلى التواضع‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫حكيمان أو ثالثة فصاعداً‪ ،‬فيحتاجوا إلى اإلبانة عن األشياء والمعلومات فيضعوا لكل‬
‫واحد منها سمة ولفظاً إذا ذكر عرف به ما سماه « ‪.4‬‬
‫وبقي ابن جني رغم اعتزاليته متردداً بين الوقف واالصطالح‪ ،‬على الرغم من أنه‬
‫أن أكثر أهل النظر تذهب إلى االصطالح ‪ ،‬وحين ينقل عن أستاذه أبي علي‬ ‫يؤكد ّ‬
‫الفارسي قوله بالتوقيف ينقل عنه في الوقت نفسه أنه قال في اآلية القرآنية الكريمة »وعّل َم‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 164/5 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬دار الكتب المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1952 ،‬ـ ‪ 1956‬م ‪،‬‬
‫‪.45/1‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.161/5 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪.44/1 ،‬‬
‫‪63‬‬
‫أن البن جني رأياً آخر‬
‫أن آدم قد واضع عليها ـ أي اللغة ـ كما ّ‬
‫األسماء كّلها « على ّ‬
‫َ‬ ‫آدم‬
‫َ‬
‫في أصل اللغة وهو محاكاتها ألصوات المسموعات كدوي الريح وخرير الماء‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن‬
‫هذا هو األصل ومنه تولدت اللغات‪ ،‬ويصف المحاكاة بأنها » وجه صالح ومذهب‬
‫متقبل«‪.1‬‬
‫ولقد شغلت المعتزلة قضية المواضعة في اللغة التصالها بجذر عقائدي يحاول‬
‫إرساء مفهوم »خلق القرآن «‪ ،‬وكون كالم هللا محدثاً وليس قديماً‪ ،‬غير ّ‬
‫أن هذا لم يشغلهم ـ‬
‫تماماً ـ عن تحديد طبيعة اللغة‪ ،‬فهي لدى ابن جني » أصوات يعبر بها كل قوم عن‬
‫أغراضهم « ‪ 2‬حيث أرسى ابن جني ـ هنا ـ طبيعة اللغة الرمزية المعتمدة على األصوات‬
‫اللغوية‪ ،‬ويمثل هذا الجانب المادي من اللغة‪ ،‬ويشتمل على الدالالت والمعاني‪ ،‬لتكون‬
‫وظيفة اللغة توصيل األفكار بين اإلنسان واآلخرين‪ ،‬وبهذا ُيلمح ابن جني إلى الطبيعة‬
‫االجتماعية للغة ‪.‬‬
‫وقد تمكن المعتزلة من التلميح إلى الطبيعة الرمزية للغة‪ ،‬والى إشاريتها‪ ،‬وهم‬
‫بهذا يقتربون من أظهر التصورات الحديثة التي تجعل من اللغة نظاما من الرموز‬
‫واإلشارات‪ ،‬وتتم دراسة اللغة تحت علم يطلق عليه السيمولوجيا ‪ « Semeiology‬علم‬
‫الرموز » وهو أحد العلوم التي استخدمت لتدل على اللغة وغيرها من األنظمة الرمزية‬
‫واإلشارية ‪. 3‬‬
‫وإذا كان المعتزلة قد ألمحوا إلى الجانب اإلشاري من اللغة فإنهم لم يستطيعوا أن‬
‫يميزوا بين اللغة ‪ Langue‬والكالم ‪ Parole‬على النحو الذي نراه لدى دي سوسير الذي‬
‫يرى ّ‬
‫أن اللغة تمثل نظاماً اجتماعياً يرتكز على رموز صوتية تشتمل على دالالت ومعان‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ 40/1 ،‬ـ ‪.41‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 33 /1 ،‬‬
‫‪Cuddon J. A , a dictionary of Literary Terms , Doubleday , new York , 1977‬‬ ‫‪ 3‬ـ‬
‫‪p. 613‬وينظر ‪ :‬دي سوسير‪ ،‬محاضرات في األلسنية العامة‪ ،‬ص ‪ ،21‬ومابعدها‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫اتفق عليها المجتمع‪ ،‬أما الكالم فانه يمثل االستخدام الفردي لهذا النظام ‪ ،1‬فالكالم لدى‬
‫ابن جني يدل على اللفظ المستقل بنفسه‪ ،‬ويتميز بكونه مفيداً لمعناه‪ ،‬ولكن ابن جني‬
‫يذهب إلى المقارنة بين الكالم والقول ويلتقي فيه األخير مرة مع الكالم‪ ،‬ويفترق عنه مرة‬
‫ألن القول كل لفظ نطق به اللسان‪ ،‬فيلتقي بالكالم إذا كان القول تاماً‪ ،‬ويفترق عنه‬
‫أخرى‪ّ ،‬‬
‫إن كان ناقصاً ‪ ،2‬وعلى الرغم من عناية ابن جني بالحدود النحوية لمفهومي »الكالم «‬ ‫ْ‬
‫و» القول« فإنه يحاول ربطهما بتجليات واضحة من المفاهيم االعتزالية‪ ،‬ليشير إلى فروق‬
‫ألن الكالم له داللة أشمل وأدق وأعمق من القول‪ ،‬ولذلك قلنا » كالم هللا «‬
‫داللية بينهما‪ّ ،‬‬
‫ولم نقل » قول هللا «‪.‬‬
‫ويتحدد الكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد بأنه » ما حصل فيه نظـام‬
‫مخـصـوص من هـذه الحـروف المعقولة‪ ،‬حصـل في حرفين أو حروف « ‪ ،3‬وبهذا يتداخل‬
‫في هذا التحديد مفهوما الكالم واللغة على النحو الذي أرساه دي سوسير‪ ،‬إذ يؤكد هذا‬
‫الحد في أحد جوانبه الطبيعة الرمزية للغة‪ ،‬ويشتمل على االستخدام الفردي لها ضمناً ‪،‬‬
‫أن يتوافر فيه عنصران ‪:‬‬
‫فالكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد البد ْ‬
‫أولهما ‪ :‬الحروف المعقولة‪ ،‬وهو يعني بها األصوات المشتملة على الدالالت إذا‬
‫ألن الحرف وحده اليعدو كونه صوتاً ال داللة له‪ ،‬شأنه شأن‬ ‫تركبت مع غيرها‪ّ ،‬‬
‫األصوات األخرى كصرير الباب مثال ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬النظام الخاص لهذه الحروف‪ ،‬ألنه بهذا النظام تتألف الكلمة‪ ،‬ويتداخل ـ هنا‬
‫ألن الحروف لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد إنما هي‬
‫ـ النظام بطبيعة األصوات‪ّ ،‬‬
‫« أصوات مقطعة » وألن الكالم «ال يكون حروفا منظومة دون ذكر األصوات» ‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ دي سوسير‪ ،‬محاضرات في األلسنيةالعامة‪ ،‬ص ‪ ،21‬ينظر ايضا ‪Cuddon J. A Dictionary of‬‬
‫‪literary terms p .355‬‬
‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪ 17/1 ،‬ـ ‪. 22‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 3/7 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪.7/7 ،‬‬
‫‪65‬‬
‫فإن القاضي عبد‬
‫وإذا كان التحديد السالف يشير في بعض جوانبه إلى اللغة ّ‬
‫أن الكالم » هو الصـوت الواقع على بعض الوجوه‬
‫الجبار بن أحمد قد أكد في مكان آخر ْ‬
‫« ‪ ،1‬ليدل هذا على اللغة والكالم في آن واحد‪ ،‬وداللته على اللغة تكمن في اإلشارة إلى‬
‫ألن وقوع الصوت‬
‫النظام الرمزي‪ ،‬كما أنه يشتمل على االستخدام الفردي لهذا النظام‪ّ ،‬‬
‫على وجه‪ ،‬أو بعض الوجوه‪ ،‬معناه تدخل اإلرادة اإلنسانية في إحداث الكالم‪ ،‬ومن هنا‬
‫يتأتى الجانب الفردي للكالم‪.‬‬
‫ويمثل الكالم من ناحية أخرى بعداً إشارياً صوتياً يغاير الكتابة بوصفها » أمارة‬
‫للكالم «‪ ،2‬وهي ـ الكتابة ـ نظام إشاري حسي مرئي‪ ،‬يمكننا القول إنها تنطوي على أبعاد‬
‫مكانية‪ ،‬في حين يمثل الكالم أبعاداً زمانية تتتابع فيها األصوات وتتضام إلى بعض لتقود‬
‫إلى الدالالت التي يقصدها المتكلم‪ ،‬أما الكتابة فإنها تمثل بعداً مكانياً تكون حاسة البصر‬
‫أن اللغة أمر آخر غير الكتابة‪ ،‬ألن اللغة نظام يعبر‬‫أداة اإلنسان في إدراكه ‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫عنه بالرموز الصوتية‪ ،‬في حين تمثل الكتابة الصورة اإلشارية لهذا النظام الرمزي‪،3‬‬
‫ويرفض المعتزلة أن يكون الكالم معنى في النفس‪ ،‬رافضين بهذا مفهوم الكالم‬
‫النفسي عند األشاعرة‪ ،‬ألن الكالم يمثل ظاهرة مادية محدثة ال يصح وجودها إال بعد‬
‫حدوثها‪ ،‬أما ما يوجد في النفس فليس كالماً‪ ،‬وإنما هو العلم بكيفية الكالم‪ ،‬إذ تنطوي‬
‫النفس على فكر فيه القصد على إيجاد الكالم وإحداثه‪.4‬‬
‫إن مادة الكالم هي األلفاظ التي تواضع الناس عليها في اللغة‪ ،‬ولذلك كان القرآن‬
‫الكريم من »جنس الكالم المعقول من الشاهد‪ ،‬وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة « ‪5‬‬
‫وهذا يعني أن القرآن الكريم قد صيغ من المفردات التي تواضع الناس عليها‪ ،‬والتي‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 12/7 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 192/7 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Bloomfield Language , Henry Holt & company , new York , 1933 . p ,12‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.179/7 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 3/7 ،‬‬
‫‪66‬‬
‫أن‬
‫يستخدمونها في تعاملهم اليومي وفي نقل أفكارهم‪ ،‬ويدل هذا من ناحية ثانية على ّ‬
‫القرآن الكريم مخلوق محدث‪ » ،‬لم يكن ثم كان‪ ،‬وأنه غير هللا عز وجل‪ ،‬وأنه أحدثه‬
‫بحسب مصالح العباد‪ ،‬وهو قادر على أمثاله « ‪ ، 1‬ويلتقي ـ من هذه الناحية ـ النص‬
‫أن كليهما من المادة اللغوية ذاتها‪ ،‬وصيغا‬
‫القرآني مع النصوص األدبية األخرى‪ ،‬في ّ‬
‫بطرائق مخصوصة من هذه المادة‪ ،‬وأن كالً منهما مخلوق محدث‪ ،‬كان بعد أن لم يكن‪،‬‬
‫ويفترق النص القرآني عن غيره من النصوص بأنه معجز في إبداعه‪ ،‬وليس النص األدبي‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫أن كالم هللا صفة من صفات الفعل‪ ،‬وصفات الفعل‬ ‫ونخلص من هذا كله إلى ّ‬
‫هي التي يجوز أن يوصف هللا بأضدادها وبالقدرة على أضدادها‪ ،‬ليتوصل المعتزلة من‬
‫هذا إلى خلق القرآن الكريم‪ ،‬أما الكالم اإلنساني فهو فعل من األفعال اإلرادية المحكمة‬
‫التي يشترط المعتزلة فيها القدرة واإلرادة والعلم بكيفية حدوثها‪ ،‬ويوصف اإلنسان بأنه متكلم‬
‫اذا أحدث الكالم بحسب قصده وإرادته ودواعيه ‪.‬‬
‫ويوصف الكالم اإلنساني ـ في ضوء ما سلف ـ بالحسن والقبح‪ ،‬ويفتش اإلنسان‬
‫عن حسنه وقبحه في الفعل اإلنساني ذاته ـ أي الكالم ـ ومن الطبيعي أن يشتمل الكالم ـ‬
‫حديثاً أو نصاً أدبياً ـ على جوانب الحسن والقبح شأن األفعال اإلرادية األخرى‪ ،‬في حين‬
‫ال يوصف الفعل اإللهي إال بالحسن‪ ،‬ولذلك فالقرآن الكريم كله حسن‪ ،‬ألنه كالم هللا‬
‫وفعله‪ ،‬شأنه شأن كل أفعال هللا ال قبح فيه البتة ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 3/7 ،‬‬


‫‪67‬‬
68
‫الفصل األول‬
‫المقياس اللغوي‬

‫‪69‬‬
70
‫جماليات النظام الصوتي ‪:‬‬

‫)‪ (1‬الــوحدات الصـوتيـة ‪:‬‬

‫إن الحديث عن الكالم لدى نقاد المعتزلة في القرن الرابع الهجري يقترب من‬ ‫ّ‬
‫حديث دي سوسير عن اللغة ‪ 1‬ولذلك فاللغة ـ في ضوء هذا التمايز ـ تتحدد أساسا بأنها‬
‫أصوات‪ ،‬وهذا يؤكد بعدها الرمزي المنطوق‪ ،‬وهو ينطوي بطبيعته على داللة ما ‪ ،‬ولذلك‬
‫أن محلها‬ ‫‪2‬‬
‫ألفينا القاضي الجرجاني في الوساطة يؤكد بعدها السمعي ال البصري‪ ،‬وعلى ّ‬
‫من األسماع محل النواظر من األبصار‪ ،‬ليخلص من هذا إلى خصائص إيقاعية كائنة‬
‫في الكلمات‪ ،‬فمنها ـ أي الكلمات ـ المحكم الوثيق‪ ،‬والجزل القوي‪ ،‬والمنمق الموشح‪.‬‬
‫ونلحظ تماي اًز جدي اًر بالتنويه لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد الذي يميز بين‬
‫الكالم والصوت‪ ،‬ألن الصوت ـ لديه ـ قد يدل على ترميز له داللة لغوية أو ال يدل أصالً‪،‬‬
‫لكون اإلنسان قاد اًر على إحداث العديد من األصوات‪ ،‬وليست لها أدنى عالقة باللغة‬
‫الفتقارها إلى دالالت متواضع عليها‪ ،‬وألن » الصوت ـ الرمز « يقتضي وعيا لطبيعة‬
‫تأديته‪ ،‬وطبيعة وظيفته‪ ،‬ويقتضي‪ ،‬أيضاً‪ ،‬وعياً لكيفية استخدام جهاز النطق‪ ،‬أو على حد‬
‫تعبير القاضي عبد الجبار بن أحمد » بأن الكالم يحتاج إلى العلم بتصريف اآللة التي‬
‫هي اللسان وغيرها على بعض الوجوه « ‪.3‬‬
‫ويتجاوز القاضي عبد الجبار بن أحمد ذلك إلى ضرورة التمايز بين األصوات‬
‫اللغوية ذاتها‪ ،‬وتعّقل هذا التمايز‪ ،‬ليتمكن اإلنسان من المفارقة بين المتصل منها ببعض‬

‫‪ 1‬ـ دي سوسير‪ ،‬محاضرات في األلسنية العامة‪ ،‬ترجمة يوسف غازي‪ ،‬ومجيد النصر‪ ،‬دار نعمان للثقافة‪،‬‬
‫بيروت‪ 1984 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 31‬ومابعدها ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي‪ ،‬دار‬
‫إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ 1386 ،‬هـ ـ ‪ 1966‬م ‪ ،‬ص ‪. 412‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.22/7 ،‬‬
‫‪71‬‬
‫أو الممتنع‪ ،‬ومن هنا استخدم القاضي عبد الجبار بن أحمد مصطلح » الحروف المنظومة‬
‫جني والرماني‪،‬‬
‫على وجه مخصوص « بدال من مصطلح » التأليف « الذي يؤثره ابن ّ‬
‫ولذلك فإن الحروف ـ لدى القاضي عبد الجبار ـ تترتب في الحدوث على وجه وتتصل‬
‫لتدل على معنى معين ‪ ،1‬وهذا يتضمن بذاته حدوث الحروف زمانياً كي تتماثل مع‬
‫أن القاضي عبد الجبار بن أحمد ُيميز بين الرموز‬
‫الموسيقى بوصفها فناً زمانياً‪ ،‬غير ّ‬
‫اللغوية المنظومة والرموز المكتوبة‪ ،‬ألن المنظومة لديه هي »الصوت الواقع على وجه «‬
‫أن إرادة القصد ـ هنا ـ هي التي تحدد وجهته إلى هذه الناحية أو‬
‫معين من الداللة‪ ،‬أي ّ‬
‫‪2‬‬
‫أن األصوات إنما هي‬ ‫تلك‪ ،‬أما الكتابة فال تعدو أن تكون » أمارة للكالم « ‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫رموز للدالالت الكائنة في الذهن‪ ،‬أو رموز لألشياء الكائنة في الواقع الخارجي‪ ،‬فهي رموز‬
‫للتصورات واألشياء‪ ،‬في حين تكون الكتابة رم اًز للرمز‪ ،‬ألنها »أمارة« للرمز أو للصوت‬
‫المنطوق‪ ،‬ويقترب هذا التصور إلى حد ما من تصور بلومفيلد الذي يرى ّ‬
‫أن الكتابة ليست‬
‫اللغة‪ ،‬وإنما هي الشكل اإلشاري لألصوات‪. 3‬‬
‫جني مفهوم الصوت بالحرف‪ ،‬فالصوت لديه »عرض يخرج‬ ‫ويتداخل لدى ابن ّ‬
‫مع النفس مستطيال حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداداته‬
‫واستطالته‪ ،‬فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا «‪ 4‬فالحرف هو الصوت الذي يحدث من‬
‫جراء المقاطع التي تعترض الصوت الصادر من اإلنسان‪ ،‬فيوجهها هذه الناحية ال تلك‬
‫فإن أجراس الحروف‬
‫ويكتسب صفة بحسب » المقاطع « ـ أي مخارج الحروف ـ ولذلك ّ‬
‫تختلف باختالف مقاطعها‪.‬‬
‫ويحدث جهاز النطق األصوات‪ ،‬وهو يشبه إلى حد ما آلتين موسيقيتين هما ‪:‬‬‫ُ‬
‫إن لم‬
‫الناي والعود‪ ،‬فالصوت يخرج من الناي مستطيالً أملس ساذجاً ليشبه هذا األلف ْ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 7/7 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 191 /7 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Bloomfield , Language , p.21‬‬
‫جني‪ ،‬سر صناعة اإلعراب‪. 6/1 ،‬‬ ‫‪4‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪72‬‬
‫يعترضها مقطع‪ ،‬ولكن إذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة‪ ،‬وراوح بين‬
‫أنامله اختلفت األصوات‪ ،‬وكذا العود‪ ،‬فإذا ضرب وتره وهو مرسل سيكون له صوت‬
‫يختلف فيما لو حصرت آخر الوتر‪ ،‬والصوت الذي يؤديه الوتر من غير حصر يكون‬
‫أملس مهت اًز‪ ،‬ويختلف باختالف الوتر وصالبته‪ ،‬وضعفه ورخاوته‪ ،‬فهو ـ والحالة هذه ـ‬
‫يشبه جهاز النطق اإلنساني‪ ،‬فجريان الصوت غفالً يشبه صوت األلف الساكنة وما‬
‫يعترضه من الضغط والحصر يشبه ما يعرض للصوت في مخارج الحروف‪ ،‬وأخي اًر فإن‬
‫جني مقصودة ألنه يرى ّ‬
‫أن »علم األصوات له تعلق ومشاركة لما‬ ‫هذه المماثلة لدى ابن ّ‬
‫فيه من صفة األصوات والنغم « ‪.1‬‬
‫جني ـ يمثل أصغر وحدة صوتية تتكون الكلمة من تأليفها‬
‫إن الحرف ـ لدى ابن ّ‬ ‫ّ‬
‫جني حين حدد مخارج الحروف‬ ‫أن ابن ّ‬
‫أنبه إلى ّ‬
‫أن ّ‬‫جنب بعضها‪ ،‬ومن الجدير باإلشارة ْ‬
‫وحدد صفاتها كان معتمداً على سيبويه اعتماداً كلياً‪ ،‬واعتمد عليه أيضا في الحديث عن‬
‫وحدات صوتية أخرى‪ ،‬وهي لديهما على نمطين ‪ :‬األول ‪ :‬الحروف الفرعية المستحسنة‪،‬‬
‫قدر عنايتنا‬
‫والثاني ‪ :‬الحروف الفرعية المستقبحة‪ ،‬وال يهمنا كثي اًر طبيعة هذه الحروف َ‬
‫أن وجودها‬ ‫بتحديد هذه الحروف في إطارين‪ ،‬األول ‪ :‬كون هذه الحروف فرعية‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫متصل بوجود األصول‪ ،‬أو كما قال سيبويه »أصلها من التسعة والعشرين« ‪ 2‬حرفاً ولذلك‬
‫فإن وصفها يتأتى بالقياس إلى الحروف األصلية‪ ،‬فالشين التي كالجيم‪ ،‬وهي من الحروف‬
‫المستحسنة ت تحدد بأنها شين تشبه الجيم‪ ،‬وهذا يعني أنه وصفها بالقياس إلى ما هو كائن‬
‫أن الحروف المستحسنة‬
‫جني ـ وقبله سيبويه ـ يريان ّ‬
‫من األصول‪ ،‬أما الثاني ‪ :‬فإن ابن ّ‬
‫على الرغم من أنها فروع فإنها « حسنة يؤخذ بها في القرآن »‪ 3‬وهي تختلف عن‬
‫أن هذه الوحدات‬
‫الحروف المستقبحة التي ال يؤخذ بها في القرآن والشعر‪ ،‬وهذا يدل على ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.10/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ سيبويه‪ ،‬الكتاب‪ ،‬المطبعة األميرية‪ ،‬بوالق‪ 1317 ،‬هـ ‪. 406/2 ،‬‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 71/1 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪73‬‬
‫غير من داللة الكلمة‪ ،‬ولكنها وحدات صوتية تنطق بطرائق‬ ‫الصوتية ليست جديدة بحيث تُ ّ‬
‫متعددة ال تغير كثي اًر من أصل تأليفها‪.‬‬
‫إن الوحدات الصوتية الفرعية بعضها مرذول ال يصح استخدامه في القرآن الكريم‬
‫ّ‬
‫وفي الشعر‪ ،‬ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يتصل بقضية األصل والفرع‬
‫وطبيعته القياسية‪ ،‬وكلما ابتعد الفرع عن األصل فقد جانبا من أهميته وقيمته‪ ،‬وقد شغلت‬
‫الطبيعة القياسية التفكير االعتزالي كثي اًر‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬تأثري يعتمد فيه ابن ّ‬
‫جني على الحس‬
‫والذوق في قبول هذه الوحدات الصوتية أو رفـضها‪.‬‬
‫إن الوصف السالف للحروف إنما هو وصف تجريدي ينتزعها من سياقاتها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن هذه الوحدات الصوتية ال‬
‫وكأن كل حرف وحدة مستقلة غير متأثرة بما يجاورها‪ ،‬والحق ّ‬
‫ّ‬
‫تتسم بهذه الصفة واالستقاللية المجردة في اللغة‪ ،‬ألنها متألفة في سياقات صوتية أخرى‪،‬‬
‫أن الصوت لدى ابن‬‫وتتركب الكلمات من السياقات الصوتية للوحدات الصوتية‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫جني يمثل أصغر وحدة يتم من تأليفها جنب بعضها تكوين الكلمة‪ ،‬ولذا َّ‬
‫فإن الصفات التي‬ ‫ّ‬
‫تتميز بها األصوات وهي مستقلة تختلف ـ ولو جزئيا ـ عن صفاتها وهي في سياقات‬
‫الكلمة والجملة‪ ،‬ألنها تقع تحت تأثير المجاورة وتحدث بسببها ظواهر عديدة‪ ،‬وقد تنبه إلى‬
‫جني ‪ 1‬ألنه يرى فرقاً يتمايز فيه الحرف في حالة كونه ساكناً عن حالة‬
‫هذه الظاهرة ابن ّ‬
‫إدراجه‪ ،‬ولذا فإن الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت‬
‫أن هناك صويتاً يلحق بعض الحروف إذا وقفت عليها‪ ،‬ويختفي‬ ‫عليه‪ ،‬بل يرى ابن ّ‬
‫جني ّ‬
‫هذا الصويت أو يضعف إذا أدرجت الحديث دون الوقوف‪ ،‬ويضرب لذلك مثال بـ » ْ‬
‫أح «‬
‫و »يحرد «‬
‫وللحرف العربي خصائص ذاتية عني بها الدارسون‪ ،‬فعمدوا إلى وصفها وتحديد‬
‫صفاتها ومخارجها ونوعية صفاتها‪ ،‬وكانت الدراسة تتجه في الغالب إلى وصف مستقل‬
‫عن السياقات‪ ،‬ولذلك قسم ابن جني الحروف إلى ضربين « ضرب خفيف وضرب ثقيل‬
‫وتختلف أحوال الخفيف منهما فيكون بعضه أخف من بعض وتختلف أيضا أحوال الثقيل‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 57/1 ،‬‬


‫‪74‬‬
‫منهما فيكون بعضه أثقل من بعض وفي الجملة فأخف الحروف عندهم وأقلها كلفة عليهم‬
‫الحروف التي زادوها على أصول كالمهم وتلك الحروف العشرة المسماة حروف الزيادة‬
‫وهي األلف والياء والواو والهمزة والميم والنون والتاء والهاء والسين والالم »‪.1‬‬
‫وال تخلو الحروف من عالقات في أثناء انتظامها في كلمة واحدة أو في سياق‬
‫تركيبي‪ ،‬إذ تتأثر العالقات الصوتية والداللية بحسب طبيعة االنتظام الذي تشكله الحروف‬
‫المنتظمة في السياقات‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫أن انتظام الحرف مع الحرف الذي يسبقه أو يعقبه يشكل‬
‫انساقا إيقاعية متميزة‪ ،‬كما أن طبيعة حركة الحروف تسهم هي األخرى في تأدية مؤثرات‬
‫داللية وإيقاعية معينة ‪.‬‬
‫ويقسم ابن جني تضام الحروف إلى ‪ :‬ممتنع‪ ،‬وثقيل‪ ،‬وحسن‪ ،‬فإذا تقاربت مخارج‬
‫الحروف امتنع تضام الحروف إلى بعضها‪ ،‬مثل ‪ :‬سص‪ ،‬وظث‪ ،‬وجق‪ ،‬ويرجع االمتناع‬
‫إلى بعدين ‪ :‬ذوقي جمالي يكمن في « نفور الحس » واستثقال النطق بها‪ ،‬بسبب «المشقة‬
‫على النفس لتكلفه » ‪ ،2‬أما االنتظام الثقيل فيبدو في ائتالف حروف الحلق مع بعضها‪،‬‬
‫ويتأتى ذلك بسبب تقارب مخارجها‪ ،‬فإن « جمع بين أثنين منها قدم األقوى على األضعف‬
‫نحو أهل وأحد وأخ وعهد ‪ ...‬أنهم إنما يقدمون األقوى من المتقاربين من قبل أن جمع‬
‫المتقاربين يثقل على النفس فلما اعتزموا النطق بهما قدموا أقواهما ألمرين أحدهما أن رتبة‬
‫األقوى أبدا أسبق وأعلى واآلخر أنهم إنما يقدمون األثقل ويؤخرون األخف من قبل أن‬
‫المتكلم في أول نطقه أقوى نفسا وأظهر نشاطا فقدم أثقل الحرفين وهو على أجمل‬
‫الحالين» ‪. 3‬‬
‫ويرى ابن جني ان للحروف خصائص ذاتية تتميز بها وتتفاوت في التأثير في‬
‫دالالتها‪ ،‬ولذلك الحظ أن األلفاظ تتقابل مع ما يتشاكل مع أصواتها من األحداث‪،‬‬
‫ويضرب لذلك أمثلة عديدة‪ ،‬ويقدم تفسيرات صوتية تدعمها مبررات عقلية‪ ،‬فهو يمايز بين‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬سر صناعة االعراب‪. 811 / 2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪. 54 / 1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه ‪ 54 / 1 .‬ـ ‪. 55‬‬
‫‪75‬‬
‫الفعلين « خضم وقضم » فاألول ألكل الرطب كالبطيخ والقثاء‪ ،‬والثاني للصلب اليابس‪،‬‬
‫نحو قضمت الدابة شعيرها‪ ،‬ويعلل ذلك أن اختيار « الخاء لرخاوتها للرطب والقاف‬
‫لصالبتها لليابس حذوا لمسموع األصوات على محسوس األحداث » ‪1‬ويعزز قوله بأثر‬
‫مفاده ان الخضم قد يدرك بالقضم‪ ،‬أي « قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف»‪.2‬‬
‫ويمايز بين النضح والنضخ‪ ،‬ألن « النضح للماء ونحوه والنضخ أقوى من النضح‬
‫قال هللا سبحانه فيهما عينان نضاختان فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف والخاء لغلظها‬
‫لما هو أقوى منه » ‪3‬وكذلك «الوسيلة والوصيلة » ألن « الصاد أقوى صوتا من السين‬
‫لما فيها من االستعالء والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة‪...‬فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى‬
‫األقوى والسين لضعفها للمعنى األضعف » ‪4‬ومثله « سعد وصعد » « الصاد لقوتها مع‬
‫ما يشاهد من األفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم‬
‫تره العين والداللة اللفظية أقوى من الداللة المعنوية » ‪5‬ومثله أيضا «سد وصد » ألن‬
‫السد «سد وصد فالسد دون الصد ألن السد للباب يسد ‪ ...‬والصد جانب الجبل والوادي‬
‫والشعب وهذا أقوى من السد ‪ ...‬فجعلوا الصاد لقوتها لألقوى والسين لضعفها‬
‫لألضعف»‪.6‬‬
‫ويرى ابن جني أن « العرب تً ِ‬
‫قارب بين األلفاظ والمعاني إذا كانت عليها أدلة‪،‬‬
‫وبها محيطة »‪ 7‬ولذلك فإن بعض الحروف المتقاربة في الصوت أو المخرج تبدو متقاربة‬
‫ط »‪،‬‬‫ط َي ْن ِح ُ‬
‫في المعنى أيضاً فالفعل ‪َ « :‬ن َح َت َي ْن ِح ُت » يقترب في داللته من الفعل ‪َ « :‬ن ِح َ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 158 / 2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 160 / 2 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 161 / 2 ،‬‬
‫‪ 6‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ابن جني‪ ،‬المحتسب ‪. 6/2 ،‬‬
‫‪76‬‬
‫القتراب صوت التاء من الطاء‪ « ،‬فكأن ذلك الضغط الذي يصحب الصوت ينال من آلة‬
‫أخ ٌذ منه»‪ ،1‬ولم يقتصر‬ ‫ِ‬
‫ُّف له و ْ‬ ‫النفس‪ ،‬ويحتُّها ويسفُنها فتكون كالنحت لما ًي َ‬
‫نحت ألنه تحي ٌ‬
‫األمر على ذلك فإن أصوات بعض الحروف تؤثر بشكل فاعل في داللة الكلمة‪ ،‬وتهيمن‬
‫على حروف الكلمة األخرى‪ ،‬ومن ذلك حروف الصفير ـ السين والزاي والصاد ـ التي‬
‫تتضمن داللة تكاد تكون واحدة حين تكون في مكان واحد من الفعل‪ ،‬فاألفعال « عسر‬
‫وعصر وعزر» تكاد تكون داللتها واحدة‪ ،‬ألن أحرف الصفير كانت « عين » هذه‬
‫الخُلق‪ ،‬والتعزير للضرب‪ ،‬وذلك‬
‫الع َسر شدة ُ‬
‫األفعال « فالعصر ‪ :‬شدة تلحق المعصور‪ ،‬و َ‬
‫شدة ال محالة‪ ،‬فالشدة جامعة لألحرف الثالثة » ‪ ،2‬وتجاوز ابن جني إلى حد‪ ،‬إقامة‬
‫عالقة بين أصوات الحروف ودالالتها على الرغم من تغير مواقعها في الكلمة‪ ،‬مما أطلق‬
‫عليه االشتقاق األكبر‪ ،‬وهو‪ « :‬أن تأخذ أصالً من األصول الثالثية‪ ،‬فتعقد عليه وعلى‬
‫تقاليبه الستة معنى واحداُ تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه »‪3‬‬
‫ويضرب مثال لذلك بالجذر قول‪ ،‬ويرى أن « إن معنى قول أين وجدت وكيف وقعت من‬
‫تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه إنما هو للخفوف والحركة » ‪ ،4‬ويعمد ابن‬
‫جني إلى تأويل ما ينبو تقليب معناه بلطف الصنعة والتأويل ‪.5‬‬
‫ويعقد ابن جني عالقة بين حروف المد ودالالتها الحسية‪ ،‬ويتأسس تصوره هذا‬
‫على العالقات نفسها التي أشادها في قوة الحرف وضعفه‪ ،‬والجهد العضلي الذي يبذله‬
‫المتكلم‪ ،‬مؤكداً النـزعة العقلية التي يصدر عنها‪ ،‬فالواو أقرب إلى حاسة منه إلى حاسة‬
‫أخرى‪،‬لقوته التي تناسب شدة اقتراب الفاعل‪ ،‬ويعقد مقارنة بين الفعلين « حال يحلو »‬

‫‪1‬‬
‫قشره ‪.‬‬ ‫ـ نفسه ‪ ،‬ومعنى َي ُحتُّها َ‬
‫وي ْسُفًنها ‪ :‬يعركها ويهيجها ‪ ،‬من سفنه ‪ :‬إذا ّ‬
‫‪ 2‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪. 136 / 2 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪. 5 / 1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ لمزيد من التفصيل‪ ،‬ينظر نفسه‪ ،136/2 ،5/1 ،‬نفسه‪ . 136/2 ،‬وينظر ‪ :‬عثمان بن جني ‪،‬‬
‫المحتسب‪ ،145/2 ،‬و ‪. 137 ،136/2‬‬
‫‪77‬‬
‫و«حلى يحلي » فاألول يطلق على حاسة الذوق‪ ،‬ألنك تقول « حال الشيء في فمي‬
‫يحلو» والثاني أنسب إلى حاسة البصر‪ ،‬ألن الياء واأللف خفيفتان وضعيفتان‪ ،‬و«حصة‬
‫الناظر أضعف من حس الذوق بالفم » ‪ ،1‬وما قيل عن أصوات الحروف وعالقتها‬
‫بالمعنى يقال أيضاً عن أصوات الحركات‪ ،‬التي تتسم بالقوة والضعف‪ ،‬فيما يرى ابن‬
‫جني‪ ،‬فالضمة تدل على القوة‪ ،‬والكسرة تدل على الضعف‪ ،‬ولذلك أطلق العرب « الِّذل »‬
‫بكسر الذال على الدابة‪ ،‬وهو ضد الصعوبة‪ ،‬كما أطلقوا « ُّ‬
‫الذل » بضم الذال على‬
‫العز‪ ،‬ليفصلوا بين المعنيين‪ « ،‬ألن ما يلحق اإلنسان أكبر قد اًر مما‬
‫اإلنسان وهو ضد ّ‬
‫يلحق الدابة‪ ،‬واختاروا الضمة لقوتها لإلنسان‪ ،‬والكسرة لضعفها للدابة »‪ ،2‬وكما تدل‬
‫الحركات عند ابن جني على المعنى قوة وضعفاً‪ ،‬تدل عليه كثرة وقلة‪ ،‬ولذلك الحظ فرقاً‬
‫واضحاً في الداللة بين العبارتين ‪:‬‬

‫ُجمام المكوك دقيقاً ‪ -‬بضم الجيم‬


‫ـاء ‪ -‬بكسر الجيم‬ ‫ِ‬
‫جمام القـ ـدح م ـ ـ ـ ـ ً‬

‫« ألن الماء ال يصح أن يعلو على رأس القدح‪ ،‬كما يعلو الدقيق ونحوه على رأس‬
‫المكوك‪ ،‬فجعلوا الضمة لقوتها فيما يكثر حجمه‪ ،‬والكسرة لضعفها فيما يقل بل ُيعدم‬
‫فرق بين‬ ‫‪3‬‬
‫ارتفاعه » ‪ ،‬وقد ارتبطت أصوات بعض الحروف بالداللة على القلة والكثرة‪ ،‬فقد ّ‬
‫داللة صوتي الضاد والصاد في كلمتي ‪َ « :‬قبضة‪ ،‬وُقبصة »‪ ،‬ورأى أن ‪َ « :‬قبضة » تدل‬
‫على الكثرة‪ ،‬لتفشي حرف الضاد واستطالة مخرجه‪ ،‬أما كلمة ‪ُ « :‬قبصة » فهي تدل على‬
‫القلة‪ ،‬وذلك لصفاء حرف الصاد‪ ،‬وانحصار مخرجه وضيق محله ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ عثمان بن جني‪ ،‬المحتسب‪ . 19/2 ،‬وينظر ‪ :‬نفسه‪. 205/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 18/2 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 55/2 ،‬‬
‫‪78‬‬
‫كما أن بنية الكلمة تخضع هي األخرى لقانون االستثقال‪ ،‬ويرى ابن جني أن‬
‫أعدل األصول هو الثالثي‪ « ،‬حرف يبتدأ به وحرف يحشى به وحروف يوقف عليه » ‪1‬‬
‫ويتجاوز المتكلم االستثقال‪ ،‬ولذلك فإن ياء ميزان وميعاد « انقلبت عن واو ساكنة لثقل‬
‫الواو الساكنة بعد الكسرة وهذا أمر ال لبس في معرفته وال شك في قوة الكلفة في النطق به‬
‫وكذلك قلب الياء في موسر وموقن واواً لسكونها وانضمام ما قبلها وال توقف في ثقل الياء‬
‫الساكنة بعد الضمة »‪.2‬‬
‫وتنطبق القاعدة على الوحدات الصوتية في حال انتظامها‪ ،‬كما ينطبق على‬
‫الوحدات التركيبية في أثناء انتظامها‪ ،‬أيضا‪ ،‬مما له أكبر األثر في تحديد الفاعلية‬
‫والمفعولية‪ ،‬ـ مثال ـ فالعرب رفعت الفاعل لقلته‪ ،‬ونصبوا المفعول لكثرته « أن الفعل ال‬
‫يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعوالت كثيرة فرفع الفاعل لقلته ونصب‬
‫المفعول لكثرته وذلك ليقل في كالمهم ما يستثقلون ويكثر في كالمهم » ‪.3‬‬

‫)‪ (2‬الــقوانين الصـــوتيـة وجـمـالــيـاتـهـــــا ‪:‬‬

‫أن هناك قوانين تفسر الظواهر اللغوية المتعددة فإننا لسنا في‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫سياق العناية ببعض القوانين الصوتية التي فصلها علماء األصوات قدر عنايتنا بما له من‬
‫تأثير في الكشف عن جماليات النص الشعري ‪ ،‬وفي هذا الصدد نلمح البن ّ‬
‫جني تأكيده‬
‫ظواهر معينة يمكنها أن تتحول إلى قاعدة أو قانون‪ ،‬بحيث يمكنه اإلسهام في تفسير‬
‫التغيرات الصوتية والكشف عن جمالياتها أيضاً‪ ،‬ومن هذه الظواهر ظاهرة »االستثقال «‬
‫أي ثقل الوحدة الصوتية في نطقها بذاتها ومستقلة عن سياقها‪ ،‬أومقترنة بالسياق‪ ،‬ومن‬
‫الطبيعي أن تكون هذه الوحدة الصوتية ثقيلة أيضاً في أثناء تركيبها في سياق‪ ،‬ولم يكن‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 55 / 1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 49 / 1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫جني مقتص اًر على الحروف وحدها‪ ،‬بل تجاوزها إلى الحركات التي تمثل مستويات‬ ‫ابن ّ‬
‫متعددة من الخفة والثقل‪ ،‬لتكون الضمة أكثر هذه الوحدات الصوتية ثقالً ‪.‬‬
‫جني بما لالستثقال من أثر في تأليف الوحدات الصوتية أساساً في‬
‫ويعني ابن ّ‬
‫ُ‬
‫ويفسر أسباب إهمال بعض األصوات في اللغة العربية‬
‫اللغة فضالً عن تأليفها في الشعر‪ُ ،‬‬
‫ألن«أكثره متروك لالستثقال « وهو يرجع إلى قرب مخارج الوحدات الصوتية التي منها‬
‫جني ذلك إلى نفور الحس عنه والمشقة على النفس لتكلفه ‪،1‬‬
‫هذه األصوات‪ ،‬ويعزو ابن ّ‬
‫ليخضع حكمه إلى بعدين تأثري وعقلي في آن واحد‪.‬‬
‫جني في أحد جوانبه على ربط القضايا في ضوء أصولها‬‫ويرتكز تفكير ابن ّ‬
‫وفروعها وأعدل األصوات وأخفها‪ ،‬ليتجاوب مع مزيد من اإلحكام العقلي مع تصورات‬
‫المعتزلة التي تسعى إلى مزيد من التدقيق العقلي‪ ،‬واعتماد ألوان من القياس في إحكام‬
‫جني يتحدث عما كان األصل فيه خمسة‬ ‫أن ابن ّ‬ ‫الظاهرة مهما كانت‪ ،‬ولذلك الحظنا ّ‬
‫أحرف‪ ،‬إذ يرى ّ‬
‫أن العرب اجتنبت تبليغه بالزيادة إلى سبعة‪ ،‬ويذهب في تعليل ذلك إلى‬
‫استثقال النطق باألصول الخمسة‪ ،‬ولكنه من ناحية أخرى تسيطر عليه النـزعة القياسية‬
‫فإن ما كان األصل فيه‬
‫فيتحدث عن » أعدل األصول وأخفها « وهو الثالثي‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫خمسة‪ ،‬على الرغم من كونها أصوالً‪ ،‬فهي بعيدة عن » أعدل األصول« ـ أي الثالثي ـ‬
‫ولذلك ثقلت الكلمة ومن ثم تقل كميتها في اللغة‪ ،‬ولهذا السبب يقل استخدامها أيضاً‪،‬‬
‫والزيادة على هذه األصول يزيدها ـ دون شك ـ ثقالً‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫فإن العرب ـ فيما يرى ابن‬
‫جني ـ لم يجمعوا على هذه الكلمة ثقلين ‪ :‬ثقل األصل الخماسي وثقل الزيادة بحرفين‬
‫ّ‬
‫ليصير سباعيا‪.2‬‬
‫جني تشبه إلى حد كبير قانون الجهد األقل‪ ،‬الذي‬
‫إن ظاهرة االستثقال لدى ابن ّ‬
‫ّ‬
‫يحاول فيه المتكلمون في نطق األصوات تجنب التحركات النطقية التي يمكن االستغناء‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،54/1 ،‬ينظر ‪ :‬مهدي المخزومي‪ ،‬في النحو العربي‪ ،‬قواعد وتطبيق ‪ ،‬دار الرائد للنشر والتوزيع‪,‬‬
‫‪ ، 1986‬ص ‪. 66‬‬
‫جني‪ ،‬المنصف‪.51/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪80‬‬
‫أن هذا العامل ليس‬
‫عنها والتي تكلف جهداً يثقل على المتلقي أداؤه ‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫بوسعه أن يفسر كل التغيرات الصوتية فإنه يسهم في تفسير بعض التغيرات التي تكشف‬
‫عن جوانب جمالية للوحدات الصوتية‪ ،‬سواء في حالة إفرادها‪ ،‬أو في حالة تراكبها‪،‬‬
‫وتضامها مع غيرها من الوحدات ‪.1‬‬
‫جني بين طبيعة الحروف في الفصل الذي ذكر فيه مذهب العرب في‬
‫ويميز ابن ّ‬
‫ُ‬
‫مزج الحروف بعضها ببعض ‪ ،2‬وما يجوز في ذلك وما يمتنع وما يحسن وما يقبح‪،‬‬
‫ويقسم الحروف إلى قسمين ‪ :‬خفيف وثقيل‪ ،‬وتختلف أحوال الخفيف‪ ،‬فيكون بعضه أثقل‬

‫جني الصفات والخصائص التي تجعل هذا الحرف خفيفاً‬ ‫من بعض ‪ ،3‬ولم يحدد ابن ّ‬
‫أن أحرف الزيادة كلها خفيفة‪ ،‬وهي ‪ :‬األلف‪ ،‬والواو‪ ،‬والياء‪،‬‬
‫واآلخر ثقيالً‪ ،‬ولكنه أكد ّ‬
‫والهمزة‪ ،‬والميم‪ ،‬والنون‪ ،‬والتاء‪ ،‬والهاء‪ ،‬والسين‪ ،‬والالم ‪ ،‬وما تبقى من الحروف فهي‬
‫الحروف الثقيلة‪.‬‬
‫جني‪ ،‬لوجدناها‬
‫ولو تتبعنا أحرف الزيادة‪ ،‬وهي أحرف خفيفة في تصور ابن ّ‬
‫تختلط بين المجهور والمهموس‪ ،‬فالمجهور ‪ :‬األلف‪ ،‬والواو‪ ،‬والياء‪ ،‬والهمزة‪ ،‬والميم‪،‬‬
‫والنون‪ ،‬والهاء‪ ،‬والالم‪ ،‬والمهموس اثنان وهما ‪ :‬التاء‪ ،‬والسين ‪ .‬ومن جهة الشدة والرخاوة‬
‫فمنها الشديد ‪ :‬كالهمزة‪ ،‬والتاء‪ ،‬ومنها التي بين الشدة والرخاوة وهي ‪ :‬األلف‪ ،‬والياء‪،‬‬
‫حرف‬
‫ٌ‬ ‫والالم‪ ،‬والنون‪ ،‬والواو‪ ،‬ومنها الرخو‪ ،‬وهي ‪:‬السين‪ ،‬والميم‪ ،‬والهاء‪ ،‬وليس فيها‬
‫عل إذ كلها من األحرف المنخفضة‪ ،‬وليس فيها حرف مطبق‪ ،‬فكلها أحرف منفتحة ‪.‬‬ ‫مست ٍ‬
‫وتتفاوت الحروف في نوع الجهد العضلي في نطقها‪ ،‬فالتي تتطلب جهداً عضلياً‬
‫أكثر تعد ثقيلة في تصور الدرس الصوتي الحديث‪ ،‬بل تعد حروفا رديئة الموسيقى‪ ،4‬ولو‬

‫‪ 1‬ـ ينظر ‪ :‬أحمد مختار عمر‪ ،‬دراسة الصوت اللغوي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 319‬ـ ‪.320‬‬
‫جني ـ هنا ـ مصطلح المزج بين الحروف وليس التأليف الذي سبق له استخدامه‪ ،‬ويتفق مع‬ ‫‪2‬‬
‫ـ يستخدم ابن ّ‬
‫الرماني في استخدام مصطلح التأليف‪.‬‬
‫جني‪ ،‬سر صناعة اإلعراب‪ ،‬ورقة ‪. 303 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 4‬ـ ابراهيم أنيس‪ ،‬موسيقى الشعر‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1965 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 584‬‬
‫‪81‬‬
‫جني من جهة وقانون الجهد العضلي‬ ‫أردنا المقارنة بين الحروف الخفيفة والثقيلة عند ابن ّ‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬فإننا نستطيع الكشف عن جوانب ذات قيمة في مفهوم الخفة والثقل‪ ،‬ومن‬
‫إن الدراسات الحديثة تعتبر الهمزة من أشق الحروف وأعسرها حين النطق‪ ،‬ومثلها‬
‫هذا ‪ّ :‬‬
‫القاف‪ ،‬وكذا أحرف اإلطباق‪ ،‬وهي ‪» :‬الصاد‪ ،‬والضاد‪ ،‬والطاء‪ ،‬والظاء« ‪1‬‬
‫جني أنها أحرف خفيفة ليس فيها إال حرف الهمزة‬
‫إن أحرف الزيادة التي أكد ابن ّ‬
‫ّ‬
‫جني‪ ،‬بل إنه يؤكد أنها من‬
‫من الوحدات الصوتية الثقيلة‪ ،‬ولم يكن هذا خافياً على ابن ّ‬
‫وب ُع َد عن‬
‫أن الهمزة ثقيلة ألنها » حرف َسَف َل في الحلق َ‬
‫الحروف المستثقلة‪ ،‬ويؤكد ّ‬
‫الحروف وحصل طرفا فكان النطق به تكلفا « ‪ 2‬وإذا كان التحديد السابق لثقلها من حيث‬
‫ألن الحذف‬
‫مخرجها‪ ،‬فإنها ثقيلة من حيث حذفها‪ ،‬وإبدالها فهي ثقيلة لسببين ‪ :‬األول ‪ّ :‬‬
‫يدخلها‪ ،‬والثاني ‪ :‬إبدالها بحرف آخر في كثير من الكالم‪.‬‬
‫فإن الهمزة لها خاصية تجعلها حرفاً خفيفاً لألسباب اآلتية ‪:‬‬
‫وعلى الرغم من هذا ّ‬
‫‪ ‬القدرة على إعاللها وقلبها‪ ،‬وهذا ال يمكن أن يتم بحرف من الحروف الثقيلة‪،‬‬
‫كالجيم والقاف‪.‬‬
‫إن مخرجها مجاور لمخرج أخف الحروف وهو األلف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫بعد عنها بها‪ ،‬ويمثل‬


‫تباعدها عن الحروف ما يستروح إلى مزج المتقارب مما ُ‬ ‫‪‬‬

‫جني لذلك بـ » دأب « وكون الهمزة تفصل بين الدال والباء‪ ،‬وهو أحسن في‬
‫ابن ّ‬
‫تصوره في الفصل بينهما بالفاء مثال‪.‬‬
‫فإن أحرف الزيادة باستثناء الهمزة كلها‬
‫جني للهمزة ّ‬
‫ومهما يكن من تبرير ابن ّ‬
‫أن أغلب أحرف‬ ‫خفيفة ألنها ال تتطلب جهداً عضلياً يكلف المتكلم مشقة وعس اًر‪ ،‬كما ّ‬
‫الزيادة ـ ما عدا السين‪ ،‬والهاء‪ ،‬وهما حرفان رخوان ـ من األحرف الشديدة‪ ،‬وألن األصوات‬
‫أن أغلب أحرف الزيادة مجهور‪،‬‬
‫الرخوة أصعب من نظائرها الشديدة في النطق‪ ،‬كما ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 28‬ـ ‪.29‬‬


‫جني‪ ،‬سر صناعة اإلعراب‪ ،81/1،‬وورقة ‪. 303 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪82‬‬
‫واثنان منها مهموسان‪ ،‬وهما ‪ :‬التاء‪ ،‬والسين‪ ،‬وألن » األحرف المهموسة تحتاج للنطق بها‬
‫إلى قدر أكبر من هواء الرئتين مما تتطلبه نظائرها المجهورة«‪.1‬‬
‫أما األصوات الثقيلة فمنها حروف الحلق وهي ‪ :‬الهمزة‪ ،‬والعين‪ ،‬والحاء‪ ،‬والغين‪،‬‬
‫أن يلتقي بعضها ببعض ألنها أبعد ما تكون من االئتالف بسبب تقارب‬
‫والخاء‪ ،‬ويندر ْ‬
‫جني لذلك مجموعة من الضوابط اللتقاء أحرف الحلق‪ ،‬ألنه متى‬
‫مخارجها‪ ،‬ويحدد ابن ّ‬
‫اجتمع منها في كلمة اثنان ينبغي أن يفصل بينهما حرف ثالث‪ ،‬نحو » هدأت «‪ ،‬ويمكن‬
‫أن تتجاور بعض هذه األحرف في الحاالت اآلتية ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬االبتداء بالهمزة‪ ،‬فيجوز أن يجاورها واحد من ثالثة ‪:‬‬
‫‪ -1‬الهاء مثل ‪ :‬أهل‪.‬‬
‫‪ -2‬الحاء مثل ‪ :‬أحد‪.‬‬
‫‪ -3‬الخاء مثل ‪ :‬أخذ ‪.2‬‬
‫أن تتقدم العين مثل ‪ :‬عهد ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ائتالف الهاء مع العين‪ ،‬ويجب ْ‬
‫ثالثا ‪ :‬ائتالف العين مع الخاء‪ ،‬مثل ‪ :‬نخع‪.‬‬
‫أما أحرف أقصى اللسان‪ ،‬وهي ‪ :‬القاف‪ ،‬والجيم‪ ،‬والكاف‪ ،‬فهذه ال تتجاور أبداً ‪.‬‬
‫جني من هذا كله إلى تأليف الوحدات الصوتية أو مزجها ببعضها‪،‬‬
‫ويخلص ابن ّ‬
‫وهي ثالث طبقات تتدرج في الحسن على النحو اآلتي ‪:‬‬
‫تأليف األحرف المتجاورة في مخارجها‪ ،‬وهو‪ ،‬أدون درجات الحسن‪ ،‬فإما ْ‬
‫أن‬ ‫‪‬‬

‫يقل استعماله ‪.3‬‬


‫أن ّ‬
‫يهمل‪ ،‬أو ْ‬
‫تضعيف الحرف نفسه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أن هذه‬
‫جني ‪» :‬اعلم ّ‬
‫تأليف األحرف المتباعدة‪ ،‬وهو أحسنها وأجملها‪ ،‬يقول ابن ّ‬ ‫‪‬‬

‫الحروف كلما تباعدت في التأليف كانت أحسن‪ ،‬وإذا تقارب الحرفان في‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ورقة‪.304 :‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ورقة ‪.306 :‬‬
‫‪83‬‬
‫مخرجيهما قبح اجتماعهما‪ ،‬وال سيما حروف الحلق‪ ،‬أال ترى إلى قلتها بحيث يكثر‬
‫غيرها « ‪.‬‬
‫ويرى الرماني أن التأليف على نمطين ‪ :‬متالئم‪ ،‬ومتنافر‪ ،‬ويرجع الرماني علة‬
‫التنافر إلى قرب مخارج الحروف أو تباعدها‪ ،‬وهو في هذا يأخذ برأي الخليل بن أحمد‬
‫ألن األخير‬
‫المقيد‪ّ ،‬‬
‫أن القرب الشديد يشبه مشي ّ‬ ‫الفراهيدي‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن البعد يشبه الطفر‪ ،‬و ّ‬
‫أن‬ ‫‪1‬‬
‫» بمنـزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه‪ ،‬وكالهما صعب على اللسان « ‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫جني في أحد سببي التنافر‪ ،‬وهو قرب مخارج الحروف ‪.‬‬
‫الرماني يلتقي مع ابن ّ‬
‫ولو قمنا بمحاولة تطبيقية على نص قرآني‪ ،‬لنكشف من خالله عن تصورات ابن‬
‫جني على المستويات اآلتية ‪ :‬األحرف الخفيفة والثقيلة‪ ،‬وقرب مخارج الحروف وتباعدها‪،‬‬‫ّ‬
‫فما هي النتائج التي نصل إليها ؟ ‪.‬‬
‫وسأتناول في هذا السياق سورة العاديات‪ ،‬وال أريد أ ْن استقصي كل مخارج‬
‫الحروف من حيث البعد والقرب‪ ،‬فأما قرب المخارج فال يكاد يوجد إال في حالة اقتراب‬
‫إن ربهم بهم « وأما تباعد الحروف فليس قليالً‪ ،‬مثل‬
‫الميم من الباء في قوله تعالى » ّ‬
‫الهمزة والفاء في » أفال« و» فأثرن « فالهمزة تأتي من آخر الحلق والفاء من باطن الشفة‬
‫السفلى وأطراف الثنايا العليا‪ ،‬وكذلك الهمزة والذال في » إ ذا « فالهمزة من آخر الحلق‬
‫والذال مما بين طرفي اللسان وأطراف الثنايا‪ ،‬وكذلك الباء والعين في » بعثر « فالباء مما‬
‫بين الشفتين والعين من وسط الحلق‪ ،‬والميم واأللف في » ما « فالميم من بين الشفتين‬
‫واأللف من أسفل الحلق‪.‬‬
‫أن تباعد مخارج الحروف ليس عيباً في تأليف الحروف‪،‬‬ ‫إن هذا يقودنا إلى ّ‬
‫ّ‬
‫إن قرب المخارج هو الذي يدل على قبح التأليف‪.‬‬
‫بدليل كثرته ووجوده في نص قراني‪ ،‬و ّ‬
‫فإن إحصاءها اإلجمالي في السورة‬
‫أما بالنسبة للوحدات الصوتية الثقيلة والخفيفة ّ‬
‫أن األصوات الخفيفة ضعف األصوات‬ ‫القرآنية ـ العاديات ـ بمقدار الضعف تقريباً‪ ،‬أي ّ‬
‫الثقيلة ‪ ،‬ولو تناولنا كل قسم من أقسام السورة الكريمة لرأينا هذه القسمة تختلف لتباين‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 88‬‬


‫‪84‬‬
‫أن نسبة‬ ‫األقسام من حيث طبيعة الموضوع الذي تعالجه وطبيعة بنائه أيضا‪ ،‬إذ نرى ّ‬
‫األصوات هي ‪ :‬بمقدار ‪ 34‬صوتاً خفيفاً إلى ‪ 26‬صوتاً ثقيالً في القسم األول من السورة‬
‫ص ْب ًحا‪َ،‬فأَثَ ْرَن ِب ِه َنْق ًعا‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض ْب ًحا‪َ ،‬فاْل ُمورَيات َق ْد ًحا‪َ ،‬فاْل ُمغ َيرات ُ‬
‫ِ ِ‬
‫الكريمة‪ ،‬وهو » َواْل َعاد َيات َ‬
‫ط َن ِب ِه َج ْم ًعا« ‪ 1‬والسبب في هذا يرجع إلى طبيعة هذا القسم الذي يتميز بآياته‬ ‫َف َو َس ْ‬
‫القصيرة التي تتكون من كلمتين أو ثالثة‪ ،‬و يعرض لمشهد حياتي حسي يصور حركة‬
‫أن هذه اآليات تصف حركة‬ ‫خيول تضبح قد تتجه لغزو أو نحوه‪ ،‬وتقدح بحوافرها‪ ،‬كما ّ‬
‫تمتاز بخشونة يواكبها إيقاع متزن‪ ،‬لدرجة يصل التماثل إلى حد المطابقة في اإليقاع‪ ،‬من‬
‫جانبه العروضي على األقل‪ ،‬وهو مجزوء الرجز في » والعاديات ضبحاً‪ ،‬فالموريات قدحاً‬
‫أن الرجز يغلب عليه اشتداد الموسيقى فيه‪ ،‬وسرعة في ضرباته‪ ،‬أدركنا‬ ‫« هذا إذا عرفنا ّ‬
‫من هذا كله سر كثرة األصوات الثقيلة في هذا القسم من اآلية‪ ،‬مقارناً مع األقسام األخرى‪.‬‬
‫وتنخفض نسبة األصوات الثقيلة في القسم الثاني لتصبح ‪ 12‬صوتاً في مقابل‬
‫ود‪َ ،‬وِإَّن ُه َعَلى َذلِ َك َل َش ِه ٌيد‪َ ،‬وإَِّن ُه ِل ُح ِّب‬ ‫ِ‬
‫ان لِ َرِّبه َل َكُن ٌ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ 42‬صوتاً خفيفاً‪ ،‬والقسم هو ‪ » :‬إ َّن ْاإل َ‬
‫نس َ‬
‫اْل َخ ْي ِر َل َشِد ٌيد« ‪ 2‬ويرجع هذا ـ في الحقيقه ـ لتغاير المشهد‪ ،‬فإذا كان القسم األول يصور‬
‫مشهداً كائناً في الواقع الخارجي يقف عنده اإلنسان متأمالً‪ ،‬فإنه ـ هنا ـ أمام مشهد يصف‬
‫العالم الداخلي لإلنسان بما يشتمل عليه من حقائق‪ ،‬وما ينطوي عليه من عرض لنفسيته‬
‫إزاء خالقه‪ ،‬وإذا كان القسم األول يتكون من آيات قصيرة تتكون من كلمتين أو ثالث‪،‬‬
‫وتمتاز بسرعة اإليقاع وشدة ضرباته المتتالية فإن اآليات في هذا القسم تزداد طوالً‬
‫إن الفاصلة التي كانت في القسم األول حادة تستطيل ـ هنا ـ بتأثير الحروف‬
‫ومدوداً‪ ،‬حتى ّ‬
‫اللينة ‪ :‬الواو والياء‪.‬‬
‫أما القسم الثالث واألخير من السورة الكريمة فتصبح فيه األصوات الثقيلة ‪18‬‬
‫ِ‬
‫ص َل‬ ‫صوتاً في مقابل ‪ 37‬صوتاً خفيفاً‪ ،‬والقسم هو » أََفال َي ْعَلم ِإ َذا ُب ْعِث َر ما ِفي اْلُقُب ِ‬
‫ور‪َ ،‬و ُح ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪ 1‬ـ سورة العاديات‪ ،‬اآليات ‪1‬ـ ‪. 5‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة العاديات‪ ،‬اآليات ‪ 6 :‬ـ ‪. 8‬‬
‫‪85‬‬
‫‪1‬‬ ‫ٍِ‬ ‫َما ِفي ُّ‬
‫َّه ْم ِب ِه ْم َي ْو َمئذ َل َخِب ٌير« ويتميز هذا القسم ّ‬
‫بأن نسبة األصوات الثقيلة‬ ‫ِ‬
‫الصُدور‪،‬إ َّن َرب ُ‬
‫إلى األصوات الخفيفة كانت أقرب إلى التوسط والتوازن اذا ما قارناها بنسبتها في القسمين‬
‫أن هذا جاء بسبب تداخل بعدي العالمين الداخلي‬
‫اآلخرين من سورة العاديات‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫والخارجي في هذا القسم من السورة الكريمة ‪.2‬‬
‫ونخلص من هذا كله إلى أن ابن جنّي حين درس األصوات الثقيلة والخفيفة‬
‫أن محاولتنا تطبيق نظرته على‬ ‫درسها منفصلة عن السياق أوالً وعن المواقف ثانياً‪ ،‬و ّ‬
‫أن دراسة األصوات ـ هنا ـ البد أن تقترن ببعدين وهما‬ ‫السورة القرآنية كشفت إلى حد كبير ّ‬
‫‪ :‬السياق‪ ،‬ومقدار ما يعكسه على طبيعة الوحدات الصوتية من مؤثرات فنية وجمالية‪،‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬الموقف الذي يحدد طبيعة األداء‪ ،‬فليست كثرة األصوات بالحساب الرياضي‬
‫أن النص يشتمل على قيمة فنية وجمالية‪ ،‬ولكن اتساقاً ما‪ ،‬في األصوات اللغوية من‬
‫تعني ّ‬
‫حيث خفتها وثقلها تتواكب فيه طبيعة الموضوع والمواقف مع سياقات التشكيل اللغوي ‪.‬‬
‫ولذلك ألفينا تفاوت كمية الوحدات الصوتية الثقيلة والخفيفة في السورة القرآنية الكريمة‪ ،‬مما‬
‫جني بشكل رياضي ليس دقيقاً تماماً‪.‬‬
‫أن إطالق تصور ابن ّ‬
‫يؤكد ّ‬
‫جني اإلفالت من قوانين االستثقال في النطق‪ ،‬والتخلص من قاعدة‬
‫ويحاول ابن ّ‬
‫الجهد الذي يبذله المتكلم في أثناء التعبير واألداء‪ ،‬معتمداً بذلك على المقومات الذوقية‬
‫التي يحاول من خاللها تحديد بعض جماليات البناء الصوتي‪ ،‬ولكنه بقي خاضعاً ـ إجماالً‬
‫ـ لسيطرة النـزوع اللغوي‪ ،‬مما سيأتي الحديث عنه في الصفحات الالحقة ‪.‬‬
‫جني في تحديد جماليات التأليف الصوتي‪ ،‬وتتحدد لديه في‬
‫ويتجاوز الرماني ابن ّ‬
‫األبعاد اآلتية ‪: 3‬‬

‫‪ 1‬ـ سورة العاديات‪ ،‬اآليات ‪ 9 :‬ـ ‪. 11‬‬


‫‪ 2‬ـ ينظر بالتفصيل ‪ :‬كريم الوائلي‪،‬الوحدة الفنية في سورة العاديات‪ ،‬مجلة الثقافة العربية‪ ،‬ص ‪ 49‬ـ ‪.52‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪86‬‬
‫أولها ‪:‬‬
‫جني في تحديد طبيعة‬
‫سهولة لفظ الوحدات الصوتية ـ وهو بهذا يلتقي مع ابن ّ‬
‫التأليف ووظيفته ـ ألن االستثقال هو الذي نأى باإلنسان عن تأليف الحروف‬
‫جني والرماني ـ ينبئان عن قانون صوتي ـ قانون الجهد‬
‫المتجاورة‪ ،‬وهما ـ ابن ّ‬
‫األقل ـ يؤكده التفكير اللغوي الحديث‪ ،‬ومفاده أن بعض األصوات ال تكلف جهداً‬
‫كبي اًر‪ ،‬أو كون بعضها يمثل فونيماً أيسر من فونيم آخر‪ ،1‬ويؤكد أحد الدارسين‬
‫أن »السين أكثر بساطة من الصاد‪ ،‬ألن األخيرة تقتضي عملية إضافية على‬ ‫ّ‬
‫حركات نطق السين‪ ،‬وهذه العملية تتمثل في حركة مؤخر اللسان إلى أعلى‬
‫أن الالم والراء‪ ،‬على الرغم من كونهما من مخرج‬ ‫‪2‬‬
‫وحركة جذره إلى أسفل « و ّ‬
‫فإن الراء يتميز بخاصية إضافية أنه‬
‫أن كالً منهما حرف مجهور‪ّ ،‬‬ ‫واحد‪ ،‬و ّ‬
‫»صوت مكرر يضرب اللسان معه في اللثة ضربات متتالية‪ ،‬مما يجعله صوتاً‬
‫مركباً بالنسبة لصوت الالم «‪ 3‬وكذلك حرف الكاف‪ ،‬فإنه أيسر نطقا من القاف‪،‬‬
‫من ناحيتي مخرج الكاف‪ ،‬وعدم تدخل اللسان في أثناء نطقه‪.‬‬
‫وثانيها ‪:‬‬
‫ألن حسن‬
‫يتصل ببعد ذوقي سمعي‪ ،‬ويعتمد فيه الرماني على مؤثر تأثيري‪ّ ،‬‬
‫التأليف يحسن في األسماع‪ ،‬ولم يحدد الرماني الكيفية التي يتم بها هذا الحسن‪،‬‬
‫جني قد ألمح إلى بعض العناصر في مجال تأليف األصوات في‬
‫إن كان ابن ّ‬‫وْ‬
‫ثقل نطقها ومجافاة السمع لها‪.‬‬
‫وثالثها ‪:‬‬
‫أن حسن التأليف له عالقة‬
‫وينفرد به الرماني‪ ،‬وهو قضية التوصيل‪ ،‬ومفادها ّ‬
‫وثيقة بإيصال المعنى‪ ،‬بحيث يقترن التوصيل بالتأثير‪ ،‬أي ّ‬
‫أن حسن التأليف يؤثر‬

‫‪ 1‬ـ أحمد مختار عمر‪ ،‬دراسة الصوت اللغوي‪ ،‬ص ‪. 338‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 340‬ـ ‪. 341‬‬
‫‪87‬‬
‫أن فائدته » تقبل المعنى له في النفس لما يرد‬
‫في المتلقي فتتقبله الطباع‪ ،‬أو ّ‬
‫عليها من حسن الصورة وطريق الداللة « ‪.1‬‬
‫أن األحرف الخفيفة ينبغي أن تكون أكثر وروداً في‬ ‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫جني والرماني‪ ،‬هذا إذا أغفلنا السياق‬
‫النصوص األدبية‪ ،‬على األقل من وجهة نظر ابن ّ‬
‫جني ـ وهو اللغوي ـ منحا اًز‬ ‫والموقف ‪ ،‬ونحاول تطبيق ذلك على نص شعري كان ابن‬
‫ّّ‬
‫اليه‪ ،‬بخالف ابن قتيبة الذي استشهد به مصنفا إياه تحت أحد ضروب الشعر وهو ما‬
‫»حسن لفظه وحال‪ ،‬فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى« ‪2‬‬
‫والنص الشعري هو ‪:‬‬

‫ٍ‬
‫حاجة‬ ‫كل‬ ‫ِمنى‬ ‫من‬ ‫قضينا‬ ‫َولما‬
‫َ‬

‫ماسح‬
‫ُ‬ ‫هـو‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫باألركان‬ ‫ومسح‬

‫بيننا‬ ‫األحاديث‬ ‫بأطر ِ‬


‫اف‬ ‫أخذنا‬

‫األباطح‬
‫ُ‬ ‫المطي‬ ‫ِ‬
‫بأعناق‬ ‫وسالت‬
‫ْ‬

‫فاألحرف الخفيفة في البيتين الشعريين يزيدان على النصف في مقابل األحرف الثقيلة‪ ،‬أذ‬
‫جني كان منحا از لهذا‬
‫إن ابن ّ‬
‫يبلغ عدد الحروف الخفيفة ‪ 65‬حرفاً‪ ،‬يقابلها ‪ 26‬حرفاً ‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن كتاب » ثالث رسائل في إعجاز القرآن « تحقيق محمد خلف‬
‫هللا‪ ،‬ومحمد زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬د ‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪ 2‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪ ،‬تحقيق محمد أحمد شاكر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1982 ،‬م ‪ ،66/1 ،‬وقد‬
‫وصف ابن قتيبة هذه األبيات بأن ألفاظها »أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع‪ ،‬وإنْ نظرت إلى ما تحتها‬
‫من المعنى وجدته ‪ :‬ولما قطعنا أيام منى‪ ،‬واستلمنا األركان‪ ،‬وعالينا إبلنا األنضاء‪ ،‬ومضى الناس ال ينتظر‬
‫الغادي الرائح‪ ،‬ابتدأنا في الحديث‪ ،‬وسارت المطي في األبطح « الشعر والشعراء‪ 66 /1 ،‬ـ ‪. 67‬‬
‫‪88‬‬
‫النص الشعري وكان همه األساس أن يرد على ابن قتيبة‪ ،‬ألن األخير قلل من قيمة‬
‫المعاني التي تنطوي عليها األلفاظ‪.‬‬
‫جني عند ذلك بل راح يعرض األصول العقلية ويجعلها متحكمة‬ ‫ولم يتوقف ابن ّ‬
‫دراسة الظواهر الصوتية‪ ،‬ففي أثناء دراسته للقراءة القرآنية الكريمة »أَح ُّق أَن تُقوم ِف ِ‬
‫يه‬ ‫في‬
‫َ ْ َ َ‬
‫ال « ‪ 1‬يبدأ بتحديد المقومات العقلية التي يصدر عنها في درسه اللغوي والجمالي‬ ‫ِ‬
‫يه‬
‫ف ُ‬ ‫ِر َج ٌ‬
‫ويرى أن أصل حركة الهاء في القراءة القرآنية هي »الضم « وتكسر إذا سبقتها كسرة أو‬
‫ياء ساكنة‪ ،‬وعلى الرغم من تأكيده األصول العقلية ـ هنا ـ فإنه يرى بعداً جمالياً يرجع هو‬
‫فيه ِ‬
‫فيه « أو‬ ‫اآلخر إلى أصل عقلي مؤداه المماثلة بين األجزاء ألنه لو كسرهما معا » ِ‬
‫جني إلى ضرورة‬
‫فيه « لكان جميالً حسناً ويرجع هذا الجمال لدى ابن ّ‬
‫فيه ُ‬
‫ضمهما معا » ُ‬
‫المماثلة الشكلية بين األجزاء والعناصر‪ ،‬وهو جزء من التركيب العقلي الذي عنى به‬
‫أن‬
‫المعتزلة في المناظرة بين األشياء وضرورة أن يجمع مكوناتها نسيج عقلي موحد‪ ،‬غير ّ‬
‫جني ـ في ضوئه ـ‬
‫ويسوغ ابن ّ‬
‫هذا التحديد يقع تحت تأثير آخر هو التفسير الصوتي‪ّ ،‬‬
‫االختالف بين الحركتين لتكون إحداهما بالكسر‪ ،‬والثانية بالضم‪ ،‬ألن التكرار بذاته يكلف‬
‫فيه«‬ ‫ِ ِ‬
‫فيه ُ‬
‫الناطق جهداً عضلياً‪ ،‬وهو استثقال النطق‪ ،‬ألنه لو قال ‪ »:‬فيه فيه « أو » ُ‬
‫أن هذا‬
‫لتكرر اللفظ عينه حتى إنهم ال يتعاطونه إال داللة على قوة مراعاتهم له‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫مجاف للحس‪ ،‬ويكلف عس اًر في النطق‪ ،‬ولكنه يصبح سائغاً من أجل مراعاة‬ ‫ٍ‬ ‫الثقل‬
‫ٍ‬
‫التأكيد‪. 2‬‬
‫وعلى الرغم من النـزعة العقلية الجلية لدى المعتزلة ومحاولتهم ضبط الجماليات‬
‫جني‬
‫فإن مواقفهم ال تخلو من أحكام تأثرية ذوقية ـ وإذا كان ابن ّ‬
‫الصوتية بقواعد وقوانين ّ‬
‫والرماني والقاضي عبد الجبار بن أحمد ـ يمثلون الجدل العقلي ويميلون ناد اًر إلى تحكيم‬
‫الذوق فإن الصاحب بن عباد يميل إلى األحكام التأثرية التي ال تُعنى كثي اًر بالتحليل‬

‫يه ِف ِ‬
‫يه‬ ‫‪ 1‬ـ هذه قراءة قرآنية‪ ،‬والقراءة المشهورة هي ‪َ » :‬لمس ِجد أ ُِسس عَلى التَّْقوى ِمن أََّو ِل يو ٍم أَح ُّق أَن تُقوم ِف ِ‬
‫َْ َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ٌ ّ َ َ‬
‫َّللا ي ِح ُّب اْلم َّ‬
‫ط ِّه ِرينَ « سورة التوبة‪ ،‬آية ‪. 108 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ط َّه ُروا َو َّ ُ ُ‬ ‫ال ُي ِحبُّو َن أ ْ‬
‫َن َيتَ َ‬ ‫ِرَج ٌ‬
‫جني‪،‬المحتسب‪.301/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪89‬‬
‫والتفسير الصوتي للظواهر الجمالية‪ ،‬فهو يفطن إلى مواطن الجمال والقبح في التشكيل‬
‫اللغوي‪ ،‬وبخاصة الصوتي‪ ،‬ولكنه ال يميل إلى تحليله أو تعليله‪ ،‬فقد التفت إلى كلمات‬
‫رديئة التركيب والجمال يمكننا تفسيرها في ضوء الدرس اللغوي الحديث‪ ،‬ومن هذه الكلمات‬
‫كلمة »مسبطر « في قصيدة المتنبي التي يرثي بها أم سيف الدولة ‪:‬‬
‫طر‬
‫ُم ْسب ٌ‬ ‫حولك‬ ‫العز‬ ‫اق‬
‫رو ُ‬

‫ِ‬
‫كمال‬ ‫في‬ ‫ابنك‬ ‫علي‬ ‫ومْل ُك‬
‫ّ‬ ‫ُ‬

‫عباد المتنبي بأنه يسعى إلى‬


‫ومثلها كلمة » التوراب « التي يصف بها الصاحب بن ّ‬
‫«التفاصح باأللفاظ النافرة والكلمات الشاذة « ‪ 1‬في قوله ‪:‬‬

‫فطامه‬ ‫قبل‬
‫َ‬ ‫اب‬
‫التور ُ‬ ‫أيفطمه‬

‫ِ‬
‫األكل‬ ‫إلى‬ ‫البلوغ‬ ‫قبل‬ ‫ويأكله‬

‫ألن الناطق بها يبذل جهداً عضلياً يفوق‬


‫إن كلمة » مسبطر « تعد من الكلمات الثقيلة ّ‬
‫غيرها من الكلمات‪ ،‬وهذا يرجع ـ في تصورنا ـ إلى األسباب اآلتية ‪:‬‬
‫ان كلمة » مسبطر « مكونة من خمس وحدات صوتية‪ ،‬والكلمة تعد ثقيلة كلما‬ ‫‪‬‬

‫كانت وحداتها الصوتية أكثر‪.‬‬


‫تشتمل كلمة » مسبطر « على حرف إطباق وهو » الطاء « وهذا بذاته من‬ ‫‪‬‬

‫األصوات التي تكلف الناطق بها جهداً عضلياً أكبر ‪.‬‬


‫اإلنتقال من اإلطباق إلى حرف مكرر‪ ،‬أي من جهد إلى جهد آخر يكاد يماثله‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عباد‪ ،‬الكشف عن مساوئ المتنبي‪ ،‬ضمن كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي « للعميدي‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫ـ الصاحب بن ّ‬
‫تحقيق إبراهيم الدسوقي البساطي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ، 1961 ،‬ص ‪. 234‬‬
‫‪90‬‬
‫ومثل كلمة » مسبطر « كلمة » التوراب « فهي تتكون من سبعة أحرف‪ ،‬إضافة إلى‬
‫أن الذوق يمجها‪.‬‬
‫ندرة استخدامها‪ ،‬ولذا فهي ثقيلة في النطق‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫أن النظام الصوتي قد شغل عدداً محدداً من النقاد‪،‬‬
‫ونخلص من هذا كله إلى ّ‬
‫وقد لفتت أنظارهم مظاهر صوتية كخفة الوحدات الصوتية واستثقالها في النطق‪ ،‬وهي‬
‫ظواهر ال تشتمل على خصوصية تترك آثارها في تشكيل الشعر وإثراء داللته‪ ،‬وهذه‬
‫الظواهر من العموم بحيث يصح أن تكون عيباً في الشعر أو النثر‪ ،‬كما أنها تنطوي على‬
‫درجة من الثبات أيضاً‪ ،‬إذ تُعد الكلمة معيبة سواء اندرجت في سياق أو انفصلت عنه‪،‬‬
‫إن كانت ضوابط صوتية في أساسها‬
‫أن ضوابط الخفة واالستثقال في النطق و ْ‬‫وهذا يعني ّ‬
‫أن هذه المحاوالت بقيت مفتقرة إلى رؤية أرحب‪،‬‬ ‫فقد خلع عليها الناقد قيمة جمالية‪ ،‬غير ّ‬
‫أن الناقد ـ كما اتضح مما سلف ـ لم يكن يعي العالقة الوثيقة بين اإليقاع‬
‫والسبب في ذلك ّ‬
‫أن الناقد قد أدرك حي اًز ضيقاً من هذه العالقة فإنه ركز‬
‫وعلم األصوات‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫جل جهده وعنايته بالجانب التعليمي والمعياري‪ ،‬فقد تجلت العناية غالباً بإرساء األسس‬
‫ّ‬
‫المعيارية التي يضبط بها الناقد سليم الشعر من مكسوره باعتبار الوزن ـ مثالً ـ أحد أبرز‬
‫األسس التي تحدد ماهيته‪.‬‬
‫ولم يخطر ببال النقاد القدامى أن يعوا تمايز األصوات في إطار انتظامها في‬
‫تشكيالت إيقاعية‪ ،‬بل شغلتهم النـزعة العقلية التي تحبذ رؤية األشياء محددة وثابتة‪ ،‬ولذلك‬
‫إن كان النقاد قد التفتوا إلى جوانب‬
‫فإن األصوات لها سمات خاصة ثابتة أينما وضعت‪ ،‬و ْ‬
‫ّ‬
‫أن القيمة ال‬
‫قيمية هزيلة في أثناء دراستهم النتظام بعض األصوات بجوار بعضها‪ ،‬غير ّ‬
‫ترقى لديهم إلى انتظام هذه األصوات اللغوية على أساس موسيقي معين‪.‬‬
‫إن المحاوالت الحديثة التي حاولت دراسة اإليقاع في ضوء علم األصوات قد‬ ‫ّ‬
‫عمدت إلى ربط اإليقاع بالمقطع‪ ،‬ألن توالي المقاطع بكيفية معينة هو الذي يحدد بعدها‬
‫اإليقاعي سواء أكانت في تشكيل شعري أم في أداء نثري ‪ ،1‬وقد أفاد الدارسون المحدثون‬
‫من الدراسات الغربية‪ ،‬وبخاصة دراسة المستشرقين للعروض العربي‪ ،‬حين ربط هؤالء‬

‫‪ 1‬ـ إبراهيم أنيس‪ ،‬موسيقى الشعر‪ ،‬ص ‪. 329‬‬


‫‪91‬‬
‫اإليقاع بعلم األصوات مستعينين بمفاهيم حديثة كالمقطع والنبر واالرتكاز‪ ،‬وما تأسس‬
‫إن كان كميا أو نبريا‪ ،‬ونحو ذلك ‪.1‬‬
‫على هذه المفاهيم من تصنيف للعروض العربي ْ‬
‫أن الناقد العربي لم يكن يعرف تقسيم الكالم إلى مقاطع‪ ،‬وما يترتب‬
‫ومن الجلي ّ‬
‫على هذه المقاطع وتضامها من تشكيل جديد للعروض العربي‪ ،‬ولو أردنا التحدث عن‬
‫أن النبر‬
‫النبر ـ مثال ـ فإننا ال ننكر أهميته في تحديد جوانب معينة من الدالالت‪ ،‬كما ّ‬
‫يترك آثا اًر إيقاعية معينة في البناء الموسيقي‪ ،‬غير أنه لم يكن يستخدم لدى علماء العربية‬
‫بوصفه وحدة صوتية تسهم في تغيير المعنى‪ ،‬وسواء اتفق الباحثون على أن النبر موجود‬
‫في اللغة أو نفى بعضهم وجوده فإن هذا ال ُيلغي كون اللغويين والنقاد لم يتصوروا له‬
‫نظاما تخضع له مواضعه‪ ،‬ولم يدركوه ظاهرة ذات تأثير في نسق اللغة المنظومة ‪ ،2‬كما‬
‫أننا نجهل ـ اليوم ـ الكيفية التي كانت العرب تنبر بها الكلمات‪ ،‬وأنه ـ أي النبر ـ ال يمثل‬
‫لدى نقادنا على فرض وجوده‪ ،‬ملمحاً يسهم في تمييز المعنى‪ ،‬بحيث يكون للجانب‬
‫المنبور داللة تغاير داللة الجانب غير المنبور‪.3‬‬
‫وإذا كان النبر‪ ،‬على الرغم من أهمية في التحليل النقدي الحديث‪ ،‬لم ينل عناية‬
‫الناقد العربي لجهله به‪ ،‬فإن الحديث المفصل عنه في هذه الزاوية‪ ،‬إن لم يمثل لوناً من‬
‫فضول القول‪ ،‬فهو ال يمثل مزية تكشف عن جوانب ثرية في الدرس النقدي‪.‬‬
‫جني ـ مثال ـ تتركز في دراسة الصوت‬‫إن فهم المكونات الصوتية لدى ابن ّ‬ ‫ّ‬
‫بوصفه وحدة مستقلة لها صفاتها المجهورة والمهموسة والمستعلية والمنخفضة‪ ،‬أو أنه‬
‫يتحدث عن مخارج األصوات‪ ،‬ويرتبها بحسب تذوقها من أخر الحلق إلى أول الفم‪،‬‬
‫فاألصوات‪ ،‬من هذه الناحية‪ ،‬يغلب عليها التحديد الوظيفي اإلشاري‪ ،‬ويكون الهدف منه‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 49‬وما بعدها‪ ،‬ينظر أيضاً ‪ :‬محمد مندور‪ ،‬في الميزان الجديد‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬مصر‪1973 ،‬‬

‫م ‪ ،‬ص ‪ 183‬وما بعدها‪ ،‬وشكري ّ‬


‫عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ 1968 ،‬م ‪،‬ص ‪31‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ برتيل مالمبرج‪ ،‬علم األصوات‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ ، 1985 ،‬ص ‪. 97‬‬
‫‪ 3‬ـ أحمد مختار عمر‪ ،‬دراسة الصوت اللغوي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.370‬‬
‫‪92‬‬
‫التوصيل بين المبدع والمتلقي‪ ،‬وليس التأثير في المتلقي من خالل تشكيالت جمالية تسهم‬
‫فيها الوحدات الصوتية بنصيب وافر‪.‬‬
‫ومما يثير االنتباه في هذا الدرس أنه يغفل عالئق التأثير بين العناصر‬
‫والمكونات‪ ،‬ولذلك وجدنا اللغوي ـ في أثناء معالجته للوحدات الصوتية ـ يدرسها وكأنها‬
‫وحدات مفردة مستقلة‪ ،‬ولذلك أسهب في دراسة مخارجها وتحديد صفاتها‪ ،‬وحين انتقل إلى‬
‫ألن تركيب الوحدات الصوتية ـ يعني في‬‫تركيبها مع بعض لم يقف عند دراستها كثي اًر‪ّ ،‬‬
‫الغالب ـ تجاور هذه الوحدات‪ ،‬وتكمن غاية التركيب والتضام في هذه المجاورة التي تقود‬
‫إلى داللة مركزية يكثر الحديث عنها‪ ،‬أو محاولة الناقد إرجاع الدالالت الثانوية إلى الداللة‬
‫المركزية بعنف مرة‪ ،‬أو مالطفة ولين مرة أخرى‪.‬‬
‫وتسيطر النظرة الجزئية على عقلية الناقد‪ ،‬أي أنه ُيعنى كثي اًر بتفكيك األشياء‬
‫والظواهر إلى أقسام وجزئيات عديدة‪ ،‬ويحاول دراستها مستقلة عن بعضها‪ ،‬دون األخذ‬
‫بنظر االعتبار وظيفتها العضوية والجمالية بوصفها جزءا له تأثيره المتفاعل مع الكل‪،‬‬
‫وحتى حينما يحاول الناقد الكشف عن بعض عناصر التفاعل فإن رؤيته لها تظل باهتة‪،‬‬
‫ألن المجاورة هي التي تشغل تفكيره وليس التقاطع والتفاعل بين الجزء والكل ‪.‬‬
‫ويقود هذا إلى العناية بالصيـاغة ذاتـها‪ ،‬أي صياغة المفردة بوصفها كياناً مستقالً‬
‫عن السياق وعن الموقف‪ ،‬وليس لهذه الصياغة أدنى عالقة بطبيعة الحديث أو المـوقف‬
‫النفسي‪ ،‬ويمثل هذا ثباتاً في القيمة‪ ،‬وهو ثبات أصيل وليس طارئا على التفكير النقدي‪،‬‬
‫بل هو هدف يسعى الناقد إلى تمكينه في الواقع‪ ،‬ويتجاوب إلى حد كبير مع األصول‬
‫الفكرية االعتزالية‪ ،‬فالثبات قيمة فكرية تحاول إرجاع كل شيء إلى أصوله‪ ،‬فمن جهة‬
‫الفكر ترجع كل ماله عالقة بالتصورات الفكرية والشرعية إلى أصول ثابتة عقلية أوالً ونقلية‬
‫ثانياً‪ ،‬ومن جهة اللغة تحاول إرجاع اللغة إلى أصول وفروع‪ ،‬واألصول ثابتة‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫وينعكس هذا على العالقة بين الدال والمدلول والتوظيف الجمالي للتركيب‬
‫أن الدوال تدور في فلك ثبات‬
‫أن المدلوالت ثابتة و ّ‬‫الصوتي‪ ،‬فإن الناقد العربي يؤكد ّ‬
‫مدلوالتها‪ ،‬وهذا الفهم ـ بالتأكيد ـ ُيلغي جانباً كبي اًر من توظيف التركيب الصوتي توظيفاً‬
‫ألن ثبات المدلول إنما هو جزء من تصور فكري أشمل يصدر عنه الناقد وهو‬ ‫جمالياً‪ّ ،‬‬
‫‪93‬‬
‫أن الحديث عن ثبات المدلول يقود من زاوية أخرى إلى‬
‫ثبات المطلق‪ ،‬وثبات المعنى‪ ،‬و ّ‬
‫درس البنية الصوتية دراسة خارجية‪ ،‬وهو ما حصل فعالً‪ ،‬فلقد تركزت الدراسة حول‬
‫مخارج الحروف ووصفها‪ ،‬وليس درساً داخلياً يأخذ بعين االعتبار فاعلية التركيب‬
‫وجماليات البناء الصوتي في ضوء هذه الفاعلية ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫جماليات النظام الصرفي ‪:‬‬

‫(‪ )1‬النـظام الصرفي واألصول العقلية ‪:‬‬

‫يمثل النظام الصوتي أساس النظامين الصرفي والنحوي اللذين يغلب عليهما لدى‬
‫أن األخير يكاد يكون مستقالً عنهما‪ ،‬ولقد‬
‫علماء العربية انفصالهما عن النظام الصوتي‪ ،‬و ّ‬
‫جني أن يربطه بفاعلية السياق مرة‪ ،‬وأن يربطه بالنظام النحوي مرة أخرى‪،‬‬ ‫حاول ابن ّ‬
‫ولكن هذه المحاولة ال تعدو مجرد إشارات ‪.‬‬
‫جني ببن النظامين الصرفي والنحوي‪ ،‬فالنحو لديه ُيعنى بمعرفة أحوال‬
‫ويميز ابن ّ‬
‫الكلم المتنقلة‪ ،‬في حين يعني الصرف بأنفس الكلم الثابتة‪ ،‬وتتأسس على ذلك عناية ابن‬
‫جني البالغة بالصرف قبل النحو‪ ،‬ارتكا از إلى مقـولة عقليـة ترجـع التـفكير كله إلى ضرب‬‫ّ‬
‫ألن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن تكون أصالً لمعرفة حاله المتنقلة»‪،1‬‬ ‫من الثبات » ّ‬
‫وهذا يعني في أحد جوانبه أن هناك تماي اًز بين الذوات في حال الثبات‪ ،‬وتماي اًز بينها في‬
‫جني بالثبات الذي يمثل األصل لمعرفة كل‬ ‫أثناء تغايرها وتنقلها‪ ،‬وتتركز عناية ابن ّ‬
‫متغير‪ ،‬وهو لون من السعي إلى تثبيت كل شيء‪ ،‬وهو في النتيجة إرساء لقواعد الفكر‬
‫التي ترجع كل عنصر متغير إلى أصل ثابت‪ ،‬وتخضع فيه األصل والفروع إلى عملية‬
‫عقلية محددة‪.‬‬
‫ويقودنا هذا إلى الحديث البالغ األهمية عن األصول والفروع التي أسهب ابن‬
‫جني في تأكيدها‪ ،‬لتخضع فيه الثوابت والمتغيرات أو األصول والفروع إلى عملية هي‬
‫ّّ‬
‫القياس‪ ،‬بحيث تتداخل هذه األبعاد وتتقاطع مع بعضها لتشكل هذا التفكير الذي يصدر‬
‫عن إحكامات عقلية تخضع كل شيء لمقومات عقلية ثابتة‪.‬‬

‫جني‪ ،‬المنصف‪ ،‬شرح كتاب التصريف للمازني‪ ،‬تحقيق إبراهيم مصطفى‪ ،‬وعبد هللا أمين‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪1‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫التراث القديم‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪ 1954 ،‬م ‪. 4/1 ،‬‬
‫‪95‬‬
‫جني فمن جهة نشأة اللغة يعني‬
‫وتأخذ » األصلية « دالالت متعددة لدى ابن ّ‬
‫األصل وض ع اللغة‪ ،‬وهو يدل على تأكيد للمقوالت االعتزالية التي تؤمن بالمواضعة وليس‬
‫التوقيف‪ ،‬مما يقود إلى تأكيد قضية خلق القران‪ ،‬ويعني » األصل « من ناحية أخرى بنية‬
‫الكلمات العربية من حيث عدد حروفها ‪ :‬ثالثية‪ ،‬ورباعية‪ ،‬ليعني الفرع التراكيب التي‬
‫تتكون من جذور الكلمات والزيادات المضافة اليها; أو أن يكون » األصل « تثبيت صيغة‬
‫أن كل لفظين‬
‫جني » إعلم ّ‬‫لكلمتين أو أكثر رأى فيها اللغوي تقديماً أو تأخي اًر‪ ،‬يقول ابن ّ‬
‫وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه‬
‫إن لم يكن ذلك حكمت بأن أحدهما مقلوب عن صاحبه‪،‬‬
‫فهو القياس الذي اليجوز غيره‪ ،‬و ْ‬
‫ثم رأيت أيهما األصل وأيهما الفرع « ‪ ،1‬أو أن يكون » األصل « مذهبا للعرب حين‬
‫تسعى إلى تغير كلمة عن »صورة إلى أخرى أختارت أن تكون الثانية مشابهة ألصول‬
‫كالمهم ومعتاد أمثلتهم « ‪ 2‬ويرتكز المذهب العربي على أساس مشابهة اللفظ ألصول‬
‫أن يتحكم‬‫الكالم العربي‪ ،‬وإذا كان مذهب العرب يقود إلى أنماط تجريدية ثابتة فإنه البد ْ‬
‫في الفروع من خالل »المشابهة« التي تتوافر في الفرع ليقاس على األصل‪ ،‬وفي التشبيه ـ‬
‫جني بيتاً‬
‫أيضا ـ هناك أصل وفرع وهناك عادة وحكم يتحكمان فيهما‪ ،‬وحين يعالج ابن ّ‬
‫لذي الرمة‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫قطعتُ ُه‬ ‫العذارى‬ ‫كأوراك‬ ‫ٍ‬


‫ورمل‬

‫الحنادس‬
‫ُ‬ ‫المظلمات‬
‫ُ‬ ‫ألبسته‬ ‫إذا‬

‫جني روعته في المبالغة ألن ذا الرمة » جعل األصل فرعاً والفرع أصالً«‪.3‬‬
‫يعلل ابن ّ‬

‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 69/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 170/ 2 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،300 / 1 ،‬ينظر حديثًا موسعًا عن التشبيه في الفصل الثاني من هذا البحث‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫جني‪ ،‬وتتداخل‬
‫وتشتمل النصوص السابقة على تحديد أبعاد األصلية لدى ابن ّ‬
‫معها أبعاد الفرعية أيضا‪ ،‬غير أن األخيرة عنده تتفاوت في قوة تمكنها بمقدار قربها أو‬
‫جني ال تؤدي دورها في التمكن ال بسبب استخدامها‬
‫بعدها عن األصول‪ ،‬فالفروع لدى ابن ّ‬
‫على فرعيتها ولكن ألنها »تتأتى مأتى األصل الحقيقي ال الفرع التشبيهي«‪.1‬‬
‫إن الحديث عن األصل والفرع يقودنا إلى الحديث عن القياس‪ ،‬ألن الفرع حين‬
‫يتحكم فيه األصل يعني أن هناك مشابهة أو مماثلة تقتضي مقايسة الفرع ألصله‪ ،‬ومن‬
‫جني عن القياس‪ ،‬وهو يستجيب للضبط العقلي الذي تتبناه المعتزلة‪،‬‬
‫هنا تحدث ابن ّ‬
‫جني اللغة والنحو‪ ،‬وقاس الشعر أيضاً‪ ،‬ففي مجال الضرورة‬
‫وتدعو اليه‪ ،‬ولهذا قاس ابن ّ‬
‫الشعرية ـ مثال ـ يرى أنه » يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب«‪ 2‬كما أنه‬
‫يجعل الشعر القديم أصالً يقيس في ضوئه الشعر المحدث‪ ،‬ويحكم نظرته هذه بمعيار‬
‫عقلي يجعل »القيمة« تتحكم في جودة الشعر ورداءته وقبوله ورفضه‪ ،‬وليس مرد ذلك إلى‬
‫قدمه وحداثته‪ ،‬ولذلك فهو يبرر للشعر المحدث مماثلته للقديم في ضوء العملية القياسية‪،‬‬
‫وفي ضوء ارتجال القدماء والمحدثين قصائدهم‪ ،‬أو كونهم يعمدون إلى الصنعة‪ ،‬فهاتان‬
‫الصفتان يشترك فيهما القدامى والمحدثون‪ ،‬ومن هنا جاء قبول ابن ّ‬
‫جني لكليهما‪ ،‬في‬
‫ضوء العملية القياسية‪ ،‬وفي ضوء المفاهيم االعتزالية التي تقرن الجودة بالجهد وليس‬
‫بالقدم‪.‬‬
‫جني تكمن في التجانس أو » التشابه « وهو الذي‬
‫إن العلة القياسية لدى ابن ّ‬
‫يدعو إلى حمل الفروع على أصولها‪ ،‬وأن المشابهة من زاوية أخرى تقتضي وجود صفة‬
‫فإن‬
‫أو صفات مشتركة منتزعة مما بين األشياء‪ ،‬واالنتزاع عملية عقلية تعتمد التجريد‪ ،‬ولذا ّ‬
‫جني يلتقي مع األصوليين في اعتبـار األصل هو » القاعـدة الكلية التي تطبق على‬ ‫ابن ّ‬
‫الجزئيات «‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 177/ 2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 323/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ مصطفى جمال الدين البحث النحوي عند األصوليين‪ ،‬دار الرشيد بغداد‪1980 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪97‬‬
‫جني يرجع فروعاً مشتركة في الجذر ـ كما هو الحال في االشتقاق‬
‫وإذا كان ابن ّ‬
‫موحد‪ ،‬أو يرجع فروعاً متغايرة في الجذر ـ كما هو الحال في تالقي‬
‫األكبر ـ إلى معنى ّ‬
‫المعاني على اختالف األصول والمباني ـ إلى معنى واحد ‪ ،1‬فإنه أخذ يلمح إلى القارئ‬
‫بأنه يجمع األصول في مجموعات يوحدها ويضمها إلى بعض‪ ،‬وأخذ يحدثنا عن تقارب‬
‫أن » تؤزهم‬‫المعاني أو تقارب األصول الذي يقود إلى تقارب األلفاظ ـ الفروع ـ فهو يرى ّ‬
‫َز »‪ 2‬في‬‫ين تَ ُؤُّزُه ْم أ ًّا‬ ‫ِ‬ ‫أ اًز « في اآلية القرآنية الكريمة « أَنَّا أَرسـْلنا َّ ِ‬
‫ين َعَلى اْل َكاف ِر َ‬
‫الش َياط َ‬ ‫َْ َ‬
‫معنى » تهزهم ه اًز « ‪ ،3‬ويأخذ في إثبات ذلك تحليالً صوتياً يؤاخي فيه بين األصوات‪،‬‬
‫ألن الهمزة في » ّأز« إنما هي‬ ‫أن تقارب اللفظين معلول بتقارب المعنيين‪ّ ،‬‬ ‫ليقودنا إلى ّ‬
‫هز « وألنه يرى أن األختين ـ الهمزة والهاء ـ تختلفان في القوة‪ ،‬ـ فالهمزة‬
‫أخت الهاء في » ّ‬
‫أقوى من الهاء ـ ومن هنا جاءت اآلية الكريمة » تؤزهم أ اًز « بالهمزة وليس بالهاء ّ‬
‫ألن هذا‬

‫المعنى » أعظم في النفوس من الهز « ‪ 4‬ويضرب ابن ّ‬


‫جني لذلك أمثلة أخرى ال تُغير‬
‫شيئاً من جوهر التصور السابق‪.‬‬
‫وتقودنا مؤاخاة األصوات وتقاربها في الداللة إلى محاكاة اللفظ صوت الفعل ـ مما‬
‫أن هذا كثير في اللغة‪ ،‬إذ تضاهي أجراس حروف‬ ‫سبق الحديث عنه ـ ويرى ابن ّ‬
‫جني ّ‬
‫الفعل أصوات الفعل التي عبر بها عنها « أال تراهم قالوا قضم في اليابس وخضم في‬

‫الرطب» ‪ ،5‬ويرجع ابن ّ‬


‫جني ذلك لقوة القاف وضعف الخاء‪ ،‬أي أن العرب جعلوا‬
‫الصوت األقوى للفعل األقوى‪ ،‬والصوت األضعف للفعل األضعف‪ ،‬فأبن جنّي يرى أن‬
‫هناك داللة عامة تضم تحتها داللة الفعلين ‪ » :‬قضم وخضم « ولكنه في الوقت نفسه‬
‫يتحدث عن الفوارق الخاصة التي تتمايز بها دالالت هذين الفعلين‪ ،‬فهو من ناحية يدعو‬

‫جني‪ ،‬الخصائص‪ ،118/2 ،‬والفسر‪ ،‬ص ‪ ،197‬وغيرهما ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ سورة مريم‪ ،‬آية ‪. 83 :‬‬
‫جني الخصائص‪. 146/2 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 146/2 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪ ،65/1 ،‬و‪ 157/2‬ـ ‪.158‬‬
‫‪98‬‬
‫إلى » توحيد « المعاني في اللغة‪ ،‬ويطرح من ناحية أخرى الفوارق التي تتمايز بها‬
‫هز و ّأز « و » قضم‬ ‫الدالالت بحسب التغاير الصوتي في المفردات كما هو في » ّ‬
‫أن هذا التمايز يعالج في إطار المفردة المستقلة عن سياقها اللغوي‪ ،‬أي‬
‫وخضم «‪ ،‬غير ّ‬
‫أن تمايز الداللة يبقى محافظا على طبيعته مهما تغير وضع المفردة السياقي‪ ،‬دون أن‬ ‫ّ‬
‫جني الفاعلية الجمالية لهذا التمايز والتغاير الداللي‪.‬‬
‫يذكر ابن ّ‬

‫) ‪ ( 2‬أثر السياق في الكشف عن الجماليات الصرفية ‪:‬‬

‫جني ـ أحيانا ربط البناء الصرفي بالسياق‪ ،‬ويخرج به من الدالالت‬


‫حاول ابن ّ‬
‫الثابتة العامة إلى دالالت خاصة متغيرة‪ ،‬تخضع أوالً لطبيعة السياق‪ ،‬وتتشابك ثانياً مع‬
‫جني في جوانب أخرى من دراساته الصوتية‬ ‫النظام النحوي وفاعليته‪ ،‬وإذا كنا نرى ابن ّ‬
‫والصرفية والنحوية يسعى إلى تثبيت الدالالت العامة فإنه ـ هنا ـ يحاول كسر هذه القاعدة‬
‫ليجعل داللة المفردة خاضعة لتفاعالت تحكمها طبيعة التركيب وكيفية تضام الكلمات‪،‬‬
‫فعلى صعيد اإلفراد والجمع ال نكاد نلحـظ قيمـة داللية أو فنية تميز كلمة«طفل « عن‬
‫جمعها »أطفال « سوى اإلفراد والجمع‪ ،‬هذا أذا جردنا الكلمة عن سياقاتها اللغوية‪ ،‬غير‬
‫جني يلتفت إلى أهمية السياق وفاعليته في أثناء دراسته كلمة «طفل » في اآلية‬ ‫أن أبن ّ‬‫ّ‬
‫القرآنية » ثُ َّم ُن ْخ ِرُج ُك ْم ِطْفال « ‪ 1‬ويفسر معناها‪ ،‬أي » أطفاال«‪2‬وهو يعمد إلى إخراج‬
‫الداللة من طبيعة السياق غير أنه يرى أن لفظ الواحد أي » طفالً» حسن في هذه القراءة‪،‬‬
‫ويبرر حسنه في تأمل عقلي يتصل بالسياق ويتفاعل معه‪ ،‬ويرتكز إلى مقوالت فكرية‬
‫وعقائدية‪ ،‬وتتحدد أبعاد تبرير حسن هذه القراءة فيما يأتي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ سورة الحج‪ ،‬آية ‪. 5 :‬‬


‫جني‪ ،‬المحتسب ‪. 267/2 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪99‬‬
‫أن اإلفراد يخرج بالداللة من األحادية إلى معنى ينطوي على التحقير والتصغير‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫جل شأنه أخرجهم طفالً إنما هو » موضع‬ ‫أي أن مخاطبة هللا تعالى للناس بأنه ّ‬
‫تصغير لشأن اإلنسان وتحقير ألمره‪ ،‬فالق به ذكر الواحد لقلته عن الجماعة « ‪1‬‬
‫َ‬
‫جني خرج بكلمة » طفل « من داللة األحادية إلى داللة أخرى‪ ،‬ويتأتى‬
‫إن ابن ّ‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫هذا بسبب وعي فاعلية السياق‪ ،‬أي أنه عمد إلى تفسير هذه الكلمة بعيداً عن‬
‫كد ذهنه ليفتش عن دالالتها في إطار فاعليتها‪ ،‬وما‬‫دالالتها المعجمية‪ ،‬وألنه ّ‬
‫يوحيه هذا السياق‪ ،‬وما يلقيه عليها من ظالل‪ ،‬وهذا يعني أن السياقات المختلفة‬
‫ال تجمد الكلمة في إطار دالالت ثابتة‪ ،‬وإنما تضفي عليها دالالت متعددة‪ ،‬وبهذا‬
‫لن تكون داللة الكلمة ثابتة أبداً إال في المعجمات‪ ،‬وتكون الدالالت متغايرة في‬
‫السياقات لدرجة يصدق معها القول بأنه ال يمكن أن تتماثل داللة الكلمة الواحدة‬
‫في السياقات المختلفة‪.‬‬
‫أما الداللة الثانية فإنها تخرج من دالالت التعظيم والتحقير‪ ،‬إذ ليست الجماعة‬ ‫‪‬‬

‫لداللة التعظيم‪ ،‬كما أن اإلفراد ليس داالً على التحقير‪ ،‬وإنما يخرج المعنى إلى‬
‫داللة في تصوير مراحل نمو اإلنسان‪ ،‬من الوالدة حتى كونه مخلوقاً ناضجاً‪،‬‬
‫ولذلك تتغاير الدالالت‪ ،‬ففي حين عنيت الداللة األولى بالعظم والحقارة‪ ،‬أي‬
‫عنايتها بدالالت معنوية تتصل بقيمة أخالقية تجريدية‪ ،‬تتجاوز الداللة ـ في‬
‫الحالة الثانية ـ هذا البعد التجريدي إلى جانب تصويري إذا جاز التعبير ـ فهو بعد‬
‫جني إن معناه »نخرج كل واحد منكم طفالً « وهو يتضمن‬ ‫حسي‪ ،‬يقول ابن ّ‬
‫المعنى السابق على نحو اإلشارة والتلميح‪ ،‬وليس على نحو اإلبانة والتوضيح‪،‬‬
‫إن كان التغاير‬
‫جني يعي هذه الكلمة في إطار السياق‪ ،‬و ْ‬
‫أن ابن ّ‬
‫أن المهم ّ‬
‫غير ّ‬
‫نسبياً‪ ،‬وهو لون من ألوان االتساع الذي يتجاوب مع جذور فكرية‪ ،‬ألن وضع‬
‫جني ـ إنما هو اتساع في اللغة‪.‬‬
‫الواحد موضع الجماعة ـ لدى ابن ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫جني على اإلفراد والجمع ولكنه ُيعنى بالتعريف والتنكير‪،‬‬‫ولم تقتصر دراسة ابن ّ‬
‫محمد‬
‫ٌ‬ ‫ويخضعهما بشكل أو بآخر إلى شيء من فاعلية السياق ففي القراءة القرآنية » َوما‬
‫لت من قبله ُرُس ٌل« ‪ 1‬يرى أن هذه القراءة حسنة في معناها‪ ،‬ويرجع هذا‬
‫رسول قد َخ ْ‬
‫ٌ‬ ‫إال‬
‫الحسن إلى سببين ‪:‬‬
‫أولهما ‪:‬‬
‫إن القصر يشتمل على لون من االقتصاد في األداء فهذه القراءة ـ من هذه‬ ‫ّ‬
‫الزاوية ـ تقصر الرسالة على النبي محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ثانيهما ‪:‬‬
‫إن هذه القراءة إعالم بالرسول محمد صلى هللا عليه وسلم وتنكير بالرسل الذين‬
‫ّ‬
‫أن التعريف ضرب‬ ‫سبقوه‪ ،‬ذلك أن » التنكير ضرب من الكف والتصغير‪ ،‬كما ّ‬
‫من اإلعالم والتشريف «‪.2‬‬
‫إن التعريف والتنكير خرجا من داللتيهما المحدودتين إلى أبعاد ترتبط بالسياق‪،‬‬
‫جني تشريف الرسول محمد صلى هللا عليه وسلم بوصفه معرفة‪ ،‬بما‬ ‫يقصد بهما ابن ّ‬
‫وكأن التعريف يتجاوز‬
‫ّ‬ ‫تنطوي عليه داللة المعرفة في هذا السياق من دالالت التكريم‪،‬‬
‫إن الذي وهب التعريف هذه الداللة إنما هو السياق‪ ،‬في‬
‫داللته المعروفة إلى آفاق أرحب‪ ،‬و ّ‬
‫حين تخرج »النكرة « من أبعاد الجهل بها إلى دالالت التصغير‪.‬‬

‫ول َق ْد َخَل ْت ِم ْن َقْبِل ِه ُّ‬


‫الرُس ُل أََفِإ ْين َم َ‬
‫ات أ َْو‬ ‫هذه قراءة قرآنية‪ ،‬والقراءة المشهورة هي ‪َ » :‬و َما ُم َح َّمٌد إال َرُس ٌ‬ ‫‪ 1‬ـ‬
‫َّللا َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُقِت َل‬
‫ين « سورة آل عمران‪،‬‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫َّللا َش ْيًئا َو َسَي ْجزِي َّ ُ‬ ‫َعَقاِب ُك ْم َو َم ْن َي ْنَقل ْب َعَلى َعقَب ْيه َفَل ْن َي ُ‬
‫ض َّر َّ َ‬ ‫ْانَقَل ْبتُ ْم َعَلى أ ْ‬
‫آية ‪144 :‬‬
‫جني‪ ،‬المحتسب‪.168/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪101‬‬
‫) ‪ ( 3‬جـــمالــيات الصيغ الصرفية ‪:‬‬

‫قل المعنى‪ ،‬وإن زادت زاد‬


‫جني لعدد الحروف‪ ،‬إن قّلت ّ‬
‫وتخضع الداللة لدى ابن ّ‬
‫بالضرورة‪ ،‬وهذا الحساب الكمي تخضع له المعاني من ناحية‪ ،‬والصيغ الصرفية من ناحية‬
‫أن قوة المعنى التي هي نوع من أنواع زيادة المعنى تخضع هي األخرى لهذا‬
‫أخرى‪ ،‬كما ّ‬
‫المعيار‪ ،‬فكلمة مثل »احدودب« أقوى معنى من »حدب« و » اعشوشب « أقوى معنى‬
‫جني ‪َّ ،1‬‬
‫إن علة قوة المعنى مقترنة‬ ‫من » أعشب « وذلك لكثرة الحروف فيما يرى ابن ّ‬
‫بكثرة الحروف‪.‬‬
‫وتخضع الصيغ الصرفية للتفسير ذاته‪ ،‬ألن الصيغ الصرفية تتفاوت من حيث‬
‫جني قد أخضعت الدرس‬ ‫أن الصيغ بشكلها الذي عني به ابن ّ‬
‫كثرة الحروف وقلتها‪ ،‬غير ّ‬
‫الصرفي إلى لون من الثبات والجمود‪ ،‬بحيث تخضع فيه الصيغة إلى قانون صارم يحدد‬
‫داللتها سواء أدرجت هذه الصيغة في سياق‪ ،‬أو أخرجناها عنه‪ ،‬وتمثل الكلمات مجرد‬
‫أحجار تتراص‪ ،‬وال قيمة لهذا التراص إال إليصال المعنى‪ ،‬أما تفاعل هذه الوحدات مع‬
‫بعضها‪ ،‬والكشف عن جمالياتها فليس له أدنى قيمة في ضوء هذا التصور‪.‬‬
‫جني الدالالت الثابتة‪ ،‬وأعجب بها غاية اإلعجاب‪ ،‬ألنها‬ ‫ولقد شغلت ابن ّ‬
‫تتجاوب مع نمط فكري يعتقده‪ ،‬وألنه يحاول أن يرسي أصوالً ثابتة‪ ،‬وفروعا ترتكز عليها‪،‬‬
‫كما أوضحنا ذلك سابقا‪ ،‬أما من جهة الصيغ الصرفية فإنها تخضع لبعدين متداخلين ‪:‬‬
‫أولهما ‪ :‬كمية الحروف وداللتها على قوة المعنى أو ضعفه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ثانيهما‪ :‬ثبات داللة الصيغة سواء تركبت في سياق‪ ،‬أم أخرجت عنه‪ ،‬وسواء‬ ‫‪‬‬

‫فعل «‬
‫أتغايرت جذور هذه الصيغة من حروف مختلفة أم لم تتغاير‪ ،‬فصيغة » ّ‬
‫فعل «‬ ‫أقوى في المعنى من صيغة » َ‬
‫فعل « لزيادة كمية الحروف‪ ،‬وألن صيغة » ّ‬
‫وكسر‬ ‫تنطوي على معنى التكثير والتكرير ‪ ،2‬فق ّ‬
‫طع تعني كثرة القطع وتكريره‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 134/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 371/2 ،‬‬
‫‪102‬‬
‫تعني كثرة الكسر وتكريره‪ ،‬ولذلك فإن هناك داللة ثابتة في الصيغة وهي الكثرة‬
‫والتكرير مقترنة بالقوة‪ ،‬أما الداللة المتغيرة فهي القطع والكسر‪ ،‬أي جذر الكلمة‬
‫التي تشكل هذه الصيغة ; وبهذا تخرج الصيغ الصرفية الكلمات من داللتها‬
‫السياقية إلى ثبات في الداللة تخضع فيه لمقومـات عقليـة صـارمة‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫ذلك أن صيغة » يفتعلون « في القراءة القرآنية »من كتب ّيد ِرسونها « ‪ 1‬ـ بتشديد‬
‫أن «افتعل »‬‫الدال مفتوحة وبكسر الراء ـ أقوى معنى من » يدرسونها « وذلك ّ‬
‫جني أمثلة أخرى يؤكد فيها اقتران‬ ‫لزيادة التاء فيه أقوى من فعل ‪ ،2‬ويضرب ابن ّ‬
‫يز ُمْقتَِد ٍر«‬
‫َخ َذ َع ِز ٍ‬
‫اه ْم أ ْ‬
‫َخ ْذ َن ُ‬
‫قوة المعنى بكثرة الحروف‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى ‪َ » :‬فأ َ‬
‫جني أبلغ من قادر‪ ،‬والبالغة لديه ـ هنا ـ قرينة زيادة‬ ‫‪ 3‬و »مقتدر « لدى ابن ّ‬
‫الحروف‪ ،‬وبذا تكون الزيادة في المعنى أو قوته لونا من ألوان البالغة‪ ،‬ومثل هذا‬
‫جني أن يجمع بين‬‫» َل َها َما َك َس َب ْت َو َعَل ْي َها َما ا ْكتَ َس َب ْت«‪ 4‬التي يحاول فيها ابن ّ‬
‫الصيغة الصرفية والسياق في آن واحد‪ ،‬ألنه يرى أن القرآن الكريم قد أستخدم‬
‫صيغة »َف َعلَ « للحسنة‪ ،‬وذلك » الحتقار الحسنة إلى ثوابها «‪ 5‬مستدال باآلية‬
‫السِّي َئ ِة َف َال ُي ْج َزى إال‬
‫اء ِب َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الكريمة » م ْن ج ِ‬
‫اء باْل َح َس َنة َفَل ُه َع ْش ُر أ َْمثَال َها َو َم ْن َج َ‬
‫َ َ َ‬
‫ظَل ُمو َن « ‪ 6‬كما استخدم القرآن الكريم صيغة« افتعل » للسيئة‬ ‫ِم ْثَل َها َو ُه ْم َال ُي ْ‬
‫«تنفي اًر عنها‪ ،‬وتهويالً وتشنيعاً بارتكابها»‪.7‬‬

‫ون َها َو َما أ َْرَسْلَنا ِإَل ْي ِه ْم َقْبَل َك ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫‪1‬‬


‫اه ْم م ْن ُكتُ ٍب َي ْد ُرُس َ‬
‫ـ هذه قراءة قرآنية‪ ،‬والقراءة المشهورة هي ‪َ » :‬و َما آتَْيَن ُ‬
‫ير « سورة سبأ‪ ،‬آية ‪. 44 :‬‬ ‫َنِذ ٍ‬
‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬المحتسب‪. 195/2 ،‬‬
‫ّ‬
‫‪ 3‬ـ سورة القمر‪ ،‬آية ‪. 42 :‬‬
‫‪ 4‬سورة البقرة ‪ ،‬أية ‪. 286 :‬‬
‫جني‪ ،‬المحتسب‪. 134/2 ،‬‬ ‫‪5‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 6‬ـ سورة األنعام‪ ،‬آية ‪. 160 :‬‬
‫جني‪ ،‬المحتسب‪.134 /2 ،‬‬ ‫‪7‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪103‬‬
‫جني إلى الجمع بين الصيغة الصرفية‬ ‫إن هذه المحاولة التي يسعى فيها ابن ّ‬
‫والسياق تمثل خطوة في وعي فاعلية السياق في تشكيل داللة الصيغة الصرفية من ناحية‪،‬‬
‫ومقدار تأثيرها في المعنى العام للعبارة‪ ،‬وإضفاء أبعاد جمالية على التشكيل اللغوي كله‬
‫جني لم يذهب بعيداً في تأمله هذا‪ ،‬بسبب إلحاح الدالالت‬
‫أن ابن ّ‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬غير ّ‬
‫الثابتة الخاضعة لمعنى الصيغة الصرفية العامة عليه أوالً‪ ،‬وبسبب انسجام تفكيره مع‬
‫مقولة قوة المعنى المقترنة بكمية الحروف ثانياً ‪ ،‬ولذلك فإنه حتى في هذه المحاولة التي‬
‫سعى فيها إلى ربط الصيغة الصرفية بالسياق والكشف عن أبعاده الجمالية لم يكن الربط‬
‫فاعالً بحيث يترك كل منهما آثاره في اآلخر‪ ،‬ولذا فإن العالقة ال تخرج إلى التفاعل‬
‫المثمر مع السياق‪ ،‬وإنما هي ـ في الغالب ـ عالقة مجاورة فحسب‪.‬‬
‫جني يغلب عليها ثبات داللتها سواء وقعت‬
‫وإذا كانت الصيغة الصرفية لدى ابن ّ‬
‫في سياق أو أخرجت عنه‪ ،‬فإنه يرى أن حسن بعض الصيغ الصرفية مقترن بالتقائها‬
‫بالضمائر‪ ،‬ونمط خاص من هذه الضمائر‪ ،‬فصيغة » تفاعل « في القراءة القرآنية «وال‬
‫الفضل َبينكم » ‪ 1‬حسنة لسببين‪: 2‬‬
‫َ‬ ‫تََناسوا‬
‫أولهما ‪ :‬أنها تشتمل على نهي لإلنسان عن فعل اختاره‪ ،‬ألن هذه الصيغة الصرفية‬
‫«تفاعل» تعني أن اإلنسان يتظاهر بالنسيان‪ ،‬ومن هنا جاء النهي في القراءة القرآنية‪،‬‬
‫جني هو حسن للصيغة كيف وقعت وأين وقعت‪ ،‬إذ ليس له‬
‫وهذا الحسن فيما يراه ابن ّ‬
‫أن هذه الصيغة الصرفية ثابتة‬
‫خصوصية في إطار فاعلية السياق‪ ،‬وبمعنى آخر ّ‬
‫الداللة ال تنطوي على تغاير تتفاعل فيه في ضوء السياقات المختلفة ‪.‬‬
‫إن الذي زاد في حسن صيغة » تفاعل « كون المأمور جماعة‪ ،‬وليس فرداً‪ ،‬إذ‬
‫ثانيهما ‪ّ :‬‬
‫أن هذه الصيغة الئقة بالجماعة‪ ،‬ولم يفسر أسباب حسنها‪ ،‬وأسباب‬
‫جني ّ‬‫يرى ابن ّ‬
‫لياقتها للجماعة‪ ،‬ولكنه يقارن بين هذه الصيغة المسندة إلى واو الجماعة وصيغة‬

‫ِ‬ ‫‪1‬‬
‫َّللا ِب َما تَ ْع َملُو َن َبص ٌ‬
‫ير« سورة‬ ‫ِ‬
‫ض َل َب ْيَن ُك ْم إ َّن َّ َ‬
‫نس ْوا اْلَف ْ‬
‫ـ هذه قراءة قرآنية‪ ،‬والقراءة المشهورة هي ‪َ » :‬وال َت َ‬
‫البقرة‪ ،‬آية ‪. 237 :‬‬
‫جني المحتسب‪ 127/1 ،‬ـ ‪.128‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪104‬‬
‫ص َيب َك ِم ْن ُّ‬
‫الد ْن َيا‬ ‫«تفعل» وقد أسندت إلى مفرد في اآلية القرآنية الكريمة »وال تَنس ن ِ‬
‫َ َ‬
‫وأ ِ‬
‫جني أن الصيغة المسندة إلى المفرد تنطوي‬ ‫َّللاُ « ‪ 1‬ويرى ابن ّ‬
‫َح َس َن َّ‬
‫َحس ْن َك َما أ ْ‬
‫َ ْ‬
‫أن العرف والعادة ال يحضان على ما حلله‬
‫على حض على ما هو محلل لإلنسان‪ ،‬و ّ‬
‫هللا لإلنسان‪ ،‬وكأن صيغة » تفاعل « إذا أسندت للجماعة إنما تنهى عن محرم في‬
‫حين يكون إسناد »تفعل« للمفرد‪ ،‬إنما هو حض على المحلل‪ ،‬هذا إذا حسنت‪ ،‬أما إذا‬
‫لم تحسن لم تجز في غير هذين الوجهين على ما يبدو‪.‬‬
‫جني على الرغم من كونه يحاول الخروج بالصيغة من ثباتها ليربطها‬
‫إن ابن ّ‬
‫بفاعلية السياق فإنه في الوقت نفسه يثبت الصيغة الصرفية في إطار لونين إسناديين ـ‬
‫إسنادها إلى ضمير‪ ،‬وكون الضمير جماعة المأمورين ـ يشتمالن على دالالت محددة‬
‫وثابتة سلفاً‪ ،‬ويقترن حسن الصيغ الصرفية في ضوء إسنادها المحدد‪.‬‬
‫إن هذه المحاولة تمثل لونا من ألوان الجمود وتقعيد األصول المعيارية التي‬
‫ّ‬
‫أن يمزج بين‬
‫جني لم يستطع ْ‬
‫أن ابن ّ‬‫تعطل فاعليات السياق وجمالياته‪ ،‬واألخطر من هذا ّ‬
‫الصيغة الصرفية وسياقها اللغوي من ناحية‪ ،‬وبينها وبين البناء النحوي من ناحية ثانية‪،‬‬
‫ولو فعل ذلك لتمكن من الكشف عن جماليات التفاعل المتشابك بين الصيغ الصرفية‬
‫أن هناك جماالً‬‫جني تحسس بذوقه ّ‬
‫وسياقاتها وتفاعالتها مع البناء النحوي‪ ،‬ولكن ابن ّ‬
‫وحسناً بإسناد الصيغة الصرفية إلى واو الجماعة‪ ،‬أما ما هي عناصر هذا الحسن وأبعاده‬
‫؟ فإنه لم يستطع الكشف عنها‪ ،‬ألنه ما يزال مشغوفاً بثبات الدالالت العامة للصيغ‬
‫أن يخرج من هذا القيد إلى آفاق أرحب في الكشف عن‬ ‫الصرفية‪ ،‬وألنه لم يستطع ْ‬
‫جماليات تفاعل الصيغة الصرفية في إطار السياق كله‪.‬‬
‫جني صيغة » تفاعل « نفسها من زاوية أخرى في القراءة القرآنية‬ ‫ويتناول ابن ّ‬
‫«تباركت األرض » لتفيد هذه الصيغة معنى التوكيد‪ ،‬فهي ـ في هذا السياق ـ توكيد لمعنى‬
‫َّللاُ َع َّما ُي ْش ِرُكو َن«‪ 2‬أبلغ من عال‪،‬‬
‫أن » تعالى « في قوله تعالى ‪ » :‬تَ َعاَلى َّ‬
‫البركة‪ ،‬كما ّ‬

‫‪ 1‬ـ سورة القصص‪ ،‬آية ‪. 77 :‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة النمل‪ ،‬آية ‪. 63 :‬‬
‫‪105‬‬
‫ويعزو بالغتها إلى كثرة حروفها ‪ ،1‬أي أن المعنى وقوته مقترنان إلى حد التطابق مع‬
‫أن البالغة مقترنة ببعد كمي للحروف‪ ،‬وهذا كله ال يعني وعياً نوعياً‬ ‫بالغة التركيب‪ ،‬و ّ‬
‫جني التفكك إلى فاعلية السياق بالتركيب ‪.‬‬
‫يتجاوز فيه ابن ّ‬
‫إن صيغة » تفاعل « في التراكيب القرآنية المختلفة قد اشتملت على مدلوالت‬
‫جني لهذا التغاير ولكنه لم يجمع هذا في تصور شامل يتجاوز فيه‬
‫مختلفة‪ ،‬وقد تنبه ابن ّ‬
‫الدالالت الثابتة للصيغ إلى تفاعل مع السياق والكشف عن جمالياته‪.‬‬
‫جني الوحيد الذي يسعى إلى تثبيت داللة الصيغ الصرفية‪ ،‬فالرماني‬
‫ولم يكن ابن ّ‬
‫هو اآلخر ينحو المنحى ذاته‪ ،‬وعلى الرغم من أنه يحاول أن يقرن الصيغة الصرفية بلون‬
‫من » العدول « عن أصل اللغة فإنه يقع ـ في النهاية ـ بالمشكلة ذاتها‪ ،‬وهي التي شاركه‬
‫جني‪ ،‬ومفادها السعي نحو ثبات الصيغ الصرفية‪ ،‬وليس الكشف عن تغاير‬ ‫فيها ابن ّ‬
‫دالاللتها وجمالياتها بتغاير السياقات‪.‬‬
‫وحين يتحدث الرماني عن صيغ المبالغة يرى أنها جاءت على » جهة التغيير‬
‫عن أصل اللغة « وتفيد لديه » الداللة على كبر المعنى « ‪ ،2‬والغاية األساسية لديه هي‬
‫اإلبانة‪ ،‬إذن فصيغ المبالغة لدى الرماني تعني عدوالً وتغي اًر عن أصل الوضع في اللغة‪،‬‬
‫وهذا التحديد يلتقي على نحو من األنحاء مع المجاز الذي يمثل هو اآلخر عدوالً عن ما‬
‫أقر في االستعمال على أصل وضعه في اللغة‪ ،3‬وفي ضوء هذا تتغاير دالالت الصيغ‬ ‫ّ‬
‫الصرفية بمدى عدولها وتغيرها عن أصولها‪ ،‬ولكن الرماني‪ ،‬على الرغم من التفاتته الطيبة‬
‫هذه‪ ،‬يكسر هذا التغاير ويقوده إلى لون من الثبات‪ ،‬لتدل صيغ المبالغة على كبر المعنى‬
‫فحسب ‪.‬‬
‫إن الصيغ الصرفية تشتمل على قيم داللية ثابتة‪ ،‬مثل ‪ :‬فعالن‪ ،‬وفعال‪ ،‬وفعول‪،‬‬
‫ومفعل‪ ،‬ومفعال‪ ،‬وهذه الصيغ تمثل فروعاً ألصول عدل عنها إليها‪ ،‬ويذكرنا هذا بما ذهب‬

‫جني‪ ،‬المحتسب‪. 134/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 96‬‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 422/2 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪106‬‬
‫جني في شأن العالقة بين األصل والفرع‪ ،‬ليدل العدول عن األصل إلى الفرع‬
‫إليه ابن ّ‬
‫على أن هناك غاية بالغية يقصد منها المبالغة في أداء المعنى‪ ،‬فصيغة » فعالن «‬
‫مثل‪ :‬رحمان عدل بها عن صيغة » فاعل « مثل ‪ :‬راحم‪ ،‬للمبالغة‪ ،‬وكذا الشأن في‬
‫الصيغ الصرفية األخرى‪.‬‬
‫وإذا كانت الصيغة الصرفية ـ هنا ـ تتميز باستقاللها عن سياقها وعن األنظمة‬
‫جني ترتبط داللتها بمقومات صوتية‪ ،‬فصيغة »ُف ُعول« وتركيبها‬
‫اللغوية فانها لدى ابن ّ‬
‫« ُعُلو » تعد أقوى في الداللة من صيغة »َف َعال« ويعزو القوة في األولى » للواو‬
‫إن الصيغة‬ ‫‪1‬‬
‫والضمتين « ويعزو الضعف في الثانية إلى » ضعف األلف والفتحتين « ‪ّ ،‬‬
‫أن هذا التأثير عارض ال‬
‫الصرفية خضعت هنا لتأثير متبادل مع البناء الصوتي‪ ،‬غير ّ‬
‫أن‬
‫يمس جوهر الصيغة‪ ،‬كما أنه يفتقر إلى الكشف عن قيمة جمالية‪ ،‬غاية ما في األمر ّ‬
‫الواو والضمة يمثالن وحدتين أقوى من الفتحة واأللف في أصل وصفهما‪ ،‬و ّ‬
‫إن إسقاط هذا‬
‫على الصيغتين جعلهما أقوى في الداللة‪.‬‬
‫أن الصيغ الصرفية تتسم بثباتها واستقاللها‪ ،‬وحتى حين‬
‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫جني الصيغة بالنظام الصرفي لم تتجاوز المحاولة مجاورة البعدين‪ ،‬وليس‬
‫ربط ابن ّ‬
‫جني لم يستطع تجاوز األبعاد المعيارية التي‬ ‫تفاعلهما‪ ،‬وهذا يقودنا إلى القول َّ‬
‫بأن ابن ّ‬
‫أرساها علماء العربية‪ ،‬وكانت محاولته الجزئية البسيطة تمثل خدشاً في بناء منطقي يعسر‬
‫تخطيه‪ ،‬كما أنه ـ شأنه شأن علماء العربية ـ كان معنياً‪ ،‬غالباً‪ ،‬بتفكيك الظواهر ودراستها‬
‫أن إدراك ماهية الظاهرة والشيء ال يمكن فهمها في إطار سياقاتها‪ ،‬ألنها‬
‫مستقلة‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ستكون موضع إبهام وغموض‪ ،‬وكان هم علماء العربية اجتزاء الظواهر وإخراجها من‬
‫سياقاتها‪ ،‬وتسليط األضواء عليها من أجل تحقيق الوضوح والتوصيل‪.‬‬
‫ولقد قادت النظرة التجزيئية هذه إلى قصور في إدراك فاعليات السياق‪ ،‬ومدى‬
‫ألن كل بناء منها مستقل عن‬ ‫تفاعله مع األنظمة اللغوية ‪ :‬صرفية‪ ،‬وصوتية‪ ،‬ونحوية‪ّ ،‬‬
‫جني ـ وكذا الرماني ـ لم يستطيعا تجاوز إدراكها‬
‫فإن ابن ّ‬
‫غيره‪ ،‬أما بشأن الصيغ الصرفية ّ‬

‫جني‪ ،‬المحتسب‪. 140/2 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪107‬‬
‫مستقلة عن السياق‪ ،‬وقد وضع هذا حدوداً فاصلة بين الصيغة وتركيبها من ناحية وبين‬
‫جني على الرغم من إمكانيته تذوق جوانب من‬
‫إن ابن ّ‬ ‫الصيغة وسياقها من ناحية أخرى‪ ،‬و ّ‬
‫الصيغ فإنه بقي خاضعا للتفكير التجزيئي الذي يدرس الظاهرة منفصلة عن بنائها الكلي‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫جماليات النظام النحوي ‪:‬‬

‫) ‪ ( 1‬الكالم والتركيب ‪:‬‬

‫إن الكالم لدى المعتزلة واحد من األفعال المحكمة التي ال تتأتى إال بتوافر‬ ‫ّ‬
‫إن المتكلم البد أن يكون عالماً بطبيعة الفعل أوالً‪ ،‬وقاصداً إلى إحداثه‬
‫اإلرادة والقصد‪ ،‬و ّ‬
‫أن يكون تفصيلياً شامالً‪ ،‬وإنما يشترط فيه اإلجمال‪ ،‬أما القصد‬
‫ثانياً‪ ،‬وال يشترط في علمه ْ‬
‫فإنه ينطوي على أبعاد إعتقادية لكي يكون الكالم واحداً من األفعال التي يحاسب عليها‬
‫اإلنسان ثواباً أو عقاباً‪ ،‬ولتكون له بالنتيجة خصيصة ذاتية‪ ،‬وعلى الرغم من الفوارق بين‬
‫الكالم واألفعال المحكمة األخرى فإنها تلتقي بحقيقة مشتركة هي ‪ :‬التشكيل والتركيب‪،‬‬
‫أن التركيب هو أبرز مقوماتها‪ ،‬سواء أكان بسيطاً أم معقداً‪ ،‬فالنسيج ـ مثال ـ هو‬
‫بمعنى ّ‬
‫احد من هذه األفعال‬
‫تركيب وتشكيل بين الغزل وألوانه‪ ،‬وكذلك البناء ونحوهما‪ ،‬والكالم و ٌ‬
‫الذي يتميز بتشكيله وتركيبه على درجة عالية من التشابك والتعقيد‪.‬‬
‫ويتحدد الكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد بأنه » ما حصل فيه نظام‬
‫مخصوص من هذه الحروف المعقولة حصل في حرفين أو حروف«‪ 1‬ويعني بالحروف‬
‫ألن الحرف وحده ال داللة له‪ ،‬شأنه شأن‬
‫المعقولة األصوات الدالة إذا تراكبت مع غيرها‪ّ ،‬‬
‫صرير الباب‪ ،‬كما أن الحروف لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد »أصوات مقطعة « وأن‬
‫الكالم » ال يكون حروفاً منظومة دون ذكر األصوات « ‪.2‬‬
‫وإذا كان لألفعال المحكمة األخرى وظائفها المعروفة فإن وظيفة الكالم إنما هي‬
‫أن الكلمات تحضر لدى‬ ‫لإلنباء عما في النفس‪ ،‬ويرى القاضي عبد الجبار بن أحمد ّ‬
‫المتكلم‪ ،‬أي أنها » تصير كأنها في مشاهدته « ‪ ،3‬وحضورها لديه يقتضي العلم بها‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 3/7 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪.7/7 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 202/16 ،‬‬
‫‪109‬‬
‫والقدرة على إيجادها لتأليف الكالم منها‪ ،‬وحين يتكلم اإلنسان فإنه يتخير منها‪ ،‬ويدل‬
‫التخير على قدرة عقلية يميز فيها المتكلم بعلمه درجات المفاضلة بين الكلمات ليدل على‬
‫المعاني التي يريد إيصالها‪.‬‬
‫أن االختيار في التأليف يرجع إلى خصيصة‬‫وينبئ هذا عن قضيتين ‪ :‬األولى ‪ّ :‬‬
‫ذاتية تتحكم فيها إرادة المتكلم‪ ،‬وهذه الخصيصة تجعل مستويات الكالم متفاوتة‪ ،‬ومن ثم‬
‫يتم التفاضل بينهما بمقدار وعي المتكلم بخصائص الكالم وكيفية تركيبها وتضامها‪،‬‬
‫أن المعنى هو السابق‪ ،‬ويمثل الثابت الذي يفتش له المتكلم عن صورة لفظية‬ ‫والثانية‪ّ :‬‬
‫أن المتكلم في أثناء تأديته‬
‫تعبر عن الصورة الذهنية الكائنة في عقله‪ ،‬واألخطر من هذا ّ‬
‫وظيفته التعبيرية لإلنباء عما في النفس‪ ،‬ال يفكر في المكونات الصوتية أو الصرفية قدر‬
‫عنايته بالمفردات وداللتها‪ ،‬وكيفية تضامها متراكبة لتأدية المعنى‪.‬‬
‫إن تأليف الكالم لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد البد له من عنصرين ‪ :‬القدرة‬‫ّ‬
‫أن هناك علماً يختفي خلف هذه الطريقة‬ ‫على تأليفه‪ ،‬والعلم بكيفية هذا التأليف‪ ،‬ويرى َّ‬
‫التي يعرف بها المتكلم » مواقع جمل الكالم إذا تألفت فيفصل بين ما يأتلف من كلمات‬
‫مخصوصة وبين ما يأتلف من غيرها «‪ 1‬ويلعب االختيار دو اًر في التأليف‪ ،‬وإذا كان‬
‫االختيار يرجع إلى » العلم بالكلمات « والى » التجربة والعادة » فقد يتساوى في المعرفة‬
‫إن كان الذي يقصر عنه مثله في‬ ‫رجالن‪ ،‬ولكن » أحدهما أقوى محاضرة من اآلخر‪ ،‬و ْ‬
‫العلم‪ ،‬أو أزيد‪ ،‬لكنه يحتاج فيما نعلم إلى تثبيت وفكرة‪ ،‬فالبد مع الوجه الذي ذكرناه من‬
‫قوة المحاضرة‪ ،‬ولهذا الوجه يتفاضل العلماء بذلك‪ ،‬فيـصح من بعضهم من الخطب والشعر‬
‫أن مرد هذا بكل جوانبه ليس عائداً إلى العلم بالكلمات‪ ،‬أو مرده إلى التجربة‬ ‫‪2‬‬
‫« غير ّ‬
‫والعادة‪ ،‬وإنما هو مقترن ـ إضافة إلى ما سلف ـ بقضية غيبية خارجية عن ذات المبدع‪،‬‬
‫وهي ‪ » :‬تأييد وألطاف يرد من قبل هللا تعالى «‪ 3‬وهذا التأييد الغيبي يأتي مرة‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 203/16 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 203 / 16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 203/16 ،‬‬
‫‪110‬‬
‫ويستعصي مرة‪ ،‬ويشترك في هذا األديب والعالم على السواء‪ ،‬ولذلك نجد المتكلم » يروم‬
‫طريقة في الفصاحة فتقرب عليه مرة‪ ،‬وتبعد أخرى‪ ،‬وحاله في العلم ال تكاد تختلف «‪.1‬‬
‫إن العناية البالغة بتحديد عناصر العلم إلدراك طريقة التأليف إنما هي أداة‬
‫ّ‬
‫لتحقيق وظيفة التوصيل‪ ،‬وفي كيفية اإلنباء عما في النفس‪ ،‬ويدرك القاضي عبد الجبار‬
‫بن أحمد أن مفهوم » اإلنباء « ال يتأتى عبر أفراد الكلمات‪ ،‬بل يتأتى من تركيبها‪،‬‬
‫ويقتضي هذا لوناً من الوعي النحوي الذي يمثل اإلعراب أحد عناصر الكشف عن‬
‫أن اإلعراب ينطوي في جوهره على معنى » اإلبانة « لدرجة يكاد‬
‫دالالته‪ ،‬هذا إذا عرفنا ّ‬
‫جني هو »اإلبانة عن المعاني باأللفاظ « ‪،2‬‬
‫يتطابق فيها المفهومان‪ ،‬فاإلعراب لدى ابن ّ‬
‫ألن الكلمات المؤلفة إنما هي صورة لفظية لما يتم في الذهن من تصورات وتآليف‬
‫معنوية‪.‬‬

‫)‪ (2‬اثر اإلعــــراب فــــي الـــــــداللة ‪:‬‬

‫جني في » الخصائص « هذه الرواية‪ ،‬يقول ‪ » :‬وسألت يوما أبا‬ ‫ويروي ابن ّ‬
‫عبد هللا محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي ـ من تميم جوثة ـ فقلت له كيف تقول‬
‫‪ :‬ضربت أخوك ؟ فقال ‪ :‬أقول ضربت أخاك‪ ،‬فأدرته على الرفع فأبى‪ ،‬وقال ال أقول‬
‫أخوك أبداً ‪ .‬فقلت فكيف تقول ‪ :‬ضربني أخوك‪ ،‬فرفع‪ ،‬فقلت ألست زعمت أنك ال تقول‬
‫أخوك أبداً‪ ،‬فقال أيش هذا ؟ اختلفت جهتا الكالم‪ ،‬فهل هذا إال أدل شيء على تأملهم‬
‫مواقع الكالم‪ ،‬وإعطائهم إياه في كل موضع حقه وحصته من اإلعراب «‪ 3‬ويكشف هذا‬
‫أن العناية ليست بأواخر الكالم فحسب‪،‬‬
‫النص عن عالقة اإلعراب بالمعنى‪ ،‬ويوضح ّ‬
‫فإن الحذف‬
‫وإنما هي عناية بمواضع الكالم‪ ،‬وهي عناية بالتركيب مقترناً بالمعنى ؛ ولذلك ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.203/16 ،‬‬


‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 35/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 76/1 ،‬‬
‫‪111‬‬
‫والتقديم والتأخير وتغيير مواقع الكالم كلها مقترنة ـ دون شك ـ بالمعاني التي لها السبق‬
‫أن أي تغيير في الصياغة إنما هو خاضع بشكل أو بآخر إلى نمط أو‬
‫والشرف‪ ،‬أي ّ‬
‫فاعلية في المعنى‪.‬‬
‫ويرى ابن ّ‬
‫جني أن هناك عالقة تتفاعل فيها المعاني مع اإلعراب‪ ،‬ومن هنا جاء‬
‫تعريفه لإلعراب بأنه » اإلبانة عن المعاني باأللفاظ «‪ 1‬ويرى في صياغة التراكيب‬
‫تجاذباً بين المعاني واإلعراب‪ ،‬إذ يجعل المعنى أساساً يصدر عنه‪ ،‬فهو ـ المعنى ـ الثابت‬
‫جني أمثلة‬
‫الذي يفصح اإلعراب عنه‪ ،‬ويمثل ترمي اًز ينبئ عن داللته ‪ ،‬وحين يضرب ابن ّ‬
‫لذلك ال يخلو بعضها من تمحل‪ ،‬ففي قوله تعالى » ِإنَّ ُه َعَلى َر ْج ِع ِه َلَق ِادٌر «‪ 2‬إذ يفسر‬
‫المعنى بلون آخر من التركيب هو ‪ :‬إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من هذا فإنه يرى ّ‬
‫أن هذا التركيب مخل بالمعنى‪ ،‬ويرجع السبب إلى الفصل بين الظرف »‬
‫يوم تبلى « وبين ما هو متعلق به وهو الرجع‪ ،‬ولذلك فهو مضطر إلى تقدير محذوف‬
‫حين يستقيم المعنى لديه‪ ،‬وهو »يرجعه يوم تبلى السرائر‪ ،‬ودل رجعه على يرجعه داللة‬
‫المصدر على فعله «‪. 3‬‬
‫فإن القاضي عبد‬
‫جني ّ‬‫وإذا كان المعنى واإلعراب يأخذان هذا المنحى لدى ابن ّ‬
‫الجبار بن أحمد يعنى بالعالقة بين اللفظ والمعنى لدرجة تشبه عالقة العرضي بالجوهر‪،‬‬
‫أو الرداء بالجسم‪ ،‬فقد يكون الرداء ضيقاً أو فضفاضاً‪ ،‬أما الجسم ـ الجوهر ـ فهو ثابت ال‬
‫ألن المعاني ـ فيما يقول‬
‫إن ثبات المعاني أخرجها من دائرة التفاضل‪ّ ،‬‬ ‫تغير فيه‪ ،‬بل ّ‬
‫القاضي عبد الجبار ـ »ال يقع فيها تزايد «‪ 4‬على الرغم من أنه يؤكد في مكان آخر صفة‬
‫حسن المعنى لتحقيق فصاحة الكالم‪ ،‬وهو بحد ذاته يدل على التزايد الذي قد أنكره‪ ،‬ألنه‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 35/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة الطارق‪ ،‬أية ‪ 8 :‬ـ ‪. 9‬‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪.256/3 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 196/16 ،‬‬
‫‪112‬‬
‫من زاوية أخرى‪ ،‬يرى أهمية المعنى‪ ،‬وأنه البد منه‪ ،‬ولكن «المزية » ال تظهر فيها‪ ،‬وإن‬
‫كانت تظهر في الكالم ألجلها‪. 1‬‬
‫وفي ضوء ما سلف يكون المعنى ثابتاً ال يقبل التفاوت‪ ،‬وإنما يتأتى التفاوت‬
‫والتفاضل في األلفاظ‪ ،‬ألننا ـ فيما يرى القاضي عبد الجبار بن أحمد ـ » نجد المعبرين‬
‫عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من اآلخر والمعنى متفق‪ ،‬وقد يكون أحد المعنيين‬
‫أحسن وأرفع والمعبر عنه في الفصاحة أدون «‪.2‬‬
‫وقد يبدو القاضي عبد الجبار بن أحمد في تحديده لمفهوم الفصاحة يوازن بين‬
‫أن هذه الموازنة ليس بينها أدنى تفاعل‪ ،‬ألنهما ـ أي اللفظ والمعنى ـ‬
‫اللفظ والمعنى‪ ،‬غير ّ‬
‫فإن المعنى يمثل قيمة تقابلها قيمة أخرى كائنة‬
‫موجودان بالفعل على نحو التجاور‪ ،‬ولذا ّ‬
‫جني يعطي المعنى قيمة سابقة ألنه يمثل الجوهر في حين‬ ‫أن ابن ّ‬
‫في اللفظ‪ ،‬وقد الحظنا ّ‬
‫يمثل اللفظ العرضي‪ ،‬ولذلك صار المعنى ثابتاً ويعبر عنه بألوان متعددة من المتغير‪،‬‬
‫ألن المعنى يمثل‬
‫أن التراكيب مهما اختلفت فإنها ال تغير كثي اًر من أصل المعنى‪ّ ،‬‬
‫بمعنى ّ‬
‫أن يقترب من التعبير اللفظي‪ ،‬ومن هنا جاءت المفاضلة بين ألوان‬ ‫الثابت الذي يحاول ْ‬
‫المتغيرات اللفظية‪ ،‬ولذلك رأينا القاضي عبد الجبار بن أحمد يحكم بأن التحدي بإعجاز‬
‫القرآن لم يقع بالمعاني‪ ،‬وإنما يقع في كيفية التعبير عنها‪.3‬‬
‫ويذكرنا هذا بالكيفية التي تطور فيها الفصل بين اللفظ والمعنى منذ المراحل‬
‫األولى لتطور الفكر االعتزالي ونموه في أثناء صراعهم الفكري من أجل التأصيل لقضية‬
‫تنـزيه هللا سبحانه من خالل المجاز‪ ،‬ثم جاءت مقولة الجاحظ الشهيرة التي جعلت الفصل‬
‫بين اللفظ والمعنى أم اًر قائما ال خالص منه وال فكاك‪ ،‬فهو يقول ‪ » :‬والمعاني مطروحة‬
‫في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني‪ ،‬وإنما الشأن في إقامة‬
‫الوزن‪ ،‬وتخير اللفظ‪ ،‬وسهولة المخرج‪ ،‬وكثرة الماء‪ ،‬وفي صحة الطبع وجودة السبك‪ ،‬فإنما‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.199/16 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.199/16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.222/16 ،‬‬
‫‪113‬‬
‫الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير « ‪ 1‬وهذا يعني أن الجاحظ ـ وحذا‬
‫حذوه القاضي عبد الجبار ـ قد جعال المزية كائنة في التركيب والتصوير والصياغة‪.‬‬
‫ويعنى ابن ج ّني بإصالح األلفاظ وتهذيبها‪ ،‬وهي عناية ليست لأللفاظ بذاتها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وإنما خدمة للمعاني‪ ،‬أو » عناية بالمعاني التي وراءها وتوصالً إلى إدراك مطالبها «‪، 2‬‬
‫ويضرب ابن جنّي لذلك مثال‪ ،‬تشبيها بين الوعاء ـ أي اللفظ ـ والموعى عليه ـ أي المعنى ـ‬
‫أن العناية بالوعاء من أجل اإلبانة بوضوح عن الموعى عليه‪ ،‬أو من أجل أال تتكدر‬
‫وّ‬
‫جني يوزع األلفاظ‬
‫أن ابن ّ‬‫المعاني الفاخرة بسوء األلفاظ المستخدمة‪ ،‬وأكثر من هذا ّ‬
‫والمعاني توزيعا طبقيا‪ ،‬ويسعفه في ذلك تصور اجتماعي معين فهو يرى أن األلفاظ خدم‬
‫للمعاني التي تتسم بشرف السيادة » والمخدوم ـ الشك ـ أشرف من الخادم «‪.3‬‬

‫) ‪ ( 3‬تــــــــضــــــام الـــكـــلـــمــــــات ‪:‬‬

‫المعول‬
‫ّ‬ ‫ويتبنى القاضي عبد الجبار بن أحمد مفهوم الفصاحة بوصفه المعيار‬
‫إن كانت مفهوماً عاماً يحدده‬
‫عليه في الحكم على حسن النص األدبي وقبحه‪ ،‬فالفصاحة و ْ‬
‫القاضي عبد الجبار بحسن المعنى وجزالة اللفظ‪ 4‬وأن هذين البعدين البد من توافرهما‬
‫فإن تحقيق عنصري الفصاحة يقتضي العلم بإيراد الكالم بهما‪ ،‬ويتحدد العلم على‬ ‫معاً‪ّ ،‬‬
‫نحو إجمالي عند القاضي عبد الجبار بما يأتي ‪:‬‬
‫معرفة الكلمات المفردة‪ ،‬أي ما تنطوي عليه من داللة من حيث الوضع ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الكيفية التي تتضام بها الكلمات‪ ،‬ويعمد القاضي عبد الجبار إلى تشبيه عملية‬ ‫‪‬‬

‫التضام بالكلمة‪ ،‬فإن معرفة الكلمة تتم بإدراك الحروف المكونة لها‪ ،‬فالعلم بالكلمة‬

‫‪ 1‬ـ الجاحظ‪ ،‬الحيوان‪. 131/3 ،‬‬


‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 217/1 ،‬و‪. 220‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.220/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 199/16 ،‬‬
‫‪114‬‬
‫إنما هو علم بحروفها المكونة لها‪ » ،‬وكذلك القول في الكلمات إذا انضم بعضها‬
‫أن هناك وحدتين لغويتين‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫إلى بعض « ‪ ،‬وبهذا يحدد القاضي عبد الجبار ّ‬
‫إحداهما ‪ :‬صغرى تتمثل في الكلمة‪ ،‬والثانية ‪ :‬كبرى تتمثل في الجملة‪ ،‬وإذا كان‬
‫فإن‬
‫بناء الكلمة على درجة من التماسك من حيث تضام حروفها إلى بعض‪ّ ،‬‬
‫الجملة شأنها شأن الكلمة تتماسك فيها الكلمات كتماسك الوحدات الصوتية التي‬
‫تشكل المفردة ‪. 2‬‬
‫الكيفية التي يتم بها تركيب الكلمات‪ ،‬وبذا نكون إزاء علم النحو وإزاء وظيفته من‬ ‫‪‬‬

‫حيث الفاعلية والمفعولية ونحوهما‪.‬‬


‫مواقع الكلمات في داخل التراكيب من حيث التقديم والتأخير وال تتحدد الفصاحة‬ ‫‪‬‬

‫بالكلمات المفردة‪ ،‬وإنما » في الكالم بالضم على طريقة مخصوصة «‪ 3‬إذ البد‬
‫من تضام الكلمات أوالً‪ ،‬والبد أن تكون هناك طريقة ما في هذا التضام ثانياً‪ ،‬وأن‬
‫التضام وحده مجرداً عن الكيفية التي يتم بها ال يعني إبداعاً أدبياً‪ ،‬ألن التضام قد‬
‫فإن‬
‫يحققه من ال يمتلك أدوات العلوم التي يشترط فيها تحقيق الفصاحة‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫كيفية التضام بطريقة مخصوصة هي التي تضفي على النص األدبي حسنه‬
‫وجماله ‪.‬‬
‫ويقترب من هذا تصور الرماني في أثناء تعرضه لتعريف البالغة‪ ،‬إذ يرفض أن‬
‫تكون البالغـة مقتصرة على اإلبانة واإلفهام‪ ،‬وإنما البالغـة »إيصال المعنى إلى القلب في‬
‫أحسن صورة من اللفظ « ‪ 4‬ألنه » قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر‬
‫عيي»‪.5‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 210/16 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ 199/16 ،‬ـ ‪.203‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 199/16 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 96‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪115‬‬
‫أن النص القرآني مكون من ذات‬ ‫وإذا كان القاضي عبد الجبار بن أحمد يؤكد ّ‬
‫الكلمات العربية التي يستخدمها الناس‪ ،‬فليست مزيته بهذه الكلمات‪ ،‬أو بالطريقة العشوائية‬
‫لتركيبها‪ ،‬وإنما مزيته بالفصاحة التي تتحقق بطريقة مخصوصة في تأليف الكلمات‬
‫إن‬
‫إن لكل عبارة ـ سواء أكانت في القرآن الكريم أم في الشعر ـ معنى‪ ،‬و ّ‬
‫وتضامها ‪ّ ،‬‬
‫التغير الذي يحدث في طريقة تأليف الكلمات وتضامها يغير دون شك من هذا المعنى‪،‬‬
‫أن قيمة هذه العبارة الجمالية تتفاوت بالطريقة الخاصة التي يتم بها تضام الكلمات‪،‬‬
‫كما ّ‬
‫إن نظام ترتيب الكلمات يحدد جانباً مهماً من جماليات النص األدبي‪.1‬‬
‫وّ‬
‫إن الكلمات لدى القاضي عبد الجبار بن أحمد محدودة‪ ،‬ولكننا مع ذلك‬ ‫ّ‬
‫ويقصد منها دالالت معينة‪ ،‬وتقترن الفصاحة ـ التي بها‬ ‫نستخدمها بطرائق مختلفة‪ُ ،‬‬
‫يتفاضل الكالم ـ بهذه الطرائق المختلفة لتأليف الكلمات‪ ،‬ولذا فنحن إزاء مستويات مختلفة‬
‫ومتغايرة لهذه الطرائق من التأليف‪ ،‬وهو ـ أي التأليف ـ ال حدود له وال حدود لجدته‪ ،‬إذن‬
‫أن‬
‫فالتأليف على طريقة مخصوصة هو الذي يوليه القاضي عبد الجبار عناية فائقة‪ ،‬غير ّ‬
‫هذه العناية ليست منفصلة عن جملة تفكيره الذي يرجع في أحد جوانبه إلى طبيعة اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬ويرجع من جانب آخر إلى مفهوم النظم الذي يعني الطريقة في التأليف‪ ،‬فهناك‬
‫نظم للشعر‪ ،‬ونظم للخطب‪ ،‬ونظم للقرآن الكريم‪ ،‬وال يمثل النظم ـ بمعناه العروضي ـ‬
‫خصيصة تميز النص الشعري عن غيره من النصوص األخرى أو تكشف عن جمالياته أو‬
‫تحدد ماهياته‪ ،‬فالوزن الشعري ال يمثل قيمة فنية تسهم في تشكيالت جمالية للنص‬
‫الشعري‪ ،‬وإنما يمثل زينة خارجية ليس لها أدنى تأثير في تشكيل المعنى‪ ،‬كما أنها ال تؤثر‬
‫في تحديد جماليات ما يتفاضل بها األدباء‪ ،‬وبهذا يكون الوزن العروضي منفصالً عن‬
‫التركيب من ناحية‪ ،‬ومستقالً عن طبيعة الدالالت التي تنطوي عليها هذه التراكيب من‬
‫ناحية ثانية‪ ،‬فهو مجرد إطار خارجي ال يمثل سوى زينة مباشرة للنص ـ الشعري بخاصة ـ‬
‫ولذا فال تصح المفاضلة على أساسه‪ ،‬وإنما تقع المفاضلة في غيره‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.199/16 ،‬‬
‫‪116‬‬
‫وقد شغف القاضي عبد الجبار بهذه الفكرة‪ ،‬ودفعه إليها كون القرآن الكريم ليس‬
‫موزوناً ـ بالمعنى العروضي للوزن ـ و ْ‬
‫إن وجدت بعض اآليات يتطابق إيقاعها مع بعض‬
‫األوزان الشعرية‪ ،‬ولذلك جرد القاضي عبد الجبار الشعر من إحدى خصائصه ليحتويه‬
‫مفهوم أشمل هو الطريقة‪ ،‬ليتماثل الشعر والخطبة والقرآن بهذا المفهوم العام الذي يحتوي‬
‫أن لكل لون طريقته التي تتفاضل بينها ‪ 1‬ليرجع‬
‫النصوص قاطبة‪ ،‬وهو يؤكد بهذا ّ‬
‫التفاضل إلى نظرته في الفصاحة بما تنطوي عليه من معنى عام‪ ،‬وخصوصية في هذا‬
‫المعنى‪.‬‬
‫ولسنا نسعى إلى درس يفصل الوزن عن مجمل البناء اإليقاعي للقصيدة‪،‬‬
‫مؤكدين أن هذا البناء يترك هو اآلخر آثاره في تلوين التركيب اللغوي للنص األدبي بإيحاء‬
‫ما‪ ،‬أو يترك في المتلقي تأثي اًر معيناً‪ ،‬وإن النص األدبي ال يمكن دراسته وكأنه أجزاء‬
‫متناثرة وليس بين هذه األجزاء أدنى تفاعل‪ ،‬إن هذه الطريقة في الفصل‪ ،‬والتي نرفضها‪،‬‬
‫هي التي يتبناها القاضي عبد الجبار‪ ،‬ولذلك فالمفردة التي أوالها عناية خاصة تستقل في‬
‫دراستها عن الوزن الشعري أوالً‪ ،‬وتستقل عن السياق وتنفصل عنه ثانياً‪ ،‬كما ّ‬
‫أن تركيب‬
‫الكلمات بطريقة مخصوصة ال يغير كثي اًر من فصاحتها سواء انتظمت بطريقة إيقاعية أو‬
‫لم تنتظم‪ ،‬ولذلك خرج القاضي عبد الجبار بمفهوم النظم من خصوصية تخدم الشعر إلى‬
‫عموم يتجاوزه‪ ،‬ويشتمل عليه وعلى غيره من النصوص‪ ،‬لتتشابه األشكال المختلفة بطرائق‬
‫مختلفة من النظم‪ ،‬وهذا يعني تجريدها عن مزاياها التي يمكن أن تشكل ملمحاً جمالياً‬
‫خاصاً‪.‬‬
‫ويعي القاضي عبد الجبار بن أحمد قضية في غاية األهمية وهي الفصل بين‬
‫داللتين مختلفتين لكلمة واحدة‪ ،‬إذ إن للكلمة داللتها المعجمية خارج السياق‪ ،‬ولها داللتها‬
‫في السياق ذاته‪ ،‬ألن الكلمة » قد يكون لها عند االنضمام صفة « ‪ 2‬فالكلمة لديه تنطوي‬
‫على داللة معجمية خارج السياق غير أن توظيفها في السياق يضفي عليها دالالت‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ 216/16 ،‬ـ ‪. 217‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 199/16 ،‬‬
‫‪117‬‬
‫خاصة‪ ،‬بل إنها تتفاوت في داللتها وأدائها الجمالي تبعا لتغاير السياقات التي استخدمت‬
‫ألن الكلمة الواحدة إذا استعملت في معنى » تكون أفصح منها إذا استعملت في‬
‫فيها‪ّ ،‬‬
‫غيره «‪.1‬‬
‫وتقترن فصاحة الكلمة بطبيعة السياق وفاعليته‪ ،‬فالسياق يحدد داللتها وجمالها‬
‫أن القاضي عبد الجبار ال يتحدث عن السياق بمعنى تضام الكلمة‬
‫في آن واحد‪ ،‬غير ّ‬
‫وتراصها بين مجموعة من الكلمات‪ ،‬ولكنه يتحدث عن تغير داللة الكلمة من خالل‬
‫استخدامها في سياقات مختلفة‪ ،‬لتكون فصيحة مرة‪ ،‬وغير فصيحة أو دون األولى في‬
‫إن تغير حركاتها اإلعرابية له أثر في تحديد هذه األبعاد أيضاً‪.2‬‬
‫الفصاحة مرة أخرى‪ ،‬بل ّ‬
‫إذن فنحن إزاء مستويات متعددة للكلمة ‪ :‬أوالً ‪ :‬مستوى معناها المعجمي ـ وهو‬
‫معنى عام ـ وليس لهذا المستوى قيمة خارج السياق‪ ،‬ولذلك أخرج القاضي عبد الجبار‬
‫الكلمة من أن تكون فصيحة خارج السياق ثانياً ‪ :‬مستوى توظيف الكلمة في سياق لتشتمل‬
‫على داللة محددة‪ ،‬أي أنها تتجاوز العموم إلى الخصوص‪ ،‬بحيث يضفي عليها السياق‬
‫داللة خاصة‪ ،‬وال يخفى أن دور الكلمة ـ في السياق ـ ليس سلبياً‪ ،‬ألن السياق إنما هو‬
‫وليد تضام الكلمات إلى بعضها‪ ،‬ولذا فهي ـ الكلمة ـ تسهم في تحديد داللة السياق ذاته‪،‬‬
‫وال يمكن تحديد هذا كله دون أن يكون للنحو إسهامه‪ ،‬إذ له دوره الفاعل في هذا المجال‪.‬‬

‫) ‪ ( 4‬معيارية الدرس النحوي وجمالياته ‪:‬‬

‫ويعنى الدرس النحوي ـ أساساً ـ بالخطأ والصواب في التركيب‪ ،‬وال يهمه كثي اًر ـ‬
‫ُ‬
‫من هذه الزاوية ـ التغيرات الجمالية التي ينطوي عليها التركيب‪ ،‬وبذلك يكون التركيب‬
‫محافظاً على داللة ثابتة‪ ،‬أو تكاد تكون ثابتة‪ ،‬وكأن التركيب النحوي يشتمل على‬
‫الدالالت ذاتها مهما أحدثنا فيها من تغيير‪ ،‬شرط سالمة البناء من الخطأ النحوي‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.200/16 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.200/16 ،‬‬
‫‪118‬‬
‫ولم يقتصر الدرس النحوي على بعد معياري يعني بالتركيب من حيث الصحة‬
‫والخطأ‪ ،‬بل راح يفتش عن قيم الصيغ الجمالية لهذا التركيب النحوي أو ذاك‪ ،‬وال يغفل هذا‬
‫المستوى الجانب المعياري‪ ،‬وكون التركيب النحوي يسهم في اإلبانة عن المعاني باأللفاظ‪،‬‬
‫ولكنه يتجاوز ذلك إلى الكشف عن مقومات جمالية لطبيعة التركيب النحوي‪ ،‬ففي قول‬
‫الشاعر ‪:‬‬

‫فكانتا‬ ‫ُكونا‬ ‫هللاُ‬ ‫قال‬


‫َ‬ ‫و ِ‬
‫عينان‬ ‫َ‬

‫الخ ْم ُر‬ ‫عل‬ ‫ِ‬ ‫فعو ِ‬


‫َ‬ ‫تَْف ُ‬ ‫ما‬ ‫باأللباب‬ ‫الن‬

‫أن التغير األعرابي مقترن بالداللة من ناحية وبالموقف العقائدي‬ ‫يرى ابن ّ‬
‫جني ّ‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬إذ لو نصب الشاعر » فعوالن « خب اًر لـ » كان « الناقصة‪ ،‬لتغيرت‬
‫الداللة بشكل يضاد التفكير االعتزالي‪ ،‬وبخاصة مفهوم العدل اإللهي‪ ،‬بمعنى أن داللة‬
‫أن هللا خلق هاتين العينين وأمرهما أن تفعال هذا الفعل‪،‬‬
‫البيت تصبح في حالة النصب ّ‬
‫وهذا ما يرفضه التفكير االعتزالي‪ ،‬ألن الفعل راجع إلرادة اإلنسان وخاضع لحريته‪ ،‬ولذلك‬
‫جني هذا المستوى من التركيب النحوي‪ ،‬ويؤيد الشاعر في رفع » فعوالن «‬
‫يرفض ابن ّ‬
‫لتكون «كان» تامة‪ ،‬وبذلك فهي غير محتاجة إلى خبر أصالً‪ ،‬ويصبح تأويل البيت‬
‫الشعري بأن هللا سبحانه وتعالى قال لهاتين العينين «احدثا فحدثتا‪ ،‬أو اخرجا إلى الوجود‬
‫فخرجتا » ‪.1‬‬
‫جني قد أرجع تأويل البيت الشعري إلى قضية اعتقادية تتصل‬ ‫وإذا كان ابن ّ‬
‫ين « ‪ 2‬يعتبر‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ونوا ق َرَد ًة َخاسئ َ‬
‫اتصاالً مباش اًر بالتفكير االعتزالي فإنه في قوله تعالى ‪ُ » :‬ك ُ‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪،‬الخصائص‪.360/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة البقرة‪ ،‬آية ‪. 65 :‬‬
‫‪119‬‬
‫خاسئين خب اًر ثانياً لـ » كان « وليس صفة‪ ،‬ألن جعله وصفا يقلل من معناه‪ ،‬وألن القرد ـ‬
‫جني ـ »لذله وصغاره خاسئ أبداً‪ ،‬فيكون إذاً صفة غير مفيدة «‪.1‬‬‫فيما يرى ابن ّ‬
‫جني متأث اًر بأستاذه أبي علي الفارسي‪ ،‬حالة‬
‫ومن األمثلة التي يستشهد بها ابن ّ‬
‫التماثل بين الصياغة اإلعرابية والصورة في الواقع الخارجي‪ ،‬وتكمن المماثلة ـ في هذا‬
‫المجال ـ بين » ال « النافية للجنس واسمها في التركيب النحوي من ناحية‪ ،‬وبناء صورة‬
‫الفرس في الواقع من ناحية أخرى‪ ،‬ففي قول الشاعر ‪:‬‬

‫َوَل ْم‬ ‫فتم‬


‫َّ‬ ‫َزْف َ ٍرة‬ ‫على‬ ‫ِخ ْي َ‬
‫ط‬

‫ض ْم‬
‫َه َ‬ ‫وال‬ ‫ِد ْق ٍة‬ ‫إلى‬ ‫جع‬
‫َي ْر ْ‬

‫فـ » ال « النافية للجنس تبنى مع اسمها النكرة فتصير كالجزء منه‪ ،‬ويتجلى التالزم مع‬
‫أن االسم بني مع «ال»‬
‫صورة الفرس الذي لزم تلك الزفرة » فصيغ عليها ال يفارقها‪ ،‬كما ّ‬
‫حتى خلط بها ال تفارقه وال يفارقها «‪2‬‬

‫) ‪ ( 5‬جماليات التقديم والتأخير والحذف والعطف ‪:‬‬

‫جني بالفضلة من حيث رتبتها أو تقديمها‪ ،‬فاألصل في المفعول به ـ‬


‫ويعنى ابن ّ‬
‫ُ‬
‫مثال ـ أن يكون فضلة‪ ،‬ويأتي في رتبته بعد الفاعل‪ ،‬ويمكن الخروج على هذا األصل‬
‫لتأدية دالالت تتجاوز هذا التركيب بالدرجة وليس بالنوع‪ ،‬ويتأتى التقديم لشدة العناية‬
‫جني في درجات كاآلتي ‪:‬‬
‫بالفضلة‪ ،‬وتتدرج العناية بها لدى ابن ّ‬

‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 158 /2 ،‬ـ ‪.159‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪.168/2 ،‬‬
‫‪120‬‬
‫أن يتقدم المفعول به على الفاعل‪،‬‬ ‫األولى ‪ :‬وهي أقل درجات العناية بالفضلة‪ ،‬أي ْ‬
‫نحو‪ :‬ضرب عم اًر ز ٌيد‪ ،‬وهذا التركيب لم يغير ـ في حقيقته ـ كثي اًر من الداللة‪ ،‬سوى تأكيد‬
‫عناية المتكلم بالمفعول به‪ ،‬وهي عناية بمقدار‪.‬‬
‫الثانيـة ‪ :‬وهي زيادة االهتمام بالمفعول به‪ ،‬فيقدم على الفعل نحو‪ :‬عم اًر ضرب ز ٌيد ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬زيادة في العناية واالهتمام بالمفعول به‪ ،‬تفوق ما سلف ذكره‪ ،‬وذلك بنقل‬
‫المفعول به من الفضلة إلى االبتداء‪ ،‬وتكون الجملة التالية له خب اًر‪ ،‬وتشتمل على‬
‫ضمير يدل على أن أصل االبتداء فضلة جيء به مقدما لشدة العناية به نحو‬
‫عمرو ضربه ز ٌيد‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬وهي أعلى درجة من العناية واالهتمام‪ ،‬فقالوا » عمرو ضرب زيدًا‬
‫«‪«،‬فحذفوا ضميره ونووه ولم ينصبوه على ظاهر أمره رغبة به عن صورة الفضلة‬
‫وتحاميا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة « ‪.1‬‬
‫جني على تقديم المفعول به في حالة بناء الفعل للمعلوم‪،‬‬ ‫ولم تقتصر عناية ابن ّ‬
‫جني دالالت‬ ‫وإنما تتأتى عنايته أيضاً في حالة بناء الفعل لمفعوله‪ ،‬والذي يأخذ لدى ابن ّ‬
‫متعددة تخرج من الجهل بالفاعل إلى تأكيد صفة المفعول‪ ،‬ففي قوله تعالى ‪َ » :‬و ُخلِ َق‬
‫‪2‬‬ ‫اإلنسان ِ‬
‫أن‬
‫ضع ًيفا « ليست الداللـة أن الفاعل مجهول‪ ،‬وإنما الغرض من ذلك تأكيـد ّ‬ ‫ِْ َ ُ َ‬
‫أن إلغاء ذكر الفاعل وإقامة المفعول‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـان »مخلوق ومضعوف «‪ ،3‬ويرى ابن ّ‬
‫جني‬
‫أن هناك تفاوتا في الداللة بين قوله‬
‫ّ‬ ‫مقامه يحسن ألداء هذه الداللة ‪ ،‬ويرى ابن ّ‬
‫جني‬
‫األسماء كلها» ألن‬ ‫آدم‬ ‫‪4‬‬ ‫تعالى ‪ » :‬وعَّلم آدم ْاألَسم َّ‬
‫َ‬ ‫اء ُكل َها « والقـراءة الحسنة » َو ُع َلم ُ‬
‫َ َ َ ََ ْ َ َ‬

‫جني‪ ،‬المحتسب‪.65/1 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ سورة النساء‪ ،‬آية ‪. 28 :‬‬
‫جني‪ ،‬المحتسب‪. 65/1 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 4‬ـ سورة البقرة‪ ،‬آية ‪. 31 :‬‬
‫‪121‬‬
‫أن آدم عرف األسماء وعلمها‪ ،1‬أي أنه يتجاوز داللة الجهل‬‫الغرض من هذه القراءة ّ‬
‫بالفاعل إلى داللة معرفة آدم لألسماء‬
‫ويشتمل حذف الفاعل على دالالت الحفاظ على العلم به إضافة إلى تغير في‬
‫الداللة الجديدة‪ ،‬على الرغم من أن هذا التركيب ال يغير من الداللة إلى درجة العدول عن‬
‫األصول‪.‬‬
‫ضرب ز ٌيد‬‫إن العناية بتقديم الفضلة هو لون من االهتمام بها وتأكيـد داللتها‪ ،‬فـ « ُ‬
‫ّ‬
‫بأن زيدا‬
‫فإن الغرض من هذا التركيب هو العلم ّ‬ ‫» على الرغم من أننا نجهل الفاعل ّ‬
‫أن الفاعل في هذه‬
‫اإلنسان ضعيفا « فإننا نعلم ّ‬
‫ُ‬ ‫لق‬
‫منضرب‪ ،‬وكذلك التركيب القرآني » َو ُخ َ‬
‫أن اإلنسان مخلوق ومضعوف‪ ،‬إذن فالعناية‬ ‫اآلية الكريمة معروف‪ ،‬ولكن المراد من ذلك ّ‬
‫بالفضلة هي اهتمام بها لتقديمها‪ ،‬وتأكيد داللتها‪ ،‬وحذف الفاعل ليس بالجهل به‪ ،‬وإنما‬
‫لتأكيد هذه الداللة ‪.‬‬
‫جني من المستويات المتعددة من التراكيب الكشف عن‬ ‫ولم يكن هدف ابن ّ‬
‫مقومات ذات أثر فاعل بالغي وجمالي‪ ،‬قدر تأكيده العناية بالفضلة وتقديمها في الصور‬
‫السابقة‪ ،‬وكأن غاية التراكيب المختلفة مجرد العناية بعنصر من عناصر التركيب‪ ،‬دون أن‬
‫جني تحكمه في التقديم والتأخير المقوالت‬
‫أن ابن ّ‬
‫يؤدي ذلك التغير أي أثر بالغي‪ ،‬كما ّ‬
‫فإن التقديم والتأخير لديه على ضربين ‪:‬‬
‫المنطقية‪ ،‬ومقايسة الفروع على أصولها‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أحدهما ‪ :‬ما يقبله القياس‪ ،‬واآلخر ما يسهله االضطرار‪ ،‬ويضرب لذلك أمثلة لتقديم‬
‫المفعول به والظرف والحال واالستثناء‪ ،‬وال يجيز في األخير تقدمه على الفعل الناصب‬
‫له‪ ،‬ويتحكم ـ من زاوية أخرى ـ مستوى الصواب والخطأ في األداء‪ ،‬فهناك ما يجوز فيه‬
‫التقديم‪ ،‬ومنها ما ال يجوز‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة ‪.2‬‬
‫أما الحذف فله طريقتان‪ ،‬إحداهما ‪ :‬تُعنى بالحذف النحوي دون توظيف جمالي‪،‬‬
‫والثانية ‪ :‬تقرنه بهذه الوظيفة الجمالية‪ ،‬ويعي علماء القرن الرابع الهجري ّ‬
‫أن الحذف ال يتم‬

‫جني‪ ،‬المحتسب‪. 65/1 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 382/2 ،‬ـ ‪.384‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪122‬‬
‫دون ضوابط عقلية تحكمه‪ ،‬و ّ‬
‫أن لم يتم الحذف عن دليل يدل عليه‪ ،‬وإال فإنه فيه ضرب‬
‫من تكليف علم الغيب في معرفته‪ ،1‬ومثل هذا ما أكده القاضي عبد الجبار بن أحمد في‬
‫أن‬ ‫‪2‬‬
‫أن الـحذف »يحسن في اللغة إذا كان الثابت من الكالم يدل على المحذوف « كما ّ‬‫ّ‬
‫الرماني حين تحدث عن اإليجاز عرفه بأنه » تقليل الكالم من غير إخالل بالمعنى «‬
‫ألن الحذف » إسقاط كلمة لالجتزاء عنها بداللة غيرها‬
‫وعد الحذف أحد وجهي اإليجاز ّ‬ ‫ّ‬
‫‪3‬‬
‫أن يؤدي دوره في الداللة وفي‬‫أن الحذف ال يمكن ْ‬‫من الحال أو فحوى الكالم « أي ّ‬
‫جني وتحدث عنه القاضي عبد الجبار‬ ‫إن لم يدل عليه الدليل الذي أشار إليه ابن ّ‬
‫التأثير ْ‬
‫بن أحمد وعلي بن عيسى الرماني‪.‬‬
‫أن عبارة الرماني أكثر إيضاحاً ألنه أرجع الداللة إلى بعدين ‪ :‬أولهما ‪ :‬ما‬
‫ويبدو ّ‬
‫تنطوي عليه » الحال « وثانيهمـا ‪ :‬ما يتضمن » فحوى الكالم«‪ ،‬وبذلك يكشف الرماني‬
‫عن دالالت ال تتصل بمفردات تتراص تراصاً آلياً عن تراكيب الكالم‪ ،‬ألن هذه «الحالية »‬
‫التي توحي بالداللة ليست متصلة بمجرد آلية التراص قدر ما يبعثه السياق من إيحاء‬
‫داللي‪ ،‬ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن عبارته » فحوى الكالم « فهي األخرى تقود إلى‬
‫هذا المعنى ‪.‬‬
‫جني على مقومات تأثرية في تذوق بعض جماليات الحذف‪ ،‬ففي‬ ‫ويتكئ ابن ّ‬
‫قوله تعالى ‪َ » :‬ي ْرتَ ْع َوَيْل َع ْب « ‪ 4‬يرى أنهما فعالن مجزومان بوصفهما جوابين‪ ،‬أحدهما‬
‫معطوف على صاحبه‪ ،‬وهو على حذف مفعول‪ ،‬أي يرتع مطيته ‪ ،5‬ومثله اآلية الكريمة‬
‫ونا‬
‫اء َوأَُب َ‬ ‫صِد َر ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ود ِ‬
‫ام َرأتَ ْي ِن تَ ُذ َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الرَع ُ‬ ‫طُب ُك َما َقاَلتَا ال َن ْسقي َحتى ُي ْ‬
‫ال َما َخ ْ‬
‫ان َق َ‬ ‫« َوَو َج َد م ْن ُدونه ْم ْ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 360/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬تنـزيه القرآن عن المطاعن‪ ،‬ص ‪. 164‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 70‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة يوسف‪ ،‬آية ‪. 12 :‬‬
‫جني‪ ،‬المحتسب‪.333/1 ،‬‬ ‫‪5‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪123‬‬
‫َش ْي ٌخ َكِب ٌير» ‪ 1‬يقول ابن ّ‬
‫جني أي » تذودان إبلهما‪ ،‬ولو نطق بالمفعول لما كان في عذوبة‬
‫حذفه والفي علوه « ‪.2‬‬
‫جني ال يمكن أن يؤديها ذكر المحذوف لو‬
‫وإذا كان للحذف عذوبة لدى ابن ّ‬
‫فإن الحذف لدى الرماني أبلغ » ألن النفس تذهب منه كل مذهب‪ ،‬ولو ذكر الجواب‬
‫ذكر‪ّ ،‬‬
‫لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان «‪3‬أي أن الحذف يتيح المجال رحباً لتخيل صور‬
‫واحتمال دالالت عديدة‪ ،‬وهذا يعني أن ذكر المحذوف إنما يثبت الداللة ويحدد أبعادها‬
‫ويحصر غناها وثراءها‪ ،‬وكأن الدالالت المختلفة لون من االتساع يسهم فيها المتلقي‬
‫أن الحذف ينطوي بذاته على مجهول‬
‫باإلضافة عبر التأويل وتقدير االحتماالت‪ ،‬كما ّ‬
‫يقدره المتلقي‪ ،‬فهو يسهم مع المبدع في استكمال تشكيل النص ‪.‬‬
‫ولم يقتصر الحديث على أنماط الحذف السابقة بل اشتمل على ألوان أخرى‬
‫كحذف المضاف‪ ،‬والمضاف إليه‪ ،‬والموصوف‪ ،‬والصفة‪ ،‬والمفعول‪ ،‬والظرف‪ ،‬والمعطوف‪،‬‬
‫أن‪ ،‬والمنادى‪ ،‬والمميز‪ ،‬والحال ‪ ،4‬وليس مهما‬
‫والمعطوف عليه‪ ،‬والمستثنى‪ ،‬وحذف خبر ّ‬
‫إن كانت تفتقر إلى تأدية دالالت جمالية‪ ،‬غاية ما في‬
‫التحدث عن ألوان الحذوف هذه ْ‬
‫األمر أنها تتضمن على نحو اللزوم أصلية التركيب وداللته‪ ،‬وتشتمل على االتساع‬
‫َل اْلَق ْرَي َة‬
‫اسأ ْ‬
‫اللغوي‪ ،‬ففي حذف المضاف وإقامة المضـاف إليه مقامه في قـوله تعالى » َو ْ‬
‫‪5‬‬ ‫َّالِتي ُكَّنا ِفيها واْل ِعير َّالِتي أَْقبْلنا ِفيها وإَِّنا َل ِ‬
‫أن ابن‬ ‫صادُقو َن« أي واسأل أهلها‪ ،‬نلحظ ّ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫جني يرجع أصل المحذوف إلى التركيب‪ ،‬وكأن األصل ـ واسأل أهل القرية ـ صورة متخيلة‬ ‫ّ‬
‫إن تركيب الحذف‬‫يوحي بها‪ ،‬أو يستدعيها المذكور ـ واسأل القرية ـ ومن هنا يمكن القول ّ‬
‫ينطوي ضمنا على أصل التركيب قبل الحذف‪ ،‬ولذلك اشترط ابن ّ‬
‫جني ضرورة توافر‬

‫‪ 1‬ـ سورة القصص‪ ،‬آية ‪. 28 :‬‬


‫جني‪ ،‬المحتسب‪.333/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 70‬ـ ‪. 71‬‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 361/2 ،‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫ـ ينظر بالتفصيل ‪ :‬ابن ّ‬
‫‪ 5‬ـ سورة يوسف‪ ،‬آية ‪. 82 :‬‬
‫‪124‬‬
‫الدليل العقلي الذي يشير إلى التركيب األصلي‪ ،‬إذن فهناك تركيبان أحدهما سابق متخيل‪،‬‬
‫ويكشف عنه الالحق المعروف‪ ،‬فـ » واسأل القرية « هو التركيب الالحق المعروف‪ ،‬وأن‬
‫» واسأل أهل القرية « هو التركيب المتخيل السابق الذي أنبأ عنه التركيب الالحق ‪.‬‬
‫وفي هذا السياق تضمر وظيفة الحذف‪ ،‬وتقتصر على االتساع‪ ،‬وهو محدود‬
‫فقير‪ ،‬ألن عملية الكشف والتخيل في تقدير المحذوف تخضع ألدوات عقلية صارمة‪ ،‬وال‬
‫تفسح المجال رحباً لمزيد من اإلثراء في التقدير‪ ،‬ومن ثم في اتساع اللغة‪ ،‬ففي اآلية‬
‫الكريمة التي أسلفنا الحديث عنها »واسأل القرية « ليس لدينا ـ فيما ذهب إلى ذلك النقاد ـ‬
‫إال محذوف واحد هو » أهل « ولسنا أمام عدد من االحتماالت التي يمكن للتركيب أن‬
‫يشتمل عليها أو يوحي بها‪ ،‬وكأننا نلتقي مع النقاد في إزالة غموض الداللة عن اآلية‬
‫الكريمة‪ ،‬ومحاولة إرجاع تأويلها إلى بعد واحد ال يقبل ثانياً‪.‬‬
‫َو ِم ْن َب ْعُد«‪ 1‬أي‬ ‫أما في حذف المضاف إليه ففي قوله تعالى » َِّهللِ األ َْم ُر ِم ْن َقْب ُل‬
‫المحذوف‪ ،‬وهو‬ ‫جني لهذا شيئاً سوى تقدير‬ ‫»من قبل ذلك ومن بعد «‪ 2‬فلم يضف ابن ّ‬
‫بهذا يحكم النص بأدوات عقلية غايتها الوضوح واإلبانة‪ ،‬بحيث يفقد النص ثراءه وداللته‬
‫ألن هذه الدالالت ستخضع الحتماالت المتلقي على نحو من اإليحاء واإلشارة‪،‬‬ ‫المتعددة‪ّ ،‬‬
‫وليس على نحو التحدد واإلبانة والوضوح ‪.‬‬
‫جني ذلك‬
‫ويكثر في الشعر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه‪ ،‬ويرجع ابن ّ‬
‫إلى منطقه األصولي في إرجاع الفرع إلى أصله‪ ،‬والى عملية القياس‪ ،‬فهو يرى ّ‬
‫أن حذف‬
‫أن استخدام الصفة » من مقامات اإلسهاب‬
‫الصفة يكاد يحظره القياس‪ ،‬ويرجع ذلك إلى ّ‬
‫واإلطناب «‪ 3‬سواء أفاد تخصيصا أو مدحا‪ ،‬واإلسهاب واإلطناب يضادان اإليجاز‬
‫جني يخشى من مغبة الغموض واإللباس‪ ،‬ولذلك فإن قولنا‬ ‫واالختصار‪ ،‬كما أن ابن ّ‬
‫إن كان الممرور به‬
‫جني ـ من ظاهر هذا اللفظ ْ‬
‫«مررت بطويل‪ ،‬لم يستبن ـ كما يقول ابن ّ‬

‫‪ 1‬ـ سورة الروم‪ ،‬آية ‪. 4 :‬‬


‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 362/2 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 362/2 ،‬‬
‫‪125‬‬
‫أن ما يدلنا على المحذوف هو‬ ‫إنساناً دون رمح أو ثوب « ‪ ،1‬ويؤكد ابن ّ‬
‫جني على ّ‬
‫أن‬
‫أن الدليل متضمن في داخل النص المعروف‪ ،‬وال يعنى هذا ّ‬
‫ظاهر اللفظ‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫الدليل العقلي ملغى‪ ،‬ألنه هو الذي يحكم هذه العملية كلها أوالً‪ ،‬وألنه متضمن هو اآلخر‬
‫في تركيب البناء النحوي ثانياً‪.‬‬
‫يعن كثي اًر بتأدية الدالالت‬
‫جني مقايسة الفروع لألصول‪ ،‬ولذلك لم َ‬
‫وقد شغلت ابن ّ‬
‫الجمالية إال إشارة أو تلميحاً‪ ،‬وحتى في التفاتته إلى وظيفة الحذف في االتساع ألنه يوقفها‬
‫عند حدود عقلية صارمة تثبت الدالالت‪ ،‬وتفقدها خصوبتها وثراءها‪.‬‬
‫ويفطن الرماني إلى جوانب جمالية في الحذف‪ ،‬ففي حديثه عن اإليجاز يرى أنه‬
‫ينقسم إلى قسمين‪ ،‬يهمنا ـ هنا ـ إيجاز الحذف‪ ،‬وهو يعني به » إسقاط كلمة لالجتزاء عنها‬
‫بداللة غيرها من الحال أو فحوى الكالم« ‪ 2‬مثل قوله تعالى » واسأل القرية «‪ 3‬أي‬
‫»واسأل أهل القرية« الذي قال فيه الرماني ـ فيما نقله عنه ابن رشيق ـ بأنه »مطابق لفظه‬
‫‪4‬‬
‫أن الشريف المرتضى يرى ّ‬
‫أن المجاز ـ‬ ‫لمعناه ال يزيد عليه وال ينقص عنه « ‪ ،‬كما ّ‬
‫واآلية الكريمة تدل عليه ـ مبني على الحذف واالختصار‪ ،‬وقرن البالغة ببعد كمي‪ ،‬أي‬
‫تقليل ألفاظ الكالم »بحذف بعضه ومعانيه بحالها «‪.5‬‬
‫ويرى الرماني أن الحذف أبلغ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك حذف األجوبة‪ ،‬ومنه قوله تعالى‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫يق َّالِذ َ َّ‬
‫ال َل ُه ْم َخ َزَنتُ َها‬
‫وها َوُفت َح ْت أ َْب َو ُاب َها َوَق َ‬
‫اء َ‬
‫َّه ْم إلى اْل َجنة ُزَم ًار َحتى إ َذا َج ُ‬
‫ين اتَق ْوا َرب ُ‬ ‫» َوِس َ‬
‫ين« ‪ » 6‬كأنه قيل ‪ :‬حصلوا على النعيم الذي ال يشوبه‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وها َخالد َ‬‫الم َعَل ْي ُك ْم ط ْبتُ ْم َف ْاد ُخُل َ‬
‫َس ٌ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 362/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 76‬‬
‫‪ 3‬ـ سورة يوسف‪ ،‬آية ‪. 82 :‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪. 250/1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.311/2 ،‬‬
‫‪ 6‬ـ سورة الزمر‪ ،‬آية ‪. 73‬‬
‫‪126‬‬
‫التنغيص والتكدير‪ ،‬وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ‪ ،‬ألن النفس تذهب فيه كل‬
‫مذهب‪ ،‬ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان«‪.1‬‬
‫ويحقق الحذف الوظيفة التعبيرية في إيصال المعنى إلى المتلقي‪ ،‬ولكنه ليس‬
‫بتحقيق اللفظ على المعنى‪ ،‬ال يزيد عليه وال ينقص عنه‪ ،‬وإنما هو توصيل يعتمد اإليحاء‬
‫على نحوين ‪ :‬أولهما ‪ :‬إيحاء النص بتعدد الدالالت المحذوفة‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬إيحاء جمالي‬
‫متصل بالنفس تخيالً وتصو اًر‪ ،‬ففي األول ‪ :‬نكون إزاء لون من التوسع في الداللة‪ ،‬ألن‬
‫إيجاز الحذف يكون التوسع في الداللة أحد وظائفه‪ ،‬وقد أكد هذا المعنى الشريف‬
‫المرتضى في أثناء حديثه عن اآليات المتشابهة‪ ،‬حين أشار إلى اتساع الداللة من خالل‬
‫إن هذه االحتماالت ال تخرج على المعيار‬
‫احتماالت التأويل المختلفة ألية قرآنية واحدة‪ ،‬و ّ‬
‫إن أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه‬
‫الذي يحكم التأويل‪ ،‬وهو الدليل العقلي‪ ،‬ولذلك قال ‪ّ » :‬‬
‫الكثيرة المطابقة للحق‪ ،‬الموافقة ألدلة العقول‪ ،‬فيذكر المتأول جميعها‪ ،‬وال يقطع على مراد‬
‫هللا منها بعينه « ‪2‬وفي الثاني ‪ :‬يؤدي الحذف وظيفة التوضيح للمعاني التي يشوبها‬
‫الغموض فإنها تشرك المتلقي في إكمال الصور التي توحيها سياقات النصوص‪ ،‬وتتدخل‬
‫مخيلة المتلقي واحساساته وحدوسه في تخيل صورة المحذوف وتحديد داللته‪.‬‬
‫بقي أن أشير إلى قيمة العطف من خالل تفاعله مع السياق للكشف عن الداللة‬
‫من ناحية والتجليات الجمالية من ناحية أخرى‪ ،‬فإن حرف العطف يخلط الثاني باألول‪،‬‬
‫فيما يرى ابن ّ‬
‫جني‪ ،‬ففي قول الشاعر المتنبي ‪:‬‬

‫من‬ ‫النصر‬ ‫ِ‬


‫و ُ‬ ‫حساده‬ ‫من‬ ‫الشمس‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫أسمائه‬ ‫من‬ ‫السيف‬
‫و ُ‬ ‫قرنائه‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 76‬ـ ‪.77‬‬


‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 442/1 ،‬‬
‫‪127‬‬
‫ِ‬
‫خصاله‬ ‫ِ‬
‫ثالث‬ ‫من‬ ‫الثالث ُة ُُ‬ ‫أين‬

‫ِ‬
‫ومضائه‬ ‫و ِ‬
‫إبائه‬ ‫ح ِ‬
‫سنه‬ ‫من‬
‫ُ‬

‫جني ‪ » :‬أين حسن الشمس من حسنه ؟ وأين النصر من إبائه ؟ وأين السيف‬ ‫يقول ابن ّ‬
‫من مضائه ؟ أي إذا أمر أقصر النصر عن عزيمته وإبائه‪ ،‬فكأنه رجع في هذا البيت عما‬
‫أعطاه في البيت الذي قبله ولو قال ‪» :‬وأين « بالواو لكان أعذب‪ ،‬ألن الواو يخلط الثاني‬
‫باألول‪ ،‬فال يجعل ألحدهما مزية على األخر في التقدم والتأخر‪ ،‬وإذا لم يأت بالواو صار‬
‫الكالم كأنه منقطع «‪ ،1‬وتؤدي الواو العاطفة ـ هنا ـ دو اًر داللياً وجمالياً في آن واحد‪ ،‬فهي‬
‫تخلط المعطوف بالمعطوف عليه‪ ،‬بحيث ال يبقى قيمة لمتقدم على متأخر‪ ،‬فيشتركان في‬
‫أن »واو العطف « يمكن أن تؤدي وظيفة جمالية »يعذب « فيها األداء‬ ‫القيمة‪ ،‬كما ّ‬
‫أن السياق ينبئ عن لون من االنبهار واإلعجاب في المثل الذي استشهد‬
‫ويحلو‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫جني لتعزيز رأيه في قول أحد الشعراء ‪:‬‬
‫به ابن ّ‬

‫ريقه‬ ‫إلى‬ ‫ظمئت‬


‫ُ‬ ‫ما‬ ‫إذا‬

‫بديال‬ ‫منه‬ ‫المدامة‬ ‫جعلت‬

‫ريقه‬ ‫من‬ ‫المدام ُة‬ ‫وأين‬

‫عليال‬ ‫قلبا‬ ‫أعلل‬


‫ُ‬ ‫ولكن‬

‫جني‪ ،‬الفسر الكبير » شرح ديوان المتنبي « تحقيق صفاء خلوصي‪ ،‬دار الجمهورية‪ ،‬بغداد‪1389 ،‬‬ ‫‪1‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫هـ ـ ‪ 1969‬م ‪ ،‬ص ‪. 49‬‬
‫‪128‬‬
‫جني ‪ » :‬ولو قال ‪ » :‬أين المدامة من ريقه « لم يكن له ماء الواو وال‬
‫يقول ابن ّ‬
‫رونقها»‪1‬‬

‫) ‪ ( 6‬معضالت النظام النحوي ‪:‬‬

‫ويتجلى ـ مما سلف ـ العناية البالغة بالدالالت الثابتة والعناية بدراسة مكوناتها‬
‫مستقلة عن بعضها‪ ،‬وهذا يعني دراسة الظاهرة من خالل النظرة الجزئية التي هي صدى‬
‫لألصول المنطقية التي يصدر عنها الناقد‪ ،‬وهي تفرض عليه رؤية األشياء واضحة‬
‫ومحدودة‪ ،‬وتدرك الماهية منفصلة عن عناصرها ومكوناتها‪ ،‬وكأنها أفكار مجردة ال تعبر‬
‫عن شيء محدد‪ ،‬وان كانت تعبر عن كل شيء‪.‬‬
‫هذه العقلية التي تؤمن بوجود التمايز بين العناصر وبوجود الفوارق بينها‪ ،‬ترى‬
‫الشيء وبجنبه الشيء اآلخر‪ ،‬وتشهد الماهية وتوازيها الماهية األخرى‪ ،‬وتعالج الذات‬
‫والذات األخرى‪ ،‬وتوزع العناصر واألشياء على طبقات‪ ،‬فهناك طبقة متقدمة وأخرى‬
‫متأخرة‪ ،‬وتتقدم واحدة لتكون أصالً‪ ،‬وتتأخر الثانية لتكون فرعاً‪ ،‬المهم ّ‬
‫أن هناك نظاما‬
‫يحافظ على المسافات‪ ،‬ويتمسك بالوضوح والتحدد أساساً‪ ،‬ومن هنا جاءت عنايتهم‬
‫بالتعريفات والحدود‪ ،‬حد الشيء‪ ،‬والعلم‪ ،‬والموضوع‪ ،‬ومعرفة طبائع األشياء والذوات ‪ .‬أما‬
‫أن تتقاطع األشياء أو تتفاعل‪ ،‬أو أن يؤثر بعضها ببعض فهذا ما ال يمكن إدراكه‪ ،‬أو ال‬
‫ْ‬
‫يمكن قبوله‪ ،‬ألنه يضاد الرؤية التي ترى األشياء مستقلة‪ ،‬واألفكار واضحة‪ ،‬بل ّ‬
‫إن الناقد‬
‫يفك تقاطعهما وتشابكهما‪ ،‬ويحاول دراستها مستقلة‪.‬‬
‫ومن هذه الفواصل الحادة الفصل بين األنظمة اللغوية‪ ،‬فالنظام الصوتي يدرس‬
‫مستقالً دون أدنى فاعلية أو تأثر أو تأثير باألنظمة اللغوية األخرى‪ ،‬وكأنه كيان مستقل ال‬
‫عالقة له بغيره‪ ،‬ومثله النظام الصرفي‪ ،‬ويستقل عنهما النظام النحوي‪ ،‬ويستقل كل نظام‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫‪129‬‬
‫بدراسة عناصر جزئية‪ ،‬فالنظام الصوتي يدرس األصوات مستقلة أو مدرجة مع بعضها‪،‬‬
‫أن هذا الدرس ال يأخذ بعين االعتبار ضرورة التفاعل مع العناصر األخرى المكونة‬
‫على ّ‬
‫لألنظمة اللغوية‪ ،‬ولذلك فهو درس للحرف وعالقته بالحروف األخرى في إطار الكلمة‬
‫الواحدة دون تجاوزها‪ ،‬أما النظام الصرفي فهو يعنى بأنفس الكلمات‪ ،‬وكأن الكلمات تمثل‬
‫جواهر ثابتة يبحث الدارس عنها وعن صفاتها‪ ،‬ويعنى بهذه الجواهر الثابتة لذاتها‪ ،‬دون‬
‫تأمل لتفاعالتها أو عالقاتها بالنظام الصوتي‪ ،‬أو النظام النحوي‪.‬‬
‫ويتدرج الناقد في تشكيله اللغوي متنقالً من الجزئي إلى الكلي‪ ،‬بمعنى أن نظرته‬
‫تبدأ من أبسط العناصر ليضم بعضها إلى بعض دون أن تفقد العناصر المتضامة أيا من‬
‫أن تخضع للبناء الكلي الذي يحتويها‪ ،‬إنها النظرة التجزيئية التي تحكم‬
‫خصائصها‪ ،‬أو ْ‬
‫مجمل التفكير النقدي واللغوي الذي يهدف إلى التمايز والوضوح بين الحدود‪.‬‬
‫وإذا كان البناء النحوي يعتمد فكرة أولية هي اإلسناد‪ ،‬أي تكوين الجملة من مبتدأ‬
‫وخبر‪ ،‬أو فعل وفاعل‪ ،‬فإنها لدى الناقد تتمثل ـ في األساس ـ من خالل تركيب الكلمات‪،‬‬
‫أن هذه الكلمات تشتمل على دالالت ثابتة‪ ،‬وتتولد بينها عالقات عبر تركيبها‪ ،‬وبهذا‬‫وّ‬
‫يحافظ الناقد على الدالالت المعجمية للكلمات‪ ،‬وبذا تتراص الدالالت المعجمية محافظة‬
‫على ثباتها تماماً كما تتراص الكلمات مستقلة ومحافظة على استقاللها دون محاولة لكسر‬
‫هذه األبعاد‪ ،‬ويحتوي ذلك كله نظام منطقي هو النظام النحوي‪ ،‬وقد وجد الشعراء ـ في‬
‫أثناء محاوالتهم كسر بعض السياقات المتكررة وتجاوزها إلى سياقات جديدة ـ أن أكثر‬
‫الردود عنفا عليهم من أصحاب نظرية الخطأ والصواب في النحو‪ ،‬ألنهم يتابعون‬
‫أخطاءهم وفق أسس معيارية ثابتة يحكمها منطق صارم ال يقبل التفاوت أو التجاوز مهما‬
‫كانت األسباب‪.‬‬
‫إن الدرس النقدي يعنى عناية بالغة بالكلمة فهي أساس البناء‪ ،‬وتمثل كياناً‬ ‫ّ‬
‫فإن الكلمة‬
‫مستقالً له داللته الثابتة المستقلة‪ ،‬وحتى في حالة تشكيلها وتركيبها في سياق ّ‬
‫ال تتغير داللتها ـ في الغالب ـ بل تحافظ على داللة معجمية ثابتة‪.‬‬
‫إن تفسير النص األدبي ال يتم بإخراج المفردة من سياقها والتحدث عن داللتها‬
‫ّ‬
‫جني في أحايين كثيرة في شروحه الشعرية‪ ،‬وإنما تتم دراسة‬
‫المعجمية‪ ،‬كما فعل ذلك ابن ّ‬
‫‪130‬‬
‫السياق اللغوي كله‪ ،‬والكشف عن جمالياته‪ ،‬أي تجاوز النظرة التفكيكية إلى نظرة شمولية‬
‫تدرس الجزء في ضوء الكل‪ ،‬وليس منفصالً أو مستقالً عنه‪ ،‬أي ينبغي وعي الكلمة ال في‬
‫إطار داللتها المعجمية وإنما في ضوء سياقها‪.‬‬
‫إن‬
‫أن الكلمة تفقد معناها المعجمي تماماً في إطار سياقها‪ ،‬بل ّ‬
‫وال يعني هذا ّ‬
‫فإن الكلمة تحافظ على جانب من هذه‬
‫إن كانت تعتمد على السياق ّ‬ ‫داللة النص األدبي و ْ‬
‫الداللة المعجمية الذي تلونه وترافقه مجموعة من الظالل والمعاني التي ترادفها أو تقاربها‬
‫إلى درجة إثارة معان أخر‪ ،‬أو إضفاء خصوصية من نطاق الداللة المعجمية للكلمة ‪.‬‬
‫أن يتحقق تماما خارج السياق‪،‬‬‫إن إدراك الكلمة وتَمّثل وظيفتها وجمالها ال يمكن ْ‬
‫فإن إدراكها وتمثلها ال يتم بدقة إال من خالل السياق وبالسياق‪ ،‬لما يتركه‬
‫بل على العكس ّ‬
‫األخير من آثار وموحيات على الكلمات أي » أن الكلمات أو األلفاظ المفردة ال تدرك‬
‫وحدها‪ ،‬وإنما تدرك في داخل حكم أو » عالقة « وأن معانيها ال تعرف في أنفسها وإنما‬
‫نفهم في ضوء عالقات السياق وقرائنه ومبانيه‪ ،‬وأنه ال سبيل إلى إفادتها إال بضم كلمة‬
‫أن النقد لم يكن‬ ‫‪1‬‬
‫إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة « ‪ ،‬وهذا كله يكشف عن قضية مفادها ّ‬
‫مهتماً بوصف الكيفية التي يتم بها التعبير‪ ،‬انطالقا من تخليقها تجربة في الذات إلى أن‬
‫يتم تشكيلها لغويا في نص أدبي‪ ،‬وإنما كانت العناية متركزة بالجوانب اللفظية الشكلية ‪.‬‬
‫إن العالقة بين الجزئي ـ الكلمة ـ والكلي ـ السياق ـ ال تحكمها داللة الكلمة‬
‫ّ‬
‫المعجمية‪ ،‬بل يكون للكلمة تأثيرها في السياق تماماً‪ ،‬كما أن السياق يؤثر هو اآلخر في‬
‫داللة الكلمة وجمالياتها‪ ،‬فضال عن موقع الكلمة في شبكة العالقات المعقدة التي تحكم‬
‫أن يؤثر في تحديد الداللة ويكشف عن جماليات‬ ‫تضام الكلمات ومواقعها‪ ،‬وهذا من شأنه ْ‬
‫أن هناك عالقة جدلية بين الكلمة والسياق يتفاعل فيها هذان‬
‫النص األدبي بأسره‪ ،‬ويؤكد ّ‬
‫إن هذه العالقة الجدلية‬
‫البعدان لتوصيل داللة جديدة‪ ،‬ويشتمالن معا على جماليات فنية ‪ّ ،‬‬
‫التي تعطي دو اًر وأهمية لكل من الجزء والكل بصورة متوازنة هي التي أغفلها الناقد العربي‬

‫‪ 1‬ـ تامر سلوم‪ ،‬نظرية اللغة والجمال في النقد العربي‪ ،‬دار الحوار‪ ،‬الالذقية ـ سوريا‪1983 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 121‬‬
‫‪131‬‬
‫ولم يستطع تجليتها وتوظيفها في درسه النقدي‪ ،‬وكانت عنايته متركزة في الجزئي لدرجة‬
‫إن الجزئي يكاد يتحكم في الكلي‪ ،‬ويحدد مساراته ومعطياته وجمالياته‪.‬‬
‫يمكن معها القول ‪ّ :‬‬
‫أن جماليات النص القرآني‬ ‫بقيت مالحظة جديرة بالعناية واالهتمام مفادها ّ‬
‫والشعري على السواء ليست كائنة في األنظمة اللغوية‪ ،‬أي أنها ليست مقتصرة على‬
‫تجاوز االستثقال في البناء الصوتي‪ ،‬أو تمكين الدالالت الثابتة للصيغ الصرفية في ذهن‬
‫المتلقي‪ ،‬أو في جماليات الحذف والتقديم والتأخير في البناء النحوي‪ ،‬وإنما ـ باإلضافة‬
‫إليها ـ في جوانب من الدرس البالغي كالتشبيه واالستعارة مثال‪ ،‬وهذا ما سيأتي الحديث‬
‫عنه في الفصل التالي ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫المقياس البالغي‬

‫‪133‬‬
134
‫األداء الـنمطي واألداء الفني ‪:‬‬

‫(‪ )1‬مستويات األداء اللغوي ‪:‬‬

‫من أجل فهم مستويات األداء اللغوي ال بد من اإلشارة إلى تصور المعتزلة عن‬
‫أن اللغة تواضع واصطالح‪ ،‬فهي ـ أي اللغة ـ تتكون من األلفاظ‬
‫نشأة اللغة‪ ،‬فهم يرون ّ‬
‫التي تنطوي على الدالالت التي اتفق واصطلح عليها‪ ،‬وهم يرون أيضاً ّ‬
‫أن كالم هللا من‬
‫جنس الكالم العربي‪ ،‬لتأكيد قضية شغلتهم كثي اًر‪ ،‬وهي قضية » خلق القرآن « ‪ ،‬وعلى‬
‫أن القرآن الكريم يتألف من جنس الكالم العربي‪ ،‬من حيث مفرداته‪،‬‬ ‫الرغم من تأكيدهم ّ‬
‫وطبيعة تراكيبه‪ ،‬فإنه ُيعد معج اًز‪ ،‬وهذا يدل على مستويات متعددة من األداء اللغوي‪ ،‬منها‬
‫المستوى العادي من األداء‪ ،‬الذي ال يدل على نواح فنية‪ ،‬وآثرنا أن نطلق عليه مصطلح‬
‫األداء النمطي‪ ،‬وهناك مستوى آخر من األداء يتجاوز األداء النمطي‪ ،‬وتتفاوت مستويات‬
‫فنيته‪ ،‬أطلقت عليه األداء الفني‪ ،‬ويكون في قمته من حيث اإلبداع ‪ :‬المستوى المعجز‬
‫المتمثل في القرآن الكريم ‪.‬‬
‫أن هناك تفاوتاً في مراتب الفصاحة بين‬
‫ويعي القاضي عبد الجبار بن أحمد ّ‬
‫أن الكلمات‬
‫القرآن الكريم ومستويات األداء األخرى‪ ،‬وحين يحلل أسباب هذا التفاوت يعي ّ‬
‫أن تأليف هذه الكلمات »يقع على طرائق‬ ‫العربية محصورة ومحدودة من حيث الكم‪ ،‬و ّ‬
‫مختلفة ‪ ....‬فتختلف لذلك مراتبه في الفصاحة « ‪ 1‬فالطرائق المختلفة في التراكيب هي‬
‫التي تحدد التفاوت في األساليب‪ ،‬ومن ثم التفاوت في القيم الفنية والمعرفية والجمالية التي‬
‫تشتمل عليها‪ ،‬وهذا هو الذي يجعل أسلوباً ما رفيعاً‪ ،‬ويجعل آخر دونه في الجودة‬
‫والجمال‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.214/16 ،‬‬
‫‪135‬‬
‫وتتجلى بعض مظاهر هذه التصورات في تمييز النقاد بين الشعر والخطابة‪ ،‬من‬
‫حيث تغاير كل منهما عن اآلخر‪ ،‬من جهة األسلوب‪ ،‬ومن جهة التوصيل‪ ،‬فالشاعر ال‬
‫يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد‪ ،‬ألنهما يخرجان الشعر من دائرة الفن ‪.‬‬
‫ويمكن وعي تغاير األداءين النمطي والفني من خالل التحديد الوظيفي لهما‪،‬‬
‫أن‬
‫أن األداء النمطي يهدف إلى التوصيل واإلفهام‪ ،‬ويمكن لهذا األداء ْ‬
‫والرماني يعي ّ‬
‫يؤدي وظيفته بتحقيق اللفظ على المعنى‪ ،‬مهما كانت ماهية األلفاظ‪ ،‬سواء أكانت غثة‬
‫مستكرهة‪ ،‬أم نافرة متكلفة‪ ،‬أم غير ذلك ‪ ،‬أما األداء الفني فعلى الرغم من أنه ال يقتصر‬
‫دوره على الوظيفة التوصيلية فإنه يهدف إلى تأدية قيمة جمالية‪ ،‬وينبئ تعبير الرماني عن‬
‫ضرورة تجاور هذين البعدين أو تالحمهما ـ أعني التوصيل والفن ـ في أثناء تحديده‬
‫لطبيعة البالغة‪ ،‬والتي تدل عنده على »إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من‬
‫اللفظ»‪.1‬‬
‫إن الوظيفة التوصيلية لألداء تعمد إلى تحقيق اللفظ على المعنى وتأدية الداللة‬
‫لذاتها‪ ،‬دون تجاوز ذلك إلى أبعاد فنية وجمالية‪ ،‬وهذا ما يفعله اإلنسان العادي الذي ال‬
‫يفكر بأكثر من اإلفهام‪ ،‬وال يهدف إلى أبعد من التوصيل‪ ،‬ويمكن تلمس بعض مظاهر‬
‫هذا األداء أيضاً لدى الفالسفة والمناطقة على نحو العموم‪ ،‬وهذا ما يلمح به الشريف‬
‫المرتضى في أثناء تعرضه للحديث عن طبيعة الشعر‪ ،‬حين أبعد عن الشاعر الوظيفية‬
‫ألن الشاعر لو‬
‫التوصيلية التي يعمد فيها اإلنسان إلى مجرد تحقيق اللفظ على المعنى‪ّ ،‬‬
‫عمد إلى ذلك أصبح شأنه شأن من يخاطب الفالسفة وأصحاب المنطق‪ ،‬أو يأخذ‬
‫ألن هؤالء يتعاملون مع اللغة بوصفها أداة مجردة يهدف‬
‫بطريقتهم في األداء والتعبير‪ّ ،‬‬
‫منها تأدية المعاني في أسلوب ينطوي على الدقة العلمية ‪.‬‬
‫وإذا كان الشريف المرتضى قد ألمح إلى الفوارق الوظيفية والتشكيلية لألداءين‬
‫فإن الجرجاني في وساطته يعيب على المتنبي أن يخرج األداء اللغوي‬
‫النمطي والفني‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.69‬‬


‫‪136‬‬
‫أن األداء الفلسفي يناقض التشكيل اللغوي‬ ‫‪1‬‬
‫لديه من الشعر إلى الفلسفة ‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أن هناك تناقضاً بين الشعر‬
‫للشعر‪ ،‬فمتى قرب أحدهما من اآلخر قّل ْت قيمته‪ ،‬أي ّ‬
‫والفلسفة من جهتي الوظيفة والتشكيل‪ ،‬ففي حين تستخدم الفلسفة اللغة » استخداماً حقيقياً‬
‫بهدف اإلفهام والتوصيل « ال يستخدم الشعر األلفاظ » لتدل على معانيها الحقيقية‬
‫والمشهورة‪ ،‬وإنما لتدل على معان أخر تشبهها أو تخالفها«‪.2‬‬
‫ويميز الشريف المرتضى بين أسلوبي الخطابة والشعر في أثناء نقله عن الفرزدق‬
‫إن الفرزدق‬
‫وعده خطيباً‪ ،‬وقال المرتضى تعليقاً على ذلك ّ‬
‫أنه عاب على الكميت شعره ّ‬
‫ألن الخطابة تهدف إلى اإلقناع‪ ،‬ومن ثم‬ ‫سلم له الخطابة ليخرجه عن أسلوب الشعر«‪3‬‬‫» َّ‬
‫ّ‬
‫يدفعه هذا إلى استخدام أدوات عقلية‪ ،‬ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الوظيفة على التشكيل‬
‫اللغوي للخطبة ‪ ،‬إذن فالتغاير بين الشعر والخطابة يقود حتماً إلى تغاير كيفي في طبيعة‬
‫وكأن الشريف المرتضى يريد أن يجعل الخطابة لوناً من العلوم مادامت‬
‫ّ‬ ‫تشكيلهما للغة‪،‬‬
‫ألن األصل في الخطابة » أن تستخدم‬ ‫تهدف إلى إيصال المعرفة وتحقيق اإلقناع‪ ،‬و ّ‬
‫ألن ذلك أقرب إلى تحقيق اإلقناع وأكثر مالءمة‬‫األلفاظ الحقيقية واأللفاظ المشهورة‪ّ ،‬‬
‫لطبيعته التصديقية التي تجعله أقرب إلى التصديق البرهاني منه إلى التخيل الشعري «‪.4‬‬
‫إن تعارض الوظيفتين التوصيلية والجمالية بين األداءين النمطي والفني يقود إلى‬
‫تغاير في كيفية االستخدام اللغوي‪ ،‬فالفالسفة والمناطقة والخطباء يبنون لغتهم من أجل‬
‫التوصيل‪ ،‬ولذلك يعمدون إلى تحقيق اللفظ على المعنى‪ ،‬ويختلف عنهم الشعراء من حيث‬
‫الوظيفة الجمالية‪ ،‬ومن ثم فهم يبنون لغتهم على » التجوز والتوسع واإلشارات الخفية‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 182‬‬


‫‪ 2‬ـ إلفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد‪ ،‬دار التنوير للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ 1983 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ 3‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ إلفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪137‬‬
‫واإليماء على المعاني تارة من بعد وأخرى من قرب«‪ ،1‬ولم يكن الشريف المرتضى في‬
‫هذا النص ملغياً التوصيل‪ ،‬ولكنه ليس الغاية التي ينشدها المبدع‪ ،‬وإنما الغاية لديه كيفية‬
‫التشكيل ‪.‬‬
‫ألن البالغة‬
‫ويلح الرماني على ضرورة تالحم الوظيفتين التوصيلية والجمالية‪ّ ،‬‬
‫لديه تعنى » إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ «‪ 2‬وإذا كانت األبعاد‬
‫فإن أبا‬
‫الجمالية لدى الرماني والشريف المرتضى غاية جمالية يؤديها التشكيل اللغوي‪ّ ،‬‬
‫أحمد العسكري يحولها إلى مجرد قضية شكلية يزين بها التشكيل اللغوي ال غير‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو حين عني بتحديد بالغة الشعر اشترط فيه »رشاقة المعرض «‪ ،3‬وهي كما يبدو‬
‫تمثل بعداً خارجياً يقصد منه الجمال الشكلي المحض الذي ال يرتبط بفاعلية بالتشكيل‬
‫أن رشاقة المعرض هذه‪ ،‬واإلشارات الخفية واإليماء على المعاني التي سبق‬‫اللغوي‪ ،‬غير ّ‬
‫أن تحدث عنها الشريف المرتضى‪ ،‬إنما تنبئ عن عناية الناقد بالقيمة الجمالية للتشكيل‬
‫اللغوي‪ ،‬ومن ثم يترك التشكيل اللغوي آثاره في المتلقي وتزويده بمعرفة نطلق عليها‬
‫أن هذه العناية تدفع المبدع إلى عناية فائقة بالتشكيل اللغوي ليتميز‬
‫المعرفة الشعرية‪ ،‬كما ّ‬
‫بتكثيف العبارة وإيحائية الداللة ‪ ،‬وإذا كان الفالسفة ـ كما أسلفنا ـ يخضعون أداءهم اللغوي‬
‫لضبط علمي‪ ،‬فيستخدمون الكلمات بكيفية تدل على المعاني المراد إيصالها‪ّ ،‬‬
‫فإن الشعراء‬
‫إن الشاعر ـ فيما يرى الشريف المرتضى ـ » ال‬ ‫ال يتقيدون بذلك ُ‬
‫ويعد ذلك عيباً لديهم‪ ،‬بل ّ‬
‫ألن ذلك متى اعتبر في الشعر بطل‬ ‫يجب أن تؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد‪ّ ،‬‬
‫جميعه «‪ 4‬ولذلك يبرر الناقد للشعراء الكيفية التي يؤدون فيها المعاني والدالالت‪ ،‬وهي‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 69‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ضمن مجموعة من الرسائل تحت عنوان »‬
‫التحفة البهية والطرفة الشهية « مطبعة الجوانب‪ ،‬قسطنطينية‪1302 ،‬ه‪ ،‬ص ‪. 213‬‬
‫‪ 4‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬
‫‪138‬‬
‫دون شك تتعارض مع الكيفية التي يتعامل بها الفالسفة‪ ،‬فالشعراء ـ مثال ـ يميلون إلى‬
‫تأدية معانيهم بالمبالغة أحياناً » صنعة وتأنقاً‪ ،‬ال لتحمل على ظواهرها تحديدا وتحقيقا«‪.1‬‬
‫إن التمايز بين األداءين النمطي والفني يقرب إلى حد كبير من الفوارق التي أرساها‬
‫الفالسفة المسلمون في أثناء تمييزهم اللغة الشعرية عن اللغة العلمية » عندما ألحوا على‬
‫أن اللغة الشعرية تتميز بالخروج عن األصل‪ ،‬أي أنها تنحرف عن معيار ما هو قياسي‬ ‫ّ‬
‫مصطلح عليه في اللغة‪ ،‬في الوقت الذي تلتزم فيه لغة العلم » البرهان « بما هو متواضع‬
‫عليه في اللغة ‪ ...‬وإن هذا االنحراف انحراف جمالي متعمد‪ ،‬وذلك أنها تقصد من ورائه‬
‫إثارة الدهشة أو العجب أو اللذة «‪.2‬‬

‫) ‪ ( 2‬العالقة بين األداءين النمطي والفني ‪:‬‬

‫أن الثاني‬
‫إن العالقة بين األداءين النمطي والفني عالقة تجاور وانتزاع‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ّ‬
‫إن القدماء جعلوا األداء النمطي أصال يقيسون‬‫ال يغفل األول‪ ،‬بل يتأسس عليه‪ ،‬حتى ّ‬
‫إن األداء‬ ‫‪3‬‬
‫عليه األداء الفني‪ ،‬ومن هنا جاء حديثهم عن األصل في المعنى والكالم ‪ّ ،‬‬
‫إن وجود األخير البد أن‬
‫النمطي يمثل الثابت الذي يرجع إليه المتغير ـ أي األداء الفني ـ و ّ‬
‫يعتمد على األول‪ ،‬ويتحقق وجوده بوجود سابقه‪ ،‬فالمجاز ـ وهو أحد أوجه األداء الفني ـ ال‬
‫يصح وجوده في اللغة ـ فيما يرى القاضي عبد الجبار ـ دون أن تكون له حقيقة تسبقه‪.4‬‬
‫ويمثل األداء النمطي األصل أو السابق ويكون األداء الفني فرعاً والحقاً له‪ ،‬فمن‬
‫جهة التركيب ـ مثال ـ نلتقي بالتركيب النحوي الذي ال تقديم فيه وال تأخير‪ ،‬وهو يمثل‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.96/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ إلفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪ ،‬ص ‪.177‬‬
‫‪ 3‬ـ عبد الحكيم راضي‪ ،‬نظرية اللغة والجمال في النقد العربي‪ ،‬دار الحوار‪ ،‬الالذقية ـ سوريا‪ 1983 ،‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪. 206‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.130/7 ،‬‬
‫‪139‬‬
‫األصل والسابق في مثل تركيب الجملة الفعلية المكونة على التوالي من فعل وفاعل‬
‫ومفعول‪ ،‬وهذا التركيب يمثل تركيباً نمطياً‪ ،‬ويمثل األداء الفني خروجاً أو كس اًر له وفق‬
‫قوانين محددة‪ ،‬كأن يتقدم المفعول على الفاعل‪ ،‬أو يتقدم عليه والفعل معا‪ ،‬ويؤدي التقديم‬
‫والتأخير دالالت معينة ال يمكن أن ينطوي عليها أصل التركيب ‪ ،‬ويمكن تطبيق ذلك‬
‫على نحو آخر بالنسبة للمجاز‪ ،‬فالحقيقة تمثل األصل أو السابق‪ ،‬ليكون المجاز تنويعاً‬
‫أن األداء الفني تركيب ال يمكن أن يتأتى حدوثه دون أصل‬‫عليه‪ ،‬والحقاً به‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫يسبقه‪ ،‬فاألداء الفني يتضمن األداء النمطي في ضوء عالقة تجاور‪ ،‬وينتزع الفني من‬
‫إن العالقة بينهما عالقة تجاور وانتزاع ‪.‬‬
‫النمطي‪ ،‬ومن هنا قلنا ّ‬
‫أن الفواصل حادة بين األداءين‪ ،‬بحيث ال يتداخالن أو ال‬ ‫وال يعني هذا ّ‬
‫ألن بينهما قد اًر من االرتباط‪ ،‬فالنمطي يمثل األساس المعياري الذي يتأسس في‬
‫يتقاطعان‪ّ ،‬‬
‫فإن األداء النمطي يمثل » الخلفية‬
‫ضوئه الفني‪ ،‬ويتحدد تجاوزه أو انحرافه عنه‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫التي ينعكس عليها التحريف الجمالي المتعمد للمكونات اللغوية للعمل «‪ ،1‬فهو بمقدار ما‬
‫يمثل عنصر إعاقة يحاول المبدع أن يكسر نمطيته‪ ،‬فإنه يمثل في الوقت ذاته قيمة‬
‫معيارية يمكن من خاللها الكشف عن جوانب التجاوز الجمالي‪ ،‬ومقدار ما تتركه من آثار‬
‫فنية ووجدانية ‪.‬‬
‫وال يعني هذا تمرداً على أصول األنظمة اللغوية كالنحو مثالً‪ ،‬من حيث الفاعلية‬
‫والمفعولية وكيفية اإلسناد‪ ،‬وإنما هو كسر للمألوف من عناصر الثبات سواء في مواقع‬
‫الكلمات في سياق التركيب‪ ،‬أو في الدالالت التي تشتمل عليها‪ ،‬أو هو كسر لما يمكننا‬
‫تسميته بمكونات الثبات في اللغة‪ ،‬وهي التي يلزم النقاد المحافظون أنفسهم بها‪ ،‬وبخاصة‬
‫أمام محاوالت التحديث الفني لإلبداع األدبي‪ ،‬كما هو معروف فيمن وقف في وجه حركة‬
‫الحداثة في الشعر في القرون األولى‪ ،‬وموقف بعض اللغويين من هذه الحركة رفضاً أو‬
‫تأييداً ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ موركافسكي‪ ،‬اللغة المعيارية واللغة الشعرية‪ ،‬ترجمة إلفت الروبي‪ ،‬مجلة فصول العدد األول‪ ،‬اكتوبر ـ‬
‫ديسمبر ـ ‪ 1984‬م ‪ ،‬ص ‪. 41‬‬
‫‪140‬‬
‫إن االنتهاك المتعمد لطبيعة األداء النمطي ـ متمثالً في أحد جوانبه بالعدول‬
‫إلغاء لألداء النمطي برمته‪ ،‬ألنه يبقى محافظاً على بعض مكونات‬ ‫ً‬ ‫والنقل ـ ال يعني‬
‫أن التركيب الجديد ال يخلو نهائياً من‬
‫األصل الذي ُعدل عنه‪ ،‬أو انتقل منه‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫أن‬
‫تضمن القديم‪ ،‬سواء بألفاظه أو تراكيبه‪ ،‬أو بتأويالته‪ ،‬أو بكليهما معا‪ ،‬وبمعنى آخر ّ‬
‫العدول والنقل عن األصل إلى فرع يبقى متواف اًر فيه جملة من خصائص األصل‪ ،‬ولكن‬
‫الفرع يتميز بخصوصية تضاف إلى ما تضمنه من خصائص األصل‪ ،‬ومن الجدير‬
‫أن االنحراف عن األصل تحكمه مقومات‪ ،‬ويتميز بدرجات متعددة‪ ،‬ولكنه ال يمكن‬‫بالذكر ّ‬
‫أن مخالفة الشاعر لألداء النمطي »ليست مطلقة ـ من‬ ‫أن يكون الكسر مطلقاً‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ْ‬
‫جهة أولى ـ ال تخرج على قواعد اللغة العادية‪ ،‬وإنما هو يخرج على » نظام « هذه اللغة‬
‫في التأليف بين الكلمات ونظمها وسياقها وتركيبها «‪. 1‬‬
‫فإن هذا ال يعني خلوه‬
‫أن األداء النمطي يهدف إلى التوصيل ّ‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫من آثار يلتقي فيها باألداء الفني لما يشتمل عليه من استعارات مثالً‪ ،‬واالستعارة في أصل‬
‫أن االستخدام اليومي‬
‫تركيبها ونشأتها تمثل انحرافاً وانتهاكاً متعمدا لألداء النمطي‪ ،‬غير ّ‬
‫الستعارة معينة يفقدها خصوصيتها الداللية وجمالها الفني في إثارة الدهشة واالنبهار‪،‬‬
‫وتتحول إلى إحدى أدوات التوصيل النمطي اليومي‪ ،‬كما هو الحال في » ِرجل الكرسي «‬
‫إن هذه االستعارات قد فقدت وظيفتها الجمالية المؤثرة بحيث يصدق‬ ‫و » عين اإلبرة « ّ‬
‫إن »االستعارات في أغلب الحديث العادي‪ ،‬كما في أغلب أنواع النثر‪ ،‬إنما هي‬
‫معها القول ّ‬
‫نصف حية « ‪. 2‬‬
‫إن الوظيفة الجمالية تمثل غاية جوهرية في األداء الفني‪ ،‬ولكنها تتراجع في‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫فإن االستعارات في أمثلتها الميتة ال توهم ّ‬
‫غيره‪ ،‬لتتقدم الوظيفة التوصيلية‪ ،‬ولذلك ّ‬

‫‪ 1‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مداخل إلى علم الجمال األدبي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪.14‬‬
‫‪ 2‬ـ أرشيبالد مكليش‪ ،‬الشعر والتجربة‪ ،‬ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،‬ومراجعة توفيق صايغ‪ ،‬دار اليقظة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪ 1963 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪141‬‬
‫ألن وظيفة األداء هنا هي التوصيل‪ ،‬ومن هنا يمكن القول إنه إذا‬
‫األداء أضحى فنياً‪ّ ،‬‬
‫»كانت الوظيفة الجمالية متحققة في تراكيب لفظية أخرى غير لغة الشعر‪ ،‬فإنها ال تسود‬
‫في هذه التراكيب‪ ،‬أو تهيمن عليها‪ ،‬بل تظل ثانوية بالقياس إلى وظيفة أخرى‪ ،‬في حين‬
‫تظل هذه الوظيفة الجمالية هي األساس في لغة الشعر‪ ،‬وتظل ـ من ثم ـ هي الوظيفة التي‬
‫تسود ماعداها في اللغة الشعرية«‪. 1‬‬
‫إذن فالوظيفة الجمالية ـ في األداء الفني ـ تتقدم على ما سواها من الوظائف‬
‫األخرى‪ ،‬وتكون أكثرها أهمية وبرو اًز‪ ،‬كما ّ‬
‫أن األداء الفني ـ في الشعر بخاصة ـ يشتمل‬
‫أن هذه اللغة الشعرية‬
‫على درجة من التكثيف يدفع بالتوصيل إلى التراجع‪ ،‬على أساس ّ‬
‫أن نطلق عليها جمالية‬
‫هي الهدف من التعبير‪ ،‬وبهذا يتم التوصيل بطريقة جديدة‪ ،‬يمكن ْ‬
‫التوصيل‪ ،‬وهي ال تعني التوصيل المقصود لذاته‪ ،‬وإنما هي مزيج من الجمالية والتوصيل‪،‬‬
‫فإن كانت الوظيفة‬
‫وعلى الرغم من ذلك يبقى الكشف عن طبيعة األداء من خالل وظيفته‪ْ ،‬‬
‫فإن هذا يعني أننا نقترب من‬
‫التوصيلية هي السائدة في النص األدبي ومهيمنة عليه ّ‬
‫إن كانت الوظيفة الجمالية هي المتقدمة في النص سنكون حينئذ إزاء‬
‫األداء النمطي‪ ،‬و ْ‬
‫ألن‬
‫أن الكسر المطلق لألداء النمطي إبداع وجمال أدبي‪ّ ،‬‬ ‫أداء فني‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬
‫التحريف الجمالي أو االنتهاك المتعمد ليس غاية مقصودة لذاتها‪ ،‬وإنما الغاية تأدية‬
‫الدالالت الجمالية التي يمكن تأديتها من خالل تجاوز األداء النمطي‪ ،‬أما حين تتحول‬
‫فإن هذا يقود إلى الخلط بين ما هو أدبي وما ليس أدبياً بالمرة ‪.‬‬
‫الوسيلة إلى غاية ّ‬
‫أن الخصائص التي تميز وظيفة األداء اللغوي‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ويدل ما سلف على ّ‬
‫تحديد طبيعته الفنية أو النمطية إنما تكمن في الخصائص النوعية للتشكيل اللغوي‪،‬‬
‫أن فنية األداء تعني تغي اًر شكلياً يتصل‬
‫وليست عائدة إلى ظواهر خارجة ‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬
‫باأللفاظ‪ ،‬ولكنه تغير داللي جمالي في آن واحد‪ ،‬وتتجاور فيه داللتان‪ ،‬تميل إحداهما إلى‬
‫إقرار العام في األداء النمطي‪ ،‬وتميل الثانية إلى معنى خاص يحتوي الداللة السابقة‪،‬‬
‫ويتجاوزها ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ إلفت الروبي‪ ،‬تقديمها لمقال ‪ :‬موركافسكي‪ ،‬اللغة المعيارية واللغة الشعرية‪ ،‬ص ‪ 38‬ـ‪.39‬‬
‫‪142‬‬
‫ألن‬
‫فإن العالقة بين األداءين تشتمل على تأثير متبادل‪ّ ،‬‬ ‫وعلى الرغم من هذا ّ‬
‫األداء الفني ال يمكن له تأدية دوره الجمالي إال في اقتباس تركيبه من األداء النمطي‪ ،‬وفي‬
‫أن األداء النمطي يقتبس‬‫كيفية محددة خاصة من التحريف واالنتهاك المتعمد له‪ ،‬كما ّ‬
‫الكثير من تراكيب األداء الفني‪ ،‬وبخاصة بعد ضمور دالالتها الجمالية‪ ،‬أي بعد أن تفقد‬
‫خصائصها االنحرافية‪ ،‬وتتحول إلى معيارية‪ ،‬كما هو الحال في االستعارات الميتة‪ ،‬وبهذا‬
‫فإن كثي اًر من التراكيب المجازية تتحول من األداء الفني‬
‫يتم توسع اللغة وإمكاناتها‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫لتستقر في مخزون األداء النمطي ‪.‬‬
‫إن الفوارق بين األداءين النمطي والفني تنمحي أو تكاد‪ ،‬بمقدار اقترابهما من‬
‫ّ‬
‫بعضهما‪ ،‬من جهتي الوظيفة أو من جهة التشكيل‪ ،‬وتتضح الفوارق بمقدار افتراقهما‬
‫الوظيفي أو التشكيلي‪ ،‬ويخضع هذا التمايز في بعض جوانبه للخصائص الفردية للمبدع‪،‬‬
‫أو لقوانين التطور اللغوي‪ ،‬أو للتغير الحاصل في أذواق األجيال ومدى تطور نضجه‬
‫الفني أو تخلفه ‪.‬‬
‫إن القيمة الفنية التي ينطوي عليها األداء الفني ال تحددها درجة انحرافه عن‬
‫ألن االفتراق الحاد ال يعني بالضرورة أداء جميال تحققت قيمته وأبعاده الفنية‬
‫النمطي‪ّ ،‬‬
‫أن اقتراب األداءين من بعضهما‪ ،‬ال يعني بالضرورة‬ ‫بانفراج الزاوية إلى أقصاها‪ ،‬كما ّ‬
‫أن األمر يتأتى من أمور عدة‪ ،‬فهو متأثر بطبيعة األداء النمطي‬
‫كذلك‪ ،‬تخلفاً فنياً‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫أوالً‪ ،‬وبكيفية االنحراف واالنتهاك المقصود بما يشتمل عليه من وظيفة جمالية ثانياً‪،‬‬
‫فإن هذا‬
‫وبكيفية تأديته لألبعاد الجمالية وعالقتها بخصوصية المبدع ثالثاً‪ ،‬وعلى العموم ّ‬
‫ال يمكن تحديده بقانون‪ ،‬وإنما هو خاضع لعدد هائل من المؤثرات المتفاعلة التي تؤدي‬
‫دورها مجتمعة‪.‬‬
‫فإن‬
‫وإذا كان األداء النمطي يتسم بالشيوع في تأدية وظائفه‪ ،‬وفي كيفية تركيبه‪ّ ،‬‬
‫األداء الفني يتميز بخصوصيته التي تقترن بمكونات ذاتية وفردية‪ ،‬ويخضع األداء الفني‬
‫للون من الوعي الخاص من جهة طبيعة اللغة‪ ،‬ومن جهة كيفية تركيبها في نص أدبي‪،‬‬
‫كما يخضع األداء الفني ـ أخي اًر ـ لرؤية المبدع وكيفية وعيه للعالم الذي يعيش فيه ويسعى‬
‫إلى التعبير عنه ‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫فإن االنحراف المتعمد في تركيب األداء الفني يتسم بخصوصية‬
‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫معينة تتجاوز الشيوع‪ ،‬وترجع هذه إلى لون معين من التركيب‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬
‫أن االنحراف‬
‫أن يكون مجرد تركيب شكلي ُيعنى بجوانب الزينة الخارجية‪ ،‬كما أنه‬
‫في التركيب ال يعدو ّ‬
‫ال يعني تغي اًر لفظياً تستقل فيه المفردات عن سياقاتها‪ ،‬وإنما تتفاعل من أجله مكونات‬
‫عديدة‪ ،‬منها ما يتصل بطبيعة اللغة وأنظمتها الصوتية والصرفية والنحوية‪ ،‬ومنها ما‬
‫يتصل بخصوصية العصر ومستويات التعبير التي يتميز بها‪ ،‬ومنها ما يتصل بالمبدع‬
‫من حيث مكوناته الذاتية وخصائصه الفردية‪ ،‬وطبيعة رؤيته للعالم واإلنسان ‪ ،‬وأخطر من‬
‫أن مستويات األداء الفني تتفاوت ـ كما هو معروف ـ في ضوء قوانين التطور األدبي‬
‫هذا ّ‬
‫عبر األجيال والعصور‪ ،‬كما أنها تتفاوت بين شخصين يرومان التعبير عن قضية واحدة‪،‬‬
‫فإن التعبيرين ينقالن ـ مجرد نقل ـ خب اًر واحداً في لغة معينة ال يتفقان في تركيبهما‬
‫اللغوي‪ ،‬بمعنى أنهما يختلفان من حيث استخدام المفردات وكيفية تضامها وتراكبها‪ ،‬ومن‬
‫ثم يدل هذا على تفاوت في أسلوبيهما وداللتيهما ‪.‬‬

‫) ‪ ( 3‬أنماط األداءين ‪:‬‬

‫ويمكننا أن نضرب مثالً جلياً للعدول عن األداء النمطي إلى األداء الفني‬
‫بالمساواة واإليجاز واإلطناب‪ ،‬إذ تمثل المساواة األداء النمطي الذي يعني تحقيق اللفظ‬
‫على المعنى على حد تعبير الرماني‪ 1‬أو » أن يكون اللفظ كالقالب للمعنى ال يفضل عنه‬
‫وال ينقص منه «‪ 2‬كما يقول أبو أحمد العسكري‪ ،‬فهو ال يهدف إلى أكثر من التوصيل‪،‬‬
‫وهو المعيار‪ ،‬أو األصل‪ ،‬أو الثابت‪ ،‬الذي نقيس في ضوئه األداء الفني المتمثل في‬
‫اإليجاز واإلطناب ‪ ،‬فالمساواة تمثل المقابل لهما‪ ،‬ألنها ستكون قارًة في مستويات األداء‬
‫ألن تمثل اإليجاز واإلطناب ال يتأتى وجود تشكيلهما ووظيفتهما إال بها‪ ،‬فهي تمثل‬
‫كلها‪ ،‬و ّ‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 69‬‬


‫‪ 2‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪. 218‬‬
‫‪144‬‬
‫األصل الذي يعد تعينه«خطوة ضرورية لتعيين االنحراف عنه كماً وكيفاً‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬يصبح‬
‫باإلمكان الحكم على مدى فنية األثر«‪.1‬‬
‫إن انحراف اإليجاز عن المساواة يتم بتقليل اللفظ مع المحافظة على أصل‬
‫المعنى‪ ،‬أو هو كما يقول الرماني ‪ » :‬إحضار المعنى بأقل ما يمكن من العبارة «‪ 2‬فالقلة‬
‫عنده هي المعيار الذي يتحكم في درجة االنحراف‪ ،‬إضافة إلى حضور المعنى المراد‬
‫توصيله‪ ،‬ولكن أبا أحمد العسكري على الرغم من عنايته بالقلة معيا اًر يحدد طبيعة اإليجاز‬
‫فإنه يضيف إلى ذلك أن يكون التركيب مشي اًر إلى المعنى باإللماح ليمكن تأدية الداللة‬ ‫ّ‬
‫شعرياً‪ ،‬وهذا يدل على عناية الناقد بما نطلق عليه تكثيف األداء من حيث الكم والكيف‪،‬‬
‫ويتجلى ذلك في كمية األلفاظ القليلة‪ ،‬والتي تعد شرطاً جوهرياً في تحديد طبيعة اإليجاز‪،‬‬
‫كما يتجلى ذلك في كيفية توصيل المعنى إلى المتلقي‪ ،‬وهو ال يتم بتحقيق اللفظ على‬
‫المعنى‪ ،‬فهذا يدل على المساواة‪ ،‬والبد للناقد من تجاوزها‪ ،‬ولذلك يتم توصيل المعنى‬
‫بالتلميح واإلشارة‪ ،‬وهو يشتمل ـ بالنتيجة ـ على مؤثرات جمالية تتجاوز التوصيل لذاته ‪.‬‬
‫أما اإلطناب فهو انحراف عن المساواة متمثالً في « تفصيل المعنى »‪ 3‬أو‬
‫«إعادة األلفاظ المترادفة على المعنى الواحد بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه‪ ،‬ويتوكد عند‬
‫من فهمه»‪ ،4‬فاإلطناب انحراف عن المساواة بالزيادة‪ ،‬ويؤدي وظائف معينة‪ ،‬تنحصر عند‬
‫الرماني في »تفصيل المعنى « بينما يدل عند أبي أحمد العسكري على اإلبانة عن المعنى‬
‫وكأن وظيفة اإلطناب إزالة الغموض وااللتباس الذي‬
‫من ناحية‪ ،‬وتأكيده من ناحية أخرى‪ّ ،‬‬
‫يتضمنه التركيب ‪.‬‬
‫إن كالً من اإليجاز واإلطناب يسهم في تأدية الداللة وتحقيق إتمامها وإفادتها‪،‬‬‫ّ‬
‫غير أنهما يختلفان في كيفيات تحقيق ذلك‪ ،‬فاإلطناب ُيعنى بتفصيل الداللة وتأكيد أبعادها‬

‫‪ 1‬ـ عبد الحكيم راضي‪ ،‬نظرية اللغة في النقد العربي‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 73‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 72‬‬
‫‪ 4‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪ 218‬ـ ‪. 219‬‬
‫‪145‬‬
‫أن اإلطناب يتصل من زاوية بالمبدع ليسهب في تركيب‬ ‫عند المتلقي‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫المفردات وتضامها من أجل توسيع المعاني والتفصيل في معطياتها‪ ،‬ويتصل من زاوية‬
‫أخرى بالمتلقي‪ ،‬ليقود اإلطناب إلى توصيل المعنى أوالً‪ ،‬وتأكيده في نفس المتلقي ثانياً‪،‬‬
‫أما اإليجاز فهو يشتمل على الداللة في أقل قدر ممكن من األلفاظ‪ ،‬شرط أن تتم به‬
‫اإلفادة‪ ،‬وال يخلو كالم بليغ منهما ـ أي اإليجاز واإلطناب ـ والبد أن يؤديا دوريهما دون‬
‫جني يؤكد أنهما » في كل كالم مفيد مستقل بنفسه‪،‬‬‫إخالل بمقاصدهما‪ ،‬ولذلك رأينا ابن ّ‬
‫ولو بلغ بها اإليجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته‪ ،‬مع أنه ال بد فيه‬
‫فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان وال استعذاب «‪.1‬‬
‫من تركيب الجملة‪ّ ،‬‬
‫جني لطرائق محددة إلتمام الداللة‬
‫وإذا كان اإليجاز واإلطناب يخضعان لدى ابن ّ‬
‫فإن القاضي عبد الجبار يقرنهما بالداللة من ناحية‪ ،‬وتأدية الدالالت‬
‫وتحقيق فائدتها ّ‬
‫ألن فصاحة الكالم لديه ليست إال صورة للمعاني من حيث دقة‬‫الجمالية من ناحية أخرى‪ّ ،‬‬
‫التعبير عنها‪ ،‬ومن حيث تأديتها الدالالت الجمالية‪ ،‬ومن حيث االحتياج إليها‪ ،‬يقول‬
‫القاضي عبد الجبار » إن فصاحة الكالم إذا كانت تظهر بحسن معانيه واستقامتها‬
‫والحاجة إليها فيجب أن يكون الكالم بحسبها «‪ 2‬وبهذا تتداخل لدى القاضي عبد الجبار‬
‫الوظيفتان التوصيلية والجمالية في آن واحد‪.‬‬
‫ويمثل المعنى األساس الذي يحدد مكونات الفصاحة وطبيعتها من ناحية‪ ،‬كما‬
‫يحدد أساليبها ـ كاإلطناب واإليجاز ـ من ناحية أخرى‪ ،‬إذ يشترط القاضي عبد الجبار بن‬
‫أحمد سبق المعاني لأللفاظ‪ ،‬والبد للمعاني من أوصاف كي يتأتى الكالم بحسبها‪ ،‬وهي‬
‫تتحدد في حسن المعاني‪ ،‬واستقامتها‪ ،‬والحاجة إليها‪ ،‬ويتضمن هذا تزايد المعاني وتفاضلها‬
‫أن تختلف أحوال المعاني في خصائصها السالفة في‬ ‫‪ ،‬ومن الطبيعي‪ ،‬والحالة هذه‪ْ ،‬‬
‫الحسن واالستقامة والحاجة إليها‪ ،‬كما تختلف في تزايدها وتفاضلها‪ ،‬ويقتضي هذا كله‬
‫اختالفاً في أساليبها‪ ،‬إطالة أو إيجا اًز‪ ،‬أو نحو ذلك ‪ ،‬إذن فالمعنى يمثل أساس الفصاحة‬

‫جني الخصائص‪.30/1 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪401/16 ،‬‬
‫‪146‬‬
‫وجوهرها‪ ،‬ويتحدد في اختالف أحواله اختالف أساليبه‪ ،‬ليكون إيجا اًز مرة‪ ،‬وإطناباً مرة‬
‫أخرى‪ ،‬ولذلك تحتم لزوم األمر لدى القاضي عبد الجبار حين يقول ‪ » :‬فالبد إذا اختلفت‬
‫أن يختلف الكالم في التطويل واإليجاز«‪.1‬‬
‫أحوال المعاني ْ‬
‫ويعقد القاضي عبد الجبار مقارنة بين المواطن التي يجيء فيها اإليجاز‬
‫والمواطن التي يرد فيها اإلطناب‪ ،‬متخذا من إمكانية ورود اإليجاز أو تعذره معيا اًر ثابتاً‬
‫يتحكم في استخدام اإلطناب أو تعذره‪ ،‬ففي الوقت الذي يمكن فيه تأدية الداللة باإليجاز‪،‬‬
‫وكونه مغنياً عن اإلطناب‪ ،‬يصبح ورود اإلطناب عيباً‪ ،‬وبهذا تتحقق الفصاحة لديه‬
‫باإليجاز‪ ،‬وال يمكن تأديتها بأي حال باإلطناب‪ ،‬ولكن » إذا كان اإليجاز متعذ اًر أو ممكناً‬
‫وال يقع المعنى وال يسد مسد التطويل‪ ،‬فالتطويل هو اإلبالغ في الفصاحة«‪ 2‬ومن الجلي‬
‫أن هذا المعيار ال يخضع لقاعدة منطقية أو معيار ثابت‪ ،‬قدر ما هو عائد إلى خصيصة‬‫ّ‬
‫ذاتية‪ ،‬تعود من ناحية إلى مبدع النص‪ ،‬وتعود من ناحية أخرى إلى طبيعة الغرض المراد‬
‫التعبير عنه ‪.‬‬
‫وتتحكم ثنائية اللفظ والمعنى في تحديد طبيعة اإليجاز عند الرماني‪ ،‬فمن جهتي‬
‫الكم والكيف ينطوي اإليجاز ـ عند الرماني ـ على تقليل الكالم من غير إخالل بالمعنى‪،‬‬
‫وعد الحذف أحد وجهي اإليجاز‪ ،‬وهو يعني » إسقاط كلمة لالجتزاء منها بداللة غيرها من‬
‫ّ‬
‫الحال أو فحوى الكالم «‪ 3‬ومنه قوله تعالى » واسأل القرية «‪ 4‬أي واسأل أهل القرية‪،‬‬
‫وعبارة الرما ني أكثر داللة‪ ،‬ألنها تتجاوز تصورات غيره‪ ،‬فهو قد أرجع الداللة إلى »ما‬
‫تنطوي عليه الحال « أو » ما يتضمنه فحوى الكالم «‪ ،‬وفي ضوء هذا تكون العالقة بين‬
‫ألن‬
‫المفردات التي يتشكل منها التركيب األدبي والقرآني بخاصة ليست مفردات تتراص‪ّ ،‬‬
‫الحالية التي اشترطها الرماني توحي بجمالية التركيب القرآني‪ ،‬ومن هذا قوله تعالى« َوِس َ‬
‫يق‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.401/16 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 401/16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 70‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة يوسف‪ ،‬آية ‪. 82 :‬‬
‫‪147‬‬
‫الم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّالِذ َ َّ‬
‫ال َل ُه ْم َخ َزَنتُ َها َس ٌ‬
‫وها َوُفت َح ْت أ َْب َو ُاب َها َوَق َ‬
‫اء َ‬
‫َّه ْم إلى اْل َجنة ُزَم ًار َحتى إ َذا َج ُ‬
‫ين اتَق ْوا َرب ُ‬
‫ين«‪ 1‬كأنه قيل ـ فيما يرى الرماني ـ ‪ 2‬حصلوا على النعيم الذي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وها َخالد َ‬
‫َعَل ْي ُك ْم ط ْبتُ ْم َف ْاد ُخُل َ‬
‫ألن النفس تذهب‬ ‫أن للحذوف عذوبة وبالغة ّ‬ ‫ال يشوبه التنغيص والتكدير‪ ،‬ويرى الرماني ّ‬
‫أن‬
‫أن الحذف يتيح المجال رحباً لتخيل دالالت متعددة‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫فيه كل مذهب‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ذكر المحذوف سيثبت الداللة ويحصرها دون تعددها ‪.‬‬
‫ويمثل إيجاز القصر الوجه األخر من اإليجاز الذي يتحدد لدى الرماني‪3‬‬
‫»بتقليل اللفظ وتكثير المعنى« ومنه قوله تعالى » وَل ُكم ِفي اْل ِقص ِ‬
‫اص َح َياةٌ « ‪ ،4‬ويقارن‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫الرماني هذا التعبير القرآني بتعبير آخر عده العرب نوعاً فريداً من اإليجاز‪ ،‬وهو » القتل‬
‫أن إيجاز القرآن الكريم أفضل لألسباب اآلتية ‪:‬‬‫أنفى للقتل « ويخلص الرماني إلى ّ‬
‫إن تعبير اآلية القرآنية الكريمة أكثر فائدة من إيجاز العرب »القتل أنفى للقتل «‬ ‫‪ّ ‬‬
‫اص َح َياةٌ « يشمل القتل وغيره‪ ،‬ألنها تتبنى العدل في ميادين الحياة‬ ‫ألن » اْل ِقص ِ‬‫ّ‬
‫َ‬
‫فإن المعاني الحسنة التي تشتمل عليها اآلية الكريمة عديدة ‪.‬‬ ‫المتعددة‪ ،‬ولذا ّ‬
‫إن تعبير اآليـة القرآنية أكثر إيجا اًز‪ ،‬فلو قارنا بين عـدد أحرف »اْل ِقص ِ‬
‫اص َح َياةٌ «‬ ‫‪ّ ‬‬
‫َ‬
‫و » القتل أنفى للقتل « لوجدنا اآلية الكريمة تتكون من عشرة أحرف‪ ،‬في حين‬
‫تتكون مقولة العرب من أربعة عشر حرفاً ‪.‬‬
‫إن تعبير اآلية القرآنية بعيد عن التكلف ألنه ال تكرار فيه‪ ،‬كما هو الحال في‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫تكرار كلمة » القتل « وما يواكبها من ثقل في نطقها ‪.‬‬


‫أن تعبير اآلية القرآنية أحسن تأليفا من حيث تالؤم حروفه‪ ،‬ويفسر ذلك بالرجوع‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫إلى قوانين صوتية من حيث ثقل األصوات وخفتها‪ ،‬ومن ذلك في اآلية‬
‫الكريمة»اْل ِقص ِ‬
‫اص َح َياةٌ « تأتي الحاء بعد الصاد‪ ،‬وهي أفضل بكثير وأخف من‬ ‫َ‬

‫‪ 1‬ـ سورة الزمر‪ ،‬آية ‪. 73:‬‬


‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 70‬ـ ‪. 71‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 70‬ـ‪. 71‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة البقرة‪ ،‬آية ‪.179 :‬‬
‫‪148‬‬
‫خروج األلف إلى الالم في قول العرب » القتل أنفى للقتل «‪ ،1‬ويضاف إلى ما‬
‫أن »اْل ِقص ِ‬
‫اص َح َياةٌ « تتكون من كلمتين‪ ،‬في حين يتكون المثل‬ ‫ذكره الرماني ّ‬
‫َ‬
‫العربي من ثالث كلمات ‪.‬‬
‫وقد تناول الرماني اإلطناب باإلشادة أيضاً‪ ،‬أذ يرى ّ‬
‫أن » اإليجاز بالغة‬
‫أن لكل واحد من اإليجاز‬
‫أن اإلطناب بالغة والتطويل عيي ‪ ...‬و ّ‬
‫والتقصير عيي‪ ،‬كما ّ‬
‫واإلطناب موضعاً يكون به أولى من اآلخر «‪ 2‬ولم يحدد الرماني طبيعة هذه المواضع‬
‫والكيفيات التي تحكمها‪ ،‬ولكنه على ما يظهر يرجع إلى عنصر ذاتي يحدده المبدع‬
‫معتمداً على ذوقه وإحساسه الجمالي‪.‬‬
‫وقد أرجع الرماني جماليات اإليجاز واإلطناب إلى مجهول‪ ،‬وأخذ يشبه التمايز‬
‫بين التطويل واإلطناب بلون من التماثل مع رحلة في طريق‪ ،‬إذ يرى في التطويل عيباً‬
‫ألنه «تكلف فيه الكثير فيما يكفي منه القليل‪ ،‬فكان كالسالك طريقا بعيداً جهال منه‬
‫بالطريق القريب «‪ 3‬أما اإلطناب فيكون في تفصيل المعنى‪ ،‬أي تجاوز اإليجاز إلى‬
‫التفصيل‪ ،‬والخروج في تكثيف العبارة إلى سرد تفصيلي يتناول الجزئيات بالوصف‬
‫والتحليل‪ ،‬شأنه شأن من «سلك طريقا بعيدا لما فيه النـزهة الكثيرة والفوائد العظيمة‬
‫فيحصل في الطريق إلى غرضه من الفائدة على ما يحصل له بالغرض المطلوب «‪. 4‬‬
‫أن اإليجاز واإلطناب يقترنان باللفظ والمعنى‪ ،‬من حيث الكم‬
‫ويتجلى مما سبق ّ‬
‫والكيفية‪ ،‬ومن حيث تحديد جمالياتهما بالرجوع إلى مكونات ذاتية تتصل بالمبدع‪ ،‬فمن‬
‫أن‬
‫أن ندرك ّ‬ ‫جهة عالقتهما باللفظ والمعنى يتضح الكم أساساً في تحديدهما‪ ،‬وينبغي ْ‬
‫التراث النقدي كان يفصل بين اللفظ والمعنى‪ ،‬ويتأتى هذا بسبب رؤية تجعل المعنى ثابتاً‬
‫وسابقاً للفظ‪ ،‬ويكون الجمال البالغي مقترناً بكيفيات التعبير المختلفة‪ ،‬ولذلك الحظنا قيمة‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 71‬ـ ‪. 72‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 72‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 74‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪149‬‬
‫اإليجاز واإلطناب من جهة عالقته بالمعنى من ناحية ‪ ،1‬ومن جهة عالقته بالمبدع الذي‬
‫يعمد إلى هذه الكيفية من التعبير دون غيرها من ناحية أخرى‪ ،‬ولعل هذا يتجاوب إلى حد‬
‫كبير مع تصورات الرماني ألنه ال يغفل الخصائص الفردية ودور المكونات الذاتية‪ ،‬سواء‬
‫في اإلبداع أو في التلقي ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 74‬‬


‫‪150‬‬
‫المحكم والمتشابه ‪:‬‬

‫توازن المعتزلة بين الدليل العقلي والدليل النقلي ـ القرآن والسنة ـ وهي ال ترى‬
‫تعارضاً بينهما في النتيجة‪ ،‬بل إنها تؤكد تطابق الدليلين وتطابق المعرفتين العقلية‬
‫إن كانت تدلل في الوصول إليهما معتمدة المعيار العقلي أساساً ‪.‬‬
‫والنقلية‪ ،‬و ْ‬
‫أن القرآن الكريم‪ ،‬وهو من جنس الكالم‬ ‫وقد واجهت المعتزلة إشكالية مفادها ّ‬
‫العربي‪ ،‬يشتمل على آيات محكمات وآخر متشابهات‪ ،‬واآليات المحكمات تعبر بكيفية‬
‫تستقل فيه بنفسها في اإلنباء عن المراد‪ ،‬ويتلقى اإلنسان داللتها دون إلباس أو غموض‪،‬‬
‫ولكن اآليات المتشابهات ال تدل على المراد بهذه الكيفية من الوضوح‪ ،‬فهي ال تستقل‬
‫بنفسها في اإلنباء عنه‪ ،‬بل تحتاج إلى غيرها ‪.‬‬
‫أن اآليات‬
‫ويتحدد التغاير ـ في أحد جوانبه ـ بين المحكم والمتشابه‪ ،‬في ّ‬
‫المحكمات توافق الدليل العقلي‪ ،‬وكونها خالية من المجاز‪ ،‬شأنها شأن األدلة العقلية‪ » ،‬ال‬
‫يجوز فيها مجاز‪ ،‬والما يخالف الحقيقة‪ ،‬وهي القاضية على الكالم‪ ،‬والتي يجب بناؤه‬
‫عليها‪ ،‬والفروع أبدا تبنى على األصول «‪ ،1‬ويضعنا هذا أمام مقارنة بين الدليلين العقلي‬
‫والنقلي‪ ،‬فاألدلة العقلية » ال يدخلها االحتمال والمجاز ووجوه التأويالت «‪ 2‬في حين يكون‬
‫ألن فصاحة‬
‫الدليل النقلي ـ الكتاب والسنة ـ مشتمالً على المجاز‪ ،‬ويحتمل التأويالت‪ّ ،‬‬
‫القرآن ـ وهي أعلى درجات الفصاحة ـ »ال تتم بالحقائق المجردة‪ ،‬وانه البد من سلوك‬
‫طريق التجوز واالستعارة «‪. 3‬‬
‫ومن أجل هذا عمد المعتزلة إلى تأويل اآليات التي تعارض الدليل العقلي‪ ،‬أو‬
‫تعارض المحكم الذي كشف الدليل العقلي عن إحكامه‪ ،‬وافترضت المعتزلة لآليات التي‬
‫تقتضي تأويالً ظاه اًر وباطناً‪ ،‬فظاهر اآليات يعارض الدليل العقلي ويعارض اآليات‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 300/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 477/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪.600‬‬
‫‪151‬‬
‫المحكمة سواء بسواء‪ ،‬ولذا فالبد من حمل ظاهر هذه اآليات لتتوافق مع الدليل العقلي‪،‬‬
‫ولذلك يقول الشريف المرتضى » فإذا ورد عن هللا كالم ظاهره يخالف ما دلت عليه أدلة‬
‫إن كان له ظاهر ـ وحمله على ما يوافق األدلة العقلية‬
‫العقول وجب صرفه عن ظاهره ـ ْ‬
‫ويطابقها‪ ،‬ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب هللا تعالى اقتضى ظاهرها اإلجبار‬
‫والتشبيه أو ما ال يجوز عليه تعالى«‪.1‬‬
‫أن قضية التأويل تأسست للوفاء بحاجات عقائدية آمن بها‬
‫ويتضح من هذا ّ‬
‫المعتزلة‪ ،‬فاستخدموا التأويل للكشف عن اآليات القرآنية التي يوحي ظاهرها بالتجسيم‬
‫والتشبيه‪ ،‬ولذلك فهم »يحملون العبارات الدالة على التشبيه أو التي ال تليق بمقام األلوهية‬
‫على تأويالت أليق وأبعد عن التشبيه «‪ ،2‬ويتحكم في هذا كله الدليل العقلي الذي أكثر‬
‫المعتزلة من اإلشارة إليه في عملية التأويل‪ ،‬وهو ـ في حقيقته ـ ليس مقتص اًر على صرف‬
‫ظاهر اآليات إلى ما يوافق األدلة العقلية‪ ،‬ولكنه األداة التي يصح من خاللها التسليم‬
‫إن‬
‫بمعرفة النقل والتأكد من صدقه‪ ،‬بمعنى أن تقدم الدليل العقلي سابق لمعرفة النص‪ ،‬بل ّ‬
‫أن القرآن حجة‬
‫» المعرفة باهلل وبتوحيده وعدله لو لم يتقدم ـ الدليل العقلي ـ لم يكن نعلم ّ‬
‫أصال»‪. 3‬‬
‫وقد أخضع المعتزلة النص القرآني ألدلة العقول‪ ،‬فصنفوا اآليات القرآنية إلى‬
‫محكمة تتطابق داللتها مع األدلة العقلية‪ ،‬والى متشابهة يتعارض ظاهر داللتها مع األدلة‬
‫العقلية‪ ،‬ولذلك أوجبوا ترتيب المحكم والمتشابه على هذه األدلة ‪ ،4‬ولذا أخذوا يطابقون بين‬
‫المحكم وأدلة العقل‪ ،‬ويعمدون إلى تأويل المتشابه ليتطابق بعد التأويل مع العقل من‬
‫ناحية‪ ،‬والمحكم من ناحية أخرى ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.300/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ جولد تسيهر‪ ،‬مذاهب التفسير اإلسالمي‪ ،‬ص ‪. 38‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬متشابه القرآن‪.37/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 37/1 ،‬‬
‫‪152‬‬
‫والمحكم من ناحية اإلبانة والتوصيل » يستقل بنفسه في اإلنباء عن المراد« ‪1‬‬
‫فهو ال يحتاج إلى غيره‪ ،‬ومادام المحكم مستقال بذاته في اإلنباء عن المراد فهو محمول‬
‫على ظاهره‪ ،‬وال يحتمل إال داللة واحدة‪ ،‬أو بتعبير القاضي عبد الجبار »ال يحتمل إال‬
‫الوجه الواحد « ‪ 2‬فهو يدل على ذاته بذاته‪ ،‬وليس محتاجاً إلى قرينة تسهم في الكشف‬
‫عن داللته‪ ،‬بخالف المتشابه الذي ال يستقل في اإلنباء عن المراد بنفسه‪ ،‬بل يحتاج إلى‬
‫غيره‪ ،‬وال تتم اإلبانة عن المراد إال من خالل التركيب الذاتي للمتشابه‪ ،‬وللقرينة التي تزيل‬
‫أن المتشابه ينطوي على داللتين‪ ،‬إحداهما ظاهرة‪ ،‬ليست‬‫اإللباس والغموض‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫هي المقصودة‪ ،‬والثانية ‪ :‬باطنة وهي المراد التعبير عنها‪ ،‬ويميز القاضي عبد الجبار في‬
‫هذا السياق بين نمطين أحدهما ‪» :‬يعرف المراد به وبذلك الغير بمجموعهما‪ ،‬والثاني‬
‫يعرف المراد به بذلك الغير بانفراده‪ ،‬ويكون هذا الخطاب لطفاً وتأكيداً«‪. 3‬‬
‫ويرى القاضي عبد الجبار ّ‬
‫أن المتشابه يختلف في نوعية القرينة وفي عددها‪ ،‬فقد‬
‫‪4‬‬
‫أن من المتشابه » ما يحتاج إلى قرائن ومنه ما‬ ‫تكون القرينة عقلية أو لفظية ‪ ،‬كما ّ‬
‫فإن‬ ‫‪5‬‬
‫أن كثرة القرائن تقود إلى مزيد من الوضوح‪ّ ،‬‬ ‫يحتاج إلى قرينة واحدة« وال يعني هذا ّ‬
‫كثرت القرائن اتضح المراد‪ ،‬وإن قلت قل بمقدار قلتها‪ ،‬ألنه قد يظهر » الحال تلك القرينة‬
‫ألن‬
‫وربما غمض « وتأسيساً على هذا أوجب المتشابه على المتأول جهداً وزيادة فكر‪ّ ،‬‬
‫المراد به » غير ما يقتضيه ظاهره «‪ 6‬ومن هنا اضطر المتلقي أن يتأمل الداللة التي‬
‫ينبغي أن يتأول في ضوئها ظاهر المتشابه ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 34/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 6/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.34/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نصر حامد أبو زيد‪ ،‬االتجاه العقلي في التفسير‪ ،‬ص ‪. 184‬‬
‫‪ 5‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬متشابه القرآن‪. 34/1 ،‬‬
‫‪ 6‬ـ نفسه‪. 25/1 ،‬‬
‫‪153‬‬
‫إذن فالمحكم هو ما خال من االشتباه في تحميله داللة أكثر مما ينطوي عليه‬
‫تركيبه‪ ،‬ألنه ظاهر ال باطن له فيما يرى ذلك الشريف الرضي‪1‬فهو من هذه الناحية يبعد‬
‫عن احتماالت يتضمنها تركيبه‪ ،‬ويبعد عن احتماالت تضاف إليه‪ ،‬ألنه يتميز باستقالله‬
‫الذاتي‪ ،‬ودال على معناه بذاته‪ ،‬دون حاجة إلى اشتباه أو احتمال آخر‪ ،‬في حين يكون‬
‫ان باطنه يشتمل على داللة واحدة‪،‬‬
‫المتشابه محتمالً وجهاً أو أكثر من التأويل والتفسير‪ ،‬و ّ‬
‫أو داللتين‪ ،‬أو أكثر من ذلك بحسب الوجهة التي يوجهها المتأول ‪.‬‬
‫ان المتشابه‬
‫ويتحدد تأويل المتشابه بالقرينة‪ ،‬ألنه ال يعرف تأويله إال بها‪ ،‬بل ّ‬
‫أن » المجاز مع القرينة بمنـزلة نفس الحقيقة «‪.2‬‬
‫بمنـزلة المحكم بالقرينة‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما ّ‬
‫فإن المحكم بدرجه الدليل العقلي من حيث القيمة والوضوح‪،‬‬‫وفي ضوء هذا كله ّ‬
‫ألن الداللة التي ينطوي عليها المحكم يتلقاها اإلنسان واضحة دون غموض أو إلباس‬ ‫ّ‬
‫ان الذات اإلنسانية تتلقى النص المحكم دون ْ‬
‫أن تسهم في اإلضافة إليه‪ ،‬ويرجع‬ ‫يشوبها‪ ،‬و ّ‬
‫ألن المحكم ال يحتمل إعمال الفكر في تأويل النص واحتمال الدالالت المتعددة‪ ،‬ألنه‬
‫هذا ّ‬
‫ظاهر ال باطن له‪ ،‬أما المتشابه فإنه يشتمل على إلباس وغموض‪ ،‬وإنه له ظاهر وباطن‪،‬‬
‫أن يحكم باألدلة العقلية التي تقود إلى تأويله في ضوء مقدمات محددة‪ ،‬ويشترط في‬‫والبد ْ‬
‫أن يقترن بقرينة عقلية أو لفظية واحدة أو متعددة‪ ،‬ليسهم إعمال الفكر في الكشف‬
‫المتشابه ْ‬
‫عن داللته الباطنة المقصودة من خالل القرينة ‪.‬‬
‫إذن يعتمد المعتزلة الدليل العقلي في تحديد المتشابه وإزاحة الغموض عنه‪،‬‬
‫وتتجلى قدرة العلماء في تأويل اآليات بل إنهم يتبارون ويتفاضلون في » استفتاح مبهما‬
‫أن يكو َن‬ ‫ِ‬
‫المتأول والبد » ْ‬ ‫واستنطاق معجمها « ‪ 3‬أما المحكم فإنه يمثل أصالً يرجع أليه‬
‫العلم بالمحكم أسبق ليصح جعله أصالً له«‪ 4‬ويمثل هذان البعدان ـ أقصد استخدام الدليل‬

‫‪ 1‬ـ الشريف الرضي‪ ،‬المجازات النبوية‪ ،‬تحقيق محمد الزيني‪ ،‬مؤسسة الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1967 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 51‬‬
‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪381/16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ الشريف الرضي‪ ،‬المجازات النبوية‪ ،‬ص ‪. 52‬‬
‫‪ 4‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬متشابه القرآن‪. 7/1 ،‬‬
‫‪154‬‬
‫العقلي في التأويل وإرجاع المتشابه إلى المحكم ـ نوعاً في استدالل المعتزلي بالنص‬
‫القرآني‪.‬‬
‫وتتدخل ثنائية اللفظ والمعنى في تحديد داللتي المتشابه الظاهرة والباطنة‪ ،‬إذ يرى‬
‫أن التفاضل إنما يتم باأللفاظ‪ ،‬فتبين عن‬‫أن المعاني ثابتة ال تزايد فيها‪ ،‬و ّ‬
‫المعتزلة ّ‬
‫أن االشتباه ليس قرين المعنى‪ ،‬وإنما هو مرتبط باأللفاظ‪ ،‬ولذلك‬
‫المعاني‪ْ ،‬أو ال تبين‪ ،‬و ّ‬
‫افترض المعتزلة للمتشابه صورتين لفظيتين ‪ :‬إحداهما ‪ :‬ظاهرة تنطوي على التركيب‬
‫ان الداللة الحقيقية المقصودة‬ ‫ِ‬
‫المتأول‪ ،‬و ّ‬ ‫المتشابه وقرينته‪ ،‬والثانية ‪ :‬صورة لفظية يقدرها‬
‫هي الداللة المقدرة‪ ،‬ولذلك فليس هناك من اشتباه في الصورة اللفظية الثانية‪ ،‬فهي بدرجة‬
‫أن الصورة اللفظية األولى ـ المتشابهة‬
‫المحكم‪ ،‬ألنها تدل على المعنى المراد توصيله‪ ،‬كما ّ‬
‫ـ تدل هي األخرى على المعنى ذاته بوجود القرينة‪ ،‬فليس هناك اشتباه في المعنى‪ ،‬وإنما‬
‫ِ‬
‫المتأول فيزيل غموضها بإرجاعها إلى الصورة‬ ‫الصورة اللفظية األولى موهمة‪ ،‬ويأتي دور‬
‫أن يكون االشتباه في اآلية القرآنية‬
‫أن القاضي عبد الجبار ينفي ْ‬
‫المقدرة‪ ،‬ولذلك الحظنا ّ‬
‫الكريمة من جهة المعنى‪ ،‬وإنما اشتباهها يكون من جهة اللفظ‪ ،‬وليس بمشتبه من جهة‬
‫المعنى‪. 1‬‬
‫ويثير المتشابه معضلة تتصل بالداللة وكيفية توصيلها فالمتشابه ـ دون شك ـ ال‬
‫فإن الغموض يالزمه‪ ،‬وتتم إزالة‬
‫يدل على المراد بوضوح كما يدل عليه المحكم‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫الغموض واإللباس بالتأويل عبر تحديد القرينة أو القرائن‪ ،‬وبهذا يتحول التأويل إلى أداة‬
‫أن الشريف المرتضى يرى‬
‫تزيل الغموض عن المتشابه وتقربه من المحكم ‪ ،‬ولذلك يالحظ ّ‬
‫أن‬
‫في المتشابه معنى مشكوكاً يعارض األدلة العقلية‪ ،‬ويتعارض مع المحكم‪ ،‬فيحاول » ْ‬
‫يقضي على المعنى المشكوك فيه للفظ القرآن بروح علماء الكالم من المعتزلة‪ ،‬بحيث‬
‫يقرر لهذا اللفظ عن طريق المعجم اللغوي داللة تحول بادئ ذي بدء دون ذلك الشك «‪.2‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪376/16 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ جولد تسيهر‪ ،‬مذاهب التفسير اإلسالمي‪ ،‬ترجمة عبد الحليم النجار‪ ،‬مكتبة الخانجي‪،‬القاهرة‪، 1955 ،‬‬
‫ص ‪ 152‬ـ ‪.153‬‬
‫‪155‬‬
‫أن المتشابه يشتمل على تعمية في الداللة والتوصيل‪ ،‬وقد‬‫وال يعني ما سلف ّ‬
‫أن التعمية في التركيب‬ ‫أثيرت هذه التهمة قديماً َّ‬
‫ورد عليها القاضي عبد الجبار مؤكداً ّ‬
‫إن القاضي عبد الجبار ال ينفي عن‬ ‫تعني عدوالً عن البيان‪ ،‬وليس المتشابه كذلك‪ ،‬بل ّ‬
‫المتشابه ما أثير حولـه من تعمية فحسب‪ ،‬بل إنه يؤكد فسح المجال رحباً أمام المتلقي‬
‫ليكون المتشابه اكثر توكيداً وإبانة من أساليب األداء األخرى‪. 1‬‬
‫ومما يتميز به المتشابه ـ في هذا السياق ـ أنه يشتمل على دالالت متعددة‪،‬‬
‫بخالف المحكم الذي يدل على ظاهر ال خالف في ظاهريته‪ ،‬أما باطن المتشابه فتتعدد‬
‫فإن الشريف المرتضى يرى ّ‬
‫أن » أكثر المتشابه قد يحتمل‬ ‫معطياته‪ ،‬وتتلون أبعاده‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫الوجوه الكثيرة المطابقة للحق والموافقة ألدلة العقول«‪ ،2‬إذن يغلب على المتشابه ـ بعد‬
‫أن تعدد الدالالت ليس خارجاً عن الضوابط‪،‬‬ ‫تأويله ـ أكثر من داللة يكتنفها تركيبه‪ ،‬غير ّ‬
‫فهو من ناحية محكوم بمطابقة الحق‪ ،‬وبموافقته ألدلة العقول من ناحية ثانية ‪.‬‬
‫وقد تأسس التأويل للوفاء بحاجات عقائدية تنفي عن هللا صفات التشبيه‬
‫أن التأويل يخضع للمقومات العقلية فإنه يتكئ على مقومات‬
‫والتجسيم‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫لغوية‪ ،‬بحيث يتم تأويل المتشابه ـ فيما يذهب القاضي عبد الجبار ـ » على مذهب العرب‬
‫من غير تكلف وال تعسف « ‪3‬ومن هنا جاء الحديث عن طريقة المعتزلة في التأويل «فهم‬
‫يحملون العبارات الدالة على التشبيه التي ال يليق ظاهرها بمقام األلوهية على تأويالت‬
‫أبعد ما تكون عن اإليهام بالتشبيه مع تدعيم ذلك باألدلة اللغوية المستخدمة من الشعراء‬
‫القدماء أو لغة العرب القدماء »‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.375/ 16 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 442/1 ،‬‬
‫القاضي عبد الجبار بن أحمد‪،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪. 380/16 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 4‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1974 ،‬م‬
‫‪ ،‬ص ‪ 152‬ـ ‪.153‬‬
‫‪156‬‬
‫وقد أبدى الشريف المرتضى قدرة ومهارة في هذا السياق‪ » ،‬فكلما أمكن شرح‬
‫تعبير كثير االحتماالت من جهة العقيدة عن طريق علم مفردات اللغة على أنه مشترك‬
‫لفظي‪ ،‬أو بوساطة االعتماد على ظاهرة نحوية خاصة بذلك التعبير ال يجد نفسه مضط اًر‬
‫أن هذا أدخل في الفصاحة‬ ‫‪1‬‬
‫إلى األخذ بالتأويل الحقيقي « وقد قدر الشريف المرتضى ّ‬
‫أن الكالم يعمد فيه إلى تأويل المتشابه على‬
‫أن القاضي عبد الجبار يعتبر ّ‬
‫والبالغة‪ ،‬كما ّ‬
‫مذهب العرب » ْأزَيد في رتبة الفصاحة منه إذا كان محكماً«‪. 2‬‬
‫أن المعتزلة ذهبوا إلى الموازنة بين المحكم والمتشابه في‬
‫أمر أخير مفاده ّ‬‫بقى ٌ‬
‫أن يكون القرآن الكريم‬
‫أن كليهما يؤديان الوظيفة اإلعجازية‪ ،‬إذ ال يجوز ْ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬و ّ‬
‫أن يكون كله متشابهاً‪ ،‬ويفسر ذلك على أساس الوظيفة التوصيلية‪ ،‬ألنه‬ ‫كله محكماً‪ ،‬أو ْ‬
‫أن‬
‫لو كان على أسلوب واحد لقاد إلى تنفير المتلقي‪ ،‬ولذلك أشار القاضي عبد الجبار إلى ّ‬
‫القرآن الكريم لو كان جميعه محكماً » لكان إلى التنفير أقرب «‪. 3‬‬

‫‪ 1‬ـ جولد تسيهر‪ ،‬مذاهب التفسير اإلسالمي‪ ،‬ص ‪. 139‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪380/16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.376/16 ،‬‬
‫‪157‬‬
‫المجـــاز ‪:‬‬

‫من أجل فهم المجاز البد من اإلشارة إلى التواضع في اللغة‪ ،‬واإلشارة إلى‬
‫استعمال ما تواضع عليه الناس‪ ،‬فإذا استخدم اللفظ ليدل على المعنى الذي اتفق واصطلح‬
‫عليه كان االستخدام حقيقياً‪ ،‬أما إذا استخدم اللفظ بخالف ذلك لعالقة ما كان األداء فنياً‬
‫مجازياً‪ ،‬فاألداء النمطي الحقيقي يعني إجراء الكالم على أصل وضعه في اللغة‪ ،‬أو هو‬
‫ما أقر في االستعمال على أصل وضعه من اللغة‪ ،‬أما األداء الفني فهو » أن يستعمل‬
‫اللفظ في غير ما وضع له في األصل «‪.1‬‬
‫ويمثل األداء النمطي األصل الذي يتأسس في ضوئه األداء الفني متمثالً في‬
‫المجاز‪ ،‬وتتحدد العالقة بينهما في أن ينحرف المبدع بالداللة عن األداء النمطي انحرافاً‬
‫متعمداً لتأدية دالالت جمالية‪ ،‬وهذا االنحراف‪ ،‬أو االنتهاك المتعمد لألداء النمطي هو ما‬
‫جني ـ مثال ـ يرى ّ‬
‫أن المجاز يقع » ويعدل إليه عن‬ ‫أطلق عليه القدامى » العدول « فابن ّ‬
‫الحقيقة لمعان ثالثة « وكذلك القاضي عبد الجبار الذي يرى أنه يمكن في الحقائق »أن‬
‫يعدل عنها إلى المجاز في كتاب هللا «‪.2‬‬
‫وال يتأتى وجود المجاز دون حقيقة سابقة له‪ ،‬والبد ْ‬
‫أن يشتمل على داللة ذات‬
‫وجهين‪ ،‬ظاهرة وباطنة‪ ،‬ألنه لو » لم يجز استعمال اللفظ إال على وجه واحد فقد بطل‬
‫المجاز أصالً «‪ 3‬وهذا يضعنا أمام تشابك الداللة واستقاللها في آن‪ ،‬فمن حيث تشابكها‬
‫فإن التركيبين المجازي والحقيقي‬
‫فإن العبارة تنطوي على داللتين‪ ،‬وأما من حيث استقاللها ّ‬
‫ّ‬
‫يتجاوران‪ ،‬والبد من إرجاع المجاز » الفرع « إلى الحقيقة » األصل « وال يمكن أن يكون‬

‫ألن اللفظة ال يجوز أن تكون مجا اًز وال حقيقة لها‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫المجاز مجا اًز وال تسبقه حقيقة‪ّ » ،‬‬
‫أن لها حقيقة فوضعت في غير موضعها‪،‬‬ ‫التجويز باستعمال اللفظة في المجاز يقتضي ّ‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص‪.436‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬تنـزيه القرآن عن المطاعن‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪. 436‬‬
‫‪158‬‬
‫أن الحقيقة تمثل المادة في ضوء التفكير المنطقي‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫وأفيد بها غير ما وضعت به« بمعنى ّ‬
‫ويمثل المجاز صورتها ال على نحو المطابقة وإنما على نحو النقل‪ ،‬أي نقلها من شكل‬
‫أن المجاز إنما هو تغير في أبعاد‬
‫ثابت إلى آخر متغير من جهة الداللة‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫اللفظة الداللية‪.2‬‬
‫إن الحقيقة لها أسبقية الوجود من جهة أصل وضعها‪ ،‬ومن ثم استعمالها‪ ،‬فهي‬ ‫ّ‬
‫أن الحقيقة ثابتة مستقرة تحتفظ‬
‫سابقة متقدمة‪ ،‬وغيرها ـ أي المجاز ـ الحق متأخر‪ ،‬كما ّ‬
‫فإن المجاز غير موجود‬
‫بأصولها التي ال تفارقها وال تزايلها‪ ،‬فإذا كانت الحقيقة كذلك ّ‬
‫بذاته‪ ،‬وإنما وجوده كائن بغيره‪ ،‬فهو متأخر في الوجود‪ ،‬وال يمتلك استقالليته أو خصائصه‬
‫أن المجاز قابل للتغير والتفاوت‪،‬‬
‫الذاتية‪ ،‬وإنما يستمدها من الحقيقة السابقة عليه‪ ،‬كما ّ‬
‫بمعنى أنه متطور متغير ال ثبات له ‪.‬‬
‫أن األداء النمطي ـ الحقيقي ـ تتضح داللته‬
‫وهذا يقودنا إلى تقرير حقيقة مفادها ّ‬
‫دون حاجة إلى قرينة‪ ،‬ألنه ظاهر ال باطن له‪ ،‬أما األداء الفني ـ المجازي ـ فال يمكن‬
‫تحقيق وجوده وإدراك داللته وفهم أبعاده ومعطياته إال بقرينة تزيل الشبهة عن كونه حقيقة‬
‫جني ـ مثال ـ يؤكد ضرورة توافر القرينة في المجاز ليتمايز عن الحقيقة‪ ،‬ويعد‬‫‪ ،‬فابن ّ‬
‫القرينة دليالً يوضح الحال‪ ،‬أي حال كون األداء داالً على الحقيقة‪ ،‬أو داالً على المجاز‪،‬‬
‫أن القرينة تمثل مؤش اًر أو دليالً يسهم في تحديد الفوارق بين ما هو حقيقي وما‬
‫وهذا يعني ّ‬
‫هو مجازي ‪.‬‬
‫وينطوي األداء الفني ـ المجازي ـ على دالالت متعددة ويتضمن على نحو اللزوم‬
‫ظاه اًر وباطناً‪ ،‬أما ظاهره فمرفوض لدى المعتزلة لمعارضته األدلة العقلية واألصول‬
‫الفكرية‪ ،‬وأما باطنه فينطوي على إرجاع األداء الفني ـ المجازي ـ إلى أصله النمطي ـ‬
‫فإن األداء النمطي ـ الحقيقي ـ‬
‫الحقيقي ـ إما بتقدير أو حذف أو تأويل ونحوها ‪ ،‬ولذا ّ‬
‫يمثل » المستوى األساسي واألولى ـ من حيث الوجود ـ وهو أصل التعبير المجازي‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيدوالعدل‪. 209/7 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ شفيع السيد‪ ،‬التعبير البياني‪ ،‬رؤية بالغية ونقدية‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ 1977 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪159‬‬
‫ومرادفه الحرفي المباشر‪ ،‬وهو بمثابة المعنى الصحيح الذي يشير إليه المستوى الظاهري‬
‫للصورة المجازية على جهة التضمن واللزوم «‪.1‬‬
‫ألن الحقيقة تمثل األصل الذي‬
‫إذن فالعالقة بين الحقيقة والمجاز عالقة مجاورة‪ّ ،‬‬
‫أن المجاز نقل عن‬
‫جني‪ ،‬أو ّ‬‫يعدل عنه إلى الفرع ـ المجاز ـ كما هو الحال لدى ابن ّ‬
‫أن‬
‫أصل إلى فرع لتأدية داللة جمالية وبيانية كما هو الحال لدى الرماني‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫الحقيقة تمثل األصل الثابت المتقدم الذي يتفرع عنه المجاز‪ ،‬ويمثل األخير خصوصية في‬
‫إن‬
‫هذا المعنى العام‪ ،‬وبذلك تمثل الحقيقة المعيار الذي تخضع له تأويالت المجاز‪ ،‬بل ّ‬
‫إن لم‬
‫وجود المجاز ال يتحقق إال بها‪ ،‬وال يصح دراسة المجاز أو التمكن من تمثله وتلقيه ْ‬
‫نضع في االعتبار كون الحقيقة مجاو اًر آخر يوازيه أو يقاطعه‪ ،‬ويطل كل حين من ثنايا‬
‫تركيبه‪ ،‬وجوانب داللته ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه المجاورة الملزمة يفقد المجاز جانباً من ثراء األداء المستقل ألنه‬
‫ال يعدو »إمكانية من جملة إمكانيات يمكن إخراج المعنى على مقتضاها وينحصر دورها‬
‫في تجميله أو إضافة بعض الخصوصيات كالتأكيد والمبالغة وما اليها بدون أن تؤثر في‬
‫جوهره وتتفاعل معه تفاعالً يغدو بمقتضاه في عالقة تأثر وتأثير بالصياغة «‪.2‬‬
‫إن األداء النمطي ـ الحقيقي ـ ينطوي على داللة واحدة ظاهرة‪ ،‬في حين يدل‬
‫ّ‬
‫المجاز على معنى ظاهر‪ ،‬ليس هو مقصود المتكلم‪ ،‬ويدل في الوقت ذاته على معنى‬
‫باطن واحد في األقل‪ ،‬وهو الذي يدل عليه التركيب اللغوي في ضوء وجود القرينة‪ ،‬لفظية‬
‫أن هناك ثنائية داللية ال تكاد تفارق المجاز‪ ،‬وهي في الوقت نفسه‬
‫أو عقلية‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫ثنائية تركيبية‪ ،‬ففي المجاز يتجاور تركيبان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬ظاهري‪ ،‬والثاني ‪ :‬متخيل ُيقدره‬
‫َّ‬
‫المقدر األصل الذي يفسر الظاهري‪ ،‬أما من حيث‬ ‫المتلقي‪ ،‬ويمثل التركيب المتخيل‬
‫فإن األولى ـ المجازية الظاهرة ـ تنطوي على لبس وغموض‪ ،‬أما‬
‫الداللتين المتجاورتين‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ 2‬ـ حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬أسسه وتطوره حتى القرن السادس‪ ،‬مشروع قراءة‪ ،‬منشورات‬
‫الجامعة التونسية‪ ،‬تونس‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 422‬ـ ‪.423‬‬
‫‪160‬‬
‫المقدرة أو المتخيلة ـ أي الحقيقية ـ فهي التي تدل على المراد دون لبس‪ ،‬ولذا يضطر‬
‫َّ‬
‫المتلقي إلى إرجاع الداللة الظاهرة إليها‪ ،‬بحيث ال يتم إحضار إحداهما ـ اقصد الظاهرة ـ‬
‫أن‬
‫إال باألخرى‪ ،‬إذن فالظاهر يدل على الباطن‪ ،‬ويكتنفه ويحدد في الغالب أبعاده‪ ،‬كما ّ‬
‫فإن المتلقي يقدره ويقيس عليه الظاهر‪ ،‬ومن ثم يفك‬
‫الباطن موجود مع الظاهر‪ ،‬ولذا ّ‬
‫غموض الظاهر ويزيل عنه اللبس‪.‬‬
‫وتتجاوب هذه الثنائية من جهتي التركيب والداللة مع المقوالت المنطقية التي‬
‫يصدر عنها التفكير االعتزالي‪ ،‬فالمعتزلة ـ ومن تأثر بهم وأفاد منهم ـ يجعلون للمجاز‬
‫أصالً وفرعاً‪ ،‬وظاه اًر وباطناً‪ ،‬وتتجلى داللة هذه المكونات من خالل تتبع تحديد مفهوم‬
‫أن المجاز عدول‬ ‫جني والقاضي عبد الجبار بن أحمد يؤكدان ّ‬ ‫أن ابن ّ‬‫المجاز‪ ،‬فقد أسلفنا ّ‬
‫أن المجاز نقل عن الحقيقة‪ ،‬وسواء أكان المجاز عدوالً أم‬‫أن الرماني يؤكد ّ‬
‫عن الحقيقة‪ ،‬و ّ‬
‫أن هناك أصالً يعدل عنه أو ينقل منه إلى آخر‪ ،‬وهذه العملية التي يتم‬‫فإن هذا يعني ّ‬
‫نقالً ّ‬
‫بها العدول أو النقل إنما هي عملية قياسية تجعل عالقة ما بين األصل والفرع‪ ،‬والبد من‬
‫علة تربط وقرينة تمنع ‪.‬‬
‫ويتم العدول من الحقيقة إلى المجاز لتأدية داللة خصوصية إضافية‪ ،‬ولذلك فإننا‬
‫ـ فيما يرى ابن ّ‬
‫جني ـ » ال نترك الحقيقة إلى المجاز إال لضرب من المبالغة‪ ،‬ولوال ذلك‬
‫لكانت الحقيقة أولى من المجاز«‪ 1‬وإذا كانت المبالغة تعني تكبير المعنى‪ ،‬أي إضافة‬
‫دالالت ومعان أخر إلى التركيب أكثر مما ينطوي عليها في األصل‪ ،‬فإنها من هذه‬
‫الناحية أدخل في الفن‪ ،‬ومن هنا تتأتى أهميتها والعناية بها ‪.‬‬
‫وإذا كان المجاز يدخل بالداللة أحياناً إلى المبالغة‪ ،‬والمبالغة تعني تكبير المعنى‬
‫فإن هذا قد يكون موحياً بالكذب‪ ،‬وقد ورد هذا في التراث‪ ،‬مما قاد إلى رفض المجاز‬ ‫ّ‬

‫جني التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري‪ ،‬تحقيق أحمد ناجي القيسي‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫وخديجة الحديثي‪ ،‬وأحمد مطلوب‪ ،‬ومراجعة مصطفى جواد‪ ،‬مطبعة العاني‪ ،‬بغداد‪ 1383 ،‬هـ ــ‬
‫‪ 1962‬م‬
‫‪ ،‬ص ‪. 130‬‬
‫‪161‬‬
‫أن المجاز أخو الكذب والقرآن منـزه عنه »‪1‬وقد دفع هذا بابن قتيبة إلى الدفاع‬
‫بحجة « ّ‬
‫ألن اقتران المجاز بالكذب يعني إفساد أكثر الكالم ألنه » لو كان المجاز‬
‫عن المجاز ّ‬
‫كذباً ‪ ....‬لكان أكثر كالمنا فاسداً‪ ،‬ألنا نقول ‪ :‬نبت البقل‪ ،‬وطالت الشجرة‪ ،‬وأينعت الثمرة‪،‬‬
‫وأقام الجبل‪ ،‬ورخص السعر‪ ،‬ونقول كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا‪ ،‬والفعل لم يكن‬
‫كون« ‪ ،2‬ومن هذه الزاوية أيضا جاء دفاع المعتزلة عما يوحيه المجاز من بطالن‬
‫وإنما ّ‬
‫وغموض يكتنفان النص القرآني‪ ،‬كما أنهم يؤكدون ّ‬
‫أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز‬
‫ليس عج اًز في التعبير‪ ،‬وإال لكان القرآن الكريم ممثالً لهذا العجز لما يشتمل عليه من‬
‫مجازات ‪ ،‬وإنما هو أحد ألوان الغنى والثراء في األداء اللغوي ‪ ،‬فالمجاز ـ والحالة هذه ـ‬
‫»ليس كذباً إنه يقوم على حقيقة‪ ،‬بيد أننا تجوزنا في دالالت الكلمات كي تعبر عن هذه‬
‫الحقيقة تعبي اًر خاصاً يحدث أث اًر أقوى وأشد مما لو استخدمنا الكلمات استخداماً تجريدياً‬
‫تبعاً ألصلها الذي وضعت له «‪.3‬‬
‫ومن هنا تأتت العناية بالمجاز ألنه يؤكد قضية عقائدية لدى المعتزلة‪ ،‬مفادها‬
‫نفي التشبيه والتجسيم عن هللا‪ ،‬كما أنه ينطوي على جوانب جمالية عديدة ‪ ،‬وتتجلى‬
‫مظاهر أسلوب المجاز أحياناً من خالل ضروب الحذف واالختصار‪ ،‬ولذلك ألفينا الشريف‬
‫المرتضى يعنى بهذه الضروب‪ ،‬ويلزم إمكانية تقدير المحذوف في حالة كونه ظاه اًر وإال‬
‫سيكون مختلطا بالحقيقة ‪ ،‬ولما كان المعتزلة يميلون إلى الفصل بين األشياء والظواهر‬
‫إلى درجة التحدد والوضوح فإنهم شغلوا كثي اًر في وضع الفوارق بين الحقيقة والمجاز‪،‬‬
‫اء‬
‫وعمدوا إلى الفصل بينهما وتحديد أيهما اكثر فصاحة وبالغة‪ ،‬ففي قوله تعالى » َو َج َ‬
‫‪4‬‬
‫أمر ربك «‬ ‫صًّفا« يرى المعتزلة ّ‬
‫أن هذا تركيب مجازي حقيقته »وجاء ُ‬
‫ُّك واْلمَل ُك ًّ‬
‫ص فا َ‬
‫َ‬ ‫َرب َ َ َ‬

‫‪ 1‬ـ السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪. 36/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن قتيبة تأويل مشكل القرآن‪ ،‬تحقيق السيد أحمد صقر‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪،‬‬
‫القاهرة‪1373 ،‬ه ‪ ،‬ص ‪. 99‬‬
‫‪ 3‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة الفجر‪ ،‬آية ‪. 22:‬‬
‫‪162‬‬
‫ويعد الشريف المرتضى التركيب القرآني أكثر أهمية وقيمة من الناحيتين الداللية والجمالية‬
‫ألنه » قلل بحذف بعضه ومعانيه بحالها« ‪. 1‬‬
‫ولم يقتصر بحث المعتزلة على المجاز وطبيعته والفوارق التي تميزه عن‬
‫الحقيقة‪ ،‬ولكنهم شغلوا أيضاً بالمعاني التي يخرج إليها المجاز‪ ،‬وتتحدد معاني المجاز عند‬
‫جني ‪ :‬باالتساع‪ ،‬والتوكيد‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬ويضرب لذلك مثال بقول الرسول الكريم صلى‬
‫ابن ّ‬
‫هللا عليه وسلم في وصفه الفرس بأنه بحر‪ ،‬فهو يشتمل على معاني المجاز سالفة الذكر‪،‬‬
‫فأما االتساع فإنه » زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر « ‪،‬‬
‫وأما التشبيه فإن » جريه يجري في الكثرة مجرى مائه « وأما التوكيد الذي يقرنه أحيانا‬
‫بالمبالغة فإنه «شبه العرض بالجوهر وهو أثبت في النفوس منه«‪.2‬‬
‫جني لذلك بأمثلة عديدة منها قول الشاعر ‪:‬‬
‫ويستشهد ابن ّ‬

‫المتغلغال‬ ‫حبها‬
‫ّ‬ ‫إليها‬ ‫شكوت‬
‫ُ‬

‫تدلال‬ ‫إال‬ ‫شكواي‬ ‫زادها‬ ‫فما‬

‫ألن التغلغل وصف‬


‫فالمتغلغل في األصل ليس وصفاً للحب‪ ،‬ولذلك عدل عنه إلى غيره‪ّ ،‬‬
‫«يخص الجواهر ال األحداث « ومن هنا يأتي االتساع‪ ،‬ألنه عدل بالوصف عن أصل ما‬
‫وضع له‪ ،‬أما التشبيه فإنه » شبه ما ال ينتقل ويزول بما ينتقل ويزول « وأما التوكيد الذي‬
‫قرنه هنا بالمبالغة فألنه »أخرجه عن ضعف العرضية إلى قوة الجوهرية «‪. 3‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.311/2 ،‬‬


‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 442/2 ،‬ـ ‪.444‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.444/2 ،‬‬
‫‪163‬‬
‫جني إلى المقارنة الكمية بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬إذ يرى ّ‬
‫أن‬ ‫وقد دفع هذا ابن ّ‬
‫ألن‬
‫الغالب في اللغة هو المجاز‪ ،‬وكأنه ينبئ عن ربط اللغة في نشأتها ببعد أسطوري‪ّ ،‬‬
‫اللغة ال تنفصل في أصل وضعها » عن اعتقاد اإلنسان في األشياء‪ ،‬وهو اعتقاد‬
‫أسطوري‪ ،‬الغلبة فيه للمجاز ال للحقيقة‪ ،‬ومن ثم كان المجاز أسبق من الحقيقة « ‪. 1‬‬
‫أن تفشيه‬
‫جني استدالله بغلبة المجاز إلى التأمل العقلي‪ ،‬الذي أكد ّ‬
‫ويرجع ابن ّ‬
‫وشيوعه سيلحقه بالحقيقة‪ ،‬أي أنه يفقد مجازيته بسبب التكرار المستمر إلى درجة ال نحس‬
‫بأنه مجاز ـ فيما يقول اولمان ـ وفي هذا المعنى جاء القول التقليدي بان اللغة قاموس من‬
‫المجازات التي فقدت مجازيتها بالتدريج‪. 2‬‬
‫جني يوسع دائرة المجاز لتكون األفعال‪ ،‬كل األفعال‪،‬‬
‫فإن ابن ّ‬
‫وتأسيسا على هذا ّ‬
‫ألن الفعل » يفاد منه‬
‫مجا اًز ال حقيقة‪ ،‬معتمداً بذلك على ما يفيد الجنس من داللة العموم‪ّ ،‬‬
‫معنى الجنسية‪ ،‬فقولك ‪ :‬قام زيد‪ ،‬معناه ‪ :‬كان منه القيام‪ ،‬أي هذا الجنس من الفعل ‪...‬‬
‫والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع اآلتي من الكائنات من كل من وجد‬
‫منه القيام «‪.3‬‬
‫جني توافرها في‬
‫وتتأتى في مجازية الفعل المعاني المختلفة التي اشترط ابن ّ‬
‫ألن زيدًا‬
‫التركيب الذي يعدل فيه عن الحقيقة إلى المجاز‪ ،‬فـ » قام زيد « مجاز ال حقيقة‪ّ ،‬‬
‫لم يقع منه جنس القيام‪ ،‬ومن هنا تتأتى المعاني المختلفة التي يشتمل عليها التركيب‬
‫المجازي ألنه يدل على »وضع الكل موضع البعض لالتساع والمبالغة وتشبيه القليل‬
‫بالكثير «‪. 4‬‬

‫‪ 1‬ـ لطفي عبد البديع التركيب اللغوي لالدب‪ ،‬بحث في فلسفة اللغة واالستطيقا‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪،‬‬
‫القاهرة‪ 1970 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ 2‬ـ أولمان‪ ،‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ترجمة كمال بشر‪ ،‬مكتبة الشباب القاهرة‪ 1975 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫جني‪ ،‬الخصائص‪ 447/2 ،‬ـ ‪.448‬‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪.448/2 ،‬‬
‫‪164‬‬
‫أن الجنس‬
‫جني الفعل إلى االسم‪ ،‬ويصدر عن التصور نفسه في ّ‬ ‫ويتجاوز ابن ّ‬
‫فإن‬
‫هو الذي يخرج بالتركيب من الحقيقة إلى المجاز‪ ،‬ففي قولهم »خرجت فإذا األسد « ّ‬
‫جني ـ » تعريف الجنس‪ ،‬كقولك األسد أشد من الذئب‪ ،‬وأنت ال‬ ‫التعريف ـ فيما يرى ابن ّ‬
‫أن هذا المثال يتضمن معاني المجاز ‪:‬‬ ‫تريد أنك خرجت وجميع األ ُْسد«‪1‬ويرى ابن ّ‬
‫جني ّ‬
‫االتساع والتوكيد والتشبيه » أما االتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد‪،‬‬
‫بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة‪ ،‬وأما‬
‫وأما التوكيد فألنك عظمت قدر الواحد ّ‬
‫ألن كل واحد منها مثله في كونه أسداً « ‪. 2‬‬
‫التشبيه فألنك شبهت الواحد بالجماعة‪ّ ،‬‬
‫وفي ضوء هذا يمثل المجاز لوناً من الثراء الداللي‪ ،‬فهو يضيف إلى اللغة‬
‫ويغنيها‪ ،‬ويمثل االتساع أحد الوظائف التي يؤديها المجاز‪ ،‬بمعنى أنه يمثل خاصية من‬
‫خواص التغير والتطور اللذين تخضع لهما اللغة في مراحل نموها العديدة‪ ،‬ولذا فالمجاز ال‬
‫يتسم بطابع الثبات والتحدد ولكنه خاضع للتغير الذي تمر به اللغة على نحو من األنحاء‪،‬‬
‫لدرجة انه بتطورها يتحول بعض المجاز إلى حقيقة‪ ،‬إما ألنه يصبح مألوفاً بالتكرار‪ ،‬وإما‬
‫ألنه يصبح ميتاً ال يستخدم‪ ،‬فيفقد إحساسنا بالدهشة بمقدار الفرق بين أدائه واألداء اليومي‬
‫المعتاد ‪.‬‬
‫أن المجاز أخذت داللته االصطالحية في الضيق والتحدد في‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫القرن الرابع الهجري‪ ،‬في بيئة المعتزلة فإننا نلحظ لدى ابن ّ‬
‫جني ـ في بعض جوانب تفكيره‬
‫ـ رواسب المصطلح المجازي الذي ينطوي على لون من العموم كما هو عند أبي عبيدة‬
‫في كتابه » مجاز القرآن « وكما هو عند الفراء في كتابه »معاني القرآن « ‪ ،‬كما أننا‬
‫إن كان شقيقه الشريف الرضي يحذو في‬
‫نلحظ ذلك بشكل أقل لدى الشريف المرتضى‪ ،‬و ْ‬
‫المجازات القرآنية والنبوية حذو أبي عبيدة والفراء ‪.‬‬
‫جني في المجاز كثي اًر مما اصطلح عليه » شجاعة العربية « في‬
‫ويدخل ابن ّ‬
‫الحذوف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف‪ ،‬وهو في تصوره هذا‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 449/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.449/2 ،‬‬
‫‪165‬‬
‫يقترب من التصورات السائدة في القرنين الثاني والثالث الهجريين‪ ،‬حين كانت تحيط‬
‫بالمجاز أبحاث لغوية عديدة‪ ،‬وهذا من شأنه أن يعيد إلى األذهان اختالط المجاز بغيره‬
‫في مراحل نشأة مفهومه وتطوره عند أبي عبيدة والفراء والجاحظ وأضرابهم ‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫التشبيه ‪:‬‬

‫) ‪ ( 1‬طبيعة التشبيه ‪:‬‬

‫أما التشبيه فقد أواله نقاد القرن الرابع الهجري جانباً كبي اًر من عنايتهم‪ ،‬وكان‬
‫للغويين دورهم فيه‪ ،‬وعلى الرغم من أننا لسنا حريصين على المتابعة لتطور تأصيل‬
‫فإن حرصنا ينصب على الكشف عن مكونات التشبيه ورموزه ‪ ،‬ويتحدد التشبيه‬ ‫التشبيه‪ّ ،‬‬
‫بأنه عقد تسهم أداة التشبيه بتحقيقه بين عنصري التشبيه‪ ،‬ويعني العقد » ّ‬
‫أن أحد الشيئين‬
‫يسد مسد اآلخر في حس أو عقل «‪ 1‬أي عقد بين شيئين في القول‪ ،‬أو هو مقاربة بينهما‬
‫في الهيئة أو الشكل‪ ،‬أو » دنو في المعنى‪ ،‬أي مقاربة واضحة بين األشياء أو العالقات‬
‫التي تنتمي إلى عالمنا المحسوس« ‪.2‬‬
‫ويمكننا تمثل التشبيه من خالل العالقة بين عنصريه‪ ،‬أعني المشبه والمشبه به‪،‬‬
‫وهما العنصران اللذان شغال النقاد كثي اًر ‪ ،‬ويمكن تصنيف العالقة بين هذين العنصرين‬
‫على النحو التالي ‪:‬‬
‫المطابقة بين عنصري التشبيه ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المقارنة بينهما ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫تماثل من بعض الوجوه بينهما ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أما تشبيه المطابقة فيلمح إليه الرماني والشريف المرتضى‪ ،‬إذ يرى الرماني في‬
‫التشبيه الحسي أن يقوم » أحدهما مقام اآلخر « أو كونه »تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما‬
‫‪ ...‬كتشبيه الجوهر بالجوهر وتشبيه السواد بالسواد « ‪ 3‬أو أن تكون المطابقة ـ فيما يرى‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 80‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Levin The Semantics Of Metaphor , The Johns Hopkins University Press ,1977‬‬
‫‪p 135‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪167‬‬
‫الشريف المرتضى ـ في التشبيه الصحيح الذي يشبه أحد عنصري التشبيه اآلخر » في‬
‫أكثر أحواله « وإذا حصل هذا » فقد صح التشبيه والق به « ‪ 1‬والمطابقة ال تعني أن‬
‫يكون المشبه به هو ذات المشبه‪ ،‬ألننا سنكون إزاء الشيء ذاته‪ ،‬ولسنا أمام عنصرين ال‬
‫إن مفهوم المطابقة ال يدل على التوحد واالندماج ‪.‬‬
‫بد أن يختلفا نسبياً‪ ،‬بل ّ‬
‫أما المقارنة بين عنصري التشبيه فهي أدون في الدرجة من المطابقة‪ ،‬بمعنى أن‬
‫يتوافر عدد من الصفات أو األحوال أو المعاني بين المشبه والمشبه به‪ ،‬إذ يتحقق التشابه‬
‫من خالل المقارنة بين عنصري التشبيه وتماثلهما من جهة التصوير الحسي ومن جهة‬
‫المعنى‪ ،‬وهذا هو الذي تحدث عنه الشريف المرتضى بقوله ‪ » :‬إن الشيء إنما يشبه‬
‫ألن‬ ‫‪2‬‬
‫أن هذا ال يعد المثال الذي ينشده الناقد ّ‬
‫الشيء إذا قاربه أو دنا من معناه « على ّ‬
‫الشيء اآلخر » في أكثر أحواله «‬
‫َ‬ ‫الشيء‬
‫ُ‬ ‫األصل لديه أن تتم المطابقة بحيث يشبه‬
‫وعندها يقال » صح التشبيه والق به « ‪.‬‬
‫وإذن فالتشبيه ينطوي على عالقة مقارنة في الشكل ودنو في المعنى‪ ،‬وهذا يعني‬
‫تالقياً في حالة أو هيئة ونحوها‪ ،‬وهذا التالقي يرجع ـ في الحقيقة ـ » إلى األشكال‬
‫والهيئات الخارجية ويقوم على مالحظة نوع من النسبة المنطقية بين األطراف المقارنة‬
‫أكثر ما يقوم على ما يمكن أن نسميه بالتناسب النفسي الذي ينبع من المواقف‬
‫واالنفعاالت النفسية التي يتشكل منها نسيج التجربة الشعرية «‪. 3‬‬
‫أن الجرجاني ُّ‬
‫يحد التشبيه في الوساطة بتماثل عنصري التشبيه‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫بالصورة والصفة والحال والطريقة ‪ 4‬فإنه يميل إلى تصور الشريف المرتضى‪ ،‬أي يجعل‬
‫المطابقة تكاد تكون تامة بين المشبه والمشبه به‪ ،‬لدرجة تجعل » أحد الشيئين هو اآلخر‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 95/2 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪. 209‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 471‬‬
‫‪168‬‬
‫زل الفوارق بين عنصري‬ ‫‪1‬‬
‫« ‪ ،‬وهذا التصور ـ عند الجرجاني والشريف المرتضى ـ لم ُي ْ‬
‫التشبيه‪ ،‬إذ ال يزاالن يحتفظان بخصائصهما وسماتهما المميزة‪ ،‬وال يزاالن قائمين‪ ،‬غاية ما‬
‫أن عنصري التشبيه » ال تتداخل معالمهما وال يتوحد‬‫في األمر أنهما يتجاوران‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أي منهما أو يتفاعل مع اآلخر‪ ،‬بل يظل هذا غير ذاك ومتماي از عنه « ‪. 2‬‬
‫وقد استخدم الجرجاني في وساطته المقاربة في التشبيه واحدة من المعايير التي‬
‫أن أبا أحمد العسكري أكد أهمية هذا النمط من التشبيه في‬
‫ُيفاضل فيها بين الشعراء‪ ،‬كما ّ‬
‫أثناء تصنيفه ألنواع التشبيه‪ ،‬فمن التشبيه ‪ :‬المفرط‪ ،‬ومنه ‪ :‬المحتاج إلى التفسير‪ ،‬وهناك‬
‫التشبيه المصيب والتشبيه المقارب‪. 3‬‬
‫إن المطابقة غير التامة والمقاربة في التشبيه يقتضيان تماثالً في عدد كبير من‬
‫الصفات واألحوال والمعاني بين عنصري التشبيه‪ ،‬وهو دون شك يكّلف المبدع جهداً وعنتاً‬
‫من ناحية‪ ،‬كما أنه يمثل من ناحية أخرى لوناً من السطحية التي تقتضي شبها تاما بين‬
‫عنصري التشبيه لدرجة أنه ال ُيبده المتلقي‪ ،‬وال يزوده بجديد معرفة‪ ،‬حتى ّ‬
‫إن دالالته‬
‫الرمزية تكون ضامرة وهزيلة ‪.‬‬
‫أما تماثل عنصري التشبيه من بعض وجوهما فهو أغنى درجات التشبيه فيما‬
‫يبدو‪ ،‬ويتجلى ذلك من خالل تماثل عنصري التشبيه بالصورة والصفة‪ ،‬أو بتماثل الحال‬
‫والطريقة‪ ،‬فيما يرى ذلك الجرجاني‪ ،4‬أو أن يتم التماثل بين عنصري التشبيه » لمعنى‬
‫يجمعهما مشترك بينهما ‪ ....‬كتشبيه الشدة بالموت‪ ،‬والبيان بالسحر الحالل « ‪ 5‬أو أن‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 44‬‬


‫‪ 2‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬المصون في األدب‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬دائرة المطبوعات والنشر‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪ 1960‬م ‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 471‬‬
‫‪ 5‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 74‬ـ ‪. 75‬‬
‫‪169‬‬
‫يكون تشبيه »الشيء بغيره من بعض وجوهه «‪ 1‬فيما يرى ذلك الشريف المرتضى‪ ،‬ويرجع‬
‫تأصيله هذا إلى العرب وعاداتهم في أنهم يشبهون » المرأة بالظبية والبقرة‪ ،‬ونحن نعلم ّ‬
‫أن‬
‫في الظباء والبقر من الصفات ما ال يستحسن أن يكون في النساء‪ ،‬وإنما وقع التشبيه في‬
‫صفة دون صفة‪ ،‬ومن وجه دون وجه «‪. 2‬‬
‫وإذا كان الشريف المرتضى قد أرجع التماثل بين عنصري التشبيه إلى طريقة‬
‫فإن أبا أحمد العسكري يرجعه إلى ما ألفه الناس‪ ،‬أو ما أخذوه عن أصل‪ ،‬كأن‬ ‫العرب ّ‬
‫«يشبهون عين المرأة وعين الرجل بعين الظبية أو البقرة الوحشية‪ ،‬واألنف بحد السيف‪،‬‬
‫والفم بالخاتم‪ ،‬والشعر بالعناقيد‪ ،‬والعنق بإبريق فضة «‪.3‬‬
‫أن المقارنة والعقد ليسا مطلقين بحيث‬
‫إن خضوع التشبيه للعرف واالعتياد يعني ّ‬
‫ّ‬
‫ي مكن للشاعر أن يوقع االئتالف بين الشيئين لمجرد تصور ذهني أو شكلي أو وجداني‬
‫أن يخضع لما‬‫إن التشبيه ينبغي ْ‬
‫لديه‪ ،‬وإنما تقع المقارنة تحت تأثير العرف االجتماعي‪ ،‬و ّ‬
‫عد ما خرج‬
‫وي ّ‬
‫ألفه الشعراء واعتادوا عليه‪ ،‬ولذا يخضع جمال التشبيه لهذا المعيار المتغير‪ُ ،‬‬
‫وكأن العقل الجمعي قد ولد صورة للتشبيه درج عليها الناس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عليه غريباً وقبيحاً مبتذالً‪،‬‬
‫أن الخروج عليها يعد خرقاً لقيمة إنسانية وجمالية في آن واحد‪ ،‬ولذلك الحظنا الشريف‬ ‫وّ‬
‫المرتضى يعيب على من يشبه »الشعر الذي ابيض بعضه وباقيه أسود بالغراب األبقع «‬
‫ألن الشعراء قد شبهت‬‫ويعده من التشبيه المبتذل‪ ،‬أوالً ‪ :‬لغرابته وعدم تداوله‪ ،‬وثانياً ‪ّ » :‬‬
‫الشباب بالغراب والغداق وأكثرت من ذلك‪ ،‬وما ورد تشبيه الشيب الممتزج بالسواد بالغراب‬
‫األبقع « ‪. 4‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 26/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.26/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬المصون في األدب‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ 4‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بيروت‪ 1982 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪170‬‬
‫) ‪ ( 2‬وظيفة التشبيه ‪:‬‬

‫وتتجلى وظيفة التشبيه عند الرماني‪1‬في الخروج من الغموض إلى الوضوح‪ ،‬وتُمثل‬
‫اإلبانة الهدف الذي من أجله عقدت المقارنة بين عنصرين أو أكثر‪ ،‬ويكمن الغموض ـ‬
‫مثال ـ في معنى حسي‪ ،‬أو غير مألوف‪ ،‬أو ما لم يدرك بداهة‪ ،‬أو ما ليس له قوة في‬
‫الصفة‪ ،‬ومن أجل الخروج من حاالت الغموض هذه عقدت المقارنة بالتشبيه‪ ،‬للوصول‬
‫إلى الحسي والمألوف والمدرك بداهة أو ماله قوة في الصفة‪ ،‬ففي اآليـة القرآنية الكريمة‬
‫اءهُ َل ْم َي ِج ْدهُ َش ْيًئا َوَو َج َد‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫اب ِب ِق ٍ‬
‫َعماُلهم َكسر ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫اء َحتى إ َذا َج َ‬
‫آن َم ً‬
‫يعة َي ْح َسُب ُه الظ ْم ُ‬
‫َ‬ ‫ين َكَف ُروا أ ْ َ ُ ْ َ َ‬ ‫« َوالذ َ‬
‫يع اْل ِح َسابِ «‪ 2‬قد أخرج ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع‬ ‫َّللاَ ِع ْن َدهُ َف َوَّفاهُ ِح َس َاب ُه َو َّ‬
‫َّللاُ َس ِر ُ‬ ‫َّ‬
‫عليه‪ ،‬ويؤكد الرماني الوظيفة التعبيرية للتشبيه إذ يرى ّ‬
‫أن الصورة اكثر وضوحا بعد عقد‬
‫المقارنة بين أعمال الذين كفروا والسراب‪.‬‬
‫أن الرماني قد أكد في التشبيه السالف على الجانب الحسي‬ ‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫وعني بوظيفة اللفظة من ناحية أخرى‪ ،‬فهو يدرك قيمة استخدام كلمة‬ ‫من ناحية‪ُ ،‬‬
‫»الظمآن«‪ ،‬ويعي بالغتها بالقياس إلى غيرها إذا استبدلت ـ مثال ـ بـ »الرائي« لما له من‬
‫أن كلمة » الرائي «‬
‫عالقة باألثر النفسي الذي تحدثه لفظة » الظمآن « ويؤكد الرماني ّ‬
‫ألن الظمآن أشد حرصا عليه وتعلق قلب‬‫بليغة في موضعها‪ ،‬وأبلغ منها » لفظ القرآن‪ّ ،‬‬
‫به«‪. 3‬‬
‫إن جمال التشبيه في اآلية الكريمة قد تجلت أبعاده بسبب الخروج من غير‬
‫ّ‬
‫المحسوس إلى المحسوس يقول الرماني ‪ » :‬وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن‬
‫التشبيه‪ ،‬فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ‪ ،‬وكثرة الفائدة‪ ،‬وصحة‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 75‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة النور‪ ،‬آية ‪. 39 :‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪171‬‬
‫أن التشبيه قد أدى وظيفة إيضاحية في تقريب الشبه بالحسي ولكنه ـ‬ ‫‪1‬‬
‫الداللة « فهو يعي ّ‬
‫في الوقت نفسه ـ يضفي أبعاداً أخرى‪ ،‬منها ما يتصل باللفظ‪ ،‬ومنها ما يتصل بالمعنى‪،‬‬
‫فمن جهة اللفظ يتحدث الرماني عن الطرائق الحسنة التي تتناسق فيها األلفاظ مع عالئق‬
‫ذلك فيما يدل عليه النظم‪ ،‬وقد فطن الرماني إلى العالقات التي تشد األلفاظ إلى بعضها‪،‬‬
‫وهو ماتضمنه كالمه عن النظم وحسنه‪ ،‬ولكنه لم يغفل األلفاظ مستقلة عن بعضها‪ ،‬من‬
‫حيث عذوبة اللفظة‪ ،‬أو من حيث المفاضلة بين كلمة وأخرى‪ ،‬كما هو الحال في مفاضلته‬
‫بين الظمآن والرائي ‪ ،‬أما من جهة المعنى فيتركز في كثرة الفائدة وصحة الداللة‪ ،‬فالكثرة‬
‫تعني تكثيف العبارة لتدل على العديد من الدالالت‪ ،‬وتعني صحة الداللة إصابة الحقيقة‪،‬‬
‫وكأن الحقيقة ـ من هذه الزاوية في التشبيه ـ تعني مطابقة الواقع أو محاكاته ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أما إخراج ما لم تجربه عادة إلى ما قد جرت به ففي قوله تعـالى ‪َ » :‬وإِ ْذ َنتَْق َنا‬
‫اك ْم ِبُق َّوٍة َوا ْذ ُك ُروا َما ِفي ِه َل َعَّل ُك ْم‬
‫ظنُّوا أََّن ُه َو ِاق ٌع ِب ِه ْم ُخ ُذوا َما آتَْي َن ُ‬
‫ظَّل ٌة َو َ‬
‫اْل َجَب َل َف ْوَق ُه ْم َكأَنَّ ُه ُ‬
‫تَتَُّقو َن«‪2‬ويرى الرماني أنهما اجتمعا في معنى االرتفاع في الصورة‪ ،3‬وأما تشبيه ما ال‬
‫السم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اء‬ ‫ض َها َك َع ْرض َّ َ‬ ‫يعلم بالبديهة إلى ما ال يعلم بها‪ ،‬ففي قوله تعالى ‪َ » :‬و َجَّنة َع ْر ُ‬
‫ظم‪ ،5‬وأما إخراج ما ال‬ ‫اهللِ ورسلِ ِه «‪4‬وقد اجتمعا هنا في ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫واألَر ِ ِ‬
‫الع َ‬ ‫آمُنوا ب َّ َ ُ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫ض أُعَّد ْت للذ َ‬ ‫َ ْ‬
‫آت ِفي اْل َب ْح ِر‬ ‫نش ُ‬‫قوة له في الصفة إلى ماله قوة فيها فمنه قوله تعالى ‪َ » :‬وَل ُه اْل َج َو ِاري اْل ُم َ‬
‫ظم ‪. 7‬‬ ‫َكاألَع َال ِم « ‪6‬ويرى الرماني أنهما قد اجتمعا في ِ‬
‫الع َ‬ ‫ْ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 75‬ـ ‪.76‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة األعراف‪ ،‬آية ‪. 171 :‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 77‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة الحديد‪ ،‬آية ‪. 21 /‬‬
‫‪ 5‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 77‬‬
‫‪ 6‬ـ سورة الرحن‪.24 ،‬‬
‫‪ 7‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪172‬‬
‫ويؤكد الرماني اجتماع عنصري التشبيه في صفة ما فهي »الهالك وعدم االنتفاع‬
‫َّ ِ‬ ‫‪1‬‬
‫َع َماُل ُه ْم‬ ‫ين َكَف ُروا ِب َرِّب ِه ْم أ ْ‬
‫والعجز عن االستدراك لما فات « في قوله تعالى ‪َ » :‬مَث ُل الذ َ‬
‫ف« ‪ ، 2‬أو هي » شـدة اإلعجاب ثم في التغيير‬ ‫اص ٍ‬ ‫الريح ِفي يو ٍم ع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َك َرَم ٍاد ْ‬
‫َْ َ‬ ‫اشتََّد ْت ِبه ِّ ُ‬
‫ِ‬ ‫‪3‬‬
‫اعَل ُموا أََّن َما اْل َح َياةُ ال ُّد ْن َيا َلع ٌب َوَل ْهٌو َوِز َين ٌة َوتََف ُ‬
‫اخٌر َب ْي َن ُك ْم‬ ‫باالنقالب « في قـولـه تعـالى ‪ْ » :‬‬
‫َع َج َب اْل ُكَّف َار َن َباتُ ُه « ‪ ،4‬أو هي االجتماع في‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وتَ َكاثُر ِفي األَمو ِ‬
‫ال َواألأ َْوَالد َك َمَث ِل َغ ْيث أ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ٌ‬
‫وها َك َمَث ِل اْل ِح َم ِار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫‪5‬‬
‫ين ُح ّمُلوا التَّْوَرَاة ثُ َّم َل ْم َي ْحمُل َ‬
‫الجهل بما حمال في قوله تعالى ‪َ » :‬مَث ُل الذ َ‬
‫ان ِم ْن‬ ‫نس َ‬ ‫ِ‬ ‫‪7‬‬
‫ار « ‪ ،‬أو هي في الرخاوة والجفاف في قوله تعالى ‪َ » :‬خَل َق ْاإل َ‬
‫يح ِمل أَسَف ا ‪6‬‬
‫َْ ُ ْ ً‬
‫ال َكاْلَف َّخ ِار «‪. 8‬‬
‫صْلص ٍ‬
‫َ َ‬
‫ونلتقي بتصور آخر يجعل الخروج من الوضوح إلى الغموض أكثر بالغة‪ ،‬ففي‬
‫ين « ‪9‬‬ ‫الشي ِ‬
‫اط ِ‬ ‫وس َّ َ‬
‫طْل ُع َها َكأََّن ُه ُرُء ُ‬
‫تحليل القاضي عبد الجبار لآلية القرآنية الكريمة » َ‬
‫يتكئ على مذهب العرب في الرجوع إلى اللغة واالعتياد‪ ،‬أي ما اعتاده أهل اللغة‪ ،‬فهو‬
‫أن خلق الشياطين فيه تشويه وفي الطبع عنه‬ ‫يرى ّ‬
‫أن أهل اللغة إذا عرفوا في الجملة » ّ‬
‫نفار‪ ،‬لم يمنع أن يزجرهم عن المعاصي بذكر النار وأطعمتها ويشبه طلعها بذلك « ‪،10‬‬
‫أن مرد ذلك عائد إلى سيطرة فكرة وضوح المشبه به‪ ،‬لكي يخرج بالصورة التشبيهية‬
‫ويبدو ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 76‬‬


‫‪ 2‬ـ سورة ابراهيم‪ ،‬آية ‪. 18 :‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 77‬‬
‫‪ 4‬ـ سورة الحديد‪ ،‬آية ‪. 20 :‬‬
‫‪ 5‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 78‬‬
‫‪ 6‬ـ سورة الجمعة‪ ،‬آية ‪. 5 :‬‬
‫‪ 7‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 78‬‬
‫‪ 8‬ـ سورة الرحمن‪ ،‬آية ‪.14 :‬‬
‫‪ 9‬ـ سورة الصافات‪ ،‬آية ‪. 65 :‬‬
‫‪ 10‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪406/16 ،‬‬
‫‪173‬‬
‫ألن‬
‫من الغموض إلى الوضوح ‪ ،‬وقد تحولت هذه الصورة إلى مزية للنص القرآني‪ّ ،‬‬
‫الصورة الفنية التشبيه في هذه األمور »يذهب القلب فيها مذاهب مختلفة لخروجها عن‬
‫طريق المشاهدة «‪ ،1‬ولذا فهي أكثر جماالً وبالغة ‪.‬‬
‫جني إلى تصور آخر يختلف فيه عن اآلخرين‪ ،‬حين يقرن بين‬ ‫ويلتفت ابن ّ‬
‫طبيعة التشبيه من ناحية‪ ،‬وتأكيد الداللة من ناحية ثانية‪ ،‬ونوع أداة التشبيه من ناحية‬
‫أن هناك ثالثة أنماط في التشبيه تتحدد داللتها من حيث التركيب‪ ،‬ومن‬‫ثالثة‪ ،‬فهو يرى ّ‬
‫حيث استخدام األداة على النحو التالي ‪:‬‬
‫زيد كعمرو‪ ،‬وهي أدنى درجات المماثلة‪ ،‬وقد استخدمت فيها الكاف أداة للتشبيه ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫إن زيداً كعمرو‪ ،‬وفي هذا النمط تأكيد الداللة السابقة‪ ،‬أي تأكيد مشابهة زيد‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫لعمرو‪.‬‬
‫كأن زيداً عمرو‪ ،‬وهذا النمط يفيد » المبالغة في توكيد التشبيه« فقد تقدمت أداة‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫التشبيه » الكاف « في أول الكالم عناية بها في عبارة » إن زيداً كعمرو « »‬


‫ان « ألنها ينقطع عنها ما‬
‫فلما تقدمت الكاف وهي جارة لم يجز أن يباشر » ّ‬
‫كأن زيداً عمرو«‪. 2‬‬
‫قبلها من العوامل‪ ،‬فوجب لذلك فتحها فقالوا ‪ّ :‬‬
‫جني بتغاير الداللة في التشبيه سواء أكان في االستخدام العادي‬
‫ولقد عني ابن ّ‬
‫أن‬
‫أم في المبالغة فيه‪ ،‬ويبدو تأثر الداللة بالتراكيب األسلوبية المختلفة‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫جني فطن إلى تغاير الداللة في التشبيه‪ ،‬وتغير مكان أداة التشبيه في التراكيب‬ ‫ابن ّ‬
‫المختلفة ـ فإنه لم يستكمل هذا في درس يكشف فيه عن جماليات التشبيه ودالالته ورموزه‬
‫ومدى تأثيره النفسي والوجداني في المتلقي ‪.‬‬
‫أن األمثلة‬
‫أن أشير إلى ّ‬
‫ومادام الحديث عن أداة التشبيه فإنه من الجدير بالذكر ْ‬
‫التي استشهد بها الرماني في باب التشبيه كلها مقترنة باألداة‪ ،‬ويغلب عليها أن تكون‬
‫كأن«‪ ،‬ولم يشر الرماني إلى الفوارق بين استخدام‬
‫«الكاف« ماعدا ثالثة كانت األداة فيها » ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 406/16 ،‬‬


‫جني‪ ،‬سر صناعة اإلعراب‪.317/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪174‬‬
‫هاتين األداتين‪ ،‬في األقل على صعيد التجاور والتقابل‪ ،‬أي تجاور عنصري التشبيه أو‬
‫تقابلهما‪ ،‬ففي الكاف يكون عنص ار التشبيه متقابلين‪ ،‬وكائنين على جانبي األداة‪ ،‬وفي‬
‫فإن عنصري التشبيه يتجاوران ‪.‬‬
‫كأن« ّ‬
‫» ّ‬
‫أما القاضي عبد الجبار فلقد عني بأداة التشبيه استجابة لقضية عقائدية‪ ،‬ففي‬
‫ألن دخول‬ ‫‪1‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫إن هناك تناقضاً » ّ‬‫قوله تعالى ‪َ » :‬ل ْي َس َكم ْثله َش ْي ٌء « يرد على من قالوا ّ‬
‫أن ال يكون‬
‫الكاف على مثل يقتضي إثبات المثل‪ ،‬والنفي يقتضي ضد ذلك‪ ،‬ألنه ال يجوز ْ‬
‫كمثله مثل‪ ،‬وهو مثل لمثله‪ ،‬لو كان مثل«‪ 2‬ويوازن القاضي عبد الجبار بين » ليس مثله‬
‫شيء « وقوله تعالى » َل ْي َس َك ِم ْثلِ ِه َشي ٌء « ويرجع إلى مذهب العرب في تعضيد رأيه‪،‬‬
‫ْ‬
‫أن دخول الكاف في مذهب العرب يقتضي توكيد المثل « فهو » أبلغ من قوله‬ ‫ألنه يرى« ّ‬
‫ليس مثله شيء»‪. 3‬‬
‫أن أدوات التشبيه إنما هي أدوات وعي ووضوح وتعقل‪،‬‬
‫ومن الجدير باإلشارة ّ‬
‫فهي ـ من هذه الزاوية ـ تقرب األشياء بعضها من بعض من حيث المماثلة‪ ،‬كما أنها في‬
‫الوقت ذاته أداة فصل بينها‪ ،‬فهي تصلح للتعبير عن العالم الخارجي‪ ،‬وعن القضايا‬
‫المنطقية‪ ،‬أكثر من صالحيتها للتعبير عن األبعاد الوجدانية‪. 4‬‬
‫إن التشبيه كله خضع‬‫ولم يكن األمر مقتص اًر على أدوات التشبيه وحدها‪ ،‬بل ّ‬
‫جني الذي تحدث عن التشبيه وكأنه قضية‬ ‫لعملية عقلية صارمة‪ ،‬وبخاصة لدى ابن ّ‬
‫قياسية‪ ،‬ويعنى بها من خالل المقوالت األصولية ‪ :‬أصالً‪ ،‬وفرعاً‪ ،‬وعلة‪ ،‬وقرينة‪ ،‬ويضع‬
‫التشبيه تحت باب » غلبة الفروع على األصول « ليضع العملية القياسية من حيث‬
‫أركانها‪ ،‬ومن حيث تماثلها مع التشبيه إلى حد بعيد‪ ،‬وقد دفعت هذه المعالجة ـ سواء لدى‬
‫جني أو لدى غيره ـ أحد الباحثين إلى عد التشبيه لوناً من ألوان القياس غير المباشر‬
‫ابن ّ‬

‫‪ 1‬ـ سورة الشورى‪ ،‬آية ‪. 11 :‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪389/16 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.389/16 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ إيليا الحاوي‪ ،‬في النقد واألدب‪ 131/1 ،‬ـ ‪.132‬‬
‫‪175‬‬
‫فهو » أيسر أسلوب من أساليب الوعي وأكثرها وضوحاً وأدناها توغالً في النفس‪ ،‬ألنه‬
‫يقوم على المقابلة واالستنتاج ويؤدي إلى المعرفة باألدلة والبرهان «‪. 1‬‬
‫أن الشريف المرتضى يلتقي مع أبي أحمد العسكري في جعل‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫جني يحولهما ـ العادة‬
‫فإن ابن ّ‬
‫العادة والعرف متحكمين أحياناً في الصورة التشبيهية ّ‬
‫والعرف ـ إلى عنصري القضية القياسية والتشبيهية على السواء‪ ،‬ويجعلهما يتحكمان‬
‫باألصول‪ ،‬ويفرضان ضرورة مقايسة الفروع عليها ‪.‬‬
‫أن العرف والعادة قد تحكما في التشبيه إلى حد بعيد‪ ،‬بحيث درج الناس‬
‫ويظهر ّ‬
‫أن الكثبان تحولت في‬
‫واعتادوا على تشبيه » أعجاز النساء بكثبان األنقاء « بمعنى ّ‬
‫العرف االجتماعي إلى أصل تقاس في ضوئه أعجاز النساء‪ ،‬وقد يقلب فيه الفرع أصالً‬
‫كأن تشبه كثبان األنقاء بأعجاز النساء‪ ،‬وهذا القلب لعنصري التشبيه يقود‬
‫واألصل فرعاً ّ‬
‫جني ‪.‬‬
‫إلى المبالغة في الداللة لدى ابن ّ‬
‫إن المبالغة تعني تغي اًر في أماكن عنصري التشبيه‪ ،‬وليس تغي اًر في طبيعة‬ ‫ّ‬
‫أن المبالغة تولدت في قلب التعود‪ ،‬وتغاير المألوف‪،‬‬
‫التشبيه أو ماهيته‪ ،‬غاية ما في األمر ّ‬
‫وهو ال يخرج في حقيقته عن األصول المنطقية‪ ،‬ومن ثم فهو تغير شكلي يحافظ فيه ابن‬
‫جني على طبيعة الصورة التشبيهية دون تغير في جوهرها ‪ّ ،‬‬
‫إن ذا الرمة في قوله ‪:‬‬ ‫ّ‬

‫قطعتُ ُه‬ ‫العذارى‬ ‫كأور ِ‬


‫اك‬ ‫َوَرْم ٍل‬

‫الحنادس‬
‫ُ‬ ‫المظلمات‬
‫ُ‬ ‫ألبست ُه‬
‫ْ‬ ‫إذا‬

‫شبه كثبان األنقاء بأعجاز النساء‪ ،‬بمعنى أنه جعل هذا‬ ‫قد قلب العادة والعرف حين ّ‬
‫المعنى »ألعجاز النساء وصار كأنه األصل فيه «‪ ،2‬وهذا يقود في أحد جوانبه إلى تأكيد‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ 131/1 ،‬ـ ‪.132‬‬


‫جني‪ ،‬الخصائص‪. 302/1 ،‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪176‬‬
‫فإن العرف والعادة‬
‫أن تخضع لمقومات عقلية دائماً‪ّ ،‬‬
‫أن األصول والفروع ليس شرطاً ْ‬ ‫ّ‬
‫يتحكمان في تحديد مواقعها أيضاً ‪.‬‬
‫وإذا كان عنص ار التشبيه ومقايسة الفروع ألصولها قد شغلت بعض النقاد‪ ،‬فإنهم‬
‫قد شغفوا بتقسيمات أخرى للتشبيه‪ ،‬فمن جهة يتعدد التشبيه ويتوزع في عدة أنماط‪ ،‬تشبيه‬
‫الشيء بالشيء اآلخر‪ ،‬أو تشبيه شيئين بشيئين وهكذا إلى تشبيه ستة بستة‪ ،‬ويدل تعدد‬
‫التشبيه ـ فيما يبدو ـ على قيمة جمالية من ناحية‪ ،‬ويدل على المهارة والبراعة من ناحية‬
‫ثانية‪ ،‬وقد ألمح الشريف المرتضى إلى ذلك في أثناء تعرضه إلى تشبيه ستة بستة حين‬
‫قال‪ » :‬ولم أجد من تجاوز هذا القدر إال قطعة مرت بي البن المعتز فإنها تضمنت تشبيه‬
‫ستة أشياء بستة أشياء « ‪ ،1‬حيث يقول ابن المعتز ‪:‬‬

‫وغصن‬
‫ُ‬ ‫وليل‬
‫ٌ‬ ‫در‬
‫َب ٌ‬

‫قد‬
‫َو ُ‬ ‫وشعر‬
‫ٌ‬ ‫وج ٌه‬
‫ْ‬

‫در‬
‫َو ُ‬ ‫وورد‬
‫ٌ‬ ‫خمٌر‬
‫ْ‬

‫وخُد‬
‫َ‬ ‫وثغر‬
‫ٌ‬ ‫رْي ٌق‬

‫أما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة بن شداد في وصف الذباب ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪ 124/2 ،‬ـ ‪. 129‬‬


‫‪177‬‬
‫بذر ِ‬
‫اعه‬ ‫اع ُه‬
‫ذر َ‬ ‫يحك‬ ‫َهزجا‬

‫األجذ ِم‬ ‫الزناد‬ ‫على‬ ‫المكب‬ ‫قدح‬


‫َ‬

‫وتشبيه شيئين بشيئين فمثل قول امرئ القيس ‪:‬‬

‫ويابساً ًُ‬ ‫رطباً ًُ‬ ‫الطير‬ ‫قلوب‬


‫َ‬ ‫كأن‬
‫ّ‬

‫البالي‬ ‫الحشف‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫العناب‬
‫ُ‬ ‫وكرها‬ ‫لدى‬

‫وتشبيه ثالثة بثالثة فمثل قول ماني الموسوس ‪:‬‬

‫لتظلني‬ ‫شعرها‬ ‫غدائر‬


‫َ‬ ‫نشرت‬
‫ْ‬

‫ِ‬
‫الرمق‬ ‫الوشاة‬ ‫من‬ ‫العيون‬ ‫خوف‬
‫َ‬

‫وكأنن ــي‬ ‫وكأنـها‬ ‫كأنه‬


‫َف ُ‬

‫ط ِ‬
‫بق‬ ‫ُم ْ‬ ‫ليل ٍُ‬
‫ٍ‬ ‫تحت‬ ‫باتا‬ ‫ص ِ‬
‫بحان‬ ‫ُ‬

‫وتشبيه أربعة بأربعة فمثل قول امرئ القيس ‪:‬‬


‫ٍ‬
‫نعامة‬ ‫وساقا‬ ‫ظبي‬ ‫أيطال‬ ‫له‬
‫ُ‬

‫تَ ِ‬
‫تفل‬ ‫يب‬ ‫ٍ‬
‫وتقر ُ‬ ‫سرحان‬ ‫إرخاء‬
‫و ُ‬

‫‪178‬‬
‫وتشبيه خمسة بخمسة فمثل قول الوأواء الدمشقي ‪:‬‬

‫وسقت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫نرجس‬ ‫من‬ ‫لؤلؤاً‬ ‫لت‬
‫وأسب ْ‬

‫‪1‬‬ ‫ِ‬
‫بالبرد‬ ‫ِ‬
‫العناب‬ ‫على‬ ‫وعض ْت‬ ‫ورداً‬
‫ّ‬

‫أن العرب تشبه على أربعة‬ ‫وقد عني أبو أحمد العسكري بأنواع التشبيه ويرى ّ‬
‫أضرب ‪ :‬تشبيه مفرط‪ ،‬وتشبيه مصيب‪ ،‬وتشبيه مقارب‪ ،‬وتشبيه يحتاج إلى التفسير وال‬
‫يقوم بنفسه ‪. 2‬‬
‫وقد أغفل النقاد ما يمكن أن يتركه التشبيه من أثر داللي من جهة التركيب‪ ،‬ومن‬
‫جهة التأثير بالمتلقي‪ ،‬ومدى تعبيره عن موقف الشاعر من ذاته ومن العالم الذي يعيش‬
‫فيه‪ ،‬ولكن النقاد قد شغلتهم قضايا شكلية كعنصري التشبيه‪ ،‬وأنواع التشبيه دون تجاوز‬
‫فإن عنصري التشبيه‬
‫ذلك ـ غالباً ـ إلى تحليل البنية الجمالية لماهية التشبيه‪ ،‬وعلى العموم ّ‬
‫يبقيان محافظين على خواصهما إلى حد بعيد‪ ،‬ويتأتى هذا بسبب درسهما المستقل عن‬
‫أن عناية النقاد قد‬
‫السياق وفاعليته‪ ،‬والدالالت العميقة التي يولدها التركيب‪ ،‬ومن المالحظ ّ‬
‫اتجهت نحو الجوانب المنطقية واألبعاد العقلية التي تحكم قضاياه‪ ،‬وهذه العناية من شأنها‬
‫أن تركز على الجوانب الشكلية دون تجاوزها إلى فهم أبعد لما يختفي وراءها‪ ،‬ولهذا يصح‬
‫إن التشبيه ال يخلق المعنى وال يحدث تغيي اًر في معاني الكلمات التي تنتمي إلى‬ ‫القول ّ‬
‫أسرته أو سياقه‪ ،‬وتمثل فاعليته باستمرار وجوداً منفصالً عن السياق ومتمي اًز عنه ‪.‬‬
‫إن هذا الفهم للتشبيه ينسجم مع طبيعة العقلية التي ترغب في رؤية األشياء‬
‫ّ‬
‫واضحة محددة‪ ،‬ألنه ـ أي التشبيه ـ يساعد على تمكين المبدع من عقد المقارنات‬
‫الواضحة بين األشياء المادية التي يشتمل عليها الواقع‪ ،‬أو مقارنتها بخصائص ومكونات‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪ 124/2 ،‬ـ ‪ . 129‬ينظر ‪ :‬أبا أحمد العسكري‪ ،‬المصون في األدب‪ ،‬ص ‪66‬‬
‫ـ ‪.69‬‬
‫‪ 2‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬المصون في األدب‪ ،‬ص ‪ 57‬ـ ‪.60‬‬
‫‪179‬‬
‫معنوية‪ ،‬وتجذب المقارنة عناية الناقد إلى حد كبير‪ ،‬وتدفعه إلى التفكير بطبيعة المقارنة‬
‫فإن هذا الوعي يجعل وظيفة التشبيه ضامرة إلى حد كبير‪ ،‬في‬‫خارج العمل الفني‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫حين يمكن تجاوز ذلك إلى وعي يجعل التشبيه يؤدي دو اًر في العالم الشعري بشكل أكثر‬
‫جماالً وتعقيداً ‪1‬وهذا في مجمله يعني أن تصور النقاد للتشبيه إنما يقلل من أهميته ودوره‬
‫في التشكيل اللغوي للشعر من ناحية‪ ،‬ويقلل من دوره في التأثير في المتلقي من ناحية‬
‫ثانية ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ‪Levin Samuel , The Semantic OfMetaphor p135‬‬


‫‪180‬‬
‫االستعارة‬

‫واهتم النقاد باالستعارة‪ ،‬وأولوها عناية فائقة‪ ،‬فالقاضي علي بن عبد العزيز‬
‫ويشعرنا‬‫‪1‬‬
‫الجرجاني يعدها » أحد أعمدة الكالم‪ ،‬وعليها المعول في التوسع والتصرف « ُ‬
‫بأهميتها الخاصة ليلتقي ببعض التصورات التي ترى في االستعارة عنص اًر جوهرياً في‬
‫ألن‬
‫الشعر‪ ،‬إن لم يكن الشعر ذاته يتأسس عليها‪ ،‬فمتى خال الشعر منها لم يعد شع اًر‪ّ ،‬‬
‫االستعارة تمثل العنصر الثابت في الشعر‪ ،‬ويخضع ما سواها من مكونات الشعر للتغير‬
‫إن الحكم على الشاعر أحياناً يتم من خالل استعراض استعاراته من‬
‫والتطور والتبدل‪ ،‬بل ّ‬
‫إن أرسطو عدها دليالً على العبقرية‪. 2‬‬
‫حيث قوتها وجدتها وابتكارها‪ ،‬حتى ّ‬
‫ويمثل النقل المحور المركزي الذي تعتمد عليه االستعارة وقد فطن إلى هذا‬
‫الرماني والجرجاني على السواء‪ ،‬فاالستعارة لدى الرماني »تعليق العبارة على غير ما‬
‫وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل لإلبانة« ‪3‬وهي لدى الجرجاني » ما اكتفي‬
‫فيها باالسم المستعار عن األصل‪ ،‬ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها‪ ،‬ومالكها تقريب‬
‫الشبه‪ ،‬ومناسبة المستعار له للمستعار منه‪ ،‬وامتزاج اللفظ بالمعنى‪ ،‬حتى ال يوجد بينهما‬
‫منافرة‪ ،‬وال يتبين في أحدهما إعراض عن اآلخر « ‪. 4‬‬
‫ألن االشتعال لم‬‫لرْس َشيبا « ‪5‬‬
‫ّ‬ ‫اشتَ َع َل ا َّأ ُ ْ ً‬
‫وتتضح صورة النقل في اآلية القرآنية » َو ْ‬
‫ألن هناك‬
‫يستخدم في أصل وضعه في اللغة للشيب‪ ،‬ولكن المعنى نقل إلى الشيب‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 28‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Lewis The Poetic Image , Jonathan Cape , London , 1965 p. 17‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 85‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ 5‬ـ سورة مريم‪ ،‬آية ‪. 4 :‬‬
‫‪181‬‬
‫تحول‬
‫ٌ‬ ‫تماثالً وشبهاً بين النار السارية في الحطب‪ ،‬والشيب المنتشر في الرأس‪ ،‬إذن فهناك‬
‫من ناحية إلى أخرى‪ ،‬سواء في حالة اإلحراق أو في حالة تغير لون الشعر ‪.‬‬
‫وأول ما يطالعك به الرماني تأكيده أن أصل االشتعال للنار‪ ،‬ثم يقدم لك حقيقة‬
‫ان الكثرة لما كانت تتزايد تزايداً سريعاً صارت في‬
‫التركيب‪ ،‬وهو ‪ » :‬كثرة شيب الرأس‪ ،‬اال ّ‬
‫االنتشار واإلسراع كاشتعال النار‪ ،‬وله موقع في البالغة عجيب‪ ،‬وذلك أنه انتشر في‬
‫الرأس انتشا اًر ال يتالفى كاشتعال النار « ‪. 1‬‬
‫فإن هناك أداءين ‪ :‬أولهما ‪ :‬نمطي هو » كثرة شيب الرأس «‬ ‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫ْس َش ْيًبا « وقد عدل عن األول إلى الثاني‬
‫الر ُ‬
‫اشتَ َع َل َّأ‬
‫وثانيهما ‪ :‬فني استعاري‪ ،‬وهو » َو ْ‬
‫لتأدية دالالت معرفية وجمالية‪ ،‬وقد زاد في الداللة اتساعاً أنها لم تكن موجوداً في األداء‬
‫أن المعنى األصلي »يصل اليه المتلقي عن طريق نوع من القياس أو‬ ‫األول‪ ،‬كما ّ‬
‫االستدالل الذي يقيس شيئاً بآخر‪ ،‬أو يتوصل إلى شيء عن طريق آخر‪ ،‬وإذا كان األمر‬
‫فإنه ينبغي ـ لكي نغفل المعنى األصلي لالستعارة ونستدل عليه ـ ان تكون ثمة‬
‫كذلك ّ‬
‫عالقة عقلية واضحة تربط بين المعنيين‪ ،‬وتكون بمثابة دليل ييسر االنتقال من ظاهر‬
‫االستعارة إلى حقيقتها « ‪. 2‬‬
‫ويعقد الرماني مقارنة بين ظاهر االستعارة وباطنها‪ ،‬ويسعى إلى تحليل النص‬
‫أن التأدية اإلستعارية أبلغ من األداء‬
‫القرآني للكشف عن جوانبه الجمالية‪ ،‬ولذلك أكد ّ‬
‫الحقيقي‪ ،‬وكان يعلل ذلك بدالالت يستقيها من السياق ذاته‪ ،‬ومن أمثلة ذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫اط ِل َفيدمغه َفِإ َذا هو ز ِ‬
‫اهقٌ «‪3‬فالقذف والدمغ ـ هنا ـ مستعار‪،‬‬ ‫»بل نْقِذف ِباْلح ِق عَلى اْلب ِ‬
‫َُ َ‬ ‫َْ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َْ َ ُ‬
‫ألن‬
‫وهو أبلغ‪ ،‬وحقيقته ‪ :‬بل نورد الحق على الباطل فيذهبه‪ ،‬وإنما كانت االستعارة أبلغ ّ‬
‫في القذف دليالً على القهر‪ ،‬ألنك إذا قلت ‪ :‬قذف به اليه فإنما معناه ألقاه اليه على جهة‬
‫اإلكراه والقهر‪ ،‬فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر واالضطرار‪ ،‬ال على جهة‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪ 81‬ـ ‪.82‬‬


‫‪ 2‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫‪ 3‬ـ سورة األنبياء‪ ،‬آية ‪. 18 :‬‬
‫‪182‬‬
‫الشك واالرتياب‪ ،‬ويدفعه أبلغ من يذهبه لما في يدفعه من التأثير فيه فهو أظهر في‬
‫النكاية وأعلى في تأثير القوة «‪.1‬‬
‫ويقود الحديث عن اإلبانة والوضوح ـ بوصفهما بعض وظائف االستعارة ـ إلى‬
‫اإلشارة إلى وظائف االستعارة األخرى‪ ،‬فقد تكون وظيفة االستعارة مرتبطة بقضية‬
‫توصيلية‪ ،‬أو قد تكون مجرد زينة خارجية‪ ،‬فالرماني يخضع االستعارة ـ أحياناً ـ إلى‬
‫جني بوظيفة االستعارة‬
‫توصيل بليغ يقصد منه مزيداً من اإلبانة واإلفهام‪ ،‬ويتجاوز ابن ّ‬
‫بعدها التوصيلي المحدود إلى المبالغة في التعبير عن القضايا واألشياء‪ ،‬في حين تنـزلق‬
‫رؤية أبي أحمد العسكري والجرجاني ـ أحياناً ـ لتأكيد بعد شكلي يقصد منه التزيين‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر إنما يتم باالستعارة كما قال الجرجاني ‪. 2‬‬
‫أن هذه الوظائف المتعددة يلتقي فيها التشبيه مع االستعارة‪،‬‬
‫ومن الجدير بالذكر ّ‬
‫لتأكيد وظائف اإلبانة والمبالغة والتزيين‪ ،‬وهذا التالقي في الوظائف يقترن به تالق آخر‬
‫من جهة طبيعة كل من التشبيه واالستعارة‪ ،‬وقد فطن الرماني إلى هذه العالقة والتالقي‪،‬‬
‫أن الفرق ّ‬
‫أن » ما كان في التشبيه بأداة التشبيه فهو على‬ ‫ولذلك راح يقارن بينهما‪ ،‬ويرى ّ‬
‫ألن مخرج االستعارة مخرج ما‬‫أصله لم يغير عنه في االستعمال‪ ،‬وليس كذلك االستعارة ّ‬
‫العبارة ليست له في أصل اللغة « ‪. 3‬‬
‫إذن فالتشبيه إنما هو تركيب لغوي استخدمت فيه األلفاظ كما هو حالها في‬
‫فإن‬
‫أصل الوضع‪ ،‬ويقصد منه عقد المقارنة بين األشياء والظواهر والقضايا‪ ،‬أما االستعارة ّ‬
‫طبيعة النقل والعدول التي يتضمنها تركيبها إنما يقود إلى دالالت جديدة تتجاوز الدالالت‬
‫في أصول وضعها المألوفة إلى معان مختلفة‪ ،‬ومن هنا يمثل النقل خاصية جوهرية‬
‫ينطوي عليها التركيب اللغوي لالستعارة‪ ،‬وهو تركيب يتضمن في داخله دالالت لم تكن‬
‫تشتمل عليها األلفاظ في أصل وضعها ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.82‬‬


‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.428‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪183‬‬
‫أن النقاد لم يعنوا‬
‫فإن مما يثير االنتباه ّ‬
‫ومهما يكن من أمر وظائف االستعارة ّ‬
‫جل اهتمامهم على وظيفة‬ ‫كثي اًر بعناصر االستعارة وتفريعاتها المنطقية‪ ،‬وإنما ركزوا ّ‬
‫االستعارة التعبيرية‪ ،‬والكشف عن العناصر التي يمكنها أن تسهم في األداء والتوصيل‪،‬‬
‫والكشف عن الفوارق في البالغة بين جمال األداء فيما إذا كان حقيقياً أو استعارياً ‪.‬‬
‫أن هناك تداخالً بين التشبيه واالستعارة ففي التشبيه تتم المقارنة بين‬
‫وال ريب ّ‬
‫عنصري التشبيه القترابهما في لون التشابه والتماثل‪ ،‬ويحتفظ عنص ار التشبيه باستقاللهما‬
‫وبخصائصهما النوعية‪ ،‬ليكون هذا غير ذاك‪ ،‬أما االستعارة فإن التالحم يتم بين‬
‫عنصريها‪ ،‬ألنها في جوهرها تشبيه مختصر‪ ،‬وعلى الرغم من هذا التالحم وكون االستعارة‬
‫نقل العبارة عن أصل وضعها في اللغة إلى أداء فني استعاري ّ‬
‫فإن التشابه فيها ال يختفي‬
‫أن الفرق بين التشبيه‬ ‫‪1‬‬
‫تماماً‪ ،‬ولكنه يصبح غير ملحوظ بدرجة ما من الدرجات ‪ ،‬أو ّ‬
‫أن » االستعارة تعبر عن المقصود بالتضمين ال بالتصريح « ‪. 2‬‬
‫واالستعارة يتحدد في ّ‬
‫وتلتقي االستعارة بالتشبيه ـ لدى الرماني ـ في بعض العناصر والمكونات‪ ،‬فمن‬
‫جهة الوظيفة يشتركان في التوصيل واإلبانة ـ كما أسلفنا ـ ويلتقيان ـ أيضاً ـ في الجمع بين‬
‫أن التشبيه حين يجمع بين شيئين بمعنى مشترك‬ ‫شيئين بمعنى مشترك‪ ،‬ويكمن الفرق في ّ‬
‫إنما يهدف إلى إيضاح أحد عنصري التشبيه باآلخر‪ ،‬سواء كان حسياً أو غير حسي‪ ،‬كما‬
‫أن ألفاظ اللغة تستخدم ـ في تركيب التشبيه ـ فيما وضعت له في األصل‪ ،‬وليست‬ ‫ّ‬
‫االستعارة كذلك‪ ،‬فهي ال تدل في تركيبها اللغوي على هذا التمايز المنطقي والوضوح‬
‫العقلي الذي يتضمنه التركيب اللغوي للتشبيه‪ ،‬وإنما يدل تركيبها على تعليق الداللة من‬
‫خالل اختصار التشبيه‪ ،‬وحذف بعض عناصره ومكوناته‪ ،‬ليقود االختصار والحذف إلى‬
‫تالحم الداللة وغموضها‪ ،‬ومن ثم يقود إلى جمالها ‪.‬‬
‫إن التركيب اللغوي لالستعارة ينطوي على بعدين أحدهما ‪ :‬ظاهري ويهدف إلى‬
‫ّ‬
‫أداء نمطي‬
‫أداء فنياً البد أن يسبقه ٌ‬
‫التأثير في المتلقي وفي مخيلته ووجدانه‪ ،‬وهو يعني ً‬

‫‪Lewis , The Poetic Image p. 22‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬ـ أولمان‪ ،‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ص ‪.165‬‬


‫‪184‬‬
‫يمثل الحقيقة‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬األداء النمطي الذي يتخيله المتلقي بوصفه أصل التركيب اللغوي‬
‫لالستعارة‪ ،‬وهو ما اصطلح عليه القدامى بالحقيقة ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا البد لكل استعارة من حقيقة تسبقها في الوجود وتختلف عنها في‬
‫األهمية والبالغة »وكل استعارة فالبد لها من حقيقة‪ ،‬وهي أصل الداللة على المعنى في‬
‫اللغة كقول امرئ القيس في صفة الفرس » قيد األوابد « والحقيقة فيه ‪ :‬مانع األوابد أبلغ‬
‫أن االستعارة الحسنة » توجب بالغة بيان ال تنوب منابه الحقيقة‪ ،‬وذلك‬ ‫‪1‬‬
‫وأحسن« كما ّ‬
‫أن‬ ‫‪2‬‬
‫أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة‪ ،‬كانت أولى به‪ ،‬ولم تجز االستعارة « ‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫قضية التوصيل هي التي شغلت الرماني أكثر من غيرها من الوظائف‪ ،‬ولذلك فإنه لو‬
‫استخدم تعبي اًر يؤدي إلى البيان لما استحق أن ينوب عنه آخر لتأدية هذا اللون من البيان‬
‫‪.‬‬
‫ألن التشبيه يقتضي‬‫ويميز الجرجاني في وساطته بين التشبيه واالستعارة‪ّ ،‬‬
‫أن التشبيه يحافظ في تركيبه على داللة‬ ‫‪3‬‬
‫عنصر المقارنة والتشابه بين شيئين بمعنى ّ‬
‫األلفاظ كما هي على أصل وضعها في اللغة‪ ،‬كما يحافظ على عنصري التشبيه بالوجود‬
‫مستقلين ومنفصلين عن بعضهما‪ ،‬ولذلك فهو يرفض بعض األمثلة التي عدت استعارة‪،‬‬
‫ومن هذه قول أبي نواس ‪:‬‬

‫اكب ُه‬
‫رُ‬ ‫أنت‬ ‫ظهر‬
‫ٌ‬ ‫الحب‬
‫و ُ‬
‫انصرفا‬ ‫عنان ُه‬
‫َ‬ ‫فت‬
‫صر َ‬ ‫فإذا‬

‫أن الحب مثل ظهر‪ ،‬أو الحب كظهر تديره كيف شئت إذا ملكت‬ ‫ويرى ّ‬
‫أن معنى البيت » ّ‬
‫عنانه‪ ،‬فهو إما ضرب مثل أو تشبيه شيء بشيء « ‪. 4‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 70‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 70‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 41‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪185‬‬
‫وتعني االستعارة ـ لدى الجرجاني ـ » تقريب الشبه ومناسبة المستعار له‬
‫للمستعار منه‪ ،‬وامتزاج اللفظ بالمعنى‪ ،‬حتى ال يوجد بينهما منافرة‪ ،‬وال يتبين في أحدهما‬
‫أعراض عن اآلخر «‪ 1‬فهو يضع قيوداً لالستعارة منها المشابهة التي تذكر بالتركيب‬
‫اللغوي للتشبيه‪ ،‬وضرورة تأدية وظيفة توصيلية تنأى عن البعد والغموض في الداللة‪ ،‬وقد‬
‫أكد هذا بحيث يناسب المستعار له المستعار منه‪ ،‬ويمتزج اللفظ بالمعنى‪ ،‬دون أن يكون‬
‫بينهما تنافر من جهتي » التناسب « و » االمتزاج « وال يبدو في أحدهما إعراض عن‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن تأكيد الوضوح وظيفة جوهرية لالستعارة له ما يبرره من جهة التركيب اللغوي‬
‫لالستعارة الذي يقود بطبيعته إلى تشابك الدالالت‪ ،‬ومن جهة رؤية الجرجاني الذي يؤكد‬
‫ضرورة اإلصابة في التعبير » بأداء وسط« ال يغالي في تالحم الدالالت وتشابكها‪ ،‬وال‬
‫ينحط فيعبر تعبي اًر سوقياً مبتذالً عن المعاني‪ ،‬ولذلك اقترب تصوره كثي اًر من التشبيه وتبني‬
‫داللته وتراكيبه‪ ،‬وابتعد نسبيا عن االستعارة‪ ،‬ولم يتقبل إال ضروباً تتوافر فيها شروطه التي‬
‫أن هذا هو الذي دفع الجرجاني إلى أن يعد التشبيه من مقومات الشعر‬ ‫حددها لها‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫الجوهرية ودفعه أيضاً إلى التقليل من دور االستعارة وأهميتها‪ ،‬يقول الجرجاني ‪» :‬وكانت‬
‫العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ‬
‫واستقامته‪ ،‬وتسلم السبق لمن وصف فأصاب‪ ،‬وشبه فقارب‪ ،‬وبده فأغزر‪ ،‬ولمن كثرت‬
‫سوائر أمثاله وشوارد أبياته‪ ،‬ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة وال تحفل باإلبداع واالستعارة‬
‫إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض « ‪.2‬‬
‫ولم يكتف الجرجاني بالمشابهة القريبة شرطاً لالستعارة ولكنه اشترط المناسبة بين‬
‫المستعار له والمستعار منه‪ ،‬ليزيد في تمكين األبعاد العقلية والمنطقية في داللتها‪ ،‬وفي‬
‫إيضاح ال عالقة بين مكوناتها‪ ،‬وفي هذا يقرب الفجوة إلى حد ما بين االستعارة والتشبيه‬
‫أن الجرجاني ال يقصد الغموض بعامة‪ ،‬ولذلك ألفيناه‬
‫خوفا من الغموض واإللباس‪ ،‬ويبدو ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 41‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪186‬‬
‫في معرض دفاعه عن المتنبي يتبنى نمطاً معيناً من الغموض‪ ،‬وأكثر من هذا يجعل من‬
‫هذا الغموض ميزة تسمو بالبيت الشعري على ما سواه‪ ،‬ومن الجلي ّ‬
‫أن الجرجاني يرفض‬
‫الغموض الذي يولده تعقيد التراكيب كما هو الحال لدى الفرزدق في بيته الشعري‬
‫المشهور‪:‬‬

‫مملكاً ًُ‬ ‫إال‬ ‫الناس‬ ‫في‬ ‫مثله‬


‫ُ‬ ‫وما‬

‫يقاربه‬ ‫أبوه‬ ‫حي‬ ‫ِ‬


‫أمه‬ ‫أبو‬

‫وما عدا ذلك يتحول الغموض إلى قيمة مقصودة لذاتها وبخاصة في أبيات‬
‫المعاني التي يستوي فيها القديم والحديث‪ ،‬يقول الجرجاني ‪ » :‬وليس في األرض بيت من‬
‫أبيات المعاني لقديم أو محدث إال ومعناه غامض مستتر‪ ،‬ولوال ذلك لم تكن إال كغيرها‬
‫من الشعر»‪. 1‬‬
‫ويتصل الغموض ـ من زاوية أخرى ـ باستخدام خاص لالستعارة هو البعد في‬
‫تركيبها وأدائها‪ ،‬واإلفراط في استخدامها‪ ،‬ويرى الجرجاني ّ‬
‫أن االعتدال والتوسط هو المعيار‬
‫الذي يحدد من خالله جمال االستعارة أو قيمتها‪ ،‬كما أنه يستعين من ناحية أخرى بمذهب‬
‫العرب‪ ،‬وبهذا يرجع إلى الموروث السابق فيجعله متحكماً في طبيعتي األداء والوظيفة‬
‫أن الشعراء كانت تجري على طريقة معينة أو نهج‬ ‫للتركيب اللغوي لالستعارة‪ ،‬فهو يرى ّ‬
‫محدد تقتصد فيه في استخدام االستعارة » حتى استرسل فيه أبو تمام ومال إلى الرخصة‬
‫أن المعيار الذي يتقبل فيه‬ ‫‪2‬‬
‫فأخرجه إلى التعدي‪ ،‬وتبعه أكثر المحدثين بعده « والمالحظ ّ‬
‫الجرجاني نمطه األوسط في االستعارة ال يرجع إلى مقوم عقلي‪ ،‬وإنما يرجعه ـ هنا ـ إلى‬
‫ألن تمييز حسن االستعارة من رديئها يتصل » بقبول النفس‬
‫مقومات ذاتية تأثرية‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.417‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 429‬‬
‫‪187‬‬
‫ونفورها‪ ،‬وينتقد بسكون القلب ونبوه « ولم يقتصر الجرجاني على هذا في إثبات نمطه‬
‫األوسط في االستعارة‪ ،‬بل انه يرجع أحيانا إلى القديم ليوازن بين ألوان االستعارة‪ّ ،‬‬
‫كأن‬
‫يجعل الشاعر للزمان فؤاداً وللريح لباً‪ ،‬أو أن يكون الدهر ـ مثال ـ شخصاً متكامل‬
‫األعضاء‪ ،‬فالجرجاني في مجال المقارنة يستشهد بقول امرئ القيس ‪:‬‬

‫بصلبه‬ ‫طى‬
‫تم ّ‬ ‫لما‬ ‫له‬ ‫فقلت‬

‫ِ‬
‫بكلكل‬ ‫وناء‬ ‫أعجا اًز‬ ‫أردف‬
‫و َ‬

‫ويجعله مثاالً في االستعارة ال يصح تجاوزه إلى االستعارة المفرطة‪ ،‬فامرؤ القيس جعل‬
‫لليل«صلباً وعج اًز وكلكالً لما كان ذا أول وآخر وأوسط مما يوصف بثقل الحركة إذا‬
‫استطيل‪ ،‬وبخفة السير إذا استقصر‪ ،‬وكل هذه األلفاظ مقبولة غير مستكرهة وقريبة‬
‫المشاكلة ظاهرة المشابهة‪ ،‬وإنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكالم المولدين زائالً‬
‫عن هذا الموضع وغير مستمر على هذه السنن « ‪. 1‬‬
‫إن التشخيص في االستعارة يحقق في أحد جوانبه توضيح الداللة التي يريد‬ ‫ّ‬
‫الشاعر إيصالها‪ ،‬وهو لون من ألوان استخدام التركيب الداللي الذي يشتمل على أبعاد‬
‫حسية‪ ،‬شأنها شأن التشبيه لدى الرماني في تشبيه ماال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه‪،‬‬
‫ان هذا اللون يقترب من النماذج الشائعة لالستعارة التي تستخدم الكلمات » ذات‬
‫بل ّ‬
‫المعاني المادية للداللة على المعاني المجردة « ‪ ،2‬ويلفتنا أولمان إلى نوع آخر من‬
‫االستعارات » يعتمد على التشبيه في الشعور على جانبي االستعارة‪ ،‬وفي نوع اإلحساس‬
‫بهما أكثر من اعتماده على التشابه في الخصائص الجوهرية كما في قولنا » تحية‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.432‬‬


‫‪ 2‬ـ أولمان‪ ،‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ص ‪. 166‬‬
‫‪188‬‬
‫عاطرة« ‪ ...‬ومن هذا القبيل ما درجنا عليه من نقل الكلمات من أحد مجاالت الحواس‬
‫إلى مجال آخر‪ ،‬نحو » لون دافئ « و » صوت حلو«‪.1‬‬
‫إن االستعارة في ضوء هذا الفهم تنطوي على دالالت رمزية مرتبطة بموقف‬ ‫ّ‬
‫فإن الصورة الشعرية ـ التي تمثل االستعارة أحد أركانها ـ ليست‬
‫الشاعر الوجداني‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫إن كانت تصوي اًر‬
‫منفصلة في الحقيقة عن المكونات الوجدانية للشاعر‪ ،‬ولذلك فالصورة و ْ‬
‫ينبئ عنه نظام متشابك من تضام الكلمات فإنها تشتمل في داخل هذه كله على عواطف‬
‫المبدع ووجدانه‪. 2‬‬
‫إن معالجة النقاد لالستعارة لم تكن قائمة على أساس التوغل في أعماق الظواهر‬
‫ّ‬
‫والكشف الوجداني عن ماهياتها‪ ،‬قدر عنايتها بارجاع التركيب االستعاري الفني إلى أداء‬
‫نمطي‪ ،‬وبذلك تعاملوا مع التركيب االستعاري بطريقة منطقية وهي طريقة تكشف عن‬
‫العناصر التي تتألف منها االستعارة بوصفها كيانات مستقلة ومنفصلة عن بعضها‪ ،‬وهذا‬
‫أن االستعارة تختزل من سياقها اللغوي‪ ،‬وفي هذا تفتيت ألبرز الجوانب المكونة لها‪،‬‬
‫يعني ّ‬
‫ومن ثم دراستها بوصفها قضية منطقية ‪.‬‬
‫وقد مال النقد العربي إلى تبني النظرة التي ُّ‬
‫تحد من دور االستعارة في التعبير‬
‫عن الجوانب الذاتية للمبدع‪ ،‬أو ُّ‬
‫تحد من دورها في تشكيل جمالياتها وداللتها من السياق‬
‫اللغوي الذي يتضمنها ‪ ،‬ففي المثال الذي يسعى فيه القاضي الجرجاني إلى الدفاع عن‬
‫المتنبي في أنه مال إلى التشخيص‪ ،‬يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬ويضرب أمثله ويقدم نماذج‬
‫ألدباء سبقوا المتنبي أو عاصروه‪ ،‬وقد قدموا استخدامات لالستعارة وهي تؤدي هذا‬
‫الضرب من التصوير ‪.‬‬
‫إن القاضي الجرجاني ـ شأنه شأن أضرابه من النقاد ـ لم يستطع أن يتجاوز‬‫ّ‬
‫الدف اع إلى تأصيل عالقة التشخيص باألبعاد الذاتية عند الشاعر‪ ،‬ومقدار تأثيرها في‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.166‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Lewis , The Poetic Image p .20 .‬‬
‫‪189‬‬
‫المتلقي‪ ،‬وهل كون التشخيص يمثل قيمة فنية ومعرفية أم أنه مجرد زينة شأنها شأن‬
‫االستعارة‪.‬‬
‫إن التصور الذي ينظر إلى االستعارة على أنها مجرد زينة في النص األدبي إنما‬
‫ّ‬
‫يدل على أنها شيء ثانوي وهامشي‪ ،‬بحيث نستطيع فصلها عنه دون أن تؤثر في ماهية‬
‫ألن النص األدبي بعامة والشعري بخاصة ال يمكن أن‬
‫الشعر هذا التصور تنقصه الدقة‪ّ ،‬‬
‫ألن تخليه عنها يعني قربه من األداء النمطي‪ ،‬وهو دون شك ٌ‬
‫أداء‬ ‫يتخلى عن االستعارة‪ّ ،‬‬
‫ليس شعرياً ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫المقياس النقدي‬

‫‪191‬‬
192
‫لغة الشعر ‪:‬‬

‫(‪ )1‬لغة الشعر ولغة العلم ‪:‬‬

‫تمثل لغة القصيدة وجوداً موضوعياً يتم من خالله التعرف عليها وإيصالها إلى‬
‫أن للنحت وجوداً موضوعياً يتمثل في كتلة الحجر التي مر عليها إزميل‬
‫المتلقي‪ ،‬فكما ّ‬
‫النحات فحولها بكيفية ما إلى تمثال‪ ،‬كذلك القصيدة لها وجود موضوعي‪ ،‬وهو وجود‬
‫مكثف بالمعاني والدالالت التي يهدف الشاعر إلى إيصالها‪ ،‬ويقوم المتلقي بالكشف عنها‬
‫أو اإلسهام في توليدها‪ ،1‬ويتمثل هذا الوجود الموضوعي باللغة التي صاغها الشاعر‬
‫بكيفية معينة لتعبر عن موقفه من العالم واإلنسان‪ ،‬فالقصيدة » بنية لغوية مركبة يكشف‬
‫تفاعل عناصرها عن موقف الشاعر«‪.2‬‬
‫أن يتفاوت توظيف اللغة في القصيدة عنه في ميادين المعرفة‬
‫ومن الطبيعي ْ‬
‫األخرى‪ ،‬فإذا كانت ألوان المعرفة تسعى إلى تحقيق الكشف عن لون من الحقيقة بأداة‬
‫فإن وظيفة اللغة تكون مجردة لغرض التوصيل‪ ،‬كما ّ‬
‫أن الحقيقة التي تسعى‬ ‫منضبطة‪ّ ،‬‬
‫المعارف إلى الكشف عنها وتوصيلها هي حقيقة تنطوي على قدر من الثبات‪ ،‬غير أن‬
‫للشعر حقيقته الخاصة‪ ،‬ومادامت وظيفة الشعر تتجه في أحد جوانبها إلى تزويد المتلقي‬
‫بدراية ما بالواقع فإننا سنحتاج للشعر قطعاً في لون من الكشف‪ ،‬ألنها تكشف عن لون من‬
‫المعرفة يتغاير عما يكشفه الشعر‪ ،‬فالشعر اذن أحد الوسائل التي اليمكن االستغناء عنها‬
‫لفهم العالم وأنفسنا على السواء‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ ‪Foersyer , Literary Scholarship , Its Aim And Methods , The University Of north‬‬
‫‪Carolina press , Chapel Hill ,1944 , P. 104 - 105‬‬
‫‪ 2‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مداخل إلى علم الجمال األدبي ‪.100‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Leroy Marxism And Modern Literature , New York , 1967 p. 6 - 8‬‬
‫‪193‬‬
‫وتتغاير ـ في ضوء ماسلف ـ األداة المستخدمة في التعبير عن الوظائف‬
‫المختلفة‪ ،‬ألن وظيفة الشعر ليست التوصيل‪ ،‬وإنما هي وظيفة المعارف والعلوم‪ ،‬وإذا‬
‫تحولت لغة الشعر إلى وظيفة توصيلية فقدت خصائصها ومقوماتها‪ ،‬وألن القصيدة‬
‫الشعرية تتغاير عن ألوان المعرفة األخرى الفلسفية والعلمية في أن القصيدة التسعى إلى‬
‫إيصال المعرفة المجردة‪ ،‬وإنما تهدف إلى توصيل التجربة اإلنسانية إلى المتلقي بطـريقة‬
‫خاصة‪ ،‬سواء في فهم هذا االنفعال وفي نوعية دوافعه‪.1‬‬
‫ويضعنا الشريف المرتضى‪ 2‬أمام هذا التمايز بين لغة الشعر وغيره من ألوان‬
‫المعرفة‪ ،‬إذ يعي التداخل بين طبيعة اللغة من ناحية‪ ،‬وتأديتها الوظيفة من ناحية أخرى‪،‬‬
‫ومن خالل هذين البعدين يمكننا تمثل لغة الشعر‪ ،‬ألن اإلخالل بأحدهما يعني اإلخالل‬
‫بمفهوم الشعر ذاته ‪.‬‬
‫فإن مفهوم الشعر ال تتحدد عناصره دون وعي لوظيفة اللغة‬‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫الشعرية‪ ،‬ودون وعي لطبيعتها‪ ،‬وهذا ما ألتفت إليه الشريف المرتضى في أثناء تعرضه‬
‫للغة الشعر‪ ،‬مقارناً إياها ضمناً بلغة الفلسفة والمنطق‪ ،‬ويعي أن وظيفة اللغة لدى الفالسفة‬
‫ـ مثال ـ تهدف إلى إيصال المعرفة مجردة‪ ،‬ولذا كانت لغتهم قائمة على أساس التحقيق‬
‫والتحديد‪ ،‬بمعنى أن الوظيفة تتحكم إلى حد بعيد في تحديد ماهية اللغة‪ ،‬وما دامت‬
‫الوظيفة التوصيلية هي التي يستخدمها الفيلسوف في إيصال الحقيقة إلى اآلخرين‪ ،‬وما‬
‫أن يتعامل الفيلسوف مع اللغة‬
‫دامت هذه الحقيقة منطقية ومجردة فإنه من الطبيعي إذن ْ‬
‫بلون من التجريد يسهم في إيصال الحقيقة ممتزجة بلون من الضبط العلمي القائم على‬
‫تحقيق المعاني وتحديد األلفاظ ‪.‬‬
‫وال يهدف الشاعر بالضرورة إلى تحقيق هذا‪ ،‬وحتى المعرفة التي يسعى‬
‫المعاصرون إلى تأكيد توافرها في الشعر فإنها تتمايز عن الحقيقة المنطقية والعلمية‪ ،‬ألنها‬

‫‪ 1‬ـ ‪Winters , The Function Of criticism , Routiedge & Kegan Paul , London ,1957‬‬
‫‪P. 6 - 8‬‬
‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬
‫‪194‬‬
‫حقيقة من نوع آخر‪ ،‬بحيث يمكن القول إنها حقيقة شعرية‪ ،‬ومادامت الحقيقة الجديدة‬
‫تتغاير‪ ،‬وإن الكشف عنها ليس من أجل توصيل معرفة أو معلومة للمتلقي‪ ،‬فإنه لهذا كله‬
‫تغايرت طبيعة اللغة لتتجاوز تحديد األلفاظ وتحقيق المعاني إلى غاية تشكيلية معينة‪،‬‬
‫تنبئ عن موقف جمالي‪ ،‬وتنطوي على رؤية المبدع للعالم واإلنسان وموقفه منهما ‪.‬‬
‫ولقد أدرك الشريف المرتضى هذه الخاصية في لغة الشعر‪ ،‬فالشعر اليستخدم‬
‫اللغة لمجرد التوصيل‪ ،‬وال يستخدمها لمجرد أن تدل األلفاظ على ٍ‬
‫معان محددة‪ ،‬وإنما تخرج‬
‫اللغة لديه من تحقيق اللفظ على المعنى إلى » االشارات الخفية واإليماء على المعاني تارةً‬
‫أن هناك طريق ًة خاصة في التعبير عن المعاني‬ ‫من بعد وأخرى من قرب «‪ ،1‬وهذا يعني َّ‬
‫يعمد الشاعر اليها من خالل تشكيله اللغوي للقصيدة‪ ،‬وبهذا ينفي الشريف المرتضى‬
‫التقرير المباشر في التعبير ويهدف إلى تشكيل لغوي »تحمد فيه االشارة واالختصار‬
‫وااليماء إلى األغراض وحذف فضول القول «‪.2‬‬
‫إذن فالتغاير الوظيفي يحدد إلى حد كبير طبيعة التشكيل اللغوي للنص األدبي‪،‬‬
‫ويحدد تمايزه عن األشكال الفنية والمعرفية األخرى‪ ،‬ولذلك فإن تغاير وظائف الشعر عن‬
‫النثر قاد إلى تمايز بين تشكيلهما اللغوي‪ ،‬ومدى ما ينطوي عليه كل منهما من دالالت‬
‫جمالية ‪.‬‬
‫وتتميز لغة الشعر ـ فيما تتميز به ـ بطريقة خاصة في استخدام األلفاظ‪ ،‬وتتجاوز‬
‫هذه الطريقة ـ من حيث البدء ـ التحقيق والتحديد اللذين تنطوي عليهما تأدية المعاني التي‬
‫يقصد إليها الفالسفة والعلماء‪ ،‬وحين تتجاوز األلفاظ ـ في القصيدة ـ التحقيق والتحديد إنما‬
‫تهدف إلى تأدية جمالية تتكئ على الترميز واإليحاء‪ ،‬ويتضح هذا التجاوز من خالل وعي‬
‫طبيعة االنتهاك اللغوي المتعمد للخروج في التشكيل اللغوي من األداء النمطي إلى األداء‬
‫الفني ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه ‪. 95/2‬‬


‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪195‬‬
‫وتنطوي األلفاظ على دالالت محددة ومحصورة‪ ،‬ويعمد الشاعر في أثناء التشكيل‬
‫اللغوي للقصيدة إلى الخروج بهذه الدالالت المحصورة إلى آفاق أرحب‪ ،‬وهذا يعني أنه‬
‫يحقق انتهاكاً متعمداً لطبيعة الداللة الثابتة للفظة من ناحية‪ ،‬ولطبيعة التركيب المألوف‬
‫من ناحية ثانية‪ ،‬ويدل ـ في الوقت نفسه ـ على أن الشاعر ُيضفي سم ًة خاص ًة على داللة‬
‫المفردة ذاتها‪ ،‬ويخرج بها عن معناها المعجمي المحدود إلى داللة ثرية خاصة‪ ،‬وهذا كله‬
‫يتولد من خالل فاعلية السياق الذي ولدته التجربة االنفعالية للشاعر‪.‬‬
‫وإذا كان إيصال المعنى في المعارف والعلوم يتم بتحديد األلفاظ والتراكيب بعيداً‬
‫فإن لغة الشعر تؤدي دورها من خالل‬ ‫عن زيادات جمالية‪ ،‬وتخلصاً من فضول القول‪ّ ،‬‬
‫تشكيل خاص لطبيعة اللغة‪ ،‬وتدل على المعاني المقصودة باإليحاء واإليماء والتأثير‬
‫بالمتلقي من خالل الوعي والالوعي على السواء‪ ،‬وهذا يعني أن لغة الشعر تتجاوز‬
‫الطريق العلمي الذي تنطوي عليه لغة العلوم‪ ،‬وتخضع لمقومات ذاتية خاصة‪ ،‬بحيث‬
‫تجعل هذا األسلوب الشعري مختلفاً عن ذاك‪ ،‬ومتماي اًز عنه‪ ،‬ويعمد الشاعر من خالل‬
‫تشكيله اللغوي إلى تزويد المتلقي بنمط خاص من الوعي والمعرفة‪ ،‬ويتم إدراك هذا بطريقة‬
‫تتجاوز التقرير العلمي ‪.‬‬
‫ولقد تركزت عناية الناقد العربي بالكلمة بوصفها أصغر وحدة لغوية تنطوي على‬
‫داللة‪ ،‬ولقد جاءت العناية بالكلمات ألن القصيدة إنما هي تشكيل لغوي خاص يعبر عن‬
‫تجربة إنسانية معينة‪ ،‬وألنها أيضاً تنطوي على دالالت ومفاهيم‪ ،‬ويمكن توظيفها بكيفية‬
‫معينة لتدل على نوع من الشعو‪ ،1‬وال يتجاوز النقد العربي هذا التصور إال من حيث‬
‫ألن األلفاظ تمثل لدى الناقد العربي حجر الزاوية في تحديد لغة الشعر‪ ،‬ولذلك‬
‫الدرجة‪ّ ،‬‬
‫حددوا لها شروطاً‪ ،‬فمنها ما يتصل بالمعنى والكشف عنه‪ ،‬ومنها ما يتصل باأللفاظ ذاتها‪،‬‬
‫ومنها ما يتصل بالمتلقي وأثرها فيه ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ‪Winters , The function of criticism , p. 104‬‬


‫‪196‬‬
‫أن أبا أحمد العسكري‪ 1‬يتحدث عن األلفاظ من حيث طبيعتها‬‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫وجمالها‪ ،‬ومن حيث تأديتها لوظيفة توصيلية‪ ،‬ومن حيث تأثيرها في المتلقي‪ ،‬وال يعني‬
‫الجمال لديه إال عذوبة األلفاظ‪ ،‬ويشاطره المرزباني في هذه الصفة‪ ،‬ويضيف إليه أال‬
‫يخلط الشاعر كالمه بألفاظ منطقية‪ ،2‬وهذا يعني أن لغة الشعر ينبغي لها أن تتسم‬
‫بالعذوبة‪ ،‬وهو تعبير في حقيقته يشتمل على كثير من الغموض واللبس‪ ،‬ألن العذوبة‬
‫بذاتها من حيث بعدها المادي عملية تذوقية‪ ،‬فهي ـ من هذه الزاوية ـ حسية وذاتية‪ ،‬وقد‬
‫يتفق الناس على قدر معين في ضبط هذه الصفة في خصائصها المادية‪ ،‬غير أن‬
‫تحديدها في مجال الفن يعسر كثي اًر ‪.‬‬
‫إن جمال اللفظة ال يعود ـ في تصور النقاد ـ إلى عالقتها بسياقها‪ ،‬ومدى تأثير‬
‫إحداهما باألخرى‪ ،‬كما أنها ال تدل على قيمة بمقدار تأديتها الداللية والجمالية الخاصة‬
‫عبر تأدية دورها في التشكيل اللغوي للقصيدة‪ ،‬وإنما ترجع قيمة اللفظة وجمالها في آن‬
‫واحد إلى خاصية جوهرية كائنة في اللفظة ذاتها مستقلة عن السياق‪ ،‬ومستقلة عن التجربة‬
‫ان بإمكان الشاعر والمتلقي‬
‫الشعرية‪ ،‬وهذا يدل على تصنيف ما لأللفاظ خارج سياقاتها‪ ،‬و ّ‬
‫أن يكشف عن هذه الميزة التي تنفرد بها ألفاظ دون أخرى‪ ،‬ولقد حدد النقاد‬
‫على السواء ْ‬
‫أن هذا الوصف » العذوبة «‬
‫»العذوبة « بوصفها خاصية تمنح اللفظة قيمة خاصة‪ ،‬غير ّ‬
‫وصف مضلل‪ ،‬وأقل ما يقال فيه أنه ٍ‬
‫خال من الضبط والتحديد ‪.‬‬
‫وإذا كان وصف العذوبة يخضع لمقومات ذوقية تأثرية تنبئ عن غموض ما في‬
‫فإن أبا أحمد العسكري اشترط أن‬
‫التشكيل اللغوي‪ ،‬أو تفسير عام تأثري أشار إليه الناقد‪ّ ،‬‬
‫تكون األلفاظ خفيفة على السمع‪ ،‬ولعل هذا يرجع إلى تفسير صوتي يحاول الناقد ْ‬
‫أن‬
‫يتجاوز فيه ثقل الوحدات الصوتية‪ ،‬وان خفة األلفاظ توحي بمكونات إيقاعية معينة‪ ،‬ولكن‬

‫‪ 1‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪ 2‬ـ المرزباني‪ ،‬معجم الشعراء‪ ،‬تحقيق عبد الستار أحمد فراج‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي‬
‫الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ، 1960 ،‬ص ‪. 140‬‬
‫‪197‬‬
‫على الرغم من ذلك فإنه لم يدرك أن خفة اللفظة واستثقالها قد ترجع إلى كيفية تشكيلها في‬
‫النص الشعري أحياناً ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا يرجع أبو أحمد العسكري لغة الشعر وقيمتها إلى بعد ذوقي‬
‫وتأثري‪ ،‬وتكون ذاتية الناقد متحكمة في تحديد قيمة األلفاظ‪ ،‬ومما يثير االنتباه أن أبا‬
‫أحمد العسكري يجعل األلفاظ تخضع لتأدية بعد توصيلي من ناحية‪ ،‬ولمعيار كمي من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬ألن أحسن األلفاظ لديه »ما يزيد في كشف المعنى واختصاره بأقل ما يمكن‬
‫من العبارة«‪.1‬‬
‫إن العناية البالغة باأللفاظ لدى الناقد العربي لها ما يبررها ألنها أول ما َيبدهنا‬
‫ّ‬
‫بالقصيدة‪ ،‬فهي التي تطبع في إحساسنا أث اًر نفسياً من حيث وقعها السمعي والتخيلي‪ ،‬أي‬
‫في مدى تأثيرها اإليقاعي والتصويري فنياً‪ ،‬ومن الجدير باإلشارة َّ‬
‫أن الجانب اإليقاعي‬
‫أن نفهم األلفاظ فهماً عقلياً‬
‫لأللفاظ أسبق من تأمل صورها وداللتها‪ ،‬ألنه » حتى قبل ْ‬
‫أن حركة األلفاظ وجرسها‬ ‫أن تكون األفكار التي تحدثها هذه األلفاظ وتتابعها نجد ْ‬
‫وقبل ْ‬
‫تؤثران تأثي اًر عميقاً مباش اًر في نـزعاتنا «‪ .2‬وعلى الرغم من أن هذا التصور يعنى بتأثير‬
‫فإن المتلقي ال يدرك لأللفاظ إيقاعا محضاً‪ ،‬بل تتداخل‬‫األلفاظ وإيقاعها في ذات المتلقي‪ّ ،‬‬
‫المكونات وتتفاعل مع بعضها لتترك أث اًر ما في المتلقي ‪.‬‬
‫ألن‬
‫إن عناية الناقد باأللفاظ تمثل ـ أحياناً ـ غاية يسعى إلى إرسائها وتوظيفها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫القصيدة ال تعدو في النتيجة أن تكون أكثر من مجموعة من الكلمات المتضامة والتي‬
‫تربطها ببعضها عالقات داللية وتركيبية وجمالية‪ ،‬وهذا ما أطلقنا عليه التشكيل اللغوي‬
‫للقصيدة‪ ،‬ولذلك ألفينا الناقد العربي يعنى باأللفاظ من حيث بناؤها الصوتي ومن حيث‬
‫تنافر أصواتها أو تالؤمها‪ ،‬ليخلص من هذا كله إلى تصنيف الكلمات إلى لونين ‪ :‬شعري‪،‬‬
‫وليس شعرياً‪ ،‬وهو بهذا يرجع الخاصية الشعرية للكلمة إلى وجود مستقل عن السياق‪ ،‬أي‬

‫‪ 1‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪213‬‬
‫‪ 2‬ـ ريتشاردز‪ ،‬العلم والشعر‪ ،‬ترجمة مصطفى بدوي‪ ،‬مراجعة سهير القلماوي‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬د ‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪. 28‬‬
‫‪198‬‬
‫أنها شعرية بذاتها ال بغيرها‪ ،‬ومن هنا جاء التفاضل بين الكلمات في تصور النقاد‬
‫القدامى‪.‬‬
‫وقد عزز هذا التصور نظرة الناقد التجزيئية التي تعنى بالجزئيات مستقلة عن‬
‫انساقها وبنياتها‪ ،‬وهي نظرة عقلية ـ دون شك ـ تحاول أن تفض االشتباك والتعقيد‬
‫والغموض‪ ،‬كما أنها ترى أال يتم البناء عبر تصور كلي تخضع فيه الجزئية‪ ،‬وإنما هو‬
‫بناء يتم في ضوء تمثل حقيقي للجزئية التي سيتم تشييد البناء في ضوئها‪ ،‬وإن دراسة‬
‫الجزئية إنما هو درس للبناء بالنتيجة مادام البناء حاصل مجموع األجزاء ‪.‬‬
‫ويرجع هذا التصور في حقيقته إلى تصور فلسفي يحاول إرجاع كل شيء إلى‬
‫جوهره‪ ،‬ومعرفة قيمة هذا الجوهر‪ ،‬وكأن القصيدة الشعرية تتمثل في هذه الزاوية الهامة ـ‬
‫الكلمة ـ ولذا تركزت العناية بها‪ ،‬وبطبيعة بنائها‪ ،‬وقد أفاد النقاد من علوم العربية من حيث‬
‫درس بناء الكلمة الصوتي والصرفي‪ ،‬وإرجاع ذلك إلى دالالت ثابتة ‪.‬‬
‫ويرى ابن جني ان للشعر كلمات تليق به فليس كل مفردة تصلح أن تكون‬
‫شعرية‪ ،‬فهناك كلمات من حلو الكالم وعذبه وغيره ال يصلح لتأدية هذا الدور‪ ،‬إذن البد‬
‫أن ينتقي الشاعر كلماته ويتخير حلوها من رديئها‪ ،‬ولذلك عاب ابن جني على المتنبي‬
‫جمعه كلمتي »الصيقلين « و » بابة « في قوله ‪:‬‬

‫الصيقلين‬ ‫مدهش‬ ‫مرهفاً‬ ‫أرى‬

‫عتا‬ ‫غالم‬ ‫كل‬ ‫وبابة‬

‫طهمه وال من عذبه«‪1‬وأرجع ابن‬ ‫ألن هاتين الكلمتين » ليستا من حلو الكالم وال من ُم ّ‬
‫جني هذا ألن المتنبي قد ارتجل هذا البيت من ضمن بيتين‪ ،‬ولذا فقد كان المتنبي ـ هنا ـ‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬الفسر‪ ،‬ص ‪. 120‬‬


‫‪199‬‬
‫» قليل التخير للكالم‪ ،‬إذا عبر عن المعنى الذي في نفسه بأي كالم حضره فقد بلغ‬
‫غايته‪ ،‬والكالم يختار كما يختار الجوهر «‪.1‬‬
‫أن العناية بالكلمة ترجع إلى نظرة غائية تجعل الكلمة‬
‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫هدفاً مقصوداً لذاته‪ ،‬وقد دفع هذا التصور النقاد إلى تقسيم الكلمات إلى كلمات شعرية‬
‫وأخرى غير شعرية‪ ،‬دون أن يدركوا أن الكلمات ال تتضمن هذه الخاصية خارج السياق‪،‬‬
‫أن الكلمة لن تكون شعرية في إطار ثباتها المعجمي‪ ،‬وإنما تكون شعرية بالكيفية‬‫بمعنى ّ‬
‫أن السياق هو الذي يضفي عليها داللة خاصة تتجاوز‬ ‫التي تتم بها صياغتها في سياق‪ ،‬و َّ‬
‫داللتها المعجمية على نحو التخصيص أو التعميم‪ ،‬بل ان السياق ُيضفي عليها حيوية‬
‫وخصوبة ‪.‬‬
‫إن الكلمة في األداء غير الشعري تدل على معنى محدد ألنها تخضع ألبعاد‬
‫ّ‬
‫عقلية صارمة وتعرض فكرة عرضا منطقيا‪ ،‬وتسيطر عليها وظيفة التوصيل المقصود‪،‬‬
‫ولكنها في الشعر تتجاوز هذا القصور لتشتمل على دالالت توحي بها أكثر مما تدل عليه‬
‫إذا كانت في المعجم أو في سياق غير شعري ‪.‬‬

‫) ‪ ( 2‬المعجم الشعري ‪:‬‬

‫إن الناقد في تحديده لجماليات » المفردة « خارج السياق إنما يقوم بتصنيف‬
‫ّ‬
‫ذوقي للكلمات المعجمية‪ ،‬ويخضع هذا التصنيف ـ في حقيقته ـ إلى عوامل عديدة‪ ،‬منها‬
‫ما هو تأثري يتصل بالمقومات والخصائص الذاتية ـ الذوقية‪ ،‬ومنها ما هو خارجي يتصل‬
‫بمدى استخدام » المفردة « بحيث يكون استخدامها المسرف في الواقع معيباً فيما لو‬
‫استخدمت في الشعر‪ ،‬ويخضع للون من التطور التاريخي‪ ،‬كما تخضع من زاوية أخرى‬
‫إلى تغيير المعايير‪ ،‬سواء أكان هذا التغيير مقترناً بسياقه التاريخي أم مستقالً عنه‪ ،‬وال‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.120‬‬


‫‪200‬‬
‫نغفل ـ هنا ـ طبيعة بناء الكلمة ذاتها من حيث األصوات التي تشكلها‪ ،‬وجمال هذا‬
‫التشكيل أو قيمته‪ ،‬مما سبق تناوله ‪.‬‬
‫ومن الضروري التأكيد أن الناقد العربي لم يكن يعنى بربط المفردة بداللتها‪،‬‬
‫وكأن المعنى ال نقاش حوله‪ ،‬فهو الثابت الذي ال يقبل التفاوت والتغير‪ ،‬أما شكل اللفظة‬
‫فهو ما يعنى به الناقد غاية العناية‪ ،‬ومن هنا جاء حديثهم عن لفظة عذبة وأخرى غير‬
‫عذبة‪ ،‬وتحديدهم هذا ال يخضع في حقيقته إلى معيار محدد‪ ،‬وإنما يخضع ـ غالبا ـ‬
‫فإن هذه المقومات‬
‫لمقومات ذوقية‪ ،‬أصبحت جزءاً من مفهوم األدب‪ ،‬وعلى الرغم من هذا ّ‬
‫يشوبها غموض المصطلح وشيوع داللته ‪.‬‬
‫أما عالقة اللفظ بلون خاص من انفعال المبدع فلم يلتفت إليه الناقد ـ غالباً ـ ألن‬
‫عملية خلق النص األدبي أساساً من المناطق المحظور الحديث فيها‪ ،‬ألنه يقود إلى قياس‬
‫القرآن الكريم بالمعيار ذاته‪ ،‬وهذا ما يتجافى الناقد االقتراب منه‪ ،‬ولذلك اتجه الدرس كله‬
‫إلى لون من الصنعة‪ ،‬وهي عملية يتفاوت في ضوئها الشعراء‪ ،‬ويمثل استخدام األلفاظ‬
‫وانتقاءها أحد العناصر التي تميز شاع اًر عن أخر‪ ،‬ولهذا فالشريف المرتضى يعيب‬
‫استخدام لفظة » دعوة « في قول الشاعر ‪:‬‬

‫عيب‬
‫ٌ‬ ‫فيه‬ ‫لنا‬ ‫ليس‬ ‫مجلس‬
‫ٌ‬

‫األحالم‬ ‫دعوِة‬ ‫في‬ ‫أنا‬ ‫غير‬

‫إذ يرى أن هذا البيت ال يهجنه » إال لفظة » الدعوة « فإنها كلمة عادية قلما يستعملها‬
‫فصحاء الشعراء«‪.1‬‬
‫ويقودنا هذا إلى أن هناك ألفاظاً تصلح ألن تكون شعرية‪ ،‬وغيرها ال يصلح‬
‫لتأدية هذه الوظيفة‪ ،‬مما يعني أن الشعر البد أن يكون له معجم لغوي خاص في إطار‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬طيف الخيال‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪201‬‬
‫ان الشاعر ـ‬
‫معجم اللغة‪ ،‬وان الشاعر البد أن يقتبس صياغاته من هذا المعجم الخاص‪ ،‬و ّ‬
‫لو ذهبنا مع النقاد في تصوراتهم بعيداً ـ حين يكثر من هذا المعجم الخاص في تشكيل‬
‫ورقياً فنياً فيه‪ ،‬ولم يتجاوز الناقد العربي هذه النظرة‬
‫قصيدته‪ ،‬يعني تسامياً في شعره‪ُ ،‬‬
‫تأصيالً وإضافة‪ ،‬ولم يحدد عناصر هذا المعجم ومكوناته‪ ،‬غاية ما في األمر أنه كان‬
‫يعنى في الجانب اآلخر الذي يقبل فيه مفردة ويرفض أخرى‪ ،‬ألن األولى شعرية‪ ،‬والثانية‬
‫ليست بشعرية ‪.‬‬
‫وتتحدد شعرية اللفظ بالرجوع إلى بعد صوتي ذوقي معاً‪ ،‬ويرجع التمايز ـ هنا ـ‬
‫إلى تنافر الحروف أو تالؤمها‪ ،‬ويبدو هذا معيا اًر يمكن أن يعزز قيمة المعجم اللغوي‪،‬‬
‫غير أن الناقد كثي اًر ما ينأى عن هذه السمة ليسرف في إطالق أحكام عامة تعتمد الذوق‬
‫في تقبل هذه المفردة دون غيرها ‪.‬‬
‫أن البعد‬
‫ومن المالحظ أن قضية تنافر الحروف تخضع لتتابع زماني إيقاعي‪ ،‬أي ّ‬
‫الصوتي السمعي هو المتحكم فيها‪ ،‬وهي بهذا خاضعة للون من العناية الشكلية الخارجية‪،‬‬
‫ويغفل النقاد ـ من هذه الناحية ـ ما تشتمل عليه اللفظة من داللة في ضوء سياقها‪ ،‬بل‬
‫العكس إنهم يتأملون المفردات خارج سياقاتها‪ ،‬وكأنها جوهر متكامل مستقل ‪.‬‬
‫فإن جمالية اللغة الشعرية تخضع لعنصريين أساسيين‪ ،‬أولهما ‪:‬‬ ‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫أن الجمال منحصر في اللفظ ال يكاد يفارقه‪ .‬وثانيهما ‪ :‬أنه جمال جزئي‪ ،‬بمعنى أن قيمة‬
‫ّ‬
‫اللغة الشعرية ال تتركز في طبيعة المضمون‪ ،‬فهذا مفهوم عام يعبر عنه ثبات المعاني‬
‫واستقاللها‪ ،‬ولكن الصياغات تعبر عن هذه المعاني بألوان متعددة ومتباينة‪ ،‬ويتأتى‬
‫الجمال عبر هذه الكيفيات المختلفة من الصياغة‪ ،‬إذن َّ‬
‫فإن القيمة الجمالية للغة الشعر‬
‫تتمثل في اللفظة خارج سياقها‪ ،‬أي أنها جميلة بذاتها‪ ،‬وكأنها تمثل مفردة في معجم مستقل‬
‫وتحمل قيمتها الثابتة سواء استخدمت في هذا السياق أو لم تستخدم ‪.‬‬
‫بقيت مسألة البد من اإلشارة إليها‪ ،‬وهي أن عناية الناقد في أحد جوانبها ركزت‬
‫على الجانب الكمي من األلفاظ‪ ،‬وافترض هذا في الشاعر المحدث لما يعانيه من محنة‬
‫عدم معايشة اللغة في مظانها كما كان يعيشها الشاعر القديم‪ ،‬ومن هنا اشترط القاضي‬

‫‪202‬‬
‫الجرجاني‪1‬رواية الشعر ركناً أساسياً يساعد الشاعر في تمكنه من تحقيق إبداعه‪ ،‬ويتوقف‬
‫الناقد عند هذه الخاصية‪ ،‬إذ يرى ّ‬
‫أن الثراء اللغوي الذي يغترف منه الشاعر يمكنه كثي اًر‬
‫في اإلبداع‪ ،‬على أن هذه الخاصية ليست هي الخالقة للنص الشعري‪ ،‬ألن » كمية األلفاظ‬
‫التي في متناول الشاعر ال تحدد منـزلته بين الشعراء‪ ،‬وإنما الذي يحدد مكانته الطريقة‬
‫التي يستخدم بها هذه األلفاظ « ‪.2‬‬
‫إذن فاأللفاظ لدى الناقد العربي تمثل قيمة مستقلة بذاتها لما تتضمنه من جمال‬
‫ذاتي‪ ،‬ولذلك فإنها متقدمة في الكشف عن الداللة‪ ،‬وتنحصر عناية الناقد بشكلها‬
‫فإن الجرجاني يرى أن »روعة اللفظ تسبق إلى الحكم وإنما تفضي إلى‬
‫وصياغتها‪ ،‬ولذا ّ‬
‫المعنى عند التفتيش والكشف« ‪.3‬‬
‫إن األلفاظ خارج سياقاتها ال تعدو أن تكون مجرد أدوات يشار بها إلى األشياء‬
‫َّ‬
‫أو األفكار‪ ،‬ألنه »ليس للكلمات في ذاتها صفات أدبية خاصة‪ ،‬وال توجد كلمة قبيحة أو‬
‫جميل ة في ذاتها‪ ،‬أو من طبيعتها أن تبعث على اللذة أو عدمها‪ ،‬ولكن لكل كلمة مجال‬
‫من التأثيرات الممكنة يختلف طبقاً للظروف التي توجد فيها«‪ ،4‬وهذا التصور هو ما افتقر‬
‫إليه وعي الناقد العربي الذي ظل يختزل في الغالب الداللة الجديدة التي يولدها السياق‪،‬‬
‫ويضفيها على الكلمة‪ ،‬وكان همه الحفاظ على ثبات داللة الكلمة بوصفها حجر األساس‬
‫في بناء القصيدة ‪.‬‬
‫وما ينطبق على الكلمات بأنها ال تشتمل على خصائص تميزها عن غيرها‬
‫ينطبق كذلك على اللغة ذاتها‪ ،‬فليست لغة من لغات البشر تتسم بخصائص شعرية وأخرى‬
‫إن كان نقادنا يذهبون إلى هذا التمايز‪ ،‬وهذا ما نلحظه بوضوح لدى ابن‬
‫تفتقر إليها‪ ،‬و ْ‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي و خصومه‪ ،‬ص ‪. 25‬‬


‫‪ 2‬ـ ريتشاردز‪ ،‬العلم والشعر‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ 4‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مبادئ النقد األدبي‪ ،‬ترجمة مصطفى بدوي‪ ،‬مراجعة لويس عوض‪ ،‬المؤسسة المصرية العامة‬
‫للتأليف والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪1963 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 190‬‬
‫‪203‬‬
‫جني‪ ،‬ولدى أبي أحمد العسكري الذي يمنح اللغة العربية ميزة أكبر في شاعريتها لكثرة‬
‫تصرف العرب في النثر والنظم والخطب ‪ ،1‬والحق أنه ال توجد » كلمات شعرية وأخرى‬
‫غير شعرية‪ ،‬وليست هناك » لغة شعرية « ـ أو شاعرة ـ وأخرى غير شعرية‪ ،‬إنما يتعامل‬
‫الشاعر مع كلمات اللغة العادية لكنه ال يتعامل مع النظام العادي لهذه اللغة «‪. 2‬‬

‫) ‪ ( 3‬المؤثرات الخارجية في لغة الشعر ‪:‬‬

‫وتخضع لغة الشعر لمؤثرات خارجية تتدخل في تحديد قيمتها وجمالها سواء‬
‫بسواء‪ ،‬ومن هذه المؤثرات خضوعها لألطوار الحضارية التي تمر بها األمم‪ ،‬كما أنها‬
‫تتأثر بطبيعة البيئة ان كانت حاضرة أو بادية‪ ،‬وقد فطن إلى ذلك ابن سالم الجمحي ففي‬
‫حديثه عن لغة عدي بن زيد يرى أنها تختلف عن لغة شعراء البادية بسبب سهولتها‬
‫ولينها‪ ،‬ويرجع ذلك إلى سكنه في الحاضرة‪ ،‬يقول ‪ » :‬وعدي ابن زيد كان يسكن الحيرة‬
‫الن لسانه وسهل منطقه «‪ ،3‬ويفيد القاضي الجرجاني من هذه الفكرة‬
‫ويراكن الريف َف َ‬
‫ويعمقها ويلفتنا إلى أثر الحضارة على لغة الشعر‪ ،‬ويتكئ على قول الرسول الكريم صلى‬
‫هللا عليه وسلم «من بدا جفا « حيث يقول ‪ » :‬وترى الجافي الجلف منهم كز األلفاظ‪،‬‬
‫معقد الكالم‪ ،‬وعر الخطاب‪ ،‬حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته‪ ،‬وفي جرسه‬
‫ولهجته‪ ،‬ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك « فتعقيد الكالم وصالبة األلفاظ تتأتى ـ‬
‫أحياناً ـ بسبب البداوة‪ ،‬ولذلك فالقاضي الجرجاني يرى أن شعر عدي بن زيد الجاهلي‬

‫‪ 1‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفصيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪. 214‬‬
‫‪ 2‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مداخل إلى علم الجمال األدبي‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن سالم‪ ،‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت ‪. 140/1 ،‬‬
‫‪204‬‬
‫أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة اإلسالميين‪ » ،‬لمالزمة عدي الحاضرة وايطانه‬
‫الريف وبعده عن جالفة البدو وجفاء األعراب «‪.1‬‬
‫وليس األمر مقتص اًر على شاعر دون آخر إذ يتحول األمر لدى القاضي‬
‫الجرجاني إلى قانون عام تخضع فيه القصيدة لطبيعة المرحلة الحضارية التي تمر بها‪،‬‬
‫ولذلك فقد أخذ الجرجاني يقارن بين اللغة قبل اإلسالم وبعده‪ ،‬وبخاصة في المرحلة التي‬
‫اتسعت فيها ممالك العرب‪ ،‬ولذلك مال الناس فيها إلى اختيار اسهل الكالم وألينه‪ ،‬يقول‬
‫الجرجاني ‪ :‬ولما »كثرت الحواضر‪ ،‬ونـزعت البوادي إلى القرى‪ ،‬وفشا التأدب والتظرف‬
‫اختار الناس من الكالم ألينه وأسهله « ‪.2‬‬
‫ويعي الجرجاني ـ في ضوء هذا ـ تطور اللغة ونموها بنوع الطور الحضاري الذي‬
‫تجتازه‪ ،‬ألنه ال يمكن لها أن تنفصل عن المرحلة الحضارية التي تمر بها‪ ،‬بل انها على‬
‫العكس » تلتحم بصورة مباشرة متينة بالتطور التاريخي لتكوين اإلنسان عضوياً وذهنياً‪،‬‬
‫كما أنها األداة الوحيدة التي يواكب نضجها تكوين المجتمعات البشرية ويحدد شروط‬
‫بقائها« ‪.3‬‬
‫وإذا كانت الحضارة تمثل عنص اًر مؤث اًر في اللغة بشكل عام‪ ،‬وفي لغة الشعر‬
‫فإن الطبع ـ وهو سمة داخلية ـ يمثل عامالً تتمايز في ضوئه لغة الشعر‪،‬‬
‫بشكل خاص‪ّ ،‬‬
‫ألن أحوال الشعراء ـ فيما يرى القاضي الجرجاني ـ متباينة » فيرق شعر أحدهم‪ ،‬ويصلب‬
‫شعر اآلخر‪ ،‬ويسهل لفظ أحدهم‪ ،‬ويتوعر منطق غيره«‪ ،4‬ويرجع القاضي الجرجاني ذلك‬
‫إلى عصر ذاتي يتصل بالطبع والخلقة‪ ،‬ويقيم في ضوئه قانوناً تخضع له األلفاظ مؤداه‪:‬‬
‫ان سالمة اللفظ تتبع سالمة الطبع ودماثة الكالم بقدر دماثة الخلقة«‪ 5‬وكأن لغة الشعر‬
‫» َّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪ 3‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مقدمة في نظرية األدب‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1973 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 17‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 18 ،‬‬
‫‪205‬‬
‫خاضعة لهذا القانون‪ ،‬ومتأثرة بمعطياته‪ ،‬كما أن تحديد ماهية الشعر مرتبطة بخاصية‬
‫ذاتية ارتباط المعلول بعلته‪ ،‬لدرجة انها تحمل سمات هذه الخاصية ومالمحها‪ ،‬فالقاضي‬
‫الجرجاني يصنف لغة الشعر تبعاً لتغاير الطباع في طبقات متفاوتة غير قابلة للتداخل‬
‫والتقاطع ‪.‬‬
‫وإذا كان الجرجاني قد جعل الحضارة ـ وهي مؤثر خارجي ـ سبباً في التأثير في‬
‫لغة الشعر وماهيته على السواء‪ ،‬كما قد جعل للطبع ـ وهو خصيصة داخلية ـ أثره في‬
‫تحديد لغة الشعر وقيمتها‪ ،‬فإنه من ناحية أخرى يلفتنا إلى األغراض الشعرية وأثرها في‬
‫تحديد لغة الشعر من ناحية‪ ،‬وعالقتها بصدق التجربة الشعرية من ناحية ثانية‪ ،‬ففي الغزل‬
‫ـ مثالً ـ يرى أن لغة الشعر ينبغي أن تتناغم مع طبيعة الغرض الشعري من حيث الرقة‪،‬‬
‫فهو ال يقرن هذا بالطبع وحده‪ ،‬وإنما يشترط الصدق‪ ،‬وصدق التجربة ـ فيما يظهر لدى‬
‫الجرجاني ـ تعني عيش التجربة نفسها في الواقع االجتماعي‪ ،‬وينبئ الجرجاني عن ضرورة‬
‫التفاعل وااللتحام بين لغة الشعر والتجربة التي يمر بها الشاعر‪ ،‬ولذا َّ‬
‫فإن » رقة الشعر‬
‫فإن اتفقت لك الدماثة والصبابة‬
‫أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم والغزل المتهالك ْ‬
‫وانضاف الطبع إلى الغزل فقد جمعت لك الرقة من أطرافها «‪1‬وبهذا تتقاطع دماثة الطبع‬
‫وال يقتصر األمر على الغزل‬ ‫مع الغرض الشعري ليقود إلى الرقة من أرقى مستوياتها‬
‫فإن األغراض الشعرية األخرى تتفاوت في خصائصها وكيفية التعبير عنها‪ ،‬وال يمكن أن‬‫ّ‬
‫يكون التعبير في الفخر مماثال لالعتذار ـ مثال ـ ولذلك ينصح القاضي الجرجاني الشاعر‬
‫بقوله ‪ « :‬فال يكون غزلك كافتخارك‪ ،‬والمديحك كوعيدك‪ ،‬والهجاؤك كاستبطائك‪ ،‬والهزلك‬
‫بمنـزلة جدك‪ ،‬والتعريضك مثل تصريحك‪ ،‬بل ترتب كالً مرتبته وتوفيه حقه‪ ،‬فتلطف إذا‬
‫تغزلت‪ ،‬وتفخم إذا افتخرت «‪ .2‬ولم يكن القاضي الجرجاني يهدف إلى تحديد طبيعة‬
‫األغراض الشعرية فحسب‪ ،‬وإنما يتحدث عن الخصائص التي تتمايز فيها لغة كل غرض‬
‫عن آخر‪ ،‬لدرجة أن هناك تفاوتاً في أداء األلفاظ وطبيعة اللغة إزاء كل غرض شعري ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 18‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 224‬‬
‫‪206‬‬
‫وتمثل الحرب أحد المؤثرات في لغة الشعر‪ ،‬فالحرب تثير الكوامن وتدفع الشعراء‬
‫إلى اإلبداع‪ ،‬وقد فسر ابن سالم الجمحي كثرة الشعر في المدينة بسبب النـزاعات الدائرة‬
‫بين األوس والخزرج‪ ،‬ويفسر قلته في مكة َّ‬
‫ألن قبيلة قريش لم يكن بينها وبين غيرها‬
‫خصومة‪ ،‬يقول ابن سالم‪ » :‬وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين األحباء نحو‬
‫حرب األوس والخزرج‪ ،‬وقوم يغيرون ويغار عليهم‪ ،‬والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن‬
‫بينهم ثائرة ولم يحاربوا وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف «‪.1‬‬
‫ويتحدث القاضي عبد الجبار عن أثر الحرب في الفصاحة‪ ،‬وإذا كانت الفصاحة‬
‫تتحدد في أحد جوانبها بالعلم‪ ،‬أي بمعرفة أفراد الكلمات وكيفية تضامها وتركيبها ومواقعها‪،‬‬
‫فإن الجانب اآلخر يتركز في الجوانب‬
‫إضافة إلى القدرة على تأدية هذه العلوم الضرورية‪ّ ،‬‬
‫الداخلية االنفعالية‪ ،‬وتمثل الحرب مؤث اًر يحرك طبع الشاعر‪ ،‬يقول القاضي عبد الجبار‬
‫»إن المتعالم من حال كثير من الفصحاء َّ‬
‫أن حال الحرب تحرك من طبيعة في الفصاحة‪،‬‬
‫ما يتمكن معه مما لوال الحرب لم يتمكن‪ ،‬وهذا معلوم من حال شعرائهم فيما كانوا يوردون‬
‫في هذا الحال من الشعر والكالم « ‪ 2‬إذ جعل حال الحرب مؤث اًر في طبع المبدع‪،‬‬
‫ومحركاً لمكامن الفصاحة‪ ،‬فكأن الفصاحة كامنة‪ ،‬وجاء مؤثر خارجي فساعد على‬
‫تحريكها وإظهارها‪ ،‬ومن هنا يتجلى َّ‬
‫أن إبداع النص األدبي لدى القاضي عبد الجبار‬
‫يحكمه » الطبع « بوصفه بعداً داخلياً‪ ،‬وهو بعد أساسي في تكوين اإلبداع األدبي وكيفية‬
‫تشكيله‪ ،‬ويحكمه من ناحية أخرى أبعاد خارجية‪ ،‬وهي تمثل عوامل مساعدة في تحريك‬
‫كوامن الفصاحة‪ ،‬وتمثل الحرب أحد هذه المؤثرات ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن سالم‪ ،‬طبقات فحول الشعراء‪. 259/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني‪. 277/6 ،‬‬
‫‪207‬‬
‫) ‪ ( 4‬المؤثرات الداخلية في لغة الشعر ‪:‬‬

‫وال أريد أن أخلص من الحديث عن لغة الشعر دون التحدث عن الوضوح‬


‫والغموض‪ ،‬فلو تتبعنا الرماني في تحديده للبالغة أو لالستعارة لالحظنا تأكيد الوضوح‬
‫واإلبانة‪ ،1‬وإن هذين المصطلحين يتداخالن إلى حد بعيد‪ ،‬فكأن اإلبانة الوجه اآلخر‬
‫فإن الرماني ال يجعل اإلبانة هدفه األسمى بحيث يقلل من‬
‫للوضوح‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك ّ‬
‫قيمة غيرها‪ ،‬ألنه ال يخرج اإليجاز والقصر عن األداء الفني الجميل وهما مشتمالن على‬
‫الغموض‪ ،‬كما َّ‬
‫أن الغموض يفيض من ثنايا المجاز والمتشابه من اآليات القرآنية الكريمة‪،‬‬
‫ولذا جاء الحديث عن ضرورة إظهار القرائن من اجل الكشف عن الدالالت ‪.‬‬
‫وينبغي أن نميز بين مصطلحي » الغموض « و » التعقيد « ونلحظ َّ‬
‫أن القاضي‬
‫الجرجاني يعي تماماً الفصل بينهما‪ ،‬إذ يجعل التعقيد منحص اًر في األلفاظ‪ ،‬ويجعل‬
‫أن هذه القسمة ليست سليمة تماما َّ‬
‫فإن بها‬ ‫الغموض متصالً بالمعاني‪ ،‬وعلى الرغم من َّ‬
‫جانبا من الصحة‪َّ ،‬‬
‫ألن التعقيد يتصل بطبيعة الصياغة اللغوية فبيت الفرزدق ‪:‬‬

‫مملكاً ًُ‬ ‫إال‬ ‫الناس‬ ‫في‬ ‫مثله‬ ‫وما‬

‫يقاربه‬ ‫أبوه‬ ‫حي‬ ‫أمه‬ ‫أبو‬

‫يشتمل هذا البيت على لون من التعقيد‪ ،‬وتتجلى داللته انطالقاً من إدراك طبيعة التركيب‬
‫اللغوي ذاته » فبمجرد أن تحدد عائد الضمائر في هذا البيت تكون كل المشكلة قد حلت‪،‬‬
‫ويكون المعنى قد اتضح تماما «‪.2‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 85 ،69‬‬


‫‪ 2‬ـ عز الدين اسماعيل‪ ،‬الشعر العربي المعاصر‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية‪ ،‬دار الكاتب العربي‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1967 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 189‬‬
‫‪208‬‬
‫ويدرك الجرجاني أن األلفاظ مستقلة ال تدل على غموض أو تعقيد‪ ،‬وإنما يتولدان‬
‫من جراء التركيب‪ ،‬ففي قول األعشى ‪:‬‬

‫البال‬ ‫في‬ ‫الفتى‬ ‫هادي‬ ‫كان‬ ‫إذا‬

‫األمير‬ ‫أطاع‬ ‫القناة‬ ‫صدر‬ ‫د‬

‫يرى الجرجاني أن هذا البيت » سليم النظم من التعقيد‪ ،‬بعيد اللفظ عن االستكراه‪ ،‬ال تشكل‬
‫كل كلمة بانفرادها على أدنى العامة« ‪ 1‬كما َّ‬
‫أن هذا البيت ال يتأتى غموضه من تعقيد‬
‫األلفاظ‪ ،‬كما هو الحال في بيت الفرزدق سالف الذكر الذي لو حلت مشكلة الصياغة‬
‫لبانت داللة البيت‪ ،‬ولكن بيت األعشى يختلف عنه‪ ،‬إذ يرجع الغموض إلى قضية خارجية‬
‫تتصل بطبيعة الحال التي دعت األعشى إلى التعبير عنها‪ ،‬وهذا يعني أننا خرجنا من‬
‫دائرة التعقيد إلى لون الغموض الذي ال يمكن تأدية داللته إال بوعي بعد خارجي‪ ،‬وكأننا‬
‫إزاء لون من التأمل‪ ،‬ولذلك قال الجرجاني »فإذا أردت الوقوف على مراد الشاعر فمن‬
‫المحال عندي والممتنع في رأيي أن يصل إليه إال من شاهد األعشى بقوله‪ ،‬فاستدل بشاهد‬
‫الحال وفحوى الخطاب«‪. 2‬‬
‫ويخلص الجرجاني من التمييز بين التعقيد والغموض إلى أن شعر أبي الطيب‬
‫المتنبي لم يخل منهما‪ ،‬وال يعد هذا عيباً من الشعر ألنه » لو كان التعقيد وغموض‬
‫المعنى يسقطان شاع اًر لوجب أن ال يرى ألبي تمام بيت واحد‪ ،‬فإنا ال نعلم له قصيدة تسلم‬
‫من بيت أو بيتين قد وفر من التعقيد حظهما‪ ،‬وأفسد به لفظهما ولذلك كثر االختالف في‬
‫معانيه « ‪ 3‬فالجرجاني يخلص إلى قضية مفادها َّ‬
‫أن الغموض إنما يمثل قيمة في النص‬

‫‪ 1‬الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 418‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 417‬‬
‫‪209‬‬
‫الشعري‪ ،‬شريطة أال يتحول الغموض إلى غاية مقصودة لذاتها‪ ،‬ولذا فهو حين يدافع عن‬
‫شعر المتنبي يرى أن معاني قصائده ال تزيد على غموض غيره من الشعراء‪ ،‬كما أن‬
‫ألفاظه ليست معقدة تعقيد أبيات الفرزدق ‪.1‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.419‬‬


‫‪210‬‬
‫اإليقاع‬

‫) ‪ ( 1‬ماهية اإليقاع ‪:‬‬

‫يمثل التكرار والتوقع األساس الجوهري الذي يرتكز عليه الوزن واإليقاع‪ ،‬وقد‬
‫أدرك الناقد العربي هذه الخاصية في الشعر في كون الوزن تك ار اًر للحركة والصوت‪ ،‬كما‬
‫قد أدرك أثر هذا التكرار من حيث تتابع الوحدات الصوتية المنتظمة والمتتالية في الزمن‬
‫كما هو الحال في البناء العروضي أو من حيث التماثل الصوتي في آخر كلمتين أو أكثر‬
‫كما هو الحال في السجع‪ ،‬أو من حيث التكرار بصيغته األولية التي تعتمد تكرار حرف أو‬
‫كلمة أو جملة أو نحوها ‪.‬‬
‫إن التكرار يكتنف القصيدة بأسرها‪ ،‬فهو ينتظمها من جهة التتابع الصوتي في‬
‫التفعيالت المنتظمة في البيت الشعري‪ ،‬ويتأسس هذا التتابع في ضوء أسس وأصول‬
‫معينة‪ ،‬كما َّ‬
‫أن القصيدة من حيث بنيتها تمثل تك ار اًر من نوع آخر تتكرر فيه وحدة البيت‪،‬‬
‫وتتابع األبيات الواحد تلو اآلخر في أنساق معينة فضالً عن تماثل إيقاعي يحتوي آخر‬
‫كل بيت شعري مع األبيات التي تسبقه والتي تليه مما يعرف بالقافية‪ ،‬وأخي اًر يحتوي‬
‫القصيدة تماثل شطري البيت ـ على وجه العموم ـ وهذا لون آخر من التكرار ‪.‬‬
‫وتتمثل صورة اإليقاع بشكل أولي بحركات منتظمة تلتئم في مجموعات متساوية‬
‫ومتشابهة‪ 1‬وهذا يعني أن هناك بعدين أساسيين يشكالن اإليقاع ويحددان طبيعته‬
‫ومكوناته‪ ،‬وهما ‪ :‬الحركة والتنظيم‪ ،‬ففي الحركة يتحدد الجانب المادي لإليقاع‪ ،‬أي حركة‬
‫الوحدات الصوتية في بعد زماني معين‪ ،‬وفي التنظيم يتحدد الجانب الذهني‪ 2‬الذي يحكم‬
‫العملية اإليقاعية من حيث التماثل والتوقع والمساقات‪ ،‬إذن يتم اإليقاع من خالل حركة‬

‫‪ 1‬ـ شكري عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 53‬‬


‫‪ 2‬ـ فؤاد زكريا‪ ،‬مع الموسيقى‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ، 1971 ،‬ص ‪. 61‬‬
‫‪211‬‬
‫تم ذلك‬
‫مادية في إطار زماني‪ ،‬وتخضع هذه الحركة لعملية يمثل التكرار جوهرها‪ ،‬سواء ّ‬
‫بتكرار الضربات المتتابعة في الموسيقى‪ ،‬بكيفية تتوقعها األذن بعد مسافات معينة من‬
‫الزمن‪ ،‬أو يتم ذلك بتكرار الوحدات الصوتية في التشكيل اللغوي للشعر‪ ،‬على نحو يخضع‬
‫فيه ألبعاد زمانية تتوقعها األذن بشكل من األشكال ‪.‬‬
‫وال يتأتى تشكيل القصيدة الشعرية دون تنظيم معين للكلمات‪ ،‬ومن ثم يكون بناء‬
‫القصيدة زمانياً في داخل اللغة‪ ،‬والتي هي بطبيعتها تشكيل زماني‪ ،‬ألنها ال يتحقق وجودها‬
‫إال بتتابع وتوالي وحداتها الصوتية‪ ،‬لتتماثل إلى حد ما مع الضربات اإليقاعية للموسيقى‪،‬‬
‫فإن أحمد بن فارس يؤكد » أن أهل‬
‫وال نعدم أن نجد تأكيداً لهذا المعنى في تراثنا‪ّ ،‬‬
‫العروض مجمعون على أن ال فرق بين صناعة العروض وصناعة اإليقاع‪ ،‬إال أن‬
‫صناعة اإليقاع تقسم الزمان بالنغم‪ ،‬وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف‬
‫المسموعة«‪.1‬‬
‫إن الفرق الجوهري الذي تتمايز به اللغة ـ ومن ثم الشعر ـ عن الموسيقى في أن‬
‫َّ‬
‫الضربات الموسيقية ال تشتمل على دالالت ومفاهيم كالتي تتضمنها الكلمات‪ ،‬وإنما يتحقق‬
‫في الموسيقى وعي عبر اإلحساس واالنفعال بطبيعة النغم كله‪ ،‬أما اللغة‪ ،‬على الرغم من‬
‫أنها بناء صوتي زماني فإنها تتضمن دالالت‪ ،‬وتتابع وحداتها الصوتية هو الذي يتضمن‬
‫داللتها ومعانيها الخاصة بها ‪.‬‬
‫وتمثل الكلمات األداة التي يستخدمها الشاعر في خلق اإليقاع في النص‬
‫الشعري‪ ،‬وفي خلق عالم شعري يتضمن رؤية الشاعر وموقفه من العالم واإلنسان‪ ،‬وتتميز‬
‫الكلمات بخصائصها من حيث الوقع والتأثير في القصيدة‪ ،‬مرة باستقاللها ومرة بتفاعلها‬
‫في سياق القصيدة‪ ،‬وما تولده كيفية التركيب والتضام لهذه الكلمات ‪.‬‬
‫ومن هنا جاء الحديث عن تأثير الكلمات سواء من جهة التشكيل الزماني‬
‫اإليقاعي واقترانه بالوحدات الصوتية‪ ،‬أو من جهة ما تنطوي عليه هذه الكلمات من‬

‫‪ 1‬ـ أحمد بن فارس‪ ،‬الصاحبي‪ ،‬ص ‪ ،467‬ينظر أيضا‪ ،‬الفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪،‬‬
‫ص ‪ ،231‬وما بعدها‬
‫‪212‬‬
‫دالالت متضمنة في الوحدات الصوتية‪ ،‬أو من جهة تأثيرها في مخيلة المتلقي من تشكيل‬
‫مكاني ـ التصوير ـ ومن شأن هذه كلها أن أن تؤثر في جملة التشكيل اللغوي للقصيدة‪،‬‬
‫غير أن هناك خاصية تنفرد بها الكلمة من حيث تأثير صوتها‪ ،‬الذي يبلغ أقصى قوته‬
‫وتأثيره من خالل اإليقاع ‪ ،1‬إذن فاإليقاع يتصل ببنية الكلمة ومقدار تأثيرها وتفاعلها مع‬
‫غيرها من الكلمات‪ ،‬وال يخضع اإليقاع لخاصية صوتية مستقلة عن الداللة‪ ،‬وإنما تتحقق‬
‫هذه الخاصية في ضوء تأدية داللة يقصد الشاعر إلى إيصالها‪ ،‬ألن » موسيقى األلفاظ ال‬
‫‪2‬‬
‫تصدر من مجرد صوتها العاري مفصوال عن معناها« ‪ ،‬كما ّ‬
‫أن اإليقاع يعبر بكيفية ما‬
‫عن موقف الشاعر‪ ،‬وكيفية تخليق تجربته االنفعالية وعالقتها بالكلمات وكيفية تضامها ‪.‬‬
‫أن اإليقاع مستقل عن هذه العناصر المختلفة‪ ،‬بل على العكس من‬‫يعني هذا ّ‬
‫وال ِ‬
‫ذلك‪ ،‬إذ تتمثل القصيدة من خالل هذه الوحدة المتشابكة‪ ،‬التي يتم وجودها من خالل هذه‬
‫العناصر كلها‪ ،‬بمعنى أن هناك تفاعالً على نحو من األنحاء بين موقف الشاعر وتجربته‬
‫االنفعالية من ناحية وكيفية تشكيل اإليقاع من ناحية أخرى‪ ،‬وهذا ال يتم إال بتشكيل معين‬
‫تتراص فيه الكلمات التي يختارها الشاعر وينتقيها ‪.‬‬
‫ويسهم اإليقاع بشكل فاعل في تأدية داللة جمالية تتشابك بفاعلية مع المعنى‪،‬‬
‫ان طبيعة اإليقاع تسهم بشكل أو بآخر في توصيل الداللة التي ال تستطيع الكلمات‬‫أي ّ‬
‫فإن » موسيقية القصيدة إنما توجد في هيكلها العام كوحدة‪ ،‬وهذا الهيكل‬
‫أن تؤديها ولذا ّ‬
‫يتألف من نمطين‪ ،‬نمط األصوات ونمط المعاني الثانوية التي تحكمها األلفاظ‪ ،‬وهذان‬
‫النمطان متحدان في وحدة ال يمكن انفصامها‪ ،‬فمن الخطأ اإلدعاء َّ‬
‫بأن موسيقى الشعر‬
‫تنشأ من صوته المجرد بصرف النظر عن معناه األول ومعانيه الثانوية «‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.192‬‬


‫‪ 2‬ـ محمد النويهي‪ ،‬قضية الشعر الجديد‪ ،‬معهد الدراسات العربية‪ ،‬المطبعة العالمية‪ ،‬القاهرة ‪1964‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪. 47‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ 21‬ـ ‪. 22‬‬
‫‪213‬‬
‫ويخضع اإليقاع لشبكة معقدة من التأثيرات المتشابكة‪ ،‬وهي التي تشكل القصيدة‪،‬‬
‫وينبغي أ ال يخدعنا هذا لنعطي قيمة ألي إيقاع‪ ،‬ألن اإليقاع ليس غاية مقصودة لذاتها‪،‬‬
‫ألنه » سرعان ما يصبح اإليقاع المسرف في البساطة شيئاً ممالً تمجه النفس وخالياً من‬
‫االنفعال والتأثير «‪.1‬‬
‫وكما أن اإليقاع ال ينفصل عن موقف الشاعر وتجربته الشعرية‪ ،‬كذلك ال يمكن‬
‫فصله عن كيفية التضام التي يتم من خاللها تشكيل القصيدة وتشكيل إيقاعها‪ ،‬كما ينبغي‬
‫أن النفصل ذلك كله عن خصائص اللغة ذاتها من حيث أنظمتها اللغوية ومدى تأديتها‬
‫الدالالت الجمالية ‪.‬‬
‫وتمثل القيمة الصوتية الجانب األساسي في إحداث اإليقاع الشعري‪ ،‬بل ان‬
‫«األصوات اللغوية ال تصبح لها قيمة عروضية إال إذا انتظمت على أساس موسيقى »‪.2‬‬
‫إن اإليقاع ليس حركة أو تردداً غير خاضع ألي قانون أو انضباط‪ ،‬وإنما تكون حركته‬
‫ّ‬
‫منتظمة على أساس توافق وانسجام‪ ،‬بحيث تتأتى األصوات بعد مسافات زمنية‪ ،‬وتتحدد‬
‫نسبة هذه المسافات في ضوء اعتبارات خاصة‪ ،‬إذن فاألصوات تمثل األساس الجوهري‬
‫في إيقاع الشعر وتمثل » مفتاح التأثيرات األخرى بالشعر «‪. 3‬‬
‫وفي ضوء هذا ال يمكن إغفال القيمة الصوتية للغة ألنها تشتمل على أبعاد‬
‫إن تكرار القيمة الصوتية بكيفية‬
‫جمالية‪ ،‬شأن القيمة الصوتية التي تتضمنها الموسيقى‪ّ ،‬‬
‫معينة يخرج بها من أبعادها الداللية المحدودة إلى تأدية دالالت جمالية جديدة‪ ،‬ولم تكن‬
‫اللغة بمفردها ـ دون هذا التركيب اإليقاعي ـ قادرة على تأديتها ‪.‬‬
‫ونخلص من هذا كله إلى أن األصوات اللغوية هي المادة التي يتشكل من‬
‫خاللها النص الشعري‪ ،‬وانها تتسم بتضمنها دالالت‪ ،‬ولو لم تكن كذلك لكانت فناً زمانياً‬
‫خالصاً كالموسيقى‪ ،‬وهذا يعني أن الوزن الشعري ال ينفصل في الحقيقة عن دالالت‬

‫‪ 1‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.192‬‬


‫‪ 2‬ـ شكري عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 25‬‬
‫‪ 3‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪214‬‬
‫الكلمات‪ ،‬ومادام » الوزن الشعري ينبع من تآلف الكلمات في عالقات صوتية ال تنفصل‬
‫عن العالقات الداللية والنحوية فالبد أن يستمد الوزن الشعري فاعليته من أداة صياغته‬
‫ذاتها أي من اللغة‪ ،‬وليس من مجرد محاكاة فن آخر كالموسيقى «‪ 1‬ومن هنا يتأتى‬
‫أن يضفي دالالت‬ ‫أن اإليقاع يمكن ْ‬ ‫التداخل الوظيفي بين اإليقاع والداللة‪ ،‬على نحو َّ‬
‫جديدة‪ ،‬لدرجة يصبح فيها الوزن أحد » الوسائل المرهفة التي تمتلكها اللغة الستخراج ما‬
‫تعجز عنه داللة األلفاظ في ذاتها من استخراجه من النفس البشرية «‪.2‬‬
‫ويقودنا هذا إلى التمييز بين من ينشد توصيل النص ومن يسعى إلى تشكيله‪،‬‬
‫ألن األول سيحول القصيدة إلى مجرد نظم‪ ،‬في حين يسعى الثاني إلى خلق نص شعري‪،‬‬
‫ومن خالل هذا نلتقي بقيمة البناء الصوتي للكلمات التي يتركب منها النص الشعري‪ ،‬وهو‬
‫تركيب إيقاعي تتشابك فيه مؤثرات عديدة‪ ،‬وينتزع المتلقي المعنى عبر تفاعل ال سبيل إلى‬
‫تحديد كيفيته‪ ،‬ولذلك فإن » معنى القصيدة إنما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثيره‬
‫بناء الكلمات كمعان‪ ،‬وذلك التكثيف للمعنى الذي نشعر به في أية قصيدة أصيلة إنما هو‬
‫حصيلة لبناء األصوات «‪ 3‬وعلى الرغم من المبالغة الواضحة في إعطاء الصوت قيمة‬
‫قصوى في تحديد المعنى‪ ،‬وفي كيفية تشكيل الشعر‪ ،‬فإنها مبالغة ال تخلو في جذورها من‬
‫الصحة‪ ،‬وبخاصة عند من يغالي كثي اًر في إعطاء الكلمة قيمة لمجرد داللتها دون أن‬
‫يكون لتفاعلها أثر في إثراء الداللة في السياق ‪.‬‬
‫إن الكلمة تتضمن داللتها المعجمية خارج سياقها ومن ثم تتسم داللتها‬ ‫ّ‬
‫بخصوصية في سياقها اللغوي‪ ،‬أما اإليقاع فإنه يؤدي إلى تعميق الداللة وتكثيفها من‬
‫ناحية‪ ،‬وإسهامه في إضافة دالالت ال يمكن للسياق وحده أن يحققها من ناحية ثانية‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ،‬دراسة في التراث النقدي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪، 1978 ،‬‬
‫ص ‪. 375‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.377‬‬
‫‪ 3‬ـ ارشيبالد مكليش‪ ،‬الشعر والتجربة‪ ،‬ص ‪. 23‬‬
‫‪215‬‬
‫فاإليقاع إذن يسهم في التعبير عن »ظالل المعاني وألوانها باإلضافة إلى داللة األلفاظ‬
‫والتراكيب اللغوية«‪.1‬‬
‫بقي أن أشير إلى أن اإليقاع ليس خاصية تتميز بها الفنون الزمانية كالموسيقى‬
‫والشعر‪ ،‬ولكنه يتوافر أيضا في الفنون المكانية كالرسم والنحت‪ ،‬واإليقاع في األخيرين ال‬
‫يخضع لحاسة السمع في التتابع والتوالي‪ ،‬وإنما يرجع إلى حاسة البصر التي تتأمل إحداث‬
‫حركة من التكرار والتتابع البصري‪ ،‬فاإليقاع في الرسم ـ مثال ـ هو » تكرار المساحات‬
‫مكوناً وحدات قد تكون متماثلة أو مختلفة أو متقاربة أو متباعدة‪ ،‬ويقع بين كل وحدة‬
‫وأخرى مسافات تعرف بالفترات « ‪ 2‬ومن الجدير باإلشارة أن اإليقاع هنا ال يرجع للسياق‬
‫ألن العناصر اإليقاعية في الرسم »تكون آنية ال متتالية زمنية‪ ،‬أي أنها قد توجد‬
‫الزماني‪ّ ،‬‬
‫جميعا في نفس اآلن واللحظة « ‪.3‬‬

‫) ‪ ( 2‬ميزان الشعر العربي ‪:‬‬

‫أن األساس في البناء العروضي هو تضام الوحدات‬


‫وقد أدرك الناقد العربي ّ‬
‫الصوتية بكيفية معينة‪ ،‬وهو بهذا يرجع جذر البناء العروضي إلى أساس صوتي‪ ،‬فالبد‬
‫اذن من إدراك خصائص الوحدات الصوتية هذه‪ ،‬غير َّ‬
‫أن هذه الدراسة الصوتية التي‬
‫يحكمها ُبعد إيقاعي خارجي قد شغلت الناقد بوصفها معيا اًر شكلياً‪ ،‬وهو يعنى بها مستقلة‬
‫عن عناصر أخرى‪ ،‬تحدد ماهية القصيدة وقيمتها‪ ،‬ففي الوقت الذي يعنى فيه الناقد‬

‫‪ 1‬ـ محمد مندور‪ ،‬األدب وفنونه معهد الدراسات العربية‪ ،‬مطبعة مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1963 ،‬م ‪،‬‬
‫ص ‪.29‬‬
‫‪ 2‬ـ عبد الفتاح رياض‪ ،‬التكوين في الفنون التشكيلية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ 1973 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 90‬‬
‫‪ 3‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪216‬‬
‫بدراسة وزن القصيدة فإنه يوجه جل عنايته لتضام هذه الوحدات الصوتية ومقابلتها بمثالها‬
‫فإن عيباً سيحل بالقصيدة‪.‬‬
‫اإليقاعي الذي ال ينبغي لها أن تخرج عليه‪ ،‬وإال ّ‬
‫أن » لألصوات اللغوية ال‬ ‫إن هذه العناية ال تربط اإليقاع بالداللة‪ ،‬صحيح َّ‬
‫َّ‬
‫تصبح لها قيمة عروضية إال إذا انتظمت على أساس موسيقي «‪ 1‬أما عالقة هذه‬
‫الوحدات الصوتية بداللتها من ناحية‪ ،‬أو عالقتها بتشكيل الصورة الشعرية من ناحية ثانية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لمعان جديدة في ضوء إيقاعها الشعري من ناحية ثالثة‪ ،‬فإن هذا كله لم‬ ‫أو مدى تأديتها‬
‫يخطر ببال الناقد العربي على اإلطالق ‪.‬‬
‫إذن فالقصيدة ال يتأتى لها وجود موضوعي إال بالوحدات الصوتية التي انتظمت‬
‫أن تؤدي هذه الوحدات الصوتية عمالً متراكباً بالغ‬
‫على أساس موسيقى‪ ،‬ومن الطبيعي ْ‬
‫التعقيد‪ ،‬صوتياً‪ ،‬وداللياً‪ ،‬وإيقاعياً‪ ،‬والمؤكد َّ‬
‫أن هذه األبعاد المختلفة ليست منفصلة التأثير‬
‫والتفاعل‪ ،‬وإنما هي تؤدي دورها مرة واحدة في سياق واحد ‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن اإليقاع الموسيقي الذي يتولد عبر التأثير والتفاعل اللذين أشرت إليهما إنما‬
‫يؤدي دوره بتفاعله هو اآلخر مع الصورة الشعرية‪ ،‬ألنه بها »تتحقق خاصية الشعر‪ ،‬وهي‬
‫أن يحيل المعاني المجردة إلى امتثاالت عينية تنفعل لها الحواس انفعاال لذيذاً «‪ ،2‬ولم‬
‫يكن الناقد العربي يعي هذه العالقة المتفاعلة بين هذه األبعاد من ناحية‪ ،‬وعالقتها‬
‫بالصورة الشعرية من ناحية أخرى‪ ،‬غاية ما في األمر أنه شغل بالمطابقة بين الوحدات‬
‫الصوتية ومثالها المعياري الذي ينبغي أن يحكم العالقة بأسرها ‪.‬‬
‫ولقد أُقر المثال المعياري نتيجة استقراء ناقص للشعر العربي‪ ،‬وتثار اليوم حوله‬
‫إشكاالت في أنه أثبت قيماً وزنية وعروضية لنماذج شعرية‪ ،‬واغفل إمكانيات إيقاعية‬

‫متوافرة في نصوص أخرى‪ 3‬وهذا يعني أن البناء النظري للعروضي لم يكن مستوعباً‬

‫‪ 1‬ـ شكري عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 25‬‬


‫‪ 2‬ـ عبد الرحمن بدوي‪ ،‬في الشعر األوربي المعاصر‪ ،‬المؤسسة المصرية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪1980 ،‬م‬
‫‪ ،‬ص ‪. 72‬‬
‫‪ 3‬ـ كمال ابو ديب‪ ،‬في البنية اإليقاعية للشعر العربي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪. 32‬‬
‫‪217‬‬
‫النصوص الشعرية القديمة‪ ،‬فهو مخالف من هذه الناحية الواقع الشعري‪ ،‬كما أن الدوائر‬
‫العروضية التي أدت إلى فروض نظرية عن األوزان الشعرية تخالف ـ هي األخرى ـ الواقع‬
‫من حيث عدد التفعيالت وكيفية تركيبها‪ ،‬وقد حاولوا تبعاً لذلك القول َّ‬
‫بأن هذه األبحر أو‬
‫بعضها قد استخدمت مجزوءة وليست تامة‪ ،1‬غير َّ‬
‫أن الخطير في هذا كله َّ‬
‫أن األمثلة‬
‫المعيارية تحولت إلى أمثلة ثابتة غير قابلة للتطور والتجديد‪.‬‬
‫وتغلب النـزعة المعيارية على الدراسات العروضية‪ ،‬فيما يخص بحثنا َّ‬
‫فإن ابن‬
‫أن العروض علم نعرف به صحيح الشعر من مكسوره‪ 2‬ومثله ما ذهب اليه‬
‫جني يرى َّ‬
‫الصاحب بن عباد غير أنه أضاف إلى تأكيد معياريته مماثلته بالنحو العربي‪ ،‬فإذا كان‬
‫فإن العروض » ميزان الكالم بها‬ ‫النحو » معيار الكالم بها يعرف معربه من ملحونه «‪3‬‬
‫ّ‬
‫يعرف مكسوره من موزونه « ‪ ،4‬فالعروض علم معياري يساعد على معرفة وزن الشعر‪،‬‬
‫والتعرف على مواطن الصحة والخطأ في اإليقاع‪ ،‬شأن العروض ـ هنا ـ شأن آلة المنطق‬
‫التي تعصم الفكر من الوقوع في الخطأ‪ ،‬ولعل القواعد الصارمة التي ألزم بها العروضيون‬
‫أنفسهم تماثل إلى حد كبير ـ من حيث الجوهر ـ القواعد التي ألزم بها المناطقة أصولهم‬
‫وحدودهم‪ ،‬لدرجة ترى التماثل ـ أحياناً ـ في تتبع القضية من أبسط جزيئاتها والسمو معها‬
‫في تراكيب متتابعة ‪.‬‬
‫وتتأسس األصول النظرية للعروض من التمييز بين الحركة والسكون‪ ،‬ويصف‬
‫أحد الباحثين هذه التمييز بأنه » بسيط جدا ‪ .....‬ولكنها بساطة خادعة «‪ 5‬وسبب ذلك‬

‫‪ 1‬ـ شكري عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 14‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬العروض‪ ،‬نسخة خطية مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية‪ ،‬جامعة الدول‬
‫العربية‪ ،‬تحت رقم ‪ 17‬عروض وقو ٍ‬
‫اف ‪ ،‬ورقة ‪. 1‬‬
‫‪ 3‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض وتخريج القوافي‪ ،‬تحقيق محمد حسن آل ياسين‪ ،‬مطبعة‬
‫المعارف‪ ،‬بغداد‪ 1379 ،‬هـ ـ ‪ 1960‬م ‪ ،‬ص ‪. 3‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 3‬‬
‫‪ 5‬ـ شكري عياد‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 29‬‬
‫‪218‬‬
‫يعود إلى َّ‬
‫أن تراكيب هذه الحركات والسكنات قادت إلى أبنية متعددة وبالغة التعقيد‬
‫والتشابك ‪.‬‬
‫وتستهوي ابن جني هذه التقسيمات معتمداً منطقه القياسي في التماثل‪ ،‬فإن ما‬
‫يسمى شع اًر لديه كل » ما وافق أشعار العرب في عدة الحروف الساكن والمتحرك «‪1‬‬
‫وكأن الفرق بين ما هو عربي وما ليس عربياً عدد هذه الحروف الساكنة والمتحركة‪ ،‬ثم‬
‫أن شعر العرب مركب من سبب ووتد وفاصلة «‪2‬‬
‫يشرع بعد ذلك في التحدث عن » َّ‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ليعرج بعد ذلك إلى األوزان الشعرية المختلفة‪ .‬ومثل هذا ما فعله الصاحب بن‬
‫عباد ‪ ،3‬في أنهما يشتركان في هذا الضبط المعياري ومتابعة قضايا العروض العربي من‬
‫ابسط جزيئاتها من األوتاد واألسباب واالنتهاء بالتركيب واألوزان والقوافي ‪.‬‬
‫وبما َّ‬
‫أن دراسة العروض تقوم على أساس توزيع معين لألسباب واألوتاد‬
‫إن علماء العروض لم يلتفتوا إلى تأسيس علم العروض على أساس مقطعي‪،‬‬‫والفواصل ف ّ‬
‫تم تصنيف الشعر العربي ودراسة إيقاعه في ضوء تركيب المتحرك والساكن الذي‬
‫وإنما ّ‬
‫تتكون من خالل تضامهما األسباب واألوتاد والفواصل‪ ،‬ويختلف هذا األساس عن الشعر‬
‫فإن موسيقاه ـ فيما ينقل محمد مندور » تقوم على الكم اللغوي للمقاطع وأنواع من‬
‫اليوناني ّ‬
‫ألن علماء العروض عند اليونان‬‫التنسيق الموسيقي بين تلك المقاطع المختلفة الكم ‪َّ .....‬‬
‫والرومان أقاموا موسيقى الشعر على التمييز بين ما يسمونه بالمقطع الطويل والمقطع‬
‫القصير»‪.4‬‬
‫قصير ـ له عالقة بالنبر‪ ،‬والنبر يؤثر على التشكيل‬
‫اً‬ ‫إن المقطع ـ طويالً كان أو‬
‫ّ‬
‫أن الناقد‬
‫أن المقطع كان مهمالً أو ّ‬‫الموسيقي‪ ،‬وقد يؤثر في إضفاء سمات داللية‪ ،‬وبما ّ‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬العروض‪ ،‬ورقة ‪. 1‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ورقة ‪ 3‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض والقوافي‪ ،‬ص ‪ 3‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ محمد مندور‪ ،‬األدب وفنونه‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪219‬‬
‫العربي كان يجهله فلقد أغفلت القيمة الموسيقية والداللية للنبر‪ ،1‬كما قد أغفل تقنين تأثير‬
‫التنغيم موسيقياً وداللياً‪ ،‬وليس من الضروري تكرار ما تحدث عنه بعض الدارسين عن‬
‫المقاطع وأنواعها‪ ،‬وعن مواطن النبر في هذه المقاطع وأثر ذلك في الداللة من ناحية‬
‫والبناء الموسيقي من ناحية أخرى‪ ،‬وسبب عدم عنايتنا بذلك ألن الناقد العربي لم يكن‬
‫يعنى به‪ ،‬وألن تكرار حديثه يعد من فضول القول‪.2‬‬
‫ويمثل الوزن ضابطاً إيقاعياً‪ ،‬وليس له تأثير ـ في تصور القدامى ـ في معنى‬
‫الشعر‪ ،‬أو في التأثير الداللي بين الكلمات بعضها ببعض‪ ،‬ألن الوزن يمثل زينة خارجية‪،‬‬
‫حس ُن الشعر «‪ 3‬ليدل‬ ‫ن‬
‫ويؤكد هذا المعنى أبو الحسن الرماني الذي يرى في الوز أنه » ُي ّ‬
‫بذلك على أنه شيء آخر غير الشعر‪ ،‬يستقل عنه وينفصل‪ ،‬وتتحدد وظيفته في إضفاء‬
‫حس ُن الشعر‬ ‫ن‬
‫أن الوز ُي ّ‬
‫هذه الزينة الكمالية عليه‪ ،‬ولكنها زينة هامة لديه‪ ،‬ألنه » لوال ّ‬
‫فإن الوزن إنما هو مجرد ضابط‬ ‫‪4‬‬
‫لنقصت منـزلته في الحسن نقصانا عظيماً « ‪،‬ولذا ّ‬
‫إيقاعي خارجي‪ ،‬كما أنه من ناحية أخرى ال يستمد تأثيره من موقف الشاعر‪ ،‬فاإليقاع ـ‬
‫والوزن أحد جوانبه ـ إنما هو مستقل في ضوء هذا التصور عن موقف الشاعر وانفعاله‪،‬‬
‫وليس له تأثير داخلي في تشكيل القصيدة‪ ،‬ألنه ضابط خارجي‪ ،‬وظيفته التزيين والتمييز‬
‫بين ما هو شعري وما ليس بشعري ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ـ ينظر كمال ابو ديب‪ ،‬في البنية اإليقاعية للشعر العربي‪ ،‬ص ‪ 289‬وما بعدها ‪ .‬وهناك من يرى ّ‬
‫أن هناك‬
‫تنغيماً ونب اًر في التراث العربي الفلسفي‪ ،‬ينظر ‪ :‬إلفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪ ،‬ص‬
‫‪. 248 - 242‬‬
‫‪ 2‬ـ ينظر ‪ :‬عن المقطع القصير والطويل‪ ،‬رمضان عبد التواب‪ ،‬التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه‪ ،‬مكتبة‬
‫الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ 1977 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ 62‬وما بعدها‪ ،‬وعن النبر ص ‪ 87‬وما بعدها‪ ،‬ينظر ‪ :‬كمال ابو ديب‪،‬‬
‫في البنية اإليقاعية للشعر العربي‪ ،‬ص ‪ 287‬وما بعدها‪ ،‬وابراهيم أنيس‪ ،‬موسيقى الشعر‪ ،‬وشكري عياد‪،‬‬
‫موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ 3‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في اعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 102‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 102‬‬
‫‪220‬‬
‫وإذا كان الوزن يمثل زينة خارجية‪ ،‬ومستقال عن موقف الشاعر فإنه مجرد قالب‬
‫تحل فيه القصيدة بما تشتمل عليه من موقف ومشاعر وانفعال‪ ،‬وكأن الوزن واإليقاع‬
‫منفصالن عن التجربة الشعرية في حين أن »كل تجربة شعرية تفرض وزنها الخاص‪ ،‬كما‬
‫إن اختيار الشاعر للوزن إنما هو اختيار‬ ‫‪1‬‬
‫تفرض كيفية خاصة في تشكيل اإليقاع « بل ّ‬
‫للون إيقاعي يتجاوب مع طبيعة التجربة الشعرية‪ ،‬ومن هنا تتأتى قيمة اختيار الوزن‬
‫واستخدامه‪ ،‬بحيث يكون مالئماً لطبيعة المضمون‪ ،‬وال يعني هذا أن هناك تطابقاً غامضاً‬
‫بين األوزان والعواطف المعينة‪ ،‬كما أنه ليس هناك أوزان سعيدة وأخرى حزينة‪ 2‬إذن‬
‫فالشاعر » ال يبدأ بموضوع أو فكرة أو غرض‪ ،‬وإنما هو يبدأ عمله عندما يهيمن عليه‬
‫اإليقاع الموجه إلى التشكيل‪ ،‬توحي سيطرة اإليقاع على الشاعر بالخطة األولية للقصيدة‬
‫أن ينتهي من تشكيلها « ‪.3‬‬
‫التي ال يعرف الشاعر عنها شيئاً قبل ْ‬

‫) ‪ ( 3‬دور القافية في اإليقاع ‪:‬‬

‫وتلتحم القافية بوصفها لوناً إيقاعيا مع الوزن وهي ال تختلف في تركيبها عن‬
‫إيقاع الوزن من حيث كونها أصواتاً متكررة لها نظامها وطريقتها‪ ،‬وهي غالباً ما تلتزم آخر‬
‫البيت العربي لتكون » بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها‪ ،‬ويستمتع بمثل هذا‬
‫التردد الذي يطرق اآلذان في فترات زمنية منتظمة «‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص ‪. 77‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Perrine , Laurence Sound And Sense , An Introduction To poetry , Harcourt ,‬‬
‫‪New York , 1956 , p. 168‬‬
‫‪ 3‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مداخل إلى علم الجمال األدبي‪،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ 4‬ـ ابراهيم انيس‪ ،‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬ص ‪. 111‬‬
‫‪221‬‬
‫وال ريب أن القافية تؤدي دو اًر إيقاعياً متمي اًز‪ ،‬شرط أن ال يفهم هذا الدور على‬
‫ألن القافية ليست مقصودة لذاتها‪ ،‬قدر تأديتها وظيفة إيقاعية جمالية‪،‬‬
‫أنه الغاية والمعيار‪ّ ،‬‬
‫بحيث تؤدي دورها متناغماً مع اإليقاع الكلي للقصيدة‪ ،‬وحتى عند من يرى ّ‬
‫أن القافية «لها‬
‫وظيفتها الخاصة في التطريب كإعادة » أو ما يشبه اإلعادة لألصوات «‪ 1‬إنما ُيعنى‬
‫بالجانب الشكلي من القافية‪ ،‬وهي عناية صوتية بحتة‪ ،‬وبذا تكون القافية متصلة بإيقاع‬
‫األثر على المتلقي ‪.‬‬
‫عرف نقاد القرن الرابع الهجري القافية لم يختلفوا بالتزامهم بمعايير من‬
‫وحين ّ‬
‫سبقهم من علماء العروض‪ ،‬وبخاصة الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ ،‬وكان الجانب المعياري‬
‫طاغياً ومتحكماً في المكونات الموسيقية‪ ،‬فالقافية التي يلتزم بها ابن جني هي ما جاء بها‬
‫الخليل‪ ،‬وتتحدد » من آخر البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبل الساكن «‪2‬‬
‫‪ ،‬وهذا تحديد يعنى بالمعيار والضابط دون عنايته باإليقاع ‪.‬‬
‫إذن فالقافية في تصور النقاد تمثل ضابطاً معيارياً ثابتاً‪ ،‬تخضع فيه األصوات‬
‫لنظام صارم يتصل بكيفية معينة بإيقاع القصيدة‪ ،‬وتمثل ـ في الغالب ـ أحد الوسائل التي‬
‫عدها النقاد أحد مكونات القصيدة ‪ ،3‬واألمر الذي ال‬
‫تميز بين قالبي الشعر والنثر‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أن القافية ال تنفك عن التفاعل المثمر مع اإليقاع الكلي للقصيدة‪ ،‬متناغمة معه‬
‫ريب فيه ّ‬
‫يحول جانباً من إيقاع القافية‬
‫أن التزام القافية في قصيدة واحدة قد ّ‬
‫ومتجاوبة وإياه‪ ،‬صحيح ّ‬

‫‪ 1‬ـ رينيه ويليك‪ ،‬نظرية األدب‪ ،‬ص ‪. 208‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬مختصر القوافي‪ ،‬تحقيق حسن شاذلي فرهود‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪ 1395 ،‬هـ ـ ‪ 1975‬م ‪ ،‬ص‬
‫أن القافية »من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله‬‫ص ‪ . 19‬ويرى الخليل بن أحمد الفراهيدي ّ‬
‫مع حركة الحرف الذي قبل الساكن «‪ ،‬ابن رشيق القيرواني‪ ،‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬تحقيق‬
‫أن هذا‬
‫محمد محي الدين عبد الحميد‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ 1972 ،‬م ‪ . 151/1 ،‬ويضيف ابن رشيق ّ‬
‫التعريف هو الصحيح ‪.‬‬
‫عرف الشعر قدامة بن جعفر بقوله » أنه قول موزون مقفى يدل على معنى «‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬تحقيق محمد‬ ‫‪3‬‬
‫ـ ّ‬
‫عبد المنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ت‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪222‬‬
‫إلى لون من الرتابة المملة‪ ،‬والتي قد تخل ببناء القصيدة‪ ،‬وتفقدها جانباً من قيمتها الفنية‬
‫والجمالية ‪.‬‬
‫وتتأتى العناية بالقافية من ناحية أخرى َّ‬
‫ألن القصيدة العربية نظمت ـ أصال ـ‬
‫فإن المنشد والمتلقي كذلك يبغيان شدة في اإليقاع وارتكا اًز يتوقفان عنده‪،‬‬‫لتنشد‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أن » السامعين يحتاجون إلى الشعور‬ ‫ولذلك قيل في تبرير أهمية القافية ودورها اإلنشادي ّ‬
‫بمواقف الوقوف والترديد « ‪.1‬‬
‫ويعنى ابن جني عناية خاصة بالقافية‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن هناك تسامحاً في حشو البيت‬ ‫ُ‬
‫الشعري من حيث اختالفه‪ ،‬لكن العرب راعوا القافية ووقفوا بين أحكامها‪ ،‬وتتضح هذه‬
‫العناية بكثرة القواعد التي أولوها للقافية‪ ،‬ويرجع ابن جني ذلك ألن القافية إنما تمثل مقطعاً‬
‫» والمعول في أكثر األمر عليه « ‪2‬وحين يقارن ابن جني بين السجعة والقافية يخضعها‬
‫لجوانب إيقاعية متكررة من ناحية‪ ،‬ويخضعها من ناحية أخرى ألبعاد معيارية تتمثل في‬
‫أشرفية جزء على جزء ومقدار أهميته‪ ،‬ولما كان الروي هو آخر صوت متكرر في القافية‪،‬‬
‫ان الحرف الملتزم في األسجاع هو آخر ما في تركيب الجمل النثرية المتتابعة‪ ،‬جاءت‬
‫وّ‬
‫فإن »آخر السجعة والقافية أشرف في أولها‪ ،‬والعناية بها أمس‪،‬‬
‫العناية بهما‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫والحشد عليها أوفى وأهم « ‪.3‬‬
‫ويذهب الجرجاني إلى توزيع القافية إلى أنواعها المعروفة ‪ :‬المتكاوس‪،‬‬
‫والمتراكب‪ ،‬والمتدارك‪ ،‬والمتواتر‪ ،‬والمترادف‪ ،‬وهي تسميات ال تخلو من صنعة‪ ،‬وكان‬
‫الهدف منها التقسيم والتفريع المملين‪ ،‬فالمتكاوس هو » كل قافية كان فيها أربعة أحرف‬
‫متحركة بين ساكنيين‪ ،‬وهي » فعلتن « ال غير نحو قوله ‪:‬‬

‫اإلله َف َج َب ْر‬
‫الدين ُ‬
‫َق ْد َج َبر َ‬

‫‪ 1‬ـ حسين نصار‪ ،‬القافية في العروض واألدب‪ ،‬ص ‪.124‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن جني‪ ،‬المحتسب‪.302/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪ ،‬ص ‪.84/1‬‬
‫‪223‬‬
‫والمتراكب ‪ :‬كل قافية فيها ثالثة أحرف متحركات بين ساكنين كقول الشاعر‪:‬‬

‫يكلؤها‬ ‫وهللا‬ ‫سليمى‬ ‫أن‬


‫ّ‬

‫يرزؤها‬ ‫كان‬ ‫ما‬ ‫بشيء‬ ‫ضنت‬

‫والمتدارك ‪ :‬كل قافية وقع فيها متحركان بين ساكنين‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫جاهال‬ ‫كنت‬ ‫ما‬ ‫األيام‬ ‫لك‬ ‫ستبدي‬

‫تزود‬
‫ّ‬ ‫لم‬ ‫من‬ ‫باألخبار‬ ‫ويأتيك‬

‫والمتواتر ‪ :‬كل قافية وقع فيها متحرك بين ساكنين كقول الشاعر ‪:‬‬

‫نجد‬ ‫من‬ ‫هجت‬ ‫متى‬ ‫ٍ‬


‫نجد‬ ‫صبا‬ ‫يا‬ ‫أال‬
‫َ‬

‫وجد‬ ‫على‬ ‫وجدا‬ ‫مسراك‬ ‫زادني‬ ‫لقد‬

‫والمترادف ‪ :‬كل قافية توالى فيها ساكنان كقول الشاعر ‪:‬‬

‫‪1‬‬ ‫أطالل‬
‫و ْ‬ ‫نعرفها‬ ‫ودمنة‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬مختصر القوافي‪ ،‬ص ‪.20 - 19‬‬


‫‪224‬‬
‫ولم يكن يهدف النقاد من ذلك إلى الكشف عن ربط القافية بإيقاع القصيدة‪ ،‬أو‬
‫الكشف عن القيمة اإليقاعية للقافية‪ ،‬وإسهامها في التعبير عن موقف الشاعر وانفعاله‪ ،‬أو‬
‫إسهامه في تأدية الداللة من خالل تراكب نوعي لأللفاظ‪ ،‬بحيث يوحي لنا عن دالالت‬
‫تعجز عن تأديتها األلفاظ بعيداً عن إيقاعها في ضوء وجود القافية‪ ،‬وعلى الرغم من هذا‬
‫فإن الرماني يلفتنا ضمناً إلى أهمية القافية في الشعر‪ ،‬ويتحدث عن أهميتها وعالقتها‬
‫ّ‬
‫باإليقاع الكلي للقصيدة‪ ،‬ويتم ذلك على ما يبدو من خالل عالقتها وتفاعلها مع القصيدة‬
‫في إقامة الوزن من ناحية‪ ،‬وفي مجانستها للقوافي األخرى في القصيدة الواحدة من ناحية‬
‫أخرى‪.1‬‬
‫أن أشير إلى أن المرزباني قد تحدث عن عيوب الشعر‪ ،‬ويتلخص بعضها‬ ‫بقي ْ‬
‫في عيوب القافية‪ ،‬وهي ‪ :‬اإلقواء‪ ،‬واإلكفاء‪ ،‬واإليطاء‪ ،‬والسناد‪ ،‬وتتضح المعالجة الصوتية‬
‫الشكلية لهذه المظاهر المختلفة حين نتابع تحديدهم لها‪ ،‬فاإلقواء » رفع بيت وجر بيت‬
‫أن يكون حرف الروي مجرو اًر في بيت ومرفوعاً في البيت الذي يسبقه أو‬ ‫‪2‬‬
‫آخر» أي ْ‬
‫الذي يليه‪ ،‬ويضربون المثل في ذلك بقصيدة النابغة‪ ،‬وحكايته مع المغنية‪ ،‬ويشير ابن‬
‫أن اإلقواء » ال يكون فيه فتح « وينقل عن ابن جني قوله ّ‬
‫إن‬ ‫رشيق في هذا السياق إلى ّ‬
‫» الفتح فيه قبيح جداً «‪.3‬‬
‫واما اإلكفاء فاختالف حروف الروي‪ 4‬وأما السناد فاختالف كل حركة قبل‬
‫الروي‪ ،‬وينقل ابن رشيق القيرواني عن ابن جني أنه قال إن السناد هو » كل عيب يحدث‬
‫قبل الروي« ‪ 5‬وينقل عن الرماني قوله إن السناد هو » اختالف ما قبل حرف الروي أو‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 91‬‬


‫‪ 2‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪ ،24‬والصاحب بن عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض والقوافي‪ ،‬ص ‪ ،81‬وابن جني‪،‬‬
‫مختصر القوافي‪ ،‬ص ‪. 31‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪. 165/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 166/1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 169/1 ،‬‬
‫‪225‬‬
‫بعده على أي وجه كان االختالف بحركة كان‪ ،‬أو بحرف « ‪ ،1‬ويفصل الصاحب ابن‬
‫عباد في َّ‬
‫أن السناد تأتي فيه » القافية مرة مردفة ومرة غير مردفة في قصيدة واحدة ‪...‬‬
‫ان تأتي مرة مؤسسة ومرة غير مؤسسة في قصيدة واحدة « ‪.2‬‬
‫وْ‬
‫أما اإليطاء فالمقصود به أن » يقفى بكلمة ثم يقفى بها في بيت آخر « ‪3‬‬
‫ْ‬
‫والمالحظ عنايتهم البالغة بهذا الجانب الشكلي دون التوغل عميقاً في تمثل تأثير هذه‬
‫األبعاد في اإليقاع وفي بنية القصيدة‪ ،‬أنها عناية شكلية خارجية‪ ،‬كما أنها عناية جزئية‬
‫تدرس العناصر مستقلة عن بعضها ‪.‬‬

‫) ‪ ( 4‬السجع واإليقاع ‪:‬‬

‫ويلتفت النقاد إلى ما ينطوي عليه السجع من إيقاع‪ ،‬وماله من تأثير على‬
‫المتلقي‪ ،‬وماله من عالقة بالداللة‪ ،‬ويلتفت ابن جني بإشارته الذكية لهذه األبعاد وهو‬
‫يتحدث عن المثل المسجوع في أثناء تعرضه للحديث عن عناية العرب باأللفاظ بوصفها‬
‫عنوان المعاني‪ ،‬فهو يكشف من هذه الناحية عن عناية العرب بالجانب الصوتي مادام‬
‫لأللفاظ وقعها في السمع‪ ،‬غير أن هذه العناية ال تقتصر على الجانب الصوتي وحده‪،‬‬
‫وإنما تتجاوزه إلى الداللة على القصد ‪.‬‬
‫ويقارن ابن جني بين نمطين من األمثال ‪ :‬أحدهما مسجوع‪ ،‬واآلخر غير‬
‫فإن كان المثل » مسجوعاً ل ّذ لسامعه ‪ ....‬ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس‬
‫مسجوع‪ْ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 169/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض والقوافي‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪ 5‬وما بعدها‪ ،‬وابن جني‪ ،‬مختصر القوافي‪ ،‬ص ‪ ،30‬والصاحب بن‬ ‫‪3‬ـ‬
‫عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض والقوافي‪ ،‬ص ‪. 81‬‬
‫‪226‬‬
‫به «‪ 1‬وهذا يدل في أحد أبعاده على أن القيمة الصوتية المتكررة إنما تحقق لوناً من‬
‫المتعة لدى المتلقي‪ ،‬فتأنس بها النفس‪ ،‬ليكون تأثير األصوات المتكررة فاعالً‪ ،‬فتتفاعل فيه‬
‫َّ‬
‫وكأن‬ ‫األصوات مع الداللة‪ ،‬ويسهمان في التأثير في المتلقي‪ ،‬ليحفظه ويستخدمه‪،‬‬
‫االستخدام ـ هنا ـ قرين للموسيقى ولإليقاع‪ ،‬وليس قريناً للداللة والموقف ‪.‬‬
‫إذن فالسجع يحقق وظائف فيها المتعة واللذة لدى المتلقي‪ ،‬كما يحقق إيناسا‬
‫بالداللة‪ ،‬إن الغاية تتمثل في تحقيق اإلقناع‪ ،‬والوسيلة تتحدد في إيصال الداللة إلى‬
‫المتلقي‪ ،‬وتكون الداللة ممتزجة بهذه المتعة‪ ،‬ويرى ابن جني أن المثل يمر بمراحل من‬
‫فإن كان المثل مسجوعاً حقق لمتلقيه عبر السجعة » لذة «‬
‫أجل استخدامه وكثرة تداوله‪ْ ،‬‬
‫تدعوه ألن «يحفظه « فالسجعة حققت بعدين ‪ :‬أولهما ‪ :‬وظيفي في تأثيره في المتلقي‪،‬‬
‫وتمكينه من إمتاعه بلذة‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬ان هذا التأثير مدعاة لحفظ المثل‪ ،‬والنتقال التأثير‬
‫إلى اآلخرين‪ ،‬إذن فتحقيق اللذة قاد إلى االستئناس بالمثل‪ ،‬ألن المثل غير المسجوع ال‬
‫تأنس به النفس ـ فيما يرى ابن جني ـ وإذا كان المثل كذلك ّ‬
‫فإن النفس ال تحفظه » وإذا لم‬
‫تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له «‪.2‬‬
‫وما يصدق على المثل المسجوع يصدق على الشعر فهما يتماثالن من زاوية‬
‫االشتراك في اإليقاع‪ ،‬ويركز ابن جني على كيفية علوق الشعر عند المتلقي‪ ،‬وسرعة‬
‫حفظه إياه‪ ،‬شأنه شأن المثل المسجوع ليكون اإليقاع هو الفيصل الذي يقود إلى هذه‬
‫النتيجة‪.‬‬
‫ويحدث إيقاع المثل المسجوع وإيقاع الشعر لوناً من التواصل بين المبدع‬
‫والمتلقي‪ ،‬إذ يتمكن المبدع من إيصال مضامينه إلى المتلقي وإحداث التأثير فيه‪ ،‬بحيث‬
‫يقود هذا األثر الداخلي إلى لذة تمتع المتلقي‪ ،‬وهو بالنتيجة إعجاب المضمون‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫أن‬
‫أن يؤدي دور المرسل الفاعل‪ ،‬ويكون المتلقي المستقبل المتأثر والمنفعل‬
‫المبدع استطاع ْ‬
‫بالرسالة ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪. 216/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.216/1 ،‬‬
‫‪227‬‬
‫ويقارن الرماني بين الفواصل القرآنية من ناحية والسجع والقوافي من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬وتتمثل العناية ـ في ظاهرها ـ بالتماثل الصوتي بين المقاطع في اآليات القرآنية‬
‫الكريمة واألسجاع‪ ،‬أو التماثل بينها وبين القوافي في الشعر ‪.‬‬
‫إن الفواصل عند الرماني » حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام‬ ‫ّ‬
‫المعنى «‪ ،1‬فالمشاكلة التي تنطوي على التوافق الصوتي للحروف إنما هي عناية صوتية‬
‫تتأسس على التوقع والتكرار‪ ،‬ويقرن الرماني ذلك كله بالمعنى وحسن تأديته‪.‬‬
‫وإذا كان السجع يمثل إيقاعاً موسيقياً يتوقعه المتلقي في نهاية كل سجعة والتي‬
‫فإن الرماني يرى ّ‬
‫أن السجع صناعة لفظية‬ ‫تليها‪ ،‬ويترك أث ار ما في وجدانه وعالمه الداخلي ّ‬
‫غايتها العناية بالزينة الخارجية التي قد تخضع فيها الداللة لإليقاع‪ ،‬كما حصل ذلك فعالً‬
‫في قرون تالية‪ ،‬ويعي الرماني َّ‬
‫أن هذا لو طبقناه على القرآن الكريم ألفقدناه داللته الكاملة‪،‬‬
‫ومن هنا جاء التمايز بين الفواصل واألسجاع‪َّ ،‬‬
‫ألن األلفاظ في األولى تابعة للمعاني‪ ،‬غير‬
‫أن المعيار الذي نمايز فيه الفواصل‬ ‫‪2‬‬
‫أن المعاني تابعة في الثانية إلى األلفاظ وهذا يعني ّ‬
‫ّ‬
‫أن الفواصل » موظفة‬ ‫عن األسجاع إنما هو بمقدار تأديتها وظيفتها التعبيرية‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫أن المحسنات البديعة » ال يمكن أن تكون قيمة‬ ‫‪3‬‬
‫توظيفا تعبيرياً في القرآن الكريم « كما ّ‬
‫بالغية في ذاتها‪ ،‬بل البد أن يكون لها دور في أداء المعنى وإال كانت عيباً وليست‬
‫بالغة‪ ،‬وذلك ألنها في هذه الحال تغدو جهداً مبذوالً بدون طائل «‪.4‬‬
‫أن يقرنها بالداللة‪ ،‬ومن هنا‬
‫إن الوظيفة التعبيرية للفاصلة دفعت الرماني إلى ْ‬
‫ّ‬
‫جاء الحديث عن تأدية الفاصلة للدالالت أداء حسناً‪ ،‬وبذا تكون فواصل القرآن الكريم‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 90‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 89‬‬
‫‪ 3‬ـ علي عشري زايد‪ ،‬الصورة البالغية عند أبي الحسن الرماني‪ ،‬مجلة الثقافة العربية ‪ ,‬طرابلس‪ ،‬العدد‬
‫الثامن‪ ،1976 ،‬ص ‪. 44‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 44‬‬
‫‪228‬‬
‫»كلها بالغة وحكمة‪ ،‬ألنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة‬
‫يدل بها عليها» ‪.1‬‬
‫ويرى الرماني ّ‬
‫أن األسجاع تهدف إلى مجرد المشاكلة وضرورة التزامها بالحروف‬
‫المتجانسة على حساب المعنى‪ ،‬غير أن تعميم هذا فيه إجحاف كبير‪ ،‬إذ ليس كل سجع‬
‫يكون المعنى فيه تابعاً للفظ‪ ،‬وقد دفع هذا ابن سنان الخفاجي إلى الرد عليه يقول ابن‬
‫سنان ‪ » :‬فأما قول الرماني ـ إن السجع عيب والفواصل بالغة ـ على اإلطالق فغلط‪،‬‬
‫ألنه أراد بالسجع ما يكون تابعاً للمعنى وكأنه غير مقصود‪ ،‬فذلك بالغة والفواصل مثله‪،‬‬
‫وان كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف‪ ،‬فذلك عيب والفواصل‬
‫مثله « ‪.2‬‬
‫ويقسم الرماني الفواصل إلى نوعين ‪ :‬الفواصل التي تتجانس فيها الحروف‪ ،‬والتي‬
‫ان المجانسة أو المقاربة ليست في كل الفاصلة وإنما في‬ ‫تتقارب فيها الحروف‪ ،‬ويالحظ ّ‬
‫آخر حرف فيها‪ ،‬فالفاصلة تتماثل إلى حد كبير مع القافية والسجعة‪ ،‬ويضرب الرماني‬
‫آن لِتَ ْشَقى‪ِ ،‬إال تَ ْذ ِك َرًة‬
‫للفواصل المتجانسة مثال بقوله تعالى ‪ « :‬طه‪َ ،‬ما أ َْن َ ْزل َنا َعَل ْي َك اْلُق ْر َ‬
‫ور «‪ 3‬فهو يؤكد ـ هنا ـ توافق‬ ‫ط ٍ‬‫اب َم ْس ُ‬ ‫ور ‪ ،‬و ِكتَ ٍ‬ ‫لِمن ي ْخ َشى» وقولـه تعالى ‪ » :‬و ُّ‬
‫الط ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫ان الرماني‬
‫األصوات في آخر الكلمات شأنها شأن القافية في التزامها حرف الروي‪ ،‬كما ّ‬
‫حد القافية عند العروضيين‪ ،‬بل يتجاوز ذلك إلى تقارب‬ ‫يحد الفاصلة على غرار ِ‬‫لم َّ‬
‫ِ‬
‫الرِحيمِ‪َ ،‬مالِ ِك َي ْو ِم ّ‬
‫الدين »‪ 4‬أو‬ ‫الحروف كتقارب الميم من النون في قوله تعالى‪ْ َّ«:‬ح َم ِن َّ‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن سنان الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬تحقيق علي فودة‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ ، 1932 ،‬ص ‪- 173‬‬
‫‪.174‬‬
‫‪ 3‬سورة الطور ‪ ،‬أية ‪ 1 :‬ـ‪. 2‬‬
‫‪ 4‬سورة الفاتحة ‪،‬آية ‪ 3 :‬ـ ‪. 4‬‬
‫‪229‬‬
‫آن اْل َم ِجيد « ثم قال تعالى ‪َ » :‬ه َذا‬
‫كتقارب الدال مع الباء في قوله تعالى ‪ » :‬ق واْلُق ْر ِ‬
‫َ‬
‫يب« ‪.1‬‬
‫َش ْي ٌء َع ِج ٌ‬
‫ويتحدث الرماني عن سمات الحسن التي تتميز بها الفواصل ذات الحروف‬
‫المتقاربة » ألنه يكتنف الكالم من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع‬
‫أن المعول عليه البيان وليس المجانسة‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫لما فيه من البالغة وحسن العبارة « وهذا يعني ّ‬
‫ومن هنا تأتت قيمة الفاصلة وبالغتها‪ ،‬بخالف القوافي التي ينبغي أن يتوافر فيها‬
‫أن تكون جزءاً من إيقاع‬‫فإن بطل أحدهما بطلت القافية‪ ،‬أولهما ‪ :‬الوزن‪ ،‬أي ْ‬ ‫شرطان‪ْ ،‬‬
‫كلي يشتمل على القصيدة كلها‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬مجانسة قافية البيت لقوافي األبيات التي تسبقه‬
‫والتي تلحقه‪ ،‬بمعنى أنه ال يصح أن تكون القافية في القصيدة متكونة من الحروف‬
‫المتقاربة كما هو الحال في فواصل القرآن الكريم‪.‬‬

‫) ‪ ( 5‬التكرار ‪:‬‬

‫ويمثل التكرار قيمة إيقاعية أخرى يتكئ عليها الشاعر‪ ،‬غير ّ‬


‫أن العناية به كانت‬
‫نادرة‪ ،‬إذ انصرف أغلب من تناولوه إلى قرنه بقضية التكرار في القرآن الكريم‪ ،‬وأخذوا‬
‫يدافعون عن طبيعة ما ورد في القرآن من تكرار محاولين نفي هذه الصفة عنه‪ ،‬معتقدين‬
‫أن تكرار كلمة أو جملة إ ْن كان محافظاً على الداللة نفسها يمثل عيباً يلصق بالقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ولذلك أخذوا يلتمسون الحجج واألدلة من أجل نفي هذه الظاهرة عن القرآن الكريم‪.‬‬

‫وال يخفى أنهم كانوا يدركون ما للتكرار من قيمة صوتية ـ إيقاعية‪ ،‬وهي تتولد‬
‫بتكرار حرف أو كلمة أو عبارة‪ ،‬والهدف من ذلك إحداث األثر الموسيقي‪ ،‬غير أن هذا‬

‫‪ 1‬سورة ق ‪ ،‬آية ‪. 1 :‬‬


‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪230‬‬
‫ليس الهدف الوحيد‪ ،‬ألن التكرار مرتبط في جوهره بموقف المبدع الذي يقصد إلى تأكيد‬
‫لون من المعنى‪ ،‬ومن هنا يتأتى التداخل الوظيفي بين تأدية الداللة وإحداث األثر‬
‫إن » القاعدة األولية في التكرار أن اللفظ المكرر ينبغي‬‫الموسيقي بالتكرار‪ ،‬ويمكن القول ّ‬
‫أن يكون وثيق االرتباط بالمعنى العام‪ ،‬وإال كان لفظية متكلفة ال سبيل إلى قبولها‪ ،‬كما أنه‬
‫البد أن يخضع لكل ما يخضع له الشعر عموماً من قواعد ذوقية وجمالية وبيانية« ‪.1‬‬
‫أما التكرار في القرآن الكريم فتتغاير دالالت مفرداته تبعاً لتغاير السياقات‬
‫المختلفة‪ ،‬ولم يكن دارسوه يقصدون من هذا تأسيس تصور جديد في تغاير معنى الكلمة‬
‫في ضوء السياقات المختلفة‪ ،‬على الرغم من أن النتيجة التي توصلوا اليها واحدة‪ ،‬إنما‬
‫كانت الغاية ـ فيما يبدو ـ هي أن ال يكون تكرار الكلمة أو العبارة يدل على معنى واحد‪،‬‬
‫وبذا يكون وروده ال مبرر له‪ ،‬وسيقود هذا إلى إخالل ونقص في القرآن الكريم‪ ،‬وبسبب‬
‫هذا التأثير أخذوا يفسرون طبيعة التكرار سواء أكان حسناً أم قبيحاً‪.‬‬
‫ويميز الشريف المرتضى بين التكرار في القرآن الكريم وبين غيره من ألوان‬
‫الكالم‪ ،‬فقد يكون التكرار في غير القرآن تك ار اًر للمعنى‪ ،‬أما في القرآن‪ ،‬وفي سورة الرحمن ـ‬
‫على سبيل المثال ال الحصر ـ قد حسن »بالنعم المختلفة المعددة‪ ،‬فكلما ذكر نعمة أنعم‬
‫بها قرر عليها‪ ،‬ووبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ‪ :‬ألم أحسن إليك بأن‬
‫خولتك األموال !! ألم أحسن إليك بأن خلصتك من المكارة ‪ .....‬فيحسن منه التكرار‬
‫الختالف ما يقرره به « ‪.2‬‬
‫فإن‬
‫يعد هذا تك ار ًار وأنه يحسن الختالف ما يقرره به‪ْ ،‬‬
‫وإذا كان الشريف المرتضى ّ‬
‫أن » ما يكون في سورة الرحمن من‬‫القاضي عبد الجبار بن أحمد له رأي آخر فهو يرى ّ‬
‫قوله تعالى ‪ » :‬فبأي آالء ربكما تكذبان « فليس بتكرار‪ ،‬ألنه ذكر نعما بعد نعم‪ ،‬وعقب‬
‫كل نعمة من ذلك بهذا القول‪ ،‬فكأنه فبأي آالء ربكما التي ذكرتها تكذبان «‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ نازك المالئكة‪ ،‬قضايا الشعر المعاصر‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1983 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.263‬‬
‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.133/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني‪.398/16 ،‬‬
‫‪231‬‬
‫ونخلص من هذا أن التكرار كان يمثل غاية يسعى الناقد إلى تأصيلها‪ ،‬وهي‬
‫متصلة بالمعنى أكثر من اتصالها باإليقاع ‪.‬‬

‫) ‪ ( 6‬الضرورة الشعرية ‪:‬‬

‫أما الضرورة الشعرية فيتجاذبها عنصران‪ ،‬وهما اللذان كانا السبب في إظهارهما‬
‫إلى الوجود قضية متعددة الوجود‪ ،‬وهذان العنصران هما ‪ :‬النحو والعروض‪ ،‬والسمة التي‬
‫يشترك فيها هذان العلمان هو معياريتهما‪ ،‬بمعنى ان كل واحد منهما ينطوي على مجموعة‬
‫من الضوابط‪ ،‬يراد منها ـ في النحو ـ صيانة األداء العربي من الخطأ‪ ،‬وفي العروض‪،‬‬
‫حفظ النص الشعري من انكسار الوزن ‪.‬‬
‫ويولي ابن جني الضرورة الشعرية عناية خاصة ليكشف عن مقوالت لغوية‬
‫ونحوية‪ ،‬وليبرر للصيغ الصرفية واألبنية النحوية ما وقع فيها من تغير‪ ،‬ألنه يدرك َّ‬
‫أن‬
‫«الشعر موضع اضطرار‪ ،‬وموقف اعتذار‪ ،‬وكثي اًر ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته وتحال‬
‫فيه المثل عن أوضاع صيغها ألجله « ‪ 1‬ولكنه على الرغم من هذا فإنه يحاول معالجة‬
‫الضرورة الشعرية في نطاق اثرها الشعري لتكون معيا اًر يزن فيه ابن جني أخطاء الشعراء‬
‫في ضوء الشعر القديم‪ ،‬ألنه كما جاز أن يقيس المنثور المحدث على منثور العرب‪،‬‬
‫ويقيس الشعر المحدث على شعرهم‪ ،‬كذلك يقيس الضرورة على ما كان عندهم » فما‬
‫أجازته الضرورة لهم أجازته لنا‪ ،‬وما حظرته عليهم حظرته علينا «‪.2‬‬
‫وتمثل الضرورة الشعرية معيا اًر يتحكم في الشعر‪ ،‬وال يجوز الخروج على‬
‫قوانينها‪ ،‬وإذا كانت الضرورة على ضربين مقبولة ومرفوضة‪ ،‬فإن قبولها ورفضها ال ٍ‬
‫لعلة‬ ‫ّ‬
‫أن نقيس‬
‫كائنة في ذاتها‪ ،‬وإنما ألنها كانت حسنة أو قبيحة في أشعار العرب‪ ،‬وينبغي ْ‬

‫‪ 1‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪. 188/3 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.323/1 ،‬‬
‫‪232‬‬
‫شعرنا المحدث على شعرهم » فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا‪،‬‬
‫وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا « ‪.1‬‬
‫أن‬
‫أن القياس هو الذي يتحكم في تحديد مواطن الضرورة الشعرية ّ‬‫ومما يؤكد ّ‬
‫ابن جني يعمم قاعدة الضرورة الشعرية ليس على أساس السماع‪ ،‬وإنما التزاما بقياس‬
‫أن الشاعر »إذا اضطر جاز له أن ينطق بما يبيحه القياس‬ ‫الشاهد على الغائب‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ِ‬
‫أصالن فرعاً من‬ ‫يجذب‬ ‫أن‬ ‫‪2‬‬
‫َ‬ ‫إن لم يرد به سماع « ونلتقي في تأمالت ابن جني العلمية ْ‬ ‫وْ‬
‫الفروع‪ ،‬ويقرر ابن جني أن لهذا التجاذب قانوناً عقلياً صارماً‪ ،‬يجعل التفوق فيه ألكثرهما‬
‫محافظة على أقوى األصلين‪ ،‬فإذا تجاذب الشعر أمران‪ ،‬أحدهما ‪ :‬يقتضي سالمة اإليقاع‪،‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬يقتضي سالمة البنية اإلعرابية للنص الشعري‪ ،‬يعطي ابن جني لإليقاع أهمية‬
‫وتقدمة‪ ،‬وبهذا يكون اإليقاع وسالمته أصالً يمكن أن يكسر من أجله أصال إعرابيا‪ ،‬غير‬
‫َّ‬
‫ان هذا يتأثر بمعيار آخر‪ ،‬في أثناء مقابلة سالمة البنية اإلعرابية وزحاف البيت الشعري‪،‬‬
‫فإن البناء اإلعرابي يتحول إلى أصل ال يجوز كسره‪ ،‬وإنما‬
‫ومادام الزحاف ال يكسر وزناً‪ّ ،‬‬
‫ألن العرب »ال‬
‫يجوز ان تتزاحف التفعيلة العروضية ويتكئ ابن جني على السماع أيضاً‪ّ ،‬‬
‫يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة اإلعراب « ‪. 3‬‬
‫ألن‬
‫بقي أن أشير إلى قضية أثارها الصاحب بن عباد وهي تتصل بالزمان وأثره‪ّ ،‬‬
‫ابن جني إذا كان فيما سلف قد تناول الزحاف في ضوء مقوالته المنطقية التي يرجع فيها‬
‫الفرع إلى أصوله‪ ،‬وتتنازع فيه األصول ليكون األخذ بزحاف الشعر متقدماً على ضعف‬
‫فإن الصاحب بن عباد يلتفت إلى قضية ذوقية تتصل بطبيعة الزحاف‪،‬‬ ‫زيغ اإلعراب‪ّ ،‬‬
‫أن الزحاف جائز كاألصل‪ ،‬والكسر‬
‫ويشير إليها إشارة عابرة‪ ،‬وال يتوقف عندها‪ ،‬ومفادها » ّ‬
‫ممتنع‪ ،‬وربما كان الزحاف في الذوق أطيب من األصل« ‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.324/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،396/1 ،‬وابن جني‪ ،‬سر صناعة االعراب‪ ،‬ورقة ‪. 199‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪.133/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬اإلقناع في العروض والقوافي‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫‪233‬‬
‫وعلى الرغم من أن الصاحب بن عباد ال يختلف عن ابن جني في الجذور من‬
‫حيث اعتقاده بأصول وفروع‪ ،‬فإنه يحكم الذوق في تقبل الفرع وهو الزحاف‪ ،‬وان كان يقلل‬
‫من ذلك‪ ،‬ولم يستطع تجاوز ذلك بعيداً ليقرن الزحاف أو تنوعه بموقف الشاعر النفسي‪،‬‬
‫أو يشتمل على قيمة فنية في النص الشعري‪ ،‬ما أريد قوله ضرورة الخروج بهذه الظاهرة‬
‫من جانبها المعياري إلى آفاق فنية‪ ،‬ال تنفصل عن اإلنسان وموقفه‪ ،‬وتتشابك مع مكونات‬
‫القصيدة األخرى‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫الصورة الشعرية‬

‫) ‪ ( 1‬مكونات الصورة ‪:‬‬

‫أن نميز بعضها عن بعض‪ ،‬فقد‬ ‫أن للصورة عدداً من المعاني ينبغي ْ‬ ‫ال ريب ّ‬
‫يبدو َّ‬
‫أن الصورة تعني فيما ُيبدهنا به جذرها اللغوي على أنها مجرد »تصوير « على الرغم‬
‫أن الصورة ال تنفك في حقيقتها عن عملية تشكيل يمثل التصوير أحد عناصرها‪،‬‬ ‫من ّ‬
‫ليقصد منه المشابهة أو التماثل‪ ،‬ولكنه ـ أي التصوير ـ ليس العنصر الوحيد والحاسم‪ ،‬كما‬
‫أن الصورة من زاوية ثانية ليست مجرد تعبير ذهني يقصد منه توصيل داللة معينة يهدف‬
‫ّ‬
‫منها اإليضاح واإلبانة‪ ،‬وليس جمع هذين العنصرين » التصوير « و »التعبير الذهني «‬
‫ألن الصورة أبعد بكثير من مجرد التصوير أو‬
‫أن يولد »الصورة«‪ّ ،‬‬ ‫أو امتزاجهما يمكن ْ‬
‫التعبير الذهني عن فكرة أو داللة ‪. 1‬‬
‫كما ال يمكن دراسة الصورة على أنها مجرد زينة خارجية قصد بعناصرها أو‬
‫ك يفية تشكيلها مجرد إحداث الدهشة واالنبهار في كيفية ترتيب مفرداتها ومكوناتها‪ ،‬ألن‬
‫الصورة لو كانت مجرد زينة خارجية ألمكن اختزالها عن النص الشعري وتنحيتها عنه‪،‬‬
‫وبذلك ال تفقد قيمتها في أنها عنصر جوهري ومكون أساسي من مكونات النص الشعري‪،‬‬
‫أن دراسة الصورة بهذا الفهم تعني تحكم األبعاد الموضوعية والعقلية في تحديد‬‫كما ّ‬
‫عناصرها وماهيتها‪ ،‬ويتركز الحديث ـ حينئذ ـ حول طبيعة العناصر التي تراكبت منها‪،‬‬
‫وليس البحث عما تعبر عنه هذه العناصر‪ ،‬أو الكيفية التي تم بها تشكيلها‪ ،‬فمن جهة‬
‫يكون جانبا من الصورة الشعرية تتركز العناية فيه بكيفية‬
‫التشبيه ـ مثال ـ وهو عنصر ّ‬
‫المقارنة بين طرفي التشبيه‪ ،‬ويتوقف الدرس النقدي عندهما‪ ،‬ليحقق االنبهار والدهشة‬

‫‪Ullmann Language And Style , Collected Papers , Barners And Noble , New York‬‬
‫‪1 , p 107 .‬‬
‫‪235‬‬
‫بكيفية المقارنة وإيقاع االئتالف بين العناصر المختلفة‪ ،‬أما لماذا وقع هذا االئتالف ‪ ،‬وما‬
‫عالقة التجربة بهذه المقارنة‪ ،‬واألكثر من هذا‪ ،‬ما هو دور األداء اللغوي في تأدية الداللة‬
‫؟ فهذا ما ال يهتم به من يرى ّ‬
‫أن الصورة مجرد زينة خارجية ‪.‬‬
‫أن تنفصل عن التجربة الشعرية‪ ،‬وإذا تأتى لها‬‫إن الصورة الشعرية ال يمكن لها ْ‬
‫ّ‬
‫هذا فإنها لن تكون معبرة ـ قطعا ـ عن موقف الشاعر‪ ،‬ومن ثم يحدث هذا الفصل خلالً‬
‫في تركيب القصيدة وتشكيلها‪ ،‬ألن الصورة الشعرية إنما هي ـ تجاو اًز ـ تشكيل لغوي يصور‬
‫تجربة الشاعر‪ ،‬ال على نحو اإلبانة والوضوح‪ ،‬ولكن على نحو اإلشارة واإليماء ـ كما يقول‬
‫أن هذا التصور ال يعني تقليالً‬ ‫‪1‬‬
‫الشريف المرتضى ـ وينبغي التنويه‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬إلى ّ‬
‫من شأن الوضوح واإلبانة وعناية بالغموض‪ ،‬قدر ما أريد به تأكيد تنحية الوظيفة‬
‫التوصيلية للوراء قليالً‪ ،‬وتقديم التشكيل الجمالي للغة الذي تستخدم فيه الصورة لتأدية‬
‫إن الصورة إنما تعبر عن تجربة الشاعر‪ ،‬وتمكنه‬ ‫الدالالت التي يريد الشاعر تشكيلها‪ ،‬بل ّ‬
‫أن يؤديها بغير هذه الوسيلة‪. 2‬‬
‫من التعبير عن انفعاله بطريقة ال يمكن له ْ‬
‫وإذا كانت الصورة الشعرية ليست مستقلة عن التجربة‪ ،‬فهي من هذه الناحية‬
‫ألن الشعر يراد منه تقديم القيمة المتراكبة ببعديها الفني‬
‫ليست مستقلة عن موقف الشاعر‪ّ ،‬‬
‫إن موقف الشاعر ال يتأتى له تأدية دوره دون امتزاج التجربة بالنص الشعري‬ ‫والمعرفي‪ ،‬و ّ‬
‫إن القصيدة إنما هي تجربة إنسانية‬
‫كله‪ ،‬من جهة اإليقاع والصورة والبناء‪ ،‬وبتعبير آخر ّ‬
‫تتشكل في بناء لغوي‪ ،‬وبهذا يكون الموقف متغلغالً في ثنايا النص الشعري‪ ،‬وتكون‬
‫الصورة ملتحمة به ‪.‬‬
‫وال يمكن اجتزاء الصورة وفك عناصرها عن طبيعة سياقها‪ ،‬أو دراستها مستقلة‬
‫ألن اجتزاء الصورة عن سياقها يمثل تشويهاً‬ ‫عن هذا السياق أو محاولة نثر داللتها‪ّ ،‬‬
‫ألن الجزئية ـ لو اعتبرنا الصورة تجاو اًز جزئية في‬
‫لطبيعة الصورة والشعر على السواء‪ّ ،‬‬
‫القصيدة ـ ال يصح دراستها مستقلة عن الكل‪ ،‬ولكن ينبغي دراسة الكل بجزيئاته في ضوء‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬ص ‪. 92‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Ullmann , Language and style , p. 196‬‬
‫‪236‬‬
‫تفاعل مؤثر بين الكل والجزء‪ ،‬أما نثر الصورة الشعرية أو فصلها عن بنائها الكلي فإنه‬
‫يمثل تشويها لطبيعة الشعر‪ ،‬وبذلك يرجع النص الشعري إلى مجرد أداء نمطي نثري ‪.‬‬
‫فإن الصورة ـ مثال ـ ال تُدرس مستقلة عن اإليقاع‪،‬‬
‫ومن أجل تقريب هذا الفهم ّ‬
‫وكذا بقية العناصر األخرى المكونة للقصيدة‪ ،‬وإن دراسة الصورة مستقلة عن تقاطعها‬
‫وتفاعلها بمكونات القصيدة يقود دون شك إلى التقليل من قيمة الصورة واإليقاع على‬
‫بأن هذا يضعنا أمام مشكلة بالغة التعقيد بحيث نضطر فيه‬
‫السواء‪ ،‬وقد يعترض معترض ّ‬
‫أن ندرس مكونات القصيدة من زوايا متعددة بمدى تفاعل هذه المكونات بعضها ببعض‪،‬‬
‫ْ‬
‫إن القصيدة الشعرية ليست عمالً سهل التشكيل‪ ،‬ألنها أقل ما يقال عنها إنها عالم‬
‫أقول ‪ّ :‬‬
‫إن تحليلها ودراستها‪ ،‬بالقدر الذي يكشف عن عناصرها الجمالية‬ ‫لغوي متراكب معقد‪ ،‬و ّ‬
‫والمعرفية‪ ،‬فإنه يسيء في الوقت نفسه إلى القصيدة ذاتها‪ ،‬وذلك بتفكيك القصيدة وإفقادها‬
‫وحدتها العضوية وبنيتها الكلية ‪.‬‬

‫) ‪ ( 2‬وظيفة الصورة التشبيهية ‪:‬‬

‫أن تنعكس آثار الوظيفة على تحديد ماهية الصورة‪ ،‬ففي الوقت‬ ‫ومن الطبيعي ْ‬
‫الذي تكون فيه وظيفة الصورة توصيلية يراد منها إيصال المعنى للمتلقي فمن الطبيعي ْ‬
‫أن‬
‫تتحدد الصورة بوصفها » وسيلة « تعبيرية يراد منها إيصال الفكرة‪ ،‬ومن هنا تخضع‬
‫الصورة لكل ما تخضع له الوسيلة التعبيرية من عناصر حسية وعقلية تفقدها‪ ،‬من ثم‪،‬‬
‫قيمتها الجمالية ‪.‬‬
‫وحين نتابع التصورات النقدية لدى نقادنا نلحظ تأكيداً ملحاً على اإلبانة والتزيين‪،‬‬
‫فاالستعارة ـ مثال ـ تهدف إلى الوضوح واإلبانة لدى الرماني‪ ،‬وتهدف إلى المبالغة لدى ابن‬
‫جني‪ ،‬كما إنها تهدف إلى التزيين لدى الجرجاني وهذه التصورات قادت بعض النقاد إلى‬
‫بأن الصورة الشعرية » طريقة خاصة من طرق التعبير أو وجه من أوجه الداللة‪،‬‬
‫الجزم ّ‬
‫تنحصر أهميتها فيما تحدثه من معنى من المعاني من خصوصية وتأثير‪ ،‬ولكن أياً كانت‬
‫فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته‪ ،‬إنها ال‬
‫هذه الخصوصية أو ذاك التأثير‪ّ ،‬‬
‫‪237‬‬
‫تغير إال من طريقة عرضه وكيفية تقديمه ولكنها ـ بذاتها ـ ال يمكن أن تخلق معنى‪ ،‬بل‬
‫إنها يمكن أن تُحذف دون أن يتأثر الهيكل الذهني لمجرد للمعنى الذي تحسنه وتزينه«‪،1‬‬
‫ويصدق هذا الوصف لو كانت اإلبانة يراد منها التوصيل الذي سيضعنا حتماً في إطار‬
‫األداء النمطي الذي ال ُيعنى بتأدية الدالالت الجمالية‪ ،‬غير أن تمثلنا لتصور الرماني‬
‫لمفهوم اإلبانة في تعريف البالغة سيتجاوز قطعا التصور الذي قلل من قيمة الصورة في‬
‫التراث‪.‬‬
‫ويميز الرماني بين مصطلحي » اإلفهام « و » اإلبانة « إذ يمثل األول الوظيفة‬
‫التوصيلية بمفهومها اليومي المتكرر‪ ،‬وتتضح داللة ذلك في أثناء تعرضه لطبيعة البالغة‪،‬‬
‫إذ » ليست البالغة إفهام المعنى‪ ،‬ألنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر عيي‬
‫فإن الرماني يذكرها في حدود بعض أقسام البالغة وبخاصة في االستعارة‬
‫« أما اإلبانة ّ‬
‫والمبالغة‪ ،‬فاالستعارة « تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة‬
‫النقل لإلبانة»‪ ،2‬والمبالغة « هي الداللة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل‬
‫اللغة لتلك اإلبانة » ‪ ،3‬وتتضح صورة اإلبانة لو قرناها بتعريف البالغة ـ لدى الرماني ـ‬
‫ألن البالغة لديه تعني » إيصال‬ ‫التي يتداخل فيها عنص ار التوصيل والتأدية الجمالية‪ّ ،‬‬
‫أن اإلبانة ال تعني‬ ‫‪4‬‬
‫المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ « ومن هنا يتضح ّ‬
‫التوصيل وحده‪ ،‬وإنما تعني شيئا آخر يضاف إليه هو تأدية الدالالت الجمالية‪ ،‬ولذلك‬
‫قرنها الرماني باالستعارة مرة‪ ،‬وبالمبالغة مرة أخرى ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا فإن الوظيفة التوصيلية لم تتأخر خلف التأدية الجمالية‪ ،‬ولم‬
‫تتفاعل معها إلى درجة التوحد‪ ،‬ولكنها ـ في األقل ـ تقف معها على قدم المساواة‪،‬‬
‫فإن هذا التصور يقودنا إلى نتيجة‬
‫وتشاركها تأدية وظيفتها المزدوجة‪ ،‬وعلى أية حال‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية‪ ،‬ص ‪. 339 - 392‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 79‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 96‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 69‬‬
‫‪238‬‬
‫يكون للتصور فيها تأثير في تغيير المعنى‪ ،‬و ّ‬
‫إن طريقة العرض وكيفية التقديم إنما هي‬
‫متضمنة لدالالت جديدة‪ ،‬ومن أجل استكمال تصورنا ينبغي اإلشارة إلى تصور الشريف‬
‫المرتضى في التحديد الوظيفي للشعر الذي يتجاوز فيه التوصيل إلى تأدية الدالالت‬
‫‪1‬‬
‫الجمالية » في اإليماء إلى المعاني تارة من بعد وأخرى من قرب« وهذا يعني ّ‬
‫أن اإليماء‬
‫ليس التعبير المحدد عن الداللة التي تعني الثبات المعجمي واستقرار المعنى‪ ،‬ولكنه تعبير‬
‫يتأثر بتغيرات اللغة وأساليب تراكبها على نحو من األنحاء ‪.‬‬
‫وقد يثار َّ‬
‫بأن هذا يتناقض مع بعض المقوالت الشائعة كمقولة الجاحظ في‬
‫أن المزية والخصوصية كائنة في‬ ‫أن المعاني لها خاصية مشاعية‪ ،‬و ّ‬ ‫المعاني‪ ،‬التي ترى ّ‬
‫أن ما يشير إليه الرماني في تحديده للبالغة واالستعارة والمبالغة‪ ،‬وما‬
‫التراكيب‪ ،‬وأحسب ّ‬
‫يشير إليه الشريف المرتضى من اإلشارة واإليماء للمعاني‪ ،‬ال يقود إلى المعنى الذي أراده‬
‫إن المعنى ـ هنا ـ متأثر بتغير التراكيب‪ ،‬وليس معنى عاماً سابقاً لألداة والتعبير ‪.‬‬
‫الجاحظ‪ّ ،‬‬
‫أن الصورة خضعت في أحد مكوناتها ـ في التشبيه مثالـ إلى ضرورة‬ ‫وال ينكر ّ‬
‫ألن الصورة من خالل‬‫التعبير عن التشابه والتماثل‪ ،‬لتكون عناصر الصورة واضحة جلية ّ‬
‫أن » أ « مثل » ب « وهي تختلف عن الصورة الضمنية في االستعارة التي‬
‫التشبيه تعني ّ‬
‫تعني اعتبار شيئين شيئاً واحداً‪ ،‬أي أن » أ « هي »ب« ‪2‬وقد عني النقاد بعالقة المقارنة‬
‫بين عنصري التشبيه ألن التشبيه في العادة يعني مقارنة واضحة بين األشياء أو عالقات‬
‫تنتمي إلى العالم المحسوس‪ ،3‬وكانت عنايتهم متركزة بهذا الجانب الشكلي من التشبيه‪،‬‬
‫ومقدار تأثيره في المتلقي‪ ،‬مغفلين بذلك الكيفية التي تم بها تشكيل الصورة‪ ،‬وعالقة ذلك‬
‫أن لقدسية القرآن الكريم في نفوس المسلمين أث اًر في إغفال‬
‫كله بتجربة الشاعر‪ ،‬وأحسب ّ‬
‫هذا الدرس‪ ،‬ألن الحديث عن التجربة إنما هو حديث عن تخليقها في أعماق المبدع‪ ،‬ولو‬
‫نقلنا ذلك وطبقناه على القرآن الكريم فإنه من العسير على النقاد التحدث عن كيفية تخليق‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Ullmann , Language and style , p. 180‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Levin , The symantics of metaphor , p. 180‬‬
‫‪239‬‬
‫أن الصورة التي عالجها النقاد قد تمت‬
‫التجربة في َم ْن أبدع القرآن‪ ،‬ونخلص من ذلك إلى ّ‬
‫دراستها وكأنها تشكيل مستقل عن تجربة المبدع‪ ،‬وتركزت العناية بالعالقة بين العناصر‬
‫المكونة للصورة من خالل تراكيبها وألوانها المتعددة‪ ،‬ومن ثم مدى تأثيرها في المتلقي ‪.‬‬
‫ويلتفت أبو أحمد العسكري إلى َّ‬
‫أن الوظيفة التوصيلية ال تحدد بالغة الشعر‪،‬‬
‫َّ‬
‫ألن الوظيفة التوصيلية تتم بتحقيق اللفظ على المعنى‪ ،‬ولو كان األمر كذلك لما أضحى‬
‫للمكونات الشعرية األخرى أية قيمة‪ ،‬ويلتفت أبو أحمد العسكري إلى أهمية العالقة بين‬
‫أن » يعبر بها عن المعاني‪ ،‬فأحسنها ما‬‫اللفظ والمعنى‪ ،‬ولذلك فهو يشترط في األلفاظ ْ‬
‫يزيد في كشف المعنى واختصاره بأقل ما يمكن من العبارة بأعذب األلفاظ وأخفها على‬
‫األسماع وأقربها إلى القلوب « ‪ ،1‬وعلى الرغم من العناية الشكلية باأللفاظ فإنها ال‬
‫إن هناك ألفاظاً تصلح ألداء هذا المعنى‪ ،‬ال يمكن لغيرها أن تؤديه ‪.‬‬
‫تنفصل عن الداللة‪ ،‬و ّ‬
‫وتتحدد بالغة الشعر لدى أبي أحمد العسكري في أربعة عناصر ‪ :‬اللفظ‪،‬‬
‫فإن الجانب‬
‫والمعنى‪ ،‬والنظم‪ ،‬والعرض‪ ،‬وإذا كان اللفظ والمعنى يتسمان بعموم اشتراكهما‪ّ ،‬‬
‫اإليقاعي ـ النظم ـ يمثل خاصية تميز الشعر عن غيره‪ ،‬ويضيف إليه العرض‪ ،‬وهو يدل‬
‫ان ما تميز به أبو أحمد العسكري الصفات التي الزمت هذه‬
‫على زينة خارجية‪ ،‬على َّ‬
‫العناصر‪ ،‬إذ اشترط في األلفاظ العذوبة‪ ،‬وفي المعاني قربها‪ ،‬وفي النظم اتساقه‪ ،‬وفي‬
‫العرض رشاقته‪.2‬‬
‫وتتضح عناصر الوظيفة التوصيلية من الزاوية التي يراد بها إيضاح الغموض‬
‫الذي يكتنف المشبه‪ ،‬إزالة هذا الغموض من خالل تشابهه وتماثله بالواضح‪ ،‬أو بما هو‬
‫أكثر وضوحا‪ ،‬ويوازن الرماني بين الحسي وغير الحسي‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن األول أكثر وضوحا في‬
‫حين يكتنف الثاني الغموض‪ ،‬وتخرج عالقة المشابهة بغير الحسي في دائرة الغموض إلى‬
‫اإليضاح عبر عقد المقارنة بين طرفي التشبيه‪ ،‬وقد ركز الرماني جهده على الوظيفة‬
‫إن أشار إلى بعض الجوانب التعبيرية في أثناء تأكيده على اإليضاح الحسي‪،‬‬
‫التوصيلية‪ ،‬و ْ‬

‫‪ 1‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪. 213‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪240‬‬
‫ولم يقرن ذلك بأدنى عالقة بكيفية تخليق التجربة‪ ،‬إذ كيف يتسنى له ذلك وهو يستشهد‬
‫بآيات من القرآن الكريم ‪.‬‬
‫وتتجلى عناصر اإليضاح لدى الرماني ـ في التشبيه ـ من إخراج ما ال تقع عليه‬
‫الحاسة إلى ما تقع عليه‪ ،‬وإخراج ما لم تجربه العادة إلى ما جرت به‪ ،‬وإخراج ما ال يعلم‬
‫بالبديهة إلى ما يعلم بها‪ ،‬وإخراج ما ال قوة له في الصفة إلى ماله قوة في الصفة‪ ،‬وتشتمل‬
‫هذه كلها على لون من ألوان الخروج من الغامض إلى الواضح‪ ،‬أو إلى ما هو أكثر‬
‫أن تناولنا ذلك في الفصل الثاني من هذا البحث ‪.‬‬
‫وضوحاً منه‪ ،‬وقد سبق ْ‬
‫إن اإليضاح بالعناصر الحسية يقرن الصورة بشكل من الجالء أكثر دون شك‪،‬‬
‫وبخاصة في الجانب التشبيهي الذي تتحـدد فيه عناصر الصـورة من خالل التمثيل في أن‬
‫» أ« مثل » ب «‪ ،‬ففي قوله تعالى ‪ » :‬مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به‬
‫الريح في يوم عاصف ال يقدرون مما كسبوا على شيء « يؤكد الرماني ّ‬
‫أن هذا » بيان قد‬
‫أخرج ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه‪ ،‬وقد اجتمع المشبه والمشبه به في الهالك‬
‫وعدم االنتفاع‪ ،‬والعجز عن االستدراك لما فات«‪.1‬‬
‫أن الرماني يؤكد » اجتماع « المشبه والمشبه به في صفة‬ ‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫يشتركان فيها‪ ،‬فالصفة المنتزعة من السياق بين أعمال الكافرين والرماد هي» االجتماع «‬
‫أن الرماني يستخدم هذه‬
‫في الهالك وعدم االنتفاع والعجز عن االستدراك لما فات‪ ،‬كما ّ‬
‫الكلمة » االجتماع « بين المشبه والمشبه به في كل األمثلة التي استشهد بها‪ ،‬واالجتماع‬
‫يعني التجاور واالشتراك‪ ،‬ال التداخل والتفاعل‪ ،‬وهذا يعني أن عنصري التشبيه يبقيان‬
‫أن الصفة المشتركة تنتزع من طبيعة السياق ‪.‬‬
‫متجاورين‪ ،‬و ّ‬
‫أن ال‬
‫إن التأكيد على الجوانب الحسية في الصورة ليس عيباً في ذاته‪ ،‬على ْ‬ ‫ّ‬
‫ألن لكل‬
‫تتحول هذه الجوانب إلى غاية تتحكم في القيم الجمالية للصورة الشعرية بإطالق‪ّ ،‬‬
‫أن‬ ‫‪2‬‬
‫صورة شيئا من العناصر الحسية حتى لو كانت عاطفية أو عقلية ‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.76‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Lewis , The Poetic Image P 18‬‬
‫‪241‬‬
‫الصورة متى خلت من التماثل والتشابه الحسيين فقدت قيمتها‪ ،‬والمهم في الصورة إنما‬
‫يتحدد في ضوء عنصريين جوهريين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬مقدار تعبيرها ـ أي الصورة ـ الصادق‬
‫عن التجربة المتخلقة في أعماق الشاعر‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬الكيفية التي تشكلت فيها الصورة‪،‬‬
‫فإن ُّ الجانب الحسي الذي يطغى على الصورة الشعرية ليس مرده دائماً نـزعة حسية‬
‫ولذا ّ‬
‫إن هذه النـزعة الحسية في الجمال تخضع من ثم‬ ‫تحاول فهم الجمال وتعمد إلى تصوره‪ ،‬و ّ‬
‫للحواس‪ ،‬كل حاسة وما يوافقها‪.1‬‬
‫وال يعني هذا استخدام الصور لجاهزة التي ألفها القارئ بحيث ال تعبر فيها‬
‫الصورة الشعرية عن العنصرين الجوهريين اللذين تحدثنا عنهما‪ ،‬كما أنه ليس لزاماً ـ في‬
‫أن تتسم كل صورة يقدمها الشاعر بالجدة واالبتكار‪ ،‬ألنه يمكن أن تفقد‬‫الوقت ذاته ـ ْ‬
‫الصورة الشعرية قوتها في التعبير بسبب التكرار‪ ،‬إذ تتحول من هذه الزاوية إلى عبارة‬
‫مبتذلة وكالم معاد‪.2‬‬
‫وفي ضوء هذا فلن يكون التصوير الحسي عيباً في ذاته‪ّ ،‬‬
‫ألن التصوير الحسي‬
‫ال يزال دافعاً قوياً لإلثارة والتأثير‪ ،‬ويكاد يتركز في الصورة الحسية ببعدها البصري‪ ،‬إذ‬
‫تمثل الصورة المرئية أكثر األنواع وضوحاً وتمي اًز‪ ،‬وحتى في األنواع التي تبدو الحسية في‬
‫فإن ُّ لها بعض العناصر الحسية البصرية على وجه التحديد ‪. 3‬‬
‫ظاهرها ّ‬

‫) ‪ ( 3‬وظيفة الصورة االستعارية ‪:‬‬

‫وفي االستعارة ال تزال صورة التشبيه ماثلة من جهة الوظيفة ومن جهة التركيب‬
‫بقدر من التجاوز‪ ،‬وإذا كانت وظيفة التشبيه ـ كما أوضحنا ـ تخرج بالمشبه من الغموض‬

‫‪ 1‬ـ عز الدين اسماعيل‪ ،‬األدب وفنونه‪ ،‬ص ‪.116‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪Ullmann , Language And Style , p 179‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Lewis , The Poetic Image , p 18‬‬
‫‪242‬‬
‫فإن‬
‫إلى الوضوح‪ ،‬أو إلى ما هو أوضح منه‪ ،‬معتمداً بذلك العناصر الحسية في الغالب‪ّ ،‬‬
‫هذه الوظيفة تالزم االستعارة أيضاً‪ ،‬فالرماني وهو يتحدث عن االستعارة في اآلية القرآنية‬
‫ور«‪ 1‬يرى فيها بياناً «أخرج ما‬
‫اء َم ْنثُ ًا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َه َب ً‬ ‫الكريمة » َوَقد ْم َنا إَلى َما َعمُلوا م ْن َع َمل َف َج َعْل َناهُ‬
‫‪ ،‬وهو بهذا يرجعنا إلى صميم الوظيفة‬ ‫ال تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه حاسة»‪2‬‬
‫أن تماثالً يؤكده الرماني على غرار ما الحظناه في التشبيه‪،‬‬
‫اإليضاحية في التشبيه‪ ،‬كما ّ‬
‫ويصر‬
‫ّ‬ ‫فهو يؤكد في التشبيه ضرورة »اجتماع« المشبه والمشبه به في صفة أو حالة‪،‬‬
‫أن‬
‫على استخدام كلمة » الجمع أو االجتماع« ونلحظ في ذلك االستعارة أيضا‪ ،‬غير ّ‬
‫ألن كل استعارة بليغة ـ فيما يرى الرماني ـ » جمع بين‬
‫الجمع يخرج دائما إلى المعنى ّ‬
‫أن الرماني‬ ‫‪3‬‬
‫شيئين بمعنى مشترك بينهما يكشف بيان أحدهما باآلخر كالتشبيه « كما ّ‬
‫يؤكد هذا من خالل أمثلته التي يؤكد فيها على المعنى الذي يجمع بين الشيئين ‪.‬‬
‫أن » التشبيه واالستعارة جميعا‬‫ويؤكد الرماني ـ فيما ينقله عنه ابن رشيق ـ ّ‬
‫أن الرماني يقسم التشبيه إلى‬ ‫‪4‬‬
‫يخرجان األغمض إلى األوضح ويقربان البعيد « ‪ ،‬كما ّ‬
‫حسن وقبيح والحسن »هو الذي يخرج األغمض إلى األوضح فيفيد بياناً ‪ ....‬وشرح ذلك‬
‫أن ما تقع عليه الحاسة أوضح في الجملة مما ال تقع عليه الحاسة‪ ،‬والشاهد أوضح من‬
‫ّ‬
‫الغائب ‪ ....‬وما يدركه اإلنسان من نفسه أوضح مما يعرفه عن غيره‪ ،‬والقريب أوضح من‬
‫البعيد في الجملة‪ ،‬وما قد ألف أوضح مما لم يؤلف « ‪.5‬‬
‫بأن االستعارة تشبيه مختصر‪ ،‬أوالحديث عن الصورة‬ ‫ومن هنا جاء الحديث ّ‬
‫ألن األولى تعد الشيء مماثالً لآلخر‪ ،‬في حين تعد الثانية‬
‫الجلية‪ ،‬أو الصورة الضمنية‪ّ ،‬‬
‫إن الفرق بين الصورتين‪ّ ،‬‬
‫أن الصورة الضمنية‬ ‫أن نقول ّ‬
‫الشيئين شيئاً واحداً‪ ،‬بحيث يصدق ْ‬

‫‪ 1‬سورة الفرقان ‪ ،‬آية ‪. 23 :‬‬


‫‪ 2‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 90‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 79‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪. 287/1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪.287/1 ،‬‬
‫‪243‬‬
‫تتميز بالكثافة والتركيز بسبب التداخل والتالحم بين العناصر المكونة لها‪ ،‬مما يترك أث اًر‬
‫في طاقتها التعبيرية وليست الصورة الجلية كذلك ‪.‬‬
‫إن الصورة الشعرية تركيب لغوي أساساً‪ ،‬ويمكن ْ‬
‫أن يسهم في خلقها وتشكيلها‬ ‫ّ‬
‫أن تقدمها عبارة أو قطعة من النص الشعري تبدو في‬‫التشبيه واالستعارة‪ ،‬كما يمكن ْ‬
‫ظاهرها مجرد وصف‪ ،‬ولكنها في الحقيقة تنقل لنا شيئا أكثر من االنعكاس الدقيق للواقع‬
‫أن الصورة من زاوية أخرى تعبر عن تجربة الشاعر‪ ،‬حيث ّ‬
‫إن تكرار بعض‬ ‫الخارجي‪ ،‬كما ّ‬
‫أن تكشف عن القيم المعرفية التي يصدر عنها األديب‪ ،‬وتدل في‬
‫الصور لديه يمكنها ْ‬
‫الوقت نفسه على اهتمامه وميوله وأمانيه وخوفه‪ ،‬وهذا يعني تالحم الصورة بتجربة الشاعر‬
‫والتعبير عنها‪ ،‬ولم يكن الناقد العربي ُيعنى بهذه الناحية قدر عنايته بتأثير الصورة في‬
‫أن هذه العناية فقيرة إلى درجة اإلشارة فحسب‪ ،‬فالرماني يتحدث عن بعض‬ ‫المتلقي‪ ،‬كما ّ‬
‫إن كان يتحدث عن إيجاز الحذف بأنه‬
‫الجوانب التأثيرية في االستعارة والتشبيه تلميحاً‪ ،‬و ْ‬
‫ألن النفس تذهب فيه كل مذهب «‪.1‬‬ ‫»أبلغ من الذكر ّ‬

‫) ‪ ( 4‬وظائف أخرى ‪:‬‬

‫أن االستعارة تركيب لغوي له كيفية معينة‪ّ ،‬‬


‫فإن هذا التركيب يؤثر‬ ‫وإذا أدركنا ّ‬
‫أن القدامى جعلوا المعاني سابقة للتراكيب‪،‬‬
‫قطعاً في تحديد الداللة‪ ،‬ألنه يخلقها‪ ،‬صحيح ّ‬
‫أن تغاير التراكيب يشتمل على تغاير داللي‪ ،‬ويتضح هذا من خالل إلحاحهم على‬ ‫غير ّ‬
‫أن االستعارة يفاد منها »التوسع « ‪ 2‬وهو توسع في المعنى في أحد جوانبه‪ .‬ومهما قيل‬ ‫ّ‬
‫في هذا التوسع فإنه ليس تعبي اًر في طريقة العرض وكيفية التقديم وإنما هو تغاير داللي‬
‫من حيث الجذر‪ ،‬وكان هذا التغاير يغفل دور المبدع ودور تجربته‪ ،‬كما كان يؤكد على‬
‫أن هذا ليس األساس الذي‬
‫جوانب معيارية تحولت بمرور الزمن إلى قوالب جامدة‪ ،‬غير ّ‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 428‬‬
‫‪244‬‬
‫تشكلت فيه االستعارة لدى الرماني ـ في األقل ـ الذي عني بلون من المزاوجة الناقصة بين‬
‫الوظيفة التوصيلية والوظيفة التعبيرية ‪.‬‬
‫إن تشويه طبيعة الصورة إنما يتأتى من هذا المزج الناقص بين الوظيفتين‪ ،‬وكأنه‬
‫ّ‬
‫أن تجنح في‬ ‫ينبئ عن حالة من التوازن‪ ،‬أو لون من الوسطية‪ ،‬مما قاد الصورة إلى ْ‬
‫الغالب نحو وظيفة تزيينية تعنى بالجوانب الزخرفية أكثر من عنايتها بما تثيره الصورة‪،‬‬
‫وبكيفية تخليقها لدى المبدع‪ ،‬أو تتركز العناية البالغة بالوظيفة التوصيلية ‪.‬‬
‫إن اقتران وظيفة الصورة بـ » التوصيل « في أحد أبعادها يعني أنها وسيلة من‬ ‫ّ‬
‫وسائل الجدل واإلقناع يراد منها إيصال الفكرة‪ ،‬والتأثير بالمتلقي‪ ،‬ومادام اإلقناع يمثل‬
‫أن تعتمد الصورة الشرح‬
‫الغاية التي تهدف الصورة إلى تحقيقها فإنه من الطبيعي ْ‬
‫والتوضيح‪ ،‬وتتحول الصورة إلى أقيسة منطقية يراد منها االستدالل والمحاججة وإيصال‬
‫المعرفة‪ ،‬وهذا هو الذي قاد إلى اعتبار الشرح والتوضيح ال يفترقان كثي اًر عن اإلبانة ‪.1‬‬
‫ويصدق هذا كله لو كان المقصود من وظيفة الصورة اإلفهام ال اإلبانة‪ ،‬على‬
‫النحو الذي أشرنا إليه فيما سلف‪ ،‬وبخاصة لدى الرماني‪ ،‬وبهذا تفترق الوظيفة عن الشرح‬
‫ألن اإلبانة ال تعني التوصيل مجرداً ولكنه توصيل مقترن بتأدية الدالالت‬
‫والتوضيح‪ّ ،‬‬
‫الجمالية‪ ،‬لتنعكس آثار هذا كله في طبيعة الصورة‪ ،‬حتى في مجالها الحسي‪ ،‬وبخاصة إذا‬
‫أسهمت الصورة في التعبير عن تجربة الشاعر وعبرت عن عالمه الخاص ‪.‬‬
‫إن عناية الناقد تركزت على دراسة عناصر الصورة تشبيهاً واستعارة‪ ،‬وتركزت‬
‫العناية في الغالب على التشبيه‪ ،‬ألنه ينطوي على مزيد من الوضوح بسبب استقالل‬
‫عنصريه‪ ،‬وامكانية تمثلهما بوضوح ودون عناء‪ ،‬فيما لو قارنا ذلك باالستعارة التي تتالحم‬
‫فيها األشياء إلى حد بعيد ‪.‬‬
‫ولم يقتصر األمر على هذا بل تجاوزه إلى العناية البالغة بالجانب الشكلي‬
‫للصورة ومحاولة الكشف عن العالقات المنطقية التي تحكم صور التشبيه واالستعارة‬

‫‪ 1‬ـ ينظر ‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪ 368‬ـ ‪ ،369‬ينظر عن‬
‫التوضيح والتوكيد والمبالغة ‪ :‬مصطفى ناصف‪،‬الصورة األدبية‪ ،‬ص ‪ ،60‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫أن عناية النقاد قد تركزت على دراسة هذه العناصر مستقلة‬
‫وأنماطهما‪ ،‬واألكثر من هذا ّ‬
‫ومنفصلة عن سياقاتها‪ ،‬وكأنها وحدات ال تربطها ببنائها أدنى عالقة‪ ،‬ويتضح هذا من‬
‫جني والجرجاني في‬
‫معالجات الرماني لالستعارات والتشبيهات القرآنية‪ ،‬أو ما يفعله ابن ّ‬
‫الشعر‪ ،‬وتتركز حينئذ القيمة الجمالية لكل من التشبيه واالستعارة على ما تنطوي عليه‬
‫مستقلة بذاتها‪ ،‬وبهذا تحتفظ الصورة بقيمتها على الرغم من انقطاعها عن سياقها ودراستها‬
‫منفصلة عنه ‪.‬‬
‫وكأن ال عالقة بين‬
‫ّ‬ ‫ويتجاوز الناقد ذلك إلى فصل الصورة عن تجربة الشاعر‬
‫أن‬
‫التجربة والصورة‪ ،‬ولعل هذا ـ في مجال القرآن الكريم ـ متعذر ألسباب عقائدية‪ ،‬إال ّ‬
‫تعميمه على الشعراء قد قلل من قيمة الربط بين التجربة والصورة ومقدار تعبيرها عن‬
‫الدوافع الداخلية للمبدع ‪.‬‬
‫أن هذه العناصر مجتمعة قد قللت من دور الصورة‪ ،‬وجعلت دورها‬ ‫وال ريب ّ‬
‫باهتاً‪ ،‬يراد منه ـ في الغالب ـ اإلبانة‪ ،‬وعلى الرغم من اقتران اإلبانة بتأدية دالالت جمالية‪،‬‬
‫فإن هذه الدالالت تبقى عاجزة عن الكشف عن المكونات الجمالية مادام التصور العام‬
‫ّ‬
‫ُيعنى بكل هذه العوائق التي تفصل الصورة عن سياقاتها من ناحية وعن تجربة المبدع من‬
‫ناحية أخرى ‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫بنية القصيدة‬

‫) ‪ ( 1‬طبيعة بنية القصيدة ‪:‬‬

‫يمثل التكرار عنص اًر أساسياً في بناء القصيدة العربية‪ ،‬وهو يقوم على أساس‬
‫تتابع صوتي تتضام فيه األصوات بطريقة معينة‪ ،‬ليكون البيت الوحدة األساسية المتكررة‬
‫التي يتشكل في ضوئها بناء القصيدة‪ ،‬ويقع البيت الشعري تحت تأثيرين‪ ،‬أحدهما ‪:‬‬
‫القصيدة بوصفها كالً يشتمل على تراص األبيات الشعرية الواحد تلو اآلخر‪ ،‬وثانيهما ‪:‬‬
‫جزئيات البيت الشعري‪ ،‬من حيث كونه يتألف من شطرين‪ ،‬وتفعيالت يتضمنهما‬
‫وكأن البيت الشعري يقع بين بعدين يمكن تمثيلهما من خالل التركيب والتحليل‪،‬‬
‫الشطران‪َّ ،‬‬
‫فمن جهة تركيب األبيات يتشكل لدينا البناء الكلي للقصيدة‪ ،‬ومن جهة تحليل البيت‬
‫الشعري تفكيكه إلى شطرين‪ ،‬والى تركيبات موسيقية في كل شطر‪ ،‬ولذا فنحن إزاء تكرار‬
‫إيقاعي أقله المقطع في التفعيلة‪ ،‬وأكبره البيت الذي يتسم هو اآلخر بطبيعة تك اررية في‬
‫القصيدة ‪.‬‬
‫إن أساس بناء القصيدة هو البيت الشعري الذي تتضام اليه أبيات أخرى تتالى‬
‫ّ‬
‫أن مجرد التتابع ال يكشف عن بناء متماسك متراص‪ ،‬كما أن اشتراك أبيات‬
‫وتتتابع‪ ،‬غير ّ‬
‫القصيدة بقافية واحدة ووزن واحد ال يدعم هذا الرأي‪ ،‬ولكن المهم ّ‬
‫أن القصيدة حين تتراكب‬
‫فكأن البناء الكلي للقصيدة هو‬
‫بطريقة معينة فإنه يحكمها تصور منطقي ـ فيما يبدو ـ ّ‬
‫حصيلة مجموع األبيات‪ ،‬ليكون كل بيت وحدة مستقلة بذاتها‪ ،‬وترتبط بالبيت الذي يسبقها‬
‫أن هذا الرابط ال يلغي استقاللية البيت‪ ،‬فتتحول مجموعة من األبيات‬
‫والذي يليها‪ ،‬غير ّ‬
‫إلى وحدة متراصة متماسكة‪ ،‬أو تحول القصيدة كلها إلى بنية واحدة متراصة تتفاعل فيها‬
‫األبيات مكونة بناء القصيدة ‪.‬‬
‫أن نبعد عن األذهان وحدة الغرض الشعري‬ ‫وفي حديثنا عن وحدة البناء ينبغي ْ‬
‫ألن الوحدة إنما هي » وحدة الموضوع‪ ،‬ووحدة المشاعر التي يثيرها الموضوع‪ ،‬وما يستلزم‬
‫ّ‬
‫‪247‬‬
‫ذلك من ترتيب الصور واألفكار‪ ،‬ترتيباً به تتقدم القصيدة شيئاً فشيئاً‪ ،‬حتى تنتهي إلى‬
‫أن تكون أجزاء القصيدة كالبنية الحية‪ ،‬لكل‬
‫خاتمة يستلزمها ترتيب األفكار والصور على ْ‬
‫جزء وظيفته فيها‪ ،‬ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير‬
‫والمشاعر«‪.1‬‬
‫فليس الغرض الشعري معيا اًر لتحديد بنية القصيدة‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫أن القصيدة العربية‬
‫ألن‬
‫ان هذا التعدد ليس مدعاة للحكم على تفكك القصيدة‪ّ ،‬‬ ‫غلب عليها تعدد األغراض‪ ،‬و ّ‬
‫أن تحتوي القصيدة تجربة واحدة تكتنفها من جوانبها المختلفة‪ ،‬وتكون بنية القصيدة‬
‫المهم ْ‬
‫معبرة عن هذه التجربة‪ ،‬فمعلقة امريء القيس مثال تشتمل على موضوعات عديدة ولكنها‬
‫تحتوي تجربة واحدة‪ ،‬تتمثل في ضوء جدلية الماضي والحاضر من ناحية‪ ،‬والتواصل‬
‫واالنفصام من ناحية ثانية‪ ،2‬إذ يمثل الماضي تواصالً لدى الشاعر من ناحيتي العشق‬
‫واللقاء الجنسي‪ ،‬مما يجعل الشاعر يعيده ويكرره في ضوء حاضر مؤلم يمثل فيه‬
‫االنفصام أبرز عناصره‪ ،‬فوقوفه على أطالل حبيبته انفصام‪ ،‬يوازيه وحدته في ليل طويل‬
‫جاثم‪ ،‬وغربته في الصحراء في أثناء تماثله مع الذئب‪ ،‬كالهما غريب في صحراء موحشة‪،‬‬
‫ويعبر عن التواصل واالنفصام بأنماط مختلفة وألوان متعددة‪ ،‬على الرغم من أن التجربة‬
‫إن بنية القصيدة‬
‫واحدة‪ ،‬وهي التي تسهم بفاعلية في بناء القصيدة‪ ،‬ومن هنا نستطيع القول ّ‬
‫ليست مستقلة عن تجربة الشاعر‪ ،‬تعددت األغراض أو لم تتعدد‪ ،‬فتعدد األغراض ليس‬
‫أن تعدد األغراض » كان‬
‫مدعاة للحكم على تفكك القصيدة العربية‪ ،‬وبخاصة إذا أدركنا ّ‬
‫نابعاً من اختالط التجربة الذاتية بالتجربة الجماعية‪ ،‬ومن امتزاج شخصية الشاعر بحياة‬
‫قبيلته «‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ محمد غنيمي هالل‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.294‬‬


‫‪ 2‬ـ ينظر‪ :‬كريم الوائلي‪ ،‬الشعر الجاهلي‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية‪ ،‬الدار العالمية‪ ،‬القاهرة‪ ، 1997 ،‬ص ‪91‬‬
‫وما تالها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ عبد القادر القط ‪ ،‬االتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪.368‬‬
‫‪248‬‬
‫فإن تعدد األغراض في القصيدة العربية ال يعد تفكيكاً للبناء إذا‬‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫كان التعدد نابعاً من ذات التجربة‪ ،‬ألن هناك تأثي اًر فاعالً بين التجربة والبناء‪ ،‬شأنه شأن‬
‫أن الحديث عن‬‫التفاعل الذي تضفيه التجربة على اإليقاع والصورة‪ ،‬ومن الجدير باإلشارة ّ‬
‫ألن البنية إنما هي محصلة هذا التفاعل المتبادل‬
‫البنية ال يعني إغفال اإليقاع والصورة‪ّ ،‬‬
‫بين مقومات القصيدة وخصائصها‪ ،‬هذا التفاعل الذي يصب في القالب المادي الذي‬
‫أن وحدة البناء ترجع إلى وحدة التجربة‪ ،‬ولذا فإننا‬
‫أن أخلص اليه ّ‬
‫يتقبله المتلقي‪ ،‬ما أريد ْ‬
‫أن الشاعر يقسمها إلى‬ ‫ال نعد ـ في الشعر الحديث ـ قصيدة ما مفككة وبخاصة ّ‬
‫مجموعات‪ ،‬ويفصل بين هذه المجموعات بأرقام‪ ،‬وعلى الرغم من هذا كله تعد هذه‬
‫القصيدة متماسكة في بنية واحدة ‪.‬‬

‫) ‪ ( 2‬البنية وتشكيل القصيدة ‪:‬‬

‫ويطلعنا الجرجاني على خصيصة جوهرية البد من توافرها في القصيدة ماهية‬


‫أن يؤدي الشعر دور الفلسفة أو‬
‫وبناء‪ ،‬ففي العالقة بين القصيدة والمتلقي يبعد الجرجاني ْ‬
‫المنطق‪ ،‬بل ينأى بالشعر عن أي لون من ألوان الخطابية‪ ،‬ويخضع في حكمه هذا إلى‬
‫ألن الشعر »ال يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة‪ ،‬وال يحلى في‬‫ذاتية تتصل بالمتلقي ّ‬
‫الصدور بالجدال والمقايسة‪ ،‬وإنما يعطفها عليه القبول والطالوة‪ ،‬ويقربها منها الرونق‬
‫والحالوة‪ ،‬وقد يكون الشيء متقناً محكماً‪ ،‬وال يكون حلواً مقبوالً‪ ،‬ويكون جيداً وثيقاً‪ ،‬و ْ‬
‫إن لم‬
‫إن هذا النص على الرغم من أنه يتصل اتصاالً مباش ار بماهية‬ ‫‪1‬‬
‫يكن لطيفاً رشيقاً« ‪ّ ،‬‬
‫الشعر فإنه يتصل من ناحية أخرى ببنية القصيدة ذاتها‪ ،‬ألن رفض الترتيب المنطقي في‬
‫إيصال النص الشعري يعني رفض الصنعة الهندسية في إحكام بنية القصيدة‪ ،‬إذ ليس‬
‫هناك معيار يحكم هذا الترتيب ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 100‬‬


‫‪249‬‬
‫وهذا يدل على أن القصيدة ال تعني مجموع تتابع األبيات وتواليها‪ ،‬وإنما يعني‬
‫وحدة تشمل عناصرها‪ ،‬ونسيجاً يلم مكوناتها‪ ،‬ولذلك رأينا الجرجاني يرى تفاوتاً في بنية‬
‫أن للشاعر‬‫القصيدة وتغاي اًر في نسيجها إذا اختلفت بعض األبيات في أسلوبها‪ ،‬ويرى ّ‬
‫طريقته الخاصة في األداء‪ ،‬فشاعر مثل أبي تمام قد يحيد عن أدائه حين » يختلجه الطبع‬
‫الحضري فيعدل به متسهالً‪ ،‬ويرمى بالبيت الخنث‪ ،‬فإذا انشد من خالل القصيدة وجد قلقاً‬
‫ناف اًر عنها‪ ،‬وإذا أضيف إلى ما وراءه وأمامه تضاعفت سهولته فصارت ركاكة « ‪ 1‬وهذا‬
‫يعني أن هناك تالحماً بين أبيات القصيدة‪ ،‬ولذلك الحظنا الجرجاني يؤكد ضرورة تفاعل‬
‫ان وجود بيت نافر في القصيدة قد يؤدي إلى ضعف‬‫البيت الشعري بما يسبقه وما يلحقه‪ ،‬و ّ‬
‫البناء كلما حاولنا إضافته إلى أبيات القصيدة ‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي نرى فيه هذا اإللحاح على تماسك القصيدة وتالحم أبياتها‪ ،‬نرى‬
‫في الوقت نفسه تأكيدا على البيت الشعري واستقالله وانفراده‪ ،‬وداللته بذاته على المعنى‬
‫كامال‪ ،‬ولذا عيب على امريء القيس مثال قوله ‪:‬‬

‫بصلبه‬ ‫طى‬
‫تم ّ‬ ‫لما‬ ‫له‬ ‫فقلت‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫بكلكل‬ ‫وناء‬ ‫أعجا اًز ًُ‬ ‫وأردف‬
‫َ‬

‫ويرى المزرباني ّ‬
‫أن الشاعر لم يشرح هذا إال في البيت الثاني » فصار مضافاً اليه متعلقاً‬
‫أن القصيدة‬ ‫‪2‬‬
‫به ‪ ...‬ألن خير الشعر ما لم يحتج بيت منه إلى بيت آخر « ‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬
‫تخلو من وحدة تجمعها‪ ،‬وإنما تمثل وحدة البيت المحور الذي تتأسس في ضوئه القصيدة‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 22‬‬


‫‪ 2‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪. 36‬‬
‫‪250‬‬
‫ان المرزباني يذهب بعيداً في تصوره هذا‪ ،‬فيرى ّ‬
‫أن » خير األبيات ما استغنى بعض‬ ‫بل َّ‬
‫أجزائه ببعض إلى وصول القافية مثل قوله ‪:‬‬

‫به‬ ‫طلبت‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫انجح‬
‫ُ‬ ‫هللاُ‬

‫حل‪1‬‬
‫الر ِ‬ ‫حقيبة‬ ‫خير‬ ‫البر‬
‫َ‬ ‫و ُ‬

‫ويرى المرزباني أن الشطر األول مستقل بمعناه عن الثاني‪ ،‬ولكنه‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬ال يخلو‬
‫من عيب كون الشطر الثاني معطوفا بحرف عطف »وما ليس فيه واو عطف أبلغ وأجود‬
‫« ‪ 2‬ومن الغريب أن تكون جودة البيت وبالغته قرينة هذا الترتيب الشكلي الذي يستقل‬
‫فيه كل شطر عن آخر‪ ،‬حتى ولو كان الجامع بينهما حرف عطف‪.‬‬
‫ويتفق أبو أحمد العسكري مع المرزباني في فهمه هذا‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن »خير الشعر ما‬
‫قام بنفسه وكمل معناه في بيته‪ ،‬وقامت أجزاء قسمته بأنفسها‪ ،‬واستغنى عن بعضها لو‬
‫سكت عن بعض «‪ .3‬ويستشهد كالهما بقول النابغة الذبياني ‪:‬‬

‫تّلمه‬ ‫ال‬ ‫أخا‬ ‫ٍ‬


‫بمستبق‬ ‫ولست‬
‫َ‬

‫المهذب‬ ‫الرجال‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬


‫شعث‪،‬‬ ‫على‬
‫ُ‬ ‫ّ‬

‫ويرى أبو أحمد العسـكري ّ‬


‫أن الشطر مسـتقل في معناه عن العجز » فلسـت بمستبق أخا ال‬
‫تلمه‪ ،‬كالم قائـم بنفسه‪ ،‬فإن زدت فيه » على شعث « كان أيضا مستغنياً‪ ،‬ولو قلت » أي‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 36‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬المصون في األدب‪ ،‬ص ‪. 9‬‬
‫‪251‬‬
‫الرجـال المهذب « وهو آخر البيت مبتدئاً به كمثل أردته‪ ،‬كنت قد أتيت بأحسن ما قيل‬
‫فيه«‪.1‬‬
‫وفي ضوء هذا تمثل وحدة البيت الشعري أساسا تبنى في ضوئه القصيدة‪ ،‬كما‬
‫أن وحدة البيت تتأتى في أحد جوانبها من شطرين مستقلين‪ ،‬وإذا كانت القصيدة العربية‬ ‫ّ‬
‫أن األبيات »تضل مفردة ال‬‫فإن هذا ال يعني ّ‬
‫تتأثر في تركيبها وبنيتها بمفهوم وحدة البيت ّ‬
‫صلة بينها وال تنسيق « ‪ 2‬ألننا يمكن أن نقيس القصيدة في ضوء هذا التصور على‬
‫البيت‪ ،‬فعلى الرغم من دعوة النقاد إلى ضرورة استقالل شطري البيت ّ‬
‫فإن هذا ال يلغي‬
‫وحدته‪ ،‬كذلك القصيدة فهي تتكون من عدة أبيات‪ ،‬وكل بيت يمثل وحدة مستقلة‪ ،‬وهي‬
‫على الرغم من ذلك تتفاعل أبياتها بعضها ببعض‪ ،‬آخذين بنظر االعتبار األسس‬
‫والضوابط الصارمة التي فرضها النقاد على طبيعة البيت الشعري وكيفية بنائه ‪.‬‬

‫) ‪ ( 3‬وحدات بناء القصيدة ‪:‬‬

‫ولم يقتصر النقد على العناية البالغة الجزئية بالبيت الشعري‪ ،‬سواء أكان مستقالً‪،‬‬
‫أم متفاعالً مع ما يسبقه‪ ،‬أو ما يلحقه من أبيات‪ ،‬وتنجلي العناية ـ هنا ـ بوحدات القصيدة‬
‫وبنائها الكلي‪ ،‬والبد في هذا السياق من التعرض لتصور ابن قتيبة في بناء القصيدة‪ ،‬وهو‬
‫تصور تحكمه مقوالت عقلية ترد الكثرة والتنوع والتعدد إلى وحدة ذات طابع شبه منطقي‪،‬‬
‫فهو يؤسس بنية القصيدة انطالقاً من المكان‪ ،‬ويتطور بها وفق مسببات منطقية تقود إلى‬
‫نتائج تتوقف في النهاية عند المديح الذي يقود هو اآلخر إلى الجائزة والمكافأة التي‬
‫يحصل عليها الشاعر ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ ،9‬والمرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪.36‬‬


‫‪ 2‬ـ عز الدين اسماعيل‪ ،‬األسس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬عرض وتفسير ومقارنة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫القاهرة‪ 1955 ،‬م ‪ ،‬ص ‪365‬‬
‫‪252‬‬
‫إن المكان يمثل مثي اًر يدفع الشاعر ـ في تصور ابن قتيبة ـ إلى ذكر آهليه‪ ،‬ومن‬
‫ثم االنتقال إلى التحدث عن حبيبته وذكرياته معها‪ ،‬فهو انتقال من العام إلى الخاص‪ ،‬أي‬
‫االنتقال من المكان إلى عموم قاطنيه‪ ،‬ثم االنتقال إلى أخصهم وهي حبيبة الشاعر‪ ،‬يقول‬
‫ابن قتيبة ‪ » :‬إن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن واآلثار‪ ،‬فبكى وشكا‪،‬‬
‫وخاطب الربع‪ ،‬واستوقف الرفيق‪ ،‬ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها‪ .... ،‬ثم‬
‫وصل ذلك بالتشبيب فشكا شدة الوحدة وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق «‪.1‬‬
‫فإن التشبيب‬
‫وإذا كان ذكر الديار أمسى » سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها « ّ‬
‫بالحبيبة يصبح هو اآلخر سببا » ليميل نحوه القلوب‪ ،‬ويصرف إليه الوجوه‪ ،‬وليستدعي به‬
‫ألن التشبيب قريب من النفوس‪ ،‬الئط بالقلوب‪ ،‬لما قد جعل هللا في‬
‫إصغاء األسماع إليه‪ّ ،‬‬
‫أن يكون متعلقاً‬
‫تركيب العباد من محبة الغزل‪ ،‬وإلف النساء‪ ،‬فليس يكاد أحد يخلو من ْ‬
‫منه بسبب‪ ،‬وضارباً منه بسهم‪ ،‬حالل أم حرام «‪.2‬‬
‫إن المؤثر الخارجي متمثالً في المكان وفي قاطنيه صار مثي اًر يدفع إلى التعبير‬‫ّ‬
‫إن النص األدبي يتحول إلى مؤثر في المتلقي الستمالة قلبه وإصغائه للقصيدة‬ ‫الشعري‪ ،‬و ّ‬
‫فإن الشاعر إذا علم أنه قد‬
‫والشاعر‪ ،‬ويمكن قياس األمر ذاته على وصف الرحلة والمديح ّ‬
‫«استوثق من اإلصغاء اليه‪ ،‬واالستماع له‪ ،‬عقب بإيجاب الحقوق‪ ،‬فرحل في شعره‪ ،‬وشكا‬
‫الغضب والسهر‪ ،‬وسرى الليل وحر الهجير‪ ،‬وانضاء الراحلة والبعير‪ ،‬فإذا علم أنه قد أوج‬
‫على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل‪ ،‬وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير‪ ،‬بدأ‬
‫في المديح فبعثه على المكافأة‪ ،‬وهزه للسماح‪ ،‬وفضله على األشباه وصغر في قدره‬
‫الجزيل»‪.3‬‬
‫إن الغاية تتحول إلى سبب يولد غاية أخرى تتوقف في نهايتها السلسلة المنطقية‬
‫ّ‬
‫إن الغاية‬
‫من التعاقب السببي التي تنتهي بالمديح الذي يجني فيه الشاعر المكافأة‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪ 74/1 ،‬ـ ‪.75‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.75/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.75/1 ،‬‬
‫‪253‬‬
‫النهائية من هذا كله غاية نفعية »تربط األفعال جميعها بغاياتها العملية‪ ،‬ومؤداها األخير‬
‫هو المصلحة المادية «‪.1‬‬
‫إن بنية القصيدة عند ابن قتيبة تكتنفها وحدة منطقية »وليست الوحدة المنطقية‬
‫ّ‬
‫إال جزءاً ضئيالً من الوحدة التي يلزم وجودها في الشعر الرفيع‪ ،‬إن الشاعر أحياناً قد‬
‫يضحي بهذه الوحدة المنطقية ألنه قد يعيش تجربته أو جزءاً من تجربته على مستوى‬
‫أن يبلغه المنطق« ‪.2‬‬
‫شعوري ال يستطيع ْ‬
‫ولم يقتصر ابن قتيبة على هذه الوحدة المنطقية في تتابع وحدات القصيدة ولكنه‬
‫اشترط توازناً منطقياً بين هذه الوحدات‪ ،‬فالشاعر المجيد لديه » من سلك هذه األساليب‪،‬‬
‫وعدل بين هذه األقسام‪ ،‬فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر‪ ،‬ولم يطل فيمل‬
‫أن المتلقي يمثل غاية‬ ‫‪3‬‬
‫السامعين‪ ،‬ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد « ومن الواضح ّ‬
‫الشاعر‪ ،‬في كال األمرين‪ ،‬سواء في تتابع األقسام أو في توازنها‪ ،‬وعندها يصح أن نقول‬
‫مع أحد الباحثين إن ابن قتيبة قد ذهب إلى » األخذ بالوحدة النفسية عند المتلقي‪ ،‬أي قدره‬
‫الشاعر على جذب انتباه السامع أوالً ليضعه في جو نفسي قابل لتلقي ما يجيء بعد‬
‫ذلك»‪.4‬‬
‫أن تقود هذه المعالجة المنطقية الصارمة إلى‬
‫وليس غريباً ـ من هذه الزاوية ـ ْ‬
‫موقف يلزم به الشاعر ما أقره له أقسام بنية القصيدة التي يقول فيها ‪ » :‬وليس لمتأخر‬
‫أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه األقسام‪ ،‬فيقف على منـزل عامر‪ ،‬أو‬
‫الشعراء ْ‬

‫‪ 1‬ـ شكري عياد‪ ،‬جماليات القصيدة التقليدية بين التنظير والخبرة الشعرية‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬ع ‪ 1986 / 2‬ص‬
‫‪.61‬‬
‫‪ 2‬ـ محمد زكي العشماوي‪ ،‬فلسفة الجمال في الفكر المعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪126‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر واشعراء‪ 75/1 ،‬ـ ‪. 76‬‬
‫‪ 4‬ـ إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري‪،‬‬
‫دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪254‬‬
‫ألن المتقدمين وقفوا على المنـزل الداثر‪ ،‬والرسم العافي‪ ،‬أو يرحل‬ ‫يبكي عند مشيد البنيان‪ّ ،‬‬
‫على حمار أو بغل ويصفهما‪ ،‬أل ّن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير ‪.‬أو َي ِرُد على المياه‬
‫ألن المتقدمين وردوا على األواجن الطوامي‪ ،‬أو يقطع إلى المروج منابت‬‫العذاب الجواري‪ّ ،‬‬
‫ألن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والع اررة«‪. 1‬‬
‫النرجس واآلس والورد‪ّ ،‬‬
‫أن ابن قتيبة »يحتفظ من‬ ‫أن ناقداً يؤكد ّ‬
‫واستكماال لهذا التصور أود اإلشارة إلى ّ‬
‫الثقافة القديمة بمالمح رئيسية‪ ،‬أولها ‪ :‬أنه ال يزال يفترض في الشعر أن يكون إنشاء على‬
‫الرغم من شيوع التدوين في عصره ‪ .....‬وثانيها ‪ :‬أنه ال يزال يتمسك بالعناصر البدوية‬
‫في القصيدة والسيما الوقوف على األطالل ووصف الراحلة ‪ ....‬وثالثها ‪ :‬كثرة االنتقاالت‪،‬‬
‫ولم تفلح الروابط التي افتعلها ابن قتيبة بين األجزاء في إظهار أي نوع من الوحدة‪ ،‬يمكن‬
‫أن يسوغ اعتبار القصيدة عمالً واحداً «‪.2‬‬
‫وإذا كان ابن قتيبة قد فتت وحدة القصيدة إلى أجزاء تربطها ببعض روابط‬
‫فإن الحاتمي تتحول لديه القصيدة إلى بنية متراصة متالحمة تشبه الكائن الحي‪،‬‬
‫منطقية‪ّ ،‬‬
‫أن القصيدة »مثلها مثل خلق اإلنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض‪ ،‬فمتى‬ ‫فهو يرى ّ‬
‫انفصل واحد عن اآلخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه‬
‫وتعفي معالم جماله «‪ ،3‬ويقترب تصور الحاتمي من تصور افالطون حين » أبرز‬
‫التشابه بين وحدة الكالم والوحدة العضوية في األحياء «‪.4‬‬
‫فإن بعض‬
‫وعلى الرغم من األهمية البالغة لتصور الحاتمي في بنية القصيدة ّ‬
‫الدارسين يقلل من أهميته ألنه يرى أن وحدة القصيدة لدى الحاتمي » وحدة عضوية ال‬

‫‪ 1‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪ 76/1 ،‬ـ‪.77‬‬


‫‪ 2‬ـ شكري عياد‪ ،‬جماليات القصيدة التقليدية بين التنظير والخبرة الشعرية‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪. 117/2 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ ينظر ‪ :‬مجدي وهبة وكامل المهندس‪ ،‬معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب‪ ،‬مكتبة لبنان‪،‬‬
‫بيروت‪ 1984 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.431‬‬
‫‪255‬‬
‫تؤدي معنى النمو‪ ،‬وإنما تؤدي معنى التكامل واالعتدال واالنسجام «‪ .1‬ولعل الذي دفع‬
‫قر في ذهنه من تصور الوحدة العضوية في النقد الغربي وبخاصة لدى‬
‫الناقد إلى ذلك ما ّ‬
‫الرومانسيين‪ ،‬وما أثارته تصورات كولردج على وجه التحديد‪.2‬‬
‫أن تصميم القصيدة العربية يتكون من ثالث وحدات جوهرية هي‬ ‫ويرى الجرجاني ّ‬
‫‪ :‬االستهالل‪ ،‬والتخلص‪ ،‬والخاتمة‪ ،‬وتمثل هذه الوحدات إطا اًر خارجيا يحكم بناء القصيدة‪،‬‬
‫أن يتفاوت الشعراء بمقدار أصابتهم بكيفية االستهالل والتخلص والوصول‬
‫ومن الطبيعي ْ‬
‫إلى الخا تمة‪ ،‬وهذا يعني أن بناء القصيدة يتصل من ناحية بمدى الوشائج بين األبيات‬
‫وعالقتها بعضها ببعض‪ ،‬ويتصل من ناحية ثانية بالعالئق بين وحدات القصيدة‪ ،‬فالشاعر‬
‫المجيد لدى الجرجاني هو الذي » يجتهد في تحسين االستهالل‪ ،‬والتخلص‪ ،‬وبعدهما‬
‫الخاتمة‪ ،‬فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور وتستمليهم إلى اإلصغاء‪ ،‬ولم تكن‬
‫األوائل تخصها بفضل مراعاة«‪.3‬‬
‫ومن المفيد اإلشارة إلى هذا التالزم المنطقي الذي ينبغي أن يتقدم فيه‬
‫وكأن هذا التتابع في بناء القصيدة له‬
‫االستهالل‪ ،‬ويتبعه التخلص‪ ،‬ومن ثم تأتي الخاتمة‪ّ ،‬‬
‫فإن النقاد لم يلتفتوا إلى عالقة هذه العناصر بتجربة‬
‫آثاره الفاعلة في المتلقي‪ ،‬وكالعادة ّ‬
‫الشاعر‪ ،‬قدر حديثهم عن تأثيرها في المتلقي‪ ،‬ولذلك تركزت العناية بها من هذه الناحية‪،‬‬
‫فهي«تستعطف أسماع الحضور‪ ،‬وتستمليهم إلى اإلصغاء «‪ ،‬ويبدو أن هناك تماثالً بين‬
‫القصيدة والخطبة‪ ،‬يتضح في االستهالل والخاتمة‪ ،‬ويتضح أكثر في تماثل اإللقاء وإنشاد‬
‫القصيدة أمام حضور يسمعون ويصغون‪ ،‬كما ّ‬
‫أن هذه الوحدات تذكرنا ـ ولو على نحو‬
‫اإلشارة ـ بالوحدات التي اشترطها أرسطو في الشعر المسرحي ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪. 257‬‬
‫‪ 2‬ـ ينظر ‪ :‬مجدي وهبة وكامل المهندس‪ ،‬معجم المصطلحات العربيةفي اللغة واألدب‪ ،‬ص ‪ ،433‬ومحمد‬
‫زكي العشماوي‪ ،‬فلسفة الجمال في الفكر المعاصر‪ ،‬ص ‪ ،118‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪256‬‬
‫أن السابقين لم تغنهم كثي اًر‬
‫أن الجرجاني نفسه يؤكد ّ‬ ‫ولعل الذي يؤكد ما سلف ّ‬
‫أن العناية بها جاءت متأخرة‪،‬‬‫هذه الوحدات التي ينبغي أن تنطوي عليها القصيدة‪ ،‬ويظهر ّ‬
‫أن البحتري ـ مثالً ـ حذا حذو‬
‫وأخذت بالظهور والتبلور مع الشعر المحدث‪ ،‬ولذا فهو يرى ّ‬
‫القدامى إال في االستهالل‪ » ،‬فإنه عني به فاتفقت له فيه محاسن‪ ،‬فأما أبو تمام والمتنبي‬
‫فقد ذهبا في التخلص كل مذهب‪ ،‬واهتما به كل اهتمام‪ ،‬واتفق للمتنبي فيه خاصة ما بلغ‬
‫المراد وأحسن وزاد « ‪.1‬‬
‫أما بناء القصيدة لدى الشريف المرتضى فيخضع إلى عنصرين ‪ :‬أحدهما ‪:‬‬
‫كمي يتمثل في عدد أبيات القصيدة‪ ،‬إذ يستحسن الشريف المرتضى قصيدة أبي نواس‬
‫التي مطلعها ‪:‬‬

‫السكر‬
‫ُ‬ ‫امتنها‬ ‫منة‬ ‫يا‬

‫الشكر‬
‫ُ‬ ‫لها‬ ‫مني‬ ‫ينقضي‬ ‫ما‬

‫‪2‬‬
‫ألن هذه القصيدة دون العشرين بيتا ‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬كيفي‪ّ ،‬‬
‫ألن الشاعر في هذه القصيد«قد‬ ‫ّ‬
‫نسب في أولها‪ ،‬ثم وصف الناقة بأحسن وصف‪ ،‬ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه‬
‫حاجته‪ ،‬كل ذلك بطبع يتدفق‪ ،‬ورونق يترقرق‪ ،‬وسهولة مع جزالة « ‪ ،3‬وتذكرنا هذه‬
‫الوحدات باألقسام المنطقية التي اشترطها ابن قتيبة في بناء القصيدة ‪.‬‬
‫ويعيب الصاحب بن عباد ـ متبنيا رأي ابن العميد ـ كثي اًر من الشعراء ألنهم‬
‫أن يوضح الشعر ويبتدأ النسيج « ومن أجل تجاوز هذا يرى ّ‬
‫أن‬ ‫«ليس يدرون كيف يجب ْ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 48‬‬


‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى ‪ ,‬األمالي‪ 197 /1 ،‬ـ‪280‬‬
‫أن الشريف المرتضى‪ ،‬وهو الشاعر‪ ،‬لم يعمد إلى تطبيق هذا‬ ‫‪3‬‬
‫ـ نفسه‪ ،179/1 ،‬ومن الجدير باإلشارة ّ‬
‫المعيار الكمي في بناء القصيدة على شعره ‪.‬‬
‫‪257‬‬
‫على الشاعر » أن يتأمل الغرض الذي قصده‪ ،‬والمعنى الذي اعتمده‪ ،‬وينظر في أي‬
‫األوزان يكون أحسن استم ار اًر‪ ،‬ومع أي القوافي يحصل أحمد اطراداً‪ ،‬فيركب مركباً ال‬
‫يخشى انقطاعه به والتياثه «‪.1‬‬
‫إن بنية القصيدة تخضع في هذا السياق لتصور أولي وفكرة مسبقة‪ ،‬ويتحكم في‬
‫ّ‬
‫تكوينها الغرض الشعري والمعنى الذي يريد الشاعر إيصاله‪ ،‬ويمثل هذا العنصر الثابت‬
‫أن يتحكم في ضوئه شكل خارجي يتناغم معه‪ ،‬ويتمثل هذا بالوزن والقافية‪،‬‬
‫الذي ينبغي ْ‬
‫ويتضح بهذا التصور مقدار اإلحكام المنطقي الذي يجعل البناء صورة تتكامل في ذهن‬
‫إن » على‬‫الشاعر‪ ،‬ثم يسعى إلى تنفيذه في وزن وقافية‪ ،‬مما دفع أحد النقاد إلى القول ‪ّ :‬‬
‫أن يحضر المعنى في نفسه نث اًر‪ ،‬ثم يبني عليه الشعر بأن يلبسه ألفاظا أخرى‬ ‫الشاعر ْ‬
‫ويضع له القوافي الموافقة والوزن المناسب«‪ ،2‬وهو بهذا يشير إلى الكيفية التي يتم بها‬
‫بناء القصيدة عند ابن طباطبا‪.3‬‬
‫إن محاولة الصاحب بن عباد تتسم بالبساطة‪ ،‬ولكنها على الرغم من ذلك تنبئ‬ ‫ّ‬
‫عن عناية ما بكيفية تشكيل القصيدة لدى الشاعر‪ ،‬ومقدار أثر ذلك في الوزن والقافية‪،‬‬
‫وكان األجدر به أال يجعل الوزن والقافية يخضعان للغرض والمعنى‪ ،‬وإنما يخضعان‬
‫للتجربة الشعرية‪ ،‬ليكون تشكيل القصيدة كله تعبي اًر عن هذه التجربة ‪.‬‬
‫أن الصاحب بن عباد يؤكد شأنه شأن الجرجاني ‪ 4‬على حسن‬ ‫بقي أن أشير إلى ّ‬
‫المطالع‪ ،‬ولكن الصاحب بن عباد يجعلها متأثرة بمقومات ذوقية‪ ،‬فهو ينقل عن ابن العميد‬
‫أن شاع اًر انشده في يوم نيروز قصيدة افتتحها بالقبر‪ ،‬فتطير من افتتاحه هذا‪ ،‬وتنغص‬
‫ّ‬
‫اليوم من أجله ‪.5‬‬

‫‪ 1‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬الكشف عن مساويء المتنبي‪ ،‬ص ‪.229‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 229‬‬
‫‪ 3‬ـ ينظر ‪ :‬ابن طباطبا العلوي‪ ،‬عيار الشعر‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 158‬‬
‫‪ 5‬ـ الصاحب بن عباد‪ ،‬الكشف عن مساويء المتنبي‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪258‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫المقياس الجمالي‬

‫‪259‬‬
260
‫القيمة‬

‫)‪ (1‬قيمة الشعر بين الفن والدين واألخالق ‪:‬‬

‫لم َيَن ْل اقتران القيمة الجمالية بالخير واألخالق عناية كبيرة في التراث النقدي‬
‫ويعنى بالجوانب‬
‫والبالغي عند العرب‪ ،‬بخالف التصور المضاد الذي ينفي هذا االقتران‪ُ ،‬‬
‫أن الفهم‬
‫الشكلية للقصيدة في تحديد القيمة‪ ،‬ويقلل من شأن المعطيات الخارجية‪ ،‬ويظهر ّ‬
‫الخاص لآليات القرآنية الكريمة واألحاديث النبوية الشريفة التي تناولت الشعر قد ساعد‬
‫على تعميق التصور الذي يفصل بين القيم الجمالية والقيم الدينية واألخالقية‪ ،‬فاآليات‬
‫القرآنية المكية‪1‬التي تعرضت للشعر كانت في موضع دفاع‪ ،‬فهي تنفي عن الرسول صلى‬
‫هللا عليه وسلم صفة الشعر‪ ،‬وتنفي عن القرآن الكريم أن يكون شع اًر‪ ،‬أما اآليات المدنية‪2‬‬
‫ْ‬
‫فإنها تميز بين الشاعر الصالح والشاعر الطالح‪ ،‬فاألول ‪ :‬ملتزم بتعاليم اإلسالم وقادر‬
‫على التعبير عنها أدبياً من غير ازدواج بين التصورات الفكرية واألداء الفني‪ ،‬والثاني ‪ :‬ال‬
‫يؤدي هذا الدور‪ ،‬وقد قلل القرآن الكريم من شأنه وأهميته‪ ،‬فهو مصدر غواية‪ ،‬وإنه يقول‬
‫وتبن ٍ‬
‫لنمط آخر‪،‬‬ ‫يدل على رفض لنمط من التعبير األدبي‪ٍ ،‬‬‫أن َ‬‫ما ال يفعل‪ ،‬وهذا من شأنه ْ‬
‫أن القرآن الكريم كان له موقف خاص من الشعر واضح المالمح‬ ‫ويؤكد من ناحية أخرى ّ‬
‫واألبعاد‪ ،‬بخالف من يرى » ّ‬
‫أن القرآن الكريم لم يصدر حكماً بعينه على الشعر‪ ،‬ولم يتخذ‬

‫آن مبين « سورة يس‪،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ذكر وقر ٌ‬
‫إن هو إال ٌ‬ ‫الشعر وما ينبغي له ْ‬
‫َ‬ ‫ـ اآليات القرآنية المكية هي ‪َ » :‬و َما عّلمناهُ‬
‫شاعر فليأتنا بآية كما أُرسل األولون « سورة األنبياء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أضغاث أحال ٍم بل افتراه بل هو‬
‫ُ‬ ‫آية ‪ ،69 :‬و» بل قالوا‬
‫شاعر‬
‫ٌ‬ ‫لشاعر مجنون « سورة الصافات‪ ،‬آية ‪ ،36 :‬و» أم يقولون‬ ‫ٍ‬ ‫آية ‪ ،6:‬و» يقولون ِأئّنا لتاركوا آلهتنا‬
‫ٍ‬
‫شاعر قليال ما تؤمنون « سورة الحاقة‪،‬‬ ‫نتربص به ريب المنون « سورة الطور‪ ،‬آية ‪ ،30 :‬و» وما هو ِ‬
‫بقول‬ ‫َ‬
‫آية ‪. 41 :‬‬
‫اء َيتُّب ُعهم الغاوون‪ ،‬ألم َتر أنهم في كل و ٍاد يهيمون‪ ،‬وأنهم يقولون ما ال يفعلون‪،‬‬
‫ـ اآليات المدنية ‪ » :‬والشعر ُ‬
‫‪2‬‬
‫ظلموا« سورة الشعراء‪ ،‬أية ‪224 :‬‬ ‫إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا هللا كثي اًر وانتصروا من بعد ما ُ‬
‫ـ‪. 227‬‬
‫‪261‬‬
‫أن بعض‬ ‫‪1‬‬
‫منه موقفا خاصا » و يدعم هذا التصور الديني واألخالقي أحاديث نبوية‪ ،‬كما ّ‬
‫الصحابة كانوا يفضلون شعراء بعينهم ‪ 2‬لتأديتهم معاني أخالقية‪ ،‬أو تعبيرهم عن دالالت‬
‫فإن قيمة الشعر أخذت باالستقالل‬‫تتوافق مع بعض القيم الدينية‪ ،‬وعلى الرغم من هذا كله ّ‬
‫واالنفصال عن القيم الدينية واألخالقية في وقت مبكر من تاريخ النقد األدبي عند العرب‪.‬‬
‫وقد أسهم األصمعي في تعميق الفصل بين الدين والشعر‪ ،‬فهو يرى ّ‬
‫أن للشعر‬
‫مجاالً يستقل فيه عن الدين‪ ،‬ويستقل فيه عن القيم األخالقية‪ ،‬ولذا فهو يفصل بين‬
‫الشاعر وقيمة شعره‪ ،‬ويهب الموضوع الشعري دو اًر كبي اًر في االرتقاء بقيمة الشعر أو‬
‫أن » ليونة « الشعر ـ وهو مصطلح يقابل‬ ‫الهبوط بها‪ ،‬فالشعر ـ لديه ـ أدخل في الشر‪ ،‬و ّ‬
‫جودة الشعر ـ إنما مردها إلى التعبير عن الخير‪ ،‬يقول األصمعي ‪ » :‬وطريق الشعر إذا‬
‫الن‪ ،‬أال ترى حسان كان قد عال في الجاهلية واإلسالم‪ ،‬فلما دخل‬
‫أدخلته في باب الخير َ‬
‫الن شعره‪ ،‬وطريق الشعر هو‬‫شعره في باب الخير من مراثي النبي وحمزة وجعفر وغيرهم َ‬
‫طريق شعراء الفحول من مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل‬
‫والهجاء والمديح والتشبيب وصفة الحمر والخيـل والحرب واالفتخار فإذا أدخلته في باب‬
‫الن«‪ ،3‬وأخذت قيمة الشعر تستقل عن المعتقدات إيماناً وكف اًر‪ ،‬فأبو تمام الطائي‬
‫الخير َ‬
‫حين اتهمه قوم بالكفر وحققوه عليه » وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره وتقبيح حسنه «‬
‫أن كف اًر ينقص من شعر‬ ‫‪4‬‬
‫تصدى لهم أبو بكر الصولي ورد عليهم بقوله ‪ » :‬وما ظننت ّ‬

‫‪ 1‬عبد القادر القط ‪ ،‬في الشعر اإلسالمي واألموي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ 1976 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪ 2‬ـ أبو هالل العسكري‪ ،‬الصناعتين‪ ،‬ص ‪. 162‬‬
‫‪ 3‬ـ األصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء‪ ،‬تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬وطه أحمد الزيني‪ ،‬المطبعة المنيرية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ، 1953 ،‬ص ‪،42‬وينظر ‪ :‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪.305/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ ابو بكر الصولي‪ ،‬أخب أخبار أبي تمام‪ ،‬تحقيق خليل عساكر‪ ،‬ومحمد عبدة عزام‪ ،‬ونظير اإلسالم‬
‫الهندي‪ ،‬المكتب التجاري للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت ار أبي تمام‪ ،‬ص ‪. 173‬‬
‫‪262‬‬
‫أن جمال الشعر ال يخضع لمقومات دينية أو‬ ‫‪1‬‬
‫أن إيماناً يزيد فيه « وهذا يعني ّ‬ ‫وال ّ‬
‫أخالقية‪ ،‬وإنما ترجع القيمة من هذه الزاوية لمعطيات أخرى ‪.‬‬
‫وقد تأكد الفصل بين القيمتين الجمالية واألخالقية لدى ابن جني في أثناء دفاعه‬
‫عن المتنبي حيث يقول ‪ » :‬فليست اآلراء واالعتقادات مما يقدح في جودة الشعر‬
‫ورداءته»‪ ،2‬وقد أوضح القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بجالء الفصل بين الدين‬
‫والشعر فيم مقولته الشهيرة ‪» :‬فلو كانت الديانة عا اًر على الشعر‪ ،‬وكان سوء االعتقاد سببا‬
‫بتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين‪ ،‬ويحذف ذكره إذا عدت‬
‫عم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد األمة عليه بالكفر‪ ،‬ولوجب أن يكون‬
‫الطبقات‪ ،‬ولكان ّ‬
‫كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول رسول هللا ( ص ) وعاب أصحابه‬
‫خرساً وبكاء مفحمين‪ ،‬ولكن األمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر «‪.3‬‬
‫إن هذه التصورات تجعل النص الشعري غايتها‪ ،‬وتؤكد ضرورة الفصل بين‬ ‫ّ‬
‫المبدع وإبداعه أوالً‪ ،‬وتعنى بالخصائص النوعية للشعر ثانياً‪ ،‬وليس معيارها في تحديد‬
‫أن تعقد مقارنة بين النص الشعري ومعطيات خارجية‪ّ ،‬‬
‫ألن العناية بهذه المعطيات‬ ‫القيمة ْ‬
‫إنما تعني توجهاً نحو الدرس التاريخي والنفسي‪ ،‬فالعناية باألخالق » تهتم بالعالقات بين‬
‫العمل وأشياء أخرى ـ ومن ثم فإنها تؤكد نتائج الفن ـ أي تأثيره في السلوك «‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 173‬‬


‫جني‪ ،‬الفسر‪ ،‬ص ‪. 346‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ 4‬ـ جيروم ستولينتز‪ ،‬النقد الفني‪ ،‬دراسة جمالية وفلسفية‪ ،‬ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.508‬‬
‫‪263‬‬
‫( ‪ ) 2‬أثر التطور في تحديد القيمة الشعرية ‪:‬‬

‫لقد تأثرت القيمة بالتطور الذي ط أر على الحياة العربية‪ ،‬سواء في الرؤية ‪ :‬جاهلية‬
‫وإسالمية‪ ،‬أو ما رافق ذلك من تطور في أذواق الناس ومواقفهم من القيم االجتماعية‬
‫والفنية على السواء‪ ،‬إضافة إلى التطور الحاصل في القصيدة العربية‪ ،‬وقد َّ‬
‫ولد هذا التطور‬
‫موقفين من قيمة الشعر ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يجعل القيمة ثابتة في إطار زماني‪ ،‬وثانيهما‪ :‬ال يعد‬
‫الزمن معيا اًر للتفاضل بين النصوص الشعرية ‪.‬‬
‫ويعمد الموقف األول إلى إحكام النصوص الشعرية في ضوء معطيات ثابتة‪ ،‬وأكثر من‬
‫هذا أنه يجعل الزمن متحكماً في تحديد قيمة الشعر‪ ،‬أي أنك كلما أوغلت في القدم أمسى‬
‫الشعر حسناً‪ ،‬وكلما كان النص الشعري معاص اًر لك‪ ،‬أو قريباً من زمانك‪ ،‬أصبح قبيحاً‪،‬‬
‫أو أنه قليل القيمة‪.‬‬
‫إن الناقد الذي يؤمن بثبات القيمة ويرجعها إلى أبعاد زمانية معينة إنما يصنف‬
‫بفعله هذا النتاجات الشعرية إلى أنماط سابقة والحقة‪ ،‬ويخضع القيمة إلى معطيات‬
‫خارجية ـ زمانية‪ ،‬بحيث يكون القديم جيداً لقدمه‪ ،‬والمحدث رديئاً لحداثته ‪.‬‬
‫هم أبو عمرو بن العالء أن يكسر القاعدة في روايته الشعر المحدث‪ ،‬إدراك ًا‬
‫وقد ّ‬
‫ألن تكوينه الفكري وعالقته‬
‫منه بأهمية قيمته‪ ،‬ولكنه لم يكن مهيئاً ألداء هذا الدور‪ّ ،‬‬
‫الوثيقة بالقراءات القرآنية‪ ،‬ودوره في التأصيل اللغوي‪ ،‬فضال عن المرحلة الزمنية التي‬
‫يعيشها‪ ،‬والتي لم تكن تميل إلى المحدث‪ ،‬كل هذا دفعه إلى اإلحجام عن رواية الشعر‬
‫سولت له رواية الشعر المحدث حيث يقول‪ » :‬لقد كثر‬
‫أن نفسه َّ‬
‫المحدث‪ ،‬على الرغم من ّ‬
‫هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته « ‪ ،1‬فهو يعترف بحسن الشعر المحدث‪،‬‬
‫ولكنه ليس قاد اًر على تقييمه إال في إطار زماني‪ ،‬ومثل هذا ما فعله ابن األعرابي ‪ 2‬حين‬
‫ق أر عليه أحدهم أرجوزة أبي تمام ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪.5 / 1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ أبو بكر الصولي‪ ،‬أخبار أبي تمام‪،‬ص ‪ 175‬ـ ‪. 176‬‬
‫‪264‬‬
‫ِ‬
‫عذله‬ ‫في‬ ‫عذلتُ ُه‬ ‫و ٍ‬
‫عاذل‬ ‫َ‬

‫ج ِ‬
‫هله‬ ‫من‬ ‫جاهل‬ ‫أني‬ ‫ظن‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َف ّ‬

‫أن يكتبها‪ ،‬ولما علم أنها ألبي تمام‬


‫و ّادعى أنها لبعض شعراء هذيل‪ ،‬فلما أتمها‪ ،‬طلب منه ْ‬
‫أمر بتخريق ما كتبه‪ ،‬وقد دفعه تعصبه للقديم ففعل هذا الفعل‪.‬‬
‫أما األصمعي فهو أحد هؤالء اللغويين المتشددين في نصرة القديم والتقليل من‬
‫أهمية المحدث‪ ،‬ويروي عنه أبو عمرو بن العالء يقول ‪» :‬جلست اليه ثماني حجج ما‬
‫سمعته يحتج ببيت إسالمي‪ ،‬وسئل عن المولدين فقال ‪ :‬ما كان من حسن فقد سبقوا اليه‪،‬‬
‫وما كان من قبيح فهو من عندهم‪ ،‬ليس النمط واحداً«‪ ،‬وبهذا يدرك األصمعي تفاوت‬
‫أن القديم ينطوي على قيمة كائنة فيه ألنه لم يسبقه‬
‫نمطي الشعر القديم والمحدث‪ ،‬ويعي ّ‬
‫إبداع قبله‪ ،‬ويدرك ان المحدث يشتمل على حسن لكنه لم يكن من ابتكار الشعراء‬
‫المحدثين‪ ،‬فقد سبقهم اليه القدامى‪ ،‬أما الرديء فليس مرده إلى القديم بل عائد إلى‬
‫المحدث ذاته‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا نستطيع تفسير التقليل من شأن ذي الرمة حين أخرجه األصمعي‬
‫من الشعراء الفحول‪ ،‬وقال‪ » :‬إن شعر ذي الرمة حلو أول ما نسمعه‪ ،‬فإذا كثر إنشاده‬
‫ضعف‪ ،‬ولم يكن له حسن‪ ،‬ألن أبعار الظباء أول ما تشم يوجد لها رائحة ما أكلت من‬
‫شمه ذهبت تلك الرائحة ونقط‬
‫الشيح والقيصوم والجثجاث والنبت الطيب الريح‪ ،‬فإذا أدمت ّ‬
‫العروس إذا غسلتها ذهبت «‪ ،1‬وهذا يدل على َّ‬
‫أن هناك ثنائية في تفكير األصمعي‬
‫يتضاد فيها طرفان إذ يمثل أحدهما القديم الذي يمثل الثابت واألصل‪ ،‬ويمثل اآلخر‬
‫المحدث الذي يدل على التغير أو أنه صورة ألصل ما‪ ،‬وليس التغير كالثابت‪ ،‬وال يمكن‬

‫‪ 1‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪. 271‬‬


‫‪265‬‬
‫أن ينحاز األصمعي لكل‬ ‫أن تضاهي األصل‪ ،‬وكان من الطبيعي من هذه الزاوية ْ‬
‫للصورة ْ‬
‫ما هو ثابت‪ ،‬ويقلل من شأن كل متغير‪ ،‬ويتجاوز ذلك إلى لون من التعصب للقديم‪ ،‬فلقد‬
‫أنشده اسحق بن إبراهيم الموصلي‪:‬‬

‫سبيل‬ ‫إليك‬ ‫نظرة‬ ‫إلى‬ ‫هل‬

‫الغليل‬ ‫ويشفى‬ ‫الصدي‬ ‫فيروى‬

‫عندي‬ ‫يكثر‬ ‫منك‬ ‫قل‬ ‫ما‬ ‫إن‬

‫القليل‬ ‫تحب‬ ‫ممن‬ ‫وكثير‬

‫قال األصمعي‪ :‬لمن تنشدني ؟ قال ‪ :‬لبعض األعراب‪ ،‬قال ‪ :‬وهللا هذا هو الديباج‬
‫الخسرواني‪ ،‬قال‪ :‬فانهما ليلتهما‪ ،‬فقال ال جرم أن أثر الصنعة والتكلف بين عليها« ‪َّ 1‬‬
‫إن‬
‫األصمعي في انحيازه للقديم وتعصبه له‪ ،‬وتقليله من شأن الشعر المحدث‪ ،‬ال يرجع »‬
‫قيمة الشعر « إلى الخصائص النوعية للشعر‪ ،‬وإنما يرجعها إلى أبعاد زمنية‪ ،‬فالجودة لديه‬
‫قرينة القدم‪ ،‬والرداءة قرينة الحداثة‪ ،‬ولعلنا نجد في هذا سنداً دينياً فان الحداثة ترتبط‬
‫بالبدعة‪ ،‬وكالهما مردود في ضوء األصول‪ ،‬ويبدو أن تضافر بعدي الثقافة المزدوجة في‬
‫العصور اإلسالمية قد أثر في موقف األصمعي من الشعر بعامة والمحدث بخاصة‪ .‬إذن‬
‫فقد أرجع األصمعي الشعر إلى أصل ثابت يحكم قيمته ويحدد جمالياته‪ ،‬وهذا األصل هو‬
‫الشعر القديم‪ ،‬ولذلك كان منحا اًز للقديم‪ ،‬ولكنه على الرغم من ذلك يدرك التفاوت القيمي‬
‫بين الشعراء القدامى‪ ،‬ولذلك أخذ يفاضل في القيمة واألهمية بين الشعراء القدامى أنفسه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ابن سنان الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬ص ‪. 279‬‬


‫‪266‬‬
‫وأول ما يبده القارئ في كتاب األصمعي » فحولة الشعراء « عنوان الكتاب إذ‬
‫يستمد مصطلح » الفحولة « من واقعه وبيئته‪ ،‬شأن من سبقه أو من عاصره من العلماء‪،‬‬
‫فالخليل بن أحمد الفراهيدي يستمد مصطلحاته العروضية من بيئته‪ ،‬ومن بيت الشعر يقول‬
‫» رتبت البيت من الشعر ترتيب البيت من بيوت الشعر «‪1‬وكذلك مصطلح‬
‫«الفحولة« وهو مصطلح قيمى فهو مستمد من البيئة البدوية‪ ،‬وحين سئل األصمعي عن‬
‫معنى الفحل أجاب هو‪ » :‬ماله مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاق » ‪ 2‬أي‬
‫كمنـزلة الناضج المكتمل بحيث يمكن ركوبه بالقياس إلى الصغير الناشئ‪ ،‬كالحق‪ ،‬وهو‬
‫الذي دخل السنة الرابعة من عمره ‪ ،‬ويظهر َّ‬
‫أن مصطلح الفحولة له جذور أقدم من‬
‫إن كان األصمعي قد وظفه توظيفاً قيمياً‪ ،‬وطور داللته نسبياً‪ ،‬فلقد روى‬ ‫األصمعي‪ ،‬و ْ‬
‫الجاحظ َّ‬
‫أن العرب تقسم الشعراء إلى طبقات » فأولهم الفحل الخنذيذ‪ ،‬والخنذيذ هو التام«‬
‫‪ ،3‬ومما يثير االنتباه َّ‬
‫أن مفهوم » الفحولة يتكئ في أحد جوانبه على الداللة اللغوية‪،‬‬
‫ويستمد جانباً من داللته لقيمة الفنية للشعر من الوجدان االجتماعي‪ ،‬فالفحل هو الذكر من‬
‫كل حيوان‪ ،‬وتدل الذكورة في اللغة على الشدة والقوة‪ ،‬في حين يدل مقابلها على الضعف‬
‫واللين والرخاء‪ ،‬ولذلك استخدم األصمعي مصطلح الفحولة ليدل به على الشعر الذي‬
‫يتميز بأقصى درجات اإلبداع‪ ،‬واستخدام مصطلح » الليونة « ليدل به على الشعر الذي‬
‫يفتقر إلى هذه الخاصية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن األصمعي يستخدم مصطلح » الفحولة « فانه لم يحدد‬
‫مقوماته وعناصره‪ ،‬إذ يخلع سمات الفحولة على بعض الشعراء‪ ،‬ويجرد بعضهم منها‪،‬‬
‫ويحدد أحد النقاد مفهوم األصمعي للفحولة من خالل بعدين أولهما‪ » :‬غلبة الشعر على‬

‫‪ 1‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص‪. 15‬‬


‫‪ 2‬ـ االصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء‪ ،،‬ص ‪ 9‬ينظر ايضا‪ ،‬علي أحمد سعيد ( أدونيس ) الثابت والمتحول‪ ،‬دار‬
‫العودة ‪ ،‬بيروت ‪ 40 /2 ، 1986 ،‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الجاحظ ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪.9 / 1 ، 1968 ،‬‬
‫‪267‬‬
‫كل صفات أخرى في المرء » ‪ 1‬بحيث يصدق على الشاعر الفحل وصف الشعر دون‬
‫سواه‪ ،‬فامرؤ القيس غلب عليه الشعر‪ ،‬أما حاتم الطائي فإنه قد غلب عليه الكرم‪ ،‬ولذلك‬
‫يعد األصمعي ام أر القيس من الشعراء الفحول‪ ،‬ويخرج حاتم الطائي منهم‪ ،‬أما ثاني‬
‫البعدين‪ ،‬فيتأتى من » ان غلبة الشعر تستدعي عدداً معيناً من القصائد التي تكفل‬
‫لصاحبها التفرد ‪ ...‬ويتفاوت هذا العدد‪ ،‬على قاعدة ال ندريها‪ ،‬فهي خمس‪ ،‬أو ست‪ ،‬أو‬
‫عشرون « ‪ ،2‬وبهذا يقرر األصمعي الكم معيا اًر للتمايز بين الشعراء‪ ،‬بحيث يكون‬
‫الشاعر فحالً لو أنه نظم قصائد تماثل قصيدة من قصائده أو أكثر‪ ،‬ولذلك حين سئل‬
‫األصمعي عن المهلهل‪ ،‬قال‪ :‬ليس بفحل‪ ،‬ولو قال مثل قوله‪ » :‬أليلتنا بذي حسم‬
‫أنيري« خمس قصائد لكان أفحلهم «‪. 3‬‬
‫ويقرر إحسان عباس أن » الفحولة « لدى األصمعي » صفة عزيزة تعني التفرد«‬
‫أو إنها » تعني ط ار اًز رفيعاً في السبك وطاقة كبيرة في الشاعرية وسيطرة واسعة على‬
‫المعاني»‪. 4‬‬
‫فإن مفهوم الفحولة هذا تحدده عناصر أخرى تتجلى‬
‫وعلى الرغم من ذلك َّ‬
‫مالمحها من خالل تتبعنا ألحكام األصمعي‪ ،‬فلقد كان متردداً في تفضيل أحد الشاعرين‪:‬‬
‫امرئ القيس أو النابغة‪ ،‬ولكنه يرجح ام أر القيس بقوله‪ » :‬أولهم كلهم في الجودة امرؤ‬
‫القيس‪ ،‬له الحظوة والسبق‪ ،‬وكلهم أخذوا من قوله‪ ،‬واتبعوا مذهبه «‪.5‬‬
‫وسئل األصمعي عن سبب تفضيله بشا اًر على مروان بن حفصة‪ ،‬وهما شاعران محدثان‬
‫فأجاب » ألن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه‪ ،‬فلم يلحق من تقدمه‪ ،‬وشركه من كان‬

‫‪ 1‬ـ احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ص ‪. 52‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه ص ‪7. 53‬‬
‫‪ 3‬ـ االصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ 4‬ـ احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ص ‪.52‬‬
‫‪ 5‬ـ االصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء ص ‪.9‬‬
‫‪268‬‬
‫في عصره‪ ،‬وبشار سلك طريقا لم يسلك‪ ،‬وأحسن فيه وتفرد‪ ،‬وهو أكثر تصرفاً في فنون‬
‫الشعر وأوسع بديعاً‪ ،‬ومروان لم يتجاوز مذهب األوائل «‪.1‬‬
‫ان النص الثاني يتصل بشاعرين محدثين‪ ،‬ويسهم في استكمال تصورنا عن مفهوم‬
‫«الفحولة « لدى األصمعي‪ ،‬ويمكننا الخلوص بصفات أخرى تحدد خصائص مفهوم‬
‫«الفحولة « إضافة إلى ما سلف ذكره وهي ‪2 :‬‬
‫‪ ‬التفرد والجودة‪ :‬وتتجلى بعض مالمح التفرد والجودة في قدم الشعر‪ ،‬وكونه يعبر‬
‫عن الشر وليس عن الخير‪ ،‬مما يأتي تفصيله‪.‬‬
‫‪ ‬السبق في اإلبداع‪ ،‬وقد يشتمل السبق هنا على االبتكار‪ ،‬ألن الشائع في التاريخ‬
‫األدبي القديم وليس بصحيح أن ام أر القيس ابتدع أشياء في الشعر لم يسبقه إليها‬
‫أحد‪ ،‬وأن بشار بن برد سلك طريقا لم يسلك من قبل‪ ،‬وأحسن فيه وتفرد‪.‬‬
‫‪ ‬المثل األعلى في اإلبداع‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫أن الشاعر يرسي أساسا أدبيا يقلده فيه الشعراء‬
‫اآلخرون‪ ،‬وينهجون نهجه‪ ،‬ويتبعون مذهبه‪.‬‬
‫‪ ‬التنوع في فنون القول‪ ،‬كأن ينظم الشاعر في أغراض الشعر المختلفة في المدح‬
‫والهجاء والفخر والغزل‪ ،‬وهذا يعود بنا إلى ذي الرمة الذي قلل النقاد من قيمته‬
‫ألنه لم يتصرف في فنون القول‪ ،‬وبخاصة تجافيه عن المدح والهجاء‪.‬‬
‫وقد عمد األصمعي إلى فصل الشعر عن القيمة األخالقية‪ ،‬ويرجع هذا إلى‬
‫أمرين‪:‬‬
‫ان الشعر الجاهلي يمثل األصل الذي يقيس األصمعي في ضوئه‬ ‫‪ ‬أولهما‪:‬‬
‫خصائص الشعر في صدر اإلسالم‪ ،‬وكذلك شعر المحدثين‪ ،‬وينطوي الشعر‬
‫إجماال على موضوعات الهجاء والخمر ونحوهما‪ ،‬وهي أحد أضرب الشر‪ ،‬وما‬
‫دامت هذه الخصائص الشعرية تنطوي على الشر‪َّ ،‬‬
‫فإن قيمة الشعر وجودته ليس‬
‫مردها أخالقيا‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ أبو الفرج االصفهاني‪ ،‬األغاني‪.147 / 3 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ علي أحمد سعيد ( أدونيس ) الثابت‪ ،‬والمتحول‪.40 / 2 ،‬‬
‫‪269‬‬
‫‪ ‬ثانيهما‪ :‬أن األصمعي عقد مقارنة بين الشعر الذي يغلب عليه الشر في تصوره‬
‫وبين الشعر في صدر اإلسالم‪ ،‬وبخاصة لدى حسان بن ثابت األنصاري فتبين‬
‫أن الشعر الجاهلي أكثر قيمة من الشعر اإلسالمي‪ ،‬بل َّ‬
‫إن حساناً نفسه‬ ‫له‪َّ ،‬‬
‫تفاوت شعره من حيث الجودة‪ ،‬فكان شعره الجاهلي أجود من شعره اإلسالمي‪.‬‬
‫قر في روع األصمعي َّ‬
‫أن الشر قرين اإلبداع وأن الخير يبعث‬ ‫ومن خالل هذين المحورين ّ‬
‫ان الشعر نكد بابه الشر «‪ ،‬ويقرر من ناحية أخرى هذا‬‫الليونة والضعف فهو يرى » َّ‬
‫المعنى في مقولته التي يبدو عليها االضطراب حيث يقول » طريق الشعر إذا أدخلته في‬
‫الن‪ ،‬أال ترى َّ‬
‫أن حسان بن ثابت كان فحالً في الجاهلية واإلسالم‪ .‬فلما دخل‬ ‫باب الخير َ‬
‫الن‬
‫شعره في باب الخير من مراثي النبي ( ص ) وحمزة رضوان هللا عليهم وغيرهم‪َ ،‬‬
‫شعره‪ ،‬وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول من مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من‬
‫صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب‬
‫واالفتخار‪ ،‬فإذا أدخلته في باب الخير الن«‪.1‬‬
‫إن فصل الشعر عن القيمة األخالقية لدى األصمعي قد ترك أث ًار واضحاً في‬
‫وحول وجهته نحو الجوانب الشكلية والجمالية في النص األدبي‪.‬‬
‫النقد العربي‪ّ ،‬‬
‫ويحذو محمد بن سالم الجمحي حذوهم في تحديد القيمة زمانياً‪ ،‬ويتأثر خطى‬
‫األصمعي في تحديد مصطلح » الفحولة « ويتأثر خطى أبي عمرو بن العالء في كثرة‬
‫الشعر بوصفها معيا اًر يحدد قيمة الشعر‪ ،‬ولقد جارت القسمة الحسابية على قيمة الشعر‬
‫يعدل في تلك القسمة فيؤخر‬
‫أن ّ‬‫وتصنيف الشعراء لدى ابن سالم الجمحي‪ ،‬ألنه اضطر ْ‬
‫من تساوت طبقته مع طبقة سابقيه‪ ،‬اتباعاً لقسمة حسابية‪ ،‬ومثال ذلك أوس بن حجر‬
‫أن مكانته في الطبقة األولى‪ ،‬فيما يرى ذلك ابن سالم‪،‬‬
‫الذي جعله في الطبقة الثانية مع ّ‬
‫ولكنه اقتصر على أربعة شعراء في كل طبقة‪ ،‬وقد اضطر من ناحية أخرى أن يلحق‬
‫بالطبقة المتقدمة من ال يساويها في رتبته‪ ،‬كما فعل مع الراعي النميري‪ ،‬إذ ألحقه بجرير‬
‫والفرزدق واألخطل‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ االصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء‪ ،‬ص ‪.42‬‬


‫‪270‬‬
‫ولم يقتصر ابن سالم على هذا وحده في تحديد قيمة الشعر‪ ،‬بل اتخذ كثرة‬
‫الشعر معيا اًر آخر تتحدد من خالله مكانة الشاعر وقيمته الشعرية‪ ،‬فحين يتحدث عن‬
‫وعبيد بن األبرص‪ ،‬وعلقمة بن عبدة‪،‬‬
‫الطبقة الرابعة من الجاهليين‪ ،‬وهم ‪ :‬طرفة بن العبد‪َ ،‬‬
‫أخل‬
‫وعدي بن زيد‪ ،‬يقول ‪ » :‬وهم أربعة رهط فحول شعراء موضعهم مع األوائل‪ ،‬وإنما ّ‬ ‫َ‬
‫بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة «‪1‬ومثل هذا ما فعله مع شعراء الطبقة السابعة من الجاهليين‬
‫إذ أخرهم ألن أشعارهم قليلة ‪.‬‬
‫ولم يغفل ابن سالم الخصائص الفنية بوصفها معيا اًر يحدد جودة الشعر فلقد‬
‫أن هذا نادر‬ ‫‪2‬‬
‫وضع عمر بن شأس آخر طبقته مع أنه » أكثر أهل طبقته شع اًر« غير ّ‬
‫فإن شاع اًر مثل األسود بن يعفر‬
‫في أحكامه‪ ،‬إذ يغلب عليه الحكم بكثرة النتاج أو قلته‪ّ ،‬‬
‫يصفه ابن سالم بأنه شاعر فحل‪ ،‬وأنه »كان يكثر التنقل في العرب يجاورهم فيذم ويحمد‪،‬‬
‫وله في ذلك أشعار‪ ،‬وله واحدة رائعة طويلة الحقة بأول الشعر‪ ،‬لو كان شفعها بمثلها‬
‫أن تقديم الشاعر يخضع لدى ابن سالم ـ أحياناً ـ إلى‬ ‫‪3‬‬
‫قدمناه على مرتبته « وهذا يعني ّ‬
‫فإن اجتمعت هاتان الخصلتان تقدم الشاعر عنده ‪.‬‬
‫جودة الشعر‪ ،‬أو إلى كثرته‪ْ ،‬‬
‫وقد جعل ابن سالم تعدد األغراض الشعرية معيا اًر يتحكم في تقديم شاعر‬
‫ألن ُك ّثي اًر يقول في الغزل وفي غيره‪،‬‬
‫وتأخير آخر‪ ،‬فلقد وضع ُك ّثير عزة في الطبقة الثالثة ّ‬
‫ووضع جميل بن معمر في الطبقة السادسة‪ ،‬القتصاره على الغزل وحده على الرغم من‬
‫أن جميل بثينة متقدم على ُك ّثير في النسيب‪ ،‬وهذا ما يؤكده ابن سالم نفسه في قوله ‪:‬‬
‫ّ‬
‫«وكان جميل صادق الصبابة‪ ،‬وكان ُك ّثير يقول‪ ،‬ولم يكن عاشقا «‪ 4‬وآخر العناصر التي‬
‫تحدد قيمة الشعر عند ابن سالم الجمحي هو ‪ » :‬االبتكار « فالذي قدم ام أر القيس على‬
‫غيره من الشعراء أنه كان شاع اًر مبدعا ومبتك اًر‪ ،‬أو أنه ـ على حد تعبير ابن سالم ـ «سبق‬

‫‪ 1‬ـ ابن سالم الجمحي‪ ،‬طبقات فحول الشعراء‪. 137/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 196/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 147/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 545/2 ،‬‬
‫‪271‬‬
‫العرب إلى أشياء ابتدعها فاستحسنتها العرب‪ ،‬واتبعته فيه الشعراء‪ ،‬منها استيقاف صحبه‬
‫والتبكاء في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ وشبه النساء بالظباء والبيض‪ ،‬وشبه الخيل‬
‫وقيد األوابد وأجاد في التشبيه « ‪ 1‬وعلى الرغم من تشككنا في أن‬
‫بالعقبان والعصي‪ّ ،‬‬
‫يكون امرؤ القيس هو الذي ابتكر كل هذه األشياء‪ ،‬ألن هذه التقاليد ال يفرعها شاعر‬
‫بعينه‪ ،‬فإن االبتكار يمثل قيمة وأهمية لدى ابن سالم‪ ،‬وهو الذي يحدد جانباً أساسياً من‬
‫جماليات النص‪ ،‬ومن ثم يدفع هذا إلى تقديمه على غيره ‪.‬‬
‫إن ابن سالم الجمحي ال يختلف عن نقاد آخرين جعلوا األبعاد الزمانية تتحكم‬
‫ّ‬
‫في جودة النص الشعري‪ ،‬فلقد حذا حذو سابقيه‪ ،‬وتأثر خطاهم‪ ،‬وبقيت هذه التصورات‬
‫منسربة لدى نقاد ناضجين في القرن الرابع الهجري‪ ،‬فابن طباطبا العلوي‪ ،‬وهو يتحدث عن‬
‫محنة الشعر المحدث‪ ،‬يعطي القديم قيمة أكبر‪ ،‬ويوليه عناية أكثر‪ ،‬ألن القدامى لهم‬
‫السبق في المعانى واأللفاظ يقول ‪» :‬والمحنة على شعراء زماننا في أشـعارهم أشد على من‬
‫كان قبلهم ألنهم قد سبـقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح وخالبة ساحرة «‪.2‬‬
‫المبرد ـ وهو من نقاد القرن الثالث الهجري ـ فإنه كان متعاطفاً مع الشعر‬
‫أما ّ‬
‫المحدث‪ ،‬ولقد درسه لتالميذه‪ ،‬وأورد منه نصوصا في كتابه الكامل ‪ ،3‬وكانت له مقولة‬
‫تنتصر للشعر المحدث يقول ‪» :‬وليس لقدم العهد يفضل القائل وال لحدثان عهد يهتضم‬
‫المصيب‪ ،‬ولكن يعطى كل ما يستحق «‪. 4‬‬
‫ويبدو ابن قتيبة أكثر وعياً من سابقيه في تقييم النصوص الشعرية على أساس‬
‫فني‪ ،‬وليس على أساس زماني‪ ،‬وهو بهذا يرجع القيمة من بعدها الخارجي متمثال في‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 55/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن طباطبا العلوي‪ ،‬عيار الشعر‪ ،‬تحقيق محمد زغلول سالم‪ ،‬منشأة المعارف ـ اإلسكندرية‪1984 ،‬م ‪،‬‬
‫ص ‪.15‬‬
‫‪ 3‬ـ ينظر بالتفصيل ‪ :‬أدونيس‪ ،‬صدمة الحداثة‪ ،‬ص ‪ 12‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ المبرد‪ ،‬الكامل‪ ،29/1 ،‬وأدونيس‪ ،‬صدمة الحداثة‪ ،‬ص ‪ ،12‬وإحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند‬
‫العرب‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪272‬‬
‫الزمن إلى بعد داخلي متمثل في بعض خصائص القصيدة ومكوناتها‪ ،‬ويعيب على بعض‬
‫العلماء كونه » يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله‪ ،‬ويضعه في متخيره‪ ،‬ويرذل الشعر‬
‫الرصين‪ ،‬وال عيب له عنده إال انه قيل في زمانه‪ ،‬أو أنه رأى قائله «‪. 1‬‬
‫فإن ابن قتيبة يحاول التوسط بين القدامى والمحدثين‪،‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك ّ‬
‫ويحاول النظر إلى كال الفريقين بعين العدل‪ ،‬ويعمد إلى تمييز النصوص الشعرية وتقييمها‬
‫ليس في ضوء قدمها وحداثتها‪ ،‬وإنما بمقدار ما تنطوي عليه من خصائص وسمات‬
‫نوعية‪ ،‬ولذا فهو يقول ‪ » :‬ولم أسلك‪ ،‬فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختا اًر له‪ ،‬وسبيل‬
‫من قلد‪ ،‬أو استحسن باستحسان غيره‪ ،‬وال نظرت إلى المتقدم بعين الجالل لتقدمه‪ ،‬والى‬
‫المتأخر بعين االحتقار لتأخره‪ ،‬بل نظرت بعين العدل على الفريقين‪ ،‬وأعطيت كال حظه‪،‬‬
‫ووفرت عليه حقه« ‪.‬‬
‫ولقد دفع معيار العدل ابن قتيبة إلى تقرير مقولة نقدية تميز الجيد عن الرديء‪،‬‬
‫أن كل »من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له‪ ،‬واثنينا به عليه‪ ،‬ولم يضعه‬ ‫ومفادها ‪ّ :‬‬
‫أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو‬‫عندنا تأخر قائله أو فاعله‪ ،‬وال حداثة سنه‪ ،‬كما ّ‬
‫الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه وال تقدمه « ‪ 2‬وهذا هو الذي دفع ناقداً إلى القول‪:‬‬
‫إن الشعر ال يكتسب قيمته في كونه قديماً‪ ،‬وال تنقص قيمته لكونه محدثاً‪ ،‬فابن قتيبة‬
‫» ّ‬
‫يشدد هنا ‪ . . .‬على أهمية النص الشعري بذاته دون اعتبار لقائله وللزمن الذي قيل‬
‫فيه«‪.3‬‬
‫وليست القيمة منفصلة عن اللفظ والمعنى لدى ابن قتيبة‪ ،‬فلقد خضعت ثنائية‬
‫اللفظ والمعنى إلى تقسيمات منطقية جائرة‪ ،‬ويذكرنا هذا بالتصنيف األخالقي لأللفاظ‬
‫والمعاني الذي ذهب إليه بشر ابن المعتمر في أثناء تأديته نصائحه للمتأدب في قوله ‪» :‬‬
‫فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد‪ ،‬والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك‪ ،‬ويشين‬
‫إياك والتوعر ّ‬

‫‪ 1‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪ 62/1 ،‬ـ ‪.63‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 63/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ أدونيس‪ ،‬صدمة الحداثة‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪273‬‬
‫فإن حق المعنى الشريف اللفظ‬
‫ألفاظك‪ ،‬ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً‪ّ ،‬‬
‫الشريف « ‪.1‬‬
‫ولقد حذا ابن قتيبة حذو بشر بن المعتمر‪ ،‬فصنف األلفاظ والمعاني إلى حسنة‬
‫وقبيحة‪ ،‬وصنف في ضوئها أقسام الشعر‪ ،‬فمنه ما حسن لفظه وجاد معناه‪ ،‬ومنه ما حسن‬
‫لفظه وحال وليس تحته فائدة في المعنى‪ ،‬ومنه ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه‪ ،‬ومنه‬
‫ما تأخر معناه وتأخر لفظه‪.2‬‬
‫وهذه القسمة المنطقية جعلت القيمة قرينة التشكيل اللغوي في ضوء فهم متخلف‬
‫يصنف المعاني إلى مستويات حسنة ورديئة‪ ،‬وتتألف هذه المعاني مع مثيالتها في األلفاظ‬
‫الحسنة والرديئة‪ ،‬وحين عمد ابن قتيبة إلى تطبيق تصوره هذا خانه ـ ابتداء ـ تصوره‬
‫النظري ذاته بما ينطوي عليه من قسمة منطقية ال يصح تطبيقها على الفنون بعامة‪،‬‬
‫والشعر بخاصة‪ ،‬وخانه أيضا طبع الفقيه الذي لم يتدرب على التذوق الرفيع‪ ،‬وأكثر من‬
‫هذا أنه تراجع عن بعض تصوراته النظرية المتقدمة‪ ،‬فألزم الشاعر بمذهب المتقدمين‬
‫والعودة إلى أساليبه م‪ ،‬على الرغم من دعوته التوفيقية التي تتوسط بين القدامى والمحدثين‬
‫أن يخرج عن مذهب‬‫حين قال في أثناء تعرضه لبناء القصيدة ‪ » :‬وليس لمتأخر الشعراء ْ‬
‫ألن‬
‫المتقدمين في هذه األقسام‪ ،‬فيقف على منـزل عامر‪ ،‬أو يبكي عند مشيد البنيان‪ّ ،‬‬
‫المتقدمين وقفوا على المنـزل الداثر‪ ،‬والرسم العافي‪ ،‬أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما‬
‫ألن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير‪ ،‬أو َي ِرد على المياه العذاب الجواري‪ ،‬ألن‬
‫ّ‬
‫المتقدمين وردوا على األواجن الطوامي‪ ،‬أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس واآلس‬
‫ألن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والع اررة « ‪.3‬‬‫والـورد‪ّ ،‬‬
‫ويرسي ابن قتيبة بنظرته التوفيقية أساساً طيباً لناقد الحق يحذو حذوه في التوسط‬
‫بين القدامى والمحدثين‪ ،‬ويرجع قيمة الشعر إلى عناصر متعددة ليس الزمن أحدها‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ أبو هالل العسكري‪ ،‬الصناعتين‪ ،‬ص ‪.134‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء‪ 64/ 1 ،‬ـ ‪.65‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ 76/1 ،‬ـ ‪.77‬‬
‫‪274‬‬
‫فالجرجاني في وساطته ‪ 1‬يحدد عنصرين خارجيين إلبداع الشعر وتحديد قيمته‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫الرواية والدربة‪ ،‬وآخرين داخليين‪ ،‬وهما ‪ :‬الطبع والذكاء‪ ،‬وبقدر نصيب الشاعر من هذه‬
‫العناصر تكون مرتبته من اإلحسان‪ ،‬ويستوي في ذلك القديم والمحدث‪.‬‬

‫(‪ )3‬مكونات القيمة الشعرية في القرن الرابع الهجري ‪:‬‬

‫وحين ننتقل إلى القرن الرابع الهجري نلتقي بناقدين متميزين لهما تصوراتهما‬
‫المتميزة في تحديد قيمة الشعر‪ ،‬وهما يعيشان األجواء الفكرية التي ازدهرت فيهما الحركة‬
‫االعتزالية‪ ،‬وهذان الناقدان هما ‪ :‬ابن طباطبا العلوي‪ ،‬وقدامة بن جعفر ‪.‬‬
‫إن للقيمة لدى ابن طباطبا العلوي بعدين‪ ،‬يتصل أحدهما بالوجود الموضوعي‬
‫ّ‬
‫أن الثاني‬
‫للقصيدة‪ ،‬ويتصل اآلخر بمدى مطابقة القصيدة لمقتضى الحال‪ ،‬ومن الجلي ّ‬
‫يركز على تأثير القصيدة في المتلقي من حيث المعاني التي يستخدمها الشاعر في‬
‫أغراضه الشعرية‪ ،‬كما هو الحال في المدح والمفاخرة‪ ،‬وكالمراثي في حال جزع المصاب‪،‬‬
‫وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق واهتياج شوقه » فإذا وافقت هذه المعاني هذه‬
‫الحاالت تضاعف حسن موقعها عند مستمعها‪ ،‬وال سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من‬
‫الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها‪ ،‬والتصريح بما كان يكتم منها‬
‫واالعتراف بالحق في جميعها «‪ ،2‬وبهذا تكون موافقة الحال عنص اًر كائناً خارج النص‬
‫الشعري تحكمه معطيات ذوقية أو اجتماعية ‪.‬‬
‫فإن ابن طباطبا يرجع فيه القيمة‬
‫أما البعد المتصل بالوجود الموضوعي للقصيدة ّ‬
‫ـ فيما يبدو ـ إلى عيار عقلي‪ ،‬ويتأثر فيه بالتيار الفلسفي في تحديده للحسن والقبح‪ ،‬إذ‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 15‬‬


‫‪ 2‬ـ ابن طباطبا العلوي‪ ،‬عيار الشعر‪ ،‬ص ‪. 55‬‬
‫‪275‬‬
‫يشترط » التناسب « ‪ 1‬علة لقيمة الشعر‪ ،‬وينطوي التناسب على بعدين وهما ‪:‬‬
‫«االعتدال« وهو علة كل حسن‪ ،‬و»االضطراب « وهو علة كل قبيح‪ ،‬ولعل هذا يوحي‬
‫أن الفضيلة تقع بين رذيلتين‪ ،‬وهذا يؤكد ـ‬
‫بمفهوم»األوساط « الذي أشاده اإلغريق‪ ،‬ويعني ّ‬
‫من زاوية أخرى ـ » ّ‬
‫أن األصل في تحديد القيمة ـ عند ابن طباطبا ـ هو العقل الذي يرجع‬
‫اإلعجاب بالشعر أو عدم اإلعجاب به إلى أصول محددة يمكن للجميع مناقشتها «‪ 2‬كما‬
‫أن لدى ابن طباطبا » ثقافة فلسفية أو اعتزالية أفادته في تعميق نظرته‬
‫يكشف أيضا ّ‬
‫عامة»‪.3‬‬
‫وقد تنـاول ابن طبـاطبـا العلـوي مفهومي » االعتـدال « و«االضطراب» بوصفهما‬
‫علتي الحسن والقبح في النص األدبي‪ ،‬في أثناء تعرضه للخصائص التي تجعل الشعر‬
‫جيداً أو رديئاً‪ ،‬فالشعر الموزون ـ مثال ـ له » إيقاع يطرب الفهم لصوابه « ويرجع هذا إلى‬
‫» حسن تركيبه واعتدال أجزائه‪ ،‬فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى‬
‫تم قبوله له واشتماله عليه‪ ،‬وإن نقص‬
‫وعذوبة اللفظ‪ ،‬فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر ّ‬
‫جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي ‪ :‬اعتدال الوزن وصواب المعنى وحسن األلفاظ‪ ،‬كان‬
‫إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه« ‪.4‬‬
‫أن للتناسب أوجهاً متعددة منها ما يتصل بعيار الشعر ذاته‪ ،‬ومنها ما‬
‫ويبدو ّ‬
‫فإن ابن طباطبا قد جعل الفهم الثاقب‬
‫يتصل بحواس البدن‪ ،‬أما الذي يتصل بعيار الشعر ّ‬
‫ـ على الرغم من عدم تحدده ـ أداة تسهم في تحديد حسن الشعر وقبحه‪ ،‬ويتم ذلك من‬
‫خالل إيراد الشـعر على الفهم الثاقب »فما قبله واصطفاه فهو و ٍ‬
‫اف‪ ،‬وما مجه ونفاه فهو‬
‫ناقص»‪. 5‬‬
‫ٌ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 53‬‬


‫‪ 2‬ـ جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص ‪. 58‬‬
‫‪ 3‬ـ إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.133‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن طباطبا العلوي‪ ،‬عيار الشعر‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ 5‬نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪276‬‬
‫أن يتوافق اعتدال‬
‫إن العلة التي تجعل الشعر حسناً كامنة فيه‪ ،‬وهي االعتدال‪ ،‬و ْ‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫أن هناك اعتداالً في حواس البدن‪ ،‬و ّ‬‫وكأن ابن طباطبا يرى ّ‬
‫ّ‬ ‫الشعر مع حواس البدن‪،‬‬
‫أن يكون معتدالً أو مضطرباً‪ ،‬فإن كان معتدال تطابق اعتداله‬
‫الشعر له إحدى حالتين‪ ،‬أما ْ‬
‫مع اعتدال حواس البدن‪ ،‬فيكون حسناً‪ ،‬وإن كان الشعر مضطرباً لم يتوافق مع اعتدالها‬
‫ألن » كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له‬ ‫فيكون قبيحاً‪ّ ،‬‬
‫إذا كان وروده عليها ورودا لطيفاً باعتدال ال جور فيه‪ ،‬وبموافقة ال مضادة معها فالعين‬
‫تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه ‪. . .‬والفهم يأنس من الكالم العدل‬
‫الصواب الحق ‪ . . .‬فإذا كان الكالم الوارد على الفهم منظوماً مصفى من كدر العي‬
‫مقوماً من أود الخطأ واللحن سالماً من جور التأليف‪ ،‬وموزوناً بميزان الصواب لفظاً‬
‫ومعنى وتركيباً اتسعت طرقه‪ ،‬ولطفت موالجه‪ ،‬فقبله الفهم وارتاح له وأنس به‪ ،‬وإذا ورد‬
‫عليه على ضد هذه الصفه ‪ ...‬انسدت طـرقـه ونفـاه واستوحش عند حسـه به ‪ ،‬وصدئ له‪،‬‬
‫وتأذى به«‪.1‬‬
‫إن الفهم الثاقب لدى ابن طباطبا العلوي يمثل الثابت الذي يعرض عليه النص‬
‫ّ‬
‫الشعري‪ ،‬ولذا جعل ابن طباطبا المتغير كائناً في النص‪ ،‬وبمقدار تطابق الشعر في‬
‫خصائصه الموضوعية مع الفهم الثاقب تكون درجته من الحسن » فإذا اجتمع للفهم مع‬
‫تم‬ ‫ن‬
‫صحة وز الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ‪ ،‬فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر‪ّ ،‬‬
‫قبوله له‪ ،‬واشتماله عليه‪،‬وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي ‪ :‬اعتدال الوزن‪،‬‬
‫وصواب المعنى‪ ،‬وحسن األلفاظ‪ ،‬كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه « ‪2‬‬
‫ولم يقتصر تأكيد االعتدال علة لحسن الشعر على ابن طباطبا وحده فابن وهب‬
‫الكاتب في أثناء تحدثه عن وزن الشعر يستشهد بنص شعري ثم يعلق عليه بقوله » فهذا‬
‫أن‬
‫الشعر ليس فيه معنى فائق‪ ،‬وال مثل سابق والتشبيه مستحسن وال غزل مستطرف‪ ،‬إال ّ‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪277‬‬
‫وصير له في القلوب جالالً «‪ ،1‬وقد يدل »االعتدال « عند ابن‬ ‫ّ‬ ‫االعتدال كساه جماالً‬
‫وهب الكاتب على المشـاكلة بين األلفاظ والمعاني‪ ،‬أو ما ينبغي أن تكـون عليه «كسوة »‬
‫المعاني‪ ،‬إذ ال يستحسن أن يكسو الشاعر »المعاني الجدية ألفاظاً هزلية فيسخفها وال‬
‫يكسو المعاني الهزلية ألفاظاً جدية فيستوخمها سامعها‪ ،‬ولكن يعطي كل شيء من ذلك‬
‫حقه ويضعه موضعه«‪ 2‬وهذا يعني تأكيد سمات كائنة في النص الشعري‪ ،‬وهي التي‬
‫تحدد جماليات القصيدة‪ ،‬ولذلك ألفينا ابن وهب الكاتب يؤكد هذا المعنى ألنه يرى ّ‬
‫أن الذي‬
‫» يسمى به الشعر فائقاً‪ ،‬ويكون إذا اجتمع فيه مستحسناً رائقاً‪ :‬صحة المقابلة‪ ،‬وحسن‬
‫النظم‪ ،‬وجزالة اللفظ‪ ،‬واعتدال الوزن‪ ،‬وإصابة التشبيه« ‪ 3‬وإذا كانت علة حسن الشعر‬
‫قرينة الخصائص النوعية للتشكيل اللغوي عند ابن طباطبا‪ ،‬فلقد تابعه ابن وهب الكاتب‬
‫في ذلك‪ ،‬ولكنه يرى ّ‬
‫أن ما يزيد حسن الشعر معطيات خارجية ليست لها عالقة جوهرية‬
‫بالوجود الموضوعي للقصيدة‪ ،‬وهذه المعطيات محددة بحسن اإلنشاد وحالوة النغمة ‪،4‬‬
‫وفي هذا يؤكد ابن وهب الكاتب أهمية األداء ومدى تأثيره في المتلقي‪.‬‬
‫أما قدامة بن جعفر فلقد ألفى العلم بالشعر أنماطاً متعددة‪ ،‬أغلبها ال عالقة له‬
‫بقيمة الشعر‪ ،‬فعلم الغريب والنحو وأغراض المعاني إنما هي أصل من أصول الكالم‬
‫العام‪ ،‬وأما الوزن والقافية »فليست الضرورة داعية إليهما لسهولة وجودهما في طباع أكثر‬
‫أن جميع الشعر المستشهد به إنما هو لمن كان‬
‫الناس من غير تعلم‪ ،‬ومما يدل على ذلك ّ‬
‫قبل وضع الكتب في العروض والقوافي‪ ،‬ولو كانت الضرورة إلى ذلك داعية لكان جميع‬

‫‪ 1‬ـ ابن وهب الكاتب‪ ،‬البرهان في وجوه البيان‪ ،‬تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي‪ ،‬مطبعة العاني‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪ 1967‬م ‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 184‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 173‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 184‬‬
‫‪278‬‬
‫فإن الناس يخبطون في‬
‫هذا الشعر فاسداً أو أكثره ‪ . . .‬فأما علم جيد الشعر من رديئه ّ‬
‫ذلك منذ تفقهوا من العلوم‪ ،‬فقليال ما يصيبون « ‪.1‬‬
‫أن قدامة بن جعفر قد تمثل التراث النقدي السابق له وأفاد منه‪ ،‬ولعله أفاد‬
‫ويبدو ّ‬
‫من الجاحظ لعناية األخير بتمييز الخصائص النوعية للشعر لدى نقاد متخصصين‪ ،‬فلقد‬
‫وجد الجاحظ العلماء متفاوتين في عنايتهم بالشعر‪ ،‬فقد يتوقف عالم عند غريب األلفاظ‪،‬‬
‫ويتوقف آخر عند اإلعراب‪ ،‬ويتوقف ثالث عند األخبار‪ ،‬وهؤالء جميعا إما يعقدون مقارنة‬
‫بين النص الشعري وشيء آخر‪ ،‬أو يعنون بجزئية في النص ال تكشف عن‬
‫جمالياته‪،‬والجاحظ يفتش عن الناقد المتخصص الذي يهمه جمال النص الشعري لذاته‪،‬‬
‫وليس بمقدار عالقته بغيره ‪.2‬‬
‫ويدعم هذا التصور مقولة الجاحظ التي جعل فيها المعاني عامة ومطروحة في‬
‫الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي‪ ،‬وأرجع القيمة للخصائص النوعية‬
‫للشعر‪ ،‬فمزية الشعر والشأن فيه »إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء‪،‬‬
‫وفي صحة الطبع وجودة السبك‪ ،‬فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من‬
‫التصوير « ‪.3‬‬
‫ويتأثر قدامة بن جعفر بهذه التصورات ويفيد منها بشكل أكثر وعياً‪ ،‬ربما بحكم‬
‫التراكم الثقافي والعلمي في القرن الرابع الهجري‪ ،‬فيؤكد أن الشعر صناعة‪ ،‬وأن لهذه‬
‫الصناعة طرفين »أحدهما غاية الجودة‪ ،‬واآلخر غاية الرداءة‪ ،‬وحدوده بينهما تسمى‬
‫الوسائط‪ ،‬وكان كل قاصد لشيء من ذلك فإنما يقصد الطرف األجود‪ ،‬فان كان معه من‬
‫فإن قصر عن ذلك نـزل له اسم‬
‫القوة في الصناعة ما يبلغه إياه ُسمي حاذقاً تام الحذق‪ْ ،‬‬
‫بحسب الموضع الذي يبلغه في القرب من تلك الغاية والبعد عنها«‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪ 71‬ـ ‪.62‬‬


‫‪ 2‬ـ الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪.22/4 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ 131/3 ،‬ـ ‪.132‬‬
‫‪ 4‬ـ قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪ 64‬ـ ‪.65‬‬
‫‪279‬‬
‫ويركز قدامة بن جعفر على الجوانب الشكلية في العملية النقدية واإلبداعية‪ ،‬إذ‬
‫يفصل بين المبدع وانتاجه األدبي أوالً‪ ،‬و يفصل بين النص األدبي والواقع االجتماعي وما‬
‫أن قدامة بن جعفر‬ ‫يشتمل عليه من قيم وأفكار ثانياً‪ ،‬وتتجلى مظاهر العناية الشكلية في ّ‬
‫ال يعيب على الشاعر أن يناقض نفسه بقصيدتين كأن »يصف شيئاً وصفاً حسناً ثم يذمه‬
‫ذماً حسناً « ‪ 1‬ألن المعيار لديه أن يكون الشاعر قد » أحسن المدح والذم «بل ان هذا‬
‫يدل عنده » على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليه«‪.2‬‬
‫ويقود هذا التصور إلى التذكير بقضيتي التحسين والتقبيح العقليين اللتين أرساهما‬
‫ونماهما التفكير االعتزالي وإنهما ال يؤديان ـ عند قدامة بن جعفر ـ دو اًر تربوياً‪ ،‬الهدف‬
‫منه التأثير في المتلقي‪ ،‬تر غيباً في أمر‪ ،‬أو تنفي اًر عنه‪ ،‬ولكنهما يؤديان دو اًر جمالياً‬
‫فإن الصدق لدى قدامة ليس معيا اًر لتمييز جيد الشعر عن رديئه‪ ،‬ألن الشاعر‬ ‫شكلياً‪ ،‬ولذا ّ‬
‫» ليس يوصف بأن يكون صادقاً‪ ،‬بل إنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني كائناً ما‬
‫أن يجيد في وقته الحاضر « ‪. 3‬‬ ‫كان ْ‬
‫وحين يتناول قدامة بن جعفر قول امرئ القيس ‪:‬‬

‫ومرضع‬ ‫قت‬
‫طر ُ‬ ‫قد‬ ‫حبلى‬ ‫فمثُلك‬

‫ِ‬
‫محول‬ ‫تمائم‬ ‫ذي‬ ‫عن‬ ‫فألهيتُها‬
‫َ‬

‫فهو رد على من يقرنون القيمة بأبعاد أخالقية‪ ،‬ألنه »ليست فحاشة المعنى في نفسه مما‬
‫يزيل جودة الشعر فيه‪ ،‬كما ال يعيب جودة النجار في الخشب مثال رداءته في ذاته«‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 66‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪280‬‬
‫أن قدامة بن جعفر يرجع علة الجمال إلى الجانب الشكلي‪ ،‬وهو أمر‬
‫وهذا يعني ّ‬
‫يتصل بالنسيج والتصوير‪ ،‬وبتعبير آخر يرجع علة الجمال إلى الخصائص الذاتية للشعر‬
‫في جانبها الشكلي »الصياغة « ولذلك فإن المعنى ال يعيب شاع اًر‪ ،‬وإنما الذي يحسنه‬
‫ويقبحه كيفية التعبير عنه ‪.‬‬

‫)‪ (4‬ابن طباطبا بناء القصيدة والفعل اإلنساني ‪:‬‬

‫ال يختلف األديب عن اإلنسان العادي بالنوع ‪ ،‬وإنما يتميز بحساسية مرهفة تجعله‬
‫أكثر ضبطا النفعاله وسيطرة عليه ‪ ،‬وقدرة في التعبير عنه بتشكيل لغوي ‪ ،‬ويلتقي الدارس‬
‫بنمطين من االنفعال ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬سطحي ساذج يستجيب بسرعة للمثير الكائن في الخارج‬
‫‪ ،‬وثانيهما يتخلق في أعماق األديب ‪ ،‬ليس بوصفه رد فعل مفاجئ للمثير الخارجي ‪،‬‬
‫وإنما يتفاعل مع وجدان األديب ورؤاه وأحالمه بطريقة معينة ‪ ،‬وهذا النمط هو الذي‬
‫يسيطر عليه األديب ‪ ،‬ويعمد إلى التعبير عنه بطريقة فنية‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا ال يتخلق إبداع النص األدبي إال بوجود مثير خارجي يقع خارج‬
‫الذات اإلنسانية المبدعة ‪ ،‬وليس شرطا أن يكون المثير عظيما ‪ ،‬أو عنيفا ‪ ،‬أو قويا ‪ ،‬فقد‬
‫تكون ومضة عيني طفل يحس بالخوف أو الطمأنينة اكبر باعث إلبداع نص لدي األديب‬
‫‪ ،‬ما دام هذا التأثير يسهم في تخليقه االنفعال اإلبداعي ‪.‬‬
‫إن مرحلة تخليق االنفعال تمثل المرحلة السابقة للتشكيل اللغوي للنص األدبي‬
‫‪،‬وعلى الرغم من تسليمنا بأن النص األدبي ال وجود له قبل تشكيله اللغوي ‪ ،‬فإننا ‪ ،‬في‬
‫الوقت نفسه ‪ ،‬نؤكد أهمية هذه المرحلة ‪،‬ألنها تمثل األساس الذي ال يمكن ان يوجد‬
‫بدونها‪.‬‬
‫ويكشف الحديث عن المنطقة التي يتخلق فيها االنفعال كثير من الغموض ‪،‬‬
‫بسبب عدم اإلحاطة المادية بها ‪ ،‬وألنها منطقة لدنة لم يتمكن علماء النفس من تحديد‬
‫طبيعتها تحديدا منهجيا منضبطا ‪ ،‬ومن ثم فإن التحدث عنها ليس قطعيا ‪،‬ولكنه يخضع‬
‫‪281‬‬
‫لقدر من اإلحساس والحدس ‪،‬وان التعبير عنها أقرب إلى عملية إبداع أدبية ‪ ،‬ومن الجدير‬
‫بالذكر ان هذه المنطقة تكاد تكون محظورة في تراثنا النقدي بسبب معتقدات دينية ‪،‬ألنه‬
‫إذا كان من الممكن الحديث عن مرحلة انفعال المبدع والمنطقة التي يتخلق فيها االنفعال‬
‫فإن الحديث عن هذه المنطقة في النصوص المقدسة يعد أم ار محظو ار ‪،‬التصاله بالذات‬
‫اإللهية ‪ ،‬ولذلك الحظنا أن تراثنا النقدي قد صرف جل جهده نحو التشكيل اللغوي مثل‬
‫الدراسات المستفيضة في إعجاز القرآن الكريم ‪،‬أو الدرس النقدي لألنظمة اللغوية‪ ،‬صوتية‬
‫‪ ،‬وصرفية‪ ،‬ونحوية‪ ،‬في النصوص الشعرية ‪،‬ولم يلتفت كثي ار إلى المرحلة السابقة لهذا‬
‫التشكيل ‪.‬‬
‫مس هذه المنطقة في‬
‫وعلى الرغم من ذلك فإن الناقد العربي في تراثنا النقدي قد َّ‬
‫أحايين محددة ‪ ،‬وتعد محاولة ابن طباطبا العلوي أبرز هذه المحاوالت أكثرها أهمية ‪.‬‬
‫ويتأسس تصور ابن طباطبا في ضوء المنجز العقلي ‪ /‬االعتزالي الذي يحاول‬
‫ضبط تحليل العملية النقدية واإلبداعية على أسس عقلية منضبطة ‪ ،‬ويحاول في الوقت‬
‫نفسه حل معضلة الشاعر المحدث الذي سبقه الشعراء في استنفاد المعاني واستخدامها ‪،‬‬
‫وفي ضوء هذه األبعاد أخذ يرسم للشاعر طرائق تعليمية في تحديد ماهية الشعر ومراحل‬
‫إبداع النص ‪.‬‬
‫وال يمكن دراسة الخطاب النقدي عند ابن طباطبا بعيدا عن سياقه التاريخي‬
‫واالجتماعي ‪ ،‬ولما كان ابن طباطبا يندرج في سياق المدرسة العقلية في التراث فإنه يعتقد‬
‫أن الفعل اإلنساني له سمات ومزايا ‪ ،‬إذ ال يتأتى حدوث الفعل إال بوجود ركنين يكتنفانه ‪،‬‬
‫أولهما ‪:‬القدرة ‪ ،‬وثانيهما ‪:‬اإلرادة وإن اإلبداع الشعري هو اآلخر فعل وال بد له من هذه‬
‫األركان الثالثة مجتمعة ‪ ،‬على النحو اآلتي ‪:‬‬

‫‪282‬‬
‫يقول ابن طباطبا « الشعر ـ أسعدك هللا ـكالم منظوم بائن عن المنثور الذي‬
‫يستعمله الناس في مخاطباتهم ‪ ،‬بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته‬
‫األسماع وفسد على الذوق ‪ ،‬فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى االستعانة على نظم‬
‫الشعر بالعروض التي هي ميزانه ‪ ،‬ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه‬
‫وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به ‪،‬حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي ال تكلف‬
‫معه »‪1‬‬
‫إذن يتجدد الشعر لديه في ضوء مكونين ‪ ،‬أولهما داخلي يحدد للشعر خصوصيته‬
‫من خالل السمات الداخلية ‪ ،‬ويتمثل من خالل بعدي ‪ :‬الكالم الذي يتضمن التأليف ‪،‬‬
‫وهو يدل على طريقة مخصوصة في األداء ‪ ،‬والنظم الذي يدل على خاصية تتجاوز‬
‫العروض ‪ ،‬وتلتقي ببعض سمات القرآن الكريم الذي كثي ار ما عبر عن إعجازه من خالل‬
‫نظمه ‪ ،‬وهي طريقة مخصوصة في اآلداء ‪ ،‬ومن خالل هذين البعدين ـ الكالم المؤلف‬
‫والنظم ـ حدد ابن طباطبا ماهية الشعر بسماته الداخلية ‪ ،‬وأضاف إلى هذا تحديدا من‬
‫خالل مغايرته للنثر الذي يبدو قسيما للشعر ‪ ،‬غير أن مفهوم النثر يتسع لديه ليشمل‬
‫ما«يستعمله الناس في مخاطباتهم » ‪ ،‬ولذلك فالشعر « كالم منظوم بائن عن المنثور‬
‫الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خص به من النظم الذي ان عدل عن جهته‬
‫مجته األسماع وفسد على الذوق » وإذا كان ما سلف يؤكد على دور المتلقي الذي يمايز‬

‫‪1‬ابن طباطبا العلوي ‪ ،‬عيار الشعر ‪ ،‬ص ‪. 9‬‬


‫‪283‬‬
‫بين الشعر وغيره ‪ ،‬ألن خروج الشعر عن النظم تمجه أسماع المتلقين ‪ ،‬فإن ابن طباطبا‬
‫أكد أهمية الملكة النفسانية التي أودعها هللا فطريا في اإلنسان ‪،‬وتتمثل في « صحة الطبع‬
‫والذوق » ألن صحتهما تمكنان من إبداع النص الشعري ‪ ،‬وليس الشاعر به حاجة إلى‬
‫غيرهما من العلوم المعيارية التي تساعد على نظم الشعر كعلم العروض ‪،‬وفي ضوء هذا‬
‫‪ ،‬فالقدرة «معنى موجود في الجسم » ويصح من اإلنسان الفعل والتصرف بها‪ ،‬وال يمكن‬
‫للفعل ان يتأتى وجوده دون القدرة واإلرادة‪ ،‬وأن فساد الطبع واضطرابه يمنعان الشاعر من‬
‫اإلبداع ‪ ،‬وتصبح معرفة العروض الزمة ال بد منها ‪ ،‬بحيث « تعتبر معرفته المستفادة‬
‫كالطبع الذي ال تكلف معه» ‪.‬‬
‫أما اإلرادة والفعل فإنهما يتحددان في قوله « فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض‬
‫المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نث ار ‪،‬وأعد له ما يلبسه إياه من األلفاظ التي‬
‫تطابقه ‪ ،‬والقوافي التي توافقه ‪ ،‬والوزن الذي يسلس له القول عليه‪ ،‬فإذا اتفق له بيت‬
‫يشاكل المعنى الذي يرومه أتثبته ‪ ،‬واعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني‬
‫على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه ‪،‬فإذا كملت له المعاني وكثرت األبيات‬
‫وفق بينها بأبيات تكون نظاما لها وسلكا جامعا لما تشتت منها ‪ ،‬ثم يتأمل ما قد أداه إليه‬
‫طبعه ونتجته فكرته ويستقصي انتقاده ‪ ،‬ويرم ما وهى منه ‪ ،‬ويبدل بلك لفظة مستكرهة‬
‫لفظة سهلة نقية»‪.1‬‬
‫وتعني اإلرادة قصد اإلنسان إلحداث الفعل ‪ ،‬وتقترن اإلرادة بالوعي والمعرفة ‪،‬‬
‫وفي ضوء هذا يوجه ابن طباطبا خطابه النقدي من إرادة الشاعر نحو قدرته إلحداث‬
‫الفعل اإلبداعي ‪ ،‬وتتجلى أول مراحل اإلبداع في «مخض المعنى » وهو جهد إنساني‬
‫فردي يؤديه المبدع ‪ ،‬ويقوم فيه بانتزاع شيء من شيء آخر ‪ ،‬ألن توصيف اإلبداع بعملية‬
‫المخض ـ وهي استخالص الزبدة من اللبن ـ تعني مماثلة الفعلين ـ أي فعلي المخض‬
‫واإلبداع ـ وكالهما يقتضي جهدا يبذله اإلنسان ‪ ،‬وان نتيجة هذا الجهد ‪ ،‬انتزاع‪/‬إبداع شيء‬
‫من شيء آخر ‪ ،‬مأخوذ منه ‪ ،‬ومستقل عنه ومختلف ‪ :‬الزبدة ‪ /‬القصيدة ‪.‬‬

‫‪1‬نفسه ‪ ،‬ص ‪. 11‬‬


‫‪284‬‬
‫وفي ضوء هذا تتجلى عملية تخليق النص في المرحلة السابقة للتشكيل اللغوي في إطار‬
‫جهد إنساني مبذول ‪ ،‬فاإلبداع ليس إلهاما يبث في روع المبدع أو تفيض أو تشرق به قوى‬
‫خارجة عن الذات اإلنسانية ‪ ،‬وإنما هو جزء من عملية تتفاعل فيه الذات مع موضوعها ‪،‬‬
‫وبهذا يعد عمل ابن طباطبا متقدما على التصور األفالطوني الذي يجعل االبتكار مرتبطا‬
‫باإللهام ارتباط المعلول بعلته ‪ ،‬فالشاعر ـ عند أفالطون ـ ال يبدع عمله إال تحت وطأة‬
‫تأثير قوة غيبية يفقد فيها الشاعر وعيه وصوابه ‪ ،‬ومن اجل أن يبني أفالطون عن تصوره‬
‫بجالء عقد مقارنة بين الشاعر وكهنة معبد «كوبيال» الذين ال يؤدون طقوسهم في الرقص‬
‫إال إذا فقدوا صوابهم ‪ ،‬ويستخلص أفالطون أن الشعراء بعامة والغنائيين منهم بخاصة «‬
‫ال ينظمون أشعارهم وهم منتبهون ‪،‬إذ حينما يبدأون اللحن والتوقيع يأخذهم هيام عنيف‬
‫وينل عليهم الوحي اإللهي » ‪ ،1‬إذن فالشاعر عند أفالطون ناقل لما تلهمه إياه ربة‬
‫الشعر ‪.‬‬
‫وقد أدرك ابن طباطبا العملية اإلبداعية في ضوء الصنعة التي تتحدد على أساس‬
‫النظر العقلي للعملية اإلبداعية ‪ ،‬زفي ضوء تتابع عمليتي التخطيط والتنفيذ ‪ ،‬أي أن يكون‬

‫‪1‬أفالطون ‪ ،‬محاورة أيون ‪ ،‬ص ‪. 38‬‬


‫‪285‬‬
‫العقل متحكما في كيفية توظيف الجهد اإلنساني الذي يعني إعداد المعاني ومخضها‬
‫‪،‬وتهيئتها في ذهن المبدع « نث ار » من ناحية ‪ ،‬وضرورة التتابع المرحلي الذي يبدأ‬
‫الشاعر بإعداد مخطط لما يتكون عليه القصيدة ‪ ،‬ثم الشروع في تنفيذ هذا المخطط‪،‬‬
‫وكأننا إزاء مهندس يعد خريطة لبناء بيت ‪ ،‬ثم يبدأ في تنفيذ بناء البيت ‪ ،‬إذ يرى أن‬
‫الشاعر بعد أن يفرغ من « مخض المعنى » ُي ُّ‬
‫عد له « ما يلبسه إياه من األلفاظ التي‬
‫تطابقه ‪ ،‬والقوافي التي توافقه ‪ ،‬والوزن الذي يسلس له القول عليه » ‪.‬‬
‫ويتبدى من هذا النص أهمية المعنى وقيمته إذ له األسبقية وله أيضا وجود مستقل‬
‫تمام االستقالل عن غيره من المكونات كاأللفاظ والقوافي والبحور وان العالقة بين المعنى‬
‫واللفظ ـ مثال ـ عالقة الجسد بالكسوة ‪،‬فقد يكون الثوب ضيقا أو فضفاضا ‪ ،‬مما يؤكد‬
‫الفصل الحاد بينهما ‪ ،‬ولذلك يدعو الناقد إلى ضرورة مطابقة اللفظ بالمعنى ‪،‬واحسب ان‬
‫هذا الوعي بالعالقة االنفصالية بين اللفظ والمعنى اسهم بشكل واضح في تحديد هذه‬
‫العملية الصناعية ‪ ،‬وطبيعة المرحلية التي يتم بها إبداع النص الشعري ‪.‬‬
‫إذن فإن مرحلية اإلبداع عند ابن طباطبا يتحدد بمرحلة ما قبل التشكيل اللغوي ‪،‬ثم‬
‫مرحلة التشكيل اللغوي ‪ ،‬التي تمر بثالث مراحل متتالية ومتتابعة ‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬إعداد الكسوة الشعرية للمعاني من حيث ‪:‬‬


‫‪ ‬إلباس المعاني باأللفاظ المطابقة ‪.‬‬
‫‪ ‬إلباس المعاني باألوزان المطابقة ‪.‬‬
‫‪ ‬إلباس المعاني بالقوافي المطابقة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الربط بين األبيات المتنافرة بأبيات شعرية تجمع شملها وتوحد شاردها‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬تنقيح النص الشعري في صياغة أو تركيب أو مفردة ‪.‬‬
‫إن هذه المرحلية في إبداع النص األدبي ليست بدعة في التراث اإلنساني ‪،‬فإن ت‬
‫‪ .‬س ‪ .‬إليوت يؤكد مرحلية تماثل إلى حد ما مرحلية ابن طباطبا يقول إليوت ‪:‬‬
‫« إن أول ما يحدث في مخيلة الشاعر على وجه الدقة هو االختراع أو إيجاد‬
‫الفكرة ‪،‬يليها ثانيا الوهم أو التنويع أو تطويع تلك الفكرة لتتناسب مع الموضوع ‪،‬أما في‬
‫‪286‬‬
‫المرحلة الثالثة فتكون الصياغة أو مرحلة إلباس الفكرة وتجميلها بكل ما ط أر عليها من‬
‫تغيير تظهر سرعة النهاية في إطار من الكلمات المعقولة ذات األهمية»‪. 1‬‬
‫وعلى الرغم من اختالفنا مع ابن طباطبا وإليوت في هذه العملية الصناعية التي‬
‫تحدد مرحلية اإلبداع الشعري فإن تفكير ابن طباطبا بخاصة يمثل نقلة نوعية في التفكير‬
‫النقدي ـ تاريخيا ـ ولتأكيده أهمية المنجز اإلنساني المقترن بجهده بحسب قصده ودواعيه‪.‬‬

‫)‪ (5‬مكونات القيمة الشعرية عند المعتزلة ‪:‬‬

‫ويوظف المعتزلة العقل من أجل النظر إلى الظواهر والكشف عن عللها‪ ،‬فهو ـ‬
‫أي العقل ـ القوة التي يستخدمها الناقد المعتزلي ليكشف بها عن الحقائق‪ ،‬ويعالج من‬
‫خاللها قضاياه القيمية‪ ،‬كمعالجته قضيتي الحسن والقبح العقليين في إطار النظرة‬
‫أن‬
‫األخالقية للمعتزلة‪ ،‬فالفعل اإلنساني خاضع لدى المعتزلة لحرية اإلرادة اإلنسانية‪ ،‬أي ّ‬
‫حرية الفعل وكيفية تأديته هي التي تحدد مكونات قيمته‪ ،‬وهذا كله يخضع ـ في الحقيقة ـ‬
‫للمقومات العقلية التي يصدر عنها التفكير االعتزالي‪ ،‬فحسن األفعال وقبحها راجع لهذه‬
‫أن‬
‫أن اإلنسان يستطيع بواسطة هذه القوة ْ‬
‫القوة العقلية التي تميز بين األشياء وعللها‪،‬كما ّ‬
‫أن القوة‬
‫يدرك الحسن والقبح بوصفهما قيمتين تخضعان لمقومات عقلية بحتة‪،‬إضافة إلى ّ‬
‫العقلية تمكن اإلنسان من اختيار نوع الفعل اإلنساني بما ينطوي عليه من قيمة حسنة أو‬
‫قبيحة ‪.‬‬
‫إن القوة العقلية في مجال تأديتها لوظيفتها القيمية تؤدي دورين في آن واحد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فهي تميز القيمة وتدركها من ناحية‪ ،‬وتعمد إلى اختيار نوع القيمة من ناحية ثانية‪ ،‬وهذا‬

‫‪1‬ت‪ .‬س‪ .‬إليوت ‪ ،‬فائدة الشعر وفائدة النقد ‪ ،‬ص ‪. 60‬‬


‫‪287‬‬
‫ما أكده القاضي عبد الجبار بن أحمد في قوله بأن » الواحد منا يصح أن يستغني عن‬
‫فعل القبيح ويصح أن يعلم بقبحه « ‪.1‬‬
‫وتتسم القيمة بكونها موضوعية ومطلقة‪ ،‬فالقيمة األخالقية خاضعة لهذين‬
‫أن األفعال في حد ذاتها حسنة أو‬
‫البعدين الموضوعي والمطلق‪ ،‬ولهذا رأينا من يؤكد » ّ‬
‫قبيحة‪ ،‬والوحي ال يثبت لألفعال قيمتها‪ ،‬يل يخبر عنها فقط « ‪.2‬‬
‫ولو أردنا قياس هذا على النص الشعري لقادنا إلى نتيجة في غاية األهمية‬
‫أن القيمة التي ينطوي عليها النص الشعري ليست كائنة خارجه‪ ،‬وإنما هي كائنة‬ ‫مؤداها ّ‬
‫فيه‪ ،‬فهي ليست مفروضة بمقومات اجتماعية أو أخالقية مثالً‪ ،‬ولكنها صفة ذاتية قارة في‬
‫النص ذاته‪ ،‬شأن النص الشعري ـ هنا ـ شأن الفعل األخالقي الذي يشتمل بذاته على‬
‫قيمته الكائنة فيه‪.‬‬
‫ويتجاوب هذا التصور مع التفكير االعتزالي الذي يرى ّ‬
‫أن القيم حسنة في ذاتها‬
‫أن الكذب قبيح في ذاته‪،‬‬
‫أو قبيحة في ذاتها‪ ،‬فالصدق قيمة أخالقية حسنة في ذاتها‪ ،‬كما ّ‬
‫أن هذه القيمة ترجع إلى أداء اإلنسان إياها‬
‫وباقتران القيمة بالفعل البد من اإلشارة إلى ّ‬
‫بالقصد‪ ،‬وهو قرين حرية اإلرادة اإلنسانية في أداء الفعل‪ ،‬ولذلك يتحدد الحسن والقبح‬
‫بمقدار إحكامهما العقلي‪ ،‬ومقدار ذم أحدهما ومدح اآلخر‪ ،‬فالقبح ـ عند القاضي عبد‬
‫ألن األفعال على ضربين ‪ :‬أحدهما‬ ‫الجبار ـ هو » ما يستحق به الذم من األفعال‪ّ ،‬‬
‫يستحق به الذم‪ ،‬واآلخر ال يصح ذلك فيه‪ ،‬فوصف األول بأنه قبيح‪ ،‬والثاني بأنه حسن‪،‬‬
‫إذا فعله المميز بينهما « ‪ 3‬وفي ضوء هذا يكون القصد شامال ومحيطا بتأدية القيمة‪،‬‬
‫وتكون ماهية القيمة كائنة في الفعل ذاته‪ ،‬كما أنها صفة تكشف عن مقومات عقلية ‪.‬‬
‫فإن الفعل اإلنساني ال يتسم بقيمة إن كان مجردا عن القصد‪،‬‬
‫وفي ضوء هذا ّ‬
‫ولذلك توزعت األفعال في الفكر إلى نوعين‪ :‬أحدهما ال صفة له زائدة على وجوده‪ ،‬كفعل‬

‫‪ 1‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪.177/6 ،‬‬
‫‪ 2‬ـ البير نصري نادر‪ ،‬فلسفة المعتزلة‪.97/2 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬المختصر في أصول الدين‪ ،‬ص ‪. 203‬‬
‫‪288‬‬
‫الساهي والنائم‪ ،‬وهذا ال يوصف بقبح وال حسن‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬له صفة زائدة على وجوده‪،‬‬
‫أن يستحق الذم فيكون قبيحاً‪ ،‬أو ال يستحق الذم فيكون حسناً‪.‬‬
‫فإما ْ‬
‫أن القيمة تتصل من ناحية بمنشئ الفعل‪ ،‬إذ البد أن‬‫ونخلص من هذا كله إلى ّ‬
‫أن يصدر عن إرادة اإلنسان وقدرته‪ ،‬فال يوصف الفعل أو‬ ‫يصدر الفعل بالقصد‪ ،‬أي ْ‬
‫ينطوي على قيمة مجرداً عن الوعي بحدوثه وأهمية إيجاده‪ ،‬ولذلك ال يصح إطالق حكم‬
‫الحسن والقبح عليه‪ ،‬وتتصل القيمة من هذه الزاوية بالفعل ذاته‪ ،‬ألن القيمة ال تتحدد‬
‫أن الكشف عن أحد بعديها السلبي أو‬ ‫بمجرد القصد‪ ،‬إذ قد تكون سالبة أو موجبة‪ ،‬غير ّ‬
‫اإليجابي‪ ،‬إنما نفتش في ذات الفعل‪ ،‬وبأداة ال تخضع لألهواء‪ ،‬وهي العقل ‪.‬‬
‫ويخضع التحديد القيمي للتحسين والتقبيح للمقومات العقلية‪ ،‬ويلفتنا أحد الباحثين‬
‫إلى لون آخر نسبي تخضع فيه القيمة العتبارات اجتماعية مستنداً في ذلك إلى بعض‬
‫أن هذه المنفعة‬
‫مقوالت المعتزلة التي ترجع الخير إلى المنفعة‪ ،‬أو تقرنه بها‪ ،‬على ّ‬
‫والضرر يتجاوزان » المفهوم الفردي المقصور على المصلحة الفردية لإلنسان‪ ،‬ذلك أنهم‬
‫اعتبروا مصلحة اآلخرين معيا اًر لتحديد المنفعة والمضرة‪ ،‬كما اعتمدوا المنفعة والمضرة‬
‫معيا اًر لتحديد الحسن والقبح « ‪.1‬‬
‫وسواء أكانت قيمة الحسن أم القبح خاضعة للمقومات العقلية أو العتبارات‬
‫اجتماعية َّ‬
‫فإن الغالب في إطالق الحسن والقبح على ما له عالقة وثيقة بالمقوالت العقلية‪،‬‬
‫إن الباحثين ـ هنا ـ يؤكدون مواطن اتفاق العلماء وافتراقهم بمقدار كون العقل أداة فاعلة‬
‫بل ّ‬
‫في هذا االتفاق أو االختالف‪ ،‬أما موضع االتفاق فهو »الحسن بمعنى المالءمة للطبع‬
‫أن » الحسن بمعنى الكمال والقبح بمعنى عدمه«‪ 3‬وهذان‬ ‫‪2‬‬
‫والقبح بمعنى عدمه « أو ّ‬
‫المعنيان ال بد للعقل من دور في إدراكهما وتحديدهما‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ محمد عمارة‪ ،‬المعتزلة ومشكلة الحرية‪ ،‬ص ‪.141‬‬


‫‪ 2‬ـ محمد تقي الحكيم ‪ ،‬األصول العامة للفقه المقارن‪ ،‬ص ‪. 83‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 83‬‬
‫‪289‬‬
‫إن استخدام مصطلحي الحسن والقبح إنما هو استخدام قيمي‪ ،‬ويؤكد توافر‬ ‫ّ‬
‫القيمة في الشيء أو افتقارها إليه‪ ،‬وعلى الرغم من االقتران الحاد الذي يخلط فيه الحسن‬
‫فإن بعدي الحسن والقبح‬
‫بأبعاد أخالقية حميدة‪ ،‬ويمتزج فيها القبح بأبعاد أخالقية ذميمة‪ّ ،‬‬
‫لم يبقيا منحصرين في هذه األبعاد الضيقة‪ ،‬إذ يتجاوزها إلى النص الشعري‪ ،‬ولكنهما لم‬
‫يتخلصا تماما من سماتهما األخالقية ‪.‬‬
‫ومن الضروري التمايز بين أمرين يبدوان مختلطين‪ ،‬أولهما ‪ :‬طبيعة النص‬
‫أن قيمة النص الشعري تتداخل حقيقته‬ ‫الشعري‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬قيمته‪ ،‬على الرغم من إدراكنا ّ‬
‫أن الكشف عن مكونات القيمة وعناصرها تتحدد من خالل‬ ‫في طبيعته‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫الكشف عن الكيفية التي يتم بها التركيب‪ ،‬ومن هنا يتأتى التداخل الوظيفي بين التركيب‬
‫أن‬
‫ألن تركيب النص األدبي شيء‪ ،‬و ّ‬
‫والقيمة‪ ،‬على الرغم من أنهما مختلفان في الحقيقة‪ّ ،‬‬
‫قيمته شيء آخر‪.‬‬
‫وليس من الضروري دراسة منشأ طبيعة النص الشعري‪ ،‬أي الدوافع والعوامل‬
‫النفسية التي تخلقت في أعماق المبدع قبل أن تتحول هذه كلها إلى وجود موضوعي نطلق‬
‫عليه » القصيدة « ألن عمل الناقد ليس الكشف عن عناصر اإلبداع قبل تشكيل النص‬
‫األدبي‪ ،‬فهذا من اختصاص غيره ـ كعالم النفس مثال ـ وإنما تتركز العناية الحقيقة للناقد‬
‫بالنص من حيث هو موجود‪ ،‬أي من حيث هو »تركيب من األلفـاظ حول تجربة‬
‫إنسانية»‪ 1‬ألنه ال وجود للنص األدبي قبل تشكيله اللغوي ‪.‬‬
‫وال يعني هذا غضاً من قيمة الجهود التي يبذلها علماء النفس في هذا المجال‪،‬‬
‫أن تغير الزاوية التي يتناولها الدرسان النقدي أوالنفسي مختلفة دون ريب‪ ،‬وفي ضوء‬
‫إال ّ‬
‫هذا فإن قيمة النص الشعري ليست كائنة في المبدع‪ ،‬فهي ليست خارج النصوص‬
‫الشعرية‪ ،‬وإنما هي متركزة في التشكيل اللغوي للنص األدبي‪ ،‬ولذلك فإن النص هو المثير‬
‫األول والحقيقي في اإلشارة إلى تحديد قيمته‪ ،‬ألن ميدان علماء الجمال ونقاد الفن واألدب‬

‫‪ 1‬ـ ‪Winters , The Function Of Criticism , p 81‬‬


‫‪290‬‬
‫أن مجال بحثهم هو‬
‫«ليس هو ثمرة التحقق في الذهن‪،‬وإنما هو ثمرة التحقق بالتشكيل‪ ،‬أي ّ‬
‫العمل الفني نفسه‪ ،‬ال العمليات التي جرت قبل تشكيله «‪. 1‬‬

‫(‪ (6‬أنماط القيمة الشعرية عند المعتزلة ‪:‬‬

‫ويتفاوت الكشف عن القيمة في النقد االعتزالي من خالل نظرتين متعارضتين‪،‬‬


‫إحداهما ‪ :‬تحاول الكشف عن القيمة وتلمس عناصرها وأبعادها خارج النص الشعري‪،‬‬
‫والثانية ‪ :‬تحاول الكشف عن القيمة وتحديد قوانينها وعناصرها في النص الشعري ذاته‪،‬‬
‫أن األولى تُعنى عناية بالغة بالمضامين‪ ،‬في‬
‫أي داخل التركيب اللغوي‪ ،‬ومن الواضح ّ‬
‫حين تركز الثانية عنايتها بالشكل‪،‬وتتضح معالم النظرة األولى في خضوع القيمة‬
‫العتبارات اجتماعية‪ ،‬قد تحولت بسبب العرف االجتماعي إلى قيم ثابتة في الواقع‪ ،‬وكان‬
‫ال بد من نقل هذه القيم إلى النص الشعري‪ ،‬دون إخالل بطبيعتها‪ ،‬وما تنطوي عليه من‬
‫دالالت‪ ،‬فالفرس الكريم ـ مثال ـ له صفات تعارف عليها الناس في الواقع‪ ،‬كأن يكون ذيله‬
‫بين القصر والطول‪ ،‬كما ينبغي أن يكون شعر ناصيته قصي اًر‪ ،‬وليس من الطول بحيث‬
‫يغطي عينيه‪ ،‬ولذلك أخذ المرزباني ـ عند تعرضه لشعر امريء القيس ـ يعقد المقارنة بين‬
‫ما تنطوي عليه القيم في الواقع من دالالت ومقدار محاكاتها في النص الشعري‪ ،‬فعاب‬
‫عليه أن يكون ذيل فرسه طويالً كمثل ذيل ثوب العروس في قوله ‪:‬‬

‫العروس‬ ‫ِ‬
‫ذيل‬ ‫مثل‬ ‫ذنب‬ ‫لها‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫دبر‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫فرجها‬
‫َ‬ ‫به‬ ‫ُّ‬
‫تسد‬

‫‪ 1‬ـ عبد المنعم تليمة‪ ،‬مداخل إلى علم الجمال األدبي‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪291‬‬
‫أن » ذيل العروس مجرور‪ ،‬وال يجب أن يكون ذنب الفرس طويالً‬
‫ويكمن العيب في ّ‬
‫مجرو اًر وال قصي اًر«‪. 1‬‬
‫وقد عابه أيضا في قوله ‪:‬‬

‫خيفان ًة ًُ‬ ‫الروِع‬ ‫في‬ ‫أركب‬


‫و ُ‬

‫منتشر‬
‫ْ‬ ‫سعف‬
‫ٌ‬ ‫وجهها‬
‫َ‬ ‫كسا‬

‫إن العيوب‬ ‫‪2‬‬


‫عد هذا خطأ ألنه » إذا غطت الناصية الوجه لم يكن الفرس كريماً « ّ‬
‫وقد ّ‬
‫الشعرية واألخطاء التي عني بها المرزباني تنحصر بعقد مقارنة بين النص الشعري‬
‫واالعتبارات االجتماعية‪ ،‬ولكنه لم يقتصر على ذلك بل تجاوزه إلى الشاعر وتقويم‬
‫شخصيته‪ ،‬ففي قول امرئ القيس ‪:‬‬

‫ومرضع‬ ‫قت‬
‫طر ُ‬ ‫قد‬ ‫حبلى‬ ‫فمثُلك‬

‫ِ‬
‫محول‬ ‫تمائم‬ ‫ذي‬ ‫عن‬ ‫فألهيتُها‬
‫َ‬

‫يتساءل المرزباني » كيف قصد للحبلى والمرضع دون البكر‪ ،‬وهو ملك وابن ملوك ؟‬
‫مافعل هذا إال لنقص همته« ‪ 3‬وتتداخل بهذا لديه القيمة بالوظيفة األخالقية ليعيب على‬
‫امرئ القيس فجوره وعهره ‪.‬‬

‫جني‪،‬الفسر‪ ،‬ص ‪.239‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ المرزباني‪،‬الموشح‪ ،‬ص ‪ ،38‬وابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ ،39‬ينظر الجرجاني ‪ :‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 10‬‬
‫‪ 3‬ـ المرزباني‪،‬الموشح‪ ،‬ص ‪. 42‬‬
‫‪292‬‬
‫وال نريد اإلسراف في تتبع خضوع القيمة لهذا اللون من المؤثرات الخارجية لدى‬
‫المرزباني وبخاصة أنها تتكرر لديه‪ ،‬وخاضعة ألبعاد تأثرية في اعتماده على الرواية‬
‫والنقل‪ ،‬ويتأتى هذا بسبب إلحاح الوظيفة التعليمية عليه ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا فإن القيمة تتجلى في القصيدة بمقدار مطابقتها ومحاكاتها للواقع‪،‬‬
‫ولذلك فالمرزباني يطابق بين ما تصفه القصيدة وما ينطوي عليه الموصوف من صفات‬
‫وخصائص في الواقع‪ ،‬فإن تماثال أصابت القصيدة واشتملت على قيمة بذاتها‪ ،‬ألن القيمة‬
‫أن المحاكاة وسيلة في إبداع الشعر وفي التأثير في المتلقي‬
‫قرينة تماثل الواقع‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أيضاً‪ ،‬وليس للشاعر في هذا المضمار من هدف سوى مطابقة صورة القصيدة لما هو‬
‫عليه الواقع من صفات‪.‬‬
‫وقد تحولت المحاكاة إلى معيار يحدد قيمة الحسن والقبح في القصيدة‪ ،‬وليس‬
‫من وظيفة للناقد سوى االحتكام العقلي للون الماثلة بين صورة الشيء في القصيدة‬
‫أن هذا الحكم يخضع للون من الضبط العقلي‪ ،‬فإنه‬
‫ومقابلها في الواقع‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫يعمد إلى تكرار التجربة المعتادة والمألوفة‪ ،‬بمعنى أنه ال يسعى إلى تجاوز ما هو كائن‬
‫إلى ما ينبغي أن يكون‪ ،‬وستكون المعرفة التي يهدف إلى تأكيدها تقري اًر للمعرفة الكائنة في‬
‫الواقع‪ ،‬فالناقد يهدف إلى تثبيت القيم الكائنة في الواقع وليس السعي إلى تجاوزها‪ ،‬ويكون‬
‫دور العقل مجرد مراقب كسول للتجربة المعتادة والمألوفة ‪.‬‬
‫إن محاكاة الواقع تلزم الشاعر أال يتجاوز الواقع بما هو عليه‪ ،‬هذا في األقل ما‬
‫يذهب إليه النقاد‪ ،‬وإن كانوا يهدفون ـ في الحقيقة ـ في جوانب أخرى ـ إلى ضرورة مطابقة‬
‫أن التصوير في القصيدة ليس‬ ‫مثل أعلى ينشدونه ال يتطابق في الحقيقة مع الواقع‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫نقالً فوتوغرافياً للواقع‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة للمرآة‪ ،‬ويدرك الناقد هذا التمايز بين المثل‬
‫األعلى من ناحية والواقع من ناحية أخرى‪ ،‬وقد يتبنى المثل األعلى باعتباره معب اًر عن لون‬
‫من المبالغة ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من هذا التداخل بين ضرورة محاكاة الواقع بما هو عليه‪ ،‬واعتبار‬
‫تجاوزه نقصاً يعاب عليه الشعر والشاعر على السواء‪ ،‬فإننا نلحظ إلحاحاً لدى الناقد على‬
‫ضرورة تجاوز محاكاة الواقع إلى محاكاة مثل أعلى يعبر عن لون من المبالغة‪ ،‬وسواء‬
‫‪293‬‬
‫أكانت المحاكاة للواقع أم للمثال فإنها تبقى تتفاعل مع كال البعدين من زاوية تقليدية‪ ،‬ففي‬
‫الحالة األولى ال ينبغي الخروج على ما ألفه الناس في الواقع‪ ،‬وفي الحالة الثانية ال ينبغي‬
‫الخروج على ما ألفه الناس من مثال‪ ،‬وكأن المحاكاة تتفاعل مع لون من الثبات غير قابل‬
‫للتغير وتكون وظيفة المحاكاة المطابقة في النقل‪ ،‬وهو نقل خاضع للعقل‪.1‬‬
‫وتخضع المحاكاة من هذه الزاوية ألحد بعدي ‪ :‬التحسين والتقبيح‪ ،‬إذ يسقط النقاد‬
‫أن يكون شعر ناصيته طويالً‬ ‫سمات التحسين عن فرس امرئ القيس‪ ،‬ولذلك ال يتقبل ْ‬
‫أن المحاكاة ال تحاكي موضوعها بشكل مباشر‪ ،‬وإنما تحاكيه‬
‫ومغطياً عينيه‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫عبر إحكامات عقلية يخضع المحاكي لها‪ ،‬فالشاعر ال يحاكي الواقع بما هو عليه‪ ،‬وإنما‬
‫أن هذه التجربة محكومة بمنطق‬
‫يحاكي الواقع عبر التجربة اإلنسانية المتفاعلة معه‪ ،‬غير ّ‬
‫أن محاكاة المثال تعني محاكاة صورة ذهنية مجردة‪ ،‬وهي متأثرة‬ ‫عقلي صارم‪ ،‬كما ّ‬
‫بمجملها لهذا المنطق العقلي الصارم ‪.‬‬
‫وما دامت المقومات العقلية تحكم طبيعة المحاكاة فإن غاية المحاكاة إحداث‬
‫تأثير أخالقي في المتلقي في قبول الصورة أو النفور عنها‪ ،‬سواء في حالة المدح أو‬
‫الهجاء أو الغزل‪ ،‬ويعد التأثير أبرز المقومات التي يهدف النقاد إلى تحقيقها‪ ،‬وهو تأثير‬
‫يتأتى بسبب سلوك ما‪ ،‬وبذلك يكون الشعر قد أحدث تغيي اًر في المواقف‪ ،‬ومن الطبيعي أن‬
‫يتم هذا بعد إحداث تغيير معرفي وإن لم يشر النقاد إلى ذلك بشكل واضح ‪.‬‬

‫(‪ )7‬الحداثة وأثرها في تحديد القيمة الشعرية ‪:‬‬

‫ومثلت الحداثة بعداً جوهرياً يكشف عن القيمة ومقوماتها‪ ،‬وقد فطن النقاد إلى‬
‫أن الحداثة قد وّلدت ضجة في القرنين‬ ‫مفهوم الحداثة في بعدها الزمني‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫الثاني والثالث الهجريين‪ ،‬وكان طريق االنتصار ممهداً لها في القرن الرابع الهجري‪ ،‬فإنها‬

‫‪ 1‬ـ كريم الوائلي‪ ،‬المواقف النقدية بين الذات والموضوع‪ ،‬مكتبة العربي‪ ،‬القاهرة‪ 1986 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪294‬‬
‫ال تزال حية وماثلة أمام الناقد وكأنها قضية جديدة‪ ،‬ولذلك راح الناقد االعتزالي يدافع عنها‬
‫بحماس معتمداً على المقومات العقلية التي ترفض التسليم المطلق للقديم لمجرد قدمه‪ ،‬راداً‬
‫بذلك على أنصار القديم الذين يسلمون بإطالق لكل ما هو قديم ‪.‬‬
‫ويصر الناقد االعتزالي على تجاوز تقويم النص الشعري في إطاره الزمني‪،‬‬
‫ويضع النصوص في مكانة واحدة‪ ،‬ويمايز بينها بمقدار ما تنطوي عليه من خصائص‪،‬‬
‫ومن أجل هذا اعتمد الناقد منهجاً واحداً في درس القديم والحديث‪ ،‬وعاب على النقاد‬
‫تبريراتهم واعتذارهم للشعر القديم لمجرد كونه قديماً‪ ،‬كما عاب عليهم هجومهم على الشعر‬
‫المحدث لمجرد حداثته‪.‬‬
‫إن المعتزلة بعملهم هذا إنما يخضعون النص الشعري لمعيار عقلي يكشف عن‬
‫قيمة النص‪ ،‬بعكس أنصار القديم الذين جعلوا من الزمن عنص اًر يحددون من خالله قيمة‬
‫النصوص الشعرية‪ ،‬وإذا كان المعتزلة قد عمدوا إلى إلغاء هذا العنصر وإحالل األحكام‬
‫العقلية محله‪ ،‬فإنهم لم يتمكنوا من إلغائه تماما‪ ،‬وبخاصة أنهم ال يزالون متصلين بالتراث‪،‬‬
‫وهم بحاجة إلى موازنة وتواصل بين القديم والحديث ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن الجرجاني يرفض ـ أساساً ـ اقتران قيمة الشعر بالزمن فإنه ال‬
‫يزال متأث اًر في بعض جوانب تفكيره بهذا التقويم من جهة تفسير الظاهرة أوالً‪ ،‬ومن جهة‬
‫أن القيمة تقترن في أحد‬
‫تأثره اللغوي في كون القديم أساساً في االحتجاج ثانياً‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أبعادها بالقدم من أجل االحتجاج بالشعر‪ ،‬وهذا ما فعله األصمعي ـ فيما يرويه عنه‬
‫عده » من جراميق الشام ال يحتج بشعره « ‪ 1‬وفعل مثل هذا‬
‫الكميت إذ ّ‬
‫الجرجاني ـ في ُ‬
‫مع الطرماح وذي الرمة ‪.‬‬
‫ويثبت األصمعي وأضرابه من اللغويين والنقاد القيمة وينفونها لمجرد بعدها‬
‫الزمني سواء اتسمت القصيدة بمقومات وخصائص فنية أو افتقرت إليها‪ ،‬حتى ليلتبس‬
‫األمر عليهم في التقويم‪ ،‬حين يوهمهم أحد الشعراء ِب ِق َدم قصيدة ينشدها‪ ،‬ولكنهم يتراجعون‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ملتزمين بتعصب مقيت جاعلين من كل قديم أصالً‪ ،‬ومشتمالً على قيمة‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 10‬‬


‫‪295‬‬
‫أن قضية الحداثة والقدم ال‬
‫ومقرنين الضعف والرداءة بكل محدث‪ ،‬آخذين بعين االعتبار ّ‬
‫تعدو لديهم المفهوم الزمني وليس لها أبعاد فنية ‪.‬‬
‫ومن أجل تجاوز اقتران القيمة بالبعد الزمني ذهب الجرجاني إلى الكشف عن‬
‫أخطاء الشعر القديم‪ ،‬وكأنه يعتذر بهذا للشعر المحدث‪ ،‬فهو يرى أن الدواوين الجاهلية‬
‫واإلسالمية ال تخلو أبياتها من عيب » إما في لفظه أو نظمه‪ ،‬أو ترتيبه وتقسيمه‪ ،‬أو‬
‫معناه‪ ،‬أو إعرابه‪ ،‬ولوال َّ‬
‫أن أهل الجاهلية ُجّدوا بالتقدم‪ ،‬واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة‪،‬‬
‫واألعالم والحجة‪ ،‬لوجدت كثي اًر من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية‪ ،‬لكن هذا الظن‬
‫الجميل واالعتقاد الحسن ستر عليهم‪ ،‬ونفى الظنة عنهم‪ ،‬فذهبت الخواطر في الذب عنهم‬
‫في كل مذهب‪ ،‬وقامت في االحتجاج لهم كل مقام « ‪ 1‬وقد دفع هذا بالنحاة إلى التأويل‬
‫أن السبب في ذلك كله هو ‪:‬‬
‫والتبرير من أجل نفي النقص عن القديم‪ ،‬ويكشف الجرجاني ّ‬
‫»شدة إعظام المتقدم‪ ،‬والكلف بنصرة ما سبق إليه االعتقاد‪ ،‬وألفته النفس »‪.2‬‬
‫وقد أخذ النقاد ينفون عن القديم قدسيته‪ ،‬وأخذوا يفتشون عن العيوب في شعر‬
‫القدامى ويثبتون أخطاءهم‪ ،‬فامرؤ القيس ـ في ما ينقل المرزباني ـ على »جاللة قدره‪،‬‬
‫وعظيم خطره‪ ،‬وبعد همته « ‪ 3‬قد وقع في أخطاء حصرها المرزباني وتحدث عنها‪ ،‬ويبدو‬
‫أن عقدة القيمة المقترنة بالزمن ال تزال قائمة‪ ،‬كما قد أخذ الجرجاني يفتش في وساطته‬
‫عن عيوب الشعر القديم ويستخدم معايير تتجاوز الثبات الذي ألزم فيه أنصار القديم‬
‫أنفسهم‪ ،‬كالكشف عن خطأ نحوي في مثل قول طرفة بن العبد ‪:‬‬

‫قد ُرِف َع ُ‬
‫الفخ فماذا تحذري‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 4‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ 3‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪. 27‬‬
‫‪296‬‬
‫حيث حذف النون وصوابه فماذا تحذرين ‪ ،1‬أو على مطابقة الوصف للواقع حين عاب‬
‫على امرئ القيس وصفه لفرسه طول شعر ناصيته‪ ،‬مما سبق الحديث عنه‪ ،‬على ّ‬
‫أن هذا‬
‫كله ال يقلل في الحقيقة من قيمة القديم في رأيه‪ ،‬ألن الجرجاني على الرغم من أنه يهدف‬
‫إلى إرجاع قيمة النص الشعري إلى شيء كائن في التشكيل اللغوي للقصيدة‪ ،‬وليس إلى‬
‫عنصر خارجه كالزمن‪ ،‬فإنه ال يزال يعطي للمتقدم قيمة تكاد تكون راجحة على المحدث‬
‫في قوله‪ » :‬وليس يجب إذا رأيتني أمدح محدثاً أو أذكر محاسن حضري أن تظن بي‬
‫أن تنظر مغزاي فيه‪ ،‬وأن‬
‫االنحراف عن متقدم‪ ،‬أو تنسبني إلى الغض من بدوي‪ ،‬بل يجب ْ‬
‫تكشف عن مقصدي منه‪ ،‬ثم تحكم علي حكم المنصف المتثبت‪ ،‬وتقضي قضاء المقسط‬
‫ّ‬
‫المتقدم « ‪.2‬‬
‫وإذا كان تعريف الجرجاني للشعر ال يوحي ظاهره بتفاضل يذكر بين القديم‬
‫والمحدث‪ ،‬وكأنه يساوي بينهما في القيمة‪ ،‬ويساوي بين الجاهلي والمخضرم‪ ،‬واألعرابي‬
‫والموّلد‪ ،‬فإنه على الرغـم من هذا يرى أن »حاجة المحدث إلى الرواية أمس« وبخاصة َّ‬
‫أن‬
‫الرواية تعد لديه أحد أسباب الشعر‪ ،‬وكأننا إزاء اكتمال لدى القديم يفتقر اليه المحدث‪ ،‬إذن‬
‫فالجرجاني » ينصف المحدثين وإن كان يتخذ األقدمين أحياناً أئم ًة وأمثاالً لمن يريد أن‬
‫يعرف موضع اللفظ الرشيق من القلب وعظم غنائه في تحسين الشعر « ‪.3‬‬
‫ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى مقولة الجرجاني الشهيرة في نفي المؤثر‬
‫الخ ارجي في تحديد القيمة في أثناء فصله الحاد بين الدين والشعر‪ ،‬وقد سبق أن تحدثنا‬
‫عنها‪ ،‬فهو يقول ‪ » :‬فلو كانت الديانة عا اًر على الشعر‪ ،‬وكان سوء االعتقاد سبب لتأخر‬
‫أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين «‪ 4‬ومثل هذا ما أكده ابن جني في‬
‫الشاعر‪ ،‬لوجب ْ‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 5‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ 3‬ـ إبراهيم سالمة‪ ،‬بالغة أرسطو بين العرب واليونان‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪1950 ،‬م ‪ ،‬ص ‪212‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪297‬‬
‫قوله «فليست اآلراء واالعتقادات مما يقدح في جودة الشعر ورداءته « ‪ 1‬إذن فالقيمة ال‬
‫تحدها أبعاد عقائدية أو وظيفة أخالقية‪ ،‬إنما هي كائنة في النص الشعري‪ ،‬وبهذا ُيلغي‬
‫أن تتداخل في تحديد قيمي للنص‬ ‫الجرجاني أي لون من ألوان االلتزام التي يمكنها ْ‬
‫الشعري‪ ،‬حتى ليبدو لديه » الدين بمعزل عن الشعر «‪ 2‬وكأن المعرفة الشعرية ال تلتقي‬
‫فإن القيمة ال تحددها عناصر االلتقاء أو‬
‫بالمعرفة الدينية‪ ،‬وحتى على فرض التقائهما ّ‬
‫االفتراق هذه ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا تحكم القيمة مقومات عقلية صارمة‪ ،‬فالجرجاني يشترط على‬
‫نفسه وعلى غيره هذه المقومات حتى لو قادته إلى نتائج ضد رغباته وأهوائه‪ ،‬فهو ينصح‬
‫الناقد بقوله ان »تتصرف على حكم العدل كيف صرفك‪ ،‬وتقف على رسمه كيف وقفك‪،‬‬
‫فتنصف تارة وتعتذر أخرى « ‪.3‬‬
‫إن نـزعة الحياد التي يلزم بها الجرجاني نفسه ومنهجه إنما هي نـزعة ترتكز على مقومات‬
‫عقلية‪ ،‬تحاول إرجاع القيمة إلى خصائص كائنة في النص ذاته‪ ،‬بمعنى أنها ال ترجع إلى‬
‫مقومات اجتماعية أو أخالقية أو زمنية‪ ،‬ولذلك فهو حين يوازن بين مؤيدي المتنبي‬
‫وخصومه يرى أن هناك من يعيب على المتنبي أخطاء نحوية ولغوية‪ ،‬أو ألواناً من‬
‫محاكاة مخالفة لما هو كائن في الواقع‪ ،‬فلجأ الجرجاني إلى نـزع قداسة القديم لقدمه‪ ،‬وجعل‬
‫النص الشعري قديمه وحديثه واحداً معتمداً بذلك على نـزعة عقلية جعلته يظهر ما في‬
‫القديم ـ على الرغم من قداسته ـ أخطاء‪ ،‬وقد عمد الجرجاني لهذا ليبرر للمتنبي أخطاءه‪،‬‬
‫وهو بهذا يردم الفجوة الحادة التي تفصل القديم عن المحدث‪ ،‬وتعطي القيمة لألول لقدمه‬
‫وتقلل من أهمية الثاني لحداثته ‪.‬‬
‫ويتحكم العقل في إرجاع القيمة إلى النص‪ ،‬سواء لدى الجرجاني أو لدى الشريف‬
‫المرتضى الذي يطالعنا بتصور عقلي محدد يرى فيه ّ‬
‫أن »السبق لإلحسان ال لألزمان «‬

‫جني‪ ،‬الفسر‪ ،‬ص ‪. 346‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.2‬‬
‫‪298‬‬
‫‪ 1‬ويرى أن » ال محاباة لمتقدم بالزمان على متأخر‪ ،‬فما المتقدم إال من قدمه إحسانه ال‬
‫زمانه‪ ،‬وفضله ال أصله « ‪2‬فهو يتكئ على المقوالت العقلية التي تلغي التمايز الزمني‬
‫والطبقي على السواء ‪.‬‬
‫إذن فالنقد من هذه الناحية » يرد عنصر القيمة في الشعر إلى أصول عقلية‬
‫مالزمة لصفات الحسن والقبح‪ ،‬بغض النظر عن الزمان والمكان أو التصورات النقلية‪،‬‬
‫كما يدعم هذا المبدأ األساس الموضوعي للنقد فيتجاوز به إطار االنطباعات واألهواء إلى‬
‫إطار التصورات والمفاهيم فإنه يؤسس مبر اًر عقلياً للحداثة يجعلها متأبية على الهجوم‬
‫وقادرة على الوجود « ‪.3‬‬
‫وإذا كانت القيمة تتحدد ـ أحياناً ـ في ضوء مؤثرات خارجية فإنها قد تتصل‬
‫بالتحديد الوظيفي للنص الشعري‪ ،‬فإذ كانت الغاية التي يحددها الناقد للنص الشعري‬
‫تعليمية فإن قيمته تخضع لهذه الوظيفة الخارجية لتكون وظيفة النص الشعري غاية إلبداع‬
‫األدب ومعيا اًر لتحديد قيمته وجمالياته‪ ،‬وتتداخل في هذا التحديد القيمي خصائص كائنة‬
‫في النص الشعري ذاته‪ ،‬أبرزها ضرورة وضوح النص ليؤدي وظيفته التعليمية‪ ،‬ثم يجنح‬
‫الوضوح بالنص الشعري نحو تأكيد المضامين مغفالً بذلك كيفية تشكيل هذه المضامين ‪.‬‬
‫أن‬
‫إن معيار القيمة يرتبط بمكونات خارجية ليست نابعة من النص األدبي‪ ،‬كما ّ‬
‫ّ‬
‫جماليات النص هي األخرى خاضعة لهذه الخاصية الخارجية‪ ،‬وهي خاصية عقلية في‬
‫أن الكشف عن القيمة في النقد االعتزالي يتجاوز األحكام النقدية‬
‫أبرز جوانبها‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫التأثيرية التي تستجيب لمقومات ذاتية ذوقية في إصدار أحكامها القيمية على النص‬
‫األدبي‪ ،‬وفي هذه الحالة يتنحى العقل جانباً ألن التذوق‪ ،‬وهو معطى ذاتي‪ ،‬يمثل األساس‬
‫الذي يتحكم في العمل النقدي بأسره ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬ص ‪. 3‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 3‬‬
‫‪ 3‬ـ جابر عصفور‪ ،‬تعارضات الحداثة‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬العدد األول‪ ،‬أكتوبر‪1980 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪299‬‬
‫إن عملية الكشف عن القيمة في النقد االعتزالي تحاول تجاوز النقد التأثري‪،‬‬
‫وإرساء األصول النقدية وفق أسس ومعايير عقلية علمية‪ ،‬بمعنى أنها تتجاوز عملية‬
‫التذوق إلى التحليل‪ ،‬وإذا كان التذوق ‪ :‬نسبياً‪ ،‬وذاتياً‪ ،‬ومتغي اًر‪ ،‬فإن التحليل النقدي ‪:‬‬
‫وثابت ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مطلق‪ ،‬وموضوعي‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫عباد في أحد‬
‫فإن التجربة تخضع لدى الصاحب بن ّ‬ ‫وعلى الرغم من هذا كله ّ‬
‫أن تحديد القيمة وتحديد عناصرها ال يمكن‬
‫جوانب تفكيره للتجربة الشخصية المباشرة‪ ،‬أي ّ‬
‫أن يتم إال لمن عاش كيفية تشكيل التجربة الشعرية أو ما يماثلها‪ ،‬فهو يشترط أن يكون‬ ‫ْ‬
‫الناقد شاع اًر كي يتمكن من تمثل حقيقي لعملية اإلبداع‪ ،‬ومن ثم امتالك القدرة في الحكم‬
‫عليه‪ ،‬وهذا ما عناه بقوله » إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه«‪ 1‬وبهذا يرجع معرفة‬
‫الشعر وقيمته إلى خصيصة ذاتية تجعل من الشعراء القوامين على تحديد جمال الشعر‪،‬‬
‫والمبدعين أللوانه المتعددة‪ ،‬فهم يؤدون دو اًر مزدوجاً إبداعياً ونقدياً ‪.‬‬
‫عباد يرجع قيمة الشعر وتحديد جمالياته لخاصية كائنة‬‫وإذا كان الصاحب بن ّ‬
‫فيمن دفع إلى مضايقه‪ ،‬فإن الجرجاني في وساطته يرجع القيمة أحياناً إلى مقومات ذاتية‬
‫قارة عند المتلقي‪ ،‬فالقيمة تتأتى بالكيفية التي يحدثها الشعر من انفعال في المتلقي‪ ،‬ويمثل‬
‫النص الشعري مؤث اًر إلحداث هذا االنفعال‪ ،‬وقد التفت الجرجاني إلى أهمية هذه الخاصية‬
‫فإن الشعر الجيد يحقق لمتلقيه ارتياحاً ولذة‪ ،‬ومن‬
‫ألن القيمة تتداخل لديه بوظيفة الشعر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫أن يرجع االرتياح واللذة ألبعاد ذاتية‪ ،‬ولكن الجرجاني يتجاوز ذلك إلى إحداث‬
‫الطبيعي ْ‬
‫إثارة الماضي باستذكار التجارب‪ ،‬وكأن القصيدة تؤثر في المتلقي ألنها تذكره بتجربة‬
‫مماثلة عاشها‪ ،‬ليكون تماثل التجارب وإثارتها لدى المتلقي معيا اًر يسهم في إظهار قيمة‬
‫النص الشعري‪ ،‬فهو يقول عن أثر شعر المتنبي في المتلقي ‪ » :‬ثم انظر هل تجد معنى‬
‫مبتذالً ولفظاً مشته اًر مستعمالً ! وهل ترى صنع ًة وإبداعاً‪ ،‬أو تدقيقاً أو إغراباً ! ثم تأمل‬

‫عباد‪ ،‬الكشف عن مساويء المتنبي‪ ،‬ص ‪. 224‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ الصاحب بن ّ‬
‫‪300‬‬
‫كيف تجد نفسك عند انشاده‪ ،‬وتفقد ما يتداخلك من االرتياح‪ ،‬ويستخفك من الطرب إذا‬
‫سمعته‪ ،‬وتذكر صبوة إذا كانت لك تراها ممثلة لضميرك ومصورة تلقاء ناظرك«‪.1‬‬
‫وإذا كانت القيمة ـ كما أسلفنا ـ ترجع إلى مقومات عقلية تحكمها حتى في حالة‬
‫إرجاعها إلى مؤثرات خارجية عن النص األدبي‪ ،‬فإن العناية البالغة بالرواية ـ كما هو‬
‫الحال ـ لدى المرزباني تعني نـزعة تأثرية في تحديد القيمة وتعني أيضا َّ‬
‫أن علم الشعر‬
‫إنما هو قرين الرواية لتحقيق أهداف تعليمة المقصود منها تمييز جيد الشعر عن رديئه‪،‬‬
‫وتدل الرواية في ظاهرها على نـزعة تأثرية تنأى غالباً عن تأصيل األصول بسبب غلبة‬
‫التسليم باألخبار والروايات بوصفها مسلمات غير قابلة للنقاش‪ ،‬ولكننا نلتقي في الوقت‬
‫نفسه ـ لدى المرزباني بخاصة ـ بما يوحي ظاهره أنها محاوالت تأصيلية‪ ،‬ولكنها ـ في‬
‫الحقيقة ـ تأصيالت غيره‪ ،‬ففي الوقت الذي ينقل فيه عن األصمعي وابن سالم الجمحي‪،‬‬
‫ينقل عن كتب ذات تأثير خطير في النقد العربي كعيار الشعر البن طباطبا العلوي‪ ،‬ونقد‬
‫الشعر لقدامة بن جعفر‪ ،‬غير أن المالحظ أن هذه الرواية تركز على إظهار عيوب‬
‫الشعر‪ ،‬وضرورة مالفاة المتعلم لها ‪.‬‬
‫وتتحدد القيمة من ناحية ثانية في طبيعة المكونات الداخلية للنص الشعري‪،‬‬
‫ولذلك خضعت القيمة لطبيعة التركيب الصوتي الذي تحكمه القوانين الصوتية كقانون‬
‫االستثقال‪ ،‬كما خضعت القيمة أيضاً لطبيعة النظامين الصرفي والنحوي‪ ،‬مما سبق‬
‫تناوله‪.2‬‬
‫إن مكونات القيمة ـ والحالة هذه ـ تحكمها عناصر ثابتة ترجع حسن الشعر أو‬
‫قبحه إلى خصائص كائنة في النص الشعري ذاته‪ ،‬ومهما يكن من ثراء هذه الخصائص‬
‫وتنوعها‪ ،‬فإنها ـ في الحقيقة ـ ترجع إلى وجود موضوعي هو القصيدة‪ ،‬أما مكونات القيمة‬
‫الخارجية فإنها ال تخضع لهذا اللون من التحديد‪ ،‬إذ ليس هناك وجود موضوعي محدد‬

‫‪ 1‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪ . 27‬وهو يذكر بأثر القصيدة في المتلقي كما أثارها‬
‫ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء ‪.75/1 :‬‬
‫‪ 2‬ـ ينظر الفصل األول من هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪301‬‬
‫أن يكون كل شيء أو أي شيء معيا اًر يتحكم في‬ ‫يحكم أبعاد القيمة وعناصرها‪ ،‬ويمكن ْ‬
‫ألن القيمة ال ترجع‬‫القيمة الخارجية سواء أكان بعداً أخالقياً أم اجتماعيا أم سياسياً‪ّ ،‬‬
‫للمكونات الجوهرية التي يتشكل منها النص الشعري‪ ،‬قدر رجوعها إلى شيء آخر خارج‬
‫النص ‪.‬‬
‫وإذا كانت القيمة في الحالة األولى كائنة في القصيدة فإنها في الحالة الثانية‬
‫كائنة خارجها‪ ،‬وهذا التفاوت في الرؤية‪ ،‬بين ما هو داخلي وما هو خارجي‪ ،‬ففي حالة‬
‫الداخلي ـ أي كون القيمة في التشكيل اللغوي للقصيدة ـ فإن الناقد يتفاعل مع التركيب‬
‫اللغوي دون مؤثرات خارجية‪ ،‬أما في حالة الخارجي ـ أي كون القيمة خارج النص الشعري‬
‫وخارج تشكيله اللغوي ـ فإن الناقد يضع القصيدة والمعيار الخارجي متجاورين‪ ،‬بل ّ‬
‫ان‬
‫إن كان هذا النص ينطوي‬‫المعيار الخارجي هو الذي يتحكم في النص الشعري‪ ،‬ليحدد ْ‬
‫على قيمة ما ومقدار درجة هذه القيمة فيه‪ ،‬ويتحول »الخارج « إلى غاية ومعيار في آن‬
‫واحد‪ ،‬إذ هو الغاية التي يسعى الناقد إلى الكشف عنها في النص الشعري‪ ،‬كما أنه‬
‫المعيار الذي يتم من خالله إعطاء أهمية للنص الشعري ذاته‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫المثل األعلى‬

‫لقد أرجع الناقد القيمة ـ فيما أسلفنا ـ إلى أحد بعدين ‪ :‬إما إلى مكونات خارج‬
‫النص الشعري‪ ،‬وإما إلى مكونات في التشكيل اللغوي للنص الشعري‪ ،‬وفي حالة البعد‬
‫الخارجي ترجع فيه القيمة إلى مقومات ال عالقة لها بالنص‪ ،‬وإنما تخضع العتبارات‬
‫اجتماعية أو أخالقية أو نحو ذلك‪ ،‬وتتحدد هذه المقومات بوصفها مثالً أعلى وبخاصة في‬
‫جانبه األخالقي‪.‬‬
‫فإن الناقد قد يخرج بالقيمة ـ في إطار المثل األعلى ـ إلى‬
‫وعلى الرغم من هذا ّ‬
‫قيمة جمالية تتحكم في كيفية صياغة القصيدة من ناحية‪ ،‬وكيفية التصوير فيها من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬فالمثل األعلى ـ من هذه الناحية ـ له بعدان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أخالقي‪ ،‬وثانيهما ‪:‬‬
‫جمالي‪ ،‬وسنعنى بالمثل األعلى بوصفه معيا اًر جمالياً‪ ،‬يعنى به الشاعر في أثناء تأدية‬
‫إبداعه الشعري ‪.‬‬
‫ويرد المثل األعلى في مجاالت متعددة‪ ،‬منها ما يتصل بتصوير موضوعات‬
‫طبيعية‪ ،‬ومنها ما يتصل بتصوير موضوعات إنسانية‪ ،‬ولكنه على أية حال يغدو الصورة‬
‫الذهنية المجردة التي انتزعها اإلنسان من واقعه وخبرته من ناحية‪ ،‬ومن رؤيته التي حددت‬
‫له موقعه من العالم واإلنسان من ناحية ثانية‪ ،‬ولذلك يسعى الشاعر إلى إرساء المثل‬
‫األعلى في نتاجه الشعري ليكون معيا اًر جمالياً يحدد جانبا من جماليات القصيدة‪ ،‬وبهذا‬
‫فإن اشتملت القصيدة على جوانب منه تضمنت أبعاداً‬ ‫يكون الجمال منحص اًر في المثال‪ْ ،‬‬
‫إن افتقرت إليها تضاءلت هذه األبعاد‪ ،‬هذا بغض النظر عن مطابقة ما يصوره‬
‫جمالية‪ ،‬و ْ‬
‫الشاعر للواقع الذي يعيش فيه ‪.‬‬
‫ومن النماذج الطبيعية التي عني بها الناقد محاكاة الواقع مما عرضنا له سابقا‪،‬‬
‫أن‬
‫وكانت المحاكاة هناك تعني مماثلة التصوير في القصيدة لما هو كائن في الواقع‪ ،‬أي ّ‬
‫المحاكاة الحرفية كانت هدف الناقد غالباً‪ ،‬غير أننا نلتقي هنا ببعض األمثلة التي سبق لنا‬
‫دراستها‪ ،‬ولكن زاوية المعالجة تختلف لتقع الصورة كلها في إطار المثل األعلى بوصفه‬
‫قيمة ذهنية مجردة ‪.‬‬
‫‪303‬‬
‫أن النقاد قد عابوا على امرئ القيس ـ وغيره ـ أن يصف‬
‫أن عرضنا ّ‬‫وقد سبق لنا ْ‬
‫ذيل فرسه بالطول في قوله ‪:‬‬

‫العروس‬ ‫ذيل‬ ‫مثل‬


‫ُ‬ ‫ذنب‬
‫ٌ‬ ‫لها‬

‫ُدُبر‬ ‫من‬ ‫فرجها‬


‫َ‬ ‫بها‬ ‫ُّ‬
‫تسد‬

‫ويتركز العيب في مجافاة الشاعر لما هو كائن في الواقع‪ ،‬وما يشتمل عليه هذا الواقع من‬
‫قيم‪ ،‬ولكننا نلتقي مع الشريف المرتضى في تصور ينفي أن تكون العالقة بين طول الذنب‬
‫وطول ذيل العروس إلى هذه المقارنة التي يعتمدها التشبيه‪ ،‬والتي تمثل المحاكاة عنص اًر‬
‫حاسماً في تحديد قيمتها‪ ،‬وإنما يرجع ذلك إلى لون من المبالغة‪ ،‬ألن ام أر القيس ـ فيما‬
‫يرى الشريف المرتضى ـ » أراد السبوغ والكثرة والكثافة « ‪ 1‬ليخرج بالمحاكاة من المماثلة‬
‫أن تكون وظيفة الشاعر المطابقة الحرفية‬
‫والمطابقة إلى انتزاع صورة وداللة أخرى‪ ،‬وينفي ْ‬
‫فإن‬
‫للواقع‪ ،‬ألن الشاعر كما يقول » ال يجب أن يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد ّ‬
‫ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه«‪ 2‬إذن فالتصوير لدى الشريف المرتضى ال يرجع‬
‫إلى مماثلة الواقع بما هو عليه‪ ،‬وإنما تتفاعل لديه عناصر مختلفة‪ ،‬يمثل الواقع أحد‬
‫األركان‪ ،‬ويمثل المثل األعلى ركنا آخر‪ ،‬وهو ركن جوهري لديه‪.‬‬
‫إن لم تكن هي المثل األعلى في‬
‫وتقترب المبالغة في التشبيه من المثل األعلى ْ‬
‫امر القيس إلى وصف ذنب فرسه بهذا الشكل‪ ،‬ليستدل‬ ‫أحد جوانبه‪ ،‬فالمبالغة دفعت أ‬
‫بمبالغته هذه على السبوغ والكثرة والكثافة‪ ،‬ويستدل الشريف المرتضى لذلك بعجز البيت‬
‫«تسد به فرجها من دبر « لتأكيد تصوره هذا‪ ،‬وأرجع الشريف المرتضى هذا إلى مذهب‬
‫أن تجري على الشيء الوصف الذي قد كان يستحقه‪،‬‬
‫العرب ألن شأنهم في المبالغة » ْ‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 95/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 95/2 ،‬‬
‫‪304‬‬
‫‪1‬‬
‫وقرب منه القرب الشديد « وهذا يؤكد ـ مرة أخرى ـ ّ‬
‫أن المحاكاة ال تعني مطابقة الواقع‪،‬‬
‫أو محاكاة تامة للمثل األعلى‪ ،‬إنما يعمد الشريف المرتضى إلى لون من الموازنة بين‬
‫هذين البعدين‪ ،‬ولذلك فهو يرى أن العرب تقول ‪ » :‬قتل فالناً هوى فالنة‪ ،‬ودله عقله وأزال‬
‫تمييزه وأخرج نفسه‪ ،‬وكل ذلك لم يقع وإنما أرادوا المبالغة وإفادة المقاربة والمشارفة ونظائر‬
‫شبهوا‬ ‫‪2‬‬
‫أن ّ‬ ‫أن تحصى« ومن األمثلة الواضحة على المبالغة في التشبيه ْ‬ ‫ذلك أكثر من ْ‬
‫»الكفل بالكثيب وبالدعص وبالتل‪ ،‬ويشبهون الخصر بوسط الزنبور‪ ،‬وبمدار حلقة الخاتم‪،‬‬
‫ويعدون هذا في غاية المدح وأحسن الوصف « ‪ 3‬وهذه المبالغة في التشبيه ترتد إلى لون‬
‫من االعتياد الذي ألفه الناس‪ ،‬هذا ما أشار اليه ابن جني في أثناء تعرضه لغلبة الفروع‬
‫لألصول ‪.4‬‬
‫ويكشف الشريف المرتضى عن الصورة المشوهة فيما لو ركبت هذه األجزاء‬
‫الحسية للصورة المثالية للمرأة حيث يقول » إنا لو رأينا من خصره مقدار وسط الزنبور‪،‬‬
‫وكفله كالكثيب العظيم‪ ،‬الستبعدناه واستهجنا صورته لنكارتها وقبحها « ‪ 5‬وهو يعقد مقارنة‬
‫بين المثال والواقع ليخلص إلى هذه الصورة المستكرهة لتحقيق المثال في الواقع ‪.‬‬
‫أن ُيلغي ما اعتاده الناس وألفوه‪ ،‬ويلغي‬
‫إذن فالشريف المرتضى بين أمرين إما ْ‬
‫أن يحاول التوفيق بين هذه الصورة المشوهة في‬‫معه ما درجت عليه صناعة الشعر‪ ،‬وأما ْ‬
‫المثال والصورة المستكرهة فيما لو تحققت في الواقع‪ ،‬ولكنه على الرغم من هذا كله قد‬
‫انتزع من خالل توفيقه بعداُ جوهرياُ‪ ،‬حاول فيه أن يقرب المثال من الواقع‪ ،‬وقاده هذا إلى‬
‫أن هذه الصورة المشوهة ال تدل ألفاظها على التحقيق‪ ،‬قدر ما تدل على الكمال‪ ،‬فالشريف‬
‫ّ‬
‫المرتضى ينأى من ناحية عن التصوير الحرفي للواقع‪ ،‬ويتجاوز نسخه ومحاكاته الحرفية‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 96/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 95/2 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 96/2 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن جني‪ ،‬الخصائص‪.300/1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 96/2 ،‬‬
‫‪305‬‬
‫كما ينأى من ناحية ثانية عن التصوير الحرفي للمثل األعلى‪ ،‬ولكنه ـ على كل األحوال ـ‬
‫يعد التزاوج بين هذين العنصرين دليالُ يقود إلى الكمال والثبات ‪.‬‬
‫إن المحاكاة عند الشريف المرتضى ال تعني مطابقة تامة لما يشتمل عليه المثل‬
‫األعلى‪ ،‬وإنما يقصد من المبالغة في التشبيه الكمال في الجمال‪ ،‬فال تحمل التشبيهات »‬
‫على ظواهرها تحديداُ وتحقيقاُ‪ ،‬بل ليـفهم منـها الغاية المحمـودة والنهاية المستحسنة ويترك‬
‫ما وراء ذلك«‪1‬‬
‫ويسعى الشريف المرتضى لتعزيز تصوره هذا‪ ،‬ويكشف عن الجوانب الحسية‬
‫لمحاكاة المثال في نماذج أخرى لصورة مثال المرأة في أقوال الشعراء‪ ،‬منها قول الشاعر‪:‬‬

‫روادُفها‬ ‫فتثقلها‬ ‫تمشي‬

‫ِ‬
‫خلف‬ ‫إلى‬ ‫تمشي‬ ‫فكأنها‬

‫أوقول المؤمل ‪:‬‬

‫بدا‬ ‫إذ‬ ‫البدر‬


‫َ‬ ‫تشبه‬ ‫حبتـي‬ ‫مثل‬
‫َ‬ ‫رأى‬ ‫من‬
‫غ ـ ــدا‬ ‫أرداُفـها‬ ‫خل‬
‫ُ‬ ‫تـ ــد‬ ‫ثم‬ ‫ـوم‬
‫اليـ َ‬ ‫تدخل‬

‫وقول ذي الرمة ‪:‬‬


‫قطعتُه‬ ‫العذارى‬ ‫كأوراك‬ ‫ورمل‬

‫الحنادس‬
‫ُ‬ ‫المظلمات‬
‫ُ‬ ‫جللته‬ ‫وقد‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.96/2 ،‬‬


‫‪306‬‬
‫ويعلق الشريف المرتضى على هذا األمثلة بقوله ‪ » :‬وهذا كالم لو حمل على ظاهره‬
‫وحقيقته لكان الموصوف به في نهاية القبح ألنه يمشي إلى خلف‪ ،‬ومن يدخل كفله بعده‬
‫ال يكون مستحسناً « ‪ ،1‬وعلى الرغم من هذا كله فإن الشريف المرتضى يعد هذا أداء‬
‫يشير إلى الكمال أو يرمز اليه ‪.‬‬
‫ولم تكن المحاكاة عند الشريف المرتضى وابن جني تحث على قضية أخالقية‬
‫قدر ما تشير إلى فكرة ذهنية مجردة وتعبر عن المثل األعلى‪ ،‬ويؤكد الشريف المرتضى‬
‫أن توظيف المثل األعلى يقود إلى قضية جمالية شكلية تتركز في الصنعة والتأنق‬ ‫ّ‬
‫الخارجي‪ ،‬ولذلك رأيناه ينكر الصورة المفرطة المبالغ فيها في وصف المثل األعلى‪ ،‬ولكنه‬
‫على الرغم من ذلك يتقبلها لتأدية سمات الكمال التي ينشدها إذ يقول ‪ » :‬إنما أتوا بألفاظ‬
‫المبالغة صنع ًة وتأنقاً‪ ،‬ال لتحمل على ظواهرها تحديداً وتحقيقاً‪ ،‬بل ليفهم منها الغاية‬
‫المحمودة وال نهاية المستحسنة‪ ،‬ويترك ما وراء ذلك‪ ،‬فإنا نفهم من قولهم خصرها كخصر‬
‫الزنبور أنه في نهاية الدقة المستحسنة في البشر‪ ،‬ومن قولهم ‪ :‬كفلها كالكثيب أي في‬
‫نهاية الوثـارة المحمودة والمطلوبة‪ ،‬ال أنه كالتل على التحقيق «‪.2‬‬
‫وتقترن المحاكاة بالتشبيه بوصفه أداة المحاكاة في التماثل والمطابقة فهو ـ أي‬
‫التشبيه ـ الذي يسعف الشاعر في محاكاة المثل األعلى‪ ،‬فال ريب َّ‬
‫أن المثل األعلى يتحدد‬
‫حينئذ في المشبه به‪ ،‬ألنه غاية الشاعر التي عقد من أجلها المقارنة بين المثل والصورة‬
‫الكائنة في الواقع‪.‬‬
‫ويكشف لنا هذا التصور عن تمايز الشعر عن أشكال المعرفة األخرى في أنه ال‬
‫يقدم لنا الواقع نفسه‪ ،‬ولكن شيئاً آخر له نفس الصفات والخصائص‪ ،‬وهو عالم خيالي‬
‫أن الناقد العربي قد جنح نحو خيال مفرط‪ ،‬وقد نأى به هذا بعيداً‬ ‫متصور وهمي‪ ،‬غير ّ‬
‫عن الواقع‪ ،‬كما قد شغف بعقد المقارنة بين المثال والصورة الكائنة في الواقع ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪. 97/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.96/2 ،‬‬
‫‪307‬‬
‫ويلفتنا ابن جني إلى زاوية أخرى ال تتصل بعقد المقارنة أو ألوان المبالغة التي‬
‫ذهب اليها الشريف المرتضى وإنما إلى قلب عنصري التشبيه لتأدية داللة جمالية تمثل‬
‫أن العرب قد اعتادت تشبيه شيء بآخر لدرجة يظل‬ ‫المبالغة جوهرها‪ ،‬ولذلك فهو يرى ّ‬
‫المشبه به ثابتاً‪ ،‬وتتأتى القيمة الجمالية بكسرها االعتياد‪ ،‬وهذه اإللفة التي جعلت من أحد‬
‫أن العرف والعادة هما اللذان سوغا‬
‫العنصرين ثابتاً أو كليهما معاً‪ ،‬ويلفتنا ابن جني إلى ّ‬
‫أن ذا الرمة يقلب هذا الشـكل في‬‫للشاعر أن يشبه أعجاز النساء بكثبان األنقاء‪ ،‬غير ّ‬
‫التشبيه في قولـه ‪1:‬‬

‫قطعتُه‬ ‫العذارى‬ ‫كأوراك‬ ‫ورمل‬

‫الحنادس‬
‫ُ‬ ‫المظلمات‬
‫ُ‬ ‫ألبسته‬ ‫إذا‬

‫وكانت غاية الشاعر في هذا قلب التعود من أجل المبالغة‪ ،‬ولو ذهبنا لنـزاوج بين هذا‬
‫غير ثبات‬
‫ذا الرمة قد ّ‬ ‫أن‬
‫التصور وتصور الشريف المرتضى في المثل األعلى ألدركنا ّ‬
‫هذا ليس مطرداً بسبب‬ ‫أن‬
‫متحكما فيه‪ ،‬غير ّ‬
‫ً‬ ‫المثل األعلى وجعله متغي اًر‪ ،‬وجعل الجزئي‬
‫يتصل بالتغير الخارجي الشكلي الذي عمد اليه ذو الرمة في أثناء قلب المشبه به مشبهاً‪،‬‬
‫ألن طبيعة التركيب ال تزال محافظة على عنصري التشبيه دون تغيير‬ ‫والمشبه مشبهاً به‪ّ ،‬‬
‫جوهري في العالقة‪ ،‬غاية ما في األمر أنه جعل المشبه به محل المشبه ‪.‬‬
‫أن وظيفة‬
‫ولم يأخذ التشبيه وظائفه في التحسين والتقبيح وبخاصة إذا أدركنا ّ‬
‫أن الشريف المرتضى يعي‬
‫المحاكاة كانت تميل إلى أبعاد جمالية شكلية لدى النقاد‪ ،‬غير ّ‬
‫تماماً أهمية التحسين والتقبيح وتأديتها أبعاداً أخالقية وجمالية في آن واحد‪ ،‬وبخاصة في‬
‫حالتي المدح والهجاء‪ ،‬ففي حالة المدح يقصد الشاعر مغرقاً في أحسن أوصاف الشيء‬

‫جني‪ ،‬الخصائص‪.300/1 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫ـ ابن ّ‬
‫‪308‬‬
‫» كأنه ال وصف له غير ذلك الوصف الحسن‪ ،‬وإذا أراد ذمه قصد إلى أقبح أحواله‬
‫فذكرها‪ ،‬حتى كأنه ال شيء فيه غير ذلك « ‪.1‬‬
‫إن التحسين والتقبيح يؤديان وظيفة عقلية‪ ،‬ويفتش من خاللهما الشاعر عن‬
‫ّ‬
‫العيوب والمحاسن في الشيء ذاته‪ ،‬فإذا أراد مدحه قصد إلى إظهار محاسنه وبالغ في‬
‫إن أراد ذمه قصد إلى إظهار معايبه وبالغ في وصفها أيضاً‪ ،‬ويضرب الشريف‬
‫وصفها‪ ،‬و ْ‬
‫المرتضى لذلك مثال بالشيب‪ ،‬ففي حالة مدحه يعمد الشاعر إلى ذكر ما فيه » من وقار‬
‫إن العمر معه أطول‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وهذه سبيلهم في كل شيء وصفوه ولمدحهم‬ ‫وخشوع و ّ‬
‫موضعه‪ ،‬ولذمهم موضعه« ‪ 2‬وهذا عائد لهذا اللون من المقومات العقلية التي تتحكم في‬
‫بعدي التحسين والتقبيح وتوجهها هذه الجهة ال تلك‪.‬‬
‫أن المثل األعلى يمثل صورة ذهنية مجردة انتزعها‬‫ونخلص من هذا كله إلى ّ‬
‫أن هذا التفاعل قد أحكمته أداة عقلية صارمة‪ ،‬دفعت‬
‫الشاعر من تفاعله مع الواقع‪ ،‬غير ّ‬
‫أن يجعل الناقد في المثال هدفاً أعلى يسعى‬
‫به إلى هذا الشكل من التجريد‪ ،‬ومن الطبيعي ْ‬
‫إلى تحقيقه في إبداع النص الشعري‪ ،‬وتبرز أمام الناقد قضية في غاية األهمية‪ ،‬وهي‬
‫كيف يتجسد المثال في النص الشعري مع أنه يعبر عن تصوير شيء محدد في الواقع ؟‬
‫وبتعبير آخر‪ ،‬كيف يتأتى للشاعر أن يعبر عن الخاص ـ في المعشوقة بخاصة ـ وهو‬
‫ينحو نحو المثل األعلى العام‪ ،‬وهل محاكاته تعبر عن العام أو عن الخاص ؟ ‪.‬‬
‫إن محاكاة العام تنسجم مع طبيعة الضبط العقلي الذي يحكم العملية األدبية‬ ‫ّ‬
‫إن الناقد يلغي الخاص لتكون المعشوقة واحدة وثابتة‪ ،‬مهما تغايرت‬
‫والنقدية على السواء‪ ،‬و ّ‬
‫في الواقع‪ ،‬ومن هنا يتأتى تغليب العام على الخاص‪ ،‬وجعله الهدف المنشود الذي يروم‬
‫الناقد إرساءه ‪.‬‬
‫وتلتقي صورة المثل األعلى مع ما يذهب إليه أفالطون في نظريته للمثال‪ ،‬إذ إنه‬
‫« يفترض وجود مثال للجمال خارجي‪ ،‬وتصبح األشياء في حقيقة جمالها شبيهة بالمثال‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.257/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 157/2 ،‬‬
‫‪309‬‬
‫ويقرب هذا الشبه أو يبعد بمقدار ما فيها من جمال‪ ،‬والعمل الفني نقل أو محاكاة لهذه‬
‫األشياء والشبيهة بمثال الجمال « ‪.1‬‬
‫ويفطن الشريف المرتضى إلى هذا اللون من الصراع والتغاير بين المثل األعلى والواقع‪،‬‬
‫أن هناك اختالفاً جوهرياً بين الحالتين‪ ،‬والذي قاده إلى هذا نـزعته العقلية‬
‫وهو يعي تماماً ّ‬
‫التي تُسّلم بتفاوت الصور الفردية الخاصة المتغيرة عن صورة المثال العام الثابت‪ ،‬إليمانه‬
‫أن المثال إنما هو صورة عامة تمثل جوه اًر عاماً‪ ،‬لما ينبغي أن يكون عليه الجمال‪ ،‬ولكنه‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫أن هذه الصورة إنما هي صورة تركيبة انتزاعية‪ ،‬ولو تأتى لها ْ‬ ‫يعي في الوقت نفسه ّ‬
‫تتجسد في الواقع لفقدت قيمتها‪ ،‬ولذلك اعتمد المبالغة لتمثل بعداً في الكمال الجمالي ‪.‬‬
‫أن المثل األعلى لدى الناقد تغلب عليه السمة التجزيئية التي‬
‫ومما يثير االنتباه ّ‬
‫تعالج عناصره وكأنها جزئيات مستقلة‪ ،‬وليس للمثال صورة كلية منسجمة‪ ،‬وحتى لو جمعنا‬
‫هذه الجزئيات المستقلة لكان التركيب على درجة من التنافر والتعارض‪ ،‬فجمال المرأة ـ‬
‫مثالـ ينحصر لدى الناقد العربي بجزئيات يعنى بها ويبالغ في تصويرها‪ ،‬كضخامة الكفل‬
‫فإن‬
‫ودقة الخصر‪ ،‬وليس لهذين البعدين من تداخل وتفاعل بينهما‪ ،‬بل على العكس ّ‬
‫التركيب بينهما يقود إلى تشويه الصورة التي يعي الشريف المرتضى خطورتها وقبحها‬
‫ونكارتها ‪.‬‬
‫وتطغى على المثل األعلى من زاوية أخرى الخصائص والمقومات الحسية‪ ،‬إذ‬
‫يعنى الشاعر والناقد على السواء عناية بالغة بالوصف الجسدي الحسي لمثال الحبيبة‪،‬‬
‫وهو دون شك وصف خارجي حسي‪َّ ،‬‬
‫وكأن هذا يتجاوب إلى حد كبير مع النـزعة الشكلية‬
‫التي يعنى بها الناقد ‪.‬‬
‫فإن عناية الشعراء والنقاد كانت متركزة في العناصر الحسية للمثل األعلى‬‫إذن ّ‬
‫وتطبيقاته‪ ،‬سواء أكان المثل األعلى الغاية التي يقصدها الشاعر تحقيقاً وتحديداً أم كانت‬
‫الغاية تدل على الكمال كما ذهب إلى ذلك الشريف المرتضى‪ ،‬وليست هذه الصورة جديدة‬
‫ألن الشاعر العربي » لم يكن ينفعل إال بالصورة‬
‫على الشعر العربي‪ ،‬بل هي الشائعة ّ‬

‫‪ 1‬ـ عز الدين إسماعيل‪ ،‬األسس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫‪310‬‬
‫الحسية للمحبوبة‪ ،‬فراح يجسم لنا في محبوبته المثل األعلى للصورة الحسية وكان نتيجة‬
‫أن نتعرف شخصية كل محبوبة‪ ،‬ألننا ال نجد إال صورة واحدة هي‬‫ذلك اننا ال نستطيع ْ‬
‫المثل األعلى الذي يتمثل في كل محبوبة«‪.1‬‬
‫ولم يقتصر المثل األعلى على الجوانب التجريدية الجمالية التي سبق الحديث‬
‫عنها‪ ،‬بل يمكننا التحدث عن مثل أعلى للقصيدة من حيث بنيتها‪ ،‬فالشريف المرتضى ـ‬
‫مثال ـ يستحسن قصيدة ألبي نواس ويرجح استحسانه لمقومات تدل على لون من الثبات‪،‬‬
‫فمن حيث الكم يرى أنها دون العشرين بيتا‪ ،‬ومن حيث البناء الداخلي ّ‬
‫فإن أبا نواس » قد‬
‫نسب في أولها ثم وصف الناقة بأحسن وصف‪ ،‬ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه‪ ،‬واقتضاه‬
‫حاجته « ‪ 2‬وال نريد أن نعنى بالناحية الشكلية لبنية القصيدة التي تلتزم بالتسلسل في أطر‬
‫تقليدية تحاكي القديم وتحرص على مقوماته‪ ،‬غاية ما في األمر أن هناك مثاالً لقصيدة‬
‫المدح ال بد أن يتتابع به النسيب ثم وصف الناقة فمدح الممدوح‪ ،‬ولعل ابن قتيبة قد أسهم‬
‫في تعميق هذا التصور في التراث النقدي مما سبق لنا تناوله ‪.‬‬
‫ويطلعنا القاضي الجرجاني من زاوية أخرى على نوع خاص من بناء القصيدة‪،‬‬
‫من حيث تتالي تحسين االستهالل‪ ،‬ثم التخلص‪ ،‬وبعدها الخاتمة‪ ،‬يقول ‪ » :‬والشاعر‬
‫الحاذق يجتهد في تحسين االستهالل والتخلص وبعدهما الخاتمة « ويعلل لذلك بأن هذه‬
‫المواقف هي التي » تستعطف أسماع الحضور وتستميلهم إلى اإلصغاء « ‪.3‬‬
‫وتتداخل لدى الجرجاني ثالثة أبعاد أساسية أولها ‪ :‬المثال الذي ينبغي أن يكون‬
‫عليه بناء القصيدة‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬تطبيقات هذا البناء في القصيدة‪ ،‬وثالثهما ‪ :‬تأديته لوظيفة‬
‫أن الجرجاني قد أكد على عناصر التلقي في‬
‫هذه العناصر كلها‪ ،‬ومن الجدير بالمالحظة ّ‬
‫إرساء هذا اللون من البناء‪ ،‬فيتحول إلى غاية يسعى إلى تحقيقها‪ ،‬ومهما يكن من أمر‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.132‬‬


‫‪ 2‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 279/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪311‬‬
‫فإن المثال هنا منتزع من واقع النصوص األدبية‪ ،‬ومن تراكم ثقافي عام لما ينبغي أن‬
‫يكون عليه التذوق والتلقي على السواء‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ماهية الشعر‬

‫ولقد شغلت الخصائص النوعية للشعر الدارسين قديماً وحديثاً‪ ،‬وعني بها نقاد‬
‫القرن الرابع الهجري‪ ،‬شأنهم شأن من سبقهم أو لحقهم من أجل تأصيل ماهية الشعر‪،‬‬
‫ومن أجل الكشف عن قيمته ووظيفته‪ ،‬وتتداخل لدى النقاد أبعاد وظيفية مختلفة‪ ،‬منها ما‬
‫يتصل بلغة الشعر بوصفها ممي اًز لماهية الشعر‪ ،‬وأنها تمثل أحد المكونات النوعية التي‬
‫تحدد ماهية الشعر‪ ،‬ومنها ما يتصل بخصائص خارجية تعنى بمجرد التراص للوحدات‬
‫الصوتية إحداها جنب األخرى‪ ،‬ومنها ما يتجاوز ذلك إلى خصائص تنأى عن األبعاد‬
‫المعيارية العروضية إلى الكشف عن جوهر الشعر أو محاولة االقتراب منه‪.‬‬
‫وتتحدد ماهية الشعر في أحد أبعادها بالوزن والقافية‪ ،‬أي العناية بالجانب‬
‫الشكلي والخارجي من الشعر‪ ،‬وتتجلى هذه العناية في متابعة النقاد للجوانب العروضية‬
‫تأليفاً‪ ،‬وهذا ما فعله ابن جني في رسالتيه »العروض « و» مختصر القوافي «‪ ،‬وكذا ما‬
‫فعله المرزباني في »الموشح «من ذكر لعيوب الشعر‪ ،‬فيما يتصل بالقافية بخاصة ‪.‬‬
‫وقد أسهم نقاد متميزون في القرن الرابع الهجري في تعميق الخصائص النوعية‬
‫للشعر متمثلة في الوزن والقافية‪ ،‬فابن طباطبا العلوي يقول في تعريفه للشعر » الشعر ـ‬
‫أسعدك هللا ـ كالم منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم‪ ،‬بما خص‬
‫به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته األسماع‪ ،‬وفسد على الذوق‪ ،‬ونظمه معلوم‬
‫محدود‪ ،‬فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى االستعانة على نظم الشعر بالعروض التي‬
‫هي ميزانه‪ ،‬ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض‬
‫والحذق به‪ ،‬حتى تعتبر معرفته المستقاة كالطبع الذي ال تكلف معه« ‪ 1‬إن هذا الحد يؤكد‬
‫خاصية إيقاعية تحتوي الشعر وتحدد ماهيته‪ ،‬فالنظم يمثل الفارق الجوهري الذي يميز بين‬
‫الشعر والنثر‪ ،‬وهو فارق شكلي‪ ،‬ال يتعرض إلى الخاصية النوعية التي تميز الشعر‪ ،‬ومما‬

‫‪ 1‬ـ ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪ ،‬ص ‪. 41‬‬


‫‪313‬‬
‫يحمد البن طباطبا العلوي أنه لم يتعرض إلى القافية في تعريف الشعر‪ ،‬ولكنها متضمنة‬
‫فيه‪ ،‬بدليل أنه أكدها في كتابه وتعرض إلى الحديث عنها‪.1‬‬
‫ومن الجدير باإلشارة َّ‬
‫أن ابن طباطبا العلوي استخدم كلمة»منظوم« لتدل على‬
‫الخاصية النوعية للشعر‪ ،‬وهي تشتمل على دالالت تختلف عن كلمة » موزون « التي‬
‫يستخدمها غيره‪ ،‬كقدامة بن جعفر‪ ،‬لما تدل عليه كلمة النظم من دالالت تؤكد النظام الذي‬
‫تتضام به الكلمات بكيفية معينة‪ ،‬إذا أخذنا بنظر االعتبار مفهوم نظم القرآن الذي‬
‫استخدمه الدارسون‪ ،‬وألفوا فيه كتباً‪ ،‬كما فعل ذلك الجاحظ في كتابه المفقود » نظم‬
‫القرآن «‪.‬‬
‫أما قدامة بن جعفر فإنه يؤكد على الخاصية الشكلية للشعر في تعريفه ذائع‬
‫الصيت الذي يقول فيه إن الشعر » قول موزون مقفى يدل على معنى «‪ ،2‬وقد عمد‬
‫قدامة إلى تحليل مكونات هذا التعريف على الطريقة المنطقية التي تقوم على الجنس‬
‫والفصل‪.‬‬
‫إن عناية الناقد بالوزن والقافية إنما هي عناية لها داللتان ‪ :‬األولى ‪ :‬تحديد‬
‫ّ‬
‫ماهية الشعر بهذا اللون من االنتظام الخارجي للوحدات الصوتية‪ ،‬والثانية ‪ :‬تأكيد الجانب‬
‫اإليقاعي الذي يتمايز به الشعر عن غيره‪ ،‬وإذا كانت هاتان الداللتان تمثالن بعض‬
‫المميزات التي تحدد الخصائص النوعية للشعر‪ ،‬فإن االنتظام الشكلي للكلمات ال يعني‬
‫إبداعاً شعرياً‪ ،‬ولقد تأتت العناية بالوزن والقافية ـ فيما يبدو ـ ألنها أكثر األشياء ظهو اًر‬
‫وبداهة بالشعر‪ ،‬وما ينطوي عليه من إيقاع متكرر يشعر المتلقي من خاللهما بالفوارق‬
‫الشكلية بين الشعر وغيره من الفنون ‪.‬‬
‫إن كان الشعر ال يمكن‬
‫ولم تكن هذه السمات الخارجية محددة لماهية الشعر‪ ،‬و ْ‬
‫أن يتأتى إال بتوافرها ـ في تصور الناقد القديم ـ بوصفهما أظهر الشروط الجوهرية التي‬
‫ْ‬
‫تحدد الخصائص النوعية للشعر‪ ،‬ولذلك رأينا التصورات التي تخرج الكالم الذي انتظمت‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.170‬‬


‫‪ 2‬ـ قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪314‬‬
‫ألفاظه في ميدان الشعر على الرغم من تماثلها والمثال المعياري لألبحر الشعرية من حيث‬
‫العناية باألبعاد الصوتية حركة وسكوناً وتفعيلة وقافية‪ ،‬إليمان الناقد أن هذا االنتظام‬
‫أن جوهر الشعر يتحدد في‬‫الخارجي إنما يمثل االنتظام الشكلي وليس جوهر الشعر‪ ،‬وبما ّ‬
‫إطار المكونات النوعية أخذ النقاد يفتشون عن مقومات أخرى مع تسليمهم بضرورة توافر‬
‫هذا االنتظام الخارجي للكلمات ‪.‬‬
‫أن ماهية الشعر ال تتحدد باالنتظام الخارجي للكلمات‪،‬‬
‫وفي ضوء هذا يتضح ّ‬
‫ألن هذا تحديد شكلي لماهية الشعر‪ ،‬ولذلك سعى الناقد إلى نفي هذا التحديد مستدالً‬ ‫ّ‬
‫أن الراعي النميري أنشد قصيدة أمام‬
‫بالرواية مرة‪ ،‬وبالتأصيل مرة أخرى‪ ،‬فالمرزباني ينقل ّ‬
‫عبد الملك بن مروان‪ ،‬فبلغ قوله‪:‬‬

‫معشر‬
‫ٌ‬ ‫إنا‬ ‫الرحمن‬ ‫أخليف َة‬

‫وأصيال‬ ‫بكرًة ًُ‬ ‫نسجد‬


‫ُ‬ ‫حنفاء‬
‫ُ‬

‫أموالنا‬ ‫في‬ ‫هللِ‬ ‫نرى‬ ‫عرب‬


‫ٌ‬

‫تنـزيال‬ ‫ُمنـزالً ًُ‬ ‫ِ‬


‫الزكاة‬ ‫حق‬
‫َ‬

‫فقال له عبد الملك ليس هذا شع اًر‪ ،‬هذا شرح إسالم وقراءة آية ‪ ،1‬وهذا يعني أن المرزباني‬
‫ينفي الخاصية النوعية للشعر التي تميزه بما سلف تحديده على الرغم من انتظام هذ ه‬

‫‪ 1‬ـ المرزباني‪ ،‬المو شح‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫‪315‬‬
‫األبيات وزناً وقافية‪ ،‬بل إنه ينقل ما يؤكد ذلك حيث يقول » ليس كل من عقد وزناً بقافية‬
‫فقد قال شع اًر‪ ،‬الشعر أبعد مراماً‪ ،‬وأعز انتظاماً «‪. 1‬‬
‫فالناقد إذن يرد ماهية الشعر إلى خاصية أبعد من االنتظام الخارجي للكلمات‬
‫على الرغم من أنه لم يكشف عن هذه الخاصية التي تميز الشعر عن غيره أو يحدد‬
‫طبيعتها ولكنه يتوقف عند مجرد النفي للتحديد الشكلي للشعر‬
‫وال يعني هذا أن الناقد يكسر القاعدة فيتمرد على الوزن أو القافية‪ ،‬أو كليهما‬
‫معا‪ ،‬غاية ما في األمر أنه يرى أنهما يمثالن البعد الشكلي للشعر‪ ،‬ولذا رأينا من ُّ‬
‫يحد‬
‫الشعر بهما وبغيرهما‪ ،‬فأبو حاتم الرازي يرى أن الشعر هو » الكالم الموزون على روي‬
‫واحد المقوم على حذو واحد ‪. . .‬حتى ال يخالف بعضه بعضا في الوزن والروي « ‪ 2‬فهو‬
‫يعنى عناية بالغة بضرورة التزام القصيدة بالوزن والقافية‪ ،‬ولكنه يرجع الشعر إلى جذره‬
‫ألن تسمية الشعر لديه تعني » الفطنة بالغوامض من األسباب‪،‬‬ ‫اللغوي ليقترن بالفطنة‪ّ ،‬‬
‫إن تسمية الشاعر شاع اًر ألنه كان يفطن لما ال يفطن له غيره من معاني الكالم وأوزانه‬
‫وّ‬
‫وتأليف المعاني وأحكامه وتثقيفه « ‪.3‬‬
‫وإرجاع مفهوم الشعر في أحد أبعاده إلى الجذر اللغوي للكلمة وما تنطوي عليه‬
‫من دالالت إنما يدل في إحدى زواياه على المعرفة التي يكشف عنها الشاعر‪ ،‬وهي‬
‫معرفة جديدة يفطن هو إليها‪ ،‬ويعجز عنها غيره‪،‬ولذلك جعل الناقد » الفطنة « كاشفة عن‬
‫الغوامض من األسباب‪ ،‬فكأنها ـ أي الفطنة ـ تقود إلى كشف معرفي جديد‪ ،‬ألنها منحت‬
‫الشعر القدرة على الكشف عن هذا النمط من المعرفة ‪.‬‬
‫وتكمن ميزة الشاعر في أنه يشعر بما لم يشعر به غيره‪ ،‬أي يعلم به‪ ،‬فيما ينقل‬
‫الزبيدي ‪ ،4‬غير أن مفهوم العلم ال يعني التحديد والتحقيق‪ ،‬أي الكشف عن صورة الشيء‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.547‬‬


‫‪ 2‬ـ أبو حاتم الرازي‪ ،‬الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية‪. 83/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.83/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ الزبيدي‪ ،‬تاج العروس‪ ،‬مادة ‪ :‬شعر ‪.‬‬
‫‪316‬‬
‫في الذهن‪ ،‬ألن المقابل اآلخر لداللة الشعر هو » الفطنة « وهذا ما أكده أبو حاتم‬
‫أن الشعر يشتمل على لون‬‫الرازي‪،‬وإذا كانت الفطنة تعني الحذق أو الفهم أو الذكاء أدركنا ّ‬
‫من االنبهار بما يكشفه الشاعر‪ ،‬وهذا كله ال يحدده قانون ألن الجذر اللغوي للفطنة يعني‬
‫ـ في إحدى دالالته ـ » الفهم بطريق الفيض وبدون اكتساب« ‪ 1‬وبهذا ترجع داللة الشعر‬
‫إلى خاصية غامضة كائنة في الشاعر أطلق عليها أبو حاتم الرازي » الفطنة« ‪.‬‬
‫وإذا كانت الفطنة تعني قدرة غامضة تفيض عن الشاعر دون اكتساب فهي لن‬
‫تختلف كثي اًر عما يفسره أحد الباحثين لتصور أبي حاتم الرازي إذ يرى أن الفطنة » يراد‬
‫بها الحشد الشعوري‪ ،‬والقدرة الفائقة على التنبيه وإدراك العالقات الخفية بين األشياء‪،‬‬
‫والشاعر هو اإلنسان الفطن إلى يتنبه إلى ما بين األشياء من صالت قد تخفى على‬
‫الرجل العادي ‪ . . . .‬فيكتشفها ويتعرف عليها‪ ،‬ويعبر عنها‪ ،‬ويجعلنا ندهش منها وكأننا‬
‫نتعرف عليها ألول مرة « ‪.2‬‬
‫ِ‬
‫يكتف أبو حاتم الرازي بتحديد الشعر باالنتظام الشكلي للوحدات الصوتية‬ ‫ولم‬
‫الذي يحتويه الوزن والقافية‪ ،‬بل ذهب بعيداً ّ‬
‫فرد الشعر إلى قوة خفية كائنة لدى الشاعر ال‬
‫أن ما فعله أبو حاتم‬
‫يشاركه فيها غيره‪ ،‬وهي التي تمنح الشعر قيمته وتحدد ماهيته‪ ،‬غير ّ‬
‫الرازي ال يختلف كثي اًر عما فعله العروضيون‪ ،‬فإذا كان العروضيون قد عنوا بالبناء‬
‫فإن أبا حاتم الرازي قد أقرهم على‬
‫الشكلي للشعر‪ ،‬ولم يكشفوا عن حقيقة ماهية الشعر‪ّ ،‬‬
‫ورد خاصية الشعر ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى أبعاد غامضة كائنة‬
‫أهمية هذا البناء الشكلي ّ‬
‫في الذات المبدعة ألنه يتحدث عن الشاعر وما ينبغي توافره فيه من أجل إبداع نص‬
‫شعري‪ ،‬وحتى في حديثه عن الشعر إنما يرد خاصية الشعر الجوهرية إلى المبدع ذاته‪،‬‬
‫فإن منشأ هذا يرجع إلى الشـاعر‬
‫ألنه إذا كان الشعر » الفطنة بالغوامض من األسباب « ّ‬
‫الذي » يشعر بالشيء ويفطن له« وتتأتى قيمة الشعر ألنه يلفتنا بانبهار إلى هذه‬
‫الخاصية اإلبداعية لدى الشاعر ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬مادة ‪ :‬فظن ‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ عبد الفتاح عثمان‪ ،‬نظرية الشعر في النقد العربي القديم‪ ،‬ص ‪ 20‬ـ ‪.21‬‬
‫‪317‬‬
‫إن العناية لدى أبي حاتم الرازي متركزة بمنشئ إبداع الشعر وليس عن ماهيته‪،‬‬
‫ّ‬
‫إن كان سيشتمل‬
‫فالفطنة خاصية كائنة في اإلنسان‪ ،‬وليست كائنة في النص الشعري‪ ،‬و ْ‬
‫إن هذه الخاصية ُيعنى بالكشف عنها أساسا عالم النفس‪ ،‬في حين يكون الكشف‬
‫عليها‪ ،‬و ّ‬
‫عن خواص الشعر من اهتمام الناقد بحق‪ ،‬والذي يركز جهده الحقيقي في الوجود‬
‫أن » تعبر القصيدة بالكلمات عن تجربة إنسانية« ‪1‬وبناء‬ ‫الموضوعي للقصيدة‪ ،‬وهو ْ‬
‫فإن أبا حاتم الرازي قد جعل األمر أكثر تعقيداً‪ ،‬ولذا فليس صحيحاً اعتبار‬
‫على ذلك ّ‬
‫تعريفه للشعر »تطو اًر كبي اًر في إدراك ماهية الشعر «‪.2‬‬
‫أن مقولته فيه «الفطنة»‬ ‫ويؤكد أبو حاتم الرازي ّ‬
‫أن للشعر جانباً يتصل باإللهام‪ ،‬و ّ‬
‫إنما تدل على هذه الخاصية الغيبية التي ترجع منشأ إبداع الشعر إلى شيء غامض‪ ،‬ومما‬
‫يؤكد ذلك ما ذهب إليه أبو حاتم الرازي من تماثل الشعراء باألنبياء في مرحلة تاريخية‬
‫معينة‪ ،‬فالشعراء في الجاهلية كانوا » بمنـزلة األنبياء في األمم« ‪ 3‬أي أنهما يتماثالن في‬
‫كون الشعر إلهاماً يقترب من الوحي‪ ،‬كما أنه يدل من زاوية أخرى على المعرفة الجديدة‬
‫أن مكانة الشاعر‬
‫التي يشتمل عليها الشعر‪ ،‬وهذا هو الذي جعل لهم هذه المنـزلة‪ ،‬أي ّ‬
‫تقترن ببعد أخالقي ومعرفي في آن واحد‪ ،‬وتقترن أيضاً في مرحلة تاريخية معينة وفي‬
‫أن انتقال الشاعر ومخالطته أهل الحضر إنما يقلل من قيمة‬ ‫إطار اجتماعي محدد‪ ،‬غير ّ‬
‫الشعر درجة‪ ،‬أما حين مجيء اإلسالم فقد نـزل الشع ارء رتبة أخرى‪ ،‬ألن القرآن قد نـزل‬
‫«بتهجين الشعر وتكذيبه » فيما يرى ذلك الناقد‪ ،‬أما حين استعمل الشعراء » الملق‬
‫والتضرع فقّلوا واستهان بهم الناس « ‪.4‬‬
‫وإذا كان أبو حاتم الرازي ينأى بعيداً في الكشف عن ماهية الشعر‪ ،‬فإن القاضي‬
‫الجرجاني يوهم الدارس في تحديد ماهية الشعر بأنه علم‪ ،‬وكأنه يسعى حقيقة إلى تحديد‬

‫‪ 1‬ـ ‪Winters , The function Of criticism , p 103‬‬


‫‪ 2‬ـ عبد الفتاح عثمان‪ ،‬نظرية الشعر في النقد العربي القديم‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ 3‬ـ أبو حاتم الرازي‪ ،‬الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية‪. 95/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪.95/1 ،‬‬
‫‪318‬‬
‫عناصر هذا العلم الذي تنطوي تحته الخصائص النوعية التي يتمايز بها الشعر عن‬
‫غيره‪،‬وال يعني العلم ما يقصده المعاصرون من إطالق كلمة العلم لتدل على ما يقابل‬
‫الفنون‪ ،‬ألن مفهوم العلم آنذاك كان » قرين صورة الشيء في العقل‪،‬وإدراك ما هو به‬
‫يعنى ـ على مستوى نقد الشعر ـ تحديد الخصائص النوعية للفن الشعري «‪.1‬‬
‫أن الجرجاني ابتدأ في حد الشعر بأنه » علم من علوم العرب «‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫فإنه نأى بعيداً عن تحديد الخصائص النوعية للشعر بوصفه وجوداً موضوعياً‪ ،‬واتجه‬
‫ليتحدث عن الخصائص التي ينبغي توافرها في الشاعر من أجل أن يبدع نصاً شعرياً‪،‬‬
‫وبذلك اتجه تحديده إلى ما يمكن تسميته بعلم النفس األدبي‪ ،‬والذي يبحث عن منشأ‬
‫اإلبداع ويكشف عن العوامل والدوافع السابقة إلبداع النص الشعري‪ ،‬يقول الجرجاني«إن‬
‫الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء‪ ،‬ثم تكون الدربة مادة له‪،‬‬
‫وقوة لكل واحد من أسبابه‪ ،‬فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز«‪.2‬‬
‫إن دوافع الشعر عند الجرجاني هي ‪ :‬الطبع‪ ،‬والذكاء‪ ،‬والرواية‪ ،‬والدربة‪ ،‬ومن‬
‫الواضح َّ‬
‫أن اثنين من هذه العوامل ـ الطبع والذكاء ـ يمثالن استعداد الشاعر بخواص تكاد‬
‫تقترب من مفهوم الفطنة لدى أبي حاتم الرازي ‪.‬‬
‫إن إرجاع الشعر إلى الطبع يعني أنه شيء فطري ينبع دون عناء أو تكلف‪ ،‬هذا‬
‫ما يوحيه مفهومه أول األمر‪ ،‬وبخاصة أن الطبع يعنى عند القدماء فيما يحدد ذلك أحد‬
‫الباحثين ـ بأنه » ملكة نفسانية أو قوة للنفس فاعلة تصدر عنها األفعال أو األعمال‬
‫أن الطبع عند الجرجاني بوصفه خاصية جوهرية في‬‫االختيارية صدو اًر تلقائياً « غير ّ‬
‫الشاعر ـ ال يعني إلهاماً أو فيضاً‪ ،‬ولكنه يرجع لشروط أخرى تجعله ينماز عن الفيض‪،‬‬
‫ألن الجرجاني يقصد به » الطبع المهذب الذي قد صقله األدب وشحذته الرواية‪ ،‬وجلته‬
‫الفطنة‪ ،‬وألهم الفصل بين الرديء والجيد‪ ،‬وتصور أمثلة الحسن والقبح«‪ ،3‬ومن الواضح‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪ 26‬ـ ‪.27‬‬


‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 25‬‬
‫‪319‬‬
‫أن الجرجاني يؤكد لوناً من اإللهام‪ ،‬ولكنه يقيده بأبعاد عقلية مما يجعله قاد اًر على التمييز‬
‫بين الحسن والقبيح‪ ،‬ويميز الرديء من الجيد‪ ،‬وكأن الجرجاني يعود إلى نمطه األوسط‬
‫الذي يوازن فيه بين المكونات واألبعاد‪ ،‬بعيداً عن اإلفراط والتفريط ‪.‬‬
‫أما حديث الجرجاني عن الرواية والدربة فهو حديث عن عنصرين مكتسبين‬
‫ينبغي للشاعر أن يعنى بهما لتعميق ثقافته الشعرية من ناحية‪ ،‬وصقل أدواته من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬فالرواية تعني تتبع األصول الشعرية حفظاً وتعلماً لطبيعة الفن من حيث تشكيله‬
‫وصياغته‪ ،‬وهو يدل على مقدار عناية الناقد بالمستوى الثقافي الذي يترك بصماته‬
‫إن تأكيد القاضي الجرجاني على الرواية ليس مقتص اًر على‬
‫الواضحة على إبداع الشعر‪ ،‬و ّ‬
‫إن الشعراء القدامى قد أفادوا‬
‫إن كانت حاجة المحدث إليه أمس ـ بل ّ‬
‫الشاعر المحدث ـ و ْ‬
‫إن أبا ذؤيب‬
‫إن الحطيئة راوية زهير‪ ،‬و ّ‬
‫منه‪ ،‬فلقد كان زهير بن أبي ُسلمى راوية أوس‪ ،‬و ّ‬
‫الهذلي راوية ساعدة بن جويرية‪.‬‬
‫أما الدربة فتعني ضرورة مران الشاعر في اإلبداع الشعري‪ ،‬فهي تساعده على‬
‫امتالك أدواته كاملة‪ ،‬وتمكنه من صنعته الفنية‪ ،‬وبهذا يكون للدربة دورها في إنضاج‬
‫أدوات الشاعر واكتمالها‪ ،‬وتتجلى مالمحها في المقارنة بين بواكير شعر شاعر ومراحل‬
‫نضجه إبان إتقانه صنعته واستكمال أدواته‪ ،‬ويكشف الجرجاني عن هذه الخاصية حين‬
‫يرو له غيرها‪ ،‬حيث يقول ‪:‬‬ ‫تصله من أشعار القبائل أبيات تنسب إلى رجل مجهول لم َ‬
‫«وكأن النفس تشهد أن مثلها ال يكون باكورة الخاطر‪ ،‬وال تسمح بها القريحة إال بعد الدربة‬
‫وطول الممارسة‪ ،‬ومن ذا يسمع قول الهذلي ‪:‬‬
‫َفْق ـ َـره‬ ‫قاص ٌـر‬ ‫مالك‬ ‫أبو‬

‫ِ‬
‫غناهُ‬ ‫ومشيع‬
‫ٌ‬ ‫نفسه‬ ‫على‬

‫‪320‬‬
‫مطواع ًة‬ ‫سدت‬ ‫ُس َد ْته‬ ‫إذا‬

‫كفاهُ‬ ‫إليه‬ ‫وكلت‬


‫َ‬ ‫ومهما‬

‫فيشك أنها لم تندر فلتة‪ ،‬وتصدر بغتة‪ ،‬وأن لها مقدمات سهلت سبيلها‪ ،‬وأخوات قربت‬
‫مأخذها« ‪.1‬‬
‫ويطالعنا أبو أحمد العسكري وهو يتحدث عن بالغة الشعر ويحددها بأربعة‬
‫عناصر‪ ،‬منها ما يتصل باللفظ‪ ،‬ومنها ما يتصل بالمعنى‪ ،‬ومنها ما يتصل بالنظم‪ ،‬ومنها‬
‫إن كان يحدد جانباً أساسياً من ماهية الشعر فإنه‬ ‫‪2‬‬
‫ما يتصل بالمعرض ‪ ،‬وهذا الحديث و ْ‬
‫يتحدث في الوقت نفسه عن جوانب قيمية تقترن بتحديد الماهية ‪.‬‬
‫ويحدد النظم جانباً من الخصائص النوعية للشعر الذي اشترط فيه أبو أحمد‬
‫العسكري االتساق‪ ،‬أي انتظاما في كيفية تركيبه‪ ،‬وتراص مفرداته‪ ،‬وهو ما يوحي بلون‬
‫إيقاعي معين‪ ،‬يتجاوز حدود الوزن المألوفة إلى مكونات إيقاعية أخرى‪ ،‬تتراكب فيها‬
‫إن اتساق النظم يمثل في الترتيب العنصر الثالث في‬ ‫األصوات اللغوية بكيفية معينة‪ّ ،‬‬
‫تحديد بالغة الشعر‪ ،‬وتتقدم عليه » عذوبة األلفاظ‪ ،‬وتقريب المعاني « وهذا أمر طبيعي‪،‬‬
‫إذ ال بد من تحديد المكونات األساسية‪ ،‬متمثلة في التصور النقدي ـ أساسا ـ باللفظ‬
‫أن مشكلة اللفظ والمعنى تمثل قضية جوهرية في التفكير النقدي لدرجة تمثل‬‫والمعنى‪ ،‬كما ّ‬
‫أحد أبرز المقومات لتحديد ماهية الشعر لدى العديد من النقاد ‪.3‬‬
‫ومن أجل أن تنسجم األلفاظ مع اتساق النظم من ناحية وتقريب المعاني من‬
‫أن تكون عذبة‪ ،‬والعذوبة وصف حسي ذوقي‪،‬‬ ‫ناحية ثانية اشترط لها أبو أحمد العسكري ْ‬
‫استعاره الناقد لأللفاظ‪ ،‬وكأنه يتحدث عن بعدها الصوتي الموسيقي‪ ،‬أما تقريب المعاني‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.161‬‬


‫‪ 2‬ـ أبو أحمد العسكري‪ ،‬في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ص ‪. 213‬‬
‫‪ 3‬ـ ينظر على سبيل المثال ‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪321‬‬
‫فإن الناقد يريد بها إيصال الداللة والتأثير في المتلقي‬
‫فعلى الرغم من قربها من األلفاظ‪ّ ،‬‬
‫ويعد‬
‫وال يقتصر األمر على هذا فال بد من رشاقة المعرض التي يقرنها أحيانا بالتشبيه‪ّ ،‬‬
‫ذلك جزءا من بالغة الشعر‪ ،‬وذلك في أثناء تحدثه عن براعة امرئ القيس في التشبيه ‪.‬‬
‫ولو ذهبنا مع الناقد للكشف عن خاصية تحتوي على هذه العناصر المختلفة‬
‫وهي ‪ :‬األلفاظ وعذوبتها‪ ،‬والمعاني وقربها‪ ،‬والنظم واتساقه‪ ،‬والمعرض ورشاقته‪ ،‬ألمكننا‬
‫أن الناقد يقسم البالغة إلى‬
‫القول‪ :‬إنها تكشف عن تحديد ما في لغة الشعر‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫إن المقارنة كائنة بين لغة الشعر التي ال يهدف الشاعر‬
‫قسمين في النظم والنثر‪ ،‬ولذلك ف ّ‬
‫من خاللها إلى التوصيل أساساً‪ ،‬وإنما إلى التشكيل‪ ،‬وبين لغة النثر التي يهدف مبدعها‬
‫من خاللها إلى التوصيل فحسب ‪ .‬هذا ما يراه الناقد‪ ،‬وهذا بحد ذاته تمايز له قيمته‪،‬‬
‫أن الناقد لم يكن يميز تماماً بين الفوارق التي تشتمل عليها لغة العلم ولغة الشعر ـ‬
‫صحيح ّ‬
‫وبخاصة أنه أدخل بعض موضوعات في ميدان النثر‪ ،‬كالكتابة‪ ،‬والرسائل‪ ،‬والخط‪ ،‬ألن‬
‫اللغة العلمية ـ كما يقول مؤلفا نظرية األدب ـ » لغة داللية محضة فهي تهدف إلى‬
‫أن تكون‬
‫التطابق الدقيق بين اإلشارة والمدلول « أما اللغة األدبية فإنها » بعيدة كل البعد ْ‬
‫إن لها جانبها التعبيري «‪.1‬‬
‫داللية فقط‪ ،‬إذ ّ‬
‫إن العناية السالفة قد ركزت على الجوانب الشكلية في االنتظام الخارجي للكلمات‬
‫في الوزن والقافية‪ ،‬أو ركزت على الخصائص والشروط التي ينبغي توافرها في‬
‫المبدع‪،‬سواء أكانت خصائص ذاتية كالطبع والفطنة والذكاء‪ ،‬أم كانت مكتسبة كالرواية‬
‫والدربة‪ ،‬وأخي اًر يعي الناقد خاصية جوهرية تحدد ماهية الشعر‪ ،‬وهي كامنة في لغته‪ ،‬أو‬
‫كيفية التشكيل اللغوي للشعر ‪.‬‬
‫وتتجلى بعض مالمح ماهية الشعر من خالل وعي التغاير الوظيفي للغة الشعر‪،‬‬
‫أن‬
‫فلغة الشعر ال ترجع إلى وظيفة توصيلية يراد منها توصيل المعاني فحسب‪ ،‬وإنما ْ‬
‫تكون لغة الشعر غاية بذاتها‪ ،‬ولذلك نجد الشريف المرتضى يعيب على ابن الرومي‬
‫طريقته في إيراد المعاني التي تتميز بطريقة تعليمية‪ ،‬يراد منها شرح المعنى وتوضيحه‬

‫‪ 1‬ـ رينيه ويليك‪ ،‬و وارين اوستن‪ ،‬نظرية األدب‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪322‬‬
‫وتوصيله للمتلقي‪ ،‬ويكمن العيب في شعر ابن الرومي ألنه » يورد المعنى ثم يأخذ في‬
‫شرحه في بيت آخر وإيضاحه وتشعيبه «‪.1‬‬
‫ويرى الشريف المرتضى في لغة الشعر أنها » تحمد فيها اإلشارة واالختصار‬
‫واإليماء إلى األغراض وحذف فضول القول « ‪ 2‬وهو بهذا يشير إلى الخاصية النوعية‬
‫ألن‬
‫للغة الشعر التي تتجاوز المماثلة في المحاكاة‪ ،‬وتتجاوز التحديد في داللة األلفاظ‪ّ ،‬‬
‫غاية الشاعر ليست التوصيل واإليضاح وإنما اإلشارة واإليماء‪ ،‬وهذا يعني استخداماً‬
‫أن قدرة الشاعر وإبداعه ليسا عائدين لقدرته في‬
‫خاصاً للغة وطريقة معينة في التخيل‪ ،‬أي ّ‬
‫االنتظام الخارجي للكلمات‪ ،‬قدر ما هما عائدان لقدرته في التشكيل والتصوير‪ ،‬وكأن‬
‫التصوير هو في ذاته قمة الشعر‪ ،‬أو أن عظمة الشعر هي في قدرته على التصوير‬
‫واستخداماته الخاصة لالستعارة‪. 3‬‬
‫وقد أوضح الشريف المرتضى قصده في أثناء تعرضه للمقارنة بين لغة الشعر‬
‫ولغة الفلسفة والمنطق‪ ،‬إذ تتميز لغة العلم والفلسفة بالتحدد‪ ،‬أي َّ‬
‫أن الفيلسوف والمنطقي‬
‫يتعامالن مع لغتهما تعامالً إشارياً‪ ،‬ويقصدان التوصيل ال غير‪ ،‬أما الشاعر فال يجب »أن‬
‫فإن ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه«‪.4‬‬
‫يؤخذ عليه في كالمه التحقيق والتحديد َّ‬
‫ويعود التمايز بين لغتي الشعر والعلم إلى تمايز وظيفي‪ ،‬ألن مهمة العلم‬
‫أن‬
‫التوصيل‪ ،‬وهذا يقتضي إيضاحاً‪ ،‬أو تحقيق اللفظ على المعنى‪ ،‬بلغة الناقد القديم‪ ،‬و ّ‬
‫مهمة الشعر تتجاوز التوصيل إلى التشكيل‪ ،‬وهذا ال يقتضي تحقيقاً للفظ على المعنى‪،‬‬
‫ولذلك وصف الشريف المرتضى الشعر بأنه » مبني على التجوز والتوسع واإلشارات‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬ص ‪.92‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 92‬‬
‫‪ 3‬ـ ‪Lewis ,The poetic image , p 17‬‬
‫‪ 4‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪.95/ 2 ،‬‬
‫‪323‬‬
‫الخفية واإليماء على المعاني تارة من بعد وأخرى من قرب ألنهم لم يخاطبوا بشعرهم‬
‫الفالسفة وأصحاب المنطق‪ ،‬وإنما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم « ‪.1‬‬
‫وفي ضوء هذا كله يمكننا تفسير مقوالت النقاد وأحكامهم النقدية بحق الشعراء‪،‬‬
‫أن الجرجاني‬ ‫‪2‬‬
‫فالمرزباني يعيب على ابن الرومي ألنه يخلط كالمه بألفاظ منطقية ‪ ،‬كما ّ‬
‫يعيب على أبي تمام تفلسفه في الشعر‪ ،‬ويرجع القبح لقضية توصيلية‪ ،‬إذ كيف تصور أبو‬
‫أن يتغزل وينسب‪ ،‬وأي حبيب يستعطف بالفلسفة«‪ 3‬وقد دفع هذا كله القاضي‬ ‫تمام » ْ‬
‫بأن » الشعر ال يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة‪ ،‬وال يحلى في‬
‫الجرجاني إلى القول ّ‬
‫الصدور بالجدل والمقايسة‪ ،‬إنما يعطفها عليه القبول والطالوة‪ ،‬ويقربه منها الرونق‬
‫والحالوة « ‪. 4‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.95/2 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ المرزباني‪ ،‬معجم الشعراء‪ ،‬ص ‪. 145‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪. 68‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪324‬‬
‫مهمة الشعر‬

‫(‪ )1‬الوظيفة التوصيلية ‪:‬‬

‫تُ ُّ‬
‫عد الوظيفة التوصيلية واحدة من أبرز الوظائف التي يؤديها الشعر‪ ،‬وقبل تناولنا‬
‫ألبعاد هذه الوظيفة ومكونـاتها ينبغي التمييز بين »اإلبانة « و» الوضوح « و«التوصيل»‪،‬‬
‫ألن هذه المصطلحات حين تتداخل تقود إلى نتائج غامضة ومعقدة‪ ،‬وكثي اًر ما نلتقي‬ ‫ّ‬
‫أن التوصيل‬‫بتصورات تجعل الوضوح قرين اإلبانة‪ ،‬واإلبانة قرينة التوصيل‪ ،‬ومن الواضح ّ‬
‫ألن الجذر الحقيقي للتوصيل هو إفهام المتلقي‪ ،‬وهذا ما يحققه‬
‫إنما يراد به مجرد اإلفهام‪ّ ،‬‬
‫أن األداء النمطي قد ينطوي على استعارات‬ ‫األداء النمطي للغة‪ ،‬ومن المفيد اإلشارة إلى ّ‬
‫فإن دراسة األداء النمطي ـ بوصفه‬
‫فقدت حيويتها‪ ،‬فتحولت إلى حقائق في األداء‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫أن تأخذ بعين االعتبار هذا التحول الذي يدرك في إطار سياقه‬
‫يهدف إلى اإلفهام ـ يجب ْ‬
‫وتطوره التاريخي ‪.‬‬
‫‪:‬والفيلسوف ـ فيما يشير إلى ذلك الشريف المرتضى ـ هو الذي أطلق عليه القدامى‬
‫«الحقيقة «‪ ،‬وهو يهدف إلى غاية واحدة هي ‪ :‬إفهام المتلقي وإيصال المعرفة اليه دون‬

‫أن يقترن التوصيل بالوضوح ّ‬


‫ألن تحقيق‬ ‫اللجوء إلى المجاز أو االستعارة‪ ،‬ومن الطبيعي ْ‬
‫هذه الغاية لو اقترن بالغموض لفقد خاصيته الجوهرية من أجل اإلفهام‪ ،‬ولذلك يمكن ْ‬
‫أن‬
‫يتداخل بعدا التوصيل والوضوح ليعب ار عن غاية محددة‪ ،‬وتنعكس آثارها على تحديد طبيعة‬
‫الشعر من ناحية‪ ،‬وتحديد قيمته من ناحية أخرى ‪.‬‬
‫أن يكون النص الشعري خالياً من كل أنواع‬ ‫إن الوظيفة التوصيلية تقود إلى ْ‬
‫ّ‬
‫الغموض والتعقيد‪ ،‬وتنـزع إلى عدم اختالط الدالالت وتشابكها‪ ،‬ولما كانت االستعارة‬
‫بطبيعة تركيبها وتفاعل عناصرها مع بعض‪ ،‬تقود إلى هذا اللون من تشابك الدالالت‬
‫فإن‬
‫أن تتنحى من أجل تحقيق هذه الوظيفة‪،‬ولذلك ّ‬
‫وغموض المعاني فإنه من الطبيعي ْ‬

‫‪325‬‬
‫أصحاب الوظيفة التوصيلية ينأون عن االستعارة ويميلون إلى التشبيه‪ ،‬لمحافظة األخير‬
‫على عنصريه مستقلين‪ ،‬ويتم من خاللهما عقد المقارنة بين أمرين ‪.‬‬
‫أن التشبيه يحافظ على‬
‫ويسهم التشبيه في تحقيق الوضوح بخاصة إذا أدركنا ّ‬
‫ألن التشبيه إنما هو عقد » على أن الشيئين‬
‫عنصريه مستقلين بسماتهما وخصائصهما‪ّ ،‬‬
‫يسد أحدهما مسد اآلخر في حس أو عقل«‪ 1‬ولذلك فهو مجال يتبارى فيه األدباء‪ ،‬ألنه‬
‫«يكسب الكالم بياناً عجيباً « فيما يرى ذلك الرماني الذي يتتبع وظائف التشبيه في إخراج‬
‫ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه‪ ،‬وإخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به‪،‬‬
‫وإخراج ما لم يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها‪ ،‬وإخراج ما ال قوة له في الصفة إلى ما له قوة‬
‫في الصفة‪ ،‬وهذا يقود في حقيقته إلى ضرورة اإليضاح ألنه يعني » االنتقال من الواضح‬
‫فإن النقلة من المعنوي‬
‫أو األقل وضوحا إلى األوضح ‪ . . .‬وما دام التوضيح هو األصل ّ‬
‫إلى الحسي تعني النقلة من المجهول إلى المعلوم‪ ،‬والحسي أوضح من المعنوي أللفة‬
‫النفس به وتعودها عليه منذ بداية وعيها بالعالم‪ ،‬أما النقلة من الحسي إلى المعنوي فإنها‬
‫بمثابة انتقال من معلوم إلى مجهول‪ ،‬وفي ذلك خروج عن األصل العام لإلبانة‬
‫والتوضيح« ‪.2‬‬
‫ومادامت الوظيفة التوصيلية تسعى إلى اإلفهام وضرورة إيصال المعنى إلى‬
‫أن تشتمل على قدر ما من الموضوعية‪ ،‬وتجعل العقل متحكماً إلى‬ ‫المتلقي‪ ،‬فمن الطبيعي ْ‬
‫حد كبير في كيفية األداء اللغوي وتحديد قيمته‪ ،‬ومن الطبيعي ْ‬
‫أن يميل الشعر إلى ألوان‬
‫أن ينطوي على المواعظ والنصائح بمعنى أنه ينأى عن كل ما هو متشابك‬
‫الحكمة و ْ‬
‫وغامض‪ ،‬ويميل إلى ما هو واضح محدد ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 74‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور ‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالعي ‪ ،‬ص ‪. 403‬‬

‫‪326‬‬
‫أن تكـون البـالغة مجرد » إفهام المعنى « أو »تحقيق اللفظ‬
‫ولقد رفض الرماني ْ‬
‫ألن إفهام المعنى يدل على أداء نمطي قد يوحي بغلبة السوقية عليه‪،‬‬ ‫على المعنى «‪1‬‬
‫ّ‬
‫ألنه يقرن اإلفهام بالتوصيل مجرداً‪ ،‬حتى لو كان التركيب مختال‪ ،‬ولذلك قال الرماني » قد‬
‫يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ واآلخر عيي « ‪ 2‬أما تحقيق اللفظ على المعنى فهو‬
‫العناية بأداء المعنى مجرداً دون االلتفات إلى كيفية صياغته‪ ،‬وينبغي ْ‬
‫أن أنبه إلى الفصل‬
‫أن الرماني على الرغم من عنايته البالغة بهذا الفصل فإنه‬
‫الحاد بين الدال والمدلول‪ ،‬غير ّ‬
‫يعنى بأهمية التشكيل‪ ،‬وما يؤديه من آثار في المتلقي من جهة إيقاع الكلمات واستثقال‬
‫وحداتها الصوتية‪ ،‬ولذلك أخرج »تحقيق اللفظ على المعنى « من البالغة‪ ،‬ألنه »قد يحقق‬
‫اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف « ‪.3‬‬
‫إن مفهوم » اإلبانة « لدى الرماني يعني طريقة ما في األداء اللغوي‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬
‫تعرض لهذا في أثناء تناوله لمفهوم االستعارة‪ ،‬وضرورة كونها تبين عن الداللة‪ ،‬ألن‬
‫»اإلبانة « التي نادى بها الرماني تخرج بالمفهوم من التوصيل والوضوح إلى أبعاد‬
‫تشكيلية ذات تأثير في المتلقي من جهة المعنى والصياغة في آن‪ ،‬ولو جاورنا بين‬
‫مفهومي »اإلبانة « في االستعارة ومفهوم البالغة التي تعني لديه » إيصال المعنى إلى‬
‫أن اإلبانة ال تعني » التوصيل « قدر ما‬
‫القلب في أحسن صورة من اللفظ « ألدركنا ّ‬
‫أن‬
‫ألن اإليضاح ال يعدو ْ‬
‫تعني تشكيالً لغوياً يتجاوز الدالالت المحددة لإلفهام والتوصيل‪ّ ،‬‬
‫يكون مجرد إدعاء في حالة االستعارة فيما يرى ريتشاردز‪ ،‬ألن االستعارة ليست » إال‬
‫وسيلة للتعبير عن موقف المتكلم عن الموضوع الذي يتحدث عنه أو من الجمهور الذي‬
‫يتحدث اليه «‪.4‬‬

‫‪ 1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪. 75‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪. 75‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ 4‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.309‬‬
‫‪327‬‬
‫وتتجاوز » اإلبانة « الداللة القاصرة التي تقرنها بالتوصيل من ناحية‪،‬‬
‫وباإليضاح والشرح من ناحية أخرى‪ ،‬ألن اإلبانة لو كان هدفها اإليضاح والشرح لكان‬
‫أن الرماني يجعل اإلبانة مقترنة‬
‫األداء النمطي أولى بها من األداء الفني‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫جني الذي يعي التفاوت بين األداءين لتدل‬
‫باألداء اإلستعاري‪ ،‬ويشاطره هذا الرأي ابن ّ‬
‫االستعارة على المبالغة في أداء المعاني ‪.‬‬
‫إن هذه النظرة تمثل وعياً طيباً لوظيفة النص الشعري‪ ،‬ولكنه وعي ال يزال‬
‫قاص اًر‪ ،‬وقد فرض هذا القصور التصور الذي يفصل بين اللفظ والمعنى‪ ،‬إضافة إلى‬
‫الفصل المنطقي بين األصول والفروع في مستويات األداء اللغوي‪ ،‬إذ تسيطر فكرة النقل‬
‫عن الحقيقة إلى المجاز‪ ،‬وهذا يهدف إلى تحقيق الغاية التي أطلق عليها الرماني » اإلبانة‬
‫«‪ ،‬ولكنه يجعل التركيب المجازي يتعايش ـ منطقياً ـ مع أصله في التركيب الحقيقي‪ ،‬إذ‬
‫يرجع الرماني ـ وأضرابه من علماء العربية ـ كل تركيب مجازي أو استعاري إلى حقيقة‬
‫بحيث يفقد التركيبان‪ ،‬المجازي واالستعاري‪ ،‬قيمتهما اإليحائية‪ ،‬بسبب إرجاع التركيب‬
‫الجديد إلى أصله المنتزع عنه‪ ،‬وبهذا ينشغل الذهن بالمقارنة المنطقية بين األصول‬
‫والفروع‪.‬‬
‫وتضع الوظيفة التوصيلية الشعر في ما يمكن تسميته بالنافع والمفيد‪ ،‬ليؤدي‬
‫الشعر دو اًر ما في الواقع‪ ،‬وفي سلوك اإلنسان‪ ،‬فالوظيفة التوصيلية إنما تحقق هذه الغايـة‬
‫فإن الشـعر » يثير في المتلقي انفعاالت من شأنها‬
‫النفعية المباشرة‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك ّ‬
‫أن تفضي إلى أفعال‪ ،‬فيوجه سلوك المتلقي ومواقفه وجهات خاصة تتفق واألغراض‬ ‫ْ‬
‫االجتماعية المباشرة للشعر‪ ،‬كنصرة عقيدة دينية أو كالمية‪ ،‬أو الدفاع عن مذهب سياسي‬
‫أو الدعاية لحاكم أو طبقة« ‪.1‬‬
‫أن الشعر ديوان‬‫ومن أجل هذا يطالعنا أبو حاتم الرازي مؤكداً المقولة الشهيرة ّ‬
‫العرب‪ ،‬ألنه يشتمل على قيمهم وأفكارهم وعاداتهم‪ ،‬وكأنه يؤدي هذه الوظيفة النفعية‬
‫المباشرة‪ ،‬وهي التي دفعت العرب إلى حفظ الشعر وروايته‪ ،‬ولذلك قيدوا في الشـعر ـ كما‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪.403‬‬
‫‪328‬‬
‫يرى ذلك أبـو حاتم الرازي ـ »المعاني الغريبة واأللفاظ الشاردة‪ ،‬فإذا أحوجوا إلى معرفة‬
‫معنى حرف مستصعب ولفظ نادر التمسوه في الشعر الذي هو ديوان لهم‪ ،‬متفق عليه‪،‬‬
‫مرضي بحكمه‪ ،‬مجتمع على صحة معانيه‪ ،‬وإحكام أصوله‪ ،‬محتج به على ما اختلف فيه‬
‫من معاني األلفاظ وأصول اللغة « ‪. 1‬‬
‫ويكشف أبو حاتم الرازي عن الوظيفة النفعية المباشرة وهو في معرض ثنائه على‬
‫ألن كالمهم » صار رياض ًة للمرتاضين وأدباً للمتأدبين‪،‬‬
‫الشعراء وشدة عناية الناس بهم‪ّ ،‬‬
‫واتخذت عليه الدواوين‪ ،‬ورغب فيه الملوك من الناس واستحسنته األمم كافة « ‪ 2‬ولكنه في‬
‫هذا التصور يعد مهماً باعتباره مصد اًر للمعرفة المنطقية‪.‬‬
‫فإن الشعراء من شأنهم‬
‫وإذا كان الشعر يؤدي هذا الدور في الواقع االجتماعي ّ‬
‫أن أبا حاتم الرازي‬
‫أن يرتقوا في المكانة االجتماعية‪ ،‬ويحتلوا قمة البناء االجتماعي لدرجة ّ‬
‫ْ‬
‫يرى أنه في العصر الجاهلي أصبحوا في مجتمعاتهم » بمنـزلة الحكام يقولون فيرضي‬
‫قولهم‪ ،‬ويحكمون فيمضي حكمهم‪ ،‬وصار ذلك فيه سنة يقتدى بها وإثارة يحتذى‬
‫عليها«‪،3‬أما على المستوى المعرفي في العصر الجاهلي فقد أصبح الشعراء المصدر‬
‫األول في المعرفة‪ ،‬ويؤكد ذلك أبو حاتم الرازي فيما يرويه عن األصمعي بأن الشـعراء‬
‫أن هذه القيمة أخذت بالتدهور‬ ‫‪4‬‬
‫كانوا » في الجاهلية بمنـزلة األنبياء في األمم « غير ّ‬
‫ألن القرآن الكريم ـ فيما يرى أبو حاتم الرازي ـ قد »‬
‫ألسباب عديدة‪ ،‬ومن أبرزها العقائدية‪ّ ،‬‬
‫أن القرآن الكريم يمثل المضاد المعرفي للمعرفة‬ ‫‪5‬‬
‫نـزل بتهجين الشعر وتكذيبه « كما ّ‬
‫أن كان الشعراء يمثلون قمماً معرفية متناثرة في الجزيرة العربية جاء اإلسالم‬
‫الشعرية فبعد ْ‬

‫‪ 1‬ـ ابو حاتم الرازي‪ ،‬الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية‪83/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 85/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪. 92/1 ،‬‬
‫‪ 4‬ـ نفسه‪. 95/1 ،‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪. 95/1 ،‬‬
‫‪329‬‬
‫وهو يقدم لوناً معرفياً جديداً ليس بإمكان الشعراء مجاراته‪ ،‬فضال عن اقتران ذلك كله ببعد‬
‫عقائدي وتهوين في قيمة الشعر إلى حد ما ‪.‬‬
‫وال يعنى هذا تقليالً من شأن الشعر والشعراء‪ ،‬ولكنه اقتران بما يحققه الشعر من‬
‫وظائف نافعة‪ ،‬ولذلك يستدرك أبو حاتم الرازي استثناء الشعراء المؤمنين ألنهم يحققون هذه‬
‫الوظيفة التي أشاد بها وهي »النفع والنصرة «‪.1‬‬
‫ويقرن أبو حاتم الرازي بين معرفة الشعر وقيمته من ناحية‪ ،‬ومكانة الشاعر من‬
‫ناحية ثانية‪ ،‬وصدق األداء من ناحية ثالثة‪ ،‬فالشعر مهما قيل في أنه ينطوي على أبعاد‬
‫معرفية متميزة في العصر الجاهلي‪ ،‬فهو ال يشتمل على الحق الذي يضاد المعرفة‬
‫أن القرآن الكريم قد قلل من قيمة الشعر وأهميته‪ ،‬ومن هنا جاء التفاوت‬
‫اإللهية‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫أن الشعر ال يخلو من تحقيق منافع معينة يشير اليها‬
‫الواضح بين البعدين‪ ،‬وال يعني هذا ّ‬
‫أبو حاتم الرازي صراحة في أثناء تعرضه لرغبة الملوك » في اصطناع الشعراء لما وجدوا‬
‫أن خلطوا‬
‫في الشعر من المنافع فأعطوهم الهبات الرغيبة والعطايا السنية‪ ،‬فدعاهم ذلك ْ‬
‫الباطل بالحق‪ ،‬وشابوا الكذب بالصدق‪ ،‬فقالوا في الممدوح فوق ما كان فيه‪ ،‬وقرظوه بما‬
‫ليس له بأهل«‪ 2‬إذن فوظيفة الشعر تهدف إلى تحقيق منافع سياسية مباشرة يوظف فيها‬
‫الشعراء قصائدهم من أجلها‪ ،‬فقلل هذا المنحى من قيمتهم لدى الناقد بسبب أبعاد أخالقية‬
‫ومعرفية في آن واحد‪.‬‬
‫ويكشف الناقد من زاوية أخرى عن أثر الشعر في المتلقي وبخاصة في المدح والهجاء‪،‬‬
‫أن »المدح والهجاء يعمل‬
‫ولذلك الحظ عناية الخلفاء واألمراء بالشعر والشعراء العتقادهم ّ‬
‫في النفوس ويخلد على الدهر‪ ،‬ويصير الهجاء سبة على الخلف‪ ،‬والمدح منقبة‪ ،‬ويعمل‬
‫في العظام البالية « ‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ نفسه‪.100/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪. 98/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ نفسه‪.112/1 ،‬‬
‫‪330‬‬
‫ان الناقد‬
‫ولم يكن النفع والنصرة مقترنين باألبعاد العقائدية والسياسية فحسب‪ ،‬بل ّ‬
‫يرجع قيمة الشعر ووظائفه إلى مقومات أخالقية بفعل التأثر باآليات القرآنية الكريمة‬
‫واألحاديث النبوية التي تحث على هذه القيم‪ ،‬إلى حد تصبح فيه المقومات األخالقية‬
‫معيا اًر يحكم به على الشعر والشاعر‪ ،‬وكأن الشعر يمثل وثيقة تاريخية لسيرة الشاعر‪،‬‬
‫ولذلك ينقل المرزباني أنه قد عيب على امرئ القيس فجوره وعهره ‪.1‬‬
‫أن النافع إنما يسعى إلى تحقيق أبعاد اجتماعية وتربوية‬
‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫وتحدث تأثي اًر في الوعي اإلنساني‪ ،‬يعقبه سلوك معين‪ ،‬وفي ضوء هذا تتحدد القيمة ال‬
‫بمقدار ما يحققه النص الشعري من أبعاد جمالية وفنية‪ ،‬وإنما بمقدار ما يتركه من آثار‬
‫في المتلقي‪ ،‬وما يحدثه من تغيرات تربوية في الواقع االجتماعي‪ ،‬وال نستغرب دعوة الناقد‬
‫أن تصب أبعادها في روافد‬
‫إلى الوضوح والصدق‪ ،‬أو دعوته إلى محاكاة الحقيقة شريطة ْ‬
‫ألن هذه العناصر تسهم في إيصال النص الشعري إلى‬ ‫األبعاد األخالقية والتربوية‪َّ ،‬‬
‫المتلقي وإحداث التأثير فيه ‪.‬‬
‫ولم يستطع الناقد العربي تجاوز هذه األبعاد إلى تصور يعنى بالوظيفة المعرفية‬
‫لألدب‪ ،‬هذه الوظيفة التي يتوازى فيها األدب مع أنماط المعرفة األخرى كالفلسفة والتاريخ‬
‫والعلوم‪ ،‬وجميعها لها هدف متشابه‪ ،‬وهو تقديم دراية بالواقع في الماضي‪ ،‬وفي التغيرات‬
‫التي تحدث في الحاضر‪ ،‬وأبعاد احتماالت المستقبل‪ ،‬وكل من هذه األنماط له عنصر‬
‫أن الخبرة التي نحصل عليها من خالل‬ ‫االنفراد في طريقته لتتبع هذا الهدف‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫إن األدب أحد‬
‫األدب يمكن أن تعتبر تتمة للمعرفة التي نصل إليها بالوسائل العقلية‪ ،‬و ّ‬
‫الوسائل التي تساعدنا على فهم العالم وأنفسنا على السواء ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ المرزباني‪ ،‬الموشح‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫‪331‬‬
‫(‪ )2‬الوظيفة التزينية ‪:‬‬

‫فإن الجميل يهدف لتحقيق لون من‬ ‫وإذا كان النافع يسعى إلحداث التأثير ّ‬
‫المتعة‪ ،‬فهو » ال ُيعنى كثي اًر بتوجيه سلوك المتلقي أو مواقفه‪ ،‬فال يقدم إال نوعاً شكلياً من‬
‫‪1‬‬
‫المتعة هي غاية في ذاتها‪ ،‬وليست وسيلة ألية غاية أخرى « ولذلك ّ‬
‫فإن الناقد يحاول‬
‫التنصل من أية وظيفة اجتماعية أو تربوية‪ ،‬ويكون تمرده أول األمر على الوظيفة‬
‫األخالقية بوصفها أبرز الوظائف وأكثرها وضوحاً وظهو ار لدى المتلقي ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم على األصول األخالقية وضرورة توافرها في‬
‫النص الشعري فإن النقد العربي نأى بعيداً عن هذا المضمار لدرجة فصل بين الفني‬
‫واألخالقي‪ ،‬ولعل اقتران الشعر بالمعطيات األخالقية والتربوية إنما يقلل من شأنه ومن‬
‫قيمته‪ ،‬وإذا كان هذا شأن الشعراء فإن النقاد لم يكونوا » منعزلين عن الشعراء فوقفوا‬
‫بجانبهم‪ ،‬ولم يتخذوا من الدين واألخالق أساساً يرفعون به شاع اًر ويخفضون آخر‪،‬‬
‫واستبعدوا الخيرية في ميدان الحكم النقدي‪ ،‬وربما أروا منـزع الشر أقرب إلى طبيعة الشعر‪،‬‬
‫أو أنه على األقل مما يحسن به فن الشعر « ‪.2‬‬
‫وفي ضوء هذا تكون قيمة النص ووظيفته ليستا محددتين بأبعاد خارج النص‬
‫الشعري‪ ،‬وإنما ترجعان إلى شكله والى كيفية الصناعة التي يحدثها الشـاعر في تراكيـبه‬
‫أن الناقد »يهتم بالعمل الفني في ذاته ال بالنتائج التي‬
‫واستعاراته وتشبيهاته‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫ولعل األصمعي من قدامى من ذهب إلى‬ ‫ترتبت عليه‪ ،‬والتي تقع خارجه «‪.3‬‬
‫الفصل الحاد بين الفني واألخالقي‪ ،‬ومقولته مشهورة في أثناء تعرضه لمقارنة قصائد‬

‫‪ 1‬ـ جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬ص ‪. 402‬‬
‫‪ 2‬ـ عز الدين اسماعيل‪ ،‬األسس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬ص ‪.185‬‬
‫‪ 3‬ـ ريتشاردز‪ ،‬مباديء النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪332‬‬
‫حسان بن ثابت الجاهلية واإلسالمية التي يقول فيها ‪» :‬طريق الشعر إذا أدخلته في باب‬
‫الن « ‪ . 1‬وقد سبق أن تناولنا هذا في أثناء دراستنا لمبحث القيمة‪.‬‬
‫الخير َ‬
‫وإذا كان األصمعي من قدامى من فصل بين القيمة الشعرية والقيمة األخالقية‬
‫فإن هذا مهد السبيل لواحد من نقادنا في القرن الرابع الهجري ليؤكد ما ذهب إليه‬
‫األصمعي‪ ،‬ولكي يرجع القيمة إلى خاصية كائنة في النص الشعري‪ ،‬سواء أعبر النص‬
‫الشعري عن قيمة أخالقية أم لم يعبر‪ ،‬وسواء أكان صاحبه سيء االعتقاد أم صحيحه‪ ،‬بل‬
‫أن »الدين بمعزل عن الشعر « ‪.2‬‬
‫انه يؤكـد ّ‬
‫إن الفصل الحاد بين الدين والشعر قد أتاح للنقاد إرجاع الوظيفة والقيمة على‬
‫السواء إلى مكونات في النص الشعري‪ ،‬وليس مرجعهما إلى مقومات خارجه‪ ،‬كاالعتقاد‬
‫ألن من يتأمله‬
‫واألخالق مثالً‪ ،‬ولذلك رأينا من يؤكد هذا التصور في النقد العربي القديم ّ‬
‫لن يجد فيه» ما يشير إلى اعتناق النقاد لذلك المذهب التعليمي الذي يربط الشعر بغايات‬
‫أن المقاييس التي كان‬
‫أخالقية محددة‪ ،‬ولكنه يجد فيه ما يشير إلى عكس ذلك‪ ،‬والحق ّ‬
‫يقوم عليها نقد الشعر مقاييس فنية خالصة في عمومها‪ ،‬أما األخالق التي كانت تعني في‬
‫نظرهم التعاليم الدينية واألهداف التعليمية فقد كانت خارجة عن مهمة الشعر « ‪ 3‬ولهذا‬
‫الرأي ما يعززه في التراث النقدي بوضوح وجالء لدى األصمعي وأبي بكر الصولي وابن‬
‫جني والجرجاني مما سبق تناوله ‪.‬‬
‫ونحى جانباً القيم األخالقية‪ ،‬وهو لم يستطع‬
‫إن الناقد قد انحاز للقيم الجمالية‪ّ ،‬‬
‫أن القيم‬
‫أن يكشف عن التفاوت بين هذين المستويين من القيم بمعنى أنه لم يدرك » ّ‬ ‫ْ‬
‫أن القيم األخالقية قيم سلبية‬
‫الجمالية ‪ . . .‬قيم إيجابية‪ ،‬تمدنا بلذات حقيقية‪ ،‬في حين ّ‬
‫تقتصر مهمتها على اجتناب األلم ومحاربة الشر ‪ . . .‬فالقيم الجمالية إنما تحمل قيمتها‬

‫‪ 1‬ـ األصمعي‪ ،‬فحولة الشعراء‪ ،‬ص ‪. 42‬‬


‫‪ 2‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ 3‬ـ محمود الربيعي‪ ،‬في نقد الشعر‪،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪333‬‬
‫أن ما عداها من القيم إنما هي »أدوات« أو » وسائط « تطلب في‬
‫في ذاتها‪،‬في حين ّ‬
‫العادة لغايات أو مقاصد«‬
‫وإذا كان النافع يفترض فيه الوضوح والصدق‪ ،‬ويكون التشبيه أبرز أدواته من‬
‫فإن الجميل يعنى بزينة‬‫أجل غ ازرة في الموضوعية‪ ،‬وتدخل العقل في تحديد مقوماته‪ّ ،‬‬
‫الشكل‪ ،‬ويسعى إلى إحداث تأثير االنبهار والمتعة في المتلقي بطريقة اإليحاء واإلشارة‪،‬‬
‫ولذلك ألفينا من النقاد من يشترط أن ينطوي النص الشعري على مجازات واستعارات ّ‬
‫ألن‬
‫»الكالم متى خال من االستعارة وجرى كله على الحقيقة كان بعيداً عن الفصاحة برياً من‬
‫أن‬ ‫‪1‬‬
‫البالغة « ويستشهد الشريف المرتضى على هذا بالقرآن الكريم إضافة إلى تأكيده ّ‬
‫«كالم العرب وحي وإشارات واستعارة «‪.2‬‬
‫إن الشعر ينأى‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬عن الموضوع إلى ضرب من الغموض‪ ،‬وتكون‬ ‫ّ‬
‫أبرز أدواته االستعارة‪ ،‬ويهدف الشاعر إلى إحداث أثر يمتع المتلقي ويحبب اليه الشعر‪،‬‬
‫ولن تكون وظيفة الشعر توصيلية‪ ،‬وإنما يراد بها تزيين النص الشعري‪ ،‬وإحداث المتعة‬
‫واالنبهار للمتلقي‪ ،‬ولذلك تكون العناية بالـغة بالشكل دون المضمون‪ ،‬فالشـعر ـ فيما يرى‬
‫الجرجاني ـ » ال يحبب إلى النفوس بالنظرة والمحاجة وال يحلى في الصدور بالجدال‬
‫والمقايسة‪ ،‬وإنما يعطفها عليه القبول الطالوة‪ ،‬ويقربها منها الرونق والحالوة‪ ،‬وقد يكون‬
‫الشيء متقناً محكماً‪ ،‬وال يكون حلواً مقبوالً‪ ،‬ويكون جيداً وثيقاً‪ ،‬وإن لم يكن لطيفاً‬
‫رشيقاً «‪. 3‬‬
‫أن » الجميل « إنما يرجع وظيفة الشعر إلى زينة كائنة‬
‫ونخلص من هذا إلى ّ‬
‫في النص الشعري‪ ،‬ليتأتى دور الشاعر والناقد في إظهار براعتهما في الكشف عن‬
‫العناصر الجمالية التي تولد المتعة واالنبهار لدى المتلقي‪ ،‬من جهة صياغة الشعر وتمايز‬
‫لغته ع ن مستويات األداء النمطي‪ ،‬إضافة إلى العناية البالغة باأللوان البالغية المعروفة‬

‫‪ 1‬ـ الشريف المرتضى‪ ،‬األمالي‪. 4/1 ،‬‬


‫‪ 2‬ـ نفسه‪.4/1 ،‬‬
‫‪ 3‬ـ الجرجاني‪ ،‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪334‬‬
‫التي تحقق هذه المتعة‪ ،‬سواء أكانت تشتمل على إحداث انبهار معرفي فني كاالستعارة‪ ،‬أم‬
‫تنطوي على إحداث انبهار شكلي كالجناس والطباق ‪.‬‬

‫‪335‬‬
336
‫الخاتمة‬

‫‪337‬‬
338
‫لقد تركت المعتزلة اثا ار ايجابية على مجمل التفكير العربي ‪ /‬االسالمي ‪ ،‬ولقرون‬
‫طويلة ‪ ،‬وما زالت اثارها قائمة الى االن ‪ ،‬لكونها استخدمت العقل اداة اساسية في فهم‬
‫العالم والمجتمع واالنسان ‪ ،‬وقد وضعت كثي ار من االفكار موضع التساؤل ‪ ،‬وتجرأت‬
‫فطرحت افكا ار متقدمة على زمانها ‪ ،‬وحين يتعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي ـ‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية ـ تتبنى الدليل العقلي وتعمد الى تأويل الدليل النقلي ‪.‬‬
‫وكانت اثارها على الدرسين االدبي والنقدي جلية الى حد كبير ‪ ،‬ولقد كان هناك‬
‫من المعتزلة كتاب كبار في العلوم المختلفة ‪ ،‬يكفي ان نشير الى الجاحظ ـ مثال ـ فضال‬
‫عن كبار المكلمين ـ كالقاضي عبد الجبار بن احمد ـ ‪ ،‬وال يخفى ان المعتزلة ارست‬
‫مفاهيم نقدية ـ كالمجاز مثال ـ على اسس واصول تجاوزت فيها كثي ار من الفهم السطحي‬
‫والظاهري الساذج ‪.‬‬
‫ولم يكن الخطاب النقدي الذي اعتمدته مختصا بجانب من جوانب العملية النقدية‬
‫‪ ،‬بل شملت مجمل العملية االبداعية والنقدية ‪ ،‬وارست اسسا متميزة لجماليات االنظمة‬
‫اللغوية المختلفة ‪ :‬صوتية ‪ ،‬وصرفية ‪ ،‬ونحوية ‪ ،‬وداللية ‪.‬وكذا االمر لقضايا الدرس‬
‫البالغي الذي كان اساسا ومهادا النجازات علماء الحقين في قرون اخرى ‪ ،‬كعبد القاهر‬
‫الجرجاني ‪ ،‬وبخاصة في كتابيه ‪ ،‬اسرار البالغة ودالئل االعجاز ‪.‬‬
‫وتواشعت اثارها في لغة الشعر والصورة الشعرية وبناء القصيدة ‪ ،‬بحيث كان‬
‫العناية بالمفردة اللغوية مستقلة وفي سياقها اللغوي ‪ ،‬وكذا االمر في الصورة الشعرية ‪،‬‬
‫كونها تعتمد المتخيل الشعري ‪ ،‬فضال عن بناء القصيدة ‪.‬‬

‫وقد ارست فرقة المعتزلة اصوال متقدمة في جمالية المثال االعلى في الفنون‬
‫والشعر ‪ ،‬فضال عن تحديد مساقات جديدة لماهية الشعر ومهمته ‪.‬‬

‫‪339‬‬
340
‫المصادر والمراجع‬

‫‪341‬‬
342
‫أوالً ‪:‬المصادر ‪:‬‬

‫الجرجاني » علي بن عبد العزيز « ‪:‬‬


‫الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد‬ ‫‪‬‬

‫البجاوي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،‬‬
‫‪ 1386‬هـ ـ ‪ 1966‬م‬
‫ابن جني » أبو الفتح عثمان بن جني « ‪:‬‬
‫تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد واألمين‪ ،‬تحقيق‬ ‫‪‬‬

‫محمد بهجة األثري‪ ،‬مطبوعات مجمع اللغة العربية‪ ،‬دمشق‪ 1400 ،‬هـ ـ ‪1979‬م‬
‫التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري‪ ،‬تحقيق أحمد ناجي‬ ‫‪‬‬

‫القيسي‪ ،‬وخديجة الحديثي‪ ،‬وأحمد مطلوب‪ ،‬ومراجعة مصطفى جواد‪ ،‬مطبعة‬


‫العاني‪ ،‬بغداد‪ 1383 ،‬هـ ـ ‪ 1962‬م‬
‫الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬دار الكتب المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1952 ،‬ـ‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1956‬م ‪.‬‬
‫سر صناعة اإلعراب‪ ،‬الجزء األول تحقيق مصطفى السقا ومحمد الزفزاف‪ ،‬وعبد‬ ‫‪‬‬

‫هللا أمين‪ ،‬دار إحياء التراث القديم‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪ 1374 ،‬هـ ـ‬
‫‪ 1954‬م ‪.‬ومخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم ‪ 120‬لغة ‪.‬‬
‫العروض‪ ،‬نسخة خطية مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫جامعة الدول العربية‪ ،‬تحت رقم ‪ 17‬عروض وقو ٍ‬
‫اف ‪.‬‬
‫الفتح الوهبي على مشكالت المتنبي‪ ،‬تحقيق محسن غياض‪ ،‬دار الحرية للطباعة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫بغداد‪ 1973 ،‬م ‪.‬‬


‫الفسر الصغير » شرح ديوان المتنبي « مخطوطة دار الكتب المصرية‪ ،‬تحت رقم‬ ‫‪‬‬

‫‪ 23‬أدب ‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫الفسر الكبير » شرح ديوان المتنبي « تحقيق صفاء خلوصي‪ ،‬دار الجمهورية‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫بغداد‪ 1389 ،‬هـ ـ ‪ 1969‬م ومخطوطة معهد المخطوطات العربية‪ ،‬جامعة الدول‬
‫العربية‪ ،‬تحت رقم ‪ 526‬أدب‬
‫المبهج في تفسير أسماء شعراء ديوان الحماسة‪ ،‬مكتبة القدس‪ ،‬دمشق‪1348 ،‬هـ‬ ‫‪‬‬

‫المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها‪ ،‬تحقيق علي النجدي‬ ‫‪‬‬

‫ناصف‪ ،‬وعبد الحليم النجار‪ ،‬وعبد الفتاح اسماعيل شلبي‪ ،‬المجلس األعلى‬
‫للشئون اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪ 1386 ،‬هـ ـ ‪ 1966‬م ـ ‪ 1389‬هـ ـ ‪ 1969‬م ‪.‬‬
‫المنصف‪ ،‬شرح كتاب التصريف للمازني‪ ،‬تحقيق إبراهيم مصطفى‪ ،‬وعبد هللا‬ ‫‪‬‬

‫أمين‪ ،‬دار إحياء التراث القديم‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪ 1954 ،‬م ‪.‬‬
‫مختصر القوافي‪ ،‬تحقيق حسن شاذلي فرهود‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪ 1395 ،‬هـ ـ‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1975‬م‬
‫الرازي » أحمد بن حمدان « ‪:‬‬
‫الزينة في الكلمات اإلسالمية العربية‪ ،‬تحقيق حسين بن فيض هللا الهمداني‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫نشرت الجزء األول دار الكتاب العربي بمصر‪ 1957 ،‬م‪ ،‬ونشرت الجزء الثاني‪،‬‬
‫مطبعة الرسالة‪ ،‬القاهرة‪ 1958 ،‬م ‪.‬‬
‫الرماني » علي بن عيسى « ‪:‬‬
‫الحدود في النحو‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل في النحو واللغة « تحقيق مصطفى‬ ‫‪‬‬

‫جواد‪ ،‬ويوسف يعقوب مسكوني‪ ،‬دار الجمهورية‪ ،‬بغداد‪ 1969 ،‬م ‪.‬‬
‫منازل الحروف‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل في النحو واللغة « تحقيق مصطفى جواد‬ ‫‪‬‬

‫ويوسف يعقوب مسكوني‪ ،‬دار الجمهورية‪ ،‬بغداد‪ 1969 ،‬م ‪.‬‬


‫النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن كتاب » ثالث رسائل في إعجاز القرآن « تحقيق‬ ‫‪‬‬

‫محمد خلف هللا‪ ،‬ومحمد زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬د ‪.‬ت ‪.‬‬
‫الشريف المرتضى » علي بن الحسين الموسوي « ‪:‬‬
‫أمالي المرتضى » غرر الفوائد ودرر القالئد « تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1373 ،‬ه ـ ‪1954‬م ‪.‬‬
‫‪344‬‬
‫ديوان الشريف المرتضى‪ ،‬تحقيق رشيد الصفار‪ ،‬مراجعة مصطفى جواد‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬

‫إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1958 ،‬م ‪.‬‬
‫الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بيروت‪ 1982 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫طيف الخيال‪ ،‬تحقيق حسن كامل الصيرفي‪ ،‬ومراجعة إبراهيم اإلبياري‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪‬‬

‫الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1381 ،‬هـ ـ ‪ 1962‬م ‪.‬‬
‫الصاحب بن عباد » إسماعيل بن عباد « ‪:‬‬
‫اإلقناع في العروض وتخريج القوافي‪ ،‬تحقيق محمد حسن آل ياسين‪ ،‬مطبعة‬ ‫‪‬‬

‫المعارف‪ ،‬بغداد‪ 1379 ،‬هـ ـ ‪ 1960‬م ‪.‬‬


‫الكشف عن مساوئ المتنبي‪ ،‬ضمن كتاب » اإلبانة عن سرقات المتنبي «‬ ‫‪‬‬

‫للعميدي‪ ،‬تحقيق إبراهيم الدسوقي البساطي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪. 1961 ،‬‬
‫عبد الجبار بن أحمد » قاضي القضاة المعتزلي « ‪:‬‬
‫تنـزيه القرآن عن المطاعن‪ ،‬الشركة الشرقية للنشر والتوزيع‪ ،‬ودار النهضة‬ ‫‪‬‬

‫الحديثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ‪.‬ت ‪.‬‬


‫شرح األصول الخمسة‪ ،‬بتعليق األمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم‪ ،‬تحقيق‬ ‫‪‬‬

‫عبد الكريم عثمان‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪1965 ،‬م‬


‫فضل االعتزال وطبقات المعتزلة ومباينتهم لسائر المخالفين‪ ،‬تحقيق فؤاد سيد‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫الدار التونسية للنشر‪ 1974 ،‬م ‪.‬‬


‫متشابه القرآن‪ ،‬تحقيق عدنان محمد زرزور‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪ 1966 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫المختصر في أصول الدين‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد « تحقيق‬ ‫‪‬‬

‫محمد عمارة‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬القاهرة‪ 1971 ،‬م ‪.‬‬


‫المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬حقق بإشراف طه حسين وإبراهيم مدكور‪ ،‬و ازرة‬ ‫‪‬‬

‫الثقافة واإلرشاد القومي مصر‪ 1960 ،‬م ـ ‪ 1965‬م‪ ،‬واألجزاء التي أفاد منها‬
‫البحث هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬الجزء الرابع » رؤية الباري « تحقيق محمد مصطفى حلمي وأبو الوفاء‬
‫التفتازاتي‪1965 ،‬م ‪.‬‬
‫‪345‬‬
‫‪ -2‬الجزء الخامس » الفرق غير اإلسالمية « تحقيق محمود محمد‬
‫الخضيري‪1962 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -3‬الجزء السادس » التعديل والتجوير« تحقيق أحمد فؤاد األهواني‪1962 ،‬م‬
‫‪ -4‬الجزء السابع » خلق القرآن « تحقيق إبراهيم اإلبياري‪ 1961 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -5‬الجزء الثامن » المخلوق « تحقيق توفيق الطويل‪ ،‬وسعيد زايد د‪ .‬ت ‪.‬‬
‫‪ -6‬الجزء التاسع » التوليد « تحقيق توفيق الطويل‪ ،‬وسعيد زايد‪ 1964 ،‬م‬
‫‪ -7‬الجزء الحادي عشر » التكليف « تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬وعبد الحليم‬
‫النجار‪. 1965 ،‬‬
‫‪ -8‬الجزء الثاني عشر » النظر والمعارف « تحقيق إبراهيم مدكور‪1962 ،‬م‬
‫‪.‬‬
‫‪ -9‬الجزء الثالث عشر » اللطف « تحقيق أبو العال عفيفي‪ 1962 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -10‬الجزء الرابع عشر » األصلح ـ استحقاق الذم ـ التوبة « تحقيق‬
‫مصطفى السقا‪ 1965 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -11‬الجزء الخامس عشر » التنبؤات والمعجزات « تحقيق محمود‬
‫الخضيري‪ ،‬ومحمود قاسم‪ 1965 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -12‬الجزء السادس عشر‪ » ،‬إعجاز القرآن « تحقيق أمين الخولي‪،‬‬
‫‪1960‬م ‪.‬‬
‫العسكري » أبو أحمد الحسن بن عبد هللا «‪:‬‬
‫في التفضيل بين بالغتي العرب والعجم‪ ،‬ضمن مجموعة من الرسائل تحت عنوان‬ ‫‪‬‬

‫» التحفة البهية والطرفة الشهية « مطبعة الجوانب‪ ،‬قسطنطينية‪1302 ،‬هـ‬


‫المصون في األدب‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬دائرة المطبوعات والنشر‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫الكويت‪ 1960 ،‬م ‪.‬‬


‫المرزباني » محمد بن عمران « ‪:‬‬
‫معجم الشعراء‪ ،‬تحقيق عبد الستار أحمد فراج‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى‬ ‫‪‬‬

‫البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪. 1960 ،‬‬


‫‪346‬‬
‫الموشح‪ ،‬مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر‪ ،‬تحقيق‬ ‫‪‬‬

‫علي محمد البجاوي‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪1965 ،‬‬


‫نور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة واألدباء والشعراء والعلماء‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫تحقيق رودلف زلهايم‪ ،‬دار فرانتس شتاينر‪ ،‬فيسبادن‪ 1384 ،‬هـ ـ ‪ 1964‬م‬

‫ثانيا ‪ :‬المراجع العربية ‪:‬‬


‫إبراهيم أنيس ‪:‬‬
‫داللة األلفاظ‪ ،‬مطبعة لجنة البيان العربي‪ ،‬القاهرة‪ 1963 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫موسيقى الشعر‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1965 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫إبراهيم سالمة ‪:‬‬


‫بالغة أرسطو بين العرب واليونان‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪1950 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫إحسان عباس ‪:‬‬


‫تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن‬ ‫‪‬‬

‫الهجري‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬


‫أحمد مختار عمر ‪:‬‬
‫دراسة الصوت اللغوي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أحمد مطلوب ‪:‬‬


‫اتجاهات النقد األدبي في القرن الرابع للهجرة‪ ،‬وكالة المطبوعات‪ ،‬الكويت‪1973 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫م‪.‬‬
‫أدونيس »علي أحمد سعيد « ‪:‬‬
‫الثابت والمتحول » بحث في االتباع واإلبداع عند العرب « دار العودة‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1983‬م ‪.‬‬
‫صدمة الحداثة‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪. 1983 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪347‬‬
‫األصمعي » عبد الملك بن قريب « ‪:‬‬
‫فحولة الشعراء‪ ،‬تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬وطه أحمد الزيني‪ ،‬المطبعة‬ ‫‪‬‬

‫المنيرية‪ ،‬القاهرة‪. 1953 ،‬‬


‫البير نصري نادر ‪:‬‬
‫فلسفة المعتزلة‪ ،‬فالسفة اإلسالم األسبقين‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مطبعة دار نشر الثقافة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫اإلسكندرية‪ ،‬د ‪ .‬ت‪ ،‬والجزء الثاني‪ ،‬مطبعة الرابطة‪ ،‬د ‪ .‬م‪ 1951 ،‬م ‪.‬‬
‫إلفت كمال الروبي ‪:‬‬
‫نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد‪ ،‬دار التنوير‬ ‫‪‬‬

‫للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ 1983 ،‬م ‪.‬‬


‫أمين الخولي ‪:‬‬
‫مناهج تجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪1961 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫ايليا حاوي ‪:‬‬


‫في النقد واألدب‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت‪1979 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫بدوي طبانة ‪:‬‬


‫أبو هالل العسكري ومقاييسه البالغية والنقدية ‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1960‬م ‪.‬‬
‫تامر سلوم ‪:‬‬
‫نظرية اللغة والجمال في النقد العربي‪ ،‬دار الحوار‪ ،‬الالذقية ـ سوريا‪ 1983 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫تمام حسان ‪:‬‬


‫األصول‪ ،‬دراسة ابيستمولوجية ألصول الفكر العربي‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1981‬‬
‫جابر عصفور ‪:‬‬
‫تعارضات الحداثة‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬العدد األول‪ ،‬أكتوبر‪1980 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1974‬م‬
‫‪348‬‬
‫مفهوم الشعر‪ ،‬دراسة في التراث النقدي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1978‬م ‪.‬‬
‫الجاحظ » أبو عثمان عمرو بن بحر « ‪:‬‬
‫البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ 1968 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الحيوان‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1965 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الجرجاني » السيد الشريف علي بن محمد « ‪:‬‬


‫التعريفات‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪ 1971 ،‬م ‪.‬‬
‫حسام النعيمي ‪:‬‬
‫الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني‪ ،‬و ازرة األعالم العراقية‪ ،‬بغداد‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1980‬‬
‫حسين نصار ‪:‬‬
‫القافية في العروض واألدب‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1980 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫حمادي صمود ‪:‬‬


‫التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬أسسه وتطوره حتى القرن السادس‪ ،‬مشروع قراءة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫منشورات الجامعة التونسية‪ ،‬تونس‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬


‫الخطيب التبريزي » يحيى بن علي « ‪:‬‬
‫الوافي في العروض والقوافي‪ ،‬تحقيق فخر الدين قباوة‪ ،‬وعمر يحيى‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫بيروت‪1970 ،‬م ‪.‬‬


‫ابن رشيق القيرواني » الحسن بن رشيق « ‪:‬‬
‫العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬

‫الجيل‪ ،‬بيروت‪ 1972 ،‬م ‪.‬‬


‫رمضان عبد التواب ‪:‬‬
‫التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ 1977 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الزبيدي » السيد محمد مرتضى الحسيني « ‪:‬‬


‫تاج العروس‪ ،‬المطبعة الخيرية‪ ،‬مصر‪ 1306 ،‬هـ ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪349‬‬
‫زكريا ابراهيم ‪:‬‬
‫فلسفة الفن في الفكر المعاصر‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪ 1966 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ابن سالم » محمد بن سالم الجمحي « ‪:‬‬


‫طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪.‬ت ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ابن سنان الخفاجي » عبد هللا بن محمد « ‪:‬‬


‫سر الفصاحة‪ ،‬تحقيق علي فودة‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪. 1932 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫سيبويه» عمرو بن عثمان بن قنبر « ‪:‬‬


‫الكتاب‪ ،‬المطبعة األميرية‪ ،‬بوالق‪ 1317 ،‬هـ ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الشريف الرضي » محمد بن الحسين الموسوي « ‪:‬‬


‫تلخيص البيان في مجازات القرآن‪ ،‬تحقيق محمد عبد الغني حسن‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪‬‬

‫الكتب العربية‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪. 1955 ،‬‬


‫المجازات النبوية‪ ،‬تحقيق محمد الزيني‪ ،‬مؤسسة الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ 1967 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫شفيع السيد ‪:‬‬


‫التعبير البياني‪ ،‬رؤية بالغية ونقدية‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ 1977 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫شكري ّ‬
‫عياد ‪:‬‬
‫‪ ‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ 1968 ،‬م ‪.‬‬
‫الصولي » أبو بكر محمد بن يحيى « ‪:‬‬
‫أخبار أبي تمام‪ ،‬تحقيق خليل عساكر‪ ،‬ومحمد عبدة عزام‪ ،‬ونظير اإلسالم‬ ‫‪‬‬

‫الهندي‪ ،‬المكتب التجاري للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت ‪.‬‬


‫طه أحمد إبراهيم ‪:‬‬
‫تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1937 ،‬م ‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫طه حسين ‪:‬‬
‫البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر‪ ،‬مقدمة كتاب »نقد النثر « المنسوب‬ ‫‪‬‬

‫خطأ لقدامة بن جعفر‪ ،‬تحقيق طه حسين‪ ،‬وعبد الحميد العبادي‪ ،‬مطبعة دار‬
‫الكتب المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1351 ،‬هـ ـ ‪ 1933‬م ‪.‬‬
‫ابن طباطبا »محمد بن أحمد « ‪:‬‬
‫عيار الشعر‪ ،‬تحقيق محمد زغلول سالم‪ ،‬منشأة المعارف ـ اإلسكندرية‪1984 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫عبد الحكيم راضي ‪:‬‬


‫نظرية اللغة في النقد العربي‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬مصر‪ 1980 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عبد الرحمن بدوي ‪:‬‬


‫في الشعر األوربي المعاصر‪ ،‬المؤسسة المصرية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1980‬م‬
‫عبد الفتاح رياض ‪:‬‬
‫التكوين في الفنون التشكيلية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ 1973 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عبد الفتاح عثمان ‪:‬‬


‫نظرية اللغة في النقد العربي القديم‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عبد الفتاح الشين ‪:‬‬


‫بالغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات البالغية‪ ،‬دار الفكر‬ ‫‪‬‬

‫العربي‪ ،‬القاهرة‪1978 ،‬م‬


‫عبد القادر القط ‪:‬‬
‫االتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫في الشعر اإلسالمي واألموي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ 1976 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عبد المنعم تليمة ‪:‬‬


‫مداخل إلى علم الجمال األدبي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫مقدمة في نظرية األدب‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1973 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪351‬‬
‫عبدة عبد العزيز قلقيلة ‪:‬‬
‫النقد األدبي عند القاضي الجرجاني‪ ،‬مكتبة االنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1976 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫أبو عبيدة » معمر بن مثنى « ‪:‬‬


‫مجاز القرآن‪ ،‬تحقيق فؤاد سزكين‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ 1962 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫عز الدين إسماعيل ‪:‬‬


‫األدب وفنونه‪ ،‬دراسات ونقد‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪ 1958 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫األسس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬عرض وتفسير ومقارنة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫القاهرة‪ 1955 ،‬م ‪.‬‬


‫الشعر العربي المعاصر‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية‪ ،‬دار الكاتب العربي‬ ‫‪‬‬

‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1967 ،‬م ‪.‬‬


‫علي عشري زايد ‪:‬‬
‫الصورة البالغية عند أبي الحسن الرماني بين الوظيفة التعبيرية والقيمة الجمالية‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫مجلة الثقافة العربية‪ ،‬طرابلس‪ ،‬العدد الثامن‪ ،‬أغسطس‪ 1976 ،‬م ‪.‬‬
‫فؤاد زكريا ‪:‬‬
‫مع الموسيقى‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪. 1971 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫القاسم الرسي » القاسم بن إبراهيم « ‪:‬‬


‫أصول العدل والتوحيد‪ ،‬ضمن كتاب » رسائل العدل والتوحيد« تحقيق محمد‬ ‫‪‬‬

‫عمارة‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬القاهرة‪ 1971 ،‬م ‪.‬‬


‫ابن قتيبة » عبد هللا بن مسلم « ‪:‬‬
‫تأويل مشكل القرآن‪ ،‬تحقيق السيد أحمد صقر‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى‬ ‫‪‬‬

‫البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1373 ،‬ه ‪.‬‬


‫الشعر والشعراء‪ ،‬تحقيق محمد أحمد شاكر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1982 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫قدامة بن جعفر ‪:‬‬


‫نقد الشعر‪ ،‬تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ت‬ ‫‪‬‬

‫‪352‬‬
‫كريم الوائلي ‪:‬‬
‫قيمة الشعر عند المعتزلة‪ ،‬المجلة العربية للعلوم اإلنسانية‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪35‬‬ ‫‪‬‬

‫سنة ‪ 1989‬م‬
‫المواقف النقدية بين الذات والموضوع‪ ،‬مكتبة العربي‪ ،‬القاهرة‪ 1986 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫الشعر الجاهلي‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية‪ ،‬الدار العالمية‪ ،‬القاهرة‪. 1997 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫الوحدة الفنية في سورة العاديات‪ ،‬مجلة الثقافة العربية‪ ،‬سنة ‪ 1976‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كمال أبو ديب ‪:‬‬


‫في البنية اإليقاعية للشعر العربي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫لطفي عبد البديع ‪:‬‬


‫التركيب اللغوي لألدب‪ ،‬بحث في فلسفة اللغة واالستطيقا‪ ،‬مكتبة النهضة‬ ‫‪‬‬

‫المصرية‪ ،‬القاهرة‪ 1970 ،‬م ‪.‬‬


‫المبرد » محمد بن يزيد « ‪:‬‬
‫الكامل في اللغة واألدب‪ ،‬مكتبة المعارف‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مجدي وهبة‪ ،‬وكامل المهندس ‪:‬‬


‫معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت‪ 1984 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫محمد تقي الحكيم ‪:‬‬


‫األصول العامة للفقه المقارن‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بيروت‪ 1963 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫محمد زغلول سالم ‪:‬‬


‫أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫مصر‪ 1952 ،‬م ‪.‬‬


‫تاريخ النقد العربي في القرن الرابع الهجري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1964 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫محمد زكي العشماوي ‪:‬‬


‫فلسفة الجمال في الفكر المعاصر‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ 1981 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫محمد عبد المطلب ‪:‬‬


‫البالغة واألسلوبية‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ 1984 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪353‬‬
‫محمد عمارة ‪:‬‬
‫المعتزلة ومشكلة الحرية اإلنسانية‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1972‬م ‪.‬‬
‫محمد غنيمي هالل ‪:‬‬
‫النقد األدبي الحديث‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ 1986 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫محمد مندور ‪:‬‬


‫األدب وفنونه معهد الدراسات العربية‪ ،‬مطبعة مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1963‬م ‪.‬‬
‫النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬لقاهرة‪ 1948 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫في الميزان الجديد‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬مصر‪ 1973 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫محمد النويهي ‪:‬‬


‫قضية الشعر الجديد‪ ،‬معهد الدراسات العربية‪ ،‬المطبعة العالمية‪ ،‬القاهرة ‪1964‬م‬ ‫‪‬‬

‫محمود الربيعي ‪:‬‬


‫في نقد الشعر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1973 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مصطفى جمال الدين ‪:‬‬


‫البحث النحوي عند األصوليين‪ ،‬دار الرشيد بغداد‪1980 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫مصطفى ناصف ‪:‬‬


‫الصورة األدبية‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاهرة‪ 1958 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫نظرية المعنى في النقد العربي‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بيروت‪ 1401 ،‬هـ ـ ‪ 1981‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مهدي المخزومي‪ ،‬في النحو العربي‪ ،‬قواعد وتطبيق ‪ ،‬دار الرائد للنشر والتوزيع‪,‬‬ ‫‪‬‬

‫‪.1986‬‬
‫نازك المالئكة ‪:‬‬
‫قضايا الشعر المعاصر‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1983 ،‬م ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪354‬‬
‫نصر حامد أبو زيد ‪:‬‬
‫االتجاه العقلي في التفسير‪ ،‬دراسة في قضية‪ ،‬المجاز في القرآن عند المعتزلة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ 1982 ،‬م ‪.‬‬


‫أبو هالل العسكري ‪:‬‬
‫كتاب الصناعتين‪ ،‬الكتابة والشعر‪ ،‬تحقيق علي محمد البجاوي‪ ،‬ومحمد أبو‬ ‫‪‬‬

‫الفضل إبراهيم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيروت‪ 1986 ،‬م ‪.‬‬


‫ابن وهب الكاتب ‪:‬‬
‫البرهان في وجوه البيان‪ ،‬تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي‪ ،‬مطبعة العاني‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫بغداد‪ 1967 ،‬م ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬المراجع المترجمة ‪:‬‬


‫أرسطو ‪:‬‬
‫كتاب أرسطو في الشعر‪ ،‬نقل أبي بشر متي بن يونس القنائي‪ ،‬ترجمة وتحقيق‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫شكري عياد‪ ،‬دار الكاتب العربي للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ 1967 ،‬م ‪.‬‬
‫اولمان » ستيفن « ‪:‬‬
‫دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ترجمة كمال بشر‪ ،‬مكتبة الشباب القاهرة‪ 1975 ،‬م‬ ‫‪‬‬

‫بروكلمان » كارل « ‪:‬‬


‫تاريخ األدب العربي » الجزء الثاني « ترجمة عبد الحليم النجار‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫مصر‪ 1974 ،‬م ‪.‬‬


‫جولد تيسهر ‪:‬‬
‫مذاهب التفسير اإلسالمي‪ ،‬ترجمة عبد الحليم النجار‪ ،‬مكتبة الخانجي‪،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 1955‬م ‪.‬‬
‫درو » اليزابيث « ‪:‬‬
‫الشعر كيف نفهمه ونتذوقه‪ ،،‬ترجمة محمد ابراهيم الشوش‪ ،‬مكتبة منيمنة‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1961‬م‬
‫‪355‬‬
‫ديتشس » ديفيد « ‪:‬‬
‫مناهج النقد األدبي بين النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة محمد يوسف نجم‪ ،‬دار صادر‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫بيروت‪1967 ،‬م ‪.‬‬


‫دي سوسير » فردينان « ‪:‬‬
‫محاضرات في األلسنية العامة‪ ،‬ترجمة يوسف غازي‪ ،‬ومجيد النصر‪ ،‬دار نعمان‬ ‫‪‬‬

‫للثقافة‪ ،‬بيروت‪ 1984 ،‬م ‪.‬‬


‫ريتشاردز ‪:‬‬
‫العلم والشعر‪ ،‬ترجمة مصطفى بدوي‪ ،‬مراجعة سهير القلماوي‪ ،‬مكتبة االنجلو‬ ‫‪‬‬

‫المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د ‪.‬ت ‪.‬‬


‫مبادئ النقد األدبي‪ ،‬ترجمة مصطفى بدوي‪ ،‬مراجعة لويس عوض‪ ،‬المؤسسة‬ ‫‪‬‬

‫المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪1963 ،‬م ‪.‬‬


‫ستوليتز » جيروم « ‪:‬‬
‫النقد الفني‪ ،‬دراسة جمالية وفلسفية‪ ،‬ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬ ‫‪‬‬

‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ 1981 ،‬م ‪.‬‬


‫سزكين » فؤاد « ‪:‬‬
‫تاريخ التراث العربي‪ ،‬ترجمة محمود فهمي حجازي‪ ،‬وفهمي أبو الفضل‪ » ،‬الجزء‬ ‫‪‬‬

‫الثاني «‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ 1978 ،‬م ‪.‬‬


‫كولنجوود » روبين جورج « ‪:‬‬
‫مبادئ الفن‪ ،‬ترجمة أحمد حمدي محمود‪ ،‬مراجعة علي أدهم‪ ،‬الدار المصرية‬ ‫‪‬‬

‫للتأليف والترجمة‪ ،‬القاهرة‪ 1966 ،‬م ‪.‬‬


‫مالمبرج » برتيل « ‪:‬‬
‫علم األصوات‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪. 1985 ،‬‬ ‫‪‬‬

‫مكليش » ارشيبالد « ‪:‬‬


‫الشعر والتجربة‪ ،‬ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،‬ومراجعة توفيق صايغ‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬

‫اليقظة العربية‪ ،‬بيروت‪ 1963 ،‬م ‪.‬‬


‫‪356‬‬
: « ‫موركافسكي » يان‬
،‫ مجلة فصول العدد األول‬،‫ ترجمة إلفت الروبي‬،‫اللغة المعيارية واللغة الشعرية‬ 

. ‫ م‬1984 ‫اكتوبر ـ ديسمبر ـ‬


: « ‫ويليك » رينية « و وارين » اوستن‬
‫ المجلس األعلى للثقافة والفنون‬،‫ ترجمة محي الدين صبحي‬،‫نظرية األدب‬ 

. ‫ م‬1972 ،‫ دمشق‬،‫واآلداب‬

: ‫ المراجع األجنبية‬: ‫رابعا‬

Bloomfield , Leonard :
Language , Henry Holt & company , new York , 1933 . 

Cuddon , John A . :
a dictionary of Literary Terms , Doubleday , new York , 

1977 .
Forster , Norman &Others :
Literary Scholarship , Its Aim And Methods , The University 

Of north Carolina press , Chapel Hill ,1944.


Leroy ,Gaylord :
Marxism And Modern Literature , New York , 1967 . 

Levin ,Samuel R :.

357
The Semantics Of Metaphor , The Johns Hopkins University 

Press ,1977 .
Lewis , c . Day :
The Poetic Image , Jonathan Cape , London , 1965 . 

Perrine , Laurence :
Sound And Sense , An Introduction To poetry , Harcourt , 

New York , 1956 .


Ullmann , Stephen :
Language And Style , Collected Papers , Barners And 

Noble , New York


Winters Y . :
The Function Of criticism , Routiedge & Kegan Paul , 

London ,1957 .

358
‫الفهرست‬

‫المقدمة ‪5 ...........................................................................‬‬
‫التمهيد ‪13 ................................................................‬‬
‫القسم األول ‪ :‬وصف مصادر البحث وتقويم مراجعه ‪15......................‬‬
‫أوال ‪ :‬وصف المصادر ‪15 ..................................................‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تقويم المراجع ‪40....................................................‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬األصول الفكرية للمعتزلة ‪53..................................‬‬
‫‪1‬ـ المعرفـة العقلية ‪53................................................................‬‬
‫‪2‬ـ أركان الفكر االعتزالي ‪55.........................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ حرية اإلنسان ‪58...............................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ نشأة اللغة ـ اللغة والكالم ‪61.....................................................‬‬

‫الفصل األول‬
‫المقياس اللغوي‬
‫‪69‬‬
‫جماليات النظام الصوتي‪71...........................................................‬‬
‫‪1‬ـ الــوحدات الصـوتيـة ‪71...........................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ الــقوانين الص ــوتيـة وجـمـال ـيـاتـه ـ ــا ‪79...............................................‬‬
‫ــ جماليات النظام الصرفي ‪95.........................................................‬‬
‫‪1‬ـ النـظام الصرفي واألصول العقلية ‪95...............................................‬‬
‫‪ 2‬ـ أثر السياق في الكشف عن الجماليات الصرفية ‪99................................‬‬
‫‪ 3‬ـ ج ــمالــيات الصيغ الصرفية ‪102...................................................‬‬

‫‪359‬‬
‫جماليات النظام النحوي ‪109.........................................................‬‬
‫‪1‬ـ الكالم والتركيب‪109...............................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ دور اإلع ـ ـراب فـ ــي ال ـ ـ ــداللة ‪111.................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ ت ـ ـ ـ ـضـ ـ ــام الـ ـكـ ـلـ ـمـ ـ ــات‪114........................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ معيارية الدرس النحوي وجمالياته ‪118............................................‬‬
‫‪ 5‬ـ جماليات التقديم والتأخير والحذف والعطف ‪120..................................‬‬
‫‪ 6‬ـ معضالت النظام النحوي ‪129...................................................‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫المقياس البالغي‬
‫‪133‬‬
‫األداء النمطي واألداء الفني ‪135.....................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ مستويات األداء اللغوي ‪135.....................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ العالقة بين األداءين …‪139.....................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ أنماط األداءين‪144..............................................................‬‬
‫اإلبانة‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫الدليل‬ ‫‪،‬‬ ‫وباطنها‬ ‫اآلية‬ ‫ظاهر‬ ‫والمتشابه‪،‬‬ ‫المحكم‬
‫والغموض‪151........................................................................‬‬
‫المجاز‬ ‫وظائف‬ ‫والداللة‪،‬‬ ‫التركيب‬ ‫ثنائية‬ ‫والنقل‪،‬‬ ‫العدول‬ ‫المجــــاز‪:‬‬
‫ومعانيه ‪158.........................................................................‬‬
‫التشــبيـه ‪167........................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ طبيعة التشبيه ‪167..............................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ وظيفة التشبيه ‪171..............................................................‬‬

‫بالتشبيه‪،‬‬ ‫عالقتها‬ ‫‪،‬‬ ‫وظيفتها‬ ‫و‬ ‫االستعارة‬ ‫طبيعة‬ ‫االستـعارة‬


‫الغموض‪181.........................................................................‬‬
‫‪360‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫المقياس النقدي‬
‫‪191‬‬
‫لغة الشعر ‪193.....................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ لغة الشعر ولغة العلم ‪193.......................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ المعجم الشعري ‪200...........................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ المؤثرات الخارجية في لغة الشعر ‪204...........................................‬‬
‫‪ 4‬ـ المؤثرات الداخلية في لغة الشعر ‪208............................................‬‬
‫اإليـقـاع ‪211.........................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ ماهية اإليقاع ‪211..............................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ ميزان الشعر العربي ‪216.......................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ دور القافية في اإليقاع ‪221....................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ السجع واإليقاع ‪226.............................................................‬‬
‫‪ 5‬ـ التكرار ‪230.....................................................................‬‬
‫‪ 6‬ـ الضرورة الشعرية ‪232...........................................................‬‬
‫الصورة الشعرية ‪265................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ مكونات الصورة ‪265............................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ وظيفة الصورة التشبيهية ‪237....................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ وظيفة الصورة االستعارية ‪242..................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ وظائف أخرى ‪244..............................................................‬‬
‫بنية القصيدة ‪247..................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ طبيعة بنية القصيدة ‪247.......................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ البنية وتشكيل القصيدة ‪249....................................................‬‬
‫‪361‬‬
‫‪ 3‬ـ وحدات بناء القصيدة ‪252......................................................‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫المقياس الجمالي‬
‫‪259‬‬
‫القيمة الشعرية ‪261................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ قيمة الشعر بين الفن والدين واألخالق ‪261.......................................‬‬
‫‪ 2‬ـ أثر التطور في تحديد القيمة الشعرية ‪264........................................‬‬
‫‪ 3‬ـ مكونات القيمة الشعرية في القرن الرابع الهجري ‪275..............................‬‬
‫‪ 4‬ـ ابن طباطبا بناء القصيدة والفعل اإلنساني ‪281....................................‬‬
‫‪ 5‬ـ مكونات القيمة الشعرية عند المعتزلة ‪287........................................‬‬
‫‪ 6‬ـ أنماط القيمة الشعرية عند المعتزلة ‪291...........................................‬‬
‫‪ 7‬ـ الحداثة وأثرها في تحديد القيمة الشعرية ‪294.....................................‬‬

‫المقومات‬ ‫‪،‬‬ ‫بالواقع‬ ‫األعلى‬ ‫المثل‬ ‫عالقة‬ ‫الشعر‪.‬‬ ‫و‬ ‫األعلى‬ ‫المثل‬
‫الحسية للمثل األعلى‪303.............................................................‬‬
‫الخصائص‬ ‫‪،‬‬ ‫الشكلية‬ ‫الخصائص‬ ‫‪.‬‬ ‫الشعر‬ ‫ماهية‬
‫النوعي‪313..........................................................................‬‬
‫مهمة الشعر ‪325....................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ الوظيفة التوصيلية ‪325..........................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ الوظيفة التزينية ‪332............................................................‬‬
‫الخاتمة ‪337...................................................................‬‬
‫المصادر والمراجع ‪341..............................................................‬‬
‫الفهرست ‪359......................................................................‬‬
‫‪362‬‬

You might also like