Professional Documents
Culture Documents
ت بّين أّن الحّر ي ة والكرام ة هم ا الرك يزتين األساس ّيتين لل ذات البش رّية ،فالحّر ي ة هي أّم
المب ادئ ألّنه ا تس اوي اإلنس ان ،ولنفس الّس بب تع ّد الكرام ة ح ّق ج امع تنض وي تحت ه ك ّل
الحق وق األساس ّية لإلنس ان ،الح ّق في الحرم ة الجس دّية ،الح ّق في محاكم ة عادل ة ،ح ّق
السجين في معاملة إنسانّية تحفظ كرامته ...،وبهذا المعنى ،ينبغي فهم أّن المساس بكرامة
اإلنسان والحّد غير المبّر ر من حّر يته ،هو نفي للذات البشرّية.
إنس ان ،كرام ة ،حّر ي ة ،ه ل أّن تحقي ق ه ذه المعادل ة الثالثّي ة ال تي يفرض ها العق ل
والمنطق السليم قبل األخالق والعدالة ،مضمون في كّل الحاالت؟
"في الداخلّية ،كنت أسمع صراخ موقوفين من هول التعذيب ( )..لقد كانت جدران
المب نى ملطخ ة بال دماء وبه ا خن اجر وس يوف وسالس ل وأدوات ميكانيكي ة ( )..وتّم ان تزاع
اعتراف ات م ني تحت التع ذيب"" .أّم ا في الس جن ،فق د فق دت بعض ا من أس ناني من ش ّد ة
الضرب ( )..لقد جردوني من ثيابي وأجبروني على وضعيات عارية والتقطوا لي صورا
وضربوني في أماكن العورة ( )..لقد كان الشهر األول كابوسا بعينه".
هكذا جاء على لسان أحد المساجين السياس ّيين في فترة ما قبل الثورة ،يتح ّد ث عن
تع ذيب انطل ق من غ رف االحتف اظ وتواص ل في الس جن ،فعن أّي ة ذات بش رّية نتح ّد ث م ع
هك ذا ش كل من التع ذيب؟ خلي ط من التع ذيب الجس دي والمعن وي ،تع ذيب متواص ل يتع اظم
يوما بعد يوما وآثاره يستحيل محوها من الذاكرة قبل الجسد.
موض وعنا ال يخ رج عن ه ذا الس ياق ،يتعّل ق بج رائم التع ذيب والمعامل ة الالإنس انّية
والمهينة والقاسية ،وجميعها أفعال تؤّد ي إلى طمس مقّو مات الذات البشرّية ،ففي التعذيب
قب ل الخ وض في مف اهيم الموض وع أو أهّم يت ه ،ينبغي التنبي ه إلى دّق ة من اط البحث،
ف األمر ال يتعّل ق ب الجرائم الالإنس انّية ألّن ج ّل الج رائم ،ال س يما تل ك المبنّي ة على الق ّو ة
وأهّم ها االغتصاب والقتل ،هي جرائم ال إنسانّية طالما فيها تع ٍّد على حّر يات فردّي ة .كما
ال يتعّل ق البحث بعقوب ة جزائّي ة وق ع تنفي ذها طب ق الق انون رغم م ا فيه ا من مس اس بحّر ي ة
الفرد ألّن ذلك المساس مبّر ر بمبدأ مفاده أّن كّل فعل مجّر م ينبغي أن ُيعاقب عليه.
إّن مناط البحث في هذا الّص دد يتعّلق أساسا بجرائم على درجة عالية من الخطورة
تنتفي فيه ا كرام ة ال ذات البش رّية وتنع دم فيه ا حّر ي ة االختي ار ويجب أن ُت رتكب في س ياق
خاّص ،سياق يكون فيه المظنون فيه أو المّتهم أو السجين في وضعّية طرف ضعيف هّش
إزاء موّظ ف عمومّي أو من يتنّز ل منزلت ه يستغّل الس لطة الممنوحة ل ه للتنكي ل ب المّتهم أو
السجين سواء عن طريق تعذيبه أو سوء معاملته بدافع التشّفي أو التحصيل على اعترافات
منه لم يكن ليدلي بها لوال ما ُم ورس عليه ،فهي إذن جرائم تستمّد طبيعتها وخصوص ّيتها
تلك بدرجة أولى من صفات أطرافها وليس فقط من األفعال المكّو نة لها في ح ّد ذاتها ألّن
تل ك األفع ال يص بح له ا في ع الم الق انون وص ف آخ ر بتغّي ر أطرافه ا ،وذل ك ه و التص ّو ر
اّل ذي انبنت علي ه اتفاقّي ة مناهض ة التع ذيب والمعامل ة أو العقوب ة القاس ية أو الالإنس انّية أو
المهين ة لس نة 1984أو أحك ام التع ذيب وس وء المعامل ة كيفم ا وردت بالفص ل 101مك رر
وما يليه من المجلة الجزائّي ة .وال تخرج عن نفس المنطق جرائم التعذيب وسوء المعاملة
على الص عيد ال دولي أو في وض عّيات الح رب االس تثنائّية م ع تفّر ده ا بمقارب ة أش مل ،إذ
َيس تهدف التع ذيب وس وء المعامل ة مجموع ة بش رّية بأكمله ا ال أف راد خ واّص معّي نين،
ويمارس التعذيب وسوء المعاملة فيها باستعمال أدوات الحرب.
فالتعذيب ،لغة ،يقال "ماء عذب ،أي طيب وبارد وأعذب القوم ،أي صار لهم ماء عذب،
والعذاب هو اإليجاع الشديد أو كّل ما ش ّق على االنسان ومنعه مراده وقد عّذ به تعذيبا أي
أكثر حبسه في العذاب" ،وقد أختلف في أصله فقال بعضهم "هو من قولهم ع ذب الرجل إذا
ترك المأكل والنوم ،فهو عاذب وعذوب ،فالتعذيب في األصل هو حمل اإلنسان أن يعذب
أي أن يجوع ويسهر" ،وقيل "أصل التعذيب هو إكثار الضرب بعذبة الصوت أي ترفها"،
وقد قال بعض أهل اللغة "التعذيب هو الضرب فيه أذى وكدر".
اص طالحا ،التع ذيب في الحق ل الق انوني ل ه تعري ف ورد بالم ادة 1من اتفاقي ة
مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة والعقوبة القاسية أو الغير إنسانية أو المهينة
التي صادقت عليها البالد التونسية بتاريخ 10ديسمبر ،1988إذ هو "أّي عمل ينتج عنه
ألم أو ع ذاب ش ديد جس ديا ك ان أم عقلي ا يلح ق عم دا بش خص م ا بقص د الحص ول من ه ذا
الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه
أو ُيشتبه في أّنه ارتكبه هو شخص ثالث أو تخويفه أو ارغامه هو أو أّي شخص ثالث أو
عن دما يلح ق مث ل ه ذا األلم أو الع ذاب ألّي س بب يق وم على التمي يز ،أّي ا ك ان نوع ه أو
يح ّر ض علي ه أو يواف ق علي ه أو يس كت عن ه موّظ ف رس مي أو ش خص آخ ر يتص ّر ف
بص فته الرس مية وال يتض ّم ن ذل ك األلم أو الع ذاب الناش ئ فق ط عن عقوب ات قانونّي ة أو
المالزم له ذه العقوب ات أو ال ذي يك ون نتيج ة عرض ّية له ا" .وانض باطا لعلوّي ة المعاه دة
الدولي ة ،انص هر المش ّر ع التونس ي في مقارب ة حديث ة لحق وق اإلنس ان يجّس دها التعري ف
الوارد ص لب الفصل 101مكرر م.ج .كم ا وقع تنقيحه بالق انون عدد 106لسنة 2011
المؤّر خ في 22أكتوبر 2011على أّنه "كّل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان
أو معنوي ا يلح ق عم دا بش خص م ا بقص د التحص يل من ه أو من غ يره على معلوم ات أو
اعتراف بفعل ارتكبه أو ُيشتبه في أّنه ارتكبه هو أو غيره ،ويع ّد تعذيبا تخويف أو ازعاج
ش خص أو غ يره للحص ول على م ا ذك ر ،وي دخل في نط اق التع ذيب األلم أو الع ذاب أو
التخوي ف أو االرغ ام الحاص ل ألّي س بب من األس باب ب دافع التمي يز العنص ري ،وُيعت بر
مع ّذ با الموّظ ف العمومي أو شبهه اّل ذي يأمر أو يح ّر ض أو يوافق أو يسكت عن التعذيب
أثن اء مباش رته لوظيف ة أو بمناس بة مباش رته ل ه .وال يعت بر تع ذيبا األلم الن اتج عن عقوب ات
قانونّية أو المترّتب عنها أو المالزم لها".
لم يتوص ل الفق ه إلى تعري ف ش امل وج امع للج رائم ض د اإلنس انية ،ب ل بقيت التع اريف
المتعلقة بها متسمة بالنسبية والظرفية نظرا لتركيزها على بعض العناصر دون أخرى.
وتتعدد تعاريف الجريمة ضد اإلنسانية في مواثيق ونظم المحاكم الجنائية الدولية ،النظام
األساس ي للمحكم ة العس كرية بنورم برج -الق انون رقم 10لمجلس الرقاب ة على ألماني ا –
النظ ام األساس ي ببمحكم ة الدولي ة ليوغس الفيا س ابقا -النظ ام األساس ي للمحكم ة الدولي ة
لرواندا -النظام األساس للمحكمة الجنائية الدولية.
ع رفت الم ادة 6من ميث اق نزرم برج مص طلح الج رائم ض د اإلنس انية بأن ه القت ل
العمد ،اإلبادة ،اإلسترقاق ،اإلبعاد واألفعال الالإنسانية األخرى المرتكبة ضد أي مجموعة
من السكان المدنيين قبل الحرب أو أثنائها...
إضطهاد أية جماعة محدودة أو مجموع محدد من السكان ألسباب سياسية أو عرقية
أو قومي ة أو إثني ة أو ثقافي ة أو ديني ة أو متعلق ة بن وع الجنس اإلختف اء القس ري لألش خاص
جريمة الفصل العنصري األفعال الالإنسانية األخرى ذات الطابع المماثل تتسبب عمدا في
معاناة شديدة أو في أذي خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.
أم ا فيم ا تتعل ق بمص طلحي المعامل ة القاس ية أو المهين ة فإن ه يق اس مفهومهم ا م ع
المع نى الواض ح للتع ذيب لكن بدرج ة أق ل خط ورة ،حيث تش ترك في نفس األط راف من
حيث اإلرتكاب وتختلف في العقوبة.
ومن األثار المؤكدة إلهتمام المشرع التونسي بالتعذيب نجد القانون األساسي عدد 43لس نة
2013المؤرخ في 21أكتوبر 2013المتعّلق بالهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب يتح ّد ث
ص راحة بالفص ل األّو ل من ه عن "الهيئ ة الوطني ة للوقاي ة من التع ذيب وغ يره من ض روب
المعاملة أو العقوبة القاسية أو الالإنسانية أو المهينة" ،وبذلك فإّن فكرة المعاملة أو العقوبة
القاسية أو الالإنسانية أو المهينة هي فكرة تدور في ذهن المشّر ع التونسي.
وبم ا أن مقاوم ة التع ذيب وغ يره من ض روب المعامل ة الالإنس انية تتطلب إج راءات قوي ة
وإ س تثنائية ب رزت العدي د من الق وانين و التنقيح ات ال تي مس ت جانب ا من الق انون اإلج رائي
التونس ي من ذل ك الق انون ع دد 5لس نة 2016ال ذي اع د نقل ة نوعي ة في سياس ة الدول ة
الجزائي ة لمناهض ة التع ذيب وذل ك من خالل دعم مراقب ة النياب ة العمومي ة ومن خالل ح ق
المحتف ظ ب ه لحض ور مح ام ،عالوة على ذل ك نج د إج راءات التص دي للتع ذيب تتبل ور في
2
.مالحظات وتوصيات لجنة مناهضة التع\يب التابعة لألمم المتحدة بخصوص التقرير الدوري الثالث ماي 2016
أحكام الدستور عندما نص على أنه ال يمكن إيقاف شخص أو اإلحتفاظ به إال في حاالت
التلبس أو بقرار قضائي ،ويعلم فورا بحقوقه وبالتهمة المنسوبة إليه.....
تبل غ أهمي ة موض وعنا أوجه ا من الناحي ة العملي ة ،فبداي ة أعم ال المعامل ة الالإنس انية أو
القاسية أو المهينة تطرح مشكل تقدير نظرا لوسع ومرونة التعبير ،كما أن اثبات التعذيب
ليس ب األمر الهين ،إذ تق ع أعم ال التع ذيب ع ادة في غ رف مغلق ة بم ا يص عب إقام ة ال دليل
على مص در التع ذيب ،وي زداد مخ اض االثب ات عس را إذا م ا تعل ق األم ر بتع ذيب معن وي
آثاره ليس لها تمظهر خارجي,
إن جرائم التعذيب وغيره من سوء المعاملة ليست بالجرائم العادية بل هي جرائم تقترف
في س ياق خ اص ومن خالل أفع ال على درج ة عالي ة من الخط ورة وب ذلك ف إن اإلش كالية
ال واجب طرحه ا التخ رج على النح و الت الي :م اهي خصوص ية ج رائم التع ذيب والمعامل ة
الالإنسانية والقاسية والمهينة؟
تكتس ي ج رائم التع ذيب والمعامل ة الالإنس انية والمهين ة والقاس ية خصوص ية
من حيث المفهوم -I-وكذلك من حيث نظام التصدي لها .-II-