Professional Documents
Culture Documents
القرآن نسخة شخصية يناير 2022 1
القرآن نسخة شخصية يناير 2022 1
�إهداء11.............................................................
مقدمة13............................................................
تعميم 17............................................................
�سورة الفاحتة :1عني على العامل 19................................
�سورة البقرة :2ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر24..............
�سورة البقرة :2ال�صراع املرير مع الواقع املر ال يزال م�ستم ًّرا 32...
�سورة �آل عمران :3عن جرب اخلواطر املك�سورة39..................
�سورة الن�ساء :4عن امل�ست�ضعفني يف الأر�ض45......................
املائدة :5الطبيعة الب�شرية بال جتميل وال فوتو�شوب51..............
�سورة الأنعام � :6أهم عالقة يف حياتك 59...........................
�سورة الأعراف :7الأنا يف النحن66.................................
�سورة الأنفال :8حما�سبة املنت�صر72...............................
�سورة التوبة :9احلرب وال�سالم76.................................
القرآن نسخة شخصية
-7-
القرآن نسخة شخصية
-8-
إهداء
هذا لي�س كتاب تف�سري ،وال يجب �أن يكون كذلك بالن�سبة لأي �شخ�ص؛
قليل عن �أي كتاب تف�سري �سوا ًء من �أمهات الكتب �أولذلك فهو ال يغني ولو ً
من الكتب املعا�صرة ،ويهمني ج ًّدا �أن �أ�ؤكد ذلك و�أكرره؛ لأن معاملته ككتاب
فادحا ،كما �أنه �سي�أخذ من الكتاب هدفه الأ�سا�سي.تف�سري �سيكون خط�أً ً
هذا الكتاب مثل هوام�ش كتبها �شخ�ص ما وهو يقر�أ القر�آن ويحاول
�أن يتفاعل مع حياته اليومية عربه ،فيكتب كيف �ساعدته الآيات على فهم
العامل املحيط به ،وكيف يتعامل مع هذا العامل ،ومن البديهي ج ًّدا �أن هذا
�شخ�صي ج ًّدا ،وميكن ل�شخ�ص �آخر مير بظروف مغايرة �أن يكتب
ٌّ الأمر
متاما ،كما ميكن لل�شخ�ص نف�سه يف ظروف �أخرى �أن�أ�شيا ًء �أخرى خمتلفة ً
يت�أثر �أكرث مبوا�ضع �أخرى ،وهكذا.
رغم ذلك ،ف�إن جتربة تفاعل �شخ�صي مع القر�آن ميكن �أن تكون
مفيدة لكثريين ،فبع�ض التجارب قد تكون م�شرتكة بني كثريين ،كما �أن
االطالع على جتربة من هذا النوع قد ي�ساعد على �أن يكون للقارئ جتربته
ال�شخ�صية اخلا�صة به يف التفاعل مع القر�آن ،مع الأخذ بنظر االعتبار ما
�سبق من �أن هذا الكتاب و�أي جتربة مماثلة لي�ست «تف�س ًريا» ،وبالتايل ال
ُت ْغ ِني عن كتب التف�سري.
***
- 13 -
القرآن نسخة شخصية
- 14 -
مقدمة
حدث تغيري على املن�شورات بطبيعة الأمر ،وما ُن ِ�ش َر على الفي�سبوك
يومها لي�س ما ُي ْن َ�ش ُر يف هذا الكتاب بالظبط.
***
علي �أن �أ�سجلهما هنا:
مالحظتان َّ
الأوىل :الكتاب ال يغطي كل ال�سور القر�آنية ،بل يغطى الأجزاء الـ 27
الأوىل� ،أي بداية من �سورة الفاحتة �إىل نهاية �سورة احلديد.
ال�سبب يف ذلك �أن �أغلب ال�سور يف الأجزاء الثالثة الأخرية (وحتى بع�ض
ال�سور يف اجلزء ال�سابع والع�شرين) ذات طبيعة مكثفة يف املعاين؛ مما
يجعل التفاعل معها (بالن�سبة يل على الأقل) �أطول من �سواها ،و�أخ�شى
�أن هذا �سيجعل حجم الكتاب �أكرب على نحو يعوق حتقيقه لهدفه ،فقراءة
كتاب «كبري احلجم» �إىل جانب القر�آن �سيكون �أم ًرا م�ستبعدً ا بالن�سبة
لكثري من ال�شباب ،بينما �سيكون الأمر ً
مقبول �أكرث �إذا َب َدا حجم الكتاب
ً
متو�سطا.
�أقول هذا و�آمل �أن تكون هناك فر�صة للعودة �إىل الأجزاء الثالثة
الأخرية.
الثانية :حجم ال�سورة وم�ساحتها وعدد �آياتها ال ي�ؤثر بال�ضرورة على
حجم وم�ساحة التفاعل ال�شخ�صي معها؛ لذا رمبا يكون التفاعل املكتوب
مع �سورة متو�سطة احلجم �أو ق�صرية ن�سب ًّيا �أكرب حج ًما �أو م�ساو ًيا لتفاعل
مع �سورة من طوال ال�سور ،وقد يعود هذا ب�شكل �أ�سا�سي �إىل طبيعة التفاعل
ال�شخ�صي التي تتفاوت بني مو�ضوع و�آخر ،وبالتايل بني �سورة و�أخرى.
- 15 -
القرآن نسخة شخصية
كاف من ال�سطور» للتفاعل مع �أي �شخ�ص ًّيا �أعرف �أن ال يوجد «عدد ٍ
�سورة من �سور القر�آن ،من �أق�صر �سورة فيه �إىل �سورة البقرة؛ لذا ال يجب
و�ضع �أي اعتبار للعدد �أو احلجم هنا.
�أقدم عملي هذا و�أنا �أعرف �أن ال �شيء ميكن �أن يفي القر�آن حقه من
التفاعل ،لكن هذا ما ا�ستطعته ،فما كان فيه ح�سن فمن توفيق اهلل وف�ضله،
�أما التق�صري فهو من طبيعتي الب�شرية.
�أ�س�أله تعاىل �أن ي�صحح نيتي يف عملي هذا ،و�أن يغفر يل ما فيه من
زلل.
- 16 -
تعميم
كل �سور القر�آن حتتوي على ثالثة عنا�صر �أ�سا�سية يف ن�سيجها؛ مثل
احلجر والإ�سمنت واحلديد يف البناء ،تتكامل مع بع�ضها لت�ش ِّكل «البناء» �أو
«الن�سيج» الذي �سي�ضم �أ�شيا ًء �أخرى الح ًقا.
هذه العنا�صر الثالثة ال تكاد تخلو �سورة يف القر�آن منها جمتمعة،
با�ستثناء القليل من ق�صار ال�سور التي قد تقت�صر على عن�صر واحد �أو
اثنني من هذه العنا�صر.
هذه العنا�صر الثالثة هي:
� ً
أول� :صفات اهلل -عز وجل -وقدرته وخلقه لنا ولكل ما هو موجود.
ثان ًيا :ر�سالته �إىل الب�شر عرب كتبه و�أنبيائه ور�سله.
ثال ًثا :البعث بعد املوت ،احل�ساب ،اجلزاء :الثواب والعقاب.
هذه العنا�صر مبثوثة يف كل �سور القر�آن على نح ٍو يجعلها جز ًءا من
ن�سيج القر�آن نف�سه ،مثل جدران البيت �أو بابه �أو �سقفه ،ال ميكن تخيل
بيت دون وجود هذه املكونات ،كذلك هذه العنا�صر بالن�سبة للقر�آن ،هناك
وع َب و�أمثال �أخالقية يف �سور القر�آن غري هذه العنا�صر،
بالت�أكيد مواعظ ِ
كذلك ال تتكون البيوت من �سقوف وجدران و�أبواب فح�سب ،بل حتتاج بعد
البناء �إىل مكمالت �أخرى ليكون البيت ً
قابل للحياة فيه.
- 17 -
القرآن نسخة شخصية
- 18 -
سورة الفاتحة 1
عين على العالم
بها ُي ْف ُ
تتح القر�آن.
وميكن لها �أن تفتح عينيك ،تفتح قلبك ،تفتح عقلك.
تفتحك نحو ر�ؤية خمتلفة للعامل.
الفاحتة مثل مقدمة �أو ا�ستهالل للقر�آن ،كل ما تقر�أه يف القر�آن �سيمر
ً
من�ضبطا مبا حمكوما
ً � ًأول بهذه املقدمة ،كل معنى ي�أتي يف القر�آن �سيكون
تقوله املقدمة.
لي�س هذا فقط ،هذه املقدمة� ،ستكون رك ًنا من �أركان �صالتك ،ال ت�صح
�صالة من دونها ،وهذا يعني �أن كل م�سلم «ملتزم بفر�ض ال�صالة» «يقول»
الفاحتة « »17مر ًة يف اليوم كحد �أدنى.
ماذا نقول يف الفاحتة؟ لقد تعودنا الأمر حتى �صرنا نقولها دون تفكري
فيما تعنيه.
لكن لو فتحنا �أعيننا عليها لر�أينا الكثري.
***
- 19 -
القرآن نسخة شخصية
- 20 -
سورة الفاتحة
به ورب الذي ال ي�ؤمنون به على حد �سواء� ،أحيا ًنا ننحاز �إىل الوهم �أنه ربنا
ِّ ْ َ
رب ال َعال ِم َني{ 17مرة كل يوم. نحن فقط ،لكن الفاحتة ت�ؤكد لنا �أنه }
ِيم{ (الفاحتة)3 : َّ ْ َ َّ
}الرح ِن الرح ِ
كل ما نفعله يف حياتنا ميكن �أن يندرج يف هذين الأمرين ،عبادتنا له،
وا�ستعانتنا به.
- 21 -
القرآن نسخة شخصية
- 22 -
سورة الفاتحة
((( للمزيد :الجزء الثالث من سلسلة كيمياء الصالة للمؤلف ،بعنوان :عامل جديد ممكن.
- 23 -
سورة البقرة ،2الجزء األول
الصراع المرير مع األمر الواقع المر
ملاذا خرب الأنف�س هذا مق َّدم على كل الأخبار الأخرى :فرعون وظلمه
وما يفعل بالنا�س ،يف ن�شرات الأخبار العادية الت�سل�سل معكو�س ،البداية
تكون ب�أخبار الكوارث ،ثم ي�أتي احلديث عن خرب الأنف�س يف نهاية الن�شرة.
لكن لي�س مع �سورة البقرة ،ملاذا؟
بب�ساطة لأن اخلرب الأول �أهم ،اخلرب الأول هو الذي يحدد كيف
�ستت�صرف وتتعامل مع كل ما يلي من �أخبار ،اخلرب الأول هو الذي يقول:
�إن كنت �ستكون فرعونَ بطريقة ما ،فرعونَ يف بيتك مع َمنْ حولك �أو يف
عملك� ،أو عو ًنا له� ،أو �أنك �ستكون يف اجلهة املقابلة.
- 25 -
القرآن نسخة شخصية
- 26 -
سورة البقرة 1
ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ ْ ً َّ
ارة ِ أ ْو أشد قس َوة َوإِن م َِن }ثم قست قلوبكم مِن بع ِد ذل ِك ف ِه كل ِج
ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ََ
ال ِجارة ِ لما يتفجر مِنه النهار وإِن مِنها لما يشقق فيخرج مِنه الماء وإِن مِنها لما
َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ َْ ُ ْ َ ْ َ
يهبِط مِن خشي ِة اهلل َوما اهلل بِغاف ٍِل عما تعملون{hgfr( .ابلقرة)74 :
ت�أخذنا ال�سورة � ً
أي�ضا �إىل خرب �آخر من الأنف�س :كل فئة لن تر�ضى عنك
متاما ،تندمج بهم دون حدود يف الهوية متيزك
�إال �إذا �أ�صبحت تاب ًعا لهم ً
أ�سا�سا؟ ال تريد ر�ضاهم ،تريد ر�ضا
وحتمي متيزك ،لكن هل ر�ضاهم مهم � ً
ربهم وربك ورب اجلميع ،وكل ما تطمح منهم هو �أن يتقبلوك فح�سب ،ال
�أن ير�ضوا عنك.
***
أي�ضا � َّأل تفرح كث ًريا بقائمة عيوب بني �إ�سرائيل
تذكرك �سورة البقرة � ً
�أو �سواهم ،ميكن �أن ما ر�أيته فيهم ينطبق عليك دون �أن تنتبه ،رمبا �أنت.
- 27 -
القرآن نسخة شخصية
من تخطر يف ذهن �أحدهم عندما يقر�أ �سورة البقرة ،انتبه لذلك ،انظر
لعيوبك قبل عيوب الآخرين ،عيوب الآخرين هم �أَ ْو َل ب�إ�صالحها� ،أما
عيوبك فهي يف متناول يدك� ،أم �أنها �أ�صعب من �أن تكون كذلك؟
مع كل ذكر لبني �إ�سرائيل ،ال�سورة ال تتحدث لك عنهم ملجرد احلديث
التاريخي عنهم ،بل لأنهم النموذج الذي ميكن �أن ننزلق جمي ًعا �إىل تكرار
فعل ،منقليل فينا؛ لوجدنا �أن ذلك حدث ويحدث ً �أخطائهم ،ولو دققنا ً
ال ِع ْجل الذي �أُ ْ�ش ِر َب يف قلوب البع�ض -كما �أُ ْ�ش ِر َب ْت �أ�شيا ٌء �أخرى� -إىل ر�ؤية
مبعان و�أ�سماء خمتلفة ،حتى التيه الذي دخله بنو اهلل جهر ًة ،كل ذلك ٍ
�إ�سرائيل ،يبدو �أننا قد دخلنا يف تيه مماثل� ،أو �أن بع�ضنا على الأقل قد
فعل.
***
َ َ ً َ ُ َ ََْ ُ َ َ ْ َْ ْ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ
} َوإِذ قال َربك ل ِلملئ ِك ِة إِن جاعِل ِف ال ْر ِض خلِيفة قالوا أتعل فِيها من
ُ ْ ُ َ َ َ ْ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ
اء َون ُن نسبح ِبَمدِك َونقدس لك قال إِن أعل ُم ما ل يف ِسد فِيها ويس ِفك ادلم
َْ َُ َ
ون{ (ابلقرة.)30 : تعلم
ت�أخذك ال�سورة �إىل �أ�صل احلكاية وبدايتها� ،سرتى �آدم وهو يت�سلم
من�صب اال�ستخالف واملالئكة تت�ساءل عن �أهليته للمن�صب ،وتل ِّمح �إىل
�إمكانية �أن ي�سفك الدم ،و�ستتذكر �أن احلياة الإن�سانية يف �أحيان كثرية
قدمت معطيات قد تبدو �أنها ل�صالح املالئكة يف ت�سا�ؤلهم هذا ،يكاد
«الواقع املعا�صر» يكون م�صدا ًقا ملا قالته املالئكة� ،أو على الأقل هذا ما
يبدو لنا الآن.
- 28 -
سورة البقرة 1
�ستلفت نظرك «البقرة» هنا ،ما الذي جاء بها �إىل هنا؟ وملاذا هي
مهمة لهذه الدرجة بحيث �إن ال�سورة �أخذت ا�سمها؟ �ستت�أمل يف احلكاية،
اهلل ي�أمر بذبح بقرة� ،أمر ب�سيط وا�ضح ،ولكن تنهال الأ�سئلة :لونها وزنها
ُّ
تعك�س التنطع عمرها� ،إلخ� ،أ�سئلة ال عالقة لها باملق�صد من الذبح ،ولكنها
والتكلُّف يف تنفيذ الأوامر ال�شرعية.
�أال يذكرنا هذا ب�شيء؟ هل ميكن � َّأل يذكرنا هذا ب�شيء؟
- 29 -
القرآن نسخة شخصية
و�سرتى �أن م�شهد رفع البناء ُي ْع َر�ض ب�صيغة الفعل امل�ضارع ( ...يرفع)،
كما لو �أنه يفتح الباب لت�شا ُرك �إبراهيم وابنه يف رفع البنيان.
و�سيتدخل ارتفاع القواعد مع دعاء �إبراهيم لذريته ،العائلة هي ما
يجب �أن ُي ْح َمى بالبنيان ،هذا هو جوهر االرتفاع احلقيقي.
- 31 -
سورة البقرة - 2الجزء الثاني
ًّ
مستمرا الصراع المرير مع الواقع المر ال يزال
ي�ستمر ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر ،ولكن توا�صل �سورة البقرة
منحنا �إ�شارات ت�ساعدنا يف هذا ال�صراع ،تقول لنا� :إن هذا جزء من
طبيعة احلياة نف�سها ،و�إن �صعوبة هذا ال�صراع جزء من االمتحان الذي
علينا اجتيازه يف احلياة الدنيا.
َّ َ َ َ ُ ِّ َّ َ ْ َ ً َ َ َ َ ِّ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ُّ َْ َ
}قد ن َرى تقل َب َوج ِهك ِف السماءِ فلن َو َلنك ق ِبلة ت ْرضاها ف َول َوجهك شط َر
ْ َ َ ِ َ َ ْ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُّ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ َ ُ ُ ْ َ َ َْ ْ
ِين أوتوا الكِتاب ج ِد الرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإِن ال الم ِ
س
َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُّ ْ َ ِّ ْ َ َ
ون{ (ابلقرة)144 :
لعلمون أنه الق مِن رب ِهم وما اهلل بِغاف ٍِل عما يعمل َ
ت�أخذك ال�سورة من حريتك و�إرهاقك يف �صراعك �إىل وجهه ال�شريف
-عليه ال�صالة وال�سالم -وهو يتقلب يف ال�سماء بح ًثا عن « ِق ْب َل ٍة» يتوجه
قليل ،يذكرك الأمر ب�شكل ما لها ،كما لو �أنها تخفف من عناء �صراعك ً
بكل احلرية التي مررتَ �أو متر بها ،بل يذكرك بحرية اجليل كله وهو مير
مبنعطفات تاريخية دون �أن يجد « ِق ْب َل ًة ير�ضاها».
كم من �أنا�س �ضاعوا و�أ�ضاعوا لأنهم مل يجدوا قبل ًة ،هد ًفا ،اجتاهً ا
ميكن لبو�صلتهم �أن ت�ساعدهم يف الو�صول �إليه ،وتذكرنا الآيات ب�أننا يف
كل مفرتق نحتار فيه؛ علينا �أن نتجه �إىل ذات القبلة� ،إىل ذلك البيت
الإبراهيمي الذي ر�أينا رفع قواعده قبل قليل يف نف�س ال�سورة ،والذي كانت
ال�صيغة امل�ضارعة تدعونا للم�شاركة يف البناء.
- 32 -
سورة البقرة 2
تذكرنا هذه الآيات ب�ضرورة �أن ُن ِع َيد �ضبط بو�صلتنا بني احلني والآخر
لتعود �إىل «�إعدادات امل�صنع» الأولية والأ�سا�سية؛ لنزيل ما ترا َك َم عليها من
�صد�أ وغبار.
***
َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ِّ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ
ِين مِن قبلِك ْم }يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم الصيام كما كتِب ع ال
َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ
لعلك ْم تتقون{ (ابلقرة)183 :
َّ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُّ َ ْ ُ ٌ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ
جدال ِ ل و وق س ف ل و ث ف ر ل ف ج ال ن ِيه
ِ ف ض }الج أشهر معلومات فمن فر
َ َّ ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ َّ ُ َ َّ َ َْ ْ َْ َْ َُْ ْ َ ِّ َ َ َ ْ َ ُ
ون يا ِ ق ات و ى و ق اتل د
ِ ا الز ي خ ن ِ إ ف وا دو ز ت و اهلل ه م ل ع ي ي
ٍ خ ِنم وا ِف الج وما تفعل
َ ُ
اب{ (ابلقرة.)197 : أول ْال ْ َ
ل
ِ ِ
َ َ ْ َ َّ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َْ
اليت أ ِو اعتمر فل جناح علي ِه أن الص َفا َوال ْ َم ْر َو َة م ِْن َش َعائ ِر اهلل فمن حج َ َّ َّ
}إِن
ِ
يا فإ َّن اهلل َشاك ٌِر َعل ٌ َ ع َخ ْ ً َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َّ َّ َ
ِيم {(ابلقرة.)158 : ِ و ط ت ن م و ام ه
يطو ِ ِ
ب ف
َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ُ
وموا هلل قانِتِ َني{(ابلقرة.)238 : ات والصلة ِ الوسطى وق }حاف ِظوا ع الصلو ِ
ََ َْ َ َ ُ َّ َّ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ
ي اهلل فم ِن ِ ِغ ل ه
ِ ِ ب ِل ه أ ا م و }إِنما حرم عليكم الميتة وادلم ولم ال ِ ِ
ير ِن
ور َرح ٌِيم{ (ابلقرة.)173 : اغ َو َل َعد َف َل إ ْث َم َعلَ ْيه إ َّن اهلل َغ ُف ٌ ْ ُ َّ َ ْ َ َ
يب ٍ اضطر غ
ِ ِ ِ ٍ
َُُْ َ ْ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ ُْ َْ ْ َ ْ َ ْ َْ َُ َ َ َ
اس َوإِثمهما ري َومناف ِع ل ِلن ِ ِيهما إِثم ك ِب ِ ف ل ق س
ِ ِ ي م الو ر
ِ م ال ن}يسألونك ِ
ع
َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ُِّ
اتأكب مِن نف ِع ِهما ويسألونك ماذا ين ِفقون ق ِل العفو كذل ِك يبي اهلل لكم الي ِ
َ َ َّ ُ َ َ َ َّ َ
لعلك ْم تتفك ُرون{ (ابلقرة)219 :
يف الأ�سئلة ،وتف َّك ْر :البع�ض منا فعل ال�شيء ذاته مع كل هذه ال�شعائر؛ يف
ال�صالة ،يف ال�صيام ،يف احلج ،يف كل ركن من �أركان الإ�سالم ،بل يف كل
�أمر �شرعي ،هناك من يقف نف�س موقف بني �إ�سرائيل من البقرة ،وال�سورة
تذكرنا� :إياك �أن تغرق يف التفا�صيل بحيث تن�سى الهدف واملق�صد من
الأمر ال�شرعي.
وكث ًريا ما يحدث مع الأ�سف.
***
َُْْ ال ُّر ب ْ ُ اص ف الْ َق ْت َل ْ ُ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ُ
ال ِّر َوالعبد ِ ِ }يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم ال ِقص
َ َ َ ٌ َْ َ ْ ٌ َ ِّ َ ٌ ْ َ ُْ ْ َْ َ ْ ُْ َ ْ ُْ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ
وف وأداء إِل ِه ف لُ مِن أخِي ِه شء فاتباع بِالمعر ِ بِالعب ِد والنث بِالنث فمن ع ِ َ
َ ٌ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ٌ َ ْ ْ ْ ِّ ُ َ َ َْ ٌ ْ َ
ان ذل ِك ت ِفيف مِن َربكم َو َرحة فم ِن اعتدى بعد ذل ِك فله عذاب أ ِل ٌم بِإِحس ٍ
َ َْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ ََ ٌ َ ُ ْ َ ََ ُ
اب لعلك ْم تتقون كتِ َب عليك ْم كْ
ِ ول الل ِ أ ا ي اة ي ح اص
ِ ص ق
ِ ال فِ م ول
َ ًّ ُ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ ً ْ َ َّ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ
وف حقا إِذا حض أحدكم الموت إِن ترك خيا الو ِصية ل ِلو ِالي ِن والقربِني بِالمعر ِ
َ ٌ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ َّ َ ُ َ ِّ ُ َ ُ َّ ع ال ْ ُم َّتق َََ
ِين يبدلونه إِن اهلل س ِميع ني فمن بدل بعدما س ِمعه فإِنما إِثمه ع ال ِ
ِيم{ (ابلقرة )181 :178 َعل ٌ
َ ْ ُُ ْ ْ ُ ْ ََْ ُ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ
ِين آمنوا إِذا تداينت ْم بِدي ٍن إِل أج ٍل مس ًّم فاكتبوهُ َو َلكتب بينك ْم
}يا أيها ال
َْْ َ
كت ٌِب بِالعد ِل{(ابلقرة)182:
هذا ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر �سيتطلب وجود قوانني تنظم
الأمر الواقع وتخفف من مرارته قدر الإمكان ،احلياة لي�ست نزهة يف
ب�ستان ،ومواجهتها بال�شعارات �أمر لطيف يف البداية ولكن م�آالت النهاية
تزيد املرارة� ،سيكون هناك ق�صا�ص ،و�سيكون هناك و�صية ُت ْتَك حلفظ
احلقوق� ،سيكون هناك من يظلم يف الو�صية ،و�سيكون هناك من عليه �أن.
- 34 -
سورة البقرة 2
يتدخل ملنع الظلم ،و�سيكون هناك ديون بني النا�س ،وكاتب بالعدل ينظم
ذلك ،فاملدينة الفا�ضلة جمرد وهم ال وجود له ،والطبيعة الب�شرية تتطلب
توثي ًقا كهذا.
ُ َ َ َْ ُ ُ ْ َ ُ َ ُ َ ُ ٌْ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ًْ َ ُ َ َ ٌْ َ ُ
ي لك ْم }كتِب عليكم ال ِقتال وهو كره لكم وعس أن تكرهوا شيئا وهو خ
َْ َ َُْ َ َْ َُ َ َ َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ ً َ ُ َ َ ٌّ َ ُ
ش لك ْم َواهلل يعل ُم َوأنت ْم ل تعلمون{(ابلقرة)216 : وعس أن تِبوا شيئا وهو
ُ َ ُ
ك ْم{ ،لكنها احلياة أي�ضا ،رغم �أنه }ك ْر ٌه ل
�سيكون هناك قتال � ً
بواقعيتها ،لي�ست نزهة ،وتتطلب املواجهات مهما كرهنا ذلك ،و�ستذكرك
ال�سورة ب�أن الأ�صل يف الأمر هو �أنك تكره «القتال» ،و�أن الأمر لي�س كما
ير ِّو ُج البع�ض كما لو �أننا ُخ ِل ْق َنا لنقاتل ،لكنه اال�ضطرار ومواجهة الأمر
الواقع املر هو الذي يجيز القتال ولي�س �أي �شيء �آخر.
وه َّن ب َم ْع ُروف َأ ْو َ ِّ ُ ُ َّ َ ْ ُ
َ َ َ َّ ْ ُ ُ ِّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َّ َ َ ْ ُ ُ
}وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأم ِسك
سحوهن بِمعر ٍ
وف ٍ ِ
َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َْ َ َ َ ْ
َ َ َ ُ ْ ُ ُ َّ َ ً ْ َ ُ
ارا ِلَعتدوا َومن يفعل ذل ِك فقد ظل َم نفسه{ (ابلقرة)231 : ول تم ِسكوهن ِض
�سيكون هناك زواج وخالفات يف الزواج تقود �إىل الطالق� ،أمر م�ؤ�سف
بالت�أكيد ،ولكنه يجب �أن ُي َن َّظ َم و ُي َق َّ َن ،و�ضع �ضوابط لهذا الأمر �سيقلل
حت ًما من خ�سائر الطالق ،ومواجهة الواقع عرب ت�شريعات تقلل اخل�سائر
�أف�ضل بكثري من منع الطالق ب�شكل قاطع.
***
َ َّ
الس َم َ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ ُّ ُ َ َ ْ ُ ُ ُ َ ٌ َ َ َ ْ ٌ َ ُ َ
ات َوما ِ او ف}اهلل ل إِل إِل هو الح القيوم ل تأخذه ِسنة ول نوم ل ِ
ا م
َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َّ ف ْالَ ْ
ِيهم وما خلفهم ول ِ د ي أ ي ب ام م لع ي هِ ن ذ
ِ ِِ ِإب ل إ ه دِن
ع عف ش ي ِي
ال ا ذ ن م ضِ ر ِ
ودهَُ َْْ َ ََ َُ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ُ ْ ُّ ُ َّ َ ْ ْ ْ ُ ُ َ َ
ات والرض ول يئ يِيطون بِش ٍء مِن عِل ِم ِه إِل بِما شاء و ِسع كر ِسيه السماو ِ
يم{ (ابلقرة)255 : ل الْ َعظ ُ ْ ْ
حِف ُظ ُه َما َو ُه َو ال َع ِ ُّ
ِ
- 35 -
القرآن نسخة شخصية
خ�ضم كل هذا ال�صراع املرير ت�أتي �آية الكر�سي كما لو �أنها جاءت
ِّ يف
لرتيحك من ال�صراع ً
قليل ،تر ِّب ُت على كتفيك وتقول لك �أن ت�سرتيح هنا
من كل هذا الذي مررتَ به ،ت�شري لك �إىل ملكوت اهلل وقدرته وعلمه الذي
يفوق كل قدراتنا على التخيل� ،ست�شعرك الآية ب�أنه عز وجل يعرف كل هذا
الذي متر به ،ويعرف ما �سيحدث الح ًقا ،جمرد معرفته بذلك �ستمنحك
متاما يف هذا ال�صراع ،هوبع�ضا من الطم�أنينة وال�سكينة ،ل�ست وحدك ًً
َ َ َ َ ََ
الذي ال يغفل عنك حلظة واحدة ،و�سيذكرك ذلك ب�آية �سابقة} ،وإِذا سألك
ْ ْ ُ ُ
ُ َ ْ َ َ َّ ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ِّ َ ِّ َ ٌ َ
جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب
جيب دعوة ادلاع إِذا دع ِن فليست ِ عِبادِي عن فإِن ق ِريب أ ِ
َ َ َّ ُ َ ُ ُ َ
لعله ْم ي ْرشدون{ (ابلقرة)186 :
يبوا ل{ دوما نن�سى هذا اجلزء من الآية ،نركز على } ُأج ُ ََْ ْ َ ُ
يب ِ ً ِ }فليست ِ
ج
ََْ ْ َ ُ َد ْع َو َة َّ
ادل ِاع{ ونن�سى }فليست ِجيبوا{.
ال�شيء ذاته مع �آية الكر�سي.
�سرنتاح بعلمه الذي ال يغيب عنه �شيء ،لكن هذا ال يحدث بحفظ «�آية
الكر�سي» منف�صلة عما قبلها وبعدها من و�صايا و�أوامر ،بل عندما ن�أخذ
كل �شيء حزمة واحدة.
***
ِّ َ َْ َ
بعد طم�أنينة �آية الكر�سي �ست�أخذك ال�سورة فو ًرا �إىل }ل إِكراه ِف ادل ِ
ين
ََ ْ َْ َ َ ُْ ُْ ْ َ ْ َ َ َّ َ ُّ ْ ُ َ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َّ ُ
وت َويؤمِن بِاهلل فق ِد استمسك بِالع ْر َوة ِ
غ فمن يكفر بِالطاغ ِ قد تبي الرشد مِن ال
َ ْ ْ َ ْ
ال ُوث َق ل ان ِف َص َام ل َها َواهلل َس ِم ٌيع َعل ٌِيم{ (ابلقرة ،)256 :كما لو �أنك حتتاج �أن
ا�سرتحت و�أخذتَ �أنفا�سك
َ ت�ستوعب هذه الآية وما تقوله بعد �أن تكون قد
ً
قليل عند �آية الكر�سي.
- 36 -
سورة البقرة 2
�ستذكر كم من الإكراه ُمو ِر َ�س با�سم هذا الدين الذي قال � َّأل �إكراه
يف الدين ،كل �أمر �شرعي تع َّر�ض لإكراه بدرجة �أو ب�أخرى ،و�ستالحظ �أن
الر�شد هو ذاته يف الال �إكراه ،ويف الآية التي حتدثت عن �إجابة دعوة الداع
َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ ْ ْ ُ ََْ ْ َ ُ
ون {�صدفة! حا�شا هلل. جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب لعلهم يرشد
}فليست ِ
لكي تفهم الال �إكراه ح ًّقا ،ومتار�سه ح ًّقا ،ومتنع الإكراه با�سم دين الال
�إكراه ،عليك �أن تكون را�شدً ا � ًأول.
***
ََْ ُْ َْ ْ َ َ َ َََْ ُْ ْ َ َ ََ ََ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ِّ َ
كن ح الموت قال أولم تؤمِن قال بل ول ِ ِ ت ف ي ك ن ِ }وإِذ قال إِبراهِيم رب ِ
ر أ
ََ ُْ ِّ ُ َ ْ
ْ َ َ ُ َ َ َ
الط ْي ف ُ ْ ُ َّ َ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ً َ َّ
صهن إ ِ ْلك ث َّم اجعل ع ك جب ٍل مِنه َّن ِ ِلطم ِئ قل ِب قال فخذ أربعة مِن
ٌ َ ٌ َ ُ ْ ً ُ َّ ْ ُ ُ َّ َ ْ َ َ َ ْ ً َ ْ ْ َّ
َ َ
جزءا ثم ادعهن يأت ِينك سعيا واعلم أن اهلل ع ِزيز حكِيم{ (ابلقرة.)260 :
أي�ضا �إىل �أبيك �إبراهيم وهو ي�س�أل ربه عن �إحياء �ست�أخذك ال�سورة � ً
املوتى لكي يطمئن قلبه ،و�ستتذكر كم قلو ًبا كتمت حاجتها �إىل الطمـ�أنينة
كي ال تو�ص َم بالكفر واالبتداع واجلحود� ،ستتمنى لو �أنك
َ وقمعت �أ�سئلتها
ت�ستطيع �أن حتت�ضن �أباك �إبراهيم ،وتهم�س يف �أذنه مبخاوفك وقلقك ،لكن
يكفيك منه �أن قال هذه الكلمات و�أنه هنا يف ال�سورة� ،أنت لك احلق � ً
أي�ضا
�أن تبحث عن طم�أنينة قلبك وعقلك ،ولي�س لأحد �أن مينعك من �أ�سئلتك
وت�سا�ؤالتك يف الطريق �إىل الطم�أنينة.
***
- 37 -
القرآن نسخة شخصية
َ ْ ً َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َّ َ َ َ ُ َ ِّ ُ
}ل يكلف اهلل نفسا إِل ُوسعها لها ما كسبت َوعليها ما اكتسبت َربنا ل
ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ ْ
ِين مِن تؤاخِذنا إِن ن ِسينا أو أخطأنا ربنا ول ت ِمل علينا إِصا كما حلته ع ال
َ ْ ُ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ِّ ْ َ َ َ َ َ َ َ
قبلِنا َربنا َول تَملنا ما ل طاقة لَا ب ِ ِه واعف عنا واغ ِفر لا وارحنا أنت مولنا
ين{(ابلقرة)286 :ع الْ َق ْو ِم الْ َكف ِر ََ ْ ُ َْ ََ
فانصنا
ِ
ويف �آخر كل هذه امللحمة من ال�صراع مع الأمر الواقع� ،ستـ�أتي كلمات
تعبت؟ هل �أرهقك هذا الأمر الواقع؟ اخلامتة يف ال�سورة لرت ِّب َت عليك ،هل َ
نف�سا �إال و�سعها ،ميكنك �أن تطلب � َّأل ال ب�أ�س ،هذا طبيعي ،ال يكلف اهلل ً
ن�سيت �أو �أخط�أتَ ،ميكنك �أن تقول� :إن بع�ض الأمور ال ي�ؤاخذك اهلل �إن َ
طاقة لك بها ،وتطلب منه عز وجل � َّأل يح ِّم َل َك فوق طاقتك ،افعل ما يف
و�سعك ،ولكن كن على ب�صرية بهذا الواقع املحيط بك ،حا ِو ْل �أن تو�سع مما
يف و�سعك بالتدريج ،بحيث يتنا�سب مع ما ُك ِّل ْف َت به.
- 38 -
سورة آل عمران 3
عن جبر الخواطر المكسورة
- 39 -
القرآن نسخة شخصية
َ
وتذكرك ب�أن نهاية الق�صة هي يف يوم قادم حت ًما }ل َر ْي َب فِي ِه{ ولي�س
يف �أيام عابرة جعلك �أملها يوهمك �أنها النهاية.
ْ َ ُ َ َّ ُْ
(آل ون إِل َج َه َّن َم َوبِئْ َس ال ِم َه ُاد{
َ ََُ َ ُْ ُ َ َ ْ َ ُ َ
}قل ل ِلِين كفروا ستغلبون وتش
عمران)12 :
َّ ُ َّ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ ُ ُ ُ
اء َوت ِع ُّز نع الملك مِمن تش ك تؤ ِت الملك من تشاء وت ِ }ق ِل اللهم مال ِك المل ِ
ُ ُ َّ ْ َ ش ٍء َقد ٌك َ َْ ْ َ َ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ِّ
ِير تول ِج الليل ِف من تشاء وتذِل من تشاء بِيدِك الي إِنك ع
َّ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ انلَّ َه ُ ُ َّ َ َ
ت وت ِرج الميت مِن الح وترزق ار َوتول ِج انلهار ِف اللي ِل وت ِرج الح مِن المي ِ ِ
َ َ ْ ََ ُ َْ
اب{ (آل عمران )27 :26 ي حِس ٍ من تشاء بِغ ِ
تقول لك ال�سورة� :إن الف�صول تتغري ،والدوائر تدور ،و�إن ما يبدو
منت�ص ًرا عزيزً ا يف مرحلة ما قد ينتهي خا�س ًرا ً
ذليل يف نهاية املطاف،
تقول لك ال�سورة� :إن �شهوات احلياة مباحة وجميلة ،لكن ال تك�سر نف�سك
ب�أن حت�صر نف�سك فيها ،ف َث َّم ما هو �أكرث من ذلك يف هذه احلياة ،تقول
لك� :إن املحك هناك يف �أفق �أبعد لكنه حقيقي� ،ستنبهك �إىل دوران العامل
وامللك واملال وال�سلطة واجلاه بني النا�س ،مالك امللك ي�ؤتي امللك من ي�شاء
وينزعه ممن ي�شاء ،يعز من ي�شاء ويذل من ي�شاء ،فال تغرت كث ًريا بعزك
فهو عابر ،وال يحزنك عز َمنْ �أذلك �أو ظلمك فهو عابر كذلك ،ال �شيء
يدوم من هذه الأمور.
َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ َُ َْ ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
ت ام َرأة عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك }إِذ قال ِ
َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ يع الْ َعل َُ ْ َ َّ ُ
ِيم فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما أنت الس ِم
َّ َ َ ُ َ َ ُ ُ ِّ ْ
َ َّ ُ َ َ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ
َوضعت َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم َوإِن أعِيذها بِك َوذ ِّريتها م َِن
الر ِج ِيم{ (آل عمران .)36 :35 الش ْي َطان َّ َّ
ِ
- 40 -
سورة آل عمران
ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ً َ ِّ َ ً َّ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ِّ َ ْ
لنك ذ ِّرية طيبة إِنك س ِميع }هنال ِك دع زك ِريا َربه قال َرب هب ِل مِن
ُ َ ِّ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ ُ َ ِّ ُّ َ
شك بِيح َي اب أن اهلل يب ادلعءِ فنادته الملئ ِكة وهو قائ ِم يصل ِف ال ِمحر ِ
َ َ ِّ َ َّ ال َ َّ َ َ ِّ ً َ َ ُ ً َ ًّ َ َ ُ َ ِّ ً
ِني قال َرب أن ورا َونبِيا م َِن الص ِ مصدقا بِكلِم ٍة م َِن اهلل وسيدا وحص
َ َ َ ْ َ َ َ
ون ِل ُغل ٌم َوق ْد بَل َغ ِ َن الك َ ُِب َو ْام َرأ ِت َعق ٌِر ق َال ك َذل َِك اهلل َي ْف َع ُل َما ي َ َش ُاء{
َ ُ ُ
يك
(آل عمران .)40 :38
يلُ ُق َما ي َ َش ُ
َْ َ َ ْ َ ِّ َ َّ َ ُ ُ َ َ ٌ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ
اء ش قال كذل ِِك اهلل }قالت رب أن يكون ِل ول ولم يمسس ِن ب
َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ُ ُ
إِذا قض أم ًرا فإِنما يقول لُ كن فيكون{ (آل عمران )47
�سيعرفك جرب اخلواطر على �أ�سرة ب�سيطة فقرية ،وامر�أة تنذر طفلها
القادم بعد طول انتظار ،تبدو الأمور �صعبة بالن�سبة لها عندما ي�أتي الطفل
فلي�س الذ َكر كالأنثى ،لكن جرب اخلواطر ي�أخذ هذه الأنثى �إىل مكانة
َّ �أنثى،
غري م�سبوقة بني العاملني ،وت�أخذك ال�سورة مرة �أخرى �إىل �شيخ يكاد �أن
يفقد الأمل يف �صبي له ،لكن جرب اخلواطر من جديد يحقق له ما َب َدا
فهمت �أنها �ستلد من غري زواج ً
م�ستحيل ،ت�أخذك ال�سورة �إىل مرمي وقد َ
مي�سها ب�شر� ،أي كدر وانك�سار هذا الذي �سيحدث معها ،لكن ومن غري �أن َّ
متاما ،و�سرنى مكرهم يحيقجرب اخلواطر يقودها �إىل طريق �آخر خمتلف ً
بابنها الح ًقا ،ولكن النهايات �ستجعله فوقهم على نحو غري م�سبوق.
َ َ ْ
َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َْ ْ ْ َ
ون{ ال َّق ب َ
ون َ
الاط ِِل وتكتمون الق وأنتم تعلم ِ }يا أهل الكِت ِ
اب ل ِم تلبِس
(آل عمران.)71 :
وقد يك�سر خاطرك �أن ترى �أهل الكتاب يلب�سون احلق بالباطل ويكتمون
احلق وهم يعلمون ،ولكن هذا يجب �أن يذكرك �أنه خطر حمدق حتى
بك ،بكل من يزعم �أنه يحمل «الكتاب» ،كل الطرق التي �ضلوا عربها هي.
- 41 -
القرآن نسخة شخصية
يف عز انك�سارك �ستقول ال�سورة لك� :إنك من خري �أمة ،لكن لن يرتكك
ت�ستعمل ذلك ك�أفيون يخدرك عن واقعك ،بل �سيجعله جبرية وعي :الأمر
م�شروط ،فهل �أديت �شروطه؟ �أن ت�أمر باملعروف وتن َه عن املنكر يعني � ً
أي�ضا
�أن كلمتك يجب �أن تكون م�سموعة� ،أن لك مكانة جتعلك «قدوة» ،و�أنك مثال
ملا ت�أمر به وتنهى عنه ،فهل �أديت هذه ال�شروط لكي حتقق هذا االنتماء؟
َ ُ
َ ُ ْ ْ ُ َ َ َّ
ٌ َّ ُ ُْ َ
َْ َ َّ َ
} َول َق ْد نَ َ َ ُ َ
(آل ون{ صك ُم اهلل بِبد ٍر َوأنت ْم أذِلة فاتقوا اهلل لعلكم تشكر
عمران.)123 :
ت�أخذك ال�سورة �إىل �أعلى حلظات عزك� ،إىل حلظة الن�صر يف بدر،
فرييك ما جعلك الن�صر تن�ساه ،ويقول لك :لقد كنت ً
ذليل ك�س ًريا ،لكن
متاما ،ج َرب الن�صر ك�س َرك وما
�سارت الأمور �إىل عاقبة �أخرى خمتلفة ً
كنت فيه من ذل ،وتغريت نظرتك لنف�سك ونظرة النا�س �إليك.
ْ َْ َ ْ ُ َ ٌ
ني إِن يمسسك ْم ق ْرح } َو َل تَه ُنوا َو َل َتْ َزنُوا َو َأ ْن ُت ُم ْالَ ْعلَ ْو َن إ ْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤمن َ
ِِ ِ ِ
َّ َ َ ُ َ َ ْ ََ َّ َ َ َ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ٌ ْ ُ ُ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ُ َ ُ َ َ ْ
اس و ِلعلم اهلل الِين آمنوااولها بي انل ِ فقد مس القوم قرح مِثله وت ِلك اليام ند ِ
َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ ُّ َّ
الظال ِ ِم َني{ (آل عمران .)140 :139 ويتخِذ مِنكم شهداء واهلل ل يِب
- 42 -
سورة آل عمران
ثم ت�أخذك ال�سورة �إىل ك�سر كبري� ،إىل يوم �أُ ُح ٍد ،فرت ِّبت على كتفيك كما
لو �أنك كنت هناك� ،إنه حال الدنيا ،تتغري الف�صول ،تلك الأيام نداولها بني
النا�س ،مرة له�ؤالء ومرة لأولئك ،لكن ال �سواء بال�ضرورة حتى لو ت�شابهت
الظروف ،فاملهم �أن تكون العاقبة خمتلفة.
تقب�ض عليك ال�سورة يف حلظة انك�سار هائل ،هوان وحزن ،وتقول لك:
�إنك الأعلى.
ً
م�شروطا� ،إن كنت م�ؤم ًنا. ثم مرة �أخرى جتعل ذلك
ً
حمتمل، بل �إن جرب اخلواطر ي�أخذك حتى �إىل ك�سر مل يحدث ،لكنه كان
ك�سر كبري ج ًّدا� ،أن ُي ْقت ََل الر�سول -عليه ال�صالة وال�سالم -نف�سه.
ُّ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ َّ ٌ َّ ُ ٌ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ
الرسل أفإِن مات أ ْو قتِل انقلبت ْم ع } َوما ممد إِل َرسول قد خلت مِن قبلِ ِه
َّ
الشاك ِر َ َ ًْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ ََْ ْ ََ
ع َع ِق َب ْي ِه َفلَ ْن يَ ُ َّ
ين{ ِ اهلل ي ز
ِ ج ي س و ا ئ ي ش اهلل ض أعقابِكم ومن ينقلِب
(آل عمران.)144 :
جرب اخلواطر يقول لك هنا� :إن العاقبة يف الثبات.
***
كل منا يوم بدر ،ويف حياة كل منا يوم �أُ ُحد ،وجبل مت حتذيرنا
يف حياة ٍّ
منه ،وطعنة م�ؤملة يف الظهر ،وهزمية موجعة مفجعة ،وخواطر مك�سورة.
أي�ضا �سورة �آل عمران ،ت�أتيك لتجرب ك�سرك وتط ِّيب جرحك ولكن هناك � ً
ومت�سح دمعتك ،كان ال�صراع مري ًرا يف «�سورة البقرة» ،وال بد �أنه ت�ض َّمنَ
ك�س ًرا كك�سر يوم �أُ ُحد� ،أو �أيام �أُ ُحد؛ لذلك ت�أتي بعدها �سورة �آل عمران؛
لتجرب ما ُك ِ�س َر.
- 43 -
القرآن نسخة شخصية
دوما ،انظر
خ�صي�صا ليهم�سوا يف �أذنيك :هذا يحدث ً
ً �آل عمران ي�أتونك
�إىل ال�صورة الكبرية� ،إىل العاقبة� ،إىل النهاية التي ت�ضم كل النهايات.
َ ُ ُْ َ َّ َّ ُ َ َ َُ ْ َّ َ
َ ُّ َ
ك ْم تفل ُِح َ
ون{ ُ
بوا َوصاب ِ ُروا َو َرابِطوا َواتقوا اهلل لعل
اص ُ
}يا أيها الِين آمنوا ِ
(آل عمران.)200 :
- 44 -
سورة النساء 4
عن المستضعفين في األرض
ورغم �أن ا�سمها �سورة الن�ساء� ،إال �أنها لي�ست فقط عن الن�ساء� ،إال �أنها
عن كل امل�ست�ضعفني يف الأر�ض؛ الن�ساء واليتامى وامل�ساكني ،كل من ميكن
�أن يكون عر�ضة لال�ستغالل.
لكن هذه ال�سورة لي�ست لذرف الدموع على ه�ؤالء وال حتى للحث على
أ�صل على الكثري من التعاطف الذي ال التعاطف معهم ،فه�ؤالء يح�صلون � ً
ُي ْ�سمن وال ُي ْغني من جوع ،بل هي بب�ساطة لتغيري �أو�ضاعهم ،وتغيري هذه
الأو�ضاع ال يحدث باملواعظ وال بالنوايا احل�سنة فقط ،بل بالقوانني ،بتغيري
الأو�ضاع التي قادت �إىل ا�ستغالل �ضعفهم ،ولأن اال�ستغالل الأكرب كان ي�أتي
عن طريق جعل ه�ؤالء يف حالة حاجة «مادية» ف�إن �أول خطوة كانت يف ك�سر
هذا الو�ضع وتغيريه.
تخلي�صهم من «ال َع َو ِز املادي» وجعلهم «م�ستقلني» مال ًّيا هو �أول خطوة
يف هذا.
يب م َِّما تَ َر َك ال ْ َو ِ َ ِّ َ َ ٌ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ
ون َول ِلنِّ َساءِ نَص ٌ
ان
ِ ال ِ ان والقرب }ل ِلرج ِ
ال ن ِصيب مِما ترك الو ِال ِ
َ َ
َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ ْ ُ ْ ُ َ َ ً َ ْ ً
َ
ث ن ِصيبا مف ُروضا{ (النساء)7 : والقربون مِما قل مِنه أو ك
- 45 -
القرآن نسخة شخصية
ُ ْ َّ َ ْ ُ َ ِّ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ ً َ َ ََْ ُ ُ ُ
اء ف ْوق ي فإِن كن ن ِس وصيكم اهلل ِف أولدِكم ل ِذلك ِر مِثل حظ النثي ِ }ي ِ
َُْ َ َ ْ ُ ِّ ْ ُ َ ً َََ ََْْ ََُ َُُ َ َ َ ْ َ َ ْ
ي فله َّن ثلثا ما ت َرك َوإِن كنت َواحِدة فلها انلِّصف َو ِلب َوي ِه ل ِك َواح ٍِد مِنهما اثنت ِ
ُ
َ ُ َ َ ِّ ُّ ُ ُ َ ْ َ ك ْن َلُ َو َ ٌُّ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ
ل َو َو ِرثه أب َواهُ ف ِلم ِه اثللث فإِن السدس مِما ترك إِن كن ل ول فإِن لم ي
َْ ُ ُ َ َْ َ ُ ُ َ َ َّ ُ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ ٌ َ ُ ِّ
وص بِها أ ْو دي ٍن آباؤك ْم َوأبناؤك ْم كن لُ إِخ َوة ف ِلم ِه السدس مِن بع ِد َو ِصي ٍة ي ِ
َ َ ْ ُ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ ْ ً َ َ
يض ًة م َِن اهلل إ ِ َّن اهلل َك َن َعل ًِيما َحك ًِيما{ ل تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ف ِر
(النساء)11 :
َ َْ ُ ُ َ ْ َُ َ َّ ِّ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ
ب َول تأكلوا أم َواله ْم إِل
ِ ي الطِ ب يث}وآتوا التام أموالهم ول تتبدلوا البِ
وبا َكب ًَ ْ َ ُ ْ َّ ُ َ َ ُ ً
ريا{ (النساء)2 : ِ أموال ِكم إِنه كن ح
بعد �أن كانت املر�أة عند �أغلب قبائل العرب تو َر ُث كما يو َرث املتاع عندما
يتوفى عنها زوجها(((� ،أ�صبحت �شري ًكا يف الإرث كما الآخرين ،و�سيتغري
بذلك ح�ساب �إرث اجلميع� ،أول درو�س �إزالة اال�ست�ضعاف ت�أتي هنا حتديدً ا،
توفري اال�ستقالل االقت�صادي ،الكفاية االقت�صادية على الأقل ،و�سيتجاوز
أي�ضا ،وحتى �صغار الذكور الذين ذلك الأمر الزوجة �إىل البنت والأخت � ً
كانوا ال يرثون �ساب ًقا؛ لأنهم ال يعتربون عند القبيلة قوة مهمة ما داموا غري
قادرين على حمل ال�سيف ح�سب �أعراف العرب((( ،الآن الأمر اختلف ،لقد
�أُ ِع َيد ر�سم كل �شيء ،و�ضمن ما ُر ِ�س َم كانت تلك احلدود التي تف�صل بني
ال�ضعف واال�ست�ضعاف ،حدود اهلل ،مل ي ُع ْد من ال�سهل ا�ستغالل و�ضع املر�أة
ْ َ ُ ُ ُ
�أو اليتيم ما دام قد �أ�صبح �شري ًكا� ،سماها القر�آن حدود اهلل.} ،ت ِلك حدود
َ َ ْ َْ َ ْ َْ َ ُ َ َْ َ َ ُ َ ُ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ
ِين فِيها
الار خ ِ ات ت ِري مِن تتِها النه
اهلل ومن يطِعِ اهلل ورسول يدخِله جن ٍ
يم{ (النساء)13 : َو َذل َِك الْ َف ْو ُز الْ َعظ ُ
ِ
ال�سورة تقول لنا� :إن الإن�سان ُخ ِلقَ �ضعي ًفا ،لكنها تف ِّرق بني هذا وبني
ا�ستغالل هذا ال�ضعف ،بني اال�ست�ضعاف ،والأمر ال يخ�ص الن�ساء فقط،
مر�شح لأن يكون م�ست�ضع ًفا يف مرحلةوال اليتامى وامل�ساكني فقط ،كل منا َّ
ما ،يف منعطف ما من حياته ،قد يتعر�ض لظلم ،ملن ي�أخذ حقه ،لظلم
دوما اال�ست�ضعاف مرتبط بظلم ظامل من �شخ�ص �أ�شد قو ًة ي�ستغل قوتهً ،
ي�ستغل �ضع ًفا ما.
َُ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ ُ َ ً َ ْ َ ُ ْ ُ َ ْ ْ َ َّ ُ
وت َويقولون
ت والطاغ ِ الب ِ }ألم تر إِل الِين أوتوا ن ِصيبا مِن الكِت ِ
اب يؤمِنون ب ِ ِ
َ َّ َ َ ُ َ ً ََُ َْ َ َّ َ َ َ
ِين كف ُروا هؤلءِ أهدى مِن الِين آمنوا سبِيل{(النساء)51 : ل ِل
ِّ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ِّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ال َوالنساءِيل اهلل والمستضع ِفني مِن الرج ِ ِ ِ ب س فِ ون }وما لكم ل تقات ِل
ْ َ ْ َْ ُ
ْ َ َ َ َ َّ ْ َ
َّ َ َ ُ ُ َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َْ
ِين يقولون َربنا أخ ِرجنا مِن ه ِذه ِ الق ْري ِة الظال ِِم أهلها َواجعل لَا مِن ان الوال ِول ِ
ك نَ ِص ً َ ُ ْ َ َ ًّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ
ريا{ (النساء.)75 : لنك و ِلا واجعل لا مِن لن
ِّ
م�صاف �ستقول لنا ال�سورة� :إن تغيري و�ضع ه�ؤالء ي�ستحق �أن يكون يف
ُْ ْ َ ْ
ض َعف َ َ َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ني م َِن يل اهلل َوالمست ِ
القتال يف �سبيل اهلل} ،وما لكم ل تقات ِلون ِف سبِ ِ
ْ ْ
الر َج ِال َوالنِّ َساءِ َوال ِو َلان{� ،إنها �سورة كل امل�ست�ضعفني ولي�س الن�ساء فقط.
ِّ
َُ َ َ َْ ُ ُ َ ْ َ َ َ ُْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ
ات مِن ذك ٍر أ ْو أنث َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك يدخلون الص ِ َ
ال ِ }ومن يعمل مِن
ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ
ون نَ ِق ً
ريا{ (النساء)124 : النة ول يظلم
الذ َك ِر والأنثى ،لكن لي�س عند رب نعم ،رمبا هناك اختالفات بني َّ
الذ َك ِر والأنثى يف عمل
العاملني ،لي�س يف فعلهم للخري ،ال�سورة ت�ساوي بني َّ
احل َك ِم العدل.
اخلري ،وت�ؤكد �أن اجلميع �سوا�سية عند َ
ُ َ َْ ََ َْ ُ ِني بالْ ِق ْس ِط ُش َه َد َ آم ُنوا ُكونُوا َق َّوام ََ َ ُّ َ َّ َ َ
اء هلل َولو ع أنف ِسك ْم أ ِو ِ }يا أيها الِين
َْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ َ
ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ًّ ْ َ ً َ
ريا فاهلل أ ْول ب ِ ِهما فل تتبِعوا اله َوى أن الو ِالي ِن والقربِني إِن يكن غنِيا أو ف ِق
ون َخب ً َ َ َ ََْ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ ُ َ َّ
ريا{ (النساء)135 : ِ لم ع ت ا م ِ ب ن ك اهلل ن تعدِلوا وإِن تلووا أو تع ِرضوا فإ ِ
وتقول لنا ال�سورة� :إن العدل والقيام بالعدل وحده هو الذي ميكن �أن
يزيل اال�ست�ضعاف يف الأر�ض ،وهذا ال ميكن �أن يحدث بال�شعارات وال
بالدعوة لذلك وال حتى بتغيري مفاهيم النا�س فح�سب.
أي�ضا �أن ُي ْق َرنَ بالقانون.
بل يجب � ً
- 48 -
سورة النساء
ولذلك عندما تنتهي ال�سورة فهي تنتهي بحكم �آخر من �أحكام املرياث،
يف �آية الكاللة ،كما لو �أنها تقول� :إن كل احلديث عن الق�سط والعدل يجب
�أن ُي َق َّي َد بقانون ،يجب �أن ُي َق َّ َن ،يجب �أن يجد ما يحميه ويحققه.
***
فلنتذكر هنا �أن منح احلقوق للمر�أة �أو لأي م�ست�ض َع ٍف يف الأر�ض ،لي�س
منحة وال منة من �أحد ،بل هو واجب ،بال�ضبط هو �إرجاع احلق ل�صاحبه،
الذي قد ال يعرف � ً
أ�صل �أنه حقه!
َ ْ َّ َ َ َْ َ َ َ َ َ ُْْ َْ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ ْ َ َ َ َّ
اس أن
ات إِل أهلِها وإِذا حكمتم بي انل ِ }إِن اهلل يأمركم أن تؤدوا المان ِ
َ َ َ ً
يعا بَ ِص ً َّ َّ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َّ
ريا{ (النساء)58 : تكموا بِالعد ِل إِن اهلل ن ِ ِعما ي ِعظك ْم ب ِ ِه إِن اهلل كن س ِم
***
يف منت�صف ال�سورة جند هذا احلوار الذي ال ميكن �إال �أن يجعلنا نفكر
بكل �شيء حتى النهاية.
َ ُ ْ ُ َ ُ ُ َّ َ ُ َُْ َّ َّ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ُ َ
ِيم كنت ْم قالوا كنا ِين ت َوفاه ُم الملئ ِكة ظال ِِم أنف ِس ِه ْم قالوا ف }إِن ال
َ َُ َ َ ُ َ ًَ ََُ َ ُ ََْ َ ُ ْ َْ ُ ْ َْ ُ ْ َ ْ َ َ
جروا فِيها فأول ِكمستضع ِفني ِف الر ِض قالوا ألم تكن أرض اهلل وا ِسعة فتها ِ
اء ْت َم ِص ً ََْ ُ
اه ْم َج َه َّن ُم َو َس َ
ريا{ (النساء)97 : مأو
- 50 -
المائدة 5
الطبيعة البشرية بال تجميل وال فوتوشوب
وكل ما يلي �سيبني لك �أن احلياة كلها ميكن �أن تكون جمموعة من
العقود التي ينبغي االلتزام بها ،و�أن الطبيعة الب�شرية حتتاج �إىل �أن يكون
هناك «عقد» � ًأول ،ومن َث َّم حتتاج �إىل �أن تلتزم ببنود هذا العقد ،دون وجود
عقود ملزمة متيل الطبيعة الب�شرية �إىل �أن تتمادى� ،إىل �أن تتجاوز� ،إىل �أن
تذهب �إىل �أ�سفل ما فيها و�أكرث جوانبها ظلم ًة.
ُ َّ ْ َ ُ َ َ ُ
�سيبد�أ الأمر بوجود عقد �أو ت�شريع يخ�ص الطعام }أحِلت لك ْم ب ِهيمة
َْ
ال ْن َع ِام{ ،و�سيكون هناك تعليمات �أخرى تخ�ص الطعام متنع امليتة والدم
أو�ضاعا معينة لأنعام هي حالل بالأ�صل.
وحلم اخلنزير ،و�أخرى حت ِّرم � ً
- 51 -
القرآن نسخة شخصية
ُْْ َ َ ُ َ َ ُ َّ َ ْ ُ ِّ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ
ي اهلل ب ِ ِه َوالمنخنِقة ِ ِغ ل ِل ه أ ام و }حرمت عليكم الميتة وادلم َ ولم ال ِ ِ
ير ِن
ُ َّ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ْ ُ َ َ ِّ َ ُ َ َّ َ ُ َ َ َ َ َّ
الس ُب ُع إِل َما ذك ْي ُت ْم َو َما ذب ِ َح َ َع انلُّ ُص ِب{ والموقوذة والمتدية وانل ِطيحة وما أكل
(املائدة)3 :
لكن ملاذا هذا الأمر مهم ج ًّدا لدرجة �أن ال�سورة تبد�أ به؟
بب�ساطة لأن الإن�سان «م�ضطر» �إىل طعامه كي ي�ستمر باحلياة ،ال �شيء
�سيغري هذه احلقيقة ،وعندما ترت�سخ عنده فكرة وجود عقد يحتوي على
ممنوعات وم�سموحات يف طعامه ،ويعتاد عليها وعلى االلتزام بها ،ف�إن
فكرة العقد نف�سها والوفاء بالعقد �ستتكر�س �أكرث و�أكرث.
َ َْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ
ال َرام َول الهد َي َول القلئ ِد ِين آمنوا ل تِلوا شعائ َِر اهلل ول الشهر}يا أيها ال
َ َ ِّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ً ْ َ ِّ ْ َ ْ َ ً َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ
ول آمني اليت الرام يبتغون فضل مِن رب ِهم ورِضوانا وإِذا حللتم فاصطادوا
َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ْ
اونوا ع ج ِد الر ِام أن تعتدوا وتع ول ي ِرمنكم شنآن قومٍ أن صدوكم ع ِن المس ِ
َ ُ ْ َ َّ ْ ِّ َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ُ
اب{ ِ ق ع
ِ ال ِيد
د ش اهلل ن ِ إ اهلل وا ق ان واتالث ِم والعدو ِ
ال ِب واتلقوى ول تعاونوا ع ِ
(املائدة� )2:سيكون هناك عقد يخ�ص «�شعائر اهلل» و«ال�شهر احلرام»
وال�صيد يف احلرم ،حتى يف احلرب هناك «عقد» يجب �أن يوفى به ،حتى
َ َ ْ َ َّ ُ َ َ ُ
مع ظلم البع�ض هناك التزام بعقد �أن تعدل معهمَ } ،ول ي ِرمنك ْم شنآن
ُ َ َّ َ
ق ْومٍ َ َع أل َت ْعدِلوا{.
هذه العقود �أو الت�شريعات التي قد تبدو ب�سيطة هي منوذج م�صغر
للميثاق الأكرب ،لعهد وعقد �أكرب على الإن�سان �أن يويف به ويلتزم به،
وال�سورة تتدرج معنا يف فهم ذلك؛ من عقود يومية �سهلة يف الأداء (فيما
يخ�ص الطعام ً
مثل) �إىل ما هو �أكرب و�أ�شمل.
***
- 52 -
سورة املائدة
ْ َ َ ََ ََْ ُْ ُ ْ َْ َ َ َ َ ً َ َ َ َ َ ََ ْ َ َ َ
ش ن ِقيبا َوقال اهلل } َولقد أخذ اهلل مِيثاق ب ِن إِسائ ِيل وبعثنا مِنهم اثن ع
َ ُُ ُ َْ ْ ُ ُ ِّ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ ْ ُ
الزكة َوآمنت ْم ب ِ ُرس ِل َوع َّز ْرتموه ْم َوأق َرضت ُم إِن معكم ل ِئ أقمتم الصلة وآتيتم
ْ َْ َ َْ َ ْ ً َ َ ً َ ُ َ ِّ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ َّ
ات ت ِري مِن تتِها اهلل قرضا حسنا لكفرن عنكم سيئات ِكم ولدخِلنكم جن ٍ
السبيل َ فب َما َن ْقضهمْ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َّ
ِ ِ ِ ِ ِ النهار فمن كفر بعد ذل ِك مِنكم فقد ضل سواء
َ َ ُ َ ًّ َّ َ َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ً ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ ْ ََ
اض ِع ِه ونسوا حظا مِما مِيثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قا ِسية يرفون الكِم عن مو ِ
َ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ً ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ ُ ِّ
ذك ُروا ب ِ ِه ول تزال تطلِع ع خائ ِن ٍة مِنهم إِل قلِيل مِنهم فاعف عنهم واصفح إِن
ني{ (املائدة .)13 :12اهلل ُي ُّب ال ْ ُم ْحسن َ
ِ ِ ِ
ت�أخذنا �سورة املائدة �إىل ميثاق بني �إ�سرائيل الذي ُن ِق َ�ض بق�سوة قلوبهم
وحتريفهم ملقا�صد كتابهم (ق�سوة القلب وحتريف املعاين ،هل يذكرنا هذا
ب�شيء؟)
ََ ْ َْ َ َ َّ َ َ ُ َّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ُ َ ًّ َّ ُ ِّ
ارى أخذنا مِيثاقه ْم فنسوا حظا مِما ذك ُروا ب ِ ِه فأغ َرينا }ومِن الِين قالوا إِنا نص
َ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ِّ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ََْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َْ ْ َ َ َ
ون{ اء إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة َوس ْوف ينبئه ُم اهلل بِما كنوا يصنع بينهم العداوة والغض
(املائدة.)14:
أي�ضا �إىل ميثاق الن�صارى الذي ُن ِق َ�ض بتفرقهم وبغلوهم يف وت�أخذنا � ً
ال�سيد امل�سيح( ،هل يذكرنا هذا ب�شيء جمددًا؟)
َ َّ ُ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ ُ ُ َ
ارى َنْ ُن أ ْب َن ُ َ َ َ َْ ُ ُ
ود َوانلَّ َص َ
اء اهلل َوأحِباؤهُ قل فل َِم يعذبك ْم بِذنوبِك ْم }وقال ِ
ت اله
ُ ْ ُ َّ َ َ َ
ات ش م َِّم ْن َخلَ َق َي ْغ ِف ُر ل َِم ْن ي َ َش ُ
اء َويُ َع ِّذ ُب َم ْن ي َ َش ُ َ
اء وهلل ملك السماو ِ بَ ْل أ ْن ُت ْم ب َ َ ٌ
َ
ري{ (املائدة)18: َو ْال ْر ِض َو َما بَيْ َن ُه َما َوإ َ ْل ِه ال ْ َم ِص ُ
ِ
ومرة �أخرى :بتوهم ك ٌّل من الطرفني �أن حمبة اهلل ح�صرية له فقط،
منطا ً
قابل للتكرار؟ �أمل ي�سقط أي�ضا( ،هل يذكرنا ب�شيء؟ �ألي�س هذا ً وهذا � ً
بع�ض منا يف هذا املطب �أو ذاك �أو يف االثنني م ًعا؟)
***
- 53 -
القرآن نسخة شخصية
ُّ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َْ َ َ ُ َ ُ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ً َ َ ُ
}قالوا يا موس إِنا لن ندخلها أبدا ما داموا فِيها فاذهب أنت َو َربك فقات ِل إِنا
ََ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ِّ َ َ ْ ُ َّ َ ْ َ َُ َ ُ َ
ي الق ْو ِم هاهنا قاعِدون ( )24قال َرب إِن ل أملِك إِل نف ِس وأ ِخ فافرق بيننا وب
َ َ َْ َ َْ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ َ ٌ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ً َ ُ َ الْ َفاسق َ
ني سنة يتِيهون ِف ال ْر ِض فل تأس ني ( )25قال فإِنها مرمة علي ِهم أرب ِع ِ ِ
ني{ (املائدة )26 :24ع الْ َق ْو ِم ال َفاسق َ
ْ ََ
ِ ِ
من �أر�ض التيه �ست�أخذنا ال�سورة �إىل �أ�صل الق�صة� :إىل �أول جرمية يف
تاريخ الطبيعة الب�شرية ،عندما قتل قابيل هابيل ،الدافع؟ الغرية ،احل�سد.،
- 54 -
سورة املائدة
- 55 -
القرآن نسخة شخصية
تلك الطبيعة الب�شرية عندما تكون بال عقد وال رادع ،تكون هي
«اجلاهلية» بعينها.
ُ ُ َ ُ ْ ً َْ ك َم ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َََ ُ ْ
ون{ يوق ِن الا ِهلِي ِة يبغون َومن أحسن مِن اهلل حكما ل ِقومٍ }أفح
(املائدة)50:
اجلاهلية هي �أن ترتك الطبيعة الب�شرية بال تهذيب وال تعليم وال التزام
أنا�سا ي َّد ُعون �أنهم
برادع �أو قانون ،و�ستحتوي على تدرجات وا�سعة وت�شمل � ً
�ضد اجلاهلية و�أنهم يحاربونها و�أنهم �إمنا يريدون حكم اهلل ،لكنهم يف
احلقيقة التطبيق العملي ملعنى اجلاهلية الأعمق.
البع�ض منهم �سيتنازل عن �إن�سانيته ويرتد �إىل م�ستوى حيواين يف
ال�سلوك (القردة واخلنازير) كما �سيقول القر�آن ،والبع�ض منهم �سيعبد
(الطاغوت).
َ َْ َ َ ْ َََُ ُ ْ َ ْ ُ َ ِّ ُ ُ ْ َ ٍّ ْ َ َ َ ُ َ ً ْ َ
ش مِن ذل ِك مثوبة عِند اهلل من لعنه اهلل َوغ ِض َب علي ِه }قل هل أنبئكم ب ِ
َ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ٌّ َ َ ً َ َ َ ُّ َ ْ َ
ازير وعبد الطاغوت أول ِك ش مكنا وأضل عن سواءِ وجعل مِنهم ال ِقردة والن ِ
َّ
يل{ (املائدة)60 السبِ ِ
والبع�ض �سي َّد ِعي بخل اهلل برحمته على العاملني؛ ليربروا بخلهم هم
مقد�سا.
ويجعلوه ً
َ ْ ُ َ ٌ ُ َّ ْ َ ْ ْ َ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َْ ُ ُ َ ُ
ان
ِيهم ول ِعنوا بِما قالوا بل يداه مبس َوطت ِ
ت الهود يد اهلل مغلولة غلت أ ُيد ِ }وقال ِ
ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ َّ َ ً ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ ً َ ُ ْ ً َ ْ َ ْ َ
ييدن كثِريا مِنهم ما أن ِزل إِلك مِن ربك طغيانا وكفرا وألقينا ين ِفق كيف يشاء ول ِ
َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ ُ َ ً ْ َ ْ َ ْ َ َ َ
بينهم العداوة والغضاء إِل يو ِم ال ِقيام ِة كما أوقدوا نارا ل ِلحر ِب أطفأها اهلل
َْْ َ َ ً
ادا َواهلل َل ُي ُّب ال ْ ُم ْفسد َ َْ َ َ
ِين{ (املائدة.)64: ِ ِ َويسع ْون ِف الر ِض فس
- 56 -
سورة املائدة
***
نزلت مائدة ال�سماء على حواريي ال�سيد امل�سيح� ،أما املائدة التي �أُ ْن ِز َل ْت
لنا فهي مائدة مواجهة مع النف�س ومع الطبيعة الب�شرية ،مائدة نواجه
فيها تاريخ ما م�ضى وجتاربه املريرة ،مائدة تقلب الطاولة على الكثري من
الأوهام فيما يتعلق بالطبيعة الب�شرية.
- 57 -
القرآن نسخة شخصية
وج ًها لوجه مع �أنف�سنا ،على تلك املائدة ،نعم ،نحتاج �إىل قوانني رادعة،
دوما قابيل يقتل هابيل ،و�أر�ض التيه
�إىل ت�شريعات ملزمة ،و�إال ف�إن هناك ً
حميطة بنا ويف انتظارنا ،نحتاج �أن نكون �صادقني مع حقائق الطبيعة
الب�شرية «امل�ؤ�سفة» لكي نقر باحتياجاتها ،نحتاج ال�صدق يف مواجهة ذلك.
ال�صدق.
ُ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َّ
الصا ِدق َِني ِص ْدق ُه ْم{. تنتهي ال�سورة ب�آية تقول لنا} :هذا يوم ينفع
للخروج من التيه ،ولكي مننع قابيل �آخر من �أن يقتل هابيل جمددًا.
- 58 -
سورة األنعام 6
أهم عالقة في حياتك
الآن بعد �أن اجتزتَ كل هذا ،ت�صل �إىل العالقة الأهم يف حياتك.
ملاذا لي�س قبل هذا؟ �أال يفرت�ض �أن تركز على هذه العالقة قبل كل
�شيء؟
لي�س بال�ضرورة ،فكل ما �سبق ميكن له �أن ي�شو�ش عليك يف عالقتك
تلك� ،صراعك املرير مع الواقع من حولك ومع الك�سر الذي فيك ومع
اال�ست�ضعاف ومع طبيعتك الب�شرية ميكن له �أن ي�ؤثر �سلب ًّيا على كل
عالقاتك ،حتى العالقة الأهم؛ لذا فت�س ْل ُ�سل �سور القر�آن يجعلك «حت ُّل»
ق�ضاياك العالقة � ًأول� ،أو على الأقل ت�صبح �أكرث وع ًيا بها ،قبل �أن ُي ْد ِخلك
�إىل ال�سورة التي ت�أخذك �إىل العالقة الأهم يف حياتك ،طب ًعا هذا ال يعني
�أن ما �سبق كان خال ًيا من هذه العالقة ،ال بالت�أكيد ،فكل ما يف �سور القر�آن
يرتبط بهذه العالقة بطريقة �أو ب�أخرى ،لكن احلديث هو عن �أهم و�أبرز ما
داخل «ال�سور» يف كل �سورة.
***
ور ُث َّم َّال َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ
الظلُ َمات َوانلُّ َ َ َ َ َّ َ َ َّ َْ ْ ُ
ِين ِ ات والرض وجعل المد هلل الِي خلق السماو ِ }
َ ُ ِّ َ ْ ََ
كف ُروا ب ِ َرب ِه ْم يعدِلون{ (األنعام)1 :
تبد�أ هذه ال�سورة مبا بد�أ به القر�آن كله :باحلمد ،هذه العالقة الأهم يف
دوما من ناحيتك باحلمد ،مهما كان ومهما حدث ،احلمد، حياتك �ستبد�أ ً
لكنك متر �أحيا ًنا مبا يجعل هذا �صع ًبا.
ُْ َ ْ َ ريوا ف ْالَ ْر ِض ُث َّم ْان ُظ ُروا َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة ال ْ ُم َك ِّذب َُ ُْ
ني قل ل ِمن ما ِف ِ }قل ِس َ ِ
َّ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َ ََ ََ َْ ُْ ْ ْ َّ َ َ
الرحة َلجمعنك ْم إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة ل ات َوالر ِض قل هلل كت َب ع نف ِس ِه السماو ِ
َّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ
سوا أنفسه ْم فه ْم ل يؤمِنون{ (األنعام .)12 :11 ريب فِي ِه الِين خ ِ
- 60 -
سورة األنعام
َ ْ َ ْ َ َ َ ٌ ُ ُ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ً ُُ ََ ُ َ
جنا َوإِن يكن ميتة ورنا ومرم ع أزوا ِ ِ كلِ ة ِص ل ا خ ِ
ام عن ال ِ ه ذ
ِ ه ون
ِ ط ب ف ِ ا م وقالوا
ِيم{ (األنعام .)139 :138
َ
ِيم عل ٌ ُ َّ ُ َ ْ
شك ُء سيجزيه ْم َوصفه ْم إنه َحك ٌ ْ َ َ َ َف ُه ْم فِي ِه َ
ُ
ِ ِ ِ
ملاذا الأنعام؟ ت�شري ال�سورة يف �أكرث من مو�ضع �إىل تالعب امل�شركني يف
عالقتهم بالأنعام وتق�سيمها ،مرة يق�سمونها لتكون حمرمة على الإناث،
ومرة تكون فقط ل�سدنة الأوثان ،مرة ُي ْذ َك ُر عليها ا�سم اهلل ومرة �أ�سماء
الأوثان.
لكن هذه الأنعام مل تكن جمرد �أنعام ،كانت دعامة من دعائم االقت�صاد
قليل لوجدنا �أن هذا التالعب �آنذاك ،كانت مثل «ر�أ�س املال» ،ولو فكرنا ً
بر�أ�س املال عرب الدين وعرب ال�شعارات الدينية التي ُت ْظ ِهر الورع و ُت ْب ِطن
الربح يف التجارة.
يوما ما ،ميكن �أن يكون ال�سورة تنبهنا �إىل ذلك ،وما كان ا�سمه �أنعام ً
ا�سمه املال� ،أو ر�أ�س املال اليوم� ،أو �أي �صيغة و�شكل من �صيغه و�أ�شكاله.
لي�س هذا فقط ،ف�ضعف عالقتك به عز وجل لن يقود فح�سب �إىل �أن
تتورط يف ا�ستغالل الدين لتحقيق الربح.
أي�ضا جز ًءا من «عملية الرتبح» لكنه ميكن �أن يقودك �إىل �أن تكون �أنت � ً
التي يديرها البع�ض� ،أن تكون كالأنعام التي يربحون عرب التالعب
مبقدراتها.
عالقتك به -عز وجل -هي الفي�صل الفارق احلا�سم بني �أن تكون �أنت،
و�أن تكون من الأنعام ،كلها يف النهاية «�أمم �أمثالكم» ،لكن الإن�سان لديه
خيار �آخر؛ � َّأل يكون كالأنعام.
***
- 64 -
سورة األنعام
ً َ ً َّ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ ِّ َ َ ُ ْ َ
ِيم حنِيفا َوما كن يم دِينا قِيما مِلة إِبراهاط مست ِق ٍ }قل إِن ِن هد ِان رب إِل ِص ٍ
َ اي َو َم َمات هلل َر ِّب الْ َعالَم َ َ َْ
م َي َ ُُ ُ ْ َّ َ َ م َِن ال ْ ُم ْشك َ
ني ل ِ ِ ِني قل إِن صل ِت َونس ِك و ِ
َ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ
شيك ل وبِذل ِك أمِرت وأنا أول المسلِ ِمني{ (األنعام )163 :161 ِ
تنتهي ال�سورة بذلك االكت�شاف الذي �أنار �شعلته �سيدنا �إبراهيم �أول
ِّ َ ََْ َ َ َ ُُ ُ ْ َّ َ َ
اي َومم ِات هلل َرب مرة ،و�أكمله �سيدنا حممد} ،قل إِن صل ِت َونس ِك ومي
َ َ ُ َ َ َ
ني{ (األنعام .)163 :162يك َلُ َوب ِ َذل َِك أم ِْر ُت َوأنَا أ َّو ُل ال ْ ُم ْسلِ ِم َ ش
ِ ل الْ َعالَم َ
ني ِ
ال يزال هذا الأمر م�ضي ًئا ،وال يزال ميكنه �أن ينري ليايل �ش ِّكك وحريتك،
وتكت�شف ذلك الأول الكامن فيك.
ُ ِّ َ َ ُْ َ
}قل أ َغ ْ َ
ي اهلل أبْغ َر ًّبا َو ُه َو َر ُّب ك ْ
ش ٍء{؟ تت�ساءل الآيات يف خامتة ِ
ال�سورة بعد �أن قادتنا من «احلمد» �إىل فالق احلب والنوى وخالق ال�سماوات
والأر�ض مرو ًرا بليلة �إبراهيم.
يكون اجلواب :ال ،لي�س غري اهلل.
�أهم عالقة ميكن �أن حت�صل عليها يف حياتك؛ هي عالقتك به عز وجل.
�أمر ال ميكن �أن يح�صل للأنعام.
- 65 -
سورة األعراف 7
األنا في النحن
- 66 -
سورة األعراف
تبد�أ ال�سورة مبدخل يعيد لنا ق�صة �أبينا �آدم (من الآيات )25 - 11
ً
مدخل لكل منذ �سجود املالئكة لآدم �إىل خروجه من اجلنة ،فيكون ذلك
ما �ست�أخذنا �إليه ال�سورة من نداء لنا ب�صفتنا �أبناء �آدم.
ْ ُ ً ُ َ َ َ َ َ َ ْ ََْ َْ َ َْ ُ ْ َ ً
اسا يُ َ
اري س ْوآت ِك ْم َو ِريشا َو ِ َلاس اتلَّق َوى
ِ و }يا ب ِن آدم قد أنزلا عليكم ِل
َّ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ ٌْ َ َ ْ َ
ات اهلل لعله ْم يذك ُرون يا ب ِن آدم ل يفتِننك ُم الشيطان ي ذل ِك مِن آي ِ ذل ِك خ
َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ
ْ َ
ِييهما س ْوآت ِِهما إِنه ي َراك ْم نع عنهما ِلاسهما ل ِ كما أخرج أبويكم مِن الن ِة ي ِ
َ
ُ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ
ون{ هو وقبِيله مِن حيث ل ترونهم إِنا جعلنا الشياطِني أو ِلاء ل ِلِين ل يؤمِن
(األعراف .)27 :26
َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ ُ َّ ُ َ َ َ ُ ْ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ َ ََ ُ ُ
سفوا إِنه ل
ج ٍد وكوا واشبوا ول ت ِ }يا ب ِن آدم خذوا ِزينتكم عِند ك مس ِ
ِني (األعراف)31: ُي ُّب ال ْ ُم ْسف َ
ِ ِ
َ َ َ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ُ ٌ ْ ُ َ ُ ُّ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ
}يا ب ِن آدم إِما يأت ِينك ْم ُرسل مِنك ْم يقصون عليك ْم آي ِات فم ِن اتق َوأصلح
َ ُ َْ ُ َ ََ َ ٌ َ َْ
فل خ ْوف علي ِه ْم َول ه ْم ي َزنون{ (األعراف.)35:
اخلطاب هنا للمجتمع (بني �آدم) ،لكننا دخلنا �إليه من ق�صة فرد
(�آدم) ميكن �أن نتمثل جتربته يف كل حياتنا.
الأعراف نقلتنا من «الفرد» � -آدم -وجتربته كفرد �إىل جتربة «�أبناء
�آدم» املجتمعية التي ت�ستفيد من جتربة هذا الفرد.
من الأنا �إىل النحن.
***
- 67 -
القرآن نسخة شخصية
انتقلنا هنا من �سورة الأنعام التي ق َّد َم ْت لنا �سيدنا �إبراهيم «منفردًا»
يف تلك الليلة التي �أعلن فيها �أنه ال يحب الآفلني� ،إىل �سورة الأعراف التي
ق َّدمت لنا الأنبياء( :نوح وهود و�صالح ولوط و�شعيب) َومنْ معهم من
امل�ؤمنني وهم يحاولون �إ�صالح جمتمعاتهم.
َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ ِّ ُُْ ََ َ َ َ ََ ْ َ َ َْ ُ ً َ َ
يهُ إِن }لقد أ ْرسلنا نوحا إِل ق ْو ِم ِه فقال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ
َ َ ُ َ َْ ُ ْ َ َ َ َْ َ
يم{ (األعراف.)59: ٍ ظ
ِ ع أخاف عليكم عذاب يومٍ
َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َََ ُُْ َ َ َ َ ُ ُ ً َ َ َ َ
يهُ أفل } َوإِل ع ٍد أخاه ْم هودا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ
َ َّ ُ َ
تتقون{ (األعراف.)65 :
َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َْ ُُْ َ َُ َ َ َ ُْ َ ً َ َ َ َ
يهُ قد الا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ }وإِل ثمود أخاهم ص ِ
ََ ْ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ُ َ َْ ُ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ٌ ْ َ ِّ ُ ْ َ َ َ ُ
جاءتكم بينة مِن ربكم ه ِذه ِ ناقة اهلل لكم آية فذروها تأكل ِف أر ِض اهلل ول
َ َ ُّ َ ُ َ َ ْ ُ َ ُ َ َ ٌ َ
تمسوها بِسو ٍء فيأخذك ْم عذاب أ ِل ٌم{ (األعراف.)73:
ْ َ َ َ ُ ً ْ َ َ َ ْ ََُْ َ َْ َ َ َ َ َ َ ُ
ك ْم ب ِ َها م ِْن أ َح ٍد م َِن ال َعال ِم َني{ }ولوطا إِذ قال ل ِقو ِم ِه أتأتون الفاحِشة ما سبق
(األعراف.)80:
َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َْ ُُْ َ َْ َ َ َ ُ ُ ًَْ َ َ َ َ
يهُ قد } َوإِل مدي َن أخاه ْم شعيبا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ
َّ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ٌ ْ َ ِّ ُ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ
اءه ْم زيان َول تبخسوا انلاس أشي جاءتكم بينة مِن ربكم فأوفوا الكيل وال ِم
ُ َْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ٌْ َ ُ َْ َ ُْ ُ
ك ْم إ ِ ْن ك ْن ُت ْم ُم ْؤ ِمنِ َني{ َول تف ِسدوا ِف ال ْر ِض بعد إِصلحِها ذل ِكم خي ل
(األعراف.)85:
- 68 -
سورة األعراف
فلنتذكر هنا �أنك عندما تدخل ق�ص�ص الأنبياء وهالك �أقوامهم يف
�سورة الأعراف ،ثم ت�أخذك ال�سورة بعدها �إىل ما م َّر معك �ساب ًقا من
ق�صة فرعون ومو�سى ،ف�إنك ال تعود تنظر �إىل الق�صة كما يف ال�سابق ،الآن.
- 69 -
القرآن نسخة شخصية
�أ�صبحت تعي �أن مو�سى خرج بكل قومه ،ا�ستطاع �أن ي�أخذهم جمي ًعا يف
قارب النجاة ،مل يكن الأمر كما حدث يف ق�ص�ص الأنبياء الآخرين الذين
إال منْ معهم من امل�ؤمنني ،هنا ا�ستطاع مو�سى �أن
تع َّر�ض �أقوامهم للهالك � َ
ي�أخذ كل قومه معه ،كما لو �أنك �ستعيد فهم ق�صة �سيدنا مو�سى من جديد
على �ضوء التجارب النبوية الأخرى وباملقارنة بها.
***
�ست�أخذك بع�ض الآيات �إىل منطقة �شخ�صية وعامة يف الوقت نف�سه،
�إىل حيث تتجاور الأنا والنحن ويتداخل البيت واملجتمع.
َْ َّ َ َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َُ َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ
} َول ْو أن أهل الق َرى آمنوا َواتق ْوا لفتحنا علي ِه ْم ب َرك ٍت م َِن السماءِ َوال ْر ِض
َ ْ َْ َ ُ َََ َ ْ ُ ُْ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ْ ُ َ
كن كذبوا فأخذناه ْم بِما كنوا يك ِسبون أفأم َِن أهل الق َرى أن يأتِيه ْم ول ِ
ْ ْ َ
َ َ ُْ ُْ َ ْ َ َُْ َ ُ َ ُ ً َ ُْ ََُْ َ َ َ َ َْ ُ َ َ َ ً ُ ْ َ ُ َ
ون{ بأسنا بياتا َوهم نائ ِمون أوأمِن أهل القرى أن يأتِيهم بأسنا ضح وهم يلعب
(األعراف .)98 :96
ت�شعر بطريقة ما �أنك املق�صود بذلك ،ت�شعر �أنك عندما فكرت بالهجرة
كنت تريد �أن تهرب من كنت ت�شعر بهذه الآيات ،ت�شعر �أنك عندما هاجرتَ َ
كنت �شري ًكا يف امل�س�ؤولية.
هذا� ،شيء ما يف �أعماقك يقول لك� :إنك َ
ولكن �شي ًئا �آخر -يف �أعماقك � ً
أي�ضا -ير ُّد عليك ويقول :لقد دفعت ثم ًنا
ً
باهظا.
***
اب انلَّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ
ار أن قد َوجدنا ما َوعدنا َربنا حقا فهل َوجدتم ِ }ونادى أصحاب الن ِة أصح
الظالِمنيَ َّ ال َ
َ َ َّ َ َ َ ُّ ُ َ ًّ َ ُ َ َ َ َ َّ َ ُ َ ِّ ٌ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ
َ
ِين ِ ما َوعد َربك ْم حقا قالوا نع ْم فأذن مؤذن بينه ْم أن لعنة اهلل ع
- 70 -
سورة األعراف
هل �أولئك الرجال على الأعراف� ،أولئك الذين يف الو�سط ،بني اجلنة
والنار ،الذين ُ�س ِّم َيت ال�سورة على املكان الذي يقفون عليه ،هل �أولئك كانوا
من الذين مل يحققوا املعادلة؟ جنوا �شخ�ص ًّيا وفرد ًّيا ،ولكن مل يحاولوا مبا
فيه الكفاية مع �أقوامهم ،وبقوا يف الو�سط بني الأنا والنحن ،بني ال�سفينة
الغارقة وقارب النجاة ،بني اجلنة والنار؟
جمرد �س�ؤال ،ال نعرف جوابه ،و�إن كنا نعرف �أنهم �أف�ضل من الذين
دخلوا النار ،و�أنهم مل يدخلوا اجلنة ،لكنهم «يطمعون» ،لديهم �أمل.
- 71 -
سورة األنفال 8
محاسبة المنتصر
- 73 -
القرآن نسخة شخصية
هل �أ�صابكم الغرور على هذا الذي حتقق؟ ح�س ًنا ،خذوا هذه الآن� ،أنتم
مل تقاتلوا � ً
أ�صل ،وهذا الرمي املوفق مل يكن رميكم ،اهلل رمى.
فلننتبه �أن هذا مل يحدث قبل القتال ،بل حدث بعده ،وبعد حتقق
الن�صر ،ولو كان حدث قبل ملا قاد �إىل الن�صر ،خطاب ما قبل املعركة كان
َْ ْ ْ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ
خمتل ًفا ج ًّدا ومن�سج ًما مع } َوأعِدوا لهم ما استطعتم مِن ق َّو ٍة َومِن ِرب ِ
اط الي ِل
َْ َُُ َ َ َْ َُ َُ َ َ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ ُ ُ ُ َ
ين مِن دون ِِه ْم ل تعلمونه ُم اهلل يعلمه ْم َوما ت ْرهِبون ب ِ ِه عد َّو اهلل وعدوكم وآخ ِر
ُ َّ َ ُ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُت ْن ِف ُقوا م ِْن َ ْ
يل اهلل ي َوف إ ِ ْلك ْم َوأنت ْم ل تظلمون{ (األنفال.)60:
ِ ِ ب س فِ ء
ٍ ش
لو اعتقد امل�ؤمنون قبل القتال �أنهم لن يقاتلوا ولن يرموا بل اهلل هو
الذي �سيفعل ،فذلك لن يجعلهم حري�صني على �شيء ،بل �سيفرت همتهم.
لكن خطاب ما بعد الن�صر هو الذي ينفي عنهم الفعل ،هو الذي يزيل
وهم انتفاخ الذات ،وهم قد قاتلوا ورموا بالت�أكيد ،لكن هذا ال يعني �أن جملة
من الظروف املحيطة بهم وداخلهم وداخل الكافرين مل تكن عوامل فاعلة
�ساه َم يف رفع معنوياتهم، مثل َ يف حتقيق الن�صر� ،إميانهم مبدد املالئكة ً
َْ ُ َّ َ َ ُ
الكفار فقدوا عزمهم بعد جناة قافلة قري�ش }ذل ِك ْم َوأن اهلل موه ُِن كي ِد
ْ َ َ َ ْ
ال َكف ِِر َين{َ } ،ول ْو تَ َو َاع ْد ُت ْم ل ْخ َتل ْف ُت ْم ِف ال ِم َيعا ِد{ ،ور�ؤية عدد امل�شركني يف
قليل ،كل هذه جملة من الظروف التي مل يكن للم�ؤمنني دخ ٌل يف املنام ً
�إن�شائها ،ولكنها �ساهمت يف حتقيق الن�صر.
بل حتى «الظروف ال�صعبة» التي ننت�صر �أحيا ًنا «بالرغم عنها» ،حتى
هذه ت�ساهم يف حتقيق االنت�صار على نحو غري مبا�شر؛ ذلك �أن التحدي.
- 74 -
سورة األنفال
- 75 -
سورة التوبة 9
الحرب والسالم
َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ ََ ُ
الزكة فخلوا أي�ضا} :فإِن تابوا َوأقاموا الصلة وآتوا
وما بعدها يف نف�س الآية � ً
َسبيلَ ُه ْم إ َّن اهلل َغ ُف ٌ
ور َرح ٌِيم{ (اتلوبة.)5: ِ ِ
�أي �إن «التوبة» -وكان ه�ؤالء قد نق�ضوا عهدهم مع امل�سلمني -كفيلة
ب�إلغاء �سبب القتال.
َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ ٌ َ ُْ ْ
ارك شك ِني استجهو �أكرث }وإِن أحد مِن الم ِ ْ
وبعدها هناك مرة �أخرى ما
َ
ٌ َْ ُ َ َ َ ُ َّ َ ُ َْ ْ ُ َ ََ ُ َ
َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ ََ
ج ْرهُ حت يسمع كلم اهلل ث َّم أبلِغه مأمنه ذل ِك بِأنه ْم ق ْوم ل يعلمون{ (اتلوبة.)6: فأ ِ
�إنْ َط َل َب ه�ؤالء «الذين �سيقاتلونهم» احلماية «اجلوار»؛ فقدِّ ُموا لهم
احلماية!
نعم ،هي �سورة احلرب ،لكنها حرب م�شروطة مبحاولة ال�سالم حتى
�آخر فر�صةً ،
فعل هي �سورة احلرب ،لكنها احلرب كخيار �أخري ،بعد
ا�ستنفاد كل اخليارات الأخرى.
***
ت�أخذنا �سورة التوبة بعدها من �ساحة احلرب امل�شروطة هذه �إىل ما قد
يبدو بعيدً ا ج ًّدا عنها.
َْ َ ْ َ َ َ ُ َّ َ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ً ْ ُ
ون اهلل َوالم ِسيح اب َن م ْري َم َوما أم ُِروا
}اتذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا مِن د ِ
َّ َ ْ ُ ُ َ ً َ ً َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ ُ َ
شكون{ (اتلوبة.)31: إِل ِلعبدوا إِلها واحِدا ل إِل إِل هو سبحانه عما ي ِ
قد تبدو الإ�شارة غري مرتبطة مبا قبلها ،لكن احلقيقة �أن «الأحبار» � -أو
دوما قادرين على اجتزاء الآيات من �سياقها عموما -كانوا ً
رجال الدين ً
وج ْعل احلرب امل�شروطة تبدو حر ًبا مقد�سة غري م�شروطة ،وقد حدث
للأ�سف.
- 77 -
القرآن نسخة شخصية
معا�صيه و�شهواته ،و�سيجد ت�شاب ًها رهي ًبا ،بل �سيجد �أن حرب الذات �أكرث
خمادعة وزئبقية وغد ًرا من حرب امل�شركني.
فعل ،لكنها � ً
أي�ضا عن احلرب وال�سالم. �سورة التوبة عن احلرب ً
احلرب وال�سالم مع الأعداء.
و� ً
أي�ضا مع الذات.
***
ويف �سورة التوبة � ً
أي�ضا تلك الآية التي تنقلنا �إىل ذلك الغار.
َ َْ ْ َْ ْ َُ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ
حبِ ِه ل ت َزن
ار إِذ يقول ل ِصا ِ
ِ غ ال في إِذ ه ِ
ام }إِذ أخرجه الِين كفروا ث ِان اثن ِ
َََ َّ
إِن اهلل معنا{( .اتلوبة)40:
- 81 -
القرآن نسخة شخصية
لي�س هذا فقط ،بل �إن ال�سورة هي ال�سورة الوحيدة التي ا�شتملت على
ََ ُْ ً ََ ُْ ً َ َْ ُ
الدعاء بهالك القرى الظاملة} ،أل بعدا ل ِعا ٍد قو ِم هو ٍد{ }أل بعدا
َ َ ََ
ِ َل ُم َود{}أل ُب ْع ًدا ل َِم ْد َي َن ك َما بَ ِع َد ْت ث ُم ُود{ ،ال يوجد يف �سور القر�آن كلها
قوما بعينهم �إال يف هذه ال�سورة. دعاء يحدد ً
نزلت تلك ال�سورة بعد ع�شر �سنوات تقري ًبا يف مكة ،بعد ع�شر �سنوات
من ال�صدود والتكذيب ،كل �شيء كان ي�شري �إىل �أن مكة كانت ت�سري يف درب
�أمثلة القرى التي �سي�صيبها الدمار ،وال �شيء ي�شري �إىل ما يقربها من قرية
يون�س.
وكان عليه ال�صالة وال�سالم بالت�أكيد ال يريد ملكة �أن ي�صيبها ما �أ�صاب
عاد وثمود ،مل يكن يريد �أن تكون هناك «�أال بعدً ا ملكة».
- 82 -
يونس -هود -يوسف
ورغم ذلك ،كان ذلك واردًا ج ًّدا ،وقبل نهاية ال�سورة ي�أتي �أمر االنتظار:
َ ْ َ ُ َّ ُ ْ َ ُ َ
ون{. }وانت ِظروا إِنا منت ِظر
لكن من املهم � َّأل نبقى �أ�سرى ال�شعور بالظلم والتباكي على التجربة.
�أول خطوة للخروج من البئر هو �أن نخرج من دور ال�ضحية املغدورة.
***
يف البئر �ألقوا بك يا يو�سف(((.
كان مظل ًما ،وكنت وحيدً ا.
وكانوا �إخوتك!
يف البئر �ألقوا بك يا يو�سف.
لعلك توهمتها مزحة.
لعلك توقعت �أن �صمتهم جمرد خدعة.
لعلك قلت� :إنهم �سيعودون.
و�أن حبالهم �ستطل بني حلظة و�أخرى.
لكن �أ�صواتهم تال�شت يا يو�سف.
وحبالهم مل ت�أت قط.
يف الظلمة بقيت وحيدً ا يا يو�سف.
�أرادوا �أن يك�سروك.
�أن يجعلوك ت�ضعف.
�أن تتو�سل.
((( سبق أن نرش هذا الجزء يف « ال نأسف عىل اإلزعاج»
- 84 -
يونس -هود -يوسف
- 86 -
سورة الرعد 13
التغيير قيد اإلجراء
- 87 -
القرآن نسخة شخصية
ِيها َر َو ِ َ َ َ ْ َ ً َ ْ ُ ِّ َّ َ َ
ُ َ َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ِّ ُ ُ ُ َ
َربك ْم توق ِنون وَهو الِي مد الرض وجعل ف
اس وأنهارا ومِن ك اثلمر ِ
ات
َ َ َ َ َّ َ َّ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َْْ ُْ
ات ل ِق ْومٍ يتفك ُرون َ و ِف ي يغ ِش الليل انلهار إِن ِف ذل ِك لي ٍ ي اثن ِجعل فِيها زوج ِ
َ َ
َ ٌ ُ َ َ َ ٌ َ َ َّ ٌ ْ ْ َ َ َ ْ ٌ َ ٌ ْ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ْالَ ْ
ان يسق ٍ و ن ص
ِ ي غ و انو ن صِ ِيل ن و ع ر ز و اب
ٍ ن ع أ ِنم ات نجو ات ر او
ِ جت م ع ِط ق ضِ ر
َْ َْ ُ َ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ
ات ل ِقومٍ يع ِقلون{ ك إِن ِف ذل ِك لي ٍ بِما ٍء واح ٍِد ونفضل بعضها ع بع ٍض ِف ال ِ
(الرعد .)4 :2
- 88 -
سورة الرعد
التغيري ال ي�أتي كهدية من ال�سماء ،وال حتى كلعنة منها ،هو ي�أتي من
{ما ِب�أَ ْن ُف ِ�س ِه ْم} على �أنها «الذي
داخلنا« ،ما ب�أنف�سنا» ،ميكن �أن نفهم َ
ب�أنف�سهم»� ،أو نفهمها على �أنها «يقوموا بالتغيري ب�أنف�سهم» ،والأمران
متطابقان من عدة جوانب ،وحتى «ب�أنف�سهم» ميكن �أن ُت ْف َه َم على �أنها
أي�ضا �أن ُت ْف َه َم «وعيهم»،
«نفو�سهم»�« ،أخالقهم»« ،قيمهم» ،وميكن � ً
«�أفكارهم» ،وال �أرى مرة �أخرى فار ًقا كب ًريا بني الأمرين.
املهم �أن التغيري ال ينزل باملظلة من �أعلى ،بل ي�شق الأر�ض كنبتة ت�أخذ
وقتها يف النمو.
أي�ضا �إىل �أن التغيري ال ي�شرتط �أن يكون �إيجاب ًّيا ال�سورة تنبهنا � ً
َ ْ ُ ً َ َ َ َ َّ َُ َ َ
بال�ضرورةَ } ،وإِذا أ َر َاد اهلل بِقومٍ سوءا فل مرد ل{ ،كم من تغيري من�شود ه َّل ْلنا
له ثم �صار ُي َع ُّد �أ�سو�أ ما مر بنا ،لكن التغيري حا�صل� ،إن مل نوجهه �إىل
�أن يكون �إيجاب ًّيا؛ �سيكون �سلب ًّيا ،جمرد البقاء يف «نف�س الو�ضع» هو تغيري
�سلبي؛ لأن الواقع ي�ستمر بالتغري والتحرك ،وعدم «تغريك» لتواجه هذه
التغيريات يعني �أنك تتغري �سلب ًّيا.
ت�أخذنا ال�سورة � ً
أي�ضا �إىل �صورة �شاملة كبرية للتغيري كما يحدث يف
الواقع.
َّ ً َ ْ َ َ َ َّ َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ ُ َ َ ً
اء فسالت أ ْودِية بِقد ِرها فاحتمل السيل زبدا َرابِيا َومِما }أنزل مِن السماءِ م
ْ َ َّ َّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ٌ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ ُ ُ ُ َ َ َْ
ضب اهلل الق اع زبد مِثله كذل ِك ي ِ ار ابتِغاء حِلي ٍة أو مت ٍ ِ يوق ِدون علي ِه ِف انل
َْ َ الاط َِل َفأَ َّما َّ
َ ُ َ ْ
الز َب ُد ف َيذ َه ُب ُج َف ًاء َوأ َّما َما َي ْن َف ُع انلَّ َاس ف َي ْمك ُث ِف ال ْر ِض{ َو ْ َ
(الرعد.)17 :
- 89 -
القرآن نسخة شخصية
لكن القر�آن لن يفعل ذلك ،لي�س هذا مطلو ًبا منه ،بل يفعل فعل املطر
يف الأر�ض ،تغيري حقيقي ي�أخذ وقته لكي يحدث ،وتدخل فيه كل ال�سنن
والقوانني والعوامل الالزمة.
***
ُ َ ِّ ُ ُ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ً َ َ َ ً َ ُ ْ ُ َّ َ َ ِّ َ َ ُ َّ
ئ السحاب اثلقال َ ويسبح }ه َو الِي ي ِريكم البق خوفا وطمعا وين ِش
َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ ُ ُ َْ َ َ ُ ْ َّ ْ ُ ْ
اء َوه ْم الرعد ِبَم ِده ِ َوالملئ ِكة مِن خِيفتِ ِه وير ِسل الصواعِق في ِصيب بِها من يش
َ َُ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ال{ (الرعد .)13 :12 يادِلون ِف اهلل وهو شدِيد ال ِمح ِ
برق ورعد �إذن.
الربق ي�ضيء الليلة املظلمة ،والرعد �صوته مهيب ،يهز القلب.
لكن ما يحدث بعدهما هو الذي ُي ْح ِد ُث التغيري احلقيقي الذي �أ�شارت
له ال�سورة كمثال.
- 90 -
سورة الرعد
املطر.
الرعد والربق دون مطر لن ُي ْح ِد َثا تغي ًريا يف الأر�ض.
«ال�صوت وال�ضوء» جمرد �إ�شارة لك لكي تنتبه �إىل ما �سيحدث الح ًقا
-لو حدث ،-املطر ،كي ت�ساهم فيه ،كي تكون �شري ًكا.
«ما ب�أنف�سهم».
***
الرعد والربق احلقيقي يف الداخل.
�صوت و�ضوء يف �أعماقك.
املهم � َّأل تكتفي بذلك.
املهم �أن متطر � ً
أي�ضا.
«ما ب�أنف�سهم».
- 91 -
سورة إبراهيم 14
الخروج من الظلمات إلى النور
تلك كانت الظلمات ،ف�أين النور الذي يفرت�ض �أن نخرج �إليه عرب
«الكتاب»؟
ال�سورة ت�أخذنا �إىل َمنْ ُ�س ِّم َيت على ا�سمه� ،سيدنا �إبراهيم عليه ال�صالة
وال�سالم ،هناك �سنتعرف �إىل «امل�ضاد املو�ضوعي» ملجتمع الظلمات� ،إىل
املجتمع املعاك�س� ،إىل النور.
***
َْ َ ْ َ ْ ْ َ
} َوإِذ ق َال إِبْ َراه ُِيم َر ِّب ْاج َعل َه َذا َال َل آم ًِنا َو ْاج ُنبْ ِن َو َب ِ َّن أ ْن َن ْع ُب َد ال ْص َن َام{
(إبراهيم.)35 :
َّ َ ْ َ َْ َ ُْ َ َ َ َْ َ
َ َّ َ ِّ ْ َ ْ ُ ْ ُ ِّ َّ
ي ذِي ز ْر ٍع عِند بيتِك المح َّر ِم َربنا }ربنا إِن أسكنت َ مِن ذري ِت بِوا ٍد غ ِ
َ ْ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َْ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ً ُ
ات لعله ْم ِ ُل ِقيموا الصلة فاجعل أفئِدة م َِن انلَّ ِ
اس ته ِوي إِل ِهم وارزقهم مِن اثلمر ِ
َْ ُ َ
يشك ُرون{ (إبراهيم.)37 :
هذا الدعاء للبلد «اجلديد» �أن يكون �آم ًنا ،ح ًّرا بال قيود (بال �أ�صنام)،
عادل م�ستق ًّرا مزده ًرا ،هذا هو «النور» يف الدنيا ،هذا هو «الهدف» ً
الدنيوي الذي يقود بنا�ؤه �إىل نور الآخرة.
نب ذلك املجتمع لنف�سه ،بل كان «م�صري ذريته» يف ن�صب
�إبراهيم مل ي ِ
عينيه يف الدعاء.
ُ َ َ
} َو ْاج ُنبْ ِن َو َب ِ َّن{} ،أ ْسك ْن ُت م ِْن ذ ِّريَّ ِت{.
كان يريد لأوالده �أن يعي�شوا يف جمتمع م�ستقر �آمن حر ،بكل معاين
اال�ستقرار والأمان واحلرية.
بال�ضبط كما نريد لأوالدنا �أن يعي�شوا يف جمتمع �آمن.
- 93 -
القرآن نسخة شخصية
وكانت تلك هي اللحظة الأعلى يف رحلته عليه ال�سالم ،كانت تلك قمته
بعد رحلة وعرة.
رمبا لذلك �أخذت هذه ال�سورة حتديدً ا ا�سمه ،توزعت ق�صته على �سور
كثرية يف القر�آن ،وكان له حمطات ومواقف مهمة للغاية ،لكن هنا و�صل
للهدف (الدنيوي) على الأقل ،هنا ت�أخذنا ال�سورة �إىل نهاية الرحلة؛ لذلك
دوما بنهاية رحلته،
ت�أخذ ا�سمه ،كما لو �أنها تريد �أن تربط �سيدنا �إبراهيم ً
باملجتمع الذي �سعى لتحقيقه ،املجتمع الذي نريده جمي ًعا.
***
�أولئك الذين يقررون -يف خيار �صعب � -أن يرتكوا �أوطانهم نحو بالد
أي�ضا يبحثون عن اخلروج من ظلمات الهجرة واللجوء ،كانوا بطريقة ما � ً
جمتمعاتهم �إىل نور املجتمعات الأخرى� ،أو على الأقل �إىل جمتمعات �أخرى
تبدو ظلماتها �أقل ُظ ْلمة� ،أو يبدو �أن فيها من النور �أكرث.
�أولئك الذين يرتكون كل �شيء خلف ظهورهم ،كل ما خ َّلفه لهم �آبا�ؤهم،
من �أجل م�ستقبل �أف�ضل لأوالدهم.
بع�ضهم يدفع حياته -حرف ًّيا -خالل ذلك.
وبع�ضهم يدفع حياة �أوالده ،لي�س من خالل موتهم املبا�شر �أثناء حماولة
الهجرة ،بل الح ًقا مبوت من نوع �آخر ،مع ا�ستمرار بالتنف�س وبقية الوظائف
احليوية.
نعم ،جمتمعاتنا «ظلمات» ،فيها ظلمات كثرية.
- 94 -
سورة إبراهيم
- 95 -
الح ْجر 15
سورة ِ
الصورة الكاملة
احل ْجر هي �سورة «ال�صورة الكاملة» ،هي ال�سورة التي تع ِّلمنا كيف
�سورة ِ
ننظر �إىل كل �شيء ب�شمولية وبتكامل ،دون �أن جنتزئ ،دون �أن ننظر �إىل
متاما �أو نغ�ض عنها النظر.بع�ض الأجزاء بعد�سة مكربة ونتجاهل �أخرى ً
تقول لنا ال�سورة منذ مطلعها �شي ًئا غري متوقع.
ُ َ َ َ َ ُّ َّ َ َ
ك َف ُروا ل َ ْو َكنُوا ُم ْسلم َ
ني{ (احلجر.)2 : ِِ }ربما يود الِين
يف �سبيل ذلك ت�أخذنا ال�سورة � ًأول �إىل جولة �شاملة يف الكون؛ ال�سماء
والأر�ض وظواهر الطبيعة من رياح و�أمطار ،فهم الرتابط املوجود بني كل
عن�صر من عنا�صر ال�صورة مهم يف تكوين حا�سة «ال�صورة الكاملة».
َ َ ْ ََ َ ْ ُ َ َ َْ َ ُ ْ َْ ُ َ َ َ َ َْ َُ ْ َ ْ َ
ون قال ٍ ن س م إ
ٍ ح ِن
م ال
ش خلقته مِن صل ٍ
ص }قال لم أكن ِلسجد ل ِب ٍ
َ
َ َ ِّ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ِّ َ ْ ُ ْ ْ َ َ َّ َ
ين قال َرب فأن ِظ ْر ِن جيم وإِن عليك اللعنة إِل يو ِم ادل ِ
ك َر ٌ
ِ فاخرج مِنها فإِن
َ َ ِّ َ َْ َْ ْ ْ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َْ َُُْ َ
وم قال َرب ت ال َمعل ِ
إِل يو ِم يبعثون قال فإِنك مِن المنظ ِرين إِل يو ِم الوق ِ
جع َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َْْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ ِّ َ َّ َ ُ ْ
ني{ (احلجر .)39 :33 بِما أغويت ِن لزين لهم ِف الر ِض َولغ ِوينهم أ ِ
بعدها ت�أخذنا �إىل �أ�صل احلكاية� ،إىل َق َ�س ِم �إبلي�س� ،إبلي�س رف�ض �أن
ي�سجد لآدم لأنه نظر �إىل جزء من ال�صورة� ،إىل خلق �آدم من �صل�صال ،ومل
ينظر �إىل ما �أودعه اهلل فيه من �إمكانات؛ لذا فقد رف�ض الأمر بال�سجود
ومل ينظر �إىل �أن هذا الأمر ما كان ميكن �أن يكون من دون حكمة له عز
وجل.
َْ ْ َ ْ َ ِّ َ
الرح ُِيم َ وأ َّن َع َذ ِاب ُه َو ال َع َذ ُاب ال ِل ُم{ ئ ع َِبادِي أن أنَا ال َغ ُف ُ
ور َّ } َن ِّب ْ
الكثريون يتعاملون مع اهلل و�صفاته بتجزئة ،غال ًبا كما يريدون �أو
يتمنون ،يركزون على �صفة واحدة ويرتكون �أخرى ،هو غفور رحيم بالفعل،
أي�ضا عذابه هو العذاب الأليم ،البع�ض يركز على العذاب وي�ستخدمهلكن � ً
يف الدعوة هلل وين�سى الغفور الرحيم ،كما ين�سى بع�ض �آخر �صفات املغفرة
والرحمة.
- 97 -
القرآن نسخة شخصية
َ ُ َ َ َ ْ َّ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ً َ َ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ
جلون قالوا ل ت ْوجل إِنا }إِذ دخلوا علي ِه فقالوا سلما قال إِنا مِنكم و ِ
َ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ َ َّ ْ ُ ُ ُ َ ِّ ُ َ ُ َ َ
ون ع أن مس ِن الكِب فبِم تبشون ِيم قال أبشت ِ
م شك بِغلمٍ عل ٍ نب
َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ْ َ ِّ َّ ك ْن م َِن الْ َقانِط َ ْ
َ ُ َ َّ ْ َ َ َ ِّ َ َ َ ُ
ني قال َومن يقنط مِن َرح ِة َرب ِه إِل ِ قالوا بشناك بِالق فل ت
َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ
َ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ُّ َ ُ ْ َ َ
ُ َّ ُّ َ
ون قالوا إِنَّا أ ْر ِسل َنا إِل ق ْومٍ ُ ْم ِرم َِني{ الضالون قال فما خطبكم أيها المرسل
(احلجر .)58 :52
َ َّ
ك َف ُروا ل ْو َكنُوا ُم ْسلِ ِم َني{ يف ع�صرنا اليوم ،من النادر
َ َ َ َ َ ُّ
} ُربما ي َود الِين
ج ًّدا �أن يود الذين كفروا لو كانوا م�سلمني ،لي�س بال�ضرورة لأنهم عجزوا
عن ر�ؤية ال�صورة الكاملة بل لأننا نحن قدمنا �صورة م�سيئة للإ�سالم،
انعكا�سا بالغ ال�سوء لأغلب قيم الإ�سالمً ،
بدل من �أن نكون مركزًا ً قدمنا
للجذب يجعلهم يتحرون «ال�صورة الكاملة»؛ �أ�صبحنا مركز طرد ،يجعلهم
يت�صورون �أن ال�صورة الكاملة �سيئة ج ًّدا.
�إال من رحم ربي منا ومنهم.
***
َ َّ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ٌ ْ ُ ََ ْ َ ْ َ ْ
اره ْم َول يلت ِفت مِنك ْم أحد َوامضوا }فأ ِ
س بِأهلِك ب ِ ِقط ٍع مِن اللي ِل واتبِع أدب
َْ ُ ُْ َ َ
حيث تؤم ُرون{ (احلجر)65 :
ََ ََْ ْ ْ ُ َ
ك ْم أ َح ٌد{. }ول يلت ِفت مِن
- 99 -
سورة النحل 16
عن قواعد متعددة وسقف واحد
ال�سورة ت�أخذنا � ًأول يف قواعد بنى اهلل على �أ�سا�سها بنيان الكون
موظفة من خالل قوانني �أوجدها عز وجل واخلليقة ،كل ِن َعم اهلل هي ِن َع ٌم َّ
لتي�سر للإن�سان حياته ،ت�أخذنا ال�سورة �إىل الأنعام ومنافعها و�سائل الركوب
َْ ُُ َ َ
الأخرى املعروفة �آنذاك ،وتفتح الباب ملا مل ُي ْع َرف �آنذاكَ } ،و يلق ما ل
َْ َُ َ
ون{ ،وت�أخذنا ال�سورة �إىل املاء النازل من ال�سماء وال�شجر والنخيل تعلم
بال�ضبط هكذا.
كل هذا الكون -من ال�شم�س �إىل النحلة وكل ما بينهما -قائم على
قوانني وقواعد� ،أي منطق يجعل الإن�سان ال يخ�ضع لنف�س م�صدر القوانني
والقواعد؟
�أي منطق يجعل الإن�سان منفردًا بال وظيفة كما لكل �شيء وظيفة؟
َ َ ً َ ْ ً َ ْ ُ ً َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ ْ ً َ َ ً َ َ َ
ش ٍء َومن َرزقناهُ مِنا ِرزقا حسنا ضب اهلل مثل عبدا مملوك ل يقدِر ع }
َ ُ َ ُ ُ ُ ًّ َ َ ً َ َ ْ َ ُ َ
ْ ْ ْ ْ
ون{ (انلحل.)75 : فهو ين ِفق مِنه ِسا وجهرا هل يستو
ُ ًََ َ ُ َْ َ َ ُ ُ َ َْ َ ُ َ َْ ُ ََ َ ْ َ ْ َْ َ َ َ َ َ
ش ٍء ،هل يست ِوي ه َو ي أحدهما أبكم ل يقدِر ع } ْوضب اهلل مثل رجل ِ
َ َ ْ َ ُُ َْ ْ َ َُ ََ
ص ٍاط ُم ْس َت ِق ٍيم{(انلحل.)76 : ع ِ َ ومن يأمر بِالعد ِل وهو
***
ال�سورة كلها مل ت�أت على ذكر ا�سم نبي �إال �إ�شارة واحدة ل�سيدنا �إبراهيم
عليه ال�سالم ،فقط �سيدنا �إبراهيم.
َ ً ََْ َ ُ َ ُْ ْ َّ ْ َ َ َ َ ُ َّ ً َ ً
شك َِني{(انلحل.)120 : ِ م ال ِن
م ك ي م ل و ا يفِ ن ح هلل ا ِت }إِن إِبراهِيم كن أمة قان
َ ُ َّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ُ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ
ام ِة ك َِتابًا يَلْ َقاهُ َمنْ ُش ً
ورا ان ألزمناه طائ ِره ِف عن ِق ِه ون ِرج ل يوم ال ِقي }وك إِنس ٍ
َْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َْ ْ َ َ َ ْ َ َ ً
اقرأ ك ِتابك كف بِنف ِسك الوم عليك ح ِسيبا م ِن اهتدى فإِنما يهتدِي ِلف ِس ِه
َ َ ْ َ َّ َ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َّ ُ َ ِّ َ َ َّ َ ْ َ َ
ني حت نبعث ازرة ِوزر أخرى وما كنا معذب ِ ومن ضل فإِنما ي ِضل عليها ول ت ِزر و ِ
َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َََْ َ ْ ُْ َ ًََْ َََْ َُْ َ ََ َ ُ ُ ً
تفِيها ففسقوا فِيها فحق عليها الق ْول َرسول وإِذا أردنا أن نهلِك قرية أمرنا م
َ َ َّ ْ َ َ
اها تَ ْدم ً
ِريا{ (اإلرساء .)16 :13 فدمرن
َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َّ
اء ل ِمن ن ِريد ث َّم جعلنا لُ جهن َم جلة عجلنا ل فِيها ما نش }من كن ي ِريد العا ِ
َ َ َ ُ َ َ َ ََ َ ْ ََ ُ ُ ْ َ ْ َ َْ وما َم ْد ُح ًَ ْ َ َ َ ْ ُ ً
ورا َ ومن أ َراد الخ َِرة َوسع لها سعيها َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك يصلها مذم
ُ
َك َن َس ْع ُي ُه ْم َم ْشك ً
ورا{ (اإلرساء .)19 :18
َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ َ َ ُ ً َ َ َْ َ ْ َ ََ ْ َْ َ ْ َ ََ
الش كن يئوسا ان أع َرض َونأى ِبَانِبِ ِه وإِذا مسه النس ِ }وإِذا أنعمنا ع ِ
ُ ْ ُ ٌّ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ً
اكتِ ِه فربكم أعلم بِمن هو أهدى سبِيل{ (اإلرساء .)84 :83 قل ك يعمل ع ش ِ
الأمر ،عدم اتباع �أمر ما دون علم والتوا�ضع ،كما ت�سقط من هذه الن�سخة
اخلامتة و�صية تقدي�س يوم ال�سبت.
هذه الو�صايا هي � ًأول توحيد اهلل وعدم عبادة �سواه ،بر الوالدين،
ال�صدقات ،الإنفاق ال�سليم والتو�سط بني البخل والتبذير ،البعد عن الزنا،
حماية الأرواح الربيئة ،املحافظة على �أموال اليتامى ،الوفاء بالعهود،
والعدل يف امليزان وعدم الغ�ش ،التحقق من كل �شيء قبل اتباعه ،التوا�ضع.
وكل هذه الو�صايا هي يف النهاية «م�س�ؤولية �شخ�صية»� ،صحيح �أن ً
بع�ضا
أ�شخا�صا» �آخرين بحيث تنظم عالقتك بهم ،لكن يف النهاية
ً منها يخ�ص «�
هذه و�صايا �شخ�صية ،م�س�ؤولية �شخ�صية ،ال�سورة ت�سري بك �إىل دورك
الذي حتاول �أن تبقيه يف ُّ
الظ ْل َم ِة ،ت�ضعك مبواجهة عواقب هذا اللقاء،
وقرارك جتاهه.
***
َّ َ َ
تهم�س �سورة الإ�سراء يف �أذنيك ب�شيء عن القر�آن ،تقول لك} :إِن هذا
َ َ ْ َ ُ َ ُ َ ِّ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُ َ ْ َّ ُْ َ َْ
ات أن له ْم أج ًرا الق ْرآن يهدِي ل ِل ِت ِه أقوم ويبش المؤ ِمنِني الِين يعملون الص ِ
ال ِ
َكب ً
ريا{ (اإلرساء.)9 :ِ
القر�آن يهديك الطريق �إىل الأ ْق َوم.
عليك �أنت �أن ت�سري يف هذا الطريق.
***
ت�سمى � ً
أي�ضا ال�سورة �سورة بني �إ�سرائيل� ،إذ بعد مطلع ال�سورة ت�أخذنا
فو ًرا �إليهم ،بال�ضبط �إىل موقع من ق�صتهم مل يتكرر يف �أي �سورة �أخرى،
ق�صة تع ُّر�ضهم للهالك والدمار على �أيدي �أقوام �آخرين مرتني.
- 106 -
سورة اإلرساء
َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ
ي َولَعل َّن عل ًّوا ِيل ف الْك َِتاب َلُ ْفس ُد َّن ف ْالَ ْ
ََ َ َْ َ َ ْ َ َ
ِ ت ر م ضِ ر ِ ِ ِ سائ ِ }وقضينا إِل ب ِن إ ِ
َكب ً
ريا{ (اإلرساء.)4 : ِ
نتعامل مع هذه الآيات �أحيا ًنا كما لو كانت حتمل نبوءة �سرية بزوال
«دولة �إ�سرائيل» ،واحلقيقة �أن كل ما ُذ ِك َر من ق�ص�ص لبني �إ�سرائيل يف
القر�آن كان الهدف منه �أن نتعظ نحن و� َّأل منر بنف�س الأخطاء التي وقعوا
فيها.
ولقد فعلنا بال�ضبط ،بحيث �إن هذه الآيات الآن تكاد تنطبق علينا،
وتتكرر علينا.
ْ ْ
ك ْم َوإ ْن ُع ْد ُت ْم ُع ْدنَا َو َج َعل َنا َج َه َّن َم ل ِل َكف ِر ََ
َ َ َ ُّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ
ين َح ِص ًريا{ ِ ِ }عس ربكم أن يرح
(اإلرساء.)8 :
وهذا ي�أخذنا مرة �أخرى �إىل الآية الأوىل :الإ�سراء ،نعرف �أنه عاد عليه
مهموما من �أن النا�س لن ي�صدقوا ما �سيقوله لهم ،ثبت ً ال�صالة وال�سالم
ذلك بال�صحاح ،وت�أتي هذه الآيات كما لو ُت ْل ِقي ال�ضوء على هذه الفرتة �أو
ما ي�شابهها ،نحن هنا نرى ما يدور يف نف�سه عليه ال�صالة وال�سالم.
- 107 -
القرآن نسخة شخصية
ونحن نعلم �أن ال�صالة ُف ِر َ�ضت يف رحلة املعراج((( ،هنا نعرف �أي توقيت
منا�سب جاء هذا الفر�ض ،ليكون العالج والدواء لهذا املوقف ،ولكل املواقف
التي يكون فيها �صدقك مبواجهة الآخرين.
ْ َُْ َ ْ َْ ْ َ ْ ْ ُْ َ ْ ُ ْ ِّ َ ْ ْ ُ ْ َ َ
لنك } َوقل َرب أدخِل ِن مدخل ِصد ٍق َوأخ ِرج ِن م َرج ِصد ٍق َواجعل ِل مِن
ُسلْ َطانًا نَ ِص ً
ريا{ (اإلرساء.)80 :
الكهف هنا مثل احلا�ضنة؛ الرحم والفكرة ،البذرة هنا مثل اجلنني
الذي ال بد �أن ينمو داخل الرحم بعيدً ا عن العامل اخلارجي.
***
َ ََْ َُ ْ َ َْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ ً َ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ
اب َوحففناهما ٍ ن ع أ ِن
م يي جعلنا ِلح ِدهِما جنت ِ اضب لهم مثل رجل ِ }و ِ
ْ َ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ ْ ُ َ ْ ً َ َ َّ ْ َ ً َ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ
ي آتت أكلها ولم تظلِم مِنه شيئا وفجرنا ِ بِنخ ٍل َوجعلنا بينهما ز ْرع ِ كتا النت
َ ُ َ َُ ُُ ََ َ ْ َُ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ََ ََ َ َ َ َُ َ َ َ
ث مِنك مال َوأع ُّز اوره أنا أكحبِ ِه وهو ي ِ خِللهما نه ًرا َ وكن لُ ثم ٌر فقال ل ِصا ِ
ََ
نف ًرا{ (الكهف .)34 :32
مرحلة �صاحب اجلنتني هي �أوىل مراحل اخلروج من الكهف ،النزول
�إىل الواقع ،يف الق�صة يحاور امل�ؤمن «�صاحبه» الكافر ويحاول تغيري فكرته،
الفكرة �إذن �أ�صبحت م� َّؤهلة لكي تواجه الفكرة املقابلة وتناق�شها ،خرجنا
من احلا�ضنة �إىل الت�ضاد والتفاعل مع الأفكار الأخرى ،تفاعل ميكن �أن
يكون مثل اللقاح الذي يزود الفكرة الأ�صلية مبناعتها عرب تكوين م�ضادات
ال ب َّد منها.
كل فكرة حتتاج هذا اجلدل ،هذا التفاعل ،ال ميكن لها �أن تنزل �إىل
التطبيق قبل �أن متر بهذه املرحلة؛ مرحلة �صاحب اجلنتني.
***
َ َ ْ َ ُ
ْ َ ُ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ
ََ َ ُ َ ْ َ
ض ُح ُق ًبا{
ال ْح َر ْين أ ْو أ ْم ِ َ
ِ
م َم َع َ } َوإِذ قال موس ل ِفتاهُ ل أبرح حت أبلغ
(الكهف.)60 :
مرحلة مو�سى والعبد ال�صالح هي مرحلة التطبيق ،مرحلة النزول �إىل
الأمر الواقع ،مرحلة املرونة يف الفهم واالبتعاد عن الألواح احلجرية ،كل
فكرة عندما تكون جمرد فكرة حتتوي على نوع من املثالية التي �ست�صطدم
بدل من ترك الفكرة كلها.حت ًما بالواقع ولن جتد لها مكا ًنا يف التطبيقً ،
- 110 -
سورة الكهف
ً
وبدل من حتطمها على �صخرة الواقع ،ال بد من نوع من املرونة ،ال بد من
حتديث منا�سب للواقع ومعطياته التي كانت غائبة يف مرحلة «الكهف».
الأمر هذا يحدث مع كل فكرة وكل م�شروع ،مهما كانت طبيعته ،بل حتى
مع العالقات ال�شخ�صية ،الفكرة امل�سبقة قبل الدخول يف «معرتك احلياة»
تكون «نظرية» ومليئة بالتوقعات العالية ،لكن الح ًقا حتدث «تعديالت»
متاما.
تنا�سب الواقع ،دون �أن تلغي الفكرة الأ�صلية ً
***
َّ َ َّ َّ َ َْ ْ َْ ُْ َ َْ ُ َ َْ ُ ْ ُ ْ َ َْ َُ َ َ َ ْ
ي قل سأتلو عليك ْم مِنه ذِك ًرا إِنا مكنا لُ ِف ِ ن ر قال ِي ذ ن }ويسألونك ع
ََ َ ًَ ْ َ َ ْ َ ًَ َ ِّ ُ ْ ََْ َْ
ش ٍء سببا فأتبع سببا{ (الكهف .)85 :83 ال ْر ِض َوآتيناهُ مِن ك
أملت يف حياتك لرمبا وجدت بع�ض هذه الأطوار ،رمبا كنت ال تزال لو ت� َ
متر بها ،رمبا كنت يف الكهف ،ورمبا كنت ال تعرف �أن عليك اخلروج منه،
ودفعت ثم ًنا ً
باهظا لذلك، َ رمبا وجدت نف�سك خارج الكهف قبل الأوان،
علقت يف الكهف؛ لأن اخلارج َب َدا لك خمي ًفا ج ًّدا.
رمبا َ
رمبا جتد يف الكهف الرباءة والنقاء الأول الذي كان ذات يوم ،ورمبا
تعرفت فيها على �أفكار �أخرى خمتلفة
َ جتد يف �صاحب اجلنتني �أول مرة
عما تعتنقه ،رمبا جتد �صدمتك الأوىل والثانية والثالثة يف ق�صة املو�سى
والعبد ال�صالح ،رمبا �ستجد فيها كل ما كرهته يف حياتك عندما حدث،
واعتربته �أ�سو�أ ما حدث لك ،ثم متر الأيام ،ف�إذا بك تكت�شف �أنها كانت
�أف�ضل ما حدث لك.
أي�ضا يف حياتك؟ �إن كنت �ستجد ،فحا ِف ْظ
هل �ستجد مرحلة ذي القرنني � ً
عليها بكهف بني حني و�آخر ،تراجع فيه كل ما حدث.
***
نعترب «�أهل الكهف» ً
مثال على النوم الطويل ،ويف احلقيقة �أنهم كانوا
قد �سبقوا ع�صرهم.
ُ َ َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ َْ ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
ت ام َرأت عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك }إِذ قال ِ
َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ
ِيم ،فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما َوضعت أنت الس ِميع العل
َ َّ ْ ُ َ َ َ ِّ ُ
َ ْ َ َّ َ َ ْ ْ َ
َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم{ (آل عمران.)35 :
�أمها كانت تريد َذ َك ًرا تهبه هلل ح�سب الت�شريع اليهودي ،لكن مرمي �أنثى،
ومن تلك اللحظة كان على مرمي �أن تثبت ما على ماليني ،مئات املاليني
كالذ َكر،
الذ َكر ،هي لي�ست َّ
من الن�ساء� ،أن ُي ْث ِب ْت َنهُ ،لي�ست الأنثى �أقل من َّ
لكنها لي�ست �أقل منه ،وميكنها �أن تقوم بالكثري مما ميكنه هو �أن يقوم به،
كما ميكنها �أن تقوم هي مبا ال ميكنه هو �أن يفعله.
هذا التحدي يواجه الكثري من الإناث على نح ٍو يجعل حياتهنَّ ب�أ�سرها
مربجمة على �أ�سا�سه ،ق�صة يبدو �أنها لن تنتهي منذ فجر التاريخ ،تدخل
املر�أة يف دور املر�أة اخلارقة التي حتارب وتنت�صر على كل اجلبهات.
كانت ال تزال جني ًنا يف بطن �أمها يوم بد�أ التحدي ،مل يكن من املعتاد
تقدمي الإناث للخدمة الدينية ،وكان الفر�ض يف ال�شريعة عندهم تقدمي
الطفل الأول �إذا كان َذ َك ًرا ولي�س �أنثى ،ولكن �أمها كانت َن َذ َر ْت َها و َ�أ ْو َف ْت
الذ َكر ،و�أ ْب َل ْت يف ذلك بال ًء خار ًقا، بالنذر ،وكان على مرمي �أن تقوم مقام َّ
بل �أكرث من ذلك ،قامت بدور ما كان ميكن َلذ َك ٍر �أن يفعله.
قد يتخيل الرجال ما مرت به ال�سيدة مرمي ،لكني �أعتقد �أن خيالنا
يبقى قا�ص ًرا مقابل ما ميكن �أن تفهمه املر�أة من ذلك� ،أن تكون �شريفة
مل مي�س�سها ب�شر يف بيئة �شديدة التدين واملحافظة ،ثم �أن ُت َب َّل َغ باخلرب
ال�صاعقُ :ح ْب َلى.
***
ال ميكن �أن �أ�سمع تلك الآيات التي تق�ص ق�صة مرمي وحملها دون �أن
يت�س َّلل �إىل خيايل �صوت جعفر بن �أبي طالب وهو يقر�أها �أمام النجا�شي،
يوم هاجر امل�سلمون �إىل احلب�شة فرا ًرا من �أذى قري�ش ،و�أر�سلت قري�ش
خلفهم من يطلب من النجا�شي ت�سليمهم.
(((
�أتخيل �صوته الذي مل �أ�سمعه من قب ُل وهو يقر�أ الآيات.
مف�سحا املجال
ً تخيلوه ،تخيلوا الكلمات تخرج من جعفر ،ويعم ال�صمت
لذلك النور املتدفق حز ًنا ورق ًة ،تخيلوها وهي تتجول يف الق�صر وامللك
وحوله حا�شيته.
َ َّ َ َ ْ ْ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ًّ َ َ ْ َ َ ْ ُْ
شقِيا فاتذت مِن اب م ْري َم إ ِ ِذ انتبذت مِن أهلِها مكنا }واذكر ِف الكِت ِ
َ َ ْ ِّ َ ُ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ ً َ ًّ
الرح ِن دون ِِهم حِجابا فأرسلنا إِلها روحنا فتمثل لها بشا س ِويا قالت إِن أعوذ ب ِ
َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ً َ ًّ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ َ ِّ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ًّ
ك غلما زك ِيا قالت ك ِلهب ل ِ مِنك إِن كنت ت ِقيا قال إِنما أنا رسول رب ِ
َ َ َ ُّ ُ َ َ َ َ ُ َ ٌ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ٌ َ ْ َ ُ َ ًّ َ َّ َ ُ ُ
ك ه َو ش َولم أك ب ِغيا قال كذل ِِك قال رب ِ أن يكون ِل غلم ولم يمسس ِن ب
َ َ َ َْ ُ َ ََْ َ ْ ْ َ ً َّ َ َ َ ْ َ ْ ًّ ْ َ َ ُ َ ً َّ َ َ َّ
ع َه ِّ ٌ
اس َو َرحة مِنا َوكن أم ًرا مق ِضيا فحملته فانتبذت ب ِ ِه ي َو ِلَجعله آية ل ِلن ِ
ُّ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ََ َ َ َ َْ َ ُ َ َ َ ً َ ًّ
جذ ِع انلَّخل ِة قالت يا ْلت ِن مِت قبل هذا مكنا ق ِصيا فأجاءها المخاض إِل ِ
سيًّا{ اها م ِْن َتْت َها َأ َّل َتْ َزن َق ْد َج َع َل َر ُّبك َتْ َتك َ
ََ َ َ ُ ْ ُ َ ْ ً َ ْ ًّ
َوكنت نسيا من ِسيا فناد
ِ ِ ِ ِ ِ
(مريم .)24 :16
و�ضعتهم الآيات يف قلب �أزمة مرمي ،الأزمة التي جعلتها تتمنى لو �أنها
َ ُ َ َ
متاماْ } ،لتَ ِن م ُِّت ق ْب َل َه َذا َوك ْن ُت ن ْس ًيا َمنْ ِس ًّيا{ ،امر�أة يف
ماتت و ُن ِ�س َي ْت ً
�أزمة ،وحيدة ،على و�شك �أن تواجه اتهامات العار والف�ضيحة من قومها.
كم ت�شبه �أولئك الغرباء املهاجرين الذين كان قومهم يريدون �أن
يرجعوهم غ�ص ًبا وقه ًرا لينالوا منهم �سوء العذاب.
ال بد �أنهم �سمعوا الآيات كما لو كانت تنزل للتو ،كما لو �أنهم ي�سمعونها
�أول مرة.
رجل وزوجاتهم.كانوا ب�ضعة وثمانني ً
كلهم �أح�سوا �أنهم مرمي.
***
أي�ضا ،البع�ض منا على الأقل� ،أجاءنا خما�ضنا �إىل جذوع نخل،ونحن � ً
ال ،مل تكن جذوع نخل بال�ضبط ،كانت قوارب هجرة� ،أحيا ًنا كانت جمرد
َق َّ�شة ،وتع َّل ْق َنا بها تعلُّق الغريق.
لكن خما�ضنا مل ينته عند النخلة ،وال برطب َج ِن ٍّي.
مل ينت ِه بعدُ.
***
ال ميكن لقارئ �سورة مرمي �أن يغفل عن تكرار ذكر لفظ «الرحمن»
فيها 11 ،مرة ُذ ِك َرت الكلمة يف �سورة مرمي عدا الب�سملة ،ال يوجد �أي �سورة
�أخرى يف القر�آن تقرتب من ذلك ،و�أقرب �شيء �إىل ذلك هي �سور الأنبياء
وي�س وامللك ،وكل منها ُذ ِك َرت الكلمة فيها 4مرات.
�صدفة؟! حا�شا هلل.
لعله عز وجل هنا ي�شري لنا �إىل معاين الرحمة التي ت�شري �إليها لفظة
الرحمن ،فريبطنا مبرمي ،بالأم ،باملر�أة اخلارقة ،هل هناك �أكرث رحمة
من الأم بني الب�شر؟ �ألي�س معنى الرحمة قد جاء من «الرحم» �أم العك�س؟
ال فرق ،لكن رحمة الأمهات �أمر ال خالف عليه ،حتى يف ق�سوتهنَّ �أحيا ًنا،
ثمة رحمة تكون من �أجل م�صلحة �أبنائهنَّ وبناتهنَّ .
كما لو �أنه عز وجل قد �شاء �أن يقربنا من معنى «الرحمن» عرب �أو�سع
و�أقرب ما نعرفه من معاين الرحمة.
***
يف نف�س ال�سورة ،على ُب ْع ِد �آياتَ من َق�صة مرمي ،ي�أتينا م�شهد ل�سيدنا
َ َ َ ٌ ْ َ َ ْ َ َ َْ ُ َ ْ َ ََْ
ِيم ل ِئ ل ْم تنت ِه
�إبراهيم يف مواجهة مع �أبيه} ،قال أراغِب أنت عن آل ِه ِت يا إِبراه
َ ًّ َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ
ل ْرجنك َواهج ْر ِن ملِيا{ (مريم.)64 :
الأمهات عاد ًة ال يفعلن ذلك ،رحمتهنَّ متنعهنَّ من قول ذلك مهما كان
موقفهنَّ ،لديهنَّ �أ�ساليب «م�ضادة» �أخرى طب ًعا ،لكن هذا النمط نادر عند
الن�ساء.
***
ويف نهاية ال�سورة تقري ًبا.
َ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َّ ْ َ ًّ َّ َّ َّ َ َ ُ َ ُ
الرح ُن ُودا{ (مريم.)96 : ات سيجعل لهم الص ِ َ
ال ِ ِين آمنوا َوع ِملوا
}إِن ال
الود؟
كم هو منا�سب هذا جلو ال�سورة وملرمي عليها ال�سالم!
***
- 119 -
القرآن نسخة شخصية
َ َْ ْ َ َْ َ ُْ َ َ ْ َ
}طه ما أن َزلَا عليك الق ْرآن ل ِتشق{ (طه .)2 :1
ولعل الأمر بد�أ من كفار قري�ش وهم يقولون للم�سلمني :لقد �أ�شقاكم
هذا القر�آن.
ولعل البع�ض من امل�سلمني كان ينظر �إىل الأمور ،و ُي َخ َّيل له �أن هذا
ال�شقاء �أمر مالزم للإميان.
ال�سورة تقول يف مطلعها � َّأل نتمادى يف ذلك ،ال�شقاء قد يحدث ،لكنه
لي�س هد ًفا بحد ذاته وال مق�صدً ا ،هو حم�ض نتيجة عار�ضة وعابرة.
ي�سهل على البع�ض �أن يعي�ش الدور ،دور ال�شقي املظلوم ،يربر لنف�سه
البقاء فيه بهذه احلجة �أو تلك ،كي يبقى يف الدور ،يف عدم املواجهة،
هناك َمنْ ظلمه ،هناك من يتوجه له باللوم.
ال�سورة تقول لنا ،لكل من ي�ست�سهل العي�ش يف دور املظلوم وال�ضحية:
ُك َّف عن هذا ،اخرج عن هذا الدورِ ،
واجهْ.
ال�سورة -باملنا�سبة -ال تقول لنا� :إن القر�آن قد تنزَّل لكي يجعلنا ن�شعر
بال�سعادة.
ال�سعادة ميكن �أن حتدث ،بل هي حتدث لكثريين بالفعل ،يقدم القر�آن
لهم م�صد ًرا من م�صادر الطم�أنينة وال�سعادة.
لكن هذا مرة �أخرى ،لي�س الهدف منه ،بل هو جمرد نتيجة.
ْ
القر�آن نزل }تَذك َِرةً ل َِم ْن َ ْي َش{.
و�سيكون هناك -يف خامتة ال�سورة تقري ًبا � -شيء �آخر عن هذا.
***
ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ
ت نَ ً ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ َْ ََ َ َ ُ ُ َ
ارا ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس } َوهل أتاك حدِيث موس إِذ رأى ن
ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً َ َ ِّ
ار هدى{ (طه .)10 :9 جد ع انل ِلعل آتِيكم مِنها بِقب ٍس أو أ ِ
�أول مواجهة تعقدها ال�سورة هي مع �سيدنا مو�سى.
مو�سى كان طريدً ا ب�سبب قتل �سابق ،وكان ميكن �أن يبقى داخل هذا
الدور ،دور القاتل الذي مل يتعمد القتل ،املظلوم بـ«حظ �سيئ» �أو ب�سرعة
غ�ضب ،املذنب «باخلط�أ» الذي �سيبقى طريدً ا منف ًّيا طيلة عمره.
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ْ ُ َ َّ ُ
لكن الوحي ي�أتيه �أن }فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (طه.)12 :
وعندما عاد مو�سى �إىل قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي �صنعه
ال�سامري.
هم اتهموا ال�سامري ب�أنه ال�سبب ،وهارون قال� :إنه مل يفعل �شي ًئا كي ال
يفرق بني بني �إ�سرائيل.
َََ ْ ُ َْ َ ً ص ُت ب َما ل َ ْم َي ْب ُ ُ
صوا ب ِ ِه فقبضت قبضة
َ َ
ال بَ ُ ْ َ َ ََ َ ْ ُ َ َ َ
}قال فما خطبك يا سام ِِر ُّي ق
ِ
َْ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ
ول فنبذتها َوكذل ِك س َّولت ِل نف ِس{ (طه .)96 :95 مِن أث ِر الرس ِ
حتى ال�سامري ،ا َّدعى �أنه ر�أى ما ي�شبه املالك ،وبعدها �س َّولت له نف�سه.
مل يتحمل �أحد امل�س�ؤولية.
الكل �ضحية.
***
منذ �أن و�سو�س �إبلي�س لآدم وزوجه ،وهناك من يجد �أن احلل هو �أن
مظلوما كي يتخلى عن م�س�ؤوليته.
ً يكون �ضحية
لكن عندما �أُ ْخ ِر َجا من اجلنة.
َ ُ ٌّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ ِّ ُ ً َ َ ْ َ َ ْ َ َْ َ ً َْ ُ ُ
}قال اهبِطا مِنها جِيعا بعضك ْم ِ َلع ٍض عدو فإِما يأت ِينكم مِن هدى فم ِن
َّ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ْ َ
اي فل ي ِضل َول يشق{ (طه.)123 : اتبع هد
على العك�س.
من اتبعه ال ي�ض ُّل وال ي�شقى.
مير بال�شدائد وال�صعاب ،لكن نظرته لها لن تكون ك�شقاء.
بل ك�ضريبة ،كامتحان.
من اتبعه ،لن ي�ض َّل يف دوره ،ويبقى يف دور ال�شقي.
بل �سيبحث عن الدور كما جاء يف هذا «الهدى».
ومن تفا�صيل ما تذكره ال�سورة ،نفهم �إن �إبراهيم كان �صغري ال�سن
َ ْ ُ َ
وقتهاَ } ،س ِم ْع َنا ف ًت يَذك ُر ُه ْم ُي َق ُال لُ إِبْ َراه ُِيم{.
ونتعرف على مواجهته لقومه عندما ا�ستجوبوه وح َّو َل اال�ستجواب هو
�إىل كبري الأ�صنام ،عامدً ا �أن يواجههم بال منطقية ما ي�ؤمنون به.
و�سالما
ً وانتهى الأمر بقرارهم عقوبته باحلرق ،ثم كانت النار بردًا
عليه.
***
هذا امل�شهد هو امل�شهد املركزي يف �سورة الأنبياء.
لكنه م�شهد «هدم» ،وهو ال يخت�صر م�سرية الأنبياء على الإطالق.
نعم� ،سنبد�أ بالهدم ،فهو مهم بالت�أكيد.
هدما من �أجل الهدم ،الهدم لي�س
لكنه هدم من �أجل البناء ،لي�س ً
هد ًفا ،لي�س الهدم �إال و�سيلة للو�صول �إىل مكان منا�سب للبناء.
�سرنى هناك يف ق�ص�ص الأنبياء الذين �سيذكرون يف ال�سورة مواقف
كذبت بدعوة الر�سل؛ مثل :لوط ونوح -عليهماهدم ودمار للأقوام التي َّ
ال�سالم .-
و�سيكون هناك ذكر لأنبياء مل نعرف يف ق�صتهم دما ًرا لأقوامهم؛ مثل:
�إ�سماعيل و�إدري�س وذا الكفل و�أيوب وزكريا -عليهم ال�سالم �أجمعني.-
و�سيكون هناك من نعرف �أنهم جنحوا يف جناة قومهم؛ مثل� :سيدنا
يون�س -عليه ال�سالم .-
- 128 -
سورة األنبياء
و�سيكون هناك تركيز على داود و�سليمان -عليهما ال�سالم -وقد حققا
�أعلى معاين البناء.
العدل كما يف مثال حكمهما على �صاحب الغنم واحلرث ،وال�سنن؛
املعرفة بال�صنائع والتحكم باملوارد الطبيعية.
***
�إذن مقابل م�شهد الهدم املركزي يف ال�سورة ،نقطة االنطالق ،هناك
� ً
أي�ضا التتمة ال�ضرورية ،م�شاهد البناء التي تكمل ال�صورة.
ولو قمنا بح�ساباتنا ،ف�إن مناذج البناء �ستكون �أكرث من مناذج الهدم.
ملاذا؟
للهدم جاذبيته ،خا�صة عندما تكون �شا ًّبا ومتمردًا وتريد �أن تثبت
هدما ال ينوي البناء،
نف�سك مقابل تراث الأجداد ،هذه اجلاذبية قد تنتج ً
هدما من �أجل الهدم فح�سب.
ً
الهدم �سهل (ا�س�ألوين �أنا عنه!) ،التحدي احلقيقي هو يف �أن تقدم
بديل عما تهدمه� ،أن تهدم فكرة �سلبية وتنتقدها وتك�شف مغالطاتها �أمرً
لي�س بال�صعب ،لكن ال�صعب ح ًّقا هو �أن تقدم الفكرة البديلة التي تزرعها
بدل من تلك التي هدمتها ،ال�شيء ذاته مع كل ما ي�ستهدف بالهدم� ،أي ً
منظومة قيم �أو �أي م�ؤ�س�سة� ،إن كنت تريد �أن تهدم ولي�س يف ذهنك �أي
خطة للبناء ،فغال ًبا طريقك ق�صري ،والهدم �سيكون على ر�أ�سك �أنت،
والنتيجة باملجمل �ستكون ل�صالح ما حاولت هدمه ،حيث �إن ف�شلك �سيقدم
�أدلة للبع�ض على �صالحيته.
- 129 -
القرآن نسخة شخصية
مل تنت ِه رحلة �إبراهيم يف املعبد تلك الليلة ،بل قادته �إىل طريق ر�أيناه
فيه وهو يرفع القواعد من البيت ،وي�ؤ�س�س البلد الآمن.
فعل ،لكنه هدم من �أجل البناء ،ولو يف مكان كان امل�شهد م�شهد هدم ً
�آخر.
فلننتبه هنا �إىل �أن م�شهد الهدم هذا مل ي�ؤ ِّد �إىل �أن ي�ؤمن قومه ،رغم
�أنه �ضرب معتقداتهم يف ال�صميم.
كما لو �أن الر�سالة هنا هي �أنه لكي جتعل النا�س ي�ؤمنون بك ،عليك � َّأل
تكتفي بهدم �إميانهم،
بل �أن تقدم البديل بو�ضوح.
وهذا ما فعله الأنبياء.
هذا ما قدمته ال�سورة.
***
تقول لنا ال�سورة � ً
أي�ضا� :إن مواجهة الهدم والبناء فيها خماطر ،خماطر
ينجيهم عز وجل من كيد الكافرين �أو من الدمار الذيتطلبت �أحيا ًنا �أن ِّ
حلق ب�أقوامهم.
اء َو َأ ْهلَ ْك َنا ال ْ ُم ْسف َ
ِني{ (األنبياء.)9 :
ُ َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ
اه ْم َو َم ْن ن َ َش ُ }ثم صدقناهم الوعد فأنين
ِ
وا�ست ُْخ ِد َمت الكلمة «جنيناه» مع كل من �إبراهيم ولوط ونوح ويون�س يف
هذه ال�سورة.
مع �إبراهيم كانت النجاة من النار.
- 130 -
سورة األنبياء
***
�سورة الأنبياء هي واحدة من ثالث �سور يف القر�آن تذكرنا بحقيقة
نادرة من حقائق احلياة التي ال يجادل فيها �أحد؛ املوت.
ُ ُّ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َّ ِّ َ ْ َ ْ ْ َ ً َ َ ُ َ ُ َ
ي ف ِتنة َوإ ِ ْلنا ت ْرجعون{ (األنبياء.)35 : }ك نف ٍس ذائ ِقة المو ِ
ت ونبلوكم بِالش وال ِ
وما دام الأمر كذلك ،وبح�سم ،ما دام املوت ينتظرنا عند منعطف ما.
فلتكن حلياتنا معنى.
***
و�سورة الأنبياء هي ال�سورة التي تذكرنا بحقيقة �أخرى.
َّ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ َْ ِّْ َ ْ َْ َّ ُ َ َ ْ ََْ َ َ
ون{ال }ولقد كتبنا ِف الزب ِ
ور مِن بع ِد اذلك ِر أن الرض ي ِرثها عِبادِي الص ِ
(األنبياء.)105 :
العباد ال�صاحلون....
لعلهم �أولئك الذين وا َز ُنوا بني ح�سابات الهدم والبناء.
لعلهم �أولئك الذين مل يكونوا عن هذه احل�سابات غافلني.
- 132 -
سورة الحج 22
تأشيرة حج
ما كان ميكن ل�سورة نزلت �آياتها متفرقة يف مكة واملدينة ،واحل�ضر
وال�سفر ،والليل والنهار� ،إال �أن تكون «�سورة احلج».
كنت -منذ �أن تنوي احلج،
احلج الذي هو رحلة تبد�أ من بيتك � -أينما َ
وتنتهي �إىل البيت العتيق.
و�سورة ت�صف رحلة كهذه ،ما كان ميكن �إال �أن تتنزل على هذا النحو،
ح�ض ًرا و�سف ًرا ً
ليل ونها ًرا ،بني مكة واملدينة.
�إنها رحلة ،ت�أخذك ال�سورة لها ،حتى لو كنت مل تذهب للحج �ساب ًقا� ،أو
كنت قد ذهبت مرا ًرا. حتى لو َ
ال�سورة ت�أخذك جمددًا �أو لأول مرة �إىل عمق احلج ،لكن دون حاجة �إىل
ت�أ�شرية �أو بطاقة �سفر.
***
بينما تع ُّد نف�سك لهذه الرحلة ،تذكرك ال�سورة ب�أن حياتك كلها رحلة
�سفر مبحطات متعددة.
َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ َْ َ َ ُّ َ َّ ُ
اس إ ْن ُك ْن ُت ْ
اب ث َّم مِن رت ِن م م اك ن ق ل خ ا ن إف ثِ ع ال ِنم ب ي ر فِ م }يا أيها انل
َ ْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ ِ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ ٍ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ِ ُ َ ِّ َ َ ُ ْ َ ُ ُّ ٍ ْ َ
ي ملق ٍة ِلبي لكم ون ِقر ِف الرح ِ
ام نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ
- 133 -
القرآن نسخة شخصية
ْ ُ َ ْ ُ َ َّ ْ ً ُ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ ُ ُْ ُ ُ َ ََ ُ َ َ َ ُ َ
اء إِل أج ٍل مس ًّم ث َّم ن ِرجك ْم طِفل ث َّم ِلَبلغوا أشدك ْم َومِنك ْم من يت َوف ما نش
ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ
ومِنكم من يرد إِل أرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعلم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ
يج{ (احلج.)5 : فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ
ه
نحن يف مرحلة ما بعد البناء ،وهذا النداء باحلج -املوجه لكل النا�س-
يعك�س جتاوز الر�سالة مرحلة «حمليتها» ،كونها حم�صورة يف النا�س حول
�إبراهيم وبنيه� ،إىل ما هو �أبعد و�أو�سع من ذلك ،ميكننا �أن نقول� :إنها
مرحلة «عاملية» ،على الأقل بالن�سبة للعامل القدمي.
مرحلة اكتمال البناء هذه على يد �سيدنا �إبراهيم ،ميكن �أن تف�سر �شي ًئا
�آخر ورد يف ال�سورة.
***
�سورة احلج احتوت على الآية التي �أَ ِذنَ فيها اهلل للم�سلمني بالقتال.
ِير (َّ )39ال َ
ع نَ ْصه ِْم لَ َقد ٌ
ََ ُ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ َّ
ِين ِ اهلل ن }أذِن ل ِلِين يقاتلون بِأنهم َ ظلِموا وإ ِ
ْ َ ْ َ ْ َ ٍّ َّ ْ َ ُ ُ ُّ َ ُ ْ ُ
ي حق إِل أن يقولوا َربنا اهلل{ (احلج .)40 :39 ِ غِ ب ِم
ه ار
ِ ِي
د ِن
م واج أخ ِر
وكل من اعتمر �أو حج ،يعرف �أن طول مدة �أداء املنا�سك يجعل البع�ض
يت�صرف كما لو �أن الأمر عادي ،ي�ضحك ،يتحدث يف �أي �شيء عادي.
تقن ًّيا� ،أداء املنا�سك هنا �صحيح ،ال يوجد ما يدل على غري ذلك.
لكن التعظيم لها� ،أخذها بجدية بالغة بحيث تنعزل عن �صغار الأمور،
هو �أتقى بالت�أكيد.
***
وال ميكن �أن نتجاهل �أن الفعل «يعظم» هنا ،قد يرتبط بالآية الأوىل من
ال�سورة.
َ ْ َ
َ ُّ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ ْ َّ َ َ َ َّ َ َ
ش ٌء َع ِظ ٌيم{ (احلج.)1 :
اع ِة ْ }يا أيها انلاس اتقوا ربكم إِن زلزلة الس
ْ ُ َ َ َ َ َّ َ ُُ ُ َ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ََ َ
كن ينالُ اتلَّق َوى مِنك ْم كذل ِك سخ َرها}لن ينال اهلل لومها ول دِماؤها ول ِ
ني{ (احلج.)37: اك ْم َوب َ ِّش ال ْ ُم ْحسن َ
ََ َ َ َ ُ
بوا اهلل ع ما هدك ْم ِلُ َك ِّ ُ
َ ُ
ل
ِ ِ ِ
التقوى �إذن ،تقوى القلوب حتدِّ د الآية الكرمية.
كم تبدو فري�ضة احلج من خارجها «عبادة جوارح»!
وكم هي يف عمقها «عبادة قلوب»!
�أمر ال ميكن �أن يحدده �إال املطلع على ما يف القلوب.
كل �شيء عدا ذلك حم�ض مظاهر.
***
و�سورة احلج هي ال�سورة التي ح َّددت لنا �أن �سيدنا �إبراهيم هو الذي
�سمانا م�سلمني.
َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ ك ْم ف َِّ َ َ َ َ َ َْ ُ
ِيم ه َو سماك ُم
ين مِن ح َر ٍج مِلة أبِيكم إِبراهِ ادل ِ }وما جعل علي
َ ْ َُْ ُْ ْ
ني مِن قبل{ (احلج.)78 : المسلِ ِم
ي�شبه الأمر -بال ت�شبيه � -أن يقال لك� :إن جدك فالن -الذي مل تره
دت.�سمعت عنه كث ًريا -قد اختار لك ا�سمك عندما ُو ِل َّ َ ولكن
يربطك ذلك عاطف ًّيا به على نحو خمتلف ،ي�صنع بينكما رابطة �أعمق
من رابطة الدم التي تربطك به.
�إبراهيم �سمانا م�سلمني.
اختار لنا هذا اال�سم.
ً
ارتباطا به وانتما ًء لر�سالته. �شيء يزيدنا
***
- 139 -
القرآن نسخة شخصية
قد نتوقع من قائمة ال�صفات �أن تكون �صعبة ،خارقة ال�صعوبة ،قد
نتوقع على �سبيل املثال ما ن�سمعه عن �أعمال بع�ض ال�سلف يف العبادات،
ال�صالة �ألف ركعة يف اليوم والليلة� ،أو قيام الليل كله طيلة �أيام ال�سنة� ،أو
قراءة القر�آن يف ركعة واحدة.
لكن ال �شيء من كل هذا.
َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َْ ََْ َ ُْ ْ ُ َ
ِين ه ْم ع ِنِين ه ْم ِف صلت ِِه ْم خا ِشعون وال }قد أفلح المؤمِنون ال
َ ُ
ج ِه ْم حاف ِظونَ َ َّ َ ُ ْ ُ ُ َ َّ َ ُ ْ َّ َ َ ُ َ َّ ْ ُ ْ ُ َ
اللغ ِو مع ِرضون والِين هم ل ِلزكة ِ فاعِلون والِين هم ل ِفرو ِ
ََ ََْ َ َ َ َ َ ي َملُوم َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ
ان ُه ْم َفإ َّن ُه ْم َغ ْ ُ
اء ذل ِك ِني فم ِن ابتغ ور ِ ج ِهم أو ما ملكت أيم إِل ع أزوا ِ
َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ُ َُ َ َ ُ َْ ُ َ
ِين ه ْم ع ِين ه ْم ِلمانات ِِه ْم َوعه ِده ِْم َراعون وال فأول ِك ه ُم العادون وال
ُ َ َ ُ ُ َْ ُ َ َ ََ ْ َُ ُ َ
ارثون{ (املؤمنون .)10 :1 صلوات ِِهم ياف ِظون أول ِك هم الو ِ
خ�شوع يف ال�صالة وحمافظة عليها� ،إعرا�ض عن اللغو والتفاهات،
زكاة ،عفة� ،أمانة للعهد ورعاية له.
لن �أ َّدعي �أنها �سهلة �أبدً ا ،ولن �أ َّدعي وجودها يف �شخ�ص بعينه.
ولكنها �صفات ممكنة التحقيق ،لي�ست خارقة وال م�ستحيلة ،ميكن �أن
تع َّد يف حياتك عدة �أ�شخا�ص عرفتهم و�أنت تظن بينك وبني نف�سك �أنهم
قد حققوا هذه ال�صفات �أو �أغلبها� ،أو هذا ما َب َدا لك منهم� ،إال اخل�شوع يف
ال�صالة الذي ال ميكن �أن ُيقا�س �أو ُيعرف ،والذي ال بد من االعرتاف �أنه
قد يكون �أ�صعب ما يف القائمة.
هي �صفات ميكن �إجنازها ،لي�ست �صفات الواحد يف املليون بالت�أكيد،
وال ن�سبة حمتملة عندي ملن ميكن �أن يحققها ،لكن ميكن جلارك �أو عمك.
- 142 -
سورة املؤمنون
�أو رفيق لك �أن يكون قد حققها ،دون �أن يبدو عليه ذلك التميز �أو الإبداع،
ودون �أن يكون له منجزات كبرية تتحدث عنها و�سائل الإعالم.
�إنها �صفات ميكن لل�شخ�ص العادي �أن يحققها ويحوزها.
لو �أننا نظرنا �إىل هذه ال�صفات من منظور معا�صر؛ لر�أينا يف هذا
ملتزما بالقوانني والتعليمات� ،سواء تلك التي تنظمً �شخ�صا
ال�شخ�ص ً
عموما،
عالقته بربه؛ ال�صالة ،اخل�شوع فيها واملحافظة عليها� ،أو العبادات ً
�أو التي تنظم عالقته باملجتمع؛ الزكاة ،العفة� ،أمانة العهد.
هو �شخ�ص عادي ،ملتزم بالقانون (باملعنى الوا�سع للكلمة ،عل ًما �أن
�أمانة العهد ت�شمل القانون ً
فعل).
لي�س هذا فقط.
بل �إن �سورة امل�ؤمنون ت�أخذنا �إىل ق�ص�ص الأنبياء ،وتبني لنا �أن الكفار
أ�شخا�صا عاديني ،وكان هذا �سب ًبا لرف�ض
ً كانوا يرون �أن الأنبياء كانوا �
دعوتهم.
كل الأنبياء الذين �سرت ُد ق�صتهم يف هذه ال�سورة �ست�شري �إىل ذلك.
ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ
ش مِثلك ْم ي ِريد أن ِين كف ُروا مِن قو ِم ِه ما هذا إِل ب مع نوح} :فقال المل ال
َ ْ َ ْ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ
ك ْم َول ْو َش َاء اهلل لن َزل َملئ ِكة َما س ِمعنا بِهذا ِف آبائ ِنا ال َّول َِني{
َ َ َ َ َ َ
يتفضل علي
(املؤمنون.)24 :
ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ َ َ َْ َُ ْ َ
ِين كف ُروا َوكذبوا بِلِقاءِ الخ َِرة ِ مع �صالحَ } :وقال المل مِن ق ْو ِم ِه ال
ْ َ َ ُّ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ْ َ ْ ُ ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ ُ َْ َْ ُ
شب َوأت َرفناه ْم ِف الياة ِ ادلنيا ما هذا إِل بش مِثلكم يأكل مِما تأكلون مِنه وي
َّ َ ْ َ ُ َ
شبون{ (املؤمنون)33 : مِما ت
َ
ْ َ َ ْ َُُ َ َ ُ َ َ ُْ ُ َ َ َْ َ ُ َ
َ
ون{ شي ِن مِثلِنا وقومهما لا عبِد مع مو�سى وهارون} :فقالوا أنؤمِن ل ِب
(املؤمنون.)47 :
أ�شخا�صا عاديني.
ً كل ه�ؤالء َب َد ْوا �
ومبتابعة خوامت ما حدث يف هذه الق�ص�ص ،ن�صل �إىل نتيجة مهمة ،ال
تقلل �أبدً ا من قيمة ال�شخ�ص العادي.
***
ماذا عن الأ�شخا�ص الآخرين الذين مل يحققوا الفوز والفالح ،وانتهوا
�إىل جهنم.
أ�شخا�صا عاديني ،فال�شخ�ص العادي ميكن ً أي�ضا يف الغالب كانوا �هم � ً
�أن ي�أخذ �أ ًّيا من الطريقني.
امل�ؤمنون اختاروا طريق االن�ضباط بالتعليمات ،الآخرون للأ�سف مل
َ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ
يفعلوا� ،سيقولون هم الح ًقا مف�سرين ما حدث} :قالوا َربنا غلبت علينا
ْ َ ُ َ َ ُ َّ َ ْ ً َ
ضالِّ َ
ني{ (املؤمنون.)106 : ِشقوتنا وكنا قوما
ف�ضلُّوا الطريق.
لقد ان�ش ُّقوا عن االن�ضباط وااللتزامَ ،
***
ْ َ
َ ِّ َ ُ ْ ُ ُ ََ ْ
ُ ْ ََ َ ََْ َ ٌ َْ ُ َ َّ
ُ َ ُ َْ ً ِّ َ
ون{ لينا ك ِتاب ين ِطق بِالق وهم ل يظلم } َول نكلف نفسا إِل وسعها و
(املؤمنون.)62 :
وردت هذه الآية �أو ما ي�شابهها يف املبنى واملعنى خم�س مرات يف القر�آن
الكرمي.
- 144 -
سورة املؤمنون
هنا -يف �سورة امل�ؤمنون -هي املرة الأخرية التي �سنقر�أها �أثناء قراءة
امل�صحف.
كما لو �أنها ُذ ِك َرت هنا بال�ضبط لت�ؤكد فكرة �أن هذه ال�صفات ممكنة
التحقيق لأي �شخ�ص دون موا�صفات خارقة.
***
َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ ْ ُ ْ ُُْ َ َ ُّ َ
اب ث َّم مِن ٍ ث فإِنا خلقناكم مِن تر ب مِن الع ِ ٍ }يا أيها انلَّاس إِن كنت ْم ِف َري
َْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ِّ َ َ ُ ُ
ي لك ْم َون ِق ُّر ِف ال ْر َح ِ
ام ي ملق ٍة ِلب نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ
َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ًّ ُ َّ ُ ْ ُ ُ ْ ْ ً ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َّ
ما نشاء إِل أج ٍل مسم ثم ن ِرجكم طِفل ثم ِلبلغوا أشدكم ومِنكم من يتوف
ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً ْ ُ َ ْ ُ ُّ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ
َومِنك ْم من ي َرد إِل أ ْرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعل َم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ
يج{ (احلج.)5 : فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ
ه
حماية �أخرى لنور امل�صباح ،الزجاجة �ستمنع -جمددًا � -أي تيار هوائي
ميكن �أن ي�ؤثر على نور امل�صباح.
- 146 -
سورة النور
َ َ ََ
اج ُة كأ َّن َها ك ْوك ٌب ُد ِّر ٌّي{.
ُّ َ َ
}الزج
الزجاجة نف�سها م�ضيئة تلتمع ،الكوكب الدري هو غال ًبا كوكب الزهرة،
الكوكب الأكرث ملعا ًنا بالن�سبة للأر�ض بعد ال�شم�س والقمر.
َ َ َ َ
اركة َز ْي ُتونَة ل َ ْ
ُ ُ ْ َ َ َ َُ َ َ
شق َِّي ٍة َول غ ْرب ِ َّي ٍة{. ٍ }يوقد مِن شجر ٍة مب ٍ
النور يغمر املكان ،و�أنت �أمام اجلدار ،هل ميكن �إال �أن تنجذب �إىل هذا
النور ،يحيط بك ويخرتقك؟ نور ال ي�شبه الأ�ضواء ال�ساطعة الزاعقة التي
نعرفها اليوم ،وال �أ�ضواء النيون الباهتة الكئيبة ،بل نور حقيقي ي�صعب
و�صفه ،كل ما عرفت يف حياتك من �أ�ضواء كان ن�سخة مز َّورة وباهتة من
النور ،حماولة فا�شلة لتقليد هذا النور.
من تلك الك َّوة يتدفق النور ،ويغطي على عاملك كله ،يغرقك من �أق�صاك
�إىل �أق�صاك بطم�أنينة � ِآ�س َرة ال فكاك عنها ،يغمرك النور حتى تتنف�سه،
في�صري لهاثك كالن�شوة.
ثم تقول :نعم ،نور ال�سماوات والأر�ض.
***
للوهلة الأوىل ،قد جند �أن هذه الآية ،باذخة اجلمال به َّية الروحانية،
تنتمي ل�سور ب�سياق خمتلف عن �سورة النور� ،آية روحانية كهذه ،ميكن �أن
نتو َّقع �أنها تكون يف ال�سور املكية ،ال�سور التي ركزت على جالل اهلل و�صفاته
وقدرته� ،أكرث مما فعلت ال�سور املدنية.
متاما.
لكن هذا التوقع خاطئ ً
لي�س هذا فقط ،بل �إن ال�سورة املدنية التي جاءت فيها هذه الآية قد
متاما عن هذا اجلو الروحاين ،بل �إن الن�سق العام لها،
بد�أت بداية خمتلفة ً
كان بعيدً ا عن هذا اجلو.
بد�أت ال�سورة هذه البداية.
َّ َ ُ ُ َ ٌ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ِّ َ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ
الزانِية ات لعلك ْم تذك ُرون }سورة أنزلاها وفرضناها وأنزلا فِيها آي ٍ
ات بين ٍ
ك ْم به َما َر ْأ َف ٌة ف دِين اهلل إ ْن ُك ْن ُتمْ
ْ ُ َ َ َ َ َْ ََ َْ ُ ْ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َّ
ِ ِ ِ ِِ لوا ك َواح ٍِد مِنهما مِائة جل ٍة ول تأخذ والز ِان فاج ِ
َ ََْ ْ َ ْ َ َ َُ َ َ َ ٌ َ ُْ ْ َ َْْ ْ ُْ ُ َ
تؤمِنون بِاهلل والو ِم الخ ِِر وليشهد عذابهما طائ ِفة مِن المؤ ِمنِني{ (انلور .)2 :1
متاما� ،شهوات
�شيء �آخر ً ي�ضربك النور فج�أة دون مقدمات ،كنت يف
َ ْ َ َ ْ
ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ
وره ِ ك ِمشك ٍة{. وعالجها وعقوباتها ،وفج�أة} ،اهلل نور السماو ِ
ات والر ِض مثل ن ِ
***
بل ب�سببه.
نعم ،لي�س بالرغم من �أن ال�سياق كان يف اجتاه العالقات بني اجلن�سني
و�ضوابطها.
بل ب�سبب ذلك.
القر�آن كان يتنزل على جمتمع حي ،ولي�س على مدينة فا�ضلة.
خطائني بطبيعتهم ،لي�س جمتمع مالئكةواملجتمع احلي مك َّون من ب�شر َّ
مت�شي على الأر�ض ،بل ب�شر لديهم نوازعهم املختلفة وجتاربهم وزللهم
و�سقوطهم و�سموهم.
وه�ؤالء الب�شر ميكن ج ًّدا �أن يتعر�ضوا لأخطاء يف االجتاه الذي حتدثت
عنه ال�سورة.
ولأنهم كذلك ،فهم بحاجة �إىل جرعة معادلة ومكثفة من النورانية
والروحانية.
مثلنا جميعا ،كلنا نحتاج �إىل هذه اجلرعة من النور يف عروقنا
وب�صائرنا ،وهم مثلنا ،املجتمع كله بحاجة �إىل هذا لكي يوازن طبيعته.
- 150 -
سورة النور
الب�شرية َّ
اخلطاءة ،حتى �أولئك الذين حت َّد َث ْت عنهم ال�سورة يف مطلعها،
حتى الزناة والزانيات و�أولئك الذين يرمون املح�صنات ،حتى �أولئك
بحاجة �إىل ذلك النور املتدفق من امل�شكاة ،كلنا بحاجة بالت�أكيد ،لكنهم
� ً
أي�ضا قادرون على التفاعل مع النور ،على ر�ؤيته يف �أعماقهم ،على ر�ؤية
�أنف�سهم من خالله.
***
لي�س هذا فقط.
الكثري من هذه الق�ضايا ُت َع ُّد ح�سا�سةُ ،ت َع ُّد من املحرمات التي ال داعي
أ�صل ،تكفيها املواعظ العامة دون تفا�صيل ،وكل �شيء على ما يرام لذكرها � ً
يف املجتمع وفقط املجتمعات الأخرى هي التي تع ُّج باملعا�صي والعالقات
احلرة ،نحن على ما يرام واحلمد هلل.
واج ْه
ت�سلط ال�سورة النور على عيوب املجتمع وحمرماته دون تخ ُّوفِ ،
حقيقة ب�شرية املجتمع وال حت ِّو ْل ُه �إىل مقد�س مالئكي؛ لأنه �سيتحول �إىل
جمتمع يفعل يف اخلفاء ما يلعنه يف العلن.
ال�سورة تع ِّلمنا �أن نوجه النور �إىل جتاوزات الطبيعة الب�شرية و�إخفاقاتها؛
لأن هذا هو الطريق ملعاجلة الأمر.
و�ستتعرف على نف�سك �أكرث وب�صورة �أدق مع هذا النور الذي غمرك.
وكما تط ِّهر ال�شم�س اجلروح وتقتل جراثيمها.
ف�إن هذا النور املتدفق من الكوة ميكنه �أن يط ِّه َرك ،ويقتل جراثيم
و�أدران روحك.
***
- 151 -
القرآن نسخة شخصية
فالن وفالنة ،هات �أربعة �شهود على ما تقول؛ �شاهدوا كل �شيء� ،أو تعا َقب
80باملائة من عقوبة الفعل نف�سه ،وال ُت ْق َبل �شهادتك بعدها.
الأمر باخت�صار هو تعامل واقعي مع الطبيعة الب�شرية ،الأخطاء حتدث،
لكن ال�سرت �أَ ْو َل� ،إن مل يكن هناك �شهود واعرتاف ،فالأمر �سيبقى �أخرو ًّيا،
ورمبا هناك توبة ومغفرة وعفو قبلها.
والأخطاء حتدث ،لكن احلديث عنها يزيدها وي�شيع الفاح�شة؛ لذا
فعقوبة من يتحدث عن الأمر م�شددة ج ًّدا وتقارب -من ناحية ال�شدة
-عقوبة الفعل نف�سه.
***
ُّ ْ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ َ َّ َّ َ ُ ُّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ
ادلنيا ِين آمنوا له ْم عذاب أ ِل ٌم ِفِين يِبون أن ت ِشيع الفاحِشة ِف ال }إِن ال
َ ْ َ ُ ََ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ
َوالخ َِرة ِ َواهلل يعلم وأنتم ل تعلمون{ (انلور.)19 :
ه�ؤالء ال ي�شرتط �أن يكونوا مروجي الدعارة �أو فاعلي الفاح�شة.
هناك بع�ض النف�سيات التي تنوح وتبكي على الف�ضيلة طيلة الوقت،
لكنها يف الوقت نف�سه تتحدث عن �أن «الكل الآن �ساقط»« ،الكل يفعلها»،
«العامل مي�شي هكذا».
ه�ؤالء يريدون �ضم ًنا �أن يقولوا :مل يبق هناك �شرفاء �إال نحن.
ه�ؤالء � ً
أي�ضا يحبون �أن ت�شيع الفاح�شة.
***
َ َُْ
الر ُس َول{. َ ُ
ِيعوا َّ ُ
وهناك � ً
أي�ضا} :قل أطِيعوا اهلل وأط
وهذا � ً
أي�ضا من النور على نور على نور.
***
- 153 -
القرآن نسخة شخصية
***
�سورة النور.
الآن� ،أنت ترى �أف�ضل.
ت�أخذنا ال�سورة �إىل داخل نف�سه الكرمية -عليه ال�صالة وال�سالم ،-
�إىل موا�ضع تلك الطعنات التي حاول كفار مكة �أن يجرحوه من خاللها،
ت�أخذنا ال�سورة �إىل حزنه النبيل -عليه ال�صالة وال�سالم ،-ثم تقول
لنا بني ال�سطور :متا�سك وجت َّلد �إذن ،هذا هو الرجل الذي بلغ الكمال
الإن�ساين ،ورغم ذلك فقد تع َّر�ض لأ�سو�أ مما تعر�ضت له.
تخط الأمر ،وحا ِو ْل � َّأل تكرتث ملا يقولون.
ُك َّف عن التذمر والبكاءَّ ،
***
�سورة الفرقان فيها �شيء من احلزن النبيل الراقي الذي كان ي�شعر
به -عليه ال�صالة وال�سالم -يف املرحلة التي نزلت فيها ال�سورة ،نحن يف
منت�صف املرحلة املكية تقري ًبا ،بعد هجرة احلب�شة وقبل الإ�سراء.
وكفار مكة ال يزالون على عنادهم ،ال يزالون يتهمونه ب�شتى االتهامات
ويتعر�ضون له بال�سخرية واالنتقا�ص.
َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ٌ َ ُ َ
ون َف َق ْد َج ُ
اءوا }وقال الِين كفروا إِن هذا إِل إِفك افتاه وأعنه علي ِه قوم آخر
َ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َ ً ُظلْ ًما َو ُز ً
ورا وقالوا أساطِري الول ِني اكتتبها ف ِه تمل علي ِه بكرة وأ ِصيل{
(الفرقان .)5 :4
كل ال�صدق الذي يحمله يف قلبه ،كل الثقل الكبري الذي كان ينوء به منذ
�أن تنزَّل عليه الوحي ،كان ه�ؤالء يقابلونه ب�أنه جمرد كذبة ،متثيلية� ،ساهم
فيها هو مع �آخرين من �أتباعه �أو ممن مل يظهروا بو�ضوح.
مقابل كل اجلدية التي كان عليه ال�صالة وال�سالم يتعامل بها مع الأمر،
كان ه�ؤالء يرفعون �أكتافهم �ساخرين مت�سائلني عن �أهمية ما جاء به حممد.،
- 157 -
القرآن نسخة شخصية
كل �شيء مما يقوله موجود يف �أخبار الأولني ،مل ي�أت بجديد ،حممد يجمع
ما ُك ِت َب من قبل ،وي�ساعده يف ذلك َمنْ له علم مبا يف �أخبار الآخرين.
إقناعا ،فقد حددوا
ولأن وجود التفا�صيل يف �أي كذبة يجعلها �أكرث � ً
ُ ْ َ ً ََ ً
الوقت الذي حتدث فيه عملية �إمالء الأ�ساطري هذه؛ }بكرة وأ ِصيل{.
ْ َْ َ َ َ ُْ َ َ َ َ ٌ َ َ ُ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ
اق ل ْول أن ِزل إ ِ ْل ِه ملك
ول يأكل الطعام ويم ِش ِف السو ِ }وقالوا م ِ
ال هذا الرس ِ
ََ ُ َ
ون َم َع ُه نَذ ً
ِيرا{ (الفرقان.)7 : فيك
كانوا يعيبون عليه ب�شريته ،يعيبون عليه �أنه يت�صرف كما يفعل النا�س،
وي�أكل كما ي�أكلون ،ومي�شي يف �أ�سواقهم� ،أي ظلم �أن ت�شعر �أن من يرف�ضك
مثل؟ ماذا تقرتحون؟ يتحجج بكونك �إن�سا ًنا لريف�ضك ،ماذا �أفعل ً
متاما،
يقرتحون �أن يكون معه مالك� ،أو يدله ربه على كنز يغنيه عن العمل ً
�أو �أن يجعل له جنة بحيث ي�أكل منها متى ما �أرادً ،
بدل من ال�سعي لرزقه.
لكنهم لي�سوا جادين يف �شيء مما يقولونَ ،منْ يع ِّلق �إميانه على طلبات
َ َ
كهذه �سيبقى يجد ما يطلبه ،لن تنتهي طلباتهم واحتجاجاتهمَ } ،وقال
ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ون إ َّل َر ُج ًل َم ْس ُح ً
َّ ُ َ ْ َ َّ ُ َ
ضبوا لك المثال فضلوا ورا نظر كيف الظال ِمون إِن تتبِع ِ
ََ َْ َ ُ َ َ ً
فل يست ِطيعون سبِيل{ (الفرقان .)9 :8
�سري ًعا يجدون تف�س ًريا �آخر؛ «ال�سحر» ،لقد �سحركم حممد فاتبعتموه.
َّ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ
اءنا ل ْول أن ِزل علينا الملئ ِكة أ ْو ن َرى َربنا لق ِد }وقال الِين ل يرجون ل ِق
َ َ ْ
ْاس َتك َ ُبوا ِف أ ْن ُف ِس ِه ْم َو َع َت ْوا ُع ُت ًّوا كبِ ًريا{ (الفرقان.)21 :
ولو �أُ ْن ِز َل عليهم مالئكة؛ �سيقولون :هذا ِ�س ْح ٌر َ�س َح َر �أب�صارنا ،ولو �أنهم
ر�أوه ً -
جدل -لقالوا� :أ َر ٌّب ُي َرى؟
القر�آن يجعل عليه ال�صالة وال�سالم يرى نهاية ه�ؤالء ،النهاية الأخرية
ج ًّدا؛ الندم ،الع�ض على الأ�صابع من الندم ،واالتهامات بينهم.
َ َ ً َ َ ْ َ َ َ ُّ َّ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ َّ ُ
ول سبِيل يا }ويوم يعض الظال ِم ع يدي ِه يقول يا لت ِن اتذت مع الر ِ
س
َ َ اذل ْكر َب ْع َد إذ َج َ
ْ ِّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ُ َ ً َ ً
اء ِن َوكن ِ ِ ن
ِ ع نِ ل ض أ دق ل ِيل ويلت لت ِن لم أتِذ فلنا خل
َ ُ ً َّ ْ َ ُ ْ ْ َ
ان خذول{ (الفرقان .)29 :27 الشيطان ل ِِلنس ِ
ولكن القر�آن � ً
أي�ضا ُي ْت ِبع هذا امل�شهد مب�شهد الر�سول وهو يبث حزنه �إىل
ربه.
َّ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ
آن َم ْه ُج ً َ َ َ َّ ُ ُ َ ِّ َّ َ
ورا{ (الفرقان.)30 : الرسول يا َرب إِن ق ْو ِم اتذوا هذا القر }وقال
هذا هو احلل الذي يجعلك تتجاوز كل ما يقال ،هم حال ًّيا -وبعد كل ما
بذلته من جهد معهم -كالأنعام ،بل هم �أ�ضل ً
�سبيل ،ال ي�سمعون ما تقول
وال يعقلونه؛ لذا جتاوزهم ،ال تكرتث � ً
أ�صل ملا يقولون.
***
يوجه لنا يدل على �أننا على �صواب ،ولي�س
ال يعني هذا �أن كل انتقاد َّ
�صحيحا باملطلق �أن «الأ�شجار املثمرة وحدها هي التي ُت ْر َمى باحلجارة»
ً
متاما.،
يوجه من انتقادات تكون �صحيحة ً كما ير ِّوج البع�ض ،بع�ض ما َّ
- 160 -
سورة الفرقان
اللي.
الهي ِّ
تعامل الآية على �أنها ت�صف امل�ؤمن ِّ
لكنها رمبا ت�صفه � ً
أي�ضا بعد �أن و�صل لهذه املرحلة التي ال يكرتث فيها
َ ُ َ
ملا يقال وما ُي ْط َعن به} ،قالوا َسل ًما{ ،ت�صاحلوا ً
متاما مع حقيقة �أن لي�س
كل َمنْ يف الأر�ض �سي�ؤمن ،و�أن �إر�ضاء اجلميع �أو �إقناع اجلميع مهمة
م�ستحيلة ،وت�صاحلوا مع �أن بع�ض الب�شر م�صر على عدم الفهم ،ت�صاحلوا
�سالما.
مع كل ذلك ،فقالوا ً
***
يف درب مواجهاتنا و�صراعاتنا وحملنا لق�ضايانا ،نكون �أمام عدة
مراحل يف التعامل مع الطعنات.
- 161 -
القرآن نسخة شخصية
واحدة من هذه املراحل لها جاذبية �شديدة ،وهي مرحلة «القنفذ»� ،أن
حتمي جلدك ب�أ�شواك القنفذ ،لي�س من ال�سهل �أن يطعنك �أحد ،فهو قد
أي�ضا ب�أ�شواكك ،وهذا يوفر احلماية لك وحل�سا�سيتك ،ولكنه � ً
أي�ضا ي�صاب � ً
يجعلك «مكو ًرا» على نف�سك على نحو مغلق وغري متفاعل مع ما حولك.
مرحلة «جلد التم�ساح» �أف�ضل و�أجدى و�أوعى بكثري.
حمظوظون هم �أولئك الذين ميلكون الوعي الكايف والإرادة الالزمة
للو�صول لها.
الأ�شخا�ص مرهفو احل�س ال�صادقون ،مييلون �أحيا ًنا �إىل لوم �أنف�سهم،
عندما ال ت�سري الأمور معهم كما ينبغي لها �أن ت�سري.
يفكرون :لعل اخلط�أ كان منهم ،لعل �أ�سلوبهم هو ال�سبب ...لعلها النية!
مييلون بطبعهم احل�سا�س �إىل حت ُّمل امل�س�ؤولية عن عدم الو�صول �إىل
النتيجة املرجوة ،حتى لو كانوا قد بذلوا كل ما ي�ستطيعون.
لكنهم يف غمرة �صدقهم مع �أنف�سهم ،ال يجدون تف�س ًريا �آخر ،ال بد �أننا
م�س�ؤولون عن هذا.
***
مر عليه ال�صالة وال�سالم ب�شيء مقارب يف املرحلة املكية.
كان غالبية قومه ال يزالون على موقفهم الراف�ض للإميان.
وكان عدد امل�ؤمنني قد وقف عند حد معني ،كل من يريد �أن ي�ؤمن �آمن
بعد �إ�سالم عمر ،وو�صلت الأمور بعدها �إىل حالة �ساكنة ،ال جديد.
وكان عليه ال�صالة وال�سالم ي�ؤمله ذلك ج ًّدا ،ي�ؤمله �أن يرى �أقاربه و�أقرانه
وع�شريته و�أهل مدينته وهم ي�صرون على الذهاب �إىل النار.
- 163 -
القرآن نسخة شخصية
كلمة «ي�ؤمله» ال تعرب بال�ضبط عما كان يعتمل يف �صدره ال�شريف -عليه
ال�صالة وال�سالم .-
كان الأمر �أكرب و�أ�شد بكثري.
َ َ َّ َ َ ٌ
}لعلك باخِع كان الأمر يكاد «يهلكه» حرف ًّيا ،هكذا خاطبه القر�آن،
َ ْ َ َ َ َّ َ ُ
كونُوا ُم ْؤمن َ
ني{ (الشعراء.)3 : ِِ نفسك أل ي
مو�سى كان معه ر�سول �آخر؛ هو هارون ،وكان م�ؤيدً ا باملعجزة يف يده،
وحتقق انت�صاره مبعجزته على ر�ؤو�س الأ�شهاد.
لكن كل هذا مل يغري من موقف َمنْ كان م�ص ًّرا على الكفر.
ال �شيء �أكرث ميكن �أن ُي ْف َع َل معهم ،لقد فعل مو�سى كل �شيء ،ومع ذلك
مل ي�ؤمن فرعون و�آله.
�إذن الأمر ال يتعلق مبا يفعله ر�سول ما وما ال يفعله ،كلهم فعلوا الأق�صى
حت ًما ،لكن ق�ضية الإميان � ْأع َق ُد بكثري.
فال حت ِّم ْل نف�سك �أكرث مما حتمله بالأ�سا�س.
***
ثم تنقله ال�سورة �إىل �سيدنا �إبراهيم -عليه ال�سالم .-
َ ُ َُُْ َ َُُْ َ َ ْ َ َ َ } َواتْ ُل َعلَ ْيه ْم َن َبأَ إبْ َراه َ
ِيم إِذ قال ِلبِي ِه َوق ْو ِم ِه ما تعبدون قالوا نعبد ِ ِ
َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َْ َ َ َْ َْ َ ُ َ ُ ْ ْ َْ ُ َ اما َف َن َظ ُّل ل َ َها َعكف َ َ ْ َ ً
ني قال هل يسمعونكم إِذ تدعون أو ينفعونكم أو ِِ أصن
َ ُ َْ َ َ ْ َ َ ََ َ َ َ َْ َ ُ َ َ ُ ُّ َ
اءنا كذل ِك يفعلون{ (الشعراء .)74 :69 : ضون قالوا بل وجدنا آب ي
والأبوة ،جند حوار �إبراهيم مع �أبيه وقومه حوا ًرا هاد ًئا يف منتهى الرقي
والرقة.
لكن مل ي�ؤمنوا � ً
أي�ضا.
تعددت �أ�ساليب الر�سل مع �أقوامهم.
لكن الإميان والكفر � ْأع َق ُد بكثري من ذلك.
تلك الكلمات التي قالها �إبراهيم تبدو كما لو كانت تر ِّبت على قلب
حممد ،وعلى قلب كل مكلوم من بعده.
ُ َّ َ ََ ََُ َْ َّ
ِين َ والِي ه َو ِ د ه ي و هف نِ قلخ ِي ال كان يتحدث عن رب العاملني} ،
َ َّ َ َّ ُ ُ ُ َّ ُْ َ َ َ ْ ُ ََُ َْ ُْ ُ ََْ
ني والِي ني والِي ي ِميت ِن ثم ييِ ِ ني وإِذا م ِرضت فهو يش ِف ِ يط ِعم ِن ويس ِق ِ
ين{ (الشعراء .)82 :78 َأ ْط َم ُع َأ ْن َي ْغف َر ل َخطيئَت يَ ْو َم ِّ
ادل
ِ ِ ِ ِ ِ
***
ت�أخذنا ال�سورة الح ًقا �إىل ق�ص�ص �أنبياء �آخرين :نوح ،هود� ،صالح،
لوط� ،شعيب -عليهم ال�سالم �أجمعني .-
منر عليهم واحدً ا واحدً ا ،كل منهم يف ع�صر ومكان خمتلف ،لكن
ال�سورة ت�أخذنا �إليهم وجتعلنا نرى املت�شابه يف ق�ص�صهم ،كما لو �أنها تقول
لنا� :إنها كلها ق�صة واحدة تكررت عدة مرات بن�سخ متعددة عرب الأزمنة
والأماكن ،تنبهنا �إىل وجود «منط» متكرر.
تنبهنا ال�سورة �إىل امل�شرتكات يف هذه الق�ص�ص ،دعوة الأنبياء كانت
واحدة يف الدعوة �إىل اهلل ونبذ �سواه ،لكن هناك كلمات مفتاحية تكررها
ال�سورة مع كل نبي منهم.
- 166 -
سورة الشعراء
نف�س �أ�سا�سات احلوار عند كل ه�ؤالء ،ثم يتفرق عند كل منهم ح�سب
جرمية قومه �أو م�شكلتهم الأ�سا�سية.
***
حت ِّلق �سورة ال�شعراء �إىل حيث ميكننا �أن نرى هذه الق�ص�ص من �أعلى
كما يراها الطائر ،ومن �إطاللة الطائر تلك ،نرى املح َكم وامل�شرتك يف تلك
الق�ص�ص ،نفهم م�سارات الق�صة واجتاهاتها ،نرى �أن ثمة منط متكرر.
هذا النمط ال يخ�ص وجود نبي يدعو قومه وتنتهي الق�صة بالعذاب
للقوم الكافرين فح�سب.
***
فرق كبري بني �أمل �صاحب الق�ضية ،الذي يعرف �أين ق�ضيته ،وبني الذي
واد ويقول ما ال يفعل.
يهيم يف كل ٍ
مثل الفرق بني ما يبقى ،ما �سيبقى موجودًا وبني ما �سيزول بعد �أن
ي�أخذ وقته ك�صرعة ،ومثل الفرق بني ثكلى تبكي َمنْ َح َم َل ْت ُه وه ًنا على وهن،
وبني نائحة م�ست� َأج َرة تتخذ من البكاء مهن ًة.
كث ًريا ما ن�ستعجل النتائج على نحو يجعلنا ال ن�صل لها �أبدً ا ،نحاول
الو�صول ب�أق�صر الطرق و�أقلها تكلف ًة ،وتكون النتيجة باهظة الثمن على
كل النواحي.
يكاد هذا النزق يكون طبيعة ب�شرية ،يكاد يكون هو الأ�صل يف ال�سلوك
الب�شري.
لكن الب�شر يتعلمون من جتاربهم� ،أو هذا ما ُي ْف َتَ�ض �أن يحدث على
الأقل؛ لذا فقد مت تروي�ض هذه الطبيعة الب�شرية وتقليل خماطرها عند
البع�ض.
وال يزال كثريون يرتكون هذه الطبيعة الب�شرية حتتجزهم يف متاهة
دوما نف�س جتربة اال�ستعجال
من التجارب والأخطاء املكررة ،يكررون ً
بحذافريها ،على �أمل �أن ت�ضبط معهم هذه املرة.
وال ت�ضبط �أبدً ا.
***
�سورة النمل تقول لنا �شي ًئا �ساط ًعا عن هذا كله.
تقدم لنا � ًأول نبي اهلل مو�سى -عليه ال�سالم -وهو ي�ستلم الوحي �أول
مرة.
ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ
ت نَ ً ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ َْ ََ َ َ ُ ُ َ
ارا ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس } َوهل أتاك حدِيث موس إِذ رأى ن
ِّ َ ُ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً َ َ ِّ
ار هدى فلما أتاها نود َِي يا موس إِن ِ انل ع د ج
ِ أ وأ سٍ ب ق ِ ب ا ه ِن م م ِيك ت آ ل لع
ُ َّ َ ُ ْ ْ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُّ ََ
أنا َربك فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (انلمل .)12 :9
�أجيال كثرية ف�صلت بني بني �إ�سرائيل يف عهد مو�سى ،وبينهم يف عهد
�سليمان� ،أجيال خا�ضت الكثري من التجارب وح�صلت على الكثري من
اخلربات �إىل �أن و�صلت �إىل املرحلة العليا يف عهد �سليمان.
�أخذت الثمرة وقتها ،الكثري من ال�صراع مع النف�س و�سنوات يف التيه
وجتارب دفعت فيها ت�ضحيات كبرية.
لكن الثمرة يف النهاية �أثبتت �أنها ت�ستحق.
عدا الثمرة الأُخروية التي ت�ستحق �أكرث يف النهاية ج ًّدا.
***
ومقابل هذا النجاح الذي تط َّل َب وقتًا كب ًريا ،ت�أخذنا �سورة النمل �إىل
الدمار العاجل الذي �أ�صاب قريتَي� :صالح ولوط.
َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ ِّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ
السن ِة ل ْول تستغ ِف ُرون اهلل لعلك ْم }قال يا قو ِم ل ِم تستع ِ
جلون بِالسيئ ِة قبل
ُ َُ َ
ت ْرحون{ (انلمل.)46 :
ك�أفراد ،لي�س �أمامنا �سوى �أن نفعل ما ينبغي فعله ،نحن جزء �صغري
ج ًّدا ،بحجم منلة من م�شهد كبري ج ًّدا لن نتمكن من ر�ؤيته ً
كامل.
علينا �أن نفعل ما يجب �أن نفعله ،من اهتدى فلنف�سه.
نعم ،نحن �صغار يف النهاية بحجم النملة.
- 175 -
القرآن نسخة شخصية
هنا نراها وقد جتمعت ،على الأقل هذا «�أ�شمل» ما �سرناه من ق�صته
عليه ال�سالم.
اليم ،من �إلقاء �أم مو�سى لطفلها �سورة ال َق َ�ص�ص ت�أخذنا من ِّ
اليم �إىل ِّ
اليم ،كل ما حدث بينهما منيف اليم� ،إىل حلظة غرق فرعون وجنده يف ِّ
�أحداث عرفناه يف �سورة �أخرى �سابقة متفرقة ،لكن هنا جتميع كل ما
حدث ،ما عدا جزء ال�سحرة ال ُي َ�شار له يف ال�سورة هنا.
ما الفرق بني �أن تقر�أ ق�صة مو�سى متفرقة -كما يف �أغلب ال�سور -وبني
�أن تقر�أها مت�سل�سلة من والدته �إىل جناته وقومه من فرعون؟
تطلع على موقف �أو جزء من الق�صة وتربطه مع الق�ص�ص املتفرقة� ،أنت َّ
ال�سورة لك مبواقف �أخرى من ق�ص�ص �أنبياء �آخرين� ،سواء بامل�شابهة �أو
االختالف� ،أي �إنك تقر�أ الق�صة من خالل منظور يتجاوز �سياق الق�صة
املبا�شر �إىل �سياقات عامة تربطها بق�ص�ص �أخرى ،رمبا ُب ْق�سم �إبلي�س يف
الإخراج من اجلنة� ،أو بعذاب قوم نوح� ،أو بتكذيب الكفار.
مع الق�ص�ص وهي متفرقة� ،أنت ترى من منظور �أعلى بكثري ،الطائر
يحلق �أعلى ويط ُّل على منظر �أكرب ،ثم ت� ِّؤ�شر لك ال�سورة على نقاط هنا
وهناك بحيث تربط بينها.
مع الق�صة وهي مت�سل�سلة� ،إطاللة الطائر ت�أتي من ارتفاع �أقل من
كنت ترى يف
ال�سابق ،ولكن برتكيز �أكرب على م�ساحة واحدة ،كما لو �أنك َ
الق�ص�ص املفرقة خارطة العامل �أجمع ،ثم �صرتَ يف الق�صة املت�سل�سلة ترى
خارطة لبلد واحد �أو قارة واحدة.
�أبو طالب ميوت دون �أن يقول كلمة الإميان ،قلب حممد َّ
يتفطر بينما
هو يطلب منه �أن يقول ولو كلمة على فرا�ش املوت ،لكن كفار قري�ش على
الطرف الآخر� :أترتك دين عبد املطلب؟
وال يقولها ،ميوت دون �أن يقولها.
َ َ
الق�صة تنتهي كما تنتهي كل الق�ص�ص} ،إِنَّ َك ل َت ْهدِي َم ْن أ ْح َب ْب َت{
أحببت ،ال �شيء ميكن �أن يغري ذلك.
مهما � َ
ذهب العم ال�سند الذي وقف معه منذ طفولته.
كانت هذه نهاية م�ؤ�سفة للق�صة(((.
***
لكن هذا مل يكن كل �شيء.
فبعد �شهر تقري ًبا ،تتو َّفى خديجة -ر�ضي اهلل عنها .-
يفقد املر�أة ال�سند التي وقفت معه منذ البداية ،نعم� ،إنها نهاية مرحلة
بالفعل ،عمه وزوجته يرحالن.
لكن الفراق كان خمتل ًفا هنا� ،سيكون ثمة لقاء م�ؤكد مع خديجة.
َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُّ َ َ َ َ ُ ْ َ ِّ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َّ
اء بِالهدى}إِن الِي فرض عليك القرآن لرادك إِل معا ٍد قل رب أعلم من ج
َ َ ُ َ َ ْ َُ
ني{ (القصص.)85 : ومن هو ِف ضل ٍل مبِ ٍ
لقاء يف اجلنة بال �شك وال ريب.
وتنتهي ال�سورة مبوا�ساة ملن فقد �سندين يف �شهر واحد ،تخفف وط�أة
قانون احلياة القا�سي.
َ ً َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ ٌ َّ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ َْ ُ ََ
الك ُم } َول تدع مع اهلل إِلها آخر ل إِل إِل هو ك ش ٍء هال ِك إِل وجهه ل
َ ُ َ ُ َ
َوإ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (القصص)88 :
َّ ك َ ْ
ُ ُّ
ش ٍء َهال ٌِك إِل َو ْج َه ُه{. }
كل الق�ص�ص تنتهي ،الكل يرحلون ،وال يبقى �إال هو عز وجل.
***
قال عليه ال�صالة وال�سالم:
�شئت ف�إنك ميت ،و�أَ ْح ِب ْب َمنْ
«�أتاين جربيل ،فقال :يا حممد ،ع�ش ما َ
�شئت ،ف�إنك مفارقه(((».
َ
هل جاءه تلك الليلة يوم توفت خديجة -ر�ضي اهلل عنها-؟
ودر�س احلياة هذا�( ،أحبب من �شئت ف�إنك مفارقه) ،هل جاءه ليلة
الفراق ال�صعبة تلك.
رمبا.
هل كل الق�ص�ص تنتهي؟
رمبا بع�ضها ال ينتهي �أبدً ا.
بع�ض الق�ص�ص تعي�ش فينا ،حتى بعد �أن يرحل كل �أبطالها.
َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ َ
تكوا أن يقولوا آمنا َوه ْم ل يفتنون َ ولقد فتنا }الم أح ِسب انلاس أن ي
َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ َّال َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ
ِين مِن قبل ِِهم فليعلمن اهلل الِين صدقوا ولعلمن الكذِبِني{ (العنكبوت .)3 :1
ونحن نعرف طب ًعا �أن امل�سلمني كانوا قد �سبقوا الر�سول -عليه ال�صالة
وال�سالم -يف الهجرة �إىل املدينة.
�أي �إن �سورة العنكبوت نزلت يف الوقت الذي كان فيه بع�ض امل�سلمني
يهاجرون� ،س ًّرا �أو جه ًرا �إىل املدينة.
ً
لي�س �سهل على االمتحان الكبري هو هذا ،هو قرار مغادرة مكة ،الأمر
اجلميع ،مهما كان الأذى الذي تع َّر�ضوا له ،لكن يف النهاية كانوا قد �صمدوا
ل�سنوات طويلة ،ما الذي ميكن �أن يحدث �أ�سو�أ؟
فعل ،ولكنهم بعد � 13سنة بالن�سبة للبع�ض منهم، لقد مروا بالكثري ً
كانوا قد تعاي�شوا مع الواقع ال�صعب.
لكن هذا القرار اجلديد؛ �أن يرتكوا مكة ،الأهل والأقارب ممن بقوا
م�شركني ولكن � ً
أي�ضا ال يزالون �أقرباء ،الع�شرية ،العمل واملال ،البيوت.
ً
جمهول ،ومن امل�ؤكد �أن العودة عنه و�أن يذهبوا �إىل و�ضع جديد ال يزال
لن تكون �سهلة.
مل يكن القرار ً
�سهل.
كث ًريا ما تتعبنا �أوطاننا ،يف احلقيقة كث ًريا ما تفعل بنا �أكرث بكثري من
ً
لي�س �سهل باملرة ،على الأقل بالن�سبة جمرد التعب ،لكن قرار مغادرتها
لكثريين ،قد ي�ستغرق منهم �سنوات من التفكري والأرق والقلق ،وقد ال
ي�صلون له �أبدً ا ،وقد يكون �أ�سهل لآخرين ،لكنه يف العموم قرار م�صريي؛
فتنة.
هكذا هو الأمر اليوم ،وقد كان كذلك و�أكرث وقتها ،الهجرة اليوم
م�ألوفة ،والنا�س يتبادلون التهاين عندما يح�صلون عليها ،لكنها مل تكن.
كذلك �آنذاك ،وهذا التنقل مل يكن ً
مقبول بالن�سبة للعربي احل�ضريَ ،منْ
يولد يف مدينة ميوت فيها غال ًبا.
لكن.
َ
َ َّ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ ُ ُ َ َ َ
ون{ (العنكبوت.)2 : ْ َُ اس أ ْن ُي ْ َ
تكوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتن
َ َ َّ ُ
}أح ِسب انل
***
لو قر�أنا ال�سورة من هذا املنظور؛ لوجدنا لكل �شيء مع ًنى خمتل ًفا.
ن َعن الْ َعالَم َ
ني{ (العنكبوت.)6 : ٌّ ََ
غ ل اهلل
َّ
ن إ ه س
َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ ْ
ف }ومن جاهد فإِنما ياهِد ِل
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اجلهاد ،ال�سورة مكية قبل �أي معركة ،لكن امل�شكلة هي يف فكرتنا التي
تق�صر اجلهاد على احلرب والقتال ،وتن�سى �أنه بذل للجهد و�أن بع�ض
املواجهات ال�شخ�صية االجتماعية تكون �أكرث �ضراو ًة من �أي مواجهة
ع�سكرية.
هذا القرار جهاد � ً
أي�ضا.
ْ َ َْ َ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ ً َ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ
شك ِب ما ليس لك ب ِ ِه عِل ٌم }ووصينا ِ
النسان بِو ِالي ِه حسنا وإِن جاهداك ل ِت ِ
ُ ُ
ِّ ُ ُ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ ْ ُ ُ
جعك ْم فأنبئك ْم بِما كنت ْم تعملون{ (العنكبوت.)8 : فل ت ِطعهما إِل مر ِ
نعم ،مفهوم ج ًّدا الآن ،كان هناك من الآباء والأمهات َمنْ يحاول �أن
ي�ستخدم العاطفة كو�سيلة البتزاز �أوالدهم على البقاء وعدم الهجرة.
حتى املثل الذي �أخذت ال�سورة ا�سمها منه ،نقر�أه الآن على نحو خمتلف.
َّ َ َ ْ َ ْ ً َّ َ َ َْ َ َ َََ َْْ َُ ْ ُ َ َ ُ َّ َ َّ َ ُ
وت اتذت بيتا َوإِن أ ْوه َن
اء كمث ِل العنكب ِ }مثل الِين اتذوا مِن د ِ
ون اهلل أو ِل
ُُْ ََْ ُ ْ َ ْ َ ُ َْ َ ُ َ ْ َ ُ َ
ون{ (العنكبوت.)41 : وت لو كنوا يعلم
وت ليت العنكب ِ الي ِ
هذه البيوت التي تتم�سكون بها ،املجتمعات التي ال تريدون الهجرة عنها،
مهما كنتم حتبونها ومتعلقني بها ،مهما َب َد ْت جميلة مزخرفة �أو مريحة.
يف حقيقتها لي�ست �أقوى من بيوت عنكبوت قد تنهار يف �أي وقت.
لو �أن بع�ضنا نظر ب�صدق وجت ُّرد �إىل الكثري من جمتمعاتنا� ،أوطاننا
لقلنا دون مواربة.
نعم ،نعي�ش يف جمتمعات عناكب.
***
ويف نف�س ال�سورة جاءت � ً
أي�ضا هذه الآية.
َ َ ٌ َ َّ َ َ ْ ُ ُ آم ُنوا إ َّن َأ ْ
َ َ َ َّ َ َ
ون{ (العنكبوت .)56
ِ د ب اع ف اي يِ إف ة ع س
ِ او ضِ ر ِ }يا عِبادِي الِين
بع�ض الأحداث التي تبدو بعيدة ن�سب ًّيا عنا يف البداية ،ت�ؤثر الح ًقا على
حياتنا اخلا�صة وحياة املاليني من النا�س حولنا.
حرب بني بلدين و�أنت تعي�ش يف بلد ثالث رمبا ال يكون حتى جماو ًرا لأي
من البلدين ،لكن النتائج تطالك بالتدريج ،وتغري من حياتك �إىل درجة مل
تتخيل حدوثها يوم �سمعت بخرب ن�شوب احلرب �أول مرة.
الت�أثريات املتداخلة يف العامل مثل الكرات على طاولة البلياردو ،تطال
الطاولة كلها حتى لو كان اجتاه الكرة الأوىل حمددًا يف حيز معني.
وما يبدو يف البداية خ ًربا رئي�س ًّيا يخ�ص ال�سيا�سة العامة يف مكان بعيد،
قد ينتهي ل ُي ْح ِد َث تغيريات �شخ�صية يف بيتك ومع �أفراد �أ�سرتك.
هل ميكنك � ُ ْ
أن ت ِد َث تغي ًريا كفرد يف كل هذا؟
رمبا ال ،ال ميكن فعل الكثري.
لكن وعيك فيما يدور �س ُي ْح ِد ُث فر ًقا حت ًما يف تعاملك مع ما يدور.
***
ولكن رمبا � ً
أي�ضا لأن هذه احلرب املتوا�صلة بني �أقوى �إمرباطوريتني يف
العامل وتدا ُول الن�صر واخل�سارة بينهما كان ي�ؤدي �إىل �إنهاك وا�ستنزاف
القوتني م ًعا ،ورمبا مي ِّهد لظهور قوة ثالثة جديدة.
نحن الآن يف �أواخر املرحلة املكية� ،سورة الروم كانت من �أواخر ما نزل
يف مكة ،تف�صلها عن الرحلة �إىل املدينة �سورتان فقط.
وعمل ًّيا كانت هجرة امل�سلمني التدريجية قد بد�أت غال ًبا يف تلك الفرتة.
احلرب يف ال�شمال بني �أقوى دولتني يف العامل القدمي.
لكن يف اجلنوب ،كانت هناك نقطة جديدة بد�أت يف التك ُّون ،وعلى نح ٍو
مل يكن رمبا قد َل َف َت �أ ًّيا من القوتني �آنذاك.
َ َْ َُ َ َ
ك َّن أ ْك َ َ
ث انلَّ ِ
اس ل يعلمون{ (الروم.)6 :
ْ َُ َ َ ُْ ُ ْ َ
} َوعد اهلل ل يلِف اهلل َوعده َول ِ
***
و�سورة الروم تذ ِّكر بدورة حياة الدول واملجتمعات ،وت�ش ِّبهها بدورة
حياة الإن�سان.
منو ،قوة� ،ضعف ،انهيار.
َ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ َْ َ
}أ َول َ ْم ي َ ِس ُ
ِين مِن قبل ِِه ْم كنوا أشد ريوا ِف ال ْر ِض فينظروا كيف كن عق ِبة ال
ْ ُ ْ ُ َّ ً َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ِّ َ َ َ
ات فما مِنهم قوة وأثاروا الرض وعمروها أكث مِما عمروها وجاءتهم رسلهم بِالين ِ
َ ُ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ َْ َ ُ ْ ََ ْ َ ُ َُْ َ ُ َْ ُ َ َ َ
اءوا ِين أس ُ كن كنوا أنفسه ْم يظلِمون ثم كن عق ِبة ال كن اهلل ِلظلِمهم ول ِ
َ ْ َ ُ َْ ْ َ ُ ُ ُ ُ َ ُ َ َْ َْ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َّ ُ َ
ات اهلل َوكنوا بِها يسته ِزئون اهلل يبدأ اللق ث َّم ي ِعيدهُ ث َّم السوأى أن كذبوا بِآي ِ
َ ُ َ ُ َ
إ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (الروم .)11 :9
ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َ
ح ال ْرض بعد م ْوت ِها ت و َي ِرج الميت مِن الح وي ِ }ي ِرج الح مِن المي ِ
ُْْ ََ ٌ ََْ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َُ َُ َ ْ َ َ َ َ َ َُْ ُ َ
ون{ اب ث َّم إِذا أنتم بش تنت ِش
ٍ ر ت ِن
م م ك ق لخ ن أ ه
ِ ِ تا آي ِنم و ()19 ونوكذل ِك ترج
(الروم .)20 :19
َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ ُ ُ ُ ْ ُ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ُ َّ
شكئ ِك ْم }اهلل الِي خلقكم ثم رزقكم ثم ي ِميتكم ثم ييِيكم هل مِن
َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ
ون {(الروم.)40 : شك
من يفعل مِن ذل ِكم مِن ش ٍء سبحانه وتعال عما ي ِ
من امل�ؤكد �أن ما ي�شابه هذه الآيات قد وردت يف �سور �أخرى ،لكن
معان
ال�سياق هنا -املرتبط ب�صراع الروم وفار�س -يجعل لهذه الآيات ٍ
خمتلفة تتعلق بدورة حياة الدول وال�سنن التي تتحكم بها كما تتحكم بدورة
حياة الإن�سان.
َ َُ َ
وها{ عن الأر�ض مل يرد يف �أي أي�ضا �إىل �أن لفظ }عمر فلننتبه هنا � ً
ْ َ ْ َ َ ُْ
مكان �آخر يف القر�آن غري هنا يف �سورة الروم ،ورد لفظ }استعمركم{
ُ َْ َْ َ ُ
يف �سورة هود } ُه َو أن َشأك ْم م َِن ال ْر ِض َو ْاس َت ْع َم َرك ْم ف َِيها{ ،ولكن ن�سبة فعل
الإعمار للإن�سان مل يرد �إال يف �سورة الروم.
ََْ َ َ َْ َ
ََُْ
ريوا ِف ال ْر ِض فينظ ُروا كيف كن وقد ورد يف �صيغة التناف�س} :أ َول َ ْم ي َ ِس ُ
َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ َ َّ ْ ُ ْ ُ َّ ً َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َّ
ث مِما عق ِبة الِين مِن قبل ِِهم كنوا أشد مِنهم قوة وأثاروا الرض وعمروها أك
َْ َُْ ََ ْ َ ُ َ َ ُ
ُ ْ ََ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ِّ َ
كن كنوا أنفسه ْم ات فما كن اهلل ِلظلِمهم ول ِ الين ِ عمروها وجاءتهم رسلهم ب ِ
َْ ُ َ
ون{ (الروم.)9 : يظلِم
لي�س �صدفة ،حا�شا هلل ،بل تذكري مبعايري املناف�سة والقوة بني الدول،
لي�ست احلرب والقوة الع�سكرية فقط ،بل � ً
أي�ضا الإعمار.
***
ولي�س �صدفة � ً
أي�ضا �أن ت�أتي الإ�شارة �إىل اختالف الأعراق والثقافات يف
هذه ال�سورة.
ُ َْ ً َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ ََْ ُ ْ َ َ ْ َ ََ َ ُ ْ َُْ
} َومِن آيات ِ ِه أن خلق لك ْم مِن أنف ِسك ْم أز َواجا ل ِتسكنوا إ ِ ْلها َوجعل بينك ْم
َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َّ ً َ َ ْ َ ً َّ َ َ َ َ
ون{ (الروم.)21 : ات ل ِقومٍ يتفكر
مودة ورحة إِن ِف ذل ِك لي ٍ
هذا الوعي اجلديد ينفتح على االختالف الثقافات والأعراق باعتباره
�آية من �آيات اهلل يف خلقه ولي�س �أم ًرا يجب العمل على �إلغائه.
***
َ ُ َ ْ َ َّ ْ َ ِّ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َْ َ ُ
اس ِ ُلذِيقه ْم بعض الِي
الح ِر بِما كسبت أيدِي انلَّ ِ }ظه َر الفساد ِف الب و
َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ َ
جعون{ (الروم .)41 : ع ِملوا لعلهم ير ِ
هل كان الظلم؟ اال�ستعباد؟ البذخ والإ�سراف مقابل الفقر واجلوع؟
هل هو هذه الر�ؤية املادية التي ال ترى �إال جان ًبا واحدً ا من احلياة؟
َ ُُ َ ْ ْ
َ ْ ُ َ َ ً َ َ َ ُّ ْ َ ُ َ َ
ون{ (الروم.)7 : ادلنيا َوه ْم ع ِن الخ َِرة ِ ه ْم غف ِل }يعلمون ظاهِرا مِن الياة ِ
كل �سور القر�آن التي حملت �أ�سما ًء لأ�شخا�ص يف عناوينها كانت لأنبياء
ور�سل :نوح ،هود ،يون�س ،يو�سف� ،إبراهيم ،عليهم ال�سالم �أجمعني.
وهناك ا�ستثناءان اثنان:
الأول هو ا�ستثناء معروف ال�سم ال�سيدة التي م َّثلت كل ت�ضحيات ومعاناة
الن�ساء عرب الع�صور؛ مرمي.
والثاين هو لقمان.
متاما لكل ال�سياقات الإعجازية التي عا�شتها
وجود ا�سم مرمي مفهوم ً
وقربها من النبوة.
متاما ،يجربنا على التوقف ً
طويل. لكن لقمان �شيء �آخر� ،شيء خمتلف ً
�إذ لي�س من ال�سهل �أبدً ا �أن تكون يف هذه املقارنة� ،أن يو�ضع ا�سمك يف
مو�ضع مل يكن �إال للأنبياء.
***
م�صلحا.
ً حتا عظي ًما �أو قائدً ا ً
عادل مل يكن لقمان فا ً
مل يح�صل على مكانته التي ح�صل عليها لأنه عابد �أو زاهد� ،أو ب�سبب
فعل اخلري.
رمبا كان كل هذه الأ�شياء باملنا�سبة ،لكننا ال نعرف ذلك؛ لأن القر�آن مل
يذكرها عنه ،بل ذكر �شي ًئا خمتل ًفا.
ماذا كان لقمان؟ ما الذي نقله القر�آن الكرمي عنه؟
كان مر ِّب ًيا.
�أو على الأقل هذا ما �أظهره القر�آن منه ،هذا هو اجلزء الذي جعله
ي�ستحق مكانته.
***
ُم َر ٍّب؟
هذا فقط؟
نعم ،كان مرب ًيا ،قد ننظر �إىل الأمر على �أنه جمرد عمل تكميلي �أو
حت�صيل حا�صل.
لكن هذا العمل كان مه ًّما لدرجة جعلت من لقمان يف مكانته تلك.
أي�ضا �إىل هذا العمل على �أنه جمرد تنظري ،وهي قد ينظر البع�ض � ً
تعامل كما لو كانت �سبة �أو منق�صة حال ًّيا ،رغم �أنها
الكلمة التي �صارت َ
عالية املقام يف حقيقتها؛ لأنها تعرب عن �أرقى ما ميكن �أن للإن�سان �أن
ميار�سه :التفكري.
بكل الأحوال� ،سواء كانت الرتبية تنظ ًريا �أو تفك ًريا ،فقد كانت �أ�سا�سية
لدرجة جعلت من لقمان يف املو�ضع الذي هو فيه.
***
مرب بالت�أكيد.
لكنه مل يكن �أي ٍّ
كان حكي ًما.
***
و«احلكمة» �أمر ظاهر يف هذه ال�سورة.
الك ِِيم{ (لقمان .)2 :1 ات الْك َِتاب ْ َ ْ َ َ ُ
}الم ت ِلك آي
ِ
الك ُِيم{ (لقمان.)9 : يز ْ َ
ِيها َو ْع َد اهلل َح ًّقا َو ُه َو الْ َعز ُ
َ َ
الِين ف }خ ِ
َ
ِ
َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ ْ ََ ْ ََْ ُْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ ُ
} َولقد آتينا لقمان ال ِكمة أ ِن اشك ْر هلل َومن يشك ْر فإِنما يشك ُر ِلَف ِس ِه َومن
َ ٌّ َ ٌ َ َ َ َ َّ
ن حِيد{ (لقمان.)12 : كفر فإِن اهلل غ ِ
ْ َ َ َ َ ْ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ ُّ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ َْ َ َ َّ َ
الح ُر يمدهُ مِن بع ِده ِ سبعة أبُ ٍر ما } َول ْو أنما ِف ال ْر ِض مِن شجر ٍة أقلم و
َ َ ْ َ َ ُ
ات اهلل إ ِ َّن اهلل َع ِز ٌيز َحك ٌِيم{ (لقمان.)27 : ن ِفدت كِم
الإح�سان � ً
أي�ضا له ح�ضور مكثف يف �سورة لقمان.
ْ
ح ًة ل ِل ُم ْح ِسنِ َني{ (لقمان.)3 :
ًُ َ ََْ
}هدى ور
َ ْ َْ ََ ْ َْ َ َ ُْ ُ ُْ ْ َُ َ َ ْ ُْ
} َومن يسل ِْم َوجهه إِل اهلل َوه َو م ِس ٌن فق ِد استمسك بِالع ْر َوة ِ ال ُوثق َوإِل اهلل
َ َُ ُُْ
ور{ (لقمان.)22 : عق ِبة ال ِ
م
***
أي�ضا �إىل �أمر يرتبط باحلكمة. الآية الأخرية يف ال�سورة رمبا ت�شري � ً
َ ْ ٌ َ ِّ َ ْ َ ُ ُ َ َْ
وت إ ِ َّن اهلل َعل ٌِيم َخبِ ٌري{ (لقمان.)34: } َوما تد ِري نفس بِأي أر ٍض تم
فاهلل و�صف نف�سه وكتابه باحلكمة ،ثم انتهت ال�سورة بو�صفه بالعلم
واخلربة.
وهل احلكمة -عندما ت�ؤتى للب�شر -لي�ست �إال هذا الناجت من العلم
واخلربة والإح�سان؟
وهل ميكن �أن يكون هناك حكمة بعلم فقط� ،أو بخربة فقط� ،أو ب�إح�سان
فقط.
بل هو املزيج من هذه ال�صفات الثالثةـ الذي ي�ؤتى ثماره يف احلكمة؟
علم دون خربة حم�ض معرفة بال جذور تطبيق عملي.
العلم مع اخلربة؛ قدرة ومت ُّكن.
لكن بدون بو�صلة ال�ستخدام هذه القدرة وتوجيهها يف االجتاه ال�صواب.
�إمنا الإح�سان هو هذا العن�صر الثالث الذي يجعل من املزيج ينتج
احلكمة.
***
- 200 -
سورة لقامن
�أمر �آخر يجب �أن ننتبه له هنا هو ح�ضور الأبوة� ،أو العالقة بني الأبناء
ووالديهم يف �سورة لقمان.
ُ َ َ ُّ َ
أي�ضا الإ�شارة �إىل }يا أيها انلَّاس
هناك و�صية لقمان بالوالدين ،وهناك � ً
َ ًْ َ ٌ َ ْ ََ ََ َُْ ٌ َُ َ َ ْ َّ ُ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ً َ َ ْ
از عن َو ِ ِ
اله ِ شيئا ٍ ج و ه ودل وم لو ِ ه ِ
ل و ن ع الِ و ي ز
اتقوا ربكم واخشوا يوما ل ي ْ ِ
َ ْ ُ َّ ُ َ
ادلنيا َول يغ َّرنك ْم باهلل الغ ُر َُ َ ْ ُ َ
الياة ُّ ك ُم َ َ ٌّ َ َ َ ُ َّ َّ ُ َّ ْ َ
ور{ (لقمان)33 : ِ إِن َوعد اهلل حق فل تغرن
َْ َ
أي�ضا } َويَ ْعل ُم َما ِف ال ْر َح ِام{ ،هذا بالإ�ضافة �إىل �أن حوار لقمان كان مع و� ً
ابنه.
هل ي�شري هذا �إىل �أن عمق احلكمة وجوهرها هو هذا التوا�صل الذي
ميرر ع�صارتها وخال�صتها �إىل اجليل التايل؟ وهذا هو اال�ستمرار
وحققت من م�آثر ،ف�إن عدم حمافظتك على َ احلقيقي ،مهما �أجنزت
اجليل التايل يعني �ضياع كل ما حققته.
لي�س كل الآباء ينبغي اتباعهم بال�ضرورة وال�سورة ت�شري � ً
أي�ضا �إىل �أن
َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ
}قالوا بل نتبِع ما وجدنا علي ِه آباءنا أولو كن الشيطان يدعوهم إِل عذ ِ
اب
َّ
الس ِع ِري{ (لقمان.)21 :
لكن لي�س كل الآباء ينبغي جتاهل ما يقولون � ً
أي�ضا.
***
�أهم ما ميكن �أن متنحه لأوالدك لي�س ما �ستورثه لهم وال ا�سمك وال
املكانة االجتماعية.
بل هو �أ�شياء تقولها لهم ،وتبقى فيهم ما عا�شوا ،يلج�ؤون �إليها يف
�شدائدهم وامتحاناتهم ومفرتقات الطرق يف حياتهم� ،أو حتى يف حياتهم
اليومية.
- 201 -
القرآن نسخة شخصية
هذه الأبحر ال�سبعة التي ميكن �أن تنفد لو �أ�صبحت مدادًا لكلمات اهلل،
هل ت�شمل كلمات احلكمة التي تعك�س قدرة اهلل وتق ِّر ُب له عز وجل؟
هذه الكلمات التي على �أل�سنة الب�شر ولكنها تق ِّرب كلمة اهلل لهم ،هل
هي �ضمن هذا املداد؟
رمبا.
***
َ ْ ْ َ َّ َ َ
ي عِل ٍم َويتخِذها
ُ َّ َ ْ َ اس َم ْن ي َ ْش َتي ل َ ْه َو ْ َ
} َوم َِن انلَّ ِ
يل اهلل بِغ ِ
ِيث ِل ِضل عن سبِ ِ
الد ِ ِ
ُ َ َ
ُه ُز ًوا أول َِك ل ُه ْم َع َذ ٌاب ُم ِه ٌني{ (لقمان.)6 :
عاد ًة يتبادر �إىل �أذهاننا �أن لهو احلديث هو احلديث التافه العادي.
لكن لو دققنا يف الآية؛ لوجدناها حتدد } ِ ُل ِض َّل َع ْن َسبِ ِيل اهلل{.
ونحن نعرف �أن الآيات القر�آنية ُت ْ�ستَخدم �أحيا ًنا لهذا ،لي�س احلديث
التافه وحده ،بل �أحيا ًنا حديث مليء بالآيات وبالأحاديث ،ولكنها َّ
توظف
متاما -بق�صد �أو بغري ق�صد -فت�ضل عن �سبيل اهلل بعيدً ا عن م�سارها ً
ومقا�صده.
كم من �سنن يف الهيئة �أو اللبا�س ا�ست ُْخ ِد َمت للتغطية والإلهاء عن �سبيل
اهلل ،عن مقا�صده.
دوما يف ذلك الناجت الذي ينبثق من تفاعل العلم واخلربة
املحك ً
والإح�سان.
بعبارة �أخرى :يف احلكمة.
يحدث كث ًريا �أن تغطي الألفة والرتابة على م�شاعرنا حتى تفقد حرارتها
الأوىل ،و َي ْ�ض َحى الأمر جمرد تع ُّود رتيب ال �أثر للهيب �أو �شغف فيه.
يحدث هذا كث ًريا يف العالقات الإن�سانية ،و� ً
أي�ضا يف عالقاتنا مع
يوما� ،أو الهواية
الأماكن والأ�شياء ،ورمبا حتى مع املهنة التي �شغفنا بها ً
التي كانت ت�شغل وقتنا يف مرحلة ما.
يدخل امللل ،الرتابة ،والتثا�ؤب.
يحدث هذا كث ًريا.
ويحدث �أحيا ًنا -و�أحيا ًنا كثرية ج ًّدا -يف عالقتنا مع الإميان باهلل عز
وجل ،تعاىل �سبحانه عن كل ت�شبيه.
***
القارئ الذي كان يبكينا قبل �سنوات� ،صرنا منر على �صوته مرور
الكرام.
الداعية الذي كانت كلماته تهزنا قبل عقد من الزمان� ،صار ال يحرك
فينا �أي �شيء ،الآيات التي كانت جتعل �أنفا�سنا ت�ضطرب ،مل تعد كذلك.
يحدث هذا كث ًريا ،وكث ًريا ج ًّدا.
- 204 -
سورة السجدة
وقد جند الكثري من الأ�سباب التي تف�سر هذا� ،أ�سباب متزج بني
ال�سيا�سة وعلم االجتماع ،ف�شل تيار الإ�سالم ال�سيا�سي وكوارثه ،الفظاعات
التي ار ُت ِك َب ْت با�سم الدين ،الت�صرفات ال�شخ�صية لهذا الرمز �أو ذاك.
وكل هذا �صحيح وم�ؤثر وال بد.
ولكن هذا الفتور كان �سيحدث حتى لو مل يتغري العامل من حولنا ،وحتى
لو يتورط فالن �أو فالن فيما تورطا به ،الفتور هو جزء من طبيعة الأ�شياء.
من الطبيعي ج ًّدا �أن يحدث ،على الأقل مع �أغلب النا�س.
�أن يتحول الإميان بالتدريج ومع مرور الوقت �إىل جمرد ت�صديق.
***
�سورة ال�سجدة ت�سلط ال�ضوء على جزء من الفرق بني الإميان وبني
الت�صديق.
جتعلنا نراجع ما نعتقد �أنه �إمياننا.
ت�ضعنا �أمام م�شهد لهذا الإميان احلقيقي ،ثم ت�ضعنا �أمام �إمياننا نحن.
هل هذا ي�شبه ذاك؟
***
لكي ت�صل بنا ال�سورة �إىل هذا امل�شهد ،متر بنا � ًأول باجلهة املعاك�سة.
ت�أخذنا �إىل املكذبني ،بينما هم يكذبون ب�أهم و�أدق �شيئني يف الإميان:
الكتاب.
والقيامة.
هذان هما ال�شيئان ال َّل َذان يقف عندهما الكثري من الراف�ضني للإميان،
ويتخذونهما �سب ًبا يف االبتعاد عنه �إىل اجلهة املعاك�سة.
الكتاب �أو الوحي ،ويوم القيامة ،البعث.
�أغلب غري امل�ؤمنني ميكن لهم �أن يقروا بوجود اهلل ،وبقدرته على خلق
كل ما يف الكون.
لكنهم يقفون عند هذا دون خطوة �إ�ضافية.
�أن يتحدث هذا الإله العظيم اخلالق مع �أحد الب�شر بو�سيلة ما� ،أو �أن
يعيد �إحياء كل من مات على الأر�ض ،هذا يبدو بالن�سبة لهم غري ممكن.
وم�شاهد؛ لذا فالإميان بوجود خالق ما �أمر غري �صعب.
َ اخللق موجود
لكن الوحي واحل�ساب؟ هاتان هما الق�ضيتان اللتان يقف عندهما
البع�ض ،ويفلُّون راجعني.
ون ْاف َ َ
تاهُ َْ َُ ُ َ يل الْك َِتاب َل َر ْي َب فِيه م ِْن َر ِّب الْ َعالَم َ َْ ُ
ني أم يقول ِ ِ ِ }الم ت ِ
ن
ُ َ َ ْ َ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ َ ُ َ ْ ً َ
َ ْ ِّ
ون{ ِير مِن قبلِك لعله ْم يهتد بل هو الق مِن ربك ِلنذِر قوما ما أتاهم مِن نذ ٍ
(السجدة .)3 :1
َ ْ ُ ْ َ َ ِّ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ََ ُ َ َ َ ََْ
ون{ ِيد بل هم بِلِقاءِ رب ِهم كف ِر }وقالوا أإِذا ضللنا ِف الر ِض أإِنا ل ِف خل ٍق جد ٍ
(السجدة)10 :
ما العمل؟
ال �شيء مبا�شر ،ه�ؤالء �س ُي ْع َر ُفون الح ًقا.
- 206 -
سورة السجدة
هذا هو م�شهد الإميان الأعلى� ،أو على الأقل هذا امل�شهد يعرب عن جزء
كبري من هذا الإميان.
�أن يخ َّر املرء �ساجدً ا� ،أي �أن يخ�ضع دون وعي م�سبق منه �أو �إرادة،
�إميانه يت�صرف عنه دون �أن ي�ستكرب ،دون �أن متنعه عن ذلك �أي «�أنا»
مت�سلطة ترى يف خ�ضوعه �أو يف خ�ضوع عقله �إهانة لها.
َ
} َت َت َجاف{.
عب به القر�آن عن عالقة ه�ؤالء مع �أَ ِ�س َّرتهم هو لفظهذا اللفظ الذي َّ َ
خا�صا ،مل َي ِر ْد �سوى مرة واحدة يف القر�آن يف هذا املو�ضع، ميتلك �سح ًرا ًّ
وهو يعرب عن عالقة تباعد بني ال�شخ�ص و�سريره ،لكنه تباعد متقطع،
يرتك ال�شخ�ص �سريره -على حاجته الطبيعية له -ل�شوقه �إىل موعد �آخر،
ً
يدعو فيه ربه } َخ ْوفا َو َط َم ًعا{.
هذا امل�شهد يعرب عن «الذين �آمنوا».
فهل هو يعرب عنا؟
***
كيف ال�سبيل للو�صول �إىل هذا؟ اخلروج من الت�صديق �إىل الإميان؟
عموم ال�سورة مغمورة باليقني.
واليقني هو مرحلة عليا من الإميان ،درجة من درجاته.
لكن عندما ت�ضع «اليقني» هد ًفا لك ،ف�إنك قد ت�صل �إىل ما دونه� ،إىل
الإميان.
كيف ال�سورة مغمورة بهذا؟
َ ْ
َْ ُ
اب «ل َر ْي َب» فِي ِه{. َ
}ت ِ
نيل الكِت ِ
ْ ْ َ َ ْ َ َ ً َّ ُ ُ َ ْ َ
ون»{. الا إِنا «موق ِن }فار ِ
جعنا نعمل ص ِ
ََ ْ َ
ك ْن ِ«ف م ِْريَ ٍة» م ِْن ل َِقائ ِ ِه{.
َ ُ َ َ َ ْ ََْ ُ َ
} َولقد آتينا موس الكِتاب فل ت
َ َ
َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ً َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ ُ ََ ْ
ون»{. }وجعلنا مِنهم أئ ِمة يهدون بِأم ِرنا لما صبوا وكنوا بِآيات ِنا «يوق ِن
كلها �إ�شارات �إىل يقني ال َل ْب َ�س فيه ،وجوده هو املنجى ،وغيابه �إ�شارة
هالك.
وهو حمرك �إميان امل�ؤمن ،الذي «يتجافى جنبه عن م�ضجعه».
***
كيف ال�سبيل �إىل هذا اليقني؟
ً
لي�س �سهل وال و�صفة ت�سهل الو�صول له.
لكن �أي �صاحب يقني عليه �أن يحدد �أمرين لكي تكون هد ًفا ليقينه:
الوحي والبعث.
هذان الأمران يجب �أن يكونا حا�ضرين يف ذهنه ،م�ستح�ض ًرا م�شاهدهما
يف ذاكرته امل�ستمدة من القر�آن.
لو حتقق جزء من اليقني فيهما حتديدً ا ،فالباقي تفا�صيل.
***
ت�شري لنا ال�سورة � ً
أي�ضا بطريقة يف ذلك قد جتعلنا نرجع �إىل اهلل.
َْ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َْ َ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ
ون{جع
ير ِ ب لعله ْم ِ ك ال اب
اب الدن دون الع ِ
ذ }ولذِيقنهم مِن العذ ِ
(السجدة.)21 :
ا�ستثم ْر م�شاكلك الدنيوية ا�ستثما ًرا �أمثل يف جعلك تتقرب �إىل اهلل،
ِ
ورمبا يقودك هذا �إىل ما بعد وما بعد ،م�صلحة؟ بالت�أكيد م�صلحة ،ال تن�س
�أنك عبد ،اخلع �أناك كما خلع مو�سى نعليه ،نعم� ،أناك مثل نعليه.
نعم ،هي م�صلحة ،وهو يقولها لك �صراح ًة ،لعلك ترجع.
***
ثمة حوار �أخري ينهي ال�سورة يعرب � ً
أي�ضا عن اليقني.
ِني قُ ْل يَ ْو َم الْ َف ْت َل َي ْن َف ُع َّال َ
ِين ون َم َت َه َذا الْ َف ْت ُح إ ْن ُك ْن ُت ْم َصادق َ
ََُ ُ َ
}ويقول
حِ ِ ِ
ْ
َ ُْ َ َ ْ ُْ ُ َ ُ َ َّ ْ ْ ْ ْ َ َ َ َ ْ ُْ ُ َ ُ
َ ُْ ََ
ون{ كف ُروا إِيمانهم َول هم ينظ ُرون فأع ِرض عنهم وانت ِظر إِنهم منت ِظر
(السجدة.)30:
ََ
}فأ ْع ِر ْض َع ْن ُه ْم َو ْان َت ِظ ْر{.
بال�ضبط كما ننتظر �أذان املغرب يف نهاية يوم رم�ضان ونحن نعرف �أنه
�سي�أتي.
انتظ ْر يوم الفتح ،يوم البعث ،يوم يت�أكدون من �أنهم كانوا يف
كذلك ِ
اجلهة اخلط�أ.
اليوم ميكن لعبارة «اتق اهلل» �أن تثري غ�ضب من تقال له ،كما لو كانت
انتقا�صا منه ومن تقواه� ،أو كما لو كان هو فوق م�ستوى التذكري بالتقوى.
ً
لكن ها هي ال�سورة تفتتح بهذا الأمر ،وبهذه ال�صيغة املبا�شرة للنبي -
عليه ال�صالة وال�سالم ،-ال �أحد فوق هذا الأمر ،ال �أحد فوق �أن يحتاج هذه
الن�صيحة ،هذا اخلندق.
هذا هو اخلندق الأول :التقوى.
وبالفعل ،ما الذي ميكن �أن يعرب عن التقوى �أكرث من اخلندق الذي
يقيك من املخاطر؟
- 212 -
سورة األحزاب
هذا خندق ال مفر من حفره� ،إن مل تفعل ،ف�أنت حتفر ما �سيقودك �إىل
الهاوية.
***
َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َ َ ْ ََْْ ُ َ َ ََ
ي ِف ج ْوف ِ ِه َوما جعل أز َواجك ُم الل ِئ تظاه ُِرون ِ }ما جعل اهلل ل َِرج ٍل مِن قلب
ُ ْ ُ َّ ُ َّ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ ُ ُ َ ْ
اءك ْم ذل ِك ْم ق ْولك ْم بِأف َواهِك ْم َواهلل مِنهن أمهات ِكم وما جعل أدعِياءكم أبن
َ ُ ُ ْ َ َّ ُ َ ْ
السبِ َيل{ (األحزاب.)4 :
َّ
الق َوه َو يهدِي يقول
يحميك هذا اخلندق من �أن يدخلك قلب �آخر ي�ش ِّو�ش على قلبك ،من �أن
يت�سلل قلب �إىل قلبك ،فيجعل لك قلبني ،وما جعل اهلل لرجل من قلبني يف
جوفه؛ لأن هذا بب�ساطة �سيخرب عمل القلب الأ�صل.
يحميك اخلندق � ً
أي�ضا من تداخل احلقيقة مع الوهم ،عالقات القرابة
والدم لن تتغري فقط بكلمة تقولها لهذا ال�سبب �أو ذاك ،زوجتك لن ت�صبح
ك�أمك فقط لأنك تريد عقوبتها دون �أن تطلقها ،وهذا الغريب مل ي�صبح
ابنك فقط؛ لأنك تريد زيادة عدد الذكور يف قبيلتك كي تزيد قوتها.
معايري القوة واالرتباط �ستتغري من الآن ف�صاعدً ا ،ويجب �أن تو�ضح
دوما بحفر هذا اخلندق الذي مييزها عما �سواها.
ً
***
�ساب ًقا ،كانت ال�سلطة الأبوية هي ال�سلطة الأعلى التي ميكن تخيلها يف
التي ال ت َّثل يف الأب فقط ،بل يف اجلد ويف
َُ املجتمع القبلي ،ال�سلطة الأبوية
زعيم القبيلة.
كيف تكون �أزواج النبي �أمهات امل�ؤمنني دون �أن يكون هو عليه ال�صالة
وال�سالم �أ ًبا للم�ؤمنني؟
�ألي�س هذا هو املعتاد؟ �إن كانت فالنة �أمك ،فزوجها �أبوك.
نعم ،لكن هذا لي�س �ضمن املعتاد ،هنا نخرج من ال�سلطة الأبوية
التقليدية �إىل �شيء جديد خمتلف ،تتمثل ال�سلطة اجلديدة يف �شكل من
�أ�شكالها بهذه الأمومة ،الأمومة احتواء وعطف وحنان واحت�ضان ،و�أنت من
خالل عالقة الأمومة هذه بزوجات النبي ،تنتمي لبيت النبوة ،تكون ربي ًبا
فيه دون �أن تختلط عالقتك فيه عليه ال�صالة وال�سالم لت�صبح عالقة �أبوة
ً
بدل من عالقة ر�سول مبتبعيه.
�أمهاتنا هُ نَّ الالئي قمن برتبيتنا.
وهنَّ كذلك ً
فعل عرب القرون ،ودور �أمهات امل�ؤمنني هو هذا.
كل واحدة منهنَّ :ال�سيدة خديجة ،ال�سيدة عائ�شة ،ال�سيدة حف�صة ،لكل
منهنَّ دور يف غر�س �شيء ما فينا.
�أو هذا ما يجب �أن يحدث على الأقل.
***
ْ َْ َ ُ َ ََ ْ َ ْ ََ ْ ُ ْ ْ َ َ }إ ْذ َج ُ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ
ت البصار َوبلغ ِ
ت اءوكم مِن فوق ِكم َومِن أسفل مِنكم َوإِذ زاغ ِ ِ
َُ َ ُْ ُْ ْ ُ َ َ ُْ ُ َْ ً َ ُ ُّ َ ُّ ُ َ َ ْ
ُْ ُ ُ َ
ج َر َوتظنون بِاهلل الظنونا هنال ِك ابت ِ َ
ل المؤمِنون وزل ِزلوا ِزلزال القلوب النا ِ
َ ً
شدِيدا{ (األحزاب .)11 :10
ثم ت�أخذنا ال�سورة �إىل عمق املواجهة التي تط َّل َب ْت حفر اخلندق� ،إىل
غزوة الأحزاب.
لقد جاءوا من كل مكان ،من الداخل واخلارج ،زاغت الأب�صار؛ �إذ مل
يعد هناك مكان واحد ميكن الرتكيز عليه ،القلوب عند احلناجر ،تكاد
خ�ضم حماولتنا
تخرج من هول ما ت�شعر به ،يكاد يخرج ما بها من �إميان يف ِّ
ُّ
الظ ُنونَا{. َ ُ ُّ َ
الإم�ساك بالقلبَ } ،وتظنون بِاهلل
يف كل مرة مل ت�أت العا�صفة� ،أو مل ي�أت الن�صر� ،أو جاءت الهزمية ،كان
يخرج البع�ض منا� ،أحيا ًنا يخرج جزء منا ليقول� :أين وعد اهلل؟
أ�صل بهذا املعنى الذي نحاول �أن نت�شبث به ،بل ق َّدم لنا واهلل مل يعدنا � ً
جمموعة �أ�سباب تقود �إىل نتائج ،مل ننجز الأ�سباب ،ولكن انتظرنا النتائج،
وملَّا مل حتدث ،قلنا� :أين وعد اهلل؟ وذهب البع�ض بعيدً ا يف ذلك �إىل حد
ترك الإميان كله ،بنا ًء على جمموعة افرتا�ضات خاطئة.
ارا{ (األحزاب)13: ون إ َّل ف َِر ً
َ ُ ُ َ َّ ُ ُ َ َ َ ْ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ
}يقولون إِن بيوتنا عورة وما ِ
ه بِعور ٍة إِن ي ِريد ِ
فعل ،بال خنادق ،تركوها ُع ْر َ�ض ًة الكثريون منا تركوا بيوتهم عورة ً
أ�صل ،وطفق يقدم لكل ما ي�أتي من �سموم ،البع�ض منا كان فخو ًرا بذلك � ً
الأ�سباب املوجبة لذلك.
َّ ْ ُ ُ َ
ون إِل ف َِر ًارا{. وكانت النتيجة واحدة} :إِن ي ِريد
***
َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ َْ َْ َ
الأس ِني مِنك ْم َوالقائِلِني ِ ِلخوان ِِهم هلم إِلنا ول يأتون }قد يعل ُم اهلل المعوق
َّ َ ً
إِل قلِيل{ (األحزاب.)18 :
ْ
}ال ُم َع ِّوق َِني{ بك�سر الواو ،الذين يعيقون النا�س ،رمبا �أحيا ًنا حتدث
الإعاقة بن�شر الي�أ�س ،و�أحيا ًنا بن�شر �أمل خيايل ب�سقف توقعات مرتفع،
يقود �إىل الي�أ�س بعد �أن يثبت ف�شله ،لي�ست الإعاقة فقط يف دعوات
التحبيط والتثبيط ،بل � ً
أي�ضا يف ا�ستخدام الأمل كمخدر ،يف الرتويج �أن
الن�صر «�صرب �ساعة» مبعزل عن �صرب �سنوات من العمل ،يف النظر �إىل.
جلل و�أم ًرا كب ًريا ،النا�س تتعامل مع يجعل من �أي هفوة طبيعية حد ًثا ً
عموما مبعايري خمتلفة عن تلك التي تعامل نف�سها بها ،وهذا �أمر امل�شاهري ً
يكاد يكون جز ًءا من الطبيعة الب�شرية يف كل زمان ومكان ،مهما كان هذا
ب�سيطا �أو متوا�ض ًعا �أو ُم ِ�ص ًّرا على �أن يعي�ش حياته كما الآخرين، امل�شهور ً
متاما ،و�ستتعامل مع «عاديته» باعتبارها حد ًثا النا�س لن ترتكه يفعل ذلك ً
خار ًقا ،ونف�س ال�شيء �سيحدث مع �أبنائه �أو �أهل بيته.
�إذا كان يحدث مع امل�شاهري العاديني ،فهو يحدث من باب �أَ ْو َل مع
م�شاهري الدعاة وامل�صلحني ،ومن باب �أَ ْو َل و�أَ ْو َل مع الر�سل والأنبياء.
خنادق حلماية �أهل بيت النبي -عليه ال�صالة وال�سالم - َ ال�سورة حتفر
من هذه الطبيعة الب�شرية ،حلمايتنا من التمادي يف ذلك ،من النظر لهم
بعني جتعلهم لي�سوا من الب�شر؛ لأن هذه النظرة بالذات هي التي ت�سيء لهم
عندما تتعامل مع ب�شريتهم باعتبارها �أخطا ًء ال ُت ْغ َت َفر.
ُ ْ َ ُْ َ َْ ُ
الر ْج َس أ ْه َل َال ْي ِت َويُ َط ِّه َرك ْم َت ْط ِه ًريا{
ك ُم ِّ َّ َ ُ ُ
}إِنما ي ِريد اهلل ِلذهِب عن
(األحزاب.)33 :
ال ميكن لدور البيت الرتبوي -دور االقتداء والتعليم � -أن يكون ً
فاعل
ومتفاعل عرب الع�صور �إن مل يكن رج�س هذه النظرة الت�ضخيمية قد زال. ً
ال ميكنك � ً
أ�صل �أن تقتدي ب�شخ�ص �أو تتعلم منه �إن كنت تعامله على
�أ�س�س غري ب�شرية.
و�أهل البيت -بالتعريف -هم َمنْ حملوا بيت النبوة لنا ،ب�أخالقه
و�سلوكياته ،والتعامل معهم على �أ�س�س ت�ضخمهم وحتا�سبهم على طبيعتهم
الب�شرية يعطل عملية الرتبية نف�سها.
- 218 -
سورة األحزاب
نوعا من احلماية
اخلنادق التي ُو ِ�ض َعت هنا يف ال�سورة ،والتي حققت ً
لأهل بيته عليه ال�صالة وال�سالم ،كانت �ضرورية جلعل دور �أهل البيت
الرتبوي �أكرث جناع ًة وتركيزًا.
***
و�سورة الأحزاب هي التي و�صفته -عليه ال�صالة وال�سالم -بال�سراج
املنري.
ْ َ ً َ شا َونَذ ً َ َ ُّ َ َّ ُّ َّ َ ْ َ ْ َ َ
اك َشاه ًِدا َو ُمبَ ِّ ً
ِيرا َ وداعِيا إِل اهلل بِإِذن ِ ِه }يا أيها انل ِب إِنا أرسلن
س ًاجا ُمنِ ًريا{ (األحزاب .)46 :45َو ِ َ
�سراجا من ًريا نحتاجه �أثناء حفر اخلندق ،يف الظلمة ،بينما نتلم�س
ً
طريقنا للخروج.
�سراجا من ًريا ،رغم �أننا مل نتعامل معه على هذا الأ�سا�س يف �أكرث
نعمً ،
الأحيان.
***
وهي ال�سورة التي نزل فيها الأمر بال�صالة على النبي -عليه ال�صالة
وال�سالم .-
َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ َ َ َ َّ ِّ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ِّ ُ َّ
ِين آمنوا صلوا علي ِه َوسلموا
}إِن اهلل وملئ ِكته يصلون ع انل ِب يا أيها ال
َ
ت ْسل ًِيما{ (األحزاب.)56 :
ملخ�ص ما �أ�شارت �إليه الآيات �أن �سب�أ كانت ت�شهد ازدها ًرا اقت�صاد ًّيا
كب ًريا ،قائ ًما ب�شكل كبري على تنوع منتجاتها الزراعية ،ومن َث َّم الإجتار
بهذه املنتجات ،وكانت الرحلة التجارية التي تبيع منتجات �سب�أ متر بطريق
فيه قرى ظاهرة((( ،وهذا يعني وجود مراكز مدنية طيلة الطريق على نحو
يجعل الطريق �آم ًنا؛ �إذ �إن ُق َّطا َع الطرق ال ميكنهم غزو قوافل التجارة �إال
عندما متر يف طريق مقفر بعيد.
َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ً َ َ ً َ َ َّ ْ َ َ َّ
الس ْ َ
ي }وجعلنا بينهم وبي القرى ال ِت باركنا فِيها قرى ظاهِرة وقدرنا فِيها
َ َ َ َ َ َ َّ ً
اما آمن َ ِس ُ
ني{ (سبأ)18 : ِِ ريوا فِيها ل ِال وأي
ورغم ميزة هذا الأمر� ،إال �أنه ميكن �أن يكون عي ًبا يف ح�سابات من
يرغب باملزيد من الربح ،فالطريق الآمن مينع التجار من فر�صة االحتكار
ورفع ال�سعر ،ميكن ل ٍّأي كان �أن يجلب نف�س الب�ضاعة من م�صدرها الأ�صلي
عندما يكون الطريق �آم ًنا(((.
لذلك فقد َّ
ف�ضل امللأ يف �سب�أ الت�ضحية ب�أمان الطرق يف �سبيل املزيد
من الأرباح.
َ َ َْ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ
ارنا َوظلموا أنفسه ْم فجعلناه ْم أحادِيث َوم َّزقناه ْم}فقالوا ربنا باعِد بي أسف ِ
ُ ِّ َ َّ َ ُ ُ َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ
ور{ (سبأ.)19 : ٍ ك ش ار
ٍ بص ِك ل ات
ٍ ك ممز ٍق إِن ِف ذل ِك لي
�إنه وهم �آخر من تلك الأوهام التي يعتا�ش عليها البع�ض ،ريثما ُتودي
بهم �إىل هاوية ما.
***
على ُب ْع ِد �آيات من كل هذا �سرنى ذلك احلوار:
َْ َ َُ ُ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ِّ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َْ ََ
جع بعضه ْم إِل بع ٍض الق ْول يقول }ولو ترى إ ِ ِذ الظال ِمون موقوفون عِند رب ِهم ير ِ
بوا اس َت ْك َ ُ
َ َ َّ َ ْ
ني قال الِين بوا ل َ ْو َل َأ ْن ُت ْم لَ ُك َّنا ُم ْؤمن َ
اس َت ْك َ َُّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ
الِين استض ِعفوا ل ِلِين
ِِ
ْ ُ ُ ْ
ك ْم بَل ك ْن ُت ْم مرم َ َ َ ُ ْ َُ َْ َ ْ َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ
َ
ِني َ ِ ِين استض ِعفوا أن ُن صددناك ْم ع ِن الهدى بعد إِذ جاء ل ِل
ك ُفرََ َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َّ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ
وقال الِين استض ِعفوا ل ِلِين استكبوا بل مكر اللي ِل وانلهارِ إِذ تأمروننا أن ن
َ َْ َّ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ
َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ُّ
بِاهلل ونعل ل أندادا وأسوا انلدامة لما رأوا العذاب وجعلنا الغلل ِف أعن ِ
اق
َّ َ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ
ون{ (سبأ .)33 :31 الِين كفروا هل يزون إِل ما كنوا يعمل
ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ِّ َ َّ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َّ َ ِّ َ ْ ُ
الاطِل وب قل جاء الق وما يبدِئ }قل إِن رب يقذِف بِالق علم الغي ِ
َ ُ ُ
َوما ي ِعيد{ (سبأ .)49 :48
َ َّ ِّ َّ ُ َ ٌ ََْْ ُ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ُّ َ َ َ ْ
ل َرب إِنه س ِميع ت فبِما ي ِ
وح ِإ }قل إِن ضللت فإِنما أ ِضل ع نف ِس َوإ ِ ِن اهتدي
ْ َ َ َ َ َْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ َُ ُ َقر ٌ
يب{ (سبأ .)51 :50 ر
ٍ ِ ٍ ق نك م ِنم وا ِذ خ أو ت و ف لف واع ز
ِ ف ذِ إ ىر ت ولو يب ِ
الوهم مكان قريب ج ًّدا ،تلك الأوهام التي تقودنا �إىل الهاوية قريبة
ج ًّدا منا� ،أقرب مما نتخيل ،هي يف داخلنا ،يف �أعماقنا.
َ َّ َ َ ُ
} َوقالوا َآم َّنا ب ِ ِه َوأن ل ُه ُم اتلَّ َن ُاو ُش م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (سبأ.)52 :
الوهم بد�أ قري ًبا ،ثم قادنا �إىل بعيد� ،إىل هاوية �سحيقة ال ر َّد ي�أتي منها
وال جواب.
َ َ
ِيل بَيْ َن ُه ْم َو َب ْ َ ْ َ َ َ ْ َُْ ََْ ُ َ َْْ ََْ ََُ
ي يد وح
ب مِن مك ٍن ب ِع ٍ}وقد كفروا ب ِ ِه مِن قبل ويقذِفون بِالغي ِ
َ ٍّ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ ُ َّ ُ ْ َ ُ
يب{(سبأ .)54 :53 ِ ٍر م ك ش فما يشتهون كما ف ِعل بِأشياع ِِهم مِن قبل إِنهم كن ِ
وا
ذلك ال�شك املريب ،قد يكون هو هذا الوهم الذي ينزلق البع�ض �إليه.
وهم مزخرف �آخر وهم قوة �أو �ضعف ما� ،أو �أي ْ
يف حياة كل منا �سب�أ ماْ ،
يع ِّبد طريقنا �إىل الهاوية.
يف حياة كل منا خطوط طول وخطوط عر�ض حتاول �أن تقودنا �إىل �سب�أ
ما.
املهم �أن نكون واعني مبا هو ،وما هو حق.
منذ �أن تبد�أ رحلة حياتنا وهناك خيارات حتتِّم علينا �أن نحدد موق ًفا
جتاهها.
منذ البداية املبكرة لها �إىل نهاية الرحلة
َ ََ ُ ْ ْ َُ ُ ْ ُْ َ ُ َ َ َ ُ َْ ً َ َْ ُ ْ ُْ َ
اب ث َّم مِن نطف ٍة ث َّم جعلك ْم أز َواجا َوما ت ِمل مِن أنث
ٍ } َواهلل خلقكم مِن تر
َّ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ ُ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َّ
اب إِن ذل ِك
ول تضع إِل ب ِ ِعل ِم ِه وما يعمر مِن معم ٍر ول ينقص مِن عم ِره ِ إِل ِف ك ِت ٍ
ََ
ع اهلل ي َ ِس ٌ
ري{(فاطر.)11 :
يف هذه الرحلة ،لو نظرنا لها من بعيد دون تفا�صيل� ،سرنى �أن الأمر
ميكن �أن ُي ْختَزَ ل -على الأقل يف �أجزاء كبرية منه � -إىل �أن تكون هنا �أو
هناك� ،أن تكون مع احلق �أو الباطل� ،أن حتدد موقفك �إن كنت معه عز
وجل� ،أي مع نف�سك.
حتالفت �ضد نف�سك ،واتخذتَ نف�سك عد ًّوا.
َ �أو �أن تكون قد
َُْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َّ ْ َ َ َ ُ ْ َ ُ ٌّ َ َّ ُ ُ َ ُ ًّ َّ َ َ ْ ُ
}إِن الشيطان لكم عدو فاتِذوه عدوا إِنما يدعو حِزبه ِلكونوا مِن أص ِ
اب ح
َّ
ري فاطر{ (فاطر.)6 : الس ِع ِ
من �أجل القدرة على حتديد املواقف يجب �أن منيز بني ما هو خمتلف،
وما هو �ضد.
- 227 -
القرآن نسخة شخصية
هذه �أ�ضداد كاملة ال ن�سبي فيها وال تد ُّرج ،وعليك �أن حتدد موقفك،
هل تختار العمى �أم الب�صرية؟ هل تختار الظلمات �أم النور؟ هل تختار �أن
دوما� ،أن تكون م�سرتخ ًيا حتت الظل� ،أم عليك �أن
تبقى يف منطقة الراحة ً
حت�سم �أمرك ومت�ضي �إىل ما يجب �أن مت�ضي �إليه ولو كان يف منتهى َ
احلر؟
َّ َْ
}إ ِ ْن أن َت إِل نَذ ٌِير{ (فاطر.)23 :
هنا الإنذار ،ر�سالة تطلب منك �أن حتدد موقفك مما يدور حولك،
ميكنك �أن تختار � َّأل ترى �شي ًئا� ،أن تغم�ض عينيك� ،أن تختبئ يف الظالم..
حتت الظالم ..يف الظالل� ،أن تكون الظالل عنوانك الدائم الذي ال
ت�ستطيع اخلروج منه.
وميكنك �أن تختار الب�صرية� ،أن تنزع عن عينيك وعقلك كل عوائق
الر�ؤية والفكر ،و�أن تختار �أن يغمرك النور ً
بدل من �أن تغط�س يف الظلمة،
و�أن تخرج عن مناطق اعتيادك وراحتك �إىل قارات العمل والتغيري.
خيارات كهذه ال ميكن �أن يكون موقفك منها « َب ْ َي َب ْيَ» ،ال ميكن �أن
تكون رماد ًّيا هنا ،ال ميكن �أن ت�ضع قدمك يف منطقة والقدم الأخرى يف
أ�صل خيار كهذا. املنطقة امل�ضادة ،ال ف�صام هنا ،ال يوجد � ً
هنا ثمة قرار حا�سم يجب �أن ُيت ََّخ َذ.
هذا القرار وبهذا االجتاه ،هو جزء من الفطرة الإن�سانية ،كيف؟ لأن
العمى ،الظلمات ،الظل؛ هي خيارات تقود �إىل املوت يف �آخر املطاف ،طبيعة
احلياة الإن�سانية وال�صراع امل�ستمر من �أجل البقاء يتطلب �أن حتدد موق ًفا
فيه احلركة الواعية مبا حولك ،قد تقودك احلركة �إىل الهالك � ً
أي�ضا،
لكنها حتتوي � ً
أي�ضا على احتمالية النجاة� ،أما البقاء يف الو�ضع ال�ساكن؛
يف العمى والظلمات والظل ،فهي توقيع م�س َبق على ر�سالة االنتحار ،مهما
طال الأمد.
احلياة الإن�سانية بطبيعتها تتطلب هذا القرار ،هذا االنتقال من منطقة
(العمى/الظل) �إىل منطقة النور والعمل هو جزء من تعريف احلياة.
لذا كانت املقارنة النافية بني الأموات والأحياء ،هي املقارنة املتممة
ملقارنات العمى -الب�صرية ،الظلمات -النور ،الظل َ -
احلرور.
هذا القرار الذي نحدد فيه موقفنا ،هو جزء من الفطرة التي �أودعها
َْ َّ َ َ َ
ات َوال ْر ِض{ الذي تبتدئ ال�سورة باحلمد له يفاهلل فينا} ،فاط ِِر السماو ِ
هذه ال�صفة حتديدً ا� :أنه فاطر كل �شيء ،والفاطر هو الذي ابتد�أ كل �شيء،
كما لو �أن احلمد هنا يتجه هلل الذي و�ضع هذا القانون وابتد�أ فيه كل �شيء؛
ال�سماوات والأر�ض ،ومن �ضمنها نحن.
هذا االختالف املتنوع املتدرج هو �سنة اهلل يف خلقه ،وقدرة النا�س -
بع�ضهم على الأقل -على متييز هذا االختالف عن االختالف املت�ضاد هو
منبع خ�شية اهلل ،اخل�شية التي تثمر حتديدً ا �صائ ًبا للمواقف بني اخليارات
املتنوعة.
يف النهاية� ،أغلب اخليارات من النوع املف�صلي ميكن اختزالها �إىل
اختيار ب�سيط عليك �أن حتدد موقفك منه.
ْ ْ َ ْ َ َ
ال ِم ُيد{ (فاطر.)15:
ن َ اس أ ْن ُت ُم ال ُف َق َر ُ
اء إِل اهلل َواهلل ُه َو ال َغ ِ ُّ َ ُّ َ َّ ُ
}يا أيها انل
عليك �أن حتدد موقفك ،هل تنحاز �إىل فقرك الذي هو جزء �أ�سا�سي من
طبيعتك الإن�سانية ،املفتقرة �إىل الكمال بالتعريف؟ �أم تذعن �إىل احلقيقة
وحتدد موقفك لتكون مع اهلل الغني بالتعريف؟
القرار �شخ�صي ج ًّدا ،يخ�ص كل �شخ�ص على ِح َدة ،مهما كانت تبعات
هذا املوقف مت�س وت�ؤثر على �أ�شخا�ص �آخرين.
َ َ ُ َ ٌَ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َْ ُ َُْ ٌَ َ ْ َ َ َُْ ْ ُْ َ ْ َ َ َ
ش ٌء َول ْو كن }ل ت ِزر وازِرة وِزر أخرى وإِن تدع مثقلة إِل ِحلِها ل يمل مِنه
َّ َ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َّ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ ُ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ
ب َوأقاموا الصلة ومن تزك فإِنما يتك ذا قرب إِنما تنذِر الِين يشون ربهم بِالغي ِ
ْ َ
ِلَ ْف ِس ِه َوإِل اهلل ال َم ِص ُري{ (فاطر.)18:
ك ٌّل يحمل ثقله بنف�سه ،يحمل قراراته ومواقفه ونتائجه ،من �سيتحرى
ال�صواب �سينفع نف�سه � ًأول..
�أدا�ؤنا كب�شر �سيختلف يف امتحان حتديد املواقف هذا.
ُْ ْ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ
ِين اصطفينا مِن عِبادِنا ف ِمنه ْم ظال ٌِم ِلَف ِس ِه َومِنه ْم}ثم أورثنا الكِتاب ال
َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ٌ َْ
ال ْ َ
ات بِإِذ ِن اهلل ذل ِك ه َو الفضل الكبِ ُري{(فاطر.)32 :ي ِ مقت ِصد ومِنهم سابِق ب ِ
بع�ضنا �سيكون ظاملًا ،ظاملًا ملن؟ لنف�سه � ًأول ،كل ظلم للآخرين هو ظلم
للنف�س � ًأول؛ لأنه انحياز لطبيعة ب�شرية مفتقرة �إىل الكمال� ،إنه الرهان
على اخلا�سر.
دوما املواقف ال�صائبة ،لكن
�آخرون �سيكونون مقت�صدين ،مل يحددوا ً
كان لديهم ر�صيد من حتديد املواقف ال�صحيحة يف الوقت ال�صحيح.
دوما يف اخلري ،يحددونو�آخرون �سابقون باخلريات ،خياراتهم ً
مواقفهم بنا ًء على تلك اخل�شية املثمرة ،فتكون يف االجتاه ال�صحيح.
من يحدد كل هذا؟ من يحدد الظامل من املقت�صد من ال�سابق
يف اخلريات؟ لي�س � ٌّأي منا ،كلنا يف النهاية جنل�س يف قاعة االمتحان
كممتحنني ،لكن البع�ض منا يت�صور �أن له احلق �أن يوزع نتائج االمتحان
قبل انتهائه وقبل ت�صحيح النتائج.
يف النهاية ،وا�ضع االمتحان وحده -عز وجل -هو الذي يحدد َم ِن
املقت�صدَ ،م ِن الظاملَ ،وم ِن ال�سابق باخلريات ،ومن املحتمل ج ًّدا �أن من
ن�صبوا �أنف�سهم كموزعني للنتائج يكونون يف خانة الظاملني ،وهو عز وجل َّ
أي�ضا بحق كاتب هذه ال�سطور وقارئيها كذلك.�أعلم ،كما �أن ذلك حمتمل � ً
- 232 -
سورة فاطر
حتديد املواقف هذا -بني ثنائيات متعار�ضة -هو جزء من نظام هذا
الكون كله.
َْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َْ َ َ َُ ْ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َّ
ات َوال ْرض أن ت ُزول َول ِئ زالَا إِن أمسكهما مِن أح ٍد }إِن اهلل يم ِسك السماو ِ
ْ َ ْ َّ ُ َ َ َ ً
ِيما َغ ُف ً
ورا{ (فاطر.)41: مِن بع ِده ِ إِنه كن حل
هل من فرار من هذا؟ من �ضرورة اتخاذ موقف ،من �أن تكون جمموعة
هذه املواقف �أ�سا�سية يف حتديد م�صرينا الح ًقا.
َ ْ ً َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ َّ
ت تد ل ِسن ِ ت اهلل تبدِيل ولن ِ تد ل ِسن ِ }فهل ينظرون إِل سنت الول ِني فلن ِ
َ ً
اهلل تْ ِويل{ (فاطر.)43:
ال فرار ،هذه هي �سنت الأولني والآخرين� ،سنة اهلل يف خلقه.
َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ َْ ُ َ ُ
كن يؤخ ُره ْم } َولو يؤاخِذ اهلل انلاس بِما كسبوا ما ترك ع ظه ِرها مِن داب ٍة ول ِ
َ ُ َ َ َ َ َ
إِل أ َج ٍل ُم َس ًّم فإِذا َج َاء أ َجل ُه ْم فإِ َّن اهلل َك َن ب ِ ِع َبا ِده ِ بَ ِص ًريا{(فاطر.)45 :
لكنه لن ي�ؤاخذهم ،بل يرتك لهم الفر�ص الثانية ،العمر كله فر�ص
ثانية يف النهاية ،ي�ؤخرهم �إىل حني �أن ُت ْ�س َت ْن َفد هذه الفر�ص ،لي�سوا دوا ًّبا،
الدواب لي�س عليها �أن حتدد موقفها من �شيء.
الإ�شارة �إىل نهاية الفر�ص الثانية لي�س تهديدً ا بعواقب التخلي عن
حتديد املواقف فح�سب.
أي�ضا تذكري ب�أنك �إن�سان ،حتفيز لهذا الإن�سان يف داخلك �أن بل هو � ً
يرتقي �إىل �إن�سانيته.
�أن يحدد موقفه.
لي�س مثل املخلوقات الأخرى.
- 234 -
سورة يس 36
يا إنسان!
اعتدنا على �أن ُت ْق َر َ�أ هذه ال�سورة على املوتى ،ال دليل قوي على �صحة
هذا الفعل ،وقد فهم الأولون الدليل ال�ضعيف على �أنه قراءة لهذه ال�سورة
على املحت�ضر ،ولي�س امليت الذي مات وانتهى عمله.
رغم هذا ،مل �أفهم ملاذا �سورة ي�س حتديدً ا هي التي ُت ْق َر�أ على امليت
�أو حتى املحت�ضر ،ما الذي مييزها حتى يجعلها خا�صة باملوت؟ فيها ذك ٌر
للموت نعم ،لكن لي�س �أكرث من �سور �أخرى كثرية ،املوت وما بعد املوت
من العنا�صر الثابتة يف الن�سيج القر�آين ،ويندر �أن تخلو �سورة من ذكره،
خا�ص ًة من ال�سور الطويلة �أو حتى متو�سطة الطول.
ما الذي فيها �إذن؟ ملاذا ارتبطت يف �أذهان النا�س باملوت حتى �صارت
مالز َِمة ل�شعائر ما بعد املوت عند الكثريين؟
متاما.
مل �أكن �أفهم ذلك ً
اليوم يبدو يل الأمر كما لو �أنه متعلق بـمعنى �أعمق للحياة ،ومعنى �أعمق
للموت.
�سورة ي�س حتدثنا عن حياة ت�شبه املوت ،وعن موت هو �أقرب للحياة.
عن موت متنكر بالعي�ش ،وحياة حتدث بعد املوت.
***
- 235 -
القرآن نسخة شخصية
�سد من �أمام ،و�سد من اخللف ،ال يرون القادم ،وال يرون املا�ضي ،كيف
ميكن لوعي �أن يت�شكل عندما ت� َؤخذ منه �إمكانية النظر �إىل الأمام واخللف،
ال نظر �إال �إىل القاع.
لكن هذه ال�سدود ،ومن قبلها الأغالل ،الآيات تقول عنها «جعلنا»� ،أي
�إن ه�ؤالء -يف هذه احلالة -ال حول لهم وال قوة ،اهلل -عز وجل -هو الذي
جعل هذه الأغالل يف �أعناقهم وهذه ال�سدود بني �أيديهم ومن خلفهم.
�إنهم بطريقة ماُ ،م َ�س َّ ُيون على طريق القطيع.
لكن هذا الت�صور نا�شئ عن خلط يف �أفهامنا بني «اجلعل» و«اخللق»،
ال�سورة مل تقل� :إن اهلل خلق يف �أعناقهم هذه الأغالل �أو ال�سدود بني
�أيديهم ومن خلفهم ،بل قالت� :إنه جعلها.
ما الفرق؟
الفرق �أن اجلعل يعني ت�صيري �أو توظيف �شيء معني موجود من قبل
هذا اجلعل؛ ليكون يف وظيفة معينة ،بينما اخللق يعني �إيجاد هذا ال�شيء
ً (((
�أ�صل.
�إذن الأغالل وال�سدود كانت موجودة ب�صيغة ما ،والفعل الإلهي كان �أنه
جعلها ب�صيغة الأغالل وال�سدود.
كانت موجودة ً � -أول -باختيارهم ،بكامل �إرادتهم و�سابق ت�صورهم
وت�صميمهم.
وعندما �أبقوا عليها لفرتة ما دون �أن يجربوا �إزاحتها؛ جعلها اهلل � ً
أغالل
و�سدودًا.
و�أ�صبح:
َ َ َ ََْ
َ َ َ ٌ َ ْ ْ ََُْْ ْ ْ ُْ ْ ُْ ُْ ُ َ َ
ون{ (يس.)10 : }وسواء علي ِهم أأنذرتهم أم لم تنذِرهم ل يؤمِن
كل املوتى �سيحييهم اهلل ليواجهوا هذا االختبار :هل كانت حياتهم مو ًتا
�آخر قبل �أن ميوتوا؟ هل دلت �آثارهم على حياة غفلة كاملوت؟ �أم كانت
حياتهم حياة حقيقية؟
اجلواب عن هذا ال�س�ؤال �سيرتتب عليه �أ�شياء كثرية ،بل رمبا ميكن
القول� :سيرتتب عليه كل �شيء.
لكن كما مع كل امتحان ،لن نعرف الإجابة �إال الح ًقا ،حياتنا كلها
نق�ضيها يف قاعة االمتحان ونحن نحاول �أن نقدم �أجوبتنا؛ بوعي �أحيا ًنا
ودون وعي -للأ�سف -يف �أحيان كثرية.
َ ك َ ْ َ ْ َ َْ ُ
َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ْ َ ُ َّ
ش ٍء أحصيناه ِف إِمامٍ ح الموت ونكتب ما قدموا وآثارهم و }إِنا نن ن ِ
ُمبِ ٍني{(يس.)12 :
َ
}وآث َار ُه ْم{ ُتو ِق ُف َنا هنا� ،آثارنا هي التي تبقى ،بع�ض �أعمالنا �ستكون �أقل
�أهمية من �أخرى ،هناك �أعمال �سترتك �آثا ًرا ،رمبا يف حياة �آخرين ،رمبا
بعد �أن من�ضي ،رمبا �آثار �إيجابية ورمبا �سلبية ،هذه الأعمال رمبا �سيكون
لها وزن �أكرب من تلك التي كانت �آثارها �ضيقة النطاق وعابرة للزمان.
- 239 -
القرآن نسخة شخصية
ِّ َ َ َ َ َ َ َْ َُ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ُ
النة قال يا ْلت ق ْو ِم يعلمون بِما غف َر ِل َرب َوجعل ِن م َِن }قِيل ادخ ِل
ِني{ (يس )27 :26 ال ْ ُم ْك َرم َ
ْ ُ
لقد انتهى الأمر فيما يخ�ص امتحانه� ،صدرت نتيجته النهائية� :أن }ادخ ِل
َ َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ َّ َ
ون{ ،لو �أنهم كانوا قد خرجوا من النة{ ،ماذا كان رده} :يا لت قو ِم يعلم
�أغاللهم ،لو �أنهم نظروا �إىل الأعلى ،لو �أنهم �آمنوا بالبعد الأعمق للحياة.
لقد حمل معه ذلك ال�شعور باحل�سرة عليهم حتى �آخر العمر ،ال ،بل بعد
�آخر العمر ،يف الآخرة .ال ميكن �أن يحدث ذلك من دون �أن يكون هناك
حب لهم ،ولي�س فقط حب للفكرة التي يحملها.
َْ َْ ُ َ َ ُ َّ
ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ ْ
َ َ ْ َ ً ََ
ون{ (يس.)30: ول إِل كنوا ب ِ ِه يسته ِزئ }يا حسة ع ال ِعبا ِد ما يأت ِ
ِيهم مِن رس ٍ
حتى النهاية� ،سيكون هناك هذا ال�شعور باحل�سرة ،لو �أنهم �سمعوا ،لو
�أنهم رفعوا �أب�صارهم �إىل الأعلى ،لو �أنهم �أدركوا معنى احلياة قبل �أن
ميوتوا.
َ َ َْ َ ٌ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ًّ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ
} َوآية له ُم ال ْرض الميتة أحييناها َوأخ َرجنا مِنها حبا ف ِمنه يأكلون َ وجعلنا
َ ْ ََ ْ ُ ُ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ََ ْ َ ْ َ َ َ َّ
ون َ ِ لأكلوا مِن ثم ِره ِ َوما اب وفجرنا فِيها مِن العي ٍِ ن ع أو ِيل
ٍ ن ات مِن
فِيها جن ٍ
َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َّ َََ َْ ُ َ َ َْ ُ َْ
ِيه ْم أفل يشك ُرون سبحان الِي خلق الز َواج كها مِما تنبِت ال ْرض ع ِملته أي ِ
د
َْ َُ َ َ َّ ْ َُْ
ون{ (يس .)36 :33 َومِن أنف ِس ِه ْم َومِما ل يعلم
والأزواج � ً
أي�ضا تنبت من هناك ،من نف�س الأر�ض ،ولعل هذه الأزواج
تكون ميتة � ً
أي�ضا �إىل �أن تنتج ،مثل موت الأر�ض التي خرجت منها ،لعل
احلياة يف �أعمق معانيها هو هذا الإنتاج الذي يحقق الهدف من اخللق.
ُ ْ ُ
ون َم َت َه َذا ال َو ْع ُد إ ِ ْن ك ْن ُت ْم َصا ِدق َِني{ (يس.)48 :
ََُ َ
}ويقول
ال يرون �إال ما هو �أدناهم؛ لذا فهم ال ي�ستطيعون فهم الآخرة ،يريدونها
(الآن وهنا) ليفهموها؛ لأنهم ال يفهمون �إال ما هو �آ ٌّ
ين ومبا�شر ،الآن وهنا.
لذلك ي�س�ألون :متى؟
تغي �شيء يف موقفهم،
ولو جاءهم اجلواب مبا�ش ًرا حمددًا التاريخ؛ ملا َّ َ
�إنهم ُم ْق َمحون ،ر�ؤو�سهم مرتفعة ولكن �أب�صارهم يف الأر�ض ،يعي�شون
احلياة موتى ،ببعد احلياة الأدنى.
***
من بني كل �سور القر�آن ،ف�إن هذه ال�سورة حتديدً ا هي الأكرث التي
تكررت فيها كلمة «مبني» ،يف �سياقات خمتلفة.
�إمام مبني� ،ضالل مبني ،عدو مبني ،خ�صيم مبني ،وقر�آن مبني.
�سبع مرات ،تكررت فيها الكلمة ،كما لو كانت ت�شري لنا �إىل �أهمية �أن
وا�ضحا ،معنى احلياة ومعنى املوت ومعنى ال�ضالل َومنْ هو
ً يكون كل �شيء
عدوك ومن هو خ�صمك.
هناك �أ�شياء يجب �أن تكون وا�ضحة؛ لأن حياتك -وبالتايل �آخرتك -
�ستعتمد عليها.
هناك �أ�شياء عليك �أن حتدد بو�صلتها؛ لأنها �ستحدد �أين �سرت�سو
مراكبك يف النهاية.
***
}يس{.
فلنتذكر �أنها رمبا كانت تعني :يا رجل� ،أو يا �إن�سان.
}يس{ يا �إن�سان ،ال�سورة تقول لك �أن تعي�ش ح ًّقا قبل �أن متوتَّ � ،أل
متوت قبل املوت.
نحن �أَ ْو َل بقراءتها من املوتى.
ما دام لدينا فر�صة.
يبدو هذا املعنى �أكرث ات�سا ًقا مع ما �سبق ،ومع جو ال�سورة العام كما
�سرنى.
ْ َ
}فاتلَّ ِ َ
ات ذِك ًرا{.
ال ِ
دت يف مطلعه ،ال �أبراج هناك ت�ؤثر على حياتنا �إال تلك �أو �صفاتك لأنك ُو ِل َّ
الأبراج التي نبنيها نحن ،والتي ن�ؤثر عليها �أكرث مما ت�ؤثر علينا.
افهم هذا وانطلق بعدها� ،أنت تتعامل مع هذا العامل املرئي وظروفه
وتعقيداته وتداخالته ،ال تعلق ف�شلك �أو تف�سر جناح الآخرين ب�شيء قادم
من عامل �آخر مل يبذل فيه الب�شر جهدً ا.
دخول هذا الفهم اخلاطئ �إىل ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر �سيقتل
�أهم معاين الثالثية.
ما هي معاين هذه الثالثية؟ �سرنى.
***
كل يف طرف ،فيها ما يجمعها، يف هذا ال�صف �سرنى �أ�شيا ًء متقابلةًّ ،
فيها ت�شابه ،ولكن جوهر كل واحدة منها يعاك�س الأخرى ،و�سيكون علينا �أن
ننتبه لهذا الت�شابه ،و�أن ننتبه �أكرث للجوهر خلف الت�شابه.
�ضمن هذه التقابالت �سرنى �أ�سئلة ُت ْط َرح ظاهرها مت�شابه ،لكن لأن
�أجوبتها خمتلفة فكل ما �سيلي ذلك �سيكون خمتل ًفا.
َ َ ُ َّ ُ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ََ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ
}وأقبل بعضهم ع بع ٍض يتساءلون قالوا إِنكم كنتم تأتوننا ع ِن ال ِم ِ
ني
كونُوا ُم ْؤمن ََ ُ َْ َْ َ ُ
ني{ (الصافات .)29 :27 ِِ قالوا بل لم ت
ال َقائ ٌِل م ِْن ُه ْم إ ِّن َك َن ل َقر ٌ
َ َ ََ َ َُ َ ََََْ َ ْ ُ ُ ْ ََ َ ْ
ين ِ ِ ِ ق ون ل اء ست ي ض}فأقبل بعضهم ع ب ٍ
ع
ْ َ َ
َي ُق ُول أإِنَّ َك ل ِم َن ال ُم َص ِّدق َِني {(الصافات .)52 :50
ال�س�ؤال هو هو ،كيف و�صلنا �إىل هنا؟ لكن اجلواب كان خمتل ًفا ً
متاما
يف كل مرة.
- 246 -
سورة الصافات
واملرة الثانية حدث فيها تغيري ب�سيط ،لكنه تغيري مهم ج ًّدا ُي ْك ِمل
ال�صورة ،ويجيب عن ال�س�ؤال تلقائ ًّيا.
َ ً َ َّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ ً
}أإِذا مِتنا َوكنا ت َرابا َوعِظاما أإِنا لمدِينون{ (الصافات.)53 :
مبعوثون � ًأول.
مدينون ثان ًيا.
- 247 -
القرآن نسخة شخصية
يم َ و َأنْبَ ْت َنا َعلَ ْيه َش َج َرةً م ِْن َي ْقطني َ و َأ ْر َسلْ َناهُ
} َف َن َب ْذنَاهُ بالْ َع َراءِ َو ُه َو َسق ٌ
ِ ٍ ِ ِ ِ
َ َ َْ َْ َ ُ
ون{ (الصافات .)147 :145 إِل مِائ ِة أل ٍف أو ي ِزيد َ
�إنها ال�شجرة التي نبتت على النبي يون�س بعد �أن خرج من بطن احلوت،
قبل �أن يعود ملواجهة املهمة التي ت�صور �أنها م�ستحيلة.
ارتفاعا وبرو ًزا من �شجرة
ً ال�شجرة الأوىل :الفتنة ،رمبا تكون �أكرث
اليقطني ،لكن ارتفاع الأوىل هو الذي يجعلها فتنة ،هو الذي يجعل النا�س
ينخدعون بها ،يعتقدون �أن عل َّوها يجعلها �أف�ضل ،لكن العربة احلقيقية هي
يف الثمار ،يف النتائج ،ولي�س يف االرتفاع.
�شجرة اليقطني لي�ست �شاهقة العلو واالرتفاع ،لكنها كانت �شجرة الأمل
والعمل وامل�ضي يف املهام التي كنا نعتقد �أنها م�ستحيلة.
ارتفاعا ،فننخدع
ً وكذلك يحدث كث ًريا يف حياتنا ،نرى الأعلى والأكرث
ارتفاعا
ً به وبربيقه ونغفل عن نتائجه وثماره ،وقد نزهد فيما يبدو �أقل
وبرو ًزا فال ننتبه عن فوائد ثماره.
بع�ض املنتجات يف املدنية احلديثة قد جتذبنا ،تخطف اهتمامنا ،وقد
يتخذ البع�ض من �أ�ضوائها املرتاق�صة منا ًرا له ،لكننا ال نفكر كث ًريا يف
م�آالتها ،يف نهاية الطريق الذي تقودنا �إليه.
تلك هي �شجرة الزقوم :الفتنة ،طريق خمت�صر �إىل جهنم.
وقد ننظر با�ستخفاف �إىل منتج �آخر ،تبدو �أ�ضوا�ؤه �شاحبة ن�سب ًّيا ،يبدو
دوما بالإميان العابر
قد ًميا ،ولكن ثمرته ال تنتهي �صالحيتها ،ميكن �أن متد ً
للأزمان ،بالأمل املتجدد رغم الوعي ب�صعوبات الواقع.
- 249 -
القرآن نسخة شخصية
َْ ْ
هناك من يحاول التحجج ،لو �أن عندنا }ذِك ًرا م َِن ال َّول َِني{؛ لأ�صبحنا
من ه�ؤالء ،من عباد اهلل املخل�صني ،لو �أننا كنا مع الر�سول ،زمن الر�سول؛
لأ�صبحنا مثل ال�صحابة.
مبدئ ًّيا ،لكل مرحلة تاريخية ظروفها ،كما لكل �شخ�ص تف ُّرده الذي ال
يطابق فيه �أحدً ا كما ب�صمته ال تطابق �أحدً ا ،ال �أحد ميكنه �أن يكون ن�سخة
من �شخ�ص �آخر ،وخا�صة من �شخ�ص ينتمي حلقبة تاريخية خمتلفة.
وهذا ال مينع االقتداء ،ال�سري على النهج� ،أن جند الإلهام بهذه
ال�شخ�صيات ،ولكن ال تطابق ،ال ن�سخ كربونية عابرة للزمان واملكان.
الأهم من هذا� :إن حجة «لو �أننا كنا يف ذلك الزمان؛ ل ُك َّنا مثلهم» حجة
نا�سا عا�شوا يف تلك احلقبة ،وكانوا على الطرف أ�صل؛ لأن هناك ً �ساقطة � ً
َ َْ ُ ُ َ ْ َ َ
الآخر ،ال �شيء ي�ضمن �أبدً ا �أنك �ستكون يف �أي طرف �ضمن }فأقبل بعضه ْم
ََ َْ ََ َ َُ َ
ون{(الصافات ،)50:قد تكون من امل�صدقني بالبعث واجلزاء، ع بع ٍض يتساءل
َ ْ َ َّ
ه إِل أ ْساط ُِري ال َّول َِني{.قلت} :إ ِ ْن ِ َ
وقد تكون قد َ
فلننتبه �أن «عباد اهلل املخ َل�صني» تعبري ميكن �أن ي�صف �أي �شخ�ص
دون م�ؤهالت م�سبقة ،ال يتطلب منه �أن يكون ً
ر�سول �أو نب ًّيا �أو �صحاب ًّيا �أو
حوار ًّيا ،جواز املرور �إىل هذه «الفئة» يتطلب الإخال�ص يف العبادة فقط،
ً
لي�س م�ستحيل. �سهل ميكن احل�صول عليه ب�سهولة ،لكنه � ً
أي�ضا لي�س �أم ًرا ً
***
ت�أخذنا �سورة ال�صافات عرب ثالثية« :اال�ستواء واحلث والذكر» �إىل
ق�ص�ص الأنبياء ،لكننا �سرناها هذه املرة من خالل هذه الثالثية حتديدً ا.
�سنبد�أ بنوح ،ثم نذهب �إىل �إبراهيم ،ثم مو�سى وهارون ،ثم �إليا�س ،ثم
لوط ،و�أخ ًريا يون�س.
�أغلب ق�ص�ص الأنبياء نعرفها من �سور �سابقة ،عدا �إليا�س الذي ال ُي ْذ َكر
يف القر�آن �إال هذه املرة.
لكن ما الذي مييز ق�ص�ص الأنبياء يف �سورة ال�صافات عن �سواها؟
ما الذي نراه عرب ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر؟
�سرنى �أن كل ه�ؤالء -عدا يون�س -قد ُذ ِك َر ومعه �أهله �أو �أ�سرته �أو
ذريته.
َ َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ْ َ َََ ْ َ َ َ ُ ٌ ََ ْ َ ُْ ُ َ
يم
جيبون ونيناه وأهله مِن الكر ِب ال ِ ِ
ظع }ولقد نادانا نوح فلنِعم الم ِ
ْ ْ ُ
َو َج َعل َنا ذ ِّريَّ َت ُه ُه ُم َالاق َِني{ (الصافات .)77 :75
شنَاهُ ِني َ فبَ َّ ْ ال َ َّ ِّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ َ َ ِّ َ َ ْ
ِين َ رب هب ِل م َِن الص ِ }وقال إِن ذاهِب إِل رب سي ِ
د ه
َُ َ
ِيم{ (الصافات .)101 :99 بِغلمٍ حل ٍ
َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ
يم } َولقد مننا ع موس َوهارون َ ونيناهما َوقومهما مِن الكر ِب الع ِظ ِ
ْ َ
صنَ ُاه ْم ف َكنُوا ُه ُم ال َغ ِالِ َني{ (الصافات .)116 :114 َونَ َ ْ
ََْ ُ َ َ ْ ً َ َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ اس لَم َن ال ْ ُم ْر َسل ََ َّ ْ َ َ
ِني إِذ قال ل ِق ْو ِم ِه أل تتقون أتدعون بعل ِ }وإِن إِل
ِك ُم ْالَ َّول َ
ِني َ ف َك َّذبُوهُ َفإ َّن ُهمْ َ َّ ُ ْ َ َ َّ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َْ
ِ وتذرون أحسن الال ِ ِقني اهلل ربكم ورب آبائ
َ َ ٌ ََ َ ْ َََ ْ َ َ َْ اد اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ َّ َ َ َُ ْ َ ُ َ
ني وتركنا علي ِه ِف الخ ِِرين سلم ع ِ ضون إِل عِب لمح
ني { (الصافات .)130 :123 إ ْل يَاس َ
ِ ِ
َّ َ ُ ً جع َ َ َ َ
ْ َّ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َّ ُ ً َ َ ْ ُ ْ َ َ
ني ( )134إِل عجوزا ِف } َوإِن لوطا ل ِمن المرسلِني ( )133إِذ نيناه َوأهله أ ِ
ين{ (الصافات .)135 :133 الْ َغابر َ
ِِ
- 252 -
سورة الصافات
لي�س �صدفة �أن يكون هناك ذكر للأهل يف كل هذه ال�سياقات؛ �أ�سرة
�أو �أخ �أو زوجة �أو �آل ،اال�صطفاف � ًأول يكون هنا يف الأ�سرة ،احل�صن الأول
و�أحيا ًنا الأخري يف النهاية ،الأ�سرة هنا مبعناها ال�ضيق :الأخ والزوجة
والأبناء ،ومعناها الأو�سع :الذرية ،الآل.
متاما ،على الأقل عليك �أن جترب � َّأل تكون كذلك� ،أنل�ست وحدك ً
تتم�سك ب�أ�سرتك ومن حولك لأن قوتك تزيد بقوتهم ،كما قوة كل �شخ�ص
منهم تزيد بقوتك ،الأمر ي�شبه بديهيات احل�ساب ،2 =1 +1 .و.4 =2 +2
فلننتبه �أن الأمر هنا يعتمد � ًأول على غريزة �أ�سا�سية من غرائز الب�شر؛
التنا�سل والتكاثر ،منذ فجر احلياة ،وهذه الغريزة حترك كل املخلوقات،
كل خملوق يف كل نوع يريد �أن يحفظ نوعه عرب �صراع م�ستمر على البقاء،
ولكي تبقى ف�إن عليك �أن تنتج ن�سخة من نوعك ،تدخل بدورها يف ملحمة
ال�صراع من �أجل البقاء.
لكن الأمر هنا يتجاوز بدائية الغريزة التي ن�شرتك فيها مع كل املخلوقات
ً
مرتبطا بحاجاتك �إىل ما هو �أعلى ،مل يعد الأمر جمرد بقاء للنوع ،بل �أ�صبح
أي�ضا ،يف �أن يكون هناك معنى يف هذه الرابطة� ،أن يكون البقاء النف�سية � ً
«نوع ًّيا» و�أن تكون العالقات بني �أفراد هذه الرابطة تربطهم ب�أكرث من
قرابة الدم والعرق والن�سب ،بل بالقيم الأخالقية املح ِّركة للمجتمع ،القيم
التي حتمي املجتمع والتي جتعله ينمو ويتطور يف الوقت نف�سه.
جوهر الأمر هنا �أن غريزة البقاء التي متثل واحدة من خماوف الإن�سان
املزمنة ،تتحول هنا �إىل عن�صر قوة.
الأحداث معه بعدها ،ينتقل من بلد �إىل �آخر ،ال�شيء ذاته بالن�سبة ملو�سى
وهارون ولوط ويون�س.
هناك حركة دائمة ،هجرة ،انتقال من حال �إىل �آخر.
ك�أن هذا يت�سق مع معنى الزجر ،احلث على الإ�سراع؟
***
مل تنته درو�س ال�صا َّفات.
خ�ضم هذه ال�سياقات.
ثمة در�س مهم ج ًّدا يف ِّ
ف�سورة ال�صافات هي ال�سورة الوحيدة التي ُذ ِك َرت فيها ق�صة ر�ؤيا
�إبراهيم بذبح ابنه ،مل ُي ْذ َكر الأمر �أو ترد �إ�شارة له يف �أي �سورة �أخرى.
الق�صة جاءت يف �سورة ن�صطف فيها بانتظام ،ونحث على العمل ،ومن
ثم نرى العربة والذكر.
ْ َ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ َ ِّ َ
ن إِن أ َرى ِف المن ِام أن أذبُك فانظ ْر ماذا ت َرى قال ع قال يا ب َّ }فلما بلغ معه الس َ
َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ الصابر ََ َّ ت ْاف َع ْل َما تُ ْؤ َم ُر َس َتج ُدن إ ْن َش َ َ ََ
ني
ِ ِ ب ج ِل ل ه ل تو ا ملس أ ا م لف ين ِِ ِن م اهلل اء ِ ِ ِ ِ يا أب
َّ َ َ ْ َ َ
الر ْؤيَا إنَّا ك َذل َِك نْزي ال ُم ْحسن َ
ت ُّ ْ
ْ َ َّ َ َ َ ََ َ
اد ْي َناهُ أ ْن يَا إبْ َراه ُ
ني إِن هذا ِ ِ ِ ِ ِيم قد صدق ِ ون
يم{ (الصافات .)107 :103
َ ْ ْ
َ َ َ ُ َ ل َ ُه َو ْ َ ُ ُ ُ
ْ َ
اللء المبِني وفديناه بِذِب ٍح ع ِظ ٍ
ولي�س �صدفة -حا�شا هلل � -أن تنتهي ال�سورة بهذه الت�سبيحة حتديدً ا:
َ َّ َ ُ َ ُ ْ َ َ ِّ َ ِّ ْ
}سبحان َربك َرب ال ِع َّزة ِ عما ي ِصفون{ (الصافات.)180 :
رب العزة ،املرة الوحيدة التي ُو ِ�ص َف رب العاملني بهذه ال�صفة هي يف
هذه ال�سورة.
العزة ،ن�ست�شعر معانيها �أكرث عندما نكون يف «ال�صف» ،متنبهني لأي
�أمر �أو زجر �أو حث ،ويف قمة اال�ستعداد للذكر.
رب العزة ،نعم �سبحانه.
خا�صة �أن ال�سورة التالية �ستتحدث عن العزة وال�شقاق.
�ألي�س كذلك؟
«القر�آن ذو الذكر» يقر�أ �أفكارك� ،إن مل تكن تقولها الآن ،فرمبا قلتها
َ َّ َ َ َ
ِين كف ُروا�ساب ًقا� ،أو �ستقولها الح ًقا ،وها هو يقول لك -ا�ستبا ًقا } :-ب ِل ال
ِف ع َِّز ٍة َو ِش َق ٍاق{ (ص.)2 :
نعم� ،إنهم يف عزة ظاهرة للعيان ،لكن ثمة ما هو �أكرث يف هذه العزة،
ثمة �شيء قد ال يكون مرئ ًّيا على الفور ،ي�ستلزم �أن تدقق كي ترى ما حتت
هذه العزة من �شقاق.
ي�شبه الأمر بنا ًء تاريخ ًّيا ً
�شاخما مرتف ًعا ،تراه من بعيد فيخطف ب�صرك
بهيبته ،ثم تقرتب فرتى �آثار الت�صدعات وال�شقوق على واجهته ،ثم تقرتب
�أكرث فت�سمع �صو ًتا يف اجلدران ،وت�شعر بحركتها بفعل الريح.
متاما.
من بعيد ،الأمر خمتلف ً
َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ
ش ٌء ي َراد ما }وانطلق المل مِنهم أ ِن امشوا واص ِبوا ع آل ِهتِكم إِن هذا ل
َ ُ ْ َ َ َ ْ ِّ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َّ ْ َ ٌ ْ َّ ْ َ َْ َ َ
س ِمعنا بِهذا ِف ال ِمل ِة الخ َِرة ِ إِن هذا إِل اختِلق أأن ِزل علي ِه اذلكر مِن بينِنا بل
َ ْ َ َّ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ٍّ ْ ْ
اب{ (ص .)8 :6 هم ِف شك مِن ذِك ِري بل لما يذوقوا عذ ِ
يريدون الإبقاء على الو�ضع القائم �ضد �أي تغيري ،كل �شيء م�ؤامرة
بالن�سبة لهم ،م�ؤامرة تريد �أن تطيح بهم وبعزتهم وبقوتهم وبرثوتهم.
َ ْ َ ُ ََُ ُ ََُْ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ
وط َوأصحاب
وح وعد وف ِرعون ذو الوتا ِد وثمود وقوم ل ٍ }كذبت قبلهم قوم ن ٍ
َْ ْ َْ َ ُ َ
ك ِة أول َِك ال ْح َز ُاب{ (ص .)13 :12 الي
دوما هناك ح�ضارات قبلهم كانوا ه�ؤالء ،ولكن ال�سل�سلة ت�ستمرً ،
وجمتمعات ت�شبه هذه املجتمعات .عزة ال تخطئها العني ،ولكن � ً
أي�ضا �شقاق.
- 260 -
سورة ص
َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َّ ُ َ َّ ٌ
البال ِ ا ن ر خ س ا ن ِ إ اب }اص ِب ع ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الي ِد إِنه أو
َ
ََ َ َْ ُ ْ َ ُ
ورة ك لُ أ َّواب وشددنا ملكه
ٌ َ َّ ْ َ َ ْ ُ َ ً ُ ٌّ َ
اق والطي مش ش َو ْال ْ َ
ش
ْ
َم َع ُه ي ُ َس ِّب ْح َن بِال َع ِ ِّ
ِ ِ
ْ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َْ ْ ْ َ َ َ ََْ ُ ْ ْ َ َ ََ ْ َ ْ َ
اب َ وهل أتاك نبأ الص ِم إِذ تس َّو ُروا ال ِمح َراب إِذ وآتيناه ال ِكمة وفصل ال ِ
ِط
َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ُْ
ان بغ بعضنا ع بع ٍض فاحكم دخلوا ع داوود فف ِزع مِنهم قالوا ل تف خصم ِ
َّ َ َ َ َ ُ ْ ٌ َ ْ ُ َ اهدِنَا إ َل َس َواءِ ِّ َ َ ْ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ْ ْ َ ْ
اط إِن هذا أ ِخ ل ت ِسع وت ِسعون الص ِ َِ بيننا بِالق ول تش ِطط و
َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ َ َْ َ ً َ َ َْ َ ٌ َ ٌَ
اب قال لقد ظلمك ل نعجة واحِدة فقال أك ِفلنِيها ْوعز ِن ِف ال ِط ِ نعجة و ِ
َّ َّ ْ َ ُ
ريا م َِن الل َطاءِ َلبغ َبعضه ْم َع َبعض إل ال َُ ْ ْ َ َ ُ َ َّ
ك إل ن ِعاج ِه َوإن كثِ ً َ َ ُ َ َ َ َ
ْ
ِين ٍ ِ َِ ِ ِ ال نعجتِ ِ بِسؤ ِ
َ َ ٌ َ ُ ْ َ َ َّ َ ُ ُ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ََّ َّ ُ َ َُ
ات وقلِيل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر ال ِالص ِ َ آمنوا َوع ِملوا
ً ََ َ
َراك ِعا َوأناب{ (ص .)24 :17
َ َْ
هذا هو منوذج العزةَ } ،د ُاو َود ذا اليْ ِد{.
كم يدً ا ل�سيدنا داود؟ اثنتان فقط كما لنا جمي ًعا ،لكن الأيد هنا تعني
القوة ،و�سائل التنفيذ التي امتلكها �سيدنا داود والتي �ش َّكلت �أعلى ما ميكن
�أن ت�صله ح�ضارة يف زمانه.
لكن هذا التقدم لي�س املعيار الوحيد الذي ميكن ح�ساب العزة فيه ،بل
هناك يف �سياق ق�صة داود ما ال يقل �أهمية� :إنه العدل االجتماعي الذي
جعل داود ينتبه �إىل احتكار الرثوة الذي متار�سه بع�ض الفئات ورغبتها يف
اال�ستئثار باملزيد ،ووقوفه �ضد ذلك.
ْ َ ِّ َ َ ْ ُ
ك ْم َب ْ َ َْ َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ً
الق َول ي انلَّ ِ
اس ِب اوود إِنا جعلناك خلِيفة ِف ال ْر ِض فاح �إنه} :يا د
َُ ْ َ َ ٌ َّ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ
يل اهلل لهم عذاب يل اهلل إِن الِين ي ِضلون عن سبِ ِ تتبِعِ الهوى في ِضلك عن سبِ ِ
َ ٌ َ َُ ََْ ْ َ
اب{ (ص.)26 : شدِيد بِما نسوا يوم ال ِس ِ
�أيوب و�سليمان وداود ،كيف ميكن الربط بني هاته ال�شخ�صيات؟ مناذج
خمتلفة عن العزة احلقيقية يف مراحل خمتلفة ،العزة التي جعلها الإميان
تكون قوية وعادلة ،وجعلها �أي�ضا ت�صمد.
***
ماذا عن �أمثلة �أخرى عن العزة وال�شقاق ،تلك التي ال نراها يف حياتنا
الدنيا؟
ْ ًّ َ ْ َ َّ َ ْ َ ُ َ
} َو َقالُوا َما َلَا َل نَ َرى ر َج ًال ُك َّنا َن ُع ُّد ُه ْم م َِن ْال ْ َ
ار أتذناه ْم ِسخ ِريا أم ِ ش ِ
َّ َّ َ َ َ َ ٌّ َ َ ُ ُ َ ْ ت َع ْن ُه ُم ْالَبْ َص ُ
َ َ ْ
ار إِن ذل ِك لق تاصم أه ِل انلارِ{(ص .)64 :62 زاغ
لقد انتهوا �إىل جهنم ،لكنهم يريدون �أن ي�أخذوا اجلميع معهم� ،أين
َِ
وعالن؟ ل هو لي�س معنا يحرتق يف نار جهنم؟! فالن
� ُّأي �شقاق �أكرث من هذا؟!
بل �إننا �سرنى ً
مثال مبك ًرا ج ًّدا عن هذه العزة وذلك ال�شقاق ،قبل �أن
يبد�أ كل �شيء.
َ َ َ ُُْ ََ ْ ُ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ َ َ ً ْ
ِني فإِذا س َّويته َونفخت فِي ِه ٍ ط ِن }إذ قال ربك ل ِلملئ ِك ِة إِن خال ِق بشا م
َ ْ َّ َُ َ ْ َ ُ ُّ ُ ُ َ َ َ َ َْ َ َ وح َف َق ُعوا َلُ َساجد َ ْ
ِين فسجد الملئ ِكة كه ْم أجعون إِل إِبلِيس ِ مِن ُر ِ
َ َ َ ْ ُ َ َََ َ َ ْ َْ ُ َ َ َ َْ ُ ََ ب َو َك َن م َِن الْ َكف ِر َاس َت ْك َ َْ
ين قال يا إِبلِيس ما منعك أن تسجد ل ِما خلقت بِيد َّي ِ
ْ َ َ َ َْ َُ ْ َ َ ََ َ ٌْ ْ ُ َ َْ َ ت م َِن الْ َعال ََ ْ َ ْ َْ َ َْ ُْ َ
ِنيٍ ط ِن م ه ت قلخو ار
ٍ ن ِن م ن ِ ت ق ل خ ه ِن
م ي خ ا نأ ال ق ِني أستكبت أم كن
َ
ك ل ْع َنت إل يَ ْو ِم ِّ َ َ
َ َّ َ ْ َ ك َرج ٌ َ َ َ ْ ُ ْ ْ َ َّ َ
َ
ين{ (ص .)78 :71 ِ ادل ِ ِ ي لع ن ِ إو يم ِ قال فاخرج مِنها فإِن
لوال �أن هناك �سورة �أخرى ا�سمها �سورة الإخال�ص لرمبا �أخدت �سورة
الز َُّمر هذا اال�سم بجدارة،
فمنذ البداية ت�شري ال�سورة �إىل الإخال�ص ،وتتكرر هذه الإ�شارة �صريحة
يف �أربعة موا�ضع الح ًقا.
لكنها لي�ست �سورة الإخال�ص.
بل هي �سورة الزمر.
و�سنعرف �أن «الإخال�ص» و«الزمر» مرتبطان ب�أكرث مما َب َدا لنا � ًأول.
***
توجه ال�سورة احلديث �إىل املخاطب الفرد يف �أغلب �آياتها.
ِّ
َ ُْ
مل ًِصا لُ ِّ َ
َ ِّ ْ ُ ْ
َ َ ْ َ
َّ َ َ ْ ََْ ْ
ادل َين{ (الزمر.)2 : الق فاعب ِد اهلل }إِنا أنزلا إِلك الكِتاب ب ِ
ْ َْ ُ ْ ُْ َ َ ٌّ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َّ
ن عنك ْم َول ي ْرض ل ِ ِعبا ِده ِ الكف َر َوإِن تشك ُروا}إن تكفروا فإِن اهلل غ ُِ
َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ َ ٌ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َ ِّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ ُ َ ِّ ُ ُ َ ُ ْ ُ
جعك ْم فينبئك ْم بِما كنت ْم ازرة ِوزر أخرى ثم إِل ربكم مر ِ يرضه لكم ول ت ِزر و ِ
ُّ ُ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ ٌ َ
ور{ (الزمر.)7 :
ات الصد ِ تعملون إِنه علِيم بِذ ِ
َ َ َ َّ ْ ْ َ َ ُ ٌّ َ َ َ َّ ُ ُ ً َ ْ ُ َّ َ َ َّ َ ُ ْ َ ً ْ ُ َ َ َ َ َ
س ما كن النسان ض دع ربه منِيبا إِل ِه ثم إِذا خول ن ِعمة مِنه ن ِ }وإِذا مس ِ
ُ ْ َ َ َّ ْ ُ ْ َ َ ً َ ْ َ ً ُ َّ َ ْ َ ْ َُْ َ َ ََ َْ ُ َ
يدعو إ ِ ْل ِه مِن قبل وجعل هلل أندادا ِل ِضل عن سبِيلِ ِه قل تمتع بِكف ِرك قلِيل
َ َ َّ ْ ُ َ َ ٌ َ َ َّ ْ َ ً َ ً َ ْ َ ْ ك م ِْن َأ ْص َحاب انلَّ َّ َ
جدا َوقائ ِما يذ ُر الخ َِرة ِ ا س ل ِ ي الل اء آن ِت ن ا ق و ه ن م أ ار
ِ ِ إِن
َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ ُ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ
ويرجو رحة رب ِه قل هل يست ِوي الِين يعلمون والِين ل يعلمون إِنما يتذكر أولو
َ
اب{ (الزمر .)9 :8 ْ َْ
الل ِ
ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ ادل َ مل ًِصا َلُ ِّ ُْ ُ ْ ِّ ُ ُ َ ْ َ ْ ُ َ
ين َ وأم ِْرت ِلن أكون أ َّول }قل إِن أم ِْرت أن أعبد اهلل
َ ُُْ ُ ُ ْ ِّ َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ َ َ َ ْ َ َ ُْ ْ
يم ق ِل اهلل أعبد المسلِ ِمني قل إِن أخاف إِن عصيت رب عذاب يومٍ ِ ٍ
ظ ع
َ
ُ ْمل ًِصا لُ د ِِين{ (الزمر .)14 :11
ْ ِّ َ ْ ٌ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ َ ْ َُ ْ ْ َ َ َُ ََ ُ َََ ْ َ َ َ
ور مِن َرب ِه ف َويل ل ِلقا ِسي ِة قلوبه ْم ٍ ن ع و ه ف م ِ ل س ِل
ِ ل هر د ص اهلل ح }أفمن ش
َ َ َ ُ ْ
م ِْن ذِك ِر اهلل أول َِك ِف ضل ٍل ُمبِ ٍني{ (الزمر.)22 :
ُ ََ ُ َُ َ ُ َ َ َ ُ ً َ ًَ َ ُ َْ َْ َ َ ًََ َ ُ ً َ َ َ
ان }ضب اهلل مثل رجل فِي ِه شكء متشاك ِسون ورجل سلما ل ِرج ٍل هل يست ِوي ِ
َْ َ ْ َُ ُ ْ َ َ ْ َُ َ َ َ ً َْ ْ ُ
ون{ (الزمر.)29 : المد هلل بل أكثهم ل يعلم مثل
ََ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َّ َ ْ ُ َ ََْ َ
ِين مِن دون ِ ِه َومن يضل ِِل اهلل فما لُ مِن اف عبده و يوفونك بِال }أليس اهلل بِك ٍ
ْ َ َ َ َ َ ُ ْ ُ ٍّ َ َ ْ َ َ َ ْ َْ َ
يز ذِي انتِقامٍ { (الزمر .)37 :36 ٍ ز
ِ ع ِ ب اهلل س ي ل أ ل ضِ م ِن م ل ا م ف اهلل دِ ه ها ٍد ومن ي
َ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ ِّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َّ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ
الق فم ِن اهتدى فلِنف ِس ِه َومن ضل فإِنما اس ِب }إِنا أن َزلَا عليك الكِتاب ل ِلن ِ
َ َْ َ
يَ ِض ُّل َعل ْي َها َو َما أن َت َعل ْي ِه ْم ب ِ َوك ٍِيل{ (الزمر.)41 :
َ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ
شكت َلحبط َّن عملك َولَكون َّن وح إِلك وإِل الِين مِن قبلِك ل ِئ أ }ولقد أ ِ
الشاك ِر َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ ُ َ َ الاس َ َ َْ
ين{ (الزمر .)66 :65 ِ ين ب ِل اهلل فاعبد وكن مِن ِ ِ مِن
من مو�ضع -ب�أمر داخلي جواين يخ�ص كل �شخ�ص على ِح َدة ،الإخال�ص
ال ميكن قيا�سه �أو تعيريه �أو حتى معرفة وجوده من اخلارج ،هذا �أمر بينك
وبينه عز وجل فقط ،بل �إنك �أنت �شخ�ص ًّيا كنت تكون يف �شك �أحيا ًنا من
�إخال�صك ،ووحده رب العاملني هو القادر على حتديد ذلك.
الإخال�ص معركتك ال�شخ�صية الداخلية ،مثل ذلك الرجل الذي ذكرته
َ ُ ََ ُ َُ َ ُ َ
ون{ و�آخر } َسل ًما ل َِر ُج ٍل{ ،املعنى املبا�شر الآيات ،رجل فيه }شكء متشاك ِس
كان يعني الرق ،فقد ي�شرتك ب�ضعة رجال يف امتالك عبد يف زمن العبودية،
وقد يكون هذا العبد ِم ْل ًكا لرجل واحد ،هذا املعنى ميكن �أن نراه اليوم
بزاوية �أخرى� ،أحيا ًنا يكون يف داخل فرد واحد «�أ�شخا�ص مت�شاك�سون» ،كل
منهم ميتلك جز ًءا من روح هذا ال�شخ�ص �أو عقله �أو من قلبه وعواطفه،
كل منهم وعندما يحدث ت�ضارب م�صالح بني ه�ؤالء املت�شاك�سني؛ ف�إن ًّ
يريد �أن ي�أخذ ال�شخ�ص �إىل مكان �آخر.
�إنها موقعة الإخال�ص ،ال ي�سمع �صوتها �أحد ،وال ُت ْع َر ُف نتائجها �إال
الح ًقا ،لكنها حا�سمة وم�صريية.
لكن رغم فردية املعركة� ،إال �أننا �سرنى يف نهاية ال�سورة �شي ًئا خمتل ًفا
ج ًّدا.
َ َ َّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َّ ُ َ ً َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ
اءوها َوفتِحت أب َوابها َوقال }و ِسيق الِين اتقوا ربهم إِل الن ِة زمرا حت إِذا ج
َّ َ َ ُ ْ َ ُْ ُْ َ ْ ُ ُ َ َ َُ َ ََُ َ َ ٌ َ َْ ُ
ِين وقالوا المد هلل الِي ال َ له ْم خ َزنتها سلم عليك ْم طِبت ْم فادخلوها خ ِ
َ ُ َ َ
ْ َ َ َص َد َق َنا َو ْع َدهُ َوأ ْو َر َث َنا ْال ْر َض نَتَ َب َّوأ م َِن ْ َ
ال َّن ِة َح ْي ُث ن َش ُاء فنِ ْع َم أ ْج ُر ال َعا ِملِني َ{
(الزمر .)74 :73
�سورة غافر تنقلك �إىل ذلك ال�س�ؤال الذي قد تطرحه على نف�سك يف
حلظة �ضياع وي�أ�س ،عندما ت�س�أل نف�سك :كيف و�صلت �إىل هنا؟
هل �س�أمتكن من اخلروج؟
تلك اللحظة عندما ت�شعر �أن كل �شيء يحا�صرك ،و�أن كل �شيء يطاردك،
و�أن العامل على �سعته قد �ضاق عليك.
ُ ُ ََ َ ْ
وج م ِْن َسبِ ٍيل{
�سورة غافر ت�أتيك هنا بينما �أنت ت�س�أل} :فهل إِل خر ٍ
(اغفر.)11 :
ْ ُ ْ َ َ َّ ُ َ
الر َشا ِد{ (اغفر.)38 :
يل َّ
فتقول لك} :اتبِع ِ
ون أهدِكم سبِ
تدلك على الطريق الذي ينقذك من �ضياعك ،من �شعورك بالي�أ�س ،من
�شعورك �أن ال حل هناك ميكن �أن ينقذك مما �أنت فيه.
يبد�أ هذا الطريق بهذا الو�صف هلل -عز وجل -الذي ابتد�أت به
َ َ َّ ُ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َ َ
اب ذِي الط ْو ِل ل إِلَ إِل ه َو إ ِ ْل ِه
ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِال�سورة} :غف ِِر اذلن ِ
ْ
ال َم ِص ُري{ (اغفر.)3 :
أوغلت يف
مهما كانت مع�صيتك ،مهما ابتعدت عنه عز وجل ،مهما � َ
َ َّ ْ َ
اذلن ِب َوقاب ِ ِل اتلَّ ْو ِب{. ذنوبك ،ف�إنه }غف ِِر
هنا ي�صبح ملحاولة اخلروج معنى �آخر ،لي�س مبعنى املحاولة كما نفهما
احل ْول والقوة منه عز وجل يف بلغتنا اليومية الدارجة ،بل مبعنى ا�ستمداد َ
هذه املحاولة.
َّ ْ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َ َ
الط ْو ِل{. اب ذِي
ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِ}غف ِِر اذلن ِ
اهلل دون �أي جتزئة يف �صفاته.
***
َ َُْ ْ َُ َ َ ََْ ُ َّ َّ َ َ َ
ب مِن ِين كف ُروا يناد ْون لمقت اهلل أك�ستقابلنا �آية تتحدث عن }إِن ال
َْ ُ ْ َُْ َ ُ ْ ْ ُْ َ ْ َ َ ْ َ ََ ْ ُ ُ َ
مقتِكم أنفسكم إِذ تدعون إِل ِاليم ِان فتكفرون{ (اغفر.)10 :
والتف�سري ال�سائد -وال �شك يف �صحته -ي�شري �إىل �أن الكفار �سيكرهون
�أنف�سهم يوم يرون حقيقة �أعمالهم.
لكن الكثري من الكافرين يف حقيقة الأمر يكرهون �أنف�سهم قبل ذلك
متاما.
بكثري ،يكرهونها يف احلياة الدنيا رمبا دون �أن يعوا ذلك ً
�أولئك الذين لديهم الكثري من الكرب ،من الذات املت�ضخمة ،من الأنا
أي�ضا كراهية داخلية لذواتهم الداخلية ،الذات املت�ضخمة الطاغية لديهم � ً
هنا تعك�س ت�صور �شخ�ص ما عن نف�سه ،وهو ت�صور بعيد عن الذات الواقعية،
عن حقيقة هذا ال�شخ�ص ،وهو ال ميلك -كلما ت�ضخمت �أناه � -إال �أن يكره
نف�سه احلقيقية ال�صغرية ال�ضعيفة -باملقارنة -مع الذات املتخ َّيلة.
�إنهم يكرهون �أنف�سهم ح ًّقا ،يهربون منها �إىل حماولة جعل الذات
املتخ َّيلة واق ًعا �أمام النا�س ،حتى لو بالتمثيل ،بعمليات التجميل ،بالت�صنع،
ب�أي �شيء.
***
- 273 -
القرآن نسخة شخصية
انقلبوا على فرعون �أمام اجلميع؟ ال نعرف التفا�صيل ،لكننا نعرف �أن
م�ؤمن �آل فرعون يذ ِّكرنا -كما تذ ِّكرنا زوجة فرعون -ب�أن النف�س الب�شرية
يف داخلها خري مهما كانت الظروف املحيطة بها ،و�أنه هناك ب�شر لديهم
م�شاعر ونوازع �إميانية رغم �أنهم يف عمق مع�سكر �أعداء الإن�سانية.
ويخربنا �سكوت ال�سورة عن التفا�صيل � ً
أي�ضا �أن م�صري ال�سحرة لي�س
حتم ًّيا على كل امل�ؤمنني �أن يتجهوا له بعيون مغم�ضة ،بل رمبا كان هناك
�سبيل للخروج.
***
ب َم ْق ًتا ع ِْن َد اهلل َوع ِْن َد َّال َ َ ْ ُ َْ ََ ُ
اه ْم َك ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ
ِين ان أتي سلط ٍ }الِين يادِلون ِف آي ِ
ات اهلل بِغ ِ
َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ َ ِّ َ َّ َُ َ َ َ َْ َُ
ار َ وقال ف ِْرع ْون يا هامان اب ِن ِل ٍ ب جب ب متك ٍ آمنوا كذل ِك يطبع اهلل ع ك قل ِ
ِّ َ َ ُ ُّ ُ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ ً َ َ ِّ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ
ات فأطلِع إِل إِلِ موس َوإِن لظنه صحا لعل أبلغ السباب أسباب السماو ِ
َ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ً َ َ َ َ ُ ِّ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ ُ َّ َ
يل َوما كيد ف ِْرع ْون إِل ِف كذِبا وكذل ِك زين ل ِ ِفرعون سوء عملِ ِه وصد ع ِن السبِ ِ
َت َب ٍاب{ (اغفر .)37 :35
�صرحا يناطح ال�سماء ،كان ك�أنه يهرب منفرعون وهو يريد �أن يبني ً
كرهه لذاته احلقيقية ،فرعون هو النموذج الأعلى للذات املت�ضخمة بني
الب�شر ،ولأنه كذلك فال بد �أن كرهه لنف�سه احلقيقية -نف�سه الب�شرية
ال�ضعيفة مثلنا جمي ًعا -ال بد �أن يكون �أكرب من �أي كره �آخر �شعر به الب�شر
لأنف�سهم.
كان كرهً ا فرعون ًّيا لدرجة ال�صعود لل�سماء ،فقط ليهرب من حقيقة
�ضعفه �إىل وهم الأنا املت�ضخمة ،يف الظاهر كان يريد �أن يتحدى مو�سى.
ويرى ربه ،لكنه يف جوهر الأمر رمبا كان يريد �أن يهرب من حقيقة يعرفها:
مو�سى على حق ،هو لي�س �إل ًها ،لي�س �سوى �إن�سان �آخر ،مثل كل الذين
يحكمهم.
�ضاقت عليه الدنيا وهي حتا�صره بهذه احلقيقة الكريهة :رمبا ال�سماء
تكون �أو�سع له.
لكن عندما تكره نف�سك ،حتا�صرك هذه النف�س يف كل مكان ،فهل �إىل
خروج من �سبيل؟
ال ،ال �سبيل هناك �إال �إن بد�أتَ يف ا�ستجواب نف�سك وما �أو�صلك �إىل
هناك.
***
الطريق �إىل �سبيل الر�شاد� ،سبيل اخلروج من هذه املتاهة ميكن �أن
وا�ضحا.
ً يكون ً
ب�سيطا
َْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َّ
الرشا ِد يا ق ْو ِم إِنما ه ِذه ِ الياة ون أهدِكم سبِيل }وقال الِي آمن يا قو ِم اتبِع ِ
َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ َ ً َ َ ُ ْ
ار من ع ِمل سيئة فل ي َزى إِل مِثلها َومن ار الْ َق َ
ر اع َوإ َّن ْالخ َِر َة ِ َ
ه َد ُ ُّ ْ َ َ َ ٌ
ادلنيا مت
ِ ِ
َ َ َ ً ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ ْ ٌ َ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ
ي
الا مِن ذك ٍر أو أنث وهو مؤمِن فأول ِك يدخلون النة يرزقون فِيها بِغ ِ ع ِمل ص ِ
ح َِس ٍاب{ (اغفر .)40 :38
لي�س الأمر معقدً ا مثل نظرية فيزيائية حتتاج �إىل �شهادة عليا لفهمها.
الأمر ب�سيط مثل بديهة ال حتتاج �إىل تف�سري :العمل ال�سيئ له عقاب،
واجليد له ثواب .نقطة انتهى.
للأ�سف ،ال يبدو الأمر كذلك بالن�سبة لكثريين� ،سيكون هناك الكثري
من اجلدل لغر�ض اجلدل ،ال لغر�ض الو�صول �إىل احلقيقة ،اجلدل املدفوع
بقوة ُّ
ت�ضخم الأنا ،والذي �سيقود �إىل حائط م�سدود.
بالن�سبة مل�ؤمن �آل فرعون ،وكل َمنْ هو مثله ،مبا فيهم �أنت �شخ�ص ًّيا ،لن
َّ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َُ ُ َ ُ َُ ُ َْ
يكون هناك �سوى قول} :فستذك ُرون ما أقول لك ْم َوأف ِّوض أم ِري إِل اهلل إِن
ْ
اهلل بَ ِص ٌري بِال ِع َبا ِد{ (اغفر.)44 :
***
يف هذه الرحلة يف البحث عن �سبيل للخروج �سنمر ب�آية �سبق و�أن مررنا
مبا ي�شبهها يف �سورة البقرة ،لكن هذه املرة �سنفهمها على نحو خمتلف.
َ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ ُ
بون عن عِباد ِت
جب لكم إِن الِين يستك ِ }وقال ربكم ادع ِ
ون أست ِ
َ َْ ُ ُ َ
ون َج َه َّن َم َداخِر َ
ين{(اغفر.)60 : ِ سيدخل
هنا �سرنى �أن الدعاء واال�ستجابة تتعلقان ب�سبيل اخلروج من هذا التيه.
من يدعو اهلل �أن يخرجه من هذا �سيجد الطريق.
�أما الذي يعتقد �أنه لي�س بحاجة للدعاء لي�صل �إىل الطريق ،فلن يجد
�سوى طريق فرعون و�صرحه الذي يريد �أن َّ
يطلع به �إىل ال�سماء.
ونهايته معروفة �سل ًفا.
***
وقبل �أن نغادر �سورة غافر تقول لنا ال�سورة� :إن رحلة البحث عن �سبيل
للخروج �ساهم فيها ر�سل كثريون.
- 277 -
القرآن نسخة شخصية
ََ ْ َ َ َْ ُ ً ْ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َْ ُ ْ
} َولقد أ ْرسلنا ُرسل مِن قبلِك مِنه ْم من قصصنا عليك َومِنه ْم من ل ْم نقصص
ُ َ ْ َ ِّ َ َ َ َ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ ْ
الق اء أم ُر اهلل ق ِض ِبت بِآي ٍة إِل بِإِذ ِن اهلل فإِذا جول أن يأ ِ
عليك وما كن ل ِرس ٍ
َ َ َ َُ َ ُْْ ُ َ
ون{ (اغفر.)78 : وخ ِس هنال ِك المب ِطل
لي�س املهم �أن نعرف �أ�سماء كل الر�سل ،املهم �أن ننتبه �إىل �أن كل
جتاربهم كانت مت�شابهة يف العمق واجلوهر ،و�أن ننتبه �إىل الأمناط
دوما رغم
املتكررة يف �سلوك النا�س من حولهم؛ لأنها غال ًبا �ستبقى تتكرر ً
اختالف الأزمنة والأماكن واللغات ودرجة تطور املجتمعات.
***
ويف خامتة ال�سورةـ تودعنا مبلخ�ص عام.
َ ريوا ف ْالَ ْر ِض َف َي ْن ُظ ُروا َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة َّال َ َ
ِين م ِْن َق ْبلِه ْم َكنُوا أ ْك َ َ
ث }أ َفلَ ْم ي َ ِس ُ
ِ ِ
َْْ ََ َ ْ َ َُْْ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ ُ َ
م ِْن ُه ْم َوأ َش َّد ق َّوةً َوآثارا ِف الر ِض فما أغن عنهم ما كنوا يك ِسبون{ (اغفر.)82 : ً
رمبا �ساروا ولكن مل يب�صروا جيدً ا� ،أو �أ�شاحوا ب�أنظارهم بعيدً ا ،رمبا
وجدوا املتعة يف املتاهة وقرروا �أن ميعنوا يف ال�ضياع ،رمبا كان �ضياعهم
مهر ًبا من مواجهة احلقيقة ،من مقتهم لأنف�سهم.
�أما نحن ،فنحن نريد �أن ن�سري ونحن نب�صر ،و�أن جند ً
�سبيل للخروج.
و�سندعو غافر الذنب قابل التوب �شديد العقاب ذي َّ
الط ْو ِل �أن يي�سر لنا
الطريق.
�سورة ُف ِّ�ص َلت مثل �صافرة �إنذار تطلق �صوتها داخل ر�أ�سك.
�صافرة �إنذار ت�صرخ يف �أذنك :حذار ،ال�صاعقة قادمة.
�أغلب �صافرات الإنذار ُت ْط َلقُ عندما يكون اخلطر و�شي ًكا ،الغارة
جمال جو ًّيا قري ًبا ،بالكاد ت�ستطيع �أن تذهب �أنت قادمة ،ال�صواريخ دخلت ً
و�أطفالك �إىل امللج�أ لو كان قري ًبا.
لكن �سورة ُف ِّ�ص َل ْت هي �صافرة �إنذار تقول لك :ال�صاعقة قادمة ،وال
فائدة من الذهاب �إىل امللج�أ؛ لأنه �س ُي َد َّم ُر و�سينهار عليك � ً
أي�ضا.
�صافرة الإنذار هنا تقول لك� :إن ال�صاعقة قد تكون من داخلك،
وبالتايل فالهروب ال يجدي ،كل ما ت�ستطيع فعله هو �أن حتاول �أن تتغري،
امللج�أ الوحيد املمكن من �صاعقة ت�أتيك منك هو �أن تتغري �أنت.
هذا ما تقوله ال�سورة ،وهذا تف�سري �صوت �صافرة الإنذار الذي يد ِّوي يف
ر�أ�سك عندما تقر�أها.
وهذا ما فهمه بع�ض رجاالت قري�ش عندما قر�أها عليهم عليه ال�صالة
وال�سالم.
((( مصنف أيب شيبة ،36560املستدرك عىل الصحيحني للحاكم ،3002وصححه األلباين يف صحيح السرية.
- 280 -
سورة فصلت
ولقد �أعر�ضوا.
�إذن؟
�صاعقة عاد وثمود.
***
لكن ما الذي �أو�صل الأمور �إىل هذه النقطة؟
ما الذي جعل �صافرة الإنذار تنطلق هنا؟
َمنْ هو الذي ي�ستحق هذا الإنذار الأخري ،الفر�صة الأخرية؟
***
ْ َْ َ َْ َ َ ٌ َ َ ْ َ ُ ُ ُ ُ َ َ َّ َّ َ ْ ُ َ َ
} َوقالوا قلوبنا ِف أكِن ٍة مِما تدعونا إ ِ ْل ِه َو ِف آذان ِنا َوق ٌر َومِن بينِنا َوبينِك حِجاب
َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ
ون{ (فصلت.)5 : فاعمل إِننا عمِل
يف كل تلك ال�سور ال�سابقة هناك و�صف لهم م�شابه لهذه الآية ،الآيات
ْ َ َ َ ُُ
ت�صفهم ب�أنهم } َ َع قلوب ِ ِه ْم أك َِّن ًة أ ْن َي ْف َق ُهوهُ َو ِف آذان ِِه ْم َوق ًرا{.
هنا هم من يعرتف بذلك ،هنا يقولون بو�ضوح :يف قلوبنا �أك َّنة مما
تدعوننا �إليه ،يف �آذاننا وقر ،وبيننا وبينك حجاب ،فاعمل �إننا عاملون.
بعبارة �أخرى معا�صرة �أكرث :نحن ال ولن وال ميكن �أن ن�سمع لك،
�أ�صابعنا يف �آذاننا ومهما ارتفع �صوتك لن ن�سمع ،فافعل ما تريد.
الأمر هنا �صار مع �سبق الإ�صرار والرت�صد.
و�صلنا ملرحلة مل يعد ال�سري مع القطيع �أو اتباع الآباء هو ال�سبب يف
رف�ض الإميان.
رف�ضا واع ًيا مدر ًكا �أنه �إمنا يتعمد عدم ال�سماع.
بل �صار ً
وتد ِّوي ال�صافرة.
َْ َ ُ ُ َ َ ً ْ َ َ َ َ َ ُ َ
}أنذ ْرتك ْم صاعِقة مِثل صاعِق ِة ع ٍد َوثمود{ (فصلت.)13 :
***
َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ ْ َ ًّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ٌّ َ َ َ ٌّ ُ ْ ُ
ب قل ه َو َّ }ولو جعلناه قرآنا أع َّج ِميا َلقالوا لول فصلت آياته أأعج ِم وعر ِ
َ ْ ٌَْ َ ُ َ َ َْ ْ َ ً ُ َ َ َ َُ ًُ َ َ ٌ َ َ ُْ ُ َ
ِين ل يؤمِنون ِف آذان ِِهم وقر وهو علي ِهم عم أول ِك ل ِلِين آمنوا هدى و ِشفاء وال
ُي َن َاد ْو َن م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (فصلت.)44 :
هذا النوع من الأ�شخا�ص ال يكتفي �أبدً ا من اجلدل ،ي�س�ألون الأ�سئلة ال
لغر�ض الو�صول �إىل جواب ،بل لغر�ض طرح �س�ؤال �آخر ،يفعلون ذلك عمدً ا.،
ملاذا نزل القر�آن بالعربية؟ مهما كان اجلواب ف�سيكون هناك �أ�سئلة �أخرى،
و�سيقولون ال�شيء ذاته عن �أي لغة �أخرى.
ال يريدون احلق وال اجلواب ،قلوبهم يف �أك َّنة ،ويف �آذانهم وقر.
ُ ٌّ ُ ْ
ك ٌم ُع ْ ٌ
م{ ،مع �سبق الإ�صرار والرت�صد. }صم ب
***
أ�شخا�صا كه�ؤالء ،يرف�ضون احلق وهم يعلمون �أنه
ً يف حياتنا قد نلتقي �
احلق ،خمتلفون عن �أولئك الذين يتبعون الباطل؛ لأنه خدعهم �أو �ض َّللهم
�أو غ�سل �أدمغتهم �أو ا�ستغل جهلهم ،ه�ؤالء م�ضللون ،لكن �أولئك يعرفون
متاما ما يفعلونه وهم يفعلونه عن �سابق ت�صميم ،عن وعي.ً
�أحيا ًنا نلتقي بهم.
و�أحيا ًنا نكونهم.
نعم ،قد يحدث هذا �أحيا ًنا معنا.
علينا �أن ننتبه ل�صوت �صافرة الإنذار.
هناك �صاعقة بطريقة ما -ب�شكل من الأ�شكال -قد ت�أتينا يف �أي وقت.
***
هل ي�شرتط هنا �أن تكون ال�صاعقة هي ال�صاعقة التي تنتج عن التفريغ
الكهربائي من الغيوم؟
ال�صاعقة التي �أُ ْن ِذ َر ْت قري�ش بها كانت مثل هذه ال�صاعقة؛ لأنها مثل
�صاعقة عاد وثمود.
- 283 -
القرآن نسخة شخصية
لكن على امل�ستوى الفردي ال�شخ�صي ،رمبا �صاعقة كل منا خمتلفة ،رمبا
حتجر م�شاعر ُن َ�صاب به فت�صبح قلوبنا ميتة ،جمرد م�ضخة ت�ضخ تكون يف ُّ
الدم �إىل اجل�سم ،رمبا تكون يف ثقب �أ�سود من ثقوب احلياة ومتاهاتها،
يبتلعنا �إىل ما ال نهاية ،فنن�سى �أنف�سنا فيه ،رمبا تكون �أن نتح َّول لن�صبح
كل ما نكرهه ونكره �أن نكونه.
وقد تكون ال�صاعقة هي تلك ال�صعقة يف النهاية ج ًّدا يوم القيامة؛
نفخة ال�صعق.
لل�صاعقة �أ�شكال كثرية ج ًّدا.
علينا �أن نتجنب ما ميكن �أن يقود لها يف حياتنا.
***
ه�ؤالء الأ�شخا�ص الذين يتعمدون الوقر يف الآذان والقلوب يف الأك َّنة
متبوعا من ِق َبلهم ،وهو
ميتلكون غال ًبا من ي�صفق لهم وي�ؤيدهم ،قد يكون ً
�سبب �أ�سا�سي فيما هم فيه.
وقد يكون العك�س ،قد يكون ه�ؤالء امل�صفقني هم التابعون.
دوما ،تابع �أو متبوع ،م�ص ِّفق
�سواء كان هذا �أو ذاك ،يحدث هذا ً
وم�ص َّفق له ،ولعل هذا يزيد من �إ�صرارهم على امل�ضي يف العناد ،ي�شعرون
�أنهم على �صواب ما دام هناك من ي�ص ِّفق.
َْ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ
ِيه ْم َوما خلفه ْم َوحق علي ِه ُم الق ْول
}وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بي أي ِ
د
َُ َْ َ َ ْ ْ َْ ْ َ ْ
ال ِّن َو ْالنْس إ َّن ُه ْم َكنُوا َخاس َ
ين{ (فصلت.)25 : ِِ ِ ِ ِ ِف أم ٍم قد خلت مِن قبل ِِهم مِن ِ
***
- 284 -
سورة فصلت
ُ ُ ُ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ
اره ْم َوجلوده ْم بِما كنوا }حت إِذا ما جاءوها ش ِهد علي ِهم سمعهم وأبص
َ َّ َ
ش ٍءللُو ِده ِْم ل َِم َشه ْد ُت ْم َعلَ ْي َنا َقالُوا أ ْن َط َق َنا اهلل الِي أن َط َق ك ْ
َ َّ ُ ْ ون َ و َقالُوا ِ ُ
ََْ ُ َ
يعمل
ِ
َ ُ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ
وهو خلقكم أول مر ٍة وإِل ِه ترجعون { (فصلت .)21 :20
كل حوا�سهم �ستترب�أ منهم ،هذه احلوا�س تعرف �أنهم كانوا متعمدين يف
موقفهم ،كانت تنقل لهم املعلومات كما هي ،لكنهم كانوا َي ُ�ص ُّمون �آذانهم
ويغم�ضون عيونهم عامدين ،بالت�أكيد �ستترب�أ منهم حوا�سهم وتقف لتكون
موج َه ًة �أ�صابع االتهام لهم.
�شاهدة ِّ
يوما ما لو حدث ن�ستطيع �أن نتخيل �أن حوا�سنا �ستتن�صل عنا بكل �سهولة ً
�شيء م�شابه ،و�ستتوجه �أ�صابع االتهام نحونا �آنذاك.
***
تنتهي �سورة ُف ِّ�ص َل ْت بذلك الوعد الذي ال نزال نراه متجددًا ح ًّيا.
ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ
الق أ َول ْم يك ِف اق و ِف أنف ِس ِهم حت يتبي لهم أنه يهم آيات ِنا ِف الف ِ }س ِ
ن ِ
َ ِّ ُ َ َ ِّ َ َ
ك أنَّ ُه َع ك ْ
ش ٍء َش ِه ٌيد{ (فصلت.)53 : بِرب
امل�سافة بني النف�س والآفاق قد تبدو طويلة ،لكنها �ستكون مليئة بالآيات
التي لن نب�صرها �أو ن�ست�شعرها �أو نعقلها �إال �إذا نزعنا الوقر عن �آذاننا،
وقلوبنا من الأكنة.
و�إذا مل نفعل ،ف�صافرة الإنذار ت�صيح مدوية :ال�صاعقة قادمة.
ُ ً َّ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ ِّ
ين ما َوص ب ِ ِه نوحا َوالِي أ ْوحينا إ ِ ْلك َوما َوصينا ب ِ ِه }شع لكم مِن ادل ِ
َ َ ََُ ََ ُْ ْ ِّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َْ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ
ِني ما شك ِ م ال ع ب ك ه
ِ ِي ف وا ق ر ف ت ت ل و ين ادل وا ِيم إِبراهِيم وموس وعِيس أن أق
َ َ َ َ َّ ُ َّ اء َويَ ْهدِي إ ْله َم ْن يُن ُ َ وه ْم إ َ ْل ِه اهلل َيْ َتب إ َ ْل ِه َم ْن ي َ َش ُ َْ ُ ُ
يب وما تفرقوا إِل ِ ِ ِ ِ ِ ِ تدع
َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ ْ ِّ َ َ ٌ َ َ َ َ ً ََُْ ْ ْ ْ ْ َْ َ َ َ ُ
اءه ُم ال ِعل ُم بغيا بينه ْم َول ْول كِمة سبقت مِن َربك إِل أج ٍل مس ًّم مِن بع ِد ما ج
َ َ َ ُ ُ ْ ٍّ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َّ َُ َ ََُْ ْ َ
يب ف ِلل ِك ورثوا الكِتاب مِن بع ِدهِم ل ِف شك مِنه م ِر ٍ لق ِض بينهم وإِن الِين أ ِ
ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ
اب ٍ ِت ك ِن م اهلل ل فادع واست ِقم كما أمِرت ول تتبِع أهواءهم وقل آمنت بِما أنز
ُ َّ َ َ ُّ ُ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ ْ َ ُ
ُ ُّ َ ُ ُ َْ َ ََْ ُ
َوأم ِْرت ِلعدِل بينك ُم اهلل َربنا َو َربك ْم لَا أعمالَا َولك ْم أعمالك ْم ل حجة
ْ َْ َ َّ َ ُ ُّ َ ك ُم اهلل َيْ َم ُع بَيْ َن َنا َوإ َ ْل ِه ال ْ َم ِص ُ َََْ َََْ ُ
ِين يَاجون ِف اهلل مِن بع ِد ري وال ِ بيننا وبين
َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ِّ ْ ٌ َ َ ُ ُ َ اس ُتج َ َ ْ
يب لُ ُح َّجته ْم داحِضة عِن َد َرب ِه ْم َوعلي ِه ْم غض ٌب َوله ْم عذ ٌاب شد ٌِيد{ ِ ما
(الشورى )16 :13
االختالف حقيقة م�ؤكدة �إذن ،بع�ض الأمور قد ي�ؤدي اخلالف فيها �إىل
ُْ
ما ال ت َمد عاقبته يف الآخرة ،لكن دنيو ًّيا ،االختالف �سيبقى قائ ًما.
قد يتبادر �إىل الذهن هنا �أن مفهوم ال�شورى الذي تطرحه ال�سورة هو
حلل االختالف احلا�صل� ،أو للو�صول �إىل حل و�سط ير�ضي جميع الأطراف.
على الإطالق ،مفهوم ال�شورى ال عالقة له بحل هذا االختالف.
ال�سورة ت�شري �إىل االختالف بالفعل ،ولكنها تدخل بعدها �إىل �شيء �آخر.
لكن ما معنى كلمة �شورى � ً
أ�صل؟ من �أين جاءت؟
***
قد نتخيل �أن �أ�صل الكلمة يف معنى مرتبط بالنقا�ش والت�سا�ؤل ،وهو ما
يدل عليه املعنى اال�صطالحي ،لكن يف احلقيقة الأ�صل لهذه الكلمة يرتبط
مبعنى �شديد الإلهام والقوة.
ا�ست َْخ َر َج ُه ِمنَ ال َو ْق َبة واجتَناه�ُ ،ش ْرت
الكلمة �أ�صلها من «�شار» الع�سلْ ،
وا�ش َتْته ْاج َت َن ْيته و�أَخذته ِمنْ َم ْو ِ�ض ِع ِه(((.
ا ْل َع َ�س َل ْ
�إذن هو ا�ستخراج الع�سل.
لكن كيف تط َّور الأمر من ا�ستخراج الع�سل �إىل الو�صول �إىل ر�أي �سديد
كما هو معنى ال�شورى اليوم؟
يبدو الأمر بعيدً ا.
على الإطالق ،الأمران قريبان ج ًّدا ،وهذا املعنى الأ�صلي هو الذي
�سيو�ضح لنا املعنى احلقيقي لل�شورى ،املعنى الذي ميكن �أن يكون ً
فاعل
وم�ؤث ًرا حتى يف حياتنا ال�شخ�صية.
الب�شر عرب جتاربهم التاريخية و�أثبتت جناعتها يف �أحوال كثرية ،ومل تقدم
الكثري يف �أحوال �أخرى.
�سورة ال�شورى ت�شري لنا بب�ساطة �إىل �أننا عندما نريد �أن ن�س�أل الن�صح،
�أن ن�صل �إىل حل مل�شكلة تواجهنا ،علينا �أن نبحث عن �أ�شخا�ص يفهموننا،
يتحدثون بلغتنا ويعرفون كيف نفكر؛ لأن هذا �سيعني �أننا نقف على �أر�ضية
واحدة ،لن تكون هناك ن�صيحة قادمة من مرجعية خمتلفة ال تفهم �أن لكل
�شيء �سياقاته و�أ�سبابه وجذوره ،و�أنك ال ميكن �أن ت�ستورد الن�صائح كما
ت�ستورد الأدوية واملراهم.
لكن ماذا عن الأ�شخا�ص الذين ال ن�شرتك معهم يف نف�س املرجعية؟
نتجاهلهم؟ ال ننظر �إليهم؟ ُن ْق�صيهم؟ نلقي بهم يف البحر؟
�أو نفعل بهم ما هو �أكرث من كل هذا؛ لأنهم ال ي�ؤمنون؟
ال ،بالت�أكيد ال.
هناك � ًأول �إ�شارة �أرى �أنها قد جاءت لتذكرينا مبا هو خارج هذه
املنظومة املتفق عليها.
ُْ َ َ ْ َُ ُ َّ َ ُ َ َ ُ َّ َ َ ُ } َذل َِك َّالِي يُبَ ِّ ُ
ات قل ل أسألك ْم الص ِ َ
ال ِ ِين آمنوا َوع ِملواش اهلل عِباده ال
َ َ ْ َ ْ ً َّ ْ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ َ
ِيها ُح ْس ًنا إ َّن اهلل َغ ُف ٌ
ور ِ تف حسنة ن ِزد ل ف علي ِه أجرا إِل المودة ِف القرب ومن يق ِ
ور{ (الشورى.)23 : َش ُك ٌ
املودة يف القربى.
عليه ال�صالة وال�سالم ،كانت لديه قرابة مع كل بطون قري�ش بدرجات
أ�سا�سا ملودة ،لنوع من التعاي�ش بني.
خمتلفة ،وقرابة كهذه ميكن �أن تكون � ً
- 291 -
القرآن نسخة شخصية
الفرقاء املختلفني يف �أمور كثرية ،لكن القرابة ميكن �أن تكون منطل ًقا حلل
مبني على املودة ،حل ودي.
من الذي ميكن �أن ُي ْ�س َت ْث َنى من هذا؟
َ ْ ْ َ ِّ ُ َ َ ون ف ْالَ ْ
َّ َ َّ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ
الق أول ِك ي غ
ِ ِ ب ضِ ر }إِنما السبِيل ع الِين يظلِمون انلاس ويبغ ِ
َُ َ َ ٌ َ
له ْم عذاب أ ِل ٌم{ (الشورى.)42 :
الأمر هنا اختلف مع الظلم والبغي ،املودة يف القربى يتوقف العمل بها.
***
على امل�ستوى ال�شخ�صي ،قد ينفعنا كث ًريا �أن نرى وجهة نظر خمتلفة
متاما ،من �أر�ضية خمتلفة.
قادمة من زاوية �أخرى ً
متاما �أن تعاملك اجلاد معها كن�صيحة قد يحمل لكن عليك �أن تعي ً
بع�ضا من ال�شك مبرجعيتك الأ�سا�سية� ،أو �أنها مل تعد متدك بالن�صح ً
والإر�شاد ال َّل َذ ْي ِن حتتاج لهما.
قد ال يعني هذا وجود م�شكلة يف مرجعيتك نف�سها ،بل رمبا فيمن حولك،
فيمن ي�ستخرج منها الن�صح والتعليمات.
ال ت�ستعجل البحث عن مرجعية �أخرى ،بل حا ِو ْل �أن تتفح�ص بنف�سك.
َ ْ َ ْ َ ُ ََ ْ َ ُ ََ ْ َ َ َْ ُ ُ ً َْ َ ُْ َ َْ
ورا نهدِي ب ِ ِه منكن جعلناه ن اليمان ول ِ }ما كنت تدرِي ما الكِتاب ول ِ
َ َ َّ ُ ْ َ ك َلَ ْهدِي إ َل ِ َ
َ َ ُ ْ َ َ َ َّ َ
اط اهلل الِي لُ ما ِف ص ِيم َ ِ اط مست ِق ٍ ص ٍ ِ نشاء مِن عِبادِنا وإِن
ُ ْ َ َ
ور{ (.)53 :52
ُ
ري الم ُ ات َو َما ف ْالر ِض أل إل اهلل ت ِص ُ
َ َ َ ْ َّ َ َ
السماو ِ
ِ ِ
َ َ ُ ِّ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ الن َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َّ َ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ
ضب ني ( )16وإِذا بش أحدهم بِما ات َوأصفاكم ب ِ َ ِ }أ ِم اتذ مِما يلق ب ٍ
ن
يم{ (الزخرف .)17 :16 حن َم َث ًل َظ َّل َو ْج ُه ُه ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو كظ ٌ
َ َّ ْ َ
ِ ل ِلر ِ
الذكر واحلزن على والدة الأنثى؛ عالمة على جعل التفاخر بالولد َّ
املعايري مرتبطة باالقت�صاد ،بال�ضبط بالظاهر ال�سطحي من الرثوة ،فكل
َذ َك ٍر كان ُي َعد قو ًة عامل ًة �إ�ضافية للع�شرية �أو القبيلة مبا �أنه قادر على حمل
ال�سالح.
�أما الأنثى فلم تكن ت�ضيف للقبيلة ثروة ح�سب ت�صورهم ال�ضيق.
الذ َكر يف هذا ال�سياق كان مفخرة اقت�صادية ،مثل التفاخر والدة َّ
اليوم بال�سيارات الفارهة �أو املالب�س ذات العالمات التجارية الفاخرة �أو
ال�ساعات �أو غريها.
ه�ؤالء حتولهم معايريهم املغرقة يف ماديتها �إىل اال�ست�سالم للواقع بكل
ما ي�أتي به دون حماولة لتغيريه.
َ َ ُ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ ْ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ
الرح ُن ما عبدناه ْم ما له ْم بِذل ِك مِن عِل ٍم إِن ه ْم إِل ي ُرصون }وقالوا لو شاء
َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َُّ
ون بل قالوا إنا وجدنا آب ََ ُ َ ْ
ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َْ ََْ ُ ْ َ ً ْ
اءنا ع أم ٍة ِ ك سِ م ت س م ه
ِِ ب م ه ف ه
ِِ ل ب ق ِن
أم آتيناهم ك ِتابا م
َّ َ َ ََْ ْ َ ََ َ َ َ ْ َ َْ ْ َْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ
ِير إِل قالارهِم مهتدون ُ وكذل ِك ما أرسلنا مِن قبلِك ِف قري ٍة مِن نذ ٍ وإِنا ع آث ِ
ُ َُ َْ َ َ ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ
َّ َ َ َ
اره ِْم مقتدون{ (الزخرف .)23 :20 ِ آث ع متفوها إِنا وجدنا آباءنا ع أم ٍة وإِنا
َ َْ ْ ََْ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ُ
يم{ (الزخرف.)31 : }وقالوا لول نزل هذا القرآن ع رج ٍل مِن القريت ِ
ي ع ِظ ٍ
النجاح وال�شرف والعظمة ح�سب معايريهم كانت تتطلب �أن ينزل
القر�آن على رجل من كبار �أثرياء قري�ش �أو الطائف ،يف هذا ال�سياق مل
يكن لديهم م�شكلة يف وجود قر�آن يتنزل �أو ر�سول من اهلل يحمل ر�سالته،
كانت م�شكلتهم يف �أن هذا الرجل الذي تنزَّل عليه القر�آن � -صلوات اهلل
و�سالمه عليه -مل تنطبق عليه �شروط العظمة وال�شرف ح�سب معايريهم،
ال مال كثري يخ�صه ،وال ذكور� .إذن ،كيف يختاره اهلل لهذه املهمة؟!
معايري التفاخر املادي كانت تعميهم لهذه الدرجة.
هل تعمينا نحن � ً
أي�ضا لنف�س الدرجة؟ �أم �أقل؟ �أم �أننا نحاول �أن َّ
نغ�ض
النظر عن ذلك؟
***
ُ ًُ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ ُ َّ ً َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ
الرح ِن ِلُيوت ِِه ْم سقفا }ولول أن يكون انلاس أمة واحِدة لعلنا ل ِمن يكفر ب ِ
َ ُ ُ ْ َ ْ َ ً َ ُ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ
َ ْ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ
س ًرا عليها يتكِئون ارج عليها يظه ُرون و ِليوت ِِهم أبوابا و مِن ف ِض ٍة ومع ِ
َ ْ ْ
ك ل ِل ُم َّتق َ َ ُ ْ َ َ ِّ َ ْ ْ ْ
َ َّ َ َ ُ َ َ ُّ َ َ َ ُ ْ ً ْ ُ ُّ
ني َ ومن ِ ادلنيا َوالخِرة عِند رب َوزخ ُرفا َوإِن ك ذل ِك لما متاع الياة ِ
حن ُن َق ِّي ْض َلُ َش ْي َطانًا َف ُه َو َلُ َقر ٌ َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ
ين{ (الزخرف .)36 :33 ِ يعش عن ذِك ِر الر ِ
َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ
ح ِن{. }ومن يعش عن ذِك ِر الر
لأن بريق الف�ضة والزخرف وكل الزيف املبهرج الأجوف بلمعانه ال َّأخاذ
�أعماهم عن ذلك ،خطف �أب�صارهم و�سلب عقولهم.
و�أحيا ًنا ُت ْ�ست َْخ َدم الزخارف للرتويج لأيديولوجيات و�أفكار ،نبتلع الطعم
وجند �أنف�سنا يف داخل بطن حوت عمالق.
حتى «قال اهلل ،قال الر�سول» ميكن �أن ُت ْ�ست َْخ َدم كزخارف للأ�سف،
ميكن �أن تكون �ضمن كالم من َّمق يهاجم حقائق العلم� ،أو يدعو للقتل
والذبح با�سم الدين.
ال ميكن لتجار ال�شر �إال �أن يجدوا زخر ًفا ما لريوجوا لتجارتهم.
ي�ستخ ُّفون القوم؛ ليطيعوهم.
َّ َ ُ ُ َ ُ َ ْ َ ْ َْ َ َْ
ني{ (ادلخان.)10 : ب
ٍ ِ ٍم ان خ دِ ب اء مالس تِ }فارت ِقب يوم تأ
ال ميكن �أن يكون هناك حديث عن الدخان املبني دون �أن من َّر على
فرعون ،منوذج مثايل للأنا العليا التي تعمى عن ر�ؤية الدخان القادم
ب�إنذار النار.
َ ْ ُ ْ َ ْ ْ َّ ُ ُ ْ ٌ ُ ْ ُ َ َ ْ ً َّ ُ ْ ُ َّ َ ُ َ َ ََ ْ
الح َر َره ًوا إِنه ْم جند مغ َرقون كِ ر اتو ون ع ب ت م م ك ن ِ إ ل ل ِيدا ب }فأ ِ ِ ِ
ع ب س
َ ََْ َ ُ َ َ ََ ُ َ ُُ ْ َ َّ َ ْ ََُ
يم َ ونعم ٍة كنوا فِيها وع ومقامٍ ك ِر ٍ ون َ وز ُر ٍ ات وعي ٍ كم تركوا مِن جن ٍ
آخر َ َ َ َ ََ ْ َ ْ َ َ َ ْ ً َ َ َ
ين{ (ادلخان .)28 :23 فاك ِِهني كذل ِك وأورثناها قوما ِ
الذين �آمنوا تعاملوا مع الإنذار كما يجب؛ فنجوا.
بتحد ،با�ستهزاء ،بلعب.
لكن فرعون َومنْ معه تعاملوا مع الدخان ٍّ
فكانوا مغرقني.
َْ
اء َوال ْر ُض َو َما َكنُوا ُم ْن َظر َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ََّ َ
ين{ (ادلخان.)29 : الس َم ُ }فما بكت علي ِهم
ِ
دوما �أننا يف غاية الأهمية واخلطورة و�أن الأماكن ت�شتاق لنا
نتخيل ً
وتبكي لفراقنا.
لكن يف احلقيقة ال �شيء من هذا يحدث ،احلياة ت�ستمر كما لو �أننا مل
منر بها � ً
أ�صل.
َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ِّ َ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ
الق ات والرض وما بينهما ل ِعبِني ما خلقناهما إِل ب ِ }وما خلقنا السماو ِ
َ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ
كن أكثهم ل يعلمون{ (ادلخان .)39 :38 ول ِ
�صعب �أن تتجاوز �إ�شارة النفي عن اللعب هنا ،خا�صة بعد لعبة ال�شك
التي مررنا بها قبل قليل.
هذا العامل مل ُي ْخ َلقْ لع ًبا �أو له ًوا �أو عب ًثا ،بل ُخ ِلقَ باحلق ،بقوانني و�سنن
بع�ضا منها وجنهل الكثري منها. نعلم ً
هذا احلق ،هذا اخللق باحلق ،بالقانون ،يتطلب جدية يف البحث عنه،
حتى لو �شككت بكل �شيء ،ليكن �شكك على م�ستوى هذا اخللق ،ليكن �شكك
جا ًّدا ،ال لع ًبا وله ًوا.
و�إن ق�ضيتها لع ًبا ً
وخو�ضا وال مباالة ،ف�سيكون لديك لعبة �أخرى هناك،
الح ًقا يف الآخرة.
ما ر�أيك �أن حتاول امل�شاركة بها؟
ََ ْ ُْ ُ َ ُْْ َْ َ َ ُ َْ َّ َ َ َ َ َّ ُّ
ون كغ ِل ِ ط ال ف ل
ِ ِ ِ غ ي ل ه م ل ك ِيم
ِ ث وم طعام ال الزق ِ }إِن شجرت
ْ ْ
اب ذ
ْ َ َ
ع ِنم ه
ِ س
ِ أ الحيم ُ ث َّم ُص ُّبوا َف ْو َق َ
ر ِ ِ اعتِلُوهُ إ َل َس َواءِ َ
ُ ُ ُ َ ْ
ف وهذ خ يم
ِ مِ َْ
ال
ِ ِ
ُ ُ ْ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َْ
ال ِم ِيم ذق إِنك أنت الع ِزيز الك ِريم{ (ادلخان .)49 :43
ْ َ َْ ْ ُ
}ذ ْق إِنَّ َك أن َت ال َع ِز ُيز الك ِر ُيم{ �ساب ًقا ومبعايريك �أنت ،ولكن لأنك ق�ضيت
أ�شحت بوجهك عن الدخان الذي كان يت�سرب
وقتك الدنيوي لع ًبا وله ًوا و� َ
�شي ًئا ف�شي ًئا �إىل كل �شيء ،فقد و�صلت �إىل هنا.
ماذا عنا نحن؟
تقول لنا ال�سورة �أن نراقب الدخان ومنيزه جيدً ا.
َ ْ َ ْ َّ ُ ُ َ ُ َ
ارت ِقب إِنه ْم م ْرت ِقبون{ (ادلخان.)59 : }ف
جربت االنتظار؟
َ
مثل ،امتحان م�صريي يحدد م�ستقبلك، انتظار نتيجة ما ،امتحان ً
�أو نتيجة مقابلة عمل يتوقف عليه م�سارك املهني� ،أو نتيجة فح�ص طبي
يقطع ال�شك باليقني يف كون هذا الت�ضخم الذي �شككت بوجوده هو �سرطان
ينه�ش يف �أح�شائك �أو جمرد ورم حميد ال عواقب خطرية له.
�أغلب الب�شر يتوترون �أثناء االنتظار �أكرث من توترهم �أثناء التح�ضري له
�أو �أثناء خو�ضه.
دوما ،البع�ض يروح ويجيء يف قلق ،ويكون تعبريهم عن القلق خمتلف ً
يف�ضل الهرب �إىل عدم التفكري، معر�ضا لالنفجار يف �أي حلظة ،البع�ض ِّ
ً
مثل �أو االن�شغال بالكثري من العمل ،ريثما تظهر النتيجة. النوم ً
يف اللحظات الأخرية من االنتظار ،بينما النتيجة تكاد ُت ْع َلن ،يبلغ التوتر
مداه ،القلوب عند احلناجر ،تكاد ت�سمع دقاتها كما لو كانت يف مكرب �صوت.
البع�ض هنا ال حتمله قدماه من �شدة التوتر ،يجثو على الأر�ض ،ال هو
ي�ستطيع الوقوف قائ ًما ،وال ميلك ترف اال�ستلقاء على الأر�ض يف هذه
اللحظات.
- 303 -
القرآن نسخة شخصية
ثم تقول لك ال�سورة �شي ًئا ال تعرف �إن كان �سيهدئ من روعك يف هذه
اللحظات �أم �سيزيد من توترك.
ُْ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ ً َ َْ
ون{ ترجع اء فعليها ث َّم إِل َربك ْم }من ع ِمل ص ِ
الا فلِنف ِس ِه ومن أس
(اجلاثية.)15 :
حتار هنا� ،أين �ست َُ�ص َّنف �أنت؟ مع َمنْ عمل �صا ً
حلا �أم مع من �أ�ساء؟
حلظات وتعرف �أين موقعك ،ولكنها تبدو كدهر.
َ ْ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ
ِين ل يعلمون{ }ثم جعلناك ع ِ
شيع ٍة مِن الم ِر فاتبِعها ول تتبِع أهواء ال
(اجلاثية.)18 :
هذا �سيكون م�ؤملًا يف الفال�ش باك ،لو �أننا فقط اتبعنا «ال�شريعة من
الأمر»؛ لكان و�ضعنا �أف�ضل الآن ،ما الذي منعنا من ذلك؟
َ ََ َْ ََ ْ َ َ ََ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ
}أف َرأيت م ِن اتذ إِلهه ه َواهُ َوأضله اهلل ع عِل ٍم َوخت َم ع سم ِع ِه َوقلبِ ِه َوجعل
َ َ َ َ َ َّ َ ْ َْ َ ًَ ََ ْ َْ ََ َ َ
اوة فمن يهدِي ِه مِن بع ِد اهلل أفل تذك ُرون{(اجلاثية.)23 : عب ِ
صه ِ غِش
�شخ�صا
أيت؟ كنا نقول :ال ،من هذا الذي يتخذ �إلهه هواه ،ال نعرف ً
�أفر� َ
كهذا ،النا�س تعبد اهلل ،من الذي يعبد اهلل؟
الآن نفهم ،لقد كنا نرى هذا ال�شخ�ص دائ ًما ،رمبا ر�أيناه مرا ًرا يف
املر�آة ،لكننا مل منيزه �آنذاك ،الآن نفهم.
َ َ ُ َ َ َّ َ َ ُ َ ُّ ْ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ ُ َ َّ َّ ْ َ َ ُ
ادله ُر َوما له ْم }وقالوا ما ِه إِل حياتنا ادلنيا نموت ونيا وما يهلِكنا إِل
َ َ ْ ْ ْ ُ َّ َ ُ ُّ َ
بِذل ِك مِن عِل ٍم إِن ه ْم إِل يظنون{ (اجلاثية.)24 :
ال بد �أنه �إله الهوى ال�شخ�صي� ،إله الفردية ،مفهوم احلرية ال�شخ�صية
وقد و�سع من نف�سه و َن َ�ص َب ذاته وث ًنا ال يقبل لطاعته �شري ًكا �أو خال ًفا يف
الر�أي.
َ َ َّ َ َ ُ َ ُّ ْ َ
ادلنيا }ما ِه إِل حياتنا
ال بد �أنه هو الذي �أو�صلنا �إىل هذه القناعة
َُ ُ َ
وت َونْ َيا{؛ لأن هذه القناعة هي التي متنح كل ال�صالحيات لإله الهوىنم
ال�شخ�صي.
ولكن ،فج�أة.
َ ُ ْ
َ َ ْ َ َ ُ ُ َّ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َْ
ُ ُ َّ َ َ ْ
ون{ س المب ِطل ات َوال ْر ِض ويوم تقوم الساعة يومئِ ٍذ ي َ
}وهلل ملك السماو ِ
(اجلاثية.)27 :
ما الذي يحدث؟ لقد متناُ ،ي ْف َتَ�ض �أن تلك كانت النهايةُ ،ي ْف َتَ�ض �أنها
حياتنا الدنيا ،ومن َث َّم نقطة نهاية ال�سطر ،ما الذي يحدث الآن؟ هل هذا
كابو�س يزعج نومتنا الأبدية؟
�إنها �ساعة احلقيقة.
�ساعة؟ يبدو الأمر كدهر ،دهر من احلقيقة.
ها نحن يف انتظار ما �سيحدث ،قيل لنا� :إن هناك بع ًثا وح�سا ًبا وجزا ًء
ومل ن�صدق ،حدث البعث� ،إذن �سيحدث كل ما قيل لنا.
ُ ُ ُ
َ َ ََْ َْ ْ َ َ ُْْ َْ َ َ ْ َ
َّ ُ ْ َ ُ ُّ ُ
َّ َ َ ً َ ُ َّ ُ
ون{ } َوت َرى ك أم ٍة جاثِية ك أم ٍة تدع إِل ك ِتابِها الوم تزون ما كنتم تعمل
(اجلاثية.)28 :
قد تتخيل �أن الأر�ض حتت قدميك �صلبة ،ال ي�ساورك �أدنى �شك يف ذلك،
بل وتبني ً
خططا وم�شاري َع ال ميكن �أن تتحقق لوال �صالبة هذه الأر�ض.
لكنك ال حتاول حتى �أن تت�أكد من ذلك� ،صالبة الأر�ض حتت قدميك
هي من ُم َ�س َّل َماتك.
ثم فج�أة دون مقدمات� ،أو على الأقل دون مقدمات تنبهت لها ،ت�ستحيل
رمال متحركة تبتلعك و�أحالمك وم�شاريعك مرة هذه الأر�ض ال�صلبة ً
واحدة.
هذا ما ت�أخذنا �إليه �سورة الأحقاف.
�إىل اللحظة التي تكت�شف فيها �أن الأر�ض لي�ست �صلبة ح ًّقا كما كنت
تتوهم ،و�أنك تغو�ص يف رمال متحركة ،كلما حاولت �أن تخرج منها ُغ ْ�ص َت
فيها �أكرث.
***
ْ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ََْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َ َ َْ َ ُ ْ َ ْ َ
ي يدي ِه َومِن ِ ب ِن
م ر ذ انل ت
ِ لخ دقو }واذكر أخا ع ٍد إِذ أنذر قومه بِالح ِ
اف ق
ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َّ
يم{ (األحقاف.)21 : خل ِف ِه أل تعبدوا إِل اهلل إِن أخاف عليكم عذاب يومٍ ع ِظ ٍ
كيف؟
الإميان بالطبع ،الإميان كقيم فاعلة وحمركة ،الإميان باهلل اخلالق
وا�ضع القوانني وال�سنن و ُم ْن ِز ِل كتب الهداية والإر�شاد.
الإميان على ر�أ�س قائمة �أ�سباب الوقاية من ال�سقوط ،وعلى ر�أ�س قائمة
مكونات حبل الإنقاذ الذي ميكن �أن ميتد لأيادينا فيما لو حدث و�سقطنا.
لكن الإميان يت�ضمن � ً
أي�ضا ما هو �أكرث ،ما ال ن�ضعه يف ح�سباننا ك�إميان.
لكنه يف �صلبه ،ويف �صلب موانع ال�سقوط يف الرمال املتحركة.
ويف ر�أ�س قائمة الإنقاذ.
عن العائلة �أحتدث� ،أو بالأحرى تتحدث �سورة الأحقاف.
***
َ َُْ ُ ً َُُْ َ َ َّ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ً َ َ َ ْ ُ ُ ُّ ُ ُ ً
الي ِه إِحسانا حلته أمه ك ْرها َو َوضعته ك ْرها َوحله النسان بِو ِ }ووصينا ِ
َْ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ ْ ً َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ً َ َ َ ِّ َ ْ ْ
وف ِصال ثلثون شهرا حت إِذا بلغ أشده وبلغ أرب ِعني سنة قال رب أو ِزع ِن أن
َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ ْ ْ
الا ت ْرضاهُ َوأصلِح ِل ِف أشكر ن ِعمتك ال ِت أنعمت ع وع و ِالي وأن أعمل ص ِ
َ
ُ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ ك َوإ ِّن م َِن ال ْ ُم ْسلم َ ُ ِّ َّ ِّ ُ ْ ُ َ ْ َ
ِين نتقبل عنه ْم أحس َن ما ني أول ِك ال ِِ ِ ذري ِت إِن تبت إِل
َ ُ ُ َ ُ َ َّ َ َّ ْ َ ِّ ْ ْ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ِّ َ
الن ِة َوعد الصد ِق الِي كنوا يوعدون اب
ِ اوز عن سيئات ِِه ْم ِف أصح ع ِملوا ونتج
َ ْ ُ ْ َ َ ََْ َ َ ُْ ُ ُ ْ َْ َ َُ َ َ َ َ ْ ُ ٍّ َ ُ َ َ َ َ َّ
ت القرون مِن قب ِل وهما َوالِي قال ل ِو ِالي ِه أف لكما أت ِعدان ِِن أن أخرج وقد خل ِ
ِري ْالَ َّول َ َ
ِني ول َما َه َذا إ َّل أ َساط ُ
َ ٌّ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َّ ْ َ
ان اهلل َويلك آمِن إِن َوعد اهلل حق فيق
َْ َ َ
يست ِغيث
ِ ِ
ُ َ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ ِّ َ ْ ْ َّ ُ
الن ِس إِنه ْم الن و ِ
أول ِك الِين حق علي ِهم القول ِف أم ٍم قد خلت مِن قبل ِِهم مِن ِ
ين{ (األحقاف .)18 :15 َكنُوا َخاس َ
ِ ِ
كان لديهم كل �أدوات التمكني ،وكل �آليات العقل ،ولكن رمبا وثقوا فيها
�أكرث مما يجب ،ت�صوروا �أن ال حدود لإمكاناتهم ،وكان ذلك نقطة التحول
التي جعلت من متكينهم انتحا ًرا.
ال يتطلب الأمر قدرة خارقة �أحيا ًنا لكي ترى ما هو �شديد الو�ضوح،
حتتاج فقط �أن تكون متواز ًنا يف النظر �إىل الأمور� ،إىل قدراتك و�إىل
قدرات خالقك وقوانينه و�سننه و�إر�شاداته.
َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ِّ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ ُ
ضوهُ قالوا أن ِصتوا }وإِذ صفنا إِلك نفرا مِن ِ
الن يست ِمعون القرآن فلما ح
ين{ (األحقاف.)29 : ض َول َّ ْوا إ َل َق ْومِه ْم ُم ْنذِر َ
َفلَ َّما قُ ِ َ
ِ ِ ِ
ال نعرف الكثري عن اجلن ،غري �أنهم خملوقات يف ُب ْع ٍد �آخر �إن جاز
التعبري ،القر�آن نزل لنا ب�شكل �أ�سا�سي ،لكنهم بقليل من اال�ستماع ،من
النظر من بعيد؛ �آمنوا به.
ال حتتاج الكثري لكي ت�ؤمن مبا هو وا�ضح وبديهي.
لكنك �إن مل تزل غ�شاوة الأنا عن ب�صريتك؛ ف�إن الكثري من الذكاء
والقدرات لن جتعلك ت�ؤمن.
***
َ ُّ ُ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ََ ُ ُ َْْ
جل له ْم كأنه ْم ي ْوم ي َر ْون
}فاص ِب كما صب أولو العز ِم مِن الرس ِل ول تستع ِ
َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َ ً ْ َ َ َ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ ُ ْ َ ُ َ
ون{ ار بلغ فهل يهلك إِل القوم الفا ِسق ما يوعدون لم يلبثوا إِل ساعة مِن نه ٍ
(األحقاف.)35 :
مهمة �إنقاذ النا�س من الرمال املتحركة لي�ست �سهلة �أبدً ا.
حتتاج �ص ًربا وعزمية بوجه الرياح والرمال املتحركة ،وبوجه َمنْ ي�ص ِّفق
لكل عار�ض ممطر ،بينما على ب�صريته غ�شاوة.
ت�صلي عليه عندما ترى ا�سمه الكرمي ا�س ًما لل�سورة ،يت�أهب قلبك
ت�شرئب م�شاعرك و�أنت تريد �أن مت�سه �أو تعانقه ،وقد ُّ حل�ضوره املنري،
ت�صل �أحالمك �إىل �أن تق ِّبل يديه �أو خده �أو ر�أ�سه ال�شريف.
تريد الفردو�س الأعلى ،ف ِل َم ال؟
تدخل ال�سورة وقد جعل ا�سمها وحده هرمون احلب «الأوك�سيتو�سني»
ُي َ�ض ُّخ يف عروقك ك�شالل هادر ،تكاد تتعرث ارتبا ًكا و�أنت تدخل ،ك�أي حمب
مرتبك يحمل �أ�شواقه وعواطفه.
تدخل وتدير ر�أ�سك بح ًثا عنه ،نعم ،ثمة نور يف �أرجاء ال�سورة ،لكن �أين
هو �صلوات اهلل و�سالمه عليه؟
�ستبحث بدقة يف ال�سطور ،بني ال�سطور.
�ستتفاج�أ ،ال�سورة ال تتحدث عنه ،ا�سمه ال�شريف يعلوها ،لكنها ال
تتحدث عنه.
بل هي -يا للمفاج�أة! -تتحدث عنك �شخ�ص ًّيا.
حتاول �أن ت�ستوعب الأمر ،كنت تريد �شي ًئا �آخر ،هل �أحبطك ذلك؟
�ستفهم بينما تقر�أ �أن الأمر مق�صود� ،أن تدخل ال�سورة بهذا الرتقب،
تريد �أن تقرتب منه عليه ال�صالة وال�سالم ،لكن ال�سورة �ستدلك على ما
هو �أهم من ذلك� ،ستدلك على قرب حقيقي تناله منه� ،ستدلك على نف�سك
عندما تقرتب من �سريته و�شخ�صه.
�ستحدثك ال�سورة عنك �شخ�ص ًّيا ،عنك يف �أف�ضل حاالتك ،يف �أف�ضل
ن�سخة ممكنة منك� ،ألي�س هذا ما ُب ِعثَ عليه ال�صالة وال�سالم من �أجله
بالأ�سا�س؟
***
َ َ ُ َ ُ ِّ َ َ َ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ ُّ ْ ِّ َّ َ ُ َّ َ َ ُ
الق مِن َرب ِه ْم ات وآمنوا بِما نزل ع مم ٍد وهو ال ِالص ِ َ ِين آمنوا َوع ِملوا
}ال
َ
َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ْ
كف َر عنهم سيئات ِِهم َوأصلح بالهم{(حممد.)2 :
�أ�صلح بالهم!
عاطل ملي ًئا
ً ما �أجملها من كلمة� ،أن يكون بالك قد �أُ ْ�ص ِل َح ،كان
باملتاعب ،ثم �أُ ْ�ص ِل َح.
�أ�صلحه اهلل لهم.
هل �صالح البال هنا كان ا�سرتخا ًءً ،
فراغا من امل�شاكل و«ف�ضاوة» بال
كما قد نتخيل للوهلة الأوىل؟
متاما من «�صالح
�أبدً ا ،ت�أخذنا الآيات التالية فو ًرا �إىل نوع خمتلف ً
البال».
َ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َ ُ ُّ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ِّ َ
اب حت إِذا أثنتموه ْم فشدوا ال َوثاق الرق ِ }فإِذا ل ِقيتم الِين كفروا فضب
َ
َ ْ َ َ َ ْ ُْ
اء اهلل لنتص مِنهم
َ َ َ َ َ
ارها ذل َِك َول ْو يش ُ ض َع ْ َ
ال ْر ُب أ ْو َز َ َ َّ َ ًّ َ ْ ُ َ َّ َ ً َ َّ َ َ
فإِما منا بعد وإِما ف ِداء حت ت
َ َ َ َ ُ ُ َّ ََ ْ َْ َُ َْ َ ُ
ِين قتِلوا ِف َسبِ ِيل اهلل فل ْن يُ ِض َّل أ ْع َمال ُه ْم{ ك ْم ب َب ْعض َوال َ
ِ ٍ كن ِلبلو بعض ول ِ
(حممد.)4 :
�إنها املواجهة� ،صالح البال حدث باملواجهة ،ع�سكرية هنا كما هو
وا�ضح ،لكن الأمر يف جوهره هو املواجهة ،لي�ست ع�سكرية بال�ضرورة،
بل مواجهة �أفكار �أحيا ًنا ،مواجهة نف�سك يف �أخطائها ،يف تق�صريها ،يف
ذنوبها.
�صالح البال ي�أتي �أحيا ًنا من مواجهات كهذه ،وال ي�أتي �أبدً ا �إذا هربنا،
�أنكرنا ،جتنبنا مناطق نخاف من مواجهتها.
صوا اهلل َي ْن ُ ْ ُ ْ ُ َ ِّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ُّ َ َّ َ َ
آم ُنوا إ ْن َت ْن ُ ُ
صكم َويثبت أقدامكم{ (حممد.)7 : ِ }يا أيها الِين
اخلطوة الأوىل هنا ت�أتي منك ،وهل يحتاج اهلل جل جالله �إىل ن�صر؟!
حا�شاه.
ال� ،أنت من يحتاج -يف �أف�ضل ن�سخة منك � -أن تقدم م�ستحقات
الن�صر� ،أن تثبت لنف�سك � ًأول �أنك ت�ستحق العون منه عز وجل� ،أنت َمنْ يف
حاجة �إىل �أن تثبت لنف�سك ذلك كي يث ِّب َت هو �أقدامك.
َ َ َ ِّ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ُ َّ ً ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ
اه ْم َف َل نَ ِ َ
اص }وكأين مِن قري ٍة ِه أشد قوة مِن قريتِك ال ِت أخرجتك أهلكن
َ
ل ُه ْم{ (حممد.)13 :
كل الأمور يف النهاية متر ،و�أنت ل�ست حج ًرا يف قريتك �أو مدينتك �أو
يف جمموعة الأ�صدقاء حولك ،ت�ستطيع �أن تغري عنوانك وموقعك لو عجزت.
- 316 -
سورة محمد
عن تغيري قريتك �أو مدينتك �أو �أ�صحابك .ل�ست الأول ولن تكون الأخري،
الفراق �صعب حت ًما ،لكن �أن تتحول �إىل حجر �أ�صعب بكثري.
َ ُْ َْ ُْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ُ ْ ُ ً
ِين اهتد ْوا زادهم هدى َوآتاهم تق َواهم{ (حممد.)17 :
}وال
حقيقتان �أ�سا�سيتان ال مفر منهما ،مثل البديهيات بالن�سبة ملن يريد �أن
يقرتب منه عز وجل� ،أن يكون يف �أح�سن ُن َ�س ِخه.
�أنه ال �إله �إال هو ،بكل معاين ذلك ،و�أنك كب�شر معر�ض للخط�أ؛ لأنه جزء
من طبيعتك ،فا�ستغفر لذنبك ولكل من معك.
َ َ َ ُ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ َ ٌ ُ
ورة مكمة َوذك َِر فِيها }ويقول الِين آمنوا لول نزلت سورة فإِذا أن ِزلت س
ت ْ ُ ُ ْ َ َ ٌ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ
ال ِقتال رأيت الِين ِف قلوب ِ ِهم مرض ينظرون إِلك نظر المغ ِش علي ِه مِن المو ِ
ََ َ َُ ْ
فأ ْول لهم{ (حممد.)20 :
البع�ض ال يريد املواجهة ،يف�ضل �أن يبقى يف منطقة الراحةَ ،منْ ه�ؤالء
البع�ض؟ الذين يف قلوبهم مر�ض ،تقول الآية ذلك كما لو كانت تقول لك:
هل �أنت منهم؟
تبحث يف الآيات عن املزيد من العالمات لكي حتدد جوابك ،فتجد
جوا ًبا يفتح لك باب اخلروج من هذه اخلانة لو كنت فيها � ً
أ�صل.
َْ ُ ُُ َ ْ
َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َََ
وب أق َفال َها{ (حممد.)24 :
ٍ ل ق ع }أفل يتدبرون القرآن أم
�ستخرج من هذه اخلانة ب�أن تزيل الأقفال على قلبك ،ب�أن تتدبر كل ما
مر عليك من �آيات.
ثم تتابع الآيات وهي ت�صف �أولئك الذين يف الطرف الق�صي من
الن�سخة الأف�ضل منك ،يف الطرف الأبعد منه عليه ال�صالة وال�سالم ،و�أنت
تقف عند كل �صفة لتت�أمل ،نعم ،ال ،رمبا!
وتوقفك �آية وهي حتذرك من �أن تقف يف منت�صف الطريق ،من ن�صف
املواجهات.
ََ ُ ْ ََ ْ َ َُ َّ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ َ َْ ُ ََ َ ُ
تك ْم}فل ت ِهنوا َوتدعوا إِل السل ِم َوأنتم العلون َواهلل معكم ولن ي ِ
َ ْ َ َ ُ ْ
أعمالكم{ (حممد.)35 :
�إن كنت يف موقع القوة �ضمن مواجهتك ،فال ُت ْق ِد ْم على ن�صف مواجهة،
در�سا يف القيم
أ�صل هو �أن تعطي ً ال ُت ْن ِه َها بالتنازل �إال �إذا كان هدفك � ً
والأخالق وك�سب العقول والقلوب ،كما فعل عليه ال�صالة وال�سالم يف فتح
أ�صل هي �أن مت�ضي يف مواجهتك ،وكانت مكة ،لكن �إن كانت خطتك � ً
الظروف منا�سبة لك ،فال ترتاجع.
َ َ ُ ُ َ
ْ ً َ ْ َ ْ َّ َ ُ ُ ْ َ ُ ْ َ
َْ َْ ْ َََّ
ك ْم{ (حممد.)38 : } َوإِن تت َول ْوا يستبدِل قوما غيكم ثم ل يكونوا أمثال
ثم نكت�شف �أن هذا ال�شخ�ص كان فوق كل �أحالمنا الأوىل ،و�أنه كان
فتحا مبي ًنا لنا ،بينما ت�صورناه � ًأول «هدنة
�أف�ضل لنا مبا ال يقا�س ،و�أنه كان ً
ب�شروط جمحفة».
ميكن �أن يحدث هذا كث ًريا يف حياتنا ،مع خيارات الدرا�سة والعمل
واالرتباط والق�ضايا امل�صريية الأخرى.
البع�ض ي�ستطيع �أن ينظر �إىل الوراء ليق ِّيم ما حدث ،فيكت�شف �أن ما م َّر
كان ملي ًئا ب�إيجابيات مل َت ُد ْر يف باله يوم ندب حظه على ما حدث.
حبي�س حلظة الندب ،حلظة «مل يكن هذا ما َ البع�ض الآخر �سيبقى
�أريده» ،حلظة «�أ�ستحق �أف�ضل من هذا».
حبي�سا يف دور ال�ضحية املظلومة ،و�سيعجز عن ر�ؤية ما حدث �سيبقى ً
ب�سياقات �أو�سع.
�سورة الفتح ت�أخذك من يديك لتع ِّلمك كيف تخرج من هذه اللحظة� ،أن
أ�صل� ،أو �أن تكون جمرد حلظة متر بها يف طريقك حتاول جت ُّنب دخولها � ً
�إىل الن�ضج.
كيف تدلك ال�سورة على هذا؟
ال�سكينة هي طريق ذلك � ًأول.
َ ً ََ َ ُْ ْ َ َْ ُ ُُ ُ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ
ني ل َِيدادوا إِيمانا مع إِيمان ِِه ْم َوهلل }هو الِي أنزل السكِينة ِف قل ِ
وب المؤ ِمنِ
َْ
ات َوال ْر ِض َو َك َن اهلل َعل ًِيما َحك ًِيما{ (الفتح.)4 : ُ ُ ُ َّ َ َ
جنود السماو ِ
ُُ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ }لَ َق ْد َر ِ َ
ني إِذ يبايِعونك تت الشج َرة ِ فعل َِم ما ِف قلوب ِ ِه ْم ض اهلل ع ِن المؤ ِمنِ
ََ َ ُ َْ ً َ ً َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ
فأن َزل السكِينة علي ِه ْم َوأثابه ْم فتحا ق ِريبا{ (الفتح.)18 :
َ ََُ ُ ُ ُ ْ َ َّ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ
الا ِهلِي ِة فأن َزل اهلل سكِينته ِين كف ُروا ِف قلوب ِ ِهم ال ِمية حِية}إِذ جعل ال
َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ََ ُ
ولِ وع المؤ ِمنِني وألزمهم كِمة اتلقوى وكنوا أحق بِها وأهلها وكن اهلل ع َرس ِ
ُ ِّ َ ْ َ ً
ش ٍء علِيما{ (الفتح.)26 : بِكل
عقد البيع هذا هو ال َب ْي َعة ،عهد تقطعه على نف�سك مع نف�سك �أمام اهلل،
لي�س لديك فر�صة �أن ت�ضع يدك على يديه ال�شريفتني ،لكن هناك فر�صة
�أن تعاهد قيمه ور�سالته ،هذا ال يقل �أهمية عن و�ضع يدك حتت يديه
ال�شريفتني ،ما دمت �صاد ًقا يف ذلك.
هنا بعد ال�سكينة ،عندما تعاهد قيمه ،يكون ذلك عهدً ا على موا�صلة
الطريق ،على رف�ض الي�أ�س ،على حماولة ر�ؤية ما هو �إيجابي.
ُُ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ }لَ َق ْد َر ِ َ
ني إِذ يبايِعونك تت الشج َرة ِ فعل َِم ما ِف قلوب ِ ِه ْم ض اهلل ع ِن المؤ ِمنِ
َ َ ََ َ َ َ ْ َ َ َّ
السك َِين َة َعل ْي ِه ْم َوأث َاب ُه ْم ف ْت ًحا ق ِر ًيبا{ (الفتح.)18 : فأنزل
ال ميكن �أن نبايعه عليه ال�صالة وال�سالم حتت ال�شجرة ،جئنا يف زمان
�آخر.
دوما �أن ن�ستظل ب�شجرة تعليماته وقيمه ،و�أن نقف حتتها
لكن ميكننا ً
لنبايعه جمددًا.
ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ
ام إ ْن َش َ َ ُ َ ُ ُّ ْ َ ََ ْ َ َ َ
اء اهلل جد الر ِ }لقد صدق اهلل رسول الرؤيا بِالق لدخلن المس ِ
َ ُ َ ِّ َ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ِّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ
صين ل تافون فعلِم ما لم تعلموا فجعل مِن ِ
ون د آ ِمنِني مل ِقني رءوسكم ومق ِ
َ َ َْ ً َ ً
ذل ِك فتحا ق ِريبا{ (الفتح.)27 :
كانت الر�ؤيا هي دخول مكة كهدف نهائي ،لكن دون ذلك كانت موانع
عديدة ،لي�ست الع�سكرية �أهمها ،بل كانت هناك عوامل �أكرث �أهمية ُت ْغ ِلقُ
�أمام امل�سلمني حتقيق هذا الهدف النهائي؛ جاهزية امل�سلمني �أنف�سهم،
و�ضع قبائل العرب وحتالفاتها ور�ؤيتها للم�سلمني وا�ستعدادها �أو عدم
ا�ستعدادها للتخلي عن قري�ش.
كانت هناك �أبواب مو�صدة كثرية.
وكانت هذه الهدنة هي الفتح.
فتح الأبواب املو�صدة ،الفتح الذي جعل الطريق �إىل الهدف الح ًقا يكون
�أكرث متهيدً ا.
ما َب َدا لبع�ض امل�سلمني �أنه جمحف كان يف احلقيقة نا ًرا هادئة ُت ْن ِ�ضج
الظروف بل ُت ْن ِ�ضجهم هم �أكرث؛ ليكونوا �أكرث قابلية على حتقيق �أهدافهم
وفوزهم.
كل ت�أجيل �أو ت�أخري متر به -مهما �أزعجك -ميكن �أن يحتوي على
مفاتيح ثمينة حتملها يف رحلتك ،تفتح به ما يو�صد �أمامك.
من هذه املفاتيح :خربتك ال�شخ�صية ،قدرتك على التحمل� ،إعادة
احل�سابات والتقييم ،توا�ضعك �أمام الظروف التي ال ت�ستطيع تغيريها
وو�ضعها يف ح�ساباتك.
كل �صاحب جتربة يعرف جيدً ا كم هي مهمة هذه املفاتيح يف حتقيق
الأهداف.
أجيل كهذا ،ميكن �أن يكون هو كل �صاحب جتربة يعرف �أن ت�أخ ًريا �أو ت� ً
الفتح احلقيقي الذي م َّهد للنجاح الح ًقا.
َّ ً َ َّ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ َّ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ َّ ٌ ُ ُ
اء بينه ْم ت َراه ْم ُركعا ار رح
ِ }ممد َرسول اهلل والِين معه أ ِشداء ع الكف
ْ َ ُّ ُ َ َ َ ُ َ ُ ْ ً ُ َّ ً َ ْ َ ُ َ َ ْ ً
سجدا يبتغون فضل م َِن اهلل َو ِرض َوانا ِسيماه ْم ِف ُوجوه ِِه ْم مِن أث ِر السجو ِد ذل ِك
َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َْ ََ َ ْ َ َ ْ ْ َّ ْ َ َ َ َ ُ ُ ْ ََُُْ
يل ك َز ْر ٍع أخ َرج شطأهُ فآز َرهُ فاستغلظ فاست َوى ِ ن
ال ِ
مثلهم ِف اتلوراة ِ ومثلهم ِف ِ
َّ َّ َ َ ُ َ ُ ُ ْ ُ ُّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ََ ُ
ات
ال ِالص ِ َ ِين آمنوا َوع ِملوا ار َوعد اهلل ال جب الزراع ِل ِغيظ ب ِ ِهم الكف ع سوق ِ ِه يع ِ
ُْ َْ ً َ ْ َ ً
مِنه ْم مغ ِف َرة َوأج ًرا ع ِظيما{ (الفتح.)29 :
تختتم �سورة الفتح بهذه ال�صورة ملحمد والذين معه� ،صورة الزرع الذي
بلغ �أعلى �صور ن�ضوجه وزيادته ،تذ ِّكرنا ال�صورة هنا ب�أن كل ذلك بد�أ ببذور
�صغرية ،ومر رمبا بظروف �صعبة ،واحتاج �إىل وقت طويل و�صرب لكي ينمو
وي�شتد �إىل �أن ي�صل �إىل زهوته قبل احل�صاد.
الفتح مل يكن حلظة احل�صاد.
بل يف املرور بكل مرحلة يف وقتها املنا�سب ،ويف عدم ا�ستعجال �أي �شيء
للو�صول �إىل الهدف قبل �أوانه.
- 324 -
سورة الحجرات 49
في حجرة مجاورة
تبدو �سورة احلجرات كما لو �أنها �ض َّمت �أهم قواعد ال�سلوك والتعامل
جمتمع �إن�ساين ،من �أب�سط َهذه القواعد :خف�ض ال�صوت َ
بني الب�شر يف
َّ َ َ َ َ
ْ َ ُ ْ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ ُّ َ
ت انل ِّ
ب ول احلديث} ،يا أيها الِين آمنوا ل َ ترف َعوا أ َصواتكم فو َق ص َو ِ ِ �أثناء
ْ ُُ َ َ ُ ْ ُ
ْ ََْ ْ َ ُ ْ ُ َ ْ َْ َ َ ْ َ ََْ
ون{ ته ُروا لُ بِالق ْو ِل كجه ِر بع ِضك ْم ِ َلع ٍض أن تبط أعمالك ْم َوأنت ْم ل تشعر
(احلجرات.)2 :
َ ُْ ْ َ ََُْ َ ْ َ ََ
ني اقتتلوا ان مِن المؤ ِمنِاملجتمع} ،وإِن طائ ِفت ِ ف�ض النزاعات بني �أفراد �إىل ِّ
َ َّ َ َ َ َْ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َّ
فأصلِحوا بينهما فإِن بغت إِحداهما ع الخرى فقات ِلوا ال ِت تب ِغ حت ت ِفء إِل
ْ َْ ْ ََ َ َ َ
أ ْم ِر اهلل فإِ ْن ف َاء ْت فأ ْصل ُِحوا بَيْ َن ُه َما بِال َع ْد ِل َوأق ِس ُطوا إ ِ َّن اهلل ُيِ ُّب ال ُم ْق ِس ِط َني{
(احلجرات.)9 :
ال�سورة تو�صي � ً
أي�ضا بتجنب الكثري من الظن ،ولي�س جتنبه نهائ ًّيا فهذا
�أمر م�ستحيل ما دام هناك عقل يف حالة عمل ،النهي عن التج�س�س ،وعن
الغيبة:
َّ َ ْ َ َّ ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ
اج َتنِ ُبوا َكثِ ً
ريا م َِن الظ ِّن إِن بعض الظ ِّن إِث ٌم َول تَسسوا }يا أيها الِين آمنوا
َ ْ ً َ َ ْ ُ ُ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ ً َ ُ ُّ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ
ول يغتب بعضكم بعضا أيِب أحدكم أن يأكل لم أخِي ِه ميتا فك ِرهتموه واتقوا
َ َّ ٌ
اب َرح ٌ َّ
ِيم{ (احلجرات.)12 : اهلل إِن اهلل تو
بعد هذا القواعد الناظمة للتعامل اليومي بني �أفراد املجتمع الواحد
ْ َ َ ُْ َ َ َ َْ ُ ُ ُ ً ُ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ ُّ َ
تقول ال�سورة} :يا أيها انلَّاس إِنا خلقناك ْم مِن ذك ٍر َوأنث َوجعلناك ْم شعوبا
ِيم َخب ٌ ََْ ُ
اك ْم إ َّن اهلل َعل ٌ َ َ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ
ري{ (احلجرات.)13 : ِ ِ ارفوا إِن أك َرمك ْم عِند اهلل أتقوقبائ ِل ِلع
كما لو �أن ال�سورة تقول لنا -بعد �أن � َّأ�س�ست لقواعد تعاملنا مع بع�ضنا
� :-إن التعامل نف�سه يجب �أن يكون مع باقي املجتمعات ،و�إننا لن نتمكن من
ً
من�ضبطا. حتقيق تعامل متوازن مع اخلارج �إال �إن كان تعاملنا يف الداخل
قليل ونت�شابه كث ًريا،أي�ضا� :إننا يف النهاية واحد ،نختلف ً �إنها تقول لنا � ً
ولكننا مت�شابهون� ،إذا كنا نعيب على فالن �أو نغتاب عال ًنا فنحن يف الوقت
نف�سه لدينا عيوب ميكن �أن ي� َّؤ�ش َر عليها و�أمور ميكن �أن ُن ْغت َ
َاب عليها.
كلنا ن�سكن يف حجرات متجاورة ،كلنا جريان يف نهاية الأمر ،مت�شابهون
يف عيوبنا وميزاتنا مهما حاولنا جتاهل ذلك ،وكلما تعارفنا على بع�ضنا؛
تع َّرفنا على �أنف�سنا �أكرث ،واكت�شفنا ت�شابهنا وتقاربنا �أكرث و�أكرث.
ميزان واحد هو الذي ميكن �أن يق ِّيم فروقاتنا واختالفاتنا :التقوى.
***
- 326 -
سورة الحجرات
�سـت�أخذك الآيات �إىل مكان تكون فيه قري ًبا منه عليه ال�صالة وال�سالم،
كما لو �أنه يف احلجرة املجاورة �أو يف حجرة قريبة ننتظره فيها.
نعم ،هو قريب ج ًّدا.
كل ما علينا �أن نفعله هو �أن ن�صرب.
و�سرناه يخرج �إلينا ،و�سيكون خ ًريا لنا.
ثمة �صنف �سينمائي حديث يقوم على نوع من التفاعل بني امل�شاهد
واملادة التي يراها ،ي�سمى هذا ال�صنف باملتفاعل ،حيث يختار امل�شاهد
خيا ًرا من �ضمن عدة خيارات مف�صلية ملا �سيحدث من �أحداث ،وت�سري كل
الأحداث الح ًقا بنا ًء على خيار امل�شاهد ،الذي قد يختلف ً
متاما عن خيار
م�شاهد �آخر ،وبالتايل ف�إن للفيلم جمموعة نهايات خمتلفة بعدد اخليارات
املطروحة � ً
أ�صل.
و�ضوحا يف �ألعاب الفيديو
ً هذا النوع من التفاعل ميكن �أن يكون �أكرث
التي يختار فيها الالعب الكثري من اخليارات بنف�سه.
وبالتايل يحدد م�صريه بنف�سه.
***
ما عالقة هذا كله ب�سورة ق؟
�سورة ق -دون ت�شبيه -تفعل بنا �شي ًئا مقار ًبا.
ت�ضعنا فو ًرا يف لقطة النهاية ،وت�ضع �أمامنا خيارين ،تختار واحدً ا
منهما.
ثم تقودنا �إىل «الفال�ش باك» الذي يو�صل �إىل اخليار الذي اخرتته.
اخرتت؟
�إذن تعود �إىل خط �سري �أحداث حمدد يف ما�ضيك ،ت�سري عليه مبا
يتنا�سب مع خيارك.
تف�شل يف ذلك؟
تعود �إىل اخليار جمددًا ،هل �أنت مت�أكد من �صحة خيارك؟ «الفال�ش
باك» اخلا�ص بك يوحي بخيار �آخر.
هل �أنت واثق �أنك تريد �أن تكرر اخليار؟ �أم �أنك هذه املرة �ستغري
ذكرياتك� ،ستغري حياتك احلالية ،ما �سيكون الح ًقا «الفال�ش باك»؟
ْ َْ َْ ُ ُ َْ َْ ُ َ َََ ْ َ َْ َ ْ َْ َ َْ َ َ ُ ْ ُ
النسان َونعل ُم ما ت َوس ِوس ب ِ ِه نفسه َون ُن أق َرب إ ِ ْل ِه مِن حب ِل
}ولقد خلقنا ِ
ْ
ال َو ِري ِد{ (ق.)16 :
هذا القرب ميكنك �أن تتعامل معه بعدة م�ستويات� ،أن ت�شعر ب�أمان
القرب منه عز وجل� ،أن ت�شعر بحميمية ذكره وقربه.
متاما يف حياتك،
لكن هل �سيكون الأمر كذلك لو �أنك كنت بعيدً ا عنه ً
يف الطرف الأبعد� ،أو على الأقل كنت تعترب نف�سك هكذا؟
متاما.
هنا �سيكون للقرب من حبل الوريد وقع خمتلف ً
�سيكون مرع ًبا.
�سيكون ِذ ْك ُر حبل الوريد هنا مثل فكرة حبل يلتف حول �أوردة عنقك.
َ َ ُّ ُ َ ْ َ ِّ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ } َو َج َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ
الق ذل ِك ما كنت مِنه تِيد َ ون ِفخ ِف الصورِ ذل ِك ت بِ
اءت سكرة المو ِ
َََ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ َ ُ ْ
اءت ك نف ٍس معها سائ ِق َوش ِهيد{ (ق .)21 : 20 ي ْوم ال َوعِي ِد وج
بد�أت امل�شاهد تتواىل �إذن ،ها �أنت ت�شاهد نف�سك و�أنت ت�صارع املوت،
ر�أيت اللقطة رمبا مع �أحباب لك ور�أيتها على ال�شا�شات ،هذه املرة �أنت
احلبيب املفارق� ،أو �أنت البطل الذي ميوت على ال�شا�شة ،ثم متوت ،مل
متاما.
تنطفئ الأ�ضواء كما توقعت ،بل حدث �شيء �آخر ً
ْ َ
اء َك ف َب َ ُ َ َ
َ َْ َْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ
ص َك َال ْو َم َحد ٌِيد{ ك غ َِط َ }لقد كنت ِف غفل ٍة مِن هذا فكشفنا عن
(ق.)22 :
َ ُ
}ك ْن َت ِف َغ ْفل ٍة{.
وجاءت �سورة ق لتحقنك يف وريدك بحقنة وعي :ب�صرك اليوم حديد،
وها �أنت تب�صر نف�سك يف لقطة من امل�ستقبل.
تب�صر نف�سك �أمام خيارين:
َ ْ َ َ ُ ُ ِ َ َ َّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ ْ َ
يد{ (ق.)30 : ت وتقول هل مِن ِ ٍ
ز م }يوم نقول لهنم ه ِل امتل ِ
َُ ْ َ ََ ُ َ َ ََََْ َ ٌ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُْ ُ
لينا م ِزيد{ (ق.)35 :}ادخلوها بِسلمٍ ذل ِك ي ْوم اللو ِد لهم ما يشاءون فِيها و
نحب دور البطولة ،وقد نحلم به ،ونخطط لطموحاتنا على مقا�سه
وح�سب موا�صفاته.
وبغ�ض النظر عن ف�شلنا �أو جناحنا يف حتقيق هذا الدور ،ف�إن ت�صورنا ِّ
�أن دور البطولة هو الدور الأف�ضل والأهم فيه م�شكلة كبرية.
البطل مهم فقط يف �سياقه� ،ضمن �أدوار �أخرى مت ِّكنه من �إبراز بطولته،
لو ُح ِذ َف ْت �أدوار الآخرين؛ ملا �أ�صبح ً
بطل.
�سورة الذاريات ت�أخذنا �إىل هذه احلقيقة الأ�سا�سية التي يتعرث كثريون
منا قبل �أن يتقبلوها ،حقيقة �أن الأدوار يجب �أن ُت َو َّزع ،و�أن كل امل�شاريع
الكبرية التي تخدم النا�س وتعمر الأر�ض ال ميكن �أن حتدث �إال بوجود توزيع
للأدوار على نحو يجعل الكل �شركاء يف جناح امل�شروع ،ال بطل واحد ،وال
قائد �أوحد.
َ ْ ُ َ ِّ َ ات ي ُ ْ ً َ َْ َ ْ َ َْ َ َ َ َّ َ
ات
سا فالمقسم ِ الارِي ِ ت ِوق ًرا ف
الامِل ِ ات ذ ْر ًوا ف
}واذلارِي ِ
َْ
أم ًرا{ (اذلاريات .)4 :1
�أربع مراحل �إذن ،حتدِّ ثنا عنها �سورة الذاريات لأجل حتويل �أهدافنا
و�أحالمنا �إىل «�أمر واقع».
بهذه الطريقة ميكننا �أن نرى كل الق�ص�ص التي �أوردتها ال�سورة:
(�إبراهيم ومالئكة الب�شرى له ،والعذاب لقوم لوط ،ق�صة مو�سى وفرعون،
ق�صة نوح وقومه ،وعاد وقومه) كلها من خالل منظار توزيع الأدوار،
رمبا ال نعرف كيف حدث التوزيع ،لكن يف كل هذه الق�ص�ص كانت هناك
دوما للأنبياء يف
مق�سمات) ،القيادة كانت ً
(ذاريات ،حامالت ،جارياتِّ ،
هذه الق�ص�ص ،لكن البذرة مل ت�أت منهم ،بل ا�ستلموها من رب العاملني،
وهناك كان َمنْ ق َّدم لها احلماية والدعم ،وكان هناك َمنْ حملها ون َّفذ
تعليماتها.
كل ق�ص�ص امل�شاريع الناجحة -حتى الدنيوية منها -حتمل هذه
املالمح الأ�سا�سية الأربعة.
وق�ص�ص الف�شل ت�ضم اخللل يف واحدة من هذه املالمح على الأقل(((.
***
ولي�س �صدفة �أبدً ا �أن تكون هذه ال�سورة حتديدً ا هي التي جاءت فيها �آية
مفتاحية تو�ضح الهدف من خلقنا.
َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ
ون{ (اذلاريات.)56 :
النس إِل ِلعبد ِ الن و ِ}وما خلقت ِ
ما عالقة هذا بالذاريات ذر ًوا واحلامالت وق ًرا واجلاريات ي�س ًرا
واملق�سمات �أم ًرا؟
ِّ
((( للمزيد عن سورة الذاريات كتاب سرية خليفة قادم للمؤلف.
- 333 -
القرآن نسخة شخصية
ال�سورة ت�شري لنا �أن الهدف من خلقنا �أو�سع بكثري من �أن ُي ْخت ََ�ص َر
بقالب واحد �أو دور واحد كما يتوهم كثريون.
العبادة هنا لي�ست مقت�صرة على املعنى ال�شعائري ،املعنى ال�شعائري
حم�سوم �ضمن مفهوم الإميان نف�سه� ،أما العبادة -هدف اخللق وامتحانهم
-فهي �أفق وا�سع متدرج ،تت�ضمن كل م�شاريع الإعمار والعدل والتوازن
القائمة على القيم التي �أنزلها اهلل يف كتبه ،وال ُي ْ�ش َت َُط فيها �أن تكون
البطل اخلارق الفاحت� ،أو القائد الفذ الأوحد� ،أو �صاحب الفكرة البذرة
العبقرية.
ميكنك �أن تكون �أ ًّيا من ه�ؤالء� ،أو �أن تكون واحدً ا من املنفذين ،اجلنود
املجهولني الذين لوالهم ملا كان هناك �أي م�شروع من الأ�سا�س.
ميكنك �أن جتد دو ًرا لك يف �أي مكان يف م�شروع كهذا.
َّ َ ُ ْ َََ ُْ ُ َ َ َُْ َ َ ٌ ُْ َ َْْ
صون َ و ِف السماءِ }و ِف الر ِض آيات ل ِلموقِنِني و ِف أنف ِسكم أفل تب ِ
ُْ ُ َ ُ َ ُ َ
ِرزقك ْم َوما توعدون{ (اذلاريات .)22 :20
تدربت جيدً ا قبل امل�ضي فيه ،ميكن �أن تكت�شف فيه الكنوز والرثوات.
و�إن َ
***
كان هذا هو ت�أويل منامك ،ميكن �أن جتد فيه ق�صة حياتك كلها لو
دققت ،بالأحرى ميكن �أن جتد فيه ما يختزل �أهم ما يف حياتك ،ما يحدد
َ
م�صريك بعدها.
عندما ُت ْق ِبل على حياتك و�أنت حتمل هذه املعاين يف وعيك (ويف ال
وعيك) ف�أنت تعلم جيدً ا طريق حياتك ،حتى لو ُت ْه َت ً
قليل وتعرثت� ،أنت
تعرف الطريق بطريقة ما ،رمبا دون تفا�صيل.
�أما الذين ال يعرفون هذه املعاين ،فحياتهم قد تكون بال جبل� ،أو قد
تكون على كومة من الرمال يظنونها ً
جبل ،وكتابهم ُي ْكتَب كما اتفق،
وال�سقف كلما ارتفع �ضعفت �أ�سا�سات البيت ،والبحر مغامرة غري م�أمونة
العواقب ،ورحلة احلياة قد تكون مثل رحلة روبن�سون كروزو.
وعندما حتني حلظة احلقيقة ،لن يفهموا ما �سيحدث ،لن يتمكنوا من
فهم هذا امل�شهد الذي وجدوا �أنف�سهم فيه.
ََ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ
اءلون{ (الطور.)25 : }وأقبل بعضهم ع بع ٍض يتس
�أما �أنت.
فقد ِن ْل َت فر�صة �أن َّ
تطلع على �أهم الأ�سئلة قبل دخولك االمتحان.
ت�أخذك �سورة النجم على ظهر جنم ،لي�س وهو يهوي ،بل وهو يرتقي.
ت�أخذك يف رحلة تقربك من الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم ،يف واحدة
من �أهم و�أعلى حلظات ارتقائه وقربه من الوحي املنزل عليه.
هذا القرب منه وهو يف هذه احلالة ،يكاد ي�شبه رحلة �إىل النجوم
البعيدة يف جمرات ق�ص َّية ،وهي رحلة -يف الوقت نف�سه -داخل نف�سه
الكرمية بينما هو يتفاعل مع الوحي ال�شريف.
بني هذا النجم وتلك التجربة الفريدة ،ت�أخذك ال�سورة و�أنت تلتقط
�أنفا�سك ب�صعوبة ،رمبا كان �أق�صى �أمنياتك �أن تقرتب منه يف �أحواله
العادية.
لكن ال�سورة ت�أخذك �إليه وهو يف رحلة املعراج ،جتعلك تتم�سك به بينما
العامل كله يهوي �أمام عينيك ،و�أنت ترتقي معه �أف ًقا بعد �أفق� ،إىل الأفق
الأعلى.
ُ ََ ُ ْ ُُ ْ َ َْ َ ْ َ ُ َ َّ َ ُ َ ُ ْ ُ
}علمه شدِيد الق َوى ذو م َِّر ٍة فاست َوى َ وه َو بِالف ِق الع ث َّم دنا
َ َ َ َ ََ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ْ َ َْ َ َ َ َ َّ
ي أ ْو أدن فأ ْوح إِل عب ِده ِ ما أ ْوح ما كذب فتدل فكن قاب قوس ِ
خ�ضم الرحلة ،ال تكاد متيز �إن كان احلديث هنا عن الر�سول و�أنت يف ِّ
-عليه ال�صالة وال�سالم � -أم عن مالك الوحي جربيل؟ َم ِن الذي دنا
فتدل؟ َم ِن الذي كان قاب قو�سني �أو �أدنى؟ النور املت�سرب من الآيات يكاد َّ
يعميك عن بع�ض تفا�صيل الأجوبة ،ال ي�ستطيع ب�صرك �أن يركز على كل
ص اغ ْ َ
ال َ ُ َ َ َ
�شيء هنا ،لكن يكفي �شالل النور املنبعث هنا لكي تعرف �أنه }ما ز
أي�ضا �أن �أي حديث عن �إله �آخر من تلك َو َما َط َغ{ (انلجم ،)17 :وتعرف � ً
الأ�صنام املقد�سة� ،أو من مفاهيم مادية تقول« :ال �إله» و ُت َع َامل كما لو �أنها
�آلهة يف هيكل العلموية املزعوم� ،أي حديث �آخر ال ميكن �أن ينبثق منه �شالل
َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ ْ ُ َّ َ ْ ُ
الة متاما} ،أف َرأيت ُم اللت َوالع َّزى ومناة اثل ِ
نور مماثل ،قلبك يعرف هذا ً
ُْْ
الخ َرى{ (انلجم .)20 :19
كم تبدو كل تلك الأوثان ،وكل الن�سخ املعا�صرة منها ،هزيلة وتافهة �أمام
جتربة قرب نب�صرها بقلوبنا! كم يبدو كل ما ميكن �أن ُي َرى بالعني تاف ًها وال
معنى له �أمام ما ال ُي ْد َرك بالب�صر ولكن ُي ْ�ست َْ�ش َع ُر بالقلب! ب�شيء ال ميكنك
متاما ،ولكن ال ميكنك �أن جتادله � ً
أي�ضا. تف�سريه وفهمه ً
بينما تكاد الرحلة تنتهي ،وبعدما ا�ستهلكك هذا النور و�أمدك بطاقة
احلياة يف الوقت نف�سه ،تهم�س �سورة النجم بحقائق �أ�سا�سية عليك �أن
حتملها يف رحلتك يف احلياة.
هنا نحن �أمام ر�ؤية �شاملة تبد�أ منك كفرد ،فرد واحد �سيتحمل
م�س�ؤوليته و�سعيه و�سيجازى على �أفعاله �شخ�ص ًّيا دون �أن يتحمل عبء �أفعال
الآخرين ،ال تزر وازرة وزر �أخرى ،عليك بنف�سك � ًأول ،هذا هو الدر�س الأول
الذي ميكن فهم كل الدرو�س الأخرى من خالله ،لن حتمل �أثقال غريك،
متاما كيف يف�صل بني
ولن يحمل غريك �أثقالك ،والذي �سيحا�سبك يعرف ً
�أثقالك و�أثقال �سواك.
ولن ينفي هذا وجود جزء من الثقل ومن امل�س�ؤولية التي عليك �أن حتملها
جتاه جمتمعك �أو حميطك ،لذلك فـ «ال تزر وازرة وزر �أخرى» تلتحم بـ «�أنه
�أهلك عادًا الأوىل» ،الأمور يف النهاية تتداخل و�أنت و�أوزارك لن تعي�ش
يف �أنبوبة مفرغة من الهواء� ،سيكون هناك ت�أثريات من املحيط وعليك
باملقابل �أن ت�ؤثر فيه ،لكن هذا ال ينفي �أن الدر�س الأول الذي ُت ْد ِخله �سورة.
النجم فيك بعد �أن جعلتك تكون قري ًبا منه يف جتربة املعراج الهائلة وبعد
�أن �سلبت منك كل �آليات مقاومتك وقابليات جدالك؛ هو در�س م�س�ؤوليتك
ال�شخ�صية وحت ُّملك لها يف احل�ساب الأخروي ،در�س �أن �سعيكم �سوف ُي َرى
و�سيكون له جزاء ،وهو الدر�س الذي �سيكون حجر الأ�سا�س يف كل ال�شريعة.
هذا الدر�س -لو ت�أملته � -ستجده بديه ًّيا منطق ًّيا ،يرتبط بكل النظام
الذي ُب ِن َي عليه الكون.
ومنطقية هذا الدر�س �ستجعلك ت�سجد له.
َُْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ َْ ُ َ َْ َُ َ َ
}أ َف ِم ْن َه َذا ْ َ
ِيث تعجبون َ وتضحكون َول تبكون َ وأنت ْم سامِدون الد ِ
ُُْ َ ْ ُ ُ
فاسجدوا هلل َواعبدوا{ (انلجم .)62 :59
وميكن �أن يكون الأمر يف حدث يندلع من حتت رماد ما ت�سميه ا�ستقرا ًرا
يف بلدك ،وهنا يكون كل �شيء م�ؤامرة كونية ت�ستخدم كل �شيء م�ستهدف ًة
ا�ستقرار بلدك.
من العالقات العائلية �إىل ال�سيا�سة الدولية ،مرو ًرا بال�صحة ال�شخ�صية،
ميكن �أن يواجه بع�ض النا�س احلقائق الوا�ضحة بالإنكار ،وباملزيد من
الإنكار.
يكذبون؟ الكذب جزء من املو�ضوع لكنه ال يكفي لتف�سري ما يحدث،
رمبا يبد�ؤون بالكذب ،لكن بالتدريج ي�صدِّ قون �أنف�سهم ،يرتكون لأدمغتهم
حيل نف�سية عديدة لإ�شعارهم بالأمان ،ومن �ضمنها حيلة ممار�سة ً
«الإنكار».
الإنكار ميكن �أن يجعل النا�س يتجاهلون حقائق وا�ضحة كال�شم�س.
�أو كالقمر ،حتى لو ان�شقَّ �أمامهم.
***
�أغلبنا تع َّرف يف حياته على هذا النوع من الب�شر ،وهم ميار�سون هذا
النوع من الإنكار (رمبا نكون منهم �أحيا ًنا).
نعرف �أنهم لو �شاهدوا ب�أم �أعينهم ما يخالف �أهواءهم؛ لقالوا :مل
يحدث ،مل نر �شي ًئا.
ترغب �أن مت�سك بر�ؤو�سهم وتديرها نحو احلدث ،تفتح �أعينهم على
ات�ساعها وتقول لهم :انظروا جمددًا.
ما �أجمل هذا! ما �أروعه! �أن ترى هذه النهاية ال�سعيدة يف حياتك الدنيا.
�أين االختبار يف هذا؟
االمتحان هو يف �أن تتعامل مع الآية يف �سياقها ،ال �أن تتخذها كما لو
كانت وعدً ا �إله ًّيا قاط ًعا مينح �أعداءك الهزمية يف الدنيا ب�شكل حا�سم.
ال ،الآية مل تقل ذلك ،بل حتدثت عما ميكن فهمه �أنه يخ�ص «كفار مكة»
حتديدً ا ،ورمبا يخ�ص غريهم ورمبا ال ،هذا ممكن ،لكن �أن تتخذها كما
لو كانت �آية عامة تخ�ص كل من يقف على املع�سكر الآخر ف�أنت بب�ساطة
ت�ستعملها يف غري مو�ضعها.
لي�س هذا فقط.
بل رمبا كنت ت�ستعملها لت�ساعدك يف حالة �إنكار خا�صة بك.
رمبا كان الواقع كله ي�شري �إىل �أن الهزمية الدنيوية بعيدة عن مع�سكرهم،
بل رمبا هي �أقرب �إليك.
لكنك �ستنكر الواقع ودالالته و ُن ُذره ،وتقول :بل وعدنا اهلل بغري ذلك،
َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ُّ َ
ادلبُ َر{ ال بد �أن يحدث ذلك. ون ُّ }سيهزم المع ويول
�سقطت يف فخ �إنكار احلقائق وال ُّن ُذر َّ هنا تكون قد ف�شلت يف االختبار،
الذي حذرت َْك منه ال�سورة مرا ًرا وتكرا ًرا.
***
- 345 -
القرآن نسخة شخصية
العربة كلها يف �صدقك ،يف التعامل مع كل �شيء ،مع الواقع املحيط ومع
نف�سك ومع �آيات اهلل يف كتابه � ً
أي�ضا.
ال�صدق.
لذلك لي�س غري ًبا �أن تنتهي ال�سورة بال�صدق.
َُْ َْ َ ْ َْ َ َّ ْ ُ َّ َ َ َّ َ َ َ
ِيك مقتد ٍِر{ (القمر.)55 : }إِن المت ِقني ِف جن ٍ
ات ونه ٍر ِ ف مقع ِد ِصد ٍق عِند مل ٍ
هذه ال�سورة جل�سة عالج نف�سي �إلزامي يحتاجه الأ�صحاء نف�س ًّيا قبل
املر�ضى.
هذا يف حالة وجود َمنْ هو �صحيح نف�س ًّيا على نحو كامل بينما هو يتفاعل
مع هذه احلياة املليئة بكل املمر�ضات على �صعيد النف�س واجل�سد.
كلنا مر�ضى بطريقة �أو ب�أخرى ،بن�سبة ما على الأقل ،فينا يتعلق بهذا
اجلزء منا ،النف�س.
كلنا؟ فلن ُق ْل� :أغلبنا لكي نخرج من تهمة التعميم.
�أغلبنا بالت�أكيد ،بن�سب خمتلفة ومتفاوتة.
لذلك ف�أغلبنا نحتاج �إىل جل�سة عالج نف�سي تقدمها �سورة الرحمن.
�صحيحا «نف�س ًّيا» مائة باملائة فيمكنك �أن ت�أخذ اجلل�سة
ً حتى لو كنت
مثل م�صل مناعة( ،على فر�ض وجود �شخ�ص كهذا ،عل ًما �أن من يعتقد �أنه
�صحيح نف�س ًّيا �إىل هذه الدرجة يحتاج �إىل جل�سة عالج �أكرث من �سواه).
كلنا بحاجة لهذه اجلل�سة ،ن�س ِّلم ر�ؤو�سنا امل�شو�شة املنهكة �إىل �سورة
تواجه ،تعا ِلج.
ت�شذبِ ،تنظمِّ ،الرحمن ،ونرتكها تت�سللِّ ،
�إنها �سورة الرحمن.
***
- 347 -
القرآن نسخة شخصية
َ َّ َ َ َ َ َ َ َّ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ
اء َرفعها ان والسم
ان وانلجم والشجر يسجد ِ }الشمس والقمر ِبسب ٍ
َ َ َ َ ْ َ َ
زيان{ (الرمحن .)7 :5 ووضع ال ِم
التوازن ،كل �شيء يف هذا العامل متوازن وحم�سوب ،من النبتة ال�صغرية
�إىل النجم ،كل �شيء مبيزان ،حتى ال�سماء.
وهذا التوازن هو مفتاح جل�سة العالج النف�سية التي نحتاجها جمي ًعا،
والتي تقدمها لنا �سورة الرحمن.
ْ ُ َْ ْ ْ ْ
ْ َ َ ْ َْ َْ َ َّ
سوا ال ِم َزي َان{
ت ِ ُ ُ
ان َ وأقِيموا ال َوزن بِال ِقس ِط َولَ
}أل تطغوا ِف ال ِمزي ِ
(الرمحن .)9 :8
�صيغة اخلطاب باملثنى ،ميكن �أن ُت ْف َه َم ب�أنها خطاب عام للإن�س واجلن،
ولكن هذا الذي جاء �إىل �سورة الرحمن لي�س ِّلم لها ر�أ�سه املتعب ونف�سه
املثقوبة مبعارك احلياة اليومية� ،سيجد �أن اخلطاب باملثنى ينا�سبه ،يف
داخله هناك �شخ�صان يت�صارعان� ،أو يتنازعانه فيما بينهما� ،أحيا ًنا تكون
الغلبة لواحد منهما ،و�أحيا ًنا يكون �صراعهما �شديدً ا ،و�أحيا ًنا يتناق�شان
ب�صوت مرتفع طيلة الوقت.
تذ ِّكرهما ال�سورة بكل ِن َع ِم اهلل عليهما م ًعا ،حتى مرج البحرين عندما
يلتقيان بينهما برزخ ال يبغيان ،كل �شيء بامليزان ،فب�أي �آالء ربكما ِّ
تكذبان؟
وبني النعم التي ت�ستخدمها ال�سورة يف عالجك تقول لك حقيقة �سته ِّون
َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ
الل ِل ان ويبق وجه ربك ذو عليك الكثري من �أوجاعك} :ك من عليها ف ٍ
َ ْ ْ
الك َرام ِ{ (الرمحن .)27 :26
و ِ
كل َمنْ عليها فان يا �صديقي ،كل �شيء �سينتهي ،كل خالفاتنا ومعاركنا
وماراثوننا اليومي ومنجزاتنا وف�شلنا وانت�صاراتنا وهزائمنا وخيباتنا
وع َقدنا ،كلها �ستنتهي كما لو مل تكن ،فال حتمل همها على و�إحباطاتنا ُ
نحو خارج طاقتك ،خارج التوازن والق�سط ،كل من عليها فان ،فه ِّون على
نف�سك.
�ست�أخذنا رحلة العالج هذه �إىل العقاب والثواب ،ال جماملة يف ذلك،
مفتوحا �أكرث �إىل الثواب� ،آيات و�صف اجلنة
ً لكنها �سترتك باب الأمل
�ستكون �أكرث ،و�ستكون هناك �ضمنها هاتني.
َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ِّ َ َّ َ
ان{ (الرمحن.)46 : }ول ِمن خاف مقام رب ِه جنت ِ
َّ ْ ْ َ ُ َْ َ َ ُ ْ ْ َ
الحسان{ (الرمحن.)60 : ان إِل ِ
الحس ِ }هل جزاء ِ
َْ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ ِّ َ
الك َر ِام{ (الرمحن.)78 :
وتنتهي اجلل�سة ب�آية }تبارك اسم ربك ذِي الل ِل و ِ
بد�أت بالرحمن ،وانتهت بذي اجلالل والإكرام ،وبينهما �شعرت بالآيات
أ�صبحت
َ حتتويك وحتت�ضنك كما احتواك رحم �أمك ذات حياة �أخرى ،ثم �
ْ ْ َْ َ
الل ِل َو ِالك َرام{. بعدها �أكرث قوة على فهم معنى }ذِي
يف بع�ض الدول املتقدمة ،ت�سيطر طبقة الـ %10العليا على ما هو �أكرث
من %70من الرثوة يف البالد ،بينما الـ %10التي تليها حت�صل على %12
من الرثوة.
الطبقة الو�سطى ،و ُت َق َّ�سم بدورها �إىل «و�سطى عليا» و«و�سطى دنيا»،
وهم يقعون يف املنت�صف من حيث الدخل بني الأغنياء (الطبقة العليا)
والفقراء (الطبقة الدنيا) ،وغال ًبا يق�ضي ه�ؤالء حياتهم يف حماولة البقاء
يف طبقتهم� ،أو ال�صعود �إىل الطبقة الأعلى� ،أو على الأقل عدم ال�سقوط
�إىل الطبقة الأدنى ،وتكون هذه املحاوالت يف حالة جناحها ،مثل الدوران
يف عجلة هام�سرت ال تتوقف �أبدً ا ،ن�سبة ه�ؤالء من ال�سكان يف بع�ض البلدان
قد تبلغ ،%40وهم يح�صلون تقري ًبا على % 15من الرثوة يف البالد(((.
الطبقة الدنيا هي الطبقة الأفقر ،طبقة العمال و�صغار ال َك َ�سبة ،ن�سبتهم
مقاربة لن�سبة الطبقة الو�سطى %40 ،من ال�سكان ،ويح�صلون على �أقل من
(((
%1من الرثوة والدخل.
ق�سمة ِ�ضيزَ ى بال �شك ،لي�س فقط ب�سبب الفجوة الهائلة املوجودة بني
الطبقات ،ولكن لأن الطبقة العليا قوية مبا فيه الكفاية لت�ضمن بقاء هذه
الق�سمة على ما هي عليه.
***
لكن �سورة الواقعة حتدثنا عن تق�سيم �آخر ،تق�سيم عادل مبعايري
خمتلفة عن معايري الدخل والرثوة ،معايري
َ َ ٌ ٌَ
}خاف ِضة َراف ِعة{(الواقعة.)3 :
قد ترى بع�ض َمنْ كانوا يف الطبقة العليا ج ًّدا يف قعر التوزيع اجلديد،
وقد ترى العك�س ،قد ترى �أن من ت�صورته �سيكون يف و�ضع ممتاز �أخرو ًّيا
أي�ضا� ،شخ�ص حكم عليه كثريون قد �سقط يف التقييم ،وقد ترى العك�س � ً
احل َك ُم العدل لين�صفه.
دون حق ،وجاء َ
وقد ترى غن ًّيا مت َّكن من امتالك الدنيا والآخرة ،وفقري خ�سر االثنتني
م ًعا.
متاما ،ال ميكن �إيجاد م�ساحة م�شرتكة فيها مع
�إنها معايري خمتلفة ً
املعايري ال�سائدة للطبقات دنيو ًّيا.
***
ثالث طبقات � ً
أي�ضا.
ميمنة ،م�ش�أمة.
وطبقة «ال�سابقون ال�سابقون» منزلة متقدمة تتفوق حتى على امليمنة.
ال يوجد طبقة و�سطى هنا� ،أو على الأقل لي�س بهذا التق�سيم.
ال�سابقون ال�سابقون هم �أق�صى اليمني �إن �شئتم ،لكن امليمنة وامل�ش�أمة
متجاورتان فيما يبدو.
هل يبدو هذا �أم ًرا مهددًا ملن يف امليمنة؟ لي�س بال�ضرورة ،لقد ُق ِ�ض َي
الأمر ،هم يف امليمنة يف هذا التق�سيم ،ال �شيء �سي�ست�أنف هذا احلكم،
عليهم الثبات على ما هم عليه.
- 353 -
القرآن نسخة شخصية
لكنه �أمر واعد وباعث للأمل بالن�سبة ملن يف امل�ش�أمة ،امل�سافة بينهم
وبني َمنْ يف امليمنة لي�ست بعيدً ا ح ًّقا ،ميكنهم �أن يفعلوا �شي ًئا لكي يغريوا
موقعهم الطبقي ،الفجوة بني الطبقتني لي�ست �سحيقة كما هي يف طبقات
الدنيا.
ال �أحد منا يعرف موقعه الطبقي الآن ،لكن على اجلميع �أن يعي �أن
الطبقتني متجاورتان ،و�أن ذلك فيه �إيجابيات و�سلبيات ،الإيجابية
الأ�سا�سية هي �أن الأمل موجود دائ ًما يف النجاة ،مهما كانت املعطيات
حم�صن من االنزالق
ت�سري يف اجتاه �آخر ،وال�سلبية الأ�سا�سية �أن ال �أحد َّ
�إىل الطبقة الدنيا؛ لذا فعلى اجلميع التم�سك واحلذر.
***
ماذا عن «ال�سابقون ال�سابقون»؟
ه�ؤالء هم الفئة التي حتتل املرتبة العليا ،فيهم الأنبياء والقادة
وامل�صلحون� ،أولئك الذين كانوا الرواد يف درب تغيري املجتمعات الب�شرية،
وم َّهدوا الطريق ملن بعدهم يف �أن تكون حياتهم �أكرث عدالة وتواز ًنا ،يف �أن
يكونوا �ضمن امليمنة.
لكن ماذا عن ن�سب كل من هذه الطبقات؟ بالن�سبة لنا ،تع َّودنا �أن نقي�س
احتمالية وجودنا يف فئة ما بكونها الأكرب حج ًما ،كلما كانت ن�سبتها كبرية،
زادت احتمالية �أن نكون فيها ،منطق تع َّودنا على التعامل معه ومن خالله.
لكن �سورة الواقعة ال توقعنا يف فخ توقعات رقمية ،بل تع ِّلمنا �أن نرى
الأمر من منظور خمتلف.
- 354 -
سورة الواقعة
كاف ج ًّدا لكي ميلأنا بالأمل ،هذه الطبقة فيها جمع غفري من هذا ٍ
الأولني والآخرين ،لدينا فر�صة �أن نكون من �أ�صحاب امليمنة ،الآية تفتح لنا
الباب على م�صراعيه� ،إذا كانت طبقة «ال�سابقون ال�سابقون» �صعبة ،ف�إن
هذه ممكنة ،لي�ست �سهلة بالت�أكيد ،لكنها ممكنة ..واقعية.
***
ماذا عن �أ�صحاب ال�شمال؟
ال�سورة ال تخربنا عن ن�سبتهم ،ال قليل وال كثري ،ال من الأولني وال من
الآخرين.
هذه املعلومة ُت ْتَك عمدً ا؛ لكيال ت�ؤثر علينا ونحن ن�أمل �أن نكون من
�أ�صحاب اليمني� ،أ�صحاب ال�شمال على ُب ْع ِد خطوات ،وال�سورة تخربنا عما
كاف ج ًّدا لكي يجعلنا نبذل كل ما و�سعنا لكي نكون منميرون به ،وهذا ٍ
�أ�صحاب اليمني.
لي�س هذا فقط ،هو مطلق� ،أول و�آخر وظاهر وباطن ،خارج كل املقايي�س
الب�شرية املادية ،جمرد قدرتك على الإميان به خارج مفاهيم «التج�سيم»
و«التمثيل» التي تق ِّيد فكرة الإميان وجتعلها حمدودة؛ جمرد �إميانك بهذا
مينحك قوة خمتلفة.
هذا الإميان باملطلق هو �أول ما مينحك قوة احلديد ،ح�سب املوا�صفات
التي تدلك عليها �سورة احلديد.
َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ
ك ْم ُم ْس َت ْخلَف َ ُ ُ
ِين آمنوا مِنك ْم
ني فِي ِه فال ِ }آمِنوا بِاهلل َو َرس ِ
ولِ وأن ِفقوا مِما جعل
َ َ
ري {(احلديد.)7 : َوأ ْن َف ُقوا ل َ ُه ْم أ ْج ٌر َكب ٌ
ِ
الإنفاق؟ ال ،لي�س فقط الإنفاق ،الإنفاق مما هم م�ستخلفون فيه� ،إنهم
م�س�ؤولون ومنتجون ،وبعد ذلك :منفقون ،قوة الإنفاق هنا تت�ضمن قوة
العمل والإنتاج ،القوة على مقاومة طبيعة النف�س الب�شرية التي متيل �إىل
احلر�ص وال�شح.
َ َ َ َ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ
الق َول يكونوا ِين آمنوا أن تشع قلوبه ْم ِلِك ِر اهلل وما نزل مِن }ألم يأ ِن ل ِل
َ َ ْ َ َّ َ ُ
ِين أوتُوا الْكِتاب مِن قبل فطال عليهم المد فقست قلوبهم َوكثِ ٌ
ري م ِْن ُهمْ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ
كل
ِ
َ ُ َ
فا ِسقون{ (احلديد.)16 :
وهذه القوة لي�ست مثل قوة حجر اجلرانيت الذي ال يكاد يت�أثر ب�شيء،
بل هي مثل قوة احلديد ،ميكن �أن ين�صهر ،يتمدد ،قابل َّ
للط ْر ِق وال�سحب
وال َّث ْن ِي ،خ�شوع احلديد هذا هو عن�صر قوة �إ�ضايف؛ لأنه بتغرياته هذه
يتم َّكن من تكييف نف�سه مع تغريات املحيط من حوله« ،الذين �أوتوا الكتاب
من قبل» رمبا كان �إميانهم قو ًّيا � ً
أي�ضا ،لكنه كان بقوة احلجر ال�صوان �أو.
اجلرانيت ،ال يتفاعل مع املحيط� ،صلد ،يقاوم التغريات ،نعم ،لكن �إىل
درجة معينة ،بعدها �سينك�سر ،يتحطم.
احلديد يقاوم وبعدها يتغري ،يعيد ت�شكيل نف�سه ،لكن يبقى حديدً ا.
هذا هو الفرق احلقيقي بني �أن تكون قو ًّيا كاحلديد ،وبني �أن تكون قو ًّيا
ك�صخر ،احلديد قوته مرنة ،يتغري كي ال ينك�سر ،بينما ال ميلك ال�صخر
َّ
ويت�شظى. هذه املرونة ،فينك�سر
رمبا هذه املرونة هي التي جتعلهم يتعاملون مع الأحداث التي حتيق بهم
على هذا النحو:
ْ َْ َ ْ َ ُ ْ َّ َُْ ََ َْْ َ َ َ َ ْ ُ َ
اب مِن قب ِل أن}ما أصاب مِن م ِصيب ٍة ِف الر ِض ول ِف أنف ِسكم إِل ِف ك ِت ٍ
َ ْ َ َْ َ ْ ََ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ ُ ع اهلل ي َ ِس ٌ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ
ري ل ِكيل تأسوا ع ما فاتك ْم َول تف َرحوا بِما آتاك ْم نبأها إِن ذل ِك
َُ َ َ ُ ُّ ُ َّ ُ ْ َ
ور{ (احلديد .)23 :22
ٍ خ ف ال
واهلل ل يِب ك م ٍ
ت
ال �أ�سى على ما م�ضى ،ال عي�ش على ذكريات املا�ضي ونواح وندب عليه،
بل مت ُّدد وط ْرق و�سحب ح�سب ما تقت�ضي التغريات.
ُ ََْ َ َْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ِّ َ
زيان ِ َلقوم انلَّاسات وأنزلا معهم الكِتاب وال ِم
الين ِ }لقد أرسلنا رسلنا ب
ِ ْ ْ ََ َْ َْ َ َ ْ ْ
اس َو ِ َل ْعلَ َم اهلل َم ْن َي ْن ُ ُ
صهُ َ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ
الدِيد فِي ِه بأس شدِيد َومناف ِع ل ِلن ِ بِال ِقس ِط وأنزلا
يز{ (احلديد.)25 :َو ُر ُسلَ ُه بالْ َغ ْيب إ َّن اهلل َقو ٌّي َعز ٌ
ِ ِ ِ ِ ِ
ْ
الكتاب وامليزان } ِ َل ُق َوم انلَّ ُاس بِال ِق ْس ِط{ ،وبعدهما :احلديد.
كما لو �أنك ال ميكن �أن حتافظ على الق�سط� ،إن مل يكن لديك قوة
احلديد� ،صالبة احلديد ،مطاوعة احلديد.
***
- 359 -
القرآن نسخة شخصية
ال ميكن اال�ستغناء عن احلديد يف احلياة الإن�سانية ،حتى �أنه يدخل يف
تكوين كريات الدم.
لكن � ً
أي�ضا ال ميكن اال�ستغناء عنه يف �إمياننا ،بل يكون كالعمود الفقري
الذي نقف به منت�صبني.
اللهم ق ِّللْ من ن�سبة احلجر يف �إمياننا ،وزِدْ من ن�سبة احلديد...