You are on page 1of 360

‫القرآن‪ :‬نسخة شخصية‬

‫القرآن‪ :‬نسخة شخصية‬

‫د‪ .‬أمحد خريي العمري‬


‫الفهرس‬

‫�إهداء‪11.............................................................‬‬
‫مقدمة‪13............................................................‬‬
‫تعميم ‪17............................................................‬‬
‫�سورة الفاحتة ‪ :1‬عني على العامل ‪19................................‬‬
‫�سورة البقرة ‪ :2‬ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر‪24..............‬‬
‫�سورة البقرة ‪ :2‬ال�صراع املرير مع الواقع املر ال يزال م�ستم ًّرا ‪32...‬‬
‫�سورة �آل عمران ‪ :3‬عن جرب اخلواطر املك�سورة‪39..................‬‬
‫�سورة الن�ساء ‪ :4‬عن امل�ست�ضعفني يف الأر�ض‪45......................‬‬
‫املائدة ‪ :5‬الطبيعة الب�شرية بال جتميل وال فوتو�شوب‪51..............‬‬
‫�سورة الأنعام ‪� :6‬أهم عالقة يف حياتك ‪59...........................‬‬
‫�سورة الأعراف ‪ :7‬الأنا يف النحن‪66.................................‬‬
‫�سورة الأنفال ‪ :8‬حما�سبة املنت�صر‪72...............................‬‬
‫�سورة التوبة ‪ :9‬احلرب وال�سالم‪76.................................‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يون�س هود يو�سف ‪ :12 -11 - 10‬من البئر �إىل العر�ش‪80...........‬‬


‫�سورة الرعد ‪ :13‬التغيري قيد الإجراء ‪87............................‬‬
‫�سورة �إبراهيم ‪ :14‬اخلروج من الظلمات �إىل النور‪92...............‬‬
‫�سورة احلِ ْجر ‪ :15‬ال�صورة الكاملة ‪96...............................‬‬
‫�سورة النحل ‪ :16‬عن قواعد متعددة و�سقف واحد‪100................‬‬
‫�سورة الإ�سراء ‪ :17‬م�س�ؤوليتك ال�شخ�صية ج ًّدا ‪104...................‬‬
‫�سورة الكهف ‪� :18‬أطوار اال�ستحالة لي�ست م�ستحيلة‪109............. .‬‬
‫�سورة مرمي ‪ :19‬عن املر�أة اخلارقة ‪113..............................‬‬
‫�سورة طه ‪ :20‬لن �أعي�ش دور ال�ضحية ‪121............................‬‬
‫�سورة الأنبياء ‪ :21‬هدم من �أجل البناء ‪127..........................‬‬
‫�سورة احلج ‪ :22‬ت�أ�شرية حج‪133......................................‬‬
‫�سورة امل�ؤمنون ‪� :23‬أهمية ال�شخ�ص «العادي» ‪141....................‬‬
‫�سورة النور ‪« :24‬نور‪� ،‬أ َّنى �أراه؟!» ‪146................................‬‬
‫الفرقان ‪� :25‬أهمية � َّأل تكرتث كث ًريا ملا يقال ‪155.....................‬‬
‫�سورة ال�شعراء ‪ :26‬ال َت ُل ْم نف�سك كث ًريا ‪163...........................‬‬
‫�سورة النمل ‪� :27‬أق�صر الطرق �أطولها �أحيا ًنا‪170....................‬‬
‫�سورة ال َق َ�ص�ص ‪ :28‬ق�ص�ص تنتهي‪ ،‬و�أخرى ال تنتهي �أبدً ا ‪177........‬‬
‫�سورة العنكبوت ‪ :29‬هجرة‪185.................................... ..‬‬
‫‪-6-‬‬
‫الفهرس‬

‫�سورة الروم ‪� :39‬أثر الفرا�شة‪192.....................................‬‬


‫�سورة لقمان ‪ :31‬بيان وراثة‪197......................................‬‬
‫�سورة ال�سجدة ‪ :32‬رع�شة القلب الأوىل‪204..........................‬‬
‫�سورة الأحزاب ‪ :33‬كور�س تعليم حفر اخلنادق‪211...................‬‬
‫�سورة �سب�أ ‪� :34‬أوهام القوة و�أوهام ال�ضعف ‪222......................‬‬
‫�سورة فاطر ‪ :35‬عن حتديد املواقف والفر�ص الثانية‪227.............‬‬
‫�سورة ي�س ‪ :36‬يا �إن�سان! ‪235.........................................‬‬
‫ال�صافات ‪ :37‬ا�ستعد‪ ،‬تث َّبت‪ ،‬انطلق‪244...............................‬‬
‫�سورة �ص ‪ :38‬عن العزة وال�شقاق ‪259................................‬‬
‫ال ُّز َمر ‪ :39‬معركة مدوية ب�صمت ‪267.................................‬‬
‫�سورة غافر ‪ :40‬البحث عن منفذ للخروج‪271........................‬‬
‫�سورة ف�صلت ‪� :41‬صافرة �إنذار داخل ر�أ�سك! ‪972....................‬‬
‫ال�شورى ‪ :42‬الع�سل الذي و�صل!‪286..................................‬‬
‫الزخرف ‪ :43‬بع�ض ما يلمع‪ ،‬يقتل ‪293................................‬‬
‫الدُّ َخان ‪ :44‬دخان بنكهة الوعي‪299..................................‬‬
‫�سورة اجلاثية ‪ :45‬اللحظات الأخرية قبل نطق احلكم ‪303...........‬‬
‫�سورة الأحقاف ‪ :46‬العنوان‪ :‬الرمال املتحركة‪308....................‬‬

‫‪-7-‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سورة حممد ‪ :47‬ن�سخة �أف�ضل منك! ‪314............................‬‬


‫�سورة الفتح ‪ :48‬مفاتيح الأبواب املو�صدة ‪319........................‬‬
‫�سورة احلجرات ‪ :49‬يف حجرة جماورة‪325...........................‬‬
‫�سورة ق ‪ :50‬ذاكرة امل�ستقبل ‪328.....................................‬‬
‫�سورة الذاريات ‪� :51‬أدوار يف حياتك ‪331.............................‬‬
‫�سورة الطور ‪� :52‬أ�سئلة االمتحان م�سربة‪335.........................‬‬
‫�سورة النجم ‪ :53‬يف �أعايل التجربة ‪338..............................‬‬
‫�سورة القمر ‪ :54‬بديهيات وا�ضحة كال�شم�س ‪..‬والقمر‪342............‬‬
‫�سورة الرحمن ‪ :55‬عالج نف�سي يحتاجه حتى الأ�صحاء‪348..........‬‬
‫�سورة الواقعة ‪ :56‬ت�سلق طبقي‪351...................................‬‬
‫�سورة احلديد ‪ :57‬الإن�سان احلديدي ‪357............................‬‬

‫‪-8-‬‬
‫إهداء‬

‫�إىل قارئ «جمهول»‬


‫ي�شعر �أين كتبت هذا الكتاب له �شخ�ص ًّيا‪.‬‬
‫مقدمة‬

‫هذا لي�س كتاب تف�سري‪ ،‬وال يجب �أن يكون كذلك بالن�سبة لأي �شخ�ص؛‬
‫قليل عن �أي كتاب تف�سري �سوا ًء من �أمهات الكتب �أو‬‫لذلك فهو ال يغني ولو ً‬
‫من الكتب املعا�صرة‪ ،‬ويهمني ج ًّدا �أن �أ�ؤكد ذلك و�أكرره؛ لأن معاملته ككتاب‬
‫فادحا‪ ،‬كما �أنه �سي�أخذ من الكتاب هدفه الأ�سا�سي‪.‬‬‫تف�سري �سيكون خط�أً ً‬
‫هذا الكتاب مثل هوام�ش كتبها �شخ�ص ما وهو يقر�أ القر�آن ويحاول‬
‫�أن يتفاعل مع حياته اليومية عربه‪ ،‬فيكتب كيف �ساعدته الآيات على فهم‬
‫العامل املحيط به‪ ،‬وكيف يتعامل مع هذا العامل‪ ،‬ومن البديهي ج ًّدا �أن هذا‬
‫�شخ�صي ج ًّدا‪ ،‬وميكن ل�شخ�ص �آخر مير بظروف مغايرة �أن يكتب‬
‫ٌّ‬ ‫الأمر‬
‫متاما‪ ،‬كما ميكن لل�شخ�ص نف�سه يف ظروف �أخرى �أن‬‫�أ�شيا ًء �أخرى خمتلفة ً‬
‫يت�أثر �أكرث مبوا�ضع �أخرى‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫رغم ذلك‪ ،‬ف�إن جتربة تفاعل �شخ�صي مع القر�آن ميكن �أن تكون‬
‫مفيدة لكثريين‪ ،‬فبع�ض التجارب قد تكون م�شرتكة بني كثريين‪ ،‬كما �أن‬
‫االطالع على جتربة من هذا النوع قد ي�ساعد على �أن يكون للقارئ جتربته‬
‫ال�شخ�صية اخلا�صة به يف التفاعل مع القر�آن‪ ،‬مع الأخذ بنظر االعتبار ما‬
‫�سبق من �أن هذا الكتاب و�أي جتربة مماثلة لي�ست «تف�س ًريا»‪ ،‬وبالتايل ال ‬
‫ُت ْغ ِني عن كتب التف�سري‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 13 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫بد�أت فكرة الكتاب على �شكل من�شورات على الفي�سبوك يف رم�ضان‪،‬‬


‫كانت الفكرة هي �أن تكون «ختمة رم�ضان» خمتلفة‪ ،‬وبنوع من التدبر الذي‬
‫ً‬
‫تفاعل وت�أث ًريا يف‬ ‫يجعل من جتربة اخلتمة الرم�ضانية التقليدية �أكرث‬
‫�شخ�ص الذي يقر�أ القر�آن‪.‬‬
‫قبلها ب�سنوات‪ ،‬كانت �أ�صواتنا تتعاىل منتقد ًة حر�ص البع�ض على «عدد‬
‫اخلتمات» يف رم�ضان دون حماولة التدبر �أو التفكر‪.‬‬
‫للأ�سف‪ ،‬انتهى الأمر ب�أن خ�سرنا «قراءة اخلتمة»‪ ،‬ومل نربح التدبر‪.‬‬
‫هناك جيل جديد مل يعد يحر�ص على «ختمة رم�ضان»‪� ،‬أو �أي ختمة يف‬
‫�أي وقت‪.‬‬
‫هذا الكتاب حماولة لربح االثنني م ًعا‪.‬‬
‫***‬
‫املن�شورات يف «�صيغتها الأوىل» ُك ِت َبت حتت و�سم «القر�آن ‪ 360‬درجة»‪،‬‬
‫وهو العنوان الذي كنت �أق�صد عربه �أن تكون الر�ؤية املق َّدمة هي ر�ؤية‬
‫�شاملة لل�سورة عرب جتوال يف داخلها‪ ،‬كما لو كنت �أنظر لها عرب زاوية نظر‬
‫‪ 360‬درجة‪.‬‬
‫لكن مع الوقت‪َ ،‬ب َدا يل �أن ما �أفعله �أقرب �إىل �أن يكون ن�سخة �شخ�صية‬
‫منه �إىل �شمولية الر�ؤية لل�سور القر�آنية؛ لذا فقد ف�ضلت �أن يكون العنوان‬
‫خمتل ًفا؛ ليعرب �أكرث عن املحتوى‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫مقدمة‬

‫حدث تغيري على املن�شورات بطبيعة الأمر‪ ،‬وما ُن ِ�ش َر على الفي�سبوك‬
‫يومها لي�س ما ُي ْن َ�ش ُر يف هذا الكتاب بالظبط‪.‬‬
‫***‬
‫علي �أن �أ�سجلهما هنا‪:‬‬
‫مالحظتان َّ‬
‫الأوىل‪ :‬الكتاب ال يغطي كل ال�سور القر�آنية‪ ،‬بل يغطى الأجزاء الـ ‪27‬‬
‫الأوىل‪� ،‬أي بداية من �سورة الفاحتة �إىل نهاية �سورة احلديد‪.‬‬
‫ال�سبب يف ذلك �أن �أغلب ال�سور يف الأجزاء الثالثة الأخرية (وحتى بع�ض‬
‫ال�سور يف اجلزء ال�سابع والع�شرين) ذات طبيعة مكثفة يف املعاين؛ مما‬
‫يجعل التفاعل معها (بالن�سبة يل على الأقل) �أطول من �سواها‪ ،‬و�أخ�شى‬
‫�أن هذا �سيجعل حجم الكتاب �أكرب على نحو يعوق حتقيقه لهدفه‪ ،‬فقراءة‬
‫كتاب «كبري احلجم» �إىل جانب القر�آن �سيكون �أم ًرا م�ستبعدً ا بالن�سبة‬
‫لكثري من ال�شباب‪ ،‬بينما �سيكون الأمر ً‬
‫مقبول �أكرث �إذا َب َدا حجم الكتاب‬
‫ً‬
‫متو�سطا‪.‬‬
‫�أقول هذا و�آمل �أن تكون هناك فر�صة للعودة �إىل الأجزاء الثالثة‬
‫الأخرية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬حجم ال�سورة وم�ساحتها وعدد �آياتها ال ي�ؤثر بال�ضرورة على‬
‫حجم وم�ساحة التفاعل ال�شخ�صي معها؛ لذا رمبا يكون التفاعل املكتوب‬
‫مع �سورة متو�سطة احلجم �أو ق�صرية ن�سب ًّيا �أكرب حج ًما �أو م�ساو ًيا لتفاعل‬
‫مع �سورة من طوال ال�سور‪ ،‬وقد يعود هذا ب�شكل �أ�سا�سي �إىل طبيعة التفاعل‬
‫ال�شخ�صي التي تتفاوت بني مو�ضوع و�آخر‪ ،‬وبالتايل بني �سورة و�أخرى‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كاف من ال�سطور» للتفاعل مع �أي‬ ‫�شخ�ص ًّيا �أعرف �أن ال يوجد «عدد ٍ‬
‫�سورة من �سور القر�آن‪ ،‬من �أق�صر �سورة فيه �إىل �سورة البقرة؛ لذا ال يجب‬
‫و�ضع �أي اعتبار للعدد �أو احلجم هنا‪.‬‬
‫�أقدم عملي هذا و�أنا �أعرف �أن ال �شيء ميكن �أن يفي القر�آن حقه من‬
‫التفاعل‪ ،‬لكن هذا ما ا�ستطعته‪ ،‬فما كان فيه ح�سن فمن توفيق اهلل وف�ضله‪،‬‬
‫�أما التق�صري فهو من طبيعتي الب�شرية‪.‬‬
‫�أ�س�أله تعاىل �أن ي�صحح نيتي يف عملي هذا‪ ،‬و�أن يغفر يل ما فيه من‬
‫زلل‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫تعميم‬

‫كل �سور القر�آن حتتوي على ثالثة عنا�صر �أ�سا�سية يف ن�سيجها؛ مثل‬
‫احلجر والإ�سمنت واحلديد يف البناء‪ ،‬تتكامل مع بع�ضها لت�ش ِّكل «البناء» �أو‬
‫«الن�سيج» الذي �سي�ضم �أ�شيا ًء �أخرى الح ًقا‪.‬‬
‫هذه العنا�صر الثالثة ال تكاد تخلو �سورة يف القر�آن منها جمتمعة‪،‬‬
‫با�ستثناء القليل من ق�صار ال�سور التي قد تقت�صر على عن�صر واحد �أو‬
‫اثنني من هذه العنا�صر‪.‬‬
‫هذه العنا�صر الثالثة هي‪:‬‬
‫� ً‬
‫أول‪� :‬صفات اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وقدرته وخلقه لنا ولكل ما هو موجود‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬ر�سالته �إىل الب�شر عرب كتبه و�أنبيائه ور�سله‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬البعث بعد املوت‪ ،‬احل�ساب‪ ،‬اجلزاء‪ :‬الثواب والعقاب‪.‬‬
‫هذه العنا�صر مبثوثة يف كل �سور القر�آن على نح ٍو يجعلها جز ًءا من‬
‫ن�سيج القر�آن نف�سه‪ ،‬مثل جدران البيت �أو بابه �أو �سقفه‪ ،‬ال ميكن تخيل‬
‫بيت دون وجود هذه املكونات‪ ،‬كذلك هذه العنا�صر بالن�سبة للقر�آن‪ ،‬هناك‬
‫وع َب و�أمثال �أخالقية يف �سور القر�آن غري هذه العنا�صر‪،‬‬
‫بالت�أكيد مواعظ ِ‬
‫كذلك ال تتكون البيوت من �سقوف وجدران و�أبواب فح�سب‪ ،‬بل حتتاج بعد‬
‫البناء �إىل مكمالت �أخرى ليكون البيت ً‬
‫قابل للحياة فيه‪.‬‬
‫‪- 17 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫هذه العنا�صر الثالثة هي من بديهيات �أي م�سلم م�ؤمن‪ ،‬ولعل كونها‬


‫أ�سا�سا بكونها جز ًءا من الن�سيج القر�آين على هذا النحو‪.‬‬
‫بديهيات مرتبط � ً‬
‫بالن�سبة مل�سلم م�ؤمن بهذه البديهيات ف�إن تفاعله ال�شخ�صي مع القر�آن‬
‫�سيكون «مقادًا» بهذه البديهيات‪ ،‬ولكن تفاعله الأ�سا�سي �سيكون غال ًبا مع‬
‫غري هذه العنا�صر‪� ،‬أي مع خ�صائ�ص ميزت كل �سورة عن �سواها‪.‬‬
‫بعبارة �أخرى‪ ،‬هذه العنا�صر تكون مثل العوامل التي ت�ؤثر على حدوث‬
‫أ�سا�سا عن�ص ًرا من عنا�صر التفاعل‬
‫تفاعل ما �أو �سرعته دون �أن تكون � ً‬
‫(مثل احلرارة وال�ضغط)‪.‬‬
‫لذلك ف�إن التفاعل ال�شخ�صي مع هذه العنا�صر الثالثة لن يكون �شديد‬
‫الو�ضوح يف هذا الكتاب‪ ،‬رغم �أنها تقود التفاعل وت�ؤثر به وحتيط به من‬
‫كل اجلهات‪.‬‬
‫َمنْ لديه م�شكلة يف واحدة من هذه العنا�صر الثالثة لن ي�ستفيد كث ًريا‬
‫من هذا الكتاب‪ ،‬وعليه �أن يبحث عن حل مل�شكلته � ًأول يف كتاب �آخر‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫سورة الفاتحة ‪1‬‬
‫عين على العالم‬

‫بها ُي ْف ُ‬
‫تتح القر�آن‪.‬‬
‫وميكن لها �أن تفتح عينيك‪ ،‬تفتح قلبك‪ ،‬تفتح عقلك‪.‬‬
‫تفتحك نحو ر�ؤية خمتلفة للعامل‪.‬‬
‫الفاحتة مثل مقدمة �أو ا�ستهالل للقر�آن‪ ،‬كل ما تقر�أه يف القر�آن �سيمر‬
‫ً‬
‫من�ضبطا مبا‬ ‫حمكوما‬
‫ً‬ ‫� ًأول بهذه املقدمة‪ ،‬كل معنى ي�أتي يف القر�آن �سيكون‬
‫تقوله املقدمة‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬هذه املقدمة‪� ،‬ستكون رك ًنا من �أركان �صالتك‪ ،‬ال ت�صح‬
‫�صالة من دونها‪ ،‬وهذا يعني �أن كل م�سلم «ملتزم بفر�ض ال�صالة» «يقول»‬
‫الفاحتة «‪ »17‬مر ًة يف اليوم كحد �أدنى‪.‬‬
‫ماذا نقول يف الفاحتة؟ لقد تعودنا الأمر حتى �صرنا نقولها دون تفكري‬
‫فيما تعنيه‪.‬‬
‫لكن لو فتحنا �أعيننا عليها لر�أينا الكثري‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 19 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ثمة �إ�صرار على ر�ؤية الإيجابية‪.‬‬


‫الفاحتة تبد�أ باحلمد‪ ،‬احلمد هو فاحتة الفاحتة ومبتد�ؤها‪ ،‬واحلمد‬
‫هو الثناء هلل م�ستحق احلمد‪ ،‬وعندما تقول الثناء واحلمد له ‪ 17‬مرة يف‬
‫اليوم ‪ -‬كحد �أدنى ‪ -‬فهذا يعني �أنك متم�سك بالإيجابية‪ ،‬بالأمل‪ ،‬رغم �أن‬
‫كل �شيء قد يكون قا ًمتا يف منتهى ال�سوء‪ ،‬رغم �أنك قد ال ترى �أي �ضوء يف‬
‫الظالم املحيط بك‪ ،‬رغم �أن كل �شيء حولك قد ال ينذر �إال بال�سوء واملزيد‬
‫منه‪ ،‬و�أنت مدرك لذلك بكامل وعيك دون تخدير �أو تزييف‪ ،‬لكنك تقول‪:‬‬
‫«احلمد هلل»‪� ،‬إيجابية رغم الوعي بال�سلبيات‪.‬‬
‫جتد ما تثني عليه‪ ،‬جتد ما ي�ستحق احلمد عند م�ستحق احلمد‪ ،‬وت�ؤكد‬
‫على ذلك ‪ 17‬مرة يف اليوم يف عمود دينك‪ ،‬كما لو �أن هذا احلمد هو‬
‫عمودك اليومي الذي مينحك القوة والدعم يف رحلة �أهوالك كل يوم‪.‬‬
‫كل يوم‪ ،‬مهما كان و�ضعك �صع ًبا‪ ،‬ف�إنك تقف لت�شهر «احلمد» بوجه هذا‬
‫العامل وظروفه و�أو�ضاعه‪،‬‬
‫هذا احلمد مرتبط يف الفاحتة بثالث �صفات هلل عز وجل‪ ،‬من بني‬
‫كل �صفاته وقدراته ‪ -‬عز وجل ‪ -‬الفاحتة حتدد ثالث �صفات فقط‪ :‬رب‬
‫العاملني‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬مالك يوم الدين‪.‬‬
‫رب العاملني يعني �أنه رب اجلميع حرف ًّيا‪ ،‬رب الفقراء والأغنياء و� ً‬
‫أي�ضا‬
‫�أولئك الذين يف الو�سط‪ ،‬رب الأ�صحاء واملر�ضى‪ ،‬رب املتعلمني واجلهلة‪،‬‬
‫رب الن�ساء والرجال والأطفال وال�شيوخ‪ ،‬رب الناجحني والفا�شلني‪ ،‬رب‬
‫امل�شهورين واملغمورين‪ ،‬رب الب�شر من كل الأعراق والألوان‪ ،‬رب امل�ؤمنني‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫سورة الفاتحة‬

‫به ورب الذي ال ي�ؤمنون به على حد �سواء‪� ،‬أحيا ًنا ننحاز �إىل الوهم �أنه ربنا‬
‫ِّ ْ َ‬
‫رب ال َعال ِم َني{ ‪ 17‬مرة كل يوم‪.‬‬ ‫نحن فقط‪ ،‬لكن الفاحتة ت�ؤكد لنا �أنه }‬
‫ِيم{ (الفاحتة‪)3 :‬‬ ‫َّ ْ َ َّ‬
‫}الرح ِن الرح ِ‬

‫�صيغتان لو�صف رحمته عز وجل‪� ،‬سيكون هناك الكثري للتفريق بني‬


‫الكلمتني‪ ،‬لكن هذا الكثري �سيقول لنا‪� :‬إن رحمته تتخذ � ً‬
‫أ�شكال متعددة‬
‫�أكرث بكثري من حماوالتنا حل�صر رحمته التي كتبها على نف�سه‪ ،‬قد تعجز‬
‫�أحيا ًنا عن فهم هذه الرحمة‪ ،‬لكن عليك �أن متنح نف�سك وقتًا‪ ،‬و�ستفهم‬
‫ذلك الح ًقا‪� ،‬ستفهم �أنها كانت رحمة بطريقة ما‪ ،‬رحمة على املدى البعيد‬
‫ولي�س على ق�صر نظرنا الذي يجعل للرحمة ً‬
‫�شكل واحدً ا‪ ،‬علينا �أن ننظر‬
‫�إىل ال�صورة الكبرية �أحيا ًنا َ‬
‫لنفهم الرحمة‪ ،‬ال يكفي �أن ن�شاهد �أجزا ًء من‬
‫ال�صورة لنحكم عليها‪ ،‬علينا �أن نحاول قدر الإمكان م�شاهدة اجلزء الأكرب‬
‫منها‪.‬‬
‫ين{ (الفاحتة‪)4 :‬‬ ‫َ ْ ِّ‬ ‫َ‬
‫}مال ِِك يو ِم ادل ِ‬
‫يعني �أن املنتهى له‪ ،‬وهذا املنتهى يعني �أن كل �شيء له‪ ،‬وهو يعني � ً‬
‫أي�ضا‬
‫أي�ضا‪ ،‬وعدله يتحقق يف يوم‬‫�أنه لي�س رحما ًنا رحي ًما فح�سب‪ ،‬بل هو عادل � ً‬
‫الدين‪.‬‬
‫هو �إذن رب اجلميع‪ ،‬رحمن رحيم‪ ،‬وعادل � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫***‬
‫اك ن َ ْس َتع ُ‬
‫ني{ (الفاحتة‪)5 :‬‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ‬
‫}إِياك نعبد وإِي‬
‫ِ‬

‫كل ما نفعله يف حياتنا ميكن �أن يندرج يف هذين الأمرين‪ ،‬عبادتنا له‪،‬‬
‫وا�ستعانتنا به‪.‬‬
‫‪- 21 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫العبادة واال�ستعانة قطبان كقطبي املغناطي�س‪ ،‬وبينهما جمال فاعليتنا‬


‫يف الدنيا وجناتنا يف الآخرة‪ ،‬كل قطب يحتاج الآخر‪ ،‬دون اال�ستعانة (والتي‬
‫تعني �أن لديك ما تفعله � ً‬
‫أ�صل يف حياتك وتطلب العون منه فيه)‪ ،‬دون وجود‬
‫هذه اال�ستعانة‪� ،‬ستكون عبادتك منزوعة الهدف والفاعلية‪.‬‬
‫ودون وجود العبادة‪ ،‬لن تكون ا�ستعانتك حقيقية‪ ،‬االثنان م ًعا‪ ،‬قطبان‬
‫يتحدان فيو ِّلدان احلركة‪.‬‬
‫�أول «ا�ستعانة» نطلبها منه ت�أتي �سري ًعا يف «الفاحتة»‪ ،‬هي الطلب منه‬
‫�أن «يهدينا ال�صراط امل�ستقيم»‪ ،‬وهذا الطلب يعني �ضم ًنا �أنك ترغب يف‬
‫معرفة هذا ال�صراط‪ ،‬يف كل خطوة يف حياتك‪ ،‬يف كل مفرتق طرق هناك‬
‫خيار‪ ،‬و�أنت تطلب منه ‪ -‬عز وجل‪� -‬أن ير�شدك للطريق ال�صواب‪ ،‬وهذا‬
‫يعني � ً‬
‫أي�ضا �أن الطريق ال�صواب‪ ،‬ال�صراط امل�ستقيم‪ ،‬لي�س حمتك ًرا عندك‬
‫كما يتوهم البع�ض‪ ،‬بل �أنت تطلبه ‪ 17‬مرة يف اليوم كحد �أدنى‪.‬‬
‫دوما‬
‫أي�ضا تعرف �أن هناك َمنْ �أخط�أ الطريق قبلك‪ ،‬لكن اخلط�أ ً‬ ‫و�أنت � ً‬
‫يكون من طريقني‪ :‬الأول هناك َمنْ �أخط�أ عامدً ا متعمدً ا‪ ،‬مع �سبق الإ�صرار‬
‫والرت�صد؛ املغ�ضوب عليهم‪ ،‬وهناك طريق �آخر للخط�أ غري العامد‪ ،‬ح�صل‬
‫ولكنه مل يحدث بنية م�سبقة؛ ال�ضالني‪.‬‬
‫و�أنت ت�ؤمن ب�إمكانية وجود طريق ثالث غري هذين الطريقني‪ ،‬طريق‬
‫الذين �أنعمت عليهم بنعمة املراجعة والتقييم يف كل خطوة على الطريق‪،‬‬
‫‪ 17‬مرة يف اليوم‪.‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫سورة الفاتحة‬

‫الفاحتة‪ ،‬فتح كل يوم‪ ،‬ت�ساعدك يف حتقيق فتحك الأكرب‪ ،‬تفتح قلبك‬


‫وعقلك وذاتك وعينك لت�ساهم يف عامل �أف�ضل‪ ،‬ولو كان هذا العامل هو‬
‫عاملك املحيط بك فقط‪.‬‬
‫�أو على الأقل لتكون �أكرث وع ًيا به‪.‬‬
‫الفاحتة‪ ،‬فتحك اليومي‪ 17 ،‬مرة كحد �أدنى(((‪.‬‬

‫((( للمزيد ‪ :‬الجزء الثالث من سلسلة كيمياء الصالة للمؤلف‪ ،‬بعنوان‪ :‬عامل جديد ممكن‪.‬‬
‫‪- 23 -‬‬
‫سورة البقرة ‪ ،2‬الجزء األول‬
‫الصراع المرير مع األمر الواقع المر‬

‫�سورة البقرة هي �سورة «ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر»‪� ،‬سورة‬


‫مواجهة حقائق الأ�شياء مهما كانت مريرة وم�ؤملة وجارحة‪ ،‬موقعها يف بداية‬ ‫َ‬
‫القر�آن الكرمي يجعلك مبا�شر ًة يف مواجهة مع حقائق الأ�شياء هذه كلما‬
‫فتحت القر�آن لتقر�أ فيه‪ ،‬ال �شيء يزيف �صعوبة الواقع و ُي َج ِّمله‪ ،‬وال �شيء‬
‫َ‬
‫يقول لك‪� :‬إن الأمر ا�ستثنائي و�إنك تعي�ش يف مرحلة �سيئة بتف ُّرد ويجعلك‬
‫حتنُّ لزمان �آخر‪ ،‬ال‪ ،‬هذه هي احلياة بكل روعتها وب�شاعتها‪ ،‬وه�ؤالء هم‬
‫أي�ضا‪ ،‬بكل �سموك الذي تركز‬ ‫الب�شر بكل �سموهم و�سقوطهم‪ ،‬وهذا �أنت � ً‬
‫عليه وكل �سقوطك الذي تتجاهله‪ ،‬هذه هي احلياة وهذا هو الأمر الواقع‪،‬‬
‫لديك خياران‪ :‬الأول �أن تتعامل مع هذا الواقع‪ ،‬والثاين �أن تتجاهله‪ ،‬و�أنت‬
‫َمنْ يقرر‪.‬‬
‫�سورة البقرة مثل ن�شرة �أنباء مليئة ب�أخبار الكوارث الطبيعية وغري‬
‫الطبيعية؛ ظلم وا�ستبداد واغت�صاب وقتل و�سفك للدماء‪ ،‬ن�شرة الأنباء‬
‫هذه كانت على مدار تاريخ الب�شرية كله‪� ،‬أغلب فرتات التاريخ كان فيها من‬
‫دوما هناك‬
‫خا�صا بع�صرنا وال ع�صر نزول ال�سورة‪ً ،‬‬ ‫هذا الكثري‪ ،‬لي�س الأمر ًّ‬
‫ودوما هناك «بنو �إ�سرائيل»‬ ‫فرعون ما ب�أ�سماء خمتلفة و�أ�شكال خمتلفة‪ً ،‬‬
‫ودوما هناك حماوالت �إ�صالح من ِق َب ِل البع�ض‪.،‬‬ ‫أي�ضا ب�أ�سماء خمتلفة‪ً ،‬‬ ‫� ً‬
‫‪- 24 -‬‬
‫سورة البقرة ‪1‬‬

‫ودوما هناك من ي َّدعي �أنه‬


‫ودوما هناك حماوالت ملحاربة هذا الإ�صالح‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫ُي ْ�ص ِل ُح بينما هو يف�سد يف احلقيقة‪.‬‬
‫ما قد يثري ا�ستغرابك يف ن�شرة الأنباء هذه �أنها تبد�أ بخرب عن نفو�س ‬
‫النا�س‪ ،‬النفو�س التي �آمنت والنفو�س الأخرى‪ ،‬نفو�س اخلتم على القلب‬
‫وال�سمع والب�صر‪ ،‬اخلرب الأول �س ُي ْف ِر ُد الكثري عن هذا‪ ،‬عن املف�سدين الذين‬
‫ي َّدعون الإ�صالح‪ ،‬عن الذين ي�ستهزئون ويخادعون‪ ،‬عن �أولئك الذين‬
‫يتبعون كل �ضوء المع مير ولو للحظات دون بو�صلة �أو خطة‪.‬‬
‫ال ْو ِم ْالخِر َو َما ُه ْم ب ُم ْؤمن َ‬
‫آم َّنا باهلل َوب ْ َ‬
‫َ ْ َُ ُ َ‬
‫ني ‪‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس من يقول‬ ‫} َوم َِن انلَّ ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫ِين آمنوا َوما يدعون إِل أنفسه ْم َوما يشع ُرون ‪ِ ‬ف قلوب ِ ِه ْم‬ ‫يادِعون اهلل وال‬
‫َ َ َُ َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫َ ً َُ َ َ ٌ َ‬ ‫َ ٌ َ َ ُ‬
‫م َرض ف َزاده ُم اهلل م َرضا َوله ْم عذاب أ ِل ٌم بِما كنوا يكذِبون ‪َ ‬وإِذا قِيل له ْم ل‬
‫َ َ َّ ُ ْ ُ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ َ‬ ‫ُت ْفس ُدوا ف ْالَ ْ‬
‫كن‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫‪‬‬ ‫ون‬ ‫ِح‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫وا‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ ُُ َ‬
‫ل يشعرون{ (ابلقرة ‪)12 :8‬‬

‫ملاذا خرب الأنف�س هذا مق َّدم على كل الأخبار الأخرى‪ :‬فرعون وظلمه‬
‫وما يفعل بالنا�س‪ ،‬يف ن�شرات الأخبار العادية الت�سل�سل معكو�س‪ ،‬البداية‬
‫تكون ب�أخبار الكوارث‪ ،‬ثم ي�أتي احلديث عن خرب الأنف�س يف نهاية الن�شرة‪.‬‬
‫لكن لي�س مع �سورة البقرة‪ ،‬ملاذا؟‬
‫بب�ساطة لأن اخلرب الأول �أهم‪ ،‬اخلرب الأول هو الذي يحدد كيف‬
‫�ستت�صرف وتتعامل مع كل ما يلي من �أخبار‪ ،‬اخلرب الأول هو الذي يقول‪:‬‬
‫�إن كنت �ستكون فرعونَ بطريقة ما‪ ،‬فرعونَ يف بيتك مع َمنْ حولك �أو يف‬
‫عملك‪� ،‬أو عو ًنا له‪� ،‬أو �أنك �ستكون يف اجلهة املقابلة‪.‬‬
‫‪- 25 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سرتى �صو ًرا لأ�شخا�ص كثريين يف ال�سورة‪� ،‬أ�شخا�ص عرفتهم وخربت‬


‫بخ�س‪،‬‬
‫أ�شخا�صا يبيعون كالم اهلل بثمن ٍ‬ ‫ً‬ ‫طباعهم‪� ،‬سرتى يف �سورة البقرة �‬
‫تراهم كث ًريا للأ�سف يف الواقع‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ِّ ً َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫كونُوا أ َّو َل َكف ِر ب ِه َو َل ت َ ْش َ ُ‬
‫توا‬ ‫}وآمِنوا بِما أنزلت مصدقا ل ِما معكم ول ت‬
‫ٍ ِ‬
‫َ َ َ ً َ ً َ َّ َ َ َّ ُ‬
‫ون{ (‪hgfr‬ابلقرة‪.)41 :‬‬
‫بِآي ِات ثمنا قلِيل وإِياي فاتق ِ‬
‫َ َ ْ ٌ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ ْ ُ َّ َ ُ ُ َ‬
‫ون َه َذا م ِْن ع ِْن ِد اهلل ل ِيَ ْش َ ُ‬
‫توا‬ ‫}فويل ل ِلِين يكتبون الكِتاب بِأيد ِ‬
‫ِيهم ثم يقول‬
‫َ َ ً َ ً َ َ ْ ٌ َ ُ ْ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ ْ ٌ َ ُ ْ َّ َ ْ ُ َ‬
‫ِيهم وويل لهم مِما يك ِسبون{ (ابلقرة‪.)79 :‬‬ ‫ب ِ ِه ثمنا قلِيل فويل لهم مِما كتبت أيد ِ‬
‫�سرتى ظل ًما وا�ستبدادًا‪ ،‬و�سرتى املظلومني ي�صبحون ظاملني � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫�أحيا ًنا بنف�س دور الظامل الذي ظلمهم‪ ،‬و�أحيا ًنا ب�أنواع �أخرى من الظلم‪،‬‬
‫فالظلم �أنواع‪.‬‬
‫ُ َ ِّ ُ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫ْ َْ َ َُ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ‬ ‫َ ْ َ َّ ْ َ ُ ْ ْ‬
‫اءك ْم‬ ‫اب يذبون أبن‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫وء‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ون‬‫وم‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ع‬‫ِر‬ ‫ف‬ ‫آل‬
‫ِ‬ ‫ِن‬ ‫}وإِذ نيناكم م‬
‫ْ‬
‫ُ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ ٌ ْ َ ِّ ُ‬
‫ك ْم َعظ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ ْ ُ َ َ َ ُ‬
‫الح َر‬ ‫يم ‪َ ‬وإِذ ف َرقنا بِكم‬ ‫ِ‬ ‫اءك ْم َو ِف ذل ِكم بلء مِن رب‬ ‫ويستحيون ن ِس‬
‫َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َْ َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َْ ُ َ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫فأنَيناك ْم َوأغ َرقنا آل ف ِْرع ْون َوأنت ْم تنظ ُرون ‪ ‬وإِذ واعدنا موس أرب ِعني للة‬
‫ُ َّ َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ون{ (‪hgfr‬ابلقرة ‪.)51 :49‬‬ ‫ثم اتذتم ال ِعجل مِن بع ِده ِ وأنتم ظال ِم‬

‫�سرتى ال�شراهة والطمع وكفر النعمة‪.‬‬


‫َ ْ ُ َ َّ َ ُ ْ ْ َ َّ ُ ْ ُ‬ ‫َ ْ ُُْْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ََ َ َ‬
‫ب ع طعامٍ َواح ٍِد فادع لَا َربك ي ِرج لَا مِما تنبِت‬ ‫}وإِذ قلتم يا موس لن نص ِ‬
‫ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫الرض مِن بقلِها وق ِثائ ِها وفومِها وعد ِسها وبصلِها{‪.‬‬
‫و�سرتى القلوب القا�سية �أ�شد ق�سو ًة من احلجارة‪ ،‬ر�أيتها يف الواقع‬
‫كث ًريا‪� ،‬أو على الأقل �سمعت عنها‪ ،‬ثم و�صفتها لك �سورة البقرة‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫سورة البقرة ‪1‬‬

‫ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ ْ ً َّ‬
‫ارة ِ أ ْو أشد قس َوة َوإِن م َِن‬ ‫}ثم قست قلوبكم مِن بع ِد ذل ِك ف ِه كل ِج‬
‫ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ََ‬
‫ال ِجارة ِ لما يتفجر مِنه النهار وإِن مِنها لما يشقق فيخرج مِنه الماء وإِن مِنها لما‬
‫َ َّ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ ْ َ ْ َ‬
‫يهبِط مِن خشي ِة اهلل َوما اهلل بِغاف ٍِل عما تعملون{‪hgfr( .‬ابلقرة‪)74 :‬‬

‫و�سرتى من يقول لن يدخل اجلنة �سوانا‪ ،‬احتكرها ملن ي�شبهه ويوافقه‪.‬‬


‫ْ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ ُ‬ ‫ودا َأ ْو نَ َص َ‬
‫َ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ ُ ً‬
‫ارى ت ِلك أمانِيه ْم قل هاتوا‬ ‫}وقالوا لن يدخل النة إِل من كن ه‬
‫ك ْم إ ْن ُك ْن ُت ْم َصادق َ‬
‫ِني{ (‪hgfr‬ابلقرة‪)111 :‬‬
‫ُْ َ َ ُ‬
‫برهان‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وت�ستغرب من ت�شابه املنطق مع من تراهم حولك وينادون بنف�س الأفكار‬
‫و�إن كانت مع �أ�سماء �أخرى‪ ،‬هل هو التاريخ يكرر نف�سه؟ �أم هي الطبيعة‬
‫الب�شرية تقع يف نف�س الأخطاء مرة بعد �أخرى؟‬
‫ُ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َّ ُ َ‬
‫ارى حت تتبِع مِلته ْم قل إِن هدى اهلل ه َو‬ ‫}وَلن ترض عنك الهود ول انلص‬
‫ْ َ ٍّ َ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ‬ ‫ْ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َّ‬
‫اءه ْم بعد الِي جاءك مِن ال ِعل ِم ما لك مِن اهلل مِن و ِل ول‬
‫َ‬ ‫ئ اتبعت أهو‬ ‫الهدى ول ِ ِ‬
‫َ‬
‫ري{ (‪hgfr‬ابلقرة‪)120 :‬‬ ‫ن ٍ‬
‫ص‬‫ِ‬

‫ت�أخذنا ال�سورة � ً‬
‫أي�ضا �إىل خرب �آخر من الأنف�س‪ :‬كل فئة لن تر�ضى عنك‬
‫متاما‪ ،‬تندمج بهم دون حدود يف الهوية متيزك‬
‫�إال �إذا �أ�صبحت تاب ًعا لهم ً‬
‫أ�سا�سا؟ ال تريد ر�ضاهم‪ ،‬تريد ر�ضا‬
‫وحتمي متيزك‪ ،‬لكن هل ر�ضاهم مهم � ً‬
‫ربهم وربك ورب اجلميع‪ ،‬وكل ما تطمح منهم هو �أن يتقبلوك فح�سب‪ ،‬ال ‬
‫�أن ير�ضوا عنك‪.‬‬
‫***‬
‫أي�ضا � َّأل تفرح كث ًريا بقائمة عيوب بني �إ�سرائيل‬
‫تذكرك �سورة البقرة � ً‬
‫�أو �سواهم‪ ،‬ميكن �أن ما ر�أيته فيهم ينطبق عليك دون �أن تنتبه‪ ،‬رمبا �أنت‪.‬‬
‫‪- 27 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫من تخطر يف ذهن �أحدهم عندما يقر�أ �سورة البقرة‪ ،‬انتبه لذلك‪ ،‬انظر‬
‫لعيوبك قبل عيوب الآخرين‪ ،‬عيوب الآخرين هم �أَ ْو َل ب�إ�صالحها‪� ،‬أما‬
‫عيوبك فهي يف متناول يدك‪� ،‬أم �أنها �أ�صعب من �أن تكون كذلك؟‬
‫مع كل ذكر لبني �إ�سرائيل‪ ،‬ال�سورة ال تتحدث لك عنهم ملجرد احلديث‬
‫التاريخي عنهم‪ ،‬بل لأنهم النموذج الذي ميكن �أن ننزلق جمي ًعا �إىل تكرار‬
‫فعل‪ ،‬من‬‫قليل فينا؛ لوجدنا �أن ذلك حدث ويحدث ً‬ ‫�أخطائهم‪ ،‬ولو دققنا ً‬
‫ال ِع ْجل الذي �أُ ْ�ش ِر َب يف قلوب البع�ض ‪-‬كما �أُ ْ�ش ِر َب ْت �أ�شيا ٌء �أخرى‪� -‬إىل ر�ؤية‬
‫مبعان و�أ�سماء خمتلفة‪ ،‬حتى التيه الذي دخله بنو‬ ‫اهلل جهر ًة‪ ،‬كل ذلك ٍ‬
‫�إ�سرائيل‪ ،‬يبدو �أننا قد دخلنا يف تيه مماثل‪� ،‬أو �أن بع�ضنا على الأقل قد‬
‫فعل‪.‬‬
‫***‬
‫َ َ ً َ ُ َ ََْ ُ َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ‬
‫} َوإِذ قال َربك ل ِلملئ ِك ِة إِن جاعِل ِف ال ْر ِض خلِيفة قالوا أتعل فِيها من‬
‫ُ ْ ُ َ َ َ ْ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ‬
‫اء َون ُن نسبح ِبَمدِك َونقدس لك قال إِن أعل ُم ما ل‬ ‫يف ِسد فِيها ويس ِفك ادلم‬
‫َْ َُ َ‬
‫ون{ (ابلقرة‪.)30 :‬‬ ‫تعلم‬

‫ت�أخذك ال�سورة �إىل �أ�صل احلكاية وبدايتها‪� ،‬سرتى �آدم وهو يت�سلم‬
‫من�صب اال�ستخالف واملالئكة تت�ساءل عن �أهليته للمن�صب‪ ،‬وتل ِّمح �إىل‬
‫�إمكانية �أن ي�سفك الدم‪ ،‬و�ستتذكر �أن احلياة الإن�سانية يف �أحيان كثرية‬
‫قدمت معطيات قد تبدو �أنها ل�صالح املالئكة يف ت�سا�ؤلهم هذا‪ ،‬يكاد‬
‫«الواقع املعا�صر» يكون م�صدا ًقا ملا قالته املالئكة‪� ،‬أو على الأقل هذا ما‬
‫يبدو لنا الآن‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫سورة البقرة ‪1‬‬

‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َْ‬‫َ‬


‫آد َم م ِْن ق ْب ُل فنَ ِ َ‬
‫س َول ْم ِن ْد لُ َع ْز ًما{ (ابلقرة‪.)115 :‬‬ ‫َ‬
‫} َولقد ع ِهدنا إِل‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ُ ْ َ َ ُّ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َّ ُ َ َ‬
‫} َوعص آدم َربه فغ َوى ‪ ‬ث َّم اجتباهُ َربه فتاب علي ِه َوهدى ‪ ‬قال اهبِطا‬
‫َ ُ ٌّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ ِّ ُ ً َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ ً َْ ُ ُ‬
‫اي فل‬ ‫مِنها جِيعا بعضك ْم ِ َلع ٍض عدو فإِما يأت ِينكم مِن هدى فم ِن اتبع هد‬
‫َ‬
‫يَ ِض ُّل َول ي َ ْش َق {(البقرة ‪.)123 :121‬‬
‫�سرتى �آدم ِيز ُّل‪ ،‬ومن ثم يتوب‪ ،‬ويهبط �إىل الأمر الواقع‪ ،‬و�سرتى �أبناءه‬
‫بع�ضهم لبع�ض عدو حتى ال�ساعة‪ ،‬و�سرتى نف�سك يف زلة �أبيك �آدم‪� ،‬أنت‬
‫وهبطت مما يجب �أن تكون عليه �إىل واقعك الذي‬ ‫َّ‬ ‫زللت و�أخط�أتَ‬
‫�أي�ضا َ‬
‫تبت؟‬
‫تعلمه جيدً ا‪ ،‬فهل َ‬
‫ق�صة �سيدنا �آدم هي ق�صتنا جمي ًعا‪ ،‬نحملها معنا �أينما كنا‪� ،‬إنها حكاي ُة‬
‫كل يوم التي تتكرر ب�أ�شكال خمتلفة‪ ،‬املهم يف الأمر هو كيف تنتهي هذه‬
‫احلكاية‪.‬‬
‫***‬
‫َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ُ َ َ َّ ُ َ ُ ُ ً َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َ‬
‫} َوإِذ قال موس ل ِق ْو ِم ِه إِن اهلل يأمركم أن تذبوا بقرة قالوا أتتخِذنا هزوا قال‬
‫الاهل َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ ْ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ِني{ (ابلقرة‪)67 :‬‬ ‫أعوذ بِاهلل أن أكون مِن َ ِ‬

‫�ستلفت نظرك «البقرة» هنا‪ ،‬ما الذي جاء بها �إىل هنا؟ وملاذا هي‬
‫مهمة لهذه الدرجة بحيث �إن ال�سورة �أخذت ا�سمها؟ �ستت�أمل يف احلكاية‪،‬‬
‫اهلل ي�أمر بذبح بقرة‪� ،‬أمر ب�سيط وا�ضح‪ ،‬ولكن تنهال الأ�سئلة‪ :‬لونها وزنها‬
‫ُّ‬
‫تعك�س التنطع‬ ‫عمرها‪� ،‬إلخ‪� ،‬أ�سئلة ال عالقة لها باملق�صد من الذبح‪ ،‬ولكنها‬
‫والتكلُّف يف تنفيذ الأوامر ال�شرعية‪.‬‬
‫�أال يذكرنا هذا ب�شيء؟ هل ميكن � َّأل يذكرنا هذا ب�شيء؟‬
‫‪- 29 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫للأ�سف‪ ،‬البقرة اليوم موجودة مع كل �أمر �شرعي‪ ،‬هناك عند كل �أمر‬


‫�شرعي من يتعامل معه كما تعامل بنو �إ�سرائيل مع البقرة وي�سطر فيه‬
‫الكتب ويبني عليه الفتاوى واخلالفات واالختالفات‪ ،‬ا�سم ال�سورة يذكرنا‬
‫بالرتكيز على مقا�صد العبادات‪ ،‬يحذرنا من مغبة التكلف والتنطع بها‪،‬‬
‫ونحن �سقطنا يف نف�س الفخ بال�ضبط‪ ،‬كما لو �أن ال�سورة تو�صينا بذلك!‬
‫***‬
‫عموما‪.‬‬
‫و�ستذكرك «البقرة» هنا مب�شكلتنا يف التعامل مع «الت�ضحية» ً‬
‫خ�صو�صا على ت�ضحيته هو ‪� -‬أكرث من‬‫ً‬ ‫البع�ض يركز على «الت�ضحية» ‪-‬‬
‫تركيزه على نتائج هذه الت�ضحية‪.‬‬
‫البع�ض يتعامل مع «ت�ضحيته» كما لو كانت ُم ْن َجزًا عليه �أن يذكره يف‬
‫�سريته ال�شخ�صية حتى لو مل يحقق �شي ًئا من هذه الت�ضحية‪.‬‬
‫بدل من �أن تكون و�سيلة �إىل الهدف‪.‬‬ ‫�أ�صبحت الت�ضحية هد ًفا‪ً ،‬‬
‫و�سورة البقرة حتذرنا من هذه التجارة؛ لأن نتائجها �سيئة‪.‬‬
‫***‬
‫ْ َ ُ َّ َ َ َ َّ ْ َّ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َْ َ ُ َْ ُ َْ َ َ َ َْْ‬
‫ت َوإِسماعِيل َربنا تقبل مِنا إِنك أنت‬ ‫الي ِ‬ ‫}وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد مِن‬
‫َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ِّ َّ َ ُ َّ ً ُ ْ َ ً َ َ َ َ َ‬ ‫َّ ُ ْ َ ُ‬
‫ي لك ومِن ذريتِنا أمة مسلِمة لك وأرِنا‬ ‫الس ِميع العلِيم ‪ ‬ربنا واجعلنا مسلِم ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َّ َّ ُ‬
‫اب َّ‬
‫ِيم{ (ابلقرة ‪)128 :127‬‬ ‫منا ِسكنا وتب علينا إِنك أنت اتلو‬

‫وكما �أخذتنا ال�سورة �إىل �أبينا �آدم وزلته‪ ،‬ت�أخذنا � ً‬


‫أي�ضا �إىل �أبينا‬
‫�إبراهيم وهو يبني البيت‪ ،‬كما لو �أنها تقول‪� :‬إن �إ�صالح اخلط�أ وال�صراع‬
‫مع الأمر الواقع يكون بالبناء على قواعد �صحيحة وثابتة‪.‬‬
‫‪- 30 -‬‬
‫سورة البقرة ‪1‬‬

‫و�سرتى �أن م�شهد رفع البناء ُي ْع َر�ض ب�صيغة الفعل امل�ضارع (‪ ...‬يرفع)‪،‬‬
‫كما لو �أنه يفتح الباب لت�شا ُرك �إبراهيم وابنه يف رفع البنيان‪.‬‬
‫و�سيتدخل ارتفاع القواعد مع دعاء �إبراهيم لذريته‪ ،‬العائلة هي ما‬
‫يجب �أن ُي ْح َمى بالبنيان‪ ،‬هذا هو جوهر االرتفاع احلقيقي‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫سورة البقرة ‪ - 2‬الجزء الثاني‬
‫ًّ‬
‫مستمرا‬ ‫الصراع المرير مع الواقع المر ال يزال‬

‫ي�ستمر ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر‪ ،‬ولكن توا�صل �سورة البقرة‬
‫منحنا �إ�شارات ت�ساعدنا يف هذا ال�صراع‪ ،‬تقول لنا‪� :‬إن هذا جزء من‬
‫طبيعة احلياة نف�سها‪ ،‬و�إن �صعوبة هذا ال�صراع جزء من االمتحان الذي‬
‫علينا اجتيازه يف احلياة الدنيا‪.‬‬
‫َّ َ َ َ ُ ِّ َّ َ ْ َ ً َ َ َ َ ِّ ْ َ َ َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫َْ َ‬
‫}قد ن َرى تقل َب َوج ِهك ِف السماءِ فلن َو َلنك ق ِبلة ت ْرضاها ف َول َوجهك شط َر‬
‫ْ َ َ ِ َ َ ْ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُّ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ َ ُ ُ ْ َ َ‬ ‫َْ ْ‬
‫ِين أوتوا الكِتاب‬ ‫ج ِد الرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإِن ال‬ ‫الم ِ‬
‫س‬
‫َ َّ َ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُّ ْ َ ِّ ْ َ َ‬
‫ون{ (ابلقرة‪)144 :‬‬
‫لعلمون أنه الق مِن رب ِهم وما اهلل بِغاف ٍِل عما يعمل َ‬
‫ت�أخذك ال�سورة من حريتك و�إرهاقك يف �صراعك �إىل وجهه ال�شريف‬
‫‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬وهو يتقلب يف ال�سماء بح ًثا عن « ِق ْب َل ٍة» يتوجه‬
‫قليل‪ ،‬يذكرك الأمر ب�شكل ما‬ ‫لها‪ ،‬كما لو �أنها تخفف من عناء �صراعك ً‬
‫بكل احلرية التي مررتَ �أو متر بها‪ ،‬بل يذكرك بحرية اجليل كله وهو مير‬
‫مبنعطفات تاريخية دون �أن يجد « ِق ْب َل ًة ير�ضاها»‪.‬‬
‫كم من �أنا�س �ضاعوا و�أ�ضاعوا لأنهم مل يجدوا قبل ًة‪ ،‬هد ًفا‪ ،‬اجتاهً ا‬
‫ميكن لبو�صلتهم �أن ت�ساعدهم يف الو�صول �إليه‪ ،‬وتذكرنا الآيات ب�أننا يف‬
‫كل مفرتق نحتار فيه؛ علينا �أن نتجه �إىل ذات القبلة‪� ،‬إىل ذلك البيت‬
‫الإبراهيمي الذي ر�أينا رفع قواعده قبل قليل يف نف�س ال�سورة‪ ،‬والذي كانت‬
‫ال�صيغة امل�ضارعة تدعونا للم�شاركة يف البناء‪.‬‬
‫‪- 32 -‬‬
‫سورة البقرة ‪2‬‬

‫تذكرنا هذه الآيات ب�ضرورة �أن ُن ِع َيد �ضبط بو�صلتنا بني احلني والآخر‬
‫لتعود �إىل «�إعدادات امل�صنع» الأولية والأ�سا�سية؛ لنزيل ما ترا َك َم عليها من‬
‫�صد�أ وغبار‪.‬‬
‫***‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ِّ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫ِين مِن قبلِك ْم‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم الصيام كما كتِب ع ال‬
‫َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ‬
‫لعلك ْم تتقون{ (ابلقرة‪)183 :‬‬
‫َّ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ‬ ‫ْ َ ُّ َ ْ ُ ٌ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ‬
‫جدال‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫وق‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ث‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِيه‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫}الج أشهر معلومات فمن فر‬
‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ َّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ َّ َ َْ‬ ‫ْ َْ َْ َُْ‬ ‫ْ َ ِّ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫ون يا‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ات‬ ‫و‬ ‫ى‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫اتل‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫الز‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫وا‬ ‫د‬‫و‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫اهلل‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ٍ‬ ‫خ‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫وا‬ ‫ِف الج وما تفعل‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اب{ (ابلقرة‪.)197 :‬‬ ‫أول ْال ْ َ‬
‫ل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ َ َّ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َْ‬
‫اليت أ ِو اعتمر فل جناح علي ِه أن‬ ‫الص َفا َوال ْ َم ْر َو َة م ِْن َش َعائ ِر اهلل فمن حج َ‬ ‫َّ َّ‬
‫}إِن‬
‫ِ‬
‫يا فإ َّن اهلل َشاك ٌِر َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ع َخ ْ ً‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َّ َ‬ ‫َ َّ َّ َ‬
‫ِيم {(ابلقرة‪.)158 :‬‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ه‬
‫يطو ِ ِ‬
‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ُ‬
‫وموا هلل قانِتِ َني{(ابلقرة‪.)238 :‬‬ ‫ات والصلة ِ الوسطى وق‬ ‫}حاف ِظوا ع الصلو ِ‬
‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ َّ‬ ‫َّ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ‬
‫ي اهلل فم ِن‬ ‫ِ‬ ‫ِغ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫}إِنما حرم عليكم الميتة وادلم ولم ال ِ ِ‬
‫ير‬ ‫ِن‬
‫ور َرح ٌِيم{ (ابلقرة‪.)173 :‬‬ ‫اغ َو َل َعد َف َل إ ْث َم َعلَ ْيه إ َّن اهلل َغ ُف ٌ‬ ‫ْ ُ َّ َ ْ َ َ‬
‫يب ٍ‬ ‫اضطر غ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َُُْ‬ ‫َ ْ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ‬ ‫ُْ‬ ‫َْ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫َْ َُ َ َ َ‬
‫اس َوإِثمهما‬ ‫ري َومناف ِع ل ِلن ِ‬ ‫ِيهما إِثم ك ِب‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ال‬‫و‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫}يسألونك ِ‬
‫ع‬
‫َ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ُِّ‬
‫ات‬‫أكب مِن نف ِع ِهما ويسألونك ماذا ين ِفقون ق ِل العفو كذل ِك يبي اهلل لكم الي ِ‬
‫َ َ َّ ُ َ َ َ َّ َ‬
‫لعلك ْم تتفك ُرون{ (ابلقرة‪)219 :‬‬

‫أي�ضا �سرنى �شي ًئا‬


‫�سرنى يف نف�س ال�سورة الأمر بال�صيام وتعليماته‪ ،‬و� ً‬
‫من �شعائر احلج‪ ،‬ومن �إقامة ال�صالة‪ ،‬ومن �أوامر نعي وا�ضحة حمددة‪،‬‬
‫فيذكرنا كل ذلك ببقرة بني �إ�سرائيل وما فعلوه معها من ُّ‬
‫تنطع وتكلُّف‪.‬‬
‫‪- 33 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يف الأ�سئلة‪ ،‬وتف َّك ْر‪ :‬البع�ض منا فعل ال�شيء ذاته مع كل هذه ال�شعائر؛ يف‬
‫ال�صالة‪ ،‬يف ال�صيام‪ ،‬يف احلج‪ ،‬يف كل ركن من �أركان الإ�سالم‪ ،‬بل يف كل‬
‫�أمر �شرعي‪ ،‬هناك من يقف نف�س موقف بني �إ�سرائيل من البقرة‪ ،‬وال�سورة‬
‫تذكرنا‪� :‬إياك �أن تغرق يف التفا�صيل بحيث تن�سى الهدف واملق�صد من‬
‫الأمر ال�شرعي‪.‬‬
‫وكث ًريا ما يحدث مع الأ�سف‪.‬‬
‫***‬
‫َُْْ‬ ‫ال ُّر ب ْ ُ‬ ‫اص ف الْ َق ْت َل ْ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ُ‬
‫ال ِّر َوالعبد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم ال ِقص‬
‫َ َ َ ٌ َْ‬ ‫َ ْ ٌ َ ِّ َ ٌ ْ َ ُْ‬ ‫ْ َْ َ ْ ُْ َ ْ ُْ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ‬
‫وف وأداء إِل ِه‬ ‫ف لُ مِن أخِي ِه شء فاتباع بِالمعر ِ‬ ‫بِالعب ِد والنث بِالنث فمن ع ِ َ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِّ ُ‬ ‫َ َ َْ ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫ان ذل ِك ت ِفيف مِن َربكم َو َرحة فم ِن اعتدى بعد ذل ِك فله عذاب أ ِل ٌم‬ ‫بِإِحس ٍ‬
‫َ َْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫ََ ٌ َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫اب لعلك ْم تتقون ‪ ‬كتِ َب عليك ْم‬ ‫كْ‬
‫ِ‬ ‫ول الل‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫اة‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫اص‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫‪ ‬ول‬
‫َ ًّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ ً ْ َ َّ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ‬
‫وف حقا‬ ‫إِذا حض أحدكم الموت إِن ترك خيا الو ِصية ل ِلو ِالي ِن والقربِني بِالمعر ِ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ َّ َ ُ َ ِّ ُ َ ُ َّ‬ ‫ع ال ْ ُم َّتق َ‬‫ََ‬
‫ِين يبدلونه إِن اهلل س ِميع‬ ‫ني ‪ ‬فمن بدل بعدما س ِمعه فإِنما إِثمه ع ال‬ ‫ِ‬
‫ِيم{ (ابلقرة ‪)181 :178‬‬ ‫َعل ٌ‬

‫َ ْ ُُ ْ ْ ُ ْ ََْ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ‬
‫ِين آمنوا إِذا تداينت ْم بِدي ٍن إِل أج ٍل مس ًّم فاكتبوهُ َو َلكتب بينك ْم‬
‫}يا أيها ال‬
‫َْْ‬ ‫َ‬
‫كت ٌِب بِالعد ِل{(ابلقرة‪)182:‬‬

‫هذا ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر �سيتطلب وجود قوانني تنظم‬
‫الأمر الواقع وتخفف من مرارته قدر الإمكان‪ ،‬احلياة لي�ست نزهة يف‬
‫ب�ستان‪ ،‬ومواجهتها بال�شعارات �أمر لطيف يف البداية ولكن م�آالت النهاية‬
‫تزيد املرارة‪� ،‬سيكون هناك ق�صا�ص‪ ،‬و�سيكون هناك و�صية ُت ْتَك حلفظ‬
‫احلقوق‪� ،‬سيكون هناك من يظلم يف الو�صية‪ ،‬و�سيكون هناك من عليه �أن‪.‬‬
‫‪- 34 -‬‬
‫سورة البقرة ‪2‬‬

‫يتدخل ملنع الظلم‪ ،‬و�سيكون هناك ديون بني النا�س‪ ،‬وكاتب بالعدل ينظم‬
‫ذلك‪ ،‬فاملدينة الفا�ضلة جمرد وهم ال وجود له‪ ،‬والطبيعة الب�شرية تتطلب‬
‫توثي ًقا كهذا‪.‬‬
‫ُ َ َ َْ ُ ُ ْ َ ُ َ ُ َ ُ ٌْ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ًْ َ ُ َ َ ٌْ َ ُ‬
‫ي لك ْم‬ ‫}كتِب عليكم ال ِقتال وهو كره لكم وعس أن تكرهوا شيئا وهو خ‬
‫َْ َ َُْ َ َْ َُ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ ً َ ُ َ َ ٌّ َ ُ‬
‫ش لك ْم َواهلل يعل ُم َوأنت ْم ل تعلمون{(ابلقرة‪)216 :‬‬ ‫وعس أن تِبوا شيئا وهو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك ْم{‪ ،‬لكنها احلياة‬ ‫أي�ضا‪ ،‬رغم �أنه }ك ْر ٌه ل‬
‫�سيكون هناك قتال � ً‬
‫بواقعيتها‪ ،‬لي�ست نزهة‪ ،‬وتتطلب املواجهات مهما كرهنا ذلك‪ ،‬و�ستذكرك‬
‫ال�سورة ب�أن الأ�صل يف الأمر هو �أنك تكره «القتال»‪ ،‬و�أن الأمر لي�س كما‬
‫ير ِّو ُج البع�ض كما لو �أننا ُخ ِل ْق َنا لنقاتل‪ ،‬لكنه اال�ضطرار ومواجهة الأمر‬
‫الواقع املر هو الذي يجيز القتال ولي�س �أي �شيء �آخر‪.‬‬
‫وه َّن ب َم ْع ُروف َأ ْو َ ِّ ُ ُ َّ َ ْ ُ‬
‫َ َ َ َّ ْ ُ ُ ِّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َّ َ َ ْ ُ ُ‬
‫}وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأم ِسك‬
‫سحوهن بِمعر ٍ‬
‫وف‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ َْ َ َ َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ ُ َّ َ ً ْ َ ُ‬
‫ارا ِلَعتدوا َومن يفعل ذل ِك فقد ظل َم نفسه{ (ابلقرة‪)231 :‬‬ ‫ول تم ِسكوهن ِض‬

‫�سيكون هناك زواج وخالفات يف الزواج تقود �إىل الطالق‪� ،‬أمر م�ؤ�سف‬
‫بالت�أكيد‪ ،‬ولكنه يجب �أن ُي َن َّظ َم و ُي َق َّ َن‪ ،‬و�ضع �ضوابط لهذا الأمر �سيقلل‬
‫حت ًما من خ�سائر الطالق‪ ،‬ومواجهة الواقع عرب ت�شريعات تقلل اخل�سائر‬
‫�أف�ضل بكثري من منع الطالق ب�شكل قاطع‪.‬‬
‫***‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ ُّ ُ َ َ ْ ُ ُ ُ َ ٌ َ َ َ ْ ٌ َ ُ َ‬
‫ات َوما‬ ‫ِ‬ ‫او‬ ‫ف‬‫}اهلل ل إِل إِل هو الح القيوم ل تأخذه ِسنة ول نوم ل ِ‬
‫ا‬ ‫م‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ف ْالَ ْ‬
‫ِيهم وما خلفهم ول‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ا‬‫م‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ذ‬
‫ِ ِِ ِ‬‫إ‬‫ب‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫د‬‫ِن‬
‫ع‬ ‫ع‬‫ف‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫ِي‬
‫ال‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫ودهُ‬‫َ َْْ َ ََ َُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ ُ ْ ُّ ُ َّ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ َ َ‬
‫ات والرض ول يئ‬ ‫يِيطون بِش ٍء مِن عِل ِم ِه إِل بِما شاء و ِسع كر ِسيه السماو ِ‬
‫يم{ (ابلقرة‪)255 :‬‬ ‫ل الْ َعظ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫حِف ُظ ُه َما َو ُه َو ال َع ِ ُّ‬
‫ِ‬
‫‪- 35 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫خ�ضم كل هذا ال�صراع املرير ت�أتي �آية الكر�سي كما لو �أنها جاءت‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫لرتيحك من ال�صراع ً‬
‫قليل‪ ،‬تر ِّب ُت على كتفيك وتقول لك �أن ت�سرتيح هنا‬
‫من كل هذا الذي مررتَ به‪ ،‬ت�شري لك �إىل ملكوت اهلل وقدرته وعلمه الذي‬
‫يفوق كل قدراتنا على التخيل‪� ،‬ست�شعرك الآية ب�أنه عز وجل يعرف كل هذا‬
‫الذي متر به‪ ،‬ويعرف ما �سيحدث الح ًقا‪ ،‬جمرد معرفته بذلك �ستمنحك‬
‫متاما يف هذا ال�صراع‪ ،‬هو‬‫بع�ضا من الطم�أنينة وال�سكينة‪ ،‬ل�ست وحدك ً‬‫ً‬
‫َ َ َ َ ََ‬
‫الذي ال يغفل عنك حلظة واحدة‪ ،‬و�سيذكرك ذلك ب�آية �سابقة‪} ،‬وإِذا سألك‬
‫ْ ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ َ ْ َ َ َّ ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫َ ِّ َ ِّ َ ٌ‬ ‫َ‬
‫جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب‬
‫جيب دعوة ادلاع إِذا دع ِن فليست ِ‬ ‫عِبادِي عن فإِن ق ِريب أ ِ‬
‫َ َ َّ ُ َ ُ ُ َ‬
‫لعله ْم ي ْرشدون{ (ابلقرة‪)186 :‬‬
‫يبوا ل{ دوما نن�سى هذا اجلزء من الآية‪ ،‬نركز على } ُأج ُ‬ ‫ََْ ْ َ ُ‬
‫يب‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫}فليست ِ‬
‫ج‬
‫ََْ ْ َ ُ‬ ‫َد ْع َو َة َّ‬
‫ادل ِاع{ ونن�سى }فليست ِجيبوا{‪.‬‬
‫ال�شيء ذاته مع �آية الكر�سي‪.‬‬
‫�سرنتاح بعلمه الذي ال يغيب عنه �شيء‪ ،‬لكن هذا ال يحدث بحفظ «�آية‬
‫الكر�سي» منف�صلة عما قبلها وبعدها من و�صايا و�أوامر‪ ،‬بل عندما ن�أخذ‬
‫كل �شيء حزمة واحدة‪.‬‬
‫***‬
‫ِّ‬ ‫َ َْ َ‬
‫بعد طم�أنينة �آية الكر�سي �ست�أخذك ال�سورة فو ًرا �إىل }ل إِكراه ِف ادل ِ‬
‫ين‬
‫ََ ْ َْ َ َ ُْ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َ ُّ ْ ُ َ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َّ ُ‬
‫وت َويؤمِن بِاهلل فق ِد استمسك بِالع ْر َوة ِ‬
‫غ فمن يكفر بِالطاغ ِ‬ ‫قد تبي الرشد مِن ال‬
‫َ‬ ‫ْ ْ َ ْ‬
‫ال ُوث َق ل ان ِف َص َام ل َها َواهلل َس ِم ٌيع َعل ٌِيم{ (ابلقرة‪ ،)256 :‬كما لو �أنك حتتاج �أن‬
‫ا�سرتحت و�أخذتَ �أنفا�سك‬
‫َ‬ ‫ت�ستوعب هذه الآية وما تقوله بعد �أن تكون قد‬
‫ً‬
‫قليل عند �آية الكر�سي‪.‬‬
‫‪- 36 -‬‬
‫سورة البقرة ‪2‬‬

‫�ستذكر كم من الإكراه ُمو ِر َ�س با�سم هذا الدين الذي قال � َّأل �إكراه‬
‫يف الدين‪ ،‬كل �أمر �شرعي تع َّر�ض لإكراه بدرجة �أو ب�أخرى‪ ،‬و�ستالحظ �أن‬
‫الر�شد هو ذاته يف الال �إكراه‪ ،‬ويف الآية التي حتدثت عن �إجابة دعوة الداع‬
‫َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ْ ْ ُ‬ ‫ََْ ْ َ ُ‬
‫ون {�صدفة! حا�شا هلل‪.‬‬ ‫جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب لعلهم يرشد‬
‫}فليست ِ‬

‫لكي تفهم الال �إكراه ح ًّقا‪ ،‬ومتار�سه ح ًّقا‪ ،‬ومتنع الإكراه با�سم دين الال‬
‫�إكراه‪ ،‬عليك �أن تكون را�شدً ا � ًأول‪.‬‬
‫***‬
‫ََْ ُْ َْ ْ َ َ َ َََْ ُْ ْ َ َ ََ ََ ْ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ِّ َ‬
‫كن‬ ‫ح الموت قال أولم تؤمِن قال بل ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫}وإِذ قال إِبراهِيم رب ِ‬
‫ر‬ ‫أ‬
‫ََ ُْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الط ْي ف ُ ْ ُ َّ‬ ‫َ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ً َ َّ‬
‫صهن إ ِ ْلك ث َّم اجعل ع ك جب ٍل مِنه َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِلطم ِئ قل ِب قال فخذ أربعة مِن‬
‫ٌ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫ُ ْ ً ُ َّ ْ ُ ُ َّ َ ْ َ َ َ ْ ً َ ْ ْ َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جزءا ثم ادعهن يأت ِينك سعيا واعلم أن اهلل ع ِزيز حكِيم{ (ابلقرة‪.)260 :‬‬
‫أي�ضا �إىل �أبيك �إبراهيم وهو ي�س�أل ربه عن �إحياء‬ ‫�ست�أخذك ال�سورة � ً‬
‫املوتى لكي يطمئن قلبه‪ ،‬و�ستتذكر كم قلو ًبا كتمت حاجتها �إىل الطمـ�أنينة‬
‫كي ال تو�ص َم بالكفر واالبتداع واجلحود‪� ،‬ستتمنى لو �أنك‬
‫َ‬ ‫وقمعت �أ�سئلتها‬
‫ت�ستطيع �أن حتت�ضن �أباك �إبراهيم‪ ،‬وتهم�س يف �أذنه مبخاوفك وقلقك‪ ،‬لكن‬
‫يكفيك منه �أن قال هذه الكلمات و�أنه هنا يف ال�سورة‪� ،‬أنت لك احلق � ً‬
‫أي�ضا‬
‫�أن تبحث عن طم�أنينة قلبك وعقلك‪ ،‬ولي�س لأحد �أن مينعك من �أ�سئلتك‬
‫وت�سا�ؤالتك يف الطريق �إىل الطم�أنينة‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 37 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ ْ ً َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َّ َ َ‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ‬
‫}ل يكلف اهلل نفسا إِل ُوسعها لها ما كسبت َوعليها ما اكتسبت َربنا ل‬
‫ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ ْ‬
‫ِين مِن‬ ‫تؤاخِذنا إِن ن ِسينا أو أخطأنا ربنا ول ت ِمل علينا إِصا كما حلته ع ال‬
‫َ ْ ُ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ ْ َ َّ َ َ ُ ِّ ْ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫قبلِنا َربنا َول تَملنا ما ل طاقة لَا ب ِ ِه واعف عنا واغ ِفر لا وارحنا أنت مولنا‬
‫ين{(ابلقرة‪)286 :‬‬‫ع الْ َق ْو ِم الْ َكف ِر َ‬‫َ ْ ُ َْ ََ‬
‫فانصنا‬
‫ِ‬
‫ويف �آخر كل هذه امللحمة من ال�صراع مع الأمر الواقع‪� ،‬ستـ�أتي كلمات‬
‫تعبت؟ هل �أرهقك هذا الأمر الواقع؟‬ ‫اخلامتة يف ال�سورة لرت ِّب َت عليك‪ ،‬هل َ‬
‫نف�سا �إال و�سعها‪ ،‬ميكنك �أن تطلب � َّأل‬ ‫ال ب�أ�س‪ ،‬هذا طبيعي‪ ،‬ال يكلف اهلل ً‬
‫ن�سيت �أو �أخط�أتَ ‪ ،‬ميكنك �أن تقول‪� :‬إن بع�ض الأمور ال ‬ ‫ي�ؤاخذك اهلل �إن َ‬
‫طاقة لك بها‪ ،‬وتطلب منه عز وجل � َّأل يح ِّم َل َك فوق طاقتك‪ ،‬افعل ما يف‬
‫و�سعك‪ ،‬ولكن كن على ب�صرية بهذا الواقع املحيط بك‪ ،‬حا ِو ْل �أن تو�سع مما‬
‫يف و�سعك بالتدريج‪ ،‬بحيث يتنا�سب مع ما ُك ِّل ْف َت به‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫سورة آل عمران ‪3‬‬
‫عن جبر الخواطر المكسورة‬

‫�سورة �آل عمران هي �سورة «جرب اخلواطر» بامتياز‪.‬‬


‫لكن جرب اخلواطر هذا ال يكون بكلمات تر�ضية وموا�ساة كما تع َّودنا من‬
‫جرب اخلواطر �أن يكون‪ ،‬بل تفعل ال�سورة ذلك عرب تزويد خاطرك املك�سور‬
‫بجبرية وعي يخرجك من حلظة االنك�سار الراهنة �إىل «ال�صورة الكبرية»‬
‫التي قد تغيب عن �أذهاننا �أحيا ًنا‪ ،‬خا�ص ًة يف حلظة �أمل االنك�سار واملعاناة‪.‬‬
‫كيف ذلك؟‬
‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ َ ٌ ُ َّ ُ ُّ ْ َ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫اب َوأخ ُر‬ ‫}هو ال َِي أنزل عليك الكِتاب مِنه آيات مكمات هن أم الك ِ‬
‫ِت‬
‫اء الْ ِف ْت َن ِة َوابْتِ َغ َ‬
‫اء‬
‫ُ ُ ْ َ ْ ٌ َ َ َّ ُ َ‬
‫ون َما ت َ َشابَ َه م ِْن ُه ابْتِ َغ َ‬ ‫ِين ِف قلوب ِ ِهم زيغ فيتبِع‬ ‫ات َفأ َّما َّال َ‬ ‫َُ َ َ ٌ‬
‫متشابِه‬
‫ُ ٌّ ْ ْ‬ ‫ْ ْ َ ُ ُ َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الرا ِسخون ِف ال ِعل ِم يقولون آمنا ب ِ ِه ك مِن عِن ِد‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫تَأويلِه َو َما يعل ُم تأويل ُه إل اهلل َو َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ ِّ َ َ َ َ َّ َّ ُ َّ ُ ُ ْ َ َْ‬
‫اب{ (آل عمران‪.)7 :‬‬ ‫ربنا وما يذكر إِل أولو الل ِ‬
‫ت�شري لك ال�سورة منذ بدايتها �أن تتجه �إىل «�أم الكتاب» و ُت ْع ِر�ض عن‬
‫املت�شابه الذي ي�ش ِّو�ش عليك‪ ،‬كما لو �أنها تقول لك �أن تركز على جممل‬
‫ال�صورة الكبرية وترتك التفا�صيل التي تلهيك عنها‪.‬‬
‫َ ُْ ُ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ َ َّ َ َ ُ‬
‫اس ِ َل ْومٍ ل َري َب فِي ِه إِن اهلل ل يلِف ال ِميعا َد{ (آل‬
‫} َربنا إِنك جامِع انلَّ ِ‬
‫عمران‪.)9 :‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ‬
‫وتذكرك ب�أن نهاية الق�صة هي يف يوم قادم حت ًما }ل َر ْي َب فِي ِه{ ولي�س ‬
‫يف �أيام عابرة جعلك �أملها يوهمك �أنها النهاية‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُْ‬
‫(آل‬ ‫ون إِل َج َه َّن َم َوبِئْ َس ال ِم َه ُاد{‬
‫َ ََُ َ ُْ ُ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫}قل ل ِلِين كفروا ستغلبون وتش‬
‫عمران‪)12 :‬‬
‫َّ ُ َّ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫اء َوت ِع ُّز‬ ‫نع الملك مِمن تش‬ ‫ك تؤ ِت الملك من تشاء وت ِ‬ ‫}ق ِل اللهم مال ِك المل ِ‬
‫ُ ُ َّ ْ َ‬ ‫ش ٍء َقد ٌ‬‫ك َ ْ‬‫َ ْ َ َ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ِّ‬
‫ِير ‪ ‬تول ِج الليل ِف‬ ‫من تشاء وتذِل من تشاء بِيدِك الي إِنك ع‬
‫َّ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫انلَّ َه ُ ُ َّ َ َ‬
‫ت وت ِرج الميت مِن الح وترزق‬ ‫ار َوتول ِج انلهار ِف اللي ِل وت ِرج الح مِن المي ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ََ ُ َْ‬
‫اب{ (آل عمران ‪)27 :26‬‬ ‫ي حِس ٍ‬ ‫من تشاء بِغ ِ‬
‫تقول لك ال�سورة‪� :‬إن الف�صول تتغري‪ ،‬والدوائر تدور‪ ،‬و�إن ما يبدو‬
‫منت�ص ًرا عزيزً ا يف مرحلة ما قد ينتهي خا�س ًرا ً‬
‫ذليل يف نهاية املطاف‪،‬‬
‫تقول لك ال�سورة‪� :‬إن �شهوات احلياة مباحة وجميلة‪ ،‬لكن ال تك�سر نف�سك‬
‫ب�أن حت�صر نف�سك فيها‪ ،‬ف َث َّم ما هو �أكرث من ذلك يف هذه احلياة‪ ،‬تقول‬
‫لك‪� :‬إن املحك هناك يف �أفق �أبعد لكنه حقيقي‪� ،‬ستنبهك �إىل دوران العامل‬
‫وامللك واملال وال�سلطة واجلاه بني النا�س‪ ،‬مالك امللك ي�ؤتي امللك من ي�شاء‬
‫وينزعه ممن ي�شاء‪ ،‬يعز من ي�شاء ويذل من ي�شاء‪ ،‬فال تغرت كث ًريا بعزك‬
‫فهو عابر‪ ،‬وال يحزنك عز َمنْ �أذلك �أو ظلمك فهو عابر كذلك‪ ،‬ال �شيء‬
‫يدوم من هذه الأمور‪.‬‬
‫َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ‬ ‫َُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ت ام َرأة عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك‬ ‫}إِذ قال ِ‬
‫َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ‬ ‫يع الْ َعل ُ‬‫َ ْ َ َّ ُ‬
‫ِيم ‪ ‬فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما‬ ‫أنت الس ِم‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ ُ َ َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َوضعت َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم َوإِن أعِيذها بِك َوذ ِّريتها م َِن‬
‫الر ِج ِيم{ (آل عمران ‪.)36 :35‬‬ ‫الش ْي َطان َّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬

‫‪- 40 -‬‬
‫سورة آل عمران‬

‫ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ً َ ِّ َ ً َّ َ َ ُ‬ ‫ُ َ َ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ِّ َ ْ‬
‫لنك ذ ِّرية طيبة إِنك س ِميع‬ ‫}هنال ِك دع زك ِريا َربه قال َرب هب ِل مِن‬
‫ُ َ ِّ ُ َ َ ْ‬ ‫ْ ْ َ َ َّ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ ُ َ ِّ‬ ‫ُّ َ‬
‫شك بِيح َي‬ ‫اب أن اهلل يب‬ ‫ادلعءِ ‪ ‬فنادته الملئ ِكة وهو قائ ِم يصل ِف ال ِمحر ِ‬
‫َ َ ِّ َ َّ‬ ‫ال َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ِّ ً َ َ ُ ً َ ًّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ِّ ً‬
‫ِني ‪ ‬قال َرب أن‬ ‫ورا َونبِيا م َِن الص ِ‬ ‫مصدقا بِكلِم ٍة م َِن اهلل وسيدا وحص‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ون ِل ُغل ٌم َوق ْد بَل َغ ِ َن الك َ ُِب َو ْام َرأ ِت َعق ٌِر ق َال ك َذل َِك اهلل َي ْف َع ُل َما ي َ َش ُاء{‬
‫َ ُ ُ‬
‫يك‬
‫(آل عمران ‪.)40 :38‬‬
‫يلُ ُق َما ي َ َش ُ‬
‫َْ‬ ‫َ َ ْ َ ِّ َ َّ َ ُ ُ َ َ ٌ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ‬
‫اء‬ ‫ش قال كذل ِِك اهلل‬ ‫}قالت رب أن يكون ِل ول ولم يمسس ِن ب‬
‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ُ ُ‬
‫إِذا قض أم ًرا فإِنما يقول لُ كن فيكون{ (آل عمران ‪)47‬‬

‫�سيعرفك جرب اخلواطر على �أ�سرة ب�سيطة فقرية‪ ،‬وامر�أة تنذر طفلها‬
‫القادم بعد طول انتظار‪ ،‬تبدو الأمور �صعبة بالن�سبة لها عندما ي�أتي الطفل‬
‫فلي�س الذ َكر كالأنثى‪ ،‬لكن جرب اخلواطر ي�أخذ هذه الأنثى �إىل مكانة‬
‫َّ‬ ‫�أنثى‪،‬‬
‫غري م�سبوقة بني العاملني‪ ،‬وت�أخذك ال�سورة مرة �أخرى �إىل �شيخ يكاد �أن‬
‫يفقد الأمل يف �صبي له‪ ،‬لكن جرب اخلواطر من جديد يحقق له ما َب َدا‬
‫فهمت �أنها �ستلد من غري زواج‬ ‫ً‬
‫م�ستحيل‪ ،‬ت�أخذك ال�سورة �إىل مرمي وقد َ‬
‫مي�سها ب�شر‪� ،‬أي كدر وانك�سار هذا الذي �سيحدث معها‪ ،‬لكن‬ ‫ومن غري �أن َّ‬
‫متاما‪ ،‬و�سرنى مكرهم يحيق‬‫جرب اخلواطر يقودها �إىل طريق �آخر خمتلف ً‬
‫بابنها الح ًقا‪ ،‬ولكن النهايات �ستجعله فوقهم على نحو غري م�سبوق‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون{‬ ‫ال َّق ب َ‬
‫ون َ‬
‫الاط ِِل وتكتمون الق وأنتم تعلم‬ ‫ِ‬ ‫}يا أهل الكِت ِ‬
‫اب ل ِم تلبِس‬
‫(آل عمران‪.)71 :‬‬
‫وقد يك�سر خاطرك �أن ترى �أهل الكتاب يلب�سون احلق بالباطل ويكتمون‬
‫احلق وهم يعلمون‪ ،‬ولكن هذا يجب �أن يذكرك �أنه خطر حمدق حتى‬
‫بك‪ ،‬بكل من يزعم �أنه يحمل «الكتاب»‪ ،‬كل الطرق التي �ضلوا عربها هي‪.‬‬
‫‪- 41 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫طرق ميكن �أن ت�ضل �أنت عربها � ً‬


‫أي�ضا؛ لذلك فخاطرك ال ُي ْج َ ُب ب�أن ترى‬
‫«نهاياتهم»‪ ،‬بل ب�أن تعي ب�أخطائهم التي ميكن �أن تقودك � ً‬
‫أي�ضا �إىل نف�س ‬
‫النهايات‪ ،‬كل الأمثلة التي تتحدث عن �أخطائهم مل ت� ِأت لكي تفاخرهم بها‪،‬‬
‫بل لكي تتجنب الوقوع فيها‪.‬‬
‫ََْ َ َ ُْْ َ‬ ‫َْ ُ َ َْ ْ‬ ‫ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ َّ‬
‫وف َوتنه ْون ع ِن المنك ِر‬ ‫اس تأم ُرون بِالمع ُر ِ‬
‫ي أم ٍة أخ ِرجت ل ِلن ِ‬ ‫}كنتم خ‬
‫َ َ َ َ ْ ً َ ُ ْ ْ ُ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ ُُ‬ ‫َ َْ َ َ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫َُْ ُ َ‬
‫اب لكن خيا لهم مِنهم المؤمِنون وأكثهم‬ ‫وتؤمِنون بِاهلل ولو آمن أهل الكِت ِ‬
‫َْ ُ َ‬
‫الفا ِسقون{ (آل عمران‪)110 :‬‬

‫يف عز انك�سارك �ستقول ال�سورة لك‪� :‬إنك من خري �أمة‪ ،‬لكن لن يرتكك‬
‫ت�ستعمل ذلك ك�أفيون يخدرك عن واقعك‪ ،‬بل �سيجعله جبرية وعي‪ :‬الأمر‬
‫م�شروط‪ ،‬فهل �أديت �شروطه؟ �أن ت�أمر باملعروف وتن َه عن املنكر يعني � ً‬
‫أي�ضا‬
‫�أن كلمتك يجب �أن تكون م�سموعة‪� ،‬أن لك مكانة جتعلك «قدوة»‪ ،‬و�أنك مثال‬
‫ملا ت�أمر به وتنهى عنه‪ ،‬فهل �أديت هذه ال�شروط لكي حتقق هذا االنتماء؟‬
‫َ ُ‬
‫َ ُ ْ ْ ُ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ٌ َّ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫َْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫} َول َق ْد نَ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫(آل‬ ‫ون{‬ ‫صك ُم اهلل بِبد ٍر َوأنت ْم أذِلة فاتقوا اهلل لعلكم تشكر‬
‫عمران‪.)123 :‬‬

‫ت�أخذك ال�سورة �إىل �أعلى حلظات عزك‪� ،‬إىل حلظة الن�صر يف بدر‪،‬‬
‫فرييك ما جعلك الن�صر تن�ساه‪ ،‬ويقول لك‪ :‬لقد كنت ً‬
‫ذليل ك�س ًريا‪ ،‬لكن‬
‫متاما‪ ،‬ج َرب الن�صر ك�س َرك وما‬
‫�سارت الأمور �إىل عاقبة �أخرى خمتلفة ً‬
‫كنت فيه من ذل‪ ،‬وتغريت نظرتك لنف�سك ونظرة النا�س �إليك‪.‬‬
‫ْ َْ َ ْ ُ َ ٌ‬
‫ني ‪ ‬إِن يمسسك ْم ق ْرح‬ ‫} َو َل تَه ُنوا َو َل َتْ َزنُوا َو َأ ْن ُت ُم ْالَ ْعلَ ْو َن إ ْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤمن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ ُ‬ ‫َ َ ْ ََ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ٌ ْ ُ ُ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ُ َ ُ َ َ ْ‬
‫اس و ِلعلم اهلل الِين آمنوا‬‫اولها بي انل ِ‬ ‫فقد مس القوم قرح مِثله وت ِلك اليام ند ِ‬
‫َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ ُّ َّ‬
‫الظال ِ ِم َني{ (آل عمران ‪.)140 :139‬‬ ‫ويتخِذ مِنكم شهداء واهلل ل يِب‬

‫‪- 42 -‬‬
‫سورة آل عمران‬

‫ثم ت�أخذك ال�سورة �إىل ك�سر كبري‪� ،‬إىل يوم �أُ ُح ٍد‪ ،‬فرت ِّبت على كتفيك كما‬
‫لو �أنك كنت هناك‪� ،‬إنه حال الدنيا‪ ،‬تتغري الف�صول‪ ،‬تلك الأيام نداولها بني‬
‫النا�س‪ ،‬مرة له�ؤالء ومرة لأولئك‪ ،‬لكن ال �سواء بال�ضرورة حتى لو ت�شابهت‬
‫الظروف‪ ،‬فاملهم �أن تكون العاقبة خمتلفة‪.‬‬
‫تقب�ض عليك ال�سورة يف حلظة انك�سار هائل‪ ،‬هوان وحزن‪ ،‬وتقول لك‪:‬‬
‫�إنك الأعلى‪.‬‬
‫ً‬
‫م�شروطا‪� ،‬إن كنت م�ؤم ًنا‪.‬‬ ‫ثم مرة �أخرى جتعل ذلك‬
‫ً‬
‫حمتمل‪،‬‬ ‫بل �إن جرب اخلواطر ي�أخذك حتى �إىل ك�سر مل يحدث‪ ،‬لكنه كان‬
‫ك�سر كبري ج ًّدا‪� ،‬أن ُي ْقت ََل الر�سول ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬نف�سه‪.‬‬
‫ُّ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ ُ َ َّ ٌ َّ ُ ٌ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ‬
‫الرسل أفإِن مات أ ْو قتِل انقلبت ْم ع‬ ‫} َوما ممد إِل َرسول قد خلت مِن قبلِ ِه‬
‫َّ‬
‫الشاك ِر َ‬ ‫َ ًْ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ ََْ ْ ََ‬
‫ع َع ِق َب ْي ِه َفلَ ْن يَ ُ َّ‬
‫ين{‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫اهلل‬ ‫ض‬ ‫أعقابِكم ومن ينقلِب‬
‫(آل عمران‪.)144 :‬‬
‫جرب اخلواطر يقول لك هنا‪� :‬إن العاقبة يف الثبات‪.‬‬
‫***‬
‫كل منا يوم بدر‪ ،‬ويف حياة كل منا يوم �أُ ُحد‪ ،‬وجبل مت حتذيرنا‬
‫يف حياة ٍّ‬
‫منه‪ ،‬وطعنة م�ؤملة يف الظهر‪ ،‬وهزمية موجعة مفجعة‪ ،‬وخواطر مك�سورة‪.‬‬
‫أي�ضا �سورة �آل عمران‪ ،‬ت�أتيك لتجرب ك�سرك وتط ِّيب جرحك‬ ‫ولكن هناك � ً‬
‫ومت�سح دمعتك‪ ،‬كان ال�صراع مري ًرا يف «�سورة البقرة»‪ ،‬وال بد �أنه ت�ض َّمنَ‬
‫ك�س ًرا كك�سر يوم �أُ ُحد‪� ،‬أو �أيام �أُ ُحد؛ لذلك ت�أتي بعدها �سورة �آل عمران؛‬
‫لتجرب ما ُك ِ�س َر‪.‬‬
‫‪- 43 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫دوما‪ ،‬انظر‬
‫خ�صي�صا ليهم�سوا يف �أذنيك‪ :‬هذا يحدث ً‬
‫ً‬ ‫�آل عمران ي�أتونك‬
‫�إىل ال�صورة الكبرية‪� ،‬إىل العاقبة‪� ،‬إىل النهاية التي ت�ضم كل النهايات‪.‬‬
‫َ ُ ُْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫َ ُّ َ‬
‫ك ْم تفل ُِح َ‬
‫ون{‬ ‫ُ‬
‫بوا َوصاب ِ ُروا َو َرابِطوا َواتقوا اهلل لعل‬
‫اص ُ‬
‫}يا أيها الِين آمنوا ِ‬
‫(آل عمران‪.)200 :‬‬

‫وتنتهي ال�سورة بخطة للخروج من ك�سر اخلاطر‪ ،‬خطة جلرب اخلاطر‪:‬‬


‫ا�صربوا و�صابروا ورابطوا واتقوا‪.‬‬
‫ال�صرب داخلي‪ ،‬بينك وبني نف�سك‪ ،‬وقد يبد�أ بهذا الوعي جبرية الك�سر‪،‬‬
‫وامل�صابرة خارجية‪ ،‬جتاه الأمر املحيط بك‪ ،‬وال ميكن �أن يحدث ما مل‬
‫ت�صبهم‬
‫أي�ضا‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬
‫تفاعل بينك وبني َمنْ حولك � ً‬ ‫يبد�أ من ال�صرب‪ ،‬ويكون‬
‫وي�صبونك‪.‬‬
‫ِّ‬
‫واملرابطة مواجهة ما �أودى بك �إىل ما ك�سرك‪.‬‬
‫وخالل كل ذلك‪ :‬التقوى‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫سورة النساء ‪4‬‬
‫عن المستضعفين في األرض‬

‫ورغم �أن ا�سمها �سورة الن�ساء‪� ،‬إال �أنها لي�ست فقط عن الن�ساء‪� ،‬إال �أنها‬
‫عن كل امل�ست�ضعفني يف الأر�ض؛ الن�ساء واليتامى وامل�ساكني‪ ،‬كل من ميكن‬
‫�أن يكون عر�ضة لال�ستغالل‪.‬‬
‫لكن هذه ال�سورة لي�ست لذرف الدموع على ه�ؤالء وال حتى للحث على‬
‫أ�صل على الكثري من التعاطف الذي ال ‬ ‫التعاطف معهم‪ ،‬فه�ؤالء يح�صلون � ً‬
‫ُي ْ�سمن وال ُي ْغني من جوع‪ ،‬بل هي بب�ساطة لتغيري �أو�ضاعهم‪ ،‬وتغيري هذه‬
‫الأو�ضاع ال يحدث باملواعظ وال بالنوايا احل�سنة فقط‪ ،‬بل بالقوانني‪ ،‬بتغيري‬
‫الأو�ضاع التي قادت �إىل ا�ستغالل �ضعفهم‪ ،‬ولأن اال�ستغالل الأكرب كان ي�أتي‬
‫عن طريق جعل ه�ؤالء يف حالة حاجة «مادية» ف�إن �أول خطوة كانت يف ك�سر‬
‫هذا الو�ضع وتغيريه‪.‬‬
‫تخلي�صهم من «ال َع َو ِز املادي» وجعلهم «م�ستقلني» مال ًّيا هو �أول خطوة‬
‫يف هذا‪.‬‬
‫يب م َِّما تَ َر َك ال ْ َو ِ َ‬ ‫ِّ َ َ ٌ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون َول ِلنِّ َساءِ نَص ٌ‬
‫ان‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ان والقرب‬ ‫}ل ِلرج ِ‬
‫ال ن ِصيب مِما ترك الو ِال ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ ْ ُ ْ ُ َ َ ً َ ْ ً‬
‫َ‬
‫ث ن ِصيبا مف ُروضا{ (النساء‪)7 :‬‬ ‫والقربون مِما قل مِنه أو ك‬

‫‪- 45 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ُ ْ َّ َ ْ ُ َ ِّ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ ً َ َ‬ ‫ََْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫اء ف ْوق‬ ‫ي فإِن كن ن ِس‬ ‫وصيكم اهلل ِف أولدِكم ل ِذلك ِر مِثل حظ النثي ِ‬ ‫}ي ِ‬
‫َُْ‬ ‫َ َ ْ ُ ِّ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ ً َََ‬ ‫ََْْ ََُ َُُ َ َ َ ْ َ َ ْ‬
‫ي فله َّن ثلثا ما ت َرك َوإِن كنت َواحِدة فلها انلِّصف َو ِلب َوي ِه ل ِك َواح ٍِد مِنهما‬ ‫اثنت ِ‬
‫ُ‬
‫َ ُ َ َ ِّ ُّ ُ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ك ْن َلُ َو َ ٌ‬‫ُّ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫ل َو َو ِرثه أب َواهُ ف ِلم ِه اثللث فإِن‬ ‫السدس مِما ترك إِن كن ل ول فإِن لم ي‬
‫َْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ُّ ُ ُ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َ ْ ٌ َ ُ ِّ‬
‫وص بِها أ ْو دي ٍن آباؤك ْم َوأبناؤك ْم‬ ‫كن لُ إِخ َوة ف ِلم ِه السدس مِن بع ِد َو ِصي ٍة ي ِ‬
‫َ َ ْ ُ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ ْ ً َ َ‬
‫يض ًة م َِن اهلل إ ِ َّن اهلل َك َن َعل ًِيما َحك ًِيما{‬ ‫ل تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ف ِر‬
‫(النساء‪)11 :‬‬
‫َ َْ ُ ُ َ ْ َُ َ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ‬
‫ب َول تأكلوا أم َواله ْم إِل‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫الط‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫يث‬‫}وآتوا التام أموالهم ول تتبدلوا البِ‬
‫وبا َكب ً‬‫َ ْ َ ُ ْ َّ ُ َ َ ُ ً‬
‫ريا{ (النساء‪)2 :‬‬ ‫ِ‬ ‫أموال ِكم إِنه كن ح‬

‫بعد �أن كانت املر�أة عند �أغلب قبائل العرب تو َر ُث كما يو َرث املتاع عندما‬
‫يتوفى عنها زوجها(((‪� ،‬أ�صبحت �شري ًكا يف الإرث كما الآخرين‪ ،‬و�سيتغري‬
‫بذلك ح�ساب �إرث اجلميع‪� ،‬أول درو�س �إزالة اال�ست�ضعاف ت�أتي هنا حتديدً ا‪،‬‬
‫توفري اال�ستقالل االقت�صادي‪ ،‬الكفاية االقت�صادية على الأقل‪ ،‬و�سيتجاوز‬
‫أي�ضا‪ ،‬وحتى �صغار الذكور الذين‬ ‫ذلك الأمر الزوجة �إىل البنت والأخت � ً‬
‫كانوا ال يرثون �ساب ًقا؛ لأنهم ال يعتربون عند القبيلة قوة مهمة ما داموا غري‬
‫قادرين على حمل ال�سيف ح�سب �أعراف العرب(((‪ ،‬الآن الأمر اختلف‪ ،‬لقد‬
‫�أُ ِع َيد ر�سم كل �شيء‪ ،‬و�ضمن ما ُر ِ�س َم كانت تلك احلدود التي تف�صل بني‬
‫ال�ضعف واال�ست�ضعاف‪ ،‬حدود اهلل‪ ،‬مل ي ُع ْد من ال�سهل ا�ستغالل و�ضع املر�أة‬
‫ْ َ ُ ُ ُ‬
‫�أو اليتيم ما دام قد �أ�صبح �شري ًكا‪� ،‬سماها القر�آن حدود اهلل‪.} ،‬ت ِلك حدود‬

‫((( صحيح البخاري ‪4579‬‬


‫((( املفصل يف تاريخ العرب‪ ،‬الجزء ‪ 9‬صفحة ‪80‬‬
‫‪- 46 -‬‬
‫سورة النساء‬

‫َ َ‬ ‫ْ َْ َ ْ َْ َ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ َ ُ ُ ْ ْ ُ َ َّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬
‫ِين فِيها‬
‫ال‬‫ار خ ِ‬ ‫ات ت ِري مِن تتِها النه‬
‫اهلل ومن يطِعِ اهلل ورسول يدخِله جن ٍ‬
‫يم{ (النساء‪)13 :‬‬ ‫َو َذل َِك الْ َف ْو ُز الْ َعظ ُ‬
‫ِ‬

‫ملاذا احلديث عن املر�أة يكاد يهيمن على �سورة تتحدث عن امل�ست�ضعفني‬


‫يف الأر�ض؟ لأنها بب�ساطة مظلومة املظلومني‪ ،‬هناك طبقات �أو فئات كثرية‬
‫تتع َّر�ض للظلم‪ً ،‬‬
‫رجال ون�سا ًء‪ ،‬لكن الن�ساء يف هذه الطبقات تتع َّر�ض لظلم‬
‫مركب‪ ،‬ظلم يع ُّم فئتها ككل‪ ،‬وظلم يخ�صها ي�ضاف �إىل الظلم الأول‪.‬‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ِّ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ْ ْ َ ُ َ ً‬ ‫ُ ُ‬
‫ِين آمنوا ل‬ ‫النسان ض ِعيفا ‪ ‬يا أيها ال‬ ‫ْ }ي َ ِريد اهلل أن يفف عنكم وخَلِق ِ‬
‫ْ ُ َ َُُْ‬
‫اض مِنك ْم َول تقتلوا‬ ‫َّ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ْ َ َ‬ ‫ك ْم ب ْ َ‬
‫َ ُ ُ ْ َ َ ُ ْ ََْ ُ‬
‫الاط ِِل إِل أن تكون ِتارة عن تر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تأكلوا أموالكم بين‬
‫ً‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ ُ َّ‬
‫أنفسك ْم إِن اهلل كن بِك ْم َرحِيما{ (النساء ‪)29 :28‬‬

‫ال�سورة تقول لنا‪� :‬إن الإن�سان ُخ ِلقَ �ضعي ًفا‪ ،‬لكنها تف ِّرق بني هذا وبني‬
‫ا�ستغالل هذا ال�ضعف‪ ،‬بني اال�ست�ضعاف‪ ،‬والأمر ال يخ�ص الن�ساء فقط‪،‬‬
‫مر�شح لأن يكون م�ست�ضع ًفا يف مرحلة‬‫وال اليتامى وامل�ساكني فقط‪ ،‬كل منا َّ‬
‫ما‪ ،‬يف منعطف ما من حياته‪ ،‬قد يتعر�ض لظلم‪ ،‬ملن ي�أخذ حقه‪ ،‬لظلم‬
‫دوما اال�ست�ضعاف مرتبط بظلم ظامل‬ ‫من �شخ�ص �أ�شد قو ًة ي�ستغل قوته‪ً ،‬‬
‫ي�ستغل �ضع ًفا ما‪.‬‬
‫َُ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ ُ َ ً َ ْ َ ُ ْ ُ َ ْ ْ َ َّ ُ‬
‫وت َويقولون‬
‫ت والطاغ ِ‬ ‫الب ِ‬ ‫}ألم تر إِل الِين أوتوا ن ِصيبا مِن الكِت ِ‬
‫اب يؤمِنون ب ِ ِ‬
‫َ َّ َ َ ُ َ ً‬ ‫ََُ َْ َ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫ِين كف ُروا هؤلءِ أهدى مِن الِين آمنوا سبِيل{(النساء‪)51 :‬‬ ‫ل ِل‬

‫وبع�ض هذا الظلم يكون من ِق َب ِل م�ؤمنني � ً‬


‫أي�ضا لكنهم م�ؤمنون بن�صيب‬
‫من الكتاب‪ ،‬ب�أمور فيه توافق هواهم‪ ،‬وي�ؤمنون معه بالطاغوت الذي قد‬
‫يكون «الأنا» يف �أعماقهم‪ ،‬وهذا ما يجعلهم يظلمون‪ ،‬بل وقد يكون ظلمهم‬
‫با�سم الدين!‬
‫‪- 47 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ِّ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ‬
‫ال َوالنساءِ‬‫يل اهلل والمستضع ِفني مِن الرج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ون‬ ‫}وما لكم ل تقات ِل‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ُ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ َ َ ُ ُ َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫ِين يقولون َربنا أخ ِرجنا مِن ه ِذه ِ الق ْري ِة الظال ِِم أهلها َواجعل لَا مِن‬ ‫ان ال‬‫وال ِول ِ‬
‫ك نَ ِص ً‬ ‫َ ُ ْ َ َ ًّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ريا{ (النساء‪.)75 :‬‬ ‫لنك و ِلا واجعل لا مِن لن‬

‫ِّ‬
‫م�صاف‬ ‫�ستقول لنا ال�سورة‪� :‬إن تغيري و�ضع ه�ؤالء ي�ستحق �أن يكون يف‬
‫ُْ ْ َ ْ‬
‫ض َعف َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ‬
‫ني م َِن‬ ‫يل اهلل َوالمست ِ‬
‫القتال يف �سبيل اهلل‪} ،‬وما لكم ل تقات ِلون ِف سبِ ِ‬
‫ْ ْ‬
‫الر َج ِال َوالنِّ َساءِ َوال ِو َلان{‪� ،‬إنها �سورة كل امل�ست�ضعفني ولي�س الن�ساء فقط‪.‬‬
‫ِّ‬

‫َُ َ َ َْ ُ ُ َ‬ ‫ْ َ َ َ ُْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ‬
‫ات مِن ذك ٍر أ ْو أنث َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك يدخلون‬ ‫الص ِ َ‬
‫ال ِ‬ ‫}ومن يعمل مِن‬
‫ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ون نَ ِق ً‬
‫ريا{ (النساء‪)124 :‬‬ ‫النة ول يظلم‬

‫الذ َك ِر والأنثى‪ ،‬لكن لي�س عند رب‬ ‫نعم‪ ،‬رمبا هناك اختالفات بني َّ‬
‫الذ َك ِر والأنثى يف عمل‬
‫العاملني‪ ،‬لي�س يف فعلهم للخري‪ ،‬ال�سورة ت�ساوي بني َّ‬
‫احل َك ِم العدل‪.‬‬
‫اخلري‪ ،‬وت�ؤكد �أن اجلميع �سوا�سية عند َ‬
‫ُ َ‬ ‫َْ ََ َْ ُ‬ ‫ِني بالْ ِق ْس ِط ُش َه َد َ‬ ‫آم ُنوا ُكونُوا َق َّوام َ‬‫َ َ ُّ َ َّ َ َ‬
‫اء هلل َولو ع أنف ِسك ْم أ ِو‬ ‫ِ‬ ‫}يا أيها الِين‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ًّ ْ َ ً َ‬
‫ريا فاهلل أ ْول ب ِ ِهما فل تتبِعوا اله َوى أن‬ ‫الو ِالي ِن والقربِني إِن يكن غنِيا أو ف ِق‬
‫ون َخب ً‬ ‫َ َ َ ََْ ُ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ ُ َ َّ‬
‫ريا{ (النساء‪)135 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫تعدِلوا وإِن تلووا أو تع ِرضوا فإ ِ‬

‫وتقول لنا ال�سورة‪� :‬إن العدل والقيام بالعدل وحده هو الذي ميكن �أن‬
‫يزيل اال�ست�ضعاف يف الأر�ض‪ ،‬وهذا ال ميكن �أن يحدث بال�شعارات وال ‬
‫بالدعوة لذلك وال حتى بتغيري مفاهيم النا�س فح�سب‪.‬‬
‫أي�ضا �أن ُي ْق َرنَ بالقانون‪.‬‬
‫بل يجب � ً‬

‫‪- 48 -‬‬
‫سورة النساء‬

‫ولذلك عندما تنتهي ال�سورة فهي تنتهي بحكم �آخر من �أحكام املرياث‪،‬‬
‫يف �آية الكاللة‪ ،‬كما لو �أنها تقول‪� :‬إن كل احلديث عن الق�سط والعدل يجب‬
‫�أن ُي َق َّي َد بقانون‪ ،‬يجب �أن ُي َق َّ َن‪ ،‬يجب �أن يجد ما يحميه ويحققه‪.‬‬
‫***‬
‫فلنتذكر هنا �أن منح احلقوق للمر�أة �أو لأي م�ست�ض َع ٍف يف الأر�ض‪ ،‬لي�س ‬
‫منحة وال منة من �أحد‪ ،‬بل هو واجب‪ ،‬بال�ضبط هو �إرجاع احلق ل�صاحبه‪،‬‬
‫الذي قد ال يعرف � ً‬
‫أ�صل �أنه حقه!‬
‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ َ َ َ َ ُْْ َْ‬ ‫َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ ْ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫اس أن‬
‫ات إِل أهلِها وإِذا حكمتم بي انل ِ‬ ‫}إِن اهلل يأمركم أن تؤدوا المان ِ‬
‫َ َ َ ً‬
‫يعا بَ ِص ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬ ‫َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َّ‬
‫ريا{ (النساء‪)58 :‬‬ ‫تكموا بِالعد ِل إِن اهلل ن ِ ِعما ي ِعظك ْم ب ِ ِه إِن اهلل كن س ِم‬

‫***‬
‫يف منت�صف ال�سورة جند هذا احلوار الذي ال ميكن �إال �أن يجعلنا نفكر‬
‫بكل �شيء حتى النهاية‪.‬‬
‫َ ُ ْ ُ َ ُ ُ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َُْ‬ ‫َّ َّ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ُ َ‬
‫ِيم كنت ْم قالوا كنا‬ ‫ِين ت َوفاه ُم الملئ ِكة ظال ِِم أنف ِس ِه ْم قالوا ف‬ ‫}إِن ال‬
‫َ َُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ًَ ََُ‬ ‫َ ُ ََْ َ ُ ْ َْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫جروا فِيها فأول ِك‬‫مستضع ِفني ِف الر ِض قالوا ألم تكن أرض اهلل وا ِسعة فتها ِ‬
‫اء ْت َم ِص ً‬ ‫ََْ ُ‬
‫اه ْم َج َه َّن ُم َو َس َ‬
‫ريا{ (النساء‪)97 :‬‬ ‫مأو‬

‫�إذن املظلوم قد يكون ظاملًا � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬
‫ُت ْ�س ِم ُع َك حوا ًرا بني املالئكة وبني فئة «ظاملي �أنف�سهم»‪ ،‬ه�ؤالء مل يظلموا‬
‫�سواهم‪ ،‬بل ظلموا �أنف�سهم‪ ،‬تقول لهم املالئكة‪ :‬فيم كنتم؟! ظلم الآخرين‬
‫مفهوم؛ لأنه غال ًبا ينبع من الطمع واجل�شع‪ ،‬لكن �أن تظلم نف�سك ح ًّقا‪ ،‬فيم‬
‫كنتم؟!‬
‫‪- 49 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫فريد عليهم ه�ؤالء بالقول‪� :‬إنهم كانوا م�ست�ضعفني يف الأر�ض‪ ،‬كانوا‬


‫مظلومني‪.‬‬
‫�صادما‪� :‬أمل تكن �أر�ض اهلل وا�سعة؟!‬
‫ً‬ ‫في�أتي رد املالئكة املنطقي‬
‫ي�صدمنا الرد‪ ،‬نعم‪� ،‬أر�ض اهلل كانت وا�سعة‪ ،‬لكن عقولنا يف �أحيان‬
‫كثرية تكون �أ�ضيق من �أن ت�ستوعب هذا‪ ،‬فتتم�سك مبا يجعل الأر�ض �ضيقة‪،‬‬
‫ا�ست�سلمت لظلمهم‬
‫َ‬ ‫ويجعل خياراتك قليلة‪ ،‬لقد كنت ظاملًا لنف�سك عندما‬
‫مظلوما ظلم‪.‬‬
‫ً‬ ‫لك‪ ،‬الظلم �أنواع‪ ،‬والبقاء يف مكان تكون فيه‬
‫الأمر �صادم‪ ،‬مظلوميتك التي رمبا كانت «عذ ًرا» تربر به �أمو ًرا كثرية‬
‫دليل �ضدك‪.‬‬‫قد تكون ً‬
‫قليل‪ ،‬فهناك َمنْ مل ي�ستطع ً‬
‫فعل‬ ‫ثم ت�أتي �آية بعدها تخ ِّفف الأمر ً‬
‫أي�ضا يتطلب قد ًرا من القوة‪.‬‬‫اخلروج �إىل �أر�ض اهلل الوا�سعة‪ ،‬فهذا � ً‬
‫***‬
‫�سورة الن�ساء لي�ست عن الن�ساء فقط‪ ،‬بل عن الإن�سان ككل‪ ،‬ال ميكن‬
‫ف�صل ق�ضية املر�أة املظلومة عن ق�ضية الرجل املظلوم‪.‬‬
‫�سورة الن�ساء عن الإن�سان‪...‬الإن�سان املظلوم والإن�سان الظامل‪...،‬‬
‫والإن�سان الظامل با�ست�سالمه للظلم‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫المائدة ‪5‬‬
‫الطبيعة البشرية بال تجميل وال فوتوشوب‬

‫�سورة املائدة هي �سورة «الطبيعة الب�شرية» بال رتو�ش وال جمامالت‪،‬‬


‫ت�أخذك ال�سورة لت ُْج ِل َ�س َك على مائدة واحدة مع الطبيعة الب�شرية وج ًها‬
‫لوجه‪ ،‬وت�ضع لك النقاط على احلروف بحيث يبدو كل �شيء يف �أق�صى‬
‫حاالت و�ضوحه‪.‬‬
‫تبد�أ ال�سورة مبطالبة امل�ؤمنني بااللتزام بعقودهم‪.‬‬
‫ْ ُ ُ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُ‬
‫ام إِل ما يتل‬‫آمنوا أ ْوفوا بِالعقو ِد أحِلت لكم ب ِهيمة النع ِ‬ ‫}يا أيها الِين‬
‫َْ ُ َ ُ ُ‬ ‫ْ ُ ْ ُ ٌ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ِّ َّ ْ‬
‫ي مِل الصي ِد َوأنتم ح ُرم إِن اهلل يك ُم ما ي ِريد{ (املائدة‪.)1 :‬‬ ‫عليكم غ‬

‫وكل ما يلي �سيبني لك �أن احلياة كلها ميكن �أن تكون جمموعة من‬
‫العقود التي ينبغي االلتزام بها‪ ،‬و�أن الطبيعة الب�شرية حتتاج �إىل �أن يكون‬
‫هناك «عقد» � ًأول‪ ،‬ومن َث َّم حتتاج �إىل �أن تلتزم ببنود هذا العقد‪ ،‬دون وجود‬
‫عقود ملزمة متيل الطبيعة الب�شرية �إىل �أن تتمادى‪� ،‬إىل �أن تتجاوز‪� ،‬إىل �أن‬
‫تذهب �إىل �أ�سفل ما فيها و�أكرث جوانبها ظلم ًة‪.‬‬
‫ُ َّ ْ َ ُ َ َ ُ‬
‫�سيبد�أ الأمر بوجود عقد �أو ت�شريع يخ�ص الطعام }أحِلت لك ْم ب ِهيمة‬
‫َْ‬
‫ال ْن َع ِام{‪ ،‬و�سيكون هناك تعليمات �أخرى تخ�ص الطعام متنع امليتة والدم‬
‫أو�ضاعا معينة لأنعام هي حالل بالأ�صل‪.‬‬
‫وحلم اخلنزير‪ ،‬و�أخرى حت ِّرم � ً‬
‫‪- 51 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ُْْ َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ْ‬ ‫ُ ِّ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ‬
‫ي اهلل ب ِ ِه َوالمنخنِقة‬ ‫ِ‬ ‫ِغ‬ ‫ل‬ ‫ِل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬‫م‬ ‫و‬ ‫}حرمت عليكم الميتة وادلم َ ولم ال ِ ِ‬
‫ير‬ ‫ِن‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ْ ُ َ َ ِّ َ ُ َ َّ َ ُ َ َ َ َ َّ‬
‫الس ُب ُع إِل َما ذك ْي ُت ْم َو َما ذب ِ َح َ َع انلُّ ُص ِب{‬ ‫والموقوذة والمتدية وانل ِطيحة وما أكل‬
‫(املائدة‪)3 :‬‬

‫لكن ملاذا هذا الأمر مهم ج ًّدا لدرجة �أن ال�سورة تبد�أ به؟‬
‫بب�ساطة لأن الإن�سان «م�ضطر» �إىل طعامه كي ي�ستمر باحلياة‪ ،‬ال �شيء‬
‫�سيغري هذه احلقيقة‪ ،‬وعندما ترت�سخ عنده فكرة وجود عقد يحتوي على‬
‫ممنوعات وم�سموحات يف طعامه‪ ،‬ويعتاد عليها وعلى االلتزام بها‪ ،‬ف�إن‬
‫فكرة العقد نف�سها والوفاء بالعقد �ستتكر�س �أكرث و�أكرث‪.‬‬
‫َ َْ َ َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ‬
‫ال َرام َول الهد َي َول القلئ ِد‬ ‫ِين آمنوا ل تِلوا شعائ َِر اهلل ول الشهر‬‫}يا أيها ال‬
‫َ َ ِّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ً ْ َ ِّ ْ َ ْ َ ً َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ‬
‫ول آمني اليت الرام يبتغون فضل مِن رب ِهم ورِضوانا وإِذا حللتم فاصطادوا‬
‫َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ْ‬
‫اونوا ع‬ ‫ج ِد الر ِام أن تعتدوا وتع‬ ‫ول ي ِرمنكم شنآن قومٍ أن صدوكم ع ِن المس ِ‬
‫َ ُ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ ِّ َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ُ‬
‫اب{‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ِيد‬
‫د‬ ‫ش‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫اهلل‬ ‫وا‬ ‫ق‬ ‫ان وات‬‫الث ِم والعدو ِ‬
‫ال ِب واتلقوى ول تعاونوا ع ِ‬
‫(املائدة‪� )2:‬سيكون هناك عقد يخ�ص «�شعائر اهلل» و«ال�شهر احلرام»‬
‫وال�صيد يف احلرم‪ ،‬حتى يف احلرب هناك «عقد» يجب �أن يوفى به‪ ،‬حتى‬
‫َ َ ْ َ َّ ُ َ َ ُ‬
‫مع ظلم البع�ض هناك التزام بعقد �أن تعدل معهم‪َ } ،‬ول ي ِرمنك ْم شنآن‬
‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫ق ْومٍ َ َع أل َت ْعدِلوا{‪.‬‬
‫هذه العقود �أو الت�شريعات التي قد تبدو ب�سيطة هي منوذج م�صغر‬
‫للميثاق الأكرب‪ ،‬لعهد وعقد �أكرب على الإن�سان �أن يويف به ويلتزم به‪،‬‬
‫وال�سورة تتدرج معنا يف فهم ذلك؛ من عقود يومية �سهلة يف الأداء (فيما‬
‫يخ�ص الطعام ً‬
‫مثل) �إىل ما هو �أكرب و�أ�شمل‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 52 -‬‬
‫سورة املائدة‬

‫ْ َ َ ََ ََْ ُْ ُ ْ َْ َ َ َ َ ً َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ ْ َ َ َ‬
‫ش ن ِقيبا َوقال اهلل‬ ‫} َولقد أخذ اهلل مِيثاق ب ِن إِسائ ِيل وبعثنا مِنهم اثن ع‬
‫َ ُُ ُ َْ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ ْ ُ‬
‫الزكة َوآمنت ْم ب ِ ُرس ِل َوع َّز ْرتموه ْم َوأق َرضت ُم‬ ‫إِن معكم ل ِئ أقمتم الصلة وآتيتم‬
‫ْ َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ ً َ َ ً َ ُ َ ِّ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ َّ‬
‫ات ت ِري مِن تتِها‬ ‫اهلل قرضا حسنا لكفرن عنكم سيئات ِكم ولدخِلنكم جن ٍ‬
‫السبيل ‪َ ‬فب َما َن ْقضهمْ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫النهار فمن كفر بعد ذل ِك مِنكم فقد ضل سواء‬
‫َ َ ُ َ ًّ َّ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ً ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ ْ ََ‬
‫اض ِع ِه ونسوا حظا مِما‬ ‫مِيثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قا ِسية يرفون الكِم عن مو ِ‬
‫َ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ً ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ‬ ‫ُ ِّ‬
‫ذك ُروا ب ِ ِه ول تزال تطلِع ع خائ ِن ٍة مِنهم إِل قلِيل مِنهم فاعف عنهم واصفح إِن‬
‫ني{ (املائدة ‪.)13 :12‬‬‫اهلل ُي ُّب ال ْ ُم ْحسن َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫ت�أخذنا �سورة املائدة �إىل ميثاق بني �إ�سرائيل الذي ُن ِق َ�ض بق�سوة قلوبهم‬
‫وحتريفهم ملقا�صد كتابهم (ق�سوة القلب وحتريف املعاين‪ ،‬هل يذكرنا هذا‬
‫ب�شيء؟)‬
‫ََ ْ َْ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ َّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ُ َ ًّ َّ ُ ِّ‬
‫ارى أخذنا مِيثاقه ْم فنسوا حظا مِما ذك ُروا ب ِ ِه فأغ َرينا‬ ‫}ومِن الِين قالوا إِنا نص‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َْ ْ َ َ َ‬
‫ون{‬ ‫اء إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة َوس ْوف ينبئه ُم اهلل بِما كنوا يصنع‬ ‫بينهم العداوة والغض‬
‫(املائدة‪.)14:‬‬
‫أي�ضا �إىل ميثاق الن�صارى الذي ُن ِق َ�ض بتفرقهم وبغلوهم يف‬ ‫وت�أخذنا � ً‬
‫ال�سيد امل�سيح‪( ،‬هل يذكرنا هذا ب�شيء جمددًا؟)‬
‫َ َّ ُ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ارى َنْ ُن أ ْب َن ُ‬ ‫َ َ َ َْ ُ ُ‬
‫ود َوانلَّ َص َ‬
‫اء اهلل َوأحِباؤهُ قل فل َِم يعذبك ْم بِذنوبِك ْم‬ ‫}وقال ِ‬
‫ت اله‬
‫ُ ْ ُ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ات‬ ‫ش م َِّم ْن َخلَ َق َي ْغ ِف ُر ل َِم ْن ي َ َش ُ‬
‫اء َويُ َع ِّذ ُب َم ْن ي َ َش ُ َ‬
‫اء وهلل ملك السماو ِ‬ ‫بَ ْل أ ْن ُت ْم ب َ َ ٌ‬
‫َ‬
‫ري{ (املائدة‪)18:‬‬ ‫َو ْال ْر ِض َو َما بَيْ َن ُه َما َوإ َ ْل ِه ال ْ َم ِص ُ‬
‫ِ‬
‫ومرة �أخرى‪ :‬بتوهم ك ٌّل من الطرفني �أن حمبة اهلل ح�صرية له فقط‪،‬‬
‫منطا ً‬
‫قابل للتكرار؟ �أمل ي�سقط‬ ‫أي�ضا‪( ،‬هل يذكرنا ب�شيء؟ �ألي�س هذا ً‬ ‫وهذا � ً‬
‫بع�ض منا يف هذا املطب �أو ذاك �أو يف االثنني م ًعا؟)‬
‫***‬
‫‪- 53 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ُّ َ َ َ َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َْ َ‬ ‫َ ُ َ ُ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ً َ َ ُ‬
‫}قالوا يا موس إِنا لن ندخلها أبدا ما داموا فِيها فاذهب أنت َو َربك فقات ِل إِنا‬
‫ََ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ ِّ ِّ َ َ ْ ُ َّ َ ْ‬ ‫َ َُ َ ُ َ‬
‫ي الق ْو ِم‬ ‫هاهنا قاعِدون (‪ )24‬قال َرب إِن ل أملِك إِل نف ِس وأ ِخ فافرق بيننا وب‬
‫َ َ َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ َّ َ ُ َ َّ َ ٌ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ً َ ُ َ‬ ‫الْ َفاسق َ‬
‫ني سنة يتِيهون ِف ال ْر ِض فل تأس‬ ‫ني (‪ )25‬قال فإِنها مرمة علي ِهم أرب ِع‬ ‫ِ ِ‬
‫ني{ (املائدة ‪)26 :24‬‬‫ع الْ َق ْو ِم ال َفاسق َ‬
‫ْ‬ ‫ََ‬
‫ِ ِ‬

‫ت�أخذنا �سورة املائدة � ً‬


‫أي�ضا �إىل تيه بني �إ�سرائيل‪� ،‬أربعني �سنة يتيهون‬
‫يف الأر�ض نتيج ًة لنق�ضهم امليثاق‪ ،‬فتكاد ترى يف هذا التيه وجوهً ا كثرية‬
‫دت يف التيه وكربتَ يف التيه‬
‫تعرفها‪ ،‬بل قد تفكر مع نف�سك �أنك رمبا ُو ِل َّ‬
‫وانت�سبت جلامعتها‪ ،‬وتزوجت‬
‫َ‬ ‫ودر�ست يف التيه‪ ،‬وتخ َّر ْج َت يف مدر�سة التيه‬
‫َ‬
‫أي�ضا‪ ،‬وكل ذلك دون �أن تعرف �أنك يف التيه‪ ،‬بل‬ ‫أطفال يف التيه � ً‬‫لتنجب � ً‬
‫رمبا كنت تتوهم �أنك على �صراط م�ستقيم‪� ،‬أنك على الطريق ال�صواب‪.‬‬
‫�إنها الطبيعة الب�شرية عندما تكون بال ميثاق وال عقد وال بو�صلة‪� ،‬ستتيه‪،‬‬
‫�ستكون مر�صودة للتيه‪.‬‬
‫***‬
‫َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ِّ ْ َ َ ُ َ ً َ ُ ُ ِّ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ َّ ْ‬
‫الق إِذ ق َّربا ق ْربانا فتقبل مِن أح ِدهِما َول ْم يتقبل‬ ‫}واتل علي ِهم نبأ ابن آدم ب ِ‬
‫َ‬
‫ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ ُ َّ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ‬
‫ل يدك‬ ‫مِن الخ ِر قال لقتلنك قال إِنما يتقبل اهلل مِن المت ِقني ‪ ‬ل ِئ بسطت إ ِ‬
‫ِّ ُ ُ‬ ‫اف اهلل َر َّب الْ َعالَم َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ ِّ َ َ ُ‬ ‫َْ ُ َ َ ََ َ‬
‫ني ‪ ‬إِن أ ِريد‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ي‬ ‫ط‬
‫ِلقتل ِن ما أنا ب ِ ِ ٍ‬
‫س‬ ‫ا‬ ‫ب‬
‫ََ َ ْ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ ُ َّ‬
‫الظالِم َ‬ ‫َ ْ َُ َ ْ َ ْ َ ََ ُ َ ْ ْ َ‬
‫َ‬
‫ني ‪ ‬فط َّوعت‬ ‫ِ‬ ‫ار وذل ِك جزاء‬ ‫ِ‬ ‫انل‬ ‫اب‬‫أن تبوء بِإِث ِم وإِث ِمك فتكون مِن أص ِ‬
‫ح‬
‫الاس َ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َْ‬ ‫َ َْ ُ ُ ََْ َ‬
‫ين{ (املائدة ‪.)30 :27‬‬ ‫ِِ‬ ‫لُ نفسه قتل أخِي ِه فقتله فأصبح مِن‬

‫من �أر�ض التيه �ست�أخذنا ال�سورة �إىل �أ�صل الق�صة‪� :‬إىل �أول جرمية يف‬
‫تاريخ الطبيعة الب�شرية‪ ،‬عندما قتل قابيل هابيل‪ ،‬الدافع؟ الغرية‪ ،‬احل�سد‪.،‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫سورة املائدة‬

‫الطمع‪ ،‬نوازع موجودة يف الطبيعة الب�شرية‪ ،‬وعندما ُي ْنزَ ُع اللجام عنها‪،‬‬


‫ميكن �أن تقرتف �أي �شيء‪ ،‬حتى �أن يقتل الأخ �أخاه‪.‬‬
‫ميكن �أن تذهب الطبيعة الب�شرية �إىل هذا املدى من ال�سوء‪ ،‬تاريخ‬
‫الب�شرية م�صداق على ذلك‪ ،‬ن�شرات الأخبار م�صداق على ذلك‪.‬‬
‫لذلك كان ال بد من �أن تكون هناك حدود وا�ضحة‪ ،‬عقوبات رادعة‪ ،‬لكن‬
‫من يتخطى بنود العقد وامليثاق‪� ،‬ستذكر الآيات عقوبات م�شددة بحق من‬
‫يف�سدون يف الأر�ض ويقطعون الطريق‪.‬‬
‫ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫ي نف ٍس أ ْو فسا ٍد‬ ‫}مِن أج ِل ذل ِك كتبنا ع ب ِن إِسائ ِيل أنه من قتل نفسا بِغ ِ‬
‫َ َ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ ً َ َ َ ْ‬ ‫َْ‬
‫ِف ال ْر ِض فكأنما قتل انلاس جِيعا ومن أحياها فكأنما أحيا انلاس جِيعا ولقد‬
‫َّ َ‬ ‫َْْ َُ ْ ُ َ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ َ ْ َ ِّ َ ُ َّ َّ َ ً ْ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫سفون (‪ )32‬إِنما‬ ‫ِ‬ ‫ريا مِنه ْم بعد ذل ِك ِف الر ِض لم‬ ‫ات ثم إِن كثِ‬‫جاءتهم رسلنا بِالين ِ‬
‫َ َ ً َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ َُ ََْ َْ َ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫اربون اهلل ورسول ويسعون ِف الر ِض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا‬ ‫جزاء الِين ي ِ‬
‫ُّ ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َُْْ َ َْ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ ْ ْ َ‬
‫ِيهم وأرجلهم مِن خِل ٍف أو ينفوا مِن الر ِض ذل ِك لهم خِزي ِف ادلنيا‬ ‫أو تقطع أيد ِ‬
‫يم{ (املائدة ‪.)33 :32‬‬ ‫َول َ ُه ْم ف ْالخ َِرة ِ عذاب عظ ٌ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وعقوبات �أخرى بحق من يرتكب جرائم ال�سرقة‪.‬‬


‫َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ َ َ َ َ َ ً‬
‫اء بِما كسبا نكال م َِن اهلل َواهلل‬‫ارقة فاقطعوا أيدِيهما جز‬ ‫}والس ِ‬
‫ارق والس ِ‬
‫َعز ٌ‬
‫يز َحك ٌ‬
‫ِيم{ (املائدة‪.)38:‬‬ ‫ِ‬
‫قد يعدها البع�ض قا�سي ًة‪ ،‬لكنها الطبيعة الب�شرية للأ�سف‪� ،‬إن مل ُت ْل ِج ْم َها‬
‫بردع وقوة‪� ،‬سيحدث معها التمادي بكل �أ�شكاله‪ ،‬الق�صا�ص ال بد منه لي�س ‬
‫لعقوبة «املجرم» فقط‪ ،‬ولكن ملنع جمرمني كامنني �آخرين يف الطبيعة‬
‫الب�شرية من الظهور‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تلك الطبيعة الب�شرية عندما تكون بال عقد وال رادع‪ ،‬تكون هي‬
‫«اجلاهلية» بعينها‪.‬‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُ ْ ً َْ‬ ‫ك َم ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬‫ََ ُ ْ‬
‫ون{‬ ‫يوق ِن‬ ‫الا ِهلِي ِة يبغون َومن أحسن مِن اهلل حكما ل ِقومٍ‬ ‫}أفح‬
‫(املائدة‪)50:‬‬

‫اجلاهلية هي �أن ترتك الطبيعة الب�شرية بال تهذيب وال تعليم وال التزام‬
‫أنا�سا ي َّد ُعون �أنهم‬
‫برادع �أو قانون‪ ،‬و�ستحتوي على تدرجات وا�سعة وت�شمل � ً‬
‫�ضد اجلاهلية و�أنهم يحاربونها و�أنهم �إمنا يريدون حكم اهلل‪ ،‬لكنهم يف‬
‫احلقيقة التطبيق العملي ملعنى اجلاهلية الأعمق‪.‬‬
‫البع�ض منهم �سيتنازل عن �إن�سانيته ويرتد �إىل م�ستوى حيواين يف‬
‫ال�سلوك (القردة واخلنازير) كما �سيقول القر�آن‪ ،‬والبع�ض منهم �سيعبد‬
‫(الطاغوت)‪.‬‬
‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َََُ‬ ‫ُ ْ َ ْ ُ َ ِّ ُ ُ ْ َ ٍّ ْ َ َ َ ُ َ ً ْ َ‬
‫ش مِن ذل ِك مثوبة عِند اهلل من لعنه اهلل َوغ ِض َب علي ِه‬ ‫}قل هل أنبئكم ب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ٌّ َ َ ً َ َ َ ُّ َ ْ َ‬
‫ازير وعبد الطاغوت أول ِك ش مكنا وأضل عن سواءِ‬ ‫وجعل مِنهم ال ِقردة والن ِ‬
‫َّ‬
‫يل{ (املائدة‪)60‬‬ ‫السبِ ِ‬
‫والبع�ض �سي َّد ِعي بخل اهلل برحمته على العاملني؛ ليربروا بخلهم هم‬
‫مقد�سا‪.‬‬
‫ويجعلوه ً‬
‫َ ْ ُ َ ٌ ُ َّ ْ َ ْ ْ َ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َْ ُ ُ َ ُ‬
‫ان‬
‫ِيهم ول ِعنوا بِما قالوا بل يداه مبس َوطت ِ‬
‫ت الهود يد اهلل مغلولة غلت أ ُيد ِ‬ ‫}وقال ِ‬
‫ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ َّ َ ً ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ ً َ ُ ْ ً َ ْ َ ْ َ‬
‫ييدن كثِريا مِنهم ما أن ِزل إِلك مِن ربك طغيانا وكفرا وألقينا‬ ‫ين ِفق كيف يشاء ول ِ‬
‫َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ ُ َ ً ْ َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫بينهم العداوة والغضاء إِل يو ِم ال ِقيام ِة كما أوقدوا نارا ل ِلحر ِب أطفأها اهلل‬
‫َْْ َ َ ً‬
‫ادا َواهلل َل ُي ُّب ال ْ ُم ْفسد َ‬ ‫َْ َ َ‬
‫ِين{ (املائدة‪.)64:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َويسع ْون ِف الر ِض فس‬

‫‪- 56 -‬‬
‫سورة املائدة‬

‫الطمع‪� ،‬أكل احلرام‪ ،‬العداوة والبغ�ضاء‪ ،‬كلها �ستكون �صفات للطبيعة‬


‫الب�شرية وهي تتخلى عن عقودها وعهودها وتتحايل عليها‪ ،‬و�سي�أتي يف هذا‬
‫ال�سياق حترمي «اخلمر واملي�سر والأن�صاب والأزالم»‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ ٌ‬
‫س َوالنصاب َوالزلم ِرجس مِن عم ِل‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا إِنما المر والمي ِ‬
‫َّ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ُ ْ ُ َ‬
‫ان فاجتنِبوهُ لعلك ْم تفلِحون{ (املائدة‪.)90:‬‬ ‫الشيط ِ‬
‫فاخلمر حتديدً ا تخ ِّفف من �سيطرة الإن�سان على نف�سه‪ ،‬وهذا ميكن له‬
‫�أن ُي ْ ِب َز فيه �أ�سو�أ ما فيه‪ ،‬واملي�سر والأن�صاب والأزالم «حترك» دافع الطمع‬
‫عند الإن�سان‪ ،‬الربح املبني على حم�ض «احلظ» ال على اجلهد والعرق‪،‬‬
‫وهذا � ً‬
‫أي�ضا قد يربز فيه �أ�سو�أ ما فيه‪.‬‬
‫تنتهي ال�سورة باحلواريني وهم يطلبون املزيد من ال�سيد امل�سيح‪� ،‬إنها‬
‫الطبيعة الب�شرية التي ال تكف عن الطلب‪ ،‬حتى عند امل�ؤمنني‪ ،‬هذه املرة‬
‫الطلب هو مائدة من ال�سماء‪ ،‬و�سيتحقق طلبهم كطلب �أخري ال حجة بعده‪.‬‬
‫َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُّ َ َ ْ ُ َ ِّ َ َ َ ْ َ َ َ ً‬ ‫ْ َ َ ْ َ َ ُّ َ َ‬
‫اريون يا عِيس ابن مريم هل يست ِطيع ربك أن ينل علينا مائ ِدة‬ ‫}إِذ قال الو ِ‬
‫ُ‬
‫ُ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ال َّات ُقوا اهلل إ ْن ك ْن ُت ْم ُم ْؤمن َ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ني ‪ ‬قالوا ن ِريد أن نأكل مِنها َوتطم ِئ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫مِن السماءِ ق‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وب َنا َو َن ْعلَ َم أن قد صدقتنا َونكون عليها م َِن الشاهد َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُُ ُ‬
‫ِين{(املائدة ‪.)113 :112‬‬ ‫ِ‬ ‫قل‬

‫***‬
‫نزلت مائدة ال�سماء على حواريي ال�سيد امل�سيح‪� ،‬أما املائدة التي �أُ ْن ِز َل ْت‬
‫لنا فهي مائدة مواجهة مع النف�س ومع الطبيعة الب�شرية‪ ،‬مائدة نواجه‬
‫فيها تاريخ ما م�ضى وجتاربه املريرة‪ ،‬مائدة تقلب الطاولة على الكثري من‬
‫الأوهام فيما يتعلق بالطبيعة الب�شرية‪.‬‬
‫‪- 57 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وج ًها لوجه مع �أنف�سنا‪ ،‬على تلك املائدة‪ ،‬نعم‪ ،‬نحتاج �إىل قوانني رادعة‪،‬‬
‫دوما قابيل يقتل هابيل‪ ،‬و�أر�ض التيه‬
‫�إىل ت�شريعات ملزمة‪ ،‬و�إال ف�إن هناك ً‬
‫حميطة بنا ويف انتظارنا‪ ،‬نحتاج �أن نكون �صادقني مع حقائق الطبيعة‬
‫الب�شرية «امل�ؤ�سفة» لكي نقر باحتياجاتها‪ ،‬نحتاج ال�صدق يف مواجهة ذلك‪.‬‬
‫ال�صدق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َّ‬
‫الصا ِدق َِني ِص ْدق ُه ْم{‪.‬‬ ‫تنتهي ال�سورة ب�آية تقول لنا‪} :‬هذا يوم ينفع‬

‫للخروج من التيه‪ ،‬ولكي مننع قابيل �آخر من �أن يقتل هابيل جمددًا‪.‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫سورة األنعام ‪6‬‬
‫أهم عالقة في حياتك‬

‫�سورة «الأنعام» هي عن �أهم عالقة لك يف حياتك‪.‬‬


‫لي�ست عن عالقتك ب�شريكك �أو �شريكتك �أو �أمك �أو �أبيك �أو �أوالدك‪.‬‬
‫وال حتى عن عالقتك بنف�سك‪.‬‬
‫بل عن عالقتك مبن �أوجدك‪.‬‬
‫عن عالقتك باهلل خالقك‪.‬‬
‫ال�سورة هي �أول �سورة مكية من طوال ال�سور؛ لذا فهي بال حديث عن‬
‫ت�شريع �أو عقود‪ ،‬ال وجود للمنافقني فيها‪ ،‬وال �شيء عن اليهود‪ ،‬وهي �أمور‬
‫مل�سناها يف ال�سور ال�سابقة التي كانت كلها قد نزلت يف املدينة‪.‬‬
‫ال�سورة نزلت يف مكة‪ ،‬وهي ت�أخذك عمل ًّيا �إىل النبع الأول‪� ،‬إىل مرحلة‬
‫الإن�شاء‪.‬‬
‫خ�ضم ال�صراع املرير‬
‫ِّ‬ ‫كنت يف‬
‫هكذا ت�سل�سل الأمر‪ :‬يف �سورة البقرة َ‬
‫مع الواقع‪ ،‬يف �سورة �آل عمران كان جرب اخلواطر‪ ،‬يف �سورة الن�ساء كانت‬
‫هناك القوانني التي تزيل اال�ست�ضعاف عن امل�ست�ضعفني يف الأر�ض‪ ،‬يف‬
‫جل�ست وج ًها لوجه مع الطبيعة الب�شرية وتع َّر ْف َت على خماطر‬
‫َ‬ ‫�سورة املائدة‬
‫� َّأل يكون هناك ما يلجمها ‪ ...‬ما يوقفها عند «حدودها»‪.‬‬
‫‪- 59 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الآن بعد �أن اجتزتَ كل هذا‪ ،‬ت�صل �إىل العالقة الأهم يف حياتك‪.‬‬
‫ملاذا لي�س قبل هذا؟ �أال يفرت�ض �أن تركز على هذه العالقة قبل كل‬
‫�شيء؟‬
‫لي�س بال�ضرورة‪ ،‬فكل ما �سبق ميكن له �أن ي�شو�ش عليك يف عالقتك‬
‫تلك‪� ،‬صراعك املرير مع الواقع من حولك ومع الك�سر الذي فيك ومع‬
‫اال�ست�ضعاف ومع طبيعتك الب�شرية ميكن له �أن ي�ؤثر �سلب ًّيا على كل‬
‫عالقاتك‪ ،‬حتى العالقة الأهم؛ لذا فت�س ْل ُ�سل �سور القر�آن يجعلك «حت ُّل»‬
‫ق�ضاياك العالقة � ًأول‪� ،‬أو على الأقل ت�صبح �أكرث وع ًيا بها‪ ،‬قبل �أن ُي ْد ِخلك‬
‫�إىل ال�سورة التي ت�أخذك �إىل العالقة الأهم يف حياتك‪ ،‬طب ًعا هذا ال يعني‬
‫�أن ما �سبق كان خال ًيا من هذه العالقة‪ ،‬ال بالت�أكيد‪ ،‬فكل ما يف �سور القر�آن‬
‫يرتبط بهذه العالقة بطريقة �أو ب�أخرى‪ ،‬لكن احلديث هو عن �أهم و�أبرز ما‬
‫داخل «ال�سور» يف كل �سورة‪.‬‬
‫***‬
‫ور ُث َّم َّال َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ‬
‫الظلُ َمات َوانلُّ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ ْ ُ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬ ‫ات والرض وجعل‬ ‫المد هلل الِي خلق السماو ِ‬ ‫}‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ َ ْ‬ ‫ََ‬
‫كف ُروا ب ِ َرب ِه ْم يعدِلون{ (األنعام‪)1 :‬‬

‫تبد�أ هذه ال�سورة مبا بد�أ به القر�آن كله‪ :‬باحلمد‪ ،‬هذه العالقة الأهم يف‬
‫دوما من ناحيتك باحلمد‪ ،‬مهما كان ومهما حدث‪ ،‬احلمد‪،‬‬ ‫حياتك �ستبد�أ ً‬
‫لكنك متر �أحيا ًنا مبا يجعل هذا �صع ًبا‪.‬‬
‫ُْ َ ْ َ‬ ‫ريوا ف ْالَ ْر ِض ُث َّم ْان ُظ ُروا َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة ال ْ ُم َك ِّذب َ‬‫ُ‬ ‫ُْ‬
‫ني ‪ ‬قل ل ِمن ما ِف‬ ‫ِ‬ ‫}قل ِس َ ِ‬
‫َّ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫ََ ََ َْ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫الرحة َلجمعنك ْم إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة ل‬ ‫ات َوالر ِض قل هلل كت َب ع نف ِس ِه‬ ‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ُ َ‬ ‫َْ َ‬
‫سوا أنفسه ْم فه ْم ل يؤمِنون{ (األنعام ‪.)12 :11‬‬ ‫ريب فِي ِه الِين خ ِ‬
‫‪- 60 -‬‬
‫سورة األنعام‬

‫�ست�أخذك ال�سورة يف رحلة تتفح�ص فيها كل �شيء‪ ،‬ويف نهايتها �سيكون‬


‫احلمد نتيجة طبيعية‪.‬‬
‫�ست ُْخ ِرجك ال�سورة من عاملك ال�ضيق الذي قد ي�ستثقل احلمد �إىل عامل‬
‫�أكرب بكثري‪� ،‬إىل الكون واخلليقة ب�أَ ْ�س ِرها؛ ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬الظلمات‬
‫والنور‪ ،‬مهما كانت «الأنا» عندك مت�ضخمة بورم من �أورام الذات‪،‬‬
‫قليل‪ ،‬تذكريك بطينك‬ ‫فتذكريك بحجم الكون �سيجعل الأنا تنكم�ش ولو ً‬
‫الأر�ضي لي�س للتقليل من �ش�أنك‪ ،‬بل لأنها احلقيقة التي نن�ساها �أحيا ًنا‪ ،‬بل‬
‫نن�ساها دائ ًما بينما نن�ساق �إىل التكذيب واجلدال بحق وبغريه‪.‬‬
‫ت�أخذك �سورة الأنعام �إىل الأر�ض‪ ،‬ت�سري بك لتتجول فيها عرب مقطع‬
‫يدر�س تاريخا وينظر يف م�صائر �أممها‪ ،‬وت�أخذك �إىل هذا الكون‬ ‫ً‬ ‫عر�ضي‬
‫امل�صنوع بدقة‪ ،‬كم تبدو �صغ ًريا عندما تقارن نف�سك فيه‪ ،‬لكن ال�سورة ال ‬
‫أي�ضا‪� :‬إن خالق‬ ‫تدعك تق ِّلل من �ش�أنك وتن�ساق يف ذلك‪ ،‬بل هي تقول لك � ً‬
‫هذا الكون قد �أمرك �أن تكون �أول َمنْ �أ�سلم له‪� ،‬أول امل�سلمني‪.‬‬
‫َ ُ ْ َ ُ ْ ِّ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ َّ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫}قُ ْل أ َغ ْ َ‬
‫ات َوال ْر ِض َوه َو يط ِع ُم َول يطع ُم قل إِن‬ ‫ي اهلل أتِذ و ِ ًّلا فاط ِِر السماو ِ‬
‫ُ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ‬
‫ون َّن م َِن ال ْ ُم ْشك َ‬
‫ِني{ (األنعام‪.)14:‬‬ ‫ِ‬ ‫أمِرت أن أكون أول من أسلم ول تك‬

‫اخلطاب للر�سول ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬الذي تنزَّل عليه الوحي‪،‬‬


‫أي�ضا‪ ،‬ميكنك �أن تكون الأول يف �شيء ما‪ ،‬وهذا‬‫موجه لك � ً‬
‫لكنه بطريقة ما َّ‬
‫�أمر من خالقك‪ ،‬ت�أخذك ال�سورة يف م�سرية يف �صفاته عز وجل‪ ،‬هو الذي‬
‫يك�شف عنك ال�ضر‪ ،‬وهو القاهر فوق عباده وهو احلكيم اخلبري‪ ،‬عنده‬
‫مفاحت الغيب ويعلم كل �شيء‪ ،‬لي�س بينك وبينه � َّإل �أن تت�أكد من �أنك َ‬
‫ل�ست‬
‫من ه�ؤالء‪.‬‬
‫‪- 61 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ً َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫ُْ َ ْ َْ َ ُ َ َ َ َ َْ ََ ُُ‬


‫} َومِنه ْم من يست ِمع إ ِ ْلك َوجعلنا ع قلوب ِ ِه ْم أكِنة أن يفقهوهُ َو ِف آذان ِِه ْم َوق ًرا‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ‬
‫ِين كف ُروا إِن هذا‬ ‫وإِن يروا ك آي ٍة ل يؤمِنوا بِها حت إِذا جاءوك يادِلونك يقول ال‬
‫ِري ْالَ َّول َ‬ ‫َ‬
‫ِني{ (األنعام‪)25 :‬‬ ‫إ َّل أ َساط ُ‬
‫ِ‬
‫�ست�أخذك �سورة الأنعام بينما ثمة موا�ساة للر�سول عن كل ما يقوله‬
‫املكذبون فتجد نف�سك قد اقرتبت �أكرث من دواخله ال�شريفة الكرمية‪ ،‬هو‬
‫يحزن �إذن مثلنا جمي ًعا‪ ،‬رمبا لأ�سباب �أخرى غري تلك التي نحزن لأجلها‪،‬‬
‫لكن احلزن واحد‪ ،‬موا�ساة الآيات له ‪-‬عليه ال�صالة وال�سالم‪� -‬ستوا�سيك‬
‫بغ�ض النظر عن �سبب حزنك‪� ،‬ستقول لك ال�سورة‪� :‬إن كل دواب‬ ‫أي�ضا ِّ‬
‫� ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الأر�ض }أم ٌم أمثالكم{‪ ،‬وعليك �أن تتذكر هذا فرمبا حتتاجه الح ًقا‪َ } ،‬وما‬
‫ْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫َ ُ َ َ َ ْ َّ َ ٌ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َّ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ََ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َ َّ‬
‫اب‬
‫مِن داب ٍة ِف الر ِض ول طائ ٍِر ي ِطري ِبناحي ِه إِل أمم أمثالكم ما فرطنا ِف الكِت ِ‬
‫ون{ (األنعام‪.)38 :‬‬
‫ش َ‬ ‫ش ٍء ُث َّم إ َل َر ِّبه ْم ُيْ َ ُ‬
‫م ِْن َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫***‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ً َ ً ِّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ َْ ُ َ‬
‫ِيم ِلبِي ِه آز َر أتتخِذ أصناما آل ِهة إِن أ َراك َوق ْومك ِف ضل ٍل‬ ‫}وإِذ قال إِبراه‬
‫ْ‬
‫ون م َِن ال ُموقِن َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ََ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ني ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ات والر ِض و ِلك‬ ‫ني ‪ ‬وكذل ِك ن ِري إِبراهِيم ملكوت السماو ِ‬ ‫مبِ ٍ‬
‫ِب ْالفِل َ‬ ‫َ َ َّ َ َّ َ َ ْ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ً َ َ َ َ َ ِّ َ َ َّ َ َ َ َ َ‬
‫ال َل ُأح ُّ‬
‫ِني ‪‬‬ ‫فلما جن علي ِه الليل رأى كوكبا قال هذا رب فلما أفل ق‬
‫ون َّن م َِن الْ َقو ِمْ‬ ‫َ ِّ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ َ ِّ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫فلما َرأى القم َر بازِغ قال هذا َرب فلما أفل قال ل ِئ لم يهد ِِن رب لك‬
‫َّ ْ َ َ َ ً َ َ َ َ َ ِّ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ‬ ‫الضالِّ َ‬
‫َّ‬
‫ب فلما أفلت قال يا ق ْو ِم‬ ‫ازغة قال هذا رب هذا أك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫م‬‫الش‬ ‫ى‬ ‫أ‬ ‫ني ‪ ‬فلما ر‬
‫َْ َ َ ً‬ ‫َ َ َ َّ َ َ‬ ‫ِّ َ َّ ْ ُ َ ْ َ َّ‬ ‫ِّ َ ٌ َّ ُ ْ ُ َ‬
‫ات َوال ْرض حنِيفا‬ ‫ه ل ِلِي فطر السماو ِ‬ ‫شكون ‪ ‬إِن وجهت وج ِ‬ ‫إِن ب ِريء مِما ت ِ‬
‫ِني{ (األنعام ‪)79 :74‬‬ ‫َو َما َأنَا م َِن ال ْ ُم ْشك َ‬
‫ِ‬
‫ثم ت�أخذك ال�سورة �إىل حوار �إبراهيم و�أبيه‪ ،‬وتلك الليلة التي قرر فيها‬
‫�إبراهيم �أن يواجه معبودات قومه‪.‬‬
‫‪- 62 -‬‬
‫سورة األنعام‬

‫الكوكب‪� ،‬أه َو ه َو؟ هل هذا هو الإله اخلالق؟ لكنه قد �أفل‪ ،‬و�إبراهيم ال ‬


‫يحب الآفلني‪ ،‬الفطرة ال�سليمة ال حتب الآفلني‪ ،‬املنطق البديهي ال يحب‬
‫الآفلني‪.‬‬
‫ثم جاء القمر‪ ،‬وهو يبدو �أكرب‪ ،‬وكرر �إبراهيم �أ�سئلته‪ ،‬لكن القمر � َ‬
‫أفل‬
‫أي�ضا‪ ،‬و�إبراهيم ال يحب الآفلني‪ ،‬ثم ها هي ال�شم�س �أكرب‪ ،‬هل تكون هي؟‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬و�إبراهيم يعي �أن الإله احلق ال ي�أفل قط‪ ،‬وال يدخل � ً‬
‫أ�صل‬ ‫لكنها �أ َف َل ْت � ً‬
‫ووجه �إبراهيم‬
‫مقايي�س الك َب‪ ،‬اهلل �أكرب لأنه �أكرب من هذه املقايي�س‪َّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫وجهه لفاطر ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬اكت�شف بداهة اخلالق ووحدانيته بعقله‬
‫قبل �أن يتنزل عليه الوحي‪ ،‬وفتح لنا الدرب كي نوفق بني عقلنا و�إمياننا‪،‬‬
‫تلك الليلة ال تزال ت�شع نو ًرا ميكننا �أن نتلم�سه ونتح�س�سه كلما حا�صرتنا‬
‫ُظ ْل َم ُة ال�شك والت�شكيك وظلمة اجلمود والظالميني(((‪.‬‬
‫***‬
‫َ ُ‬
‫وكما �ساح �إبراهيم يف ملكوت اهلل بعقله ت�أخذنا ال�سورة �إىل }فال ِق‬
‫َ ُ‬
‫ال ِّب َوانلَّ َوى{ و«خمرج احلي من امليت وخمرج امليت من احلي» }فال ِق‬ ‫َْ‬
‫شء{ } َل تُ ْدر ُك ُه ْالَبْ َص ُ‬ ‫ك َ ْ‬
‫َ ُ ُ ِّ‬
‫}‬ ‫{‬ ‫اوات َو ْالَ ْ‬ ‫َ ُ َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫}‬ ‫{‬ ‫ِ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ار‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِق‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫خ‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِيع‬
‫د‬ ‫ب‬ ‫اح‬ ‫ب‬ ‫الص‬ ‫ِ‬
‫ْ َ ُّ ُ َّ َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َُ ُْ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫ُ‬
‫وهو يدرِك البصار وهو الل ِطيف البِري{ }الغ ِن ذو الرح ِة{‪� ،‬صفات اهلل يف‬
‫خلقه و�أثرها على خلقه‪ ،‬وكلها تقودك �إىل �أن تكت�شف �أن عالقتك به ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬هي �أهم ما ميكن �أن ُت ْن ِ�شئه من عالقات يف حياتك وبعد حياتك‪.‬‬
‫َْ َ ٌ ُ َ ْ‬ ‫ْ ٌ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ُ َ َْ َ ٌ َ ٌ‬
‫اء ب ِ َزع ِم ِه ْم َوأنعام ح ِّرمت‬ ‫} َوقالوا ه ِذه ِ أنعام َوح ْرث حِجر ل يطعمها إِل من نش‬
‫ُ ُ ُ َ ََ ْ َ ٌ َ َ ْ ُ ُ َ ْ‬
‫اس َم اهلل َعلَ ْي َها ْاف ِ َ‬
‫ت ًاء َعلَ ْي ِه َس َي ْجزيه ْم ب َما َكنُوا َي ْف َ ُ‬
‫تونَ ‪‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ظهورها وأنعام ل يذكرون‬

‫((( للمزيد‪ :‬البوصلة القرآنية‪ ،‬للمؤلف‪.‬‬


‫‪- 63 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ ْ َ ْ َ َ َ ٌ ُ ُ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ً‬ ‫ُُ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫جنا َوإِن يكن ميتة‬ ‫ورنا ومرم ع أزوا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬‫ل‬‫ِ‬ ‫ة‬ ‫ِص‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫خ‬ ‫ِ‬
‫ام‬ ‫ع‬‫ن‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ون‬
‫ِ‬ ‫ط‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫وقالوا‬
‫ِيم{ (األنعام ‪.)139 :138‬‬
‫َ‬
‫ِيم عل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫شك ُء سيجزيه ْم َوصفه ْم إنه َحك ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َف ُه ْم فِي ِه َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ملاذا الأنعام؟ ت�شري ال�سورة يف �أكرث من مو�ضع �إىل تالعب امل�شركني يف‬
‫عالقتهم بالأنعام وتق�سيمها‪ ،‬مرة يق�سمونها لتكون حمرمة على الإناث‪،‬‬
‫ومرة تكون فقط ل�سدنة الأوثان‪ ،‬مرة ُي ْذ َك ُر عليها ا�سم اهلل ومرة �أ�سماء‬
‫الأوثان‪.‬‬
‫لكن هذه الأنعام مل تكن جمرد �أنعام‪ ،‬كانت دعامة من دعائم االقت�صاد‬
‫قليل لوجدنا �أن هذا التالعب‬ ‫�آنذاك‪ ،‬كانت مثل «ر�أ�س املال»‪ ،‬ولو فكرنا ً‬
‫بر�أ�س املال عرب الدين وعرب ال�شعارات الدينية التي ُت ْظ ِهر الورع و ُت ْب ِطن‬
‫الربح يف التجارة‪.‬‬
‫يوما ما‪ ،‬ميكن �أن يكون‬ ‫ال�سورة تنبهنا �إىل ذلك‪ ،‬وما كان ا�سمه �أنعام ً‬
‫ا�سمه املال‪� ،‬أو ر�أ�س املال اليوم‪� ،‬أو �أي �صيغة و�شكل من �صيغه و�أ�شكاله‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬ف�ضعف عالقتك به عز وجل لن يقود فح�سب �إىل �أن‬
‫تتورط يف ا�ستغالل الدين لتحقيق الربح‪.‬‬
‫أي�ضا جز ًءا من «عملية الرتبح»‬ ‫لكنه ميكن �أن يقودك �إىل �أن تكون �أنت � ً‬
‫التي يديرها البع�ض‪� ،‬أن تكون كالأنعام التي يربحون عرب التالعب‬
‫مبقدراتها‪.‬‬
‫عالقتك به ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هي الفي�صل الفارق احلا�سم بني �أن تكون �أنت‪،‬‬
‫و�أن تكون من الأنعام‪ ،‬كلها يف النهاية «�أمم �أمثالكم»‪ ،‬لكن الإن�سان لديه‬
‫خيار �آخر؛ � َّأل يكون كالأنعام‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 64 -‬‬
‫سورة األنعام‬

‫ً َ ً َّ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ َ ِّ َ َ ُ ْ َ‬
‫ِيم حنِيفا َوما كن‬ ‫يم دِينا قِيما مِلة إِبراه‬‫اط مست ِق ٍ‬ ‫}قل إِن ِن هد ِان رب إِل ِص ٍ‬
‫َ‬ ‫اي َو َم َمات هلل َر ِّب الْ َعالَم َ‬ ‫َ َْ‬
‫م َي َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ‬ ‫م َِن ال ْ ُم ْشك َ‬
‫ني ‪ ‬ل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِني ‪ ‬قل إِن صل ِت َونس ِك و‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ‬
‫شيك ل وبِذل ِك أمِرت وأنا أول المسلِ ِمني{ (األنعام ‪)163 :161‬‬ ‫ِ‬
‫تنتهي ال�سورة بذلك االكت�شاف الذي �أنار �شعلته �سيدنا �إبراهيم �أول‬
‫ِّ‬ ‫َ ََْ َ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ‬
‫اي َومم ِات هلل َرب‬ ‫مرة‪ ،‬و�أكمله �سيدنا حممد‪} ،‬قل إِن صل ِت َونس ِك ومي‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ني{ (األنعام ‪.)163 :162‬‬‫يك َلُ َوب ِ َذل َِك أم ِْر ُت َوأنَا أ َّو ُل ال ْ ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫ش‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫الْ َعالَم َ‬
‫ني‬ ‫ِ‬

‫ال يزال هذا الأمر م�ضي ًئا‪ ،‬وال يزال ميكنه �أن ينري ليايل �ش ِّكك وحريتك‪،‬‬
‫وتكت�شف ذلك الأول الكامن فيك‪.‬‬
‫ُ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬
‫}قل أ َغ ْ َ‬
‫ي اهلل أبْغ َر ًّبا َو ُه َو َر ُّب ك ْ‬
‫ش ٍء{؟ تت�ساءل الآيات يف خامتة‬ ‫ِ‬
‫ال�سورة بعد �أن قادتنا من «احلمد» �إىل فالق احلب والنوى وخالق ال�سماوات‬
‫والأر�ض مرو ًرا بليلة �إبراهيم‪.‬‬
‫يكون اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬لي�س غري اهلل‪.‬‬
‫�أهم عالقة ميكن �أن حت�صل عليها يف حياتك؛ هي عالقتك به عز وجل‪.‬‬
‫�أمر ال ميكن �أن يح�صل للأنعام‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫سورة األعراف ‪7‬‬
‫األنا في النحن‬

‫�إذا كانت �سورة الأنعام هي عن عالقتك ال�شخ�صية باهلل عز وجل‪ ،‬ف�إن‬


‫ال�سورة التي تليها ‪�« -‬سورة الأعراف» ‪ -‬هي عن عالقتك مبجتمعك‪.‬‬
‫َ َْ‬
‫م َي َ‬ ‫ُ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت َو ْج ِ َ‬‫َ َّ ْ ُ‬
‫اي َو َم َم ِات{‬ ‫َ‬
‫ه{ و}صل ِت َونس ِك و‬ ‫هكذا انتقلنا من }وجه‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫و}أ َّو ُل ال ْ ُم ْسلِ ِم َ‬
‫ني{ و} ِج ْئ ُت ُمونَا ف َر َادى{ يف ال�سور ال�سابقة �إىل «يا بني �آدم»‬
‫(تكررت ‪ 4‬مرات) و«�أهل القرى» (‪ 3‬مرات) و«�أمة» (خم�س مرات)‪ ،‬علما‬
‫�أن هذه التكرارات هي الأكرث بني �سور القر�آن‪.‬‬
‫والعالقة بني الأمرين (الفرد ‪ -‬املجتمع) مهمة ومت�شابكة ومعقدة‪،‬‬
‫ال�صالح الفردي مهم‪ ،‬وهو حمور مهم من حماور �سورة الأنعام‪.‬‬
‫ولكن هل ال�صالح الفردي ممكن � ً‬
‫أ�صل �إذا كان املجتمع ي�سري باجتاه‬
‫�آخر؟ هل النجاة الفردية ممكنة �إذا كان املجتمع �سفينة هائلة احلجم‬
‫تغرق ببطء يف عر�ض املحيط؟‬
‫هذا ما ميكن �أن ت�ساعدنا فيه �سورة الأعراف‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 66 -‬‬
‫سورة األعراف‬

‫تبد�أ ال�سورة مبدخل يعيد لنا ق�صة �أبينا �آدم (من الآيات ‪)25 - 11‬‬
‫ً‬
‫مدخل لكل‬ ‫منذ �سجود املالئكة لآدم �إىل خروجه من اجلنة‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫ما �ست�أخذنا �إليه ال�سورة من نداء لنا ب�صفتنا �أبناء �آدم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ ََْ َْ َ َْ ُ ْ َ ً‬
‫اسا يُ َ‬
‫اري س ْوآت ِك ْم َو ِريشا َو ِ َلاس اتلَّق َوى‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫}يا ب ِن آدم قد أنزلا عليكم ِل‬
‫َّ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ َ َّ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ َ َّ َّ َ‬ ‫َ َ َ ٌْ َ َ ْ َ‬
‫ات اهلل لعله ْم يذك ُرون ‪ ‬يا ب ِن آدم ل يفتِننك ُم الشيطان‬ ‫ي ذل ِك مِن آي ِ‬ ‫ذل ِك خ‬
‫َ َّ ُ َ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِييهما س ْوآت ِِهما إِنه ي َراك ْم‬ ‫نع عنهما ِلاسهما ل ِ‬ ‫كما أخرج أبويكم مِن الن ِة ي ِ‬
‫َ‬
‫ُ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ‬
‫ون{‬ ‫هو وقبِيله مِن حيث ل ترونهم إِنا جعلنا الشياطِني أو ِلاء ل ِلِين ل يؤمِن‬
‫(األعراف ‪.)27 :26‬‬
‫َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ ُ َّ ُ َ‬ ‫َ َ ُ ْ ْ َ ُ ِّ َ ْ‬ ‫َ َ ََ ُ ُ‬
‫سفوا إِنه ل‬
‫ج ٍد وكوا واشبوا ول ت ِ‬ ‫}يا ب ِن آدم خذوا ِزينتكم عِند ك مس ِ‬
‫ِني (األعراف‪)31:‬‬ ‫ُي ُّب ال ْ ُم ْسف َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ُ ٌ ْ ُ َ ُ ُّ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ‬
‫}يا ب ِن آدم إِما يأت ِينك ْم ُرسل مِنك ْم يقصون عليك ْم آي ِات فم ِن اتق َوأصلح‬
‫َ ُ َْ ُ َ‬ ‫ََ َ ٌ َ َْ‬
‫فل خ ْوف علي ِه ْم َول ه ْم ي َزنون{ (األعراف‪.)35:‬‬

‫اخلطاب هنا للمجتمع (بني �آدم)‪ ،‬لكننا دخلنا �إليه من ق�صة فرد‬
‫(�آدم) ميكن �أن نتمثل جتربته يف كل حياتنا‪.‬‬
‫الأعراف نقلتنا من «الفرد» ‪� -‬آدم ‪ -‬وجتربته كفرد �إىل جتربة «�أبناء‬
‫�آدم» املجتمعية التي ت�ستفيد من جتربة هذا الفرد‪.‬‬
‫من الأنا �إىل النحن‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 67 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫انتقلنا هنا من �سورة الأنعام التي ق َّد َم ْت لنا �سيدنا �إبراهيم «منفردًا»‬
‫يف تلك الليلة التي �أعلن فيها �أنه ال يحب الآفلني‪� ،‬إىل �سورة الأعراف التي‬
‫ق َّدمت لنا الأنبياء‪( :‬نوح وهود و�صالح ولوط و�شعيب) َومنْ معهم من‬
‫امل�ؤمنني وهم يحاولون �إ�صالح جمتمعاتهم‪.‬‬
‫َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ ِّ‬ ‫ُُْ‬ ‫ََ َ َ َ‬ ‫ََ ْ َ َ َْ ُ ً َ َ‬
‫يهُ إِن‬ ‫}لقد أ ْرسلنا نوحا إِل ق ْو ِم ِه فقال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ‬
‫َ َ ُ َ َْ ُ ْ َ َ َ َْ َ‬
‫يم{ (األعراف‪.)59:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ظ‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫أخاف عليكم عذاب يومٍ‬
‫َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َََ‬ ‫ُُْ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ً َ َ َ َ‬
‫يهُ أفل‬ ‫} َوإِل ع ٍد أخاه ْم هودا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ‬
‫َ َّ ُ َ‬
‫تتقون{ (األعراف‪.)65 :‬‬
‫َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َْ‬ ‫ُُْ‬ ‫َ َُ َ َ َ ُْ َ ً َ َ َ َ‬
‫يهُ قد‬ ‫الا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ‬ ‫}وإِل ثمود أخاهم ص ِ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ ً َ َ ُ َ َْ ُ ْ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ٌ ْ َ ِّ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫جاءتكم بينة مِن ربكم ه ِذه ِ ناقة اهلل لكم آية فذروها تأكل ِف أر ِض اهلل ول‬
‫َ َ ُّ َ ُ َ َ ْ ُ َ ُ َ َ ٌ َ‬
‫تمسوها بِسو ٍء فيأخذك ْم عذاب أ ِل ٌم{ (األعراف‪.)73:‬‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ً ْ َ َ َ ْ ََُْ َ َْ َ َ َ َ َ َ ُ‬
‫ك ْم ب ِ َها م ِْن أ َح ٍد م َِن ال َعال ِم َني{‬ ‫}ولوطا إِذ قال ل ِقو ِم ِه أتأتون الفاحِشة ما سبق‬
‫(األعراف‪.)80:‬‬
‫َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َْ‬ ‫ُُْ‬ ‫َ َْ َ َ َ ُ ُ ًَْ َ َ َ َ‬
‫يهُ قد‬ ‫} َوإِل مدي َن أخاه ْم شعيبا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ‬
‫َّ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ٌ ْ َ ِّ ُ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫اءه ْم‬ ‫زيان َول تبخسوا انلاس أشي‬ ‫جاءتكم بينة مِن ربكم فأوفوا الكيل وال ِم‬
‫ُ‬ ‫َْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ٌْ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُْ ُ‬
‫ك ْم إ ِ ْن ك ْن ُت ْم ُم ْؤ ِمنِ َني{‬ ‫َول تف ِسدوا ِف ال ْر ِض بعد إِصلحِها ذل ِكم خي ل‬
‫(األعراف‪.)85:‬‬

‫هذه ال�سورة باملنا�سبة هي �أول �سورة تعر�ض هذه الق�ص�ص يف القر�آن‬


‫ح�سب ترتيب القراءة (التوقيفي واملختلف عن ت�سل�سل النزول)‪ ،‬ورد ذكر‬
‫بع�ض ه�ؤالء الأنبياء ك�أ�سماء يف �سور �سابقة من التي مررنا عليها‪ ،‬مثل‪.‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫سورة األعراف‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫َّ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫وح َوانلَّبِ ِّي َني م ِْن َب ْع ِده ِ{‪ ،‬لكن‬ ‫ََْ‬ ‫َ َ‬
‫�سورة الن�ساء }إِنا أ ْوحينا إ ِ ْلك كما أ ْوحينا إِل ن ٍ‬
‫ق�ص�ص الأنبياء ه�ؤالء وردت �أول مرة «ح�سب الرتتيب» يف �سورة الأعراف‪،‬‬
‫�أي �إننا لو مل نكن نعرف عنهم �شي ًئا �إال من القر�آن؛ لكانت �سورة الأعراف‬
‫هي �أول مرة نتعرف فيها على «ق�ص�ص ه�ؤالء الأنبياء»‪.‬‬
‫لكن هذه لي�ست ق�ص�ص �أنبياء فح�سب‪ ،‬هذه ق�ص�ص معاناتهم مع‬
‫�أقوامهم وجمتمعاتهم يف �سبيل �إ�صالحها‪ ،‬كل الق�ص�ص التي ُذ ِك َرت هنا‬
‫يف الأعراف هي ق�ص�ص دعوتهم لأقوامهم‪ ،‬وكلها ق�ص�ص انتهت بخروج‬
‫الأنبياء وامل�ؤمنني من جمتمعاتهم‪ ،‬وتع ِّر�ض هذه املجتمعات للدمار‪.‬‬
‫هذا باخت�صار هو ما حدث يف كل الق�ص�ص التي ُذ ِك َرت لأول مرة‬
‫يف �سورة الأعراف‪ ،‬الر�سالة هنا وا�ضحة‪ ،‬ال جناة فردية‪ ،‬ال ميكنك �أن‬
‫تنجو مبفردك بينما يذهب جمتمعك �إىل القاع‪ ،‬عليك �أن حتاول كل ما يف‬
‫و�سعك‪ ،‬وهذا وحده ميكنه �أن يعطيك تذكرة جناة‪ ،‬قارب جناة تقفز به‬
‫ومن معك من ال�سفينة الغارقة‪.‬‬
‫الأمر ثقيل و�صعب حت ًما‪ ،‬الأمر هنا لي�س �أن ت�ؤمن �شخ�ص ًّيا فقط‪ ،‬بل‬
‫�أن متد يدك لت�ساعد الآخرين يف �إميانهم‪ ،‬وكثري منهم ال يرغبون بذلك‬
‫� ً‬
‫أ�صل‪ ،‬هل هذا يف�سر ما ابتد�أت به ال�سورة؟‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬‫َ ٌ َ‬
‫ك ْن ِف َص ْدرِ َك َح َر ٌج م ِْن ُه ِلُ ْنذ َِر ب ِ ِه َوذِك َرى ل ِل ُم ْؤ ِمنِ َني{‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫}ك ِتاب أن ِزل إ ِ ْلك فل ي‬
‫(األعراف‪.)2:‬‬

‫فلنتذكر هنا �أنك عندما تدخل ق�ص�ص الأنبياء وهالك �أقوامهم يف‬
‫�سورة الأعراف‪ ،‬ثم ت�أخذك ال�سورة بعدها �إىل ما م َّر معك �ساب ًقا من‬
‫ق�صة فرعون ومو�سى‪ ،‬ف�إنك ال تعود تنظر �إىل الق�صة كما يف ال�سابق‪ ،‬الآن‪.‬‬
‫‪- 69 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�أ�صبحت تعي �أن مو�سى خرج بكل قومه‪ ،‬ا�ستطاع �أن ي�أخذهم جمي ًعا يف‬
‫قارب النجاة‪ ،‬مل يكن الأمر كما حدث يف ق�ص�ص الأنبياء الآخرين الذين‬
‫إال منْ معهم من امل�ؤمنني‪ ،‬هنا ا�ستطاع مو�سى �أن‬
‫تع َّر�ض �أقوامهم للهالك � َ‬
‫ي�أخذ كل قومه معه‪ ،‬كما لو �أنك �ستعيد فهم ق�صة �سيدنا مو�سى من جديد‬
‫على �ضوء التجارب النبوية الأخرى وباملقارنة بها‪.‬‬
‫***‬
‫�ست�أخذك بع�ض الآيات �إىل منطقة �شخ�صية وعامة يف الوقت نف�سه‪،‬‬
‫�إىل حيث تتجاور الأنا والنحن ويتداخل البيت واملجتمع‪.‬‬
‫َْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫} َول ْو أن أهل الق َرى آمنوا َواتق ْوا لفتحنا علي ِه ْم ب َرك ٍت م َِن السماءِ َوال ْر ِض‬
‫َ ْ َْ َ ُ‬ ‫َََ َ ْ ُ ُْ‬ ‫َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ْ ُ َ‬
‫كن كذبوا فأخذناه ْم بِما كنوا يك ِسبون ‪ ‬أفأم َِن أهل الق َرى أن يأتِيه ْم‬ ‫ول ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ َ ُْ ُْ َ ْ َ َُْ َ ُ َ ُ ً َ ُْ ََُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ َ َ َ ً ُ ْ َ ُ َ‬
‫ون{‬ ‫بأسنا بياتا َوهم نائ ِمون ‪ ‬أوأمِن أهل القرى أن يأتِيهم بأسنا ضح وهم يلعب‬
‫(األعراف ‪.)98 :96‬‬

‫ت�شعر بطريقة ما �أنك املق�صود بذلك‪ ،‬ت�شعر �أنك عندما فكرت بالهجرة‬
‫كنت تريد �أن تهرب من‬ ‫كنت ت�شعر بهذه الآيات‪ ،‬ت�شعر �أنك عندما هاجرتَ َ‬
‫كنت �شري ًكا يف امل�س�ؤولية‪.‬‬
‫هذا‪� ،‬شيء ما يف �أعماقك يقول لك‪� :‬إنك َ‬
‫ولكن �شي ًئا �آخر ‪ -‬يف �أعماقك � ً‬
‫أي�ضا ‪ -‬ير ُّد عليك ويقول‪ :‬لقد دفعت ثم ًنا‬
‫ً‬
‫باهظا‪.‬‬
‫***‬
‫اب انلَّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ‬
‫ار أن قد َوجدنا ما َوعدنا َربنا حقا فهل َوجدتم‬ ‫ِ‬ ‫}ونادى أصحاب الن ِة أصح‬
‫الظالِمنيَ ‪َّ ‬ال َ‬
‫َ َ َّ‬ ‫َ َ َ ُّ ُ َ ًّ َ ُ َ َ َ َ َّ َ ُ َ ِّ ٌ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ‬
‫َ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬ ‫ما َوعد َربك ْم حقا قالوا نع ْم فأذن مؤذن بينه ْم أن لعنة اهلل ع‬

‫‪- 70 -‬‬
‫سورة األعراف‬

‫َ ٌ‬ ‫ََُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً ُ ْ‬ ‫َُْ ََ‬ ‫َ ُ ُّ َ َ ْ َ‬


‫يل اهلل َويبغونها ع َِوجا َوه ْم بِالخ َِرة ِ كف ُِرون ‪َ ‬وبينهما حِجاب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يصدون عن سب‬
‫َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ َ ٌ َ َ ْ ُ‬ ‫َ ٌ َ ْ ُ َ ُ ًّ‬ ‫ََ َْْ‬
‫الن ِة أن سلم عليك ْم‬ ‫اف ِرجال يع ِرفون كل ب ِ ِسيماهم ونادوا أصحاب‬ ‫َوع الع َر ِ‬
‫َ َْ ُ ُ َ ُ َْ َ ُ َ‬
‫ل ْم يدخلوها َوه ْم يطمعون{ (األعراف ‪.)46 :44‬‬

‫هل �أولئك الرجال على الأعراف‪� ،‬أولئك الذين يف الو�سط‪ ،‬بني اجلنة‬
‫والنار‪ ،‬الذين ُ�س ِّم َيت ال�سورة على املكان الذي يقفون عليه‪ ،‬هل �أولئك كانوا‬
‫من الذين مل يحققوا املعادلة؟ جنوا �شخ�ص ًّيا وفرد ًّيا‪ ،‬ولكن مل يحاولوا مبا‬
‫فيه الكفاية مع �أقوامهم‪ ،‬وبقوا يف الو�سط بني الأنا والنحن‪ ،‬بني ال�سفينة‬
‫الغارقة وقارب النجاة‪ ،‬بني اجلنة والنار؟‬
‫جمرد �س�ؤال‪ ،‬ال نعرف جوابه‪ ،‬و�إن كنا نعرف �أنهم �أف�ضل من الذين‬
‫دخلوا النار‪ ،‬و�أنهم مل يدخلوا اجلنة‪ ،‬لكنهم «يطمعون»‪ ،‬لديهم �أمل‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫سورة األنفال ‪8‬‬
‫محاسبة المنتصر‬

‫�سورة الأنفال هي �سورة «حما�سبة املنت�صر»‪.‬‬


‫قد نتوقع يف مفاهيمنا �أن املنت�صر يجب �أن يتلقى التهنئة بالفوز‪ ،‬بينما‬
‫يتلقى اخلا�سر اللوم والتقريع‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬يف «�آل عمران» َج َ َب خواطر‬‫القر�آن يقوم ب�شيء خمتلف ً‬
‫املك�سورين بعد هزمية �أُ ُحد‪.‬‬
‫وهنا يف الأنفال بعد ن�صر يوم بدر‪ ،‬اللهجة �شديدة القوة‪ً ،‬‬
‫بدل من‬
‫�أكاليل الن�صر املتوقعة‪ ،‬هناك املحا�سبة وبقوة‪.‬‬
‫لكن هذا ال يحدث �إال حلكمة بالغة‪.‬‬
‫فاملهزوم قد يحتاج �إىل �أن ُي ْج َ َب خاطره كي يتمكن من �أن يعرب هزميته‬
‫نحو ال�ضفة الأخرى دون �أن ي�سقط يف فخ املظلومية وامل�ؤامرة‪ ،‬ودون �أن‬
‫يتحول جرب اخلاطر �إىل �إلهائه عن م�س�ؤوليته عن الهزمية؛‬
‫لذا فجرب اخلاطر يف وقت الك�سر‪ ،‬هو ا�سرتاتيجية التئام و�شفاء‪.‬‬
‫يحا�سب؟‬ ‫َِ‬
‫املنت�صر؟ ل َ‬ ‫فما بال‬
‫لأن ن�صره بب�ساطة ميكن �أن يتحول �إىل هزمية �أكرب من هزمية‬
‫اخلا�سر‪ ،‬لو �سقط يف وهم الغرور وت�صور �أن الن�صر كان نتيجة حتمية‪.‬‬
‫‪- 72 -‬‬
‫سورة األنفال‬

‫جلهوده‪ ،‬وكث ًريا ما يحدث هذا يف الكثري من االنت�صارات‪ ،‬حتى على‬


‫ال�صعيد ال�شخ�صي‪ ،‬بل بالذات على ال�صعيد ال�شخ�صي‪.‬‬
‫لذا ت�أتي �سورة الأنفال لكي جتعل املنت�صر يعيد ح�ساباته ويراجع نف�سه‬
‫كما لو كان قد تل َّقى هزمية قا�سية ِ‬
‫توج ُب عليه املراجعة و�إعادة التقييم‪.‬‬
‫َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َْ َُ َ َ َ ْ َْ َ ُ ْ َْ َ ُ‬
‫ول فاتقوا اهلل َوأصلِحوا ذات‬ ‫ال ق ِل النفال هلل والرس ِ‬ ‫}يسألونك ع ِن النف ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ولُ إن كنت ْم مؤمن َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ ََ ُ‬
‫ني{ (األنفال‪.)1:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫اهلل‬ ‫وا‬ ‫ِيع‬
‫بينِكم وأط‬
‫ْ َ ِّ َ َّ َ ً َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُّ َ ْ َ ْ َ‬
‫ون{‬ ‫}كما أخ َرجك َربك مِن بيتِك بِالق وإِن ف ِريقا مِن المؤ ِمنِني لك ِره‬
‫(األنفال‪.)5:‬‬
‫َ ُ‬ ‫ْ ُ َ َّ ً ْ َ ُ َ َّ‬ ‫َ َّ ُ ْ َ ً َ ُ َ َّ َّ َ َ َ ُ‬
‫ِين ظلموا مِنك ْم خاصة َواعلموا أن اهلل شدِيد‬ ‫}واتقوا ف ِتنة ل ت ِصيب ال‬
‫ْ َ‬
‫اب{ (األنفال‪.)25:‬‬ ‫ال ِعق ِ‬
‫َ ُ ُّ َ َ ْ‬ ‫ِين َخ َر ُجوا م ِْن دِيَاره ِْم َب َط ًرا َورئَ َ‬ ‫كونُوا َك َّل َ‬‫ََ َ ُ‬
‫اس َويصدون عن‬ ‫اء انلَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}ول ت‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يل اهلل َواهلل بِما يعملون مِيط{ (األنفال‪.)47:‬‬ ‫سبِ ِ‬
‫اتقوا اهلل و�أَ ْ�ص ِل ُحوا ذات بي ِنكم‪ ،‬كانوا على و�شك االعتقاد �أنهم على‬
‫قمة جبل التقوى وال�صالح‪ ،‬لكن تعاجلهم ال�سورة يف مطلعها وهي تقول‬
‫لهم‪ :‬اتقوا اهلل‪.‬‬
‫تذ ِّكرهم �أن منهم َمنْ مل يكونوا يريدون اخلروج لبدر � ً‬
‫أ�صل‪ ،‬و�أنهم‬
‫جادلوا يف ذلك‪ ،‬جادلوا فيما قاد �إىل هذا الن�صر الذي ميكن لل�شيطان �أن‬
‫يو�سو�س لهم �أنه كان نتيجة حتمية جلهودهم‪.‬‬
‫ال�سورة ت�سحب منهم «ا�ستحقاق الن�صر»‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َََُْ َ َ َْ َ ْ َ َْ َ َ‬ ‫وه ْم َولَ َّ‬


‫ََْ َُُْ ُ‬
‫ك َّن اهلل َر َم َو ِ ُل ْب ِ َ‬
‫ل‬ ‫كن اهلل قتلهم َوما رميت إِذ رميت َول ِ‬ ‫ِ‬ ‫}فلم تقتل‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ َ ً َّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ َ ُْ َ‬
‫ِيم{ (األنفال‪.)17:‬‬ ‫ني مِنه بل ًء حسنا إِن اهلل س ِم‬ ‫المؤ ِمنِ‬

‫هل �أ�صابكم الغرور على هذا الذي حتقق؟ ح�س ًنا‪ ،‬خذوا هذه الآن‪� ،‬أنتم‬
‫مل تقاتلوا � ً‬
‫أ�صل‪ ،‬وهذا الرمي املوفق مل يكن رميكم‪ ،‬اهلل رمى‪.‬‬
‫فلننتبه �أن هذا مل يحدث قبل القتال‪ ،‬بل حدث بعده‪ ،‬وبعد حتقق‬
‫الن�صر‪ ،‬ولو كان حدث قبل ملا قاد �إىل الن�صر‪ ،‬خطاب ما قبل املعركة كان‬
‫َْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ‬
‫خمتل ًفا ج ًّدا ومن�سج ًما مع } َوأعِدوا لهم ما استطعتم مِن ق َّو ٍة َومِن ِرب ِ‬
‫اط الي ِل‬
‫َْ َُُ َ‬ ‫َ َْ َُ َُ‬ ‫َ َ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫ين مِن دون ِِه ْم ل تعلمونه ُم اهلل يعلمه ْم َوما‬ ‫ت ْرهِبون ب ِ ِه عد َّو اهلل وعدوكم وآخ ِر‬
‫ُ َّ َ ُ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُت ْن ِف ُقوا م ِْن َ ْ‬
‫يل اهلل ي َوف إ ِ ْلك ْم َوأنت ْم ل تظلمون{ (األنفال‪.)60:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ش‬

‫لو اعتقد امل�ؤمنون قبل القتال �أنهم لن يقاتلوا ولن يرموا بل اهلل هو‬
‫الذي �سيفعل‪ ،‬فذلك لن يجعلهم حري�صني على �شيء‪ ،‬بل �سيفرت همتهم‪.‬‬
‫لكن خطاب ما بعد الن�صر هو الذي ينفي عنهم الفعل‪ ،‬هو الذي يزيل‬
‫وهم انتفاخ الذات‪ ،‬وهم قد قاتلوا ورموا بالت�أكيد‪ ،‬لكن هذا ال يعني �أن جملة‬
‫من الظروف املحيطة بهم وداخلهم وداخل الكافرين مل تكن عوامل فاعلة‬
‫�ساه َم يف رفع معنوياتهم‪،‬‬ ‫مثل َ‬ ‫يف حتقيق الن�صر‪� ،‬إميانهم مبدد املالئكة ً‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫الكفار فقدوا عزمهم بعد جناة قافلة قري�ش }ذل ِك ْم َوأن اهلل موه ُِن كي ِد‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال َكف ِِر َين{‪َ } ،‬ول ْو تَ َو َاع ْد ُت ْم ل ْخ َتل ْف ُت ْم ِف ال ِم َيعا ِد{‪ ،‬ور�ؤية عدد امل�شركني يف‬
‫قليل‪ ،‬كل هذه جملة من الظروف التي مل يكن للم�ؤمنني دخ ٌل يف‬ ‫املنام ً‬
‫�إن�شائها‪ ،‬ولكنها �ساهمت يف حتقيق الن�صر‪.‬‬
‫بل حتى «الظروف ال�صعبة» التي ننت�صر �أحيا ًنا «بالرغم عنها»‪ ،‬حتى‬
‫هذه ت�ساهم يف حتقيق االنت�صار على نحو غري مبا�شر؛ ذلك �أن التحدي‪.‬‬
‫‪- 74 -‬‬
‫سورة األنفال‬

‫الذي ت�شكله ال�صعوبة ي�ساهم يف حتقيق ا�ستجابة داخلية تزيد من القوة‬


‫والعزم‪.‬‬
‫يحدث هذا دائ ًما على م�ستوى املواجهات ال�شخ�صية الكربى كما على‬
‫م�ستوى الأمم يف طريق نهو�ضها وانت�صاراتها‪.‬‬
‫***‬
‫يف كل ن�صر‪ ،‬هناك طاوو�س راب�ض كامن‪ ،‬ينتظر اللحظة‪.‬‬
‫طاوو�س مزهو‪ ،‬يتحرك بخيالء‪.‬‬
‫طاوو�س مفرت�س‪ ،‬يفرت�س �صاحبه ويحيل ن�صره �إىل هزمية �أق�سى من‬
‫هزمية اخل�صم‪.‬‬
‫لكن �سورة الأنفال تقرتب منك‪ ،‬وتعطيك �سكي ًنا‪.‬‬
‫ميكنك �أن تتخل�ص من هذا الطاوو�س‪.‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫سورة التوبة ‪9‬‬
‫الحرب والسالم‬

‫�سورة التوبة قد توحي للوهلة الأوىل �أنها «�سورة احلرب»‪.‬‬


‫لكن التدقيق فيها �سيجعلنا ندرك �أنها «�سورة احلرب وال�سالم»‪.‬‬
‫الآيات املجتز�أة من ال�سورة جتعلها «�سورة احلرب» بال منازع‪ ،‬وغال ًبا‬
‫كل الذين يتهمون القر�آن بالعنف والإرهاب يقتب�سون الآيات من هذه‬
‫ال�سورة‪ ،‬بالأحرى‪ :‬يقتطعون الآيات منها‪ ،‬لكي تربهن لهم على ما يريدون‪.‬‬
‫فعل‪ ،‬ولكنها‬‫لكن قراءة لل�سياق ككل �ستجعلنا نرى �أنها �سورة احلرب ً‬
‫�سورة ال�سالم � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫بال�ضبط هي �سورة «امنحوا ال�سالم فر�صة تلو الأخرى‪ ..‬قبل �أن‬
‫حتاربوا»‪.‬‬
‫َ َْ ُ َ ْ ُُ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َ ُُْ ُْ ْ‬
‫ِني حيث َوجدتموه ْم َوخذوه ْم‬ ‫مثل تركز على }فاقتلوا الم ِ‬
‫شك‬ ‫االجتزاءات ً‬
‫َ ُ َّ‬ ‫َ ْ ُ ُ ُ ْ‬
‫وه ْم َواق ُع ُدوا ل ُه ْم ك َم ْر َص ٍد{‪( .‬التوبة‪)5:‬‬ ‫واحص‬

‫متاما ما قبلها وما بعدها‪.‬‬


‫ولكنها تتجاهل ً‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫قبلها هناك‪ ،‬يف نف�س الآية متاما‪} :‬فإذا ان َسل َخ ال ْش ُه ُر ُ‬
‫ال ُر ُم{ �أي �إن �أمر‬ ‫ِ‬ ‫ً‬
‫القتال مرتبط بهدنة ت�ستمر لأ�شهر‪ ،‬وميكن له�ؤالء خالل هذه الأ�شهر �أن‬
‫يعقدوا ال�صلح‪ ،‬القتال لي�س حتم ًّيا هنا‪.‬‬
‫‪- 76 -‬‬
‫سورة التوبة‬

‫َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُّ‬ ‫َ ْ َ ُ ََ ُ‬
‫الزكة فخلوا‬ ‫أي�ضا‪} :‬فإِن تابوا َوأقاموا الصلة وآتوا‬
‫وما بعدها يف نف�س الآية � ً‬
‫َسبيلَ ُه ْم إ َّن اهلل َغ ُف ٌ‬
‫ور َرح ٌِيم{ (اتلوبة‪.)5:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�أي �إن «التوبة» ‪ -‬وكان ه�ؤالء قد نق�ضوا عهدهم مع امل�سلمني ‪ -‬كفيلة‬
‫ب�إلغاء �سبب القتال‪.‬‬
‫َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ ٌ َ ُْ ْ‬
‫ارك‬ ‫شك ِني استج‬‫هو �أكرث }وإِن أحد مِن الم ِ‬ ‫ْ‬
‫وبعدها هناك مرة �أخرى ما‬
‫َ‬
‫ٌ َْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ ْ ُ َ ََ ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ج ْرهُ حت يسمع كلم اهلل ث َّم أبلِغه مأمنه ذل ِك بِأنه ْم ق ْوم ل يعلمون{ (اتلوبة‪.)6:‬‬ ‫فأ ِ‬
‫�إنْ َط َل َب ه�ؤالء «الذين �سيقاتلونهم» احلماية «اجلوار»؛ فقدِّ ُموا لهم‬
‫احلماية!‬
‫نعم‪ ،‬هي �سورة احلرب‪ ،‬لكنها حرب م�شروطة مبحاولة ال�سالم حتى‬
‫�آخر فر�صة‪ً ،‬‬
‫فعل هي �سورة احلرب‪ ،‬لكنها احلرب كخيار �أخري‪ ،‬بعد‬
‫ا�ستنفاد كل اخليارات الأخرى‪.‬‬
‫***‬
‫ت�أخذنا �سورة التوبة بعدها من �ساحة احلرب امل�شروطة هذه �إىل ما قد‬
‫يبدو بعيدً ا ج ًّدا عنها‪.‬‬
‫َْ َ ْ َ َ َ ُ‬ ‫َّ َ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ً ْ ُ‬
‫ون اهلل َوالم ِسيح اب َن م ْري َم َوما أم ُِروا‬
‫}اتذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا مِن د ِ‬
‫َّ َ ْ ُ ُ َ ً َ ً َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ ُ َ‬
‫شكون{ (اتلوبة‪.)31:‬‬ ‫إِل ِلعبدوا إِلها واحِدا ل إِل إِل هو سبحانه عما ي ِ‬
‫قد تبدو الإ�شارة غري مرتبطة مبا قبلها‪ ،‬لكن احلقيقة �أن «الأحبار» ‪� -‬أو‬
‫دوما قادرين على اجتزاء الآيات من �سياقها‬ ‫عموما ‪ -‬كانوا ً‬
‫رجال الدين ً‬
‫وج ْعل احلرب امل�شروطة تبدو حر ًبا مقد�سة غري م�شروطة‪ ،‬وقد حدث‬
‫للأ�سف‪.‬‬
‫‪- 77 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الكثري من رجال الدين كانوا ع َّرابني حلروب غري مقد�سة‪ ،‬ا�ستخدموا‬


‫فيها الدين ليكون جز ًءا من ت�سويق هذه احلرب وتربير فظاعاتها‪.‬‬
‫***‬
‫بعد هذا ت�أخذنا �سورة التوبة �إىل مواجهة من نوع خمتلف‪ ،‬مواجهة‬
‫احلرب وال�سالم فيها ال يقل �أهمية ‪ -‬بل قد يزيد ‪ -‬عن �ساحات القتال‬
‫املعتادة‪.‬‬
‫�إنها املواجهة مع النف�س‪.‬‬
‫َّ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫ك ُم انْ ِف ُ‬
‫يل اهلل اثاقلت ْم إِل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا ما لكم إِذا قِيل ل‬
‫ْ َ َّ‬ ‫ُّ ْ َ‬ ‫ُّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َْ َ‬ ‫َْ‬
‫الياة ِ ادلنيا مِن الخِرة ِ فما متاع الياة ِ ادلنيا ِف الخِرة ِ إِل‬ ‫ال ْر ِض أر ِضيتم ِب‬
‫َ‬
‫قلِي ٌل{ (اتلوبة‪.)38:‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ‬ ‫ْ ُ ُ َ َ َ َ ُّ َ ُ ُ َّ ً َ َ ْ َ‬ ‫َ َْ َ َ ُ‬
‫كن ك ِر َه اهلل انبِعاثه ْم فثبطه ْم َوقِيل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫د‬‫ع‬ ‫ل‬ ‫وا‬‫د‬‫ع‬‫ل‬ ‫وج‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫وا‬‫اد‬ ‫}ولو أر‬
‫ِين{ (اتلوبة‪.)46:‬‬‫ْاق ُع ُدوا َم َع ال َقاعد َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬

‫مواجهة النف�س واحلرب معها‪� ،‬ستحتل من الآيات يف �سورة التوبة �أكرث‬


‫بكثري من الآيات التي حتدثت عن املواجهة مع امل�شركني‪ ،‬كما لو �أن ال�سورة‬
‫تقول لنا‪� :‬إن احلرب الأهم هي احلرب مع الذات‪ ،‬والن�صر احلقيقي‬
‫هو الن�صر على الذات‪ ،‬والهزمية الأ�صعب والأكرث تكبيدً ا للخ�سائر هي‬
‫اخل�سارة مع الذات‪ ،‬وال�سالم الذي يتحقق معها هو ال�سالم احلقيقي‪.‬‬
‫كل َمنْ واجه نف�سه يعرف هذا‪ ،‬كل َمنْ حاول التوبة عن مع�صية ما‪،‬‬
‫�إدمان ما‪ ،‬كبرية ما‪ ،‬يعرف �أي حرب قذرة و�صعبة هي احلرب مع الذات‪،‬‬
‫وميكنه �أن يقر�أ �آيات قتال امل�شركني كما لو كانت تتحدث عن حربه مع‪.‬‬
‫‪- 78 -‬‬
‫سورة التوبة‬

‫معا�صيه و�شهواته‪ ،‬و�سيجد ت�شاب ًها رهي ًبا‪ ،‬بل �سيجد �أن حرب الذات �أكرث‬
‫خمادعة وزئبقية وغد ًرا من حرب امل�شركني‪.‬‬
‫فعل‪ ،‬لكنها � ً‬
‫أي�ضا عن احلرب وال�سالم‪.‬‬ ‫�سورة التوبة عن احلرب ً‬
‫احلرب وال�سالم مع الأعداء‪.‬‬
‫و� ً‬
‫أي�ضا مع الذات‪.‬‬
‫***‬
‫ويف �سورة التوبة � ً‬
‫أي�ضا تلك الآية التي تنقلنا �إىل ذلك الغار‪.‬‬
‫َ َْ ْ‬ ‫َْ ْ َُ ُ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ‬
‫حبِ ِه ل ت َزن‬
‫ار إِذ يقول ل ِصا ِ‬
‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫ف‬‫ي إِذ ه ِ‬
‫ا‬‫م‬ ‫}إِذ أخرجه الِين كفروا ث ِان اثن ِ‬
‫َََ‬ ‫َّ‬
‫إِن اهلل معنا{‪( .‬اتلوبة‪)40:‬‬

‫ال ميكن مل�سلم �إال �أن يرجتف قلبه من امل�شهد‪.‬‬


‫ال ميكن لإن�سان م َّر ب�أزمة ‪ -‬ب�شدة ‪ -‬واحتاج فيها �إىل �صديق �إال �أن‬
‫يقول‪� :‬أعرف هذا‪ ،‬لقد مررت هنا من قبل‪.‬‬
‫البع�ض منا وجدوا من يقف معهم يف غارهم‪� ،‬آخرون كانوا �أقل ًّ‬
‫حظا‪.‬‬
‫رمبا كنا نحن �أحيا ًنا من وقف مع �صاحبه‪ ،‬ورمبا كنا �أحيا ًنا من تخلى‬
‫وتركه وحيدً ا يف الغار‪.‬‬
‫رحلة حياتنا لي�ست ً‬
‫عر�ضا قري ًبا‪ ،‬وال �سف ًرا قا�صدً ا‪ ،‬و�أ�صدقاء ال�شدة‬
‫قليلون‪ ،‬و�إن مل جتد واحدً ا منهم معك‪ ،‬فهذا �أمر حمزن‪ ،‬لكن ميكنك �أن‬
‫تهم�سها لنف�سك‪.‬‬
‫ال حتزن‪� ،‬إن اهلل معنا‪.‬‬
‫‪- 79 -‬‬
‫يونس هود يوسف ‪12 -11 – 10‬‬
‫من البئر إلى العرش‬

‫ثالث �سور متتالية يف امل�صحف‪.‬‬


‫وقد نزلت بنف�س هذا الرتتيب على الر�سول الكرمي ‪ -‬عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم ‪ -‬يف الفرتة املكية‪.‬‬
‫�أمر نادر �أن يتوافق ترتيب امل�صحف مع ت�سل�سل النزول‪ ،‬وال ميكن �أن‬
‫يكون هذا التوافق اعتباط ًّيا‪ ،‬حا�شا هلل‪.‬‬
‫يون�س‪ ،‬هود‪ ،‬يو�سف‪ ،‬ثالث �سور �إذن متتالية‪ ،‬ال بد �أن يف هذا الرتتيب‬
‫ر�سالة ما‪.‬‬
‫***‬
‫مبدئ ًّيا‪� ،‬سورة يون�س تتحدث عن «ال�ضر» وعن «ك�شف ال�ضر»‪� ،‬إزالته‪،‬‬
‫َ َ َ َّ ْ ْ َ َ ُّ َ َ َ ْ َ‬
‫لنبِ ِه أ ْو‬
‫الض دعنا ِ َ‬
‫ُّ‬
‫ال�ضر َعندما ي�صيب «الأفراد» كما يف } َوإِذا مس ِ‬
‫النسان‬
‫َ ً ْ َ ً َ َ َّ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ٍّ َ َّ ُ َ َ َ ُ ِّ‬
‫ض مسه كذل ِك زي َن‬ ‫قاعِدا أو قائ ِما فلما كشفنا عنه ضه مر كأن لم يدعنا إِل‬
‫َ َ َ ُ ََْ ُ َ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ِني ما كنوا يعملون{ (يونس‪.)12:‬‬ ‫سف‬
‫ل ِلم ِ‬
‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ً ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ ْ ُ‬
‫اء مسته ْم‬ ‫�أو عندما ي�صيب املجتمعات‪} :‬وإِذا أذقنا انلاس رحة مِن بع ِد ض‬
‫َ ْ َ ُ َ ْ ً َّ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫إِذا ل ُه ْم َمك ٌر ِف آيَات َِنا ق ِل اهلل أسع مكرا إِن رسلنا يكتبون ما تمكرون{‬
‫(يونس‪.)21:‬‬
‫‪- 80 -‬‬
‫يونس ‪ -‬هود ‪ -‬يوسف‬

‫يف ال�سورة منوذجني ل�ض ٍّر �أ�صاب «املجتمعات»؛ لأنها َّ‬


‫كذبت الر�سل‪ ،‬قوم‬
‫نوح وقوم فرعون‪ ،‬وال�ضر الذي �أ�صاب قوم نوح يعر�ض له ب�شكل �سريع‬
‫(الآيات ‪.)73-71‬‬
‫هذا عن ال�ضر‪ ،‬فماذا عن ك�شفه بالن�سبة للمجتمعات؟‬
‫هناك مثال واحد‪ ،‬مثل وم�ضة �أمل م�ضيئة‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ ْ َ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ‬
‫}فل ْول كنت ق ْرية آمنت فنفعها إِيمانها إِل ق ْوم يونس لما آمنوا كشفنا عنه ْم‬
‫ْ َ َ ُّ ْ َ َ َ َّ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ َ ْ ْ‬
‫ِني{ (يونس‪.)98:‬‬ ‫عذاب ال ِز ِي ِف الياة ِ ادلنيا ومتعناهم إِل ح ٍ‬
‫�إنه الإميان النافع‪ ،‬الإميان الذي نفع القرية‪ ،‬قرية يون�س‪ ،‬الإميان الذي‬
‫ك�شف عنها ال�ضر‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة هود ت�أخذ نف�س اخلط‪.‬‬
‫ولكن الرتكيز على ال�ضر فيها �أكرث من ك�شف ال�ضر‪.‬‬
‫نرى فيها ق�ص�ص �أقوام نالوا العذاب لتكذيبهم ر�سلهم‪ ،‬نرى مرة �أخرى‬
‫قوم نوح‪ ،‬قوم هود‪ ،‬قوم �صالح‪ ،‬قوم لوط‪ ،‬قوم �شعيب‪.‬‬
‫كلها قرى �أ�صابها الدمار‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬لكن ال�سورة تقدم ُب ْعدً ا �شخ�ص ًّيا �شديد الأمل ملا حدث‬
‫مع �سيدنا نوح؛ �إذ �إنها تقدم م�شهد غرق ابنه‪.‬‬
‫ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ ٌ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َْ‬
‫ن اركب‬ ‫ال ونادى نوح ابنه وكن ِف مع ِز ٍل يا ب‬‫لب ِ‬‫ه ت ِري ب ِ ِهم ِف مو ٍج ك ِ‬ ‫}و ِ‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫ََ َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك ْن َم َع الكف ِر َ‬ ‫َََ ََ َ ُ‬
‫ين ‪ ‬قال سآوِي إِل جب ٍل يع ِصم ِن مِن الماءِ قال ل‬ ‫ِ‬ ‫معنا ول ت‬

‫‪- 81 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬


‫َع ِص َم َال ْو َم م ِْن أ ْم ِر اهلل إِل َم ْن َرح َِم َو َح َال بَيْ َن ُه َما ال َم ْو ُج ف َك َن م َِن ال ُم ْغ َرق َِني{‬
‫(هود‪)43 :42:‬‬
‫هنا مل يعد تكذيب «القوم» يخ�ص الآخرين‪ ،‬يخ�ص املجتمع‪ ،‬بل �أ�صبح‬
‫دوما هكذا‪ ،‬لكنه عندما يتج�سد يف‬
‫�شخ�ص ًّيا داخل بيت النبي‪ ،‬الأمر ً‬
‫�شخ�ص نحبه ونعرفه يكون م�ؤملًا �أكرث‪.‬‬
‫هنا يف هذه ال�سورة خم�س �إ�شارات لأقوام ق�ضت بالعذاب‪ ،‬ال �إ�شارة‬
‫لقوم جنوا كما يف �سورة يون�س‪ ،‬لكن ال ظلم يف الأمر‪.‬‬
‫ُ ْ َْ َُ ُ ْ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫} َوما كن َربك ِ ُلهلِك الق َرى بِظل ٍم َوأهلها مصلِحون{ (هود‪)117:‬‬

‫لي�س هذا فقط‪ ،‬بل �إن ال�سورة هي ال�سورة الوحيدة التي ا�شتملت على‬
‫ََ ُْ ً‬ ‫ََ ُْ ً َ َْ ُ‬
‫الدعاء بهالك القرى الظاملة‪} ،‬أل بعدا ل ِعا ٍد قو ِم هو ٍد{ }أل بعدا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ َل ُم َود{}أل ُب ْع ًدا ل َِم ْد َي َن ك َما بَ ِع َد ْت ث ُم ُود{‪ ،‬ال يوجد يف �سور القر�آن كلها‬
‫قوما بعينهم �إال يف هذه ال�سورة‪.‬‬ ‫دعاء يحدد ً‬
‫نزلت تلك ال�سورة بعد ع�شر �سنوات تقري ًبا يف مكة‪ ،‬بعد ع�شر �سنوات‬
‫من ال�صدود والتكذيب‪ ،‬كل �شيء كان ي�شري �إىل �أن مكة كانت ت�سري يف درب‬
‫�أمثلة القرى التي �سي�صيبها الدمار‪ ،‬وال �شيء ي�شري �إىل ما يقربها من قرية‬
‫يون�س‪.‬‬
‫وكان عليه ال�صالة وال�سالم بالت�أكيد ال يريد ملكة �أن ي�صيبها ما �أ�صاب‬
‫عاد وثمود‪ ،‬مل يكن يريد �أن تكون هناك «�أال بعدً ا ملكة»‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫يونس ‪ -‬هود ‪ -‬يوسف‬

‫ورغم ذلك‪ ،‬كان ذلك واردًا ج ًّدا‪ ،‬وقبل نهاية ال�سورة ي�أتي �أمر االنتظار‪:‬‬
‫َ ْ َ ُ َّ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ون{‪.‬‬ ‫}وانت ِظروا إِنا منت ِظر‬

‫ينتظرون ماذا؟ العذاب ي�صيب مكة؟‬


‫***‬
‫ً‬
‫بدل من «�أال بعدً ا ملكة»‪ ،‬نزلت �سورة «يو�سف»‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬بن�سق خمتلف‪ ،‬هي ال�سورة الوحيدة التي َت ْر ِوي‬
‫�سورة خمتلفة ً‬
‫ق�صة نبي من بدايتها �إىل نهايتها‪.‬‬
‫وهي �سورة بال عذاب للقوم‪ ،‬بل تنتهي بنجاح «النبي» وحتقيقه لغاياته‪،‬‬
‫�صحيح �أنه يحقق ذلك بعيدً ا عن قومه � ًأول‪ ،‬لكن هذا بحد ذاته قد ي�شري‬
‫�إىل �أهمية «التجربة» يف مكان يوفر بيئة حا�ضنة �أف�ضل‪.‬‬
‫كما لو �أن ال�سورة تقول للنبي‪ :‬النجاح ممكن‪ ،‬ومكة قد تتغري‪ ،‬لكن لي�س ‬
‫بال�ضرورة يكون التغيري فيها � ًأول‪.‬‬
‫***‬
‫ثمة �شيء �شخ�صي يف �سورة يو�سف‪� ،‬شخ�صي ج ًّدا وحميم للغاية‪.‬‬
‫َمنْ منا مل يتعر�ض لغدر يف حياته من قريب �أو ممن توهم قربه؟ َمنْ مل‬
‫يتعر�ض لظلم؟ لفتنة وغواية؟‬
‫ثمة �شيء يف �سورة يو�سف مي�سنا جمي ًعا‪.‬‬
‫دوما �إىل العر�ش كما حدث‬
‫�صحيح �أن الطريق من بئر الغدر ال ينتهي ً‬
‫مع �سيدنا يو�سف‪.‬‬
‫‪- 83 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن من املهم � َّأل نبقى �أ�سرى ال�شعور بالظلم والتباكي على التجربة‪.‬‬
‫�أول خطوة للخروج من البئر هو �أن نخرج من دور ال�ضحية املغدورة‪.‬‬
‫***‬
‫يف البئر �ألقوا بك يا يو�سف(((‪.‬‬
‫كان مظل ًما‪ ،‬وكنت وحيدً ا‪.‬‬
‫وكانوا �إخوتك!‬
‫يف البئر �ألقوا بك يا يو�سف‪.‬‬
‫لعلك توهمتها مزحة‪.‬‬
‫لعلك توقعت �أن �صمتهم جمرد خدعة‪.‬‬
‫لعلك قلت‪� :‬إنهم �سيعودون‪.‬‬
‫و�أن حبالهم �ستطل بني حلظة و�أخرى‪.‬‬
‫لكن �أ�صواتهم تال�شت يا يو�سف‪.‬‬
‫وحبالهم مل ت�أت قط‪.‬‬
‫يف الظلمة بقيت وحيدً ا يا يو�سف‪.‬‬
‫�أرادوا �أن يك�سروك‪.‬‬
‫�أن يجعلوك ت�ضعف‪.‬‬
‫�أن تتو�سل‪.‬‬
‫((( سبق أن نرش هذا الجزء يف « ال نأسف عىل اإلزعاج»‬
‫‪- 84 -‬‬
‫يونس ‪ -‬هود ‪ -‬يوسف‬

‫�أن تنك�سر ولو �أمام نف�سك‪.‬‬


‫لو يعلمون‪.‬‬
‫لو يعلمون �أن كل تلك الليلة يف البئر‪ ،‬جعلتك تكت�شف قوتك احلقيقية‪.‬‬
‫من حلظة البئر‪� ،‬أنت مل تعد �أنت الذي كنت‪.‬‬
‫ً‬
‫خما�ضا �صع ًبا مري ًرا ‪ -‬يف البئر وحدك‪.‬‬ ‫دت ‪-‬‬
‫�شخ�صا جديدً ا‪ُ ،‬و ِل َّ‬
‫�صرت ً‬
‫اكت�شفت معنى �أن يتدفق النور من داخلك‪ ،‬ال من فتحة يف ال�سقف‪.‬‬
‫أني�سا ورفي ًقا‪ ،‬فزادك ذلك قوة على قوة‪،‬‬
‫اكت�شفت معنى �أن جتد يف اهلل � ً‬
‫ونو ًرا على نور‪.‬‬
‫يف البئر اكت�شفت قواك التي مل تعرفها‪ ،‬اكت�شفت �أنه ميكنك �أن ت�ستغني‬
‫عنهم‪ ،‬و�أن الأمر لي�س �صع ًبا كما توهمت‪ ،‬اكت�شفت �أن عالقتك بهم تكون‬
‫�أغنى عندما تتعرف على اال�ستغناء عنهم‪.‬‬
‫يف البئر عرفت معنى اجلماعة‪� ،‬أن تكون على احلق ولو كنت وحدك‪.‬‬
‫يف البئر‪ ،‬عرفت معنى �أن تكت�شف �أن م�صدر قوتك ينبع من الداخل‪.‬‬
‫و�أن ت�ستثمر هذه القوة‪ ،‬ال للخروج من البئر فقط‪.‬‬
‫بل لتغيري كل الواقع الذي جعل �إخوتك يرمون بك فيه‪.‬‬
‫***‬
‫يف داخل كل منا بئر‪.‬‬
‫ويف كل بئر يو�سف‪.‬‬
‫‪- 85 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫و�أ�صوات تال�شت‪ ،‬وحبال مل ت�أت‪.‬‬


‫ً‬
‫خما�ضا‪ ،‬بحيث �ستبدو كنوز العامل ب�أ�سره‬ ‫ميكننا �أن جنعل من ذلك‬
‫ثم ًنا ً‬
‫بخ�سا �أمامه‪.‬‬
‫وميكننا �أن نرخ�ص حتى ي�صري �سعرنا احلقيقي دراهم معدودة‪.‬‬
‫دوما ثمة يو�سف‪ ،‬ثمة بئر‪.‬‬
‫ً‬
‫وثمة �إخوة ليو�سف‪.‬‬
‫ولأن هذا البئر ميكن �أن يكون منج ًما ن�ستك�شف فيه كنو ًزا مل نعرف‬
‫بوجودها فينا‪.‬‬
‫ف�إننا ميكن �أن نختار النهاية التي نريد‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫سورة الرعد ‪13‬‬
‫التغيير قيد اإلجراء‬

‫�سورة الرعد هي «�سورة التغيري»‪.‬‬


‫لكنه التغيري كما يجب �أن يكون‪ ،‬ولي�س كما نتوهمه �أن يكون‪.‬‬
‫لدينا غال ًبا فكرة �ساذجة عن التغيري‪ ،‬فكرة عن كون التغيري ي�أتي‬
‫ب�ضربة �سحرية تغري الواقع ‪� -‬أو الأ�شخا�ص ‪ -‬بلمح الب�صر‪ ،‬وهذه الفكرة‬
‫تكون «معوقة» لأي تغيري حقيقي؛ لأنها بب�ساطة ترفع �سقف التوقعات‬
‫«ال�سريعة» على نحو يجه�ض �آلية التغيري البطيئة ل�صالح «عمليات جتميل»‬
‫�سطحية �سريعة النتائج كارثية العواقب‪.‬‬
‫�سورة الرعد تزيح هذا الوهم من �أذهاننا‪ ،‬تع ِّلمنا �أن نتعامل مع التغيري‬
‫طويل‪ ،‬ال �سحر وال �ضربات‬‫على حقيقته‪ ،‬بطيء وتراكمي وي�ستغرق وقتًا ً‬
‫ع�صا وال معجزات خارقة‪.‬‬
‫ال�سورة تنبهنا منذ بدايتها �إىل �أن هذا الكون مبني على قوانني‪ ،‬ال�سماء‬
‫مرفوعة بعمد؛ قوانني غري مرئية‪ ،‬وكل تغيري من�شود ال بد �أن يكون مبن ًّيا‬
‫على قوانني من باب �أَ ْو َل‪.‬‬
‫َ َّ‬ ‫ََ َْ‬ ‫َْ َ َ َ ََ ُ ْ َ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َّ‬
‫ي عم ٍد ت َر ْونها ث َّم است َوى ع الع ْر ِش َوسخ َر‬
‫ِ‬ ‫غ‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫او‬ ‫ع‬‫ف‬ ‫ر‬ ‫ِي‬ ‫ال‬ ‫}اهلل‬
‫َ َ ُ َ ًّ ُ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ِّ ُ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ‬ ‫َّ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ٌّ َ ْ‬
‫ات لعلكم بِلِقاءِ‬ ‫الشمس والقمر ك ي ِري ِلج ٍل مسم يدبر المر يفصل الي ِ‬

‫‪- 87 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ِيها َر َو ِ َ َ َ ْ َ ً َ ْ ُ ِّ َّ َ َ‬
‫ُ َ َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ِّ ُ ُ ُ َ‬
‫َربك ْم توق ِنون ‪ ‬وَهو الِي مد الرض وجعل ف‬
‫اس وأنهارا ومِن ك اثلمر ِ‬
‫ات‬
‫َ َ َ َ َّ َ‬ ‫َّ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ َ ْ َْْ ُْ‬
‫ات ل ِق ْومٍ يتفك ُرون ‪َ ‬و ِف‬ ‫ي يغ ِش الليل انلهار إِن ِف ذل ِك لي ٍ‬ ‫ي اثن ِ‬‫جعل فِيها زوج ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ٌ ُ َ َ َ ٌ َ َ َّ ٌ ْ ْ َ َ َ ْ ٌ َ ٌ ْ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ْالَ ْ‬
‫ان يسق‬ ‫ٍ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫و‬ ‫ان‬‫و‬ ‫ن‬ ‫ص‬‫ِ‬ ‫ِيل‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ر‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫اب‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ات‬ ‫ن‬‫ج‬‫و‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫او‬
‫ِ‬ ‫ج‬‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ِط‬ ‫ق‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬
‫َْ َْ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ْ ُ ُ َّ‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫ات ل ِقومٍ يع ِقلون{‬ ‫ك إِن ِف ذل ِك لي ٍ‬ ‫بِما ٍء واح ٍِد ونفضل بعضها ع بع ٍض ِف ال ِ‬
‫(الرعد ‪.)4 :2‬‬

‫التغيري هو جوهر ال�سورة‪ ،‬ت�أخذنا �إىل الظواهر الطبيعية يف مد الأر�ض‬


‫وخ�صوبة الأر�ض ونزول الأمطار‪ ،‬وكل ذلك يقود �إىل ماذا؟ �إىل الثمار‪،‬‬
‫الثمار ال ت�أتي «ب�ضربة ع�صا» �أو مبعجزة‪ ،‬كذلك التغيري‪ ،‬هو الثمرة‬
‫املن�شودة التي تتطلب كل ما تتطلبه الثمرة من جهد ووقت وتداخل عوامل‬
‫وظروف‪.‬‬
‫ي�ضرب اهلل املثل باحلمل‪.‬‬
‫شء ع ِْن َدهُ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ ْ ُ ُ ُّ ُ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ ُّ َ‬
‫}اهلل يعلم ما ت ِمل ك أنث وما ت ِغيض الرحام وما تزداد وك ْ ٍ‬
‫ْ َ‬
‫ار{ (الرعد‪.)8:‬‬
‫ب ِ ِمقد ٍ‬
‫وكل حمل ي�ستغرق وقتًا و�أطوا ًرا متتالية لي�صل �إىل نهايته‪ ،‬وكذلك‬
‫التغيري‪ ،‬ال بد له �أن مير مبراحل تنقله من البذرة �إىل اجلنني �إىل الطفل‬
‫املكتمل‪ ،‬و�سيبقى بحاجة �إىل الرعاية واحلماية حتى بعد والدته‪.‬‬
‫َ ُ َ ِّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ ْ ََْ ُ َُ ْ َْ‬ ‫َ ُ ُ َ ِّ َ ٌ ْ َ ْ َ َ ْ‬
‫ي ما‬ ‫ي يدي ِه َومِن خل ِف ِه يفظونه مِن أم ِر اهلل إِن اهلل ل يغ‬ ‫}ل معقبات مِن ب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يوا َما بأَ ْن ُف ِسه ْم َ‬
‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫وءا فل م َرد لُ َوما له ْم مِن دون ِ ِه‬
‫َ َ‬
‫اد اهلل بق ْومٍ ُس ً‬‫ر‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ب َق ْومٍ َح َّت ُي َغ ِّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال{ (الرعد‪.)11 :‬‬ ‫مِن و ٍ‬

‫‪- 88 -‬‬
‫سورة الرعد‬

‫التغيري ال ي�أتي كهدية من ال�سماء‪ ،‬وال حتى كلعنة منها‪ ،‬هو ي�أتي من‬
‫{ما ِب�أَ ْن ُف ِ�س ِه ْم} على �أنها «الذي‬
‫داخلنا‪« ،‬ما ب�أنف�سنا»‪ ،‬ميكن �أن نفهم َ‬
‫ب�أنف�سهم»‪� ،‬أو نفهمها على �أنها «يقوموا بالتغيري ب�أنف�سهم»‪ ،‬والأمران‬
‫متطابقان من عدة جوانب‪ ،‬وحتى «ب�أنف�سهم» ميكن �أن ُت ْف َه َم على �أنها‬
‫أي�ضا �أن ُت ْف َه َم «وعيهم»‪،‬‬
‫«نفو�سهم»‪�« ،‬أخالقهم»‪« ،‬قيمهم»‪ ،‬وميكن � ً‬
‫«�أفكارهم»‪ ،‬وال �أرى مرة �أخرى فار ًقا كب ًريا بني الأمرين‪.‬‬
‫املهم �أن التغيري ال ينزل باملظلة من �أعلى‪ ،‬بل ي�شق الأر�ض كنبتة ت�أخذ‬
‫وقتها يف النمو‪.‬‬
‫أي�ضا �إىل �أن التغيري ال ي�شرتط �أن يكون �إيجاب ًّيا‬ ‫ال�سورة تنبهنا � ً‬
‫َ ْ ُ ً َ َ َ َ َّ َُ‬ ‫َ َ‬
‫بال�ضرورة‪َ } ،‬وإِذا أ َر َاد اهلل بِقومٍ سوءا فل مرد ل{‪ ،‬كم من تغيري من�شود ه َّل ْلنا‬
‫له ثم �صار ُي َع ُّد �أ�سو�أ ما مر بنا‪ ،‬لكن التغيري حا�صل‪� ،‬إن مل نوجهه �إىل‬
‫�أن يكون �إيجاب ًّيا؛ �سيكون �سلب ًّيا‪ ،‬جمرد البقاء يف «نف�س الو�ضع» هو تغيري‬
‫�سلبي؛ لأن الواقع ي�ستمر بالتغري والتحرك‪ ،‬وعدم «تغريك» لتواجه هذه‬
‫التغيريات يعني �أنك تتغري �سلب ًّيا‪.‬‬
‫ت�أخذنا ال�سورة � ً‬
‫أي�ضا �إىل �صورة �شاملة كبرية للتغيري كما يحدث يف‬
‫الواقع‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ ُ َ َ ً‬
‫اء فسالت أ ْودِية بِقد ِرها فاحتمل السيل زبدا َرابِيا َومِما‬ ‫}أنزل مِن السماءِ م‬
‫ْ َ َّ‬ ‫َّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ٌ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ ُ‬ ‫ُ ُ َ َ َْ‬
‫ضب اهلل الق‬ ‫اع زبد مِثله كذل ِك ي ِ‬ ‫ار ابتِغاء حِلي ٍة أو مت ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يوق ِدون علي ِه ِف انل‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫الاط َِل َفأَ َّما َّ‬
‫َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫الز َب ُد ف َيذ َه ُب ُج َف ًاء َوأ َّما َما َي ْن َف ُع انلَّ َاس ف َي ْمك ُث ِف ال ْر ِض{‬ ‫َو ْ َ‬

‫(الرعد‪.)17 :‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫امل�شهد ي�أخذ وقتًا ً‬


‫طويل‪ ،‬املاء ينزل‪ ،‬الأودية ت�سيل‪ ،‬ال َّز َبد يطفو‪ ،‬احلق‬
‫والباطل يتواجهان يف املحك احلقيقي‪ :‬ما ينفع النا�س‪.‬‬
‫وهذا يتطلب وقتًا بالت�أكيد؛ لأن النفع وال�ضر قد ال يتبني على املدى‬
‫الق�صري‪ ،‬الآثار الآجلة هي التي �ستحدد ما �سيمكث يف الأر�ض وما �سيذهب‬
‫جفا ًء‪.‬‬
‫هل يريدون �أن يكون التغيري �سري ًعا مثل وجبة جاهزة؟‬
‫َْ َ َْ‬ ‫ْ َ ُ َ ُ ِّ‬ ‫ْ َ ُ َ ُ ِّ َ ْ‬ ‫َ َ ْ َ َّ ُ ْ ً ُ ِّ َ ْ‬
‫البال أ ْو قطعت ب ِ ِه ال ْرض أ ْو ك َم ب ِ ِه الم ْوت بل هلل‬‫}ولو أن قرآنا سيت ب ِ ِه ِ‬
‫َْْ َ ً‬
‫الم ُر جِيعا{‪( .‬الرعد‪)31 :‬‬

‫لكن القر�آن لن يفعل ذلك‪ ،‬لي�س هذا مطلو ًبا منه‪ ،‬بل يفعل فعل املطر‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬تغيري حقيقي ي�أخذ وقته لكي يحدث‪ ،‬وتدخل فيه كل ال�سنن ‬
‫والقوانني والعوامل الالزمة‪.‬‬
‫***‬
‫ُ َ ِّ ُ‬ ‫ُ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ً َ َ َ ً َ ُ ْ ُ َّ َ َ ِّ َ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫ئ السحاب اثلقال ‪َ ‬ويسبح‬ ‫}ه َو الِي ي ِريكم البق خوفا وطمعا وين ِش‬
‫َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ ُ ُ‬ ‫َْ َ َ ُ ْ‬ ‫َّ ْ ُ ْ‬
‫اء َوه ْم‬ ‫الرعد ِبَم ِده ِ َوالملئ ِكة مِن خِيفتِ ِه وير ِسل الصواعِق في ِصيب بِها من يش‬
‫َ َُ َ ُ ْ َ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫ال{ (الرعد ‪.)13 :12‬‬ ‫يادِلون ِف اهلل وهو شدِيد ال ِمح ِ‬
‫برق ورعد �إذن‪.‬‬
‫الربق ي�ضيء الليلة املظلمة‪ ،‬والرعد �صوته مهيب‪ ،‬يهز القلب‪.‬‬
‫لكن ما يحدث بعدهما هو الذي ُي ْح ِد ُث التغيري احلقيقي الذي �أ�شارت‬
‫له ال�سورة كمثال‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫سورة الرعد‬

‫املطر‪.‬‬
‫الرعد والربق دون مطر لن ُي ْح ِد َثا تغي ًريا يف الأر�ض‪.‬‬
‫«ال�صوت وال�ضوء» جمرد �إ�شارة لك لكي تنتبه �إىل ما �سيحدث الح ًقا‬
‫‪-‬لو حدث‪ ،-‬املطر‪ ،‬كي ت�ساهم فيه‪ ،‬كي تكون �شري ًكا‪.‬‬
‫«ما ب�أنف�سهم»‪.‬‬
‫***‬
‫الرعد والربق احلقيقي يف الداخل‪.‬‬
‫�صوت و�ضوء يف �أعماقك‪.‬‬
‫املهم � َّأل تكتفي بذلك‪.‬‬
‫املهم �أن متطر � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫«ما ب�أنف�سهم»‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫سورة إبراهيم ‪14‬‬
‫الخروج من الظلمات إلى النور‬

‫�سورة �إبراهيم هي �سورة «اخلروج من الظلمات �إىل النور»‪� ،‬أو رمبا‬


‫ميكن ت�سميتها � ً‬
‫أي�ضا �سورة املجتمع امل�ستقر الآمن‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ ُّ ُ َ‬
‫افتتاحية ال�سورة تقول‪} :‬ك ِتاب أنزلاه إ ِ ْلك ِلخ ِرج انلاس مِن الظلم ِ‬
‫ات إِل‬
‫اط الْ َعزيز ْ َ‬
‫ال ِمي ِد{ (إبراهيم‪.)1 :‬‬ ‫ص ِ‬‫انلُّور بإ ْذن َر ِّبه ْم إ َل ِ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ ِ‬
‫وبعد �آيات ي�أتي ذكر �سيدنا مو�سى‪.‬‬
‫َ ِّ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ُّ‬
‫الظلُ َمات إ َل انلُّ‬ ‫َََ ْ َْ َ َْ ُ َ‬
‫ور َوذك ْره ْم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ج‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫ت‬‫ا‬ ‫آي‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وس‬ ‫}ولقد أرسلنا م‬
‫ُ ِّ َ َّ َ ُ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ور{ (إبراهيم‪.)5 :‬‬
‫ٍ‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫ار‬
‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ِ ِ‬ ‫إ‬ ‫اهلل‬ ‫ِ‬
‫ام‬ ‫بِأي‬

‫�إذن قوم مو�سى كانوا يف الظلمات‪ ،‬كيف هي الظلمات حتديدً ا؟‬


‫َ َ‬ ‫َ َْ ُ ْ ْ َ َْ ُ ْ ْ‬ ‫ْ ُُ ََْ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ َْ‬
‫آل ف ِْرع ْون‬
‫}وإِذ قال موس ل ِقو ِم ِه اذكروا ن َِعمة اهلل عليكم إِذ أناكم م ِ‬
‫ِن‬
‫َ ُ‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ‬ ‫َُ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ‬
‫اءك ْم َو ِف ذل ِك ْم‬ ‫اب ويذبون أبناءكم ويستحيون ن ِس‬ ‫يسومونكم سوء العذ ِ‬
‫َ َ ٌ ْ َ ِّ ُ‬
‫ك ْم َعظ ٌ‬
‫يم{ (إبراهيم‪.)6 :‬‬ ‫ِ‬ ‫بلء مِن رب‬

‫�إذن الظلمات هي العي�ش يف جمتمع فيه ظلم وقهر وا�ستعباد‪ ،‬جمتمع‬


‫م�ستبد مبختلف �أنواع اال�ستبداد و�أ�شكاله‪� ،‬إنها «ظلمات» ولي�ست ظلمة‬
‫واحدة؛ لأن �أ�شكال اال�ستبداد واال�ستعباد تتعدد وتختلف‪ ،‬وقد تكون لها‬
‫م�سميات لطيفة ج ًّدا وواجهات مزينة ب�شعارات توحي بعك�س ذلك‪.‬‬
‫‪- 92 -‬‬
‫سورة إبراهيم‬

‫تلك كانت الظلمات‪ ،‬ف�أين النور الذي يفرت�ض �أن نخرج �إليه عرب‬
‫«الكتاب»؟‬
‫ال�سورة ت�أخذنا �إىل َمنْ ُ�س ِّم َيت على ا�سمه‪� ،‬سيدنا �إبراهيم عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم‪ ،‬هناك �سنتعرف �إىل «امل�ضاد املو�ضوعي» ملجتمع الظلمات‪� ،‬إىل‬
‫املجتمع املعاك�س‪� ،‬إىل النور‪.‬‬
‫***‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫} َوإِذ ق َال إِبْ َراه ُِيم َر ِّب ْاج َعل َه َذا َال َل آم ًِنا َو ْاج ُنبْ ِن َو َب ِ َّن أ ْن َن ْع ُب َد ال ْص َن َام{‬
‫(إبراهيم‪.)35 :‬‬
‫َّ َ‬ ‫ْ َ َْ َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬
‫َ َّ َ ِّ ْ َ ْ ُ ْ ُ ِّ َّ‬
‫ي ذِي ز ْر ٍع عِند بيتِك المح َّر ِم َربنا‬ ‫}ربنا إِن أسكنت َ مِن ذري ِت بِوا ٍد غ ِ‬
‫َ ْ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ً‬ ‫ُ‬
‫ات لعله ْم‬ ‫ِ ُل ِقيموا الصلة فاجعل أفئِدة م َِن انلَّ ِ‬
‫اس ته ِوي إِل ِهم وارزقهم مِن اثلمر ِ‬
‫َْ ُ َ‬
‫يشك ُرون{ (إبراهيم‪.)37 :‬‬

‫هذا الدعاء للبلد «اجلديد» �أن يكون �آم ًنا‪ ،‬ح ًّرا بال قيود (بال �أ�صنام)‪،‬‬
‫عادل م�ستق ًّرا مزده ًرا‪ ،‬هذا هو «النور» يف الدنيا‪ ،‬هذا هو «الهدف»‬ ‫ً‬
‫الدنيوي الذي يقود بنا�ؤه �إىل نور الآخرة‪.‬‬
‫نب ذلك املجتمع لنف�سه‪ ،‬بل كان «م�صري ذريته» يف ن�صب‬
‫�إبراهيم مل ي ِ‬
‫عينيه يف الدعاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫} َو ْاج ُنبْ ِن َو َب ِ َّن{‪} ،‬أ ْسك ْن ُت م ِْن ذ ِّريَّ ِت{‪.‬‬
‫كان يريد لأوالده �أن يعي�شوا يف جمتمع م�ستقر �آمن حر‪ ،‬بكل معاين‬
‫اال�ستقرار والأمان واحلرية‪.‬‬
‫بال�ضبط كما نريد لأوالدنا �أن يعي�شوا يف جمتمع �آمن‪.‬‬
‫‪- 93 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وكانت تلك هي اللحظة الأعلى يف رحلته عليه ال�سالم‪ ،‬كانت تلك قمته‬
‫بعد رحلة وعرة‪.‬‬
‫رمبا لذلك �أخذت هذه ال�سورة حتديدً ا ا�سمه‪ ،‬توزعت ق�صته على �سور‬
‫كثرية يف القر�آن‪ ،‬وكان له حمطات ومواقف مهمة للغاية‪ ،‬لكن هنا و�صل‬
‫للهدف (الدنيوي) على الأقل‪ ،‬هنا ت�أخذنا ال�سورة �إىل نهاية الرحلة؛ لذلك‬
‫دوما بنهاية رحلته‪،‬‬
‫ت�أخذ ا�سمه‪ ،‬كما لو �أنها تريد �أن تربط �سيدنا �إبراهيم ً‬
‫باملجتمع الذي �سعى لتحقيقه‪ ،‬املجتمع الذي نريده جمي ًعا‪.‬‬
‫***‬
‫�أولئك الذين يقررون ‪ -‬يف خيار �صعب ‪� -‬أن يرتكوا �أوطانهم نحو بالد‬
‫أي�ضا يبحثون عن اخلروج من ظلمات‬ ‫الهجرة واللجوء‪ ،‬كانوا بطريقة ما � ً‬
‫جمتمعاتهم �إىل نور املجتمعات الأخرى‪� ،‬أو على الأقل �إىل جمتمعات �أخرى‬
‫تبدو ظلماتها �أقل ُظ ْلمة‪� ،‬أو يبدو �أن فيها من النور �أكرث‪.‬‬
‫�أولئك الذين يرتكون كل �شيء خلف ظهورهم‪ ،‬كل ما خ َّلفه لهم �آبا�ؤهم‪،‬‬
‫من �أجل م�ستقبل �أف�ضل لأوالدهم‪.‬‬
‫بع�ضهم يدفع حياته ‪ -‬حرف ًّيا ‪ -‬خالل ذلك‪.‬‬
‫وبع�ضهم يدفع حياة �أوالده‪ ،‬لي�س من خالل موتهم املبا�شر �أثناء حماولة‬
‫الهجرة‪ ،‬بل الح ًقا مبوت من نوع �آخر‪ ،‬مع ا�ستمرار بالتنف�س وبقية الوظائف‬
‫احليوية‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬جمتمعاتنا «ظلمات»‪ ،‬فيها ظلمات كثرية‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫سورة إبراهيم‬

‫وبع�ض َمنْ «ي َّدعي التم�سك بالكتاب» يزيد ُظ ْل َمة هذه املجتمعات ُ‬


‫بظ ْلمة‬
‫�إ�ضافية من�سوبة هذه املرة �إىل القر�آن الذي ُيفرت�ض �أن ي�أخذنا �إىل النور‪.‬‬
‫ً‬
‫وال قليل‪.‬‬ ‫كل َمنْ يفكر يف اخلروج من الظلمات حمق‪ ،‬ال ميكن لومه‬
‫املهم �أن يتحرى النور يف املكان الذي يتوجه له‪.‬‬
‫�أو على الأقل ي�سعى لت�أ�سي�سه‪.‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫الح ْجر ‪15‬‬
‫سورة ِ‬
‫الصورة الكاملة‬

‫احل ْجر هي �سورة «ال�صورة الكاملة»‪ ،‬هي ال�سورة التي تع ِّلمنا كيف‬
‫�سورة ِ‬
‫ننظر �إىل كل �شيء ب�شمولية وبتكامل‪ ،‬دون �أن جنتزئ‪ ،‬دون �أن ننظر �إىل‬
‫متاما �أو نغ�ض عنها النظر‪.‬‬‫بع�ض الأجزاء بعد�سة مكربة ونتجاهل �أخرى ً‬
‫تقول لنا ال�سورة منذ مطلعها �شي ًئا غري متوقع‪.‬‬
‫ُ َ َ َ َ ُّ َّ َ َ‬
‫ك َف ُروا ل َ ْو َكنُوا ُم ْسلم َ‬
‫ني{ (احلجر‪.)2 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫}ربما يود الِين‬

‫كيف؟ كيف يودون ذلك وهم على ما هم عليه من كفر و�صدود؟‬


‫�سنعرف اجلواب الح ًقا عرب ال�سورة‪ ،‬و�سندرك �أن جز ًءا كب ًريا من‬
‫الرف�ض وال�صدود الذي ميكن �أن يحدث للإميان (�أو لأي فكرة) �إمنا يعود‬
‫�إىل النظر عرب ن�صف عني‪ ،‬النظر �إىل جزء من ال�صورة‪ ،‬لكن لو �أُتيحت‬
‫لهم �أن يروا ال�صورة كاملة‪ ،‬ال�صورة بكل تفا�صيلها و�أجزائها‪ ،‬ف�إن موقفهم‬
‫ُ َ َ َ َ ُّ َّ َ َ‬
‫ك َف ُروا ل َ ْو َكنُوا ُم ْسلم َ‬
‫ني{ (احلجر‪.)2 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫هذا قد يتغري‪ ،‬و}ربما يود الِين‬
‫َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ِ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ِّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫ون ‪‬‬ ‫}والرض مددناها وألقينا فِيها رواس وأنبتنا فِيها مِن ك ش ٍء مو ٍ‬
‫ز‬
‫َ ْ ْ َ ْ َّ ْ َ َ‬ ‫ِيها َم َعاي َش َو َم ْن ل َ ْس ُت ْم َلُ ب َرازق َ‬ ‫َ َ َ َْ َ ُ ْ َ‬
‫ش ٍء إِل عِندنا‬ ‫ِني ‪ ‬وإِن مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وجعلنا لكم ف‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ َ ِّ َ َ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ‬
‫الس َماءِ َم ً‬
‫اء‬ ‫نلُ إِل بِقد ٍر معلومٍ ‪ ‬وأرسلنا الرياح لواق ِح فأنزلا مِن‬
‫َ َ‬
‫خزائ ِنه وما ن‬
‫بازن َ‬ ‫ََ ْ َ َْ ُ ُ ُ َ َ ُْْ ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِني{ (احلجر ‪)22 :20‬‬ ‫فأسقيناكموه وما أنتم ل ِ ِ‬
‫‪- 96 -‬‬
‫سورة الحجر‬

‫يف �سبيل ذلك ت�أخذنا ال�سورة � ًأول �إىل جولة �شاملة يف الكون؛ ال�سماء‬
‫والأر�ض وظواهر الطبيعة من رياح و�أمطار‪ ،‬فهم الرتابط املوجود بني كل‬
‫عن�صر من عنا�صر ال�صورة مهم يف تكوين حا�سة «ال�صورة الكاملة»‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫ْ ََ َ ْ ُ‬ ‫َ َ َْ َ ُ ْ َْ ُ َ َ َ َ َْ َُ ْ َ ْ َ‬
‫ون ‪ ‬قال‬ ‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫إ‬
‫ٍ‬ ‫ح‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ال‬
‫ش خلقته مِن صل ٍ‬
‫ص‬ ‫}قال لم أكن ِلسجد ل ِب ٍ‬
‫َ‬
‫َ َ ِّ َ ْ‬ ‫َ َّ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ِّ‬ ‫َ ْ ُ ْ ْ َ َ َّ َ‬
‫ين ‪ ‬قال َرب فأن ِظ ْر ِن‬ ‫جيم ‪ ‬وإِن عليك اللعنة إِل يو ِم ادل ِ‬
‫ك َر ٌ‬
‫ِ‬ ‫فاخرج مِنها فإِن‬
‫َ َ ِّ‬ ‫َ َْ َْ ْ ْ ْ ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫َ َْ َُُْ َ‬
‫وم ‪ ‬قال َرب‬ ‫ت ال َمعل ِ‬
‫إِل يو ِم يبعثون ‪ ‬قال فإِنك مِن المنظ ِرين ‪ ‬إِل يو ِم الوق ِ‬
‫جع َ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َْْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ ِّ َ َّ َ ُ ْ‬
‫ني{ (احلجر ‪.)39 :33‬‬ ‫بِما أغويت ِن لزين لهم ِف الر ِض َولغ ِوينهم أ ِ‬

‫بعدها ت�أخذنا �إىل �أ�صل احلكاية‪� ،‬إىل َق َ�س ِم �إبلي�س‪� ،‬إبلي�س رف�ض �أن‬
‫ي�سجد لآدم لأنه نظر �إىل جزء من ال�صورة‪� ،‬إىل خلق �آدم من �صل�صال‪ ،‬ومل‬
‫ينظر �إىل ما �أودعه اهلل فيه من �إمكانات؛ لذا فقد رف�ض الأمر بال�سجود‬
‫ومل ينظر �إىل �أن هذا الأمر ما كان ميكن �أن يكون من دون حكمة له عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِّ َ‬
‫الرح ُِيم ‪َ ‬وأ َّن َع َذ ِاب ُه َو ال َع َذ ُاب ال ِل ُم{‬ ‫ئ ع َِبادِي أن أنَا ال َغ ُف ُ‬
‫ور َّ‬ ‫} َن ِّب ْ‬

‫(احلجر ‪.)50 :49‬‬

‫الكثريون يتعاملون مع اهلل و�صفاته بتجزئة‪ ،‬غال ًبا كما يريدون �أو‬
‫يتمنون‪ ،‬يركزون على �صفة واحدة ويرتكون �أخرى‪ ،‬هو غفور رحيم بالفعل‪،‬‬
‫أي�ضا عذابه هو العذاب الأليم‪ ،‬البع�ض يركز على العذاب وي�ستخدمه‬‫لكن � ً‬
‫يف الدعوة هلل وين�سى الغفور الرحيم‪ ،‬كما ين�سى بع�ض �آخر �صفات املغفرة‬
‫والرحمة‪.‬‬
‫‪- 97 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ ُ َ َ َ ْ َّ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ً َ َ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫جلون ‪ ‬قالوا ل ت ْوجل إِنا‬ ‫}إِذ دخلوا علي ِه فقالوا سلما قال إِنا مِنكم و ِ‬
‫َ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ْ ُ ُ‬ ‫ُ َ ِّ ُ َ ُ َ َ‬
‫ون ع أن مس ِن الكِب فبِم تبشون ‪‬‬ ‫ِيم ‪ ‬قال أبشت ِ‬
‫م‬ ‫شك بِغلمٍ عل ٍ‬ ‫نب‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ْ َ ِّ َّ‬ ‫ك ْن م َِن الْ َقانِط َ‬ ‫ْ‬
‫َ ُ َ َّ ْ َ َ َ ِّ َ َ َ ُ‬
‫ني ‪ ‬قال َومن يقنط مِن َرح ِة َرب ِه إِل‬ ‫ِ‬ ‫قالوا بشناك بِالق فل ت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ُّ َ ُ ْ َ َ‬
‫ُ‬ ‫َّ ُّ َ‬
‫ون ‪ ‬قالوا إِنَّا أ ْر ِسل َنا إِل ق ْومٍ ُ ْم ِرم َِني{‬ ‫الضالون ‪ ‬قال فما خطبكم أيها المرسل‬
‫(احلجر ‪.)58 :52‬‬

‫تتجاور الرحمة والعذاب � ً‬


‫أي�ضا يف الق�صة التي �ست�أخذنا �إليها ال�سورة‪،‬‬
‫ق�صة �ضيف �إبراهيم املكرمني‪ ،‬حملوا له الب�شرى بالغالم‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا حملوا‬
‫له نب�أ العذاب النازل بقوم لوط‪ ،‬حتى مع قوم لوط كانت هناك فر�صة‬
‫لتحقيق الرحمة لوال �إ�صرارهم على فح�شهم العلني‪ ،‬وحتى مع امر�أة لوط‬
‫كانت هناك فر�صة للرحمة‪ ،‬لكنها خالفت الأمر الإلهي بعدم االلتفات بعد‬
‫�أن تركوا القرية التي �سينزل بها العذاب‪.‬‬
‫َّ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ ََْ َْ ََ‬
‫ع ال ْ ُم ْقتَسم َ‬ ‫} َوقُ ْل إ ِّن َأنَا انلَّذ ُ‬
‫ِير ال ْ ُمب ُ‬
‫ِين جعلوا‬ ‫ني ‪ ‬ال‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني ‪ ‬كما أنزلا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُْْ َ‬
‫ِضني{ (احلجر ‪.)91 :89‬‬ ‫القرآن ع ِ‬
‫حتذر ال�سورة يف �أواخرها من التعامل «التجزيئي» مع القر�آن‪َّ } ،‬ال َ‬
‫ِين‬
‫ُ ْ‬
‫َج َعلوا ال ُق ْر َآن ع ِِض َني{‪ ،‬وع�ضني تعني �أنهم جعلوه �أع�ضا ًء‪� ،‬أجزا ًء‪� ،‬آمنوا‬
‫ببع�ض وكفروا ببع�ض‪� ،‬إمنا هو جملة واحدة ال ميكن جتزئتها عن �سياقها‬
‫وعن متامها‪ ،‬كلما مت�سكت بال�صورة الكاملة‪ ،‬بالفهم الكامل‪ ،‬كلما ابتعدت‬
‫عن �أخذ القر�آن ك ِع�ضني‪ ،‬وما �أكرث من يفعل ذلك اليوم من كل االجتاهات!‬
‫بال�ضبط مثل «الغفور الرحيم‪ ،‬وعذابي هو العذاب الأليم»‪ ،‬وبال�ضبط مثل‬
‫الرتكيز على ال�صل�صال وجتاهل نفخة الروح‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 98 -‬‬
‫سورة الحجر‬

‫َ‬ ‫َّ‬
‫ك َف ُروا ل ْو َكنُوا ُم ْسلِ ِم َني{ يف ع�صرنا اليوم‪ ،‬من النادر‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُّ‬
‫} ُربما ي َود الِين‬
‫ج ًّدا �أن يود الذين كفروا لو كانوا م�سلمني‪ ،‬لي�س بال�ضرورة لأنهم عجزوا‬
‫عن ر�ؤية ال�صورة الكاملة بل لأننا نحن قدمنا �صورة م�سيئة للإ�سالم‪،‬‬
‫انعكا�سا بالغ ال�سوء لأغلب قيم الإ�سالم‪ً ،‬‬
‫بدل من �أن نكون مركزًا‬ ‫ً‬ ‫قدمنا‬
‫للجذب يجعلهم يتحرون «ال�صورة الكاملة»؛ �أ�صبحنا مركز طرد‪ ،‬يجعلهم‬
‫يت�صورون �أن ال�صورة الكاملة �سيئة ج ًّدا‪.‬‬
‫�إال من رحم ربي منا ومنهم‪.‬‬
‫***‬
‫َ َّ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ٌ ْ ُ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ ْ‬
‫اره ْم َول يلت ِفت مِنك ْم أحد َوامضوا‬ ‫}فأ ِ‬
‫س بِأهلِك ب ِ ِقط ٍع مِن اللي ِل واتبِع أدب‬
‫َْ ُ ُْ َ َ‬
‫حيث تؤم ُرون{ (احلجر‪)65 :‬‬
‫ََ ََْ ْ ْ ُ َ‬
‫ك ْم أ َح ٌد{‪.‬‬ ‫}ول يلت ِفت مِن‬

‫كانت تلك هي الو�صية لآل لوط عندما غادروا قريتهم‪.‬‬


‫كم نحتاج �إىل ذلك ك�أ�شخا�ص و�أحيا ًنا كمجتمعات‪ ،‬نحتاج � َّأل نلتفت‬
‫�إىل الوراء �أحيا ًنا‪� ،‬أن نقلب ال�صفحة‪� ،‬أن نبد�أ من جديد دون �أن نبقى‬
‫�أ�سرى ملا ي�شدنا �إىل اخللف‪.‬‬
‫نحتاج �أن نتعلم ذلك‪� ،‬أن نتخل�ص من التفاتنا املزمن لأ�شخا�ص �أو‬
‫جروحا غائرة فينا‪.‬‬
‫�أماكن �أو جتارب تركت ً‬
‫نحتاج �أن ن�سري �إىل ال�صبح‪ ،‬دون �أن نلتفت �إىل الليل‪.‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫سورة النحل ‪16‬‬
‫عن قواعد متعددة وسقف واحد‬

‫�سورة النحل هي �سورة «القواعد وال�سقف»‪.‬‬


‫والقواعد هنا هي جمموعة من القوانني الالزمة لتما�سك البنيان‬
‫وثباته‪ ،‬عدم االلتزام بها يقود �إىل �أن يخ َّر ال�سقف كنتيجة حتمية منطقية‪.‬‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫ُ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ً َ ُ ْ ْ ُ َ َ ٌ‬
‫شاب َومِنه شج ٌر فِي ِه ت ِسيمون ‪‬‬ ‫}هو الِي أنزل مِن السماءِ ماء لكم مِنه‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ َّ ْ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ِّ َّ َ‬ ‫ُْ ُ َ ُ ْ‬
‫ات إِن ِف ذل ِك‬ ‫ينبِت لكم ب ِ ِه الزرع والزيتون وانلخِيل والعناب ومِن ك اثلمر ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫ك ُم اللَّ ْي َل َوانلَّ َه َ‬
‫َ َ َّ َ َ ُ‬ ‫َ َ ً َ َ َ َ َّ َ‬
‫ار َوالشمس َوالقم َر َوانلُّجوم‬ ‫لية ل ِق ْومٍ يتفك ُرون ‪ ‬وسخر ل‬
‫َُْ ً‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َْ ُ َ‬ ‫ُ َ َّ َ ٌ َ ْ َّ َ َ َ َ‬
‫ات ل ِق ْومٍ يع ِقلون ‪َ ‬وما ذ َرأ لك ْم ِف ال ْر ِض متلِفا‬ ‫مسخرات بِأم ِره ِ إِن ِف ذل ِك لي ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ ً‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ ً َ َ َّ َّ َ‬ ‫َ ْ ُ ُ َّ‬
‫لما‬ ‫أل َوانه إِن ِف ذل ِك لية ل ِق ْومٍ يذك ُرون ‪َ ‬وه َو الِي سخر الحر ِلأكلوا مِنه‬
‫ْ َ ْ‬ ‫َُْ‬ ‫ُْ ْ َ َ‬ ‫َ ًّ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ً َ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫ط ِريا َوتستخ ِرجوا مِنه حِلية تلبسونها َوت َرى الفلك م َواخ َِر فِي ِه َو ِلَبتغوا مِن فضلِ ِه‬
‫َ َ َّ ُ َ ْ ُ َ‬
‫َولعلك ْم تشك ُرون{(انلحل ‪.)14 :10‬‬

‫ال�سورة ت�أخذنا � ًأول يف قواعد بنى اهلل على �أ�سا�سها بنيان الكون‬
‫موظفة من خالل قوانني �أوجدها عز وجل‬ ‫واخلليقة‪ ،‬كل ِن َعم اهلل هي ِن َع ٌم َّ‬
‫لتي�سر للإن�سان حياته‪ ،‬ت�أخذنا ال�سورة �إىل الأنعام ومنافعها و�سائل الركوب‬
‫َْ ُُ َ َ‬
‫الأخرى املعروفة �آنذاك‪ ،‬وتفتح الباب ملا مل ُي ْع َرف �آنذاك‪َ } ،‬و يلق ما ل‬
‫َْ َُ َ‬
‫ون{‪ ،‬وت�أخذنا ال�سورة �إىل املاء النازل من ال�سماء وال�شجر والنخيل‬ ‫تعلم‬

‫‪- 100 -‬‬


‫سورة النحل‬

‫والأعناب والثمار والبذور وال�شم�س والقمر والليل والنهار والنجوم والبحر‬


‫ْ َ ُ ُّ‬
‫أي�ضا القائمة مفتوحة �إىل ما ال نهاية حرف ًّيا‪َ } ،‬وإِن تعدوا‬ ‫والفلك والنحل‪ ،‬و� ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ ُ َ‬
‫وها إ َّن اهلل لغف ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ََْ‬
‫ِيم{ (انلحل‪.)18 :‬‬ ‫ن ِعمة اهلل ل تص ِ‬
‫كل هذه النعم ت�سري ح�سب القواعد التي قام عليها بنيان الكون الذي‬
‫أي�ضا �سنن ‬ ‫نعي�ش فيه‪ ،‬قواعد و�ضعها اهلل يف خلقه‪ ،‬ميكن �أن ن�سميها � ً‬
‫أي�ضا تقيم البنيان‪ ،‬وما دامت القواعد �سليمة وغري‬ ‫وقوانني‪ ،‬لكنها قواعد � ً‬
‫منتهكة‪ ،‬فال�سقف قائم يف مو�ضعه ي�ؤدي وظيفته‪.‬‬
‫َّ ْ ُ‬ ‫َ َ َ َْ‬ ‫َْ‬ ‫َُْ َ ُ‬ ‫َََ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ‬
‫ِين مِن قبل ِِه ْم فأت اهلل بنيانه ْم م َِن الق َوا ِع ِد فخ َّر علي ِه ُم السقف‬ ‫}قد مكر ال‬
‫َْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫مِن ف ْوق ِِه ْم َوأتاه ُم العذاب مِن حيث ل يشع ُرون{ (انلحل‪.)26 :‬‬

‫كيف ميكن �أن يكون هناك مكر يف هذا؟‬


‫املكر هو �أن تعي�ش يف كون ُب ِن َي على هذه القواعد‪ ،‬وت�ستثمرها ملنفعتك‪،‬‬
‫ثم تعتقد بعدها �أنك خارج القوانني‪ ،‬تعتقد �أن كل ما حولك قائم على‬
‫قليل (ت�ستثمر فيها‬ ‫اخل�ضوع لقوانني معينة مل ت�شارك يف �صنعها وال ً‬
‫ل�صاحلك)‪ ،‬ولكن ي�صل الأمر �إليك فتعتقد �أنك خارج اللعبة وقواعدها‬
‫وقوانينها‪ ،‬هذا مكر حريف‪.‬‬
‫دوما نهايات �سيئة؛ لأن الإن�سان ‪ -‬فردًا وجمتم ًعا ‪ -‬يحتاج‬ ‫وهو ينتهي ً‬
‫عاجل‪،‬‬‫آجل �أو ً‬ ‫�إىل قوانني تنظم حياته‪ ،‬ف�إن مل يكن‪ ،‬فال�سقف �سيخ ُّر � ً‬
‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬القواعد م�ضروبة‪ ،‬والبنيان �سيكون � ًآيل لل�سقوط‪ ،‬م�س�ألة‬
‫وقت‪.‬‬
‫نظاما برجم ًّيا معي ًنا يف مهمة حمددة‪،‬‬ ‫الأمر بال�ضبط مثل �أن ت�ستخدم ً‬
‫متاما‪ ،‬والنتيجة‪ :‬ينهار‬ ‫ثم قبل �أن تنهيها‪ ،‬تبدل النظام بنظام �آخر خمتلف ً‬
‫كل �شيء‪.‬‬
‫‪- 101 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ‬‫ً‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫َ‬


‫كاثا{ (انلحل ‪.)92:‬‬ ‫} َول تكونوا كل ِت نقضت غ ْزلها مِن بع ِد ق َّو ٍة أن‬

‫بال�ضبط هكذا‪.‬‬
‫كل هذا الكون ‪ -‬من ال�شم�س �إىل النحلة وكل ما بينهما ‪ -‬قائم على‬
‫قوانني وقواعد‪� ،‬أي منطق يجعل الإن�سان ال يخ�ضع لنف�س م�صدر القوانني‬
‫والقواعد؟‬
‫�أي منطق يجعل الإن�سان منفردًا بال وظيفة كما لكل �شيء وظيفة؟‬
‫َ َ ً َ ْ ً َ ْ ُ ً َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ ْ ً َ َ ً‬ ‫َ َ َ‬
‫ش ٍء َومن َرزقناهُ مِنا ِرزقا حسنا‬ ‫ضب اهلل مثل عبدا مملوك ل يقدِر ع‬ ‫}‬
‫َ ُ َ ُ ُ ُ ًّ َ َ ً َ َ ْ َ ُ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ون{ (انلحل‪.)75 :‬‬ ‫فهو ين ِفق مِنه ِسا وجهرا هل يستو‬
‫ُ‬ ‫ًََ َ ُ َْ َ َ ُ ُ َ َْ َ ُ َ َْ ُ ََ َ ْ َ ْ َْ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ش ٍء‪ ،‬هل يست ِوي ه َو‬ ‫ي أحدهما أبكم ل يقدِر ع‬ ‫} ْوضب اهلل مثل رجل ِ‬
‫َ َ ْ َ ُُ َْ ْ َ َُ ََ‬
‫ص ٍاط ُم ْس َت ِق ٍيم{(انلحل‪.)76 :‬‬ ‫ع ِ َ‬ ‫ومن يأمر بِالعد ِل وهو‬

‫***‬
‫ال�سورة كلها مل ت�أت على ذكر ا�سم نبي �إال �إ�شارة واحدة ل�سيدنا �إبراهيم‬
‫عليه ال�سالم‪ ،‬فقط �سيدنا �إبراهيم‪.‬‬
‫َ ً ََْ َ ُ َ ُْ ْ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َ ُ َّ ً َ ً‬
‫شك َِني{(انلحل‪.)120 :‬‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫يف‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ح‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ِت‬ ‫}إِن إِبراهِيم كن أمة قان‬

‫لي�س �صدفة‪� ،‬سيدنا �إبراهيم هو الذي رفع القواعد‪ ،‬كما يف �سورة‬


‫البقرة‪.‬‬
‫ْ َ ُ َّ َ َ َ َّ ْ َّ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َْ َ ُ َْ ُ َْ َ َ َ َْْ‬
‫ت َوإِسماعِيل َربنا تقبل مِنا إِنك أنت‬ ‫الي ِ‬ ‫}وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد مِن‬
‫ْ‬
‫الس ِم ُيع ال َعل ُِيم{ (انلحل‪.)127 :‬‬
‫َّ‬

‫وهذه هي �سورة القواعد وال�سقف‪.‬‬


‫***‬
‫‪- 102 -‬‬
‫سورة النحل‬

‫�أين نحن من كل هذا؛ من القواعد وال�سقف؟‬


‫�أغلبنا �أ�ضاع فهم القواعد‪ ،‬وفهم �آليات البناء‪� ،‬أغلبنا حاول ا�سترياد‬
‫قواعد �أخرى دون جناح كبري‪.‬‬
‫نحن يف خيمة كخيم النازحني‪ ،‬مل نعد يف البنيان الذي كان يفرت�ض �أن‬
‫نكون فيه‪ ،‬ومل جند من يقبل بنا بعدُ‪.‬‬
‫جزء كبري من هذا الذي نحن فيه كان يعود ل�سوء فهم لديننا‪ ،‬وللكتاب‬
‫الذي ُي ْف َتَ�ض �أن ي�ساعدنا على البناء‪.‬‬
‫***‬
‫ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫ََ َ‬
‫}أت أ ْم ُر اهلل فل ت ْس َت ْع ِجلوهُ{‪.‬‬
‫وكل � ٍآت قريب‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫سورة اإلسراء ‪17‬‬
‫ًّ‬
‫مسؤوليتك الشخصية جدا‬

‫�سورة الإ�سراء هي �سورة «امل�س�ؤولية ال�شخ�صية»‪.‬‬


‫قد يبدو ذلك غري ًبا بالن�سبة لعنوانها وما يرتبط به يف �أذهاننا من‬
‫تفا�صيل رحلته عليه ال�صالة وال�سالم يف الإ�سراء واملعراج‪.‬‬
‫لكن �سورة الإ�سراء ابتد�أت بالإ�شارة �إىل رحلة الإ�سراء يف �آيتها الأوىل‪،‬‬
‫ثم �أَ ْ�س َر ْت بنا �إىل مو�ضوعات �أخرى‪� ،‬أو هكذا قد يبدو الأمر‪ ،‬على الأقل‬
‫للوهلة الأوىل‪.‬‬
‫تفح�صا �أعمق لل�سورة �سيعود بنا ‪ -‬الح ًقا ‪� -‬إىل الإ�سراء‪ ،‬بحيث‬‫ً‬ ‫لكن‬
‫يرتبط كل ما فيها بعنوانها من جديد‪.‬‬
‫�سورة الإ�سراء هي ‪ -‬بر�أيي ‪� -‬سورة امل�س�ؤولية ال�شخ�صية كما قلت‪،‬‬
‫الكثري من �آياتها ت�شري �إىل ذلك بكثافة‪ ،‬ال �أعتقد �أن هناك �سورة �أخرى‬
‫ت�ضاهيها‪ ،‬بالت�أكيد امل�س�ؤولية ال�شخ�صية �أُ ِ�ش َري لها يف �سور عديدة‪ ،‬لكن‬
‫�سورة الإ�سراء تركز على ذلك على نحو يجعلك يف مواجهة مبا�شرة مع‬
‫الأمر‪.‬‬
‫فلرن ً‬
‫مثل‪:‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫سورة اإلرساء‬

‫َ ُ َّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ُ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ‬
‫ام ِة ك َِتابًا يَلْ َقاهُ َمنْ ُش ً‬
‫ورا ‪‬‬ ‫ان ألزمناه طائ ِره ِف عن ِق ِه ون ِرج ل يوم ال ِقي‬ ‫}وك إِنس ٍ‬
‫َْ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ َ َ ْ َ‬ ‫ْ َْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َْ ْ َ َ َ ْ َ َ ً‬
‫اقرأ ك ِتابك كف بِنف ِسك الوم عليك ح ِسيبا ‪ ‬م ِن اهتدى فإِنما يهتدِي ِلف ِس ِه‬
‫َ َ ْ َ َّ َ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َّ ُ َ ِّ َ َ َّ َ ْ َ َ‬
‫ني حت نبعث‬ ‫ازرة ِوزر أخرى وما كنا معذب ِ‬ ‫ومن ضل فإِنما ي ِضل عليها ول ت ِزر و ِ‬
‫َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َََْ َ ْ ُْ َ ًََْ َََْ َُْ َ ََ َ ُ‬ ‫ُ ً‬
‫تفِيها ففسقوا فِيها فحق عليها الق ْول‬ ‫َرسول ‪ ‬وإِذا أردنا أن نهلِك قرية أمرنا م‬
‫َ َ َّ ْ َ َ‬
‫اها تَ ْدم ً‬
‫ِريا{ (اإلرساء ‪.)16 :13‬‬ ‫فدمرن‬
‫َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َّ‬
‫اء ل ِمن ن ِريد ث َّم جعلنا لُ جهن َم‬ ‫جلة عجلنا ل فِيها ما نش‬ ‫}من كن ي ِريد العا ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ََ َ ْ ََ ُ ُ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ‬‫َ‬ ‫وما َم ْد ُح ً‬‫َ ْ َ َ َ ْ ُ ً‬
‫ورا ‪َ ‬ومن أ َراد الخ َِرة َوسع لها سعيها َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك‬ ‫يصلها مذم‬
‫ُ‬
‫َك َن َس ْع ُي ُه ْم َم ْشك ً‬
‫ورا{ (اإلرساء ‪.)19 :18‬‬
‫َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ َ َ ُ ً‬ ‫َ َ َْ َ ْ َ ََ ْ َْ َ ْ َ ََ‬
‫الش كن يئوسا ‪‬‬ ‫ان أع َرض َونأى ِبَانِبِ ِه وإِذا مسه‬ ‫النس ِ‬ ‫}وإِذا أنعمنا ع ِ‬
‫ُ ْ ُ ٌّ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ً‬
‫اكتِ ِه فربكم أعلم بِمن هو أهدى سبِيل{ (اإلرساء ‪.)84 :83‬‬ ‫قل ك يعمل ع ش ِ‬

‫كل هذا يف الإ�سراء!‬


‫�إنها رحلة «ليلية» يف ظلمة النف�س وجماهلها وحماوالتها التهرب من‬
‫املواجهة‪ ،‬الإ�سراء تقول لك �أن تواجه نف�سك وتتحمل م�س�ؤوليتك‪ ،‬طائرك‬
‫يف عنقك وكتابك بيدك‪� ،‬أنت وحدك م�س�ؤول عن الذي تفعله‪ ،‬تهزنا الآيات‬
‫كما قد نفعل مع �شخ�ص �ضعيف وخائر ومتذمر طيلة الوقت‪ ،‬نقول َ‬
‫له‪ :‬لْ ِل ْم‬
‫نف�سك وا�سرتجل‪ ،‬كذلك تقول لنا الآيات‪ ،‬حت َّمل م�س�ؤوليتك‪.‬‬
‫ولي�س بعيدً ا عن هذا‪ ،‬بل يف العمق منه‪ ،‬وجود الن�سخة الإ�سالمية‬
‫املحدثة من الو�صايا الع�شر التي �سبق و�أن �أنزلها اهلل على قوم مو�سى‪،‬‬
‫الن�سخة الإ�سالمية يف الآيات (من ‪� 22‬إىل ‪ )38‬تتجاوز الو�صايا التوراتية‬
‫املعروفة وت�ضيف عليها املزيد‪ :‬عدم البخل وعدم التبذير بل التو�سط يف‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الأمر‪ ،‬عدم اتباع �أمر ما دون علم والتوا�ضع‪ ،‬كما ت�سقط من هذه الن�سخة‬
‫اخلامتة و�صية تقدي�س يوم ال�سبت‪.‬‬
‫هذه الو�صايا هي � ًأول توحيد اهلل وعدم عبادة �سواه‪ ،‬بر الوالدين‪،‬‬
‫ال�صدقات‪ ،‬الإنفاق ال�سليم والتو�سط بني البخل والتبذير‪ ،‬البعد عن الزنا‪،‬‬
‫حماية الأرواح الربيئة‪ ،‬املحافظة على �أموال اليتامى‪ ،‬الوفاء بالعهود‪،‬‬
‫والعدل يف امليزان وعدم الغ�ش‪ ،‬التحقق من كل �شيء قبل اتباعه‪ ،‬التوا�ضع‪.‬‬
‫وكل هذه الو�صايا هي يف النهاية «م�س�ؤولية �شخ�صية»‪� ،‬صحيح �أن ً‬
‫بع�ضا‬
‫أ�شخا�صا» �آخرين بحيث تنظم عالقتك بهم‪ ،‬لكن يف النهاية‬
‫ً‬ ‫منها يخ�ص «�‬
‫هذه و�صايا �شخ�صية‪ ،‬م�س�ؤولية �شخ�صية‪ ،‬ال�سورة ت�سري بك �إىل دورك‬
‫الذي حتاول �أن تبقيه يف ُّ‬
‫الظ ْل َم ِة‪ ،‬ت�ضعك مبواجهة عواقب هذا اللقاء‪،‬‬
‫وقرارك جتاهه‪.‬‬
‫***‬
‫َّ َ َ‬
‫تهم�س �سورة الإ�سراء يف �أذنيك ب�شيء عن القر�آن‪ ،‬تقول لك‪} :‬إِن هذا‬
‫َ َ ْ َ ُ َ ُ َ ِّ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُْ َ َْ‬
‫ات أن له ْم أج ًرا‬ ‫الق ْرآن يهدِي ل ِل ِت ِه أقوم ويبش المؤ ِمنِني الِين يعملون الص ِ‬
‫ال ِ‬
‫َكب ً‬
‫ريا{ (اإلرساء‪.)9 :‬‬‫ِ‬
‫القر�آن يهديك الطريق �إىل الأ ْق َوم‪.‬‬
‫عليك �أنت �أن ت�سري يف هذا الطريق‪.‬‬
‫***‬
‫ت�سمى � ً‬
‫أي�ضا ال�سورة �سورة بني �إ�سرائيل‪� ،‬إذ بعد مطلع ال�سورة ت�أخذنا‬
‫فو ًرا �إليهم‪ ،‬بال�ضبط �إىل موقع من ق�صتهم مل يتكرر يف �أي �سورة �أخرى‪،‬‬
‫ق�صة تع ُّر�ضهم للهالك والدمار على �أيدي �أقوام �آخرين مرتني‪.‬‬
‫‪- 106 -‬‬
‫سورة اإلرساء‬

‫َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ‬
‫ي َولَعل َّن عل ًّوا‬ ‫ِيل ف الْك َِتاب َلُ ْفس ُد َّن ف ْالَ ْ‬
‫ََ َ َْ َ َ ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سائ ِ‬ ‫}وقضينا إِل ب ِن إ ِ‬
‫َكب ً‬
‫ريا{ (اإلرساء‪.)4 :‬‬ ‫ِ‬
‫نتعامل مع هذه الآيات �أحيا ًنا كما لو كانت حتمل نبوءة �سرية بزوال‬
‫«دولة �إ�سرائيل»‪ ،‬واحلقيقة �أن كل ما ُذ ِك َر من ق�ص�ص لبني �إ�سرائيل يف‬
‫القر�آن كان الهدف منه �أن نتعظ نحن و� َّأل منر بنف�س الأخطاء التي وقعوا‬
‫فيها‪.‬‬
‫ولقد فعلنا بال�ضبط‪ ،‬بحيث �إن هذه الآيات الآن تكاد تنطبق علينا‪،‬‬
‫وتتكرر علينا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ك ْم َوإ ْن ُع ْد ُت ْم ُع ْدنَا َو َج َعل َنا َج َه َّن َم ل ِل َكف ِر َ‬‫َ‬
‫َ َ َ ُّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ‬
‫ين َح ِص ًريا{‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}عس ربكم أن يرح‬
‫(اإلرساء‪.)8 :‬‬

‫} َوإ ِ ْن ُع ْد ُت ْم ُع ْدنَا{‪� ،‬سنن ال جتامل �أحدً ا‪.‬‬


‫***‬
‫ثمة �آيات �شخ�صية ج ًّدا يف �سورة الإ�سراء‪� ،‬شخ�صية تخاطب الر�سول‬
‫الكرمي ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ ،-‬وجتعلنا حا�ضرين يف هذا اخلطاب‪.‬‬
‫َ ْ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ً َ َّ َ ُ َ‬
‫يهُ َوإِذا لتذوك‬ ‫تي علينا غ‬ ‫}وإِن كدوا لفتِنونك ع ِن الِي أوحينا إِلك ِلف ِ‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ ْ َ ْ ً َ ً‬ ‫َ ً‬
‫خلِيل ‪ ‬ولول أن ثبتناك لقد ك ِدت تركن إِل ِهم شيئا قلِيل{ (اإلرساء ‪.)74 :73‬‬

‫وهذا ي�أخذنا مرة �أخرى �إىل الآية الأوىل‪ :‬الإ�سراء‪ ،‬نعرف �أنه عاد عليه‬
‫مهموما من �أن النا�س لن ي�صدقوا ما �سيقوله لهم‪ ،‬ثبت‬ ‫ً‬ ‫ال�صالة وال�سالم‬
‫ذلك بال�صحاح‪ ،‬وت�أتي هذه الآيات كما لو ُت ْل ِقي ال�ضوء على هذه الفرتة �أو‬
‫ما ي�شابهها‪ ،‬نحن هنا نرى ما يدور يف نف�سه عليه ال�صالة وال�سالم‪.‬‬
‫‪- 107 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ت�أتي الآيات لتعطيه احلل‪ ،‬وتعطينا � ً‬


‫أي�ضا يف كل موقف م�شابه نحتاج‬
‫فيه �إىل التثبيت‪.‬‬
‫َّ ْ ُ َ ْ َ ْ َّ ُ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫للوكِ الشم ِس إِل غس ِق اللي ِل َوق ْرآن الفج ِر إِن ق ْرآن الفج ِر كن‬ ‫}أق ِِم الصلة ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫َم ْش ُه ًودا ‪َ ‬وم َِن الل ْي ِل ف َت َه َّج ْد ب ِ ِه نَاف ِل ًة ل َك َع َس أ ْن َي ْب َع َث َك َر ُّب َك َم َق ًاما َ ْم ُم ًودا{‬
‫(اإلرساء ‪.)79 :78‬‬

‫ونحن نعلم �أن ال�صالة ُف ِر َ�ضت يف رحلة املعراج(((‪ ،‬هنا نعرف �أي توقيت‬
‫منا�سب جاء هذا الفر�ض‪ ،‬ليكون العالج والدواء لهذا املوقف‪ ،‬ولكل املواقف‬
‫التي يكون فيها �صدقك مبواجهة الآخرين‪.‬‬
‫ْ َُْ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ْ َ ْ ْ ُْ َ ْ‬ ‫ُ ْ ِّ َ ْ ْ ُ ْ َ َ‬
‫لنك‬ ‫} َوقل َرب أدخِل ِن مدخل ِصد ٍق َوأخ ِرج ِن م َرج ِصد ٍق َواجعل ِل مِن‬
‫ُسلْ َطانًا نَ ِص ً‬
‫ريا{ (اإلرساء‪.)80 :‬‬

‫�شخ�صي ج ًّدا‪ ،‬ال �أحد يعرف �صدقك �إال �أنت وربك‪.‬‬


‫***‬
‫ت�سري بك �سورة الإ�سراء �إىل الطائر الذي يف عنقك‪.‬‬
‫تقول لك‪َ :‬ح ِّلقْ به‪ ،‬و�أنت َمنْ يحدد �أين ُّ‬
‫يحط‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري ‪.349‬‬


‫‪- 108 -‬‬
‫سورة الكهف ‪18‬‬
‫أطوار االستحالة ليست مستحيلة‪.‬‬

‫�سورة الكهف هي �سورة «�أطوار اال�ستحالة»‪.‬‬


‫تنقلك من َط ْو ٍر �إىل �آخر‪� ،‬أربعة �أطوار تتمثل يف ق�ص�ص �سورة الكهف‬
‫الرئي�سية‪ :‬فتية الكهف‪� ،‬صاحب اجلنتني‪ ،‬مو�سى والعبد ال�صالح‪ ،‬وذو‬
‫القرنني‪.‬‬
‫كل من هذه الأطوار متثل مرحلة من مراحل النمو والقوة‪.‬‬
‫تقري ًبا كل �شيء يف العامل مير بهذه الأطوار‪.‬‬
‫كل جناح‪ ،‬مبختلف �أنواع النجاح ومعانيه؛ الفردية واالجتماعية‪ ،‬متر‬
‫� ًأول مبرحلة كمون‪ ،‬مرحلة يكون الأمر فيه جمرد فكرة‪ ،‬فكرة جديدة خارج‬
‫�سياقات امل�ألوف واملعتاد‪ ،‬غال ًبا م�ستهجنة وحماربة �أو يف �أح�سن الأحوال‬
‫متجاهلة من اجلميع‪.‬‬
‫َ‬
‫ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ً َ َ ِّ ْ َ ْ ْ َ‬
‫ْ‬
‫ئ لَا مِن أم ِرنا‬ ‫}إِذ أوى ال ِفتية إِل الكه ِف فقالوا ربنا آت ِنا مِن لنك رحة وهي‬
‫َ َ َ ً‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َر َش ًدا ‪َ ‬ف َ َ ْ َ َ َ َ ْ‬
‫ني عددا{ (الكهف ‪.)11 :10‬‬ ‫ضبنا ع آذان ِِهم ِف الكه ِف ِسنِ‬
‫تلك املرحلة هي الكهف‪ ،‬الكهف الذي �أوى له الفتية وهم يحملون‬
‫�إميانهم باهلل‪ ،‬والكهف الذي يحتوي �أي فكرة يف بدايتها‪ ،‬فكرة علمية‪،‬‬
‫�أو فكرة مل�شروع‪� ،‬أي فكرة حتتاج �إىل «حا�ضنة» عندما تكون ال تزال بذرة‪.،‬‬
‫أن ت َمى من �أي ت�أثري‪� ،‬أن يحت�ضنها �صاحبها بعيدً ا عن كل �شيء‪،‬‬ ‫حتتاج � ُ ْ‬
‫�أن ينفرد بها لكي ي�ستطيع �أن يجعلها مميزة‪.‬‬
‫‪- 109 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الكهف هنا مثل احلا�ضنة؛ الرحم والفكرة‪ ،‬البذرة هنا مثل اجلنني‬
‫الذي ال بد �أن ينمو داخل الرحم بعيدً ا عن العامل اخلارجي‪.‬‬
‫***‬
‫َ ََْ َُ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ ً َ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ‬
‫اب َوحففناهما‬ ‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ي‬‫ي جعلنا ِلح ِدهِما جنت ِ‬ ‫اضب لهم مثل رجل ِ‬ ‫}و ِ‬
‫ْ َ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ ْ ُ َ ْ ً َ َ َّ ْ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ي آتت أكلها ولم تظلِم مِنه شيئا وفجرنا‬ ‫ِ‬ ‫بِنخ ٍل َوجعلنا بينهما ز ْرع ‪ِ ‬كتا النت‬
‫َ ُ َ َُ ُُ ََ َ ْ َُ ْ َ َ ً َ َ‬ ‫َ َ َ ََ ََ َ َ‬ ‫َ َُ َ َ َ‬
‫ث مِنك مال َوأع ُّز‬ ‫اوره أنا أك‬‫حبِ ِه وهو ي ِ‬ ‫خِللهما نه ًرا ‪َ ‬وكن لُ ثم ٌر فقال ل ِصا ِ‬
‫ََ‬
‫نف ًرا{ (الكهف ‪.)34 :32‬‬
‫مرحلة �صاحب اجلنتني هي �أوىل مراحل اخلروج من الكهف‪ ،‬النزول‬
‫�إىل الواقع‪ ،‬يف الق�صة يحاور امل�ؤمن «�صاحبه» الكافر ويحاول تغيري فكرته‪،‬‬
‫الفكرة �إذن �أ�صبحت م� َّؤهلة لكي تواجه الفكرة املقابلة وتناق�شها‪ ،‬خرجنا‬
‫من احلا�ضنة �إىل الت�ضاد والتفاعل مع الأفكار الأخرى‪ ،‬تفاعل ميكن �أن‬
‫يكون مثل اللقاح الذي يزود الفكرة الأ�صلية مبناعتها عرب تكوين م�ضادات‬
‫ال ب َّد منها‪.‬‬
‫كل فكرة حتتاج هذا اجلدل‪ ،‬هذا التفاعل‪ ،‬ال ميكن لها �أن تنزل �إىل‬
‫التطبيق قبل �أن متر بهذه املرحلة؛ مرحلة �صاحب اجلنتني‪.‬‬
‫***‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ْ َ ُ َ َّ ْ َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫ََ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ض ُح ُق ًبا{‬
‫ال ْح َر ْين أ ْو أ ْم ِ َ‬
‫ِ‬
‫م َم َع َ‬ ‫} َوإِذ قال موس ل ِفتاهُ ل أبرح حت أبلغ‬
‫(الكهف‪.)60 :‬‬
‫مرحلة مو�سى والعبد ال�صالح هي مرحلة التطبيق‪ ،‬مرحلة النزول �إىل‬
‫الأمر الواقع‪ ،‬مرحلة املرونة يف الفهم واالبتعاد عن الألواح احلجرية‪ ،‬كل‬
‫فكرة عندما تكون جمرد فكرة حتتوي على نوع من املثالية التي �ست�صطدم‬
‫بدل من ترك الفكرة كلها‪.‬‬‫حت ًما بالواقع ولن جتد لها مكا ًنا يف التطبيق‪ً ،‬‬
‫‪- 110 -‬‬
‫سورة الكهف‬

‫ً‬
‫وبدل من حتطمها على �صخرة الواقع‪ ،‬ال بد من نوع من املرونة‪ ،‬ال بد من‬
‫حتديث منا�سب للواقع ومعطياته التي كانت غائبة يف مرحلة «الكهف»‪.‬‬
‫الأمر هذا يحدث مع كل فكرة وكل م�شروع‪ ،‬مهما كانت طبيعته‪ ،‬بل حتى‬
‫مع العالقات ال�شخ�صية‪ ،‬الفكرة امل�سبقة قبل الدخول يف «معرتك احلياة»‬
‫تكون «نظرية» ومليئة بالتوقعات العالية‪ ،‬لكن الح ًقا حتدث «تعديالت»‬
‫متاما‪.‬‬
‫تنا�سب الواقع‪ ،‬دون �أن تلغي الفكرة الأ�صلية ً‬
‫***‬
‫َّ َ َّ َّ َ‬ ‫َْ ْ َْ ُْ َ َْ ُ َ َْ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ َْ َُ َ َ َ ْ‬
‫ي قل سأتلو عليك ْم مِنه ذِك ًرا ‪ ‬إِنا مكنا لُ ِف‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ق‬‫ال‬ ‫ِي‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫}ويسألونك ع‬
‫ََ َ ًَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ًَ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ‬ ‫َْ‬
‫ش ٍء سببا ‪ ‬فأتبع سببا{ (الكهف ‪.)85 :83‬‬ ‫ال ْر ِض َوآتيناهُ مِن ك‬

‫مرحلة ذي القرنني هي مرحلة النجاح‪ ،‬ذروة امل�شروع �أو الفكرة‪،‬‬


‫املرحلة النهائية‪ ،‬الهدف لكل ما �سبق‪ ،‬يف الق�صة يبدو «اتباع الأ�سباب»‬
‫وا�ضحا كركيزة لهذا النجاح‪ ،‬لكن احلقيقة �أن هذا النجاح كان النتيجة‬ ‫ً‬
‫لكل ما �سبق من مراحل‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬ففي كل مرحلة من هذه املراحل‪ ،‬هناك � ً‬
‫أي�ضا يف داخلها‬
‫كهف �صغري‪ ،‬كهف تن�سحب �إليه لرتاجع وتعيد النظر وتعيد التقييم‪ ،‬كهف‬
‫تختلي فيه مع نف�سك ومع فكرتك‪ ،‬وهناك يف كل مرحلة ذلك النقا�ش ‪.‬‬
‫أي�ضا هناك ذلك التفاعل مع الواقع‬ ‫مع الفكرة امل�ضادة‪ ،‬ويف كل مرحلة � ً‬
‫ومتطلباته‪.‬‬
‫كل املراحل موجودة يف كل طور من الأطوار‪ ،‬املهم �أن تكون واع ًيا ب�أهمية‬
‫ووظيفة كل طور‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 111 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫أملت يف حياتك لرمبا وجدت بع�ض هذه الأطوار‪ ،‬رمبا كنت ال تزال‬ ‫لو ت� َ‬
‫متر بها‪ ،‬رمبا كنت يف الكهف‪ ،‬ورمبا كنت ال تعرف �أن عليك اخلروج منه‪،‬‬
‫ودفعت ثم ًنا ً‬
‫باهظا لذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رمبا وجدت نف�سك خارج الكهف قبل الأوان‪،‬‬
‫علقت يف الكهف؛ لأن اخلارج َب َدا لك خمي ًفا ج ًّدا‪.‬‬
‫رمبا َ‬
‫رمبا جتد يف الكهف الرباءة والنقاء الأول الذي كان ذات يوم‪ ،‬ورمبا‬
‫تعرفت فيها على �أفكار �أخرى خمتلفة‬
‫َ‬ ‫جتد يف �صاحب اجلنتني �أول مرة‬
‫عما تعتنقه‪ ،‬رمبا جتد �صدمتك الأوىل والثانية والثالثة يف ق�صة املو�سى‬
‫والعبد ال�صالح‪ ،‬رمبا �ستجد فيها كل ما كرهته يف حياتك عندما حدث‪،‬‬
‫واعتربته �أ�سو�أ ما حدث لك‪ ،‬ثم متر الأيام‪ ،‬ف�إذا بك تكت�شف �أنها كانت‬
‫�أف�ضل ما حدث لك‪.‬‬
‫أي�ضا يف حياتك؟ �إن كنت �ستجد‪ ،‬فحا ِف ْظ‬
‫هل �ستجد مرحلة ذي القرنني � ً‬
‫عليها بكهف بني حني و�آخر‪ ،‬تراجع فيه كل ما حدث‪.‬‬
‫***‬
‫نعترب «�أهل الكهف» ً‬
‫مثال على النوم الطويل‪ ،‬ويف احلقيقة �أنهم كانوا‬
‫قد �سبقوا ع�صرهم‪.‬‬

‫ميكنك �أن تع َّد الكهف مكا ًنا للنوم ً‬


‫فعل‪ ،‬وتق�ضي حياتك فيه‪.‬‬
‫لكن ميكن لهذا الكهف �أن يكون منج ًما � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ميكن لكهفك �أن ُي ْخ ِر َج منك �أف�ضل ما فيك(((‪.‬‬
‫((( للمزيد عن سورة الكهف‪ :‬البوصلة القرآنية للمؤلف‪.‬‬
‫‪- 112 -‬‬
‫سورة مريم ‪19‬‬
‫عن المرأة الخارقة‬

‫مرمي‪ ،‬يا مرمي‪...‬‬


‫مررت بكل هذا؟‬
‫كيف ِ‬
‫�صمودك؟!‬
‫ِ‬ ‫متا�سكت؟ كيف �صمد‬
‫ِ‬ ‫كيف احتمل ِت ِه؟ كيف‬
‫عرفت حتى النهاية؟‬
‫ا�ستطعت �أن تفعلي ذلك منذ �أن ِ‬
‫ِ‬ ‫كيف‬
‫أ�صبحت‬
‫ِ‬ ‫طينك الأر�ضي حتى �‬
‫ِ‬ ‫أنت يا مرمي؟ ب�أي �شيء ُع ِجنَ‬
‫من �أي �شيء � ِ‬
‫بهذه القوة؟‬
‫يا مرمي‪ ،‬ال ي�ستطيع رجل �أن يفهم هذا‪ ،‬ال ي�ستطيع �أن يت�صوره‪.‬‬
‫لكن املر�أة ت�ستطيع‪ ،‬املر�أة ت�ستطيع �أن تفهم ذلك‪.‬‬
‫بك يا مرمي‪.‬‬
‫وت�شعر ِ‬
‫***‬
‫�سورة مرمي هي عن «املر�أة اخلارقة»‪ ،‬لكنها لي�ست خارقة باملعنى‬
‫الهوليوودي للكلمة‪� ،‬إنها عن املر�أة اخلارقة التي ميكن �أن نراها كل يوم‪،‬‬
‫وميكن نتعامل معها كل يوم‪ ،‬بل رمبا ع�شنا معها طيلة حياتنا‪.‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ملاذا هي خارقة ما دامت منت�شرة هكذا؟ بب�ساطة لأن «الرجال» ال ‬


‫ي�ستطيعون حت ُّمل ما تتحمله املر�أة «اخلارقة»؛ لذلك عندما يفكرون‬
‫ويق ِّيمون ما تفعله؛ يكت�شفون �أنها خارقة «بالن�سبة لهم»‪ ،‬رغم �أن مفاهيم‬
‫نوعا من القوة ال يطيقها‬ ‫القوة احت ُِك َرت للرجل لفرتة طويلة‪� ،‬إال �أن هناك ً‬
‫الرجل‪ ،‬لي�ست �ضمن جمال احتكاره‪ ،‬بل هي حمتكرة للمر�أة‪ ،‬هذا النوع‬
‫اجل َلد وال�صرب‬
‫من القوة التي جعلتها م� َّؤهلة لتح ُّمل �آالم الوالدة‪ ،‬هذا َ‬
‫الذي يجعلها قادر ًة على حتمل �أعباء العناية بطفلها‪ ،‬و�أحيا ًنا بعدة �أطفال‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل �أكربهم ورمبا �أ�صعبهم؛ زوجها‪.‬‬
‫وهذا كله بالإ�ضافة �إىل البيت ومتطلباته‪ ،‬ورمبا وظيفة ال تقل �إرها ًقا‬
‫عن وظيفة زوجها‪ ،‬ترك�ض هذه املر�أة بني عدة جبهات وتنت�صر فيها‬
‫جمي ًعا‪ ،‬وقد تكون مري�ضة �أو ُن َف َ�ساء �أو مر�ضع �أثناء ذلك‪ ،‬ولكن كل �شيء‬
‫أ�صل لها‪ ،‬بينما قد يدخل‬ ‫ي�سري غال ًبا ح�سب املعتاد‪ ،‬دون �أن ينتبه �أحد � ً‬
‫املنزل يف حالة طوارئ �إذا �أ�صيب الرجل بالزكام‪.‬‬
‫ال �أقول‪� :‬إن ال�سيدة مرمي كانت خارقة بهذا املعنى‪ ،‬ال‪ ،‬هي �أعلى بكثري‬
‫من هذا اخلارق «املوجود»‪ ،‬لكن من هذا الباب َد َل َف ْت مرمي �إىل �أملها‪،‬‬
‫و� ً‬
‫أي�ضا �إىل جمدها‪.‬‬
‫مرمي اختزنت كل �آالم ن�ساء العامل‪ ،‬وكل �صربهنَّ وجلدهنَّ ‪ ،‬هي ممثلة‬
‫عنهنَّ جمي ًعا‪ ،‬تنوب عنهنَّ وقد تقطرت كل جتاربهنَّ ومعاناتهنَّ عربها‪.‬‬
‫منذ �أن ُو ِل َدت مرمي وهي منذورة لكي تثبت �أن املر�أة ميكنها �أن تقوم‬
‫مقام الرجل‪ ،‬كما جاء يف �سورة �آل عمران‪:‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫سورة مريم‬

‫ُ َ َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ت ام َرأت عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك‬ ‫}إِذ قال ِ‬
‫َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ‬
‫ِيم ‪ ،‬فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما َوضعت‬ ‫أنت الس ِميع العل‬
‫َ َّ ْ ُ َ َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫َ ْ َ َّ َ َ ْ ْ َ‬
‫َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم{ (آل عمران‪.)35 :‬‬

‫�أمها كانت تريد َذ َك ًرا تهبه هلل ح�سب الت�شريع اليهودي‪ ،‬لكن مرمي �أنثى‪،‬‬
‫ومن تلك اللحظة كان على مرمي �أن تثبت ما على ماليني‪ ،‬مئات املاليني‬
‫كالذ َكر‪،‬‬
‫الذ َكر‪ ،‬هي لي�ست َّ‬
‫من الن�ساء‪� ،‬أن ُي ْث ِب ْت َنهُ‪ ،‬لي�ست الأنثى �أقل من َّ‬
‫لكنها لي�ست �أقل منه‪ ،‬وميكنها �أن تقوم بالكثري مما ميكنه هو �أن يقوم به‪،‬‬
‫كما ميكنها �أن تقوم هي مبا ال ميكنه هو �أن يفعله‪.‬‬
‫هذا التحدي يواجه الكثري من الإناث على نح ٍو يجعل حياتهنَّ ب�أ�سرها‬
‫مربجمة على �أ�سا�سه‪ ،‬ق�صة يبدو �أنها لن تنتهي منذ فجر التاريخ‪ ،‬تدخل‬
‫املر�أة يف دور املر�أة اخلارقة التي حتارب وتنت�صر على كل اجلبهات‪.‬‬
‫كانت ال تزال جني ًنا يف بطن �أمها يوم بد�أ التحدي‪ ،‬مل يكن من املعتاد‬
‫تقدمي الإناث للخدمة الدينية‪ ،‬وكان الفر�ض يف ال�شريعة عندهم تقدمي‬
‫الطفل الأول �إذا كان َذ َك ًرا ولي�س �أنثى‪ ،‬ولكن �أمها كانت َن َذ َر ْت َها و َ�أ ْو َف ْت‬
‫الذ َكر‪ ،‬و�أ ْب َل ْت يف ذلك بال ًء خار ًقا‪،‬‬ ‫بالنذر‪ ،‬وكان على مرمي �أن تقوم مقام َّ‬
‫بل �أكرث من ذلك‪ ،‬قامت بدور ما كان ميكن َلذ َك ٍر �أن يفعله‪.‬‬
‫قد يتخيل الرجال ما مرت به ال�سيدة مرمي‪ ،‬لكني �أعتقد �أن خيالنا‬
‫يبقى قا�ص ًرا مقابل ما ميكن �أن تفهمه املر�أة من ذلك‪� ،‬أن تكون �شريفة‬
‫مل مي�س�سها ب�شر يف بيئة �شديدة التدين واملحافظة‪ ،‬ثم �أن ُت َب َّل َغ باخلرب‬
‫ال�صاعق‪ُ :‬ح ْب َلى‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫اخلوف‪ ،‬العار‪ ،‬القيل والقال‪ ،‬الف�ضيحة‪ ،‬التكذيب‪ ،‬العار‪ ،‬العار‪.‬‬


‫كل هذا و�أوجاع احلمل التقليدية � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫وهي مبفردها‪.‬‬
‫ن�ستطيع كرجال �أن نتخيل‪ ،‬لكني �أعتقد �أن ال�صورة يف �أذهان الن�ساء‬
‫�ستكون �أو�ضح و�أدق‪.‬‬
‫***‬
‫ْ َ‬ ‫ََ َ َ َ َْ َ ُ َ ْ‬
‫جذ ِع انلَّخل ِة{ (مريم‪.)23 :‬‬
‫}فأجاءها المخاض إِل ِ‬
‫تخيلوا املخا�ض وهي وحدها‪ ،‬تذكروا كيف تكون اال�ستعدادت اليوم‪ ،‬ثم‬
‫تخيلوا الأمر‪ ،‬وحدها‪ ،‬يف العراء‪ ،‬وطفل �أول‪ ،‬دون جتربة �سابقة ت�سهل عليها‬
‫�أنها مبفردها‪ ،‬نعم‪ ،‬ال بد �أن ذلك قد حدث قب ُل وبعدُ‪ ،‬ن�سوة ُ‬
‫ا�ضط ِر ْرنَ �أن‬
‫يلدن يف اخلفاء ومبفردهنَّ ‪ ،‬لكنه يبقى �أم ًرا �صع ًبا �شديد ال�صعوبة‪.‬‬
‫وكان خما�ضها م�ؤملًا‪� ،‬أجاءها من �أمله �إىل جذع النخلة‪ ،‬ا�ضطرها �إىل‬
‫�أن تلوذ بجذع النخلة‪ ،‬تتم�سك به لعل ذلك يخ ِّفف �أملها‪.‬‬
‫وهناك ت�ساقط عليها } ُر َط ًبا َجنِ ًّيا{‪.‬‬
‫وعندما عادت �إىل قومها كانوا يظنون �أنها جاءت حتمل عارها‪.‬‬
‫بينما كانت يف الواقع‪ ،‬حتمل جمدها‪ ،‬كلمة اهلل‪.‬‬
‫ََُْ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ِّ َّ‬ ‫َ َ‬
‫تون{ (مريم‪.)34 :‬‬ ‫الق الِي فِي ِه يم‬ ‫}ذل ِك عِيس ابن مريم قول‬

‫***‬

‫‪- 116 -‬‬


‫سورة مريم‬

‫ال ميكن �أن �أ�سمع تلك الآيات التي تق�ص ق�صة مرمي وحملها دون �أن‬
‫يت�س َّلل �إىل خيايل �صوت جعفر بن �أبي طالب وهو يقر�أها �أمام النجا�شي‪،‬‬
‫يوم هاجر امل�سلمون �إىل احلب�شة فرا ًرا من �أذى قري�ش‪ ،‬و�أر�سلت قري�ش ‬
‫خلفهم من يطلب من النجا�شي ت�سليمهم‪.‬‬
‫(((‬
‫�أتخيل �صوته الذي مل �أ�سمعه من قب ُل وهو يقر�أ الآيات‪.‬‬
‫مف�سحا املجال‬
‫ً‬ ‫تخيلوه‪ ،‬تخيلوا الكلمات تخرج من جعفر‪ ،‬ويعم ال�صمت‬
‫لذلك النور املتدفق حز ًنا ورق ًة‪ ،‬تخيلوها وهي تتجول يف الق�صر وامللك‬
‫وحوله حا�شيته‪.‬‬
‫َ َّ َ َ ْ ْ‬ ‫ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ًّ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ ُْ‬
‫شقِيا ‪ ‬فاتذت مِن‬ ‫اب م ْري َم إ ِ ِذ انتبذت مِن أهلِها مكنا‬ ‫}واذكر ِف الكِت ِ‬
‫َ َ ْ ِّ َ ُ ُ َّ ْ َ‬ ‫ُ ْ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ ً َ ًّ‬
‫الرح ِن‬ ‫دون ِِهم حِجابا فأرسلنا إِلها روحنا فتمثل لها بشا س ِويا ‪ ‬قالت إِن أعوذ ب ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ ً َ ًّ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ َ ِّ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ َ َ ًّ‬
‫ك غلما زك ِيا ‪ ‬قالت‬ ‫ك ِلهب ل ِ‬ ‫مِنك إِن كنت ت ِقيا ‪ ‬قال إِنما أنا رسول رب ِ‬
‫َ َ َ ُّ ُ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُ َ ٌ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ٌ َ ْ َ ُ َ ًّ‬ ‫َ َّ َ ُ ُ‬
‫ك ه َو‬ ‫ش َولم أك ب ِغيا ‪ ‬قال كذل ِِك قال رب ِ‬ ‫أن يكون ِل غلم ولم يمسس ِن ب‬
‫َ َ َ َْ ُ َ ََْ َ ْ‬ ‫ْ َ ً َّ َ َ َ ْ َ ْ ًّ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ً َّ‬ ‫َ َ َّ‬
‫ع َه ِّ ٌ‬
‫اس َو َرحة مِنا َوكن أم ًرا مق ِضيا ‪ ‬فحملته فانتبذت ب ِ ِه‬ ‫ي َو ِلَجعله آية ل ِلن ِ‬
‫ُّ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ َ َْ َ ُ َ‬ ‫َ َ ً َ ًّ‬
‫جذ ِع انلَّخل ِة قالت يا ْلت ِن مِت قبل هذا‬ ‫مكنا ق ِصيا ‪ ‬فأجاءها المخاض إِل ِ‬
‫سيًّا{‬ ‫اها م ِْن َتْت َها َأ َّل َتْ َزن َق ْد َج َع َل َر ُّبك َتْ َتك َ‬
‫ََ َ َ‬ ‫ُ ْ ُ َ ْ ً َ ْ ًّ‬
‫َوكنت نسيا من ِسيا ‪ ‬فناد‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(مريم ‪.)24 :16‬‬

‫و�ضعتهم الآيات يف قلب �أزمة مرمي‪ ،‬الأزمة التي جعلتها تتمنى لو �أنها‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫متاما‪ْ } ،‬لتَ ِن م ُِّت ق ْب َل َه َذا َوك ْن ُت ن ْس ًيا َمنْ ِس ًّيا{‪ ،‬امر�أة يف‬
‫ماتت و ُن ِ�س َي ْت ً‬
‫�أزمة‪ ،‬وحيدة‪ ،‬على و�شك �أن تواجه اتهامات العار والف�ضيحة من قومها‪.‬‬

‫((( مقتبس من كتاب السرية مستمرة‪.‬‬


‫‪- 117 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كم ت�شبه �أولئك الغرباء املهاجرين الذين كان قومهم يريدون �أن‬
‫يرجعوهم غ�ص ًبا وقه ًرا لينالوا منهم �سوء العذاب‪.‬‬
‫ال بد �أنهم �سمعوا الآيات كما لو كانت تنزل للتو‪ ،‬كما لو �أنهم ي�سمعونها‬
‫�أول مرة‪.‬‬
‫رجل وزوجاتهم‪.‬‬‫كانوا ب�ضعة وثمانني ً‬
‫كلهم �أح�سوا �أنهم مرمي‪.‬‬
‫***‬
‫أي�ضا‪ ،‬البع�ض منا على الأقل‪� ،‬أجاءنا خما�ضنا �إىل جذوع نخل‪،‬‬‫ونحن � ً‬
‫ال‪ ،‬مل تكن جذوع نخل بال�ضبط‪ ،‬كانت قوارب هجرة‪� ،‬أحيا ًنا كانت جمرد‬
‫َق َّ�شة‪ ،‬وتع َّل ْق َنا بها تعلُّق الغريق‪.‬‬
‫لكن خما�ضنا مل ينته عند النخلة‪ ،‬وال برطب َج ِن ٍّي‪.‬‬
‫مل ينت ِه بعدُ‪.‬‬
‫***‬
‫ال ميكن لقارئ �سورة مرمي �أن يغفل عن تكرار ذكر لفظ «الرحمن»‬
‫فيها‪ 11 ،‬مرة ُذ ِك َرت الكلمة يف �سورة مرمي عدا الب�سملة‪ ،‬ال يوجد �أي �سورة‬
‫�أخرى يف القر�آن تقرتب من ذلك‪ ،‬و�أقرب �شيء �إىل ذلك هي �سور الأنبياء‬
‫وي�س وامللك‪ ،‬وكل منها ُذ ِك َرت الكلمة فيها ‪ 4‬مرات‪.‬‬
‫�صدفة؟! حا�شا هلل‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫سورة مريم‬

‫لعله عز وجل هنا ي�شري لنا �إىل معاين الرحمة التي ت�شري �إليها لفظة‬
‫الرحمن‪ ،‬فريبطنا مبرمي‪ ،‬بالأم‪ ،‬باملر�أة اخلارقة‪ ،‬هل هناك �أكرث رحمة‬
‫من الأم بني الب�شر؟ �ألي�س معنى الرحمة قد جاء من «الرحم» �أم العك�س؟‬
‫ال فرق‪ ،‬لكن رحمة الأمهات �أمر ال خالف عليه‪ ،‬حتى يف ق�سوتهنَّ �أحيا ًنا‪،‬‬
‫ثمة رحمة تكون من �أجل م�صلحة �أبنائهنَّ وبناتهنَّ ‪.‬‬
‫كما لو �أنه عز وجل قد �شاء �أن يقربنا من معنى «الرحمن» عرب �أو�سع‬
‫و�أقرب ما نعرفه من معاين الرحمة‪.‬‬
‫***‬
‫يف نف�س ال�سورة‪ ،‬على ُب ْع ِد �آياتَ من َق�صة مرمي‪ ،‬ي�أتينا م�شهد ل�سيدنا‬
‫َ َ َ ٌ ْ َ َ ْ َ َ َْ ُ َ ْ َ ََْ‬
‫ِيم ل ِئ ل ْم تنت ِه‬
‫�إبراهيم يف مواجهة مع �أبيه‪} ،‬قال أراغِب أنت عن آل ِه ِت يا إِبراه‬
‫َ ًّ‬ ‫َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ‬
‫ل ْرجنك َواهج ْر ِن ملِيا{ (مريم‪.)64 :‬‬

‫الأمهات عاد ًة ال يفعلن ذلك‪ ،‬رحمتهنَّ متنعهنَّ من قول ذلك مهما كان‬
‫موقفهنَّ ‪ ،‬لديهنَّ �أ�ساليب «م�ضادة» �أخرى طب ًعا‪ ،‬لكن هذا النمط نادر عند‬
‫الن�ساء‪.‬‬
‫***‬
‫ويف نهاية ال�سورة تقري ًبا‪.‬‬
‫َ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َّ ْ َ ًّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ َ ُ‬
‫الرح ُن ُودا{ (مريم‪.)96 :‬‬ ‫ات سيجعل لهم‬ ‫الص ِ َ‬
‫ال ِ‬ ‫ِين آمنوا َوع ِملوا‬
‫}إِن ال‬

‫الود؟‬
‫كم هو منا�سب هذا جلو ال�سورة وملرمي عليها ال�سالم!‬
‫***‬
‫‪- 119 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تخت�صر كل الن�ساء ومتثلهنًّ � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬
‫ال�سيدة العذراء‪ ،‬رمز النقاء والرحمة والأمومة‪.‬‬
‫مرمي‪.‬‬
‫مرميتنا جمي ًعا‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫سورة طه ‪20‬‬
‫لن أعيش دور الضحية‬

‫َ َْ ْ َ َْ َ ُْ َ َ ْ َ‬
‫}طه ‪ ‬ما أن َزلَا عليك الق ْرآن ل ِتشق{ (طه ‪.)2 :1‬‬

‫لكن هذا العامل مليء بال�شقاء والتعا�سة يا رب‪.‬‬


‫ماذا عنه؟ كيف نتعامل معه؟‬
‫ال�شقاء موجود يف هذا العامل كجزء منه‪ ،‬هو موجود قبل �أن يتنزَّل‬
‫القر�آن وبعد �أن تنزَّل‪ ،‬ويف الغالب �سيبقى كذلك �إىل �أن تقوم القيامة‪.‬‬
‫ال�شقاء وال�سعادة واملر�ض وال�صحة واجلهل واملعرفة والكفر والإميان‬
‫واحلب واحلقد‪ ،‬كل �شيء و�ضده موجود‪ ،‬كل �شيء موجود يف هذا العامل‪،‬‬
‫كلها ت�ش ِّكل هذا العامل كما نعرفه‪ ،‬رمبا ال ِّن َ�سب لي�ست مت�ساوية‪ ،‬رمبا ال�شقاء‬
‫�أو�ضح يف الكثري من الأحيان‪ ،‬هذه هي احلياة للأ�سف‪.‬‬
‫لكن ماذا عن القر�آن؟ ملاذا تبد�أ ال�سورة هكذا‪ ،‬بنفي ارتباط القر�آن‬
‫بال�شقاء‪ ،‬هل هناك �شك يف هذا؟ هل هناك ما �أُ ِ‬
‫وحي �إىل الر�سول ‪-‬عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم‪� -‬أو �إىل امل�سلمني من حوله بذلك؟‬
‫غال ًبا نعم‪.‬‬
‫ال�سورة نزلت يف الفرتة املكية كما هو معلوم‪ ،‬وكان امل�سلمون قد تع َّر�ضوا‬
‫يف هذه الفرتة �إىل الكثري من ال�شدة والت�ضييق ً‬
‫و�صول �إىل التعذيب املبا�شر‪.‬‬
‫‪- 121 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ولعل الأمر بد�أ من كفار قري�ش وهم يقولون للم�سلمني‪ :‬لقد �أ�شقاكم‬
‫هذا القر�آن‪.‬‬
‫ولعل البع�ض من امل�سلمني كان ينظر �إىل الأمور‪ ،‬و ُي َخ َّيل له �أن هذا‬
‫ال�شقاء �أمر مالزم للإميان‪.‬‬
‫ال�سورة تقول يف مطلعها � َّأل نتمادى يف ذلك‪ ،‬ال�شقاء قد يحدث‪ ،‬لكنه‬
‫لي�س هد ًفا بحد ذاته وال مق�صدً ا‪ ،‬هو حم�ض نتيجة عار�ضة وعابرة‪.‬‬
‫ي�سهل على البع�ض �أن يعي�ش الدور‪ ،‬دور ال�شقي املظلوم‪ ،‬يربر لنف�سه‬
‫البقاء فيه بهذه احلجة �أو تلك‪ ،‬كي يبقى يف الدور‪ ،‬يف عدم املواجهة‪،‬‬
‫هناك َمنْ ظلمه‪ ،‬هناك من يتوجه له باللوم‪.‬‬
‫ال�سورة تقول لنا‪ ،‬لكل من ي�ست�سهل العي�ش يف دور املظلوم وال�ضحية‪:‬‬
‫ُك َّف عن هذا‪ ،‬اخرج عن هذا الدور‪ِ ،‬‬
‫واجهْ‪.‬‬
‫ال�سورة ‪ -‬باملنا�سبة ‪ -‬ال تقول لنا‪� :‬إن القر�آن قد تنزَّل لكي يجعلنا ن�شعر‬
‫بال�سعادة‪.‬‬
‫ال�سعادة ميكن �أن حتدث‪ ،‬بل هي حتدث لكثريين بالفعل‪ ،‬يقدم القر�آن‬
‫لهم م�صد ًرا من م�صادر الطم�أنينة وال�سعادة‪.‬‬
‫لكن هذا مرة �أخرى‪ ،‬لي�س الهدف منه‪ ،‬بل هو جمرد نتيجة‪.‬‬
‫ْ‬
‫القر�آن نزل }تَذك َِرةً ل َِم ْن َ ْي َش{‪.‬‬
‫و�سيكون هناك ‪ -‬يف خامتة ال�سورة تقري ًبا ‪� -‬شيء �آخر عن هذا‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 122 -‬‬


‫سورة طــه‬

‫ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ‬
‫ت نَ ً‬ ‫ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ‬ ‫َْ ََ َ َ ُ ُ َ‬
‫ارا‬ ‫ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس‬ ‫} َوهل أتاك حدِيث موس ‪ ‬إِذ رأى ن‬
‫ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً‬ ‫َ َ ِّ‬
‫ار هدى{ (طه ‪.)10 :9‬‬ ‫جد ع انل ِ‬‫لعل آتِيكم مِنها بِقب ٍس أو أ ِ‬
‫�أول مواجهة تعقدها ال�سورة هي مع �سيدنا مو�سى‪.‬‬
‫مو�سى كان طريدً ا ب�سبب قتل �سابق‪ ،‬وكان ميكن �أن يبقى داخل هذا‬
‫الدور‪ ،‬دور القاتل الذي مل يتعمد القتل‪ ،‬املظلوم بـ«حظ �سيئ» �أو ب�سرعة‬
‫غ�ضب‪ ،‬املذنب «باخلط�أ» الذي �سيبقى طريدً ا منف ًّيا طيلة عمره‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ْ ُ َ َّ ُ‬
‫لكن الوحي ي�أتيه �أن }فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (طه‪.)12 :‬‬

‫يخرجه الوحي من دوره القدمي‪ ،‬دور القاتل املظلوم‪ ،‬ويقدِّ ُم له دو ًرا‬


‫متاما‪ ،‬دور النبي �صاحب الر�سالة‪ ،‬ويطلب من هذا «املظلوم‬ ‫خمتل ًفا ً‬
‫�ساب ًقا» �أن يواجه فرعون نف�سه‪.‬‬
‫َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ‬
‫}اذهب إِل ف ِْرع ْون إِنه طغ{ (طه‪.)24 :‬‬

‫�أعطاه الوحي دوره اجلديد‪ ،‬و�أعطى لع�صاه دو ًرا جديدً ا � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬
‫***‬
‫ال بد �أن �صدر مو�سى قد كان فيه ما فيه وهو يخرج من دور املذنب‬
‫املظلوم �إىل مهمة النبي الر�سول‪.‬‬
‫ال بد �أن �صدره �ضاق الأمر‪.‬‬
‫وكان الدعاء‪ ،‬دعاء املواجهة‪� ،‬أي مواجهة‪.‬‬
‫ْ ُْ ُ ْ َ ً ْ َ‬ ‫َ َ ِّ ْ َ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َ ِّ ْ َ ْ‬
‫س ِل أم ِري ‪َ ‬واحلل عقدة مِن ل ِس ِان ‪‬‬ ‫اشح ِل صد ِري ‪ ‬وي‬ ‫}قال رب‬
‫ََْ ُ َْ‬
‫يفقهوا قو ِل{ (طه ‪.)28 :25‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وا�ضحا يف بيان حجته‪.‬‬


‫�أن يتقبل �صدره الأمر الذي يطالب به‪ ،‬و�أن يكون ً‬
‫و�أن يطلب التي�سري من اهلل‪.‬‬
‫***‬
‫َ ْ‬ ‫ْ َ َ ْ َ َ ُ ِّ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ ً ُ ْ‬
‫} َولقد مننا عليك م َّرة أخ َرى ‪ ‬إِذ أ ْوحينا إِل أمك ما يوح ‪ ‬أ ِن اق ِذفِي ِه‬
‫َ ْ ُ ْ ُ َ ُ ٌّ َ َ ُ ٌّ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ال ِّم َفلْ ُيلْ ِق ِه ْ َ‬
‫اق ِذفِي ِه ِف ْ َ‬
‫َ ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫ال ُّم بِالساح ِِل يأخذه عدو ِل وعدو ل وألقيت‬ ‫وت ف‬‫ِف اتلاب ِ‬
‫ْ ََ ََ َْ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َّ ً ِّ‬
‫عليك مبة مِن َو ِلُصنع ع عي ِن{ (طه ‪.)39 :37‬‬

‫مل يكن هذا �أول خروج من «مظلومية» يف حياة �سيدنا مو�سى‪.‬‬


‫اليم‪ ،‬ومن ثم‬
‫فقد ُو ِل َد يف مرحلة قتل �أطفال بني �إ�سرائيل‪� ،‬ألقته �أمه يف ِّ‬
‫�سارت الأمور بحيث �صار يف ق�صر فرعون‪.‬‬
‫ُ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ‬
‫جئت ع قد ٍر يا موس{ (طه‪.)40 :‬‬‫}ثم ِ‬

‫دوما هناك قدر ميكن �أن ُي ْخ ِر َج َنا من مظلوميتنا‪.‬‬


‫ً‬
‫علينا �أن نقبل به ونتحمله‪.‬‬
‫***‬
‫حتى �سحرة فرعون‪ ،‬عندما �آمنوا برب مو�سى‪ ،‬وهددهم فرعون‬
‫بالتعذيب وال�صلب‪.‬‬
‫ِّ ْ‬ ‫َّ َ َّ ِّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ‬
‫قالوا له‪} :‬إِنا آمنا ب ِ َربنا ِ َلغ ِف َر لَا خطايانا َوما أك َرهتنا علي ِه م َِن السح ِر َواهلل‬
‫َ ٌْ ََْ‬
‫ي َوأبق{ (طه‪.)73 :‬‬ ‫خ‬

‫‪- 124 -‬‬


‫سورة طــه‬

‫كانوا م َ ِبين على ال�سحر‪ ،‬خرجوا من ظلمهم وواجهوا فرعون‪ ،‬دفعوا‬


‫ُ ْ‬
‫الثمن حت ًما‪ ،‬لكن لكل �شيء مهم يف احلياة ثمن‪ ،‬وثمن باهظ �أحيا ًنا‪.‬‬
‫لكنهم مل يبقوا �أ�سرى يف دور مظلومي فرعون‪.‬‬
‫***‬
‫ْ ً‬ ‫َ ْ َ َ َ ً َ َ َ َ َ َ َ ْ ُ ُّ ُ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َ‬
‫}ف َرجع موس إِل ق ْو ِم ِه غضبان أ ِسفا قال يا ق ْو ِم أل ْم ي ِعدك ْم َربك ْم َوعدا‬
‫ْ ِّ ُ َ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َ َ ً َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ َ‬
‫حسنا أفطال عليك ُم العهد أم أ َردت ْم أن يِل عليك ْم غض ٌب مِن َربك ْم فأخلفت ْم‬
‫َ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ُ ِّ ْ َ َ ْ َ ً ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ارا مِن ِزين ِة الق ْو ِم‬‫م ْو ِعدِي ‪ ‬قالوا ما أخلفنا موعِدك بِملكِنا ولكِنا حلنا أوز‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ َْ َ َ َ َ َ ََْ‬
‫فقذفناها فكذل ِك ألق السام ِِري{ (طه ‪.)87 :86‬‬

‫وعندما عاد مو�سى �إىل قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي �صنعه‬
‫ال�سامري‪.‬‬
‫هم اتهموا ال�سامري ب�أنه ال�سبب‪ ،‬وهارون قال‪� :‬إنه مل يفعل �شي ًئا كي ال ‬
‫يفرق بني بني �إ�سرائيل‪.‬‬
‫َََ ْ ُ َْ َ ً‬ ‫ص ُت ب َما ل َ ْم َي ْب ُ ُ‬
‫صوا ب ِ ِه فقبضت قبضة‬
‫َ َ‬
‫ال بَ ُ ْ‬ ‫َ َ ََ َ ْ ُ َ َ َ‬
‫}قال فما خطبك يا سام ِِر ُّي ‪ ‬ق‬
‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ‬
‫ول فنبذتها َوكذل ِك س َّولت ِل نف ِس{ (طه ‪.)96 :95‬‬ ‫مِن أث ِر الرس ِ‬

‫حتى ال�سامري‪ ،‬ا َّدعى �أنه ر�أى ما ي�شبه املالك‪ ،‬وبعدها �س َّولت له نف�سه‪.‬‬
‫مل يتحمل �أحد امل�س�ؤولية‪.‬‬
‫الكل �ضحية‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 125 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫منذ �أن و�سو�س �إبلي�س لآدم وزوجه‪ ،‬وهناك من يجد �أن احلل هو �أن‬
‫مظلوما كي يتخلى عن م�س�ؤوليته‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكون �ضحية‬
‫لكن عندما �أُ ْخ ِر َجا من اجلنة‪.‬‬
‫َ ُ ٌّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ ِّ ُ ً َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ َْ َ ً َْ ُ ُ‬
‫}قال اهبِطا مِنها جِيعا بعضك ْم ِ َلع ٍض عدو فإِما يأت ِينكم مِن هدى فم ِن‬
‫َّ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ْ َ‬
‫اي فل ي ِضل َول يشق{ (طه‪.)123 :‬‬ ‫اتبع هد‬

‫ال ي�ض ُّل وال َي ْ�ش َقى‪.‬‬


‫َ َْ ْ َ َْ َ ُْ َ َ ْ َ‬
‫}ما أن َزلَا عليك الق ْرآن ل ِتشق{(طه‪.)2 :‬‬

‫على العك�س‪.‬‬
‫من اتبعه ال ي�ض ُّل وال ي�شقى‪.‬‬
‫مير بال�شدائد وال�صعاب‪ ،‬لكن نظرته لها لن تكون ك�شقاء‪.‬‬
‫بل ك�ضريبة‪ ،‬كامتحان‪.‬‬
‫من اتبعه‪ ،‬لن ي�ض َّل يف دوره‪ ،‬ويبقى يف دور ال�شقي‪.‬‬
‫بل �سيبحث عن الدور كما جاء يف هذا «الهدى»‪.‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫سورة األنبياء ‪21‬‬
‫هدم من أجل البناء‬

‫حمل ف�أ�سه معه‪َ َ ،‬‬


‫وت َّ َي الفر�صة املنا�سبة‪.‬‬
‫ت�س َّلل �إىل املعبد‪.‬‬
‫مل يكن هناك �أحد‪.‬‬
‫ون َّفذ خطته‪.‬‬
‫انهال �ضر ًبا على التماثيل التي كان يعبدها قومه‪.‬‬
‫حطمها جمي ًعا �إال كبريهم‪ ،‬تركه عامدً ا ح�سب اخلطة‪.‬‬
‫***‬
‫َ َ َ َ ُ ُ َ ً َّ‬
‫ين ‪ ‬فجعله ْم جذاذا إِل‬ ‫ك ْم َب ْع َد َأ ْن تُ َولُّوا ُم ْدبر َ‬ ‫َ َ َ َّ َ ْ َ َ ُ‬
‫} َوتاهلل لك ِيدن أصنام‬
‫َ‬
‫ِِ‬
‫َ َ َّ ُ َ َ َّ‬
‫الظالِم َ‬ ‫َ ُ َ ْ َََ َ َ‬ ‫َ ً َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ني ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫جعون ‪ ‬قالوا من فعل هذا بِآل ِهتِنا إِنه ل ِمن‬ ‫كبِريا لهم لعلهم إِل ِه ير ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ُ‬
‫اس لعله ْم‬ ‫ي انلَّ ِ‬
‫ََ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ َْ ًَ َْ ُُ ُْ َُ ُ ُ َْ ُ‬
‫قالوا س ِمعنا فت يذكرهم يقال ل إِبراهِيم ‪ ‬قالوا فأتوا ب ِ ِه ع أع ِ‬
‫َ َ َْ َ َ َُ َ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َْ ُ‬ ‫َ ُ ََْ َ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َْ َ ُ َ‬
‫ريه ْم هذا‬ ‫يشهدون ‪ ‬قالوا أأنت فعلت هذا بِآل ِهتِنا يا إِبراهِيم ‪ ‬قال بل فعله كبِ‬
‫َ ْ َُ ُ ْ َ ُ َْ ُ َ‬
‫فاسألوه ْم إِن كنوا ين ِطقون{ (األنبياء ‪.)63 :75‬‬

‫ذلك هو امل�شهد املركزي ‪ -‬الذي ال ُي ْن َ�سى ‪ -‬يف �سورة الأنبياء‪.‬‬


‫�سيدنا �إبراهيم ‪� -‬أبو الأنبياء ‪ -‬هو الذي فعل ذلك‪.‬‬
‫‪- 127 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ومن تفا�صيل ما تذكره ال�سورة‪ ،‬نفهم �إن �إبراهيم كان �صغري ال�سن‬
‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫وقتها‪َ } ،‬س ِم ْع َنا ف ًت يَذك ُر ُه ْم ُي َق ُال لُ إِبْ َراه ُِيم{‪.‬‬
‫ونتعرف على مواجهته لقومه عندما ا�ستجوبوه وح َّو َل اال�ستجواب هو‬
‫�إىل كبري الأ�صنام‪ ،‬عامدً ا �أن يواجههم بال منطقية ما ي�ؤمنون به‪.‬‬
‫و�سالما‬
‫ً‬ ‫وانتهى الأمر بقرارهم عقوبته باحلرق‪ ،‬ثم كانت النار بردًا‬
‫عليه‪.‬‬
‫***‬
‫هذا امل�شهد هو امل�شهد املركزي يف �سورة الأنبياء‪.‬‬
‫لكنه م�شهد «هدم»‪ ،‬وهو ال يخت�صر م�سرية الأنبياء على الإطالق‪.‬‬
‫نعم‪� ،‬سنبد�أ بالهدم‪ ،‬فهو مهم بالت�أكيد‪.‬‬
‫هدما من �أجل الهدم‪ ،‬الهدم لي�س ‬
‫لكنه هدم من �أجل البناء‪ ،‬لي�س ً‬
‫هد ًفا‪ ،‬لي�س الهدم �إال و�سيلة للو�صول �إىل مكان منا�سب للبناء‪.‬‬
‫�سرنى هناك يف ق�ص�ص الأنبياء الذين �سيذكرون يف ال�سورة مواقف‬
‫كذبت بدعوة الر�سل؛ مثل‪ :‬لوط ونوح ‪-‬عليهما‬‫هدم ودمار للأقوام التي َّ‬
‫ال�سالم ‪.-‬‬
‫و�سيكون هناك ذكر لأنبياء مل نعرف يف ق�صتهم دما ًرا لأقوامهم؛ مثل‪:‬‬
‫�إ�سماعيل و�إدري�س وذا الكفل و�أيوب وزكريا ‪-‬عليهم ال�سالم �أجمعني‪.-‬‬
‫و�سيكون هناك من نعرف �أنهم جنحوا يف جناة قومهم؛ مثل‪� :‬سيدنا‬
‫يون�س ‪ -‬عليه ال�سالم ‪.-‬‬
‫‪- 128 -‬‬
‫سورة األنبياء‬

‫و�سيكون هناك تركيز على داود و�سليمان ‪ -‬عليهما ال�سالم ‪ -‬وقد حققا‬
‫�أعلى معاين البناء‪.‬‬
‫العدل كما يف مثال حكمهما على �صاحب الغنم واحلرث‪ ،‬وال�سنن؛‬
‫املعرفة بال�صنائع والتحكم باملوارد الطبيعية‪.‬‬
‫***‬
‫�إذن مقابل م�شهد الهدم املركزي يف ال�سورة‪ ،‬نقطة االنطالق‪ ،‬هناك‬
‫� ً‬
‫أي�ضا التتمة ال�ضرورية‪ ،‬م�شاهد البناء التي تكمل ال�صورة‪.‬‬
‫ولو قمنا بح�ساباتنا‪ ،‬ف�إن مناذج البناء �ستكون �أكرث من مناذج الهدم‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫للهدم جاذبيته‪ ،‬خا�صة عندما تكون �شا ًّبا ومتمردًا وتريد �أن تثبت‬
‫هدما ال ينوي البناء‪،‬‬
‫نف�سك مقابل تراث الأجداد‪ ،‬هذه اجلاذبية قد تنتج ً‬
‫هدما من �أجل الهدم فح�سب‪.‬‬
‫ً‬
‫الهدم �سهل (ا�س�ألوين �أنا عنه!)‪ ،‬التحدي احلقيقي هو يف �أن تقدم‬
‫بديل عما تهدمه‪� ،‬أن تهدم فكرة �سلبية وتنتقدها وتك�شف مغالطاتها �أمر‬‫ً‬
‫لي�س بال�صعب‪ ،‬لكن ال�صعب ح ًّقا هو �أن تقدم الفكرة البديلة التي تزرعها‬
‫بدل من تلك التي هدمتها‪ ،‬ال�شيء ذاته مع كل ما ي�ستهدف بالهدم‪� ،‬أي‬ ‫ً‬
‫منظومة قيم �أو �أي م�ؤ�س�سة‪� ،‬إن كنت تريد �أن تهدم ولي�س يف ذهنك �أي‬
‫خطة للبناء‪ ،‬فغال ًبا طريقك ق�صري‪ ،‬والهدم �سيكون على ر�أ�سك �أنت‪،‬‬
‫والنتيجة باملجمل �ستكون ل�صالح ما حاولت هدمه‪ ،‬حيث �إن ف�شلك �سيقدم‬
‫�أدلة للبع�ض على �صالحيته‪.‬‬
‫‪- 129 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫مل تنت ِه رحلة �إبراهيم يف املعبد تلك الليلة‪ ،‬بل قادته �إىل طريق ر�أيناه‬
‫فيه وهو يرفع القواعد من البيت‪ ،‬وي�ؤ�س�س البلد الآمن‪.‬‬
‫فعل‪ ،‬لكنه هدم من �أجل البناء‪ ،‬ولو يف مكان‬ ‫كان امل�شهد م�شهد هدم ً‬
‫�آخر‪.‬‬
‫فلننتبه هنا �إىل �أن م�شهد الهدم هذا مل ي�ؤ ِّد �إىل �أن ي�ؤمن قومه‪ ،‬رغم‬
‫�أنه �ضرب معتقداتهم يف ال�صميم‪.‬‬
‫كما لو �أن الر�سالة هنا هي �أنه لكي جتعل النا�س ي�ؤمنون بك‪ ،‬عليك � َّأل‬
‫تكتفي بهدم �إميانهم‪،‬‬
‫بل �أن تقدم البديل بو�ضوح‪.‬‬
‫وهذا ما فعله الأنبياء‪.‬‬
‫هذا ما قدمته ال�سورة‪.‬‬
‫***‬
‫تقول لنا ال�سورة � ً‬
‫أي�ضا‪� :‬إن مواجهة الهدم والبناء فيها خماطر‪ ،‬خماطر‬
‫ينجيهم عز وجل من كيد الكافرين �أو من الدمار الذي‬‫تطلبت �أحيا ًنا �أن ِّ‬
‫حلق ب�أقوامهم‪.‬‬
‫اء َو َأ ْهلَ ْك َنا ال ْ ُم ْسف َ‬
‫ِني{ (األنبياء‪.)9 :‬‬
‫ُ َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫اه ْم َو َم ْن ن َ َش ُ‬ ‫}ثم صدقناهم الوعد فأنين‬
‫ِ‬
‫وا�ست ُْخ ِد َمت الكلمة «جنيناه» مع كل من �إبراهيم ولوط ونوح ويون�س يف‬
‫هذه ال�سورة‪.‬‬
‫مع �إبراهيم كانت النجاة من النار‪.‬‬
‫‪- 130 -‬‬
‫سورة األنبياء‬

‫مع لوط كانت النجاة من احلجارة التي د َّمرت قريتهم‪.‬‬


‫مع نوح من الغرق‪ ،‬ومع يون�س كانت من الغم‪.‬‬
‫مع �أيوب كانت بك�شف ال�ضر عنه‪.‬‬
‫مع زكريا كانت باال�ستجابة لدعائه بالذرية‪.‬‬
‫فلننتبه هنا �إىل �أن الأمر تغري مع تقدم اخلط النبوي تاريخ ًّيا‪.‬‬
‫بعبارة �أخرى‪ ،‬الأنبياء والر�سل الأبكر تاريخ ًّيا‪« :‬نوح‪� ،‬إبراهيم‪ ،‬لوط»‬
‫كانت جناتهم من دمار حتمي بالظروف االعتيادية؛ النار‪ ،‬الغرق‪،‬‬
‫احلجارة‪.‬‬
‫تغي الأمر‪.‬‬
‫مع الأنبياء الالحقني الذين تذكرهم ال�سورة َّ َ‬
‫مل يعد هناك «عقوبة جماعية» تتطلب التدخل‪ ،‬كما ال تذكر ال�سورة‬
‫«�شي ًئا مبا�ش ًرا» كالذي حدث مع �إبراهيم‪.‬‬
‫كلما اقرتبنا من ختم النبوة �أكرث ‪ -‬منه عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬يقل‬
‫الأمر‪ ،‬مع ا�ستثناء ما حدث ل�سيدنا عي�سى ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬ولكن رفعه مل‬
‫ُي ْذ َك ْر يف هذه ال�سورة‪.‬‬
‫كما لو كان الأمر لتدريبنا على �أن نعتمد على �أنف�سنا �أكرث ف�أكرث‪َّ � ،‬أل‬
‫نتوقع املعجزات‪ ،‬فهي خا�صة بالر�سل والأنبياء‪.‬‬
‫و�سالما ملجرد‬
‫ً‬ ‫كما لو �أنها لتدريبنا على � َّأل نتوقع �أن تتحول النار بردًا‬
‫�أننا دعونا اهلل �أن يفعل ذلك كما فعل مع �إبراهيم‪ ،‬جت َّنب �أن تقودك طرقك‬
‫�إىل النار‪� ،‬أو حا ِو ْل حماربتها وتخفيف �آثارها بالطرق التقليدية‪.‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫و�سالما عليك كما حتولت مع �أبي الأنبياء‪،‬‬


‫ً‬ ‫لكن النار لن تتحول بردًا‬
‫لن يحدث‪.‬‬
‫الأنبياء قدوتك‪ ،‬لكنك لن حت�صل على ما ح�صلوه من ا�ستثناءات‬
‫معجزة‪.‬‬
‫ْ‬
‫َ َ َ ْ َ ُ َ َ ً َ َ ُ ُ َ َّ َ َ‬
‫بل هم قدوتك مع الرتكيز على } َوما جعلناه ْم جسدا ل يأكلون الطعام‬
‫ال َ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ِين{ (األنبياء‪.)8 :‬‬ ‫َوما كنوا خ ِ‬

‫***‬
‫�سورة الأنبياء هي واحدة من ثالث �سور يف القر�آن تذكرنا بحقيقة‬
‫نادرة من حقائق احلياة التي ال يجادل فيها �أحد؛ املوت‪.‬‬
‫ُ ُّ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َّ ِّ َ ْ َ ْ ْ َ ً َ َ ُ َ ُ َ‬
‫ي ف ِتنة َوإ ِ ْلنا ت ْرجعون{ (األنبياء‪.)35 :‬‬ ‫}ك نف ٍس ذائ ِقة المو ِ‬
‫ت ونبلوكم بِالش وال ِ‬
‫وما دام الأمر كذلك‪ ،‬وبح�سم‪ ،‬ما دام املوت ينتظرنا عند منعطف ما‪.‬‬
‫فلتكن حلياتنا معنى‪.‬‬
‫***‬
‫و�سورة الأنبياء هي ال�سورة التي تذكرنا بحقيقة �أخرى‪.‬‬
‫َّ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ِّ‬‫ْ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ َ ْ ََْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون{‬‫ال‬ ‫}ولقد كتبنا ِف الزب ِ‬
‫ور مِن بع ِد اذلك ِر أن الرض ي ِرثها عِبادِي الص ِ‬
‫(األنبياء‪.)105 :‬‬

‫العباد ال�صاحلون‪....‬‬
‫لعلهم �أولئك الذين وا َز ُنوا بني ح�سابات الهدم والبناء‪.‬‬
‫لعلهم �أولئك الذين مل يكونوا عن هذه احل�سابات غافلني‪.‬‬
‫‪- 132 -‬‬
‫سورة الحج ‪22‬‬
‫تأشيرة حج‬

‫ما كان ميكن ل�سورة نزلت �آياتها متفرقة يف مكة واملدينة‪ ،‬واحل�ضر‬
‫وال�سفر‪ ،‬والليل والنهار‪� ،‬إال �أن تكون «�سورة احلج»‪.‬‬
‫كنت ‪ -‬منذ �أن تنوي احلج‪،‬‬
‫احلج الذي هو رحلة تبد�أ من بيتك ‪� -‬أينما َ‬
‫وتنتهي �إىل البيت العتيق‪.‬‬
‫و�سورة ت�صف رحلة كهذه‪ ،‬ما كان ميكن �إال �أن تتنزل على هذا النحو‪،‬‬
‫ح�ض ًرا و�سف ًرا ً‬
‫ليل ونها ًرا‪ ،‬بني مكة واملدينة‪.‬‬
‫�إنها رحلة‪ ،‬ت�أخذك ال�سورة لها‪ ،‬حتى لو كنت مل تذهب للحج �ساب ًقا‪� ،‬أو‬
‫كنت قد ذهبت مرا ًرا‪.‬‬ ‫حتى لو َ‬
‫ال�سورة ت�أخذك جمددًا �أو لأول مرة �إىل عمق احلج‪ ،‬لكن دون حاجة �إىل‬
‫ت�أ�شرية �أو بطاقة �سفر‪.‬‬
‫***‬
‫بينما تع ُّد نف�سك لهذه الرحلة‪ ،‬تذكرك ال�سورة ب�أن حياتك كلها رحلة‬
‫�سفر مبحطات متعددة‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُ‬
‫اس إ ْن ُك ْن ُت ْ‬
‫اب ث َّم مِن‬ ‫ر‬‫ت‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫اك‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫ف‬ ‫ث‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫}يا أيها انل‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ ِ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ ٍ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ِ ُ َ ِّ َ َ ُ ْ َ ُ ُّ ٍ ْ َ‬
‫ي ملق ٍة ِلبي لكم ون ِقر ِف الرح ِ‬
‫ام‬ ‫نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ‬
‫‪- 133 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ْ ُ َ ْ ُ َ َّ‬ ‫ْ ً ُ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ‬ ‫ُ ُْ ُ ُ‬ ‫َ ََ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫اء إِل أج ٍل مس ًّم ث َّم ن ِرجك ْم طِفل ث َّم ِلَبلغوا أشدك ْم َومِنك ْم من يت َوف‬ ‫ما نش‬
‫ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ‬
‫ومِنكم من يرد إِل أرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعلم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ‬
‫يج{ (احلج‪.)5 :‬‬ ‫فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ‬
‫ه‬

‫العمر كله رحلة يف النهاية‪.‬‬


‫كما هو احلج رحلة‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة احلج هي ال�سورة الوحيدة يف القر�آن التي ت�س ِّمي الكعبة بالبيت‬
‫العتيق‪.‬‬
‫مل ُي ْذ َكر هذا عن الكعبة �أو البيت احلرام �إال هنا يف هذه ال�سورة ومرتني‪.‬‬
‫ُ َّ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َّ ُ ْ َ ْ ْ َ‬
‫يق{ (احلج‪.)29 :‬‬‫ت ال ِ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫}ثم لقضوا تفثهم ولوفوا نذورهم ولطوفوا بِالي ِ‬
‫ُ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ًّ ُ َّ َ ُّ َ َ ْ َ ْ ْ َ‬
‫يق{ (احلج‪)33 :‬‬‫ت ال ِ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫}لَكم فِيها مناف ِع إِل أج ٍل مسم ثم مِلها إِل الي ِ‬

‫البيت العتيق �إذن‪.‬‬


‫و�أنت ترحل له‪.‬‬
‫ع�شت طيلة حياتك يف بيت‬
‫لعلك ترحل لبيتك‪ ،‬بيتك الأ�صلي‪ ،‬لعلك َ‬
‫لي�س بيتك ولو كنت متلك �سند ملكيته‪.‬‬
‫ق�ضيت حياتك مغرت ًبا‪ ،‬م�شتا ًقا لبيت ال تعرفه‪.‬‬
‫َ‬ ‫لعلك‬
‫وها �أنت تكت�شفه‪ ،‬بيتك الأول هذا الذي مل ت ُز ْر ُه من قب ُل‪.‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫سورة الحــج‬
‫رمبا لهذا ي�سمى «البيت العتيق»(((‪.‬‬
‫***‬
‫يف �سورة الأنبياء ‪ -‬ال�سورة ال�سابقة ل�سورة احلج ‪ -‬ر�أينا �سيدنا �إبراهيم‬
‫يف بداية الطريق‪.‬‬
‫م�شهد الهدم‪ ،‬بعد �أن هدم �أوثان قومه‪.‬‬
‫يوجه‬
‫هنا ‪ -‬يف �سورة احلج ‪ -‬نراه بعد �أن �أكمل بناء البيت‪ ،‬وها هو ِّ‬
‫نداءه �إىل الكل‪� ،‬أن تعالوا �إىل البيت‪.‬‬
‫ِلطائف َ‬ ‫َ ْ ً َ َ ِّ ْ َ ْ َ َّ‬ ‫َ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ْ‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫ر‬ ‫ه‬‫ط‬‫و‬ ‫ا‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ب‬‫ش ِ‬
‫ك‬‫ت أن ل ت ِ‬ ‫}وإِذ بوأنا ِ ِلبراهِيم مكن الي ِ‬
‫ْ َ ِّ َ ُ َ َ ً َ َ ُ ِّ َ‬‫ْ‬ ‫َ ِّ ْ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َ َ ُّ َّ‬ ‫َْ‬
‫الج يأتوك ِرجال َوع ك ضام ٍِر‬ ‫الركعِ السجو ِد ‪َ ‬وأذن ِف انلَّ ِ‬
‫اس ِب‬ ‫َوالقائ ِ ِمني و‬
‫َ ْ َ ْ ُ ِّ َ ٍّ َ‬
‫يق{ (احلج ‪.)27 :26‬‬ ‫يأتِني مِن ك فج ِ ٍ‬
‫م‬ ‫ع‬

‫نحن يف مرحلة ما بعد البناء‪ ،‬وهذا النداء باحلج ‪ -‬املوجه لكل النا�س‪-‬‬
‫يعك�س جتاوز الر�سالة مرحلة «حمليتها»‪ ،‬كونها حم�صورة يف النا�س حول‬
‫�إبراهيم وبنيه‪� ،‬إىل ما هو �أبعد و�أو�سع من ذلك‪ ،‬ميكننا �أن نقول‪� :‬إنها‬
‫مرحلة «عاملية»‪ ،‬على الأقل بالن�سبة للعامل القدمي‪.‬‬
‫مرحلة اكتمال البناء هذه على يد �سيدنا �إبراهيم‪ ،‬ميكن �أن تف�سر �شي ًئا‬
‫�آخر ورد يف ال�سورة‪.‬‬
‫***‬

‫((( للمزيد عن الحج‪ :‬طوفان محمد عليه الصالة والسالم للمؤلف‪.‬‬


‫‪- 135 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سورة احلج احتوت على الآية التي �أَ ِذنَ فيها اهلل للم�سلمني بالقتال‪.‬‬
‫ِير (‪َّ )39‬ال َ‬
‫ع نَ ْصه ِْم لَ َقد ٌ‬
‫ََ‬ ‫ُ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ َّ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫}أذِن ل ِلِين يقاتلون بِأنهم َ ظلِموا وإ ِ‬
‫ْ َ ْ َ ْ َ ٍّ َّ ْ َ ُ ُ ُّ َ‬ ‫ُ ْ ُ‬
‫ي حق إِل أن يقولوا َربنا اهلل{ (احلج ‪.)40 :39‬‬ ‫ِ‬ ‫غ‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِم‬
‫ه‬ ‫ار‬
‫ِ‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫وا‬‫ج‬ ‫أخ ِر‬

‫للوهلة الأوىل‪ ،‬ما العالقة بني احلج والإذن بالقتال؟‬


‫العالقة هي يف املرحلة‪.‬‬
‫احلج الأول الذي نادى فيه �إبراهيم كان بعد اكتمال البناء‪.‬‬
‫وهذا الإذن بالقتال حدث بعد �أن �أ�صبح للم�سلمني جتربتهم الوليدة‬
‫دفاعا عنها‪.‬‬ ‫التي يجب حمايتها والقتال ً‬
‫�صار عندهم يف هذه املرحلة ‪ -‬ما بعد الهجرة حتديدً ا ‪ -‬بناء ي�ستحق‬
‫الدفاع عنه حلمايته‪.‬‬
‫أي�ضا �أن يكرب‪� ،‬أن يتو�سع‪.‬‬ ‫وي�ستحق � ً‬
‫ُ ٌْ َ ُ‬
‫ك ْم{ كما قيل يف �سورة �سابقة‪.‬‬ ‫القتال �أمر لي�س باللطيف‪ ،‬وهو }كره ل‬

‫لكن هناك �أ�شياء كثرية يف احلياة لي�ست لطيفة باملطلق‪.‬‬


‫َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ َ ُ َ َ ٌ َ َ َ َ ٌ َ َ َ ُ‬ ‫َ َْ َ َ ْ ُ‬
‫جد‬ ‫}ولول دفع اهلل انلاس بعضهم بِبع ٍض لهدمت صوامِع وبِيع وصلوات ومسا ِ‬
‫صهُ إ َّن اهلل لَ َقو ٌّي َعز ٌ‬
‫يز{ (احلج‪.)40 :‬‬ ‫ريا َو َ َل ْن ُ َ‬
‫ص َّن اهلل َم ْن َي ْن ُ ُ‬ ‫اس ُم اهلل َكثِ ً‬
‫ُْ َُ َ ْ‬
‫يذكر فِيها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�إنه الدفع ال�ضروري للبناء‪.‬‬
‫لوال هذا الدفع لهُدِّ َم ْت �صوام ُع و ِب َي ٌع وم�ساجد‪.‬‬
‫ومعه ميكن حمايتها‪ ،‬وميكن حماية �أي جتربة «بناء»‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 136 -‬‬
‫سورة الحــج‬

‫وت�أتي الإ�شارة بعدها مبا�شر ًة �إىل مرحلة ما بعد البناء؛ التمكني‪.‬‬


‫َْ ْ‬ ‫َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ ْ َ َّ َّ ُ‬
‫الزكة َوأم ُروا بِالمع ُر ِ‬
‫وف‬ ‫ِين إِن مكناه ْم ِف ال ْر ِض أقاموا الصلة وآتوا‬ ‫}ال‬
‫َ َ ُ ْ ُُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َََْ َ‬
‫ور{ (احلج‪.)41 :‬‬
‫ونهوا ع ِن المنك ِر وهلل عق ِبة الم ِ‬
‫لقد بنوا‪ ،‬ودافعوا عن البناء‪ ،‬ومن ثم انت�صروا يف الدفاع والدفع‪.‬‬
‫فكان �أنْ جاء التمكني الذي مل ي�ستغلوه للإف�ساد‪ ،‬بل �ساعدوا النا�س ‬
‫و�أ�صلحوا بينهم‪.‬‬
‫***‬
‫يف كل القر�آن الكرمي مل ي�أت الفعل (يعظم) غري مرتني اثنتني‪.‬‬
‫يف �سورة احلج حتديدً ا‪.‬‬
‫والفعل «يعظم» وا�ضح املعنى‪ ،‬يكرب‪ ،‬يفخم‪.‬‬
‫وقد جاء يف ا�ستخدامني‪ ،‬تعظيم احلرمات‪.‬‬
‫َ ُ َ َ ْ ٌ َ ْ َ ِّ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َّ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ْ ُ ُ َ‬
‫ي لُ عِند َرب ِه َوأحِلت لك ُم النعام إِل‬ ‫}ذل ِك ومن يعظم حرم ِ‬
‫ات اهلل فهو خ‬
‫اج َتن ُبوا َق ْو َل ُّ‬
‫ْ‬ ‫َ ََْْ‬ ‫َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ِّ ْ َ‬
‫الزورِ{ (احلج‪.)30:‬‬ ‫ان َو ِ‬‫ما يتل عليكم فاجتنِبوا الرجس مِن الوث ِ‬
‫وتعظيم ال�شعائر‪.‬‬
‫َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ْ َ َ َ‬
‫وب{ (احلج‪.)32 :‬‬
‫}ذل ِك ومن يعظم شعائ ِر اهلل فإِنها مِن تقوى القل ِ‬
‫واال�ستخدامان مت�ضادان متقاربان‪.‬‬
‫وميكن التعبري عنها ب�أخذ الأمر بجدية بالغة‪ ،‬ال مزاح وال تهاون‪ ،‬ال يف‬
‫احلرمات التي ال يجب على احلاج �أن يلتزم بعدم تخطيها‪ ،‬وال يف ال�شعائر‬
‫التي يجب �أن ت�ؤ َّدى بجدية بالغة‪.‬‬
‫‪- 137 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وكل من اعتمر �أو حج‪ ،‬يعرف �أن طول مدة �أداء املنا�سك يجعل البع�ض‬
‫يت�صرف كما لو �أن الأمر عادي‪ ،‬ي�ضحك‪ ،‬يتحدث يف �أي �شيء عادي‪.‬‬
‫تقن ًّيا‪� ،‬أداء املنا�سك هنا �صحيح‪ ،‬ال يوجد ما يدل على غري ذلك‪.‬‬
‫لكن التعظيم لها‪� ،‬أخذها بجدية بالغة بحيث تنعزل عن �صغار الأمور‪،‬‬
‫هو �أتقى بالت�أكيد‪.‬‬
‫***‬
‫وال ميكن �أن نتجاهل �أن الفعل «يعظم» هنا‪ ،‬قد يرتبط بالآية الأوىل من‬
‫ال�سورة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫َ ُّ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ ْ َّ َ َ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ش ٌء َع ِظ ٌيم{ (احلج‪.)1 :‬‬
‫اع ِة ْ‬ ‫}يا أيها انلاس اتقوا ربكم إِن زلزلة الس‬

‫كما �أن هذه الآية الأوىل � ً‬


‫أي�ضا‪ ،‬تذكرنا بفعل �آخر تك َّرر يف ال�سورة‪.‬‬
‫} َّات ُقوا{ تذكرنا بالتقوى التي يبدو �أنها مرتبطة باحلج على نحو قوي‪.‬‬
‫ففي �سورة البقرة ‪ -‬يف �آيات احلج منها ‪ُ -‬ذ ِك َرت التقوى ب�صفتها خري‬
‫الزاد‪.‬‬
‫َّ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ‬ ‫ْ َ ُّ َ ْ ُ ٌ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ‬
‫جدال‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫وق‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ث‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ج‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِيه‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫}الج أشهر معلومات فمن فر‬
‫َ‬
‫ون يا‬
‫َّ ْ َ َ َّ ُ‬
‫ق‬ ‫ات‬ ‫و‬ ‫ى‬‫و‬ ‫ق‬ ‫اتل‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ي َّ‬
‫الز‬ ‫ال ِّج َو َما َت ْف َعلُوا م ِْن َخ ْي َي ْعلَ ْم ُه اهلل َوت َز َّودوا فإن خ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َْ‬ ‫ُ‬
‫اب{ (احلج‪.)197 :‬‬ ‫ول الل ِ‬ ‫أ ِ‬
‫وهنا يف �سورة احلج‪ ،‬التقوى جمددًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫َّ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ْ ُ َ ِّ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫وب{‪.‬‬
‫}ذل ِك ومن يعظم شعائ ِر اهلل فإِنها مِن تقوى القل ِ‬

‫‪- 138 -‬‬


‫سورة الحــج‬

‫ْ ُ َ َ َ َ َّ َ‬ ‫ُُ ُ َ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ْ ََ َ‬
‫كن ينالُ اتلَّق َوى مِنك ْم كذل ِك سخ َرها‬‫}لن ينال اهلل لومها ول دِماؤها ول ِ‬
‫ني{ (احلج‪.)37:‬‬ ‫اك ْم َوب َ ِّش ال ْ ُم ْحسن َ‬
‫ََ َ َ َ ُ‬
‫بوا اهلل ع ما هد‬‫ك ْم ِلُ َك ِّ ُ‬
‫َ ُ‬
‫ل‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫التقوى �إذن‪ ،‬تقوى القلوب حتدِّ د الآية الكرمية‪.‬‬
‫كم تبدو فري�ضة احلج من خارجها «عبادة جوارح»!‬
‫وكم هي يف عمقها «عبادة قلوب»!‬
‫�أمر ال ميكن �أن يحدده �إال املطلع على ما يف القلوب‪.‬‬
‫كل �شيء عدا ذلك حم�ض مظاهر‪.‬‬
‫***‬
‫و�سورة احلج هي ال�سورة التي ح َّددت لنا �أن �سيدنا �إبراهيم هو الذي‬
‫�سمانا م�سلمني‪.‬‬
‫َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ ُ َ َّ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ك ْم ف ِّ‬‫َ َ َ َ َ َ َْ ُ‬
‫ِيم ه َو سماك ُم‬
‫ين مِن ح َر ٍج مِلة أبِيكم إِبراه‬‫ِ‬ ‫ادل‬ ‫ِ‬ ‫}وما جعل علي‬
‫َ ْ َُْ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ني مِن قبل{ (احلج‪.)78 :‬‬ ‫المسلِ ِم‬
‫ي�شبه الأمر ‪ -‬بال ت�شبيه ‪� -‬أن يقال لك‪� :‬إن جدك فالن ‪ -‬الذي مل تره‬
‫دت‪.‬‬‫�سمعت عنه كث ًريا ‪ -‬قد اختار لك ا�سمك عندما ُو ِل َّ‬ ‫َ‬ ‫ولكن‬
‫يربطك ذلك عاطف ًّيا به على نحو خمتلف‪ ،‬ي�صنع بينكما رابطة �أعمق‬
‫من رابطة الدم التي تربطك به‪.‬‬
‫�إبراهيم �سمانا م�سلمني‪.‬‬
‫اختار لنا هذا اال�سم‪.‬‬
‫ً‬
‫ارتباطا به وانتما ًء لر�سالته‪.‬‬ ‫�شيء يزيدنا‬
‫***‬
‫‪- 139 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ُ ِّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِّ‬


‫وك ِر َجال َو َ َع ك َضام ٍِر يَأت َِني م ِْن ك ف ٍّج َع ِم ٍيق{‬
‫َ ِّ َ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫} َوأذن ِف انلَّ ِ‬
‫اس بِالج يأت‬
‫(احلج‪.)27 :‬‬

‫ثمة فج عميق يف داخل كل منا‪.‬‬


‫فج عميق يف جماهل ت�ضاري�سنا‪ ،‬بني مرتفعاتنا الوعرة‪.‬‬
‫ثمة �شيء فينا يريد �أن يخرج من هذا الفج العميق‪.‬‬
‫لكي يلبي النداء‪.‬‬
‫لكي نذهب �أخ ًريا �إىل بيتنا الأول‪.‬‬
‫البيت العتيق‪.‬‬
‫كلنا الجئون م�شردون بطريقة ما‪.‬‬
‫وحده البيت العتيق هو البيت ح ًّقا‪.‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫سورة المؤمنون ‪23‬‬
‫أهمية الشخص «العادي»‬

‫مبدعا متمي ًزا �شغو ًفا مبجال ما‪ ،‬الكل‬


‫الكل يتحدث عن �أهمية �أن تكون ً‬
‫يتحدث عن مارد ما وعمالق ما يف داخلك‪.‬‬
‫فعل ‪ ...‬وه�ؤالء البع�ض من املبدعني‬ ‫وهذا ُي ْح ِد ُث �أث ًرا عند البع�ض ً‬
‫واملتميزين عاد ًة ما يكونون قلة‪ .‬هذه طبيعة الأ�شياء‪.‬‬
‫لكننا يف غمرة احلديث عن «املبدع» و«اخلارق» نكاد نن�سى احلديث‬
‫عن �أهمية ال�شخ�ص العادي‪ ،‬ال�شخ�ص الذي �أهميته يف �أنه �شخ�ص عادي‪،‬‬
‫وال انتقا�صا منه‪ ،‬وكل املتميزين ما كان ميكن لتميزهم‬
‫ً‬ ‫الكلمة لي�ست م�س َّبة‬
‫منتجا وم�ؤث ًرا لوال «ال�شخ�ص العادي»‪.‬‬
‫�أن يكون ً‬
‫ال�شخ�ص العادي هدف كل الر�ساالت وكل الفل�سفات وكل ال�شعارات‪.‬‬
‫�سورة امل�ؤمنون تقابلنا بعد �سورة احلج ‪ -‬ال�سورة التي حتدثت عن‬
‫«انتهاء البناء» ‪ -‬لتحدثنا عن ال�شخ�ص الذي ما كان ميكن للبناء �أن ينتهي‬
‫من دونه؛ ال�شخ�ص العادي‪.‬‬
‫ت�أخذنا ال�سورة يف بدايتها �إىل �صفات امل�ؤمنني الذين �سيحققون الفالح‪،‬‬
‫الفوز‪ ،‬الذين �سريثون الفردو�س‪.‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫قد نتوقع من قائمة ال�صفات �أن تكون �صعبة‪ ،‬خارقة ال�صعوبة‪ ،‬قد‬
‫نتوقع على �سبيل املثال ما ن�سمعه عن �أعمال بع�ض ال�سلف يف العبادات‪،‬‬
‫ال�صالة �ألف ركعة يف اليوم والليلة‪� ،‬أو قيام الليل كله طيلة �أيام ال�سنة‪� ،‬أو‬
‫قراءة القر�آن يف ركعة واحدة‪.‬‬
‫لكن ال �شيء من كل هذا‪.‬‬
‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫َْ ََْ َ ُْ ْ ُ َ‬
‫ِين ه ْم ع ِن‬‫ِين ه ْم ِف صلت ِِه ْم خا ِشعون ‪ ‬وال‬ ‫}قد أفلح المؤمِنون ‪ ‬ال‬
‫َ ُ‬
‫ج ِه ْم حاف ِظونَ ‪‬‬ ‫َ َّ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َ َّ َ ُ ْ َّ َ َ ُ َ‬ ‫َّ ْ ُ ْ ُ َ‬
‫اللغ ِو مع ِرضون ‪ ‬والِين هم ل ِلزكة ِ فاعِلون ‪ ‬والِين هم ل ِفرو ِ‬
‫ََ ََْ َ َ َ َ َ‬ ‫ي َملُوم َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫ان ُه ْم َفإ َّن ُه ْم َغ ْ ُ‬
‫اء ذل ِك‬ ‫ِني ‪ ‬فم ِن ابتغ ور‬ ‫ِ‬ ‫ج ِهم أو ما ملكت أيم‬ ‫إِل ع أزوا ِ‬
‫َ َّ َ ُ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ُ‬ ‫َُ َ َ ُ َْ ُ َ‬
‫ِين ه ْم ع‬ ‫ِين ه ْم ِلمانات ِِه ْم َوعه ِده ِْم َراعون ‪ ‬وال‬ ‫فأول ِك ه ُم العادون ‪ ‬وال‬
‫ُ َ َ ُ ُ َْ ُ َ‬ ‫َ ََ ْ َُ ُ َ‬
‫ارثون{ (املؤمنون ‪.)10 :1‬‬ ‫صلوات ِِهم ياف ِظون ‪ ‬أول ِك هم الو ِ‬
‫خ�شوع يف ال�صالة وحمافظة عليها‪� ،‬إعرا�ض عن اللغو والتفاهات‪،‬‬
‫زكاة‪ ،‬عفة‪� ،‬أمانة للعهد ورعاية له‪.‬‬
‫لن �أ َّدعي �أنها �سهلة �أبدً ا‪ ،‬ولن �أ َّدعي وجودها يف �شخ�ص بعينه‪.‬‬
‫ولكنها �صفات ممكنة التحقيق‪ ،‬لي�ست خارقة وال م�ستحيلة‪ ،‬ميكن �أن‬
‫تع َّد يف حياتك عدة �أ�شخا�ص عرفتهم و�أنت تظن بينك وبني نف�سك �أنهم‬
‫قد حققوا هذه ال�صفات �أو �أغلبها‪� ،‬أو هذا ما َب َدا لك منهم‪� ،‬إال اخل�شوع يف‬
‫ال�صالة الذي ال ميكن �أن ُيقا�س �أو ُيعرف‪ ،‬والذي ال بد من االعرتاف �أنه‬
‫قد يكون �أ�صعب ما يف القائمة‪.‬‬
‫هي �صفات ميكن �إجنازها‪ ،‬لي�ست �صفات الواحد يف املليون بالت�أكيد‪،‬‬
‫وال ن�سبة حمتملة عندي ملن ميكن �أن يحققها‪ ،‬لكن ميكن جلارك �أو عمك‪.‬‬
‫‪- 142 -‬‬
‫سورة املؤمنون‬

‫�أو رفيق لك �أن يكون قد حققها‪ ،‬دون �أن يبدو عليه ذلك التميز �أو الإبداع‪،‬‬
‫ودون �أن يكون له منجزات كبرية تتحدث عنها و�سائل الإعالم‪.‬‬
‫�إنها �صفات ميكن لل�شخ�ص العادي �أن يحققها ويحوزها‪.‬‬
‫لو �أننا نظرنا �إىل هذه ال�صفات من منظور معا�صر؛ لر�أينا يف هذا‬
‫ملتزما بالقوانني والتعليمات‪� ،‬سواء تلك التي تنظم‬‫ً‬ ‫�شخ�صا‬
‫ال�شخ�ص ً‬
‫عموما‪،‬‬
‫عالقته بربه؛ ال�صالة‪ ،‬اخل�شوع فيها واملحافظة عليها‪� ،‬أو العبادات ً‬
‫�أو التي تنظم عالقته باملجتمع؛ الزكاة‪ ،‬العفة‪� ،‬أمانة العهد‪.‬‬
‫هو �شخ�ص عادي‪ ،‬ملتزم بالقانون (باملعنى الوا�سع للكلمة‪ ،‬عل ًما �أن‬
‫�أمانة العهد ت�شمل القانون ً‬
‫فعل)‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪.‬‬
‫بل �إن �سورة امل�ؤمنون ت�أخذنا �إىل ق�ص�ص الأنبياء‪ ،‬وتبني لنا �أن الكفار‬
‫أ�شخا�صا عاديني‪ ،‬وكان هذا �سب ًبا لرف�ض‬
‫ً‬ ‫كانوا يرون �أن الأنبياء كانوا �‬
‫دعوتهم‪.‬‬
‫كل الأنبياء الذين �سرت ُد ق�صتهم يف هذه ال�سورة �ست�شري �إىل ذلك‪.‬‬
‫ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ُ ُ َ ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ‬
‫ش مِثلك ْم ي ِريد أن‬ ‫ِين كف ُروا مِن قو ِم ِه ما هذا إِل ب‬ ‫مع نوح‪} :‬فقال المل ال‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫ك ْم َول ْو َش َاء اهلل لن َزل َملئ ِكة َما س ِمعنا بِهذا ِف آبائ ِنا ال َّول َِني{‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يتفضل علي‬
‫(املؤمنون‪.)24 :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َ َ َْ َُ ْ َ‬
‫ِين كف ُروا َوكذبوا بِلِقاءِ الخ َِرة ِ‬ ‫مع �صالح‪َ } :‬وقال المل مِن ق ْو ِم ِه ال‬
‫ْ َ َ ُّ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ْ َ ْ ُ ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َْ َْ ُ‬
‫شب‬ ‫َوأت َرفناه ْم ِف الياة ِ ادلنيا ما هذا إِل بش مِثلكم يأكل مِما تأكلون مِنه وي‬
‫َّ َ ْ َ ُ َ‬
‫شبون{ (املؤمنون‪)33 :‬‬ ‫مِما ت‬

‫‪- 143 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ‬
‫ْ َ َ ْ َُُ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ُ َ َ َْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫َ‬
‫ون{‬ ‫شي ِن مِثلِنا وقومهما لا عبِد‬ ‫مع مو�سى وهارون‪} :‬فقالوا أنؤمِن ل ِب‬
‫(املؤمنون‪.)47 :‬‬

‫أ�شخا�صا عاديني‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل ه�ؤالء َب َد ْوا �‬
‫ومبتابعة خوامت ما حدث يف هذه الق�ص�ص‪ ،‬ن�صل �إىل نتيجة مهمة‪ ،‬ال ‬
‫تقلل �أبدً ا من قيمة ال�شخ�ص العادي‪.‬‬
‫***‬
‫ماذا عن الأ�شخا�ص الآخرين الذين مل يحققوا الفوز والفالح‪ ،‬وانتهوا‬
‫�إىل جهنم‪.‬‬
‫أ�شخا�صا عاديني‪ ،‬فال�شخ�ص العادي ميكن‬ ‫ً‬ ‫أي�ضا يف الغالب كانوا �‬‫هم � ً‬
‫�أن ي�أخذ �أ ًّيا من الطريقني‪.‬‬
‫امل�ؤمنون اختاروا طريق االن�ضباط بالتعليمات‪ ،‬الآخرون للأ�سف مل‬
‫َ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫يفعلوا‪� ،‬سيقولون هم الح ًقا مف�سرين ما حدث‪} :‬قالوا َربنا غلبت علينا‬
‫ْ َ ُ َ َ ُ َّ َ ْ ً َ‬
‫ضالِّ َ‬
‫ني{ (املؤمنون‪.)106 :‬‬ ‫ِشقوتنا وكنا قوما‬

‫ف�ضلُّوا الطريق‪.‬‬
‫لقد ان�ش ُّقوا عن االن�ضباط وااللتزام‪َ ،‬‬
‫***‬
‫ْ َ‬
‫َ ِّ َ ُ ْ ُ ُ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُ ْ ََ َ ََْ َ ٌ َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ُ َ ُ َْ ً‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫ون{‬ ‫لينا ك ِتاب ين ِطق بِالق وهم ل يظلم‬ ‫} َول نكلف نفسا إِل وسعها و‬
‫(املؤمنون‪.)62 :‬‬

‫وردت هذه الآية �أو ما ي�شابهها يف املبنى واملعنى خم�س مرات يف القر�آن‬
‫الكرمي‪.‬‬
‫‪- 144 -‬‬
‫سورة املؤمنون‬

‫هنا ‪ -‬يف �سورة امل�ؤمنون ‪ -‬هي املرة الأخرية التي �سنقر�أها �أثناء قراءة‬
‫امل�صحف‪.‬‬
‫كما لو �أنها ُذ ِك َرت هنا بال�ضبط لت�ؤكد فكرة �أن هذه ال�صفات ممكنة‬
‫التحقيق لأي �شخ�ص دون موا�صفات خارقة‪.‬‬
‫***‬
‫َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ُُْ‬ ‫َ َ ُّ َ‬
‫اب ث َّم مِن‬ ‫ٍ‬ ‫ث فإِنا خلقناكم مِن تر‬ ‫ب مِن الع ِ‬ ‫ٍ‬ ‫}يا أيها انلَّاس إِن كنت ْم ِف َري‬
‫َْ‬ ‫ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ِّ َ َ ُ ُ‬
‫ي لك ْم َون ِق ُّر ِف ال ْر َح ِ‬
‫ام‬ ‫ي ملق ٍة ِلب‬ ‫نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ‬
‫َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ًّ ُ َّ ُ ْ ُ ُ ْ ْ ً ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َّ‬
‫ما نشاء إِل أج ٍل مسم ثم ن ِرجكم طِفل ثم ِلبلغوا أشدكم ومِنكم من يتوف‬
‫ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً‬ ‫ْ ُ َ ْ ُ ُّ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫َومِنك ْم من ي َرد إِل أ ْرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعل َم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ‬
‫يج{ (احلج‪.)5 :‬‬ ‫فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ‬
‫ه‬

‫هذه هي مراحل ن�شوء الإن�سان العادي‪� ،‬أي كلنا‪.‬‬


‫طفل‪� ،‬سيكون ً‬
‫جميل‪ ،‬فقط لأنه �إن�سان‪ ،‬رغم �أنه عادي‪.‬‬ ‫وعندما يولد ً‬
‫الكل جميل ما دام خلق اهلل‪.‬‬
‫أي�ضا جميل‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا مهم‪ ،‬ولوال العادي ملا مت َّيزَ �أحد وال جنح‬ ‫العادي � ً‬
‫م�شروع وال حتققت ر�سالة‪.‬‬
‫فتبارك اهلل �أح�سن اخلالقني‪.‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫سورة النور ‪24‬‬
‫َّ‬
‫«نور‪ ،‬أنى أراه؟!»‬

‫َ ْ َ ٌ ْ ْ َ ُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ََُ ُ‬ ‫اوات َو ْالَ ْ‬ ‫ُ ُ َّ َ َ‬


‫وره ِ ك ِمشك ٍة فِيها مِصباح ال ِمصباح ِف‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫}اهلل نور السم ِ‬
‫ُ َ َ ُّ َ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ ٌ ُ ِّ ٌّ ُ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َّ َ‬
‫شقِي ٍة َول‬ ‫زجاج ٍة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد مِن شجر ٍة مبارك ٍة زيتون ٍة ل‬
‫ع نُور َي ْهدِي اهلل ِلُوره ِ من يش ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ٌ َ َ‬
‫اء‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫غربِي ٍة يكاد زيتها ي ِضء ولو لم تمسسه نار نور‬
‫شء َعل ٌ‬ ‫ُ ِّ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َّ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫ِيم{ (انلور‪.)35 :‬‬ ‫اس َواهلل بِكل ْ ٍ‬ ‫ضب اهلل المثال ل ِلن ِ‬
‫وي ِ‬
‫َ‬
‫ات َو ْال ْر ِض{ من �أكرث الآيات ً‬
‫جمال‬ ‫ُ ُ َّ َ َ‬
‫رمبا تكون �آية }اهلل نور السماو ِ‬
‫إلهاما يف القر�آن الكرمي‪ ،‬جميلة وروحانية‪ ،‬وتبعث على الطم�أنينة‪.‬‬
‫و� ً‬
‫َْ‬
‫ُ ُ َّ َ َ‬
‫ات َوال ْر ِض{ �شديد اجلمال‬
‫املثل الذي ا�ست ُْخ ِد َم لتقريب }نور السماو ِ‬
‫واحلميمية‪.‬‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫وره ِ ك ِم ْش َك ٍة ف َِيها م ِْص َب ٌاح{‬‫ََُ ُ‬ ‫او َ ْ‬ ‫ُ ُ َّ َ َ‬
‫}اهلل نور السم ِ‬
‫ات والر ِض مثل ن ِ‬
‫وامل�شكاة هي الك َّوة يف احلائط‪ ،‬مغلقة لي�ست نافذة‪ ،‬كانت موجودة يف‬
‫طرز العمارة التقليدية‪ ،‬ويو�ضع فيها امل�صباح حلمايته من تيار هواء قد‬
‫ي�ؤثر عليه‪.‬‬
‫ْ َ ُ ُ َ َ‬ ‫ْ‬
‫اج ٍة{‪.‬‬‫}ال ِمصباح ِف زج‬

‫حماية �أخرى لنور امل�صباح‪ ،‬الزجاجة �ستمنع ‪ -‬جمددًا ‪� -‬أي تيار هوائي‬
‫ميكن �أن ي�ؤثر على نور امل�صباح‪.‬‬
‫‪- 146 -‬‬
‫سورة النور‬

‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫اج ُة كأ َّن َها ك ْوك ٌب ُد ِّر ٌّي{‪.‬‬
‫ُّ َ َ‬
‫}الزج‬

‫الزجاجة نف�سها م�ضيئة تلتمع‪ ،‬الكوكب الدري هو غال ًبا كوكب الزهرة‪،‬‬
‫الكوكب الأكرث ملعا ًنا بالن�سبة للأر�ض بعد ال�شم�س والقمر‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اركة َز ْي ُتونَة ل َ ْ‬
‫ُ ُ ْ َ َ َ َُ َ‬ ‫َ‬
‫شق َِّي ٍة َول غ ْرب ِ َّي ٍة{‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫}يوقد مِن شجر ٍة مب ٍ‬

‫الوقود الذي ُي ْ�ستخدم يف امل�صباح الذي يف الزجاجة التي يف امل�شكاة‬


‫هو زيت م�ستخ َرج من �شجرة الزيتون‪ ،‬واحدة من �أكرث الأ�شجار املع ِّمرة يف‬
‫العامل‪ ،‬والتي تبقى منتجة رغم تقدمها يف ال�سن‪ ،‬كما تبقى خ�ضراء طيلة‬
‫�أيام ال�سنة‪ ،‬هذا الزيت هو الأ�صفى والأنقى مبعايري الوقود يف امل�صابيح‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ولأن هذه ال�شجرة }ل َ ْ‬
‫شق َِّي ٍة َول غ ْرب ِ َّي ٍة{‪ ،‬فكل ثمارها تع َّر�ضت لنف�س ‬
‫متاما‪.‬‬
‫متجان�سا ً‬
‫ً‬ ‫امل�ستوى الو�سطي من �أ�شعة ال�شم�س‪ ،‬وهذا يجعل زيتها‬
‫َ َ ُ َ ُْ َ ُ ُ َ َْ َْ َ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ٌ ََ ُ‬
‫ور{‪.‬‬ ‫}يكاد زيتها ي ِضء ولو لم تمسسه نار نور ع ن ٍ‬
‫من �شدة نقاء هذا الزيت‪ ،‬يكاد ي�ضيء دون �أن يو َق َد‪.‬‬
‫ُ ٌ ََ ُ‬
‫ور{‪.‬‬
‫}نور ع ن ٍ‬
‫نعم‪ ،‬نحن يف دوائر متداخلة من النور‪ ،‬نور امل�صباح‪ ،‬نور الزيت‪ ،‬ونور‬
‫الزجاجة � ً‬
‫أي�ضا؛ لأنها تعك�س نور امل�صباح كما يعك�س الكوكب نور ال�شم�س‪.‬‬
‫هذا النور يغمر ال�سماوات والأر�ض‪.‬‬
‫وهو يغمرك � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬يغمر قلبك وروحك‪ ،‬يغمر كلك بكل ما فيك‪.‬‬
‫�أنت �أمام اجلدار‪ ،‬والنور منبعث من الك َّوة يف احلائط‪ ،‬هادئ ثابت ال ‬
‫يهتز‪ ،‬وهو بثالث تدرجات من النور؛ نور على نور‪.‬‬
‫‪- 147 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫النور يغمر املكان‪ ،‬و�أنت �أمام اجلدار‪ ،‬هل ميكن �إال �أن تنجذب �إىل هذا‬
‫النور‪ ،‬يحيط بك ويخرتقك؟ نور ال ي�شبه الأ�ضواء ال�ساطعة الزاعقة التي‬
‫نعرفها اليوم‪ ،‬وال �أ�ضواء النيون الباهتة الكئيبة‪ ،‬بل نور حقيقي ي�صعب‬
‫و�صفه‪ ،‬كل ما عرفت يف حياتك من �أ�ضواء كان ن�سخة مز َّورة وباهتة من‬
‫النور‪ ،‬حماولة فا�شلة لتقليد هذا النور‪.‬‬
‫من تلك الك َّوة يتدفق النور‪ ،‬ويغطي على عاملك كله‪ ،‬يغرقك من �أق�صاك‬
‫�إىل �أق�صاك بطم�أنينة � ِآ�س َرة ال فكاك عنها‪ ،‬يغمرك النور حتى تتنف�سه‪،‬‬
‫في�صري لهاثك كالن�شوة‪.‬‬
‫ثم تقول‪ :‬نعم‪ ،‬نور ال�سماوات والأر�ض‪.‬‬
‫***‬
‫للوهلة الأوىل‪ ،‬قد جند �أن هذه الآية‪ ،‬باذخة اجلمال به َّية الروحانية‪،‬‬
‫تنتمي ل�سور ب�سياق خمتلف عن �سورة النور‪� ،‬آية روحانية كهذه‪ ،‬ميكن �أن‬
‫نتو َّقع �أنها تكون يف ال�سور املكية‪ ،‬ال�سور التي ركزت على جالل اهلل و�صفاته‬
‫وقدرته‪� ،‬أكرث مما فعلت ال�سور املدنية‪.‬‬
‫متاما‪.‬‬
‫لكن هذا التوقع خاطئ ً‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬بل �إن ال�سورة املدنية التي جاءت فيها هذه الآية قد‬
‫متاما عن هذا اجلو الروحاين‪ ،‬بل �إن الن�سق العام لها‪،‬‬
‫بد�أت بداية خمتلفة ً‬
‫كان بعيدً ا عن هذا اجلو‪.‬‬
‫بد�أت ال�سورة هذه البداية‪.‬‬

‫‪- 148 -‬‬


‫سورة النور‬

‫َّ َ ُ‬ ‫ُ َ ٌ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ِّ َ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ‬
‫‪‬الزانِية‬ ‫ات لعلك ْم تذك ُرون‬ ‫}سورة أنزلاها وفرضناها وأنزلا فِيها آي ٍ‬
‫ات بين ٍ‬
‫ك ْم به َما َر ْأ َف ٌة ف دِين اهلل إ ْن ُك ْن ُتمْ‬
‫ْ ُ َ َ َ َ َْ ََ َْ ُ ْ ُ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫لوا ك َواح ٍِد مِنهما مِائة جل ٍة ول تأخذ‬ ‫والز ِان فاج ِ‬
‫َ‬ ‫ََْ ْ َ ْ َ َ َُ َ َ َ ٌ َ ُْ ْ‬ ‫َ َْْ ْ‬ ‫ُْ ُ َ‬
‫تؤمِنون بِاهلل والو ِم الخ ِِر وليشهد عذابهما طائ ِفة مِن المؤ ِمنِني{ (انلور ‪.)2 :1‬‬

‫ال�سورة تبد�أ بعقوبة الزناة مائة جلدة‪.‬‬


‫وت�ستمر يف هذا االجتاه؛ عقوبة قذف املح�صنات ثمانون جلدة‪ ،‬ملن‬
‫حتدث على عر�ض امر�أة دون �أربعة �شهود‪ ،‬اتهام الأزواج لبع�ضهم البع�ض‪،‬‬
‫حادثة الإفك‪.‬‬
‫ثم هناك بع�ض التعليمات �أو القواعد ال�سلوكية التي تقوم مقام غلق‬
‫الأبواب املفتوحة التي ميكن �أن تقود للفاح�شة‪ ،‬مثل عدم دخول البيوت دون‬
‫ا�ستئذان‪ ،‬الغ�ض من الب�صر (الغ�ض من الب�صر ولي�س غ�ض الب�صر كما‬
‫ينت�شر وهناك فارق بني االثنني)‪ ،‬والآيات التي حتدد �شكل تغطية املر�أة‬
‫لر�أ�سها و�صدرها‪.‬‬
‫خ�ضم هذا االجتاه املنهمك يف تعديل «التجاوزات» التي حتدث يف‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫خ�ضم هذا الأمر بالغ‬
‫ِّ‬ ‫العالقات بني اجلن�سني‪ ،‬وو�ضع �ضوابط لها‪ ،‬يف‬
‫الدنيوية وكل ما يرتبط به من غيبة وبهتان وقيل وقال‪ ،‬ت�أتي �آية }نُ ُ‬
‫ور‬
‫َْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ات َوال ْر ِض{‪.‬‬
‫السماو ِ‬

‫متاما‪� ،‬شهوات‬
‫�شيء �آخر ً‬ ‫ي�ضربك النور فج�أة دون مقدمات‪ ،‬كنت يف‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ‬
‫وره ِ ك ِمشك ٍة{‪.‬‬ ‫وعالجها وعقوباتها‪ ،‬وفج�أة‪} ،‬اهلل نور السماو ِ‬
‫ات والر ِض مثل ن ِ‬
‫***‬

‫‪- 149 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫قد ت�ستغرب الأمر ً‬


‫قليل يف البداية‪.‬‬
‫ما العالقة يف ال�سياق؟‬
‫لكن لو فكرت ً‬
‫قليل َل َع ِل ْم َت‪.‬‬
‫***‬
‫َْ‬ ‫ُ ُ َّ َ َ‬
‫ات َوال ْر ِض{ بالرغم من ذلك ال�سياق‪.‬‬
‫مل ت�أت تلك الآية }نور السماو ِ‬

‫بل ب�سببه‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لي�س بالرغم من �أن ال�سياق كان يف اجتاه العالقات بني اجلن�سني‬
‫و�ضوابطها‪.‬‬
‫بل ب�سبب ذلك‪.‬‬
‫القر�آن كان يتنزل على جمتمع حي‪ ،‬ولي�س على مدينة فا�ضلة‪.‬‬
‫خطائني بطبيعتهم‪ ،‬لي�س جمتمع مالئكة‬‫واملجتمع احلي مك َّون من ب�شر َّ‬
‫مت�شي على الأر�ض‪ ،‬بل ب�شر لديهم نوازعهم املختلفة وجتاربهم وزللهم‬
‫و�سقوطهم و�سموهم‪.‬‬
‫وه�ؤالء الب�شر ميكن ج ًّدا �أن يتعر�ضوا لأخطاء يف االجتاه الذي حتدثت‬
‫عنه ال�سورة‪.‬‬
‫ولأنهم كذلك‪ ،‬فهم بحاجة �إىل جرعة معادلة ومكثفة من النورانية‬
‫والروحانية‪.‬‬
‫مثلنا جميعا‪ ،‬كلنا نحتاج �إىل هذه اجلرعة من النور يف عروقنا‬
‫وب�صائرنا‪ ،‬وهم مثلنا‪ ،‬املجتمع كله بحاجة �إىل هذا لكي يوازن طبيعته‪.‬‬
‫‪- 150 -‬‬
‫سورة النور‬

‫الب�شرية َّ‬
‫اخلطاءة‪ ،‬حتى �أولئك الذين حت َّد َث ْت عنهم ال�سورة يف مطلعها‪،‬‬
‫حتى الزناة والزانيات و�أولئك الذين يرمون املح�صنات‪ ،‬حتى �أولئك‬
‫بحاجة �إىل ذلك النور املتدفق من امل�شكاة‪ ،‬كلنا بحاجة بالت�أكيد‪ ،‬لكنهم‬
‫� ً‬
‫أي�ضا قادرون على التفاعل مع النور‪ ،‬على ر�ؤيته يف �أعماقهم‪ ،‬على ر�ؤية‬
‫�أنف�سهم من خالله‪.‬‬
‫***‬
‫لي�س هذا فقط‪.‬‬
‫الكثري من هذه الق�ضايا ُت َع ُّد ح�سا�سة‪ُ ،‬ت َع ُّد من املحرمات التي ال داعي‬
‫أ�صل‪ ،‬تكفيها املواعظ العامة دون تفا�صيل‪ ،‬وكل �شيء على ما يرام‬ ‫لذكرها � ً‬
‫يف املجتمع وفقط املجتمعات الأخرى هي التي تع ُّج باملعا�صي والعالقات‬
‫احلرة‪ ،‬نحن على ما يرام واحلمد هلل‪.‬‬
‫واج ْه‬
‫ت�سلط ال�سورة النور على عيوب املجتمع وحمرماته دون تخ ُّوف‪ِ ،‬‬
‫حقيقة ب�شرية املجتمع وال حت ِّو ْل ُه �إىل مقد�س مالئكي؛ لأنه �سيتحول �إىل‬
‫جمتمع يفعل يف اخلفاء ما يلعنه يف العلن‪.‬‬
‫ال�سورة تع ِّلمنا �أن نوجه النور �إىل جتاوزات الطبيعة الب�شرية و�إخفاقاتها؛‬
‫لأن هذا هو الطريق ملعاجلة الأمر‪.‬‬
‫و�ستتعرف على نف�سك �أكرث وب�صورة �أدق مع هذا النور الذي غمرك‪.‬‬
‫وكما تط ِّهر ال�شم�س اجلروح وتقتل جراثيمها‪.‬‬
‫ف�إن هذا النور املتدفق من الكوة ميكنه �أن يط ِّه َرك‪ ،‬ويقتل جراثيم‬
‫و�أدران روحك‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 151 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�أمر مهم بخ�صو�ص العقوبات الواردة يف ال�سورة‪ ،‬وهي عقوبات تخ�ص ‬


‫الزناة‪ ،‬وعقوبات �أخرى تخ�ص الذين َي ْر ُمون «الن�ساء» ويتهمونهنَّ يف‬
‫�أعرا�ضهن‪.‬‬
‫عقوبة الزنا ‪ 100‬جلدة لل�شريكني‪.‬‬
‫وعقوبة االتهام دون �شهود ‪ 80‬جلدة‪.‬‬
‫�أي �إن عقوبة «حلديث عن الأمر واتهام �شخ�صني بزنا؛ تعادل ‪ %80‬من‬
‫عقوبة فعل الزنا نف�سه‪.‬‬
‫لكن هذا لي�س كل �شيء‪.‬‬
‫لأن عقوبة «الزنا» لن تتحقق �إال بوجود �أربعة �شهود �شاهدوا الواقعة‬
‫�شاهدا ً‬
‫رجل وامر�أة يختليان يف‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ولي�س مثل �أنْ‬ ‫ً‬
‫تف�صيل‬ ‫فعل ًّيا‪� ،‬شاهدوها‬
‫مكان ما‪ ،‬ال‪� ،‬إن قال هذا �شي ًئا عن زنا وهو مل ي�شاهد �سوى �أنهما دخال �إىل‬
‫مكان مغلق‪ ،‬فهذا ُي ْج َلد‪.‬‬
‫عمل ًّيا‪ ،‬هذا يجعل حتقق العقوبة �صع ًبا ج ًّدا؛ �إذ هذا يعني �أن الواقعة‬
‫حدثت بتفا�صيلها الكاملة على نحو علني فاح�ش‪ ،‬وهو �أمر غري منت�شر‪� ،‬أو‬
‫�أن الطرفني اعرتفا لأي �سبب كان‪.‬‬
‫وهذا كله يجعل هذه العقوبات رادعة من طرفني‪.‬‬
‫رادعة لل�شريكني‪ ،‬ورادعة �أكرث ملن يخو�ض يف الأمر ويتحدث عنه‪ ،‬ملاذا‬
‫�أكرث؟ لأن الواقعة حتتاج �إىل �شهود �شاهدوا الأمر بالتف�صيل وهو �صعب‪،‬‬
‫�أما عقوبة اخلائ�ضني يف الأعرا�ض فهي ال حتتاج �إىل هذا التعقيد‪ ،‬اتهمت‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫سورة النور‬

‫فالن وفالنة‪ ،‬هات �أربعة �شهود على ما تقول؛ �شاهدوا كل �شيء‪� ،‬أو تعا َقب‬
‫‪ 80‬باملائة من عقوبة الفعل نف�سه‪ ،‬وال ُت ْق َبل �شهادتك بعدها‪.‬‬
‫الأمر باخت�صار هو تعامل واقعي مع الطبيعة الب�شرية‪ ،‬الأخطاء حتدث‪،‬‬
‫لكن ال�سرت �أَ ْو َل‪� ،‬إن مل يكن هناك �شهود واعرتاف‪ ،‬فالأمر �سيبقى �أخرو ًّيا‪،‬‬
‫ورمبا هناك توبة ومغفرة وعفو قبلها‪.‬‬
‫والأخطاء حتدث‪ ،‬لكن احلديث عنها يزيدها وي�شيع الفاح�شة؛ لذا‬
‫فعقوبة من يتحدث عن الأمر م�شددة ج ًّدا وتقارب ‪ -‬من ناحية ال�شدة‬
‫‪-‬عقوبة الفعل نف�سه‪.‬‬
‫***‬
‫ُّ ْ َ‬ ‫َّ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ َ‬ ‫َّ َّ َ ُ ُّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ‬
‫ادلنيا‬ ‫ِين آمنوا له ْم عذاب أ ِل ٌم ِف‬‫ِين يِبون أن ت ِشيع الفاحِشة ِف ال‬ ‫}إِن ال‬
‫َ ْ َ ُ ََ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫َوالخ َِرة ِ َواهلل يعلم وأنتم ل تعلمون{ (انلور‪.)19 :‬‬
‫ه�ؤالء ال ي�شرتط �أن يكونوا مروجي الدعارة �أو فاعلي الفاح�شة‪.‬‬
‫هناك بع�ض النف�سيات التي تنوح وتبكي على الف�ضيلة طيلة الوقت‪،‬‬
‫لكنها يف الوقت نف�سه تتحدث عن �أن «الكل الآن �ساقط»‪« ،‬الكل يفعلها»‪،‬‬
‫«العامل مي�شي هكذا»‪.‬‬
‫ه�ؤالء يريدون �ضم ًنا �أن يقولوا‪ :‬مل يبق هناك �شرفاء �إال نحن‪.‬‬
‫ه�ؤالء � ً‬
‫أي�ضا يحبون �أن ت�شيع الفاح�شة‪.‬‬
‫***‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ُْ‬
‫الر ُس َول{‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫ِيعوا َّ‬ ‫ُ‬
‫وهناك � ً‬
‫أي�ضا‪} :‬قل أطِيعوا اهلل وأط‬

‫وهذا � ً‬
‫أي�ضا من النور على نور على نور‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 153 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ومقابل النور‪ ،‬هناك يف اجلهة الأخرى �سراب وظلمات‪.‬‬


‫َ َ ْ َ ُ ُ َّ ْ ُ َ ً َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫اءهُ ل ْم‬ ‫اب ب ِ ِقيع ٍة يسبه الظمآن ماء حت إِذا ج‬ ‫ك َف ُروا أ ْع َمال ُ ُه ْم َك َ َ‬
‫س‬ ‫}والِين‬
‫ٍ‬
‫َْ َ ُ َُ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َ ًْ َ َ‬
‫ات ِف‬ ‫اب (‪ )39‬أو كظلم ٍ‬ ‫سيع ال ِس ِ‬ ‫يده شيئا ووجد اهلل عِنده فوفاه حِسابه واهلل ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ ِّ ٍّ َ ْ َ ُ َ ْ ٌ ْ َ ْ َ ْ ٌ ْ َ ْ َ َ ٌ ُ ُ َ ٌ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ‬
‫ب ٍر لج يغشاه موج مِن فوق ِ ِه موج مِن فوق ِ ِه سحاب ظلمات بعضها فوق بع ٍض إِذا‬
‫َُ ُ ً َ َ َُ ْ ُ‬ ‫َ ْ َ َ ََ ُ َْ َ َ ْ ََ َ َ َ ْ َْ ََْ‬
‫ور{ (انلور ‪.)40 :39‬‬ ‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ف‬ ‫ا‬‫ور‬‫ن‬ ‫ل‬ ‫اهلل‬ ‫ل‬
‫أخرج يده لم يكد يراها ومن لم ي ِ‬
‫ع‬

‫***‬
‫�سورة النور‪.‬‬
‫الآن‪� ،‬أنت ترى �أف�ضل‪.‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫الفرقان ‪25‬‬
‫أهمية َّأل تكترث ً‬
‫كثيرا لما يقال‬

‫كل منا ميلك حلظات �صعبة مرت عليه يف حياته‪.‬‬


‫حلظات كانت تبدو فيها الأمور �أ�صعب من االحتمال‪ ،‬لي�س ب�سبب �صعوبة‬
‫املهمة امللقاة على عاتقنا وال ب�سبب طبيعة الظروف املحيطة بها فح�سب‪.‬‬
‫بل بب�ساطة لأن كالم النا�س قد يزيد كل الأمور �صعوبة‪ ،‬جتد نف�سك‬
‫فج�أ ًة فري�سة التهاماتهم و�سخريتهم و�سوء ظنونهم و�أحيا ًنا كثرية‬
‫افرتاءاتهم وكذبهم‪ ،‬ويكون ما يف داخلك خمتل ًفا ج ًّدا عما يقولون وعما‬
‫يفرتون‪ ،‬وت�صبح هذه اجلبهة فج�أة �أ�صعب و�أكرث م�شقة من جبهة العمل‬
‫الأ�صلي الذي كنت قد بد�أته‪.‬‬
‫ميكنك �أن تقول‪ :‬وملاذا كالم النا�س مهم؟ دعهم وكالمهم‪ ،‬املهم �أن‬
‫تفعل ما �أنت م�ؤمن به‪.‬‬
‫�صحيح‪ ،‬لكنك ال تولد مع هذه القدرة‪ ،‬ال نولد «بجلد التم�ساح» للأ�سف‪،‬‬
‫بل نتطور بهذا االجتاه مع الوقت‪ ،‬عرب التجارب واملواجهات ال�صعبة‪ ،‬جتد‬
‫نف�سك �شي ًئا ف�شي ًئا �أقل اكرتا ًثا مبا يقال‪ ،‬وتنتبه لنف�سك فج�أة ذات يوم‬
‫و�إذا بجلدك قد َف َق َد ح�سا�سيته‪.‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يختلف الأمر من �شخ�ص لآخر بح�سب درجة ح�سا�سيته‪ ،‬البع�ض ال ‬


‫ي�ستغرق معهم التحول مدة طويلة‪ ،‬والبع�ض الآخر ال ي�صلون �إىل ذلك �أبدً ا‪.‬‬
‫لكن �أغلب النا�س ي�صلون �إىل التحول يف نقطة ما من جتاربهم‬
‫ومواجهاتهم‪.‬‬
‫قد يكون الأمر ب�سبب ر�أي خا�ص خمتلف تتبناه‪� ،‬أو ب�سبب م�شروع بد�أت‬
‫به وهو م�ضاد لكل ما عرفوا من م�شاريع‪ ،‬قد يكون ب�سبب خيار �شخ�صي يف‬
‫حياتك‪ ،‬رمبا يكون ل�شيء ال َد ْخ َل لك به‪ ،‬حجم �أنفك �أو لون ب�شرتك‪ ،‬رمبا‬
‫ب�سبب وزنك �أو طريقتك يف الكالم‪.‬‬
‫رمبا بال �سبب على الإطالق غري ح�سا�سيتك نف�سها‪.‬‬
‫دوما �أن يجد فري�سة يت�سلى بها‪ ،‬يختارها‬ ‫البع�ض من النا�س يحاول ً‬
‫الأ�ضعف والأكرث ح�سا�سية لكي يق�ضي بها وقتًا‪� ،‬أو يع ِّو�ض عربها �إحباطاته‬
‫وتعر�ضه نف�سه لأن يكون �صيدً ا وفري�سة يف وقت �سابق‪ ،‬دورة ال تنتهي �أبدً ا‪،‬‬
‫قد نكون نحن �أحيا ًنا قد قمنا بهذا ال�شيء؛ ً‬
‫تعوي�ضا لإحباط ما‪� ،‬أو م�سايرة‬
‫ً‬
‫ا�ستعرا�ضا لع�ضالت �سخريتنا‪.‬‬ ‫ملن حولنا‪� ،‬أو‬
‫�أمر �شائع ج ًّدا‪.‬‬
‫لكن �شيوعه ال يقلل من �صعوبته‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة الفرقان تقب�ض عليك يف حلظاتك ال�صعبة تلك وتقول لك‪ :‬ح ًّقا‪،‬‬
‫من تظن نف�سك يا �صاح؟ لقد تع َّر َ�ض َمنْ هو �أف�ضل منك بكثري �إىل ما هو‬
‫�أ�سو�أ من هذا بكثري‪ ،‬ف ِل َم تعتقد �أنك ا�ستثناء؟‬
‫‪- 156 -‬‬
‫سورة الفرقان‬

‫ت�أخذنا ال�سورة �إىل داخل نف�سه الكرمية ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪،-‬‬
‫�إىل موا�ضع تلك الطعنات التي حاول كفار مكة �أن يجرحوه من خاللها‪،‬‬
‫ت�أخذنا ال�سورة �إىل حزنه النبيل ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ ،-‬ثم تقول‬
‫لنا بني ال�سطور‪ :‬متا�سك وجت َّلد �إذن‪ ،‬هذا هو الرجل الذي بلغ الكمال‬
‫الإن�ساين‪ ،‬ورغم ذلك فقد تع َّر�ض لأ�سو�أ مما تعر�ضت له‪.‬‬
‫تخط الأمر‪ ،‬وحا ِو ْل � َّأل تكرتث ملا يقولون‪.‬‬
‫ُك َّف عن التذمر والبكاء‪َّ ،‬‬
‫***‬
‫�سورة الفرقان فيها �شيء من احلزن النبيل الراقي الذي كان ي�شعر‬
‫به ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬يف املرحلة التي نزلت فيها ال�سورة‪ ،‬نحن يف‬
‫منت�صف املرحلة املكية تقري ًبا‪ ،‬بعد هجرة احلب�شة وقبل الإ�سراء‪.‬‬
‫وكفار مكة ال يزالون على عنادهم‪ ،‬ال يزالون يتهمونه ب�شتى االتهامات‬
‫ويتعر�ضون له بال�سخرية واالنتقا�ص‪.‬‬
‫َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ٌ َ ُ َ‬
‫ون َف َق ْد َج ُ‬
‫اءوا‬ ‫}وقال الِين كفروا إِن هذا إِل إِفك افتاه وأعنه علي ِه قوم آخر‬
‫َ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َ ً‬ ‫ُظلْ ًما َو ُز ً‬
‫ورا ‪ ‬وقالوا أساطِري الول ِني اكتتبها ف ِه تمل علي ِه بكرة وأ ِصيل{‬
‫(الفرقان ‪.)5 :4‬‬
‫كل ال�صدق الذي يحمله يف قلبه‪ ،‬كل الثقل الكبري الذي كان ينوء به منذ‬
‫�أن تنزَّل عليه الوحي‪ ،‬كان ه�ؤالء يقابلونه ب�أنه جمرد كذبة‪ ،‬متثيلية‪� ،‬ساهم‬
‫فيها هو مع �آخرين من �أتباعه �أو ممن مل يظهروا بو�ضوح‪.‬‬
‫مقابل كل اجلدية التي كان عليه ال�صالة وال�سالم يتعامل بها مع الأمر‪،‬‬
‫كان ه�ؤالء يرفعون �أكتافهم �ساخرين مت�سائلني عن �أهمية ما جاء به حممد‪.،‬‬
‫‪- 157 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كل �شيء مما يقوله موجود يف �أخبار الأولني‪ ،‬مل ي�أت بجديد‪ ،‬حممد يجمع‬
‫ما ُك ِت َب من قبل‪ ،‬وي�ساعده يف ذلك َمنْ له علم مبا يف �أخبار الآخرين‪.‬‬
‫إقناعا‪ ،‬فقد حددوا‬
‫ولأن وجود التفا�صيل يف �أي كذبة يجعلها �أكرث � ً‬
‫ُ ْ َ ً ََ ً‬
‫الوقت الذي حتدث فيه عملية �إمالء الأ�ساطري هذه؛ }بكرة وأ ِصيل{‪.‬‬
‫ْ َْ َ َ َ ُْ َ َ َ َ ٌ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ‬
‫اق ل ْول أن ِزل إ ِ ْل ِه ملك‬
‫ول يأكل الطعام ويم ِش ِف السو ِ‬ ‫}وقالوا م ِ‬
‫ال هذا الرس ِ‬
‫ََ ُ َ‬
‫ون َم َع ُه نَذ ً‬
‫ِيرا{ (الفرقان‪.)7 :‬‬ ‫فيك‬

‫كانوا يعيبون عليه ب�شريته‪ ،‬يعيبون عليه �أنه يت�صرف كما يفعل النا�س‪،‬‬
‫وي�أكل كما ي�أكلون‪ ،‬ومي�شي يف �أ�سواقهم‪� ،‬أي ظلم �أن ت�شعر �أن من يرف�ضك‬
‫مثل؟ ماذا تقرتحون؟‬ ‫يتحجج بكونك �إن�سا ًنا لريف�ضك‪ ،‬ماذا �أفعل ً‬
‫متاما‪،‬‬
‫يقرتحون �أن يكون معه مالك‪� ،‬أو يدله ربه على كنز يغنيه عن العمل ً‬
‫�أو �أن يجعل له جنة بحيث ي�أكل منها متى ما �أراد‪ً ،‬‬
‫بدل من ال�سعي لرزقه‪.‬‬
‫لكنهم لي�سوا جادين يف �شيء مما يقولون‪َ ،‬منْ يع ِّلق �إميانه على طلبات‬
‫َ َ‬
‫كهذه �سيبقى يجد ما يطلبه‪ ،‬لن تنتهي طلباتهم واحتجاجاتهم‪َ } ،‬وقال‬
‫ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ‬ ‫ون إ َّل َر ُج ًل َم ْس ُح ً‬
‫َّ ُ َ ْ َ َّ ُ َ‬
‫ضبوا لك المثال فضلوا‬ ‫ورا ‪ ‬نظر كيف‬ ‫الظال ِمون إِن تتبِع ِ‬
‫ََ َْ َ ُ َ َ ً‬
‫فل يست ِطيعون سبِيل{ (الفرقان ‪.)9 :8‬‬

‫�سري ًعا يجدون تف�س ًريا �آخر؛ «ال�سحر»‪ ،‬لقد �سحركم حممد فاتبعتموه‪.‬‬
‫َّ َ َ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ‬
‫اءنا ل ْول أن ِزل علينا الملئ ِكة أ ْو ن َرى َربنا لق ِد‬ ‫}وقال الِين ل يرجون ل ِق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْاس َتك َ ُبوا ِف أ ْن ُف ِس ِه ْم َو َع َت ْوا ُع ُت ًّوا كبِ ًريا{ (الفرقان‪.)21 :‬‬
‫ولو �أُ ْن ِز َل عليهم مالئكة؛ �سيقولون‪ :‬هذا ِ�س ْح ٌر َ�س َح َر �أب�صارنا‪ ،‬ولو �أنهم‬
‫ر�أوه ‪ً -‬‬
‫جدل ‪ -‬لقالوا‪� :‬أ َر ٌّب ُي َرى؟‬

‫‪- 158 -‬‬


‫سورة الفرقان‬

‫لن ينتهي الأمر‪ ،‬لقد ا�ستكربوا يف �أنف�سهم‪ ،‬الأنا يف دواخلهم َّ‬


‫ت�ضخمت‬
‫على نحو ال ُي ْر َجى �شفا�ؤه‪ ،‬كل من تت�ضخم �أناه يجد �صعوبة يف تق ُّبل وجود‬
‫َمنْ هو �أف�ضل منه‪ ،‬واتباع الر�سول يت�ضمن ذلك حت ًما‪� ،‬أناهم ا�ستكربت‬
‫وت�ضخمت لدرجة �أنها و�صلت لتكون �إل ًها �شخ�ص ًّيا لكل منهم‪».‬‬
‫ً‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ ْ‬
‫}أ َرأيت م ِن اتذ إِلهه ه َواهُ أفأنت تكون علي ِه َوك ِيل{ (الفرقان‪.)43:‬‬

‫و�صل الأمر لهذا احلد‪� ،‬إلهه هواه‪.‬‬


‫َ ً َ َ َ َ ِّ َ‬ ‫َْ َ ُ َ َ َْ ُْ ُ ُْ َ ً‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫ِين كف ُروا لول ن ِّزل علي ِه الق ْرآن جلة َواحِدة كذل ِك ِلُثبت ب ِ ِه‬ ‫}وقال ال‬
‫ُ َ َ َ َ َ َّ ْ َ ُ َ ْ ً‬
‫فؤادك ورتلناه ترتِيل{ (الفرقان‪.)32 :‬‬

‫لقالوا‪ :‬ل ُ �أ ْن ِز َل جملة واحدة؟ �أما‬


‫َِ‬ ‫ولو �أن القر�آن �أُ ْن ِز َل عليه جملة واحدة‬
‫كان من الأف�ضل �أن يتنزل مف َّر ًقا؟ �سيجادلون يف �أي �شيء وعك�سه‪� ،‬إلهه‬
‫هواه‪.‬‬
‫لكن حتقيق طلباتهم لي�س هد ًفا ب�أي حال من الأحوال‪ ،‬وهذا القر�آن‬
‫يتنزل عليك يف �أطوارك املتعددة؛ ليثبتك يف كل طور ويقودك �إىل ما بعده‪.‬‬
‫ُ ً‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫}إِذا َرأ ْوك إِن يتخِذونك إِل ه ُز ًوا أهذا الِي بعث اهلل َرسول{ (الفرقان‪.)41 :‬‬
‫يقولونها منتق�صني‪� ،‬أهذا الذي َب َعثَ اهلل ً‬
‫ر�سول؟ �أمل يجد َمنْ هو �أف�ضل‬
‫منه؟! ما باله هذا بال�ضبط؟ ما هي املوا�صفات التي كنتم �ستقبلون بها؟‬
‫ال �شيء بالت�أكيد‪ ،‬مهما كانت املوا�صفات �سيتعاملون بنف�س الطريقة‪� :‬أهذا‬
‫الذي بعث اهلل ً‬
‫ر�سول؟! الأنا يف دواخلهم جتعلهم غري قادرين على تق ُّبل � ٍّأي‬
‫كان يف مو�ضع �أعلى منهم‪.‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫القر�آن يجعل عليه ال�صالة وال�سالم يرى نهاية ه�ؤالء‪ ،‬النهاية الأخرية‬
‫ج ًّدا؛ الندم‪ ،‬الع�ض على الأ�صابع من الندم‪ ،‬واالتهامات بينهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ َ ْ َ َ َ ُّ َّ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ َّ ُ‬
‫ول سبِيل ‪ ‬يا‬ ‫}ويوم يعض الظال ِم ع يدي ِه يقول يا لت ِن اتذت مع الر ِ‬
‫س‬
‫َ َ‬ ‫اذل ْكر َب ْع َد إذ َج َ‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ُ َ ً َ ً‬
‫اء ِن َوكن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫أ‬ ‫د‬‫ق‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ِيل‬ ‫ويلت لت ِن لم أتِذ فلنا خل‬
‫َ ُ ً‬ ‫َّ ْ َ ُ ْ ْ َ‬
‫ان خذول{ (الفرقان ‪.)29 :27‬‬ ‫الشيطان ل ِِلنس ِ‬
‫ولكن القر�آن � ً‬
‫أي�ضا ُي ْت ِبع هذا امل�شهد مب�شهد الر�سول وهو يبث حزنه �إىل‬
‫ربه‪.‬‬
‫َّ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ‬
‫آن َم ْه ُج ً‬ ‫َ َ َ َّ ُ ُ َ ِّ َّ َ‬
‫ورا{ (الفرقان‪.)30 :‬‬ ‫الرسول يا َرب إِن ق ْو ِم اتذوا هذا القر‬ ‫}وقال‬

‫�شكواه مل تكن عن تلك الطعنات �أو الكلمات اجلارحة‪ ،‬بل عن عدم‬


‫�سماعهم للقر�آن‪ ،‬مل تكن �شكواه �شخ�صية‪ ،‬رغم كل «�شخ�صنتهم»‪ ،‬لكنه‬
‫كان ي�شكو من �أجل ر�سالته‪ ،‬من �أجل ق�ضيته‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ ُّ‬
‫ام بل ه ْم أضل‬
‫}أم تسب أن أكثهم يسمعون أو يع ِقلون إِن هم إِل كلنع ِ‬
‫َ ً‬
‫سبِيل{ (الفرقان‪.)44 :‬‬

‫هذا هو احلل الذي يجعلك تتجاوز كل ما يقال‪ ،‬هم حال ًّيا ‪ -‬وبعد كل ما‬
‫بذلته من جهد معهم ‪ -‬كالأنعام‪ ،‬بل هم �أ�ضل ً‬
‫�سبيل‪ ،‬ال ي�سمعون ما تقول‬
‫وال يعقلونه؛ لذا جتاوزهم‪ ،‬ال تكرتث � ً‬
‫أ�صل ملا يقولون‪.‬‬
‫***‬
‫يوجه لنا يدل على �أننا على �صواب‪ ،‬ولي�س ‬
‫ال يعني هذا �أن كل انتقاد َّ‬
‫�صحيحا باملطلق �أن «الأ�شجار املثمرة وحدها هي التي ُت ْر َمى باحلجارة»‬
‫ً‬
‫متاما‪.،‬‬
‫يوجه من انتقادات تكون �صحيحة ً‬ ‫كما ير ِّوج البع�ض‪ ،‬بع�ض ما َّ‬
‫‪- 160 -‬‬
‫سورة الفرقان‬

‫ويكون ما نفعله هو اخلط�أ‪ ،‬لي�س االنتقاد ً‬


‫دليل للخط�أ وال لل�صواب‪ ،‬وال ‬
‫متاما‪.‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬هذا �أمر خمتلف ً‬ ‫الت�صفيق ً‬
‫دليل على � ٍّأي منهما � ً‬
‫لكنك رمبا كنت تعلم جيدً ا يف قرارة نف�سك‪� ،‬إن كنت على �صواب �أو‬
‫خط�أ‪.‬‬
‫وتعلم � ً‬
‫أي�ضا � َّأي االنتقادات كانت يف جوهر املو�ضوع‪ ،‬و�أ ًّيا منها كان‬
‫لدوافع �أخرى‪ ،‬مثل تلك التي مرت يف ال�سورة‪.‬‬
‫***‬
‫واحدة من �أجمل و�أرق الآيات يف و�صف امل�ؤمنني جاءت يف �سورة‬
‫الفرقان‪.‬‬
‫َ ْ ً َ َ َ َ َ ُ ُ َْ ُ َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ َّ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ‬
‫الاهِلون قالوا‬ ‫ِين يمشون ع ال ْر ِض هونا وإِذا خاطبهم‬ ‫}وعِباد الرح ِن ال‬
‫َ َ ً‬
‫سلما{ (الفرقان‪.)63 :‬‬

‫اللي‪.‬‬
‫الهي ِّ‬
‫تعامل الآية على �أنها ت�صف امل�ؤمن ِّ‬
‫لكنها رمبا ت�صفه � ً‬
‫أي�ضا بعد �أن و�صل لهذه املرحلة التي ال يكرتث فيها‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ملا يقال وما ُي ْط َعن به‪} ،‬قالوا َسل ًما{‪ ،‬ت�صاحلوا ً‬
‫متاما مع حقيقة �أن لي�س ‬
‫كل َمنْ يف الأر�ض �سي�ؤمن‪ ،‬و�أن �إر�ضاء اجلميع �أو �إقناع اجلميع مهمة‬
‫م�ستحيلة‪ ،‬وت�صاحلوا مع �أن بع�ض الب�شر م�صر على عدم الفهم‪ ،‬ت�صاحلوا‬
‫�سالما‪.‬‬
‫مع كل ذلك‪ ،‬فقالوا ً‬
‫***‬
‫يف درب مواجهاتنا و�صراعاتنا وحملنا لق�ضايانا‪ ،‬نكون �أمام عدة‬
‫مراحل يف التعامل مع الطعنات‪.‬‬
‫‪- 161 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫واحدة من هذه املراحل لها جاذبية �شديدة‪ ،‬وهي مرحلة «القنفذ»‪� ،‬أن‬
‫حتمي جلدك ب�أ�شواك القنفذ‪ ،‬لي�س من ال�سهل �أن يطعنك �أحد‪ ،‬فهو قد‬
‫أي�ضا ب�أ�شواكك‪ ،‬وهذا يوفر احلماية لك وحل�سا�سيتك‪ ،‬ولكنه � ً‬
‫أي�ضا‬ ‫ي�صاب � ً‬
‫يجعلك «مكو ًرا» على نف�سك على نحو مغلق وغري متفاعل مع ما حولك‪.‬‬
‫مرحلة «جلد التم�ساح» �أف�ضل و�أجدى و�أوعى بكثري‪.‬‬
‫حمظوظون هم �أولئك الذين ميلكون الوعي الكايف والإرادة الالزمة‬
‫للو�صول لها‪.‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫سورة الشعراء ‪26‬‬
‫ال َت ُل ْم نفسك ً‬
‫كثيرا‬

‫الأ�شخا�ص مرهفو احل�س ال�صادقون‪ ،‬مييلون �أحيا ًنا �إىل لوم �أنف�سهم‪،‬‬
‫عندما ال ت�سري الأمور معهم كما ينبغي لها �أن ت�سري‪.‬‬
‫يفكرون‪ :‬لعل اخلط�أ كان منهم‪ ،‬لعل �أ�سلوبهم هو ال�سبب ‪ ...‬لعلها النية!‬
‫مييلون بطبعهم احل�سا�س �إىل حت ُّمل امل�س�ؤولية عن عدم الو�صول �إىل‬
‫النتيجة املرجوة‪ ،‬حتى لو كانوا قد بذلوا كل ما ي�ستطيعون‪.‬‬
‫لكنهم يف غمرة �صدقهم مع �أنف�سهم‪ ،‬ال يجدون تف�س ًريا �آخر‪ ،‬ال بد �أننا‬
‫م�س�ؤولون عن هذا‪.‬‬
‫***‬
‫مر عليه ال�صالة وال�سالم ب�شيء مقارب يف املرحلة املكية‪.‬‬
‫كان غالبية قومه ال يزالون على موقفهم الراف�ض للإميان‪.‬‬
‫وكان عدد امل�ؤمنني قد وقف عند حد معني‪ ،‬كل من يريد �أن ي�ؤمن �آمن‬
‫بعد �إ�سالم عمر‪ ،‬وو�صلت الأمور بعدها �إىل حالة �ساكنة‪ ،‬ال جديد‪.‬‬
‫وكان عليه ال�صالة وال�سالم ي�ؤمله ذلك ج ًّدا‪ ،‬ي�ؤمله �أن يرى �أقاربه و�أقرانه‬
‫وع�شريته و�أهل مدينته وهم ي�صرون على الذهاب �إىل النار‪.‬‬
‫‪- 163 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كلمة «ي�ؤمله» ال تعرب بال�ضبط عما كان يعتمل يف �صدره ال�شريف ‪-‬عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم ‪.-‬‬
‫كان الأمر �أكرب و�أ�شد بكثري‪.‬‬
‫َ َ َّ َ َ ٌ‬
‫}لعلك باخِع‬ ‫كان الأمر يكاد «يهلكه» حرف ًّيا‪ ،‬هكذا خاطبه القر�آن‪،‬‬
‫َ ْ َ َ َ َّ َ ُ‬
‫كونُوا ُم ْؤمن َ‬
‫ني{ (الشعراء‪.)3 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫نفسك أل ي‬

‫وباخع تعني ُم ْهلك نف�سه‪� ،‬أو قاتلها من الغم‪.‬‬


‫كان الر�سول ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬يف هذه املرحلة قد و�صل �إىل‬
‫هذه الدرجة‪.‬‬
‫ُ‬
‫�صدق ال�صادقني م� ٍؤذ ج ًّدا‪ ،‬فكيف بال�صادق الأمني؟!‬
‫لكن الوحي الكرمي تنزَّل على قلبه؛ ليخفف عنه‪.‬‬
‫�سورة ال�شعراء‪.‬‬
‫فلننتبه هنا �إىل �أن خماطبة الوحي للر�سول ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪-‬‬
‫بكونه «باخع نف�سه» قد جاءت مرتني‪ :‬مرة يف �سورة الكهف‪ ،‬والأخرى هنا‬
‫يف ال�شعراء‪.‬‬
‫لكن ترتيب نزول �سورة ال�شعراء كان �ساب ًقا لنزول �سورة الكهف‪ ،‬حتى‬
‫و�إن كان الرتتيب يف امل�صحف اليوم خمتل ًفا‪ ،‬وهذا يعني �أن �سورة ال�شعراء‬
‫هي تعاملت � ًأول مع و�ضعه ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬يف هذا الأمل من عدم‬
‫�إميان قومه‪.‬‬
‫فماذا فعلت �سورة ال�شعراء؟‬

‫‪- 164 -‬‬


‫سورة الشعراء‬

‫�أخذته � ًأول �إىل ق�صة �سيدنا مو�سى ‪ -‬عليه ال�سالم ‪.-‬‬


‫َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ُّ َ ُ َ َ ْ ْ َ ْ َ َّ‬
‫ني ‪ ‬ق ْوم ف ِْرع ْون أل يتقون‪‬قال‬ ‫الظالِم َ‬
‫ِ‬ ‫ت القوم‬ ‫}وإِذ نادى ربك موس أ ِن ائ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ ُ َ‬ ‫َ ُ َ ْ‬ ‫َ ِّ ِّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ِّ ُ‬
‫ون ‪َ ‬وي ِضيق صد ِري َول ينطلِق ل ِس ِان فأ ْر ِسل إِل‬ ‫رب إِن أخاف أن يكذب ِ‬
‫َ َُ ْ ََ َْ ٌ ََ َ ُ ْ َْ ُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ون{(ال�شعراء‪.)14 :10 :‬‬ ‫ع ذنب فأخاف أن يقتل ِ‬ ‫ون‪ ‬ولهم َّ‬ ‫هار‬

‫مو�سى كان معه ر�سول �آخر؛ هو هارون‪ ،‬وكان م�ؤيدً ا باملعجزة يف يده‪،‬‬
‫وحتقق انت�صاره مبعجزته على ر�ؤو�س الأ�شهاد‪.‬‬
‫لكن كل هذا مل يغري من موقف َمنْ كان م�ص ًّرا على الكفر‪.‬‬
‫ال �شيء �أكرث ميكن �أن ُي ْف َع َل معهم‪ ،‬لقد فعل مو�سى كل �شيء‪ ،‬ومع ذلك‬
‫مل ي�ؤمن فرعون و�آله‪.‬‬
‫�إذن الأمر ال يتعلق مبا يفعله ر�سول ما وما ال يفعله‪ ،‬كلهم فعلوا الأق�صى‬
‫حت ًما‪ ،‬لكن ق�ضية الإميان � ْأع َق ُد بكثري‪.‬‬
‫فال حت ِّم ْل نف�سك �أكرث مما حتمله بالأ�سا�س‪.‬‬
‫***‬
‫ثم تنقله ال�سورة �إىل �سيدنا �إبراهيم ‪ -‬عليه ال�سالم ‪.-‬‬
‫َ ُ َُُْ‬ ‫َ َُُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫} َواتْ ُل َعلَ ْيه ْم َن َبأَ إبْ َراه َ‬
‫ِيم ‪ ‬إِذ قال ِلبِي ِه َوق ْو ِم ِه ما تعبدون ‪ ‬قالوا نعبد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َْ‬ ‫َ َ َْ َْ َ ُ َ ُ ْ ْ َْ ُ َ‬ ‫اما َف َن َظ ُّل ل َ َها َعكف َ‬ ‫َ ْ َ ً‬
‫ني ‪ ‬قال هل يسمعونكم إِذ تدعون ‪ ‬أو ينفعونكم أو‬ ‫ِِ‬ ‫أصن‬
‫َ ُ َْ َ َ ْ َ َ ََ َ َ َ َْ َ ُ َ‬ ‫َ ُ ُّ َ‬
‫اءنا كذل ِك يفعلون{ (الشعراء ‪.)74 :69 :‬‬ ‫ضون ‪ ‬قالوا بل وجدنا آب‬ ‫ي‬

‫هذه املرة املواجهة لي�ست مع اال�ستبداد ال�صارخ كما حدث يف ق�صة‬


‫�سيدنا مو�سى‪ ،‬بل مع م�ؤ�س�سة ا�ستبداد من نوع �آخر‪ ،‬ا�ستبداد ناعم‪ :‬العائلة‪.‬‬
‫‪- 165 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫والأبوة‪ ،‬جند حوار �إبراهيم مع �أبيه وقومه حوا ًرا هاد ًئا يف منتهى الرقي‬
‫والرقة‪.‬‬
‫لكن مل ي�ؤمنوا � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫تعددت �أ�ساليب الر�سل مع �أقوامهم‪.‬‬
‫لكن الإميان والكفر � ْأع َق ُد بكثري من ذلك‪.‬‬
‫تلك الكلمات التي قالها �إبراهيم تبدو كما لو كانت تر ِّبت على قلب‬
‫حممد‪ ،‬وعلى قلب كل مكلوم من بعده‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ََ ََُ َْ‬ ‫َّ‬
‫ِين ‪َ ‬والِي ه َو‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ف‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ق‬‫ل‬‫خ‬ ‫ِي‬ ‫ال‬ ‫كان يتحدث عن رب العاملني‪} ،‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ َّ ُ ُ ُ َّ ُْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ََُ َْ‬ ‫ُْ ُ ََْ‬
‫ني ‪‬والِي‬ ‫ني ‪ ‬والِي ي ِميت ِن ثم ييِ ِ‬ ‫ني ‪ ‬وإِذا م ِرضت فهو يش ِف ِ‬ ‫يط ِعم ِن ويس ِق ِ‬
‫ين{ (الشعراء ‪.)82 :78‬‬ ‫َأ ْط َم ُع َأ ْن َي ْغف َر ل َخطيئَت يَ ْو َم ِّ‬
‫ادل‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫***‬
‫ت�أخذنا ال�سورة الح ًقا �إىل ق�ص�ص �أنبياء �آخرين‪ :‬نوح‪ ،‬هود‪� ،‬صالح‪،‬‬
‫لوط‪� ،‬شعيب ‪ -‬عليهم ال�سالم �أجمعني ‪.-‬‬
‫منر عليهم واحدً ا واحدً ا‪ ،‬كل منهم يف ع�صر ومكان خمتلف‪ ،‬لكن‬
‫ال�سورة ت�أخذنا �إليهم وجتعلنا نرى املت�شابه يف ق�ص�صهم‪ ،‬كما لو �أنها تقول‬
‫لنا‪� :‬إنها كلها ق�صة واحدة تكررت عدة مرات بن�سخ متعددة عرب الأزمنة‬
‫والأماكن‪ ،‬تنبهنا �إىل وجود «منط» متكرر‪.‬‬
‫تنبهنا ال�سورة �إىل امل�شرتكات يف هذه الق�ص�ص‪ ،‬دعوة الأنبياء كانت‬
‫واحدة يف الدعوة �إىل اهلل ونبذ �سواه‪ ،‬لكن هناك كلمات مفتاحية تكررها‬
‫ال�سورة مع كل نبي منهم‪.‬‬
‫‪- 166 -‬‬
‫سورة الشعراء‬

‫يف �أربعة �أنبياء من اخلم�سة‪ ،‬ي�ستخدم القر�آن «�أخوهم» يف و�صف‬


‫عالقته بقومه وي�ستخدم نف�س احلوار‪.‬‬
‫َ َّ ُ‬
‫ِني ‪ ‬فاتقوا اهلل‬ ‫ول َأم ٌ‬ ‫ِّ َ ُ ْ َ ُ ٌ‬ ‫ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ ُ ٌ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫}إِذ قال له ْم أخوه ْم نوح أل تتقون ‪ ‬إِن لكم رس‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َُ ُ‬ ‫ََ ُ‬
‫ني{ (الشعراء‬ ‫ك ْم َعلَ ْي ِه م ِْن أ ْج ٍر إ ِ ْن أ ْج ِر َي إ ِ َّل َ َع َر ِّب الْ َعال َ ِم َ‬ ‫ون‪ ‬وما أسأل‬ ‫وأطِيع ِ‬
‫‪.)109 :106‬‬
‫ِّ َ ُ‬
‫تكرر الأمر مع هود‪� ،‬صالح‪ ،‬لوط‪ ،‬نف�س احلوار بال�ضبط‪} ،‬إِن لك ْم‬
‫َّ‬ ‫َ َ ْ َُ ُ َ َْ ْ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َ ُ ٌ َ ٌ‬
‫ون ‪َ ‬وما أسألك ْم علي ِه مِن أج ٍر إِن أج ِر َي إِل‬ ‫رسول أمِني ‪ ‬فاتقوا اهلل وأطِيع ِ‬
‫ني{ (الشعراء ‪.)109 :107‬‬ ‫ع َر ِّب الْ َعالَم َ‬
‫ََ‬
‫ِ‬
‫ْ َ َ َُ ُ َْ ََ‬
‫أي�ضا لكن دون كلمة «�أخوهم»‪} ،‬إِذ قال له ْم شعي ٌب أل‬ ‫وتكرر مع �شعيب � ً‬
‫َ ْ ُ ُ َ َْ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ َ ُ ْ َ ُ ٌ‬ ‫َ َّ ُ َ‬
‫ون ‪َ ‬وما أسألك ْم علي ِه‬ ‫ٌ‬
‫تتقون ‪ ‬إِن لكم رسول أمِني ‪ ‬فاتقوا اهلل وأطِيع ِ‬
‫ع َر ِّب الْ َعالَم َ‬ ‫ْ َ ْ ْ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫ني{ (الشعراء ‪)180 :177‬‬ ‫ِ‬ ‫مِن أج ٍر إِن أج ِري إِل‬

‫نف�س �أ�سا�سات احلوار عند كل ه�ؤالء‪ ،‬ثم يتفرق عند كل منهم ح�سب‬
‫جرمية قومه �أو م�شكلتهم الأ�سا�سية‪.‬‬
‫***‬
‫حت ِّلق �سورة ال�شعراء �إىل حيث ميكننا �أن نرى هذه الق�ص�ص من �أعلى‬
‫كما يراها الطائر‪ ،‬ومن �إطاللة الطائر تلك‪ ،‬نرى املح َكم وامل�شرتك يف تلك‬
‫الق�ص�ص‪ ،‬نفهم م�سارات الق�صة واجتاهاتها‪ ،‬نرى �أن ثمة منط متكرر‪.‬‬
‫هذا النمط ال يخ�ص وجود نبي يدعو قومه وتنتهي الق�صة بالعذاب‬
‫للقوم الكافرين فح�سب‪.‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن زاوية نظر الطائر من �أعلى �ستنبهنا �إىل ما هو �أ�شمل من هذا‬


‫التف�صيل‪� ،‬سيبقى هناك كفر و�إميان يف هذا العامل‪� ،‬س ُي َم ُّد هذا و ُي ْجزَ ُر‬
‫ذاك‪� ،‬سيتبادالن الأدوار �أحيا ًنا‪ ،‬لكن �سيبقيان يف هذا الوجود‪ ،‬مهما بذل‬
‫الأنبياء‪ ،‬مهما كانت هناك براهني‪� ،‬سيبقى هناك َمنْ لن ي�ؤمن‪ ،‬رمبا �أحيا ًنا‬
‫فعل بتق�صرينا �أو �إهمالنا �أو حتى �أخطائنا‪.‬‬ ‫نكون م�س�ؤولني عن ذلك ً‬
‫لكن ذلك لي�س بعد �أن نفعل كل ما بو�سعنا‪.‬‬
‫***‬
‫ال�سورة �أخذته عليه ال�صالة وال�سالم من �شعور الأمل ال�شديد على عدم‬
‫�إميان قومه �إىل ما هو �أبعد‪� ،‬إىل الق�ضية الأ�سا�سية يف الإميان‪.‬‬
‫تخف‪ْ ُ ،‬‬
‫قد تزَ ُر‪ ،‬قد‬ ‫ثمة �أمور �أ�سا�سية يف احلياة‪ ،‬ال تنتهي وال تزول‪ ،‬قد ُّ‬
‫يبدو �أن بع�ض الأمور الأخرى قد غلبتها‪ ،‬لكنها ما تلبث �أن تعود من جديد‪،‬‬
‫وتختفي تلك التي جاءت حملها‪ ،‬كما لو �أنها مل تكن‪.‬‬
‫الإميان باهلل من هذه الأمور التي �ستبقى موجودة‪ ،‬قد نتخ َّيل �أن الإحلاد‬
‫على و�شك االنت�صار ونحن نرى زيادة ن�سبته‪ ،‬لكننا نرى جز ًءا �صغ ًريا فقط‬
‫دوما‪ ،‬و�سيبقى هناك‬ ‫من امل�شهد الذي طاملا تكرر‪� ،‬سيبقى هناك �إميان ً‬
‫كفر‪ ،‬ي ُّد هذا و ُي ْجزَ ُر ذاك‪ ،‬ثم يتبادالن الأدوار‪ ،‬ويكون عليك �أن تختار‪.‬‬
‫َُ‬
‫***‬
‫للجديد زهوته وجاذبيته‪ ،‬والنا�س حتب �أن جتربه‪ ،‬لكنها ت�ستهلكه � ً‬
‫أي�ضا‬
‫ب�سرعة‪ ،‬وتبحث عن �شيء �آخر‪.‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫سورة الشعراء‬

‫النا�س قد حتب ما هو �صرعة‪ ،‬مو�ضة‪ ،‬وقد يتخيل امل�شاهد �أن هذه‬


‫ال�صرعة �شيء �سيبقى‪ ،‬و�ستتغلب وتظهر‪ ،‬لكن بعد فرتة‪ ،‬ال �أحد يذكرها‬
‫�أبدً ا‪.‬‬
‫هذه ال�صرعات ت�شبه ما كان يفعله ال�شعراء �آنذاك‪ ،‬يقدمون �شي ًئا برا ًقا‬
‫مبه ًرا‪ ،‬لكنهم ال يعنون �شي ًئا مما يقولون‪ ،‬يهيمون هنا وهناك دون هدف �أو‬
‫بو�صلة‪ ،‬يتك�سبون من مدح هذا �أو قدح ذاك‪ ،‬ينالون النجاح والرواج لبع�ض‬
‫الوقت‪ ،‬ثم ُي ْن َ�سى �أثرهم‪ ،‬كما لو �أنهم مل يكونوا‪.‬‬
‫َ َّ ُ َ ُ ُ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ ُ ْ ُ ِّ‬ ‫َ ُّ َ َ ُ َ َّ ُ ُ ُ ْ َ ُ َ‬
‫اوون ‪ ‬ألم ت َر أنهم ِف ك َوا ٍد ي ِهيمون ‪َ ‬وأنه ْم يقولون‬ ‫}والشعراء يتبِعهم الغ‬
‫َ َ َْ َُ َ‬
‫ما ل يفعلون{ (الشعراء ‪.)226 :224‬‬

‫***‬
‫فرق كبري بني �أمل �صاحب الق�ضية‪ ،‬الذي يعرف �أين ق�ضيته‪ ،‬وبني الذي‬
‫واد ويقول ما ال يفعل‪.‬‬
‫يهيم يف كل ٍ‬
‫مثل الفرق بني ما يبقى‪ ،‬ما �سيبقى موجودًا وبني ما �سيزول بعد �أن‬
‫ي�أخذ وقته ك�صرعة‪ ،‬ومثل الفرق بني ثكلى تبكي َمنْ َح َم َل ْت ُه وه ًنا على وهن‪،‬‬
‫وبني نائحة م�ست� َأج َرة تتخذ من البكاء مهن ًة‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫سورة النمل ‪27‬‬
‫ً‬
‫أقصر الطرق أطولها أحيانا‬

‫كث ًريا ما ن�ستعجل النتائج على نحو يجعلنا ال ن�صل لها �أبدً ا‪ ،‬نحاول‬
‫الو�صول ب�أق�صر الطرق و�أقلها تكلف ًة‪ ،‬وتكون النتيجة باهظة الثمن على‬
‫كل النواحي‪.‬‬
‫يكاد هذا النزق يكون طبيعة ب�شرية‪ ،‬يكاد يكون هو الأ�صل يف ال�سلوك‬
‫الب�شري‪.‬‬
‫لكن الب�شر يتعلمون من جتاربهم‪� ،‬أو هذا ما ُي ْف َتَ�ض �أن يحدث على‬
‫الأقل؛ لذا فقد مت تروي�ض هذه الطبيعة الب�شرية وتقليل خماطرها عند‬
‫البع�ض‪.‬‬
‫وال يزال كثريون يرتكون هذه الطبيعة الب�شرية حتتجزهم يف متاهة‬
‫دوما نف�س جتربة اال�ستعجال‬
‫من التجارب والأخطاء املكررة‪ ،‬يكررون ً‬
‫بحذافريها‪ ،‬على �أمل �أن ت�ضبط معهم هذه املرة‪.‬‬
‫وال ت�ضبط �أبدً ا‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة النمل تقول لنا �شي ًئا �ساط ًعا عن هذا كله‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫سورة النمل‬

‫تقدم لنا � ًأول نبي اهلل مو�سى ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬وهو ي�ستلم الوحي �أول‬
‫مرة‪.‬‬
‫ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ‬
‫ت نَ ً‬ ‫ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ‬ ‫َْ ََ َ َ ُ ُ َ‬
‫ارا‬ ‫ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس‬ ‫} َوهل أتاك حدِيث موس ‪ ‬إِذ رأى ن‬
‫ِّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ ُ‬ ‫ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً‬ ‫َ َ ِّ‬
‫ار هدى ‪ ‬فلما أتاها نود َِي يا موس ‪‬إِن‬ ‫ِ‬ ‫انل‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫و‬‫أ‬ ‫س‬‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ِيك‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫ل‬ ‫لع‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ََ‬
‫أنا َربك فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (انلمل ‪.)12 :9‬‬

‫كان مع �أهله يف ال�صحراء‪ ،‬جمرد رجل فقري ومطلوب للعدالة مع �أهله‪،‬‬


‫ي�سريون يف ال�صحراء على هام�ش الهام�ش‪ ،‬لو �أن ُق َّطا َع الطرق هاجموهم‬
‫وقتلوهم لرمبا مل ينتبه لفقدانهم �أحد‪ ،‬ورمبا ما تغري �شيء من حياة �أحد‪.‬‬
‫لكن ما حدث بعدها �أحدث تغيريات يف العامل كله‪.‬‬
‫ر�أى مو�سى نا ًرا‪ ،‬فذهب يطلب من �أ�صحابها خ ًربا عن الطريق �أو رمبا‬
‫ً‬
‫قليل من النار ي�ستخدمها لأهله‪.‬‬
‫عاد بخرب عن الطريق بالفعل‪ ،‬لكن لي�س �أي طريق‪ ،‬عاد بالوحي الذي‬
‫ي�ش ُّق الطريق ال�صواب للجميع‪.‬‬
‫وما حدث بعد ذلك‪� ،‬أ�صبح ً‬
‫تاريخا يعرفه اجلميع‪.‬‬
‫***‬
‫ْ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ً َ َ َ َْ ْ ُ‬
‫ري مِن‬‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫ك‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫ِي‬‫ال‬ ‫هلل‬ ‫د‬ ‫}ولقد آتينا داوود وسليمان عِلما وقال الم‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َّ ُ ُ ْ َ َ ْ َ َّ ْ‬ ‫ع َِباده ال ْ ُم ْؤمن َ‬
‫ي‬
‫ِ‬ ‫الط‬ ‫ق‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫اس‬ ‫انل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ق‬‫و‬ ‫ود‬ ‫او‬ ‫د‬ ‫ان‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ث‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شء إ َّن هذا له َو الفضل ال ُمب ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫ني{ (انلمل ‪.)16 :15‬‬ ‫ٍْ‬ ‫ك‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ا‬ ‫ِين‬ ‫ت‬ ‫و‬‫أ‬ ‫و‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تنتقل بنا ال�سورة بعدها من مو�سى �إىل �سليمان وداود ‪-‬عليهما ال�سالم‪.-‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سليمان لديه معارف كثرية من �ضمنها منطق الطري وحتى النمل‪،‬‬


‫وب�سبب ذلك فمملكته مزدهرة وقوية‪.‬‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ ْ َ ْ ْ ُ َّ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ ْ‬
‫جعون ‪ ‬قالت‬ ‫كت ِاب هذا فأل ِقه إِل ِهم ثم تول عنهم فانظر ماذا ير ِ‬ ‫}اذهب ب ِ ِ‬
‫َّ ْ َ‬ ‫َّ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ َ ُ ِّ ُ ْ َ َ َّ َ ٌ‬
‫اب َكر ٌ‬
‫الرح ِن‬ ‫يم ‪ ‬إِنه مِن سليمان َوإِنه ِمْسِب اهلل‬ ‫ِ‬ ‫يا أيها المل إِن أل ِق إِل ك ِت‬
‫ِيم{ (انلمل ‪.)30 :28‬‬ ‫َّ‬
‫الرح ِ‬

‫�سرناه وهو يخاطب ملكة �سب�أ ويعر�ض عليها الدخول يف دينه‪.‬‬


‫و�سرنى ما يحدث يف كوالي�س الق�صر عندها ونقا�شها مع حا�شيتها‪.‬‬
‫ثم ما ا�ستخدمه �سليمان من «العلم» لكي يبهرها بقوة وتقدم مملكته‪.‬‬
‫ثم �إ�سالمها‪.‬‬
‫***‬
‫ما العالقة بني امل�شهدين‪ :‬الأول والثاين؟‬
‫مثل كيف تغري موقف «امللك» من نف�س الدعوة �إىل‬ ‫ميكن �أن نالحظ ً‬
‫اهلل‪.‬‬
‫مو�سى وفرعون‪� ،‬سليمان وملكة �سب�أ‪.‬‬
‫فرعون مل يقتنع رغم كل ما قدمه مو�سى من براهني‪.‬‬
‫مع ملكة �سب�أ كان الأمر �أكرث ي�س ًرا بفارق كبري‪.‬‬
‫هل يتعلق الأمر بب�صرية ملكة �سب�أ ً‬
‫مثل مبا يبدو �أنه بعد عن االنفراد‬
‫بالر�أي بكل ما ميثل ذلك من �صفات؟‬

‫‪- 172 -‬‬


‫سورة النمل‬

‫�أم �أنه يتعلق � ً‬


‫أي�ضا بالفارق الكبري بني �أن ي�أتي مو�سى كفرد مهما كان‬
‫م�ؤ َّيدً ا مبعجزات‪ ،‬وبني �أن ي�أتي ر�سول �سليمان ً‬
‫ممثل لدولة قوية مزدهرة‬
‫ومتقدمة مبقايي�س ع�صرها؟‬
‫ميكن �أن تدلنا �آيات �سورة النمل نف�سها على بع�ض الفروق والروابط‪.‬‬
‫مع فرعون‪.‬‬
‫ُ ُ َ ُْ ََْ َ َ َ َُ‬ ‫ْ ََْ ََْ َْ ُ ُ ُ ُ ًْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫} َوجحدوا بِها َواستيقنتها أنفسه ْم ظلما َوعل ًّوا فانظ ْر كيف كن عق ِبة‬
‫ِين{ (انلمل‪)14 :‬‬ ‫ال ْ ُم ْفسد َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫} ُظل ًما َو ُعل ًّوا{ كانوا عالني‪ ،‬وا�ستعلوا �أكرث‪.‬‬
‫�أما يف ر�سالة �سليمان مللكة �سب�أ‪.‬‬
‫ع َو ْأتُون ُم ْسلم َ‬
‫ني{ (انلمل‪.)31 :‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫}أل تعلوا‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الآن الطرف امل�ؤمن �صار �أعلى‪ ،‬وهو يطلب من الطرف الآخر � َّأل يكون‬
‫�أعلى منه‪.‬‬
‫هل لعلو الطرف امل�ؤمن �أثر يف جتاوب ملكة �سب�أ معه؟‬
‫بال �شك‪.‬‬
‫***‬
‫لكن العالقة الأهم بني امل�شهدين بر�أيي تتعلق ب�شيء �آخر‪.‬‬
‫العالقة بني مو�سى تقري ًبا لوحده ومطلوب للعدالة وهو ي�ستلم الوحي‪،‬‬
‫وبني �سليمان وهو يوجه ر�سالة �إىل ملكة �سب�أ هو عامل الوقت‪.‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�أجيال كثرية ف�صلت بني بني �إ�سرائيل يف عهد مو�سى‪ ،‬وبينهم يف عهد‬
‫�سليمان‪� ،‬أجيال خا�ضت الكثري من التجارب وح�صلت على الكثري من‬
‫اخلربات �إىل �أن و�صلت �إىل املرحلة العليا يف عهد �سليمان‪.‬‬
‫�أخذت الثمرة وقتها‪ ،‬الكثري من ال�صراع مع النف�س و�سنوات يف التيه‬
‫وجتارب دفعت فيها ت�ضحيات كبرية‪.‬‬
‫لكن الثمرة يف النهاية �أثبتت �أنها ت�ستحق‪.‬‬
‫عدا الثمرة الأُخروية التي ت�ستحق �أكرث يف النهاية ج ًّدا‪.‬‬
‫***‬
‫ومقابل هذا النجاح الذي تط َّل َب وقتًا كب ًريا‪ ،‬ت�أخذنا �سورة النمل �إىل‬
‫الدمار العاجل الذي �أ�صاب قريتَي‪� :‬صالح ولوط‪.‬‬
‫َ َ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ ِّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫السن ِة ل ْول تستغ ِف ُرون اهلل لعلك ْم‬ ‫}قال يا قو ِم ل ِم تستع ِ‬
‫جلون بِالسيئ ِة قبل‬
‫ُ َُ َ‬
‫ت ْرحون{ (انلمل‪.)46 :‬‬

‫وكانت النتيجة �سريعة بعد تكذيبهم‪.‬‬


‫َ ْ َ ُ ُ ُ ُ َ َ ً َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ً َ َ ْ َ ُ َ‬
‫}فتِلك بيوته ْم خاوِية بِما ظلموا إِن ِف ذل ِك لية ل ِق ْومٍ يعلمون{ (انلمل‪.)52 :‬‬

‫وكذلك كان الأمر مع قوم لوط‪ ،‬تكذيب ودمار �سريع‪.‬‬


‫اء َم َط ُر ال ْ ُم ْن َذر َ‬ ‫َ‬
‫ين{ (انلمل‪.)58 :‬‬ ‫} َوأ ْم َط ْرنَا َعلَ ْيه ْم َم َط ًرا َف َس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫***‬
‫بينما تعر�ض �سورة النمل �أَ ْن ُع َم اهلل على عباده‪ ،‬ت�أتي �آية قد ت�ستوقفنا‪.‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫سورة النمل‬

‫اء ْالَ ْر ِض َأإ َلٌ‬


‫ك ْم ُخلَ َف َ‬
‫ُّ َ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫وء‬ ‫الس‬ ‫ف‬ ‫ييب المضطر إِذا دعه ويك ِش‬ ‫}أمن ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ً َ ََ‬ ‫ََ‬
‫مع اهلل قلِيل ما تذك ُرون{ (انلمل‪.)62 :‬‬

‫هذه الآية هي �ضمن �سياق احلديث عن �أَ ْن ُع ِم اهلل؛ خلق ال�سماوات‬


‫والأر�ض‪ ،‬نزول املاء و�إنبات ال�شجر‪ ،‬ا�ستقرار الأر�ض والأنهار �إلخ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ ُ ْ َ‬
‫الس َ‬
‫وء‬ ‫يب المضط َّر إِذا دعهُ َويك ِشف‬ ‫}أمن ِ‬
‫ي‬ ‫وفج�أة ت�أتي هذه الآية‪:‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ ُ ُ‬
‫ك ْم ُخل َف َاء ال ْر ِض{‪.‬‬ ‫و يعل‬

‫يف �آية واحدة انتقلنا من و�ضع «امل�ضطر» �إىل «خلفاء الأر�ض»‪.‬‬


‫لكن ال�سياق يخربنا �أن الأمر ي�ستغرق وقتًا ً‬
‫طويلـ‪ ،‬و�أن العالقة بني‬
‫االثنني كالعالقة بني قطرة املطر وعلو ال�شجر يف الآيات ال�سابقة‪.‬‬
‫َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ون َم َت َه َذا ال ْ َو ْع ُد إ ْن ُك ْن ُت ْم َصادق َ‬
‫ََُ ُ َ‬
‫ِني (‪ )71‬قل ع َس أن يكون َردِف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}ويقول‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ْ َْ ُ‬
‫جلون{ (انلمل ‪.)72 :71‬‬ ‫لكم بعض الِي تستع ِ‬
‫***‬
‫َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ُّ َ ْ ُ ُ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َّ‬
‫ش ٍء َوأم ِْرت أن أكون‬ ‫لة ِ الِي حرمها ول ك‬ ‫}إِنما أمِرت أن أعبد رب ه ِذه ِ ال‬
‫َ َ ْ َ َّ َ ُ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َْ‬ ‫م َِن ال ْ ُم ْسلم َ‬
‫ني ‪ ‬وأن أتلو القرآن فم ِن اهتدى فإِنما يهتدِي ِلف ِس ِه ومن ضل فقل‬ ‫ِِ‬
‫َّ َ َ َ َ ْ ُ ْ‬
‫إِنما أنا مِن المنذ ِِرين{ (انلمل ‪.)92 :91‬‬

‫ك�أفراد‪ ،‬لي�س �أمامنا �سوى �أن نفعل ما ينبغي فعله‪ ،‬نحن جزء �صغري‬
‫ج ًّدا‪ ،‬بحجم منلة من م�شهد كبري ج ًّدا لن نتمكن من ر�ؤيته ً‬
‫كامل‪.‬‬
‫علينا �أن نفعل ما يجب �أن نفعله‪ ،‬من اهتدى فلنف�سه‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬نحن �صغار يف النهاية بحجم النملة‪.‬‬
‫‪- 175 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن د�أب النملة هو الذي يحقق ذلك الرتاكم الكبري يف النهاية‪.‬‬


‫د�أب منلة وحتليق هدهد‪.‬‬
‫وقلب وعقل م�ؤْ ِم َن ْ ِي‪.‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫َ‬
‫سورة الق َصص ‪28‬‬
‫ً‬
‫قصص تنتهي‪ ،‬وأخرى ال تنتهي أبدا‬

‫بع�ض الق�ص�ص ال تنتهي �أبدً ا‪ ،‬حتى بعد �أن تنتهي‪.‬‬


‫ت�ستمر‪ ،‬تتنا�سل‪ ،‬تتكاثر‪ ،‬جتد طريقة ما لكي توجد لها �صيغ جديدة‬
‫خمتلفة‪.‬‬
‫وبع�ض الق�ص�ص تنتهي فقط لتبد�أ ق�صة جديدة يف داخلك‪ ،‬تدخل فيك‬
‫الق�صة ُ ْ‬
‫وت ِد ُث �أث ًرا يبقى معك‪ ،‬ومن هذا الأثر تبد�أ ق�صة جديدة‪ ،‬ق�صتك‬
‫ال تبقى كما هي بعد �أن دخلت فيها ق�صة �أخرى‪ ،‬كل �شيء يتغري‪.‬‬
‫كل الق�ص�ص يف النهاية مت�شابهة بعد �أن جتردها من التفا�صيل‬
‫والأ�سماء والأماكن والتواريخ‪.‬‬
‫حتى ق�صتك التي تعتقد �أن �أحدً ا مل مير بها من قب ُل‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة ال َق َ�ص�ص ت�أخذنا �إىل الق�ص�ص‪ ،‬وجتمعها يف ق�صة واحدة‪.‬‬
‫هذا بال�ضبط ما تفعله‪.‬‬
‫ق�صة �سيدنا مو�سى كانت متفرقة على �أكرث من ع�شر �سور‪ ،‬ر�أينا �أجزا ًء‬
‫منها يف البقرة‪ ،‬الأعراف‪ ،‬طه‪ ،‬يف النمل‪ ،‬و�سور �أخرى‪.‬‬
‫‪- 177 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫هنا نراها وقد جتمعت‪ ،‬على الأقل هذا «�أ�شمل» ما �سرناه من ق�صته‬
‫عليه ال�سالم‪.‬‬
‫اليم‪ ،‬من �إلقاء �أم مو�سى لطفلها‬ ‫�سورة ال َق َ�ص�ص ت�أخذنا من ِّ‬
‫اليم �إىل ِّ‬
‫اليم‪ ،‬كل ما حدث بينهما من‬‫يف اليم‪� ،‬إىل حلظة غرق فرعون وجنده يف ِّ‬
‫�أحداث عرفناه يف �سورة �أخرى �سابقة متفرقة‪ ،‬لكن هنا جتميع كل ما‬
‫حدث‪ ،‬ما عدا جزء ال�سحرة ال ُي َ�شار له يف ال�سورة هنا‪.‬‬
‫ما الفرق بني �أن تقر�أ ق�صة مو�سى متفرقة ‪ -‬كما يف �أغلب ال�سور ‪ -‬وبني‬
‫�أن تقر�أها مت�سل�سلة من والدته �إىل جناته وقومه من فرعون؟‬
‫تطلع على موقف �أو جزء من الق�صة وتربطه‬ ‫مع الق�ص�ص املتفرقة‪� ،‬أنت َّ‬
‫ال�سورة لك مبواقف �أخرى من ق�ص�ص �أنبياء �آخرين‪� ،‬سواء بامل�شابهة �أو‬
‫االختالف‪� ،‬أي �إنك تقر�أ الق�صة من خالل منظور يتجاوز �سياق الق�صة‬
‫املبا�شر �إىل �سياقات عامة تربطها بق�ص�ص �أخرى‪ ،‬رمبا ُب ْق�سم �إبلي�س يف‬
‫الإخراج من اجلنة‪� ،‬أو بعذاب قوم نوح‪� ،‬أو بتكذيب الكفار‪.‬‬
‫مع الق�ص�ص وهي متفرقة‪� ،‬أنت ترى من منظور �أعلى بكثري‪ ،‬الطائر‬
‫يحلق �أعلى ويط ُّل على منظر �أكرب‪ ،‬ثم ت� ِّؤ�شر لك ال�سورة على نقاط هنا‬
‫وهناك بحيث تربط بينها‪.‬‬
‫مع الق�صة وهي مت�سل�سلة‪� ،‬إطاللة الطائر ت�أتي من ارتفاع �أقل من‬
‫كنت ترى يف‬
‫ال�سابق‪ ،‬ولكن برتكيز �أكرب على م�ساحة واحدة‪ ،‬كما لو �أنك َ‬
‫الق�ص�ص املفرقة خارطة العامل �أجمع‪ ،‬ثم �صرتَ يف الق�صة املت�سل�سلة ترى‬
‫خارطة لبلد واحد �أو قارة واحدة‪.‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫سورة القصص‬

‫الأغلب يف ق�ص�ص القر�آن هو الأول؛ �أن تكون الق�ص�ص متفرقة بحيث‬


‫تراها وهي مرتابطة مع ق�ص�ص �أخرى‪.‬‬
‫ولكن هذا ال مينع من وجود الق�ص�ص متجمعة كما يف �سورة يو�سف؛‬
‫حيث عر�ضت ق�صة يو�سف كاملة‪ ،‬وكما يف �سورة الق�ص�ص‪ ،‬حيث عر�ضت‬
‫ق�صة مو�سى �إىل خروجه وقومه من م�صر‪.‬‬
‫الق�صة وهي مت�سل�سلة تروي عالقة �أجزاء الق�صة ببع�ضها‪ ،‬التطور‬
‫الطبيعي للأحداث يف �سياقها‪ ،‬وهو �أمر مهم حت ًما‪ ،‬لكن لأنه الطبيعي‬
‫واملعتاد يف الق�ص�ص‪ ،‬فالقر�آن ال يقدمه كث ًريا‪.‬‬
‫لكن عندما يقدمه‪ ،‬فهو يقدمه ل�سبب‪.‬‬
‫مع �سورة يو�سف كان الأمر لإي�صال فكرة �أن النجاح ممكن يف �أماكن‬
‫�أخرى‪ ،‬لي�س بال�ضرورة �أن تنجح يف بلدك الأم‪ ،‬ميكن �أن حتقق �أعلى جناح‬
‫يف مكان خمتلف‪ ،‬ولكن ذلك ما كان ميكن �أن ي�صل بو�ضوح �إال بربط كل‬
‫الأحداث وما تع َّر�ض له يو�سف من البئر �إىل الق�صر مرو ًرا بال�سجن‪.‬‬
‫مع �سورة الق�ص�ص الأمر خمتلف‪.‬‬
‫***‬
‫علينا هنا �أن نذكر �أن �سيدنا مو�سى هو النبي الأكرث ذك ًرا يف القر�آن‬
‫الكرمي‪ ،‬فقد ُذ ِك َر ‪ 136‬مرة‪ ،‬وهذا يعني �أن ق�صته هي الأكرث ح�ضو ًرا يف‬
‫القر�آن الكرمي‪.‬‬
‫واج َه عدة جبهات يف دعوته �إىل‬
‫ملاذا؟ �أ�سباب كثرية‪ ،‬لعل �أهمها هو �أنه َ‬
‫واج َه فرعون وم�ؤ�س�سة اال�ستبداد‪ ،‬وواجه الطبيعة الب�شرية يف قومه‪.‬‬
‫اهلل‪َ ،‬‬
‫‪- 179 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وعن�صريتهم وم�شاكل كثرية ال �أول لها وال �آخر‪ ،‬وواجه � ً‬


‫أي�ضا نف�سه‪ ،‬كان‬
‫يعاين من عدم �سيطرته على غ�ضبه‪ ،‬وهو �أمر �أدى �إىل ارتكابه قتل خط�أ‬
‫قبل الوحي‪.‬‬
‫وكان مو�سى � ً‬
‫أي�ضا زعي ًما قائدً ا‪ ،‬خرج بقومه من م�صر بعد �أن كانوا‬
‫يتع َّر�ضون لال�ضطهاد من ِق َب ِل فرعون وقومه‪.‬‬
‫مو�سى �إذن كان مدر�سة كبرية ج ًّدا لكل من يريد �أن يتعلم‪ ،‬ال يوجد‬
‫مواجهة لنبي مل ُ‬
‫يخ ْ�ض َها مو�سى ويذهب �إىل طرفها الأق�صى‪.‬‬
‫وكان هذا بالت�أكيد �أمر يعني الكثري له عليه ال�صالة وال�سالم‪.‬‬
‫كل هذه املواجهات كان يخو�ضها هو � ً‬
‫أي�ضا بطريقة �أو ب�أخرى‪.‬‬
‫***‬
‫منذ الليلة الأوىل لأول وحي نزل عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬وهناك َمنْ‬
‫ربط بينه وبني مو�سى عليه ال�سالم‪ ،‬قال له ورقة بن نوفل وهو ي�شرح له ما‬
‫الذي حدث له عندما جاءه الوحي‪:‬‬
‫و�س ا َّل ِذي �أُ ْن ِز َل َع َلى ُم َ‬
‫و�سى‪».‬‬ ‫«ه َذا ال َّنا ُم ُ‬
‫َ‬
‫كان ورقة دقي ًقا يف الت�شبيه‪ ،‬لن يكون عليه ال�صالة وال�سالم مثل يون�س ‬
‫�أو لوط �أو �صالح‪ ،‬بل �سيكون مثل مو�سى‪ ،‬نبي و�صاحب ر�سالة وت�شريع وقائد‬
‫� ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ولعله ومنذ تلك الليلة‪� ،‬أخذ عليه ال�صالة وال�سالم يقر�أ ق�ص�ص مو�سى‬
‫عليه ال�سالم ‪ -‬بينما هي تتنزَّل عليه ‪ -‬بعني املرت ِّقب ملا �سيحدث معه‪.‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫سورة القصص‬

‫لي�س يف ق�صة مو�سى فقط بالت�أكيد‪.‬‬


‫لكن النبي الأكرث ذك ًرا يف القر�آن كان ال بد �أن يكون له �أثر فيه عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم‪.‬‬
‫***‬
‫ً‬
‫وتف�صيل مه ًّما‬ ‫يف ق�صة مو�سى كما َج َم َع ْت يف �سورة الق�ص�ص جان ًبا‬
‫مل َي ِر ْد يف �أي مكان �آخر‪ ،‬جان ًبا �إن�سان ًّيا مه ًّما‪ ،‬قد ال يبدو مه ًّما يف الدعوة‬
‫ب�شكل مبا�شر‪ ،‬لكن كان له �أثر كبري يف ت�أهيله لها‪.‬‬
‫�أحتدث هنا عن واقعة م�ساعدته للفتاتني‪ ،‬ومن َث َّم زواجه من واحدة‬
‫منهما بعد �أن اقرتحت على �أبيها �أن ي�ست�أجره؛ لأنه القوي الأمني‪.‬‬
‫تلك ال�سنوات التي ق�ضاها �سيدنا مو�سى يف َم ْد َين وهو يعمل ك�أجري؛‬
‫� َّأه َل ْت ُه ليتنزَّل عليه الوحي ويحمل الر�سالة �إىل فرعون وقومه‪ ،‬قبلها كان‬
‫مو�سى ربيب الق�صور‪ ،‬قوي و�أمني نعم‪ ،‬لكنه كان مرت ًفا‪� ،‬سريع الغ�ضب‪،‬‬
‫�شخ�صا م�س� ًؤول مهي ًئا ملا �سي�أتي من‬
‫ً‬ ‫�سنوات العمل ك�أجري جعلته ي�صبح‬
‫فعل‪.‬‬‫مهام‪ ،‬ال ميكن لقائد �إال �أن مير بذلك لكي يكون قائدً ا ً‬
‫وهذا اجلزء ‪ -‬على �أهميته ‪ -‬ما كان ميكن �أن ُي ْف َه َم �إال يف �سياق الق�صة‬
‫كاملة‪ ،‬خروجه من م�صر وهو خائف من العقوبة‪ ،‬ومن َث َّم ذهابه �إىل مدين‬
‫وعمله فيها ع�شر �سنوات‪ ،‬ومن َث َّم نزول الوحي عليه‪.‬‬
‫َْ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ‬
‫اءهُ َوقص علي ِه القصص قال ل تف نَ ْوت م َِن الق ْو ِم‬‫قال له �شعيب‪} ،‬فلما ج‬
‫َّ‬
‫الظال ِ ِم َ‬
‫ني{ (القصص‪.)25 :‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫فعل‪ ،‬جنا من ظلمهم‪ ،‬وجنا من �أن تبقى‬‫وكان ذلك هو ما حدث ً‬


‫�شخ�صيته مظلومة يف �أ�سر الق�صور والرتف‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫}نَ ْو َت م َِن ال َق ْو ِم ال َظال ِ ِم َني{ هي عنوان �سورة الق�ص�ص‪ ،‬لقد جنا منهم‬
‫اليم يف البداية املبكرة‪ ،‬ومرة عندما خرج �إىل مدين‪،‬‬ ‫كذا مرة‪ ،‬مرة يف ِّ‬
‫اليم‪ ،‬بينما غرق فرعون‬
‫ومرة �أخرية عندما خرج بقومه عرب ِّ‬
‫ق�صة داخل ق�صة داخل ق�صة‪ ،‬وكلها هذه املرة ق�صة واحدة‪ ،‬ت�شري �إىل‬
‫النجاة من القوم الظاملني‪ ،‬نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة‪.‬‬
‫مو�سى ينتهي من مواجهة فرعون ويخرج بقومه‪ ،‬وهناك �سيبد�أ‬
‫مبواجهتهم هم‪ ،‬املواجهة التي �ستثبت �أنها �أ�صعب‪.‬‬
‫هل كان ثمة ما يدور يف مكة يف تلك املرحلة مما ميكن �أن ي�شابه كل‬
‫هذا؟ هل كانت مرحلة جديدة على و�شك البدء؟‬
‫نعم‪� ،‬سورة الق�ص�ص نزلت قبل �سورة الإ�سراء‪.‬‬
‫والإ�سراء كانت بداية مرحلة جديدة‪.‬‬
‫ال َق َ�ص�ص �إذن كانت ت� ِؤذنُ بنهاية مرحلة‪.‬‬
‫***‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫اء َو ُه َو أ ْعل ُم بال ُم ْه َتد َ‬ ‫َ‬
‫ك َّن اهلل َي ْهدِي َم ْن ي َ َش ُ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ْ َْ َ‬ ‫َ‬
‫َّ َ َ ْ‬
‫ِين{‬ ‫ِ‬ ‫}إِنك ل تهدِي من أحببت َول ِ‬
‫(القصص‪.)56 :‬‬

‫نعم‪ ،‬ق�صته مع عمه تنتهي هنا � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬

‫‪- 182 -‬‬


‫سورة القصص‬

‫�أبو طالب ميوت دون �أن يقول كلمة الإميان‪ ،‬قلب حممد َّ‬
‫يتفطر بينما‬
‫هو يطلب منه �أن يقول ولو كلمة على فرا�ش املوت‪ ،‬لكن كفار قري�ش على‬
‫الطرف الآخر‪� :‬أترتك دين عبد املطلب؟‬
‫وال يقولها‪ ،‬ميوت دون �أن يقولها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الق�صة تنتهي كما تنتهي كل الق�ص�ص‪} ،‬إِنَّ َك ل َت ْهدِي َم ْن أ ْح َب ْب َت{‬
‫أحببت‪ ،‬ال �شيء ميكن �أن يغري ذلك‪.‬‬
‫مهما � َ‬
‫ذهب العم ال�سند الذي وقف معه منذ طفولته‪.‬‬
‫كانت هذه نهاية م�ؤ�سفة للق�صة(((‪.‬‬
‫***‬
‫لكن هذا مل يكن كل �شيء‪.‬‬
‫فبعد �شهر تقري ًبا‪ ،‬تتو َّفى خديجة ‪ -‬ر�ضي اهلل عنها ‪.-‬‬
‫يفقد املر�أة ال�سند التي وقفت معه منذ البداية‪ ،‬نعم‪� ،‬إنها نهاية مرحلة‬
‫بالفعل‪ ،‬عمه وزوجته يرحالن‪.‬‬
‫لكن الفراق كان خمتل ًفا هنا‪� ،‬سيكون ثمة لقاء م�ؤكد مع خديجة‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُّ َ َ َ َ ُ ْ َ ِّ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َّ َّ‬
‫اء بِالهدى‬‫}إِن الِي فرض عليك القرآن لرادك إِل معا ٍد قل رب أعلم من ج‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ َ ْ َُ‬
‫ني{ (القصص‪.)85 :‬‬ ‫ومن هو ِف ضل ٍل مبِ ٍ‬
‫لقاء يف اجلنة بال �شك وال ريب‪.‬‬

‫((( للمزيد‪ :‬السرية مستمرة للمؤلف‬


‫‪- 183 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وتنتهي ال�سورة مبوا�ساة ملن فقد �سندين يف �شهر واحد‪ ،‬تخفف وط�أة‬
‫قانون احلياة القا�سي‪.‬‬
‫َ ً َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ ٌ َّ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ َْ ُ ََ‬
‫الك ُم‬ ‫} َول تدع مع اهلل إِلها آخر ل إِل إِل هو ك ش ٍء هال ِك إِل وجهه ل‬
‫َ ُ َ ُ َ‬
‫َوإ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (القصص‪)88 :‬‬
‫َّ‬ ‫ك َ ْ‬
‫ُ ُّ‬
‫ش ٍء َهال ٌِك إِل َو ْج َه ُه{‪.‬‬ ‫}‬
‫كل الق�ص�ص تنتهي‪ ،‬الكل يرحلون‪ ،‬وال يبقى �إال هو عز وجل‪.‬‬
‫***‬
‫قال عليه ال�صالة وال�سالم‪:‬‬
‫�شئت ف�إنك ميت‪ ،‬و�أَ ْح ِب ْب َمنْ‬
‫«�أتاين جربيل‪ ،‬فقال‪ :‬يا حممد‪ ،‬ع�ش ما َ‬
‫�شئت‪ ،‬ف�إنك مفارقه(((‪».‬‬
‫َ‬
‫هل جاءه تلك الليلة يوم توفت خديجة ‪ -‬ر�ضي اهلل عنها‪-‬؟‬
‫ودر�س احلياة هذا‪�( ،‬أحبب من �شئت ف�إنك مفارقه)‪ ،‬هل جاءه ليلة‬
‫الفراق ال�صعبة تلك‪.‬‬
‫رمبا‪.‬‬
‫هل كل الق�ص�ص تنتهي؟‬
‫رمبا بع�ضها ال ينتهي �أبدً ا‪.‬‬
‫بع�ض الق�ص�ص تعي�ش فينا‪ ،‬حتى بعد �أن يرحل كل �أبطالها‪.‬‬

‫((( أبو داود ‪.1862‬‬


‫‪- 184 -‬‬
‫سورة العنكبوت ‪29‬‬
‫هجرة‪..‬‬

‫حياتنا يف النهاية �سل�سلة امتحانات متتالية‪.‬‬


‫يف كل مفرتق طرق‪ ،‬هناك خيار‪ ،‬هناك اختبار‪ ،‬هناك امتحان‪.‬‬
‫لكن كما يف احلياة الدرا�سية هناك امتحانات حا�سمة م�صريية‪ ،‬تغري‬
‫أي�ضا امتحانات كهذه يف حياتنا‬ ‫امل�سار ويعتمد عليها ما بعده‪ ،‬هناك � ً‬
‫الواقعية‪ ،‬امتحانات حتدد م�صرينا‪ ،‬رمبا حتى م�صرينا الأخروي‪.‬‬
‫امتحانات كبرية كهذه تتعلق عاد ًة بقدرتنا على الثبات على مبادئنا‪� ،‬أن‬
‫نكون على قدر ما م�ؤمن به‪� ،‬أن نثبت �أهليتنا ملا نعتنقه من �أفكار‪.‬‬
‫عندما تكون الأمور ي�سرية لطيفة‪ ،‬لن تكون هناك م�شكلة يف �أن تعتنق‬
‫�أفكارك ومبادئك و�أن تتحدث عن ذلك‪ ،‬بل و�أن حتكم على النا�س بها‪.‬‬
‫تتم�سك بها عندما ت�أتي �ساعة اجلد واالختبار‪،‬‬
‫لكن االمتحان هو �أن َّ‬
‫�أن تبقى عليها بينما الإع�صار ي�ضربك من الداخل ومن اخلارج ومن كل‬
‫اجلهات‪.‬‬
‫دوما‪ ،‬لكن عندما‬
‫امتحان كهذا ال يحدث يف كل خطوة‪ ،‬ال يحدث ً‬
‫يحدث‪ ،‬فقد تكون نتائجه دائمة‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 185 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫تكوا أن يقولوا آمنا َوه ْم ل يفتنون ‪َ ‬ولقد فتنا‬ ‫}الم ‪ ‬أح ِسب انلاس أن ي‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ‬ ‫َّال َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫ِين مِن قبل ِِهم فليعلمن اهلل الِين صدقوا ولعلمن الكذِبِني{ (العنكبوت ‪.)3 :1‬‬

‫�سورة العنكبوت تتحدث عن هذا النوع من االمتحانات‪ ،‬االمتحانات‬


‫الكربى‪ ،‬الأهم حتى من امتحانات الثانوية العامة‪.‬‬
‫تتحدث عن االمتحان‪ ،‬الفتنة‪.‬‬
‫***‬
‫ما الذي ميكن �أن يكون هذا االمتحان الذي تع َّر�ض له الذين �آمنوا يف‬
‫تلك الفرتة؟‬
‫االمتحانات كثرية ومتداخلة ومتعددة‪ ،‬لكن ال بد �أن يكون هناك امتحان‬
‫كبري‪ ،‬جديد من نوعه‪ ،‬تع َّر�ض له امل�ؤمنون‪ ،‬بحيث كان فتنة‪.‬‬
‫فعل للكثري من االمتحانات‬ ‫ما الذي ميكن �أن يكون‪ ،‬وقد تعر�ضوا ً‬
‫والفنت منذ �أن �آمنوا‪ ،‬بل �إن خيار الإميان و�إظهاره كان � ً‬
‫أي�ضا فتنة؟‬
‫ما هي هذه الفتنة اجلديدة؟‬
‫�سنعرف مبجرد �أن نعلم متى نزلت هذه ال�سورة‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة العنكبوت من �أواخر ما نزل يف مكة‪ ،‬قبل هجرته عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم‪.‬‬
‫يف احلقيقة ويف ت�سل�سل الرتتيب الأكرث انت�شا ًرا‪ ،‬ال�سورة كانت قبل‬
‫الأخرية بالن�سبة للفرتة املكية‪ ،‬وبع�ض الأقوال جتعل �آياتها نزلت بني مكة‬
‫واملدينة‪.‬‬
‫‪- 186 -‬‬
‫سورة العنكبوت‬

‫ونحن نعرف طب ًعا �أن امل�سلمني كانوا قد �سبقوا الر�سول ‪-‬عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم ‪ -‬يف الهجرة �إىل املدينة‪.‬‬
‫�أي �إن �سورة العنكبوت نزلت يف الوقت الذي كان فيه بع�ض امل�سلمني‬
‫يهاجرون‪� ،‬س ًّرا �أو جه ًرا �إىل املدينة‪.‬‬
‫ً‬
‫لي�س �سهل على‬ ‫االمتحان الكبري هو هذا‪ ،‬هو قرار مغادرة مكة‪ ،‬الأمر‬
‫اجلميع‪ ،‬مهما كان الأذى الذي تع َّر�ضوا له‪ ،‬لكن يف النهاية كانوا قد �صمدوا‬
‫ل�سنوات طويلة‪ ،‬ما الذي ميكن �أن يحدث �أ�سو�أ؟‬
‫فعل‪ ،‬ولكنهم بعد ‪� 13‬سنة بالن�سبة للبع�ض منهم‪،‬‬ ‫لقد مروا بالكثري ً‬
‫كانوا قد تعاي�شوا مع الواقع ال�صعب‪.‬‬
‫لكن هذا القرار اجلديد؛ �أن يرتكوا مكة‪ ،‬الأهل والأقارب ممن بقوا‬
‫م�شركني ولكن � ً‬
‫أي�ضا ال يزالون �أقرباء‪ ،‬الع�شرية‪ ،‬العمل واملال‪ ،‬البيوت‪.‬‬
‫ً‬
‫جمهول‪ ،‬ومن امل�ؤكد �أن العودة عنه‬ ‫و�أن يذهبوا �إىل و�ضع جديد ال يزال‬
‫لن تكون �سهلة‪.‬‬
‫مل يكن القرار ً‬
‫�سهل‪.‬‬
‫كث ًريا ما تتعبنا �أوطاننا‪ ،‬يف احلقيقة كث ًريا ما تفعل بنا �أكرث بكثري من‬
‫ً‬
‫لي�س �سهل باملرة‪ ،‬على الأقل بالن�سبة‬ ‫جمرد التعب‪ ،‬لكن قرار مغادرتها‬
‫لكثريين‪ ،‬قد ي�ستغرق منهم �سنوات من التفكري والأرق والقلق‪ ،‬وقد ال ‬
‫ي�صلون له �أبدً ا‪ ،‬وقد يكون �أ�سهل لآخرين‪ ،‬لكنه يف العموم قرار م�صريي؛‬
‫فتنة‪.‬‬

‫‪- 187 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫هكذا هو الأمر اليوم‪ ،‬وقد كان كذلك و�أكرث وقتها‪ ،‬الهجرة اليوم‬
‫م�ألوفة‪ ،‬والنا�س يتبادلون التهاين عندما يح�صلون عليها‪ ،‬لكنها مل تكن‪.‬‬
‫كذلك �آنذاك‪ ،‬وهذا التنقل مل يكن ً‬
‫مقبول بالن�سبة للعربي احل�ضري‪َ ،‬منْ‬
‫يولد يف مدينة ميوت فيها غال ًبا‪.‬‬
‫لكن‪.‬‬
‫َ‬
‫َ َّ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون{ (العنكبوت‪.)2 :‬‬ ‫ْ َُ‬ ‫اس أ ْن ُي ْ َ‬
‫تكوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتن‬
‫َ َ َّ ُ‬
‫}أح ِسب انل‬

‫***‬
‫لو قر�أنا ال�سورة من هذا املنظور؛ لوجدنا لكل �شيء مع ًنى خمتل ًفا‪.‬‬
‫ن َعن الْ َعالَم َ‬
‫ني{ (العنكبوت‪.)6 :‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ََ‬
‫غ‬ ‫ل‬ ‫اهلل‬
‫َّ‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ ْ‬
‫ف‬ ‫}ومن جاهد فإِنما ياهِد ِل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫اجلهاد‪ ،‬ال�سورة مكية قبل �أي معركة‪ ،‬لكن امل�شكلة هي يف فكرتنا التي‬
‫تق�صر اجلهاد على احلرب والقتال‪ ،‬وتن�سى �أنه بذل للجهد و�أن بع�ض‬
‫املواجهات ال�شخ�صية االجتماعية تكون �أكرث �ضراو ًة من �أي مواجهة‬
‫ع�سكرية‪.‬‬
‫هذا القرار جهاد � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ ً َ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ‬
‫شك ِب ما ليس لك ب ِ ِه عِل ٌم‬ ‫}ووصينا ِ‬
‫النسان بِو ِالي ِه حسنا وإِن جاهداك ل ِت ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِّ ُ ُ َ ْ ُ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ ْ ُ ُ‬
‫جعك ْم فأنبئك ْم بِما كنت ْم تعملون{ (العنكبوت‪.)8 :‬‬ ‫فل ت ِطعهما إِل مر ِ‬
‫نعم‪ ،‬مفهوم ج ًّدا الآن‪ ،‬كان هناك من الآباء والأمهات َمنْ يحاول �أن‬
‫ي�ستخدم العاطفة كو�سيلة البتزاز �أوالدهم على البقاء وعدم الهجرة‪.‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫سورة العنكبوت‬

‫أي�ضا �إىل } َج َاه َد َاك{‪ ،‬هذا جهاد � ً‬


‫أي�ضا‪ ،‬ولكن من الطرف‬ ‫فلننتبه � ً‬
‫املقابل‪ ،‬يبذل فيه جهده وعواطفه من �أجل هدف معني‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ ُ َّ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ ْ ْ ْ َ َ َ ُ‬
‫ِين آمنوا اتبِعوا سبِيلنا َولَح ِمل خطاياك ْم َوما ه ْم‬
‫}وقال الِين كفروا ل ِل‬
‫َ ْ َ َ َ ُ ْ ْ َ ْ َّ ُ ْ َ َ ُ َ‬
‫ِبَا ِملِني مِن خطاياهم مِن ش ٍء إِنهم لكذِبون{ (العنكبوت‪.)12 :‬‬
‫ابقوا معنا ونحمل عنكم ذلك‪ ،‬يا للإغراء! فليبق الو�ضع ال�ساكن كما‬
‫هو ب�أي ثمن‪.‬‬
‫ثم َت ْع ِر ُ�ض ال�سورة لق�ص�ص �أنبياء يف حلظات خروجهم من مدنهم‪ ،‬كل‬
‫الق�ص�ص ع ِر َ�ض ْت �ساب ًقا يف �سور خمتلفة‪ ،‬لكننا الآن نراها‬
‫ُ‬ ‫ق�صة من هذه‬
‫على نحو خمتلف‪ ،‬هذه املرة نراهم وهم يهاجرون‪ ،‬كما يجب �أن يفعل َمنْ‬
‫تنزَّلت ال�سورة بينهم‪.‬‬
‫نوحا وهو يركب ال�سفينة‪.‬‬
‫نرى ً‬
‫و�إبراهيم وهو ينجو من النار ويخرج من قريته‪.‬‬
‫َ ِّ َّ ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ٌ َ َ َ ِّ ُ َ‬
‫ج ٌر إِل َرب إِنه‬ ‫بل �إننا �سرنى ً‬
‫لوطا وهو يعلنها‪} ،‬فآمن ل لوط وقال إِن مها ِ‬
‫يز ْ َ‬
‫الك ُِيم{(العنكبوت‪.)26 :‬‬ ‫ُه َو الْ َعز ُ‬
‫ِ‬
‫مل ُي ْ�ست َْخ َدم لفظ «مهاجر» يف و�صف �أي نبي يف القر�آن‪ ،‬هذه هي‬
‫املرة الوحيدة‪ ،‬وقد جاءت يف �سورة العنكبوت‪ ،‬ال�سورة التي �أُ ْن ِز َلت بينما‬
‫امل�سلمون يع ُّدون ال ُع َّدة للهجرة من مكة بالتدريج‪.‬‬
‫�صدفة؟! حا�شا هلل‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 189 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫حتى املثل الذي �أخذت ال�سورة ا�سمها منه‪ ،‬نقر�أه الآن على نحو خمتلف‪.‬‬
‫َّ َ َ ْ َ ْ ً َّ َ َ‬ ‫َْ َ َ َََ َْْ َُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ ُ َّ َ َّ َ ُ‬
‫وت اتذت بيتا َوإِن أ ْوه َن‬
‫اء كمث ِل العنكب ِ‬ ‫}مثل الِين اتذوا مِن د ِ‬
‫ون اهلل أو ِل‬
‫ُُْ ََْ ُ ْ َ ْ َ ُ َْ َ ُ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون{ (العنكبوت‪.)41 :‬‬ ‫وت لو كنوا يعلم‬
‫وت ليت العنكب ِ‬ ‫الي ِ‬

‫هذه البيوت التي تتم�سكون بها‪ ،‬املجتمعات التي ال تريدون الهجرة عنها‪،‬‬
‫مهما كنتم حتبونها ومتعلقني بها‪ ،‬مهما َب َد ْت جميلة مزخرفة �أو مريحة‪.‬‬
‫يف حقيقتها لي�ست �أقوى من بيوت عنكبوت قد تنهار يف �أي وقت‪.‬‬
‫لو �أن بع�ضنا نظر ب�صدق وجت ُّرد �إىل الكثري من جمتمعاتنا‪� ،‬أوطاننا‬
‫لقلنا دون مواربة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬نعي�ش يف جمتمعات عناكب‪.‬‬
‫***‬
‫ويف نف�س ال�سورة جاءت � ً‬
‫أي�ضا هذه الآية‪.‬‬
‫َ َ ٌ َ َّ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫آم ُنوا إ َّن َأ ْ‬
‫َ َ َ َّ َ َ‬
‫ون{ (العنكبوت ‪.)56‬‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫اع‬ ‫ف‬ ‫اي‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫إ‬‫ف‬ ‫ة‬ ‫ع‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫}يا عِبادِي الِين‬

‫�إنها ت�أ�شرية هجرة من نوع خمتلف عن الذي نعرفه‪.‬‬


‫***‬
‫وتنتهي ال�سورة مرة �أخرى باجلهاد‪.‬‬
‫ِينا َلَ ْهد َِي َّن ُه ْم ُس ُبلَ َنا َوإ َّن اهلل ل َ َم َع ال ْ ُم ْحسن َ‬
‫ني{ (العنكبوت‪.)69 :‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ ُ‬
‫ِين جاهدوا ف‬‫}وال‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫خ�ضم ال�صراع الداخلي لقرار‬
‫اجلهاد مرة �أخرى‪ ،‬يف �سورة مكية‪ ،‬يف ِّ‬
‫الهجرة‪.‬‬
‫‪- 190 -‬‬
‫سورة العنكبوت‬

‫لأنه �أكرب بكثري من �أن ُي ْختَزَ َل مبعركة �سيوف �أو قنابل‪.‬‬


‫�سبلنا؟‬
‫لعلها تلك الطرق التي �ستتي�سر الح ًقا بعد تنفيذ القرار‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫سورة الروم ‪39‬‬
‫أثر الفراشة‬

‫بع�ض الأحداث التي تبدو بعيدة ن�سب ًّيا عنا يف البداية‪ ،‬ت�ؤثر الح ًقا على‬
‫حياتنا اخلا�صة وحياة املاليني من النا�س حولنا‪.‬‬
‫حرب بني بلدين و�أنت تعي�ش يف بلد ثالث رمبا ال يكون حتى جماو ًرا لأي‬
‫من البلدين‪ ،‬لكن النتائج تطالك بالتدريج‪ ،‬وتغري من حياتك �إىل درجة مل‬
‫تتخيل حدوثها يوم �سمعت بخرب ن�شوب احلرب �أول مرة‪.‬‬
‫الت�أثريات املتداخلة يف العامل مثل الكرات على طاولة البلياردو‪ ،‬تطال‬
‫الطاولة كلها حتى لو كان اجتاه الكرة الأوىل حمددًا يف حيز معني‪.‬‬
‫وما يبدو يف البداية خ ًربا رئي�س ًّيا يخ�ص ال�سيا�سة العامة يف مكان بعيد‪،‬‬
‫قد ينتهي ل ُي ْح ِد َث تغيريات �شخ�صية يف بيتك ومع �أفراد �أ�سرتك‪.‬‬
‫هل ميكنك � ُ ْ‬
‫أن ت ِد َث تغي ًريا كفرد يف كل هذا؟‬
‫رمبا ال‪ ،‬ال ميكن فعل الكثري‪.‬‬
‫لكن وعيك فيما يدور �س ُي ْح ِد ُث فر ًقا حت ًما يف تعاملك مع ما يدور‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 192 -‬‬


‫سورة الروم‬

‫َ ُْ ْ َْ َ َ ْ َ َْ ُ َ‬ ‫َْ َ َْْ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُ َ‬


‫‪‬ف‬
‫ت الروم ‪ِ ‬ف أدن الر ِض وهم مِن بع ِد غلبِ ِهم سيغلِبون ِ‬ ‫}الم ‪ ‬غلِب ِ‬
‫ْ َْ ُ َ َ َْ ُ ُْ ْ ُ َ‬ ‫َْْ ْ َُْ‬ ‫ْ‬
‫ني هلل الم ُر مِن قبل َومِن بعد َوي ْومئِ ٍذ يف َرح المؤمِنون{ (الروم ‪.)4 :1‬‬
‫ض سن َ‬
‫ب ِ عِ ِ ِ‬

‫�سورة الروم تنقل لنا هذا الوعي‪.‬‬


‫حرب بني �أقوى �إمرباطوريتني يف العامل �آنذاك‪� :‬إمرباطوريتي الروم‬
‫وال ُف ْر�س‪ ،‬كانت جتري �آنذاك يف الأنا�ضول �أو مناطق قرب ال�ساحل ال�شرقي‬
‫للبحر املتو�سط(((‪ ،‬ملاذا يكون الأمر مه ًّما ج ًّدا يف مكة يف و�سط جزيرة‬
‫متاما‪.‬‬
‫العرب؟ ملاذا يفرح امل�ؤمنون �أو يحزنون �أو �أي �شيء؟ الأمر بعيد ً‬
‫لو �أن هذا حدث يف ع�صرنا احلايل؛ لر�أينا من يقول‪ :‬اللهم �أَ ْه ِلك‬
‫الظاملني بالظاملني‪ ،‬و�أَ ْخ ِر ْج َنا من بينهم �ساملني‪ ،‬بالن�سبة لوعي الكثريين‬
‫منا اليوم‪ ،‬الروم والفر�س يف �سلة واحدة‪ ،‬ولن يختلف من ينت�صر على من‬
‫يف ال�صراع الدائر‪.‬‬
‫لكن بالن�سبة للقر�آن‪ ،‬ال �سواء‪.‬‬
‫رمبا لي�س فقط لأن الروم كانوا �أقرب ‪ -‬ك�أهل كتاب ‪� -‬إىل امل�سلمني من‬
‫ال ُف ْر�س‪.‬‬
‫وال لأن ت�أثريات النفوذ الفار�سي يف اجلزيرة كانت �أخطر و�أعقد على‬
‫امل�سلمني من الروم عرب دولة املناذرة يف �شمال �شرق اجلزيرة‪ ،‬وت�أثرياتهم‬
‫يف �شرق اجلزيرة وجنوبها‪.‬‬

‫((( للمزيد‪ :‬السرية مستمرة للمؤلف‪.‬‬


‫‪- 193 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ولكن رمبا � ً‬
‫أي�ضا لأن هذه احلرب املتوا�صلة بني �أقوى �إمرباطوريتني يف‬
‫العامل وتدا ُول الن�صر واخل�سارة بينهما كان ي�ؤدي �إىل �إنهاك وا�ستنزاف‬
‫القوتني م ًعا‪ ،‬ورمبا مي ِّهد لظهور قوة ثالثة جديدة‪.‬‬
‫نحن الآن يف �أواخر املرحلة املكية‪� ،‬سورة الروم كانت من �أواخر ما نزل‬
‫يف مكة‪ ،‬تف�صلها عن الرحلة �إىل املدينة �سورتان فقط‪.‬‬
‫وعمل ًّيا كانت هجرة امل�سلمني التدريجية قد بد�أت غال ًبا يف تلك الفرتة‪.‬‬
‫احلرب يف ال�شمال بني �أقوى دولتني يف العامل القدمي‪.‬‬
‫لكن يف اجلنوب‪ ،‬كانت هناك نقطة جديدة بد�أت يف التك ُّون‪ ،‬وعلى نح ٍو‬
‫مل يكن رمبا قد َل َف َت �أ ًّيا من القوتني �آنذاك‪.‬‬
‫َ َْ َُ َ‬ ‫َ‬
‫ك َّن أ ْك َ َ‬
‫ث انلَّ ِ‬
‫اس ل يعلمون{ (الروم‪.)6 :‬‬
‫ْ َُ َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫} َوعد اهلل ل يلِف اهلل َوعده َول ِ‬

‫***‬
‫و�سورة الروم تذ ِّكر بدورة حياة الدول واملجتمعات‪ ،‬وت�ش ِّبهها بدورة‬
‫حياة الإن�سان‪.‬‬
‫منو‪ ،‬قوة‪� ،‬ضعف‪ ،‬انهيار‪.‬‬
‫َ ُ َ َ َّ‬ ‫َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫}أ َول َ ْم ي َ ِس ُ‬
‫ِين مِن قبل ِِه ْم كنوا أشد‬ ‫ريوا ِف ال ْر ِض فينظروا كيف كن عق ِبة ال‬
‫ْ ُ ْ ُ َّ ً َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ِّ َ َ َ‬
‫ات فما‬ ‫مِنهم قوة وأثاروا الرض وعمروها أكث مِما عمروها وجاءتهم رسلهم بِالين ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫َْ َ ُ ْ ََ ْ َ ُ َُْ َ ُ َْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫اءوا‬ ‫ِين أس ُ‬ ‫كن كنوا أنفسه ْم يظلِمون ‪ ‬ثم كن عق ِبة ال‬ ‫كن اهلل ِلظلِمهم ول ِ‬
‫َ ْ َ ُ َْ ْ َ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َ ُ َ َْ َْ ُ َ‬ ‫ُّ َ َ ْ َ َّ ُ َ‬
‫ات اهلل َوكنوا بِها يسته ِزئون ‪ ‬اهلل يبدأ اللق ث َّم ي ِعيدهُ ث َّم‬ ‫السوأى أن كذبوا بِآي ِ‬
‫َ ُ َ ُ َ‬
‫إ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (الروم ‪.)11 :9‬‬

‫‪- 194 -‬‬


‫سورة الروم‬

‫ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫ح ال ْرض بعد م ْوت ِها‬ ‫ت و َي ِرج الميت مِن الح وي ِ‬ ‫}ي ِرج الح مِن المي ِ‬
‫ُْْ ََ ٌ ََْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ ْ ْ َُ ُ‬‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ َ َ َُْ ُ َ‬
‫ون{‬ ‫اب ث َّم إِذا أنتم بش تنت ِش‬
‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ا‬ ‫آي‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫و‬ ‫(‪)19‬‬ ‫ون‬‫وكذل ِك ترج‬
‫(الروم ‪.)20 :19‬‬
‫َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ ُ ُ ُ ْ ُ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫َّ‬
‫شكئ ِك ْم‬ ‫}اهلل الِي خلقكم ثم رزقكم ثم ي ِميتكم ثم ييِيكم هل مِن‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ‬
‫ون {(الروم‪.)40 :‬‬ ‫شك‬
‫من يفعل مِن ذل ِكم مِن ش ٍء سبحانه وتعال عما ي ِ‬
‫من امل�ؤكد �أن ما ي�شابه هذه الآيات قد وردت يف �سور �أخرى‪ ،‬لكن‬
‫معان‬
‫ال�سياق هنا ‪ -‬املرتبط ب�صراع الروم وفار�س ‪ -‬يجعل لهذه الآيات ٍ‬
‫خمتلفة تتعلق بدورة حياة الدول وال�سنن التي تتحكم بها كما تتحكم بدورة‬
‫حياة الإن�سان‪.‬‬
‫َ َُ َ‬
‫وها{ عن الأر�ض مل يرد يف �أي‬ ‫أي�ضا �إىل �أن لفظ }عمر‬ ‫فلننتبه هنا � ً‬
‫ْ َ ْ َ َ ُْ‬
‫مكان �آخر يف القر�آن غري هنا يف �سورة الروم‪ ،‬ورد لفظ }استعمركم{‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ ُ‬
‫يف �سورة هود } ُه َو أن َشأك ْم م َِن ال ْر ِض َو ْاس َت ْع َم َرك ْم ف َِيها{‪ ،‬ولكن ن�سبة فعل‬
‫الإعمار للإن�سان مل يرد �إال يف �سورة الروم‪.‬‬
‫ََْ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ََُْ‬
‫ريوا ِف ال ْر ِض فينظ ُروا كيف كن‬ ‫وقد ورد يف �صيغة التناف�س‪} :‬أ َول َ ْم ي َ ِس ُ‬
‫َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ َ َّ ْ ُ ْ ُ َّ ً َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫ث مِما‬ ‫عق ِبة الِين مِن قبل ِِهم كنوا أشد مِنهم قوة وأثاروا الرض وعمروها أك‬
‫َْ َُْ ََ ْ َ ُ َ َ ُ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ِّ َ‬
‫كن كنوا أنفسه ْم‬ ‫ات فما كن اهلل ِلظلِمهم ول ِ‬ ‫الين ِ‬ ‫عمروها وجاءتهم رسلهم ب ِ‬
‫َْ ُ َ‬
‫ون{ (الروم‪.)9 :‬‬ ‫يظلِم‬

‫لي�س �صدفة‪ ،‬حا�شا هلل‪ ،‬بل تذكري مبعايري املناف�سة والقوة بني الدول‪،‬‬
‫لي�ست احلرب والقوة الع�سكرية فقط‪ ،‬بل � ً‬
‫أي�ضا الإعمار‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 195 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ولي�س �صدفة � ً‬
‫أي�ضا �أن ت�أتي الإ�شارة �إىل اختالف الأعراق والثقافات يف‬
‫هذه ال�سورة‪.‬‬
‫ُ َْ ً َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ ََْ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ َ ََ َ ُ ْ َُْ‬
‫} َومِن آيات ِ ِه أن خلق لك ْم مِن أنف ِسك ْم أز َواجا ل ِتسكنوا إ ِ ْلها َوجعل بينك ْم‬
‫َ ْ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ َ َّ ً َ َ ْ َ ً َّ َ َ َ َ‬
‫ون{ (الروم‪.)21 :‬‬ ‫ات ل ِقومٍ يتفكر‬
‫مودة ورحة إِن ِف ذل ِك لي ٍ‬
‫هذا الوعي اجلديد ينفتح على االختالف الثقافات والأعراق باعتباره‬
‫�آية من �آيات اهلل يف خلقه ولي�س �أم ًرا يجب العمل على �إلغائه‪.‬‬
‫***‬
‫َ ُ َ ْ َ َّ‬ ‫ْ َ ِّ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َْ َ ُ‬
‫اس ِ ُلذِيقه ْم بعض الِي‬
‫الح ِر بِما كسبت أيدِي انلَّ ِ‬ ‫}ظه َر الفساد ِف الب و‬
‫َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ َ‬
‫جعون{ (الروم ‪.)41 :‬‬ ‫ع ِملوا لعلهم ير ِ‬
‫هل كان الظلم؟ اال�ستعباد؟ البذخ والإ�سراف مقابل الفقر واجلوع؟‬
‫هل هو هذه الر�ؤية املادية التي ال ترى �إال جان ًبا واحدً ا من احلياة؟‬
‫َ‬ ‫ُ‬‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ ْ ُ َ َ ً َ َ َ ُّ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون{ (الروم‪.)7 :‬‬ ‫ادلنيا َوه ْم ع ِن الخ َِرة ِ ه ْم غف ِل‬ ‫}يعلمون ظاهِرا مِن الياة ِ‬

‫رمبا هذا كله و�أكرث‪.‬‬


‫َ ُ ْ َْ ُ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ون{‪ ،‬يرجعون �إىل ماذا؟‬ ‫لكن }لعلهم ير ِ‬
‫جع‬
‫َ َ ََْ َ َْ َ َْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ ً ْ َ‬ ‫ك ل ِّ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ َ‬
‫ين حنِيفا ف ِط َرت اهلل ال ِت فط َر انلَّاس عليها ل تبدِيل ِلل ِق‬ ‫ِ‬ ‫ِدل‬ ‫}فأق ِم وجه‬
‫َ ُ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ِّ ُ ِّ ُ‬
‫َ‬
‫ون{ (الروم‪.)30:‬‬ ‫اس ل يعلم‬ ‫ك َّن أك َ‬
‫ث انلَّ ِ‬ ‫اهلل ذل ِك ادلين القيم َول ِ‬

‫‪- 196 -‬‬


‫سورة لقمان ‪31‬‬
‫بيان وراثة‬

‫كل �سور القر�آن التي حملت �أ�سما ًء لأ�شخا�ص يف عناوينها كانت لأنبياء‬
‫ور�سل‪ :‬نوح‪ ،‬هود‪ ،‬يون�س‪ ،‬يو�سف‪� ،‬إبراهيم‪ ،‬عليهم ال�سالم �أجمعني‪.‬‬
‫وهناك ا�ستثناءان اثنان‪:‬‬
‫الأول هو ا�ستثناء معروف ال�سم ال�سيدة التي م َّثلت كل ت�ضحيات ومعاناة‬
‫الن�ساء عرب الع�صور؛ مرمي‪.‬‬
‫والثاين هو لقمان‪.‬‬
‫متاما لكل ال�سياقات الإعجازية التي عا�شتها‬
‫وجود ا�سم مرمي مفهوم ً‬
‫وقربها من النبوة‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬يجربنا على التوقف ً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫لكن لقمان �شيء �آخر‪� ،‬شيء خمتلف ً‬
‫�إذ لي�س من ال�سهل �أبدً ا �أن تكون يف هذه املقارنة‪� ،‬أن يو�ضع ا�سمك يف‬
‫مو�ضع مل يكن �إال للأنبياء‪.‬‬
‫***‬
‫م�صلحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حتا عظي ًما �أو قائدً ا ً‬
‫عادل‬ ‫مل يكن لقمان فا ً‬

‫‪- 197 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫مل يح�صل على مكانته التي ح�صل عليها لأنه عابد �أو زاهد‪� ،‬أو ب�سبب‬
‫فعل اخلري‪.‬‬
‫رمبا كان كل هذه الأ�شياء باملنا�سبة‪ ،‬لكننا ال نعرف ذلك؛ لأن القر�آن مل‬
‫يذكرها عنه‪ ،‬بل ذكر �شي ًئا خمتل ًفا‪.‬‬
‫ماذا كان لقمان؟ ما الذي نقله القر�آن الكرمي عنه؟‬
‫كان مر ِّب ًيا‪.‬‬
‫�أو على الأقل هذا ما �أظهره القر�آن منه‪ ،‬هذا هو اجلزء الذي جعله‬
‫ي�ستحق مكانته‪.‬‬
‫***‬
‫ُم َر ٍّب؟‬
‫هذا فقط؟‬
‫نعم‪ ،‬كان مرب ًيا‪ ،‬قد ننظر �إىل الأمر على �أنه جمرد عمل تكميلي �أو‬
‫حت�صيل حا�صل‪.‬‬
‫لكن هذا العمل كان مه ًّما لدرجة جعلت من لقمان يف مكانته تلك‪.‬‬
‫أي�ضا �إىل هذا العمل على �أنه جمرد تنظري‪ ،‬وهي‬ ‫قد ينظر البع�ض � ً‬
‫تعامل كما لو كانت �سبة �أو منق�صة حال ًّيا‪ ،‬رغم �أنها‬
‫الكلمة التي �صارت َ‬
‫عالية املقام يف حقيقتها؛ لأنها تعرب عن �أرقى ما ميكن �أن للإن�سان �أن‬
‫ميار�سه‪ :‬التفكري‪.‬‬

‫‪- 198 -‬‬


‫سورة لقامن‬

‫بكل الأحوال‪� ،‬سواء كانت الرتبية تنظ ًريا �أو تفك ًريا‪ ،‬فقد كانت �أ�سا�سية‬
‫لدرجة جعلت من لقمان يف املو�ضع الذي هو فيه‪.‬‬
‫***‬
‫مرب بالت�أكيد‪.‬‬
‫لكنه مل يكن �أي ٍّ‬
‫كان حكي ًما‪.‬‬
‫***‬
‫و«احلكمة» �أمر ظاهر يف هذه ال�سورة‪.‬‬
‫الك ِِيم{ (لقمان ‪.)2 :1‬‬ ‫ات الْك َِتاب ْ َ‬ ‫ْ َ َ ُ‬
‫}الم ‪ ‬ت ِلك آي‬
‫ِ‬
‫الك ُِيم{ (لقمان‪.)9 :‬‬ ‫يز ْ َ‬
‫ِيها َو ْع َد اهلل َح ًّقا َو ُه َو الْ َعز ُ‬
‫َ َ‬
‫الِين ف‬ ‫}خ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ََ ْ ََْ ُْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ ُ‬
‫} َولقد آتينا لقمان ال ِكمة أ ِن اشك ْر هلل َومن يشك ْر فإِنما يشك ُر ِلَف ِس ِه َومن‬
‫َ ٌّ َ ٌ‬ ‫َ َ َ َ َّ‬
‫ن حِيد{ (لقمان‪.)12 :‬‬ ‫كفر فإِن اهلل غ ِ‬
‫ْ َ َ َ َ ْ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ ُّ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫الح ُر يمدهُ مِن بع ِده ِ سبعة أبُ ٍر ما‬ ‫} َول ْو أنما ِف ال ْر ِض مِن شجر ٍة أقلم و‬
‫َ َ ْ َ َ ُ‬
‫ات اهلل إ ِ َّن اهلل َع ِز ٌيز َحك ٌِيم{ (لقمان‪.)27 :‬‬ ‫ن ِفدت كِم‬

‫احلكمة �إذن مرة و�صف للكتاب‪ ،‬ومرتان و�صف هلل عز وجل‪.‬‬


‫ومرة و�صف ملا �آتى اهلل لقمان‪.‬‬
‫وهذا ح�ضور مكثف للحكمة يف �سورة عدد �آياتها ‪ 34‬فقط‪.‬‬
‫احلكمة �إذن م�صدرها اهلل‪� ،‬صفة منه‪ ،‬وهي �صفة لكتابه‪ ،‬وهو مينحها‬
‫ملن �شاء‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 199 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الإح�سان � ً‬
‫أي�ضا له ح�ضور مكثف يف �سورة لقمان‪.‬‬
‫ْ‬
‫ح ًة ل ِل ُم ْح ِسنِ َني{ (لقمان‪.)3 :‬‬
‫ًُ َ ََْ‬
‫}هدى ور‬
‫َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ََ ْ َْ َ َ ُْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫ْ َُ َ‬ ‫َ ْ ُْ‬
‫} َومن يسل ِْم َوجهه إِل اهلل َوه َو م ِس ٌن فق ِد استمسك بِالع ْر َوة ِ ال ُوثق َوإِل اهلل‬
‫َ َُ ُُْ‬
‫ور{ (لقمان‪.)22 :‬‬ ‫عق ِبة ال ِ‬
‫م‬

‫***‬
‫أي�ضا �إىل �أمر يرتبط باحلكمة‪.‬‬ ‫الآية الأخرية يف ال�سورة رمبا ت�شري � ً‬
‫َ ْ ٌ َ ِّ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َْ‬
‫وت إ ِ َّن اهلل َعل ٌِيم َخبِ ٌري{ (لقمان‪.)34:‬‬ ‫} َوما تد ِري نفس بِأي أر ٍض تم‬
‫فاهلل و�صف نف�سه وكتابه باحلكمة‪ ،‬ثم انتهت ال�سورة بو�صفه بالعلم‬
‫واخلربة‪.‬‬
‫وهل احلكمة ‪ -‬عندما ت�ؤتى للب�شر ‪ -‬لي�ست �إال هذا الناجت من العلم‬
‫واخلربة والإح�سان؟‬
‫وهل ميكن �أن يكون هناك حكمة بعلم فقط‪� ،‬أو بخربة فقط‪� ،‬أو ب�إح�سان‬
‫فقط‪.‬‬
‫بل هو املزيج من هذه ال�صفات الثالثةـ الذي ي�ؤتى ثماره يف احلكمة؟‬
‫علم دون خربة حم�ض معرفة بال جذور تطبيق عملي‪.‬‬
‫العلم مع اخلربة؛ قدرة ومت ُّكن‪.‬‬
‫لكن بدون بو�صلة ال�ستخدام هذه القدرة وتوجيهها يف االجتاه ال�صواب‪.‬‬
‫�إمنا الإح�سان هو هذا العن�صر الثالث الذي يجعل من املزيج ينتج‬
‫احلكمة‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 200 -‬‬
‫سورة لقامن‬

‫�أمر �آخر يجب �أن ننتبه له هنا هو ح�ضور الأبوة‪� ،‬أو العالقة بني الأبناء‬
‫ووالديهم يف �سورة لقمان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُّ َ‬
‫أي�ضا الإ�شارة �إىل }يا أيها انلَّاس‬
‫هناك و�صية لقمان بالوالدين‪ ،‬وهناك � ً‬
‫َ ًْ‬ ‫َ ٌ َ ْ ََ ََ َُْ ٌ َُ َ َ ْ‬ ‫َّ ُ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ً َ َ ْ‬
‫از عن َو ِ ِ‬
‫اله ِ شيئا‬ ‫ٍ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ود‬‫ل‬ ‫و‬‫م‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ال‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫اتقوا ربكم واخشوا يوما ل ي ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ادلنيا َول يغ َّرنك ْم باهلل الغ ُر ُ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الياة ُّ‬ ‫ك ُم َ‬ ‫َ ٌّ َ َ َ ُ َّ َّ ُ‬ ‫َّ ْ َ‬
‫ور{ (لقمان‪)33 :‬‬ ‫ِ‬ ‫إِن َوعد اهلل حق فل تغرن‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫أي�ضا } َويَ ْعل ُم َما ِف ال ْر َح ِام{‪ ،‬هذا بالإ�ضافة �إىل �أن حوار لقمان كان مع‬ ‫و� ً‬
‫ابنه‪.‬‬
‫هل ي�شري هذا �إىل �أن عمق احلكمة وجوهرها هو هذا التوا�صل الذي‬
‫ميرر ع�صارتها وخال�صتها �إىل اجليل التايل؟ وهذا هو اال�ستمرار‬
‫وحققت من م�آثر‪ ،‬ف�إن عدم حمافظتك على‬ ‫َ‬ ‫احلقيقي‪ ،‬مهما �أجنزت‬
‫اجليل التايل يعني �ضياع كل ما حققته‪.‬‬
‫لي�س كل الآباء ينبغي اتباعهم بال�ضرورة‬ ‫وال�سورة ت�شري � ً‬
‫أي�ضا �إىل �أن‬
‫َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ‬
‫}قالوا بل نتبِع ما وجدنا علي ِه آباءنا أولو كن الشيطان يدعوهم إِل عذ ِ‬
‫اب‬
‫َّ‬
‫الس ِع ِري{ (لقمان‪.)21 :‬‬
‫لكن لي�س كل الآباء ينبغي جتاهل ما يقولون � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫***‬
‫�أهم ما ميكن �أن متنحه لأوالدك لي�س ما �ستورثه لهم وال ا�سمك وال ‬
‫املكانة االجتماعية‪.‬‬
‫بل هو �أ�شياء تقولها لهم‪ ،‬وتبقى فيهم ما عا�شوا‪ ،‬يلج�ؤون �إليها يف‬
‫�شدائدهم وامتحاناتهم ومفرتقات الطرق يف حياتهم‪� ،‬أو حتى يف حياتهم‬
‫اليومية‪.‬‬
‫‪- 201 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫رمبا تكون ن�صائح �صغرية عن كلمة مهذبة لطيفة يقولونها فيمنحون‬


‫الود ملن حولهم‪.‬‬
‫�أو قد تكون كلمة �ضمن موقف �صلب‪ ،‬يتقوون به ويقوون من حولهم‪.‬‬
‫هذا �أهم ما ميكن �أن ِيرثوه منه‪.‬‬
‫***‬
‫بينما نقر�أ و�صايا لقمان وحكمته ت�ستوقفنا هذه الآية‪:‬‬
‫ْ َ َ َ َ ْ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ ُّ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫الح ُر يمدهُ مِن بع ِده ِ سبعة أبُ ٍر ما‬‫} َول ْو أنما ِف ال ْر ِض مِن شجر ٍة أقلم و‬
‫َ َ ْ َ َ ُ‬
‫ات اهلل إ ِ َّن اهلل َع ِز ٌيز َحك ٌِيم{ (لقمان‪.)27 :‬‬ ‫ن ِفدت كِم‬

‫هذه الأبحر ال�سبعة التي ميكن �أن تنفد لو �أ�صبحت مدادًا لكلمات اهلل‪،‬‬
‫هل ت�شمل كلمات احلكمة التي تعك�س قدرة اهلل وتق ِّر ُب له عز وجل؟‬
‫هذه الكلمات التي على �أل�سنة الب�شر ولكنها تق ِّرب كلمة اهلل لهم‪ ،‬هل‬
‫هي �ضمن هذا املداد؟‬
‫رمبا‪.‬‬
‫***‬
‫َ ْ ْ َ َّ َ َ‬
‫ي عِل ٍم َويتخِذها‬
‫ُ َّ َ ْ َ‬ ‫اس َم ْن ي َ ْش َتي ل َ ْه َو ْ َ‬
‫} َوم َِن انلَّ ِ‬
‫يل اهلل بِغ ِ‬
‫ِيث ِل ِضل عن سبِ ِ‬
‫الد ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫ُه ُز ًوا أول َِك ل ُه ْم َع َذ ٌاب ُم ِه ٌني{ (لقمان‪.)6 :‬‬
‫عاد ًة يتبادر �إىل �أذهاننا �أن لهو احلديث هو احلديث التافه العادي‪.‬‬
‫لكن لو دققنا يف الآية؛ لوجدناها حتدد } ِ ُل ِض َّل َع ْن َسبِ ِيل اهلل{‪.‬‬

‫‪- 202 -‬‬


‫سورة لقامن‬

‫ونحن نعرف �أن الآيات القر�آنية ُت ْ�ستَخدم �أحيا ًنا لهذا‪ ،‬لي�س احلديث‬
‫التافه وحده‪ ،‬بل �أحيا ًنا حديث مليء بالآيات وبالأحاديث‪ ،‬ولكنها َّ‬
‫توظف‬
‫متاما ‪ -‬بق�صد �أو بغري ق�صد ‪ -‬فت�ضل عن �سبيل اهلل‬ ‫بعيدً ا عن م�سارها ً‬
‫ومقا�صده‪.‬‬
‫كم من �سنن يف الهيئة �أو اللبا�س ا�ست ُْخ ِد َمت للتغطية والإلهاء عن �سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬عن مقا�صده‪.‬‬
‫دوما يف ذلك الناجت الذي ينبثق من تفاعل العلم واخلربة‬
‫املحك ً‬
‫والإح�سان‪.‬‬
‫بعبارة �أخرى‪ :‬يف احلكمة‪.‬‬

‫‪- 203 -‬‬


‫سورة السجدة ‪32‬‬
‫رعشة القلب األولى‬

‫يحدث كث ًريا �أن تغطي الألفة والرتابة على م�شاعرنا حتى تفقد حرارتها‬
‫الأوىل‪ ،‬و َي ْ�ض َحى الأمر جمرد تع ُّود رتيب ال �أثر للهيب �أو �شغف فيه‪.‬‬
‫يحدث هذا كث ًريا يف العالقات الإن�سانية‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا يف عالقاتنا مع‬
‫يوما‪� ،‬أو الهواية‬
‫الأماكن والأ�شياء‪ ،‬ورمبا حتى مع املهنة التي �شغفنا بها ً‬
‫التي كانت ت�شغل وقتنا يف مرحلة ما‪.‬‬
‫يدخل امللل‪ ،‬الرتابة‪ ،‬والتثا�ؤب‪.‬‬
‫يحدث هذا كث ًريا‪.‬‬
‫ويحدث �أحيا ًنا ‪ -‬و�أحيا ًنا كثرية ج ًّدا ‪ -‬يف عالقتنا مع الإميان باهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬تعاىل �سبحانه عن كل ت�شبيه‪.‬‬
‫***‬
‫القارئ الذي كان يبكينا قبل �سنوات‪� ،‬صرنا منر على �صوته مرور‬
‫الكرام‪.‬‬
‫الداعية الذي كانت كلماته تهزنا قبل عقد من الزمان‪� ،‬صار ال يحرك‬
‫فينا �أي �شيء‪ ،‬الآيات التي كانت جتعل �أنفا�سنا ت�ضطرب‪ ،‬مل تعد كذلك‪.‬‬
‫يحدث هذا كث ًريا‪ ،‬وكث ًريا ج ًّدا‪.‬‬
‫‪- 204 -‬‬
‫سورة السجدة‬

‫وقد جند الكثري من الأ�سباب التي تف�سر هذا‪� ،‬أ�سباب متزج بني‬
‫ال�سيا�سة وعلم االجتماع‪ ،‬ف�شل تيار الإ�سالم ال�سيا�سي وكوارثه‪ ،‬الفظاعات‬
‫التي ار ُت ِك َب ْت با�سم الدين‪ ،‬الت�صرفات ال�شخ�صية لهذا الرمز �أو ذاك‪.‬‬
‫وكل هذا �صحيح وم�ؤثر وال بد‪.‬‬
‫ولكن هذا الفتور كان �سيحدث حتى لو مل يتغري العامل من حولنا‪ ،‬وحتى‬
‫لو يتورط فالن �أو فالن فيما تورطا به‪ ،‬الفتور هو جزء من طبيعة الأ�شياء‪.‬‬
‫من الطبيعي ج ًّدا �أن يحدث‪ ،‬على الأقل مع �أغلب النا�س‪.‬‬
‫�أن يتحول الإميان بالتدريج ومع مرور الوقت �إىل جمرد ت�صديق‪.‬‬
‫***‬
‫�سورة ال�سجدة ت�سلط ال�ضوء على جزء من الفرق بني الإميان وبني‬
‫الت�صديق‪.‬‬
‫جتعلنا نراجع ما نعتقد �أنه �إمياننا‪.‬‬
‫ت�ضعنا �أمام م�شهد لهذا الإميان احلقيقي‪ ،‬ثم ت�ضعنا �أمام �إمياننا نحن‪.‬‬
‫هل هذا ي�شبه ذاك؟‬
‫***‬
‫لكي ت�صل بنا ال�سورة �إىل هذا امل�شهد‪ ،‬متر بنا � ًأول باجلهة املعاك�سة‪.‬‬
‫ت�أخذنا �إىل املكذبني‪ ،‬بينما هم يكذبون ب�أهم و�أدق �شيئني يف الإميان‪:‬‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫‪- 205 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫والقيامة‪.‬‬
‫هذان هما ال�شيئان ال َّل َذان يقف عندهما الكثري من الراف�ضني للإميان‪،‬‬
‫ويتخذونهما �سب ًبا يف االبتعاد عنه �إىل اجلهة املعاك�سة‪.‬‬
‫الكتاب �أو الوحي‪ ،‬ويوم القيامة‪ ،‬البعث‪.‬‬
‫�أغلب غري امل�ؤمنني ميكن لهم �أن يقروا بوجود اهلل‪ ،‬وبقدرته على خلق‬
‫كل ما يف الكون‪.‬‬
‫لكنهم يقفون عند هذا دون خطوة �إ�ضافية‪.‬‬
‫�أن يتحدث هذا الإله العظيم اخلالق مع �أحد الب�شر بو�سيلة ما‪� ،‬أو �أن‬
‫يعيد �إحياء كل من مات على الأر�ض‪ ،‬هذا يبدو بالن�سبة لهم غري ممكن‪.‬‬
‫وم�شاهد؛ لذا فالإميان بوجود خالق ما �أمر غري �صعب‪.‬‬
‫َ‬ ‫اخللق موجود‬
‫لكن الوحي واحل�ساب؟ هاتان هما الق�ضيتان اللتان يقف عندهما‬
‫البع�ض‪ ،‬ويفلُّون راجعني‪.‬‬
‫ون ْاف َ َ‬
‫تاهُ‬ ‫َْ َُ ُ َ‬ ‫يل الْك َِتاب َل َر ْي َب فِيه م ِْن َر ِّب الْ َعالَم َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ني ‪ ‬أم يقول‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}الم ‪ ‬ت ِ‬
‫ن‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ َ ُ َ ْ ً َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫ون{‬ ‫ِير مِن قبلِك لعله ْم يهتد‬ ‫بل هو الق مِن ربك ِلنذِر قوما ما أتاهم مِن نذ ٍ‬
‫(السجدة ‪.)3 :1‬‬
‫َ ْ ُ ْ َ َ ِّ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ‬ ‫ََ ُ َ َ َ ََْ‬
‫ون{‬ ‫ِيد بل هم بِلِقاءِ رب ِهم كف ِر‬ ‫}وقالوا أإِذا ضللنا ِف الر ِض أإِنا ل ِف خل ٍق جد ٍ‬
‫(السجدة‪)10 :‬‬

‫ما العمل؟‬
‫ال �شيء مبا�شر‪ ،‬ه�ؤالء �س ُي ْع َر ُفون الح ًقا‪.‬‬
‫‪- 206 -‬‬
‫سورة السجدة‬

‫َ‬ ‫ُ ُ َ ِّ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫ِّ َ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َّ‬


‫ت الِي ُوك بِك ْم ث َّم إِل َربك ْم ت ْرجعون ‪َ ‬ول ْو‬ ‫}قل يتوفاكم ملك المو ِ‬
‫ْ ْ َ َ ِّ ْ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ُْ ْ ُ َ َ ُ ُُ‬ ‫ََ‬
‫جعنا نعمل‬ ‫ترى إ ِ ِذ المج ِرمون ناك ِسو رءو ِس ِهم عِند رب ِهم ربنا أبصنا وس ِمعنا فار ِ‬
‫َ ً َّ ُ ُ َ‬
‫الا إِنا موق ِنون{ (السجدة ‪.)12 :11‬‬‫ص ِ‬

‫لكن ملاذا؟ ملاذا الح ًقا؟‬


‫ُ َ َ َ َ ْ َ َّ ْ َ ُ ِّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َّ‬ ‫َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ُ َّ َ ْ‬
‫كن حق الق ْول مِن لملن جهن َم م َِن‬ ‫} َولو ِشئنا لتينا ك نف ٍس هداها ول ِ‬
‫ْ َّ َ َّ َ ْ َ‬
‫ج ِع َني{ (السجدة‪.)13 :‬‬ ‫اس أ‬
‫الن ِة وانل ِ‬
‫ِ‬
‫هذا هو االمتحان‪ ،‬ميكن ب�سهولة �أن يجعل اهلل الكل م�ؤمنني‪ ،‬لكن �أين‬
‫االختبار يف الأمر لو كان هكذا؟‬
‫َمنْ هو امل�ؤمن ح ًّقا يف كل هذا؟ هل هو الذي �ص َّدق بالوحي وبيوم‬
‫القيامة؟‬
‫ال‪ ،‬بل هو يف مرحلة ما بعد الت�صديق‪ ،‬الإميان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ ِّ‬ ‫ُ َّ ً َ َّ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ َ ُ ِّ‬
‫ِين إِذا ذك ُروا بِها خ ُّروا سجدا َوسبحوا ِبَم ِد َرب ِه ْم َوه ْم‬
‫}إِنما يؤمِن بِآيات ِنا ال‬
‫َّ‬ ‫َ َ ً‬ ‫ً‬ ‫َ ْ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ ُُ ُُْ َ‬ ‫َ َْ َ ْ ُ َ‬
‫جعِ يدعون َربه ْم خ ْوفا َوطمعا َومِما‬ ‫ل يستك ِبون ‪ ‬تتجاف جنوبهم ع ِن المضا ِ‬
‫ََْ ُ ُْ ُ َ‬
‫َرزقناه ْم ين ِفقون {(السجدة ‪.)16 :15‬‬

‫هذا هو م�شهد الإميان الأعلى‪� ،‬أو على الأقل هذا امل�شهد يعرب عن جزء‬
‫كبري من هذا الإميان‪.‬‬
‫�أن يخ َّر املرء �ساجدً ا‪� ،‬أي �أن يخ�ضع دون وعي م�سبق منه �أو �إرادة‪،‬‬
‫�إميانه يت�صرف عنه دون �أن ي�ستكرب‪ ،‬دون �أن متنعه عن ذلك �أي «�أنا»‬
‫مت�سلطة ترى يف خ�ضوعه �أو يف خ�ضوع عقله �إهانة لها‪.‬‬

‫‪- 207 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ‬
‫} َت َت َجاف{‪.‬‬
‫عب به القر�آن عن عالقة ه�ؤالء مع �أَ ِ�س َّرتهم هو لفظ‬‫هذا اللفظ الذي َّ َ‬
‫خا�صا‪ ،‬مل َي ِر ْد �سوى مرة واحدة يف القر�آن يف هذا املو�ضع‪،‬‬ ‫ميتلك �سح ًرا ًّ‬
‫وهو يعرب عن عالقة تباعد بني ال�شخ�ص و�سريره‪ ،‬لكنه تباعد متقطع‪،‬‬
‫يرتك ال�شخ�ص �سريره ‪ -‬على حاجته الطبيعية له ‪ -‬ل�شوقه �إىل موعد �آخر‪،‬‬
‫ً‬
‫يدعو فيه ربه } َخ ْوفا َو َط َم ًعا{‪.‬‬
‫هذا امل�شهد يعرب عن «الذين �آمنوا»‪.‬‬
‫فهل هو يعرب عنا؟‬
‫***‬
‫كيف ال�سبيل للو�صول �إىل هذا؟ اخلروج من الت�صديق �إىل الإميان؟‬
‫عموم ال�سورة مغمورة باليقني‪.‬‬
‫واليقني هو مرحلة عليا من الإميان‪ ،‬درجة من درجاته‪.‬‬
‫لكن عندما ت�ضع «اليقني» هد ًفا لك‪ ،‬ف�إنك قد ت�صل �إىل ما دونه‪� ،‬إىل‬
‫الإميان‪.‬‬
‫كيف ال�سورة مغمورة بهذا؟‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َْ ُ‬
‫اب «ل َر ْي َب» فِي ِه{‪.‬‬ ‫َ‬
‫}ت ِ‬
‫نيل الكِت ِ‬
‫ْ ْ َ َ ْ َ َ ً َّ ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون»{‪.‬‬ ‫الا إِنا «موق ِن‬ ‫}فار ِ‬
‫جعنا نعمل ص ِ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك ْن ِ«ف م ِْريَ ٍة» م ِْن ل َِقائ ِ ِه{‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ ََْ ُ َ‬
‫} َولقد آتينا موس الكِتاب فل ت‬

‫‪- 208 -‬‬


‫سورة السجدة‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ً َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ون»{‪.‬‬ ‫}وجعلنا مِنهم أئ ِمة يهدون بِأم ِرنا لما صبوا وكنوا بِآيات ِنا «يوق ِن‬

‫كلها �إ�شارات �إىل يقني ال َل ْب َ�س فيه‪ ،‬وجوده هو املنجى‪ ،‬وغيابه �إ�شارة‬
‫هالك‪.‬‬
‫وهو حمرك �إميان امل�ؤمن‪ ،‬الذي «يتجافى جنبه عن م�ضجعه»‪.‬‬
‫***‬
‫كيف ال�سبيل �إىل هذا اليقني؟‬
‫ً‬
‫لي�س �سهل وال و�صفة ت�سهل الو�صول له‪.‬‬
‫لكن �أي �صاحب يقني عليه �أن يحدد �أمرين لكي تكون هد ًفا ليقينه‪:‬‬
‫الوحي والبعث‪.‬‬
‫هذان الأمران يجب �أن يكونا حا�ضرين يف ذهنه‪ ،‬م�ستح�ض ًرا م�شاهدهما‬
‫يف ذاكرته امل�ستمدة من القر�آن‪.‬‬
‫لو حتقق جزء من اليقني فيهما حتديدً ا‪ ،‬فالباقي تفا�صيل‪.‬‬
‫***‬
‫ت�شري لنا ال�سورة � ً‬
‫أي�ضا بطريقة يف ذلك قد جتعلنا نرجع �إىل اهلل‪.‬‬
‫َْ ُ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ‬ ‫ْ َْ َ ُ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫ون{‬‫جع‬
‫ير ِ‬ ‫ب لعله ْم‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫اب‬
‫اب الدن دون الع ِ‬
‫ذ‬ ‫}ولذِيقنهم مِن العذ ِ‬
‫(السجدة‪.)21 :‬‬

‫‪- 209 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ا�ستثم ْر م�شاكلك الدنيوية ا�ستثما ًرا �أمثل يف جعلك تتقرب �إىل اهلل‪،‬‬
‫ِ‬
‫ورمبا يقودك هذا �إىل ما بعد وما بعد‪ ،‬م�صلحة؟ بالت�أكيد م�صلحة‪ ،‬ال تن�س ‬
‫�أنك عبد‪ ،‬اخلع �أناك كما خلع مو�سى نعليه‪ ،‬نعم‪� ،‬أناك مثل نعليه‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هي م�صلحة‪ ،‬وهو يقولها لك �صراح ًة‪ ،‬لعلك ترجع‪.‬‬
‫***‬
‫ثمة حوار �أخري ينهي ال�سورة يعرب � ً‬
‫أي�ضا عن اليقني‪.‬‬
‫ِني ‪ ‬قُ ْل يَ ْو َم الْ َف ْت َل َي ْن َف ُع َّال َ‬
‫ِين‬ ‫ون َم َت َه َذا الْ َف ْت ُح إ ْن ُك ْن ُت ْم َصادق َ‬
‫ََُ ُ َ‬
‫}ويقول‬
‫حِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫َ ُْ َ َ ْ ُْ ُ َ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ ُْ‬ ‫ََ‬
‫ون{‬ ‫كف ُروا إِيمانهم َول هم ينظ ُرون ‪ ‬فأع ِرض عنهم وانت ِظر إِنهم منت ِظر‬
‫(السجدة‪.)30:‬‬
‫ََ‬
‫}فأ ْع ِر ْض َع ْن ُه ْم َو ْان َت ِظ ْر{‪.‬‬
‫بال�ضبط كما ننتظر �أذان املغرب يف نهاية يوم رم�ضان ونحن نعرف �أنه‬
‫�سي�أتي‪.‬‬
‫انتظ ْر يوم الفتح‪ ،‬يوم البعث‪ ،‬يوم يت�أكدون من �أنهم كانوا يف‬
‫كذلك ِ‬
‫اجلهة اخلط�أ‪.‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫سورة األحزاب ‪33‬‬
‫كورس تعليم حفر الخنادق‬

‫البيوت ال حتتاج فقط �إىل قواعد و�سقوف وجدران‪.‬‬


‫أي�ضا �إىل خندق حولها‪.‬‬ ‫بل هي حتتاج � ً‬
‫قد يبدو ذلك �أم ًرا مرت ًفا يف البداية‪ ،‬وال ُي ْد َرج يف خريطة البناء‪.‬‬
‫لكن كل من َم َّر بتجربة بناء �أُ ْ�س َرة يعرف ً‬
‫متاما عما �أحتدث‪ ،‬يعرف كم‬
‫هو مهم و�أ�سا�سي �أن يكون هناك خندق ما‪.‬‬
‫لي�س الأ�سرة �أو البيت وحده يحتاج �إىل خندق‪.‬‬
‫بل كل منا يحتاج �إىل هذا اخلندق‪� ،‬إىل خندق ما مبعزل عن وجوده‬
‫�ضمن �أ�سرة �أو ال‪.‬‬
‫نحتاج �إىل هذا اخلندق‪ ،‬بل �إىل عدة خنادق‪.‬‬
‫يع�ضها حتمينا من اخلارج‪.‬‬
‫والبع�ض الآخر حتمينا من الداخل‪.‬‬
‫من �أنف�سنا‪ ،‬من التمادي‪.‬‬
‫كلنا نعرف هذا بطريقة ما‪ ،‬لكن رمبا دون �أن نفعل �شي ًئا جتاهه‪.‬‬

‫‪- 211 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سورة الأحزاب التي نزلت �أثناء معركة اخلندق ت�ضع ً‬


‫معول يف يد كل‬
‫منا‪ ،‬وتقول‪ :‬احفر خندقك بنف�سك‪.‬‬
‫***‬
‫در�س احلياة الأول يف حفر اخلنادق‪.‬‬
‫كلنا يحتاج �إىل هذا اخلندق‪.‬‬
‫حتى الر�سول ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬نف�سه‪.‬‬
‫حتى هو‪.‬‬
‫اخلندق الأول الذي يحتاجه اجلميع‪:‬‬
‫«التقوى»‪.‬‬
‫َ َ َ ً‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َُْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُّ َّ‬
‫ني إِن اهلل كن علِيما‬‫ين َوالمناف ِ ِق‬ ‫ب ات ِق اهلل َول تطِعِ الكف ِِر‬ ‫}يا أيها انل ِ‬
‫َ ً‬
‫حكِيما{ (األحزاب‪)1 :‬‬

‫اليوم ميكن لعبارة «اتق اهلل» �أن تثري غ�ضب من تقال له‪ ،‬كما لو كانت‬
‫انتقا�صا منه ومن تقواه‪� ،‬أو كما لو كان هو فوق م�ستوى التذكري بالتقوى‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن ها هي ال�سورة تفتتح بهذا الأمر‪ ،‬وبهذه ال�صيغة املبا�شرة للنبي ‪-‬‬
‫عليه ال�صالة وال�سالم ‪ ،-‬ال �أحد فوق هذا الأمر‪ ،‬ال �أحد فوق �أن يحتاج هذه‬
‫الن�صيحة‪ ،‬هذا اخلندق‪.‬‬
‫هذا هو اخلندق الأول‪ :‬التقوى‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬ما الذي ميكن �أن يعرب عن التقوى �أكرث من اخلندق الذي‬
‫يقيك من املخاطر؟‬
‫‪- 212 -‬‬
‫سورة األحزاب‬

‫هذا خندق ال مفر من حفره‪� ،‬إن مل تفعل‪ ،‬ف�أنت حتفر ما �سيقودك �إىل‬
‫الهاوية‪.‬‬
‫***‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ََْْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ََ‬
‫ي ِف ج ْوف ِ ِه َوما جعل أز َواجك ُم الل ِئ تظاه ُِرون‬ ‫ِ‬ ‫}ما جعل اهلل ل َِرج ٍل مِن قلب‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ َّ ُ َّ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ ُ ُ َ ْ‬
‫اءك ْم ذل ِك ْم ق ْولك ْم بِأف َواهِك ْم َواهلل‬ ‫مِنهن أمهات ِكم وما جعل أدعِياءكم أبن‬
‫َ ُ ُ ْ َ َّ ُ َ ْ‬
‫السبِ َيل{ (األحزاب‪.)4 :‬‬
‫َّ‬
‫الق َوه َو يهدِي‬ ‫يقول‬

‫يحميك هذا اخلندق من �أن يدخلك قلب �آخر ي�ش ِّو�ش على قلبك‪ ،‬من �أن‬
‫يت�سلل قلب �إىل قلبك‪ ،‬فيجعل لك قلبني‪ ،‬وما جعل اهلل لرجل من قلبني يف‬
‫جوفه؛ لأن هذا بب�ساطة �سيخرب عمل القلب الأ�صل‪.‬‬
‫يحميك اخلندق � ً‬
‫أي�ضا من تداخل احلقيقة مع الوهم‪ ،‬عالقات القرابة‬
‫والدم لن تتغري فقط بكلمة تقولها لهذا ال�سبب �أو ذاك‪ ،‬زوجتك لن ت�صبح‬
‫ك�أمك فقط لأنك تريد عقوبتها دون �أن تطلقها‪ ،‬وهذا الغريب مل ي�صبح‬
‫ابنك فقط؛ لأنك تريد زيادة عدد الذكور يف قبيلتك كي تزيد قوتها‪.‬‬
‫معايري القوة واالرتباط �ستتغري من الآن ف�صاعدً ا‪ ،‬ويجب �أن تو�ضح‬
‫دوما بحفر هذا اخلندق الذي مييزها عما �سواها‪.‬‬
‫ً‬
‫***‬
‫�ساب ًقا‪ ،‬كانت ال�سلطة الأبوية هي ال�سلطة الأعلى التي ميكن تخيلها يف‬
‫التي ال ت َّثل يف الأب فقط‪ ،‬بل يف اجلد ويف‬
‫َُ‬ ‫املجتمع القبلي‪ ،‬ال�سلطة الأبوية‬
‫زعيم القبيلة‪.‬‬

‫‪- 213 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن اليوم الأمر خمتلف‪.‬‬


‫هناك نوع خمتلف من ال�سلطة قادم الآن‪� ،‬سلطة م�صدرها الإميان‪،‬‬
‫وقوامها الإميان‪ ،‬وقوتها التنفيذية بالإميان‪.‬‬
‫�إنها ال�سلطة التي تهتم بك �أكرث من اهتمامك بنف�سك؛ لأنها بب�ساطة‬
‫تعرفك �أكرث مما تعرف نف�سك‪.‬‬
‫َّ ُّ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ُ َّ َ ُ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ‬
‫ام بعضه ْم‬ ‫}انل ِب أول بِالمؤ ِمنِني مِن أنف ِس ِهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الرح ِ‬
‫ِكمْ‬‫َ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ ُْ ْ َ َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َْ‬
‫ج ِرين إِل أن تفعلوا إِل أو ِلائ‬ ‫ِ‬ ‫ا‬‫ه‬ ‫م‬ ‫ال‬‫و‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬‫ال‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫اهلل‬ ‫اب‬
‫ِ‬ ‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ض‬‫ٍ‬ ‫ع‬ ‫أول بِب‬
‫ْ‬
‫َم ْع ُروفًا ك َن ذل َِك ف الك َِتاب َم ْس ُط ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ورا{ (األحزاب‪.)6 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫كيف تكون �أزواج النبي �أمهات امل�ؤمنني دون �أن يكون هو عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم �أ ًبا للم�ؤمنني؟‬
‫�ألي�س هذا هو املعتاد؟ �إن كانت فالنة �أمك‪ ،‬فزوجها �أبوك‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لكن هذا لي�س �ضمن املعتاد‪ ،‬هنا نخرج من ال�سلطة الأبوية‬
‫التقليدية �إىل �شيء جديد خمتلف‪ ،‬تتمثل ال�سلطة اجلديدة يف �شكل من‬
‫�أ�شكالها بهذه الأمومة‪ ،‬الأمومة احتواء وعطف وحنان واحت�ضان‪ ،‬و�أنت من‬
‫خالل عالقة الأمومة هذه بزوجات النبي‪ ،‬تنتمي لبيت النبوة‪ ،‬تكون ربي ًبا‬
‫فيه دون �أن تختلط عالقتك فيه عليه ال�صالة وال�سالم لت�صبح عالقة �أبوة‬
‫ً‬
‫بدل من عالقة ر�سول مبتبعيه‪.‬‬
‫�أمهاتنا هُ نَّ الالئي قمن برتبيتنا‪.‬‬
‫وهنَّ كذلك ً‬
‫فعل عرب القرون‪ ،‬ودور �أمهات امل�ؤمنني هو هذا‪.‬‬

‫‪- 214 -‬‬


‫سورة األحزاب‬

‫كل واحدة منهنَّ ‪ :‬ال�سيدة خديجة‪ ،‬ال�سيدة عائ�شة‪ ،‬ال�سيدة حف�صة‪ ،‬لكل‬
‫منهنَّ دور يف غر�س �شيء ما فينا‪.‬‬
‫�أو هذا ما يجب �أن يحدث على الأقل‪.‬‬
‫***‬
‫ْ َْ َ ُ َ ََ‬ ‫ْ َ ْ ََ ْ ُ ْ ْ َ َ‬ ‫}إ ْذ َج ُ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ‬
‫ت البصار َوبلغ ِ‬
‫ت‬ ‫اءوكم مِن فوق ِكم َومِن أسفل مِنكم َوإِذ زاغ ِ‬ ‫ِ‬
‫َُ َ ُْ ُْ ْ ُ َ َ ُْ ُ َْ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُْ ُ ُ َ‬
‫ج َر َوتظنون بِاهلل الظنونا ‪ ‬هنال ِك ابت ِ َ‬
‫ل المؤمِنون وزل ِزلوا ِزلزال‬ ‫القلوب النا ِ‬
‫َ ً‬
‫شدِيدا{ (األحزاب ‪.)11 :10‬‬

‫ثم ت�أخذنا ال�سورة �إىل عمق املواجهة التي تط َّل َب ْت حفر اخلندق‪� ،‬إىل‬
‫غزوة الأحزاب‪.‬‬
‫لقد جاءوا من كل مكان‪ ،‬من الداخل واخلارج‪ ،‬زاغت الأب�صار؛ �إذ مل‬
‫يعد هناك مكان واحد ميكن الرتكيز عليه‪ ،‬القلوب عند احلناجر‪ ،‬تكاد‬
‫خ�ضم حماولتنا‬
‫تخرج من هول ما ت�شعر به‪ ،‬يكاد يخرج ما بها من �إميان يف ِّ‬
‫ُّ‬
‫الظ ُنونَا{‪.‬‬ ‫َ ُ ُّ َ‬
‫الإم�ساك بالقلب‪َ } ،‬وتظنون بِاهلل‬

‫احل�صار من اخلارج‪ ،‬والزلزال من الداخل‪.‬‬


‫كث ًريا ما حدث ذلك‪ ،‬كث ًريا ما انتظرنا �أن ت�أتي العا�صفة لتحمينا‪ ،‬لكن‬
‫مل يحدث‪ ،‬مل ت� ِأت العا�صفة‪� ،‬أو رمبا �أتت لكن مل نح�سن ا�ستثمارها‪ ،‬بل �إننا‬
‫انتظرنا العا�صفة املنقذة ونحن مل نحفر اخلندق � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫ورا‪‬‬ ‫ولُ إ َّل ُغ ُر ً‬
‫ََ ُ ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ ْ ُ َ ُ َ َ َّ َ ُ ُ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ َ‬
‫}وإِذ يقول المناف ِق‬
‫ون والِين ِف قلوب ِ ِهم مرض ما وعدنا اهلل ْورس ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ ٌ ُْْ َ ََْ َْ َ َ َُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ََْ َ ُ َ‬
‫جعوا ويستأذِن ف ِريق مِنهم انل َّ‬
‫ب‬ ‫ثب ل مقام لكم فار ِ‬ ‫وإِذ قالت طائ ِفة مِنهم يا أهل ي ِ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ َّ ُ ُ َ‬
‫وت َنا َع ْو َر ٌة َو َما ِ َ‬
‫ه بِعو َر ٍة إِن ي ِريدون إِل ف َِر ًارا{ (األحزاب ‪.)13 :12‬‬ ‫يقولون إِن بي‬

‫‪- 215 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يف كل مرة مل ت�أت العا�صفة‪� ،‬أو مل ي�أت الن�صر‪� ،‬أو جاءت الهزمية‪ ،‬كان‬
‫يخرج البع�ض منا‪� ،‬أحيا ًنا يخرج جزء منا ليقول‪� :‬أين وعد اهلل؟‬
‫أ�صل بهذا املعنى الذي نحاول �أن نت�شبث به‪ ،‬بل ق َّدم لنا‬ ‫واهلل مل يعدنا � ً‬
‫جمموعة �أ�سباب تقود �إىل نتائج‪ ،‬مل ننجز الأ�سباب‪ ،‬ولكن انتظرنا النتائج‪،‬‬
‫وملَّا مل حتدث‪ ،‬قلنا‪� :‬أين وعد اهلل؟ وذهب البع�ض بعيدً ا يف ذلك �إىل حد‬
‫ترك الإميان كله‪ ،‬بنا ًء على جمموعة افرتا�ضات خاطئة‪.‬‬
‫ارا{ (األحزاب‪)13:‬‬ ‫ون إ َّل ف َِر ً‬
‫َ ُ ُ َ َّ ُ ُ َ َ َ ْ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ‬
‫}يقولون إِن بيوتنا عورة وما ِ‬
‫ه بِعور ٍة إِن ي ِريد ِ‬
‫فعل‪ ،‬بال خنادق‪ ،‬تركوها ُع ْر َ�ض ًة‬ ‫الكثريون منا تركوا بيوتهم عورة ً‬
‫أ�صل‪ ،‬وطفق يقدم‬ ‫لكل ما ي�أتي من �سموم‪ ،‬البع�ض منا كان فخو ًرا بذلك � ً‬
‫الأ�سباب املوجبة لذلك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ ُ ُ َ‬
‫ون إِل ف َِر ًارا{‪.‬‬ ‫وكانت النتيجة واحدة‪} :‬إِن ي ِريد‬

‫***‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ ُ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫َْ َْ َ‬
‫الأس‬ ‫ِني مِنك ْم َوالقائِلِني ِ ِلخوان ِِهم هلم إِلنا ول يأتون‬ ‫}قد يعل ُم اهلل المعوق‬
‫َّ َ ً‬
‫إِل قلِيل{ (األحزاب‪.)18 :‬‬
‫ْ‬
‫}ال ُم َع ِّوق َِني{ بك�سر الواو‪ ،‬الذين يعيقون النا�س‪ ،‬رمبا �أحيا ًنا حتدث‬
‫الإعاقة بن�شر الي�أ�س‪ ،‬و�أحيا ًنا بن�شر �أمل خيايل ب�سقف توقعات مرتفع‪،‬‬
‫يقود �إىل الي�أ�س بعد �أن يثبت ف�شله‪ ،‬لي�ست الإعاقة فقط يف دعوات‬
‫التحبيط والتثبيط‪ ،‬بل � ً‬
‫أي�ضا يف ا�ستخدام الأمل كمخدر‪ ،‬يف الرتويج �أن‬
‫الن�صر «�صرب �ساعة» مبعزل عن �صرب �سنوات من العمل‪ ،‬يف النظر �إىل‪.‬‬

‫‪- 216 -‬‬


‫سورة األحزاب‬

‫�ستتدخل يف اللحظة احلا�سمة لتقلب كل النتائج‪ ،‬كثريون‬ ‫َّ‬ ‫ال�سماء باعتبارها‬


‫هم من يروجون لكل هذا‪ ،‬وهم «مع ِّو ُقون» على نحو �أ�سو�أ بكثري من �أ�صحاب‬
‫الأفكار ال�سلبية؛ لأن نتائج ه�ؤالء تكون �أ�شد َو ْق ًعا على املدى البعيد‪.‬‬
‫***‬
‫َ َْ َ ْ‬ ‫ُ ْ ٌ َ َ ٌَ َ ْ َ َ َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ََ ْ َ َ َ ُ ْ‬
‫ال ْوم الخ َِر‬‫ول اهلل أس َوة حسنة ل ِمن كن ي ْرجو اهلل و‬
‫}لقد كن لكم ِف رس ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫َوذك َر اهلل كثِ ًريا{ (األحزاب‪.)21 :‬‬
‫هذا هو اخلندق الأهم يف حياة كل منا‪� ،‬أن نتبع خطاه‪� ،‬أن نحاول فهم‬
‫ما كان يفعله وكيف كان يفكر‪ ،‬وكيف كان يت�صرف‪.‬‬
‫ملاذا ت�أخذنا �سورة الأحزاب وغريها من ال�سور �إىل داخل بيته‪� ،‬إىل‬
‫م�شاكل قد يتعر�ض لها كل بيت؟ لأنه من املهم ج ًّدا �أن نفهم واقعيته‬
‫وب�شريته‪ ،‬مل ي�صل ملا و�صله دون املرور بامل�شاكل اليومية لكل النا�س‪ ،‬مل‬
‫يكن لديه قدرات خارقة جتعل كل َمنْ حوله يطيعونه‪ ،‬بل كان يجاهد من‬
‫�أجل ذلك‪ ،‬ومعرفة ذلك بالن�سبة لنا �أمر �أ�سا�سي يف االقتداء به‪ ،‬ال يوجد‬
‫حل �سحري لأي م�شكلة‪ ،‬بل مواجهتها � ًأول كما هي‪ ،‬وعر�ض احللول املمكنة‪،‬‬
‫حتى مع �أ�صعب هذه احللول‪.‬‬
‫َْ ََْ َ َ‬ ‫َّ َ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ َ َ َّ ِّ َ ْ ُ َّ َ َ َ‬
‫ت فل تضع َن بِالق ْو ِل فيطمع‬ ‫ت كأح ٍد م َِن النساءِ إ ِ ِن اتقي‬ ‫}يا ن ِساء انل ِب لس‬
‫َْ ََ ٌ َُْ َ ًَْ َُْ ً‬ ‫َّ‬
‫الِي ِف قلبِ ِه مرض وقلن قول معروفا{ (األحزاب‪.)32 :‬‬
‫علينا �أن ننتبه هنا �إىل �أن كل �شخ�صية عامة ‪ -‬يف �أي جمال كانت‬
‫�شهرتها ‪ -‬تتع َّر�ض للنظر �إليها من خالل عد�سة مكربة‪ ،‬يحدث هذا حتى‬
‫مع م�شاهري الفن والريا�ضة‪� ،‬إذ تتم مراقبة زوجاتهم �أو �أوالدهم على نحو‪.‬‬

‫‪- 217 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫جلل و�أم ًرا كب ًريا‪ ،‬النا�س تتعامل مع‬ ‫يجعل من �أي هفوة طبيعية حد ًثا ً‬
‫عموما مبعايري خمتلفة عن تلك التي تعامل نف�سها بها‪ ،‬وهذا �أمر‬ ‫امل�شاهري ً‬
‫يكاد يكون جز ًءا من الطبيعة الب�شرية يف كل زمان ومكان‪ ،‬مهما كان هذا‬
‫ب�سيطا �أو متوا�ض ًعا �أو ُم ِ�ص ًّرا على �أن يعي�ش حياته كما الآخرين‪،‬‬ ‫امل�شهور ً‬
‫متاما‪ ،‬و�ستتعامل مع «عاديته» باعتبارها حد ًثا‬ ‫النا�س لن ترتكه يفعل ذلك ً‬
‫خار ًقا‪ ،‬ونف�س ال�شيء �سيحدث مع �أبنائه �أو �أهل بيته‪.‬‬
‫�إذا كان يحدث مع امل�شاهري العاديني‪ ،‬فهو يحدث من باب �أَ ْو َل مع‬
‫م�شاهري الدعاة وامل�صلحني‪ ،‬ومن باب �أَ ْو َل و�أَ ْو َل مع الر�سل والأنبياء‪.‬‬
‫خنادق حلماية �أهل بيت النبي ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪-‬‬ ‫َ‬ ‫ال�سورة حتفر‬
‫من هذه الطبيعة الب�شرية‪ ،‬حلمايتنا من التمادي يف ذلك‪ ،‬من النظر لهم‬
‫بعني جتعلهم لي�سوا من الب�شر؛ لأن هذه النظرة بالذات هي التي ت�سيء لهم‬
‫عندما تتعامل مع ب�شريتهم باعتبارها �أخطا ًء ال ُت ْغ َت َفر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ َْ ُ‬
‫الر ْج َس أ ْه َل َال ْي ِت َويُ َط ِّه َرك ْم َت ْط ِه ًريا{‬
‫ك ُم ِّ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬
‫}إِنما ي ِريد اهلل ِلذهِب عن‬
‫(األحزاب‪.)33 :‬‬
‫ال ميكن لدور البيت الرتبوي ‪ -‬دور االقتداء والتعليم ‪� -‬أن يكون ً‬
‫فاعل‬
‫ومتفاعل عرب الع�صور �إن مل يكن رج�س هذه النظرة الت�ضخيمية قد زال‪.‬‬ ‫ً‬
‫ال ميكنك � ً‬
‫أ�صل �أن تقتدي ب�شخ�ص �أو تتعلم منه �إن كنت تعامله على‬
‫�أ�س�س غري ب�شرية‪.‬‬
‫و�أهل البيت ‪ -‬بالتعريف ‪ -‬هم َمنْ حملوا بيت النبوة لنا‪ ،‬ب�أخالقه‬
‫و�سلوكياته‪ ،‬والتعامل معهم على �أ�س�س ت�ضخمهم وحتا�سبهم على طبيعتهم‬
‫الب�شرية يعطل عملية الرتبية نف�سها‪.‬‬
‫‪- 218 -‬‬
‫سورة األحزاب‬

‫نوعا من احلماية‬
‫اخلنادق التي ُو ِ�ض َعت هنا يف ال�سورة‪ ،‬والتي حققت ً‬
‫لأهل بيته عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬كانت �ضرورية جلعل دور �أهل البيت‬
‫الرتبوي �أكرث جناع ًة وتركيزًا‪.‬‬
‫***‬
‫و�سورة الأحزاب هي التي و�صفته ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪ -‬بال�سراج‬
‫املنري‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ ً َ‬ ‫شا َونَذ ً‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُّ َّ َ ْ َ ْ َ َ‬
‫اك َشاه ًِدا َو ُمبَ ِّ ً‬
‫ِيرا ‪َ ‬وداعِيا إِل اهلل بِإِذن ِ ِه‬ ‫}يا أيها انل ِب إِنا أرسلن‬
‫س ًاجا ُمنِ ًريا{ (األحزاب ‪.)46 :45‬‬‫َو ِ َ‬

‫وس ًاجا ُمنِ ًريا{‪.‬‬


‫} َِ‬

‫�سراجا من ًريا نحتاجه �أثناء حفر اخلندق‪ ،‬يف الظلمة‪ ،‬بينما نتلم�س ‬
‫ً‬
‫طريقنا للخروج‪.‬‬
‫�سراجا من ًريا‪ ،‬رغم �أننا مل نتعامل معه على هذا الأ�سا�س يف �أكرث‬
‫نعم‪ً ،‬‬
‫الأحيان‪.‬‬
‫***‬
‫وهي ال�سورة التي نزل فيها الأمر بال�صالة على النبي ‪ -‬عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم ‪.-‬‬
‫َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ َ َ َ َّ ِّ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ِّ ُ‬ ‫َّ‬
‫ِين آمنوا صلوا علي ِه َوسلموا‬
‫}إِن اهلل وملئ ِكته يصلون ع انل ِب يا أيها ال‬
‫َ‬
‫ت ْسل ًِيما{ (األحزاب‪.)56 :‬‬

‫‪- 219 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وهذا خندق �آخر نحفره حول عالقتنا به عليه ال�صالة وال�سالم‪،‬‬


‫عالقتنا التي ميكن �أن تكون �أهم عالقة �إن�سانية يف حياة كل منا‪ ،‬خندق‬
‫يحمينا من الإفراط والتفريط يف هذه العالقة‪� ،‬إذ متيل الطبيعة الب�شرية‬
‫�إىل االنحياز �إىل جهة من الطرفني؛ �إما الإفراط ‪ -‬الغلو ‪ -‬الذي يحول‬
‫الأنبياء والر�سل ‪ -‬وحتى الأولياء ‪� -‬إىل �أ�شباه �آلهة‪ ،‬و�أحيا ًنا �إىل �آلهة‪.‬‬
‫�أو التفريط املعاك�س‪ ،‬الذي ي�سقط فيه �آخرون‪ ،‬حيث يتم نزع كل ما هو‬
‫مقد�س عن الأنبياء‪.‬‬
‫«ال�صالة على النبي» هي اخلندق الذي مينعنا من ال�سقوط هنا �أو‬
‫هناك‪.‬‬
‫فهي متنحه مكانة مقد�سة بال �شك‪.‬‬
‫لكنها يف الوقت نف�سه‪ ،‬ت�ضع مكانته مبعزل عن الغلو‪.‬‬
‫كيف؟‬
‫لأن ال�صالة على النبي هي دعاء له‪� ،‬أي �إنك تدعو اهلل له عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم‪.‬‬
‫ال ميكنك �أن ت�صلي على النبي و�أن ت�صلي له‪.‬‬
‫جمرد كون �أعظم عبادة ترتبط به عليه ال�صالة وال�سالم هي الدعاء‬
‫له؛ فهذا �أمر يحمي مكانته من الغلو‪.‬‬
‫على الأقل من ناحية التعبد‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 220 -‬‬


‫سورة األحزاب‬

‫وهذا اخلندق الذي يحوط مكانته عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬يرتبط‬


‫بخندق �آخر يحيط بك‪ ،‬كما لو �أن ثمة قناة مو�صلة بني اخلندقني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ ِّ ُ ُ ْ ً َ ً‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ‬
‫اذ ُك ُروا اهلل ذ ِْك ًرا َكثِ ً‬
‫ريا ‪َ ‬وسبحوهُ بك َرة َوأ ِصيل ‪ ‬ه َو‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا‬
‫الظلُ َمات إ َل انلُّور َو َك َن بال ْ ُم ْؤمننيَ‬
‫َّ ُ َ ِّ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ َ ُ ْ َ ُّ‬
‫الِي يصل عليكم وملئ ِكته ِلخ ِرجكم مِن‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬
‫َرحِيما{ (األحزاب ‪.)43 :41‬‬

‫اهلل ي�صلي علينا؛ مبعنى الرحمة‪ ،‬ومالئكته؛ مبعنى ا�ستغفارهم لنا‪.‬‬


‫وخروجنا من الظلمات �إىل النور‪.‬‬
‫حدث ذلك عرب ال�سراج املنري‪ ،‬الذي نتلم�س طريق اخلروج معه عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم‪.‬‬
‫***‬
‫َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫ي أن ي ِملنها َوأشفق َن‬ ‫ال فأب‬‫الب ِ‬ ‫}إِنا عرضنا المانة ع السماو ِ‬
‫ات والر ِض و ِ‬
‫ْ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ ُ َّ ُ َ َ َ ُ ً َ ُ ً‬
‫مِنها وحلها ِالنسان إِنه كن ظلوما جهول{ (األحزاب‪.)72 :‬‬
‫حتتاج الأمانة �إىل خنادق حولها حلمايتها‪.‬‬
‫وهذه ال�سورة تقدِّ م لنا عالمات مهمة يف حفر اخلنادق‪.‬‬

‫‪- 221 -‬‬


‫سورة سبأ ‪34‬‬
‫أوهام القوة وأوهام الضعف‬

‫أوهاما عديدة‪ ،‬بع�ضها �أوهام جتعلهم‬ ‫كثريون منا ميتلكون عن �أنف�سهم � ً‬


‫�أكرب �أو �أقوى �أو �أف�ضل �أو �أعلم �أو �أجمل‪ ،‬وبع�ضها �أوهام جتعلهم �أ�صغر �أو‬
‫�أ�ضعف �أو �أكرث ً‬
‫جهل �أو �أقبح‪.‬‬
‫يف احلالتني‪ ،‬هذه الأوهام ميكن �أن ت�أخذ �صاحبها �إىل هاويته‪ ،‬لي�س ‬
‫مبا�شر ًة بالت�أكيد‪ ،‬لكن يف الطريق �إىل الهاوية ثمة �إ�شارات �إىل ما هو قادم‪.‬‬
‫نرى ذلك كث ًريا مع �أ�شخا�ص حولنا نعرفهم ويعرفوننا‪ ،‬رمبا نراه �أحيا ًنا‬
‫مع �أنف�سنا‪� ،‬أحيا ًنا ننتبه �إىل الإ�شارات املحذرة فنم�سك اللجام‪ ،‬و�أحيا ًنا ال ‬
‫ننتبه؛ فنذهب �إىل النهايات‪.‬‬
‫طرف‬ ‫�أوهام القوة وال�ضعف تلك تعتا�ش على بع�ضها البع�ض‪ ،‬مثل َ‬
‫معادلة ال وجود لأحدهما دون الآخر‪.‬‬
‫�أولئك الذين يتوهمون القوة ميار�سونها على �أولئك الذين يتوهمون‬
‫ال�ضعف‪ ،‬والذين يتوهمون �أنهم الأف�ضل ي�ؤ ِثرون على �أولئك الذين يتوهمون‬
‫العك�س‪ ،‬كل وهم يقابل �ضده يف معادلة حتتاج �إىل الأوهام كي تتوازن‪.‬‬
‫ما عالقة كل هذا ب�سورة �سب�أ؟‬
‫الأمر يتو�ضح يف مركز ال�سورة‪ ،‬احلدث الذي �أَ َخ َذ ا�سمها؛ �سب�أ‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 222 -‬‬
‫سورة سبأ‬

‫ملخ�ص ما �أ�شارت �إليه الآيات �أن �سب�أ كانت ت�شهد ازدها ًرا اقت�صاد ًّيا‬
‫كب ًريا‪ ،‬قائ ًما ب�شكل كبري على تنوع منتجاتها الزراعية‪ ،‬ومن َث َّم الإجتار‬
‫بهذه املنتجات‪ ،‬وكانت الرحلة التجارية التي تبيع منتجات �سب�أ متر بطريق‬
‫فيه قرى ظاهرة(((‪ ،‬وهذا يعني وجود مراكز مدنية طيلة الطريق على نحو‬
‫يجعل الطريق �آم ًنا؛ �إذ �إن ُق َّطا َع الطرق ال ميكنهم غزو قوافل التجارة �إال ‬
‫عندما متر يف طريق مقفر بعيد‪.‬‬
‫َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ً َ َ ً َ َ َّ ْ َ َ َّ‬
‫الس ْ َ‬
‫ي‬ ‫}وجعلنا بينهم وبي القرى ال ِت باركنا فِيها قرى ظاهِرة وقدرنا فِيها‬
‫َ َ َ َ َ َ َّ ً‬
‫اما آمن َ‬ ‫ِس ُ‬
‫ني{ (سبأ‪)18 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ريوا فِيها ل ِال وأي‬

‫ورغم ميزة هذا الأمر‪� ،‬إال �أنه ميكن �أن يكون عي ًبا يف ح�سابات من‬
‫يرغب باملزيد من الربح‪ ،‬فالطريق الآمن مينع التجار من فر�صة االحتكار‬
‫ورفع ال�سعر‪ ،‬ميكن ل ٍّأي كان �أن يجلب نف�س الب�ضاعة من م�صدرها الأ�صلي‬
‫عندما يكون الطريق �آم ًنا(((‪.‬‬
‫لذلك فقد َّ‬
‫ف�ضل امللأ يف �سب�أ الت�ضحية ب�أمان الطرق يف �سبيل املزيد‬
‫من الأرباح‪.‬‬
‫َ َ َْ ُ‬ ‫َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ‬
‫ارنا َوظلموا أنفسه ْم فجعلناه ْم أحادِيث َوم َّزقناه ْم‬‫}فقالوا ربنا باعِد بي أسف ِ‬
‫ُ ِّ َ َّ َ ُ‬ ‫ُ َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ‬
‫ور{ (سبأ‪.)19 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫ار‬
‫ٍ‬ ‫ب‬‫ص‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫ك ممز ٍق إِن ِف ذل ِك لي‬

‫�أوهام القوة جعلتهم يت�صورون �أنهم �سيكونون قادرين على حتقيق‬


‫احلفاظ على �أمن قوافلهم واحتكار جتارتهم وحتقيق املزيد من الأرباح‪.‬‬

‫((( مفصل تاريخ العرب قبل اإلسالم الجزء ‪ 13‬صفحة ‪.241‬‬


‫((( “ قالوا ربنا باعد بني أسفارنا‪..‬رؤية تدبر اقتصادية” يحيى البوليني موقع املسلم نت‪.‬‬
‫‪- 223 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن ال�ضربة جاءتهم يف م�صدر جتارتهم الأ�صلي‪ :‬يف املنتجات‬


‫الزراعية‪.‬‬
‫وقد �أدى انهيار �سد م�أرب �إىل �أكرب هجرة من اليمن �إىل اجلزيرة‬
‫العربية‪.‬‬
‫***‬
‫لكن ال�سورة ت�ضم � ً‬
‫أي�ضا ق�صة �أخرى ميكن �أن نرى فيها هذا الوهم من‬
‫جديد‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َُُ‬ ‫لَ‬‫ِيل َوج َفان َك ْ َ‬ ‫َْ َ ُ َ َُ َ ََ ُ ْ ََ َ َََ َ‬
‫ات‬‫ور را ِسي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫اب‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ ٍ‬ ‫اريب وتماث‬ ‫}يعملون ل ما يشاء مِن م ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ َ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ْ َ َ َّ‬
‫ور ‪ ‬فلما قضينا علي ِه الم ْوت‬ ‫الشك ُ‬ ‫اعملوا آل داوود شكرا وقلِيل مِن عِبادِي‬
‫ْ ُّ َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َّ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َّ َ َ َّ َ‬
‫الن أن لو كنوا‬ ‫ت ِ‬ ‫ما دلهم ع موت ِ ِه إِل دابة الر ِض تأكل مِنسأته فلما خر تبين ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َُ َ ْ‬
‫ون ال َغ ْي َب َما لِ ُثوا ِف ال َع َذ ِاب ال ُم ِه ِني{ (سبأ ‪.)14 :13‬‬ ‫يعلم‬

‫اجلن هنا كانوا يعملون ما ال ي�ستطيع الب�شر فعله‪ ،‬كانوا متقدمني‬


‫بطريقة ما على بقية الب�شر‪ ،‬و َد َف َع ُه ْم هذا �إىل تو ُّهم �أنهم الأعلم‪ ،‬بل دفعهم‬
‫هذا �إىل ت�صور �أن علمهم ال حدود له‪� ،‬إىل �أن ا�صطدموا بعدم معرفتهم‬
‫بوفاة �سليمان رغم مرور بع�ض الوقت على ذلك‪.‬‬
‫يحدث هذا كث ًريا اليوم‪ ،‬حت ُّول الإميان ب�أن العلم ال حدود لقدراته و�أنه‬
‫قادر على الرد على كل الأ�سئلة و�إيجاد كل احللول‪ ،‬هذا الوهم �شائع ج ًّدا‬
‫اليوم‪ ،‬وهو من �أ�سباب الإحلاد اجلديد‪ ،‬ثمة هاوية تنتظر ه�ؤالءـ مع �أ�سئلة‬
‫يتجاهلونها � ًأول لأنهم يعرفون �أن العلم ‪ -‬بطبيعته ‪ -‬ال ميكنه �أن يجيب‬
‫عليها‪ ،‬ثم مي�ضون �إىل ما �أبعد من ذلك‪ ،‬يقررون �أن الال جواب هو جواب‬
‫بحد ذاته‪.‬‬
‫‪- 224 -‬‬
‫سورة سبأ‬

‫�إنه وهم �آخر من تلك الأوهام التي يعتا�ش عليها البع�ض‪ ،‬ريثما ُتودي‬
‫بهم �إىل هاوية ما‪.‬‬
‫***‬
‫على ُب ْع ِد �آيات من كل هذا �سرنى ذلك احلوار‪:‬‬
‫َْ َ َُ ُ‬ ‫َّ ُ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ِّ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ َ ْ‬ ‫َ َْ ََ‬
‫جع بعضه ْم إِل بع ٍض الق ْول يقول‬ ‫}ولو ترى إ ِ ِذ الظال ِمون موقوفون عِند رب ِهم ير ِ‬
‫بوا‬ ‫اس َت ْك َ ُ‬
‫َ َ َّ َ ْ‬
‫ني ‪ ‬قال الِين‬ ‫بوا ل َ ْو َل َأ ْن ُت ْم لَ ُك َّنا ُم ْؤمن َ‬
‫اس َت ْك َ ُ‬‫َّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ‬
‫الِين استض ِعفوا ل ِلِين‬
‫ِِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ك ْم بَل ك ْن ُت ْم مرم َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َُ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ‬
‫َ‬
‫ِني‪‬‬ ‫َ ِ‬ ‫ِين استض ِعفوا أن ُن صددناك ْم ع ِن الهدى بعد إِذ جاء‬ ‫ل ِل‬
‫ك ُفرَ‬‫َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َّ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ‬
‫وقال الِين استض ِعفوا ل ِلِين استكبوا بل مكر اللي ِل وانلهارِ إِذ تأمروننا أن ن‬
‫َ َْ‬ ‫َّ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ُّ‬
‫بِاهلل ونعل ل أندادا وأسوا انلدامة لما رأوا العذاب وجعلنا الغلل ِف أعن ِ‬
‫اق‬
‫َّ َ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون{ (سبأ ‪.)33 :31‬‬ ‫الِين كفروا هل يزون إِل ما كنوا يعمل‬

‫وتدور طاحونة التالوم وتبادل االتهامات‪� ،‬أ�صحاب �أوهام اال�ست�ضعاف‬


‫وال�صغار يلومون �أ�صحاب �أوهام القوة واال�ستكبار‪ ،‬وه�ؤالء بدورهم‬
‫يلومونهم ويربئون �أنف�سهم‪ ،‬ق�صة كل يوم‪ ،‬ومكر الليل والنهار يحيق‬
‫باجلميع‪ ،‬والأغالل يف النهاية ت�سحب اجلميع‪ ،‬ال فرق كبري بني متوهم‬
‫بالقوة ومتوهم بال�ضعف‪ ،‬الكل جمرم باجلرمية ذاتها لكن ب�أدوات خمتلفة‪.‬‬
‫وتنتهي ال�سورة بخامتة موحية ج ًّدا‪ ،‬جتعلنا جمي ًعا يف مواجهة هذه‬
‫ال�سب�أ التي قد ن�سكنها دون �أن نعلم‪ ،‬جتعلنا نراجع �أوهامنا التي تع َّودنا‬
‫التعامل معها على �أنها حقائق ال تقبل ال�شك‪.‬‬
‫احلق يف مواجهة الباطل‪ ،‬يف مواجهة الوهم الذي ال يبدئ وال يعيد‪.‬‬

‫‪- 225 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ‬ ‫ْ َ ِّ َ َّ ُ ْ ُ ُ‬ ‫ُ ْ َّ َ ِّ َ ْ ُ‬
‫الاطِل‬ ‫وب ‪ ‬قل جاء الق وما يبدِئ‬ ‫}قل إِن رب يقذِف بِالق علم الغي ِ‬
‫َ ُ ُ‬
‫َوما ي ِعيد{ (سبأ ‪.)49 :48‬‬
‫َ َّ ِّ َّ ُ َ ٌ‬ ‫ََْْ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ُّ َ َ َ ْ‬
‫ل َرب إِنه س ِميع‬ ‫ت فبِما ي ِ‬
‫وح ِإ‬ ‫}قل إِن ضللت فإِنما أ ِضل ع نف ِس َوإ ِ ِن اهتدي‬
‫ْ َ َ َ‬ ‫َ َْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ َُ ُ‬ ‫َقر ٌ‬
‫يب{ (سبأ ‪.)51 :50‬‬ ‫ر‬
‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ق‬ ‫ن‬‫ك‬ ‫م‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫وا‬ ‫ِذ‬ ‫خ‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫وا‬‫ع‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ى‬‫ر‬ ‫ت‬ ‫و‬‫ل‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫يب‬ ‫ِ‬
‫الوهم مكان قريب ج ًّدا‪ ،‬تلك الأوهام التي تقودنا �إىل الهاوية قريبة‬
‫ج ًّدا منا‪� ،‬أقرب مما نتخيل‪ ،‬هي يف داخلنا‪ ،‬يف �أعماقنا‪.‬‬
‫َ َّ َ‬ ‫َ ُ‬
‫} َوقالوا َآم َّنا ب ِ ِه َوأن ل ُه ُم اتلَّ َن ُاو ُش م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (سبأ‪.)52 :‬‬
‫الوهم بد�أ قري ًبا‪ ،‬ثم قادنا �إىل بعيد‪� ،‬إىل هاوية �سحيقة ال ر َّد ي�أتي منها‬
‫وال جواب‪.‬‬
‫َ َ‬
‫ِيل بَيْ َن ُه ْم َو َب ْ َ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ْ َُْ ََْ ُ َ َْْ‬ ‫ََْ ََُ‬
‫ي‬ ‫يد ‪ ‬وح‬
‫ب مِن مك ٍن ب ِع ٍ‬‫}وقد كفروا ب ِ ِه مِن قبل ويقذِفون بِالغي ِ‬
‫َ ٍّ ُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ ُ َّ ُ ْ َ ُ‬
‫يب{(سبأ ‪.)54 :53‬‬ ‫ِ ٍ‬‫ر‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫ف‬‫ما يشتهون كما ف ِعل بِأشياع ِِهم مِن قبل إِنهم كن ِ‬
‫وا‬

‫ذلك ال�شك املريب‪ ،‬قد يكون هو هذا الوهم الذي ينزلق البع�ض �إليه‪.‬‬
‫وهم مزخرف �آخر‬ ‫وهم قوة �أو �ضعف ما‪� ،‬أو �أي ْ‬
‫يف حياة كل منا �سب�أ ما‪ْ ،‬‬
‫يع ِّبد طريقنا �إىل الهاوية‪.‬‬
‫يف حياة كل منا خطوط طول وخطوط عر�ض حتاول �أن تقودنا �إىل �سب�أ‬
‫ما‪.‬‬
‫املهم �أن نكون واعني مبا هو‪ ،‬وما هو حق‪.‬‬

‫‪- 226 -‬‬


‫سورة فاطر ‪35‬‬
‫عن تحديد المواقف والفرص الثانية‪..‬‬

‫منذ �أن تبد�أ رحلة حياتنا وهناك خيارات حتتِّم علينا �أن نحدد موق ًفا‬
‫جتاهها‪.‬‬
‫منذ البداية املبكرة لها �إىل نهاية الرحلة‬
‫َ ََ ُ ْ ْ َُ ُ ْ ُْ َ ُ َ َ َ ُ َْ ً َ َْ ُ ْ ُْ َ‬
‫اب ث َّم مِن نطف ٍة ث َّم جعلك ْم أز َواجا َوما ت ِمل مِن أنث‬
‫ٍ‬ ‫} َواهلل خلقكم مِن تر‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ُ َّ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ ُ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ َّ‬
‫اب إِن ذل ِك‬
‫ول تضع إِل ب ِ ِعل ِم ِه وما يعمر مِن معم ٍر ول ينقص مِن عم ِره ِ إِل ِف ك ِت ٍ‬
‫ََ‬
‫ع اهلل ي َ ِس ٌ‬
‫ري{(فاطر‪.)11 :‬‬

‫يف هذه الرحلة‪ ،‬لو نظرنا لها من بعيد دون تفا�صيل‪� ،‬سرنى �أن الأمر‬
‫ميكن �أن ُي ْختَزَ ل ‪ -‬على الأقل يف �أجزاء كبرية منه ‪� -‬إىل �أن تكون هنا �أو‬
‫هناك‪� ،‬أن تكون مع احلق �أو الباطل‪� ،‬أن حتدد موقفك �إن كنت معه عز‬
‫وجل‪� ،‬أي مع نف�سك‪.‬‬
‫حتالفت �ضد نف�سك‪ ،‬واتخذتَ نف�سك عد ًّوا‪.‬‬
‫َ‬ ‫�أو �أن تكون قد‬
‫َُْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َّ َّ ْ َ َ َ ُ ْ َ ُ ٌّ َ َّ ُ ُ َ ُ ًّ َّ َ َ ْ ُ‬
‫}إِن الشيطان لكم عدو فاتِذوه عدوا إِنما يدعو حِزبه ِلكونوا مِن أص ِ‬
‫اب‬ ‫ح‬
‫َّ‬
‫ري فاطر{ (فاطر‪.)6 :‬‬ ‫الس ِع ِ‬
‫من �أجل القدرة على حتديد املواقف يجب �أن منيز بني ما هو خمتلف‪،‬‬
‫وما هو �ضد‪.‬‬
‫‪- 227 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كثريون ال مييزون بني الأمرين‪ ،‬يتوهمون �أن كل اختالف هو �أمر يجب‬


‫�أن تكون �ضده‪ ،‬وين�سون �أن الأمر يتدرج �أحيا ًنا مثل الطيف‪ ،‬مثل �أجنحة‬
‫متدرجة لنف�س املالك‪.‬‬
‫َْ َ َ ُ ُ ً ُ َ ْ َ ََْ‬ ‫َ‬ ‫اوات َو ْالَ ْ‬ ‫َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ ُ‬
‫ول أجنِح ٍة مثن‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ر‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ِك‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ِل‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ا‬‫ج‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِر‬
‫ِ‬ ‫ط‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫هلل‬ ‫د‬ ‫}الم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََُ َ َ َُ َ َ ُ‬
‫اء إ َّن اهلل َع ك ْ‬
‫ش ٍء قد ٌِير{ (فاطر‪.)1 :‬‬ ‫وثلث ورباع ي ِزيد ِف الل ِق ما يش ِ‬
‫بع�ض الأمور املختلفة ال تكون خمالفة ً‬
‫فعل ملا �سبق‪ ،‬لكننا عندما ال ‬
‫منيز بني الأمرين‪ ،‬ن�سقط يف فخ حماربة كل �شيء‪ ،‬والت�صور �أنه من حزب‬
‫�أ�صحاب ال�سعري‪.‬‬
‫ْ ُ ٍّ‬ ‫َْ ْ َ َ َ َ ْ ٌ َُ ٌ َ ٌ َ َ ُُ َ َ ْ ٌ ُ َ ٌ‬ ‫َ َ َْ َ‬
‫شابه َوهذا مِلح أجاج َومِن ك‬ ‫ان هذا عذب فرات سائ ِغ‬‫ْ }وما يست ِوي الحر ِ‬
‫َُْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ َ‬ ‫َ ُ ُ َ َ ْ ً َ ًّ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ً َ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫لما ط ِريا َوتستخ ِرجون حِلية تلبسونها َوت َرى الفلك فِي ِه م َواخ َِر ِلَبتغوا‬ ‫تأكلون‬
‫ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ‬
‫مِن فضلِ ِه ولعلكم تشكرون{ (فاطر‪.)12 :‬‬
‫البحران خمتلفان‪ ،‬من ال�سهل ج ًّدا على من مل يعرف واحدً ا منهما �أن‬
‫يت�صور �أن هذا الذي مل يعرفه‪ ،‬املختلف عما عرفه‪ ،‬هو �ضد‪ ،‬لكن اختالف‬
‫البحرين مل يكن اختالف ت�ضاد‪ ،‬كان جمرد تدرج يف �صورة واحدة‪ ،‬نغفل‬
‫عن كلها فتفوتنا الفكرة‪.‬‬
‫ْ َ َ ُ ٌّ َ ْ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫}يُول ُِج اللَّ ْي َل ف انلَّ َهار َويُول ُِج انلَّ َه َ‬
‫ار ِف اللي ِل َوسخ َر الشمس َوالقم َر ك ي ِري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ ُ َ ْ‬ ‫َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ َ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫ِلج ٍل مس ًّم ذل ِكم اهلل ربكم ل الملك والِين تدعون مِن دون ِ ِه ما يملِكون مِن‬
‫ق ِْط ِم ٍري{ (فاطر‪.)13 :‬‬
‫معاك�سا‬
‫ً‬ ‫الليل والنهار‪َ ،‬ي ْب ُد َوان خمتلفني ج ًّدا‪ ،‬يبدو كل منهما لو كان‬
‫متاما‪ ،‬لكن هذا ما تراه من قريب فح�سب‪ ،‬عندما تكون داخل حدود‪.‬‬ ‫للآخر ً‬

‫‪- 228 -‬‬


‫سورة فاطر‬
‫الليل �أو داخل حدود النهار‪ ،‬لكن لو ابتعدت‪ ،‬لو نظرت من الأعلى‪� ،‬سرتى‬
‫�أنهما يتكامالن م ًعا‪ ،‬بل ويتبادالن الأدوار بينهما‪.‬‬
‫لكن هذا الأمر ال ينطبق على كل �شيء‪ ،‬هناك من الأ�شياء ما يندرج‬
‫اختالفها �ضمن التنوع والتدرج والتكامل‪ ،‬وهناك ما ال يحدث فيه ذلك‪،‬‬
‫هناك ما يجب �أن حتدد موق ًفا منه‪ ،‬هناك ما يجب �أن حتدد موقعك‬
‫ومكانك منه‪.‬‬
‫َ‬
‫َ ِّ ُّ َ‬
‫ور ‪َ ‬ول الظل َول‬ ‫ات َو َل انلُّ ُ‬
‫َ َ ُّ ُ َ ُ‬
‫ري ‪ ‬ول الظلم‬ ‫} َو َما ي َ ْس َتوي ْال ْع َم َو ْ َ‬
‫ال ِص ُ‬
‫ِ‬
‫ُْ ُ َ ْ ََ ُ َ َ َْ َ ُ ْ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ‬ ‫َ َ َْ َ‬ ‫َْ‬
‫ال ُر ُ‬
‫ور ‪ ‬وما يست ِوي الحياء ول الموات إِن اهلل يس ِمع من يشاء وما أنت بِمس ِم ٍع‬
‫ُُْ‬ ‫َ ْ‬
‫ور{ (فاطر ‪.)22 :19‬‬ ‫من ِف الق ِ‬
‫ب‬

‫هذه �أ�ضداد كاملة ال ن�سبي فيها وال تد ُّرج‪ ،‬وعليك �أن حتدد موقفك‪،‬‬
‫هل تختار العمى �أم الب�صرية؟ هل تختار الظلمات �أم النور؟ هل تختار �أن‬
‫دوما‪� ،‬أن تكون م�سرتخ ًيا حتت الظل‪� ،‬أم عليك �أن‬
‫تبقى يف منطقة الراحة ً‬
‫حت�سم �أمرك ومت�ضي �إىل ما يجب �أن مت�ضي �إليه ولو كان يف منتهى َ‬
‫احلر؟‬
‫َّ‬ ‫َْ‬
‫}إ ِ ْن أن َت إِل نَذ ٌِير{ (فاطر‪.)23 :‬‬
‫هنا الإنذار‪ ،‬ر�سالة تطلب منك �أن حتدد موقفك مما يدور حولك‪،‬‬
‫ميكنك �أن تختار � َّأل ترى �شي ًئا‪� ،‬أن تغم�ض عينيك‪� ،‬أن تختبئ يف الظالم‪..‬‬
‫حتت الظالم‪ ..‬يف الظالل‪� ،‬أن تكون الظالل عنوانك الدائم الذي ال ‬
‫ت�ستطيع اخلروج منه‪.‬‬
‫وميكنك �أن تختار الب�صرية‪� ،‬أن تنزع عن عينيك وعقلك كل عوائق‬
‫الر�ؤية والفكر‪ ،‬و�أن تختار �أن يغمرك النور ً‬
‫بدل من �أن تغط�س يف الظلمة‪،‬‬
‫و�أن تخرج عن مناطق اعتيادك وراحتك �إىل قارات العمل والتغيري‪.‬‬

‫‪- 229 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫خيارات كهذه ال ميكن �أن يكون موقفك منها « َب ْ َي َب ْيَ»‪ ،‬ال ميكن �أن‬
‫تكون رماد ًّيا هنا‪ ،‬ال ميكن �أن ت�ضع قدمك يف منطقة والقدم الأخرى يف‬
‫أ�صل خيار كهذا‪.‬‬ ‫املنطقة امل�ضادة‪ ،‬ال ف�صام هنا‪ ،‬ال يوجد � ً‬
‫هنا ثمة قرار حا�سم يجب �أن ُيت ََّخ َذ‪.‬‬
‫هذا القرار وبهذا االجتاه‪ ،‬هو جزء من الفطرة الإن�سانية‪ ،‬كيف؟ لأن‬
‫العمى‪ ،‬الظلمات‪ ،‬الظل؛ هي خيارات تقود �إىل املوت يف �آخر املطاف‪ ،‬طبيعة‬
‫احلياة الإن�سانية وال�صراع امل�ستمر من �أجل البقاء يتطلب �أن حتدد موق ًفا‬
‫فيه احلركة الواعية مبا حولك‪ ،‬قد تقودك احلركة �إىل الهالك � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫لكنها حتتوي � ً‬
‫أي�ضا على احتمالية النجاة‪� ،‬أما البقاء يف الو�ضع ال�ساكن؛‬
‫يف العمى والظلمات والظل‪ ،‬فهي توقيع م�س َبق على ر�سالة االنتحار‪ ،‬مهما‬
‫طال الأمد‪.‬‬
‫احلياة الإن�سانية بطبيعتها تتطلب هذا القرار‪ ،‬هذا االنتقال من منطقة‬
‫(العمى‪/‬الظل) �إىل منطقة النور والعمل هو جزء من تعريف احلياة‪.‬‬
‫لذا كانت املقارنة النافية بني الأموات والأحياء‪ ،‬هي املقارنة املتممة‬
‫ملقارنات العمى ‪ -‬الب�صرية‪ ،‬الظلمات ‪ -‬النور‪ ،‬الظل ‪َ -‬‬
‫احلرور‪.‬‬
‫هذا القرار الذي نحدد فيه موقفنا‪ ،‬هو جزء من الفطرة التي �أودعها‬
‫َْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ات َوال ْر ِض{ الذي تبتدئ ال�سورة باحلمد له يف‬‫اهلل فينا‪} ،‬فاط ِِر السماو ِ‬
‫هذه ال�صفة حتديدً ا‪� :‬أنه فاطر كل �شيء‪ ،‬والفاطر هو الذي ابتد�أ كل �شيء‪،‬‬
‫كما لو �أن احلمد هنا يتجه هلل الذي و�ضع هذا القانون وابتد�أ فيه كل �شيء؛‬
‫ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬ومن �ضمنها نحن‪.‬‬

‫‪- 230 -‬‬


‫سورة فاطر‬

‫َُْ ً َْ ُ َ‬ ‫اء َفأَ ْخ َر ْج َنا ب ِه َث َم َ‬


‫الس َماءِ َم ً‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َّ‬
‫ات متلِفا أل َوانها َوم َِن‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫}ألم تر أ‬
‫َ َّ ِّ‬ ‫َ‬
‫ُ َ ٌ ٌ َ ٌُْ َُْ ٌ َْ ُ َ َ َ َ ُ ُ ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫ادل َواب‬ ‫اس و‬ ‫يب سود ‪َ ‬وم َِن انلَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬‫ر‬ ‫غ‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ان‬‫و‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ِف‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫يض‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ال‬
‫ال َ ِ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫اء إن اهلل عزيزٌ‬ ‫ام متلِف أل َوانه كذل ِك إنما يش اهلل مِن عِبا ِده ِ العلم ُ‬ ‫والنع ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور{ (فاطر ‪.)28 :27‬‬ ‫َغ ُف ٌ‬

‫هذا االختالف املتنوع املتدرج هو �سنة اهلل يف خلقه‪ ،‬وقدرة النا�س ‪-‬‬
‫بع�ضهم على الأقل ‪ -‬على متييز هذا االختالف عن االختالف املت�ضاد هو‬
‫منبع خ�شية اهلل‪ ،‬اخل�شية التي تثمر حتديدً ا �صائ ًبا للمواقف بني اخليارات‬
‫املتنوعة‪.‬‬
‫يف النهاية‪� ،‬أغلب اخليارات من النوع املف�صلي ميكن اختزالها �إىل‬
‫اختيار ب�سيط عليك �أن حتدد موقفك منه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال ِم ُيد{ (فاطر‪.)15:‬‬
‫ن َ‬ ‫اس أ ْن ُت ُم ال ُف َق َر ُ‬
‫اء إِل اهلل َواهلل ُه َو ال َغ ِ ُّ‬ ‫َ ُّ َ َّ ُ‬
‫}يا أيها انل‬

‫عليك �أن حتدد موقفك‪ ،‬هل تنحاز �إىل فقرك الذي هو جزء �أ�سا�سي من‬
‫طبيعتك الإن�سانية‪ ،‬املفتقرة �إىل الكمال بالتعريف؟ �أم تذعن �إىل احلقيقة‬
‫وحتدد موقفك لتكون مع اهلل الغني بالتعريف؟‬
‫القرار �شخ�صي ج ًّدا‪ ،‬يخ�ص كل �شخ�ص على ِح َدة‪ ،‬مهما كانت تبعات‬
‫هذا املوقف مت�س وت�ؤثر على �أ�شخا�ص �آخرين‪.‬‬
‫َ َ ُ َ ٌَ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َْ ُ َُْ ٌَ َ ْ َ َ َُْ ْ ُْ َ ْ َ َ َ‬
‫ش ٌء َول ْو كن‬ ‫}ل ت ِزر وازِرة وِزر أخرى وإِن تدع مثقلة إِل ِحلِها ل يمل مِنه‬
‫َّ َ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َّ َ َ َ َ َّ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ ُ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ‬
‫ب َوأقاموا الصلة ومن تزك فإِنما يتك‬ ‫ذا قرب إِنما تنذِر الِين يشون ربهم بِالغي ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِلَ ْف ِس ِه َوإِل اهلل ال َم ِص ُري{ (فاطر‪.)18:‬‬

‫‪- 231 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ك ٌّل يحمل ثقله بنف�سه‪ ،‬يحمل قراراته ومواقفه ونتائجه‪ ،‬من �سيتحرى‬
‫ال�صواب �سينفع نف�سه � ًأول‪..‬‬
‫�أدا�ؤنا كب�شر �سيختلف يف امتحان حتديد املواقف هذا‪.‬‬
‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫ِين اصطفينا مِن عِبادِنا ف ِمنه ْم ظال ٌِم ِلَف ِس ِه َومِنه ْم‬‫}ثم أورثنا الكِتاب ال‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ٌ َْ‬
‫ال ْ َ‬
‫ات بِإِذ ِن اهلل ذل ِك ه َو الفضل الكبِ ُري{(فاطر‪.)32 :‬‬‫ي ِ‬ ‫مقت ِصد ومِنهم سابِق ب ِ‬
‫بع�ضنا �سيكون ظاملًا‪ ،‬ظاملًا ملن؟ لنف�سه � ًأول‪ ،‬كل ظلم للآخرين هو ظلم‬
‫للنف�س � ًأول؛ لأنه انحياز لطبيعة ب�شرية مفتقرة �إىل الكمال‪� ،‬إنه الرهان‬
‫على اخلا�سر‪.‬‬
‫دوما املواقف ال�صائبة‪ ،‬لكن‬
‫�آخرون �سيكونون مقت�صدين‪ ،‬مل يحددوا ً‬
‫كان لديهم ر�صيد من حتديد املواقف ال�صحيحة يف الوقت ال�صحيح‪.‬‬
‫دوما يف اخلري‪ ،‬يحددون‬‫و�آخرون �سابقون باخلريات‪ ،‬خياراتهم ً‬
‫مواقفهم بنا ًء على تلك اخل�شية املثمرة‪ ،‬فتكون يف االجتاه ال�صحيح‪.‬‬
‫من يحدد كل هذا؟ من يحدد الظامل من املقت�صد من ال�سابق‬
‫يف اخلريات؟ لي�س � ٌّأي منا‪ ،‬كلنا يف النهاية جنل�س يف قاعة االمتحان‬
‫كممتحنني‪ ،‬لكن البع�ض منا يت�صور �أن له احلق �أن يوزع نتائج االمتحان‬
‫قبل انتهائه وقبل ت�صحيح النتائج‪.‬‬
‫يف النهاية‪ ،‬وا�ضع االمتحان وحده ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هو الذي يحدد َم ِن‬
‫املقت�صد‪َ ،‬م ِن الظامل‪َ ،‬وم ِن ال�سابق باخلريات‪ ،‬ومن املحتمل ج ًّدا �أن من‬
‫ن�صبوا �أنف�سهم كموزعني للنتائج يكونون يف خانة الظاملني‪ ،‬وهو عز وجل‬ ‫َّ‬
‫أي�ضا بحق كاتب هذه ال�سطور وقارئيها كذلك‪.‬‬‫�أعلم‪ ،‬كما �أن ذلك حمتمل � ً‬
‫‪- 232 -‬‬
‫سورة فاطر‬

‫ال �أحد ميكنه �أن يعلم قبل �أن ُت ْع َلنَ النتائج‪.‬‬


‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُْ ًُ‬ ‫َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ُ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ‬
‫ب َولؤلؤا َو ِ َلاسه ْم فِيها‬‫اور مِن ذ ٍ‬
‫ه‬ ‫}جنات عد ٍن يدخلونها يلون فِيها مِن أس ِ‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ْم ُد هلل َّالِي أ ْذ َه َب َع َّنا ْ َ‬
‫ال َز َن إ ِ َّن َر َّب َنا ل َغ ُف ٌور َشك ٌور{(فاطر ‪.)34 :33‬‬ ‫ير‪َ ‬و َقالُوا ْ َ‬
‫َحر ٌ‬
‫ِ‬
‫�أولئك الذين دخلوا اجلنة‪� ،‬سيحمدون اهلل الذي �أذهب عنهم ْ َ‬
‫الزَ ن‪،‬‬
‫حلزن (نقي�ض ال�سرور)‪ ،‬بل يعني الأر�ض الغليظة‬‫وهو معنى �أو�سع من ا ُ‬
‫التي ي�صعب الإنبات فيها‪.‬‬
‫طريقهم كان �صع ًبا‪ ،‬خياراتهم مل تكن هينة‪ ،‬مل يكن الدرب مع َّبدً ا‬
‫دوما‪ ،‬رمبا دفعوا ثم ًنا غال ًيا نتيجة حتديدهم ملواقفهم‪ ،‬ولكنهم و�صلوا �إىل‬
‫ً‬
‫اجلنة يف نهاية املطاف‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬هنا �سيدفع ثمن املواقف‬
‫�آخرون �ستكون �أو�ضاعهم خمتلفة ً‬
‫اخلاطئة‪� ،‬أو الال موقف �أحيا ًنا‪.‬‬
‫ُ َّ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ً َ ْ َ َّ‬
‫ي الِي كنا نعمل أ َول ْم‬ ‫}وهم يصط ِرخون فِيها ربنا أخ ِرجنا نعمل ص ِ‬
‫الا غ‬
‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ُ ُ َ َ‬ ‫ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ َّ‬
‫نعم ْرك ْم ما يتذك ُر فِي ِه من تذكر وجاءكم انلذِير فذوقوا فما ل ِلظال ِ ِمني مِن‬
‫نَ ِص ٍري{ (فاطر‪.)37 :‬‬
‫لكن زمن الفر�ص الثانية قد انتهى‪ ،‬كان هناك ما يكفي منها يف احلياة‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫يف النهاية‪ ،‬حتديد املواقف هي جوهر اال�ستخالف‪ ،‬اال�ستخالف الذي‬
‫هو الهدف من وجودنا يف الأر�ض‪.‬‬
‫ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َْ ُ ْ ُُ ََ َ ُ‬
‫يد الْ َكف ِر َ‬ ‫َ ََ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫}ه َو الِي جعلك ْم خلئ ِف ِف الر ِض فمن كفر فعلي ِه كفره ول ي ِز‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ ُ ْ َ ِّ َّ َ ْ ً َ َ ُ ْ َ‬
‫ك ْف ُر ُه ْم إِل َخ َس ًارا{ (فاطر‪.)39 :‬‬
‫َ ُ‬
‫كف ُره ْم عِند َرب ِه ْم إِل مقتا َول ي ِزيد الكف ِِرين‬

‫‪- 233 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫حتديد املواقف هذا ‪ -‬بني ثنائيات متعار�ضة ‪ -‬هو جزء من نظام هذا‬
‫الكون كله‪.‬‬
‫َْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َْ َ َ َُ ْ َ َ‬ ‫ُ ْ ُ َّ َ َ‬ ‫َّ‬
‫ات َوال ْرض أن ت ُزول َول ِئ زالَا إِن أمسكهما مِن أح ٍد‬ ‫}إِن اهلل يم ِسك السماو ِ‬
‫ْ َ ْ َّ ُ َ َ َ ً‬
‫ِيما َغ ُف ً‬
‫ورا{ (فاطر‪.)41:‬‬ ‫مِن بع ِده ِ إِنه كن حل‬

‫هل من فرار من هذا؟ من �ضرورة اتخاذ موقف‪ ،‬من �أن تكون جمموعة‬
‫هذه املواقف �أ�سا�سية يف حتديد م�صرينا الح ًقا‪.‬‬
‫َ ْ ً َ َ ْ َ َ ُ َّ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ َّ‬
‫ت‬ ‫تد ل ِسن ِ‬ ‫ت اهلل تبدِيل ولن ِ‬ ‫تد ل ِسن ِ‬ ‫}فهل ينظرون إِل سنت الول ِني فلن ِ‬
‫َ ً‬
‫اهلل تْ ِويل{ (فاطر‪.)43:‬‬
‫ال فرار‪ ،‬هذه هي �سنت الأولني والآخرين‪� ،‬سنة اهلل يف خلقه‪.‬‬
‫َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ‬ ‫َْ ُ َ ُ‬
‫كن يؤخ ُره ْم‬ ‫} َولو يؤاخِذ اهلل انلاس بِما كسبوا ما ترك ع ظه ِرها مِن داب ٍة ول ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫إِل أ َج ٍل ُم َس ًّم فإِذا َج َاء أ َجل ُه ْم فإِ َّن اهلل َك َن ب ِ ِع َبا ِده ِ بَ ِص ًريا{(فاطر‪.)45 :‬‬
‫لكنه لن ي�ؤاخذهم‪ ،‬بل يرتك لهم الفر�ص الثانية‪ ،‬العمر كله فر�ص ‬
‫ثانية يف النهاية‪ ،‬ي�ؤخرهم �إىل حني �أن ُت ْ�س َت ْن َفد هذه الفر�ص‪ ،‬لي�سوا دوا ًّبا‪،‬‬
‫الدواب لي�س عليها �أن حتدد موقفها من �شيء‪.‬‬
‫الإ�شارة �إىل نهاية الفر�ص الثانية لي�س تهديدً ا بعواقب التخلي عن‬
‫حتديد املواقف فح�سب‪.‬‬
‫أي�ضا تذكري ب�أنك �إن�سان‪ ،‬حتفيز لهذا الإن�سان يف داخلك �أن‬ ‫بل هو � ً‬
‫يرتقي �إىل �إن�سانيته‪.‬‬
‫�أن يحدد موقفه‪.‬‬
‫لي�س مثل املخلوقات الأخرى‪.‬‬
‫‪- 234 -‬‬
‫سورة يس ‪36‬‬
‫يا إنسان!‬

‫اعتدنا على �أن ُت ْق َر َ�أ هذه ال�سورة على املوتى‪ ،‬ال دليل قوي على �صحة‬
‫هذا الفعل‪ ،‬وقد فهم الأولون الدليل ال�ضعيف على �أنه قراءة لهذه ال�سورة‬
‫على املحت�ضر‪ ،‬ولي�س امليت الذي مات وانتهى عمله‪.‬‬
‫رغم هذا‪ ،‬مل �أفهم ملاذا �سورة ي�س حتديدً ا هي التي ُت ْق َر�أ على امليت‬
‫�أو حتى املحت�ضر‪ ،‬ما الذي مييزها حتى يجعلها خا�صة باملوت؟ فيها ذك ٌر‬
‫للموت نعم‪ ،‬لكن لي�س �أكرث من �سور �أخرى كثرية‪ ،‬املوت وما بعد املوت‬
‫من العنا�صر الثابتة يف الن�سيج القر�آين‪ ،‬ويندر �أن تخلو �سورة من ذكره‪،‬‬
‫خا�ص ًة من ال�سور الطويلة �أو حتى متو�سطة الطول‪.‬‬
‫ما الذي فيها �إذن؟ ملاذا ارتبطت يف �أذهان النا�س باملوت حتى �صارت‬
‫مالز َِمة ل�شعائر ما بعد املوت عند الكثريين؟‬
‫متاما‪.‬‬
‫مل �أكن �أفهم ذلك ً‬
‫اليوم يبدو يل الأمر كما لو �أنه متعلق بـمعنى �أعمق للحياة‪ ،‬ومعنى �أعمق‬
‫للموت‪.‬‬
‫�سورة ي�س حتدثنا عن حياة ت�شبه املوت‪ ،‬وعن موت هو �أقرب للحياة‪.‬‬
‫عن موت متنكر بالعي�ش‪ ،‬وحياة حتدث بعد املوت‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 235 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يبد�أ الأمر بنداء؛ ي�س‪.‬‬


‫ثمة خالف بني �أن تكون ي�س من الأحرف املقطعة يف �أوائل ال�سور‪� ،‬أو‬
‫�أن تكون ا�س ًما من �أ�سمائه عليه ال�صالة وال�سالم‪� ،‬أو �أن تعني‪ :‬يا رجل �أو‬
‫يا �إن�سان‪ ،‬باحلب�شية‪ ،‬ذكر املف�سرون هذه االحتماالت الثالثة يف تف�سريهم‬
‫ملطلع ال�سورة‪.‬‬
‫وهذا اخلالف يقدم لنا منطقة متداخلة خ�صبة بني «يا �إن�سان» وبني‬
‫�أن يكون املنا َدى هو الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬خا�ص ًة �أن بقية الآيات‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫تخاطبه بو�ضوح‪َ } :‬والْ ُق ْرآن ْ َ‬
‫الك ِِيم ‪ ‬إِنَّ َك ل ِم َن ال ُم ْر َسل َِني{ (يس ‪.)3 :2‬‬ ‫ِ‬
‫كما لو �أنك جتد يف نف�سك �شي ًئا يجمعك معه عليه ال�صالة وال�سالم‪،‬‬
‫�شي ًئا يف �إن�سانيتك ي�ؤهلك لتكون معه يف فئة خماطبة واحدة‪.‬‬
‫مفتاحا لنا‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬لكن �إن�سانيته عليه ال�صالة وال�سالم �ستكون ً‬
‫يف فهم ال�سورة‪.‬‬
‫�إن�سانيته عليه ال�صالة وال�سالم هي �أرقى ما ميكن لإن�سان �أن يحققه‪.‬‬
‫وعندما يكون احلديث عن حياة كاملوت وموت كاحلياة‪ ،‬ف�إن هذا‬
‫�إن�سانية من هذا الرقي‪� ،‬سيكون لها دور كبري‪.‬‬
‫***‬
‫احلياة التي تقول لنا ال�سورة‪� :‬إنها كاملوت‪ ،‬والتي تريد �أن تبعثنا منها‬
‫هي حياة الغفلة‪ ،‬حياة يف ظل غياب الوعي‪.‬‬
‫غافلون ُم ْق َم ُحون ال يب�صرون‪ ،‬وبالتايل‪ :‬ال ي�ؤمنون‪.‬‬

‫‪- 236 -‬‬


‫سورة يس‬

‫الغفلة هي الو�صف الأول‪ ،‬ثمة �أ�شياء كبرية حتدث حولهم يف عاملهم‬


‫لكنهم �أقفلوا على �أنف�سهم داخل عامل �ضيق يحجزهم عن العامل احلقيقي‪.‬‬
‫ُْ َ ُ َ‬
‫ون{ الكلمة تعني �أن ر�ؤو�سهم مرفوعة �إىل الأعلى(((‪ ،‬و�أب�صارهم‬ ‫}مقمح‬
‫تتجه نحو الأ�سفل‪ ،‬ال �أعرف و�ص ًفا للغفلة �أعمق من هذا‪� ،‬أن تنظر �إىل‬
‫ً‬
‫�شاخما‪،‬‬ ‫مرفوعا �إىل الأعلى وتبدو مرتف ًعا‬
‫ً‬ ‫الأر�ض‪ ،‬حتى لو كان ر�أ�سك‬
‫لكن يف احلقيقة‪� :‬أنت تنظر �إىل الأر�ض‪� ،‬إىل �سفا�سف الأمور‪� ،‬إىل تفا�صيل‬
‫التفا�صيل التي لو ُح ِذ َفت ملا �أ َّث َرت يف �شيء‪.‬‬
‫ُْ ُْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ َْ ً َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫}إِنَّا َج َعل َنا ِف أ ْع َناق ِِه ْم أغلل ف ِ َ‬
‫ون{ (يس‪.)8 :‬‬‫ان فهم مقمح‬
‫ه إِل الذق ِ‬
‫ُْ َ ُ َ‬
‫ون{‪ ،‬الأغالل التي يف �أعناقهم لي�ست بال�ضرورة قيودًا مادية‬ ‫}مقمح‬
‫مرئية‪ ،‬هي على الأغلب‪� :‬أغالل نف�سية وعقلية جتعلهم م�شدودين �إىل‬
‫القطيع‪ ،‬جتعلهم جز ًءا من قطيع اخلو�ض مع اخلائ�ضني‪ .‬ر�ؤو�سهم �إىل‬
‫ً‬
‫وعر�ضا‪ ،‬لكن �أب�صارهم �إىل‬ ‫طول‬‫الأعلى؛ لأنهم رمبا يعي�شون حياتهم ً‬
‫الأ�سفل؛ لأنهم بب�ساطة مل يعرفوا �أن ثمة ُب ْعدً ا �آخر غري الطول والعر�ض‪:‬‬
‫العمق‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َْ ُ ْ ُ ْ ُْ ُ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫َ ًّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ًّ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َ ْ َْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ون{‬ ‫ِيه ْم سدا َومِن خل ِف ِه ْم سدا فأغشيناهم فهم ل يب ِص‬ ‫}وجعلنا مِن ب ِ‬
‫ي أيد ِ‬
‫(يس‪.)9 :‬‬

‫�سد من �أمام‪ ،‬و�سد من اخللف‪ ،‬ال يرون القادم‪ ،‬وال يرون املا�ضي‪ ،‬كيف‬
‫ميكن لوعي �أن يت�شكل عندما ت� َؤخذ منه �إمكانية النظر �إىل الأمام واخللف‪،‬‬
‫ال نظر �إال �إىل القاع‪.‬‬

‫((( لسان العرب مادة قمح‪.‬‬


‫‪- 237 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن هذه ال�سدود‪ ،‬ومن قبلها الأغالل‪ ،‬الآيات تقول عنها «جعلنا»‪� ،‬أي‬
‫�إن ه�ؤالء ‪ -‬يف هذه احلالة ‪ -‬ال حول لهم وال قوة‪ ،‬اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هو الذي‬
‫جعل هذه الأغالل يف �أعناقهم وهذه ال�سدود بني �أيديهم ومن خلفهم‪.‬‬
‫�إنهم بطريقة ما‪ُ ،‬م َ�س َّ ُيون على طريق القطيع‪.‬‬
‫لكن هذا الت�صور نا�شئ عن خلط يف �أفهامنا بني «اجلعل» و«اخللق»‪،‬‬
‫ال�سورة مل تقل‪� :‬إن اهلل خلق يف �أعناقهم هذه الأغالل �أو ال�سدود بني‬
‫�أيديهم ومن خلفهم‪ ،‬بل قالت‪� :‬إنه جعلها‪.‬‬
‫ما الفرق؟‬
‫الفرق �أن اجلعل يعني ت�صيري �أو توظيف �شيء معني موجود من قبل‬
‫هذا اجلعل؛ ليكون يف وظيفة معينة‪ ،‬بينما اخللق يعني �إيجاد هذا ال�شيء‬
‫ً (((‬
‫�أ�صل‪.‬‬
‫�إذن الأغالل وال�سدود كانت موجودة ب�صيغة ما‪ ،‬والفعل الإلهي كان �أنه‬
‫جعلها ب�صيغة الأغالل وال�سدود‪.‬‬
‫كانت موجودة ‪ً � -‬أول ‪ -‬باختيارهم‪ ،‬بكامل �إرادتهم و�سابق ت�صورهم‬
‫وت�صميمهم‪.‬‬
‫وعندما �أبقوا عليها لفرتة ما دون �أن يجربوا �إزاحتها؛ جعلها اهلل � ً‬
‫أغالل‬
‫و�سدودًا‪.‬‬

‫((( كام يف‪:‬‬


‫{ َوالله َج َع َل لَك ُْم ِم َّم َخل ََق ِظ َل ًل} [النحل‪]81 :‬‬
‫ف ُق َّو ًة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َب ْع ِد ُق َّو ٍة ضَ ْعفًا َوشَ ْي َب ًة َي ْخل ُُق َما‬
‫ف ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َب ْع ِد ضَ ْع ٍ‬‫{الله الَّ ِذي َخلَ َقك ُْم ِم ْن ضَ ْع ٍ‬
‫يم الْ َق ِدي ُر (‪[ })54‬الروم‪.]54 :‬‬ ‫يَشَ ا ُء َو ُه َو الْ َعلِ ُ‬
‫ِ‬
‫شا َف َج َعلَهُ ن ََس ًبا َوص ْه ًرا} [الفرقان‪.]54 :‬‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه َو الَّ ِذي َخل ََق م َن ال َْمء بَ َ ً‬
‫ِ‬
‫‪- 238 -‬‬
‫سورة يس‬

‫و�أ�صبح‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََْ‬
‫َ َ َ ٌ َ ْ ْ ََُْْ ْ ْ ُْ ْ ُْ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون{ (يس‪.)10 :‬‬ ‫}وسواء علي ِهم أأنذرتهم أم لم تنذِرهم ل يؤمِن‬

‫لي�سوا �ضحايا‪ ،‬بل هم �شركاء �أ�سا�سيون يف اجلرمية‪ ،‬جرمية حياة‬


‫الغفلة‪ ،‬حياة كاملوت‪.‬‬
‫َ‬ ‫ك َ ْ َ ْ َ َْ ُ‬
‫َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ْ َ ُ َّ‬
‫ش ٍء أحصيناه ِف إِمامٍ‬ ‫ح الموت ونكتب ما قدموا وآثارهم و‬ ‫}إِنا نن ن ِ‬
‫ُ‬
‫مبِني ٍ{ (يس‪.)12 :‬‬

‫كل املوتى �سيحييهم اهلل ليواجهوا هذا االختبار‪ :‬هل كانت حياتهم مو ًتا‬
‫�آخر قبل �أن ميوتوا؟ هل دلت �آثارهم على حياة غفلة كاملوت؟ �أم كانت‬
‫حياتهم حياة حقيقية؟‬
‫اجلواب عن هذا ال�س�ؤال �سيرتتب عليه �أ�شياء كثرية‪ ،‬بل رمبا ميكن‬
‫القول‪� :‬سيرتتب عليه كل �شيء‪.‬‬
‫لكن كما مع كل امتحان‪ ،‬لن نعرف الإجابة �إال الح ًقا‪ ،‬حياتنا كلها‬
‫نق�ضيها يف قاعة االمتحان ونحن نحاول �أن نقدم �أجوبتنا؛ بوعي �أحيا ًنا‬
‫ودون وعي ‪ -‬للأ�سف ‪ -‬يف �أحيان كثرية‪.‬‬
‫َ‬ ‫ك َ ْ َ ْ َ َْ ُ‬
‫َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ْ َ ُ َّ‬
‫ش ٍء أحصيناه ِف إِمامٍ‬ ‫ح الموت ونكتب ما قدموا وآثارهم و‬ ‫}إِنا نن ن ِ‬
‫ُمبِ ٍني{(يس‪.)12 :‬‬
‫َ‬
‫}وآث َار ُه ْم{ ُتو ِق ُف َنا هنا‪� ،‬آثارنا هي التي تبقى‪ ،‬بع�ض �أعمالنا �ستكون �أقل‬
‫�أهمية من �أخرى‪ ،‬هناك �أعمال �سترتك �آثا ًرا‪ ،‬رمبا يف حياة �آخرين‪ ،‬رمبا‬
‫بعد �أن من�ضي‪ ،‬رمبا �آثار �إيجابية ورمبا �سلبية‪ ،‬هذه الأعمال رمبا �سيكون‬
‫لها وزن �أكرب من تلك التي كانت �آثارها �ضيقة النطاق وعابرة للزمان‪.‬‬
‫‪- 239 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫من يحدد النطاق والزمان؟‬


‫لي�س نحن بالت�أكيد‪ ،‬هذا جزء من االمتحان ومن نتائجه التي لن ُت ْع َر َف‬
‫�إال بعد �أن ينتهي كل �شيء‪ ،‬لكنه �أمر ُي ْذ َكر وال بد‪ ،‬يجعلنا ننتبه �إىل �أهمية‬
‫�أن يكون هناك �أثر �إيجابي وعابر للزمان فيما نفعله يف حياتنا‪.‬‬
‫ت�أخذنا ال�سورة بعدها مبا�شر ًة �إىل «�أ�صحاب القرية»‪ ،‬قرية يبدو �أنها‬
‫تعي�ش تلك احلياة التي جتعل ر�ؤو�سها مرتفعة وعيونها منخف�ضة �إىل‬
‫الأ�سفل �إىل كل ما هو متدنٍّ ‪� ،‬إنهم قوم م�سرفون‪ ،‬ثالثة ر�سل �أُ ْر ِ�س ُلوا لهذه‬
‫القرية‪ ،‬ولكن �أهلها ميانعون‪ ،‬لقد ت�شاءموا من الر�سل وما يدعون �إليه‪ ،‬يف‬
‫الوقت الذي يتم�سكون فيه مب�صدر ال�ش�ؤم‪ :‬بحياتهم املنغم�سة يف كل ما هو‬
‫متدنٍّ ‪ ،‬احلياة التي ظاهرها حياة‪ ،‬ولكن باطنها موت مق َّنع‪.‬‬
‫لكن ال�سورة ال ترتكنا مع الر�سل‪ ،‬بل متر بهم ومت�ضي �إىل �شخ�ص ‬
‫عادي‪ ،‬جمرد رجل �آخر يف املدينة‪ ،‬لكنه حمل احلقيقة التي ي�ؤمن بها �إىل‬
‫قومه وهو م�شفق عليهم؛ لأنهم ال يب�صرون‪.‬‬
‫َّ ُ َ ْ‬ ‫ال يَا َق ْو ِم اتَّب ُعوا ال ْ ُم ْر َسل َ‬ ‫َ َ َ ْ َْ َ َْ َ َ ُ ٌ َْ َ َ َ‬
‫ِني ‪ ‬اتبِعوا من‬ ‫ِ‬ ‫}وجاء مِن أقص المدِين ِة رجل يسع ق‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون ‪َ ‬و َما ِ َ‬ ‫َ َْ َُ ُ ْ َ ْ ً َ ُ ْ ُ َْ ُ َ‬
‫ل ل أعبد الِي فط َر ِن َوإ ِ ْل ِه ت ْرجعون ‪‬‬ ‫ل يسألكم أجرا وهم مهتد‬
‫َ ً ْ ُ ْ َّ ْ َ ُ ُ ٍّ َ ُ ْ َ ِّ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ً َ َ ُ ْ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ ُ‬
‫ون ‪‬‬‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ا‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫اع‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ح‬ ‫الر‬ ‫ن‬ ‫د‬‫ر‬
‫ِ ِ ِ‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ة‬ ‫ِه‬ ‫ل‬‫آ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫و‬‫د‬ ‫أأتِذ مِن‬
‫ِّ َ ْ ُ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫ِّ ً َ َ َ ُ‬
‫ون{ (يس ‪.)25 :20‬‬ ‫ني ‪ ‬إِن آمنت بِربكم فاسمع ِ‬ ‫إِن إِذا ل ِف ضل ٍل مبِ ٍ‬
‫جمرد رجل �آخرـ قد ي�شبهنا جمي ًعا‪ ،‬رمبا بال مالمح مميزة مثل �أغلبنا‪،‬‬
‫لي�س بر�سول‪ ،‬لكنه �آمن مبا قالته الر�سل‪� ،‬آمن بحياة يف عمق احلياة وبعد‬
‫احلياة‪ ،‬وجاء ي�سعى من �أق�صى املدينة وهو يحمل ما يرى �إىل النا�س‪.‬‬

‫‪- 240 -‬‬


‫سورة يس‬

‫ِّ َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َْ َُ َ‬ ‫ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫النة قال يا ْلت ق ْو ِم يعلمون ‪ ‬بِما غف َر ِل َرب َوجعل ِن م َِن‬ ‫}قِيل ادخ ِل‬
‫ِني{ (يس ‪)27 :26‬‬ ‫ال ْ ُم ْك َرم َ‬

‫ْ ُ‬
‫لقد انتهى الأمر فيما يخ�ص امتحانه‪� ،‬صدرت نتيجته النهائية‪� :‬أن }ادخ ِل‬
‫َ َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ َّ َ‬
‫ون{‪ ،‬لو �أنهم كانوا قد خرجوا من‬ ‫النة{‪ ،‬ماذا كان رده‪} :‬يا لت قو ِم يعلم‬
‫�أغاللهم‪ ،‬لو �أنهم نظروا �إىل الأعلى‪ ،‬لو �أنهم �آمنوا بالبعد الأعمق للحياة‪.‬‬
‫لقد حمل معه ذلك ال�شعور باحل�سرة عليهم حتى �آخر العمر‪ ،‬ال‪ ،‬بل بعد‬
‫�آخر العمر‪ ،‬يف الآخرة‪ .‬ال ميكن �أن يحدث ذلك من دون �أن يكون هناك‬
‫حب لهم‪ ،‬ولي�س فقط حب للفكرة التي يحملها‪.‬‬
‫َْ َْ ُ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ْ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ْ َ ً ََ‬
‫ون{ (يس‪.)30:‬‬ ‫ول إِل كنوا ب ِ ِه يسته ِزئ‬ ‫}يا حسة ع ال ِعبا ِد ما يأت ِ‬
‫ِيهم مِن رس ٍ‬
‫حتى النهاية‪� ،‬سيكون هناك هذا ال�شعور باحل�سرة‪ ،‬لو �أنهم �سمعوا‪ ،‬لو‬
‫�أنهم رفعوا �أب�صارهم �إىل الأعلى‪ ،‬لو �أنهم �أدركوا معنى احلياة قبل �أن‬
‫ميوتوا‪.‬‬
‫َ َ َْ‬ ‫َ ٌ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ًّ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ‬
‫} َوآية له ُم ال ْرض الميتة أحييناها َوأخ َرجنا مِنها حبا ف ِمنه يأكلون ‪َ ‬وجعلنا‬
‫َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َّ‬
‫ون ‪َ ِ  ‬لأكلوا مِن ثم ِره ِ َوما‬ ‫اب وفجرنا فِيها مِن العي ِ‬‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ِيل‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ات مِن‬
‫فِيها جن ٍ‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ُ‬ ‫ُ ْ َ َ َّ‬ ‫َََ َْ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ َْ‬
‫ِيه ْم أفل يشك ُرون ‪ ‬سبحان الِي خلق الز َواج كها مِما تنبِت ال ْرض‬ ‫ع ِملته أي ِ‬
‫د‬
‫َْ َُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َُْ‬
‫ون{ (يس ‪.)36 :33‬‬ ‫َومِن أنف ِس ِه ْم َومِما ل يعلم‬

‫نحن ال نزال يف معنى احلياة واملوت‪ ،‬احلياة هنا تخرج من املوت‪،‬‬


‫الأر�ض كانت ميتة غري منتجة‪ ،‬ثم انبثقت فيها احلياة؛ جنات وعيون‬
‫ونخيل و�أعناب‪ ،‬وعمل يدوي يطعم النا�س‪.‬‬

‫‪- 241 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫والأزواج � ً‬
‫أي�ضا تنبت من هناك‪ ،‬من نف�س الأر�ض‪ ،‬ولعل هذه الأزواج‬
‫تكون ميتة � ً‬
‫أي�ضا �إىل �أن تنتج‪ ،‬مثل موت الأر�ض التي خرجت منها‪ ،‬لعل‬
‫احلياة يف �أعمق معانيها هو هذا الإنتاج الذي يحقق الهدف من اخللق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ون َم َت َه َذا ال َو ْع ُد إ ِ ْن ك ْن ُت ْم َصا ِدق َِني{ (يس‪.)48 :‬‬
‫ََُ َ‬
‫}ويقول‬

‫ال يرون �إال ما هو �أدناهم؛ لذا فهم ال ي�ستطيعون فهم الآخرة‪ ،‬يريدونها‬
‫(الآن وهنا) ليفهموها؛ لأنهم ال يفهمون �إال ما هو �آ ٌّ‬
‫ين ومبا�شر‪ ،‬الآن وهنا‪.‬‬
‫لذلك ي�س�ألون‪ :‬متى؟‬
‫تغي �شيء يف موقفهم‪،‬‬
‫ولو جاءهم اجلواب مبا�ش ًرا حمددًا التاريخ؛ ملا َّ َ‬
‫�إنهم ُم ْق َمحون‪ ،‬ر�ؤو�سهم مرتفعة ولكن �أب�صارهم يف الأر�ض‪ ،‬يعي�شون‬
‫احلياة موتى‪ ،‬ببعد احلياة الأدنى‪.‬‬
‫***‬
‫من بني كل �سور القر�آن‪ ،‬ف�إن هذه ال�سورة حتديدً ا هي الأكرث التي‬
‫تكررت فيها كلمة «مبني»‪ ،‬يف �سياقات خمتلفة‪.‬‬
‫�إمام مبني‪� ،‬ضالل مبني‪ ،‬عدو مبني‪ ،‬خ�صيم مبني‪ ،‬وقر�آن مبني‪.‬‬
‫�سبع مرات‪ ،‬تكررت فيها الكلمة‪ ،‬كما لو كانت ت�شري لنا �إىل �أهمية �أن‬
‫وا�ضحا‪ ،‬معنى احلياة ومعنى املوت ومعنى ال�ضالل َومنْ هو‬
‫ً‬ ‫يكون كل �شيء‬
‫عدوك ومن هو خ�صمك‪.‬‬
‫هناك �أ�شياء يجب �أن تكون وا�ضحة؛ لأن حياتك ‪ -‬وبالتايل �آخرتك ‪-‬‬
‫�ستعتمد عليها‪.‬‬

‫‪- 242 -‬‬


‫سورة يس‬

‫هناك �أ�شياء عليك �أن حتدد بو�صلتها؛ لأنها �ستحدد �أين �سرت�سو‬
‫مراكبك يف النهاية‪.‬‬
‫***‬
‫}يس{‪.‬‬
‫فلنتذكر �أنها رمبا كانت تعني‪ :‬يا رجل‪� ،‬أو يا �إن�سان‪.‬‬
‫}يس{ يا �إن�سان‪ ،‬ال�سورة تقول لك �أن تعي�ش ح ًّقا قبل �أن متوت‪َّ � ،‬أل‬
‫متوت قبل املوت‪.‬‬
‫نحن �أَ ْو َل بقراءتها من املوتى‪.‬‬
‫ما دام لدينا فر�صة‪.‬‬

‫‪- 243 -‬‬


‫الصافات ‪37‬‬
‫استعد‪َّ ،‬‬
‫تثبت‪ ،‬انطلق‬

‫�سورة ال�صافات هي ال�سورة التي ت�أخذك �إىل ال�صف‪.‬‬


‫ت ِل�سك يف ال�صف الأول‪ ،‬ال�صف الأمامي‪ ،‬وجتعلك تراقب ما يحدث‪،‬‬ ‫ُْ‬
‫تتعلم منه‪ ،‬ومن َث َّم ت�أخذ دورك يف العمل‪ ،‬ت�صطف لتعمل‪.‬‬
‫***‬
‫تبد�أ ال�سورة بهذا ال َق َ�سم‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ات َز ْج ًرا ‪َ ‬فاتلَّ ِ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ًّ‬ ‫َ َّ َّ‬
‫ات ذِك ًرا{ (الصافت ‪.)3 :1‬‬
‫ال ِ‬
‫الزا َ‬
‫جر ِ‬‫ات صفا ‪ ‬ف ِ‬‫}والصاف ِ‬
‫ثمة ترتيب يف الأمر‪ ،‬ال�صف � ًأول ثم الزجر ِّ‬
‫فالذكر‪.‬‬
‫ال�سياق هنا هو عن املالئكة كما تقول كل كتب التف�سري‪.‬‬
‫مالئكة تقف �ص ًّفا ومالئكة تزجر ومالئكة تتلو الذكر‪.‬‬
‫نفهم معنى ال�صف هو اال�ستواء‪ ،‬الوقوف بانتظام‪ ،‬ب�سوية‪ ،‬ب�صفوف‬
‫متوازية‪.‬‬
‫الزجر‪ ،‬نعرف �أنه النهر‪ ،‬لكنه لي�س هذا فقط‪ ،‬فهو �أي�ضا احلث‪ ،‬احلمل‬
‫على املُ ِ�ضي ب�سرعة‪ ،‬تقول العرب‪َ :‬ز َج َر الإبل �أي حثها على الإ�سراع‪.‬‬

‫‪- 244 -‬‬


‫سورة الصافات‬

‫يبدو هذا املعنى �أكرث ات�سا ًقا مع ما �سبق‪ ،‬ومع جو ال�سورة العام كما‬
‫�سرنى‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫}فاتلَّ ِ َ‬
‫ات ذِك ًرا{‪.‬‬
‫ال ِ‬

‫بعد اال�ستواء واحلث على الإ�سراع‪ ،‬ي�أتي الذكر‪.‬‬


‫الذكر هو حفظ ال�شيء‪ ،‬درا�سته‪ ،‬جريانه على ل�سانك‪.‬‬
‫لدينا �إذن ثالث مراحل‪.‬‬
‫اال�ستواء يف ال�صف‪ ،‬احلث على الإ�سراع وامل�ضي‪ ،‬وبعدها‪� :‬أن يبد�أ‬
‫الذكر‪ ،‬الذكر بهذا املعنى الذي يت�ضمن الفهم وتبليغ الفهم‪.‬‬
‫الأمر ي�شبه‪ :‬ا�ستعد‪ ،‬تث َّبت‪ ،‬انطلق‪.‬‬
‫�سورة ال�صافات ت�أخذنا �إىل هذه الثالثية‪� ،‬إىل حيث نقف يف ال�صف‬
‫الأمامي‪ ،‬حتثنا على امل�ضي‪ ،‬ثم تقول‪ :‬اذكروا جيدً ا ما �سرتون و�ستعون؛‬
‫دوما ب�أ�شكال خمتلفة‪.‬‬
‫لأنه �سيتكرر ً‬
‫***‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ً ْ ُ ِّ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َّ َ َّ َّ َّ َ َ ُّ ْ َ‬
‫ار ٍد ‪ ‬ل‬
‫ان م ِ‬ ‫ِب ‪ ‬وحِفظا مِن ك شيط ٍ‬ ‫}إِنا زينا السماء ادلنيا ب ِ ِزين ٍة الكواك ِ‬
‫ُ ُ ً َ‬ ‫َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َ ْ ُ ِّ َ‬
‫ورا َول ُه ْم َع َذ ٌاب َو ِاص ٌب{‬ ‫ل الع َويقذفون مِن ك جان ٍِب ‪ ‬دح‬ ‫يسمعون إِل الم ِ‬
‫(الصافات ‪.)9 :6‬‬
‫حم�صنٌ من‬
‫�أول ما �سنعرفه يف هذا ال�صف الأمامي �أن عاملنا هذا َّ‬
‫التدخالت اخلارجية التي ي�ؤمن بوجودها البع�ض‪ ،‬ال جنم ي�ؤثر على حياتك‪.‬‬

‫‪- 245 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫دت يف مطلعه‪ ،‬ال �أبراج هناك ت�ؤثر على حياتنا �إال تلك‬ ‫ �أو �صفاتك لأنك ُو ِل َّ‬
‫الأبراج التي نبنيها نحن‪ ،‬والتي ن�ؤثر عليها �أكرث مما ت�ؤثر علينا‪.‬‬
‫افهم هذا وانطلق بعدها‪� ،‬أنت تتعامل مع هذا العامل املرئي وظروفه‬
‫وتعقيداته وتداخالته‪ ،‬ال تعلق ف�شلك �أو تف�سر جناح الآخرين ب�شيء قادم‬
‫من عامل �آخر مل يبذل فيه الب�شر جهدً ا‪.‬‬
‫دخول هذا الفهم اخلاطئ �إىل ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر �سيقتل‬
‫�أهم معاين الثالثية‪.‬‬
‫ما هي معاين هذه الثالثية؟ �سرنى‪.‬‬
‫***‬
‫كل يف طرف‪ ،‬فيها ما يجمعها‪،‬‬ ‫يف هذا ال�صف �سرنى �أ�شيا ًء متقابلة‪ًّ ،‬‬
‫فيها ت�شابه‪ ،‬ولكن جوهر كل واحدة منها يعاك�س الأخرى‪ ،‬و�سيكون علينا �أن‬
‫ننتبه لهذا الت�شابه‪ ،‬و�أن ننتبه �أكرث للجوهر خلف الت�شابه‪.‬‬
‫�ضمن هذه التقابالت �سرنى �أ�سئلة ُت ْط َرح ظاهرها مت�شابه‪ ،‬لكن لأن‬
‫�أجوبتها خمتلفة فكل ما �سيلي ذلك �سيكون خمتل ًفا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َّ ُ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ‬ ‫ََ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ‬
‫}وأقبل بعضهم ع بع ٍض يتساءلون ‪ ‬قالوا إِنكم كنتم تأتوننا ع ِن ال ِم ِ‬
‫ني ‪‬‬
‫كونُوا ُم ْؤمن َ‬‫َ ُ َْ َْ َ ُ‬
‫ني{ (الصافات ‪.)29 :27‬‬ ‫ِِ‬ ‫قالوا بل لم ت‬
‫ال َقائ ٌِل م ِْن ُه ْم إ ِّن َك َن ل َقر ٌ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ َُ َ‬ ‫ََََْ َ ْ ُ ُ ْ ََ َ ْ‬
‫ين ‪‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫‪‬‬ ‫ون‬ ‫ل‬ ‫اء‬ ‫س‬‫ت‬ ‫ي‬ ‫ض‬‫}فأقبل بعضهم ع ب ٍ‬
‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َي ُق ُول أإِنَّ َك ل ِم َن ال ُم َص ِّدق َِني {(الصافات ‪.)52 :50‬‬
‫ال�س�ؤال هو هو‪ ،‬كيف و�صلنا �إىل هنا؟ لكن اجلواب كان خمتل ًفا ً‬
‫متاما‬
‫يف كل مرة‪.‬‬
‫‪- 246 -‬‬
‫سورة الصافات‬

‫لأن نقطة النهاية كانت خمتلفة‪ ،‬مرة ُط ِر َح ال�س�ؤال يف جهنم‪ ،‬حيث‬


‫انتهت الطرق اخلاطئة‪ ،‬ومرة ُط ِر َح يف اجلنة‪ ،‬حيث قادت الطرق ال�صواب‪.‬‬
‫***‬
‫َ َ‬
‫�ضمن نف�س منطق الأ�سئلة والأ�سئلة امل�ضادة ي�أتي ال�س�ؤال الأهم‪} :‬أإِذا‬
‫ُ‬
‫م ِْت َنا َوك َّنا تُ َرابًا َوع َِظ ًاما{ ‪...‬؟‬
‫نعرف ذلك من القر�آن‪ ،‬ونعرفه من امل�شككني وامللحدين يف زماننا ويف‬
‫كل زمان‪ ،‬م�س�ألة البعث من املوت هي التحدي الأكرب لعقولهم‪ ،‬يقي�سونها‬
‫مبقايي�س احلياة اليومية املادية املبا�شرة‪ ،‬فيجدون �صعوبة يف ت�صديقها �أو‬
‫عظاما متحللة؟‬
‫تخيلها‪ ،‬في�س�ألون هذا ال�س�ؤال‪� :‬أبعد �أن منوت ون�صبح ً‬
‫قد نتخيل �أن ال�س�ؤال تكرر كث ًريا يف القر�آن‪ ،‬لكنه ُذ ِك َر خم�س مرات‬
‫فقط يف كل �سور القر�آن‪.‬‬
‫اثنتان منها يف �سورة ال�صافات‪:‬‬
‫املرة الأوىل كانت بال�صيغة التي نعرفها والتي تكررت يف بقية املوا�ضع‪.‬‬
‫َ ً َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َّ ُ ً‬
‫}أإِذا مِتنا َوكنا ت َرابا َوعِظاما أإِنا لمبعوثون{ (الصافات‪.)16 :‬‬

‫واملرة الثانية حدث فيها تغيري ب�سيط‪ ،‬لكنه تغيري مهم ج ًّدا ُي ْك ِمل‬
‫ال�صورة‪ ،‬ويجيب عن ال�س�ؤال تلقائ ًّيا‪.‬‬
‫َ ً َ َّ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َّ ُ ً‬
‫}أإِذا مِتنا َوكنا ت َرابا َوعِظاما أإِنا لمدِينون{ (الصافات‪.)53 :‬‬

‫مبعوثون � ًأول‪.‬‬
‫مدينون ثان ًيا‪.‬‬
‫‪- 247 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫املعنى ذاته؟ ال‪.‬‬


‫ا�سبون‪ ،‬عليهم َد ْينٌ يجب‬ ‫ازون‪ ،‬م َ‬
‫ُ‬ ‫أنهم م‬
‫ُ‬ ‫مدينون‪ ،‬والتي تعني �‬
‫ت�سديده‪.‬‬
‫تقبل بالن�سبة للعقل الب�شري‪،‬‬ ‫هذا املعنى يتمم معنى البعث ويجعله �أكرث ً‬
‫البعث من املوت هو لهدف وجدوى‪ :‬ثمة ديون يجب �أن ُت َ�س َّدد‪ ،‬احلياة كلها‬
‫مبنية على الأ�سباب والنتائج‪ ،‬وعندما تكون هناك نتائج ال نراها مبا�شر ًة‪،‬‬
‫فهذا فقط لأنها م�ؤجلة‪ ،‬وكل احل�سابات «النهائية» تكون �آجلة‪ ،‬ال نرى يف‬
‫حياتنا �سوى ح�سابات عاجلة خمتزلة‪.‬‬
‫مبعوثون نعم‪ ،‬ولكن‪ :‬مبعوثون لأنهم َم ِدينون‪.‬‬
‫كلنا مبعوثون َوم ِدينون‪.‬‬
‫ونحن يف ال�صف �سنفهم ذلك بو�ضوح �أكرب‪.‬‬
‫***‬
‫يف ال�صف � ً‬
‫أي�ضا �سرنى �شجرتني؛ كل واحدة منهما يف طرف م�ضاد‬
‫للآخر‪.‬‬
‫َّ َ َ َ ٌ‬ ‫َّ َ َ ْ َ َ ْ َ ً َّ‬
‫ِلظالِم َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ٌ ُ ُ ً َ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ‬
‫ني ‪ ‬إِنها شج َرة‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫ن‬ ‫ِت‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫اه‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫ع‬‫ج‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬
‫وم‬ ‫ق‬ ‫}أذل ِك خي نزل أم شجرة الز‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِني{ (الصافات ‪.)65 :62‬‬ ‫ط‬ ‫ا‬
‫َ ْ ُ َ َ َّ ُ ُ ُ ُ َّ َ‬
‫ي‬ ‫الش‬ ‫وس‬ ‫ء‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫ع‬ ‫ل‬‫ط‬ ‫يم‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ت ُر ُج ف أ ْصل ْ َ‬
‫ال‬
‫َْ‬
‫ِ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫الأوىل هي �شجرة الزقوم‪ ،‬ال�شجرة الفتنة للظاملني‪.‬‬


‫والثانية؟‬

‫‪- 248 -‬‬


‫سورة الصافات‬

‫يم ‪َ ‬و َأنْبَ ْت َنا َعلَ ْيه َش َج َرةً م ِْن َي ْقطني ‪َ ‬و َأ ْر َسلْ َناهُ‬
‫} َف َن َب ْذنَاهُ بالْ َع َراءِ َو ُه َو َسق ٌ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َْ َْ َ ُ‬
‫ون{ (الصافات ‪.)147 :145‬‬ ‫إِل مِائ ِة أل ٍف أو ي ِزيد َ‬
‫�إنها ال�شجرة التي نبتت على النبي يون�س بعد �أن خرج من بطن احلوت‪،‬‬
‫قبل �أن يعود ملواجهة املهمة التي ت�صور �أنها م�ستحيلة‪.‬‬
‫ارتفاعا وبرو ًزا من �شجرة‬
‫ً‬ ‫ال�شجرة الأوىل‪ :‬الفتنة‪ ،‬رمبا تكون �أكرث‬
‫اليقطني‪ ،‬لكن ارتفاع الأوىل هو الذي يجعلها فتنة‪ ،‬هو الذي يجعل النا�س ‬
‫ينخدعون بها‪ ،‬يعتقدون �أن عل َّوها يجعلها �أف�ضل‪ ،‬لكن العربة احلقيقية هي‬
‫يف الثمار‪ ،‬يف النتائج‪ ،‬ولي�س يف االرتفاع‪.‬‬
‫�شجرة اليقطني لي�ست �شاهقة العلو واالرتفاع‪ ،‬لكنها كانت �شجرة الأمل‬
‫والعمل وامل�ضي يف املهام التي كنا نعتقد �أنها م�ستحيلة‪.‬‬
‫ارتفاعا‪ ،‬فننخدع‬
‫ً‬ ‫وكذلك يحدث كث ًريا يف حياتنا‪ ،‬نرى الأعلى والأكرث‬
‫ارتفاعا‬
‫ً‬ ‫به وبربيقه ونغفل عن نتائجه وثماره‪ ،‬وقد نزهد فيما يبدو �أقل‬
‫وبرو ًزا فال ننتبه عن فوائد ثماره‪.‬‬
‫بع�ض املنتجات يف املدنية احلديثة قد جتذبنا‪ ،‬تخطف اهتمامنا‪ ،‬وقد‬
‫يتخذ البع�ض من �أ�ضوائها املرتاق�صة منا ًرا له‪ ،‬لكننا ال نفكر كث ًريا يف‬
‫م�آالتها‪ ،‬يف نهاية الطريق الذي تقودنا �إليه‪.‬‬
‫تلك هي �شجرة الزقوم‪ :‬الفتنة‪ ،‬طريق خمت�صر �إىل جهنم‪.‬‬
‫وقد ننظر با�ستخفاف �إىل منتج �آخر‪ ،‬تبدو �أ�ضوا�ؤه �شاحبة ن�سب ًّيا‪ ،‬يبدو‬
‫دوما بالإميان العابر‬
‫قد ًميا‪ ،‬ولكن ثمرته ال تنتهي �صالحيتها‪ ،‬ميكن �أن متد ً‬
‫للأزمان‪ ،‬بالأمل املتجدد رغم الوعي ب�صعوبات الواقع‪.‬‬
‫‪- 249 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تلك هي �شجرة اليقطني‪ ،‬الطريق الطويل الذي ال بد من امل�ضي فيه �إىل‬


‫النجاة والنجاح‪.‬‬
‫***‬
‫يف كل �سور القر�آن تتكرر عبارة «عباد اهلل املخل�صني» ثمان مرات‪.‬‬
‫من هذه الثمان‪ :‬حتتل �سورة ال�صافات مرتبة ال�صدارة‪.‬‬
‫خم�س مرات تكررت فيها هذا العبارة‪.‬‬
‫املرات الأربعة الأوىل كانت ب�صيغة اال�ستثناء‪:‬‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫اب ال ِل ِم ‪َ ‬وما ت َز ْون إِل ما كنت ْم تعملون ‪ ‬إِل عِباد‬
‫}إِنكم لائ ِقو العذ ِ‬
‫ني{ (الصافات ‪.)40 :38‬‬ ‫اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ان ُظ ْر َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة ال ْ ُم ْن َذر َ‬
‫َ ْ‬
‫ال ُم ْخل ِص َني{‬ ‫َ َ‬
‫ين ‪ ‬إِل عِباد اهلل‬ ‫ِ‬ ‫}ف‬‫‪.‬‬
‫(الصافات ‪.)74: 73‬‬
‫َّ َ َ‬
‫اد اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ‬ ‫َ َ َّ ُ ُ َ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ني{ (الصافات ‪.)128 :127‬‬ ‫ِ‬ ‫ضون ‪ ‬إِل عِب‬ ‫}فكذبوه فإِنهم لمح‬
‫ُْ َ َ‬ ‫ْ َّ ُ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ً َ َ ْ َ َ‬
‫ضون ‪ ‬سبحان‬ ‫النة إِنهم لمح‬ ‫ت ِ‬ ‫الن ِة نسبا َولقد علِم ِ‬ ‫}وجعلوا بينه وبي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اد اهلل ال ُمخلص َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ َّ َ ُ َ‬
‫ني{ (الصافات ‪.)160 :158‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل عما ي ِصفون ‪ ‬إِل عِب‬

‫لكن يف املرة الأخرية جاءت العبارة ب�صيغة خمتلفة‪:‬‬


‫َ ُ َّ َ َ‬ ‫ون ‪ ‬ل َ ْو َأ َّن ع ِْن َدنَا ذ ِْك ًرا م َِن ْالَ َّول َ‬
‫ِني ‪ ‬لكنا عِباد اهلل‬
‫َ ْ َ ُ ََ ُ ُ َ‬
‫}وإِن كنوا لقول‬
‫ني { (الصافات ‪.)169 :167‬‬ ‫ال ْ ُم ْخلَص َ‬
‫ِ‬

‫‪- 250 -‬‬


‫سورة الصافات‬

‫َْ‬ ‫ْ‬
‫هناك من يحاول التحجج‪ ،‬لو �أن عندنا }ذِك ًرا م َِن ال َّول َِني{؛ لأ�صبحنا‬
‫من ه�ؤالء‪ ،‬من عباد اهلل املخل�صني‪ ،‬لو �أننا كنا مع الر�سول‪ ،‬زمن الر�سول؛‬
‫لأ�صبحنا مثل ال�صحابة‪.‬‬
‫مبدئ ًّيا‪ ،‬لكل مرحلة تاريخية ظروفها‪ ،‬كما لكل �شخ�ص تف ُّرده الذي ال ‬
‫يطابق فيه �أحدً ا كما ب�صمته ال تطابق �أحدً ا‪ ،‬ال �أحد ميكنه �أن يكون ن�سخة‬
‫من �شخ�ص �آخر‪ ،‬وخا�صة من �شخ�ص ينتمي حلقبة تاريخية خمتلفة‪.‬‬
‫وهذا ال مينع االقتداء‪ ،‬ال�سري على النهج‪� ،‬أن جند الإلهام بهذه‬
‫ال�شخ�صيات‪ ،‬ولكن ال تطابق‪ ،‬ال ن�سخ كربونية عابرة للزمان واملكان‪.‬‬
‫الأهم من هذا‪� :‬إن حجة «لو �أننا كنا يف ذلك الزمان؛ ل ُك َّنا مثلهم» حجة‬
‫نا�سا عا�شوا يف تلك احلقبة‪ ،‬وكانوا على الطرف‬ ‫أ�صل؛ لأن هناك ً‬ ‫�ساقطة � ً‬
‫َ َْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الآخر‪ ،‬ال �شيء ي�ضمن �أبدً ا �أنك �ستكون يف �أي طرف �ضمن }فأقبل بعضه ْم‬
‫ََ َْ ََ َ َُ َ‬
‫ون{(الصافات‪ ،)50:‬قد تكون من امل�صدقني بالبعث واجلزاء‪،‬‬ ‫ع بع ٍض يتساءل‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ه إِل أ ْساط ُِري ال َّول َِني{‪.‬‬‫قلت‪} :‬إ ِ ْن ِ َ‬
‫وقد تكون قد َ‬
‫فلننتبه �أن «عباد اهلل املخ َل�صني» تعبري ميكن �أن ي�صف �أي �شخ�ص ‬
‫دون م�ؤهالت م�سبقة‪ ،‬ال يتطلب منه �أن يكون ً‬
‫ر�سول �أو نب ًّيا �أو �صحاب ًّيا �أو‬
‫حوار ًّيا‪ ،‬جواز املرور �إىل هذه «الفئة» يتطلب الإخال�ص يف العبادة فقط‪،‬‬
‫ً‬
‫لي�س م�ستحيل‪.‬‬ ‫�سهل ميكن احل�صول عليه ب�سهولة‪ ،‬لكنه � ً‬
‫أي�ضا‬ ‫لي�س �أم ًرا ً‬
‫***‬
‫ت�أخذنا �سورة ال�صافات عرب ثالثية‪« :‬اال�ستواء واحلث والذكر» �إىل‬
‫ق�ص�ص الأنبياء‪ ،‬لكننا �سرناها هذه املرة من خالل هذه الثالثية حتديدً ا‪.‬‬

‫‪- 251 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سنبد�أ بنوح‪ ،‬ثم نذهب �إىل �إبراهيم‪ ،‬ثم مو�سى وهارون‪ ،‬ثم �إليا�س‪ ،‬ثم‬
‫لوط‪ ،‬و�أخ ًريا يون�س‪.‬‬
‫�أغلب ق�ص�ص الأنبياء نعرفها من �سور �سابقة‪ ،‬عدا �إليا�س الذي ال ُي ْذ َكر‬
‫يف القر�آن �إال هذه املرة‪.‬‬
‫لكن ما الذي مييز ق�ص�ص الأنبياء يف �سورة ال�صافات عن �سواها؟‬
‫ما الذي نراه عرب ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر؟‬
‫�سرنى �أن كل ه�ؤالء ‪ -‬عدا يون�س ‪ -‬قد ُذ ِك َر ومعه �أهله �أو �أ�سرته �أو‬
‫ذريته‪.‬‬
‫َ َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫َََ ْ َ َ َ ُ ٌ ََ ْ َ ُْ ُ َ‬
‫يم ‪‬‬
‫جيبون ‪ ‬ونيناه وأهله مِن الكر ِب ال ِ ِ‬
‫ظ‬‫ع‬ ‫}ولقد نادانا نوح فلنِعم الم ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫َو َج َعل َنا ذ ِّريَّ َت ُه ُه ُم َالاق َِني{ (الصافات ‪.)77 :75‬‬
‫شنَاهُ‬ ‫ِني ‪َ ‬فبَ َّ ْ‬ ‫ال َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ َ ْ‬ ‫َ َ َ ِّ َ ٌ َ َ ِّ َ َ ْ‬
‫ِين ‪َ ‬رب هب ِل م َِن الص ِ‬ ‫}وقال إِن ذاهِب إِل رب سي ِ‬
‫د‬ ‫ه‬
‫َُ َ‬
‫ِيم{ (الصافات ‪.)101 :99‬‬ ‫بِغلمٍ حل ٍ‬
‫َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ‬
‫يم ‪‬‬ ‫} َولقد مننا ع موس َوهارون ‪َ ‬ونيناهما َوقومهما مِن الكر ِب الع ِظ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫صنَ ُاه ْم ف َكنُوا ُه ُم ال َغ ِالِ َني{ (الصافات ‪.)116 :114‬‬ ‫َونَ َ ْ‬
‫ََْ ُ َ َ ْ ً‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫اس لَم َن ال ْ ُم ْر َسل َ‬‫َ َّ ْ َ َ‬
‫ِني‪ ‬إِذ قال ل ِق ْو ِم ِه أل تتقون ‪ ‬أتدعون بعل‬ ‫ِ‬ ‫}وإِن إِل‬
‫ِك ُم ْالَ َّول َ‬
‫ِني ‪َ ‬ف َك َّذبُوهُ َفإ َّن ُهمْ‬ ‫َ َّ ُ ْ َ َ َّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َْ‬
‫ِ‬ ‫وتذرون أحسن الال ِ ِقني ‪ ‬اهلل ربكم ورب آبائ‬
‫َ َ ٌ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َََ ْ َ َ َْ‬ ‫اد اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َُ ْ َ ُ َ‬
‫ني ‪ ‬وتركنا علي ِه ِف الخ ِِرين ‪ ‬سلم ع‬ ‫ِ‬ ‫ضون ‪ ‬إِل عِب‬ ‫لمح‬
‫ني { (الصافات ‪.)130 :123‬‬ ‫إ ْل يَاس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ ُ ً‬ ‫جع َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ َّ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫َّ ُ ً َ َ ْ ُ ْ َ َ‬
‫ني (‪ )134‬إِل عجوزا ِف‬ ‫} َوإِن لوطا ل ِمن المرسلِني (‪ )133‬إِذ نيناه َوأهله أ ِ‬
‫ين{ (الصافات ‪.)135 :133‬‬ ‫الْ َغابر َ‬
‫ِِ‬
‫‪- 252 -‬‬
‫سورة الصافات‬

‫لي�س �صدفة �أن يكون هناك ذكر للأهل يف كل هذه ال�سياقات؛ �أ�سرة‬
‫�أو �أخ �أو زوجة �أو �آل‪ ،‬اال�صطفاف � ًأول يكون هنا يف الأ�سرة‪ ،‬احل�صن الأول‬
‫و�أحيا ًنا الأخري يف النهاية‪ ،‬الأ�سرة هنا مبعناها ال�ضيق‪ :‬الأخ والزوجة‬
‫والأبناء‪ ،‬ومعناها الأو�سع‪ :‬الذرية‪ ،‬الآل‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬على الأقل عليك �أن جترب � َّأل تكون كذلك‪� ،‬أن‬‫ل�ست وحدك ً‬
‫تتم�سك ب�أ�سرتك ومن حولك لأن قوتك تزيد بقوتهم‪ ،‬كما قوة كل �شخ�ص ‬
‫منهم تزيد بقوتك‪ ،‬الأمر ي�شبه بديهيات احل�ساب‪ ،2 =1 +1 .‬و‪.4 =2 +2‬‬
‫فلننتبه �أن الأمر هنا يعتمد � ًأول على غريزة �أ�سا�سية من غرائز الب�شر؛‬
‫التنا�سل والتكاثر‪ ،‬منذ فجر احلياة‪ ،‬وهذه الغريزة حترك كل املخلوقات‪،‬‬
‫كل خملوق يف كل نوع يريد �أن يحفظ نوعه عرب �صراع م�ستمر على البقاء‪،‬‬
‫ولكي تبقى ف�إن عليك �أن تنتج ن�سخة من نوعك‪ ،‬تدخل بدورها يف ملحمة‬
‫ال�صراع من �أجل البقاء‪.‬‬
‫لكن الأمر هنا يتجاوز بدائية الغريزة التي ن�شرتك فيها مع كل املخلوقات‬
‫ً‬
‫مرتبطا بحاجاتك‬ ‫�إىل ما هو �أعلى‪ ،‬مل يعد الأمر جمرد بقاء للنوع‪ ،‬بل �أ�صبح‬
‫أي�ضا‪ ،‬يف �أن يكون هناك معنى يف هذه الرابطة‪� ،‬أن يكون البقاء‬ ‫النف�سية � ً‬
‫«نوع ًّيا» و�أن تكون العالقات بني �أفراد هذه الرابطة تربطهم ب�أكرث من‬
‫قرابة الدم والعرق والن�سب‪ ،‬بل بالقيم الأخالقية املح ِّركة للمجتمع‪ ،‬القيم‬
‫التي حتمي املجتمع والتي جتعله ينمو ويتطور يف الوقت نف�سه‪.‬‬
‫جوهر الأمر هنا �أن غريزة البقاء التي متثل واحدة من خماوف الإن�سان‬
‫املزمنة‪ ،‬تتحول هنا �إىل عن�صر قوة‪.‬‬

‫‪- 253 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�أن تتحول نقاط �ضعفك �إىل منبع لقوتك‪.‬‬


‫هذا در�س مهم نتعلمه يف هذا ال�صف‪.‬‬
‫كل ما يخيفك يف �أعماقك‪ ،‬كل تلك املخاوف ال�سرية التي قد تعتربها‬
‫ُع َقدً ا لك‪ ،‬ميكن �أن تتحول لت�صبح منج ًما للقوة والعطاء والإبداع‪.‬‬
‫لكن يلزم � ًأول �أن تكون واع ًيا معرت ًفا بها‪.‬‬
‫***‬
‫لكن ملاذا «يون�س» يختلف عن كل الأنبياء الذين ُذ ِك ُروا يف عدم وجود �أي‬
‫ِذ ْكر لأ�سرة �أو ذرية يف �سياق ق�صته؟‬
‫ال�سبب وا�ضح‪ ،‬علينا �أن نعرف �أن ذلك قد ال يتي�سر �أحيا ًنا لأي �سبب‬
‫كان‪ ،‬الأمور �ستكون �أكرث �صعوبة عندما تكون وحدك‪ ،‬لكن هذا ال ي�شرتط‬
‫بال�ضرورة ترك املهمة �أو الف�شل‪ ،‬على العك�س‪ ،‬جناح يون�س يف جعل قومه‬
‫ي�ؤمنون وجعل �إميانهم ينقذهم كان �أم ًرا مميزً ا له بني �سياقات ق�ص�ص ‬
‫الأنبياء الذين ُذ ِك ُروا يف ال�سورة‪.‬‬
‫خماوفك قد تكون �أكرب دوافع جناحك‪.‬‬
‫نعم‪.‬‬
‫***‬
‫� ً‬
‫أي�ضا ميكننا �أن نالحظ من �سياقات ق�ص�ص الأنبياء �أننا نرى �صو ًرا يف‬
‫حالة حركة �سريعة‪ ،‬نوح يركب ال�سفينة‪� ،‬إبراهيم يحطم الأ�صنام وتتواىل‪.‬‬

‫‪- 254 -‬‬


‫سورة الصافات‬

‫الأحداث معه بعدها‪ ،‬ينتقل من بلد �إىل �آخر‪ ،‬ال�شيء ذاته بالن�سبة ملو�سى‬
‫وهارون ولوط ويون�س‪.‬‬
‫هناك حركة دائمة‪ ،‬هجرة‪ ،‬انتقال من حال �إىل �آخر‪.‬‬
‫ك�أن هذا يت�سق مع معنى الزجر‪ ،‬احلث على الإ�سراع؟‬
‫***‬
‫مل تنته درو�س ال�صا َّفات‪.‬‬
‫خ�ضم هذه ال�سياقات‪.‬‬
‫ثمة در�س مهم ج ًّدا يف ِّ‬
‫ف�سورة ال�صافات هي ال�سورة الوحيدة التي ُذ ِك َرت فيها ق�صة ر�ؤيا‬
‫�إبراهيم بذبح ابنه‪ ،‬مل ُي ْذ َكر الأمر �أو ترد �إ�شارة له يف �أي �سورة �أخرى‪.‬‬
‫الق�صة جاءت يف �سورة ن�صطف فيها بانتظام‪ ،‬ونحث على العمل‪ ،‬ومن‬
‫ثم نرى العربة والذكر‪.‬‬
‫ْ َ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ َ ِّ َ‬
‫ن إِن أ َرى ِف المن ِام أن أذبُك فانظ ْر ماذا ت َرى قال‬ ‫ع قال يا ب َّ‬ ‫}فلما بلغ معه الس َ‬
‫َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ‬ ‫الصابر َ‬‫َ َّ‬ ‫ت ْاف َع ْل َما تُ ْؤ َم ُر َس َتج ُدن إ ْن َش َ‬ ‫َ ََ‬
‫ني‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ج‬ ‫ِل‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫و‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ل‬‫س‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫اهلل‬ ‫اء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يا أب‬
‫َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الر ْؤيَا إنَّا ك َذل َِك نْزي ال ُم ْحسن َ‬
‫ت ُّ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬
‫اد ْي َناهُ أ ْن يَا إبْ َراه ُ‬
‫ني‪ ‬إِن هذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِيم ‪ ‬قد صدق‬ ‫ِ‬ ‫‪ ‬ون‬
‫يم{ (الصافات ‪.)107 :103‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ل َ ُه َو ْ َ ُ ُ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اللء المبِني ‪ ‬وفديناه بِذِب ٍح ع ِظ ٍ‬

‫فلنتذكر هنا � ًأول �أن الت�ضحية بالأبناء كانت ً‬


‫طق�سا �شائ ًعا يف جمتمعات‬
‫كثرية من �ضمنها جمتمعات ال�شرق الأدنى التي جال فيها �سيدنا �إبراهيم‪،‬‬
‫ً‬
‫مقبول‪ ،‬وعلى‬ ‫وما ي�ستفظعه البع�ض عندما ميرون على الق�صة كان �أم ًرا‬
‫العك�س‪ ،‬فقد كانت هذه الواقعة ‪ -‬الر�ؤيا والطاعة والهم بتنفيذ الأمر‪.،‬‬

‫‪- 255 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ومن ثم الفداء ‪ -‬مبثابة خطوة انف�صال ال بد منها للخروج من منظومة‬


‫القرابني الب�شرية‪.‬‬
‫�إذن �سيدنا �إبراهيم‪ ،‬الذي عانى من العقم فرتة طويلة‪ ،‬وبعد �أن ُب ِّ�ش َر‬
‫َ َ َ َ َ ُ َّ‬
‫الس ْ َع{ �أي �أ�صبح‬ ‫مبجيء غالم‪ ،‬وبعد �أن جاء الغالم وكرب حتى }بلغ معه‬
‫يعينه‪ ،‬ت�أتي الر�ؤيا‪ :‬الذبح‪.‬‬
‫الأمر هنا �أ�صعب بكثري من جتربة �سيدنا يون�س‪ ،‬يون�س ت�أقلم على‬
‫و�ضعه‪� ،‬سيدنا �إبراهيم مر بامتحان �أ�شد بكثري‪ُ ،‬ح ِر َم من الأبناء � ًأول‪ ،‬ثم‬
‫ذاق نعمة وجودهم وتربيتهم و�أن يقفوا بجانبه‪.‬‬
‫ثم الذبح بيديه‪.‬‬
‫الت�ضحية عظيمة‪.‬‬
‫ال ي�شبه الأمر ابن نوح �أو زوجة لوط‪ ،‬ال‪ ،‬ذاك كان خيارهما‪ ،‬هنا االبن‬
‫كان م�ؤم ًنا من�سج ًما مع قيم والده‪.‬‬
‫االمتحان �أ�صعب بكثري‪.‬‬
‫لعل هذا ال�سياق ي�شري �إىل �أننا قد ن�ضطر يف �أحيان كثرية �أن ن�ضحي‬
‫مبا هو عزيز ج ًّدا علينا‪ ،‬مبا هو جزء منا‪ ،‬لي�س لأن هذا اجلزء ينبغي‬
‫التخل�ص منه ِل َع ْي ٍب فيه‪ ،‬بل لأن الأولويات حتتِّم تقدمي �أ�شياء �أخرى �أَ ْو َل‬
‫و�أَ َهم‪� ،‬أن تتخل�ص مما هو عزيز عليك ‪ -‬مثل جزء من قلبك ‪ -‬لأن قيمك‬
‫حتتِّم ذلك‪.‬‬
‫امتحان عظيم‪ ،‬ن�س�أل اهلل �أن يجنبنا �إياه‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 256 -‬‬
‫سورة الصافات‬

‫بعد هذه ال�سياقات ي�أتي تذكري مهم‪.‬‬


‫َْ َ َْ َ َْ َ َ َ َ ً ُ‬ ‫َ ْ َ ْ ْ َ َ ِّ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ُ َ‬
‫النون ‪ ‬أم خلقنا الملئ ِكة إِناثا َوه ْم‬ ‫}فاستفتِ ِهم أل ِربك النات ولهم‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ ْ ْ ْ َ َ ُ ُ َ‬
‫ون ‪َ ‬و َ َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ل اهلل َوإِنه ْم لكذِبون ‪ ‬أصطف‬ ‫شاهِدون ‪ ‬أل إِنهم مِن إِفك ِِهم لقول‬
‫الن َ‬‫ََ ْ‬ ‫ََْ‬
‫ني{ (الصافات ‪.)153 :149‬‬ ‫ات ع َ ِ‬ ‫الن ِ‬

‫ال ي�أتي هذا التذكري هنا �صدفة‪ ،‬حا�شا هلل‪.‬‬


‫احلاجة الإن�سانية �إىل التزاوج والإجناب جعلت البع�ض يعتقد �أن‬
‫الإله ميكن �أن ميتلك نف�س االحتياج‪ ،‬الت�صور الب�شري حم�صور بطبيعته‬
‫الب�شرية‪ ،‬البع�ض ال ميكنه �أن يت�صور �أن هناك ما هو خارج هذه الطبيعة؛‬
‫لذا فهم يت�صورون الإله مثل الب�شر‪ ،‬و�أنه ‪ -‬حا�شاه ‪ -‬يتزوج وينجب �إلخ‪.‬‬
‫أ�صل‪ ،‬هذه احلاجات ب�شرية فح�سب‪،‬‬ ‫لكن رب العاملني ال احتياج له � ً‬
‫وت�صوراتنا عنه عز وجل عليها �أن تتخل�ص من كل ما نعرفه من طباع‬
‫الب�شر‪.‬‬
‫هذه �أول خطوة للخروج من �سوء الفهم‪� ،‬سوء الفهم الذي قد يرتاوح‬
‫بني انحراف يف العقيدة ال�صافية نحو ال�شرك �أو نحو الإحلاد الراف�ض‬
‫لفكرة اهلل‪ :‬ما هذا الإله الذي ي�شبه الب�شر؟‬
‫***‬
‫ٌّ‬
‫�صف ا�ستوينا فيه‪.‬‬
‫وزجر‪ ،‬حث‪ ،‬تنبيه انتبهنا له‪.‬‬
‫وتذكرة لكي نرى كل ما مير بنا من منظار دقيق‪.‬‬

‫‪- 257 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ولي�س �صدفة ‪ -‬حا�شا هلل ‪� -‬أن تنتهي ال�سورة بهذه الت�سبيحة حتديدً ا‪:‬‬
‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫ُ ْ َ َ ِّ َ ِّ ْ‬
‫}سبحان َربك َرب ال ِع َّزة ِ عما ي ِصفون{ (الصافات‪.)180 :‬‬

‫رب العزة‪ ،‬املرة الوحيدة التي ُو ِ�ص َف رب العاملني بهذه ال�صفة هي يف‬
‫هذه ال�سورة‪.‬‬
‫العزة‪ ،‬ن�ست�شعر معانيها �أكرث عندما نكون يف «ال�صف»‪ ،‬متنبهني لأي‬
‫�أمر �أو زجر �أو حث‪ ،‬ويف قمة اال�ستعداد للذكر‪.‬‬
‫رب العزة‪ ،‬نعم �سبحانه‪.‬‬
‫خا�صة �أن ال�سورة التالية �ستتحدث عن العزة وال�شقاق‪.‬‬

‫‪- 258 -‬‬


‫سورة ص ‪38‬‬
‫عن العزة والشقاق‬

‫اق{ (ص ‪)2 :1‬‬


‫َّ َ َ‬ ‫َ َّ َ َ َ ُ‬ ‫ِّ ْ‬ ‫َ ُْْ‬
‫آن ذِي اذلك ِر (‪ )1‬ب ِل الِين كفروا ِف عِز ٍة و ِشق ٍ‬‫}ص والقر ِ‬
‫تدخل عليك �سورة �ص فج�أة من دون مقدمات‪ ،‬تقول لك‪} :‬بَل َّال َ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫ََُ‬
‫اق{ (ص‪.)2 :‬‬ ‫كفروا ِف عِز ٍة و ِشق ٍ‬
‫بل؟‬
‫بل تفيد اال�ستدراك‪ ،‬تتحدث عن �شيء معني‪ ،‬فت�ستدرك‪ ،‬هو �أكرث مما‬
‫قلت ومما ت�صورت‪.‬‬
‫معاك�سا ملا ُذ ِك َر‪.‬‬
‫ً‬ ‫�أو ت�ستدرك‪ ،‬لتقول �شي ًئا‬
‫لكن ال�سورة تبد�أ هكذا‪ ،‬دون �أن يكون هناك ما ي�سبق هذه الـ «بل» حتى‬
‫ت�ستدرك عليه‪.‬‬
‫متلب�سا به‪،‬‬
‫ال‪ ،‬كان هناك �شيء يف نف�سك‪ ،‬وال�سورة �ألقت القب�ض عليك ً‬
‫َ َّ َ َ‬
‫ك َف ُروا ِف ع َِّز ٍة َو ِش َق ٍاق{ (ص‪.)2 :‬‬ ‫وقالت لك بو�ضوح‪} :‬ب ِل الِين‬

‫ماذا كنت تقول يف نف�سك حتى قال لك القر�آن هذا؟‬


‫ال بد �أنك كنت تقول �شي ًئا عن قوة الذين كفروا‪ ،‬عن عزتهم‪ ،‬عن‬
‫هيمنتهم على العامل‪ ،‬عن تقدمهم‪ ،‬عن تطورهم‪.‬‬
‫‪- 259 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�ألي�س كذلك؟‬
‫«القر�آن ذو الذكر» يقر�أ �أفكارك‪� ،‬إن مل تكن تقولها الآن‪ ،‬فرمبا قلتها‬
‫َ َّ َ َ َ‬
‫ِين كف ُروا‬‫�ساب ًقا‪� ،‬أو �ستقولها الح ًقا‪ ،‬وها هو يقول لك ‪ -‬ا�ستبا ًقا ‪} :-‬ب ِل ال‬
‫ِف ع َِّز ٍة َو ِش َق ٍاق{ (ص‪.)2 :‬‬
‫نعم‪� ،‬إنهم يف عزة ظاهرة للعيان‪ ،‬لكن ثمة ما هو �أكرث يف هذه العزة‪،‬‬
‫ثمة �شيء قد ال يكون مرئ ًّيا على الفور‪ ،‬ي�ستلزم �أن تدقق كي ترى ما حتت‬
‫هذه العزة من �شقاق‪.‬‬
‫ي�شبه الأمر بنا ًء تاريخ ًّيا ً‬
‫�شاخما مرتف ًعا‪ ،‬تراه من بعيد فيخطف ب�صرك‬
‫بهيبته‪ ،‬ثم تقرتب فرتى �آثار الت�صدعات وال�شقوق على واجهته‪ ،‬ثم تقرتب‬
‫�أكرث فت�سمع �صو ًتا يف اجلدران‪ ،‬وت�شعر بحركتها بفعل الريح‪.‬‬
‫متاما‪.‬‬
‫من بعيد‪ ،‬الأمر خمتلف ً‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ‬
‫ش ٌء ي َراد ‪ ‬ما‬ ‫}وانطلق المل مِنهم أ ِن امشوا واص ِبوا ع آل ِهتِكم إِن هذا ل‬
‫َ ُ ْ َ َ َ ْ ِّ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ‬ ‫ْ َ َ َّ ْ َ ٌ‬ ‫ْ َّ ْ‬ ‫َ َْ َ َ‬
‫س ِمعنا بِهذا ِف ال ِمل ِة الخ َِرة ِ إِن هذا إِل اختِلق ‪ ‬أأن ِزل علي ِه اذلكر مِن بينِنا بل‬
‫َ ْ َ َّ َ ُ ُ َ َ‬ ‫ُ ْ َ ٍّ ْ ْ‬
‫اب{ (ص ‪.)8 :6‬‬ ‫هم ِف شك مِن ذِك ِري بل لما يذوقوا عذ ِ‬
‫يريدون الإبقاء على الو�ضع القائم �ضد �أي تغيري‪ ،‬كل �شيء م�ؤامرة‬
‫بالن�سبة لهم‪ ،‬م�ؤامرة تريد �أن تطيح بهم وبعزتهم وبقوتهم وبرثوتهم‪.‬‬
‫َ ْ َ ُ‬ ‫ََُ ُ ََُْ ُ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ‬
‫وط َوأصحاب‬
‫وح وعد وف ِرعون ذو الوتا ِد ‪ ‬وثمود وقوم ل ٍ‬ ‫}كذبت قبلهم قوم ن ٍ‬
‫َْ‬ ‫ْ َْ َ ُ َ‬
‫ك ِة أول َِك ال ْح َز ُاب{ (ص ‪.)13 :12‬‬ ‫الي‬

‫دوما هناك ح�ضارات‬ ‫قبلهم كانوا ه�ؤالء‪ ،‬ولكن ال�سل�سلة ت�ستمر‪ً ،‬‬
‫وجمتمعات ت�شبه هذه املجتمعات‪ .‬عزة ال تخطئها العني‪ ،‬ولكن � ً‬
‫أي�ضا �شقاق‪.‬‬
‫‪- 260 -‬‬
‫سورة ص‬

‫ال يتعلق الأمر باملجتمعات واحل�ضارات فقط‪ ،‬بل بالأ�شخا�ص � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬
‫�أحيا ًنا ترى البع�ض يف حاالت ِعزَّة مبهرة‪.‬‬
‫ولكن هذا من بعيد فقط‪ ،‬من الداخل هناك م�شاكل كثرية‪ ،‬رمبا هناك‬
‫�صراع يف داخل هذا ال�شخ�ص‪ ،‬رمبا هناك �أرق وقلق ي�أكالنه كل ليلة‪ ،‬رمبا‬
‫هو فري�سة �سهلة لهذه العزة كل يوم‪.‬‬
‫ورمبا �ستعرف الح ًقا حقائق ت�ؤكد هذا‪ ،‬ت�ؤكد الت�صدعات وال�شقاق‬
‫خلف الواجهة املبهرة‪ ،‬ورمبا لن تعرف قط‪� ،‬سي�أخذ معه �أ�سراره �إىل قربه‪،‬‬
‫ثم �إىل يوم عر�ضه وح�سابه‪.‬‬
‫املهم‪ ،‬ال تغرت كث ًريا بالعزة‪� ،‬سواء يف الأ�شخا�ص �أو يف املجتمعات‪ ،‬فقد‬
‫يكون هناك ما ال تراه خلف هذه العزة‪.‬‬
‫***‬
‫هكذا �إذن‪ ،‬هل ير�سل لنا القر�آن ر�سالة مفادها �أن هذه املجتمعات‬
‫وال�شخ�صيات القوية لي�ست بهذه القوة التي نتخيلها‪ ،‬و�أن علينا �أن ننتظر‬
‫�إىل �أن تتغلب نقاط ال�ضعف على نقاط القوة وينتهي الأمر؟‬
‫حمال‪ ،‬القر�آن ال يفعل هذا‪.‬‬
‫القر�آن يدلنا على �أمثلة �أخرى للعزة‪ ،‬العزة امل�ستمدة من رب العزة ‪-‬‬
‫متاما ‪ ،-‬العزة التي ي�أمرنا ‪ -‬عز وجل ‪� -‬أن‬
‫كما و�صفته ال�سورة ال�سابقة ً‬
‫من�شي على خطاها ونقتفي �آثارها‪ ،‬ال التي ننبهر بها فح�سب‪.‬‬

‫‪- 261 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َّ ُ َ َّ ٌ‬
‫البال‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫اب‬ ‫}اص ِب ع ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الي ِد إِنه أو‬
‫َ‬
‫ََ َ َْ ُ ْ َ ُ‬
‫ورة ك لُ أ َّواب ‪ ‬وشددنا ملكه‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ ْ َ َ ْ ُ َ ً ُ ٌّ َ‬
‫اق ‪ ‬والطي مش‬ ‫ش َو ْال ْ َ‬
‫ش‬
‫ْ‬
‫َم َع ُه ي ُ َس ِّب ْح َن بِال َع ِ ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ ُ َْ ْ ْ َ َ‬ ‫َ ََْ ُ ْ ْ َ َ ََ ْ َ ْ َ‬
‫اب ‪َ ‬وهل أتاك نبأ الص ِم إِذ تس َّو ُروا ال ِمح َراب ‪ ‬إِذ‬ ‫وآتيناه ال ِكمة وفصل ال ِ‬
‫ِط‬
‫َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ُْ‬
‫ان بغ بعضنا ع بع ٍض فاحكم‬ ‫دخلوا ع داوود فف ِزع مِنهم قالوا ل تف خصم ِ‬
‫َّ َ َ َ َ ُ ْ ٌ َ ْ ُ َ‬ ‫اهدِنَا إ َل َس َواءِ ِّ َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ْ ْ َ ْ‬
‫اط ‪ ‬إِن هذا أ ِخ ل ت ِسع وت ِسعون‬ ‫الص ِ‬ ‫َِ‬ ‫بيننا بِالق ول تش ِطط و‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ً َ َ َْ َ ٌ َ ٌَ‬
‫اب ‪ ‬قال لقد ظلمك‬ ‫ل نعجة واحِدة فقال أك ِفلنِيها ْوعز ِن ِف ال ِط ِ‬ ‫نعجة و ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ريا م َِن الل َطاءِ َلبغ َبعضه ْم َع َبعض إل ال َ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ك إل ن ِعاج ِه َوإن كثِ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ َ‬
‫ْ‬
‫ِين‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ال نعجتِ ِ‬ ‫بِسؤ ِ‬
‫َ َ ٌ َ ُ ْ َ َ َّ َ ُ ُ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ََّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫ات وقلِيل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر‬ ‫ال ِ‬‫الص ِ َ‬ ‫آمنوا َوع ِملوا‬
‫ً ََ َ‬
‫َراك ِعا َوأناب{ (ص ‪.)24 :17‬‬
‫َ َْ‬
‫هذا هو منوذج العزة‪َ } ،‬د ُاو َود ذا اليْ ِد{‪.‬‬
‫كم يدً ا ل�سيدنا داود؟ اثنتان فقط كما لنا جمي ًعا‪ ،‬لكن الأيد هنا تعني‬
‫القوة‪ ،‬و�سائل التنفيذ التي امتلكها �سيدنا داود والتي �ش َّكلت �أعلى ما ميكن‬
‫�أن ت�صله ح�ضارة يف زمانه‪.‬‬
‫لكن هذا التقدم لي�س املعيار الوحيد الذي ميكن ح�ساب العزة فيه‪ ،‬بل‬
‫هناك يف �سياق ق�صة داود ما ال يقل �أهمية‪� :‬إنه العدل االجتماعي الذي‬
‫جعل داود ينتبه �إىل احتكار الرثوة الذي متار�سه بع�ض الفئات ورغبتها يف‬
‫اال�ستئثار باملزيد‪ ،‬ووقوفه �ضد ذلك‪.‬‬
‫ْ َ ِّ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ك ْم َب ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ً‬
‫الق َول‬ ‫ي انلَّ ِ‬
‫اس ِب‬ ‫اوود إِنا جعلناك خلِيفة ِف ال ْر ِض فاح‬ ‫�إنه‪} :‬يا د‬
‫َُ ْ َ َ ٌ‬ ‫َّ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ‬
‫يل اهلل لهم عذاب‬ ‫يل اهلل إِن الِين ي ِضلون عن سبِ ِ‬ ‫تتبِعِ الهوى في ِضلك عن سبِ ِ‬
‫َ ٌ َ َُ ََْ ْ َ‬
‫اب{ (ص‪.)26 :‬‬ ‫شدِيد بِما نسوا يوم ال ِس ِ‬

‫‪- 262 -‬‬


‫سورة ص‬

‫احلكم باحلق‪ ،‬ترك الهوى يف التعامل مع النا�س ومع القيم‪ ،‬عدم‬


‫التعامل مبكاييل خمتلفة ح�سب اللون والعرق والأيديولوجيا‪ ،‬هذه هي‬
‫مميزات العزة امل�ستمدة من رب العزة‪ ،‬العزة التي بال �شقاق‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫مزيد من الأمثلة؟ �سليمان‪} ،‬ن ِْع َم ال َع ْب ُد إِنَّ ُه أ َّو ٌاب{‪.‬‬
‫َّ َ َ ْ َ ْ َّ ُ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ََ‬ ‫ُ ْ ً َ ََْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ ِّ ْ‬
‫}قال َرب اغ ِف ْر ِل َوهب ِل ملك ل ينب ِغ ِلح ٍد مِن بعدِي إِنك أنت ال َوهاب ‪‬‬
‫َ َّ َ َ ُ َّ َ َّ َ َ َّ‬ ‫َْ ُ َ ً َْ ُ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ ُ ِّ َ َ ْ‬
‫اء حيث أصاب ‪ ‬والشياطِني ك بنا ٍء وغو ٍ‬
‫اص ‪‬‬ ‫الريح ت ِري بِأم ِره ِ رخ‬ ‫فسخرنا ل‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ين ُم َق َّرن َ‬ ‫َ َ‬
‫آخر َ‬
‫ِني ِف الصفاد ِ{ (ص ‪.)38 :35‬‬ ‫و ِ‬
‫املزيد من العزة‪ ،‬املزيد من و�سائل القوة الأكرث تطو ًرا ح�سب معايري‬
‫ع�صره‪ ،‬مع املحافظة على القيم التي ك َّر�سها والده داود‪ ،‬عليهما ال�سالم‪.‬‬
‫هل متدنا �سورة �ص مب َثل �آخر عن العزة كما يجب �أن تكون غري َم َث َلي‬
‫داود و�سليمان؟‬
‫نعم‪ ،‬مب َثل خمتلف ج ًّدا‪.‬‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ِّ َ َّ َ َّ ْ َ ُ ُ ْ‬
‫اب ‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫}واذكر عبدنا أيوب إِذ نادى ربه أن مس ِن الشيطان بِن ٍ‬
‫ب‬ ‫ص‬
‫ََْ َ َْ َُ َُْ ََُ ًَْ‬ ‫ْ َ َ َ َُْ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ٌ‬ ‫ْ ُ ْ‬
‫شاب ‪َ ‬و َوهبنا لُ أهله َومِثله ْم معه ْم َرحة‬ ‫ارد و‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ت‬‫غ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ذ‬‫ه‬ ‫ِك‬ ‫ل‬‫ج‬‫ر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ض‬ ‫ارك‬
‫ْ َ َْ‬ ‫َّ َ ْ َ ُ‬
‫اب{ (ص ‪.)43 :41‬‬ ‫ول الل ِ‬ ‫مِنا وذِكرى ِل ِ‬
‫كيف يكون �أيوب َم َث ًل عن هذه العزة وهو الذي اب ُت ِل َي مبر�ض باعد عنه‬
‫النا�س؟ بب�ساطة‪ ،‬هذه هي العزة احلقيقية عندما متر ب�أزمة‪� ،‬أن تبقى‬
‫متما�س ًكا‪� ،‬صامدً ا‪� ،‬صاب ًرا؛ �إىل �أن جتتاز العا�صفة‪.‬‬

‫‪- 263 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�أيوب و�سليمان وداود‪ ،‬كيف ميكن الربط بني هاته ال�شخ�صيات؟ مناذج‬
‫خمتلفة عن العزة احلقيقية يف مراحل خمتلفة‪ ،‬العزة التي جعلها الإميان‬
‫تكون قوية وعادلة‪ ،‬وجعلها �أي�ضا ت�صمد‪.‬‬
‫***‬
‫ماذا عن �أمثلة �أخرى عن العزة وال�شقاق‪ ،‬تلك التي ال نراها يف حياتنا‬
‫الدنيا؟‬
‫ْ ًّ َ ْ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫} َو َقالُوا َما َلَا َل نَ َرى ر َج ًال ُك َّنا َن ُع ُّد ُه ْم م َِن ْال ْ َ‬
‫ار ‪ ‬أتذناه ْم ِسخ ِريا أم‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َ َ َ ٌّ َ َ ُ ُ َ ْ‬ ‫ت َع ْن ُه ُم ْالَبْ َص ُ‬
‫َ َ ْ‬
‫ار ‪ ‬إِن ذل ِك لق تاصم أه ِل انلارِ{(ص ‪.)64 :62‬‬ ‫زاغ‬

‫لقد انتهوا �إىل جهنم‪ ،‬لكنهم يريدون �أن ي�أخذوا اجلميع معهم‪� ،‬أين‬
‫َِ‬
‫وعالن؟ ل هو لي�س معنا يحرتق يف نار جهنم؟!‬ ‫فالن‬
‫� ُّأي �شقاق �أكرث من هذا؟!‬
‫بل �إننا �سرنى ً‬
‫مثال مبك ًرا ج ًّدا عن هذه العزة وذلك ال�شقاق‪ ،‬قبل �أن‬
‫يبد�أ كل �شيء‪.‬‬
‫َ َ َ ُُْ ََ ْ ُ‬ ‫ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ َ َ ً ْ‬
‫ِني ‪ ‬فإِذا س َّويته َونفخت فِي ِه‬ ‫ٍ‬ ‫ط‬ ‫ِن‬ ‫}إذ قال ربك ل ِلملئ ِك ِة إِن خال ِق بشا م‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َْ َ َ‬ ‫وح َف َق ُعوا َلُ َساجد َ‬ ‫ْ‬
‫ِين ‪ ‬فسجد الملئ ِكة كه ْم أجعون ‪ ‬إِل إِبلِيس‬ ‫ِ‬ ‫مِن ُر ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ َ َََ َ َ ْ َْ ُ َ َ َ َْ ُ ََ‬ ‫ب َو َك َن م َِن الْ َكف ِر َ‬‫اس َت ْك َ َ‬‫ْ‬
‫ين ‪ ‬قال يا إِبلِيس ما منعك أن تسجد ل ِما خلقت بِيد َّي‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َ َ َْ َُ ْ‬ ‫َ َ ََ َ ٌْ ْ ُ َ َْ َ‬ ‫ت م َِن الْ َعال َ‬‫َ ْ َ ْ َْ َ َْ ُْ َ‬
‫ِني‬‫ٍ‬ ‫ط‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ق‬‫ل‬‫خ‬‫و‬ ‫ار‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ه‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫‪‬‬ ‫ِني‬ ‫أستكبت أم كن‬
‫َ‬
‫ك ل ْع َنت إل يَ ْو ِم ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َّ َ ْ َ‬ ‫ك َرج ٌ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ْ ْ َ َّ َ‬
‫َ‬
‫ين{ (ص ‪.)78 :71‬‬ ‫ِ‬ ‫ادل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫يم‬ ‫ِ‬ ‫‪ ‬قال فاخرج مِنها فإِن‬

‫‪- 264 -‬‬


‫سورة ص‬

‫�إبلي�س ‪ -‬النموذج الأعلى للغواية وال�شر ‪ -‬بد�أت رحلة �سقوطه من نقطة‬


‫التقاء العزة بال�شقاق‪ ،‬من هذا ال�شعور بالتكرب واال�ستعالء الذي جعله ال ‬
‫ميتثل لأمر اهلل بال�سجود لآدم‪ ،‬املمثل الأول للنوع الإن�ساين يف هذا ال�صراع‪.‬‬
‫احلكاية �إذن مبكرة ج ًّدا‪ ،‬ال تبد�أ بقوم نوح وال تنتهي بكفار قري�ش‪،‬‬
‫هي مع بداية الإن�سانية‪ ،‬و�ستبقى ما دامت الإن�سانية‪ ،‬الأمر يف حقيقته‬
‫وجوهره �صراع داخلي يف �أعماقنا‪� ،‬ضمن �صراعات داخلية �أخرى‪� ،‬صراع‬
‫بني عزة يف داخلك م�ست َم َّدة منه عز وجل‪ ،‬من الإميان به وبالقيم التي‬
‫تر�سيها ر�سالته‪ ،‬وبني العزة الأخرى‪ ،‬عزة الكرب واال�ستعالء‪ ،‬وكل ال�شقاق‬
‫والت�صدعات التي تتبع ذلك‪.‬‬
‫َ َ‬
‫ين ‪ ‬إِل ي ْو ِم‬ ‫ك م َِن ال ْ ُم ْن َظر َ‬ ‫َ َ َ َّ َ‬
‫ن‬ ‫إ‬‫ف‬ ‫ال‬‫ق‬
‫َ َْ َُُْ َ‬
‫ون‬ ‫ث‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫ال َر ِّب َفأَنْظ ْ‬
‫ر‬
‫َ َ‬
‫}ق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫َ َّ ُ ْ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ْ‬
‫ج ِع َني ‪ ‬إِل ع َِب َاد َك م ِْن ُه ُم ال ُمخل ِص َني{‬ ‫َ‬
‫وم ‪ ‬قال فبِ ِع َّزت ِك لغ ِوينهم أ‬
‫ْ‬
‫ت ال َمعل ِ‬ ‫الوق ِ‬
‫(ص ‪.)83 :79‬‬
‫�إبلي�س ُي ْق ِ�سم بعزة اهلل على �أنه �سيغوي كل الب�شر‪.‬‬
‫بني كل �سور القر�آن التي ُذ ِك َر فيها هذا املوقف‪� ،‬سورة �ص هي ال�سورة‬
‫الوحيدة التي ُي ْذ َك ُر فيها هذا الق�سم لإبلي�س‪ ،‬الق�سم بالعزة‪ ،‬بالت�أكيد‪� ،‬إنها‬
‫�سورة تتحدث عن العزة من بدايتها‪ ،‬و�إبلي�س يق�سم بعزة اهلل �أنه �سيغويهم‬
‫نحو عزة �أخرى؛ عزة و�شقاق‪.‬‬
‫املنظرين‪ ،‬كل منا جزء من هذا التحدي‪ ،‬جزء من هذا‬ ‫�إبلي�س من َ‬
‫ال�صراع‪.‬‬

‫‪- 265 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سورة �ص حتكي لنا ق�صتنا ال�شخ�صية ولكن من زاوية بعيدة ج ًّدا‪،‬‬


‫بحيث نراها من البداية املبكرة‪ ،‬من �أ�صلها‪.‬‬
‫�أما نهاية هذه الق�صة‪ ،‬فلن نعلمها الآن‪ ،‬بل بعد حني‪.‬‬
‫خالل ذلك ميكننا �أن ن�ساهم يف حتديد هذه النهاية‪.‬‬

‫‪- 266 -‬‬


‫ُّ‬
‫الز َمر ‪39‬‬
‫معركة مدوية بصمت‬

‫لوال �أن هناك �سورة �أخرى ا�سمها �سورة الإخال�ص لرمبا �أخدت �سورة‬
‫الز َُّمر هذا اال�سم بجدارة‪،‬‬
‫فمنذ البداية ت�شري ال�سورة �إىل الإخال�ص‪ ،‬وتتكرر هذه الإ�شارة �صريحة‬
‫يف �أربعة موا�ضع الح ًقا‪.‬‬
‫لكنها لي�ست �سورة الإخال�ص‪.‬‬
‫بل هي �سورة الزمر‪.‬‬
‫و�سنعرف �أن «الإخال�ص» و«الزمر» مرتبطان ب�أكرث مما َب َدا لنا � ًأول‪.‬‬
‫***‬
‫توجه ال�سورة احلديث �إىل املخاطب الفرد يف �أغلب �آياتها‪.‬‬
‫ِّ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬
‫مل ًِصا لُ ِّ‬ ‫َ‬
‫َ ِّ ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ َ َ ْ َ‬‫َْ ْ‬
‫ادل َين{ (الزمر‪.)2 :‬‬ ‫الق فاعب ِد اهلل‬ ‫}إِنا أنزلا إِلك الكِتاب ب ِ‬
‫ْ َْ ُ‬ ‫ْ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌّ َ ْ ُ َ َ َ‬ ‫ْ َ ْ ُ ُ َ َّ‬
‫ن عنك ْم َول ي ْرض ل ِ ِعبا ِده ِ الكف َر َوإِن تشك ُروا‬‫}إن تكفروا فإِن اهلل غ ُِ‬
‫َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ َ ٌ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َ ِّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ ُ َ ِّ ُ ُ َ ُ ْ ُ‬
‫جعك ْم فينبئك ْم بِما كنت ْم‬ ‫ازرة ِوزر أخرى ثم إِل ربكم مر ِ‬ ‫يرضه لكم ول ت ِزر و ِ‬
‫ُّ ُ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ ٌ َ‬
‫ور{ (الزمر‪.)7 :‬‬
‫ات الصد ِ‬ ‫تعملون إِنه علِيم بِذ ِ‬

‫‪- 267 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َ َ َّ ْ ْ َ َ ُ ٌّ َ َ َ َّ ُ ُ ً َ ْ ُ َّ َ َ َّ َ ُ ْ َ ً ْ ُ َ َ َ َ َ‬
‫س ما كن‬ ‫النسان ض دع ربه منِيبا إِل ِه ثم إِذا خول ن ِعمة مِنه ن ِ‬ ‫}وإِذا مس ِ‬
‫ُ ْ َ َ َّ ْ ُ ْ َ َ ً‬ ‫َ ْ َ ً ُ َّ َ ْ َ‬ ‫ْ َُْ َ َ ََ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫يدعو إ ِ ْل ِه مِن قبل وجعل هلل أندادا ِل ِضل عن سبِيلِ ِه قل تمتع بِكف ِرك قلِيل‬
‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ َ َ ٌ َ َ َّ ْ َ ً َ ً َ ْ َ ْ‬ ‫ك م ِْن َأ ْص َحاب انلَّ‬ ‫َّ َ‬
‫جدا َوقائ ِما يذ ُر الخ َِرة‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫الل‬ ‫اء‬ ‫آن‬ ‫ِت‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫‪‬‬ ‫ار‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِن‬
‫َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ ُ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ‬
‫ويرجو رحة رب ِه قل هل يست ِوي الِين يعلمون والِين ل يعلمون إِنما يتذكر أولو‬
‫َ‬
‫اب{ (الزمر ‪.)9 :8‬‬ ‫ْ َْ‬
‫الل ِ‬
‫ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ‬ ‫ادل َ‬ ‫مل ًِصا َلُ ِّ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ ْ ِّ ُ ُ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ين ‪َ ‬وأم ِْرت ِلن أكون أ َّول‬ ‫}قل إِن أم ِْرت أن أعبد اهلل‬
‫َ ُُْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ ِّ َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ‬
‫يم ‪ ‬ق ِل اهلل أعبد‬ ‫المسلِ ِمني ‪ ‬قل إِن أخاف إِن عصيت رب عذاب يومٍ ِ ٍ‬
‫ظ‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫ُ ْمل ًِصا لُ د ِِين{ (الزمر ‪.)14 :11‬‬
‫ْ ِّ َ ْ ٌ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َ ْ َُ ْ ْ َ َ َُ ََ ُ‬ ‫َََ ْ َ َ َ‬
‫ور مِن َرب ِه ف َويل ل ِلقا ِسي ِة قلوبه ْم‬ ‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ِل‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫اهلل‬ ‫ح‬ ‫}أفمن ش‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م ِْن ذِك ِر اهلل أول َِك ِف ضل ٍل ُمبِ ٍني{ (الزمر‪.)22 :‬‬
‫ُ ََ ُ َُ َ ُ َ َ َ ُ ً َ ًَ َ ُ َْ َْ َ َ‬ ‫ًََ َ ُ ً‬ ‫َ َ َ‬
‫ان‬ ‫}ضب اهلل مثل رجل فِي ِه شكء متشاك ِسون ورجل سلما ل ِرج ٍل هل يست ِوي ِ‬
‫َْ َ ْ َُ ُ ْ َ َ ْ َُ َ‬ ‫َ َ ً َْ ْ ُ‬
‫ون{ (الزمر‪.)29 :‬‬ ‫المد هلل بل أكثهم ل يعلم‬ ‫مثل‬
‫ََ َ ْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َّ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ‬
‫ِين مِن دون ِ ِه َومن يضل ِِل اهلل فما لُ مِن‬ ‫اف عبده و يوفونك بِال‬ ‫}أليس اهلل بِك ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ ُ ٍّ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َْ‬ ‫َ‬
‫يز ذِي انتِقامٍ { (الزمر ‪.)37 :36‬‬ ‫ٍ‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫اهلل‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫اهلل‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ها ٍد ‪ ‬ومن ي‬
‫َ ْ َ َّ َ َّ َ‬ ‫ْ َ ِّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫َّ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ‬
‫الق فم ِن اهتدى فلِنف ِس ِه َومن ضل فإِنما‬ ‫اس ِب‬ ‫}إِنا أن َزلَا عليك الكِتاب ل ِلن ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫يَ ِض ُّل َعل ْي َها َو َما أن َت َعل ْي ِه ْم ب ِ َوك ٍِيل{ (الزمر‪.)41 :‬‬
‫َ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫شكت َلحبط َّن عملك َولَكون َّن‬ ‫وح إِلك وإِل الِين مِن قبلِك ل ِئ أ‬ ‫}ولقد أ ِ‬
‫الشاك ِر َ‬ ‫ْ ُ ْ َ ْ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الاس َ‬ ‫َ َْ‬
‫ين{ (الزمر ‪.)66 :65‬‬ ‫ِ‬ ‫ين ‪ ‬ب ِل اهلل فاعبد وكن مِن‬ ‫ِ ِ‬ ‫مِن‬

‫كل هذه ال�سياقات فردية �شخ�صية يف طبيعتها‪ ،‬كما لو �أنها تذ ِّكرنا‬


‫بارتباط الإخال�ص ‪ -‬وهو الذي اف ُت ِت َح ْت به ال�سورة ور َّكزت عليه يف �أكرث‪.‬‬
‫‪- 268 -‬‬
‫سورة الزمر‬

‫من مو�ضع ‪ -‬ب�أمر داخلي جواين يخ�ص كل �شخ�ص على ِح َدة‪ ،‬الإخال�ص ‬
‫ال ميكن قيا�سه �أو تعيريه �أو حتى معرفة وجوده من اخلارج‪ ،‬هذا �أمر بينك‬
‫وبينه عز وجل فقط‪ ،‬بل �إنك �أنت �شخ�ص ًّيا كنت تكون يف �شك �أحيا ًنا من‬
‫�إخال�صك‪ ،‬ووحده رب العاملني هو القادر على حتديد ذلك‪.‬‬
‫الإخال�ص معركتك ال�شخ�صية الداخلية‪ ،‬مثل ذلك الرجل الذي ذكرته‬
‫َ‬ ‫ُ ََ ُ َُ َ ُ َ‬
‫ون{ و�آخر } َسل ًما ل َِر ُج ٍل{‪ ،‬املعنى املبا�شر‬ ‫الآيات‪ ،‬رجل فيه }شكء متشاك ِس‬
‫كان يعني الرق‪ ،‬فقد ي�شرتك ب�ضعة رجال يف امتالك عبد يف زمن العبودية‪،‬‬
‫وقد يكون هذا العبد ِم ْل ًكا لرجل واحد‪ ،‬هذا املعنى ميكن �أن نراه اليوم‬
‫بزاوية �أخرى‪� ،‬أحيا ًنا يكون يف داخل فرد واحد «�أ�شخا�ص مت�شاك�سون»‪ ،‬كل‬
‫منهم ميتلك جز ًءا من روح هذا ال�شخ�ص �أو عقله �أو من قلبه وعواطفه‪،‬‬
‫كل منهم‬ ‫وعندما يحدث ت�ضارب م�صالح بني ه�ؤالء املت�شاك�سني؛ ف�إن ًّ‬
‫يريد �أن ي�أخذ ال�شخ�ص �إىل مكان �آخر‪.‬‬
‫�إنها موقعة الإخال�ص‪ ،‬ال ي�سمع �صوتها �أحد‪ ،‬وال ُت ْع َر ُف نتائجها �إال ‬
‫الح ًقا‪ ،‬لكنها حا�سمة وم�صريية‪.‬‬
‫لكن رغم فردية املعركة‪� ،‬إال �أننا �سرنى يف نهاية ال�سورة �شي ًئا خمتل ًفا‬
‫ج ًّدا‪.‬‬
‫َ َ َّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َّ ُ َ ً َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ‬
‫اءوها َوفتِحت أب َوابها َوقال‬ ‫}و ِسيق الِين اتقوا ربهم إِل الن ِة زمرا حت إِذا ج‬
‫َّ‬ ‫َ َ ُ ْ َ ُْ‬ ‫ُْ َ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫َُ َ ََُ َ َ ٌ َ َْ ُ‬
‫ِين ‪ ‬وقالوا المد هلل الِي‬ ‫ال َ‬ ‫له ْم خ َزنتها سلم عليك ْم طِبت ْم فادخلوها خ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َص َد َق َنا َو ْع َدهُ َوأ ْو َر َث َنا ْال ْر َض نَتَ َب َّوأ م َِن ْ َ‬
‫ال َّن ِة َح ْي ُث ن َش ُاء فنِ ْع َم أ ْج ُر ال َعا ِملِني َ{‬
‫(الزمر ‪.)74 :73‬‬

‫‪- 269 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫بعد مواجهة فردية �شخ�صية‪ ،‬كنت تعتقد �أنك وحدك من تخو�ضها‪،‬‬


‫تقول لك ال�سورة‪� :‬إنك ‪ -‬يف النهاية ‪� -‬ضمن فوج كبري‪ ،‬و�إنك هذه املرة‬
‫�ستدخل اجلنة �ضمن جمموعة كبرية من الأ�شخا�ص الذين خا�ضوا‬
‫معاركهم داخل ًّيا كما فعلت �أنت‪.‬‬
‫كيف كان الطريق من هذه املعركة الفردية �إىل الز ُّْم َرة؟ من الأنا �إىل‬
‫النحن؟‬
‫موح�شا حت ًما‪ ،‬ككل الطرق املهمة يف احلياة‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫يف �أحيان كثرية كان‬
‫دوما‪ ،‬جمرد فكرة �أن هناك ُز ْم َرة بانتظارك �ستخفف‬ ‫مل يكن ذلك حاله ً‬
‫من الأمر‪ ،‬جمرد �إميانك ب�أنك ل�ست وحدك يف هذه املواجهة‪ ،‬و�أن هناك‬
‫غريك ‪ -‬رمبا باملاليني ‪ -‬يواجهون مواجهة مماثلة يف نف�س اللحظة؛ ف�إن‬
‫هذا �سيخفف كث ًريا من وح�شة الطريق‪.‬‬
‫***‬
‫ت�شبه هذه اللحظة‪ ،‬حلظة الوعي ب�أنك جزء من فوج �ستن�ضم له‪ ،‬حلظة‬
‫ً‬
‫موح�شا كما كان‪.‬‬ ‫ا�ستنارة‪ ،‬حلظة يت�سرب فيها النور �إىل دربك‪ ،‬فال يعود‬
‫ت�شبه تلك اللحظة الأخرى‪:‬‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ِّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ َّ ِّ َ َ ُّ‬
‫الش َه َداءِ َوقُ ِ َ‬
‫ض‬ ‫ور ربها وو ِضع الكِتاب و ِجء بِانلبِيني و‬
‫ت الرض بِن ِ‬ ‫}وأشق ِ‬
‫َ ْ َ ُ ْ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫بينهم بِالق وهم ل يظلمون{ (الزمر‪.)69 :‬‬
‫�أر�ضك �ست�شرق بنور ربك‪.‬‬
‫والطريق من الأنا �إىل النحن �سيكون �أي�سر‪.‬‬

‫‪- 270 -‬‬


‫سورة غافر ‪40‬‬
‫البحث عن منفذ للخروج‬

‫�سورة غافر تنقلك �إىل ذلك ال�س�ؤال الذي قد تطرحه على نف�سك يف‬
‫حلظة �ضياع وي�أ�س‪ ،‬عندما ت�س�أل نف�سك‪ :‬كيف و�صلت �إىل هنا؟‬
‫هل �س�أمتكن من اخلروج؟‬
‫تلك اللحظة عندما ت�شعر �أن كل �شيء يحا�صرك‪ ،‬و�أن كل �شيء يطاردك‪،‬‬
‫و�أن العامل على �سعته قد �ضاق عليك‪.‬‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫وج م ِْن َسبِ ٍيل{‬
‫�سورة غافر ت�أتيك هنا بينما �أنت ت�س�أل‪} :‬فهل إِل خر ٍ‬
‫(اغفر‪.)11 :‬‬
‫ْ ُ ْ َ َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬
‫الر َشا ِد{ (اغفر‪.)38 :‬‬
‫يل َّ‬
‫فتقول لك‪} :‬اتبِع ِ‬
‫ون أهدِكم سبِ‬

‫تدلك على الطريق الذي ينقذك من �ضياعك‪ ،‬من �شعورك بالي�أ�س‪ ،‬من‬
‫�شعورك �أن ال حل هناك ميكن �أن ينقذك مما �أنت فيه‪.‬‬
‫يبد�أ هذا الطريق بهذا الو�صف هلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬الذي ابتد�أت به‬
‫َ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َّ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫اب ذِي الط ْو ِل ل إِلَ إِل ه َو إ ِ ْل ِه‬
‫ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِ‬‫ال�سورة‪} :‬غف ِِر اذلن ِ‬
‫ْ‬
‫ال َم ِص ُري{ (اغفر‪.)3 :‬‬

‫‪- 271 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫أوغلت يف‬
‫مهما كانت مع�صيتك‪ ،‬مهما ابتعدت عنه عز وجل‪ ،‬مهما � َ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ‬
‫اذلن ِب َوقاب ِ ِل اتلَّ ْو ِب{‪.‬‬ ‫ذنوبك‪ ،‬ف�إنه }غف ِِر‬

‫دوما‪ ،‬يغفر ذنبك ويقبل توبتك‪.‬‬


‫الباب مفتوح ً‬
‫لكنه �شديد العقاب � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫هل هذه ال�صفة هنا لتوازن «غافر الذنب‪ ،‬قابل التوب» التي بد�أ بها‬
‫الو�صف؟‬
‫ممكن‪ ،‬لكن البدء بغافر الذنب وقابل التوب‪ ،‬يعطيك الأمل‪ ،‬بحيث �إن‬
‫«�شديد العقاب» ت�أتي كتتمة منطقية تكمل ال�صورة دون خلل يف االجتاه نحو‬
‫هذه اجلهة �أو تلك بني الرتهيب �أو الرتغيب‪ .‬بل االثنان م ًعا يف �سياق واحد‬
‫ال يف�صل بينهما فا�صل‪.‬‬
‫َّ‬
‫الط ْو ِل{؟ �صاحب النعمة والف�ضل‪ ،‬و�أ�صل الكلمة من لفالن َ‬
‫«ط ْو ٌل»‬ ‫}ذِي‬
‫على فالن‪� ،‬أي ف�ضل عليه‪ ،‬واملطاولة تعني املباراة يف الف�ضل‪ ،‬ومنها ما جاء‬
‫يف احلديث‪« :‬اللهم بك �أحاول‪ ،‬وبك �أطاول‪».‬‬
‫وي�أخذنا هذا املعنى حتديدً ا �إىل �أفق �آخر‪:‬‬
‫اللهم‪ ،‬يا ذا الطول‪ ،‬بك �أحاول وبك �أطاول‪� ،‬أن �أخرج من هذا التيه‪ ،‬من‬
‫هذا الي�أ�س‪� ،‬أن �أجد باب اخلروج‪� ،‬سبيل الر�شاد‪.‬‬
‫بني املحاولة املتخبطة العابثة كفري�سة تتلوى يف الفخ‪ ،‬وبني املحاولة‬
‫التي ت�ستهدي بهديه‪ ،‬وت�سرت�شد ب�إر�شاده‪ ،‬فرق كبري‪ ،‬متدك �سورة غافر‬
‫بخيوطه‪.‬‬

‫‪- 272 -‬‬


‫سورة غافر‬

‫هنا ي�صبح ملحاولة اخلروج معنى �آخر‪ ،‬لي�س مبعنى املحاولة كما نفهما‬
‫احل ْول والقوة منه عز وجل يف‬ ‫بلغتنا اليومية الدارجة‪ ،‬بل مبعنى ا�ستمداد َ‬
‫هذه املحاولة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َّ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫الط ْو ِل{‪.‬‬ ‫اب ذِي‬
‫ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِ‬‫}غف ِِر اذلن ِ‬
‫اهلل دون �أي جتزئة يف �صفاته‪.‬‬
‫***‬
‫َ َُْ ْ‬ ‫َُ َ َ ََْ ُ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫ب مِن‬ ‫ِين كف ُروا يناد ْون لمقت اهلل أك‬‫�ستقابلنا �آية تتحدث عن }إِن ال‬
‫َْ ُ ْ َُْ َ ُ ْ ْ ُْ َ ْ َ َ ْ َ ََ ْ ُ ُ َ‬
‫مقتِكم أنفسكم إِذ تدعون إِل ِاليم ِان فتكفرون{ (اغفر‪.)10 :‬‬
‫والتف�سري ال�سائد ‪ -‬وال �شك يف �صحته ‪ -‬ي�شري �إىل �أن الكفار �سيكرهون‬
‫�أنف�سهم يوم يرون حقيقة �أعمالهم‪.‬‬
‫لكن الكثري من الكافرين يف حقيقة الأمر يكرهون �أنف�سهم قبل ذلك‬
‫متاما‪.‬‬
‫بكثري‪ ،‬يكرهونها يف احلياة الدنيا رمبا دون �أن يعوا ذلك ً‬
‫�أولئك الذين لديهم الكثري من الكرب‪ ،‬من الذات املت�ضخمة‪ ،‬من الأنا‬
‫أي�ضا كراهية داخلية لذواتهم الداخلية‪ ،‬الذات املت�ضخمة‬ ‫الطاغية لديهم � ً‬
‫هنا تعك�س ت�صور �شخ�ص ما عن نف�سه‪ ،‬وهو ت�صور بعيد عن الذات الواقعية‪،‬‬
‫عن حقيقة هذا ال�شخ�ص‪ ،‬وهو ال ميلك ‪ -‬كلما ت�ضخمت �أناه ‪� -‬إال �أن يكره‬
‫نف�سه احلقيقية ال�صغرية ال�ضعيفة ‪ -‬باملقارنة ‪ -‬مع الذات املتخ َّيلة‪.‬‬
‫�إنهم يكرهون �أنف�سهم ح ًّقا‪ ،‬يهربون منها �إىل حماولة جعل الذات‬
‫املتخ َّيلة واق ًعا �أمام النا�س‪ ،‬حتى لو بالتمثيل‪ ،‬بعمليات التجميل‪ ،‬بالت�صنع‪،‬‬
‫ب�أي �شيء‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 273 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫وم�ؤمن �آل فرعون الذي يكتم �إميانه‪.‬‬


‫تخيلوه‪ ،‬تخيلوا �صعوبة هذا الكتمان‪ ،‬تخيلوه يحمل هذا الإميان و ُي ْخ ِفيه‬
‫يف �صدره وهو �ضمن الفئة املقربة يف ق�صر فرعون‪.‬‬
‫ثمة �صراع يف داخله؟ نعم بالت�أكيد‪ ،‬لكن هذا ال�صراع �أخف وط�أ ًة من‬
‫ذلك املقت الذي حتدثت عنه ال�سورة‪� ،‬صراعه لأنه يكتم هذا ال�سالم الذي‬
‫دخل فيه‪� ،‬صراعه كان مع اخلارج �أكرث مما كان يف الداخل‪.‬‬
‫ويف حلظة ما‪ ،‬مل يعد الكتمان ممك ًنا‪.‬‬
‫ْ َ ْ َ َ ْ ُُ َ َُ ََْ ُُ َ َ ُ ً َ ْ َُ َ‬
‫ول َر ِّ َ‬ ‫ََ َ َ ٌُ ُْ ٌ ْ‬
‫ب‬ ‫آل ف ِرعون يكتم إِيمانه أتقتلون رجل أن يق‬ ‫}وقال رجل مؤمِن مِن ِ‬
‫ْ َ ُ َ ً َ َ َْ َ ُُ ْ َ ُ َ ً‬ ‫ْ ِّ ُ‬ ‫َ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ ِّ َ‬
‫ات مِن َربك ْم َوإِن يك كذِبا فعلي ِه كذِبه َوإِن يك صادِقا‬ ‫الين ِ‬ ‫اهلل وقد جاءكم ب ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ُ ْ ٌ َ َّ ٌ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ُ ُ ْ َّ‬ ‫ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َّ‬
‫سف كذاب ‪ ‬يا ق ْو ِم‬ ‫ن َاهلل ل يهدِي من هو م ْ ِ‬ ‫ي ِصبكم بعض الِي ي ِعدكم إ ِ‬
‫ْ َ ََ َ َ‬ ‫ََ ْ َْ ُ َُ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْو َم َظاهِر َ‬ ‫ك َْ‬ ‫َ ُ ُ ُْ ْ ُ‬
‫اءنا قال‬ ‫صنا مِن بأ ِس اهلل إِن ج‬ ‫ين ِف ال ْر ِض فمن ين‬ ‫ِ‬ ‫لكم المل‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫الرشا ِد ‪َ ‬وقال الِي آم َن يا‬ ‫ف ِْرع ْون ما أ ِريك ْم إِل ما أ َرى َوما أهدِيك ْم إِل سبِيل‬
‫ْ َ َْ َْ ُ َ َ َ َ ُ َ‬
‫ود َو َّال َ‬ ‫َ ْ ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ َ َ ْ ْ َ ْ َ‬
‫ِين‬ ‫وح وع ٍد وثم‬ ‫اب ‪ ‬مِثل دأ ِب قو ِم ن ٍ‬ ‫قو ِم إِن أخاف عليكم مِثل يو ِم الحز ِ‬
‫َ َ ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ‬ ‫ُ ُ ُ ًْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َْ‬
‫مِن بع ِده ِْم َوما اهلل ي ِريد ظلما ل ِل ِعبا ِد ‪َ ‬ويا ق ْو ِم إِن أخاف عليك ْم ي ْوم اتلَّنا ِد ‪‬‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ُّ َ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫ك ْم م َِن اهلل م ِْن َع ِص ٍم َو َم ْن يُ ْضل ِِل اهلل ف َما لُ م ِْن َها ٍد{‬ ‫يوم تولون مدب ِ ِرين ما ل‬
‫(اغفر ‪.)33 :28‬‬
‫ما الذي حدث مل�ؤمن �آل فرعون؟ ال نعرف‪ ،‬بقي يجادل قومه وهو يخاف‬
‫عليهم العاقبة‪ ،‬ال تخربنا ال�سورة ماذا حدث له وماذا كان رد فعل فرعون‬
‫جتاهه بال�ضبط‪ ،‬نعرف �أنه جنا من «�سيئات ما مكروا»‪ ،‬هل لعبت القرابة‬
‫دو ًرا؟ �أم �أن �أ�سلوب هذا امل�ؤمن كان � َّ‬
‫أخف وق ًعا من �صدمة ال�سحرة الذين‪.‬‬

‫‪- 274 -‬‬


‫سورة غافر‬

‫انقلبوا على فرعون �أمام اجلميع؟ ال نعرف التفا�صيل‪ ،‬لكننا نعرف �أن‬
‫م�ؤمن �آل فرعون يذ ِّكرنا ‪ -‬كما تذ ِّكرنا زوجة فرعون ‪ -‬ب�أن النف�س الب�شرية‬
‫يف داخلها خري مهما كانت الظروف املحيطة بها‪ ،‬و�أنه هناك ب�شر لديهم‬
‫م�شاعر ونوازع �إميانية رغم �أنهم يف عمق مع�سكر �أعداء الإن�سانية‪.‬‬
‫ويخربنا �سكوت ال�سورة عن التفا�صيل � ً‬
‫أي�ضا �أن م�صري ال�سحرة لي�س ‬
‫حتم ًّيا على كل امل�ؤمنني �أن يتجهوا له بعيون مغم�ضة‪ ،‬بل رمبا كان هناك‬
‫�سبيل للخروج‪.‬‬
‫***‬
‫ب َم ْق ًتا ع ِْن َد اهلل َوع ِْن َد َّال َ‬ ‫َ ْ ُ َْ ََ ُ‬
‫اه ْم َك ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫ِين‬ ‫ان أت‬‫ي سلط ٍ‬ ‫}الِين يادِلون ِف آي ِ‬
‫ات اهلل بِغ ِ‬
‫َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ َ ِّ َ َّ‬ ‫َُ َ َ َ َْ َُ‬
‫ار ‪َ ‬وقال ف ِْرع ْون يا هامان اب ِن ِل‬ ‫ٍ‬ ‫ب جب‬ ‫ب متك ٍ‬ ‫آمنوا كذل ِك يطبع اهلل ع ك قل ِ‬
‫ِّ َ َ ُ ُّ ُ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ ْ ً َ َ ِّ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫ات فأطلِع إِل إِلِ موس َوإِن لظنه‬ ‫صحا لعل أبلغ السباب ‪ ‬أسباب السماو ِ‬
‫َ َ ْ ُ َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ ً َ َ َ َ ُ ِّ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫يل َوما كيد ف ِْرع ْون إِل ِف‬ ‫كذِبا وكذل ِك زين ل ِ ِفرعون سوء عملِ ِه وصد ع ِن السبِ ِ‬
‫َت َب ٍاب{ (اغفر ‪.)37 :35‬‬
‫�صرحا يناطح ال�سماء‪ ،‬كان ك�أنه يهرب من‬‫فرعون وهو يريد �أن يبني ً‬
‫كرهه لذاته احلقيقية‪ ،‬فرعون هو النموذج الأعلى للذات املت�ضخمة بني‬
‫الب�شر‪ ،‬ولأنه كذلك فال بد �أن كرهه لنف�سه احلقيقية ‪ -‬نف�سه الب�شرية‬
‫ال�ضعيفة مثلنا جمي ًعا ‪ -‬ال بد �أن يكون �أكرب من �أي كره �آخر �شعر به الب�شر‬
‫لأنف�سهم‪.‬‬
‫كان كرهً ا فرعون ًّيا لدرجة ال�صعود لل�سماء‪ ،‬فقط ليهرب من حقيقة‬
‫�ضعفه �إىل وهم الأنا املت�ضخمة‪ ،‬يف الظاهر كان يريد �أن يتحدى مو�سى‪.‬‬

‫‪- 275 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ويرى ربه‪ ،‬لكنه يف جوهر الأمر رمبا كان يريد �أن يهرب من حقيقة يعرفها‪:‬‬
‫مو�سى على حق‪ ،‬هو لي�س �إل ًها‪ ،‬لي�س �سوى �إن�سان �آخر‪ ،‬مثل كل الذين‬
‫يحكمهم‪.‬‬
‫�ضاقت عليه الدنيا وهي حتا�صره بهذه احلقيقة الكريهة‪ :‬رمبا ال�سماء‬
‫تكون �أو�سع له‪.‬‬
‫لكن عندما تكره نف�سك‪ ،‬حتا�صرك هذه النف�س يف كل مكان‪ ،‬فهل �إىل‬
‫خروج من �سبيل؟‬
‫ال‪ ،‬ال �سبيل هناك �إال �إن بد�أتَ يف ا�ستجواب نف�سك وما �أو�صلك �إىل‬
‫هناك‪.‬‬
‫***‬
‫الطريق �إىل �سبيل الر�شاد‪� ،‬سبيل اخلروج من هذه املتاهة ميكن �أن‬
‫وا�ضحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكون ً‬
‫ب�سيطا‬
‫َْ َ ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫الرشا ِد ‪ ‬يا ق ْو ِم إِنما ه ِذه ِ الياة‬ ‫ون أهدِكم سبِيل‬ ‫}وقال الِي آمن يا قو ِم اتبِع ِ‬
‫َّ ْ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ َ َ ِّ َ ً َ َ ُ ْ‬
‫ار ‪ ‬من ع ِمل سيئة فل ي َزى إِل مِثلها َومن‬ ‫ار الْ َق َ‬
‫ر‬ ‫اع َوإ َّن ْالخ َِر َة ِ َ‬
‫ه َد ُ‬ ‫ُّ ْ َ َ َ ٌ‬
‫ادلنيا مت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ ً ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ ْ ٌ َ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ‬
‫ي‬
‫الا مِن ذك ٍر أو أنث وهو مؤمِن فأول ِك يدخلون النة يرزقون فِيها بِغ ِ‬ ‫ع ِمل ص ِ‬
‫ح َِس ٍاب{ (اغفر ‪.)40 :38‬‬
‫لي�س الأمر معقدً ا مثل نظرية فيزيائية حتتاج �إىل �شهادة عليا لفهمها‪.‬‬
‫الأمر ب�سيط مثل بديهة ال حتتاج �إىل تف�سري‪ :‬العمل ال�سيئ له عقاب‪،‬‬
‫واجليد له ثواب‪ .‬نقطة انتهى‪.‬‬

‫‪- 276 -‬‬


‫سورة غافر‬

‫للأ�سف‪ ،‬ال يبدو الأمر كذلك بالن�سبة لكثريين‪� ،‬سيكون هناك الكثري‬
‫من اجلدل لغر�ض اجلدل‪ ،‬ال لغر�ض الو�صول �إىل احلقيقة‪ ،‬اجلدل املدفوع‬
‫بقوة ُّ‬
‫ت�ضخم الأنا‪ ،‬والذي �سيقود �إىل حائط م�سدود‪.‬‬
‫بالن�سبة مل�ؤمن �آل فرعون‪ ،‬وكل َمنْ هو مثله‪ ،‬مبا فيهم �أنت �شخ�ص ًّيا‪ ،‬لن‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ َ َُ ُ َ ُ َُ ُ َْ‬
‫يكون هناك �سوى قول‪} :‬فستذك ُرون ما أقول لك ْم َوأف ِّوض أم ِري إِل اهلل إِن‬
‫ْ‬
‫اهلل بَ ِص ٌري بِال ِع َبا ِد{ (اغفر‪.)44 :‬‬
‫***‬
‫يف هذه الرحلة يف البحث عن �سبيل للخروج �سنمر ب�آية �سبق و�أن مررنا‬
‫مبا ي�شبهها يف �سورة البقرة‪ ،‬لكن هذه املرة �سنفهمها على نحو خمتلف‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ ُ‬
‫بون عن عِباد ِت‬
‫جب لكم إِن الِين يستك ِ‬ ‫}وقال ربكم ادع ِ‬
‫ون أست ِ‬
‫َ َْ ُ ُ َ‬
‫ون َج َه َّن َم َداخِر َ‬
‫ين{(اغفر‪.)60 :‬‬ ‫ِ‬ ‫سيدخل‬

‫هنا �سرنى �أن الدعاء واال�ستجابة تتعلقان ب�سبيل اخلروج من هذا التيه‪.‬‬
‫من يدعو اهلل �أن يخرجه من هذا �سيجد الطريق‪.‬‬
‫�أما الذي يعتقد �أنه لي�س بحاجة للدعاء لي�صل �إىل الطريق‪ ،‬فلن يجد‬
‫�سوى طريق فرعون و�صرحه الذي يريد �أن َّ‬
‫يطلع به �إىل ال�سماء‪.‬‬
‫ونهايته معروفة �سل ًفا‪.‬‬
‫***‬
‫وقبل �أن نغادر �سورة غافر تقول لنا ال�سورة‪� :‬إن رحلة البحث عن �سبيل‬
‫للخروج �ساهم فيها ر�سل كثريون‪.‬‬
‫‪- 277 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ََ ْ َ َ َْ ُ ً ْ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َْ ُ ْ‬
‫} َولقد أ ْرسلنا ُرسل مِن قبلِك مِنه ْم من قصصنا عليك َومِنه ْم من ل ْم نقصص‬
‫ُ َ ْ َ ِّ‬ ‫َ َ َ َ َْ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ ْ‬
‫الق‬ ‫اء أم ُر اهلل ق ِض ِب‬‫ت بِآي ٍة إِل بِإِذ ِن اهلل فإِذا ج‬‫ول أن يأ ِ‬
‫عليك وما كن ل ِرس ٍ‬
‫َ َ َ َُ َ ُْْ ُ َ‬
‫ون{ (اغفر‪.)78 :‬‬ ‫وخ ِس هنال ِك المب ِطل‬

‫لي�س املهم �أن نعرف �أ�سماء كل الر�سل‪ ،‬املهم �أن ننتبه �إىل �أن كل‬
‫جتاربهم كانت مت�شابهة يف العمق واجلوهر‪ ،‬و�أن ننتبه �إىل الأمناط‬
‫دوما رغم‬
‫املتكررة يف �سلوك النا�س من حولهم؛ لأنها غال ًبا �ستبقى تتكرر ً‬
‫اختالف الأزمنة والأماكن واللغات ودرجة تطور املجتمعات‪.‬‬
‫***‬
‫ويف خامتة ال�سورةـ تودعنا مبلخ�ص عام‪.‬‬
‫َ‬ ‫ريوا ف ْالَ ْر ِض َف َي ْن ُظ ُروا َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة َّال َ‬ ‫َ‬
‫ِين م ِْن َق ْبلِه ْم َكنُوا أ ْك َ َ‬
‫ث‬ ‫}أ َفلَ ْم ي َ ِس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْْ ََ َ ْ َ َُْْ َ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ِْن ُه ْم َوأ َش َّد ق َّوةً َوآثارا ِف الر ِض فما أغن عنهم ما كنوا يك ِسبون{ (اغفر‪.)82 :‬‬ ‫ً‬

‫رمبا �ساروا ولكن مل يب�صروا جيدً ا‪� ،‬أو �أ�شاحوا ب�أنظارهم بعيدً ا‪ ،‬رمبا‬
‫وجدوا املتعة يف املتاهة وقرروا �أن ميعنوا يف ال�ضياع‪ ،‬رمبا كان �ضياعهم‬
‫مهر ًبا من مواجهة احلقيقة‪ ،‬من مقتهم لأنف�سهم‪.‬‬
‫�أما نحن‪ ،‬فنحن نريد �أن ن�سري ونحن نب�صر‪ ،‬و�أن جند ً‬
‫�سبيل للخروج‪.‬‬
‫و�سندعو غافر الذنب قابل التوب �شديد العقاب ذي َّ‬
‫الط ْو ِل �أن يي�سر لنا‬
‫الطريق‪.‬‬

‫‪- 278 -‬‬


‫سورة فصلت ‪41‬‬
‫صافرة إنذار داخل رأسك!‬

‫�سورة ُف ِّ�ص َلت مثل �صافرة �إنذار تطلق �صوتها داخل ر�أ�سك‪.‬‬
‫�صافرة �إنذار ت�صرخ يف �أذنك‪ :‬حذار‪ ،‬ال�صاعقة قادمة‪.‬‬
‫�أغلب �صافرات الإنذار ُت ْط َلقُ عندما يكون اخلطر و�شي ًكا‪ ،‬الغارة‬
‫جمال جو ًّيا قري ًبا‪ ،‬بالكاد ت�ستطيع �أن تذهب �أنت‬ ‫قادمة‪ ،‬ال�صواريخ دخلت ً‬
‫و�أطفالك �إىل امللج�أ لو كان قري ًبا‪.‬‬
‫لكن �سورة ُف ِّ�ص َل ْت هي �صافرة �إنذار تقول لك‪ :‬ال�صاعقة قادمة‪ ،‬وال ‬
‫فائدة من الذهاب �إىل امللج�أ؛ لأنه �س ُي َد َّم ُر و�سينهار عليك � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫�صافرة الإنذار هنا تقول لك‪� :‬إن ال�صاعقة قد تكون من داخلك‪،‬‬
‫وبالتايل فالهروب ال يجدي‪ ،‬كل ما ت�ستطيع فعله هو �أن حتاول �أن تتغري‪،‬‬
‫امللج�أ الوحيد املمكن من �صاعقة ت�أتيك منك هو �أن تتغري �أنت‪.‬‬
‫هذا ما تقوله ال�سورة‪ ،‬وهذا تف�سري �صوت �صافرة الإنذار الذي يد ِّوي يف‬
‫ر�أ�سك عندما تقر�أها‪.‬‬
‫وهذا ما فهمه بع�ض رجاالت قري�ش عندما قر�أها عليهم عليه ال�صالة‬
‫وال�سالم‪.‬‬

‫‪- 279 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ذهب �إليه واحد منهم ‪ -‬عتبة بن ربيعة ‪ -‬ليفاو�ضه عليه ال�صالة‬


‫وال�سالم‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َْ َ ُ ُ‬
‫�ص َل ْت �إىل قوله تعاىل }فإِن أع َرضوا فقل أنذ ْرتك ْم‬ ‫فقر�أ عليه �سورة ُف ِّ‬
‫َ‬
‫َصاع َِق ًة م ِْث َل َصاع َِق ِة َع ٍد َوث ُم َود{ (فصلت‪.)13 :‬‬
‫هنا قال عتبة‪َ :‬ح ْ�س ُب َك َح ْ�س ُب َك‪َ ،‬ما ِع ْن َد َك َغ ْ َي َه َذا؟‬
‫َق َال‪َ :‬ل‪.‬‬
‫َف َر َج َع �إِ َل ُق َر ْي ٍ�ش َف َقا ُلوا‪َ :‬ما َو َرا َء َك؟‬
‫َق َال‪َ :‬ما َت َر ْك ُت َ�ش ْي ًئا �أَ َرى �أَ َّن ُك ْم ُت َك ِّل ُمو َن ُه ِب ِه �إِ َّل َو َق ْد َك َّل ْم ُت ُه ِب ِه‪.‬‬
‫َف َقا ُلوا‪َ :‬ف َه ْل �أَ َجا َب َك؟‬
‫ا ما َق َال َغ ْ َي �أَ َّن ُه‬
‫َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ل َوا َّل ِذي َن َ�ص َب َها َب ِّي َن ًة َما َف ِه ْم ُت َ�ش ْي ًئ ِ َّ‬
‫�أَ ْن َذ َر ُك ْم َ�ص ِاع َق ًة ِم ْث َل َ�ص ِاع َق ِة َع ٍاد َو َث ُمو َد‪.‬‬
‫َقا ُلوا‪َ :‬و ْي َل َك ُي َك ِّل ُم َك َر ُج ٌل ِبا ْل َع َر ِب َّي ِة َل ت َْد ِري َما َق َال؟‬
‫َ (((‬
‫ال�ص ِاعق ِة‪.‬‬‫ا ما َق َال َغ ْ َي ِذ ْك ِر َّ‬ ‫َق َال‪َ :‬ل َواهلل َما َف ِه ْم ُت َ�ش ْي ًئ ِ َّ‬
‫عتبة كان يفهم حت ًما ما يقال‪ ،‬لكن �صوت �صافرة الإنذار يف ر�أ�سه كان‬
‫عال ًيا مدو ًيا‪ ،‬مل ي�ستوعب �سوى ذكر ال�صاعقة‪.‬‬
‫كانت هذه املرة الأوىل والوحيدة التي يتم فيها توجيه �إنذار مبا�شر‬
‫و�صريح لقري�ش ب�صاعقة ت�ضربهم كما �ضربت عادًا وثمود‪.‬‬

‫((( مصنف أيب شيبة ‪ ،36560‬املستدرك عىل الصحيحني للحاكم ‪ ،3002‬وصححه األلباين يف صحيح السرية‪.‬‬
‫‪- 280 -‬‬
‫سورة فصلت‬

‫يف املوا�ضع الأخرى ُت ْذ َكر الق�صة‪ ،‬و ُي ْف َهم منها التحذير‪.‬‬


‫َ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ْم َصاع َِق ًة م ِْث َل َصاع َِق ِة َع ٍد َوث ُم َود{‬
‫َُْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ ُ‬
‫لكن هنا‪} :‬فإِن أع َرضوا فقل أنذرت‬
‫(فصلت‪.)13 :‬‬

‫ولقد �أعر�ضوا‪.‬‬
‫�إذن؟‬
‫�صاعقة عاد وثمود‪.‬‬
‫***‬
‫لكن ما الذي �أو�صل الأمور �إىل هذه النقطة؟‬
‫ما الذي جعل �صافرة الإنذار تنطلق هنا؟‬
‫َمنْ هو الذي ي�ستحق هذا الإنذار الأخري‪ ،‬الفر�صة الأخرية؟‬
‫***‬
‫ْ َْ َ َْ َ َ ٌ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ُ ُ ُ ُ َ َ َّ َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫} َوقالوا قلوبنا ِف أكِن ٍة مِما تدعونا إ ِ ْل ِه َو ِف آذان ِنا َوق ٌر َومِن بينِنا َوبينِك حِجاب‬
‫َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ‬
‫ون{ (فصلت‪.)5 :‬‬ ‫فاعمل إِننا عمِل‬

‫هذه هي نقطة الالعودة‪ ،‬هذا هو االختالف عما �سبق‪.‬‬


‫ملاذا؟ مرت مثل هذه الآيات �ساب ًقا‪ ،‬يف �سور الإ�سراء والكهف والأنعام‬
‫ولقمان‪.‬‬
‫ال‪ ،‬هذا ال�شبه ظاهري فقط‪.‬‬

‫‪- 281 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يف كل تلك ال�سور ال�سابقة هناك و�صف لهم م�شابه لهذه الآية‪ ،‬الآيات‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫ت�صفهم ب�أنهم } َ َع قلوب ِ ِه ْم أك َِّن ًة أ ْن َي ْف َق ُهوهُ َو ِف آذان ِِه ْم َوق ًرا{‪.‬‬
‫هنا هم من يعرتف بذلك‪ ،‬هنا يقولون بو�ضوح‪ :‬يف قلوبنا �أك َّنة مما‬
‫تدعوننا �إليه‪ ،‬يف �آذاننا وقر‪ ،‬وبيننا وبينك حجاب‪ ،‬فاعمل �إننا عاملون‪.‬‬
‫بعبارة �أخرى معا�صرة �أكرث‪ :‬نحن ال ولن وال ميكن �أن ن�سمع لك‪،‬‬
‫�أ�صابعنا يف �آذاننا ومهما ارتفع �صوتك لن ن�سمع‪ ،‬فافعل ما تريد‪.‬‬
‫الأمر هنا �صار مع �سبق الإ�صرار والرت�صد‪.‬‬
‫و�صلنا ملرحلة مل يعد ال�سري مع القطيع �أو اتباع الآباء هو ال�سبب يف‬
‫رف�ض الإميان‪.‬‬
‫رف�ضا واع ًيا مدر ًكا �أنه �إمنا يتعمد عدم ال�سماع‪.‬‬
‫بل �صار ً‬
‫وتد ِّوي ال�صافرة‪.‬‬
‫َْ َ ُ ُ َ َ ً ْ َ َ َ َ َ ُ َ‬
‫}أنذ ْرتك ْم صاعِقة مِثل صاعِق ِة ع ٍد َوثمود{ (فصلت‪.)13 :‬‬

‫***‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ ْ َ ًّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ٌّ َ َ َ ٌّ ُ ْ ُ‬
‫ب قل ه َو‬ ‫َّ }ولو جعلناه قرآنا أع َّج ِميا َلقالوا لول فصلت آياته أأعج ِم وعر ِ‬
‫َ ْ ٌَْ َ ُ َ َ َْ ْ َ ً ُ َ َ‬ ‫َ َُ ًُ َ َ ٌ َ َ ُْ ُ َ‬
‫ِين ل يؤمِنون ِف آذان ِِهم وقر وهو علي ِهم عم أول ِك‬ ‫ل ِلِين آمنوا هدى و ِشفاء وال‬
‫ُي َن َاد ْو َن م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (فصلت‪.)44 :‬‬
‫هذا النوع من الأ�شخا�ص ال يكتفي �أبدً ا من اجلدل‪ ،‬ي�س�ألون الأ�سئلة ال ‬
‫لغر�ض الو�صول �إىل جواب‪ ،‬بل لغر�ض طرح �س�ؤال �آخر‪ ،‬يفعلون ذلك عمدً ا‪.،‬‬

‫‪- 282 -‬‬


‫سورة فصلت‬

‫ملاذا نزل القر�آن بالعربية؟ مهما كان اجلواب ف�سيكون هناك �أ�سئلة �أخرى‪،‬‬
‫و�سيقولون ال�شيء ذاته عن �أي لغة �أخرى‪.‬‬
‫ال يريدون احلق وال اجلواب‪ ،‬قلوبهم يف �أك َّنة‪ ،‬ويف �آذانهم وقر‪.‬‬
‫ُ ٌّ ُ ْ‬
‫ك ٌم ُع ْ ٌ‬
‫م{‪ ،‬مع �سبق الإ�صرار والرت�صد‪.‬‬ ‫}صم ب‬

‫***‬
‫أ�شخا�صا كه�ؤالء‪ ،‬يرف�ضون احلق وهم يعلمون �أنه‬
‫ً‬ ‫يف حياتنا قد نلتقي �‬
‫احلق‪ ،‬خمتلفون عن �أولئك الذين يتبعون الباطل؛ لأنه خدعهم �أو �ض َّللهم‬
‫�أو غ�سل �أدمغتهم �أو ا�ستغل جهلهم‪ ،‬ه�ؤالء م�ضللون‪ ،‬لكن �أولئك يعرفون‬
‫متاما ما يفعلونه وهم يفعلونه عن �سابق ت�صميم‪ ،‬عن وعي‪.‬‬‫ً‬
‫�أحيا ًنا نلتقي بهم‪.‬‬
‫و�أحيا ًنا نكونهم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬قد يحدث هذا �أحيا ًنا معنا‪.‬‬
‫علينا �أن ننتبه ل�صوت �صافرة الإنذار‪.‬‬
‫هناك �صاعقة بطريقة ما ‪ -‬ب�شكل من الأ�شكال ‪ -‬قد ت�أتينا يف �أي وقت‪.‬‬
‫***‬
‫هل ي�شرتط هنا �أن تكون ال�صاعقة هي ال�صاعقة التي تنتج عن التفريغ‬
‫الكهربائي من الغيوم؟‬
‫ال�صاعقة التي �أُ ْن ِذ َر ْت قري�ش بها كانت مثل هذه ال�صاعقة؛ لأنها مثل‬
‫�صاعقة عاد وثمود‪.‬‬
‫‪- 283 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكن على امل�ستوى الفردي ال�شخ�صي‪ ،‬رمبا �صاعقة كل منا خمتلفة‪ ،‬رمبا‬
‫حتجر م�شاعر ُن َ�صاب به فت�صبح قلوبنا ميتة‪ ،‬جمرد م�ضخة ت�ضخ‬ ‫تكون يف ُّ‬
‫الدم �إىل اجل�سم‪ ،‬رمبا تكون يف ثقب �أ�سود من ثقوب احلياة ومتاهاتها‪،‬‬
‫يبتلعنا �إىل ما ال نهاية‪ ،‬فنن�سى �أنف�سنا فيه‪ ،‬رمبا تكون �أن نتح َّول لن�صبح‬
‫كل ما نكرهه ونكره �أن نكونه‪.‬‬
‫وقد تكون ال�صاعقة هي تلك ال�صعقة يف النهاية ج ًّدا يوم القيامة؛‬
‫نفخة ال�صعق‪.‬‬
‫لل�صاعقة �أ�شكال كثرية ج ًّدا‪.‬‬
‫علينا �أن نتجنب ما ميكن �أن يقود لها يف حياتنا‪.‬‬
‫***‬
‫ه�ؤالء الأ�شخا�ص الذين يتعمدون الوقر يف الآذان والقلوب يف الأك َّنة‬
‫متبوعا من ِق َبلهم‪ ،‬وهو‬
‫ميتلكون غال ًبا من ي�صفق لهم وي�ؤيدهم‪ ،‬قد يكون ً‬
‫�سبب �أ�سا�سي فيما هم فيه‪.‬‬
‫وقد يكون العك�س‪ ،‬قد يكون ه�ؤالء امل�صفقني هم التابعون‪.‬‬
‫دوما‪ ،‬تابع �أو متبوع‪ ،‬م�ص ِّفق‬
‫�سواء كان هذا �أو ذاك‪ ،‬يحدث هذا ً‬
‫وم�ص َّفق له‪ ،‬ولعل هذا يزيد من �إ�صرارهم على امل�ضي يف العناد‪ ،‬ي�شعرون‬
‫�أنهم على �صواب ما دام هناك من ي�ص ِّفق‪.‬‬
‫َْ ُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ‬
‫ِيه ْم َوما خلفه ْم َوحق علي ِه ُم الق ْول‬
‫}وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بي أي ِ‬
‫د‬
‫َُ َْ َ َ ْ ْ َْ ْ َ ْ‬
‫ال ِّن َو ْالنْس إ َّن ُه ْم َكنُوا َخاس َ‬
‫ين{ (فصلت‪.)25 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِف أم ٍم قد خلت مِن قبل ِِهم مِن ِ‬
‫***‬
‫‪- 284 -‬‬
‫سورة فصلت‬
‫ُ ُ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ‬
‫اره ْم َوجلوده ْم بِما كنوا‬ ‫}حت إِذا ما جاءوها ش ِهد علي ِهم سمعهم وأبص‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ش ٍء‬‫للُو ِده ِْم ل َِم َشه ْد ُت ْم َعلَ ْي َنا َقالُوا أ ْن َط َق َنا اهلل الِي أن َط َق ك ْ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ون ‪َ ‬و َقالُوا ِ ُ‬
‫ََْ ُ َ‬
‫يعمل‬
‫ِ‬
‫َ ُ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫وهو خلقكم أول مر ٍة وإِل ِه ترجعون { (فصلت ‪.)21 :20‬‬

‫كل حوا�سهم �ستترب�أ منهم‪ ،‬هذه احلوا�س تعرف �أنهم كانوا متعمدين يف‬
‫موقفهم‪ ،‬كانت تنقل لهم املعلومات كما هي‪ ،‬لكنهم كانوا َي ُ�ص ُّمون �آذانهم‬
‫ويغم�ضون عيونهم عامدين‪ ،‬بالت�أكيد �ستترب�أ منهم حوا�سهم وتقف لتكون‬
‫موج َه ًة �أ�صابع االتهام لهم‪.‬‬
‫�شاهدة ِّ‬
‫يوما ما لو حدث‬ ‫ن�ستطيع �أن نتخيل �أن حوا�سنا �ستتن�صل عنا بكل �سهولة ً‬
‫�شيء م�شابه‪ ،‬و�ستتوجه �أ�صابع االتهام نحونا �آنذاك‪.‬‬
‫***‬
‫تنتهي �سورة ُف ِّ�ص َل ْت بذلك الوعد الذي ال نزال نراه متجددًا ح ًّيا‪.‬‬
‫ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ُّ َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ ْ َ َ‬
‫الق أ َول ْم يك ِف‬ ‫اق و ِف أنف ِس ِهم حت يتبي لهم أنه‬ ‫يهم آيات ِنا ِف الف ِ‬ ‫}س ِ‬
‫ن ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ َ َ‬
‫ك أنَّ ُه َع ك ْ‬
‫ش ٍء َش ِه ٌيد{ (فصلت‪.)53 :‬‬ ‫بِرب‬

‫امل�سافة بني النف�س والآفاق قد تبدو طويلة‪ ،‬لكنها �ستكون مليئة بالآيات‬
‫التي لن نب�صرها �أو ن�ست�شعرها �أو نعقلها �إال �إذا نزعنا الوقر عن �آذاننا‪،‬‬
‫وقلوبنا من الأكنة‪.‬‬
‫و�إذا مل نفعل‪ ،‬ف�صافرة الإنذار ت�صيح مدوية‪ :‬ال�صاعقة قادمة‪.‬‬

‫‪- 285 -‬‬


‫الشورى ‪42‬‬
‫العسل الذي وصل!‬

‫عندما ندخل �سورة ال�شورى‪ ،‬تذهب �أذهاننا فو ًرا �إىل كل احلديث‬


‫ال�سائد عن ال�شورى �سيا�س ًّيا وتاريخ ًّيا‪ ،‬وكيف �أنها �سبقت الدميقراطية‬
‫الغربية �إلخ‪.‬‬
‫لكن ال �شيء من هذا كله يف �سورة ال�شورى ح ًّقا‪.‬‬
‫ال دميقراطية يف �سورة ال�شورى‪.‬‬
‫وال يعني هذا موق ًفا م�ضا ًّدا للدميقراطية على الإطالق‪ ،‬كما ال يعني‬
‫�أنه موقف م�ؤيد لها‪ ،‬هذا خلط للأوراق‪ ،‬والدميقراطية �آلية خمتلفة عن‬
‫مفهوم ال�شورى كما تقدمه ال�سورة‪.‬‬
‫ال�سورة يف احلقيقة تهم�س يف �أذنيك �شخ�ص ًّيا ب�أمور قد تكون بعيدة عن‬
‫ال�سيا�سة‪ ،‬ال�سورة ت�صاحلك مع حقيقة �إن�سانية قد تكون مزعجة لكثريين‪،‬‬
‫لكنها ككل حقائق احلياة‪ ،‬يجب �أن نت�صالح مع وجودها‪ ،‬ونتعامل معها‬
‫ب�أنها �أمر كان و�سيكون وال جدوى من �إنكاره‪ ،‬علينا التعامل مع خمرجات‬
‫هذه احلقيقة بواقعية‪.‬‬
‫هذه احلقيقة هي االختالف بني الب�شر‪.‬‬

‫‪- 286 -‬‬


‫�صريحا ال ‬
‫ً‬ ‫وا�ضحا‬
‫ً‬ ‫حاولت ومهما كان احلق ‪ -‬من وجهة نظرك ‪-‬‬
‫َ‬ ‫مهما‬
‫لب�س فيه وال غب�ش عليه‪ ،‬ف�إنك �ستجد من يختلف معك �إىل درجة الت�ضاد‬
‫التام مع «احلق»‪.‬‬
‫َّ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫ك ْن يُ ْدخ ُِل َم ْن ي َ َش ُ‬ ‫َ ً َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ ُ َّ ً‬ ‫} َول َ ْو َش َ‬
‫اء ِف َرحتِ ِه َوالظال ِمون‬ ‫لعلهم أمة َواحِدة َول ِ‬ ‫اء اهلل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َما ل ُه ْم م ِْن َو ِ ٍّل َول نَ ِص ٍري{ (الشورى‪.)8 :‬‬
‫ِّ َ َ ْ َ َّ ْ ُ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ ْ ُُ َ‬ ‫َ ْ ََُْ‬
‫ش ٍء فحكمه إِل اهلل ذل ِك ُم اهلل َرب علي ِه ت َوكت َوإ ِ ْل ِه‬ ‫} َوما اختلفت ْم فِي ِه مِن‬
‫ِيب{ (الشورى‪.)10 :‬‬ ‫ُأن ُ‬

‫ُ ً َّ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ َ ِّ‬
‫ين ما َوص ب ِ ِه نوحا َوالِي أ ْوحينا إ ِ ْلك َوما َوصينا ب ِ ِه‬ ‫}شع لكم مِن ادل ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََُ ََ ُْ ْ‬ ‫ِّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َْ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫ِني ما‬ ‫شك‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫وا‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ين‬ ‫ادل‬ ‫وا‬ ‫ِيم‬ ‫إِبراهِيم وموس وعِيس أن أق‬
‫َ َ َ َ َّ ُ َّ‬ ‫اء َويَ ْهدِي إ ْله َم ْن يُن ُ‬ ‫َ‬ ‫وه ْم إ َ ْل ِه اهلل َيْ َتب إ َ ْل ِه َم ْن ي َ َش ُ‬ ‫َْ ُ ُ‬
‫يب ‪ ‬وما تفرقوا إِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تدع‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ ْ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ً ََُْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ َ َ َ ُ‬
‫اءه ُم ال ِعل ُم بغيا بينه ْم َول ْول كِمة سبقت مِن َربك إِل أج ٍل مس ًّم‬ ‫مِن بع ِد ما ج‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َُ َ ََُْ ْ َ‬
‫يب ‪ ‬ف ِلل ِك‬ ‫ورثوا الكِتاب مِن بع ِدهِم ل ِف شك مِنه م ِر ٍ‬ ‫لق ِض بينهم وإِن الِين أ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ‬
‫اب‬ ‫ٍ‬ ‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫اهلل‬ ‫ل‬ ‫فادع واست ِقم كما أمِرت ول تتبِع أهواءهم وقل آمنت بِما أنز‬
‫ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ُ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ ْ َ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ ُ َْ َ ََْ ُ‬
‫َوأم ِْرت ِلعدِل بينك ُم اهلل َربنا َو َربك ْم لَا أعمالَا َولك ْم أعمالك ْم ل حجة‬
‫ْ َْ‬ ‫َ َّ َ ُ ُّ َ‬ ‫ك ُم اهلل َيْ َم ُع بَيْ َن َنا َوإ َ ْل ِه ال ْ َم ِص ُ‬ ‫َََْ َََْ ُ‬
‫ِين يَاجون ِف اهلل مِن بع ِد‬ ‫ري ‪ ‬وال‬ ‫ِ‬ ‫بيننا وبين‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اس ُتج َ‬ ‫َ ْ‬
‫يب لُ ُح َّجته ْم داحِضة عِن َد َرب ِه ْم َوعلي ِه ْم غض ٌب َوله ْم عذ ٌاب شد ٌِيد{‬ ‫ِ‬ ‫ما‬
‫(الشورى ‪)16 :13‬‬

‫االختالف حقيقة م�ؤكدة �إذن‪ ،‬بع�ض الأمور قد ي�ؤدي اخلالف فيها �إىل‬
‫ُْ‬
‫ما ال ت َمد عاقبته يف الآخرة‪ ،‬لكن دنيو ًّيا‪ ،‬االختالف �سيبقى قائ ًما‪.‬‬

‫‪- 287 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫قد يتبادر �إىل الذهن هنا �أن مفهوم ال�شورى الذي تطرحه ال�سورة هو‬
‫حلل االختالف احلا�صل‪� ،‬أو للو�صول �إىل حل و�سط ير�ضي جميع الأطراف‪.‬‬
‫على الإطالق‪ ،‬مفهوم ال�شورى ال عالقة له بحل هذا االختالف‪.‬‬
‫ال�سورة ت�شري �إىل االختالف بالفعل‪ ،‬ولكنها تدخل بعدها �إىل �شيء �آخر‪.‬‬
‫لكن ما معنى كلمة �شورى � ً‬
‫أ�صل؟ من �أين جاءت؟‬
‫***‬
‫قد نتخيل �أن �أ�صل الكلمة يف معنى مرتبط بالنقا�ش والت�سا�ؤل‪ ،‬وهو ما‬
‫يدل عليه املعنى اال�صطالحي‪ ،‬لكن يف احلقيقة الأ�صل لهذه الكلمة يرتبط‬
‫مبعنى �شديد الإلهام والقوة‪.‬‬
‫ا�ست َْخ َر َج ُه ِمنَ ال َو ْق َبة واجتَناه‪�ُ ،‬ش ْرت‬
‫الكلمة �أ�صلها من «�شار» الع�سل‪ْ ،‬‬
‫وا�ش َتْته ْاج َت َن ْيته و�أَخذته ِمنْ َم ْو ِ�ض ِع ِه(((‪.‬‬
‫ا ْل َع َ�س َل ْ‬
‫�إذن هو ا�ستخراج الع�سل‪.‬‬
‫لكن كيف تط َّور الأمر من ا�ستخراج الع�سل �إىل الو�صول �إىل ر�أي �سديد‬
‫كما هو معنى ال�شورى اليوم؟‬
‫يبدو الأمر بعيدً ا‪.‬‬
‫على الإطالق‪ ،‬الأمران قريبان ج ًّدا‪ ،‬وهذا املعنى الأ�صلي هو الذي‬
‫�سيو�ضح لنا املعنى احلقيقي لل�شورى‪ ،‬املعنى الذي ميكن �أن يكون ً‬
‫فاعل‬
‫وم�ؤث ًرا حتى يف حياتنا ال�شخ�صية‪.‬‬

‫((( لسان العرب‪ ،‬مادة شار‬


‫‪- 288 -‬‬
‫سورة الشورى‬

‫ا�ستخراج الع�سل يحدث من خلية النحل كما هو معروف‪.‬‬


‫لكن هذا الع�سل يكون نتيجة لعمل كل �أفراد م�ستعمرة النحل‪ ،‬بكل‬
‫تق�سيماتها وطبقاتها‪ :‬امللكة‪ ،‬الذكور‪ ،‬العامالت‪.‬‬
‫�إذا كنا ن�ش ِّبه الع�سل امل�ستخرج بالر�أي الناجت عن ال�شورى‪ ،‬فالر�أي هنا‬
‫هو نتاج جماعي لعمل د�ؤوب‪ ،‬وال ي�شبه فكرة البع�ض عن ال�شورى ب�أنها‬
‫احلل الو�سط‪� ،‬أو احلل الذي ير�ضي جميع الأطراف املختلفة � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫الر�أي الناجت هنا �أقرب �إىل �أن يكون احلل الأمثل الذي يعمل عليه‬
‫اجلميع‪.‬‬
‫اجلميع َمنْ ؟‬
‫اجلميع يف م�ستعمرة النحل ولي�س يف امل�ستعمرة املجاورة‪� ،‬أو يف م�ستعمرة‬
‫النمل حتت ال�شجرة هناك‪.‬‬
‫بعبارة �أخرى‪ :‬هو ناجت يعمل عليه جمموعة من الأ�شخا�ص الذين ينتمون‬
‫ملنظومة واحدة‪.‬‬
‫منظومة فكرية واحدة �أو منظومة وطنية واحدة �أو منظومة عمل واحدة‪،‬‬
‫املهم �أن لديهم ما يجمعهم على �أ�سا�سات ومبادئ م�شرتكة‪ ،‬ميكنهم بعدها‬
‫العمل للو�صول �إىل الر�أي الأمثل‪ ،‬ناجت عمل اجلميع‪.‬‬
‫الر�أي هنا ناجت عن جمموعة من�سجمة مع نف�سها‪ ،‬لديها مرجعية‬
‫م�شرتكة ومبادئ م�شرتكة و�أهداف م�شرتكة‪ ،‬ي�أتي الناجت هنا كثمرة لكل‬
‫هذا‪.‬‬

‫‪- 289 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ميكن لفرقاء من منظومات خمتلفة ومرجعيات خمتلفة �أن ي�صلوا � ً‬


‫أي�ضا‬
‫يتو�سط �آراءهم ويقتنع �أغلبهم ب�أنه احلل الأمثل مل�شكلة ي�شرتك يف‬
‫حلل َّ‬
‫مواجهتها اجلميع‪ ،‬لكن هذا �شيء خمتلف عن ال�شورى‪ ،‬الناجت امل�ستخ َرج‬
‫من م�ستعمرة النحل التي ي�ؤدي كل فرد فيها دوره ح�سب منظومة م َّت َفق‬
‫عليها‪.‬‬
‫وهذا هو بال�ضبط ما تتحدث عنه �سورة ال�شورى عندما ت�أتي لذكر‬
‫ال�شورى‪.‬‬
‫َ ْ ٌ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ ُّ ْ َ َ ْ َ‬
‫ِين آمنوا‬ ‫ادلنيا َوما عِند اهلل خي وأبق ل ِل‬ ‫}فما أوت ِيتم مِن ش ٍء فمتاع الياة ِ‬
‫ون ‪ ْ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َّ َ ‬ثْم َوالْ َف َواح َِش َوإ َذا َما َغض ُبوا ُهمْ‬ ‫َ َ َ َ ِّ ْ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬
‫ِ‬ ‫ِر‬ ‫ئ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ون‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ِين‬
‫ال‬‫و‬ ‫وع رب ِهم يتوك‬
‫َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ُ َ ِّ ْ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫يغ ِف ُرون ‪ ‬والِين استجابوا ل ِرب ِهم وأقاموا الصلة وأمرهم شورى بينهم ومِما‬
‫ََْ ُ ُْ ُ َ‬
‫َرزقناه ْم ين ِفقون{ (الشورى ‪.)38 :36‬‬

‫احلديث هنا عن جمموعة م�ؤمنة لها مرجعية عقائدية و�أخالقية تربط‬


‫بني �أفراد هذه املجموعة‪ ،‬م�ؤمنون متوكلون يجتنبون كبائر الإثم ويف�ضلون‬
‫املغفرة عند الغ�ضب‪ ،‬و�أقاموا ال�صالة‪.‬‬
‫وبعد كل هذا‪� :‬أمرهم �شورى بينهم‪.‬‬
‫هناك ما هو م َّت َف ٌق عليه � ً‬
‫أ�صل بينهم؛ ولذلك فالر�أي الذي ي�صلون �إليه‬
‫يف ال�شورى هو الر�أي الأمثل ح�سب منظومتهم ومرجعيتهم‪.‬‬
‫ح�سب هذا‪ :‬ال دميقراطية يف ال�شورى‪.‬‬
‫وهذا ال يعيب الدميقراطية يف �شيء‪ ،‬وال يعني �أننا يجب �أن ن�أخذ منها‬
‫موق ًفا م�ضا ًّدا �أو م�ؤيدً ا �أو �أي �شيء‪ ،‬هي بب�ساطة �شيء �آخر‪� ،‬آلية و�صل لها‪.‬‬
‫‪- 290 -‬‬
‫سورة الشورى‬

‫الب�شر عرب جتاربهم التاريخية و�أثبتت جناعتها يف �أحوال كثرية‪ ،‬ومل تقدم‬
‫الكثري يف �أحوال �أخرى‪.‬‬
‫�سورة ال�شورى ت�شري لنا بب�ساطة �إىل �أننا عندما نريد �أن ن�س�أل الن�صح‪،‬‬
‫�أن ن�صل �إىل حل مل�شكلة تواجهنا‪ ،‬علينا �أن نبحث عن �أ�شخا�ص يفهموننا‪،‬‬
‫يتحدثون بلغتنا ويعرفون كيف نفكر؛ لأن هذا �سيعني �أننا نقف على �أر�ضية‬
‫واحدة‪ ،‬لن تكون هناك ن�صيحة قادمة من مرجعية خمتلفة ال تفهم �أن لكل‬
‫�شيء �سياقاته و�أ�سبابه وجذوره‪ ،‬و�أنك ال ميكن �أن ت�ستورد الن�صائح كما‬
‫ت�ستورد الأدوية واملراهم‪.‬‬
‫لكن ماذا عن الأ�شخا�ص الذين ال ن�شرتك معهم يف نف�س املرجعية؟‬
‫نتجاهلهم؟ ال ننظر �إليهم؟ ُن ْق�صيهم؟ نلقي بهم يف البحر؟‬
‫�أو نفعل بهم ما هو �أكرث من كل هذا؛ لأنهم ال ي�ؤمنون؟‬
‫ال‪ ،‬بالت�أكيد ال‪.‬‬
‫هناك � ًأول �إ�شارة �أرى �أنها قد جاءت لتذكرينا مبا هو خارج هذه‬
‫املنظومة املتفق عليها‪.‬‬
‫ُْ َ َ ْ َُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ َّ َ َ ُ‬ ‫} َذل َِك َّالِي يُبَ ِّ ُ‬
‫ات قل ل أسألك ْم‬ ‫الص ِ َ‬
‫ال ِ‬ ‫ِين آمنوا َوع ِملوا‬‫ش اهلل عِباده ال‬
‫َ َ ْ َ ْ ً َّ ْ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ َ‬
‫ِيها ُح ْس ًنا إ َّن اهلل َغ ُف ٌ‬
‫ور‬ ‫ِ‬ ‫تف حسنة ن ِزد ل ف‬ ‫علي ِه أجرا إِل المودة ِف القرب ومن يق ِ‬
‫ور{ (الشورى‪.)23 :‬‬ ‫َش ُك ٌ‬

‫املودة يف القربى‪.‬‬
‫عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬كانت لديه قرابة مع كل بطون قري�ش بدرجات‬
‫أ�سا�سا ملودة‪ ،‬لنوع من التعاي�ش بني‪.‬‬
‫خمتلفة‪ ،‬وقرابة كهذه ميكن �أن تكون � ً‬
‫‪- 291 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫الفرقاء املختلفني يف �أمور كثرية‪ ،‬لكن القرابة ميكن �أن تكون منطل ًقا حلل‬
‫مبني على املودة‪ ،‬حل ودي‪.‬‬
‫من الذي ميكن �أن ُي ْ�س َت ْث َنى من هذا؟‬
‫َ ْ ْ َ ِّ ُ َ َ‬ ‫ون ف ْالَ ْ‬
‫َّ َ َّ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫الق أول ِك‬ ‫ي‬ ‫غ‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫}إِنما السبِيل ع الِين يظلِمون انلاس ويبغ ِ‬
‫َُ َ َ ٌ َ‬
‫له ْم عذاب أ ِل ٌم{ (الشورى‪.)42 :‬‬

‫الأمر هنا اختلف مع الظلم والبغي‪ ،‬املودة يف القربى يتوقف العمل بها‪.‬‬
‫***‬
‫على امل�ستوى ال�شخ�صي‪ ،‬قد ينفعنا كث ًريا �أن نرى وجهة نظر خمتلفة‬
‫متاما‪ ،‬من �أر�ضية خمتلفة‪.‬‬
‫قادمة من زاوية �أخرى ً‬
‫متاما �أن تعاملك اجلاد معها كن�صيحة قد يحمل‬ ‫لكن عليك �أن تعي ً‬
‫بع�ضا من ال�شك مبرجعيتك الأ�سا�سية‪� ،‬أو �أنها مل تعد متدك بالن�صح‬ ‫ً‬
‫والإر�شاد ال َّل َذ ْي ِن حتتاج لهما‪.‬‬
‫قد ال يعني هذا وجود م�شكلة يف مرجعيتك نف�سها‪ ،‬بل رمبا فيمن حولك‪،‬‬
‫فيمن ي�ستخرج منها الن�صح والتعليمات‪.‬‬
‫ال ت�ستعجل البحث عن مرجعية �أخرى‪ ،‬بل حا ِو ْل �أن تتفح�ص بنف�سك‪.‬‬
‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ ََ ْ َ ُ ََ ْ َ َ َْ ُ ُ ً َْ‬ ‫َ ُْ َ َْ‬
‫ورا نهدِي ب ِ ِه من‬‫كن جعلناه ن‬ ‫اليمان ول ِ‬ ‫}ما كنت تدرِي ما الكِتاب ول ِ‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ك َلَ ْهدِي إ َل ِ َ‬
‫َ َ ُ ْ َ َ َ َّ َ‬
‫اط اهلل الِي لُ ما ِف‬ ‫ص ِ‬‫يم ‪َ ِ ‬‬‫اط مست ِق ٍ‬ ‫ص ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نشاء مِن عِبادِنا وإِن‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ور{ (‪.)53 :52‬‬
‫ُ‬
‫ري الم ُ‬ ‫ات َو َما ف ْالر ِض أل إل اهلل ت ِص ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫السماو ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪- 292 -‬‬


‫الزخرف ‪43‬‬
‫بعض ما يلمع‪ ،‬يقتل‬

‫لي�س كل ما يلمع ذه ًبا‪.‬‬


‫يف احلقيقة �إن بع�ض ما يلمع ميكن �أن يكون ً‬
‫ن�صل حا ًّدا ل�سكني يرتب�ص ‬
‫برقبتك‪ ،‬بينما �أنت معجب ومنبهر بلمعانه وبريقه‪.‬‬
‫بل حتى لو كان هذا الذي يلمع ذه ًبا‪ ،‬قد يكون ً‬
‫ن�صل مدب ًبا يريد حتفك‪.‬‬
‫لي�س كل ما يلمع خ ًريا بال�ضرورة‪ ،‬حتى لو كان ذه ًبا حقيق ًّيا‪.‬‬
‫ت�أخذك �سورة الزخرف �إىل ملعان قد ي�سلب ُل َّبك وقلبك‪ ،‬وهو يف حقيقته‬
‫زيف �أجوف‪ ،‬لكنك ت�سري خلفه كاملن َّوم‪ ،‬بل رمبا �أ�صبح ال�سري خلف هذا‬
‫الزيف املجوف �أ�سلوب حياة يتبعه كثريون‪ ،‬بل ويعتربونه هو �أ�سلوب احلياة‬
‫الأمثل‪ ،‬الأ�سلوب الأكرث حداثة ومنا�سبة للع�صر احلايل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ ْ ُ َ ْ ُ ُ ِّ َ َ ْ ً ْ ْ ُ ْ ْ ً ُ ْ‬ ‫ََ‬
‫سف َِني{ (الزخرف‪.)5 :‬‬
‫ضب عنكم اذلكر صفحا أن كنتم قوما م ِ‬ ‫}أفن ِ‬
‫ال�سرف مالزم لالنبهار بالالمع الأجوف‪ ،‬الدرب �إىل االنبهار بالزيف‬
‫مير � ًأول بال�سرف‪ ،‬بهذا اجلوع نحو املزيد‪ ،‬بتجاوز ما هو �أ�سا�سي و�ضروري‬
‫نحو الطمع واجل�شع‪.‬‬
‫وبعدها ت�أخذنا ال�سورة �إىل عالمات فارقة ت�صف هذا اللمعان املزيف‬
‫الأجوف‪.‬‬
‫‪- 293 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َ ُ ِّ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ‬ ‫الن َ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ ْ‬ ‫َ َّ َ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ‬
‫ضب‬ ‫ني (‪ )16‬وإِذا بش أحدهم بِما‬ ‫ات َوأصفاكم ب ِ َ ِ‬ ‫}أ ِم اتذ مِما يلق ب ٍ‬
‫ن‬
‫يم{ (الزخرف ‪.)17 :16‬‬ ‫حن َم َث ًل َظ َّل َو ْج ُه ُه ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو كظ ٌ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ل ِلر ِ‬
‫الذكر واحلزن على والدة الأنثى؛ عالمة على جعل‬ ‫التفاخر بالولد َّ‬
‫املعايري مرتبطة باالقت�صاد‪ ،‬بال�ضبط بالظاهر ال�سطحي من الرثوة‪ ،‬فكل‬
‫َذ َك ٍر كان ُي َعد قو ًة عامل ًة �إ�ضافية للع�شرية �أو القبيلة مبا �أنه قادر على حمل‬
‫ال�سالح‪.‬‬
‫�أما الأنثى فلم تكن ت�ضيف للقبيلة ثروة ح�سب ت�صورهم ال�ضيق‪.‬‬
‫الذ َكر يف هذا ال�سياق كان مفخرة اقت�صادية‪ ،‬مثل التفاخر‬ ‫والدة َّ‬
‫اليوم بال�سيارات الفارهة �أو املالب�س ذات العالمات التجارية الفاخرة �أو‬
‫ال�ساعات �أو غريها‪.‬‬
‫ه�ؤالء حتولهم معايريهم املغرقة يف ماديتها �إىل اال�ست�سالم للواقع بكل‬
‫ما ي�أتي به دون حماولة لتغيريه‪.‬‬
‫َ َ ُ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ ْ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ‬
‫الرح ُن ما عبدناه ْم ما له ْم بِذل ِك مِن عِل ٍم إِن ه ْم إِل ي ُرصون ‪‬‬ ‫}وقالوا لو شاء‬
‫َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َُّ‬
‫ون ‪ ‬بل قالوا إنا وجدنا آب َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ََْ ُ ْ َ ً ْ‬
‫اءنا ع أم ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِِ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫ه‬
‫ِِ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ِن‬
‫أم آتيناهم ك ِتابا م‬
‫َّ َ َ‬ ‫ََْ ْ َ‬ ‫ََ َ َ َ ْ َ َْ ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ِير إِل قال‬‫ارهِم مهتدون ‪ُ ‬وكذل ِك ما أرسلنا مِن قبلِك ِف قري ٍة مِن نذ ٍ‬ ‫وإِنا ع آث ِ‬
‫ُ َُ َ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اره ِْم مقتدون{ (الزخرف ‪.)23 :20‬‬ ‫ِ‬ ‫آث‬ ‫ع‬ ‫متفوها إِنا وجدنا آباءنا ع أم ٍة وإِنا‬

‫ها هم املرتفون ِّ‬


‫يف�ضلون البقاء على �إرث الآباء‪ ،‬بالت�أكيد‪ ،‬ما دام هذا‬
‫الإرث ي�ضمن لهم ترفهم والبقاء فيه‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 294 -‬‬


‫سورة الزخرف‬

‫َ َْ ْ ََْ َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ُ‬
‫يم{ (الزخرف‪.)31 :‬‬ ‫}وقالوا لول نزل هذا القرآن ع رج ٍل مِن القريت ِ‬
‫ي ع ِظ ٍ‬
‫النجاح وال�شرف والعظمة ح�سب معايريهم كانت تتطلب �أن ينزل‬
‫القر�آن على رجل من كبار �أثرياء قري�ش �أو الطائف‪ ،‬يف هذا ال�سياق مل‬
‫يكن لديهم م�شكلة يف وجود قر�آن يتنزل �أو ر�سول من اهلل يحمل ر�سالته‪،‬‬
‫كانت م�شكلتهم يف �أن هذا الرجل الذي تنزَّل عليه القر�آن ‪� -‬صلوات اهلل‬
‫و�سالمه عليه ‪ -‬مل تنطبق عليه �شروط العظمة وال�شرف ح�سب معايريهم‪،‬‬
‫ال مال كثري يخ�صه‪ ،‬وال ذكور‪� .‬إذن‪ ،‬كيف يختاره اهلل لهذه املهمة؟!‬
‫معايري التفاخر املادي كانت تعميهم لهذه الدرجة‪.‬‬
‫هل تعمينا نحن � ً‬
‫أي�ضا لنف�س الدرجة؟ �أم �أقل؟ �أم �أننا نحاول �أن َّ‬
‫نغ�ض‬
‫النظر عن ذلك؟‬
‫***‬
‫ُ ًُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ ُ َّ ً َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ‬
‫الرح ِن ِلُيوت ِِه ْم سقفا‬ ‫}ولول أن يكون انلاس أمة واحِدة لعلنا ل ِمن يكفر ب ِ‬
‫َ ُ ُ ْ َ ْ َ ً َ ُ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ‬
‫َ‬ ‫ْ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ‬
‫س ًرا عليها يتكِئون ‪‬‬ ‫ارج عليها يظه ُرون ‪ ‬و ِليوت ِِهم أبوابا و‬ ‫مِن ف ِض ٍة ومع ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ك ل ِل ُم َّتق َ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ِّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ َ َ ُ َ َ ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ً ْ ُ ُّ‬
‫ني ‪َ ‬ومن‬ ‫ِ‬ ‫ادلنيا َوالخِرة عِند رب‬ ‫َوزخ ُرفا َوإِن ك ذل ِك لما متاع الياة ِ‬
‫حن ُن َق ِّي ْض َلُ َش ْي َطانًا َف ُه َو َلُ َقر ٌ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ‬
‫ين{ (الزخرف ‪.)36 :33‬‬ ‫ِ‬ ‫يعش عن ذِك ِر الر ِ‬
‫َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ‬
‫ح ِن{‪.‬‬ ‫}ومن يعش عن ذِك ِر الر‬

‫} َي ْع ُش{ هنا من الع�شو‪ ،‬العمى‪ ،‬كما يف «الع�شو الليلي»‪.‬‬


‫يعم عن ذكر الرحمن‪.‬‬
‫من َ‬
‫ملاذا عمي عن ذكر الرحمن؟ ما الذي �أعماه؟‬

‫‪- 295 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لأن بريق الف�ضة والزخرف وكل الزيف املبهرج الأجوف بلمعانه ال َّأخاذ‬
‫�أعماهم عن ذلك‪ ،‬خطف �أب�صارهم و�سلب عقولهم‪.‬‬

‫وعندما ت�سري يف الطريق و�أنت ال ترى‪ ،‬عليك � َّأل تتوقع الكثري‪.‬‬


‫حتديدً ا عليك � َّأل تتوقع �أنك ت�سري يف االجتاه ال�صحيح‪.‬‬
‫***‬
‫وال ميكن �أن يكون هناك حديث عن هذا الزخرف الكاذب دون �أن نرى‬
‫فرعون‪ ،‬منوذج الأنا العليا يف �أ�شد �صورها طغيا ًنا‪ ،‬وهو ي�ستخدم املظاهر‬
‫ان�صياعا له‪.‬‬
‫ً‬ ‫والرتف كدليل جلعل قومه �أ�شد‬
‫ُ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َ ُ َْ‬ ‫َ َ َ َ ََْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ار ت ِري‬ ‫} َونادى ف ِْرع ْون ِف ق ْو ِم ِه قال يا ق ْو ِم أليس ِل ملك مِص وه ِذه ِ النه‬
‫َُ َ ٌ ََ َ َ ُ‬
‫اد يُب ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ ْ ٌ ْ َ َ َّ‬ ‫ْ َْ َََ ُْ ُ َ‬
‫ني ‪‬‬ ‫مِن ت ِت أفل تب ِصون ‪ ‬أم أنا خي مِن هذا الِي هو م ِهني ول يك ِ‬
‫َ ْ َ َ َّ‬ ‫َََْ ُْ َ َ َْ َ ْ َ ٌ ْ َ َ َْ َ َ َ َ ُ َْ َ َ‬
‫ِك ُة ُم ْق َتن َ‬
‫ِني ‪ ‬فاستخف‬ ‫ِ‬ ‫ب أو جاء معه الملئ‬ ‫فلول أ َل ِق علي ِه أس ِورة مِن ذه ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق ْو َم ُه فأ َط ُاعوهُ إ ِ َّن ُه ْم َكنُوا ق ْو ًما فا ِس ِق َني{ (الزخرف ‪.)54 :51‬‬
‫فرعون يقول لقومه‪ :‬عندي كل هذه الأموال والأمالك‪ ،‬لو �أن مو�سى جاء‬
‫على الأقل ب�أ�سورة ذهبية‪� ،‬أو كان معه مالئكة‪.‬‬
‫منطق ال يكاد ي�صلح للحديث مع �شخ�ص نا�ضج‪.‬‬
‫تعامل مع قومه بهذا املنطق الذي ي�ستخف بعقولهم‪.‬‬
‫لكنه جنح معهم‪� ،‬أطاعوه‪ ،‬ملاذا؟ لأنهم � ً‬
‫أ�صل كانوا فا�سقني‪ ،‬قدموا‬
‫�شهواتهم وغرائزهم على عقولهم وجعلوا لها الأولوية‪.‬‬
‫‪- 296 -‬‬
‫سورة الزخرف‬

‫لذا كان من الطبيعي �أن يجدوا ما قاله فرعون منا�س ًبا‪.‬‬


‫وال زال الأمر يحدث كث ًريا مع و�سائل �إعالم تعامل اجلماهري بنف�س ‬
‫وت�سيها �إىل حيث تريد‪ ،‬بل حتى على م�ستوى الأ�شخا�ص ‪.‬‬ ‫الطريقة ِّ‬
‫والأفراد‪ ،‬يحدث كث ًريا �أن جند من يحاول خداعنا بنف�س الطريقة‪ ،‬وكث ًريا‬
‫ما ينجح‪.‬‬
‫رمبا كنا نحن �أنف�سنا نفعل ذلك �أحيا ًنا دون �أن نكون واعني مبا نفعل‪.‬‬
‫***‬
‫ْ‬ ‫َ ََ َ‬
‫ل فأنَا أ َّو ُل ال َعابد َ‬ ‫ْ َ َ َّ ْ َ‬
‫حن َو ٌ‬ ‫ُْ‬
‫ِين{ (الزخرف‪.)81 :‬‬ ‫ِ‬ ‫}قل إِن كن ل ِلر ِ‬
‫لو كان ملنطق الزخرف قوة و�صالبة وميكن �أن ي�ؤتي ثماره‪ ،‬لو كانت هذه‬
‫الزخارف حقيقة لكنت �أنا �أول من يتبناها وي�ؤيدها‪.‬‬
‫لكنها جمرد زخارف‪ ،‬تعمي الأب�صار عن حقيقة الأ�شياء‪.‬‬
‫***‬
‫لو ت�أملنا يف جتاربنا ال�شخ�صية التي انتهت نهاية ال نريد تذكرها؛‬
‫لوجدنا �أن الزخرف كان �سب ًبا �أ�سا�س ًّيا يف دخولنا لها‪ ،‬يف غفلتنا عن‬
‫حقائق وا�ضحة �أدت �إىل ما �أدت �إليه‪.‬‬
‫�أحيا ًنا زخرفت لنا الأحالم والأمنيات واق ًعا مل ندر�سه مبا فيه الكفاية‪،‬‬
‫أ�شخا�صا فجعلتنا نعمى عن �صفات وا�ضحة‪.،‬‬‫ً‬ ‫و�أحيا ًنا زخرفت لنا عواطفنا �‬
‫جعلتنا ننتبه لل�شكل والعطر واالبت�سامة واملجاملة‪ ،‬ونغفل عما هو جوهري‬
‫و�أ�سا�سي‪.‬‬
‫‪- 297 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫و�أحيا ًنا ُت ْ�ست َْخ َدم الزخارف للرتويج لأيديولوجيات و�أفكار‪ ،‬نبتلع الطعم‬
‫وجند �أنف�سنا يف داخل بطن حوت عمالق‪.‬‬
‫حتى «قال اهلل‪ ،‬قال الر�سول» ميكن �أن ُت ْ�ست َْخ َدم كزخارف للأ�سف‪،‬‬
‫ميكن �أن تكون �ضمن كالم من َّمق يهاجم حقائق العلم‪� ،‬أو يدعو للقتل‬
‫والذبح با�سم الدين‪.‬‬
‫ال ميكن لتجار ال�شر �إال �أن يجدوا زخر ًفا ما لريوجوا لتجارتهم‪.‬‬
‫ي�ستخ ُّفون القوم؛ ليطيعوهم‪.‬‬

‫‪- 298 -‬‬


‫ُّ َ‬
‫الدخان ‪44‬‬
‫دخان بنكهة الوعي‬

‫يف ال�سماء ثمة دخان من بعيد‪.‬‬


‫هذا يعني �أن هناك نا ًرا يف مكان �أبعد‪.‬‬
‫و�أن هذه النار قادمة‪.‬‬
‫ال دخان بال نار كما يقولون‪ ،‬والدخان يعني هنا �شي ًئا واحدً ا‪ ،‬لقد ابتد�أ‬
‫احلريق بالفعل‪ ،‬وها هو الدخان ي�أتي‪.‬‬
‫ما الذي نفعله هنا؟‬
‫الكتاب املبني‪ ،‬الذي ُت ْف َتت َُح ال�سورة بالإ�شارة �إليه‪ ،‬هو الذي يدلك على‬
‫ما يجب �أن تفعله‪ ،‬عندما ترى ال�سماء وهي ت�أتي بالدخان‪.‬‬
‫لكنه دخان مبني‪ ،‬هذا الدخان‪.‬‬
‫الدخان عاد ًة يكون مموهً ا‪ ،‬يخفي ما خلفه‪ ،‬عندما يراد �أن ي�صرف‬
‫�أنظار النا�س عن �شيء معني‪ ،‬يرمي لهم بقنبلة دخانية‪.‬‬
‫لكنه هنا دخان مبني‪ ،‬دخان يقول لك احلقيقة‪ ،‬رمبا يواجهك بنف�سك‪،‬‬
‫بحقيقة ما ق َّدمت وكنت تتلهى عنه بقنابل دخانية اخرتعتها بنف�سك‪.‬‬
‫لكن هذا دخان من نوع �آخر‪.‬‬
‫‪- 299 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َّ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ْ َْ َ َْ‬
‫ني{ (ادلخان‪.)10 :‬‬ ‫ب‬
‫ٍ ِ ٍ‬‫م‬ ‫ان‬ ‫خ‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫اء‬ ‫م‬‫الس‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫}فارت ِقب يوم تأ‬

‫�ستقول لنا ال�سورة �شي ًئا مبي ًنا يف بدايتها‪.‬‬


‫َ َ َّ ُ ُ ْ‬
‫ني ‪ ‬ل إِلَ إِل ه َو ي ِي‬ ‫اوات َو ْالَ ْر ِض َو َما بَيْ َن ُه َما إ ْن ُك ْن ُت ْم ُموقِن َ‬
‫َ ِّ َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫}رب السم ِ‬
‫َ ٍّ َ ْ َ ُ َ‬
‫ِني ‪ ‬بل ه ْم ِف شك يلعبون{ (ادلخان ‪.)9 :7‬‬
‫َْ ُ‬ ‫ِك ُم ْالَ َّول َ‬
‫َ ُ ُ َ ُّ ُ ْ َ َ ُّ َ ُ‬
‫وي ِميت ربكم ورب آبائ‬

‫هناك «موقنون»‪ ،‬وهناك من «هم يف �شك يلعبون»‪.‬‬


‫هناك يقني يجعل �أ�صحابه م�ست�شعرين لوجوده عز وجل‪ ،‬وهناك يف‬
‫اجلهة الأخرى‪� :‬شك‪.‬‬
‫لكن لي�س �أي �شك‪ ،‬لي�س جمرد �شك‪.‬‬
‫بل هو �شك العب‪� ،‬شك يت�سلى به �أ�صحابه ملجرد ال�شك‪ ،‬مثل لعبة �أخرى‬
‫يق�ضون بها �أوقاتهم‪.‬‬
‫ميكنك �أن ت�شك بينما �أنت يف طريق رحلتك لليقني‪� ،‬شك جاد باحث‬
‫عن الأجوبة‪ ،‬هذا ال�شك ميكن �أن يكون معي ًنا لك على الطريق‪.‬‬
‫�أما ال�شك عندما يكون جز ًءا من اللعب واللهو وال�صرعات الفكرية‬
‫اجلديدة‪ ،‬فهو ال ميكن �أن يكون �إال مثل قنبلة دخانية تزيدك ً‬
‫�ضالل على‬
‫الطريق‪.‬‬
‫رمبا هذا الدخان يعتمد على كيفية ر�ؤيتنا له‪.‬‬
‫ميكن �أن يكون معي ًنا لنا على الطريق‪ ،‬مبي ًنا لأخطائنا وعيوبنا‪� ،‬إنذار‬
‫بحريق قادم ميكننا �أن نعمل على حتا�شيه �أو �إطفائه‪.‬‬
‫وميكنه �أن يكون على العك�س من ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 300 -‬‬
‫سورة الدخان‬

‫ال ميكن �أن يكون هناك حديث عن الدخان املبني دون �أن من َّر على‬
‫فرعون‪ ،‬منوذج مثايل للأنا العليا التي تعمى عن ر�ؤية الدخان القادم‬
‫ب�إنذار النار‪.‬‬
‫َ ْ ُ ْ َ ْ ْ َّ ُ ُ ْ ٌ ُ ْ ُ َ‬ ‫َ ْ ً َّ ُ ْ ُ َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫الح َر َره ًوا إِنه ْم جند مغ َرقون ‪‬‬ ‫كِ‬ ‫ر‬ ‫ات‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ون‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ِي‬‫د‬‫ا‬ ‫ب‬ ‫}فأ ِ ِ ِ‬
‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ََْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ْ َ َّ‬ ‫َ ْ ََُ‬
‫يم ‪َ ‬ونعم ٍة كنوا فِيها‬ ‫وع ومقامٍ ك ِر ٍ‬ ‫ون ‪َ ‬وز ُر ٍ‬ ‫ات وعي ٍ‬ ‫كم تركوا مِن جن ٍ‬
‫آخر َ‬ ‫َ َ َ ََ ْ َ ْ َ َ َ ْ ً َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين{ (ادلخان ‪.)28 :23‬‬ ‫فاك ِِهني ‪ ‬كذل ِك وأورثناها قوما ِ‬
‫الذين �آمنوا تعاملوا مع الإنذار كما يجب؛ فنجوا‪.‬‬
‫بتحد‪ ،‬با�ستهزاء‪ ،‬بلعب‪.‬‬
‫لكن فرعون َومنْ معه تعاملوا مع الدخان ٍّ‬
‫فكانوا مغرقني‪.‬‬
‫َْ‬
‫اء َوال ْر ُض َو َما َكنُوا ُم ْن َظر َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُ َّ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ين{ (ادلخان‪.)29 :‬‬ ‫الس َم ُ‬ ‫}فما بكت علي ِهم‬
‫ِ‬
‫دوما �أننا يف غاية الأهمية واخلطورة و�أن الأماكن ت�شتاق لنا‬
‫نتخيل ً‬
‫وتبكي لفراقنا‪.‬‬
‫لكن يف احلقيقة ال �شيء من هذا يحدث‪ ،‬احلياة ت�ستمر كما لو �أننا مل‬
‫منر بها � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ‬
‫الق‬ ‫ات والرض وما بينهما ل ِعبِني ‪ ‬ما خلقناهما إِل ب ِ‬ ‫}وما خلقنا السماو ِ‬
‫َ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫كن أكثهم ل يعلمون{ (ادلخان ‪.)39 :38‬‬ ‫ول ِ‬

‫�صعب �أن تتجاوز �إ�شارة النفي عن اللعب هنا‪ ،‬خا�صة بعد لعبة ال�شك‬
‫التي مررنا بها قبل قليل‪.‬‬

‫‪- 301 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫هذا العامل مل ُي ْخ َلقْ لع ًبا �أو له ًوا �أو عب ًثا‪ ،‬بل ُخ ِلقَ باحلق‪ ،‬بقوانني و�سنن ‬
‫بع�ضا منها وجنهل الكثري منها‪.‬‬ ‫نعلم ً‬
‫هذا احلق‪ ،‬هذا اخللق باحلق‪ ،‬بالقانون‪ ،‬يتطلب جدية يف البحث عنه‪،‬‬
‫حتى لو �شككت بكل �شيء‪ ،‬ليكن �شكك على م�ستوى هذا اخللق‪ ،‬ليكن �شكك‬
‫جا ًّدا‪ ،‬ال لع ًبا وله ًوا‪.‬‬
‫و�إن ق�ضيتها لع ًبا ً‬
‫وخو�ضا وال مباالة‪ ،‬ف�سيكون لديك لعبة �أخرى هناك‪،‬‬
‫الح ًقا يف الآخرة‪.‬‬
‫ما ر�أيك �أن حتاول امل�شاركة بها؟‬
‫ََ ْ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ ُْْ َْ‬ ‫َ َ ُ َْ‬ ‫َّ َ َ َ َ َّ ُّ‬
‫ون ‪ ‬كغ ِل‬ ‫ِ‬ ‫ط‬ ‫ال‬ ‫ف‬ ‫ل‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫‪‬‬ ‫ِيم‬
‫ِ‬ ‫ث‬ ‫وم ‪ ‬طعام ال‬ ‫الزق ِ‬ ‫}إِن شجرت‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اب‬ ‫ذ‬
‫ْ َ َ‬
‫ع‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫الحيم ‪ُ ‬ث َّم ُص ُّبوا َف ْو َق َ‬
‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعتِلُوهُ إ َل َس َواءِ َ‬
‫ُ ُ ُ َ ْ‬
‫ف‬ ‫وه‬‫ذ‬ ‫خ‬ ‫‪‬‬ ‫يم‬
‫ِ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫َْ‬
‫ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ال ِم ِيم ‪ ‬ذق إِنك أنت الع ِزيز الك ِريم{ (ادلخان ‪.)49 :43‬‬
‫ْ َ‬ ‫َْ ْ‬ ‫ُ‬
‫}ذ ْق إِنَّ َك أن َت ال َع ِز ُيز الك ِر ُيم{ �ساب ًقا ومبعايريك �أنت‪ ،‬ولكن لأنك ق�ضيت‬
‫أ�شحت بوجهك عن الدخان الذي كان يت�سرب‬
‫وقتك الدنيوي لع ًبا وله ًوا و� َ‬
‫�شي ًئا ف�شي ًئا �إىل كل �شيء‪ ،‬فقد و�صلت �إىل هنا‪.‬‬
‫ماذا عنا نحن؟‬
‫تقول لنا ال�سورة �أن نراقب الدخان ومنيزه جيدً ا‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َّ ُ ُ َ ُ َ‬
‫ارت ِقب إِنه ْم م ْرت ِقبون{ (ادلخان‪.)59 :‬‬ ‫}ف‬

‫‪- 302 -‬‬


‫سورة الجاثية ‪45‬‬
‫اللحظات األخيرة قبل نطق الحكم‬

‫جربت االنتظار؟‬
‫َ‬
‫مثل‪ ،‬امتحان م�صريي يحدد م�ستقبلك‪،‬‬ ‫انتظار نتيجة ما‪ ،‬امتحان ً‬
‫�أو نتيجة مقابلة عمل يتوقف عليه م�سارك املهني‪� ،‬أو نتيجة فح�ص طبي‬
‫يقطع ال�شك باليقني يف كون هذا الت�ضخم الذي �شككت بوجوده هو �سرطان‬
‫ينه�ش يف �أح�شائك �أو جمرد ورم حميد ال عواقب خطرية له‪.‬‬
‫�أغلب الب�شر يتوترون �أثناء االنتظار �أكرث من توترهم �أثناء التح�ضري له‬
‫�أو �أثناء خو�ضه‪.‬‬
‫دوما‪ ،‬البع�ض يروح ويجيء يف قلق‪ ،‬ويكون‬ ‫تعبريهم عن القلق خمتلف ً‬
‫يف�ضل الهرب �إىل عدم التفكري‪،‬‬ ‫معر�ضا لالنفجار يف �أي حلظة‪ ،‬البع�ض ِّ‬
‫ً‬
‫مثل �أو االن�شغال بالكثري من العمل‪ ،‬ريثما تظهر النتيجة‪.‬‬ ‫النوم ً‬
‫يف اللحظات الأخرية من االنتظار‪ ،‬بينما النتيجة تكاد ُت ْع َلن‪ ،‬يبلغ التوتر‬
‫مداه‪ ،‬القلوب عند احلناجر‪ ،‬تكاد ت�سمع دقاتها كما لو كانت يف مكرب �صوت‪.‬‬
‫البع�ض هنا ال حتمله قدماه من �شدة التوتر‪ ،‬يجثو على الأر�ض‪ ،‬ال هو‬
‫ي�ستطيع الوقوف قائ ًما‪ ،‬وال ميلك ترف اال�ستلقاء على الأر�ض يف هذه‬
‫اللحظات‪.‬‬
‫‪- 303 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تلك اللحظات الأخرية من الرتقب واالنتظار هي الأ�صعب الأ�شد‪،‬‬


‫م�صريك مع َّلق على ما �سيظهر خالل ٍ‬
‫ثوان‪ ،‬و�أنت ال ت�ستطيع �أن تفعل �أي‬
‫�شيء حياله‪.‬‬
‫�إىل هذه اللحظات ال�صعبة ت�أخذنا �سورة اجلاثية يف جولة تفقدية‪ ،‬كما‬
‫لو �أنها ت�أخذنا �إىل مكان �سنعي�ش فيه الح ًقا‪ ،‬وعلينا �أن نتع َّرف عليه من‬
‫الآن‪.‬‬
‫ما الذي �سيحدث يف هذه اللحظات وقد ُق ِ�ض َي الأمر‪ ،‬ال �شيء ميكنك �أن‬
‫تفعله لغري النتيجة التي مل ُت ْع َلنْ بعدُ؟‬
‫خ�ضم فال�ش باك ي�أخذنا يف‬
‫ِّ‬ ‫تقول لنا ال�سورة‪� :‬إننا غال ًبا �سنكون يف‬
‫رحلة �سريعة �إىل �أكرث ما نخ�شاه يف حياتنا‪.‬‬
‫ُ ْ َ َ َ ْ ُ َّ ُ ُّ ُ ْ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ْ ُ َ َ‬ ‫َْ َ ُ َ‬
‫اب‬
‫ات اهلل تتل علي ِه ثم ي ِص مستك ِبا كأن لم يسمعها فبشه بِع ٍ‬
‫ذ‬ ‫}يسمع آي ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ً َّ َ‬ ‫َ‬
‫ات َذ َها ُه ُز ًوا أول َِك ل ُه ْم َع َذ ٌاب ُم ِه ٌني{ (اجلاثية‪.)9 :‬‬ ‫أ ِل ٍم ‪ ‬وإِذا علِم مِن آيات ِنا شيئا‬

‫أي�ضا للبع�ض منا �أن يتخ َّففوا من ح�ساباتهم مع الآخرين‪،‬‬


‫�ستقول �سورة � ً‬
‫الأمر ال ي�ستحق يف النهاية‪ ،‬وعندما نغفر للآخرين‪ ،‬ف�إننا قد ن�ستحق‬
‫املغفرة � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫َ ً َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ ُ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َّ َ‬
‫ِين ل ي ْرجون أيام اهلل ِ َلج ِز َي ق ْوما بِما كنوا‬
‫}قل ل ِلِين آمنوا يغ ِفروا ل ِل‬
‫َ ْ ُ َ‬
‫يك ِسبون{ (اجلاثية‪.)14 :‬‬

‫ثم تقول لك ال�سورة �شي ًئا ال تعرف �إن كان �سيهدئ من روعك يف هذه‬
‫اللحظات �أم �سيزيد من توترك‪.‬‬

‫‪- 304 -‬‬


‫سورة الجاثية‬

‫ُْ َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ِّ ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ ً َ َْ‬
‫ون{‬ ‫ترجع‬ ‫اء فعليها ث َّم إِل َربك ْم‬ ‫}من ع ِمل ص ِ‬
‫الا فلِنف ِس ِه ومن أس‬
‫(اجلاثية‪.)15 :‬‬

‫حتار هنا‪� ،‬أين �ست َُ�ص َّنف �أنت؟ مع َمنْ عمل �صا ً‬
‫حلا �أم مع من �أ�ساء؟‬
‫حلظات وتعرف �أين موقعك‪ ،‬ولكنها تبدو كدهر‪.‬‬
‫َ ْ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬
‫ِين ل يعلمون{‬ ‫}ثم جعلناك ع ِ‬
‫شيع ٍة مِن الم ِر فاتبِعها ول تتبِع أهواء ال‬
‫(اجلاثية‪.)18 :‬‬

‫هذا �سيكون م�ؤملًا يف الفال�ش باك‪ ،‬لو �أننا فقط اتبعنا «ال�شريعة من‬
‫الأمر»؛ لكان و�ضعنا �أف�ضل الآن‪ ،‬ما الذي منعنا من ذلك؟‬
‫َ ََ‬ ‫َْ‬ ‫ََ ْ َ َ ََ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ‬
‫}أف َرأيت م ِن اتذ إِلهه ه َواهُ َوأضله اهلل ع عِل ٍم َوخت َم ع سم ِع ِه َوقلبِ ِه َوجعل‬
‫َ َ َ َ َ َّ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ ًَ ََ ْ َْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫اوة فمن يهدِي ِه مِن بع ِد اهلل أفل تذك ُرون{(اجلاثية‪.)23 :‬‬ ‫عب ِ‬
‫صه ِ غِش‬

‫�شخ�صا‬
‫أيت؟ كنا نقول‪ :‬ال‪ ،‬من هذا الذي يتخذ �إلهه هواه‪ ،‬ال نعرف ً‬
‫�أفر� َ‬
‫كهذا‪ ،‬النا�س تعبد اهلل‪ ،‬من الذي يعبد اهلل؟‬
‫الآن نفهم‪ ،‬لقد كنا نرى هذا ال�شخ�ص دائ ًما‪ ،‬رمبا ر�أيناه مرا ًرا يف‬
‫املر�آة‪ ،‬لكننا مل منيزه �آنذاك‪ ،‬الآن نفهم‪.‬‬
‫َ َ ُ َ َ َّ َ َ ُ َ ُّ ْ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ ُ َ َّ َّ ْ َ َ ُ‬
‫ادله ُر َوما له ْم‬ ‫}وقالوا ما ِه إِل حياتنا ادلنيا نموت ونيا وما يهلِكنا إِل‬
‫َ َ ْ ْ ْ ُ َّ َ ُ ُّ َ‬
‫بِذل ِك مِن عِل ٍم إِن ه ْم إِل يظنون{ (اجلاثية‪.)24 :‬‬

‫ال بد �أنه �إله الهوى ال�شخ�صي‪� ،‬إله الفردية‪ ،‬مفهوم احلرية ال�شخ�صية‬
‫وقد و�سع من نف�سه و َن َ�ص َب ذاته وث ًنا ال يقبل لطاعته �شري ًكا �أو خال ًفا يف‬
‫الر�أي‪.‬‬

‫‪- 305 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َ َّ َ َ ُ َ ُّ ْ َ‬
‫ادلنيا‬ ‫}ما ِه إِل حياتنا‬
‫ال بد �أنه هو الذي �أو�صلنا �إىل هذه القناعة‬
‫َُ ُ َ‬
‫وت َونْ َيا{؛ لأن هذه القناعة هي التي متنح كل ال�صالحيات لإله الهوى‬‫نم‬
‫ال�شخ�صي‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬فج�أة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ْ َ َ ُ ُ َّ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َْ‬
‫ُ ُ َّ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ون{‬ ‫س المب ِطل‬ ‫ات َوال ْر ِض ويوم تقوم الساعة يومئِ ٍذ ي‬ ‫َ‬
‫}وهلل ملك السماو ِ‬
‫(اجلاثية‪.)27 :‬‬

‫ما الذي يحدث؟ لقد متنا‪ُ ،‬ي ْف َتَ�ض �أن تلك كانت النهاية‪ُ ،‬ي ْف َتَ�ض �أنها‬
‫حياتنا الدنيا‪ ،‬ومن َث َّم نقطة نهاية ال�سطر‪ ،‬ما الذي يحدث الآن؟ هل هذا‬
‫كابو�س يزعج نومتنا الأبدية؟‬
‫�إنها �ساعة احلقيقة‪.‬‬
‫�ساعة؟ يبدو الأمر كدهر‪ ،‬دهر من احلقيقة‪.‬‬
‫ها نحن يف انتظار ما �سيحدث‪ ،‬قيل لنا‪� :‬إن هناك بع ًثا وح�سا ًبا وجزا ًء‬
‫ومل ن�صدق‪ ،‬حدث البعث‪� ،‬إذن �سيحدث كل ما قيل لنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ َ ََْ َْ ْ َ َ ُْْ َْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ ُ ْ َ‬ ‫ُ ُّ ُ‬
‫َّ َ َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ ُ‬
‫ون{‬ ‫} َوت َرى ك أم ٍة جاثِية ك أم ٍة تدع إِل ك ِتابِها الوم تزون ما كنتم تعمل‬
‫(اجلاثية‪.)28 :‬‬

‫ها نحن الآن يف هذا االنتظار ال�صعب املرير‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ ِّ َّ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َُ َْ ُ َ ْ ُ‬
‫ون{‬ ‫}هذا ك ِتابنا ين ِطق عليك ْم بِالق إِنا كنا نستن ِسخ ما كنتم تعمل‬
‫(اجلاثية‪.)29 :‬‬

‫كل �شيء م�سجل‪ .‬كل �شيء ُم ْ�س َت ْن َ�سخ‪.‬‬

‫‪- 306 -‬‬


‫سورة الجاثية‬

‫و�ضعنا يف �أذهاننا �أن غوغل يح�سب ح�ساب خطواتنا‪ ،‬ير�صد حتركات‬


‫بطاقتنا البنكية‪ ،‬ي�سجل ما نف�ضله من طعام‪ ،‬ما ن�شاهده من �أفالم‪ ،‬ما‬
‫ن�سمعه من مو�سيقى‪ ،‬ي�سجل حواراتنا ويتابعها ويد�س فيها �إعالنات بنا ًء‬
‫على ما نتحدث عنه‪.‬‬
‫و�ضعنا يف �أذهاننا رادارات مراقبة ال�سرعة‪ ،‬وكامريات املراقبة يف‬
‫ال�شوارع ومداخل البنايات وامل�صاعد‪.‬‬
‫ولكن ف�شلنا يف �أن ن�ضع يف ح�ساباتنا �أن ثمة مراقبة �أعلى‪ ،‬ثمة ا�ستن�ساخ‬
‫�أدق‪ ،‬ثمة كامريات يف كل مكان‪ ،‬حتى يف داخلنا‪ ،‬ت�سجل كل �شيء‪.‬‬
‫ها نحن ننتظر النتيجة‪.‬‬
‫جنثو تقري ًبا يف و�ضع الركوع‪ ،‬ال ن�ستطيع �أن نقف قائمني‪ ،‬ولكن ال ‬
‫ن�ستطيع �أن ن�ستلقي � ً‬
‫أي�ضا من التوتر‪.‬‬
‫االنتظار �صعب و ُم ِذل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫اوات َوال ْر ِض َو ُه َو ال َعز ُ‬ ‫َ ْ‬
‫الك ُِيم{ (اجلاثية‪.)37 :‬‬
‫يز َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫} َولُ الك ِْبيَ ُ‬
‫اء ِف السم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪- 307 -‬‬


‫سورة األحقاف ‪46‬‬
‫العنوان‪ :‬الرمال المتحركة‬

‫قد تتخيل �أن الأر�ض حتت قدميك �صلبة‪ ،‬ال ي�ساورك �أدنى �شك يف ذلك‪،‬‬
‫بل وتبني ً‬
‫خططا وم�شاري َع ال ميكن �أن تتحقق لوال �صالبة هذه الأر�ض‪.‬‬
‫لكنك ال حتاول حتى �أن تت�أكد من ذلك‪� ،‬صالبة الأر�ض حتت قدميك‬
‫هي من ُم َ�س َّل َماتك‪.‬‬
‫ثم فج�أة دون مقدمات‪� ،‬أو على الأقل دون مقدمات تنبهت لها‪ ،‬ت�ستحيل‬
‫رمال متحركة تبتلعك و�أحالمك وم�شاريعك مرة‬ ‫هذه الأر�ض ال�صلبة ً‬
‫واحدة‪.‬‬
‫هذا ما ت�أخذنا �إليه �سورة الأحقاف‪.‬‬
‫�إىل اللحظة التي تكت�شف فيها �أن الأر�ض لي�ست �صلبة ح ًّقا كما كنت‬
‫تتوهم‪ ،‬و�أنك تغو�ص يف رمال متحركة‪ ،‬كلما حاولت �أن تخرج منها ُغ ْ�ص َت‬
‫فيها �أكرث‪.‬‬
‫***‬
‫ْ‬ ‫ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ‬ ‫ََْ َ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َ َ َْ َ ُ ْ َ ْ َ‬
‫ي يدي ِه َومِن‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫انل‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫د‬‫ق‬‫و‬ ‫}واذكر أخا ع ٍد إِذ أنذر قومه بِالح ِ‬
‫اف‬ ‫ق‬
‫ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َّ‬
‫يم{ (األحقاف‪.)21 :‬‬ ‫خل ِف ِه أل تعبدوا إِل اهلل إِن أخاف عليكم عذاب يومٍ ع ِظ ٍ‬

‫‪- 308 -‬‬


‫سورة األحقاف‬

‫الأحقاف هي الرمال املعوجة‪� ،‬أو ما ي�سمى اليوم الكثبان الهاللية؛ لأنها‬


‫تتخذ يف ترتيبها �شكل الهالل‪.‬‬
‫غال ًبا كانت م�ساكن قوم عاد قريبة من هذه الكثبان‪ ،‬ورمبا كانوا ال ‬
‫يع ُّدونها خط ًرا عليهم‪ ،‬ورمبا كانوا يع ُّدونها حتميهم؛ �إذ �إن هذه الكثبان‬
‫تكون مرتفعة وقد يبلغ ارتفاعها ع�شرات الأمتار‪ ،‬كما �أنها تن�ش�أ ب�سبب رياح‬
‫ذات اجتاه واحد؛ مما يجعل م�ساكن عاد يف حماية من الرياح التي ت�أتي‬
‫من نف�س االجتاه‪.‬‬
‫كيف تغري الأمر؟‬
‫َ ُ َ َ َ ٌ ُ ْ َ َْ ُ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ً ُ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫}فلما َرأ ْوهُ عرِضا مستقبِل أ ْودِيتِ ِه ْم قالوا هذا عرِض مم ِط ُرنا بل ه َو ما‬
‫ُ َ ِّ ُ ُ َّ َ ْ َ ْ ِّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ‬ ‫ٌ َ َ َ ٌ َ‬ ‫ْ َْ َ ُْ‬
‫ش ٍء بِأم ِر َربها فأصبحوا ل ي َرى‬ ‫استعجلت ْم ب ِ ِه ِريح فِيها عذاب أ ِل ٌم ‪ ‬تدمر ك‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إِل َم َساك ُِن ُه ْم ك َذل َِك نْ ِزي ال َق ْو َم ال ُم ْج ِرم َِني{ (األحقاف ‪.)25 :24‬‬
‫الغيوم تتجمع يف ال�سماء‪ ،‬ثمة مطر قادم �إذن‪ ،‬هذا خري �أكيد‪� ،‬سريتوي‬
‫الزرع ويزدهر املرعى‪.‬‬
‫لكن �أحيا ًنا‪ ،‬هذا الذي ن�أمل ونخطط �أن يكون فيه ازدهارنا هو ذاته‬
‫الذي ت�أتي نهايتنا منه‪ ،‬ذلك املطر الذي ا�ستب�شر فيه قوم عاد كان فيه‬
‫دمارهم وزوالهم‪ ،‬الأر�ض التي كانت تبدو �صلبة حتت �أقدامهم غارت‬
‫و�أخذتها معهم‪.‬‬
‫كيف؟ من التف�سريات املطروحة �أن الفراغات بني جزيئات الرمال يف‬
‫بع�ض �أنواع الرمال تكون �أكرب بكثري من �أنواع �أخرى‪ ،‬و�أن هذا يجعل املياه‬
‫التي تت�سرب بينها كافية لتحويل كل �شيء �إىل كتلة ت�سحب كل ما فوقها‪.‬‬

‫‪- 309 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫مل يحدث هذا مع قوم عاد فح�سب‪.‬‬


‫دوما � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬ ‫دوما‪ ،‬و�سيحدث ً‬
‫دوما ويحدث ً‬
‫بل حدث ً‬
‫حتى على م�ستوى الأفراد والتجارب ال�شخ�صية‪.‬‬
‫كث ًريا ما نت�أمل خ ًريا كث ًريا ي�أتي من جديد يدخل حياتنا‪� ،‬أو جديدً ا‬
‫من�شي له بكامل �إرادتنا‪� ،‬شخ�ص جديد يف �صداقة �أو �شراكة �أو عاطفة �أو‬
‫عمل جديد �أو جتربة فكر جديد‪ ،‬جديد مبعنى �أنه ظهر حدي ًثا‪� ،‬أو جديد‬
‫مبعنى �أنه جديد علينا‪.‬‬
‫كم �أقبلنا على جتارب من هذا النوع ونحن نتحدث عن تغرينا ‪180‬‬
‫خ�ضم احتفالنا بالتغيري �إىل �أننا‬
‫ِّ‬ ‫درج ًة �إىل الأف�ضل طب ًعا‪ ،‬ومل ننتبه يف‬
‫قد دخلنا م�ستنقع رمال متحركة‪ ،‬و�أننا نغو�ص �شي ًئا ف�شي ًئا فيه‪ ،‬بينما نرفع‬
‫�أ�صابعنا ب�إ�شارة الن�صر‪.‬‬
‫} َه َذا َع ِر ٌض ُم ْم ِط ُرنَا{‪ ،‬لي�س قوم عاد وحدهم َمنْ قالوها‪ ،‬بل هذا كان‬
‫�شعار املرحلة ل�شعوب و�أقوام كثرية‪ ،‬ا�ستب�شرت باخلري واالزدهار القادم‬
‫حتت قيادة فالن �أو ب�أيديولوجية معينة‪ ،‬ثم انتهت الأمور �إىل حيث ت�سر‬
‫الأعداء‪.‬‬
‫حدث هذا كث ًريا ويحدث با�ستمرار‪.‬‬
‫***‬
‫ال�سورة حتدثنا � ًأول عن عدم ال�سقوط يف هذا امل�ستنقع بالأ�سا�س‪َّ � ،‬أل‬
‫تبني بيتك و�أحالمك وم�شاريعك على رمال متحركة‪ ،‬حتى لو َب َد ْت لك هذه‬
‫الرمال �صلبة يف البداية‪.‬‬
‫‪- 310 -‬‬
‫سورة األحقاف‬

‫كيف؟‬
‫الإميان بالطبع‪ ،‬الإميان كقيم فاعلة وحمركة‪ ،‬الإميان باهلل اخلالق‬
‫وا�ضع القوانني وال�سنن و ُم ْن ِز ِل كتب الهداية والإر�شاد‪.‬‬
‫الإميان على ر�أ�س قائمة �أ�سباب الوقاية من ال�سقوط‪ ،‬وعلى ر�أ�س قائمة‬
‫مكونات حبل الإنقاذ الذي ميكن �أن ميتد لأيادينا فيما لو حدث و�سقطنا‪.‬‬
‫لكن الإميان يت�ضمن � ً‬
‫أي�ضا ما هو �أكرث‪ ،‬ما ال ن�ضعه يف ح�سباننا ك�إميان‪.‬‬
‫لكنه يف �صلبه‪ ،‬ويف �صلب موانع ال�سقوط يف الرمال املتحركة‪.‬‬
‫ويف ر�أ�س قائمة الإنقاذ‪.‬‬
‫عن العائلة �أحتدث‪� ،‬أو بالأحرى تتحدث �سورة الأحقاف‪.‬‬
‫***‬
‫َ َُْ ُ ً َُُْ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ً َ َ َ ْ ُ ُ ُّ ُ ُ ً‬
‫الي ِه إِحسانا حلته أمه ك ْرها َو َوضعته ك ْرها َوحله‬ ‫النسان بِو ِ‬ ‫}ووصينا ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ ْ ً َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ً َ َ َ ِّ َ ْ ْ‬
‫وف ِصال ثلثون شهرا حت إِذا بلغ أشده وبلغ أرب ِعني سنة قال رب أو ِزع ِن أن‬
‫َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ ْ ْ‬
‫الا ت ْرضاهُ َوأصلِح ِل ِف‬ ‫أشكر ن ِعمتك ال ِت أنعمت ع وع و ِالي وأن أعمل ص ِ‬
‫َ‬
‫ُ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫ك َوإ ِّن م َِن ال ْ ُم ْسلم َ‬ ‫ُ ِّ َّ ِّ ُ ْ ُ َ ْ َ‬
‫ِين نتقبل عنه ْم أحس َن ما‬ ‫ني ‪ ‬أول ِك ال‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ذري ِت إِن تبت إِل‬
‫َ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ ْ َ ِّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ِّ َ‬
‫الن ِة َوعد الصد ِق الِي كنوا يوعدون ‪‬‬ ‫اب‬
‫ِ‬ ‫اوز عن سيئات ِِه ْم ِف أصح‬ ‫ع ِملوا ونتج‬
‫َ ْ ُ ْ َ َ ََْ َ َ ُْ ُ ُ ْ َْ َ َُ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ ٍّ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫ت القرون مِن قب ِل وهما‬ ‫َوالِي قال ل ِو ِالي ِه أف لكما أت ِعدان ِِن أن أخرج وقد خل ِ‬
‫ِري ْالَ َّول َ‬ ‫َ‬
‫ِني ‪‬‬ ‫ول َما َه َذا إ َّل أ َساط ُ‬
‫َ ٌّ َ َ ُ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ َّ ْ َ‬
‫ان اهلل َويلك آمِن إِن َوعد اهلل حق فيق‬
‫َْ َ َ‬
‫يست ِغيث‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ ِّ َ ْ ْ َّ ُ‬
‫الن ِس إِنه ْم‬ ‫الن و ِ‬
‫أول ِك الِين حق علي ِهم القول ِف أم ٍم قد خلت مِن قبل ِِهم مِن ِ‬
‫ين{ (األحقاف ‪.)18 :15‬‬ ‫َكنُوا َخاس َ‬
‫ِ ِ‬

‫‪- 311 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تقدم ال�سورة منوذجان‪ ،‬الظروف التي مر بها النموذجان واحدة‪،‬‬


‫ومير �أغلبنا بها‪ ،‬نتلقى من والدينا الرعاية‪ ،‬ثم ي�أتي وقت نقدمه لهما‪،‬‬
‫لي�س الأمر َد ْي ًنا علينا �أن ن�سدده بحرفية‪ ،‬بل ن�سيج اجتماعي ي�ضمن قوة‬
‫املجتمع‪� ،‬أمر ال ت�ستطيع قوانني ال�ضمان والرعاية ال�صحية �أن حتققه‪ ،‬وال ‬
‫بيوت امل�سنني‪.‬‬
‫النموذج الأول �أدى ما عليه‪ ،‬النموذج الثاين قرر �أن يجرب �شعارات «�أن‬
‫يكون نف�سه»‪� ،‬أن يخرج املارد رمبا‪� ،‬إلخ‪.‬‬
‫لكنه د َّمر حبل النجاة‪.‬‬
‫***‬
‫هل كان قوم عاد �أغبياء؟ كيف فات عليهم هذا الأمر؟‬
‫هل كان كل من ي�سري على ُخطاهم غب ًّيا لي�صل �إىل تلك النهاية يف‬
‫الرمال املتحركة؟‬
‫على العك�س‪.‬‬
‫َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ً ََْ َ ً َ ْ َ ً َ َ‬ ‫َ ْ َ َّ َّ ُ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َّ ُ‬
‫ارا َوأفئِدة فما‬‫} َولقد مكناه ْم فِيما إِن مكناك ْم فِي ِه وجعلنا لهم سمعا وأبص‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ ْ ََ َْ َ ُ ُ ْ ََ َْ َ ُ ُ ْ ْ َ ْ ْ َ ُ َْ َ ُ َ َ‬
‫ات اهلل‬
‫ش ٍء إِذ كنوا يحدون بِآي ِ‬ ‫أغن عنهم سمعهم ول أبصارهم ول أفئِدتهم مِن‬
‫َْ َْ ُ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫َوحاق ب ِ ِه ْم ما كنوا ب ِ ِه يسته ِزئون{ (األحقاف‪.)26 :‬‬

‫كان لديهم كل �أدوات التمكني‪ ،‬وكل �آليات العقل‪ ،‬ولكن رمبا وثقوا فيها‬
‫�أكرث مما يجب‪ ،‬ت�صوروا �أن ال حدود لإمكاناتهم‪ ،‬وكان ذلك نقطة التحول‬
‫التي جعلت من متكينهم انتحا ًرا‪.‬‬

‫‪- 312 -‬‬


‫سورة األحقاف‬

‫ال يتطلب الأمر قدرة خارقة �أحيا ًنا لكي ترى ما هو �شديد الو�ضوح‪،‬‬
‫حتتاج فقط �أن تكون متواز ًنا يف النظر �إىل الأمور‪� ،‬إىل قدراتك و�إىل‬
‫قدرات خالقك وقوانينه و�سننه و�إر�شاداته‪.‬‬
‫َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ِّ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ ُ‬
‫ضوهُ قالوا أن ِصتوا‬ ‫}وإِذ صفنا إِلك نفرا مِن ِ‬
‫الن يست ِمعون القرآن فلما ح‬
‫ين{ (األحقاف‪.)29 :‬‬ ‫ض َول َّ ْوا إ َل َق ْومِه ْم ُم ْنذِر َ‬
‫َفلَ َّما قُ ِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال نعرف الكثري عن اجلن‪ ،‬غري �أنهم خملوقات يف ُب ْع ٍد �آخر �إن جاز‬
‫التعبري‪ ،‬القر�آن نزل لنا ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬لكنهم بقليل من اال�ستماع‪ ،‬من‬
‫النظر من بعيد؛ �آمنوا به‪.‬‬
‫ال حتتاج الكثري لكي ت�ؤمن مبا هو وا�ضح وبديهي‪.‬‬
‫لكنك �إن مل تزل غ�شاوة الأنا عن ب�صريتك؛ ف�إن الكثري من الذكاء‬
‫والقدرات لن جتعلك ت�ؤمن‪.‬‬
‫***‬
‫َ ُّ ُ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ ْ َ َ َ ََ ُ ُ َْْ‬
‫جل له ْم كأنه ْم ي ْوم ي َر ْون‬
‫}فاص ِب كما صب أولو العز ِم مِن الرس ِل ول تستع ِ‬
‫َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َ ً ْ َ َ َ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ون{‬ ‫ار بلغ فهل يهلك إِل القوم الفا ِسق‬ ‫ما يوعدون لم يلبثوا إِل ساعة مِن نه ٍ‬
‫(األحقاف‪.)35 :‬‬
‫مهمة �إنقاذ النا�س من الرمال املتحركة لي�ست �سهلة �أبدً ا‪.‬‬
‫حتتاج �ص ًربا وعزمية بوجه الرياح والرمال املتحركة‪ ،‬وبوجه َمنْ ي�ص ِّفق‬
‫لكل عار�ض ممطر‪ ،‬بينما على ب�صريته غ�شاوة‪.‬‬

‫‪- 313 -‬‬


‫سورة محمد ‪47‬‬
‫نسخة أفضل منك!‬

‫ت�صلي عليه عندما ترى ا�سمه الكرمي ا�س ًما لل�سورة‪ ،‬يت�أهب قلبك‬
‫ت�شرئب م�شاعرك و�أنت تريد �أن مت�سه �أو تعانقه‪ ،‬وقد‬ ‫ُّ‬ ‫حل�ضوره املنري‪،‬‬
‫ت�صل �أحالمك �إىل �أن تق ِّبل يديه �أو خده �أو ر�أ�سه ال�شريف‪.‬‬
‫تريد الفردو�س الأعلى‪ ،‬ف ِل َم ال؟‬
‫تدخل ال�سورة وقد جعل ا�سمها وحده هرمون احلب «الأوك�سيتو�سني»‬
‫ُي َ�ض ُّخ يف عروقك ك�شالل هادر‪ ،‬تكاد تتعرث ارتبا ًكا و�أنت تدخل‪ ،‬ك�أي حمب‬
‫مرتبك يحمل �أ�شواقه وعواطفه‪.‬‬
‫تدخل وتدير ر�أ�سك بح ًثا عنه‪ ،‬نعم‪ ،‬ثمة نور يف �أرجاء ال�سورة‪ ،‬لكن �أين‬
‫هو �صلوات اهلل و�سالمه عليه؟‬
‫�ستبحث بدقة يف ال�سطور‪ ،‬بني ال�سطور‪.‬‬
‫�ستتفاج�أ‪ ،‬ال�سورة ال تتحدث عنه‪ ،‬ا�سمه ال�شريف يعلوها‪ ،‬لكنها ال ‬
‫تتحدث عنه‪.‬‬
‫بل هي ‪ -‬يا للمفاج�أة! ‪ -‬تتحدث عنك �شخ�ص ًّيا‪.‬‬
‫حتاول �أن ت�ستوعب الأمر‪ ،‬كنت تريد �شي ًئا �آخر‪ ،‬هل �أحبطك ذلك؟‬

‫‪- 314 -‬‬


‫سورة محمد‬

‫�ستفهم بينما تقر�أ �أن الأمر مق�صود‪� ،‬أن تدخل ال�سورة بهذا الرتقب‪،‬‬
‫تريد �أن تقرتب منه عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬لكن ال�سورة �ستدلك على ما‬
‫هو �أهم من ذلك‪� ،‬ستدلك على قرب حقيقي تناله منه‪� ،‬ستدلك على نف�سك‬
‫عندما تقرتب من �سريته و�شخ�صه‪.‬‬
‫�ستحدثك ال�سورة عنك �شخ�ص ًّيا‪ ،‬عنك يف �أف�ضل حاالتك‪ ،‬يف �أف�ضل‬
‫ن�سخة ممكنة منك‪� ،‬ألي�س هذا ما ُب ِعثَ عليه ال�صالة وال�سالم من �أجله‬
‫بالأ�سا�س؟‬
‫***‬
‫َ َ ُ َ ُ ِّ َ َ َ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ ُّ ْ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ َ َ ُ‬
‫الق مِن َرب ِه ْم‬ ‫ات وآمنوا بِما نزل ع مم ٍد وهو‬ ‫ال ِ‬‫الص ِ َ‬ ‫ِين آمنوا َوع ِملوا‬
‫}ال‬
‫َ‬
‫َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ْ‬
‫كف َر عنهم سيئات ِِهم َوأصلح بالهم{(حممد‪.)2 :‬‬

‫�أ�صلح بالهم!‬
‫عاطل ملي ًئا‬
‫ً‬ ‫ما �أجملها من كلمة‪� ،‬أن يكون بالك قد �أُ ْ�ص ِل َح‪ ،‬كان‬
‫باملتاعب‪ ،‬ثم �أُ ْ�ص ِل َح‪.‬‬
‫�أ�صلحه اهلل لهم‪.‬‬
‫هل �صالح البال هنا كان ا�سرتخا ًء‪ً ،‬‬
‫فراغا من امل�شاكل و«ف�ضاوة» بال‬
‫كما قد نتخيل للوهلة الأوىل؟‬
‫متاما من «�صالح‬
‫�أبدً ا‪ ،‬ت�أخذنا الآيات التالية فو ًرا �إىل نوع خمتلف ً‬
‫البال»‪.‬‬

‫‪- 315 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َ ُ ُّ ْ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ِّ َ‬
‫اب حت إِذا أثنتموه ْم فشدوا ال َوثاق‬ ‫الرق ِ‬ ‫}فإِذا ل ِقيتم الِين كفروا فضب‬
‫َ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ ُْ‬
‫اء اهلل لنتص مِنهم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ارها ذل َِك َول ْو يش ُ‬ ‫ض َع ْ َ‬
‫ال ْر ُب أ ْو َز َ‬ ‫َ َّ َ ًّ َ ْ ُ َ َّ َ ً َ َّ َ َ‬
‫فإِما منا بعد وإِما ف ِداء حت ت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ََ ْ َْ َُ َْ َ ُ‬
‫ِين قتِلوا ِف َسبِ ِيل اهلل فل ْن يُ ِض َّل أ ْع َمال ُه ْم{‬ ‫ك ْم ب َب ْعض َوال َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫كن ِلبلو بعض‬ ‫ول ِ‬
‫(حممد‪.)4 :‬‬

‫�إنها املواجهة‪� ،‬صالح البال حدث باملواجهة‪ ،‬ع�سكرية هنا كما هو‬
‫وا�ضح‪ ،‬لكن الأمر يف جوهره هو املواجهة‪ ،‬لي�ست ع�سكرية بال�ضرورة‪،‬‬
‫بل مواجهة �أفكار �أحيا ًنا‪ ،‬مواجهة نف�سك يف �أخطائها‪ ،‬يف تق�صريها‪ ،‬يف‬
‫ذنوبها‪.‬‬
‫�صالح البال ي�أتي �أحيا ًنا من مواجهات كهذه‪ ،‬وال ي�أتي �أبدً ا �إذا هربنا‪،‬‬
‫�أنكرنا‪ ،‬جتنبنا مناطق نخاف من مواجهتها‪.‬‬
‫صوا اهلل َي ْن ُ ْ ُ ْ ُ َ ِّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ‬
‫آم ُنوا إ ْن َت ْن ُ ُ‬
‫صكم َويثبت أقدامكم{ (حممد‪.)7 :‬‬ ‫ِ‬ ‫}يا أيها الِين‬

‫اخلطوة الأوىل هنا ت�أتي منك‪ ،‬وهل يحتاج اهلل جل جالله �إىل ن�صر؟!‬
‫حا�شاه‪.‬‬
‫ال‪� ،‬أنت من يحتاج ‪ -‬يف �أف�ضل ن�سخة منك ‪� -‬أن تقدم م�ستحقات‬
‫الن�صر‪� ،‬أن تثبت لنف�سك � ًأول �أنك ت�ستحق العون منه عز وجل‪� ،‬أنت َمنْ يف‬
‫حاجة �إىل �أن تثبت لنف�سك ذلك كي يث ِّب َت هو �أقدامك‪.‬‬
‫َ َ َ ِّ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ُ َّ ً ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫اه ْم َف َل نَ ِ َ‬
‫اص‬ ‫}وكأين مِن قري ٍة ِه أشد قوة مِن قريتِك ال ِت أخرجتك أهلكن‬
‫َ‬
‫ل ُه ْم{ (حممد‪.)13 :‬‬
‫كل الأمور يف النهاية متر‪ ،‬و�أنت ل�ست حج ًرا يف قريتك �أو مدينتك �أو‬
‫يف جمموعة الأ�صدقاء حولك‪ ،‬ت�ستطيع �أن تغري عنوانك وموقعك لو عجزت‪.‬‬
‫‪- 316 -‬‬
‫سورة محمد‬

‫عن تغيري قريتك �أو مدينتك �أو �أ�صحابك‪ .‬ل�ست الأول ولن تكون الأخري‪،‬‬
‫الفراق �صعب حت ًما‪ ،‬لكن �أن تتحول �إىل حجر �أ�صعب بكثري‪.‬‬
‫َ ُْ َْ ُْ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ َ َ ُ ْ ُ ً‬
‫ِين اهتد ْوا زادهم هدى َوآتاهم تق َواهم{ (حممد‪.)17 :‬‬
‫}وال‬

‫كما الأمر مع الن�صر‪ ،‬اخلطوة الأوىل منك‪ ،‬تهتدي‪ ،‬تبحث عن الهدى‬


‫بنف�سك‪ ،‬فيزيدك هداية‪ ،‬ويي�سر لك التقوى � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫َْ َ‬ ‫َ ْ َْ ْ َْ َ َ ُْ ْ َ َ ُْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ َّ‬
‫ات َواهلل يعل ُم‬
‫}فاعلم أنه ل إِل إِل اهلل واستغ ِفر ِلنبِك ول ِلمؤ ِمنِني والمؤمِن ِ‬
‫ُ َ َ َّ َ ُ ْ َ ْ ُ ْ‬
‫متقلبكم َومث َواكم{ (حممد‪.)19 :‬‬

‫حقيقتان �أ�سا�سيتان ال مفر منهما‪ ،‬مثل البديهيات بالن�سبة ملن يريد �أن‬
‫يقرتب منه عز وجل‪� ،‬أن يكون يف �أح�سن ُن َ�س ِخه‪.‬‬
‫�أنه ال �إله �إال هو‪ ،‬بكل معاين ذلك‪ ،‬و�أنك كب�شر معر�ض للخط�أ؛ لأنه جزء‬
‫من طبيعتك‪ ،‬فا�ستغفر لذنبك ولكل من معك‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ َ ٌ ُ‬
‫ورة مكمة َوذك َِر فِيها‬ ‫}ويقول الِين آمنوا لول نزلت سورة فإِذا أن ِزلت س‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ ْ َ َ ٌ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ‬
‫ال ِقتال رأيت الِين ِف قلوب ِ ِهم مرض ينظرون إِلك نظر المغ ِش علي ِه مِن المو ِ‬
‫ََ َ َُ ْ‬
‫فأ ْول لهم{ (حممد‪.)20 :‬‬

‫البع�ض ال يريد املواجهة‪ ،‬يف�ضل �أن يبقى يف منطقة الراحة‪َ ،‬منْ ه�ؤالء‬
‫البع�ض؟ الذين يف قلوبهم مر�ض‪ ،‬تقول الآية ذلك كما لو كانت تقول لك‪:‬‬
‫هل �أنت منهم؟‬
‫تبحث يف الآيات عن املزيد من العالمات لكي حتدد جوابك‪ ،‬فتجد‬
‫جوا ًبا يفتح لك باب اخلروج من هذه اخلانة لو كنت فيها � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫َْ ُ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َََ‬
‫وب أق َفال َها{ (حممد‪.)24 :‬‬
‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫}أفل يتدبرون القرآن أم‬

‫‪- 317 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�ستخرج من هذه اخلانة ب�أن تزيل الأقفال على قلبك‪ ،‬ب�أن تتدبر كل ما‬
‫مر عليك من �آيات‪.‬‬
‫ثم تتابع الآيات وهي ت�صف �أولئك الذين يف الطرف الق�صي من‬
‫الن�سخة الأف�ضل منك‪ ،‬يف الطرف الأبعد منه عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬و�أنت‬
‫تقف عند كل �صفة لتت�أمل‪ ،‬نعم‪ ،‬ال‪ ،‬رمبا!‬
‫وتوقفك �آية وهي حتذرك من �أن تقف يف منت�صف الطريق‪ ،‬من ن�صف‬
‫املواجهات‪.‬‬
‫ََ ُ ْ ََ ْ َ َُ‬ ‫َّ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫تك ْم‬‫}فل ت ِهنوا َوتدعوا إِل السل ِم َوأنتم العلون َواهلل معكم ولن ي ِ‬
‫َ ْ َ َ ُ ْ‬
‫أعمالكم{ (حممد‪.)35 :‬‬

‫�إن كنت يف موقع القوة �ضمن مواجهتك‪ ،‬فال ُت ْق ِد ْم على ن�صف مواجهة‪،‬‬
‫در�سا يف القيم‬
‫أ�صل هو �أن تعطي ً‬ ‫ال ُت ْن ِه َها بالتنازل �إال �إذا كان هدفك � ً‬
‫والأخالق وك�سب العقول والقلوب‪ ،‬كما فعل عليه ال�صالة وال�سالم يف فتح‬
‫أ�صل هي �أن مت�ضي يف مواجهتك‪ ،‬وكانت‬ ‫مكة‪ ،‬لكن �إن كانت خطتك � ً‬
‫الظروف منا�سبة لك‪ ،‬فال ترتاجع‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫ْ ً َ ْ َ ْ َّ َ ُ ُ ْ َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫َْ َْ‬ ‫ْ ََ‬‫َّ‬
‫ك ْم{ (حممد‪.)38 :‬‬ ‫} َوإِن تت َول ْوا يستبدِل قوما غيكم ثم ل يكونوا أمثال‬

‫اهلل لي�س بحاجة لنا‪ ،‬ور�سوله � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬
‫ق�صرنا يف �شيء ف�سيكون هناك نا�س �آخرون‬
‫نحن بحاجة لهما‪ ،‬و�إن َّ‬
‫لي�سوا �أمثالنا‪.‬‬

‫‪- 318 -‬‬


‫سورة الفتح ‪48‬‬
‫مفاتيح األبواب الموصدة‬

‫دوما �أن الفتح هو حلظة االنت�صار الكبرية‪ ،‬حلظة الفوز‪.‬‬


‫نتخيل ً‬
‫مثل‪ ،‬فتح الق�سطنطينية‪ ،‬فتح العراق‪ ،‬هكذا‪.‬‬‫فتح مكة ً‬
‫دوما مرتبط يف �أذهاننا بحدث كبري من هذه الأحداث‪.‬‬
‫الفتح ً‬
‫فكيف بالفتح املبني الذي �أ�شارت له ال�سورة يف مقدمتها؟‬
‫ً‬
‫مرتبطا بانت�صار كبري �ساحق حا�سم‪.‬‬ ‫ال بد �أنه كان‬
‫فتح مكة رمبا؟‬
‫ال‪ ،‬ال�سورة نزلت قبل فتح مكة بنحو عامني‪.‬‬
‫ماذا �إذن؟ �أي انت�صار ع�سكري هذا الذي و�صفته ال�سورة بالفتح املبني؟‬
‫ال يوجد‪ ،‬ال�سورة حتدثت عن معاهدة �صلح‪ ،‬الفتح املبني كان اتفاقية‬
‫هدنة‪ ،‬معاهدة �صلح احلديبية‪ .‬ال معركة وال انت�صار ع�سكري �ساحق‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪ ،‬الكثري من امل�سلمني ‪ -‬ومنهم عمر بن اخلطاب ‪ -‬كانوا‬
‫قد اعتربوا �أن �شروط الهدنة لي�ست ل�صالح امل�سلمني‪ ،‬و�أنها كانت جمحفة‬
‫يف جوانب كثرية(((‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري ‪3182‬‬
‫‪- 319 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكنه الفتح‪ ،‬بل هو الفتح املبني رغم كل ما �سبق‪.‬‬


‫ورمبا ب�سبب ما �سبق‪.‬‬
‫***‬
‫يحدث كث ًريا �أن منر يف �أحداث نعدها �أتع�س ما � َ َّأل بنا من م�صائب‬
‫وكوارث‪ ،‬نعتربها هزائم منكرة ق�ضت على �أحالمنا و�آمالنا‪.‬‬
‫ثم بعد فرتة ‪ -‬تطول �أو َت ْق ُ�صر ‪ -‬نرى �أن هذا ال�شيء ذاته كان �أف�ضل‬
‫ما حدث لنا‪ ،‬ال �أق�صد هنا �أن التجربة الناجتة عن هذا ال�شيء ال�سيئ قد‬
‫زادنا قوة وجعلنا �أكرث خربة‪ ،‬فكان بالتايل �أف�ضل ما حدث لنا‪.‬‬
‫يحدث هذا يف �أحيان كثرية‪ ،‬لكنه لي�س املق�صود هنا‪.‬‬
‫املق�صود حرف ًّيا �أن حد ًثا ما َب َدا لك يف البداية كما لو �أنه دون �أحالمك‬
‫خططت له وما‬
‫َّ‬ ‫وطموحاتك‪ ،‬ثم فهمت بالتدريج �أنه كان �أف�ضل من كل ما‬
‫حلمت به‪.‬‬
‫َ‬
‫فتحا مبي ًنا يف احلقيقة‪ ،‬لكنك ت�صورتَ �أنه جمرد هدنة ب�شروط‬ ‫كان ً‬
‫مهينة‪.‬‬
‫قد يحدث هذا يف ارتباطاتنا ال�شخ�صية‪ ،‬نحلم ب�شخ�ص مبوا�صفات‬
‫َُ‬
‫أحالمنا ال ت َّقق على �أر�ض الواقع‪ ،‬وقبل �أن يفوت الوقت‪،‬‬ ‫معينة‪ ،‬لكن �‬
‫نقبل مبوا�صفات نعتقد �أنها �أقل من �أحالمنا‪ ،‬نقبل ب�شخ�ص لي�س على قدر‬
‫طموحتنا‪ ،‬ولكن كحل و�سط؛ ع�صفور يف اليد‪.‬‬

‫‪- 320 -‬‬


‫سورة الفتح‬

‫ثم نكت�شف �أن هذا ال�شخ�ص كان فوق كل �أحالمنا الأوىل‪ ،‬و�أنه كان‬
‫فتحا مبي ًنا لنا‪ ،‬بينما ت�صورناه � ًأول «هدنة‬
‫�أف�ضل لنا مبا ال يقا�س‪ ،‬و�أنه كان ً‬
‫ب�شروط جمحفة»‪.‬‬
‫ميكن �أن يحدث هذا كث ًريا يف حياتنا‪ ،‬مع خيارات الدرا�سة والعمل‬
‫واالرتباط والق�ضايا امل�صريية الأخرى‪.‬‬
‫البع�ض ي�ستطيع �أن ينظر �إىل الوراء ليق ِّيم ما حدث‪ ،‬فيكت�شف �أن ما م َّر‬
‫كان ملي ًئا ب�إيجابيات مل َت ُد ْر يف باله يوم ندب حظه على ما حدث‪.‬‬
‫حبي�س حلظة الندب‪ ،‬حلظة «مل يكن هذا ما‬ ‫َ‬ ‫البع�ض الآخر �سيبقى‬
‫�أريده»‪ ،‬حلظة «�أ�ستحق �أف�ضل من هذا»‪.‬‬
‫حبي�سا يف دور ال�ضحية املظلومة‪ ،‬و�سيعجز عن ر�ؤية ما حدث‬ ‫�سيبقى ً‬
‫ب�سياقات �أو�سع‪.‬‬
‫�سورة الفتح ت�أخذك من يديك لتع ِّلمك كيف تخرج من هذه اللحظة‪� ،‬أن‬
‫أ�صل‪� ،‬أو �أن تكون جمرد حلظة متر بها يف طريقك‬ ‫حتاول جت ُّنب دخولها � ً‬
‫�إىل الن�ضج‪.‬‬
‫كيف تدلك ال�سورة على هذا؟‬
‫ال�سكينة هي طريق ذلك � ًأول‪.‬‬
‫َ ً ََ َ‬ ‫ُْ ْ َ َْ ُ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ‬
‫ني ل َِيدادوا إِيمانا مع إِيمان ِِه ْم َوهلل‬ ‫}هو الِي أنزل السكِينة ِف قل ِ‬
‫وب المؤ ِمنِ‬
‫َْ‬
‫ات َوال ْر ِض َو َك َن اهلل َعل ًِيما َحك ًِيما{ (الفتح‪.)4 :‬‬ ‫ُ ُ ُ َّ َ َ‬
‫جنود السماو ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫}لَ َق ْد َر ِ َ‬
‫ني إِذ يبايِعونك تت الشج َرة ِ فعل َِم ما ِف قلوب ِ ِه ْم‬ ‫ض اهلل ع ِن المؤ ِمنِ‬
‫ََ َ ُ َْ ً َ ً‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ‬
‫فأن َزل السكِينة علي ِه ْم َوأثابه ْم فتحا ق ِريبا{ (الفتح‪.)18 :‬‬

‫‪- 321 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ ََُ‬ ‫ُ ُ ُ ْ َ َّ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ‬ ‫ْ َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫الا ِهلِي ِة فأن َزل اهلل سكِينته‬ ‫ِين كف ُروا ِف قلوب ِ ِهم ال ِمية حِية‬‫}إِذ جعل ال‬
‫َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ولِ وع المؤ ِمنِني وألزمهم كِمة اتلقوى وكنوا أحق بِها وأهلها وكن اهلل‬ ‫ع َرس ِ‬
‫ُ ِّ َ ْ َ ً‬
‫ش ٍء علِيما{ (الفتح‪.)26 :‬‬ ‫بِكل‬

‫�سورة الفتح هي �أكرث �سورة وردت فيها مفردات «ال�سكينة»‪.‬‬


‫وال ميكن �أن يكون هذا �صدفة‪.‬‬
‫ال�سكينة هي مفتاح الفتح الأول‪ ،‬ال�سكينة التي هي الطم�أنينة واال�ستقرار‪.‬‬
‫�أن ترتك اجلزع والعواطف امل�ضطربة يف ر�ؤية وتف�سري ما مير بك من‬
‫�أحداث‪ ،‬هو �أول خطوة يف �إمكانية فهم �إمكانات الفتح فيها‪ ،‬يف ر�ؤية ما ال ‬
‫ميكن ر�ؤيته يف جزع اللحظة الأوىل‪.‬‬
‫بعد ال�سكينة‪� ،‬سيكون هناك عقد بيع عليك �أن تذهب لتوقيعه‪.‬‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ‬ ‫َْ َ َْ‬ ‫َُ‬ ‫َّ َّ َ ُ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫ِيه ْم فمن نكث فإِنما‬ ‫}إِن الِين يبايِعون َك إِنما يبايِعون اهلل يد اهلل فوق َأيد ِ‬
‫ْ َ ً‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ َ َْ ُ‬ ‫َْ ُ ُ ََ َْ‬
‫ينكث ع نف ِس ِه َومن أ ْوف بِما عهد عليه اهلل فسيؤتِي ِه أج ًرا ع ِظيما{ (الفتح‪.)10:‬‬

‫عقد البيع هذا هو ال َب ْي َعة‪ ،‬عهد تقطعه على نف�سك مع نف�سك �أمام اهلل‪،‬‬
‫لي�س لديك فر�صة �أن ت�ضع يدك على يديه ال�شريفتني‪ ،‬لكن هناك فر�صة‬
‫�أن تعاهد قيمه ور�سالته‪ ،‬هذا ال يقل �أهمية عن و�ضع يدك حتت يديه‬
‫ال�شريفتني‪ ،‬ما دمت �صاد ًقا يف ذلك‪.‬‬
‫هنا بعد ال�سكينة‪ ،‬عندما تعاهد قيمه‪ ،‬يكون ذلك عهدً ا على موا�صلة‬
‫الطريق‪ ،‬على رف�ض الي�أ�س‪ ،‬على حماولة ر�ؤية ما هو �إيجابي‪.‬‬
‫ُُ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫}لَ َق ْد َر ِ َ‬
‫ني إِذ يبايِعونك تت الشج َرة ِ فعل َِم ما ِف قلوب ِ ِه ْم‬ ‫ض اهلل ع ِن المؤ ِمنِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ‬
‫السك َِين َة َعل ْي ِه ْم َوأث َاب ُه ْم ف ْت ًحا ق ِر ًيبا{ (الفتح‪.)18 :‬‬ ‫فأنزل‬

‫‪- 322 -‬‬


‫سورة الفتح‬

‫ال ميكن �أن نبايعه عليه ال�صالة وال�سالم حتت ال�شجرة‪ ،‬جئنا يف زمان‬
‫�آخر‪.‬‬
‫دوما �أن ن�ستظل ب�شجرة تعليماته وقيمه‪ ،‬و�أن نقف حتتها‬
‫لكن ميكننا ً‬
‫لنبايعه جمددًا‪.‬‬
‫ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫ام إ ْن َش َ‬ ‫َ ُ َ ُ ُّ ْ َ‬ ‫ََ ْ َ َ َ‬
‫اء اهلل‬ ‫جد الر ِ‬ ‫}لقد صدق اهلل رسول الرؤيا بِالق لدخلن المس ِ‬
‫َ ُ َ ِّ َ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ِّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ‬
‫صين ل تافون فعلِم ما لم تعلموا فجعل مِن ِ‬
‫ون‬ ‫د‬ ‫آ ِمنِني مل ِقني رءوسكم ومق ِ‬
‫َ َ َْ ً َ ً‬
‫ذل ِك فتحا ق ِريبا{ (الفتح‪.)27 :‬‬

‫كانت الر�ؤيا هي دخول مكة كهدف نهائي‪ ،‬لكن دون ذلك كانت موانع‬
‫عديدة‪ ،‬لي�ست الع�سكرية �أهمها‪ ،‬بل كانت هناك عوامل �أكرث �أهمية ُت ْغ ِلقُ‬
‫�أمام امل�سلمني حتقيق هذا الهدف النهائي؛ جاهزية امل�سلمني �أنف�سهم‪،‬‬
‫و�ضع قبائل العرب وحتالفاتها ور�ؤيتها للم�سلمني وا�ستعدادها �أو عدم‬
‫ا�ستعدادها للتخلي عن قري�ش‪.‬‬
‫كانت هناك �أبواب مو�صدة كثرية‪.‬‬
‫وكانت هذه الهدنة هي الفتح‪.‬‬
‫فتح الأبواب املو�صدة‪ ،‬الفتح الذي جعل الطريق �إىل الهدف الح ًقا يكون‬
‫�أكرث متهيدً ا‪.‬‬
‫ما َب َدا لبع�ض امل�سلمني �أنه جمحف كان يف احلقيقة نا ًرا هادئة ُت ْن ِ�ضج‬
‫الظروف بل ُت ْن ِ�ضجهم هم �أكرث؛ ليكونوا �أكرث قابلية على حتقيق �أهدافهم‬
‫وفوزهم‪.‬‬

‫‪- 323 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كل ت�أجيل �أو ت�أخري متر به ‪ -‬مهما �أزعجك ‪ -‬ميكن �أن يحتوي على‬
‫مفاتيح ثمينة حتملها يف رحلتك‪ ،‬تفتح به ما يو�صد �أمامك‪.‬‬
‫من هذه املفاتيح‪ :‬خربتك ال�شخ�صية‪ ،‬قدرتك على التحمل‪� ،‬إعادة‬
‫احل�سابات والتقييم‪ ،‬توا�ضعك �أمام الظروف التي ال ت�ستطيع تغيريها‬
‫وو�ضعها يف ح�ساباتك‪.‬‬
‫كل �صاحب جتربة يعرف جيدً ا كم هي مهمة هذه املفاتيح يف حتقيق‬
‫الأهداف‪.‬‬
‫أجيل كهذا‪ ،‬ميكن �أن يكون هو‬ ‫كل �صاحب جتربة يعرف �أن ت�أخ ًريا �أو ت� ً‬
‫الفتح احلقيقي الذي م َّهد للنجاح الح ًقا‪.‬‬
‫َّ ً‬ ‫َ َّ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ َّ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ ُ‬ ‫ُ َ َّ ٌ ُ ُ‬
‫اء بينه ْم ت َراه ْم ُركعا‬ ‫ار رح‬
‫ِ‬ ‫}ممد َرسول اهلل والِين معه أ ِشداء ع الكف‬
‫ْ َ ُّ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ً‬ ‫ُ َّ ً َ ْ َ ُ َ َ ْ ً‬
‫سجدا يبتغون فضل م َِن اهلل َو ِرض َوانا ِسيماه ْم ِف ُوجوه ِِه ْم مِن أث ِر السجو ِد ذل ِك‬
‫َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َْ ََ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َ ُ ُ ْ‬ ‫ََُُْ‬
‫يل ك َز ْر ٍع أخ َرج شطأهُ فآز َرهُ فاستغلظ فاست َوى‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫ال ِ‬
‫مثلهم ِف اتلوراة ِ ومثلهم ِف ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َ ُ َ ُ‬ ‫ُ ْ ُ ُّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ات‬
‫ال ِ‬‫الص ِ َ‬ ‫ِين آمنوا َوع ِملوا‬ ‫ار َوعد اهلل ال‬ ‫جب الزراع ِل ِغيظ ب ِ ِهم الكف‬ ‫ع سوق ِ ِه يع ِ‬
‫ُْ َْ ً َ ْ َ ً‬
‫مِنه ْم مغ ِف َرة َوأج ًرا ع ِظيما{ (الفتح‪.)29 :‬‬

‫تختتم �سورة الفتح بهذه ال�صورة ملحمد والذين معه‪� ،‬صورة الزرع الذي‬
‫بلغ �أعلى �صور ن�ضوجه وزيادته‪ ،‬تذ ِّكرنا ال�صورة هنا ب�أن كل ذلك بد�أ ببذور‬
‫�صغرية‪ ،‬ومر رمبا بظروف �صعبة‪ ،‬واحتاج �إىل وقت طويل و�صرب لكي ينمو‬
‫وي�شتد �إىل �أن ي�صل �إىل زهوته قبل احل�صاد‪.‬‬
‫الفتح مل يكن حلظة احل�صاد‪.‬‬
‫بل يف املرور بكل مرحلة يف وقتها املنا�سب‪ ،‬ويف عدم ا�ستعجال �أي �شيء‬
‫للو�صول �إىل الهدف قبل �أوانه‪.‬‬
‫‪- 324 -‬‬
‫سورة الحجرات ‪49‬‬
‫في حجرة مجاورة‬

‫تبدو �سورة احلجرات كما لو �أنها �ض َّمت �أهم قواعد ال�سلوك والتعامل‬
‫جمتمع �إن�ساين‪ ،‬من �أب�سط َهذه القواعد‪ :‬خف�ض ال�صوت‬ ‫َ‬
‫بني الب�شر يف‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ َ ُ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ت انل ِّ‬
‫ب ول‬ ‫احلديث‪} ،‬يا أيها الِين آمنوا ل َ ترف َعوا أ َصواتكم فو َق ص َو ِ ِ‬ ‫�أثناء‬
‫ْ ُُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ْ ََْ ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََْ‬
‫ون{‬ ‫ته ُروا لُ بِالق ْو ِل كجه ِر بع ِضك ْم ِ َلع ٍض أن تبط أعمالك ْم َوأنت ْم ل تشعر‬
‫(احلجرات‪.)2 :‬‬
‫َ ُْ ْ َ ََُْ‬ ‫َ ْ َ ََ‬
‫ني اقتتلوا‬ ‫ان مِن المؤ ِمنِ‬‫املجتمع‪} ،‬وإِن طائ ِفت ِ‬ ‫ف�ض النزاعات بني �أفراد‬ ‫�إىل ِّ‬
‫َ َّ َ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َّ‬
‫فأصلِحوا بينهما فإِن بغت إِحداهما ع الخرى فقات ِلوا ال ِت تب ِغ حت ت ِفء إِل‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫أ ْم ِر اهلل فإِ ْن ف َاء ْت فأ ْصل ُِحوا بَيْ َن ُه َما بِال َع ْد ِل َوأق ِس ُطوا إ ِ َّن اهلل ُيِ ُّب ال ُم ْق ِس ِط َني{‬
‫(احلجرات‪.)9 :‬‬

‫فقط‬ ‫مرو ًرا بعدم ت�صديق كل ما يقال‪ ،‬وعدم تكذيب كل ما يقال � ً‬


‫أي�ضا‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ٌ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ‬
‫لأن َمن قاله كان فا�س ًقا‪} ،‬يا أيها الِين آمنوا إِن جاءكم فا ِسق بِنب ٍإ فتبينوا أن‬
‫ني{ (احلجرات‪.)6 :‬‬ ‫تُ ِص ُيبوا َق ْو ًما ِبَ َهالَ ٍة َف ُت ْصبِ ُحوا َ َع َما َف َعلْ ُت ْم نَا ِد ِم َ‬
‫أي�ضا تو�صي بعدم ال�سخرية‪ ،‬عدم التنابز بالألقاب‪:‬‬ ‫ال�سورة � ً‬
‫يا م ِْن ُه ْم َو َل ن َِس ٌ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ ٌ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫كونُوا َخ ْ ً‬
‫اء‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا ل يسخر قوم مِن قومٍ عس أن ي‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ َ َ َ ْ َ ُ َّ َ ْ ً ْ ُ َّ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫اب بِئس‬‫مِن ن ِسا ٍء عس أن يكن خيا مِنهن ول تل ِمزوا أنفسكم ول تنابزوا بِاللق ِ‬
‫َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ َّ ُ َ‬ ‫ْ ُ ُْ ُ ُ َْ َ ْ َ‬
‫ان َومن ل ْم يتب فأول ِك ه ُم الظال ِمون{ (احلجرات‪.)11 :‬‬ ‫يم‬
‫ال ِ‬ ‫ِالسم الفسوق بعد ِ‬

‫‪- 325 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ال�سورة تو�صي � ً‬
‫أي�ضا بتجنب الكثري من الظن‪ ،‬ولي�س جتنبه نهائ ًّيا فهذا‬
‫�أمر م�ستحيل ما دام هناك عقل يف حالة عمل‪ ،‬النهي عن التج�س�س‪ ،‬وعن‬
‫الغيبة‪:‬‬
‫َّ َ ْ َ َّ ْ َ َ َّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ‬
‫اج َتنِ ُبوا َكثِ ً‬
‫ريا م َِن الظ ِّن إِن بعض الظ ِّن إِث ٌم َول تَسسوا‬ ‫}يا أيها الِين آمنوا‬
‫َ ْ ً َ َ ْ ُ ُ ُ َ َّ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ ً َ ُ ُّ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ‬
‫ول يغتب بعضكم بعضا أيِب أحدكم أن يأكل لم أخِي ِه ميتا فك ِرهتموه واتقوا‬
‫َ َّ ٌ‬
‫اب َرح ٌ‬ ‫َّ‬
‫ِيم{ (احلجرات‪.)12 :‬‬ ‫اهلل إِن اهلل تو‬

‫بعد هذا القواعد الناظمة للتعامل اليومي بني �أفراد املجتمع الواحد‬
‫ْ َ َ ُْ َ َ َ َْ ُ ُ ُ ً‬ ‫ُ َّ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ‬
‫تقول ال�سورة‪} :‬يا أيها انلَّاس إِنا خلقناك ْم مِن ذك ٍر َوأنث َوجعلناك ْم شعوبا‬
‫ِيم َخب ٌ‬ ‫ََْ ُ‬
‫اك ْم إ َّن اهلل َعل ٌ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ري{ (احلجرات‪.)13 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ارفوا إِن أك َرمك ْم عِند اهلل أتق‬‫وقبائ ِل ِلع‬

‫كما لو �أن ال�سورة تقول لنا ‪ -‬بعد �أن � َّأ�س�ست لقواعد تعاملنا مع بع�ضنا‬
‫‪� :-‬إن التعامل نف�سه يجب �أن يكون مع باقي املجتمعات‪ ،‬و�إننا لن نتمكن من‬
‫ً‬
‫من�ضبطا‪.‬‬ ‫حتقيق تعامل متوازن مع اخلارج �إال �إن كان تعاملنا يف الداخل‬
‫قليل ونت�شابه كث ًريا‪،‬‬‫أي�ضا‪� :‬إننا يف النهاية واحد‪ ،‬نختلف ً‬ ‫�إنها تقول لنا � ً‬
‫ولكننا مت�شابهون‪� ،‬إذا كنا نعيب على فالن �أو نغتاب عال ًنا فنحن يف الوقت‬
‫نف�سه لدينا عيوب ميكن �أن ي� َّؤ�ش َر عليها و�أمور ميكن �أن ُن ْغت َ‬
‫َاب عليها‪.‬‬
‫كلنا ن�سكن يف حجرات متجاورة‪ ،‬كلنا جريان يف نهاية الأمر‪ ،‬مت�شابهون‬
‫يف عيوبنا وميزاتنا مهما حاولنا جتاهل ذلك‪ ،‬وكلما تعارفنا على بع�ضنا؛‬
‫تع َّرفنا على �أنف�سنا �أكرث‪ ،‬واكت�شفنا ت�شابهنا وتقاربنا �أكرث و�أكرث‪.‬‬
‫ميزان واحد هو الذي ميكن �أن يق ِّيم فروقاتنا واختالفاتنا‪ :‬التقوى‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 326 -‬‬
‫سورة الحجرات‬

‫ثمة �شيء �آخر توحي به �سورة احلجرات‪:‬‬


‫َ‬ ‫َّ َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ ُ َ‬
‫ون ‪َ ‬ول َ ْو أ َّن ُه ْم َص َ ُ‬
‫بوا‬ ‫ات أكثهم ل يع ِقل‬ ‫}إِن الِين ينادونك مِن وراءِ الجر ِ‬
‫ور َرح ٌ‬‫يا ل َ ُه ْم َواهلل َغ ُف ٌ‬ ‫َ َّ َ ْ‬
‫ت ُر َج إ َ ْله ْم لَ َك َن َخ ْ ً‬
‫ِيم{ (احلجرات ‪.)5 :4‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫حت‬

‫�سـت�أخذك الآيات �إىل مكان تكون فيه قري ًبا منه عليه ال�صالة وال�سالم‪،‬‬
‫كما لو �أنه يف احلجرة املجاورة �أو يف حجرة قريبة ننتظره فيها‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هو قريب ج ًّدا‪.‬‬
‫كل ما علينا �أن نفعله هو �أن ن�صرب‪.‬‬
‫و�سرناه يخرج �إلينا‪ ،‬و�سيكون خ ًريا لنا‪.‬‬

‫‪- 327 -‬‬


‫سورة ق ‪50‬‬
‫ذاكرة المستقبل‬

‫ثمة �صنف �سينمائي حديث يقوم على نوع من التفاعل بني امل�شاهد‬
‫واملادة التي يراها‪ ،‬ي�سمى هذا ال�صنف باملتفاعل‪ ،‬حيث يختار امل�شاهد‬
‫خيا ًرا من �ضمن عدة خيارات مف�صلية ملا �سيحدث من �أحداث‪ ،‬وت�سري كل‬
‫الأحداث الح ًقا بنا ًء على خيار امل�شاهد‪ ،‬الذي قد يختلف ً‬
‫متاما عن خيار‬
‫م�شاهد �آخر‪ ،‬وبالتايل ف�إن للفيلم جمموعة نهايات خمتلفة بعدد اخليارات‬
‫املطروحة � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫و�ضوحا يف �ألعاب الفيديو‬
‫ً‬ ‫هذا النوع من التفاعل ميكن �أن يكون �أكرث‬
‫التي يختار فيها الالعب الكثري من اخليارات بنف�سه‪.‬‬
‫وبالتايل يحدد م�صريه بنف�سه‪.‬‬
‫***‬
‫ما عالقة هذا كله ب�سورة ق؟‬
‫�سورة ق ‪ -‬دون ت�شبيه ‪ -‬تفعل بنا �شي ًئا مقار ًبا‪.‬‬
‫ت�ضعنا فو ًرا يف لقطة النهاية‪ ،‬وت�ضع �أمامنا خيارين‪ ،‬تختار واحدً ا‬
‫منهما‪.‬‬

‫‪- 328 -‬‬


‫سورة ق‬

‫ثم تقودنا �إىل «الفال�ش باك» الذي يو�صل �إىل اخليار الذي اخرتته‪.‬‬
‫اخرتت؟‬
‫�إذن تعود �إىل خط �سري �أحداث حمدد يف ما�ضيك‪ ،‬ت�سري عليه مبا‬
‫يتنا�سب مع خيارك‪.‬‬
‫تف�شل يف ذلك؟‬
‫تعود �إىل اخليار جمددًا‪ ،‬هل �أنت مت�أكد من �صحة خيارك؟ «الفال�ش ‬
‫باك» اخلا�ص بك يوحي بخيار �آخر‪.‬‬
‫هل �أنت واثق �أنك تريد �أن تكرر اخليار؟ �أم �أنك هذه املرة �ستغري‬
‫ذكرياتك‪� ،‬ستغري حياتك احلالية‪ ،‬ما �سيكون الح ًقا «الفال�ش باك»؟‬
‫ْ َْ‬ ‫َْ ُ ُ َْ َْ ُ َ‬ ‫َََ ْ َ َْ َ ْ َْ َ َْ َ َ ُ ْ ُ‬
‫النسان َونعل ُم ما ت َوس ِوس ب ِ ِه نفسه َون ُن أق َرب إ ِ ْل ِه مِن حب ِل‬
‫}ولقد خلقنا ِ‬
‫ْ‬
‫ال َو ِري ِد{ (ق‪.)16 :‬‬

‫هذا القرب ميكنك �أن تتعامل معه بعدة م�ستويات‪� ،‬أن ت�شعر ب�أمان‬
‫القرب منه عز وجل‪� ،‬أن ت�شعر بحميمية ذكره وقربه‪.‬‬
‫متاما يف حياتك‪،‬‬
‫لكن هل �سيكون الأمر كذلك لو �أنك كنت بعيدً ا عنه ً‬
‫يف الطرف الأبعد‪� ،‬أو على الأقل كنت تعترب نف�سك هكذا؟‬
‫متاما‪.‬‬
‫هنا �سيكون للقرب من حبل الوريد وقع خمتلف ً‬
‫�سيكون مرع ًبا‪.‬‬
‫�سيكون ِذ ْك ُر حبل الوريد هنا مثل فكرة حبل يلتف حول �أوردة عنقك‪.‬‬

‫‪- 329 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َ َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َ ِّ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ‬ ‫} َو َج َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ‬
‫الق ذل ِك ما كنت مِنه تِيد ‪َ ‬ون ِفخ ِف الصورِ ذل ِك‬ ‫ت بِ‬
‫اءت سكرة المو ِ‬
‫َََ َ ٌ َ ٌ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫اءت ك نف ٍس معها سائ ِق َوش ِهيد{ (ق ‪.)21 : 20‬‬ ‫ي ْوم ال َوعِي ِد ‪ ‬وج‬

‫بد�أت امل�شاهد تتواىل �إذن‪ ،‬ها �أنت ت�شاهد نف�سك و�أنت ت�صارع املوت‪،‬‬
‫ر�أيت اللقطة رمبا مع �أحباب لك ور�أيتها على ال�شا�شات‪ ،‬هذه املرة �أنت‬
‫احلبيب املفارق‪� ،‬أو �أنت البطل الذي ميوت على ال�شا�شة‪ ،‬ثم متوت‪ ،‬مل‬
‫متاما‪.‬‬
‫تنطفئ الأ�ضواء كما توقعت‪ ،‬بل حدث �شيء �آخر ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اء َك ف َب َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫َ َْ َْ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ص َك َال ْو َم َحد ٌِيد{‬ ‫ك غ َِط َ‬ ‫}لقد كنت ِف غفل ٍة مِن هذا فكشفنا عن‬
‫(ق‪.)22 :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫}ك ْن َت ِف َغ ْفل ٍة{‪.‬‬
‫وجاءت �سورة ق لتحقنك يف وريدك بحقنة وعي‪ :‬ب�صرك اليوم حديد‪،‬‬
‫وها �أنت تب�صر نف�سك يف لقطة من امل�ستقبل‪.‬‬
‫تب�صر نف�سك �أمام خيارين‪:‬‬
‫َ ْ َ َ ُ ُ ِ َ َ َّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ ْ َ‬
‫يد{ (ق‪.)30 :‬‬ ‫ت وتقول هل مِن ِ ٍ‬
‫ز‬ ‫م‬ ‫}يوم نقول لهنم ه ِل امتل ِ‬
‫َُ ْ َ ََ ُ َ َ ََََْ َ ٌ‬ ‫ْ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُْ ُ‬
‫لينا م ِزيد{ (ق‪.)35 :‬‬‫}ادخلوها بِسلمٍ ذل ِك ي ْوم اللو ِد ‪ ‬لهم ما يشاءون فِيها و‬

‫متاما‪ ،‬تقف �أنت لتقرر‪.‬‬


‫بني مزيدين خمتلفني ً‬
‫َ ْ َ َ َ َْ َ ََْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ‬
‫اخليار ال�صحيح �سيكون ملن؟ }إِن ِف ذل ِك لِك َرى ل ِمن كن لُ قل ٌب أ ْو ألق‬
‫الس ْم َع َو ُه َو َش ِهي ٌد{ (ق‪.)37 :‬‬
‫َّ‬

‫‪- 330 -‬‬


‫سورة الذاريات ‪51‬‬
‫أدوار في حياتك‬

‫نحب دور البطولة‪ ،‬وقد نحلم به‪ ،‬ونخطط لطموحاتنا على مقا�سه‬
‫وح�سب موا�صفاته‪.‬‬
‫وبغ�ض النظر عن ف�شلنا �أو جناحنا يف حتقيق هذا الدور‪ ،‬ف�إن ت�صورنا‬ ‫ِّ‬
‫�أن دور البطولة هو الدور الأف�ضل والأهم فيه م�شكلة كبرية‪.‬‬
‫البطل مهم فقط يف �سياقه‪� ،‬ضمن �أدوار �أخرى مت ِّكنه من �إبراز بطولته‪،‬‬
‫لو ُح ِذ َف ْت �أدوار الآخرين؛ ملا �أ�صبح ً‬
‫بطل‪.‬‬
‫�سورة الذاريات ت�أخذنا �إىل هذه احلقيقة الأ�سا�سية التي يتعرث كثريون‬
‫منا قبل �أن يتقبلوها‪ ،‬حقيقة �أن الأدوار يجب �أن ُت َو َّزع‪ ،‬و�أن كل امل�شاريع‬
‫الكبرية التي تخدم النا�س وتعمر الأر�ض ال ميكن �أن حتدث �إال بوجود توزيع‬
‫للأدوار على نحو يجعل الكل �شركاء يف جناح امل�شروع‪ ،‬ال بطل واحد‪ ،‬وال ‬
‫قائد �أوحد‪.‬‬
‫َ ْ ُ َ ِّ َ‬ ‫ات ي ُ ْ ً‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات‬
‫سا ‪ ‬فالمقسم ِ‬ ‫الارِي ِ‬ ‫ت ِوق ًرا ‪ ‬ف‬
‫الامِل ِ‬ ‫ات ذ ْر ًوا ‪ ‬ف‬
‫}واذلارِي ِ‬
‫َْ‬
‫أم ًرا{ (اذلاريات ‪.)4 :1‬‬

‫كل امل�شاريع ‪ -‬حتى ال�شخ�صية منها ‪ -‬تبد�أ ببذرة‪ ،‬بفكرة ب�سيطة‪،‬‬


‫والبذرة مهمة حت ًما‪ ،‬لكنها يف النهاية مرحلة �أوىل مبكرة‪ ،‬و�صاحب الفكرة‪.‬‬
‫‪- 331 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫‪ -‬البذرة ‪ -‬لي�س هو بال�ضرورة من يقوم بكل املراحل الأخرى‪ ،‬قد يكون‬


‫متيزه يف الفكرة فقط‪ ،‬ولن يكون بذات التميز يف املراحل الأخرى‪.‬‬
‫حتتاج البذرة �إىل من يحملها‪ ،‬من يحميها‪ ،‬يوفر لها الظروف املنا�سبة‬
‫لكي تنمو وتكرب وي�شتد عودها‪ ،‬مرحلة «احلامالت وق ًرا» التي ُت َف َّ�سر عاد ًة‬
‫ب�أنها ال�سحب التي حتمل املطر‪ ،‬ميكن �أن تت�ضمن توفري الدعم املادي‬
‫واللوج�ستي والب�شري واملعريف‪ ،‬وكل ما حتتاجه البذرة وهي تغادر كونها‬
‫بذرة �إىل �أن تكون نبتة ت�شق الأر�ض وتتطلع �إىل ال�سماء‪.‬‬
‫لكن هذا امل�شروع ال ميكن �أن ينجح دون منفذين‪ ،‬مرحلة «اجلاريات‬
‫ي�س ًرا» والتي ُت َف َّ�سر عاد ًة ب�أنها ال�سفن التي حتمل الثمار‪ ،‬هي مرحلة املنفذين‬
‫الذين قد يكونون يف �أحيان كثرية جنودًا جمهولني يعتقدون �أن �أدوارهم‬
‫عادية ميكن �أن ي�ؤديها �أ�شخا�ص عاديون‪ ،‬لكن هذا ال�شخ�ص العادي يف‬
‫حقيقته جزء ال ميكن اال�ستغناء عنه يف جناح هذا امل�شروع‪ ،‬نعي�ش موجة‬
‫تنتق�ص من ال�سيد عادي وال�سيدة عادية‪ ،‬وتطلب من اجلميع �أن يكونوا‬
‫قادة ورياديني وعمالقة ومردة‪ ،‬لكن هذا عدا عن كونه غري منطقي ف�إنه‬
‫م�ضر؛ لأن ال�شخ�ص العادي ال يقل �أهمية يف دوره عن القائد والريادي‬
‫حتى لو مل يكن يخطف الأ�ضواء مثلهما‪ ،‬م�ضر لأن اختفاء ال�شخ�ص العادي‬
‫‪ -‬على فر�ض �إمكانية حدوث ذلك ‪� -‬سي�صيب امل�شروع يف مقتل‪.‬‬
‫توزيع الأدوار وتق�سيمها هو من �صلب وظيفة هذا القيادي الذي يحتاجه‬
‫امل�شروع‪ ،‬وهذه هي مرحلة «املق�سمات �أم ًرا»‪ ،‬مرحلة القيادة التي جتمع‬
‫�أجزاء امل�شروع ومت�سك بدفته نحو الهدف‪.‬‬

‫‪- 332 -‬‬


‫سورة الذاريات‬

‫�أربع مراحل �إذن‪ ،‬حتدِّ ثنا عنها �سورة الذاريات لأجل حتويل �أهدافنا‬
‫و�أحالمنا �إىل «�أمر واقع»‪.‬‬
‫بهذه الطريقة ميكننا �أن نرى كل الق�ص�ص التي �أوردتها ال�سورة‪:‬‬
‫(�إبراهيم ومالئكة الب�شرى له‪ ،‬والعذاب لقوم لوط‪ ،‬ق�صة مو�سى وفرعون‪،‬‬
‫ق�صة نوح وقومه‪ ،‬وعاد وقومه) كلها من خالل منظار توزيع الأدوار‪،‬‬
‫رمبا ال نعرف كيف حدث التوزيع‪ ،‬لكن يف كل هذه الق�ص�ص كانت هناك‬
‫دوما للأنبياء يف‬
‫مق�سمات)‪ ،‬القيادة كانت ً‬
‫(ذاريات‪ ،‬حامالت‪ ،‬جاريات‪ِّ ،‬‬
‫هذه الق�ص�ص‪ ،‬لكن البذرة مل ت�أت منهم‪ ،‬بل ا�ستلموها من رب العاملني‪،‬‬
‫وهناك كان َمنْ ق َّدم لها احلماية والدعم‪ ،‬وكان هناك َمنْ حملها ون َّفذ‬
‫تعليماتها‪.‬‬
‫كل ق�ص�ص امل�شاريع الناجحة ‪ -‬حتى الدنيوية منها ‪ -‬حتمل هذه‬
‫املالمح الأ�سا�سية الأربعة‪.‬‬
‫وق�ص�ص الف�شل ت�ضم اخللل يف واحدة من هذه املالمح على الأقل(((‪.‬‬
‫***‬
‫ولي�س �صدفة �أبدً ا �أن تكون هذه ال�سورة حتديدً ا هي التي جاءت فيها �آية‬
‫مفتاحية تو�ضح الهدف من خلقنا‪.‬‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ‬
‫ون{ (اذلاريات‪.)56 :‬‬
‫النس إِل ِلعبد ِ‬ ‫الن و ِ‬‫}وما خلقت ِ‬
‫ما عالقة هذا بالذاريات ذر ًوا واحلامالت وق ًرا واجلاريات ي�س ًرا‬
‫واملق�سمات �أم ًرا؟‬
‫ِّ‬
‫((( للمزيد عن سورة الذاريات كتاب سرية خليفة قادم للمؤلف‪.‬‬
‫‪- 333 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ال�سورة ت�شري لنا �أن الهدف من خلقنا �أو�سع بكثري من �أن ُي ْخت ََ�ص َر‬
‫بقالب واحد �أو دور واحد كما يتوهم كثريون‪.‬‬
‫العبادة هنا لي�ست مقت�صرة على املعنى ال�شعائري‪ ،‬املعنى ال�شعائري‬
‫حم�سوم �ضمن مفهوم الإميان نف�سه‪� ،‬أما العبادة ‪ -‬هدف اخللق وامتحانهم‬
‫‪ -‬فهي �أفق وا�سع متدرج‪ ،‬تت�ضمن كل م�شاريع الإعمار والعدل والتوازن‬
‫القائمة على القيم التي �أنزلها اهلل يف كتبه‪ ،‬وال ُي ْ�ش َت َُط فيها �أن تكون‬
‫البطل اخلارق الفاحت‪� ،‬أو القائد الفذ الأوحد‪� ،‬أو �صاحب الفكرة البذرة‬
‫العبقرية‪.‬‬
‫ميكنك �أن تكون �أ ًّيا من ه�ؤالء‪� ،‬أو �أن تكون واحدً ا من املنفذين‪ ،‬اجلنود‬
‫املجهولني الذين لوالهم ملا كان هناك �أي م�شروع من الأ�سا�س‪.‬‬
‫ميكنك �أن جتد دو ًرا لك يف �أي مكان يف م�شروع كهذا‪.‬‬
‫َّ َ‬ ‫ُ ْ َََ ُْ ُ َ‬ ‫َ َُْ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ ُْ‬ ‫َ َْْ‬
‫صون ‪َ ‬و ِف السماءِ‬ ‫}و ِف الر ِض آيات ل ِلموقِنِني ‪ ‬و ِف أنف ِسكم أفل تب ِ‬
‫ُْ ُ َ ُ َ ُ َ‬
‫ِرزقك ْم َوما توعدون{ (اذلاريات ‪.)22 :20‬‬

‫‪- 334 -‬‬


‫سورة الطور ‪52‬‬
‫أسئلة االمتحان مسربة‬

‫ثمة جبل وكتاب‪.‬‬


‫و�سقف �شاهق وبيت عامر‪.‬‬
‫وهناك � ً‬
‫أي�ضا بحر مرتامي الأطراف غام�ض ومهيب ككل البحار‪.‬‬
‫وهناك �أنت‪ ،‬بني كل هذا‪.‬‬
‫ال تعرف ما تفعل‪.‬‬
‫***‬
‫ً‬
‫م�شو�شا‪ ،‬ما كل‬ ‫كما لو �أنك ر�أيت كل هذا يف منام‪ ،‬وا�ستيقظت حائ ًرا‬
‫هذا؟‬
‫وت�أخذ �سورة الطور بيدك لتف�سر لك هذا املنام الذي ميكن �أن يكون‬
‫ق�صة حياتك‪.‬‬
‫***‬
‫�أما اجلبل فهو جبل الطور‪ ،‬اجلبل الذي ا�ستلم فيه �شريعته‪.‬‬
‫اجلبل هنا رمز لل�شريعة‪ ،‬ميكن لل�شريعة �أن جتعلك مثل اجلبل يف قوته‬
‫و�صموده وعلوه‪.‬‬
‫‪- 335 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ويف كل ما ميكن �أن يكون فيه من كنوز‪.‬‬


‫�أما الكتاب فهو كتابك‪ ،‬الكتاب الذي يروي �سريتك الذاتية‪ ،‬بعبارة‬
‫�أخرى‪ :‬كتاب �أعمالك‪.‬‬
‫كم يختلف هذا الكتاب عن ال�شريعة «اجلبل»؟ كم اقتديت بها يف‬
‫حياتك؟ وكم خالفتها؟ هذا �س�ؤال �أنت تعرف جوابه دون �سواك‪.‬‬
‫وال�سقف املرفوع هي هذه ال�سماء التي تبدو لك بال حدود‪ ،‬هل ترى كم‬
‫هي بعيدة؟ ميكن لهذه ال�سماء �أن تكون �سقف طموحاتك وحدود �إمكاناتك‪،‬‬
‫ميكنك �أن تنطلق دون كوابح‪.‬‬
‫لكن ال تن�س �أبدً ا‪ ،‬مهما ارتفعت‪ ،‬هذا «البيت املعمور»‪ ،‬هذا البيت الذي‬
‫دوما‪ ،‬البيت هو املعيار احلقيقي‬
‫يجب �أن ت�ساهم يف جعله «عام ًرا معمو ًرا» ً‬
‫الذي يتَحن فيه ارتفاعك بال حدود وال �سقف‪ ،‬مهما ارتفعت �إذا مل ينعك�س ‬
‫ُْ‬
‫هذا االرتفاع يف زيادة متانة و�صالبة البيت‪ ،‬الأ�سرة‪ ،‬ف�إن هذا االرتفاع كان‬
‫جمرد �صعود �إىل هاوية‪.‬‬
‫كمن ت�سلق اجلبل ال�شاهق ليلقي بنف�سه من قمته‪.‬‬
‫وكذلك يفعل الكثريون مع جبل ال�شريعة بطريقة �أو ب�أخرى‪.‬‬
‫ْ‬
‫َ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ور{ (الطور‪)6 :‬؟‬
‫}والح ِر المسج ِ‬
‫البحر هو هذه احلياة التي نعي�ش فيها جمي ًعا‪ ،‬حتا�صرنا جمي ًعا كما‬
‫يحا�صر املحيط جزيرة منفردة‪ ،‬واحلياة كما البحر‪� ،‬إن ُخ َّ‬
‫�ضت فيها دون‬
‫غرقت فيها و�أغرقتك‪.‬‬
‫معرفة بال�سباحة‪َ ،‬‬

‫‪- 336 -‬‬


‫سورة الطور‬

‫تدربت جيدً ا قبل امل�ضي فيه‪ ،‬ميكن �أن تكت�شف فيه الكنوز والرثوات‪.‬‬
‫و�إن َ‬
‫***‬
‫كان هذا هو ت�أويل منامك‪ ،‬ميكن �أن جتد فيه ق�صة حياتك كلها لو‬
‫دققت‪ ،‬بالأحرى ميكن �أن جتد فيه ما يختزل �أهم ما يف حياتك‪ ،‬ما يحدد‬
‫َ‬
‫م�صريك بعدها‪.‬‬
‫عندما ُت ْق ِبل على حياتك و�أنت حتمل هذه املعاين يف وعيك (ويف ال ‬
‫وعيك) ف�أنت تعلم جيدً ا طريق حياتك‪ ،‬حتى لو ُت ْه َت ً‬
‫قليل وتعرثت‪� ،‬أنت‬
‫تعرف الطريق بطريقة ما‪ ،‬رمبا دون تفا�صيل‪.‬‬
‫�أما الذين ال يعرفون هذه املعاين‪ ،‬فحياتهم قد تكون بال جبل‪� ،‬أو قد‬
‫تكون على كومة من الرمال يظنونها ً‬
‫جبل‪ ،‬وكتابهم ُي ْكتَب كما اتفق‪،‬‬
‫وال�سقف كلما ارتفع �ضعفت �أ�سا�سات البيت‪ ،‬والبحر مغامرة غري م�أمونة‬
‫العواقب‪ ،‬ورحلة احلياة قد تكون مثل رحلة روبن�سون كروزو‪.‬‬
‫وعندما حتني حلظة احلقيقة‪ ،‬لن يفهموا ما �سيحدث‪ ،‬لن يتمكنوا من‬
‫فهم هذا امل�شهد الذي وجدوا �أنف�سهم فيه‪.‬‬
‫ََ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ‬
‫اءلون{ (الطور‪.)25 :‬‬ ‫}وأقبل بعضهم ع بع ٍض يتس‬

‫�أما �أنت‪.‬‬
‫فقد ِن ْل َت فر�صة �أن َّ‬
‫تطلع على �أهم الأ�سئلة قبل دخولك االمتحان‪.‬‬

‫‪- 337 -‬‬


‫سورة النجم ‪53‬‬
‫في أعالي التجربة‬

‫ت�أخذك �سورة النجم على ظهر جنم‪ ،‬لي�س وهو يهوي‪ ،‬بل وهو يرتقي‪.‬‬
‫ت�أخذك يف رحلة تقربك من الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬يف واحدة‬
‫من �أهم و�أعلى حلظات ارتقائه وقربه من الوحي املنزل عليه‪.‬‬
‫هذا القرب منه وهو يف هذه احلالة‪ ،‬يكاد ي�شبه رحلة �إىل النجوم‬
‫البعيدة يف جمرات ق�ص َّية‪ ،‬وهي رحلة ‪ -‬يف الوقت نف�سه ‪ -‬داخل نف�سه‬
‫الكرمية بينما هو يتفاعل مع الوحي ال�شريف‪.‬‬
‫بني هذا النجم وتلك التجربة الفريدة‪ ،‬ت�أخذك ال�سورة و�أنت تلتقط‬
‫�أنفا�سك ب�صعوبة‪ ،‬رمبا كان �أق�صى �أمنياتك �أن تقرتب منه يف �أحواله‬
‫العادية‪.‬‬
‫لكن ال�سورة ت�أخذك �إليه وهو يف رحلة املعراج‪ ،‬جتعلك تتم�سك به بينما‬
‫العامل كله يهوي �أمام عينيك‪ ،‬و�أنت ترتقي معه �أف ًقا بعد �أفق‪� ،‬إىل الأفق‬
‫الأعلى‪.‬‬
‫ُ ََ‬ ‫ُ ْ ُُ ْ َ َْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ ُ َ ُ ْ ُ‬
‫}علمه شدِيد الق َوى ‪ ‬ذو م َِّر ٍة فاست َوى ‪َ ‬وه َو بِالف ِق الع ‪ ‬ث َّم دنا‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ََ َ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ َْ َ ْ َ َْ َ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫ي أ ْو أدن ‪ ‬فأ ْوح إِل عب ِده ِ ما أ ْوح ‪ ‬ما كذب‬ ‫فتدل ‪ ‬فكن قاب قوس ِ‬

‫‪- 338 -‬‬


‫سورة النجم‬

‫َْ ْ‬ ‫َ ًَ ُ ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َََُ ُ َُ ََ َ َ‬ ‫ُْ َ ُ َ َ‬


‫ارونه ع ما ي َرى ‪َ ‬ولقد َرآهُ ن ْزلة أخ َرى ‪ ‬عِند ِسد َرة ِ‬ ‫الفؤاد ما َرأى ‪ ‬أفتم‬
‫ِّ ْ َ َ َ ْ َ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ ْ‬ ‫َُْْ َ‬
‫المنته ‪ ‬عِندها جنة المأ َوى ‪ ‬إِذ يغش السد َرة ما يغش{ (انلجم ‪.)16 :5‬‬

‫خ�ضم الرحلة‪ ،‬ال تكاد متيز �إن كان احلديث هنا عن الر�سول‬ ‫و�أنت يف ِّ‬
‫‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪� -‬أم عن مالك الوحي جربيل؟ َم ِن الذي دنا‬
‫فتدل؟ َم ِن الذي كان قاب قو�سني �أو �أدنى؟ النور املت�سرب من الآيات يكاد‬ ‫َّ‬
‫يعميك عن بع�ض تفا�صيل الأجوبة‪ ،‬ال ي�ستطيع ب�صرك �أن يركز على كل‬
‫ص‬ ‫اغ ْ َ‬
‫ال َ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫�شيء هنا‪ ،‬لكن يكفي �شالل النور املنبعث هنا لكي تعرف �أنه }ما ز‬
‫أي�ضا �أن �أي حديث عن �إله �آخر من تلك‬ ‫َو َما َط َغ{ (انلجم‪ ،)17 :‬وتعرف � ً‬
‫الأ�صنام املقد�سة‪� ،‬أو من مفاهيم مادية تقول‪« :‬ال �إله» و ُت َع َامل كما لو �أنها‬
‫�آلهة يف هيكل العلموية املزعوم‪� ،‬أي حديث �آخر ال ميكن �أن ينبثق منه �شالل‬
‫َ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َّ َ ْ ُ‬
‫الة‬ ‫متاما‪} ،‬أف َرأيت ُم اللت َوالع َّزى ‪ ‬ومناة اثل ِ‬
‫نور مماثل‪ ،‬قلبك يعرف هذا ً‬
‫ُْْ‬
‫الخ َرى{ (انلجم ‪.)20 :19‬‬

‫كم تبدو كل تلك الأوثان‪ ،‬وكل الن�سخ املعا�صرة منها‪ ،‬هزيلة وتافهة �أمام‬
‫جتربة قرب نب�صرها بقلوبنا! كم يبدو كل ما ميكن �أن ُي َرى بالعني تاف ًها وال ‬
‫معنى له �أمام ما ال ُي ْد َرك بالب�صر ولكن ُي ْ�ست َْ�ش َع ُر بالقلب! ب�شيء ال ميكنك‬
‫متاما‪ ،‬ولكن ال ميكنك �أن جتادله � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬ ‫تف�سريه وفهمه ً‬
‫بينما تكاد الرحلة تنتهي‪ ،‬وبعدما ا�ستهلكك هذا النور و�أمدك بطاقة‬
‫احلياة يف الوقت نف�سه‪ ،‬تهم�س �سورة النجم بحقائق �أ�سا�سية عليك �أن‬
‫حتملها يف رحلتك يف احلياة‪.‬‬

‫‪- 339 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫َْ‬ ‫َ ْ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬


‫اءوا بِما ع ِملوا َو ي ِز َي‬ ‫ات َوما ِف ال ْر ِض ِلج ِزي الِين أس‬ ‫}وهلل ما ِف السماو ِ‬
‫َ‬
‫َ َّ َّ َ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ْ‬ ‫ُْ ْ َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ‬
‫الث ِم َوالف َواحِش إِل اللم َم إِن‬ ‫َِ‬ ‫ِر‬ ‫ئ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ون‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ِين‬ ‫ال‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫الِين أحس ِ‬
‫ب‬ ‫وا‬ ‫ن‬
‫َ ْ َ ْ ُ ْ َ َّ ٌ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ‬
‫ون‬ ‫جنة ِف بط ِ‬ ‫ربك وا ِسع المغ ِفرة ِ هو أعلم بِكم إِذ أنشأكم مِن الر ِض وإِذ أنتم أ ِ‬
‫ُ َّ َ ُ َ َ ُ ُّ َ ْ ُ َ ُ ُ َ ْ َ َ َّ َ‬
‫أمهات ِك ْم فل ت َزكوا أنفسك ْم ه َو أعل ُم بِم ِن اتق{ (انلجم ‪.)32 :31‬‬
‫َ َّ َ ْ َ ُ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫} َأ َّل تَز ُر َو َ ٌ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ان إِل ما سع ‪َ ‬وأن سعيه‬ ‫ازرة ِوزر أخرى ‪ ‬وأن ليس ل ِِلنس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َّ ُ ُ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫ُ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫س ْوف ي َرى ‪ ‬ثم يزاه الزاء الوف ‪ ‬وأن إِل ربك المنته ‪ ‬وأنه هو أضحك‬
‫ْ‬ ‫َّ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫َ َ َّ ُ َ َ َ َّ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫ََْ َ‬
‫ي اذلك َر َوالنث ‪ ‬مِن‬ ‫ِ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫الز‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ات‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ى‬ ‫ك‬ ‫وأب‬
‫َّ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ َ َ ْ َّ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ َ ُْ َ‬
‫نطف ٍة إِذا تمن ‪َ ‬وأن علي ِه النشأة الخ َرى ‪َ ‬وأنه ه َو أغن َوأقن ‪َ ‬وأنه ه َو‬
‫َ َّ ُ َ ْ َ َ َ ً ْ ُ َ‬ ‫ُّ ِّ ْ‬
‫َرب الشع َرى ‪َ ‬وأنه أهلك عدا الول{ (انلجم ‪.)50 :38‬‬

‫هنا نحن �أمام ر�ؤية �شاملة تبد�أ منك كفرد‪ ،‬فرد واحد �سيتحمل‬
‫م�س�ؤوليته و�سعيه و�سيجازى على �أفعاله �شخ�ص ًّيا دون �أن يتحمل عبء �أفعال‬
‫الآخرين‪ ،‬ال تزر وازرة وزر �أخرى‪ ،‬عليك بنف�سك � ًأول‪ ،‬هذا هو الدر�س الأول‬
‫الذي ميكن فهم كل الدرو�س الأخرى من خالله‪ ،‬لن حتمل �أثقال غريك‪،‬‬
‫متاما كيف يف�صل بني‬
‫ولن يحمل غريك �أثقالك‪ ،‬والذي �سيحا�سبك يعرف ً‬
‫�أثقالك و�أثقال �سواك‪.‬‬
‫ولن ينفي هذا وجود جزء من الثقل ومن امل�س�ؤولية التي عليك �أن حتملها‬
‫جتاه جمتمعك �أو حميطك‪ ،‬لذلك فـ «ال تزر وازرة وزر �أخرى» تلتحم بـ «�أنه‬
‫�أهلك عادًا الأوىل»‪ ،‬الأمور يف النهاية تتداخل و�أنت و�أوزارك لن تعي�ش ‬
‫يف �أنبوبة مفرغة من الهواء‪� ،‬سيكون هناك ت�أثريات من املحيط وعليك‬
‫باملقابل �أن ت�ؤثر فيه‪ ،‬لكن هذا ال ينفي �أن الدر�س الأول الذي ُت ْد ِخله �سورة‪.‬‬

‫‪- 340 -‬‬


‫سورة النجم‬

‫النجم فيك بعد �أن جعلتك تكون قري ًبا منه يف جتربة املعراج الهائلة وبعد‬
‫�أن �سلبت منك كل �آليات مقاومتك وقابليات جدالك؛ هو در�س م�س�ؤوليتك‬
‫ال�شخ�صية وحت ُّملك لها يف احل�ساب الأخروي‪ ،‬در�س �أن �سعيكم �سوف ُي َرى‬
‫و�سيكون له جزاء‪ ،‬وهو الدر�س الذي �سيكون حجر الأ�سا�س يف كل ال�شريعة‪.‬‬
‫هذا الدر�س ‪ -‬لو ت�أملته ‪� -‬ستجده بديه ًّيا منطق ًّيا‪ ،‬يرتبط بكل النظام‬
‫الذي ُب ِن َي عليه الكون‪.‬‬
‫ومنطقية هذا الدر�س �ستجعلك ت�سجد له‪.‬‬
‫َُْ َ ُ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ َْ ُ َ‬ ‫َْ َُ َ‬ ‫َ‬
‫}أ َف ِم ْن َه َذا ْ َ‬
‫ِيث تعجبون ‪َ ‬وتضحكون َول تبكون ‪َ ‬وأنت ْم سامِدون ‪‬‬‫الد ِ‬
‫ُُْ‬ ‫َ ْ ُ ُ‬
‫فاسجدوا هلل َواعبدوا{ (انلجم ‪.)62 :59‬‬

‫‪- 341 -‬‬


‫سورة القمر ‪54‬‬
‫بديهيات واضحة كالشمس ‪..‬والقمر‬

‫بع�ض الب�شر يتخذون من الإنكار �أ�سلوب حياة‪.‬‬


‫�إنكار كل ما ال يوافق �أهواءهم‪ ،‬كل ما ميكن �أن ي�ش ِّك َل تهديدً ا ملعقداتهم‬
‫ومنط حياتهم‪ ،‬لكل ما هو م�ألوف وم�ستقر بالن�سبة لهم‪.‬‬
‫حتى لو كانت هناك حقائق �صارخة تقول‪� :‬إن كل �شيء يف طريقه �إىل‬
‫الزوال‪� ،‬سي�شيحون بوجوههم وي�ؤكدون �أن كل هذه حم�ض �أكاذيب‪ ،‬الو�ضع‬
‫حتت ال�سيطرة‪.‬‬
‫ممكن �أن يكون الأمر يف �أي �شيء‪� ،‬أن تكون كل الدالئل ت�شري �إىل وجود‬
‫م�شكلة يف �أحد �أوالدك‪� ،‬أو يف عالقة �شخ�صية ت�ستنزفك‪ ،‬ولكنك م�ص ِّمم‬
‫على �أن تخرتع تف�سريات وتربيرات جتعل هذه الدالئل ال قيمة لها‪ ،‬هذه‬
‫�أمور حتدث مع اجلميع‪ ،‬جمرد مرحلة‪ ،‬و�ستمر بالت�أكيد‪.‬‬
‫ممكن �أن يكون الأمر يف ورم بد�أ يظهر بروزه يف ج�سدك‪ ،‬لكنك ال ‬
‫تريد �أن تواجه كل االحتماالت التي ميكن �أن تنتج من الذهاب �إىل طبيب‬
‫لإجراء الفحو�صات؛ لذا تقول لنف�سك‪� :‬إن هذا الربوز كان موجودًا دائ ًما‪،‬‬
‫و�إنه يظهر ويختفي من تلقاء نف�سه منذ �سنوات‪ ،‬كل �شيء طبيعي وحتت‬
‫ال�سيطرة‪.‬‬

‫‪- 342 -‬‬


‫سورة القمر‬

‫وميكن �أن يكون الأمر يف حدث يندلع من حتت رماد ما ت�سميه ا�ستقرا ًرا‬
‫يف بلدك‪ ،‬وهنا يكون كل �شيء م�ؤامرة كونية ت�ستخدم كل �شيء م�ستهدف ًة‬
‫ا�ستقرار بلدك‪.‬‬
‫من العالقات العائلية �إىل ال�سيا�سة الدولية‪ ،‬مرو ًرا بال�صحة ال�شخ�صية‪،‬‬
‫ميكن �أن يواجه بع�ض النا�س احلقائق الوا�ضحة بالإنكار‪ ،‬وباملزيد من‬
‫الإنكار‪.‬‬
‫يكذبون؟ الكذب جزء من املو�ضوع لكنه ال يكفي لتف�سري ما يحدث‪،‬‬
‫رمبا يبد�ؤون بالكذب‪ ،‬لكن بالتدريج ي�صدِّ قون �أنف�سهم‪ ،‬يرتكون لأدمغتهم‬
‫حيل نف�سية عديدة لإ�شعارهم بالأمان‪ ،‬ومن �ضمنها حيلة‬ ‫ممار�سة ً‬
‫«الإنكار»‪.‬‬
‫الإنكار ميكن �أن يجعل النا�س يتجاهلون حقائق وا�ضحة كال�شم�س‪.‬‬
‫�أو كالقمر‪ ،‬حتى لو ان�شقَّ �أمامهم‪.‬‬
‫***‬
‫�أغلبنا تع َّرف يف حياته على هذا النوع من الب�شر‪ ،‬وهم ميار�سون هذا‬
‫النوع من الإنكار (رمبا نكون منهم �أحيا ًنا)‪.‬‬
‫نعرف �أنهم لو �شاهدوا ب�أم �أعينهم ما يخالف �أهواءهم؛ لقالوا‪ :‬مل‬
‫يحدث‪ ،‬مل نر �شي ًئا‪.‬‬
‫ترغب �أن مت�سك بر�ؤو�سهم وتديرها نحو احلدث‪ ،‬تفتح �أعينهم على‬
‫ات�ساعها وتقول لهم‪ :‬انظروا جمددًا‪.‬‬

‫‪- 343 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫�سيقولون لك �أي �شيء‪ :‬خداع ب�صر‪� ،‬سحر‪ ،‬متثيلية‪ ،‬م�ؤامرة‪ ،‬فوتو�شوب‪،‬‬


‫�أي �شيء ي�ساعدهم على تربير الإنكار‪.‬‬
‫حتى لو قيل لهم‪� :‬إن يوم القيامة �سيحدث غدً ا‪ ،‬وهذه عالماته‬
‫بالرتتيب‪ ،‬وبد�أت العالمات بالتحقق‪ ،‬وان�شقَّ القمر بكل عواقب ذلك على‬
‫الأر�ض من في�ضانات وزالزل‪� ،‬سي�صرون على �أن ال عالقة لهذا الأمر بيوم‬
‫القيامة‪ ،‬الأمر جمرد �صدفة‪ ،‬ظاهرة جيولوجية ال عالقة لها بيوم القيامة‬
‫وما تقولون‪.‬‬
‫َ َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ُّ‬ ‫ْ ُ ْ َ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ًَ ُْ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫اءه ْم َوك‬‫} َوإِن ي َر ْوا آية يع ِرضوا َويقولوا ِسح ٌر مست ِم ٌّر ‪ ‬وكذبوا واتبعوا أهو‬
‫ْ ٌَ َ َ ٌ ََ ُْ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ْ َْ َ‬ ‫َََ ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ْ ُ ْ َ‬
‫اءه ْم م َِن النباءِ ما فِي ِه م ْزدج ٌر ‪ ‬حِكمة بال ِغة فما تغ ِن‬ ‫أم ٍر مست ِق ٌّر ‪ ‬ولقد ج‬
‫َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ِ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ش ٍء نك ٍر{ (القمر ‪.)6 :2‬‬ ‫انلُّذ ُر ‪ ‬فتول عنهم يوم يدع ادلاع إِل‬

‫خل�ص مطلع ال�سورة ما يحدث مع ه�ؤالء‪ ،‬مهما �سريون من �أدلة وبراهني‬


‫قاطعة‪ ،‬ف�سيجدون ما يف�سرها على نحو خمتلف‪ ،‬مهما ر�أوا من �أحداث‬
‫�سبق حتذيرهم منها‪ ،‬فهم �سيتجاهلون الدالئل‪ ،‬ومي�ضون يف �إنكارهم‪� ،‬إىل‬
‫�أن ي�أتي يوم ي�أتي فيه هذا الذي �أنكروه ليكون �شي ًئا يواجههم وج ًها لوجه‪.‬‬
‫يف كل ال�سورة �سرنى هذا ال�شي‪� ،‬إنذار‪ ،‬تكذيب و�إنكار‪ ،‬تذكري بالإنذار‪.‬‬
‫ْ َ ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ ْ ْ‬ ‫َ ََْ َ َ َ َ‬
‫سنَا ال ُق ْر َآن ل ِِّذلك ِر ف َهل م ِْن ُم َّدك ٍِر{‬ ‫ُُ‬
‫}فكيف كن عذ ِاب َونذ ِر ‪ ‬ولقد ي‬
‫(القمر ‪.)17 :16‬‬
‫يتكرر الأمر مع قوم نوح وعاد وثمود ولوط و�آل فرعون‪ ،‬الأحداث لي�ست‬
‫مت�شابهة يف تفا�صيلها‪ ،‬فلكل منهم « ُن ُذره» اخلا�صة به‪ ،‬وعذابه املختلف عن‬
‫عذاب الآخرين‪ ،‬ولكن املت�شابه فيها هو يف الداخل‪ ،‬يف �آلية الإنكار التي‬
‫وحدت بني كل هذه الأقوام‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪- 344 -‬‬
‫سورة القمر‬

‫ثم ت�أتيك �آية كما لو كانت تختربك‪.‬‬


‫َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ُّ َ ُّ ُ‬ ‫ِيع ُم ْن َت ِ ٌ‬‫َْ َُ ُ َ َْ ُ َ ٌ‬
‫ادلب َر{ (القمر ‪.)45 :44‬‬ ‫ص ‪ ‬سيهزم المع ويولون‬ ‫}أم يقولون نن ج‬
‫َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ُّ َ‬
‫ادلبُ َر{‪.‬‬
‫ون ُّ‬ ‫}سيهزم المع ويول‬

‫ما �أجمل هذا! ما �أروعه! �أن ترى هذه النهاية ال�سعيدة يف حياتك الدنيا‪.‬‬
‫�أين االختبار يف هذا؟‬
‫االمتحان هو يف �أن تتعامل مع الآية يف �سياقها‪ ،‬ال �أن تتخذها كما لو‬
‫كانت وعدً ا �إله ًّيا قاط ًعا مينح �أعداءك الهزمية يف الدنيا ب�شكل حا�سم‪.‬‬
‫ال‪ ،‬الآية مل تقل ذلك‪ ،‬بل حتدثت عما ميكن فهمه �أنه يخ�ص «كفار مكة»‬
‫حتديدً ا‪ ،‬ورمبا يخ�ص غريهم ورمبا ال‪ ،‬هذا ممكن‪ ،‬لكن �أن تتخذها كما‬
‫لو كانت �آية عامة تخ�ص كل من يقف على املع�سكر الآخر ف�أنت بب�ساطة‬
‫ت�ستعملها يف غري مو�ضعها‪.‬‬
‫لي�س هذا فقط‪.‬‬
‫بل رمبا كنت ت�ستعملها لت�ساعدك يف حالة �إنكار خا�صة بك‪.‬‬
‫رمبا كان الواقع كله ي�شري �إىل �أن الهزمية الدنيوية بعيدة عن مع�سكرهم‪،‬‬
‫بل رمبا هي �أقرب �إليك‪.‬‬
‫لكنك �ستنكر الواقع ودالالته و ُن ُذره‪ ،‬وتقول‪ :‬بل وعدنا اهلل بغري ذلك‪،‬‬
‫َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ُّ َ‬
‫ادلبُ َر{ ال بد �أن يحدث ذلك‪.‬‬ ‫ون ُّ‬ ‫}سيهزم المع ويول‬

‫�سقطت يف فخ �إنكار احلقائق وال ُّن ُذر‬ ‫َّ‬ ‫هنا تكون قد ف�شلت يف االختبار‪،‬‬
‫الذي حذرت َْك منه ال�سورة مرا ًرا وتكرا ًرا‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 345 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫العربة كلها يف �صدقك‪ ،‬يف التعامل مع كل �شيء‪ ،‬مع الواقع املحيط ومع‬
‫نف�سك ومع �آيات اهلل يف كتابه � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ال�صدق‪.‬‬
‫لذلك لي�س غري ًبا �أن تنتهي ال�سورة بال�صدق‪.‬‬
‫َُْ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َّ ْ ُ َّ َ َ َّ َ َ َ‬
‫ِيك مقتد ٍِر{ (القمر‪.)55 :‬‬ ‫}إِن المت ِقني ِف جن ٍ‬
‫ات ونه ٍر ‪ِ ‬ف مقع ِد ِصد ٍق عِند مل ٍ‬

‫‪- 346 -‬‬


‫سورة الرحمن ‪55‬‬
‫عالج نفيس يحتاجه حىت األصحاء‬

‫هذه ال�سورة جل�سة عالج نف�سي �إلزامي يحتاجه الأ�صحاء نف�س ًّيا قبل‬
‫املر�ضى‪.‬‬
‫هذا يف حالة وجود َمنْ هو �صحيح نف�س ًّيا على نحو كامل بينما هو يتفاعل‬
‫مع هذه احلياة املليئة بكل املمر�ضات على �صعيد النف�س واجل�سد‪.‬‬
‫كلنا مر�ضى بطريقة �أو ب�أخرى‪ ،‬بن�سبة ما على الأقل‪ ،‬فينا يتعلق بهذا‬
‫اجلزء منا‪ ،‬النف�س‪.‬‬
‫كلنا؟ فلن ُق ْل‪� :‬أغلبنا لكي نخرج من تهمة التعميم‪.‬‬
‫�أغلبنا بالت�أكيد‪ ،‬بن�سب خمتلفة ومتفاوتة‪.‬‬
‫لذلك ف�أغلبنا نحتاج �إىل جل�سة عالج نف�سي تقدمها �سورة الرحمن‪.‬‬
‫�صحيحا «نف�س ًّيا» مائة باملائة فيمكنك �أن ت�أخذ اجلل�سة‬
‫ً‬ ‫حتى لو كنت‬
‫مثل م�صل مناعة‪( ،‬على فر�ض وجود �شخ�ص كهذا‪ ،‬عل ًما �أن من يعتقد �أنه‬
‫�صحيح نف�س ًّيا �إىل هذه الدرجة يحتاج �إىل جل�سة عالج �أكرث من �سواه)‪.‬‬
‫كلنا بحاجة لهذه اجلل�سة‪ ،‬ن�س ِّلم ر�ؤو�سنا امل�شو�شة املنهكة �إىل �سورة‬
‫تواجه‪ ،‬تعا ِلج‪.‬‬
‫ت�شذب‪ِ ،‬‬‫تنظم‪ِّ ،‬‬‫الرحمن‪ ،‬ونرتكها تت�سلل‪ِّ ،‬‬
‫�إنها �سورة الرحمن‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 347 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ثمة �شيء يف هذه ال�سورة‪ ،‬بل �أ�شياء ت�شدك لت�سمع وتهد�أ‪.‬‬


‫هذه النهاية ال�صوتية املت�شابهة يف �أغلب �آيات ال�سورة الق�صرية (�آن ‪-‬‬
‫ام) جتعل عقل املتلقي يدخل يف حالة هدوء‪ ،‬هنا ال�سورة ال ت�أخذك يف رحلة‬
‫تخطف �أنفا�سك‪ ،‬بل تقول لك‪ :‬ه ِّون على نف�سك‪ ،‬وتطبطب على كتفك‪ ،‬بل‬
‫و�ست�شعر بكلماتها حتتويك كما لو كانت حتت�ضنك‪.‬‬
‫***‬
‫َ َّ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ ََ ْ َْ َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫َّ ْ َ‬
‫اليان{ (الرمحن ‪.)4 :1‬‬ ‫النسان ‪ ‬علمه‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫‪‬‬ ‫آن‬ ‫الرح ُن ‪ ‬علم القر‬ ‫}‬
‫جمرد ذكر ا�سمه الرحمن وارتباط �أغلب نهايات الآيات بحرفني‬
‫م�شابهني لنهاية ا�سم الرحمن‪ ،‬ف�إن هذا يجعل معنى هذا اال�سم العظيم‬
‫يخ ِّيم على ال�سورة كلها‪� ،‬ست�شعر بالرحمن يف ال�سورة كلها رغم �أن لفظها‬
‫ُذ ِك َر مرة واحدة فقط يف كل ال�سورة‪.‬‬
‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫} َعل َم ال ُق ْر َآن ‪َ ‬خل َق ِالن َس َان{‪.‬‬
‫ت�شعر بها كما لو �أنها تعني �أنه تركه عالمة على الطريق‪ ،‬تدل الإن�سان‬
‫على الطريق ال�صواب و�سط مفرتقات الطرق‪.‬‬
‫كما لو �أن الثالثة هنا مرتبطون وظيف ًّيا م ًعا‪( :‬القر�آن‪ ،‬الإن�سان‪ ،‬البيان)‬
‫وبهذا الت�سل�سل‪ ،‬البيان مهارة �إن�سانية يف الفهم والتدبر‪ ،‬دونها لن ميكن‬
‫للإن�سان �أن يعرف عالمات الطريق التي يف القر�آن‪.‬‬
‫ما هو �أول ما �سيفهمه الإن�سان عرب البيان من القر�آن‪ ،‬عالمة الطريق؟‬

‫‪- 348 -‬‬


‫سورة الرحمن‬

‫َ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َّ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫َّ ْ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ‬
‫اء َرفعها‬ ‫ان ‪ ‬والسم‬
‫ان ‪ ‬وانلجم والشجر يسجد ِ‬ ‫}الشمس والقمر ِبسب ٍ‬
‫َ َ َ َ ْ َ َ‬
‫زيان{ (الرمحن ‪.)7 :5‬‬ ‫ووضع ال ِم‬

‫التوازن‪ ،‬كل �شيء يف هذا العامل متوازن وحم�سوب‪ ،‬من النبتة ال�صغرية‬
‫�إىل النجم‪ ،‬كل �شيء مبيزان‪ ،‬حتى ال�سماء‪.‬‬
‫وهذا التوازن هو مفتاح جل�سة العالج النف�سية التي نحتاجها جمي ًعا‪،‬‬
‫والتي تقدمها لنا �سورة الرحمن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َْ‬ ‫َ َّ‬
‫سوا ال ِم َزي َان{‬
‫ت ِ ُ‬ ‫ُ‬
‫ان ‪َ ‬وأقِيموا ال َوزن بِال ِقس ِط َول‬‫َ‬
‫}أل تطغوا ِف ال ِمزي ِ‬
‫(الرمحن ‪.)9 :8‬‬

‫امليزان يف كل �شيء هو مفتاح ال�سالمة النف�سية‪� ،‬أن ت�س َّد حاجاتك‬


‫واحتياجاتك بتوازن‪ ،‬و�أن توازن عالقاتك بنف�سك وبالآخرين من خالل‬
‫ميزان يقي�س بالق�سط‪ ،‬ال تظلم �أحدً ا وال تظلم نف�سك � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬واعمل على‬
‫�أن يعاملك الآخرون بامليزان‪ ،‬امليزان يف كل �شيء‪.‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ‬ ‫َ َ ِّ َ َ ِّ ُ َ ُ َ ِّ َ‬
‫ار ‪َ ‬وخلق‬
‫ِ‬ ‫خ‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫ك‬ ‫ال‬
‫ٍ‬ ‫ص‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ان‬ ‫س‬ ‫ن‬‫ال‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫‪‬‬ ‫}فبِأي آلءِ ربكما تكذب ِ‬
‫ان‬
‫َ ِّ ُ َ ُ َ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ِّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ َّ ْ َ‬
‫ان{ (الرمحن ‪.)16 :13‬‬‫ار ‪ ‬فبِأي آلءِ ربكما تكذب ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ج‬
‫ٍ‬ ‫ار‬
‫الان مِن ِ‬
‫م‬

‫�صيغة اخلطاب باملثنى‪ ،‬ميكن �أن ُت ْف َه َم ب�أنها خطاب عام للإن�س واجلن‪،‬‬
‫ولكن هذا الذي جاء �إىل �سورة الرحمن لي�س ِّلم لها ر�أ�سه املتعب ونف�سه‬
‫املثقوبة مبعارك احلياة اليومية‪� ،‬سيجد �أن اخلطاب باملثنى ينا�سبه‪ ،‬يف‬
‫داخله هناك �شخ�صان يت�صارعان‪� ،‬أو يتنازعانه فيما بينهما‪� ،‬أحيا ًنا تكون‬
‫الغلبة لواحد منهما‪ ،‬و�أحيا ًنا يكون �صراعهما �شديدً ا‪ ،‬و�أحيا ًنا يتناق�شان‬
‫ب�صوت مرتفع طيلة الوقت‪.‬‬

‫‪- 349 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫تذ ِّكرهما ال�سورة بكل ِن َع ِم اهلل عليهما م ًعا‪ ،‬حتى مرج البحرين عندما‬
‫يلتقيان بينهما برزخ ال يبغيان‪ ،‬كل �شيء بامليزان‪ ،‬فب�أي �آالء ربكما ِّ‬
‫تكذبان؟‬
‫وبني النعم التي ت�ستخدمها ال�سورة يف عالجك تقول لك حقيقة �سته ِّون‬
‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ ُ ْ َ َ‬ ‫ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ‬
‫الل ِل‬ ‫ان ‪ ‬ويبق وجه ربك ذو‬ ‫عليك الكثري من �أوجاعك‪} :‬ك من عليها ف ٍ‬
‫َ ْ ْ‬
‫الك َرام ِ{ (الرمحن ‪.)27 :26‬‬
‫و ِ‬
‫كل َمنْ عليها فان يا �صديقي‪ ،‬كل �شيء �سينتهي‪ ،‬كل خالفاتنا ومعاركنا‬
‫وماراثوننا اليومي ومنجزاتنا وف�شلنا وانت�صاراتنا وهزائمنا وخيباتنا‬
‫وع َقدنا‪ ،‬كلها �ستنتهي كما لو مل تكن‪ ،‬فال حتمل همها على‬ ‫و�إحباطاتنا ُ‬
‫نحو خارج طاقتك‪ ،‬خارج التوازن والق�سط‪ ،‬كل من عليها فان‪ ،‬فه ِّون على‬
‫نف�سك‪.‬‬
‫�ست�أخذنا رحلة العالج هذه �إىل العقاب والثواب‪ ،‬ال جماملة يف ذلك‪،‬‬
‫مفتوحا �أكرث �إىل الثواب‪� ،‬آيات و�صف اجلنة‬
‫ً‬ ‫لكنها �سترتك باب الأمل‬
‫�ستكون �أكرث‪ ،‬و�ستكون هناك �ضمنها هاتني‪.‬‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ِّ َ َّ َ‬
‫ان{ (الرمحن‪.)46 :‬‬ ‫}ول ِمن خاف مقام رب ِه جنت ِ‬
‫َّ ْ ْ َ ُ‬ ‫َْ َ َ ُ ْ ْ َ‬
‫الحسان{ (الرمحن‪.)60 :‬‬ ‫ان إِل ِ‬
‫الحس ِ‬ ‫}هل جزاء ِ‬
‫َْ َ َ ْ ْ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ ِّ َ‬
‫الك َر ِام{ (الرمحن‪.)78 :‬‬
‫وتنتهي اجلل�سة ب�آية }تبارك اسم ربك ذِي الل ِل و ِ‬
‫بد�أت بالرحمن‪ ،‬وانتهت بذي اجلالل والإكرام‪ ،‬وبينهما �شعرت بالآيات‬
‫أ�صبحت‬
‫َ‬ ‫حتتويك وحتت�ضنك كما احتواك رحم �أمك ذات حياة �أخرى‪ ،‬ثم �‬
‫ْ ْ‬ ‫َْ َ‬
‫الل ِل َو ِالك َرام{‪.‬‬ ‫بعدها �أكرث قوة على فهم معنى }ذِي‬

‫‪- 350 -‬‬


‫سورة الواقعة ‪56‬‬
‫تسلق طبقي‬

‫بع�ض املعتقدات ال�شعبية املنت�شرة دون دليل ي�سندها يجعل من قراءة‬


‫�سور بعينها بعدد حمدد من املرات مفيد يف حتقيق بع�ض الأمور‪.‬‬
‫ً‬
‫مثل �سورة الواقعة جتلب الرزق‪ ،‬لو قر�أتها �إحدى ع�شرة مرة‪.‬‬
‫و�سورة ال�ضحى جتعلك جتد ال�شيء املفقود الذي تبحث عنه منذ‬
‫�ساعات‪.‬‬
‫ال �صحة للأمرين بطبيعة احلال‪.‬‬
‫لكن �سورة الواقعة ت�ساعدك ً‬
‫فعل يف �أن جتد نف�سك‪.‬‬
‫بال�ضبط �أن حتدد موقعك الطبقي‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬غري كل ما نعي�شه من �أيام‪.‬‬
‫يف يوم �آخر ً‬
‫***‬
‫يف حياتنا الدنيوية‪ ،‬يق�سم انتماء النا�س اجتماع ًّيا �إىل طبقات بنا ًء على‬
‫م�ستوى دخلهم ال�سنوي‪.‬‬
‫الطبقة العليا املرفهة التي متلك املال �أو ال�سلطة‪� ،‬أو االثنني م ًعا يف عامل‬
‫ال مييز كث ًريا بينهما‪.‬‬
‫‪- 351 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫يف بع�ض الدول املتقدمة‪ ،‬ت�سيطر طبقة الـ ‪ %10‬العليا على ما هو �أكرث‬
‫من ‪ %70‬من الرثوة يف البالد‪ ،‬بينما الـ ‪ %10‬التي تليها حت�صل على ‪%12‬‬
‫من الرثوة‪.‬‬
‫الطبقة الو�سطى‪ ،‬و ُت َق َّ�سم بدورها �إىل «و�سطى عليا» و«و�سطى دنيا»‪،‬‬
‫وهم يقعون يف املنت�صف من حيث الدخل بني الأغنياء (الطبقة العليا)‬
‫والفقراء (الطبقة الدنيا)‪ ،‬وغال ًبا يق�ضي ه�ؤالء حياتهم يف حماولة البقاء‬
‫يف طبقتهم‪� ،‬أو ال�صعود �إىل الطبقة الأعلى‪� ،‬أو على الأقل عدم ال�سقوط‬
‫�إىل الطبقة الأدنى‪ ،‬وتكون هذه املحاوالت يف حالة جناحها‪ ،‬مثل الدوران‬
‫يف عجلة هام�سرت ال تتوقف �أبدً ا‪ ،‬ن�سبة ه�ؤالء من ال�سكان يف بع�ض البلدان‬
‫قد تبلغ ‪ ،%40‬وهم يح�صلون تقري ًبا على ‪ % 15‬من الرثوة يف البالد(((‪.‬‬
‫الطبقة الدنيا هي الطبقة الأفقر‪ ،‬طبقة العمال و�صغار ال َك َ�سبة‪ ،‬ن�سبتهم‬
‫مقاربة لن�سبة الطبقة الو�سطى‪ %40 ،‬من ال�سكان‪ ،‬ويح�صلون على �أقل من‬
‫(((‬
‫‪ %1‬من الرثوة والدخل‪.‬‬
‫ق�سمة ِ�ضيزَ ى بال �شك‪ ،‬لي�س فقط ب�سبب الفجوة الهائلة املوجودة بني‬
‫الطبقات‪ ،‬ولكن لأن الطبقة العليا قوية مبا فيه الكفاية لت�ضمن بقاء هذه‬
‫الق�سمة على ما هي عليه‪.‬‬
‫***‬
‫لكن �سورة الواقعة حتدثنا عن تق�سيم �آخر‪ ،‬تق�سيم عادل مبعايري‬
‫خمتلفة عن معايري الدخل والرثوة‪ ،‬معايري‬

‫‪(1) Wealth inequality in the U, Wikipedia.‬‬


‫((( هذه األرقام أمريكية‪ ،‬وبالتأكيد هناك دول كثرية متتلك قد ًرا أفضل من توزيع الرثوة‪.‬‬
‫‪- 352 -‬‬
‫سورة الواقعة‬

‫َ َ ٌ ٌَ‬
‫}خاف ِضة َراف ِعة{(الواقعة‪.)3 :‬‬

‫قد ترى بع�ض َمنْ كانوا يف الطبقة العليا ج ًّدا يف قعر التوزيع اجلديد‪،‬‬
‫وقد ترى العك�س‪ ،‬قد ترى �أن من ت�صورته �سيكون يف و�ضع ممتاز �أخرو ًّيا‬
‫أي�ضا‪� ،‬شخ�ص حكم عليه كثريون‬ ‫قد �سقط يف التقييم‪ ،‬وقد ترى العك�س � ً‬
‫احل َك ُم العدل لين�صفه‪.‬‬
‫دون حق‪ ،‬وجاء َ‬
‫وقد ترى غن ًّيا مت َّكن من امتالك الدنيا والآخرة‪ ،‬وفقري خ�سر االثنتني‬
‫م ًعا‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬ال ميكن �إيجاد م�ساحة م�شرتكة فيها مع‬
‫�إنها معايري خمتلفة ً‬
‫املعايري ال�سائدة للطبقات دنيو ًّيا‪.‬‬
‫***‬
‫ثالث طبقات � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ميمنة‪ ،‬م�ش�أمة‪.‬‬
‫وطبقة «ال�سابقون ال�سابقون» منزلة متقدمة تتفوق حتى على امليمنة‪.‬‬
‫ال يوجد طبقة و�سطى هنا‪� ،‬أو على الأقل لي�س بهذا التق�سيم‪.‬‬
‫ال�سابقون ال�سابقون هم �أق�صى اليمني �إن �شئتم‪ ،‬لكن امليمنة وامل�ش�أمة‬
‫متجاورتان فيما يبدو‪.‬‬
‫هل يبدو هذا �أم ًرا مهددًا ملن يف امليمنة؟ لي�س بال�ضرورة‪ ،‬لقد ُق ِ�ض َي‬
‫الأمر‪ ،‬هم يف امليمنة يف هذا التق�سيم‪ ،‬ال �شيء �سي�ست�أنف هذا احلكم‪،‬‬
‫عليهم الثبات على ما هم عليه‪.‬‬
‫‪- 353 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لكنه �أمر واعد وباعث للأمل بالن�سبة ملن يف امل�ش�أمة‪ ،‬امل�سافة بينهم‬
‫وبني َمنْ يف امليمنة لي�ست بعيدً ا ح ًّقا‪ ،‬ميكنهم �أن يفعلوا �شي ًئا لكي يغريوا‬
‫موقعهم الطبقي‪ ،‬الفجوة بني الطبقتني لي�ست �سحيقة كما هي يف طبقات‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫ال �أحد منا يعرف موقعه الطبقي الآن‪ ،‬لكن على اجلميع �أن يعي �أن‬
‫الطبقتني متجاورتان‪ ،‬و�أن ذلك فيه �إيجابيات و�سلبيات‪ ،‬الإيجابية‬
‫الأ�سا�سية هي �أن الأمل موجود دائ ًما يف النجاة‪ ،‬مهما كانت املعطيات‬
‫حم�صن من االنزالق‬
‫ت�سري يف اجتاه �آخر‪ ،‬وال�سلبية الأ�سا�سية �أن ال �أحد َّ‬
‫�إىل الطبقة الدنيا؛ لذا فعلى اجلميع التم�سك واحلذر‪.‬‬
‫***‬
‫ماذا عن «ال�سابقون ال�سابقون»؟‬
‫ه�ؤالء هم الفئة التي حتتل املرتبة العليا‪ ،‬فيهم الأنبياء والقادة‬
‫وامل�صلحون‪� ،‬أولئك الذين كانوا الرواد يف درب تغيري املجتمعات الب�شرية‪،‬‬
‫وم َّهدوا الطريق ملن بعدهم يف �أن تكون حياتهم �أكرث عدالة وتواز ًنا‪ ،‬يف �أن‬
‫يكونوا �ضمن امليمنة‪.‬‬
‫لكن ماذا عن ن�سب كل من هذه الطبقات؟ بالن�سبة لنا‪ ،‬تع َّودنا �أن نقي�س ‬
‫احتمالية وجودنا يف فئة ما بكونها الأكرب حج ًما‪ ،‬كلما كانت ن�سبتها كبرية‪،‬‬
‫زادت احتمالية �أن نكون فيها‪ ،‬منطق تع َّودنا على التعامل معه ومن خالله‪.‬‬
‫لكن �سورة الواقعة ال توقعنا يف فخ توقعات رقمية‪ ،‬بل تع ِّلمنا �أن نرى‬
‫الأمر من منظور خمتلف‪.‬‬
‫‪- 354 -‬‬
‫سورة الواقعة‬

‫املقيا�س هو ن�سبة كل فئة من «الأولني» ومن «الآخرين»‪ ،‬املعايري التي‬


‫حتا�سب كل فرد �ستكون خمتلفة بح�سب ع�صره وظروف زمانه‪ ،‬ربك هو‬
‫احل َك ُم العدل الذي لن يتعامل مع الأمور كما يتعامل بع�ض الب�شر دون‬ ‫َ‬
‫مراعاة لتغري الظروف والأحوال‪ ،‬بل هو الذي يقي�س كل املتغريات فال‬
‫يظلم �أحدً ا‪.‬‬
‫ُ َّ ٌ‬ ‫ون ‪ ‬ف َج َّنات انلَّ‬‫ُ َ َ ْ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ ُ َ َّ ُ َ‬
‫يم ‪ ‬ثلة م َِن‬ ‫ع‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫} َوالسابِقون السابِقون ‪ ‬أول ِك المقرب‬
‫ين{ (الواقعة ‪.)14 :10‬‬ ‫ِيل م َِن ْالخِر َ‬
‫ََ ٌ‬
‫ل‬‫ق‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ْالَ َّول َ‬
‫ِني‬
‫ِ‬
‫عدد كبري �إذن من الأولني‪ ،‬مقارن ًة بعددهم من الآخرين‪ ،‬مل يغلق‬
‫متاما‪ ،‬ولكن عددهم �أقل باملقارنة بالأولني‪ ،‬ال ب�أ�س‪ ،‬هذا‬ ‫الباب للآخرين ً‬
‫�أمر مفهوم‪ ،‬فيهم ر�سل و�أنبياء‪ ،‬وقد �أُ ْق ِف َل هذا الت�صنيف ً‬
‫متاما‪ ،‬وفيهم‬
‫أي�ضا َمنْ ت�أثر مبا�شر ًة بالر�سل والأنبياء‪ ،‬وهذا الت�صنيف ُق ِف َل � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬وبقي‬ ‫� ً‬
‫هناك امل�صلحون والقادة العظام الذين قادوا جمتمعاتهم �إىل الأف�ضل‪،‬‬
‫ورواد �أعمال اخلري الذين تركوا ب�صمة يف تاريخ الإن�سانية‪ ،‬هذا الت�صنيف‬
‫مل ُي ْق َفل‪ ،‬ومنه تكون هذه القلة من الآخرين‪.‬‬
‫فر�صة �أن تكون من هذه الفئة قليلة‪ ،‬ولكن فلنكن واقعيني‪ ،‬هذا منطقي‬
‫ج ًّدا‪ ،‬ن�سبة ه�ؤالء الأ�شخا�ص قليلة ج ًّدا يف �أي جمتمع‪ ،‬ووجود الأنبياء‬
‫فر�صا م�ضافة ‪ -‬هو الذي يجعل هذه‬ ‫والر�سل ‪ -‬الذين منحوا الإن�سانية ً‬
‫الطبقة حتتوي على «ثلة من الأولني»‪.‬‬
‫الأمر مع �أ�صحاب امليمنة �سيكون متواز ًنا بني الأولني والآخرين‪.‬‬
‫}ثُلَّ ٌة م َِن ْالَ َّول َ‬
‫ِني ‪َ ‬وثُلَّ ٌة م َِن ْالخِر َ‬
‫ين{ (الواقعة‪.)40 :‬‬ ‫ِ‬

‫‪- 355 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫كاف ج ًّدا لكي ميلأنا بالأمل‪ ،‬هذه الطبقة فيها جمع غفري من‬ ‫هذا ٍ‬
‫الأولني والآخرين‪ ،‬لدينا فر�صة �أن نكون من �أ�صحاب امليمنة‪ ،‬الآية تفتح لنا‬
‫الباب على م�صراعيه‪� ،‬إذا كانت طبقة «ال�سابقون ال�سابقون» �صعبة‪ ،‬ف�إن‬
‫هذه ممكنة‪ ،‬لي�ست �سهلة بالت�أكيد‪ ،‬لكنها ممكنة‪ ..‬واقعية‪.‬‬
‫***‬
‫ماذا عن �أ�صحاب ال�شمال؟‬
‫ال�سورة ال تخربنا عن ن�سبتهم‪ ،‬ال قليل وال كثري‪ ،‬ال من الأولني وال من‬
‫الآخرين‪.‬‬
‫هذه املعلومة ُت ْتَك عمدً ا؛ لكيال ت�ؤثر علينا ونحن ن�أمل �أن نكون من‬
‫�أ�صحاب اليمني‪� ،‬أ�صحاب ال�شمال على ُب ْع ِد خطوات‪ ،‬وال�سورة تخربنا عما‬
‫كاف ج ًّدا لكي يجعلنا نبذل كل ما و�سعنا لكي نكون من‬‫ميرون به‪ ،‬وهذا ٍ‬
‫�أ�صحاب اليمني‪.‬‬

‫‪- 356 -‬‬


‫سورة الحديد ‪57‬‬
‫اإلنسان الحديدي‬

‫كث ًريا ما ن�سمع عن «الرجل احلديدي»‪« ،‬املر�أة احلديدية»‪ ،‬و�صف يراد‬


‫به القوة وال�صالبة‪ ،‬وامل�ضي يف حتقيق هدف ما دون االهتمام بالعواقب‪.‬‬
‫من �أفالم اخليال العلمي واحلركة‪� ،‬إىل احلمالت االنتخابية‪ُ ،‬ي ْ�ست َْخ َدم‬
‫اللقب لو�صف هذا النوع �أو ذاك من القوة‪.‬‬
‫�سورة احلديد ت�أخذنا �إىل و�صف خمتلف للقوة‪� ،‬إىل �إن�سان يدخل‬
‫احلديد يف تكوينه وبنائه‪ ،‬لكن ال ميكن اختزاله �إىل هذا املكون فقط‪ ،‬بل‬
‫هو مكون �ضمن عدة مكونات ت�ساهم كلها يف �صنع هذا الإن�سان‪.‬‬
‫***‬
‫�أول ما حتدِّ ثنا به �سورة احلديد عن هذه القوة املختلفة‪ ،‬عن هذا‬
‫الإن�سان اجلديد قيد التكوين‪ ،‬هو احلديث عن اهلل الذي ي�ؤمن به هذا‬
‫الإن�سان‪.‬‬
‫ُ َْ ُ‬ ‫ش ٍء َقد ٌ‬ ‫َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ ُ ِّ‬
‫ك َ ْ‬
‫ِير ‪ ‬ه َو ال َّول‬ ‫ات والر ِض ي ِي وي ِميت وهو ع‬ ‫}ل ملك السماو ِ‬
‫َ‬
‫شء عل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ‬
‫الظاه ُِر َو ْ َ ُ َ‬
‫ِيم{ (احلديد ‪.)3 :2‬‬ ‫الاطِن َوهو بِكل ْ ٍ‬ ‫والخِر و‬
‫َ َ ُ ِّ َ ْ َ‬
‫ش ٍء قد ٌِير{‪.‬‬ ‫قدرة مطلقة‪} ،‬ع ك‬

‫‪- 357 -‬‬


‫القرآن نسخة شخصية‬

‫لي�س هذا فقط‪ ،‬هو مطلق‪� ،‬أول و�آخر وظاهر وباطن‪ ،‬خارج كل املقايي�س ‬
‫الب�شرية املادية‪ ،‬جمرد قدرتك على الإميان به خارج مفاهيم «التج�سيم»‬
‫و«التمثيل» التي تق ِّيد فكرة الإميان وجتعلها حمدودة؛ جمرد �إميانك بهذا‬
‫مينحك قوة خمتلفة‪.‬‬
‫هذا الإميان باملطلق هو �أول ما مينحك قوة احلديد‪ ،‬ح�سب املوا�صفات‬
‫التي تدلك عليها �سورة احلديد‪.‬‬
‫َ َّ َ َ ُ ْ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ‬
‫ك ْم ُم ْس َت ْخلَف َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِين آمنوا مِنك ْم‬
‫ني فِي ِه فال‬ ‫ِ‬ ‫}آمِنوا بِاهلل َو َرس ِ‬
‫ولِ وأن ِفقوا مِما جعل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ري {(احلديد‪.)7 :‬‬ ‫َوأ ْن َف ُقوا ل َ ُه ْم أ ْج ٌر َكب ٌ‬
‫ِ‬
‫الإنفاق؟ ال‪ ،‬لي�س فقط الإنفاق‪ ،‬الإنفاق مما هم م�ستخلفون فيه‪� ،‬إنهم‬
‫م�س�ؤولون ومنتجون‪ ،‬وبعد ذلك‪ :‬منفقون‪ ،‬قوة الإنفاق هنا تت�ضمن قوة‬
‫العمل والإنتاج‪ ،‬القوة على مقاومة طبيعة النف�س الب�شرية التي متيل �إىل‬
‫احلر�ص وال�شح‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ‬
‫الق َول يكونوا‬ ‫ِين آمنوا أن تشع قلوبه ْم ِلِك ِر اهلل وما نزل مِن‬ ‫}ألم يأ ِن ل ِل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ ُ‬
‫ِين أوتُوا الْكِتاب مِن قبل فطال عليهم المد فقست قلوبهم َوكثِ ٌ‬
‫ري م ِْن ُهمْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فا ِسقون{ (احلديد‪.)16 :‬‬

‫وهذه القوة لي�ست مثل قوة حجر اجلرانيت الذي ال يكاد يت�أثر ب�شيء‪،‬‬
‫بل هي مثل قوة احلديد‪ ،‬ميكن �أن ين�صهر‪ ،‬يتمدد‪ ،‬قابل َّ‬
‫للط ْر ِق وال�سحب‬
‫وال َّث ْن ِي‪ ،‬خ�شوع احلديد هذا هو عن�صر قوة �إ�ضايف؛ لأنه بتغرياته هذه‬
‫يتم َّكن من تكييف نف�سه مع تغريات املحيط من حوله‪« ،‬الذين �أوتوا الكتاب‬
‫من قبل» رمبا كان �إميانهم قو ًّيا � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬لكنه كان بقوة احلجر ال�صوان �أو‪.‬‬

‫‪- 358 -‬‬


‫سورة الحديد‬

‫اجلرانيت‪ ،‬ال يتفاعل مع املحيط‪� ،‬صلد‪ ،‬يقاوم التغريات‪ ،‬نعم‪ ،‬لكن �إىل‬
‫درجة معينة‪ ،‬بعدها �سينك�سر‪ ،‬يتحطم‪.‬‬
‫احلديد يقاوم وبعدها يتغري‪ ،‬يعيد ت�شكيل نف�سه‪ ،‬لكن يبقى حديدً ا‪.‬‬
‫هذا هو الفرق احلقيقي بني �أن تكون قو ًّيا كاحلديد‪ ،‬وبني �أن تكون قو ًّيا‬
‫ك�صخر‪ ،‬احلديد قوته مرنة‪ ،‬يتغري كي ال ينك�سر‪ ،‬بينما ال ميلك ال�صخر‬
‫َّ‬
‫ويت�شظى‪.‬‬ ‫هذه املرونة‪ ،‬فينك�سر‬
‫رمبا هذه املرونة هي التي جتعلهم يتعاملون مع الأحداث التي حتيق بهم‬
‫على هذا النحو‪:‬‬
‫ْ َْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َّ‬ ‫َُْ‬ ‫ََ‬ ‫َْْ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫اب مِن قب ِل أن‬‫}ما أصاب مِن م ِصيب ٍة ِف الر ِض ول ِف أنف ِسكم إِل ِف ك ِت ٍ‬
‫َ ْ َ َْ َ ْ ََ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫ع اهلل ي َ ِس ٌ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ‬
‫ري ‪ ‬ل ِكيل تأسوا ع ما فاتك ْم َول تف َرحوا بِما آتاك ْم‬ ‫نبأها إِن ذل ِك‬
‫َُ‬ ‫َ َ ُ ُّ ُ َّ ُ ْ َ‬
‫ور{ (احلديد ‪.)23 :22‬‬
‫ٍ‬ ‫خ‬ ‫ف‬ ‫ال‬
‫واهلل ل يِب ك م ٍ‬
‫ت‬

‫ال �أ�سى على ما م�ضى‪ ،‬ال عي�ش على ذكريات املا�ضي ونواح وندب عليه‪،‬‬
‫بل مت ُّدد وط ْرق و�سحب ح�سب ما تقت�ضي التغريات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ََْ َ َْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ِّ َ‬
‫زيان ِ َلقوم انلَّاس‬‫ات وأنزلا معهم الكِتاب وال ِم‬
‫الين ِ‬ ‫}لقد أرسلنا رسلنا ب‬
‫ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬‫َ َْ َْ َ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫اس َو ِ َل ْعلَ َم اهلل َم ْن َي ْن ُ ُ‬
‫صهُ‬ ‫َ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ‬
‫الدِيد فِي ِه بأس شدِيد َومناف ِع ل ِلن ِ‬ ‫بِال ِقس ِط وأنزلا‬
‫يز{ (احلديد‪.)25 :‬‬‫َو ُر ُسلَ ُه بالْ َغ ْيب إ َّن اهلل َقو ٌّي َعز ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫الكتاب وامليزان } ِ َل ُق َوم انلَّ ُاس بِال ِق ْس ِط{‪ ،‬وبعدهما‪ :‬احلديد‪.‬‬
‫كما لو �أنك ال ميكن �أن حتافظ على الق�سط‪� ،‬إن مل يكن لديك قوة‬
‫احلديد‪� ،‬صالبة احلديد‪ ،‬مطاوعة احلديد‪.‬‬
‫***‬
‫‪- 359 -‬‬
‫القرآن نسخة شخصية‬

‫ال ميكن اال�ستغناء عن احلديد يف احلياة الإن�سانية‪ ،‬حتى �أنه يدخل يف‬
‫تكوين كريات الدم‪.‬‬
‫لكن � ً‬
‫أي�ضا ال ميكن اال�ستغناء عنه يف �إمياننا‪ ،‬بل يكون كالعمود الفقري‬
‫الذي نقف به منت�صبني‪.‬‬
‫اللهم ق ِّللْ من ن�سبة احلجر يف �إمياننا‪ ،‬وزِدْ من ن�سبة احلديد‪...‬‬

‫‪- 360 -‬‬

You might also like