You are on page 1of 18

‫الذات املخلصة‬

‫قصص يعيش األمريكيون وفقها‬

‫دان مكادامز‬

‫مطبعة جامعة أوكسفورد‪2006‬‬

‫‪1‬‬
‫ثالث قصص حياتية‬
‫حني كنت مراهقا كان العب كرة السلة املفضل بالنسبة يل بوب لوف‪ .‬قبل بروز نجم مايكل جوردان كان لوف هو الهداف الرئييس يف تاريخ فريق‬
‫شيكاغو بولز حيث أحرز ‪ 12،623‬نقطة خالل املواسم السبعة التي لعب فيها مع الفريق (‪ .)1976 – 1969‬كان لوف‪ ،‬وهو الذي انتخبته الجمعية‬
‫الوطنية لكرة السلة "النجم املتكامل" ثالث مرات‪ ،‬معروفا بحركاته املرنة وتصويبه الدقيق من ساحة امللعب‪ .‬ما مل يعرفه محبوه من خارج شيكاغو‬
‫هو انه كان ال يستطيع النطق‪ .‬كانت لديه مشكلة شديدة يف التأتأة لدرجة أنه يف بعض األحيان مل يكن يستطيع نطق حتى كلمة واحدة‪ .‬عرفت‬
‫عن هذه املشكلة يف إحدى الليايل حني أجرى أحد الصحفيني الرياضيني املشهورين يف شيكاغو‪ ،‬جاك بريكهاوس‪ ،‬مقابلة مع لوف عىل قناة محلية‬
‫بعد إحدى املباريا ت‪ .‬ويف معرض إجابته عىل السؤال األول الذي طرحه جاك تأتأ لوف لفرتة طويلة وأخريا متكن من نطق كلمة أو كلمتني غري‬
‫مفهومتني‪ .‬رشح جاك لجمهوره بأن لوف لديه إعاقة يف النطق وأن علينا أن نتوخى الصرب‪ .‬حاول طرح سؤال آخر‪ ،‬ولكن األمر ازداد سوءا‪ .‬كان مشهدا‬
‫مريعا‪ .‬أنهت املحطة املقابلة‪ ،‬وأطفأت جهاز التلفاز بعنف والدمع ميأل عيني‪.‬‬
‫انتهت السرية املهنية للوف كالعب كرة سلة محرتف بسبب إصابة شديدة يف الظهر وذلك يف عام ‪ .1977‬بعد الجراحة أخرب األطباء لوف بأنه قد ال‬
‫يتمكن من السري بشكل طبيعي مرة ثانية‪ .‬وحني عاد لوف إىل منزله يف إحدى الليايل يرتكز عىل عكازتني وجد زوجته قد غادرت املنزل واملدينة‬
‫بأكملها حاملة األثاث واملجوهرات وكل ما يف حساباتهم البنكية‪ .‬تركت له رسالة قصرية تقول "ال أريد ان أكون زوجة شخص ُمقعد يتأيتء‪ ".‬خالل‬
‫السنوات التي تلت هذه الحادثة انتقل لوف من وظيفة إىل أخرى حتى حصل عىل وظيفة دامئة يف غسل الصحون والعمل كنادل يف متجر نوردسرتوم‬
‫يف سياتل‪ ،‬واشنطن‪ .‬كان راتبه ‪ 4.5 – 4‬دوالر يف الساعة‪ .‬أحيانا ما كان يتعرف عليه الزبائن ويتهامسون‪" :‬أنظروا‪ ،‬هذا بوب لوف"‪" .‬كان العب كرة‬
‫سلة رائع‪ .‬يا لألسف‪ ".‬كان لوف نجام يف نوردسرتوم‪" :‬قررت بأنني إذا كنت سأكون غاسل صحون ونادال سأكون أفضلهم‪ ".‬مل يتغيب يوما عن العمل‪.‬‬
‫ويف أحد االيام قال دون نوردسرتوم‪ ،‬مدير املتجر‪ ،‬للوف بأنه لو كان يتحدث بطالقة أكرث لكان بإمكانه ان يحصل عىل ترقية‪ .‬عمل لوف عىل مدار‬
‫السنة التالية مع معالجة نطق‪ ،‬سوزان هاميلتون‪ ،‬بالرتكيز عىل التنفس واللفظ واألحرف وآليات النطق‪ .‬تحسن بشكل كبري‪ .‬قام نوردسرتوم برتقيته‬
‫إىل املدير املسؤول عن الصحة والنظافة يف ‪ 150‬مطعام تتبع للمتجر يف كل أنحاء الواليات املتحدة األمريكية‪ .‬وبعد فرتة أصبح لوف الناطق الرسمي‬
‫باسم الرشكة‪.‬‬
‫حظي لوف بفرصة للحديث أمام الجمهور يف عام ‪ 1986‬حني تلقى دعوة لتقديم خطاب خالل حفل عشاء ريايض يف مدرسة ثانوية يف روكفورد‪،‬‬
‫إيلينوي‪ .‬كان عدد الحضور ‪ 800‬شخص‪ .‬روى لوف قصة حياته – كيف كرب فقريا يف ريف لويزيانا‪ ،‬وعاش سنواته األوىل مع زوج أم عنيف‪ ،‬وهرب‬
‫من البيت يف عمر ‪ 8‬أعوام‪ ،‬وقىض سنوات املراهقة مع جدته املحبة و‪ 16‬من أقربائه يف بيت يتكون من غرفتي نوم‪ ،‬وكيف تعرض للسخرية يف‬
‫املدرسة ألنه كان يتأيتء‪ ،‬وأصبح نجم كرة قدم وكرة سلة يف سنوات املدرسة الثانوية والجامعة‪ ،‬واستمتع بسنوات املجد مع فريق ذا بولز‪ ،‬وكيف‬
‫صمد بعد الطالق‪ ،‬والوظائف الوضيعة التي كان يقوم بها‪ ،‬واإلذالل‪ ،‬وكيف توصل أخريا إىل الخالص‪ .‬الخطاب "كان سلسا أكرث مام توقعت‪ ،‬وحني‬
‫انتهيت وقف الجميع وصفقوا طويال‪ "،‬قال لوف‪" ،‬شعرت بالسعادة‪ .‬كانت نقطة تحول يف حيايت‪ ".‬عاد لوف إىل منظمة ذا بولز يف عام ‪ 1992‬حيث‬
‫أصبح منذ ذلك التاريخ مدير العالقات املجتمعية فيها‪ .‬يقدم لوف مئات الخطابات يف السنة‪ ،‬وأقنعه أصدقاؤه والقيادات املجتمعية بخوض معرتك‬
‫السياسة مؤخرا‪ ،‬ويف عمر ‪ 59‬عاما ترشح النتخابات مختار املدينة يف شيكاغو‪.‬‬
‫يف اقتباس شهري يقول ف‪ .‬سكوت فيتزجريالد "ال يوجد فصل ثاين يف حياة األمريكيني‪ ".‬مع كل االحرتام لهذا الكاتب الكبري‪ ،‬أرى أنه مخطيء‪ .‬منذ‬
‫بينجامني فرانكلني‪ ،‬قام األمريكيون بإعادة اخرتاع أنفسهم بطرق مذهلة وأنتجوا فصال ثانيا وثالثا وحتى رابعا‪ .‬نرى هذا يتجىل يف حياة بوب لوف‪،‬‬
‫كام نراه يف الفولكلور والسري الذاتية والروايات األمريكية‪ .‬ونراه يف الربامج الحوارية ويف املجالت‪.‬‬
‫نرش العدد الصادر يف ‪ 30‬أيلول ‪ 2002‬من مجلة بيبول مقاال بعنوان "الفصول الثانية" يحتوي عىل قصص أشخاص اختربوا فضائح أو فصول خزي‬
‫وعار كبري يف حياتهم ومتكنوا من إعادة اخرتاع أنفسهم يف "فصل" ثان مخلّص‪ .‬قصة ريتا جانريت هي القصة األوىل يف هذه املقالة‪ .‬يف السنة التي‬
‫تلت العملية الجراحية يف ظهر بوب لوف‪ ،‬أدين جون جيرنيت‪ ،‬ممثل جنوب كارولينا يف الكونغرس‪ ،‬يف فضيحة رشوة وحكمت عليه املحكمة ب‬
‫‪ 13‬شهرا يف السجن‪ .‬مغتنمة فرصة هذه الفضيحة قامت زوجته ريتا برسعة بكتابة مذكرات القت رواجا كبريا وصفت فيها كيف مارست الجنس‬
‫معه عىل درجات مبنى الكونغرس‪ .‬ثم نرشت صورا عارية لها يف مجلة بالي بوي وظهرت يف حلقة من "فانتايس أيلند" أو جزيرة الخيال‪ .‬نعم‪ ،‬تطلقا‪.‬‬
‫ونجحت ريتا يف التسعينات يف عملها كوسيط عقاري وتشارك بشكل دوري يف ندوات يف كلية هارفارد لألعامل وتعمل مع جمعيات خريية يف‬
‫نيويورك‪ .‬تقول جيرنيت بخصوص الفصل األول يف حياتها‪" :‬اتخذت بعض الخيارات غري الحكيمة‪ ،‬وعيل أن أتعايش معها‪ ".‬اما فيام يتعلق بانتهازيتها‬

‫‪2‬‬
‫إبان الفضيحة قالت جيرنيت "لن أترك هذه الحادثة تكون األخرية التي يتذكرها الناس عني‪ ".‬ويستنتج مقال مجلة بيبول أن "رحلتها الطويلة‬
‫الغربية نحو الحياة املحرتمة كانت رحلة مثرية لالهتامم كام تقول جيرنيت التي تعيش يف منهاتن مع خطيبها وهو معامري ترفض ذكر اسمه‪ .‬كانت‬
‫رحلة مؤملة‪ ،‬لكنها تشد من عزميتك‪ ".‬هي تعرف بأن املايض ليس بالبعيد جدا وأنه "سوف يعاود الظهور يف أسوأ األوقات"‪ ،‬لكن كام تقول "اآلن‬
‫وضعت هامشا يف أسفل الصفحة‪".‬‬
‫الحظوا اللغة التي يستخدمها بوب لوف وريتا جيرنيت لوصف املشاهد والفصول يف حياتيهام املختلفتني‪ .‬يقول لوف بأن الخطاب الذي أدىل به يف‬
‫روكفورد‪ ،‬إيلينوي‪ ،‬كان "نقطة التحول يف حيايت"‪ .‬أما جيرنيت فهي مرصة عىل ان يكون الفصل األول يف حياتها هو فقط "هامش يف أسفل الصفحة"‬
‫بدال من "النقش عىل رضيحها (أو مرثيتها‪ ").‬يف كال الحالتني‪ ،‬يرى الطرفان حياتهام عىل أنها "رواية ممتدة عرب الزمن‪ ".‬واإلشارة إىل حادثة ما عىل‬
‫أنها "نقطة تحول" يف حياة الشخص تؤرش إىل ان الحياة مثل القصة التي يتغري اتجاه أحداثها نتيجة ملشهد معني‪ .‬وكام هو الحال بالنسبة ألغلبنا‪،‬‬
‫يرى بوب لوف حياته مثل القصة‪ .‬القصة لها بداية (ريف لويزيانا)‪ ،‬منتصف‪ ،‬ونهاية مرتقبة‪ .‬فيها أبطال (طبيبة النطق) وأرشار (زوجته األوىل)‪.‬‬
‫هناك فصول مجد (فريق ذا بولز) وفصول إذالل (نادل)‪ .‬التحدي هو ما يعطي القصة التوتر والتوجه‪ .‬هناك ترقب‪ ،‬ألننا ال نعرف كيف ستسري‬
‫االحداث‪.‬‬
‫تكتب ريتا جيرنيت حياتها كرسدية تبني النطاق الكامل لفرديتها كام تجلت عرب الزمن‪ .‬إنها تريد وضع تلك السنوات املخزية يف هامش يف أسفل‬
‫صفحة حياتها‪ ،‬ومصممة بأن ال تنتهي حياتها عىل صفحات مجلة بالي بوي أو فانتايس أيالند‪ .‬مرثيتها لن تكون بأنها كانت تسعى وراء األموال‪ ،‬أو‬
‫شقراء غبية ذات جسد جميل‪ .‬بالطبع‪ ،‬ال نستطيع الهروب من املايض بشكل كامل‪ .‬يسأل أحد طالب الصف معها يف هارفارد إذا كانت هي نفس‬
‫املرأة التي نرشت صورها عارية يف بالي بوي قبل ‪ 20‬عاما‪ ،‬وبوب لوف ما زال يتأيتء قليال ايضا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬قررت ريتا بأن تتخذ قصة حياتها منحى‬
‫آخر تتحول فيه البطلة مع الوقت‪ .‬ومثل بوب لوف‪ ،‬سوف تعيد كتابة القصة‪ ،‬تعيد تأليف حياتها‪ .‬سوف تعيش قصتها الجديدة طاملا بدت لها بأنها‬
‫القصة الصحيحة التي يجب أن تعيشها‪ .‬وبعد ذلك ميكن ان تعيد كتابتها من جديد‪.‬‬

‫العقل الراوي‬
‫البرش رواة بطبيعتهم‪ .‬وتتجىل القصة يف كل الحضارات اإلنسانية بأشكال متعددة من بينها القصة الفولكلورية‪ ،‬الخرافة‪ ،‬األسطورة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬امللحمة‪،‬‬
‫األوبرا‪ ،‬الفيلم‪ ،‬املسلسالت التلفزيونية‪ ،‬الرواية‪ ،‬السرية الذاتية‪ ،‬النكتة‪ ،‬والحكاية الشخصية‪ .‬ونتوقع الكثري من هذه الحكايات‪ :‬نتوقع منها ان تسلينا‪،‬‬
‫تثقفنا‪ ،‬تلهمنا‪ ،‬وتقنعنا‪ ،‬تبقينا يقظني وتدفعنا للنوم‪ ،‬تسعدنا وتحزننا وتغضبنا وتخيفنا وتثرينا وتخجلنا وتشعرنا بالذنب وكل أنواع املشاعر التي‬
‫ميكن أن نسميها ونعرفها‪ .‬نتوقع من القصص أيضا ان تخربنا من نحن‪ .‬أما فيام يتعلق بحياة البرش فإن رواية الحكايات هي طريقتنا يف فهم العامل‪.‬‬
‫ال أستطيع ان أفهم من انت وما قد تعنيه حياتك إال إذا كان لدي فكرة عن القصة التي تعمل عليها – كيف ترى حياتك كحبكة تتجىل عرب الزمن‪.‬‬
‫ال أستطيع أن أفهم من أنا إذا كانت حيايت ال تشكل رسدية بالنسبة يل‪ ،‬أو إذا مل يكن مبقدوري أن ارى حيايت كقصة ميكن يل أن افهمها وتشكّل‬
‫معنى بالنسبة يل اآلن وايضا إذا كنت سأحكيها لك غدا‪ .‬األهم من هذا وذاك‪ ،‬الحكايات تعطينا هوياتنا‪.‬‬
‫من بني األسامء النافذة يف تحليلها لكيفية استخدام الحكايات يف حياة البرش عامل النفس الشهري جريوم برونر‪ .‬مييز برونر بني شكلني مختلفني جذريا‬
‫من املعرفة البرشية‪ :‬املعرفة الباراديغامتية (العملية) وهي ما نتعلمه يف املدرسة‪ ،‬وهي معرفة السبب والنتيجة‪ ،‬العلم‪ ،‬والخطاب املنطقي‪ .‬إذا كنت‬
‫سوف أقدم إثباتا حسابيا‪ ،‬أو إذا كنت أريد أن أفحص فرضية علمية‪ ،‬أو أفرس شيئا يف العامل املادي (ملاذا ترشق الشمس يف الرشق‪ ،‬ملاذا لن تسري‬
‫سياريت باستخدام وقود الديزل‪ ،‬أو ملاذا لن أمتكن من الركض بشكل جيد إذا رشبت كأسا كبريا من الفودكا)‪ ،‬عيل أن أجرب صياغة حجة منطقية‬
‫حقيقية‪ .‬املعرفة الباراديغامتية تسعى إليجاد حقيقة واحدة منطقية سببية‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬املعرفة الرسدية هي ما نتعلمه من القصص‪ .‬نستخدم القصص‪ ،‬يقول برونر‪ ،‬ليك نفرس ونعرب عن السلوك البرشي‪ .‬حني نسعى لفهم اسباب‬
‫ترصف شخص بشكل معني‪ ،‬نبحث عن الرسد‪ .‬إذا كنت اريد أن أعرف ملاذا يجوب بوب لوف البالد ليعطي خطابات تحفيزية عيل أن أفهم قصته‪.‬‬
‫إذا كنت أريد أن أعرف ملاذا ترفض ابنتي الحديث معي هذا الصباح‪ ،‬أحتاج ملعرفة القصة هنا أيضا‪ .‬رمبا السبب هو أنني طلبت منها تنظيف غرفتها‬
‫قبل يومني‪ .‬وافقت حينها لكنها رمت كل مالبسها داخل الخزانة‪ .‬كل يشء كان عىل ما يرام حتى فتحت زوجتي باب الخزانة أمس وانهارت املالبس‬
‫عليها‪ .‬بعد ذلك عادت ابنتي إىل املنزل مع صديقة وأنا قلت لها تعليقا جارحا قد يكون أحرجها‪ .‬وبعد ذلك‪...‬‬
‫‪3‬‬
‫كام يقول برونر‪ ،‬تتعلق القصص بشكل رئييس ب"أعامق النوايا البرشية" وهي تنتظم عرب الزمن‪ .‬وهذا يعني بأن القصص تتعلق برغبات الشخصيات‪،‬‬
‫ما ينوون القيام به‪ ،‬وكيف يسعون للحصول عىل ما يريدون وتجنب ما ال يريدونه‪ ،‬عرب الزمن‪ .‬ليك تكون لدينا قصة‪ ،‬يجب ان يكون هناك شخصية‬
‫محفزة تواجه نوعا من العوائق أمام جهودها لتحقيق هدف ما‪ .‬تريد ليىل الحمراء أن تصل إىل بيت جدتها وهي تحمل الكعكات‪ ،‬لكن الذئب‬
‫الرشير يعيق جهودها وهو يريد ان يأكل ليىل الحمراء وجدتها‪ .‬لو ان الذئب الرشير مل يظهر يف طريقها مل يكن لدينا قصة‪ ،‬أو عىل االقل مل يكن‬
‫هناك أحداث مثرية لرسدها كقصة‪ .‬يشري برونر إىل أن القصص عادة ما تحىك حني يكون هناك "انحراف عن األمناط املعيارية لثقافة ما"؟ بكلامت‬
‫أبسط هذا يعني بانه ما مل يحدث يشء غري متوقع أو غري معهود (يشء ينحرف عن التوقعات املعيارية للثقافة)‪ ،‬لن يكون هناك قصة مثرية لحكايتها‪.‬‬
‫غالبا ما يكون االنحراف الرضوري الذي يخلق القصة شكال من أشكال التحدي‪ ،‬التهديد أو الخطر‪.‬‬
‫يعتقد برونر أن عقل اإلنسان ُمص َّمم خصيصاً لرواية الحكايا‪ ،‬وأننا تط ّورنا لنصبح رواة جيدين للحكاية‪ ،‬فقد ثبت أن القدرة عىل التفكري يف العامل‬
‫من منظور قصيص وربط القصص ببعضها البعض مهارة استخدمها أسالفنا للتكيف يف الحياة االجتامعية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد تكون القدرة عىل‬
‫تخيل سيناريوهات مفرتضة‪ ،‬كالتساؤل حول ما يفكر به شخص آخر (عدو عىل سبيل املثال) يف موقف معني مهارة رائعة للبقاء يف مسار التطور‪،‬‬
‫وقد تساعد يف تفسري امليل لرواية القصص يف كل الثقافات تقريباً‪.‬‬

‫عىل الرغم من أن علامء األعصاب مل يحددوا منطقة معينة يف الدماغ آو آلية مرتبطة برواية القصص حرصا ً‪ ،‬إال أنهم بدأوا بتحديد مكون واحد من‬
‫دماغ اإلنسان يرتبط برواية القصص‪ ،‬وهو "الذاكرة العرضية"‪ .‬متتلك هذه الذاكرة القدرة عىل استحضار األحداث املحددة (املراحل) من املايض‪ ،‬إذ‬
‫تجد يف دماغك ذكريات يوم زفافك‪ ،‬أو يومك األول يف املدرسة أو الجدال الذي خضته باألمس مع رشيكك كلها كمشاهد من املايض ميكنك‬
‫استحضارها‪ ،‬وكذلك ميكنك أن تعيشها مرة أخرى بطريقة ما‪.‬‬

‫قارن هذه بنوع آخر من الذاكرة‪ :‬حاول‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن تستحرض اللحظة التي تعلمت فيها أن ساكرامنتو هي عاصمة والية كاليفورنيا‪ .‬سوف‬
‫أُس ِّهل األمر عليك (أو أجعله أصعب)‪ :‬تذكر اليوم الذي تعلمت فيه اسمك‪ .‬قد تذكر عىل األرجح (وقد ال تذكر‪ ،‬وال بأس يف ذلك) أن ساكرامنتو هي‬
‫عاصمة كاليفورنيا‪ ،‬وأنا متأكد أنك تتذكر اسمك‪.‬‬

‫ولكن يف كال الحالتني‪ ،‬فإنك عىل األرجح ال تربط بني هذه املعرفة وأية أحداث محددة أخرى‪ .‬هذه أمثلة عىل الذاكرة الداللية‪ .‬نحن نذكر الكثري من‬
‫األشياء‪ ،‬مثل تواريخ أعياد امليالد‪ ،‬والحقائق واألرقام‪ ،‬ومكان سكننا‪ ،‬وقواعد البيسبول‪ ،‬والقامئة تطول‪ ،‬ولكننا ال نذكر بالرضورة األحداث املرتبطة‬
‫بكل ذلك‪ ،‬وال نحتاج إىل تذكرها‪ .‬تخ ّيل كم كان سيكون األمر مرهقاً وغري ٍ‬
‫مجد لو كان علينا أن نتذكر اللحظة الفعلية التي تعلمنا بها كل ما نعلم‬
‫والظروف املحيطة بتلك اللحظة!‬

‫يعتقد بعض علامء اإلدراك أن الذاكرة الداللية أبسط من الذاكرة العرضية‪ ،‬وتعود إىل مرحلة أقدم بكثري يف التطور اإلنساين‪ .‬يجادلون بأن الذاكرة‬
‫العرضية قد تكون تطورت من الذاكرة الداللية‪ ،‬وكنوع من املهارات املتخصصة التي ميلكها اإلنسان حرصا ً‪ .‬إنها مهارة تساعدنا عىل العودة بالزمن‬
‫الذايت‪ ،‬والربط بني األحداث التي نتذكرها واألحداث املتخيلة يف املستقبل‪.‬‬

‫توفر الذاكرة العرضية التجربة الشخصية للزمن الذي نفكر به عندما نروي القصص‪ .‬إذا مل نكن قادرين عىل العودة بالزمن للوراء الستحضار مشاهد‬
‫معينة من حيواتنا‪ ،‬فإننا عىل األرجح لن نتمكن من التفكري بطريقة قصصية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬لن نتمكن من تكوين الرسديات التي تصل فيها‬
‫الشخصيات املتحمسة إىل تلبية رغباتها مبرور الزمن باالنتقال من مشهد إىل آخر‪ .‬إن رواية القصص عملية طبيعية جدا ً وسهلة جدا ً بالنسبة للغالبية‬
‫منا‪ ،‬بحيث أصبح من املستحيل تصديق عدم القدرة عىل الرواية‪ .‬ولكن هناك أمثلة عىل أشخاص ذوي قدرات محدودة جدا ً من حيث الذاكرة‬
‫العرضية‪ ،‬األمر الذي يجعلهم غري قادرين عىل التفكري يف الحياة من منظور قصيص‪.‬‬

‫فلنأخذ حالة ك‪ .‬س مثالً‪ ،‬املولود يف عام ‪ ،1951‬والذي عاش حياة عادية وغري ملفتة حتى بلوغ سن الثالثني‪ ،‬حيث أصيب إصابة بليغة يف الرأس‬
‫نتيجة حادث بالدراجة النارية‪ .‬ونتيجة ذلك‪ ،‬يعاين ك‪ .‬س اليوم من نوع من فقدان الذاكرة‪ ،‬بحيث يجعله غري قادر عىل تذكر أية تجارب شخصية‬

‫‪4‬‬
‫من املايض‪ .‬وبصورة مشابهة ملا حدث مع الشخصية الرئيسة يف فيلم ميمينتو يف العام ‪ 2000‬إىل ٍ‬
‫حد كبري‪ ،‬فإن ك‪ .‬س غري قادر عىل تذكر أية أحداث‪،‬‬
‫أو ظروف‪ ،‬أو مواقف من حياته كاملة عىل اإلطالق – أي ذاكرة من أي نوع منذ يوم والدته إىل اليوم الحارض‪ .‬االستثناء الوحيد هو أنه قادر عىل‬
‫تذكر األحداث التي وقعت يف آخر دقيقة أو اثنتني‪.‬‬

‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬ال يتمكن ك‪ .‬س من تنبؤ ما سيفعل يف املستقبل‪ .‬عندما تسأله‪ ،‬ال ميكنه أن يخربك ما الذي يخطط لعمله الحقاً يف اليوم ذاته‪ ،‬أو‬
‫اليوم التايل‪ ،‬أو أي وقت من الفرتة املتبقية من حياته‪ .‬يعيش يف الوقت الحارض بشكل كامل بدون أن ميلك أي رسدية حول اللحظات واملشاهد التي‬
‫وقعت يف حياته‪ .‬األمر املذهل أن ك‪ .‬س يعاين من خلل بسيط يف مجاالت اإلدراك األخرى‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يحقق درجات طبيعية يف معظم معايري‬
‫اختبارات الذكاء‪ ،‬ويتذكر العديد من الحقائق واإلجراءات التي تعلمها قبل حادثة الدراجة النارية‪ .‬إنه يعلم الكثري من األشياء حول السنوات األوىل‬
‫من حياته‪ ،‬أي عندما ُولد‪ ،‬وأين عاش‪ ،‬وأسامء بعض املدارس التي التحق بها‪ .‬يعرف الرياضيات‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والتاريخ وغري ذلك من املواد التي تعلمها‬
‫يف املدرسة‪ ،‬إال أنه ال يتذكر بالطبع أنه تعلمها باألساس‪ ،‬ويلعب الشطرنج أيضاً‪ .‬من الواضح أنه وعىل الرغم من أن ك‪ .‬س قد فقد كل الذاكرة‬
‫الداللية‪ ،‬فقد حافظ عىل متاسك جوانب معينة من ذاكرته الداللية‪ .‬أدت اإلصابة التي سببت هذا النوع املحدد من فقدان الذاكرة لدى ك‪ .‬س إىل‬
‫حدوث رضر بليغ ألجزاء من الدماغ‪ ،‬والتي يبدو أنها مرتبطة بالذاكرة العرضية‪.‬‬

‫لقد أثبت البحث الذي أجري مع فاقدي الذاكرة أن إصابات الفص الدماغي الصدغي األوسط مرتبطة يف كثري من األحيان بفقدان قدرات الذاكرة‬
‫العرضية‪ .‬تقع هذه املناطق يف الجزء السفيل من القرشة الدماغية‪ ،‬والتي هي بدورها أكرب طبقة خارجية للدماغ‪ .‬وبداخل هذه الفصوص الصدغية‪،‬‬
‫يوجد "الحصني" وهو جزء من الدماغ الداخيل‪ ،‬الذي يلعب دورا ً هاماً يف تخزين الذكريات الجديدة‪ .‬ويبدو أن الحصني يقوم بهذه املهمة عن طريق‬
‫تكوين ارتباطات جديدة مع القرشة الدماغية يف كل مرة تحدث فيها تجربة‪ ،‬يُراد لها أن ت ُستحرض الحقاً‪ .‬وقد تؤدي إصابة الحصني إىل فقدان الذاكرة‬
‫العرضية‪ ،‬حيث يفقد الدماغ القدرة عىل تجميع عنارص الحدث ليتمكن من استحضاره الحقاً‪.‬‬

‫وأخريا ً‪ ،‬يبدو أن قرشة الفص الجبهي – املوجودة يف أعىل الدماغ ويف املقدمة‪-‬هي أيضاً مرتبطة بعملية معالجة املعلومات العرضية‪ّ .‬‬
‫وتبني الدراسات‬
‫الجديدة حول تكوين الصور يف الدماغ أن قرشة الفص الجبهي قد تكون مرتبطة بجهود استعادة أو استحضار حدث ما إذا كان مخزناً يف الذاكرة‬
‫(الشكل ‪.)3.3‬‬

‫باملحصلة‪ ،‬تعتمد القدرة اإلنسانية الفريدة من نوعها عىل تص ّور الحياة مبنظور رسدي عىل الذاكرة العرضية‪ .‬وعىل الرغم من أن قسامً كبريا ً ّ‬
‫مام‬
‫نتذكر ال يرتبط مبارشة يف أذهاننا مبناسبات أو أحداث معينة (الذاكرة الداللية)‪ ،‬إال أن الناس قادرون عىل العودة بالزمن الستحضار مشاهد معينة‬
‫أو أحداث عرضية وقعت يف حياتهم‪ .‬دماغ اإلنسان مربمج عىل تذكر األحداث السابقة وربطها بسيناريوهات مستقبلية متخيلة‪ .‬وتوفر لنا الذاكرة‬
‫العرضية بعدها الشعور بأن حياتنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالزمن‪ ،‬أي باملايض الذي نذكره‪ ،‬والحارض الذي نعيشه واملستقبل الذي ننتظره‪ .‬هذا الشعور‬
‫بالزمن رضوري أيضاً من أجل رواية الحكايا‪ ،‬ألننا نربط يف الرسديات ما بني أفكار وترصفات الشخصيات املتحمسة‪ ،‬بينام يتنقلون من مشهد إىل‬
‫آخر‪ ،‬ومن البداية إىل الوسط وصوالً إىل النهاية‪ .‬توفر الذاكرة العرضية األساس للسري الذاتية والهوية – لرسديتنا حول شعورنا بذواتنا عرب الزمن‪.‬‬

‫الشكل ‪ 3.3‬الحصني‬

‫الذاكرة العرضية – القدرة عىل العودة بالزمن الستحضار أحداث يف السري الذاتية لألفراد وعيشها مرة أخرى‪ ،‬هي مهارة قد ينفرد بها اإلنسان وحده‪.‬‬
‫وقد بدأ علم األعصاب بتحديد مناطق الدماغ املسؤولة عن استيعاب املعلومات العرضية (الربمجة)‪ ،‬وتخزين املعلومات واستحضارها (استعادتها)‪.‬‬
‫وتشمل هذه املناطق الحصني (واملسؤول بشكل خاص عن تكوين الذكريات الجديدة)‪ ،‬وأجزاء من الفص الصدغي وقرشة الفص الجبهي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫سيكولوجية تطور قصص الحياة‬
‫إذا كنت تعتقد بأنك تذكر يومك األول يف العامل‪ ،‬فإنك عىل األرجح مخطئ‪ .‬تعود أقىص نقطة يف املايض‪ ،‬والتي تصل إليها أقدم ذكرياتنا العرضية‪،‬‬
‫إىل سن الثالثة أو الرابعة ولكن ليس أبعد من ذلك‪ .‬قبل حوايل مائة عام‪ ،‬أطلق سيجموند فرويد عىل هذا العجز العاملي يف الذاكرة "فقدان الذاكرة‬
‫لدى األطفال"‪.‬‬

‫واعتقد فرويد أن سنواتنا األوىل مليئة بالرغبات غري اآلمنة‪ ،‬والتي ينتهي بنا األمر بقمعها‪ ،‬وهي مخيفة جدا ً إىل الحد الذي ال ميكّننا من تذكرها‪.‬‬
‫ولكن التفسري األكرث عقالنية وإثارة لالهتامم من ناحية تطورية هو اآليت‪ :‬إننا مل نكن واعني بكل بساطة‪ .‬حتى وإن كانوا مستيقظني‪ ،‬ومتنبهني‪،‬‬
‫ويبتسمون أمام عينيك‪ ،‬فإن ال ُرضَّ ع الذين يبلغون من العمر ستة شهور ال يختربون الحياة كام نختربها أنا وأنت يف العادة‪ .‬إنهم غري واعني بذواتهم‪،‬‬
‫أو أي ذوات أخرى‪ .‬إن األمر ال يتعلق بكونهم ال يعرفون من هم‪ ،‬ولكنهم ال يعرفون أيضاً أنهم موجودون باألساس!‬

‫إذا أردنا استخدام التشبيه الذي اقرتحه عامل األعصاب أنطونيو داماسيو‪ ،‬فإن ال ُرضَّ ع مل "يقفزوا إىل نور الوعي املمتد" بعد‪ .‬إنهم يف مكانٍ معتمٍ من‬
‫الناحية النفسية ألنهم ال يعون بعد أن ما يحدث لهم هو تجاربهم الشخصية عرب الزمن‪ .‬تبتسم سارة ذات األشهر الستة ألبيها‪ ،‬ولكنها ال تعلم أنها‬
‫هي من يبتسم وال تعي أن هذا السيناريو الذي استمر لدقيقتني وهي تبتسم وتلعب مع والدها هو تجربتها هي الشخصية‪ .‬يبدأ الوعي‪ ،‬بحسب‬
‫داماسيو‪" ،‬عندما ميتلك الدماغ القوة‪ ،‬يجب أن أضيف أنها القوة البسيطة‪ ،‬لرواية قصة من دون كلامت‪ ،‬قصة أن هناك حياة متيض يف كائن حي ما"‪.‬‬
‫ما يقوله داماسيو هنا أن الوعي البرشي هو فعلياً قبول دور الرواي ذهنياً‪ .‬الراوي هو من يقص الحكاية‪ ،‬ويتضمن الوعي الرواية املستمرة للتجارب‬
‫التي ت ُعاش‪ ،‬أي التدفق العادي للرواية والذي يجري يف أذهان أغلب الناس األحياء يف معظم األحيان‪ .‬ال تتطلب الرواية استخدام الكلامت‪ ،‬ولكن‬
‫تطور اللغة الحتمي يؤثر بال شك عىل نوعية وعينا‪.‬‬

‫وتبني األبحاث أن معظم األطفال يكونون قد دخلوا يف حيز نور الوعي املمتد عند بلوغ سن الثانية‪ .‬كام يكون هؤالء قد ك َّونوا السري الذاتية البدائية‪.‬‬
‫ّ‬
‫يف سن الثانية من عمري‪ ،‬أعرف أن التجارب التي أعيشها‪ ،‬أي األشياء التي أقوم وأشعر وأفكر بها‪ ،‬هي مليك‪ ،‬وأنها جزء من حيايت التي تتطور عرب‬
‫الزمن‪ .‬وبطريقة واعية بالذات‪ ،‬ميكنني اآلن أن أراقب تجربتي الخاصة‪ .‬ميكنني أن أفكر بنفيس‪ .‬ميكنني أن أشعر بالفخر حني أقوم بعمل جيد‬
‫وبالخزي حني أفشل‪ .‬لقد بدأت أروي تجاريب الشخصية كام لو كانت قصصاً بطريقة بدائية ومتقطعة‪.‬‬

‫بيد أنني لن أروي قصة جيدة جدا ً إذا كنت أجهل أساسيات الدافع اإلنساين‪ .‬ما الذي يحفز الناس ليقوموا مبا يقومون به؟ وعند بلوغ سن الثالثة‬
‫من العمر‪ ،‬يكون معظم األطفال قد اكتسبوا املبدأ األول من سيكولوجية الدافع‪ :‬يفعل الناس األشياء ألنهم يرغبون بذلك‪ .‬تقود الرغبات إىل‬
‫السلوكيات‪ .‬تأكل جيسيكا الكعك ألنها تريد أن تأكله‪ .‬إنها جائعة‪ ،‬وتحب الكعك‪ .‬وعند بلوغ سن الرابعة‪ ،‬يكون معظمهم قد اكتسب املبدأ الثاين‪:‬‬
‫ويبني البحث املعمق يف سيكولوجية‬
‫يفعل الناس األشياء بسبب ما يؤمنون به‪ .‬يبحث جيسون عن حذائه يف الخزانة ألنه يعتقد أنه تركه هناك‪ّ .‬‬
‫التطور أن األطفال يف سنوات ما قبل الدراسة يطورون نظرية العقل األساسية‪ .‬ويفهمون أن الناس لديهم رغبات ومعتقدات يف أذهانهم وأنهم‬
‫يترصفون بنا ًء عىل هذه الرغبات واملعتقدات‪.‬‬

‫وال بد أنك تعي أهمية فهم السبب الذي يدفع الناس للقيام بأفعالهم يف الحياة االجتامعية‪ .‬كام تشكل هذه نقطة فارقة إىل األمام بالنسبة لرواية‬
‫القصص‪ .‬تذكر بأن برونر قال إن القصص هي "تقلبات نية اإلنسان" وترتيبها حسب الزمن – أي ما يريده الناس (ويؤمنون به) وكيف يترصفون بنا ًء‬
‫عىل تلك الرغبات (واملعتقدات)‪.‬‬

‫وبحلول وقت دخولهم إىل الروضة‪ ،‬يكون معظم األطفال قادرين عىل الربط بني رغباتهم ومعتقداتهم واألفعال اإلنسانية املرتتبة عليها‪ .‬يفهمون‬
‫الرتتيب الزمني‪ :‬أوالً‪ ،‬يريد الشخص شيئاً ما (أو يؤمن به)‪ ،‬ثم يترصف الشخص بناء عىل تلك الرغبة (أو املعتقد)‪ .‬وميلك معظم األطفال يف فرتة‬
‫الروضة ما يحتاجونه من الناحية اإلدراكية للتعرف عىل قصة جيدة‪ ،‬وفهمها وروايتها‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فقد استمعوا إىل قصص من ذويهم‬
‫وأصدقائهم‪ ،‬وقد استمتعوا بفرص رواية القصص يف أحاديثهم اليومية وأثناء أوقات اللعب‪ .‬كام بدأوا يتعلمون بعض قواعد رواية القصص يف ثقافتهم‪،‬‬
‫أي كيف يروي األوالد والبنات القصص املختلفة مثالً‪ ،‬أو كيف يتم االهتامم ببعض القصص بشكل خاص بينام يُهمل البعض اآلخر‪ .‬ومثل معظم‬
‫‪6‬‬
‫الخصائص املثرية لاله تامم يف تطور سيكولوجية اإلنسان‪ ،‬تتطور رواية القصص كتفاعل معقد بني الطبيعة والتنشئة‪ ،‬والذهن واملجتمع‪ ،‬والفرد‬
‫والثقافة‪.‬‬

‫دعوين أقفز بالزمن لحوايل ‪ 12‬عاماً‪ ،‬وأتحدث اآلن عن األشخاص الذين يبلغون من العمر ‪ 17‬عاماً‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬يكون الناس يف هذه الفئة‬
‫ال عمرية عىل وشك إنهاء التعليم الثانوي‪ ،‬وقد يلتحق الكثري منهم بالجامعات‪ ،‬بينام سيبحث آخرون عن وظائف بدوام كامل ويذهب غريهم إىل‬
‫الجيش‪ .‬سوف يرتك كثريون منهم البيوت التي قضوا طفولتهم فيها‪ ،‬وينتقلون للعيش يف سكن الطلبة أو يف الشقق‪ ،‬وسيشعر أولئك الذين يبقون‬
‫مع ذويهم بشعور جديد من االستقاللية عىل األغلب‪ .‬من املعتاد أن نعتقد أن البالغني من العمر ‪ 17‬أو ‪ 18‬عاماً هم من املراهقني‪ ،‬ولكن هذا‬
‫التصنيف قد يكون مضلالً عندما نجمعهم مع طلبة الصف السادس واملرحلة اإلعدادية الذين ترتاوح أعامرهم ما بني ‪ 14-12‬عاماً‪.‬‬

‫يواجه املراهقون الكثري من التحديات التي يواجهها الناس يف بداية العرشينيات من أعامرهم ذاتها‪ ،‬حتى أن أحد علامء النفس قد وضع مصطلحاً‬
‫جديدا ً وهو "الرشد املبكر" للحديث عن الفرتة ما بني عمر ‪ 17‬عاماً ومنتصف العرشينيات‪ ،‬وذلك كام يخترب الناس هذه الفرتة يف مجتمعاتنا الحديثة‪.‬‬
‫ما هو التحدي النفيس الرئيس للرشد املبكر يف املجتمع الحديث؟ إنه تحدي رسدية الهوية‪.‬‬

‫عندما نصل إىل املراحل املتأخرة من مراهقتنا‪ ،‬يتوقع منا أن نكون قد حققنا تقدماً نفسياً يف أغلب األسئلة التالية‪ :‬ما الذي أريد فعله عندما أكرب؟‬
‫ما الذي أؤمن به حقاً؟ إىل أين تتجه حيايت ؟ كيف مضت حيايت؟ ما عالقة املايض باالتجاه الذي أسلكه يف املستقبل؟ كيف سأصل إىل هناك؟ ما‬
‫املغزى من حيايت؟ ما الذي مينح حيايت املغزى واالتساق؟ قلت أننا نكون قد حققنا تقدماً عىل األغلب‪ ،‬ولكن مل أقل أننا نصل إىل كل األجوبة عندما‬
‫نبلغ سن ‪ 21‬عاماً‪.‬‬

‫قلة منا فقط يستطيعون اإلجابة عن هذه األسئلة وهم راضني بالكامل بالطبع‪ .‬ولكن األهم أننا نبدأ بطرح هذه األسئلة حول الحياة – أسئلة متعلقة‬
‫بالهوية – يف سنوات الرشد املبكر‪( .‬ال تتمتع هذه األسئلة إال بدرجة متدنية من املعنى الحقيقي لألطفال)‪ .‬نحن نبدأ بطرح هذه األسئلة‪ ،‬بوعي أو‬
‫بغري وعي‪ ،‬ألن ظروف املجتمع الحديث الثقافية وتوقعاته كلها تحتم علينا طرحها‪.‬‬

‫تقدم املجتمعات الحديثة مجموعة مرهقة من احتامالت الحياة‪ ،‬فال يوجد ما يصلح للجميع‪ ،‬أو طريقة "صحيحة" للعيش يف مجتمع كمجتمعنا‪.‬‬
‫هناك الكثري من األشياء التي ميكننا فعلها أو عيشها‪ ،‬والكثري من الخيارات أمامنا‪ ،‬وعلينا أن نختار‪ .‬ال ميكننا القيام بكل يشء أو اإلميان بكل يشء‪ .‬ال‬
‫ميكن أن يكون شخص واحد محاميا ً لرشكات وعازفاً عىل البيانو ومصارعاً محرتفاً يف الوقت ذاته‪.‬‬

‫جسد واحد وعقلٍ واحد‪ .‬وإذا ما نجح‬‫ال ميكن أن يكون شخص واحد كاثوليكياً إىل أبعد حد‪ ،‬ويهودياً ملتزماً‪ ،‬وراهباً بوذياً ميارس شعائره وذاك يف ٍ‬
‫فرد ما بأن يفعل ويؤمن بأشياء متعددة‪ ،‬مثالً إذا كانت امرأة ما محامية رشكات‪ ،‬وأماً متفانيةً‪ ،‬وعداءة يف املاراثون تعتنق املذهب املعمداين وليربالية‬
‫يف السياسة وتقدم النصح حول الزواج عىل الدوام ألصدقائها يف الجامعة‪ ،‬فإنها عىل األرجح تتساءل ما الذي يربط بني كل تلك األمور؟ ما الذي‬
‫يجعل حياتها متسقة؟ الجواب هو القصة التي تعيش وفقاً لها‪ ،‬وهذه هي رسدية الهوية‪.‬‬

‫يبدأ الناس بوضع حيواتهم يف قصص حياتية خاصة بهم يف سنوات مراهقتهم وبداية رشدهم‪ .‬وقبل هذا ٍ‬
‫بوقت طويل‪ ،‬يكون الناس قادرين عىل‬
‫رواية تجاربهم الشخصية بطريقة قصصية‪ .‬ولكن ال يبدأ الناس برتتيب حياتهم كاملةً‪ ،‬أي املايض الذي يذكرونه‪ ،‬والحارض كام يرونه واملستقبل كام‬
‫يتخيلونه يف رسديات حياتية واسعة متيّزهم عن غريهم وتعطي حياتهم شيئاً من الوحدة‪ ،‬واملغزى واملعنى حتى سنوات الرشد املبكر‪.‬‬

‫رسدية الهوية هي قصة حياتك كام تستوعبها بداخلك واملتغرية عىل الدوام‪ ،‬والتي تبدأ بالعمل عليها يف سنوات الرشد املبكر‪ .‬وتربط القصة ما بني‬
‫طموحاتك املختلفة واألدوار التي تلعبها وتضعها يف إطار رسدي ذي معنى‪ .‬وتروي القصة كيف تعتقد أنك تطورت عرب الزمن وإىل أين تعتقد أن‬
‫حياتك متجهة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وتقدم القصة ما تعتقد أنت أنه صحيح وجيد‪ ،‬وكيف تتوقع أن تلبي (أو ال تلبي) هذه املعايري‪ .‬إنها تشكل الدليل املرن للمستقبل واألرشيف‬
‫التاريخي لفهم ماضيك‪ .‬مل تنت ِه القصة بعد‪ ،‬وهي قصة متشابكة ومتناقضة يف بعض األحيان‪ ،‬وعرضة ملراجعة مهمة‪ .‬قد تحتوي القصة عىل أكرث من‬
‫حبكة‪ ،‬والعديد من املشاهد‪ ،‬والشخصيات واملحاور‪ .‬وتحجز لك القصة مكاناً يف عامل الراشدين‪ ،‬حيث ميلك اآلخرون قصصهم الشخصية‪ ،‬والتي قد‬
‫يشبه بعضها قصتك أنت‪ .‬هذه القصة موجودة بداخلك‪ ،‬يف ذهنك‪ ،‬حتى وإن كنت نادرا ً ما تركز بشكل وا ٍع عليها‪ .‬إنك تحمل القصة إىل أي مكان‬
‫تذهب إليه‪ ،‬وتشارك بعض جوانبها مع الناس‪ ،‬خصوصاً عندما يشاركون هم بعض جوانب قصصهم معك‪.‬‬

‫ال يوجد حاجة ثقافية أو اجتامعية لرتتيب حياتك يف هوية رسدية قبل بلوغ مرحلة الرشد املبكر‪ .‬يف املجتمعات الحديثة‪ ،‬نحن ال نتوقع من األطفال‬
‫أن يختاروا املهن التي يرغبون بها‪ ،‬أو يقرروا معتقداتهم األساسية‪ ،‬أو يضعوا الخطط لعيش حياة ذات مغزى وقيمة‪ .‬حتى لو كنا مغفلني مبا يكفي‬
‫لنتوقع كل ذلك من األطفال‪ ،‬فإنهم لن يتمكنوا من القيام بذلك‪.‬‬

‫وتبني األبحاث أن األطفال والعديد من اليافعني ال ميلكون املهارات اإلدراكية الرضورية لتكوين قصص حياتهم بشكل كامل‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مييل‬ ‫ّ‬
‫األطفال إىل رؤية العامل من منظور محدد وعميل جدا ً‪ ،‬لذا فإن األسئلة حول معنى الحياة ومغزاها هي أسئلة ذات طبيعة تجريدية ومن الصعب‬
‫الوقوف عندها وفهمها بشكل كامل‪ .‬ويتطلب تكوين رسدية ذات قيمة للهوية التفكري يف عدد من االحتامالت يف الحياة‪ ،‬واالختيار ما بني املفاهيم‬
‫املجردة املختلفة وكل ذلك يتطلب قدرات كاملة عىل التفكري املجرد‪ .‬ال توجد القدرة عىل التفكري يف الفرضيات واملوازنة فيام بينها – أي ما يسميه‬
‫بعض علامء النفس بـالتفكري اإلجرايئ الرسمي‪-‬يف العادة قبل بلوغ سن املراهقة‪.‬‬

‫وجادل علامء النفس تيلامن هابرماس وسوزان بالك بأن عىل الناس أن يتمتعوا بالقدرة عىل مامرسة أربع مهارات ذهنية مختلفة ليتمكنوا من‬
‫تكوين قصة حياة متسقة‪ .‬أوالً وقبل كل يشء‪ ،‬عليهم أن يكونوا قادرين عىل تكوين القصص الصغرية املرتبطة باألهداف حول أحداث محددة يف‬
‫يبني قدرة اإلنسان عىل الرواية بطريقة متسقة سلسلة من األحداث التي تقع عرب‬ ‫حياتهم‪ .‬ويسمي هابرماس وبالك ذلك "االتساق الزمني"‪ ،‬ألنه ّ‬
‫الزمن‪ .‬يستطيع معظم األطفال فعل ذلك يف مرحلة الروضة‪ ،‬ثم يتحسنون كلام كربوا‪ .‬ثانياً‪ ،‬يجب أن يكون الناس قادرين عىل املواءمة ما بني فهمهم‬
‫لسريتهم الذاتية وما يتوقعه املجتمع من الحياة‪ ،‬أي ما يسميانه "اتساق السرية الذاتية"‪ .‬عليهم أن يعرفوا ما يحدث يف مجتمعهم يف العادة يف حياة‬
‫املرء‪.‬‬

‫عىل سبيل املثال‪ ،‬يف مجتمعات حديثة كمجتمعنا‪ ،‬يتوقع من أبناء الطبقة الوسطى أن يذهبوا إىل املدرسة حتى سن ‪ 18‬عاماً‪ ،‬ثم يرتكوا املنزل بعد‬
‫ذلك عىل األرجح‪ ،‬ويحصلوا عىل وظيفة‪ ،‬وقد يتزوجوا كراشدين شباب‪ ،‬وقد ينجبوا األطفال بعد ذلك‪ ،‬ثم يتقدموا إىل األمام (يحرزون التقدم‪،‬‬
‫يتحسن وضعهم) يف مسريتهم ااملهنية أو مجال عملهم‪ ،‬ثم يصلوا إىل "منتصف العمر" يف األربعينيات من عمرهم تقريباً‪ ،‬وقد يتقاعدوا عندما يبلغوا‬
‫سن ‪ 65‬عاماً تقريباً‪ ،‬وال يتوقع أن يعيشوا أكرث من ‪ 90‬عاماً‪ ،‬الخ‪.‬‬

‫يف مرحلة الروضة‪ ،‬نكون غري واعني لكل ذلك‪ ،‬ولكن يف مرحلة التعليم اإلعدادي‪ ،‬نكون قد قرأنا ما يكفي من السري الذاتية (أو عىل األرجح شاهدناها‬
‫عىل التلفاز)‪ ،‬أو حصلنا عىل التجارب الثقافية الكافية لفهم التسلسل األسايس لألحداث املفصلية التي تشكل أي حياة عادية‪.‬‬

‫عندما يبدأ األطفال واليافعون بفهم االحتامالت املمكنة يف حياتهم‪ ،‬يبدؤون باالستمتاع بالخياالت الجامحة ألنفسهم‪ .‬كنت سألعب مع شيكاغو‬
‫كابس‪ ،‬وقد تصورت مسرييت املهنية كاملة عندما كان عمري ‪ 11‬عاماً‪ .‬كنت سأفوز بـ ‪ 22‬مباراة يف بدايايت‪ ،‬ثم سأعاين من الرتاجع يف السنة الثانية‬
‫مام أفوز‪ ،‬ومن ثم سأقدم أدا ًء مذهالً عىل مدار ‪ 15‬عاماً بعد ذلك‪ ،‬وأصبح عىل قامئة املشاهري‪ .‬ثم سأنهي مسرييت املهنية كالعب احتياط‬ ‫وأخرس أكرث ّ‬
‫يخرج إىل امللعب لينهي الشوط اإلضايف يف املباراة النهائية لنهائيات كأس العامل ضد اليانكيز بالفوز‪ .‬يف مسرييت املهنية املتخيلة يف مجال البيسبول‪،‬‬
‫ط ّورت ما يسميه عامل النفس ديفيد الكيند "األسطورة الشخصية" لحيايت‪ ،‬وهذه األساطري هي رسديات ذاتية جامحة يف الخيال‪ ،‬والتي يطورها بعض‬
‫األطفال واليافعني يف أذهانهم‪ ،‬ويعربون عنها أحياناً يف مذكراتهم‪ ،‬أو كام حدث يف حالتي‪ ،‬يف الدفاتر املليئة بنسب الفوز‪/‬الخسارة‪.‬‬

‫ويف الغالب ما تكون هذه املسودات األوىل لرسدية الهوية‪ ،‬واملليئة بالخياالت الحامسية والبطوالت‪ ،‬غري واقعية عىل اإلطالق (بالنظر إىل أدايئ‬
‫‪8‬‬
‫املتواضع يف فريق الالعبني الصغار) وتوحي بنوع من األنانية يف سنوات املراهقة‪ ،‬والتي قد تكون محرجة حتى يف حينها‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ال‬
‫عيب بوجود أساطري شخصية يف ٍ‬
‫وقت ما من حياة املرء‪ ،‬فقد تكون مبثابة مسودات لرسدية الهوية‪ .‬ويقوم معظمنا بتمزيق هذه املسودات ورميها‪،‬‬
‫ولكننا ال ننساها‪.‬‬

‫يبدأ ما يسميه هابرماس وبالك "االتساق السببي" بالظهور يف سنوات املراهقة‪ ،‬عندما يصبح الناس قادرين بشكل متزايد عىل الربط بني املشاهد‬
‫املختلفة يف الحياة وتكوين الرسديات السببية املمتدة والواقعية‪ .‬تسأل األم ابنتها سامانثا‪ ،‬الطالبة يف املدرسة الثانوية عن السبب الذي جعلها تحب‬
‫موسيقى الراب فجأة‪ ،‬وبالطبع فإن سامانثا لن تقول شيئاً‪ .‬ولكن إن تكلمت سامانثا‪ ،‬فستقول عىل األرجح أنها كانت تكره الراب ألن أعز صديقة‬
‫لديها‪ ،‬كريستني‪ ،‬كانت تكرهها‪ ،‬وقد كانت تعترب أن كريستني تعرف كل يشء وهي أعز صديقة لها منذ سنوات اإلعدادية‪.‬‬

‫تبني لهام أن ويل‬


‫ولكنهام تشاجرتا الشهر الفائت‪ ،‬عندما اكتشفت أن كريستني تغازل ويل‪ ،‬مع أنه يواعد سامانثا‪ .‬تجاوزت الفتاتان خالفهام‪ ،‬فقد ّ‬
‫فاشل بكل األحوال‪ ،‬ولكن تشعر سامانثا أنها ما عادت تثق بكريستني ثقة عمياء‪ ،‬وتحب اآلن أن تتحدى آراء كريستني حول العديد من األشياء مثل‬
‫األزياء واملوسيقى‪ .‬وبهذا املزاج الذي يحب أن يُعارض كريستني ألجل املعارضة‪ ،‬اشرتت سامانثا قرصاً مدمجاً ملوسيقى الراب‪ ،‬وب ّدلت املحطة اإلذاعية‬
‫التي تستمع لها‪ ،‬وأصبحت تتابع هذه األشياء اآلن‪ ،‬والتي تحبها‪ ،‬ويروق لها أن كريستني ال تحبها أيضاً‪.‬‬

‫تبني كيف ميكن للفرد أن يربط حدثاً ما بغريه‪ ،‬وغريه مرة أخرى يف سلسلة ممتدة من السببية‪ .‬وإذا ما استنتجت‬ ‫حسناً‪ ،‬إنها قصة غريبة‪ ،‬ولكنها ّ‬
‫يبني ما تؤمن بأنه ميل هام يف حياتها‪ ،‬كميلها للتمرد عىل املألوف مثالً أو شكها الجديد بالصداقة‪ ،‬فإنها تكون قد بدأت‬
‫سامانثا أن هذا التسلسل ّ‬
‫بإظهار ما يسميه هابرماس وبالك "االتساق املحوري" يف رواية قصة حياتها‪.‬‬

‫يف االتساق املحوري‪ ،‬يستطيع الفرد أن يستخلص محورا ً عاماً أو مبدأ حول الذات بنا ًء عىل سلسلة من األحداث املروية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد يفرس‬
‫رجل أعامل أصول قيمه السياسية املحافظة من خالل الحديث عن سلسلة من األحداث واالستنتاجات التي وقعت يف أوائل العرشينيات من عمره‪،‬‬
‫بعد أن تخرج بقيمٍ ليربالية وشهادة يف العلوم اإلنسانية ولكنه مل يجد عمالً‪ ،‬ومن ثم تركته صديقته ذات التوجهات الليربالية‪ .‬التحق بعدها بكلية‬
‫األعامل وأعجبه أستاذ االقتصاد ذو امليول السياسية املحافظة‪ ،‬ثم بدأ مرشوعاً صغريا ً وقد عاىن بالفعل بسبب قوانني وتعليامت الرضيبة الجائرة‪،‬‬
‫ومن ثم تزوج امرأة محافظة هي األخرى‪ ،‬وساعدته عىل التمسك بتلك األفكار‪ .‬ومن ثم خدع بإدارة كلينتون وفضيحة عزل الرئيس‪ ،‬وأقسم بأال‬
‫ينتخب مرشح الحزب الدميقراطي مرة أخرى‪ .‬كرب عمله وأصبح ناجحاً إىل حد كبري‪ ،‬واآلن لديه هو وزوجته طفالن ويقلقان كثريا ً بشأن السالمة يف‬
‫مجتمعهم يف الضواحي‪ ،‬وتستمر القصة‪.‬‬

‫يجادل هابرمان وبالك بأن االتساق السببي واالتساق املحوري نادران قبل مرحلة املراهقة‪ ،‬ولكنهام يكتسبان أهمية متزايدة يف سنوات الرشد املبكر‪.‬‬
‫وعندما يحني الوقت الذي يتوقع فيه املجتمع منا بدء العمل عىل رسديات هويتنا‪ ،‬نكون قد اكتسبنا املهارات اإلدراكية الالزمة لذلك‪.‬‬

‫تربط رسدية الهوية ما بني الذكريات العرضية واألهداف املستقبلية لتحديد حياة الراشد يف السياقني الزمني واالجتامعي‪ .‬تخربنا القصة من نحن‪،‬‬
‫حتى وإن مل تكن حقيقية متاماً يف التفاصيل واملشاهد‪ .‬ولرمبا هذه هي النقطة األساسية حول القصص التي نعيش وفقها‪ ،‬فهي ليست إعادة‬
‫مام نذكره هو‬ ‫وتبني األبحاث يف سيكولوجية اإلدراك أن الذاكرة العرضية انتقائية إىل ٍ‬
‫حد كبري‪ .‬ال ميكننا تذكر كل يشء‪ ،‬والكثري ّ‬ ‫موضوعية للاميض‪ّ .‬‬
‫عىل األغلب مشوش وليس دقيقاً متاماً حول كل التفاصيل‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الجدول ‪ 3.1‬نقاط التطور يف رسدية الهوية‪ :‬من الطفولة املبكرة إىل الرشد املبكر‬

‫العمر التقريبي ‪-1‬‬ ‫األهمية بالنسبة لـ‬


‫‪ 2‬سنة‬
‫مرحلة ال ُرضَّ ع‬ ‫اللحظات الفارقة‬ ‫رسدية الهوية‬
‫ظهور الرواية الذاتية‪ ،‬تعزيز الـ"أنا" بصفتي الراوي‪/‬املمثل عرب الزمن الوعي املمتد‬

‫السرية الذاتية‬

‫فهم أن ترصفات اإلنسان مبنية عىل الرغبات واملعتقدات املوجودة‬


‫‪ 5-4‬سنوات‬ ‫الحضانة‪/‬الروضة‬ ‫نظرية العقل‬
‫يف أذهان املمثلني‪/‬الشخصيات‬

‫يستطيع األطفال اآلن أن يفهموا االتساق الزمني ويرووا قصصاً‬


‫بسيطة باستخدامه‬

‫يط ّور األطفال األكرب سناً واليافعون األساطري الشخصية التي متثل‬
‫األسطورة‬
‫‪ 14 -10‬سنة‬ ‫املراهقة املبكرة‬ ‫املسودات األولية من رسدية الهوية‪ ،‬وذلك باالستفادة من اتساق‬
‫الشخصية‬
‫السرية الذاتية الذي تطور لديهم بهذا السن‪.‬‬
‫بعد تطور املهارات املرتبطة باالتساق السببي واالتساق املحوري‪،‬‬
‫قصص الحياة‬ ‫يبدأ الشباب بتكوين رسديات الهوية الداخلية إلضفاء املغزى عىل‬
‫‪ 25-17‬سنة‬ ‫الرشد املبكر‬
‫الكاملة‬ ‫حياتهم‪ .‬وتربط القصص ما بني املايض الذي أعيد تكوينه‪ ،‬والحارض‬
‫الذي يعيشونه واملستقبل الذي يتخيلونه‪.‬‬
‫‪imagined future.‬‬

‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬يرتبط معظم ما نذكره بوضعنا الحايل وأهدافنا املستقبلية‪ .‬إذا كنت أخطط ألصبح طبيباً‪ ،‬قد أمتلك ذكريات واضحة حول تعلم‬

‫‪10‬‬
‫العلوم ومساعدة الناس يف طفولتي‪ .‬وإذا كنت عىل وشك الطالق‪ ،‬قد أجد أن معظم ذكريايت الدقيقة من املايض القديم التي أستحرضها مرتبطة‬
‫مبشاعر الفقدان والحزن‪.‬‬

‫إذا تويف والدي فجأة‪ ،‬قد أنىس كل األشياء السيئة التي فعلها وأعيد تشكيل تاريخي ليبدو كبطل مل أعرفه يف الواقع‪ .‬إننا نعيد تشكيل املايض‪ ،‬بطريقة‬
‫غري واعية وغري مقصودة‪ ،‬يف ضوء ما نراه اليوم وما نتخيله يف املستقبل‪ .‬وبالطبع تنبني قصص حياتنا عىل الواقع‪ ،‬وهناك بعض الحقائق ال ريب‬
‫فيها‪ .‬لقد لعب بوب الف يف فريق ذا بولز بال شك‪ ،‬وميكنكم التأكد من األرشيف‪ .‬وكان يتلعثم يف الكالم بشكل كبري أيضاً‪ ،‬وأقسم بأنني شاهدت‬
‫مام يثري االهتامم يف رسدية الهوية ينبع من السامح ألنفسنا بإضافة البعد الدرامي عىل ذكرياتنا وأهدافنا لتتحول إىل‬
‫ذلك عىل التلفاز‪ .‬ولكن الكثري ّ‬
‫حد ما‪ ،‬نحن من يصنع قصصنا‪ ،‬ونحن من يقرر من نحن‪ ،‬من كنا ومن سنكون‪.‬‬ ‫رسدية آرسة‪ .‬إىل ٍ‬

‫دور الجمهور يف قصص الحياة‬


‫واجه ادموند موريس صعوبة بالغة يف إيجاد الصيغة الرسدية املناسبة حني كان يكتب سرية حياة الراحل رونالد ريغان‪ .‬كيف تروي قصة هذا الرجل‬
‫تعرب عن فهمك لشخصية رونالد ريغان؟ بعد ‪ 13‬عاماً من البحث املضني‪ ،‬كان موريس ال يزال يواجه تلك املشكلة الكبرية‪ ،‬ألن أحدا ً‪،‬‬ ‫الغامض؟ كيف ّ‬
‫عرب عن فهم جاد للرئيس األربعني يف تاريخ الواليات املتحدة‪.‬‬
‫مبن فيهم ريغان ذاته‪ ،‬قد ّ‬

‫كيف ميكنك فهم صعود هذا الرجل من ممثل غري ذي شأن يف هوليوود إىل الرجل الذي يشغل املنصب األكرث قو ًة ونفوذا ً يف العامل؟ لقد كان ريغان‬
‫ممثالً عىل الدوام‪ ،‬بحسب ما كتب موريس‪ .‬حتى قبل وصوله إىل هوليوود‪ ،‬كان يعيش كام لو أنه عىل املنصة‪ ،‬يتحرك بصورة رسيعة وحاملة من‬
‫عرض إىل آخر‪ .‬وكتب موريس "عندما كان مراهقاً‪ ،‬مل يكن لدى ريغان أي اهتامم شخيص بالناس‪ :‬لقد كانوا وال زالوا جمهورا ً بال مالمح لعرضه‬
‫املستمر"‪ .‬لقد لعب دور الرئيس بالرباعة املعهودة‪ ،‬وال يجب أن نستغرب أن أحدا ً مل يعرفه‪ ،‬ألنه كان ميثل طوال الوقت‪ ،‬منذ البداية وحتى النهاية‪.‬‬

‫كتب موريس‪:‬‬

‫يربع ممثلو السينام يف االنتقال من إنتاج إىل آخر‪ ،‬وأحياناً بني إنتاجات مختلفة يتم تصويرها بالتزامن مع بعضها البعض عىل منصات‬
‫متجاورة‪ .‬أعتقد أن هذا هو السبب وراء قرص فرتة انتباه ريغان األسطوري‪ ،‬والذي ش َّبهه مساعده الغاضب بذبابة الفاكهة‪ .‬ولكن بدا يل أن‬
‫ضعف انتباهه والتشبيه‪ ،‬كالهام غري عادلني‪ :‬لقد كان موضوعاً جدياً‪ ،‬بل صعباً للدراسة بشكل عام‪.‬‬

‫عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ظل رونالد ريغان ممثالً طيلة فرتة حياته‪ ،‬ظل رجالً يدخل ويغادر‪ ،‬سواء أكان اإلنتاج الذي ينخرط فيه قصريا ً كمحادثة‬
‫أو طويالً كفرتة رئاسية‪ .‬عندما يدخل إىل مكان التصوير‪ ،‬يعرف متاماً ماذا يفعل وكيف يشغل املساحة املخصصة له‪ .‬ال يغادر إال عندما‬
‫يسمع كلمة ‪ ،CUT‬ومن ثم يرتك املكان لينتقل إىل آخر!‬

‫أذكر أنني ألقيت التحية عليه ذات صباح‪ ،‬بعد أن كنت قد أمضيت معه وقتاً ممتعاً يف الليلة السابقة‪ .‬مل يذكر عشاءنا‪ ،‬بل بدا واضحاً من‬
‫ابتسامته وسلوكه الحائر أنه ال يذكره أساساً‪.‬‬

‫بالنسبة للقراء الذين سيغتنمون هذه األدلة ليقولوا بوجود شخص فاقد للذاكرة يف البيت األبيض‪ ،‬أقول‪ :‬أنتم ال تعون أن املمثلني يسريون إىل األمام‪،‬‬
‫ال إىل الخلف‪ .‬ما حدث باألمس مكانه سلة املهمالت‪ ،‬واليوم ال يزال يتكشف أمامنا‪ ،‬وسطور الغد ما زالت يف القلب‪.‬‬
‫كيف تروي قصة حياة ممثل؟ تفعل ذلك مع جمهور ما‪ .‬يف مقاربة أدبية وجدت من ميتدحها وينتقدها‪ ،‬ق ّرر موريس أن يبتكر جمهورا ً (متخيالً)‬
‫يشاهد بدايات حياة ريغان بإعجاب‪ .‬لقد اخرتع شخصاً بالرضورة‪ ،‬وقال إنه شخص يتبع ريغان خالل سنوات مراهقته وبداية رشده‪ .‬كام اخرتع‬
‫موريس بعض التفاصيل لهذا الشخص املتخيل‪ .‬لقد ُولد يف ‪ 9‬آب من العام ‪ ،1912‬وتويف والده يف عام ‪ .1923‬ذهب إىل كلية يوريكا‪ ،‬حيث درس‬
‫ريغان أيضاً‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫من خالل اخرتاع شخصية تشاهد البطل‪ ،‬وهو يكرب‪ ،‬عن بعد‪ ،‬يحاول موريس أن ينقل الطريقة الحيوية والعميقة التي اتبعها ريغان يف عيش حياته‪،‬‬
‫كام لو كان دوماً ميثل أمام جمهور يشاهده بإعجاب‪ .‬كان التأثري مثريا ً لالستغراب والشك‪ ،‬عىل األقل بالنسبة لهذا القارئ‪ .‬من جهة‪ ،‬فإن كاتب السرية‬
‫يكذب عليك‪ ،‬حتى وإن كان يقول بطريقة غري مبارشة أنه يوظف أداة أدبية‪ ،‬ألنه مل يعرف ريغان يف شبابه‪ ،‬وال ميكن أن يكون قد عرفه‪( .‬موريس‬
‫أصغر سناً بكثري‪ ،‬وقد نشأ يف كينيا)‪ .‬بيد أن االسرتاتيجية التي اتبعها موريس يف كتابة السرية تساعده عىل نقل ما يعتقده حقيقة أساسية يف حياة‬
‫رونالد ريغان بطريقة مليئة بالحيوية‪ .‬الحقيقة هي التالية‪ :‬بعيدا ً عن كل األدوار التي لعبها‪ ،‬وبعيدا ً عن كل العروض‪ ،‬عندما تصل إىل لب املوضوع‪،‬‬
‫تجد أن رونالد ريغان كان ممثالً بحق‪ ،‬ممثالً سلساً وقوياً‪ ،‬وقد لعب دورا ً نبيالً بحق عىل الصعيد الدويل‪ .‬لقد كان ممثالً رائعاً مل يستطع كاتب‬
‫سريته الذي يعرتيه الشك أال يُعجب به عن بُعد‪ ،‬دامئاً عن بعد‪ ،‬ألنك ال تستطيع أن تقرتب من ممثل إذا كان بهذه الرباعة‪.‬‬
‫تشري اسرتاتيجية موريس غري املعتادة يف رواية قصة رونالد ريغان إىل حقيقة أكرث شمولي ًة حول قصص الحياة‪ .‬عىل الرغم من أن قلة منا ممثلون‬
‫يشبهون ما كأنه رونالد ريغان‪ ،‬ولكننا نؤلف جميعنا قصص حياتنا ونعيشها بوجود جامهري معينة يف أذهاننا‪ .‬توجد القصص لُرتوى‪ .‬إذا كان كل‬
‫واحد منا راوياً للقصص‪ ،‬فال بد أن هناك من يستمع إىل هذه القصص‪ ،‬أو ال بد أن يوجد يشء ما نستهدفه فيها‪ .‬متاماً مثل رونالد ريغان‪ ،‬كلنا نريد‬
‫التصفيق والتقييم اإليجايب‪ .‬نريد أن يقول النقاد "يا لها من قصة رائعة! يا له من أداء رائع! آه من رسدية الهوية تلك التي تعمل عليها!"‬

‫منذ أن قال شيكسبري أن "العامل كله خشبة مرسح"‪ ،‬يُشبَّه السلوك االجتامعي بتمثيل األدوار‪ .‬وقد ش ّدد علامء االجتامع وعلامء النفس االجتامعي‬
‫منذ زمن طويل عىل الطرق التي تح ّدد بها الجامهري السلوكيات االجتامعية‪ ،‬باإلضافة إىل القوى االجتامعية التي تكون يف العادة خارج سيطرة‬
‫املمثل‪ .‬وبعيدا ً عن السلوك بحد ذاته‪ ،‬فإن رسديات الهويات التي نبدأ بتكوينها يف سنوات الرشد األوىل‪ ،‬أي القصص الداخلية التي نك ّونها‪ ،‬ومن ثم‬
‫نراجعها ونعيش وفقاً لها كلها موجهة نحو مراقبني‪ ،‬ومستمعني‪ ،‬ونقاد وجامهري مهمني وما شابه‪.‬‬

‫هناك طريقتان مختلفتان لتأليف القصص وروايتها أمام الجامهري‪ .‬أوالً‪ ،‬تتطلب العديد من أمناط التواصل االجتامعي رواية القصص حول الذات‪.‬‬
‫هناك آالف األماكن واملواقف التي يروي بها الناس القصص الشخصية‪ ،‬سواء أكان ذلك يف الحفالت‪ ،‬أو صالونات الحالقة‪ ،‬أو مقابالت العمل‪ ،‬أو‬
‫موائد العشاء‪ ،‬أو الرسير‪ ،‬أو يف البار‪ ،‬أو عىل كنبة املعالج النفيس‪ ،‬أو الهاتف‪ ،‬أو يف املحادثات عىل االنرتنت‪ ،‬أو أثناء االنتظار يف الصف‪ ،‬أو أثناء‬
‫التنزه مع الكلب أو غري ذلك‪ .‬نحن نك ّون هوياتنا ونعيد تكوينها من خالل الحوار‪ .‬وبينام يتفاعل الناس مع قصصنا ويشاركون قصصهم معنا‪ ،‬نستمر‬
‫يلق تجاوباً‬
‫يف تعديل قصصنا املتطورة‪ .‬نتلقى التغذية الراجعة والنصح‪ ،‬ونالحظ أن بعض ما روينا قد القى قبوالً جيدا ً جدا ً بينام بعضه اآلخر مل َ‬
‫مامثالً‪ .‬يف بعض األحيان‪ ،‬يبدو وكأن الجمهور مستمع جيد جدا ً‪ ،‬بينام يبدو يف أحيان أخرى مشوشاً وكأنهم يعتربوننا مملني بالنسبة لهم‪.‬‬

‫الشكل ‪3.4‬‬
‫رونالد ريغان يف شبابه‪ .‬كان الرئيس األربعون للواليات املتحدة ورائد األيدولوجية املحافظة يف البالد ممثالً يف هوليوود لسنوات طويلة‪ .‬يف السرية‬
‫املثرية للجدل التي كتبها عنه ادموند موريس‪ ،‬حاول املؤلف إظهار مدى محورية دور التمثيل طيلة حياة ريغان من خالل ابتكار شخصية متخيلة‬
‫متثل دور الجمهور الذي يشاهد بإعجاب‪.‬‬

‫تعرب عنهم بأنفسهم وهم يتخيلون الجامهري أو املستمعني املحددين‪ .‬متت إعادة الطباعة‬
‫ت ُصنع القصص ُلرتوى‪ ،‬ويك ّون الناس قصص حياتهم التي ّ‬
‫بإذن من صور غيتي‪ .‬الصورة مأخوذة من أرشيف هولتون‪/‬صور غيتي‪.‬‬

‫[متت إزالة الصورة]‬

‫يف مجموعة من الدراسات املثرية لالهتامم‪ ،‬رتبت عاملة االجتامع مونيشا باسوبايث مجموعة من املقابالت بني أصدقاء حميمني‪ ،‬بحيث يكون أحدهم‬
‫مستمعاً واآلخر راوياً‪ .‬وقام من أجرى التجربة بتكليف األصدقاء مبهام بشكل عشوايئ‪ .‬يف الحالة األوىل‪ ،‬طُلب من املستمع أن يستمع بإنصات‬
‫للمتكلم‪ ،‬بينام طُلب من اآلخر أن يفكر مبهمة أخرى تشغل تفكريه وتش ّوشه وهو يحاول الرتكيز عىل ما يقوله الصديق اآلخر‪( .‬وكانت املهمة هي‬
‫محاولة تذكر كم مرة قال املتكلم أي كلمة تبدأ بحريف ‪.)th‬‬
‫‪12‬‬
‫كام طُلب من املستمعني أال يخربوا املتكلم بهذه التعليامت‪ ،‬وأن يكتفوا باتباع دوري االستامع املختلفني‪ .‬وبينت النتائج أن الرواة وجدوا األمر‬
‫مزعجاً‪ ،‬ومدعاة للكآبة عندما ينشغل أصدقاؤهم بأمر آخر بينام هم يحاورونهم‪ .‬وق ّيم الرواة الذين كان أصدقاؤهم يستمعون إليهم بإنصات الحوار‬
‫بإيجابية أكرث من أولئك الذين انشغل أصدقاؤهم بع ّد الكلامت التي تبدأ بـ‪ .th‬األمر األكرث إثارة لالهتامم هو ما حدث بعد أسابيع‪ ،‬عندما عاد الرواة‬
‫إىل املخترب وطُلب منهم أن يستذكروا ما حدث خالل تلك الحوارات‪ .‬واجه الرواة الذين انشغل أصدقاؤهم بأمور أخرى أثناء الحديث صعوبة أكرب‬
‫يف تذكر القصص التي رووها باملقارنة مع أولئك الذين استمع إليهم أصدقاؤهم بإنصات‪ .‬لقد أثرت جودة الحوار عىل الذاكرة العرضية فيام بعد‪.‬‬

‫الخالصة هي أنه عندما ال يُنصت الجمهور إىل قصصنا‪ ،‬فإننا منيل إىل إهاملها أو حتى نسيانها أساساً‪ .‬ولحسن حظ كثريين منا‪ ،‬فإن الجمهور الذي‬
‫نشارك معه قصصنا يستمع بإنصات يف معظم األحيان‪ ،‬خصوصاً عندما نشارك قصصا نعتربها ذات أهمية خاصة يف حياتنا‪ .‬وقد درست عاملة النفس‬
‫املختصة بالشخصيات أفريل ثورن مدى اهتامم املستمعني وإنصاتهم للقصص التي تدور حول الصدمات أو األحداث العاطفية بشكل كبري‪ .‬وكان‬
‫من دواعي االستغراب أن ّبني البحث الذي أجرته أن هناك نسبة كبرية من الناس الذين يروون القصص الشخصية جدا ً حول أحداث معينة بعد‬
‫وقوعها بفرتة قصرية‪ .‬ويُشار إىل أن مشاركة القصص مع اآلخرين الذين تربطنا بهم عالقة حميمة هي مامرسة منترشة جدا ً حتى أن ثورن تطلق‬
‫عليها مصطلح "الذكريات الحميمة" لتشري إىل أبرز أحداث حياة اإلنسان وأكرثها تأثريا ً يف تشكيله‪.‬‬

‫ويؤدي وجود الجمهور العديد من األغراض بالنسبة لقصص الحياة‪ .‬متاماً مثل املعالجني النفسيني واملرشدين‪ ،‬ميكن للمستمع الجيد أن ّ‬
‫يعرب عن‬
‫التعاطف ويقدم التشجيع للناس الذين يروون قصصاً حزينة أو صادمة‪ .‬كام تبني مشاركة القصص الدفء والحميمية بني األصدقاء‪ .‬إضافة إىل ما‬
‫يعربون عن معاين وطبيعة ذكرياتهم حول األحداث ويوضحونها يف كل مرة يروونها‪ .‬ويساعد الجمهور يف فهم ما تعنيه‬
‫سبق‪ ،‬تقول ثورت أن الناس ّ‬
‫قصصنا‪ ،‬ويعملون بشكل خفي عىل تشكيل قصصنا وتغيريها عىل مر الزمن‪.‬‬

‫عىل الرغم من أننا معتادون عىل اعتبار الجمهور منفصالً عن املمثل أو الراوي‪ ،‬هناك أيضاً فكرة تقول بأن الجمهور موجود بداخلنا‪ .‬يراقب الناس‬
‫ذواتهم‪ ،‬ويستمعون إىل القصص التي يروونها‪ ،‬وقد يترصفون أحياناً كام لو كانوا أسوأ نقاد لذواتهم‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬هناك حالة يكون فيها الجمهور‬
‫املهم نفسياً منفصالً عن الذات ويراقب الذات من الداخل‪ .‬وهذه هي الطريقة الثانية التي يرتبط بها الجمهور برسدية الهوية‪ .‬يؤكد فرويد أن‬
‫بداخل عقل كل فرد ناضج األنا العليا‪ ،‬والتي تشكل الجمهور الداخيل الذي ميرر حكامً عىل الذات‪ .‬ويضيف قائالً بأننا نخزن صورا ً لذوينا يف طفولتنا‬
‫املبكرة‪ ،‬ومن ثم يصبحون هم يف أذهاننا رموز السلطة القاسية‪ .‬وحتى بعد رحيل ذوينا‪ ،‬فإننا نحملهم بداخلنا (بالالوعي) يف أذهاننا‪ ،‬ويستمرون يف‬
‫إعطاء التعليقات السلبية (وأحيانا ً) املديح‪.‬‬

‫وط ّور مفكرون آخرون أفكارا ً مشابهة‪ ،‬حيث طرح عامل االجتامع الشهري جورج هيرببريت فكرة أن الناس املثقفني ينظمون سلوكهم الشخيص من‬
‫خالل اإلشارة املستمرة إىل "اآلخر العام"‪ .‬وقد قصد أن الناس الناضجني ميكنهم تخيل رد فعل املجتمع بشكل عام عىل سلوكياتهم وكيف ينظر لها‪.‬‬
‫وبالنسبة مليد‪ ،‬فإن الصورة الداخلية للمجتمع تشكل الجمهور األساس للذات‪ .‬نحن نسعى إىل تكوين الذات التي تريض الجمهور‪.‬‬

‫برأيي‪ ،‬فإن لدينا جميعاً تلك الجامهري بداخلنا لقصص حياتنا‪ ،‬وأن هذه الجامهري تخربنا الكثري ع ّمن نكون متاماً بقدر ما تخربنا قصصنا‪ .‬وبالطبع‪،‬‬
‫فإنني أعتقد أنه ال ميكن فصل الجمهور عن القصة‪ ،‬ألن القصة قد ُصنعت من أجل هذه الجامهري بالذات‪ .‬من هو جمهورك الداخيل؟ هل هم‬
‫والداك؟ رشيكك؟ حبيب سابق؟ أستاذ عرفته يوماً؟ األطفال الذين هزئوا منك ذات يوم ألنك تلعثمت بطريقة محرجة؟ أطفالك؟ الناس الذين تتخيل‬
‫أنهم يتكلمون عنك بعد مائة سنة؟ الله؟‬

‫ت ُصنع رسدياتنا للهوية‪ ،‬وتؤدى وتُراجع يف الحياة االجتامعية اليومية‪ ،‬ويحدث جزء كبري من هذه العملية مع األصدقاء‪ ،‬واملعالجني النفسيني‪ ،‬وأفراد‬
‫من العائلة‪ ،‬وذلك من خالل الحوار والثقافة‪ .‬ولكن جزءا ً كبريا ً أيضاً يحدث بداخلنا‪ ،‬وأعتقد أنه يحدث يف منصة خاصة أمام جمهور حرصي‪ .‬ت ُروى‬
‫القصة‪ ،‬ومن ثم يُعاد روايتها‪ ،‬وتتم مراجعتها وتأكيدها بحضور ذاك اآلخر الداخيل الذي نحتفي به‪ ،‬ونبجله وقد نخشاه أيضاً‪ .‬قد يكون الجمهور‬
‫بداخلنا ٍ‬
‫قاس وال يرحم‪ ،‬كام قال فرويد‪ .‬ولكن يف أكرث لحظاتنا قتام ًة ووحدةً‪ ،‬قد يقودنا جمهورنا الداخيل الداعم واملشجع إىل الخالص‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫مقابلة قصة الحياة‪ :‬روب ماكغوان‬
‫من ضمن عميل كعامل اجتامع مختص بالرسدية‪ ،‬أشكل أنا نفيس جمهورا ً للقصص التي يرويها الناس‪ .‬وحتى أكون أكرث دقةً‪ ،‬نك ّون أنا ومساعدو‬
‫البحث (والذين يجرون معظم املقابالت) جمهورا ً لهم‪ ،‬وما نسمعه يف املقابالت ليس شامالً ودقيقاً متاماً كام تكون رسدية الهوية الكاملة للشخص‪.‬‬

‫ما نسمعه هو رواية جزئية عن جوانب مختارة من قصة حياة الشخص املتطورة كام يدركها هو‪ .‬وألن رواية القصص تتطلب وجود عالقة بني الراوي‬
‫والجمهور املحدد‪ ،‬فإن ما نسمعه يخضع أيضاً ملشاعر الشخص حيال اللقاء وتوقعاته بخصوص ما هو مناسب للمشاركة أو قابل للمشاركة يف تلك‬
‫اللحظة والظروف‪ .‬وما يعزز تلك املشاعر والتوقعات هو ما نقوله نحن للمشارك حول عملية املقابلة ذاتها‪" :‬هذه ليست مقابلة كلينيكية‪ .‬نحن‬
‫لسنا معالجني نفسيني‪ .‬ونحن لسنا هنا الكتشاف ما تعاين منه‪ .‬هذا بحث حول السري الذاتية‪ ،‬ونحن نجمع ضمن هذا البحث قصص حياة الناس‪.‬‬
‫نحن نسجل القصص ومن ثم نقوم بتفريغها‪ ،‬ومن ثم نقرأ التفريغ الحقاً أكرث من مرة بعناية ونحلله بطرق مختلفة"‪.‬‬

‫مل يبدأ علامء النفس البحث يف القصص التي يعيش الناس وفقاً لها إال منذ ‪ 15‬عاماً فقط‪ .‬ويوجه اليوم الباحثون يف عدد من املجاالت الفرعية لعلم‬
‫النفس اهتاممهم إىل تطور القصص يف حياة البرش والتعبري عنها‪ .‬لطاملا استمع املعالجون النفسيون واملرشدون إىل قصص حياة الناس لسنوات‬
‫طويلة‪ ،‬ولكن أهدافهم الرئيسة كانت تركز عىل مساعدة الناس وفهم األمراض النفسية‪ .‬من وجهة نظر علمية‪ ،‬يهدف علم النفس الرسدي إىل فهم‬
‫دور القصص وروايتها يف حياة الناس "العاديني"‪ ،‬ويف العالقات بينهم‪ ،‬ويف املجتمع‪.‬‬

‫هناك العديد من املقاربات املختلفة لعلم النفس الرسدي‪ .‬يركز بعض الباحثني عىل أداء الرسدية‪ ،‬أي أثناء الحوارات وغريها من التفاعالت االجتامعية‪،‬‬
‫بينام يبحث آخرون يف تطور فهم الرسدية لدى األطفال‪ .‬ويركز آخرون عىل طرق نقل القصص للمعرفة‪ ،‬ويتمحص غريهم يف القصص بصفتها وسيلة‬
‫تتغري القصص بشكل غري متوقع مع مرور الزمن ومن خالل الخطاب‬ ‫للتعبري العاطفي‪ .‬ويشدد غريهم عىل تبدل جودة رواية قصة الحياة‪ ،‬أي كيف ّ‬
‫االجتامعي‪ ،‬وكيف يصعب تحديد معانيها‪.‬‬

‫تركز مقاربتي الشخصية عىل الطريقة التي متنحنا بها القصص الهوية‪ ،‬وكيف متنح حياة الراشدين شيئاً من املعنى والغاية‪ .‬كام أنني مهتم مبا ّ‬
‫تعرب‬
‫عنه تلك القصص ذاتها حول الثقافة‪ ،‬لذا أركز عىل االختالفات بني الناس من حيث نوعية القصص التي يشاركونها‪ ،‬ومن ثم أصنف جوانب قصصهم‬
‫كام لو كانت تلك الرسديات من التحف األدبية (وهي كذلك)‪.‬‬

‫إن مقابلة قصة الحياة التي أستخدمها أنا وطلبتي مصممة للناس يف منتصف العمر‪ ،‬أي يف الفئة العمرية ما بني ‪ 35‬و‪ 65‬عاماً‪ .‬يف املجتمعات‬
‫الحديثة‪ ،‬مير املرء يف تلك الفرتة الزمنية الطويلة التي تيل أوىل سنوات الرشد وتسبق سنوات التقاعد بأكرب مكافآت الحياة وأكرب خيباتها أيضاً‪ .‬يف‬
‫الجانب اإليجايب‪ ،‬يكون الراشدون يف منتصف العمر يف أوج نجاحهم املهني وتأثريهم‪ .‬قد يصبحوا قادة يف مجتمعاتهم‪ ،‬وقد يتمتعوا بنفوذ وقوة ال‬
‫يُستهان بهام‪ .‬وقد يكون دور الرشيك‪ ،‬أو الوالد أو الجد مجزياً جدا ً‪ .‬يكون الراشدون يف منتصف العمر كبارا ً مبا يكفي الكتساب درجة معينة من‬
‫النضج‪ ،‬ولكنهم ال زالوا صغارا ً فيام يتعلق باألهداف املستقبلية الكبرية‪.‬‬
‫قد تتمحور حياتهم حول تلك الرغبة القوية بالعطاء وإرشاد األصغر سناً‪ .‬ويف الجانب السلبي‪ ،‬فإنهم مل يعودوا صغارا يف السن‪ ،‬وال يوجد طريقة‬
‫لتبديل هذه الحقيقة‪ .‬يكون ذووهم‪ ،‬يف حال كانوا أحياء‪ ،‬قد كربوا بالسن (أو أصبحوا يعانون من املرض) وسوف ميوتون‪ .‬كام يقلق الراشدون يف‬
‫منتصف العمر حول صحتهم هم وفكرة موتهم أيضاً‪ .‬وبغض النظر عن نجاحهم املهني‪ ،‬فقد يشعروا بغياب التقدير الكايف واإلحباط يف العمل‪ .‬وقد‬
‫تأت من فراغ (حتى وإن‬ ‫يكون من الصعب عليهم تحمل كل مسؤولياتهم وضغوط العائلة وتربية األطفال‪ ،‬ولعل تسمية "أزمة منتصف العمر" مل ِ‬
‫مام‬
‫ّبني البحث النفيس أن الراشدين يف منتصف العمر ليسوا أكرث ميالً للمرور بأزمة من أي شخص آخر)‪ .‬قد يفشل هؤالء يف العطاء وإرشاد غريهم‪ّ ،‬‬
‫يجعلهم مييلون إىل االنعزال لفرتة‪.‬‬

‫كان روب ماكغوان وعمره ‪ 45‬عاما هو الراوي الذي أعرفه يف منتصف العمر‪ .‬يعمل روب ككاتب نصوص للسينام والتلفزيون‪ ،‬كام مثّل ملدة مثانية‬
‫أعوام أيضاً‪ .‬متزوج ولديه طفالن‪ .‬فيام يتعلق بإرشاد اآلخرين وااللتزام تجاه الجيل الشاب‪ ،‬يحقق روب ما قد يصل إىل أعىل الدرجات وفقاً ملعايري‬
‫‪14‬‬
‫التقرير الذايت‪ ،‬ولهذا السبب نجري املقابلة معه‪ .‬وبعد تقديم رشح عام حول نسق املقابلة‪ ،‬يبدأ املحاور بقول ما ييل‪" :‬تخ ّيل أن حياتك مثل الكتاب‬
‫أعط كل فصل اسامً وق ّدم حبكة موجزة لكل فصل"‪.‬‬ ‫ولها فصول‪ .‬أرجو أن تقسم قصة حياتك إىل فصول أساسية‪ِ .‬‬

‫بحس الدعابة ومهارة التمثيل اللتان ميتلكهام‪ ،‬بدأ روب بوصف ظروف فصول طفولته‪ .‬نشأ يف بلدة تشتهر بالتعدين يف ويست فريجينيا "إذا أعطيت‬
‫العامل حقنة‪ ،‬فستذهب اإلبرة مبارشة إىل هذه البلدة"‪ .‬يقول أن البلدة هي "بؤرة للقذارة"‪ ،‬وألنها قد شهدت العديد من الفيضانات‪ ،‬فأصبحت‬
‫ت ُعرف باسم "البلدة التي يحاول الله التخلص منها"‪.‬‬

‫كان والده رشيرا ً يلعب القامر‪ ،‬بينام كانت أمه تعاين من اضطراب الشخصية التمثييل وتراودها األفكار االنتحارية‪ .‬ويذكر روب كيف تناولت الكثري‬
‫من الحبوب ذات مرة وهددت بأن تبتلعها كلها بينام كان "أبناؤها الخمسة الصغار يشدون فستانها ليحاولوا ثنيها عن ذاك الفعل"‪ .‬ويف مناسبة‬
‫أخرى‪ ،‬رسمت صورة تشبه والدهم عىل باب غرفة الغسيل ومن ثم أدخلت السكني يف وسطها‪ .‬كانوا يعيشون يف أحد األحياء البائسة ولكنهم مل‬
‫يكونوا العائلة األفقر فيه‪ .‬يذكر روب بوضوح فقر أصدقائه‪ .‬أخذ األطفال الخمسة يف النهاية إىل دار لأليتام‪ ،‬ولكن روب كان محظوظاً ليقيض وقتا ً‬
‫كافياً مع عائلة بديلة محبة ومستقرة‪ .‬ويف حادثة أخرى منحته ميزة خاصة‪ ،‬انتبهت معلمة إىل موهبة روب يف الكتابة وشجعتها‪ .‬ومن ثم أصبح‬
‫محررا ً لجريدة املدرسة الثانوية‪ ،‬ووجد وظيفة بعد تخرجه كـ"كاتب" يف صحيفة محلية تعيسة‪.‬‬

‫بعد أن رفضت امرأة عرضه للزواج‪ ،‬انتقل روب إىل نيويورك ليخدم الزبائن عىل طاوالت مطعم ميلكه عمه‪ .‬ومثل الكثري من األقارب من جهة والده‪،‬‬
‫كان عمه أيضاً رجل عصابات‪.‬‬

‫واستمر فصل نيويورك املتقلب يف حياة روب حتى سنوات الرشد األوىل‪ .‬كانت تلك الفرتة ما بني أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات‪ ،‬وتورط روب‬
‫يف عامل املخدرات‪ .‬ولكنه نجح كذلك يف حضور حصص التمثيل والكتابة يف كلية محلية‪ .‬عمل لصالح وكالة إعالنات‪ ،‬وكتب النصوص لإلعالنات‬
‫تغري إيقاع حياته بشكل كبري عندما لتقي بنجم تلفزيوين شهري دعاه إىل مقابلة‪ .‬اعتقد‬ ‫التجارية وظهر يف أجزاء بسيطة من بعض إنتاجات برودواي‪ّ .‬‬
‫روب أن منتجيه كانوا يبحثون عن كاتب‪ ،‬ولكنهم يف الواقع أرادوه كممثل يف العرض‪ .‬لعب دور البطولة يف العرض وذلك لثالث سنوات مثرية جداً‬
‫واحد‪ .‬يف ذات الوقت‪ ،‬كان يكتب نصوصاً لألفالم‪ .‬يقول روب "كانت فرتة صعبة للغاية‪ ،‬كان عرضاً صعباً للغاية‪ ،‬استنفد الكثري‬ ‫ولكنها مرهقة يف آنٍ ٍ‬
‫من جهدي من الناحية اإلبداعية‪ ،‬الكثري حتى انتهى يب املطاف مستلقياً عىل كنبة املعالج النفيس ملدة سنة"‪ .‬أحس أصدقاؤه بأن العرض كان يقتله‪،‬‬
‫وشجعوه بأن يرتكه‪ .‬وقد أخذ قرار ترك التلفزيون بعد أن وقع يف غرام فنانة (رسامة) وقررا الزواج‪.‬‬

‫انتقل الثنايئ إىل املنطقة الجنوبية الغربية يف الواليات املتحدة‪ ،‬حيث استمرت زوجته يف الرسم وركز هو عىل كتابة النصوص السينامئية‪ .‬وبوجود‬
‫مسرية مهنية ناجحة‪ ،‬وزوجة محبة‪ ،‬والكثري من األصدقاء املقربني‪ ،‬حاول روب أن يوازن بني رغبات اإلنسان وسعيه نحو القوة والحب‪ .‬ولكن كادت‬
‫املضاعفات التي نتجت عن حمل فاشل أن تنهي حياة زوجته‪ ،‬إال أنها تعافت‪ .‬كان الثنايئ يرغبان بإنجاب األطفال بشدة‪ ،‬حيث شعرا بأن لديهام‬
‫الكثري مام يقدمانه للجيل القادم‪ .‬وأخريا ً‪ ،‬قاما بتبني ولد وبنت‪ ،‬ويذهب األطفال اليوم إىل املدرسة االبتدائية‪.‬‬

‫يكمل الشخص الذي يجري املقابلة "واآلن بعد أن أعطيتنا ملخصاً لفصل وملخصاً للحبكة‪ ،‬أريدك أن تركز عىل مشاهد أو لحظات معينة مفصلية‬
‫يف القصة‪ .‬سوف تركز عىل مثانية مشاهد أساسية‪ .‬وأريدك أن تخربين ما يحدث بالتفصيل يف كل مشهد‪ ،‬ومتى وأين وقع‪ ،‬وب َم كنت تفكر وتشعر‪،‬‬
‫وماذا تشعر بأن املشاهد تعني بالنسبة لحياتك كاملة (إذا كانت تعني أي يشء)"‪.‬‬

‫يطلب املحاور روايات مفصلة لـام ييل‪:‬‬


‫أ) لحظة رائعة يف قصة حياته‬
‫ب) لحظة تعيسة‬
‫ج) لحظة فارقة‬
‫د) أول ذكرياته‬
‫‪15‬‬
‫ه)مشهد مهم من الطفولة‬
‫و)مشهد مهم من املراهقة‬
‫ز)مشهد مهم من حياة الرشد‬
‫ح)مشهد مهم آخر من اختيار الراوي‪.‬‬

‫بالنسبة لروب ماكغوان‪ ،‬كانت اللحظة الرائعة هي اللحظة التي تلت اليوم الذي كادت زوجته أن تفارق الحياة يف املستشفى فيه‪ ،‬فتعافيها جعله‬
‫يشعر بأكرب قدر من السعادة يف حياته‪ .‬أما اللحظة التعيسة‪ ،‬فقد كانت األيام الثالثة التي اكتشف فيها هو وزوجته أن ابنهام يعاين من تلف يف‬
‫الدماغ ميؤوس من شفائه‪.‬‬

‫عندما كان عمر الطفل سنتني‪ ،‬كان الطفل يرصخ ولكنه مل يكن يتكلم بعد‪ .‬يف البداية‪ ،‬اعتقد األطباء أنه بخري‪ ،‬ولكن كان الوالدان يعرفان أنه ليس‬
‫كذلك‪ .‬وتم تشخصيه عىل أنه يعاين من مرض التوحد فيام بعد‪ .‬ومن ثم عاش أسوأ ثالثة أيام يف حياته عندما شارك الطبيب معهام صورا ً للدماغ‬
‫تبني أن الطفل يعاين من تلف خطري وأنه من املستبعد أن يعيش حياة طبيعية‪ .‬ولكن طبيباً غريه شخصه عىل أنه يعاين من اضطراب الرصع‪ ،‬والذي‬ ‫ّ‬
‫ميكن عالجه باألدوية‪ .‬تحسن الطفل‪ ،‬وبدأ بالحديث‪ ،‬ويبدو طبيعياً اآلن‪.‬‬

‫يقول روب "ال زلنا نعتقد أنه الطفل املعجزة بالنسبة لنا"‪ .‬وفيام يتعلق باملشاهد األخرى‪ ،‬يقدم روب روايات مليئة بالتفاصيل ومؤثرة للتجارب‬
‫العائلية‪ ،‬مبا فيها موت والدته‪ ،‬والسفر والصداقات‪ .‬وصف ستة من أصل مثانية مشاهد بأنها قادت إىل الخالص‪ ،‬حيث انتقل يف كل منها من املعاناة‬
‫إىل املكافآة‪.‬‬

‫ويف األجزاء الالحقة من املقابلة‪ ،‬يُطلب من روب أن يحدد أكرب التحديات يف قصة حياته (إصابة ابنه بالرصع) والشخصيات التي كان لها األثر األكرب‪،‬‬
‫سواء أكان إيجابياً أو سلبياً‪ ،‬يف القصة‪ .‬ومن بني الشخصيات اإليجابية‪ ،‬ذكر روب أستاذته التي اكتشفت موهبته يف الكتابة‪ ،‬بينام ذكر والده الذي‬
‫قال إنه "كان حقريا ً طوال الوقت" كشخصية ذات األثر السلبي األكرب‪ .‬ومن ثم تنتقل املقابلة إىل املستقبل‪.‬‬

‫ما الذي سيحدث فيام بعد؟ يتطلع روب إىل أن يكرب أطفاله ‪ .‬ويأمل أن يستمتع باملزيد من النجاح يف كتابة نصوص السينام‪ .‬كام يأمل أن ينتقل‬
‫للعيش يف ايرلندا واالستقرار هناك‪ ،‬فهي البلد األصيل لعائلته‪ ،‬وعىل الرغم من أنه يحمل مشاعر مختلطة تجاه عائلته‪ ،‬فإنه ميلك رؤية حاملة‬
‫للمستقبل يريب فيها أبناءه يف منطقة ريفية هادئة تبدو الحياة فيها أقل صخباً وأكرث توازناً‪.‬‬

‫يعرب روب بشكل جيد عن آرائه السياسية‪ ،‬حيث‬ ‫ثم تنتقل املقابلة إىل املعتقدات‪ ،‬والقيم وفلسفة الحياة – أي الخلفية األيدولوجية لقصة الحياة‪ّ .‬‬
‫يجمع ما بني القيم الليربالية التقليدية بخصوص دعم الحكومة للفقراء ووجهات النظر املحافظة حيال غريها من القضايا االجتامعية‪ .‬أما فيام يتعلق‬
‫بالدين‪ ،‬يقول إنه ال يؤمن بالله‪ ،‬عىل الرغم من أن عائلته البديلة التي أحبها جدا ً حاولت أن تجعل منه كاثوليكياً صالحاً‪ .‬بيد أنه يحرتم الناس الذين‬
‫يحملون "إمياناً هادئاً بداخلهم"‪ .‬لو كان له حياة أخرى‪ ،‬قد يحب أن يُبعث مرة أخرى كيهودي‪ ،‬ألنه معجب مبا يسميه النظرة اليهودية حول تنشئة‬
‫الجيل األصغر سناً والعطاء تجاهه‪ :‬إذا كنت تعيش حياتك بأفضل ما لديك‪ ،‬وبأكرب قدر من املحبة‪ ،‬والعطاء لآلخرين ومتنحهم الوقت‪ ،‬وإذا كنت ترد‬
‫الجميل وتظل تسعى إىل زرع الخري‪ ،‬فكل ذلك سيعود إليك مضاعفاً‪ .‬سوف تعيش حياة عنوانها الوفرة‪ .‬امنح أطفالك فرصة فهم ذلك أيضاً‪ ،‬فهذه‬
‫هي الطريقة التي ميكن لهذا الحب‪ ،‬وهذا الدين أن يستمرا بها لريثهام الجيل القادم"‪.‬‬

‫وتنتهي املقابلة بسؤال حول محور الحياة‪ :‬إذا نظرت إىل القصة كاملة‪ ،‬هل تجد محورا ً أساسيا ً؟" يقول روب "آه‪ ،‬بالنسبة يل‪ ،‬إن كان عليك أن تلخص‬
‫املوضوع بكلمة واحدة‪ ،‬فهي "الخالص"‪ .‬يف قصة روب‪ ،‬يحدث الخالص ألن الناس قد يكونوا يف كثري من األحيان لطيفني ومهتمني بغريهم عىل نحو‬
‫غري متوقع بل وغريب أيضاً‪ .‬ومن ثم عاد إىل الحديث عن اضطراب ابنه‪ ،‬وقال أن هناك الكثري من الناس الذين قدموا لنا املساعدة‪ ،‬حتى مع كل‬
‫الصعوبات التي كنا منر بها‪ ،‬وكل العقبات التي واجهتنا يف مجال الطب‪ ،‬وجدنا الناس الذين غمرونا بلطفهم وكرمهم طوال الوقت‪ .‬عرفنا بسببهم‬
‫أن هناك مالئكة تسري عىل هذه األرض‪ .‬وجعلنا ذلك أقل تشكيكاً بالحياة والعامل الذي نعيش به‪ ،‬واملكان الذي نقيم به‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫مام خرسنا‪ ،‬وتعلمنا املزيد عن الحياة وطبيعة‬
‫عىل الرغم من بشاعة التجربة‪ ،‬فإن النظر إليها بأثر رجعي اليوم يجعلنا ندرك أننا كسبنا منها أكرث ّ‬
‫انس االمور السيئة التي حدثت‪ .‬األشياء الرائعة التي فعلها الناس من أجلنا تجعلنا أشخاصاً أفضل وأكرث‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكم أن العامل ميلء بالناس الطيبني‪َ .‬‬
‫سعادة‪ ،‬ومستمتعني بأن نكون أحياء‪ ،‬وجعلتنا نعلم أن األمل موجود بالنسبة لألرض وللجنس البرشي‪.‬‬

‫الذات املخلّصة هي نوع من القصص التي يُفرتض أن نعيش وفقاً لها – إنها رسدية الهوية التي مييل الراشدون األمريكيون املؤمنون بالعطاء للجيل‬
‫القادم مثل روب ماكغوان إىل صنعها وروايتها‪ .‬حتى قبل سطور مقابلته األخرية‪ ،‬وعندما يقول روب بوضوح أن محور قصته األسايس هو "الخالص"‪،‬‬
‫يبدو واضحاً أنه ك ّون رسدية هوية تحتفي بهذه األحداث يف الحياة‪ ،‬والتي ننتقل فيها من املعاناة إىل مكان أفضل‪.‬‬

‫يحصل الخالص بسبب لطف الناس واهتاممهم ببعضهم البعض‪ .‬ومتاماً مثل قصص حياة الكثري من الراشدين اآلخرين الذين يرغبون يف مساعدة‬
‫تبني قصة روب ميزة مبكرة‪ ،‬وهي وعيه يف طفولته مبعاناة اآلخرين‪ ،‬وذاك الرصاع بني القوة والحب ورؤيته للنمو يف املستقبل‪ .‬يشعر‬
‫الجيل القادم‪ّ ،‬‬
‫روب باالمتنان تجاه التقلبات اإليجابية يف حياته‪ .‬ال شك بأنه محظوظ بطرق كثرية‪.‬‬

‫صندوق ‪ 3.1‬ملخص مقابلة قصة الحياة‬

‫فصول الحياة‬

‫املشاهد األساسية‬
‫لحظة رائعة يف قصة حياته (القمة)‬
‫لحظة تعيسة (القاع)‬
‫لحظة فارقة‬
‫نقطة البداية (أول ذكرياته)‬
‫مشهد مهم من الطفولة‬
‫مشهد مهم من املراهقة‬
‫مشهد مهم من حياة الرشد‬
‫مشهد مهم آخر من اختيار الراوي‪.‬‬
‫تحدي الحياة‬
‫الشخصيات اإليجابية والسلبية‬
‫النص املستقبيل‬
‫املعتقدات والقيم الشخصية‬
‫محور الحياة‬

‫يقدم املستجيب‪ ،‬والذي يكون عاد ًة ما بني ‪ 35‬و‪ 65‬عاماً‪ ،‬رواية لقصة حياته من خالل اإلجابة عىل مجموعة من األسئلة يف مقابلة فردية‪ .‬ويتم‬
‫تسجيل الجلسة التي تستمر لساعتني وتفريغها‪ ،‬وذلك لغايات بحثية وليس للعالج أو اإلرشاد‪ ،‬ومن ثم يتم تحليل التفريغ للتعرف عىل محاور‬
‫نفسية وأدبية متنوعة‪.‬‬

‫بيد أن روب قد عاىن من الكثري من األمل والحرمان‪ .‬ووفقاً ملا رواه‪ ،‬فقد حاولت أمه مرارا ً أن تقتل نفسها‪ ،‬وكان والده رجالً حقريا ً‪ :‬كان أفراد عائلته‬
‫مجرمني مرتوكني بحالة سيئة‪ .‬وقىض روب سنة عىل األقل يف العالج النفيس‪ .‬قد يكون أدمن عىل املخدرات لبعض الوقت‪ .‬من املغري القول أن روب‬
‫ماكغوان يروي قصة حياة تحيك الخالص اليوم‪ ،‬ألن هذا ما حدث يف حياته إذا ما حكمنا بشكل موضوعي‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫إن رواياتنا حول املايض ترويه كام كان – تروي تاريخاً موضوعياً وت ُعيد تصويره يف الذاكرة فورا ً‪ .‬سوف يخربنا أي شخص مر بالتجارب ذاتها القصة‬
‫ذاتها بالطريقة ذاتها‪ ،‬ولكن هل سيفعلون ذلك؟‬

‫أعتقد أن روب قد يروي حياته بطرق مختلفة عديد ة‪ .‬وعىل الرغم من أنني ال أشك يف أن ذكريات روب حول املايض دقيقة إىل حد مقبول عىل‬
‫حد كبري‪ ،‬بالشكل الذي يخدم االهتاممات الحالية واألهداف املستقبلية‪.‬‬ ‫األقل‪ ،‬فقد رأينا يف هذا الفصل كيف تكون الذاكرة العرضية انتقائية إىل ٍ‬
‫وبالطبع قد يكون صحيحاً أن أحد أسباب اعتبار روب ماكغوان رجالً مخلَّصاً اليوم هو أنه قد استفاد كثريا ً من العديد من األحداث يف حياته‪ ،‬والتي‬
‫تحولت فيها بعض األمور السيئة وأدت إىل نتائج جيدة‪ .‬لرمبا‪ ،‬عندما تحدث مثل هذه األحداث يف حياة الناس‪ ،‬ينتهي بهم األمر بالرغبة يف إحداث‬
‫التغيري اإليجايب يف حياة اآلخرين‪ .‬ولكن أؤمن أنه صحيح أيضاً – ومثريا ً لالهتامم من الناحية النفسية – أن روب يروي قصة حياته هذه ألنه يريد‬
‫أن يُلهم الجيل القادم‪.‬‬

‫إنه بحاجة لرواية هذا النوع من القصص‪ ،‬فهو بحاجة إىل وضع حياته يف منط رسدي يع ّزز هذا التوجه ملساعدة اآلخرين‪ .‬الذات املخلّصة هي نوع‬
‫من قصص الحياة التي توفر الدعم الالزم يف منتصف العمر ملساعدة اآلخرين‪ .‬إنها نوع من رسدية الهوية التي توفر للراشد يف منتصف عمره الثقة‬
‫وااللتزام املطلوبني للقيام باملساهامت املستدامة واإليجابية تجاه الجيل القادم‪.‬‬

‫إن االعتقاد بأنك محظوظ (سواء كنت كذلك أم ال) وأن كثري من اآلخرين يعانون (سواء أكانوا يعانون بالفعل أم ال) يضعنا أمام تناقض واضح يف‬
‫تحد أخالقي‪ :‬ت ُكلف بهذه املهمة ألنك مختلف‪ ،‬وقدرك أن تكون ذا فائدة لآلخرين‪ .‬رؤية الحياة من منظور الخالص‬ ‫رسدية الحياة ويرتتب عىل ذلك ٍ‬
‫تزودنا باإلميان بأنه حتى عندما نواجه معاناة يف املستقبل‪ ،‬فال زلنا قادرين عىل تحقيق النتائج الجيدة‪ .‬إن العمل الحقيقي والقيام مبسؤولياتنا تجاه‬
‫الجيل القادم سيحققان نتيجة يف النهاية‪ .‬سوف تنمو األشياء وتتطور‪ ،‬وسيكون املستقبل جيدا ً‪.‬‬

‫رسديات الهوية هي القصص التي نعيش وفقاً لها‪ .‬نحن من يصنعها‪ ،‬ومن ثم نعيد صناعتها‪ .‬نحن من يرويها‪ ،‬ومن ثم نراجعها‪ ،‬ال من أجل تقديم‬
‫رواية أكرث دقة للاميض‪ ،‬بل من أجل خلق الذات املتسقة التي تساعدنا عىل التمتع بالطاقة واملغزى للميض قدماً يف حياتنا‪ .‬وتتشكل قصصنا جزئياً‬
‫من الظروف الحقيقية لحياتنا – العائلة‪ ،‬والطبقة‪ ،‬والنوع االجتامعي‪ ،‬والثقافة واللحظة التاريخية التي نجد أنفسنا فيها‪ .‬ولكننا منارس الخيارات‬
‫أيضاً‪ ،‬أي الخيارات الرسدية‪ .‬يستدعي تحدي رسدية الهوية استخدام مصادرنا الدفينة من الخيال واإلبداع‪ .‬إن عيش الحياة بشكل جيد‪ ،‬مبعنى وغاية‪،‬‬
‫هو فعل من الخيال والفن‪ ،‬متاماً كأي يشء آخر نحاول صنعه‪ .‬رواية قصة الحياة فن بحد ذاته‪ .‬لديك املادة الالزمة‪ ،‬فام القصة التي تنوي صياغتها‬
‫اآلن؟‬

‫‪18‬‬

You might also like