Professional Documents
Culture Documents
دان مكأدامز - الذات المخلّصة - من جامعة أوكسفورد
دان مكأدامز - الذات المخلّصة - من جامعة أوكسفورد
دان مكادامز
1
ثالث قصص حياتية
حني كنت مراهقا كان العب كرة السلة املفضل بالنسبة يل بوب لوف .قبل بروز نجم مايكل جوردان كان لوف هو الهداف الرئييس يف تاريخ فريق
شيكاغو بولز حيث أحرز 12،623نقطة خالل املواسم السبعة التي لعب فيها مع الفريق ( .)1976 – 1969كان لوف ،وهو الذي انتخبته الجمعية
الوطنية لكرة السلة "النجم املتكامل" ثالث مرات ،معروفا بحركاته املرنة وتصويبه الدقيق من ساحة امللعب .ما مل يعرفه محبوه من خارج شيكاغو
هو انه كان ال يستطيع النطق .كانت لديه مشكلة شديدة يف التأتأة لدرجة أنه يف بعض األحيان مل يكن يستطيع نطق حتى كلمة واحدة .عرفت
عن هذه املشكلة يف إحدى الليايل حني أجرى أحد الصحفيني الرياضيني املشهورين يف شيكاغو ،جاك بريكهاوس ،مقابلة مع لوف عىل قناة محلية
بعد إحدى املباريا ت .ويف معرض إجابته عىل السؤال األول الذي طرحه جاك تأتأ لوف لفرتة طويلة وأخريا متكن من نطق كلمة أو كلمتني غري
مفهومتني .رشح جاك لجمهوره بأن لوف لديه إعاقة يف النطق وأن علينا أن نتوخى الصرب .حاول طرح سؤال آخر ،ولكن األمر ازداد سوءا .كان مشهدا
مريعا .أنهت املحطة املقابلة ،وأطفأت جهاز التلفاز بعنف والدمع ميأل عيني.
انتهت السرية املهنية للوف كالعب كرة سلة محرتف بسبب إصابة شديدة يف الظهر وذلك يف عام .1977بعد الجراحة أخرب األطباء لوف بأنه قد ال
يتمكن من السري بشكل طبيعي مرة ثانية .وحني عاد لوف إىل منزله يف إحدى الليايل يرتكز عىل عكازتني وجد زوجته قد غادرت املنزل واملدينة
بأكملها حاملة األثاث واملجوهرات وكل ما يف حساباتهم البنكية .تركت له رسالة قصرية تقول "ال أريد ان أكون زوجة شخص ُمقعد يتأيتء ".خالل
السنوات التي تلت هذه الحادثة انتقل لوف من وظيفة إىل أخرى حتى حصل عىل وظيفة دامئة يف غسل الصحون والعمل كنادل يف متجر نوردسرتوم
يف سياتل ،واشنطن .كان راتبه 4.5 – 4دوالر يف الساعة .أحيانا ما كان يتعرف عليه الزبائن ويتهامسون" :أنظروا ،هذا بوب لوف"" .كان العب كرة
سلة رائع .يا لألسف ".كان لوف نجام يف نوردسرتوم" :قررت بأنني إذا كنت سأكون غاسل صحون ونادال سأكون أفضلهم ".مل يتغيب يوما عن العمل.
ويف أحد االيام قال دون نوردسرتوم ،مدير املتجر ،للوف بأنه لو كان يتحدث بطالقة أكرث لكان بإمكانه ان يحصل عىل ترقية .عمل لوف عىل مدار
السنة التالية مع معالجة نطق ،سوزان هاميلتون ،بالرتكيز عىل التنفس واللفظ واألحرف وآليات النطق .تحسن بشكل كبري .قام نوردسرتوم برتقيته
إىل املدير املسؤول عن الصحة والنظافة يف 150مطعام تتبع للمتجر يف كل أنحاء الواليات املتحدة األمريكية .وبعد فرتة أصبح لوف الناطق الرسمي
باسم الرشكة.
حظي لوف بفرصة للحديث أمام الجمهور يف عام 1986حني تلقى دعوة لتقديم خطاب خالل حفل عشاء ريايض يف مدرسة ثانوية يف روكفورد،
إيلينوي .كان عدد الحضور 800شخص .روى لوف قصة حياته – كيف كرب فقريا يف ريف لويزيانا ،وعاش سنواته األوىل مع زوج أم عنيف ،وهرب
من البيت يف عمر 8أعوام ،وقىض سنوات املراهقة مع جدته املحبة و 16من أقربائه يف بيت يتكون من غرفتي نوم ،وكيف تعرض للسخرية يف
املدرسة ألنه كان يتأيتء ،وأصبح نجم كرة قدم وكرة سلة يف سنوات املدرسة الثانوية والجامعة ،واستمتع بسنوات املجد مع فريق ذا بولز ،وكيف
صمد بعد الطالق ،والوظائف الوضيعة التي كان يقوم بها ،واإلذالل ،وكيف توصل أخريا إىل الخالص .الخطاب "كان سلسا أكرث مام توقعت ،وحني
انتهيت وقف الجميع وصفقوا طويال "،قال لوف" ،شعرت بالسعادة .كانت نقطة تحول يف حيايت ".عاد لوف إىل منظمة ذا بولز يف عام 1992حيث
أصبح منذ ذلك التاريخ مدير العالقات املجتمعية فيها .يقدم لوف مئات الخطابات يف السنة ،وأقنعه أصدقاؤه والقيادات املجتمعية بخوض معرتك
السياسة مؤخرا ،ويف عمر 59عاما ترشح النتخابات مختار املدينة يف شيكاغو.
يف اقتباس شهري يقول ف .سكوت فيتزجريالد "ال يوجد فصل ثاين يف حياة األمريكيني ".مع كل االحرتام لهذا الكاتب الكبري ،أرى أنه مخطيء .منذ
بينجامني فرانكلني ،قام األمريكيون بإعادة اخرتاع أنفسهم بطرق مذهلة وأنتجوا فصال ثانيا وثالثا وحتى رابعا .نرى هذا يتجىل يف حياة بوب لوف،
كام نراه يف الفولكلور والسري الذاتية والروايات األمريكية .ونراه يف الربامج الحوارية ويف املجالت.
نرش العدد الصادر يف 30أيلول 2002من مجلة بيبول مقاال بعنوان "الفصول الثانية" يحتوي عىل قصص أشخاص اختربوا فضائح أو فصول خزي
وعار كبري يف حياتهم ومتكنوا من إعادة اخرتاع أنفسهم يف "فصل" ثان مخلّص .قصة ريتا جانريت هي القصة األوىل يف هذه املقالة .يف السنة التي
تلت العملية الجراحية يف ظهر بوب لوف ،أدين جون جيرنيت ،ممثل جنوب كارولينا يف الكونغرس ،يف فضيحة رشوة وحكمت عليه املحكمة ب
13شهرا يف السجن .مغتنمة فرصة هذه الفضيحة قامت زوجته ريتا برسعة بكتابة مذكرات القت رواجا كبريا وصفت فيها كيف مارست الجنس
معه عىل درجات مبنى الكونغرس .ثم نرشت صورا عارية لها يف مجلة بالي بوي وظهرت يف حلقة من "فانتايس أيلند" أو جزيرة الخيال .نعم ،تطلقا.
ونجحت ريتا يف التسعينات يف عملها كوسيط عقاري وتشارك بشكل دوري يف ندوات يف كلية هارفارد لألعامل وتعمل مع جمعيات خريية يف
نيويورك .تقول جيرنيت بخصوص الفصل األول يف حياتها" :اتخذت بعض الخيارات غري الحكيمة ،وعيل أن أتعايش معها ".اما فيام يتعلق بانتهازيتها
2
إبان الفضيحة قالت جيرنيت "لن أترك هذه الحادثة تكون األخرية التي يتذكرها الناس عني ".ويستنتج مقال مجلة بيبول أن "رحلتها الطويلة
الغربية نحو الحياة املحرتمة كانت رحلة مثرية لالهتامم كام تقول جيرنيت التي تعيش يف منهاتن مع خطيبها وهو معامري ترفض ذكر اسمه .كانت
رحلة مؤملة ،لكنها تشد من عزميتك ".هي تعرف بأن املايض ليس بالبعيد جدا وأنه "سوف يعاود الظهور يف أسوأ األوقات" ،لكن كام تقول "اآلن
وضعت هامشا يف أسفل الصفحة".
الحظوا اللغة التي يستخدمها بوب لوف وريتا جيرنيت لوصف املشاهد والفصول يف حياتيهام املختلفتني .يقول لوف بأن الخطاب الذي أدىل به يف
روكفورد ،إيلينوي ،كان "نقطة التحول يف حيايت" .أما جيرنيت فهي مرصة عىل ان يكون الفصل األول يف حياتها هو فقط "هامش يف أسفل الصفحة"
بدال من "النقش عىل رضيحها (أو مرثيتها ").يف كال الحالتني ،يرى الطرفان حياتهام عىل أنها "رواية ممتدة عرب الزمن ".واإلشارة إىل حادثة ما عىل
أنها "نقطة تحول" يف حياة الشخص تؤرش إىل ان الحياة مثل القصة التي يتغري اتجاه أحداثها نتيجة ملشهد معني .وكام هو الحال بالنسبة ألغلبنا،
يرى بوب لوف حياته مثل القصة .القصة لها بداية (ريف لويزيانا) ،منتصف ،ونهاية مرتقبة .فيها أبطال (طبيبة النطق) وأرشار (زوجته األوىل).
هناك فصول مجد (فريق ذا بولز) وفصول إذالل (نادل) .التحدي هو ما يعطي القصة التوتر والتوجه .هناك ترقب ،ألننا ال نعرف كيف ستسري
االحداث.
تكتب ريتا جيرنيت حياتها كرسدية تبني النطاق الكامل لفرديتها كام تجلت عرب الزمن .إنها تريد وضع تلك السنوات املخزية يف هامش يف أسفل
صفحة حياتها ،ومصممة بأن ال تنتهي حياتها عىل صفحات مجلة بالي بوي أو فانتايس أيالند .مرثيتها لن تكون بأنها كانت تسعى وراء األموال ،أو
شقراء غبية ذات جسد جميل .بالطبع ،ال نستطيع الهروب من املايض بشكل كامل .يسأل أحد طالب الصف معها يف هارفارد إذا كانت هي نفس
املرأة التي نرشت صورها عارية يف بالي بوي قبل 20عاما ،وبوب لوف ما زال يتأيتء قليال ايضا .مع ذلك ،قررت ريتا بأن تتخذ قصة حياتها منحى
آخر تتحول فيه البطلة مع الوقت .ومثل بوب لوف ،سوف تعيد كتابة القصة ،تعيد تأليف حياتها .سوف تعيش قصتها الجديدة طاملا بدت لها بأنها
القصة الصحيحة التي يجب أن تعيشها .وبعد ذلك ميكن ان تعيد كتابتها من جديد.
العقل الراوي
البرش رواة بطبيعتهم .وتتجىل القصة يف كل الحضارات اإلنسانية بأشكال متعددة من بينها القصة الفولكلورية ،الخرافة ،األسطورة ،التاريخ ،امللحمة،
األوبرا ،الفيلم ،املسلسالت التلفزيونية ،الرواية ،السرية الذاتية ،النكتة ،والحكاية الشخصية .ونتوقع الكثري من هذه الحكايات :نتوقع منها ان تسلينا،
تثقفنا ،تلهمنا ،وتقنعنا ،تبقينا يقظني وتدفعنا للنوم ،تسعدنا وتحزننا وتغضبنا وتخيفنا وتثرينا وتخجلنا وتشعرنا بالذنب وكل أنواع املشاعر التي
ميكن أن نسميها ونعرفها .نتوقع من القصص أيضا ان تخربنا من نحن .أما فيام يتعلق بحياة البرش فإن رواية الحكايات هي طريقتنا يف فهم العامل.
ال أستطيع ان أفهم من انت وما قد تعنيه حياتك إال إذا كان لدي فكرة عن القصة التي تعمل عليها – كيف ترى حياتك كحبكة تتجىل عرب الزمن.
ال أستطيع أن أفهم من أنا إذا كانت حيايت ال تشكل رسدية بالنسبة يل ،أو إذا مل يكن مبقدوري أن ارى حيايت كقصة ميكن يل أن افهمها وتشكّل
معنى بالنسبة يل اآلن وايضا إذا كنت سأحكيها لك غدا .األهم من هذا وذاك ،الحكايات تعطينا هوياتنا.
من بني األسامء النافذة يف تحليلها لكيفية استخدام الحكايات يف حياة البرش عامل النفس الشهري جريوم برونر .مييز برونر بني شكلني مختلفني جذريا
من املعرفة البرشية :املعرفة الباراديغامتية (العملية) وهي ما نتعلمه يف املدرسة ،وهي معرفة السبب والنتيجة ،العلم ،والخطاب املنطقي .إذا كنت
سوف أقدم إثباتا حسابيا ،أو إذا كنت أريد أن أفحص فرضية علمية ،أو أفرس شيئا يف العامل املادي (ملاذا ترشق الشمس يف الرشق ،ملاذا لن تسري
سياريت باستخدام وقود الديزل ،أو ملاذا لن أمتكن من الركض بشكل جيد إذا رشبت كأسا كبريا من الفودكا) ،عيل أن أجرب صياغة حجة منطقية
حقيقية .املعرفة الباراديغامتية تسعى إليجاد حقيقة واحدة منطقية سببية.
باملقابل ،املعرفة الرسدية هي ما نتعلمه من القصص .نستخدم القصص ،يقول برونر ،ليك نفرس ونعرب عن السلوك البرشي .حني نسعى لفهم اسباب
ترصف شخص بشكل معني ،نبحث عن الرسد .إذا كنت اريد أن أعرف ملاذا يجوب بوب لوف البالد ليعطي خطابات تحفيزية عيل أن أفهم قصته.
إذا كنت أريد أن أعرف ملاذا ترفض ابنتي الحديث معي هذا الصباح ،أحتاج ملعرفة القصة هنا أيضا .رمبا السبب هو أنني طلبت منها تنظيف غرفتها
قبل يومني .وافقت حينها لكنها رمت كل مالبسها داخل الخزانة .كل يشء كان عىل ما يرام حتى فتحت زوجتي باب الخزانة أمس وانهارت املالبس
عليها .بعد ذلك عادت ابنتي إىل املنزل مع صديقة وأنا قلت لها تعليقا جارحا قد يكون أحرجها .وبعد ذلك...
3
كام يقول برونر ،تتعلق القصص بشكل رئييس ب"أعامق النوايا البرشية" وهي تنتظم عرب الزمن .وهذا يعني بأن القصص تتعلق برغبات الشخصيات،
ما ينوون القيام به ،وكيف يسعون للحصول عىل ما يريدون وتجنب ما ال يريدونه ،عرب الزمن .ليك تكون لدينا قصة ،يجب ان يكون هناك شخصية
محفزة تواجه نوعا من العوائق أمام جهودها لتحقيق هدف ما .تريد ليىل الحمراء أن تصل إىل بيت جدتها وهي تحمل الكعكات ،لكن الذئب
الرشير يعيق جهودها وهو يريد ان يأكل ليىل الحمراء وجدتها .لو ان الذئب الرشير مل يظهر يف طريقها مل يكن لدينا قصة ،أو عىل االقل مل يكن
هناك أحداث مثرية لرسدها كقصة .يشري برونر إىل أن القصص عادة ما تحىك حني يكون هناك "انحراف عن األمناط املعيارية لثقافة ما"؟ بكلامت
أبسط هذا يعني بانه ما مل يحدث يشء غري متوقع أو غري معهود (يشء ينحرف عن التوقعات املعيارية للثقافة) ،لن يكون هناك قصة مثرية لحكايتها.
غالبا ما يكون االنحراف الرضوري الذي يخلق القصة شكال من أشكال التحدي ،التهديد أو الخطر.
يعتقد برونر أن عقل اإلنسان ُمص َّمم خصيصاً لرواية الحكايا ،وأننا تط ّورنا لنصبح رواة جيدين للحكاية ،فقد ثبت أن القدرة عىل التفكري يف العامل
من منظور قصيص وربط القصص ببعضها البعض مهارة استخدمها أسالفنا للتكيف يف الحياة االجتامعية .عىل سبيل املثال ،قد تكون القدرة عىل
تخيل سيناريوهات مفرتضة ،كالتساؤل حول ما يفكر به شخص آخر (عدو عىل سبيل املثال) يف موقف معني مهارة رائعة للبقاء يف مسار التطور،
وقد تساعد يف تفسري امليل لرواية القصص يف كل الثقافات تقريباً.
عىل الرغم من أن علامء األعصاب مل يحددوا منطقة معينة يف الدماغ آو آلية مرتبطة برواية القصص حرصا ً ،إال أنهم بدأوا بتحديد مكون واحد من
دماغ اإلنسان يرتبط برواية القصص ،وهو "الذاكرة العرضية" .متتلك هذه الذاكرة القدرة عىل استحضار األحداث املحددة (املراحل) من املايض ،إذ
تجد يف دماغك ذكريات يوم زفافك ،أو يومك األول يف املدرسة أو الجدال الذي خضته باألمس مع رشيكك كلها كمشاهد من املايض ميكنك
استحضارها ،وكذلك ميكنك أن تعيشها مرة أخرى بطريقة ما.
قارن هذه بنوع آخر من الذاكرة :حاول ،عىل سبيل املثال ،أن تستحرض اللحظة التي تعلمت فيها أن ساكرامنتو هي عاصمة والية كاليفورنيا .سوف
أُس ِّهل األمر عليك (أو أجعله أصعب) :تذكر اليوم الذي تعلمت فيه اسمك .قد تذكر عىل األرجح (وقد ال تذكر ،وال بأس يف ذلك) أن ساكرامنتو هي
عاصمة كاليفورنيا ،وأنا متأكد أنك تتذكر اسمك.
ولكن يف كال الحالتني ،فإنك عىل األرجح ال تربط بني هذه املعرفة وأية أحداث محددة أخرى .هذه أمثلة عىل الذاكرة الداللية .نحن نذكر الكثري من
األشياء ،مثل تواريخ أعياد امليالد ،والحقائق واألرقام ،ومكان سكننا ،وقواعد البيسبول ،والقامئة تطول ،ولكننا ال نذكر بالرضورة األحداث املرتبطة
بكل ذلك ،وال نحتاج إىل تذكرها .تخ ّيل كم كان سيكون األمر مرهقاً وغري ٍ
مجد لو كان علينا أن نتذكر اللحظة الفعلية التي تعلمنا بها كل ما نعلم
والظروف املحيطة بتلك اللحظة!
يعتقد بعض علامء اإلدراك أن الذاكرة الداللية أبسط من الذاكرة العرضية ،وتعود إىل مرحلة أقدم بكثري يف التطور اإلنساين .يجادلون بأن الذاكرة
العرضية قد تكون تطورت من الذاكرة الداللية ،وكنوع من املهارات املتخصصة التي ميلكها اإلنسان حرصا ً .إنها مهارة تساعدنا عىل العودة بالزمن
الذايت ،والربط بني األحداث التي نتذكرها واألحداث املتخيلة يف املستقبل.
توفر الذاكرة العرضية التجربة الشخصية للزمن الذي نفكر به عندما نروي القصص .إذا مل نكن قادرين عىل العودة بالزمن للوراء الستحضار مشاهد
معينة من حيواتنا ،فإننا عىل األرجح لن نتمكن من التفكري بطريقة قصصية .عىل سبيل املثال ،لن نتمكن من تكوين الرسديات التي تصل فيها
الشخصيات املتحمسة إىل تلبية رغباتها مبرور الزمن باالنتقال من مشهد إىل آخر .إن رواية القصص عملية طبيعية جدا ً وسهلة جدا ً بالنسبة للغالبية
منا ،بحيث أصبح من املستحيل تصديق عدم القدرة عىل الرواية .ولكن هناك أمثلة عىل أشخاص ذوي قدرات محدودة جدا ً من حيث الذاكرة
العرضية ،األمر الذي يجعلهم غري قادرين عىل التفكري يف الحياة من منظور قصيص.
فلنأخذ حالة ك .س مثالً ،املولود يف عام ،1951والذي عاش حياة عادية وغري ملفتة حتى بلوغ سن الثالثني ،حيث أصيب إصابة بليغة يف الرأس
نتيجة حادث بالدراجة النارية .ونتيجة ذلك ،يعاين ك .س اليوم من نوع من فقدان الذاكرة ،بحيث يجعله غري قادر عىل تذكر أية تجارب شخصية
4
من املايض .وبصورة مشابهة ملا حدث مع الشخصية الرئيسة يف فيلم ميمينتو يف العام 2000إىل ٍ
حد كبري ،فإن ك .س غري قادر عىل تذكر أية أحداث،
أو ظروف ،أو مواقف من حياته كاملة عىل اإلطالق – أي ذاكرة من أي نوع منذ يوم والدته إىل اليوم الحارض .االستثناء الوحيد هو أنه قادر عىل
تذكر األحداث التي وقعت يف آخر دقيقة أو اثنتني.
عالوة عىل ذلك ،ال يتمكن ك .س من تنبؤ ما سيفعل يف املستقبل .عندما تسأله ،ال ميكنه أن يخربك ما الذي يخطط لعمله الحقاً يف اليوم ذاته ،أو
اليوم التايل ،أو أي وقت من الفرتة املتبقية من حياته .يعيش يف الوقت الحارض بشكل كامل بدون أن ميلك أي رسدية حول اللحظات واملشاهد التي
وقعت يف حياته .األمر املذهل أن ك .س يعاين من خلل بسيط يف مجاالت اإلدراك األخرى .عىل سبيل املثال ،يحقق درجات طبيعية يف معظم معايري
اختبارات الذكاء ،ويتذكر العديد من الحقائق واإلجراءات التي تعلمها قبل حادثة الدراجة النارية .إنه يعلم الكثري من األشياء حول السنوات األوىل
من حياته ،أي عندما ُولد ،وأين عاش ،وأسامء بعض املدارس التي التحق بها .يعرف الرياضيات ،والجغرافيا ،والتاريخ وغري ذلك من املواد التي تعلمها
يف املدرسة ،إال أنه ال يتذكر بالطبع أنه تعلمها باألساس ،ويلعب الشطرنج أيضاً .من الواضح أنه وعىل الرغم من أن ك .س قد فقد كل الذاكرة
الداللية ،فقد حافظ عىل متاسك جوانب معينة من ذاكرته الداللية .أدت اإلصابة التي سببت هذا النوع املحدد من فقدان الذاكرة لدى ك .س إىل
حدوث رضر بليغ ألجزاء من الدماغ ،والتي يبدو أنها مرتبطة بالذاكرة العرضية.
لقد أثبت البحث الذي أجري مع فاقدي الذاكرة أن إصابات الفص الدماغي الصدغي األوسط مرتبطة يف كثري من األحيان بفقدان قدرات الذاكرة
العرضية .تقع هذه املناطق يف الجزء السفيل من القرشة الدماغية ،والتي هي بدورها أكرب طبقة خارجية للدماغ .وبداخل هذه الفصوص الصدغية،
يوجد "الحصني" وهو جزء من الدماغ الداخيل ،الذي يلعب دورا ً هاماً يف تخزين الذكريات الجديدة .ويبدو أن الحصني يقوم بهذه املهمة عن طريق
تكوين ارتباطات جديدة مع القرشة الدماغية يف كل مرة تحدث فيها تجربة ،يُراد لها أن ت ُستحرض الحقاً .وقد تؤدي إصابة الحصني إىل فقدان الذاكرة
العرضية ،حيث يفقد الدماغ القدرة عىل تجميع عنارص الحدث ليتمكن من استحضاره الحقاً.
وأخريا ً ،يبدو أن قرشة الفص الجبهي – املوجودة يف أعىل الدماغ ويف املقدمة-هي أيضاً مرتبطة بعملية معالجة املعلومات العرضيةّ .
وتبني الدراسات
الجديدة حول تكوين الصور يف الدماغ أن قرشة الفص الجبهي قد تكون مرتبطة بجهود استعادة أو استحضار حدث ما إذا كان مخزناً يف الذاكرة
(الشكل .)3.3
باملحصلة ،تعتمد القدرة اإلنسانية الفريدة من نوعها عىل تص ّور الحياة مبنظور رسدي عىل الذاكرة العرضية .وعىل الرغم من أن قسامً كبريا ً ّ
مام
نتذكر ال يرتبط مبارشة يف أذهاننا مبناسبات أو أحداث معينة (الذاكرة الداللية) ،إال أن الناس قادرون عىل العودة بالزمن الستحضار مشاهد معينة
أو أحداث عرضية وقعت يف حياتهم .دماغ اإلنسان مربمج عىل تذكر األحداث السابقة وربطها بسيناريوهات مستقبلية متخيلة .وتوفر لنا الذاكرة
العرضية بعدها الشعور بأن حياتنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالزمن ،أي باملايض الذي نذكره ،والحارض الذي نعيشه واملستقبل الذي ننتظره .هذا الشعور
بالزمن رضوري أيضاً من أجل رواية الحكايا ،ألننا نربط يف الرسديات ما بني أفكار وترصفات الشخصيات املتحمسة ،بينام يتنقلون من مشهد إىل
آخر ،ومن البداية إىل الوسط وصوالً إىل النهاية .توفر الذاكرة العرضية األساس للسري الذاتية والهوية – لرسديتنا حول شعورنا بذواتنا عرب الزمن.
الشكل 3.3الحصني
الذاكرة العرضية – القدرة عىل العودة بالزمن الستحضار أحداث يف السري الذاتية لألفراد وعيشها مرة أخرى ،هي مهارة قد ينفرد بها اإلنسان وحده.
وقد بدأ علم األعصاب بتحديد مناطق الدماغ املسؤولة عن استيعاب املعلومات العرضية (الربمجة) ،وتخزين املعلومات واستحضارها (استعادتها).
وتشمل هذه املناطق الحصني (واملسؤول بشكل خاص عن تكوين الذكريات الجديدة) ،وأجزاء من الفص الصدغي وقرشة الفص الجبهي.
5
سيكولوجية تطور قصص الحياة
إذا كنت تعتقد بأنك تذكر يومك األول يف العامل ،فإنك عىل األرجح مخطئ .تعود أقىص نقطة يف املايض ،والتي تصل إليها أقدم ذكرياتنا العرضية،
إىل سن الثالثة أو الرابعة ولكن ليس أبعد من ذلك .قبل حوايل مائة عام ،أطلق سيجموند فرويد عىل هذا العجز العاملي يف الذاكرة "فقدان الذاكرة
لدى األطفال".
واعتقد فرويد أن سنواتنا األوىل مليئة بالرغبات غري اآلمنة ،والتي ينتهي بنا األمر بقمعها ،وهي مخيفة جدا ً إىل الحد الذي ال ميكّننا من تذكرها.
ولكن التفسري األكرث عقالنية وإثارة لالهتامم من ناحية تطورية هو اآليت :إننا مل نكن واعني بكل بساطة .حتى وإن كانوا مستيقظني ،ومتنبهني،
ويبتسمون أمام عينيك ،فإن ال ُرضَّ ع الذين يبلغون من العمر ستة شهور ال يختربون الحياة كام نختربها أنا وأنت يف العادة .إنهم غري واعني بذواتهم،
أو أي ذوات أخرى .إن األمر ال يتعلق بكونهم ال يعرفون من هم ،ولكنهم ال يعرفون أيضاً أنهم موجودون باألساس!
إذا أردنا استخدام التشبيه الذي اقرتحه عامل األعصاب أنطونيو داماسيو ،فإن ال ُرضَّ ع مل "يقفزوا إىل نور الوعي املمتد" بعد .إنهم يف مكانٍ معتمٍ من
الناحية النفسية ألنهم ال يعون بعد أن ما يحدث لهم هو تجاربهم الشخصية عرب الزمن .تبتسم سارة ذات األشهر الستة ألبيها ،ولكنها ال تعلم أنها
هي من يبتسم وال تعي أن هذا السيناريو الذي استمر لدقيقتني وهي تبتسم وتلعب مع والدها هو تجربتها هي الشخصية .يبدأ الوعي ،بحسب
داماسيو" ،عندما ميتلك الدماغ القوة ،يجب أن أضيف أنها القوة البسيطة ،لرواية قصة من دون كلامت ،قصة أن هناك حياة متيض يف كائن حي ما".
ما يقوله داماسيو هنا أن الوعي البرشي هو فعلياً قبول دور الرواي ذهنياً .الراوي هو من يقص الحكاية ،ويتضمن الوعي الرواية املستمرة للتجارب
التي ت ُعاش ،أي التدفق العادي للرواية والذي يجري يف أذهان أغلب الناس األحياء يف معظم األحيان .ال تتطلب الرواية استخدام الكلامت ،ولكن
تطور اللغة الحتمي يؤثر بال شك عىل نوعية وعينا.
وتبني األبحاث أن معظم األطفال يكونون قد دخلوا يف حيز نور الوعي املمتد عند بلوغ سن الثانية .كام يكون هؤالء قد ك َّونوا السري الذاتية البدائية.
ّ
يف سن الثانية من عمري ،أعرف أن التجارب التي أعيشها ،أي األشياء التي أقوم وأشعر وأفكر بها ،هي مليك ،وأنها جزء من حيايت التي تتطور عرب
الزمن .وبطريقة واعية بالذات ،ميكنني اآلن أن أراقب تجربتي الخاصة .ميكنني أن أفكر بنفيس .ميكنني أن أشعر بالفخر حني أقوم بعمل جيد
وبالخزي حني أفشل .لقد بدأت أروي تجاريب الشخصية كام لو كانت قصصاً بطريقة بدائية ومتقطعة.
بيد أنني لن أروي قصة جيدة جدا ً إذا كنت أجهل أساسيات الدافع اإلنساين .ما الذي يحفز الناس ليقوموا مبا يقومون به؟ وعند بلوغ سن الثالثة
من العمر ،يكون معظم األطفال قد اكتسبوا املبدأ األول من سيكولوجية الدافع :يفعل الناس األشياء ألنهم يرغبون بذلك .تقود الرغبات إىل
السلوكيات .تأكل جيسيكا الكعك ألنها تريد أن تأكله .إنها جائعة ،وتحب الكعك .وعند بلوغ سن الرابعة ،يكون معظمهم قد اكتسب املبدأ الثاين:
ويبني البحث املعمق يف سيكولوجية
يفعل الناس األشياء بسبب ما يؤمنون به .يبحث جيسون عن حذائه يف الخزانة ألنه يعتقد أنه تركه هناكّ .
التطور أن األطفال يف سنوات ما قبل الدراسة يطورون نظرية العقل األساسية .ويفهمون أن الناس لديهم رغبات ومعتقدات يف أذهانهم وأنهم
يترصفون بنا ًء عىل هذه الرغبات واملعتقدات.
وال بد أنك تعي أهمية فهم السبب الذي يدفع الناس للقيام بأفعالهم يف الحياة االجتامعية .كام تشكل هذه نقطة فارقة إىل األمام بالنسبة لرواية
القصص .تذكر بأن برونر قال إن القصص هي "تقلبات نية اإلنسان" وترتيبها حسب الزمن – أي ما يريده الناس (ويؤمنون به) وكيف يترصفون بنا ًء
عىل تلك الرغبات (واملعتقدات).
وبحلول وقت دخولهم إىل الروضة ،يكون معظم األطفال قادرين عىل الربط بني رغباتهم ومعتقداتهم واألفعال اإلنسانية املرتتبة عليها .يفهمون
الرتتيب الزمني :أوالً ،يريد الشخص شيئاً ما (أو يؤمن به) ،ثم يترصف الشخص بناء عىل تلك الرغبة (أو املعتقد) .وميلك معظم األطفال يف فرتة
الروضة ما يحتاجونه من الناحية اإلدراكية للتعرف عىل قصة جيدة ،وفهمها وروايتها .باإلضافة إىل ذلك ،فقد استمعوا إىل قصص من ذويهم
وأصدقائهم ،وقد استمتعوا بفرص رواية القصص يف أحاديثهم اليومية وأثناء أوقات اللعب .كام بدأوا يتعلمون بعض قواعد رواية القصص يف ثقافتهم،
أي كيف يروي األوالد والبنات القصص املختلفة مثالً ،أو كيف يتم االهتامم ببعض القصص بشكل خاص بينام يُهمل البعض اآلخر .ومثل معظم
6
الخصائص املثرية لاله تامم يف تطور سيكولوجية اإلنسان ،تتطور رواية القصص كتفاعل معقد بني الطبيعة والتنشئة ،والذهن واملجتمع ،والفرد
والثقافة.
دعوين أقفز بالزمن لحوايل 12عاماً ،وأتحدث اآلن عن األشخاص الذين يبلغون من العمر 17عاماً .يف الواليات املتحدة ،يكون الناس يف هذه الفئة
ال عمرية عىل وشك إنهاء التعليم الثانوي ،وقد يلتحق الكثري منهم بالجامعات ،بينام سيبحث آخرون عن وظائف بدوام كامل ويذهب غريهم إىل
الجيش .سوف يرتك كثريون منهم البيوت التي قضوا طفولتهم فيها ،وينتقلون للعيش يف سكن الطلبة أو يف الشقق ،وسيشعر أولئك الذين يبقون
مع ذويهم بشعور جديد من االستقاللية عىل األغلب .من املعتاد أن نعتقد أن البالغني من العمر 17أو 18عاماً هم من املراهقني ،ولكن هذا
التصنيف قد يكون مضلالً عندما نجمعهم مع طلبة الصف السادس واملرحلة اإلعدادية الذين ترتاوح أعامرهم ما بني 14-12عاماً.
يواجه املراهقون الكثري من التحديات التي يواجهها الناس يف بداية العرشينيات من أعامرهم ذاتها ،حتى أن أحد علامء النفس قد وضع مصطلحاً
جديدا ً وهو "الرشد املبكر" للحديث عن الفرتة ما بني عمر 17عاماً ومنتصف العرشينيات ،وذلك كام يخترب الناس هذه الفرتة يف مجتمعاتنا الحديثة.
ما هو التحدي النفيس الرئيس للرشد املبكر يف املجتمع الحديث؟ إنه تحدي رسدية الهوية.
عندما نصل إىل املراحل املتأخرة من مراهقتنا ،يتوقع منا أن نكون قد حققنا تقدماً نفسياً يف أغلب األسئلة التالية :ما الذي أريد فعله عندما أكرب؟
ما الذي أؤمن به حقاً؟ إىل أين تتجه حيايت ؟ كيف مضت حيايت؟ ما عالقة املايض باالتجاه الذي أسلكه يف املستقبل؟ كيف سأصل إىل هناك؟ ما
املغزى من حيايت؟ ما الذي مينح حيايت املغزى واالتساق؟ قلت أننا نكون قد حققنا تقدماً عىل األغلب ،ولكن مل أقل أننا نصل إىل كل األجوبة عندما
نبلغ سن 21عاماً.
قلة منا فقط يستطيعون اإلجابة عن هذه األسئلة وهم راضني بالكامل بالطبع .ولكن األهم أننا نبدأ بطرح هذه األسئلة حول الحياة – أسئلة متعلقة
بالهوية – يف سنوات الرشد املبكر( .ال تتمتع هذه األسئلة إال بدرجة متدنية من املعنى الحقيقي لألطفال) .نحن نبدأ بطرح هذه األسئلة ،بوعي أو
بغري وعي ،ألن ظروف املجتمع الحديث الثقافية وتوقعاته كلها تحتم علينا طرحها.
تقدم املجتمعات الحديثة مجموعة مرهقة من احتامالت الحياة ،فال يوجد ما يصلح للجميع ،أو طريقة "صحيحة" للعيش يف مجتمع كمجتمعنا.
هناك الكثري من األشياء التي ميكننا فعلها أو عيشها ،والكثري من الخيارات أمامنا ،وعلينا أن نختار .ال ميكننا القيام بكل يشء أو اإلميان بكل يشء .ال
ميكن أن يكون شخص واحد محاميا ً لرشكات وعازفاً عىل البيانو ومصارعاً محرتفاً يف الوقت ذاته.
جسد واحد وعقلٍ واحد .وإذا ما نجحال ميكن أن يكون شخص واحد كاثوليكياً إىل أبعد حد ،ويهودياً ملتزماً ،وراهباً بوذياً ميارس شعائره وذاك يف ٍ
فرد ما بأن يفعل ويؤمن بأشياء متعددة ،مثالً إذا كانت امرأة ما محامية رشكات ،وأماً متفانيةً ،وعداءة يف املاراثون تعتنق املذهب املعمداين وليربالية
يف السياسة وتقدم النصح حول الزواج عىل الدوام ألصدقائها يف الجامعة ،فإنها عىل األرجح تتساءل ما الذي يربط بني كل تلك األمور؟ ما الذي
يجعل حياتها متسقة؟ الجواب هو القصة التي تعيش وفقاً لها ،وهذه هي رسدية الهوية.
يبدأ الناس بوضع حيواتهم يف قصص حياتية خاصة بهم يف سنوات مراهقتهم وبداية رشدهم .وقبل هذا ٍ
بوقت طويل ،يكون الناس قادرين عىل
رواية تجاربهم الشخصية بطريقة قصصية .ولكن ال يبدأ الناس برتتيب حياتهم كاملةً ،أي املايض الذي يذكرونه ،والحارض كام يرونه واملستقبل كام
يتخيلونه يف رسديات حياتية واسعة متيّزهم عن غريهم وتعطي حياتهم شيئاً من الوحدة ،واملغزى واملعنى حتى سنوات الرشد املبكر.
رسدية الهوية هي قصة حياتك كام تستوعبها بداخلك واملتغرية عىل الدوام ،والتي تبدأ بالعمل عليها يف سنوات الرشد املبكر .وتربط القصة ما بني
طموحاتك املختلفة واألدوار التي تلعبها وتضعها يف إطار رسدي ذي معنى .وتروي القصة كيف تعتقد أنك تطورت عرب الزمن وإىل أين تعتقد أن
حياتك متجهة.
7
وتقدم القصة ما تعتقد أنت أنه صحيح وجيد ،وكيف تتوقع أن تلبي (أو ال تلبي) هذه املعايري .إنها تشكل الدليل املرن للمستقبل واألرشيف
التاريخي لفهم ماضيك .مل تنت ِه القصة بعد ،وهي قصة متشابكة ومتناقضة يف بعض األحيان ،وعرضة ملراجعة مهمة .قد تحتوي القصة عىل أكرث من
حبكة ،والعديد من املشاهد ،والشخصيات واملحاور .وتحجز لك القصة مكاناً يف عامل الراشدين ،حيث ميلك اآلخرون قصصهم الشخصية ،والتي قد
يشبه بعضها قصتك أنت .هذه القصة موجودة بداخلك ،يف ذهنك ،حتى وإن كنت نادرا ً ما تركز بشكل وا ٍع عليها .إنك تحمل القصة إىل أي مكان
تذهب إليه ،وتشارك بعض جوانبها مع الناس ،خصوصاً عندما يشاركون هم بعض جوانب قصصهم معك.
ال يوجد حاجة ثقافية أو اجتامعية لرتتيب حياتك يف هوية رسدية قبل بلوغ مرحلة الرشد املبكر .يف املجتمعات الحديثة ،نحن ال نتوقع من األطفال
أن يختاروا املهن التي يرغبون بها ،أو يقرروا معتقداتهم األساسية ،أو يضعوا الخطط لعيش حياة ذات مغزى وقيمة .حتى لو كنا مغفلني مبا يكفي
لنتوقع كل ذلك من األطفال ،فإنهم لن يتمكنوا من القيام بذلك.
وتبني األبحاث أن األطفال والعديد من اليافعني ال ميلكون املهارات اإلدراكية الرضورية لتكوين قصص حياتهم بشكل كامل .عىل سبيل املثال ،مييل ّ
األطفال إىل رؤية العامل من منظور محدد وعميل جدا ً ،لذا فإن األسئلة حول معنى الحياة ومغزاها هي أسئلة ذات طبيعة تجريدية ومن الصعب
الوقوف عندها وفهمها بشكل كامل .ويتطلب تكوين رسدية ذات قيمة للهوية التفكري يف عدد من االحتامالت يف الحياة ،واالختيار ما بني املفاهيم
املجردة املختلفة وكل ذلك يتطلب قدرات كاملة عىل التفكري املجرد .ال توجد القدرة عىل التفكري يف الفرضيات واملوازنة فيام بينها – أي ما يسميه
بعض علامء النفس بـالتفكري اإلجرايئ الرسمي-يف العادة قبل بلوغ سن املراهقة.
وجادل علامء النفس تيلامن هابرماس وسوزان بالك بأن عىل الناس أن يتمتعوا بالقدرة عىل مامرسة أربع مهارات ذهنية مختلفة ليتمكنوا من
تكوين قصة حياة متسقة .أوالً وقبل كل يشء ،عليهم أن يكونوا قادرين عىل تكوين القصص الصغرية املرتبطة باألهداف حول أحداث محددة يف
يبني قدرة اإلنسان عىل الرواية بطريقة متسقة سلسلة من األحداث التي تقع عرب حياتهم .ويسمي هابرماس وبالك ذلك "االتساق الزمني" ،ألنه ّ
الزمن .يستطيع معظم األطفال فعل ذلك يف مرحلة الروضة ،ثم يتحسنون كلام كربوا .ثانياً ،يجب أن يكون الناس قادرين عىل املواءمة ما بني فهمهم
لسريتهم الذاتية وما يتوقعه املجتمع من الحياة ،أي ما يسميانه "اتساق السرية الذاتية" .عليهم أن يعرفوا ما يحدث يف مجتمعهم يف العادة يف حياة
املرء.
عىل سبيل املثال ،يف مجتمعات حديثة كمجتمعنا ،يتوقع من أبناء الطبقة الوسطى أن يذهبوا إىل املدرسة حتى سن 18عاماً ،ثم يرتكوا املنزل بعد
ذلك عىل األرجح ،ويحصلوا عىل وظيفة ،وقد يتزوجوا كراشدين شباب ،وقد ينجبوا األطفال بعد ذلك ،ثم يتقدموا إىل األمام (يحرزون التقدم،
يتحسن وضعهم) يف مسريتهم ااملهنية أو مجال عملهم ،ثم يصلوا إىل "منتصف العمر" يف األربعينيات من عمرهم تقريباً ،وقد يتقاعدوا عندما يبلغوا
سن 65عاماً تقريباً ،وال يتوقع أن يعيشوا أكرث من 90عاماً ،الخ.
يف مرحلة الروضة ،نكون غري واعني لكل ذلك ،ولكن يف مرحلة التعليم اإلعدادي ،نكون قد قرأنا ما يكفي من السري الذاتية (أو عىل األرجح شاهدناها
عىل التلفاز) ،أو حصلنا عىل التجارب الثقافية الكافية لفهم التسلسل األسايس لألحداث املفصلية التي تشكل أي حياة عادية.
عندما يبدأ األطفال واليافعون بفهم االحتامالت املمكنة يف حياتهم ،يبدؤون باالستمتاع بالخياالت الجامحة ألنفسهم .كنت سألعب مع شيكاغو
كابس ،وقد تصورت مسرييت املهنية كاملة عندما كان عمري 11عاماً .كنت سأفوز بـ 22مباراة يف بدايايت ،ثم سأعاين من الرتاجع يف السنة الثانية
مام أفوز ،ومن ثم سأقدم أدا ًء مذهالً عىل مدار 15عاماً بعد ذلك ،وأصبح عىل قامئة املشاهري .ثم سأنهي مسرييت املهنية كالعب احتياط وأخرس أكرث ّ
يخرج إىل امللعب لينهي الشوط اإلضايف يف املباراة النهائية لنهائيات كأس العامل ضد اليانكيز بالفوز .يف مسرييت املهنية املتخيلة يف مجال البيسبول،
ط ّورت ما يسميه عامل النفس ديفيد الكيند "األسطورة الشخصية" لحيايت ،وهذه األساطري هي رسديات ذاتية جامحة يف الخيال ،والتي يطورها بعض
األطفال واليافعني يف أذهانهم ،ويعربون عنها أحياناً يف مذكراتهم ،أو كام حدث يف حالتي ،يف الدفاتر املليئة بنسب الفوز/الخسارة.
ويف الغالب ما تكون هذه املسودات األوىل لرسدية الهوية ،واملليئة بالخياالت الحامسية والبطوالت ،غري واقعية عىل اإلطالق (بالنظر إىل أدايئ
8
املتواضع يف فريق الالعبني الصغار) وتوحي بنوع من األنانية يف سنوات املراهقة ،والتي قد تكون محرجة حتى يف حينها .عىل الرغم من ذلك ،ال
عيب بوجود أساطري شخصية يف ٍ
وقت ما من حياة املرء ،فقد تكون مبثابة مسودات لرسدية الهوية .ويقوم معظمنا بتمزيق هذه املسودات ورميها،
ولكننا ال ننساها.
يبدأ ما يسميه هابرماس وبالك "االتساق السببي" بالظهور يف سنوات املراهقة ،عندما يصبح الناس قادرين بشكل متزايد عىل الربط بني املشاهد
املختلفة يف الحياة وتكوين الرسديات السببية املمتدة والواقعية .تسأل األم ابنتها سامانثا ،الطالبة يف املدرسة الثانوية عن السبب الذي جعلها تحب
موسيقى الراب فجأة ،وبالطبع فإن سامانثا لن تقول شيئاً .ولكن إن تكلمت سامانثا ،فستقول عىل األرجح أنها كانت تكره الراب ألن أعز صديقة
لديها ،كريستني ،كانت تكرهها ،وقد كانت تعترب أن كريستني تعرف كل يشء وهي أعز صديقة لها منذ سنوات اإلعدادية.
تبني كيف ميكن للفرد أن يربط حدثاً ما بغريه ،وغريه مرة أخرى يف سلسلة ممتدة من السببية .وإذا ما استنتجت حسناً ،إنها قصة غريبة ،ولكنها ّ
يبني ما تؤمن بأنه ميل هام يف حياتها ،كميلها للتمرد عىل املألوف مثالً أو شكها الجديد بالصداقة ،فإنها تكون قد بدأت
سامانثا أن هذا التسلسل ّ
بإظهار ما يسميه هابرماس وبالك "االتساق املحوري" يف رواية قصة حياتها.
يف االتساق املحوري ،يستطيع الفرد أن يستخلص محورا ً عاماً أو مبدأ حول الذات بنا ًء عىل سلسلة من األحداث املروية .عىل سبيل املثال ،قد يفرس
رجل أعامل أصول قيمه السياسية املحافظة من خالل الحديث عن سلسلة من األحداث واالستنتاجات التي وقعت يف أوائل العرشينيات من عمره،
بعد أن تخرج بقيمٍ ليربالية وشهادة يف العلوم اإلنسانية ولكنه مل يجد عمالً ،ومن ثم تركته صديقته ذات التوجهات الليربالية .التحق بعدها بكلية
األعامل وأعجبه أستاذ االقتصاد ذو امليول السياسية املحافظة ،ثم بدأ مرشوعاً صغريا ً وقد عاىن بالفعل بسبب قوانني وتعليامت الرضيبة الجائرة،
ومن ثم تزوج امرأة محافظة هي األخرى ،وساعدته عىل التمسك بتلك األفكار .ومن ثم خدع بإدارة كلينتون وفضيحة عزل الرئيس ،وأقسم بأال
ينتخب مرشح الحزب الدميقراطي مرة أخرى .كرب عمله وأصبح ناجحاً إىل حد كبري ،واآلن لديه هو وزوجته طفالن ويقلقان كثريا ً بشأن السالمة يف
مجتمعهم يف الضواحي ،وتستمر القصة.
يجادل هابرمان وبالك بأن االتساق السببي واالتساق املحوري نادران قبل مرحلة املراهقة ،ولكنهام يكتسبان أهمية متزايدة يف سنوات الرشد املبكر.
وعندما يحني الوقت الذي يتوقع فيه املجتمع منا بدء العمل عىل رسديات هويتنا ،نكون قد اكتسبنا املهارات اإلدراكية الالزمة لذلك.
تربط رسدية الهوية ما بني الذكريات العرضية واألهداف املستقبلية لتحديد حياة الراشد يف السياقني الزمني واالجتامعي .تخربنا القصة من نحن،
حتى وإن مل تكن حقيقية متاماً يف التفاصيل واملشاهد .ولرمبا هذه هي النقطة األساسية حول القصص التي نعيش وفقها ،فهي ليست إعادة
مام نذكره هو وتبني األبحاث يف سيكولوجية اإلدراك أن الذاكرة العرضية انتقائية إىل ٍ
حد كبري .ال ميكننا تذكر كل يشء ،والكثري ّ موضوعية للاميضّ .
عىل األغلب مشوش وليس دقيقاً متاماً حول كل التفاصيل.
9
الجدول 3.1نقاط التطور يف رسدية الهوية :من الطفولة املبكرة إىل الرشد املبكر
السرية الذاتية
يط ّور األطفال األكرب سناً واليافعون األساطري الشخصية التي متثل
األسطورة
14 -10سنة املراهقة املبكرة املسودات األولية من رسدية الهوية ،وذلك باالستفادة من اتساق
الشخصية
السرية الذاتية الذي تطور لديهم بهذا السن.
بعد تطور املهارات املرتبطة باالتساق السببي واالتساق املحوري،
قصص الحياة يبدأ الشباب بتكوين رسديات الهوية الداخلية إلضفاء املغزى عىل
25-17سنة الرشد املبكر
الكاملة حياتهم .وتربط القصص ما بني املايض الذي أعيد تكوينه ،والحارض
الذي يعيشونه واملستقبل الذي يتخيلونه.
imagined future.
عالوة عىل ذلك ،يرتبط معظم ما نذكره بوضعنا الحايل وأهدافنا املستقبلية .إذا كنت أخطط ألصبح طبيباً ،قد أمتلك ذكريات واضحة حول تعلم
10
العلوم ومساعدة الناس يف طفولتي .وإذا كنت عىل وشك الطالق ،قد أجد أن معظم ذكريايت الدقيقة من املايض القديم التي أستحرضها مرتبطة
مبشاعر الفقدان والحزن.
إذا تويف والدي فجأة ،قد أنىس كل األشياء السيئة التي فعلها وأعيد تشكيل تاريخي ليبدو كبطل مل أعرفه يف الواقع .إننا نعيد تشكيل املايض ،بطريقة
غري واعية وغري مقصودة ،يف ضوء ما نراه اليوم وما نتخيله يف املستقبل .وبالطبع تنبني قصص حياتنا عىل الواقع ،وهناك بعض الحقائق ال ريب
فيها .لقد لعب بوب الف يف فريق ذا بولز بال شك ،وميكنكم التأكد من األرشيف .وكان يتلعثم يف الكالم بشكل كبري أيضاً ،وأقسم بأنني شاهدت
مام يثري االهتامم يف رسدية الهوية ينبع من السامح ألنفسنا بإضافة البعد الدرامي عىل ذكرياتنا وأهدافنا لتتحول إىل
ذلك عىل التلفاز .ولكن الكثري ّ
حد ما ،نحن من يصنع قصصنا ،ونحن من يقرر من نحن ،من كنا ومن سنكون. رسدية آرسة .إىل ٍ
كيف ميكنك فهم صعود هذا الرجل من ممثل غري ذي شأن يف هوليوود إىل الرجل الذي يشغل املنصب األكرث قو ًة ونفوذا ً يف العامل؟ لقد كان ريغان
ممثالً عىل الدوام ،بحسب ما كتب موريس .حتى قبل وصوله إىل هوليوود ،كان يعيش كام لو أنه عىل املنصة ،يتحرك بصورة رسيعة وحاملة من
عرض إىل آخر .وكتب موريس "عندما كان مراهقاً ،مل يكن لدى ريغان أي اهتامم شخيص بالناس :لقد كانوا وال زالوا جمهورا ً بال مالمح لعرضه
املستمر" .لقد لعب دور الرئيس بالرباعة املعهودة ،وال يجب أن نستغرب أن أحدا ً مل يعرفه ،ألنه كان ميثل طوال الوقت ،منذ البداية وحتى النهاية.
كتب موريس:
يربع ممثلو السينام يف االنتقال من إنتاج إىل آخر ،وأحياناً بني إنتاجات مختلفة يتم تصويرها بالتزامن مع بعضها البعض عىل منصات
متجاورة .أعتقد أن هذا هو السبب وراء قرص فرتة انتباه ريغان األسطوري ،والذي ش َّبهه مساعده الغاضب بذبابة الفاكهة .ولكن بدا يل أن
ضعف انتباهه والتشبيه ،كالهام غري عادلني :لقد كان موضوعاً جدياً ،بل صعباً للدراسة بشكل عام.
عىل الرغم من ذلك ،ظل رونالد ريغان ممثالً طيلة فرتة حياته ،ظل رجالً يدخل ويغادر ،سواء أكان اإلنتاج الذي ينخرط فيه قصريا ً كمحادثة
أو طويالً كفرتة رئاسية .عندما يدخل إىل مكان التصوير ،يعرف متاماً ماذا يفعل وكيف يشغل املساحة املخصصة له .ال يغادر إال عندما
يسمع كلمة ،CUTومن ثم يرتك املكان لينتقل إىل آخر!
أذكر أنني ألقيت التحية عليه ذات صباح ،بعد أن كنت قد أمضيت معه وقتاً ممتعاً يف الليلة السابقة .مل يذكر عشاءنا ،بل بدا واضحاً من
ابتسامته وسلوكه الحائر أنه ال يذكره أساساً.
بالنسبة للقراء الذين سيغتنمون هذه األدلة ليقولوا بوجود شخص فاقد للذاكرة يف البيت األبيض ،أقول :أنتم ال تعون أن املمثلني يسريون إىل األمام،
ال إىل الخلف .ما حدث باألمس مكانه سلة املهمالت ،واليوم ال يزال يتكشف أمامنا ،وسطور الغد ما زالت يف القلب.
كيف تروي قصة حياة ممثل؟ تفعل ذلك مع جمهور ما .يف مقاربة أدبية وجدت من ميتدحها وينتقدها ،ق ّرر موريس أن يبتكر جمهورا ً (متخيالً)
يشاهد بدايات حياة ريغان بإعجاب .لقد اخرتع شخصاً بالرضورة ،وقال إنه شخص يتبع ريغان خالل سنوات مراهقته وبداية رشده .كام اخرتع
موريس بعض التفاصيل لهذا الشخص املتخيل .لقد ُولد يف 9آب من العام ،1912وتويف والده يف عام .1923ذهب إىل كلية يوريكا ،حيث درس
ريغان أيضاً.
11
من خالل اخرتاع شخصية تشاهد البطل ،وهو يكرب ،عن بعد ،يحاول موريس أن ينقل الطريقة الحيوية والعميقة التي اتبعها ريغان يف عيش حياته،
كام لو كان دوماً ميثل أمام جمهور يشاهده بإعجاب .كان التأثري مثريا ً لالستغراب والشك ،عىل األقل بالنسبة لهذا القارئ .من جهة ،فإن كاتب السرية
يكذب عليك ،حتى وإن كان يقول بطريقة غري مبارشة أنه يوظف أداة أدبية ،ألنه مل يعرف ريغان يف شبابه ،وال ميكن أن يكون قد عرفه( .موريس
أصغر سناً بكثري ،وقد نشأ يف كينيا) .بيد أن االسرتاتيجية التي اتبعها موريس يف كتابة السرية تساعده عىل نقل ما يعتقده حقيقة أساسية يف حياة
رونالد ريغان بطريقة مليئة بالحيوية .الحقيقة هي التالية :بعيدا ً عن كل األدوار التي لعبها ،وبعيدا ً عن كل العروض ،عندما تصل إىل لب املوضوع،
تجد أن رونالد ريغان كان ممثالً بحق ،ممثالً سلساً وقوياً ،وقد لعب دورا ً نبيالً بحق عىل الصعيد الدويل .لقد كان ممثالً رائعاً مل يستطع كاتب
سريته الذي يعرتيه الشك أال يُعجب به عن بُعد ،دامئاً عن بعد ،ألنك ال تستطيع أن تقرتب من ممثل إذا كان بهذه الرباعة.
تشري اسرتاتيجية موريس غري املعتادة يف رواية قصة رونالد ريغان إىل حقيقة أكرث شمولي ًة حول قصص الحياة .عىل الرغم من أن قلة منا ممثلون
يشبهون ما كأنه رونالد ريغان ،ولكننا نؤلف جميعنا قصص حياتنا ونعيشها بوجود جامهري معينة يف أذهاننا .توجد القصص لُرتوى .إذا كان كل
واحد منا راوياً للقصص ،فال بد أن هناك من يستمع إىل هذه القصص ،أو ال بد أن يوجد يشء ما نستهدفه فيها .متاماً مثل رونالد ريغان ،كلنا نريد
التصفيق والتقييم اإليجايب .نريد أن يقول النقاد "يا لها من قصة رائعة! يا له من أداء رائع! آه من رسدية الهوية تلك التي تعمل عليها!"
منذ أن قال شيكسبري أن "العامل كله خشبة مرسح" ،يُشبَّه السلوك االجتامعي بتمثيل األدوار .وقد ش ّدد علامء االجتامع وعلامء النفس االجتامعي
منذ زمن طويل عىل الطرق التي تح ّدد بها الجامهري السلوكيات االجتامعية ،باإلضافة إىل القوى االجتامعية التي تكون يف العادة خارج سيطرة
املمثل .وبعيدا ً عن السلوك بحد ذاته ،فإن رسديات الهويات التي نبدأ بتكوينها يف سنوات الرشد األوىل ،أي القصص الداخلية التي نك ّونها ،ومن ثم
نراجعها ونعيش وفقاً لها كلها موجهة نحو مراقبني ،ومستمعني ،ونقاد وجامهري مهمني وما شابه.
هناك طريقتان مختلفتان لتأليف القصص وروايتها أمام الجامهري .أوالً ،تتطلب العديد من أمناط التواصل االجتامعي رواية القصص حول الذات.
هناك آالف األماكن واملواقف التي يروي بها الناس القصص الشخصية ،سواء أكان ذلك يف الحفالت ،أو صالونات الحالقة ،أو مقابالت العمل ،أو
موائد العشاء ،أو الرسير ،أو يف البار ،أو عىل كنبة املعالج النفيس ،أو الهاتف ،أو يف املحادثات عىل االنرتنت ،أو أثناء االنتظار يف الصف ،أو أثناء
التنزه مع الكلب أو غري ذلك .نحن نك ّون هوياتنا ونعيد تكوينها من خالل الحوار .وبينام يتفاعل الناس مع قصصنا ويشاركون قصصهم معنا ،نستمر
يلق تجاوباً
يف تعديل قصصنا املتطورة .نتلقى التغذية الراجعة والنصح ،ونالحظ أن بعض ما روينا قد القى قبوالً جيدا ً جدا ً بينام بعضه اآلخر مل َ
مامثالً .يف بعض األحيان ،يبدو وكأن الجمهور مستمع جيد جدا ً ،بينام يبدو يف أحيان أخرى مشوشاً وكأنهم يعتربوننا مملني بالنسبة لهم.
الشكل 3.4
رونالد ريغان يف شبابه .كان الرئيس األربعون للواليات املتحدة ورائد األيدولوجية املحافظة يف البالد ممثالً يف هوليوود لسنوات طويلة .يف السرية
املثرية للجدل التي كتبها عنه ادموند موريس ،حاول املؤلف إظهار مدى محورية دور التمثيل طيلة حياة ريغان من خالل ابتكار شخصية متخيلة
متثل دور الجمهور الذي يشاهد بإعجاب.
تعرب عنهم بأنفسهم وهم يتخيلون الجامهري أو املستمعني املحددين .متت إعادة الطباعة
ت ُصنع القصص ُلرتوى ،ويك ّون الناس قصص حياتهم التي ّ
بإذن من صور غيتي .الصورة مأخوذة من أرشيف هولتون/صور غيتي.
يف مجموعة من الدراسات املثرية لالهتامم ،رتبت عاملة االجتامع مونيشا باسوبايث مجموعة من املقابالت بني أصدقاء حميمني ،بحيث يكون أحدهم
مستمعاً واآلخر راوياً .وقام من أجرى التجربة بتكليف األصدقاء مبهام بشكل عشوايئ .يف الحالة األوىل ،طُلب من املستمع أن يستمع بإنصات
للمتكلم ،بينام طُلب من اآلخر أن يفكر مبهمة أخرى تشغل تفكريه وتش ّوشه وهو يحاول الرتكيز عىل ما يقوله الصديق اآلخر( .وكانت املهمة هي
محاولة تذكر كم مرة قال املتكلم أي كلمة تبدأ بحريف .)th
12
كام طُلب من املستمعني أال يخربوا املتكلم بهذه التعليامت ،وأن يكتفوا باتباع دوري االستامع املختلفني .وبينت النتائج أن الرواة وجدوا األمر
مزعجاً ،ومدعاة للكآبة عندما ينشغل أصدقاؤهم بأمر آخر بينام هم يحاورونهم .وق ّيم الرواة الذين كان أصدقاؤهم يستمعون إليهم بإنصات الحوار
بإيجابية أكرث من أولئك الذين انشغل أصدقاؤهم بع ّد الكلامت التي تبدأ بـ .thاألمر األكرث إثارة لالهتامم هو ما حدث بعد أسابيع ،عندما عاد الرواة
إىل املخترب وطُلب منهم أن يستذكروا ما حدث خالل تلك الحوارات .واجه الرواة الذين انشغل أصدقاؤهم بأمور أخرى أثناء الحديث صعوبة أكرب
يف تذكر القصص التي رووها باملقارنة مع أولئك الذين استمع إليهم أصدقاؤهم بإنصات .لقد أثرت جودة الحوار عىل الذاكرة العرضية فيام بعد.
الخالصة هي أنه عندما ال يُنصت الجمهور إىل قصصنا ،فإننا منيل إىل إهاملها أو حتى نسيانها أساساً .ولحسن حظ كثريين منا ،فإن الجمهور الذي
نشارك معه قصصنا يستمع بإنصات يف معظم األحيان ،خصوصاً عندما نشارك قصصا نعتربها ذات أهمية خاصة يف حياتنا .وقد درست عاملة النفس
املختصة بالشخصيات أفريل ثورن مدى اهتامم املستمعني وإنصاتهم للقصص التي تدور حول الصدمات أو األحداث العاطفية بشكل كبري .وكان
من دواعي االستغراب أن ّبني البحث الذي أجرته أن هناك نسبة كبرية من الناس الذين يروون القصص الشخصية جدا ً حول أحداث معينة بعد
وقوعها بفرتة قصرية .ويُشار إىل أن مشاركة القصص مع اآلخرين الذين تربطنا بهم عالقة حميمة هي مامرسة منترشة جدا ً حتى أن ثورن تطلق
عليها مصطلح "الذكريات الحميمة" لتشري إىل أبرز أحداث حياة اإلنسان وأكرثها تأثريا ً يف تشكيله.
ويؤدي وجود الجمهور العديد من األغراض بالنسبة لقصص الحياة .متاماً مثل املعالجني النفسيني واملرشدين ،ميكن للمستمع الجيد أن ّ
يعرب عن
التعاطف ويقدم التشجيع للناس الذين يروون قصصاً حزينة أو صادمة .كام تبني مشاركة القصص الدفء والحميمية بني األصدقاء .إضافة إىل ما
يعربون عن معاين وطبيعة ذكرياتهم حول األحداث ويوضحونها يف كل مرة يروونها .ويساعد الجمهور يف فهم ما تعنيه
سبق ،تقول ثورت أن الناس ّ
قصصنا ،ويعملون بشكل خفي عىل تشكيل قصصنا وتغيريها عىل مر الزمن.
عىل الرغم من أننا معتادون عىل اعتبار الجمهور منفصالً عن املمثل أو الراوي ،هناك أيضاً فكرة تقول بأن الجمهور موجود بداخلنا .يراقب الناس
ذواتهم ،ويستمعون إىل القصص التي يروونها ،وقد يترصفون أحياناً كام لو كانوا أسوأ نقاد لذواتهم .باإلضافة إىل ذلك ،هناك حالة يكون فيها الجمهور
املهم نفسياً منفصالً عن الذات ويراقب الذات من الداخل .وهذه هي الطريقة الثانية التي يرتبط بها الجمهور برسدية الهوية .يؤكد فرويد أن
بداخل عقل كل فرد ناضج األنا العليا ،والتي تشكل الجمهور الداخيل الذي ميرر حكامً عىل الذات .ويضيف قائالً بأننا نخزن صورا ً لذوينا يف طفولتنا
املبكرة ،ومن ثم يصبحون هم يف أذهاننا رموز السلطة القاسية .وحتى بعد رحيل ذوينا ،فإننا نحملهم بداخلنا (بالالوعي) يف أذهاننا ،ويستمرون يف
إعطاء التعليقات السلبية (وأحيانا ً) املديح.
وط ّور مفكرون آخرون أفكارا ً مشابهة ،حيث طرح عامل االجتامع الشهري جورج هيرببريت فكرة أن الناس املثقفني ينظمون سلوكهم الشخيص من
خالل اإلشارة املستمرة إىل "اآلخر العام" .وقد قصد أن الناس الناضجني ميكنهم تخيل رد فعل املجتمع بشكل عام عىل سلوكياتهم وكيف ينظر لها.
وبالنسبة مليد ،فإن الصورة الداخلية للمجتمع تشكل الجمهور األساس للذات .نحن نسعى إىل تكوين الذات التي تريض الجمهور.
برأيي ،فإن لدينا جميعاً تلك الجامهري بداخلنا لقصص حياتنا ،وأن هذه الجامهري تخربنا الكثري ع ّمن نكون متاماً بقدر ما تخربنا قصصنا .وبالطبع،
فإنني أعتقد أنه ال ميكن فصل الجمهور عن القصة ،ألن القصة قد ُصنعت من أجل هذه الجامهري بالذات .من هو جمهورك الداخيل؟ هل هم
والداك؟ رشيكك؟ حبيب سابق؟ أستاذ عرفته يوماً؟ األطفال الذين هزئوا منك ذات يوم ألنك تلعثمت بطريقة محرجة؟ أطفالك؟ الناس الذين تتخيل
أنهم يتكلمون عنك بعد مائة سنة؟ الله؟
ت ُصنع رسدياتنا للهوية ،وتؤدى وتُراجع يف الحياة االجتامعية اليومية ،ويحدث جزء كبري من هذه العملية مع األصدقاء ،واملعالجني النفسيني ،وأفراد
من العائلة ،وذلك من خالل الحوار والثقافة .ولكن جزءا ً كبريا ً أيضاً يحدث بداخلنا ،وأعتقد أنه يحدث يف منصة خاصة أمام جمهور حرصي .ت ُروى
القصة ،ومن ثم يُعاد روايتها ،وتتم مراجعتها وتأكيدها بحضور ذاك اآلخر الداخيل الذي نحتفي به ،ونبجله وقد نخشاه أيضاً .قد يكون الجمهور
بداخلنا ٍ
قاس وال يرحم ،كام قال فرويد .ولكن يف أكرث لحظاتنا قتام ًة ووحدةً ،قد يقودنا جمهورنا الداخيل الداعم واملشجع إىل الخالص.
13
مقابلة قصة الحياة :روب ماكغوان
من ضمن عميل كعامل اجتامع مختص بالرسدية ،أشكل أنا نفيس جمهورا ً للقصص التي يرويها الناس .وحتى أكون أكرث دقةً ،نك ّون أنا ومساعدو
البحث (والذين يجرون معظم املقابالت) جمهورا ً لهم ،وما نسمعه يف املقابالت ليس شامالً ودقيقاً متاماً كام تكون رسدية الهوية الكاملة للشخص.
ما نسمعه هو رواية جزئية عن جوانب مختارة من قصة حياة الشخص املتطورة كام يدركها هو .وألن رواية القصص تتطلب وجود عالقة بني الراوي
والجمهور املحدد ،فإن ما نسمعه يخضع أيضاً ملشاعر الشخص حيال اللقاء وتوقعاته بخصوص ما هو مناسب للمشاركة أو قابل للمشاركة يف تلك
اللحظة والظروف .وما يعزز تلك املشاعر والتوقعات هو ما نقوله نحن للمشارك حول عملية املقابلة ذاتها" :هذه ليست مقابلة كلينيكية .نحن
لسنا معالجني نفسيني .ونحن لسنا هنا الكتشاف ما تعاين منه .هذا بحث حول السري الذاتية ،ونحن نجمع ضمن هذا البحث قصص حياة الناس.
نحن نسجل القصص ومن ثم نقوم بتفريغها ،ومن ثم نقرأ التفريغ الحقاً أكرث من مرة بعناية ونحلله بطرق مختلفة".
مل يبدأ علامء النفس البحث يف القصص التي يعيش الناس وفقاً لها إال منذ 15عاماً فقط .ويوجه اليوم الباحثون يف عدد من املجاالت الفرعية لعلم
النفس اهتاممهم إىل تطور القصص يف حياة البرش والتعبري عنها .لطاملا استمع املعالجون النفسيون واملرشدون إىل قصص حياة الناس لسنوات
طويلة ،ولكن أهدافهم الرئيسة كانت تركز عىل مساعدة الناس وفهم األمراض النفسية .من وجهة نظر علمية ،يهدف علم النفس الرسدي إىل فهم
دور القصص وروايتها يف حياة الناس "العاديني" ،ويف العالقات بينهم ،ويف املجتمع.
هناك العديد من املقاربات املختلفة لعلم النفس الرسدي .يركز بعض الباحثني عىل أداء الرسدية ،أي أثناء الحوارات وغريها من التفاعالت االجتامعية،
بينام يبحث آخرون يف تطور فهم الرسدية لدى األطفال .ويركز آخرون عىل طرق نقل القصص للمعرفة ،ويتمحص غريهم يف القصص بصفتها وسيلة
تتغري القصص بشكل غري متوقع مع مرور الزمن ومن خالل الخطاب للتعبري العاطفي .ويشدد غريهم عىل تبدل جودة رواية قصة الحياة ،أي كيف ّ
االجتامعي ،وكيف يصعب تحديد معانيها.
تركز مقاربتي الشخصية عىل الطريقة التي متنحنا بها القصص الهوية ،وكيف متنح حياة الراشدين شيئاً من املعنى والغاية .كام أنني مهتم مبا ّ
تعرب
عنه تلك القصص ذاتها حول الثقافة ،لذا أركز عىل االختالفات بني الناس من حيث نوعية القصص التي يشاركونها ،ومن ثم أصنف جوانب قصصهم
كام لو كانت تلك الرسديات من التحف األدبية (وهي كذلك).
إن مقابلة قصة الحياة التي أستخدمها أنا وطلبتي مصممة للناس يف منتصف العمر ،أي يف الفئة العمرية ما بني 35و 65عاماً .يف املجتمعات
الحديثة ،مير املرء يف تلك الفرتة الزمنية الطويلة التي تيل أوىل سنوات الرشد وتسبق سنوات التقاعد بأكرب مكافآت الحياة وأكرب خيباتها أيضاً .يف
الجانب اإليجايب ،يكون الراشدون يف منتصف العمر يف أوج نجاحهم املهني وتأثريهم .قد يصبحوا قادة يف مجتمعاتهم ،وقد يتمتعوا بنفوذ وقوة ال
يُستهان بهام .وقد يكون دور الرشيك ،أو الوالد أو الجد مجزياً جدا ً .يكون الراشدون يف منتصف العمر كبارا ً مبا يكفي الكتساب درجة معينة من
النضج ،ولكنهم ال زالوا صغارا ً فيام يتعلق باألهداف املستقبلية الكبرية.
قد تتمحور حياتهم حول تلك الرغبة القوية بالعطاء وإرشاد األصغر سناً .ويف الجانب السلبي ،فإنهم مل يعودوا صغارا يف السن ،وال يوجد طريقة
لتبديل هذه الحقيقة .يكون ذووهم ،يف حال كانوا أحياء ،قد كربوا بالسن (أو أصبحوا يعانون من املرض) وسوف ميوتون .كام يقلق الراشدون يف
منتصف العمر حول صحتهم هم وفكرة موتهم أيضاً .وبغض النظر عن نجاحهم املهني ،فقد يشعروا بغياب التقدير الكايف واإلحباط يف العمل .وقد
تأت من فراغ (حتى وإن يكون من الصعب عليهم تحمل كل مسؤولياتهم وضغوط العائلة وتربية األطفال ،ولعل تسمية "أزمة منتصف العمر" مل ِ
مام
ّبني البحث النفيس أن الراشدين يف منتصف العمر ليسوا أكرث ميالً للمرور بأزمة من أي شخص آخر) .قد يفشل هؤالء يف العطاء وإرشاد غريهمّ ،
يجعلهم مييلون إىل االنعزال لفرتة.
كان روب ماكغوان وعمره 45عاما هو الراوي الذي أعرفه يف منتصف العمر .يعمل روب ككاتب نصوص للسينام والتلفزيون ،كام مثّل ملدة مثانية
أعوام أيضاً .متزوج ولديه طفالن .فيام يتعلق بإرشاد اآلخرين وااللتزام تجاه الجيل الشاب ،يحقق روب ما قد يصل إىل أعىل الدرجات وفقاً ملعايري
14
التقرير الذايت ،ولهذا السبب نجري املقابلة معه .وبعد تقديم رشح عام حول نسق املقابلة ،يبدأ املحاور بقول ما ييل" :تخ ّيل أن حياتك مثل الكتاب
أعط كل فصل اسامً وق ّدم حبكة موجزة لكل فصل". ولها فصول .أرجو أن تقسم قصة حياتك إىل فصول أساسيةِ .
بحس الدعابة ومهارة التمثيل اللتان ميتلكهام ،بدأ روب بوصف ظروف فصول طفولته .نشأ يف بلدة تشتهر بالتعدين يف ويست فريجينيا "إذا أعطيت
العامل حقنة ،فستذهب اإلبرة مبارشة إىل هذه البلدة" .يقول أن البلدة هي "بؤرة للقذارة" ،وألنها قد شهدت العديد من الفيضانات ،فأصبحت
ت ُعرف باسم "البلدة التي يحاول الله التخلص منها".
كان والده رشيرا ً يلعب القامر ،بينام كانت أمه تعاين من اضطراب الشخصية التمثييل وتراودها األفكار االنتحارية .ويذكر روب كيف تناولت الكثري
من الحبوب ذات مرة وهددت بأن تبتلعها كلها بينام كان "أبناؤها الخمسة الصغار يشدون فستانها ليحاولوا ثنيها عن ذاك الفعل" .ويف مناسبة
أخرى ،رسمت صورة تشبه والدهم عىل باب غرفة الغسيل ومن ثم أدخلت السكني يف وسطها .كانوا يعيشون يف أحد األحياء البائسة ولكنهم مل
يكونوا العائلة األفقر فيه .يذكر روب بوضوح فقر أصدقائه .أخذ األطفال الخمسة يف النهاية إىل دار لأليتام ،ولكن روب كان محظوظاً ليقيض وقتا ً
كافياً مع عائلة بديلة محبة ومستقرة .ويف حادثة أخرى منحته ميزة خاصة ،انتبهت معلمة إىل موهبة روب يف الكتابة وشجعتها .ومن ثم أصبح
محررا ً لجريدة املدرسة الثانوية ،ووجد وظيفة بعد تخرجه كـ"كاتب" يف صحيفة محلية تعيسة.
بعد أن رفضت امرأة عرضه للزواج ،انتقل روب إىل نيويورك ليخدم الزبائن عىل طاوالت مطعم ميلكه عمه .ومثل الكثري من األقارب من جهة والده،
كان عمه أيضاً رجل عصابات.
واستمر فصل نيويورك املتقلب يف حياة روب حتى سنوات الرشد األوىل .كانت تلك الفرتة ما بني أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات ،وتورط روب
يف عامل املخدرات .ولكنه نجح كذلك يف حضور حصص التمثيل والكتابة يف كلية محلية .عمل لصالح وكالة إعالنات ،وكتب النصوص لإلعالنات
تغري إيقاع حياته بشكل كبري عندما لتقي بنجم تلفزيوين شهري دعاه إىل مقابلة .اعتقد التجارية وظهر يف أجزاء بسيطة من بعض إنتاجات برودوايّ .
روب أن منتجيه كانوا يبحثون عن كاتب ،ولكنهم يف الواقع أرادوه كممثل يف العرض .لعب دور البطولة يف العرض وذلك لثالث سنوات مثرية جداً
واحد .يف ذات الوقت ،كان يكتب نصوصاً لألفالم .يقول روب "كانت فرتة صعبة للغاية ،كان عرضاً صعباً للغاية ،استنفد الكثري ولكنها مرهقة يف آنٍ ٍ
من جهدي من الناحية اإلبداعية ،الكثري حتى انتهى يب املطاف مستلقياً عىل كنبة املعالج النفيس ملدة سنة" .أحس أصدقاؤه بأن العرض كان يقتله،
وشجعوه بأن يرتكه .وقد أخذ قرار ترك التلفزيون بعد أن وقع يف غرام فنانة (رسامة) وقررا الزواج.
انتقل الثنايئ إىل املنطقة الجنوبية الغربية يف الواليات املتحدة ،حيث استمرت زوجته يف الرسم وركز هو عىل كتابة النصوص السينامئية .وبوجود
مسرية مهنية ناجحة ،وزوجة محبة ،والكثري من األصدقاء املقربني ،حاول روب أن يوازن بني رغبات اإلنسان وسعيه نحو القوة والحب .ولكن كادت
املضاعفات التي نتجت عن حمل فاشل أن تنهي حياة زوجته ،إال أنها تعافت .كان الثنايئ يرغبان بإنجاب األطفال بشدة ،حيث شعرا بأن لديهام
الكثري مام يقدمانه للجيل القادم .وأخريا ً ،قاما بتبني ولد وبنت ،ويذهب األطفال اليوم إىل املدرسة االبتدائية.
يكمل الشخص الذي يجري املقابلة "واآلن بعد أن أعطيتنا ملخصاً لفصل وملخصاً للحبكة ،أريدك أن تركز عىل مشاهد أو لحظات معينة مفصلية
يف القصة .سوف تركز عىل مثانية مشاهد أساسية .وأريدك أن تخربين ما يحدث بالتفصيل يف كل مشهد ،ومتى وأين وقع ،وب َم كنت تفكر وتشعر،
وماذا تشعر بأن املشاهد تعني بالنسبة لحياتك كاملة (إذا كانت تعني أي يشء)".
بالنسبة لروب ماكغوان ،كانت اللحظة الرائعة هي اللحظة التي تلت اليوم الذي كادت زوجته أن تفارق الحياة يف املستشفى فيه ،فتعافيها جعله
يشعر بأكرب قدر من السعادة يف حياته .أما اللحظة التعيسة ،فقد كانت األيام الثالثة التي اكتشف فيها هو وزوجته أن ابنهام يعاين من تلف يف
الدماغ ميؤوس من شفائه.
عندما كان عمر الطفل سنتني ،كان الطفل يرصخ ولكنه مل يكن يتكلم بعد .يف البداية ،اعتقد األطباء أنه بخري ،ولكن كان الوالدان يعرفان أنه ليس
كذلك .وتم تشخصيه عىل أنه يعاين من مرض التوحد فيام بعد .ومن ثم عاش أسوأ ثالثة أيام يف حياته عندما شارك الطبيب معهام صورا ً للدماغ
تبني أن الطفل يعاين من تلف خطري وأنه من املستبعد أن يعيش حياة طبيعية .ولكن طبيباً غريه شخصه عىل أنه يعاين من اضطراب الرصع ،والذي ّ
ميكن عالجه باألدوية .تحسن الطفل ،وبدأ بالحديث ،ويبدو طبيعياً اآلن.
يقول روب "ال زلنا نعتقد أنه الطفل املعجزة بالنسبة لنا" .وفيام يتعلق باملشاهد األخرى ،يقدم روب روايات مليئة بالتفاصيل ومؤثرة للتجارب
العائلية ،مبا فيها موت والدته ،والسفر والصداقات .وصف ستة من أصل مثانية مشاهد بأنها قادت إىل الخالص ،حيث انتقل يف كل منها من املعاناة
إىل املكافآة.
ويف األجزاء الالحقة من املقابلة ،يُطلب من روب أن يحدد أكرب التحديات يف قصة حياته (إصابة ابنه بالرصع) والشخصيات التي كان لها األثر األكرب،
سواء أكان إيجابياً أو سلبياً ،يف القصة .ومن بني الشخصيات اإليجابية ،ذكر روب أستاذته التي اكتشفت موهبته يف الكتابة ،بينام ذكر والده الذي
قال إنه "كان حقريا ً طوال الوقت" كشخصية ذات األثر السلبي األكرب .ومن ثم تنتقل املقابلة إىل املستقبل.
ما الذي سيحدث فيام بعد؟ يتطلع روب إىل أن يكرب أطفاله .ويأمل أن يستمتع باملزيد من النجاح يف كتابة نصوص السينام .كام يأمل أن ينتقل
للعيش يف ايرلندا واالستقرار هناك ،فهي البلد األصيل لعائلته ،وعىل الرغم من أنه يحمل مشاعر مختلطة تجاه عائلته ،فإنه ميلك رؤية حاملة
للمستقبل يريب فيها أبناءه يف منطقة ريفية هادئة تبدو الحياة فيها أقل صخباً وأكرث توازناً.
يعرب روب بشكل جيد عن آرائه السياسية ،حيث ثم تنتقل املقابلة إىل املعتقدات ،والقيم وفلسفة الحياة – أي الخلفية األيدولوجية لقصة الحياةّ .
يجمع ما بني القيم الليربالية التقليدية بخصوص دعم الحكومة للفقراء ووجهات النظر املحافظة حيال غريها من القضايا االجتامعية .أما فيام يتعلق
بالدين ،يقول إنه ال يؤمن بالله ،عىل الرغم من أن عائلته البديلة التي أحبها جدا ً حاولت أن تجعل منه كاثوليكياً صالحاً .بيد أنه يحرتم الناس الذين
يحملون "إمياناً هادئاً بداخلهم" .لو كان له حياة أخرى ،قد يحب أن يُبعث مرة أخرى كيهودي ،ألنه معجب مبا يسميه النظرة اليهودية حول تنشئة
الجيل األصغر سناً والعطاء تجاهه :إذا كنت تعيش حياتك بأفضل ما لديك ،وبأكرب قدر من املحبة ،والعطاء لآلخرين ومتنحهم الوقت ،وإذا كنت ترد
الجميل وتظل تسعى إىل زرع الخري ،فكل ذلك سيعود إليك مضاعفاً .سوف تعيش حياة عنوانها الوفرة .امنح أطفالك فرصة فهم ذلك أيضاً ،فهذه
هي الطريقة التي ميكن لهذا الحب ،وهذا الدين أن يستمرا بها لريثهام الجيل القادم".
وتنتهي املقابلة بسؤال حول محور الحياة :إذا نظرت إىل القصة كاملة ،هل تجد محورا ً أساسيا ً؟" يقول روب "آه ،بالنسبة يل ،إن كان عليك أن تلخص
املوضوع بكلمة واحدة ،فهي "الخالص" .يف قصة روب ،يحدث الخالص ألن الناس قد يكونوا يف كثري من األحيان لطيفني ومهتمني بغريهم عىل نحو
غري متوقع بل وغريب أيضاً .ومن ثم عاد إىل الحديث عن اضطراب ابنه ،وقال أن هناك الكثري من الناس الذين قدموا لنا املساعدة ،حتى مع كل
الصعوبات التي كنا منر بها ،وكل العقبات التي واجهتنا يف مجال الطب ،وجدنا الناس الذين غمرونا بلطفهم وكرمهم طوال الوقت .عرفنا بسببهم
أن هناك مالئكة تسري عىل هذه األرض .وجعلنا ذلك أقل تشكيكاً بالحياة والعامل الذي نعيش به ،واملكان الذي نقيم به.
16
مام خرسنا ،وتعلمنا املزيد عن الحياة وطبيعة
عىل الرغم من بشاعة التجربة ،فإن النظر إليها بأثر رجعي اليوم يجعلنا ندرك أننا كسبنا منها أكرث ّ
انس االمور السيئة التي حدثت .األشياء الرائعة التي فعلها الناس من أجلنا تجعلنا أشخاصاً أفضل وأكرث
اإلنسان ،وكم أن العامل ميلء بالناس الطيبنيَ .
سعادة ،ومستمتعني بأن نكون أحياء ،وجعلتنا نعلم أن األمل موجود بالنسبة لألرض وللجنس البرشي.
الذات املخلّصة هي نوع من القصص التي يُفرتض أن نعيش وفقاً لها – إنها رسدية الهوية التي مييل الراشدون األمريكيون املؤمنون بالعطاء للجيل
القادم مثل روب ماكغوان إىل صنعها وروايتها .حتى قبل سطور مقابلته األخرية ،وعندما يقول روب بوضوح أن محور قصته األسايس هو "الخالص"،
يبدو واضحاً أنه ك ّون رسدية هوية تحتفي بهذه األحداث يف الحياة ،والتي ننتقل فيها من املعاناة إىل مكان أفضل.
يحصل الخالص بسبب لطف الناس واهتاممهم ببعضهم البعض .ومتاماً مثل قصص حياة الكثري من الراشدين اآلخرين الذين يرغبون يف مساعدة
تبني قصة روب ميزة مبكرة ،وهي وعيه يف طفولته مبعاناة اآلخرين ،وذاك الرصاع بني القوة والحب ورؤيته للنمو يف املستقبل .يشعر
الجيل القادمّ ،
روب باالمتنان تجاه التقلبات اإليجابية يف حياته .ال شك بأنه محظوظ بطرق كثرية.
فصول الحياة
املشاهد األساسية
لحظة رائعة يف قصة حياته (القمة)
لحظة تعيسة (القاع)
لحظة فارقة
نقطة البداية (أول ذكرياته)
مشهد مهم من الطفولة
مشهد مهم من املراهقة
مشهد مهم من حياة الرشد
مشهد مهم آخر من اختيار الراوي.
تحدي الحياة
الشخصيات اإليجابية والسلبية
النص املستقبيل
املعتقدات والقيم الشخصية
محور الحياة
يقدم املستجيب ،والذي يكون عاد ًة ما بني 35و 65عاماً ،رواية لقصة حياته من خالل اإلجابة عىل مجموعة من األسئلة يف مقابلة فردية .ويتم
تسجيل الجلسة التي تستمر لساعتني وتفريغها ،وذلك لغايات بحثية وليس للعالج أو اإلرشاد ،ومن ثم يتم تحليل التفريغ للتعرف عىل محاور
نفسية وأدبية متنوعة.
بيد أن روب قد عاىن من الكثري من األمل والحرمان .ووفقاً ملا رواه ،فقد حاولت أمه مرارا ً أن تقتل نفسها ،وكان والده رجالً حقريا ً :كان أفراد عائلته
مجرمني مرتوكني بحالة سيئة .وقىض روب سنة عىل األقل يف العالج النفيس .قد يكون أدمن عىل املخدرات لبعض الوقت .من املغري القول أن روب
ماكغوان يروي قصة حياة تحيك الخالص اليوم ،ألن هذا ما حدث يف حياته إذا ما حكمنا بشكل موضوعي.
17
إن رواياتنا حول املايض ترويه كام كان – تروي تاريخاً موضوعياً وت ُعيد تصويره يف الذاكرة فورا ً .سوف يخربنا أي شخص مر بالتجارب ذاتها القصة
ذاتها بالطريقة ذاتها ،ولكن هل سيفعلون ذلك؟
أعتقد أن روب قد يروي حياته بطرق مختلفة عديد ة .وعىل الرغم من أنني ال أشك يف أن ذكريات روب حول املايض دقيقة إىل حد مقبول عىل
حد كبري ،بالشكل الذي يخدم االهتاممات الحالية واألهداف املستقبلية. األقل ،فقد رأينا يف هذا الفصل كيف تكون الذاكرة العرضية انتقائية إىل ٍ
وبالطبع قد يكون صحيحاً أن أحد أسباب اعتبار روب ماكغوان رجالً مخلَّصاً اليوم هو أنه قد استفاد كثريا ً من العديد من األحداث يف حياته ،والتي
تحولت فيها بعض األمور السيئة وأدت إىل نتائج جيدة .لرمبا ،عندما تحدث مثل هذه األحداث يف حياة الناس ،ينتهي بهم األمر بالرغبة يف إحداث
التغيري اإليجايب يف حياة اآلخرين .ولكن أؤمن أنه صحيح أيضاً – ومثريا ً لالهتامم من الناحية النفسية – أن روب يروي قصة حياته هذه ألنه يريد
أن يُلهم الجيل القادم.
إنه بحاجة لرواية هذا النوع من القصص ،فهو بحاجة إىل وضع حياته يف منط رسدي يع ّزز هذا التوجه ملساعدة اآلخرين .الذات املخلّصة هي نوع
من قصص الحياة التي توفر الدعم الالزم يف منتصف العمر ملساعدة اآلخرين .إنها نوع من رسدية الهوية التي توفر للراشد يف منتصف عمره الثقة
وااللتزام املطلوبني للقيام باملساهامت املستدامة واإليجابية تجاه الجيل القادم.
إن االعتقاد بأنك محظوظ (سواء كنت كذلك أم ال) وأن كثري من اآلخرين يعانون (سواء أكانوا يعانون بالفعل أم ال) يضعنا أمام تناقض واضح يف
تحد أخالقي :ت ُكلف بهذه املهمة ألنك مختلف ،وقدرك أن تكون ذا فائدة لآلخرين .رؤية الحياة من منظور الخالص رسدية الحياة ويرتتب عىل ذلك ٍ
تزودنا باإلميان بأنه حتى عندما نواجه معاناة يف املستقبل ،فال زلنا قادرين عىل تحقيق النتائج الجيدة .إن العمل الحقيقي والقيام مبسؤولياتنا تجاه
الجيل القادم سيحققان نتيجة يف النهاية .سوف تنمو األشياء وتتطور ،وسيكون املستقبل جيدا ً.
رسديات الهوية هي القصص التي نعيش وفقاً لها .نحن من يصنعها ،ومن ثم نعيد صناعتها .نحن من يرويها ،ومن ثم نراجعها ،ال من أجل تقديم
رواية أكرث دقة للاميض ،بل من أجل خلق الذات املتسقة التي تساعدنا عىل التمتع بالطاقة واملغزى للميض قدماً يف حياتنا .وتتشكل قصصنا جزئياً
من الظروف الحقيقية لحياتنا – العائلة ،والطبقة ،والنوع االجتامعي ،والثقافة واللحظة التاريخية التي نجد أنفسنا فيها .ولكننا منارس الخيارات
أيضاً ،أي الخيارات الرسدية .يستدعي تحدي رسدية الهوية استخدام مصادرنا الدفينة من الخيال واإلبداع .إن عيش الحياة بشكل جيد ،مبعنى وغاية،
هو فعل من الخيال والفن ،متاماً كأي يشء آخر نحاول صنعه .رواية قصة الحياة فن بحد ذاته .لديك املادة الالزمة ،فام القصة التي تنوي صياغتها
اآلن؟
18