You are on page 1of 75

‫ض الأجداد‬

‫لا‪ ...‬لن أتخلّى عن أر ِ‬

‫‪1‬‬
2
‫‪-‬رواية لليافعين‪-‬‬

‫لا‪...‬‬
‫ض الأجداد‬
‫لن أتخلّى عن أر ِ‬

‫‪-‬فريد بغداد‪-‬‬

‫‪3‬‬
4
‫(‪)1‬‬

‫بداية حال ِمة‬


‫خربة الصّ فا وأبي لا يغادر حقله الذي‬
‫منذ أن استقر ّت عائلتنا في ِ‬
‫استعاده من يهوديّ ‪ ،‬كان أبوه قد أخذه غصبا من ج ّدي الأكبر‪،‬‬
‫ل بها الص ّهاينة أرض فلسطين‪،‬‬
‫طر يقة ذاتها التي احت ّ‬
‫استولى عليه عنوة بال ّ‬
‫سباكة‬
‫بالن ّار والحديد والت ّرهيب‪ .‬وعلى الر ّغم من كون أبي احترف ال ِّ‬
‫منذ أن كان في مثل عمري‪ ،‬وإلى جانب أن ّه لم يندم على بيعه لبيته‬
‫ومحل ّه الذي يقع في قلب مدينة الخليل‪ ،‬وعلى فقده لح ِرفة كانت تدِرّ‬
‫طين ليسقي‬
‫عليه دخلا جي ّدا‪ ،‬فإن ّني ألمحه دائما بينما يغمس قدميه في ال ّ‬
‫الز ّرع في الحقل‪ ،‬أو يع ّف ِر ملابسه في الت ّراب إذ ينكش بالمجرفة الحشائش‬
‫تلتف حول جذوع أشجار الز ّيتون والل ّوز ويز يلها عنها‪ ،‬وهو في منتهى‬
‫التي ّ‬
‫سعادة الغامرة وقم ّة الر ّضا والفرح‪ ،‬وقد أصبح فل ّاحا كأيّ‬
‫البهجة وال ّ‬
‫فل ّاح آخر بالمنطقة‪ ،‬لم تنغ ّ ِص عليه قل ّة ما يجنيه من البستان والحقل‬
‫ن محصولهما لا يساوي شيئا يذكر‪ ،‬في مقابل‬
‫تمام سروره وسعادته‪ ،‬رغم أ ّ‬
‫كنه من استعادة أرض الجدود‪.‬‬
‫ما كان يحصل عليه قبل تم ّ‬
‫قبل سنتين من مغادرتنا لبيتنا في الخليل‪ ،‬كان أبي قد سمع من أحد‬
‫ن يهوديا يدعى‬
‫سماسرة الذين يتاجرون في العقارات والأراضي‪ ،‬أ ّ‬
‫ال ّ‬
‫خربة الصّ فا ويهاجر إلى‬
‫"عِزرا " قد قر ّر أن يبيع أرضا يمتل كها في ِ‬
‫ن عزرا هذا سيتخل ّى‬
‫سمسار لأبي بأ ّ‬
‫موطنه الأصليّ في بولندا‪ ،‬أسر ّ ال ّ‬
‫عن مزرعته التي يتوسّ طها منزل جميل‪ ،‬لم يسكنه منذ بناه‪ ،‬مقابل أيّ‬
‫‪5‬‬
‫مبلغ مقنع يمكّنه من العودة إلى بلاده وشراء مسكن هناك‪ ،‬بعدما‬
‫ازدادت وتيرة العملي ّات الفدائي ّة في الأيام الأخيرة‪ .‬طار أبي من الفرح‬
‫يكف عن الحديث مع والدتي‬
‫ّ‬ ‫حين علم بالخبر‪ ،‬ومذ ذاك الوقت وهو لا‬
‫عن قرب تح ّقق حلمه وحلم أبيه وجدّه في استرداد أرضهم‪.‬‬
‫ل‬
‫في أحد الأي ّاـم أخبر أبي أّ ّي بأن ّه استطاع أخيرا أن يبيع المح ّ‬
‫سمسار‪ ،‬وأن ّه كل ّفه بالت ّوسط لدى سمسار يهوديّ‬
‫والبيت بمساعدة ال ّ‬
‫كن عزرا من معرفة من‬
‫يعرفه‪ ،‬بشراء المزرعة نيابة عنه‪ ،‬حت ّى لا يتم ّ‬
‫ستؤول إليه مل كي ّتها‪ ،‬يدرك أبي جي ّدا أن ّه لن يقبل ببيعها لفلسطينيّ حت ّى‬
‫ولو أعطاه ثمنها مضاعفا‪ ،‬فضلا عن أن يكون حفيد صاحب ِها الأصليّ‬
‫هو من سيشتريها‪.‬‬
‫كان يوم رحيلنا إلى مزرعتنا أشبه بيوم العودة المأمول ل ِلاجئي فلسطين‬
‫شيوخ‬
‫شتات‪ ،‬كما كنت أتصو ّره حينما أسمع من ال ّ‬
‫في الد ّاخل وال ّ‬
‫والعجائز قصصهم التي تنتهي بأمنيات برجوعهم مج ّددا إلى مدنهم‬
‫خر بهم في حيفا و يافا والقدس وغيرها‪ ،‬كانت دموع الفرح‬
‫وقراهم و ِ‬
‫تترقرق من مقلتي والدي‪ ،‬بينما كن ّا ننقل قطع الأثاث من شاحنة الن ّقل‬
‫إلى غرف المنزل التي أشعر جمالها أّ ّي بنشوة جامحة وسرور لا يوصف‪.‬‬
‫***‬
‫طت فيها عائلتي الر ّحال‬
‫لم أجد صعوبة كبيرة‪ ،‬منذ الوهلة الأولى التي ح ّ‬
‫بخ ِربة الصّ فا‪ ،‬في إقامة صداقات متع ّددة وجي ّدة‪ ،‬كانت البداية مع‬
‫زملائي في إعدادي ّة بيت كاحل التي قدمت إليها من مدارس الخليل‬
‫ف بسرعةكبيرة‪،‬‬
‫أين درست لثماني سنوات‪ ،‬اندمجت مع زملائي في الصّ ّ‬

‫‪6‬‬
‫فص ِرت أشاركهم نشاطاتهم وأحاديثهم داخل الفصل وفي ساحة‬
‫المدرسة‪ ،‬أصبحت ألعب مع زملائي الذين يقطنون بخربة الصّ فا‪ ،‬بعد‬
‫خروجنا من المدرسة وحال عودتنا إلى بيوتنا‪ ،‬كما أن ّني استطعت أن‬
‫أتعر ّف على آخرين من خلالهم‪.‬‬
‫ن مروان أقرب أصدقائي إلى قلبي‪ ،‬قد يكون تفضيلي له بسبب‬
‫أعتب ِر أ ّ‬
‫طر يق الت ّرابية‬
‫قرب منزلهم من بيتنا‪ ،‬وهذا ما أتاح لي أن أقطع معه ال ّ‬
‫الموصلة إلى طر يق الإسفلت‪ ،‬خلال أي ّام الد ّراسة؛ حيث نقف ونحن‬
‫ننتظر سو ي ّــة باص "الخليل – بيت كاحل" في الموقف برفقة أختي‬
‫سلمى وأخته صفاء‪ ،‬وحال رجوعنا في المساء ننزل من الباص ونسير‬
‫طر يق التي مشينا عليها في الصّ باح‪ ،‬فنقضي ج َّ ّ‬
‫ل وقتنا ونحن‬ ‫معا على ال ّ‬
‫نتكل ّم في أشياء كثيرة وجدت نفسي أتقاسمها معه؛ عن فلسطين وما‬
‫يفعله الاحتلال يومي ّا بالأرض والبشر‪ ،‬مضايقات وحواجز وهدم‬
‫للبيوت ومصادرة للأراضي‪ ،‬وعن بناء الجدار العازل وما يتسب ّب فيه‬
‫ل ما ينجر ّ‬
‫من تشتيت للعائلات وتقطيع للأوصال وتقسيم للأراضي‪ ،‬وك ّ‬
‫طرف الآخر من الجدار‪ ،‬إن ّه أشبه‬
‫عن ذلك من معاناة للوصول إلى ال ّ‬
‫ما يكون بسجن كبير‪.‬‬
‫مع بلوغي المرحلة الث ّانو ية بعد سنة على إقامتنا بالخ ِر بة‪ ،‬أصبحت أقوم‬
‫ل‬
‫مع زملائي بالعديد من الأنشطة الفردية‪ ،‬التي يظه ِر من خلالها ك ّ‬
‫واحد من ّا ميولاته وهواياته المفضّ لة‪ ،‬وما يستطيع أن يق ّدمه أمام زملائه‬
‫شعر‪ ،‬نتحل ّق حوله‪ ،‬نحن الذين نقطن‬
‫من عروض؛ زميلنا بشير بارع في ال ِّ‬
‫ب المجاورة لقر ية بيت كاحل‪ ،‬في المقصف مباشرة حال انتهائنا‬
‫بالخ ِر ِ‬

‫‪7‬‬
‫من وجبة الغداء‪ ،‬لنستمع لقصائده المكتوبة على ورقة‪ ،‬يحملها بطر يقة‬
‫يجاري فيها أسلوب محمود درويش في الإلقاء‪ ،‬أحيانا كان يرتجل بعض‬
‫شاعر ال كبير سميح القاسم في‬
‫شعر الحر ّ فيقرِضها محاكيا ال ّ‬
‫الأبيات من ال ّ‬
‫حركاته ونظمِه‪ ،‬كان شِعره يبدو أكبر من أعمارنا‪ ،‬يتناول مواضيع‬
‫حول الهجرة والهو ي ّة‪ ،‬يتح ّدث عن أوضاع الأسرى والل ّاجئين والمبعدين‬
‫ومن اغتصِ بت أراضيهم وهدمت دورهم‪.‬‬
‫هناك أيضا صديقنا جمال رسّ ام الث ّانو ية‪ ،‬أو صاحب الفرشاة الذ ّهبية كما‬
‫طبيعة الفلسطينية الخل ّابة التي‬
‫نل ّقبه دوما‪ ،‬أغلب رسوماته تجسّد ال ّ‬
‫تحتضن الإنسان المثقل بهمومه حت ّى الن ّخاع‪ ،‬يصف بريشته البارعة آلام‬
‫المرأة ومعاناتها‪ ،‬كنت وأنا أقف عند إحدى لوحاته في معرض متواضع‬
‫للصّ ور‪ ،‬أقامه مع نهاية الث ّلاثي الأوّل‪ ،‬أتخي ّل أّ ّي وما تلاقيه من‬
‫صعوبات في الت ّأقلم مع الحياة التي لم تعتدها في الر ّيف‪.‬‬
‫كما لا يمكنني أن أنسى بأيّ حال أداء صديقي الحميم مروان حين يعتلي‬
‫مصطبة الفصل ويرفع عقيرته‪ ،‬فيخطب فينا بما تجود به قر يحته الأدبي ّة‬
‫من مواعظ وإرشادات‪ ،‬بأسلوب بديع ومليء بالكلام المسجوع‬
‫والموزون‪ ،‬تزيده بهاء طر يقة حديثه المفعمة بالحيو ي ّة وكلامه المسترسل‬
‫والمتدف ّق‪ ،‬الذي ورثه عن ج ّده إمام وخطيب مسجد بيت كاحل‪،‬‬
‫إضافة إلى ذلك فإن ّه مر ِح وصاحب دعابة‪ ،‬فكثيرا ما يمزج حديثه الجادّ‬
‫دب فينا وطف ِقنا نتثاءب من‬
‫ّ‬ ‫بفكاهته ونوادره حينما يرى السّأم قد‬
‫طول خطبه العصماء‪ ،‬فيغي ّر موضوع الكلام دون أن نشعر‪ ،‬ويشرع في‬

‫‪8‬‬
‫تقليد أصوات شخصي ّات شهيرة من سياسي ّين وإعلامي ّين‪ ،‬فيثير ضحكنا‬
‫ويدفعنا إلى مكافأته بتصفيق حارّ وصفير مدوّي‪.‬‬
‫كن من القيام ببعض الأنشطة الجماعي ّة على أحسن وجه‪ ،‬فلا‬
‫وحت ّى نتم ّ‬
‫أفضل من الت ّكاتف والت ّعاون‪ ،‬ومن أبرز تلك الأنشطة صحيفة الث ّانو ية‪،‬‬
‫كثيرا ما يساهم فصلنا فيها‪ ،‬أكتب مقالات متنو ّعة تتناول مواضيع‬
‫تتعل ّق بهموم طل ّاب الث ّانو ية وهواياتهم‪ ،‬لا ألبث بعد صياغتها وتحريرها‬
‫طاط الفصل كما نسمّيه‪ ،‬لديه مقدرة مذهلة على‬ ‫مررها لرضوان خ ّ‬‫أن أ ّ‬
‫الكتابة بخطوط متنو ّعة؛ من الن ّسخ إلى الر ّقعة وال كوفيّ والد ِّيواني‪ ،‬أطلب‬
‫منه أن يدوّن بخطّه الجذّاب مقالاتي التي ت َّ‬
‫عل ّق حالما تصبح جاهزة على‬
‫ل من يمر ّ من هناك‪،‬‬
‫جدار ي ّة ب ِردهة ِ مبنى الفصول‪ ،‬أين يكون بوسع ك ّ‬
‫ِ‬
‫طلع على جديد الصّ حيفة التي ننشرها بشكل شهري‪.‬‬
‫أن يقف و ي ّ‬
‫يوجد لدينا أيضا فرقتنا الغنائي ّة التي تشدِينا بألحانها العذبة‪ ،‬وتتحفنا‬
‫بأغاني من الت ّراث الفلسطيني وأناشيد وطنية حماسي ّة ومدائح دينية‬
‫وِجداني ّة‪ ،‬يتق ّدمها زميلنا رؤوف صاحب الحنجرة الماسي ّة والمتمي ّز‬
‫شجي ّة ودلعوناته العذبة؛ خصوصا تلك التي تحكي عن معاناة‬
‫بمواو يله ال ّ‬
‫شعب الفلسطينيّ وأحلامه بالاستقلال والعودة وتحرير الأقصى‬
‫ال ّ‬
‫واستعادة الأرض المصادرة والمغتصبة‪ ،‬لا يمتلك رؤوف صوتا حسنا‬
‫فحسب‪ ،‬عنده أيضا م ِقلاعه الذي لا يفارقهكل ّما خرج في جولة خلو ية‪،‬‬
‫لديه ضربات قلّما تخطئ هدفها‪.‬‬
‫***‬

‫‪9‬‬
‫ل تحت شجرة الأحلام حينما أزاح صديقي مروان قطعة من‬
‫كن ّا نستظ ّ‬
‫سميك والقاسي‪ ،‬وكتب على جذعها الذي صار أملسا مثل‬
‫لحائها ال ّ‬
‫الجلد حلمه الث ّالث‪" :‬سيصبح مروان محاميا"‪ .‬اختطفت من يده مسمارا‬
‫اتّ خذه قلما ليحفر به كلماته تلك‪ ،‬وكتبت على طر يقته إلى الأسفل منها‬
‫قليلا‪" :‬وسيصبح سمير كاتبا روائي ّا"‪.‬‬
‫كان سبب تدويننا ل ِحلمينا حديثنا عن واقعة حدثت قبل يومين في‬
‫خربتنا‪ ،‬بعدما أنهينا قراءة مقال في صحيفة القدس‪ ،‬تناول موضوع‬
‫ِ‬
‫تجر يف قو ّات الجيش الإسرائيلي لمزرعة في قر ية حلحول شماليّ الخليل‪،‬‬
‫تعود مل كيتها لعائلة ِ فدائيّ كان قد هرب إلى خربتنا واختبأ بمغارتها‬
‫المتواجدة بها‪ ،‬بعد أن طاردته أجهزة الأمن‪ ،‬فقد ورد اسمه في قائمة‬
‫المبحوث عنهم والمشتبه بهم لديها‪ ،‬في قيامهم بعمليات فدائي ّة طيلة أشهر‬
‫خلت‪ ،‬نجم عنها مقتل العديد من الجنود والمستوطنين الذين استولوا على‬
‫لعائلات أولئك الفدائي ّين‪ ،‬بمباركة من سلطات‬
‫ِ‬ ‫أراض ومزارع‬
‫كنتهم‬
‫الاحتلال التي ساعدتهم على بناء منازل وشقق استيطاني ّة عليها وم ّ‬
‫من تمل ّ كها‪ ،‬وبعد أن وجدت العائلات المطرودة نفسها بدون مأوى‬
‫ومصدر رزق‪ ،‬على إثر تخريب مزارعها وهدم منازلها‪ ،‬قطع مجموعة من‬
‫شباب تلك العائلات وف ِتيانها على أنفسهم عهدا‪ ،‬بأن ينتقموا من‬
‫المستوطنين وجنود الاحتلال‪.‬‬
‫الشاب الذي نفّذ برفقة صديقيه عملية تفجير حافلة للجنود‬
‫ّ‬ ‫كان ز ياد‬
‫الإسرائيليين العائدين من مهمّة مصادرة أراض زراعية‪ ،‬قد أصيب في‬
‫كتفه كما ذكرته صحيفة القدس‪ ،‬حينما خرج من المغارة على إثر اختناقه‬

‫‪11‬‬
‫بالغاز المسي ِّل للد ّموع‪ ،‬الذي ألقت قنابله وحدة الأمن التي كانت تحاصر‬
‫المغارة بشكل مكث ّف‪ ،‬وعند خروجه منها كان لا يرى شيئا أمامه‪،‬‬
‫طي على انسحابه‪ ،‬ل كنّ‬
‫فوجّه سلاحه بشكل عشوائي وفتح الن ّار حتى يغ ّ‬
‫ي صهيونيّ كان يكمن خلف صخرة بمحاذاة فوهة المغارة‬
‫رصاص شرط ّ‬
‫أصابه في كتفه‪ ،‬فسقط ز ياد أرضا تاركا سلاحه‪ ،‬وعند توق ّف إطلاق‬
‫كته منه‪ .‬نقل ز ياد إلى‬
‫الن ّار انقضّ ت عليه مجموعة من رجال الأمن وافت ّ‬
‫ن الوقت لم يمهله بعدما نزف منه دمه بغزارة‪ ،‬فلفظ‬
‫المستشفى‪ ،‬غير أ ّ‬
‫أنفاسه واستشهد‪.‬‬
‫قبل تلك الواقعة بأسابيع كانت سلطات الاحتلال قد قر ّرت الاستيلاء‬
‫على أراضي عدد من العائلات التي تقيم عليها‪ ،‬بعد أن منحتها مهلة أسبوع‬
‫لمغادرتها‪ ،‬كانت تسعى من قرارها ذاك إلى اقتطاع المزيد من المساحات‬
‫الزراعي ّة من الضّ فّة الغربي ّة‪ ،‬والمشكّلة أساسا من أشجار الز ّيتون والل ّوز‪،‬‬
‫وضم ِّها إلى ما احتلته منذ سنة ‪ ،1948‬لتبني على أجزاء ممت ّدة منها بشكل‬
‫طوليّ جدار الفصل العنصري البغيض في عمق أراضي المواطنين‬
‫الفلسطيني ّين‪ ،‬فبعثت بقو ّات عسكر ي ّة حت ّى ترغم العائلات على إخلاء‬
‫منازلها بالقو ّة‪.‬‬
‫أنهيت قراءة المقال والش ّرر يتطاير من عينيّ غضبا م ّما ارتكبه الص ّهاينة‬
‫شجرة وأنا أشعر بتذمّر‬
‫الحاقدين‪ ،‬لففت الصّ حيفة وألقيتها على جذع ال ّ‬
‫شديد واستياء بالغ‪ ،‬قلت لمروان‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ -‬هذا ظلم كبير‪ ،‬كيف ينتزع الص ّهاينة أراض من أصحابها و يهدمون‬
‫بيوتهم‪ ،‬و يطاردونهم حينما يدافعون عن أنفسهم‪ ،‬و يصفونهم بأنّهم‬
‫إرهابي ّين و يقتلونهم ببرودة دم؟!‬
‫ل ذلك بسبب صوتنا الضّ عيف‪ ،‬العالم من حولنا يص ّدق أكاذيب‬
‫‪-‬ك ّ‬
‫الإسرائيليين ومزاعمهم في أ ّنهم هم المظلومون وليس نحن‪ ،‬وفي مقابل‬
‫ن الفلسطينيين هم ال َّ ّ‬
‫ظلمة الذين استولوا على حقّ غيرهم‪.‬‬ ‫ذلك يرى أ ّ‬
‫أجاب مروان بامتعاض وأسف شديدين‪ ،‬ثم ّ التفت إليّ فوجدني شاردا‬
‫أفك ّر‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا سمير؟‬
‫سألني مروان وهز ّني من كتفي حت ّى انتبهت‪.‬‬
‫‪ -‬أفك ّر فيما تفك ّر فيه يا مروان‪ ،‬ولذلك قر ّرت أن ّني سأصبح في يوم من‬
‫الأي ّام كاتبا روائي ّا‪ ،‬أكتب عن معاناة شعبنا وظلم الص ّهاينة المحتلّين له‪،‬‬
‫وسأوصل صوته إلى العالم بأسره‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا مثلك سأثابر حت ّى أصير محاميا مثل خالي أحمد‪ ،‬أدافع عن من‬
‫سلبتهم سلطات الاحتلال مزارعهم وهدمت منازلهم‪.‬‬
‫ات ّفقنا على تحقيق حلمينا في يوم من الأي ّام‪ ،‬ودون ّاهما على جذع شجرة‬
‫ل شاهدة على عزمنا والتزامنا بالقضي ّة الفلسطينية‪.‬‬
‫الصّ نوبر‪ ،‬حت ّى تظ ّ‬
‫كانت شجرة الأحلام كما أسميناها منذ أن كتبنا أ ّول حلم على ساقها‬
‫الباسق‪ ،‬بأن نبقى صديقين طوال حياتنا فلا يفرق ّنا شيء‪ ،‬ملجأنا الذي‬
‫نلتقي تحته دائما كل ّما داهمتنا الأحزان أو داعبتنا الأفراح‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫يجتهد مروان كثيرا في تعل ّم فنّ الخطابة‪ ،‬قال لي أن ّه منذ أن كان صغيرا‬
‫وهو يطالع بشغف أشهر الخطب في الت ّاريخ العربيّ الإسلاّيّ‪ ،‬فكان‬
‫للقس بن ساعدة‪ ،‬وخطبة حج ّة الوداع التي‬
‫ّ‬ ‫يحفظ عن ظهر قلب خطبا‬
‫ألقاها رسول الل ّه صلى الل ّه عليه وسلم على الحجيج‪ ،‬وخطب سي ّدنا عليّ‬
‫بن أبي طالب رضي الل ّه عنه والحج ّاج بن يوسف الث ّقفي وطارق بن ز ياد‬
‫شعبة الأدبية‬
‫وغيرهم كثير‪ ،‬وعندما انتقلنا إلى الث ّانو ية وانتسبنا إلى ال ّ‬
‫زاد شغفه بالأدب‪ ،‬فصار يطالع معي الصّ حف والمجل ّات وكتب الل ّغة‬
‫العربية على اختلافها‪ ،‬من بلاغة ونحو‪ ،‬إلى جانب الر ّوايات والقصص‬
‫التي كن ّا نقتنيها من مكتبات مدينة الخليل‪ ،‬فقرأنا تحت شجرة الأحلام‬
‫ك تب كليلة ودمنة ومقامات الحريري والأصفهاني والبغدادي‬
‫وغيرهم‪ ،‬وحت ّى في فصل الصّ يف وبداية الخر يف نجتهد في المطالعة‬
‫ونتحمّس لها‪ ،‬بينما ينهمك أهالي الخ ِربة في الحصاد وجني الغ ِلال من‬
‫تين وعنب ولوز وزيتون‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫(‪)2‬‬

‫رحيل قبل الأوان‬


‫سان‬
‫أتممت قراءة رواية "عائد إلى حيفا" للأديب الفلسطيني الر ّاحل غ ّ‬
‫كنفاني‪ ،‬تحت شجرة زيتون بمزرعتنا‪ ،‬لم يكن ال ّ‬
‫طقس حارّا فقد كانت‬
‫ل شعاع من أن يصل إلى الأرض‪،‬‬
‫غيوم شهر فبراير تس ّد السّماء وتمنع ك ّ‬
‫شعرت بالد ّفء حينما لمحت أبي من بعيد‪ ،‬بينما يحمل صيني ّة القهوة‬
‫لجارينا أبو محمود وأبو مروان‪ ،‬كانا يساعدانه في حفر بئر بحقله الممت ّد‬
‫والمزهو ّ باخضراره الفت ّان‪ ،‬كانت عيناه في الصّ باح تشع ّان حماسة‬
‫وتت ّقدان تلهّفا لرؤ ية البئر وهو ينضح ماء‪ ،‬بعدما استمر ّ في حفره معهما‬
‫لأسابيع‪ ،‬ورغم الت ّعب والإرهاق إلّا أن ّه كان في منتهى البهجة‪ ،‬فقد‬
‫أخبره جارنا أبو محمود بالأمس أن ّه لم يتبقّ على تح ّقق حلمه سوى بضعة‬
‫ن المياه المتصاعدة من أسفل قاع البئر غمرت‬
‫سنتمترات‪ ،‬حيث أ ّ‬
‫أقدامهم‪ ،‬لحظات عقب توق ّفه هو وعم ّي أبو مروان عن الحفر‪.‬‬
‫شجرة والبئر سائرا نحوهم‪ ،‬حينما‬
‫طر يق بين ال ّ‬
‫كنت قد بلغت منتصف ال ّ‬
‫رأيت أبي ينزل إليه تاركا صاحبيه يشربان القهوة تحت شجرة لوز قريبة‬
‫منه‪ ،‬لم يمر ّ وقت طو يل على ذلك حت ّى سمعت صراخا عاليا‪ ،‬رفعت‬
‫رأسي فإذا بالر ّجلين يلو ّحان بأيديهما لبعض الجيران الذين كانوا منشغلين‬
‫بتقليم أشجار بساتينهم في الجوار‪ ،‬أدركت أ ّ‬
‫ن خطبا ما قد حدث‪ ،‬فرحت‬
‫ل طاقتي نحو البئر‪ ،‬وكل ّما تق ّدمت اتّ جاهه ارتفع صوت الص ّراخ‬
‫أعدو بك ّ‬

‫‪14‬‬
‫وبدا ممتزجا بعو يل مصحوب بكلام صار مفهوما قبل بلوغي البئر ببضعة‬
‫أمتار‪:‬‬
‫‪ -‬الن ّجدة‪ ...‬الن ّجدة‪ ...‬ا ِلحقونا‪ ...‬لقد دفن سعيد داخل البئر‪.‬‬
‫وقفت منهارا على ركام الت ّراب المشرف على فوهة البئر أنتظر بيأس‬
‫وصول المزيد من الجيران‪ ،‬كي يحفروا الت ّراب الذي انهار من البئر‬
‫ل قلبي أن نجده حي ّا‪ ،‬وأقول‬
‫وتراكم فوق جسد أبي‪ ،‬كنت أدعو من ك ّ‬
‫في نفسي بتوسّ ل‪ :‬ليس الآن يا أبي‪ ...‬ما زلت لم تر بعد أحلامك‬
‫وأمانيك التي كانت تش ّع من عينيك الحازمتين وأنت تنهض باكرا‬
‫للعمل‪ ،‬مازال ينتظرك ال كثير لتقوم به وتنجزه‪ ،‬لقد استرجعت أرض‬
‫كها الأوغاد منه كما كنت تقول لي دائما‪ ،‬وتوصيني أن‬
‫ج ّدي التي افت ّ‬
‫أعز‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬لم أشبع منك بعد يا‬‫أحرص على ألّا يحدث هذا ّ‬
‫ل معي لتحميني وتلهمني من عزمك الوقّاد‪.‬‬
‫إنسان‪ ،‬أحتاجك أن تظ ّ‬
‫كانت الهواجس تعترك بداخلي بينما تتخاذل أذرع الجيران التي تحفر‬
‫الت ّراب الجاثم على صدر أبي‪ ،‬ومعها يصبح أمل خروجه سالما ضئيلا‬
‫تكف عيناي عن البكاء‪ ،‬حت ّى بعد أن حضر‬
‫ّ‬ ‫كل ّما طال الوقت‪ ،‬لم‬
‫أعماّي وأخوالي من مدينة الخليل ومن قر ية بيت كاحل‪ ،‬وتبعتهم بعد‬
‫ذلك فرقة الد ّفاع المدنيّ‪ ،‬كان النّهار قد حمل حقائبه وغادر‪ ،‬والل ّيل‬
‫ل مدفونا‬
‫كن بعد من الوصول إلى أبي الذي ظ ّ‬
‫خي ّم من حولنا ونحن لم نتم ّ‬
‫تحت الت ّراب‪.‬‬
‫ومن تحت تراب البئر في الغداة ِ شي ّعنا أبي إلى ثرى القبر‪ ،‬مثواه‬
‫الأخير‪ ،‬بعد يوم من الحفر المتواصل ليل نهار‪ .‬مات أبي وتركني وأّ ّي‬

‫‪15‬‬
‫وأختي الأصغر من ّي دونه‪ ،‬ذهب من كان يصنع لنا بهجة الحياة من‬
‫عرقه وكدّه إلى غير رجعة‪ ،‬كان رحيله قاسيا علينا نحن الث ّلاثة‪ ،‬كنت‬
‫أرى ذلك في عيني أّ ّي التي بدت ذاو ية كزهرة ذابلة اقتلعتها ريح عاتية‬
‫من غصن متين‪ ،‬كانت تستند عليه وتستريح فوقه بأمان‪ ،‬ل كنّ العاصفة‬
‫كسرته‪ ،‬كنت أشعر بآلامها وهي تنوء مرغمة بما كان أبي يغنيها عن‬
‫غادرت البسمة شفاهها المرتجفة منذ تلك ال ّلحظة التي أيقنت‬
‫ِ‬ ‫حمله‪،‬‬
‫بوفاته‪ ،‬فأصبح الجهد جهدين؛ تعب في البيت ومعاناة في المزرعة‪.‬‬
‫أمّا أختي سلمى التي لم يمر ّ وقت كبير على بلوغها أولى سنوات المرحلة‬
‫الإعدادي ّة‪ ،‬بعد أن اجتازت شهادة الت ّعليم الابتدائي بتقدير "امتياز"‬
‫ن أبي مات‪ ،‬حت ّى انزوت في ركن‬
‫وبمع ّدل ‪ 9‬من ‪ ،11‬فلم تكد تص ّدق أ ّ‬
‫بالبيت بعدما انتهى العزاء‪ ،‬الذي أنسانا من حضره من الأقارب‬
‫والجيران بمواساتهم‪ ،‬ولو لبعض الوقت‪ ،‬آلام فاجعة مصرع أبي‪ ،‬كانت‬
‫سلمى تصر ّ على البقاء في غرفتها منعزلة عن الجميع‪.‬‬
‫***‬
‫ل مخي ّما على بيتنا لأي ّام أخرى قادمة لولا ستر الل ّه‪،‬‬
‫كاد الحزن أن يظ ّ‬
‫فبعد انتهاء العزاء بأسابيع قليلة‪ ،‬وبينما كن ّا عائدين من بيت كاحل على‬
‫عادتنا بعد انتهاء الد ّراسة‪ ،‬وما إن نزلنا من الباص حت ّى داهمتنا أمطار‬
‫رعدي ّة غزيرة لم أشهد مثلها من قبل‪ ،‬أخذنا نجري بسرعة كبيرة‪ ،‬المياه‬
‫تغمر أجسادنا‪ ،‬ابتل ّت ملابسنا ومحافظنا‪ ،‬بعد دقائق فقط صار الماء يقطر‬
‫من شعورنا ووجوهنا‪ ،‬عندما أشرفنا على الت ّل ّة التي تنتصب فوقها شجرة‬
‫ن نهرا جارفا قد تشكّل من‬
‫الأحلام‪ ،‬رأينا في الأسفل باتجاه بيوتنا أ ّ‬

‫‪16‬‬
‫سيول التي كانت تنهمر نحو الأسفل‪ ،‬أصبح من الصّ عب علينا بلوغ‬
‫ال ّ‬
‫منازلنا‪ ،‬شرعت أنا ومروان في وضع بعض الصّ خور أمامنا حت ّى نم ّر‬
‫ن ذلك لم يكن مجديا فقد كانت الحجارة‬
‫عليها ونقطع مجرى المياه‪ ،‬غير أ ّ‬
‫سيل الغامر‪.‬‬
‫التي نلقيها تغوص داخل ال ّ‬
‫لم أكمل كلاّي مع مروان بينما كنت أطلب منه أن نصبر لبعض‬
‫الوقت ريثما يتوق ّف هطل المطر وتنحس ِر المياه‪ ،‬حت ّى سمعت صراخ أختي‬
‫التفت نحو مصدر الصّ وت فوجدتها تطفو فوق‬
‫ّ‬ ‫سلمى التي كانت خلفي‪،‬‬
‫المياه التي كانت تحملها مع المجرى‪ ،‬كانت سلمى تبكي وتستغيث بنا‬
‫ل‬
‫لنجدتها وإنقاذها‪ ،‬استب ّد بي الذ ّهول وعجز تفكيري عن إ يجاد ح ّ‬
‫لإخراجها من ذلك المأزق‪ ،‬خطر ببالي أن أتبعها وأركض بجانب مجرى‬
‫سيل‪ ،‬وجدت مروان خلفي يقول لي بصوت مرتفع‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫شجرة‪ ،‬مجرى المياه يضيق‬
‫‪ -‬علينا أن نعدو أسرع ونسبق سلمى إلى تلك ال ّ‬
‫ن بجوارها أغصانا وعيدانا‪ ،‬بإمكاننا الاستعانة بها لإخراجها‬
‫عندها‪ ،‬كما أ ّ‬
‫من الماء‪.‬‬
‫شجرة حت ّى خفتت سرعة المياه في المكان‪ ،‬بقيت أنا‬
‫ما إن وصلنا إلى ال ّ‬
‫شجرة سر يعا‪ ،‬وارتقى إلى غصن غليظ‬
‫بالأسفل بينما تسل ّق مروان ال ّ‬
‫يمت ّد فوق مجرى المياه‪ ،‬طلب من ّي أن أناوله أطول غصن يابس ملقى‬
‫على الأرض تقع عليه عيناي‪ ،‬أمسكه من بين يديّ ومدّه شاقولي ّا إلى‬
‫شجرة حت ّى ارتمت‬
‫الأسفل حت ّى لامس المياه‪ ،‬ما إن بلغ السيل بسلمى ال ّ‬
‫ل ما أوتيت من قو ّة‪ ،‬حاول‬
‫بكِلتا يديها على الغصن وتشبثت به بك ّ‬
‫مروان سحبها نحو ض ّفة المجرى مبتعدا عن غصن الشّجرة الذي كان‬

‫‪17‬‬
‫جالسا عليه كأن ّه يركب حصانا‪ ،‬وحين أصبحت سلمى بالقرب من ّي‪،‬‬
‫حيث أن ّني كنت واقفا على حاف ّة المجرى أنتظر وصولها إليها‪ ،‬مددت‬
‫يدي لأمسك بيدها‪ ،‬وسحبتها من المياه‪.‬‬
‫ن الحادثة كانت صعبة وقاسية علينا أنا وسلمى‪ ،‬فقد كان من‬
‫رغم أ ّ‬
‫كننا من إنقاذها أنا ومروان‬
‫ن تم ّ‬
‫الممكن أن نفقدها إلى الأبد‪ ،‬غير أ ّ‬
‫أشعرني بقو ّة الأواصر التي تربطني بأّ ّي وأختي‪ ،‬كان لذلك المعنى الجميل‬
‫حس بأنني مسؤول على أختي الأصغر من ّي‪،‬‬
‫أثر بالغ في نفسي‪ ،‬جعلني أ ّ‬
‫خصوصا بعد رحيل أبي‪ ،‬صحيح أنّنا فقدنا والدنا ل كن مازالت لدينا‬
‫ل شيء‪ ،‬كانت تلك الت ّجربة نوعا من العلاج الن ّفسي‬
‫أسرة رغم ك ّ‬
‫لجروح داخلية لم تندم ِل منذ وفاة أبي العزيز‪.‬‬
‫***‬
‫مع مرور الأيام ات ّضح لي أن ّه صار ل ِزاما علينا أن نواجه الحياة من دون‬
‫ل يوم يخرج فيه من البيت إلى الحقل وكأن ّه يدفع‬
‫أبي‪ ،‬الذي كان ك ّ‬
‫عن ّا شرور الد ّنيا ومصائبها‪ ،‬و يجلب لنا حين عودته في المساء صفاء الحياة ِ‬
‫الوادعة والهنيئة‪ ،‬أصبحنا نحن الثلاثة ع َّ ّزلا دون سلاح نجابه به مآسي‬
‫الد ّهر وأحزانه‪ ،‬نتل ّقى الهموم حاسرين دون دِرع أو ت ِرس‪ ،‬كان أبي‬
‫يص ّد عن ّا كل ذلك‪ ،‬افتقدناه كثيرا خلال الأيام التي تلت رحيله‪.‬‬
‫ل يوم هائما على وجهي لا أدري ما يجب عليّ القيام به‪ ،‬المزرعة‬
‫أخرج ك ّ‬
‫تحتاج إلى هم ّة رجل في مثل سنّ أبي وقو ّته‪ ،‬يتفر ّغ كلي ّة لمتطلّباتها‪ ،‬وأنا‬
‫لا أزال فتى يافعا أدرس بالثانو ي ّة لديّ أحلاّي وطموحاتي في أن أكمل‬
‫تعليمي وأنهي مساري الد ّراسي‪ ،‬إلى غاية أن أتخر ّج من معهد الأدب‬

‫‪18‬‬
‫العربيّ في الجامعة كما أتخي ّل نفسي دائما‪ ،‬ماذا عساي أن أفعله وأّ ّي‬
‫ليس بمقدورها القيام بما كان أبي يكفينا هم ّه؟ ما الذي ب ِيدي أن أقدّمه‬
‫أمس الحاجة إلى مورد رزق يجن ّبنا تك ّفف الن ّاس وسؤالهم‬
‫ّ‬ ‫ونحن في‬
‫المعونة والمساعدة‪ ،‬لم يكن شبح الفقر وحده من يتراقص بين ناظريّ‬
‫حينما أفك ّر في الأمر‪ ،‬ماذا لو فشلت في الحفاظ على أرض أبي التي‬
‫قاسى من أجلها وعانى حتى استردّها من الغاصبين‪ ،‬كيف سيكون عليه‬
‫حفظ الوديعة؟‬
‫الحال إن أنا لم أنجح في صون الأمانة و ِ‬
‫م حقل زيتون ولوز‪،‬‬
‫بالإضافة إلى الأرض المقسومة نصفين‪ ،‬نصف يض ّ‬
‫مرة قمحا وفي الموسم الذي تلاه‬ ‫والن ّصف الآخر كان أبي قد زرعه ّ‬
‫شعيرا‪ ،‬فقد ترك لنا بقرتين وقطيعا من الن ّعاج‪ ،‬كن ّا في حياته نعتاش مم ّا‬
‫شياه‬
‫تنتجه البقرتان من حليب و ز بدة وجبن تحض ّره أّ ّي‪ ،‬ومما تلده ال ِّ‬
‫من خراف كان أبي يبيعها في سوق الخليل حين تسمن‪ ،‬و يصرف على‬
‫طعامنا وثيابنا وتعليمنا وجميع حاجياتنا مم ّا يحصل عليه منها‪ ،‬أمّا عن‬
‫ن غل ّته كانت تخضع لتقل ّبات الفصول‪ ،‬ففي أوّل‬
‫حقل الز ّيتون والل ّوز فإ ّ‬
‫موسم لنا بالخ ِربة لم نكد نجني منه شيئا يذكر‪ ،‬وفي الموسم الذي تلاه‬
‫طرحت الأشجار المثقلة بالغ ِلال محاصيل وافرة من الل ّوز‪ ،‬الذي نشرناه‬
‫في أشع ّة الشّمس حتى يبس وقش ّرناه‪ ،‬بعدها وضعناه في أكياس كبيرة‬
‫باعها أبي لأحد الت ّجار في مدينة الخليل‪ ،‬أمّا عن الز ّيتون فقد احتفظ‬
‫أبي منه لاحتياجاتنا بجزء يسير‪ ،‬عالجه بمادّة كيميائية حت ّى زال عنه‬
‫طعمه المر ّ‪ ،‬وأخذ بالبقية إلى المعصرة في بيت كاحل‪ ،‬لتحو يله إلى‬
‫زيت‪ ،‬قام بتعبئته في أوعية بلاستيكية باعها في سوق المدينة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫(‪)3‬‬

‫عِبء تنوء بح ِمله الجبال‬


‫كان بيتنا الذي يتوسّ ط مزارع خربة الصّ فا يشبه جزيرة وسط بحر‬
‫متلاطم الأمواج‪ ،‬الجيران من حولنا منهمكون إلى أذقانهم في أمورهم‬
‫صة والمتشع ّبة‪ ،‬كان ذلك كفيلا بأن ينسانا الجميع ولا‬
‫الحياتي ّة الخا ّ‬
‫يتذك ّرنا أحد‪ ،‬فعدا عن أي ّام العطل لم يكن أعماّي وأخوالي يزوروننا إلّا‬
‫في ما ندر‪ ،‬تتفهّم أّ ّي التي أثقلتها الهموم وأوهنتها الواجبات ذلك‪،‬‬
‫تذمري منهم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فتقول لي حينما أبدي‬
‫ل واحد مشغول بشؤونه والتزاماته مع‬
‫‪ -‬يا بن ّي هكذا هي الحياة‪ ،‬ك ّ‬
‫أولاده وأسرته‪.‬‬
‫جد كلامها هذا منطقي ّا‪ ،‬حينما تسترسل في تبريرها له‪:‬‬
‫أ ِ‬
‫ل حال‪ ،‬أ ّنهم يتف ّقدون أحوالنا حينما يتسن ّى لهم‬
‫‪ -‬فلنحمد الل ّه على ك ّ‬
‫ذلك من وقت لآخر‪ ،‬علينا أن نتول ّى شؤوننا بأنفسنا ولا ننتظر شفقة‬
‫الن ّاس أو مساعدتهم‪.‬‬
‫اكتشفت أن ّه رغم مأساة أّ ّي غير أ ّنها كانت صابرة مثل جبل راس‬
‫يم ّد أوتاده في أرض صلبة‪ ،‬تعل ّمني كيف أواجه الصّ عاب والمحن حت ّى‬
‫وأنا لا أزال فتى بخدود ملساء لم يشقّ ال َّ ّ‬
‫شعر جِلدها بعد‪ ،‬وجدت فيها‬
‫سلوى عن فقدي لأبي‪.‬‬
‫العزاء وال ّ‬
‫ل يوم لتجهّزنا للذ ّهاب‬
‫زادت أعباء أّ ّي في الأي ّام الأخيرة‪ ،‬تنهض ك ّ‬
‫شط شعر أختي وتلبسها ثيابها‪،‬‬
‫إلى المدرسة‪ ،‬فتع ّد لنا فطور الصّ باح‪ ،‬وتم ّ‬
‫‪21‬‬
‫أحاول أن أكفيها أمري‪ ،‬فقد صرت رجلا بعد وفاة أبي مثلما تصر ّ‬
‫سادسة‬
‫على قوله لي وإقناعي به‪ ،‬قد أكون اضطررت إلى ذلك وأنا في ال ّ‬
‫سنة الث ّاني ّة‬
‫عشر من عمري‪ ،‬قاب قوسين أو أدنى من الانتقال إلى ال ّ‬
‫من الت ّعليم الث ّانوي بثانو ية قر ية بيت كاحل‪.‬‬
‫عدا عن تبادل محتشم للز ّيارات بينها وبين عم ّتي أمّ مروان‪ ،‬كانت علاقة‬
‫أّ ّي بجاراتها على عكس ما كان عليه أبي مع جيرانه من تلاقي دائم‬
‫ل ذلك بسبب مكوثها بالبيت وانكبابها على القيام‬
‫وتعاون مستمر ّ‪ ،‬لع ّ‬
‫بشؤونه طوال الوقت‪ ،‬فهي لا تخرج منه إلا نادرا ولحاجة ضرور ي ّة‬
‫وملح ّة‪ ،‬في حين كان أبي يمضي أغلب أوقاته في الحقل‪ ،‬كانت هذه‬
‫الن ّقطة بالذ ّات هي ما ساعده على تعل ّم فنون الز ّراعة وجميع ما يتعل ّق بها؛‬
‫خصوصا من جارينا أبو محمود وأبو مروان‪ ،‬بالإضافة طبعا إلى تشب ّثه‬
‫الآسر بالأرض وحب ّه الغامر لها‪ ،‬فهما ما جعله يتخلّى عن حرفته لأجل‬
‫العمل فيها‪.‬‬
‫لم يكن أبي يجد غضاضة في طلب المعونة أو أيّ شيء آخر يحتاجه من‬
‫أقرب جيرانه‪ ،‬وإن تطل ّب الأمر؛ خصوصا إذا احتاج إلى الجر ّار‬
‫والمحراث والص ّهريج المقطور لجلب المياه أو الحاصدة‪ ،‬فإن ّه كان يقصد‬
‫عم ّي أبو إياد‪ ،‬الذي كان يسكن أبعد من الجميع ويملك جميع وسائل‬
‫الز ّراعة وآلياتها‪.‬‬
‫كانت معرفة أبي بأغلب سكّان الخربة قديمة‪ ،‬بحكم قرب المسافة بينها‬
‫وبين مدينة الخليل‪ ،‬جعلهم ذلك يلجؤون إليه لتصليح أو تركيب أنابيب‬

‫‪21‬‬
‫المياه والحنفي ّات في منازلهم‪ ،‬أو حت ّى صيانة المضخ ّات في مزارعهم‪،‬‬
‫فقد كانت لأبي دراية وخبرة لا بأس بها بهذا الخصوص‪.‬‬
‫لا تستطيع أّ ّي أن تقوم بأيّ شيء من شؤون الز ّراعة مهما بدا سهلا‬
‫وبسيطا‪ ،‬فقد تر ب ّت في المدينة وكبرت وسط عائلة لا تر بطها بالحقول‬
‫طرق التي تخترقها‪،‬‬
‫أي ّة صلة‪ ،‬إلا ما تراه من مناظر أثناء مرورها عبر ال ّ‬
‫للوصول إلى عدد من القرى المجاورة للخليل أين يقطن بعض أقربائها‪،‬‬
‫غير أنّها وبعد أن أصبحت مضطر ّة لذلك بعد رحيل أبي ونظرا لصغر‬
‫سن ّي وانشغالي بالد ّراسة‪ ،‬لم يعد أمامها من خيار سوى مواجهة قدرها‬
‫المحتوم؛ وأن تأخذ مكان أبي وتخلفه على القيام على شؤوننا‪.‬‬
‫صرت أشاهدها خلسة وهي تتدث ّر بثيابها‪ ،‬قبل أن تخرج إلى الحقل بعد‬
‫ل صباح‪ ،‬أتل َّكّأ‬
‫مغادرتي أنا وأختي سلمى إلى بيت كاحل للد ّراسة ك ّ‬
‫لبعض الوقت كي أراقبها وأنا مختبئ عنها خلف شجرة الأحلام التي‬
‫طر يق‬
‫تنتصب في أعلى الت ّل‪ ،‬بالقرب من طر يق الإسفلت عند نهاية ال ّ‬
‫الت ّرابية المفضية إلى مزرعتنا‪ ،‬رأيتها مرارا بينما تحمل المجرفة وتحاول‬
‫نكش الأرض وإزالة الأعشاب الضّ ارة من حول أشجار البستان‪.‬‬
‫في المساء وعند عودتي‪ ،‬أحيانا تأمرني بعد أن تنهي عملها في الحقل‬
‫بمش ّقة‪ ،‬أن أذهب عند عم ّي أبو مروان حت ّى أطلب منه أن يشغ ّل مضخ ّة‬
‫كن من سقي الأشجار‪ ،‬لم يكن ذلك‬
‫بئره‪ ،‬كي نملأ حوض المياه‪ ،‬ونتم ّ‬
‫ل أسبوع أجرة المياه‬
‫ن أّ ّي تضع في يدي مع نهاية ك ّ‬
‫بالمج ّان‪ ،‬حيث أ ّ‬
‫التي نستهل كها من بئره‪ ،‬أسل ّمها له حالا ودون تأخير‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أساعد أّ ّي كل ّما توف ّر لي وقت لذلك‪ ،‬عق ِب عودتي من الد ّراسة أحمل‬
‫مجرفة وأعينها على سقي الأشجار‪ ،‬نزيح الطّمي والحجارة من طر يق المياه‬
‫طر يق أمامها كي نمنعها من‬
‫ساقية نحوها‪ ،‬وأحيانا نس ّد ال ّ‬
‫التي تجري في ال ّ‬
‫الجر يان نحو الأشجار التي تكون قد أخذت نصيبها كفاية من ال ّ‬
‫سقي‪،‬‬
‫وحت ّى نتيح لل ّتي لم تسق بعد من أن تصلها المياه‪ ،‬أحرص على أن أخبر‬
‫أّ ّي عن كيفية عمل ذلك‪ ،‬فقد تعلّمت من مشاهدتي لأبي طر يقة سقي‬
‫الأشجار‪.‬‬
‫***‬
‫لم يبق في صر ّة الن ّقود التي تخبئها أّ ّي في الخزانة فلس واحد‪ ،‬أنفقنا ك َّ ّ‬
‫ل‬
‫ما نمل كه على مصروف البيت وكانت مراسم عزاء أبي قد أخذت جزءا‬
‫كبيرا منها‪ ،‬أمّا القسط الأوفر فقد ذهب مع سقي أشجار الز ّيتون والل ّوز‪،‬‬
‫شتاء في هذا الموسم كانت أمطاره شحيحة ولا تكفي ل ِر ي ّه‬
‫ن ال ّ‬
‫حيث أ ّ‬
‫على الوجه المطلوب‪ ،‬لم تجد أّي من بدّ‪ ،‬كان ل ِزاما علينا أن نضح ّي‬
‫كن من توفير بعض المال‬
‫سوق‪ ،‬حت ّى نتم ّ‬
‫بنعاجنا العشرة ونبيعها في ال ّ‬
‫لنواجه به مستلزمات الحياة ومصار يف دراستي أنا وأختي‪ ،‬تفادت أّ ّي‬
‫ن كانا لا يزالان صغيران يرضعان أمّيه ِما‪ ،‬سوف لن يجلبا‬
‫أن تبيع عجلا ِ‬
‫لنا الش ّيء ال كثير‪ ،‬يحتاجان بدورهما إلى جانب البقرتين لبعض‬
‫المصار يف من علف وتبن وكلأ‪.‬‬
‫لم يزرع أبي في الخر يف قبل وفاته القسم المخصّ ص للحبوب من الأرض‪،‬‬
‫سنة القادمة فقد زرعها في العامين الماضيين‪،‬‬
‫فضّ ل أن ترتاح إلى ال ّ‬
‫سوف لن يكون لدينا مع الخر يف القادم ما ننتظره سوى بستان الز ّيتون‬

‫‪23‬‬
‫والل ّوز‪ ،‬ماذا سيكون عليه الحال لو كان محصوله لا شيء؟ دفعتني‬
‫سؤال لأن أجد فكرة تجعلنا نتفادى‬
‫مخاوف أّ ّي وهي تطرح أماّي هذا ال ّ‬
‫وقوع الأسوأ‪.‬‬
‫مع حلول نهاية الأسبوع تملأ أّ ّي قفّة كبيرة بما لذ ّ وطاب من الأطعمة‬
‫التي تدأب على طهيها وإنضاجها إلى ما بعد منتصف النّهار‪ ،‬بعدما تنهي‬
‫أشغالها المنزلية التي تتراكم فوق تعبها ال ممِض في الحقل طوال اليوم‪،‬‬
‫كنت قد اقترحت عليها أن أبيع بعض المأكولات الخفيفة التي تصنعها‬
‫بيديها في منتزه الصّ فا‪ ،‬الذي يقصده الزّوّار من القرى المجاورة ومن‬
‫مدينة الخليل‪.‬‬
‫كانت نسائم باردة تغمر المنتزه الذي يعجّ بالن ّاس في يوم ربيعي قارص‪،‬‬
‫طتني بمعطف صوفي تعتليه قلنسوة ويتدلّى طرفاه‬
‫استبقت أّ ّي ذلك وغ ّ‬
‫شتاء‬
‫إلى ركبتيّ‪ ،‬وقبل أن أخرج ألقت بجزمتي التي خب ّأتها مع نهاية ال ّ‬
‫أمام قدّيّ عند ردهة البيت‪ ،‬يبدو أن ّني لازلت بحاجة لها حتى مع‬
‫انتصاف فصل الر ّبيع‪ ،‬انتعلتها وخرجت وأنا أخنق بيديّ م ِقبضي القفّة‬
‫الث ّقيلة والممتلئة‪ ،‬فكنت أحملها أماّي بصعوبة‪ ،‬وأضعها على الأرض‬
‫كل ّما شعرت بألم يقطّع أصابعي التي ترتسم عليها خطوط حمراء‪ ،‬أنفخ في‬
‫قبضة َّ‬
‫يديّ وأدعكهما بعضهما ببعض حت ّى يزول الألم‪ ،‬ثم أستأنف‬
‫طر يق الت ّرابية‪.‬‬
‫مسيري إلى الموقف في نهاية ال ّ‬
‫ما إن بلغت بو ّابة المنتزه‪ ،‬حت ّى لمحت من خلالها زميلي يوسف برفقة‬
‫والديه وإخوته يتجو ّلون بالد ّاخل‪ ،‬في البداية شعرت بالإحراج فارتبكت‬
‫وتردّدت لبعض الوقت‪ ،‬لم يسبق لي أن وجدت نفسي في هذا الموقف‬

‫‪24‬‬
‫المعقّد والمغاير لطبيعة معيشتي من قبل‪ ،‬بدوت كمن أرغمته الفاقة لحمل‬
‫جزء من قوت عائلته وعرضه على المرف ّهين‪ ،‬الذين فاضت أوقاتهم‬
‫وزادت أموالهم عن حاجتهم‪ ،‬حت ّى خرجوا يقضونها وينفقونها في المنتزه‬
‫مرة منذ أن فقدت أبي‪،‬‬‫بصحبة أبنائهم‪ ،‬أحسست بمعنى اليتم لأوّل ّ‬
‫وأنا أشاهد الآباء والأمّهات يدلّلون صغارهم و يعطفون عليهم‪ ،‬ولا‬
‫سفينة العملاقة أو الصّ عود إلى‬
‫يردّون لهم طلبا في ركوب أرجوحة ال ّ‬
‫لعبة السّلاسل التي تدور بهم حول محور ثابت‪ ،‬ترقرقت دمعة من عيني‬
‫خط ساخن يشقّه‪ ،‬تذك ّرت أّ ّي‬
‫وسالت على خدّي البارد‪ ،‬شعرت ب ّ‬
‫وأختي وحاجتنا لمصدر رزق حت ّى نعيش منه‪ ،‬وأن ّني رجل البيت بعد‬
‫أبي كما تقول لي أّ ّي دوما‪ ،‬وجدتني قد اجتزت بوابة المنتزه دون أن‬
‫أشعر‪ ،‬وضعت القفّة بين رجليّ‪ ،‬مسحت دموعي وطف ِقت أنادي‪:‬‬
‫‪ -‬كب ّة‪ ،‬فلافل طيبة‪ ،‬منقوشة لذيذة‪ ...‬يا الل ّه قر ّبوا‪ ...‬تفضّ لوا‪...‬‬
‫وما إن جلست على حاف ّة رصيف بالقرب من ممشى يرتاده المتنز ّهون‬
‫بكثرة‪ ،‬تح ّفه أشجار الصّ نوبر التي تملأ المكان‪ ،‬وباعدت بين مقبضي الق ّفة‬
‫وأزحت قطعة قماش كانت أّ ّي قد غطّت بها الأطعمة التي يسيل‬
‫لرؤيتها الل ّعاب‪ ،‬وتستثير رائحتها الش ّهية ك َّ ّ‬
‫ل من يشتمّها وتحفز ّه على‬
‫ل حدب وصوب‪ ،‬بمجر ّد أن وقعت‬
‫التهامها‪ ،‬حت ّى انهال عليّ الن ّاس من ك ّ‬
‫أعينهم على أطايب قلّما يرونها في ذلك المكان‪ ،‬فوقفوا يحاصرونني من‬
‫ل جانب و يطلبون من ّي أن أناولهم ما يشتهون هم وأبناؤهم‪ ،‬ولم تمر ّ‬
‫ك ّ‬
‫سوى بضعة دقائق حت ّى كنت قد خرجت من المنتزه قافلا إلى البيت‬

‫‪25‬‬
‫وأنا أهز ّ القفّة فارغة في يدي‪ ،‬وقبل أن أتجاوز البو ّابة نحو الخارج سمعت‬
‫أحدهم ينادي من خلفي‪:‬‬
‫‪ -‬هااااي‪ ...‬يا فتى‪ ...‬انتظر‪.‬‬
‫تلفت كي أنظر إن كان الن ّداء يعنيني‪ ،‬فوجدت صاحبه يلو ّح لي بيده‬
‫ّ‬
‫ويهرول باتّ جاهي‪ ،‬توق ّفت بعد أن استدرت نحوه وأنا أفك ّر في سبب‬
‫إيقافه لي؛ هل نسي عندي الباقي من نقوده التي قدّمها لي حينما اشترى‬
‫من ّي؟ أم تراني أنا الذي نسيت أن أطالبه بثمن ما أكله؟ وجدته قد وقف‬
‫أماّي وهو يبادرني بسؤاله منهيا تخميناتي‪:‬‬
‫‪ -‬هل تستطيع والدتك أن تصنع حلو ي ّات لذيذة‪ ،‬كتلك الأطعمة التي‬
‫تذوّقت منها قطعة قبل قليل؟‬
‫‪ -‬بالت ّأكيد‪ ...‬ل كن لماذا؟‬
‫‪ -‬هل بوسعك أن تحضر لي قفّة من الحلو ي ّات‪ ،‬مثل هذه‪ ،‬يوما بيوم‬
‫إلى كشكي هناك؟‬
‫يوضح لي حجم طلبي ّته‬
‫نقل الر ّجل إشارته بيده من القفّة حينما أراد أن ّ‬
‫إلى كشك تتناثر بالقرب منه بضع طاولات تحيط بها كراسيها‪ ،‬بدا لي‬
‫كمقهى صغير‪ ،‬قلت له على الفور والبهجة تغمرني‪:‬‬
‫ل تأكيد يا سي ّدي‪.‬‬
‫‪ -‬بك ّ‬
‫ن قدماي لا تحملاني‪ ،‬وكأن ّني أحل ّق فوق‬
‫غادرت المكان وأنا اشعر بأ ّ‬
‫الأرض من فرط سروري بالصّ فقة التي عقدتها مع صاحب ال كشك‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫(‪)4‬‬
‫مِ حن تصنع من الأطفال رجالا‬
‫لم أكن أحصل بعدما تفرغ الق ّفة سوى على بضع أوراق نقدي ّة‪ ،‬فوق‬
‫ما تنفقه أّ ّي على صنع تلك المأكولات الخفيفة والحلو ي ّات الل ّذيذة إلى‬
‫جانب تعبها المضني‪ ،‬الذي لا يكافئه ما أجنيه مهما كان وفيرا‪ ،‬حت ّى‬
‫شمس‪.‬‬
‫وأنا أعود إليها مهدود الحيل مع اقتراب مغيب ال ّ‬
‫في أحد الأي ّام وحال عودتي إلى البيت وجدت خالي حسين بالد ّاخل‪،‬‬
‫كان قد ركن سيارته غير بعيد عن إسطبل الأبقار‪ ،‬خم ّنت بأن ّه عندنا‬
‫قبل أن أراه جالسا في المطبخ مع أّ ّي يتجاذبان أطراف الحديث‪ ،‬عندما‬
‫دخلت المنزل كان كلامهما يسمع من الر ّدهة حت ّى قبل أن أفتح الباب‪،‬‬
‫فجأة صمتا حينما لمحاني وأنا أجتاز عتبة المطبخ‪ ،‬كما لو أ ّنهما لم يرغبا في‬
‫أن أسمع ما يقولانه‪ ،‬سل ّمت على خالي وقبّلت يد أّ ّي‪ ،‬وضعت الق ّفة‬
‫حب بي في‬
‫على المنضدة وخرجت سر يعا‪ ،‬بعدما شعرت أن ّه غير مر ّ‬
‫حوار الكبار‪ ،‬أو هكذا بدا لي‪ ،‬وجدت أن ّه من الل ّباقة أن أتركهما يتكل ّمان‬
‫على راحتهما‪ .‬لم يطل المقام بخالي عندنا‪ ،‬سمعته يودّع أّ ّي مغادرا بينما‬
‫كنت مستلقيا على سريري في الغرفة لأرتاح من تعب بيع المأكولات‬
‫سائر يوّي‪.‬‬
‫لمحت تردّدا في عيني أّ ّي وهي تقف أماّي‪ ،‬وفي شفتيها كلام حين‬
‫دخلت الغرفة وقطعت عليّ خلوتي دون أن أشعر بخفق رجليها‪ ،‬قلت‬
‫لها وأنا أشج ّعها على الكلام‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ -‬كيف هي أحوال خالي حسين؟‬
‫‪ -‬بخير‪ ،‬جاء ليقترح عليّ أمرا بعدما طلب منه أخوالك ذلك‪ ،‬لقد فاتح‬
‫حبوا بالفكرة‪.‬‬
‫فيه أعمامك أيضا ور ّ‬
‫‪ -‬وما هو هذا الأمر يا أّ ّي؟‬
‫أجابت أّ ّي بتردّد وهي تنتقي كلماتها التي كان يحاصرها ر يقها فتبتلعه‬
‫بمشقّة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد‪ ...‬أأأ‪ ...‬إ ّنهم‪ ...‬يريدون من ّا أن نسكن في الخليل بالقرب منهم‪...‬‬
‫تعرِف‪ ...‬نحن هنا غرباء نعيش لوحدنا‪ ...‬ماذا لو حدث لأحدنا‬
‫مكروه؟ أو‪...‬‬
‫بدت أّ ّي وهي تنقل إليّ كلام خالي وكأ ّنها غير مقتنعة به‪ ،‬أو أ ّنها‬
‫تعلم مسبقا ردّة فعلي إزاءه‪ ،‬فظهر الارتباك في حديثها معي‪ ،‬قلت لها‬
‫قاطعا تلعثمها‪ ،‬فصمتت مصغية لكلاّي بانتباه شديد‪:‬‬
‫‪ -‬ونترك أرض أبي! وكيف سيكون عليه الحال إذا استولى عليها الص ّهاينة‬
‫في غيابنا؟‬
‫‪ -‬لن نغادرها حتى نبيعها لفلسطيني ّين مثلنا يا ولدي‪ ،‬وهكذا سنضمن‬
‫أ ّنها ستكون في أيد آمنة‪.‬‬
‫‪ -‬لن يحدث هذا يا أّ ّي طالما حييت‪ ،‬لن أتنازل عن أرض أبي‬
‫ل يوم فور عودتي من الث ّانو ية ولن‬
‫وأجدادي‪ ،‬بإمكاني أن أشتغل ك ّ‬
‫أترك الد ّراسة مهما حصل‪.‬‬
‫سندوتشات‪ ...‬بضع أوراق نقدية لن تكفينا‬
‫‪ -‬وماذا ستجنيه من بيع ال ّ‬
‫ليومين حت ّى‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ -‬سنتدبر أمورنا ريثما يفرجها الل ّه علينا‪.‬‬
‫‪ -‬اسمع يا ولد‪ ،‬لقد قر ّر الكبار وحسموا في الأمر‪ ،‬سنبيع المزرعة ونشتري‬
‫بيتا في الخليل‪.‬‬
‫نهرتني أّ ّي بحزم محاولة حسم الموقف وإنهاء جدالي لها بلهجة حادّة‬
‫وصوت مرتفع‪ ،‬خرجت عند ذاك من البيت وأنا أصيح مردّدا في‬
‫غيض مرير‪:‬‬
‫‪ -‬أقسم أن ّه لو حدث ذلك فسألقي بنفسي في البئر وأموت كما مات‬
‫أبي‪.‬‬
‫حقت بي أّ ّي‪ ،‬وحينما أشرفت على حاف ّته تظاهرت‬
‫ركضت نحو البئر فل ِ‬
‫جتني وهي تستغيث‪:‬‬
‫أمامها بأن ّني سأرّي بنفسي إلى قاع ِه‪ ،‬تر ّ‬
‫‪ -‬لا‪ ...‬أرجوك سمير لا تفعل‪ ،‬كن عاقلا بن ّي‪ ...‬لا تتركني وحيدة‪...‬‬
‫ليس لي أحد غيرك في هذا العالم الموحش‪.‬‬
‫بدأت أّ ّي تبكي‪ ،‬انهمرت دموعها على خ ّديها‪ ،‬جثت على ركبتيها‬
‫وغرست وجهها بين يديها‪ ،‬أشفقت عليها عندها‪ ،‬غير أن ّني خفت أن‬
‫تنصاع مجدّدا لرأي أخوالي وتوافق على بيع الأرض‪ ،‬فقلت لها مشترطا‪:‬‬
‫‪ -‬سوف لن ألقي بنفسي في البئر‪ ،‬ل كن بشرط‪ ...‬أن لا تعيدي مفاتحتي‬
‫في هذا الموضوع ثانية‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا يا ولدي‪ ...‬لن يكون إلّا ما تريده‪ ،‬فقط عد إليّ ولا تفجعني‬
‫فيك‪ ،‬يكفيني ما أنا فيه بعد فقد أبيك‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تراجعت إلى الخلف‪ ،‬ومشيت ناحية أّ ّي‪ ،‬أمسكت بيديها وساعدتها‬
‫كي تنهض وقب ّلت يمناها‪ ،‬ثم جثوت عند قدمها ألثمه وقلت لها متوسّ لا‬
‫والد ّموع تنثال على خديّ ‪:‬‬
‫ك يا أّ ّي لا تدعيهم يبيعون الأرض التي مات أبي من أجلها‪.‬‬
‫‪ -‬أرجو ِ‬
‫***‬
‫كنت لاأزال أتدث ّر بكساء فوق فراشي حينما نهضت أّي باكرا‪،‬‬
‫سمعت باب البيت وهو يفتح‪ ،‬ثم ّ أغلق‪ ،‬خرجت خلفها‪ ،‬كان الل ّيل لا‬
‫يزال جاثما فوق مساكن الخربة ومزارعها حينما وقفت عند الباب في‬
‫التفت عن يميني حيث يوجد إسطبل الأبقار‪ ،‬لمحت الضّ وء‬
‫ّ‬ ‫الخارج‪،‬‬
‫الصّ ادر من نافذته يخرق غِشاوة الل ّيل المتأه ّب للر ّحيل في الجوار‪،‬‬
‫اقتربت من الإسطبل فإذا بي أسمع صوت وقع الحليب داخل السّطل‪،‬‬
‫ن أّ ّي تحلب بقرة‪ ،‬لم أشأ أن أربكها فوقفت مختبئا عند‬
‫فأدركت أ ّ‬
‫الباب ولم أدخل‪ ،‬ظللت أرقبها خلسة عنها حت ّى أنهت حلب البقرتين‬
‫وأطعمتهما‪ ،‬وأرضعت عجلاها‪ ،‬وحين أيقنت أ ّنها ستخرج من الإسطبل‬
‫عدت إلى المنزل وأنا أمشي مسرعا على أطراف أصابعي‪ ،‬كي أسبقها‬
‫إلى الد ّاخل دون أن تسمع وقع قدّيّ‪ ،‬تسر ّبت داخل فراشي كثعبان‪،‬‬
‫سمعتها حين وصلت إلى المطبخ‪ ،‬راحت تعبث بالأواني داخله‪ ،‬تسحب‬
‫أشياء وتدفع أخرى‪ ،‬تصطكّ الفناجين والملاعق من بين يديها فتحدِث‬
‫جلبة خافتة من خلف باب المطبخ‪ ،‬كانت قد أغلقته حت ّى لا تزعج‬
‫نومنا‪ ،‬عرفت أنّها تحض ّر فطور الصّ باح‪ ،‬كان ضوء الفجر قد بدأ يتسرّب‬
‫من نافذة الغرفة‪ ،‬فجأة سمعت صوت تكس ّر إناء زجاجي‪ ،‬قمت من‬

‫‪31‬‬
‫فراشي مسرعا إلى المطبخ كي أستجلي الأمر‪ ،‬وجدت أّ ّي مقرف ِصة أمام‬
‫صدغيها بالأخرى‪،‬‬
‫منضدة المطبخ‪ ،‬تمسك بيد حاف ّتها الإسمنتية وتش ّد ِ‬
‫شعرت بالخوف عليها من أن يكون قد أصابها مكروه‪ ،‬اقتربت منها‪،‬‬
‫جلست بجانبها ووضعت يدي على ظهرها وسألتها بإشفاق‪:‬‬
‫‪ -‬أّ ّي ما بك؟‬
‫‪ -‬لا شيء بنيّ‪ ...‬أشعر ببعض الت ّعب‪ ،‬صداع خفيف فقط‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن نذهب إلى الطّبيب فورا‪.‬‬
‫‪ -‬لا داعي لذلك‪.‬‬
‫قلت لها وقد خطر ببالي أن أوقظ أختي سلمي لتبقى إلى جانبها‪ ،‬وأذهب‬
‫عند عم ّي أبو مروان والد صديقي‪ ،‬كي ننقلها إلى المستشفى خشية من‬
‫أن تحدث لها مضاعفات‪:‬‬
‫‪ -‬سأعود حالا‪.‬‬
‫بعد عودتي برفقة عم ّي أبو مروان الذي تجش ّم عناء النّهوض من فراشه‬
‫واتّ جه نحو گاراج سيارته وأدار محركها‪ ،‬وجدت أّ ّي على حالها‪ ،‬سألت‬
‫سلمى إن كانت على ما يرام‪ ،‬فأخبرتني بأنّها شعرت بالغثيان وقاءت في‬
‫حوض المطبخ‪ ،‬طلبت منها أن تساعدها في إحضار ملابسها من الخزانة‪،‬‬
‫ن عم ّي‬
‫حت ّى تهي ّئ نفسها وتستع ّد لنذهب إلى المستشفى‪ ،‬أخبرت أّ ّي أ ّ‬
‫أبو مروان ينتظرنا بسيارته في الخارج كي يقلّنا إلى مستشفى عالية بمدينة‬
‫الخليل‪.‬‬
‫تركنا أّ ّي تدخل لوحدها وجلسنا ننتظرها في غرفة فسيحة‪ ،‬يستلقي على‬
‫كراسيها الملتصقة بالجدران رجال وأطفال‪ ،‬فجأة خرجت وأطل ّت‬

‫‪31‬‬
‫ل من ال ّنافذة‪،‬‬
‫بداخل غرفة الانتظار لمحتني حين كنت شاردا أط ّ‬
‫نادتني‪ ،‬وحين أقبلت عليها قالت لي‪:‬‬
‫‪ -‬عليّ مراجعة طبيبة قسم الن ّسائي ّة والت ّوليد‪ ،‬هكذا أشار عليّ طبيب‬
‫مصلحة الاستعجالات‪.‬‬
‫خرجنا من الاستعجالات سر يعا واتّ جهنا إلى قسم الن ّسائية والت ّوليد‪،‬‬
‫انتظرت أّ ّي طو يلا حت ّى حان دورها للمعاينة عند الطبيبة‪ ،‬لم تمكث‬
‫عندها مطو ّلا حتى خرجت من باب القسم بوجه جمعت ملامِ حه بين‬
‫الاستغراب والفرح‪ ،‬تركت عم ّي أبو مروان واقتربت منها محاولا معرفة‬
‫ما يحصل معها‪ ،‬بعدما أصبح الأمر يتطل ّب فحوصات تتعل ّق بمسائل‬
‫الولادة‪ ،‬همست أّ ّي في أذني مب ّددة حيرتي‪:‬‬
‫طبيبة أن ّني حامل‪.‬‬
‫‪ -‬تقول ال ّ‬
‫ن ملامح أّ ّي وهي تخرج من‬
‫خف ابتهاجي ودهشتي‪ ،‬ف ِعلا يبدو أ ّ‬
‫لم أ ِ‬
‫طبيبة كانت على حقّ فيما اعتراها من تغي ّر‪ ،‬اغرورقت عينا أّ ّي‬
‫عند ال ّ‬
‫بالد ّموع‪ ،‬لاحظتها تتساقط كحب ّات الل ّؤلؤ من أهدابها المثقلة بها‪ ،‬قلت لها‬
‫مستعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي دهاك يا أمي‪ ،‬هذا خبرمفرح فلم البكاء إذن؟!‬
‫تكتمه العبرات‪ ،‬محاولة بمشقة إزاحته من حنجرتها‬ ‫ُ‬ ‫قالت بصوت‬
‫املختنقة بابتسامة مشرقة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬تذكرت أباك هللا يرحمه‪ ...‬تمنيت لو أنه كان معنا في هذه اللحظات‬
‫السعيدة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫في حياته كان أبي يحمل أعباء كبيرة وكثيرة‪ ،‬أدركت أّ ّي بعد وفاته‬
‫حجمها‪ ،‬صار من غير الممكن أن تقوم بما كان ينجزه من أعمال شاق ّة لا‬
‫يقدر على فعلها سوى الر ّجال‪.‬‬
‫طبيبة لها بضرورة أخذ قسط وافر من الر ّاحة‬
‫أخذت أّ ّي بنصائح ال ّ‬
‫وتجن ّب الت ّعب والإرهاق‪ ،‬فأصبحت تكتفي بأشغال المنزل التي كانت‬
‫ي‬
‫ت نجزها بصعوبة‪ ،‬لم يعد الوقت يكفيها للعناية بالبستان أيضا‪ ،‬ومع مض ّ‬
‫الوقت أهملنا بستان الل ّوز والز ّيتون الذي كان أبي يحرص على سقيه‪،‬‬
‫وتشذيب أغصان أشجاره والتخل ّص من الأعشاب الضّ ارة التي كانت‬
‫تتكاثر حول جذوعها فتحاصرها حت ّى تخنقها‪.‬‬
‫ازدادت الأمور سوءا منذ أن أصبحت أّ ّي طر يحة الفراش وقليلة‬
‫طبيبة حفاظا على‬
‫الحركة‪ ،‬أصررنا عليها أنا وسلمى أن تلتزم بإرشادات ال ّ‬
‫ل ما نمتل كه‬
‫جنينها‪ ،‬كنّا قبل مرضها في حاجة ماسّ ة إلى المال فبعنا ك ّ‬
‫من نعاج‪ ،‬لم يتبقّ معنا منذ ذلك الوقت سوى مبلغ قليل بعدما أنفقنا‬
‫شيت أن ّه بعد نفاد ما بحوزتنا ألّا نجد ما نصرف به على‬
‫على علاجها‪ ،‬خ ِ‬
‫معيشتنا‪ ،‬كان الوقت لايزال بين يديّ حت ّى أفعل شيئا كي لا نخسر‬
‫موسم جني الل ّوز والز ّيتون أيضا‪.‬‬
‫***‬
‫في أحد أي ّام الر ّبيع وبينما كنت نائما‪ ،‬سمعت في الصّ باح الباكر طرقا‬
‫على الباب وصوت عم ّي أبو مروان يناديني‪:‬‬
‫‪ -‬سمير‪ ..‬سمير‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫نهضت من فراشي ولبست ثيابي وفتحت الباب‪ ،‬وجدت مروان بجوار‬
‫أبيه يحملان ع ّدة تقليم أغصان الأشجار وتشذيبها‪ ،‬أدخل عم ّي أبو مروان‬
‫يده تحت طاقيته‪ ،‬حكّ جلدة رأسه الحليق‪ ،‬تنحنح ثم قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬اليوم سيتعاون أهل الخ ِربة من أجل تقليم أغصان أشجار بساتينهم‪،‬‬
‫عليك أن تستع ّد‪ ،‬اسبقنا إلى حقل كم سنمر ّ عليك بعدما ننتهي من أشجار‬
‫بستاني‪ ،‬هذه عملية مهمّة حت ّى يكون الإنتاج وفيرا في الخر يف القادم‪،‬‬
‫لقد مررت على بستانكم قبل قليل ولاحظت أن ّه بحاجة لذلك أكثر من‬
‫بقي ّة البساتين‪ ،‬فروع الأشجار وأغصانها يابسة وجاف ّة ومتزاحمة ومتشابكة‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا عم ّي أبو مروان‪ ،‬ستجدونني أمامكم‪ ،‬أشكرك على معروفك‪.‬‬
‫‪ -‬لا شكر على واجب يا ولدي‪ ،‬سيرافقك مروان‪ ،‬بإمكانكما أن تمضيا‬
‫وقتا ممتعا ريثما نصل عندكم‪.‬‬
‫لن أنسى ما حي ِيت جميل عم ّي أبو مروان وصنيعه معنا‪ ،‬ما إن انقطع‬
‫هطل المطر مع نهاية الر ّبيع حتى بدأ في ملء حوض مياهنا دون أن‬
‫ل ذلك‪ ،‬قال لي بدعابة أن ّه سيقبض ثمنه من ّي حال بيعنا‬
‫يطالبنا بمقاب ِ‬
‫للمحصول في الخر يف‪ ،‬أخبرني أن ّه خشي أن يفوتنا سقي الأشجار في‬
‫ن ذلك سيؤث ّر سلبا على كمي ّة المحصول وجودته‪ ،‬شعرت‬
‫موسم الحر ّ‪ ،‬وأ ّ‬
‫بأن ّني صرت رجلا وأن ّني صاحب البستان بكلامه معي على هذا الن ّحو‪،‬‬
‫كان شعورا مختلطا بإحساس بثقل المسؤولية التي عليّ تحم ّلها‪ ،‬وعدم‬
‫الت ّفر يط في الاهتمام بشؤون المزرعة أثناء مرض أّ ّي‪.‬‬
‫في نهاية الأسبوع التي تلت ذلك‪ ،‬وقبل أذان الفجر الث ّاني بدقائق‪،‬‬
‫أغط في نوم عميق سمعت جلبة بالخارج‪ ،‬كانت أصواتا لم‬
‫ّ‬ ‫بينما كنت‬

‫‪34‬‬
‫خربة الصّ فا‪ ،‬أعادتني إلى أي ّام كن ّا نسكن‬
‫أعهدها منذ انتقلنا للعيش في ِ‬
‫في حيّ رأس الجوزة بمدينة الخليل‪ ،‬كنت أسمعها من نافذة غرفتي حين‬
‫تمر ّ مع الصّ باح الباكر شاحنة القمامة‪ ،‬يتشب ّث بمؤخرتها مجموعة من‬
‫شباب يتجاذبون أطراف الحديث‪ ،‬بينما يحملون أكياس القمامة‬
‫العمّال ال ّ‬
‫من أمام البيوت‪ ،‬و يقلبون حاو ي ّاتها الموضوعة بأماكنها المخصّ صة في‬
‫شاحنة الذي يلتهمها آليا وبشراهة عجيبة‪.‬‬
‫صندوق ال ّ‬
‫سس الأصوات‪ ،‬تفاجأت‬
‫انسحبت من فراشي واتّ جهت نحو الباب أتح ّ‬
‫حينما عرفت بعضها قبل أن أخرج حت ّى‪ ،‬إ ّنهم زملائي يوسف ورؤوف‬
‫وأمجد وبشير وجمال ورضوان‪ ،‬فتحت الباب وقلت في دهشة لا تخلو‬
‫من الاستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعلون هنا؟‬
‫حب بضيوفك؟‬
‫‪ -‬أهكذا تر ّ‬
‫أجابني مروان بينما كان يخفي ضحكة خلف شفاهه التي انفلتت أزِ َّمّتها‪،‬‬
‫ط ر يقة ذاتها التي يلقي بها خطبه علينا‪:‬‬
‫فانفجر مواصلا دعابته بال ّ‬
‫‪ -‬لقد جاء القوم ليتضامنوا معك‪ ،‬ويساعدوك في نكش البستان وتقليم‬
‫الأشجار‪.‬‬
‫ن مروان أخبرهم بوضعي فات ّفقوا معه على مساعدتي في العناية‬
‫فهمت أ ّ‬
‫بالبستان‪ ،‬لاحظت أ ّنهم جاؤوا مدجّ جين بمجرفات ورفوش ومعاول‪ ،‬وقد‬
‫استع ّدوا جي ّدا للعمل‪ ،‬بدا ذلك جلي ّا من ثيابهم التي كانوا يختبئون‬
‫بداخلها كفل ّاحين حقيقي ّين‪ ،‬في هذه الأثناء وقفت أّ ّي عند الباب‬
‫مستندة على أحد مصراعيه لا تخفي دهشتها من رفاقي‪ ،‬سرعان ما أتبعتها‬

‫‪35‬‬
‫التفت إليها وق ّدمتهم لها بكلتا يديّ ‪ ،‬و ب ِتفكّه جعل أصحابي‬
‫ّ‬ ‫بابتسامة حينما‬
‫يتلو ّون من الضّ حك ويمسكون ببطونهم‪:‬‬
‫‪ -‬كما ترين يا أّ ّي‪ ...‬قطيع من الأصدقاء‪.‬‬
‫‪ -‬لا يا ولدي لا تقل ذلك عنهم‪ ...‬إنّهم أسود‪ ...‬ما شاء الل ّه عليهم‪.‬‬
‫ابتهجت كثيرا لمقدم أصدقائي الذي بدّد مخاوفي من تفر يطي في نكش‬
‫البستان‪ ،‬وتشذيب أشجاره وتنظيفه من العيدان والأغصان المرمي ّة‬
‫بداخله‪ ،‬انتشرنا في الحقل كما الجراد وانقسمنا إلى فرقتين‪ ،‬فرقة تك ّفلت‬
‫بإزالة الحشائش كان يقودها رؤوف‪ ،‬وأخرى كان أفرادها يحملون‬
‫قاطعات بأيديهم‪ ،‬أخذوا على عاتقهم تقليم أغصان الأشجار المتبقي ّة‬
‫وتنظيف البستان‪ ،‬يتق ّدمهم مروان الذي يمتلك خبرة في ذلك‪ ،‬في‬
‫طعام على الر ّغم من كونها لم تشف تماما‬
‫الأثناء راحت أّ ّي تع ّد لنا ال ّ‬
‫ن رؤيتها لأصدقائي وهم يتكاتفون معي في محنتنا جعلتها‬
‫من تعبها‪ ،‬غير أ ّ‬
‫تشعر بخ ّفة عجيبة أنستها محنتها‪ ،‬هذا ما أسر ّت لي به فيما بعد‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫(‪)5‬‬

‫الأزمة تل ِد الهمّة‬
‫تعافت أّ ّي كلي ّة من مرضها الذي تسب ّب فيه إرهاق ِها المتزامن مع حملها‪،‬‬
‫ن‬
‫ن شرودها قد زاد‪ ،‬فهمت أ ّ‬
‫سن حالتها الصّ حية لاحظت أ ّ‬
‫ومع تح ّ‬
‫ذلك بسبب قل ّة المال في يدها‪ ،‬فقد أنفقنا جزءا منه على علاجها وعلى‬
‫مصار يف البيت‪ ،‬لم يعد بإمكانها تحضير المأكولات الخفيفة والحلو يات‬
‫طبيبة لها بلزوم الرّاحة‬
‫ن ذلك يتعارض مع نصائح ال ّ‬
‫من جديد‪ ،‬حيث أ ّ‬
‫وتجن ّب الإرهاق‪ ،‬ولا يكاد يتب ّقى لدينا سوى بعض الأوراق الن ّقدية‬
‫صدها حاجاتنا في الأيام القادمة كضباع مفترسة حت ّى تقضي‬
‫التي تتر ّ‬
‫على آخر فلس فيها‪ ،‬وحينها سوف لن نجد ما نجابه به ظروفا صعبة‬
‫ستنتظرنا حتما‪ ،‬وهي تنشب مخالبها في وجوهنا الفزِعة‪.‬‬
‫قر ّرت أّ ّي أن تبيع مصوغاتها الذ ّهبية‪ ،‬أرادت أن تضع بذلك ح ّدا‬
‫لتفكيرها العميق‪ ،‬الذي التهم ملامحها المبتهجة بعد أن تحو ّلت إلى أشباح‬
‫تطوف في أرجاء البيت‪ ،‬قالت ذلك بنبرة متحمّسة أزالت عنها‬
‫ل للخروج من أزمتنا‪:‬‬
‫صلت له كح ّ‬
‫هواجسها السّامّة‪ ،‬وكشفت لي عم ّا تو ّ‬
‫‪ -‬سنشتري بثمن القطع الذهبي ّة آلة لحياكة الملابس الصّ وفي ّة‪.‬‬
‫أخبرتني أّ ّي أن ّه لن يكون بوسعها تحم ّل مجهود صنع المأكولات الخفيفة‬
‫ل ما حدث لها‪ ،‬سوف يكون بمقدورها‬
‫والحلو ي ّات مجدّدا بعد ك ّ‬
‫ض قطعة حديدية تتزحلق فوقها‬
‫الجلوس خلف آلة الحياكة وتحر يك مقب ِ‬
‫جيئة وذهابا‪ ،‬بعد أن تلق ِمها خيوطا صوفي ّة‪ ،‬وستنجز الآلة الباقي‬
‫‪37‬‬
‫لوحدها‪ ،‬لن تمر ّ سوى بضعة أي ّام كي يصبح بين يديها‪ ،‬قميص صوفيّ أو‬
‫ثوب لطفل‪ ،‬أو ق ّفازات دافئة‪.‬‬
‫ل في وسط‬
‫مع نهاية الش ّهر أحمل ما تصنعه أّ ّي من ألبسة صوفي ّة إلى مح ّ‬
‫مدينة الخليل‪ ،‬صاحبه أبو منصور من معارف أبي‪ ،‬يمسكها من بين‬
‫َّ‬
‫يديّ دون تردّد‪ ،‬يبدو أن ّه سمع من أحد أعماّي بأزمتنا بعد وفاة أبي‪،‬‬
‫يحمل الت ّاجر الملابس و يضعها على الر ّفوف بحسب صنفها‪ ،‬ثم ّ يدخل‬
‫رج م ِصرف خشبيّ ويسحب منه مجموعة من الأوراق الن ّقدية‬ ‫يده في د ِ‬
‫ل غير بعيد‬ ‫يناولني إ ي ّاها‪ ،‬أضع نصفها في جيبي‪ ،‬وبما تب ّقى أدخل إلى مح ّ‬
‫أدوات الخياطة‪ ،‬فأشتري بالن ّقود‬
‫ِ‬ ‫عن المكان‪ ،‬يعرض صاحبه للبيع‬
‫كرات من الخيوط الصّ وفية لتبدأ بها أّ ّي رحلتها الش ّهر ية في حياكة‬
‫أثواب جديدة‪ ،‬وبهذا تكتمل دورة صناعة الملابس التي امتهنت أّ ّي‬
‫حرفتها مرغمة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ل عم ّي أبو منصور تكفي‬
‫لا تكاد الن ّقود التي أضعها في جيبي في مح ّ‬
‫لشراء مؤونة شهر واحد من حاجياتنا المنزلية‪ ،‬بالإضافة إلى نفقاتنا على‬
‫الد ّراسة‪ ،‬كنت ألاحظ ذلك في كلام أّ ّي التي تتحس ّر كثيرا على كونها‬
‫تبذل جهدا مضاعفا لصنع أكبر عدد من قطع الملابس الصّ وفية‪ ،‬غير‬
‫ن ذلك لا يكفي لس ّد احتياجاتنا‪ ،‬كما أن ّه لايزال يفصلنا عن الخر يف‬
‫أ ّ‬
‫الذي ننتظره بفارغ الصّ بر حت ّى نقطف الز ّيتون والل ّوز ونبيع محصولهما‬
‫فصل كامل‪ ..‬ثلاثة أشهر بتمامها‪ ،‬يا لها من مدّة طو يلة‪.‬‬
‫كانت عطلة الصّ يف على الأبواب‪ ،‬أنهينا الامتحانات وحصلت أنا‬
‫ل مراتب متق ّدمة في‬
‫وأختي سلمى على مع ّدلات جي ّدة أه ّلتنا لنحت ّ‬

‫‪38‬‬
‫ص ّفينا‪ ،‬أسعد ذلك أّ ّي كثيرا‪ ،‬كان بطنها قد بدأ يبرز ويتكو ّر أكثر‬
‫وحركتها تثقل بصورة متزايدة يوما بعد يوم‪ ،‬في أحد الأيام ات ّفقت مع‬
‫سلمى على أن نخ ّفف عنها تعبها في حياكة الملبوسات وفي أشغال المنزل‪،‬‬
‫قالت لي سلمى‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أشتغل على الآلة من اليوم فصاعدا لن تضطر ّ أّي لإرهاق‬
‫نفسها‪ ،‬لقد تعل ّمت كيف أديرها من مراقبتي لها بينما تعمل عليها‪ ،‬وحت ّى‬
‫جهني دون أن تتعب نفسها‪.‬‬
‫إن احتجت إلى مساعدة فيكفي أن تو ّ‬
‫فرحت كثيرا لما سمعته من أخبار سارّة من سلمى‪ ،‬بدا لي رغم أ ّنها لم‬
‫تتع َّ ّد الث ّالثة عشرة من عمرها‪ ،‬أن ّه أصبح بمقدورها مشاركتنا بما تستطيع‬
‫القيام به‪ ،‬قلت لها متفائلا‪:‬‬
‫قريبا سوف نجتاز هذه المصاعب بإذن الل ّه‪ ،‬أصدقائي يساعدونني في‬
‫سقي البستان‪ ،‬وهو في حال جي ّدة‪ ،‬قال لي عم ّي أبو مروان بعد أن‬
‫ن المحصول سيكون وفيرا بإذن الل ّه حينما‬
‫رأى ثمار الل ّوز والز ّيتون‪ ،‬أ ّ‬
‫ينضج و يصبح جاهزا للق ِطاف‪.‬‬
‫ن عينيّ تتلألآن‪ ،‬على الوجه ِ الذي كنت‬
‫التفت إلى سلمى وأنا أشعر بأ ّ‬
‫ّ‬
‫أرى به عيني أبي‪ ،‬وهما تشع ّان حماسة وتتوق ّدان عزيمة‪ ،‬قلت لها‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أشتري الحلو يات الجاهزة والمكس ّرات من الخليل‪ ،‬وأبيعها في‬
‫المنتزه خلال فصل الصّ يف‪ ،‬و بهذا سأشغل وقتي وأعين أّ ّي على تأمين‬
‫مصروف للبيت‪.‬‬
‫‪ -‬هذا جي ّد يا أخي‪ ،‬سوف نحافظ على أسرتنا قو ي ّة ومتكاتفة‪ ،‬مهما تكن‬
‫قسوة المحن‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫***‬
‫على شجرة الأحلام كتبت حلمي الرّابع‪ ،‬هذه المر ّة سبقت مروان ودوّنته‬
‫قبله‪" :‬سأكتب أولى رواياتي في العام القادم"‪ ،‬ثم ّ ناولت مروان‬
‫المسمار‪ ،‬فكتب‪" :‬في العام القادم سأتحصّ ل على أعلى مجموع في الث ّانو ي ّة‬
‫التفت إليه وقلت له مبتسما‪:‬‬
‫ّ‬ ‫العامّة"‪،‬‬
‫‪ -‬ألا ترى أن ّنا نبالغ بعض الش ّيء فيما نكتبه؟ إ ّنها عبارات تبدو‬
‫كالحقائق وليست مجر ّد أحلام‪.‬‬
‫‪ -‬بالضّ بط هذا ما أفك ّر فيه‪ ،‬نحن لا نحلم‪ ،‬نحن متي ّقنين من طموحاتنا‬
‫ونؤمن بأ ّنها ستحقق يوما ما بإذن الل ّه‪ ،‬من اليوم سنسمّي شجرتنا هذه‬
‫شجرة الحقائ ِ‬
‫ق‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما ينبغي أن يكون‪.‬‬
‫قبل أن نغادر المكان اقترح عليّ مروان أن يشاركني في مشروعي الذي‬
‫ن عليه هو أيضا أن يمر ّ بتجربتي ليتعل ّم‬
‫أخبرته عنه لمساعدة أّ ّي‪ ،‬قال لي أ ّ‬
‫منها ما تعل ّمتهكي يعتمد على نفسه‪ ،‬حت ّى وإن لم يكن بحاجة للمال‪ ،‬حيث‬
‫ن عم ّي أبو مروان يكفيه عناء ذلك‪ ،‬أكّد لي كلامه‪:‬‬
‫أ ّ‬
‫‪ -‬في العام القادم سأكمل ثمانية عشرة سنة‪ ،‬عليّ أن أجرّب كيف‬
‫يكسب الن ّاس معاشهم‪ ،‬سوف أكفي والدي ِحمل توفير مصار يف‬
‫دخولي المدرسي القادم من ملابس ولوازم‪.‬‬
‫بعد أن ات ّفقت مع مروان على العمل معا‪ ،‬صرنا نقتني بضاعتنا من‬
‫الخليل ونعيد بيعها في منتزهي الصّ فا صباحا وال كرمل مساء‪ ،‬ننهض‬

‫‪41‬‬
‫باكرا لنتوجّه إلى سوق خان شاهين‪ ،‬نشتري ما يلزمنا من حلو يات‬
‫بأنواعها ومكس ّرات على اختلافها‪.‬‬
‫في إحدى المر ّات استوقف حاجز أمنيّ الحافلة التي كانت تقل ّنا‪ ،‬قبل‬
‫أن نخرج من الخليل‪ ،‬صعد جنديان مسل ّحان إلى الحافلة ِ و بدآ في تفتيش‬
‫رف فوق رؤوسنا‪ ،‬ويرميانها‬
‫الرّكاب‪ ،‬كانا يقل ّبان الأمتعة الموضوعة على ّ‬
‫في الر ِ ّواق الفاصل بين ال كراسي‪ ،‬يتفحّ صان ِنا وكأ ّنهما يبحثان عن أشخاص‬
‫بيننا‪ ،‬طلب من ّي أحدهما بعدما تفر ّس جي ّدا في ملامحي أن أقف‪ ،‬فت ّشني‬
‫ثم ّ أمرني بالن ّزول‪ ،‬بدأ الأطفال والفتيان في مثل سن ّي يهبطون من‬
‫الحافلة تباعا‪ ،‬رأيت مروان ينزل هو الآخر‪ ،‬كن ّا تسعة‪ ،‬جميعنا ما بين‬
‫رت الد ّهشة والحيرة في‬
‫الخامسة عشر والثامنة عشر من العمر‪ ،‬س ِ‬
‫وجوهنا‪ ،‬بدأ بعضنا في الوشوشة في ما بينهم متسائلين عن سبب إنزالنا‬
‫من الحافلة‪.‬‬
‫تق ّدم أحد العساكر برتبة ضابط نحونا‪ ،‬كان يحمل بيده وثائق قدّمها له‬
‫ل أمتعتنا من صندوق الحافلة‪ ،‬وما‬
‫سائق الحافلة‪ ،‬أمر أحد الجنود بإنزا ِ‬
‫إن فتحه حت ّى بدأ يرّي بأيّ شيء كانت تصادفه يداه‪ ،‬دون اعتبار لما‬
‫قد تحتو يه الأمتعة من أشياء من الممكن أنّها تتكس ّر أو تتعر ّض للتّلف‪،‬‬
‫ل واحد من ّا أمتعته و يضعها أمامه و يفتح‬
‫طلب من الجميع أن يتناول ك ّ‬
‫الحقائب والأكياس‪ ،‬اقترب من ّي جنديان وشرعا في إفراغ جميع محتو يات‬
‫كيسين مملوئين بالبضاعة التي اشتريتها أنا ومروان من السّوق‪ ،‬أمسكني‬
‫خناق ِي وصاح في وجهي‪:‬‬
‫أحدهما من ِ‬
‫‪ -‬أين تأخذ هذه البضاعة؟‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬أريد أن أبيعها في منتزه الصّ فا‪.‬‬
‫قلت له ذلك بعدما انتشلت يديه من ياقتي جاكيتي اللتين كانتا متشبثتان‬
‫بهما‪ ،‬ثم ّ أردف سائلا‪:‬‬
‫‪ -‬هل لديك تصريح بذلك؟‬
‫‪ -‬لا‪ ...‬لا أملك تصر يحا‪.‬‬
‫أمرني الضّ ابط بالصّ عود إلى الحافلة‪ ،‬وعندما طلبت منه أن يسمح لي‬
‫طر يق‪ ،‬وأعيدها داخل‬
‫بجمع بضاعتي التي ألقاها الجنديان على حاف ّة ال ّ‬
‫ال كيسين رفض ودفعني حت ّى سقطت على الأرض‪ ،‬وبدأ يدوس‬
‫ظلم‪ ،‬ركبت الحافلة‬
‫برجليه الحلو ي ّات والمكس ّرات‪ ،‬شعرت بالإهانة وال ّ‬
‫وغصّ ة خانقة تس ّد حلقي‪ ،‬اجتاح كياني قهر كئيب واعترى جوانحي‬
‫إحساس بالغربة رغم أن ّني أعيش في بلدي‪ ،‬تذوّقت لحظتها طعم‬
‫الاحتلال البشع وشاهدت بأمّ عيني قسوته‪.‬‬
‫تبعني بقي ّة الأطفال والفتيان يملؤهم تذمّر وسخط عارم مم ّا لاقوه من‬
‫الجنود الإسرائيليين‪ ،‬عاد مروان ليجلس إلى جانبي‪ ،‬وجدني محتق ِن‬
‫الأنفاس‪ ،‬ما إن وضع يده على كتفي حت ّى انفجرت باكيا‪ ،‬ط َّو ّق رقبتي‬
‫م رأسي إلى صدره مواسيا‪:‬‬
‫بذراعه وض ّ‬
‫ل ما ضاع من ّا‪.‬‬
‫ضنا الل ّه عن ك ّ ِ‬
‫‪ -‬لا تجزع يا صديقي‪ ..‬سيعو ّ‬
‫حاول مروان أن يخ ّف ِف عنيّ‪ ،‬رفع رأسي ونظر في عينيّ‪ ،‬قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬عل ّمتني أ ِّ ّي أن أقول إذا ظلمني أحد‪ :‬حسبي الل ّه ونعم الوكيل‪.‬‬
‫***‬

‫‪42‬‬
‫ن‬
‫ل وملأ الخربة بحرارته الحارقة‪ ،‬قال لي مروان أ ّ‬
‫كان شهر يوليو قد ح ّ‬
‫أحد فتيان الخربة دلّه على شيخ يدعى أبو ياسين يقطن بخربة طيرة‬
‫ن بعض الفتيان يقصدونه ليشتروا‬
‫المجاورة‪ ،‬لديه بستان تين شوكيّ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ل واحد منهم صندوقا أو صندوقين ويبيعون الفاكهة في‬
‫منه‪ ،‬فيقتني ك ّ‬
‫شوكي في منتزه‬
‫الجوار‪ ،‬اقترح عليّ مروان أن نفعل مثلهم‪ ،‬ونبيع الت ّين ال ّ‬
‫الصّ فا‪ ،‬سألني بعدما لاحظ تردّدا في ملامحي‪:‬‬
‫‪ -‬فكرة جيدة أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬وماذا سنفعل إذا أوقفنا جنود الاحتلال في حاجز أمنيّ‪ ،‬وطلبوا من ّا‬
‫أن نظهر لهم تصاريح بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لا داعي لأن تقلق من هذا الجانب‪ ،‬لقد كلّم أبي صاحب المنتزه في‬
‫الموضوع ووافق‪ ،‬قال له أن ّه بإمكاننا أن نبيع في مكان مخصّ ص داخله‪،‬‬
‫وسيصدر لنا تراخيص بوسعنا أن نظهرها في أيّ حاجز يستوق ِفنا‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان الأمر كذلك فلا مانع لديّ ‪.‬‬
‫شوكي‪ ،‬علاقتي به لا تتجاوز حدود‬
‫لم تكن لي سابق تجربة في بيع الت ّين ال ّ‬
‫التهام حب ّاته الل ّذيذة التي أفضّ لها باردة‪ ،‬شج ّعني مروان حينما أبديت له‬
‫عدم معرفتي بكيفي ّة تقشيره‪ ،‬أخبرته أن ّني متخو ّف من الارتباك أمام‬
‫خبرتي في ذلك‪ ،‬وسيمتنعون عن‬
‫الز ّبائن الذين سيكتشفون سر يعا قل ّة ِ‬
‫ن الأمر ج ّد بسيط‪ ،‬تماما مثل أكل الت ّين‬
‫الش ّراء من عندي‪ ،‬أكّد لي أ ّ‬
‫الشّوكيّ‪.‬‬
‫شيخ أبو ياسين في‬
‫في الغد قصدنا مع مجموعة من فتيان الخربة مزرعة ال ّ‬
‫ل واحد منهم‬
‫الصّ باح الباكر‪ ،‬وجدنا شبابا يعملون في بستانه يحمل ك ّ‬

‫‪43‬‬
‫قضيبا حديديا ينتهي بما يشبه ال كوب المعدني كان ملتحما به‪ ،‬حجمه‬
‫شوكي في ال كوب وهي‬
‫بقدر حب ّة التّين تماما‪ ،‬يقوم بإدخال حب ّة الت ّين ال ّ‬
‫لاتزال متشب ّثة بلوح الصّ بار فتلتصق به‪ ،‬ثم ّ يدير القضيب ومعه يستدير‬
‫شوكي من منبتها في لوح الصّ بار‬
‫ال كوب الذي يقطع بحاف ّت ِه حب ّة الت ّين ال ّ‬
‫لتستقر ّ بداخله‪ ،‬ثم ّ يسحب القضيب ويستخرج الثمّرة منه و يعاود العملية‬
‫ليجمع كمي ّة كبيرة من الثّمار‪ ،‬يضعها على الأرض ويمر ّر عليها مكنسة‬
‫مصنوعة من أغصان الأشجار‪ ،‬كي يتخل ّص من ال ّ‬
‫شوك العالق بها حت ّى لا‬
‫يؤذي من يقوم بتقشيره بعد ذلك‪.‬‬
‫أمضيت أنا ومروان فصل الصّ يف كاملا في بيع التّين الشّوكي‪ ،‬تعو ّدت‬
‫على تقشيره‪ ،‬كان يكفي أن أضع الحب ّة في يدي التي ترتدي قفّازا يحميها‬
‫من وخز الشّوك‪ ،‬أحزّ طرفيها دون أن أقطعهما كل ّية ثم أشقّ الحب ّة طولي ّا‬
‫وأنزع القشرة‪ ،‬بدا لي ذلك أشبه بسلخ خروف مذبوح‪ ،‬ضحك مروان‬
‫من تشبيهي هذا كثيرا‪.‬‬
‫كانت نتيجة بيع التّين الشّوكي طي ّبة‪ ،‬تمكّنت بما جنيته من نقود من‬
‫أن أشتري ملابس الد ّخول المدرسي ومستلزماته؛ لي ولسلمى‪ ،‬قدّمت‬
‫هدي ّة لأّ ّي أيضا‪ ،‬شعر مروان بالغبطة حينما وضعنا الصّ ناديق التي كنّا‬
‫نستخدمها في بيع التّين الشوكي في زاو ية داخل گاراج سيّارتهم‪ ،‬على‬
‫أمل أن نعيد الت ّجربة بحلوها وم ّرها في العام القادم‪.‬‬
‫عدنا إلى فصولنا وإلى الد ّراسة من جديد‪ ،‬يحدونا عزم أكيد بأن نثابر‬
‫في الت ّحصيل‪ ،‬وأن نج َّ ّد لنحقّق أحسن الن ّقاط ونحصل على أعلى‬

‫‪44‬‬
‫المعدّلات‪ ،‬نستمع جي ّدا لنصائح أساتذتنا وننجز فروضنا وواجباتنا‪،‬‬
‫ونحرص على أن يكون سلوكنا حسنا ومنضبطا‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫(‪)6‬‬

‫خفّاش يحوم حول عشّنا الهادئ‬


‫في الصّ باح وفي طر يقنا لنركب الباص إلى الث ّانو ية في بيت كاحل‪ ،‬بدا‬
‫لي مروان شاردا على غير عادته حينما نلتقي‪ ،‬لست أدري كيف‬
‫أواجهه بذلك وأقتحم عليه ذهوله عن ّي‪ ،‬ماذا لو كان الأمر يتعل ّق‬
‫بمشكل وقع له في المنزل‪ ،‬هذا شأن قد يخصّ ه لوحده وليس من ح ّقي‬
‫ث إليّ مكنونات ِه و يفصح عن‬
‫الت ّدخل فيه‪ ،‬حاولت أن أل م ّح له كي يب ّ‬
‫ما يشغله‪ ...‬ل كن دون جدوى‪ ،‬حينما رأيته قد أصر ّ على أن يحتفظ‬
‫بهمومه لنفسه آثرت الت ّنازل عن خططي‪ ،‬واكتفيت بالصّ مت الذي‬
‫أطبق علينا نحن الأربعة‪ ،‬إلى غاية التحاق ِنا بالفصل‪ ،‬أنا ومروان‪،‬‬
‫خرين بعض الوقت‪.‬‬
‫متأ ّ‬
‫بمجرد أن نطق أستاذ آخر ِ حصّ ة في الفترة الصّ باحية بما يفيد أن ّه بوسعنا‬
‫ن الد ّرس قد انتهى‪ ،‬حت ّى استدار مروان إليّ وقال‬
‫الانصراف حيث أ ّ‬
‫بصوت خافت كاد أن يخمده ضجيج زملائنا لحظة خروجهم‪ ،‬وأضفت‬
‫عليه طر يقة اقترابه من ّي ريبة محي ِّرة‪:‬‬
‫ساحة الآن‪.‬‬
‫م‪ ،‬لا داعي لأن نخرج إلى ال ّ‬
‫‪ -‬أحتاجك في أمر مه ّ‬
‫ن أفكاري ومشاعري وجميع حواسي أصبحت تصغي بانتباه‬
‫شعرت بأ ّ‬
‫شديد لكلام مروان‪ ،‬وتترق ّب بحذر ما سيصدر عنه‪ ،‬طأطأ رأسه هنيهة‬
‫كأن ّما يتثب ّت من كلماته التي حملها إليّ ويتفقّد عددها جي ّدا‪ ،‬أسر ّ إليّ‬
‫ن الجميع كان قد خرج ولم يبق في القاعة أحد سوانا‪:‬‬
‫هامسا رغم أ ّ‬

‫‪46‬‬
‫ل مكان ولم أجدك؟‬
‫س بعد العصر‪ ،‬بحثت عنك في ك ّ‬
‫‪ -‬أين كنت بالأم ِ‬
‫‪ -‬كنت عند خالي حسين في بيت كاحل‪ ،‬أرسلتني أّي إلى هناك‬
‫لأوصل له بعض الأغراض‪.‬‬
‫‪ -‬لقد جاء رجلان إلى منزل كم‪ ،‬كانا يودّان الحديث معك‪ ،‬في البداية‬
‫ن الأمر يتعل ّق بأحد‬
‫لمحت سي ّارة سوداء تنعطف نحو بيتكم‪ ،‬ظننت أ ّ‬
‫سائق بينما كان ينزل‬
‫أقاربكم‪ ،‬شاهدت الر ّجل الذي يركب بجانب ال ّ‬
‫و‪...‬‬
‫‪ -‬آه نعم‪ ...‬نعم تذك ّرت‪ ،‬لقد أخبرتني أختي سلمى بذلك‪ ،‬قالت له عند‬
‫باب المنزل أن ّه لا يوجد أحد بالبيت سوى أّ ّي‪ ،‬وهي طر يحة الفراش‬
‫بسبب الحمل وقرب ولادتها‪ ،‬غادر دون أن يترك لها أيّ وصايا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد التقيا بأبي ساعة مغادرتهما لمزرعتكم‪ ،‬فقد رجعت من فوري إلى‬
‫البيت وأبلغته بأمرهما المريب فخرج ليتقص ّى ما وراءهما‪.‬‬
‫‪ -‬ألم يقولا له عم ّا يريدانه من ّا؟‬
‫‪ -‬صاحب السّيارة هو ابن من اشترى منه والدك المزرعة‪ ،‬قال لأبي أن ّه‬
‫عاد من بولندا ويريد‪ ...‬آآآ‪..‬‬
‫‪ -‬ماذا يريد؟ تكل ّم يا مروان‪ ...‬لا تخفي عن ّي شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬قال أنه جاء خصّ يصا من هناك من أجل استعادة مزرعة والده‪.‬‬
‫‪ -‬يستعيد ماذا؟ كيف؟ ول كنّها أصبحت مزرعتنا‪ ...‬لقد اشترى أبي‬
‫سمسار اليهودي بواسطة أحد معارفه الذي يشتغل في‬
‫الأرض من ال ّ‬
‫كراء وبيع العقارات‪ ،‬والمزرعة مسج ّلة باسم والدي‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ت برهة وقد تمل ّ كني خوف شديد من نوايا الر ّجلين‪ ،‬قال لي مروان‬
‫صم ّ‬
‫التفت إليه أن ّه أدرك مدى جزعِ ي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وهو يتفر ّس ملامحي‪ ،‬بدا لي حين‬
‫‪ -‬لا تقلق‪ ،‬سوف لن يحدث شيء مم ّا تفك ّر فيه‪ ،‬في نهاية الأسبوع‬
‫سنذهب عند خالي أحمد المحاّي‪ ،‬إن ّه يسكن في الخليل‪ ،‬سنخبره بما‬
‫حدث وسيتكفّل بالد ّفاع عنكم في المحكمة‪.‬‬
‫خفت كثيرا عندما سمعت كلمة "المحكمة"‪ ،‬شعرت بأنّها تتردّد في‬
‫ِ‬
‫أذنيّ حت ّى بعد أن صمت مروان‪ ،‬طلبت منه أن يتر ي ّث لبعض الوقت‪،‬‬
‫فحالة أّ ّي التي ستضع مولودها في أيّ وقت خلال أق َّ ّ‬
‫ل من شهر‪ ،‬كما‬
‫ن‬
‫مشاق الت ّردّد على المحاكم‪ ،‬وحيث أ ّ‬
‫ّ‬ ‫أخبرتني‪ ،‬لا تسمح لها بأن تتحمّل‬
‫خصمنا إسرائيليّ فإن ّنا حتما سنتقاضى إلى محكمة يشرف عليها قضاة‬
‫إسرائيلي ّون‪ ،‬من غير المعقول أن يقفوا إلى صفّنا وسيحكمون حتما ض ّدنا‪،‬‬
‫حرّك مروان رأسه للأعلى وللأسفل مومئا بتفهّمه للوضع‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬ل كن إذا احتجتم إلى المساعدة فأرجو أن لا تستحي من أن‬
‫تطلب من ّا ذلك‪ ،‬أبي أمرني بأن أبلغك هذا‪.‬‬
‫‪ -‬شكرا لك مروان‪ ،‬أنت صديق وفيّ‪.‬‬
‫***‬
‫كنت آمل أن تكون تلك الز ّيارة المفاجئة وغير المرغوب فيها من ذلك‬
‫مرة في حياته التي تمنيت أن تنتهي إلى‬‫الص ّهيونيّ البغيض‪ ،‬هي آخر ّ‬
‫ن الأمور لم تجرِ بما اشتهيت‪ ،‬ففي أحد‬
‫الأبد فأتخل ّص من شر ّه‪ ،‬غير أ ّ‬
‫سير مروان‬
‫الأيام وبينما كن ّا قد اقتربنا من منزلينا‪ ،‬وقبل أن نفترق في ِ‬
‫مع أخته صفاء باتّ جاه بيتهم‪ ،‬وأرافق أختي سلمى إلى دارنا‪ ،‬إذا بنا نسمع‬

‫‪48‬‬
‫مزمار سي ّارة يدوّي خلفنا كأن ّه صفارات إنذار تنذر بوقوع غارة في‬
‫طر يق لها خوفا من أن تصدمنا‪ ،‬فقد‬
‫حين ال ّ‬
‫مكان قريب من ّا‪ ،‬تل ّفتنا مفس ِ‬
‫صار محر ّكها يزأر في آذاننا‪ ،‬ما إن صارت ِبحذونا حت ّى صاح أحدهما‬
‫بنا‪:‬‬
‫‪ -‬هاااي يا فتيان من منكم ابن سعيد الخليلي؟‬
‫سير والتفتنا نحوه‪ ،‬همس لي مروان قريبا من أذني بصوت‬
‫توق ّفنا عن ال ّ‬
‫خافت‪:‬‬
‫‪ -‬هذان هما الر ّجلان الل ّذان كل ّمتك عنهما‪.‬‬
‫سماء‪،‬‬
‫ظارات زرقاء بلون ال ّ‬
‫سائق في الجهة الأخرى‪ ،‬يلبس ن ّ‬
‫كان ال ّ‬
‫ن من صاح فينا هو من يركب بجانبه‪ ،‬حيث أن ّه كان يواجهنا‬
‫يبدو أ ّ‬
‫سيارة عندنا تماما‪ ،‬بدأ الر ّجل يتفحصّ نا جي ّدا‪ ،‬عيناه‬
‫مباشرة‪ ،‬توق ّفت ال ّ‬
‫سوداء‪ ،‬وحينما التقتا بوجه سلمى قال‬
‫تضطربان من فوق نظّارته ال ّ‬
‫متذك ّرا‪:‬‬
‫مرة‪.‬‬
‫أنت هي البنت التي كل ّمتها آخر ّ‬
‫‪ -‬آااه‪ِ ،‬‬
‫التفت إليّ أنا ومروان‪ ،‬كانت عيناه تنتقل جيئة وذهابا بيننا‪ ،‬ثم ّ سألنا‪:‬‬
‫‪ -‬من منكما ابن سعيد؟ أعلم أن سعيد له ابن وحيد اسمه سمير‪.‬‬
‫أشار بيده إليّ وقال كأن ّما يجيب نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬أنت هو سمير‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫يبدو أن ّه خم ّن ذلك حينما رأى سلمى بجانبي‪ ،‬تردّدت في البداية‪ ،‬ل كن ّني‬
‫قر ّرت أن أجيبه حت ّى أبعد الشّبهة عن صديقي مروان فلا يتعر ّض لأيّ‬
‫مشكلة معهما‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ -‬نعم أنا هو‪ ،‬ماذا تريد من ّي؟‬
‫التفت الر ّجل إلى صديقه الذي نزع نظاراته‪ ،‬راحا يتكل ّمان بالعبر ي ّة فلم‬
‫سائق كأن ّما قد طلب منه أن يقول لي شيئا‪،‬‬
‫أفهم ما دار بينهما‪ ،‬بدا لي ال ّ‬
‫حيث أن ّه لا يستطيع الت ّحدث بالعربية مثل مرافقه‪ ،‬الذي استدار‬
‫باتّ جاهي وقال لي‪:‬‬
‫‪ -‬هذه الأرض ملك ل ِعزرا روبين‪ ،‬وهذا ابنه شلومو وريثه الوحيد بعد‬
‫أن توف ّي والده‪.‬‬
‫‪ -‬ل كنّ أبي اشترى الأرض منهم‪.‬‬
‫ن‬
‫‪ -‬أبوك محتال‪ ،‬عِزرا باع الأرض لسمسار يهوديّ ‪ ،‬لو كان يعلم بأ ّ‬
‫والدك سيشتري المزرعة لما رضي بأن يبيعها إ ي ّاه‪ ،‬الآن عليكم أن تخرجوا‬
‫منها فورا وإلّا تصر ّفنا معكم بأسلوب آخر‪.‬‬
‫سيارة‪ ،‬حت ّى أتفادى‬
‫أمسكت سلمى بيدي وركضت بها مبتعدين عن ال ّ‬
‫سماع المزيد من الكلام من ذلك الر ّجل البغيض‪ ،‬الذي فتح باب‬
‫ف‬
‫سيارة ولحق بنا مسرعا‪ ،‬أدركنا قبل أن نصل إلى باب المنزل‪ ،‬الت ّ‬
‫ال ّ‬
‫حولنا ووقف أماّي‪ ،‬حاول أن يمسكني من ياقة الجاكيت‪ ،‬فأشحت‬
‫بيدي مبعدا يده عن ّي‪ ،‬ثم ّ نبح مثل كلب‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تستمع إلى الكلام يا فتى‪ ،‬عليكم أن تخلوا المكان وترحلوا من‬
‫هنا‪ ،‬مفهوم‪.‬‬
‫تجاوزته حيث أن ّني لم أشأ الر ّد عليه‪ ،‬جريت أنا وسلمى‪ ،‬شعرت أن ّه قد‬
‫التفت نحونا وبدأ يراقبنا‪ ،‬كانت أنفاس لهاث ِه تط ِنّ في أذنيّ‪ ،‬وقبل أن‬

‫‪51‬‬
‫أمسك مقبض الباب بقيت يدي معل ّقة في الهواء بعض الوقت حينما‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف تندم كثيرا إن لم تنصع للأوامر يا شاطر‪.‬‬
‫فتحت الباب‪ ،‬دخلت سلمى قبلي ثم ّ تبعتها‪ ،‬أغلقت الباب وأمسكت بها‬
‫قبل أن تخبر أّ ّي‪ ،‬أشرت لها بأن وضعت أصبعي على شفتيّ‪ ،‬وقلت لها‪:‬‬
‫‪ -‬لا تخبري أّ ّي بما حدث‪ ،‬سوف تقلق كثيرا‪ ،‬قد يؤث ّر ذلك على الجنين‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬لن أفعل‪.‬‬
‫سيارة وهي تغادر المكان من داخل البيت‪ ،‬حينما خفت صوتها‬
‫سمعت ال ّ‬
‫فتحت الباب بمقدار شبر‪ ،‬كان الوغدان يختفيان بسيارتهما في الأفق‬
‫تلفت عن يميني فوجدت مروان على وشك أن يدخل‬
‫ّ‬ ‫بسرعة جنونية‪،‬‬
‫منزلهم مع أخته صفاء‪ ،‬سوف لن يكون مجديا ال ّلحاق به‪ ،‬حت ّى وأنا أخرج‬
‫لأحاول ذلك‪ ،‬تمني ّت ألّا يذكر لوالده شيئا مم ّا حصل‪.‬‬
‫***‬
‫في نهاية الأسبوع كنت في البستان أتأمّل أغصان الأشجار وهي مثقلة‬
‫بالث ّمار على وشك الن ّضوج‪ ،‬قطفت حب ّات من الل ّوز من غصن انحنى متدلي ّا‬
‫من ثقله‪ ،‬قرفصت ووضعتها على صخرة‪ ،‬أمسكت بحجر وشرعت في‬
‫تهشيمها‪ ،‬استخرجت الل ّوز وتذوّقته‪ ،‬بدا لي ناضجا‪ ،‬إنّها إشارة جي ّدة على‬
‫أن ّنا سنبدأ الجني قريبا‪.‬‬
‫أماّي خارج سياج البستان كان مروان واقفا حينما رفعت رأسي‪ ،‬لو ّح‬
‫لي بيده حيث أن ّه كان بعيدا عن ّي‪ ،‬اقتربت منه وأنا أظنّ أن ّه سوف يكل ّمني‬
‫ن عم ّي أبو مروان قد طلب منه‬
‫عن موضوع قطف الث ّمار‪ ،‬من الممكن أ ّ‬

‫‪51‬‬
‫أن يعل ِمني بتاريخ الجني حت ّى أتأه ّب له‪ ،‬قال لي مروان وعيناه تحاصران‬
‫ب لسماع ما سيخبرني به‪:‬‬
‫وجهي المترق ّ ِ‬
‫‪ -‬أبي يريد أن يتح ّدث معك‪ ،‬إن ّه في المنزل‪.‬‬
‫‪ -‬بخصوص ماذا؟‬
‫‪ -‬لست أدري‪ ،‬ليس لديّ أيّ فكرة عن الموضوع‪.‬‬
‫في صالة منزل عم ّي أبو مروان كان يجلس معه رجل يبدو من ثيابه أن ّه‬
‫موظّ ف حكوّيّ أو أستاذ بالجامعة‪ ،‬يرتدي بذلة بكرافتة‪ ،‬اقتربت منهما‬
‫وسل ّمت عليهما‪ ،‬أومأ إليّ عم ّي أبو مروان بيده وطلب من ّي أن أجلس‬
‫إلى جانبه‪ ،‬ساد صمت وجيز فيما ازدادت حيرتي حول ما سيقوله لي‬
‫عم ّي أبو مروان‪ ،‬وهل للر ّجل الجالس معنا دخل بالموضوع‪ ،‬أم تراه لا‬
‫شأن له بالأمر الذي طلبني لأجله‪ ،‬وأن ّه مجرد شخص تربطه به قرابة أو‬
‫رب ّما كان بينهما شأن ما‪ ،‬فجأة تنحنح عم ّي أبو مروان مستبقا حديثه‬
‫فقطع حبل تكهّناتي‪:‬‬
‫‪ -‬سمير يا ابني‪ ...‬نحن جيران‪ ،‬والدك الل ّه يرحمهكان صديقا عزيزا وأنت‬
‫في مقام ابني مروان‪ ،‬وما يضر ّك يضر ّني أنا أيضا‪ ،‬لقد أخبرني مروان‬
‫ج ّدي ولن يفيد الت ّغاضي عنه‬
‫بما حدث مع ابن عزرا اليهودي‪ ،‬الأمر ِ‬
‫شيئا‪ ،‬على العكس سيكون في غير صالحك يا ولدي‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف عم ّي أبو مروان ل كن أّ ّي مريضة‪ ،‬وأخشى عليها إن هي‬
‫سمعت بالموضوع أن‪...‬‬
‫‪ -‬شوف يا ولدي‪ ،‬هذا عم ّك أبو نزار محاّي‪ ،‬هو صهري وخال مروان‪،‬‬
‫سيساعدك في الأمر‪ ،‬استمع إلى ما سيطلبه منك‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ -‬حاضر عم ّي‪.‬‬
‫صو ّب المحاّي عينيه باتجاهي كأنّما يحاول إمساكي بهما ل ِئل ّا أفلت منه‪،‬‬
‫لم أجد بدّا من الاستجابة إلى إلحاحهما‪ ،‬شعرت وكأن ّه قد وضع بنظراته‬
‫مخ ّدرا في عينيّ أو أن ّه نو ّّي بمغناطيسها الجذّاب‪ ،‬انش ّقت شفتاه عن‬
‫سؤال بدا لي أن ّه قد تجاوز به العديد من الأسئلة‪ ،‬التي من المفترض أن‬
‫يستبق بها حديثه معي‪:‬‬
‫‪ -‬مروان يا ابني‪ ...‬الأرض‪ ...‬هل هي لا تزال باسم والدك أم باسم‬
‫شخص آخر الآن؟‬
‫‪ -‬لاتزال باسم والدي الل ّه يرحمه‪ ...‬سعيد الخليلي‪ ،‬كانت أّ ّي تودّ أن‬
‫ظروف القاهرة جعلتها تعدِل عن‬ ‫تقوم بإجراءات نقل المل كية‪ ،‬ل كنّ ال ّ‬
‫الأمر إلى حين‪.‬‬
‫تحر ّك المحاّي في مكانهكأن ّما صعب عليه هضم كلاّي‪ ،‬الذي بدا لي من‬
‫تكشيرة ملامحه غير منسجم مع ما كان يأمله‪ ،‬قال لي بنبرة متثاقلة‪:‬‬
‫ظروف في صالحكم‪ ،‬بعد وفاة أبيك يجب أن تنتقل‬
‫‪ -‬حت ّى تكون ال ّ‬
‫مل كي ّة الأرض إلى شخص على قيد الحياة‪ ،‬هذه المسألة ضرور ي ّة ج ّدا‬
‫يا ولدي‪.‬‬
‫‪ -‬ل كنّ أّ ّي على وشك أن تضع مولودها‪ ،‬ولن يكون بوسعها الذ ّهاب‬
‫إلى المدينة من أجل القيام بالإجراءات‪.‬‬
‫تفحّ صني أبو نزار بعينين تعمّد أن يضي ّقهما‪ ،‬كما لو أنه يقدّر شيئا يتعل ّق‬
‫وعض عليهما‪ ،‬ثم ّ أصدر صوتا من بين حنك ِه ولسانه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بي‪ ،‬ز َّمّ شفتيه‬
‫كأن ّه يستطيب طعم قطعة حلوى لا أجد لها أثرا في فمه‪ ،‬ثم ّ سألني‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -‬كم عمرك يا بن ّي؟‬
‫‪ -‬سبعة عشر سنة‪.‬‬
‫م‬
‫اندفع بصلبه إلى الأمام متخلي ّا عن الوِسادة التي كان يستند إليها‪ ،‬ض ّ‬
‫يديه وفركهما على بعضهما كما لو أن ّه عثر على ما كان يبحث عنه‪ ،‬تل ّفت‬
‫إلى عم ّي أبو مروان وقال بسرور بدا جلي ّا من أسنانه الن ّاصعة التي انزلقت‬
‫خلف شفتيه‪:‬‬
‫‪ -‬هذا جي ّد‪ ،‬سمير‪ ...‬بإمكانك تمل ّك مزرعة أبيك مؤق ّتا‪ ،‬القانون يسمح‬
‫بذلك‪ ،‬ريثما تطيب أمّك‪.‬‬
‫المؤقت هذا أن أتغي ّب‬
‫ّ‬ ‫تطل ّب من ّي القيام بإجراءات نقل مل كية الأرض‬
‫ليوم كامل عن الث ّانو ية‪ ،‬أمضيت أنا وأّ ّي على أوراق لا تنتهي عند‬
‫الموث ِّق‪ ،‬لم يكن بمقدور أختي سلمى التي ذهبت إلى المدرسة أن تمضي‬
‫ن هذا الإجراء‬
‫سن القانونيّ بعد‪ ،‬كر ّر لي أبو نزار المحاّي أ ّ‬
‫فهي لم تبلغ ال ّ‬
‫سن حال أّ ّي أن نباشر إجراءات تقسيم المزرعة‬
‫ن علينا بعد تح ّ‬
‫مؤقت‪ ،‬وأ ّ‬
‫بيننا نحن الث ّلاثة‪ ،‬التفتت أّ ّي إليه وقالت له بصوت جازم وحازم‪:‬‬
‫ل المزرعة باسمه‪ ،‬لن نقسّمها حت ّى ولو كان‬
‫‪ -‬سمير هو رجل البيت‪ ،‬ستظ ّ‬
‫ذلك على الورق فقط‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫(‪)7‬‬

‫في الات ّ حاد قو ّة‬


‫ات ّفق سكان الخربة على الش ّروع في جني الث ّمار بداية من يوم الخميس‬
‫الذي يسبق منتصف شهر أكتوبر‪ ،‬رأيتهم في الصّ باح حال ذهابنا إلى‬
‫بيت كاحل للد ّراسة على عادتنا‪ ،‬كانوا متجمّعين عند عم ّي أبو إياد‪،‬‬
‫هكذا قر ّروا أن يبدؤوا بأبعد مزرعة ثم ّ يتقدموا باتجاه مزرعتنا تدر يجي ّا‪،‬‬
‫سكان أن يكون جني محصول الل ّوز في‬
‫أبلغت عم ّي أبو مروان كي يعلم ال ّ‬
‫بستاننا بيوم الجمعة حت ّى أكون حاضرا‪ ،‬وهكذا سيتول ّى أصدقائي لوحدهم‬
‫جني محصول الزيتون يوم السّبت‪.‬‬
‫إن ّه أوّل ق ِطاف سأحضره في غياب أبي‪ ،‬سبق لي أن شاهدت العملية‬
‫لموسمين‪ ،‬أفك ّر وأنا جالس في الباص بما يحدث في هذا الوقت في الخربة‪،‬‬
‫ل مجموعة‬
‫سكان متكاتفين وينقسمون إلى مجموعات‪ ،‬تتكو ّن ك ّ‬
‫يتعاون ال ّ‬
‫ست عائلات حيث يشترك الجميع آباء وأبناء‪ ،‬حال ما ينهون‬
‫من خمس أو ّ‬
‫قطف محصول أحدهم يمر ّون إلى بستان جاره ليباشروا نفس العملي ّة‪،‬‬
‫طعام والش ّراب للعمّال‪ ،‬الذين‬
‫تنهمك الن ّسوة داخل بيوتهنّ في تحضير ال ّ‬
‫ينطلقون في جو ّ بهيج مليء بالهمّة والن ّشاط‪.‬‬
‫شجرة بساطا من البلاستيك‪ ،‬وينصِ ب ثلاثة‬
‫يفرِش رجلان تحت ال ّ‬
‫شباب سل ّما يستند إلى رأس شجرة الز ّيتون‪ ،‬يصعد شاب إلى الأعلى‪،‬‬
‫يمسك غصنا و يخنقه برفق بين يديه‪ ،‬يسحبهما رويدا رو يدا بينما يقتلع‬

‫‪55‬‬
‫حب ّات الز ّيتون‪ ،‬التي تقع على البساط فيحدِث تساقطها طقطقة تشبه‬
‫شباب وال كهول حولها‬
‫يلتف ال ّ‬
‫شجرة ّ‬
‫صوت انهمارِ البرد‪ ،‬في أسفل ال ّ‬
‫يقطفون الز ّيتون و يضعون حب ّاته في أواني بلاستيكية‪ ،‬وحينما يفرغون‬
‫من شجرة ينتقلون إلى التي تليها‪ ،‬بعدما يجمعون الز ّيتون المتناثر فوق‬
‫البساط و يعب ّئونه في أكياس‪.‬‬
‫تتتابع الصّ ور في مخي ّلتي طوال الحصّ ة الأولى‪ ،‬لا أنتبه لما يقوله أستاذ‬
‫الإنجليز ية‪ ،‬كنت طوال الوقت أنتظر انتهاء الد ّرس‪ ،‬حت ّى أجتمع‬
‫بأصدقائي وأخبرهم بموعد القطاف كي يستعدوا لمساعدتي‪.‬‬
‫في صباح الجمعة أتت عم ّتي خولة‪ ،‬لم تمض أكثر من ساعة حت ّى دخلت‬
‫علينا خالتي نوال‪ ،‬كن ّا لم ننه إفطار الصّ باح بعد‪ ،‬كانت أّ ّي تجلس على‬
‫طن وتضع يدها على بطنها وتتنفس بمشقّة‪ ،‬وجهها‬
‫ي معدنيّ مب ّ‬
‫كرس ّ‬
‫ذابل وعيناها تغوصان في محجريهما تحاصرهما أجفان م َّ‬
‫زرق ّة‪ ،‬كانت‬
‫طعام لسكّان الخربة‪،‬‬
‫س بهما كي تقفا على تحضير ال ّ‬
‫أّ ّي قد ات ّصلت أم ِ‬
‫اتفقت معهم كي يقطفوا محصول الل ّوز يوم الجمعة‪ ،‬ومع أصدقائي الذين‬
‫سيقومون بجني محصول الز ّيتون يوم السّبت‪.‬‬
‫***‬
‫مع خروج المصلين من مسجد الخربة صباح يوم السّبت‪ ،‬كان أصدقائي‬
‫قد أنهوا صلاة الصّ بح تحت أكبر شجرة زيتون تتوسّ ط البستان‪ ،‬كان‬
‫فطور الصّ باح جاهزا أخرجته خالتي نوال ووضعته بجانب مدخل المنزل‪،‬‬
‫حملته مع مروان إلى أصحابنا الذين أحاطوا به كالن ّسور المفترسة‪ ،‬ساد‬

‫‪56‬‬
‫ِ‬
‫وقع نوادر رؤوف ونكت‬ ‫صمت أعقب ال كثير من الضّ حكِ على‬
‫يوسف‪ ،‬اقتحمه مروان بدعابة من دعاباته التي لا تجامل أحدا‪:‬‬
‫طعام كيف يكون الكلام‪ ،‬ما بال كم توق ّفتم عن‬
‫‪ -‬ما بكم؟ هل أنساكم ال ّ‬
‫ص حكايات محزنة‪.‬‬‫ن الفطور يق ّ‬
‫الضّ حك؟ يبدو أ ّ‬
‫طعام سيد مروان‪.‬‬
‫‪ -‬لا كلام ولا سلام في حضرة ال ّ‬
‫ردّ جمال على ملاحظات مروان الممازحة‪ ،‬بعدما عقّب عليها الجميع‬
‫بضحك مقتضب‪.‬‬
‫عاد الصّ مت ليسود الموقف‪ ،‬كسرته أصوات المضغ وقعقعة الأطباق‪،‬‬
‫التي كانت تهتز ّ على وقع لحس رفاقي الذين لا يقص ّرون في تنظيفها‬
‫بأشداق الخبز الأخيرة‪ ،‬فجأة نهض مروان واستقام واقفا مثل نابض‬
‫طول ولم يلبث أن أسنده‬
‫تقل ّص ثم ّ ارتخى من بين الأصابع‪ ،‬حمل سل ّما بال ّ‬
‫شجرة وارتقى درجاته بسرعة رهيبة‪ ،‬تن ِم ّ عن سابق تجربة في‬
‫إلى أعلى ال ّ‬
‫ميدان اقتلاع حب ّات الز ّيتون من أغصانها المرتفعة‪ ،‬فجأة بدأ الز ّيتون‬
‫يتساقط فوق رؤوسنا كما المطر‪ ،‬ن َّدّت أصوات متذمّرة ومستاءة من‬
‫أفواه بعضهم‪ ،‬ردّ عليها مروان بنبرة مؤن ّ ِبة‪:‬‬
‫‪ -‬حان وقت العمل أ ّيها ال كسالى‪ ،‬هي ّا انهضوا‪ ،‬أم تراكم تظن ّون أن ّكم‬
‫أتيتم هنا للن ّزهة؟‬
‫شجرة‪ ،‬يعانقون‬
‫في ثانية واحدة كان الجميع قد وقفوا والت ّفوا حول ال ّ‬
‫أغصانها و يقتطفون حب ّاتها التي تلمع من شدّة اكتنازها بالد ّهن‪ ،‬يبدو‬
‫ن كلام مروان استفز ّهم‪ ،‬أو رب ّما ح ّفزهم‪ ،‬لست أدري بالضّ بط أيّهما‬
‫أ ّ‬
‫أصح ّ‪ ،‬أو ربّما كان مزيجا من كليهما معا‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫شجرة كالجراد وننتزع زيتونها بخ ّفة مدهشة‬
‫مر النّهار سر يعا‪ ،‬نحاصر ال ّ‬
‫ّ‬
‫بدأت تزداد مع إنجازنا لنصف المهمّة‪ ،‬فقد كنت اتفقت مع أصدقائي‬
‫على أن نقطف محصول خمسة صفوف من أشجار البستان‪ ،‬لنعاود جني‬
‫ما تب ّقى في الأسبوع القادم‪.‬‬
‫ما إن التهمنا مع انتصاف النّهار صيني ّة منسف تنضح لحما‪ ،‬كانت قد‬
‫ل‬
‫أعدّتها عم ّتي خولة بمساعدة خالتي نوال‪ ،‬انقضضنا عليها بوتيرة لا تق ّ‬
‫نشاطا وحيو ي ّة عن هِم ّتنا في الت ّعامل مع الأشجار‪ ،‬وجلسنا بعدها نلتقط‬
‫أنفاسنا المرهقة من ثقل ما ابتلعته بطوننا الش ّرهة من أرز ولحم‪ ،‬حت ّى‬
‫شعرنا بالأرض تصدر ذبذبات خفيفة بدأت تتصاعد وتتحو ّل إلى هز ّات‬
‫يرتجف لها البستان من تحتنا‪ ،‬صاحبها ارتفاع صوت محر ّك كان يبعث‬
‫أزيزا بدا جلي ّا حينما انبثقت من الأفق القريب‪ ،‬أعلى الت ّلة‪ ،‬جرّافة تسير‬
‫سوداء الملعونة التي‬
‫سيارة ال ّ‬
‫على مجنزرات‪ ،‬خلفها بثوان فقط لمحنا تلك ال ّ‬
‫ن أبوابها الأر بعة قد‬
‫كنت أتمن ّى أن لا أراها ثانية‪ ،‬بعد دقائق وجدنا أ ّ‬
‫انفتحت دفعة واحدة بالقرب من ّا‪ ،‬في الوقت الذي وقفنا فيه نترق ّب ما‬
‫يمكن أن تلفظه تلك الأبواب من أشباه البشر‪ ،‬كانوا خمسة ذكور‬
‫ل واحد منهم قضيبا صلبا وطو يلا‪ ،‬ما‬
‫يفتقدون معدن الر ّجال‪ ،‬يحمل ك ّ‬
‫بين عصا بيسبول وأنبوب حديديّ ‪ ،‬كان شلومو قد نزل من سيارته‬
‫وهو يضع على كتفه زناد بندقية صيد صو ّبها باتجاهنا لإرعابنا‪.‬‬
‫ل يكس ّر سكون المكان بهديره‬
‫توق ّفت الآلي ّة عن الحركة ل كنّ محر ّكها ظ ّ‬
‫سائق‪ ،‬الذي‬
‫م الآذان‪ ،‬اعتلى شلومو درجها الملاصق لباب ال ّ‬
‫الذي يص ِ ّ‬
‫كن من الاستماع لما سيقوله له‪ ،‬لاحظته يهمس‬
‫أزاح زجاج نافذتها ليتم ّ‬

‫‪58‬‬
‫في أذنه بكلام موجز‪ ،‬ما إن قفز من ال َّد ّرج على الأرض حتى تحر ّكت‬
‫ن‬
‫الجر ّافة نحو منزلنا‪ ،‬رافعة شفرتها العملاقة بشكل عدواني‪ ،‬بدا معه أ ّ‬
‫طر يقة نفسها التي تتكر ّر بها مشاهدها في‬
‫طط لهدمه‪ ،‬بال ّ‬
‫سائق يخ ّ‬
‫ال ّ‬
‫التلفز يون‪ ،‬حينما تد َّمّر منازل الفلسطينيين بأمر من سلطات‬
‫الاحتلال‪ ،‬ركضنا جميعا ناحية المنزل‪ ،‬والخوف يتمل ّكني من ترق ّب ما‬
‫سيحدث‪ ،‬بدأ بعض أصدقائي في أثناء ذلك بالتقاط أحجار من الأرض‬
‫استعدادا لقذفها على الآلي ّة‪ ،‬التي تردّد سائقها حينما رآنا متجمّعين نحمل‬
‫الحجارة في أيدينا وبقمصاننا للر ّد على هجومه‪.‬‬
‫في الأثناء خرجت أختي سلمى من البيت مسرعة‪ ،‬تنادي عل َّيّ بصوت‬
‫ينذر بوقوع خطب ما‪ ،‬عليّ الاستعداد لمجابهته‪:‬‬
‫‪ -‬سمير‪ ...‬سمير‪...‬‬
‫التفت ناحيتها فوجدت أحد المعتدين يجري صوبها‪ ،‬عرفت أن ّه‬
‫ّ‬
‫سيختطفها ليبتز ّنا بها‪ ،‬رفعت صوتي مح ّذرا سلمى‪:‬‬
‫‪ -‬سلمى‪ ...‬سلمى‪ ...‬أهربي إلى الد ّار‪.‬‬
‫م بالر ّكض مبتعدة عن المكان‪ ،‬حت ّى كان ذلك الوحش‬
‫لم تكد سلمى ته ّ‬
‫غير الآدّ ِيّ قد قفز قريبا منها‪ ،‬خارت قواها من الذ ّعر‪ ،‬وأحسست من‬
‫ن رِجليها الواهنتين قد أصابهما خدر ش َّ ّ‬
‫ل حركتهما‪ ،‬فاستسلمت‬ ‫مكاني أ ّ‬
‫ساحقة على رقبتها الر ّقيقة‪ ،‬لم يمنعها‬
‫له بينما ان ّقض عليها وأحكم قبضته ال ّ‬
‫ن تصرخ قائلة‪:‬‬
‫ذلك من أ ّ‬
‫‪ -‬سمير‪ ...‬أّ ّي‪ ...‬لقد اقترب وقت وضعها‪ ...‬إ ّنها تتأل ّم بشدّة الآن‪...‬‬

‫‪59‬‬
‫شعرت بارتباك وحيرة‪ ،‬ما العمل الآن؟! أختي رهينة في يد ذلك‬
‫الوغد وأّ ّي تحتاج لمن يوصلها إلى المستشفى لتلد‪ ،‬في الأثناء أخرج‬
‫صديقي رؤوف من جيبه مقلاعه الذي لا يفارقه في خرجاته الخلو ي ّة‪،‬‬
‫ألقمه حجرا وراح يلو ّح به ببطء‪ ،‬بدأ دورانه يتسارع ويحدث صوتا يشبه‬
‫شديد بالهواء‪ ،‬في الأثناء انتبه ذلك‬
‫صوت المروحة نتيجة لاحتكاكه ال ّ‬
‫الوغد الذي كان يمسك بسلمى لما يفعله رؤوف‪ ،‬لمحت خوفا في عينيه‪،‬‬
‫تراجع خطوتين منكفئا إلى الخلف‪ ،‬بدا عليه الارتباك فأرخى قبضته‬
‫عن فم سلمى‪ ،‬التي اغتنمت فرصة ذهوله فعضّ ت ذراعه‪ ،‬أفلتها من يده‬
‫بعدما ألهاه ألم العضّ ة‪ ،‬وحين رآها هاربة نحونا حاول ال ّلحاق بها‪ ،‬شرعنا‬
‫عند ذلك في قذف الحجارة صوبه فأقلع عن مطاردته لها وول ّى هاربا‪،‬‬
‫في هذه ال ّلحظة سمعت م ِن خلفي صوت حجر رؤوف يحل ّق في الجو ّ‪،‬‬
‫يصاحبه صوت اختراق الهواء‪ ،‬تتب ّعت وجهته فإذا به يرتطم بظهر الوغد‬
‫محدثا جلجلة عظيمة‪ ،‬سقط على إثرها مغشي ّا عليه‪.‬‬
‫احتضنت سلمى التي ألقت بجسدها بين ذراعيّ خوفا من ذلك الش ّرير‬
‫من أن يكون قد لحق بها‪ ،‬في الأثناء التقط رؤوف حجرا آخرا ووضعه‬
‫في المقلاع ولو ّح به مه ّددا‪ ،‬وضع شلومو بندقيته على كتفه وصو ّبها ناحية‬
‫رؤوف‪ ،‬الذي ألقى بحجره على زجاج الآلية وانسحب هاربا ليختبئ‬
‫خلف المنزل‪ ،‬أحدث صوت تكس ّر الز ّجاج هلعا وسط المعتدين‪.‬‬
‫اغتنمت فرصة ارتباكهم وأخرجت الهاتف الن ّقال من جيبي‪ ،‬ات ّصلت‬
‫بخالي حسين وأخبرته على عجل بأمر أّ ّي وبما يحدث معي‪ ،‬قال لي أن ّه‬
‫طر يق إلينا فقد أخبرته خالتي نوال بالأمر‪ ،‬خرج رؤوف من خلف‬
‫في ال ّ‬

‫‪61‬‬
‫المنزل يلو ّح بالمقلاع بش ّدة بدا معها أن ّه على وشك تسديد ضربة قو ي ّة‬
‫سماء‬
‫نحوهم‪ ،‬انطلق الحجر كالقذيفة يخترق بصوته الن ّفاث عباب ال ّ‬
‫ليستقر ّ في جمجمة سائق الآلية‪ ،‬رأيناه يلقي برأسه ساقطا على المقود‪.‬‬
‫هرع الأشرار الثلاثة لإسعاف سائق الجر ّافة‪ ،‬بينما راح شلومو يلقم‬
‫بندقيته رصاصا أطلقه باتجاهنا‪ ،‬استبقناه مسرعين خلف المنزل‪ ،‬كان‬
‫لا يبعد عن ّا سوى بخطوات يسيرة‪ ،‬كنا نلهث بش ّدة‪ ،‬أصابت طلقة فخذ‬
‫التف حوله الجميع‪ ،‬بعد أن سحبه مروان و يوسف خلف المنزل‪،‬‬
‫رؤوف‪ّ ،‬‬
‫وحاول بشير إسعافه‪ ،‬في الوقت الذي رحت فيه أطمئن أختي سلمى‬
‫التي بدا على وجهها الهلع‪ ،‬أمسكت رأسها بين يديّ وألصقت عين َّيّ‬
‫بعينيها‪ ،‬قلت لها مه ّدئا من روعها‪:‬‬
‫ل شيء على خير ما يرام‪.‬‬
‫‪ -‬لا تخافي سيكون ك ّ‬
‫لم نعد نسمع صوت الر ّصاص‪ ،‬توق ّف فجأة‪ ،‬في الأثناء اختلست الن ّظر‬
‫عند ركن المنزل‪ ،‬شاهدت شلومو وهو يع ِين صديقه الذي أصابه رؤوف‬
‫في ظهره ِ على المشي‪ ،‬كان يعتمد على كتفه‪ ،‬بينما كان الثلاثة الآخرين‬
‫سيارة‪ ،‬كان لغطهم مرتفعا ويرطِنون بكلام‬
‫ينقلون سائق الجر ّافة إلى ال ّ‬
‫لم نفهم منه شيئا‪ ،‬امتطى أحدهم الآلي ّة وأدارها‪ ،‬بينما ركب أصدقاؤه‬
‫سيارة وغادروا المزرعة يجر ّون أذيال الخيبة خلفهم‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫لم نكد نساعد رؤوف على ركوب سي ّارة عم ّي أبو مروان ليوصله إلى‬
‫المستشفى‪ ،‬حت ّى وصل خالي حسين‪ ،‬كانت خالتي وعم ّتي تنتظران مع‬
‫أّ ّي‪ ،‬التي كانت تجلس عند الباب مستندة على جدار‪ ،‬ركبت خالتي‬
‫نوال بجانب أّ ّي في الخلف‪ ،‬فتحت الباب الأماّيّ كي تركب سلمى‬

‫‪61‬‬
‫سيارة‪ ،‬لم تكد تجتز شجرة الل ّوز القريبة من البئر‬
‫بجانب خالي‪ ،‬انطلقت ال ّ‬
‫حت ّى توقفت فجأة‪ ،‬بدأت أرقب في حيرة ما يحدث بينما كنت أعدو‬
‫ن الجميع ينزل‪ ،‬كانت خالتي نوال تساعد أّ ّي على‬
‫نحوهم‪ ،‬لاحظت أ ّ‬
‫شجرة‪ ،‬فيما كان خالي تحتها يفرش بطاني ّة‪ ،‬فهمت من‬
‫المشي نحو ال ّ‬
‫ن أّ ّي قد أدركها المخاض ولا مناص من أن تلد في المكان‪،‬‬
‫ذلك أ ّ‬
‫أكملت طر يقي بالس ّرعة نفسها نحو منزل مروان‪ ،‬خطر ببالي أن أخبر‬
‫ن لها خبرة في الت ّوليد‪ ،‬ما إن وقفت عند بابهم‬
‫خالتي أمّ مروان حيث أ ّ‬
‫ودققته حت ّى فتحه عاطف أخو مروان الأصغر فأخبرته بما يحصل مع‬
‫فهب مناديا أمّه كي يستعجلها‪ ،‬عند خروجها من بيتها قالت له‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أّ ّي‪،‬‬
‫‪ -‬احمل معك دلو ماء دافئ واتبعني‪.‬‬
‫***‬

‫‪62‬‬
‫(‪)8‬‬

‫أحلام تتحقّق‬
‫عدت للتو ّ من الث ّانو ية عشي ّة يوم الأحد الذي تلى الحادثة‪ ،‬ما إن ملأت‬
‫عينيّ بمشهد أخي الصّ غير سعيد‪ ،‬نعم‪ ...‬سعيد هكذا أسميناه‪ ،‬ولد عند‬
‫البئر الذي مات فيه والدي سعيد‪ ،‬حت ّى سمعت صوت محر ّكات‬
‫سيارات بالخارج‪ ،‬أعقبها صياح مزاميرها الهدّارة‪ ،‬خرجت لأستقصي‬
‫الأمر فوجدتني في مواجهة قطيع من العساكر الإسرائيليين يحاصرون‬
‫منزلنا بسي ّاراتهم الأربعة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت سمير الخليلي؟‬
‫سأل أحدهم بعدما أزاح بأصبعه إلى الأعلى خوذته التي كادت أن‬
‫طي عينيه الحادّتين‪ ،‬أجبته دونما تردّد وقد أدركت سبب مجيئهم‪ ،‬من‬
‫تغ ّ‬
‫ن الأمر يتعل ّق بما حدث بالأمس‪:‬‬
‫المؤكّد أ ّ‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬أنا هو‪.‬‬
‫أشار بحركة من سب ّابته دون أن يع ّقب على إجابتي‪ ،‬كان ذلك كافيا‬
‫ينقض عليّ أربعة من رجاله المسل ّحين ويرغمونني على الر ّكوب‬
‫ّ‬ ‫لأن‬
‫معهم‪ ،‬لم يتركوا لي فرصة لأخبر أّ ّي حت ّى‪.‬‬
‫في المقعد الخلفي لسي ّارة الهامر كنت محشورا بين جنديين‪ ،‬لم يلبث‬
‫سيارة المقابلة‬
‫موكبهم أن أقلع مغادرا المزرعة‪ ،‬حت ّى سمعت من نافذة ال ّ‬
‫لمنزل عم ّي أبو مروان صراخ مروان المختلط بلهاثه الن ّاج ِم عن ركضه‪،‬‬
‫وقد هيمن هدير المحر ّكات على وقع قدميه‪:‬‬
‫‪63‬‬
‫‪ -‬سمير‪ ...‬تشجّ ع ولا تخف‪ ،‬سيخبر أبي خالي أبو نزار وسيتابع قضيتك‬
‫ويسار ِع‪...‬‬
‫سيارات‬
‫ل شيء‪ ،‬كتمت سرعة ال ّ‬
‫ن مروان كان قد رأى ك ّ‬
‫فهمت أ ّ‬
‫صوته الذي تلاشى تماما ولم أعد أسمع بقي ّته‪ ،‬تخي ّلته وهو يتباطأ خلفنا‬
‫سيارات التي‬
‫حت ّى توق ّف عن الرّكض‪ ،‬بعد أن يئس من ال ّلحاق بال ّ‬
‫طر يق الت ّرابيّ‪ ،‬تلوك عجلاتها حجارة الأرض وتلفظها‬
‫كانت تطير على ال ّ‬
‫فتصطدم بهيكل السّيارة وتحدث قرقعة تشبه نقر حب ّات البرد على‬
‫زجاج الن ّوافذ‪ ،‬وتخل ّف سحابة من الغبار أعاقت رؤيتي لمنزلنا‪ ،‬الذي‬
‫سيارة‪.‬‬
‫اختفى وراء شب ّاك معدني يلتصق بالز ّجاج الخلفي لل ّ‬
‫في ثكنة الجيش كان أوّل شيء قلته بعدما طلب من ّي الضّ ابط المكل ّف‬
‫بالت ّحقيق أن أجلس وسألني عن اسمي‪:‬‬
‫‪ -‬لن أتكل ّم إلّا في حضور المحاّي أحمد المفتي‪ ...‬لديه خبر بذلك سوف‬
‫يأتي بعد قليل‪.‬‬
‫لم أكن على يقين من كلاّي‪ ،‬حت ّى من لقب المحاّي أبو نزار الذي‬
‫ن‬
‫ن ثقتي في أ ّ‬
‫ق معرفتي ب ِلقب خالتي أمّ مروان‪ ،‬غير أ ّ‬
‫استنبطته من ساب ِ‬
‫عم ّي أبو مروان لن يهدأ له بال حت ّى يخبر المحاّي أبو نزار بما حدث لي‬
‫ن إبلاغ مروان له باعتقال العساكر لي سيدفعه‬
‫جعلتني أطمئ ّن‪ ،‬خم ّنت أ ّ‬
‫حتما لأن يزورني في الث ّكنة‪ .‬أمر الضّ ابط جنديا بأن يضعني في الحجز‬
‫ريثما يحضر المحاّي‪.‬‬
‫مرة‬
‫كان صرير باب الحجز إذ يغلقه الش ّرطي يشعرني بمعنى الأسرِ لأوّل ّ‬
‫سابق عن الأطفال الذين‬
‫ل ما سمعته في ال ّ‬
‫مر بمخيّلتي ك ّ‬
‫في حياتي‪ّ ،‬‬

‫‪64‬‬
‫تعتقلهم سلطات الاحتلال في سجونها‪ ،‬تذك ّرت صديقنا أمجد عصام‬
‫ن اعتقاله جعله يفوِ ّت‬
‫الذي يدرس بالث ّانو ية‪ ،‬كان يسبقنا بسنة‪ ،‬غير أ ّ‬
‫من دراسته‪ ،‬مجبرا‪ ،‬عاما كاملا قضاه في سج ِ‬
‫ن عِتصيون‪ ،‬لم يشفع له‬
‫سادسة عشرة بعد من أن يتعر ّض لأبشع‬
‫صغر سن ِّه ِ وهو لم يتجاوز حينها ال ّ‬
‫ظلم والبطش؛ من ضرب وإهانة وشتائم‪ ،‬كانت تهمته الوحيدة‬
‫صور ال ّ‬
‫كما حكى لي أن ّه قذف حجارة على جنود إسرائيليين كانوا يمر ّون من أمام‬
‫بيتهم‪ ،‬بينما كان يلعب مع أصدقائه بعدما تهجّم عليهم أحد العساكر‬
‫واستفز ّهم‪.‬‬
‫ل من ساعة كان كيوم بحاله‪ ،‬عاد العسكريّ وفتح‬‫مر عليّ في الحجز أق ّ‬
‫ّ‬
‫الباب وأمرني بالخروج للعرض على المح ّقق‪ ،‬رجعت إلى القاعة التي‬
‫كان يجلس فيها الضّ ابط‪ ،‬كان بجانبه المحاّي أبو نزار‪ ،‬ارتحت كثيرا‬
‫عندما رأيته‪ ،‬سل ّمت عليه وجلست مقابله‪.‬‬
‫ن موكّ ِله "سمير الخليلي"‬
‫استأذن أبو نزار من المح ّقق للحديث‪ ،‬قال له أ ّ‬
‫ن المدعو شلومو روبين اعتدى‬
‫كان بصدد الد ّفاع عن الن ّفس؛ حيث أ ّ‬
‫على شخصه وعلى مل كي ّته الخا ّ‬
‫صة‪ ،‬المتمث ّلة في مزرعته التي يحوز على‬
‫ن أصدقاءه الذين كان يستضيفهم في بيته‬
‫وثائقها والمسج ّلة باسمه‪ ،‬وأ ّ‬
‫ساعدوه في تأمين الحماية له من المعتدين‪ ،‬الذين كانوا يحملون أسلحة‬
‫ن شلومو كان بيده سلاحا نار يا هدّدهم به وأطلق‬
‫بيضاء‪ ،‬إضافة إلى أ ّ‬
‫منه العديد من الأعيرة‪ ،‬كما أ ّنهم جلبوا معهم جرّافة كان سائقها قبل‬
‫إصابته قد تل ّقى أوامر من شلومو بهدم المنزل باستخدامها‪ .‬لم أذكر كلام‬

‫‪65‬‬
‫ن ما رسخ في ذهني بعد صمت وجيز‪،‬‬
‫المحاّي أبو نزار بالت ّفصيل‪ ،‬غير أ ّ‬
‫قوله للمفتش‪:‬‬
‫‪ -‬أطالبكم بالت ّحقيق أولا مع المعتدين‪ ،‬موكّلي معتدى عليه وهو الضّ حية‬
‫وليس الجاني‪ ،‬فقد كان في حالة دفاع عن نفسه ومنزله‪.‬‬
‫أطلق الضّ ابط المح ّقق سراحي‪ ،‬كان عم ّي أبو مروان بانتظارنا في‬
‫الخارج داخل سيارته‪ ،‬أوصلنا المحاّي أبو نزار إلى بيته في حيّ الرّامة ثم ّ‬
‫عدنا إلى خربة الصّ فا‪ ،‬عندما التقيت بمروان عند بيتهم وأنا أنزل من‬
‫سيارة عانقني بحرارة‪ ،‬وهن ّأني برجوعي سالما من مكان َّقل ّما يعود فيه‬
‫ال ّ‬
‫سن ّي‪ ،‬قال لي بأن ّه ات ّفق مع‬
‫أحد في نفس اليوم‪ ،‬حت ّى من هم في مثل ِ‬
‫ن‬
‫جميع الأصدقاء بأن نزور رؤوف في المستشفى‪ ،‬طمأنني بأن ّه بخير وأ ّ‬
‫حالته مستقر ّة بعد العملية الجراحي ّة التي أجراها لنزع الر ّصاصة من فخذه‪.‬‬
‫***‬
‫كانت البهجة تغمر قلبي ونحن ملت ّف ِين حول رؤوف‪ ،‬نمازِحه وهو في‬
‫كامل حيو ي ّته وسروره بوجودنا إلى جانبه‪ ،‬كان شعوري ذاك يمتزج‬
‫بالأسف من أجله كونه تعر ّض للإصابة بسببي‪ ،‬قال لي وهو يلمح ما‬
‫يشير إلى ذلك في وجهي‪ ،‬فقد كنت منسحبا إلى الخلف وصامتا طوال‬
‫الوقت خجلا منه‪:‬‬
‫‪ -‬سمير‪ ...‬أرجو ألّا تعتقد أن ّك كنت السّبب فيما حدث لي‪ ...‬دعك‬
‫من ذلك‪ ...‬أليست مزرعتك جزءا من فلسطين؟‬
‫‪ -‬أكيد صديقي رؤوف‪.‬‬
‫‪ -‬ما حدث لي هو فداء لأرض فلسطين‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫كانت كلمات رؤوف تشعرني بالفخر به‪ ،‬وبالعز ّ بأنّنا وعلى الر ّغم من‬
‫حب بلدنا لدرجة الت ّضحية بأرواحنا من أجله‪،‬‬
‫سن ّنا المبك ّرة إلّا أن ّنا ن ّ‬
‫ونتمن ّى أن يتحر ّر في يوم من الأي ّام من بطش الاحتلال‪ ،‬عزمت عندها‬
‫ن هذا الموقف بمشاعره الفيّاضة‪،‬‬
‫على أن أكتب أولى رواياتي‪ ،‬يبدو أ ّ‬
‫أعز الن ّاس على قلبي‪ ،‬ألهمني بموضوعها‪ ،‬سوف أكتب عن ما‬ ‫وسط ّ‬
‫حدث معي منذ مجيئنا إلى خربة الصّ فا‪ ،‬سأقتبس مم ّا عايشته من فقدي‬
‫لأبي ومعاناة أسرتي وذلك الموقف البطوليّ الش ّهم من أصدقائي‪ ،‬وهم‬
‫ل تلك‬
‫ط ِر بك ّ‬
‫يلت ّفون حولي كي يدافعوا ببسالة عن ّي وعن مزرعتنا‪ .‬سأس ّ‬
‫شعب‬
‫المشاهد الرّائعة والمعاني الصّ ادقة رواية تحكي عن معاناة ال ّ‬
‫الفلسطينيّ وتضحياته‪ ،‬سوف أوصل صوته المبحوح إلى أقاصي الد ّنيا‪،‬‬
‫تماما كما كنت أحلم‪ ،‬هكذا قر ّرت بينما كنت أضع يدي في يد‬
‫رؤوف‪.‬‬
‫***‬
‫اعترتني لهفة عارمة لم أشهدها في حياتي ق ّط‪ ،‬بينما كنت أحمل قلمي‬
‫سفلى سابحا في شرود‬
‫طط به معالم روايتي‪ ،‬وأنا أضعه على شفتي ال ّ‬
‫لأخ ّ‬
‫عميق أتصو ّر شخصي ّاتها وأحداثها‪ ،‬أوزّع الأدوار وأمزج بين الحقيقة‬
‫والخيال حت ّى أصل إلى الهدف وأوصل رسائلي للقارئ‪ ،‬أخم ّن‬
‫سطور‪ ،‬وأزرع المتعة‬
‫احتياجاته ومتطلّباته فأح ّقق رغباته فيما بين ال ّ‬
‫والت ّشو يق وأصنع روح المطالعة التي تجذبه إلى آخر كلمة في الر ّواية‪.‬‬
‫ختمت تحرير أولى رواياتي بينما كنت أداعب سعيد الصّ غير وهو يحبو‬
‫على ركبتيه‪ ،‬فقد كان آخر شخصي ّة أتطر ّق إليها‪ ،‬طبعا لم أسم ّه سعيد‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫ل شيء‪ ،‬أغلقت حاسوبي المحمول‬
‫كان اسمه في الر ّواية طارق‪ ،‬أنهيت ك ّ‬
‫ووضعته على مكتبي الصّ غير‪ ،‬الذي أراجع عليه دروسي وأكتب فوقه‬
‫وظائفي وواجباتي‪ ،‬أطرقت هنيهة ورحت أفك ّر في إ يجاد عنوان للر ّواية‪،‬‬
‫ق إلهاّي فكرة‪ ،‬قلت مح ّدثا نفس ِي بصوت مرتفع‬
‫فجأة لمعت من بين بوار ِ‬
‫كأنّما توصّلت لاكتشاف عظيم‪:‬‬
‫شمس"‪.‬‬
‫‪ -‬سأسم ّيها‪" :‬ف ِتيان في ال ّ‬
‫سان كنفاني‪،‬‬
‫شمس" ل ِغ ّ‬
‫استوحيت هذا العنوان من رواية "رِجال في ال ّ‬
‫التي كنت قد أنهيت قراءتها قبيل أن أتم ّ روايتي بوقت قصير‪ ،‬لم يكن‬
‫سبب‪ ،‬شعرت بأن ّني لست ل ِوحدي بطل الر ّواية‪ ،‬كان‬
‫ذلك وحده ال ّ‬
‫ل وقت وحين‪ ،‬كن ّا جميعا‬
‫أصدقائي من حولي واقفين إلى جنبي في ك ّ‬
‫ل ما ق ّدموه‬
‫أبطالا نحن الفتيان‪ ،‬أحببت أن أكافئهم ولو رمزي ّا على ك ّ‬
‫وبذلوه من أجلي أنا وأسرتي‪.‬‬
‫لم يكن نشر رواية "فتيان في الشّمس" بالأمر الصّ عب‪ ،‬فب ِمجر ّد أن‬
‫طرقت باب أوّل دارِ نشر‪ ،‬كنت قد استقصيت عن سمعتها وطر يقة‬
‫وجدت‬
‫ّ‬ ‫عملها‪ ،‬فقد نصحني عم ّي ممدوح بها بعدما استشرته في ذلك‪،‬‬
‫ل الحفاوة والت ّرحاب من مديرها الأستاذ عم ّار أبو زاهر‪ ،‬عرفني سر يعا‬
‫ك ّ‬
‫فقد قرأ عن ّي في الصّ حف‪ ،‬كانت قد نشرت حادثة اقتحام شلومو‬
‫وعصابته لمزرعتنا‪ ،‬كانت تلك الوقائع التي تعر ّضت لها عائلتي دافعا‬
‫لصاحب دار الن ّشر كي يقبل مبدئي ّا بنشر الر ّواية‪ ،‬قال لي و بسمة مشرقة‬
‫شفاهه وتلتهم نصف وجهه‪:‬‬
‫تعلو ِ‬

‫‪68‬‬
‫‪ -‬من جهتي سأقبل بعملك حت ّى ولو اضطر ّني ذلك إلى الخسارة‪ ،‬ل كن ّني‬
‫لا أستطيع أن أتجاوز بعض الحدود‪ ،‬عل َّيّ أن أعر ِضه على لجنة القراءة‬
‫كي تب َّ ّ‬
‫ث برأيها حوله‪.‬‬
‫‪ -‬أشكرك كثيرا سيد عم ّار على معز ّتك‪ ،‬وأنا أتقب ّل شرطك بصدر‬
‫رحب‪.‬‬
‫الحمد لل ّه‪ ...‬لقد جرت الأمور في صالح الر ّواية التي لق ِيت إقبالا جي ّدا‬
‫في الضّ فة الغربية‪ ،‬ليس في أوساط الث ّانو يين مم ّن هم في مثل سن ّي‬
‫فحسب‪ ،‬بل من جميع الفئات قاطبة؛ أطفال في الابتدائي والإعدادي‪،‬‬
‫شباب في الجامعة‪ ،‬وحت ّى الكبار‪ ،‬كان الت ّعاطف مع قضي ّتي هو مفتاح‬
‫الن ّجاح‪ ،‬هذا ما قاله لي صاحب إحدى المكتبات في الخليل بعدما زرته‬
‫بدافع الفضول‪ ،‬أردت أن أكتشف بنفسي صدى توز يع الر ّواية على‬
‫المكتبات‪.‬‬
‫***‬
‫كنت على وشك الخروج من الث ّانو ية حينما ات ّصل بي الأستاذ عم ّار‪،‬‬
‫ن سلطات الاحتلال منعت دخول الر ّواية إلى قطاع غ ّزة‬
‫وأخبرني أ ّ‬
‫وإلى الأراضي الفلسطيني ّة المحتلة‪ ،‬ولن يكون بوسع القر ّاء الاطلاع عليها‬
‫في أماكن ع ّدة من البلاد‪ ،‬كما أ ّنها صادرت جميع الن ّسخ أثناء عملي ّة‬
‫تفتيش في حاجز أمنيّ‪ ،‬بينما كانت دار الن ّشر تنقل ال كتب التي‬
‫ستشارك بها في معرض عم ّان الد ّولي للكتاب‪ ،‬لم نتمكّن من معرفة سبب‬
‫ن الأمر ربما يكون له علاقة بتناولي في‬
‫ذلك‪ ،‬قال لي الأستاذ عم ّار أ ّ‬
‫الر ّواية لممارسات الاحتلال‪ ،‬وتع ّديه على الأطفال الق َّص ّرِ وسجنه لهم‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫ن تعر ّضي لتهاون القضاء الإسرائيلي في الت ّحقيق مع‬
‫ومن الممكن أ ّ‬
‫شلومو روبين‪ ،‬وترك ِه حرّا طليقا دون محاسبته على ما اقترفه في حقّي هو‬
‫ل ذلك‪.‬‬
‫السّبب وراء ك ّ‬
‫صل إلى عقد اتفاق مع دار‬
‫بعدها بأي ّام طمأنني الأستاذ عم ّار إلى أن ّه تو ّ‬
‫نشر أردني ّة‪ ،‬لطباعة الر ّواية وعرضها في الصّ الون‪ ،‬وأخبرني أن ّني مدعو‬
‫ل بيع بالإهداء‪ ،‬حيث سيكون بوسعي توقيع روايتي للقر ّاء‪،‬‬
‫لحضور حف ِ‬
‫ن دار الن ّشر الأردني ّة تكفّلت‬
‫ابتهجت كثيرا لسماع ذلك‪ ،‬خاصّة وأ ّ‬
‫ن الحملة‬
‫بمصار يف سفري وإقامتي في عم ّان لم ّدة أسبوع‪ ،‬أبلغني بأ ّ‬
‫الإعلامية التي واكبت الت ّضييق على الر ّواية ساهمت كثيرا في الت ّرويج‬
‫لها‪ ،‬فقد سم ِع عنها العديد في مناطق مختلفة من الوطن العربي وفي العالم‬
‫أيضا‪ ،‬من خلال شاشات الت ّلفز يون ومواقع الت ّواصل الاجتماعي وحت ّى‬
‫ن ذلك أوجد تعاطفا كبيرا مع قضي ّتي‪،‬‬
‫عبر الصّ حف والمجلات‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن دور نشر عالمي ّة طلبت منه ترجمة الر ّواية إلى‬
‫ليس هذا فحسب بل إ ّ‬
‫لغات ع ّدة‪ ،‬منها الإنجليز ية والفرنسية والإسبانية‪.‬‬
‫ب ضارّة نافعة مثلما يقولون‪ ،‬بعدما كان‬
‫لا أكاد أصدّق نفسي‪ ،‬ر ّ‬
‫الاحتلال يسعى جاهدا لمنع انتشار روايتي‪ ،‬صار منعه هذا سببا في‬
‫رواجها والإعلان لها مجانا دون مقابل‪ ،‬الحمد لل ّه‪ ...‬لقد تح ّقق حلمي‬
‫بأن أوصل صوت شعبي ومعاناته إلى العالم أجمع‪.‬‬
‫أي ّاما بعد ذلك ات ّصلت بي شركة إنتاج تعمل في صناعة الأفلام‬
‫سينمائية‪ ،‬اقترح عليّ مديرها أن نحو ّل الر ّواية إلى فيلم سينمائيّ قصير‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫ص الر ّواية‪،‬‬
‫ن كاتب سينار يو يعمل معهم كان قد اطّ لع على ن ّ ِ‬
‫قال لي أ ّ‬

‫‪71‬‬
‫وأعجب بها كثيرا‪ ،‬واقترح عليه ذلك‪ ،‬لم أص ّدق ما يحدث معي‪ ،‬ألهذا‬
‫الح ّد تتح ّقق الأحلام؟! إ ّنها تصبح واقعا حقيقي ّا‪ ،‬بل فوق ما كنّا نتخي ّله‪.‬‬
‫كنت أسمع كثيرا من المتشائمين وهم يردّدون عبارة لم أقتنع بصدقها‬
‫طوال حياتي‪ ،‬يقولون‪" :‬المصائب لا تأتي إلا مجتمعة"‪ ،‬أيقنت بعدما‬
‫ن العكس هو الصّ حيح؛‬
‫ات ّصلت بي شركة لإنتاج الأفلام ال كرتوني ّة أ ّ‬
‫نجاح واحد لا يأتي منفردا‪ ،‬حت ّى ي َّجر ّ خلفه نجاحات تتلوها نجاحات‪،‬‬
‫إنتاج مسلسل كرتونيّ مستوحى من‬‫ِ‬ ‫عرض عليّ صاحب الش ّركة فكرة‬
‫ن‬
‫خف عنه قبولي بالفكرة‪ ،‬قال لي أ ّ‬
‫شمس"‪ ،‬لم أ ِ‬ ‫رواية "فتيان في ال ّ‬
‫ذلك سيساهم في إيصال رسائل روايتي بشكل مختلف إلى شر يحة‬
‫كن من قراءة الر ّواية ل كن بوسعها أن‬
‫واسعة من الأطفال‪ ،‬قد لا تتم ّ‬
‫تشاهد مضمونها في حلقات تلفز يوني ّة‪.‬‬
‫***‬
‫ل مكان؛ في بيته وفي بستانهم غير أن ّني‬
‫بحثت عن صديقي مروان في ك ّ‬
‫لم أجده‪ ،‬سألت عنه جميع من التقيت بهم‪ ،‬لا أحد يعلم‪ ،‬خطر ببالي‬
‫أن ّه عند شجرة الحقائق التي كن ّا نسمّيها شجرة الأحلام‪ ،‬وجدته واقفا تحت‬
‫ظل ّها و بيده ورقة‪ ،‬اقتربت منه وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذه الورقة التي بين يديك يا مروان؟‬
‫‪ -‬إنّها كشف نقاط شهادة الث ّانو ي ّة العامّة‪ ،‬الحمد لل ّه لقد تحقّق حلمي‬
‫وحصلت على أعلى معدّل في الث ّانو ي ّة العامّة‪.‬‬
‫‪ -‬الحمد لل ّه‪ ،‬لقد تعلّمت درسا مهمّا‪ ،‬أظن ّك أنت أيضا قد فهمته وحفظته‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫س‬
‫ل تأكيد صديقي سمير‪ ،‬هذا الد ّرس عنوانه‪" :‬أحلام الأم ِ‬
‫‪ -‬بك ّ‬
‫حقائق اليوم"‪.‬‬
‫‪ -‬على هذا سنسمّي شجرتنا هذه ابتداء من هذه ال ّلحظة‪" :‬شجرة الأحلا ِم‬
‫والحقائق"‪.‬‬
‫قلت ذلك وقد صنعت شفتاي بسمة‪ ،‬تجاوب معها صديقي مروان‬
‫ل عنها سعة وألقا‪ ،‬رفع مسمارا كان بيدهكي أراه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫بابتسامة لا تق ّ‬
‫‪ -‬لقد كتبت حلما جديدا‪.‬‬
‫تكف عن كتابة الأحلام؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ألا‬
‫‪ -‬الحلم أولى خطوات الن ّجاح‪.‬‬
‫اختطفت المسمار من يد مروان‪ ،‬وحفرت على جذع الشّجرة جملة‪،‬‬
‫شعرت وكأن ّني أنقشها في قلبي‪ " :‬سأكمل حفر البئر الذي بدأه أبي"‪.‬‬
‫سجدنا نحن الاثنين شكرا لل ّه الذي وف ّقنا لتحقيق آمالنا‪ ،‬فلولا فضله علينا‬
‫ما كنّا ل ِنصل إلى ما وصلنا إليه‪ ،‬فلِلّه ِ الحمد من قبل ومن بعد‪.‬‬
‫تم ّت بفضل اللّه وتوفيقه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الفهرس‬
‫بداية حالِمة ‪5 .............................................................................‬‬
‫رحيل قبل الأوان ‪14 ................................................................‬‬
‫عِبء تنوء بح ِمله الجبال ‪21 ..........................................................‬‬
‫مِ حن تصنع من الأطفال رجالا ‪27 ...............................................‬‬
‫الأزمة تلِد الهمّة ‪37 ...................................................................‬‬
‫خفّاش يحوم حول عشّنا الهادئ ‪46 .............................................‬‬
‫في الات ّ حاد قو ّة ‪55 ....................................................................‬‬
‫أحلام تتحقّق ‪63 ........................................................................‬‬

‫‪73‬‬

You might also like