Professional Documents
Culture Documents
1
2
-رواية لليافعين-
لا...
ض الأجداد
لن أتخلّى عن أر ِ
-فريد بغداد-
3
4
()1
6
فص ِرت أشاركهم نشاطاتهم وأحاديثهم داخل الفصل وفي ساحة
المدرسة ،أصبحت ألعب مع زملائي الذين يقطنون بخربة الصّ فا ،بعد
خروجنا من المدرسة وحال عودتنا إلى بيوتنا ،كما أن ّني استطعت أن
أتعر ّف على آخرين من خلالهم.
ن مروان أقرب أصدقائي إلى قلبي ،قد يكون تفضيلي له بسبب
أعتب ِر أ ّ
طر يق الت ّرابية
قرب منزلهم من بيتنا ،وهذا ما أتاح لي أن أقطع معه ال ّ
الموصلة إلى طر يق الإسفلت ،خلال أي ّام الد ّراسة؛ حيث نقف ونحن
ننتظر سو ي ّــة باص "الخليل – بيت كاحل" في الموقف برفقة أختي
سلمى وأخته صفاء ،وحال رجوعنا في المساء ننزل من الباص ونسير
طر يق التي مشينا عليها في الصّ باح ،فنقضي ج َّ ّ
ل وقتنا ونحن معا على ال ّ
نتكل ّم في أشياء كثيرة وجدت نفسي أتقاسمها معه؛ عن فلسطين وما
يفعله الاحتلال يومي ّا بالأرض والبشر ،مضايقات وحواجز وهدم
للبيوت ومصادرة للأراضي ،وعن بناء الجدار العازل وما يتسب ّب فيه
ل ما ينجر ّ
من تشتيت للعائلات وتقطيع للأوصال وتقسيم للأراضي ،وك ّ
طرف الآخر من الجدار ،إن ّه أشبه
عن ذلك من معاناة للوصول إلى ال ّ
ما يكون بسجن كبير.
مع بلوغي المرحلة الث ّانو ية بعد سنة على إقامتنا بالخ ِر بة ،أصبحت أقوم
ل
مع زملائي بالعديد من الأنشطة الفردية ،التي يظه ِر من خلالها ك ّ
واحد من ّا ميولاته وهواياته المفضّ لة ،وما يستطيع أن يق ّدمه أمام زملائه
شعر ،نتحل ّق حوله ،نحن الذين نقطن
من عروض؛ زميلنا بشير بارع في ال ِّ
ب المجاورة لقر ية بيت كاحل ،في المقصف مباشرة حال انتهائنا
بالخ ِر ِ
7
من وجبة الغداء ،لنستمع لقصائده المكتوبة على ورقة ،يحملها بطر يقة
يجاري فيها أسلوب محمود درويش في الإلقاء ،أحيانا كان يرتجل بعض
شاعر ال كبير سميح القاسم في
شعر الحر ّ فيقرِضها محاكيا ال ّ
الأبيات من ال ّ
حركاته ونظمِه ،كان شِعره يبدو أكبر من أعمارنا ،يتناول مواضيع
حول الهجرة والهو ي ّة ،يتح ّدث عن أوضاع الأسرى والل ّاجئين والمبعدين
ومن اغتصِ بت أراضيهم وهدمت دورهم.
هناك أيضا صديقنا جمال رسّ ام الث ّانو ية ،أو صاحب الفرشاة الذ ّهبية كما
طبيعة الفلسطينية الخل ّابة التي
نل ّقبه دوما ،أغلب رسوماته تجسّد ال ّ
تحتضن الإنسان المثقل بهمومه حت ّى الن ّخاع ،يصف بريشته البارعة آلام
المرأة ومعاناتها ،كنت وأنا أقف عند إحدى لوحاته في معرض متواضع
للصّ ور ،أقامه مع نهاية الث ّلاثي الأوّل ،أتخي ّل أّ ّي وما تلاقيه من
صعوبات في الت ّأقلم مع الحياة التي لم تعتدها في الر ّيف.
كما لا يمكنني أن أنسى بأيّ حال أداء صديقي الحميم مروان حين يعتلي
مصطبة الفصل ويرفع عقيرته ،فيخطب فينا بما تجود به قر يحته الأدبي ّة
من مواعظ وإرشادات ،بأسلوب بديع ومليء بالكلام المسجوع
والموزون ،تزيده بهاء طر يقة حديثه المفعمة بالحيو ي ّة وكلامه المسترسل
والمتدف ّق ،الذي ورثه عن ج ّده إمام وخطيب مسجد بيت كاحل،
إضافة إلى ذلك فإن ّه مر ِح وصاحب دعابة ،فكثيرا ما يمزج حديثه الجادّ
دب فينا وطف ِقنا نتثاءب من
ّ بفكاهته ونوادره حينما يرى السّأم قد
طول خطبه العصماء ،فيغي ّر موضوع الكلام دون أن نشعر ،ويشرع في
8
تقليد أصوات شخصي ّات شهيرة من سياسي ّين وإعلامي ّين ،فيثير ضحكنا
ويدفعنا إلى مكافأته بتصفيق حارّ وصفير مدوّي.
كن من القيام ببعض الأنشطة الجماعي ّة على أحسن وجه ،فلا
وحت ّى نتم ّ
أفضل من الت ّكاتف والت ّعاون ،ومن أبرز تلك الأنشطة صحيفة الث ّانو ية،
كثيرا ما يساهم فصلنا فيها ،أكتب مقالات متنو ّعة تتناول مواضيع
تتعل ّق بهموم طل ّاب الث ّانو ية وهواياتهم ،لا ألبث بعد صياغتها وتحريرها
طاط الفصل كما نسمّيه ،لديه مقدرة مذهلة على مررها لرضوان خ ّأن أ ّ
الكتابة بخطوط متنو ّعة؛ من الن ّسخ إلى الر ّقعة وال كوفيّ والد ِّيواني ،أطلب
منه أن يدوّن بخطّه الجذّاب مقالاتي التي ت َّ
عل ّق حالما تصبح جاهزة على
ل من يمر ّ من هناك،
جدار ي ّة ب ِردهة ِ مبنى الفصول ،أين يكون بوسع ك ّ
ِ
طلع على جديد الصّ حيفة التي ننشرها بشكل شهري.
أن يقف و ي ّ
يوجد لدينا أيضا فرقتنا الغنائي ّة التي تشدِينا بألحانها العذبة ،وتتحفنا
بأغاني من الت ّراث الفلسطيني وأناشيد وطنية حماسي ّة ومدائح دينية
وِجداني ّة ،يتق ّدمها زميلنا رؤوف صاحب الحنجرة الماسي ّة والمتمي ّز
شجي ّة ودلعوناته العذبة؛ خصوصا تلك التي تحكي عن معاناة
بمواو يله ال ّ
شعب الفلسطينيّ وأحلامه بالاستقلال والعودة وتحرير الأقصى
ال ّ
واستعادة الأرض المصادرة والمغتصبة ،لا يمتلك رؤوف صوتا حسنا
فحسب ،عنده أيضا م ِقلاعه الذي لا يفارقهكل ّما خرج في جولة خلو ية،
لديه ضربات قلّما تخطئ هدفها.
***
9
ل تحت شجرة الأحلام حينما أزاح صديقي مروان قطعة من
كن ّا نستظ ّ
سميك والقاسي ،وكتب على جذعها الذي صار أملسا مثل
لحائها ال ّ
الجلد حلمه الث ّالث" :سيصبح مروان محاميا" .اختطفت من يده مسمارا
اتّ خذه قلما ليحفر به كلماته تلك ،وكتبت على طر يقته إلى الأسفل منها
قليلا" :وسيصبح سمير كاتبا روائي ّا".
كان سبب تدويننا ل ِحلمينا حديثنا عن واقعة حدثت قبل يومين في
خربتنا ،بعدما أنهينا قراءة مقال في صحيفة القدس ،تناول موضوع
ِ
تجر يف قو ّات الجيش الإسرائيلي لمزرعة في قر ية حلحول شماليّ الخليل،
تعود مل كيتها لعائلة ِ فدائيّ كان قد هرب إلى خربتنا واختبأ بمغارتها
المتواجدة بها ،بعد أن طاردته أجهزة الأمن ،فقد ورد اسمه في قائمة
المبحوث عنهم والمشتبه بهم لديها ،في قيامهم بعمليات فدائي ّة طيلة أشهر
خلت ،نجم عنها مقتل العديد من الجنود والمستوطنين الذين استولوا على
لعائلات أولئك الفدائي ّين ،بمباركة من سلطات
ِ أراض ومزارع
كنتهم
الاحتلال التي ساعدتهم على بناء منازل وشقق استيطاني ّة عليها وم ّ
من تمل ّ كها ،وبعد أن وجدت العائلات المطرودة نفسها بدون مأوى
ومصدر رزق ،على إثر تخريب مزارعها وهدم منازلها ،قطع مجموعة من
شباب تلك العائلات وف ِتيانها على أنفسهم عهدا ،بأن ينتقموا من
المستوطنين وجنود الاحتلال.
الشاب الذي نفّذ برفقة صديقيه عملية تفجير حافلة للجنود
ّ كان ز ياد
الإسرائيليين العائدين من مهمّة مصادرة أراض زراعية ،قد أصيب في
كتفه كما ذكرته صحيفة القدس ،حينما خرج من المغارة على إثر اختناقه
11
بالغاز المسي ِّل للد ّموع ،الذي ألقت قنابله وحدة الأمن التي كانت تحاصر
المغارة بشكل مكث ّف ،وعند خروجه منها كان لا يرى شيئا أمامه،
طي على انسحابه ،ل كنّ
فوجّه سلاحه بشكل عشوائي وفتح الن ّار حتى يغ ّ
ي صهيونيّ كان يكمن خلف صخرة بمحاذاة فوهة المغارة
رصاص شرط ّ
أصابه في كتفه ،فسقط ز ياد أرضا تاركا سلاحه ،وعند توق ّف إطلاق
كته منه .نقل ز ياد إلى
الن ّار انقضّ ت عليه مجموعة من رجال الأمن وافت ّ
ن الوقت لم يمهله بعدما نزف منه دمه بغزارة ،فلفظ
المستشفى ،غير أ ّ
أنفاسه واستشهد.
قبل تلك الواقعة بأسابيع كانت سلطات الاحتلال قد قر ّرت الاستيلاء
على أراضي عدد من العائلات التي تقيم عليها ،بعد أن منحتها مهلة أسبوع
لمغادرتها ،كانت تسعى من قرارها ذاك إلى اقتطاع المزيد من المساحات
الزراعي ّة من الضّ فّة الغربي ّة ،والمشكّلة أساسا من أشجار الز ّيتون والل ّوز،
وضم ِّها إلى ما احتلته منذ سنة ،1948لتبني على أجزاء ممت ّدة منها بشكل
طوليّ جدار الفصل العنصري البغيض في عمق أراضي المواطنين
الفلسطيني ّين ،فبعثت بقو ّات عسكر ي ّة حت ّى ترغم العائلات على إخلاء
منازلها بالقو ّة.
أنهيت قراءة المقال والش ّرر يتطاير من عينيّ غضبا م ّما ارتكبه الص ّهاينة
شجرة وأنا أشعر بتذمّر
الحاقدين ،لففت الصّ حيفة وألقيتها على جذع ال ّ
شديد واستياء بالغ ،قلت لمروان:
11
-هذا ظلم كبير ،كيف ينتزع الص ّهاينة أراض من أصحابها و يهدمون
بيوتهم ،و يطاردونهم حينما يدافعون عن أنفسهم ،و يصفونهم بأنّهم
إرهابي ّين و يقتلونهم ببرودة دم؟!
ل ذلك بسبب صوتنا الضّ عيف ،العالم من حولنا يص ّدق أكاذيب
-ك ّ
الإسرائيليين ومزاعمهم في أ ّنهم هم المظلومون وليس نحن ،وفي مقابل
ن الفلسطينيين هم ال َّ ّ
ظلمة الذين استولوا على حقّ غيرهم. ذلك يرى أ ّ
أجاب مروان بامتعاض وأسف شديدين ،ثم ّ التفت إليّ فوجدني شاردا
أفك ّر:
-ما بك يا سمير؟
سألني مروان وهز ّني من كتفي حت ّى انتبهت.
-أفك ّر فيما تفك ّر فيه يا مروان ،ولذلك قر ّرت أن ّني سأصبح في يوم من
الأي ّام كاتبا روائي ّا ،أكتب عن معاناة شعبنا وظلم الص ّهاينة المحتلّين له،
وسأوصل صوته إلى العالم بأسره.
-وأنا مثلك سأثابر حت ّى أصير محاميا مثل خالي أحمد ،أدافع عن من
سلبتهم سلطات الاحتلال مزارعهم وهدمت منازلهم.
ات ّفقنا على تحقيق حلمينا في يوم من الأي ّام ،ودون ّاهما على جذع شجرة
ل شاهدة على عزمنا والتزامنا بالقضي ّة الفلسطينية.
الصّ نوبر ،حت ّى تظ ّ
كانت شجرة الأحلام كما أسميناها منذ أن كتبنا أ ّول حلم على ساقها
الباسق ،بأن نبقى صديقين طوال حياتنا فلا يفرق ّنا شيء ،ملجأنا الذي
نلتقي تحته دائما كل ّما داهمتنا الأحزان أو داعبتنا الأفراح.
12
يجتهد مروان كثيرا في تعل ّم فنّ الخطابة ،قال لي أن ّه منذ أن كان صغيرا
وهو يطالع بشغف أشهر الخطب في الت ّاريخ العربيّ الإسلاّيّ ،فكان
للقس بن ساعدة ،وخطبة حج ّة الوداع التي
ّ يحفظ عن ظهر قلب خطبا
ألقاها رسول الل ّه صلى الل ّه عليه وسلم على الحجيج ،وخطب سي ّدنا عليّ
بن أبي طالب رضي الل ّه عنه والحج ّاج بن يوسف الث ّقفي وطارق بن ز ياد
شعبة الأدبية
وغيرهم كثير ،وعندما انتقلنا إلى الث ّانو ية وانتسبنا إلى ال ّ
زاد شغفه بالأدب ،فصار يطالع معي الصّ حف والمجل ّات وكتب الل ّغة
العربية على اختلافها ،من بلاغة ونحو ،إلى جانب الر ّوايات والقصص
التي كن ّا نقتنيها من مكتبات مدينة الخليل ،فقرأنا تحت شجرة الأحلام
ك تب كليلة ودمنة ومقامات الحريري والأصفهاني والبغدادي
وغيرهم ،وحت ّى في فصل الصّ يف وبداية الخر يف نجتهد في المطالعة
ونتحمّس لها ،بينما ينهمك أهالي الخ ِربة في الحصاد وجني الغ ِلال من
تين وعنب ولوز وزيتون.
13
()2
14
وبدا ممتزجا بعو يل مصحوب بكلام صار مفهوما قبل بلوغي البئر ببضعة
أمتار:
-الن ّجدة ...الن ّجدة ...ا ِلحقونا ...لقد دفن سعيد داخل البئر.
وقفت منهارا على ركام الت ّراب المشرف على فوهة البئر أنتظر بيأس
وصول المزيد من الجيران ،كي يحفروا الت ّراب الذي انهار من البئر
ل قلبي أن نجده حي ّا ،وأقول
وتراكم فوق جسد أبي ،كنت أدعو من ك ّ
في نفسي بتوسّ ل :ليس الآن يا أبي ...ما زلت لم تر بعد أحلامك
وأمانيك التي كانت تش ّع من عينيك الحازمتين وأنت تنهض باكرا
للعمل ،مازال ينتظرك ال كثير لتقوم به وتنجزه ،لقد استرجعت أرض
كها الأوغاد منه كما كنت تقول لي دائما ،وتوصيني أن
ج ّدي التي افت ّ
أعز
ّ مرة أخرى ،لم أشبع منك بعد ياأحرص على ألّا يحدث هذا ّ
ل معي لتحميني وتلهمني من عزمك الوقّاد.
إنسان ،أحتاجك أن تظ ّ
كانت الهواجس تعترك بداخلي بينما تتخاذل أذرع الجيران التي تحفر
الت ّراب الجاثم على صدر أبي ،ومعها يصبح أمل خروجه سالما ضئيلا
تكف عيناي عن البكاء ،حت ّى بعد أن حضر
ّ كل ّما طال الوقت ،لم
أعماّي وأخوالي من مدينة الخليل ومن قر ية بيت كاحل ،وتبعتهم بعد
ذلك فرقة الد ّفاع المدنيّ ،كان النّهار قد حمل حقائبه وغادر ،والل ّيل
ل مدفونا
كن بعد من الوصول إلى أبي الذي ظ ّ
خي ّم من حولنا ونحن لم نتم ّ
تحت الت ّراب.
ومن تحت تراب البئر في الغداة ِ شي ّعنا أبي إلى ثرى القبر ،مثواه
الأخير ،بعد يوم من الحفر المتواصل ليل نهار .مات أبي وتركني وأّ ّي
15
وأختي الأصغر من ّي دونه ،ذهب من كان يصنع لنا بهجة الحياة من
عرقه وكدّه إلى غير رجعة ،كان رحيله قاسيا علينا نحن الث ّلاثة ،كنت
أرى ذلك في عيني أّ ّي التي بدت ذاو ية كزهرة ذابلة اقتلعتها ريح عاتية
من غصن متين ،كانت تستند عليه وتستريح فوقه بأمان ،ل كنّ العاصفة
كسرته ،كنت أشعر بآلامها وهي تنوء مرغمة بما كان أبي يغنيها عن
غادرت البسمة شفاهها المرتجفة منذ تلك ال ّلحظة التي أيقنت
ِ حمله،
بوفاته ،فأصبح الجهد جهدين؛ تعب في البيت ومعاناة في المزرعة.
أمّا أختي سلمى التي لم يمر ّ وقت كبير على بلوغها أولى سنوات المرحلة
الإعدادي ّة ،بعد أن اجتازت شهادة الت ّعليم الابتدائي بتقدير "امتياز"
ن أبي مات ،حت ّى انزوت في ركن
وبمع ّدل 9من ،11فلم تكد تص ّدق أ ّ
بالبيت بعدما انتهى العزاء ،الذي أنسانا من حضره من الأقارب
والجيران بمواساتهم ،ولو لبعض الوقت ،آلام فاجعة مصرع أبي ،كانت
سلمى تصر ّ على البقاء في غرفتها منعزلة عن الجميع.
***
ل مخي ّما على بيتنا لأي ّام أخرى قادمة لولا ستر الل ّه،
كاد الحزن أن يظ ّ
فبعد انتهاء العزاء بأسابيع قليلة ،وبينما كن ّا عائدين من بيت كاحل على
عادتنا بعد انتهاء الد ّراسة ،وما إن نزلنا من الباص حت ّى داهمتنا أمطار
رعدي ّة غزيرة لم أشهد مثلها من قبل ،أخذنا نجري بسرعة كبيرة ،المياه
تغمر أجسادنا ،ابتل ّت ملابسنا ومحافظنا ،بعد دقائق فقط صار الماء يقطر
من شعورنا ووجوهنا ،عندما أشرفنا على الت ّل ّة التي تنتصب فوقها شجرة
ن نهرا جارفا قد تشكّل من
الأحلام ،رأينا في الأسفل باتجاه بيوتنا أ ّ
16
سيول التي كانت تنهمر نحو الأسفل ،أصبح من الصّ عب علينا بلوغ
ال ّ
منازلنا ،شرعت أنا ومروان في وضع بعض الصّ خور أمامنا حت ّى نم ّر
ن ذلك لم يكن مجديا فقد كانت الحجارة
عليها ونقطع مجرى المياه ،غير أ ّ
سيل الغامر.
التي نلقيها تغوص داخل ال ّ
لم أكمل كلاّي مع مروان بينما كنت أطلب منه أن نصبر لبعض
الوقت ريثما يتوق ّف هطل المطر وتنحس ِر المياه ،حت ّى سمعت صراخ أختي
التفت نحو مصدر الصّ وت فوجدتها تطفو فوق
ّ سلمى التي كانت خلفي،
المياه التي كانت تحملها مع المجرى ،كانت سلمى تبكي وتستغيث بنا
ل
لنجدتها وإنقاذها ،استب ّد بي الذ ّهول وعجز تفكيري عن إ يجاد ح ّ
لإخراجها من ذلك المأزق ،خطر ببالي أن أتبعها وأركض بجانب مجرى
سيل ،وجدت مروان خلفي يقول لي بصوت مرتفع:
ال ّ
شجرة ،مجرى المياه يضيق
-علينا أن نعدو أسرع ونسبق سلمى إلى تلك ال ّ
ن بجوارها أغصانا وعيدانا ،بإمكاننا الاستعانة بها لإخراجها
عندها ،كما أ ّ
من الماء.
شجرة حت ّى خفتت سرعة المياه في المكان ،بقيت أنا
ما إن وصلنا إلى ال ّ
شجرة سر يعا ،وارتقى إلى غصن غليظ
بالأسفل بينما تسل ّق مروان ال ّ
يمت ّد فوق مجرى المياه ،طلب من ّي أن أناوله أطول غصن يابس ملقى
على الأرض تقع عليه عيناي ،أمسكه من بين يديّ ومدّه شاقولي ّا إلى
شجرة حت ّى ارتمت
الأسفل حت ّى لامس المياه ،ما إن بلغ السيل بسلمى ال ّ
ل ما أوتيت من قو ّة ،حاول
بكِلتا يديها على الغصن وتشبثت به بك ّ
مروان سحبها نحو ض ّفة المجرى مبتعدا عن غصن الشّجرة الذي كان
17
جالسا عليه كأن ّه يركب حصانا ،وحين أصبحت سلمى بالقرب من ّي،
حيث أن ّني كنت واقفا على حاف ّة المجرى أنتظر وصولها إليها ،مددت
يدي لأمسك بيدها ،وسحبتها من المياه.
ن الحادثة كانت صعبة وقاسية علينا أنا وسلمى ،فقد كان من
رغم أ ّ
كننا من إنقاذها أنا ومروان
ن تم ّ
الممكن أن نفقدها إلى الأبد ،غير أ ّ
أشعرني بقو ّة الأواصر التي تربطني بأّ ّي وأختي ،كان لذلك المعنى الجميل
حس بأنني مسؤول على أختي الأصغر من ّي،
أثر بالغ في نفسي ،جعلني أ ّ
خصوصا بعد رحيل أبي ،صحيح أنّنا فقدنا والدنا ل كن مازالت لدينا
ل شيء ،كانت تلك الت ّجربة نوعا من العلاج الن ّفسي
أسرة رغم ك ّ
لجروح داخلية لم تندم ِل منذ وفاة أبي العزيز.
***
مع مرور الأيام ات ّضح لي أن ّه صار ل ِزاما علينا أن نواجه الحياة من دون
ل يوم يخرج فيه من البيت إلى الحقل وكأن ّه يدفع
أبي ،الذي كان ك ّ
عن ّا شرور الد ّنيا ومصائبها ،و يجلب لنا حين عودته في المساء صفاء الحياة ِ
الوادعة والهنيئة ،أصبحنا نحن الثلاثة ع َّ ّزلا دون سلاح نجابه به مآسي
الد ّهر وأحزانه ،نتل ّقى الهموم حاسرين دون دِرع أو ت ِرس ،كان أبي
يص ّد عن ّا كل ذلك ،افتقدناه كثيرا خلال الأيام التي تلت رحيله.
ل يوم هائما على وجهي لا أدري ما يجب عليّ القيام به ،المزرعة
أخرج ك ّ
تحتاج إلى هم ّة رجل في مثل سنّ أبي وقو ّته ،يتفر ّغ كلي ّة لمتطلّباتها ،وأنا
لا أزال فتى يافعا أدرس بالثانو ي ّة لديّ أحلاّي وطموحاتي في أن أكمل
تعليمي وأنهي مساري الد ّراسي ،إلى غاية أن أتخر ّج من معهد الأدب
18
العربيّ في الجامعة كما أتخي ّل نفسي دائما ،ماذا عساي أن أفعله وأّ ّي
ليس بمقدورها القيام بما كان أبي يكفينا هم ّه؟ ما الذي ب ِيدي أن أقدّمه
أمس الحاجة إلى مورد رزق يجن ّبنا تك ّفف الن ّاس وسؤالهم
ّ ونحن في
المعونة والمساعدة ،لم يكن شبح الفقر وحده من يتراقص بين ناظريّ
حينما أفك ّر في الأمر ،ماذا لو فشلت في الحفاظ على أرض أبي التي
قاسى من أجلها وعانى حتى استردّها من الغاصبين ،كيف سيكون عليه
حفظ الوديعة؟
الحال إن أنا لم أنجح في صون الأمانة و ِ
م حقل زيتون ولوز،
بالإضافة إلى الأرض المقسومة نصفين ،نصف يض ّ
مرة قمحا وفي الموسم الذي تلاه والن ّصف الآخر كان أبي قد زرعه ّ
شعيرا ،فقد ترك لنا بقرتين وقطيعا من الن ّعاج ،كن ّا في حياته نعتاش مم ّا
شياه
تنتجه البقرتان من حليب و ز بدة وجبن تحض ّره أّ ّي ،ومما تلده ال ِّ
من خراف كان أبي يبيعها في سوق الخليل حين تسمن ،و يصرف على
طعامنا وثيابنا وتعليمنا وجميع حاجياتنا مم ّا يحصل عليه منها ،أمّا عن
ن غل ّته كانت تخضع لتقل ّبات الفصول ،ففي أوّل
حقل الز ّيتون والل ّوز فإ ّ
موسم لنا بالخ ِربة لم نكد نجني منه شيئا يذكر ،وفي الموسم الذي تلاه
طرحت الأشجار المثقلة بالغ ِلال محاصيل وافرة من الل ّوز ،الذي نشرناه
في أشع ّة الشّمس حتى يبس وقش ّرناه ،بعدها وضعناه في أكياس كبيرة
باعها أبي لأحد الت ّجار في مدينة الخليل ،أمّا عن الز ّيتون فقد احتفظ
أبي منه لاحتياجاتنا بجزء يسير ،عالجه بمادّة كيميائية حت ّى زال عنه
طعمه المر ّ ،وأخذ بالبقية إلى المعصرة في بيت كاحل ،لتحو يله إلى
زيت ،قام بتعبئته في أوعية بلاستيكية باعها في سوق المدينة.
19
()3
21
المياه والحنفي ّات في منازلهم ،أو حت ّى صيانة المضخ ّات في مزارعهم،
فقد كانت لأبي دراية وخبرة لا بأس بها بهذا الخصوص.
لا تستطيع أّ ّي أن تقوم بأيّ شيء من شؤون الز ّراعة مهما بدا سهلا
وبسيطا ،فقد تر ب ّت في المدينة وكبرت وسط عائلة لا تر بطها بالحقول
طرق التي تخترقها،
أي ّة صلة ،إلا ما تراه من مناظر أثناء مرورها عبر ال ّ
للوصول إلى عدد من القرى المجاورة للخليل أين يقطن بعض أقربائها،
غير أنّها وبعد أن أصبحت مضطر ّة لذلك بعد رحيل أبي ونظرا لصغر
سن ّي وانشغالي بالد ّراسة ،لم يعد أمامها من خيار سوى مواجهة قدرها
المحتوم؛ وأن تأخذ مكان أبي وتخلفه على القيام على شؤوننا.
صرت أشاهدها خلسة وهي تتدث ّر بثيابها ،قبل أن تخرج إلى الحقل بعد
ل صباح ،أتل َّكّأ
مغادرتي أنا وأختي سلمى إلى بيت كاحل للد ّراسة ك ّ
لبعض الوقت كي أراقبها وأنا مختبئ عنها خلف شجرة الأحلام التي
طر يق
تنتصب في أعلى الت ّل ،بالقرب من طر يق الإسفلت عند نهاية ال ّ
الت ّرابية المفضية إلى مزرعتنا ،رأيتها مرارا بينما تحمل المجرفة وتحاول
نكش الأرض وإزالة الأعشاب الضّ ارة من حول أشجار البستان.
في المساء وعند عودتي ،أحيانا تأمرني بعد أن تنهي عملها في الحقل
بمش ّقة ،أن أذهب عند عم ّي أبو مروان حت ّى أطلب منه أن يشغ ّل مضخ ّة
كن من سقي الأشجار ،لم يكن ذلك
بئره ،كي نملأ حوض المياه ،ونتم ّ
ل أسبوع أجرة المياه
ن أّ ّي تضع في يدي مع نهاية ك ّ
بالمج ّان ،حيث أ ّ
التي نستهل كها من بئره ،أسل ّمها له حالا ودون تأخير.
22
أساعد أّ ّي كل ّما توف ّر لي وقت لذلك ،عق ِب عودتي من الد ّراسة أحمل
مجرفة وأعينها على سقي الأشجار ،نزيح الطّمي والحجارة من طر يق المياه
طر يق أمامها كي نمنعها من
ساقية نحوها ،وأحيانا نس ّد ال ّ
التي تجري في ال ّ
الجر يان نحو الأشجار التي تكون قد أخذت نصيبها كفاية من ال ّ
سقي،
وحت ّى نتيح لل ّتي لم تسق بعد من أن تصلها المياه ،أحرص على أن أخبر
أّ ّي عن كيفية عمل ذلك ،فقد تعلّمت من مشاهدتي لأبي طر يقة سقي
الأشجار.
***
لم يبق في صر ّة الن ّقود التي تخبئها أّ ّي في الخزانة فلس واحد ،أنفقنا ك َّ ّ
ل
ما نمل كه على مصروف البيت وكانت مراسم عزاء أبي قد أخذت جزءا
كبيرا منها ،أمّا القسط الأوفر فقد ذهب مع سقي أشجار الز ّيتون والل ّوز،
شتاء في هذا الموسم كانت أمطاره شحيحة ولا تكفي ل ِر ي ّه
ن ال ّ
حيث أ ّ
على الوجه المطلوب ،لم تجد أّي من بدّ ،كان ل ِزاما علينا أن نضح ّي
كن من توفير بعض المال
سوق ،حت ّى نتم ّ
بنعاجنا العشرة ونبيعها في ال ّ
لنواجه به مستلزمات الحياة ومصار يف دراستي أنا وأختي ،تفادت أّ ّي
ن كانا لا يزالان صغيران يرضعان أمّيه ِما ،سوف لن يجلبا
أن تبيع عجلا ِ
لنا الش ّيء ال كثير ،يحتاجان بدورهما إلى جانب البقرتين لبعض
المصار يف من علف وتبن وكلأ.
لم يزرع أبي في الخر يف قبل وفاته القسم المخصّ ص للحبوب من الأرض،
سنة القادمة فقد زرعها في العامين الماضيين،
فضّ ل أن ترتاح إلى ال ّ
سوف لن يكون لدينا مع الخر يف القادم ما ننتظره سوى بستان الز ّيتون
23
والل ّوز ،ماذا سيكون عليه الحال لو كان محصوله لا شيء؟ دفعتني
سؤال لأن أجد فكرة تجعلنا نتفادى
مخاوف أّ ّي وهي تطرح أماّي هذا ال ّ
وقوع الأسوأ.
مع حلول نهاية الأسبوع تملأ أّ ّي قفّة كبيرة بما لذ ّ وطاب من الأطعمة
التي تدأب على طهيها وإنضاجها إلى ما بعد منتصف النّهار ،بعدما تنهي
أشغالها المنزلية التي تتراكم فوق تعبها ال ممِض في الحقل طوال اليوم،
كنت قد اقترحت عليها أن أبيع بعض المأكولات الخفيفة التي تصنعها
بيديها في منتزه الصّ فا ،الذي يقصده الزّوّار من القرى المجاورة ومن
مدينة الخليل.
كانت نسائم باردة تغمر المنتزه الذي يعجّ بالن ّاس في يوم ربيعي قارص،
طتني بمعطف صوفي تعتليه قلنسوة ويتدلّى طرفاه
استبقت أّ ّي ذلك وغ ّ
شتاء
إلى ركبتيّ ،وقبل أن أخرج ألقت بجزمتي التي خب ّأتها مع نهاية ال ّ
أمام قدّيّ عند ردهة البيت ،يبدو أن ّني لازلت بحاجة لها حتى مع
انتصاف فصل الر ّبيع ،انتعلتها وخرجت وأنا أخنق بيديّ م ِقبضي القفّة
الث ّقيلة والممتلئة ،فكنت أحملها أماّي بصعوبة ،وأضعها على الأرض
كل ّما شعرت بألم يقطّع أصابعي التي ترتسم عليها خطوط حمراء ،أنفخ في
قبضة َّ
يديّ وأدعكهما بعضهما ببعض حت ّى يزول الألم ،ثم أستأنف
طر يق الت ّرابية.
مسيري إلى الموقف في نهاية ال ّ
ما إن بلغت بو ّابة المنتزه ،حت ّى لمحت من خلالها زميلي يوسف برفقة
والديه وإخوته يتجو ّلون بالد ّاخل ،في البداية شعرت بالإحراج فارتبكت
وتردّدت لبعض الوقت ،لم يسبق لي أن وجدت نفسي في هذا الموقف
24
المعقّد والمغاير لطبيعة معيشتي من قبل ،بدوت كمن أرغمته الفاقة لحمل
جزء من قوت عائلته وعرضه على المرف ّهين ،الذين فاضت أوقاتهم
وزادت أموالهم عن حاجتهم ،حت ّى خرجوا يقضونها وينفقونها في المنتزه
مرة منذ أن فقدت أبي،بصحبة أبنائهم ،أحسست بمعنى اليتم لأوّل ّ
وأنا أشاهد الآباء والأمّهات يدلّلون صغارهم و يعطفون عليهم ،ولا
سفينة العملاقة أو الصّ عود إلى
يردّون لهم طلبا في ركوب أرجوحة ال ّ
لعبة السّلاسل التي تدور بهم حول محور ثابت ،ترقرقت دمعة من عيني
خط ساخن يشقّه ،تذك ّرت أّ ّي
وسالت على خدّي البارد ،شعرت ب ّ
وأختي وحاجتنا لمصدر رزق حت ّى نعيش منه ،وأن ّني رجل البيت بعد
أبي كما تقول لي أّ ّي دوما ،وجدتني قد اجتزت بوابة المنتزه دون أن
أشعر ،وضعت القفّة بين رجليّ ،مسحت دموعي وطف ِقت أنادي:
-كب ّة ،فلافل طيبة ،منقوشة لذيذة ...يا الل ّه قر ّبوا ...تفضّ لوا...
وما إن جلست على حاف ّة رصيف بالقرب من ممشى يرتاده المتنز ّهون
بكثرة ،تح ّفه أشجار الصّ نوبر التي تملأ المكان ،وباعدت بين مقبضي الق ّفة
وأزحت قطعة قماش كانت أّ ّي قد غطّت بها الأطعمة التي يسيل
لرؤيتها الل ّعاب ،وتستثير رائحتها الش ّهية ك َّ ّ
ل من يشتمّها وتحفز ّه على
ل حدب وصوب ،بمجر ّد أن وقعت
التهامها ،حت ّى انهال عليّ الن ّاس من ك ّ
أعينهم على أطايب قلّما يرونها في ذلك المكان ،فوقفوا يحاصرونني من
ل جانب و يطلبون من ّي أن أناولهم ما يشتهون هم وأبناؤهم ،ولم تمر ّ
ك ّ
سوى بضعة دقائق حت ّى كنت قد خرجت من المنتزه قافلا إلى البيت
25
وأنا أهز ّ القفّة فارغة في يدي ،وقبل أن أتجاوز البو ّابة نحو الخارج سمعت
أحدهم ينادي من خلفي:
-هااااي ...يا فتى ...انتظر.
تلفت كي أنظر إن كان الن ّداء يعنيني ،فوجدت صاحبه يلو ّح لي بيده
ّ
ويهرول باتّ جاهي ،توق ّفت بعد أن استدرت نحوه وأنا أفك ّر في سبب
إيقافه لي؛ هل نسي عندي الباقي من نقوده التي قدّمها لي حينما اشترى
من ّي؟ أم تراني أنا الذي نسيت أن أطالبه بثمن ما أكله؟ وجدته قد وقف
أماّي وهو يبادرني بسؤاله منهيا تخميناتي:
-هل تستطيع والدتك أن تصنع حلو ي ّات لذيذة ،كتلك الأطعمة التي
تذوّقت منها قطعة قبل قليل؟
-بالت ّأكيد ...ل كن لماذا؟
-هل بوسعك أن تحضر لي قفّة من الحلو ي ّات ،مثل هذه ،يوما بيوم
إلى كشكي هناك؟
يوضح لي حجم طلبي ّته
نقل الر ّجل إشارته بيده من القفّة حينما أراد أن ّ
إلى كشك تتناثر بالقرب منه بضع طاولات تحيط بها كراسيها ،بدا لي
كمقهى صغير ،قلت له على الفور والبهجة تغمرني:
ل تأكيد يا سي ّدي.
-بك ّ
ن قدماي لا تحملاني ،وكأن ّني أحل ّق فوق
غادرت المكان وأنا اشعر بأ ّ
الأرض من فرط سروري بالصّ فقة التي عقدتها مع صاحب ال كشك.
26
()4
مِ حن تصنع من الأطفال رجالا
لم أكن أحصل بعدما تفرغ الق ّفة سوى على بضع أوراق نقدي ّة ،فوق
ما تنفقه أّ ّي على صنع تلك المأكولات الخفيفة والحلو ي ّات الل ّذيذة إلى
جانب تعبها المضني ،الذي لا يكافئه ما أجنيه مهما كان وفيرا ،حت ّى
شمس.
وأنا أعود إليها مهدود الحيل مع اقتراب مغيب ال ّ
في أحد الأي ّام وحال عودتي إلى البيت وجدت خالي حسين بالد ّاخل،
كان قد ركن سيارته غير بعيد عن إسطبل الأبقار ،خم ّنت بأن ّه عندنا
قبل أن أراه جالسا في المطبخ مع أّ ّي يتجاذبان أطراف الحديث ،عندما
دخلت المنزل كان كلامهما يسمع من الر ّدهة حت ّى قبل أن أفتح الباب،
فجأة صمتا حينما لمحاني وأنا أجتاز عتبة المطبخ ،كما لو أ ّنهما لم يرغبا في
أن أسمع ما يقولانه ،سل ّمت على خالي وقبّلت يد أّ ّي ،وضعت الق ّفة
حب بي في
على المنضدة وخرجت سر يعا ،بعدما شعرت أن ّه غير مر ّ
حوار الكبار ،أو هكذا بدا لي ،وجدت أن ّه من الل ّباقة أن أتركهما يتكل ّمان
على راحتهما .لم يطل المقام بخالي عندنا ،سمعته يودّع أّ ّي مغادرا بينما
كنت مستلقيا على سريري في الغرفة لأرتاح من تعب بيع المأكولات
سائر يوّي.
لمحت تردّدا في عيني أّ ّي وهي تقف أماّي ،وفي شفتيها كلام حين
دخلت الغرفة وقطعت عليّ خلوتي دون أن أشعر بخفق رجليها ،قلت
لها وأنا أشج ّعها على الكلام:
27
-كيف هي أحوال خالي حسين؟
-بخير ،جاء ليقترح عليّ أمرا بعدما طلب منه أخوالك ذلك ،لقد فاتح
حبوا بالفكرة.
فيه أعمامك أيضا ور ّ
-وما هو هذا الأمر يا أّ ّي؟
أجابت أّ ّي بتردّد وهي تنتقي كلماتها التي كان يحاصرها ر يقها فتبتلعه
بمشقّة:
-لقد ...أأأ ...إ ّنهم ...يريدون من ّا أن نسكن في الخليل بالقرب منهم...
تعرِف ...نحن هنا غرباء نعيش لوحدنا ...ماذا لو حدث لأحدنا
مكروه؟ أو...
بدت أّ ّي وهي تنقل إليّ كلام خالي وكأ ّنها غير مقتنعة به ،أو أ ّنها
تعلم مسبقا ردّة فعلي إزاءه ،فظهر الارتباك في حديثها معي ،قلت لها
قاطعا تلعثمها ،فصمتت مصغية لكلاّي بانتباه شديد:
-ونترك أرض أبي! وكيف سيكون عليه الحال إذا استولى عليها الص ّهاينة
في غيابنا؟
-لن نغادرها حتى نبيعها لفلسطيني ّين مثلنا يا ولدي ،وهكذا سنضمن
أ ّنها ستكون في أيد آمنة.
-لن يحدث هذا يا أّ ّي طالما حييت ،لن أتنازل عن أرض أبي
ل يوم فور عودتي من الث ّانو ية ولن
وأجدادي ،بإمكاني أن أشتغل ك ّ
أترك الد ّراسة مهما حصل.
سندوتشات ...بضع أوراق نقدية لن تكفينا
-وماذا ستجنيه من بيع ال ّ
ليومين حت ّى.
28
-سنتدبر أمورنا ريثما يفرجها الل ّه علينا.
-اسمع يا ولد ،لقد قر ّر الكبار وحسموا في الأمر ،سنبيع المزرعة ونشتري
بيتا في الخليل.
نهرتني أّ ّي بحزم محاولة حسم الموقف وإنهاء جدالي لها بلهجة حادّة
وصوت مرتفع ،خرجت عند ذاك من البيت وأنا أصيح مردّدا في
غيض مرير:
-أقسم أن ّه لو حدث ذلك فسألقي بنفسي في البئر وأموت كما مات
أبي.
حقت بي أّ ّي ،وحينما أشرفت على حاف ّته تظاهرت
ركضت نحو البئر فل ِ
جتني وهي تستغيث:
أمامها بأن ّني سأرّي بنفسي إلى قاع ِه ،تر ّ
-لا ...أرجوك سمير لا تفعل ،كن عاقلا بن ّي ...لا تتركني وحيدة...
ليس لي أحد غيرك في هذا العالم الموحش.
بدأت أّ ّي تبكي ،انهمرت دموعها على خ ّديها ،جثت على ركبتيها
وغرست وجهها بين يديها ،أشفقت عليها عندها ،غير أن ّني خفت أن
تنصاع مجدّدا لرأي أخوالي وتوافق على بيع الأرض ،فقلت لها مشترطا:
-سوف لن ألقي بنفسي في البئر ،ل كن بشرط ...أن لا تعيدي مفاتحتي
في هذا الموضوع ثانية.
-حسنا يا ولدي ...لن يكون إلّا ما تريده ،فقط عد إليّ ولا تفجعني
فيك ،يكفيني ما أنا فيه بعد فقد أبيك.
29
تراجعت إلى الخلف ،ومشيت ناحية أّ ّي ،أمسكت بيديها وساعدتها
كي تنهض وقب ّلت يمناها ،ثم جثوت عند قدمها ألثمه وقلت لها متوسّ لا
والد ّموع تنثال على خديّ :
ك يا أّ ّي لا تدعيهم يبيعون الأرض التي مات أبي من أجلها.
-أرجو ِ
***
كنت لاأزال أتدث ّر بكساء فوق فراشي حينما نهضت أّي باكرا،
سمعت باب البيت وهو يفتح ،ثم ّ أغلق ،خرجت خلفها ،كان الل ّيل لا
يزال جاثما فوق مساكن الخربة ومزارعها حينما وقفت عند الباب في
التفت عن يميني حيث يوجد إسطبل الأبقار ،لمحت الضّ وء
ّ الخارج،
الصّ ادر من نافذته يخرق غِشاوة الل ّيل المتأه ّب للر ّحيل في الجوار،
اقتربت من الإسطبل فإذا بي أسمع صوت وقع الحليب داخل السّطل،
ن أّ ّي تحلب بقرة ،لم أشأ أن أربكها فوقفت مختبئا عند
فأدركت أ ّ
الباب ولم أدخل ،ظللت أرقبها خلسة عنها حت ّى أنهت حلب البقرتين
وأطعمتهما ،وأرضعت عجلاها ،وحين أيقنت أ ّنها ستخرج من الإسطبل
عدت إلى المنزل وأنا أمشي مسرعا على أطراف أصابعي ،كي أسبقها
إلى الد ّاخل دون أن تسمع وقع قدّيّ ،تسر ّبت داخل فراشي كثعبان،
سمعتها حين وصلت إلى المطبخ ،راحت تعبث بالأواني داخله ،تسحب
أشياء وتدفع أخرى ،تصطكّ الفناجين والملاعق من بين يديها فتحدِث
جلبة خافتة من خلف باب المطبخ ،كانت قد أغلقته حت ّى لا تزعج
نومنا ،عرفت أنّها تحض ّر فطور الصّ باح ،كان ضوء الفجر قد بدأ يتسرّب
من نافذة الغرفة ،فجأة سمعت صوت تكس ّر إناء زجاجي ،قمت من
31
فراشي مسرعا إلى المطبخ كي أستجلي الأمر ،وجدت أّ ّي مقرف ِصة أمام
صدغيها بالأخرى،
منضدة المطبخ ،تمسك بيد حاف ّتها الإسمنتية وتش ّد ِ
شعرت بالخوف عليها من أن يكون قد أصابها مكروه ،اقتربت منها،
جلست بجانبها ووضعت يدي على ظهرها وسألتها بإشفاق:
-أّ ّي ما بك؟
-لا شيء بنيّ ...أشعر ببعض الت ّعب ،صداع خفيف فقط.
-يجب أن نذهب إلى الطّبيب فورا.
-لا داعي لذلك.
قلت لها وقد خطر ببالي أن أوقظ أختي سلمي لتبقى إلى جانبها ،وأذهب
عند عم ّي أبو مروان والد صديقي ،كي ننقلها إلى المستشفى خشية من
أن تحدث لها مضاعفات:
-سأعود حالا.
بعد عودتي برفقة عم ّي أبو مروان الذي تجش ّم عناء النّهوض من فراشه
واتّ جه نحو گاراج سيارته وأدار محركها ،وجدت أّ ّي على حالها ،سألت
سلمى إن كانت على ما يرام ،فأخبرتني بأنّها شعرت بالغثيان وقاءت في
حوض المطبخ ،طلبت منها أن تساعدها في إحضار ملابسها من الخزانة،
ن عم ّي
حت ّى تهي ّئ نفسها وتستع ّد لنذهب إلى المستشفى ،أخبرت أّ ّي أ ّ
أبو مروان ينتظرنا بسيارته في الخارج كي يقلّنا إلى مستشفى عالية بمدينة
الخليل.
تركنا أّ ّي تدخل لوحدها وجلسنا ننتظرها في غرفة فسيحة ،يستلقي على
كراسيها الملتصقة بالجدران رجال وأطفال ،فجأة خرجت وأطل ّت
31
ل من ال ّنافذة،
بداخل غرفة الانتظار لمحتني حين كنت شاردا أط ّ
نادتني ،وحين أقبلت عليها قالت لي:
-عليّ مراجعة طبيبة قسم الن ّسائي ّة والت ّوليد ،هكذا أشار عليّ طبيب
مصلحة الاستعجالات.
خرجنا من الاستعجالات سر يعا واتّ جهنا إلى قسم الن ّسائية والت ّوليد،
انتظرت أّ ّي طو يلا حت ّى حان دورها للمعاينة عند الطبيبة ،لم تمكث
عندها مطو ّلا حتى خرجت من باب القسم بوجه جمعت ملامِ حه بين
الاستغراب والفرح ،تركت عم ّي أبو مروان واقتربت منها محاولا معرفة
ما يحصل معها ،بعدما أصبح الأمر يتطل ّب فحوصات تتعل ّق بمسائل
الولادة ،همست أّ ّي في أذني مب ّددة حيرتي:
طبيبة أن ّني حامل.
-تقول ال ّ
ن ملامح أّ ّي وهي تخرج من
خف ابتهاجي ودهشتي ،ف ِعلا يبدو أ ّ
لم أ ِ
طبيبة كانت على حقّ فيما اعتراها من تغي ّر ،اغرورقت عينا أّ ّي
عند ال ّ
بالد ّموع ،لاحظتها تتساقط كحب ّات الل ّؤلؤ من أهدابها المثقلة بها ،قلت لها
مستعجبا:
-ما الذي دهاك يا أمي ،هذا خبرمفرح فلم البكاء إذن؟!
تكتمه العبرات ،محاولة بمشقة إزاحته من حنجرتها ُ قالت بصوت
املختنقة بابتسامة مشرقة:
ُ
-تذكرت أباك هللا يرحمه ...تمنيت لو أنه كان معنا في هذه اللحظات
السعيدة.
32
في حياته كان أبي يحمل أعباء كبيرة وكثيرة ،أدركت أّ ّي بعد وفاته
حجمها ،صار من غير الممكن أن تقوم بما كان ينجزه من أعمال شاق ّة لا
يقدر على فعلها سوى الر ّجال.
طبيبة لها بضرورة أخذ قسط وافر من الر ّاحة
أخذت أّ ّي بنصائح ال ّ
وتجن ّب الت ّعب والإرهاق ،فأصبحت تكتفي بأشغال المنزل التي كانت
ي
ت نجزها بصعوبة ،لم يعد الوقت يكفيها للعناية بالبستان أيضا ،ومع مض ّ
الوقت أهملنا بستان الل ّوز والز ّيتون الذي كان أبي يحرص على سقيه،
وتشذيب أغصان أشجاره والتخل ّص من الأعشاب الضّ ارة التي كانت
تتكاثر حول جذوعها فتحاصرها حت ّى تخنقها.
ازدادت الأمور سوءا منذ أن أصبحت أّ ّي طر يحة الفراش وقليلة
طبيبة حفاظا على
الحركة ،أصررنا عليها أنا وسلمى أن تلتزم بإرشادات ال ّ
ل ما نمتل كه
جنينها ،كنّا قبل مرضها في حاجة ماسّ ة إلى المال فبعنا ك ّ
من نعاج ،لم يتبقّ معنا منذ ذلك الوقت سوى مبلغ قليل بعدما أنفقنا
شيت أن ّه بعد نفاد ما بحوزتنا ألّا نجد ما نصرف به على
على علاجها ،خ ِ
معيشتنا ،كان الوقت لايزال بين يديّ حت ّى أفعل شيئا كي لا نخسر
موسم جني الل ّوز والز ّيتون أيضا.
***
في أحد أي ّام الر ّبيع وبينما كنت نائما ،سمعت في الصّ باح الباكر طرقا
على الباب وصوت عم ّي أبو مروان يناديني:
-سمير ..سمير..
33
نهضت من فراشي ولبست ثيابي وفتحت الباب ،وجدت مروان بجوار
أبيه يحملان ع ّدة تقليم أغصان الأشجار وتشذيبها ،أدخل عم ّي أبو مروان
يده تحت طاقيته ،حكّ جلدة رأسه الحليق ،تنحنح ثم قال لي:
-اليوم سيتعاون أهل الخ ِربة من أجل تقليم أغصان أشجار بساتينهم،
عليك أن تستع ّد ،اسبقنا إلى حقل كم سنمر ّ عليك بعدما ننتهي من أشجار
بستاني ،هذه عملية مهمّة حت ّى يكون الإنتاج وفيرا في الخر يف القادم،
لقد مررت على بستانكم قبل قليل ولاحظت أن ّه بحاجة لذلك أكثر من
بقي ّة البساتين ،فروع الأشجار وأغصانها يابسة وجاف ّة ومتزاحمة ومتشابكة.
-حسنا عم ّي أبو مروان ،ستجدونني أمامكم ،أشكرك على معروفك.
-لا شكر على واجب يا ولدي ،سيرافقك مروان ،بإمكانكما أن تمضيا
وقتا ممتعا ريثما نصل عندكم.
لن أنسى ما حي ِيت جميل عم ّي أبو مروان وصنيعه معنا ،ما إن انقطع
هطل المطر مع نهاية الر ّبيع حتى بدأ في ملء حوض مياهنا دون أن
ل ذلك ،قال لي بدعابة أن ّه سيقبض ثمنه من ّي حال بيعنا
يطالبنا بمقاب ِ
للمحصول في الخر يف ،أخبرني أن ّه خشي أن يفوتنا سقي الأشجار في
ن ذلك سيؤث ّر سلبا على كمي ّة المحصول وجودته ،شعرت
موسم الحر ّ ،وأ ّ
بأن ّني صرت رجلا وأن ّني صاحب البستان بكلامه معي على هذا الن ّحو،
كان شعورا مختلطا بإحساس بثقل المسؤولية التي عليّ تحم ّلها ،وعدم
الت ّفر يط في الاهتمام بشؤون المزرعة أثناء مرض أّ ّي.
في نهاية الأسبوع التي تلت ذلك ،وقبل أذان الفجر الث ّاني بدقائق،
أغط في نوم عميق سمعت جلبة بالخارج ،كانت أصواتا لم
ّ بينما كنت
34
خربة الصّ فا ،أعادتني إلى أي ّام كن ّا نسكن
أعهدها منذ انتقلنا للعيش في ِ
في حيّ رأس الجوزة بمدينة الخليل ،كنت أسمعها من نافذة غرفتي حين
تمر ّ مع الصّ باح الباكر شاحنة القمامة ،يتشب ّث بمؤخرتها مجموعة من
شباب يتجاذبون أطراف الحديث ،بينما يحملون أكياس القمامة
العمّال ال ّ
من أمام البيوت ،و يقلبون حاو ي ّاتها الموضوعة بأماكنها المخصّ صة في
شاحنة الذي يلتهمها آليا وبشراهة عجيبة.
صندوق ال ّ
سس الأصوات ،تفاجأت
انسحبت من فراشي واتّ جهت نحو الباب أتح ّ
حينما عرفت بعضها قبل أن أخرج حت ّى ،إ ّنهم زملائي يوسف ورؤوف
وأمجد وبشير وجمال ورضوان ،فتحت الباب وقلت في دهشة لا تخلو
من الاستغراب:
-ماذا تفعلون هنا؟
حب بضيوفك؟
-أهكذا تر ّ
أجابني مروان بينما كان يخفي ضحكة خلف شفاهه التي انفلتت أزِ َّمّتها،
ط ر يقة ذاتها التي يلقي بها خطبه علينا:
فانفجر مواصلا دعابته بال ّ
-لقد جاء القوم ليتضامنوا معك ،ويساعدوك في نكش البستان وتقليم
الأشجار.
ن مروان أخبرهم بوضعي فات ّفقوا معه على مساعدتي في العناية
فهمت أ ّ
بالبستان ،لاحظت أ ّنهم جاؤوا مدجّ جين بمجرفات ورفوش ومعاول ،وقد
استع ّدوا جي ّدا للعمل ،بدا ذلك جلي ّا من ثيابهم التي كانوا يختبئون
بداخلها كفل ّاحين حقيقي ّين ،في هذه الأثناء وقفت أّ ّي عند الباب
مستندة على أحد مصراعيه لا تخفي دهشتها من رفاقي ،سرعان ما أتبعتها
35
التفت إليها وق ّدمتهم لها بكلتا يديّ ،و ب ِتفكّه جعل أصحابي
ّ بابتسامة حينما
يتلو ّون من الضّ حك ويمسكون ببطونهم:
-كما ترين يا أّ ّي ...قطيع من الأصدقاء.
-لا يا ولدي لا تقل ذلك عنهم ...إنّهم أسود ...ما شاء الل ّه عليهم.
ابتهجت كثيرا لمقدم أصدقائي الذي بدّد مخاوفي من تفر يطي في نكش
البستان ،وتشذيب أشجاره وتنظيفه من العيدان والأغصان المرمي ّة
بداخله ،انتشرنا في الحقل كما الجراد وانقسمنا إلى فرقتين ،فرقة تك ّفلت
بإزالة الحشائش كان يقودها رؤوف ،وأخرى كان أفرادها يحملون
قاطعات بأيديهم ،أخذوا على عاتقهم تقليم أغصان الأشجار المتبقي ّة
وتنظيف البستان ،يتق ّدمهم مروان الذي يمتلك خبرة في ذلك ،في
طعام على الر ّغم من كونها لم تشف تماما
الأثناء راحت أّ ّي تع ّد لنا ال ّ
ن رؤيتها لأصدقائي وهم يتكاتفون معي في محنتنا جعلتها
من تعبها ،غير أ ّ
تشعر بخ ّفة عجيبة أنستها محنتها ،هذا ما أسر ّت لي به فيما بعد.
36
()5
الأزمة تل ِد الهمّة
تعافت أّ ّي كلي ّة من مرضها الذي تسب ّب فيه إرهاق ِها المتزامن مع حملها،
ن
ن شرودها قد زاد ،فهمت أ ّ
سن حالتها الصّ حية لاحظت أ ّ
ومع تح ّ
ذلك بسبب قل ّة المال في يدها ،فقد أنفقنا جزءا منه على علاجها وعلى
مصار يف البيت ،لم يعد بإمكانها تحضير المأكولات الخفيفة والحلو يات
طبيبة لها بلزوم الرّاحة
ن ذلك يتعارض مع نصائح ال ّ
من جديد ،حيث أ ّ
وتجن ّب الإرهاق ،ولا يكاد يتب ّقى لدينا سوى بعض الأوراق الن ّقدية
صدها حاجاتنا في الأيام القادمة كضباع مفترسة حت ّى تقضي
التي تتر ّ
على آخر فلس فيها ،وحينها سوف لن نجد ما نجابه به ظروفا صعبة
ستنتظرنا حتما ،وهي تنشب مخالبها في وجوهنا الفزِعة.
قر ّرت أّ ّي أن تبيع مصوغاتها الذ ّهبية ،أرادت أن تضع بذلك ح ّدا
لتفكيرها العميق ،الذي التهم ملامحها المبتهجة بعد أن تحو ّلت إلى أشباح
تطوف في أرجاء البيت ،قالت ذلك بنبرة متحمّسة أزالت عنها
ل للخروج من أزمتنا:
صلت له كح ّ
هواجسها السّامّة ،وكشفت لي عم ّا تو ّ
-سنشتري بثمن القطع الذهبي ّة آلة لحياكة الملابس الصّ وفي ّة.
أخبرتني أّ ّي أن ّه لن يكون بوسعها تحم ّل مجهود صنع المأكولات الخفيفة
ل ما حدث لها ،سوف يكون بمقدورها
والحلو ي ّات مجدّدا بعد ك ّ
ض قطعة حديدية تتزحلق فوقها
الجلوس خلف آلة الحياكة وتحر يك مقب ِ
جيئة وذهابا ،بعد أن تلق ِمها خيوطا صوفي ّة ،وستنجز الآلة الباقي
37
لوحدها ،لن تمر ّ سوى بضعة أي ّام كي يصبح بين يديها ،قميص صوفيّ أو
ثوب لطفل ،أو ق ّفازات دافئة.
ل في وسط
مع نهاية الش ّهر أحمل ما تصنعه أّ ّي من ألبسة صوفي ّة إلى مح ّ
مدينة الخليل ،صاحبه أبو منصور من معارف أبي ،يمسكها من بين
َّ
يديّ دون تردّد ،يبدو أن ّه سمع من أحد أعماّي بأزمتنا بعد وفاة أبي،
يحمل الت ّاجر الملابس و يضعها على الر ّفوف بحسب صنفها ،ثم ّ يدخل
رج م ِصرف خشبيّ ويسحب منه مجموعة من الأوراق الن ّقدية يده في د ِ
ل غير بعيد يناولني إ ي ّاها ،أضع نصفها في جيبي ،وبما تب ّقى أدخل إلى مح ّ
أدوات الخياطة ،فأشتري بالن ّقود
ِ عن المكان ،يعرض صاحبه للبيع
كرات من الخيوط الصّ وفية لتبدأ بها أّ ّي رحلتها الش ّهر ية في حياكة
أثواب جديدة ،وبهذا تكتمل دورة صناعة الملابس التي امتهنت أّ ّي
حرفتها مرغمة.
ِ
ل عم ّي أبو منصور تكفي
لا تكاد الن ّقود التي أضعها في جيبي في مح ّ
لشراء مؤونة شهر واحد من حاجياتنا المنزلية ،بالإضافة إلى نفقاتنا على
الد ّراسة ،كنت ألاحظ ذلك في كلام أّ ّي التي تتحس ّر كثيرا على كونها
تبذل جهدا مضاعفا لصنع أكبر عدد من قطع الملابس الصّ وفية ،غير
ن ذلك لا يكفي لس ّد احتياجاتنا ،كما أن ّه لايزال يفصلنا عن الخر يف
أ ّ
الذي ننتظره بفارغ الصّ بر حت ّى نقطف الز ّيتون والل ّوز ونبيع محصولهما
فصل كامل ..ثلاثة أشهر بتمامها ،يا لها من مدّة طو يلة.
كانت عطلة الصّ يف على الأبواب ،أنهينا الامتحانات وحصلت أنا
ل مراتب متق ّدمة في
وأختي سلمى على مع ّدلات جي ّدة أه ّلتنا لنحت ّ
38
ص ّفينا ،أسعد ذلك أّ ّي كثيرا ،كان بطنها قد بدأ يبرز ويتكو ّر أكثر
وحركتها تثقل بصورة متزايدة يوما بعد يوم ،في أحد الأيام ات ّفقت مع
سلمى على أن نخ ّفف عنها تعبها في حياكة الملبوسات وفي أشغال المنزل،
قالت لي سلمى:
-سوف أشتغل على الآلة من اليوم فصاعدا لن تضطر ّ أّي لإرهاق
نفسها ،لقد تعل ّمت كيف أديرها من مراقبتي لها بينما تعمل عليها ،وحت ّى
جهني دون أن تتعب نفسها.
إن احتجت إلى مساعدة فيكفي أن تو ّ
فرحت كثيرا لما سمعته من أخبار سارّة من سلمى ،بدا لي رغم أ ّنها لم
تتع َّ ّد الث ّالثة عشرة من عمرها ،أن ّه أصبح بمقدورها مشاركتنا بما تستطيع
القيام به ،قلت لها متفائلا:
قريبا سوف نجتاز هذه المصاعب بإذن الل ّه ،أصدقائي يساعدونني في
سقي البستان ،وهو في حال جي ّدة ،قال لي عم ّي أبو مروان بعد أن
ن المحصول سيكون وفيرا بإذن الل ّه حينما
رأى ثمار الل ّوز والز ّيتون ،أ ّ
ينضج و يصبح جاهزا للق ِطاف.
ن عينيّ تتلألآن ،على الوجه ِ الذي كنت
التفت إلى سلمى وأنا أشعر بأ ّ
ّ
أرى به عيني أبي ،وهما تشع ّان حماسة وتتوق ّدان عزيمة ،قلت لها:
-سوف أشتري الحلو يات الجاهزة والمكس ّرات من الخليل ،وأبيعها في
المنتزه خلال فصل الصّ يف ،و بهذا سأشغل وقتي وأعين أّ ّي على تأمين
مصروف للبيت.
-هذا جي ّد يا أخي ،سوف نحافظ على أسرتنا قو ي ّة ومتكاتفة ،مهما تكن
قسوة المحن.
39
***
على شجرة الأحلام كتبت حلمي الرّابع ،هذه المر ّة سبقت مروان ودوّنته
قبله" :سأكتب أولى رواياتي في العام القادم" ،ثم ّ ناولت مروان
المسمار ،فكتب" :في العام القادم سأتحصّ ل على أعلى مجموع في الث ّانو ي ّة
التفت إليه وقلت له مبتسما:
ّ العامّة"،
-ألا ترى أن ّنا نبالغ بعض الش ّيء فيما نكتبه؟ إ ّنها عبارات تبدو
كالحقائق وليست مجر ّد أحلام.
-بالضّ بط هذا ما أفك ّر فيه ،نحن لا نحلم ،نحن متي ّقنين من طموحاتنا
ونؤمن بأ ّنها ستحقق يوما ما بإذن الل ّه ،من اليوم سنسمّي شجرتنا هذه
شجرة الحقائ ِ
ق.
-هذا ما ينبغي أن يكون.
قبل أن نغادر المكان اقترح عليّ مروان أن يشاركني في مشروعي الذي
ن عليه هو أيضا أن يمر ّ بتجربتي ليتعل ّم
أخبرته عنه لمساعدة أّ ّي ،قال لي أ ّ
منها ما تعل ّمتهكي يعتمد على نفسه ،حت ّى وإن لم يكن بحاجة للمال ،حيث
ن عم ّي أبو مروان يكفيه عناء ذلك ،أكّد لي كلامه:
أ ّ
-في العام القادم سأكمل ثمانية عشرة سنة ،عليّ أن أجرّب كيف
يكسب الن ّاس معاشهم ،سوف أكفي والدي ِحمل توفير مصار يف
دخولي المدرسي القادم من ملابس ولوازم.
بعد أن ات ّفقت مع مروان على العمل معا ،صرنا نقتني بضاعتنا من
الخليل ونعيد بيعها في منتزهي الصّ فا صباحا وال كرمل مساء ،ننهض
41
باكرا لنتوجّه إلى سوق خان شاهين ،نشتري ما يلزمنا من حلو يات
بأنواعها ومكس ّرات على اختلافها.
في إحدى المر ّات استوقف حاجز أمنيّ الحافلة التي كانت تقل ّنا ،قبل
أن نخرج من الخليل ،صعد جنديان مسل ّحان إلى الحافلة ِ و بدآ في تفتيش
رف فوق رؤوسنا ،ويرميانها
الرّكاب ،كانا يقل ّبان الأمتعة الموضوعة على ّ
في الر ِ ّواق الفاصل بين ال كراسي ،يتفحّ صان ِنا وكأ ّنهما يبحثان عن أشخاص
بيننا ،طلب من ّي أحدهما بعدما تفر ّس جي ّدا في ملامحي أن أقف ،فت ّشني
ثم ّ أمرني بالن ّزول ،بدأ الأطفال والفتيان في مثل سن ّي يهبطون من
الحافلة تباعا ،رأيت مروان ينزل هو الآخر ،كن ّا تسعة ،جميعنا ما بين
رت الد ّهشة والحيرة في
الخامسة عشر والثامنة عشر من العمر ،س ِ
وجوهنا ،بدأ بعضنا في الوشوشة في ما بينهم متسائلين عن سبب إنزالنا
من الحافلة.
تق ّدم أحد العساكر برتبة ضابط نحونا ،كان يحمل بيده وثائق قدّمها له
ل أمتعتنا من صندوق الحافلة ،وما
سائق الحافلة ،أمر أحد الجنود بإنزا ِ
إن فتحه حت ّى بدأ يرّي بأيّ شيء كانت تصادفه يداه ،دون اعتبار لما
قد تحتو يه الأمتعة من أشياء من الممكن أنّها تتكس ّر أو تتعر ّض للتّلف،
ل واحد من ّا أمتعته و يضعها أمامه و يفتح
طلب من الجميع أن يتناول ك ّ
الحقائب والأكياس ،اقترب من ّي جنديان وشرعا في إفراغ جميع محتو يات
كيسين مملوئين بالبضاعة التي اشتريتها أنا ومروان من السّوق ،أمسكني
خناق ِي وصاح في وجهي:
أحدهما من ِ
-أين تأخذ هذه البضاعة؟
41
-أريد أن أبيعها في منتزه الصّ فا.
قلت له ذلك بعدما انتشلت يديه من ياقتي جاكيتي اللتين كانتا متشبثتان
بهما ،ثم ّ أردف سائلا:
-هل لديك تصريح بذلك؟
-لا ...لا أملك تصر يحا.
أمرني الضّ ابط بالصّ عود إلى الحافلة ،وعندما طلبت منه أن يسمح لي
طر يق ،وأعيدها داخل
بجمع بضاعتي التي ألقاها الجنديان على حاف ّة ال ّ
ال كيسين رفض ودفعني حت ّى سقطت على الأرض ،وبدأ يدوس
ظلم ،ركبت الحافلة
برجليه الحلو ي ّات والمكس ّرات ،شعرت بالإهانة وال ّ
وغصّ ة خانقة تس ّد حلقي ،اجتاح كياني قهر كئيب واعترى جوانحي
إحساس بالغربة رغم أن ّني أعيش في بلدي ،تذوّقت لحظتها طعم
الاحتلال البشع وشاهدت بأمّ عيني قسوته.
تبعني بقي ّة الأطفال والفتيان يملؤهم تذمّر وسخط عارم مم ّا لاقوه من
الجنود الإسرائيليين ،عاد مروان ليجلس إلى جانبي ،وجدني محتق ِن
الأنفاس ،ما إن وضع يده على كتفي حت ّى انفجرت باكيا ،ط َّو ّق رقبتي
م رأسي إلى صدره مواسيا:
بذراعه وض ّ
ل ما ضاع من ّا.
ضنا الل ّه عن ك ّ ِ
-لا تجزع يا صديقي ..سيعو ّ
حاول مروان أن يخ ّف ِف عنيّ ،رفع رأسي ونظر في عينيّ ،قال لي:
-عل ّمتني أ ِّ ّي أن أقول إذا ظلمني أحد :حسبي الل ّه ونعم الوكيل.
***
42
ن
ل وملأ الخربة بحرارته الحارقة ،قال لي مروان أ ّ
كان شهر يوليو قد ح ّ
أحد فتيان الخربة دلّه على شيخ يدعى أبو ياسين يقطن بخربة طيرة
ن بعض الفتيان يقصدونه ليشتروا
المجاورة ،لديه بستان تين شوكيّ ،وأ ّ
ل واحد منهم صندوقا أو صندوقين ويبيعون الفاكهة في
منه ،فيقتني ك ّ
شوكي في منتزه
الجوار ،اقترح عليّ مروان أن نفعل مثلهم ،ونبيع الت ّين ال ّ
الصّ فا ،سألني بعدما لاحظ تردّدا في ملامحي:
-فكرة جيدة أليس كذلك؟
-وماذا سنفعل إذا أوقفنا جنود الاحتلال في حاجز أمنيّ ،وطلبوا من ّا
أن نظهر لهم تصاريح بذلك.
-لا داعي لأن تقلق من هذا الجانب ،لقد كلّم أبي صاحب المنتزه في
الموضوع ووافق ،قال له أن ّه بإمكاننا أن نبيع في مكان مخصّ ص داخله،
وسيصدر لنا تراخيص بوسعنا أن نظهرها في أيّ حاجز يستوق ِفنا.
-إذا كان الأمر كذلك فلا مانع لديّ .
شوكي ،علاقتي به لا تتجاوز حدود
لم تكن لي سابق تجربة في بيع الت ّين ال ّ
التهام حب ّاته الل ّذيذة التي أفضّ لها باردة ،شج ّعني مروان حينما أبديت له
عدم معرفتي بكيفي ّة تقشيره ،أخبرته أن ّني متخو ّف من الارتباك أمام
خبرتي في ذلك ،وسيمتنعون عن
الز ّبائن الذين سيكتشفون سر يعا قل ّة ِ
ن الأمر ج ّد بسيط ،تماما مثل أكل الت ّين
الش ّراء من عندي ،أكّد لي أ ّ
الشّوكيّ.
شيخ أبو ياسين في
في الغد قصدنا مع مجموعة من فتيان الخربة مزرعة ال ّ
ل واحد منهم
الصّ باح الباكر ،وجدنا شبابا يعملون في بستانه يحمل ك ّ
43
قضيبا حديديا ينتهي بما يشبه ال كوب المعدني كان ملتحما به ،حجمه
شوكي في ال كوب وهي
بقدر حب ّة التّين تماما ،يقوم بإدخال حب ّة الت ّين ال ّ
لاتزال متشب ّثة بلوح الصّ بار فتلتصق به ،ثم ّ يدير القضيب ومعه يستدير
شوكي من منبتها في لوح الصّ بار
ال كوب الذي يقطع بحاف ّت ِه حب ّة الت ّين ال ّ
لتستقر ّ بداخله ،ثم ّ يسحب القضيب ويستخرج الثمّرة منه و يعاود العملية
ليجمع كمي ّة كبيرة من الثّمار ،يضعها على الأرض ويمر ّر عليها مكنسة
مصنوعة من أغصان الأشجار ،كي يتخل ّص من ال ّ
شوك العالق بها حت ّى لا
يؤذي من يقوم بتقشيره بعد ذلك.
أمضيت أنا ومروان فصل الصّ يف كاملا في بيع التّين الشّوكي ،تعو ّدت
على تقشيره ،كان يكفي أن أضع الحب ّة في يدي التي ترتدي قفّازا يحميها
من وخز الشّوك ،أحزّ طرفيها دون أن أقطعهما كل ّية ثم أشقّ الحب ّة طولي ّا
وأنزع القشرة ،بدا لي ذلك أشبه بسلخ خروف مذبوح ،ضحك مروان
من تشبيهي هذا كثيرا.
كانت نتيجة بيع التّين الشّوكي طي ّبة ،تمكّنت بما جنيته من نقود من
أن أشتري ملابس الد ّخول المدرسي ومستلزماته؛ لي ولسلمى ،قدّمت
هدي ّة لأّ ّي أيضا ،شعر مروان بالغبطة حينما وضعنا الصّ ناديق التي كنّا
نستخدمها في بيع التّين الشوكي في زاو ية داخل گاراج سيّارتهم ،على
أمل أن نعيد الت ّجربة بحلوها وم ّرها في العام القادم.
عدنا إلى فصولنا وإلى الد ّراسة من جديد ،يحدونا عزم أكيد بأن نثابر
في الت ّحصيل ،وأن نج َّ ّد لنحقّق أحسن الن ّقاط ونحصل على أعلى
44
المعدّلات ،نستمع جي ّدا لنصائح أساتذتنا وننجز فروضنا وواجباتنا،
ونحرص على أن يكون سلوكنا حسنا ومنضبطا.
45
()6
46
ل مكان ولم أجدك؟
س بعد العصر ،بحثت عنك في ك ّ
-أين كنت بالأم ِ
-كنت عند خالي حسين في بيت كاحل ،أرسلتني أّي إلى هناك
لأوصل له بعض الأغراض.
-لقد جاء رجلان إلى منزل كم ،كانا يودّان الحديث معك ،في البداية
ن الأمر يتعل ّق بأحد
لمحت سي ّارة سوداء تنعطف نحو بيتكم ،ظننت أ ّ
سائق بينما كان ينزل
أقاربكم ،شاهدت الر ّجل الذي يركب بجانب ال ّ
و...
-آه نعم ...نعم تذك ّرت ،لقد أخبرتني أختي سلمى بذلك ،قالت له عند
باب المنزل أن ّه لا يوجد أحد بالبيت سوى أّ ّي ،وهي طر يحة الفراش
بسبب الحمل وقرب ولادتها ،غادر دون أن يترك لها أيّ وصايا.
-لقد التقيا بأبي ساعة مغادرتهما لمزرعتكم ،فقد رجعت من فوري إلى
البيت وأبلغته بأمرهما المريب فخرج ليتقص ّى ما وراءهما.
-ألم يقولا له عم ّا يريدانه من ّا؟
-صاحب السّيارة هو ابن من اشترى منه والدك المزرعة ،قال لأبي أن ّه
عاد من بولندا ويريد ...آآآ..
-ماذا يريد؟ تكل ّم يا مروان ...لا تخفي عن ّي شيئا.
-قال أنه جاء خصّ يصا من هناك من أجل استعادة مزرعة والده.
-يستعيد ماذا؟ كيف؟ ول كنّها أصبحت مزرعتنا ...لقد اشترى أبي
سمسار اليهودي بواسطة أحد معارفه الذي يشتغل في
الأرض من ال ّ
كراء وبيع العقارات ،والمزرعة مسج ّلة باسم والدي.
47
ت برهة وقد تمل ّ كني خوف شديد من نوايا الر ّجلين ،قال لي مروان
صم ّ
التفت إليه أن ّه أدرك مدى جزعِ ي:
ّ وهو يتفر ّس ملامحي ،بدا لي حين
-لا تقلق ،سوف لن يحدث شيء مم ّا تفك ّر فيه ،في نهاية الأسبوع
سنذهب عند خالي أحمد المحاّي ،إن ّه يسكن في الخليل ،سنخبره بما
حدث وسيتكفّل بالد ّفاع عنكم في المحكمة.
خفت كثيرا عندما سمعت كلمة "المحكمة" ،شعرت بأنّها تتردّد في
ِ
أذنيّ حت ّى بعد أن صمت مروان ،طلبت منه أن يتر ي ّث لبعض الوقت،
فحالة أّ ّي التي ستضع مولودها في أيّ وقت خلال أق َّ ّ
ل من شهر ،كما
ن
مشاق الت ّردّد على المحاكم ،وحيث أ ّ
ّ أخبرتني ،لا تسمح لها بأن تتحمّل
خصمنا إسرائيليّ فإن ّنا حتما سنتقاضى إلى محكمة يشرف عليها قضاة
إسرائيلي ّون ،من غير المعقول أن يقفوا إلى صفّنا وسيحكمون حتما ض ّدنا،
حرّك مروان رأسه للأعلى وللأسفل مومئا بتفهّمه للوضع ،وقال:
-حسنا ،ل كن إذا احتجتم إلى المساعدة فأرجو أن لا تستحي من أن
تطلب من ّا ذلك ،أبي أمرني بأن أبلغك هذا.
-شكرا لك مروان ،أنت صديق وفيّ.
***
كنت آمل أن تكون تلك الز ّيارة المفاجئة وغير المرغوب فيها من ذلك
مرة في حياته التي تمنيت أن تنتهي إلىالص ّهيونيّ البغيض ،هي آخر ّ
ن الأمور لم تجرِ بما اشتهيت ،ففي أحد
الأبد فأتخل ّص من شر ّه ،غير أ ّ
سير مروان
الأيام وبينما كن ّا قد اقتربنا من منزلينا ،وقبل أن نفترق في ِ
مع أخته صفاء باتّ جاه بيتهم ،وأرافق أختي سلمى إلى دارنا ،إذا بنا نسمع
48
مزمار سي ّارة يدوّي خلفنا كأن ّه صفارات إنذار تنذر بوقوع غارة في
طر يق لها خوفا من أن تصدمنا ،فقد
حين ال ّ
مكان قريب من ّا ،تل ّفتنا مفس ِ
صار محر ّكها يزأر في آذاننا ،ما إن صارت ِبحذونا حت ّى صاح أحدهما
بنا:
-هاااي يا فتيان من منكم ابن سعيد الخليلي؟
سير والتفتنا نحوه ،همس لي مروان قريبا من أذني بصوت
توق ّفنا عن ال ّ
خافت:
-هذان هما الر ّجلان الل ّذان كل ّمتك عنهما.
سماء،
ظارات زرقاء بلون ال ّ
سائق في الجهة الأخرى ،يلبس ن ّ
كان ال ّ
ن من صاح فينا هو من يركب بجانبه ،حيث أن ّه كان يواجهنا
يبدو أ ّ
سيارة عندنا تماما ،بدأ الر ّجل يتفحصّ نا جي ّدا ،عيناه
مباشرة ،توق ّفت ال ّ
سوداء ،وحينما التقتا بوجه سلمى قال
تضطربان من فوق نظّارته ال ّ
متذك ّرا:
مرة.
أنت هي البنت التي كل ّمتها آخر ّ
-آااهِ ،
التفت إليّ أنا ومروان ،كانت عيناه تنتقل جيئة وذهابا بيننا ،ثم ّ سألنا:
-من منكما ابن سعيد؟ أعلم أن سعيد له ابن وحيد اسمه سمير.
أشار بيده إليّ وقال كأن ّما يجيب نفسه:
-أنت هو سمير ،أليس كذلك؟
يبدو أن ّه خم ّن ذلك حينما رأى سلمى بجانبي ،تردّدت في البداية ،ل كن ّني
قر ّرت أن أجيبه حت ّى أبعد الشّبهة عن صديقي مروان فلا يتعر ّض لأيّ
مشكلة معهما:
49
-نعم أنا هو ،ماذا تريد من ّي؟
التفت الر ّجل إلى صديقه الذي نزع نظاراته ،راحا يتكل ّمان بالعبر ي ّة فلم
سائق كأن ّما قد طلب منه أن يقول لي شيئا،
أفهم ما دار بينهما ،بدا لي ال ّ
حيث أن ّه لا يستطيع الت ّحدث بالعربية مثل مرافقه ،الذي استدار
باتّ جاهي وقال لي:
-هذه الأرض ملك ل ِعزرا روبين ،وهذا ابنه شلومو وريثه الوحيد بعد
أن توف ّي والده.
-ل كنّ أبي اشترى الأرض منهم.
ن
-أبوك محتال ،عِزرا باع الأرض لسمسار يهوديّ ،لو كان يعلم بأ ّ
والدك سيشتري المزرعة لما رضي بأن يبيعها إ ي ّاه ،الآن عليكم أن تخرجوا
منها فورا وإلّا تصر ّفنا معكم بأسلوب آخر.
سيارة ،حت ّى أتفادى
أمسكت سلمى بيدي وركضت بها مبتعدين عن ال ّ
سماع المزيد من الكلام من ذلك الر ّجل البغيض ،الذي فتح باب
ف
سيارة ولحق بنا مسرعا ،أدركنا قبل أن نصل إلى باب المنزل ،الت ّ
ال ّ
حولنا ووقف أماّي ،حاول أن يمسكني من ياقة الجاكيت ،فأشحت
بيدي مبعدا يده عن ّي ،ثم ّ نبح مثل كلب:
-يجب أن تستمع إلى الكلام يا فتى ،عليكم أن تخلوا المكان وترحلوا من
هنا ،مفهوم.
تجاوزته حيث أن ّني لم أشأ الر ّد عليه ،جريت أنا وسلمى ،شعرت أن ّه قد
التفت نحونا وبدأ يراقبنا ،كانت أنفاس لهاث ِه تط ِنّ في أذنيّ ،وقبل أن
51
أمسك مقبض الباب بقيت يدي معل ّقة في الهواء بعض الوقت حينما
قال:
-سوف تندم كثيرا إن لم تنصع للأوامر يا شاطر.
فتحت الباب ،دخلت سلمى قبلي ثم ّ تبعتها ،أغلقت الباب وأمسكت بها
قبل أن تخبر أّ ّي ،أشرت لها بأن وضعت أصبعي على شفتيّ ،وقلت لها:
-لا تخبري أّ ّي بما حدث ،سوف تقلق كثيرا ،قد يؤث ّر ذلك على الجنين.
-حسنا ،لن أفعل.
سيارة وهي تغادر المكان من داخل البيت ،حينما خفت صوتها
سمعت ال ّ
فتحت الباب بمقدار شبر ،كان الوغدان يختفيان بسيارتهما في الأفق
تلفت عن يميني فوجدت مروان على وشك أن يدخل
ّ بسرعة جنونية،
منزلهم مع أخته صفاء ،سوف لن يكون مجديا ال ّلحاق به ،حت ّى وأنا أخرج
لأحاول ذلك ،تمني ّت ألّا يذكر لوالده شيئا مم ّا حصل.
***
في نهاية الأسبوع كنت في البستان أتأمّل أغصان الأشجار وهي مثقلة
بالث ّمار على وشك الن ّضوج ،قطفت حب ّات من الل ّوز من غصن انحنى متدلي ّا
من ثقله ،قرفصت ووضعتها على صخرة ،أمسكت بحجر وشرعت في
تهشيمها ،استخرجت الل ّوز وتذوّقته ،بدا لي ناضجا ،إنّها إشارة جي ّدة على
أن ّنا سنبدأ الجني قريبا.
أماّي خارج سياج البستان كان مروان واقفا حينما رفعت رأسي ،لو ّح
لي بيده حيث أن ّه كان بعيدا عن ّي ،اقتربت منه وأنا أظنّ أن ّه سوف يكل ّمني
ن عم ّي أبو مروان قد طلب منه
عن موضوع قطف الث ّمار ،من الممكن أ ّ
51
أن يعل ِمني بتاريخ الجني حت ّى أتأه ّب له ،قال لي مروان وعيناه تحاصران
ب لسماع ما سيخبرني به:
وجهي المترق ّ ِ
-أبي يريد أن يتح ّدث معك ،إن ّه في المنزل.
-بخصوص ماذا؟
-لست أدري ،ليس لديّ أيّ فكرة عن الموضوع.
في صالة منزل عم ّي أبو مروان كان يجلس معه رجل يبدو من ثيابه أن ّه
موظّ ف حكوّيّ أو أستاذ بالجامعة ،يرتدي بذلة بكرافتة ،اقتربت منهما
وسل ّمت عليهما ،أومأ إليّ عم ّي أبو مروان بيده وطلب من ّي أن أجلس
إلى جانبه ،ساد صمت وجيز فيما ازدادت حيرتي حول ما سيقوله لي
عم ّي أبو مروان ،وهل للر ّجل الجالس معنا دخل بالموضوع ،أم تراه لا
شأن له بالأمر الذي طلبني لأجله ،وأن ّه مجرد شخص تربطه به قرابة أو
رب ّما كان بينهما شأن ما ،فجأة تنحنح عم ّي أبو مروان مستبقا حديثه
فقطع حبل تكهّناتي:
-سمير يا ابني ...نحن جيران ،والدك الل ّه يرحمهكان صديقا عزيزا وأنت
في مقام ابني مروان ،وما يضر ّك يضر ّني أنا أيضا ،لقد أخبرني مروان
ج ّدي ولن يفيد الت ّغاضي عنه
بما حدث مع ابن عزرا اليهودي ،الأمر ِ
شيئا ،على العكس سيكون في غير صالحك يا ولدي.
-أعرف عم ّي أبو مروان ل كن أّ ّي مريضة ،وأخشى عليها إن هي
سمعت بالموضوع أن...
-شوف يا ولدي ،هذا عم ّك أبو نزار محاّي ،هو صهري وخال مروان،
سيساعدك في الأمر ،استمع إلى ما سيطلبه منك.
52
-حاضر عم ّي.
صو ّب المحاّي عينيه باتجاهي كأنّما يحاول إمساكي بهما ل ِئل ّا أفلت منه،
لم أجد بدّا من الاستجابة إلى إلحاحهما ،شعرت وكأن ّه قد وضع بنظراته
مخ ّدرا في عينيّ أو أن ّه نو ّّي بمغناطيسها الجذّاب ،انش ّقت شفتاه عن
سؤال بدا لي أن ّه قد تجاوز به العديد من الأسئلة ،التي من المفترض أن
يستبق بها حديثه معي:
-مروان يا ابني ...الأرض ...هل هي لا تزال باسم والدك أم باسم
شخص آخر الآن؟
-لاتزال باسم والدي الل ّه يرحمه ...سعيد الخليلي ،كانت أّ ّي تودّ أن
ظروف القاهرة جعلتها تعدِل عن تقوم بإجراءات نقل المل كية ،ل كنّ ال ّ
الأمر إلى حين.
تحر ّك المحاّي في مكانهكأن ّما صعب عليه هضم كلاّي ،الذي بدا لي من
تكشيرة ملامحه غير منسجم مع ما كان يأمله ،قال لي بنبرة متثاقلة:
ظروف في صالحكم ،بعد وفاة أبيك يجب أن تنتقل
-حت ّى تكون ال ّ
مل كي ّة الأرض إلى شخص على قيد الحياة ،هذه المسألة ضرور ي ّة ج ّدا
يا ولدي.
-ل كنّ أّ ّي على وشك أن تضع مولودها ،ولن يكون بوسعها الذ ّهاب
إلى المدينة من أجل القيام بالإجراءات.
تفحّ صني أبو نزار بعينين تعمّد أن يضي ّقهما ،كما لو أنه يقدّر شيئا يتعل ّق
وعض عليهما ،ثم ّ أصدر صوتا من بين حنك ِه ولسانه،
ّ بي ،ز َّمّ شفتيه
كأن ّه يستطيب طعم قطعة حلوى لا أجد لها أثرا في فمه ،ثم ّ سألني:
53
-كم عمرك يا بن ّي؟
-سبعة عشر سنة.
م
اندفع بصلبه إلى الأمام متخلي ّا عن الوِسادة التي كان يستند إليها ،ض ّ
يديه وفركهما على بعضهما كما لو أن ّه عثر على ما كان يبحث عنه ،تل ّفت
إلى عم ّي أبو مروان وقال بسرور بدا جلي ّا من أسنانه الن ّاصعة التي انزلقت
خلف شفتيه:
-هذا جي ّد ،سمير ...بإمكانك تمل ّك مزرعة أبيك مؤق ّتا ،القانون يسمح
بذلك ،ريثما تطيب أمّك.
المؤقت هذا أن أتغي ّب
ّ تطل ّب من ّي القيام بإجراءات نقل مل كية الأرض
ليوم كامل عن الث ّانو ية ،أمضيت أنا وأّ ّي على أوراق لا تنتهي عند
الموث ِّق ،لم يكن بمقدور أختي سلمى التي ذهبت إلى المدرسة أن تمضي
ن هذا الإجراء
سن القانونيّ بعد ،كر ّر لي أبو نزار المحاّي أ ّ
فهي لم تبلغ ال ّ
سن حال أّ ّي أن نباشر إجراءات تقسيم المزرعة
ن علينا بعد تح ّ
مؤقت ،وأ ّ
بيننا نحن الث ّلاثة ،التفتت أّ ّي إليه وقالت له بصوت جازم وحازم:
ل المزرعة باسمه ،لن نقسّمها حت ّى ولو كان
-سمير هو رجل البيت ،ستظ ّ
ذلك على الورق فقط.
54
()7
55
حب ّات الز ّيتون ،التي تقع على البساط فيحدِث تساقطها طقطقة تشبه
شباب وال كهول حولها
يلتف ال ّ
شجرة ّ
صوت انهمارِ البرد ،في أسفل ال ّ
يقطفون الز ّيتون و يضعون حب ّاته في أواني بلاستيكية ،وحينما يفرغون
من شجرة ينتقلون إلى التي تليها ،بعدما يجمعون الز ّيتون المتناثر فوق
البساط و يعب ّئونه في أكياس.
تتتابع الصّ ور في مخي ّلتي طوال الحصّ ة الأولى ،لا أنتبه لما يقوله أستاذ
الإنجليز ية ،كنت طوال الوقت أنتظر انتهاء الد ّرس ،حت ّى أجتمع
بأصدقائي وأخبرهم بموعد القطاف كي يستعدوا لمساعدتي.
في صباح الجمعة أتت عم ّتي خولة ،لم تمض أكثر من ساعة حت ّى دخلت
علينا خالتي نوال ،كن ّا لم ننه إفطار الصّ باح بعد ،كانت أّ ّي تجلس على
طن وتضع يدها على بطنها وتتنفس بمشقّة ،وجهها
ي معدنيّ مب ّ
كرس ّ
ذابل وعيناها تغوصان في محجريهما تحاصرهما أجفان م َّ
زرق ّة ،كانت
طعام لسكّان الخربة،
س بهما كي تقفا على تحضير ال ّ
أّ ّي قد ات ّصلت أم ِ
اتفقت معهم كي يقطفوا محصول الل ّوز يوم الجمعة ،ومع أصدقائي الذين
سيقومون بجني محصول الز ّيتون يوم السّبت.
***
مع خروج المصلين من مسجد الخربة صباح يوم السّبت ،كان أصدقائي
قد أنهوا صلاة الصّ بح تحت أكبر شجرة زيتون تتوسّ ط البستان ،كان
فطور الصّ باح جاهزا أخرجته خالتي نوال ووضعته بجانب مدخل المنزل،
حملته مع مروان إلى أصحابنا الذين أحاطوا به كالن ّسور المفترسة ،ساد
56
ِ
وقع نوادر رؤوف ونكت صمت أعقب ال كثير من الضّ حكِ على
يوسف ،اقتحمه مروان بدعابة من دعاباته التي لا تجامل أحدا:
طعام كيف يكون الكلام ،ما بال كم توق ّفتم عن
-ما بكم؟ هل أنساكم ال ّ
ص حكايات محزنة.ن الفطور يق ّ
الضّ حك؟ يبدو أ ّ
طعام سيد مروان.
-لا كلام ولا سلام في حضرة ال ّ
ردّ جمال على ملاحظات مروان الممازحة ،بعدما عقّب عليها الجميع
بضحك مقتضب.
عاد الصّ مت ليسود الموقف ،كسرته أصوات المضغ وقعقعة الأطباق،
التي كانت تهتز ّ على وقع لحس رفاقي الذين لا يقص ّرون في تنظيفها
بأشداق الخبز الأخيرة ،فجأة نهض مروان واستقام واقفا مثل نابض
طول ولم يلبث أن أسنده
تقل ّص ثم ّ ارتخى من بين الأصابع ،حمل سل ّما بال ّ
شجرة وارتقى درجاته بسرعة رهيبة ،تن ِم ّ عن سابق تجربة في
إلى أعلى ال ّ
ميدان اقتلاع حب ّات الز ّيتون من أغصانها المرتفعة ،فجأة بدأ الز ّيتون
يتساقط فوق رؤوسنا كما المطر ،ن َّدّت أصوات متذمّرة ومستاءة من
أفواه بعضهم ،ردّ عليها مروان بنبرة مؤن ّ ِبة:
-حان وقت العمل أ ّيها ال كسالى ،هي ّا انهضوا ،أم تراكم تظن ّون أن ّكم
أتيتم هنا للن ّزهة؟
شجرة ،يعانقون
في ثانية واحدة كان الجميع قد وقفوا والت ّفوا حول ال ّ
أغصانها و يقتطفون حب ّاتها التي تلمع من شدّة اكتنازها بالد ّهن ،يبدو
ن كلام مروان استفز ّهم ،أو رب ّما ح ّفزهم ،لست أدري بالضّ بط أيّهما
أ ّ
أصح ّ ،أو ربّما كان مزيجا من كليهما معا.
57
شجرة كالجراد وننتزع زيتونها بخ ّفة مدهشة
مر النّهار سر يعا ،نحاصر ال ّ
ّ
بدأت تزداد مع إنجازنا لنصف المهمّة ،فقد كنت اتفقت مع أصدقائي
على أن نقطف محصول خمسة صفوف من أشجار البستان ،لنعاود جني
ما تب ّقى في الأسبوع القادم.
ما إن التهمنا مع انتصاف النّهار صيني ّة منسف تنضح لحما ،كانت قد
ل
أعدّتها عم ّتي خولة بمساعدة خالتي نوال ،انقضضنا عليها بوتيرة لا تق ّ
نشاطا وحيو ي ّة عن هِم ّتنا في الت ّعامل مع الأشجار ،وجلسنا بعدها نلتقط
أنفاسنا المرهقة من ثقل ما ابتلعته بطوننا الش ّرهة من أرز ولحم ،حت ّى
شعرنا بالأرض تصدر ذبذبات خفيفة بدأت تتصاعد وتتحو ّل إلى هز ّات
يرتجف لها البستان من تحتنا ،صاحبها ارتفاع صوت محر ّك كان يبعث
أزيزا بدا جلي ّا حينما انبثقت من الأفق القريب ،أعلى الت ّلة ،جرّافة تسير
سوداء الملعونة التي
سيارة ال ّ
على مجنزرات ،خلفها بثوان فقط لمحنا تلك ال ّ
ن أبوابها الأر بعة قد
كنت أتمن ّى أن لا أراها ثانية ،بعد دقائق وجدنا أ ّ
انفتحت دفعة واحدة بالقرب من ّا ،في الوقت الذي وقفنا فيه نترق ّب ما
يمكن أن تلفظه تلك الأبواب من أشباه البشر ،كانوا خمسة ذكور
ل واحد منهم قضيبا صلبا وطو يلا ،ما
يفتقدون معدن الر ّجال ،يحمل ك ّ
بين عصا بيسبول وأنبوب حديديّ ،كان شلومو قد نزل من سيارته
وهو يضع على كتفه زناد بندقية صيد صو ّبها باتجاهنا لإرعابنا.
ل يكس ّر سكون المكان بهديره
توق ّفت الآلي ّة عن الحركة ل كنّ محر ّكها ظ ّ
سائق ،الذي
م الآذان ،اعتلى شلومو درجها الملاصق لباب ال ّ
الذي يص ِ ّ
كن من الاستماع لما سيقوله له ،لاحظته يهمس
أزاح زجاج نافذتها ليتم ّ
58
في أذنه بكلام موجز ،ما إن قفز من ال َّد ّرج على الأرض حتى تحر ّكت
ن
الجر ّافة نحو منزلنا ،رافعة شفرتها العملاقة بشكل عدواني ،بدا معه أ ّ
طر يقة نفسها التي تتكر ّر بها مشاهدها في
طط لهدمه ،بال ّ
سائق يخ ّ
ال ّ
التلفز يون ،حينما تد َّمّر منازل الفلسطينيين بأمر من سلطات
الاحتلال ،ركضنا جميعا ناحية المنزل ،والخوف يتمل ّكني من ترق ّب ما
سيحدث ،بدأ بعض أصدقائي في أثناء ذلك بالتقاط أحجار من الأرض
استعدادا لقذفها على الآلي ّة ،التي تردّد سائقها حينما رآنا متجمّعين نحمل
الحجارة في أيدينا وبقمصاننا للر ّد على هجومه.
في الأثناء خرجت أختي سلمى من البيت مسرعة ،تنادي عل َّيّ بصوت
ينذر بوقوع خطب ما ،عليّ الاستعداد لمجابهته:
-سمير ...سمير...
التفت ناحيتها فوجدت أحد المعتدين يجري صوبها ،عرفت أن ّه
ّ
سيختطفها ليبتز ّنا بها ،رفعت صوتي مح ّذرا سلمى:
-سلمى ...سلمى ...أهربي إلى الد ّار.
م بالر ّكض مبتعدة عن المكان ،حت ّى كان ذلك الوحش
لم تكد سلمى ته ّ
غير الآدّ ِيّ قد قفز قريبا منها ،خارت قواها من الذ ّعر ،وأحسست من
ن رِجليها الواهنتين قد أصابهما خدر ش َّ ّ
ل حركتهما ،فاستسلمت مكاني أ ّ
ساحقة على رقبتها الر ّقيقة ،لم يمنعها
له بينما ان ّقض عليها وأحكم قبضته ال ّ
ن تصرخ قائلة:
ذلك من أ ّ
-سمير ...أّ ّي ...لقد اقترب وقت وضعها ...إ ّنها تتأل ّم بشدّة الآن...
59
شعرت بارتباك وحيرة ،ما العمل الآن؟! أختي رهينة في يد ذلك
الوغد وأّ ّي تحتاج لمن يوصلها إلى المستشفى لتلد ،في الأثناء أخرج
صديقي رؤوف من جيبه مقلاعه الذي لا يفارقه في خرجاته الخلو ي ّة،
ألقمه حجرا وراح يلو ّح به ببطء ،بدأ دورانه يتسارع ويحدث صوتا يشبه
شديد بالهواء ،في الأثناء انتبه ذلك
صوت المروحة نتيجة لاحتكاكه ال ّ
الوغد الذي كان يمسك بسلمى لما يفعله رؤوف ،لمحت خوفا في عينيه،
تراجع خطوتين منكفئا إلى الخلف ،بدا عليه الارتباك فأرخى قبضته
عن فم سلمى ،التي اغتنمت فرصة ذهوله فعضّ ت ذراعه ،أفلتها من يده
بعدما ألهاه ألم العضّ ة ،وحين رآها هاربة نحونا حاول ال ّلحاق بها ،شرعنا
عند ذلك في قذف الحجارة صوبه فأقلع عن مطاردته لها وول ّى هاربا،
في هذه ال ّلحظة سمعت م ِن خلفي صوت حجر رؤوف يحل ّق في الجو ّ،
يصاحبه صوت اختراق الهواء ،تتب ّعت وجهته فإذا به يرتطم بظهر الوغد
محدثا جلجلة عظيمة ،سقط على إثرها مغشي ّا عليه.
احتضنت سلمى التي ألقت بجسدها بين ذراعيّ خوفا من ذلك الش ّرير
من أن يكون قد لحق بها ،في الأثناء التقط رؤوف حجرا آخرا ووضعه
في المقلاع ولو ّح به مه ّددا ،وضع شلومو بندقيته على كتفه وصو ّبها ناحية
رؤوف ،الذي ألقى بحجره على زجاج الآلية وانسحب هاربا ليختبئ
خلف المنزل ،أحدث صوت تكس ّر الز ّجاج هلعا وسط المعتدين.
اغتنمت فرصة ارتباكهم وأخرجت الهاتف الن ّقال من جيبي ،ات ّصلت
بخالي حسين وأخبرته على عجل بأمر أّ ّي وبما يحدث معي ،قال لي أن ّه
طر يق إلينا فقد أخبرته خالتي نوال بالأمر ،خرج رؤوف من خلف
في ال ّ
61
المنزل يلو ّح بالمقلاع بش ّدة بدا معها أن ّه على وشك تسديد ضربة قو ي ّة
سماء
نحوهم ،انطلق الحجر كالقذيفة يخترق بصوته الن ّفاث عباب ال ّ
ليستقر ّ في جمجمة سائق الآلية ،رأيناه يلقي برأسه ساقطا على المقود.
هرع الأشرار الثلاثة لإسعاف سائق الجر ّافة ،بينما راح شلومو يلقم
بندقيته رصاصا أطلقه باتجاهنا ،استبقناه مسرعين خلف المنزل ،كان
لا يبعد عن ّا سوى بخطوات يسيرة ،كنا نلهث بش ّدة ،أصابت طلقة فخذ
التف حوله الجميع ،بعد أن سحبه مروان و يوسف خلف المنزل،
رؤوفّ ،
وحاول بشير إسعافه ،في الوقت الذي رحت فيه أطمئن أختي سلمى
التي بدا على وجهها الهلع ،أمسكت رأسها بين يديّ وألصقت عين َّيّ
بعينيها ،قلت لها مه ّدئا من روعها:
ل شيء على خير ما يرام.
-لا تخافي سيكون ك ّ
لم نعد نسمع صوت الر ّصاص ،توق ّف فجأة ،في الأثناء اختلست الن ّظر
عند ركن المنزل ،شاهدت شلومو وهو يع ِين صديقه الذي أصابه رؤوف
في ظهره ِ على المشي ،كان يعتمد على كتفه ،بينما كان الثلاثة الآخرين
سيارة ،كان لغطهم مرتفعا ويرطِنون بكلام
ينقلون سائق الجر ّافة إلى ال ّ
لم نفهم منه شيئا ،امتطى أحدهم الآلي ّة وأدارها ،بينما ركب أصدقاؤه
سيارة وغادروا المزرعة يجر ّون أذيال الخيبة خلفهم.
ال ّ
لم نكد نساعد رؤوف على ركوب سي ّارة عم ّي أبو مروان ليوصله إلى
المستشفى ،حت ّى وصل خالي حسين ،كانت خالتي وعم ّتي تنتظران مع
أّ ّي ،التي كانت تجلس عند الباب مستندة على جدار ،ركبت خالتي
نوال بجانب أّ ّي في الخلف ،فتحت الباب الأماّيّ كي تركب سلمى
61
سيارة ،لم تكد تجتز شجرة الل ّوز القريبة من البئر
بجانب خالي ،انطلقت ال ّ
حت ّى توقفت فجأة ،بدأت أرقب في حيرة ما يحدث بينما كنت أعدو
ن الجميع ينزل ،كانت خالتي نوال تساعد أّ ّي على
نحوهم ،لاحظت أ ّ
شجرة ،فيما كان خالي تحتها يفرش بطاني ّة ،فهمت من
المشي نحو ال ّ
ن أّ ّي قد أدركها المخاض ولا مناص من أن تلد في المكان،
ذلك أ ّ
أكملت طر يقي بالس ّرعة نفسها نحو منزل مروان ،خطر ببالي أن أخبر
ن لها خبرة في الت ّوليد ،ما إن وقفت عند بابهم
خالتي أمّ مروان حيث أ ّ
ودققته حت ّى فتحه عاطف أخو مروان الأصغر فأخبرته بما يحصل مع
فهب مناديا أمّه كي يستعجلها ،عند خروجها من بيتها قالت له:
ّ أّ ّي،
-احمل معك دلو ماء دافئ واتبعني.
***
62
()8
أحلام تتحقّق
عدت للتو ّ من الث ّانو ية عشي ّة يوم الأحد الذي تلى الحادثة ،ما إن ملأت
عينيّ بمشهد أخي الصّ غير سعيد ،نعم ...سعيد هكذا أسميناه ،ولد عند
البئر الذي مات فيه والدي سعيد ،حت ّى سمعت صوت محر ّكات
سيارات بالخارج ،أعقبها صياح مزاميرها الهدّارة ،خرجت لأستقصي
الأمر فوجدتني في مواجهة قطيع من العساكر الإسرائيليين يحاصرون
منزلنا بسي ّاراتهم الأربعة:
-أنت سمير الخليلي؟
سأل أحدهم بعدما أزاح بأصبعه إلى الأعلى خوذته التي كادت أن
طي عينيه الحادّتين ،أجبته دونما تردّد وقد أدركت سبب مجيئهم ،من
تغ ّ
ن الأمر يتعل ّق بما حدث بالأمس:
المؤكّد أ ّ
-نعم ...أنا هو.
أشار بحركة من سب ّابته دون أن يع ّقب على إجابتي ،كان ذلك كافيا
ينقض عليّ أربعة من رجاله المسل ّحين ويرغمونني على الر ّكوب
ّ لأن
معهم ،لم يتركوا لي فرصة لأخبر أّ ّي حت ّى.
في المقعد الخلفي لسي ّارة الهامر كنت محشورا بين جنديين ،لم يلبث
سيارة المقابلة
موكبهم أن أقلع مغادرا المزرعة ،حت ّى سمعت من نافذة ال ّ
لمنزل عم ّي أبو مروان صراخ مروان المختلط بلهاثه الن ّاج ِم عن ركضه،
وقد هيمن هدير المحر ّكات على وقع قدميه:
63
-سمير ...تشجّ ع ولا تخف ،سيخبر أبي خالي أبو نزار وسيتابع قضيتك
ويسار ِع...
سيارات
ل شيء ،كتمت سرعة ال ّ
ن مروان كان قد رأى ك ّ
فهمت أ ّ
صوته الذي تلاشى تماما ولم أعد أسمع بقي ّته ،تخي ّلته وهو يتباطأ خلفنا
سيارات التي
حت ّى توق ّف عن الرّكض ،بعد أن يئس من ال ّلحاق بال ّ
طر يق الت ّرابيّ ،تلوك عجلاتها حجارة الأرض وتلفظها
كانت تطير على ال ّ
فتصطدم بهيكل السّيارة وتحدث قرقعة تشبه نقر حب ّات البرد على
زجاج الن ّوافذ ،وتخل ّف سحابة من الغبار أعاقت رؤيتي لمنزلنا ،الذي
سيارة.
اختفى وراء شب ّاك معدني يلتصق بالز ّجاج الخلفي لل ّ
في ثكنة الجيش كان أوّل شيء قلته بعدما طلب من ّي الضّ ابط المكل ّف
بالت ّحقيق أن أجلس وسألني عن اسمي:
-لن أتكل ّم إلّا في حضور المحاّي أحمد المفتي ...لديه خبر بذلك سوف
يأتي بعد قليل.
لم أكن على يقين من كلاّي ،حت ّى من لقب المحاّي أبو نزار الذي
ن
ن ثقتي في أ ّ
ق معرفتي ب ِلقب خالتي أمّ مروان ،غير أ ّ
استنبطته من ساب ِ
عم ّي أبو مروان لن يهدأ له بال حت ّى يخبر المحاّي أبو نزار بما حدث لي
ن إبلاغ مروان له باعتقال العساكر لي سيدفعه
جعلتني أطمئ ّن ،خم ّنت أ ّ
حتما لأن يزورني في الث ّكنة .أمر الضّ ابط جنديا بأن يضعني في الحجز
ريثما يحضر المحاّي.
مرة
كان صرير باب الحجز إذ يغلقه الش ّرطي يشعرني بمعنى الأسرِ لأوّل ّ
سابق عن الأطفال الذين
ل ما سمعته في ال ّ
مر بمخيّلتي ك ّ
في حياتيّ ،
64
تعتقلهم سلطات الاحتلال في سجونها ،تذك ّرت صديقنا أمجد عصام
ن اعتقاله جعله يفوِ ّت
الذي يدرس بالث ّانو ية ،كان يسبقنا بسنة ،غير أ ّ
من دراسته ،مجبرا ،عاما كاملا قضاه في سج ِ
ن عِتصيون ،لم يشفع له
سادسة عشرة بعد من أن يتعر ّض لأبشع
صغر سن ِّه ِ وهو لم يتجاوز حينها ال ّ
ظلم والبطش؛ من ضرب وإهانة وشتائم ،كانت تهمته الوحيدة
صور ال ّ
كما حكى لي أن ّه قذف حجارة على جنود إسرائيليين كانوا يمر ّون من أمام
بيتهم ،بينما كان يلعب مع أصدقائه بعدما تهجّم عليهم أحد العساكر
واستفز ّهم.
ل من ساعة كان كيوم بحاله ،عاد العسكريّ وفتحمر عليّ في الحجز أق ّ
ّ
الباب وأمرني بالخروج للعرض على المح ّقق ،رجعت إلى القاعة التي
كان يجلس فيها الضّ ابط ،كان بجانبه المحاّي أبو نزار ،ارتحت كثيرا
عندما رأيته ،سل ّمت عليه وجلست مقابله.
ن موكّ ِله "سمير الخليلي"
استأذن أبو نزار من المح ّقق للحديث ،قال له أ ّ
ن المدعو شلومو روبين اعتدى
كان بصدد الد ّفاع عن الن ّفس؛ حيث أ ّ
على شخصه وعلى مل كي ّته الخا ّ
صة ،المتمث ّلة في مزرعته التي يحوز على
ن أصدقاءه الذين كان يستضيفهم في بيته
وثائقها والمسج ّلة باسمه ،وأ ّ
ساعدوه في تأمين الحماية له من المعتدين ،الذين كانوا يحملون أسلحة
ن شلومو كان بيده سلاحا نار يا هدّدهم به وأطلق
بيضاء ،إضافة إلى أ ّ
منه العديد من الأعيرة ،كما أ ّنهم جلبوا معهم جرّافة كان سائقها قبل
إصابته قد تل ّقى أوامر من شلومو بهدم المنزل باستخدامها .لم أذكر كلام
65
ن ما رسخ في ذهني بعد صمت وجيز،
المحاّي أبو نزار بالت ّفصيل ،غير أ ّ
قوله للمفتش:
-أطالبكم بالت ّحقيق أولا مع المعتدين ،موكّلي معتدى عليه وهو الضّ حية
وليس الجاني ،فقد كان في حالة دفاع عن نفسه ومنزله.
أطلق الضّ ابط المح ّقق سراحي ،كان عم ّي أبو مروان بانتظارنا في
الخارج داخل سيارته ،أوصلنا المحاّي أبو نزار إلى بيته في حيّ الرّامة ثم ّ
عدنا إلى خربة الصّ فا ،عندما التقيت بمروان عند بيتهم وأنا أنزل من
سيارة عانقني بحرارة ،وهن ّأني برجوعي سالما من مكان َّقل ّما يعود فيه
ال ّ
سن ّي ،قال لي بأن ّه ات ّفق مع
أحد في نفس اليوم ،حت ّى من هم في مثل ِ
ن
جميع الأصدقاء بأن نزور رؤوف في المستشفى ،طمأنني بأن ّه بخير وأ ّ
حالته مستقر ّة بعد العملية الجراحي ّة التي أجراها لنزع الر ّصاصة من فخذه.
***
كانت البهجة تغمر قلبي ونحن ملت ّف ِين حول رؤوف ،نمازِحه وهو في
كامل حيو ي ّته وسروره بوجودنا إلى جانبه ،كان شعوري ذاك يمتزج
بالأسف من أجله كونه تعر ّض للإصابة بسببي ،قال لي وهو يلمح ما
يشير إلى ذلك في وجهي ،فقد كنت منسحبا إلى الخلف وصامتا طوال
الوقت خجلا منه:
-سمير ...أرجو ألّا تعتقد أن ّك كنت السّبب فيما حدث لي ...دعك
من ذلك ...أليست مزرعتك جزءا من فلسطين؟
-أكيد صديقي رؤوف.
-ما حدث لي هو فداء لأرض فلسطين.
66
كانت كلمات رؤوف تشعرني بالفخر به ،وبالعز ّ بأنّنا وعلى الر ّغم من
حب بلدنا لدرجة الت ّضحية بأرواحنا من أجله،
سن ّنا المبك ّرة إلّا أن ّنا ن ّ
ونتمن ّى أن يتحر ّر في يوم من الأي ّام من بطش الاحتلال ،عزمت عندها
ن هذا الموقف بمشاعره الفيّاضة،
على أن أكتب أولى رواياتي ،يبدو أ ّ
أعز الن ّاس على قلبي ،ألهمني بموضوعها ،سوف أكتب عن ما وسط ّ
حدث معي منذ مجيئنا إلى خربة الصّ فا ،سأقتبس مم ّا عايشته من فقدي
لأبي ومعاناة أسرتي وذلك الموقف البطوليّ الش ّهم من أصدقائي ،وهم
ل تلك
ط ِر بك ّ
يلت ّفون حولي كي يدافعوا ببسالة عن ّي وعن مزرعتنا .سأس ّ
شعب
المشاهد الرّائعة والمعاني الصّ ادقة رواية تحكي عن معاناة ال ّ
الفلسطينيّ وتضحياته ،سوف أوصل صوته المبحوح إلى أقاصي الد ّنيا،
تماما كما كنت أحلم ،هكذا قر ّرت بينما كنت أضع يدي في يد
رؤوف.
***
اعترتني لهفة عارمة لم أشهدها في حياتي ق ّط ،بينما كنت أحمل قلمي
سفلى سابحا في شرود
طط به معالم روايتي ،وأنا أضعه على شفتي ال ّ
لأخ ّ
عميق أتصو ّر شخصي ّاتها وأحداثها ،أوزّع الأدوار وأمزج بين الحقيقة
والخيال حت ّى أصل إلى الهدف وأوصل رسائلي للقارئ ،أخم ّن
سطور ،وأزرع المتعة
احتياجاته ومتطلّباته فأح ّقق رغباته فيما بين ال ّ
والت ّشو يق وأصنع روح المطالعة التي تجذبه إلى آخر كلمة في الر ّواية.
ختمت تحرير أولى رواياتي بينما كنت أداعب سعيد الصّ غير وهو يحبو
على ركبتيه ،فقد كان آخر شخصي ّة أتطر ّق إليها ،طبعا لم أسم ّه سعيد،
67
ل شيء ،أغلقت حاسوبي المحمول
كان اسمه في الر ّواية طارق ،أنهيت ك ّ
ووضعته على مكتبي الصّ غير ،الذي أراجع عليه دروسي وأكتب فوقه
وظائفي وواجباتي ،أطرقت هنيهة ورحت أفك ّر في إ يجاد عنوان للر ّواية،
ق إلهاّي فكرة ،قلت مح ّدثا نفس ِي بصوت مرتفع
فجأة لمعت من بين بوار ِ
كأنّما توصّلت لاكتشاف عظيم:
شمس".
-سأسم ّيها" :ف ِتيان في ال ّ
سان كنفاني،
شمس" ل ِغ ّ
استوحيت هذا العنوان من رواية "رِجال في ال ّ
التي كنت قد أنهيت قراءتها قبيل أن أتم ّ روايتي بوقت قصير ،لم يكن
سبب ،شعرت بأن ّني لست ل ِوحدي بطل الر ّواية ،كان
ذلك وحده ال ّ
ل وقت وحين ،كن ّا جميعا
أصدقائي من حولي واقفين إلى جنبي في ك ّ
ل ما ق ّدموه
أبطالا نحن الفتيان ،أحببت أن أكافئهم ولو رمزي ّا على ك ّ
وبذلوه من أجلي أنا وأسرتي.
لم يكن نشر رواية "فتيان في الشّمس" بالأمر الصّ عب ،فب ِمجر ّد أن
طرقت باب أوّل دارِ نشر ،كنت قد استقصيت عن سمعتها وطر يقة
وجدت
ّ عملها ،فقد نصحني عم ّي ممدوح بها بعدما استشرته في ذلك،
ل الحفاوة والت ّرحاب من مديرها الأستاذ عم ّار أبو زاهر ،عرفني سر يعا
ك ّ
فقد قرأ عن ّي في الصّ حف ،كانت قد نشرت حادثة اقتحام شلومو
وعصابته لمزرعتنا ،كانت تلك الوقائع التي تعر ّضت لها عائلتي دافعا
لصاحب دار الن ّشر كي يقبل مبدئي ّا بنشر الر ّواية ،قال لي و بسمة مشرقة
شفاهه وتلتهم نصف وجهه:
تعلو ِ
68
-من جهتي سأقبل بعملك حت ّى ولو اضطر ّني ذلك إلى الخسارة ،ل كن ّني
لا أستطيع أن أتجاوز بعض الحدود ،عل َّيّ أن أعر ِضه على لجنة القراءة
كي تب َّ ّ
ث برأيها حوله.
-أشكرك كثيرا سيد عم ّار على معز ّتك ،وأنا أتقب ّل شرطك بصدر
رحب.
الحمد لل ّه ...لقد جرت الأمور في صالح الر ّواية التي لق ِيت إقبالا جي ّدا
في الضّ فة الغربية ،ليس في أوساط الث ّانو يين مم ّن هم في مثل سن ّي
فحسب ،بل من جميع الفئات قاطبة؛ أطفال في الابتدائي والإعدادي،
شباب في الجامعة ،وحت ّى الكبار ،كان الت ّعاطف مع قضي ّتي هو مفتاح
الن ّجاح ،هذا ما قاله لي صاحب إحدى المكتبات في الخليل بعدما زرته
بدافع الفضول ،أردت أن أكتشف بنفسي صدى توز يع الر ّواية على
المكتبات.
***
كنت على وشك الخروج من الث ّانو ية حينما ات ّصل بي الأستاذ عم ّار،
ن سلطات الاحتلال منعت دخول الر ّواية إلى قطاع غ ّزة
وأخبرني أ ّ
وإلى الأراضي الفلسطيني ّة المحتلة ،ولن يكون بوسع القر ّاء الاطلاع عليها
في أماكن ع ّدة من البلاد ،كما أ ّنها صادرت جميع الن ّسخ أثناء عملي ّة
تفتيش في حاجز أمنيّ ،بينما كانت دار الن ّشر تنقل ال كتب التي
ستشارك بها في معرض عم ّان الد ّولي للكتاب ،لم نتمكّن من معرفة سبب
ن الأمر ربما يكون له علاقة بتناولي في
ذلك ،قال لي الأستاذ عم ّار أ ّ
الر ّواية لممارسات الاحتلال ،وتع ّديه على الأطفال الق َّص ّرِ وسجنه لهم،
69
ن تعر ّضي لتهاون القضاء الإسرائيلي في الت ّحقيق مع
ومن الممكن أ ّ
شلومو روبين ،وترك ِه حرّا طليقا دون محاسبته على ما اقترفه في حقّي هو
ل ذلك.
السّبب وراء ك ّ
صل إلى عقد اتفاق مع دار
بعدها بأي ّام طمأنني الأستاذ عم ّار إلى أن ّه تو ّ
نشر أردني ّة ،لطباعة الر ّواية وعرضها في الصّ الون ،وأخبرني أن ّني مدعو
ل بيع بالإهداء ،حيث سيكون بوسعي توقيع روايتي للقر ّاء،
لحضور حف ِ
ن دار الن ّشر الأردني ّة تكفّلت
ابتهجت كثيرا لسماع ذلك ،خاصّة وأ ّ
ن الحملة
بمصار يف سفري وإقامتي في عم ّان لم ّدة أسبوع ،أبلغني بأ ّ
الإعلامية التي واكبت الت ّضييق على الر ّواية ساهمت كثيرا في الت ّرويج
لها ،فقد سم ِع عنها العديد في مناطق مختلفة من الوطن العربي وفي العالم
أيضا ،من خلال شاشات الت ّلفز يون ومواقع الت ّواصل الاجتماعي وحت ّى
ن ذلك أوجد تعاطفا كبيرا مع قضي ّتي،
عبر الصّ حف والمجلات ،وأ ّ
ن دور نشر عالمي ّة طلبت منه ترجمة الر ّواية إلى
ليس هذا فحسب بل إ ّ
لغات ع ّدة ،منها الإنجليز ية والفرنسية والإسبانية.
ب ضارّة نافعة مثلما يقولون ،بعدما كان
لا أكاد أصدّق نفسي ،ر ّ
الاحتلال يسعى جاهدا لمنع انتشار روايتي ،صار منعه هذا سببا في
رواجها والإعلان لها مجانا دون مقابل ،الحمد لل ّه ...لقد تح ّقق حلمي
بأن أوصل صوت شعبي ومعاناته إلى العالم أجمع.
أي ّاما بعد ذلك ات ّصلت بي شركة إنتاج تعمل في صناعة الأفلام
سينمائية ،اقترح عليّ مديرها أن نحو ّل الر ّواية إلى فيلم سينمائيّ قصير،
ال ّ
ص الر ّواية،
ن كاتب سينار يو يعمل معهم كان قد اطّ لع على ن ّ ِ
قال لي أ ّ
71
وأعجب بها كثيرا ،واقترح عليه ذلك ،لم أص ّدق ما يحدث معي ،ألهذا
الح ّد تتح ّقق الأحلام؟! إ ّنها تصبح واقعا حقيقي ّا ،بل فوق ما كنّا نتخي ّله.
كنت أسمع كثيرا من المتشائمين وهم يردّدون عبارة لم أقتنع بصدقها
طوال حياتي ،يقولون" :المصائب لا تأتي إلا مجتمعة" ،أيقنت بعدما
ن العكس هو الصّ حيح؛
ات ّصلت بي شركة لإنتاج الأفلام ال كرتوني ّة أ ّ
نجاح واحد لا يأتي منفردا ،حت ّى ي َّجر ّ خلفه نجاحات تتلوها نجاحات،
إنتاج مسلسل كرتونيّ مستوحى منِ عرض عليّ صاحب الش ّركة فكرة
ن
خف عنه قبولي بالفكرة ،قال لي أ ّ
شمس" ،لم أ ِ رواية "فتيان في ال ّ
ذلك سيساهم في إيصال رسائل روايتي بشكل مختلف إلى شر يحة
كن من قراءة الر ّواية ل كن بوسعها أن
واسعة من الأطفال ،قد لا تتم ّ
تشاهد مضمونها في حلقات تلفز يوني ّة.
***
ل مكان؛ في بيته وفي بستانهم غير أن ّني
بحثت عن صديقي مروان في ك ّ
لم أجده ،سألت عنه جميع من التقيت بهم ،لا أحد يعلم ،خطر ببالي
أن ّه عند شجرة الحقائق التي كن ّا نسمّيها شجرة الأحلام ،وجدته واقفا تحت
ظل ّها و بيده ورقة ،اقتربت منه وسألته:
-ما هذه الورقة التي بين يديك يا مروان؟
-إنّها كشف نقاط شهادة الث ّانو ي ّة العامّة ،الحمد لل ّه لقد تحقّق حلمي
وحصلت على أعلى معدّل في الث ّانو ي ّة العامّة.
-الحمد لل ّه ،لقد تعلّمت درسا مهمّا ،أظن ّك أنت أيضا قد فهمته وحفظته.
71
س
ل تأكيد صديقي سمير ،هذا الد ّرس عنوانه" :أحلام الأم ِ
-بك ّ
حقائق اليوم".
-على هذا سنسمّي شجرتنا هذه ابتداء من هذه ال ّلحظة" :شجرة الأحلا ِم
والحقائق".
قلت ذلك وقد صنعت شفتاي بسمة ،تجاوب معها صديقي مروان
ل عنها سعة وألقا ،رفع مسمارا كان بيدهكي أراه ،وقال:
بابتسامة لا تق ّ
-لقد كتبت حلما جديدا.
تكف عن كتابة الأحلام؟
ّ -ألا
-الحلم أولى خطوات الن ّجاح.
اختطفت المسمار من يد مروان ،وحفرت على جذع الشّجرة جملة،
شعرت وكأن ّني أنقشها في قلبي " :سأكمل حفر البئر الذي بدأه أبي".
سجدنا نحن الاثنين شكرا لل ّه الذي وف ّقنا لتحقيق آمالنا ،فلولا فضله علينا
ما كنّا ل ِنصل إلى ما وصلنا إليه ،فلِلّه ِ الحمد من قبل ومن بعد.
تم ّت بفضل اللّه وتوفيقه.
72
الفهرس
بداية حالِمة 5 .............................................................................
رحيل قبل الأوان 14 ................................................................
عِبء تنوء بح ِمله الجبال 21 ..........................................................
مِ حن تصنع من الأطفال رجالا 27 ...............................................
الأزمة تلِد الهمّة 37 ...................................................................
خفّاش يحوم حول عشّنا الهادئ 46 .............................................
في الات ّ حاد قو ّة 55 ....................................................................
أحلام تتحقّق 63 ........................................................................
73