Professional Documents
Culture Documents
محمد قطب
((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(.)1
ذلك أنهها أمهة خاتهم الرسهل صهلى ال عليهه وسهلم ،التهى تحمهل رسهالته مهن بعده ،ورسهالته صهلى ال عليهه وسهلم موجههة إلى
البشرية كافة ،وإلى الزمن كله ،من لدن بعثته إلى أن يرث ال الرض ومن عليها.
وهى رسالة ذات شقين :شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد ،لدعوتهم إلى اليمان؛ وشق موجه للذين آمنوا ،لتذكيرهم
وترسيخ إيمانهم:
((يأيها الذين آمنوا آمنوا بال ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل))(.)3
ولكن المة السلمية تمر اليوم بظروف خاصة ،ربما لم تمر بها من قبل ،فقد هبطت معرفتها بالسلم إلى أدنى حد وصلت إليه
فى تاريخها كله ،وأما ممارستها للسلم فهى أدنى من ذلك بكثير!
ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها فى الظروف السابقة ،فلم تعد مجرد التذكير ،بل أوشكت أن تكون إعادة
البناء ،الذى تهاوت أسهسه وأوشكهت أن تنهار ،فهى الوقهت الذى تداعهت فيهه المهم على المهة السهلمية مهن كهل جانهب ،كمها أخهبر
الرسول صلى ال عليه وسلم (( :يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة على قصعتها)) .قالوا :أمن قلة نحن يومئذ يا
رسول ال؟ قال(( :بل أنتم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل ،ولينزعن ال المهابة من صدور أعدائكم ،وليقذفن فى قلوبكم
الوهن)) .قالوا :وما الوهن يا رسول ال؟ قال(( :حب الدنيا وكراهية الموت))(.)4
وكلنهها ثقههة أن البناء سههيعود بإذن ال ،وسهيعود شامخاً كمهها كان .والمبشرات كلههها تشيههر إلى جولة جديدة للسههلم ،ممكنهة فهى
الرض ،على الرغهم مهن كهل الحرب التهى تشنهها الجاهليهة فهى الرض كلهها على السهلم .ولكنهها مهمهة شاقهة فهى الغربهة الثانيهة
للسلم(( :بدأ السلم غريباً ،وسيعود غريباً كما بدأ))( ..)5مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة.
ففهى الغربهة الولى كان السهلم معلوماً عنهد الناس فهى أصهوله العامهة على القهل ،وههى اليمان بال الواحهد واليمان بالوحهى
والنبوة واليمان بالبعث ،سواء فى ذلك من دخل فى الدين الجديد ،ومن وقف يحاربه أشد الحرب ،ويرصد طاقته كلها لمحاولة
القضاء عليهه ،وإنمها كان سهبب الغربهة قلة المؤمنيهن بهه ،وضعفههم وهوانههم على الناس ،وكثرة الرافضيهن له ،وطغيانههم فهى
الرض.
قال ورقة بن نوفل لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،حين أخبرته خديجة رضى ال عنها بقصة الوحى :ليتنى أكون فيها جذعاً
حين يخرجك قومك! قال(( :أو مخرجى هم؟)) قال :ما جاء أحد بمثل ما جئت به إل عودى!(.)6
وسهأل رجهل رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم :إلى أى شهئ تدعهو الناس؟ قال(( :أدعوههم لل إله إل ال)) .قال :قال هذا أمهر ل
تتركه لك العرب!
أما فى الغربة الثانية فالمر مختلف ،وإن كانت الغربة غربة فى جميع الحوال.
السههلم اليوم غريههب على أهله ،فضلً عههن غربتههه على باقيههة الناس ،وحيههن تعرضههه عليهههم على حقيقتههه يسههتوحشون منههه،
ويقولون لك :من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو السلم الذى نعرفه!
حيهن قول للطائف حول الضريهح ،يتمسهح بهه ،ويطلب البركات مهن صهاحبه المتوفهى منهذ سهنين أو منهذ قرون :أن هذا شرك ل
يجوز! يقول لك :من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذى تريد أن تجرد السلم من روحانيته!
وحين تقول لستاذ علم الجتماع ،وأستاذ علم النفس ،وأستاذ التربية ،وأستاذ التاريخ ...إن ما درستموه من علوم الغرب ،وما
تدرسهونه لطلبكهم مخالف للمفاهيهم السهلمية ،وفهى بعهض الحيان مصهادم مصهادمة صهريحة للعقيدة ،يقولون لك -إل مها رحهم
بك :-ما للسلم وهذه المور؟ تريدون أن تحشروا السلم فى كل شئ؟ هذا علم ،والسلم دين! والدين ل دخل له بالعلم!
ومئات مهن المور ..حيهن تعرض حقيقهة السهلم فيهها للناس يسهتوحشون،وفهى أقهل القليهل يسهتغربون ،وتحتاج إلى جههد كهبير
لقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند ال ،وليس ما تصوروه هم على أنه السلم!
وذلك كله فى مجال((المعرفة)) ..أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!
إن المعرفهة وحدهها ل تكفهى ،وإن كانهت ههى البدايهة التهى لبهد مهن البدء بهها قبهل كهل شهئ ،وقهد كانهت الكلمهة الولى التهى بدأ بهها
الوحى هى كلمهة((اقرأ))( ،)1ثهم نزل على رسول ال صلى ال عليهه وسلم بعهد فترة قوله تعالى(( :فاعلم أنه ل إله إل ال))(.)2
والعلم -كمها فهمهه السهلف الصهالح رضوان ال عليههم -ليهس مجرد المعرفهة ،إنمها ههو المعرفهة التهى تؤدى إلى العمهل ،ومهن ثهم
انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها.
ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم ل إله إل ال قد استغرق من جهد الرسول صلى ال عليه وسلم شيئاً غير قليل فى غربة
السلم الولى ،فإن الجهد الحقيقى الذى بذله رسول ال صلى ال عليه وسلم -فى مكة خاصة -كان هو تربية المؤمنين الذين
قبلوا الحق وآمنوا به ،على مقتضيات ل إله إل ال ،مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق ،بدءاً بتربية القاعدة الصلبة
الراسخة البنيان ،ثم تربية سائر الناس.
واليوم -فى غربة السلم الثانية -تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد فى المرين معاً :التعريف والتربية.
فالتعريهف بالسهلم لقوم يعرفون بعضهه ويجهلون بعضهه ،ويظنون فهى الوقهت ذاتهه أنههم يعرفونهه كله ،مشكلة تحتاج إلى جههد
ليهس بالقليهل .أمها التربيهة -بالنسهبة للقاعدة على القهل -فمشكلة تحتاج إلى جههد أكهبر؛ لتعدد مجالت التربيهة المطلوبهة مهن جههة،
ولن النفوس ل تتخلى عهن مألوفاتهها بسههولة ،ول تسهتجيب اسهتجابة فوريهة لكهل مها يطلب منهها مهن تكاليهف ..فضلً عهن كون
المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة ،بل إعداد شخصيات فائقة التكوين ،تصلح لحمل المهمة الضخمة التى تواحهها.
ومهن المههم -إلى الدرجهة القصهوى -أن نعرف كيهف ندعهو الناس ..فالزمهة التهى يمهر بهها العالم السهلمى اليوم أزمهة حادة ،ربمها
كانهت أشهد أزمهة مرت بهه فهى التاريهخ ..وتجمهع العداء لحرب السهلم ،بمها لم يسهبقه مهن قبهل تجمهع بهذا الحجهم وبهذا الصهرار.
وحاجة البشرية إلى السلم اليوم ل تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم .
وما لم نسر فى طريق الدعوة على خطى مستبصرة ،مستمكنة فى ذات الوقت ،فقد ل نصل إلى ما نهدف إليه ،وقد يذهب الكثير
من جهدنا بغير طائل حقيقى.
ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيرى منذ أمد ليس بالقصير ،فيرد على خاطرى سؤال ملح :كيف ندعو الناس؟ ما السلوب
الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى فى مسيرة الدعوة -بين الحين والحين -ما يبدو أنه تقصير فى بعض الجوانب ،أو تعجل فى
بعض الجوانب ،أو انحراف فى بعض الجوانب ..فأقول فى نفسى :إنه لبد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلل ما يزيد عن
نصف قرن؛ حتهى نستكمل مها وقهع فهى مسيرتنا مهن نقهص ،ول نكرر مها وقعنها فيهه مهن أخطاء ،وحتهى نستفيد مهن عهبرة الماضهى
لتقويم الحاضر ،وتسديد العمل من أجل المستقبل ،وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة فى كل مرحلة من مراحل السير.
وفهى هذه الصهفحات ،أحاول أن أعرض مها يجول فهى خاطرى مهن أفكار فهى هذا الشأن ،وههو أولً وآخراً اجتهاد يخطهئ ويصهيب،
أدعهو ال أن يوفقنهى فيهه إلى السهداد(( :إن أريهد إل صهلح مها اسهتطعت ومها توفيقهى إل بال عليهه توكلت وإليهه أنيهب))(هود :
.)88
محمد قطب
ل لكل من أراد أن يدعو ،أو يتحرك بهذا الدين فى نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الول؛ لن فيها زاداً كام ً
عالم الواقههع ،فقههد صههنع ذلك الجيههل على عيههن ال سههبحانه وتعالى ،كمهها قال سههبحانه لموسههى عليههه السههلم (( :ولتصههنع على
عينى))(طه ،)39 :ونشأ على يدى أعظم مرب فى تاريخ البشرية ،محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكان جيلً فريدًا فى
تاريهخ البشريهة كله ،يوجههه ال بالوحهى ،ويتابعهه رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم بالتربيهة والتوجيهه ،فاكتملت له كهل وسهائل
النشأة الصهحيحة فهى أعلى صهورة ،فأصهبح كالدرس ((النموذجهى)) ،الذى يلقيهه السهتاذ ليعلم طلبهه كيهف يدرسهون ،حيهن يئول
إليهم أمر التعليم.
ثهم إن إرادة ال سهبحانه وتعالى قهد اقتضهت أن يتهم أمهر هذا الديهن على السهنن الجاريهة – ل الخارقهة -لحكمهة أرادهها ال ،لكهى ل
يتقاعس جيل من الجيال فيقول :إنما نصر الجيل الول بالخوارق ،وقد انقطعت الخوارق بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم !
فما كان فى هذا الدين من عناصر غير بشرية ،فهو الوحى المنزل من عند ال ،وذلك باق ومحفوظ بحفظ ال(( :إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون))(الحجر.)9:
وههو بالنسهبة للجيهل الول كالجيهل الخيهر ،ههو كلمهة ال لهذه المهة ،وللبشريهة كافهة ،تحمهل حقيقهة هذا الديهن ،وتحمهل المنههج
الربانهى ،الذى يريهد ال مهن البشهر ،إلى قيام السهاعة ،أن يقيموا عليهه حياتههم ،ويؤسهسوا عليهه بنيانههم ،سهواء كان ههو الكتاب
المنزل ،أو البيان الذى قام بهه رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم لهذا الكتاب ،بالسهنة القوليهة أو العمليهة(( :وأنزلنها إليهك الذكهر
لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) (النحل(( . )44 :وما ينطق عن الهوى ( )3إن هو إل وحى يوحى))(النجم -3 :
.)4
أما قتال الملئكة مع المؤمنين فى بدر ،فلم يكن هو فى ذاته الخارقة(( :إذ يوحى ربك إلى الملئكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا
سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق العناق واضربوا منهم كل بنان))(النفال .. )12 :فنزول الملئكة وتثبيتهم
للبشهر ،ل يقتصهر على معركهة بدر ،إنمها قهد يحدث بأمهر ال فهى أيهة مناسهبة(( :إن الذيهن قالوا ربنها ثهم اسهتقاموا تتنزل عليههم
الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون( )30نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الخرة( ))..فصلت
. )31-30 :
إنما كانت الخارقة هى رؤية المؤمنين للملئكة وهى تقاتل معهم (( :وما جعله ال إل بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر
إل من عند ال العزيز الحكيم))(آل عمران .)126 :
وإذا كان ال سهبحانه وتعالى قهد اختهص بهها أههل بدر مهن دون المؤمنيهن ،فقهد كانهت بدر حدثها كونياً ل يتكرر كهل يوم (( :يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان))(النفال .. )41 :فهى التى كتبت التاريخ ،وليس فى كل يوم يكتب التاريخ ..إنما تكتب منه سطور
إثر سطور!
وفيما عدا هذه الخارقة التى اختص بها أهل بدر ،كوفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى ال عليه وسلم ،فقد جرت أمور
السهلم كلهها على السهنة الجاريهة ،مهن اسهتضعاف فهى المبدأ ،وابتلء وصهبر وتمحيهص ،ثهم تمكيهن على تخوف ،ثهم تمكيهن على
اسهتقرار وقوة ،ثهم انتشار فهى الرض .لذلك فإن الدروس المسهتفادة مهن نشأة الجيهل الول ههى دروس دائمهة ،ل تتعلق بالنشأة
الولى وحدهها ،وإنمها ههى قابلة للتطهبيق فهى كهل مرة تتشابهه فيهها الظروف أو تتماثهل ،لنهها سهنن جاريهة ،وليسهت حوادث مفردة
عابرة ل تتكرر 0
وإذا كان ال سبحانه وتعالى قد وجهنا فى كتابه المنزل ،لتدبر السنن الربانية ،ودراسة التاريخ – الذى هو فى الحقيقة مجرى
السنن فى عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر ،ولتكون هادياً لنا
فى كل تحرك نقوم به ،ومحكاً لستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه 0
***
مهن أشهد مها اسهتوقفنى فهى مسهيرة الجيهل الول ،ذلك المهر الربانهى للمؤمنيهن أن يكفوا أيديههم فهى مرحلة التربيهة بمكهة ،وأن
يتحملوا الذى صابرين ،وقد أشار ال إلى هذا المهر فى قوله تعالى ،مذكرًا به(( :ألم تر إلى الذيهن قيل لههم كفوا أيديكم وأقيموا
الصلة وآتوا الزكاة))(النساء .)77 :
وكان بعض الصحابة رضوان ال عليهم قد سأل الرسول صلى ال عليه وسلم حين اشتد الذى بالمؤمنين :أل نقاتل القوم؟ فقال
عليه الصلة والسلم (( :ما أمرنا بقتالهم))(.)1
ولم يرد فهى النصهوص – ل فهى الكتاب ول فهى السهنة – بيان لحكمهة هذا المهر الربانهى ،ومهن ثهم فالمهر متروك للجتهاد لمعرفهة
الحكمة منه ،وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته ،أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا فى معركة مع قريش فى ذلك
الحين ،فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التى تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا فى معركة فى ذلك الوقت
0
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة ،أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين ،وهم حينئذ قلة مستضعفة
ل سهند لهها ،فينتههى أمهر الدعوة الجديدة فهى معركهة واحدة أو عدة معارك متلحقهة ،دون أن يتحقهق الهدف ،ودون أن يتعرف
الناس على حقيقة الدعوة ،ودون أن يكتب لها النتشار .
ونفترض أن المعركهة – على الرغهم مهن عدم تكافئهها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنيهن كلههم ،فثمهة أمهر آخهر على غايهة مهن الهميهة،
يلفت انتباهنا بشدة ،لتصاله بما يجرى من أحداث فى وقتنا الحاضر 0
لمن كانت الشرعية فى تلك المرحلة فى مكة؟ لقد كانت فى حس الناس جميعاً لقريش!..
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية !..
وصهحيح أن قريشاً تشتهد فهى ((التأديهب)) إلى حهد الفظاظهة والقسهوة ،وأن بعهض الناس قهد يتأذى لهذه الفظاظهة ،حتهى ليحاول أن
يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين ،ولكن يظل المر فى حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشاً
هى صاحبة الشرعية ،وأن المؤمنين خارجون على الشرعية ،وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ فى معركة مع قريش ،وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كل بالطبع !
والن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للمر الربانى وكفوا أيديهم 0
ففهى البيئة العربيههة المعروفههة ((بإباء الضيههم)) ،والتهى تحدث فيههها المعارك الضاربههة ،لسهباب نرى نحهن اليوم أنههها تافهههة ،ل
تسههتحق أن تراق فيههها قطرة دم واحدة ،وقههد تطول تلك المعارك سههنوات عديدة ،ويفنههى فيههها كثيههر مههن الخلق كمعركههة داحههس
والغبراء( ..)2فى البيئة التى يمتشق فيها الرجل الحسام لدنى إهانة توجه إليه ،والتى يقول فيها عنترة :
للحرب دائرة على ابنى ضمضم ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
فى تلك البيئة ،يؤذى رجال ذوو حسب ونسب ،منهم من هو من أشراف قريش ذاتها ،ثم ل يردون!
شىء يلفت النظر ولشك ،لنه مخالف مخالفة تامة لعراف البيئة ..
بعبارة أخرى ،شىء ليس من صنع البيئة ..فلبد أن يكون من صنع شىء آخر خلف البيئة!
هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك ،ففى سبيل أى شىء يحتمل هؤلء ما يقع عليهم من الذى ،ثم يظلون مصرين على
التمسك بما يعرضهم للذى؟
أفى سبيل شرف القبيلة؟ أفى سبيل مغنم من مغانم الرض؟ أفى سبيل شهوة من شهوات الرض؟
وقهد تفههم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليهد ،يسهتمسك الناس بهها ،وقهد يقاتلون مهن أجلهها ،أمها أن يتحملوا الذى فهى
سبيلها –وهم ل يردون – فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة ،بيئة العراف والتقاليد !
إن الذى يشتهد حتهى يصهبح مقاطعهة اقتصهادية واجتماعيهة ،ويصهل إلى حهد التجويهع ،بهل يصهل ببعهض الناس حتهى الموت ،ول
يتخلفون عن عقيدتهم!
ل يمكهن – فهى عرف البيئة ،ول فهى عرف البشهر عامهة – أن يتحمهل الناس مثهل هذا الذى مهن أجهل باطهل ..إنمها لبهد أن يكون
حقاً يعتقده صاحبه ،ويحتمل الذى من أجله ،ويموت من أجله 0
بل إن هذا الحق الذى يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته ..وحتى من نفسه ،حتى من حياته .
تلك المعانى كلها ،التى برزت للوجود من خلل ((كفوا أيديكم)) هى التى أتت بالنصار من المدينة ،حتى وإن لم تغير كثيرًا من
الحوال فى مكة !
نستطيع أن نقول فى عبارة موجزة :إن أههل مكهة اصهطلوا النار ،ولكهن أههل المدينة استضاءوا بهها عهن بعهد ،فاهتدوا إلى الحهق
الذى شاء ال لهم أن يهتدوا إليه .
***
ولم يكهن هذا وحده ههو الذى اتضهح للنصهار ،مهن خلل ((كفوا أيديكهم)) ..لقهد اتضهح أمهر أخهر له أهميتهه البالغهة فهى خهط سهير
الدعوة ،وهو قضية ((الشرعية)).
يقول سبحانه وتعالى فى سورة النعام ،وهى سورة مكية(( :وكذلك نفصل اليات ولتستبين سبيل المجرمين))(النعام .)55 :
وكأن المعنى :نظل نفصل اليات حتى تستبين سبيل المجرمين 0
وورود هذا المعنى فى آية مكية له دللة واضحة ،أو ينبغى أن تكون واضحة ،فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود ،تبينه لم
التعليهل فهى قوله تعالى (( :ولتسهتبين)) .ونزول هذه اليهة فهى الفترة المكيهة ،معناه أن اسهتبانة سهبيل المجرميهن ههى مهن أهداف
الدعوة ،بل من لوازم الدعوة فى الفترة الولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة 0
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين :أو ًل :بيان من هم المجرمون؟ وثانياً :بيان السبيل الذى يسلكونه ،والذى من أجله
أصبحوا مجرمين 0
لقد فصلت اليات قضية اللوهية ،وهى القضية الولى والكبرى فى القرآن كله ،والسور المكية بصفة خاصة .
فصهلت اليات أنهه إله واحهد ل شريهك له ،ول يمكهن أن يكون له شركاء فهى الخلق ول فهى التدبيهر ،ول فهى أى شأن مهن الشئون،
وظلت اليات تتنزل مبينة صفات ذلك الله ،وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً ،سواء لمن آمن أو لمن كفر،
فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به ،حتى قالوا كما
روى ال عنهم(( :أجعل اللهة إلهاً واحدًا إن هذا لشىء عجاب))(ص.)5:
ولمها تهبين أنهه إله واحهد ل شريهك له ،طلب مهن الناس أن يعبدوه وحده بل شريهك؛ لنهه وحده الحقيهق بالعبادة ،وأن ينبذوا مها
يدعون من اللهة الزائفة ،وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ،ول يتبعوا من دونه أولياء(( :اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ول
ل ما تذكرون))(العراف.)3 : تتبعوا من دونه أولياء قلي ً
وعلى هذا فقد انقسهم الناس فريقين اثنيهن :فريهق المؤمنين ،وهم الذيهن آمنوا أنه إله واحهد ،فعبدوا وحده بل شريهك ،واتبعوا مها
أنزل إليهم من ربهم ،وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به ،وأن يعبدوه وحده ،وأن يتبعوا ما أنزله إليهم 0
لقهد كانهت قبهل تفصهيل اليات ههى صهاحبة الشرعيهة ،وكان المؤمنون فهى نظهر قريهش ،وفهى نظهر الناس أيضاً ،خارجيهن على
الشرعية ،فما الموقف الن بعد تفصيل اليات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بال الواحد ،وتبعده وحده بل شريك ،وتتبع ما
أنزل ال؟ ههل بقيهت ههى صهاحبة الشرعيهة ،وبقهى المؤمنون ههم الخارجيهن على الشرعيهة؟ أم تبدل الحال عنهد بعهض الناس على
القل ،فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين ،وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنهها نقلة هائلة فهى خهط سهير الدعوة ،أن يتهبين الناس مهن ههم المجرمون ،ومها سهبيلهم ،ويتهبينوا فهى المقابهل مهن ههم الذيهن على
الحق ،وما هو سبيل الحق 0
ولقهد كان الشكال بالنسهبة لقريهش خاصهة أنههم ههم سهدنة البيهت ،الذى يعظمهه العرب جميعاً ،فضلً عهن كونههم أصهحاب ثروة
وأصهحاب جاه وحسهب ونسهب ،فاجتمعهت لههم بمقاييهس الجاهليهة كهل مقومات الشرعيهة ،ممتزجهة ببقايها الديهن المحرف الذى
ينتسههبون بههه إلى إبراهيههم وإسههماعيل عليهمهها السههلم ..فلم تكههن زحزحههة الشرعيههة عنهههم أمراً هيناً ،خاصههة والخارجون على
شرعيتهم ضعاف فقراء ل قوة لهم ول مال ول سند من أحد من ذوى السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هى التى يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة ،وتكشفهم على حقيقتهم ،وهى أنه مجرمون
ل شرعية لهم ،لرفضهم اليمان بال الواحد ،وعبادته وحده بل شريك ،واتباع ما أنزل ال 0
وهنا نسأل :لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش ،فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى
حهس الناس أن قريشًا ههى صهاحبة الشرعيهة ،وأن المؤمنيهن خارجون على الشرعيهة ،فههل كان يمكهن أن يسهتقر فهى خلد أحهد –
كمها اسهتقر فهى خلد النصهار – أن القضيهة لهها معيار أخهر غيهر سهدانة البيهت ،وغيهر المال والجاه ،وكثرة العدد ،ورصهيد العرف،
ورصههيد التاريههخ؟ وأن هذا المعيار هههو :ل إله إل ال ..هههو اليمان بألوهيههة ال وحده بل شريههك ،ومهها يترتههب على ذلك مههن
ضرورة اتباع مها أنزل ال ،وأن هذا ههو الحهق الذى ل شىء بعده إل الضلل ،وأن هذه ههى القضيهة الكهبرى التهى يقاس بهها كهل
شىء ،وينبنى عليها كل شىء؟
ههل كان يمكهن أن يصهل الحهق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريهق مهن الناس ،كمها وصهل إلى أفئدة النصهار ،لو أن المؤمنيهن
دخلوا معركههة مههع قريههش ،أم كان غبار المعركههة يغشههى على حقيقههة القضيههة ،وتنقلب القضيههة بعههد قليههل إلى قضيههة ضارب
ومضروب ،وغالب ومغلوب ،وتصههبح قضيههة ((ل إله إل ال)) على هامههش الصههورة ،إن بقههى لههها فههى حههس الناس وجود على
الطلق؟!
كانهت ههى التهى أتاحهت لقضيهة ل إله إل ال – وههى قضيهة الرسهل جميعاً مهن لدن آدم إلى محمهد صهلى ال عليهه وسهلم -أن تهبرز
نقيهة شفافهة واضحهة ،غيهر مختلطهة بأى قضيهة أخرى على الطلق ،فتنفهذ إلى القلوب التهى أراد ال لهها الهدايهة صهافية مهن كهل
غبهش ،فتتمكهن مهن تلك القلوب ،ويرسهخ فيهها اليمان ،كمها تنفهذ إلى القلوب التهى لم يرد ال لهها الهدايهة ،صهافية مهن كهل غبهش،
فيكفههر أصههحابها كفرًا ل شبهههة فيههه ،كفراً غيههر مختلط ل بالدفاع عههن النفههس ،ول الدفاع عههن المال ،ول الدفاع عههن المههن
هذا الوضوح الذى أتاحتهه للقضيهة ((كفوا أيديكهم)) ،ههو مهن مسهتلزمات الدعوة ..فبغيهر اسهتبانة سهبيل المجرميهن ،على أسهاس
((ل إله إل ال)) ،واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل ،على ذات الساس ،ل يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن
المعقول ،وتظل الدعوة ترواح مكانها ،إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من السباب 0
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلل ((كفوا أيديكم)) ،جاء النصار !
***
من هم النصار ؟
ههل ههم جماهيهر متحمسهة ،ألههب حماسهتها العجاب بشخهص الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم ،والتعاطهف مهع هذه الفئة الفذة مهن
البشر ،الذين صبروا على البتلء ،هذا الصبر الطويل الجميل ،وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلء ؟!
لشهك أن الحهب لرسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم كان قائماً فهى قلوبههم ،مهن كثرة رأوا وسهمعوا عهن خاصهله الكريمهة صهلى ال
عليه وسلم ،وقد كان نموذجاً فريدًا فى البشر ،ل يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلل التاريخ .ولشك أن التعاطف مع
المعذبين فى الرض ،كان قائماً فى قلوبهم ،من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب ،وألوان الصبر على التعذيب.
ولكهن هذا وذاك لم يكهن الدافهع الوحهد الذى يحركههم؛ إنمها حركههم ابتداء أنههم آمنوا أنهه ل إله إل ال ،وأن محمدًا رسهول ال ..
آمنوا بال ربها ،وبمحمهد صهلى ال عليهه وسهلم رسهولً ،وبالسهلم ديناً ،فجاءوا يبايعون على السهمع والطاعهة ،وعلى الموت
والحياة 0
قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم (( :تمنعونى؟)) قالوا :نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا .وقالوا :لو استعرضت
بنا الصحراء قطعناها ،ولو خضت بنا هذا البحر خضناه .
لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون فى موعدهم المقدر عند ال .
ولكن ماذا لو كان النصار رضى ال عنهم ،مجرد جماهير متحمسة ،جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب ..هل كانت
حماستهم تصبر على لواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتى الذن من ال العلى القدير برد العدوان ؟!
أما أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم فى الدعوة واعتناقهم السلم ،فأمر ل نظنه موضع شك ..وأما أن
المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم فى العقيدة،ن فأمر ل نظنه كذلك موضع شك ..أما أن الرسول صلى
ال عليه وسلم كان سيتحرك بهم فى خط الدعوة ،فأمر يحوطه الشك الكثيف ،ودليله سؤال الرسول صلى ال عليه وسلم لهم :
((تمنعونى))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم ،وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بل مواربة ،إنما كان عن خطوة أخرى وراء اليمان،
وهى تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق .
لم يكن الرسول صلى ال عليهه وسهلم سهيتحرك بهم ،لو أنهه رأى من أحوالههم أنههم مجرد جماهيهر متحمسة ،لم تجند نفسهها بعهد
للدعوة ..ولم يكهن سهيعتبر أن القاعدة قهد اتسهعت بتلك الجماهيهر المتحمسهة التهى آمنهت – نعهم – ولكنهها لم تجنهد نفسهها لحتمال
التكاليف 0
***
إن وجود النموذج الواقعى ،الذى يشهد للدعوة الجديدة ،هو النواة التى يحدث حولها التجمع ،ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة
((الم)) ،ثم يتسارع بعد ذلك ،كلما زاد حجم النواة ..سنة ربانية فى الكون المادى وفى حياة البشر سواء !
والنواة الم كانت هى الجماعة المؤمنة التى تكونت فى مكة حول رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والتى شكلها الوحى المنزل
مهن عنهد ال ،وصهقلها المربهى العظيهم صهلى ال عليهه وسهلم بمها أضفهى عليهها مهن روحهه ،وأعطاهها مهن جهده ،وتابهع نموهها
بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته ..ثم جاءت البتلءات فزادتها صقلً وصلبة وقرباً من ال .
ومن خلل ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الم التى صنعت التاريخ !
ولو كان المؤمنون قد دخلوا فى معركة مع قريش فى مكة ،لتأخر كثيراً تكون النواة الم ،ولتغيرت كثيرًا صفاتها التى اكتسبتها،
وذلك فوق الغبهش الذى كان سهيصيب قضيهة ل إله إل ال ،حيهن تتحول إلى قضيهة ضارب ومضروب ،وغالب ومغلوب ،ولتأخهر
كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء .
***
تم تحرير موضع النزاع ،إن صح التعبير ..إنه قضية ((ل إله إل ال)) دون غيرها من القضايا ..
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية ،ول على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول
ال صههلى ال عليههه وسههلم فأباههها ،وأصههر على ل إله إل ال ،والمؤمنون مههن جانبهههم لم يتحركوا حركههة واحدة ،تهدف إلى
الستيلء على السلطة))0.
ليس الصراع على ((شرف)) سدانة اليبت ،ول ((وجاهة)) خدمة الحجيج..
ليهس على القوة القتصهادية التهى تملكهها قريههش وحدههها دون المؤمنيههن ،وتحارب المؤمنيههن مهن خللههها بالحصههار والتجويههع،
والمؤمنون ل يتعرضون لها من قرب ول بعيد 0
الصراع كله على القضيهة الكهبرى التى ههى – والتى يجب أن تكون دائماً – القضيهة الولى ،والقضية الكبرى فى حياة النسان،
قضيهة مهن المعبود؟ ومهن ثهم مهن صهاحب المهر؟ مهن المشرع؟ مهن واضهع منههج الحياة؟ قريهش تريدهها حسهب أهوائهها وخيالتهها
وموروثاتها وأعرافها ،والمؤمنون حول رسول ال صلى ال عليه وسلم يريدونها ل 0
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة ،التى ستحمل البناء (.. )1
وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ،بتفصيل اليات واستبانة سبيل المجرمين 0
وتهم أخيراً اتسهاع القاعدة بالجنود الذيهن اسهتضاءوا بالنار التهى اكتوى بهها أههل النواة الم ،فتجمعوا بقدر مهن ال ،وبحسهب سهنة
من سنن ال ،حول تلك النواة ،مضيفين إليها قوة حقيقية فى الصراع..
إن التجرد ل عنصر من أهم العناصر التى تحتاج إليها الدعوة ،إن لم يكن أهمها على الطلق ،بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة،
وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.
فأما رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه .
كان عليهه الصهلة والسهلم ،فهى مبدأ قيامهه بالدعوة ،شديهد التأثهر بتكذيهب الناس له ،شديهد الحرص على هدايتههم ،شديهد الحزن
عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الربانى ،وذلك بما فطر عليه صلى ال عليه وسلم من حب الخير لجميع الناس 0
وكان الوحهى يتنزل عليهه صهلى ال عليهه وسهلم ،لتسهليته والتسهرية عنهه (( :قهد نعلم إنهه ليحزنهك الذى يقولون فإنههم ل يكذبونهك
ولكههن الظالميههن بآيات ال يجحدون))(النعام (( .)33 :واصههبر ومهها صههبرك إل بال ول تحزن عليهههم ول تههك فههى ضيههق ممهها
يمكرون))(النحل .)127 :
ويتنزل الوحهى لصهرفه صهلى ال عليهه وسهلم عهن شدة الحزن ،وشدة التطلع ليهة مهن عنهد ال تجعلههم يؤمنون(( :فلعلك باخهع
نفسهك على آثارههم إن لم يؤمنوا بهذا الحديهث أسهفا( )6إنها جعلنها مها على الرض زينهة لهها لنبلوههم أيههم أحسهن عمل( )7وإنها
لجاعلون مها عليهها صعيدا جرزا))(الكههف (( . )8-6 :وإن كان كهبر عليهك إعراضههم فإن استطعت أن تبتغى نفقها فهى الرض أو
سهلما فهى السهماء فتأتيههم بآيهة ولو شاء ال لجمعههم على الهدى فل تكونهن مهن الجاهليهن( )35إنمها يسهتجيب الذيهن يسهمعون
والموتى يبعثهم ال ثم إليه يرجعون))(النعام .)36-35 :
ويتنزل الوحهى ليقول للرسهول صهلى ال عليهه وسهلم :إن مهمتهه ههى البلغ فحسهب ،أمها النتائج فمهن صهنع ال وحده (( :إنهك ل
تهدى من أحببت ولكن ال يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين))(القصص)56:
ومن أشد ما يلفت النظر فى هذا الشأن ،أنه فى خلل فترة التربية فى مكة ،لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول صلى
ال عليهه وسهلم ،إنمها كان يقال له(( :وإن مها نرينهك بعهض الذى نعدههم أو نتوفينهك فإنمها عليهك البلغ وعلينها الحسهاب))(الرعهد :
. )40بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول ال صلى ال عليه وسلم .
يقول خباب بن الرت رضى ال عنهه :شكونها إلى رسهول ال صلى ال عليه وسهلم وهو متوسد بردة له فى ظهل الكعبة ،فقلناب
أل تسهتنصر لنها؟ أل تدعهو لنها؟ (وذلك لمها اشتهد إيذاء المشركيهن للمؤمنيهن فهى مكهة) فقال صهلى ال عليهه وسهلم (( :قهد كان مهن
قبلكهم يؤخهذ الرجهل ،فيحفهر له فهى الرض ،فيجعهل فيهها ،ثهم يؤتهى بالمنشار ،فيوضهع على رأسهه فيجعهل نصهفين ،ويمشهط بأمشاط
الحديد ما دون لحمه وعظمه ،ما يصده ذلك عن دينه .وال ليتمن ال هذا المر ،حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت،
ل يخاف إل ال والذئب على غنمه ،ولكنكم تستعجلون))(.)1
وبتوجيهات الوحى ،تجرد قلب الرسول صلى ال عليه وسلم ،حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته ،وتجرد للبلغ .ثم
ربهى رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم أصهحابه على التجرد ل ،حتهى خلت نفوسههم مهن حهظ نفوسههم ،كمها تحكهى عنههم كتهب
السيرة ،وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة ل .
ولمها علم ال مهن قلوبههم أنهها تجردت له ،مكهن لههم فهى الرض ،وأذن لههم فهى رد العدوان (( :أذن للذيهن يقاتلون بأنههم ظلموا
وإن ال على نصرهم لقدير( )39الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إل أن يقولوا ربنا ال ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض
لهدمهت صهوامع وبيهع وصهلوات ومسهاجد يذكهر فيهها اسهم ال كثيرًا ولينصهرن ال مهن ينصهره إن ال لقوى عزيهز( )40الذيهن إن
مكناهم فى الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج )41-39 :
يرى كثيهر مهن الناس أن مها كان طهبيعياً ومناسهباًن للجيهل الول فهى فترة التربيهة بمكهة ،ل ينطبهق على وضعنها الحاضهر ،ومهن ثهم
فعلينا أن ندرسه للتاريخ ،وليس للعبرة ول للقدوة !
وهذا المر يحتاج إلى تجلية واضحة ،لنه مفرق طريق فى العمل السلمى فى الوقت الحاضر ،وما لم تتضح الصورة تماماً –
وبموضوعية كاملة – فستظل تيارات العمل السلمى تتصادم مع بعضها البعض ،ول تصل إلى موقف موحد أو متجانس ،بينما
أعداء هذا الديههن يقفون موقفاً موحداً ،مههن أقصههى اليميههن إلى أقصههى اليسههار ،متكالبيههن كلهههم على المههة السههلمية ،يجاهدون
للقضاء عليها ،متعاونين متساندين ،كما حدث فى البوسنة والهرسك ،وفى كشمير ،وفى بلد الشيشان ،وفى كل مكان على ظهر
الرض 0
1رواه البخارى .
ولخطورة هذه القضية ،وما ثار حولها من جدل ،وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة ،نود أن نتدارسها بروية ،وأن نصل فيها
إلى تصور واضح ،غير متأثرين فيه بعواطفنا ،أو بمواقف نحبها أو نكرهها 0
لسهنا فهى المرحلة المكيهة بكهل تأكيهد! فنحهن – العامليهن فهى حقهل الدعوة ،والمسهتجيبين لهها – نصهوم ونحهج ،وقهد فرض الصهيام
ولحهج فهى المدينهة! ونحهن نحرم كهل مها حرم ال ،ونوجهب كهل مها أوجهب ال ،غيهر منحصهرين فيمها نزل مهن التحريهم والتحليهل فهى
مكة !
ولسهنا فهى المرحلة المدنيهة بكهل تأكيهد! فليهس الدعوة ممكنهة فهى الرض ،وشريعهة ال ليسهت ههى المحكمهة فهى الجزء الكهبر مهن
العالم السههلمى ،والقائمون بالدعوة إمهها مغيبون فههى السههجون ،أو معلقون على أعواد المشانههق ،وإمهها مضيههق عليهههم بمختلف
وسائل التضييق 0
فأين نحن على وجه الدقة؟ وأى منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذى اتبعه الرسول صلى ال عليه وسلم فى مكة بأمر من
ال؟ أم ههو منههج الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم فى المدينة ،الذى اتبعهه بأمهر مهن ال؟ أم شىء أخر غيهر هذا وذاك ،نجتههد فيهه
من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!
***
هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع ول شك ،يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع .
لقد كان الناس فى المجتمع المكى ينكرون فكرة الله الواحد إنكاراً مطلقاً ،حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء
بهه الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم مهن التوحيهد (( :أجعهل اللههة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب)) (ص .. )5 :بينمها نحهن فهى
العالم السلمى كله نقر بأن ال واحد ،ول نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع ال 0
وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً ،حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم
مهن عقيدة البعهث(( :وقال الذيهن كفروا ههل ندلكهم على رجهل ينبئكهم إذا مزقتهم كهل ممزق إنكهم لفهى خلق جديهد( )7أفترى على ال
كذباً أم بهه جنهة))(سهبأ .. )8-7 :بينمها نحهن – فهى العموم – نؤمهن بالبعهث ،والجزاء والحسهاب ،والجنهة والنار ،ودع عنهك القلة
القليلة الملحدة التى ل يقام لها وزن فى هذا المجال 0
وكان الناس ينكرون بعثة محمد صلى ال عليه وسلم ورسالته ،كما حكى القرآن عنهم(( :وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال
الكافرون هذا ساحر كذاب))() (ص ،)4 :كما قالوا (( :أؤنزل عليه الذكر من بيننا))(ص ..)8:ونحن – ودع عنك القلة الملحدة
التهى ل يقام لهها وزن – نؤمهن ببعثهة الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم ،وأنهه مرسهل مهن ربهه ،وأن القرآن كلم ال ،أنزله على
رسوله صلى ال عليه وسلم ،ل هو من كلم البشر ،ول هو من أساطير الولين ..
جاء السهلم لينفهى كهل وسهاطة بيهن العبهد والرب ،ويجعهل الصهلة مباشرة بيهن العباد وبيهن ال(( :وإذا سهألك عبادى عنهى فإنهى
قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون))(البقرة 0.)186 :
فماذا فعلت الصوفية فى عقائد الناس؟ لقد جسمت الشيخ فى حس المريد ،حتى أصبح واسطة بين العبد وربه ،ل يملك أن يدعو
ال باسهم مهن أسهمائه الحسهنى إل بإذن الشيهخ ،الذى يطلع على الفئدة ،ويقرر لكهل فؤاد مها يصهلح له مهن السهماء ،والمدة التهى
يستخدم فيها السم الممنوح له ،ويظل سلطان الشيخ قائماً فى قلوب المريدين ،حتى بعد موته بألف عام ،فالموت ل يحول بين
السلطان الروحى وبين القلوب ..والتمسح بالضريح ،والدعاء عنده ،والستغاثة والستعانة والذبح ،هى علمات الخلص من
المريد للشيخ ،وهى كذلك وسائط التقرب إلى ال!
ههل يختلف هذا كثيرًا عهن قول الذيهن كانوا يقولون (( :مها نعبدههم إل ليقربونها إلى ال زلفهى))(الزمهر .. )3 :أليهس هذا شركاً
واضح الركان؟
وجعههل اتباع البشههر فيمهها يشرعون بغيههر مهها أنزل ال بمثابههة اتخاذهههم أرباباً مههن دون ال ،على مسههتوى عبادة غيههر ال سههواء
بسههواء(( :اتخذوا أحبارهههم ورهبانهههم أرباباً مههن دون ال والمسههيح ابههن مريههم ومهها أمروا إل ليعبدوا إلههها واحدًا ل إله إل هههو
سبحانه عما يشركون))(التوبة .)31 :
فماذا فعلت العلمانية فى حياة الناس؟ كم حكومة فى الرض السلمية تحكم بما أنزل ال؟ وماذا يقال على ألسنة العلمانيين عن
شريعة ال؟ أليس هذا شركاً واضح الركان؟
يكمهن الشكال فهى الحكهم على الوضاع القائمهة اليوم فهى العالم السهلمى ،فهى التناقهض الشديهد بيهن مها يعلنهه الناس عقيدة لههم،
وما يمارسونه فى الواقع ..ثم الختلف فى الحكم على هذا التناقض ،هل هو مخرج من الملة ،أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى:
الشكال هو الحكم على الناس 0
وفهى رأيهى – مهن سهنوات عديدة – أن هذه القضيهة ل ينبغهى أن تشغلنها فهى مجال الدعوة ،ول ينبغهى أن نقهف عندهها ونفترق
حولها ،ونتجادل ونتحزب ،ويذهب كل فريق منا فى اتجاه 0
إن الناس – إل مهن رحهم ربهك – واقعون فهى الشرك ل جدال فهى ذلك ،سهواء شرك العتقاد ،أو شرك العبادة ،أو شرك الحاكميهة
(شرك التباع) ..ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة ،فليس كل من وقع فى الشرك يحكم عليه بأنه مشرك،
إل إذا توفرت فيه شروط معينة ،وانتفت عنه الموانع التى تمنع تنزيل الحكم عليه ..
((وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والئمة ،من إطلق القول تكفير من يقول كذا وكذا ،فهو أيضاً حق ،ولكن يجب التفريق
بين الطلق والتعيين ،وهذه أول مسألة تنازعت فيها المة من مسائل الصول الكبار ،وهى مسألة الوعيد ،فإن نصوص القرآن
فهى الوعيهد مطلقهة ،كقوله (( :إن الذيهن يأكلون أموال اليتامهى ظلمها)) اليهة ..وكذلك سهائر مها ورد :مهن فعهل كذا فله كذا ،فإن
هذه مطلقة عامة ،وهى بمنزل قول من قال من السلف :من قال كذا فهو كذا .ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو
حسهنات ماحيهة أو مصهائب مكفرة أو شفاعهة مقبولة ..والتكفيهر ههو مهن الوعيهد ،فإنهه وإن كان القول تكذيب ًا لمها قاله الرسهول
صلى ال عليه وسلم ،لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلم ،أو نشأ ببادية بعيدة ،ومثل هذا ل يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم
عليههه الحجههة .وقههد يكون الرجههل لم يسههمع تلك النصههوص ،أو سههمعها ولم تثبههت عنده ،أو عارضههها عنده معارض آخههر أوجههب
تأويلها ،وإن كان مخطئاً))(.)1
وقال رحمهه ال فهى مكان آخهر((( :)2فإن نصهوص الوعيهد التهى فهى الكتاب والسهنة ،ونصهوص الئمهة بالتكفيهر والتفسهيق ونحهو
ذلك ،ل يستلزم ثبوت موجبها فى حق المعين ،إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ،ل فرق فى ذلك بين الصول والفروع)).
وقال فى موضع ثالث((( :)3وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولن مشهوران ،وهما روايتان عن أحمد ،والقولن فى
الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم .والصحيح أن هذه القوال التى يقولونها ،التى يعلم أنها مخالفة لما جاء
بهه الرسهول كفهر ،وكذلك أفعالههم التهى ههى مهن جنهس أفعال الكفار بالمسهلمين ههى كفهر أيضاً .وقهد ذكرت دلئل ذلك فهى غيهر هذا
الموضهع ،ولكهن تكفيهر الواحهد المعيهن منههم ،والحكهم بتخليده فهى النار موقوف على ثبوت شروط التكفيهر وانتفاء موانعهه .فإنمها
نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ،ول نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام ،حتى يقوم فيه المقتضى الذى
ل معارض له ،وقد بسطت هذه القاعدة فى قاعدة التكفير)).
ليههس الذى يهمنهها أن نقول لفلن مههن الناس :أنههت مشرك(أو نقول عنههه ذلك) ،إنمهها مهمتنهها أن نقول له :إن مهها تفعله شرك،
وندعوه -بالحكمة والموعظة الحسنة -إلى الخروج من ذلك الشرك،والدخول فى حقيقة السلم.
ومهن جانهب آخهر فإن الوضاع القائمهة فهى العالم السهلمى -إل مها رحهم ربهك -أوضاع تحارب الدعوة ،وتمنهع الدعاة مهن بيان
الحقيقهة كاملة عهن اليمان ونواقهص اليمان ،خاصهة فيمها يتعلق بالتشريهع بغيهر مها أنزل ال؛ والسهجون والمعتقلت والمشانهق
محشودة فى الطريق ،تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة ل إله إل ال كما أنزلت من عند ال.
فما المنهج النسب للدعوة؟ إلى أى شئ ندعو؟ وعلى أى شئ نركز؟ وأى الوسائل يوصلنا -أو يقربنا -لما نريد؟
إذا تصهورنا الوضاع القائمهة على حقيقتهها ،وتخلصهنا فهى الوقهت ذاتهه مهن الشكالت التهى تترتهب على إصهدار أحكام على الجيهل
الحالى من الناس ،قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة ،فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من
الدعوة،وإن لم نكهن فهى وضهع مماثهل لهها تماماً ،بسهبب بعهض الفروق بيهن هذا الوضهع وذاك ،وههى فروق قهد تتسهبب فهى اختلف
الحكههم على الناس ،ولكنههها ل تغيههر الحكههم على الوضاع ،والوضاع هههى التههى تقرر فههى الحقيقههة منهههج الدعوة ،وتقرر أقرب
الوسائل إلى بلوغ الهداف.
ومهن هنها نجهد أن موضهع القتداء بالجيهل الول أوسهع بكثيهر ممها قهد يبدو عنهد الوهلة الولى ،وأن قضايها كثيرة يلزمنها أن نرجهع
فيها إلى تلك الفترة ،نتدبرها ببصيرة مفتوحة ،ونستلهم منها طريقنا فى الدعوة ،ونتطلع إلى فضل ال أن يلهمنا فيها الصواب.
***
إذا درسنا أحوال المة السلمية -كما ينبغى أن نصنع -فسنجد انحرافات كثيرة،وقعت فى مسيرة المة خلل الربعة عشر قرن ًا
الماضيهة ،ظلت تبعهد الناس رويداً رويداً عهن حقيقهة السهلم ،حتهى صهار السهلم إلى غربتهه الثانيهة التهى أخهبر عنهها رسهول ال
صلى ال عليه وسلم (( :بدأ السلم غريباً ،وسيعود كما بدأ))(.)1
وإذا تتبعنها هذه النحرافات -وينبغهى لنها أن نفعهل ،لنهه لبهد لنها مهن تشخيهص الداء ،لتحديهد نوع العلج -فسهنجد أن النحراف لم
يقتصر على السلوك وحده ،إنما تطرق إلى المفاهيم ،وأن كل مفاهيم السلم قد أصابها النحراف ،حتى مفهوم ل إله إل ال -بل
بدءاً بمفهوم ل إله إل ال -بالضافهههة إلى مفهوم العبادة ،ومفهوم القضاء والقدر ،ومفهوم الدنيههها والخرة ،ومفهوم الحضارة،
ومفهوم التربية ،ومفهوم الجهاد ..إلخ(.)2
فإذا كان المهر كذلك ،فبأى شهئ نبدأ؟ ههل لنها مناص مهن أن نبدأ بتصهحيح مفهوم ل إله إل ال؟ وههل يمكهن تصهحيح حياة الناس
على قاعدة إسههلمية ،إذا لم نصههحح مفهوم ل إله إل ال فههى عقول الناس وقلوبهههم؟ فأمهها العقول فمهمتههها إدراك الحههق ،وأمهها
القلوب فمهمتها تحويل الدراك الذهنى إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملى فى عالم الواقع ..وهذا هو طريق الصلح
0
لقهد أصهابه انحسهار شديهد ،حتهى أصهبحت ل إله إل ال مجرد كلمهة تقال باللسهان ،ل تأثيهر لهها فهى واقهع الكثرة الكاثرة مهن الناس،
إل مهن رحهم ربهك ،بهل إنهها لم تعهد مانعهة مهن الوقوع فهى الشرك عنهد كثيهر مهن الناس ،سهواء شرك العتقاد ،أو شرك العبادة ،أو
شرك التشريع 0
والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلى وقت البعثة ،أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح ،ويرفضون
فى الوقت ذاته أن يقولوا :ل إله إل ال ..أما الناس فى واقعنا المعاصر – إل من رحم ربك – فإنهم يقولون بأفواههم :ل إله
إل ال ،ثم يقعون فى الشرك بنوع من أنواعه ،أو بجميع أنواعه 0
1أخرجه مسلم.
2انظر إن شئت كتاب((مفاهيم ينبغى أن تصحح)).
وفى ظنى أنها مهمة شاقة ،ل تقل مشقة ،ول حاجة إلى بذل الجهد ،عما بذل فى الجولة الولى ،لزالة الغربة عن السلم أول
مرة ،بهل ربمها كانهت الغربهة الثانيهة أعسهر فهى إزالتهها مهن الغربهة الولى ،حيهث كان رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم حاضراً
بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع اللهام 0
لقهد كان العسهر فهى الجولة الولى ناشئاً مهن لدد الخصهومة ،بالضافهة إلى شدة التمسهك بعرف الباء والجداد(( :فإنمها يسهرناه
بلسهانك لتبشهر بهه المتقيهن وتنذر بهه قوماً لدا))(مريهم (( . )97 :وإذا قيهل لههم اتبعوا مها أنزل ال قالوا بهل نتبهع مها ألفينها عليهه
آباءنا أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئاً ول يهتدون))(البقرة .)170 :
أمها فهى الجولة الثانيهة ،فلن نجهد مشقهة فهى أن نجعهل الناس ينطقون بأفواهههم :ل إله إل ال ،فههم ينطقونهها صهباح مسهاء! ولكهن
المشقهة أنههم يظنون أنههم بمجرد نطقههم لل إله إل ال صهاروا مسهلمين ،ولصهقت بههم صهفة السهلم ،أياً كان سهلوكهم الواقعهى،
وأياً كان مدى نقضههم لمقتضيات ل إله إل ال فهى عالم الواقهع! وأنهك إن قلت لههم :إن لل إله إل ال مقتضيات ل يثبهت للنسهان
إسلمه إل بالتزامها ،وإل أخذ عليه إقراره اللسانى واعتبر مرتداً ،كذبوك! وقالوا :ما سمعنا بهذا فى آبائنا الولين!
إنههم – معظمههم – واقعون فهى لوثهة الفكهر الرجائى ،الذى يقول(( :مهن قال ل إله إل ال فههو مؤمهن ،ولو لم يعمهل عملً واحدًا
ل فى مسمى اليمان))! من أعمال السلم))! والذى يقول(( :اليمان هو التصديق ،أو هو التصديق والقرار ،وليس العمل داخ ً
والذى يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها ،مجرد معاص ،ثم يقول(( :ل يضر مع اليمان معصية))!
وإزالة آثار هذه اللوثهة من حياة الناس ،وردههم إلى المفهوم الصهحيح لليمان ،الذى كان عليه السلف الصهالح ،والذى يقول :إن
اليمان قول واعتقاد وعمهل ،ههو المهمهة كالحقيقيهة ((للغرباء)) ،الذيهن بشرههم رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم بجزيهل الجهر:
((طوبى للغرباء)) ،وقال عليه الصلة والسلم (( :فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتى))(.)1
وسهنتحدث عهن التربيهة فهى فصهل مسهتقل ،ولكنها هنها نقرر أن نقطهة البدء فهى الدعوة يجهب أن تكون ههى التعريهف بل إله إل ال،
التى صارت حقيقتها مجهولة فى غربة السلم الثانية ،وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!
ل عهن التربيهة على مقتضياتهها – ليهس مجرد معلومات تلقهى ،وليهس مجرد خطبهة ونقرر كذلك أن التعريهف بل إله إل ال – فض ً
أو درس أو موعظة ،إنما هو جهد حقيقى دائب ،يحتاج إلى متابعة ومثابرة ،ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها ،لتنقيتها
من الغبش الذى أحدثه الفكر الرجائى ،فضل عن الغبش الذى أحدثه الفكر العلمانى المستحدث ،وكلهما حمض أكال يوهن بناء
العقيدة ،ويفرغها من محتواها الحى ،ويفقدها قوتها الفاعلة التى كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها ال .
ثم نقرر أخيرًا أن الستعجال فى هذا المر – على أساس أنه أمر بدهى واضح ،ل يحتاج إلى بذل الجهد فيه ،أو على أساس أن
ما بذل من الجهد فيه ،فيه الكفاية ،أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة ،وليس لدينا وقت كثير ننفقه فى التعريف بل إله إل ال
– فضلً عهن التربيهة على مقتضياتهها -هذا السهتعجال ل يأتهى بخيهر ،ول يخدم الدعوة ،ول يجعهل لهها مردوداً مثمراً فهى نهايهة
المطاف 0
وموضهع القتداء هنها بالجيهل الفريهد ،أن نتدبر مدى عنايهة القرآن الكريهم بهذه القضيهة ،وعنايهة الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم
ببيانها ،فضلً عن التربية على مقتضياتها ،وأنها استغرقت الجزء الكبر من مجموع سنوات الدعوة ،ومن جهدها كذلك 0
وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية فى السور المكية ،أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين،
فلنتذكههر أننهها نواجههه اليوم بالدعوة قوماً واقعيههن فههى الشرك ،وإن لم يكونوا كلهههم بالضرورة مشركيههن ،وأن الشرك الذى هههم
واقعون فيه هو من ذات النواع التى كان العرب المشركون واقعين فيها :شرك العتقاد ،وشرك العبادة ،وشرك الحاكمية 0
ولكهن علينها أن نتذكهر كذلك أن التركيهز على هذه القضيهة ليهس سهببه دائم ًا أن المخاطهبين مشركون! فالمؤمنون كذلك يحتاجون
إلى مداومهة التذكيهر بهها وبمقتضياتهها ،والدليهل على ذلك أن الحديهث عهن ل إله إل ال لم ينقطهع فهى القرآن الكريهم ،حتهى بعهد أن
تكونت الجماعة المسلمة ،وتمكنت فى الرض ،ودخلت المعارك من أجل ل إله إل ال ،فقد أنزل ال فى سورة النساء(( :يا أيها
الذين آمنوا آمنوا بال والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم
الخر فقد ضل ضللً بعيداً))(النساء .)136 :
وأنزل ال آيات كثيرة فى السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والقتصادية والجتماعية ،بل إله إل ال ومقتضياتها 0
((يأيههها الذيههن آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسههول وأولى المههر منكههم فإن تنازعتههم فههى شىء فردوه إلى ال والرسههول إن كنتههم
تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويل))(النساء .)59 :
ومن ثم فليست ل إله إل ال درساً يتلى ثم ينتقل منه إلى غيره ،إنما هى – كما قلت فى كتاب سابق – درس يتلى وينتقل معه
إلى غيره ،ويظل هو حديث المة المسلمة إلى قيام الساعة 0
***
إنهه كمها حدده ال تعالى :الحكمهة والموعظهة الحسهنة (( :ادع إلى سهبيل ربهك بالحكمهة والموعظهة الحسهنة وجادلههم بالتهى ههى
أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين))(النحل .)125 :
ويجهب أن ندرك أن الحكمهة والموعظهة الحسهنة ليسهت ههى التربيهت على أخطاء الناس وانحرافاتههم ،ودغدغهة مشاعرههم ،لكهى
يرضوا عنا ويتقبلوا منا !
فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول صلى ال عليه وسلم إلى عمه أبى طالب ،فقالوا :سفه أحلمنا وسب آلهتنا وكفر آباءنا!
وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك ،هى مقتضى الحكمة كما نفذها رسول ال صلى ال عليه وسلم!
إنمها كانهت الحكمهة كهف اليدى ،وعدم الدخول مهع المشركيهن فهى معركهة فهى ذلك الوان ،مهع عدم اسهتفزازهم بمها يعطيههم مهبرراً
للعدوان ،مع التصريح بالحقائق كلها بل نقصان 0
وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر ،لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد :هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا-
أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
أمها العدوان مهن جانهب أى سهلطة ل تحكهم بمها أنزل ال ،فأمهر لبهد أن نتوقعهه دائماً؛ لنهه سهنة مهن سهنن ال ،ولم يحدث قهط أن
سلطة جاهلية رضيت عن دعوة ل إله إل ال ،أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة!
حينما قال شعيب عليه السلم لقومه (( :وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم ال
بيننها وههو خير الحاكمين)) (العراف ،)87 :لم يقبهل المل هذه المهادنهة ،وأصهروا على إخراج المؤمنيهن أو إكراهههم على ترك
دينهم (( :قال المل الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا
كارهين))(العراف.)88 :
وفى الجاهليات الحديثة التى تسمى نفسها ((ديمقراطية)) ،تتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات ،إل الفئة التى تدعو لل
إله إل ال! ويكفى ما حدث فى الجزائر نموذجاً لما نقول ،حيث التزم السلميون – بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه(– )1
التزموا قواعهد الجاهليهة ومنهجهها ،فوصهلوا إلى الغلبيهة عهن طريهق صهندوق النتخاب كمها تشترط الجاهليهة ،فإذا تلك الجاهليهة
تتنكر لكل مبادئها ،التى تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها ،وتقف للسلميين بالعنف تقول لهم :لنخرجنكم ..أو لتعودن !
ل مجال لن يسأل سائل :هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة ،ل تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالمر مفروغ منه!
إنمها السهؤال الذى سهألناه :ههل كان يحسهن بنها – أو يجدر بنها – أن ندخهل فهى صهراع مسهلح فهى الوقهت الحاضهر مهع أصهحاب
السلطان؟
وللجابهة على هذا السهؤال نعود لمراجعهة الدرس المسهتفاد مهن تاريهخ النشأة الولى ،والذى عالجناه فهى الفصهل الماضهى ،فنسهأ
بادئ ذى بدء :متههى أذن ال للمسههلمين فههى رد العدوان بقوله تعالى (( :أذن للذيههن يقاتلون بأنهههم ظلموا وإن ال على نصههرهم
لقدير))(الحج )39 :؟
والن فلننظر ،ماذا تحقق من هذه المور فى المسيرة الحالية ،وبأى قدر تحقق؟
هل تم تحير قضية ل إله إل ال ،ل نقول عند الجماهير ،بل عند الدعاة أنفسهم؟
ههل وضهح عنهد الدعاة أن التشريهع بغيهر مها أنزل ال شرك مخرج مهن اليمان ،وأن الرضهى بهذا التشريهع ههو كذلك شرك مخرج
من اليمان؟ أم ل يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية ،ما بين شاك وبين مقتنع؟
ودع عنك قضية الحكم على الناس ،فتلك قضية ل نتعرض لها هنا ،وندعو دائماً أل تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة ل إله
إل ال .
إنهمها قضيتان منفصهلتان – أو يجهب أن تكونها منفصهلين – إحداهمها عهن الخرى .إحداهمها قضيهة تعليميهة ،قضيهة بيان الحقائق
للناس ،تلك الحقائق التهى صهارت مجهولة عنهد كثيهر مهن الناس بسهبب الغربهة الثانيهة للسهلم ،وههى أمانهة ال ل بهد مهن أدائهها
وعدم كتمانها ،مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها ..والثانية قضية تطبيقية ،والتطبيق لبد أن يسبقه إقامة
الحجهة على الناس أولً ،بالبيان المسهتفيض المتحمهض للبيان ،بل اشتباك بأى قضيهة أخرى تغشهى عليهها ،وتلقهى عليهها ظللً
تصرف الناس عن حقيقتها 0
ونعود للسهؤال :ههل وضحهت قضية التشريهع بغيهر مها أنزل ال عنهد الدعاة أنفسههم – ودع عنهك الن جماهيهر الناس – أم ل يزال
يختلط عليهم قول ابن عباس رضى ال عنهما :كفر دون كفر ،كفر ل يخرج من الملة؟!
إن الذى قال عنه ابن عباس رضى ال عنهما إنه كفر دون كفر ،ليس هو التشريع بغير ما أنزل ال ،إنما هو الحكم فى قضية
ل أو تأولً أو شهوة أو لقاء رشوة أو هوى ،دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم ال 0
معينة بغير ما أنزل ال ،جه ً
إن القاضهى الذى يؤتهى له بإنسهان ثبهت شربهه للخمهر ،وتفوح مهن فمهه رائحتهه ،فل يقيهم عليهه الحهد ،لنهه تلقهى رشوة مهن أههل
الرجهل ،فالتوى عهن حكهم ال بحجهة مهن الحجهج ،ههو قاض فاسهق ،ولكنهه ل يكفهر بفسهقه ..أمها يوم يقول :إن شرب الخمهر ليهس
جريمهة ،أو إنهها جريمهة ل يقام عليهها حهد ،إنمها توقهع عليهها عقوبهة أخرى ،فإنهه يكون كافرًا كفراً مخرجاً مهن الملة ،لنهه أنشهأ
حكماً فى القضية مخالفاً لحكم ال ،وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً0
حيهن حكهم التتار بالياسهق وههو – كمها قال الحافهظ ابهن كثيهر رحمهه ال :مجموعهة أحكام بعضهها مأخوذ مهن القرآن ،وبعضهها من
النجيهل ،وبعضهها مهن التوراة ،وبعضهها مهن وضهع جنكيهز خان – قال ابهن كثيهر رحمهه ال ،فهى مناسهبة تفسهير اليهة الكريمهة :
((أفحكهم الجاهليهة يبغون ومهن أحسهن مهن ال حكمها لقوم يوقنون))(المائدة (( : )50 :ينكهر تعالى على مهن خرج عهن حكهم ال،
المشتمهل على كهل خيهر ،الناههى عهن كهل شهر ،وعدل إلى مها سهواه مهن الراء والصهطلحات التهى وضعهها الرجال بل مسهتند مهن
شريعة ال ،كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضللت والجهالت ،مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم ،وكما يحكم به التتار
مهن السهياسات الملكيهة ،المأخوذة عهن ملكههم جنكيهز خان الذى وضهع لههم الياسهق ،وههو عبارة عهن كتاب مجموع مهن أحكام
اقتبسهها مهن شرائع شتهى ،مهن اليهوديهة والنصهرانية والسهلمية وغيرهها ،وفيهها كثيهر مهن الحكام أخذهها بمجرد نظره وهواه،
فصهارت فهى بنيهه شرع ًا متبعاً ،يقدمونهه على الحكهم بكتاب ال وسهنة رسهوله صهلى ال عليهه وسهلم ،فمهن فعهل ذلك منههم فههو
كافر ،يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم ال ورسوله ،فل يحكم سواه فى قليل ول كثير))(.)1
وقههد علق على هذه القضيههة سههماحة الشيههخ محمههد بههن إبراهيههم بههن عبههد اللطيههف آل الشيههخ( )2فههى رسههالة ((تحكيههم القوانيههن
الوضعية)) – وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة فى الحق – بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه ال :
((فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل ال الكفر والظلم والفسوق ،ومن الممتنع أن يسمى ال سبحانه
وتعالى الحاكهم بغيهر مها أنزل ال كافرا ول يكون كافرا ،بهل ههو كافهر مطلقاً ،إمها كفهر عمهل وإمها كفهر اعتقاد .ومها جاء عهن ابهن
عباس رضى ال عنه فى تفسير هذه الية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل ال كافر ،إما كفر اعتقاد
ناقل عن ملة السلم ،وإما كفر عمل ل ينقل عن الملة؛ أما الول وهو كفر العتقاد فهو أنواع:
أحدها :أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل ال أحقية حكم ال ورسوله ،وهو معنى ما روى عن ابن عباس رضى ال عنه ،واختاره
ابن جرير ،أن ذلك هو جحود ما أنزل ال من الحكم الشرعى ،وهذا ما ل نزاع فيه بين أهل العلم ،فإن الصول المقررة المتفق
عليها بينهم أن من جحد أصل من أصول الدين ،أو فرعا مجمعا عليه ،أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ،
فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة 0
1تفسير ابن كثير ج 2ص 68
2المفتى السبق للمملكة العربية السعودية ،ومن أكابر علمائها .
الثالث :أل يعتقد أنه أحسن من حكم ال ورسوله ،ولكنه اعتقد أنه مثله ،فهذا كالنوعين اللذين قبله ،فى كونه كافرا الكفر الناقل
عن الملة ،لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق ،والمناقضة والمعاندة لقول ال عز وجل ((ليس كمثله شىء)) ونحوها
مهن اليات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيههه عهن مماثلة المخلوقيهن ،فهى الذات والصهفات والفعال ،والحكهم بيهن
الناس فيما يتنازعون فيه 0
الرابهع :أن ل يعتقهد كون الحكهم بغيهر مها أنزل ال مماثل لحكهم ال ورسهوله ،فضل عهن أن يعتقهد كونهه أحسهن منهه ،لكهن اعتقهد
جواز الحكم بما يخالف حكم ال ورسوله .فهذا كالذى قبله ،يصدق عليه ما يصدق عليه ،لعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم
ال ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه 0
الخامس :وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ،ومكابرة لحكامه ،ومشاقة ل ولرسوله ،ومضاهاة بالمحاكم الشرعية
إعدادا ،وإرصههادا ،وتفريعهها ،وتشكيل ،وتنويعهها ،وحكمهها ،وإلزامهها ،ومراجههع ومسههتندات ،فكمهها أن للمحاكههم الشرعيههة مراجههع
ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ،فلهذه المحاكم مراجع هى القانون الملفق من شرائع
شتهى ،وقوانيهن كثيرة ،كالقانون الفرنسهى ،والقانون المريكهى ،والقانون البريطانهى ،وغيرهها مهن القوانيهن ،ومهن مذاههب بعهض
البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك 0
السهادس :مها يحكهم بهه كثيهر مهن رؤسهاء العشائر والقبائل مهن البوادى ونحوههم ،مهن حكايات آبائههم وأجدادههم وعاداتههم التهى
يسمونها ((سوالف)).
وأمها القسهم الثانهى مهن قسهمى كفهر الحاكهم بغيهر مها أنزل ال وههو الذى ل يخرج مهن الملة ،فقهد تقدم أن تفسهير ابهن عباس رضهى
ال عنهه لقول ال عهز وجهل(( :ومهن لم يحكهم بمها أنزل ال فأولئك ههم الكافرون)) قهد شمهل ذلك القسهم ،وذلك فهى قوله رضهى ال
عنه فى الية ((كفر دون كفهر)) وقوله أيضاً ليس بالكفهر الذى تذهبون إليه أ.هه ،وذلك أن تحمله شهوته على الحكهم فى قضية
بغير ما أنزل ال مع اعتقاده أن حكم ال ورسوله هو حق ،واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى 0
وهذا إن لم يخرجههه كفره عههن الملة ،فإن معصههيته عظمههى أكههبر مههن الكبائر ،كالزنهها وشرب الخمههر والسههرقة واليميههن الغموس
وغيرهها ،فإن معصهية سهماها ال فهى كتابهه كفرا ،أعظهم مهن معصهية لم يسهمها كفرا .نسهأل ال أن يجمهع المسهلمين على التحاكهم
إلى كتابه ،انقيادا ورضاءً ،إنه ولى ذلك والقادر عليه)).
***
فههل اتضحهت القضيهة عنهد الدعاة أنفسههم ،أم مها يزال بعضههم تختلط عليهه المور ،مرة مهن مقالة ابهن عباس رضهى ال عنهمها،
ومرة من أثر الفكر الرجائى الذى يفصل بين اليمان والعمل ،حتى لو كان نقضاً صريحاً لل إله إل ال ،كالتشريع بغير ما أنزل
ال؟
وإذا كان المر ما يزال مختلط ًا عند بعض الدعاة ،فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد ما زال أمامنا ،حتى تتضح هذه
القضية بغير غبش فى حس الناس ،ويتمكنوا من رؤية الحق الربانى فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!
هذا فهى قضيهة الحاكميهة ،وههى ليسهت وحدهها التهى تحتاج إلى تجليهة فهى قضيهة ل إله إل ال ..فتحريهر القضيهة يسهتلزم تخليصهها
كذلك ممها يشتبهك بهها مهن قضايها الوطنيهة والقوميهة والعدالة الجتماعيهة ،وأمثال ذلك مهن القضايها التهى تداخلت معهها فهى مسهيرة
الدعوة 0
لقد كانت أمام الرسول صلى ال عليه وسلم قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للستكثار من ((الجماهير)).
كان الفرس يحتلون جزءا مهن الجزيرة العربيهة ،والروم يحتلون جزءاً أخهر ،وكان فهى إمكان الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم أن
يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير ،حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم :قولوا ل إله إل ال 0
وكانهت هناك قضيهة اجتماعيهة ،فالغنياء يصهلون إلى درجهة الثراء الفاحهش ،والفقراء يصهلون إلى درجهة الفقهر المدقهع ،ول أحهد
يفكهر فهى الحهد مهن غنهى الغنياء ،بالغاء الربهها – على القههل -وأخههذ جزء مههن الفائض عنههد الغنياء ،ورده على الفقراء لرفههع
وكان غيهر ذلك مهن القضايها مادة مفيدة فهى تجميهع الجماهيهر وإثارة حماسهتهم ،ثهم اسهتمالة الناس للدعوة مهن خلل تلك القضايها
العامههة ،التههى تسههتهوى بطبيعتههها كثيراً مههن الناس ،فيتجمعون لههها بسهههولة ،ويلتفون حول مههن ينادى بههها ،ويمنحونههه ودهههم
وحماسهتهم .ولكهن رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم -بتوجيهه مهن الوحهى الربانهى – لم يثهر أيهة قضيهة مهن هذه القضايها فهى فترة
التربيهة بمكهة؛ وإنمها أثار القضيهة الواحدة التهى جلبهت له عداء ((السهادة)) وبالتبعيهة عداء الجماهيهر ،وظهل مصهرا عليهها وحدهها،
حتى أذن ال أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل ال صلوات ال وسلمه عليهم 0
ولم يكن ذلك لن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية فى حياة المة ،كل! فقد تناولتها الحركة السلمية كلها واحدة إثر الخرى؛
ولكهن لن القضيهة الكهبرى – فهى المنههج الربانهى وفهى واقهع البشهر – ههى قضيهة ل إله إل ال ،التهى يتوقهف عليهها منههج حياة
النسان فى الدنيا ،ومصيره فى الخرة ،ولن قضايا الحياة كلها – فى المنهج الربانى – يجب أن تكون نابعة من ل إله إل ال،
ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً ،فيتوفر لها الصدق والخلص والتجرد .ومن ثم جرى المنهج الربانى على تحرير قضية ل إله إل
ال أولً ،وتجريدها من أى شىء يمكن أن يشوبها فى مرحلة التكوين ،لتكون عبادة خالصة ل ،هدفها رضوان ال وحده ،حتى
إذا تمحضهت فهى قلوب أصهحابها ،وصهلت بهها كهل قضايها الرض اللزمهة لحياة المهة ،دون خشيهة مهن اختلط المور فهى تلك
القلوب ،بينما الخشية قائمة فى مرحلة التكوين ،وحين يحدث الختلط فى المنشأ ،فما أسرع ما تغلب مصالح الرض ،وتصبح
مداخل للشيطان!
هل تجردت قضية ل إله إل ال فى قلوب الدعاة أنفسهم – ودع عنك الن قلوب الجماهير – فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة
ل ،غيههر مختلطههة بقضايهها القوميههة والوطنيههة والعدالة الجتماعيههة ،والدعاة – مههن أجههل اسههتمالة الجماهيههر – يتحدثون عههن
((اشتراكية السلم))(( ،وديمقراطية السلم)) ،و((التعددية فى السلم))؟
***
هل تم تحرير قضية الشرعية ،ل نقول عند الجماهير ،بل عند الدعاة أنفسهم؟
فهى الغربهة الثانيهة للسهلم – وخاصهة بعهد تنحيهة الشريعهة السهلمية عهن الحكهم فهى معظهم بلد المسهلمين – نسهينا معاييرنها
السلمية ،واستبدالنا بها معايير الغرب ،خاصة فى مجال ((السياسة الشرعية)).
والغرب يقول :إن مقياس الشرعيهة ههو النجاح فهى النتخابات ..فمهن فاز بأكهبر عدد مهن الصهوات فههو صهاحب الشرعيهة الذى
يحق له أن يتولى الحكم 0
ودعهك مؤقتاً مهن التغيهر الحاد الذى أصهاب هذا المعيار ،حيهن كان الفائزون بأكهبر عدد مهن الصهوات ههم السهلميين فهى الجزائر!
فقهد عودنها الغرب ((العظيهم!)) أن يكيهل بمكياليهن فهى أى قضيهة يكون المسهلمون طرفها فيهها ،وذلك لشدة إيمانهه بالقيهم والمبادئ
واحترام الخر ،واحترام حقوق النسان!!
دعك من الغرب ومواقفه ،وتعال نسأل السلميين :هل هذا هو المعيار السلمى فى هذه القضية؟
ههب أن إنسهاناً أو حزب ًا أو هيئة – أو مها يكون مهن الشكال السهياسية – حصهل على أغلبيهة سهاحقة فهى النتخابات ،حصهل على
مائة فى المائة من أصوات الناخبين ،ثم لم يحكم بما أنزل ال ،فهل تكون له شرعية فى دين ال؟!
لقد اختلط علينا – فى غربة السلم الثانية – أمران مختلفان :طريقة اختيار الحاكم ،ونوع الحكم الذى يحكم به الناس ..
وحين كان السلم هو الحاكم فى الرض السلمية ،تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة فى الحاكم ،وتكلموا عن
البيعهة الحرة ،وعهن الشورى ،وعهن غيرهها مهن المور المتعلقهة بسهياسة الحكهم ،وتحدثوا عهن ((فقهه الضرورة)) ،ومها يمكهن
التنازل عنهه مهن الشروط تحهت ضغهط الضرورة ،فقالوا (( :وللمتغلب السهمع والطاعهة)) ..ولكهن لم يدر فهى خلدههم قهط أن حاكماً
يمكن أن يشرع بغير ما أنزل ال ،ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!
إن الشرط الساسى لشرعية الحكم فى السلم ،أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية ،ومر بنا أنف ًا قول ابن كثير رحمه
ال فى الحاكم الذى ل يحكم بما أنزل ال ،إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة 0
إن الظههن بأننهها إذا حصههلنا على أغلبيههة فههى البرلمان ،فسههيترك لنهها المجال لتطههبيق شريعههة ال ،ظههن سههاذج إلى أقصههى درجات
ل على ذلك 0السذاجة ،ويكفى واقع الحال فى الجزائر دلي ً
ولكهن اختيارنها لهذا الطريهق – مهن حيهث المبدأ – مهن أجهل الوصهول إلى الحكهم ،ثهم محاولة تطهبيق شريعهة ال مهن هذا الطريهق،
مخالفهة شرعيهة؛ لنهه يجعهل الناس ههم المرجهع فهى اختيار نوع الحكهم الذى يحكمون بهه(( ،ول نتحدث هنها عهن اختيار الحاكهم))،
فإذا اختاروا السلم حكم السلم ،وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو السلم؟!
وأين نحن من قوله تعالى (( :وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الحزاب
.)36 :
إن مصهدر اللزام فهى تحكيهم شريعهة ال ليهس ههو اختيار البشهر أو عدم اختيارههم مها داموا مسهلمين ..فمها داموا مسهلمين فقهد
لزمههم التحاكهم إلى شريعهة ال بداههة ،وإل انتفهى اليمان عنههم إن أعرضوا عهن شريعهة ال ،واتجهوا إلى غيرهها مهن الشرائع،
وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!
((ويقولون آمنا بال وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( )47وإذا دعوا إلى ال ورسوله
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور )48-47 :
فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء .)65 :
حقيقهة إنهه ل يمكهن فهى عالم الواقهع أن يحكهم السهلم مها لم يكهن هناك مؤمنون ،يصهرون على تحكيهم شريعهة ال ،ويرفضون أى
شريعهة سهواها ،يقيناً منههم أن الرضهى بشرع غيهر شرع ال كفهر مخرج مهن الملة . .وأن هذه العينهة مهن المؤمنيهن ههى الن قلة
فهى المجتمههع تسهتضعفهم الجاهليهة وتعصههف بههم ..هذه حقيقهة ،ولكهن مقتضاههها هههو أن نظههل ندعههو ،ونظهل نهبين للناس هذه
الحقيقة ،أنه ل إيمان لحد إذا رضى بشرع غير شرع ال ،ونظل نربى الناس على مقتضيات هذه الحقيقة ،حتى تصبح القاعدة
المؤمنهة مهن القوة بحيهث يصهبح فهى يدهها مقاليهد المور ،وهذه ههى مهمهة الدعوة فهى وقتهها الحاضهر ،مهمها طال بهها المهر
لتحقيقها ،وليست مهمتها أن تستفتى الناس عن طريق صناديق النتخاب :هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم ل يريدون!
ل عن الجماهير ،أم إنهم انزلقوا بغير وعى منهم إلى معايير الديمقراطية
فهل وضحت هذه القضية فى حس الدعاة أنفسهم ،فض ً
التى تجعل الجماهير – فى ظاهر المر على القل( – )1هم المحكمين فى نوع الحكم ،وليس ال الذى له الخلق والمر (( :أل له
الخلق والمر)) (العراف ..)54 :وهذا مفرق طريق رئيسى بين الجاهلية والسلم!
***
نقول بادئ ذى بدء :إنهه إذا كانهت لم تتبلور بعهد قضيهة ل إله إل ال ،ول قضيهة الشرعيهة فهى حهس بعهض الدعاة على القهل،
فكيف تكون القاعدة قد قامت على المواصفات المطلوبة؟
إن القاعدة المطلوبهة – وههى تتكون أسهاساً مهن جيهل الدعاة الذيهن يعدون لنشهر الدعوة على نطاق أوسهع – تقوم على أسهاسين
كبيرين :فهم واع لحقيقة السلم ،وتربية عميقة على متطلبات هذا الدين وتكاليفه 0
وقد رأينا أن الفهم الواعى لحقيقة السلم ،ما زال يعتوره النقص فى قضيتين رئيسيتين من قضايا السلم ،وهما قضية ل إله
ل عهن قضايها أخرى سهيأتى الحديهث عنهها فيمها بعهد ،تتعلق بمنههج الحركهة ،أمها التربيهة فشأنهها
إل ال ،وقضيهة الشرعيهة ،فض ً
أخطر ،والنقص فى مجالتها أشد 0
وإذا رجعنها إلى النشأة الولى ،فقهد كان الههم الكهبر لرسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم فهى الفترة المكيهة ههو تربيهة القاعدة على
أسهس متينهة غايهة فهى المتانهة ،راسهخة شديهد الرسهوخ ،فائقهة مهن جميهع المجالت :اليمانيهة والخلقيهة ،التصهورية والسهلوكية،
الوجدانية والعملية 0
1فى مسرحية الديمقراطية تتوهم الجماهير أنها هى التى تحكم ،بينما الحكم فى الحقيقة فى يد الرأسمالية! أما من وجهة النظر السلمية فسواء كان الحكم
للجماهير حقيقة أم كان فى يد الرأسمالية فهو فى الحالين تشريع بغير ما أنزل ال 0
ل رئيسهي ًا مهن فصهول الكتاب ،ولكهن نقول هنها :إنهه يجهب علينها أن نعلم ابتدا ًء أن المطلوب
وسهنخصص لموضوع التربيهة فصه ً
للجولة الحاليهة – بالنسهبة للقاعدة – ليهس أى مسهتوى على علتهه ،إنمها مسهتوى خاص؛ لنهها تقوم بمهمهة خاصهة ،وتواجهه
عقبات من نوع غير عادى ،وعداوة فذة فى كيدها وتدبيرها ،ومقدار الغل الذى تحمله فى صدرها للسلم ..وليس أى مستوى
يصلح لتلك المهمة العظيمة ،ول لمواجهة تلك العقبات وتلك العداوات..
وعلى الرغم من المشقة الواضحة فى الوصول إلى المستوى المطلوب ،فإنه أمر ل حيلة فيه ول غنى عنه ،والمة – ممثلة فى
طليعتها – تدفع ثمن تقاعسها وتفلتها من حمل تكاليف هذا الدين ،ذلك التقاعس الذى أوصلها إلى تداعى المم عليها كما تداعى
الكلة على قصهعتها ..ولبهد مهن جههد غيهر عادى تبذله اليوم ،يعوض شيئاً مهن ذلك التقاعهس الذى اسهتمر أكثهر مهن قرنيهن مهن
الزمان ،تمكن العدو فيهما من المر ،وجثم على صدر المة ل يريد أن يتحرك 0
وإذا كان الجيهل الول ،وفيهم رسول ال صلى ال عليه وسهلم ،والوحهى يتنزل عليهم ،قهد بذلوا جهداً غيهر عادى لزالة الغربة
الولى للسلم ..فنحن – وليس فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بشخصه ،ول يوجه الوحى خطانا توجيهاً مباشرًا كالجيل
الول – أحوج إلى بذل أقصى غاية الجهد ،مستعينين بال العلى العظيم ،الرءوف الحليم ،أن يبارك جهدنا ويسدد خطانا ،ويكتب
على أيدينا إزالة الغربة الثانية 0
وأشد المجالت حاجة إلى بذل الجهد هو بناء القاعدة ،ولكن الذى نراه اليوم من عثرات فى العمل السلمى دليل ل يخطئ على
أننا تعجلنا الخطى ،ولم نعط قضية التربية ما تستحقه من الجهد ،بل لم ندرك فى بعض الحيان أن هذا المر أو ذاك محتاج إلى
تربية وإعداد!
***
هل اتسعت القاعدة إلى الحد المعقول ،الذى يتناسب ما هو مطلوب منها فى الجولة الحالية؟!
فأمها إن قصهدنا القاعدة الجماهيريهة ،فقهد اتسهعت ول شهك مهن خلل عمهل الدعوة الدائب ،مها يزيهد على نصهف قرن ،ومهن خلل
الشهداء الذيهن قدموا أرواحههم ودماءههم فهى سهبيل الدعوة ،ومهن خلل حماقات الجاهليهة فهى إزاقهة الدماء والسهجن والتشريهد
والتعذيهب للمسهلمين ،وتلك سهنة ربانيهة يغفهل عنهها الطغاة دائم ًا :أن الدعوة التهى يقدم لهها الدم ل تموت! والطغاة يحسهبون أنههم
إن أكثروا مهن إراقهة الدماء ،والسهجن والتشريهد والتعذيهب ،فسهيقضون على الدعوة ،ويجعلون هذا تحدياً قائماً أمامههم لبهد أن
ينتصروا فيه ،فيكون هذا ذاته هو قدر ال لتمحيص المؤمنين ،ومحق الكافرين فى نهاية المطاف(( :ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم
العلون إن كنتهم مؤمنيهن( )139ن يمسهسكم قرح فهق دمهس القوم قرح مثله وتلك اليام نداولهها بيهن الناس وليعلم ال الذيهن
آمنوا ويتخذ منكم شهداء وال ل يحب الظالمين( )139وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران .)141-139 :
نعم ،اتسعت القاعدة الجماهيرية ،وتفرعت وتشعبت وشملت العالم السلمى كله ،وانضم إليها ألوف وألوف من الشباب ،ولدوا
فى ظل النظم الجاهلية ،ولكن أراد ال لهم أن يختاروا طريق السلم ،متأثرين بنشاط الدعوة وحماقات الجاهلية ،ولكن ما وزن
هذه الجماهير بالنسبة للحركة؟
أمها أن الدعاة قهد فرحوا باتسهاع القاعدة على هذا النحهو فأمهر ل شهك فيهه ،وأمها أن هذه الجماهيهر قهد جندت أنفسهها للدعوة ،كمها
جند النصار أنفسهم لدعوة الرسول صلى ال عليه وسلم ،فأمر تحوطه الشكوك!
ونسأل أولً :هل هذه الجماهير المتحمسة للسلم تظل على حماستها حين ترتكب الجاهلية حماقاتها ،فتقتل المسلمين وتعذبهم
وتشردههم ،وتسهلبهم أمنههم وطمأنينتههم ،وتلحقههم بالذى والتنكيهل ،أم يقول قائلههم يومئذ :لذلك الحهد لم تبلغ صهداقتنا! ويتخلى
عن الطريق؟!
بههل لو فرضنهها جدلً أن المسههلمين تولوا الحكههم فههى بلد مههن البلد ،فقامههت الجاهليههة العالميههة :الصههليبية الصهههيونية ،تحاربهههم
بالحصهار القتصهادى – ودع عنهك الوسهائل الخرى – فههل تصهبر هذه الجماهيهر المتحمسهة على الجوع مهن أجهل إقامهة حكهم
السلم؟ أم ترتد على أعقابها بحثاً عن لقمة الخبز؟!
بل لو فرضنا جدلً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلد ولم تتعرض لهم الجاهلية العالمية بالحرب ،ل الحرب القتصادية
ول غيرها من أنواع الحرب ،ولكنهم فقط ألغوا الغانى المتسيبة المتميعة من الذاعة ،وألغوا المشاهد الخليعة من التلفزيون،
أليهس مهن الضرورى أن تتلقهى هذه الجماهيهر قدرًا مهن التربيهة على القهل ،لكهى تجنهد نفسهها لتكاليهف السهلم ،ول تنفهر مهن هذه
التكاليف حين يواجهها العداء بالحرب ،أو حين تقام فى الرض أحكام السلم؟
ومههن الذى يربههى تلك الجماهيههر ،والقاعدة ذاتههها لم تسههتكمل حظههها مههن التربيههة ،ولم تعههد نفسههها للتوسههع الجماهيرى ،فجاءت
الجماهير تلهبها الحماسة فلم تجد المربين؟!
أمها الحديهث عهن التجرد ل فحديهث شائك! ومها بنها أن نتكلم فهى حهق أحهد يعينهه ،ومها نهبرئ أنفسهنا ،وال وحده ههو المطلع على
دخائل النفوس (( :يعلم خائنة العين وما تخفى الصدور))(غافر . )19:ولكنا نقول فقط إن ظاهرة التنازع والشقاق والتشرذم
التى تحيط بالعمل السلمى اليوم تحمل دللة معينة :أن هناك نقصاً فى تربية ((الخوة السلمية)) فى نفوس العاملين فى حقل
الدعوة ،ونقصاً فى التجرد الحقيقى ل 0
ليهس الخلف فهى ذاتهه عيباً ،وإن كان ينبغهى أن تكون له ضوابهط تضبطهه ،بحيهث ل يصهبح تعصهبًا لهوى فهى النفهس ،أو لشخهص
من الشخاص ،أو فرقة من الفرق .وقد كان الصحابة رضوان ال عليهم يختلفون ،ولكنهم لم يكونوا يفترقون ،وهذا هو محور
القضية .حين نختلف نونحهن متجردون ل ،متجردون للحق ،فسيقل التنازع والشقاق والتشرذم دون شهك ،وتقهل ظاهرة التحزب
القائمة اليوم فى العمل السلمى ،والتى تؤدى إلى التعصب للرأى ،وللفكر ،وللقائد ،وللجماعة ،وللطريق 0
وبطبيعههة الحال ليههس الجتماع مطلوباً فهى ذاتهه ولو كان على الخطهأ ،فالخطهأ ل يخدم الدعوة ،والصهرار عليهه مفسههدة ،ولكهن
التجرد فى بيان الحق أدعى إلى تأليف القلوب ،من التنابذ بدعوى تصحيح الخطأ وإظهار الصواب!
وخلصة القول :أننا تعجلنا الطريق ،وأن أمامنا مشوارًا لبد أن نقطعه ،لنستحق عند ال التمكين 0
لقهد بين ال لنا طريهق التمكين (( :هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين( )62وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الرض جميعاً ما
ألفهت بيهن قلوبههم ولكهن ال ألف بينههم إنهه عزيهز حكيهم( )63يأيهها النهبى حسهبك ال ومهن اتبعهك مهن المؤمنيهن( )64يأيهها النهبى
حرض المؤمنين على القتال())..النفال)65-62 :
فتلك شروط أربعهة ،فهى أربهع آيات متواليات مهن سهورة واحدة ،تهبين الشروط السهاسية للنصهر :وجود مؤمنيهن صهادقى اليمان،
متآلفة قلوبهم ،متجردين ل ،مستعدين للقتال حين تقتضى ذلك ظروف الجهاد 0
فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة فى ضوء هذه الشرط فسنجد ول شك أننا قطعنا شوطاً ،ولكننا استعجلنا الطريق!
هناك ثلثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل فى الحركة المعاصرة :
أولً :عدم التقدير الدقيق لمدى بعد المة عن حقيقة السلم .
ثانياً :النخداع بحماسة الجماهير ،والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهى قريبة المنال 0
حيهن بدأت الدعوة قبهل أكثهر مهن نصهف قرن ،لم يكهن حال المهة قهد انكشهف تمام ًا مهن كهل جوانبهه ،فقهد كانهت بقايها مهن المظاههر
السهلمية تخايهل للرأى ،فيظهن أن الخيهر باق مها يزال ..لم يكهن الغزو الفكرى قهد تمكهن مهن المهة تمكنهه الحالى ،وكانهت بقايها
التقاليد تستر الخواء القابع وراءها ،فل تظهر الصورة على حقيقتها 0
فأما الغزو الفكرى فكان قد بدأ منهذ وقعت بلد العالم السهلمى فى قبضة الغرب ،وبدأ العالم السهلمى من جانبهه ينبهر بمها عند
الغرب من تقدم مادى وعلمى ،بينما المسلمون يؤمئذ متخلفون فى جميع الميادين ،ثم عملت مناهج التعليم ووسائل العلم على
تعميهق الغزو وترسهيخه ،وتخريهج أجيال تنسهلخ تدريجي ًا مهن السهلم ،وتدخهل تدريجياً فهى عمليهة التغريهب ..ولكنهه حيهن بدأت
الدعوة قبهل أكثهر مهن نصهف قرن ،لم يكهن قهد آتهى ثماره كاملة ،فلم يكهن يتعرى على الشاطهئ إل نسهاء الطبقهة الرسهتقراطية! أمها
باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التى صارت إليها فيما بعد ،والتى قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى
الثانية بصفة خاصة 0
ومهن جانهب أخهر كانهت بقايها التقاليهد مها تزال قائمهة ،يخيهل للرائى أنهها سهتصمد لضغهط الغزو الفكرى ،كمها صهمدت حوالى نصهف
قرن قبهل ذلك! فقهد كان مها يزال هناك مهن يرتاد المسهاجد مهن الشباب ،حتهى فهى العواصهم الكهبرى التهى تركهز فيهها الغزو الفكرى،
وفى رمضان يصوم الصغار والكبار ،ول يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب ،حتى لو كان مفطراً فى واقع المر! وكان
الزواج يتم بمعرفة البوين وعن طريقهما فى أغلب الحيان ،وكانت السرة ما تزال متماسكة ،لرب السرة فيها كلمة مسموعة،
والولد والبنات متقيدون بالتقاليهد العامهة ل يخرجون عنهها ،ومهن خرج عليهها يجهد مهن الناس العراض والنفور؛ أمها الريهف
فكان فى مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال ،يستنكر الفساد الموجود فى المدينة ،ويتحسر على ((أيام زمان)).
فى مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفى على الرائى حقائق كثيرة!
لقهد كان السهلم قهد تحول منهذ فترة غيهر قصهيرة إلى مجموعهة مهن التقاليهد أكثهر منهه شحنهة حقيقيهة حيهة ..وفهى فترة معينهة فهى
حياة المهم يكون تمسهك الناس بالتقاليهد شديداً ،إلى حهد يتوههم معهه النسهان أن الناس على ديهن حقيقهى! ولكهن التقاليهد تجهف بعهد
فترة حيهن ينقطهع عنهها المدد الحهى الذى يمنحهها الحيويهة والفاعليهة ،فتبدأ تتيبهس وتجمهد مهن ناحيهة ،وتفقهد تماسهكها مهن ناحيهة
أخرى ..وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف فى المجتمع ،وإن كان ما لها إلى التفتت والنهيار فى النهاية ،بفعل
عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد ل تستطيع أن تصمد ،وسرعان ما تنهار
0
والذى حدث فههى العالم السههلمى أن معاول الهدم -المتمثلة فههى الغزو الفكرى -كانههت عنيفههة شديدة العنههف ،موجهههة بشدة لهدم
ل عهن تقاليده الظاهريهة ،فل جرم تنهار التقاليهد انهيارًا سهريعاً تحهت طرقات المعاول التهى تعمهل ليهل نهار ،فهى
السهلم ذاتهه فض ً
دأب ل يفتر ،وإصرار ل يتحول عن أهدافه.
وفى نصف قرن تغيرت المور تغيرًا مريعاً ،حتى لكأن المة الولى قد ذهبت ،وجاءت بدلً منها أمة أخرى ل صلة بينها وبينها
إل تشابه السماء! وسرى الفساد الذى أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً ،كسريان السم فى البدن الملدوغ .فلم تعد بنات
السر الرستقراطية وحدهن هن اللواتى يتعرين على الشاطئ ،إنما صارت بنات الطبقة الوسطى ،ورويداً رويدًا وصلت العدوى
للريف! وصارت العلقات بين الولد والبنات -البرئ منها وغير البرئ -شيئاً عادياً فى المجتمع ،بل أصبحت إحدى أصوله..
وتفككت السرة ولم يعد سلطان عليها ،وصار للولد والبنات شأنهم الخاص الذى ل يجوز للوالدين أن يتدخل فيه..
وأصبح((الدين))عموماً علمة الجمود والنغلق ،وعلمة التخلف عن ركب الحياة الحى المتحرك ،وأصبح الثبات على أى شئ
عيباً يعير به صاحبه ،لن الصل فى الشياء هو التطور وليس الثبات!
فهى نصهف قرن حدث هذا كله ،ونسهب إلى التطور وإلى النهضهة ،وإلى مواكبهة العالم المتحضهر ،وإلى ثورة التكنولوجيها وثورة
التصالت!
وما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم السلمى خارج الحداث التى تمور بها الرض ،ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً
كانت قمينة أن تحدث ،لو أن السلم كان حيا فى نفوس أصحابه ،وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح.
فأما التقدم العلمى والتكنولوجى فهو ل يشكل مشكلة للنسان المسلم ،وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التى كانت
قائمة فى الرض ،ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية ،أبرزها استخدام المنهج التجريبى فى البحث العلمى ،فضل عن
كشوف علمية أخرى كانت هى نواة التقدم الحالى .ولكن المسلم ل تهتز عقيدته حين يتعلم العلم ،ول يهتز إيمانه بال واليوم
الخر ،لنه صاحب كيان سوى تتجاوز فيه -وتتعاون -نزعة اليمان ونزعة المعرفة ،بل تعارض ول تناقص ول تضاد(( :إنما
يخشى ال من عباده العلماء))(فاطر.)28 :
إنما حدث التعارض والتناقص فى أوروبا ،نتيجة خلل فى الدين الذى كانت تعتنقه ،وخلل فى الكيان الذى أورثها إياه ذلك الدين،
ل لن الدين بطبيعته مناقض للعلم ،ول لن العلم يمكن أن يكون بديل من الدين! ولو أن السلم كان حياً فى نفوس أصحابه،
وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح ،فقد كانت المة السلمية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج
الجاهلى الغربى الذى ينتقل من اختلل إلى اختلل ،والذى ل يستوعب فى أى طور من أطواره إل أحد شقى النسان :إما الشق
وإن عجز المة عن استيعاب التقدم العلمى والتكنولوجى الحادث فى الرض ،وعجزها عن تقديم النموذج الحضارى المتميز،
كانت له دللة ل ينبغى أن تفوت صاحب الدعوة ..دللته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين فى نفوس أصحابه قد خبت ،أو
ضعفت إلى الحد الذى يعجزها عن التفاعل الحى مع الحداث ،كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ ..وهذا الضعف لبد له
بطبيعة الحال من أسباب ،فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحى الموار بالحيوية ،الذى صنع العاجيب فى حياة البشرية كلها،
حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً ،وتحركوا به فى دنيا الواقع ..ولبد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض
الجسد كله(( :أل إن فى الجسد مضغ ًة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ،أل وهى القلب))( .)1ولو
انكشفت تلك المراض لصحاب الدعوة من أول الطريق ،لعملوا على علجها أولً قبل النطلق ..لو اتضح لهم أن كل ألوان
التخلف التى وقع فيها المسلمون ،من تخلف علمى ومادى وسياسى وحربى وحضارى وثقافى ،نشأت كلها من التخلف العقدى
الذى أصابهم فى الفترة الخيرة بصفة خاصة ،لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذى ساروا عليه بالفعل ،ولكانت لهم رؤية مختلفة
فى طريق العلج.
ول شك أن حقيقة بعد المة عن الصورة الصحيحة للسلم ،كانت واضحة وضوح ًا كاملً للدعاة؛ لنها كانت أظهر من أن تخفى
على أحد ..ولكن مدى هذا البعد ونوعيته ،هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة ،التى تخيل للرائى أن البناء
تحتها ما يزال سليماً ،أو أنه ل يحتاج إل إلى ترميمات قليلة هنا وهناك!
كان ينبغى للدعوة أن تكشف عن الساس ذاته ،لترى إن كان قد بقى سليماً ،أم تهرأ خلل الهزات المتوالية التى مرت بالمة
خلل التاريخ ،ليتقرر فى حسها نقطة البدء :هل هى ترميم البناء ،أم تجديد الساس.
لم يكن الفساد الذى ألم بالمة هو فساد السلوك وحده ،إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم ،وفساد المفاهيم أخطر كثيرًا وأشق
علجاً من فساد السلوك..
حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة ،مع وجود مفاهيم صحيحة ،فالصلح -مهما بلغت مشقته -أيسر منال وأقرب رجاءً مما
لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت ،لنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف ،جهد فى تصحيح المفاهيم وهو الشق ،وجهد فى
تصحيح السلوك.
وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها فى الحقيقة قد فسدت -كما ألمحنا من قبل -حتى مفهوم ل إله إل ال ،بل بدءًا بمفهوم ل
إله إل ال ،فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان ،إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس ،يؤدونها تقليداً أكثر
مما يؤدونها أداء حياً واعياً ،يربط النسان بمنهج حياة متكامل ،يشمل الحياة كلها :عبادتها وعملها ،سياستها واقتصادها،
روابطها الجتماعية وروابطها الفكرية كلها فى آن.
كانت عوامل كثيرة قد أثرت فى إفساد مفاهيم السلم الساسية فى حس الناس ،فلم يعودوا على وعى بها فى صورتها
الصحيحة التى أنزلت بها من عند ال ،ووعاها ومارسها الجيل الول رضوان ال عليهم ،والجيال التى تلته.
كان الفكر الرجائى قد أخرج العمل من مسمى اليمان !،وزعم أن اليمان هو التصديق والقرار ل أكثر! وأن من قال :ل إله
ل من أعمال السلم!
إل ال فهو مؤمن ،ولو لم يعمل عم ً
وكان الفكر الصوفى قد حول السلم إلى سبحات روحية ،وأوراد وأذكار ،وهيام وجدانى ل يتحرك فى واقع الرض ،ول يأمر
بمعروف ول ينهى عن منكر ،ول يقوم بجهاد ،فضلً عن الخلل العقدى فى عبادة الرضحة والولياء والتقدم إليها بألوان من
العبادة ل تجوز لغير ال 0
وكان الستبداد السياسى منذ بنى أمية ،فبنى العباس ،فالمماليك ،فالعثمانيين ،قد صرف الناس عن الشتغال بالمور العامة،
ووجههم إلى الهتمام بشئونهم الخاصة ،وحصر مفهوم العبادة فى الشعائر التعبدية ،والفضائل الفردية التى ل تتدخل فى شئون
المجموع.
وتحول التوكل إلى تواكل سلبى دون الخذ بالسباب ،وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس ،بعد أن كانت عقيدة
إقدام وجرأة فى مواجهة العداء والحداث(( :قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا هو مولنا وعلى ال فليتوكل المؤمنون( )51قل
1أخرجه البخارى.
وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للخرة ،بعد أن كان طريقاً واحداً أوله فى الدنيا وآخره فى الخرة(( :وابتغ فيما آتاك
ال الدار الخرة ول تنس نصيبك من الدنيا))(القصص(( .)77 :هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من
رزقه وإليه النشور))(الملك ..)15 :فأهمل مجموع المة طريق الدنيا ،من علم وقوة وتمكن فى الرض وعمارة لها وتحسين
لحوالها ،وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى ال ،من حلقات الذكر وهيمان الوجد ،بينما انصرف مجموعة من شرار الناس
إلى الدنيا بمغرياتها ،من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس ،ونسوا البعث والنشور ،والحساب والجزاء،
فعاثوا فساداً فى الرض ،والمة فى قبوعها السلبى ل تتعرض له بسوء!
وهذه المراض كلها ،التى أفرغت الدين من محتواه الحى،وأفرغت ل إله إل ال من شحنتها الفاعلة ،كانت تستلزم البدء
بتصحيح مفهوم ل إله إل ال ،وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء ،قبل التوجه إلى تجميع الجماهير!
***
وإذا كانت بقايا التقاليد ،التى كانت قائمة فى المجتمع عند بدء الدعوة ،قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذى أصاب المة
فى أساس عقيدتها ،فإن حماسة الجماهير فى تلقى الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع..
تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة ،وتجمع حول المام الشهيد فى سنوات معدودة ،ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم
الكثير من الشباب ،وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصرى كله فى ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً ،وإذا
استبعدنا من تعداد النساء والطفال والشيوخ ،الذين ل يفكرون فى النشغال بأى أمر من المور العامة ،أو يرحبون بأى جديد
يظهر فى الساحة!
ول شك أن الفيض الروحى الذى كان يتمتع به المام الشهيد ،وقدرته الفائقة على التأثير فى مشاعر الناس ،كان لها أثر فى
تلك الحماسة الفياضة التى قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس ،وما كان يمكن لشخص ل يملك تلك الموهبة ،أن
يجمع هذا الحشد الهائل من البشر ،فى مثل هذا الوقت القصير.
ولكن فلننظر من جانب آخر فى تلك الجماهير ،لى شئ تجمعت على وجه التحديد؟
لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية ،بطريقة((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التى يلجأ إليها العامة لشباع
روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية ،والتى كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور ،فوجدوه فى شخص
المام الشهيد وكلمه المؤثر ،يشبع روحانيتهم و يحافظ فى الوقت ذاته على وعيهم ،فل يغرق فى الخدر الذى يسلب الشعور..
ووجدت من يحى آمالها فى عودة السلم إلى الوجود ،بعد النكسة الحادة التى أصابت الناس بزوال الخلفة ..ووجدت من يرتفع
بها عن ألوان الدنس التى كانت قد أخذت تلوث المجتمع ،ويردها إلى المثل الرفيعة والخلق الفاضلة ..وكل ذلك دون أن
يتعرضوا لية مخاطر ،ول يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور الستماع!
ولكن هذه الجماهير التى جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت فى الفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما
كان فى تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لية مخاطر ،ول كانت مستعدة أى استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر..
ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ المر ما جاءت ول فكرت فى المجئ!
لم يبق حول المام الشهيد إل الذين رباهم على عينه ،ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقى..
هل كان كسبًا للدعوة مجئ هذه الجماهير الحاشدة التى فرت عند أول بوادر الخطر ،أم كان أحد أسباب التعويق؟
سننظر فى هذا المر حين نستعرض ردود فعل العداء ..ولكن لنا هنا وقفة :ما الذى جعل الدعوة تتجه فى تلك الفترة الباكرة
إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية ،يجسن الظن بأحوال الناس ،ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هى فساد السلوك ،فإذا وعظوا
بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة ،واستقامت هذه الجماهير على طريق السلم ،وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة ،أو فى القليل
خامات صالحة للتجنيد ،فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!
لم يتضح لصحاب الدعوة فى مبدأ المر -كما اتضح لهم فيما بعد -أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك ،ولكنه واصل
كذلك إلى المفاهيم ،وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة ال ،وأن المر فى حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير ..لقد
اتضح ذلك فيما بعد( ..)1ولكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً فى التوجه إلى((الجماهير)) ،على أساس أنها صالحة-
1أنشأ المام الشهيد عام 1948سلسلة مقالت بعنوان((معركة المصحف)) بين فيها بوضوح أن أوضاع المة ليست إسلمية ،وأنها ل تكون إسلمية حين
تحكم شريعة ال دون غيرها من الشرائع .وهذا المعنى بهذا التحديد لم يكن واضحا فى خط سير الدعوة الول ،و كان بداية مرحلة جديدة من التوجيه.
عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية ،وحينما تكون الحركة إسلمية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية فى
آن واحد ..وقد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكى ندرك هذا المر على حقيقته ينبغى أن نقرأ صفحات من التاريخ.
فى القرنين الخيرين ،كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم السلمى فى تدهور مستمر فى جميع المجالت ..فالدولة العثمانية التى
كانت أوروبا تخشاها وترهبها ،قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص ،وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملكها دون أن تستطيع
الرد ،أو استرداد ما تفقده من الوليات ،وتمردت بلد البلقان بتحريض الدول الوروبية ،وتمردت القليات فى داخل العالم
السلمى ،وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الحداث ..أما المة السلمية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً ،فالتخلف يحيط بها من كل
جانب ،والجهل والفقر ،والنغلق على النفس ،والتبلد على الحداث ..عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيرًا للقضاء
على عدوها القديم ،فاجتمعت وتآمرت ،وخططت للستيلء على العالم السلمى كله ،وإخضاعه للدول الوروبية فيما
سمى((بالستعمار)) ،ودخل مع أوروبا الصليبية عنصر جديد ،هو اليهودية العالمية التى كانت تخطط لحسابها الخاص ،ولكن
فى تعاون كامل مع الصليبية ،من أجل إنشاء وطن يهودى فى فلسطين.
وبعد رفض السلطان عبد الحميد مطالب اليهود بإقامة وطن لهم فى فلسطين ،اتحدث تماماً مصالح اليهودية العالمية مع مصالح
الصليبية العالمية ،فصار التخطيط واحداً وإن كان كل فريق يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة فى نهاية المطاف ..وكان التخطيط
محكماً فى كل اتجاه ،وكان تنفيذه ميسراً بالنسبة للصليبية الصهيونية ،بسبب فقدان المة لوعيها السلمى ،وعزيمتها
السلمية التى أوصها ال بها فى قوله تعالى(( :ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران.)139 :
وكان أخطر السلحة التى استخدمها العداء فى محاربة السلم -بعد أن استتب لهم المر عسكرياً وسياسياً -هو الغزو الفكرى،
الذى كان هدفه قتل روح المقاومة للغزو الصليبي الصهيونى ،بالقضاء على مكمن العقيدة داخل القلوب ،وتخريج أجيال تتقبل
العبودية للغرب راضية بها ،إن لم تكن مندفعة إليها مستعذبة إياها ،ظانة -وهى تسعى حتفها بظلفها -أنها متجهة فى طريق
النجاة!
ولم يخف على الصليبية الصهيونية أن شعوب المة السلمية قد تستيقظ من غفوتها ذات يوم ،وترفض التبعية المذلة للغرب،
وتسعى إلى الستقلل ،فرتبت نفسها لهذا المر كذلك ،ببذر اتجاهات وطنية وقومية ،وإنشاء زعامات تتعلق بها الجماهير
وتتحلق حولها ،وهى مصنوعة على عين الستعمار ،كانت الثورة محدودة المطالب محدودة الهداف ،تطالب بالستقلل
العسكرى -إن قويت عليه -أو العسكرى والسياسى -ظاهراً على القل -دون أن تفكر فى الستقلل الفكرى والثقافى والروحى،
فتظل التبعية للغرب قائمة فى واقع المر ،من خلل النظمة الوطنية والقومية ،و((الثورات التحررية)) ،والجماهير فى غفلتها
تصفق وتطرب لما يعرض أمام ناظريها من المسرحيات.
باختصار لقد كان الذى تخشاه الصليبية والصهيونية ،وتسعى لمنعه بكل الوسائل ،هو حدوث صحوة إسلمية ،فهذه هى التى ل
تفاهم معها ،ول التقاء فى وسط الطريق ..والتى يعرف العداء جيدًا مدى خطرها على مصالحهم(( :الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم))(البقرة.)146 :
وحين بدأت الحركة السلمية على يد المام الشهيد ،كان العالم الصليبى والصهيونى يرقبها بتوجس ظاهر ،ويحاول أن يتعرف
على مدى خطورتها .كتب المستشرق البريطانى جب -والمستشرقون هو جهاز الستخبارات الثقافى للصليبية الصهيونية -كتب
كتاباً بعنوان(( :التجاهات الحديثة فى السلم ،)) in lslam mopern trendsظهرت طبعته الولى عام 1936م،
يتحدث فيه عن حركة جمال الدين الفغانى ومحمد عبده ،ويمتدحها بحماسة ظاهرة ،ولكنه عقب فى أحد هوامش الكتاب
بالتعقيب التى(( :ظهرت بعد ذلك جماعة جديدة تسمى جماعة الخوان المسلمين ،يتزعمها رجل يسمى حسن البنا ،ومن
السابق لوانه الحكم على هذه الجماعة ،وإن كان من الظاهر أنها ذات خطورة خاصة)).
وواضح فى هذا التعليق مدى التوجس ،والرغبة فى سبر غور هذه الجماعة ذات الخطورة الخاصة!
كانت الخطورة الخاصة تتزايد بطبيعة الحال فى نظر الصليبية الصهيونية كلما تزايدت الجماهير الملتفة حول الدعوة الجديدة،
التى تتحرك باسم السلم ،ويتجمع الناس حولها باسم السلم ..ولكن الصليبية الصهيونية لم تكن تبينت بعد ما يجرى فى داخل
الجماعة ،من إعداد خطير غاية الخطورة ،إعداد جنود للدعوة ،مستعدين أن يموتوا فى سبيل السلم!
ولكن القنبلة انفجرت عام ،1948وانفجرت فى أخطر موقع يمكن أن تنفجر فيه ،وفى أخطر موعد يمكن أن تنفجر فيه :فى
فلسطين ،فى لحظة العداد لنشاء الدولة اليهودية..
ولكن هذه السلسة توقفت بسبب قيام حرب فلسطين ،ثم اغتيل المام الشهيد فى فبراير سنة 1949قبل أن يستوعب أتباعه التجاه الجديد 0
أما كون أصحاب الدعوة يعرفون عداوة الصليبية الصهيونية للسلم ،ويعرفون توجسها منه ،ورغبتها فى القضاء عليه،
وكراهيتها لعودة الناس إليه ،فأمر أوضح من أن يذكر؛ لنه من بدهيات حس المسلم .فبحسب امرئ مسلم أن يقرأ فى كتاب ال
هذه اليات:
((ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة(( )120 :إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة
يفرحوا بها)) (آل عمران (( . )120 :لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا))(المائدة (( .)82 :ود كثير
من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق))(البقرة .)109 :
بحسبه أن يقرأ ذلك فى كتاب ال ،ليعلم أن هذه العداوة قائمة وأنها لن تزول ..أما إدراك مدى هذه العداوة ومقدار كيدها،
وتفاصيل ذلك الكيد ،وموقعه من اللحظة القائمة ،فأمر آخر مختلف ..والذى يظهر من مجرى الحداث أن تقدير ذلك كله لم يكن
دقيقا بالدرجة الكافية..
لقد كان التخطيط اليهودى – تعاونه الصليبية بكل إمكاناتها – قد رتب كل شىء يخطر على البال ،تمهيداً لقامة الدولة
اليهودية .فمنذ رفض عبد الحميد العروض اليهودية المغرية مقابل السماح بإقامة وطن لليهود فى فلسطين ،من رشوة شخصية
لجيبه الخاص مقدارها خمسة مليين من الجنيهات السترلينية الذهبية (تمثل وقتها ثروة بالغة الضخامة) ،والوعد بالتدخل لدى
روسيا وبريطانيا وفرنسا لكفها عن إثارة القليات( ،وهى مشكلة الدولة السياسية) ،والوعد بقروض طويلة الجل لنعاش
القتصاد العثمانى المثقل بالديون( ،وهى المشكلة القتصادية للدولة) ..منذ رفض عبد الحميد هذه العروض المغرية ،والملغومة
فى ذات الوقت ،فقد رسم اليهود مخططهم على سياسة طويلة الجل ،مقدارها خمسون سنة كما قرر هرتزل فى مؤتمره
الصهيونى الذى أقامه فى مدينة بال بسويسرا ،عام 1897م .
عزلوا عبد الحميد ،ورتبوا الحرب العالمية الولى ،لتجميع أوربا الصليبية لقتال الدولة العثمانية والقضاء عليها ،وكانوا
يسمونها ((الرجل المريض)) ،ثم قسموا تركة الرجل المريض بعد القضاء عليه ،بين بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود يومئذ
(وحتى الن بطبيعة الحال ،مع تغير مركز الثقل من بريطانيا وزعيمة ((العالم الحر!)) يومئذ إلى أمريكا زعيمته الحالية)،
وجعلوا فلسطين – ميدان الصراع المقبل – تحت النتداب البريطانى ،للتمهيد لقامة الدولة فى ظل تصريح بلفور الذى قال :إن
حكومة جللة الملكة تنظر بعين العطف (!) إلى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين..
ولم يكتف التخطيط الماكر بهذا ،بل قسم البلد المحيطة بفلسطين إلى دويلت ضعيفة متعادية متنابذة ،ل وزن لها فى عالم
الحرب ول عالم السياسة ول عالم القتصاد ،فضلً عن نزاعات الحدود بين بعضها البعض ،وفضلً عن نزعات الوطنية
والقومية التى تفرق بين بعضها وبعض 0
ولم يكتف الكيد الماكر بهذا ،فالشباب فى كل أمة طاقة خطرة إذا توجه توجهاً جادًا لمر من المور الكبار ،فينبغى صرفه بكل
الوسائل عن الجد فى أى أمر ،وخاصة فى المور التى يخشى من الجد فيها على مخططات العداء ..لذلك سلطت على الشباب
كل وسائل التمييع ،الذى تجعله يهتم بسفاسف المور وينصرف عن معاليها ،وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم (( :إن
ال يحب معالى المور ويكره سفاسفها))( ..)1سلطت عليه السينما والذاعة والمسرح( ،ولم يكن التلفزيون قد ظهر بعد ،ول
كان اليهود قد بثوا بعد ((جنون الكرة)) على مستوى العالم كله) ،وسلط عليه قضية ((تحرير المرأة)) ،لتشغل الولد والبنات
بعضهم ببعض فى علقات ((بريئة!)) أولً ،تتحول إلى علقات غير برئية بعد ذلك ..وسلط عليه تعصبات السياسة الحزبية
تأكل وقته وجهده واهتماماته ،ليخرج دون تحصيل ثقافى ذاتى ،وتعصبات ((الفن)) ،ما بين هذه المغنية وتلك ،وبين هذا المغنى
وذاك ،وكلها تفاهات!
ثم فى الموعد المحدد ،بعد خمسين سنة بالضبط من مؤتمر هرتزل ،الذى أعلن فيه ضرورة إنشاء الدولة خلل خمسين عاماً،
أعلنت الدولة ،وقامت الحروب المسرحية التى خاضتها الجيوش العربية ،بطريقة أقرب إلى الهذر منها إلى الجد ،كما قامت
الخيانات ،وصفقات السلحة الفاسدة ،وتحركت الجيوش يمنة ويسرة لتقف فى النهاية عند خط التقسيم المتفق عليه سلفاً بين
جميع الطراف!
وهنا ،وفى أحرج لحظة بالنسبة لمخططات العدو ،انفجرت القنبلة ،وأحدثت دويها المريع..
دخل الفدائيون المسلمون ساحة المعركة ،واكتشفت اليهود حقيقتهم ،واكشتفتها معهم الصليبية العالمية ..
كم كانت القنبلة خطيرة ،وكم كان دويها مريعاً على مستوى العالم كله! كانت أخطر بكثير مما قدرها أصحابها ..
وازعجهم المر وأذهلهم ،فما كانوا يتصورون قط أن هذه العينة من البشر يمكن أن تعود ..ومن مصر خاصة التى عمل فيها
الغزو الفكرى من أيام الحملة الفرنسية ،ليخرجه من دينها ،بل يخرجها حتى من عروبتها ،تحت شعار (مصر للمصريين) ،الذى
يعنى فى أطوائه أنه ل مجال فيه للعروبة ول للسلم ..وكان انزعاجهم حاداً ،فوق التصور ،فقد وصل المر بهم أن صيحة
((ال أكبر ول الحمد)) كانت تفزعهم ،فيتركون مواقعهم ومؤنهم وذخيرتهم ،ويفرون طلباً للنجاة..
عندئذ وضح فى حسهم تمام ًا أنه ل قيام لسرائيل – فضلً عن توسعها المرسوم فى المستقبل – إذا بقيت الحركة السلمية
حية ..وأنه لبد من القضاء على الحركة السلمية لتعيش إسرائيل ،وتأمن وتستقر ،وتتوسع كما تشاء .وصدرت أوامر
الصليبية الصهيونية بحل جماعة الخوان المسلمين ،ثم قتل قائدها ،وتوالى الحداث 0
لقد عوجلت الحركة بصورة عنيفة ،أعنف مما كان متوقعاً بكثير ..
لم يكن أحد من القائمين بالدعوة يتوقع لها السلمة من الذى ،فذلك حسب السنة الجارية فى حكم المستحيل ،ولكن أحداً لم يكن
يتوقع أن يصل الذى إلى هذا الحد الوحشى الذى وقع بالفعل ..أن يطلق الرصاص على قائد الجماعة فى الشارع فى وضح
النهار ،ثم ترفض المستشفيات إسعافه لينزف حتى الموت بأمر الدولة وتدبيرها ،ويؤخذ ألوف من الشباب فيعذبوا فى السجون
بوحشية تع عنها الوحوش ..كل ذلك لم يكن فى الحسبان ،ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث 0
ول شىء بطبيعة الحال يمكن أن يبرر لتلك الوحوش البشرية وحشيتها ،مهما حاولت أن تستر جرائمها بدعوى المحافظة على
المن ،أو القضاء على الفتنة ،أو ما شابه ذلك من الدعاوى ،التى ل تستر شيئاً فى الدنيا ،ويوم القيامة ((يوفيهم ال دينهم
الحق ويعلمون أن ال هو الحق المبين))(النور.)25:
ولكنا نسأل من جانب أخر ،هل كانت الحركة تسير على منهج صحيح ،أم إنها تعجلت فى حركتها قبل الوان؟
ول يحسبن أحد أن الحركة كانت ستهادن لو أنها سلكت مسلكاً أخر ..فقد رأينا كيف كان رد المل حين عرض عليهم شعيب
عليه السلم أن يصبروا حتى يحكم ال بينهم (( :وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى
يحكم ال بيننا وهو خير الحاكمين( )87قال المل الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو
لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(العراف )88-87 :
كل ! ل يمكن أن تطيق الجاهلية دعوة ل إله إل ال ،ول أن تهادنها أو تصبر عليها 0
ولسنا نقول :إن الحركة لو استقامت على منهج صحيح كانت ستنجو من الذى الذى يمكن أن يصل إلى حد التعذيب والقتل ،فإن
الجماعة الولى التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه ،وسارت على أعظم منهج يمكن لحركة أن تسير عليه،
إذ كان الوحى الربانى هو الذى يتولى توجيهها خطوة بخطوة ،لم تسلم من الذى ،الذى وصل إلى حد التعذيب والتشريد
والتجويع والقتل ..فليس السير على المنهج الصحيح مطلوباً من أجل حماية الشخاص القائمين بالدعوة! إنما هو مطلوب من
أجل الدعوة ذاتها ،من أجل أن تؤتى ثمارها كاملة ،وتؤدى رسالتها على الوجه الكمل 0
عوجلت الحركة معاجلة عنيفة ،ولما تستكمل بناء قاعدتها على أساس متين ..لقد خرجت فدائيين مخلصين مستعدين أن
يموتوا فى سبيل ال ،ويحتملوا الذى فى شجاعة من أجل الدعوة إلى ال ..وخرجت قوماً تربط بينهم أخوة فى ال ،تعدل بل
تفوق عندهم رابطة الدم ..وخرجت قوماً نظيفى التعامل ،لنهم يخافون ال ..وخرجت قوماً فيهم إيجابية وجلد على بذل الجهد..
وكلها صفات طيبة مطلوبة فى القاعدة ،ولكنها ليست كل شىء ،ول تكفى وحدها لبناء القاعدة المطلوبة ..إنهم ليسوا مجرد
أفراد يتطهرون ل ،وينذرون أنفسهم ل 0
إنهم دعوة ..تريد أن تنفذ أمة بأسرها مما هى واقعة فيه من الهوان والخسف ،بسبب بعدها عن طريق ال ،وهذا أمر يتطلب
الكثير الكثير 0
وسنتكلم عن التربية المطلوبة فى الفصل القادم ،سواء منها ما كان مطلوب ًا للقاعدة الصلبة ،أو للجماهير التى تتحرك بها
الدعوة ..ولكنا هنا ندرس أسباب التعجل ،والثار التى ترتبت عليه 0
لقد استمرت الحركة فى توجهها الجماهيرى قبل استكمال بناء القاعدة ،والتحرك بالجماهير قبل استكمال وعيها السلمى،
والصدام مع السلطات فى معارك غير متكافئة ..وترتب على ذلك نتائج ل تخدم الدعوة فى كثير ..استمر الغبش حول قضية ل
إله إل ال ،إن لم نقل :إنه زاد ،بفعل ما اختلط بها من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية ،قبل أن تتأصل فى قلوب الناس –
ول ننسى هنا أن التعجل فى التحرك بالجماهير قبل أن تستكمل وعيها السلمى ،إن لم نقل :قبل أن تكون عندها وعى إسلمى،
قد أزعج الحزاب والكيانات العلمانية على ((جماهيرها)) التى تتسرب من بين يديها وتنضم للحركة السلمية ،فوقفت تستدرج
الحركة السلمية عن طريقها الصيل ،فى صورة تحد تواجهها به :أرونا أين برامجكم التى تنادون بها لتنزعوا بها الشرعية
منا ،وتزعموها لنفسكم؟ ومن ثم اندفعت الحركة السلمية تبحث عن برامج ترد بها على التحدى ،ليصرفها ذلك عن تحرير
قضيتها الولى ،قضية ل إله إل ال .
إن قضية ل إله إل ال – فى مرحلة التكوين بالذات -ل ترتبط فى حس أصحابها الذين يتربون على المنهج الصحيح ،أى ارتباط
بالنتائج التى تترتب عليها فى الحياة الدنيا ،ل السلطان ،ول الستقرار السياسى ،ول الوفرة القتصادية ،ول الهناءة الجتماعية
..فقد ل يترتب عليها شىء من ذلك كله فى الحياة الدنيا؛ إنما قد يكون مصير أصحابها هو مصير سحرة فرعون الذين آمنوا،
فكان نصيبهم القتل والصلب ،أو مصير أصحاب الخدود ،الذين آمنوا فكان نصيبهم الحرق بالنار أحياء عن بكرة أبيهم ..إنما
كانوا مثل لمن بعدهم ،وكان نصيبهم الذى رضيت به أنفسهم هو رضوان ال ،وجنات عدن تجرى من تحتها النهار 0
ولكن التعجل فى تجميع الجماهير ،والتعجل فى التحرك بتلك الجماهير قبل أن تنضج ،بل قبل أن تستكمل القاعدة ذاتها نضجها،
هو الذى أدى إلى هذا الغبش المتزايد حول القضية الساسية ،وأصبح عماد الدعوة إلى السلم أن تطبيقه هو الذى سيحل
جميع المشاكل السياسية والجتماعية والقتصادية ،التى يعانى منها الناس اليوم ،وبالتالى البحث عن ((البرامج العملية)) التى
تواجه التحدى الذى يقدمه العلمانيون!
وكون السلم هو الحل ،حقيقة ربانية ،ال سبحانه وتعالى هو المتكفل بها بنفسه ،وهو الواعد بها ،ووعده الحق(( :ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض))(العراف .. )96:أما أن هذا الحل سيتحقق بمجرد وصول
السلميين إلى الحكم ،فأمر ل دليل له من كتاب ال ،ول من وقائع التاريخ ،فقد عاش المسلمون سنوات من الشظف الحاد بعد
توليهم السلطة ،وتأسيسهم الدولة السلمية التى تحكم بما أنزل ال ،واستمر حتى أيام عمر رضى ال عنه ،والناس صابرون
على الشظف وعلى المشقات كلها ،لنهم مؤمنون ،ولنهم نذروا أنفسهم للدعوة ،ولنهم يرجون الخرة ،ول ينظرون إلى شىء
من متاع الحياة الدنيا ،وهذا هو الذى حقق لهذه الدعوة أن ترسخ فى الرض وتتمكن ،وتمتد فى الفاق 0
ولو كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أغرى الجماهير بأنهم – إذا تسلم السلم السلطة – سيحلون كل مشاكلهم
الرضية ،ويرفلون فى النعيم ،ما صبروا على شظف العيش الذى تل تأسيس الدولة السلمية ،واستمر بعد ذلك سنوات ،ول
كانت تلك الحركة الباهرة التى غيرت وجه الرض .وحين نوهم الناس – الذين لم تتمحض قلوبهم لل إله إل ال – بأنهم إذا
تسلم المسلمون سيحلون كل مشاكلهم فى التو واللحظة ،ثم يستمر السلميون فى الحكم سنوات والمشاكل ل تحل ،بل تزداد
حدة نتيجة اشتداد الصليبية الصهيونية فى الحرب ،فهل سيصبر الناس ،الذين لم يدخلوا من باب العبودية الخالصة ل ،بل من
باب المصالح الدنيوية؟ هل سيصبرون على الشظف والحرمان والجهاد المر ،حتى يتحقق وعد ال فى أوانه المقدر عنه ال ،أم
سينقلبون على الحكم الذى لم يحقق لهم ما جاءوا من أجله ،وأدلوا من أجله بأصواتهم فى صناديق النتخاب؟!
إنما تكون الدعوة أولً وقبل كل شىء ،لبيان واجب العباد نحو خالقهم ،واجب العبودية الخالصة ل ،واللتزام بما جاء من عند
ال ،بصرف النظر عما يترتب على إخلص العبادة ل ،فى الحياة الدنيا ،من كسب أو خسارة بحساب الرض ،إنما هو الجزاء
الخروى ،مع بيان أن ال وعد هذه المة بخاصة أن يحقق لها الستخلف والتمكين والتأمين فى الحياة الدنيا ،ولكن بشرط
واضح :أن يعبدوه وحده بل شريك ،ويخلصوا له العبادة ،ل بمجرد أن يذهبوا إلى صناديق النتخاب ،ويحصلوا على أغلبية
الصوات ،ثم يتولوا السلطة (( :وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الرض كما استخلف الذين من
قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من خوفهم أمنا يعبدوننى ل يشركون بى شيئا (النور.)55 :
ول شك أن الدعوة ستمضى فى بطء شديد حين تكون على هذا الساس ،ولن تتجمع الجماهير بوفرة فى الزمن القصير ،ولكن
عندئذ يكون قد بدأ التمكين الصحيح بموكب المنهج الربانى ،وبموجب السنن الربانية ،ويتحقق قدر ال (( :وال غالب على
أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون)) (يوسف.)21:
***
ثهم زاد الغبهش مرة أخرى مهن جانهبين اثنيهن :حيهن دخلت بعهض فصهائل الحركهة فهى صهراعات دمويهة مهع السهلطة ،وحيهن دخلت
فصائل أخرى مجالس النواب !
لقهد أدى انزعاج الصهليبية الصههيونية مهن الحركهة السهلمية ،بالضافهة إلى عوامهل أخرى مصهاحبة ،إلى تغيهر حاد فهى السهياسة
العالمية ،ليس هنا مجال تفصيله ،ولكن لبد من إشارة سريعة إلى ما يخص العالم السلمى منه 0
ومن أجل هذا الهدف ،اختير الزعماء المطلوبون بعناية ..اختيروا كلهم من العسكر! وليس كل العسكر صالحين لهذه المهمة
الخطيرة ،فلبد أن تتوافر فيهم شروط ثلثة رئيسية ،ول بأس بعدها بأية إضافات :جنون السلطة ،وقسوة القلب ،وكراهية
السلم ..احتذاء للنموذج الول – المعتمد عندهم – كمال أتاتورك!
وحين توجد هذه الصفات فى شخص معين ،فسيتجه تلقائياً لضرب الحركة السلمية ،وبالعنف المطلوب! ومع ذلك فلم تكن
المور تترك للمصادفة ،وإنما كانت تدرس وتدبر لليقاع بالحركات السلمية( ،)1وقتل زعمائها وقادتها ،واعتقال اللوف من
شبابها ،وتعذيبهم بألوان من الوحشية تقشعر لها البدان ..وهنا تبدو ((الحكمة))! من اختيارهم من العسكر ل من المدنيين،
فمع العسكر يمكن تسويغ كل شىء وتمريره ،الحكام العسكرية ،والمحاكم العسكرية ،وعنف البطش ،وصرامة الجراءات ..أما
لو كانوا مدنيين فلن تكون لهم تلك الجرأة فى الجرام ،ول تلك القوة فى النتقام ،ول ذلك العنف ،ول ذلك الرهاب 0
ومضت المذابح تقام للمسلمين فى كل بلد تولى العسكر فيه السلطة ،ول يمكن أن يكون ذكر بالمصادفة بطبيعة الحال! كان عن
قصد وتخطيط وتدبير ،وعرفت المنطقة أشكالً من التعذيب الوحشى ل مثيل لها فى التاريخ ،إل ما كان من محاكم التفتيش فى
الندلس ،التى كان هدفها القضاء الكامل على السلم ..وتوالت الضربات ،فما تمر بضع سنوات -وأحياناً بضعة شهور –
حتى تكون قد أقيمت مذبحة هنا أو مذبحة هناك ،تتجاوب أصداؤها فى العالم كله ،وترقص لها الصليبية الصهيونية طرباً،
وتفرك أيديها سروراً بنجاح (الولد) فى أداء المهمة التى كلفتهم بها (الم) الرءوم!
وتولد عن هذا الوضع المؤلم تباران فى صفوف الحركة ،مختلفان – بل متضادان – فى التجاه ،أحدهما تيار الشباب الذى
استفزه ما يقوم به العسكر من إرهاب وحشى ،فقرر أنه لبد من الرد على العنف بالعنف ،ظن ًا منه أن المقاومة المسلحة
ستقضى فى النهاية على عنف العسكر ،وتضطرهم – أو تضطر سادتهم – إلى تغيير السلوب ..والخر تيار الشيوخ الذين
أنهكهم توالى الضربات ،فاختاروا طريق المسالمة إلى أقصى حد ممكن ،وقرروا الدخول فى لعبة الديمقراطية؛ لكى ل يقال
عنهم إنهم من أناصر العنف ..وكل التيارين كان سبباً فى مزيد من الغبش حول قضية ل إله إل ال 0
وبصرف النظر عن المبررات التى يقدمها كل فريق لتبرير مسلكه ،فنحن هنا نتحدث عن الثار التى نجمت عن التعجل فى
الحركة منذ البدء ،والتى أضافت معوقات جديدة إلى المعوقات القائمة ،أكثر مما كانت عوناً للحركة لكى تتقدم إلى المام ،وإن
بدت فى نظر أصحابها خطوات إيجابية مفيدة للحركة ،ومقربة إلى الهدف المنشود .
إذا أخذنا فى اعتبارنا أن وضع الدعوة الن أقرب شىء إلى وضع الجماعة المسلمة فى مكة ،مع بعض الختلف ،فإن اللجوء
إلى العنف ل يخدم الدعوة ،ويثير حولها من الغبش أكثر بكثير مما يوضح القضية ويبينها للناس ،ول ننسى أن بيان حقيقة
القضية – قضية ل إله إل ال – عنصر أساسى فى الحركة كلها – سواء بالنسبة للقاعدة ،أو بالنسبة للجماهير ،وأنه ل يمكن
إحراز تقدم حقيقى على مسار الدعوة ،ما لم تتبلور هذه القضية تصورًا وسلوكاً فى حس الناس 0
وحين ندخل فى معارك غير متكافئة مع السلطة ،وقبل أن تحدد قضية ((الشرعية)) عند الناس ،يحدث أمران معاً ،كلهما ضار
بالحركة :
المر الول :أن القضية تتحول – بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر – إلى قضية ضارب ومضروب ،وغالب ومغلوب،
وتنشى أو تهمش القضية الساسية التى يدور حولها الصراع كله :قضية من المعبود على الحقيقة :آل أم آلهة زائفة من
دونه؟ وهى القضية التى تتضمن فى أطوائها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها ،المترتبة عليها :قضية من المشرع :آل ،أم
البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التى هى – منذ وضع البشر أقدامهم
على الرض إلى قيام الساعة – موضع الصراع بين الجاهلية والسلم ،بين أهل الباطل وأهل الحق ،وهى التى من أجلها أرسل
الرسل ،وأنزل الوحى ،وأقيمت الجنة والنار!
والمر الثانى :أننا نتيح فرصة هائلة للنظمة المعادية للسلم ،أن تزعم للناس أنها ل تحارب السلم ،وإنما تحارب الرهاب
الذى ل يقره السلم ،وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول! وفى ذلك خسارة مؤكدة للدعوة؛ لنها تغطى الموقف
1كما دبر حادث ((المنشية)) لعبد العناصر من أجل مذبحة 1955 – 1954وغيرها من الوقائع والحداث 0
وكذلك حين ندخل فى لعبة (الديمقراطية) ،فإننا نخسر كثيراً فى قضية ل إله إل ال..
أول ما نخسره هو تحويل اللزام إلى قضية خيار تختاره الجماهير ،وال سبحانه وتعالى يقول(( :وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا
قضى ال ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الحزاب.)36:
إن قضية عبادة ال وحده بل شريك ،وهى قضية ل إله إل ال ،معناها أن يكون ال هو المعبود فى العتقاد ،وهو المعبود فى
الشعائر التعبدية ،وهو المشرع ،وهو مقرر القيم والمعايير ،وهو واضع منهج الحياة للناس ..وهى قضية إلزام ل خيار فيها
للمسلم مادام مقرًا بالسلم ،بل هى قضية إلزام لكل من نطق بلسانه ل إله إل ال ،ولو كان فى دخيلة قلبه منافقًا كارهاً
للسلم ،فإنه إن أعرض عن شريعة ال ،فإنه يؤخذ بإقراره اللسانى ،ثم يعتبر مرتدًا عن السلم ((ويقولون آمنا بال
وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( )47وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق
منهم معرضون))(النور(( .)48-47 :فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما
قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء.)65:
وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية ،فأول ما نفعله هو تحويل هذا اللزام الربانى إلى قضية يستفتى فيها النسا ،وتوخذ عليها
الصوات بالموافقة أو الرفقض ،مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول :إنكم أقلية ،والقلية ل يجوز لها أن تفرض رأيها على
الغلبية ..وإذن فهى مسألة رأى ،وليست مسألة إلزام ،مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر 0
وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية فى الجزائر ،حين وصلت الصوات إلى المبلغ المطلوب – وهو درس ينبغى أل يغفل عن
دللته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق – فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف ..إن تحكيم الشريعة إلزام
ربانى ،ل علقة له بعدد الصوات ،ول يخير الناس بشأنه ،هل يقبلونه أم يرفضونه ،لنهم ل يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا
مسلمين!
وفرق بين أن تكون إقامة السلم فى الرض متوقفة – بعد مشيئة ال سبحانه وتعالى – على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم
معين ،تملك تحقيق هذا اللزام الربانى فى عالم الواقع ،وبين أن يكون اللزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء
استطعنا تحقيقه فى عالم الواقع ،أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ،كما كان حال المسلمين فى مكة ..ويجب
أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الساس :أنه إلزام ربانى ،وأن الناكل عنه مرتد فى حكم ال ،وأن جميع الناس مطالبون
بتحقيقه ،حكاماً ومحكومين ،سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر،
بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة المر الملزم 0
وهذا المعنى يختفى تماماً فى حس الناس – أو فى القليل يفقد شحنته الفاعلة – حين ندخل فى لعبة الديمقراطية ،التى تقرر من
حيث المبدأ أنه ل إلزام لشىء إل ما تقرره غالبية الصوات 0
والخسارة الثانية التى نقع فيها حين ندخل فى لعبة الديمقراطية ،هى تمييع قضية الشرعية ،فالشرعية فى الديمقراطية هى لمن
يأخذ أغلبية الصوات ،وهذا ليس هو المعيار الربانى؛ إنما المعيار الربانى – كما ذكرنا فى فصل سابق – هو تحكيم شريعة ال
،ومن أعرض عن تحكيم شريعة ال فل شرعية له فى دين ال ،ولو حصل على كل الصوات ل غالبيتها فحسب ،وهنا مفرق
طريق حاد بين السلم وبين الديمقراطية 0
وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية فلبد أن نقر بشرعية من يأخذ غالبية الصوات ،ولو كان ل يحكم شريعة ال ،لن هذا هو
قانون اللعبة ،والذى ل نملك مخالفته ،وعندئذ نقع فى محظور عقدى ،وهو إعطاء الشرعية لمر قال ال عنه إنه كفر ،وهو
التشريع بغير ما أنزل ال 0
ومهما قلنا فى سرنا وعلننا :إننا ل نوافق على التشريع بغير ما أنزل ال ،فإنه يلزمنا أن نخضع لقانون اللعبة ،مادمنا قد
ارتضينا أن نلعبها ،بل طالبنا فى كثير من الحايين أن يسمح لنا باللعب فيها ،واحتججنا حينما حرمنا من هذا الحق..
ولم يفت أعداءنا أن يستغلوا وقوعنا فى ورطة الديمقراطية ليحرجونا ،ويشتدوا فى إحراجنا ،فقالوا لنا :ما موقفكم إذا دخلتم
النتخابات ولم تنجحوا ،ونجح غيركم ممن ل يحكم الشريعة؟ فقلنا – ويا للعجب : -نحترم رأى المة!! فسألونا :إذا كنتم فى
الحكم ثم رغبت المة عنكم ،وأعطت الصوات لغيركم ،فقلنا – وياللعجب - :نخضع لقرار المة! أولو كان قرار المة مناقضاً
لما قرره ال؟!
وبطبيعة الحال ،فإننا حين نقول ذلك فسيقول عنا أعداؤنا :أنتم لستم ديمقراطيين ،أنتم أعداء الديمقراطية ،ونقول لهم :قولوا
ما شئتم ،فلن نقبل نظام حكم يعطى البشر ابتداءً حق التشريع بما يخالف شرع ال؛ لننا إن قبلنا ذلك ل نكون مسلمين! والذى
أنزله ال علينا هو السلم وليس الديمقراطية ،والذى ألزمنا ال به هو السلم وليس الديمقراطية ،والذى يحاسبنا ال عليه
يوم القيامة هو السلم وليس الديمقراطية (( :إن الدين عند ال السلم))(آل عمران (( .)19 :ومن يبتغ غير السلم دينا فلن
يقبل منه وهو فى الخرة من الخاسرين))(آل عمران .)85 :
وفى السلم شورى ،ولكن الشورى ليست هى الديمقراطية ،فالشورى هى فى الطريقة الصحيحة لتطبيق النص ،وفيما يجتهد
فيه المسلمون فيما ليس فيه نص( .. )1أما الديمقراطية فهى تجعل الحاكمية ابتداءً فى يد البشر ،ول توافق على اعتبارها حق
ال وحده بل شريك! وما أبعد الشقة بين ديمقراطيتهم وشورى السلم(( :أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من ال حكماً لقوم
يوقنون))(المائدة.)50:
ولو لم يكن فى دخولنا لعبة الديمقراطية من خسارة ،إل تمييع قضية ل إله إل ال وقضية الشرعية ،لكان هذا كافياً لتجنب
الخوض فى اللعبة ،أيا تكن الفوائد الجزئية التى يمكن أن تتحقق من دخولنا البرلمانات ،والتى نخسرها حين نمتنع من الدخول
فيها ..وقد حرم ال الخمر والميسر مع أن فيهما – بصرح القرآن -منافع للناس؛ وإنما حرمهما كما صرحت الية الكريمة،
لن إثمهما أكبر من نفعهما(( :يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما))(البقرة
.)219 :
وهذه قاعدة فقهية نهتدى بها فيما ليس فيه نص ،وقضية البرلمانات والدخول فيها ليس فيها نص ،ولكن التدبر الواعى للقضية
يصل بنا إلى أن تمييع قضية ل إله إل ال ومقتضياتها ،وتمييع قضية الشرعية ،يؤثر تأثيراً عكسياً على الدعوة؛ لنه يشتت
وعى الجماهير بهاتين القضيتين الرئيسيتين من قضايا الدعوة ،وهما :أن تحكيم شريعة ال إلزام ربانى ل يستفتى فيه الناس،
وليس منشأ اللزام فيه أن يرضى عنه أكثرية الناس ،أو ل يرضوا ،إنما منشأ اللزام فيه هو كوننا مسلمين ،بل هو مجرد
زعمنا أننا مسلمون ..وأن الشرعية فى دين ال ل علقة لها بعدد الصوات التى ينالها فلن أو فلن ،فإنما يتعلق عدد
الصوات بشخص الحاكم الذى تختاره المة ليطبق شريعة ال ،ل بنوع الحكم الذى يزاوله الحاكم ،والذى ل خيار فيه لحد من
الناس ،حكام ًا كانوا ل محكومين ،بعد أمر ال الملزم بتطبيق الشريعة ،وحكم ال الصريح بنفى اليمان البتة عمن يعرض عن
شريعة ال (( :فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك))(النساء (( .)65 :وما أولئك بالمؤمنين))(النور.)47:
***
هذه قضايا رئيسية من قضايا الدعوة ،وما لم تع الجماهير جيداً هذه القضايا ،وتؤمن بها إيماناً راسخاً ،فلن تتوفر القاعدة
الجماهيرية الصحيحة ،التى يمكن أن يقوم عليها حكم إسلمى ،فالجاهلية العالمية كلها واقفة بالمرصاد لتمنع تحقيق هذا الحكم
فى واقع الرض ،ولبد من إيمان واع وراسخ يقاوم الضغط العالى كله ،ويصمد إزاءه ،ولك غبش نحدثه حول هذه القضايا هو
فى الحقيقة تعويق للدعوة وإن ظننا أنه يقرب الطريق 0
***
تلك خلصة سريعة للسباب التى أدت إلى تعجل الحركة المعاصرة فى تحركها ،والنتائج التى ترتبت على هذا التعجل ،والتى من
شأنها أن نراجع حساباتنا ونحاول التصحيح 0
وفى الفصول القادمة سنتحدث عن التربية المطلوبة ،سواء للقاعدة الصلبة التى تحمل مسئولية الدعوة ،أو للقاعدة الجماهيرية
التى لبد من إنشائها لتتم الحركة فى واقع الرض ،وتصل إلى أهدافها بعون ال ،مسترشدين فى حديثنا بخطوات المنهج
النبوى فى الدعوة ،والذى كانت نقطة البدء فيه هى إقامة القاعدة الصلبة التى تحمل البناء 0
القاعدة الصلبة
غنهى عهن البيان أن كهل رسهول ههو عنوان رسهالته ،وههو النموذج الذى يفترض فهى أتباعهه أن يتبعوه ،وأن يحققوا فهى ذوات
أنفسهم ما وسعهم أن يحققوه من القتداء به فى أقواله وأفعاله ،وتنفيذ ما أمرهم به ،وما نهاهم عنه (( :وما أرسلنا من رسول
1حدود الجتهاد معروفة فى الفقه السلمى وهى أل تحرم حلل ول تحل حراما ول تصادم مقاصد الشريعة ،ومجالها واسع جدا يشمل كل ما يجد فى حياة
المة من أمور ،ولكنه منضبط بضوابط الشريعة .
(( ..فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم بأمر فأنوا منه ما استطعتم))(.)1
وغنى عن البيان كذلك ،أن الرسالة الخاتمة كانت رسالة فذة بين الرسالت جميعاً؛ لنها الرسالة التى اكتمل بها الدين،
والموجهة للبشرية كافة ل لقوم بأعيانهم كما كان شأن الرسالت السابقة ،ولنها الرسالة التى أنزلت لتحكم بشمولها كافة حياة
الناس من جميع جوانبها ،وترسم منهج الحياة الكامل للبشرية من لدن مبعثه صلى ال عليه وسلم إلى أن يرث ال الرض
ومن عليها (( :اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم السلم دينا))(المائدة (( .)3 :قل يا أيها الناس إنى
رسول ال إليكم جميعاً))(العراف(( .)158:وما أرسلناك إل رحمة للعالمين))(النبياء (( .)107 :وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل ال))(المائدة.)48:
وكان هذا كله – فى تقدير ال – هو المناسب لختم الرسالة ،وبعث النبى الخاتم عليه الصلة والسلم(( :ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم ولكن رسول ال وخاتم النبيين ())0..الحزاب.)40:
كان من المناسب مع ختم الرسالة ،أن تكون الرسالة الخاتمة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه فى وقتها الذى نزلت فيه ،وفى
المستقبل الذى يكون من بعد إلى قيام الساعة؛ بحيث ل يضلون بعدها إن تمسكوا بها ،ول يحتاجون لغيرها فى تدبير
شئونهم((( :)3تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ،كتاب ال وسنتى))(.)4
وكان طبيعياً – والرسالة الخاتمة على هذه الصورة – أن يكون الرسول الخاتم صلى ال عليه وسلم أعظم رسول بين الرسل،
وأعظم من أقلت الرض ..ول نبعد عن الحقيقة كذلك إن قلنا :إن الرجال الذين رباهم الرسول صلى ال عليه وسلم كانوا – بعد
الرسل الكرام صلوات ال عليهم – أعظم رجالت التاريخ 0
نستطيع أن نقول بصفة عامة :إن القيم والمبادئ التى يشتمل عليها منهج التربية المستخدم ذات تأثير كبير فيمن يتربون
عليها ،وإنه على قدر عظمة هذه القيم والمبادئ يكون مستوى المتلقين من الصفات الحميدة والخلق العالية ..كما نقول من
جانب أخر إن شخصية المربى ذات تأثير كبير فيمن يتلقون عنه, ،إنه على قدر عظمة المربى يكون مستوى المتلقين عنه من
الرفعة وكرم الشمائل ..ونقول من جهة ثالثة :إن استعداد الفطر التى تتلقى من المربى له تأثير كبير فى المستوى الذى يمكن
أن يصل إليه المتلقون من الرفعة ،على قدر ما يكون فى هذه الفطر من السلمة والبعد عن المراض ..فإذا أخذنا فى اعتبارنا
هذه العناصر الثلثة ،أمكننا أن نكون فكرة عن السس التى قامت عليها القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وعن نوعية هذه القاعدة التى غيرت وجه التاريخ 0
فأما المبادئ فيكفى أن يكون منطلقها وأساسها الول هو التوحيد ،هو ((ل إله إل ال)) ،والتوحيد هو الذى أنشأ هذه المة،
وأخرجها إلى الوجود خير أمة أخرجت للناس(( :كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بال))(آل عمران . )110 :ولكن الخيرية الناشئة من التوحيد ل تتمثل فى أحد ول فى شىء ،كما تتمثل فى تلك القاعدة التى
رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه ،فى فترة التربية فى مكة ،ثم بعد ذلك فى المدينة..
التوحيد – فى حقيقته المنزلة من عند ال ،والتى استوعبها قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وربى عليها أصحابه – هو
أعظم ما فى هذا الوجود من حقيقة ،وهو أعظم ما فى حقيقة الوجود من مؤثر فى بنية الكون وبناء النفوس :
الكون عابد بفطرته ،والنسان عابد بفطرته ،ولكن السموات والرض أتت إلى ال طائعة مستسلمة ،وبقى النسان ،بعضه
يستسلم ،وبعضه يستكبر وينأى بجانبه (( :ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا
طائعين))(فصلت (( .)11 :ألم تر أن ال يسجد له من فى السموات ومن فى الرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر
والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب))(الحج .)18 :
1أخرجه البخارى
2اخرجه الشيخان .
3تجد فى حياة الناس أمور جديدة على الدوام ،وما كان هذا غائبا عن علم ال وهو ينزل رسالته ،ولكنه أودع شريعته ما تواجه به الجديد كله وتستوعبه
وتهيمن عليه .وقد فصل الفقهاء والصوليون هذه المور تفصيلً وافيا يطلب فى كتبهم لمن شاء .
4أخرجه الشيخان .
ولكن ال من فضله وكرمه لم يشأ أن يقهر النسان على التوحيد كما تخضع الكائنات الخرى بالقهر ،بل كرمه وفضله(( :ولقد
كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيل))(السراء .)70 :
ومن آيات هذا التكريم حرية الختيار (( :ونفس وما سواها ( )7فألهمها فجورها وتقواها( )8قد افلح من زكاها( )9وقد خاب
من دساها))(الشمس .)10-7 :
ومع أن هذه الحرية تكريم ربانى تفضل ال به على النسان ،فإن بعض الفطر تنتكس مستخدمة حريتها فى عصيان ال
والستكبار عن عبادته ،بدلً من أن تختار الهدى وتستقيم عليه ،فيصبح فى الناس مؤمن وكافر (( :هو الذى خلقكم فمنكم كافر
ومنكم مؤمن))(التغابن.)2:
فأما الذين آمنوا فهم الذين استقاموا على الفطرة السوية ،وعلى قدر صدق إيمانهم ورسوخه وقوته يكون ارتفاعهم فى مدارج
السالكين لتحقيق الغاية العظمى التى خلق ال الخلق من أجلها(( :وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون))(الذاريات.)56:
أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربى أو يمرر عليها مغناطيس ..ماذا يحدث فى كيانها؟ يحدث – كما يقول علم
الفيزياء – أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين ،فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل ،وتصبح طاقة محركة
بعد أن كانت ساكنة ل تتحرك ول تحرك..
أين كانت هذه الطاقة فى كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة ،فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل ،فلم يكن لها وجود واقعى مشهود ..والن
تجمعت على نسق معين ،فظهرت ،وعملت ،وصار لها آثار مشهودة فى عالم الواقع ..
شبيه بذلك ما يحدث فى نفوس البشر حين تخالطها بشاشة السلم ،حين تعرف التوحيد ،حين تؤمن بل إله إل ال ..تتجمع
النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها 0
ولكن ،فلنقف لحظة لنسأل :ما الذى يحدث الشتات فى النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بل
رعاية ول عناية ول توجيه؟ حين ل يقوم النسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه (( :قد أفلح من زكاها() وقد خاب من
دساها))(الشمس .)10-9 :
يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى ..ويحدث من ضغط الشهوات ..ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد فى الحياة ..تلك – على
القل – ثلثة أسباب رئيسية تحدث الشتات فى النفوس ،فيجئ اليمان فيجليها ،فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها ،وتصبح
طاقة هائلة تتحرك وتحرك 0
فأما إنسان الجاهلية العربية ،فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالصنام ،وبعضها خفى كالقبيلة وعرف الباء والجداد ..
فأما الصنام فالحديث عنها مستفيض ،حتى ليحسب النسان لول وهلة أنها وحدها كانت هى اللهة المعبودة من دون ال فى
الجاهلية العربية ،ولكن الذى ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون ال ،فانظر إلى الشاعر( )3الذى يقول :
فما عبادة التباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها – على علم بغوايتها -لنها فى حسه رب معبود ،ل تجوز
مخالفته فى الرشد ول فى الغى!
عرف الباء والجداد ،الذى يجعل أبا طالب يحجم عن السلم – على كل حبه لبن أخيه صلى ال عليه وسلم ،وكل حدبه
ورعايته ،وكل حمايته له من كفار قريش – لكى ل يقال عنه إنه خالق عرف الباء والجداد! فأى عبودية أشد من هذه
العبودية؟
أما إنسان الجاهلية المعاصرة ،فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية( ..فالمصلحة القومية) بديل من
القبيلة العربية القديمة ،أكبر وأخطر ،وأشد استيلء على نفوس أتباعها( ..والرأى العام العالمى) بديل من عرف الباء
والجداد ،أكبر وأخطر ،وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة فى كل الرض ،بينما هو صناعة مصنوعة على يد
الشياطين الذين يحكمون الرض ،من وراء ستار أو بل أستار( ..والتقدم) إله ( ..والعلم) إله ( ..والعلمانية) إله ( ..والنتاج)
إله ( ..والحربية الشخصية) إله ..
وناهيك عن الشهوات!
إنها فى القديم والحديث أرباب معبودة من دون ال ..أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار ..
إنها فى وضعها الطبيعى فى صميم الفطرة ،غذاء ضرورى للنفس البشرية ،لكى تقوم بنشاطها الطبيعى فى عمارة الرض ،التى
هى جزء من مهمة الخلفة التى خلق ال لها النسان(( :وإذ قال ربك للملئكة إنى جاعل فى الرض خليفة)) (البقرة .)30 :
((هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها)) (هود (( .)61 :زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة
من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن المآب))(آل عمران.)14:
ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد ..كالغذاء الجسدى سواء بسواء ..فالجسم – لكى يقوم
بنشاطه الطبيعى -يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والملح والفيتامينات ،ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب فى أى
منها ،يحدث خلل فى وظائف الجسم ،فل يعود يتمثل الغذاء تمثلً صحيحاً ،ول يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعى الذى
يفترض أن يبذله ،وتبدأ المراض ..والنفس كذلك ،تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية ،التى
يفترض أن تقوم بها فى الحياة الدنيا ،ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات -وهى لكونها محببة ومزينة تغرى بالمزيد – فإن
نظامها يختل ،فتفسد ،وتعجز عن القيام بالنشاط السوى ،وإن قامت بألوان من النشاط المنحرف ،كما تختل الخلية السوية حين
يصيبها السرطان ..تنشط ،ولكنه النشاط المؤدى إلى الدمار .
وهنا نقطة ((البتلء)) الذى يعرض للنسان فى حياته ،والذى هو هدف من أهداف خلقه(( :إنا خلقنا النسان من نطفة أمشاج
نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً))(النسان(( . )2 :إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل))(الكهف.)7:
فموضوع البتلء هو الطريقة التى يتناول بها النسان متاع الرض ..هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التى قدرها ال – وهو
اللطيف الخبير الذى يعلم من خلق ،ويعلم ما يصلحه وما يصلح له – أم يسرف ويتجاوز الحدود ،فينقلب المتاع سما مهلكاً يضر
أكثر مما ينفع ،أو يضر ول ينفع؟ (( :أل يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))(الملك (( . )14 :تلك حدود ال فل تعتدوها))
(البقرة (( .)219 :تلك حدود ال فل تقربوها))(البقرة .)187 :
ولقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقاً فى الشهوات ،يعب منها بمقدار ما يتيح له وضعه الجتماعى ،ووضعه القتصادى ،ل
يرى فى ذلك بأساً ،بل يراها فخرًا وكرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى؟ أل أيهذا اللئمى أحضر الوغى
أما إنسان الجاهلية المعاصرة ،فالشهوات فى حياته هى الصل الذى يعيش من أجله ،وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل
على الوسيلة التى تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوى فى ذلك من كانت شهوته هى السلطة فيعمل على اكتسابها ،أو شهوته
هى الملك فيعمل على اكتسابه ،أو شهوته هى الجنس ولذائذ الحس ،وهى التى جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً
للصغير والكبير ،والعاقل والمجنون ،والرجل والمرأة على السواء!
أما الهدف فل هدف فى الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا ،وما فيها من المتاع المتاح(( :وقالوا ما هى إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا
وما يهلكنا إل الدهر))(الجاثية (( .)24 :إن هى إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين))(المؤمنون .)37 :
((فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا( )29ذلك مبلغهم من العلم))(النجم(( .)30-29:يعلمون ظاهراً من
الحياة الدنيا وهم عن الخرة هم غافلون))(الروم .)7 :
وحين ينحصر النسان فى الحياة الدنيا وأهدافها القريبة – مهما بدت بعيدة – فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذى خلقه ال له ،حين
خلقه من قبضة من طين الرض ،ونفخ فيه من روحه ..يفقد القيم العليا ،التى هى القوام الحقيقى للنسان(( :إذا قال ربك
للملئكة إنى خالق بشراً من طين( )71فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص .)72-71
فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث ،لذلك كان حفظ النساب والفخر
والهجاء ،وأخبار المعارك ،والكر والفر ،هى عالمه الذى يعيش فيه ،ويعيش من أجله ،ويقول نفيه الشعراء شعرهم ،ويكون هو
سمرهم فى منتدياتهم ،وموضع تنافسهم فيما بينهم ..إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر فى الموال والولد ،وما يمارسونه من
الشهوات 0
وأما إنسان الجاهلية المعاصرة ،فهو أشد ضللً وانحصاراً فى الحياة الدنيا وعالم الحس ،وأشد بعدًا عن القيم العليا وتكاليفها،
لتكالبه على المتاع الحسى ،ولن صانعى هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملً عن كل قيمة إنسانية ،ترفع النسان
عن محيط الحيوان ،لذلك تفننوا فى تزيين الرض ،وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر – أو ل تخطر – على البال 0
وفى الجاهلية كلها – قديمها وحديثها – حين ينحصر الناس فى الحياة الدنيا ول يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء،
تبدو الحياة فى نظرهم عبثاً ل معنى له ،ول قيمة للقيم فيه ،إل بمقدار ما تخدم شهوات النسان ومصالحه فى عمره المحدود،
وتنتاب النسان الحيرة التى عبر عنها الشاعر الجاهلى المعاصر (إيليا أبو ماضى) فى هذه البيات:
ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية ،لنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة ،وهو شعور ثقيل على النفس ،كما
يغرق الناس فهى اللههو ،لقتهل الوقهت الذى يظهل فارغاً وثقيلً ،حيهن يفرغ الناس مهن صهراعاتهم الهابطهة ومصهالحهم القريبهة،
ويبحثون عن هدف يمل الفراغ فل يجدون 0
فى الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب ..وفى الجاهلية المعاصرة صارت
المخدرات إلى جانب الخمر ،وصارت المراقص ودور اللهو ونوادى القمار ..وفى الجانب الخر صار القلق النفسى والمراض
العصبية ،والنتحار والجنون ،حين ل تفلح الوسائل كلها فى رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس 0
***
تلك كلها أسباب وراء الشتات الذى يصيب النفس البشرية فى الجاهلية ،واليمان هو الذى يجمع النفس من الشتات..
اليمان معناه ابتداءً :العتقاد بأنه إله واحد ل إله غيره ..وأن كل اللهة الخرى وكل الرباب ،وكل المعبودات من دون ال،
وهم ل حقيقة له ،ول وجود له إل فى ظنون أصحابه ،وهى ظنون ل تغنى من الحق شيئاً ..ومعناه أنه ل معبود بحق إل ال،
لنه ل إله فى الحقيقة غيره ،فكل عبادة موجهة إلى غيره فهى باطلة من أساسها ،لنها موجهة لمن ل ألوهية له فى الحقيقة ..
ومعناه اللتزام بما جاء من عند ال ،لنه ل يستقيم فى الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده ،ثم يطاع غيره فى
ومن شأن هذا اليمان أل يبقى سبباً من أسباب الشتات التى يتطرق بها إلى النفوس..
حين يتوحد الله المعبود تنتهى من الحس تماماً كل اللهة المزعومة ،التى تشتت النفس فى اتباعها ،ولكل منها مطالب ،ولكل
منها نزعات أو شطحات ل تلتقى فى اتجاه واحد ،فتتوزع النفس بينها ،وكل إله منها ل يمارس ألوهيته إل على حساب إله
آخر(( :ضرب ال مثلً رجلً فيه شركاء متشاكسون ورجلً سلما لرجل هل يستويان مثلً الحمد ل بل أكثرهم ل
يعلمون))(الزمر .)29 :
وحين يتوحد الله المعبود تنضبط الشهوات فى حدودها التى حددها ال ،فتصبح غذاءً صالحاً للنفس ،ول تعود سماً مهلكاً ،ول
هماً مقعداً مقيماً ،ل يرتوى ول يشبع ،ول يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء..
وحين يتوحد الله المعبود يتحدد الهدف الذى ينظم فى داخله كل الهداف ،وتتحدد القيم التى تحقق الهداف .وتذهب عن الحياة
عبثيتها ،حين يؤمن النسان بالبعث والنشور ،والحساب والجزاء.
***
إذا كان هذا دور المبادئ فى نشأة القاعدة الصلبة ،فلنقل كلمة سريعة عن دور المربى صلى ال عليه وسلم ،أعظم مرب فى
التاريخ ،ولن نوفيه حقه صلى ال عليه وسلم فى هذه الكلمة ول فى كلمات ..وحسبه ما شهد له به ربه المنعم الوهاب:
((وإنك لعلى خلق عظيم)) (القلم ، )4 :ولكنا ل نستطيع أن تعرف على تلك القاعدة ،دون أن نلم ولو إلمامة سريعة بالثر
الضخم الذى أحدثه وجود الرسول صلى ال عليه وسلم بشخصه الكريم العظيم بين ظهرانيهم 0
إن التباع يقبسون دائم ًا شيئاً من صفات قائدهم ،من خلل حبهم له ومصاحبتهم إياه ،وقد يكون هذا بغير وعى كامل منهم ،فإن
العجاب بشخصهية القائد يدفهع التباع تلقائياً إلى محاولة التشبهه بهه فهى بعهض أعماله ،وبعهض أقواله ،وبعهض مواقفهه ،وبعهض
تصرفاته ،وقد كان هذا حادثاً بالفعل من الصحابة رضوان ال عليهم ،تجاه نبيهم الذى يحبونه فوق كل حب ،ويوقرونه فوق كل
توقير عرفه أتباع تجاه قائدهم فى التاريخ كله 0
سهأل هرقهل أبها سهفيان ،ولم يكهن قهد أسهلم بعهد ،عهن حال المؤمنيهن مهع النهبى صهلى ال عليهه وسهلم ،فقال ،مها رأيهت أحداً يحبهه
الناس كحب أصحاب محمد محمداً .
ولكهن المهر مهع رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم ،لم يكهن مقتصهرًا على هذا العجاب الذى يؤثهر فهى التباع بغيهر وعهى كامهل
منههم ،إنمها كان تأثراً واعياً بأمهر مهن ال الذى آمنوا بهه وأسهلموا وجوهههم له ،وبأمهر مهن الرسهول ذاتهه صهلى ال عليهه وسهلم :
((لقههد كان لكههم فههى رسههول ال أسههوة حسههنة لمههن كان يرجههو ال واليوم الخههر وذكههر ال كثيراً))(الحزاب(( .)21 :ومهها آتاكههم
الرسهول فخذوه ومها نهاكهم عنهه فانتهوا واتقوا ال إن ال شديهد العقاب))(الحشهر(( .)7 :مها كان لههل المدينهة ومهن حولههم مهن
العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة(( .)120:يأيها الذين آمنوا استجيبوا ل وللرسهول
إذا دعاكم لما يحييكم))(النفال.)24 :
((ل يؤمههن أحدكههم حتههى أكون أحههب إليههه مههن نفسههه وماله وولده))((( .)1صههلوا كمهها رأيتمونههى أصههلى))((( .)2خذوا عنههى
مناسككم))(.)3
ذلك أنه ليس مجرد قائد يقود جماعة من الناس ،إنما هى نبى يبلغ عن ربه ،ويبين للناس ما نزل إليهم ،فطاعته أمر ،وطاعته
عبادة ل(( ،يأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولى المر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى ال والرسول إن
كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويلً))(النساء (( .)59 :من يطع الرسول فقد أطاع ال))(النساء.)80 :
لذلك اجتمهع للرسهول صهلى ال عليهه وسهلم مهن أتباعهه ذلك الحهب الفائق الذى يفوق كهل حهب ،واللتزام بالطاعهة التهى ههى عبادة
ال ،فاجتمهع له مهن التأثيهر فهى نفوس أصهحابه ،رضوان ال عليههم ،مها لم يكهن له مثيهل فهى التاريهخ ..تأثيهر الشخصهية الفذة،
وتأثير المبادئ الفذة كلهما فى آن0..
فأما المبادئ فقد تحدثنا عنها إجمالً فى الفقرة السابقة ،وسنعود إليها بالتفصيل فيما بعد 0
***
وكما أجملنا الحديث عن المبادئ التى أنشأت القاعدة التى أقامها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعن شخصية المربى
العظم الذى ربى تلك القاعدة ،نقول كذلك كملمة مجملة عن نوعية الرجال الذين قامت القاعدة على أكتافهم :
إن اختيار ال لنبيه صلى ال عليه وسلم ،وللرض التى تنطلق منها الرسالة ،وللقوم الذين يتلقون الرسالة أول مرة ،وراءه
ول شك حكمة بالغة ،فقد اختار ال لرسالته الخاتمة أعظم الرسل صلوات ال وسلمه عليهم ،واختار أرض ًا يعلم ال أنها أنسب
أرض تنطلق منها الرسالة الخاتمة ..أرض ل مطمع فيها فى ذلك الوقت ،لدولة من الدول العظمى التى تحكم الرض يومئذ،
لنها صحراء جرداء ،فتنشأ الجماعة المؤمنة وتتمكن ،دون أن تتدخل سلطة خارجية لكبتها أو إضعافها ،أو تعويقها عن
مهمتها ،حتى إذا تنبهت الدول ((العظمى)) لخطرها،ن وأرادت أن تتصدى لها ،كانت قد أنشأت دولتها ،وأنشأت قوتها الضاربة
التى ترهب بها العداء 0
أما البشر فى هذه الرض ،فقد علم ال كذلك أنهم أصلح من يحمل هذه الرسالة ،وينطلق بها فى الفاق ..وثنيون ..نعم ..
مشركون ..نعم .لد الخصومة ..نعم ..شديدو الجدال ..نعم .ولكنهم من وراء ذلك كله ،أسلم فطرة من شعوب الرض
الخرى ،التى أفسدتها الحضارة الجاهلية بترفها ورخاوتها وإخلدها إلى الرض ،وانتشار المباذل فيها ،كما كانت
ل عن استخذاء شعوبها لسطوة الحاكم المبراطوريتان ((العظيمتان!)) عن يمين الجزيرة وشمالها :فارس والروم ،فض ً
المقدس الذى تخنع له الرقاب ،ويتعامل مع شعبه تعامل السيد مع العبيد ،فيطغى السيد ويخضع العبيد 0
لقد كانت الجاهلية العربية قد أفسدت ول شك نفوس العرب المشركين ..ولكنه كما ثبت فى الواقع – فساد فى القشرة ،لم يتوغل
إلى صميم الفطرة ،فما إن أزالت العقيدة الجديدة هذه القشرة الفاسدة ،حتى اتصلت رأساً بعناصر الخير المذخورة فى الفطرة،
فأحدثت العاجيب 0
وفيما عدا الكفار الذين أصروا على كفرهم ،وقاتلوا هذا الدين بضراوة حتى قتلوا ،فإن النفوس التى استجابت ،قد استجابت
استجابة رائعة ،ل مثيل لها فى أتباع الرسل من قبل ،لسلمة فطرتهم تحت القشرة الزائفة ،ولخلصهم العميق لهذا الدين،
ولشجاعتهم واستعدادهم للبذل والفداء 0
وعنصر آخر لبد من الشارة إليه ،هو استعدادهم للنتقال السريع إلى أى مكان جديد يستوطنونه فيكون وطناً لهم ..ل تشدهم
إلى أرضهم نتلك الروابط المقعدة ،التى تشد الفلح إلى أرضه ،فيحس بالغربة إذا انتقل منها بضع خطوات ،وبهذه الخصلة
انتشروا فى الرض كما لم ينتشر شعب من قبل ،يحملون الهدى والنور لكل البشرية 0
***
ل عن عوامل ثلثة ،أسهمت فى صلبة القاعدة التى أنشأها الرسول صلى ال عليه وسلم :عظمة تحدثنا حتى الن حديثاً مجم ً
المبادئ التى قامت عليها القاعدة ،وعظمة المربى صلى ال عليه وسلم ،وسلمة الفطرة لدى الذين تلقوا المبادئ العظيمة،
وتأثروا بعظمة المربى .ولم نتحدث بعد عن دور التربية التى قام بها رسول ال صلى ال عليه وسلم لتباعه ..
فالمبادئ قد توجد – وهى اليوم موجودة كما كانت يوم أنزلت من عند ال – ولكنها ل تعمل من ذات نفسها ،ما لم يبذرها
المربى فى نفوس أتباعه ،ويستنبتها ،ويتابعها بالرعاية والعناية والتوجيه .والمربى قد يوجد ولكنه ل يعطى تأثيره الكامل،
حتى يعطى الجهد اللزم لعملية التربية ،فالتأثر التلقائى وحده ل يكفى لتربية النفوس ،ما لم يبذل المربى جهداً إيجابياً فى
تعميق القيم المطلوبة ،وترسيخها فى النفوس 0
ولقد تحدثت فى كتاب آخر عن منهج التربية السلمية() .ولكنا نريد هنا أن نحدد دور التربية فى إنشاء القاعدة ،لنه
الموضوع الذى يواجهنا اليوم فى حركتنا المعاصرة ،ونفتقده افتقاداً حاداً فى كثر من المواضع 0
والنفس البشرية أولى – بانفعالتها وأشواقها وجواذبها – أن تتبعثر مرة أخرى ،إذا لم تقم حولها الحوافظ التى تحفظها من
التبعثر ،والتى تعمل على إعادة ترتيب ذراتها ،كلما همت أن ينفرط نظامها من جديد..
وكما أن قطعة الحديد ل تفقد كل مغنطيسيتها إذا تركت مدة بل حوافظ ،ولكن تضعف فيها المغناطيسية بالتدريج ،فكذلك النفس
التى آمنت ،ل يضيع إيمانها كله إذا تركت طويلً بل حوافظ ،ولكن يضعف إيمانها بالتدريج حتى يصبح إيماناً غير فاعل ،وغير
قادر على التماسك ،حتى كأنه غير موجود فى عالم الواقع ..وهنا تبدو الحاجة الملحة إلى التربية على اليمان ،وليس مجرد
اليمان 0
إن النفس البشرية تعانى فى حياتها الدنيوية حركة موارة دائبة فى كيانها ،هى التى تحدثها الشهوات التى ورد ذكرها فى كتاب
ال المنزل(( :زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام
والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن المآب))(آل عمران .)14 :
وقد ذكرنا من قبل أن هذه الحركة الموارة الدائبة فى داخل النفس – والتى من طبيعتها أن تدفع النسان إلى أعمال معينة
وسلوك معين – هى نقطة البتلء الذى يعانيه النسان فى حياته الدنيا ،والذى تفترق فيه نفس عن نفس ،وسلوك عن سلوك :
((إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل))(الكهف .)7 :
وقد أجملت الية الكريمة ذكر الشهوات التى تتحرك داخل النفس وتحركها إلى أعمال معينة وسلوك معين ،لن المجال ليس
مجال التفصيل( .)1ولكن انفعالت النسان وأشواقه وهواتفه وجواذبه ل تكاد تحصى ،ول تكاد تنتهى ،ول تكاد تكف عن الحاح،
كما قال الشاعر(( :وحاجة من عاش ل تنقضى))… ولذلك فالبتلء قائم فى كل لحظة ،والحاجة إلى التربية قائمة فى كل لحظة
كذلك ،حتى تستقيم النفس على الوضع المطلوب ،وتتحرر من العبودية للشهوات ،وتتعود على الستقامة حتى تصبح بالنسبة
لها هى الصل ،وينطبق عليها قوله تعالى (( :إن الذين قالوا ربنا ال ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا
وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون))(فصلت .. )30:ومع ذلك فل عصمة للنسان من الخطأ ،ول أمان لحد من هواتب النفس
التى توقعها فى الخطاء ،وإن كان باب التوبة مفتوح ًا أمام البشر على الدوام(( :كل بنى آدم خطاء وخير الخائطين
التوابون))() ..وهنا يظهر دور التربية ،وحاجة البشرية إليها ،وضرورة الهتمام بها إلى أبعد الحدود 0
وليست التربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالتها فحسب ،وإن كان هذا من السس التى لغنى عنها ،ول
تستقيم بغيرها حياة ،ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك ،ومستويات أخرى من القيم اللزمة للحياة..
لقد قدر ال للنسان فى حياته الدنيا ألواناً مختلفة من البتلء ،بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه ،وهى دوافعه ونوازعه
وشهواته ،وبعضها الخر ضغوط خارج كيانه ،وإن كانت تؤثر على ما فى داخل نفسه ،سواء كانت ضغوطاً سياسية أو
اقتصادية أو اجتماعية ،ويدخل فى هذه الخيرة أعراف الناس وتقاليدهم ،وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمتقضياتها ،وإن كان
الكثير منها فى الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هى ضرورات حقيقية ،أهواء يرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا :
((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والرض ومن فيهن))(المؤمنون.)71:
ولبد لكى تستقيم الحياة على المستوى اللئق بالنسان ،الذى كرمه ال وفضله على كثير ممن خلق ،لبد أن يقاوم النسان هذه
الضغوط ،ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان..
ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد ،فإنها تصبح لينة القوام ،ضعيفة ل تقوى على مقاومة الضغوط ،سهلة النثناء واللتواء،
فيطمع الذين استكبروا فى استخدام مزيد من الضغط ،ليحصلوا من الناس على مزيد من الستسلم ،وعندئذ يظهر الفساد فى
الرض ،أى يتمكن ويستشرى(( :ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس))(الروم .. )41:يستوى فى هذا
((الكسب)) طغيان من يطغى واستسلم من يستسلم ،فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التى ينبغى أن تكون عليها..
وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لكساب النفس الصلبة اللزمة لها فى مواجهة الضغوط .والقيم والمبادئ هى الحجار
الصلبة التى تقى البناء النفسى من النهيار عند أول صدمة أو النثناء تحت الضغط ،وعلى قدر التمسك الحقيقى بتلك القيم
والمبادئ تكون الصلبة الحقيقية للنفس ،وذلك التمسك هو الذى تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب ،ولكنه ل يحدث فى
النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها ،لنه بغير ذلك ل تقوى على الصلبة ول تطيق تكاليفها:
1ورد التفصيل فى آيات أخرى ،وفى كثير من أحاديث الرسول صلى ال عليه وسلم 0
ول تنتهى الحاجة إلى التربية عند هذا الحد ،ول عند هذا المستوى من المور ،وخاصة بالنسبة للمؤمنين ،فقد اقتضت مشيئة
ال أل يكون الناس كلهم أمة واحدة (( :ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ول يزالون مختلفين( )118إل من رحم ربك
ولذلك خلقهم))(هود (( .)119-118 :هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن))(التغابن.)2:
ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع فى الرض بين المؤمنين والكفار ،بين أهل الحق وأهل الباطل ،لكى ل تفسد
الرض باستعلء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم(( :ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض ولكن ال ذو فضل
على العالمين))(البقرة ..)251 :ول يعجز ال سبحانه وتعالى أن يدمر أهل الباطل ويبطل طغيانهم ،وهو الذى يقول للشئ كن
فيكون(( :إنما قلنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))(النحل ..))40 :ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على أهل
الحق ،بعون ال وتأييده ،وأن يكون هذا بالنسبة لهل الحق جزءاً من البتلء المقدر لهم فى سنة ال ،وتشريف ًا لهم ورفعة فى
ذات الوقت(( :ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد(( .)4 :فلم تقتلوهم ولكن ال قتلهم وما رميت
إذ رميت ولكن ال رمى وليبلى المؤمنين منه بلءً حسنًا إن ال سميع عليم))(النفال..)17 :
وهذا المر وهو مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلح الرض وحفظها من الفساد هو القمة التى يصل النسان إليها فى الحياة
الدنيا ،وهو فى الوقت ذاته ذروة سنام السلم(( :أل أخبرك برأس المر ،وعموده ،وذروة سنامه؟ قلت (والكلم لمعاذ بن جبل
رضى ال عنه) ،بلى يا رسول ال .قال :رأس المر السلم ،وعمود الصلة ،وذروة سنامه الجهاد))(.)1
وهو أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد .إعداد نفسى وروحى قبل العداد الجسمى والمادى ،وهو مستوى من مستويات
التربية ل يتم حتى يكون النسان قد مر بالمستويين السابقين ،فهو فى حاجة إلى الصلبة النفسية التى ترتكز بدورها على
ضبط الشهوات ،وهكذا تتدرج التربية فى مستوياتها الثلثة بدءاً بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على النضباط،
مروراً باكتساب الصلبة بترسيخ القيم العليا فى بنية النفس ،وصولً إلى الستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه فى النفس
والمال ..
ثم هنالك مستوى أخير ،لبد أن نشير إليه فى حديثنا عن خير القرون ،خاصة جيل الصحابة رضوان ال عليهم ،هو مستوى
التطوع النبيل ،الذى يتجاوز الواجبات والمفروضات ،ويرتقى إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالوابجات والمفروضات،
بغير إلزام من ال ورسوله ،ولكن حبًا ل ورسوله ،وعبادة خالصة ل ابتغاء مرضاته ،وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل
الفريد الذى رباه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإن لم يخل جيل من أجيال المة السلمية من أفراد يرتفعون إلى ذلك
المستوى السامق الرفيع.
***
إذا اتضح لنا ذلك فقد اقتربنا من تصور الجهد الذى بذله المربى العظم صلى ال عليه وسلم للرتفاع بتلك النفوس إلى ذلك
المستوى الرفيع الذى وصلت إليه فى عالم الواقع ،وهو مستوى غير مسبوق فى تاريخ البشرية ..
وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الداة العظمى التى استخدمها الرسول صلى ال عليه وسلم فى تربية
أصحابه ،وهى الداة اللزمة لكل تربية على منهج السلم فى أى جيل من أجيال السلم ،وهى تعميق اليمان بال واليوم
الخر ،وممارسة الحياة فى معية ال ..
ل شىء يمكن أن يرتقى بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك اليمان .إنه هو الذى يوفر الحوافظ التى تحفظ النفس من النفلت،
والهبوط مع ثقلة الشهوات ،ثم يحبب إليها الرتفاع فى مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات 0
وعلى قدر ما يعيش النسان مع ال ،يحبه ويخشاه ،ويذكره فى سره وجهره ،ويببتغى رضاه ،وعلى قدر ما يعيش على ذكر من
اليوم الخر وما فيه من بعث ونشور ،وحساب وجزاء ،وجنة ونار ،تكون قدرته على ضبط شهواته ،وقدرته على تمثل القيم
العليا ،وقدرته على إعداد نفسه للجهاد فى سبيل ال ،ورغبته كذلك فى التطوع النبيل ابتغاء مرضاة ال 0
وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك المور بالذات..
فأما التعريف بال ،بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ،وقدرته التى ل يعجزها شىء ،وعلمه الذى ل يعزب عنه شىء ،ورقابته
التى ل تغفل عن شىء ،ورحمته التى وسعت كل شىء ،وجبروته الذى ل يقف أمامه شىء ،فأوضح من أن يشار إليه فى كتاب
ال الكريم ،وهو الموضوع الول والكبر من موضوعات الكتاب الكريم ،من حيث المساحة التى يشغلها ،والتركيز المستمر
وأما مشاهد القيامة ،مع تنوع أساليب عرضها ،وتعدد مواضع ذكرها والتذكير بها ،بنعيمها وعذابها ،فأمر واضح كذلك لمن
يتدبر كتاب ال ..ولكن يلفت النظر فى السور المدنية خاصة الربط بين المرين معاً :اليمان بال واليمان باليوم الخر ،سلباً
وإيجاباً ،وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والخلق ،سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين(( :إن الذين
آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بال واليوم الخر وعمل صالح ًا فلهم أجرهم عند ربهم ول خوف عليهم ول
هم يحزنون))(البقرة (( .)62 :وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فل تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف
ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بال واليوم الخر))(البقرة (( .)232 :يا أيها الذين آمنوا ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى
كالذى ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن بال واليوم الخر))(البقرة (( .)264 :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول
وأولى المر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن
تأويل))(النساء(( .)59:قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق
من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))(التوبة(( .)29:لقد كان لكم فى رسول ال أسوة حسنة لمن
كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال كثيرا))(الحزاب .)21:وإذا كان الربط مباشرا فى السور المدنية بين اليمان بال
واليمان باليوم الخر ،فهو موجود فى السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة(( :إلهكم إله واحد فالذين ل يؤمنون
بالخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون))(النحل(( )22:وعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون
قالوا سلما( )63والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً( )64والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً(
)65إنها ساءت مستقراً ومقاما( )66والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما( )67والذين ل يدعون مع
ال إلها آخر ول يقتلون النفس التى حرم ال إل بالحق ول يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما( )68يضاعف له العذاب يوم القيامة
ويخلد فيه مهاناً( )69إل من تاب وآمن وعمل عمل صالحاً فأولئك يبدل ال سيئاتهم حسنات وكان ال غفورا رحيماً( )70ومن
تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى ال متاباً( )71والذين ل يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما( )72والذين إذا ذكروا
بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميانا( )73والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين
إماما( )74أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلماً( )75خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاماً))(الفرقان:
.)76-63
والدللة التربوية لهذا المر أن اليمان بال واليمان باليوم الخر ،كل قائم بذاته ،ومتعمق بذاته فى أغوار النفس ،ثم مرتبطين
متلزمين متكاملين ،هو الداة الكبرى فى منهج التربية السلمية التى تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة
الدؤوب ..وهذا هو الذى قام به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بالصورة الفذة التى ل مثيل لها فى التاريخ..
لقد كان عمله الدائم صلى ال عليه وسلم ،فى مكة خاصة ،هو تعميق اليمان بال ،وتعميق اليمان باليوم الخر فى نفوس
أصحابه رضوان ال عليهم ،ثم الربط بين اليمان بال واليمان باليوم الخر فى تلك النفوس ،حتى يصبح أحدهما مذكراً بالخر
تلقائياً ومؤدياً إليه :إن ذكر النسان بال ذكر معه اليوم الخر ،بنعيمه وعذابه ..وإن ذكر باليوم الخر ذكر ال سبحانه
وتعالى ،مالك الدنيا والخرة ،ومالك كل شىء فى الوجود 0
وتبدو القمة التى وصل إليها صلى ال عليه وسلم فى تربية أصحابه بهذه الداة الضخمة فى هذا الوصف الرائع لهم فى كتاب
ال ،بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة ،وأخذوا منها بأوفى نصيب(( :إن فى خلق السموات والرض واختلف الليل والنهار
ليات لولى اللباب( )190الذين يذكرون ال قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والرض ربنا ما خلقت
ل سبحانك فقنا عذاب النار( )191ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار( )192ربنا إننا سمعنا هذا باط ً
منادياً ينادى لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار( )193ربنا وآتنا ما عدتنا
على رسلك ول تخزنا يوم القيامة إنك ل تخلف الميعاد))(آل عمران.)194-190 :
هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة .إن ذكر ال لحظة يحدث فى النفس آثاره ،فما بال الذين يذكرون
ال قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ،أى فى جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر فى نفوسهم؟
ومن جهة أخرى فإن ذكر ال ل يخطر فى النفس وهى هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات ..فتلك هى لحظات الغفلة ،التى يغفل
فيها النسان عن ذكر ال ،إنما يذكر النسان ربه وهو متجه نحو الصعود ،فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هى فى
الحقيقة لحظة صعود ..فكيف بالذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم أى فى جميع أحوالهم ،كم صعدوا وكم ثبتوا على
الصعود؟ إنه شىء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته..
إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه لن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل ،ويحتاج إلى رفع
مستمر حتى يتوازن ،ويحتاج إلى رفع أكثر لكى يغلب دافع الصعود على دافع الهبوط..
ولكن هذا ل ينفى أن هناك جهداً ينبغى أن يبذل لتدريب هذه الداة على العمل ،وهو الجهد الذى تقوم به التربية ،فبينما تعمل
الشهوات تلقائياً فى الكيان البشرى بطبيعة كونها محببة ومزينة للنسان ،ومثيراتها حاضرة فى ألوان المتاع التى تزخر بها
الحياة الدنيا ،فإن أداة الضبط التى تحبس الشهوات فى نطاق معين ،لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالت العليا،
مجالت القيم ومعالى المور التى يحبها ال ..هذه الداة فى حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها ،كما يحتاج الطفل إلى التدريب على
المشى ليقاوم ثقلة الرض ،مع أن القدرة على المشى كامنة فى كيانه على الرض(( :زين للناس حب الشهوات من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن
المآب( )14قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها وأزواج مطهرة
ورضوان من ال وال بصير بالعباد( )15الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار( )16الصابرين
والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالسحار))(آل عمران .)17-14 :
ومزية السلم العظمى فى هذا المجال أنه وهو يعمل على رفع النسان إلى أعلى لموازنة ثقلة الشهوات ل يدفعه إلى منطقة
ينعدم فيها جذب الرض ،كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية ،فهذه قد تيسر للنسان التحليق فى الفضاء ،ولكنها تؤدى به
إلى إهمال عمارة الرض وحفظها من الفساد بالجهاد والمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وكلها تكاليف ربانية أمر بها ال،
لنه يعلم أن فيها صلح الحياة والنسان ،وهو الذى خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له (( :أل يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير))(الملك (( .)14 :هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها))(هود (( . )61 :الذين إن مكناهم فى الرض أقاموا الصلة
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج (( .)41 :يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة
تنجيكم من عذاب أليم( )10تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون))(الصف.)11-10:
وكذلك فإنهه وههو يوجهه النسهان إلى عمارة الرض ،والسهتمتاع بالطيبات فيهها ،ل يتركهه يغرق فهى حمأة الشهوات ،لنهه عندئذ
يترهل ويفسد ،ويستثقل التكاليف التى يتطلبها المر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل ال ،لنها تبدو فى حسه
موانع تعوق النسان عن المتاع(( :لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة))(التوبة(( .)42 :وإذا
أنزلت سورة أن آمنوا بال وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين( )86رضوا بأن يكونوا
مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم ل يفقهون))(التوبة..)87-86 :
وإنمها يعمهل السهلم على أن يقوم النسهان متوازناً بيهن عنصهريه المكونيهن له :قبضهة الطيهن ونفخهة الروح ،عاملً فهى الدنيها
وعاملً للخرة فهى ذات الوقهت(( :ههو الذى جعهل لكهم الرض ذلولً فامشوا فهى مناكبهها وكلوا مهن رزقهه وإليهه النشور))(الملك:
.)15
***
كانت الداة العظمى فى يد رسول ال صلى ال عليه وسلم لتربية أصحابه هى تعميق اليمان بال واليوم الخر فى نفوسهم،
والتذكير الدائم بال سبحانه وتعالى ،وتعويدهم أن يعيشوا قدر طاقتهم فى معية ال ،وكان هو عليه الصلة والسلم قدوتهم
العظمى فى ذلك المر ،كما هو فى كل أمر..
إن القدوة ذات تأثير هائل فى عملية التربية ..وال الذى خلق النفس البشرية يعلم سبحانه أن الموعظة وحدها ل تكفى ،مهما
يكون من بلغتها وقوتها ،ما لم يحملها قلب بشر ،يتمثلها ويترجمها واقع ًا مشهوداً أمام الناس ،ثم يدعو الناس إلى اتباعها
وقد بين لهم بالقدوة العملية كيف يكون التباع.
كان ال قادراً سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مكتوباً فى قراطيس ،ثم يلهم العرب الميين أن يقرأوه ..ولكنه يعلم وهو اللطيف
الخبير أن النفوس ل تتقبل المر على هذه الصورة ول تتأثر به التأثر المطلوب ،الذى يحول المر إلى حركة واقعية ذات قوة
وانطلق ،إنما أنزله سبحانه وتعالى على قلب بشر ،تمثله تمثلً كاملً ،وترجمه واقعاً يراه الناس ،فيحب هذا الواقع من شرح
ال صدره للسلم ،فتهفو له نفسه ،وينقاد إليه ،ويدخل فى دين ال.
سئلت عائشة رضى ال عنها عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقالت :كان خلقه القرآن(..)1
1أخرجه أحمد.
وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم دائم الذكر ل ،يعيش حياته كلها فى معية ال ،ل يغفل قلبه عن ذكره ،ول يفتر عنه
لسانه ،أدبه ربه فأحسن تأديبه ،ومنحه من الطاقة ما يطيق به هذه الصلة الدائمة بال ..وإنها بالنسبة للبشر لجهد جاهد..
ما يطيق البشر حتى الصحابة رضوان ال عليهم أن يقضوا حياتهم كلها على ذلك المستوى السامق الذى كان عليه رسول ال
صلى ال عليه وسلم فى صلته الدائمة بال ،وذكره الدائم له سبحانه وتعالى فى جميع الحوال واللحظات.
فتلك خصيصة خص ال بها الرسل الكرام صلوات ال وسلمه عليهم ،وخص منها سيد الرسل صلى ال عليه وسلم بالنصيب
الوفى ،أما الصحابة رضوان ال عليهم ،وهم خير البشر بعد الرسل ،فقد شكوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أنهم حين
يكونون معه يكونون على حال ،وإذا فارقوه كانوا على حال آخر غير حالهم وهم معه ،فقال((والذى نفسى بيده أن لو تدومون
على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملئكة على فرشكم وفى طرقكم .ولكن يا حنظلة ساعة وساعة))(.)1
ومع ذلك فإن الساعة التى شكا منها الصحابة رضوان ال عليهم ،لم تكن ساعة هبوط ول غفلة عن ذكر ال ،ويكفى وصف ال
لهم بأنهم يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم ،إنما كان الفارق بينها وبين الساعة التى يكونون فيها مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم فارقاً فى الدرجة ل فى النوع.
إنهم يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم ،فكيف كان ذكرهم له؟ أهو الذكر الذى يؤدى إلى الفناء على طريقة الصوفية،
باعتبار أن الفناء عندهم هو حقيقة الوجود؟ أم الذكر الذى يؤدى إلى حضور الطاقة البشرية فى الواقع المشهود ،وتجمعها
لتعمل فى مرضاة ال؟
لقد كانوا يذكرون ال ليسألوا أنفسهم :ماذا يريد ال منا فى هذه اللحظة؟ فإن كان متطلب اللحظة هو الجهاد فى سبيل ال ،كان
الذكر هو الدافع إلى الجهاد ..وإن كان متطلب اللحظة هو تحصيل العلم الذى هو فريضة على كل مسلم ،كان الذكر هو الدافع
إلى تحصيل العلم ..وإن كان متطلب اللحظة هو السعى فى تحصيل الرزق الحلل أو النفاق فى سبيل ال أو عمارة الرض
بمقتضى المنهج الربانى ،كان الذكر دافعاً إلى ذلك ..وإن كان متطلب اللحظة عاشروهن بالمعروف ،كان الذكر هو الدافع إلى
المعاشرة بالمعروف ...وهكذا فى سائر التكاليف الربانية وسائر مجالت العمل فى واقع الحياة.
وكانوا يذكرون ال ليسألوا أنفسهم أين هم -اللحظة -من رضوان ال؟ أهم فى الوضع الذى يرضى ال عنهم فيه؟ فإن كان كذلك
حمدوا ال ،وعملوا على اكتساب المزيد من رضوان ال بزيادة التقرب إليه بما يحبه من العمال ،وإن كان غير ذلك ذكروا ال
كذلك ،ولكن ليغيروا ما هم فيه(( :والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ال فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إل
ال ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون( )135ألئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها
ونعم أجر العاملين))(آل عمران.)136-135 :
ولننظر فى اليات التى أشرنا إليها من سورة آل عمران ،لنرى ما الذى أدى إليه الذكر(( :الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى
جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والرض))(آل عمران..)191 :
لقد كان متطلب اللحظة وهو مطلوب فى كل لحظة التفكر فى خلق السموات والرض ،للتعرف على ما فى بنيتها من الحق:
((خلق السموات والرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير))(التغابن(( .)3 :وما خلقنا السماء والرض وما
ل ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار))(ص ..)27 :ولقد أدركوا بما علمهم ربهم ،وبما رأوا من انتظام بينهما باط ً
السنن الربانية ،سواء ما يتعلق منها بالكون المادى أو بالحياة البشرية أن خلق الكون ل يمكن أن يكون باطلً ول عبثاً ،وأن
الحكمة ملحوظة فى كل جزئية فيه ..وحين يصل تفكيرهم إلى هذا المدى ،يدركون أن الحياة الدنيا ليست هى نهاية المطاف ،ول
يمكن أن تكون ،فهناك من البشر من يظلم ،ويظل ظالماً إلى آخر قطرة فى حياته ..ومنهم من يظلم ويظل مظلوماً إلى آخر قطرة
فى حياته ..فلو كانت الحياة الدنيا هى نهاية المطاف فأين الحق؟ إنها تكون عندئذ عبثًا ل غاية له ول حق فيه.
وإذ تذكروا النار فقد فزعوا إلى ربهم أن ينجيهم منها(( :ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار))(آل
عمران ..)192 :وكأنما يقدمون بين يدى مولهم مؤهلتهم التى يرجون بها النجاة من النار(( :ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى
لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار( )193ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
ول تخزنا يوم القيامة إنك ل تخلف الميعاد))(آل عمران..)194 -193 :
ويستجيب ال لهذه الضراعة الحارة من عباده ،ولكن لى شئ استجاب سبحانه؟ المجرد الذكر؟ المجرد التفكر؟ ألمجرد التدبر؟
ألمجرد الضراعة؟ وكلها مطلوبة من المؤمن الصادق اليمان(( :فاستجاب لهم ربهم أنى ل أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو
أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لكفرن عنهم سيئاتهم ولدخلنهم
جنات تجرى من تحتها النهار ثواب ًا من عند ال وال عنده حسن الثواب))(آل عمران .)195 :
هنا الدرس التربوى فى هذه اليات التى بدأت بهذا الوصف الرائع الذى وصف به ال صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم :
((الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم)) ..إنه الذكر الذى يؤدى إلى العمل المشهود فى واقع الرض ..هاجروا
وأخرجوا من درياهم ،وأوذوا فى سبيل ال فصبروا ،وقاتلوا وقتلوا ..فاستجاب لهم ربهم .
وعلى هذا الذكر ربى رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه ،بالقدوة أولً فى شخصه الكريم ،ثم بمواعظه وتوجيهاته،
ومتابعته المستمرة وعنايته ورعايته ،حتى صاروا إلى تلك القمم البشرية التى ل مثيل لها فى التاريخ 0
***
والن فلننظر ماذا كان يريد صلى ال عليه وسلم ،وإلى أى شىء كان يهدف من بذل الجهد الجبار الذى بذله فى تربية أولئك
الصحاب ..ألمجرد أن يكونوا حواريين له صلى ال عليه وسلم؟ ألمجرد أن يكونوا مؤمنين صادقى اليمان؟ إنه هدف نبيل ول
شك ،ويستحق أن يبذل فيه الجهد ،ولكن أكل هذا الجهد؟
لقد كان جزء من هذا الجهد يكفى لتحقيق هذا الهدف على أحسن صورة يرغب فيها رسول كان يكفى جهد كالذى بذله عيسى
ابن مريم عليه السلم فى تربية حوارييه الذين التفوا حوله ،وأخلصوا له ،ونشروا دينه من بعده ،وكانوا مثلً فى الرأفة
والرحمة والزهد ونظافة الخلق(( :ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه النجيل وجعلنا فى قلوب الذين
اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال))(الحديد ..)27 :ولكن محمدًا صلى ال عليه
وسلم لم يكن يريد مجرد أن يربى جماعة من المؤمنين ،ككل المؤمنين الذين رباهم الرسل من قبله ،إنما كان يريد أمراً آخر
أعظم وأجل ..يريد أن يربى القاعدة الصلبة التى تنشئ بدورها ((خير أمة أخرجت للناس))(آل عمران .)110 :
إن الفارق بين أى جماعة من الجماعات المؤمنة التى رباها الرسل الكرام قبل محمد صلى ال عليه وسلم ،والجماعة المؤمنة
التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم كامن فى التكاليف الربانية التى كلف ال بها هؤلء وهؤلء ،والمهمة المطلوبة من
هؤلء وهؤلء..
فأما الجماعات المؤمنة السابقة فقد قال ال عنها (( :وما أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلة ويؤتوا
الزكاة وذلك دين القيمة))(البينة 0.)5:
وأما جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم فقد كلفهم التكليف ذاته؛ أن يعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء ،ويقيموا الصلة
ويؤتوا الزكاة ،ثم كلفهم تكليفاً آخر ،اختصهم به دون الم السابقة كلها(( :كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال))(آل عمران(( . )110:وكذلك جعلناهم أمة وسط ًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيداً)) (البقرة.)143:
المم السابقة أخرجت لتؤمن بال وتستقيم على اليمان فى ذات نفسها فحسب ،وهذه المة أخرجت للناس ،لتكون نموذجاً
تهتدى به البشرية كلها إلى الصراط المستقيم ..وفرق فى العداد والتكوين بين شخص يراد له أن يستقيم فى ذات نفسه وفى
حدود قوم محدودين ،وشخص يراد منه أن يكون نموذجاً يحتذى ،ل فى داخل قومه فحسب ،بل على نطاق البشرية كلها حيثما
التقى بها فى أى بقعة من الرض 0
وقد يكون الساس واحدًا :عبادة ال وحده بل شريك ،ولكن يظل الفرق قائماً بين أساس تريد أن تقيم فوقه بناء صغير الحجم،
محدود النطاق ،وأساس تريد أن تقيم فوقه بنا ًء شاهقاً متسع الرجاء ،كلهما مطلوب فيه التقان ،وكلهما يحتاج إلى جهد،
ولكن شتان بين أساس وأساس ،وجهد وجهد ،وإتقان وإتقان ..
كل أمة مؤمنة دعيت لليمان بال واليوم الخر ،ولكن ل يوجد كتاب من الكتب المنزلة أخذت فيه هذه القضية المساحة
والتركيز اللذين أخذتهما فى كتاب ال الخير .وكل أمة مؤمنة ربط التكاليف المطلوبة منها بهذه القضية الجوهرية التى هى
أساس كل شىء ،ومنطلق كل شىء ،ولكن ل توجد رسالة أحكم فيها ربط التكاليف بهذه القضية الجوهرية كما أحكم فى الرسالة
الخيرة ،مع تعدد التكاليف فى تلك الرسالة واتساع نطاقها وشمولها لكل مجالت الحياة(.)1
ثم نلحظ الفارق – على خط مواز لما جاء فى كتاب ال – فى المنهج النبوى الذى ربى به رسول ال صلى ال عليه وسلم
أصحابه ،سواء فى تركيز المنهج على قضية اليمان بال واليوم الخر ،أو فى إحكام ربط التكاليف كلها – العتقادية
والسلوكية – بهذه القضية الجوهرية 0
فى الفترة المكية لم تكن قد نزلت بعد الحكام والتوجيهات التى تنظم حياة الجماعة المؤمنة السياسية والقتصادية والجتماعية،
إنما كانت كلها مخصصة لبذر العقيدة الصحيحة فى النفوس ،وتهيئة هذه النفوس لمقتضيات هذه العقيدة ،التى كان مقداراً فى
علم ال أن تجئ فى موعدها المناسب..
ونتكلم الن عن المؤمنين الذين آمنوا أنه ل إله إل ال وأن محمداً رسول ال ،وآمنوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء ،لن
هؤلء هم القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والتى هى موضع حديثنا فى هذا الفصل ..ولكن ل يفوتنا
أن نذكركم عانى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فى عرض هذه القضية ،وتبليغها للناس ،سواء من طغاة قريش الذين وقفوا
لهذه الدعوة بالمرصاد،ن يحاربونها بكل وسائل الحرب ،أم من الجماهير التى حاربتها لنها تخالف مألوفاتها ،ولنهم هم فى
ذات الوقت مستعبدون لولئك الطغاة ،وعوا ذلك أم لم يعوه ،وراتضيته نفوسهم أم كرهوه..
فى هذه الفترة التى نحن بصددها كان التركيز على مقتضيات بعينها من مقتضيات ل إله إل ال..
فأما النطق فهو وقتئذ العلمة الظاهرة لليمان ،فلم يكن ينطق بالشهادتين فى ذلك الوقت إل من آمن حقاً ،وجاء يعرض إيمانه
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،مخاطراً بنفسه ،معرضاً نفسه للذى ينصب عليه من كل حدث وصوب ،والجاهلية كلها
من حوله تناجزه العداء ،وتظهر له النكار والبغضاء .ومع أن النطق فى ذلك الوقت كان علمة مؤكدة على اليمان ،لنه لم
يكن يعرض نفسه لمخاطر النطق إل من آمن حقاً ،وبلغ به التصديق مبلغ اليقين ،فهل اكتفى رسول ال صلى ال عليه وسلم
منهم بأنهم صدقوا فى داخل قلوبهم ونطقوا بألسنتهم؟
ولو اكتفى بذلك منهم ،فهل كانت تقوم تلك القاعدة الصلبة التى غير ال بها وجه الرض؟
وفيم إذن كان لقاؤه معهم فى دار الرقم ،ومصاحبته لهم ،وقضاؤه الساعات معهم؟ ليقول لهم :آمنوا بأنه ل إله إل ال ،وقد
آمنوا بالفعل؟ أم ليقول لهم انطقوا بألسنتكم أنه ل إله إل ال وقد نطقوا بالفعل؟ إنما كان يلتقى بهم ليربيهم على مقتضيات ل إله
إل ال ،مقدمًا لهم النموذج العملى فى شخصه الكريم 0
لقد كان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين ،وفى كل حين ،الصبر على الذى فى سبيل الحق ،فى سبيل العقيدة
الصحيحة التى يؤمن بها النسان ..فهل كان مجرد اليمان ،أى التصديق بل إله إل ال والنطق بها ،يؤدى تلقائياً إلى الصبر
على الذى مهما اشتد ،والتمسك بالحق مهما كلف فى النفس والمال؟ أم يحتاج هذا المر إلى جهد معين لتقوية الكيان النفسى
حتى يحتمل الضغط دون أن ينثنى أو ينهار؟ ومن أين تعلمون ذلك؟ أبمجرد أن يقال لهم اصبروا تنضبط المشاعر ،وتصلب
العزيمة ،وتصغر الدنيا بمتاعها الحلو فى نظر صاحبها ،ويتطلع إلى ما هو أعلى وأشف ،فيحتمل الذى صابراً ،ول يفرط فى
الحق الذى آمن به؟ كل والله إنما يحتاج المر إلى تلقين وتعليم وتدريب وتوجيه ..والمعلم العظم صلى ال عليه وسلم هو
الذى يعلم ويلقن ،ويدرب ويوجه ..ولكن ل بمجرد كلمات يلقيها لصحابه ،بل بنموذج عملى يرونه شاخصاً أمامهم ،يطبق فى
ذات نفسه ما يدعوهم إليه ،على المستوى العلى ،فيتعلمون فينفذون..
لقد أوذى سيد الرسل صلى ال عليه وسلم أذى يهد الجبال ..
أوذى بالتكذيب ،وما أشق التكذيب على الصادق المين ..وأوذى بالسخرية ،وما أشق السخرية على قلب من يؤمن بالحق،
ويعلم أنه الحق وأنه خير وأنه هدى وأنه نجاة وأنه فلح ،وأن الساخرين فى الضلل البعيد ..وأوذى بالدعاية المضادة
والتشهير والتنفير ومحاولة صرف التباع ،بل محاولة صرف الناس عن مجرد السماع ..وأوذى اليذاء البدنى والحسى ..إن
قذفه بالحجار حتى تدمى قدماه الشريفتان ،وإن بنشر الشوك فى طريقه كما فعل أبو لهب وامرأته حمالة الحطب ،وإن بإلقاء
الوساخ عليه وهو ساجد يذكر ربه ،وإن ..وإن ..
1انظر إن شئت فصل ((مقتضيات ل إله إل ال فى الرسالة المحمدية)) من كتاب ((ل إله إل ال ،عقيدة وشريعة ومنهاج حياة))
وهكذا يلقن الدرس لصحابه ،ل مجرد كلمات ،وإن كانت الكلمات مطلوبة للبيان ،ولكن سلوكاً عملياً يشرح الكلمات ،ويحولها
إلى حقائق مشهودة فى عالم العيان 0
وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين ،وفى كل حين ،امتلء القلب بحب ال ،واستشعار عظمته سبحانه وتعالى،
والتعلق به ،والتطلع إليه ،والتوجه إليه فى كل سلوك وكل شعور ..فهل كان مجرد اليمان ،أى التصديق بأنه ل إله إل ال،
والنطق بها ،يؤدى تلقائي ًا إلى ذلك التوجه وذلك السلوك؟ أم يحتاج المر إلى تعليم وتلقين ،وتدريب وتوجيه؟
ومن يوجه ويعلم إل المربى صلى ال عليه وسلم ؟ ل بمجرد كلمات تلقى ،ولكن بسلوك عملى يراه الصحاب ،ويتملونه
ل متضرعاً تائباً منيباً ل يفتر لسانه عن
ويتعلمون منه ،إذ يرونه فى كل لحظة ذاكراً لربه ،متوجهاً إليه ،متطلعاً لرحمته ،متذل ً
الدعاء ،ول قلبه عن الذكر 0
وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين ،وفى كل حين ،اليمان بقضاء ال وقدره ،واليمان بأنه هو وحده المدبر ،هو
وحده المقدر ،هو وحده الفعال لما يريد ،هو وحده الرزاق ،هو وحده الضار النافع ،هو وحده المحيى المميت ،هو وحده المالك
لكل شىء وكل أمر ،هو المتصرف وحده فى الكون وفى الناس ،ل يكون شىء إل بأمره ،ول يكون شىء حتى يشاء سبحانه 0
فهل كان مجرد التصديق بل إله إل ال والنطق بها يحدث ذلك اليمان فى النفوس؟ أم يحتاج إلى التعليم والتلقين والتدريب
والتوجيه؟ وهل يكفى لترسيخ ذلك اليمان كلمة أو كلمات أو درس عابر أو دروس؟ إنها ليست نظرية تدرس وتحفظ ،ويسأل
فيها النسان فيجب بلسانه ،إنها معاناة واقعية ،تصطدم فى كل لحظة برغبة من رغبات النفس ،أو شهوة من شهواتها ،أو
هاجس من هواجسها ،أو تجربة مريرة يمر النسان بها ،ثم يتعلم من خلل المعاناة ،ويحفظ الدرس ،ل بعقله فقط ول بوجدانه
فقط ،بل بأعصابه وجسده وروحه وكيانه كله 0
ضربت هذا المثل فى كتاب سابق( :)2إذا سألت أى إنسان فى الطريق :من الذى يرزقك؟ يجيب بداهة :ال هو الرزاق ،ولكن
حين يضيق عليه فى الرزق ،أو قل على وجه التحديد :حين يؤذى فى رزقه فماذا يقول؟ يقول فى أغلب الحوال :فلن قطع
رزقى ،أو فلن يريد أن يقطع رزقى فما دللة ذلك؟ دللته أن ما كان يبدو بديهية لم يكن كذلك فى الحقيقة أو قل :إنه كان
بديهية ذهنية لم تتعمق فى الوجدان ،لم تصبح بعد بديهية قلبية ينبنى عليها سلوك أو تنبنى عليها المشاعر الصحيحة التى
ينبنى عليها بعد ذلك سلوك صحيح
لفت نظرى أمر وأنا أقرأ خطاب ال لبنى إسرائيل فى سورة البقرة (( :وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلء من ربكم عظيم))(البقرة .)49 :
العذاب واقع من فرعون :يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ،ولكن البتلء واقع من الله هل يرد هذا الخاطر على الذهن بداهة
حين يرى العذاب أو يسمع عنه؟ أم يتجه الذهن إلى الفاعل المباشر الذى يقع الفعل منه؟ ويحتاج النسان إلى تعليم وتلقين لكى
يعلم أن الفاعل قائم بالعمل ،نعم ،ولكن وراء ذلك قدر ال؟ وحين يعلم ذلك ،ويستقر فى خلده حتى يصبح يقيناً ،فلمن يتجه
ليرفع عنه البلء؟ هذا هو الدرس من وراء التوجيه ..ول يتنافى ذلك فى حس المؤمن مع اتخاذ السباب ،ولكن دون اتكال
على السباب ،ودون اعتقاد بأن السباب تعمل من ذات نفسها؛ إنما هى تعمل بقدر من ال ،وفى الحدود التى قدرها ال ،ويظل
التطلع دائماً إلى المدبر الحقيقى وراء الحداث والشخاص ،ال الذى بيده ملكوت كل شىء 0
وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين – وفى كل حين -الخوة فى ال ،والحب والبغض فى ال ،والولء والبراء فى
ال ..وكانت تلك كلها بالنسبة للبيئة العربية ،ولكل بيئة جاهلية فى القديم والحديث ،أموراً مخالفة ومغايرة لعرف البيئة ..ففى
الجاهلية العربية كان رباط الدم هو الرباط الثابت الدائم الوثيق ،وكل رباط غيره إما ضعيف منقطع وإما غير موجود أصلً..
وفى الجاهليات الحديثة أصبح البديل من رابطة الدم القريبة المحصورة رابطة القومية والوطنية التى تفاخر بها تلك الجاهليات
وتتعصب لها على نفس الصورة التى كانت تفاخر بها الجاهلية العربية وتتعصب بها لرابطة الدم المتمثلة فى القبيلة ..اختلف
فى مدى السعة ل فى الجوهر
أما الحب والبغض فى الجاهلية العربية وفى كل جاهلية فمداره المصالح ،وهى فى الغلب المصالح المادية القريبة ،ومداره من
جهة أخرى ((النا)) :أنا ،وكرامتى ،ومالى ،وسلطانى ،وقومى وأتباعى إن كنت من ((المل)) ،أو سادتى إن كنت من
المستضعفين
ولم يكن مجرد اليمان – بمعنى التصديق -بل إله إل ال ،والنطق بها ،ليؤدى تلقائياً إلى تغيير جذرى فى تلك المور كلها ،التى
يساندها عرف الجاهلية ،وأوضاعها السياسية والقتصادية والجتماعية والفكرية والخلقية ..وإن كان اليمان بل إله إل ال
يهيئ دون شك للتغير وتقبل التغيير ..أما المعايير الجديدة ،والقيم الجديدة ،والوضاع الجديدة التى يراد بناؤها فل تتأتى
تلقائياً ،ول تتم فى لحظة ،ولو كانت لحظة اليمان ،وإنما تنبى لبنة لبنة حتى يستقيم بها البناء الجديد..
وذلك ما قام به المربى العظم صلى ال عليه وسلم ،فى دأب ،وحدب ،ورعاية ،ومتابعة حتى وصل به إلى تلك القمم السامقة،
فأصبحت الخوة فى ال أقوى فى نفوس القوم من رابطة الدم ،وأصبح الحب والبغض ل علقة له بالمصالح الرضية ،بل هو
معها فى موضع التقابل الكامل ،والكفة الراجحة هى لما كان ل وفى ال ،وأصبح الولء والبراء مرتبطاً بالقيم اليمانية وحدها،
خالصاً ل 0
وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين ،وفى كل حين ،مجموعة من الفضائل الخلقية العالية ،كان بعضها موجوداً فى
البيئة العربية ولكن الجاهلية كانت قد أفسدته فحرفته عن مساره السوى ..كالشجاعة التى كانت الجاهلية قد حمية جاهلية ،كما
جاء فى سورة الفتح( .. )1والكرم الذى كانت الجاهلية قد حرفته عن مساره السوى ،فأصبح إنفاف ًا للمال رئاء الناس ،كما جاء
فى سورة البقرة( ،)2فلزم تصحيح مسارها ،وردها إلى أصلها السوى فى الفطرة ،لكى تكون ل ،وفى ال .وبعضها لم يكن
موجوداً فى الجاهلية العربية ،ول يمكن أن يوجد فى أى جاهلية ،كمنع التظالم بين الناس ،وإقامة الحياة على القسط والعدل ،ل
على قانون الغاب ،واحترام النسان من حيث هو إنسان ،بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ووطنه ووضعه الجتماعى أو
السياسى أو القتصادى ،وهو أمر ل يمكن أن يتم إل حين تتجرد النفس ل(.)3
وليس قصدنا هنا أن نذكر كل مقتضيات ل إله إل ال على سبيل الحصر ،حتى بالنسبة لفترة التربية بمكة ،إنما قصدنا أن نقول:
إنها لم تكنن قط ،منذ أنزلت من عند ال ،مجرد التصديق والقرار كما يزعم الفكر الرجائى ،وأن مجرد التصديق والقرار،
حتى حين كان علمة على صدق اليمان فى أوائل الدعوة ،حين لم يكن يقدم على مخاطره إل المؤمنون حقاً ،لم يكن بذاته
يصنع شيئاً مما صنعته ل إله إل ال فى نفوس العصبة المؤمنة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إنما صنعت ما
صنعت حين آمن معتنقوها بمقتضياتها ،وتربوا على مقتضياتها ،وعملوا بها فى عالم الواقع..
وليس قصدنا كذلك أن نقول :إن التربية على هذه المقتضيات هى العمل الفذ الذى قام به رسول ال صلى ال عليه وسلم
بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة ،فهذا أمر مطلوب من كل مرب يتصدى لنشاء قاعدة للدعوة فى أية بقعة فى الرض ،وفى أى
فترة من الزمن إلى قيام الساعة ،إنما العمل الفذ الذى قام به صلى ال عليه وسلم هو الدرجة العجيبة التى أوصل إليها
الصحابة رضوان ال عليهم فى العمل بمقتضيات ل إله إل ال ،والتى التقى فيها الواقع بالمثال ،والتى تحولت فيها المندوبات
والمستحبات فى نفوسهم إلى واجبات ومفروضات ،يلزمون بها أنفسهم بغير إلزام من ال ورسوله ،والدرجة العجيبة التى
آمنوا بها باليوم الخر فعاشوه فى كل لحظة كأنه حاضر يشهدونه الن ،ل بعد آماد من الزمان ،وهذا هو الذى تميز به ذلك
الجيل الفريد على يد المربى العظم صلى ال عليه وسلم ،وليس مجرد اللتزام بمقتضيات ل إله إل ال ،الذى هو مطلوب من
كل من تصدى للدعوة لل إله إل الله
***
ثم اتسعت رويداً رويداً مقتضيات ل إله إل ال ،فشملت جوانب جديدة من النفس والحياة لم تكن داخلة فيها من قبل ،أنزلها
العزيز العليم بعلمه وحكمته فى وقتها المقدر عنده ،وصار اللتزام بها واجباً ،ولم تعد المقتضيات الولى وحدها تحقق اليمان
0
يقول المام أبو عبيد القاسم بن سلم (224 – 157هه) فى كتاب ((اليمان))( )4ص 54وما بعدها 0
(( 1إذا جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية ،حمية الجاهلية)) (سورة الفتح )26 :
(( 2كالذى ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن بال واليوم الخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ل يقدرون على شىء مما كسبوا وال ل
يهدى القوم الكافرين)) (سورة البقرة )264 :
3تزعم الديمقراطية أنها هى أول من قرر هذه المبادئ وطبقها بالفعل ،وأعطى ((الخر)) حق الوجود وحق التعبير عن نفسه والجواب على ذلك هو ما وقع
فى البوسنة والهرسك ،وفى بلد الشيشان ،وما يقع فى الفلبين ،وما يقع فى كشمير ،وما يقع فى فلسطين ،وما يقع فى كل مكان يكون فيه مسلمون تحت حكم
اليهود والنصارى ،مقابلً بما كان من القسط والعدل والتسامح من المسلمين لمن وقع تحت حكمهم من اليهود والنصارى
4حققه محمد ناصر اللبانى – طبع دار الرقام بالكويت 1405 ،هـ
***
إذا نظرنا إلى القاعدة الصلبة كما رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،نعود فنسأل ،لى هدف كان الرسول العظم عليه
صلوات ال وسلمه يبذل ذلك الجهد الضخم الذى بذله خلل ثلثة عشر عاماً فى مكة ثم عشر سنوات فى المدينة ،لخراج هذه
النماذج الفذة من البشر؟ ألمجرد أن يوجد جماعة مؤمنة تؤمن بال واليوم الخر ،وتقيم الصلة وتؤتى الزكاة ،وتقوم بعبادة
ال؟
بعض هذا الجهد الضخم كان يحقق هذا الهدف فى عالم الواقع ،وهو فى ذاته هدف نبيل يستحق أن يبذل فيه الجهد ،ولكن
الرسول العظم صلى ال عليه وسلم كان كما أشرنا من قبل يهدف إلى ما هو أكبر من ذلك وأجل ..
لم تكن مهمة هذه الجماعة مجرد القيام بعبادة ال على النسق الذى قامت به الجماعات المؤمنة من قبل ،إنما كانت مهمتها نشر
التوحيد فى الرض ،وإخراج الناس على مستوى البشرية كلها ،من عبادة العباد إلى عبادة ال ،كما عبر ربعى بن عامر رضى
ال عنه فى مواجهة رستم قائد الفرس ،وأحد كبار الطواغيت فى ذلك الزمان ..ومثل هذه الجماعة يحتاج إلى إعداد خاص ،ل
كمجرد إيجاد جماعة من الناس تؤمن بال واليوم الخر وتعبد ال 0
فى عالم التجارة والصناعة يعلم الناس أن البضاعة المعدة للستخدام المحلى غير البضاعة المعدة للتصدير ،الولى يمكن أن
تكون على النحو الذى يؤدى الغرض بصورة من الصور ،أما الخرى فيجب أن تكون متقنة الصنع ،إلى الحد الذى يجعلها
تفرض نفسها على السوق ،وتطرد ما دونها مما ل يرقى إلى مستواها ..فإذا كان هذا لزماً بالنسبة للتجارة المادية الرضية،
فهو أولى بالنسبة للتجارة العليا التى قال ال عنها(( :يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم()10
تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون)) (الصف.)11-10:
كان المطلوب لهداية البشرية جماعة فذة ،فائقة التكوين ،تشهد بسلوكها الواقعى لهذا الدين ،أنه الدين الحق ،وأنه الدين الذى
ل عنه..
يجب اتباعه ،وأن كل شىء غيره ل يداينه ،ول يصلح بدي ً
كان المطلوب إيجاد نسق من البشر يواجه الجاهلية بأكملها ،ل ليقف إزاءها فحسب ،ولكن ليستعلى عليها ،وينقض بنيانها،
وينشئ بناءً جديداً فى مكانها ،يقوم على السس الصحيحة التى يقوم عليها بناء سليم ..وهذا هو الذى تم بالفعل على يدى
رسول ال صلى ال عليه وسلم 0
لم تكن المواجهة مع الجاهلية العربية وحدها ،وإن كانت هذه بحكم الواقع هى أول جاهلية واجهتها الدعوة فى منطلقها الول ..
إنما كانت الرض كلها تعيش فى جاهلية سواء كانوا من الوثنيين ،عباد النار وعباد الجن وعباد الصنام وعباد الفلك وعباد
الطواغيت ،أو كانوا أهل دين سماوى وقع فيه التحريف والتبديل..
ل عن إقامة الدين
ل عن تغييره ،فض ً
هل كان مجرد إنشاء جماعة مسلمة تعبد ال على استقامة كافياً لمواجهة هذا كله؟ فض ً
الصحيح فى مكانه؟
كل لقد كان المر فى حاجة إلى جماعة فائقة التكوين ،تكون نواة للمجتمع الجديد ،وكانت هذه هى جماعة الرسول صلى ال
عليه وسلم :القاعدة الصلبة التى قام على أكتافها البناء ،والتى غيرت بواقعها واقع الرض 0
تروى كتب السيرة الكثيرة عن تلك القاعدة الصلبة ،وعن المستويات الرائعة التى وصلوا إليها ..وما بنا هنا أن نترجم للصحابة
رضوان ال عليهم ،وكتب السيرة فى متناول الجميع ،ول أن نتحدث عن أعيانهم ،والحديث عنهم يحرك النفوس ويهزها هزاً،
لعظمتها وروعتها ،إنما نحن معنيون هنا بذكر المواصفات التى بنيت عليها القاعدة الفذة ،من أجل التدير والعتبار 0
ومع ذلك فأنا شخصياً تهزنى نماذج بعينها ،ل أملك نفسى فى التأثر بها ،ليست كلها لكبار الصحابة رضوان ال عليهم ،بل
بعضها لشخاص يمر بهم التاريخ مروراً عابراً فى سطور قليلة ،مع روعتها ،ول أرى بأساً أن نقف عندها هنيهة 0
كانت امرأة تصرع فتتكشف فى أثناء نوبتها ،فشكت ذلك إلى رسول ال وطلبت منه أن يدعو لها لتشفى من صرعها .فقال لها
عليه الصلة والسلم(( :إن شئت دعوت لك ،وإن شئت صبرت ولك الجنة))ت .قالت :أصبر يا رسول الله ولكن ادع لى أل
أتكشف .فدعا لها ،فلم تعد تتكشف بعد ذلك().
اشتد الفقر برجل وزوجته ،فقال لها :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يعطى المحتاجين فهل سألناه أن يعطينا من المال
الذى بين يديه؟ فقالت له :تريد أن تشكو ال إلى رسوله صلى ال عليه وسلم؟ فصبرت وصبر 0
مر عمر رضى ال عنه وهو يعس ليلً يتفقد أحوال رعيته ببيت سمع فيه بكاء صبية صغار ،فدخل فوجد امرأة تضع قدراً على
النار تحركه ،وحولها صبية يتضاغون ،فسألها ما يبكى الصبية؟ قالت :الجوع .قال :وما هذه القدر؟ قالت أضع فيها حصوات
أقلبها حتى ينام الصبية ،فإنه ل طعام لدينا ،وعمر ل يأبه بنا ،وهى ل تعرف أنه عمر ،فقال لها :وما يدرى عمر بك؟ قالت :
وفيم إذن تولى أمر المسلمين؟ فبكى عمر ،وذهب إلى بيت المال ،ومعه تابعه ،فحمل دقيقاً وسمناً وعاد إلى بيت المرأة ،فيقول
له تابعه ،دعنى أحمل عنك يا أمير المؤمنين فيقول :ومن يحمل عنى يوم القيامة ثم يضع الدقيق والسمن فى القدر ،وينفخ
النار حتى يتخلل الدخان لحيته الكثيفة ..ول يغادر المكان حتى يرى الصبية قد أكلوا وشبعوا وناموا 0
خرج أحد المقاتلين إلى المعركة مشوقاً إلى الجنة ،مشوق ًا إلى الشهادة ،وفى يده تمرة -أو تمرات -فلم يطق صبراً حتى ينتهى
من أكلها ،فألقاها من يده وهو يقول :لئن بقيت حتى أنتهت من هذه إنه لمر يطول ودخل المعركة فنال الشهادة التى كان يسعى
إليها 0
لبس أحد المجاهدين زرد الحرب استعداداً للمعركة فقال له صاحبه :إن هناك ثلمة فى الزرد عند العنق يخشى أن ينفذ منها
السهم ،فقال لصاحبه باسماً :إنى لكريم على ال إن أصبت فى هذا الموضع ودخل المعركة فأصابه سهم فى الثلمة فأكرمه ال
بالشهادة ..
***
ربما كان خير طريقة لتحديد المواصفات التى نشأت عليها القاعدة الصلبة أن تجمع الوصاف التى وصف بها ال ورسوله هذه
الجماعة الفذة ،أو الوامر التى أمرهم بها ال ورسوله فالتزموا بها أروع التزام ،أو التوجيهات التى وجههم إليها ال ورسوله
فسارعوا إلى تنفيذها ،فهى فى مجموعها هى المواصفات الحقيقة التى قامت عليها القاعدة 0
((قهد أفلح المؤمنون( )1الذيهن ههم فهى صهلتهم خاشعون( )2والذيهن ههم عهن اللغهو معرضون( )3والذيهن ههم للزكاة فاعلون()4
والذين هم لفروجهم حافظون( )5إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين( )6فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون( )7والذيهن ههم لماناتههم وعهدههم راعون( )8والذيهن ههم على صهلواتهم يحافظون( )9أولئك ههم الوارثون( )10الذيهن
يرثون الفردوس هم فيها خالدون))(المؤمنون .)11-1 :
((أفمهن يعلم أنمها أنزل إليهك مهن ربهك الحهق كمهن ههو أعمهى إنمها يتذكهر أولوا اللباب ( )19الذيهن يوفون بعههد ال ول ينقضون
الميثاق( )20والذين يصلون ما أمر ال به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب( )21والذين صبروا ابتغاء وجه
ربههم وأقاموا الصهلة وأنفقوا ممها رزقناههم سهرًا وعلنيهة ويدرءون بالحسهنة السهيئة أولئك لههم عقهبى الدار( )22جنات عدن
((إنمها المؤمنون الذيهن إذا ذكهر ال وجلت قلوبههم وإذا تليهت عليههم آياتهه زادتههم إيماناً وعلى ربههم يتوكلون( )2الذيهن يقيمون
الصلة ومما رزقناهم ينفقون( )3أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم))(النفال .)4-2 :
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون
ال ورسوله أولئك سيرحمهم ال إن ال عزيز حكيم))(التوبة.)71:
((لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون))(التوبة .)88 :
((إن ال يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص))(الصف .)4:
((وسهارعوا إلى مغفرة مهن ربكهم وجنهة عرضهها السهموات والرض أعدت للمتقيهن( )133الذيهن ينفقون فهى السهراء والضراء
والكاظميههن الغيههظ والعافيههن عههن الناس وال يحههب المحسههنين ( )134والذيههن إذا فعلوا فاحشههة أو ظلموا أنفسهههم ذكروا ال
فاسهتغفروا لذنوبههم ومهن يغفهر الذنوب إل ال ولم يصهروا على مها فعلوا وههم يعلمون( )135أولئك جزاؤههم مغفرة مهن ربههم
وجنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين))(آل عمران .)136-133 :
((التائبون العابدون الحامدون السهائحون الراكعون السهاجدون المرون بالمعروف والناهون عهن المنكهر والحافظون لحدود ال
وبشر المؤمنين))(التوبة .)112 :
((إن المسههلمين والمسههلمات والمؤمنيههن والمؤمنات والقانتات والصههادقين والصههادقات والصههابرين والصههابرات والخاشعيههن
والخاشعات والمتصهدقين والمتصهدقات والصهائمين والصهائمات والحافظيهن فروجههم والحافظات والذاكريهن ال كثيرًا والذاكرات
أعد ال لهم مغفرة وأجرًا عظيماً))(الحزاب .)35 :
((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون))(الحشر .)9 :
((والذيهن يجتنبون كبائر الثهم والفواحهش وإذا مها غضبوا ههم يغفرون( )37والذيهن اسهتجابوا لربههم وأقاموا الصهلة وأمرههم
شورى بينههم وممها رزقناههم ينفقون( )38والذيهن إذا أصهابهم البغهى ههم ينتصهرون( )39وجزاء سهيئة سهيئة مثلهها فمهن عفها
وأصلح فأجره على ال إنه ل يحب الظالمين( )40ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل))(الشورى .)41-37 :
((ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران .)139 :
((قل هذه سبيلى أدعوا إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا من المشركين))(يوسف .)108 :
((ههو الذى أيدك بنصهره وبالمؤمنيهن( )62وألف بيهن قلوبههم لو أنفقهت مها فهى الرض جميعاً مها ألفهت بيهن قلوبههم ولكهن ال ألف
بينهم إنه عزيز حكيم))(النفال.)63-62:
((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين))(النساء .)135:
((يأيهها الذيهن آمنوا كونوا قواميهن ل شهداء بالقسهط ول يجرمنكهم شنآن قوم على أل تعدلوا اعدلوا ههو أقرب للتقوى واتقوا ال
إن ال خبير بما تعملون))(المائدة.)8 :
((آلم ( )1ذلك الكتاب ل ريهب فيهه هدى للمتقيهن( )2الذيهن يؤمنون بالغيهب ويقيمون الصهلة وممها رزقناههم ينفقون( )3والذيهن
يؤمنون بمها أنزل إليهك ومها أنزل مهن قبلك وبالخرة ههم يوقنون( )4أولئك على هدى مهن ربههم وأولئك ههم المفلحون))(البقرة :
.)5-1
((إن ال قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالنساب ،كلكم لدم وآدم من تراب))(.)2
((مثهل القائم فهى حدود ال ،والواقهع فيهها ،كمثهل قوم اسهتهموا على سهفينة فكان بعضههم أعلهها وبعضههم أسهفلها فكان الذيهن فهى
أسهفلها إذا اسهتقوا مروا على مهن فوقههم :لو أنها خرقنها فهى نصهيبنا خرقها ولم نؤذ مهن فوقنا فلو تركوههم ومها أردوا هلكوا جميعاً
ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً))(.)6
((إن ال كتههب الحسههان على كههل شىء فإذا قتلتههم فأحسههنوا القتلة وإذا ذبحتههم فأحسههنوا الذبحههة ،وليحههد أحدكههم شفرتههه وليرح
ذبيحته))(.)7
((أل إنى أتقاكم ل وأخشاكم له ،ولكنى أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام ،وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى))(.)8
***
على هذه المواصفات الفذة ،وفى أعلى درجاتها ،قامت القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فماذا
فعلت فى واقع الرض؟
لقد كانت بادئ ذى بدء ،هى النواة التى تجمع حولها المسلمون فى شبه الجزيرة العربية ،محضن الدعوة الول ،أو قل بلغة
العصر :النواة التى تجمعت حولها القاعدة الجماهيرية ،التى تحركت بها الدعوة إلى الفاق 0
إنه لبد لكل دعوة فاعلة فى واقع الرض أن يكون لها قاعدة جماهيرية ،تتحرك بها ،وتتحرك من خللها ،ولكن هذه القاعدة ل
تتجمع بالحجم المطلوب ،إل حول قائد مرب ،ونواة صلبة متماسكة ذات إشعاع قوى يغرى ((الجماهير)) بالتجمع واللتفاف،
ولكنها – فى واقع المر -ل تكون على ذات المستوى الذى تكون عليهن الصفوة التى يربيها القائد ،ويوليها عنايته الخاصة،
ويجتهد فى توجيهها ومتابعة أحوالها 0
ومجتمع الرسول ذاته صلى ال عليه وسلم لم يكن كله على المستوى ،فقد كان يشتمل كما جاء فى كتاب ال على
((المثاقلين)) و((المبطئين)) وضعاف اليمان ،والمستطارين الذين تهزهم الشاردة والواردة ،وهذا كله بخلف المنافقين
الصرحاء والمستترين
((يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل ال أثاقلتم إلى الرض))(التوبة.)38:
((وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم ال على إذا لم أكن معهم شهيداً() ولئن أصابكم فضل من ال ليقولن
كأن لم تكن بينكم وبينة مودة يا ليبتنى كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً))(النساء .)73-72 :
((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس
كخشية ال أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتب علينا القتال لول أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى
ول تظلمون فتيلً))(النساء.)77:
((وإذا جاءهم أمر من المن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى المر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
ولول فضل ال عليكم ورحمته لتبعتم الشيطان إل قليلً))(النساء.)83:
1متفق عليه.
2رواه أبو داود والترمذى.
3أخرجه الشيخان.
4رواه الترمذى.
5رواه أحمد.
6أخرجه البخارى 0
7رواه مسلم والنسائى والترمذى وأبو داود وابن ماجه
8رواه الشيخان 0
فإذا كان هؤلء كلهم كانوا فى مجتمع الرسول صلى ال عليه وسلم والرسول بين ظهرانيهم ،والوحى يتنزل متتابعاً يوجه
الخطى ،ويصحح المشاعر والسلوك ،فقد تبين إذن أن ((القاعدة الجماهيرية)) ل يمكن أن ترتفع كلها إلى المستوى ،ول يمكن
أن تكون كلها كالصفوة التى تنصب عليها عناية القائد المربى ..ولكن الواقع التاريخى يقول :إن القاعدة الصلبة التى رباها
رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه ،أولها رعايته وعنايته ،كانت من الصلبة ورسوخ اليمان وصدق التوجه بحيث
حملت كل أولئك وسارت بهم إلى أهدافها ،ل يقعدها المثاقلون ول المبطئون ،ول ضعاف اليمان ،ول الخفاف المستطارون ،ول
حتى المنافقون ،ول حتى العداء الصرحاء وتلك هى العربة من إيجاد القاعدة الصلبة الراسخة اليمان الرفيعة المستوى ،لنه
بدونها ل تجد ((الجماهير)) من يرفعها إلى أعلى كلما جنحت إلى الهبوط ،أو يقوم خطواتها كلما جنحت إلى النحراف ،أو
يهديها إذا ضلت الطريق 0
القاعدة الصلبة إذن ضرورة ،وليست ترفاً ،أو أمراً زائداً عن الحاجة ،أو شيئاً يمكن السير بدونه مسيرة صحيحة 0
***
ثم كانت القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأسند إليها قيادة ((الجماهير)) ،سواء القيادة العسكرية
فى القتال ،أو القيادة الخلقية فى التعامل الفردى ،أو القيادة الجتماعية فى تشكيل علقات المجتمع ،أو القيادة الفكرية فى
توعية الناس بحقيقة السلم ،بالقدوة وبالكلمة ،كانت هذه القاعدة هى التى واجهت الجاهلية فى الجزيرة العربية وهزمتها،
وألغت وجودها ،ونقضت بنيانها ،وأقامت البناء الجديد فى مكانه 0
والذى يتتبع وقائع التاريخ ،والذى يتدبر آيات القرآن التى تصف المعركة بين الحق والباطل ،يعلم كم من الجهد بذل فى تلك
المعركة الهائلة حتى انحسمت فى نهاية المر لصالح الدين الحق ،سواء الجهد النفسى فى الصبر على لواء المعركة وتجنيد
النفس لها ،أو الجهد البدنى أو المادى ،وكم من التضحيات ،وكم من البطولت ،وكم من المثل الرائعة تحققت فى واقع الرض..
ويعلم المكانة الحقيقية للقيادة النبوية المباشرة للصفوة ،وقيادته صلى ال عليه وسلم ((للجماهير)) بمعاونة الصفوة ،ويعلم
أخيراً مكانة القاعدة الصلبة فى هذا الجهاد كله ،الذى غير واقع الجزيرة العربية ،ثم غير واقع الرض 0
لم تكن المعركة هينة وهى تواجه عقائد فاسدة ،وقيماً فاسدة ،وأعرافاً فاسدة ،وأنماطًا من السلوك فسادة ،ونفوساً أفسدها
النحراف العقدى والقيمى والعرفى والسلوكى ،ثم استنامت إلى انحرافها ،تحسبه هو الحق ،وهو ا لصواب ،وهو الشىء الذى
يجب المحافظة عليه ،والقتال دونه
ولمر ما شبه ال الصراع بين الحق والباطل بما يوقدون عليه فى النار(( :أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل
السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب ال الحق والباطل فأما الزبد فيذهب
جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الرض كذلك يضرب ال المثال))(الرعد )17 :
إنها نار حقيقية نار تلذع نار تكوى نار تصهر ..يحتملها المؤمنون بالصبر والعزيمة والتوكل والتوجه إلى ال ،ثم يكون من
نتائجها نفى الخبث أولً من قلوب المؤمنين المجاهدين الصابرين ،حين تتمحص نفوسهم ويتجردون ل ،ثم نفى الخبث من
الرض حين يزهق الباطل ،وتذهب انتفاشته وصولته وطغيانه ،ويحكم الحق ..
وقامت قاعدة الصلبة بدورها كاملً فى كل ذلك ،حتى استقر المر فى الجزيرة للسلم 0
الجزيرة العربية هى القاعدة ،هى المحضن ،هى المنطلق ،ولكن الهدف هو كل الرض
لقد نزل هذا الدين للناس كافة ،والمؤمنون فى الجزيرة العربية بقيادة الرسول صلى ال عليه وسلم هم الهداة للبشرية ،الدعاة
الذين يدعونها إلى الدين الحق ،المعلمون الذى يعلمونها كيف تكون حقيقة الدين (( :وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء
على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة(( .)143:ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران .)104 :
إن التاريخ يركز عادة على المعارك التى تدور بين الجيوش 0
إن الصراع – بلغة العصر -هو صراع حضارى فى حقيقته ،صراع بين الحضارة السليمة والحضارة الفاسدة ،بين الحضارة
اليمانية والحضارة الجاهلية ،صراع شامل ،يشمل كل جوانب النفس ،وكل جوانب الحياة ،وإن كان الصراع الحربى هو الذروة
التى تحسم النتيجة ،ولو إلى حين
لقد تغلب التتار فى فترة فى فترات التاريخ واكتسحوا الرض ،ولكنهم لم ينشئوا حضارة ،بل الجدر أن نقول :إنهم هدموا
الحضارة وأنشئوا بدلً منها طغياناً وكفرًا ..حتى قدر ال لهم أن يدخلوا فى السلم 0
ولقد تغلبت جيوش الغرب فى التاريخ الحديث ،واكتسحوا الرض ،ولكنهم لم ينشئوا حضارة حقيقية تستحق أن توجد ،وتستحق
أن تعيش ،كعلى الرغم من كل التقدم المادى والعلمى والتكنولوجى الذى يملكونه ،بل نشروا فى الرض قانون الغاب :القوى
يأكل الضعيف ،أو يزيحه من الطريق ،ونشروا الفساد العقدى والفساد الخلقى على أبشع صورة عرفتها جاهلية فى التاريخ 0
ليس الصراع الحربى هو حقيقة الصراع ،أو قل – على أقل تقدير – ليس وحده هو حقيقة الصراع ،إنما حقيقة الصراع هى
القيم التى تقاتل من أجلها الجيوش ،والتى ينشرها أصحابها حين تنتصر الجيوش وفى هذا يتميز الفتح السلمى عن كل
الحركات التوسعية فى التاريخ 0
لم تكن شهوة التوسع ،ول شهوة امتلك الرض ،ول شهوة القهر والذلل للخرين هى التى حركت الجيوش العربية للفتح،
إنما كان الهدف – بأمر من ال – هو نشر التوحيد فى الرض ،وإزالة الجاهلية وطغيانها ،لتكون كلمة ال هى العليا ،ويكون
الدين ل (( :وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل))(النفال .)39 :
هو كما قال ربعى بن عامر رضى ال عنه لقائد الفرس :إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال ،ومن جور الديان إلى
عدل السلم ،ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة..
حركة حضارية عليا لتحرير النسان من عبادة الطاغوت إلى عبادة ال ،ومن اعتناق الوهم إلى اعتناق الحقيقة ،ومن الجور
والظلم إلى العدل والقسط ،ومن الجهل إلى العلم ،ومن الظلمات إلى النور..
وليست الروعة فيه كامنة فى عبقرية القتال وحدها ،التى انتصر فيها رجال محدودو العدد والعدة على أضعاف أضعافهم فى
العدد والعدة وفنون القتال والمكانات المادية من الفرس والروم ،مما ل تفسير له – بعد عون ال سبحانه وتعالى ومدده – إل
أثر العقيدة الصحيحة فى ال واليوم الخر فى نفوس معتنقيها ،وإل التربية على حقائق العقيدة الصحيحة ،التى مكنت هؤلء
الرجال المحدودى العدد والعدة من الوصول إلى المحيط غرباً والهند شرقاً فى أقل من نصف قرن ،وهى سرعة ل مثيل لها فى
التاريخ 0
ليست الروعة كامنة فى عبقرية القتال وحدها ،وإنها – بذاتها – لمر هائل فى ميزان التاريخ ،ولكن الروعة الكبرى هى فى
فتح القلوب للسلم ،ودخول المليين فى الدين الحق ،بغير إكراه
لم يكن القتال قط لكراه الناس على الدخول فى السلم (( :ل إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى))(البقرة .. )256 :إنما
كان القتال لزالة الجاهلية ،ممثلة فى عقائد جاهلية تقوم عليها نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية ،فإذا أزيلت هذه فالناس
أحرار بعد ذلك يختارون لنفسهم ما يشاءون(( :قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بال فقد استمسك بالعروة
الوثقى ل انفصام لها وال سميع عليم))(البقرة .)256 :
وأما ((الخر)) الذى يريد أن يحتفظ بدينه ،وهو على غى واضح ،فهو آمن على نفسه ودينه وكيانه كله ،ما لم يتعرض
للمؤمنين بالذى والقتال(( :ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم
إن ال يحب المقسطين))(الممتحنة.)8:
وهذه المليين التى دخلت فى السلم بغير إكراه ،إنما دخلت فيه حين رأته ممثلً فى بشر يعتنقونه ويمارسونه بالفعل ،بشر
تربوا على حقيقة السلم ،فترجموه إلى واقع مشهود يعجب الناظرين إليه ،فتهفو له قلوبهم فيدخلون فيه .ولو لم يكونوا على
هذه الصورة الوضيئة ما دخل الناس فى الدين الجديد بهذه الكثرة فى ذلك الزمن القصير ،ولو غلبوا فى ميدان القتال ،فالسيف
قد يفتح الرض ،ولكنه ل يفتح القلوب وإذا كان ال يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم (( :ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا
من حولك))(آل عمران ، )159 :وهو رسول ال ،فكيف بالبشر الفاتحين إذا لم يكونوا على خلق قويم؟
ولم تكن روعة الفتح محصورة فى دخول تلك المم فى السلم بهذه السرعة الخاطفة ،ولكن كانت كذلك فى العدل المثالى الذى
تعامل به المسلمون – الذين رباهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسلم – مع البلد المفتوحة ،حتى مع من بقى على دينه
منهم ،وقصة عمر رضى ال عنه مع والد الشاب القبطى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص بالعصا شهيرة فى التاريخ ،وكلمته
التى قالها لعمرو (( :يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)) شهيرة كذلك ،وفذة فى التاريخ
ولم تكن هذه وتلك هى حدود تلك الروعة الهائلة ،فقد كان دخول أمم بأكملها فى اللسان العربى – دون إكراه – عجيبة ل مثيل
لها فى التاريخ ،فقد نسيت تلك الشعوب لسانها ،حتى من بقى منهم على دينه ،وصارت لغتها هى العربية ،بها تتخاطب وبها
تفكر وبها تؤدى عبادتها
وأخيراً وليس آخرا فقد كانت العناية الفائقة من رسول ال صلى ال عليه وسلم بتربية القاعدة الصلبة هى الضمان – بعد ال
سبحانه وتعالى – لستمرارية المنهج ،بعد أن يمضى مؤسسه صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى ،والخلفة الراشدة –
بكل ما حوت من المثل الرفيعة فى كل مجال من مجالت الحياة – هى مصداق هذه الحقيقة ،فقد كانت هى المتداد الواقعى
لمنهج الرسول صلى ال عليه وسلم ،بعد انقطاع الوحى ،وغياب القائد العظيم صلى ال عليه وسلم بشخصه عن العيون 0
وصحيح أن هذه الفترة لم تدم طويلً ،وما كان مقدراً لها أن تدوم ،ولكن الهبوط عنها لم يكن هبوطاً عن السلم ول نهاية
للسلم ،كما يرجف المستشرقون وأعداء هذا الدين عامة ،إنما كانت هذه الفترة تحليقاً فى آفاق سامقة العو ،يعتمد كثير من
أعمالها على التطوع النبيل بما هو فوق اللزام الملزم ،المفروض من عند ال ورسوله ،فإذا هبط الناس بعد ذلك إلى أرض
اللتزام أو قريباً منها فما هبطوا فى الحقيقة ،إنما تراخت أجنحتهم عن التحليق فحطوا على الرض الصلبة يسيرون على
القدام وحسبهم – بعد أن هبطوا من التحليق فى تلك الذرى العالية – ما قاموا به من نشر التوحيد فى الرض ،وما أمدوا به
البشرية من قيم حضارية عالية ،ظلت أوروبا تقبس منها حتى القرن السابع عشر الميلدى ،أى بعد الذروة بأكثر من عشرة
قرون
ولم تكن تلك الفترة مع ذلك مجرد برق لمع أضاء هنيهة ثم اختفى ،فضوءه اللمع ما زمال ينير الطريق حتى هذه اللحظة،
وإلى ما شاء ال بعد إنها ما تزال – بمثاليتها الواقعية – مدداً لجيال إلى الصعود ،فهو دائماً خير من التقاعس الذى يؤدى
حتماً إلى الهبوط بحكم ثقلة الرض ،وجذبها لمن يركن إليها .وكل حركات الصلح والبعث فى تاريخ السلم – وما أكثرها،
والحاضرة واحدة منها – إن هى إل أثر من آثار تلك الفترة اللمعة التى ما يزال ضوءها ينير الطريق .ومن أجل ذلك بالذات
يسعى المستشرقون وأعداء السلم عامة إلى محاولة تشويه تلك الفترة ليطمسوا ذلك النور اللمع ،ويمنعوا إشعاعه من
الوصول إلى الجيال التى تستضئ به فتنهض إلى الصعود من جديد ،وهيهات لجهدهم الخبيث أن يفلح ،فهم يعاندون قدر ال:
((يريدون ليطفئوا نور ال بأفواههم وال متم نوره ولو كره الكافرون))(الصف.)8 :
***
وهنا يحضرنا أمر له أهميته البالغة فى تربية الرسول صلى ال عليه وسلم لتلك القاعدة الصلبة ،وهو كثرة مشاورة الرسول
صلى ال عليه وسلم لصحابه.
ونسأل بادئ ذى بدء :هل كان رسول ال صلى ال عليه وسلم فى حاجة إلى المشاورة والوحى يتنزل عليه بما يشاء ال أن
ينزله من البيان ،ويصحح مسار الجماعة المسلمة كلما همت أن يقع منها انحراف؟ بل يصحح للرسول صلى ال عليه وسلم
نفسه بعض ما يقع منه من تصرفات ،كتصرفه مع ابن أم مكتوم ،وكتصرفه فى أسرى بدر؟
كل ما كان الرسول صلى ال عليه وسلم فى حاجة إلى المشاورة ،وهو يقوم بأعباء الدعوة ،ويدير حياة الجماعة المؤمنة
سواء فى مكة أو فى المدينة .إنما هى التربية ومستلزماتها.
إن التربية على السمع والطاعة وحدهما تخرج جنوداً ملتزمين ،ولكنها ل تخرج قادة
ولقد كان اللتزام بأمر الرسول صلى ال عليه وسلم عبادة مفروضة من عند ال(( :من يطع الرسول فقد أطاع ال))(النساء:
(( .)80وما أرسلنا من رسول إل ليطاع بإذن ال))(النساء(( .)64:وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(الحشر
(( . )7 :يأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا ال وأطيعوا ال وأطيعوا الرسول))(النساء (( )59 :فليحذر الذين يخالفون عن
أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))(النور (( . )63 :ما كان لهل المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن
رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة.)120 :
والتدريب على القيادة والريادة ل يكون إل بالمشاورة من القائد للذين يربيهم ..
المشاورة هى التى تولد فيهم الوعى وتنمية (( :قل هذه سبيلى أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا
من المشركين))(يوسف .)108 :
وواضح من سياق الية أن البصيرة شىء قائم بذاته مطلوب بذاته إلى جانب اليمان ،الذى يعبر عنه فى الية بقوله تعالى :
((وسبحانه ال وما أننا من المشركين)).
اليمان مطلوب نعم ،ولكن البصيرة مطلوبة كذلك ،للتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع ،لكى تؤتى الحركة ثمارها كاملة بإذن ال،
ول يتبدد الجهد كله أو جزء منه فى حركة خاطئة ،أو فيما ل طائل وراءه 0
والمشاورة من القائد لتباعه تعود التباع أن يفكروا بعقولهم فى المواقف المختلفة ،والراء المختلفة ،ليختاروا أصوبها
وأليقها بالموقف الذى يراد اتخاذه ،كما تعودهم كذلك على تحمل المسئولية ،فالرأىت مسئولية بجانب كونه أمانة ..وحين
تتكرر المشاورة ،ويتكرر التفكير والتمحيص مع تحمل المسئولية يكون النسان قد أعد لمواجهة المواقف العملية حين يكون
فيها ،فل تنفر مشاعره من المواجهة ،ول يتهيب المسئولية ،وتلك هى الصفات المطلوبة فى القائد الناجح .وليس كل إنسان
بطبيعة الحال يكون قائدا ناجحاً .ولنك لن تتعرف على الشخصى المؤهل لن يكون قائدا ناجحا حتى تتيح الفرصة لمجموعة من
الناس – الذين تقوم بتربيتهم – لكى يتلقوا التدريب المطلوب ،فتتضح مقدراتهم ويبرز منهم من هو مؤهل للبروز ..أما إذا
ربيتهم على السمع والطاعة فى المور كلها ،فلن يتهيأ لحد أن يكتسب الخبرة المطلوبة ،وحين تسند إليها المسئولية
يضطربون ثم يفشلون ،وتنتكس المسيرة على أيديهم بعد ذهاب القائد المحنك ،ولو كانوا فى حياة القائد من الجنود المخلصين
ومن هنا يتضح حرص الرسول صلى ال عليه وسلم على مشاورة أتباعه ،وهو الغنى عن المشاورة ،لنه كان يعدهم – على
علم – لن يكونوا من بعده قادة محنكين ،أو فى القليل مستشارين صائبى الرأى ،لتستمر المسيرة بعده ول تتوقف ،ول تنتكس
بعد غياب القائد الملهم العظيم 0
***
تلك هى القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهذا دورها فى التاريخ 0
لم يكن إنشاؤها ترفاً ،ول كان الجهد الضخم الذى بذله رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تربيتها أمراً زائداً على الضرورة ،
بل كان بإلهام ال وعونه وتوفيقه ،ألزنم شىء لهذا الدين ،وللشأن الهائل الذى أنزل ال من أجله هذا الدين 0
والن فلننتقل إلى واقعنا المعاصر ،لنتعرف على صورته الحقيقية ،وعلى موضع القدوة فيه من منهج الرسول صلى ال عليه
وسلم فى تربية القاعدة الصلبة التى حملت أول مرة أعباء هذا الدين.
يقول ابن تيمية رحمه ال (( :فأما بعدما بعث الرسول صلى ال عليه وسلم ،فالجاهلية المطلقة قد تكون فى مصر دون مصر
كما هى فى دار الكفار،ت وقد تكون فى شخص دون شخص ،كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون فى جاهلية وإن كان فى دار
السلم .فأما فى زمان مطلق فل جاهلية بعد مبعث محمد صلى ال عليه وسلم فإنه ل تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق
إلى قيام الساعة .والجاهلية المقيدة قد تقوم فى بعض ديار المسلمين ،وفى كثير من المسلمين))(.)1
فإذا كان هذا فى القرن الثامن الهجرى والمسلمون بعد متمسكون بكثير من أمور دينهم ،وإن كانوا مفرطين فى كثير ..فكيف
لو رأى ابن تيمية رحمه ال واقعنا المعاصر ..ماذا كان يقول فيه ،وقد فشت بدعة التشريع بغير ما أنزل ال ،والمنع والباحة
بغير ما أنزل ال ،فأصبح تحكيم شريعة ال ممنوعاً بنصوص نالدساتير ،والمطالبة به جريمة تطير من أجلها الرءوس ،ويعذب
ل من الصول ،وتحجبهن -كما أمر ال – بدعة من أجلها اللوف ومئات اللوف فى السجون ..وأصبح عرى النساء أص ً
منكرة تهاجمها وسائل العلم بشتى وسائل الهجوم ..وأصبح ((القانون)) يحمى ارتكاب الفاحشة ما دام يتم برضى الطرفين،
كأنما الطرفان – وحدهما – هما أصحاب الشأن فى القضية ،وال سبحانه وتعالى ل دخل له ،ول يجوز له فى عرف الجاهلية
أن يكون له دخل فى المر ،وليس هو سبحانه الذى يمنع ويبيح ،وأصبح الولء والبراء فى ال ول قضية من قضايا التعصب
1اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 79-78
وكيف كان ابن تيمية رحمه ال سيقول لو رأى الواقع المعاصر فى الغرب ،وفى كثير من أقطار السلم؟
ما المطلوب من الغرباء اليوم؟ وما ذلك الشىء العظيم الذى يستحقون عليه هذه الكرامة عند ال؟
إن كهل جههد يقوم بهه الغرباء لزالة الغربهة الثانيهة للسهلم مأجور عنهد ال ،بنهص كتابهه الكريهم(( :ذلك بأنههم ل يصهيبهم ظمهأ ول
ل إل كتهب لههم بهه عمهل صهالح إن ال ل نصهب ول مخمصهة فهى سهبيل ال ول يطئون موطئا يغيهظ الكفار ول ينالون مهن عدو ني ً
يضيهع أجهر المحسهنين( )120ول ينفقون نفقهة صهغيرة ول كهبيرة ول يقطعون واديًا إل كتهب لههم ليجزيههم ال أحسهن مها كانوا
يعملون))(التوبة.)121-120:
ولكن هذا ل يمنع أن يكون للغرباء خطة يسيرون عليها ،وأولويات يرتبونها فى العمل الذى يقومون به لزالة الغربة عن
السلم فى واقعه المعاصر 0
فهل يصلح العمل بغير قاعدة صلبة تنتقل الدعوة منها إلى الجماهير .
نقول بادئ ذى بدء :إننا ل نطمع – ول يطمع أحد – فى إنشاء قاعدة على مستوى القاعدة التى أنشأها رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة أو القاعدة الجماهيرية ..ومع ذلك فهناك مواصفات ضرورية ل يقوم البناء بدونها
مهما كلفنا توفيرها من الجهد ومن الزمن ومن المعاناة..
إننا ل نطالب أحداً أن يحلق فى الفاق العليا التى حلق فيها صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تمكن وقوة ،فذلك أصلً
غير ملزم لحد ..وإن كان هناك أفراد على مدى التاريخ السلمى لم ينقطع مددهم قط ،يرتفعون بأنفسهم إلى تلك الفاق ،ولكنا
نطلب السير بالقدام على أرض اللتزام ،أو حتى قريباً منها ،لكى يكون عملنا مقبولً عند ال ،ومؤهلً بإذن ال للنجاح 0
فما المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة ،التى تقوم بدورها بإنشاء القاعدة الجماهيرية وتوجيهها وتربيتها..
هل يصلح لها أى إنسان بمجرد أن يؤمن بال واليوم الخر ،ويقيم الصلة ويؤتى الزكاة ،ويكون من الخاشعين؟ إن هذه كلها
مواصفات عظيمة ،وكلها مطلوبة ،ولكن على أى درجة هى مطلوبة؟ وهل هى وحدها المطلوبة بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة؟
ضربت فيما سبق مثلً ،أعيد الشارة إليه هنا مرة أخرى ..لو سألت إنساناً فى الطريق :من الذى يرزقك؟ فسيقول بل شك :ال
! فلو أوذى فى رزقه فقال :فلن من الناس يريد أن يقطع رزقى ،فهل يكون اليمان بتلك الحقيقة ،وهى أن ال هو الرزاق ذو
القوة المتين ،قد تعمق فى حسه حتى أصبح يقيناً قلبياً يترتب عليه سلوك؟ أم يكون فى حاجة إلى تعميق إيمانه حتى يصل إلى
درجة اليقين؟ وكذلك حقيقة أن ال هو الضار النافع ،وهو المحي المميت(( :ومن الناس من يقول آمنا بال فإذا أوذى فى ال
جعل فتنة الناس كعذاب ال))(العنكبوت.)10 :
هل يصلح هذا لبنة فى القاعدة الصلبة التى تحمل البناء؟ وهل يثبت فى البتلء ،والبتلء سنة من سنن ال (( :آلم ( )1أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتنون( )2ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن ال الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين))(العنكبوت.)3-1 :
والفتنة ليست بالعذاب وحده ،فهذه قد يحتملها كثيرون(( :ونبلوكم بالشر والخير فتنة))(النبياء .)35 :
وفتنة الخير أخطر ،لنها تعصف بكثير من الناس ،يصمدون فى فتنة العذاب ،ولكنهم ل يقوون على الصمود أمام إغراء المال
والسلطة والجاه والمناصب وكثرة التباع والعوان ..فهل كل ما ثبت فى محنة يصلح أن يكون لبنة فى القاعدة الصلبة فضلً
عن أن يكون من قياداتها؟
وأضرب هنا مثلً آخر أشرت إليه من قبل فى كتاب واقعنا المعاصر :
وكما قلت فى كتاب (واقعنا المعاصر) :الخوة يمكن ممارستها بسهولة والناس فى سعة من أمرهم ،فهى ل تكلف كثيراً فى تلك
الحالة ،ولكن إذا ضاقت الطريق بحيث ل أستطيع أن أسير وأخى متجاورين ،بل لبد أن يتقدم أحدنا على الخر ،فهل أقدم نفسى
أم أقدم أخى؟ ول حاجة بنا للرتفاع إلى المستوى السامق الذى يضيق فيه الطريق أكثر ،فتصبح الفرصة متاحة لواحد دون
الخر ،إما أنا وإما أخى ،فذلك مستوى غير ملزم ،وهو الذى وصفه سبحانه وتعالى بقوله(( :ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة))(الحشر ..)9:والذى كان شيئاً عادياً فى هذه القاعدة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأصبح اليوم
شيئاً بعيد المنال 0
***
ولكنهى أركهز هنها على أمريهن اثنيهن بالذات ،ممها تحتاج إليهه القاعدة الصهلبة التهى يراد منهها اليوم أن تواجهه الجاهليهة العاتيهة
المحيطة بالسلم من كل جانب :التجرد ل ،والوعى :الحركى والسياسى 0
من مداخل الشيطان إلى نفوس ذوى المواهب خاصة ،فتنة ((الذات)) ،فتنة ((النا)) .حين يكون النسان جندياً فى الصف يكون
أبعد عن كيد الشيطان منه حين يبدأ يبرز بمواهبه ،وتكون له مكانة خاصة ،فهنا يجد الشيطان فرصة أكبر للغواية! وكلما برز
النسان كانت محاولة الشيطان لغوائه أشد !
وتكون الفتنة فى عنفوانها حين يتهيأ النسان لمركز من المراكز القيادية ،أو لمركز الزعامة ذاته ..هنا يختلط المر فى كثير
من النفوس إذا لم تكن قد تربت على التجرد ل ،بين الدعوة وبين ((النا)) القائمة بالدعوة 0
أنا ممثل الدعوة! أنا الذى تتوفر فى الصفات المطلوبة للقيادة! إذن فما يصيب شخصى يصيب الدعوة! وما يرحنى وترتاح إليه
نفسى هو صالح الدعوة! هكذا يتدسس الشيطان إلى النفوس ،فيجعل ذواتنا مركز اهتمامنا ومركز تحركنا 0
إن فلناً يقف فى طريقى ،يناوئنى أو يعارضنى ،أو ل ترتاح إليه نفسى ..إذن فوجوده ليس فى صالح الدعوة ،بل قد يكون
خطرًا على الدعوة! لبد من وقفه عند حده! لبد من تحجيمه! إن لم يكن الفضل فصله من الجماعة ،لتسير الدعوة فى طريقها
المستقيم ،أى الطريق الذى يكون فيه عزى وجاهى وسلطانى!
آفة من أشد آفات العمل السلمى ،آفة أدت فى الجهاد الفغانى إلى إهدار دم مليون ونصف مليون شهيد ،والعبث بمقدرات أمة،
وضياع أمل تعلق به المسلمون فى كل الرض! وما زالت تتسبب فيما يصيب بعض الجماعات من تشقق وتحزب وتشرذم
وعداوة وخصام ،وإن تلفع الخصام بخلف على المبادئ أو الخطط أو الساليب!
حين نكون متجردين ل نحتمل النقد سواء كان لشخاصنا أو لفكارنا أو لتصرفاتنا ..
ونضرب مثلً من جماعة الذروة ،ل لننا نعتقد أنه يمكن أن يوجد فى عصرنا الحاضر! ولكن فقط لننظر كيف يفعل التجرد ل
فى نفوس البشر ،فيرفعهم إلى تلك الذرى العالية ،وهم بعد نشر ما يزالون لم يصبحوا ملئكة ،ول توقع منهم أحد أن يصبحوا
ملئكة!
قام عمر رضى ال عنه على المنبر فقال :أيها الناس اسمعوا وأطيعوا! فقال له سلمان الفارسى رضى ال عنه :ل سمع لك
علينا ول طاعة! قال عمر :ولمه؟ قال :حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذى ائتزرت به وأنت رجل طوال ل يكفيك برد
واحد ،كما نال بقية المسلمين! فنادى عمر ولده عبد ال فقال له :نشدتك ال! هذا البرد الذى ائتزرت به أهو بردك؟ قال عبد
ال رضى ال عنه :نعم! هو بردى أعطيته لبى ليأتزر به ،لنه رجل طوال ل يكفيه البرد الذى ناله كبقية المسلمين! فيقول
سلمان رضى ال عنه :الن مر! نسمع ونطع!
هذا وعمر رضى ال عنه أمير المؤمنين ،وليس أمير جماعة من الجماعات السلمية!
ترى كم أميراً من أمراء الجماعات السلمية يطبق أن يوجه إليه النقد من أحد أتباعه؟ وكم أميراً يرجع إلى الحق حين يكون
الذى وجهه إليه أخ من اخوته فى ال ،فضلً عن جندى من جنوده؟!
وحين نكون متجردين ل ل تكون ذواتنا محور اهتمامنا ول محور تحركنا ،ول نحس بالغيرة من بروز غيرنا – حين يبرز عن
جدارة – ول بالتفات الناس حوله وإعجابهم به أو إطرائهم له ،ول نعتبر ذلك انتقاصاً لمكانتنا أو عملً عدائي ًا موجهاً ضدنا ،ول
يدفعنا ذلك إلى محاولة النتقاص منه أمام أتباعنا ،لكى ل يتحول ((ولؤهم)) عنا إلى ذلك ((المنافس)) الذى التف حوله الناس!
وحين ل نكون متجردين ل بالقدر الكافى يحدث كثير مما يحدث فى واقعنا المعاصر!
***
المر الثانى الذى نريد أن نركز عليه هو الوعى ،هو البصيرة التى ورد ذكرها فى الية الكريمة(( :قل هذه سبيلى أدعو إلى ال
على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا من المشركين)) (يوسف )108 :
البصيرة بالنسبة للقاعدة الصلبة ضرورة ل غنى عنها ،لنها هى التى تقرر مسار العمل السلمى ،متى نكمن؟ ومتى نتحرك ؟
كيف نتحرك؟ ندخل فى صدام مع السلطة أم نهادنها؟ أم ندخل فى تحالف معها؟ نبدأ ببناء القاعدة أم نتوجه إلى الجماهير؟
وحين نتوجه إلى الجماهير فماذا نقول لهم؟ هل نستغل ((القضايا العامة)) ،قضايا الخبز والبطالة ،وارتفاع السعار ،أم نركز
على قضايا التربية وقضايا العقيدة؟ هل نستعرض عضلتنا أمام أعدائنا أم نعرض عنهم؟ ومن هم أعداؤنا على وجه الدقة؟
هؤلء المحليون الذين يحاربوننا أم هى الجاهلية العالمية على اتساعها :اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون فى كل
الرض؟ وعشرات من السئلة ومئات لبد فيها من وجود الوعى السياسى والحركى ،ووجود البصيرة ،لكى نحاول – قدر
طاقتنا – أن نرسم خطة سليمة للحركة تحقق أفضل النتائج الممكنة فى الظروف المحيطة 0
ولنعلم بادئ ذى بدء ،أنه ليس هدف الخطة السليمة حماية أشخاصنا من الذى ،فالجاهلية ل تكف عن الذى بأى حال ،ول
تصبر على دعوة ل إله إل ال! إنما نحاول أل تؤذى الدعوة من خلل تصرفاتنا!
وليس هدف الخطة السليمة الوصول إلى السلطة أو إلى شىء من السلطة بالتنازل عن مبادئنا وقيمنا التى هى جزء من ديننا
ومن عقيدتنا بحجة ((مجاراة الظروف)) ،أو أن ذلك فى صالح الدعوة!
ولنعلم أولً وآخرًا أن ال سنناً ل تتبدل ول تتحول ول تجامل ول تحابى ،وأننا إذا تجاهلناها أو توهمنا أننا نستطيع أن نتخطاها
فلن نصل فى حركتنا إلى شئ!
والبصيرة ،منها جزء يكتسب بالتعليم ،أى التعرف على السنن الربانية من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ،
وتدبر التاريخ وأخذ العبرة منه ..والتعرف على أحوال المة الحاضرة والسباب التى أدت إلى الواقع الذى تعيشه المة فى
وقتها الحاضر ..والتعرف على مخططات العداء ،والطرق التى يتخذونها لمقاومة السلم ومحاولة القضاء على الحركة
السلمية 0
ومنها جزء يكتسب بالخبرة من التجارب التى تمر بها الحركة ،والنتائج التى تترتب على كل تحرك 0
ومنها جزء يكتسب بالتربية ،عن طريق المشاورة التى تتم بين القائد وأعوانه ،والتى يتم فيها تمحيص الراء وبيان وجهات
النظر ،ل التى تتم صورياً بين عدد محدد من الرجال ،بين ضغط السمع والطاعة ،والتهديد بالخراج من الجماعة للذين يتكرر
منهم العتراض!
وحين ل توجد هذه البصيرة ،أو حين تكون ناقصة ،يحدث كثير من التخبط الذى يحدث فى واقعنا المعاصر !
***
إنه يجب أن يكون فى حسناً ابتداء أننا ل نهدف إلى مجرد إقامة جماعة تؤمن بال ورسوله واليوم الخر ،وتؤدى الشعائر
التعبدية على صورة من الصور ،ثم تقوم بالدعوة ..إن هذا يكون عملً مبروراً فى ذاته ،مأجورًا إن شاء ال يوم القيامة،
ولكنه ليس هو الذى ينقذ المة السلمية مما هى فيه ،ول هو الذى يعطى النموذج الذى يحول الجاهلية عما هى فيه!
والمطلوب الحقيقى من العمل السلمى هو هذا على وجه التحديد :إنقاذ المة السلمية مما هى فيه ،ومحاولة تحويل الجاهلية
عما هى فيه .
وذلك يقتضى البدء بإنشاء القاعدة الصلبة وتربيتها على أعلى ما يتاح لنا من مستويات التربية ،وتنقيتها من الشوائب بأقصى
ما يتاح لنا من وسائل التنقية ،ثم من بعد ذلك دعوة الجماهير 0
ووسيلتنا فى التربية هى ذات الوسيلة التى استخدمها المربى العظم صلى ال عليه وسلم :تعميق اليمان بال واليوم الخر،
وعميق الصلة بال ،وتعويد النفوس على الحياة فى معية ال ،والتدريب على ممارسة السلوك اليمان فى عالم الواقع ..ثم
تعميق الوعى ،بالوسائل التى تؤدى إلى تعميقه ،على أن نأخذ فى اعتبارنا أن القدوة هى الوسيلة الولى – والكبرى – فى
عملية التربية ،ثم تأتى بعدها الموعظة والنصائح والدروس ،مع الرعاية والمتابعة والدأب والصبر ،حتى تستجيب النفوس ثم
تستقيم 0
جهد ضخم فى الحقيقة ،وهو على ضخامته ل يؤتى ثماره فى يوم وليلة ،ول يمكن استعجاله ،ول يمكن تخطيه ،إذا كنا جادين
فى القيام بعمل ينقذ المة مما هى فيه ،ويسعى إلى تحويل الجاهلية عما هى فيه !
توسيع القاعدة
فى مرحلة من مراحل المسيرة يأتى دور توسيع القاعدة ،عن طريق توجيه الدعوة للجماهير ،وهذه المرحلة يمثلها فى حياة
الجماعة الولى ،جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم ،دخول أهل المدينة ومن حولهم من العراب فى السلم ،بعد ما كانت
القاعدة الصلبة قد تم بناؤها من المهاجرين والنصار رضوان ال عليهم ،وهؤلء هم الذين قال ال عنهم (( :ما كان لهل
المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة .)120 :
وهؤلء جنود وأعوان ،اجتذبتهم الدعوة فدخلوا فيها ،وأخصلوا لها ،وجندوا أنفسهم للدفاع عنها ضد أعدائها ،وليسوا مجرد
جماهير منفلتة بل ضابط ،كالذين تسميهم الجاهلية المعاصرة ((رجل الشارع)) ،وهى تسمية صادقة ،ما أدرى إن كانت جاءت
عفواً أم جاءت عن قصد! رجل الشارع هو النسان الذى يست له سمات محددة ول موقف محدد ،ول اتجاه فكرى ثابت! أو هو
المعة الذى وصفه رسول ال فى قوله (( :ل تكونوا إمعة ،تقولوا :إن أحسن الناس أحسنا ،وإن أساءوا أسأنا! ولكن وطنوا
أنفسكم إن أحسن الناس أو أساءوا أل تظالموا))( .. )1هو الرجل الذى تصنعه وسائل العلم ،ثم تعود إليه ،بعد أن تصنعه
بوسائلها( ،)2فتسأله عن موقفه ،فيكون موقفه بالضبط هو ما أرادته وسائل العلم!
ليس هؤلء الذين توسع بهم القاعدة فى المرحلة الولى من البناء ،ول فى أى مرحلة من مراحلها! إنما توسع بجنود
مخلصين ،يهبون أنفسهم للدعوة ،ينافحون عنها بتوجه مخلص إلى ال 0
فإذا سأل سائل :ما الفرق إذن بينهم وبين القاعدة الصلبة التى تحدثنا عنها من قبل؟ نقول فى إيجاز :عن القاعدة الصلبة هى
التى تعد لتكون الركائز والدعائم ،هى القادة ،هى الموجهون ،هى المربون ،أما هؤلء فهم المدعوون الذين استجابوا للدعوة،
والتزموا بها ،وانضووا تحت لوائها ،فصاروا منها ،يتحركون معها ويتحركون بها ،ول يقفون متفرجين ،ينتظرون ليروا من
الغالب ليتبعوه!
وإذا سأل سائل مرة أخرى :ما الفرق فى منهج التربية ،وفى الرعاية والعناية بين إعداد القاعدة الصلبة وإعداد من توسع بهم
القاعدة فى تلك المرحلة ،نقول بإيجاز :إنه فرق فى الدرجة ل فى النوع .فالمعلم يوجه تعليمه للدارسين جميعاً من حيث المبدأ ،
ولكنه يخص المتفوقين بعناية خاصة ،لن استعدادهم أكبر ،والمطلوب منهم أكثر ،ول يقبل منهم ما يقبله من الدارس العادى
الذى يقف به استعداده عند مستوى معين ،ول يكلفه فوق طاقته ،وإن كان النجاح مطلوباً من الجميع ،كل بحسب درجته 0
فإن قال قائل :هل هناك حدود فاصلة تميز هؤلء عن هؤلء؟ أل يمكن أن يوجد فى القاعدة الموسعة من تؤهله طاقاته
واستعداداته أن يكون من القادة الموجهين ،ويوجد فى القاعدة الصلبة من تقعد به طاقاته واستعداداته عن القيام بتكاليفها؟
نقول :بلى! إن هذا يمكن أن يحدث ،وعندئذ يرتفع – أو يجب أن يرتفع – صاحب المواهب إلى منزلة القادة الدعاة المربين،
ويتخلف من تقعد به إمكاناته فيصبح مجرد عضو عادى ،وتلك مسألة يقدرها المسئولون عن العمل باجتهادهم ،وقد يخطئ
الجتهاد وقد يصيب ..إنما المهم من حيث المبدأ أن بناء القاعدة الصلبة يجب أن يوجه إليه أقصى الجهد ،وأن يحظى بأكبر قدر
من الرعاية والهتمام .فإقامة الدعائم الرئيسية يختلف ولشك عن إقامة اللبنات التى يتكون منها البناء ،وإن كان هذا وذاك
مطلوبين لتشييد البناء ،وتلك من بدائه العمل التى ل تحتاج إلى إيضاح 0
وأمر آخر نريد أن ننبه إليه :أن وسيلتنا البديهية إلى توسعة القاعدة – حين يأتى دورها – هو الدعوة العامة التى توجه لكل
الناس ،الذين يسمون فى لغة العصر ((بالجماهير)) .ولكن الجماهير ليسوا على درجة واحدة من الستجابة للدعوة ..فمنهم
فريق يمكن – حين تصله الدعوة واضحة صافية على حقيقتها – أن يؤمن بها إيماناً صادقاً ،وبجند نفسه لها ،متبغياً وجه ال،
عاملً على رضاه ..ومنهم فريق يحسب حساب ((المصالح)) ،حساب الربح والخسارة ..ما الذى يمكن أن يكسبه من النضمام
للدعوة ،وما الذى يمكن أن يخسره من جرائها ..ومنهم فريق ل يهمه إل اتباع الغالب حين تتقرر غلبته ،فهو يقف بعيدًا عن
المعمعة ،ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء ،ينظر ويتفرج ،وقد يتسلى بالفرجة وتتبع أخبار الصراع ،حتى إذا تقررت الغلبة بوضوح
لحد الفريقين انحاز إليه ،ل إيماناً بمبادئه ،ول تحسماً حقيقياً لها ،ولكن لثقل المر الواقع فى حسه ،فهو بتركيبه النفسية،
مستعد أبداً للنقياد للمر الواقع ،الذى يأخذ فى حسه مساحة أكبر من المر الذى لم يقع بعد ،والذى يحتاج الواقع ،الذى يأخذ
فى حسه مساحة أكبر من المر الذى لم يقع بعد ،والذى يحتاج إلى جهد لكى يتحقق ،بينما الواقع بالفعل ل يحتاج إلى جهد
لمسايرته ،وهذا الفريق غير مستعد ،بتركيبه النفسى ،لبذل الجهد ،وخاصة إذا كان المر يعرضه للخطار ،لذلك ل يستجيب
للدعوة حتى تصبح غلبتها هى ((المر الواقع)) الذى ل تحتاج مسايرته إلى شىء من الجهد ،ول التعرض للخطار 0
هذه الفئات بأنواعها الثلثة ،توجد فى كل مجتمع ،وقد كانت موجودة فى مجتمع الرسول صلى ال عليه وسلم:
فالفئة الولى يمثلها مجتمع المدينة الذى آمن إيماناً صادقاً وجند نفسه للدعوة ،مهتدياً ومقتدياً بالقاعدة الصلبة التى تأسست
من المهاجرين والنصار .وهى الفئة التى أشارت إليها الية الكريمة (( :والسابقون الولون من المهاجرين والنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضى ال عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها النهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم))(التوبة
.)..1 :
ويدخل فيهم العراب الذين آمنوا بصدق ،والذين أشارت إليهم الية السابقة (( :ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر
ويتخذ ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول أل إنها قربة لهم سيدخلهم ال فى رحمته إن ال غفور رحيم))(التوبة .)99 :
والفئة الثانية هى التى تألفها رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعطايا وبالمنح ،وبالتقريب منه صلى ال عليه وسلم ،والتى
أشارت إليها الية الكريمة (( :إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم))(التوبة .)60 :
أما الفئة الثالثة فيمثلها مسلمة الفتح ،الذين أسلموا لما تقررت غلبة السلم فى فتح مكة ،مع أنهم كانوا يعرفون أن الحق مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكنهم يقولون ،كما حكى عنهم القرآن الكريم (( :وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من
أرضنا))(القصص .. )57 :فلما صار الهدى هو الممكن فى الرض اتبعوه ،ودخلوا فى دين ال أفواج ًا كما جاء فى سورة
النصر(( :إذا جاء نصر ال والفتح( )1ورأيت الناس يدخلون فى دين ال أفواجاً( )2فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان
تواباً))(سورة النصر).
وذلك بخلف المنافقين الذين يظهرون بعد استتباب السلطان ،والذين يكونون قبل ذلك بين المتفرجين المنتظرين ،ولكن على
كره للمر ،وعدم رغبة فى الدخول فيه ،أو من المعارضين الذين يجبنون عن المواجهة الصريحة ،فينافقون خوف ًا وجبناً .
إذا كانت هذه فئات المجتمع – كل المجتمع – فلى هذه الفئات نوجه الدعوة فى المرحلة الولى من توسيع القاعدة؟ إننا نظرياً
نوجه الدعوة لكل الناس ،ولكننا فى حقيقة المر نتوقع الستجابة من فريق معين من الناس ،فنركز عليه الدعوة ،أو نعتقد أن
اعتزاز الدعوة وتمكنها سيكون على يد فريق معين من الناس ،فنركز الدعوة عليه 0
فإذا تتبعنا مسيرة الجماعة الولى – جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم -نجد أن الدعوة منذ أمر الرسول صلى ال عليه
وسلم بالجهر بها( ،)1قد وجهت لكل الناس ،ولكن التركيز – بعد الهجرة – كان واقعاً على أهل المدينة ،الذين سارعوا إلى
الستجابة ،والذين قام عليه الصلة والسلم بتربيتهم بمعاونة القاعدة الصلبة من المهاجرين والنصار ،الذين صاروا الن هم
الدعاة وهم الموجهين ،وهم المربين ،تحت إشراف المربى العظم صلى ال عليه وسلم .وأهل المدينة هؤلء هم الذين جاهدوا
وثبتوا وصبروا على تكاليف الجهاد ،وكانوا – مع المهاجرين والنصار – هم الركيزة الحقيقية للدعوة فى كل أطوارها المقبلة،
بينما تأخر التوجه إلى الفئتين الخريين إلى مرحلة تالية ..وهذا هو المر المنطقى مع سير الدعوة ،ومع حقيقة المعركة،
وطبيعة الصراع 0
إن الصراع بين الحق والباطل لبد أن يقع -سنة من سنن ال – منذ اللحظة التى يوجد فيها للحق رجال يؤمنون به ويعملون
على نشره وتمكينه فى الرض .فالجاهلية ل يمكن – بحال من الحوال – أن تصير على دعوة الحق ،ول أن تهادنها ،ولو لم
(( :فاصدع بما تؤمر ،وأعرض عن المشركين)) (سورة الحجر )94 : 1قال تعالى مخاطباً رسوله
هكذا! ل مهادنة ،ول صبر حتى يحكم ال بما يشاء! وإنما عدوان وإخراج ،ومطاردة وإيذاء! فمن الذى يستجيب للدعوة فى
المراحل الولى من ذلك الصراع الذى يدور بين الحق والباطل؟ أيستجيب الذين يبحثون عن المصالح الدنيوية ،ويحسبون
حساب الرباح والخسائر بمقياس تلك المصالح؟ أيستجيب الذين يناقدون بطبيعة تركيبهم النفسى للمر الواقع ،ولو عرفوا ما
فيه من السوء ،ول يتجهون إلى المر الذى يجب أن يقع ،ولو عرفوا أنه خير من واقعهم الذى يعيشون فيه ،لنه يحتاج فى
تحقيقه إلى جهد ،وهم ل يحبون بذل الجهد ..ويعرضهم للخطار ،وهم ل يحبون أن يتعرضوا للخطار؟!
إنما يستجيب فى المراحل الولى من الصراع ،الذين يؤمنون بال واليوم الخر ..الذين يحسبون الكسب والخسارة بالميزان
الربانى ،ل بالميزان الرضى الذى تزن به الجاهلية ،ول تعرف ميزاناً سواه :
((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنلزنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط))(الحديد .))25 :
الميزان الذى يقول :متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى(( :قل متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون
فتيلً))(النساء .)77 :
الميزان الذى يقول :إن كل ما فى الرض من متاع ومصالح وروابط ل يعدل حب ال ورسوله والجهاد فى سبيله (( :قل إن
كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم
من ال ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى ال بأمره وال ل يهدى القوم الفاسقين))(التوبة .)24 :
الميزان الذى يقول :إن الباقيات الصالحات خير من كل زينة الحياة الدنيا (( :المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات
الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملً))(الكهف.)46 :
والذى يقول :إن التجارة الرابحة – التى تنجى من عذاب ال – هى اليمان بال ورسوله والجهاد فى سبيل ال (( :يأيها الذين
آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم( )10تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم
خير لكم إن كنتم تعلمون( )11يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها النهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز
العظيم( )12وأخرى تحبونها نصر من ال وفتح قريب وبشر المؤمنين))(الصف )13-10 :
والمراحل الولى من الدعوة هى مراحل البذل والفداء ،ولذلك ل يصلح لها الذين يبحثون عن مكاسب الرض ،سواء المال
والثروة والمتاع الحسى ،أو الوجاهة والبروز والتباع والنصار ..هؤلء ل يصلحون مؤسسين فى القاعدة الصلبة ،ول تتسع
بهم القاعدة حين يأتى أوان التوسيع!
***
إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فينبغى أن نجعل فى بالنا عدة أمور ،سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة ،أو القاعدة الموسعة ،بل حتى
بالنسبة للجماهير العريضة التى تدخل أفواج ًا فى النهاية ،فهؤلء أيضًا لبد أن يصحح لهم إسلمهم ،ول يتركون بل ضابط كما
تفعل الجاهلية المعاصرة ((برجل الشارع)) ،تسلبه كيانه الدمى ،وتوهمه فى الوقت ذاته أنه أحد العمد التى يقوم عليها النظام!
ليس فى السلم ((رجل الشارع)) ،ول ((امرأة شارع)) ،إنما هناك مسلمون ومسلمات ملتزمون كلهم – أو يجب أن يكونوا
ملتزمين – بالحد الدنى على القل ،الذى يجعلهم فى ميزان ال مسلمين ،وتلك فى الدولة السلمية مهمة ولى المر ،فمن
التزم من تلقاء نفسه فقد وفى بما يجب عليه تجاه ربه ،ومن لم يلتزم السلطان كما قال عثمان رضى ال عنه(( :يزع ال
بالسلطان ما ل يزغ بالقرآن)).
ومن ثم فكل الناس داخل فى مجال الدعوة ،ولكن خطوة بعد خطوة ،كما كان الشأن مع الجماعة الولى ،حسب السنن الربانية
التى تتكرر كلما تكررت ظروفها ومقتضياتها 0
***
إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فسنجد المة – إل ما رحم ربك – فى حالة (الغثاء) التى وصفها رسول ال صلى ال عليه
وسلم قبل أربعة عشر قرناً ،حين قال (( :يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها)) ،قالوا :أمن قلة نحن
فإذا كان هذا حال المة التى توجه إليها الدعوة ،سواء لقامة القاعدة الصلبة ،أو القاعدة الموسعة ،أو لعامة الناس ،فيجب أن
نتعرف على السباب التى أدت بالمة إلى هذا الوضع ،لكى نصف العلج الناجع ،كما يفعل الطبيب حين يستدعى لعلج
المريض ،يفحصه أولً ليعرف حقيقة مرضه ،ثم يصف الدواء 0
ول يحسبن أحد – بادئ ذى بدء – أن القاعدة الصلبة التى تقع عليها مهام الدعوة قد أنزلت من السماء ،مبرأة من العيوب! كل
إنها جزء من هذه المة تعيش نفس ظروفها ،وتتعرض لذات أمراضها .ولكن إذا كان الرسول صلى ال عليه وسلم يقول :
((خياركم فى الجاهلية خياركم فى السلم إذا فقهوا))( ..)2فلنقل :إنه فى الجاهلية الجزئية التى قال ابن تيمية رحمه ال إنها
توجد فى كثير من أقطار السلم ،يوجد ((خيار)) يمكن بالجهد اللزم الذى يبذلونه فى ذوات أنفسهم أن يشكلوا نواة للحركة ،ثم
((خيار)) آخرون يمكن بالجهد اللزم كذلك أن يشكلوا القاعدة الموسعة التى تتكون حول النواة وتقتدى بها ،ثم يأتى بعد ذلك
دور عامة الناس ،فيكون منهم خيار بقدر من ال يستجيبون ويلتزمون ،وآخرون يزعهم السلطان إذا لم يزعهم القرآن 0
والن فلننظر فى أحوال هذا الجيل الذى توجه إليه الدعوة ..ما الذى أوصله إلى حالة الغثاء التى يعيش فيها ،ليتبين لنا من أين
نبدأ علجه ،وليتبين لنا كذلك الخطوات اللزمة للعلج 0
هناك أمراض كثيرة فى الحقيقة أصابت المة فى مسيرتها التاريخية ،بعضها جاء من داخلها ،وبعضها جاء من قبل أعدائها.
وقد يكون من الصعب إحصاؤها تفصيلً ،ولكنا نزعم أن هناك أمراضاً بارزة ل تخطئها عين الفاحص 0
من أبرز هذه المراض الفكر الرجائى ،الذى يقول إن اليمان هو التصديق القلبى والقرار باللسان ،وإن العمل ليس داخل فى
مسمى اليمان!
فأما أن التصديق القلبى والقرار باللسان لزمان لثبات اليمان فأمر ل خلف عليه ،وأما أن العمل ل يدخل فى مسمى اليمان
فبدعة خطيرة ،وانحراف شديد عن حقيقة هذا الدين ،الذى قام – وما يمكن أن يقوم – بغير عمل وجهد ضخم ،يبذل فى واقع
الرض ،وما كان يمكن أن تزول غربة السلم التى كان فيها أول مرة( )3بمجرد التصديق والقرار ،بل ل يمكن أن يقوم أى
ل عن أفضل النظم كافة ،بمجرد التصديق والقرار ،بل ل يمكن أن يقوم أى نظام فى الرض فضلً عن نظام فى الرض فض ً
أفضل النظم كافة ،بمجرد التصديق والقرار ،إن لم يبذل عمل معين لتحويل هذا التصديق القلبى والقرار اللسانى إلى واقع
مشهود!
وأيا كانت السباب التاريخية التى أدت إلى تفشى الفكر الرجائى ،فقد أحدث مفاسد عظيمة فى بنية المة منذ أخذت تتفلت من
التكاليف ،ثم يوهمها الفكر الرجائى أنه ل بأس عليها من هذا التفلت ،ما دام قلبها عامراً باليمان! وتندرج المة فى التفلت
حتى تقع فى الشرك الواضح الصريح ،سواء شرك العتقاد أو شرك العبادة أو شرك الحاكمية ،ثم يظل الفكر الرجائى يوهم
الناس أنهم ما زالوا بخير ،وما زالوا مؤمنين!
ولنتخيل مدرسة يحضر إليها الطلب للدراسة ،ثم بعد حين يتفلتون من استذكار دروسهم ،ثم يتفلتون حتى من حضور الدروس،
ويقال لهم مع ذلك :ل بأس عليكم ما دام كان فى نيتكم أن تحضروا ،وإنما تقاعستم عن الحضور كسل ل جحوداً! وما دامت
أسماؤكم ما زالت موجودة فى سجلت المدرسة ولم تطلبوا سحبها من السجلت!
هل يمكن إنجاز شىء فى واقع الرض بهذه الروح المتقاعسة المتواكلة التى تعيش فى خدر الوهم وتحسب أنها على شىء
حقيقى؟
فإن لم يكن يمكن أن يتم شىء على الطلق بهذه الروح ،فهل يمكن أن يقوم السلم بالذات بمثل هذه الروح ،وهو الذى نزل
ليكون حركة شاملة تشمل الحياة كلها بجميع جوانبها وجميع مجالتها ،وتشمل الرض كلها ،والبشرية كلها ،بقدر ما يصل
الجهد ،وبقدر ما قدر ال فى سابق علمه؟
هل يمكن إزالة الفتنة التى هى عقائد فاسدة ونظم فاسدة وجيوش تحمى العقائد والنظم الفاسدة ،بمجرد التصديق والقرار؟ هل
يمكن إزالة الفتنة التى تقع على البشر فى الجاهلية ،بسبب الجاهلية ذاتها ،بغير جهاد فى واقع الرض (( :وقاتلوهم حتى ل
تكون فتنة ويكون الدين كله ل))(النفال .)39 :
***
ثم جاء الفكر الصوفى على خط مواز للفكر الرجائى ،وإن كان على نحو آخر ..
الفكر الرجائى أخرج العمل كله من مسمى اليمان ،أما الفكر الصوفى فقد ركز على نوع واحد من العمل ،وأخرج سائر أنواعه
من مستلزمات اليمان .ركز على العبادة بمعناها الضيق المحصور فى الشعائر التعبدية والذكر ،وأهمل من أنواع العبادة عمارة
الرض بمقتضى المنهج الربانى ،والمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،والجهاد فى سبيل ال ،وكلها منصوص عليه نصاً
واضحاً فى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم (( :الذين إن مكناهم فى الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج (( . )41 :فليقاتل فى سبيل ال الذين يشرون الحياة الدنيا
بالخرة))(النساء (( .)74 :وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين( )141أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم ال الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين))(آل عمران (( .)142 – 141 :هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من
رزقه وإليه النشور))(الملك(( . )15:هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها))(هود .)61 :
إن الذكر مطلوب ،ول عبادة بغير ذكر ،ولكن الذكر الذى وصفه ال فى كتابه ،ووصف به الصحابة رضوان ال عليهم فى قوله
تعالى(( :الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم))(آل عمران . )191 :شىء آخر مختلف عن هذا الذكر الذى ابتدعته
الصوفية ،وحصرت العبادة فيه ،وزعمت أنه هو الذى يوصل إلى رضوان ال ،فضلً عما وقع فى عقيدة التحاد والحلول
ووحدة الوجود من شرك صريح 0
وأيا كانت السباب التى أدت إلى تفشى الفكر الصوفى ،وجعلته فى وقت من الوقات هو مدخل العامة الوحيد إلى الدين أو
مدخلهم الرئيسى إليه ،فقد أحدث هذا الفكر مفاسد كثيرة فى بنية المة ،ليس أقلها التواكل ،وترك الخذ بالسباب ،وإهمال
عمارة الرض ،والنحراف فى عقيدة القضاء والقدر ،وعدم إحساس النسان بمسئوليته عن خطئه حين يخطئ ،والنصراف
عن الجهاد والمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،والفصل بين الدنيا والخرة ،وبين العمل للدنيا والعمل للخرة فى حس
المسلم ،وإفساد التوازن الدقيق الجميل الذى يحدثه السلم الصحيح فى النفس ،فيجعل النسان يعمل بجهده كله فى واقع
الرض ،وقلبه معلق بال واليوم الخر ،أو بعبارة أخرى التوازن الدقيق بين عالم الغيب وعالم الشهادة 0
***
ثم كان انحصار السلم فى عالم الفرد بمفرده وترك ((المور العامة)) التى كلف ال بها الجماعة المسلمة من المراض التى
أصابت المة فى مسيرتها التاريخية الطويلة..
إن هذا الدين لم ينزل فقط لصلح الفراد ،كل فرد بمفرده ،وإن كان هذا هو الساس الذى ل يقوم بدونه بنيان ،ولكن إصلح
كل فرد بمفرده ل ينشئ بذاته مجتمعاً صالحاً كما قد يخيل للنسان لول وهلة ،فلو تخيلت بناءً كل لبنة فيه سليمة بذاتها ،ولكن
ليس فيه الملط الذى يربط اللبنات بعضها ببعض ،فلن يكون بناء حقيقياً يصمد للهزات وما أكثرها فى حياة المم بل الفراد ،بل
ل يصمد للريح ،وما أكثر الرياح العواتى!
ولقد ركز هذا الدين تركيزاً واضحاً على الجماعة المسلمة بل على المة المسلمة المترابطة المتماسكة المتراصة ،ل فى
العواطف الوجدانية فحسب ،بل فى العمل والتكاليف كذلك ،وكثير من الخطاب الموجه للمؤمنين ،الذى يبدأ بقوله تعالى ((يأيها
الذين آمنوا ))..ل يقصد به الفراد فحسب ،كل فرد بمفرده ،ولكن يقصد به الجماعة مجتمعة ومشتركة فى المسئولية":
((يأيها الذين آمنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء))(المائدة ( .)51 :يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى
اللهب بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك فضل ال
يؤتيه من يشاء وال واسع عليم( )54إنما وليكم ال ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون))(المائدة (( .)56-54 :يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين إن
يكن غنيا أو فقيراً فال أولى بهما فل تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أن تعرضوا فإن ال كان بما تعملون خبيرا))(النساء :
(( . )135ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران( .)28:ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران (( .)104 :وأمرهم شورى بينهم (الشورى. )38 :
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون
ال ورسوله))(التوبة (( . )71 :إن ال يحب الذين يقاتلون فى سبيله صف ًا كأنهم بنيان مرصوص))(الصف.)4:
هذه وغيرها من أمثالها كثير تؤكد المسئولية الجماعية للمة ،التى ل يغنى فيها أن يكون كل فرد قد قام بواجبه الفردى تجاه
ال سبحانه وتعالى من ذكر وتقوى وخشوع وأداء للفرائض من صلة وزكاة وصيام وحج ،وإن كان هذا كله لزمًا ول غنى
عنه ،ولكنه – كما قلنا -ل يقيم بذاته أمة متماسكة عاملة بهذا الدين ،فهذا الدين على صورته التى أنزلها ال ،وللهداف التى
أرادها ال منه ،ل يقوم به أفراد متفرقون ولو كان كل واحد منهم على طهارة القديسيين فى خاصة نفسه ،وهو فرض ل يتحقق
فى واقع الرض ما دام البشر بشراً ،تدفعهم دوافع شتى ،وتضطرب فى نفوسهم شتى النفعالت والرغبات والشهوات ،وما دام
ال قد جعل فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ،ما لم يردعهم رادع(( :وكذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها وما يمكرون إل بأنفسهم وما يشعرون))(النعام .)123 :
وحتى لو كان وجود أكابر المجرمين خاصاً بالجاهلية ول يقع فى السلم ،فإن ((القرية العالمية)) التى يزعم الزاعمون أن
العالم قد صار إليها بفعل وسائل التصال مملوءة بأكابر المجرمين الذين يكيدون للسلم ويتربصون بأهله ،فهل قيام الفراد –
حتى لو قاموا كلهم – بالصلة والزكاة والصوم والحج ،والخشوع والتقوى فى ذوات أنفسهم ،يمكن أن يرد كيد أكابر
المجرمين ،ويرد الفتنة الوافدة على المسلمين من الجاهلية؟ أم يحتاج هذا إلى أمة متماسكة مترابطة قائمة بمسئوليتها
الجماعية ،عاملة بمقتضى تلك المسئولية ،التى يحمل فيها كل فرد نصيبه ،والتى ل تتماسك مترابطة قائمة بمسئوليتها
الجماعية ،عاملة بمقتضى تلك المسئولية ،التى يحمل فيها كل فرد نصيبه ،والتى ل تتماسك حق ًا إذا قال كل فرد فيها :نفسى
نفسى ،ونكل عن مسئوليته تجاه المجموع 0
وهل كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يربى أصحابه فرداً فرداً ثم يقيمهم كل فى عالمه الخاص ،ويقول له :كن فى نفسك
ول شأن لك بغيرك؟ أم كان يربى كل فرد منهم ليكون لبنة متماسكة مترابطة مع غيرها من اللبنات فى كيان متحد ،فيضع فى
كل لبنة ذلك الملط الذى يجعلها تلتصق بغيرها ،وتكون على استعداد أن يلتصق غيرها بها ..ملط المشاعر المترابطة،
والمسئولية المشتركة ،وهما صنوان ل يغنى أحدهما عن الخر .
التكافل مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه ،ولكن عائده ينصب إيجاباً وسلبا على مجموع المة ،فتكون أمة مترابطة
متحابة إن قامت به ،أو طوائف يحقد بعضها على بعض إن نكلت عنه ..والجهاد مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه
ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع المة ،فتبقى وتتمكن أو يأكلها أعداؤها .والمر بالمعروف والنهى عن المنكر
مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه ،ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع المة ،فتكون أمة خيرة أو أمة ملعونة:
خيرة إن أمرت بالمعروف ،ونهت عن المنكر ،وملعونة إن نكلت عن واجبها(( :كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال))(آل عمران(( )110 :لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون( )78كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون))(المائدة .)79-78 :
وأياً كانت السباب التى أدت إلى تفشى هذه الروح الفردية الناكلة عن التكاليف الجماعية ،وعن الشعور بالمسئولية تجاه
المجموع ،فقد احدثت هذه الروح مفاسد عظيمة فى كيان المة ،ليس أقلها التخلى عن واجب النصح للحكام ،وهو واجب جعله
رسول ال صلى ال عليه وسلم جزءاً من الدين ،بل قال عليه الصلة والسلم على سبيل التأكيد(( :الدين النصيحة)) قيل :لمن
يا رسول ال؟ قال(( :ل ورسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم))( .)3وترك الشتغال بالسياسة ،وترك شأن الحكم
للحاكم ،إن كان عادلً فهو الخير من عند ال والبركة ،وإن كان مستبداً فل ناصح له من المة يرده عن استبداده وظلمه ،وإنما
يتحلق حوله المنافقون يزينون له كل عمل بعمله ،ول تصل إلى أذنيه صيحة حق ،وإن وصلت قام المنافقون حوله بإيغار صدره
عليها وعلى قائلها! وليس أقلها فشل كل مشروع يحتاج إلى تعاون جماعى يقوم كل فرد فيه بنصيبه مع الخرين ،وليس أقلها
روح التخريب فى الممتلكات العامة والمرافق العامة والمال العام 0
***
ومن المراض التى أصابت المة كذلك :الفوضى والرتجال والنفس القصير ..وكلها – فيما أزعم – من أمراض البيئة التى
جاء السلم فقومها وسددها ،بتعويد الناس على النظام ،والتفكر والتدبر قبل العمل ،وفى أثناء العمل ،والنفس الطويل الذى ل
يفتر بعد الخطوات الولى المتحمسة 0
جاء على لسان الصحابة رضوان ال عليهم(( :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصفنا للصلة كما يصفنا للتقال)) ..وذلك
إلى جانب المر بالخشوع والسكينة .والخشوع فى الصلة هو عنصرها الروحى الذى يوثق الصلة بين العبد وربه ،والدعوة
إليه أمر بدهى ،ولكن النبى الملهم صلى ال عليه وسلم كان يعلم أنه ل بد نمن عنصر آخر فى بناء المة ،إلى جانب الصلة
الوثيقة بال ،وهو النظام ،والنظام عادة نفسية على المصلين يسوى الصف بيده ،ول يبدأ الصلة حتى يستقيم الصف تماماً،
إشعاراً منه صلى ال عليه وسلم بأهمية النظام 0
ومن الواضح أن النظام جزء ل يتجزأ من هذا الدين ،فالصلة نظام وانضباط ،سواء فى تحديد الوقت أو انتظام الصف ،أو فى
متابعة المصلين للمام فى الركوع والسجود والقيام ،والصيام له نظام ومواقيت ،والزكاة لها نظام ومواقيت ،والحج له نظام
ومواقيت فضلً عن انتظام الصفوف فى القتال 0
وأما العفوية والرتجال فقد تكون من آفات البيئة ،ولكن السلم قاومها وقومها ،بلفت النظر إلى السنن الربانية التى ل تتبدل
ول تتحول ،وبالدعوة إلى التدبر والتفكر والتثبت فى المور كلها ،ولفت النظر إلى مآلت العمال ،وعدم الكتفاء بالنظر فى
كون العمل مباحاً فى ذاته أو غير مباح ،فقد يكون المر من المباح بل من المستحب ،ولكنه يمنع لما يترتب عليه من نتائج،
كما أمر تعالى بعدم سب الصنام حين ترتب عليه تجرؤ المشركين على سب ال سبحانه وتعالى (( :ول تسبوا الذين يدعون من
دون ال فيسبوا ال عدوا بغير علم))(النعام.)108 :
وكما امتنع الرسول صلى ال عليه وسلم عن قتل عبد ال بن أبى ،المنافق البين النفاق ،لكى ل يتحدث الناس بأن محمداً
صلى ال عليه وسلم يقتل أصحابه ،وهم يومئذ إما قد دخلوا السلم ولم يرسخ إيمانهم بعد ،وإما واقفون يترقبون ولما
يسلموا ،وانتشار هذه المقالة بينهم يومئذ يعطل الدعوة ويثبط المترددين!
وأما النفس القصير ،وفتور الهمة بعد الحماس المشتعل ،فقد يكون كذلك من آفات البيئة ،ولكن السلم عالجه علجاً رائعاً من
كل أطرافه ،فمن جهة وجه أنظارهم وأفئدتهم إلى هدف يتجاوز الحياة الدنيا كلها ،والرض كلها ،والزمن كله ،ويصل إلى بعد ل
يدانيه بعد ،وهو اليوم الخر ،وما فيه من بعث ونشور ،وحساب وجزاء ،وجنة ونار ..فوصل العاجلة بالجلة ،وجعل العمل فى
العاجلة هو وسيلة الوصول المن إلى الجلة ،وليس وراء ذلك بعد تعمل من أجله النفوس ،ول مدى تتطلع إليه ،وتثابر على
القيام بمتطلباته ،لن أى فتور فى الطريق قد يقطع الطريق!
ومن جهة أخرى أعطى الرسول صلى ال عليه وسلم القدوة والمثل فى المثابرة والدأب ومواصلة العمل بجهاده الذى ل يفتر،
واستمراره فى الدعوة فى أحلك الظروف وأصعبها ،وعدم الركون إلى اليأس أو التقاعس أو الهمود ،فى الوقت الذى كانت
الظروف كلها تدعو إلى اليأس والتقاعس والهمود 0
ومن جهة ثالثة وجه الصحابة رضوان ال عليهم ،والمة من ورائهم ،إلى الدأب والمثابرة ،ولو بدت الثمرة بعيدة المنال ،فقال
لهم صلى ال عليه وسلم (( :إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فلغرسها))( .)1وحثهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون
انقطاع ،وكان دائم الستعاذة من العجز والكسل 0
وكان من نتائج هذه التوجيهات كلها فى الكتاب والسنة فى حياة المة المسلمة استمرار الدعوة إلى ال قروناً بعد قرون،
واستمرار الجهاد فى سبيل ال قروناً بعد قرون ،وحضارة شامخة وحركة علمية ضخمة استمرت فى واقع الرض عدة قرون 0
وأياً كانهت السهباب التهى أدت إلى انحسهار الروح الدافعهة فهى حياة المسهلمين ،وعودتههم إلى طبيعهة الفوضهى التهى تكره النظام،
والعفوية التى تكره التخطيط ،وقصر النفس الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة ،فقد أدت هذه المراض إلى مفاسد عظيمة فى
كيان المهة ،ليهس أقلهها مهن يطلق عليهه فهى لغهة العصهر ((التخلف الحضارى)) ،وليهس أقلهها موت كثيهر مهن المشروعات النافعهة
قبهل أن تؤتهى ثمارهها ،وليهس أقلهها تبلد الحهس على كثيهر مهن المراض العقديهة والفكريهة والسهياسية والجتماعيهة والخلقيهة،
وعدم التحرك الجاد لتغييرهها ،وكلهها مهن المنكهر الذى أمهر ال ورسهوله بتغييره ،وأنذر المهة ،إذا لم تقهم بتغييره ،أن يعمهها ال
بعقاب..
***
وحين تجمعت هذه المراض كلها فى كيان المة حدث أمران عظيمان مما أخبر به رسول ال صلى ال عليه وسلم :غربة
السلم ،وتداعى المم على المة السلمية 0
عاد السلم غريب ًا كما بدأ ،فكل مفاهيمه لم تعد هى التى أنزلت من عند ال 0
1سبقت الشارة إليه .
وأما عقيدة القضاء والقد فقد انقلبت تواكلً سلبياً بدل التوكل الصحيح مع العزيمة والخذ بالسباب ،وانقلبت تبريرًا لكل ما يقع
من خطأ وقصور وخطايا بأنها كلها من قضاء ال وقدره!
وأما الدنيا والخرة فقد انفصلتا فى حس الناس فأصبح العمل من أجل الدنيا إهما ًل للخرة ،والعمل من أجل الخرة إهمالً
للحياة الدنيا ولعمارة الرض 0
وأما مفهوم الجهاد فقد ظل ينحسر وينحسر حتى صار للدفاع فحسب ،ثم أصبح تقاعساً حتى عن الدفاع ،وهروباً من مقتضاته
0
وأما مفهوم التربية فقد صار تعويداً على طقوس وتقاليد ،ل ينشئ روحاً مبدعة ول همة عالية 0
وأما مفهوم الصبر والتقوى فقد أصبح سلبية خانعة ترضى بالذل ،ول تتحرك لزالته 0
وعندما حدث هذا الخلل الهائل فى مفاهيم السلم حدث ((التخلف)) فى جميع الميادين :التخلف العسكرى ،والتخلف السياسى،
والتخلف العلمى ،والتخلف الفكرى ،والتخلف القتصادى ،والتخلف الجتماعى ،والتخلف الخلقى ..وكل أنواع التخلف التى
تخطر على البال ،لن العمل المتدفق فى كل هذه الميادين كان يستمد فى فترة التمكين من ذلك المنبع الضخم :من العقيدة
الصحيحة فى ال واليوم الخر 0
فلما جف النبع فى قلوب الناس – إل من رحم ربك – لم يعد هناك ما يغذى العمل فى النفوس(( :أل وإن فى الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أل وهى القلب))(.)1
عندئذ تداعت المم على المة التى أصبحت كغثاء السيل 0
جاء العداء المتربصون الذين قال ال فيهم (( :ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة (( .)120 :ول
يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))(البقرة.)217 :
جاءوا وقفى تخطيطهم أن يقضوا على هذا الدين قضاء كاملً فى هذه المرة ،وليس مجرد أن يكسروا شوكته ويتغلبوا عليه 0
وربما لم يكن هذا الهدف جديداً فى ذاته ،فقد كان هو الذى حرك هرقل فى أول التاريخ لمحاولة وأد هذا الدين قبل أن يستفحل
أمره ..وكان هو الذى حرك الحروب الصليبية فى عصور أوروبا الوسطى ..وهو الذى يحركهم اليوم ،ولكن ربما كان الجديد
فى الهجمة الصليبية المعاصرة – التى بدأت فى الواقع بعد طرد المسلمين من الندلس – أنهم جاءوا وهم أكثر اقتناعاً بإمكان
تحقيق هدفهم هذه المرة ،لما رأوه من المراض المتفشية فى كيان المة ،ولما استحدثوه من أسلحة الصراع ،سواء منها
الحربى أو السياسى أو القتصادى ،وأخطرها جميعاً ما نسميه ((الغزو الفكرى)) الذى يسعى إلى اقتلع العقدية من القلوب،
وهو ما نصحهم به لويس التاسع بعد خروجه من سجنه فى المنصورة وعودته إلى قومه يقول لهم :إن أردتم التغلب على
المسلمين فل تعتمدوا على السلح وحده ،فقد رأيتم نتيجة العتماد على السلح ،ولكن قاتلوهم فى عقيدتهم ،فهى مكمن القوة
ل عن دخول اليهود بكيدهم كله فى حلبة الصراع ،من أجل إنشاء إسرائيل 0فيهم ،ومكمن الخطر علينا ..وذلك فض ً
ولقد قام الغزو الفكرى بما لم يستطع أن يقوم به سلح آخر مما استخدم من قبل مع المسلمين..
هزم المسلمون أكثر من مرة فى التاريخ ،ولكن الهزيمة العسكرية لم تؤثر فيهم ولم تجعلهم يتخلون عن عقيدتهم أو يستبدلون
بها غيرها 0
هزموا أمام الصليبيين ،وهزموا أمام التتار ،ولكن النداء الربانى كان يمل قلوبهم(( :ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن
كنتم مؤمنين))(آل عمران(( .)139 :وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل ال وما ضعفوا وما
استكانوا وال يحب الصابرين( )146وما كان قولهم إل أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا
على القوم الكافرين( )147فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة وال يحب المحسنين))(آل عمران.)148-146 :
كانوا مؤمنين ،وكانت المعركة فى حسهم جهاداً فى سبيل ال ..فما لبثوا أن تجمعوا بعد تفرق ،وعزموا بعد وهن ،واستعدوا
بعد تفريط ،فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة 0
أما فى هذه المرة فلم يكن هناك استعلء باليمان ،بل كانت الهزيمة الروحية أمام العداء ،فتمكن الغزو الفكرى بصورة ل
تخطر على البال 0
وفى خلل قرن واحد ،بل فى خلل نصف قرن فى بعض الحيان ،تبدلت المة تبدلً كاملً كأن لم تكن فى يوم من اليام هى أمة
السلم!
تبدل مصدر التلقى ،لم يعد هو السلم ،لم يعد هو ال ورسوله ،إنما صارت ((الحضارة الوروبية) هى المصدر ،وهى المثال
المطلوب استيعابه والصيرورة إليه ..لم يعد هناك صدى فى النفوس لقوله تعالى (( :أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من ال
حكماً لقوم يوقنون))(المائدة .. )50:بل صار وصف ((الحضارة)) الغربية بأنها جاهلية يعتبر كفراً فى نظر المستعبدين للغرب،
الذين أكل الغز الفكرى قلوبهم وأصبح حجاب المرأة المسلمة هو السجن والظلم ،وانطلقها عارية فى الطريق هو التقدم
والتحرر ،وأصبح اللحاد والكفر والسخرية بكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم هو عنوان ((حرية الفكر)) ،وأصبح
النسلخ من السلم والنتماء إلى الغرب رتبة ونيشاناً يتباهى به العبيد 0
ثم دخلت ((المذاهب الفكرية)) :الوطنية والقومية والعلمانية والشتراكية والديمقراطية ..إلخ .لتكون البديل الفكرى من السلم
من جهة ،ولتمزق هذه المة مزقاً متفرقة من جهة أخرى ،ليسهل على العدو التقامها وابتلعها بعد أن تعذر عليه ازدرادها
وهى موحدة تحت رباط السلم ،حتى وإن لم تكن وحدة سياسية كاملة بالمعنى الصحيح 0
حضيض لم تصل إليه المة السلمية فى تاريخها كله ،ولكنه منطقى مع غثاء السيل ،ل يتوقع لها سواه .
***
أما الصحوة ذاتها فهى قدر ال الغالب فوق كيد العداء كله ،وتدبيرهم للقضاء على السلم(( :وال غالب على أمره ولكن أكثر
الناس ل يعلمون))(يوسف.)21 :
أما العداء فقد كانوا ينتظرون وفاة الرجل المريض ،كما كانوا يسمون الخلفة العثمانية فى آخر عهدها ،لينقضوا على تركته،
يمزقونها إرباً إرباً ،ويقضون بذلك القضاء الخير على السلم 0
وأما المسلمون فقد كان اليأس والستسلم للمر الواقع قد سيطر على كثير منهم ،فعادت أقصى أمانيهم أن يتخلصوا ولو
تخلصاً جزئياً من قبضة العدو الخانقة ،وأن يدعهم العدو يعيشون ولو فى ذيل القافلة وأنفهم فى الرغام..
ولكن قدر ال الغالب ،ووعده الدائم أن يبعث فى هذه المة من يجدد لها أمر دينها ،قد جاء بالصحوة رغم كل الكيد ،وكل
التخطيط..
ونحن نستبشر بقدر ال ،ونطمئن إلى وعده الكريم بأن يظهر هذا الدين على الدين كله .ونحن على يقين بأن المستقبل للسلم:
((هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف .)9 :
ولكن الذى نناقشه هنا هو أسلوب العمل الذى يجب أن تنتهجه الصحوة ،فإنه لبد من عمل يعمله البشر ليتم قدر ال ،ل عجزاً
من ال سبحانه أن ينفذ قدره ،ولكن لن سنته قد اقتضت أن يكون هناك بشر يعملون ،يكونون ستاراً لقدر ال (( :ذلك ولو
يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد (( .)4 :إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))(الرعد:
.)11
تخطر فى بال العاملين عدة وسائل وعدة أساليب ،نحب هنا أن نستعرضها ،لنعرف ما لها وما عليها ،ولنتدارس معاً أيها أجدى
نفعاً ،وأنسب لحوال المة التى وصفناها من قبل :الوعظ .التربية الروحية .الشحن العاطفى .التوعية الفكرية .التربية الجهادية
0
ونبدأ بالوعظ ،لنه وسيلة ذات إغراء شديد عند كثير من الناس! ويعتقد الواعظ أنه بمقدار ما يكون هو متحمساً لموعظته،
مؤمن ًا بها ،منمق ًا للفاظها ،بارعاً فى صياغتها ،يكون تأثيرها فى نفوس المستمعين ،وهو وهم يكذبه الواقع!
كم طناً من المواعظ يلقى فى العالم السلمى كله من المحيط إلى المحيط يوم الجمعة من كل أسبوع ،وكم غيرت من واقع
المسلمين فى العالم السلمى كله من المحيط إلى المحيط؟!
إن استخدام الموعظة فى الدعوة أمر ربانى(( :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة))(النحل .)125 :
ولكن ال لم يقل إن الموعظة وحدها هى الوسيلة للدعوة ،ولم يقل إنها حين تستخدم وحدها تؤتى ثمارها! إنما المنهج الربانى:
أنه يرسل بالموعظة رسولً يكون هو بذاته القدوة للناس لكى يستوعبوا الموعظة أولً ثم يطبقوا مقتضاها بعد ذلك :
((كان خلقه القرآن)) هكذا وصفت عائشة رضى ال عنها خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم 0
فلم يكن رسول ال صلى ال عليه وسلم مجرد خطيب يقف على المنبر ليعظ الناس ،إنما كان قبل ذلك مربياً بالقدوة فى شخصه
الكريم ،وكانت الموعظة وسيلة من وسائله لتوصيل الدعوة للناس ..بل إنه صلى ال عليه وسلم هو الذى قال الصحابة
رضوان ال عليهم إنه كان يتخولهم بالموعظة ،أى بين الحين والحين ،مخافة السآمة! السآمة من أى شىء؟ من موعظته
صلى ال عليه وسلم ،وفى نفوس من؟ فى نفوس الصحابة رضوان ال عليهم ،الذين كانوا يلتقطون كل كلمة يقولها صلى ال
عليه وسلم بالقبال والرغبة والحب ،ليقينهم أنها طريقهم إلى الجنة! فكيف بنا نحن البشر العاديين حين تكون كل بضاعتنا هى
الوعظ و ((الرشاد))!
وهل يصلح الوعظ والرشاد وحده على فرض تقبل الناس له وعدم سآمتهم منه ،وهو فرض غير صحيح ،هل يصلح وحده
لمعالجة شىء من تلك المراض التى أشرنا إليها آنفاً ،والتى توغلت فى كيان المة قبل الغزو الخير وبعده؟ هل يصلح لمعالجة
الفكر الرجائى الذى أخرج العمل من مسمى اليمان ،وأوهم الناس قرون طويلة أنهم يمكن أن يكونوا مؤمنين ولو لم يعملوا
عملً واحداً من أعمال السلم؟ هل هؤلء يمكن أن ينقلهم الوعظ – وحده – إلى العمل بمقتضى اليمان ،بما يتضمنه العمل من
بذل الجهد وتحمل المشقة وتحمل المسئولية ،واللتزام والنضباط؟!
لو كان هذا ممكناً فلماذا لم يحدث بالفعل ،ونحن ما قصرنا فى إلقاء المواعظ فى كل يوم جمعة ،وفى مناسبات إثر مناسبات،
وفى الذاعة وفى التلفاز؟
وهل يصلح – وحده – لخراج من غرق فى الصوفية ،وفى التبرك بالضرحة والعتبات ،والعتقاد بقدرة الولياء على كشف
الغيب ،وعمل المعجزات التى يسمونها كرامات؟ هل يصلح وحده لخراج هؤلء مما غرقوا فيه من انحرافات؟!
وهل يصلح لتغيير ما درج الناس عليه من الفوضى التى تكره النظام ،والعفوية التى تكره التخطيط ،وقصر النفس الذى يشتعل
بسرعة وينطفئ بسرعة؟
وهل يصلح لتغيير ما درج عليه الموظفون من إهمال العمال والتسويف فى إنجازها ،واستحلل الراتب على مجرد الحضور
فى الميعاد أو بعد الميعاد ،والنصراف فى الميعاد أو قبل الميعاد؟ وتغيير ما درج عليه العمال من الغبش والتدليس فى العمل،
وعدم الخلص فى أدائه ما لم يكن عليهم رقيب عتيد يحصى عليهم أعمالهم ،مع استحلل الجر المقدر للعمل الكامل الذى ل
نقص فيه؟ وتغيير ما درج عليه الناس من خلف الوعد وعدم التقيد به ،وعدم الشعور بالتأثم من إخلفه ل لبضع دقائق ولكن
أحياناً لبضع ساعات أو بضعة أيام أو بضعة أسابيع؟ وأحياناً إلى نهاية الحياة!
يقول الوعاظ :وماذا نملك غير الوعظ؟ نحن نقوم بواجبنا ،وإنك ل تهدى من أحببت ،والهداية من ال !
الهداية من ال نعم! ولكن ال وضع منهجاً للدعوة ،قوامه القدوة والتربية ،ومن وسائله الوعظ مع القدوة والتربية ،وعندئذ
تعطى الموعظة ثمارها بإذن ال 0
***
التربية الروحية ضرورة ل غنى عنها فى البناء ..بل ل يتصور أن يقوم بدونها عمل دعوى على الطلق ،إذا عنينا بالتربية
الروحية تعميق الصلة بال ،وترقيق القلب لعبادته سبحانه ،وتذكير النسان باليوم الخر ،وربط مشاعره بالموقف الذى يلقى
ال فيه ..وقد كان هذا جزءاً بارزاً وأساسياً من عمل الرسول صلى ال عليه وسلم فى تربية أصحابه رضوان ال عليهم فى
مكة خاصة ،حين فرض عليهم قيام الليل لتعميق هذه الصلة وتثبيتها وترسيخها ..ولكن هذا كله كان إعداداً لمر آخر ،ولم يكن
هو فى ذاته الغاية!
والمتأمل فى سورة المزمل :يتبين أنه مع المر بقيام الليل كانت هناك إشارة واضحة إلى تكاليف قادمة ،جعل قيام الليل توطئة
لها ،وإعداداً للقيام بها (( :يأيها المزمل( )1قم الليل إل قليل( )2نصفه أو انقص منه قليل( )3أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلً(
)4إنا سنلقى عليك قولً ثقيلً))(المزمل.)5-1 :
كما يتبين المتأمل حكمة ال جل وعل فى اختيار قيام الليل ليكون أداة للتهيئة المطلوبة(( :إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم
قيلً))(المزمل ،)6 :أى أعمق أثراً فى تهيئة النفوس لحتمال التكاليف 0
وخلصة المر أنه لبد من تعميق الصلة بال سبحانه وتعالى ليقوم النسان بحمل التكاليف التى يفرضها هذا الدين على الوجه
الكمل ،وأخصها الجهاد ،والصبر على البتلء ..أما حين تكون التربية الروحية غاية فى ذاتها ،أو حين تكون هى نهاية الشوط
فى عملية التربية فماذا يكون؟! يكون – والتشبيه مع فارق قليل -كالجندى الذى تدربه على فنون القتال ،وليس فى نيتك أن
ترسله إلى المعركة قط! أو كالساس الذى تدكه دكا متيناً وليس فى نيتك أن تقيم عليه أى بناء!
إن هذا الدين شأنه عظيم ..إنه المنهج الربانى لصلح الحياة كلها ،وإنشاء النسان الصالح ،الذى يقوم بالخلفة الراشدة فى
الرض ..إنه ليس مجرد سيحات روحية وإشراقات ،مهما يكن من عمق هذه السبحات ،ووضاءة تلك الشراقات ..إنه حهد
وجهاد ،وصراع حاد مع الباطل ،وإيجابية بناءة تهدم الباطل وتشيد الحق ..والتربية الروحية زاد لهذا كله ،وليست هى غاية
الغايات 0
إن النسان فى حلبة الصراع يجهد ويتعب ،ويحتاج إلى سند يقويه ،يمنعه من السقوط ،ويمنع عنه الوهن الذى قد يعتريه،
وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تقيه من الوهن ،وتقويه على الصمود ،بما تمده من طاقة ،وتشع فى كيانه من نور.
والنسان فى حلبة الصراع قد يستوحش ،حين يتكاثر عليه العداء ،ويجد نفسه وحده ،أو يجد من حوله مستضعفين مثله ل
يملكون نصره ،وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تؤنسه بذكر ال فل يستوحش ،وتذكره بالثمرة الجنية فى اليوم الخر فيجد فى
السعى 0
والنسان فى حلبة الصراع قد يفتقد المتاع الحسى ،والهل والصحاب ،والفراش الوثير ،والطعام الوفير ،فتحن نفسه لذلك كله،
أو لشىء منه ،فيثاقل إلى الرض ،وهنا تبرز الطاقة الروحية توازن فى حسه ثقلة الرض ،وتعوضه عن حرمانه بمتاع أعله:
معية ال ،ورضوان ال ،والجنة 0
إنها الزاد الذى يحتاج إليه المسافر ليقطع الرحلة فى أمان ..فأما إن كان قاعداً ل يتحرك فما قيمة الزاد !
هل تغير التربية الروحية – وحدها – من واقع المة الهابط إلى الحضيض؟
حقاً إنها تنقذ أفراداً من الضياع القاتل ،وتبنى لهم سياجاً يحميهم من المهلكات ،ولكنها ل تنقذ المة من ا لضياع لنها ل تدفع
بجنود إلى حلبة الصراع ،ول تشارك فى التدافع الذى قال ال إنه هو الداة الربانية لحفظ الرض من الفساد (( :ولول دفع ال
الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض ولكن ال ذو فضل على العالمين))(البقرة .)251 :
***
الشحهن العاطفهى مطلوب فهى الدعوة .مطلوب أن يتحمهس الناس لمها يؤمنون بهه ،ول يكونوا كالخشهب المسهندة ،ل تتحرك ول
تحدث حركة ،فالدعوة ل تنتشر بأمثال هؤلء ولو كانوا هم أنفسهم مستجيبين وملتزمين ..ولكن الحماسة وحدها ل تؤدى إلى
شىء ،وقهد تضهر أكثهر ممها تنفهع! فالحماسهة كثيراً مها تكون على حسهاب الوعهى ،وعلى حسهاب العلم الصهحيح ،وعلى حسهاب
الخبرة ،وهنا تفقد كثيراً من مزاياها ،وتنشأ عنها أضرارًا كثيرة ،خاصة إذا انقلبت إلى عصبية لشخص أو لجماعة أو لحزب أو
وكثير مما يجرى فى الساحة اليوم من تفرق وتشرذم وتخاصم وتنابذ منشؤه حماسة زائدة عن الحد ،لشىء يعتقد صاحبه أنه
الحق كل الحق ،وأن ما عداه باطل كامل البطلن!
***
التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى كل وقت ،وفى وقتنا الحاضر هذا أكثر من كل الوقات ،فالغبش الذى أحاط بالسلم
وحقائقهه فهى نفوس الناس فهى الغربهة الثانيهة للسهلم غبهش كثيهف شامهل ،يحتاج إلى توعيهة شاملة بحقائق السهلم ومفاهيمهه،
بدءاً بمفهوم ل إله إل ال ،وتوعية مركزة بمقتضيات ل إله إل ال ،ونواقض ل إله إل ال ،ومقتضياتها ،ونواقضها ،وإن كانت
التوعيهة مطلوبهة بالنسهبة لكهل المفاهيهم على السهواء مفهوم العبادة ،ومفهوم القضاء والقدر ،ومفهوم الدنيها والخرة ،ومفهوم
عمارة الرض ،ومفهوم التربية ،ومفهوم الجهاد0..
والتوعية مطلوبة كذلك لمعرفة واقع المة والسباب التى أدت إليه ،فبغير هذه المعرفة ل نستطيع وضع المنهج المناسب
للدعوة ،ول وسائل العلج ،وكثير من أحوال المة ل يدركه كثير من الناس على حقيقته ،وإن عرفوا عموم ًا أن المة منحرفة
عن الصورة الصحيحة ،وعزوا ذلك عموماً إلى البعد عن حقيقة السلم ،ولكن مدى البعد يخفى على كثيرين ،وخطورة
النحراف ل يقدرها حق قدرها كثيرون!
والتوعية مطلوبة مرة أخرى لمعرفة مكائد العداء ومخططاتهم للقضاء على السلم .وكثير من الناس – من الدعاة أنفسهم –
ل يتابعون ما يحدث على الساحة ،وما يجد من مؤامرات ،اعتماداً على معرفتهم العامة بأن اليهود والنصارى أعداء ،وأنهم لن
يكفوا عن الكيد للسلم! وهذا وحده ل يكفى! وكثير مما تستدرج إليه الجماعات السلمية من المواقف التى ل تخدم الدعوة
سببه هذا الجهل بما يدبره العداء من صنوف الكيد ،بينما العداء – بوسائلهم – يعرفون كل ما يسره السلميون وما
يعلنونه ،ويتابعونه متابعة دقيقة كل ما يدور فى العالم السلمى من حركات وأفكار ،فيخططون على علم ،ونحن فقط نتلقى
الضربات!
حقاً إن التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى وقتها الحاضر ،ولكنها وحدها – ل تؤدى إلى شىء حقيقى فى واقع
الحركة ،ما لم تكن زاداً لعقيدة صحيحة وحركة واعية ،تزيدها المعرفة وعياً وتبصرها بمزالق الطريق ،أما حين تتحول إلى
ثقافة – مجرد ثقافة – فهى ترف عقلى ل يغير واقع النفوس 0
***
التربيهة الجهاديهة مهن لوازم الحركهة ،فالنفوس الرخوة التهى ل تقدر على تكاليهف الجهاد ل تصهلح لحمهل الدعوة ،ول للتحرك فهى
وسط الشواك ،وفى مواجهة الوحوش الضارية التى تفتح أفواهها وتمد مخالبها لتنهش من تطوله من جنود الدعوة ،وتفتك به
بعد أن تذيقه العذاب الليم 0
ولكن التربية الجهادية – وحدها – ل تكفى لقامة دعوة ،بل ل تكفى حتى لحماية الدعوة من العداء ،بل كثيرًا ما تكون سبباً
فى ضراوة الضرب من قبل العداء حين تنقصها الخبرة السياسية والخبرة الحركية ،والوعى بحقيقة المعركة وحقيقة العداء،
وحقيقة الجهد المطلوب للمواجهة ،ونوع الجهد اللزم للصراع .وأخطر ما يقع من الحركات التى تعتمد التربية الجهادية
وحدها ،أو تركز عليها أكثر من متطلبات التربية الخرى ،أنها تسارع إلى الصدام – أن تستدرج إلى الدخول فى صدام – قبل
أن تتضح للناس حقيقة القضية ،قضية ل إله إل ال ،وقبل أن تستبين سبيل المجرمين كما فصل كتاب ال ،فتتعرض الحركة
للضرب المميت والناس يتفرجون ،ويتاح للطغاة أن يضحكوا على ((الجماهير)) فيقولوا لهم :إننا ل نحارب السلم ،وإنما
نحارب الرهاب!
***
مهن أجهل ذلك كله نصهر على التربيهة البطيئة الشاملة ،التهى تبدأ بإنشاء القاعدة الصهلبة ثهم تتوسهع على مههل ،ولو اسهتغرق ذلك
عدة أجيال!
إن مجموع المراض التى أصابت المة وحولتها إلى غثاء كغثاء السيل ،ثم جلبت إليها العداء يتداعون عليها كما تتداعى
الكلة على قصعتها أخطر من تعالج علجا سطحيا ،بالوعظ أو التوجيه الروحى أو الشحن العاطفى أو التوعية الفكرية أو
التربية الجهادية ،إذا استعملت أى واحدة من هؤلء بمفردها على أساس أنها علج سريع ينقذ المة من واقعها ،وينقلها من
حال إلى حال.
ل كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء( )24تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
((ألم تر كيف ضرب ال مث ً
ويضرب ال المثال للناس لعلهم يتذكرون))(إبراهيم.)25-24 :
وسؤال واحد ،تحدد إجابته القضية تحديداً واضحاً حاسماً ل لبس فيه :هل الناس -إل من رحم ربك -على وعى بحقيقة ل إله إل
ال؟
إن كثيرًا من الدعاة أنفسهم مازال لديهم غبش كثيف حول مقتضيات ل إله إل ال ،وبالذات حول نواقض ل إله إل ال ،لنهم هم
أنفسهم لم يتخلصوا بعد من آثار الفكر الرجائى ،الذى أخرج العمل من مسمى اليمان.
وكثير من الدعاة لم يدركوا بعد مشكلة((الجماهير)) الحقيقية ،ومدى بعدهم عن حقيقة السلم،ومن أجل ذلك تعجلوا فى
تجميعهم ،وفى التحرك بهم ،قبل أن تتضح لهم حقيقة القضية التى يدعون إليها ،ويجمعون من أجلها!
من أجل ذلك نصر على أن نقطة البدء هى إنشاء القاعدة الصلبة على ذات المنهج الذى أنشأ به رسول ال صلى ال عليه
وسلم قاعدته الصلبة ،وإن كان من المستحيل أن تصل هذه إلى المستوى ذلك الجيل ..أما المنهج فشىء آخر ..المنهج ثابت ل
يتغير ،والتربية على أساسه واجب دائم ل تتغير ،أيًا كان المستوى الذى يصل إليه المربون والمتلقون ،ولكل درجات مما
عملوا..
والدرس الول فى بناء القاعدة الصلبة هو درس ل إله إل ال ،علماً بها ،وتربية على مقتضياتها ،لعداد الدعاة الذين يوجهون
القاعدة الموسعة ،حين يأتى دور توجيه الدعوة إلى الجماهير..
الواقع والمثال
وقد استعرضنا من قبل بعض أسباب هذا الختلف بين الواقع الذى حدث بالفعل ،والمثال الذى كان يجب أن تسير عليه المور،
وبعض النتائج التى ترتبت على ذلك الختلف 0
وهنا بعد أن فصلنا الحديث عن المنهج النبوى فى إنشاء القاعدة الصلبة ،ثم توسيع القاعدة بمعاونة القاعدة الصلبة ،تحت
إشرافه صلى ال عليه وسلم ،نعود إلى شىء من التفصيل فيما حدث من افتراق بين الواقع والمثال 0
التعجل هو الطابع العام للتحرك الذى قامت به الصحوة السلمية منذ قيامها ..
لو كنا أخذنا منذ البدء فكرة صحيحة عن نوع الخلل الذى حدث فى بنية المة ،والذى نشأ عنه ما نشأ من غربة السلم بين
أهله ،وتداعى العداء على المة من كل حدث وصوب ..وأخذنا فكرة صحيحة عن نوع الجهد المطلوب لصلح هذا الخلل
الهائل فى بنية المة ..وأخذنا فكرة صحيحة عن الجهد الجبار الذى بذله العداء فى التخطيط والعداد لمحاولة القضاء على
السلم ،فقد كنا جديرين أن نتمهل كثيراً فى الحركة ،ول نتعجل فى المسير 0
هل كانت المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة واضحة فى أذهاننا حين بدأنا الدعوة؟ هل كان واضحاً فى أذهاننا أن توجيه
الدعوة((للجماهير)) قبل إعداد القاعدة قد يعرضنا لموقف صعب ،حين تتدفق الجماهير بالشحن العاطفى ،ثم ل تجد موجهين
ومربين ،لننا لم نعد بعد الموجهين والمربين الذين يمكن أن يستوعبوا تلك الجماهير؟ وهل كان واضحاً فى أذهاننا أن تجميع
الجماهير بالشحن العاطفى دون تربية حقيقية تترتب عليه نتائج خطيرة فى سير الدعوة حين تنزعج السلطات المحلية
والعالمية ،فتغضب فتضرب ،والناس على غير استعداد بعد للضرب ،بل القاعدة ذاتها لم تعد إعداداً كافياً لتلقى الضربات؟
ونحن الن ل نوجه لوم ًا لحد ،وكل عمل فى سبيل ال مأجور بإذن ال ،ولكنا نبين فقط مدى الفرق بين ما كان ،وما يجب أن
يكون.
ول شك أن الداعية الول -عليه من ال رحمة ،وجزاه ال خيراً بما قدم -قد بذل جهداً واضحاً فى تنقية تلك الخامات من بعض
ما كان عالقاً بالمجتمع كله من أوشاب ،فأخرج من نفوسهم النحصار فى الفردية الضيقة ،ورباهم على روح جماعية متحابة
متراصة متعاونة متكافلة ،تربط بين أفردها أخوة السلم ،وأخرجهم من الشتغال بالعبادة الفردية المنحصرة فى شعائر التعبد،
إلى العبادة بالمعنى الوسع الذى يدخل فيه المر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وإقامة مجتمع مسلم يحتكم إلى شريعة ال ،كما
رباهم على كثير من الخلقيات الفاضلة ،وعلى الفدائية لدين ال.
ولكن واقع المسيرة يدلنا على نقص كبير فى الوعى السياسى والوعى الحركى ..وأخطر من ذلك نقص فى إدراك حقيقة
القضية ،وحقيقة الهدف الذى نسعى إليه.
لقد سعينا إلى تكوين قاعدة جماهيرية واسعة لنستعين بها على الوصول إلى الحكم على أساس أنه حين نصل إلى الحكم نطبق
شريعة ال..
هدف مشروع فى ذاته ،ودع عنك موقف الجاهلية التى تجعل من حق كل إنسان أن يسعى للوصول إلى الحكم ..إل السلميين!
فهم وحدهم يصبحون مجرمين إذا سعوا للوصول إلى الحكم! دع عنك هذا فهو موقف معروف من الجاهلية تجاه دعوة الحق،
منذ كانت جاهلية فى الرض ،ودعاة يدعون بدعوة الحق(( .شنشنة نعرفها من أخزم)) كما يقول المثل العربى المشهور! سواء
جاء((أخزم)) من الشرق أو الغرب أو من داخل البلد!
ولكن القضية ليست فى مشروعية الهدف ..إنما هى فى سؤال أساسى :هل مجرد تطبيق الشريعة يكفى لصلح حال المة التى
وصلت لن تكون غثاء كغثاء السيل ،أم يحتاج المر إلى متطلبات أخرى قبل ذلك ،وبعد ذلك وفى أثناء ذلك؟!
لو أن الداعية الول -رحمه ال -أعلن للصفوة التى اختارها لتكون هيئة تأسيسية لجماعته ما أعلنه((للجماهير)) عام 1948م
(أى بعد عشرين سنة من بدء الدعوة) لتغيرت أمور كثيرة فى خط السير!
فى عام 1367هه (1948م) ،وتحت عنوان(( :معركة المصحف)) ،قال المام الشهيد(( :السلم دين ودولة ما فى ذلك شك،
ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن السلم شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية ،وكلت حمياتها ونشرها
والشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها ،وتبليغها للذين ل يؤمنوا بها إلى الدولة ،أى إلى الحاكم الذى يرأس جماعة
المسلمين ويحكم أمتهم ،وإذا قصر الحاكم فى حماية هذه الحكام لم يعد حاكماً مسلماً ،وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم
تعد دولة إسلمية ..وإذا رضيت الجماعة أو المة بهذا الهمال ووافقت عليه لم تعد هى الخرى إسلمية ،مهما ادعت ذلك
بلسانها .وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون هو نفسه متمسكاً بفرائض السلم ،بعيدًا عن محارم ال ،غير مرتكب للكبائر،
وهذا وحده ل يكفى فى اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام السلم بين المسلمين ،وتحديد
موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة السلم))(.)1
ترى لو كان أعلن ذلك منذ البدء ،هل كانت ستتدفق الجماهير التى تجمعت حوله عن طريق الشحن العاطفى حتى بلغت نصف
مليون ،معظمهم من الشباب ،فى شعب لم يكن يتجاوز تعداده يومئذ تسعة عشر مليوناً من البشر؟ بل هل كانت((الصفوة)) ذاتها
تتجمع بمثل هذه السهولة التى تجمعت بها ،منساقة بعواطفها نحو الهدف الكبير؟
ل أظن..
ثم هل كانت ستتكون من نفس الشخاص الذين تكونت منهم بالفعل أم من غيرهم؟
ولكن أيا كان الشخاص الذين كانت القاعدة ستتكون منهم يومئذ ،فقد كانوا سيكونون أصلب عوداً ،وأكثر دراية ،وأطول نفساً،
وأقل تعجلً مما كانوا بالفعل ،فما كانوا سينساقون بعواطفهم ،ول كانوا سيعتقدون أن الهدف سهل المنال قريب التحصيل،
1انظر العدد 627من جريدة(الخوان المسلمون) اليومية ،السنة الثالثة ،بتاريخ الحد 7رجب سنة 1367،16مايو سنة . 1948
كانوا سيعلمون أن المشوار طويل طويل ،وأن الجهد المطلوب غاية فى الضخامة ،وأن الوسائل المطلوبة أكثر بكثير مما هو
معد ..لن المطلوب ليس مجرد ترميمات فى بناء قائم ،ولكنه إعادة تثبيت الساس.
أما الجماهير فما أظنها كانت ستقبل مع إعلن هذه المبادئ! فقد كانت ستعلم أنها قضية أخطر بكثير من مجرد الستماع إلى
الكلم المؤثر ،والمتلء العاطفى ،الذى كانوا يسمونه((الروحانية))( )1والمتعة بلقاء الحباب ،والنشوة بالكثرة التى تتكاثر
على الدوام.
كانت ستعلم أنه صراع مع الجاهلية يعرض النسان لكثير من المخاطر ،التى ل ينبغى((للعاقل!)) أن يعرض نفسه لها((وقالوا
إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا))(القصص.)57 :
عندئذ كانت الحركة ستمضى بطيئة الخطى ،ولكن على منهج أصح! كانت القاعدة الصلبة ستتكون فى بطء من رجال يختارون
على مهل بعين فاحصة ل تختار إل أصلح الخامات الموجودة ،ثم يبذل فى إعدادهم الجهد اللزم ليكونوا نواة صالحة للعمل،
بالتربية الروحية ،والتربية الخلقية ،والتربية الفكرية ،والتربية النفسية ،والتربية بالعلم الشرعى الصحيح ،فى ظل المنهج
الربانى العظيم(( :كفوا أيديكم وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة)).
وكانت القاعدة ستتوسع ،حين يأتى أوان التوسع ،بعد إعداد القاعدة الصلبة ،بجنود جندوا أنفسهم للدعوة على بصيرة بحقيقة
القضية ومتطلباتها ،ووعى صحيح بحالة المة وما لحقها من المراض ،وتقدير سليم لطبيعة العمل فى كل مرحلة من مراحل
الحركة ،وذلك قبل التوجه لعامة الجماهير لينظموا للدعوة وينضووا تحت لوائها..
وكان((العمل السياسى)) بمعنى الشتغال بالقضايا الوطنية والقضايا الجتماعية وما شاكلها ،سيتأخر بعض الوقت ،ريثما يتم
التمكين الصحيح للساس الصحيح ،المتمثل فى العقيدة الصحيحة والتربية على مقتضياتها ،فى محيط الذين استجابوا للدعوة،
وجندوا لها أنفسهم (بما يقابل مجتمع المدينة فى جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم ).
ثم كان سيحدث الصراع! وهو أمر ل مفر من حدوثه حسب السنن الربانية التى قدرها ال فى حياة البشرية! وهو يبدأ دائماً من
جانب الجاهلية حين تستشعر الخطر من مجود جماعة مؤمنة فى الرض ،ولو كانت قليلة العدد ،ولو كانت من جانبها ل ترغب
فى الدخول فى الصراع(( :إن هؤلء لشر ذمة قليلون( )54وإنهم لنا لغائظون( )55وإنا لجميع حاذرون))(الشعراء.)56-54 :
ولكن كان المتوقع أن يتأخر الصراع عن موعده الذى وقع فيه ،بحيث يعطى فرصة أكبر لتربية القاعدة الصلبة ،ثم تربية
القاعدة الموسعة بالقدر المتاح من التربية ،ثم إنه حين كان يقع على قوم كفوا أيديهم ،ولم يعملوا شيئًا إل أن يقولوا((ربنا
ال)) ،فإن هذا كان سيعجل فى تنمية وعى((الجماهير)) بحقيقة القضية ،فل تلتبس فى ذهنهم بغيرها من القضايا التى تلبست
بها بالفعل ،وكان سيصعب على الطغاة تطويع الجماهير لهم من خلل القهر مرة ومن خلل وسائل العلم المزيفة مرة ،حين
تستبين سبيل المجرمين بتفصيل اليات ،على المنهج الربانى القويم ،ويعرف الناس على أى أساس يقررون مواقفهم(( :وكذلك
نفصل اليات ولتستبين سبيل المجرمين))(النعام.)55 :
***
تأخر العلن عشرين سنة كاملة عن موعده ،وفى تلك السنوات كانت الجماهير كثيرة قد تدفقت على الحركة غير مستشعرة
بما يحيطها من أخطار! واختلطت الدعوة ،وهى لم تخلص بعد لل إل إله إل ال ،بكثير من القضايا السياسية والقومية
والجتماعية ،على ظن من القائمين بالدعوة أن هذا سيمكن للدعوة بتوسيع قاعدتها الشعبية ،وأن الجماهير يجب أن تشرك فى
المر ،وذلك بتناول القضايا التى تشغل بال الجماهير فى ذلك الوقت ،حتى كانت القنبلة التى فجرت الموقف كله فى فلسطين
عام 1948م ..
عندئذ بدأ الهجوم الوحشى على الحركة بأبشع صورة يمكن أن تخطر على البال 0
نعم كانت الحرب على الدعوة متوقعة ،لنها كما قلنا سنة من سنن ال ،وكان المام الشهيد يقول لعوانه وأتباعه(( :أحب أن
أصار حكم أن دعوتكم لزالت مجهولة عند كثير من الناس ،ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة
ولكن الصورة التى تمت بها الحرب لم تكن تخطر على البال 0
لقد انكشفت للغرب الصليبى موضع الخطر على وجه التحديد ،إنه السلم السياسى الذى ل يقنع من السلم بشعائر التعبد
ومشاعر القلوب ،إنما يريد أن يكون منهجاً مطبقاً فى واقع الرض ،يحكم حياة الناس كلها :سياستها واقتصادها واجتماعها
وفكرها وأخلقها ،وكل مجال من مجالتها! وهل يوجد – فى نظر الغرب – أخطر من ذلك على وجه الرض؟(.)2
لبد إذن من مكافحته ..لبد من تجنيد القوى كلها ضده ..لبد من متابعته ومطاردته ..لبد من تجفيف منابعه ..لبد من
تشويه صورته حتى ل يقبل عليه الشباب فتزيد خطورته!
ولقد أشعل نار الحقد فى قلوب الصليبية الصهيونية أمران فى وقت واحد :الول وقع المفاجأة على الصليبية التى كانت تتوقع
بعد تخطيط مائتى عام أون أكثر أن تنجح فى القضاء على السلم ،ففوجئت به يستيقظ من رقدته! والثانى تهيؤ اليهودية
العالمية لقامة دولتها على أرض السلم بعد سعيها الحثيث لماتته ،حتى تنشئ دولتها فى أمان من الخطار ،فإذا بها تفاجأ
بالخطر وجهاً لوجه! وتلقى المران معاً وتفاهما على ضرورة القضاء على عدوهما المشترك الخطير 0
هل كان يتوقع أن تنجو الحركة السلمية من عداوة الصليبية الصهيونية وكيدها ،ومحاولة القضاء عليها؟
ولكنا نعتقد مع ذلك أن صورة أخرى كانت قمينة أن تقع لو سارت المور على المنهج الصحيح ،لو كانت ((الجماهير)) التى
أشركت فى الصراع قبل الوان على وعى بحقيقة القضية ،وحقيقة الصراع! ولن تكون الجماهير على هذا الوعى حتى تكون قد
تربت من قبل ،ولن تتربى التربية المطلوبة حتى تكون القاعدة قد تم إنشاؤها على منهج سليم! وهكذا أدى النقص فى الحلقة
الولى إلى نقص متسلسل فى بقية الحلقات!
ثم كان ما أشرنا إليه فى الفصول الولى من ردود فعل للضربات الوحشية من قبل العداء ،زادت من الغبش سواء فى القاعدة
أو عند الجماهير ،ونقصد بذلك دخول بعض فصائل العمل السلمى فى البرلمانات ،وما صاحب ذلك من تمييع لقضية الشرعية،
وقضية اللزام فى تحكيم شريعة ال ،ودخول فصائل أخرى فى صراع مسلح مع السلطات ،مما أدى إلى تهميش القضية
الساسية ،وتحول المر فى حس الناس إلى قضية ضارب ومضروب ،وغالب ومغلوب(.)3
ثم اشتطت فصائل أخرى من فصائل العمل السلمى فدخلت فى معارك دموية مع الناس ..مع ((الجماهير)) على أساس أنهم
كفار يجوز قتلهم ما داموا لم يدخلوا فى ((الجماعة المسلمة))!
وكان لهذا المر أسوأ الثر على العمل السلمى كله .ففضل عن النفور العام عند الناس من هذه العمال التى ل سند لها من
شرع ال ،فقد وجدت وسائل العلم المتربصة بالحركة السلمية فرصة مواتية لتلوين الساحة كلها بلوم الدم المراق ،مع أنه
ل يمثل إل جزءا ضئيلً من الساحة ،ووصمت كل عمل إسلمى أيا كان نوعه بأنه عمل إرهابى ينبغى أن يحارب وتجفف
منابعه!
وما كانت وسائل العلم العالمية فى حاجة إلى من ينبهها أو يحفزها إلى انتهاز هذه الفرصة ،فهى – بموقفها المعادى للسلم
أصل – جاهزة لتلقف مثل هذه الفرصة واستغللها إلى أقصى حدود الستغلل!
كما كان رد الفعل سيئاً بالنسبة للغبش الذى يحيط بقضية ل إله إل ال ،سواء بالنسبة للقاعدة أو بالنسبة للجماهير ،فقد انبرى
أصحاب الفكر الرجائى ينافحون عن فكرهم بشدة ،وينشرونه بكل وسائل النشر ،بل وقع فى الدوامة ((علماء)) ممن يعتبرهم
الناس من أهل الذكر الذين يرجع إليهم ،فراحوا ينفون الوقوع فى الشرك عن الواقعين فيه بحرارة وبضراوة ،ويمنحونهم
شهادات موثقة باليمان!ن ويهونون فى حس الناس هذا الجرم الهائل فى حق ال ،وهو العراض عن شريعته ،وتحكيم
الشرائع الجاهلية بدل منها ،على أنه مجرد معصية ل تستحق حتى أن يشار إليها بالنكار! ولقد كان الحرى أن تأخذ القضية
1مجموعة رسائل المام الشهيد حسن البنا ،المؤسسة السلمية للطباعة والصحافة والنشر ،بيروت ،ط 1403 ،3هـ1983 ،م ص . 108
2يزعم الغرب أنه يحارب ((السلم المقاتل)) (( ))Militant Islamفقط ،الذى أطلق عليه لقب ((الرهاب)) ول يقاتل السلم ذاته .ويكذب هذا الزعم
تكذيباً قاطعاً موقف الغرب من حركة الجزائر ،فهى لم تكن مقاتلة ،ول كان فى برنامجها أن تقاتل ،إنما وصلت عن طريق صناديق النتخاب على مذهب
الغرب ذاته ،ولكن الغرب لم يطقها .مما يدل على أنه ل يريد للسلم أن يحكم،م بصرف النظر عن الوسيلة التى يصل بها إلى الحكم!
3راجع فصل ((أسباب التعجل)) فى أول الكتاب .
***
ثهم تشرذم العمهل السهلمى لسهباب متعددة ..منهها غياب قيادة كهبيرة تضهم العمهل السهلمى وتوحده ،أو فهى القليهل تقرب بيهن
مختلف اتجاهاته ،ووجوده قيادات صغيرة ،كل منها يعتد بنفسه ورأيه ،ويرى أنه وحده على صواب والكل غير مخطئون 0
ومنها أن كثيراً من الشباب القائم بالدعوة لم ينشأ فى داخل تجمع يربى فيه روح الخوة وترابطها ،إنما تنشأ على ترابط فكرى
هش ،يسهل فسخه عند وقوع أى خلف فى التفسير أو التأويل أو الفهم ،فسرعان ما تنقسم الجماعات ،وينقلب بعضها على
بعض 0
ومنها نقص فى العلم الشرعى الذى يشكل الضوابط الضرورية للفكر وللسلوك..
ومنها بطبيعة الحال ،العمل الدائب من الجهزة المعادية للسلم ،لتعميق الخلفات وتقطيع الروابط بين الناس 0
هلى يرجى لهذا الحال إصلح؟ هل يرجى من الذين تعجلوا فى شتى التجاهات أن يراجعوا المسيرة ،ويصححوا ما وقعوا فيه
من أخطاء ،ويبدءوا من جديد على هدى من المنهج النبوى السديد؟
إن ما وقع بالفعل هو قدر من أقدار ال ..ولكنا تعلمنا من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم أن اليمان بقضاء ال
وقدره ل ينفى مسئولية النسان عن خطئه حين يخطئ ،ول يمنعه من السعى إلى تصحيح ما أخطأ فيه 0
فهل يرجى أن يصحح العمل السلمى مساراته ،ويبدأ جولة جديدة أقرب إلى السداد؟!
إن تصحيح المسار واجب على كل حال ..ولكن ربما يقول قائل :إن العداء لن يتركوا العمل السلمى يصحح مساراته،
وسيعاجلونه بالحرب قبل أن يتمكن من التصحيح ،بل قد تكون من عوامل الشحذ ،وزيادة الوعى عند الناس بحقيقة المعركة
بين الجاهلية والسلم 0
ويظل واجب النصيحة واجباً فى جميع الحوال(( :الدين النصيحة)) قالوا :لمن يا رسول ال؟ قال (( :ل ولرسوله ولكتابه
ولعامة المسلمين وخاصتهم))(.)1
ينزعج كثير من الناس حين ينظرون إلى الواقع الراهن ،سواء بالنسبة للحرب الضارية التى توجه إلى الحركات السلمية فى
كل الرض ،أو بالنسبة لما وقع – وما يزال يقع – من الضطراب فى مسيرة الحركة من جهة أخرى ،فيحسبون أن العمل
السلمى ليس له مستقبل ،وأن الواقع السيئ الذى يعيشه المسلمون اليوم سيستمر على ما فيه من السوء ،أو أنه صائر إلى
مزيد من السوء 0
ولسنا نبنى رؤيتنا على أوهام ،ول على أحلم ،ول نحن كذلك نغمض أعيننا عن العراقيل القائمة فى وجه العمل السلمى من
داخله أو من خارجه ،ول نقلل من شأنها ،ول من تأثيرها على العمل السلمى 0
ولكنا نؤمن إيماناً جازماً أن البشر ليسوا هم الذين يقدرون القدار ،سواء منهم العدو أو الصديق ،إنما ال هو الذى يقدر ،وهو
صاحب المر من قبل ومن بعد ،ومشيئته هى النافذة ،وقدرة هو الغالب(( :وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل
يعلمون))(يوسف.)21:
وال هو الذى قدر لهذا الدين أن يبقى فى الرض وأن يظهر على الدين كله(( :هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف(( )9 :ليبلغن هذا المر ما بلغ الليل والنهار))(.)2
***
وإذا نظرنها إلى الموقهف على ضوء السهنن الربانيهة ،وعلى ضوء وعهد ال ووعيده ،فسهنجد على السهاحة عنصهرين متصهارعين:
الحركات السهلمية مهن جههة ،وأعداء السهلم مهن صههيونيين وصهليبيين وأعوان لههم مهن جههة أخرى .فمها الذى يتوقهع لكهل مهن
العنصرين فى المستقبل القريب أو المستقبل البعيد؟
فأما الحركات السلمية فقد أسهمت فى العمل السلمى بجهد واضح ل شك فيه .وانتشار الروح السلمية على مستوى العالم
السلمى كله ،والرغبة الحارة فى العودة إلى السلم فى محيط الشباب خاصة ،راجعان بعد فضل ال ومشيئته إلى الجهد الذى
بذلته الحركة فى أكثر من نصف قرن من الزمان ،منذ سقوط الخلفة إلى الوقت الراهن 0
ولكن السلبيات القائمة فى العمل السلمى معوق واضح يبدد كثيراً من طاقة العمل ويبعثره ،ول يجعل الجهد يؤتى ثماره
المرجوة ،فهل يستمر الوضع على هذا الحال؟
ولكن المر ل يخرج عن أحد احتمالين :إما أن يستمر الوضع على حاله ،وإما أن يتغير.
ونحن نرجو – من خلل التجارب المرة التى يمر بها العمل السلمى – أن يتغير الوضع إلى الصورة الصحيحة ،وأن تتلفى
الخطاء التى وقعت ،وتبدأ مسيرة سليمة على منهج سليم 0
ولكنا نفترض الفرض السوأ ،وهو إصرار العاملين فى حقل الدعوة على مواقفهم ،على اعتبار أن منهج كل منهم هو المنهج
الصوب ،وأن ما يدعو إليه غيره بعيد عن الصواب ،أو على أساس أنه ل يمكن التراجع بعدما مضت كل حركة فى طريقها
خطوات ليست بالقليلة ،أو على أى أساس آخر مما يمكن أن تبرر به كل حركة إصرارها على موقفها 0
فماذا يحدث حينئذ؟ هل يعجزون ال؟ أم ينفذ ال قدره رضى الناس أم أبوا؟
إن أداة التغيير موجودة على الدوام فى سنة ال عز وجل(( :وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم ل يكونوا أمثالكم))(محمد :
.)38
فإذا كان قدر ال أن يبقى هذا الدين ،وأن يظهره على الدين كله ،كما أخبر سبحانه فى كتابه المنزل ،وعلى لسان رسوله
صلى ال عليه وسلم ،فلن تقف سلبيات العمل السلمى الراهن أمام قدر ال ومشيئته ،وسوف ينفذ ال وعده ،ويخلق لنفاذه
ما يشاء من السباب(( :إن ال بالغ أمره قد جعل ال لكل شىء قدراً))(الطلق(( .)3:يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
فسوف يأتى ال بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك
فضل ال يؤتيه من يشاء وال واسع عليم))(المائدة .)54 :
***
أما العداء فلننظر ماذا يخصهم من سنن ال ،ومن وعده ووعيده 0
أما الغرب الصليبى ،فأشد ما ينطبق عليه من السنن الربانية هو قوله تعالى(( :فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل
شىء))(النعام .. )44 :ذلك أنهم أرادوا الحياة الدنيا وعملوا من أجلها واجتهدوا فوفى ال لهم أعمالهم فيها بحسب سنة من
سننه(( :من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون))(هود .. )15 :وذلك أيضاً حسب
مشيئة إلهية مسبقة ،أنه يعطى الدنيا للمؤمن والكافر على السواء ،كل بحسب اجتهاده ،ول يمنعها عن الكفار ،بل قد يزيدهم
منها ليزدادوا كفرًا (( :كل نمد هؤلء وهؤلء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً))(السراء (( . )20 :ول يحسبن
الذين كفروا أنما نملى لهم خير لنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين))(آل عمران .)178 :
فإذا كان الغرب اليوم ممكنا فى الرض ،ومستعلياً فيها حسب هذه السنن الربانية ،فإن هذه السنن ذاتها تقول إن ذلك الملء ل
يدوم إلى البد ،إنما هو موقوت بقدر يأتى من عند ال فى موعده المقدر له (( :فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل
شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون( )44فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد ل رب
العالمين))(النعام .)45-44 :
((ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى))(طه.)124:
والضنك الذى يعيشه الغرب – المفتوح عليه أبواب كل شىء من أسباب التمكين المادى – يتمثل الن فى القلق والجنون
والنتحار ،والمراض النفسية والعصبية ،والخمر والمخدرات والجريمة ،واليدز ،وما قد يجد من المراض التى لم تكن
موجودة من قبل ،أو لم تكن تأخذ صورة الوباء كما هى اليوم ،وفى الزمات التى تحيط بالعالم كله سواء كانت أزمات اقتصادية
أو سياسية أو حربية أو فكرية أو خلف ذلك ..وذلك لن باب البركة وباب الطمأنينة ليسا من البواب التى تفتح للكفار حين
ينسون ما ذكروا به ،لنها خاصة بالمؤمنين ،يتفضل بها ال عليهم فى الحياة الدنيا ،فضلً عن نعيم الخرة (( :ولو أن أهل
القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض))(العراف(( . )96:الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر ال أل بذكر
ال تطمئن القلوب( )28الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب))(الرعد .)29-28 :
وخلصهة القول :إن الغرب اليوم يملك كهل وسهائل القوة الماديهة ،ولكنهه ل يملك القدرة على السهتمرار ،لنهه خاو مهن العوامهل
التى يكتب ال لصحابها الستمرار ،وهى اليمان بال واليوم الخر ،وعمل الصالحات..
ول شك أن لديهم أعمالً صالحة ،كالخدمات الطبية ،وتيسير سبل الحياة بما يوف جزءاً من المشقة التى يكابدها النسان فى
الرض ،ولم تخل جاهلية من جاهليات التاريخ من أعمال صالحة يقوم بها بعض أفرادها ،ولكن ذلك ل يمنع عنها صفة الجاهلية
من جهة ،لن هذه ل تزول عن النسان إل إذا آمن بال واليوم الخر واتبع ما أنزل ال .ومن جهة أخرى فإن تلك النقط
البيضاء المتناثرة فى الثوب السود الممتلئ بالشر ،ل تغنى عن أصحابها شيئاً ،ول تمنع عنهم الدمار الذى تقرره السنن
الربانية لهم مهما طال الملء لهم 0
إن اللحاد الذى تنشره الحضارة الغربية،ن والنحلل الخلقى الذى تنشره وسائل إعلمها ،والخواء الروحى ،والنغماس فى
المتاع الحسى إلى آخر المدى ،وتزيين الحياة الدنيا ،ونسيان الخرة نسياناً كاملً ،والغفلة عن أن ال يحصى على البشر
أعمالهم ويحاسبهم عليها ،كل هذا ل يصنع حضارة حقيقية يكتب ال لها الستمرار فى الرض ،ولو أملى لصحابها فترة من
الزمان لحكمة يريدها 0
ولسنا نحن الذين نقول ذلك إرضاءً لعواطفنا ،أو تصديقاً لحلمنا! فمن قبل سنوات قال برتراندرسل(( :لقد انتهت حضارة
الرجل البيض ،لنه لم يعد لديه ما يعطيه)).
ومن قبل قال ألكسيس كاريل(( :إن هذه الحضارة آيلة للنهيار)).
وبالمس شهدنا انهيار الشيوعية ،وفى الوقت الحاضر تكتب الصحف الغربية – والمريكية من بينها – تقول :هل بدأ انهيار
أمريكا؟
ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك سيتم غداً صباحاً! فما زال فى هذه الحضارة الجاهلية من العوامل ما يمكن أن يمد لها
فترة من الزمن بحسب السنن الربانية :عبقرية التنظيم ،والجلد على العمل ،والحرص على التقان ،والقدرة على التخطيط.
فضلً عن كون البديل الحضارى الذى يؤدى ظهوره إلى سرعة انهيار تلك الحضارة لم يظهر بعد !
***
لقد كتب ال عليهم الذلة والمسكنة بما قدمت أيديهم ،ولكنه جعل لذلك استثناء ..أو استثناءات.
((وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب فتفسدن فى الرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً( )4فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عباداً
لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلل الديار وكان وعداً مفعولً( )5ثم رددنان لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم
أكثر نفيراً ( )6إن أحسنتم أحسنتم لنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه
أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً( )7عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا))(السراء .)8-4 :
((وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب))(العراف.)167:
تلك هى القاعدة الدائمة ،وما دون ذلك استثناء ،والستثناء بطبيعته ل يدوم ،لنه مخالف للقاعدة!
والقاعدة من تقدير ال سبحانه وتعالى ،والستثناء يتم بقدر بقدر منه كذلك ،ولكن طبيعة المور أن الستثناء ينتهى ويعود
المر إلى ما تقرر فى القاعدة ،حسب وعد ال ووعيده 0
وقد ل نعلم نحن الحكمة الربانية فى تلك الستثناءات المذكورة فى آيات الكتاب ،ولكن وقوعها محقق سواء فهمنا حكمتها أم
غابت الحكمة عن أفهامنا ..والمهم أن ندرك أنها استثناء من القاعدة ،وأنها موقوتة بأمد محدود 0
واليهود أنفسهم يعلمون ذلك! ويعلمونه من كتبهم ذاتها ل من المصادر الجنبية عنهم!
وحين تنهار الجاهلية المعاصرة بمقتضى السنة الربانية ،بحكم ما تشتمل عليه من الفساد ،فإن البشرية تكون فى حاجة إلى
البديل الذى يمل الفراغ 0
والسلم هو البديل ،هو الذى يعيد للرض رشدها ويصلح أحوالها ويشفيها من أمراضها:
((يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من ال نور وكتاب مبين(
)15يهدى به ال من اتبع رضوانه سبل السلم ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم))(المائدة :
.)16-15
السلم هو المنهج الكامل القويم الذى ل عوج فيه ،ومناهج الجاهلية دائماً ذات نقص واعوجاج 0
واليوم يفر مئات اللوف كل عام من الظلمات التى يعيشون فيها إلى نور السلم ،ل اتباع ًا لنموذج قائم ،فالمسلمون فى واقعهم
المعاصر ل يمثلون نموذجاً يحتذى ،بل هو نموذج حرى أن يصد الناس عن السلم!
ولكن لذع الضياع يدفع بعض الناس إلى البحث عن طريق الخلص ،فيجدونه فى السلم!
إن الغرب الضائع يملك علماً وحضارة مادية فائقة ،ولكنه يفتقد الروح ..الروح المهتدية إلى ال ..المهتدية بهدى ال .والسلم
ل من العلم والحضارة المادية ،إنما هى التوأم المكمل:
هو الذى يملك تلك الروح ،وهو فى الوقت ذاته ل يجعلها بدي ً
((إذ قال ربك للملئكة إنى خالق بشرا من طين( )71فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص .)72-71 :
قبضة الطين ونفخة الروح مع ًا هما ((النسان)) .النسان المتكامل المترابط المتوازن .النسان الراشد ،الذى يقوم بعمارة
الرض على هدى وبصيرة ،ويتطلع فى الوقت ذاته إلى اليوم الخر ،الذى تكتمل فيه الحياة :
((هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك.)15:
((وعد ال المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من ال
أكبر ذلك هو الفوز العظيم))(التوبة .)72 :
السلم هو المنقذ الذى يملك ما تحتاج إليه البشرية وتتطلع إليه .
يقول المير تشارلس ولى عهد بريطانيا فى محاضرة قيمة ألقاها فى قاعة المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية فى ديسمبر
من عام 1966م ،تحمل دللة واضحة بالنسبة للمعنى الذى أشرنا إليه:
((إن المادية المعاصرة تفتقر إلى التوازن .وأضرار عواقبها بعيدة المد فى تزايد ..إن القرون الثلثة الخيرة شهدت – فى
العالم الغربى على أقل تقدير – انقساما خطيرا فى طريقة رؤيتنا للعالم المحيط بنا .فقد حاول العلم بسط احتكاره ،بل سطوته
لقد سعى العلم إى انتزاع الطبيعة من الخالق ،فجزأ الكون إلى فرق ،وأقصى ((المقدس)) إلى زاوية نائية ثانوية من ملكة الفهم
عندنا ،وأبعده عن وجودنا العملى .والن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمرة .ويبدو أننا نحن ك -أبناء العالم الغربى – قد فقدنا
الحساس بالمعنى الكلى لبيئتنا ،وبمسئوليتنا إزاء الكون كله الذى خلقه ال ،وقادنا ذلك إلى فشل ذريع فى تقدير أو إدراك
التراث وحكمة السلف ،ذلك التراث المتراكم على مدار القرون .والحق أن ثمة تحامل شديدا على التراث ،كما لو كان جذاما
اجتماعياً منفرا 0
وثمة الن فى نظرى حاجة إلى مقابلة كلية شاملة .لقد أدى العلم لنا خدمة جليلة فى تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا
نتخيل .ولكن العلم فى شكله المادى الحديث ،الحادى ،عاجز عن تفسير كل شىء .إن الخالق ليس ذلك الرياضى الذى تخيله
نيوتن،ن وليس صانع الساعة الول( .)1إن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الخلقية والمقدسة قد بلغ حداً
مريعاً مفزعاً .وهذا ما نراه فى التلعب بالمورثات (الجنيات) أو فى عواقب الغطرسة العلمية التى تتجلى فى أبشع صورها فى
مرض جنون البقار 0
لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث فى حياتنا ليس من صنع النسان ،إنما هو إلهام فطرى وهبه الخالق لنا لدراك إيقاع الطبيعة،
والتناغم الجوهرى الذى ينشأ عن وحدة أضداد متفرقة ،ماثلة فى كل مظهر من مظاهر الطبيعة .إن التراث يعكس النظام
السرمدى للكون ،ويشدنا إلى الوعى بالسرار العظيمة للكون الفسيح ،بحيث نستطيع – كما قال الشاعر ((وليم بليك)) – أن
نرى كامل الكون فى ذرة ،ونرى البدية فى لحظة ..
إن الثقافة السلمية فى شكلها التراثى جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلل
الجيال الخيرة فى الغرب موائمة للتطبيق .وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم السلمى فى هذا المضمار 0
إننا – نحن أبناء الغرب – نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا .وإن اقتراب اللف الثالثة قد
يكون الحافز المثالى الذى يدفعنا لستكشاف هذه الصلت وتحفيزها .وآمل أل نفوت الفرصة السانحة لعادة اكتشاف الجانب
الروحى فى رؤيتنا لوجودنا بأجمعه))(.)2
***
لو كان فهى قدر ال أن ينتههى هذا الديههن مهن الرض ،فقهد كان الكيههد الصههليبى كفيلً بالقضاء عليهه يوم أطاح بالدولة العثمانيهة
وألغى الخلفة ،وظنت الصليبية الصهيونية يومئذ أنها ظفرت أخيراً بعدوها اللدود ،وأجهزت عليه! ولكن قدر ال كان غير ذلك،
كان هو الصحوة السلمية!
ولما جن جنون الصليبية الصهيونية من الصحوة ،قاموا يضربونها بكل ما يملكون من وسائل البطش ،بالسجن والتشريد
والتعذيب والقتل ،ظن ًا منهم أن هذا هو طريق الخلص من العدو الذى لم تقتله الضربة التى ظنوها هى القاضية ..ولكن قدر ال
كان غير ذلك ،كان مزيدًا من انتشار الصحوة فى كل الرض!
والرهاصات كلها تقول :إن السلم هو البديل القادم ،الذى يصلح ما أفسدته الجاهلية فى الرض!
***
السلم قادم من أى طريقيه جاء .الطريق الهادئ البطئ المتدرج ،الذى نحبه ونرتضيه وندعو إليه ،ولو استغرق تمامه عدة
أجيال ،أو الطريق الصاخب العنيف الذى تغذيه حماقات الغرب وحماقات إسرائيل!
1قال نيوتن إن ال خلق الكون على هيئة ساعة كونية منضبطة الحركة .ولكن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلة إلى الله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة،
لنه هو ذاته ل يستطيع تغيير مسارها حتى لو أراد ذلك!
عن كتاب ((منشأ الفكر الحديث)) تأليف برنتون ص 151من الترجمة
2عن جريدة الشرق الوسط العدد . 6592بتاريخ . 15/12/1996
وعقلؤهم يعرفون ذلك ،ويحذرون قومهم منه ،ولكن الحقد الذى فى قلوبهم يعميهم عن رؤية هذه الحقيقة ،ويصم آذانهم عن
الستماع للنصيحة ،ولو جاءت من عقلئهم أنفسهم!
ويتم ذلك بقدر من ال ،وحسب سنة من سنن ال (( :وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا
لكم المثال( )45وقد مكروا مكرهم))(إبراهيم )46-45 :
إن النفجارات الكبرى فى التاريخ تحدث دائماً حين يشتد ضغط الطغاة على تيار صاعد! يشتد عليه الطغاة ليكبتوه ،فيكون هذا
الضغط ذاته هو الذى يولد النفجار ،ويكون الضحية فيه هم الطغاة 0
والذى تفعله الصليبية الصهيونية اليوم – بحماقة – هو هذا الضغط الذى يولد النفجار 0
***
لقد حمل ال هذه المة أمانة لم يحملها لمة سابقة فى التاريه ،حين كرمها بأن تكون أمة خاتم النبياء ،وجعل فى حمل هذه
المانة خيرية المة وفضلها على المم السابقة(( :كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بال))(آل عمران (( .)110 :وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيداً))(البقرة.)143 :
ولكنها غفلت حيناً من الدهر ،ونسيت رسالتها ل تجاه البشرية فحسب ،بل تجاه نفسها كذلك ..عندئذ قدر ال لها أن تعاقب
على يد أعدائها ،كما أنذرها رسولها(( :يوشك أن تداعى عليكم المم كما تدعى الكلة إلى قصعتها)) .قالوا :أمن قلة نحن
يومئذ يا رسول ال؟ قال (( :بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ،ولينزعن ال المهابة من صدور أعدائكم ،وليقذفن
فى قلوبكم الوهن)) .قالوا :وما الوهن يا رسول ال؟ قال (حب الدنيا وكراهية الموت))(.)1
وفى الوقت الذى قدر ال فيه عقاب المة على يد أعدائها ،مكن لهؤلء العداء فى الرض ،حسب سنته فيمن نسوا ما ذكروا
ل عنبه ..وليتم بشأنهم قدر آخر هو التدمير فى الموعد المقدر عنه ال عقابًا لهم على إعراضهم وطغيانهم وتجبرهم ،فض ً
القدر المقدر لهم يوم القيامة ،والذى قال ال عنه (( :ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
أل ساء ما يزرون))(النحل (( . )25 :ول يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لنفسهم إنما لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب
مهين))(آل عمران .)178 :
ويتم كذلك فى الوقت ذاته تمحيص المؤمنين (( :وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران.)141:
وكما تمت تربية موسى فى قصر فرعون بقدر من ال ،يتم اليوم بقدر من ال مولد جيل جديد ،جيل ما بعد الغثاء ،على يد
العداء الذين يكيدون لهذا الدين(( :وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون)))(يوسف.)21:
***
ولن يكون المر نزهة قريبة بالنسبة للمسلمين ..إنما هى تضحيات ،ودماء ودموع ،وعذاب ومعاناة ،ولواء وابتلء ،وجهد
دائب ل يهدأ (( وليعلم ال الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء))(آل عمران .)140 :
لبد من ثمن يدفعه المسلمون جزاء تفريطهم فى دين ال ،ولبد من جهد يبذلونه ليعودوا إلى الطريق 0
ولكن عزاءهم ،وهم يقدمون الشهداء ،ويتحملون العذاب ،ويبذلون الدماء والدموع ،أنهم يجاهدون فى سبيل ال ،لتكون كلمة
ال هى العليا ،وليكونوا هم ستارًا لقدر ال الذى سيمكن لهذا الدين 0