You are on page 1of 80

‫كيف ندعو الناس‬

‫محمد قطب‬

‫‪1‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫مقدمة‬

‫الدعوة إلى ال تكليف دائم بالنسبة لهذه المة‪.‬‬

‫((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(‪.)1‬‬

‫ذلك أنهها أمهة خاتهم الرسهل صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬التهى تحمهل رسهالته مهن بعده‪ ،‬ورسهالته صهلى ال عليهه وسهلم موجههة إلى‬
‫البشرية كافة‪ ،‬وإلى الزمن كله‪ ،‬من لدن بعثته إلى أن يرث ال الرض ومن عليها‪.‬‬

‫وهى رسالة ذات شقين‪ :‬شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد‪ ،‬لدعوتهم إلى اليمان؛ وشق موجه للذين آمنوا‪ ،‬لتذكيرهم‬
‫وترسيخ إيمانهم‪:‬‬

‫((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين))(‪.)2‬‬

‫((يأيها الذين آمنوا آمنوا بال ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل))(‪.)3‬‬

‫ولكن المة السلمية تمر اليوم بظروف خاصة‪ ،‬ربما لم تمر بها من قبل‪ ،‬فقد هبطت معرفتها بالسلم إلى أدنى حد وصلت إليه‬
‫فى تاريخها كله‪ ،‬وأما ممارستها للسلم فهى أدنى من ذلك بكثير!‬

‫ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها فى الظروف السابقة‪ ،‬فلم تعد مجرد التذكير‪ ،‬بل أوشكت أن تكون إعادة‬
‫البناء‪ ،‬الذى تهاوت أسهسه وأوشكهت أن تنهار‪ ،‬فهى الوقهت الذى تداعهت فيهه المهم على المهة السهلمية مهن كهل جانهب‪ ،‬كمها أخهبر‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة على قصعتها))‪ .‬قالوا‪ :‬أمن قلة نحن يومئذ يا‬
‫رسول ال؟ قال‪(( :‬بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪ ،‬ولينزعن ال المهابة من صدور أعدائكم‪ ،‬وليقذفن فى قلوبكم‬
‫الوهن))‪ .‬قالوا‪ :‬وما الوهن يا رسول ال؟ قال‪(( :‬حب الدنيا وكراهية الموت))(‪.)4‬‬

‫وكلنهها ثقههة أن البناء سههيعود بإذن ال‪ ،‬وسهيعود شامخاً كمهها كان‪ .‬والمبشرات كلههها تشيههر إلى جولة جديدة للسههلم‪ ،‬ممكنهة فهى‬
‫الرض‪ ،‬على الرغهم مهن كهل الحرب التهى تشنهها الجاهليهة فهى الرض كلهها على السهلم‪ .‬ولكنهها مهمهة شاقهة فهى الغربهة الثانيهة‬
‫للسلم‪(( :‬بدأ السلم غريباً‪ ،‬وسيعود غريباً كما بدأ))(‪ ..)5‬مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة‪.‬‬

‫ففهى الغربهة الولى كان السهلم معلوماً عنهد الناس فهى أصهوله العامهة على القهل‪ ،‬وههى اليمان بال الواحهد واليمان بالوحهى‬
‫والنبوة واليمان بالبعث‪ ،‬سواء فى ذلك من دخل فى الدين الجديد‪ ،‬ومن وقف يحاربه أشد الحرب‪ ،‬ويرصد طاقته كلها لمحاولة‬
‫القضاء عليهه‪ ،‬وإنمها كان سهبب الغربهة قلة المؤمنيهن بهه‪ ،‬وضعفههم وهوانههم على الناس‪ ،‬وكثرة الرافضيهن له‪ ،‬وطغيانههم فهى‬
‫الرض‪.‬‬

‫قال ورقة بن نوفل لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حين أخبرته خديجة رضى ال عنها بقصة الوحى‪ :‬ليتنى أكون فيها جذعاً‬
‫حين يخرجك قومك! قال‪(( :‬أو مخرجى هم؟)) قال‪ :‬ما جاء أحد بمثل ما جئت به إل عودى!(‪.)6‬‬

‫وسهأل رجهل رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم ‪ :‬إلى أى شهئ تدعهو الناس؟ قال‪(( :‬أدعوههم لل إله إل ال))‪ .‬قال‪ :‬قال هذا أمهر ل‬
‫تتركه لك العرب!‬

‫أما فى الغربة الثانية فالمر مختلف‪ ،‬وإن كانت الغربة غربة فى جميع الحوال‪.‬‬

‫السههلم اليوم غريههب على أهله‪ ،‬فضلً عههن غربتههه على باقيههة الناس‪ ،‬وحيههن تعرضههه عليهههم على حقيقتههه يسههتوحشون منههه‪،‬‬
‫ويقولون لك‪ :‬من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو السلم الذى نعرفه!‬

‫حيهن قول للطائف حول الضريهح‪ ،‬يتمسهح بهه‪ ،‬ويطلب البركات مهن صهاحبه المتوفهى منهذ سهنين أو منهذ قرون‪ :‬أن هذا شرك ل‬
‫يجوز! يقول لك‪ :‬من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذى تريد أن تجرد السلم من روحانيته!‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪. 104 :‬‬


‫‪ 2‬سورة الذاريات‪. 55 :‬‬
‫‪ 3‬سورة النساء‪. 136 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه أحمد وأبو داود‬
‫‪ 5‬أخرجه مسلم‪.‬‬
‫‪ 6‬انظر كتب السيرة‪.‬‬

‫‪2‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وحيههن تقول لمههن يشرع بغيههر مهها أنزل ال‪ ،‬ولمههن يرضههى بشرع غيههر شرع ال‪ :‬هذا شرك‪ .‬يقول لك‪ :‬مههن أيههن جئت بهذا؟ هذا‬
‫تطرف وجمود ورجعية! الدنيا تطورت! أو يقول لك على أقل تقدير‪ :‬شرك دون شرك! شرك ل يخرج من الملة!‬

‫وحين تقول لستاذ علم الجتماع‪ ،‬وأستاذ علم النفس‪ ،‬وأستاذ التربية‪ ،‬وأستاذ التاريخ‪ ...‬إن ما درستموه من علوم الغرب‪ ،‬وما‬
‫تدرسهونه لطلبكهم مخالف للمفاهيهم السهلمية‪ ،‬وفهى بعهض الحيان مصهادم مصهادمة صهريحة للعقيدة‪ ،‬يقولون لك‪ -‬إل مها رحهم‬
‫بك‪ :-‬ما للسلم وهذه المور؟ تريدون أن تحشروا السلم فى كل شئ؟ هذا علم‪ ،‬والسلم دين! والدين ل دخل له بالعلم!‬

‫ومئات مهن المور‪ ..‬حيهن تعرض حقيقهة السهلم فيهها للناس يسهتوحشون‪،‬وفهى أقهل القليهل يسهتغربون‪ ،‬وتحتاج إلى جههد كهبير‬
‫لقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند ال‪ ،‬وليس ما تصوروه هم على أنه السلم!‬

‫وذلك كله فى مجال((المعرفة))‪ ..‬أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!‬

‫إن المعرفهة وحدهها ل تكفهى‪ ،‬وإن كانهت ههى البدايهة التهى لبهد مهن البدء بهها قبهل كهل شهئ‪ ،‬وقهد كانهت الكلمهة الولى التهى بدأ بهها‬
‫الوحى هى كلمهة((اقرأ))(‪ ،)1‬ثهم نزل على رسول ال صلى ال عليهه وسلم بعهد فترة قوله تعالى‪(( :‬فاعلم أنه ل إله إل ال))(‪.)2‬‬
‫والعلم‪ -‬كمها فهمهه السهلف الصهالح رضوان ال عليههم‪ -‬ليهس مجرد المعرفهة‪ ،‬إنمها ههو المعرفهة التهى تؤدى إلى العمهل‪ ،‬ومهن ثهم‬
‫انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها‪.‬‬

‫ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم ل إله إل ال قد استغرق من جهد الرسول صلى ال عليه وسلم شيئاً غير قليل فى غربة‬
‫السلم الولى‪ ،‬فإن الجهد الحقيقى الذى بذله رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فى مكة خاصة‪ -‬كان هو تربية المؤمنين الذين‬
‫قبلوا الحق وآمنوا به‪ ،‬على مقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق‪ ،‬بدءاً بتربية القاعدة الصلبة‬
‫الراسخة البنيان‪ ،‬ثم تربية سائر الناس‪.‬‬

‫واليوم‪ -‬فى غربة السلم الثانية‪ -‬تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد فى المرين معاً‪ :‬التعريف والتربية‪.‬‬

‫فالتعريهف بالسهلم لقوم يعرفون بعضهه ويجهلون بعضهه‪ ،‬ويظنون فهى الوقهت ذاتهه أنههم يعرفونهه كله‪ ،‬مشكلة تحتاج إلى جههد‬
‫ليهس بالقليهل‪ .‬أمها التربيهة‪ -‬بالنسهبة للقاعدة على القهل‪ -‬فمشكلة تحتاج إلى جههد أكهبر؛ لتعدد مجالت التربيهة المطلوبهة مهن جههة‪،‬‬
‫ولن النفوس ل تتخلى عهن مألوفاتهها بسههولة‪ ،‬ول تسهتجيب اسهتجابة فوريهة لكهل مها يطلب منهها مهن تكاليهف‪ ..‬فضلً عهن كون‬
‫المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة‪ ،‬بل إعداد شخصيات فائقة التكوين‪ ،‬تصلح لحمل المهمة الضخمة التى تواحهها‪.‬‬

‫ومهن المههم‪ -‬إلى الدرجهة القصهوى‪ -‬أن نعرف كيهف ندعهو الناس‪ ..‬فالزمهة التهى يمهر بهها العالم السهلمى اليوم أزمهة حادة‪ ،‬ربمها‬
‫كانهت أشهد أزمهة مرت بهه فهى التاريهخ‪ ..‬وتجمهع العداء لحرب السهلم‪ ،‬بمها لم يسهبقه مهن قبهل تجمهع بهذا الحجهم وبهذا الصهرار‪.‬‬
‫وحاجة البشرية إلى السلم اليوم ل تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫وما لم نسر فى طريق الدعوة على خطى مستبصرة‪ ،‬مستمكنة فى ذات الوقت‪ ،‬فقد ل نصل إلى ما نهدف إليه‪ ،‬وقد يذهب الكثير‬
‫من جهدنا بغير طائل حقيقى‪.‬‬

‫ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيرى منذ أمد ليس بالقصير‪ ،‬فيرد على خاطرى سؤال ملح‪ :‬كيف ندعو الناس؟ ما السلوب‬
‫الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى فى مسيرة الدعوة‪ -‬بين الحين والحين‪ -‬ما يبدو أنه تقصير فى بعض الجوانب‪ ،‬أو تعجل فى‬
‫بعض الجوانب‪ ،‬أو انحراف فى بعض الجوانب‪ ..‬فأقول فى نفسى‪ :‬إنه لبد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلل ما يزيد عن‬
‫نصف قرن؛ حتهى نستكمل مها وقهع فهى مسيرتنا مهن نقهص‪ ،‬ول نكرر مها وقعنها فيهه مهن أخطاء‪ ،‬وحتهى نستفيد مهن عهبرة الماضهى‬
‫لتقويم الحاضر‪ ،‬وتسديد العمل من أجل المستقبل‪ ،‬وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة فى كل مرحلة من مراحل السير‪.‬‬

‫وفهى هذه الصهفحات‪ ،‬أحاول أن أعرض مها يجول فهى خاطرى مهن أفكار فهى هذا الشأن‪ ،‬وههو أولً وآخراً اجتهاد يخطهئ ويصهيب‪،‬‬
‫أدعهو ال أن يوفقنهى فيهه إلى السهداد‪(( :‬إن أريهد إل صهلح مها اسهتطعت ومها توفيقهى إل بال عليهه توكلت وإليهه أنيهب))(هود ‪:‬‬
‫‪.)88‬‬

‫محمد قطب‬

‫‪ 1‬سورة العلق‪. 1 :‬‬


‫‪ 2‬سورة محمد‪. 19 :‬‬

‫‪3‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫تأملت ف نشأة الجيل الول‬

‫ل لكل من أراد أن يدعو‪ ،‬أو يتحرك بهذا الدين فى‬ ‫نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الول؛ لن فيها زاداً كام ً‬
‫عالم الواقههع‪ ،‬فقههد صههنع ذلك الجيههل على عيههن ال سههبحانه وتعالى‪ ،‬كمهها قال سههبحانه لموسههى عليههه السههلم ‪(( :‬ولتصههنع على‬
‫عينى))(طه ‪ ،)39 :‬ونشأ على يدى أعظم مرب فى تاريخ البشرية‪ ،‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان جيلً فريدًا فى‬
‫تاريهخ البشريهة كله‪ ،‬يوجههه ال بالوحهى‪ ،‬ويتابعهه رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم بالتربيهة والتوجيهه‪ ،‬فاكتملت له كهل وسهائل‬
‫النشأة الصهحيحة فهى أعلى صهورة‪ ،‬فأصهبح كالدرس ((النموذجهى))‪ ،‬الذى يلقيهه السهتاذ ليعلم طلبهه كيهف يدرسهون‪ ،‬حيهن يئول‬
‫إليهم أمر التعليم‪.‬‬

‫ثهم إن إرادة ال سهبحانه وتعالى قهد اقتضهت أن يتهم أمهر هذا الديهن على السهنن الجاريهة – ل الخارقهة‪ -‬لحكمهة أرادهها ال‪ ،‬لكهى ل‬
‫يتقاعس جيل من الجيال فيقول‪ :‬إنما نصر الجيل الول بالخوارق‪ ،‬وقد انقطعت الخوارق بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم !‬

‫فما كان فى هذا الدين من عناصر غير بشرية‪ ،‬فهو الوحى المنزل من عند ال‪ ،‬وذلك باق ومحفوظ بحفظ ال‪(( :‬إنا نحن نزلنا‬
‫الذكر وإنا له لحافظون))(الحجر‪.)9:‬‬

‫وههو بالنسهبة للجيهل الول كالجيهل الخيهر‪ ،‬ههو كلمهة ال لهذه المهة‪ ،‬وللبشريهة كافهة‪ ،‬تحمهل حقيقهة هذا الديهن‪ ،‬وتحمهل المنههج‬
‫الربانهى‪ ،‬الذى يريهد ال مهن البشهر‪ ،‬إلى قيام السهاعة‪ ،‬أن يقيموا عليهه حياتههم‪ ،‬ويؤسهسوا عليهه بنيانههم‪ ،‬سهواء كان ههو الكتاب‬
‫المنزل‪ ،‬أو البيان الذى قام بهه رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم لهذا الكتاب‪ ،‬بالسهنة القوليهة أو العمليهة‪(( :‬وأنزلنها إليهك الذكهر‬
‫لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) (النحل‪(( . )44 :‬وما ينطق عن الهوى (‪ )3‬إن هو إل وحى يوحى))(النجم ‪-3 :‬‬
‫‪.)4‬‬

‫أما قتال الملئكة مع المؤمنين فى بدر‪ ،‬فلم يكن هو فى ذاته الخارقة‪(( :‬إذ يوحى ربك إلى الملئكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا‬
‫سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق العناق واضربوا منهم كل بنان))(النفال ‪ .. )12 :‬فنزول الملئكة وتثبيتهم‬
‫للبشهر‪ ،‬ل يقتصهر على معركهة بدر‪ ،‬إنمها قهد يحدث بأمهر ال فهى أيهة مناسهبة‪(( :‬إن الذيهن قالوا ربنها ثهم اسهتقاموا تتنزل عليههم‬
‫الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون(‪ )30‬نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الخرة‪( ))..‬فصلت‬
‫‪. )31-30 :‬‬

‫إنما كانت الخارقة هى رؤية المؤمنين للملئكة وهى تقاتل معهم ‪(( :‬وما جعله ال إل بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر‬
‫إل من عند ال العزيز الحكيم))(آل عمران ‪.)126 :‬‬

‫وإذا كان ال سهبحانه وتعالى قهد اختهص بهها أههل بدر مهن دون المؤمنيهن‪ ،‬فقهد كانهت بدر حدثها كونياً ل يتكرر كهل يوم ‪(( :‬يوم‬
‫الفرقان يوم التقى الجمعان))(النفال ‪ .. )41 :‬فهى التى كتبت التاريخ‪ ،‬وليس فى كل يوم يكتب التاريخ ‪ ..‬إنما تكتب منه سطور‬
‫إثر سطور!‬

‫وفيما عدا هذه الخارقة التى اختص بها أهل بدر‪ ،‬كوفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد جرت أمور‬
‫السهلم كلهها على السهنة الجاريهة‪ ،‬مهن اسهتضعاف فهى المبدأ‪ ،‬وابتلء وصهبر وتمحيهص‪ ،‬ثهم تمكيهن على تخوف‪ ،‬ثهم تمكيهن على‬
‫اسهتقرار وقوة‪ ،‬ثهم انتشار فهى الرض‪ .‬لذلك فإن الدروس المسهتفادة مهن نشأة الجيهل الول ههى دروس دائمهة‪ ،‬ل تتعلق بالنشأة‬
‫الولى وحدهها‪ ،‬وإنمها ههى قابلة للتطهبيق فهى كهل مرة تتشابهه فيهها الظروف أو تتماثهل‪ ،‬لنهها سهنن جاريهة‪ ،‬وليسهت حوادث مفردة‬
‫عابرة ل تتكرر ‪0‬‬

‫وإذا كان ال سبحانه وتعالى قد وجهنا فى كتابه المنزل‪ ،‬لتدبر السنن الربانية‪ ،‬ودراسة التاريخ – الذى هو فى الحقيقة مجرى‬
‫السنن فى عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر‪ ،‬ولتكون هادياً لنا‬
‫فى كل تحرك نقوم به‪ ،‬ومحكاً لستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ‪0‬‬

‫‪4‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وقهد اسهتوقفنى فهى أمهر النشأة الولى عدة أمور‪ ،‬زاد مهن رغبتهى فهى تدبرهها وتأملهها مها أراه بيهن الحيهن والحيهن مهن مخالفهة‬
‫لمقتضياتها فى مسيرتنا الحالية‪ ،‬وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة‪ ،‬فأحببت أن أعرض بعض هذه‬
‫المور فى هذه الصفحات‪ ،‬داعياً ال أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل ‪0‬‬

‫***‬

‫مهن أشهد مها اسهتوقفنى فهى مسهيرة الجيهل الول‪ ،‬ذلك المهر الربانهى للمؤمنيهن أن يكفوا أيديههم فهى مرحلة التربيهة بمكهة‪ ،‬وأن‬
‫يتحملوا الذى صابرين‪ ،‬وقد أشار ال إلى هذا المهر فى قوله تعالى‪ ،‬مذكرًا به‪(( :‬ألم تر إلى الذيهن قيل لههم كفوا أيديكم وأقيموا‬
‫الصلة وآتوا الزكاة))(النساء ‪.)77 :‬‬

‫وكان بعض الصحابة رضوان ال عليهم قد سأل الرسول صلى ال عليه وسلم حين اشتد الذى بالمؤمنين‪ :‬أل نقاتل القوم؟ فقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ (( :‬ما أمرنا بقتالهم))(‪.)1‬‬

‫ولم يرد فهى النصهوص – ل فهى الكتاب ول فهى السهنة – بيان لحكمهة هذا المهر الربانهى‪ ،‬ومهن ثهم فالمهر متروك للجتهاد لمعرفهة‬
‫الحكمة منه‪ ،‬وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته‪ ،‬أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا فى معركة مع قريش فى ذلك‬
‫الحين‪ ،‬فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التى تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا فى معركة فى ذلك الوقت‬
‫‪0‬‬

‫أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة‪ ،‬أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين‪ ،‬وهم حينئذ قلة مستضعفة‬
‫ل سهند لهها‪ ،‬فينتههى أمهر الدعوة الجديدة فهى معركهة واحدة أو عدة معارك متلحقهة‪ ،‬دون أن يتحقهق الهدف‪ ،‬ودون أن يتعرف‬
‫الناس على حقيقة الدعوة‪ ،‬ودون أن يكتب لها النتشار ‪.‬‬

‫ونفترض أن المعركهة – على الرغهم مهن عدم تكافئهها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنيهن كلههم‪ ،‬فثمهة أمهر آخهر على غايهة مهن الهميهة‪،‬‬
‫يلفت انتباهنا بشدة‪ ،‬لتصاله بما يجرى من أحداث فى وقتنا الحاضر ‪0‬‬

‫لمن كانت الشرعية فى تلك المرحلة فى مكة؟ لقد كانت فى حس الناس جميعاً لقريش‪!..‬‬

‫وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية ‪!..‬‬

‫ومن حق صاحب الشرعية – ولشك – أن يؤدب الخارجين عليه !‬

‫وصهحيح أن قريشاً تشتهد فهى ((التأديهب)) إلى حهد الفظاظهة والقسهوة‪ ،‬وأن بعهض الناس قهد يتأذى لهذه الفظاظهة‪ ،‬حتهى ليحاول أن‬
‫يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين‪ ،‬ولكن يظل المر فى حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشاً‬
‫هى صاحبة الشرعية‪ ،‬وأن المؤمنين خارجون على الشرعية‪ ،‬وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!‬

‫فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ فى معركة مع قريش‪ ،‬وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!‬

‫كل بالطبع !‬

‫والن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للمر الربانى وكفوا أيديهم ‪0‬‬

‫لقد تمت أمور كثيرة فى الحقيقة ‪..‬‬

‫ففهى البيئة العربيههة المعروفههة ((بإباء الضيههم))‪ ،‬والتهى تحدث فيههها المعارك الضاربههة‪ ،‬لسهباب نرى نحهن اليوم أنههها تافهههة‪ ،‬ل‬
‫تسههتحق أن تراق فيههها قطرة دم واحدة‪ ،‬وقههد تطول تلك المعارك سههنوات عديدة‪ ،‬ويفنههى فيههها كثيههر مههن الخلق كمعركههة داحههس‬
‫والغبراء(‪ ..)2‬فى البيئة التى يمتشق فيها الرجل الحسام لدنى إهانة توجه إليه‪ ،‬والتى يقول فيها عنترة ‪:‬‬

‫للحرب دائرة على ابنى ضمضم‬ ‫ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر‬

‫والناذرين إذا لم القهما دمى !‬ ‫الشاتمى عرضى لوم أشتمهما‬

‫‪ 1‬انظر كتب السيرة ‪.‬‬


‫‪ 2‬معركة نشبت فى أواخر العصر الجاهلى بين قبيلتى عبس وذبيان‪ ،‬بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والخرى تسمى الغبراء‪ ،‬فاختلفت‬
‫القبيلتان على نتيجة السباق‪ ،‬فقامت بينهما الحرب‪ ،‬وانضم لكل قبيلة حلفاؤها‪ ،‬وطالب الحرب وقتل فيها خلق كثير‪ ،‬حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما‪،‬‬
‫فوضعت الحرب أوزارها ‪0‬‬

‫‪5‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ويقول غيره ‪:‬‬

‫فنجهل فوق جهل الجاهلينا !‬ ‫أل ل يجهلن أحد علينا‬

‫فى تلك البيئة‪ ،‬يؤذى رجال ذوو حسب ونسب‪ ،‬منهم من هو من أشراف قريش ذاتها‪ ،‬ثم ل يردون!‬

‫شىء يلفت النظر ولشك‪ ،‬لنه مخالف مخالفة تامة لعراف البيئة ‪..‬‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬شىء ليس من صنع البيئة ‪ ..‬فلبد أن يكون من صنع شىء آخر خلف البيئة!‬

‫ثم يشتد الذى ويستمر وهم صابرون!‬

‫هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك‪ ،‬ففى سبيل أى شىء يحتمل هؤلء ما يقع عليهم من الذى‪ ،‬ثم يظلون مصرين على‬
‫التمسك بما يعرضهم للذى؟‬

‫أفى سبيل شرف القبيلة؟ أفى سبيل مغنم من مغانم الرض؟ أفى سبيل شهوة من شهوات الرض؟‬

‫ل شىء من ذلك كله ‪ ..‬إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها ‪.‬‬

‫وقهد تفههم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليهد‪ ،‬يسهتمسك الناس بهها‪ ،‬وقهد يقاتلون مهن أجلهها‪ ،‬أمها أن يتحملوا الذى فهى‬
‫سبيلها –وهم ل يردون – فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة‪ ،‬بيئة العراف والتقاليد !‬

‫ثم نمضى شوطاً آخر‪ ،‬فيتضح أمر جديد ‪.‬‬

‫إن الذى يشتهد حتهى يصهبح مقاطعهة اقتصهادية واجتماعيهة‪ ،‬ويصهل إلى حهد التجويهع‪ ،‬بهل يصهل ببعهض الناس حتهى الموت‪ ،‬ول‬
‫يتخلفون عن عقيدتهم!‬

‫ل يمكهن – فهى عرف البيئة‪ ،‬ول فهى عرف البشهر عامهة – أن يتحمهل الناس مثهل هذا الذى مهن أجهل باطهل ‪ ..‬إنمها لبهد أن يكون‬
‫حقاً يعتقده صاحبه‪ ،‬ويحتمل الذى من أجله‪ ،‬ويموت من أجله ‪0‬‬

‫بل إن هذا الحق الذى يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته ‪ ..‬وحتى من نفسه‪ ،‬حتى من حياته ‪.‬‬

‫تلك المعانى كلها‪ ،‬التى برزت للوجود من خلل ((كفوا أيديكم)) هى التى أتت بالنصار من المدينة‪ ،‬حتى وإن لم تغير كثيرًا من‬
‫الحوال فى مكة !‬

‫نستطيع أن نقول فى عبارة موجزة ‪ :‬إن أههل مكهة اصهطلوا النار‪ ،‬ولكهن أههل المدينة استضاءوا بهها عهن بعهد‪ ،‬فاهتدوا إلى الحهق‬
‫الذى شاء ال لهم أن يهتدوا إليه ‪.‬‬

‫***‬

‫ولم يكهن هذا وحده ههو الذى اتضهح للنصهار‪ ،‬مهن خلل ((كفوا أيديكهم))‪ ..‬لقهد اتضهح أمهر أخهر له أهميتهه البالغهة فهى خهط سهير‬
‫الدعوة‪ ،‬وهو قضية ((الشرعية))‪.‬‬

‫يقول سبحانه وتعالى فى سورة النعام‪ ،‬وهى سورة مكية‪(( :‬وكذلك نفصل اليات ولتستبين سبيل المجرمين))(النعام ‪.)55 :‬‬

‫وكأن المعنى‪ :‬نظل نفصل اليات حتى تستبين سبيل المجرمين ‪0‬‬

‫وورود هذا المعنى فى آية مكية له دللة واضحة‪ ،‬أو ينبغى أن تكون واضحة‪ ،‬فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود‪ ،‬تبينه لم‬
‫التعليهل فهى قوله تعالى ‪(( :‬ولتسهتبين))‪ .‬ونزول هذه اليهة فهى الفترة المكيهة‪ ،‬معناه أن اسهتبانة سهبيل المجرميهن ههى مهن أهداف‬
‫الدعوة‪ ،‬بل من لوازم الدعوة فى الفترة الولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة ‪0‬‬

‫فما الذى تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟‬

‫إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين‪ :‬أو ًل ‪ :‬بيان من هم المجرمون؟ وثانياً‪ :‬بيان السبيل الذى يسلكونه‪ ،‬والذى من أجله‬
‫أصبحوا مجرمين ‪0‬‬

‫‪6‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علقة تفصيل اليات باستبانة سبيلهم؟‬

‫لقد فصلت اليات قضية اللوهية‪ ،‬وهى القضية الولى والكبرى فى القرآن كله‪ ،‬والسور المكية بصفة خاصة ‪.‬‬

‫فصهلت اليات أنهه إله واحهد ل شريهك له‪ ،‬ول يمكهن أن يكون له شركاء فهى الخلق ول فهى التدبيهر‪ ،‬ول فهى أى شأن مهن الشئون‪،‬‬
‫وظلت اليات تتنزل مبينة صفات ذلك الله‪ ،‬وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً‪ ،‬سواء لمن آمن أو لمن كفر‪،‬‬
‫فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به‪ ،‬حتى قالوا كما‬
‫روى ال عنهم‪(( :‬أجعل اللهة إلهاً واحدًا إن هذا لشىء عجاب))(ص‪.)5:‬‬

‫ولمها تهبين أنهه إله واحهد ل شريهك له‪ ،‬طلب مهن الناس أن يعبدوه وحده بل شريهك؛ لنهه وحده الحقيهق بالعبادة‪ ،‬وأن ينبذوا مها‬
‫يدعون من اللهة الزائفة‪ ،‬وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم‪ ،‬ول يتبعوا من دونه أولياء‪(( :‬اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ول‬
‫ل ما تذكرون))(العراف‪.)3 :‬‬ ‫تتبعوا من دونه أولياء قلي ً‬

‫وعلى هذا فقد انقسهم الناس فريقين اثنيهن‪ :‬فريهق المؤمنين‪ ،‬وهم الذيهن آمنوا أنه إله واحهد‪ ،‬فعبدوا وحده بل شريهك‪ ،‬واتبعوا مها‬
‫أنزل إليهم من ربهم‪ ،‬وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به‪ ،‬وأن يعبدوه وحده‪ ،‬وأن يتبعوا ما أنزله إليهم ‪0‬‬

‫وإذن‪ ،‬فأين تقع قريش فى هذا التقسيم؟‬

‫لقهد كانهت قبهل تفصهيل اليات ههى صهاحبة الشرعيهة‪ ،‬وكان المؤمنون فهى نظهر قريهش‪ ،‬وفهى نظهر الناس أيضاً‪ ،‬خارجيهن على‬
‫الشرعية‪ ،‬فما الموقف الن بعد تفصيل اليات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بال الواحد‪ ،‬وتبعده وحده بل شريك‪ ،‬وتتبع ما‬
‫أنزل ال؟ ههل بقيهت ههى صهاحبة الشرعيهة‪ ،‬وبقهى المؤمنون ههم الخارجيهن على الشرعيهة؟ أم تبدل الحال عنهد بعهض الناس على‬
‫القل‪ ،‬فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين‪ ،‬وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!‬

‫إنهها نقلة هائلة فهى خهط سهير الدعوة‪ ،‬أن يتهبين الناس مهن ههم المجرمون‪ ،‬ومها سهبيلهم‪ ،‬ويتهبينوا فهى المقابهل مهن ههم الذيهن على‬
‫الحق‪ ،‬وما هو سبيل الحق ‪0‬‬

‫ولقهد كان الشكال بالنسهبة لقريهش خاصهة أنههم ههم سهدنة البيهت‪ ،‬الذى يعظمهه العرب جميعاً‪ ،‬فضلً عهن كونههم أصهحاب ثروة‬
‫وأصهحاب جاه وحسهب ونسهب‪ ،‬فاجتمعهت لههم بمقاييهس الجاهليهة كهل مقومات الشرعيهة‪ ،‬ممتزجهة ببقايها الديهن المحرف الذى‬
‫ينتسههبون بههه إلى إبراهيههم وإسههماعيل عليهمهها السههلم‪ ..‬فلم تكههن زحزحههة الشرعيههة عنهههم أمراً هيناً‪ ،‬خاصههة والخارجون على‬
‫شرعيتهم ضعاف فقراء ل قوة لهم ول مال ول سند من أحد من ذوى السلطان!‬

‫لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هى التى يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة‪ ،‬وتكشفهم على حقيقتهم‪ ،‬وهى أنه مجرمون‬
‫ل شرعية لهم‪ ،‬لرفضهم اليمان بال الواحد‪ ،‬وعبادته وحده بل شريك‪ ،‬واتباع ما أنزل ال ‪0‬‬

‫وهنا نسأل ‪ :‬لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش‪ ،‬فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى‬
‫حهس الناس أن قريشًا ههى صهاحبة الشرعيهة‪ ،‬وأن المؤمنيهن خارجون على الشرعيهة‪ ،‬فههل كان يمكهن أن يسهتقر فهى خلد أحهد –‬
‫كمها اسهتقر فهى خلد النصهار – أن القضيهة لهها معيار أخهر غيهر سهدانة البيهت‪ ،‬وغيهر المال والجاه‪ ،‬وكثرة العدد‪ ،‬ورصهيد العرف‪،‬‬
‫ورصههيد التاريههخ؟ وأن هذا المعيار هههو ‪ :‬ل إله إل ال‪ ..‬هههو اليمان بألوهيههة ال وحده بل شريههك‪ ،‬ومهها يترتههب على ذلك مههن‬
‫ضرورة اتباع مها أنزل ال‪ ،‬وأن هذا ههو الحهق الذى ل شىء بعده إل الضلل‪ ،‬وأن هذه ههى القضيهة الكهبرى التهى يقاس بهها كهل‬
‫شىء‪ ،‬وينبنى عليها كل شىء؟‬

‫ههل كان يمكهن أن يصهل الحهق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريهق مهن الناس‪ ،‬كمها وصهل إلى أفئدة النصهار‪ ،‬لو أن المؤمنيهن‬
‫دخلوا معركههة مههع قريههش‪ ،‬أم كان غبار المعركههة يغشههى على حقيقههة القضيههة‪ ،‬وتنقلب القضيههة بعههد قليههل إلى قضيههة ضارب‬
‫ومضروب‪ ،‬وغالب ومغلوب‪ ،‬وتصههبح قضيههة ((ل إله إل ال)) على هامههش الصههورة‪ ،‬إن بقههى لههها فههى حههس الناس وجود على‬
‫الطلق؟!‬

‫أظن الصورة واضحة ‪..‬‬

‫لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هى سر الموقف كله !‬

‫كانهت ههى التهى أتاحهت لقضيهة ل إله إل ال – وههى قضيهة الرسهل جميعاً مهن لدن آدم إلى محمهد صهلى ال عليهه وسهلم ‪ -‬أن تهبرز‬
‫نقيهة شفافهة واضحهة‪ ،‬غيهر مختلطهة بأى قضيهة أخرى على الطلق‪ ،‬فتنفهذ إلى القلوب التهى أراد ال لهها الهدايهة صهافية مهن كهل‬
‫غبهش‪ ،‬فتتمكهن مهن تلك القلوب‪ ،‬ويرسهخ فيهها اليمان‪ ،‬كمها تنفهذ إلى القلوب التهى لم يرد ال لهها الهدايهة‪ ،‬صهافية مهن كهل غبهش‪،‬‬
‫فيكفههر أصههحابها كفرًا ل شبهههة فيههه‪ ،‬كفراً غيههر مختلط ل بالدفاع عههن النفههس‪ ،‬ول الدفاع عههن المال‪ ،‬ول الدفاع عههن المههن‬

‫‪7‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫والستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح لل إله إل ال‪ ..‬وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار ال‪ ،‬هو سنة من السنن الجارية‬
‫‪(( :‬ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حى عن بينة))(النفال ‪.)42 :‬‬

‫هذا الوضوح الذى أتاحتهه للقضيهة ((كفوا أيديكهم)) ‪ ،‬ههو مهن مسهتلزمات الدعوة ‪ ..‬فبغيهر اسهتبانة سهبيل المجرميهن‪ ،‬على أسهاس‬
‫((ل إله إل ال))‪ ،‬واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل‪ ،‬على ذات الساس‪ ،‬ل يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن‬
‫المعقول‪ ،‬وتظل الدعوة ترواح مكانها‪ ،‬إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من السباب ‪0‬‬

‫وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلل ((كفوا أيديكم)) ‪ ،‬جاء النصار !‬

‫وحين جاء النصار اتسعت القاعدة‪ ،‬وحدث تحول فى التاريخ !‬

‫***‬

‫ولنا هنا وقفة عند هذه القضية ‪..‬‬

‫من هم النصار ؟‬

‫ههل ههم جماهيهر متحمسهة‪ ،‬ألههب حماسهتها العجاب بشخهص الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬والتعاطهف مهع هذه الفئة الفذة مهن‬
‫البشر‪ ،‬الذين صبروا على البتلء‪ ،‬هذا الصبر الطويل الجميل‪ ،‬وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلء ؟!‬

‫أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد‪ ،‬ويدخلون فى صف المجاهدين؟‬

‫ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك ف خط سير الدعوة !‬

‫لشهك أن الحهب لرسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم كان قائماً فهى قلوبههم‪ ،‬مهن كثرة رأوا وسهمعوا عهن خاصهله الكريمهة صهلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وقد كان نموذجاً فريدًا فى البشر‪ ،‬ل يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلل التاريخ‪ .‬ولشك أن التعاطف مع‬
‫المعذبين فى الرض‪ ،‬كان قائماً فى قلوبهم‪ ،‬من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب‪ ،‬وألوان الصبر على التعذيب‪.‬‬

‫ولكهن هذا وذاك لم يكهن الدافهع الوحهد الذى يحركههم؛ إنمها حركههم ابتداء أنههم آمنوا أنهه ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدًا رسهول ال ‪..‬‬
‫آمنوا بال ربها‪ ،‬وبمحمهد صهلى ال عليهه وسهلم رسهولً‪ ،‬وبالسهلم ديناً‪ ،‬فجاءوا يبايعون على السهمع والطاعهة‪ ،‬وعلى الموت‬
‫والحياة ‪0‬‬

‫قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬تمنعونى؟)) قالوا ‪ :‬نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا‪ .‬وقالوا ‪ :‬لو استعرضت‬
‫بنا الصحراء قطعناها‪ ،‬ولو خضت بنا هذا البحر خضناه ‪.‬‬

‫جندية كاملة للدعوة الجديدة ‪0‬‬

‫لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون فى موعدهم المقدر عند ال ‪.‬‬

‫ولكن ماذا لو كان النصار رضى ال عنهم‪ ،‬مجرد جماهير متحمسة‪ ،‬جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب‪ ..‬هل كانت‬
‫حماستهم تصبر على لواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتى الذن من ال العلى القدير برد العدوان ؟!‬

‫أما أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم فى الدعوة واعتناقهم السلم‪ ،‬فأمر ل نظنه موضع شك‪ ..‬وأما أن‬
‫المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم فى العقيدة‪،‬ن فأمر ل نظنه كذلك موضع شك ‪ ..‬أما أن الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم كان سيتحرك بهم فى خط الدعوة‪ ،‬فأمر يحوطه الشك الكثيف‪ ،‬ودليله سؤال الرسول صلى ال عليه وسلم لهم ‪:‬‬
‫((تمنعونى))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم‪ ،‬وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بل مواربة‪ ،‬إنما كان عن خطوة أخرى وراء اليمان‪،‬‬
‫وهى تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق ‪.‬‬

‫لم يكن الرسول صلى ال عليهه وسهلم سهيتحرك بهم‪ ،‬لو أنهه رأى من أحوالههم أنههم مجرد جماهيهر متحمسة‪ ،‬لم تجند نفسهها بعهد‬
‫للدعوة ‪ ..‬ولم يكهن سهيعتبر أن القاعدة قهد اتسهعت بتلك الجماهيهر المتحمسهة التهى آمنهت – نعهم – ولكنهها لم تجنهد نفسهها لحتمال‬
‫التكاليف ‪0‬‬

‫***‬

‫متى جند النصار أنفسهم للدعوة؟‬

‫‪8‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫قلنها مهن قبهل‪ :‬إن النار التهى اصهطلى بهها المؤمنون فهى مكهة‪ ،‬ههى النور الذى اسهتضاء بهه النصهار فهى المدينهة‪ ،‬فجاءوا يعرضون‬
‫أنفسهم لنصرة رسول ال صلى ال عليه وسلم والدين الجديد ‪.‬‬

‫لقد جاءوا بقدر من ال – نعم – ولكن بسنة من سنن ال كذلك ‪.‬‬

‫إن وجود النموذج الواقعى‪ ،‬الذى يشهد للدعوة الجديدة‪ ،‬هو النواة التى يحدث حولها التجمع‪ ،‬ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة‬
‫((الم))‪ ،‬ثم يتسارع بعد ذلك‪ ،‬كلما زاد حجم النواة‪ ..‬سنة ربانية فى الكون المادى وفى حياة البشر سواء !‬

‫والنواة الم كانت هى الجماعة المؤمنة التى تكونت فى مكة حول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتى شكلها الوحى المنزل‬
‫مهن عنهد ال‪ ،‬وصهقلها المربهى العظيهم صهلى ال عليهه وسهلم بمها أضفهى عليهها مهن روحهه‪ ،‬وأعطاهها مهن جهده‪ ،‬وتابهع نموهها‬
‫بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته‪ ..‬ثم جاءت البتلءات فزادتها صقلً وصلبة وقرباً من ال ‪.‬‬

‫ومن خلل ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الم التى صنعت التاريخ !‬

‫ولو كان المؤمنون قد دخلوا فى معركة مع قريش فى مكة‪ ،‬لتأخر كثيراً تكون النواة الم‪ ،‬ولتغيرت كثيرًا صفاتها التى اكتسبتها‪،‬‬
‫وذلك فوق الغبهش الذى كان سهيصيب قضيهة ل إله إل ال‪ ،‬حيهن تتحول إلى قضيهة ضارب ومضروب‪ ،‬وغالب ومغلوب‪ ،‬ولتأخهر‬
‫كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء ‪.‬‬

‫***‬

‫والن فلنستعرض ما تم حتى الن من خلل ((كفوا أيديكم))‪.‬‬

‫ولقد تمت أمور على غاية من الهمية فى مسيرة الدعوة ‪..‬‬

‫تم تحرير موضع النزاع‪ ،‬إن صح التعبير ‪ ..‬إنه قضية ((ل إله إل ال)) دون غيرها من القضايا ‪..‬‬

‫ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية‪ ،‬ول على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول‬
‫ال صههلى ال عليههه وسههلم فأباههها‪ ،‬وأصههر على ل إله إل ال‪ ،‬والمؤمنون مههن جانبهههم لم يتحركوا حركههة واحدة‪ ،‬تهدف إلى‬
‫الستيلء على السلطة))‪0.‬‬

‫ليس الصراع على ((شرف)) سدانة اليبت‪ ،‬ول ((وجاهة)) خدمة الحجيج‪..‬‬

‫ليهس على القوة القتصهادية التهى تملكهها قريههش وحدههها دون المؤمنيههن‪ ،‬وتحارب المؤمنيههن مهن خللههها بالحصههار والتجويههع‪،‬‬
‫والمؤمنون ل يتعرضون لها من قرب ول بعيد ‪0‬‬

‫الصراع كله على القضيهة الكهبرى التى ههى – والتى يجب أن تكون دائماً – القضيهة الولى‪ ،‬والقضية الكبرى فى حياة النسان‪،‬‬
‫قضيهة مهن المعبود؟ ومهن ثهم مهن صهاحب المهر؟ مهن المشرع؟ مهن واضهع منههج الحياة؟ قريهش تريدهها حسهب أهوائهها وخيالتهها‬
‫وموروثاتها وأعرافها‪ ،‬والمؤمنون حول رسول ال صلى ال عليه وسلم يريدونها ل ‪0‬‬

‫وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة‪ ،‬التى ستحمل البناء (‪.. )1‬‬

‫وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ‪ ،‬بتفصيل اليات واستبانة سبيل المجرمين ‪0‬‬

‫وتهم أخيراً اتسهاع القاعدة بالجنود الذيهن اسهتضاءوا بالنار التهى اكتوى بهها أههل النواة الم‪ ،‬فتجمعوا بقدر مهن ال‪ ،‬وبحسهب سهنة‬
‫من سنن ال‪ ،‬حول تلك النواة‪ ،‬مضيفين إليها قوة حقيقية فى الصراع‪..‬‬

‫ثم تم أمر آخر بالغ الهمية كذلك‪ ،‬هو التجرد ل ‪.‬‬

‫إن التجرد ل عنصر من أهم العناصر التى تحتاج إليها الدعوة‪ ،‬إن لم يكن أهمها على الطلق‪ ،‬بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة‪،‬‬
‫وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم‪.‬‬

‫‪ 1‬سنتكلم عن عملية التربية فى فصل قادم ‪.‬‬

‫‪9‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ولقهد تعمهق التجرد ل فهى قلوب الصهفوة المختارة‪ ،‬خلل فترة التربيهة فهى مكهة‪ ،‬مهن خلل اليات المنزلة مهن عنهد ال‪ ،‬تدعهو إلى‬
‫إخلص العبادة ل‪ ،‬ومهن خلل القدوة المباشرة فهى شخهص الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬يعلمههم بالسهلوك العملى كيهف يكون‬
‫إخلص العبادة ل ‪0‬‬

‫فأما رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه ‪.‬‬

‫كان عليهه الصهلة والسهلم‪ ،‬فهى مبدأ قيامهه بالدعوة‪ ،‬شديهد التأثهر بتكذيهب الناس له‪ ،‬شديهد الحرص على هدايتههم‪ ،‬شديهد الحزن‬
‫عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الربانى‪ ،‬وذلك بما فطر عليه صلى ال عليه وسلم من حب الخير لجميع الناس ‪0‬‬

‫وكان الوحهى يتنزل عليهه صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬لتسهليته والتسهرية عنهه ‪(( :‬قهد نعلم إنهه ليحزنهك الذى يقولون فإنههم ل يكذبونهك‬
‫ولكههن الظالميههن بآيات ال يجحدون))(النعام ‪(( .)33 :‬واصههبر ومهها صههبرك إل بال ول تحزن عليهههم ول تههك فههى ضيههق ممهها‬
‫يمكرون))(النحل ‪.)127 :‬‬

‫ويتنزل الوحهى لصهرفه صهلى ال عليهه وسهلم عهن شدة الحزن‪ ،‬وشدة التطلع ليهة مهن عنهد ال تجعلههم يؤمنون‪(( :‬فلعلك باخهع‬
‫نفسهك على آثارههم إن لم يؤمنوا بهذا الحديهث أسهفا(‪ )6‬إنها جعلنها مها على الرض زينهة لهها لنبلوههم أيههم أحسهن عمل(‪ )7‬وإنها‬
‫لجاعلون مها عليهها صعيدا جرزا))(الكههف ‪(( . )8-6 :‬وإن كان كهبر عليهك إعراضههم فإن استطعت أن تبتغى نفقها فهى الرض أو‬
‫سهلما فهى السهماء فتأتيههم بآيهة ولو شاء ال لجمعههم على الهدى فل تكونهن مهن الجاهليهن(‪ )35‬إنمها يسهتجيب الذيهن يسهمعون‬
‫والموتى يبعثهم ال ثم إليه يرجعون))(النعام ‪.)36-35 :‬‬

‫ويتنزل الوحهى ليقول للرسهول صهلى ال عليهه وسهلم ‪ :‬إن مهمتهه ههى البلغ فحسهب‪ ،‬أمها النتائج فمهن صهنع ال وحده ‪(( :‬إنهك ل‬
‫تهدى من أحببت ولكن ال يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين))(القصص‪)56:‬‬

‫ومن أشد ما يلفت النظر فى هذا الشأن‪ ،‬أنه فى خلل فترة التربية فى مكة‪ ،‬لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول صلى‬
‫ال عليهه وسهلم‪ ،‬إنمها كان يقال له‪(( :‬وإن مها نرينهك بعهض الذى نعدههم أو نتوفينهك فإنمها عليهك البلغ وعلينها الحسهاب))(الرعهد ‪:‬‬
‫‪ . )40‬بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫يقول خباب بن الرت رضى ال عنهه ‪ :‬شكونها إلى رسهول ال صلى ال عليه وسهلم وهو متوسد بردة له فى ظهل الكعبة‪ ،‬فقلناب‬
‫أل تسهتنصر لنها؟ أل تدعهو لنها؟ (وذلك لمها اشتهد إيذاء المشركيهن للمؤمنيهن فهى مكهة) فقال صهلى ال عليهه وسهلم ‪(( :‬قهد كان مهن‬
‫قبلكهم يؤخهذ الرجهل‪ ،‬فيحفهر له فهى الرض‪ ،‬فيجعهل فيهها‪ ،‬ثهم يؤتهى بالمنشار‪ ،‬فيوضهع على رأسهه فيجعهل نصهفين‪ ،‬ويمشهط بأمشاط‬
‫الحديد ما دون لحمه وعظمه‪ ،‬ما يصده ذلك عن دينه‪ .‬وال ليتمن ال هذا المر‪ ،‬حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت‪،‬‬
‫ل يخاف إل ال والذئب على غنمه‪ ،‬ولكنكم تستعجلون))(‪.)1‬‬

‫وبتوجيهات الوحى‪ ،‬تجرد قلب الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته‪ ،‬وتجرد للبلغ‪ .‬ثم‬
‫ربهى رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم أصهحابه على التجرد ل‪ ،‬حتهى خلت نفوسههم مهن حهظ نفوسههم‪ ،‬كمها تحكهى عنههم كتهب‬
‫السيرة‪ ،‬وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة ل ‪.‬‬

‫ولمها علم ال مهن قلوبههم أنهها تجردت له‪ ،‬مكهن لههم فهى الرض‪ ،‬وأذن لههم فهى رد العدوان ‪(( :‬أذن للذيهن يقاتلون بأنههم ظلموا‬
‫وإن ال على نصرهم لقدير(‪ )39‬الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إل أن يقولوا ربنا ال ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض‬
‫لهدمهت صهوامع وبيهع وصهلوات ومسهاجد يذكهر فيهها اسهم ال كثيرًا ولينصهرن ال مهن ينصهره إن ال لقوى عزيهز(‪ )40‬الذيهن إن‬
‫مكناهم فى الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج ‪)41-39 :‬‬

‫موضع القدوة فى الجيل الفريد‬

‫يرى كثيهر مهن الناس أن مها كان طهبيعياً ومناسهباًن للجيهل الول فهى فترة التربيهة بمكهة‪ ،‬ل ينطبهق على وضعنها الحاضهر‪ ،‬ومهن ثهم‬
‫فعلينا أن ندرسه للتاريخ‪ ،‬وليس للعبرة ول للقدوة !‬

‫وهذا المر يحتاج إلى تجلية واضحة‪ ،‬لنه مفرق طريق فى العمل السلمى فى الوقت الحاضر‪ ،‬وما لم تتضح الصورة تماماً –‬
‫وبموضوعية كاملة – فستظل تيارات العمل السلمى تتصادم مع بعضها البعض‪ ،‬ول تصل إلى موقف موحد أو متجانس‪ ،‬بينما‬
‫أعداء هذا الديههن يقفون موقفاً موحداً‪ ،‬مههن أقصههى اليميههن إلى أقصههى اليسههار‪ ،‬متكالبيههن كلهههم على المههة السههلمية‪ ،‬يجاهدون‬
‫للقضاء عليها‪ ،‬متعاونين متساندين‪ ،‬كما حدث فى البوسنة والهرسك‪ ،‬وفى كشمير‪ ،‬وفى بلد الشيشان‪ ،‬وفى كل مكان على ظهر‬
‫الرض ‪0‬‬
‫‪ 1‬رواه البخارى ‪.‬‬

‫‪10‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ههل نحهن فهى المرحلة المكيهة‪ ،‬حيهث المجتمهع مشرك شركها واضحاً ل لبهس فيهه‪ ،‬والمؤمنون ههم أولئك القلة التهى آمنهت بالديهن‬
‫الجديههد‪ ،‬مسههتضعفة منبوذة مههن ذلك المجتمههع‪ ،‬تتحرك حسههب مقتضيات ذلك الوضههع؟ أم نحههن فههى مجتمههع مسههلم منحرف عههن‬
‫السلم‪ ،‬نعمل على تصحيح الوضاع فيه‪ ،‬بردها إلى الصورة السلمية الصحيحة؟ أم ماذا نحن على وجه التحديد؟‬

‫ولخطورة هذه القضية ‪ ،‬وما ثار حولها من جدل‪ ،‬وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة‪ ،‬نود أن نتدارسها بروية‪ ،‬وأن نصل فيها‬
‫إلى تصور واضح‪ ،‬غير متأثرين فيه بعواطفنا‪ ،‬أو بمواقف نحبها أو نكرهها ‪0‬‬

‫لسهنا فهى المرحلة المكيهة بكهل تأكيهد! فنحهن – العامليهن فهى حقهل الدعوة‪ ،‬والمسهتجيبين لهها – نصهوم ونحهج‪ ،‬وقهد فرض الصهيام‬
‫ولحهج فهى المدينهة! ونحهن نحرم كهل مها حرم ال‪ ،‬ونوجهب كهل مها أوجهب ال‪ ،‬غيهر منحصهرين فيمها نزل مهن التحريهم والتحليهل فهى‬
‫مكة !‬

‫ولسهنا فهى المرحلة المدنيهة بكهل تأكيهد! فليهس الدعوة ممكنهة فهى الرض‪ ،‬وشريعهة ال ليسهت ههى المحكمهة فهى الجزء الكهبر مهن‬
‫العالم السههلمى‪ ،‬والقائمون بالدعوة إمهها مغيبون فههى السههجون‪ ،‬أو معلقون على أعواد المشانههق‪ ،‬وإمهها مضيههق عليهههم بمختلف‬
‫وسائل التضييق ‪0‬‬

‫فأين نحن على وجه الدقة؟ وأى منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذى اتبعه الرسول صلى ال عليه وسلم فى مكة بأمر من‬
‫ال؟ أم ههو منههج الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم فى المدينة‪ ،‬الذى اتبعهه بأمهر مهن ال؟ أم شىء أخر غيهر هذا وذاك‪ ،‬نجتههد فيهه‬
‫من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!‬

‫قضية – كما ترى – لها أهميتها‪ ،‬وتحتاج إلى تحديد ‪..‬‬

‫***‬

‫هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع ول شك‪ ،‬يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع ‪.‬‬

‫لقد كان الناس فى المجتمع المكى ينكرون فكرة الله الواحد إنكاراً مطلقاً‪ ،‬حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء‬
‫بهه الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم مهن التوحيهد ‪(( :‬أجعهل اللههة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب)) (ص‪ .. )5 :‬بينمها نحهن فهى‬
‫العالم السلمى كله نقر بأن ال واحد‪ ،‬ول نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع ال ‪0‬‬

‫وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً‪ ،‬حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫مهن عقيدة البعهث‪(( :‬وقال الذيهن كفروا ههل ندلكهم على رجهل ينبئكهم إذا مزقتهم كهل ممزق إنكهم لفهى خلق جديهد(‪ )7‬أفترى على ال‬
‫كذباً أم بهه جنهة))(سهبأ ‪ .. )8-7 :‬بينمها نحهن – فهى العموم – نؤمهن بالبعهث‪ ،‬والجزاء والحسهاب‪ ،‬والجنهة والنار‪ ،‬ودع عنهك القلة‬
‫القليلة الملحدة التى ل يقام لها وزن فى هذا المجال ‪0‬‬

‫وكان الناس ينكرون بعثة محمد صلى ال عليه وسلم ورسالته‪ ،‬كما حكى القرآن عنهم‪(( :‬وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال‬
‫الكافرون هذا ساحر كذاب))() (ص‪ ،)4 :‬كما قالوا ‪(( :‬أؤنزل عليه الذكر من بيننا))(ص‪ ..)8:‬ونحن – ودع عنك القلة الملحدة‬
‫التهى ل يقام لهها وزن – نؤمهن ببعثهة الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬وأنهه مرسهل مهن ربهه‪ ،‬وأن القرآن كلم ال‪ ،‬أنزله على‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل هو من كلم البشر‪ ،‬ول هو من أساطير الولين ‪..‬‬

‫ول شك أن هذا كله حقائق ‪..‬‬

‫ولكن تعال ننظر من الجانب الخر ‪.‬‬

‫جاء السهلم لينفهى كهل وسهاطة بيهن العبهد والرب‪ ،‬ويجعهل الصهلة مباشرة بيهن العباد وبيهن ال‪(( :‬وإذا سهألك عبادى عنهى فإنهى‬
‫قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون))(البقرة ‪0.)186 :‬‬

‫فماذا فعلت الصوفية فى عقائد الناس؟ لقد جسمت الشيخ فى حس المريد‪ ،‬حتى أصبح واسطة بين العبد وربه‪ ،‬ل يملك أن يدعو‬
‫ال باسهم مهن أسهمائه الحسهنى إل بإذن الشيهخ‪ ،‬الذى يطلع على الفئدة‪ ،‬ويقرر لكهل فؤاد مها يصهلح له مهن السهماء‪ ،‬والمدة التهى‬
‫يستخدم فيها السم الممنوح له‪ ،‬ويظل سلطان الشيخ قائماً فى قلوب المريدين‪ ،‬حتى بعد موته بألف عام‪ ،‬فالموت ل يحول بين‬
‫السلطان الروحى وبين القلوب ‪ ..‬والتمسح بالضريح‪ ،‬والدعاء عنده‪ ،‬والستغاثة والستعانة والذبح‪ ،‬هى علمات الخلص من‬
‫المريد للشيخ‪ ،‬وهى كذلك وسائط التقرب إلى ال!‬

‫ههل يختلف هذا كثيرًا عهن قول الذيهن كانوا يقولون ‪(( :‬مها نعبدههم إل ليقربونها إلى ال زلفهى))(الزمهر ‪ .. )3 :‬أليهس هذا شركاً‬
‫واضح الركان؟‬

‫‪11‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وجاء السهلم ليلغهى كهل تشريهع مهن صهنع البشهر‪ ،‬ليقيهم شريعهة ال وحدهها‪ ،‬وربهط ذلك بأصهل العقيدة ‪(( :‬ومهن لم يحكهم بمها أنزل‬
‫ال فأولئك ههم الكافرون)) (المائدة‪ ..)44 :‬وجعهل علمهة النفاق الذى ينفهى اليمان‪ ،‬العراض عهن شريعهة ال‪(( :‬ويقولون آمنها‬
‫بال وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(‪ )47‬وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا‬
‫فريهق منههم معرضون(‪ )48‬وإن يكهن لههم الحهق يأتوا إليهه مذعنيهن(‪ )49‬أفهى قلوبههم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيهف ال‬
‫عليههم ورسهوله بهل أولئك ههم الظالمون(‪ )50‬إنمها كان قول المؤمنيهن إذا دعوا إلى ال ورسهوله ليحكهم بينههم أن يقولوا سهمعنا‬
‫وأطعنا وأولئك هم المفلحون))(النور ‪.)51 -47 :‬‬

‫وجعههل اتباع البشههر فيمهها يشرعون بغيههر مهها أنزل ال بمثابههة اتخاذهههم أرباباً مههن دون ال‪ ،‬على مسههتوى عبادة غيههر ال سههواء‬
‫بسههواء‪(( :‬اتخذوا أحبارهههم ورهبانهههم أرباباً مههن دون ال والمسههيح ابههن مريههم ومهها أمروا إل ليعبدوا إلههها واحدًا ل إله إل هههو‬
‫سبحانه عما يشركون))(التوبة ‪.)31 :‬‬

‫فماذا فعلت العلمانية فى حياة الناس؟ كم حكومة فى الرض السلمية تحكم بما أنزل ال؟ وماذا يقال على ألسنة العلمانيين عن‬
‫شريعة ال؟ أليس هذا شركاً واضح الركان؟‬

‫كيف نحكم إذن على هذه الوضاع؟‬

‫يكمهن الشكال فهى الحكهم على الوضاع القائمهة اليوم فهى العالم السهلمى‪ ،‬فهى التناقهض الشديهد بيهن مها يعلنهه الناس عقيدة لههم‪،‬‬
‫وما يمارسونه فى الواقع ‪ ..‬ثم الختلف فى الحكم على هذا التناقض‪ ،‬هل هو مخرج من الملة‪ ،‬أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى‪:‬‬
‫الشكال هو الحكم على الناس ‪0‬‬

‫وفهى رأيهى – مهن سهنوات عديدة – أن هذه القضيهة ل ينبغهى أن تشغلنها فهى مجال الدعوة‪ ،‬ول ينبغهى أن نقهف عندهها ونفترق‬
‫حولها‪ ،‬ونتجادل ونتحزب‪ ،‬ويذهب كل فريق منا فى اتجاه ‪0‬‬

‫إن الناس – إل مهن رحهم ربهك – واقعون فهى الشرك ل جدال فهى ذلك‪ ،‬سهواء شرك العتقاد‪ ،‬أو شرك العبادة‪ ،‬أو شرك الحاكميهة‬
‫(شرك التباع) ‪ ..‬ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة‪ ،‬فليس كل من وقع فى الشرك يحكم عليه بأنه مشرك‪،‬‬
‫إل إذا توفرت فيه شروط معينة‪ ،‬وانتفت عنه الموانع التى تمنع تنزيل الحكم عليه ‪..‬‬

‫يقول ابن تيمية رحمه ال ‪:‬‬

‫((وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والئمة‪ ،‬من إطلق القول تكفير من يقول كذا وكذا‪ ،‬فهو أيضاً حق‪ ،‬ولكن يجب التفريق‬
‫بين الطلق والتعيين‪ ،‬وهذه أول مسألة تنازعت فيها المة من مسائل الصول الكبار‪ ،‬وهى مسألة الوعيد‪ ،‬فإن نصوص القرآن‬
‫فهى الوعيهد مطلقهة‪ ،‬كقوله ‪(( :‬إن الذيهن يأكلون أموال اليتامهى ظلمها)) اليهة ‪ ..‬وكذلك سهائر مها ورد ‪ :‬مهن فعهل كذا فله كذا‪ ،‬فإن‬
‫هذه مطلقة عامة‪ ،‬وهى بمنزل قول من قال من السلف‪ :‬من قال كذا فهو كذا‪ .‬ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو‬
‫حسهنات ماحيهة أو مصهائب مكفرة أو شفاعهة مقبولة ‪ ..‬والتكفيهر ههو مهن الوعيهد‪ ،‬فإنهه وإن كان القول تكذيب ًا لمها قاله الرسهول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلم‪ ،‬أو نشأ ببادية بعيدة‪ ،‬ومثل هذا ل يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم‬
‫عليههه الحجههة‪ .‬وقههد يكون الرجههل لم يسههمع تلك النصههوص‪ ،‬أو سههمعها ولم تثبههت عنده‪ ،‬أو عارضههها عنده معارض آخههر أوجههب‬
‫تأويلها‪ ،‬وإن كان مخطئاً))(‪.)1‬‬

‫وقال رحمهه ال فهى مكان آخهر(‪(( :)2‬فإن نصهوص الوعيهد التهى فهى الكتاب والسهنة‪ ،‬ونصهوص الئمهة بالتكفيهر والتفسهيق ونحهو‬
‫ذلك‪ ،‬ل يستلزم ثبوت موجبها فى حق المعين‪ ،‬إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع‪ ،‬ل فرق فى ذلك بين الصول والفروع))‪.‬‬

‫وقال فى موضع ثالث(‪(( :)3‬وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولن مشهوران‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪ ،‬والقولن فى‬
‫الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم‪ .‬والصحيح أن هذه القوال التى يقولونها‪ ،‬التى يعلم أنها مخالفة لما جاء‬
‫بهه الرسهول كفهر‪ ،‬وكذلك أفعالههم التهى ههى مهن جنهس أفعال الكفار بالمسهلمين ههى كفهر أيضاً‪ .‬وقهد ذكرت دلئل ذلك فهى غيهر هذا‬
‫الموضهع‪ ،‬ولكهن تكفيهر الواحهد المعيهن منههم‪ ،‬والحكهم بتخليده فهى النار موقوف على ثبوت شروط التكفيهر وانتفاء موانعهه‪ .‬فإنمها‬
‫نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق‪ ،‬ول نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام‪ ،‬حتى يقوم فيه المقتضى الذى‬
‫ل معارض له‪ ،‬وقد بسطت هذه القاعدة فى قاعدة التكفير))‪.‬‬

‫وهذا هو مفتاح القضية بالنسبة للدعوة ومنهج الحركة‪.‬‬

‫‪ 1‬مجموع الفتاوى‪ -‬المجلد الثالث‪ -‬ص ‪. 231-230‬‬


‫‪ 2‬مجموع الفتاوى‪ -‬المجلد العاشر‪ -‬ص ‪. 372‬‬
‫‪ 3‬مجموع الفتاوى‪ -‬المجلد الثامن والعشرون‪ -‬ص ‪. 501-500‬‬

‫‪12‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫فالناس‪ -‬إل مههن رحههم ربههك‪ -‬واقعون فههى شرك يشبههه شرك الجاهليههة‪ ،‬وإن لم يكونوا بالضرورة كلهههم ممههن يتنزل عليهههم حكههم‬
‫الشرك‪ .‬والذى يهمنها فى الدعوة ههو بيان حقيقهة اليمان‪ ،‬وبيان نواقهص اليمان‪ ،‬ودعوة الناس إلى ترك مها ههم واقعون فيه مهن‬
‫الشرك‪ -‬بصرف النظر عن كونهم مشركين أو غير مشركين فى حكم ال‪ -‬ودعوتهم إلى اعتناق السلم الصحيح‪ ،‬وممارسته فى‬
‫عالم الواقع‪ ،‬ل فى عالم المانى‪ ،‬ول فى عالم الوهام‪.‬‬

‫ليههس الذى يهمنهها أن نقول لفلن مههن الناس‪ :‬أنههت مشرك(أو نقول عنههه ذلك)‪ ،‬إنمهها مهمتنهها أن نقول له‪ :‬إن مهها تفعله شرك‪،‬‬
‫وندعوه‪ -‬بالحكمة والموعظة الحسنة‪ -‬إلى الخروج من ذلك الشرك‪،‬والدخول فى حقيقة السلم‪.‬‬

‫هذا من جانب الواقع الذى يعيشه الناس‪ ،‬وواجبنا تجاهه‪.‬‬

‫ومهن جانهب آخهر فإن الوضاع القائمهة فهى العالم السهلمى‪ -‬إل مها رحهم ربهك‪ -‬أوضاع تحارب الدعوة‪ ،‬وتمنهع الدعاة مهن بيان‬
‫الحقيقهة كاملة عهن اليمان ونواقهص اليمان‪ ،‬خاصهة فيمها يتعلق بالتشريهع بغيهر مها أنزل ال؛ والسهجون والمعتقلت والمشانهق‬
‫محشودة فى الطريق‪ ،‬تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة ل إله إل ال كما أنزلت من عند ال‪.‬‬

‫فما المنهج النسب للدعوة؟ إلى أى شئ ندعو؟ وعلى أى شئ نركز؟ وأى الوسائل يوصلنا‪ -‬أو يقربنا‪ -‬لما نريد؟‬

‫إذا تصهورنا الوضاع القائمهة على حقيقتهها‪ ،‬وتخلصهنا فهى الوقهت ذاتهه مهن الشكالت التهى تترتهب على إصهدار أحكام على الجيهل‬
‫الحالى من الناس‪ ،‬قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من‬
‫الدعوة‪،‬وإن لم نكهن فهى وضهع مماثهل لهها تماماً‪ ،‬بسهبب بعهض الفروق بيهن هذا الوضهع وذاك‪ ،‬وههى فروق قهد تتسهبب فهى اختلف‬
‫الحكههم على الناس‪ ،‬ولكنههها ل تغيههر الحكههم على الوضاع‪ ،‬والوضاع هههى التههى تقرر فههى الحقيقههة منهههج الدعوة‪ ،‬وتقرر أقرب‬
‫الوسائل إلى بلوغ الهداف‪.‬‬

‫ومهن هنها نجهد أن موضهع القتداء بالجيهل الول أوسهع بكثيهر ممها قهد يبدو عنهد الوهلة الولى‪ ،‬وأن قضايها كثيرة يلزمنها أن نرجهع‬
‫فيها إلى تلك الفترة‪ ،‬نتدبرها ببصيرة مفتوحة‪ ،‬ونستلهم منها طريقنا فى الدعوة‪ ،‬ونتطلع إلى فضل ال أن يلهمنا فيها الصواب‪.‬‬

‫***‬

‫إذا درسنا أحوال المة السلمية‪ -‬كما ينبغى أن نصنع‪ -‬فسنجد انحرافات كثيرة‪،‬وقعت فى مسيرة المة خلل الربعة عشر قرن ًا‬
‫الماضيهة‪ ،‬ظلت تبعهد الناس رويداً رويداً عهن حقيقهة السهلم‪ ،‬حتهى صهار السهلم إلى غربتهه الثانيهة التهى أخهبر عنهها رسهول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬بدأ السلم غريباً‪ ،‬وسيعود كما بدأ))(‪.)1‬‬

‫وإذا تتبعنها هذه النحرافات‪ -‬وينبغهى لنها أن نفعهل‪ ،‬لنهه لبهد لنها مهن تشخيهص الداء‪ ،‬لتحديهد نوع العلج‪ -‬فسهنجد أن النحراف لم‬
‫يقتصر على السلوك وحده‪ ،‬إنما تطرق إلى المفاهيم‪ ،‬وأن كل مفاهيم السلم قد أصابها النحراف‪ ،‬حتى مفهوم ل إله إل ال‪ -‬بل‬
‫بدءاً بمفهوم ل إله إل ال‪ -‬بالضافهههة إلى مفهوم العبادة‪ ،‬ومفهوم القضاء والقدر‪ ،‬ومفهوم الدنيههها والخرة‪ ،‬ومفهوم الحضارة‪،‬‬
‫ومفهوم التربية‪ ،‬ومفهوم الجهاد‪ ..‬إلخ(‪.)2‬‬

‫فإذا كان المهر كذلك‪ ،‬فبأى شهئ نبدأ؟ ههل لنها مناص مهن أن نبدأ بتصهحيح مفهوم ل إله إل ال؟ وههل يمكهن تصهحيح حياة الناس‬
‫على قاعدة إسههلمية‪ ،‬إذا لم نصههحح مفهوم ل إله إل ال فههى عقول الناس وقلوبهههم؟ فأمهها العقول فمهمتههها إدراك الحههق‪ ،‬وأمهها‬
‫القلوب فمهمتها تحويل الدراك الذهنى إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملى فى عالم الواقع‪ ..‬وهذا هو طريق الصلح‬
‫‪0‬‬

‫والن فلننظر ماذا أصاب مفهوم ل إله إل ال فى حس الناس؟‬

‫لقهد أصهابه انحسهار شديهد‪ ،‬حتهى أصهبحت ل إله إل ال مجرد كلمهة تقال باللسهان‪ ،‬ل تأثيهر لهها فهى واقهع الكثرة الكاثرة مهن الناس‪،‬‬
‫إل مهن رحهم ربهك‪ ،‬بهل إنهها لم تعهد مانعهة مهن الوقوع فهى الشرك عنهد كثيهر مهن الناس‪ ،‬سهواء شرك العتقاد‪ ،‬أو شرك العبادة‪ ،‬أو‬
‫شرك التشريع ‪0‬‬

‫والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلى وقت البعثة‪ ،‬أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح‪ ،‬ويرفضون‬
‫فى الوقت ذاته أن يقولوا ‪ :‬ل إله إل ال ‪ ..‬أما الناس فى واقعنا المعاصر – إل من رحم ربك – فإنهم يقولون بأفواههم ‪ :‬ل إله‬
‫إل ال‪ ،‬ثم يقعون فى الشرك بنوع من أنواعه‪ ،‬أو بجميع أنواعه ‪0‬‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم‪.‬‬
‫‪ 2‬انظر إن شئت كتاب((مفاهيم ينبغى أن تصحح))‪.‬‬

‫‪13‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫لذلك فإننها نحتاج إلى منههج شديهد الشبهه بمنههج الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم فهى مكهة‪ ،‬لبيان حقيقهة ل إله إل ال‪ ،‬ثهم تحويلهها‬
‫إلى واقع معاش فى حياة الذين يعتنقون هذا الدين ‪0‬‬

‫وفى ظنى أنها مهمة شاقة‪ ،‬ل تقل مشقة‪ ،‬ول حاجة إلى بذل الجهد‪ ،‬عما بذل فى الجولة الولى‪ ،‬لزالة الغربة عن السلم أول‬
‫مرة‪ ،‬بهل ربمها كانهت الغربهة الثانيهة أعسهر فهى إزالتهها مهن الغربهة الولى‪ ،‬حيهث كان رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم حاضراً‬
‫بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع اللهام ‪0‬‬

‫لقهد كان العسهر فهى الجولة الولى ناشئاً مهن لدد الخصهومة‪ ،‬بالضافهة إلى شدة التمسهك بعرف الباء والجداد‪(( :‬فإنمها يسهرناه‬
‫بلسهانك لتبشهر بهه المتقيهن وتنذر بهه قوماً لدا))(مريهم ‪(( . )97 :‬وإذا قيهل لههم اتبعوا مها أنزل ال قالوا بهل نتبهع مها ألفينها عليهه‬
‫آباءنا أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئاً ول يهتدون))(البقرة ‪.)170 :‬‬

‫أمها فهى الجولة الثانيهة‪ ،‬فلن نجهد مشقهة فهى أن نجعهل الناس ينطقون بأفواهههم‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬فههم ينطقونهها صهباح مسهاء! ولكهن‬
‫المشقهة أنههم يظنون أنههم بمجرد نطقههم لل إله إل ال صهاروا مسهلمين‪ ،‬ولصهقت بههم صهفة السهلم‪ ،‬أياً كان سهلوكهم الواقعهى‪،‬‬
‫وأياً كان مدى نقضههم لمقتضيات ل إله إل ال فهى عالم الواقهع! وأنهك إن قلت لههم‪ :‬إن لل إله إل ال مقتضيات ل يثبهت للنسهان‬
‫إسلمه إل بالتزامها‪ ،‬وإل أخذ عليه إقراره اللسانى واعتبر مرتداً‪ ،‬كذبوك! وقالوا ‪ :‬ما سمعنا بهذا فى آبائنا الولين!‬

‫إنههم – معظمههم – واقعون فهى لوثهة الفكهر الرجائى‪ ،‬الذى يقول‪(( :‬مهن قال ل إله إل ال فههو مؤمهن‪ ،‬ولو لم يعمهل عملً واحدًا‬
‫ل فى مسمى اليمان))!‬ ‫من أعمال السلم))! والذى يقول‪(( :‬اليمان هو التصديق‪ ،‬أو هو التصديق والقرار‪ ،‬وليس العمل داخ ً‬
‫والذى يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها‪ ،‬مجرد معاص‪ ،‬ثم يقول‪(( :‬ل يضر مع اليمان معصية))!‬

‫وإزالة آثار هذه اللوثهة من حياة الناس‪ ،‬وردههم إلى المفهوم الصهحيح لليمان‪ ،‬الذى كان عليه السلف الصهالح‪ ،‬والذى يقول‪ :‬إن‬
‫اليمان قول واعتقاد وعمهل‪ ،‬ههو المهمهة كالحقيقيهة ((للغرباء))‪ ،‬الذيهن بشرههم رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم بجزيهل الجهر‪:‬‬
‫((طوبى للغرباء))‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪(( :‬فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتى))(‪.)1‬‬

‫وسهنتحدث عهن التربيهة فهى فصهل مسهتقل‪ ،‬ولكنها هنها نقرر أن نقطهة البدء فهى الدعوة يجهب أن تكون ههى التعريهف بل إله إل ال‪،‬‬
‫التى صارت حقيقتها مجهولة فى غربة السلم الثانية‪ ،‬وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!‬

‫ل عهن التربيهة على مقتضياتهها – ليهس مجرد معلومات تلقهى‪ ،‬وليهس مجرد خطبهة‬ ‫ونقرر كذلك أن التعريهف بل إله إل ال – فض ً‬
‫أو درس أو موعظة‪ ،‬إنما هو جهد حقيقى دائب‪ ،‬يحتاج إلى متابعة ومثابرة‪ ،‬ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها‪ ،‬لتنقيتها‬
‫من الغبش الذى أحدثه الفكر الرجائى‪ ،‬فضل عن الغبش الذى أحدثه الفكر العلمانى المستحدث‪ ،‬وكلهما حمض أكال يوهن بناء‬
‫العقيدة‪ ،‬ويفرغها من محتواها الحى‪ ،‬ويفقدها قوتها الفاعلة التى كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها ال ‪.‬‬

‫ثم نقرر أخيرًا أن الستعجال فى هذا المر – على أساس أنه أمر بدهى واضح‪ ،‬ل يحتاج إلى بذل الجهد فيه‪ ،‬أو على أساس أن‬
‫ما بذل من الجهد فيه‪ ،‬فيه الكفاية‪ ،‬أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة‪ ،‬وليس لدينا وقت كثير ننفقه فى التعريف بل إله إل ال‬
‫– فضلً عهن التربيهة على مقتضياتهها‪ -‬هذا السهتعجال ل يأتهى بخيهر‪ ،‬ول يخدم الدعوة‪ ،‬ول يجعهل لهها مردوداً مثمراً فهى نهايهة‬
‫المطاف ‪0‬‬

‫وموضهع القتداء هنها بالجيهل الفريهد‪ ،‬أن نتدبر مدى عنايهة القرآن الكريهم بهذه القضيهة‪ ،‬وعنايهة الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم‬
‫ببيانها‪ ،‬فضلً عن التربية على مقتضياتها‪ ،‬وأنها استغرقت الجزء الكبر من مجموع سنوات الدعوة‪ ،‬ومن جهدها كذلك ‪0‬‬

‫وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية فى السور المكية‪ ،‬أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين‪،‬‬
‫فلنتذكههر أننهها نواجههه اليوم بالدعوة قوماً واقعيههن فههى الشرك‪ ،‬وإن لم يكونوا كلهههم بالضرورة مشركيههن‪ ،‬وأن الشرك الذى هههم‬
‫واقعون فيه هو من ذات النواع التى كان العرب المشركون واقعين فيها ‪ :‬شرك العتقاد‪ ،‬وشرك العبادة ‪ ،‬وشرك الحاكمية ‪0‬‬

‫ولكهن علينها أن نتذكهر كذلك أن التركيهز على هذه القضيهة ليهس سهببه دائم ًا أن المخاطهبين مشركون! فالمؤمنون كذلك يحتاجون‬
‫إلى مداومهة التذكيهر بهها وبمقتضياتهها‪ ،‬والدليهل على ذلك أن الحديهث عهن ل إله إل ال لم ينقطهع فهى القرآن الكريهم‪ ،‬حتهى بعهد أن‬
‫تكونت الجماعة المسلمة‪ ،‬وتمكنت فى الرض‪ ،‬ودخلت المعارك من أجل ل إله إل ال‪ ،‬فقد أنزل ال فى سورة النساء‪(( :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا آمنوا بال والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫الخر فقد ضل ضللً بعيداً))(النساء ‪.)136 :‬‬

‫وأنزل ال آيات كثيرة فى السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والقتصادية والجتماعية‪ ،‬بل إله إل ال ومقتضياتها ‪0‬‬

‫‪ 1‬رواه الترمذى وقال حديث حسن ‪0‬‬

‫‪14‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫((قهل اللههم مالك الملك تؤتهى الملك مهن تشاء وتنزع الملك ممهن تشاء وتعهز مهن تشاء وتذل مهن تشاء بيدك الخيهر إنهك على كهل‬
‫شىء قدير (‪ )26‬تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء‬
‫بغير حساب(‪ )27‬ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران ‪.)28-26 :‬‬

‫((يأيههها الذيههن آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسههول وأولى المههر منكههم فإن تنازعتههم فههى شىء فردوه إلى ال والرسههول إن كنتههم‬
‫تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويل))(النساء ‪.)59 :‬‬

‫والمثلة على ذلك كثيرة ‪.‬‬

‫ومن ثم فليست ل إله إل ال درساً يتلى ثم ينتقل منه إلى غيره‪ ،‬إنما هى – كما قلت فى كتاب سابق – درس يتلى وينتقل معه‬
‫إلى غيره‪ ،‬ويظل هو حديث المة المسلمة إلى قيام الساعة ‪0‬‬

‫***‬

‫ما السبيل للتعريف بل إله إل ال ؟‬

‫إنهه كمها حدده ال تعالى ‪ :‬الحكمهة والموعظهة الحسهنة ‪(( :‬ادع إلى سهبيل ربهك بالحكمهة والموعظهة الحسهنة وجادلههم بالتهى ههى‬
‫أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين))(النحل ‪.)125 :‬‬

‫ويجهب أن ندرك أن الحكمهة والموعظهة الحسهنة ليسهت ههى التربيهت على أخطاء الناس وانحرافاتههم‪ ،‬ودغدغهة مشاعرههم‪ ،‬لكهى‬
‫يرضوا عنا ويتقبلوا منا !‬

‫فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول صلى ال عليه وسلم إلى عمه أبى طالب‪ ،‬فقالوا ‪ :‬سفه أحلمنا وسب آلهتنا وكفر آباءنا!‬
‫وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك‪ ،‬هى مقتضى الحكمة كما نفذها رسول ال صلى ال عليه وسلم!‬

‫إنمها كانهت الحكمهة كهف اليدى‪ ،‬وعدم الدخول مهع المشركيهن فهى معركهة فهى ذلك الوان‪ ،‬مهع عدم اسهتفزازهم بمها يعطيههم مهبرراً‬
‫للعدوان‪ ،‬مع التصريح بالحقائق كلها بل نقصان ‪0‬‬

‫وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر‪ ،‬لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد‪ :‬هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا‪-‬‬
‫أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟‬

‫أمها العدوان مهن جانهب أى سهلطة ل تحكهم بمها أنزل ال‪ ،‬فأمهر لبهد أن نتوقعهه دائماً؛ لنهه سهنة مهن سهنن ال‪ ،‬ولم يحدث قهط أن‬
‫سلطة جاهلية رضيت عن دعوة ل إله إل ال‪ ،‬أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة!‬

‫حينما قال شعيب عليه السلم لقومه ‪(( :‬وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم ال‬
‫بيننها وههو خير الحاكمين)) (العراف ‪ ،)87 :‬لم يقبهل المل هذه المهادنهة‪ ،‬وأصهروا على إخراج المؤمنيهن أو إكراهههم على ترك‬
‫دينهم ‪(( :‬قال المل الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا‬
‫كارهين))(العراف‪.)88 :‬‬

‫وفى الجاهليات الحديثة التى تسمى نفسها ((ديمقراطية))‪ ،‬تتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات‪ ،‬إل الفئة التى تدعو لل‬
‫إله إل ال! ويكفى ما حدث فى الجزائر نموذجاً لما نقول‪ ،‬حيث التزم السلميون – بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه(‪– )1‬‬
‫التزموا قواعهد الجاهليهة ومنهجهها‪ ،‬فوصهلوا إلى الغلبيهة عهن طريهق صهندوق النتخاب كمها تشترط الجاهليهة‪ ،‬فإذا تلك الجاهليهة‬
‫تتنكر لكل مبادئها‪ ،‬التى تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها‪ ،‬وتقف للسلميين بالعنف تقول لهم ‪ :‬لنخرجنكم ‪ ..‬أو لتعودن !‬

‫ل مجال لن يسأل سائل ‪ :‬هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة‪ ،‬ل تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالمر مفروغ منه!‬
‫إنمها السهؤال الذى سهألناه ‪ :‬ههل كان يحسهن بنها – أو يجدر بنها – أن ندخهل فهى صهراع مسهلح فهى الوقهت الحاضهر مهع أصهحاب‬
‫السلطان؟‬

‫وللجابهة على هذا السهؤال نعود لمراجعهة الدرس المسهتفاد مهن تاريهخ النشأة الولى‪ ،‬والذى عالجناه فهى الفصهل الماضهى‪ ،‬فنسهأ‬
‫بادئ ذى بدء ‪ :‬متههى أذن ال للمسههلمين فههى رد العدوان بقوله تعالى ‪(( :‬أذن للذيههن يقاتلون بأنهههم ظلموا وإن ال على نصههرهم‬
‫لقدير))(الحج ‪)39 :‬؟‬

‫‪ 1‬سنتحدث عن هذه القضية فيما بعد ‪.‬‬

‫‪15‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫جاء الذن بعد أن تحقق ما يأتى ‪ :‬تحرير قضية ل إله إل ال ‪ ..‬تحرير قضية الشرعية‪ ..‬بناء القاعدة على أسس متينة ‪..‬اتساع‬
‫القاعدة بمجئ النصار ‪ ..‬تربية القاعدة على التجرد ل ‪0‬‬

‫والن فلننظر‪ ،‬ماذا تحقق من هذه المور فى المسيرة الحالية‪ ،‬وبأى قدر تحقق؟‬

‫هل تم تحير قضية ل إله إل ال‪ ،‬ل نقول عند الجماهير‪ ،‬بل عند الدعاة أنفسهم؟‬

‫ههل وضهح عنهد الدعاة أن التشريهع بغيهر مها أنزل ال شرك مخرج مهن اليمان‪ ،‬وأن الرضهى بهذا التشريهع ههو كذلك شرك مخرج‬
‫من اليمان؟ أم ل يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية‪ ،‬ما بين شاك وبين مقتنع؟‬

‫ودع عنك قضية الحكم على الناس‪ ،‬فتلك قضية ل نتعرض لها هنا‪ ،‬وندعو دائماً أل تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة ل إله‬
‫إل ال ‪.‬‬

‫إنهمها قضيتان منفصهلتان – أو يجهب أن تكونها منفصهلين – إحداهمها عهن الخرى ‪ .‬إحداهمها قضيهة تعليميهة‪ ،‬قضيهة بيان الحقائق‬
‫للناس‪ ،‬تلك الحقائق التهى صهارت مجهولة عنهد كثيهر مهن الناس بسهبب الغربهة الثانيهة للسهلم‪ ،‬وههى أمانهة ال ل بهد مهن أدائهها‬
‫وعدم كتمانها‪ ،‬مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها ‪ ..‬والثانية قضية تطبيقية‪ ،‬والتطبيق لبد أن يسبقه إقامة‬
‫الحجهة على الناس أولً‪ ،‬بالبيان المسهتفيض المتحمهض للبيان‪ ،‬بل اشتباك بأى قضيهة أخرى تغشهى عليهها‪ ،‬وتلقهى عليهها ظللً‬
‫تصرف الناس عن حقيقتها ‪0‬‬

‫ونعود للسهؤال‪ :‬ههل وضحهت قضية التشريهع بغيهر مها أنزل ال عنهد الدعاة أنفسههم – ودع عنهك الن جماهيهر الناس – أم ل يزال‬
‫يختلط عليهم قول ابن عباس رضى ال عنهما ‪ :‬كفر دون كفر‪ ،‬كفر ل يخرج من الملة؟!‬

‫إن الذى قال عنه ابن عباس رضى ال عنهما إنه كفر دون كفر‪ ،‬ليس هو التشريع بغير ما أنزل ال‪ ،‬إنما هو الحكم فى قضية‬
‫ل أو تأولً أو شهوة أو لقاء رشوة أو هوى‪ ،‬دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم ال ‪0‬‬
‫معينة بغير ما أنزل ال‪ ،‬جه ً‬

‫إن القاضهى الذى يؤتهى له بإنسهان ثبهت شربهه للخمهر‪ ،‬وتفوح مهن فمهه رائحتهه‪ ،‬فل يقيهم عليهه الحهد‪ ،‬لنهه تلقهى رشوة مهن أههل‬
‫الرجهل‪ ،‬فالتوى عهن حكهم ال بحجهة مهن الحجهج‪ ،‬ههو قاض فاسهق‪ ،‬ولكنهه ل يكفهر بفسهقه ‪ ..‬أمها يوم يقول ‪ :‬إن شرب الخمهر ليهس‬
‫جريمهة‪ ،‬أو إنهها جريمهة ل يقام عليهها حهد‪ ،‬إنمها توقهع عليهها عقوبهة أخرى‪ ،‬فإنهه يكون كافرًا كفراً مخرجاً مهن الملة‪ ،‬لنهه أنشهأ‬
‫حكماً فى القضية مخالفاً لحكم ال‪ ،‬وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً‪0‬‬

‫حيهن حكهم التتار بالياسهق وههو – كمها قال الحافهظ ابهن كثيهر رحمهه ال ‪ :‬مجموعهة أحكام بعضهها مأخوذ مهن القرآن‪ ،‬وبعضهها من‬
‫النجيهل‪ ،‬وبعضهها مهن التوراة‪ ،‬وبعضهها مهن وضهع جنكيهز خان – قال ابهن كثيهر رحمهه ال ‪ ،‬فهى مناسهبة تفسهير اليهة الكريمهة ‪:‬‬
‫((أفحكهم الجاهليهة يبغون ومهن أحسهن مهن ال حكمها لقوم يوقنون))(المائدة ‪(( : )50 :‬ينكهر تعالى على مهن خرج عهن حكهم ال‪،‬‬
‫المشتمهل على كهل خيهر‪ ،‬الناههى عهن كهل شهر‪ ،‬وعدل إلى مها سهواه مهن الراء والصهطلحات التهى وضعهها الرجال بل مسهتند مهن‬
‫شريعة ال‪ ،‬كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضللت والجهالت‪ ،‬مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم‪ ،‬وكما يحكم به التتار‬
‫مهن السهياسات الملكيهة‪ ،‬المأخوذة عهن ملكههم جنكيهز خان الذى وضهع لههم الياسهق‪ ،‬وههو عبارة عهن كتاب مجموع مهن أحكام‬
‫اقتبسهها مهن شرائع شتهى‪ ،‬مهن اليهوديهة والنصهرانية والسهلمية وغيرهها‪ ،‬وفيهها كثيهر مهن الحكام أخذهها بمجرد نظره وهواه‪،‬‬
‫فصهارت فهى بنيهه شرع ًا متبعاً‪ ،‬يقدمونهه على الحكهم بكتاب ال وسهنة رسهوله صهلى ال عليهه وسهلم ‪ ،‬فمهن فعهل ذلك منههم فههو‬
‫كافر‪ ،‬يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم ال ورسوله‪ ،‬فل يحكم سواه فى قليل ول كثير))(‪.)1‬‬

‫وقههد علق على هذه القضيههة سههماحة الشيههخ محمههد بههن إبراهيههم بههن عبههد اللطيههف آل الشيههخ(‪ )2‬فههى رسههالة ((تحكيههم القوانيههن‬
‫الوضعية)) – وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة فى الحق – بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه ال ‪:‬‬

‫((فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل ال الكفر والظلم والفسوق‪ ،‬ومن الممتنع أن يسمى ال سبحانه‬
‫وتعالى الحاكهم بغيهر مها أنزل ال كافرا ول يكون كافرا‪ ،‬بهل ههو كافهر مطلقاً‪ ،‬إمها كفهر عمهل وإمها كفهر اعتقاد‪ .‬ومها جاء عهن ابهن‬
‫عباس رضى ال عنه فى تفسير هذه الية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل ال كافر‪ ،‬إما كفر اعتقاد‬
‫ناقل عن ملة السلم‪ ،‬وإما كفر عمل ل ينقل عن الملة؛ أما الول وهو كفر العتقاد فهو أنواع‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل ال أحقية حكم ال ورسوله‪ ،‬وهو معنى ما روى عن ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬واختاره‬
‫ابن جرير‪ ،‬أن ذلك هو جحود ما أنزل ال من الحكم الشرعى‪ ،‬وهذا ما ل نزاع فيه بين أهل العلم‪ ،‬فإن الصول المقررة المتفق‬
‫عليها بينهم أن من جحد أصل من أصول الدين‪ ،‬أو فرعا مجمعا عليه‪ ،‬أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة ‪0‬‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪68‬‬
‫‪ 2‬المفتى السبق للمملكة العربية السعودية ‪ ،‬ومن أكابر علمائها ‪.‬‬

‫‪16‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الثانى‪ :‬أل يجحهد الحاكهم بغيهر مها أنزل ال كونهه حكهم ال ورسهوله حقها‪ ،‬ولكهن اعتقهد أن حكهم غيهر الرسهول صلى ال عليه وسهلم‬
‫أحسن من حكمه‪ ،‬وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع‪ ،‬إما مطلقا‪ ،‬أو بالنسبة لما استجد من الحوادث‬
‫التههى نشأت عههن تطور الزمان وتغيههر الحوال‪ ،‬وهذا أيضهها ل ريههب أنههه كفههر لتفضيله أحكام المخلوقيههن التههى هههى محههض زبالة‬
‫الذهان وصرف حثالة الفكار على حكم الحكيم الحميد ‪ .‬وحكم ال ورسوله ل يختلف فى ذاته باختلف الزمان وتطور الحوال‬
‫وتجدد الحوادث ‪ .‬فإنهه مها مهن قضيهة كائنهة مها كانهت إل وحكمهها فهى كتاب ال تعالى وسهنة رسهوله صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬نصها‬
‫ظاهرا‪ ،‬أو استنباطا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬علم ذلك من علمه وجهله من جهله ‪0..‬‬

‫الثالث‪ :‬أل يعتقد أنه أحسن من حكم ال ورسوله‪ ،‬ولكنه اعتقد أنه مثله‪ ،‬فهذا كالنوعين اللذين قبله‪ ،‬فى كونه كافرا الكفر الناقل‬
‫عن الملة‪ ،‬لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق‪ ،‬والمناقضة والمعاندة لقول ال عز وجل ((ليس كمثله شىء)) ونحوها‬
‫مهن اليات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيههه عهن مماثلة المخلوقيهن‪ ،‬فهى الذات والصهفات والفعال‪ ،‬والحكهم بيهن‬
‫الناس فيما يتنازعون فيه ‪0‬‬

‫الرابهع‪ :‬أن ل يعتقهد كون الحكهم بغيهر مها أنزل ال مماثل لحكهم ال ورسهوله‪ ،‬فضل عهن أن يعتقهد كونهه أحسهن منهه‪ ،‬لكهن اعتقهد‬
‫جواز الحكم بما يخالف حكم ال ورسوله‪ .‬فهذا كالذى قبله‪ ،‬يصدق عليه ما يصدق عليه‪ ،‬لعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم‬
‫ال ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه ‪0‬‬

‫الخامس‪ :‬وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع‪ ،‬ومكابرة لحكامه‪ ،‬ومشاقة ل ولرسوله‪ ،‬ومضاهاة بالمحاكم الشرعية‬
‫إعدادا‪ ،‬وإرصههادا‪ ،‬وتفريعهها‪ ،‬وتشكيل‪ ،‬وتنويعهها‪ ،‬وحكمهها‪ ،‬وإلزامهها‪ ،‬ومراجههع ومسههتندات‪ ،‬فكمهها أن للمحاكههم الشرعيههة مراجههع‬
‫ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلهذه المحاكم مراجع هى القانون الملفق من شرائع‬
‫شتهى‪ ،‬وقوانيهن كثيرة‪ ،‬كالقانون الفرنسهى‪ ،‬والقانون المريكهى‪ ،‬والقانون البريطانهى‪ ،‬وغيرهها مهن القوانيهن‪ ،‬ومهن مذاههب بعهض‬
‫البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك ‪0‬‬

‫السهادس‪ :‬مها يحكهم بهه كثيهر مهن رؤسهاء العشائر والقبائل مهن البوادى ونحوههم‪ ،‬مهن حكايات آبائههم وأجدادههم وعاداتههم التهى‬
‫يسمونها ((سوالف))‪.‬‬

‫وأمها القسهم الثانهى مهن قسهمى كفهر الحاكهم بغيهر مها أنزل ال وههو الذى ل يخرج مهن الملة‪ ،‬فقهد تقدم أن تفسهير ابهن عباس رضهى‬
‫ال عنهه لقول ال عهز وجهل‪(( :‬ومهن لم يحكهم بمها أنزل ال فأولئك ههم الكافرون)) قهد شمهل ذلك القسهم‪ ،‬وذلك فهى قوله رضهى ال‬
‫عنه فى الية ((كفر دون كفهر)) وقوله أيضاً ليس بالكفهر الذى تذهبون إليه أ‪.‬هه‪ ،‬وذلك أن تحمله شهوته على الحكهم فى قضية‬
‫بغير ما أنزل ال مع اعتقاده أن حكم ال ورسوله هو حق‪ ،‬واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى ‪0‬‬

‫وهذا إن لم يخرجههه كفره عههن الملة‪ ،‬فإن معصههيته عظمههى أكههبر مههن الكبائر‪ ،‬كالزنهها وشرب الخمههر والسههرقة واليميههن الغموس‬
‫وغيرهها‪ ،‬فإن معصهية سهماها ال فهى كتابهه كفرا‪ ،‬أعظهم مهن معصهية لم يسهمها كفرا‪ .‬نسهأل ال أن يجمهع المسهلمين على التحاكهم‬
‫إلى كتابه‪ ،‬انقيادا ورضاءً‪ ،‬إنه ولى ذلك والقادر عليه))‪.‬‬

‫***‬

‫فههل اتضحهت القضيهة عنهد الدعاة أنفسههم‪ ،‬أم مها يزال بعضههم تختلط عليهه المور‪ ،‬مرة مهن مقالة ابهن عباس رضهى ال عنهمها‪،‬‬
‫ومرة من أثر الفكر الرجائى الذى يفصل بين اليمان والعمل‪ ،‬حتى لو كان نقضاً صريحاً لل إله إل ال‪ ،‬كالتشريع بغير ما أنزل‬
‫ال؟‬

‫وإذا كان المر ما يزال مختلط ًا عند بعض الدعاة‪ ،‬فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد ما زال أمامنا‪ ،‬حتى تتضح هذه‬
‫القضية بغير غبش فى حس الناس‪ ،‬ويتمكنوا من رؤية الحق الربانى فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!‬

‫هذا فهى قضيهة الحاكميهة‪ ،‬وههى ليسهت وحدهها التهى تحتاج إلى تجليهة فهى قضيهة ل إله إل ال‪ ..‬فتحريهر القضيهة يسهتلزم تخليصهها‬
‫كذلك ممها يشتبهك بهها مهن قضايها الوطنيهة والقوميهة والعدالة الجتماعيهة‪ ،‬وأمثال ذلك مهن القضايها التهى تداخلت معهها فهى مسهيرة‬
‫الدعوة ‪0‬‬

‫لقد كانت أمام الرسول صلى ال عليه وسلم قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للستكثار من ((الجماهير))‪.‬‬

‫كان الفرس يحتلون جزءا مهن الجزيرة العربيهة‪ ،‬والروم يحتلون جزءاً أخهر‪ ،‬وكان فهى إمكان الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم أن‬
‫يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير‪ ،‬حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم ‪ :‬قولوا ل إله إل ال ‪0‬‬

‫وكانهت هناك قضيهة اجتماعيهة‪ ،‬فالغنياء يصهلون إلى درجهة الثراء الفاحهش‪ ،‬والفقراء يصهلون إلى درجهة الفقهر المدقهع‪ ،‬ول أحهد‬
‫يفكهر فهى الحهد مهن غنهى الغنياء‪ ،‬بالغاء الربهها – على القههل‪ -‬وأخههذ جزء مههن الفائض عنههد الغنياء‪ ،‬ورده على الفقراء لرفههع‬

‫‪17‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫مستواهم‪ ،‬وكان فى إمكان الرسول صلى ال عليه وسلم أن يثير القضية‪ ،‬فتلتف حوله جموع الفقراء المسحوقين‪ ،‬فيكون منهم‬
‫قوة يواجه بها جبروت قريش‪ ،‬وفى حمية الصراع يقول لهم ‪ :‬قولوا ل إله إل ال ‪.‬‬

‫وكان غيهر ذلك مهن القضايها مادة مفيدة فهى تجميهع الجماهيهر وإثارة حماسهتهم‪ ،‬ثهم اسهتمالة الناس للدعوة مهن خلل تلك القضايها‬
‫العامههة‪ ،‬التههى تسههتهوى بطبيعتههها كثيراً مههن الناس‪ ،‬فيتجمعون لههها بسهههولة‪ ،‬ويلتفون حول مههن ينادى بههها‪ ،‬ويمنحونههه ودهههم‬
‫وحماسهتهم‪ .‬ولكهن رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم ‪ -‬بتوجيهه مهن الوحهى الربانهى – لم يثهر أيهة قضيهة مهن هذه القضايها فهى فترة‬
‫التربيهة بمكهة؛ وإنمها أثار القضيهة الواحدة التهى جلبهت له عداء ((السهادة)) وبالتبعيهة عداء الجماهيهر‪ ،‬وظهل مصهرا عليهها وحدهها‪،‬‬
‫حتى أذن ال أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل ال صلوات ال وسلمه عليهم ‪0‬‬

‫ولم يكن ذلك لن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية فى حياة المة‪ ،‬كل! فقد تناولتها الحركة السلمية كلها واحدة إثر الخرى؛‬
‫ولكهن لن القضيهة الكهبرى – فهى المنههج الربانهى وفهى واقهع البشهر – ههى قضيهة ل إله إل ال‪ ،‬التهى يتوقهف عليهها منههج حياة‬
‫النسان فى الدنيا‪ ،‬ومصيره فى الخرة‪ ،‬ولن قضايا الحياة كلها – فى المنهج الربانى – يجب أن تكون نابعة من ل إله إل ال‪،‬‬
‫ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً‪ ،‬فيتوفر لها الصدق والخلص والتجرد ‪ .‬ومن ثم جرى المنهج الربانى على تحرير قضية ل إله إل‬
‫ال أولً ‪ ،‬وتجريدها من أى شىء يمكن أن يشوبها فى مرحلة التكوين‪ ،‬لتكون عبادة خالصة ل‪ ،‬هدفها رضوان ال وحده‪ ،‬حتى‬
‫إذا تمحضهت فهى قلوب أصهحابها‪ ،‬وصهلت بهها كهل قضايها الرض اللزمهة لحياة المهة‪ ،‬دون خشيهة مهن اختلط المور فهى تلك‬
‫القلوب‪ ،‬بينما الخشية قائمة فى مرحلة التكوين‪ ،‬وحين يحدث الختلط فى المنشأ‪ ،‬فما أسرع ما تغلب مصالح الرض‪ ،‬وتصبح‬
‫مداخل للشيطان!‬

‫هل تجردت قضية ل إله إل ال فى قلوب الدعاة أنفسهم – ودع عنك الن قلوب الجماهير – فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة‬
‫ل‪ ،‬غيههر مختلطههة بقضايهها القوميههة والوطنيههة والعدالة الجتماعيههة‪ ،‬والدعاة – مههن أجههل اسههتمالة الجماهيههر – يتحدثون عههن‬
‫((اشتراكية السلم))‪(( ،‬وديمقراطية السلم))‪ ،‬و((التعددية فى السلم))؟‬

‫***‬

‫هل تم تحرير قضية الشرعية‪ ،‬ل نقول عند الجماهير‪ ،‬بل عند الدعاة أنفسهم؟‬

‫ما مفهومنا عن الشرعية؟‬

‫فهى الغربهة الثانيهة للسهلم – وخاصهة بعهد تنحيهة الشريعهة السهلمية عهن الحكهم فهى معظهم بلد المسهلمين – نسهينا معاييرنها‬
‫السلمية‪ ،‬واستبدالنا بها معايير الغرب‪ ،‬خاصة فى مجال ((السياسة الشرعية))‪.‬‬

‫والغرب يقول ‪ :‬إن مقياس الشرعيهة ههو النجاح فهى النتخابات‪ ..‬فمهن فاز بأكهبر عدد مهن الصهوات فههو صهاحب الشرعيهة الذى‬
‫يحق له أن يتولى الحكم ‪0‬‬

‫ودعهك مؤقتاً مهن التغيهر الحاد الذى أصهاب هذا المعيار‪ ،‬حيهن كان الفائزون بأكهبر عدد مهن الصهوات ههم السهلميين فهى الجزائر!‬
‫فقهد عودنها الغرب ((العظيهم!)) أن يكيهل بمكياليهن فهى أى قضيهة يكون المسهلمون طرفها فيهها‪ ،‬وذلك لشدة إيمانهه بالقيهم والمبادئ‬
‫واحترام الخر‪ ،‬واحترام حقوق النسان!!‬

‫دعك من الغرب ومواقفه‪ ،‬وتعال نسأل السلميين‪ :‬هل هذا هو المعيار السلمى فى هذه القضية؟‬

‫ههب أن إنسهاناً أو حزب ًا أو هيئة – أو مها يكون مهن الشكال السهياسية – حصهل على أغلبيهة سهاحقة فهى النتخابات‪ ،‬حصهل على‬
‫مائة فى المائة من أصوات الناخبين‪ ،‬ثم لم يحكم بما أنزل ال‪ ،‬فهل تكون له شرعية فى دين ال؟!‬

‫لقد اختلط علينا – فى غربة السلم الثانية – أمران مختلفان‪ :‬طريقة اختيار الحاكم‪ ،‬ونوع الحكم الذى يحكم به الناس ‪..‬‬

‫وحين كان السلم هو الحاكم فى الرض السلمية‪ ،‬تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة فى الحاكم‪ ،‬وتكلموا عن‬
‫البيعهة الحرة‪ ،‬وعهن الشورى‪ ،‬وعهن غيرهها مهن المور المتعلقهة بسهياسة الحكهم‪ ،‬وتحدثوا عهن ((فقهه الضرورة)) ‪ ،‬ومها يمكهن‬
‫التنازل عنهه مهن الشروط تحهت ضغهط الضرورة‪ ،‬فقالوا ‪(( :‬وللمتغلب السهمع والطاعهة)) ‪ ..‬ولكهن لم يدر فهى خلدههم قهط أن حاكماً‬
‫يمكن أن يشرع بغير ما أنزل ال‪ ،‬ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!‬

‫إن الشرط الساسى لشرعية الحكم فى السلم‪ ،‬أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية‪ ،‬ومر بنا أنف ًا قول ابن كثير رحمه‬
‫ال فى الحاكم الذى ل يحكم بما أنزل ال‪ ،‬إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة ‪0‬‬

‫‪18‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ل عهن الجماهيهر‪ ..‬أم إن حديثنها كله يجرى حوله النتخابات‪ ،‬وههل ههى‬
‫فههل تحررت هذه القضيهة فهى أذهان الدعاة أنفسههم‪ ،‬فض ً‬
‫حرة أم مزورة؟ وكم صوتاً نلنا حتى الن فى البرلمان؟ وكم يلزمنا من الجهد لزيادة نصيبنا من الصوات؟!‬

‫إن الظههن بأننهها إذا حصههلنا على أغلبيههة فههى البرلمان‪ ،‬فسههيترك لنهها المجال لتطههبيق شريعههة ال‪ ،‬ظههن سههاذج إلى أقصههى درجات‬
‫ل على ذلك ‪0‬‬‫السذاجة‪ ،‬ويكفى واقع الحال فى الجزائر دلي ً‬

‫ولكهن اختيارنها لهذا الطريهق – مهن حيهث المبدأ – مهن أجهل الوصهول إلى الحكهم‪ ،‬ثهم محاولة تطهبيق شريعهة ال مهن هذا الطريهق‪،‬‬
‫مخالفهة شرعيهة؛ لنهه يجعهل الناس ههم المرجهع فهى اختيار نوع الحكهم الذى يحكمون بهه‪(( ،‬ول نتحدث هنها عهن اختيار الحاكهم))‪،‬‬
‫فإذا اختاروا السلم حكم السلم‪ ،‬وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو السلم؟!‬

‫وأين نحن من قوله تعالى ‪(( :‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الحزاب‬
‫‪.)36 :‬‬

‫إن مصهدر اللزام فهى تحكيهم شريعهة ال ليهس ههو اختيار البشهر أو عدم اختيارههم مها داموا مسهلمين‪ ..‬فمها داموا مسهلمين فقهد‬
‫لزمههم التحاكهم إلى شريعهة ال بداههة‪ ،‬وإل انتفهى اليمان عنههم إن أعرضوا عهن شريعهة ال‪ ،‬واتجهوا إلى غيرهها مهن الشرائع‪،‬‬
‫وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!‬

‫((ويقولون آمنا بال وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( ‪ )47‬وإذا دعوا إلى ال ورسوله‬
‫ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور ‪)48-47 :‬‬

‫فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء ‪.)65 :‬‬

‫حقيقهة إنهه ل يمكهن فهى عالم الواقهع أن يحكهم السهلم مها لم يكهن هناك مؤمنون‪ ،‬يصهرون على تحكيهم شريعهة ال‪ ،‬ويرفضون أى‬
‫شريعهة سهواها‪ ،‬يقيناً منههم أن الرضهى بشرع غيهر شرع ال كفهر مخرج مهن الملة‪ . .‬وأن هذه العينهة مهن المؤمنيهن ههى الن قلة‬
‫فهى المجتمههع تسهتضعفهم الجاهليهة وتعصههف بههم ‪ ..‬هذه حقيقهة‪ ،‬ولكهن مقتضاههها هههو أن نظههل ندعههو‪ ،‬ونظهل نهبين للناس هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬أنه ل إيمان لحد إذا رضى بشرع غير شرع ال‪ ،‬ونظل نربى الناس على مقتضيات هذه الحقيقة‪ ،‬حتى تصبح القاعدة‬
‫المؤمنهة مهن القوة بحيهث يصهبح فهى يدهها مقاليهد المور‪ ،‬وهذه ههى مهمهة الدعوة فهى وقتهها الحاضهر‪ ،‬مهمها طال بهها المهر‬
‫لتحقيقها‪ ،‬وليست مهمتها أن تستفتى الناس عن طريق صناديق النتخاب‪ :‬هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم ل يريدون!‬

‫ل عن الجماهير‪ ،‬أم إنهم انزلقوا بغير وعى منهم إلى معايير الديمقراطية‬
‫فهل وضحت هذه القضية فى حس الدعاة أنفسهم‪ ،‬فض ً‬
‫التى تجعل الجماهير – فى ظاهر المر على القل(‪ – )1‬هم المحكمين فى نوع الحكم‪ ،‬وليس ال الذى له الخلق والمر ‪(( :‬أل له‬
‫الخلق والمر)) (العراف‪ ..)54 :‬وهذا مفرق طريق رئيسى بين الجاهلية والسلم!‬

‫***‬

‫هل تم بناء القاعدة على أسس متينة؟‬

‫نقول بادئ ذى بدء ‪ :‬إنهه إذا كانهت لم تتبلور بعهد قضيهة ل إله إل ال‪ ،‬ول قضيهة الشرعيهة فهى حهس بعهض الدعاة على القهل‪،‬‬
‫فكيف تكون القاعدة قد قامت على المواصفات المطلوبة؟‬

‫إن القاعدة المطلوبهة – وههى تتكون أسهاساً مهن جيهل الدعاة الذيهن يعدون لنشهر الدعوة على نطاق أوسهع – تقوم على أسهاسين‬
‫كبيرين ‪ :‬فهم واع لحقيقة السلم‪ ،‬وتربية عميقة على متطلبات هذا الدين وتكاليفه ‪0‬‬

‫وقد رأينا أن الفهم الواعى لحقيقة السلم‪ ،‬ما زال يعتوره النقص فى قضيتين رئيسيتين من قضايا السلم‪ ،‬وهما قضية ل إله‬
‫ل عهن قضايها أخرى سهيأتى الحديهث عنهها فيمها بعهد‪ ،‬تتعلق بمنههج الحركهة‪ ،‬أمها التربيهة فشأنهها‬
‫إل ال‪ ،‬وقضيهة الشرعيهة‪ ،‬فض ً‬
‫أخطر‪ ،‬والنقص فى مجالتها أشد ‪0‬‬

‫وإذا رجعنها إلى النشأة الولى‪ ،‬فقهد كان الههم الكهبر لرسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم فهى الفترة المكيهة ههو تربيهة القاعدة على‬
‫أسهس متينهة غايهة فهى المتانهة‪ ،‬راسهخة شديهد الرسهوخ‪ ،‬فائقهة مهن جميهع المجالت‪ :‬اليمانيهة والخلقيهة‪ ،‬التصهورية والسهلوكية‪،‬‬
‫الوجدانية والعملية ‪0‬‬

‫‪ 1‬فى مسرحية الديمقراطية تتوهم الجماهير أنها هى التى تحكم ‪ ،‬بينما الحكم فى الحقيقة فى يد الرأسمالية! أما من وجهة النظر السلمية فسواء كان الحكم‬
‫للجماهير حقيقة أم كان فى يد الرأسمالية فهو فى الحالين تشريع بغير ما أنزل ال ‪0‬‬

‫‪19‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وقهد ل يتكرر جيهل مثهل جيهل الصهحابة رضوان ال عليههم إلى قيام السهاعة – وإن لم يخهل جيهل مهن الجيال مهن أفراد على ذلك‬
‫المسهتوى الرفيهع – ولكهن يبقهى موضهع القدوة لنها فهى ذلك الجيهل الفريهد‪ ،‬أن القاعدة ينبغهى أن تكون على أعلى مها ههو متاح لهها‬
‫مهن إمكانات الرسهوخ العقدى والسهلوكى‪ ،‬وأعلى درجهة فهى حدود طاقتهها مهن التمثيهل الصهادق لحقيقهة السهلم‪ ،‬لنهه على أكتافهها‬
‫سهتقوم الدعوة‪ ،‬وفهى أشخاصهها سهتكون القدوة‪ ،‬وعلى جهدهها يتوقهف مردود الحركهة فهى إزالة الغربهة الثانيهة للسهلم‪ ،‬كمها ألقهى‬
‫على عاتق الجماعة الولى مهمة إزالة الغربة الولى للسلم ‪0‬‬

‫ل رئيسهي ًا مهن فصهول الكتاب‪ ،‬ولكهن نقول هنها‪ :‬إنهه يجهب علينها أن نعلم ابتدا ًء أن المطلوب‬
‫وسهنخصص لموضوع التربيهة فصه ً‬
‫للجولة الحاليهة – بالنسهبة للقاعدة – ليهس أى مسهتوى على علتهه‪ ،‬إنمها مسهتوى خاص؛ لنهها تقوم بمهمهة خاصهة‪ ،‬وتواجهه‬
‫عقبات من نوع غير عادى‪ ،‬وعداوة فذة فى كيدها وتدبيرها‪ ،‬ومقدار الغل الذى تحمله فى صدرها للسلم‪ ..‬وليس أى مستوى‬
‫يصلح لتلك المهمة العظيمة‪ ،‬ول لمواجهة تلك العقبات وتلك العداوات‪..‬‬

‫وعلى الرغم من المشقة الواضحة فى الوصول إلى المستوى المطلوب‪ ،‬فإنه أمر ل حيلة فيه ول غنى عنه‪ ،‬والمة – ممثلة فى‬
‫طليعتها – تدفع ثمن تقاعسها وتفلتها من حمل تكاليف هذا الدين‪ ،‬ذلك التقاعس الذى أوصلها إلى تداعى المم عليها كما تداعى‬
‫الكلة على قصهعتها‪ ..‬ولبهد مهن جههد غيهر عادى تبذله اليوم‪ ،‬يعوض شيئاً مهن ذلك التقاعهس الذى اسهتمر أكثهر مهن قرنيهن مهن‬
‫الزمان‪ ،‬تمكن العدو فيهما من المر‪ ،‬وجثم على صدر المة ل يريد أن يتحرك ‪0‬‬

‫وإذا كان الجيهل الول‪ ،‬وفيهم رسول ال صلى ال عليه وسهلم ‪ ،‬والوحهى يتنزل عليهم‪ ،‬قهد بذلوا جهداً غيهر عادى لزالة الغربة‬
‫الولى للسلم‪ ..‬فنحن – وليس فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بشخصه‪ ،‬ول يوجه الوحى خطانا توجيهاً مباشرًا كالجيل‬
‫الول – أحوج إلى بذل أقصى غاية الجهد‪ ،‬مستعينين بال العلى العظيم‪ ،‬الرءوف الحليم‪ ،‬أن يبارك جهدنا ويسدد خطانا‪ ،‬ويكتب‬
‫على أيدينا إزالة الغربة الثانية ‪0‬‬

‫وأشد المجالت حاجة إلى بذل الجهد هو بناء القاعدة‪ ،‬ولكن الذى نراه اليوم من عثرات فى العمل السلمى دليل ل يخطئ على‬
‫أننا تعجلنا الخطى‪ ،‬ولم نعط قضية التربية ما تستحقه من الجهد‪ ،‬بل لم ندرك فى بعض الحيان أن هذا المر أو ذاك محتاج إلى‬
‫تربية وإعداد!‬

‫***‬

‫هل اتسعت القاعدة إلى الحد المعقول‪ ،‬الذى يتناسب ما هو مطلوب منها فى الجولة الحالية؟!‬

‫فأمها إن قصهدنا القاعدة الجماهيريهة‪ ،‬فقهد اتسهعت ول شهك مهن خلل عمهل الدعوة الدائب‪ ،‬مها يزيهد على نصهف قرن‪ ،‬ومهن خلل‬
‫الشهداء الذيهن قدموا أرواحههم ودماءههم فهى سهبيل الدعوة‪ ،‬ومهن خلل حماقات الجاهليهة فهى إزاقهة الدماء والسهجن والتشريهد‬
‫والتعذيهب للمسهلمين‪ ،‬وتلك سهنة ربانيهة يغفهل عنهها الطغاة دائم ًا ‪ :‬أن الدعوة التهى يقدم لهها الدم ل تموت! والطغاة يحسهبون أنههم‬
‫إن أكثروا مهن إراقهة الدماء‪ ،‬والسهجن والتشريهد والتعذيهب‪ ،‬فسهيقضون على الدعوة‪ ،‬ويجعلون هذا تحدياً قائماً أمامههم لبهد أن‬
‫ينتصروا فيه‪ ،‬فيكون هذا ذاته هو قدر ال لتمحيص المؤمنين‪ ،‬ومحق الكافرين فى نهاية المطاف‪(( :‬ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم‬
‫العلون إن كنتهم مؤمنيهن(‪ )139‬ن يمسهسكم قرح فهق دمهس القوم قرح مثله وتلك اليام نداولهها بيهن الناس وليعلم ال الذيهن‬
‫آمنوا ويتخذ منكم شهداء وال ل يحب الظالمين(‪ )139‬وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران ‪.)141-139 :‬‬

‫نعم‪ ،‬اتسعت القاعدة الجماهيرية‪ ،‬وتفرعت وتشعبت وشملت العالم السلمى كله‪ ،‬وانضم إليها ألوف وألوف من الشباب‪ ،‬ولدوا‬
‫فى ظل النظم الجاهلية‪ ،‬ولكن أراد ال لهم أن يختاروا طريق السلم‪ ،‬متأثرين بنشاط الدعوة وحماقات الجاهلية‪ ،‬ولكن ما وزن‬
‫هذه الجماهير بالنسبة للحركة؟‬

‫أمها أن الدعاة قهد فرحوا باتسهاع القاعدة على هذا النحهو فأمهر ل شهك فيهه‪ ،‬وأمها أن هذه الجماهيهر قهد جندت أنفسهها للدعوة‪ ،‬كمها‬
‫جند النصار أنفسهم لدعوة الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمر تحوطه الشكوك!‬

‫ونسأل أولً ‪ :‬هل هذه الجماهير المتحمسة للسلم تظل على حماستها حين ترتكب الجاهلية حماقاتها‪ ،‬فتقتل المسلمين وتعذبهم‬
‫وتشردههم‪ ،‬وتسهلبهم أمنههم وطمأنينتههم‪ ،‬وتلحقههم بالذى والتنكيهل‪ ،‬أم يقول قائلههم يومئذ ‪ :‬لذلك الحهد لم تبلغ صهداقتنا! ويتخلى‬
‫عن الطريق؟!‬

‫بههل لو فرضنهها جدلً أن المسههلمين تولوا الحكههم فههى بلد مههن البلد‪ ،‬فقامههت الجاهليههة العالميههة‪ :‬الصههليبية الصهههيونية‪ ،‬تحاربهههم‬
‫بالحصهار القتصهادى – ودع عنهك الوسهائل الخرى – فههل تصهبر هذه الجماهيهر المتحمسهة على الجوع مهن أجهل إقامهة حكهم‬
‫السلم؟ أم ترتد على أعقابها بحثاً عن لقمة الخبز؟!‬

‫بل لو فرضنا جدلً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلد ولم تتعرض لهم الجاهلية العالمية بالحرب‪ ،‬ل الحرب القتصادية‬
‫ول غيرها من أنواع الحرب‪ ،‬ولكنهم فقط ألغوا الغانى المتسيبة المتميعة من الذاعة‪ ،‬وألغوا المشاهد الخليعة من التلفزيون‪،‬‬

‫‪20‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وحرموا التهبرج فهى الطريهق‪ ..‬فههل هذه الجماهيهر المتحمسهة سهتظل كلهها على حماسهتها‪ ،‬أم يتقاعهس بعضهها على القهل ويقول‪:‬‬
‫هذا تزمت ل موجب له!!‬

‫أليهس مهن الضرورى أن تتلقهى هذه الجماهيهر قدرًا مهن التربيهة على القهل‪ ،‬لكهى تجنهد نفسهها لتكاليهف السهلم‪ ،‬ول تنفهر مهن هذه‬
‫التكاليف حين يواجهها العداء بالحرب‪ ،‬أو حين تقام فى الرض أحكام السلم؟‬

‫ومههن الذى يربههى تلك الجماهيههر‪ ،‬والقاعدة ذاتههها لم تسههتكمل حظههها مههن التربيههة‪ ،‬ولم تعههد نفسههها للتوسههع الجماهيرى‪ ،‬فجاءت‬
‫الجماهير تلهبها الحماسة فلم تجد المربين؟!‬

‫أمها الحديهث عهن التجرد ل فحديهث شائك! ومها بنها أن نتكلم فهى حهق أحهد يعينهه‪ ،‬ومها نهبرئ أنفسهنا‪ ،‬وال وحده ههو المطلع على‬
‫دخائل النفوس‪ (( :‬يعلم خائنة العين وما تخفى الصدور))(غافر‪ . )19:‬ولكنا نقول فقط إن ظاهرة التنازع والشقاق والتشرذم‬
‫التى تحيط بالعمل السلمى اليوم تحمل دللة معينة‪ :‬أن هناك نقصاً فى تربية ((الخوة السلمية)) فى نفوس العاملين فى حقل‬
‫الدعوة‪ ،‬ونقصاً فى التجرد الحقيقى ل ‪0‬‬

‫ليهس الخلف فهى ذاتهه عيباً‪ ،‬وإن كان ينبغهى أن تكون له ضوابهط تضبطهه‪ ،‬بحيهث ل يصهبح تعصهبًا لهوى فهى النفهس‪ ،‬أو لشخهص‬
‫من الشخاص‪ ،‬أو فرقة من الفرق‪ .‬وقد كان الصحابة رضوان ال عليهم يختلفون‪ ،‬ولكنهم لم يكونوا يفترقون‪ ،‬وهذا هو محور‬
‫القضية‪ .‬حين نختلف نونحهن متجردون ل‪ ،‬متجردون للحق‪ ،‬فسيقل التنازع والشقاق والتشرذم دون شهك‪ ،‬وتقهل ظاهرة التحزب‬
‫القائمة اليوم فى العمل السلمى‪ ،‬والتى تؤدى إلى التعصب للرأى‪ ،‬وللفكر‪ ،‬وللقائد‪ ،‬وللجماعة‪ ،‬وللطريق ‪0‬‬

‫وبطبيعههة الحال ليههس الجتماع مطلوباً فهى ذاتهه ولو كان على الخطهأ‪ ،‬فالخطهأ ل يخدم الدعوة‪ ،‬والصهرار عليهه مفسههدة‪ ،‬ولكهن‬
‫التجرد فى بيان الحق أدعى إلى تأليف القلوب‪ ،‬من التنابذ بدعوى تصحيح الخطأ وإظهار الصواب!‬

‫وخلصة القول‪ :‬أننا تعجلنا الطريق‪ ،‬وأن أمامنا مشوارًا لبد أن نقطعه‪ ،‬لنستحق عند ال التمكين ‪0‬‬

‫لقهد بين ال لنا طريهق التمكين ‪(( :‬هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين(‪ )62‬وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الرض جميعاً ما‬
‫ألفهت بيهن قلوبههم ولكهن ال ألف بينههم إنهه عزيهز حكيهم(‪ )63‬يأيهها النهبى حسهبك ال ومهن اتبعهك مهن المؤمنيهن(‪ )64‬يأيهها النهبى‬
‫حرض المؤمنين على القتال‪())..‬النفال‪)65-62 :‬‬

‫فتلك شروط أربعهة‪ ،‬فهى أربهع آيات متواليات مهن سهورة واحدة‪ ،‬تهبين الشروط السهاسية للنصهر‪ :‬وجود مؤمنيهن صهادقى اليمان‪،‬‬
‫متآلفة قلوبهم‪ ،‬متجردين ل‪ ،‬مستعدين للقتال حين تقتضى ذلك ظروف الجهاد ‪0‬‬

‫فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة فى ضوء هذه الشرط فسنجد ول شك أننا قطعنا شوطاً‪ ،‬ولكننا استعجلنا الطريق!‬

‫أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة‬

‫والنتائج التى ترتبت عليه‬

‫هناك ثلثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل فى الحركة المعاصرة ‪:‬‬

‫أولً ‪ :‬عدم التقدير الدقيق لمدى بعد المة عن حقيقة السلم ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬النخداع بحماسة الجماهير‪ ،‬والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهى قريبة المنال ‪0‬‬

‫ثالث ًا ‪ :‬عدم التقدير الكافى لرد فعل العداء ‪.‬‬

‫وسنتناول كل واحد من هذه السباب بشىء من البيان ‪.‬‬

‫حيهن بدأت الدعوة قبهل أكثهر مهن نصهف قرن‪ ،‬لم يكهن حال المهة قهد انكشهف تمام ًا مهن كهل جوانبهه‪ ،‬فقهد كانهت بقايها مهن المظاههر‬
‫السهلمية تخايهل للرأى‪ ،‬فيظهن أن الخيهر باق مها يزال‪ ..‬لم يكهن الغزو الفكرى قهد تمكهن مهن المهة تمكنهه الحالى‪ ،‬وكانهت بقايها‬
‫التقاليد تستر الخواء القابع وراءها‪ ،‬فل تظهر الصورة على حقيقتها ‪0‬‬

‫فأما الغزو الفكرى فكان قد بدأ منهذ وقعت بلد العالم السهلمى فى قبضة الغرب‪ ،‬وبدأ العالم السهلمى من جانبهه ينبهر بمها عند‬
‫الغرب من تقدم مادى وعلمى‪ ،‬بينما المسلمون يؤمئذ متخلفون فى جميع الميادين‪ ،‬ثم عملت مناهج التعليم ووسائل العلم على‬
‫تعميهق الغزو وترسهيخه‪ ،‬وتخريهج أجيال تنسهلخ تدريجي ًا مهن السهلم‪ ،‬وتدخهل تدريجياً فهى عمليهة التغريهب‪ ..‬ولكنهه حيهن بدأت‬
‫الدعوة قبهل أكثهر مهن نصهف قرن‪ ،‬لم يكهن قهد آتهى ثماره كاملة‪ ،‬فلم يكهن يتعرى على الشاطهئ إل نسهاء الطبقهة الرسهتقراطية! أمها‬

‫‪21‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫بنات الطبقهة المتوسهطة فكهن مها زلن يسهتحين مهن ذلك العرى‪ ،‬وإن اشتهتهه أنفسههن مهن كثرة مها تنشهر الصهحف والمجلت مهن‬
‫صههوره وأخباره! وأمهها بنات الشعههب فكههن ينفرن منههه نفوراً ويسههتنكرنه اسههتنكاراً! وكانههت الصههداقات ((البريئة!)) بيههن الولد‬
‫والنبات تتهم على اسهتحياء شديهد‪ ،‬وفهى تكتهم عهن الباء والمهات‪ ،‬والفتاة التهى تسهتعلن بهه تعتهبر سهاقطة فهى نظهر الناس! وكان‬
‫الفكر الغربى ينشر فى الصحف والكتب إما منسوباً إلى أصحابه الصليين من مفكرى الغرب‪ ،‬إذا كان الناقل أميناً يحترم نفسه‪،‬‬
‫وإمها مسطواً عليه ومنسهوباً إلى ناقله فهى كثر مهن الحيان! وكان المسهرح‪ ،‬وكانهت السهينما‪ ،‬وكانهت الذاعهة‪ ،‬كلهها تعمهل لحسهاب‬
‫الغزو الفكرى‪ ،‬ولكن روادها بعد محدودون‪ ،‬وتأثيرها بعد ما يزال فى منشئه ‪0‬‬

‫باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التى صارت إليها فيما بعد‪ ،‬والتى قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى‬
‫الثانية بصفة خاصة ‪0‬‬

‫ومهن جانهب أخهر كانهت بقايها التقاليهد مها تزال قائمهة‪ ،‬يخيهل للرائى أنهها سهتصمد لضغهط الغزو الفكرى‪ ،‬كمها صهمدت حوالى نصهف‬
‫قرن قبهل ذلك! فقهد كان مها يزال هناك مهن يرتاد المسهاجد مهن الشباب‪ ،‬حتهى فهى العواصهم الكهبرى التهى تركهز فيهها الغزو الفكرى‪،‬‬
‫وفى رمضان يصوم الصغار والكبار‪ ،‬ول يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب‪ ،‬حتى لو كان مفطراً فى واقع المر! وكان‬
‫الزواج يتم بمعرفة البوين وعن طريقهما فى أغلب الحيان‪ ،‬وكانت السرة ما تزال متماسكة‪ ،‬لرب السرة فيها كلمة مسموعة‪،‬‬
‫والولد والبنات متقيدون بالتقاليهد العامهة ل يخرجون عنهها‪ ،‬ومهن خرج عليهها يجهد مهن الناس العراض والنفور؛ أمها الريهف‬
‫فكان فى مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال‪ ،‬يستنكر الفساد الموجود فى المدينة‪ ،‬ويتحسر على ((أيام زمان))‪.‬‬

‫فى مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفى على الرائى حقائق كثيرة!‬

‫لقهد كان السهلم قهد تحول منهذ فترة غيهر قصهيرة إلى مجموعهة مهن التقاليهد أكثهر منهه شحنهة حقيقيهة حيهة ‪ ..‬وفهى فترة معينهة فهى‬
‫حياة المهم يكون تمسهك الناس بالتقاليهد شديداً‪ ،‬إلى حهد يتوههم معهه النسهان أن الناس على ديهن حقيقهى! ولكهن التقاليهد تجهف بعهد‬
‫فترة حيهن ينقطهع عنهها المدد الحهى الذى يمنحهها الحيويهة والفاعليهة‪ ،‬فتبدأ تتيبهس وتجمهد مهن ناحيهة‪ ،‬وتفقهد تماسهكها مهن ناحيهة‬
‫أخرى‪ ..‬وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف فى المجتمع‪ ،‬وإن كان ما لها إلى التفتت والنهيار فى النهاية‪ ،‬بفعل‬
‫عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد ل تستطيع أن تصمد‪ ،‬وسرعان ما تنهار‬
‫‪0‬‬

‫والذى حدث فههى العالم السههلمى أن معاول الهدم‪ -‬المتمثلة فههى الغزو الفكرى‪ -‬كانههت عنيفههة شديدة العنههف‪ ،‬موجهههة بشدة لهدم‬
‫ل عهن تقاليده الظاهريهة‪ ،‬فل جرم تنهار التقاليهد انهيارًا سهريعاً تحهت طرقات المعاول التهى تعمهل ليهل نهار‪ ،‬فهى‬
‫السهلم ذاتهه فض ً‬
‫دأب ل يفتر‪ ،‬وإصرار ل يتحول عن أهدافه‪.‬‬

‫وفى نصف قرن تغيرت المور تغيرًا مريعاً‪ ،‬حتى لكأن المة الولى قد ذهبت‪ ،‬وجاءت بدلً منها أمة أخرى ل صلة بينها وبينها‬
‫إل تشابه السماء! وسرى الفساد الذى أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً‪ ،‬كسريان السم فى البدن الملدوغ‪ .‬فلم تعد بنات‬
‫السر الرستقراطية وحدهن هن اللواتى يتعرين على الشاطئ‪ ،‬إنما صارت بنات الطبقة الوسطى‪ ،‬ورويداً رويدًا وصلت العدوى‬
‫للريف! وصارت العلقات بين الولد والبنات‪ -‬البرئ منها وغير البرئ‪ -‬شيئاً عادياً فى المجتمع‪ ،‬بل أصبحت إحدى أصوله‪..‬‬
‫وتفككت السرة ولم يعد سلطان عليها‪ ،‬وصار للولد والبنات شأنهم الخاص الذى ل يجوز للوالدين أن يتدخل فيه‪..‬‬
‫وأصبح((الدين))عموماً علمة الجمود والنغلق‪ ،‬وعلمة التخلف عن ركب الحياة الحى المتحرك‪ ،‬وأصبح الثبات على أى شئ‬
‫عيباً يعير به صاحبه‪ ،‬لن الصل فى الشياء هو التطور وليس الثبات!‬

‫فهى نصهف قرن حدث هذا كله‪ ،‬ونسهب إلى التطور وإلى النهضهة‪ ،‬وإلى مواكبهة العالم المتحضهر‪ ،‬وإلى ثورة التكنولوجيها وثورة‬
‫التصالت!‬

‫وما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم السلمى خارج الحداث التى تمور بها الرض‪ ،‬ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً‬
‫كانت قمينة أن تحدث‪ ،‬لو أن السلم كان حيا فى نفوس أصحابه‪ ،‬وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح‪.‬‬

‫فأما التقدم العلمى والتكنولوجى فهو ل يشكل مشكلة للنسان المسلم‪ ،‬وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التى كانت‬
‫قائمة فى الرض‪ ،‬ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية‪ ،‬أبرزها استخدام المنهج التجريبى فى البحث العلمى‪ ،‬فضل عن‬
‫كشوف علمية أخرى كانت هى نواة التقدم الحالى‪ .‬ولكن المسلم ل تهتز عقيدته حين يتعلم العلم‪ ،‬ول يهتز إيمانه بال واليوم‬
‫الخر‪ ،‬لنه صاحب كيان سوى تتجاوز فيه‪ -‬وتتعاون‪ -‬نزعة اليمان ونزعة المعرفة‪ ،‬بل تعارض ول تناقص ول تضاد‪(( :‬إنما‬
‫يخشى ال من عباده العلماء))(فاطر‪.)28 :‬‬

‫إنما حدث التعارض والتناقص فى أوروبا‪ ،‬نتيجة خلل فى الدين الذى كانت تعتنقه‪ ،‬وخلل فى الكيان الذى أورثها إياه ذلك الدين‪،‬‬
‫ل لن الدين بطبيعته مناقض للعلم‪ ،‬ول لن العلم يمكن أن يكون بديل من الدين! ولو أن السلم كان حياً فى نفوس أصحابه‪،‬‬
‫وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح‪ ،‬فقد كانت المة السلمية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج‬
‫الجاهلى الغربى الذى ينتقل من اختلل إلى اختلل‪ ،‬والذى ل يستوعب فى أى طور من أطواره إل أحد شقى النسان‪ :‬إما الشق‬

‫‪22‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الروحى‪ ،‬وإما الشق المادى‪ ..‬إما الشق الذى يعمل من أجل الخرة‪ ،‬ويهمل الحياة الدنيا‪ ،‬وإما الشق الذى يعمل من أجل الدنيا‬
‫ويهمل الخرة‪ ،‬ويعجز فى جميع الحوال عن استيعاب النسان كله كما خلقه ال‪ ،‬بشقيه معاً مجتمعين مترابطين‪ :‬قبضة الطين‬
‫ونفخة الروح‪(( :‬إذ قال ربك إنى خالق بشراً من طين(‪ )71‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص‪-71 :‬‬
‫‪.)72‬‬

‫وإن عجز المة عن استيعاب التقدم العلمى والتكنولوجى الحادث فى الرض‪ ،‬وعجزها عن تقديم النموذج الحضارى المتميز‪،‬‬
‫كانت له دللة ل ينبغى أن تفوت صاحب الدعوة‪ ..‬دللته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين فى نفوس أصحابه قد خبت‪ ،‬أو‬
‫ضعفت إلى الحد الذى يعجزها عن التفاعل الحى مع الحداث‪ ،‬كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ‪ ..‬وهذا الضعف لبد له‬
‫بطبيعة الحال من أسباب‪ ،‬فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحى الموار بالحيوية‪ ،‬الذى صنع العاجيب فى حياة البشرية كلها‪،‬‬
‫حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً‪ ،‬وتحركوا به فى دنيا الواقع‪ ..‬ولبد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض‬
‫الجسد كله‪(( :‬أل إن فى الجسد مضغ ًة إذا صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهى القلب))(‪ .)1‬ولو‬
‫انكشفت تلك المراض لصحاب الدعوة من أول الطريق‪ ،‬لعملوا على علجها أولً قبل النطلق‪ ..‬لو اتضح لهم أن كل ألوان‬
‫التخلف التى وقع فيها المسلمون‪ ،‬من تخلف علمى ومادى وسياسى وحربى وحضارى وثقافى‪ ،‬نشأت كلها من التخلف العقدى‬
‫الذى أصابهم فى الفترة الخيرة بصفة خاصة‪ ،‬لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذى ساروا عليه بالفعل‪ ،‬ولكانت لهم رؤية مختلفة‬
‫فى طريق العلج‪.‬‬

‫ول شك أن حقيقة بعد المة عن الصورة الصحيحة للسلم‪ ،‬كانت واضحة وضوح ًا كاملً للدعاة؛ لنها كانت أظهر من أن تخفى‬
‫على أحد‪ ..‬ولكن مدى هذا البعد ونوعيته‪ ،‬هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة‪ ،‬التى تخيل للرائى أن البناء‬
‫تحتها ما يزال سليماً‪ ،‬أو أنه ل يحتاج إل إلى ترميمات قليلة هنا وهناك!‬

‫كان ينبغى للدعوة أن تكشف عن الساس ذاته‪ ،‬لترى إن كان قد بقى سليماً‪ ،‬أم تهرأ خلل الهزات المتوالية التى مرت بالمة‬
‫خلل التاريخ‪ ،‬ليتقرر فى حسها نقطة البدء‪ :‬هل هى ترميم البناء‪ ،‬أم تجديد الساس‪.‬‬

‫لم يكن الفساد الذى ألم بالمة هو فساد السلوك وحده‪ ،‬إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم‪ ،‬وفساد المفاهيم أخطر كثيرًا وأشق‬
‫علجاً من فساد السلوك‪..‬‬

‫حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة‪ ،‬مع وجود مفاهيم صحيحة‪ ،‬فالصلح‪ -‬مهما بلغت مشقته‪ -‬أيسر منال وأقرب رجاءً مما‬
‫لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت‪ ،‬لنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف‪ ،‬جهد فى تصحيح المفاهيم وهو الشق‪ ،‬وجهد فى‬
‫تصحيح السلوك‪.‬‬

‫وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها فى الحقيقة قد فسدت‪ -‬كما ألمحنا من قبل‪ -‬حتى مفهوم ل إله إل ال‪ ،‬بل بدءًا بمفهوم ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان‪ ،‬إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس‪ ،‬يؤدونها تقليداً أكثر‬
‫مما يؤدونها أداء حياً واعياً‪ ،‬يربط النسان بمنهج حياة متكامل‪ ،‬يشمل الحياة كلها‪ :‬عبادتها وعملها‪ ،‬سياستها واقتصادها‪،‬‬
‫روابطها الجتماعية وروابطها الفكرية كلها فى آن‪.‬‬

‫كانت عوامل كثيرة قد أثرت فى إفساد مفاهيم السلم الساسية فى حس الناس‪ ،‬فلم يعودوا على وعى بها فى صورتها‬
‫الصحيحة التى أنزلت بها من عند ال‪ ،‬ووعاها ومارسها الجيل الول رضوان ال عليهم‪ ،‬والجيال التى تلته‪.‬‬

‫كان الفكر الرجائى قد أخرج العمل من مسمى اليمان‪ !،‬وزعم أن اليمان هو التصديق والقرار ل أكثر! وأن من قال‪ :‬ل إله‬
‫ل من أعمال السلم!‬
‫إل ال فهو مؤمن‪ ،‬ولو لم يعمل عم ً‬

‫وكان الفكر الصوفى قد حول السلم إلى سبحات روحية‪ ،‬وأوراد وأذكار‪ ،‬وهيام وجدانى ل يتحرك فى واقع الرض‪ ،‬ول يأمر‬
‫بمعروف ول ينهى عن منكر‪ ،‬ول يقوم بجهاد‪ ،‬فضلً عن الخلل العقدى فى عبادة الرضحة والولياء والتقدم إليها بألوان من‬
‫العبادة ل تجوز لغير ال ‪0‬‬

‫وكان الستبداد السياسى منذ بنى أمية‪ ،‬فبنى العباس‪ ،‬فالمماليك‪ ،‬فالعثمانيين‪ ،‬قد صرف الناس عن الشتغال بالمور العامة‪،‬‬
‫ووجههم إلى الهتمام بشئونهم الخاصة‪ ،‬وحصر مفهوم العبادة فى الشعائر التعبدية‪ ،‬والفضائل الفردية التى ل تتدخل فى شئون‬
‫المجموع‪.‬‬

‫وتحول التوكل إلى تواكل سلبى دون الخذ بالسباب‪ ،‬وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس‪ ،‬بعد أن كانت عقيدة‬
‫إقدام وجرأة فى مواجهة العداء والحداث‪(( :‬قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا هو مولنا وعلى ال فليتوكل المؤمنون(‪ )51‬قل‬

‫‪ 1‬أخرجه البخارى‪.‬‬

‫‪23‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫هل تربصون بنا إل إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم ال بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم‬
‫متربصون))(التوبة‪.)52 -51 :‬‬

‫وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للخرة‪ ،‬بعد أن كان طريقاً واحداً أوله فى الدنيا وآخره فى الخرة‪(( :‬وابتغ فيما آتاك‬
‫ال الدار الخرة ول تنس نصيبك من الدنيا))(القصص‪(( .)77 :‬هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من‬
‫رزقه وإليه النشور))(الملك‪ ..)15 :‬فأهمل مجموع المة طريق الدنيا‪ ،‬من علم وقوة وتمكن فى الرض وعمارة لها وتحسين‬
‫لحوالها‪ ،‬وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى ال‪ ،‬من حلقات الذكر وهيمان الوجد‪ ،‬بينما انصرف مجموعة من شرار الناس‬
‫إلى الدنيا بمغرياتها‪ ،‬من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس‪ ،‬ونسوا البعث والنشور‪ ،‬والحساب والجزاء‪،‬‬
‫فعاثوا فساداً فى الرض‪ ،‬والمة فى قبوعها السلبى ل تتعرض له بسوء!‬

‫وهذه المراض كلها‪ ،‬التى أفرغت الدين من محتواه الحى‪،‬وأفرغت ل إله إل ال من شحنتها الفاعلة‪ ،‬كانت تستلزم البدء‬
‫بتصحيح مفهوم ل إله إل ال‪ ،‬وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء‪ ،‬قبل التوجه إلى تجميع الجماهير!‬

‫***‬

‫وإذا كانت بقايا التقاليد‪ ،‬التى كانت قائمة فى المجتمع عند بدء الدعوة‪ ،‬قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذى أصاب المة‬
‫فى أساس عقيدتها‪ ،‬فإن حماسة الجماهير فى تلقى الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع‪..‬‬

‫تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة‪ ،‬وتجمع حول المام الشهيد فى سنوات معدودة‪ ،‬ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم‬
‫الكثير من الشباب‪ ،‬وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصرى كله فى ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً‪ ،‬وإذا‬
‫استبعدنا من تعداد النساء والطفال والشيوخ‪ ،‬الذين ل يفكرون فى النشغال بأى أمر من المور العامة‪ ،‬أو يرحبون بأى جديد‬
‫يظهر فى الساحة!‬

‫ول شك أن الفيض الروحى الذى كان يتمتع به المام الشهيد‪ ،‬وقدرته الفائقة على التأثير فى مشاعر الناس‪ ،‬كان لها أثر فى‬
‫تلك الحماسة الفياضة التى قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس‪ ،‬وما كان يمكن لشخص ل يملك تلك الموهبة‪ ،‬أن‬
‫يجمع هذا الحشد الهائل من البشر‪ ،‬فى مثل هذا الوقت القصير‪.‬‬

‫ولكن فلننظر من جانب آخر فى تلك الجماهير‪ ،‬لى شئ تجمعت على وجه التحديد؟‬

‫لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية‪ ،‬بطريقة((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التى يلجأ إليها العامة لشباع‬
‫روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية‪ ،‬والتى كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور‪ ،‬فوجدوه فى شخص‬
‫المام الشهيد وكلمه المؤثر‪ ،‬يشبع روحانيتهم و يحافظ فى الوقت ذاته على وعيهم‪ ،‬فل يغرق فى الخدر الذى يسلب الشعور‪..‬‬
‫ووجدت من يحى آمالها فى عودة السلم إلى الوجود‪ ،‬بعد النكسة الحادة التى أصابت الناس بزوال الخلفة‪ ..‬ووجدت من يرتفع‬
‫بها عن ألوان الدنس التى كانت قد أخذت تلوث المجتمع‪ ،‬ويردها إلى المثل الرفيعة والخلق الفاضلة‪ ..‬وكل ذلك دون أن‬
‫يتعرضوا لية مخاطر‪ ،‬ول يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور الستماع!‬

‫ولكن هذه الجماهير التى جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت فى الفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما‬
‫كان فى تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لية مخاطر‪ ،‬ول كانت مستعدة أى استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر‪..‬‬
‫ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ المر ما جاءت ول فكرت فى المجئ!‬

‫لم يبق حول المام الشهيد إل الذين رباهم على عينه‪ ،‬ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقى‪..‬‬

‫هل كان كسبًا للدعوة مجئ هذه الجماهير الحاشدة التى فرت عند أول بوادر الخطر‪ ،‬أم كان أحد أسباب التعويق؟‬

‫سننظر فى هذا المر حين نستعرض ردود فعل العداء‪ ..‬ولكن لنا هنا وقفة‪ :‬ما الذى جعل الدعوة تتجه فى تلك الفترة الباكرة‬
‫إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية‪ ،‬يجسن الظن بأحوال الناس‪ ،‬ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هى فساد السلوك‪ ،‬فإذا وعظوا‬
‫بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة‪ ،‬واستقامت هذه الجماهير على طريق السلم‪ ،‬وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة‪ ،‬أو فى القليل‬
‫خامات صالحة للتجنيد‪ ،‬فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!‬

‫لم يتضح لصحاب الدعوة فى مبدأ المر‪ -‬كما اتضح لهم فيما بعد‪ -‬أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك‪ ،‬ولكنه واصل‬
‫كذلك إلى المفاهيم‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة ال‪ ،‬وأن المر فى حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير‪ ..‬لقد‬
‫اتضح ذلك فيما بعد(‪ ..)1‬ولكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً فى التوجه إلى((الجماهير))‪ ،‬على أساس أنها صالحة‪-‬‬
‫‪ 1‬أنشأ المام الشهيد عام ‪ 1948‬سلسلة مقالت بعنوان((معركة المصحف)) بين فيها بوضوح أن أوضاع المة ليست إسلمية‪ ،‬وأنها ل تكون إسلمية حين‬
‫تحكم شريعة ال دون غيرها من الشرائع‪ .‬وهذا المعنى بهذا التحديد لم يكن واضحا فى خط سير الدعوة الول‪ ،‬و كان بداية مرحلة جديدة من التوجيه‪.‬‬

‫‪24‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫بالموعظة المؤثرة والشحن العاطفى‪ -‬أن تكون جنوداً مخلصة للدعوة‪ ،‬أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد‪ ..‬وبعد ما كان هذا‬
‫التوجه إلى الجماهير‪ ،‬وحشدها بهذه الصورة‪ ،‬والتحرك بها على الساحة السياسية‪ ،‬قد أثار ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة‬
‫عند العداء‪.‬‬

‫عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية‪ ،‬وحينما تكون الحركة إسلمية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية فى‬
‫آن واحد‪ ..‬وقد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكى ندرك هذا المر على حقيقته ينبغى أن نقرأ صفحات من التاريخ‪.‬‬

‫فى القرنين الخيرين‪ ،‬كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم السلمى فى تدهور مستمر فى جميع المجالت‪ ..‬فالدولة العثمانية التى‬
‫كانت أوروبا تخشاها وترهبها‪ ،‬قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص‪ ،‬وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملكها دون أن تستطيع‬
‫الرد‪ ،‬أو استرداد ما تفقده من الوليات‪ ،‬وتمردت بلد البلقان بتحريض الدول الوروبية‪ ،‬وتمردت القليات فى داخل العالم‬
‫السلمى‪ ،‬وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الحداث‪ ..‬أما المة السلمية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً‪ ،‬فالتخلف يحيط بها من كل‬
‫جانب‪ ،‬والجهل والفقر‪ ،‬والنغلق على النفس‪ ،‬والتبلد على الحداث‪ ..‬عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيرًا للقضاء‬
‫على عدوها القديم‪ ،‬فاجتمعت وتآمرت‪ ،‬وخططت للستيلء على العالم السلمى كله‪ ،‬وإخضاعه للدول الوروبية فيما‬
‫سمى((بالستعمار))‪ ،‬ودخل مع أوروبا الصليبية عنصر جديد‪ ،‬هو اليهودية العالمية التى كانت تخطط لحسابها الخاص‪ ،‬ولكن‬
‫فى تعاون كامل مع الصليبية‪ ،‬من أجل إنشاء وطن يهودى فى فلسطين‪.‬‬

‫وبعد رفض السلطان عبد الحميد مطالب اليهود بإقامة وطن لهم فى فلسطين‪ ،‬اتحدث تماماً مصالح اليهودية العالمية مع مصالح‬
‫الصليبية العالمية‪ ،‬فصار التخطيط واحداً وإن كان كل فريق يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة فى نهاية المطاف‪ ..‬وكان التخطيط‬
‫محكماً فى كل اتجاه‪ ،‬وكان تنفيذه ميسراً بالنسبة للصليبية الصهيونية‪ ،‬بسبب فقدان المة لوعيها السلمى‪ ،‬وعزيمتها‬
‫السلمية التى أوصها ال بها فى قوله تعالى‪(( :‬ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران‪.)139 :‬‬

‫وكان أخطر السلحة التى استخدمها العداء فى محاربة السلم‪ -‬بعد أن استتب لهم المر عسكرياً وسياسياً‪ -‬هو الغزو الفكرى‪،‬‬
‫الذى كان هدفه قتل روح المقاومة للغزو الصليبي الصهيونى‪ ،‬بالقضاء على مكمن العقيدة داخل القلوب‪ ،‬وتخريج أجيال تتقبل‬
‫العبودية للغرب راضية بها‪ ،‬إن لم تكن مندفعة إليها مستعذبة إياها‪ ،‬ظانة‪ -‬وهى تسعى حتفها بظلفها‪ -‬أنها متجهة فى طريق‬
‫النجاة!‬

‫ولم يخف على الصليبية الصهيونية أن شعوب المة السلمية قد تستيقظ من غفوتها ذات يوم‪ ،‬وترفض التبعية المذلة للغرب‪،‬‬
‫وتسعى إلى الستقلل‪ ،‬فرتبت نفسها لهذا المر كذلك‪ ،‬ببذر اتجاهات وطنية وقومية‪ ،‬وإنشاء زعامات تتعلق بها الجماهير‬
‫وتتحلق حولها‪ ،‬وهى مصنوعة على عين الستعمار‪ ،‬كانت الثورة محدودة المطالب محدودة الهداف‪ ،‬تطالب بالستقلل‬
‫العسكرى‪ -‬إن قويت عليه‪ -‬أو العسكرى والسياسى‪ -‬ظاهراً على القل‪ -‬دون أن تفكر فى الستقلل الفكرى والثقافى والروحى‪،‬‬
‫فتظل التبعية للغرب قائمة فى واقع المر‪ ،‬من خلل النظمة الوطنية والقومية‪ ،‬و((الثورات التحررية))‪ ،‬والجماهير فى غفلتها‬
‫تصفق وتطرب لما يعرض أمام ناظريها من المسرحيات‪.‬‬

‫باختصار لقد كان الذى تخشاه الصليبية والصهيونية‪ ،‬وتسعى لمنعه بكل الوسائل‪ ،‬هو حدوث صحوة إسلمية‪ ،‬فهذه هى التى ل‬
‫تفاهم معها‪ ،‬ول التقاء فى وسط الطريق‪ ..‬والتى يعرف العداء جيدًا مدى خطرها على مصالحهم‪(( :‬الذين آتيناهم الكتاب‬
‫يعرفونه كما يعرفون أبناءهم))(البقرة‪.)146 :‬‬

‫وحين بدأت الحركة السلمية على يد المام الشهيد‪ ،‬كان العالم الصليبى والصهيونى يرقبها بتوجس ظاهر‪ ،‬ويحاول أن يتعرف‬
‫على مدى خطورتها‪ .‬كتب المستشرق البريطانى جب‪ -‬والمستشرقون هو جهاز الستخبارات الثقافى للصليبية الصهيونية‪ -‬كتب‬
‫كتاباً بعنوان‪(( :‬التجاهات الحديثة فى السلم ‪ ،)) in lslam mopern trends‬ظهرت طبعته الولى عام ‪1936‬م‪،‬‬
‫يتحدث فيه عن حركة جمال الدين الفغانى ومحمد عبده‪ ،‬ويمتدحها بحماسة ظاهرة‪ ،‬ولكنه عقب فى أحد هوامش الكتاب‬
‫بالتعقيب التى‪(( :‬ظهرت بعد ذلك جماعة جديدة تسمى جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬يتزعمها رجل يسمى حسن البنا‪ ،‬ومن‬
‫السابق لوانه الحكم على هذه الجماعة‪ ،‬وإن كان من الظاهر أنها ذات خطورة خاصة))‪.‬‬

‫وواضح فى هذا التعليق مدى التوجس‪ ،‬والرغبة فى سبر غور هذه الجماعة ذات الخطورة الخاصة!‬

‫كانت الخطورة الخاصة تتزايد بطبيعة الحال فى نظر الصليبية الصهيونية كلما تزايدت الجماهير الملتفة حول الدعوة الجديدة‪،‬‬
‫التى تتحرك باسم السلم‪ ،‬ويتجمع الناس حولها باسم السلم‪ ..‬ولكن الصليبية الصهيونية لم تكن تبينت بعد ما يجرى فى داخل‬
‫الجماعة‪ ،‬من إعداد خطير غاية الخطورة‪ ،‬إعداد جنود للدعوة‪ ،‬مستعدين أن يموتوا فى سبيل السلم!‬

‫ولكن القنبلة انفجرت عام ‪ ،1948‬وانفجرت فى أخطر موقع يمكن أن تنفجر فيه‪ ،‬وفى أخطر موعد يمكن أن تنفجر فيه‪ :‬فى‬
‫فلسطين‪ ،‬فى لحظة العداد لنشاء الدولة اليهودية‪..‬‬

‫ولكن هذه السلسة توقفت بسبب قيام حرب فلسطين‪ ،‬ثم اغتيل المام الشهيد فى فبراير سنة ‪ 1949‬قبل أن يستوعب أتباعه التجاه الجديد ‪0‬‬

‫‪25‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وكان دوى النفجار أعظم بكثير‪ ،‬وأخطر بكثير مما قدره أصحاب الدعوة فى ذلك الحين‪..‬‬

‫أما كون أصحاب الدعوة يعرفون عداوة الصليبية الصهيونية للسلم‪ ،‬ويعرفون توجسها منه‪ ،‬ورغبتها فى القضاء عليه‪،‬‬
‫وكراهيتها لعودة الناس إليه‪ ،‬فأمر أوضح من أن يذكر؛ لنه من بدهيات حس المسلم‪ .‬فبحسب امرئ مسلم أن يقرأ فى كتاب ال‬
‫هذه اليات‪:‬‬

‫((ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة‪(( )120 :‬إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة‬
‫يفرحوا بها)) (آل عمران ‪(( . )120 :‬لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا))(المائدة ‪(( .)82 :‬ود كثير‬
‫من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق))(البقرة ‪.)109 :‬‬

‫بحسبه أن يقرأ ذلك فى كتاب ال‪ ،‬ليعلم أن هذه العداوة قائمة وأنها لن تزول‪ ..‬أما إدراك مدى هذه العداوة ومقدار كيدها‪،‬‬
‫وتفاصيل ذلك الكيد‪ ،‬وموقعه من اللحظة القائمة‪ ،‬فأمر آخر مختلف ‪ ..‬والذى يظهر من مجرى الحداث أن تقدير ذلك كله لم يكن‬
‫دقيقا بالدرجة الكافية‪..‬‬

‫لقد كان التخطيط اليهودى – تعاونه الصليبية بكل إمكاناتها – قد رتب كل شىء يخطر على البال‪ ،‬تمهيداً لقامة الدولة‬
‫اليهودية‪ .‬فمنذ رفض عبد الحميد العروض اليهودية المغرية مقابل السماح بإقامة وطن لليهود فى فلسطين‪ ،‬من رشوة شخصية‬
‫لجيبه الخاص مقدارها خمسة مليين من الجنيهات السترلينية الذهبية (تمثل وقتها ثروة بالغة الضخامة)‪ ،‬والوعد بالتدخل لدى‬
‫روسيا وبريطانيا وفرنسا لكفها عن إثارة القليات‪( ،‬وهى مشكلة الدولة السياسية)‪ ،‬والوعد بقروض طويلة الجل لنعاش‬
‫القتصاد العثمانى المثقل بالديون‪( ،‬وهى المشكلة القتصادية للدولة) ‪..‬منذ رفض عبد الحميد هذه العروض المغرية‪ ،‬والملغومة‬
‫فى ذات الوقت‪ ،‬فقد رسم اليهود مخططهم على سياسة طويلة الجل‪ ،‬مقدارها خمسون سنة كما قرر هرتزل فى مؤتمره‬
‫الصهيونى الذى أقامه فى مدينة بال بسويسرا‪ ،‬عام ‪1897‬م ‪.‬‬

‫عزلوا عبد الحميد‪ ،‬ورتبوا الحرب العالمية الولى‪ ،‬لتجميع أوربا الصليبية لقتال الدولة العثمانية والقضاء عليها‪ ،‬وكانوا‬
‫يسمونها ((الرجل المريض)) ‪ ،‬ثم قسموا تركة الرجل المريض بعد القضاء عليه‪ ،‬بين بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود يومئذ‬
‫(وحتى الن بطبيعة الحال‪ ،‬مع تغير مركز الثقل من بريطانيا وزعيمة ((العالم الحر!)) يومئذ إلى أمريكا زعيمته الحالية)‪،‬‬
‫وجعلوا فلسطين – ميدان الصراع المقبل – تحت النتداب البريطانى‪ ،‬للتمهيد لقامة الدولة فى ظل تصريح بلفور الذى قال‪ :‬إن‬
‫حكومة جللة الملكة تنظر بعين العطف (!) إلى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين‪..‬‬

‫ولم يكتف التخطيط الماكر بهذا‪ ،‬بل قسم البلد المحيطة بفلسطين إلى دويلت ضعيفة متعادية متنابذة‪ ،‬ل وزن لها فى عالم‬
‫الحرب ول عالم السياسة ول عالم القتصاد‪ ،‬فضلً عن نزاعات الحدود بين بعضها البعض‪ ،‬وفضلً عن نزعات الوطنية‬
‫والقومية التى تفرق بين بعضها وبعض ‪0‬‬

‫ولم يكتف الكيد الماكر بهذا‪ ،‬فالشباب فى كل أمة طاقة خطرة إذا توجه توجهاً جادًا لمر من المور الكبار‪ ،‬فينبغى صرفه بكل‬
‫الوسائل عن الجد فى أى أمر‪ ،‬وخاصة فى المور التى يخشى من الجد فيها على مخططات العداء ‪ ..‬لذلك سلطت على الشباب‬
‫كل وسائل التمييع‪ ،‬الذى تجعله يهتم بسفاسف المور وينصرف عن معاليها‪ ،‬وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إن‬
‫ال يحب معالى المور ويكره سفاسفها))(‪ ..)1‬سلطت عليه السينما والذاعة والمسرح‪( ،‬ولم يكن التلفزيون قد ظهر بعد‪ ،‬ول‬
‫كان اليهود قد بثوا بعد ((جنون الكرة)) على مستوى العالم كله)‪ ،‬وسلط عليه قضية ((تحرير المرأة))‪ ،‬لتشغل الولد والبنات‬
‫بعضهم ببعض فى علقات ((بريئة!)) أولً‪ ،‬تتحول إلى علقات غير برئية بعد ذلك ‪ ..‬وسلط عليه تعصبات السياسة الحزبية‬
‫تأكل وقته وجهده واهتماماته‪ ،‬ليخرج دون تحصيل ثقافى ذاتى‪ ،‬وتعصبات ((الفن))‪ ،‬ما بين هذه المغنية وتلك‪ ،‬وبين هذا المغنى‬
‫وذاك‪ ،‬وكلها تفاهات!‬

‫ثم فى الموعد المحدد‪ ،‬بعد خمسين سنة بالضبط من مؤتمر هرتزل‪ ،‬الذى أعلن فيه ضرورة إنشاء الدولة خلل خمسين عاماً‪،‬‬
‫أعلنت الدولة‪ ،‬وقامت الحروب المسرحية التى خاضتها الجيوش العربية‪ ،‬بطريقة أقرب إلى الهذر منها إلى الجد‪ ،‬كما قامت‬
‫الخيانات‪ ،‬وصفقات السلحة الفاسدة‪ ،‬وتحركت الجيوش يمنة ويسرة لتقف فى النهاية عند خط التقسيم المتفق عليه سلفاً بين‬
‫جميع الطراف!‬

‫وهنا‪ ،‬وفى أحرج لحظة بالنسبة لمخططات العدو‪ ،‬انفجرت القنبلة‪ ،‬وأحدثت دويها المريع‪..‬‬

‫دخل الفدائيون المسلمون ساحة المعركة‪ ،‬واكتشفت اليهود حقيقتهم‪ ،‬واكشتفتها معهم الصليبية العالمية ‪..‬‬

‫كم كانت القنبلة خطيرة‪ ،‬وكم كان دويها مريعاً على مستوى العالم كله! كانت أخطر بكثير مما قدرها أصحابها ‪..‬‬

‫‪ 1‬رواه الطبرانى فى المعجم الكبير ‪.‬‬

‫‪26‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫حين اصطدم اليهود بالفدائيين السلميين‪ ،‬عرفوا على الفور أنهم نوعية مختلفة عن تلك الجيوش التى جاءت لتلعب دورها فى‬
‫الحرب المسرحية ‪ ..‬إنهم أصحاب عقيدة جاءوا بدافع من عقيدتهم‪ ،‬وجاءوا ليقاتلوا من أجل عقيدتهم‪ ،‬وليموتوا من أجلها‪،‬‬
‫أسخياء بأرواحهم فى سبيل ال‪ ..‬ذات العينة التى عرفوها من قبل فى التاريخ ‪0‬‬

‫وازعجهم المر وأذهلهم‪ ،‬فما كانوا يتصورون قط أن هذه العينة من البشر يمكن أن تعود ‪ ..‬ومن مصر خاصة التى عمل فيها‬
‫الغزو الفكرى من أيام الحملة الفرنسية‪ ،‬ليخرجه من دينها‪ ،‬بل يخرجها حتى من عروبتها‪ ،‬تحت شعار (مصر للمصريين)‪ ،‬الذى‬
‫يعنى فى أطوائه أنه ل مجال فيه للعروبة ول للسلم‪ ..‬وكان انزعاجهم حاداً‪ ،‬فوق التصور‪ ،‬فقد وصل المر بهم أن صيحة‬
‫((ال أكبر ول الحمد)) كانت تفزعهم‪ ،‬فيتركون مواقعهم ومؤنهم وذخيرتهم‪ ،‬ويفرون طلباً للنجاة‪..‬‬

‫عندئذ وضح فى حسهم تمام ًا أنه ل قيام لسرائيل – فضلً عن توسعها المرسوم فى المستقبل – إذا بقيت الحركة السلمية‬
‫حية ‪ ..‬وأنه لبد من القضاء على الحركة السلمية لتعيش إسرائيل‪ ،‬وتأمن وتستقر‪ ،‬وتتوسع كما تشاء ‪ .‬وصدرت أوامر‬
‫الصليبية الصهيونية بحل جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬ثم قتل قائدها‪ ،‬وتوالى الحداث ‪0‬‬

‫لقد عوجلت الحركة بصورة عنيفة‪ ،‬أعنف مما كان متوقعاً بكثير ‪..‬‬

‫لم يكن أحد من القائمين بالدعوة يتوقع لها السلمة من الذى‪ ،‬فذلك حسب السنة الجارية فى حكم المستحيل‪ ،‬ولكن أحداً لم يكن‬
‫يتوقع أن يصل الذى إلى هذا الحد الوحشى الذى وقع بالفعل‪ ..‬أن يطلق الرصاص على قائد الجماعة فى الشارع فى وضح‬
‫النهار‪ ،‬ثم ترفض المستشفيات إسعافه لينزف حتى الموت بأمر الدولة وتدبيرها‪ ،‬ويؤخذ ألوف من الشباب فيعذبوا فى السجون‬
‫بوحشية تع عنها الوحوش‪ ..‬كل ذلك لم يكن فى الحسبان‪ ،‬ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث ‪0‬‬

‫ول شىء بطبيعة الحال يمكن أن يبرر لتلك الوحوش البشرية وحشيتها‪ ،‬مهما حاولت أن تستر جرائمها بدعوى المحافظة على‬
‫المن‪ ،‬أو القضاء على الفتنة‪ ،‬أو ما شابه ذلك من الدعاوى‪ ،‬التى ل تستر شيئاً فى الدنيا‪ ،‬ويوم القيامة ((يوفيهم ال دينهم‬
‫الحق ويعلمون أن ال هو الحق المبين))(النور‪.)25:‬‬

‫ولكنا نسأل من جانب أخر‪ ،‬هل كانت الحركة تسير على منهج صحيح‪ ،‬أم إنها تعجلت فى حركتها قبل الوان؟‬

‫ول يحسبن أحد أن الحركة كانت ستهادن لو أنها سلكت مسلكاً أخر‪ ..‬فقد رأينا كيف كان رد المل حين عرض عليهم شعيب‬
‫عليه السلم أن يصبروا حتى يحكم ال بينهم ‪(( :‬وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى‬
‫يحكم ال بيننا وهو خير الحاكمين(‪ )87‬قال المل الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو‬
‫لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(العراف ‪)88-87 :‬‬

‫كل ! ل يمكن أن تطيق الجاهلية دعوة ل إله إل ال‪ ،‬ول أن تهادنها أو تصبر عليها ‪0‬‬

‫ولسنا نقول‪ :‬إن الحركة لو استقامت على منهج صحيح كانت ستنجو من الذى الذى يمكن أن يصل إلى حد التعذيب والقتل‪ ،‬فإن‬
‫الجماعة الولى التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه‪ ،‬وسارت على أعظم منهج يمكن لحركة أن تسير عليه‪،‬‬
‫إذ كان الوحى الربانى هو الذى يتولى توجيهها خطوة بخطوة‪ ،‬لم تسلم من الذى‪ ،‬الذى وصل إلى حد التعذيب والتشريد‬
‫والتجويع والقتل‪ ..‬فليس السير على المنهج الصحيح مطلوباً من أجل حماية الشخاص القائمين بالدعوة! إنما هو مطلوب من‬
‫أجل الدعوة ذاتها‪ ،‬من أجل أن تؤتى ثمارها كاملة‪ ،‬وتؤدى رسالتها على الوجه الكمل ‪0‬‬

‫عوجلت الحركة معاجلة عنيفة‪ ،‬ولما تستكمل بناء قاعدتها على أساس متين ‪ ..‬لقد خرجت فدائيين مخلصين مستعدين أن‬
‫يموتوا فى سبيل ال‪ ،‬ويحتملوا الذى فى شجاعة من أجل الدعوة إلى ال ‪ ..‬وخرجت قوماً تربط بينهم أخوة فى ال‪ ،‬تعدل بل‬
‫تفوق عندهم رابطة الدم‪ ..‬وخرجت قوماً نظيفى التعامل‪ ،‬لنهم يخافون ال‪ ..‬وخرجت قوماً فيهم إيجابية وجلد على بذل الجهد‪..‬‬
‫وكلها صفات طيبة مطلوبة فى القاعدة‪ ،‬ولكنها ليست كل شىء‪ ،‬ول تكفى وحدها لبناء القاعدة المطلوبة‪ ..‬إنهم ليسوا مجرد‬
‫أفراد يتطهرون ل‪ ،‬وينذرون أنفسهم ل ‪0‬‬

‫إنهم دعوة ‪ ..‬تريد أن تنفذ أمة بأسرها مما هى واقعة فيه من الهوان والخسف‪ ،‬بسبب بعدها عن طريق ال‪ ،‬وهذا أمر يتطلب‬
‫الكثير الكثير ‪0‬‬

‫وسنتكلم عن التربية المطلوبة فى الفصل القادم‪ ،‬سواء منها ما كان مطلوب ًا للقاعدة الصلبة‪ ،‬أو للجماهير التى تتحرك بها‬
‫الدعوة ‪ ..‬ولكنا هنا ندرس أسباب التعجل‪ ،‬والثار التى ترتبت عليه ‪0‬‬

‫لقد استمرت الحركة فى توجهها الجماهيرى قبل استكمال بناء القاعدة‪ ،‬والتحرك بالجماهير قبل استكمال وعيها السلمى‪،‬‬
‫والصدام مع السلطات فى معارك غير متكافئة‪ ..‬وترتب على ذلك نتائج ل تخدم الدعوة فى كثير ‪ ..‬استمر الغبش حول قضية ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬إن لم نقل‪ :‬إنه زاد‪ ،‬بفعل ما اختلط بها من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية‪ ،‬قبل أن تتأصل فى قلوب الناس –‬

‫‪27‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الدعاة على القل – على أنها العبودية الخالصة ل أولً‪ ،‬بصرف النظر عما يترتب عليها فى الحياة الدنيا من نتائج سياسية أو‬
‫اقتصادية أو اجتماعية ‪ ..‬ثم تكون هذه القضايا كلها حين يجئ دورها نابعة من ل إله إل ال‪ ،‬ومرتبطة بها ل منفصلة عنها‪،‬‬
‫ول موازية لها‪ ،‬ول مقدمة عليها ‪0‬‬

‫ول ننسى هنا أن التعجل فى التحرك بالجماهير قبل أن تستكمل وعيها السلمى‪ ،‬إن لم نقل‪ :‬قبل أن تكون عندها وعى إسلمى‪،‬‬
‫قد أزعج الحزاب والكيانات العلمانية على ((جماهيرها)) التى تتسرب من بين يديها وتنضم للحركة السلمية‪ ،‬فوقفت تستدرج‬
‫الحركة السلمية عن طريقها الصيل‪ ،‬فى صورة تحد تواجهها به ‪ :‬أرونا أين برامجكم التى تنادون بها لتنزعوا بها الشرعية‬
‫منا‪ ،‬وتزعموها لنفسكم؟ ومن ثم اندفعت الحركة السلمية تبحث عن برامج ترد بها على التحدى‪ ،‬ليصرفها ذلك عن تحرير‬
‫قضيتها الولى‪ ،‬قضية ل إله إل ال ‪.‬‬

‫إن قضية ل إله إل ال – فى مرحلة التكوين بالذات‪ -‬ل ترتبط فى حس أصحابها الذين يتربون على المنهج الصحيح‪ ،‬أى ارتباط‬
‫بالنتائج التى تترتب عليها فى الحياة الدنيا‪ ،‬ل السلطان‪ ،‬ول الستقرار السياسى‪ ،‬ول الوفرة القتصادية‪ ،‬ول الهناءة الجتماعية‬
‫‪ ..‬فقد ل يترتب عليها شىء من ذلك كله فى الحياة الدنيا؛ إنما قد يكون مصير أصحابها هو مصير سحرة فرعون الذين آمنوا‪،‬‬
‫فكان نصيبهم القتل والصلب‪ ،‬أو مصير أصحاب الخدود‪ ،‬الذين آمنوا فكان نصيبهم الحرق بالنار أحياء عن بكرة أبيهم ‪ ..‬إنما‬
‫كانوا مثل لمن بعدهم‪ ،‬وكان نصيبهم الذى رضيت به أنفسهم هو رضوان ال‪ ،‬وجنات عدن تجرى من تحتها النهار ‪0‬‬

‫ولكن التعجل فى تجميع الجماهير‪ ،‬والتعجل فى التحرك بتلك الجماهير قبل أن تنضج‪ ،‬بل قبل أن تستكمل القاعدة ذاتها نضجها‪،‬‬
‫هو الذى أدى إلى هذا الغبش المتزايد حول القضية الساسية‪ ،‬وأصبح عماد الدعوة إلى السلم أن تطبيقه هو الذى سيحل‬
‫جميع المشاكل السياسية والجتماعية والقتصادية‪ ،‬التى يعانى منها الناس اليوم‪ ،‬وبالتالى البحث عن ((البرامج العملية)) التى‬
‫تواجه التحدى الذى يقدمه العلمانيون!‬

‫وكون السلم هو الحل‪ ،‬حقيقة ربانية‪ ،‬ال سبحانه وتعالى هو المتكفل بها بنفسه‪ ،‬وهو الواعد بها‪ ،‬ووعده الحق‪(( :‬ولو أن‬
‫أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض))(العراف‪ .. )96:‬أما أن هذا الحل سيتحقق بمجرد وصول‬
‫السلميين إلى الحكم‪ ،‬فأمر ل دليل له من كتاب ال‪ ،‬ول من وقائع التاريخ‪ ،‬فقد عاش المسلمون سنوات من الشظف الحاد بعد‬
‫توليهم السلطة‪ ،‬وتأسيسهم الدولة السلمية التى تحكم بما أنزل ال‪ ،‬واستمر حتى أيام عمر رضى ال عنه‪ ،‬والناس صابرون‬
‫على الشظف وعلى المشقات كلها‪ ،‬لنهم مؤمنون‪ ،‬ولنهم نذروا أنفسهم للدعوة‪ ،‬ولنهم يرجون الخرة‪ ،‬ول ينظرون إلى شىء‬
‫من متاع الحياة الدنيا‪ ،‬وهذا هو الذى حقق لهذه الدعوة أن ترسخ فى الرض وتتمكن‪ ،‬وتمتد فى الفاق ‪0‬‬

‫ولو كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أغرى الجماهير بأنهم – إذا تسلم السلم السلطة – سيحلون كل مشاكلهم‬
‫الرضية‪ ،‬ويرفلون فى النعيم‪ ،‬ما صبروا على شظف العيش الذى تل تأسيس الدولة السلمية‪ ،‬واستمر بعد ذلك سنوات‪ ،‬ول‬
‫كانت تلك الحركة الباهرة التى غيرت وجه الرض‪ .‬وحين نوهم الناس – الذين لم تتمحض قلوبهم لل إله إل ال – بأنهم إذا‬
‫تسلم المسلمون سيحلون كل مشاكلهم فى التو واللحظة‪ ،‬ثم يستمر السلميون فى الحكم سنوات والمشاكل ل تحل‪ ،‬بل تزداد‬
‫حدة نتيجة اشتداد الصليبية الصهيونية فى الحرب‪ ،‬فهل سيصبر الناس‪ ،‬الذين لم يدخلوا من باب العبودية الخالصة ل‪ ،‬بل من‬
‫باب المصالح الدنيوية؟ هل سيصبرون على الشظف والحرمان والجهاد المر‪ ،‬حتى يتحقق وعد ال فى أوانه المقدر عنه ال‪ ،‬أم‬
‫سينقلبون على الحكم الذى لم يحقق لهم ما جاءوا من أجله‪ ،‬وأدلوا من أجله بأصواتهم فى صناديق النتخاب؟!‬

‫إنما تكون الدعوة أولً وقبل كل شىء‪ ،‬لبيان واجب العباد نحو خالقهم‪ ،‬واجب العبودية الخالصة ل‪ ،‬واللتزام بما جاء من عند‬
‫ال‪ ،‬بصرف النظر عما يترتب على إخلص العبادة ل‪ ،‬فى الحياة الدنيا‪ ،‬من كسب أو خسارة بحساب الرض‪ ،‬إنما هو الجزاء‬
‫الخروى‪ ،‬مع بيان أن ال وعد هذه المة بخاصة أن يحقق لها الستخلف والتمكين والتأمين فى الحياة الدنيا‪ ،‬ولكن بشرط‬
‫واضح‪ :‬أن يعبدوه وحده بل شريك‪ ،‬ويخلصوا له العبادة‪ ،‬ل بمجرد أن يذهبوا إلى صناديق النتخاب‪ ،‬ويحصلوا على أغلبية‬
‫الصوات‪ ،‬ثم يتولوا السلطة ‪(( :‬وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الرض كما استخلف الذين من‬
‫قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من خوفهم أمنا يعبدوننى ل يشركون بى شيئا (النور‪.)55 :‬‬

‫ول شك أن الدعوة ستمضى فى بطء شديد حين تكون على هذا الساس‪ ،‬ولن تتجمع الجماهير بوفرة فى الزمن القصير‪ ،‬ولكن‬
‫عندئذ يكون قد بدأ التمكين الصحيح بموكب المنهج الربانى‪ ،‬وبموجب السنن الربانية‪ ،‬ويتحقق قدر ال ‪(( :‬وال غالب على‬
‫أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون)) (يوسف‪.)21:‬‬

‫***‬

‫ثهم زاد الغبهش مرة أخرى مهن جانهبين اثنيهن‪ :‬حيهن دخلت بعهض فصهائل الحركهة فهى صهراعات دمويهة مهع السهلطة‪ ،‬وحيهن دخلت‬
‫فصائل أخرى مجالس النواب !‬

‫لقهد أدى انزعاج الصهليبية الصههيونية مهن الحركهة السهلمية‪ ،‬بالضافهة إلى عوامهل أخرى مصهاحبة‪ ،‬إلى تغيهر حاد فهى السهياسة‬
‫العالمية‪ ،‬ليس هنا مجال تفصيله‪ ،‬ولكن لبد من إشارة سريعة إلى ما يخص العالم السلمى منه ‪0‬‬

‫‪28‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫لقهد خرجهت بريطانيها وفرنسها منهكتيهن مهن الحرب الكهبرى الثانيهة (‪ ،)1945 – 1939‬بينمها خرجهت أمريكها بعافيتهها كاملة لم‬
‫يصهبها مهن دمار الحرب شىء يذكهر‪ ،‬وأغرى ذلك أمريكها أن تتزعهم مها كان يسهمى ((العالم الحهر))‪ ،‬وأن تطرد النفوذ البريطانهى‬
‫والفرنسهى مهن أماكهن سهيطرته‪ ،‬وتحهل ههى محله على يهد زعامات عميلة لمريكها‪ ،‬تضفهى عليهها البطولت الزائفهة‪ ،‬وتصهور فهى‬
‫نظهر الجماهيهر على أنهها قاهرة السهتعمار‪ ،‬ومخلصهة الشعوب مهن شروره‪ ..‬ولكهن هذه اللعبهة التهى ربمها بدت منطقيهة مهن نتائج‬
‫الحرب‪ ،‬كان لههها هدف آخههر خفههى‪ ،‬تواطأت فيههه الصههليبية مههع الصهههيونية‪ ،‬ورتبتاه معاً‪ ،‬وهههو ضرب الحركات السههلمية فههى‬
‫المنطقهة العربيهة بصهفة خاصهة‪ ،‬لتأميهن إسهرائيل‪ ،‬وإتاحهة الفرصهة لهها لكهى تسهتقر وتتمكهن‪ ،‬وتتوسهع فهى الرض السهلمية كمها‬
‫تشاء‪ ،‬بعد ما بدا واضحاً من أن الضربة الولى التى قتل فيها المام الشهيد‪ ،‬وعذب فيها من عذب من الشباب‪ ،‬لم تكن قاضية‪،‬‬
‫بل كانت كأنها زاد للحركة‪ ،‬زادها اشتعالً وتوسعاً فى الفاق‪.‬‬

‫ومن أجل هذا الهدف‪ ،‬اختير الزعماء المطلوبون بعناية ‪ ..‬اختيروا كلهم من العسكر! وليس كل العسكر صالحين لهذه المهمة‬
‫الخطيرة‪ ،‬فلبد أن تتوافر فيهم شروط ثلثة رئيسية‪ ،‬ول بأس بعدها بأية إضافات ‪ :‬جنون السلطة‪ ،‬وقسوة القلب‪ ،‬وكراهية‬
‫السلم‪ ..‬احتذاء للنموذج الول – المعتمد عندهم – كمال أتاتورك!‬

‫وحين توجد هذه الصفات فى شخص معين‪ ،‬فسيتجه تلقائياً لضرب الحركة السلمية‪ ،‬وبالعنف المطلوب! ومع ذلك فلم تكن‬
‫المور تترك للمصادفة‪ ،‬وإنما كانت تدرس وتدبر لليقاع بالحركات السلمية(‪ ،)1‬وقتل زعمائها وقادتها‪ ،‬واعتقال اللوف من‬
‫شبابها‪ ،‬وتعذيبهم بألوان من الوحشية تقشعر لها البدان‪ ..‬وهنا تبدو ((الحكمة))! من اختيارهم من العسكر ل من المدنيين‪،‬‬
‫فمع العسكر يمكن تسويغ كل شىء وتمريره‪ ،‬الحكام العسكرية‪ ،‬والمحاكم العسكرية‪ ،‬وعنف البطش‪ ،‬وصرامة الجراءات ‪ ..‬أما‬
‫لو كانوا مدنيين فلن تكون لهم تلك الجرأة فى الجرام‪ ،‬ول تلك القوة فى النتقام‪ ،‬ول ذلك العنف‪ ،‬ول ذلك الرهاب ‪0‬‬

‫ومضت المذابح تقام للمسلمين فى كل بلد تولى العسكر فيه السلطة‪ ،‬ول يمكن أن يكون ذكر بالمصادفة بطبيعة الحال! كان عن‬
‫قصد وتخطيط وتدبير‪ ،‬وعرفت المنطقة أشكالً من التعذيب الوحشى ل مثيل لها فى التاريخ‪ ،‬إل ما كان من محاكم التفتيش فى‬
‫الندلس‪ ،‬التى كان هدفها القضاء الكامل على السلم‪ ..‬وتوالت الضربات‪ ،‬فما تمر بضع سنوات ‪ -‬وأحياناً بضعة شهور –‬
‫حتى تكون قد أقيمت مذبحة هنا أو مذبحة هناك‪ ،‬تتجاوب أصداؤها فى العالم كله‪ ،‬وترقص لها الصليبية الصهيونية طرباً‪،‬‬
‫وتفرك أيديها سروراً بنجاح (الولد) فى أداء المهمة التى كلفتهم بها (الم) الرءوم!‬

‫وتولد عن هذا الوضع المؤلم تباران فى صفوف الحركة‪ ،‬مختلفان – بل متضادان – فى التجاه‪ ،‬أحدهما تيار الشباب الذى‬
‫استفزه ما يقوم به العسكر من إرهاب وحشى‪ ،‬فقرر أنه لبد من الرد على العنف بالعنف‪ ،‬ظن ًا منه أن المقاومة المسلحة‬
‫ستقضى فى النهاية على عنف العسكر‪ ،‬وتضطرهم – أو تضطر سادتهم – إلى تغيير السلوب‪ ..‬والخر تيار الشيوخ الذين‬
‫أنهكهم توالى الضربات‪ ،‬فاختاروا طريق المسالمة إلى أقصى حد ممكن‪ ،‬وقرروا الدخول فى لعبة الديمقراطية؛ لكى ل يقال‬
‫عنهم إنهم من أناصر العنف ‪ ..‬وكل التيارين كان سبباً فى مزيد من الغبش حول قضية ل إله إل ال ‪0‬‬

‫وبصرف النظر عن المبررات التى يقدمها كل فريق لتبرير مسلكه‪ ،‬فنحن هنا نتحدث عن الثار التى نجمت عن التعجل فى‬
‫الحركة منذ البدء‪ ،‬والتى أضافت معوقات جديدة إلى المعوقات القائمة‪ ،‬أكثر مما كانت عوناً للحركة لكى تتقدم إلى المام‪ ،‬وإن‬
‫بدت فى نظر أصحابها خطوات إيجابية مفيدة للحركة‪ ،‬ومقربة إلى الهدف المنشود ‪.‬‬

‫إذا أخذنا فى اعتبارنا أن وضع الدعوة الن أقرب شىء إلى وضع الجماعة المسلمة فى مكة‪ ،‬مع بعض الختلف‪ ،‬فإن اللجوء‬
‫إلى العنف ل يخدم الدعوة‪ ،‬ويثير حولها من الغبش أكثر بكثير مما يوضح القضية ويبينها للناس‪ ،‬ول ننسى أن بيان حقيقة‬
‫القضية – قضية ل إله إل ال – عنصر أساسى فى الحركة كلها – سواء بالنسبة للقاعدة‪ ،‬أو بالنسبة للجماهير‪ ،‬وأنه ل يمكن‬
‫إحراز تقدم حقيقى على مسار الدعوة‪ ،‬ما لم تتبلور هذه القضية تصورًا وسلوكاً فى حس الناس ‪0‬‬

‫وحين ندخل فى معارك غير متكافئة مع السلطة‪ ،‬وقبل أن تحدد قضية ((الشرعية)) عند الناس‪ ،‬يحدث أمران معاً‪ ،‬كلهما ضار‬
‫بالحركة ‪:‬‬

‫المر الول ‪ :‬أن القضية تتحول – بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر – إلى قضية ضارب ومضروب‪ ،‬وغالب ومغلوب‪،‬‬
‫وتنشى أو تهمش القضية الساسية التى يدور حولها الصراع كله‪ :‬قضية من المعبود على الحقيقة‪ :‬آل أم آلهة زائفة من‬
‫دونه؟ وهى القضية التى تتضمن فى أطوائها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها‪ ،‬المترتبة عليها ‪ :‬قضية من المشرع ‪ :‬آل‪ ،‬أم‬
‫البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التى هى – منذ وضع البشر أقدامهم‬
‫على الرض إلى قيام الساعة – موضع الصراع بين الجاهلية والسلم‪ ،‬بين أهل الباطل وأهل الحق‪ ،‬وهى التى من أجلها أرسل‬
‫الرسل‪ ،‬وأنزل الوحى‪ ،‬وأقيمت الجنة والنار!‬

‫والمر الثانى‪ :‬أننا نتيح فرصة هائلة للنظمة المعادية للسلم‪ ،‬أن تزعم للناس أنها ل تحارب السلم‪ ،‬وإنما تحارب الرهاب‬
‫الذى ل يقره السلم‪ ،‬وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول! وفى ذلك خسارة مؤكدة للدعوة؛ لنها تغطى الموقف‬

‫‪ 1‬كما دبر حادث ((المنشية)) لعبد العناصر من أجل مذبحة ‪ 1955 – 1954‬وغيرها من الوقائع والحداث ‪0‬‬

‫‪29‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الحقيقى لهذه النظمة‪ ،‬وتؤخر فى حس الناس تبلور قضية الشرعية‪ ،‬وهى من القضايا الرئيسية التى يتوقف عليها فى النهاية‬
‫مصير الصراع بين الجاهلية والسلم ‪0‬‬

‫وكذلك حين ندخل فى لعبة (الديمقراطية) ‪ ،‬فإننا نخسر كثيراً فى قضية ل إله إل ال‪..‬‬

‫أول ما نخسره هو تحويل اللزام إلى قضية خيار تختاره الجماهير‪ ،‬وال سبحانه وتعالى يقول‪(( :‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا‬
‫قضى ال ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الحزاب‪.)36:‬‬

‫إن قضية عبادة ال وحده بل شريك‪ ،‬وهى قضية ل إله إل ال‪ ،‬معناها أن يكون ال هو المعبود فى العتقاد‪ ،‬وهو المعبود فى‬
‫الشعائر التعبدية‪ ،‬وهو المشرع‪ ،‬وهو مقرر القيم والمعايير‪ ،‬وهو واضع منهج الحياة للناس‪ ..‬وهى قضية إلزام ل خيار فيها‬
‫للمسلم مادام مقرًا بالسلم‪ ،‬بل هى قضية إلزام لكل من نطق بلسانه ل إله إل ال‪ ،‬ولو كان فى دخيلة قلبه منافقًا كارهاً‬
‫للسلم‪ ،‬فإنه إن أعرض عن شريعة ال‪ ،‬فإنه يؤخذ بإقراره اللسانى‪ ،‬ثم يعتبر مرتدًا عن السلم ((ويقولون آمنا بال‬
‫وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(‪ )47‬وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق‬
‫منهم معرضون))(النور‪(( .)48-47 :‬فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما‬
‫قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء‪.)65:‬‬

‫وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية‪ ،‬فأول ما نفعله هو تحويل هذا اللزام الربانى إلى قضية يستفتى فيها النسا‪ ،‬وتوخذ عليها‬
‫الصوات بالموافقة أو الرفقض‪ ،‬مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول‪ :‬إنكم أقلية‪ ،‬والقلية ل يجوز لها أن تفرض رأيها على‬
‫الغلبية ‪ ..‬وإذن فهى مسألة رأى‪ ،‬وليست مسألة إلزام‪ ،‬مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر ‪0‬‬

‫وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية فى الجزائر‪ ،‬حين وصلت الصوات إلى المبلغ المطلوب – وهو درس ينبغى أل يغفل عن‬
‫دللته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق – فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف ‪ ..‬إن تحكيم الشريعة إلزام‬
‫ربانى‪ ،‬ل علقة له بعدد الصوات‪ ،‬ول يخير الناس بشأنه‪ ،‬هل يقبلونه أم يرفضونه‪ ،‬لنهم ل يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا‬
‫مسلمين!‬

‫وفرق بين أن تكون إقامة السلم فى الرض متوقفة – بعد مشيئة ال سبحانه وتعالى – على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم‬
‫معين‪ ،‬تملك تحقيق هذا اللزام الربانى فى عالم الواقع‪ ،‬وبين أن يكون اللزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء‬
‫استطعنا تحقيقه فى عالم الواقع‪ ،‬أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس‪ ،‬كما كان حال المسلمين فى مكة‪ ..‬ويجب‬
‫أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الساس‪ :‬أنه إلزام ربانى‪ ،‬وأن الناكل عنه مرتد فى حكم ال‪ ،‬وأن جميع الناس مطالبون‬
‫بتحقيقه‪ ،‬حكاماً ومحكومين‪ ،‬سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر‪،‬‬
‫بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة المر الملزم ‪0‬‬

‫وهذا المعنى يختفى تماماً فى حس الناس – أو فى القليل يفقد شحنته الفاعلة – حين ندخل فى لعبة الديمقراطية‪ ،‬التى تقرر من‬
‫حيث المبدأ أنه ل إلزام لشىء إل ما تقرره غالبية الصوات ‪0‬‬

‫والخسارة الثانية التى نقع فيها حين ندخل فى لعبة الديمقراطية‪ ،‬هى تمييع قضية الشرعية‪ ،‬فالشرعية فى الديمقراطية هى لمن‬
‫يأخذ أغلبية الصوات‪ ،‬وهذا ليس هو المعيار الربانى؛ إنما المعيار الربانى – كما ذكرنا فى فصل سابق – هو تحكيم شريعة ال‬
‫‪ ،‬ومن أعرض عن تحكيم شريعة ال فل شرعية له فى دين ال‪ ،‬ولو حصل على كل الصوات ل غالبيتها فحسب‪ ،‬وهنا مفرق‬
‫طريق حاد بين السلم وبين الديمقراطية ‪0‬‬

‫وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية فلبد أن نقر بشرعية من يأخذ غالبية الصوات‪ ،‬ولو كان ل يحكم شريعة ال‪ ،‬لن هذا هو‬
‫قانون اللعبة‪ ،‬والذى ل نملك مخالفته‪ ،‬وعندئذ نقع فى محظور عقدى‪ ،‬وهو إعطاء الشرعية لمر قال ال عنه إنه كفر‪ ،‬وهو‬
‫التشريع بغير ما أنزل ال ‪0‬‬

‫ومهما قلنا فى سرنا وعلننا‪ :‬إننا ل نوافق على التشريع بغير ما أنزل ال‪ ،‬فإنه يلزمنا أن نخضع لقانون اللعبة‪ ،‬مادمنا قد‬
‫ارتضينا أن نلعبها‪ ،‬بل طالبنا فى كثير من الحايين أن يسمح لنا باللعب فيها‪ ،‬واحتججنا حينما حرمنا من هذا الحق‪..‬‬

‫ولم يفت أعداءنا أن يستغلوا وقوعنا فى ورطة الديمقراطية ليحرجونا‪ ،‬ويشتدوا فى إحراجنا‪ ،‬فقالوا لنا‪ :‬ما موقفكم إذا دخلتم‬
‫النتخابات ولم تنجحوا‪ ،‬ونجح غيركم ممن ل يحكم الشريعة؟ فقلنا – ويا للعجب‪ : -‬نحترم رأى المة!! فسألونا‪ :‬إذا كنتم فى‬
‫الحكم ثم رغبت المة عنكم‪ ،‬وأعطت الصوات لغيركم‪ ،‬فقلنا – وياللعجب‪ - :‬نخضع لقرار المة! أولو كان قرار المة مناقضاً‬
‫لما قرره ال؟!‬

‫أى تمييع لقضية ل إله إل ال وقضية الشرعية أشد من ذلك؟‬

‫‪30‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ومع ذلك فما دمنا قد دخلنا اللعبة فل مناص لنا من أن نقبل قانونها‪ ،‬لن هذا هو مقتضى المنطق ‪ .‬إنما يحق لنا أن نرفض‬
‫القانون حين ل نشارك فى اللعبة أصلً‪ ،‬فنكون منطقيين مع أنفسنا ومع الناس حين نقول لهم ‪ :‬إننا لم نشارك فى اللعبة الن‬
‫قانونها مخالف لما قرره ال وألزم به عباده ‪..‬‬

‫وبطبيعة الحال‪ ،‬فإننا حين نقول ذلك فسيقول عنا أعداؤنا‪ :‬أنتم لستم ديمقراطيين‪ ،‬أنتم أعداء الديمقراطية‪ ،‬ونقول لهم ‪ :‬قولوا‬
‫ما شئتم‪ ،‬فلن نقبل نظام حكم يعطى البشر ابتداءً حق التشريع بما يخالف شرع ال؛ لننا إن قبلنا ذلك ل نكون مسلمين! والذى‬
‫أنزله ال علينا هو السلم وليس الديمقراطية‪ ،‬والذى ألزمنا ال به هو السلم وليس الديمقراطية‪ ،‬والذى يحاسبنا ال عليه‬
‫يوم القيامة هو السلم وليس الديمقراطية ‪(( :‬إن الدين عند ال السلم))(آل عمران ‪(( .)19 :‬ومن يبتغ غير السلم دينا فلن‬
‫يقبل منه وهو فى الخرة من الخاسرين))(آل عمران ‪.)85 :‬‬

‫وفى السلم شورى‪ ،‬ولكن الشورى ليست هى الديمقراطية‪ ،‬فالشورى هى فى الطريقة الصحيحة لتطبيق النص‪ ،‬وفيما يجتهد‬
‫فيه المسلمون فيما ليس فيه نص(‪ .. )1‬أما الديمقراطية فهى تجعل الحاكمية ابتداءً فى يد البشر‪ ،‬ول توافق على اعتبارها حق‬
‫ال وحده بل شريك! وما أبعد الشقة بين ديمقراطيتهم وشورى السلم‪(( :‬أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من ال حكماً لقوم‬
‫يوقنون))(المائدة‪.)50:‬‬

‫ولو لم يكن فى دخولنا لعبة الديمقراطية من خسارة‪ ،‬إل تمييع قضية ل إله إل ال وقضية الشرعية‪ ،‬لكان هذا كافياً لتجنب‬
‫الخوض فى اللعبة‪ ،‬أيا تكن الفوائد الجزئية التى يمكن أن تتحقق من دخولنا البرلمانات‪ ،‬والتى نخسرها حين نمتنع من الدخول‬
‫فيها ‪ ..‬وقد حرم ال الخمر والميسر مع أن فيهما – بصرح القرآن‪ -‬منافع للناس؛ وإنما حرمهما كما صرحت الية الكريمة‪،‬‬
‫لن إثمهما أكبر من نفعهما‪(( :‬يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما))(البقرة‬
‫‪.)219 :‬‬

‫وهذه قاعدة فقهية نهتدى بها فيما ليس فيه نص‪ ،‬وقضية البرلمانات والدخول فيها ليس فيها نص‪ ،‬ولكن التدبر الواعى للقضية‬
‫يصل بنا إلى أن تمييع قضية ل إله إل ال ومقتضياتها‪ ،‬وتمييع قضية الشرعية‪ ،‬يؤثر تأثيراً عكسياً على الدعوة؛ لنه يشتت‬
‫وعى الجماهير بهاتين القضيتين الرئيسيتين من قضايا الدعوة‪ ،‬وهما ‪ :‬أن تحكيم شريعة ال إلزام ربانى ل يستفتى فيه الناس‪،‬‬
‫وليس منشأ اللزام فيه أن يرضى عنه أكثرية الناس‪ ،‬أو ل يرضوا‪ ،‬إنما منشأ اللزام فيه هو كوننا مسلمين‪ ،‬بل هو مجرد‬
‫زعمنا أننا مسلمون ‪ ..‬وأن الشرعية فى دين ال ل علقة لها بعدد الصوات التى ينالها فلن أو فلن‪ ،‬فإنما يتعلق عدد‬
‫الصوات بشخص الحاكم الذى تختاره المة ليطبق شريعة ال‪ ،‬ل بنوع الحكم الذى يزاوله الحاكم‪ ،‬والذى ل خيار فيه لحد من‬
‫الناس‪ ،‬حكام ًا كانوا ل محكومين‪ ،‬بعد أمر ال الملزم بتطبيق الشريعة‪ ،‬وحكم ال الصريح بنفى اليمان البتة عمن يعرض عن‬
‫شريعة ال ‪ (( :‬فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك))(النساء ‪(( .)65 :‬وما أولئك بالمؤمنين))(النور‪.)47:‬‬

‫***‬

‫هذه قضايا رئيسية من قضايا الدعوة‪ ،‬وما لم تع الجماهير جيداً هذه القضايا‪ ،‬وتؤمن بها إيماناً راسخاً‪ ،‬فلن تتوفر القاعدة‬
‫الجماهيرية الصحيحة‪ ،‬التى يمكن أن يقوم عليها حكم إسلمى‪ ،‬فالجاهلية العالمية كلها واقفة بالمرصاد لتمنع تحقيق هذا الحكم‬
‫فى واقع الرض‪ ،‬ولبد من إيمان واع وراسخ يقاوم الضغط العالى كله‪ ،‬ويصمد إزاءه‪ ،‬ولك غبش نحدثه حول هذه القضايا هو‬
‫فى الحقيقة تعويق للدعوة وإن ظننا أنه يقرب الطريق ‪0‬‬

‫***‬

‫تلك خلصة سريعة للسباب التى أدت إلى تعجل الحركة المعاصرة فى تحركها‪ ،‬والنتائج التى ترتبت على هذا التعجل‪ ،‬والتى من‬
‫شأنها أن نراجع حساباتنا ونحاول التصحيح ‪0‬‬

‫وفى الفصول القادمة سنتحدث عن التربية المطلوبة‪ ،‬سواء للقاعدة الصلبة التى تحمل مسئولية الدعوة‪ ،‬أو للقاعدة الجماهيرية‬
‫التى لبد من إنشائها لتتم الحركة فى واقع الرض‪ ،‬وتصل إلى أهدافها بعون ال‪ ،‬مسترشدين فى حديثنا بخطوات المنهج‬
‫النبوى فى الدعوة‪ ،‬والذى كانت نقطة البدء فيه هى إقامة القاعدة الصلبة التى تحمل البناء ‪0‬‬

‫القاعدة الصلبة‬

‫غنهى عهن البيان أن كهل رسهول ههو عنوان رسهالته‪ ،‬وههو النموذج الذى يفترض فهى أتباعهه أن يتبعوه‪ ،‬وأن يحققوا فهى ذوات‬
‫أنفسهم ما وسعهم أن يحققوه من القتداء به فى أقواله وأفعاله‪ ،‬وتنفيذ ما أمرهم به‪ ،‬وما نهاهم عنه ‪(( :‬وما أرسلنا من رسول‬
‫‪ 1‬حدود الجتهاد معروفة فى الفقه السلمى وهى أل تحرم حلل ول تحل حراما ول تصادم مقاصد الشريعة‪ ،‬ومجالها واسع جدا يشمل كل ما يجد فى حياة‬
‫المة من أمور‪ ،‬ولكنه منضبط بضوابط الشريعة ‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫إل ليطاع بإذن ال))(النساء ‪(( .)64 :‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(الحشر‪(( .)7 :‬لقد كان لكم فى رسول‬
‫ال أسوة حسنة لمن كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال كثيراً))(الحزاب ‪.)21 :‬‬

‫((‪ ..‬فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فأنوا منه ما استطعتم))(‪.)1‬‬

‫وغنى عن البيان كذلك‪ ،‬أن الرسالة الخاتمة كانت رسالة فذة بين الرسالت جميعاً؛ لنها الرسالة التى اكتمل بها الدين‪،‬‬
‫والموجهة للبشرية كافة ل لقوم بأعيانهم كما كان شأن الرسالت السابقة‪ ،‬ولنها الرسالة التى أنزلت لتحكم بشمولها كافة حياة‬
‫الناس من جميع جوانبها‪ ،‬وترسم منهج الحياة الكامل للبشرية من لدن مبعثه صلى ال عليه وسلم إلى أن يرث ال الرض‬
‫ومن عليها ‪(( :‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم السلم دينا))(المائدة ‪(( .)3 :‬قل يا أيها الناس إنى‬
‫رسول ال إليكم جميعاً))(العراف‪(( .)158:‬وما أرسلناك إل رحمة للعالمين))(النبياء ‪(( .)107 :‬وأنزلنا إليك الكتاب بالحق‬
‫مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل ال))(المائدة‪.)48:‬‬

‫وكان هذا كله – فى تقدير ال – هو المناسب لختم الرسالة‪ ،‬وبعث النبى الخاتم عليه الصلة والسلم‪(( :‬ما كان محمد أبا أحد‬
‫من رجالكم ولكن رسول ال وخاتم النبيين ‪())0..‬الحزاب‪.)40:‬‬

‫((ل نبى بعدى))(‪.)2‬‬

‫كان من المناسب مع ختم الرسالة‪ ،‬أن تكون الرسالة الخاتمة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه فى وقتها الذى نزلت فيه‪ ،‬وفى‬
‫المستقبل الذى يكون من بعد إلى قيام الساعة؛ بحيث ل يضلون بعدها إن تمسكوا بها‪ ،‬ول يحتاجون لغيرها فى تدبير‬
‫شئونهم(‪(( :)3‬تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا‪ ،‬كتاب ال وسنتى))(‪.)4‬‬

‫وكان طبيعياً – والرسالة الخاتمة على هذه الصورة – أن يكون الرسول الخاتم صلى ال عليه وسلم أعظم رسول بين الرسل‪،‬‬
‫وأعظم من أقلت الرض‪ ..‬ول نبعد عن الحقيقة كذلك إن قلنا‪ :‬إن الرجال الذين رباهم الرسول صلى ال عليه وسلم كانوا – بعد‬
‫الرسل الكرام صلوات ال عليهم – أعظم رجالت التاريخ ‪0‬‬

‫نستطيع أن نقول بصفة عامة ‪ :‬إن القيم والمبادئ التى يشتمل عليها منهج التربية المستخدم ذات تأثير كبير فيمن يتربون‬
‫عليها‪ ،‬وإنه على قدر عظمة هذه القيم والمبادئ يكون مستوى المتلقين من الصفات الحميدة والخلق العالية‪ ..‬كما نقول من‬
‫جانب أخر إن شخصية المربى ذات تأثير كبير فيمن يتلقون عنه‪, ،‬إنه على قدر عظمة المربى يكون مستوى المتلقين عنه من‬
‫الرفعة وكرم الشمائل‪ ..‬ونقول من جهة ثالثة ‪ :‬إن استعداد الفطر التى تتلقى من المربى له تأثير كبير فى المستوى الذى يمكن‬
‫أن يصل إليه المتلقون من الرفعة‪ ،‬على قدر ما يكون فى هذه الفطر من السلمة والبعد عن المراض‪ ..‬فإذا أخذنا فى اعتبارنا‬
‫هذه العناصر الثلثة‪ ،‬أمكننا أن نكون فكرة عن السس التى قامت عليها القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وعن نوعية هذه القاعدة التى غيرت وجه التاريخ ‪0‬‬

‫فأما المبادئ فيكفى أن يكون منطلقها وأساسها الول هو التوحيد‪ ،‬هو ((ل إله إل ال))‪ ،‬والتوحيد هو الذى أنشأ هذه المة‪،‬‬
‫وأخرجها إلى الوجود خير أمة أخرجت للناس‪(( :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون‬
‫بال))(آل عمران‪ . )110 :‬ولكن الخيرية الناشئة من التوحيد ل تتمثل فى أحد ول فى شىء‪ ،‬كما تتمثل فى تلك القاعدة التى‬
‫رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه‪ ،‬فى فترة التربية فى مكة‪ ،‬ثم بعد ذلك فى المدينة‪..‬‬

‫التوحيد – فى حقيقته المنزلة من عند ال‪ ،‬والتى استوعبها قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وربى عليها أصحابه – هو‬
‫أعظم ما فى هذا الوجود من حقيقة‪ ،‬وهو أعظم ما فى حقيقة الوجود من مؤثر فى بنية الكون وبناء النفوس ‪:‬‬

‫((ال ل إله إل هو الحى القيوم))(آل عمران ‪.)2 :‬‬

‫الكون عابد بفطرته‪ ،‬والنسان عابد بفطرته‪ ،‬ولكن السموات والرض أتت إلى ال طائعة مستسلمة‪ ،‬وبقى النسان‪ ،‬بعضه‬
‫يستسلم‪ ،‬وبعضه يستكبر وينأى بجانبه ‪(( :‬ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا‬
‫طائعين))(فصلت ‪(( .)11 :‬ألم تر أن ال يسجد له من فى السموات ومن فى الرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر‬
‫والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب))(الحج ‪.)18 :‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخارى‬
‫‪ 2‬اخرجه الشيخان ‪.‬‬
‫‪ 3‬تجد فى حياة الناس أمور جديدة على الدوام‪ ،‬وما كان هذا غائبا عن علم ال وهو ينزل رسالته‪ ،‬ولكنه أودع شريعته ما تواجه به الجديد كله وتستوعبه‬
‫وتهيمن عليه‪ .‬وقد فصل الفقهاء والصوليون هذه المور تفصيلً وافيا يطلب فى كتبهم لمن شاء ‪.‬‬
‫‪ 4‬أخرجه الشيخان ‪.‬‬

‫‪32‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫والصل فى فطرة الناس هو التوحيد ‪(( :‬فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت ال التى فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ذلك الدين‬
‫القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون))(الروم‪(( .)30:‬وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست‬
‫بربكم قالوا بلى شهدنا))(العراف ‪.)172 :‬‬

‫((كل مولود يولد على الفطرة))(‪.)1‬‬

‫((إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم))(‪.)2‬‬

‫ولكن ال من فضله وكرمه لم يشأ أن يقهر النسان على التوحيد كما تخضع الكائنات الخرى بالقهر‪ ،‬بل كرمه وفضله‪(( :‬ولقد‬
‫كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيل))(السراء ‪.)70 :‬‬

‫ومن آيات هذا التكريم حرية الختيار ‪(( :‬ونفس وما سواها (‪ )7‬فألهمها فجورها وتقواها(‪ )8‬قد افلح من زكاها(‪ )9‬وقد خاب‬
‫من دساها))(الشمس ‪.)10-7 :‬‬

‫ومع أن هذه الحرية تكريم ربانى تفضل ال به على النسان‪ ،‬فإن بعض الفطر تنتكس مستخدمة حريتها فى عصيان ال‬
‫والستكبار عن عبادته‪ ،‬بدلً من أن تختار الهدى وتستقيم عليه‪ ،‬فيصبح فى الناس مؤمن وكافر ‪(( :‬هو الذى خلقكم فمنكم كافر‬
‫ومنكم مؤمن))(التغابن‪.)2:‬‬

‫فأما الذين آمنوا فهم الذين استقاموا على الفطرة السوية‪ ،‬وعلى قدر صدق إيمانهم ورسوخه وقوته يكون ارتفاعهم فى مدارج‬
‫السالكين لتحقيق الغاية العظمى التى خلق ال الخلق من أجلها‪(( :‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون))(الذاريات‪.)56:‬‬

‫ماذا يفعل التوحيد فى النفوس؟‬

‫أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربى أو يمرر عليها مغناطيس‪ ..‬ماذا يحدث فى كيانها؟ يحدث – كما يقول علم‬
‫الفيزياء – أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين‪ ،‬فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل‪ ،‬وتصبح طاقة محركة‬
‫بعد أن كانت ساكنة ل تتحرك ول تحرك‪..‬‬

‫أين كانت هذه الطاقة فى كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة‪ ،‬فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل‪ ،‬فلم يكن لها وجود واقعى مشهود ‪ ..‬والن‬
‫تجمعت على نسق معين‪ ،‬فظهرت‪ ،‬وعملت‪ ،‬وصار لها آثار مشهودة فى عالم الواقع ‪..‬‬

‫شبيه بذلك ما يحدث فى نفوس البشر حين تخالطها بشاشة السلم‪ ،‬حين تعرف التوحيد‪ ،‬حين تؤمن بل إله إل ال ‪ ..‬تتجمع‬
‫النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها ‪0‬‬

‫ولكن‪ ،‬فلنقف لحظة لنسأل‪ :‬ما الذى يحدث الشتات فى النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بل‬
‫رعاية ول عناية ول توجيه؟ حين ل يقوم النسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه ‪(( :‬قد أفلح من زكاها() وقد خاب من‬
‫دساها))(الشمس ‪.)10-9 :‬‬

‫يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى ‪ ..‬ويحدث من ضغط الشهوات‪ ..‬ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد فى الحياة ‪ ..‬تلك – على‬
‫القل – ثلثة أسباب رئيسية تحدث الشتات فى النفوس‪ ،‬فيجئ اليمان فيجليها‪ ،‬فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها‪ ،‬وتصبح‬
‫طاقة هائلة تتحرك وتحرك ‪0‬‬

‫فأما إنسان الجاهلية العربية‪ ،‬فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالصنام‪ ،‬وبعضها خفى كالقبيلة وعرف الباء والجداد ‪..‬‬

‫فأما الصنام فالحديث عنها مستفيض‪ ،‬حتى ليحسب النسان لول وهلة أنها وحدها كانت هى اللهة المعبودة من دون ال فى‬
‫الجاهلية العربية‪ ،‬ولكن الذى ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون ال‪ ،‬فانظر إلى الشاعر(‪ )3‬الذى يقول ‪:‬‬

‫غويت وإن ترشد غزية أرشد‬ ‫وهل أنا إل من غزية إن غوت‬

‫فما عبادة التباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها – على علم بغوايتها‪ -‬لنها فى حسه رب معبود‪ ،‬ل تجوز‬
‫مخالفته فى الرشد ول فى الغى!‬

‫‪ 1‬أخرجه البخارى ‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه مسلم ‪.‬‬
‫‪ 3‬هو دريد بن الصمة ‪0‬‬

‫‪33‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وكان عرف الباء والجداد رباً معبوداً من دون ال‪(( :‬وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو‬
‫كان آباؤهم ل يعقلون شيئاً ول يهتدون))(البقرة ‪.)170 :‬‬

‫عرف الباء والجداد‪ ،‬الذى يجعل أبا طالب يحجم عن السلم – على كل حبه لبن أخيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكل حدبه‬
‫ورعايته‪ ،‬وكل حمايته له من كفار قريش – لكى ل يقال عنه إنه خالق عرف الباء والجداد! فأى عبودية أشد من هذه‬
‫العبودية؟‬

‫أما إنسان الجاهلية المعاصرة‪ ،‬فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية‪( ..‬فالمصلحة القومية) بديل من‬
‫القبيلة العربية القديمة‪ ،‬أكبر وأخطر‪ ،‬وأشد استيلء على نفوس أتباعها‪( ..‬والرأى العام العالمى) بديل من عرف الباء‬
‫والجداد‪ ،‬أكبر وأخطر‪ ،‬وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة فى كل الرض‪ ،‬بينما هو صناعة مصنوعة على يد‬
‫الشياطين الذين يحكمون الرض‪ ،‬من وراء ستار أو بل أستار‪( ..‬والتقدم) إله ‪( ..‬والعلم) إله ‪( ..‬والعلمانية) إله ‪( ..‬والنتاج)‬
‫إله ‪( ..‬والحربية الشخصية) إله ‪..‬‬

‫وناهيك عن الشهوات!‬

‫إنها فى القديم والحديث أرباب معبودة من دون ال ‪ ..‬أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار ‪..‬‬

‫إنها فى وضعها الطبيعى فى صميم الفطرة‪ ،‬غذاء ضرورى للنفس البشرية‪ ،‬لكى تقوم بنشاطها الطبيعى فى عمارة الرض‪ ،‬التى‬
‫هى جزء من مهمة الخلفة التى خلق ال لها النسان‪(( :‬وإذ قال ربك للملئكة إنى جاعل فى الرض خليفة)) (البقرة ‪.)30 :‬‬
‫((هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها)) (هود ‪(( .)61 :‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة‬
‫من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن المآب))(آل عمران‪.)14:‬‬

‫ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد ‪ ..‬كالغذاء الجسدى سواء بسواء ‪ ..‬فالجسم – لكى يقوم‬
‫بنشاطه الطبيعى‪ -‬يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والملح والفيتامينات‪ ،‬ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب فى أى‬
‫منها‪ ،‬يحدث خلل فى وظائف الجسم‪ ،‬فل يعود يتمثل الغذاء تمثلً صحيحاً‪ ،‬ول يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعى الذى‬
‫يفترض أن يبذله‪ ،‬وتبدأ المراض‪ ..‬والنفس كذلك‪ ،‬تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية‪ ،‬التى‬
‫يفترض أن تقوم بها فى الحياة الدنيا‪ ،‬ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات‪ -‬وهى لكونها محببة ومزينة تغرى بالمزيد – فإن‬
‫نظامها يختل‪ ،‬فتفسد‪ ،‬وتعجز عن القيام بالنشاط السوى‪ ،‬وإن قامت بألوان من النشاط المنحرف‪ ،‬كما تختل الخلية السوية حين‬
‫يصيبها السرطان‪ ..‬تنشط‪ ،‬ولكنه النشاط المؤدى إلى الدمار ‪.‬‬

‫وهنا نقطة ((البتلء)) الذى يعرض للنسان فى حياته‪ ،‬والذى هو هدف من أهداف خلقه‪(( :‬إنا خلقنا النسان من نطفة أمشاج‬
‫نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً))(النسان‪(( . )2 :‬إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل))(الكهف‪.)7:‬‬

‫فموضوع البتلء هو الطريقة التى يتناول بها النسان متاع الرض‪ ..‬هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التى قدرها ال – وهو‬
‫اللطيف الخبير الذى يعلم من خلق‪ ،‬ويعلم ما يصلحه وما يصلح له – أم يسرف ويتجاوز الحدود‪ ،‬فينقلب المتاع سما مهلكاً يضر‬
‫أكثر مما ينفع‪ ،‬أو يضر ول ينفع؟ ‪(( :‬أل يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))(الملك ‪(( . )14 :‬تلك حدود ال فل تعتدوها))‬
‫(البقرة ‪(( .)219 :‬تلك حدود ال فل تقربوها))(البقرة ‪.)187 :‬‬

‫ولقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقاً فى الشهوات‪ ،‬يعب منها بمقدار ما يتيح له وضعه الجتماعى‪ ،‬ووضعه القتصادى‪ ،‬ل‬
‫يرى فى ذلك بأساً‪ ،‬بل يراها فخرًا وكرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل‪:‬‬

‫يقول طرفة بن العبد ‪:‬‬

‫وجدك لم أحفل متى قام عودى‬ ‫ولول ثلث هن من عيشة الفتى‬

‫كميت متى ما تعل بالماء تزبد‬ ‫فمنهن سبقى العاذلت بشربة‬

‫كسيد الغضا ‪ -‬نبهته ‪ -‬المتورد‬ ‫وكرى إذا نادى المضاف محنباً‬

‫ببهكنة تحت الطراف المعمد‬ ‫وتقصير يوم الدجن‪ ،‬والدجن معجب‬

‫فيذكر الخمر والنساء والحرب‪ ،‬وذلك بعد أن قال قبلها ‪:‬‬

‫وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى؟‬ ‫أل أيهذا اللئمى أحضر الوغى‬

‫‪34‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ل – فى واقع الحياة الدنيا – ((فالمنطق)) فى الجاهلية أن يعب النسان من الشهوات بقدر ما يستطيع‪،‬‬
‫فما دام الخلود مستحي ً‬
‫لنها فرصة واحدة‪ ،‬إن ضاعت ل تعود ‪.‬‬

‫أما إنسان الجاهلية المعاصرة‪ ،‬فالشهوات فى حياته هى الصل الذى يعيش من أجله‪ ،‬وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل‬
‫على الوسيلة التى تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوى فى ذلك من كانت شهوته هى السلطة فيعمل على اكتسابها‪ ،‬أو شهوته‬
‫هى الملك فيعمل على اكتسابه‪ ،‬أو شهوته هى الجنس ولذائذ الحس‪ ،‬وهى التى جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً‬
‫للصغير والكبير‪ ،‬والعاقل والمجنون‪ ،‬والرجل والمرأة على السواء!‬

‫أما الهدف فل هدف فى الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا‪ ،‬وما فيها من المتاع المتاح‪(( :‬وقالوا ما هى إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا‬
‫وما يهلكنا إل الدهر))(الجاثية ‪(( .)24 :‬إن هى إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين))(المؤمنون ‪.)37 :‬‬
‫((فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا(‪ )29‬ذلك مبلغهم من العلم))(النجم‪(( .)30-29:‬يعلمون ظاهراً من‬
‫الحياة الدنيا وهم عن الخرة هم غافلون))(الروم ‪.)7 :‬‬

‫وحين ينحصر النسان فى الحياة الدنيا وأهدافها القريبة – مهما بدت بعيدة – فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذى خلقه ال له‪ ،‬حين‬
‫خلقه من قبضة من طين الرض‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ..‬يفقد القيم العليا‪ ،‬التى هى القوام الحقيقى للنسان‪(( :‬إذا قال ربك‬
‫للملئكة إنى خالق بشراً من طين(‪ )71‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص ‪.)72-71‬‬

‫فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث‪ ،‬لذلك كان حفظ النساب والفخر‬
‫والهجاء‪ ،‬وأخبار المعارك‪ ،‬والكر والفر‪ ،‬هى عالمه الذى يعيش فيه‪ ،‬ويعيش من أجله‪ ،‬ويقول نفيه الشعراء شعرهم‪ ،‬ويكون هو‬
‫سمرهم فى منتدياتهم‪ ،‬وموضع تنافسهم فيما بينهم ‪ ..‬إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر فى الموال والولد‪ ،‬وما يمارسونه من‬
‫الشهوات ‪0‬‬

‫وأما إنسان الجاهلية المعاصرة‪ ،‬فهو أشد ضللً وانحصاراً فى الحياة الدنيا وعالم الحس‪ ،‬وأشد بعدًا عن القيم العليا وتكاليفها‪،‬‬
‫لتكالبه على المتاع الحسى‪ ،‬ولن صانعى هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملً عن كل قيمة إنسانية‪ ،‬ترفع النسان‬
‫عن محيط الحيوان‪ ،‬لذلك تفننوا فى تزيين الرض‪ ،‬وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر – أو ل تخطر – على البال ‪0‬‬

‫وفى الجاهلية كلها – قديمها وحديثها – حين ينحصر الناس فى الحياة الدنيا ول يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء‪،‬‬
‫تبدو الحياة فى نظرهم عبثاً ل معنى له‪ ،‬ول قيمة للقيم فيه‪ ،‬إل بمقدار ما تخدم شهوات النسان ومصالحه فى عمره المحدود‪،‬‬
‫وتنتاب النسان الحيرة التى عبر عنها الشاعر الجاهلى المعاصر (إيليا أبو ماضى) فى هذه البيات‪:‬‬

‫جئت ل أعلم من أين ولكنى أتيت !‬

‫ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمشيت!‬

‫وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت‬

‫كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقى؟ لست أدرى!‬

‫ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية‪ ،‬لنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة‪ ،‬وهو شعور ثقيل على النفس‪ ،‬كما‬
‫يغرق الناس فهى اللههو‪ ،‬لقتهل الوقهت الذى يظهل فارغاً وثقيلً‪ ،‬حيهن يفرغ الناس مهن صهراعاتهم الهابطهة ومصهالحهم القريبهة‪،‬‬
‫ويبحثون عن هدف يمل الفراغ فل يجدون ‪0‬‬

‫فى الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب‪ ..‬وفى الجاهلية المعاصرة صارت‬
‫المخدرات إلى جانب الخمر‪ ،‬وصارت المراقص ودور اللهو ونوادى القمار‪ ..‬وفى الجانب الخر صار القلق النفسى والمراض‬
‫العصبية‪ ،‬والنتحار والجنون‪ ،‬حين ل تفلح الوسائل كلها فى رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس ‪0‬‬

‫***‬

‫تلك كلها أسباب وراء الشتات الذى يصيب النفس البشرية فى الجاهلية‪ ،‬واليمان هو الذى يجمع النفس من الشتات‪..‬‬

‫اليمان معناه ابتداءً‪ :‬العتقاد بأنه إله واحد ل إله غيره‪ ..‬وأن كل اللهة الخرى وكل الرباب‪ ،‬وكل المعبودات من دون ال‪،‬‬
‫وهم ل حقيقة له‪ ،‬ول وجود له إل فى ظنون أصحابه‪ ،‬وهى ظنون ل تغنى من الحق شيئاً ‪ ..‬ومعناه أنه ل معبود بحق إل ال‪،‬‬
‫لنه ل إله فى الحقيقة غيره‪ ،‬فكل عبادة موجهة إلى غيره فهى باطلة من أساسها‪ ،‬لنها موجهة لمن ل ألوهية له فى الحقيقة ‪..‬‬
‫ومعناه اللتزام بما جاء من عند ال‪ ،‬لنه ل يستقيم فى الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده‪ ،‬ثم يطاع غيره فى‬

‫‪35‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫معصيته! ومعناه فى نهاية المر أن ال هو المشرع‪ ،‬هو الذى يحدد الحلل والحرام‪ ،‬والحسن والقبيح‪ ،‬والمباح وغير المباح‪،‬‬
‫وهو الذى يضع الحدود التى يمارس الناس فيها متاع الحياة الدنيا‪ ،‬وهو الذى يضع للناس منهج الحياة‪ ،‬ويحدد لهم ما يعيشون‬
‫له من أهداف ‪0‬‬

‫ومن شأن هذا اليمان أل يبقى سبباً من أسباب الشتات التى يتطرق بها إلى النفوس‪..‬‬

‫حين يتوحد الله المعبود تنتهى من الحس تماماً كل اللهة المزعومة‪ ،‬التى تشتت النفس فى اتباعها‪ ،‬ولكل منها مطالب‪ ،‬ولكل‬
‫منها نزعات أو شطحات ل تلتقى فى اتجاه واحد‪ ،‬فتتوزع النفس بينها‪ ،‬وكل إله منها ل يمارس ألوهيته إل على حساب إله‬
‫آخر‪(( :‬ضرب ال مثلً رجلً فيه شركاء متشاكسون ورجلً سلما لرجل هل يستويان مثلً الحمد ل بل أكثرهم ل‬
‫يعلمون))(الزمر ‪.)29 :‬‬

‫وحين يتوحد الله المعبود تنضبط الشهوات فى حدودها التى حددها ال‪ ،‬فتصبح غذاءً صالحاً للنفس‪ ،‬ول تعود سماً مهلكاً‪ ،‬ول‬
‫هماً مقعداً مقيماً‪ ،‬ل يرتوى ول يشبع‪ ،‬ول يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء‪..‬‬

‫وحين يتوحد الله المعبود يتحدد الهدف الذى ينظم فى داخله كل الهداف‪ ،‬وتتحدد القيم التى تحقق الهداف‪ .‬وتذهب عن الحياة‬
‫عبثيتها‪ ،‬حين يؤمن النسان بالبعث والنشور‪ ،‬والحساب والجزاء‪.‬‬

‫***‬

‫إذا كان هذا دور المبادئ فى نشأة القاعدة الصلبة‪ ،‬فلنقل كلمة سريعة عن دور المربى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعظم مرب فى‬
‫التاريخ‪ ،‬ولن نوفيه حقه صلى ال عليه وسلم فى هذه الكلمة ول فى كلمات ‪ ..‬وحسبه ما شهد له به ربه المنعم الوهاب‪:‬‬
‫((وإنك لعلى خلق عظيم)) (القلم ‪ ، )4 :‬ولكنا ل نستطيع أن تعرف على تلك القاعدة‪ ،‬دون أن نلم ولو إلمامة سريعة بالثر‬
‫الضخم الذى أحدثه وجود الرسول صلى ال عليه وسلم بشخصه الكريم العظيم بين ظهرانيهم ‪0‬‬

‫إن التباع يقبسون دائم ًا شيئاً من صفات قائدهم‪ ،‬من خلل حبهم له ومصاحبتهم إياه‪ ،‬وقد يكون هذا بغير وعى كامل منهم‪ ،‬فإن‬
‫العجاب بشخصهية القائد يدفهع التباع تلقائياً إلى محاولة التشبهه بهه فهى بعهض أعماله‪ ،‬وبعهض أقواله‪ ،‬وبعهض مواقفهه‪ ،‬وبعهض‬
‫تصرفاته‪ ،‬وقد كان هذا حادثاً بالفعل من الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬تجاه نبيهم الذى يحبونه فوق كل حب‪ ،‬ويوقرونه فوق كل‬
‫توقير عرفه أتباع تجاه قائدهم فى التاريخ كله ‪0‬‬

‫سهأل هرقهل أبها سهفيان‪ ،‬ولم يكهن قهد أسهلم بعهد‪ ،‬عهن حال المؤمنيهن مهع النهبى صهلى ال عليهه وسهلم‪ ،‬فقال‪ ،‬مها رأيهت أحداً يحبهه‬
‫الناس كحب أصحاب محمد محمداً ‪.‬‬

‫ولكهن المهر مهع رسهول ال صهلى ال عليهه وسهلم ‪ ،‬لم يكهن مقتصهرًا على هذا العجاب الذى يؤثهر فهى التباع بغيهر وعهى كامهل‬
‫منههم‪ ،‬إنمها كان تأثراً واعياً بأمهر مهن ال الذى آمنوا بهه وأسهلموا وجوهههم له‪ ،‬وبأمهر مهن الرسهول ذاتهه صهلى ال عليهه وسهلم ‪:‬‬
‫((لقههد كان لكههم فههى رسههول ال أسههوة حسههنة لمههن كان يرجههو ال واليوم الخههر وذكههر ال كثيراً))(الحزاب‪(( .)21 :‬ومهها آتاكههم‬
‫الرسهول فخذوه ومها نهاكهم عنهه فانتهوا واتقوا ال إن ال شديهد العقاب))(الحشهر‪(( .)7 :‬مها كان لههل المدينهة ومهن حولههم مهن‬
‫العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة‪(( .)120:‬يأيها الذين آمنوا استجيبوا ل وللرسهول‬
‫إذا دعاكم لما يحييكم))(النفال‪.)24 :‬‬

‫((ل يؤمههن أحدكههم حتههى أكون أحههب إليههه مههن نفسههه وماله وولده))(‪(( .)1‬صههلوا كمهها رأيتمونههى أصههلى))(‪(( .)2‬خذوا عنههى‬
‫مناسككم))(‪.)3‬‬

‫ذلك أنه ليس مجرد قائد يقود جماعة من الناس‪ ،‬إنما هى نبى يبلغ عن ربه‪ ،‬ويبين للناس ما نزل إليهم‪ ،‬فطاعته أمر‪ ،‬وطاعته‬
‫عبادة ل‪(( ،‬يأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولى المر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى ال والرسول إن‬
‫كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويلً))(النساء ‪(( .)59 :‬من يطع الرسول فقد أطاع ال))(النساء‪.)80 :‬‬

‫لذلك اجتمهع للرسهول صهلى ال عليهه وسهلم مهن أتباعهه ذلك الحهب الفائق الذى يفوق كهل حهب‪ ،‬واللتزام بالطاعهة التهى ههى عبادة‬
‫ال‪ ،‬فاجتمهع له مهن التأثيهر فهى نفوس أصهحابه‪ ،‬رضوان ال عليههم‪ ،‬مها لم يكهن له مثيهل فهى التاريهخ ‪ ..‬تأثيهر الشخصهية الفذة‪،‬‬
‫وتأثير المبادئ الفذة كلهما فى آن‪0..‬‬

‫فأما المبادئ فقد تحدثنا عنها إجمالً فى الفقرة السابقة‪ ،‬وسنعود إليها بالتفصيل فيما بعد ‪0‬‬

‫‪ 1‬أخرجه الشيخان ‪0‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخارى ‪0‬‬
‫‪ 3‬أخرجه مسلـم ‪0‬‬

‫‪36‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫أمها شخصهية الرسهول صهلى ال عليهه وسهلم فقهد يجزئنها فهى هذا المقام أن نقول‪ :‬إنهها شخصهية جامعهة‪ ،‬جمعهت مها تفرق فهى‬
‫أشخاص الرسل الكرام صلوات ال وسلمه عليهم‪ :‬روحانية عيسى‪ ،‬وصبر نوح‪ ،‬وحزم موسى‪ ،‬ورقة إبراهيم عليهم السلم‪..‬‬
‫إلى خصال تفرد بها صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لم تتح لنبى قبله‪ ..‬فاجتمع فيه شخصية القائد السياسى الذى يجمع أمة من شتات‪،‬‬
‫ويبوئهها مكاناً عالياً بيهن المهم‪ ..‬وشخصهية القائد العسهكرى‪ ،‬الذى يربهى جيشاً فذاً فهى شجاعتهه وقوة بأسهه‪ ،‬ويخوض بهه أنبهل‬
‫المعارك‪ ..‬وشخصهية المربهى الذى ل يألوا جهداً فهى تربيهة أتباعهه على القمهة مهن الخلق الفاضلة‪ ..‬وشخصهية المجاههد الذى ل‬
‫يفتهر عهن الجهاد ‪ ..‬وشخصهية الزوج المثالى والب الرحيهم الودود ‪ ..‬وكهل ذلك على توازن فهى الشخصهية‪ ،‬ل يطغهى منهها جانهب‬
‫على جانب‪ ،‬ول ينشط جانب على حساب جانب‪ ..‬ل جرم يكون تأثيره فى أتباعه أعظم تأثير أحدثه نبى فى قومه‪ ،‬وأعظم تأثير‬
‫أحدثه بشر فى التاريخ ‪0‬‬

‫***‬

‫وكما أجملنا الحديث عن المبادئ التى أنشأت القاعدة التى أقامها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعن شخصية المربى‬
‫العظم الذى ربى تلك القاعدة‪ ،‬نقول كذلك كملمة مجملة عن نوعية الرجال الذين قامت القاعدة على أكتافهم ‪:‬‬

‫((ال أعلم حيث يجعل رسالته)) (النعام ‪.)124:‬‬

‫إن اختيار ال لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وللرض التى تنطلق منها الرسالة‪ ،‬وللقوم الذين يتلقون الرسالة أول مرة‪ ،‬وراءه‬
‫ول شك حكمة بالغة‪ ،‬فقد اختار ال لرسالته الخاتمة أعظم الرسل صلوات ال وسلمه عليهم‪ ،‬واختار أرض ًا يعلم ال أنها أنسب‬
‫أرض تنطلق منها الرسالة الخاتمة‪ ..‬أرض ل مطمع فيها فى ذلك الوقت‪ ،‬لدولة من الدول العظمى التى تحكم الرض يومئذ‪،‬‬
‫لنها صحراء جرداء‪ ،‬فتنشأ الجماعة المؤمنة وتتمكن‪ ،‬دون أن تتدخل سلطة خارجية لكبتها أو إضعافها‪ ،‬أو تعويقها عن‬
‫مهمتها‪ ،‬حتى إذا تنبهت الدول ((العظمى)) لخطرها‪،‬ن وأرادت أن تتصدى لها‪ ،‬كانت قد أنشأت دولتها‪ ،‬وأنشأت قوتها الضاربة‬
‫التى ترهب بها العداء ‪0‬‬

‫أما البشر فى هذه الرض‪ ،‬فقد علم ال كذلك أنهم أصلح من يحمل هذه الرسالة‪ ،‬وينطلق بها فى الفاق‪ ..‬وثنيون ‪ ..‬نعم ‪..‬‬
‫مشركون ‪ ..‬نعم ‪ .‬لد الخصومة ‪ ..‬نعم ‪ ..‬شديدو الجدال‪ ..‬نعم ‪ .‬ولكنهم من وراء ذلك كله‪ ،‬أسلم فطرة من شعوب الرض‬
‫الخرى‪ ،‬التى أفسدتها الحضارة الجاهلية بترفها ورخاوتها وإخلدها إلى الرض‪ ،‬وانتشار المباذل فيها‪ ،‬كما كانت‬
‫ل عن استخذاء شعوبها لسطوة الحاكم‬ ‫المبراطوريتان ((العظيمتان!)) عن يمين الجزيرة وشمالها ‪ :‬فارس والروم‪ ،‬فض ً‬
‫المقدس الذى تخنع له الرقاب‪ ،‬ويتعامل مع شعبه تعامل السيد مع العبيد‪ ،‬فيطغى السيد ويخضع العبيد ‪0‬‬

‫لقد كانت الجاهلية العربية قد أفسدت ول شك نفوس العرب المشركين‪ ..‬ولكنه كما ثبت فى الواقع – فساد فى القشرة‪ ،‬لم يتوغل‬
‫إلى صميم الفطرة‪ ،‬فما إن أزالت العقيدة الجديدة هذه القشرة الفاسدة‪ ،‬حتى اتصلت رأساً بعناصر الخير المذخورة فى الفطرة‪،‬‬
‫فأحدثت العاجيب ‪0‬‬

‫وفيما عدا الكفار الذين أصروا على كفرهم‪ ،‬وقاتلوا هذا الدين بضراوة حتى قتلوا‪ ،‬فإن النفوس التى استجابت‪ ،‬قد استجابت‬
‫استجابة رائعة‪ ،‬ل مثيل لها فى أتباع الرسل من قبل‪ ،‬لسلمة فطرتهم تحت القشرة الزائفة‪ ،‬ولخلصهم العميق لهذا الدين‪،‬‬
‫ولشجاعتهم واستعدادهم للبذل والفداء ‪0‬‬

‫وعنصر آخر لبد من الشارة إليه‪ ،‬هو استعدادهم للنتقال السريع إلى أى مكان جديد يستوطنونه فيكون وطناً لهم ‪ ..‬ل تشدهم‬
‫إلى أرضهم نتلك الروابط المقعدة‪ ،‬التى تشد الفلح إلى أرضه‪ ،‬فيحس بالغربة إذا انتقل منها بضع خطوات‪ ،‬وبهذه الخصلة‬
‫انتشروا فى الرض كما لم ينتشر شعب من قبل‪ ،‬يحملون الهدى والنور لكل البشرية ‪0‬‬

‫***‬

‫ل عن عوامل ثلثة‪ ،‬أسهمت فى صلبة القاعدة التى أنشأها الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ :‬عظمة‬ ‫تحدثنا حتى الن حديثاً مجم ً‬
‫المبادئ التى قامت عليها القاعدة‪ ،‬وعظمة المربى صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وسلمة الفطرة لدى الذين تلقوا المبادئ العظيمة‪،‬‬
‫وتأثروا بعظمة المربى‪ .‬ولم نتحدث بعد عن دور التربية التى قام بها رسول ال صلى ال عليه وسلم لتباعه ‪..‬‬

‫فالمبادئ قد توجد – وهى اليوم موجودة كما كانت يوم أنزلت من عند ال – ولكنها ل تعمل من ذات نفسها‪ ،‬ما لم يبذرها‬
‫المربى فى نفوس أتباعه‪ ،‬ويستنبتها‪ ،‬ويتابعها بالرعاية والعناية والتوجيه‪ .‬والمربى قد يوجد ولكنه ل يعطى تأثيره الكامل‪،‬‬
‫حتى يعطى الجهد اللزم لعملية التربية‪ ،‬فالتأثر التلقائى وحده ل يكفى لتربية النفوس‪ ،‬ما لم يبذل المربى جهداً إيجابياً فى‬
‫تعميق القيم المطلوبة‪ ،‬وترسيخها فى النفوس ‪0‬‬

‫ولقد تحدثت فى كتاب آخر عن منهج التربية السلمية() ‪ .‬ولكنا نريد هنا أن نحدد دور التربية فى إنشاء القاعدة‪ ،‬لنه‬
‫الموضوع الذى يواجهنا اليوم فى حركتنا المعاصرة‪ ،‬ونفتقده افتقاداً حاداً فى كثر من المواضع ‪0‬‬

‫‪37‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫قلنا فيما سبق إن اليمان بل إله إل ال ل تأثيره العميق فى النفس البشرية‪ ،‬لنه يعيد ترتيب الذرات فى داخل النفس‪،‬ن كما‬
‫يفعل التيار الكهربى فى قطعة الحديد ‪ ..‬نعم‪ ،‬ولكن النفس الحية – برغباتها وهواتفها وأشواقها وانفعالتها وجواذبها‪ -‬ل تشبه‬
‫قطعة الحديد الساكنة‪،‬ن التى يمكن أن تحتفظ بصورتها التى تكون عليها فترة غير قصيرة من الزمان‪ ..‬بل إن قطعة الحديد‬
‫ذاتها‪ ،‬وهى ل تنفعل ول تتحرك فى داخلها لها حوافظ تحفظها من أن تتبعثر ذراتها مرة أخرى‪ ،‬كما كانت من قبل!‬

‫والنفس البشرية أولى – بانفعالتها وأشواقها وجواذبها – أن تتبعثر مرة أخرى‪ ،‬إذا لم تقم حولها الحوافظ التى تحفظها من‬
‫التبعثر‪ ،‬والتى تعمل على إعادة ترتيب ذراتها‪ ،‬كلما همت أن ينفرط نظامها من جديد‪..‬‬

‫وكما أن قطعة الحديد ل تفقد كل مغنطيسيتها إذا تركت مدة بل حوافظ‪ ،‬ولكن تضعف فيها المغناطيسية بالتدريج‪ ،‬فكذلك النفس‬
‫التى آمنت‪ ،‬ل يضيع إيمانها كله إذا تركت طويلً بل حوافظ‪ ،‬ولكن يضعف إيمانها بالتدريج حتى يصبح إيماناً غير فاعل‪ ،‬وغير‬
‫قادر على التماسك‪ ،‬حتى كأنه غير موجود فى عالم الواقع‪ ..‬وهنا تبدو الحاجة الملحة إلى التربية على اليمان‪ ،‬وليس مجرد‬
‫اليمان ‪0‬‬

‫إن النفس البشرية تعانى فى حياتها الدنيوية حركة موارة دائبة فى كيانها‪ ،‬هى التى تحدثها الشهوات التى ورد ذكرها فى كتاب‬
‫ال المنزل‪(( :‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام‬
‫والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن المآب))(آل عمران ‪.)14 :‬‬

‫وقد ذكرنا من قبل أن هذه الحركة الموارة الدائبة فى داخل النفس – والتى من طبيعتها أن تدفع النسان إلى أعمال معينة‬
‫وسلوك معين – هى نقطة البتلء الذى يعانيه النسان فى حياته الدنيا‪ ،‬والذى تفترق فيه نفس عن نفس‪ ،‬وسلوك عن سلوك ‪:‬‬
‫((إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل))(الكهف ‪.)7 :‬‬

‫وقد أجملت الية الكريمة ذكر الشهوات التى تتحرك داخل النفس وتحركها إلى أعمال معينة وسلوك معين‪ ،‬لن المجال ليس‬
‫مجال التفصيل(‪ .)1‬ولكن انفعالت النسان وأشواقه وهواتفه وجواذبه ل تكاد تحصى‪ ،‬ول تكاد تنتهى‪ ،‬ول تكاد تكف عن الحاح‪،‬‬
‫كما قال الشاعر‪(( :‬وحاجة من عاش ل تنقضى))… ولذلك فالبتلء قائم فى كل لحظة‪ ،‬والحاجة إلى التربية قائمة فى كل لحظة‬
‫كذلك‪ ،‬حتى تستقيم النفس على الوضع المطلوب‪ ،‬وتتحرر من العبودية للشهوات‪ ،‬وتتعود على الستقامة حتى تصبح بالنسبة‬
‫لها هى الصل‪ ،‬وينطبق عليها قوله تعالى ‪(( :‬إن الذين قالوا ربنا ال ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا‬
‫وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون))(فصلت‪ .. )30:‬ومع ذلك فل عصمة للنسان من الخطأ‪ ،‬ول أمان لحد من هواتب النفس‬
‫التى توقعها فى الخطاء‪ ،‬وإن كان باب التوبة مفتوح ًا أمام البشر على الدوام‪(( :‬كل بنى آدم خطاء وخير الخائطين‬
‫التوابون))()‪ ..‬وهنا يظهر دور التربية‪ ،‬وحاجة البشرية إليها‪ ،‬وضرورة الهتمام بها إلى أبعد الحدود ‪0‬‬

‫وليست التربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالتها فحسب‪ ،‬وإن كان هذا من السس التى لغنى عنها‪ ،‬ول‬
‫تستقيم بغيرها حياة ‪ ،‬ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك‪ ،‬ومستويات أخرى من القيم اللزمة للحياة‪..‬‬

‫لقد قدر ال للنسان فى حياته الدنيا ألواناً مختلفة من البتلء‪ ،‬بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه‪ ،‬وهى دوافعه ونوازعه‬
‫وشهواته‪ ،‬وبعضها الخر ضغوط خارج كيانه‪ ،‬وإن كانت تؤثر على ما فى داخل نفسه‪ ،‬سواء كانت ضغوطاً سياسية أو‬
‫اقتصادية أو اجتماعية‪ ،‬ويدخل فى هذه الخيرة أعراف الناس وتقاليدهم‪ ،‬وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمتقضياتها‪ ،‬وإن كان‬
‫الكثير منها فى الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هى ضرورات حقيقية‪ ،‬أهواء يرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا ‪:‬‬
‫((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والرض ومن فيهن))(المؤمنون‪.)71:‬‬

‫ولبد لكى تستقيم الحياة على المستوى اللئق بالنسان‪ ،‬الذى كرمه ال وفضله على كثير ممن خلق‪ ،‬لبد أن يقاوم النسان هذه‬
‫الضغوط‪ ،‬ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان‪..‬‬

‫ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد‪ ،‬فإنها تصبح لينة القوام‪ ،‬ضعيفة ل تقوى على مقاومة الضغوط‪ ،‬سهلة النثناء واللتواء‪،‬‬
‫فيطمع الذين استكبروا فى استخدام مزيد من الضغط‪ ،‬ليحصلوا من الناس على مزيد من الستسلم‪ ،‬وعندئذ يظهر الفساد فى‬
‫الرض‪ ،‬أى يتمكن ويستشرى‪(( :‬ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس))(الروم‪ .. )41:‬يستوى فى هذا‬
‫((الكسب)) طغيان من يطغى واستسلم من يستسلم‪ ،‬فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التى ينبغى أن تكون عليها‪..‬‬

‫وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لكساب النفس الصلبة اللزمة لها فى مواجهة الضغوط‪ .‬والقيم والمبادئ هى الحجار‬
‫الصلبة التى تقى البناء النفسى من النهيار عند أول صدمة أو النثناء تحت الضغط‪ ،‬وعلى قدر التمسك الحقيقى بتلك القيم‬
‫والمبادئ تكون الصلبة الحقيقية للنفس‪ ،‬وذلك التمسك هو الذى تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب‪ ،‬ولكنه ل يحدث فى‬
‫النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها‪ ،‬لنه بغير ذلك ل تقوى على الصلبة ول تطيق تكاليفها‪:‬‬

‫‪ 1‬ورد التفصيل فى آيات أخرى‪ ،‬وفى كثير من أحاديث الرسول صلى ال عليه وسلم ‪0‬‬

‫‪38‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫((فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم))(الزخرف ‪(( . )43 :‬والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلة إنا ل‬
‫نضيع أجر المصلحين))(العراف ‪.)170 :‬‬

‫ول تنتهى الحاجة إلى التربية عند هذا الحد‪ ،‬ول عند هذا المستوى من المور‪ ،‬وخاصة بالنسبة للمؤمنين‪ ،‬فقد اقتضت مشيئة‬
‫ال أل يكون الناس كلهم أمة واحدة ‪(( :‬ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ول يزالون مختلفين(‪ )118‬إل من رحم ربك‬
‫ولذلك خلقهم))(هود ‪(( .)119-118 :‬هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن))(التغابن‪.)2:‬‬

‫ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع فى الرض بين المؤمنين والكفار‪ ،‬بين أهل الحق وأهل الباطل‪ ،‬لكى ل تفسد‬
‫الرض باستعلء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم‪(( :‬ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض ولكن ال ذو فضل‬
‫على العالمين))(البقرة ‪ ..)251 :‬ول يعجز ال سبحانه وتعالى أن يدمر أهل الباطل ويبطل طغيانهم‪ ،‬وهو الذى يقول للشئ كن‬
‫فيكون‪(( :‬إنما قلنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))(النحل‪ ..))40 :‬ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على أهل‬
‫الحق‪ ،‬بعون ال وتأييده‪ ،‬وأن يكون هذا بالنسبة لهل الحق جزءاً من البتلء المقدر لهم فى سنة ال‪ ،‬وتشريف ًا لهم ورفعة فى‬
‫ذات الوقت‪(( :‬ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد‪(( .)4 :‬فلم تقتلوهم ولكن ال قتلهم وما رميت‬
‫إذ رميت ولكن ال رمى وليبلى المؤمنين منه بلءً حسنًا إن ال سميع عليم))(النفال‪..)17 :‬‬

‫وهذا المر وهو مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلح الرض وحفظها من الفساد هو القمة التى يصل النسان إليها فى الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬وهو فى الوقت ذاته ذروة سنام السلم‪(( :‬أل أخبرك برأس المر‪ ،‬وعموده‪ ،‬وذروة سنامه؟ قلت (والكلم لمعاذ بن جبل‬
‫رضى ال عنه)‪ ،‬بلى يا رسول ال ‪ .‬قال‪ :‬رأس المر السلم‪ ،‬وعمود الصلة‪ ،‬وذروة سنامه الجهاد))(‪.)1‬‬

‫وهو أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد‪ .‬إعداد نفسى وروحى قبل العداد الجسمى والمادى‪ ،‬وهو مستوى من مستويات‬
‫التربية ل يتم حتى يكون النسان قد مر بالمستويين السابقين‪ ،‬فهو فى حاجة إلى الصلبة النفسية التى ترتكز بدورها على‬
‫ضبط الشهوات‪ ،‬وهكذا تتدرج التربية فى مستوياتها الثلثة بدءاً بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على النضباط‪،‬‬
‫مروراً باكتساب الصلبة بترسيخ القيم العليا فى بنية النفس‪ ،‬وصولً إلى الستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه فى النفس‬
‫والمال ‪..‬‬

‫ثم هنالك مستوى أخير‪ ،‬لبد أن نشير إليه فى حديثنا عن خير القرون‪ ،‬خاصة جيل الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬هو مستوى‬
‫التطوع النبيل‪ ،‬الذى يتجاوز الواجبات والمفروضات‪ ،‬ويرتقى إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالوابجات والمفروضات‪،‬‬
‫بغير إلزام من ال ورسوله‪ ،‬ولكن حبًا ل ورسوله‪ ،‬وعبادة خالصة ل ابتغاء مرضاته‪ ،‬وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل‬
‫الفريد الذى رباه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإن لم يخل جيل من أجيال المة السلمية من أفراد يرتفعون إلى ذلك‬
‫المستوى السامق الرفيع‪.‬‬

‫***‬

‫إذا اتضح لنا ذلك فقد اقتربنا من تصور الجهد الذى بذله المربى العظم صلى ال عليه وسلم للرتفاع بتلك النفوس إلى ذلك‬
‫المستوى الرفيع الذى وصلت إليه فى عالم الواقع‪ ،‬وهو مستوى غير مسبوق فى تاريخ البشرية ‪..‬‬

‫وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الداة العظمى التى استخدمها الرسول صلى ال عليه وسلم فى تربية‬
‫أصحابه‪ ،‬وهى الداة اللزمة لكل تربية على منهج السلم فى أى جيل من أجيال السلم‪ ،‬وهى تعميق اليمان بال واليوم‬
‫الخر‪ ،‬وممارسة الحياة فى معية ال ‪..‬‬

‫ل شىء يمكن أن يرتقى بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك اليمان‪ .‬إنه هو الذى يوفر الحوافظ التى تحفظ النفس من النفلت‪،‬‬
‫والهبوط مع ثقلة الشهوات‪ ،‬ثم يحبب إليها الرتفاع فى مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات ‪0‬‬

‫وعلى قدر ما يعيش النسان مع ال‪ ،‬يحبه ويخشاه‪ ،‬ويذكره فى سره وجهره‪ ،‬ويببتغى رضاه‪ ،‬وعلى قدر ما يعيش على ذكر من‬
‫اليوم الخر وما فيه من بعث ونشور‪ ،‬وحساب وجزاء‪ ،‬وجنة ونار‪ ،‬تكون قدرته على ضبط شهواته‪ ،‬وقدرته على تمثل القيم‬
‫العليا‪ ،‬وقدرته على إعداد نفسه للجهاد فى سبيل ال‪ ،‬ورغبته كذلك فى التطوع النبيل ابتغاء مرضاة ال ‪0‬‬

‫وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك المور بالذات‪..‬‬

‫فأما التعريف بال‪ ،‬بأسمائه الحسنى وصفاته العلى‪ ،‬وقدرته التى ل يعجزها شىء‪ ،‬وعلمه الذى ل يعزب عنه شىء‪ ،‬ورقابته‬
‫التى ل تغفل عن شىء‪ ،‬ورحمته التى وسعت كل شىء‪ ،‬وجبروته الذى ل يقف أمامه شىء‪ ،‬فأوضح من أن يشار إليه فى كتاب‬
‫ال الكريم‪ ،‬وهو الموضوع الول والكبر من موضوعات الكتاب الكريم‪ ،‬من حيث المساحة التى يشغلها‪ ،‬والتركيز المستمر‬

‫‪ 1‬أخرجه الترمذى ‪.‬‬

‫‪39‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫عليه‪ ،‬وبيان مقتضياته‪ ،‬وهى عبادة ال وحده بل شريك‪ ،‬فى العتقاد القلبى‪ ،‬وشعائر التعبد من صلة وصيام وزكاة وحج‪،‬‬
‫واستعانة واستغاثة‪ ،‬وذبح ونذر ودعاء‪ ،‬واللتزام بما جاء من عند ال من أوامر ونواه وتشريعات وتوجيهات وأحكام ‪0‬‬

‫وأما مشاهد القيامة‪ ،‬مع تنوع أساليب عرضها‪ ،‬وتعدد مواضع ذكرها والتذكير بها‪ ،‬بنعيمها وعذابها‪ ،‬فأمر واضح كذلك لمن‬
‫يتدبر كتاب ال ‪ ..‬ولكن يلفت النظر فى السور المدنية خاصة الربط بين المرين معاً ‪ :‬اليمان بال واليمان باليوم الخر‪ ،‬سلباً‬
‫وإيجاباً‪ ،‬وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والخلق‪ ،‬سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين‪(( :‬إن الذين‬
‫آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بال واليوم الخر وعمل صالح ًا فلهم أجرهم عند ربهم ول خوف عليهم ول‬
‫هم يحزنون))(البقرة ‪(( .)62 :‬وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فل تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف‬
‫ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بال واليوم الخر))(البقرة ‪(( .)232 :‬يا أيها الذين آمنوا ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى‬
‫كالذى ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن بال واليوم الخر))(البقرة ‪(( .)264 :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول‬
‫وأولى المر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن‬
‫تأويل))(النساء‪(( .)59:‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق‬
‫من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))(التوبة‪(( .)29:‬لقد كان لكم فى رسول ال أسوة حسنة لمن‬
‫كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال كثيرا))(الحزاب‪ .)21:‬وإذا كان الربط مباشرا فى السور المدنية بين اليمان بال‬
‫واليمان باليوم الخر‪ ،‬فهو موجود فى السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة‪(( :‬إلهكم إله واحد فالذين ل يؤمنون‬
‫بالخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون))(النحل‪(( )22:‬وعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون‬
‫قالوا سلما(‪ )63‬والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً(‪ )64‬والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً(‬
‫‪ )65‬إنها ساءت مستقراً ومقاما(‪ )66‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(‪ )67‬والذين ل يدعون مع‬
‫ال إلها آخر ول يقتلون النفس التى حرم ال إل بالحق ول يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما(‪ )68‬يضاعف له العذاب يوم القيامة‬
‫ويخلد فيه مهاناً(‪ )69‬إل من تاب وآمن وعمل عمل صالحاً فأولئك يبدل ال سيئاتهم حسنات وكان ال غفورا رحيماً(‪ )70‬ومن‬
‫تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى ال متاباً(‪ )71‬والذين ل يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما(‪ )72‬والذين إذا ذكروا‬
‫بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميانا(‪ )73‬والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين‬
‫إماما(‪ )74‬أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلماً(‪ )75‬خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاماً))(الفرقان‪:‬‬
‫‪.)76-63‬‬

‫والدللة التربوية لهذا المر أن اليمان بال واليمان باليوم الخر‪ ،‬كل قائم بذاته‪ ،‬ومتعمق بذاته فى أغوار النفس‪ ،‬ثم مرتبطين‬
‫متلزمين متكاملين‪ ،‬هو الداة الكبرى فى منهج التربية السلمية التى تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة‬
‫الدؤوب ‪ ..‬وهذا هو الذى قام به رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بالصورة الفذة التى ل مثيل لها فى التاريخ‪..‬‬

‫لقد كان عمله الدائم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فى مكة خاصة‪ ،‬هو تعميق اليمان بال‪ ،‬وتعميق اليمان باليوم الخر فى نفوس‬
‫أصحابه رضوان ال عليهم‪ ،‬ثم الربط بين اليمان بال واليمان باليوم الخر فى تلك النفوس‪ ،‬حتى يصبح أحدهما مذكراً بالخر‬
‫تلقائياً ومؤدياً إليه‪ :‬إن ذكر النسان بال ذكر معه اليوم الخر‪ ،‬بنعيمه وعذابه ‪ ..‬وإن ذكر باليوم الخر ذكر ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬مالك الدنيا والخرة‪ ،‬ومالك كل شىء فى الوجود ‪0‬‬

‫وتبدو القمة التى وصل إليها صلى ال عليه وسلم فى تربية أصحابه بهذه الداة الضخمة فى هذا الوصف الرائع لهم فى كتاب‬
‫ال‪ ،‬بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة‪ ،‬وأخذوا منها بأوفى نصيب‪(( :‬إن فى خلق السموات والرض واختلف الليل والنهار‬
‫ليات لولى اللباب(‪ )190‬الذين يذكرون ال قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والرض ربنا ما خلقت‬
‫ل سبحانك فقنا عذاب النار(‪ )191‬ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار(‪ )192‬ربنا إننا سمعنا‬ ‫هذا باط ً‬
‫منادياً ينادى لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار(‪ )193‬ربنا وآتنا ما عدتنا‬
‫على رسلك ول تخزنا يوم القيامة إنك ل تخلف الميعاد))(آل عمران‪.)194-190 :‬‬

‫هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة‪ .‬إن ذكر ال لحظة يحدث فى النفس آثاره‪ ،‬فما بال الذين يذكرون‬
‫ال قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‪ ،‬أى فى جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر فى نفوسهم؟‍‬

‫ومن جهة أخرى فإن ذكر ال ل يخطر فى النفس وهى هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات‪ ..‬فتلك هى لحظات الغفلة‪ ،‬التى يغفل‬
‫فيها النسان عن ذكر ال‪ ،‬إنما يذكر النسان ربه وهو متجه نحو الصعود‪ ،‬فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هى فى‬
‫الحقيقة لحظة صعود‪ ..‬فكيف بالذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم أى فى جميع أحوالهم‪ ،‬كم صعدوا وكم ثبتوا على‬
‫الصعود؟‍ إنه شىء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته‪..‬‬

‫إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه‍ لن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل‪ ،‬ويحتاج إلى رفع‬
‫مستمر حتى يتوازن‪ ،‬ويحتاج إلى رفع أكثر لكى يغلب دافع الصعود على دافع الهبوط‪..‬‬

‫‪40‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫حقيقة إن أداة الرفع موجودة فى كيان النسان‪ ،‬فى أعماق فطرته‪ ،‬وهى النفخة العلوية فيه‪(( :‬إذ قال ربك للملئكة إنى خالق‬
‫بشراً من طين(‪ )71‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص‪.)72-71:‬‬

‫ولكن هذا ل ينفى أن هناك جهداً ينبغى أن يبذل لتدريب هذه الداة على العمل‪ ،‬وهو الجهد الذى تقوم به التربية‪ ،‬فبينما تعمل‬
‫الشهوات تلقائياً فى الكيان البشرى بطبيعة كونها محببة ومزينة للنسان‪ ،‬ومثيراتها حاضرة فى ألوان المتاع التى تزخر بها‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬فإن أداة الضبط التى تحبس الشهوات فى نطاق معين‪ ،‬لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالت العليا‪،‬‬
‫مجالت القيم ومعالى المور التى يحبها ال ‪ ..‬هذه الداة فى حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها‪ ،‬كما يحتاج الطفل إلى التدريب على‬
‫المشى ليقاوم ثقلة الرض‪ ،‬مع أن القدرة على المشى كامنة فى كيانه على الرض‪(( :‬زين للناس حب الشهوات من النساء‬
‫والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وال عنده حسن‬
‫المآب(‪ )14‬قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها وأزواج مطهرة‬
‫ورضوان من ال وال بصير بالعباد(‪ )15‬الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار(‪ )16‬الصابرين‬
‫والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالسحار))(آل عمران ‪.)17-14 :‬‬

‫تلك ثقلة الشهوات‪ ،‬وهذه أدوات الصعود ‪:‬‬

‫ومزية السلم العظمى فى هذا المجال أنه وهو يعمل على رفع النسان إلى أعلى لموازنة ثقلة الشهوات ل يدفعه إلى منطقة‬
‫ينعدم فيها جذب الرض‪ ،‬كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية‪ ،‬فهذه قد تيسر للنسان التحليق فى الفضاء‪ ،‬ولكنها تؤدى به‬
‫إلى إهمال عمارة الرض وحفظها من الفساد بالجهاد والمر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬وكلها تكاليف ربانية أمر بها ال‪،‬‬
‫لنه يعلم أن فيها صلح الحياة والنسان‪ ،‬وهو الذى خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له ‪(( :‬أل يعلم من خلق وهو اللطيف‬
‫الخبير))(الملك ‪(( .)14 :‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها))(هود ‪(( . )61 :‬الذين إن مكناهم فى الرض أقاموا الصلة‬
‫وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج ‪(( .)41 :‬يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة‬
‫تنجيكم من عذاب أليم(‪ )10‬تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم‬
‫تعلمون))(الصف‪.)11-10:‬‬

‫وكذلك فإنهه وههو يوجهه النسهان إلى عمارة الرض‪ ،‬والسهتمتاع بالطيبات فيهها‪ ،‬ل يتركهه يغرق فهى حمأة الشهوات‪ ،‬لنهه عندئذ‬
‫يترهل ويفسد‪ ،‬ويستثقل التكاليف التى يتطلبها المر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل ال‪ ،‬لنها تبدو فى حسه‬
‫موانع تعوق النسان عن المتاع‪(( :‬لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة))(التوبة‪(( .)42 :‬وإذا‬
‫أنزلت سورة أن آمنوا بال وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين(‪ )86‬رضوا بأن يكونوا‬
‫مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم ل يفقهون))(التوبة‪..)87-86 :‬‬

‫وإنمها يعمهل السهلم على أن يقوم النسهان متوازناً بيهن عنصهريه المكونيهن له‪ :‬قبضهة الطيهن ونفخهة الروح‪ ،‬عاملً فهى الدنيها‬
‫وعاملً للخرة فهى ذات الوقهت‪(( :‬ههو الذى جعهل لكهم الرض ذلولً فامشوا فهى مناكبهها وكلوا مهن رزقهه وإليهه النشور))(الملك‪:‬‬
‫‪.)15‬‬

‫***‬

‫كانت الداة العظمى فى يد رسول ال صلى ال عليه وسلم لتربية أصحابه هى تعميق اليمان بال واليوم الخر فى نفوسهم‪،‬‬
‫والتذكير الدائم بال سبحانه وتعالى‪ ،‬وتعويدهم أن يعيشوا قدر طاقتهم فى معية ال‪ ،‬وكان هو عليه الصلة والسلم قدوتهم‬
‫العظمى فى ذلك المر‪ ،‬كما هو فى كل أمر‪..‬‬

‫إن القدوة ذات تأثير هائل فى عملية التربية‪ ..‬وال الذى خلق النفس البشرية يعلم سبحانه أن الموعظة وحدها ل تكفى‪ ،‬مهما‬
‫يكون من بلغتها وقوتها‪ ،‬ما لم يحملها قلب بشر‪ ،‬يتمثلها ويترجمها واقع ًا مشهوداً أمام الناس‪ ،‬ثم يدعو الناس إلى اتباعها‬
‫وقد بين لهم بالقدوة العملية كيف يكون التباع‪.‬‬

‫كان ال قادراً سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مكتوباً فى قراطيس‪ ،‬ثم يلهم العرب الميين أن يقرأوه‪ ..‬ولكنه يعلم وهو اللطيف‬
‫الخبير أن النفوس ل تتقبل المر على هذه الصورة ول تتأثر به التأثر المطلوب‪ ،‬الذى يحول المر إلى حركة واقعية ذات قوة‬
‫وانطلق‪ ،‬إنما أنزله سبحانه وتعالى على قلب بشر‪ ،‬تمثله تمثلً كاملً‪ ،‬وترجمه واقعاً يراه الناس‪ ،‬فيحب هذا الواقع من شرح‬
‫ال صدره للسلم‪ ،‬فتهفو له نفسه‪ ،‬وينقاد إليه‪ ،‬ويدخل فى دين ال‪.‬‬

‫سئلت عائشة رضى ال عنها عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فقالت‪ :‬كان خلقه القرآن(‪..)1‬‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد‪.‬‬

‫‪41‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وعلى هذا النحو نفهم قوله تعالى‪(( :‬وما على الرسول إل البلغ المبين))(النور‪ .)54 :‬وقوله تعالى‪(( :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين‬
‫للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون))(النحل‪ ..)44 :‬فليس البلغ مجرد أن يقول الرسول للناس‪ :‬إن ربكم يقول لكم كذا وكذا‪..‬‬
‫وليس البيان محاضرة ول درساً نظرياً يلقيه الرسول على الناس‪ ..‬وإن كان البلغ بهذا المعنى‪ ،‬والبيان بهذا المعنى مطلوبين‬
‫من أجل إعلم الناس بما ل يعلمونه من أمور الدين‪ ..‬أما تحويل هذا العلم إلى واقع نفسى‪ ،‬يتحول بدوره إلى واقع عملى‪ ،‬فأمر‬
‫آخر يحتاج أن يبلغ الرسول للناس كلم ربهم مترجماً إلى الواقع‪ ،‬مشروحاً فى عمل‪ ،‬حتى يقتدى الناس به‪ ،‬ويتعلموا فى درس‬
‫عملى كيف يقومون بتنفيذه‪ ،‬وفى ذلك درس للدعاة‪ ،‬نعود إلى تفصيله فيما بعد‪.‬‬

‫وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم دائم الذكر ل‪ ،‬يعيش حياته كلها فى معية ال‪ ،‬ل يغفل قلبه عن ذكره‪ ،‬ول يفتر عنه‬
‫لسانه‪ ،‬أدبه ربه فأحسن تأديبه‪ ،‬ومنحه من الطاقة ما يطيق به هذه الصلة الدائمة بال‪ ..‬وإنها بالنسبة للبشر لجهد جاهد‪..‬‬

‫ما يطيق البشر حتى الصحابة رضوان ال عليهم أن يقضوا حياتهم كلها على ذلك المستوى السامق الذى كان عليه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فى صلته الدائمة بال‪ ،‬وذكره الدائم له سبحانه وتعالى فى جميع الحوال واللحظات‪.‬‬

‫فتلك خصيصة خص ال بها الرسل الكرام صلوات ال وسلمه عليهم‪ ،‬وخص منها سيد الرسل صلى ال عليه وسلم بالنصيب‬
‫الوفى‪ ،‬أما الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬وهم خير البشر بعد الرسل‪ ،‬فقد شكوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أنهم حين‬
‫يكونون معه يكونون على حال‪ ،‬وإذا فارقوه كانوا على حال آخر غير حالهم وهم معه‪ ،‬فقال((والذى نفسى بيده أن لو تدومون‬
‫على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملئكة على فرشكم وفى طرقكم‪ .‬ولكن يا حنظلة ساعة وساعة))(‪.)1‬‬

‫ومع ذلك فإن الساعة التى شكا منها الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬لم تكن ساعة هبوط ول غفلة عن ذكر ال‪ ،‬ويكفى وصف ال‬
‫لهم بأنهم يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم‪ ،‬إنما كان الفارق بينها وبين الساعة التى يكونون فيها مع رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فارقاً فى الدرجة ل فى النوع‪.‬‬

‫ونعود إلى الوصف الرائع الذى وصف ال به الصحابة رضوان ال عليهم‪..‬‬

‫إنهم يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم‪ ،‬فكيف كان ذكرهم له؟ أهو الذكر الذى يؤدى إلى الفناء على طريقة الصوفية‪،‬‬
‫باعتبار أن الفناء عندهم هو حقيقة الوجود؟ أم الذكر الذى يؤدى إلى حضور الطاقة البشرية فى الواقع المشهود‪ ،‬وتجمعها‬
‫لتعمل فى مرضاة ال؟‬

‫لقد كانوا يذكرون ال ليسألوا أنفسهم‪ :‬ماذا يريد ال منا فى هذه اللحظة؟ فإن كان متطلب اللحظة هو الجهاد فى سبيل ال‪ ،‬كان‬
‫الذكر هو الدافع إلى الجهاد‪ ..‬وإن كان متطلب اللحظة هو تحصيل العلم الذى هو فريضة على كل مسلم‪ ،‬كان الذكر هو الدافع‬
‫إلى تحصيل العلم‪ ..‬وإن كان متطلب اللحظة هو السعى فى تحصيل الرزق الحلل أو النفاق فى سبيل ال أو عمارة الرض‬
‫بمقتضى المنهج الربانى‪ ،‬كان الذكر دافعاً إلى ذلك‪ ..‬وإن كان متطلب اللحظة عاشروهن بالمعروف‪ ،‬كان الذكر هو الدافع إلى‬
‫المعاشرة بالمعروف‪ ...‬وهكذا فى سائر التكاليف الربانية وسائر مجالت العمل فى واقع الحياة‪.‬‬

‫وكانوا يذكرون ال ليسألوا أنفسهم أين هم‪ -‬اللحظة‪ -‬من رضوان ال؟ أهم فى الوضع الذى يرضى ال عنهم فيه؟ فإن كان كذلك‬
‫حمدوا ال‪ ،‬وعملوا على اكتساب المزيد من رضوان ال بزيادة التقرب إليه بما يحبه من العمال‪ ،‬وإن كان غير ذلك ذكروا ال‬
‫كذلك‪ ،‬ولكن ليغيروا ما هم فيه‪(( :‬والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ال فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إل‬
‫ال ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(‪ )135‬ألئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها‬
‫ونعم أجر العاملين))(آل عمران‪.)136-135 :‬‬

‫ولننظر فى اليات التى أشرنا إليها من سورة آل عمران‪ ،‬لنرى ما الذى أدى إليه الذكر‪(( :‬الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى‬
‫جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والرض))(آل عمران‪..)191 :‬‬

‫لقد كان متطلب اللحظة وهو مطلوب فى كل لحظة التفكر فى خلق السموات والرض‪ ،‬للتعرف على ما فى بنيتها من الحق‪:‬‬
‫((خلق السموات والرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير))(التغابن‪(( .)3 :‬وما خلقنا السماء والرض وما‬
‫ل ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار))(ص‪ ..)27 :‬ولقد أدركوا بما علمهم ربهم‪ ،‬وبما رأوا من انتظام‬ ‫بينهما باط ً‬
‫السنن الربانية‪ ،‬سواء ما يتعلق منها بالكون المادى أو بالحياة البشرية أن خلق الكون ل يمكن أن يكون باطلً ول عبثاً‪ ،‬وأن‬
‫الحكمة ملحوظة فى كل جزئية فيه‪ ..‬وحين يصل تفكيرهم إلى هذا المدى‪ ،‬يدركون أن الحياة الدنيا ليست هى نهاية المطاف‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن تكون‪ ،‬فهناك من البشر من يظلم‪ ،‬ويظل ظالماً إلى آخر قطرة فى حياته‪ ..‬ومنهم من يظلم ويظل مظلوماً إلى آخر قطرة‬
‫فى حياته‪ ..‬فلو كانت الحياة الدنيا هى نهاية المطاف فأين الحق؟ إنها تكون عندئذ عبثًا ل غاية له ول حق فيه‪.‬‬

‫‪ 1‬رواه مسلم والترمذى وأحمد وابن ماجة‪.‬‬

‫‪42‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وهنا ينقلهم ذكر ال‪ ،‬والتفكر فى الحق الكامن فى هذا الخلق إلى ذكر اليوم الخر‪ ،‬وما فيه من جنة ونار‪ ،‬فيستعيذون بال من‬
‫ل سبحانك فقنا عذاب النار))(آل عمران‪0.)191 :‬‬ ‫النار‪(( :‬ويتفكرون فى خلق السموات والرض ربنا ما خلقت هذا باط ً‬

‫وإذ تذكروا النار فقد فزعوا إلى ربهم أن ينجيهم منها‪(( :‬ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار))(آل‬
‫عمران‪ ..)192 :‬وكأنما يقدمون بين يدى مولهم مؤهلتهم التى يرجون بها النجاة من النار‪(( :‬ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى‬
‫لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار(‪ )193‬ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‬
‫ول تخزنا يوم القيامة إنك ل تخلف الميعاد))(آل عمران‪..)194 -193 :‬‬

‫ويستجيب ال لهذه الضراعة الحارة من عباده‪ ،‬ولكن لى شئ استجاب سبحانه؟ المجرد الذكر؟ المجرد التفكر؟ ألمجرد التدبر؟‬
‫ألمجرد الضراعة؟ وكلها مطلوبة من المؤمن الصادق اليمان‪(( :‬فاستجاب لهم ربهم أنى ل أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو‬
‫أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لكفرن عنهم سيئاتهم ولدخلنهم‬
‫جنات تجرى من تحتها النهار ثواب ًا من عند ال وال عنده حسن الثواب))(آل عمران ‪.)195 :‬‬

‫هنا الدرس التربوى فى هذه اليات التى بدأت بهذا الوصف الرائع الذى وصف به ال صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫((الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم))‪ ..‬إنه الذكر الذى يؤدى إلى العمل المشهود فى واقع الرض ‪ ..‬هاجروا‬
‫وأخرجوا من درياهم‪ ،‬وأوذوا فى سبيل ال فصبروا‪ ،‬وقاتلوا وقتلوا‪ ..‬فاستجاب لهم ربهم ‪.‬‬

‫وعلى هذا الذكر ربى رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ ،‬بالقدوة أولً فى شخصه الكريم‪ ،‬ثم بمواعظه وتوجيهاته‪،‬‬
‫ومتابعته المستمرة وعنايته ورعايته‪ ،‬حتى صاروا إلى تلك القمم البشرية التى ل مثيل لها فى التاريخ ‪0‬‬

‫***‬

‫والن فلننظر ماذا كان يريد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإلى أى شىء كان يهدف من بذل الجهد الجبار الذى بذله فى تربية أولئك‬
‫الصحاب‪ ..‬ألمجرد أن يكونوا حواريين له صلى ال عليه وسلم؟ ألمجرد أن يكونوا مؤمنين صادقى اليمان؟ إنه هدف نبيل ول‬
‫شك‪ ،‬ويستحق أن يبذل فيه الجهد‪ ،‬ولكن‍ أكل هذا الجهد؟‬

‫لقد كان جزء من هذا الجهد يكفى لتحقيق هذا الهدف على أحسن صورة يرغب فيها رسول‍ كان يكفى جهد كالذى بذله عيسى‬
‫ابن مريم عليه السلم فى تربية حوارييه الذين التفوا حوله‪ ،‬وأخلصوا له‪ ،‬ونشروا دينه من بعده‪ ،‬وكانوا مثلً فى الرأفة‬
‫والرحمة والزهد ونظافة الخلق‪(( :‬ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه النجيل وجعلنا فى قلوب الذين‬
‫اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال))(الحديد ‪ ..)27 :‬ولكن محمدًا صلى ال عليه‬
‫وسلم لم يكن يريد مجرد أن يربى جماعة من المؤمنين‪ ،‬ككل المؤمنين الذين رباهم الرسل من قبله‪ ،‬إنما كان يريد أمراً آخر‬
‫أعظم وأجل ‪ ..‬يريد أن يربى القاعدة الصلبة التى تنشئ بدورها ((خير أمة أخرجت للناس))(آل عمران ‪.)110 :‬‬

‫إن الفارق بين أى جماعة من الجماعات المؤمنة التى رباها الرسل الكرام قبل محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والجماعة المؤمنة‬
‫التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم كامن فى التكاليف الربانية التى كلف ال بها هؤلء وهؤلء‪ ،‬والمهمة المطلوبة من‬
‫هؤلء وهؤلء‪..‬‬

‫فأما الجماعات المؤمنة السابقة فقد قال ال عنها ‪(( :‬وما أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلة ويؤتوا‬
‫الزكاة وذلك دين القيمة))(البينة ‪0.)5:‬‬

‫وأما جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم فقد كلفهم التكليف ذاته؛ أن يعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء‪ ،‬ويقيموا الصلة‬
‫ويؤتوا الزكاة‪ ،‬ثم كلفهم تكليفاً آخر‪ ،‬اختصهم به دون الم السابقة كلها‪(( :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف‬
‫وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال))(آل عمران‪(( . )110:‬وكذلك جعلناهم أمة وسط ًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون‬
‫الرسول عليكم شهيداً)) (البقرة‪.)143:‬‬

‫المم السابقة أخرجت لتؤمن بال وتستقيم على اليمان فى ذات نفسها فحسب‪ ،‬وهذه المة أخرجت للناس‪ ،‬لتكون نموذجاً‬
‫تهتدى به البشرية كلها إلى الصراط المستقيم‪ ..‬وفرق فى العداد والتكوين بين شخص يراد له أن يستقيم فى ذات نفسه وفى‬
‫حدود قوم محدودين‪ ،‬وشخص يراد منه أن يكون نموذجاً يحتذى‪ ،‬ل فى داخل قومه فحسب‪ ،‬بل على نطاق البشرية كلها حيثما‬
‫التقى بها فى أى بقعة من الرض ‪0‬‬

‫وقد يكون الساس واحدًا ‪ :‬عبادة ال وحده بل شريك‪ ،‬ولكن يظل الفرق قائماً بين أساس تريد أن تقيم فوقه بناء صغير الحجم‪،‬‬
‫محدود النطاق‪ ،‬وأساس تريد أن تقيم فوقه بنا ًء شاهقاً متسع الرجاء‪ ،‬كلهما مطلوب فيه التقان‪ ،‬وكلهما يحتاج إلى جهد‪،‬‬
‫ولكن شتان بين أساس وأساس‪ ،‬وجهد وجهد‪ ،‬وإتقان وإتقان ‪..‬‬

‫‪43‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الفارق نلحظه ابتداءً فى كتاب ال ‪..‬‬

‫كل أمة مؤمنة دعيت لليمان بال واليوم الخر‪ ،‬ولكن ل يوجد كتاب من الكتب المنزلة أخذت فيه هذه القضية المساحة‬
‫والتركيز اللذين أخذتهما فى كتاب ال الخير‪ .‬وكل أمة مؤمنة ربط التكاليف المطلوبة منها بهذه القضية الجوهرية التى هى‬
‫أساس كل شىء‪ ،‬ومنطلق كل شىء‪ ،‬ولكن ل توجد رسالة أحكم فيها ربط التكاليف بهذه القضية الجوهرية كما أحكم فى الرسالة‬
‫الخيرة‪ ،‬مع تعدد التكاليف فى تلك الرسالة واتساع نطاقها وشمولها لكل مجالت الحياة(‪.)1‬‬

‫ثم نلحظ الفارق – على خط مواز لما جاء فى كتاب ال – فى المنهج النبوى الذى ربى به رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أصحابه‪ ،‬سواء فى تركيز المنهج على قضية اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬أو فى إحكام ربط التكاليف كلها – العتقادية‬
‫والسلوكية – بهذه القضية الجوهرية ‪0‬‬

‫فى الفترة المكية لم تكن قد نزلت بعد الحكام والتوجيهات التى تنظم حياة الجماعة المؤمنة السياسية والقتصادية والجتماعية‪،‬‬
‫إنما كانت كلها مخصصة لبذر العقيدة الصحيحة فى النفوس‪ ،‬وتهيئة هذه النفوس لمقتضيات هذه العقيدة‪ ،‬التى كان مقداراً فى‬
‫علم ال أن تجئ فى موعدها المناسب‪..‬‬

‫ونتكلم الن عن المؤمنين الذين آمنوا أنه ل إله إل ال وأن محمداً رسول ال‪ ،‬وآمنوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء‪ ،‬لن‬
‫هؤلء هم القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتى هى موضع حديثنا فى هذا الفصل‪ ..‬ولكن ل يفوتنا‬
‫أن نذكركم عانى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فى عرض هذه القضية‪ ،‬وتبليغها للناس‪ ،‬سواء من طغاة قريش الذين وقفوا‬
‫لهذه الدعوة بالمرصاد‪،‬ن يحاربونها بكل وسائل الحرب‪ ،‬أم من الجماهير التى حاربتها لنها تخالف مألوفاتها‪ ،‬ولنهم هم فى‬
‫ذات الوقت مستعبدون لولئك الطغاة‪ ،‬وعوا ذلك أم لم يعوه‪ ،‬وراتضيته نفوسهم أم كرهوه‪..‬‬

‫فى هذه الفترة التى نحن بصددها كان التركيز على مقتضيات بعينها من مقتضيات ل إله إل ال‪..‬‬

‫فأما النطق فهو وقتئذ العلمة الظاهرة لليمان‪ ،‬فلم يكن ينطق بالشهادتين فى ذلك الوقت إل من آمن حقاً‪ ،‬وجاء يعرض إيمانه‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬مخاطراً بنفسه‪ ،‬معرضاً نفسه للذى ينصب عليه من كل حدث وصوب‪ ،‬والجاهلية كلها‬
‫من حوله تناجزه العداء‪ ،‬وتظهر له النكار والبغضاء‪ .‬ومع أن النطق فى ذلك الوقت كان علمة مؤكدة على اليمان‪ ،‬لنه لم‬
‫يكن يعرض نفسه لمخاطر النطق إل من آمن حقاً ‪ ،‬وبلغ به التصديق مبلغ اليقين‪ ،‬فهل اكتفى رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫منهم بأنهم صدقوا فى داخل قلوبهم ونطقوا بألسنتهم؟‍‬

‫ولو اكتفى بذلك منهم‪ ،‬فهل كانت تقوم تلك القاعدة الصلبة التى غير ال بها وجه الرض؟‬

‫وفيم إذن كان لقاؤه معهم فى دار الرقم‪ ،‬ومصاحبته لهم‪ ،‬وقضاؤه الساعات معهم؟ ليقول لهم‪ :‬آمنوا بأنه ل إله إل ال‪ ،‬وقد‬
‫آمنوا بالفعل؟ أم ليقول لهم انطقوا بألسنتكم أنه ل إله إل ال وقد نطقوا بالفعل؟ إنما كان يلتقى بهم ليربيهم على مقتضيات ل إله‬
‫إل ال‪ ،‬مقدمًا لهم النموذج العملى فى شخصه الكريم ‪0‬‬

‫لقد كان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين‪ ،‬وفى كل حين‪ ،‬الصبر على الذى فى سبيل الحق ‪ ،‬فى سبيل العقيدة‬
‫الصحيحة التى يؤمن بها النسان‪ ..‬فهل كان مجرد اليمان‪ ،‬أى التصديق بل إله إل ال والنطق بها‪ ،‬يؤدى تلقائياً إلى الصبر‬
‫على الذى مهما اشتد‪ ،‬والتمسك بالحق مهما كلف فى النفس والمال؟ أم يحتاج هذا المر إلى جهد معين لتقوية الكيان النفسى‬
‫حتى يحتمل الضغط دون أن ينثنى أو ينهار؟ ومن أين تعلمون ذلك؟ أبمجرد أن يقال لهم اصبروا تنضبط المشاعر‪ ،‬وتصلب‬
‫العزيمة‪ ،‬وتصغر الدنيا بمتاعها الحلو فى نظر صاحبها‪ ،‬ويتطلع إلى ما هو أعلى وأشف‪ ،‬فيحتمل الذى صابراً‪ ،‬ول يفرط فى‬
‫الحق الذى آمن به؟ كل والله‍ إنما يحتاج المر إلى تلقين وتعليم وتدريب وتوجيه‪ ..‬والمعلم العظم صلى ال عليه وسلم هو‬
‫الذى يعلم ويلقن‪ ،‬ويدرب ويوجه‪ ..‬ولكن ل بمجرد كلمات يلقيها لصحابه‪ ،‬بل بنموذج عملى يرونه شاخصاً أمامهم‪ ،‬يطبق فى‬
‫ذات نفسه ما يدعوهم إليه‪ ،‬على المستوى العلى‪ ،‬فيتعلمون فينفذون‪..‬‬

‫لقد أوذى سيد الرسل صلى ال عليه وسلم أذى يهد الجبال ‪..‬‬

‫أوذى بالتكذيب‪ ،‬وما أشق التكذيب على الصادق المين ‪ ..‬وأوذى بالسخرية‪ ،‬وما أشق السخرية على قلب من يؤمن بالحق‪،‬‬
‫ويعلم أنه الحق وأنه خير وأنه هدى وأنه نجاة وأنه فلح‪ ،‬وأن الساخرين فى الضلل البعيد‪ ..‬وأوذى بالدعاية المضادة‬
‫والتشهير والتنفير ومحاولة صرف التباع‪ ،‬بل محاولة صرف الناس عن مجرد السماع‪ ..‬وأوذى اليذاء البدنى والحسى‪ ..‬إن‬
‫قذفه بالحجار حتى تدمى قدماه الشريفتان‪ ،‬وإن بنشر الشوك فى طريقه كما فعل أبو لهب وامرأته حمالة الحطب‪ ،‬وإن بإلقاء‬
‫الوساخ عليه وهو ساجد يذكر ربه‪ ،‬وإن ‪ ..‬وإن ‪..‬‬

‫‪ 1‬انظر إن شئت فصل ((مقتضيات ل إله إل ال فى الرسالة المحمدية)) من كتاب ((ل إله إل ال‪ ،‬عقيدة وشريعة ومنهاج حياة))‬

‫‪44‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ول يزيده ذلك كله إل استمساكاً بالحق‪ ،‬وإصراراً عليه‪ ..‬وتعرض عليه المغريات كلها التى تغرى الناس فى الحياة الدنيا‪ ،‬الملك‬
‫والسلطان والمال والجاه والمتاع‪ ،‬فيقول لعمه وقد شكاه قومه إليه ‪(( :‬وال يا عم‪ ،‬لو وضعوا الشمس فى يمينى‪ ،‬والقمر فى‬
‫شمالى‪ ،‬على أن أترك هذا المر ما فعلت‪ ،‬حتى تنفرد سالفتى)) أو قال ‪(( :‬حتى أهلك دونه))(‪.)1‬‬

‫وهكذا يلقن الدرس لصحابه‪ ،‬ل مجرد كلمات‪ ،‬وإن كانت الكلمات مطلوبة للبيان‪ ،‬ولكن سلوكاً عملياً يشرح الكلمات‪ ،‬ويحولها‬
‫إلى حقائق مشهودة فى عالم العيان ‪0‬‬

‫وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين‪ ،‬وفى كل حين‪ ،‬امتلء القلب بحب ال‪ ،‬واستشعار عظمته سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫والتعلق به‪ ،‬والتطلع إليه‪ ،‬والتوجه إليه فى كل سلوك وكل شعور‪ ..‬فهل كان مجرد اليمان‪ ،‬أى التصديق بأنه ل إله إل ال‪،‬‬
‫والنطق بها‪ ،‬يؤدى تلقائي ًا إلى ذلك التوجه وذلك السلوك؟ أم يحتاج المر إلى تعليم وتلقين‪ ،‬وتدريب وتوجيه؟‬

‫ومن يوجه ويعلم إل المربى صلى ال عليه وسلم ؟ ل بمجرد كلمات تلقى‪ ،‬ولكن بسلوك عملى يراه الصحاب‪ ،‬ويتملونه‬
‫ل متضرعاً تائباً منيباً ل يفتر لسانه عن‬
‫ويتعلمون منه‪ ،‬إذ يرونه فى كل لحظة ذاكراً لربه‪ ،‬متوجهاً إليه‪ ،‬متطلعاً لرحمته‪ ،‬متذل ً‬
‫الدعاء‪ ،‬ول قلبه عن الذكر ‪0‬‬

‫وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين‪ ،‬وفى كل حين‪ ،‬اليمان بقضاء ال وقدره‪ ،‬واليمان بأنه هو وحده المدبر‪ ،‬هو‬
‫وحده المقدر‪ ،‬هو وحده الفعال لما يريد‪ ،‬هو وحده الرزاق‪ ،‬هو وحده الضار النافع‪ ،‬هو وحده المحيى المميت‪ ،‬هو وحده المالك‬
‫لكل شىء وكل أمر‪ ،‬هو المتصرف وحده فى الكون وفى الناس‪ ،‬ل يكون شىء إل بأمره‪ ،‬ول يكون شىء حتى يشاء سبحانه ‪0‬‬

‫فهل كان مجرد التصديق بل إله إل ال والنطق بها يحدث ذلك اليمان فى النفوس؟ أم يحتاج إلى التعليم والتلقين والتدريب‬
‫والتوجيه؟ وهل يكفى لترسيخ ذلك اليمان كلمة أو كلمات أو درس عابر أو دروس؟ إنها ليست نظرية تدرس وتحفظ‪ ،‬ويسأل‬
‫فيها النسان فيجب بلسانه‪ ،‬إنها معاناة واقعية‪ ،‬تصطدم فى كل لحظة برغبة من رغبات النفس‪ ،‬أو شهوة من شهواتها‪ ،‬أو‬
‫هاجس من هواجسها‪ ،‬أو تجربة مريرة يمر النسان بها‪ ،‬ثم يتعلم من خلل المعاناة‪ ،‬ويحفظ الدرس‪ ،‬ل بعقله فقط ول بوجدانه‬
‫فقط‪ ،‬بل بأعصابه وجسده وروحه وكيانه كله ‪0‬‬

‫ضربت هذا المثل فى كتاب سابق(‪ :)2‬إذا سألت أى إنسان فى الطريق‪ :‬من الذى يرزقك؟ يجيب بداهة ‪ :‬ال هو الرزاق‪ ،‬ولكن‬
‫حين يضيق عليه فى الرزق‪ ،‬أو قل على وجه التحديد‪ :‬حين يؤذى فى رزقه فماذا يقول؟ يقول فى أغلب الحوال‪ :‬فلن قطع‬
‫رزقى‪ ،‬أو فلن يريد أن يقطع رزقى‍ فما دللة ذلك؟ دللته أن ما كان يبدو بديهية لم يكن كذلك فى الحقيقة‍ أو قل‪ :‬إنه كان‬
‫بديهية ذهنية لم تتعمق فى الوجدان‪ ،‬لم تصبح بعد بديهية قلبية ينبنى عليها سلوك‍ أو تنبنى عليها المشاعر الصحيحة التى‬
‫ينبنى عليها بعد ذلك سلوك صحيح‍‬

‫لفت نظرى أمر وأنا أقرأ خطاب ال لبنى إسرائيل فى سورة البقرة ‪(( :‬وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب‬
‫يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلء من ربكم عظيم))(البقرة ‪.)49 :‬‬

‫العذاب واقع من فرعون‪ :‬يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‪ ،‬ولكن البتلء واقع من الله‍ هل يرد هذا الخاطر على الذهن بداهة‬
‫حين يرى العذاب أو يسمع عنه؟ أم يتجه الذهن إلى الفاعل المباشر الذى يقع الفعل منه؟ ويحتاج النسان إلى تعليم وتلقين لكى‬
‫يعلم أن الفاعل قائم بالعمل‪ ،‬نعم‪ ،‬ولكن وراء ذلك قدر ال؟ وحين يعلم ذلك‪ ،‬ويستقر فى خلده حتى يصبح يقيناً‪ ،‬فلمن يتجه‬
‫ليرفع عنه البلء؟ هذا هو الدرس من وراء التوجيه ‪ ..‬ول يتنافى ذلك فى حس المؤمن مع اتخاذ السباب‪ ،‬ولكن دون اتكال‬
‫على السباب‪ ،‬ودون اعتقاد بأن السباب تعمل من ذات نفسها؛ إنما هى تعمل بقدر من ال‪ ،‬وفى الحدود التى قدرها ال‪ ،‬ويظل‬
‫التطلع دائماً إلى المدبر الحقيقى وراء الحداث والشخاص‪ ،‬ال الذى بيده ملكوت كل شىء ‪0‬‬

‫وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين – وفى كل حين‪ -‬الخوة فى ال‪ ،‬والحب والبغض فى ال‪ ،‬والولء والبراء فى‬
‫ال ‪ ..‬وكانت تلك كلها بالنسبة للبيئة العربية‪ ،‬ولكل بيئة جاهلية فى القديم والحديث‪ ،‬أموراً مخالفة ومغايرة لعرف البيئة‪ ..‬ففى‬
‫الجاهلية العربية كان رباط الدم هو الرباط الثابت الدائم الوثيق‪ ،‬وكل رباط غيره إما ضعيف منقطع وإما غير موجود أصلً‪..‬‬
‫وفى الجاهليات الحديثة أصبح البديل من رابطة الدم القريبة المحصورة رابطة القومية والوطنية التى تفاخر بها تلك الجاهليات‬
‫وتتعصب لها على نفس الصورة التى كانت تفاخر بها الجاهلية العربية وتتعصب بها لرابطة الدم المتمثلة فى القبيلة‪ ..‬اختلف‬
‫فى مدى السعة ل فى الجوهر ‍‬

‫أما الحب والبغض فى الجاهلية العربية وفى كل جاهلية فمداره المصالح‪ ،‬وهى فى الغلب المصالح المادية القريبة‪ ،‬ومداره من‬
‫جهة أخرى ((النا))‪ :‬أنا‪ ،‬وكرامتى‪ ،‬ومالى‪ ،‬وسلطانى ‪ ،‬وقومى وأتباعى إن كنت من ((المل))‪ ،‬أو سادتى إن كنت من‬
‫المستضعفين‍‬

‫‪ 1‬انظر كتب السيرة ‪.‬‬


‫‪ 2‬كتاب ((واقعنا المعاصر))‬

‫‪45‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وأما الولء والبراء فهو صنو الحب والبغض‪ ،‬ل ضابط له إل تلك المصالح التى تكون اليوم هنا وتكون غداًَ هناك‪ ..‬فهو لذلك‬
‫دائم التقلب ل يثبت على حال‪ ،‬وصداقات اليوم قد تنقلبن غدًا عداوة‪ ،‬وعداوات اليوم قد تنقلب غداً صداقة‪ ،‬ل لتغير فى المبادئ‪،‬‬
‫ول فى القيم‪ ،‬ولكن لتغير المصالح المؤقتة التى ل تثبت على حال ‪ ..‬والجاهليات كلها فى هذا الشأن سواء‍‬

‫ولم يكن مجرد اليمان – بمعنى التصديق‪ -‬بل إله إل ال‪ ،‬والنطق بها‪ ،‬ليؤدى تلقائياً إلى تغيير جذرى فى تلك المور كلها‪ ،‬التى‬
‫يساندها عرف الجاهلية‪ ،‬وأوضاعها السياسية والقتصادية والجتماعية والفكرية والخلقية‪ ..‬وإن كان اليمان بل إله إل ال‬
‫يهيئ دون شك للتغير وتقبل التغيير ‪ ..‬أما المعايير الجديدة‪ ،‬والقيم الجديدة‪ ،‬والوضاع الجديدة التى يراد بناؤها فل تتأتى‬
‫تلقائياً‪ ،‬ول تتم فى لحظة‪ ،‬ولو كانت لحظة اليمان‪ ،‬وإنما تنبى لبنة لبنة حتى يستقيم بها البناء الجديد‪..‬‬

‫وذلك تقوم به التربية ‪.‬‬

‫وذلك ما قام به المربى العظم صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فى دأب‪ ،‬وحدب‪ ،‬ورعاية‪ ،‬ومتابعة حتى وصل به إلى تلك القمم السامقة‪،‬‬
‫فأصبحت الخوة فى ال أقوى فى نفوس القوم من رابطة الدم‪ ،‬وأصبح الحب والبغض ل علقة له بالمصالح الرضية‪ ،‬بل هو‬
‫معها فى موضع التقابل الكامل‪ ،‬والكفة الراجحة هى لما كان ل وفى ال‪ ،‬وأصبح الولء والبراء مرتبطاً بالقيم اليمانية وحدها‪،‬‬
‫خالصاً ل ‪0‬‬

‫وكان من مقتضيات ل إله إل ال فى ذلك الحين‪ ،‬وفى كل حين‪ ،‬مجموعة من الفضائل الخلقية العالية‪ ،‬كان بعضها موجوداً فى‬
‫البيئة العربية ولكن الجاهلية كانت قد أفسدته فحرفته عن مساره السوى ‪ ..‬كالشجاعة التى كانت الجاهلية قد حمية جاهلية‪ ،‬كما‬
‫جاء فى سورة الفتح(‪ .. )1‬والكرم الذى كانت الجاهلية قد حرفته عن مساره السوى‪ ،‬فأصبح إنفاف ًا للمال رئاء الناس‪ ،‬كما جاء‬
‫فى سورة البقرة(‪ ،)2‬فلزم تصحيح مسارها‪ ،‬وردها إلى أصلها السوى فى الفطرة‪ ،‬لكى تكون ل‪ ،‬وفى ال‪ .‬وبعضها لم يكن‬
‫موجوداً فى الجاهلية العربية‪ ،‬ول يمكن أن يوجد فى أى جاهلية‪ ،‬كمنع التظالم بين الناس‪ ،‬وإقامة الحياة على القسط والعدل‪ ،‬ل‬
‫على قانون الغاب‪ ،‬واحترام النسان من حيث هو إنسان‪ ،‬بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ووطنه ووضعه الجتماعى أو‬
‫السياسى أو القتصادى‪ ،‬وهو أمر ل يمكن أن يتم إل حين تتجرد النفس ل(‪.)3‬‬

‫وليس قصدنا هنا أن نذكر كل مقتضيات ل إله إل ال على سبيل الحصر‪ ،‬حتى بالنسبة لفترة التربية بمكة‪ ،‬إنما قصدنا أن نقول‪:‬‬
‫إنها لم تكنن قط‪ ،‬منذ أنزلت من عند ال‪ ،‬مجرد التصديق والقرار كما يزعم الفكر الرجائى‪ ،‬وأن مجرد التصديق والقرار‪،‬‬
‫حتى حين كان علمة على صدق اليمان فى أوائل الدعوة‪ ،‬حين لم يكن يقدم على مخاطره إل المؤمنون حقاً‪ ،‬لم يكن بذاته‬
‫يصنع شيئاً مما صنعته ل إله إل ال فى نفوس العصبة المؤمنة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إنما صنعت ما‬
‫صنعت حين آمن معتنقوها بمقتضياتها‪ ،‬وتربوا على مقتضياتها‪ ،‬وعملوا بها فى عالم الواقع‪..‬‬

‫وليس قصدنا كذلك أن نقول‪ :‬إن التربية على هذه المقتضيات هى العمل الفذ الذى قام به رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة‪ ،‬فهذا أمر مطلوب من كل مرب يتصدى لنشاء قاعدة للدعوة فى أية بقعة فى الرض‪ ،‬وفى أى‬
‫فترة من الزمن إلى قيام الساعة‪ ،‬إنما العمل الفذ الذى قام به صلى ال عليه وسلم هو الدرجة العجيبة التى أوصل إليها‬
‫الصحابة رضوان ال عليهم فى العمل بمقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬والتى التقى فيها الواقع بالمثال‪ ،‬والتى تحولت فيها المندوبات‬
‫والمستحبات فى نفوسهم إلى واجبات ومفروضات‪ ،‬يلزمون بها أنفسهم بغير إلزام من ال ورسوله‪ ،‬والدرجة العجيبة التى‬
‫آمنوا بها باليوم الخر فعاشوه فى كل لحظة كأنه حاضر يشهدونه الن‪ ،‬ل بعد آماد من الزمان‪ ،‬وهذا هو الذى تميز به ذلك‬
‫الجيل الفريد على يد المربى العظم صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وليس مجرد اللتزام بمقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬الذى هو مطلوب من‬
‫كل من تصدى للدعوة لل إله إل الله‍‬

‫***‬

‫ثم اتسعت رويداً رويداً مقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬فشملت جوانب جديدة من النفس والحياة لم تكن داخلة فيها من قبل‪ ،‬أنزلها‬
‫العزيز العليم بعلمه وحكمته فى وقتها المقدر عنده‪ ،‬وصار اللتزام بها واجباً‪ ،‬ولم تعد المقتضيات الولى وحدها تحقق اليمان‬
‫‪0‬‬

‫يقول المام أبو عبيد القاسم بن سلم (‪224 – 157‬هه) فى كتاب ((اليمان))(‪ )4‬ص ‪ 54‬وما بعدها ‪0‬‬

‫‪(( 1‬إذا جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية‪ ،‬حمية الجاهلية)) (سورة الفتح ‪)26 :‬‬
‫‪(( 2‬كالذى ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن بال واليوم الخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ل يقدرون على شىء مما كسبوا وال ل‬
‫يهدى القوم الكافرين)) (سورة البقرة ‪)264 :‬‬
‫‪ 3‬تزعم الديمقراطية أنها هى أول من قرر هذه المبادئ وطبقها بالفعل‪ ،‬وأعطى ((الخر)) حق الوجود وحق التعبير عن نفسه‍ والجواب على ذلك هو ما وقع‬
‫فى البوسنة والهرسك‪ ،‬وفى بلد الشيشان‪ ،‬وما يقع فى الفلبين‪ ،‬وما يقع فى كشمير‪ ،‬وما يقع فى فلسطين‪ ،‬وما يقع فى كل مكان يكون فيه مسلمون تحت حكم‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬مقابلً بما كان من القسط والعدل والتسامح من المسلمين لمن وقع تحت حكمهم من اليهود والنصارى‍‬
‫‪ 4‬حققه محمد ناصر اللبانى – طبع دار الرقام بالكويت ‪1405 ،‬هـ‬

‫‪46‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫((وإنا رددنا المر إلى ما ابتعث ال عليه رسوله صلى ال عليه‪ )5(،‬وأنزل به كتابه‪ ،‬فوجدناه قد جعل بدء اليمان شهادة أن ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬وأن محمداً رسول ال‪ ،‬فأقام النبى صلى ال عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى‬
‫هذه الشهادة خاصة وليس اليمان المفترض على العباد يومئذ سواها‪ ،‬فمن أجاب إليها كان مؤمناً‪ ،‬ل يلزمه اسم فى الدين‬
‫غيره‪ ،‬وليس يجب عليه زكاة ول صيام ول غير ذلك من شرائع الدين‪ .‬وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه‬
‫العلماء رحمة من ال لعباده ورفقا بهم‪ ،‬لنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها‪ ،‬ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه‬
‫قلوبهم‪ ،‬فجعل ذلك القرار باللسن وحدها هو اليمان المفترض على الناس يومئذ‪ ،‬فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها‪ ،‬وبضعة‬
‫عشر شهرا بالمدينة بعد الهجرة‪ ،‬فلما أناب الناس إلى السلم وحسنت فيه رغبتهم‪ ،‬زادهم ال فى إيمانهم أن صرف الصلة‬
‫إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت القدس‪ ..‬فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبو أن يصلوا إليها وتمسكوا بذلك اليمان الذى‬
‫لزمهم اسمه‪ ،‬والقبلة التى كانوا عليها لم يكن ذلك مغنيا عنهم شيئا ولكان فيه نقض لقرارهم‪ ،‬لن الطاعة الولى ليست بأحق‬
‫باسم اليمان من الطاعة الثابتة‪ .‬فلما أجابوا ال ورسوله إلى قبول الصلة كإجابتهم إلى القرار‪ ،‬صارا جميعاً مع ًا هما يومئذ‬
‫اليمان‪ ،‬إذا أضيفت الصلة إلى القرار‪ ..‬فلبثوا بذلك برهة من دهرهم‪ ،‬فلما أن داروا إلى الصلة مسارعة‪ ،‬وانشرحت لها‬
‫صدورهم‪ ،‬أنزل ال فرض الزكاة فى إيمانهم إلى ما قبلها فقال ‪(( :‬وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة))(البقرة ‪ )83،110 :‬وقال‬
‫((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها))(التوبة ‪ )103‬فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند القرار‪ ،‬وأعطوه ذلك‬
‫باللسنة‪ ،‬وأقاموا الصلة غير أنهم ممتنعون عن الزكاة كان ذلك مزيل لما قبله‪ ،‬وناقضاً للقرار والصلة‪ ،‬كما كان إباء الصلة‬
‫قبل ذلك ناقضا لما تقدم من القرار‪ ،‬والمصدق لهذا جهاد أبى بكر الصديق رحمة ال عليه بالمهاجرين والنصار على منع‬
‫العرب للزكاة‪ ،‬كجهاد رسول ال صلى ال عليه وسلم أهل الشرك سواء‪ ،‬ل فرق بينهما فى سفك الدماء وسبى الذرية واغتنام‬
‫المال‪ ،‬فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها‪ .‬ثم كانت شرائع السلم كلها‪ ،‬كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها‪،‬‬
‫لحقة به‪ ،‬ويشملها جميعا اسم اليمان‪ ،‬فيقال لهله مؤمنون‪ .‬وهذا هو الموضع الذى غلط فيه من ذهب إلى أن اليمان بالقول‬
‫‪.)) ..‬‬

‫***‬

‫إذا نظرنا إلى القاعدة الصلبة كما رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬نعود فنسأل‪ ،‬لى هدف كان الرسول العظم عليه‬
‫صلوات ال وسلمه يبذل ذلك الجهد الضخم الذى بذله خلل ثلثة عشر عاماً فى مكة ثم عشر سنوات فى المدينة‪ ،‬لخراج هذه‬
‫النماذج الفذة من البشر؟ ألمجرد أن يوجد جماعة مؤمنة تؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬وتقيم الصلة وتؤتى الزكاة‪ ،‬وتقوم بعبادة‬
‫ال؟‍‬

‫بعض هذا الجهد الضخم كان يحقق هذا الهدف فى عالم الواقع‪ ،‬وهو فى ذاته هدف نبيل يستحق أن يبذل فيه الجهد‪ ،‬ولكن‬
‫الرسول العظم صلى ال عليه وسلم كان كما أشرنا من قبل يهدف إلى ما هو أكبر من ذلك وأجل ‪..‬‬

‫لم تكن مهمة هذه الجماعة مجرد القيام بعبادة ال على النسق الذى قامت به الجماعات المؤمنة من قبل‪ ،‬إنما كانت مهمتها نشر‬
‫التوحيد فى الرض‪ ،‬وإخراج الناس على مستوى البشرية كلها‪ ،‬من عبادة العباد إلى عبادة ال‪ ،‬كما عبر ربعى بن عامر رضى‬
‫ال عنه فى مواجهة رستم قائد الفرس‪ ،‬وأحد كبار الطواغيت فى ذلك الزمان‪ ..‬ومثل هذه الجماعة يحتاج إلى إعداد خاص‪ ،‬ل‬
‫كمجرد إيجاد جماعة من الناس تؤمن بال واليوم الخر وتعبد ال ‪0‬‬

‫فى عالم التجارة والصناعة يعلم الناس أن البضاعة المعدة للستخدام المحلى غير البضاعة المعدة للتصدير‪ ،‬الولى يمكن أن‬
‫تكون على النحو الذى يؤدى الغرض بصورة من الصور‪ ،‬أما الخرى فيجب أن تكون متقنة الصنع‪ ،‬إلى الحد الذى يجعلها‬
‫تفرض نفسها على السوق‪ ،‬وتطرد ما دونها مما ل يرقى إلى مستواها‪ ..‬فإذا كان هذا لزماً بالنسبة للتجارة المادية الرضية‪،‬‬
‫فهو أولى بالنسبة للتجارة العليا التى قال ال عنها‪(( :‬يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(‪)10‬‬
‫تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون)) (الصف‪.)11-10:‬‬

‫كان المطلوب لهداية البشرية جماعة فذة‪ ،‬فائقة التكوين‪ ،‬تشهد بسلوكها الواقعى لهذا الدين‪ ،‬أنه الدين الحق‪ ،‬وأنه الدين الذى‬
‫ل عنه‪..‬‬
‫يجب اتباعه‪ ،‬وأن كل شىء غيره ل يداينه‪ ،‬ول يصلح بدي ً‬

‫كان المطلوب إيجاد نسق من البشر يواجه الجاهلية بأكملها‪ ،‬ل ليقف إزاءها فحسب‪ ،‬ولكن ليستعلى عليها‪ ،‬وينقض بنيانها‪،‬‬
‫وينشئ بناءً جديداً فى مكانها‪ ،‬يقوم على السس الصحيحة التى يقوم عليها بناء سليم ‪ ..‬وهذا هو الذى تم بالفعل على يدى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪0‬‬

‫لم تكن المواجهة مع الجاهلية العربية وحدها‪ ،‬وإن كانت هذه بحكم الواقع هى أول جاهلية واجهتها الدعوة فى منطلقها الول ‪..‬‬
‫إنما كانت الرض كلها تعيش فى جاهلية سواء كانوا من الوثنيين‪ ،‬عباد النار وعباد الجن وعباد الصنام وعباد الفلك وعباد‬
‫الطواغيت‪ ،‬أو كانوا أهل دين سماوى وقع فيه التحريف والتبديل‪..‬‬

‫‪ 5‬كذا فى الصل كما قال المحقق ‪0‬‬

‫‪47‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وفى مواجهة كل أولئك كان الدين الجديد‪ ،‬وكان رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكانت الجماعة التى يقوم بتربيتها ‪..‬‬

‫ل عن إقامة الدين‬
‫ل عن تغييره‪ ،‬فض ً‬
‫هل كان مجرد إنشاء جماعة مسلمة تعبد ال على استقامة كافياً لمواجهة هذا كله؟ فض ً‬
‫الصحيح فى مكانه؟‍‬

‫كل‍ لقد كان المر فى حاجة إلى جماعة فائقة التكوين‪ ،‬تكون نواة للمجتمع الجديد‪ ،‬وكانت هذه هى جماعة الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬القاعدة الصلبة التى قام على أكتافها البناء‪ ،‬والتى غيرت بواقعها واقع الرض ‪0‬‬

‫تروى كتب السيرة الكثيرة عن تلك القاعدة الصلبة‪ ،‬وعن المستويات الرائعة التى وصلوا إليها‪ ..‬وما بنا هنا أن نترجم للصحابة‬
‫رضوان ال عليهم‪ ،‬وكتب السيرة فى متناول الجميع‪ ،‬ول أن نتحدث عن أعيانهم‪ ،‬والحديث عنهم يحرك النفوس ويهزها هزاً‪،‬‬
‫لعظمتها وروعتها‪ ،‬إنما نحن معنيون هنا بذكر المواصفات التى بنيت عليها القاعدة الفذة‪ ،‬من أجل التدير والعتبار ‪0‬‬

‫ومع ذلك فأنا شخصياً تهزنى نماذج بعينها‪ ،‬ل أملك نفسى فى التأثر بها‪ ،‬ليست كلها لكبار الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬بل‬
‫بعضها لشخاص يمر بهم التاريخ مروراً عابراً فى سطور قليلة‪ ،‬مع روعتها‪ ،‬ول أرى بأساً أن نقف عندها هنيهة ‪0‬‬

‫كانت امرأة تصرع فتتكشف فى أثناء نوبتها‪ ،‬فشكت ذلك إلى رسول ال وطلبت منه أن يدعو لها لتشفى من صرعها‪ .‬فقال لها‬
‫عليه الصلة والسلم‪(( :‬إن شئت دعوت لك‪ ،‬وإن شئت صبرت ولك الجنة))ت‪ .‬قالت ‪ :‬أصبر يا رسول الله‍ ولكن ادع لى أل‬
‫أتكشف‪ .‬فدعا لها‪ ،‬فلم تعد تتكشف بعد ذلك()‪.‬‬

‫اشتد الفقر برجل وزوجته‪ ،‬فقال لها‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يعطى المحتاجين فهل سألناه أن يعطينا من المال‬
‫الذى بين يديه؟ فقالت له ‪ :‬تريد أن تشكو ال إلى رسوله صلى ال عليه وسلم؟ فصبرت وصبر ‪0‬‬

‫مر عمر رضى ال عنه وهو يعس ليلً يتفقد أحوال رعيته ببيت سمع فيه بكاء صبية صغار‪ ،‬فدخل فوجد امرأة تضع قدراً على‬
‫النار تحركه‪ ،‬وحولها صبية يتضاغون‪ ،‬فسألها ما يبكى الصبية؟ قالت ‪ :‬الجوع‪ .‬قال‪ :‬وما هذه القدر؟ قالت أضع فيها حصوات‬
‫أقلبها حتى ينام الصبية‪ ،‬فإنه ل طعام لدينا‪ ،‬وعمر ل يأبه بنا‪ ،‬وهى ل تعرف أنه عمر‪ ،‬فقال لها ‪ :‬وما يدرى عمر بك؟ قالت ‪:‬‬
‫وفيم إذن تولى أمر المسلمين؟ فبكى عمر‪ ،‬وذهب إلى بيت المال‪ ،‬ومعه تابعه‪ ،‬فحمل دقيقاً وسمناً وعاد إلى بيت المرأة‪ ،‬فيقول‬
‫له تابعه ‪ ،‬دعنى أحمل عنك يا أمير المؤمنين‍ فيقول ‪ :‬ومن يحمل عنى يوم القيامة‍ ثم يضع الدقيق والسمن فى القدر‪ ،‬وينفخ‬
‫النار حتى يتخلل الدخان لحيته الكثيفة‪ ..‬ول يغادر المكان حتى يرى الصبية قد أكلوا وشبعوا وناموا ‪0‬‬

‫خرج أحد المقاتلين إلى المعركة مشوقاً إلى الجنة‪ ،‬مشوق ًا إلى الشهادة‪ ،‬وفى يده تمرة‪ -‬أو تمرات‪ -‬فلم يطق صبراً حتى ينتهى‬
‫من أكلها‪ ،‬فألقاها من يده وهو يقول‪ :‬لئن بقيت حتى أنتهت من هذه إنه لمر يطول‍ ودخل المعركة فنال الشهادة التى كان يسعى‬
‫إليها ‪0‬‬

‫لبس أحد المجاهدين زرد الحرب استعداداً للمعركة فقال له صاحبه ‪ :‬إن هناك ثلمة فى الزرد عند العنق يخشى أن ينفذ منها‬
‫السهم‪ ،‬فقال لصاحبه باسماً‪ :‬إنى لكريم على ال إن أصبت فى هذا الموضع‍ ودخل المعركة فأصابه سهم فى الثلمة فأكرمه ال‬
‫بالشهادة ‪..‬‬

‫والمثلة ل تنتهى ‪.‬‬

‫***‬

‫ربما كان خير طريقة لتحديد المواصفات التى نشأت عليها القاعدة الصلبة أن تجمع الوصاف التى وصف بها ال ورسوله هذه‬
‫الجماعة الفذة‪ ،‬أو الوامر التى أمرهم بها ال ورسوله فالتزموا بها أروع التزام‪ ،‬أو التوجيهات التى وجههم إليها ال ورسوله‬
‫فسارعوا إلى تنفيذها‪ ،‬فهى فى مجموعها هى المواصفات الحقيقة التى قامت عليها القاعدة ‪0‬‬

‫((قهد أفلح المؤمنون(‪ )1‬الذيهن ههم فهى صهلتهم خاشعون(‪ )2‬والذيهن ههم عهن اللغهو معرضون(‪ )3‬والذيهن ههم للزكاة فاعلون(‪)4‬‬
‫والذين هم لفروجهم حافظون(‪ )5‬إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(‪ )6‬فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم‬
‫العادون(‪ )7‬والذيهن ههم لماناتههم وعهدههم راعون(‪ )8‬والذيهن ههم على صهلواتهم يحافظون(‪ )9‬أولئك ههم الوارثون(‪ )10‬الذيهن‬
‫يرثون الفردوس هم فيها خالدون))(المؤمنون ‪.)11-1 :‬‬

‫((أفمهن يعلم أنمها أنزل إليهك مهن ربهك الحهق كمهن ههو أعمهى إنمها يتذكهر أولوا اللباب (‪ )19‬الذيهن يوفون بعههد ال ول ينقضون‬
‫الميثاق(‪ )20‬والذين يصلون ما أمر ال به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(‪ )21‬والذين صبروا ابتغاء وجه‬
‫ربههم وأقاموا الصهلة وأنفقوا ممها رزقناههم سهرًا وعلنيهة ويدرءون بالحسهنة السهيئة أولئك لههم عقهبى الدار(‪ )22‬جنات عدن‬

‫‪48‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫يدخلونهها ومهن صهلح مهن آبائههم وأزواجههم وذرياتههم والملئكهة يدخلون عليههم مهن كهل باب(‪ )23‬سهلم عليكهم بمها صهبرتم فنعهم‬
‫عقبى الدار))(الرعد ‪.)24-19 :‬‬

‫((إنمها المؤمنون الذيهن إذا ذكهر ال وجلت قلوبههم وإذا تليهت عليههم آياتهه زادتههم إيماناً وعلى ربههم يتوكلون(‪ )2‬الذيهن يقيمون‬
‫الصلة ومما رزقناهم ينفقون(‪ )3‬أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم))(النفال ‪.)4-2 :‬‬

‫((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون‬
‫ال ورسوله أولئك سيرحمهم ال إن ال عزيز حكيم))(التوبة‪.)71:‬‬

‫((لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون))(التوبة ‪.)88 :‬‬

‫((إن ال يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص))(الصف ‪.)4:‬‬

‫((وسهارعوا إلى مغفرة مهن ربكهم وجنهة عرضهها السهموات والرض أعدت للمتقيهن(‪ )133‬الذيهن ينفقون فهى السهراء والضراء‬
‫والكاظميههن الغيههظ والعافيههن عههن الناس وال يحههب المحسههنين (‪ )134‬والذيههن إذا فعلوا فاحشههة أو ظلموا أنفسهههم ذكروا ال‬
‫فاسهتغفروا لذنوبههم ومهن يغفهر الذنوب إل ال ولم يصهروا على مها فعلوا وههم يعلمون(‪ )135‬أولئك جزاؤههم مغفرة مهن ربههم‬
‫وجنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين))(آل عمران ‪.)136-133 :‬‬

‫((التائبون العابدون الحامدون السهائحون الراكعون السهاجدون المرون بالمعروف والناهون عهن المنكهر والحافظون لحدود ال‬
‫وبشر المؤمنين))(التوبة ‪.)112 :‬‬

‫((إن المسههلمين والمسههلمات والمؤمنيههن والمؤمنات والقانتات والصههادقين والصههادقات والصههابرين والصههابرات والخاشعيههن‬
‫والخاشعات والمتصهدقين والمتصهدقات والصهائمين والصهائمات والحافظيهن فروجههم والحافظات والذاكريهن ال كثيرًا والذاكرات‬
‫أعد ال لهم مغفرة وأجرًا عظيماً))(الحزاب ‪.)35 :‬‬

‫ل مهن ال ورضوانها سهيماهم فهى‬


‫((محمهد رسهول ال والذيهن معهه أشداء على الكفار رحماء بينههم تراههم ركعاً سهجداً يبتغون فض ً‬
‫وجهههم مهن أثهر السهجود ذلك مثلههم فهى التوراة ومثلههم فهى النجيهل كزرع أخرج شطأه فاسهتغلظ فاسهتوى على سهوقه يعجهب‬
‫الزراع لغيظ بهم الكفار وعد ال الذين آمنوا عملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً))(الفتح ‪.)29 :‬‬

‫((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون))(الحشر ‪.)9 :‬‬

‫((والذيهن يجتنبون كبائر الثهم والفواحهش وإذا مها غضبوا ههم يغفرون(‪ )37‬والذيهن اسهتجابوا لربههم وأقاموا الصهلة وأمرههم‬
‫شورى بينههم وممها رزقناههم ينفقون(‪ )38‬والذيهن إذا أصهابهم البغهى ههم ينتصهرون(‪ )39‬وجزاء سهيئة سهيئة مثلهها فمهن عفها‬
‫وأصلح فأجره على ال إنه ل يحب الظالمين(‪ )40‬ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل))(الشورى ‪.)41-37 :‬‬

‫((ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران ‪.)139 :‬‬

‫((قل هذه سبيلى أدعوا إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا من المشركين))(يوسف ‪.)108 :‬‬

‫((ههو الذى أيدك بنصهره وبالمؤمنيهن(‪ )62‬وألف بيهن قلوبههم لو أنفقهت مها فهى الرض جميعاً مها ألفهت بيهن قلوبههم ولكهن ال ألف‬
‫بينهم إنه عزيز حكيم))(النفال‪.)63-62:‬‬

‫((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين))(النساء ‪.)135:‬‬

‫((يأيهها الذيهن آمنوا كونوا قواميهن ل شهداء بالقسهط ول يجرمنكهم شنآن قوم على أل تعدلوا اعدلوا ههو أقرب للتقوى واتقوا ال‬
‫إن ال خبير بما تعملون))(المائدة‪.)8 :‬‬

‫((آلم (‪ )1‬ذلك الكتاب ل ريهب فيهه هدى للمتقيهن(‪ )2‬الذيهن يؤمنون بالغيهب ويقيمون الصهلة وممها رزقناههم ينفقون(‪ )3‬والذيهن‬
‫يؤمنون بمها أنزل إليهك ومها أنزل مهن قبلك وبالخرة ههم يوقنون(‪ )4‬أولئك على هدى مهن ربههم وأولئك ههم المفلحون))(البقرة ‪:‬‬
‫‪.)5-1‬‬

‫((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬أخرجه الشيخان ‪0‬‬

‫‪49‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫((مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(‪.)1‬‬

‫((إن ال قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالنساب‪ ،‬كلكم لدم وآدم من تراب))(‪.)2‬‬

‫((ليس الشديد بالصرعة ولكن من يملك نفسه عند الغضب))(‪.)3‬‬

‫((وتبسمك فى وجه أخيك صدقة))(‪.)4‬‬

‫((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها))(‪.)5‬‬

‫((مثهل القائم فهى حدود ال‪ ،‬والواقهع فيهها‪ ،‬كمثهل قوم اسهتهموا على سهفينة فكان بعضههم أعلهها وبعضههم أسهفلها فكان الذيهن فهى‬
‫أسهفلها إذا اسهتقوا مروا على مهن فوقههم‪ :‬لو أنها خرقنها فهى نصهيبنا خرقها ولم نؤذ مهن فوقنا‍ فلو تركوههم ومها أردوا هلكوا جميعاً‬
‫ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً))(‪.)6‬‬

‫((إن ال كتههب الحسههان على كههل شىء فإذا قتلتههم فأحسههنوا القتلة وإذا ذبحتههم فأحسههنوا الذبحههة‪ ،‬وليحههد أحدكههم شفرتههه وليرح‬
‫ذبيحته))(‪.)7‬‬

‫((أل إنى أتقاكم ل وأخشاكم له‪ ،‬ولكنى أصوم وأفطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪ ،‬وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى))(‪.)8‬‬

‫***‬

‫على هذه المواصفات الفذة‪ ،‬وفى أعلى درجاتها‪ ،‬قامت القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فماذا‬
‫فعلت فى واقع الرض؟‬

‫لقد كانت بادئ ذى بدء‪ ،‬هى النواة التى تجمع حولها المسلمون فى شبه الجزيرة العربية‪ ،‬محضن الدعوة الول‪ ،‬أو قل بلغة‬
‫العصر‪ :‬النواة التى تجمعت حولها القاعدة الجماهيرية‪ ،‬التى تحركت بها الدعوة إلى الفاق ‪0‬‬

‫إنه لبد لكل دعوة فاعلة فى واقع الرض أن يكون لها قاعدة جماهيرية‪ ،‬تتحرك بها‪ ،‬وتتحرك من خللها‪ ،‬ولكن هذه القاعدة ل‬
‫تتجمع بالحجم المطلوب‪ ،‬إل حول قائد مرب‪ ،‬ونواة صلبة متماسكة ذات إشعاع قوى يغرى ((الجماهير)) بالتجمع واللتفاف‪،‬‬
‫ولكنها – فى واقع المر‪ -‬ل تكون على ذات المستوى الذى تكون عليهن الصفوة التى يربيها القائد‪ ،‬ويوليها عنايته الخاصة‪،‬‬
‫ويجتهد فى توجيهها ومتابعة أحوالها ‪0‬‬

‫ومجتمع الرسول ذاته صلى ال عليه وسلم لم يكن كله على المستوى‪ ،‬فقد كان يشتمل كما جاء فى كتاب ال على‬
‫((المثاقلين)) و((المبطئين)) وضعاف اليمان‪ ،‬والمستطارين الذين تهزهم الشاردة والواردة‪ ،‬وهذا كله بخلف المنافقين‬
‫الصرحاء والمستترين‍‬

‫((يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل ال أثاقلتم إلى الرض))(التوبة‪.)38:‬‬

‫((وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم ال على إذا لم أكن معهم شهيداً() ولئن أصابكم فضل من ال ليقولن‬
‫كأن لم تكن بينكم وبينة مودة يا ليبتنى كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً))(النساء ‪.)73-72 :‬‬

‫((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس‬
‫كخشية ال أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتب علينا القتال لول أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى‬
‫ول تظلمون فتيلً))(النساء‪.)77:‬‬

‫((وإذا جاءهم أمر من المن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى المر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‬
‫ولول فضل ال عليكم ورحمته لتبعتم الشيطان إل قليلً))(النساء‪.)83:‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه أبو داود والترمذى‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه الشيخان‪.‬‬
‫‪ 4‬رواه الترمذى‪.‬‬
‫‪ 5‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ 6‬أخرجه البخارى ‪0‬‬
‫‪ 7‬رواه مسلم والنسائى والترمذى وأبو داود وابن ماجه‬
‫‪ 8‬رواه الشيخان ‪0‬‬

‫‪50‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫أما المنافقون فحدث عنهم ول حرج ‪..‬‬

‫فإذا كان هؤلء كلهم كانوا فى مجتمع الرسول صلى ال عليه وسلم والرسول بين ظهرانيهم‪ ،‬والوحى يتنزل متتابعاً يوجه‬
‫الخطى‪ ،‬ويصحح المشاعر والسلوك‪ ،‬فقد تبين إذن أن ((القاعدة الجماهيرية)) ل يمكن أن ترتفع كلها إلى المستوى‪ ،‬ول يمكن‬
‫أن تكون كلها كالصفوة التى تنصب عليها عناية القائد المربى‪ ..‬ولكن الواقع التاريخى يقول‪ :‬إن القاعدة الصلبة التى رباها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على عينه‪ ،‬أولها رعايته وعنايته‪ ،‬كانت من الصلبة ورسوخ اليمان وصدق التوجه بحيث‬
‫حملت كل أولئك وسارت بهم إلى أهدافها‪ ،‬ل يقعدها المثاقلون ول المبطئون‪ ،‬ول ضعاف اليمان‪ ،‬ول الخفاف المستطارون‪ ،‬ول‬
‫حتى المنافقون‪ ،‬ول حتى العداء الصرحاء‍ وتلك هى العربة من إيجاد القاعدة الصلبة الراسخة اليمان الرفيعة المستوى‪ ،‬لنه‬
‫بدونها ل تجد ((الجماهير)) من يرفعها إلى أعلى كلما جنحت إلى الهبوط‪ ،‬أو يقوم خطواتها كلما جنحت إلى النحراف‪ ،‬أو‬
‫يهديها إذا ضلت الطريق ‪0‬‬

‫القاعدة الصلبة إذن ضرورة‪ ،‬وليست ترفاً‪ ،‬أو أمراً زائداً عن الحاجة‪ ،‬أو شيئاً يمكن السير بدونه مسيرة صحيحة ‪0‬‬

‫***‬

‫ثم كانت القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأسند إليها قيادة ((الجماهير)) ‪ ،‬سواء القيادة العسكرية‬
‫فى القتال‪ ،‬أو القيادة الخلقية فى التعامل الفردى‪ ،‬أو القيادة الجتماعية فى تشكيل علقات المجتمع‪ ،‬أو القيادة الفكرية فى‬
‫توعية الناس بحقيقة السلم‪ ،‬بالقدوة وبالكلمة‪ ،‬كانت هذه القاعدة هى التى واجهت الجاهلية فى الجزيرة العربية وهزمتها‪،‬‬
‫وألغت وجودها‪ ،‬ونقضت بنيانها‪ ،‬وأقامت البناء الجديد فى مكانه ‪0‬‬

‫ولم يكن ذلك أمرًا هيناً فى الحقيقة ‪.‬‬

‫والذى يتتبع وقائع التاريخ‪ ،‬والذى يتدبر آيات القرآن التى تصف المعركة بين الحق والباطل‪ ،‬يعلم كم من الجهد بذل فى تلك‬
‫المعركة الهائلة حتى انحسمت فى نهاية المر لصالح الدين الحق‪ ،‬سواء الجهد النفسى فى الصبر على لواء المعركة وتجنيد‬
‫النفس لها‪ ،‬أو الجهد البدنى أو المادى‪ ،‬وكم من التضحيات‪ ،‬وكم من البطولت‪ ،‬وكم من المثل الرائعة تحققت فى واقع الرض‪..‬‬
‫ويعلم المكانة الحقيقية للقيادة النبوية المباشرة للصفوة‪ ،‬وقيادته صلى ال عليه وسلم ((للجماهير)) بمعاونة الصفوة‪ ،‬ويعلم‬
‫أخيراً مكانة القاعدة الصلبة فى هذا الجهاد كله‪ ،‬الذى غير واقع الجزيرة العربية‪ ،‬ثم غير واقع الرض ‪0‬‬

‫لم تكن المعركة هينة وهى تواجه عقائد فاسدة‪ ،‬وقيماً فاسدة‪ ،‬وأعرافاً فاسدة‪ ،‬وأنماطًا من السلوك فسادة‪ ،‬ونفوساً أفسدها‬
‫النحراف العقدى والقيمى والعرفى والسلوكى‪ ،‬ثم استنامت إلى انحرافها‪ ،‬تحسبه هو الحق‪ ،‬وهو ا لصواب‪ ،‬وهو الشىء الذى‬
‫يجب المحافظة عليه‪ ،‬والقتال دونه‍‬

‫ولمر ما شبه ال الصراع بين الحق والباطل بما يوقدون عليه فى النار‪(( :‬أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل‬
‫السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب ال الحق والباطل فأما الزبد فيذهب‬
‫جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الرض كذلك يضرب ال المثال))(الرعد ‪)17 :‬‬

‫إنها نار حقيقية‍ نار تلذع‍ نار تكوى‍ نار تصهر ‪ ..‬يحتملها المؤمنون بالصبر والعزيمة والتوكل والتوجه إلى ال‪ ،‬ثم يكون من‬
‫نتائجها نفى الخبث أولً من قلوب المؤمنين المجاهدين الصابرين‪ ،‬حين تتمحص نفوسهم ويتجردون ل‪ ،‬ثم نفى الخبث من‬
‫الرض حين يزهق الباطل‪ ،‬وتذهب انتفاشته وصولته وطغيانه‪ ،‬ويحكم الحق ‪..‬‬

‫وقامت قاعدة الصلبة بدورها كاملً فى كل ذلك‪ ،‬حتى استقر المر فى الجزيرة للسلم ‪0‬‬

‫ثم قامت القاعدة الصلبة بدور أوسع‪..‬‬

‫الجزيرة العربية هى القاعدة‪ ،‬هى المحضن‪ ،‬هى المنطلق‪ ،‬ولكن الهدف هو كل الرض‍‬

‫لقد نزل هذا الدين للناس كافة‪ ،‬والمؤمنون فى الجزيرة العربية بقيادة الرسول صلى ال عليه وسلم هم الهداة للبشرية‪ ،‬الدعاة‬
‫الذين يدعونها إلى الدين الحق‪ ،‬المعلمون الذى يعلمونها كيف تكون حقيقة الدين ‪(( :‬وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء‬
‫على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة‪(( .)143:‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون‬
‫عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران ‪.)104 :‬‬

‫ولم يكن ذلك بالمر الهين ‪..‬‬

‫إن التاريخ يركز عادة على المعارك التى تدور بين الجيوش ‪0‬‬

‫‪51‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وحقيقة إن معارك الجيوش هى التى تحسم فى النهاية نتيجة الصراع‪ ،‬ولكن النظر إلى المر على أنه صراع حربى فحسب‪،‬‬
‫تقرره الجيوش فى ميدان القتال‪ ،‬يخفى جانباً مهما من حقيقة الصراع‪ ،‬ويحصره فى حيز ضيق‪ ،‬ويلغى أمراً على جانب كبير‬
‫من الهمية‪ ،‬أو يصغر من شأنه‪ ،‬وهو أمر العقائد والقيم التى يدور من أجلها الصراع ‪0‬‬

‫إن الصراع – بلغة العصر‪ -‬هو صراع حضارى فى حقيقته‪ ،‬صراع بين الحضارة السليمة والحضارة الفاسدة‪ ،‬بين الحضارة‬
‫اليمانية والحضارة الجاهلية‪ ،‬صراع شامل‪ ،‬يشمل كل جوانب النفس‪ ،‬وكل جوانب الحياة‪ ،‬وإن كان الصراع الحربى هو الذروة‬
‫التى تحسم النتيجة‪ ،‬ولو إلى حين‍‬

‫لقد تغلب التتار فى فترة فى فترات التاريخ واكتسحوا الرض‪ ،‬ولكنهم لم ينشئوا حضارة‪ ،‬بل الجدر أن نقول‪ :‬إنهم هدموا‬
‫الحضارة وأنشئوا بدلً منها طغياناً وكفرًا ‪ ..‬حتى قدر ال لهم أن يدخلوا فى السلم ‪0‬‬

‫ولقد تغلبت جيوش الغرب فى التاريخ الحديث‪ ،‬واكتسحوا الرض‪ ،‬ولكنهم لم ينشئوا حضارة حقيقية تستحق أن توجد‪ ،‬وتستحق‬
‫أن تعيش‪ ،‬كعلى الرغم من كل التقدم المادى والعلمى والتكنولوجى الذى يملكونه‪ ،‬بل نشروا فى الرض قانون الغاب‪ :‬القوى‬
‫يأكل الضعيف‪ ،‬أو يزيحه من الطريق‪ ،‬ونشروا الفساد العقدى والفساد الخلقى على أبشع صورة عرفتها جاهلية فى التاريخ ‪0‬‬

‫ليس الصراع الحربى هو حقيقة الصراع‪ ،‬أو قل – على أقل تقدير – ليس وحده هو حقيقة الصراع‪ ،‬إنما حقيقة الصراع هى‬
‫القيم التى تقاتل من أجلها الجيوش‪ ،‬والتى ينشرها أصحابها حين تنتصر الجيوش‍ وفى هذا يتميز الفتح السلمى عن كل‬
‫الحركات التوسعية فى التاريخ ‪0‬‬

‫لم تكن شهوة التوسع‪ ،‬ول شهوة امتلك الرض‪ ،‬ول شهوة القهر والذلل للخرين هى التى حركت الجيوش العربية للفتح‪،‬‬
‫إنما كان الهدف – بأمر من ال – هو نشر التوحيد فى الرض‪ ،‬وإزالة الجاهلية وطغيانها‪ ،‬لتكون كلمة ال هى العليا‪ ،‬ويكون‬
‫الدين ل ‪(( :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل))(النفال ‪.)39 :‬‬

‫هو كما قال ربعى بن عامر رضى ال عنه لقائد الفرس‪ :‬إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال‪ ،‬ومن جور الديان إلى‬
‫عدل السلم‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة‪..‬‬

‫حركة حضارية عليا لتحرير النسان من عبادة الطاغوت إلى عبادة ال‪ ،‬ومن اعتناق الوهم إلى اعتناق الحقيقة‪ ،‬ومن الجور‬
‫والظلم إلى العدل والقسط‪ ،‬ومن الجهل إلى العلم‪ ،‬ومن الظلمات إلى النور‪..‬‬

‫ما من حركة حضارية فى التاريخ صنعت ما صنعه الفتح السلمى ‪0‬‬

‫وليست الروعة فيه كامنة فى عبقرية القتال وحدها‪ ،‬التى انتصر فيها رجال محدودو العدد والعدة على أضعاف أضعافهم فى‬
‫العدد والعدة وفنون القتال والمكانات المادية من الفرس والروم‪ ،‬مما ل تفسير له – بعد عون ال سبحانه وتعالى ومدده – إل‬
‫أثر العقيدة الصحيحة فى ال واليوم الخر فى نفوس معتنقيها‪ ،‬وإل التربية على حقائق العقيدة الصحيحة‪ ،‬التى مكنت هؤلء‬
‫الرجال المحدودى العدد والعدة من الوصول إلى المحيط غرباً والهند شرقاً فى أقل من نصف قرن‪ ،‬وهى سرعة ل مثيل لها فى‬
‫التاريخ ‪0‬‬

‫ليست الروعة كامنة فى عبقرية القتال وحدها‪ ،‬وإنها – بذاتها – لمر هائل فى ميزان التاريخ‪ ،‬ولكن الروعة الكبرى هى فى‬
‫فتح القلوب للسلم‪ ،‬ودخول المليين فى الدين الحق‪ ،‬بغير إكراه‍‬

‫لم يكن القتال قط لكراه الناس على الدخول فى السلم ‪(( :‬ل إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى))(البقرة ‪ .. )256 :‬إنما‬
‫كان القتال لزالة الجاهلية‪ ،‬ممثلة فى عقائد جاهلية تقوم عليها نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية‪ ،‬فإذا أزيلت هذه فالناس‬
‫أحرار بعد ذلك يختارون لنفسهم ما يشاءون‪(( :‬قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بال فقد استمسك بالعروة‬
‫الوثقى ل انفصام لها وال سميع عليم))(البقرة ‪.)256 :‬‬

‫وأما ((الخر)) الذى يريد أن يحتفظ بدينه‪ ،‬وهو على غى واضح‪ ،‬فهو آمن على نفسه ودينه وكيانه كله‪ ،‬ما لم يتعرض‬
‫للمؤمنين بالذى والقتال‪(( :‬ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‬
‫إن ال يحب المقسطين))(الممتحنة‪.)8:‬‬

‫وهذه المليين التى دخلت فى السلم بغير إكراه‪ ،‬إنما دخلت فيه حين رأته ممثلً فى بشر يعتنقونه ويمارسونه بالفعل‪ ،‬بشر‬
‫تربوا على حقيقة السلم‪ ،‬فترجموه إلى واقع مشهود يعجب الناظرين إليه‪ ،‬فتهفو له قلوبهم فيدخلون فيه‪ .‬ولو لم يكونوا على‬
‫هذه الصورة الوضيئة ما دخل الناس فى الدين الجديد بهذه الكثرة فى ذلك الزمن القصير‪ ،‬ولو غلبوا فى ميدان القتال‪ ،‬فالسيف‬
‫قد يفتح الرض‪ ،‬ولكنه ل يفتح القلوب‍ وإذا كان ال يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا‬
‫من حولك))(آل عمران ‪ ، )159 :‬وهو رسول ال‪ ،‬فكيف بالبشر الفاتحين إذا لم يكونوا على خلق قويم؟‍‬

‫‪52‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫إن تحول شعوب بأكملها إلى السلم فى تلك اللمحة الخاطفة من الزمان لهو أثر من آثار تلك التربية الفذة التى ربى عليها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم تلك القاعدة الصلبة‪ ،‬التى أولها رعايته وعنايته‪ ،‬لتكون ستاراً لقدر ال يفعل بها ال ما يشاء‬
‫سبحانه ‪(( :‬هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله))(الصف ‪.)9 :‬‬

‫ولم تكن روعة الفتح محصورة فى دخول تلك المم فى السلم بهذه السرعة الخاطفة‪ ،‬ولكن كانت كذلك فى العدل المثالى الذى‬
‫تعامل به المسلمون – الذين رباهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسلم – مع البلد المفتوحة‪ ،‬حتى مع من بقى على دينه‬
‫منهم‪ ،‬وقصة عمر رضى ال عنه مع والد الشاب القبطى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص بالعصا شهيرة فى التاريخ‪ ،‬وكلمته‬
‫التى قالها لعمرو ‪(( :‬يا عمرو‍ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)) شهيرة كذلك‪ ،‬وفذة فى التاريخ‍‬

‫ولم تكن هذه وتلك هى حدود تلك الروعة الهائلة‪ ،‬فقد كان دخول أمم بأكملها فى اللسان العربى – دون إكراه – عجيبة ل مثيل‬
‫لها فى التاريخ‪ ،‬فقد نسيت تلك الشعوب لسانها‪ ،‬حتى من بقى منهم على دينه‪ ،‬وصارت لغتها هى العربية‪ ،‬بها تتخاطب وبها‬
‫تفكر وبها تؤدى عبادتها‍‬

‫وأخيراً وليس آخرا فقد كانت العناية الفائقة من رسول ال صلى ال عليه وسلم بتربية القاعدة الصلبة هى الضمان – بعد ال‬
‫سبحانه وتعالى – لستمرارية المنهج‪ ،‬بعد أن يمضى مؤسسه صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى‪ ،‬والخلفة الراشدة –‬
‫بكل ما حوت من المثل الرفيعة فى كل مجال من مجالت الحياة – هى مصداق هذه الحقيقة ‪ ،‬فقد كانت هى المتداد الواقعى‬
‫لمنهج الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بعد انقطاع الوحى‪ ،‬وغياب القائد العظيم صلى ال عليه وسلم بشخصه عن العيون ‪0‬‬

‫وصحيح أن هذه الفترة لم تدم طويلً‪ ،‬وما كان مقدراً لها أن تدوم‪ ،‬ولكن الهبوط عنها لم يكن هبوطاً عن السلم ول نهاية‬
‫للسلم‪ ،‬كما يرجف المستشرقون وأعداء هذا الدين عامة‪ ،‬إنما كانت هذه الفترة تحليقاً فى آفاق سامقة العو‪ ،‬يعتمد كثير من‬
‫أعمالها على التطوع النبيل بما هو فوق اللزام الملزم‪ ،‬المفروض من عند ال ورسوله‪ ،‬فإذا هبط الناس بعد ذلك إلى أرض‬
‫اللتزام أو قريباً منها فما هبطوا فى الحقيقة‪ ،‬إنما تراخت أجنحتهم عن التحليق فحطوا على الرض الصلبة يسيرون على‬
‫القدام‍ وحسبهم – بعد أن هبطوا من التحليق فى تلك الذرى العالية – ما قاموا به من نشر التوحيد فى الرض‪ ،‬وما أمدوا به‬
‫البشرية من قيم حضارية عالية‪ ،‬ظلت أوروبا تقبس منها حتى القرن السابع عشر الميلدى‪ ،‬أى بعد الذروة بأكثر من عشرة‬
‫قرون‍‬

‫ولم تكن تلك الفترة مع ذلك مجرد برق لمع أضاء هنيهة ثم اختفى‪ ،‬فضوءه اللمع ما زمال ينير الطريق حتى هذه اللحظة‪،‬‬
‫وإلى ما شاء ال بعد‍ إنها ما تزال – بمثاليتها الواقعية – مدداً لجيال إلى الصعود‪ ،‬فهو دائماً خير من التقاعس الذى يؤدى‬
‫حتماً إلى الهبوط بحكم ثقلة الرض‪ ،‬وجذبها لمن يركن إليها ‪ .‬وكل حركات الصلح والبعث فى تاريخ السلم – وما أكثرها‪،‬‬
‫والحاضرة واحدة منها – إن هى إل أثر من آثار تلك الفترة اللمعة التى ما يزال ضوءها ينير الطريق ‪ .‬ومن أجل ذلك بالذات‬
‫يسعى المستشرقون وأعداء السلم عامة إلى محاولة تشويه تلك الفترة ليطمسوا ذلك النور اللمع‪ ،‬ويمنعوا إشعاعه من‬
‫الوصول إلى الجيال التى تستضئ به فتنهض إلى الصعود من جديد‪ ،‬وهيهات لجهدهم الخبيث أن يفلح‪ ،‬فهم يعاندون قدر ال‪:‬‬
‫((يريدون ليطفئوا نور ال بأفواههم وال متم نوره ولو كره الكافرون))(الصف‪.)8 :‬‬

‫***‬

‫وهنا يحضرنا أمر له أهميته البالغة فى تربية الرسول صلى ال عليه وسلم لتلك القاعدة الصلبة‪ ،‬وهو كثرة مشاورة الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم لصحابه‪.‬‬

‫ونسأل بادئ ذى بدء‪ :‬هل كان رسول ال صلى ال عليه وسلم فى حاجة إلى المشاورة والوحى يتنزل عليه بما يشاء ال أن‬
‫ينزله من البيان‪ ،‬ويصحح مسار الجماعة المسلمة كلما همت أن يقع منها انحراف؟ بل يصحح للرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫نفسه بعض ما يقع منه من تصرفات‪ ،‬كتصرفه مع ابن أم مكتوم‪ ،‬وكتصرفه فى أسرى بدر؟‬

‫كل‍ ما كان الرسول صلى ال عليه وسلم فى حاجة إلى المشاورة‪ ،‬وهو يقوم بأعباء الدعوة‪ ،‬ويدير حياة الجماعة المؤمنة‬
‫سواء فى مكة أو فى المدينة‪ .‬إنما هى التربية ومستلزماتها‪.‬‬

‫إن التربية على السمع والطاعة وحدهما تخرج جنوداً ملتزمين‪ ،‬ولكنها ل تخرج قادة‍‬

‫ولقد كان اللتزام بأمر الرسول صلى ال عليه وسلم عبادة مفروضة من عند ال‪(( :‬من يطع الرسول فقد أطاع ال))(النساء‪:‬‬
‫‪(( .)80‬وما أرسلنا من رسول إل ليطاع بإذن ال))(النساء‪(( .)64:‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(الحشر‬
‫‪(( . )7 :‬يأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا ال وأطيعوا ال وأطيعوا الرسول))(النساء ‪(( )59 :‬فليحذر الذين يخالفون عن‬
‫أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))(النور ‪(( . )63 :‬ما كان لهل المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن‬
‫رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة‪.)120 :‬‬

‫‪53‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ولكنه صلى ال عليه وسلم لم يكن يريد من أصحابه فقط أن يكونوا جنوداً ملتزمين بأمر قائدهم‪ ،‬واللتزام بأمره هو الفلح‬
‫ل عن كونه عبادة مفروضة‪ ،‬إنما كان يريد أن يجعل منهم قادة للبشرية‪ ،‬تحقيق ًا لقدر ال بهم‪ ،‬ومراده سبحانه‬
‫والنجاح‪ ،‬فض ً‬
‫وتعالى من إخراج هذه المة‪(( :‬وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة ‪:‬‬
‫‪.)143‬‬

‫والتدريب على القيادة والريادة ل يكون إل بالمشاورة من القائد للذين يربيهم ‪..‬‬

‫المشاورة هى التى تولد فيهم الوعى وتنمية ‪(( :‬قل هذه سبيلى أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا‬
‫من المشركين))(يوسف ‪.)108 :‬‬

‫وواضح من سياق الية أن البصيرة شىء قائم بذاته مطلوب بذاته إلى جانب اليمان‪ ،‬الذى يعبر عنه فى الية بقوله تعالى ‪:‬‬
‫((وسبحانه ال وما أننا من المشركين))‪.‬‬

‫اليمان مطلوب نعم‪ ،‬ولكن البصيرة مطلوبة كذلك‪ ،‬للتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع‪ ،‬لكى تؤتى الحركة ثمارها كاملة بإذن ال‪،‬‬
‫ول يتبدد الجهد كله أو جزء منه فى حركة خاطئة‪ ،‬أو فيما ل طائل وراءه ‪0‬‬

‫والمشاورة من القائد لتباعه تعود التباع أن يفكروا بعقولهم فى المواقف المختلفة‪ ،‬والراء المختلفة‪ ،‬ليختاروا أصوبها‬
‫وأليقها بالموقف الذى يراد اتخاذه‪ ،‬كما تعودهم كذلك على تحمل المسئولية‪ ،‬فالرأىت مسئولية بجانب كونه أمانة ‪ ..‬وحين‬
‫تتكرر المشاورة‪ ،‬ويتكرر التفكير والتمحيص مع تحمل المسئولية يكون النسان قد أعد لمواجهة المواقف العملية حين يكون‬
‫فيها‪ ،‬فل تنفر مشاعره من المواجهة‪ ،‬ول يتهيب المسئولية‪ ،‬وتلك هى الصفات المطلوبة فى القائد الناجح‪ .‬وليس كل إنسان‬
‫بطبيعة الحال يكون قائدا ناجحاً‪ .‬ولنك لن تتعرف على الشخصى المؤهل لن يكون قائدا ناجحا حتى تتيح الفرصة لمجموعة من‬
‫الناس – الذين تقوم بتربيتهم – لكى يتلقوا التدريب المطلوب‪ ،‬فتتضح مقدراتهم ويبرز منهم من هو مؤهل للبروز ‪ ..‬أما إذا‬
‫ربيتهم على السمع والطاعة فى المور كلها‪ ،‬فلن يتهيأ لحد أن يكتسب الخبرة المطلوبة‪ ،‬وحين تسند إليها المسئولية‬
‫يضطربون ثم يفشلون‪ ،‬وتنتكس المسيرة على أيديهم بعد ذهاب القائد المحنك‪ ،‬ولو كانوا فى حياة القائد من الجنود المخلصين‍‬

‫ومن هنا يتضح حرص الرسول صلى ال عليه وسلم على مشاورة أتباعه‪ ،‬وهو الغنى عن المشاورة‪ ،‬لنه كان يعدهم – على‬
‫علم – لن يكونوا من بعده قادة محنكين‪ ،‬أو فى القليل مستشارين صائبى الرأى‪ ،‬لتستمر المسيرة بعده ول تتوقف‪ ،‬ول تنتكس‬
‫بعد غياب القائد الملهم العظيم ‪0‬‬

‫***‬

‫تلك هى القاعدة الصلبة التى رباها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهذا دورها فى التاريخ ‪0‬‬

‫لم يكن إنشاؤها ترفاً‪ ،‬ول كان الجهد الضخم الذى بذله رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تربيتها أمراً زائداً على الضرورة ‪،‬‬
‫بل كان بإلهام ال وعونه وتوفيقه‪ ،‬ألزنم شىء لهذا الدين‪ ،‬وللشأن الهائل الذى أنزل ال من أجله هذا الدين ‪0‬‬

‫والن فلننتقل إلى واقعنا المعاصر‪ ،‬لنتعرف على صورته الحقيقية‪ ،‬وعلى موضع القدوة فيه من منهج الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم فى تربية القاعدة الصلبة التى حملت أول مرة أعباء هذا الدين‪.‬‬

‫ما حال الجاهلية اليوم؟‬

‫يقول ابن تيمية رحمه ال ‪(( :‬فأما بعدما بعث الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فالجاهلية المطلقة قد تكون فى مصر دون مصر‬
‫كما هى فى دار الكفار‪،‬ت وقد تكون فى شخص دون شخص‪ ،‬كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون فى جاهلية وإن كان فى دار‬
‫السلم‪ .‬فأما فى زمان مطلق فل جاهلية بعد مبعث محمد صلى ال عليه وسلم فإنه ل تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق‬
‫إلى قيام الساعة‪ .‬والجاهلية المقيدة قد تقوم فى بعض ديار المسلمين‪ ،‬وفى كثير من المسلمين))(‪.)1‬‬

‫فإذا كان هذا فى القرن الثامن الهجرى والمسلمون بعد متمسكون بكثير من أمور دينهم‪ ،‬وإن كانوا مفرطين فى كثير ‪ ..‬فكيف‬
‫لو رأى ابن تيمية رحمه ال واقعنا المعاصر ‪ ..‬ماذا كان يقول فيه‪ ،‬وقد فشت بدعة التشريع بغير ما أنزل ال‪ ،‬والمنع والباحة‬
‫بغير ما أنزل ال‪ ،‬فأصبح تحكيم شريعة ال ممنوعاً بنصوص نالدساتير‪ ،‬والمطالبة به جريمة تطير من أجلها الرءوس‪ ،‬ويعذب‬
‫ل من الصول‪ ،‬وتحجبهن ‪ -‬كما أمر ال – بدعة‬ ‫من أجلها اللوف ومئات اللوف فى السجون ‪ ..‬وأصبح عرى النساء أص ً‬
‫منكرة تهاجمها وسائل العلم بشتى وسائل الهجوم ‪ ..‬وأصبح ((القانون)) يحمى ارتكاب الفاحشة ما دام يتم برضى الطرفين‪،‬‬
‫كأنما الطرفان – وحدهما – هما أصحاب الشأن فى القضية‪ ،‬وال سبحانه وتعالى ل دخل له‪ ،‬ول يجوز له فى عرف الجاهلية‬
‫أن يكون له دخل فى المر‪ ،‬وليس هو سبحانه الذى يمنع ويبيح‪ ،‬وأصبح الولء والبراء فى ال ول قضية من قضايا التعصب‬
‫‪ 1‬اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص ‪79-78‬‬

‫‪54‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫المقيت‪ ،‬ل يتقبلها ذوق العصر‪ ،‬فقد أصبح العالم بفضل وسائل التصال كالقرية الواحدة‪ ،‬ل يجوز لحد أن يشذ عن أعرافها‬
‫وتقاليدها وأفكارها بحجة من الحجج‪ ،‬والدين خاصة هو أشد الحجج مقتاً وإغراقاً فى التعصب المقيت‍ وأصبح ‪ ..‬وأصبح ‪..‬‬
‫وأصبح ‪..‬‬

‫وكيف كان ابن تيمية رحمه ال سيقول لو رأى الواقع المعاصر فى الغرب‪ ،‬وفى كثير من أقطار السلم؟‬

‫((بدأ السلم غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء))(‪.)1‬‬

‫ما المطلوب من الغرباء اليوم؟ وما ذلك الشىء العظيم الذى يستحقون عليه هذه الكرامة عند ال؟‬

‫إن كهل جههد يقوم بهه الغرباء لزالة الغربهة الثانيهة للسهلم مأجور عنهد ال‪ ،‬بنهص كتابهه الكريهم‪(( :‬ذلك بأنههم ل يصهيبهم ظمهأ ول‬
‫ل إل كتهب لههم بهه عمهل صهالح إن ال ل‬ ‫نصهب ول مخمصهة فهى سهبيل ال ول يطئون موطئا يغيهظ الكفار ول ينالون مهن عدو ني ً‬
‫يضيهع أجهر المحسهنين(‪ )120‬ول ينفقون نفقهة صهغيرة ول كهبيرة ول يقطعون واديًا إل كتهب لههم ليجزيههم ال أحسهن مها كانوا‬
‫يعملون))(التوبة‪.)121-120:‬‬

‫ولكن هذا ل يمنع أن يكون للغرباء خطة يسيرون عليها‪ ،‬وأولويات يرتبونها فى العمل الذى يقومون به لزالة الغربة عن‬
‫السلم فى واقعه المعاصر ‪0‬‬

‫فهل يصلح العمل بغير قاعدة صلبة تنتقل الدعوة منها إلى الجماهير ‪.‬‬

‫نقول بادئ ذى بدء ‪ :‬إننا ل نطمع – ول يطمع أحد – فى إنشاء قاعدة على مستوى القاعدة التى أنشأها رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة أو القاعدة الجماهيرية‪ ..‬ومع ذلك فهناك مواصفات ضرورية ل يقوم البناء بدونها‬
‫مهما كلفنا توفيرها من الجهد ومن الزمن ومن المعاناة‪..‬‬

‫إننا ل نطالب أحداً أن يحلق فى الفاق العليا التى حلق فيها صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تمكن وقوة‪ ،‬فذلك أصلً‬
‫غير ملزم لحد ‪ ..‬وإن كان هناك أفراد على مدى التاريخ السلمى لم ينقطع مددهم قط‪ ،‬يرتفعون بأنفسهم إلى تلك الفاق‪ ،‬ولكنا‬
‫نطلب السير بالقدام على أرض اللتزام‪ ،‬أو حتى قريباً منها‪ ،‬لكى يكون عملنا مقبولً عند ال‪ ،‬ومؤهلً بإذن ال للنجاح ‪0‬‬

‫فما المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة‪ ،‬التى تقوم بدورها بإنشاء القاعدة الجماهيرية وتوجيهها وتربيتها‪..‬‬

‫هل يصلح لها أى إنسان بمجرد أن يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬ويقيم الصلة ويؤتى الزكاة‪ ،‬ويكون من الخاشعين؟ إن هذه كلها‬
‫مواصفات عظيمة‪ ،‬وكلها مطلوبة‪ ،‬ولكن على أى درجة هى مطلوبة؟ وهل هى وحدها المطلوبة بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة؟‬

‫ضربت فيما سبق مثلً‪ ،‬أعيد الشارة إليه هنا مرة أخرى‪ ..‬لو سألت إنساناً فى الطريق‪ :‬من الذى يرزقك؟ فسيقول بل شك ‪ :‬ال‬
‫! فلو أوذى فى رزقه فقال ‪ :‬فلن من الناس يريد أن يقطع رزقى‪ ،‬فهل يكون اليمان بتلك الحقيقة‪ ،‬وهى أن ال هو الرزاق ذو‬
‫القوة المتين‪ ،‬قد تعمق فى حسه حتى أصبح يقيناً قلبياً يترتب عليه سلوك؟ أم يكون فى حاجة إلى تعميق إيمانه حتى يصل إلى‬
‫درجة اليقين؟ وكذلك حقيقة أن ال هو الضار النافع‪ ،‬وهو المحي المميت‪(( :‬ومن الناس من يقول آمنا بال فإذا أوذى فى ال‬
‫جعل فتنة الناس كعذاب ال))(العنكبوت‪.)10 :‬‬

‫هل يصلح هذا لبنة فى القاعدة الصلبة التى تحمل البناء؟ وهل يثبت فى البتلء‪ ،‬والبتلء سنة من سنن ال ‪(( :‬آلم (‪ )1‬أحسب‬
‫الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتنون(‪ )2‬ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن ال الذين صدقوا وليعلمن‬
‫الكاذبين))(العنكبوت‪.)3-1 :‬‬

‫والفتنة ليست بالعذاب وحده‪ ،‬فهذه قد يحتملها كثيرون‪(( :‬ونبلوكم بالشر والخير فتنة))(النبياء ‪.)35 :‬‬

‫وفتنة الخير أخطر‪ ،‬لنها تعصف بكثير من الناس‪ ،‬يصمدون فى فتنة العذاب‪ ،‬ولكنهم ل يقوون على الصمود أمام إغراء المال‬
‫والسلطة والجاه والمناصب وكثرة التباع والعوان‪ ..‬فهل كل ما ثبت فى محنة يصلح أن يكون لبنة فى القاعدة الصلبة فضلً‬
‫عن أن يكون من قياداتها؟‬

‫وأضرب هنا مثلً آخر أشرت إليه من قبل فى كتاب واقعنا المعاصر ‪:‬‬

‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪.‬‬

‫‪55‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫الخوة معنى من المعانى الجميلة التى يمكن أن يصاغ حولها الكلم المنمق المؤثر العذب‪ ،‬وهى من معانى السلم الصيلة‪،‬‬
‫ومن الركائز التى اهتم الرسول صلى ال عليه وسلم بترسيخها فى القاعدة الصلبة التى أنشأها حين آخى بين المهاجرين‬
‫والنصار‪،‬ن فصارت أخوة أقوى فى نفوسهم من أخوة الدم‪ ،‬وهى أوثق ما كانت توثقه الجاهلية العربية ‪0‬‬

‫وكما قلت فى كتاب (واقعنا المعاصر) ‪ :‬الخوة يمكن ممارستها بسهولة والناس فى سعة من أمرهم‪ ،‬فهى ل تكلف كثيراً فى تلك‬
‫الحالة‪ ،‬ولكن إذا ضاقت الطريق بحيث ل أستطيع أن أسير وأخى متجاورين‪ ،‬بل لبد أن يتقدم أحدنا على الخر‪ ،‬فهل أقدم نفسى‬
‫أم أقدم أخى؟ ول حاجة بنا للرتفاع إلى المستوى السامق الذى يضيق فيه الطريق أكثر‪ ،‬فتصبح الفرصة متاحة لواحد دون‬
‫الخر‪ ،‬إما أنا وإما أخى‪ ،‬فذلك مستوى غير ملزم‪ ،‬وهو الذى وصفه سبحانه وتعالى بقوله‪(( :‬ويؤثرون على أنفسهم ولو كان‬
‫بهم خصاصة))(الحشر‪ ..)9:‬والذى كان شيئاً عادياً فى هذه القاعدة التى أنشأها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأصبح اليوم‬
‫شيئاً بعيد المنال ‪0‬‬

‫***‬

‫ولكنهى أركهز هنها على أمريهن اثنيهن بالذات‪ ،‬ممها تحتاج إليهه القاعدة الصهلبة التهى يراد منهها اليوم أن تواجهه الجاهليهة العاتيهة‬
‫المحيطة بالسلم من كل جانب‪ :‬التجرد ل‪ ،‬والوعى ‪ :‬الحركى والسياسى ‪0‬‬

‫من مداخل الشيطان إلى نفوس ذوى المواهب خاصة‪ ،‬فتنة ((الذات))‪ ،‬فتنة ((النا))‪ .‬حين يكون النسان جندياً فى الصف يكون‬
‫أبعد عن كيد الشيطان منه حين يبدأ يبرز بمواهبه‪ ،‬وتكون له مكانة خاصة‪ ،‬فهنا يجد الشيطان فرصة أكبر للغواية! وكلما برز‬
‫النسان كانت محاولة الشيطان لغوائه أشد !‬

‫وتكون الفتنة فى عنفوانها حين يتهيأ النسان لمركز من المراكز القيادية‪ ،‬أو لمركز الزعامة ذاته‪ ..‬هنا يختلط المر فى كثير‬
‫من النفوس إذا لم تكن قد تربت على التجرد ل‪ ،‬بين الدعوة وبين ((النا)) القائمة بالدعوة ‪0‬‬

‫أنا ممثل الدعوة! أنا الذى تتوفر فى الصفات المطلوبة للقيادة! إذن فما يصيب شخصى يصيب الدعوة! وما يرحنى وترتاح إليه‬
‫نفسى هو صالح الدعوة! هكذا يتدسس الشيطان إلى النفوس‪ ،‬فيجعل ذواتنا مركز اهتمامنا ومركز تحركنا ‪0‬‬

‫إن فلناً يقف فى طريقى‪ ،‬يناوئنى أو يعارضنى‪ ،‬أو ل ترتاح إليه نفسى ‪ ..‬إذن فوجوده ليس فى صالح الدعوة‪ ،‬بل قد يكون‬
‫خطرًا على الدعوة! لبد من وقفه عند حده! لبد من تحجيمه! إن لم يكن الفضل فصله من الجماعة‪ ،‬لتسير الدعوة فى طريقها‬
‫المستقيم‪ ،‬أى الطريق الذى يكون فيه عزى وجاهى وسلطانى!‬

‫آفة من أشد آفات العمل السلمى‪ ،‬آفة أدت فى الجهاد الفغانى إلى إهدار دم مليون ونصف مليون شهيد‪ ،‬والعبث بمقدرات أمة‪،‬‬
‫وضياع أمل تعلق به المسلمون فى كل الرض! وما زالت تتسبب فيما يصيب بعض الجماعات من تشقق وتحزب وتشرذم‬
‫وعداوة وخصام‪ ،‬وإن تلفع الخصام بخلف على المبادئ أو الخطط أو الساليب!‬

‫حين نكون متجردين ل نحتمل النقد سواء كان لشخاصنا أو لفكارنا أو لتصرفاتنا ‪..‬‬

‫ونضرب مثلً من جماعة الذروة‪ ،‬ل لننا نعتقد أنه يمكن أن يوجد فى عصرنا الحاضر! ولكن فقط لننظر كيف يفعل التجرد ل‬
‫فى نفوس البشر‪ ،‬فيرفعهم إلى تلك الذرى العالية‪ ،‬وهم بعد نشر ما يزالون لم يصبحوا ملئكة‪ ،‬ول توقع منهم أحد أن يصبحوا‬
‫ملئكة!‬

‫قام عمر رضى ال عنه على المنبر فقال‪ :‬أيها الناس اسمعوا وأطيعوا! فقال له سلمان الفارسى رضى ال عنه ‪ :‬ل سمع لك‬
‫علينا ول طاعة! قال عمر ‪ :‬ولمه؟ قال ‪ :‬حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذى ائتزرت به وأنت رجل طوال ل يكفيك برد‬
‫واحد‪ ،‬كما نال بقية المسلمين! فنادى عمر ولده عبد ال فقال له ‪ :‬نشدتك ال! هذا البرد الذى ائتزرت به أهو بردك؟ قال عبد‬
‫ال رضى ال عنه ‪ :‬نعم! هو بردى أعطيته لبى ليأتزر به‪ ،‬لنه رجل طوال ل يكفيه البرد الذى ناله كبقية المسلمين! فيقول‬
‫سلمان رضى ال عنه‪ :‬الن مر! نسمع ونطع!‬

‫هذا وعمر رضى ال عنه أمير المؤمنين‪ ،‬وليس أمير جماعة من الجماعات السلمية!‬

‫ترى كم أميراً من أمراء الجماعات السلمية يطبق أن يوجه إليه النقد من أحد أتباعه؟ وكم أميراً يرجع إلى الحق حين يكون‬
‫الذى وجهه إليه أخ من اخوته فى ال‪ ،‬فضلً عن جندى من جنوده؟!‬

‫وحين نكون متجردين ل ل تكون ذواتنا محور اهتمامنا ول محور تحركنا‪ ،‬ول نحس بالغيرة من بروز غيرنا – حين يبرز عن‬
‫جدارة – ول بالتفات الناس حوله وإعجابهم به أو إطرائهم له‪ ،‬ول نعتبر ذلك انتقاصاً لمكانتنا أو عملً عدائي ًا موجهاً ضدنا‪ ،‬ول‬
‫يدفعنا ذلك إلى محاولة النتقاص منه أمام أتباعنا‪ ،‬لكى ل يتحول ((ولؤهم)) عنا إلى ذلك ((المنافس)) الذى التف حوله الناس!‬

‫‪56‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وحين نكون متجردين ل ل يكون ((الولء)) لشخاصنا أو لجماعتنا – الولى أن نقول ((حزبنا)) – هو محك الحكم على‬
‫صلحية الخرين وجدارتهم‪ ،‬بل يكون المحك هو المحك الربانى‪(( :‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم إن ال عليم خبير))(الحجرات ‪:‬‬
‫‪ .. )13‬وتكون طريقة الحكم على الخرين هى الطريقة التى أمر بها ال ‪(( :‬يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل‬
‫ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين))(النساء ‪(( ..)135 :‬يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل شهداء بالقسط ول يجرمنكم‬
‫شنآن قوم على أل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى))(المائدة ‪.)8 :‬‬

‫وحين ل نكون متجردين ل بالقدر الكافى يحدث كثير مما يحدث فى واقعنا المعاصر!‬

‫***‬

‫المر الثانى الذى نريد أن نركز عليه هو الوعى‪ ،‬هو البصيرة التى ورد ذكرها فى الية الكريمة‪(( :‬قل هذه سبيلى أدعو إلى ال‬
‫على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان ال وما أنا من المشركين)) (يوسف ‪)108 :‬‬

‫البصيرة بالنسبة للقاعدة الصلبة ضرورة ل غنى عنها‪ ،‬لنها هى التى تقرر مسار العمل السلمى‪ ،‬متى نكمن؟ ومتى نتحرك ؟‬
‫كيف نتحرك؟ ندخل فى صدام مع السلطة أم نهادنها؟ أم ندخل فى تحالف معها؟ نبدأ ببناء القاعدة أم نتوجه إلى الجماهير؟‬
‫وحين نتوجه إلى الجماهير فماذا نقول لهم؟ هل نستغل ((القضايا العامة)) ‪ ،‬قضايا الخبز والبطالة‪ ،‬وارتفاع السعار‪ ،‬أم نركز‬
‫على قضايا التربية وقضايا العقيدة؟ هل نستعرض عضلتنا أمام أعدائنا أم نعرض عنهم؟ ومن هم أعداؤنا على وجه الدقة؟‬
‫هؤلء المحليون الذين يحاربوننا أم هى الجاهلية العالمية على اتساعها‪ :‬اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون فى كل‬
‫الرض؟ وعشرات من السئلة ومئات لبد فيها من وجود الوعى السياسى والحركى‪ ،‬ووجود البصيرة‪ ،‬لكى نحاول – قدر‬
‫طاقتنا – أن نرسم خطة سليمة للحركة تحقق أفضل النتائج الممكنة فى الظروف المحيطة ‪0‬‬

‫ولنعلم بادئ ذى بدء‪ ،‬أنه ليس هدف الخطة السليمة حماية أشخاصنا من الذى‪ ،‬فالجاهلية ل تكف عن الذى بأى حال‪ ،‬ول‬
‫تصبر على دعوة ل إله إل ال! إنما نحاول أل تؤذى الدعوة من خلل تصرفاتنا!‬

‫وليس هدف الخطة السليمة الوصول إلى السلطة أو إلى شىء من السلطة بالتنازل عن مبادئنا وقيمنا التى هى جزء من ديننا‬
‫ومن عقيدتنا بحجة ((مجاراة الظروف))‪ ،‬أو أن ذلك فى صالح الدعوة!‬

‫ولنعلم أولً وآخرًا أن ال سنناً ل تتبدل ول تتحول ول تجامل ول تحابى‪ ،‬وأننا إذا تجاهلناها أو توهمنا أننا نستطيع أن نتخطاها‬
‫فلن نصل فى حركتنا إلى شئ!‬

‫والبصيرة‪ ،‬منها جزء يكتسب بالتعليم‪ ،‬أى التعرف على السنن الربانية من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وتدبر التاريخ وأخذ العبرة منه ‪ ..‬والتعرف على أحوال المة الحاضرة والسباب التى أدت إلى الواقع الذى تعيشه المة فى‬
‫وقتها الحاضر ‪ ..‬والتعرف على مخططات العداء‪ ،‬والطرق التى يتخذونها لمقاومة السلم ومحاولة القضاء على الحركة‬
‫السلمية ‪0‬‬

‫ومنها جزء يكتسب بالخبرة من التجارب التى تمر بها الحركة‪ ،‬والنتائج التى تترتب على كل تحرك ‪0‬‬

‫ومنها جزء يكتسب بالتربية‪ ،‬عن طريق المشاورة التى تتم بين القائد وأعوانه‪ ،‬والتى يتم فيها تمحيص الراء وبيان وجهات‬
‫النظر‪ ،‬ل التى تتم صورياً بين عدد محدد من الرجال‪ ،‬بين ضغط السمع والطاعة‪ ،‬والتهديد بالخراج من الجماعة للذين يتكرر‬
‫منهم العتراض!‬

‫وحين ل توجد هذه البصيرة‪ ،‬أو حين تكون ناقصة‪ ،‬يحدث كثير من التخبط الذى يحدث فى واقعنا المعاصر !‬

‫***‬

‫تلك بعض المواصفات الضرورية فى بناء القاعدة‪ ،‬فهل استكملناها حقاً ؟‬

‫إنه يجب أن يكون فى حسناً ابتداء أننا ل نهدف إلى مجرد إقامة جماعة تؤمن بال ورسوله واليوم الخر‪ ،‬وتؤدى الشعائر‬
‫التعبدية على صورة من الصور‪ ،‬ثم تقوم بالدعوة ‪ ..‬إن هذا يكون عملً مبروراً فى ذاته‪ ،‬مأجورًا إن شاء ال يوم القيامة‪،‬‬
‫ولكنه ليس هو الذى ينقذ المة السلمية مما هى فيه‪ ،‬ول هو الذى يعطى النموذج الذى يحول الجاهلية عما هى فيه!‬

‫والمطلوب الحقيقى من العمل السلمى هو هذا على وجه التحديد‪ :‬إنقاذ المة السلمية مما هى فيه‪ ،‬ومحاولة تحويل الجاهلية‬
‫عما هى فيه ‪.‬‬

‫‪57‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وهذا الهدف ل يتحقق إل بإنشاء جماعة على مستوى فائق‪ ،‬على النسق الذى قامت به الجماعة الولى على يد المربى العظم‬
‫عليه صلوات ال وسلمه‪ ،‬وإن لم تكن على ذات المستوى‪ ،‬الذى قد يتعذر الوصول إليه فى أى جيل من الجيال ‪0‬‬

‫وذلك يقتضى البدء بإنشاء القاعدة الصلبة وتربيتها على أعلى ما يتاح لنا من مستويات التربية‪ ،‬وتنقيتها من الشوائب بأقصى‬
‫ما يتاح لنا من وسائل التنقية‪ ،‬ثم من بعد ذلك دعوة الجماهير ‪0‬‬

‫ووسيلتنا فى التربية هى ذات الوسيلة التى استخدمها المربى العظم صلى ال عليه وسلم ‪ :‬تعميق اليمان بال واليوم الخر‪،‬‬
‫وعميق الصلة بال ‪ ،‬وتعويد النفوس على الحياة فى معية ال‪ ،‬والتدريب على ممارسة السلوك اليمان فى عالم الواقع ‪ ..‬ثم‬
‫تعميق الوعى‪ ،‬بالوسائل التى تؤدى إلى تعميقه‪ ،‬على أن نأخذ فى اعتبارنا أن القدوة هى الوسيلة الولى – والكبرى – فى‬
‫عملية التربية‪ ،‬ثم تأتى بعدها الموعظة والنصائح والدروس‪ ،‬مع الرعاية والمتابعة والدأب والصبر‪ ،‬حتى تستجيب النفوس ثم‬
‫تستقيم ‪0‬‬

‫جهد ضخم فى الحقيقة‪ ،‬وهو على ضخامته ل يؤتى ثماره فى يوم وليلة‪ ،‬ول يمكن استعجاله‪ ،‬ول يمكن تخطيه‪ ،‬إذا كنا جادين‬
‫فى القيام بعمل ينقذ المة مما هى فيه‪ ،‬ويسعى إلى تحويل الجاهلية عما هى فيه !‬

‫توسيع القاعدة‬

‫فى مرحلة من مراحل المسيرة يأتى دور توسيع القاعدة‪ ،‬عن طريق توجيه الدعوة للجماهير‪ ،‬وهذه المرحلة يمثلها فى حياة‬
‫الجماعة الولى‪ ،‬جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬دخول أهل المدينة ومن حولهم من العراب فى السلم‪ ،‬بعد ما كانت‬
‫القاعدة الصلبة قد تم بناؤها من المهاجرين والنصار رضوان ال عليهم‪ ،‬وهؤلء هم الذين قال ال عنهم ‪(( :‬ما كان لهل‬
‫المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة ‪.)120 :‬‬

‫وهؤلء جنود وأعوان‪ ،‬اجتذبتهم الدعوة فدخلوا فيها‪ ،‬وأخصلوا لها‪ ،‬وجندوا أنفسهم للدفاع عنها ضد أعدائها‪ ،‬وليسوا مجرد‬
‫جماهير منفلتة بل ضابط‪ ،‬كالذين تسميهم الجاهلية المعاصرة ((رجل الشارع))‪ ،‬وهى تسمية صادقة‪ ،‬ما أدرى إن كانت جاءت‬
‫عفواً أم جاءت عن قصد! رجل الشارع هو النسان الذى يست له سمات محددة ول موقف محدد‪ ،‬ول اتجاه فكرى ثابت! أو هو‬
‫المعة الذى وصفه رسول ال فى قوله ‪(( :‬ل تكونوا إمعة‪ ،‬تقولوا ‪ :‬إن أحسن الناس أحسنا‪ ،‬وإن أساءوا أسأنا! ولكن وطنوا‬
‫أنفسكم إن أحسن الناس أو أساءوا أل تظالموا))(‪ .. )1‬هو الرجل الذى تصنعه وسائل العلم‪ ،‬ثم تعود إليه‪ ،‬بعد أن تصنعه‬
‫بوسائلها(‪ ،)2‬فتسأله عن موقفه‪ ،‬فيكون موقفه بالضبط هو ما أرادته وسائل العلم!‬

‫ليس هؤلء الذين توسع بهم القاعدة فى المرحلة الولى من البناء‪ ،‬ول فى أى مرحلة من مراحلها! إنما توسع بجنود‬
‫مخلصين‪ ،‬يهبون أنفسهم للدعوة‪ ،‬ينافحون عنها بتوجه مخلص إلى ال ‪0‬‬

‫فإذا سأل سائل‪ :‬ما الفرق إذن بينهم وبين القاعدة الصلبة التى تحدثنا عنها من قبل؟ نقول فى إيجاز ‪ :‬عن القاعدة الصلبة هى‬
‫التى تعد لتكون الركائز والدعائم‪ ،‬هى القادة‪ ،‬هى الموجهون‪ ،‬هى المربون‪ ،‬أما هؤلء فهم المدعوون الذين استجابوا للدعوة‪،‬‬
‫والتزموا بها‪ ،‬وانضووا تحت لوائها‪ ،‬فصاروا منها‪ ،‬يتحركون معها ويتحركون بها‪ ،‬ول يقفون متفرجين‪ ،‬ينتظرون ليروا من‬
‫الغالب ليتبعوه!‬

‫وإذا سأل سائل مرة أخرى‪ :‬ما الفرق فى منهج التربية‪ ،‬وفى الرعاية والعناية بين إعداد القاعدة الصلبة وإعداد من توسع بهم‬
‫القاعدة فى تلك المرحلة‪ ،‬نقول بإيجاز‪ :‬إنه فرق فى الدرجة ل فى النوع‪ .‬فالمعلم يوجه تعليمه للدارسين جميعاً من حيث المبدأ ‪،‬‬
‫ولكنه يخص المتفوقين بعناية خاصة‪ ،‬لن استعدادهم أكبر‪ ،‬والمطلوب منهم أكثر‪ ،‬ول يقبل منهم ما يقبله من الدارس العادى‬
‫الذى يقف به استعداده عند مستوى معين‪ ،‬ول يكلفه فوق طاقته‪ ،‬وإن كان النجاح مطلوباً من الجميع‪ ،‬كل بحسب درجته ‪0‬‬

‫فإن قال قائل‪ :‬هل هناك حدود فاصلة تميز هؤلء عن هؤلء؟ أل يمكن أن يوجد فى القاعدة الموسعة من تؤهله طاقاته‬
‫واستعداداته أن يكون من القادة الموجهين‪ ،‬ويوجد فى القاعدة الصلبة من تقعد به طاقاته واستعداداته عن القيام بتكاليفها؟‬
‫نقول‪ :‬بلى! إن هذا يمكن أن يحدث‪ ،‬وعندئذ يرتفع – أو يجب أن يرتفع – صاحب المواهب إلى منزلة القادة الدعاة المربين‪،‬‬
‫ويتخلف من تقعد به إمكاناته فيصبح مجرد عضو عادى‪ ،‬وتلك مسألة يقدرها المسئولون عن العمل باجتهادهم‪ ،‬وقد يخطئ‬
‫الجتهاد وقد يصيب‪ ..‬إنما المهم من حيث المبدأ أن بناء القاعدة الصلبة يجب أن يوجه إليه أقصى الجهد‪ ،‬وأن يحظى بأكبر قدر‬
‫من الرعاية والهتمام‪ .‬فإقامة الدعائم الرئيسية يختلف ولشك عن إقامة اللبنات التى يتكون منها البناء‪ ،‬وإن كان هذا وذاك‬
‫مطلوبين لتشييد البناء‪ ،‬وتلك من بدائه العمل التى ل تحتاج إلى إيضاح ‪0‬‬

‫‪ 1‬رواه الترمذى ‪0‬‬


‫‪ 2‬من أشد الوسائل تأثيرا الصحافة والذاعة والتليفزيون‪ ،‬وكلها تستخدم فى صياغة عقلية ((رجل الشارع)) وتوجيه اهتماماته!‬

‫‪58‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫إنما نريد أن نركز هنا على أمر له أهميته‪ :‬أن توسعة القاعدة بالعوان المتزمين‪ ،‬الذين يعتبرون أنفسهم جنوداً للدعوة‪ ،‬يأتى‬
‫بعد تكوين القاعدة الصلبة‪ ،‬لن المتلقين بداهة يحتاجون إلى موجهين! فإذا دعوناهم وجاءوا‪ ،‬ونحن لم نعد الموجهين بعد‪ ،‬فمن‬
‫الذين يوجههم؟!‬

‫وأمر آخر نريد أن ننبه إليه ‪ :‬أن وسيلتنا البديهية إلى توسعة القاعدة – حين يأتى دورها – هو الدعوة العامة التى توجه لكل‬
‫الناس‪ ،‬الذين يسمون فى لغة العصر ((بالجماهير)) ‪ .‬ولكن الجماهير ليسوا على درجة واحدة من الستجابة للدعوة‪ ..‬فمنهم‬
‫فريق يمكن – حين تصله الدعوة واضحة صافية على حقيقتها – أن يؤمن بها إيماناً صادقاً‪ ،‬وبجند نفسه لها‪ ،‬متبغياً وجه ال‪،‬‬
‫عاملً على رضاه‪ ..‬ومنهم فريق يحسب حساب ((المصالح)) ‪ ،‬حساب الربح والخسارة‪ ..‬ما الذى يمكن أن يكسبه من النضمام‬
‫للدعوة‪ ،‬وما الذى يمكن أن يخسره من جرائها‪ ..‬ومنهم فريق ل يهمه إل اتباع الغالب حين تتقرر غلبته‪ ،‬فهو يقف بعيدًا عن‬
‫المعمعة‪ ،‬ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء‪ ،‬ينظر ويتفرج‪ ،‬وقد يتسلى بالفرجة وتتبع أخبار الصراع‪ ،‬حتى إذا تقررت الغلبة بوضوح‬
‫لحد الفريقين انحاز إليه‪ ،‬ل إيماناً بمبادئه‪ ،‬ول تحسماً حقيقياً لها‪ ،‬ولكن لثقل المر الواقع فى حسه‪ ،‬فهو بتركيبه النفسية‪،‬‬
‫مستعد أبداً للنقياد للمر الواقع‪ ،‬الذى يأخذ فى حسه مساحة أكبر من المر الذى لم يقع بعد‪ ،‬والذى يحتاج الواقع‪ ،‬الذى يأخذ‬
‫فى حسه مساحة أكبر من المر الذى لم يقع بعد‪ ،‬والذى يحتاج إلى جهد لكى يتحقق‪ ،‬بينما الواقع بالفعل ل يحتاج إلى جهد‬
‫لمسايرته‪ ،‬وهذا الفريق غير مستعد‪ ،‬بتركيبه النفسى‪ ،‬لبذل الجهد‪ ،‬وخاصة إذا كان المر يعرضه للخطار‪ ،‬لذلك ل يستجيب‬
‫للدعوة حتى تصبح غلبتها هى ((المر الواقع)) الذى ل تحتاج مسايرته إلى شىء من الجهد‪ ،‬ول التعرض للخطار ‪0‬‬

‫هذه الفئات بأنواعها الثلثة‪ ،‬توجد فى كل مجتمع‪ ،‬وقد كانت موجودة فى مجتمع الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫فالفئة الولى يمثلها مجتمع المدينة الذى آمن إيماناً صادقاً وجند نفسه للدعوة‪ ،‬مهتدياً ومقتدياً بالقاعدة الصلبة التى تأسست‬
‫من المهاجرين والنصار‪ .‬وهى الفئة التى أشارت إليها الية الكريمة ‪(( :‬والسابقون الولون من المهاجرين والنصار والذين‬
‫اتبعوهم بإحسان رضى ال عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها النهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم))(التوبة‬
‫‪.)..1 :‬‬

‫ويدخل فيهم العراب الذين آمنوا بصدق‪ ،‬والذين أشارت إليهم الية السابقة ‪(( :‬ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر‬
‫ويتخذ ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول أل إنها قربة لهم سيدخلهم ال فى رحمته إن ال غفور رحيم))(التوبة ‪.)99 :‬‬

‫والفئة الثانية هى التى تألفها رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعطايا وبالمنح‪ ،‬وبالتقريب منه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والتى‬
‫أشارت إليها الية الكريمة ‪ (( :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم))(التوبة ‪.)60 :‬‬

‫أما الفئة الثالثة فيمثلها مسلمة الفتح‪ ،‬الذين أسلموا لما تقررت غلبة السلم فى فتح مكة‪ ،‬مع أنهم كانوا يعرفون أن الحق مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولكنهم يقولون‪ ،‬كما حكى عنهم القرآن الكريم ‪(( :‬وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من‬
‫أرضنا))(القصص ‪ .. )57 :‬فلما صار الهدى هو الممكن فى الرض اتبعوه‪ ،‬ودخلوا فى دين ال أفواج ًا كما جاء فى سورة‬
‫النصر‪(( :‬إذا جاء نصر ال والفتح(‪ )1‬ورأيت الناس يدخلون فى دين ال أفواجاً(‪ )2‬فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان‬
‫تواباً))(سورة النصر)‪.‬‬

‫وذلك بخلف المنافقين الذين يظهرون بعد استتباب السلطان‪ ،‬والذين يكونون قبل ذلك بين المتفرجين المنتظرين‪ ،‬ولكن على‬
‫كره للمر‪ ،‬وعدم رغبة فى الدخول فيه‪ ،‬أو من المعارضين الذين يجبنون عن المواجهة الصريحة‪ ،‬فينافقون خوف ًا وجبناً ‪.‬‬

‫إذا كانت هذه فئات المجتمع – كل المجتمع – فلى هذه الفئات نوجه الدعوة فى المرحلة الولى من توسيع القاعدة؟ إننا نظرياً‬
‫نوجه الدعوة لكل الناس‪ ،‬ولكننا فى حقيقة المر نتوقع الستجابة من فريق معين من الناس‪ ،‬فنركز عليه الدعوة‪ ،‬أو نعتقد أن‬
‫اعتزاز الدعوة وتمكنها سيكون على يد فريق معين من الناس‪ ،‬فنركز الدعوة عليه ‪0‬‬

‫فإذا تتبعنا مسيرة الجماعة الولى – جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ -‬نجد أن الدعوة منذ أمر الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم بالجهر بها(‪ ،)1‬قد وجهت لكل الناس‪ ،‬ولكن التركيز – بعد الهجرة – كان واقعاً على أهل المدينة‪ ،‬الذين سارعوا إلى‬
‫الستجابة‪ ،‬والذين قام عليه الصلة والسلم بتربيتهم بمعاونة القاعدة الصلبة من المهاجرين والنصار‪ ،‬الذين صاروا الن هم‬
‫الدعاة وهم الموجهين‪ ،‬وهم المربين‪ ،‬تحت إشراف المربى العظم صلى ال عليه وسلم‪ .‬وأهل المدينة هؤلء هم الذين جاهدوا‬
‫وثبتوا وصبروا على تكاليف الجهاد‪ ،‬وكانوا – مع المهاجرين والنصار – هم الركيزة الحقيقية للدعوة فى كل أطوارها المقبلة‪،‬‬
‫بينما تأخر التوجه إلى الفئتين الخريين إلى مرحلة تالية ‪ ..‬وهذا هو المر المنطقى مع سير الدعوة‪ ،‬ومع حقيقة المعركة‪،‬‬
‫وطبيعة الصراع ‪0‬‬

‫إن الصراع بين الحق والباطل لبد أن يقع ‪ -‬سنة من سنن ال – منذ اللحظة التى يوجد فيها للحق رجال يؤمنون به ويعملون‬
‫على نشره وتمكينه فى الرض‪ .‬فالجاهلية ل يمكن – بحال من الحوال – أن تصير على دعوة الحق‪ ،‬ول أن تهادنها‪ ،‬ولو لم‬

‫‪(( :‬فاصدع بما تؤمر‪ ،‬وأعرض عن المشركين)) (سورة الحجر ‪)94 :‬‬ ‫‪ 1‬قال تعالى مخاطباً رسوله‬

‫‪59‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫تتعرض لها الدعوة على الطلق ‪(( :‬وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم ال‬
‫بيننا وهو خير الحاكمين (‪ )87‬قال المل الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن‬
‫فى ملتنا))(العراف ‪.)88-87 :‬‬

‫هكذا! ل مهادنة‪ ،‬ول صبر حتى يحكم ال بما يشاء! وإنما عدوان وإخراج‪ ،‬ومطاردة وإيذاء! فمن الذى يستجيب للدعوة فى‬
‫المراحل الولى من ذلك الصراع الذى يدور بين الحق والباطل؟ أيستجيب الذين يبحثون عن المصالح الدنيوية‪ ،‬ويحسبون‬
‫حساب الرباح والخسائر بمقياس تلك المصالح؟ أيستجيب الذين يناقدون بطبيعة تركيبهم النفسى للمر الواقع‪ ،‬ولو عرفوا ما‬
‫فيه من السوء‪ ،‬ول يتجهون إلى المر الذى يجب أن يقع‪ ،‬ولو عرفوا أنه خير من واقعهم الذى يعيشون فيه‪ ،‬لنه يحتاج فى‬
‫تحقيقه إلى جهد‪ ،‬وهم ل يحبون بذل الجهد ‪ ..‬ويعرضهم للخطار‪ ،‬وهم ل يحبون أن يتعرضوا للخطار؟!‬

‫إنما يستجيب فى المراحل الولى من الصراع‪ ،‬الذين يؤمنون بال واليوم الخر ‪ ..‬الذين يحسبون الكسب والخسارة بالميزان‬
‫الربانى‪ ،‬ل بالميزان الرضى الذى تزن به الجاهلية‪ ،‬ول تعرف ميزاناً سواه ‪:‬‬

‫((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنلزنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط))(الحديد ‪.))25 :‬‬

‫الميزان الذى يقول‪ :‬متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى‪(( :‬قل متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون‬
‫فتيلً))(النساء ‪.)77 :‬‬

‫الميزان الذى يقول ‪ :‬إن كل ما فى الرض من متاع ومصالح وروابط ل يعدل حب ال ورسوله والجهاد فى سبيله ‪(( :‬قل إن‬
‫كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم‬
‫من ال ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى ال بأمره وال ل يهدى القوم الفاسقين))(التوبة ‪.)24 :‬‬

‫الميزان الذى يقول ‪ :‬إن الباقيات الصالحات خير من كل زينة الحياة الدنيا ‪(( :‬المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات‬
‫الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملً))(الكهف‪.)46 :‬‬

‫والذى يقول‪ :‬إن التجارة الرابحة – التى تنجى من عذاب ال – هى اليمان بال ورسوله والجهاد فى سبيل ال ‪(( :‬يأيها الذين‬
‫آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(‪ )10‬تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون فى سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم‬
‫خير لكم إن كنتم تعلمون(‪ )11‬يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها النهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز‬
‫العظيم(‪ )12‬وأخرى تحبونها نصر من ال وفتح قريب وبشر المؤمنين))(الصف ‪)13-10 :‬‬

‫والمراحل الولى من الدعوة هى مراحل البذل والفداء‪ ،‬ولذلك ل يصلح لها الذين يبحثون عن مكاسب الرض‪ ،‬سواء المال‬
‫والثروة والمتاع الحسى‪ ،‬أو الوجاهة والبروز والتباع والنصار‪ ..‬هؤلء ل يصلحون مؤسسين فى القاعدة الصلبة‪ ،‬ول تتسع‬
‫بهم القاعدة حين يأتى أوان التوسيع!‬

‫***‬

‫إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فينبغى أن نجعل فى بالنا عدة أمور‪ ،‬سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة‪ ،‬أو القاعدة الموسعة‪ ،‬بل حتى‬
‫بالنسبة للجماهير العريضة التى تدخل أفواج ًا فى النهاية‪ ،‬فهؤلء أيضًا لبد أن يصحح لهم إسلمهم‪ ،‬ول يتركون بل ضابط كما‬
‫تفعل الجاهلية المعاصرة ((برجل الشارع))‪ ،‬تسلبه كيانه الدمى‪ ،‬وتوهمه فى الوقت ذاته أنه أحد العمد التى يقوم عليها النظام!‬

‫ليس فى السلم ((رجل الشارع)) ‪ ،‬ول ((امرأة شارع))‪ ،‬إنما هناك مسلمون ومسلمات ملتزمون كلهم – أو يجب أن يكونوا‬
‫ملتزمين – بالحد الدنى على القل‪ ،‬الذى يجعلهم فى ميزان ال مسلمين‪ ،‬وتلك فى الدولة السلمية مهمة ولى المر‪ ،‬فمن‬
‫التزم من تلقاء نفسه فقد وفى بما يجب عليه تجاه ربه‪ ،‬ومن لم يلتزم السلطان كما قال عثمان رضى ال عنه‪(( :‬يزع ال‬
‫بالسلطان ما ل يزغ بالقرآن))‪.‬‬

‫ومن ثم فكل الناس داخل فى مجال الدعوة‪ ،‬ولكن خطوة بعد خطوة‪ ،‬كما كان الشأن مع الجماعة الولى‪ ،‬حسب السنن الربانية‬
‫التى تتكرر كلما تكررت ظروفها ومقتضياتها ‪0‬‬

‫***‬

‫إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فسنجد المة – إل ما رحم ربك – فى حالة (الغثاء) التى وصفها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قبل أربعة عشر قرناً‪ ،‬حين قال ‪(( :‬يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها))‪ ،‬قالوا ‪ :‬أمن قلة نحن‬

‫‪60‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫يومئذ يا رسول ال؟ قال ‪ :‬بل أنتم كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪ ،‬ولينزعن ال المهابة من صدور أعدائكم‪ ،‬وليقذفن فى‬
‫قلوبكم الوهن))‪ .‬قالوا ‪ :‬وما الوهن يا رسول ال؟ قال‪(( :‬حب الدنيا وكراهية الموت))(‪.)1‬‬

‫فإذا كان هذا حال المة التى توجه إليها الدعوة‪ ،‬سواء لقامة القاعدة الصلبة‪ ،‬أو القاعدة الموسعة‪ ،‬أو لعامة الناس‪ ،‬فيجب أن‬
‫نتعرف على السباب التى أدت بالمة إلى هذا الوضع‪ ،‬لكى نصف العلج الناجع‪ ،‬كما يفعل الطبيب حين يستدعى لعلج‬
‫المريض‪ ،‬يفحصه أولً ليعرف حقيقة مرضه‪ ،‬ثم يصف الدواء ‪0‬‬

‫ول يحسبن أحد – بادئ ذى بدء – أن القاعدة الصلبة التى تقع عليها مهام الدعوة قد أنزلت من السماء‪ ،‬مبرأة من العيوب! كل‬
‫إنها جزء من هذه المة تعيش نفس ظروفها‪ ،‬وتتعرض لذات أمراضها‪ .‬ولكن إذا كان الرسول صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫((خياركم فى الجاهلية خياركم فى السلم إذا فقهوا))(‪ ..)2‬فلنقل‪ :‬إنه فى الجاهلية الجزئية التى قال ابن تيمية رحمه ال إنها‬
‫توجد فى كثير من أقطار السلم‪ ،‬يوجد ((خيار)) يمكن بالجهد اللزم الذى يبذلونه فى ذوات أنفسهم أن يشكلوا نواة للحركة‪ ،‬ثم‬
‫((خيار)) آخرون يمكن بالجهد اللزم كذلك أن يشكلوا القاعدة الموسعة التى تتكون حول النواة وتقتدى بها‪ ،‬ثم يأتى بعد ذلك‬
‫دور عامة الناس‪ ،‬فيكون منهم خيار بقدر من ال يستجيبون ويلتزمون‪ ،‬وآخرون يزعهم السلطان إذا لم يزعهم القرآن ‪0‬‬

‫والن فلننظر فى أحوال هذا الجيل الذى توجه إليه الدعوة‪ ..‬ما الذى أوصله إلى حالة الغثاء التى يعيش فيها‪ ،‬ليتبين لنا من أين‬
‫نبدأ علجه‪ ،‬وليتبين لنا كذلك الخطوات اللزمة للعلج ‪0‬‬

‫هناك أمراض كثيرة فى الحقيقة أصابت المة فى مسيرتها التاريخية‪ ،‬بعضها جاء من داخلها‪ ،‬وبعضها جاء من قبل أعدائها‪.‬‬
‫وقد يكون من الصعب إحصاؤها تفصيلً‪ ،‬ولكنا نزعم أن هناك أمراضاً بارزة ل تخطئها عين الفاحص ‪0‬‬

‫من أبرز هذه المراض الفكر الرجائى‪ ،‬الذى يقول إن اليمان هو التصديق القلبى والقرار باللسان‪ ،‬وإن العمل ليس داخل فى‬
‫مسمى اليمان!‬

‫فأما أن التصديق القلبى والقرار باللسان لزمان لثبات اليمان فأمر ل خلف عليه‪ ،‬وأما أن العمل ل يدخل فى مسمى اليمان‬
‫فبدعة خطيرة‪ ،‬وانحراف شديد عن حقيقة هذا الدين‪ ،‬الذى قام – وما يمكن أن يقوم – بغير عمل وجهد ضخم‪ ،‬يبذل فى واقع‬
‫الرض‪ ،‬وما كان يمكن أن تزول غربة السلم التى كان فيها أول مرة(‪ )3‬بمجرد التصديق والقرار‪ ،‬بل ل يمكن أن يقوم أى‬
‫ل عن أفضل النظم كافة‪ ،‬بمجرد التصديق والقرار‪ ،‬بل ل يمكن أن يقوم أى نظام فى الرض فضلً عن‬ ‫نظام فى الرض فض ً‬
‫أفضل النظم كافة‪ ،‬بمجرد التصديق والقرار‪ ،‬إن لم يبذل عمل معين لتحويل هذا التصديق القلبى والقرار اللسانى إلى واقع‬
‫مشهود!‬

‫وأيا كانت السباب التاريخية التى أدت إلى تفشى الفكر الرجائى‪ ،‬فقد أحدث مفاسد عظيمة فى بنية المة منذ أخذت تتفلت من‬
‫التكاليف‪ ،‬ثم يوهمها الفكر الرجائى أنه ل بأس عليها من هذا التفلت‪ ،‬ما دام قلبها عامراً باليمان! وتندرج المة فى التفلت‬
‫حتى تقع فى الشرك الواضح الصريح‪ ،‬سواء شرك العتقاد أو شرك العبادة أو شرك الحاكمية‪ ،‬ثم يظل الفكر الرجائى يوهم‬
‫الناس أنهم ما زالوا بخير‪ ،‬وما زالوا مؤمنين!‬

‫ولنتخيل مدرسة يحضر إليها الطلب للدراسة‪ ،‬ثم بعد حين يتفلتون من استذكار دروسهم‪ ،‬ثم يتفلتون حتى من حضور الدروس‪،‬‬
‫ويقال لهم مع ذلك‪ :‬ل بأس عليكم ما دام كان فى نيتكم أن تحضروا‪ ،‬وإنما تقاعستم عن الحضور كسل ل جحوداً! وما دامت‬
‫أسماؤكم ما زالت موجودة فى سجلت المدرسة ولم تطلبوا سحبها من السجلت!‬

‫هل يمكن إنجاز شىء فى واقع الرض بهذه الروح المتقاعسة المتواكلة التى تعيش فى خدر الوهم وتحسب أنها على شىء‬
‫حقيقى؟‬

‫فإن لم يكن يمكن أن يتم شىء على الطلق بهذه الروح‪ ،‬فهل يمكن أن يقوم السلم بالذات بمثل هذه الروح‪ ،‬وهو الذى نزل‬
‫ليكون حركة شاملة تشمل الحياة كلها بجميع جوانبها وجميع مجالتها‪ ،‬وتشمل الرض كلها‪ ،‬والبشرية كلها‪ ،‬بقدر ما يصل‬
‫الجهد‪ ،‬وبقدر ما قدر ال فى سابق علمه؟‬

‫هل يمكن إزالة الفتنة التى هى عقائد فاسدة ونظم فاسدة وجيوش تحمى العقائد والنظم الفاسدة‪ ،‬بمجرد التصديق والقرار؟ هل‬
‫يمكن إزالة الفتنة التى تقع على البشر فى الجاهلية‪ ،‬بسبب الجاهلية ذاتها‪ ،‬بغير جهاد فى واقع الرض ‪(( :‬وقاتلوهم حتى ل‬
‫تكون فتنة ويكون الدين كله ل))(النفال ‪.)39 :‬‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد وأبو داود ‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخارى ‪.‬‬
‫‪ 3‬قال عليه الصلة والسلم ‪(( :‬بدأ السلم غريبا وسيعود غريباً كما بدأ ))‬

‫‪61‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫إن هذا المرض بالذات – مرض الرجاء – إن أصاب أية أمة من أمم الرض‪ ،‬فما كان ينبغى أن يصيب أمة السلم‪ ،‬التى‬
‫أخرجت للريادة‪ ،‬والشهادة على كل البشرية ‪(( :‬وجاهدوا فى ال حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة‬
‫أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا الكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس))(الحج ‪.)78 :‬‬

‫***‬

‫ثم جاء الفكر الصوفى على خط مواز للفكر الرجائى‪ ،‬وإن كان على نحو آخر ‪..‬‬

‫الفكر الرجائى أخرج العمل كله من مسمى اليمان‪ ،‬أما الفكر الصوفى فقد ركز على نوع واحد من العمل‪ ،‬وأخرج سائر أنواعه‬
‫من مستلزمات اليمان‪ .‬ركز على العبادة بمعناها الضيق المحصور فى الشعائر التعبدية والذكر‪ ،‬وأهمل من أنواع العبادة عمارة‬
‫الرض بمقتضى المنهج الربانى‪ ،‬والمر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬والجهاد فى سبيل ال‪ ،‬وكلها منصوص عليه نصاً‬
‫واضحاً فى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬الذين إن مكناهم فى الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا‬
‫بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور))(الحج ‪(( . )41 :‬فليقاتل فى سبيل ال الذين يشرون الحياة الدنيا‬
‫بالخرة))(النساء ‪(( .)74 :‬وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين(‪ )141‬أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم ال الذين‬
‫جاهدوا منكم ويعلم الصابرين))(آل عمران ‪(( .)142 – 141 :‬هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من‬
‫رزقه وإليه النشور))(الملك‪(( . )15:‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها))(هود ‪.)61 :‬‬

‫إن الذكر مطلوب‪ ،‬ول عبادة بغير ذكر‪ ،‬ولكن الذكر الذى وصفه ال فى كتابه‪ ،‬ووصف به الصحابة رضوان ال عليهم فى قوله‬
‫تعالى‪(( :‬الذين يذكرون ال قيام ًا وقعوداً وعلى جنوبهم))(آل عمران ‪ . )191 :‬شىء آخر مختلف عن هذا الذكر الذى ابتدعته‬
‫الصوفية‪ ،‬وحصرت العبادة فيه‪ ،‬وزعمت أنه هو الذى يوصل إلى رضوان ال‪ ،‬فضلً عما وقع فى عقيدة التحاد والحلول‬
‫ووحدة الوجود من شرك صريح ‪0‬‬

‫وأيا كانت السباب التى أدت إلى تفشى الفكر الصوفى‪ ،‬وجعلته فى وقت من الوقات هو مدخل العامة الوحيد إلى الدين أو‬
‫مدخلهم الرئيسى إليه‪ ،‬فقد أحدث هذا الفكر مفاسد كثيرة فى بنية المة‪ ،‬ليس أقلها التواكل‪ ،‬وترك الخذ بالسباب‪ ،‬وإهمال‬
‫عمارة الرض‪ ،‬والنحراف فى عقيدة القضاء والقدر‪ ،‬وعدم إحساس النسان بمسئوليته عن خطئه حين يخطئ‪ ،‬والنصراف‬
‫عن الجهاد والمر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬والفصل بين الدنيا والخرة‪ ،‬وبين العمل للدنيا والعمل للخرة فى حس‬
‫المسلم‪ ،‬وإفساد التوازن الدقيق الجميل الذى يحدثه السلم الصحيح فى النفس‪ ،‬فيجعل النسان يعمل بجهده كله فى واقع‬
‫الرض‪ ،‬وقلبه معلق بال واليوم الخر‪ ،‬أو بعبارة أخرى التوازن الدقيق بين عالم الغيب وعالم الشهادة ‪0‬‬

‫***‬

‫ثم كان انحصار السلم فى عالم الفرد بمفرده وترك ((المور العامة)) التى كلف ال بها الجماعة المسلمة من المراض التى‬
‫أصابت المة فى مسيرتها التاريخية الطويلة‪..‬‬

‫إن هذا الدين لم ينزل فقط لصلح الفراد‪ ،‬كل فرد بمفرده‪ ،‬وإن كان هذا هو الساس الذى ل يقوم بدونه بنيان‪ ،‬ولكن إصلح‬
‫كل فرد بمفرده ل ينشئ بذاته مجتمعاً صالحاً كما قد يخيل للنسان لول وهلة‪ ،‬فلو تخيلت بناءً كل لبنة فيه سليمة بذاتها‪ ،‬ولكن‬
‫ليس فيه الملط الذى يربط اللبنات بعضها ببعض‪ ،‬فلن يكون بناء حقيقياً يصمد للهزات وما أكثرها فى حياة المم بل الفراد‪ ،‬بل‬
‫ل يصمد للريح‪ ،‬وما أكثر الرياح العواتى!‬

‫ولقد ركز هذا الدين تركيزاً واضحاً على الجماعة المسلمة بل على المة المسلمة المترابطة المتماسكة المتراصة‪ ،‬ل فى‬
‫العواطف الوجدانية فحسب‪ ،‬بل فى العمل والتكاليف كذلك ‪،‬وكثير من الخطاب الموجه للمؤمنين‪ ،‬الذى يبدأ بقوله تعالى ((يأيها‬
‫الذين آمنوا ‪ ))..‬ل يقصد به الفراد فحسب‪ ،‬كل فرد بمفرده‪ ،‬ولكن يقصد به الجماعة مجتمعة ومشتركة فى المسئولية‪":‬‬
‫((يأيها الذين آمنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء))(المائدة ‪( .)51 :‬يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى‬
‫اللهب بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك فضل ال‬
‫يؤتيه من يشاء وال واسع عليم(‪ )54‬إنما وليكم ال ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلة ويؤتون الزكاة وهم‬
‫راكعون))(المائدة ‪(( .)56-54 :‬يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين إن‬
‫يكن غنيا أو فقيراً فال أولى بهما فل تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أن تعرضوا فإن ال كان بما تعملون خبيرا))(النساء ‪:‬‬
‫‪(( . )135‬ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران‪( .)28:‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‬
‫ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران ‪(( .)104 :‬وأمرهم شورى بينهم (الشورى‪. )38 :‬‬
‫((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون‬
‫ال ورسوله))(التوبة ‪(( . )71 :‬إن ال يحب الذين يقاتلون فى سبيله صف ًا كأنهم بنيان مرصوص))(الصف‪.)4:‬‬

‫‪62‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫((مثل القائم فى حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪ ،‬فكان الذين فى‬
‫أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا فى مكاننا خرقا ولم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا‬
‫جميعاً‪ ،‬وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً))(‪.)1‬‬

‫((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته))(‪.)2‬‬

‫هذه وغيرها من أمثالها كثير تؤكد المسئولية الجماعية للمة‪ ،‬التى ل يغنى فيها أن يكون كل فرد قد قام بواجبه الفردى تجاه‬
‫ال سبحانه وتعالى من ذكر وتقوى وخشوع وأداء للفرائض من صلة وزكاة وصيام وحج‪ ،‬وإن كان هذا كله لزمًا ول غنى‬
‫عنه‪ ،‬ولكنه – كما قلنا‪ -‬ل يقيم بذاته أمة متماسكة عاملة بهذا الدين‪ ،‬فهذا الدين على صورته التى أنزلها ال‪ ،‬وللهداف التى‬
‫أرادها ال منه‪ ،‬ل يقوم به أفراد متفرقون ولو كان كل واحد منهم على طهارة القديسيين فى خاصة نفسه‪ ،‬وهو فرض ل يتحقق‬
‫فى واقع الرض ما دام البشر بشراً‪ ،‬تدفعهم دوافع شتى‪ ،‬وتضطرب فى نفوسهم شتى النفعالت والرغبات والشهوات‪ ،‬وما دام‬
‫ال قد جعل فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها‪ ،‬ما لم يردعهم رادع‪(( :‬وكذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا‬
‫فيها وما يمكرون إل بأنفسهم وما يشعرون))(النعام ‪.)123 :‬‬

‫وحتى لو كان وجود أكابر المجرمين خاصاً بالجاهلية ول يقع فى السلم‪ ،‬فإن ((القرية العالمية)) التى يزعم الزاعمون أن‬
‫العالم قد صار إليها بفعل وسائل التصال مملوءة بأكابر المجرمين الذين يكيدون للسلم ويتربصون بأهله‪ ،‬فهل قيام الفراد –‬
‫حتى لو قاموا كلهم – بالصلة والزكاة والصوم والحج‪ ،‬والخشوع والتقوى فى ذوات أنفسهم‪ ،‬يمكن أن يرد كيد أكابر‬
‫المجرمين‪ ،‬ويرد الفتنة الوافدة على المسلمين من الجاهلية؟ أم يحتاج هذا إلى أمة متماسكة مترابطة قائمة بمسئوليتها‬
‫الجماعية‪ ،‬عاملة بمقتضى تلك المسئولية‪ ،‬التى يحمل فيها كل فرد نصيبه‪ ،‬والتى ل تتماسك مترابطة قائمة بمسئوليتها‬
‫الجماعية‪ ،‬عاملة بمقتضى تلك المسئولية‪ ،‬التى يحمل فيها كل فرد نصيبه‪ ،‬والتى ل تتماسك حق ًا إذا قال كل فرد فيها‪ :‬نفسى‬
‫نفسى‪ ،‬ونكل عن مسئوليته تجاه المجموع ‪0‬‬

‫وهل كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يربى أصحابه فرداً فرداً ثم يقيمهم كل فى عالمه الخاص‪ ،‬ويقول له ‪ :‬كن فى نفسك‬
‫ول شأن لك بغيرك؟ أم كان يربى كل فرد منهم ليكون لبنة متماسكة مترابطة مع غيرها من اللبنات فى كيان متحد‪ ،‬فيضع فى‬
‫كل لبنة ذلك الملط الذى يجعلها تلتصق بغيرها‪ ،‬وتكون على استعداد أن يلتصق غيرها بها ‪ ..‬ملط المشاعر المترابطة‪،‬‬
‫والمسئولية المشتركة‪ ،‬وهما صنوان ل يغنى أحدهما عن الخر ‪.‬‬

‫التكافل مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه‪ ،‬ولكن عائده ينصب إيجاباً وسلبا على مجموع المة‪ ،‬فتكون أمة مترابطة‬
‫متحابة إن قامت به‪ ،‬أو طوائف يحقد بعضها على بعض إن نكلت عنه ‪ ..‬والجهاد مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه‬
‫ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع المة‪ ،‬فتبقى وتتمكن أو يأكلها أعداؤها‪ .‬والمر بالمعروف والنهى عن المنكر‬
‫مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه‪ ،‬ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع المة‪ ،‬فتكون أمة خيرة أو أمة ملعونة‪:‬‬
‫خيرة إن أمرت بالمعروف‪ ،‬ونهت عن المنكر‪ ،‬وملعونة إن نكلت عن واجبها‪(( :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف‬
‫وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال))(آل عمران‪(( )110 :‬لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم‬
‫ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون(‪ )78‬كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون))(المائدة ‪.)79-78 :‬‬

‫وأياً كانت السباب التى أدت إلى تفشى هذه الروح الفردية الناكلة عن التكاليف الجماعية‪ ،‬وعن الشعور بالمسئولية تجاه‬
‫المجموع‪ ،‬فقد احدثت هذه الروح مفاسد عظيمة فى كيان المة‪ ،‬ليس أقلها التخلى عن واجب النصح للحكام‪ ،‬وهو واجب جعله‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم جزءاً من الدين‪ ،‬بل قال عليه الصلة والسلم على سبيل التأكيد‪(( :‬الدين النصيحة)) قيل‪ :‬لمن‬
‫يا رسول ال؟ قال‪(( :‬ل ورسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم))(‪ .)3‬وترك الشتغال بالسياسة‪ ،‬وترك شأن الحكم‬
‫للحاكم‪ ،‬إن كان عادلً فهو الخير من عند ال والبركة‪ ،‬وإن كان مستبداً فل ناصح له من المة يرده عن استبداده وظلمه‪ ،‬وإنما‬
‫يتحلق حوله المنافقون يزينون له كل عمل بعمله‪ ،‬ول تصل إلى أذنيه صيحة حق‪ ،‬وإن وصلت قام المنافقون حوله بإيغار صدره‬
‫عليها وعلى قائلها! وليس أقلها فشل كل مشروع يحتاج إلى تعاون جماعى يقوم كل فرد فيه بنصيبه مع الخرين‪ ،‬وليس أقلها‬
‫روح التخريب فى الممتلكات العامة والمرافق العامة والمال العام ‪0‬‬

‫***‬

‫ومن المراض التى أصابت المة كذلك ‪ :‬الفوضى والرتجال والنفس القصير ‪ ..‬وكلها – فيما أزعم – من أمراض البيئة التى‬
‫جاء السلم فقومها وسددها‪ ،‬بتعويد الناس على النظام‪ ،‬والتفكر والتدبر قبل العمل‪ ،‬وفى أثناء العمل‪ ،‬والنفس الطويل الذى ل‬
‫يفتر بعد الخطوات الولى المتحمسة ‪0‬‬

‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه الشيخان ‪.‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه ‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫لقد كان صلى ال عليه وسلم حريص ًا أشد الحرص على هذه المور‪ ،‬ولم يكن يعتبرها أموراً ثانوية أو هامشية تجئ أو ل تجئ‪.‬‬
‫فقد كان يعلم‪ ،‬وهو النبى الملهم‪ ،‬أنه ل يقوم بناء حقيقى‪ ،‬ول يستمر راسخ ًا إذا كانت هذه الفات تعتوره ‪0‬‬

‫جاء على لسان الصحابة رضوان ال عليهم‪(( :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصفنا للصلة كما يصفنا للتقال))‪ ..‬وذلك‬
‫إلى جانب المر بالخشوع والسكينة‪ .‬والخشوع فى الصلة هو عنصرها الروحى الذى يوثق الصلة بين العبد وربه‪ ،‬والدعوة‬
‫إليه أمر بدهى‪ ،‬ولكن النبى الملهم صلى ال عليه وسلم كان يعلم أنه ل بد نمن عنصر آخر فى بناء المة‪ ،‬إلى جانب الصلة‬
‫الوثيقة بال‪ ،‬وهو النظام‪ ،‬والنظام عادة نفسية على المصلين يسوى الصف بيده‪ ،‬ول يبدأ الصلة حتى يستقيم الصف تماماً‪،‬‬
‫إشعاراً منه صلى ال عليه وسلم بأهمية النظام ‪0‬‬

‫ومن الواضح أن النظام جزء ل يتجزأ من هذا الدين‪ ،‬فالصلة نظام وانضباط‪ ،‬سواء فى تحديد الوقت أو انتظام الصف‪ ،‬أو فى‬
‫متابعة المصلين للمام فى الركوع والسجود والقيام‪ ،‬والصيام له نظام ومواقيت‪ ،‬والزكاة لها نظام ومواقيت‪ ،‬والحج له نظام‬
‫ومواقيت فضلً عن انتظام الصفوف فى القتال ‪0‬‬

‫وأما العفوية والرتجال فقد تكون من آفات البيئة‪ ،‬ولكن السلم قاومها وقومها‪ ،‬بلفت النظر إلى السنن الربانية التى ل تتبدل‬
‫ول تتحول‪ ،‬وبالدعوة إلى التدبر والتفكر والتثبت فى المور كلها‪ ،‬ولفت النظر إلى مآلت العمال‪ ،‬وعدم الكتفاء بالنظر فى‬
‫كون العمل مباحاً فى ذاته أو غير مباح‪ ،‬فقد يكون المر من المباح بل من المستحب‪ ،‬ولكنه يمنع لما يترتب عليه من نتائج‪،‬‬
‫كما أمر تعالى بعدم سب الصنام حين ترتب عليه تجرؤ المشركين على سب ال سبحانه وتعالى ‪(( :‬ول تسبوا الذين يدعون من‬
‫دون ال فيسبوا ال عدوا بغير علم))(النعام‪.)108 :‬‬

‫وكما امتنع الرسول صلى ال عليه وسلم عن قتل عبد ال بن أبى‪ ،‬المنافق البين النفاق‪ ،‬لكى ل يتحدث الناس بأن محمداً‬
‫صلى ال عليه وسلم يقتل أصحابه‪ ،‬وهم يومئذ إما قد دخلوا السلم ولم يرسخ إيمانهم بعد‪ ،‬وإما واقفون يترقبون ولما‬
‫يسلموا‪ ،‬وانتشار هذه المقالة بينهم يومئذ يعطل الدعوة ويثبط المترددين!‬

‫وأما النفس القصير‪ ،‬وفتور الهمة بعد الحماس المشتعل‪ ،‬فقد يكون كذلك من آفات البيئة‪ ،‬ولكن السلم عالجه علجاً رائعاً من‬
‫كل أطرافه‪ ،‬فمن جهة وجه أنظارهم وأفئدتهم إلى هدف يتجاوز الحياة الدنيا كلها‪ ،‬والرض كلها‪ ،‬والزمن كله‪ ،‬ويصل إلى بعد ل‬
‫يدانيه بعد‪ ،‬وهو اليوم الخر‪ ،‬وما فيه من بعث ونشور‪ ،‬وحساب وجزاء‪ ،‬وجنة ونار ‪ ..‬فوصل العاجلة بالجلة‪ ،‬وجعل العمل فى‬
‫العاجلة هو وسيلة الوصول المن إلى الجلة‪ ،‬وليس وراء ذلك بعد تعمل من أجله النفوس ‪ ،‬ول مدى تتطلع إليه‪ ،‬وتثابر على‬
‫القيام بمتطلباته‪ ،‬لن أى فتور فى الطريق قد يقطع الطريق!‬

‫ومن جهة أخرى أعطى الرسول صلى ال عليه وسلم القدوة والمثل فى المثابرة والدأب ومواصلة العمل بجهاده الذى ل يفتر‪،‬‬
‫واستمراره فى الدعوة فى أحلك الظروف وأصعبها‪ ،‬وعدم الركون إلى اليأس أو التقاعس أو الهمود‪ ،‬فى الوقت الذى كانت‬
‫الظروف كلها تدعو إلى اليأس والتقاعس والهمود ‪0‬‬

‫ومن جهة ثالثة وجه الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬والمة من ورائهم‪ ،‬إلى الدأب والمثابرة‪ ،‬ولو بدت الثمرة بعيدة المنال‪ ،‬فقال‬
‫لهم صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فلغرسها))(‪ .)1‬وحثهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون‬
‫انقطاع‪ ،‬وكان دائم الستعاذة من العجز والكسل ‪0‬‬

‫وكان من نتائج هذه التوجيهات كلها فى الكتاب والسنة فى حياة المة المسلمة استمرار الدعوة إلى ال قروناً بعد قرون‪،‬‬
‫واستمرار الجهاد فى سبيل ال قروناً بعد قرون‪ ،‬وحضارة شامخة وحركة علمية ضخمة استمرت فى واقع الرض عدة قرون ‪0‬‬

‫وأياً كانهت السهباب التهى أدت إلى انحسهار الروح الدافعهة فهى حياة المسهلمين‪ ،‬وعودتههم إلى طبيعهة الفوضهى التهى تكره النظام‪،‬‬
‫والعفوية التى تكره التخطيط‪ ،‬وقصر النفس الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة‪ ،‬فقد أدت هذه المراض إلى مفاسد عظيمة فى‬
‫كيان المهة‪ ،‬ليهس أقلهها مهن يطلق عليهه فهى لغهة العصهر ((التخلف الحضارى))‪ ،‬وليهس أقلهها موت كثيهر مهن المشروعات النافعهة‬
‫قبهل أن تؤتهى ثمارهها‪ ،‬وليهس أقلهها تبلد الحهس على كثيهر مهن المراض العقديهة والفكريهة والسهياسية والجتماعيهة والخلقيهة‪،‬‬
‫وعدم التحرك الجاد لتغييرهها‪ ،‬وكلهها مهن المنكهر الذى أمهر ال ورسهوله بتغييره‪ ،‬وأنذر المهة‪ ،‬إذا لم تقهم بتغييره‪ ،‬أن يعمهها ال‬
‫بعقاب‪..‬‬

‫***‬

‫وحين تجمعت هذه المراض كلها فى كيان المة حدث أمران عظيمان مما أخبر به رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬غربة‬
‫السلم‪ ،‬وتداعى المم على المة السلمية ‪0‬‬

‫عاد السلم غريب ًا كما بدأ‪ ،‬فكل مفاهيمه لم تعد هى التى أنزلت من عند ال ‪0‬‬
‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪.‬‬

‫‪64‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫فأما ل إله إل ال فقد صارت كلمة تنطق باللسان‪ ،‬والقلب غافل عن دللتها والسلوك مناقض لمقتضياتها‪ ،‬وأما العبادة فقد‬
‫انحصرت فى الشعائر التعبدية‪ ،‬وهذه ذاتها صارت إلى أداء تقليدى خاو من الروح‪ ،‬ثم صارت إلى تقاعس وتكاسل حتى عن‬
‫أدائها‪ ،‬والكتفاء بالنية الطيبة تجاهها ‪0‬‬

‫وأما عقيدة القضاء والقد فقد انقلبت تواكلً سلبياً بدل التوكل الصحيح مع العزيمة والخذ بالسباب‪ ،‬وانقلبت تبريرًا لكل ما يقع‬
‫من خطأ وقصور وخطايا بأنها كلها من قضاء ال وقدره!‬

‫وأما الدنيا والخرة فقد انفصلتا فى حس الناس فأصبح العمل من أجل الدنيا إهما ًل للخرة‪ ،‬والعمل من أجل الخرة إهمالً‬
‫للحياة الدنيا ولعمارة الرض ‪0‬‬

‫وأما مفهوم الجهاد فقد ظل ينحسر وينحسر حتى صار للدفاع فحسب‪ ،‬ثم أصبح تقاعساً حتى عن الدفاع‪ ،‬وهروباً من مقتضاته‬
‫‪0‬‬

‫وأما مفهوم التربية فقد صار تعويداً على طقوس وتقاليد‪ ،‬ل ينشئ روحاً مبدعة ول همة عالية ‪0‬‬

‫وأما مفهوم الصبر والتقوى فقد أصبح سلبية خانعة ترضى بالذل‪ ،‬ول تتحرك لزالته ‪0‬‬

‫وعندما حدث هذا الخلل الهائل فى مفاهيم السلم حدث ((التخلف)) فى جميع الميادين‪ :‬التخلف العسكرى‪ ،‬والتخلف السياسى‪،‬‬
‫والتخلف العلمى‪ ،‬والتخلف الفكرى‪ ،‬والتخلف القتصادى‪ ،‬والتخلف الجتماعى‪ ،‬والتخلف الخلقى‪ ..‬وكل أنواع التخلف التى‬
‫تخطر على البال‪ ،‬لن العمل المتدفق فى كل هذه الميادين كان يستمد فى فترة التمكين من ذلك المنبع الضخم‪ :‬من العقيدة‬
‫الصحيحة فى ال واليوم الخر ‪0‬‬

‫فلما جف النبع فى قلوب الناس – إل من رحم ربك – لم يعد هناك ما يغذى العمل فى النفوس‪(( :‬أل وإن فى الجسد مضغة إذا‬
‫صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أل وهى القلب))(‪.)1‬‬

‫عندئذ تداعت المم على المة التى أصبحت كغثاء السيل ‪0‬‬

‫جاء العداء المتربصون الذين قال ال فيهم ‪(( :‬ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة ‪(( .)120 :‬ول‬
‫يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))(البقرة‪.)217 :‬‬

‫جاءوا وقفى تخطيطهم أن يقضوا على هذا الدين قضاء كاملً فى هذه المرة‪ ،‬وليس مجرد أن يكسروا شوكته ويتغلبوا عليه ‪0‬‬

‫وربما لم يكن هذا الهدف جديداً فى ذاته‪ ،‬فقد كان هو الذى حرك هرقل فى أول التاريخ لمحاولة وأد هذا الدين قبل أن يستفحل‬
‫أمره ‪ ..‬وكان هو الذى حرك الحروب الصليبية فى عصور أوروبا الوسطى ‪ ..‬وهو الذى يحركهم اليوم‪ ،‬ولكن ربما كان الجديد‬
‫فى الهجمة الصليبية المعاصرة – التى بدأت فى الواقع بعد طرد المسلمين من الندلس – أنهم جاءوا وهم أكثر اقتناعاً بإمكان‬
‫تحقيق هدفهم هذه المرة‪ ،‬لما رأوه من المراض المتفشية فى كيان المة‪ ،‬ولما استحدثوه من أسلحة الصراع‪ ،‬سواء منها‬
‫الحربى أو السياسى أو القتصادى‪ ،‬وأخطرها جميعاً ما نسميه ((الغزو الفكرى)) الذى يسعى إلى اقتلع العقدية من القلوب‪،‬‬
‫وهو ما نصحهم به لويس التاسع بعد خروجه من سجنه فى المنصورة وعودته إلى قومه يقول لهم ‪ :‬إن أردتم التغلب على‬
‫المسلمين فل تعتمدوا على السلح وحده‪ ،‬فقد رأيتم نتيجة العتماد على السلح‪ ،‬ولكن قاتلوهم فى عقيدتهم‪ ،‬فهى مكمن القوة‬
‫ل عن دخول اليهود بكيدهم كله فى حلبة الصراع‪ ،‬من أجل إنشاء إسرائيل ‪0‬‬‫فيهم‪ ،‬ومكمن الخطر علينا‪ ..‬وذلك فض ً‬

‫ولقد قام الغزو الفكرى بما لم يستطع أن يقوم به سلح آخر مما استخدم من قبل مع المسلمين‪..‬‬

‫هزم المسلمون أكثر من مرة فى التاريخ‪ ،‬ولكن الهزيمة العسكرية لم تؤثر فيهم ولم تجعلهم يتخلون عن عقيدتهم أو يستبدلون‬
‫بها غيرها ‪0‬‬

‫هزموا أمام الصليبيين‪ ،‬وهزموا أمام التتار‪ ،‬ولكن النداء الربانى كان يمل قلوبهم‪(( :‬ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن‬
‫كنتم مؤمنين))(آل عمران‪(( .)139 :‬وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل ال وما ضعفوا وما‬
‫استكانوا وال يحب الصابرين(‪ )146‬وما كان قولهم إل أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا‬
‫على القوم الكافرين(‪ )147‬فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة وال يحب المحسنين))(آل عمران‪.)148-146 :‬‬

‫كانوا مؤمنين‪ ،‬وكانت المعركة فى حسهم جهاداً فى سبيل ال‪ ..‬فما لبثوا أن تجمعوا بعد تفرق‪ ،‬وعزموا بعد وهن‪ ،‬واستعدوا‬
‫بعد تفريط‪ ،‬فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة ‪0‬‬

‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وحتى فى عمق الهزيمة لم يخطر فى بالهم قط أن أعداءهم خير منهم‪ ،‬فأعداؤهم كفار وهم مؤمنون‪ ،‬وموطن الستعلء هو‬
‫اليمان بصرف النظر عن النصر أو الهزيمة فى ميدان القتال‪..‬‬

‫أما فى هذه المرة فلم يكن هناك استعلء باليمان‪ ،‬بل كانت الهزيمة الروحية أمام العداء‪ ،‬فتمكن الغزو الفكرى بصورة ل‬
‫تخطر على البال ‪0‬‬

‫وفى خلل قرن واحد‪ ،‬بل فى خلل نصف قرن فى بعض الحيان‪ ،‬تبدلت المة تبدلً كاملً كأن لم تكن فى يوم من اليام هى أمة‬
‫السلم!‬

‫تبدل مصدر التلقى‪ ،‬لم يعد هو السلم‪ ،‬لم يعد هو ال ورسوله‪ ،‬إنما صارت ((الحضارة الوروبية) هى المصدر‪ ،‬وهى المثال‬
‫المطلوب استيعابه والصيرورة إليه ‪..‬لم يعد هناك صدى فى النفوس لقوله تعالى ‪(( :‬أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من ال‬
‫حكماً لقوم يوقنون))(المائدة‪ .. )50:‬بل صار وصف ((الحضارة)) الغربية بأنها جاهلية يعتبر كفراً فى نظر المستعبدين للغرب‪،‬‬
‫الذين أكل الغز الفكرى قلوبهم وأصبح حجاب المرأة المسلمة هو السجن والظلم‪ ،‬وانطلقها عارية فى الطريق هو التقدم‬
‫والتحرر‪ ،‬وأصبح اللحاد والكفر والسخرية بكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم هو عنوان ((حرية الفكر))‪ ،‬وأصبح‬
‫النسلخ من السلم والنتماء إلى الغرب رتبة ونيشاناً يتباهى به العبيد ‪0‬‬

‫ثم دخلت ((المذاهب الفكرية))‪ :‬الوطنية والقومية والعلمانية والشتراكية والديمقراطية‪ ..‬إلخ‪ .‬لتكون البديل الفكرى من السلم‬
‫من جهة‪ ،‬ولتمزق هذه المة مزقاً متفرقة من جهة أخرى‪ ،‬ليسهل على العدو التقامها وابتلعها بعد أن تعذر عليه ازدرادها‬
‫وهى موحدة تحت رباط السلم‪ ،‬حتى وإن لم تكن وحدة سياسية كاملة بالمعنى الصحيح ‪0‬‬

‫حضيض لم تصل إليه المة السلمية فى تاريخها كله‪ ،‬ولكنه منطقى مع غثاء السيل‪ ،‬ل يتوقع لها سواه ‪.‬‬

‫***‬

‫هذا الواقع هو الذى واجهته – وتواجهه – الصحوة السلمية ‪..‬‬

‫أما الصحوة ذاتها فهى قدر ال الغالب فوق كيد العداء كله‪ ،‬وتدبيرهم للقضاء على السلم‪(( :‬وال غالب على أمره ولكن أكثر‬
‫الناس ل يعلمون))(يوسف‪.)21 :‬‬

‫لم يكن أحد يتوقع الصحوة‪ ،‬ل من العداء ول من المسلمين أنفسهم!‬

‫أما العداء فقد كانوا ينتظرون وفاة الرجل المريض‪ ،‬كما كانوا يسمون الخلفة العثمانية فى آخر عهدها‪ ،‬لينقضوا على تركته‪،‬‬
‫يمزقونها إرباً إرباً‪ ،‬ويقضون بذلك القضاء الخير على السلم ‪0‬‬

‫وأما المسلمون فقد كان اليأس والستسلم للمر الواقع قد سيطر على كثير منهم‪ ،‬فعادت أقصى أمانيهم أن يتخلصوا ولو‬
‫تخلصاً جزئياً من قبضة العدو الخانقة‪ ،‬وأن يدعهم العدو يعيشون ولو فى ذيل القافلة وأنفهم فى الرغام‪..‬‬

‫ولكن قدر ال الغالب‪ ،‬ووعده الدائم أن يبعث فى هذه المة من يجدد لها أمر دينها‪ ،‬قد جاء بالصحوة رغم كل الكيد‪ ،‬وكل‬
‫التخطيط‪..‬‬

‫ونحن نستبشر بقدر ال‪ ،‬ونطمئن إلى وعده الكريم بأن يظهر هذا الدين على الدين كله‪ .‬ونحن على يقين بأن المستقبل للسلم‪:‬‬
‫((هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف ‪.)9 :‬‬

‫ولكن الذى نناقشه هنا هو أسلوب العمل الذى يجب أن تنتهجه الصحوة‪ ،‬فإنه لبد من عمل يعمله البشر ليتم قدر ال‪ ،‬ل عجزاً‬
‫من ال سبحانه أن ينفذ قدره‪ ،‬ولكن لن سنته قد اقتضت أن يكون هناك بشر يعملون‪ ،‬يكونون ستاراً لقدر ال ‪(( :‬ذلك ولو‬
‫يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد ‪(( .)4 :‬إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))(الرعد‪:‬‬
‫‪.)11‬‬

‫فما طريق العمل؟‬

‫تخطر فى بال العاملين عدة وسائل وعدة أساليب‪ ،‬نحب هنا أن نستعرضها‪ ،‬لنعرف ما لها وما عليها‪ ،‬ولنتدارس معاً أيها أجدى‬
‫نفعاً‪ ،‬وأنسب لحوال المة التى وصفناها من قبل‪ :‬الوعظ‪ .‬التربية الروحية‪ .‬الشحن العاطفى‪ .‬التوعية الفكرية‪ .‬التربية الجهادية‬
‫‪0‬‬

‫‪66‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ونقول بادئ ذى بدء‪ :‬إن كل الوسائل مطلوبة ول غنى عنها‪ ،‬ولكن الذى نناقشه هو مدى جدوى أى منها حين تستخدم‬
‫بمفردها‪ ،‬ل على أنها وسيلة من الوسائل ولكن على أنها هى الوسيلة وهى المنهج وهى الطريق ‪0‬‬

‫ونبدأ بالوعظ‪ ،‬لنه وسيلة ذات إغراء شديد عند كثير من الناس! ويعتقد الواعظ أنه بمقدار ما يكون هو متحمساً لموعظته‪،‬‬
‫مؤمن ًا بها‪ ،‬منمق ًا للفاظها‪ ،‬بارعاً فى صياغتها‪ ،‬يكون تأثيرها فى نفوس المستمعين‪ ،‬وهو وهم يكذبه الواقع!‬

‫كم طناً من المواعظ يلقى فى العالم السلمى كله من المحيط إلى المحيط يوم الجمعة من كل أسبوع‪ ،‬وكم غيرت من واقع‬
‫المسلمين فى العالم السلمى كله من المحيط إلى المحيط؟!‬

‫إذا قلت ل شىء ‪ :‬فهل تعدو الحقيقة؟!‬

‫إن استخدام الموعظة فى الدعوة أمر ربانى‪(( :‬ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة))(النحل ‪.)125 :‬‬

‫ولكن ال لم يقل إن الموعظة وحدها هى الوسيلة للدعوة‪ ،‬ولم يقل إنها حين تستخدم وحدها تؤتى ثمارها! إنما المنهج الربانى‪:‬‬
‫أنه يرسل بالموعظة رسولً يكون هو بذاته القدوة للناس لكى يستوعبوا الموعظة أولً ثم يطبقوا مقتضاها بعد ذلك ‪:‬‬

‫((كان خلقه القرآن)) هكذا وصفت عائشة رضى ال عنها خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪0‬‬

‫فلم يكن رسول ال صلى ال عليه وسلم مجرد خطيب يقف على المنبر ليعظ الناس‪ ،‬إنما كان قبل ذلك مربياً بالقدوة فى شخصه‬
‫الكريم‪ ،‬وكانت الموعظة وسيلة من وسائله لتوصيل الدعوة للناس‪ ..‬بل إنه صلى ال عليه وسلم هو الذى قال الصحابة‬
‫رضوان ال عليهم إنه كان يتخولهم بالموعظة‪ ،‬أى بين الحين والحين‪ ،‬مخافة السآمة! السآمة من أى شىء؟ من موعظته‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وفى نفوس من؟ فى نفوس الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬الذين كانوا يلتقطون كل كلمة يقولها صلى ال‬
‫عليه وسلم بالقبال والرغبة والحب‪ ،‬ليقينهم أنها طريقهم إلى الجنة! فكيف بنا نحن البشر العاديين حين تكون كل بضاعتنا هى‬
‫الوعظ و ((الرشاد))!‬

‫وهل يصلح الوعظ والرشاد وحده على فرض تقبل الناس له وعدم سآمتهم منه‪ ،‬وهو فرض غير صحيح‪ ،‬هل يصلح وحده‬
‫لمعالجة شىء من تلك المراض التى أشرنا إليها آنفاً‪ ،‬والتى توغلت فى كيان المة قبل الغزو الخير وبعده؟ هل يصلح لمعالجة‬
‫الفكر الرجائى الذى أخرج العمل من مسمى اليمان‪ ،‬وأوهم الناس قرون طويلة أنهم يمكن أن يكونوا مؤمنين ولو لم يعملوا‬
‫عملً واحداً من أعمال السلم؟ هل هؤلء يمكن أن ينقلهم الوعظ – وحده – إلى العمل بمقتضى اليمان‪ ،‬بما يتضمنه العمل من‬
‫بذل الجهد وتحمل المشقة وتحمل المسئولية‪ ،‬واللتزام والنضباط؟!‬

‫لو كان هذا ممكناً فلماذا لم يحدث بالفعل‪ ،‬ونحن ما قصرنا فى إلقاء المواعظ فى كل يوم جمعة‪ ،‬وفى مناسبات إثر مناسبات‪،‬‬
‫وفى الذاعة وفى التلفاز؟‬

‫وهل يصلح – وحده – لخراج من غرق فى الصوفية‪ ،‬وفى التبرك بالضرحة والعتبات‪ ،‬والعتقاد بقدرة الولياء على كشف‬
‫الغيب‪ ،‬وعمل المعجزات التى يسمونها كرامات؟ هل يصلح وحده لخراج هؤلء مما غرقوا فيه من انحرافات؟!‬

‫وهل يصلح لتغيير ما درج الناس عليه من الفوضى التى تكره النظام‪ ،‬والعفوية التى تكره التخطيط‪ ،‬وقصر النفس الذى يشتعل‬
‫بسرعة وينطفئ بسرعة؟‬

‫وهل يصلح لتغيير ما درج عليه الموظفون من إهمال العمال والتسويف فى إنجازها‪ ،‬واستحلل الراتب على مجرد الحضور‬
‫فى الميعاد أو بعد الميعاد‪ ،‬والنصراف فى الميعاد أو قبل الميعاد؟ وتغيير ما درج عليه العمال من الغبش والتدليس فى العمل‪،‬‬
‫وعدم الخلص فى أدائه ما لم يكن عليهم رقيب عتيد يحصى عليهم أعمالهم‪ ،‬مع استحلل الجر المقدر للعمل الكامل الذى ل‬
‫نقص فيه؟ وتغيير ما درج عليه الناس من خلف الوعد وعدم التقيد به‪ ،‬وعدم الشعور بالتأثم من إخلفه ل لبضع دقائق ولكن‬
‫أحياناً لبضع ساعات أو بضعة أيام أو بضعة أسابيع؟ وأحياناً إلى نهاية الحياة!‬

‫وهل ‪ ...‬وهل ‪ ...‬وهل ‪0..‬؟!‬

‫يقول الوعاظ‪ :‬وماذا نملك غير الوعظ؟ نحن نقوم بواجبنا‪ ،‬وإنك ل تهدى من أحببت‪ ،‬والهداية من ال !‬

‫الهداية من ال نعم! ولكن ال وضع منهجاً للدعوة‪ ،‬قوامه القدوة والتربية‪ ،‬ومن وسائله الوعظ مع القدوة والتربية‪ ،‬وعندئذ‬
‫تعطى الموعظة ثمارها بإذن ال ‪0‬‬

‫‪67‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫ول نقول مع ذلك إن الموعظة وحدها ل تؤتى ثمارها أبداً‪ ،‬حاشا ل! وإنما نقول إنها وحدها إن صلحت فى أحوال نادرة فى‬
‫إصلح أفراد‪ ،‬فإنها ل تصلح لصلح أمة بلغ الفساد فيها مبلغه‪ ،‬ول تصلح لقامة دعوة تريد أن تعبد بناء أمة وصلت إلى‬
‫درجة الغثاء!‬

‫***‬

‫التربية الروحية ضرورة ل غنى عنها فى البناء ‪ ..‬بل ل يتصور أن يقوم بدونها عمل دعوى على الطلق‪ ،‬إذا عنينا بالتربية‬
‫الروحية تعميق الصلة بال‪ ،‬وترقيق القلب لعبادته سبحانه‪ ،‬وتذكير النسان باليوم الخر‪ ،‬وربط مشاعره بالموقف الذى يلقى‬
‫ال فيه ‪ ..‬وقد كان هذا جزءاً بارزاً وأساسياً من عمل الرسول صلى ال عليه وسلم فى تربية أصحابه رضوان ال عليهم فى‬
‫مكة خاصة‪ ،‬حين فرض عليهم قيام الليل لتعميق هذه الصلة وتثبيتها وترسيخها‪ ..‬ولكن هذا كله كان إعداداً لمر آخر‪ ،‬ولم يكن‬
‫هو فى ذاته الغاية!‬

‫والمتأمل فى سورة المزمل‪ :‬يتبين أنه مع المر بقيام الليل كانت هناك إشارة واضحة إلى تكاليف قادمة‪ ،‬جعل قيام الليل توطئة‬
‫لها‪ ،‬وإعداداً للقيام بها ‪(( :‬يأيها المزمل(‪ )1‬قم الليل إل قليل(‪ )2‬نصفه أو انقص منه قليل(‪ )3‬أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلً(‬
‫‪ )4‬إنا سنلقى عليك قولً ثقيلً))(المزمل‪.)5-1 :‬‬

‫كما يتبين المتأمل حكمة ال جل وعل فى اختيار قيام الليل ليكون أداة للتهيئة المطلوبة‪(( :‬إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم‬
‫قيلً))(المزمل ‪ ،)6 :‬أى أعمق أثراً فى تهيئة النفوس لحتمال التكاليف ‪0‬‬

‫وخلصة المر أنه لبد من تعميق الصلة بال سبحانه وتعالى ليقوم النسان بحمل التكاليف التى يفرضها هذا الدين على الوجه‬
‫الكمل‪ ،‬وأخصها الجهاد‪ ،‬والصبر على البتلء‪ ..‬أما حين تكون التربية الروحية غاية فى ذاتها‪ ،‬أو حين تكون هى نهاية الشوط‬
‫فى عملية التربية فماذا يكون؟! يكون – والتشبيه مع فارق قليل‪ -‬كالجندى الذى تدربه على فنون القتال‪ ،‬وليس فى نيتك أن‬
‫ترسله إلى المعركة قط! أو كالساس الذى تدكه دكا متيناً وليس فى نيتك أن تقيم عليه أى بناء!‬

‫إن هذا الدين شأنه عظيم ‪ ..‬إنه المنهج الربانى لصلح الحياة كلها‪ ،‬وإنشاء النسان الصالح‪ ،‬الذى يقوم بالخلفة الراشدة فى‬
‫الرض‪ ..‬إنه ليس مجرد سيحات روحية وإشراقات‪ ،‬مهما يكن من عمق هذه السبحات‪ ،‬ووضاءة تلك الشراقات‪ ..‬إنه حهد‬
‫وجهاد‪ ،‬وصراع حاد مع الباطل‪ ،‬وإيجابية بناءة تهدم الباطل وتشيد الحق ‪ ..‬والتربية الروحية زاد لهذا كله‪ ،‬وليست هى غاية‬
‫الغايات ‪0‬‬

‫إن النسان فى حلبة الصراع يجهد ويتعب‪ ،‬ويحتاج إلى سند يقويه‪ ،‬يمنعه من السقوط‪ ،‬ويمنع عنه الوهن الذى قد يعتريه‪،‬‬
‫وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تقيه من الوهن‪ ،‬وتقويه على الصمود‪ ،‬بما تمده من طاقة‪ ،‬وتشع فى كيانه من نور‪.‬‬

‫والنسان فى حلبة الصراع قد يستوحش‪ ،‬حين يتكاثر عليه العداء‪ ،‬ويجد نفسه وحده‪ ،‬أو يجد من حوله مستضعفين مثله ل‬
‫يملكون نصره‪ ،‬وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تؤنسه بذكر ال فل يستوحش‪ ،‬وتذكره بالثمرة الجنية فى اليوم الخر فيجد فى‬
‫السعى ‪0‬‬

‫والنسان فى حلبة الصراع قد يفتقد المتاع الحسى‪ ،‬والهل والصحاب‪ ،‬والفراش الوثير‪ ،‬والطعام الوفير‪ ،‬فتحن نفسه لذلك كله‪،‬‬
‫أو لشىء منه‪ ،‬فيثاقل إلى الرض‪ ،‬وهنا تبرز الطاقة الروحية توازن فى حسه ثقلة الرض‪ ،‬وتعوضه عن حرمانه بمتاع أعله‪:‬‬
‫معية ال‪ ،‬ورضوان ال‪ ،‬والجنة ‪0‬‬

‫إنها الزاد الذى يحتاج إليه المسافر ليقطع الرحلة فى أمان ‪ ..‬فأما إن كان قاعداً ل يتحرك فما قيمة الزاد !‬

‫هل تغير التربية الروحية – وحدها – من واقع المة الهابط إلى الحضيض؟‬

‫حقاً إنها تنقذ أفراداً من الضياع القاتل‪ ،‬وتبنى لهم سياجاً يحميهم من المهلكات‪ ،‬ولكنها ل تنقذ المة من ا لضياع لنها ل تدفع‬
‫بجنود إلى حلبة الصراع‪ ،‬ول تشارك فى التدافع الذى قال ال إنه هو الداة الربانية لحفظ الرض من الفساد ‪(( :‬ولول دفع ال‬
‫الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض ولكن ال ذو فضل على العالمين))(البقرة ‪.)251 :‬‬

‫***‬

‫الشحهن العاطفهى مطلوب فهى الدعوة ‪ .‬مطلوب أن يتحمهس الناس لمها يؤمنون بهه‪ ،‬ول يكونوا كالخشهب المسهندة‪ ،‬ل تتحرك ول‬
‫تحدث حركة‪ ،‬فالدعوة ل تنتشر بأمثال هؤلء ولو كانوا هم أنفسهم مستجيبين وملتزمين ‪ ..‬ولكن الحماسة وحدها ل تؤدى إلى‬
‫شىء‪ ،‬وقهد تضهر أكثهر ممها تنفهع! فالحماسهة كثيراً مها تكون على حسهاب الوعهى‪ ،‬وعلى حسهاب العلم الصهحيح‪ ،‬وعلى حسهاب‬
‫الخبرة‪ ،‬وهنا تفقد كثيراً من مزاياها‪ ،‬وتنشأ عنها أضرارًا كثيرة‪ ،‬خاصة إذا انقلبت إلى عصبية لشخص أو لجماعة أو لحزب أو‬

‫‪68‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫لفكرة أو لمذههب‪ ،‬فإنهها عندئذ تغلق على صهاحبها منافهذ المعرفهة النافعهة‪ ،‬وتبهث فيهه العناد واللدد فهى الخصهومة‪ ،‬وتدفعهه إلى‬
‫المراء المذموم ‪0‬‬

‫وكثير مما يجرى فى الساحة اليوم من تفرق وتشرذم وتخاصم وتنابذ منشؤه حماسة زائدة عن الحد‪ ،‬لشىء يعتقد صاحبه أنه‬
‫الحق كل الحق‪ ،‬وأن ما عداه باطل كامل البطلن!‬

‫***‬

‫التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى كل وقت‪ ،‬وفى وقتنا الحاضر هذا أكثر من كل الوقات‪ ،‬فالغبش الذى أحاط بالسلم‬
‫وحقائقهه فهى نفوس الناس فهى الغربهة الثانيهة للسهلم غبهش كثيهف شامهل‪ ،‬يحتاج إلى توعيهة شاملة بحقائق السهلم ومفاهيمهه‪،‬‬
‫بدءاً بمفهوم ل إله إل ال‪ ،‬وتوعية مركزة بمقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬ونواقض ل إله إل ال‪ ،‬ومقتضياتها‪ ،‬ونواقضها‪ ،‬وإن كانت‬
‫التوعيهة مطلوبهة بالنسهبة لكهل المفاهيهم على السهواء مفهوم العبادة‪ ،‬ومفهوم القضاء والقدر‪ ،‬ومفهوم الدنيها والخرة‪ ،‬ومفهوم‬
‫عمارة الرض‪ ،‬ومفهوم التربية‪ ،‬ومفهوم الجهاد‪0..‬‬

‫والتوعية مطلوبة كذلك لمعرفة واقع المة والسباب التى أدت إليه‪ ،‬فبغير هذه المعرفة ل نستطيع وضع المنهج المناسب‬
‫للدعوة‪ ،‬ول وسائل العلج‪ ،‬وكثير من أحوال المة ل يدركه كثير من الناس على حقيقته‪ ،‬وإن عرفوا عموم ًا أن المة منحرفة‬
‫عن الصورة الصحيحة‪ ،‬وعزوا ذلك عموماً إلى البعد عن حقيقة السلم‪ ،‬ولكن مدى البعد يخفى على كثيرين‪ ،‬وخطورة‬
‫النحراف ل يقدرها حق قدرها كثيرون!‬

‫والتوعية مطلوبة مرة أخرى لمعرفة مكائد العداء ومخططاتهم للقضاء على السلم‪ .‬وكثير من الناس – من الدعاة أنفسهم –‬
‫ل يتابعون ما يحدث على الساحة‪ ،‬وما يجد من مؤامرات‪ ،‬اعتماداً على معرفتهم العامة بأن اليهود والنصارى أعداء‪ ،‬وأنهم لن‬
‫يكفوا عن الكيد للسلم! وهذا وحده ل يكفى! وكثير مما تستدرج إليه الجماعات السلمية من المواقف التى ل تخدم الدعوة‬
‫سببه هذا الجهل بما يدبره العداء من صنوف الكيد‪ ،‬بينما العداء – بوسائلهم – يعرفون كل ما يسره السلميون وما‬
‫يعلنونه‪ ،‬ويتابعونه متابعة دقيقة كل ما يدور فى العالم السلمى من حركات وأفكار‪ ،‬فيخططون على علم‪ ،‬ونحن فقط نتلقى‬
‫الضربات!‬

‫حقاً إن التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى وقتها الحاضر‪ ،‬ولكنها وحدها – ل تؤدى إلى شىء حقيقى فى واقع‬
‫الحركة‪ ،‬ما لم تكن زاداً لعقيدة صحيحة وحركة واعية‪ ،‬تزيدها المعرفة وعياً وتبصرها بمزالق الطريق‪ ،‬أما حين تتحول إلى‬
‫ثقافة – مجرد ثقافة – فهى ترف عقلى ل يغير واقع النفوس ‪0‬‬

‫***‬

‫التربيهة الجهاديهة مهن لوازم الحركهة‪ ،‬فالنفوس الرخوة التهى ل تقدر على تكاليهف الجهاد ل تصهلح لحمهل الدعوة‪ ،‬ول للتحرك فهى‬
‫وسط الشواك‪ ،‬وفى مواجهة الوحوش الضارية التى تفتح أفواهها وتمد مخالبها لتنهش من تطوله من جنود الدعوة‪ ،‬وتفتك به‬
‫بعد أن تذيقه العذاب الليم ‪0‬‬

‫ولكن التربية الجهادية – وحدها – ل تكفى لقامة دعوة‪ ،‬بل ل تكفى حتى لحماية الدعوة من العداء‪ ،‬بل كثيرًا ما تكون سبباً‬
‫فى ضراوة الضرب من قبل العداء حين تنقصها الخبرة السياسية والخبرة الحركية‪ ،‬والوعى بحقيقة المعركة وحقيقة العداء‪،‬‬
‫وحقيقة الجهد المطلوب للمواجهة‪ ،‬ونوع الجهد اللزم للصراع‪ .‬وأخطر ما يقع من الحركات التى تعتمد التربية الجهادية‬
‫وحدها‪ ،‬أو تركز عليها أكثر من متطلبات التربية الخرى‪ ،‬أنها تسارع إلى الصدام – أن تستدرج إلى الدخول فى صدام – قبل‬
‫أن تتضح للناس حقيقة القضية‪ ،‬قضية ل إله إل ال‪ ،‬وقبل أن تستبين سبيل المجرمين كما فصل كتاب ال‪ ،‬فتتعرض الحركة‬
‫للضرب المميت والناس يتفرجون‪ ،‬ويتاح للطغاة أن يضحكوا على ((الجماهير)) فيقولوا لهم‪ :‬إننا ل نحارب السلم‪ ،‬وإنما‬
‫نحارب الرهاب!‬

‫***‬

‫مهن أجهل ذلك كله نصهر على التربيهة البطيئة الشاملة‪ ،‬التهى تبدأ بإنشاء القاعدة الصهلبة ثهم تتوسهع على مههل‪ ،‬ولو اسهتغرق ذلك‬
‫عدة أجيال!‬

‫إن مجموع المراض التى أصابت المة وحولتها إلى غثاء كغثاء السيل‪ ،‬ثم جلبت إليها العداء يتداعون عليها كما تتداعى‬
‫الكلة على قصعتها أخطر من تعالج علجا سطحيا‪ ،‬بالوعظ أو التوجيه الروحى أو الشحن العاطفى أو التوعية الفكرية أو‬
‫التربية الجهادية‪ ،‬إذا استعملت أى واحدة من هؤلء بمفردها على أساس أنها علج سريع ينقذ المة من واقعها‪ ،‬وينقلها من‬
‫حال إلى حال‪.‬‬

‫‪69‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫لسنا بصدد ترميمات جزئية فى بناء قائم‪ ..‬ولكننا بصدد تجديد الساس لبناء كان قد أوشك على النهيار‪ ،‬وكل ترميم يفقد قيمته‬
‫ويفقد فائدته إذا لم يجر تجديد الساس‪.‬‬

‫أساس هذا الدين ل إله إل ال!‬

‫ل كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء(‪ )24‬تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها‬
‫((ألم تر كيف ضرب ال مث ً‬
‫ويضرب ال المثال للناس لعلهم يتذكرون))(إبراهيم‪.)25-24 :‬‬

‫وسؤال واحد‪ ،‬تحدد إجابته القضية تحديداً واضحاً حاسماً ل لبس فيه‪ :‬هل الناس‪ -‬إل من رحم ربك‪ -‬على وعى بحقيقة ل إله إل‬
‫ال؟‬

‫الجواب عندى واضح‪..‬‬

‫إن كثيرًا من الدعاة أنفسهم مازال لديهم غبش كثيف حول مقتضيات ل إله إل ال‪ ،‬وبالذات حول نواقض ل إله إل ال‪ ،‬لنهم هم‬
‫أنفسهم لم يتخلصوا بعد من آثار الفكر الرجائى‪ ،‬الذى أخرج العمل من مسمى اليمان‪.‬‬

‫وكثير من الدعاة لم يدركوا بعد مشكلة((الجماهير)) الحقيقية‪ ،‬ومدى بعدهم عن حقيقة السلم‪،‬ومن أجل ذلك تعجلوا فى‬
‫تجميعهم‪ ،‬وفى التحرك بهم‪ ،‬قبل أن تتضح لهم حقيقة القضية التى يدعون إليها‪ ،‬ويجمعون من أجلها!‬

‫من أجل ذلك نصر على أن نقطة البدء هى إنشاء القاعدة الصلبة على ذات المنهج الذى أنشأ به رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قاعدته الصلبة‪ ،‬وإن كان من المستحيل أن تصل هذه إلى المستوى ذلك الجيل‪ ..‬أما المنهج فشىء آخر ‪ ..‬المنهج ثابت ل‬
‫يتغير‪ ،‬والتربية على أساسه واجب دائم ل تتغير‪ ،‬أيًا كان المستوى الذى يصل إليه المربون والمتلقون‪ ،‬ولكل درجات مما‬
‫عملوا‪..‬‬

‫والدرس الول فى بناء القاعدة الصلبة هو درس ل إله إل ال‪ ،‬علماً بها‪ ،‬وتربية على مقتضياتها‪ ،‬لعداد الدعاة الذين يوجهون‬
‫القاعدة الموسعة‪ ،‬حين يأتى دور توجيه الدعوة إلى الجماهير‪..‬‬

‫الواقع والمثال‬

‫من الواضح أن الواقع قد اختلف كثيراً عن المثال ‪0‬‬

‫وقد استعرضنا من قبل بعض أسباب هذا الختلف بين الواقع الذى حدث بالفعل‪ ،‬والمثال الذى كان يجب أن تسير عليه المور‪،‬‬
‫وبعض النتائج التى ترتبت على ذلك الختلف ‪0‬‬

‫وهنا بعد أن فصلنا الحديث عن المنهج النبوى فى إنشاء القاعدة الصلبة‪ ،‬ثم توسيع القاعدة بمعاونة القاعدة الصلبة‪ ،‬تحت‬
‫إشرافه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬نعود إلى شىء من التفصيل فيما حدث من افتراق بين الواقع والمثال ‪0‬‬

‫التعجل هو الطابع العام للتحرك الذى قامت به الصحوة السلمية منذ قيامها ‪..‬‬

‫هناك ابتداء تعجل فى إنشاء القاعدة ذاتها ‪.‬‬

‫لو كنا أخذنا منذ البدء فكرة صحيحة عن نوع الخلل الذى حدث فى بنية المة‪ ،‬والذى نشأ عنه ما نشأ من غربة السلم بين‬
‫أهله‪ ،‬وتداعى العداء على المة من كل حدث وصوب‪ ..‬وأخذنا فكرة صحيحة عن نوع الجهد المطلوب لصلح هذا الخلل‬
‫الهائل فى بنية المة ‪ ..‬وأخذنا فكرة صحيحة عن الجهد الجبار الذى بذله العداء فى التخطيط والعداد لمحاولة القضاء على‬
‫السلم‪ ،‬فقد كنا جديرين أن نتمهل كثيراً فى الحركة‪ ،‬ول نتعجل فى المسير ‪0‬‬

‫هل كانت المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة واضحة فى أذهاننا حين بدأنا الدعوة؟ هل كان واضحاً فى أذهاننا أن توجيه‬
‫الدعوة((للجماهير)) قبل إعداد القاعدة قد يعرضنا لموقف صعب‪ ،‬حين تتدفق الجماهير بالشحن العاطفى‪ ،‬ثم ل تجد موجهين‬
‫ومربين‪ ،‬لننا لم نعد بعد الموجهين والمربين الذين يمكن أن يستوعبوا تلك الجماهير؟ وهل كان واضحاً فى أذهاننا أن تجميع‬
‫الجماهير بالشحن العاطفى دون تربية حقيقية تترتب عليه نتائج خطيرة فى سير الدعوة حين تنزعج السلطات المحلية‬
‫والعالمية‪ ،‬فتغضب فتضرب‪ ،‬والناس على غير استعداد بعد للضرب‪ ،‬بل القاعدة ذاتها لم تعد إعداداً كافياً لتلقى الضربات؟‬

‫‪70‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫أعتقد من رؤية واقع المسيرة‪ ،‬أن هذه المور لم تكن واضحة بالقدر المطلوب‪،‬فالقاعدة ذاتها شكلت على عجل من الخامات‬
‫الموجودة فى ذلك الحين‪ .‬وحقاً إنه ل يمكن فى أى وقت أن تبدأ حركة إل بالخامات الموجودة فى حينها‪ ،‬تلك بديهية‪ .‬ولكن‬
‫الخامات يجب أن تنتقى بعناية فائقة‪ ،‬ويجب أن تبذل عناية فائقة فى إعدادها‪ ،‬وتنقيتها من شوائبها‪ ،‬قبل أن تسند إليها مهمة‬
‫العمل فى الدعوة‪ ،‬خاصة إذا كانت الدعوة تقوم فى مثل الغربة التى كان عليها السلم‪ ،‬وتواجه مثل العداوة التى واجهتها من‬
‫العداء‪..‬‬

‫ونحن الن ل نوجه لوم ًا لحد‪ ،‬وكل عمل فى سبيل ال مأجور بإذن ال‪ ،‬ولكنا نبين فقط مدى الفرق بين ما كان‪ ،‬وما يجب أن‬
‫يكون‪.‬‬

‫ول شك أن الداعية الول‪ -‬عليه من ال رحمة‪ ،‬وجزاه ال خيراً بما قدم‪ -‬قد بذل جهداً واضحاً فى تنقية تلك الخامات من بعض‬
‫ما كان عالقاً بالمجتمع كله من أوشاب‪ ،‬فأخرج من نفوسهم النحصار فى الفردية الضيقة‪ ،‬ورباهم على روح جماعية متحابة‬
‫متراصة متعاونة متكافلة‪ ،‬تربط بين أفردها أخوة السلم‪ ،‬وأخرجهم من الشتغال بالعبادة الفردية المنحصرة فى شعائر التعبد‪،‬‬
‫إلى العبادة بالمعنى الوسع الذى يدخل فيه المر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬وإقامة مجتمع مسلم يحتكم إلى شريعة ال‪ ،‬كما‬
‫رباهم على كثير من الخلقيات الفاضلة‪ ،‬وعلى الفدائية لدين ال‪.‬‬

‫ولكن واقع المسيرة يدلنا على نقص كبير فى الوعى السياسى والوعى الحركى‪ ..‬وأخطر من ذلك نقص فى إدراك حقيقة‬
‫القضية‪ ،‬وحقيقة الهدف الذى نسعى إليه‪.‬‬

‫لقد سعينا إلى تكوين قاعدة جماهيرية واسعة لنستعين بها على الوصول إلى الحكم على أساس أنه حين نصل إلى الحكم نطبق‬
‫شريعة ال‪..‬‬

‫هدف مشروع فى ذاته‪ ،‬ودع عنك موقف الجاهلية التى تجعل من حق كل إنسان أن يسعى للوصول إلى الحكم‪ ..‬إل السلميين!‬
‫فهم وحدهم يصبحون مجرمين إذا سعوا للوصول إلى الحكم! دع عنك هذا فهو موقف معروف من الجاهلية تجاه دعوة الحق‪،‬‬
‫منذ كانت جاهلية فى الرض‪ ،‬ودعاة يدعون بدعوة الحق‪(( .‬شنشنة نعرفها من أخزم)) كما يقول المثل العربى المشهور! سواء‬
‫جاء((أخزم)) من الشرق أو الغرب أو من داخل البلد!‬

‫ولكن القضية ليست فى مشروعية الهدف‪ ..‬إنما هى فى سؤال أساسى‪ :‬هل مجرد تطبيق الشريعة يكفى لصلح حال المة التى‬
‫وصلت لن تكون غثاء كغثاء السيل‪ ،‬أم يحتاج المر إلى متطلبات أخرى قبل ذلك‪ ،‬وبعد ذلك وفى أثناء ذلك؟!‬

‫لو أن الداعية الول‪ -‬رحمه ال‪ -‬أعلن للصفوة التى اختارها لتكون هيئة تأسيسية لجماعته ما أعلنه((للجماهير)) عام ‪1948‬م‬
‫(أى بعد عشرين سنة من بدء الدعوة) لتغيرت أمور كثيرة فى خط السير!‬

‫فى عام ‪1367‬هه (‪1948‬م)‪ ،‬وتحت عنوان‪(( :‬معركة المصحف))‪ ،‬قال المام الشهيد‪(( :‬السلم دين ودولة ما فى ذلك شك‪،‬‬
‫ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن السلم شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية‪ ،‬وكلت حمياتها ونشرها‬
‫والشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها‪ ،‬وتبليغها للذين ل يؤمنوا بها إلى الدولة‪ ،‬أى إلى الحاكم الذى يرأس جماعة‬
‫المسلمين ويحكم أمتهم‪ ،‬وإذا قصر الحاكم فى حماية هذه الحكام لم يعد حاكماً مسلماً‪ ،‬وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم‬
‫تعد دولة إسلمية‪ ..‬وإذا رضيت الجماعة أو المة بهذا الهمال ووافقت عليه لم تعد هى الخرى إسلمية‪ ،‬مهما ادعت ذلك‬
‫بلسانها‪ .‬وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون هو نفسه متمسكاً بفرائض السلم‪ ،‬بعيدًا عن محارم ال‪ ،‬غير مرتكب للكبائر‪،‬‬
‫وهذا وحده ل يكفى فى اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام السلم بين المسلمين‪ ،‬وتحديد‬
‫موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة السلم))(‪.)1‬‬

‫ترى لو كان أعلن ذلك منذ البدء‪ ،‬هل كانت ستتدفق الجماهير التى تجمعت حوله عن طريق الشحن العاطفى حتى بلغت نصف‬
‫مليون‪ ،‬معظمهم من الشباب‪ ،‬فى شعب لم يكن يتجاوز تعداده يومئذ تسعة عشر مليوناً من البشر؟ بل هل كانت((الصفوة)) ذاتها‬
‫تتجمع بمثل هذه السهولة التى تجمعت بها‪ ،‬منساقة بعواطفها نحو الهدف الكبير؟‬

‫ل أظن‪..‬‬

‫ثم هل كانت ستتكون من نفس الشخاص الذين تكونت منهم بالفعل أم من غيرهم؟‬

‫ل أدرى! ول أحد يستطيع أن يقطع فى ذلك بيقين‪.‬‬

‫ولكن أيا كان الشخاص الذين كانت القاعدة ستتكون منهم يومئذ‪ ،‬فقد كانوا سيكونون أصلب عوداً‪ ،‬وأكثر دراية‪ ،‬وأطول نفساً‪،‬‬
‫وأقل تعجلً مما كانوا بالفعل‪ ،‬فما كانوا سينساقون بعواطفهم‪ ،‬ول كانوا سيعتقدون أن الهدف سهل المنال قريب التحصيل‪،‬‬
‫‪ 1‬انظر العدد ‪ 627‬من جريدة(الخوان المسلمون) اليومية‪ ،‬السنة الثالثة‪ ،‬بتاريخ الحد ‪ 7‬رجب سنة ‪ 1367،16‬مايو سنة ‪. 1948‬‬

‫‪71‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫فيجندوا أنفسهم وأعصابهم‪ ،‬كما فعل كثير منهم‪ ،‬لفترة محدودة من الزمن‪ ،‬يعتقدون أن كل شئ سيتم فى خللها بما أعدوه من‬
‫وسائل الوصول‪.‬‬

‫كانوا سيعلمون أن المشوار طويل طويل‪ ،‬وأن الجهد المطلوب غاية فى الضخامة‪ ،‬وأن الوسائل المطلوبة أكثر بكثير مما هو‬
‫معد‪ ..‬لن المطلوب ليس مجرد ترميمات فى بناء قائم‪ ،‬ولكنه إعادة تثبيت الساس‪.‬‬

‫أما الجماهير فما أظنها كانت ستقبل مع إعلن هذه المبادئ! فقد كانت ستعلم أنها قضية أخطر بكثير من مجرد الستماع إلى‬
‫الكلم المؤثر‪ ،‬والمتلء العاطفى‪ ،‬الذى كانوا يسمونه((الروحانية))(‪ )1‬والمتعة بلقاء الحباب‪ ،‬والنشوة بالكثرة التى تتكاثر‬
‫على الدوام‪.‬‬

‫كانت ستعلم أنه صراع مع الجاهلية يعرض النسان لكثير من المخاطر‪ ،‬التى ل ينبغى((للعاقل!)) أن يعرض نفسه لها((وقالوا‬
‫إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا))(القصص‪.)57 :‬‬

‫عندئذ كانت الحركة ستمضى بطيئة الخطى‪ ،‬ولكن على منهج أصح! كانت القاعدة الصلبة ستتكون فى بطء من رجال يختارون‬
‫على مهل بعين فاحصة ل تختار إل أصلح الخامات الموجودة‪ ،‬ثم يبذل فى إعدادهم الجهد اللزم ليكونوا نواة صالحة للعمل‪،‬‬
‫بالتربية الروحية‪ ،‬والتربية الخلقية‪ ،‬والتربية الفكرية‪ ،‬والتربية النفسية‪ ،‬والتربية بالعلم الشرعى الصحيح‪ ،‬فى ظل المنهج‬
‫الربانى العظيم‪(( :‬كفوا أيديكم وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة))‪.‬‬

‫وكانت القاعدة ستتوسع‪ ،‬حين يأتى أوان التوسع‪ ،‬بعد إعداد القاعدة الصلبة‪ ،‬بجنود جندوا أنفسهم للدعوة على بصيرة بحقيقة‬
‫القضية ومتطلباتها‪ ،‬ووعى صحيح بحالة المة وما لحقها من المراض‪ ،‬وتقدير سليم لطبيعة العمل فى كل مرحلة من مراحل‬
‫الحركة‪ ،‬وذلك قبل التوجه لعامة الجماهير لينظموا للدعوة وينضووا تحت لوائها‪..‬‬

‫وكان((العمل السياسى)) بمعنى الشتغال بالقضايا الوطنية والقضايا الجتماعية وما شاكلها‪ ،‬سيتأخر بعض الوقت‪ ،‬ريثما يتم‬
‫التمكين الصحيح للساس الصحيح‪ ،‬المتمثل فى العقيدة الصحيحة والتربية على مقتضياتها‪ ،‬فى محيط الذين استجابوا للدعوة‪،‬‬
‫وجندوا لها أنفسهم (بما يقابل مجتمع المدينة فى جماعة الرسول صلى ال عليه وسلم )‪.‬‬

‫ثم كان سيحدث الصراع! وهو أمر ل مفر من حدوثه حسب السنن الربانية التى قدرها ال فى حياة البشرية! وهو يبدأ دائماً من‬
‫جانب الجاهلية حين تستشعر الخطر من مجود جماعة مؤمنة فى الرض‪ ،‬ولو كانت قليلة العدد‪ ،‬ولو كانت من جانبها ل ترغب‬
‫فى الدخول فى الصراع‪(( :‬إن هؤلء لشر ذمة قليلون(‪ )54‬وإنهم لنا لغائظون(‪ )55‬وإنا لجميع حاذرون))(الشعراء‪.)56-54 :‬‬

‫ولكن كان المتوقع أن يتأخر الصراع عن موعده الذى وقع فيه‪ ،‬بحيث يعطى فرصة أكبر لتربية القاعدة الصلبة‪ ،‬ثم تربية‬
‫القاعدة الموسعة بالقدر المتاح من التربية‪ ،‬ثم إنه حين كان يقع على قوم كفوا أيديهم‪ ،‬ولم يعملوا شيئًا إل أن يقولوا((ربنا‬
‫ال))‪ ،‬فإن هذا كان سيعجل فى تنمية وعى((الجماهير)) بحقيقة القضية‪ ،‬فل تلتبس فى ذهنهم بغيرها من القضايا التى تلبست‬
‫بها بالفعل‪ ،‬وكان سيصعب على الطغاة تطويع الجماهير لهم من خلل القهر مرة ومن خلل وسائل العلم المزيفة مرة‪ ،‬حين‬
‫تستبين سبيل المجرمين بتفصيل اليات‪ ،‬على المنهج الربانى القويم‪ ،‬ويعرف الناس على أى أساس يقررون مواقفهم‪(( :‬وكذلك‬
‫نفصل اليات ولتستبين سبيل المجرمين))(النعام‪.)55 :‬‬

‫***‬

‫الذى حدث بالفعل كان على خلف ذلك‪.‬‬

‫تأخر العلن عشرين سنة كاملة عن موعده‪ ،‬وفى تلك السنوات كانت الجماهير كثيرة قد تدفقت على الحركة غير مستشعرة‬
‫بما يحيطها من أخطار! واختلطت الدعوة‪ ،‬وهى لم تخلص بعد لل إل إله إل ال‪ ،‬بكثير من القضايا السياسية والقومية‬
‫والجتماعية‪ ،‬على ظن من القائمين بالدعوة أن هذا سيمكن للدعوة بتوسيع قاعدتها الشعبية‪ ،‬وأن الجماهير يجب أن تشرك فى‬
‫المر‪ ،‬وذلك بتناول القضايا التى تشغل بال الجماهير فى ذلك الوقت‪ ،‬حتى كانت القنبلة التى فجرت الموقف كله فى فلسطين‬
‫عام ‪1948‬م ‪..‬‬

‫عندئذ بدأ الهجوم الوحشى على الحركة بأبشع صورة يمكن أن تخطر على البال ‪0‬‬

‫نعم كانت الحرب على الدعوة متوقعة‪ ،‬لنها كما قلنا سنة من سنن ال‪ ،‬وكان المام الشهيد يقول لعوانه وأتباعه‪(( :‬أحب أن‬
‫أصار حكم أن دعوتكم لزالت مجهولة عند كثير من الناس‪ ،‬ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة‬

‫‪ 1‬الصحيح هو((الروحانية)) بضم الراء نسبة إلى الروح‪.‬‬

‫‪72‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫شديدة وعداوة قاسية‪ ،‬وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات‪ ،‬وسيعترضكم كثير من العقبات‪ ،‬كوفى هذا الوقت وحده تكونون قد‬
‫بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات))(‪.)1‬‬

‫ولكن الصورة التى تمت بها الحرب لم تكن تخطر على البال ‪0‬‬

‫وتوالت المذابح منذ ذلك الحين وما تزال ‪.‬‬

‫لقد انكشفت للغرب الصليبى موضع الخطر على وجه التحديد‪ ،‬إنه السلم السياسى الذى ل يقنع من السلم بشعائر التعبد‬
‫ومشاعر القلوب‪ ،‬إنما يريد أن يكون منهجاً مطبقاً فى واقع الرض‪ ،‬يحكم حياة الناس كلها ‪ :‬سياستها واقتصادها واجتماعها‬
‫وفكرها وأخلقها‪ ،‬وكل مجال من مجالتها! وهل يوجد – فى نظر الغرب – أخطر من ذلك على وجه الرض؟(‪.)2‬‬

‫لبد إذن من مكافحته ‪ ..‬لبد من تجنيد القوى كلها ضده ‪ ..‬لبد من متابعته ومطاردته ‪ ..‬لبد من تجفيف منابعه ‪ ..‬لبد من‬
‫تشويه صورته حتى ل يقبل عليه الشباب فتزيد خطورته!‬

‫ولقد أشعل نار الحقد فى قلوب الصليبية الصهيونية أمران فى وقت واحد‪ :‬الول وقع المفاجأة على الصليبية التى كانت تتوقع‬
‫بعد تخطيط مائتى عام أون أكثر أن تنجح فى القضاء على السلم‪ ،‬ففوجئت به يستيقظ من رقدته! والثانى تهيؤ اليهودية‬
‫العالمية لقامة دولتها على أرض السلم بعد سعيها الحثيث لماتته‪ ،‬حتى تنشئ دولتها فى أمان من الخطار‪ ،‬فإذا بها تفاجأ‬
‫بالخطر وجهاً لوجه! وتلقى المران معاً وتفاهما على ضرورة القضاء على عدوهما المشترك الخطير ‪0‬‬

‫هل كان يتوقع أن تنجو الحركة السلمية من عداوة الصليبية الصهيونية وكيدها‪ ،‬ومحاولة القضاء عليها؟‬

‫نعتقد أن ذلك محال!‬

‫ولكنا نعتقد مع ذلك أن صورة أخرى كانت قمينة أن تقع لو سارت المور على المنهج الصحيح‪ ،‬لو كانت ((الجماهير)) التى‬
‫أشركت فى الصراع قبل الوان على وعى بحقيقة القضية‪ ،‬وحقيقة الصراع! ولن تكون الجماهير على هذا الوعى حتى تكون قد‬
‫تربت من قبل‪ ،‬ولن تتربى التربية المطلوبة حتى تكون القاعدة قد تم إنشاؤها على منهج سليم! وهكذا أدى النقص فى الحلقة‬
‫الولى إلى نقص متسلسل فى بقية الحلقات!‬

‫ثم كان ما أشرنا إليه فى الفصول الولى من ردود فعل للضربات الوحشية من قبل العداء‪ ،‬زادت من الغبش سواء فى القاعدة‬
‫أو عند الجماهير‪ ،‬ونقصد بذلك دخول بعض فصائل العمل السلمى فى البرلمانات‪ ،‬وما صاحب ذلك من تمييع لقضية الشرعية‪،‬‬
‫وقضية اللزام فى تحكيم شريعة ال‪ ،‬ودخول فصائل أخرى فى صراع مسلح مع السلطات‪ ،‬مما أدى إلى تهميش القضية‬
‫الساسية‪ ،‬وتحول المر فى حس الناس إلى قضية ضارب ومضروب‪ ،‬وغالب ومغلوب(‪.)3‬‬

‫ثم اشتطت فصائل أخرى من فصائل العمل السلمى فدخلت فى معارك دموية مع الناس‪ ..‬مع ((الجماهير)) على أساس أنهم‬
‫كفار يجوز قتلهم ما داموا لم يدخلوا فى ((الجماعة المسلمة))!‬

‫وكان لهذا المر أسوأ الثر على العمل السلمى كله‪ .‬ففضل عن النفور العام عند الناس من هذه العمال التى ل سند لها من‬
‫شرع ال‪ ،‬فقد وجدت وسائل العلم المتربصة بالحركة السلمية فرصة مواتية لتلوين الساحة كلها بلوم الدم المراق‪ ،‬مع أنه‬
‫ل يمثل إل جزءا ضئيلً من الساحة‪ ،‬ووصمت كل عمل إسلمى أيا كان نوعه بأنه عمل إرهابى ينبغى أن يحارب وتجفف‬
‫منابعه!‬

‫وما كانت وسائل العلم العالمية فى حاجة إلى من ينبهها أو يحفزها إلى انتهاز هذه الفرصة‪ ،‬فهى – بموقفها المعادى للسلم‬
‫أصل – جاهزة لتلقف مثل هذه الفرصة واستغللها إلى أقصى حدود الستغلل!‬

‫كما كان رد الفعل سيئاً بالنسبة للغبش الذى يحيط بقضية ل إله إل ال‪ ،‬سواء بالنسبة للقاعدة أو بالنسبة للجماهير‪ ،‬فقد انبرى‬
‫أصحاب الفكر الرجائى ينافحون عن فكرهم بشدة‪ ،‬وينشرونه بكل وسائل النشر‪ ،‬بل وقع فى الدوامة ((علماء)) ممن يعتبرهم‬
‫الناس من أهل الذكر الذين يرجع إليهم‪ ،‬فراحوا ينفون الوقوع فى الشرك عن الواقعين فيه بحرارة وبضراوة‪ ،‬ويمنحونهم‬
‫شهادات موثقة باليمان!ن ويهونون فى حس الناس هذا الجرم الهائل فى حق ال‪ ،‬وهو العراض عن شريعته‪ ،‬وتحكيم‬
‫الشرائع الجاهلية بدل منها‪ ،‬على أنه مجرد معصية ل تستحق حتى أن يشار إليها بالنكار! ولقد كان الحرى أن تأخذ القضية‬

‫‪ 1‬مجموعة رسائل المام الشهيد حسن البنا‪ ،‬المؤسسة السلمية للطباعة والصحافة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪1403 ،3‬هـ‪1983 ،‬م ص ‪. 108‬‬
‫‪ 2‬يزعم الغرب أنه يحارب ((السلم المقاتل)) ((‪ ))Militant Islam‬فقط ‪ ،‬الذى أطلق عليه لقب ((الرهاب)) ول يقاتل السلم ذاته‪ .‬ويكذب هذا الزعم‬
‫تكذيباً قاطعاً موقف الغرب من حركة الجزائر ‪ ،‬فهى لم تكن مقاتلة‪ ،‬ول كان فى برنامجها أن تقاتل‪ ،‬إنما وصلت عن طريق صناديق النتخاب على مذهب‬
‫الغرب ذاته‪ ،‬ولكن الغرب لم يطقها‪ .‬مما يدل على أنه ل يريد للسلم أن يحكم‪،‬م بصرف النظر عن الوسيلة التى يصل بها إلى الحكم!‬
‫‪ 3‬راجع فصل ((أسباب التعجل)) فى أول الكتاب ‪.‬‬

‫‪73‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫مسيرة أطول على الخط التعليمى‪ ،‬تبدأ بالقاعدة ثم – على مهل‪ -‬تتوسع بتوسع القاعدة‪ ،‬دون الدخول فى معركة مع‬
‫((الجماهير))‪.‬‬

‫***‬

‫ثهم تشرذم العمهل السهلمى لسهباب متعددة ‪ ..‬منهها غياب قيادة كهبيرة تضهم العمهل السهلمى وتوحده‪ ،‬أو فهى القليهل تقرب بيهن‬
‫مختلف اتجاهاته‪ ،‬ووجوده قيادات صغيرة‪ ،‬كل منها يعتد بنفسه ورأيه‪ ،‬ويرى أنه وحده على صواب والكل غير مخطئون ‪0‬‬

‫ومنها أن كثيراً من الشباب القائم بالدعوة لم ينشأ فى داخل تجمع يربى فيه روح الخوة وترابطها‪ ،‬إنما تنشأ على ترابط فكرى‬
‫هش‪ ،‬يسهل فسخه عند وقوع أى خلف فى التفسير أو التأويل أو الفهم‪ ،‬فسرعان ما تنقسم الجماعات‪ ،‬وينقلب بعضها على‬
‫بعض ‪0‬‬

‫ومنها نقص فى العلم الشرعى الذى يشكل الضوابط الضرورية للفكر وللسلوك‪..‬‬

‫ومنها بطبيعة الحال‪ ،‬العمل الدائب من الجهزة المعادية للسلم‪ ،‬لتعميق الخلفات وتقطيع الروابط بين الناس ‪0‬‬

‫هلى يرجى لهذا الحال إصلح؟ هل يرجى من الذين تعجلوا فى شتى التجاهات أن يراجعوا المسيرة‪ ،‬ويصححوا ما وقعوا فيه‬
‫من أخطاء‪ ،‬ويبدءوا من جديد على هدى من المنهج النبوى السديد؟‬

‫إن ما وقع بالفعل هو قدر من أقدار ال ‪ ..‬ولكنا تعلمنا من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم أن اليمان بقضاء ال‬
‫وقدره ل ينفى مسئولية النسان عن خطئه حين يخطئ‪ ،‬ول يمنعه من السعى إلى تصحيح ما أخطأ فيه ‪0‬‬

‫فهل يرجى أن يصحح العمل السلمى مساراته‪ ،‬ويبدأ جولة جديدة أقرب إلى السداد؟!‬

‫إن تصحيح المسار واجب على كل حال ‪ ..‬ولكن ربما يقول قائل‪ :‬إن العداء لن يتركوا العمل السلمى يصحح مساراته‪،‬‬
‫وسيعاجلونه بالحرب قبل أن يتمكن من التصحيح‪ ،‬بل قد تكون من عوامل الشحذ‪ ،‬وزيادة الوعى عند الناس بحقيقة المعركة‬
‫بين الجاهلية والسلم ‪0‬‬

‫ويظل واجب النصيحة واجباً فى جميع الحوال‪(( :‬الدين النصيحة)) قالوا‪ :‬لمن يا رسول ال؟ قال ‪(( :‬ل ولرسوله ولكتابه‬
‫ولعامة المسلمين وخاصتهم))(‪.)1‬‬

‫نظرة إلى المستقبل‬

‫ينزعج كثير من الناس حين ينظرون إلى الواقع الراهن‪ ،‬سواء بالنسبة للحرب الضارية التى توجه إلى الحركات السلمية فى‬
‫كل الرض‪ ،‬أو بالنسبة لما وقع – وما يزال يقع – من الضطراب فى مسيرة الحركة من جهة أخرى‪ ،‬فيحسبون أن العمل‬
‫السلمى ليس له مستقبل‪ ،‬وأن الواقع السيئ الذى يعيشه المسلمون اليوم سيستمر على ما فيه من السوء‪ ،‬أو أنه صائر إلى‬
‫مزيد من السوء ‪0‬‬

‫أما نحن فنعتقد اعتقاداً راسخاً أن المستقبل للسلم ‪0‬‬

‫ولسنا نبنى رؤيتنا على أوهام‪ ،‬ول على أحلم‪ ،‬ول نحن كذلك نغمض أعيننا عن العراقيل القائمة فى وجه العمل السلمى من‬
‫داخله أو من خارجه‪ ،‬ول نقلل من شأنها‪ ،‬ول من تأثيرها على العمل السلمى ‪0‬‬

‫ولكنا نؤمن إيماناً جازماً أن البشر ليسوا هم الذين يقدرون القدار‪ ،‬سواء منهم العدو أو الصديق‪ ،‬إنما ال هو الذى يقدر‪ ،‬وهو‬
‫صاحب المر من قبل ومن بعد‪ ،‬ومشيئته هى النافذة‪ ،‬وقدرة هو الغالب‪(( :‬وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل‬
‫يعلمون))(يوسف‪.)21:‬‬

‫وال هو الذى قدر لهذا الدين أن يبقى فى الرض وأن يظهر على الدين كله‪(( :‬هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‬
‫ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف‪(( )9 :‬ليبلغن هذا المر ما بلغ الليل والنهار))(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪0‬‬


‫‪ 2‬رواه أحمد ‪.‬‬

‫‪74‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وقدر ال يجرى من خلل سننه التى ل تتبدل ول تتحول ‪ ،‬ومن خلل وعده ووعيده‪ ،‬ومن خلل مشيئته الطليقة التى تقول‬
‫للشىء كن فيكون‪ ،‬وتخلق السباب التى يتحقق بها كل شىء حين يقدر له أن يكون ‪0‬‬

‫***‬

‫وإذا نظرنها إلى الموقهف على ضوء السهنن الربانيهة‪ ،‬وعلى ضوء وعهد ال ووعيده‪ ،‬فسهنجد على السهاحة عنصهرين متصهارعين‪:‬‬
‫الحركات السهلمية مهن جههة‪ ،‬وأعداء السهلم مهن صههيونيين وصهليبيين وأعوان لههم مهن جههة أخرى‪ .‬فمها الذى يتوقهع لكهل مهن‬
‫العنصرين فى المستقبل القريب أو المستقبل البعيد؟‬

‫فأما الحركات السلمية فقد أسهمت فى العمل السلمى بجهد واضح ل شك فيه‪ .‬وانتشار الروح السلمية على مستوى العالم‬
‫السلمى كله‪ ،‬والرغبة الحارة فى العودة إلى السلم فى محيط الشباب خاصة‪ ،‬راجعان بعد فضل ال ومشيئته إلى الجهد الذى‬
‫بذلته الحركة فى أكثر من نصف قرن من الزمان‪ ،‬منذ سقوط الخلفة إلى الوقت الراهن ‪0‬‬

‫ولكن السلبيات القائمة فى العمل السلمى معوق واضح يبدد كثيراً من طاقة العمل ويبعثره‪ ،‬ول يجعل الجهد يؤتى ثماره‬
‫المرجوة‪ ،‬فهل يستمر الوضع على هذا الحال؟‬

‫((قل ل يعلم من فى السموات والرض الغيب إل ال))(النمل‪.)65 :‬‬

‫ولكن المر ل يخرج عن أحد احتمالين‪ :‬إما أن يستمر الوضع على حاله‪ ،‬وإما أن يتغير‪.‬‬

‫ونحن نرجو – من خلل التجارب المرة التى يمر بها العمل السلمى – أن يتغير الوضع إلى الصورة الصحيحة‪ ،‬وأن تتلفى‬
‫الخطاء التى وقعت‪ ،‬وتبدأ مسيرة سليمة على منهج سليم ‪0‬‬

‫ولكنا نفترض الفرض السوأ‪ ،‬وهو إصرار العاملين فى حقل الدعوة على مواقفهم‪ ،‬على اعتبار أن منهج كل منهم هو المنهج‬
‫الصوب‪ ،‬وأن ما يدعو إليه غيره بعيد عن الصواب‪ ،‬أو على أساس أنه ل يمكن التراجع بعدما مضت كل حركة فى طريقها‬
‫خطوات ليست بالقليلة‪ ،‬أو على أى أساس آخر مما يمكن أن تبرر به كل حركة إصرارها على موقفها ‪0‬‬

‫فماذا يحدث حينئذ؟ هل يعجزون ال؟ أم ينفذ ال قدره رضى الناس أم أبوا؟‬

‫إن أداة التغيير موجودة على الدوام فى سنة ال عز وجل‪(( :‬وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم ل يكونوا أمثالكم))(محمد ‪:‬‬
‫‪.)38‬‬

‫فإذا كان قدر ال أن يبقى هذا الدين‪ ،‬وأن يظهره على الدين كله‪ ،‬كما أخبر سبحانه فى كتابه المنزل‪ ،‬وعلى لسان رسوله‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلن تقف سلبيات العمل السلمى الراهن أمام قدر ال ومشيئته‪ ،‬وسوف ينفذ ال وعده‪ ،‬ويخلق لنفاذه‬
‫ما يشاء من السباب‪(( :‬إن ال بالغ أمره قد جعل ال لكل شىء قدراً))(الطلق‪(( .)3:‬يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‬
‫فسوف يأتى ال بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك‬
‫فضل ال يؤتيه من يشاء وال واسع عليم))(المائدة ‪.)54 :‬‬

‫***‬

‫أما العداء فلننظر ماذا يخصهم من سنن ال‪ ،‬ومن وعده ووعيده ‪0‬‬

‫أما الغرب الصليبى‪ ،‬فأشد ما ينطبق عليه من السنن الربانية هو قوله تعالى‪(( :‬فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل‬
‫شىء))(النعام ‪ .. )44 :‬ذلك أنهم أرادوا الحياة الدنيا وعملوا من أجلها واجتهدوا فوفى ال لهم أعمالهم فيها بحسب سنة من‬
‫سننه‪(( :‬من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون))(هود ‪ .. )15 :‬وذلك أيضاً حسب‬
‫مشيئة إلهية مسبقة‪ ،‬أنه يعطى الدنيا للمؤمن والكافر على السواء‪ ،‬كل بحسب اجتهاده‪ ،‬ول يمنعها عن الكفار‪ ،‬بل قد يزيدهم‬
‫منها ليزدادوا كفرًا ‪(( :‬كل نمد هؤلء وهؤلء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً))(السراء ‪(( . )20 :‬ول يحسبن‬
‫الذين كفروا أنما نملى لهم خير لنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين))(آل عمران ‪.)178 :‬‬

‫فإذا كان الغرب اليوم ممكنا فى الرض‪ ،‬ومستعلياً فيها حسب هذه السنن الربانية‪ ،‬فإن هذه السنن ذاتها تقول إن ذلك الملء ل‬
‫يدوم إلى البد‪ ،‬إنما هو موقوت بقدر يأتى من عند ال فى موعده المقدر له ‪(( :‬فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل‬
‫شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(‪ )44‬فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد ل رب‬
‫العالمين))(النعام ‪.)45-44 :‬‬

‫‪75‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وعلى الرغم من فتح أبواب كل شىء عليهم فإنهم يعيشون فى الضنك الذى توعد ال به المعرضين عن ذكره ‪0‬‬

‫((ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى))(طه‪.)124:‬‬

‫والضنك الذى يعيشه الغرب – المفتوح عليه أبواب كل شىء من أسباب التمكين المادى – يتمثل الن فى القلق والجنون‬
‫والنتحار‪ ،‬والمراض النفسية والعصبية‪ ،‬والخمر والمخدرات والجريمة‪ ،‬واليدز‪ ،‬وما قد يجد من المراض التى لم تكن‬
‫موجودة من قبل‪ ،‬أو لم تكن تأخذ صورة الوباء كما هى اليوم‪ ،‬وفى الزمات التى تحيط بالعالم كله سواء كانت أزمات اقتصادية‬
‫أو سياسية أو حربية أو فكرية أو خلف ذلك ‪ ..‬وذلك لن باب البركة وباب الطمأنينة ليسا من البواب التى تفتح للكفار حين‬
‫ينسون ما ذكروا به‪ ،‬لنها خاصة بالمؤمنين‪ ،‬يتفضل بها ال عليهم فى الحياة الدنيا‪ ،‬فضلً عن نعيم الخرة ‪(( :‬ولو أن أهل‬
‫القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض))(العراف‪(( . )96:‬الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر ال أل بذكر‬
‫ال تطمئن القلوب(‪ )28‬الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب))(الرعد ‪.)29-28 :‬‬

‫وخلصهة القول ‪ :‬إن الغرب اليوم يملك كهل وسهائل القوة الماديهة‪ ،‬ولكنهه ل يملك القدرة على السهتمرار‪ ،‬لنهه خاو مهن العوامهل‬
‫التى يكتب ال لصحابها الستمرار‪ ،‬وهى اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬وعمل الصالحات‪..‬‬

‫ول شك أن لديهم أعمالً صالحة‪ ،‬كالخدمات الطبية‪ ،‬وتيسير سبل الحياة بما يوف جزءاً من المشقة التى يكابدها النسان فى‬
‫الرض‪ ،‬ولم تخل جاهلية من جاهليات التاريخ من أعمال صالحة يقوم بها بعض أفرادها‪ ،‬ولكن ذلك ل يمنع عنها صفة الجاهلية‬
‫من جهة‪ ،‬لن هذه ل تزول عن النسان إل إذا آمن بال واليوم الخر واتبع ما أنزل ال‪ .‬ومن جهة أخرى فإن تلك النقط‬
‫البيضاء المتناثرة فى الثوب السود الممتلئ بالشر‪ ،‬ل تغنى عن أصحابها شيئاً‪ ،‬ول تمنع عنهم الدمار الذى تقرره السنن‬
‫الربانية لهم مهما طال الملء لهم ‪0‬‬

‫إن اللحاد الذى تنشره الحضارة الغربية‪،‬ن والنحلل الخلقى الذى تنشره وسائل إعلمها‪ ،‬والخواء الروحى‪ ،‬والنغماس فى‬
‫المتاع الحسى إلى آخر المدى‪ ،‬وتزيين الحياة الدنيا‪ ،‬ونسيان الخرة نسياناً كاملً‪ ،‬والغفلة عن أن ال يحصى على البشر‬
‫أعمالهم ويحاسبهم عليها‪ ،‬كل هذا ل يصنع حضارة حقيقية يكتب ال لها الستمرار فى الرض‪ ،‬ولو أملى لصحابها فترة من‬
‫الزمان لحكمة يريدها ‪0‬‬

‫ولسنا نحن الذين نقول ذلك إرضاءً لعواطفنا‪ ،‬أو تصديقاً لحلمنا! فمن قبل سنوات قال برتراندرسل‪(( :‬لقد انتهت حضارة‬
‫الرجل البيض‪ ،‬لنه لم يعد لديه ما يعطيه))‪.‬‬

‫ومن قبل قال ألكسيس كاريل‪(( :‬إن هذه الحضارة آيلة للنهيار))‪.‬‬

‫وبالمس شهدنا انهيار الشيوعية‪ ،‬وفى الوقت الحاضر تكتب الصحف الغربية – والمريكية من بينها – تقول ‪ :‬هل بدأ انهيار‬
‫أمريكا؟‬

‫ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك سيتم غداً صباحاً! فما زال فى هذه الحضارة الجاهلية من العوامل ما يمكن أن يمد لها‬
‫فترة من الزمن بحسب السنن الربانية‪ :‬عبقرية التنظيم‪ ،‬والجلد على العمل‪ ،‬والحرص على التقان‪ ،‬والقدرة على التخطيط‪.‬‬
‫فضلً عن كون البديل الحضارى الذى يؤدى ظهوره إلى سرعة انهيار تلك الحضارة لم يظهر بعد !‬

‫ولكن هذا كله ل يغير المصير‪ ،‬لنه سنة من سنن ال!‬

‫***‬

‫أما اليهود فلهم شأن مختلف ‪.‬‬

‫لقد كتب ال عليهم الذلة والمسكنة بما قدمت أيديهم‪ ،‬ولكنه جعل لذلك استثناء‪ ..‬أو استثناءات‪.‬‬

‫((وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب فتفسدن فى الرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً(‪ )4‬فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عباداً‬
‫لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلل الديار وكان وعداً مفعولً(‪ )5‬ثم رددنان لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم‬
‫أكثر نفيراً (‪ )6‬إن أحسنتم أحسنتم لنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه‬
‫أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً(‪ )7‬عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا))(السراء ‪.)8-4 :‬‬

‫((ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إل بحبل من ال وحبل من الناس))(آل عمران‪.)112:‬‬

‫‪76‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وهم الن فى قمة استثناءاتهم التى وعدهم ال بها ‪ ..‬مسيطرون على كل الرض إل ما رحم ربك‪ ،‬يعينون رؤساء الجمهوريات‪،‬‬
‫ويملون عليهم سياستهم‪ ،‬ويعزلون من يغضبون عليه ويسقطونه من سلطانه‪ ،‬ويقتلون من يقف فى طريقهم كما قتلوا كنيدى‬
‫وغيره من الناس‪ ..‬ولكن هذا كله استثناء من القاعدة!‬

‫((وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب))(العراف‪.)167:‬‬

‫تلك هى القاعدة الدائمة‪ ،‬وما دون ذلك استثناء‪ ،‬والستثناء بطبيعته ل يدوم‪ ،‬لنه مخالف للقاعدة!‬

‫والقاعدة من تقدير ال سبحانه وتعالى‪ ،‬والستثناء يتم بقدر بقدر منه كذلك‪ ،‬ولكن طبيعة المور أن الستثناء ينتهى ويعود‬
‫المر إلى ما تقرر فى القاعدة‪ ،‬حسب وعد ال ووعيده ‪0‬‬

‫وقد ل نعلم نحن الحكمة الربانية فى تلك الستثناءات المذكورة فى آيات الكتاب‪ ،‬ولكن وقوعها محقق سواء فهمنا حكمتها أم‬
‫غابت الحكمة عن أفهامنا‪ ..‬والمهم أن ندرك أنها استثناء من القاعدة‪ ،‬وأنها موقوتة بأمد محدود ‪0‬‬

‫واليهود أنفسهم يعلمون ذلك! ويعلمونه من كتبهم ذاتها ل من المصادر الجنبية عنهم!‬

‫وحين تنهار الجاهلية المعاصرة بمقتضى السنة الربانية‪ ،‬بحكم ما تشتمل عليه من الفساد‪ ،‬فإن البشرية تكون فى حاجة إلى‬
‫البديل الذى يمل الفراغ ‪0‬‬

‫والسلم هو البديل‪ ،‬هو الذى يعيد للرض رشدها ويصلح أحوالها ويشفيها من أمراضها‪:‬‬

‫((يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من ال نور وكتاب مبين(‬
‫‪ )15‬يهدى به ال من اتبع رضوانه سبل السلم ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم))(المائدة ‪:‬‬
‫‪.)16-15‬‬

‫السلم هو المنهج الكامل القويم الذى ل عوج فيه‪ ،‬ومناهج الجاهلية دائماً ذات نقص واعوجاج ‪0‬‬

‫واليوم يفر مئات اللوف كل عام من الظلمات التى يعيشون فيها إلى نور السلم‪ ،‬ل اتباع ًا لنموذج قائم‪ ،‬فالمسلمون فى واقعهم‬
‫المعاصر ل يمثلون نموذجاً يحتذى‪ ،‬بل هو نموذج حرى أن يصد الناس عن السلم!‬

‫ولكن لذع الضياع يدفع بعض الناس إلى البحث عن طريق الخلص‪ ،‬فيجدونه فى السلم!‬

‫إن الغرب الضائع يملك علماً وحضارة مادية فائقة‪ ،‬ولكنه يفتقد الروح‪ ..‬الروح المهتدية إلى ال‪ ..‬المهتدية بهدى ال‪ .‬والسلم‬
‫ل من العلم والحضارة المادية‪ ،‬إنما هى التوأم المكمل‪:‬‬
‫هو الذى يملك تلك الروح‪ ،‬وهو فى الوقت ذاته ل يجعلها بدي ً‬

‫((إذ قال ربك للملئكة إنى خالق بشرا من طين(‪ )71‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص ‪.)72-71 :‬‬

‫قبضة الطين ونفخة الروح مع ًا هما ((النسان))‪ .‬النسان المتكامل المترابط المتوازن‪ .‬النسان الراشد‪ ،‬الذى يقوم بعمارة‬
‫الرض على هدى وبصيرة‪ ،‬ويتطلع فى الوقت ذاته إلى اليوم الخر‪ ،‬الذى تكتمل فيه الحياة ‪:‬‬

‫((هو الذى جعل لكم الرض ذلولً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك‪.)15:‬‬

‫((وابتغ فيما آتاك ال الدار الخرة ول تنس نصيبك من الدنيا))(القصص‪.)77 :‬‬

‫((وعد ال المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من ال‬
‫أكبر ذلك هو الفوز العظيم))(التوبة ‪.)72 :‬‬

‫السلم هو المنقذ الذى يملك ما تحتاج إليه البشرية وتتطلع إليه ‪.‬‬

‫يقول المير تشارلس ولى عهد بريطانيا فى محاضرة قيمة ألقاها فى قاعة المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية فى ديسمبر‬
‫من عام ‪1966‬م‪ ،‬تحمل دللة واضحة بالنسبة للمعنى الذى أشرنا إليه‪:‬‬

‫((إن المادية المعاصرة تفتقر إلى التوازن‪ .‬وأضرار عواقبها بعيدة المد فى تزايد ‪ ..‬إن القرون الثلثة الخيرة شهدت – فى‬
‫العالم الغربى على أقل تقدير – انقساما خطيرا فى طريقة رؤيتنا للعالم المحيط بنا‪ .‬فقد حاول العلم بسط احتكاره‪ ،‬بل سطوته‬

‫‪77‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫المستبدة‪ ،‬على طريقة فهمنا للعالم‪ .‬وانفصل الدين والعلم عن بعضهما البعض‪ ،‬بحيث صرنا الن كما قال الشاعر ((وردزورث))‬
‫ل نرى إل القليل فى أمنا الطبيعة التى نملكها))‪.‬‬

‫لقد سعى العلم إى انتزاع الطبيعة من الخالق‪ ،‬فجزأ الكون إلى فرق‪ ،‬وأقصى ((المقدس)) إلى زاوية نائية ثانوية من ملكة الفهم‬
‫عندنا‪ ،‬وأبعده عن وجودنا العملى‪ .‬والن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمرة‪ .‬ويبدو أننا نحن ك‪ -‬أبناء العالم الغربى – قد فقدنا‬
‫الحساس بالمعنى الكلى لبيئتنا‪ ،‬وبمسئوليتنا إزاء الكون كله الذى خلقه ال‪ ،‬وقادنا ذلك إلى فشل ذريع فى تقدير أو إدراك‬
‫التراث وحكمة السلف‪ ،‬ذلك التراث المتراكم على مدار القرون‪ .‬والحق أن ثمة تحامل شديدا على التراث‪ ،‬كما لو كان جذاما‬
‫اجتماعياً منفرا ‪0‬‬

‫وثمة الن فى نظرى حاجة إلى مقابلة كلية شاملة‪ .‬لقد أدى العلم لنا خدمة جليلة فى تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا‬
‫نتخيل‪ .‬ولكن العلم فى شكله المادى الحديث‪ ،‬الحادى‪ ،‬عاجز عن تفسير كل شىء‪ .‬إن الخالق ليس ذلك الرياضى الذى تخيله‬
‫نيوتن‪،‬ن وليس صانع الساعة الول(‪ .)1‬إن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الخلقية والمقدسة قد بلغ حداً‬
‫مريعاً مفزعاً‪ .‬وهذا ما نراه فى التلعب بالمورثات (الجنيات) أو فى عواقب الغطرسة العلمية التى تتجلى فى أبشع صورها فى‬
‫مرض جنون البقار ‪0‬‬

‫لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث فى حياتنا ليس من صنع النسان‪ ،‬إنما هو إلهام فطرى وهبه الخالق لنا لدراك إيقاع الطبيعة‪،‬‬
‫والتناغم الجوهرى الذى ينشأ عن وحدة أضداد متفرقة‪ ،‬ماثلة فى كل مظهر من مظاهر الطبيعة‪ .‬إن التراث يعكس النظام‬
‫السرمدى للكون‪ ،‬ويشدنا إلى الوعى بالسرار العظيمة للكون الفسيح‪ ،‬بحيث نستطيع – كما قال الشاعر ((وليم بليك)) – أن‬
‫نرى كامل الكون فى ذرة‪ ،‬ونرى البدية فى لحظة ‪..‬‬

‫إن الثقافة السلمية فى شكلها التراثى جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلل‬
‫الجيال الخيرة فى الغرب موائمة للتطبيق‪ .‬وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم السلمى فى هذا المضمار ‪0‬‬

‫إننا – نحن أبناء الغرب – نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا‪ .‬وإن اقتراب اللف الثالثة قد‬
‫يكون الحافز المثالى الذى يدفعنا لستكشاف هذه الصلت وتحفيزها‪ .‬وآمل أل نفوت الفرصة السانحة لعادة اكتشاف الجانب‬
‫الروحى فى رؤيتنا لوجودنا بأجمعه))(‪.)2‬‬

‫***‬

‫السلم هو المنقذ‪ ،‬وهو البديل القادم بإذن ال!‬

‫وقدر ال غيب‪ ،‬ولكن له إرهاصات ‪0‬‬

‫لو كان فهى قدر ال أن ينتههى هذا الديههن مهن الرض‪ ،‬فقهد كان الكيههد الصههليبى كفيلً بالقضاء عليهه يوم أطاح بالدولة العثمانيهة‬
‫وألغى الخلفة‪ ،‬وظنت الصليبية الصهيونية يومئذ أنها ظفرت أخيراً بعدوها اللدود‪ ،‬وأجهزت عليه! ولكن قدر ال كان غير ذلك‪،‬‬
‫كان هو الصحوة السلمية!‬

‫ولما جن جنون الصليبية الصهيونية من الصحوة‪ ،‬قاموا يضربونها بكل ما يملكون من وسائل البطش‪ ،‬بالسجن والتشريد‬
‫والتعذيب والقتل‪ ،‬ظن ًا منهم أن هذا هو طريق الخلص من العدو الذى لم تقتله الضربة التى ظنوها هى القاضية‪ ..‬ولكن قدر ال‬
‫كان غير ذلك‪ ،‬كان مزيدًا من انتشار الصحوة فى كل الرض!‬

‫والرهاصات كلها تقول‪ :‬إن السلم هو البديل القادم‪ ،‬الذى يصلح ما أفسدته الجاهلية فى الرض!‬

‫***‬

‫السلم قادم من أى طريقيه جاء‪ .‬الطريق الهادئ البطئ المتدرج‪ ،‬الذى نحبه ونرتضيه وندعو إليه‪ ،‬ولو استغرق تمامه عدة‬
‫أجيال‪ ،‬أو الطريق الصاخب العنيف الذى تغذيه حماقات الغرب وحماقات إسرائيل!‬

‫‪ 1‬قال نيوتن إن ال خلق الكون على هيئة ساعة كونية منضبطة الحركة‪ .‬ولكن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلة إلى الله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة‪،‬‬
‫لنه هو ذاته ل يستطيع تغيير مسارها حتى لو أراد ذلك!‬
‫عن كتاب ((منشأ الفكر الحديث)) تأليف برنتون ص ‪ 151‬من الترجمة‬
‫‪ 2‬عن جريدة الشرق الوسط العدد ‪ . 6592‬بتاريخ ‪. 15/12/1996‬‬

‫‪78‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫إن الصليبية الصهيونية التى تسيطر على الرض اليوم‪ ،‬تعمل بحماقة ضد مصالحها ! إنها – بعنف البطش الذى توجهه ضد‬
‫الحركات السلمية – تولدت أجيا ًل من العمل السلمى أصلب عوداً‪ ،‬وأطول نفسا‪ ،‬وأكثر وعياً‪ ،‬وأشد مراساً من الذين تحاربهم‬
‫اليوم!‬

‫وعقلؤهم يعرفون ذلك‪ ،‬ويحذرون قومهم منه‪ ،‬ولكن الحقد الذى فى قلوبهم يعميهم عن رؤية هذه الحقيقة‪ ،‬ويصم آذانهم عن‬
‫الستماع للنصيحة‪ ،‬ولو جاءت من عقلئهم أنفسهم!‬

‫ويتم ذلك بقدر من ال‪ ،‬وحسب سنة من سنن ال ‪(( :‬وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا‬
‫لكم المثال(‪ )45‬وقد مكروا مكرهم))(إبراهيم ‪)46-45 :‬‬

‫إن النفجارات الكبرى فى التاريخ تحدث دائماً حين يشتد ضغط الطغاة على تيار صاعد! يشتد عليه الطغاة ليكبتوه‪ ،‬فيكون هذا‬
‫الضغط ذاته هو الذى يولد النفجار‪ ،‬ويكون الضحية فيه هم الطغاة ‪0‬‬

‫والذى تفعله الصليبية الصهيونية اليوم – بحماقة – هو هذا الضغط الذى يولد النفجار ‪0‬‬

‫***‬

‫وبضربة قدر واحدة تتم ثلثة أمور فى وقت واحد ‪.‬‬

‫يتم أولً عقاب المة السلمية على ما فرطت فى دين ال ‪.‬‬

‫لقد حمل ال هذه المة أمانة لم يحملها لمة سابقة فى التاريه‪ ،‬حين كرمها بأن تكون أمة خاتم النبياء‪ ،‬وجعل فى حمل هذه‬
‫المانة خيرية المة وفضلها على المم السابقة‪(( :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‬
‫وتؤمنون بال))(آل عمران ‪(( .)110 :‬وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم‬
‫شهيداً))(البقرة‪.)143 :‬‬

‫ولكنها غفلت حيناً من الدهر‪ ،‬ونسيت رسالتها ل تجاه البشرية فحسب‪ ،‬بل تجاه نفسها كذلك ‪ ..‬عندئذ قدر ال لها أن تعاقب‬
‫على يد أعدائها‪ ،‬كما أنذرها رسولها‪(( :‬يوشك أن تداعى عليكم المم كما تدعى الكلة إلى قصعتها))‪ .‬قالوا ‪ :‬أمن قلة نحن‬
‫يومئذ يا رسول ال؟ قال ‪(( :‬بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪ ،‬ولينزعن ال المهابة من صدور أعدائكم‪ ،‬وليقذفن‬
‫فى قلوبكم الوهن))‪ .‬قالوا ‪ :‬وما الوهن يا رسول ال؟ قال (حب الدنيا وكراهية الموت))(‪.)1‬‬

‫وفى الوقت الذى قدر ال فيه عقاب المة على يد أعدائها‪ ،‬مكن لهؤلء العداء فى الرض‪ ،‬حسب سنته فيمن نسوا ما ذكروا‬
‫ل عن‬‫به ‪ ..‬وليتم بشأنهم قدر آخر هو التدمير فى الموعد المقدر عنه ال عقابًا لهم على إعراضهم وطغيانهم وتجبرهم‪ ،‬فض ً‬
‫القدر المقدر لهم يوم القيامة‪ ،‬والذى قال ال عنه ‪(( :‬ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‬
‫أل ساء ما يزرون))(النحل ‪(( . )25 :‬ول يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لنفسهم إنما لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب‬
‫مهين))(آل عمران ‪.)178 :‬‬

‫ويتم كذلك فى الوقت ذاته تمحيص المؤمنين ‪(( :‬وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران‪.)141:‬‬

‫وكما تمت تربية موسى فى قصر فرعون بقدر من ال‪ ،‬يتم اليوم بقدر من ال مولد جيل جديد‪ ،‬جيل ما بعد الغثاء‪ ،‬على يد‬
‫العداء الذين يكيدون لهذا الدين‪(( :‬وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون)))(يوسف‪.)21:‬‬

‫***‬

‫ولن يكون المر نزهة قريبة بالنسبة للمسلمين ‪ ..‬إنما هى تضحيات‪ ،‬ودماء ودموع‪ ،‬وعذاب ومعاناة‪ ،‬ولواء وابتلء‪ ،‬وجهد‬
‫دائب ل يهدأ (( وليعلم ال الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء))(آل عمران ‪.)140 :‬‬

‫لبد من ثمن يدفعه المسلمون جزاء تفريطهم فى دين ال‪ ،‬ولبد من جهد يبذلونه ليعودوا إلى الطريق ‪0‬‬

‫ولكن عزاءهم‪ ،‬وهم يقدمون الشهداء‪ ،‬ويتحملون العذاب‪ ،‬ويبذلون الدماء والدموع‪ ،‬أنهم يجاهدون فى سبيل ال‪ ،‬لتكون كلمة‬
‫ال هى العليا‪ ،‬وليكونوا هم ستارًا لقدر ال الذى سيمكن لهذا الدين ‪0‬‬

‫‪ 1‬سبقت الشارة إليه ‪0‬‬

‫‪79‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬


‫وعزاؤهم أن لهم فى الخرة الجنة‪ ،‬ورضوان ال‪(( :‬وعد ال المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها‬
‫ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من ال أكبر ذلك هو الفوز العظيم))(التوبة‪.)72:‬‬

‫‪80‬‬ ‫كيف ندعو الناس‬

You might also like