You are on page 1of 32

‫موقع واحة اليمان‬

‫‪www.waleman.com‬‬

‫البعد السياسي لسباب الفقر‬


‫وحلوله في العالم السلمي‬
‫سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي‬
‫المفتي العام لسلطنة عمان‬

‫موقع واحة اليمان‬


‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪info@waleman.com‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ورقة عمل مقدمة لمؤتمر مشكلة الفقر في العالم السلمي المنعقد بكواللمبور في ماليزيا بالجامعة السلمية‬
‫‪ 2-3‬من ذي القعدة ‪1425‬هـ ‪ 15-14 /‬من ديسمبر ‪ 2004‬م‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الفهرس‬
‫مقدمة‬
‫القسم الول‪ :‬البعد السياسي لسباب الفقر‬
‫‪)1‬الرأسمالية‬
‫‪)2‬الشيوعية‬
‫‪)3‬العولمة‬
‫‪)4‬الصهيونية‬
‫أولهما‪:‬انتشار المخدرات والخمور‬
‫ثانيهما‪ :‬المقامرة‬
‫القسم الثاني‪ :‬الحل السلمي‬
‫المال في نظام السلم مال ال‬
‫المال العام‬
‫السلم يدعو إلى مكافحة الفقر بتوفير النتاج‬
‫خاتمة في مقترحات تتعلق بالموضوع‬

‫مقدمة‬
‫الحمد ل والصلة والسلم على سيدنا رسول ال وعلى آله وصحبه ومن واله‪.‬‬
‫وبعد‪،،،‬‬
‫فهذا بحـث أعددتـه لهذا المؤتمـر المبارك يتناول البعـد السـياسي لسـباب الفقـر وحلوله فـي العالم السـلمي‪ ،‬وهـو‬
‫يشتمل على مقدمة وقسمين وخاتمة‪ ،‬فالمقدمة في تعريف الفقر‪ ،‬والقسم الول في البعد السياسي لسبابه‪ ،‬والقسم‬
‫الثاني في الحل السلمي لمشكلته‪ ،‬والخاتمة فيها مجموعة من التوصيات والقتراحات‪ ،‬أرجو أن تكون مسهمة‬
‫في حل هذه المشكلة وعلجها‪.‬‬

‫تعريف الفقر‪:‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ل خلف لغةً ول اصــطلحاً أن الفقــر هــو ضــد الغنــى‪ ،‬وإن اختُلف فــي تحديــد مفهمومــه عنــد اللغوييــن والفقهاء‬
‫والخبراء القتصاديين‪.‬‬
‫ففي لسان العرب نقلً عن ( ابن سيده أنه قال‪ :‬وقدر ذلك أن يكون له ما يكفي عياله‪ .‬ومثله قول ابن السكيت ‪ :‬إن‬
‫الفقير الذي له بلغة من العيش‪ .‬قال الراعي يمدح عبد الملك بن مروان ويشكو إليه سعاته‪:‬‬

‫س َبدُ‬
‫أما الفقير الذي كانت حلوبته‪.........‬وفق العيال فلم يترك له َ‬

‫والمسـكين الذي ل شيـء له‪ ،‬وفيـه أيضاً‪ :‬قال يونـس‪ :‬الفقيـر أحسـن حالً مـن المسـكين‪ ،‬قال‪ :‬وقلت لعرابـي مرةً‪:‬‬
‫أفقير أنت؟ قال‪ :‬ل وال بل مسكين‪ ،‬فالمسكين أسوأ حالً من الفقير‪ ،‬وقال ابن العرابي‪ :‬الفقير الذي ل شيء له‪،‬‬
‫قال‪ :‬والمسـكين مثله ) إلى أن قال‪ ( :‬سـئل ابن العباس عن تفسـير الفقيـر والمسـكين فقال‪ :‬قال أبو عمرو بـن العلء‬
‫فيما يروي عنه يونس‪ :‬الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي ل شيء له‪ ..‬إلخ )‪.1‬‬

‫وفـي كليات أبـي البقاء ‪ ( :‬الفقيـر هـو مـن يسـأل والمسـكين مـن ل يسـأل‪ ..‬إلى أن قال‪ :‬وقيـل‪ :‬الفقيـر ال ّزمِن المحتاج‬
‫والمسكين الصحيح المحتاج‪ ،‬وقيل الفقير من له أدنى شيء والمسكين من ل شيء له )‪.2‬‬

‫ل مـن الخـر‪ ،‬وكثيـر ممـا‬ ‫وهذا يدل على أن اللغوييـن اختلفوا فـي تحديـد مفهوم الفقيـر والمسـكين وأيهمـا أسـوأ حا ً‬
‫قالوه راعوا فيـه اشتقاق الكلمتيـن‪ ،‬فالفقيـر كأنمـا الحاجـة قطعـت فقار ظهره‪ ،‬والمسـكين مـن أسـكنته الحاجـة حتـى‬
‫عجز عن الوصول إليها‪ ،‬وقد انعكس اختلف اللغويين على آراء المفسرين والفقهاء‪.3‬‬
‫ومهما يكن من معنى للفقير والمسكين‪ ،‬ومن هو أسوأ حالً من الخر فإن كلً منهما ل يستطيع أن يستقل بالنفاق‬
‫على نفسـه وعلى مـن يطالب بأن ينفـق عليـه شرعًا إل بمعونـة تأتيـه‪ ،‬ومعنـى ذلك أن الفقيـر والمسـكين ل يكفيهمـا‬
‫ريعهما لنفقاتهما الضرورية‪.‬‬
‫ولعلماء القتصاد تعريفات متعددة لمفهوم الفقر‪ ،‬نقتصر منها على تعريف الدكتور عبد الرزاق الفارس‪ ،‬وهو أنه‬
‫( عدم القدرة على تحقيـق مسـتوى معيـن مـن المعيشـة يمثـل الحـد الدنـى المعقول والمقبول فــي مجتمـع مـا مـن‬
‫المجتمعات في فترة زمنية محددة )‪.4‬‬
‫وهذا التعريف يركز على مستوى المعيشة المادي القابل للقياس‪ ،‬والذي يرتبط بالظروف القتصادية والجتماعية‬
‫لكــل مجتمــع مــن المجتمعات على حدة وخلل فترة زمنيــة محددة ‪ ،5‬وهــو مبنــي على مــا قاله فــي توصــيف هذه‬
‫التعريفات‪ ،‬والجزء المشترك حول جميــع تعريفات الفقــر يدور حول " الحرمان النســبي " لفئة معينــة مــن فئات‬
‫المجتمع‪.6‬‬

‫القسم الول‪ :‬البعد السياسي لسباب الفقر‬


‫ل يخفـى على مـن له اطلع على أحوال المـم مـا للسـياسة عندمـا تنحرف عـن النهـج السـوي مـن أثـر فـي إغراق‬
‫جماهيــر الشعوب والمــم فــي عباب الفقــر المتلطــم وصــبغ حياتهــم بصــبغة الحرمان‪ ،‬ولم يكــن هذا وليــد اليوم‬
‫والمـس وإنمـا هـو أمـر عانـت منـه الشعوب التعيسـة الواقعـة تحـت نيـر الجباريـن وبطـش الظالميـن فـي جميـع أدوار‬
‫‪1‬‬
‫‪.‬لسان العرب‪ ،‬مادة فقر ( ‪ )61-5/60‬دار صادر‪ -‬بيروت‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي‪ :‬الكليات‪ ،‬ص ‪ ،696‬مؤسسة الرسالة‬
‫‪3‬‬
‫ينظر‪ :‬أبو عبد ال القرطبي‪ :‬الجامع لحكام القرآن ‪ ،171-8/168‬دار الكتاب العربي للطباعة‪ ،‬الفخر الرازي‪ :‬التفسير الكبير ‪ ،110-16/107‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬طهران‪ ،‬الشيخ محمد الطاهر بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ 10/253‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬نور الدين السالمي‪ :‬معارج المال على مدارج الكمال‪:‬‬
‫‪ ،149-16/133.‬ط‪.‬وزارة التراث‪ ،‬مسقط‪ ،‬د‪.‬يوسف القرضاوي‪ :‬فقه الزكاة ‪ ،556-2/544‬ط‪.‬مؤسسة الرسالة‬
‫‪4‬‬
‫‪.‬عبد الرزاق الفارس ‪ :‬الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي‪ ،‬ص ‪ ،21‬مركز دراسات الوحدة العربية‬
‫‪5‬‬
‫‪.‬نفس المصدر السابق‬
‫‪6‬‬
‫‪.‬نفس المصدر السابق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫التأريخ البشري‪ ،‬ل فرق في ذلك بين أمة شرقية وأمة غربية‪ ،‬فجميع المم التي عانت من ويلت بطش الفراعنة‬
‫واسـتبداد الكاسـرة وظلم القياصـرة وقهـر البابلييـن هـي سـواء فـي معاناة الحرمان ومكابدة الفقـر‪ ،‬كمـا اسـتوت فـي‬
‫جعَلَ أَهَْلهَا‬
‫لْرْضِ َو َ‬
‫ل فِي ا َ‬
‫مقاساة ما يصب على رؤوسها من أنواع العذاب‪ ،‬ناهيك بقوله تعالى ‪{ :‬إِنّ ِفرْعَ ْونَ عَ َ‬
‫سدِينَ }القصص ‪ ،4‬فهل ترى أولئك‬ ‫ن ِم نَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫حيِي نِ سَاءهُمْ ِإنّ ُه كَا َ‬
‫س َت ْ‬
‫ض ِعفُ طَائِفَ ًة ّم ْنهُ مْ ُي َذبّ حُ َأ ْبنَاءهُ مْ َويَ ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫شيَعًا يَ ْ‬
‫ِ‬
‫الذيـن يذبـح أبناؤهـم نكايـة وإذللً وتُسـتحيا نسـاؤهم للخدمـة والسـتعباد كانوا يتمتعون بمـا تتطلبـه الحياة مـن عيـش‬
‫هانـئ مسـتقر توفـر فيـه المطالب وتقضـى فيـه الحاجات؟ كل وألف كل‪ ،‬فإنهـم مـا كانوا إل قطيعًا مسـخرًا للنتاج‬
‫والكدح المرهـق مـن أجـل أن ينعـم فرعون وحاشيتـه بفضول العيـش وأنواع الترف والنعيـم‪ ،‬ومـع ذلك فإن أبواق‬
‫الدعايـة الفاجرة مـن الكهنـة وحاشيـة الفرعون تقلب الموازيـن رأسـاً على عقـب فـي تصـور المظلوميـن حتـى يُخيـل‬
‫إليهــم أن هؤلء الفراعنـة هــم أبر بهـم وأرحـم وأطلف وأرأف‪ ،‬ناهيكــم بهذه القصـة التــي ذكرهــا الدكتور موسـى‬
‫الموسـوي دليلً على ذلك‪ ،‬قال‪ ( :‬كان سـنوحي طـبيباً لفرعون أمفسـيس الذي عاش فـي القرن العاشـر قبـل الميلد‪،‬‬
‫وقـد كتـب مذكراتـه عـن حياة هذا الفرعون وعـن الشعـب المصـري الذي كان يعانـي اسـتبداد أمفسـيس‪ ،‬واكتشـف‬
‫علماء الثار هذه المذكرات ضمن ما خلفته السنون بين الكتب الهيروغليفية‪ ،‬وترجمت مذكرات هذا الطبيب التي‬
‫كتبهـا بأسـلوب رائع وبديـع إلى اللغات العالميـة الحيـة‪ ،‬وطبعـت أكثـر مـن مرة وهـي الن بيـن أيدينـا يسـتطيع القراء‬
‫قراءتها كل بلغته واستخلص دروس العجب منها‪.‬‬
‫يقول ســنوحي فــي مذكراتــه‪ :‬كنــت أمشــي فــي شارع مــن شوارع مصــر وإذا بالرجــل الوجيــه الشريــف الثري‬
‫المعروف اخناتون ملقـى على الرض مضرجًا بدمائه وقـد قُطعـت يداه ورجله مـن خلف وجدعـت أنفـه‪ ،‬وليـس‬
‫فـي بدنـه مكان إل وفيـه طعنـة رمـح أو ضربـة سـوط‪ ،‬وهـو قاب قوسـين مـن الموت‪ ،‬فحملتـه إلى دار المرضـى‬
‫وجاهدت جهاداً عظيماً لنقاذه مــن الموت‪ ،‬وبعــد شهريــن أو أكثــر وعندمــا أفاق مــن غيبوبتــه قــص علي قصــته‬
‫المحزنـة المفجعـة قائلً‪ :‬لقـد أمرنـي الفرعون أمفسـيس أن أتنازل عـن كـل شـبر أرض أملكـه‪ ،‬وأن أهبـه أزواجـي‬
‫وعبيدي وكل ما أملك من ذهب أو فضة‪ ،‬فاستجبت لما أراد بشرط أن يترك لي داري التي أسكن فيها ومعشار ما‬
‫أملكـه مـن الذهـب والفضـة لسـتعين بهـا على أودي‪ ،‬فسـتثقل فرعون هذا الشرط واسـتولى على كـل مـا كان عندي‪،‬‬
‫ثـم أمـر بأن يُفعـل بـي تلك الفاعيـل الشنيعـة وأن أُطرح فـي الشارع عارياً لكون عـبرة لمـن يخالف أوامـر الله‬
‫أمفسيس‪.‬‬
‫ودارت اليام وإخناتون المســكين يعانــي الفقــر والحرمان‪ ،‬وكـل أمله فـي هذه الدنيـا هـو القصـاص مـن الفرعون‬
‫الظالم ولو على يد غيره‪.‬‬
‫ومات فرعون‪ ،‬وحضرتُـ مراسـيم الوفاة بصـفتي كـبير الطباء‪ ،‬فكان الكهنـة يلقون خطـب الوداع مطريـن الراحـل‬
‫العظيــم‪ ،‬وكانــت الكلمات التــي يرددونهــا ل زلت أتذكرهــا جيداً‪ ،‬فقــد كانوا يقولون‪ :‬يــا شعــب مصــر‪ ،‬لقــد فقدت‬
‫الرض والسماء وما بينهما قلباً كبيراً‪ ،‬كان يحب مصر وما فيها من إنسانٍ وحيوان ونبات وجماد‪ ،‬كان لليتام أباً‬
‫وللفقراء عوناً وللشعب أخاً ولمصر مجداً‪ ،‬كان أعدل اللهة وأرحمهم وأكثرهم حباً لشعب مصر‪ ،‬ذهب أمفسيس‬
‫لكي ينضم إلى اللهة الكبار وترك الشعب في ظلم‪.‬‬
‫ويضيف سنوحي‪ :‬وبينما كنت أصغي إلى كلم الكهنة ودجلهم في القول‪ ،‬وأندب حظ مصر وشعبها المسكين الذي‬
‫يرزح تحـت سـياط الفراعنـة والكهنـة معاً‪ ،‬وبينمـا كانـت الجماهيـر المحتشدة التـي لقـي كـل فرد منهـم على حدة مـن‬
‫ل يبكــي كمــا تبكــي الثكلى وصــوت بكائه عل‬ ‫بطــش فرعون وســياطه أذىً وعذاباً تجهــش بالبكاء ســمعت رج ً‬
‫الصـوات كلهـا ويردد عبارات غيـر مفهومـة‪ ،‬فنظرت مليًا وإذا صـحاب البكاء هذا هـو إخناتون المعوق العاجـز‬
‫الذي كان مشدودًا على ظهر حمار‪ ،‬وأسرعت إليه لهدئه بعض الشيء فقد ظننت أنه يبكي سروراً وابتهاجاً على‬
‫وفاة ظالم ظلمـه إلى حـد الموت بالتعذيـب‪ ،‬ولكـن إخناتون خيـب آمالي عندمـا وقـع نظره علي وأخـذ يصـرخ عالياً‬
‫بقوله‪ :‬يـا سـنوحي لم أكـن أعلم أن أمفسـيس كان عادلً وعظيماً وبارًا بشعبـه إلى هذه المرتبـة العظيمـة إل بعـد أن‬
‫سمعت ما قاله كهنتنا فيه‪ ،‬وها أنا أبكي يا سنوحي لنني حملت في قلبي حقداً على هذا الله العظيم بدلً من الحب‬
‫والجلل طوال سنوات عديدة‪ ،‬حقاً لقد كنت في ضللٍ كبير‪.‬‬
‫ويقول ســنوحي‪ :‬وعندمــا كانــت إخناتون يكرر هذه الكلمات بإيمان ٍـ راســخ كنــت أنظــر إلى أعضائه المقطوعــة‬
‫وصـورته المشوهـة وأنـا حائر فيمـا أسـمع وكأنـه قرأ مـا يدور فـي خلدي‪ ،‬وإذا بـه يصـرخ فيّـ بملئ شدقيـه‪ :‬لقـد كان‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أمفسيس على حق فيما فعله بي لنني لم أستجب إلى أوامر اللهة‪ ،‬وهذا هو جزاء كل من يعصي الله الذي خلقه‬
‫وأحبه‪ ،‬وأي سعادة أعظم للمرء من أن ينال جزاء أعماله الذي يستحق على يد الله ل على يد غيره‪.‬‬

‫من أمفسيس هذا؟‬

‫فرعون مـن فراعنـة مصـر حكمهـا بالنار والحديـد طوال عشـر سـنوات‪ ،‬دخـل فـي حرب خاسـرة مـع بلد النوبـة‬
‫الجارة قتـل فيهـا خمـس شعـب مصـر‪ ،‬خرّب المزارع وقطّع الشجار وأباد شباب مصـر متهماً إياهـم بالهزيمـة فـي‬
‫الحرب التـي شنهـا ضـد النوبـة‪ ،‬أحرق العاصـمة فـي إحدى ليالي مجونـه كمـا فعـل بعده نيرون بسـبعة قرون الذي‬
‫أحرق روما عاصمة الرومان‪ ،‬لقد كان أمفسيس أسوأ عهد عرفته مصر في تأريخ الفراعنة الذين حكموها‪ ،‬مبتدئاً‬
‫ل وشعباً‬ ‫من السرة الولى حتى السرة الخامسة التي كان أمفسيس أول أفرادها‪ .‬مات أمفسيس وترك خراباً شام ً‬
‫ممزقاً‪ ،‬ومــع كــل هذا بكتــه الجماهيــر المحتشدة متأثر ًة برثاء الكهنــة وخطبهــم‪،‬ومــن بيــن تلك الجماهيــر إخناتون‬
‫المسكين )‪.7‬‬
‫هذا وقـد صـور العلمـة الدكتور يوسـف القرضاوي بريشـة بيانـه البليـغ مشاهـد مؤلمـة مـن أحوال النسـانية فـي تلك‬
‫القرون الغابرة‪ ،‬وهي تعيش في ظل من يحمون حكم الظالمين‪ ،‬وذلك في قوله‪ ( :‬عرف النسان الفقر والحرمان‬
‫من أزمنة قديمة‪ ،‬وعرف التأريخ الفقراء والمحرومين من عهود سحيقة‪ ،‬ومن النصاف أن نقول‪ :‬إن النسانية لم‬
‫تخل في عهد من عهودها من أناس يدعونها إلى ذلك المعنى النساني الصيل‪ ،‬وهو إحساس النسان بآلم أخيه‬
‫ومحاولة إنقاذه مـن بؤسـه وحرمانـه أو التخفيـف مـن ويلتـه على القـل‪ ،‬غيـر أن الوضـع الذي كان عليـه الفقراء‬
‫عملياً كان سيئًا للغاية‪ ،‬وكان نقطة سوداء في جبين النسانية‪ ،‬ولم يتقيد المجتمع بما أوصى به الحكماء ونادى به‬
‫العقلء‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫وهذا باحثٌـ كـبير يحدثنـا عـن هذا التأريـخ السـود منـذ أقدم الحضارات‪ ،‬تأريـخ العلقـة بيـن الغنياء الواجديـن‬
‫والفقراء المحروميـن‪ ،‬فيقول‪ ( :‬فـي أي أمـة مـن المـم أجال الباحـث نظره وجـد طبقتيـن مـن الناس ل ثالث لهمـا‪:‬‬
‫الطبقة الموسرة والطبقة المعسرة‪ ،‬ووجد بإزاء هذا أمراً جديراً بالملحظة‪ ،‬وهو أن الطبقة الموسرة تتضخم إلى‬
‫غيـر حـد‪ ،‬والطبقـة المعسـرة ل تفتـأ تهزل حتـى تلتصـق بأديـم الرض معييـة رازحـة‪ ،‬فيتداعـى البناء الجتماعـي‬
‫لوهن أساسه‪ ،‬وقد ل يدري المترفون من أي النواحي خ ّر عليهم السقف‪.‬‬
‫كانت مصر في عهدها القديم جنة ال في الرض‪ ،‬وكانت تنبت من الخيرات ما يكفي أضعاف أهلها عدداً‪ ،‬ولكن‬
‫الطبقـة الفقيرة فيهـا كانـت ل تجـد مـا تأكله‪ ،‬لن الطبقـة الموسـرة كانـت ل تترك لهـم شيئاً غيـر حثالة ل تسـمن ول‬
‫تغنـي مـن جوع‪ ،‬فلمـا أصـابتها المجاعـة على عهـد السـرة الثانيـة عشرة باع الفقراء أنفسـهم للغنياء‪ ،‬وسـاموهم‬
‫الخسف وأذاقوهم عذاب الهون‪.‬‬
‫وفي مملكة بابل كان المر على ما كان عليه في مصر‪ ،‬ل حظ للفقراء من ثمرات بلدهم‪ ،‬مع أنها كانت تسامي‬
‫بلد الفراعنة نماءً وخصوبةً‪ ،‬وكانت تجري مجراها فارس‪.‬‬
‫أما لدى الغارقة " اليونان القدمين " فكان المر ل يعدو ما تقدم‪ ،‬بل تروى عن بعض ممالكهم أمور تقشعر من‬
‫هولها الجلود‪ ،‬فقد كانوا يسوقون الفقراء بالسياط إلى أقذر العمال‪ ،‬ويذبحونهم لقل الهفوات ذبح الغنام‪.‬‬
‫أمـا فـي إسـبارطة مـن ممالكهـم فقـد كان الموسـرون تركوا للمعسـرين الرض التـي ل تصـلح للنبات فذاقوا ألوان‬
‫الفاقة غير مرحومين‪.‬‬
‫وكان الغنياء فـي أثينـا يتحكمون فـي الفقراء إلى حـد أنهـم كانوا يـبيعونهم بيـع العبدان إذا لم يؤدوا لهـم مـا كانوا‬
‫يفرضونه عليهم من التاوات‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪.‬موسى الموسوي‪ ،‬يا شيعة العالم استيقظوا‪ ،‬ص ‪10-7‬‬
‫‪8‬‬
‫‪.‬هو الستاذ محمد فريد وجدي‪ ،‬يراجع كتابه ( السلم دين عام خالد ) ‪ ،126-2/124‬هدية مجلة الزهر المجانية لشهر جمادى الولى ‪ 1246‬هـ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أمـا فـي رومـة منبـع الشرائع والقوانيـن‪ ،‬ووطـن الفقهاء والصـوليين فقـد كان الموسـرون مسـتولين على العامـة‬
‫ومتميزيـن عنهـم تميزاً يجعـل العامـة بإزائهـم كالطائفـة المنبوذة لدى الهندييـن‪ ،‬ومـا كانوا يرضخون لهـم بصـبابة إل‬
‫بعد أن ينال منهم العياء‪ ،‬فيهجرون المدن ويقاطعون الجماعة مرغمين‪.‬‬
‫قال العلمـة ميشليـه فـي المملكـة الرومانيـة مـن هذه الناحيـة‪ :‬كان الفقراء يزدادون كـل يوم فقراً والغنياء يزدادون‬
‫غنى‪ ،‬وكانوا يقولون‪ :‬ليهلك الوطني وليمت جوعًا إذا لم يستطع أن يذهب إلى ساحات القتال‪.‬‬
‫فلمـا زالت الدولة الرومانيـة وقامت على أنقاضها الممالك الوروبية ازدادت حالة الفقراء سوءاً‪ ،‬فكانوا فـي جميـع‬
‫أصقاعها يباعون كالماشية مع أراضيهم‪.‬‬
‫هذا هــو وضــع الفقراء فــي تلك القرون المديدة‪ ،‬وهذا هــو موقــف الغنياء منهــم‪ ،‬فماذا صــنعت الديان لصــلح‬
‫وضع الفقراء وتقريب الشقة بينهم وبين الغنياء؟‪.)9‬‬
‫وقـد نعمـت النسـانية بالسـلم ديـن الرحمـة والخلق‪ ،‬فأغنـى فقراءهـا وراش ضعفاءهـا الذيـن آووا إلى كنفـه‪،‬‬
‫فأراحهم في واحاته الوارفة الظليلة من معاناتهم تحت وهج مبادئ الظلم والستبداد مما أرهقتهم به من الحرمان‬
‫والجور‪ ،‬وكان ذلك فـي عهـد النبوة الهاديـة والخلفـة الراشدة‪ ،‬ولكـن مـا كادت تطوى صـفحة ذلك العهـد المشرق‬
‫بحلول الملك العضوض والسـتبداد الغاشـم محـل الحكـم العادل والقيادة الراشدة حتـى عادت السـياسة إلى سـيرتها‬
‫الولى‪ ،‬وانقلب الناس إلى ما كانوا عليه من مكابدة الظلم ومقاساة الحرمان‪.‬‬
‫ويصـور لنـا ذلك الداعيـة الكـبير السـيد أبـو الحسـن الندوي حيـث يقول فـي كتابـه الفريـد ( ماذا خسـر العالم بانحطاط‬
‫المسلمين ) ‪ ( :‬لقد أتى على العالم العربي عهد في التأريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص‬
‫الخليفــة أو الملك – أو حول حفنــة مــن الرجال – هــم الوزراء وأبناء الملك – وكانــت البلد تعتــبر ملكًا شخصــياً‬
‫لذلك الفرد السعيد والمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد‪ ،‬ويتحكم في أموالهم وأملكهم ونفوسهم وأعراضهم‪ ،‬ولم‬
‫ل لشخصه‪ ،‬ولم تكن حياتها إل امتداداً لحياته‪.‬‬ ‫تكن المة التي كان يحكم عليها إل ظ ً‬
‫لقـد كانـت الحياة تدور حول هذا الفرد بتأريخهـا وعلومهـا وآدابهـا وشعرهـا وإنتاجهـا‪ ،‬فإذا اسـتعرض أحدهـم تأريـخ‬
‫هذا العهـد أو أدب تلك الفترة مـن الزمـن وجـد هذه الشخصـية تسـيطر على المـة أو المجتمـع‪ ،‬كمـا تسـيطر شجرةٌ‬
‫باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء‪ ،‬كذلك تضمحل هذه المة في‬
‫شخص هذا الفرد وتذوب فيه‪ ،‬وتصبح أمة هزيلة ل شخصية لها ول إرادة ول حرية لها ول كرامة‪.‬‬
‫وكان هذا الفرد هـو الذي تدور لجله عجلة الحياة‪ ،‬فلجله يتعـب الفلح ويشتغـل التاجـر ويجتهـد الصـانع ويؤلف‬
‫المؤلف وينظـم الشاعـر‪ ،‬ولجله تلد المهات وفـي سـبيله تموت الرجال وتقاتـل الجيوش‪ ،‬بـل ولجله تلفـظ الرض‬
‫خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الرض خيراتها‪.‬‬
‫وكانـت المـة وهـي صـاحب النتاج وصـاحبة الفضـل فـي هذه الرفاهيـة كلهـا تعيـش عيـش الصـعاليك أو الرقاء‬
‫المماليـك‪ ،‬وقـد تسـعد بفتات مائدة الملك وبمـا يفضـل عـن حاشيتـه فتشكـر‪ ،‬وقـد تحرم ذلك أيضاً فتصـبر‪ ،‬وقـد تموت‬
‫فيها النسانية فل تنكر شيئًا بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص‪.‬‬
‫هذا هـو العهـد الذي ازدهـر فـي الشرق طويلً وترك رواسـب فـي حياة هذه المـة ونفوسـها‪ ،‬وفـي أدبهـا وشعرهـا‬
‫وأخلقهـا واجتماعاتهـا‪ ،‬وخلف آثاراً باقيـة فـي المكتبـة العربيـة‪ ،‬ومـن هذه الثار الناطقـة كتاب ( ألف ليلة وليلة )‬
‫الذي يصـور ذلك العهـد تصـويراً بارعاً ‪ ،‬يوم كان الخليفـة فـي بغداد أو الملك فـي دمشـق أو القاهرة هـو كـل شيـء‪،‬‬
‫وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة‪ ،‬إن هذا العهد الذي يمثله كتاب ( ألف ليلة وليلة ) بأساطيره وقصصه‪ ،‬وكتاب‬
‫( الغاني ) بتأريخه وأدبه لم يكن عهداً إسلمياً‪ ،‬ول عهداً طبيعياً معقولً‪ ،‬فل يرضاه السلم ول يقره العقل‪ ،‬بل‬
‫إنمـا جاء السـلم لهدمـه والقضاء عليـه‪ ،‬فقـد كان هذا هـو العهـد الذي بعـث فيـه محمـد صـلى ال عليـه وسـلم فسـماه‬
‫الجاهلية ونعى عليه‪ ،‬وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد النكار‪.‬‬
‫إن هذا العهـد غيـر قابـل للبقاء والسـتمرار فـي أي مكان وفـي أي زمان‪ ،‬ول سـبيل إليـه إل إذا كانـت المـة مغلوبـة‬
‫على أمرها أو مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪.‬د‪.‬يوسف القرضاوي‪ ،‬فقه الزكاة ‪ ،74-1/45‬ط‪.‬مؤسسة الرسالة‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫إن هذا العهد ل يقره عقل‪ ،‬ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت اللف‬
‫جوعاً ومسغبة؟ ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك بالمال أو أبناء الملك عبث المجانين‪ ،‬والناس ل يجدون من القوت‬
‫ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم؟ ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – النتاج وحده‬
‫والكدح فـي الحياة والعمـل المضنـي الذي ل نهايـة له‪ ،‬وحـظ طبقـة – وهـي ل تجاوز عدد الصـابع – إل التلهـي‬
‫بثمرات تعـب الطبقـة الولى مـن غيـر شكـر وتقديـر وفـي غيـر عقـل ووعـي؟ ومـن الذي يسـوغ أن يشقـى أهـل‬
‫الصـناعة وأهـل الذكاء وأهـل الجتهاد وأهـل المواهـب وأهـل الصـلح وينعـم رجال ل يحسـنون غيـر التبذيـر ول‬
‫يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟! ومن الذي يسوغ أن يجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل‬
‫المانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فو جٌ من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر‬
‫ممــن ل هــم لهــم إل ابتزاز الموال وإرضاء الشهوات‪ ،‬ول يحســنون فناً مــن فنون الدنيــا غيــر التملق والطراء‬
‫والمؤامرة ضد البرياء‪ ،‬ول يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء؟!‬
‫إنه وضع شاذ ل ينبغي أن يبقى يومًا فضلً عن أن يبقى أعواماً‪ ،‬إنه إن سبق في عهد من عهود التأريخ وبقي مدة‬
‫طويلة فقد كان ذلك على غفلة من المة أو على الرغم منها‪ ،‬وبسبب ضعف السلم وقوة الجاهلية‪ ،‬ولكنه خليق‬
‫بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس السلم واستيقظ الوعي وهبت المة تحاسب نفسها وأفرادها‪.10‬‬
‫ثم يتبع ذلك نصيحة أولئك الذين يحلمون بأنهم سيعيشون في سلمة ومأمن من عوادي الدهر وهم يسيرون على‬
‫خطا أولئك المنحرفين من مهيع الحق متخذين من البشر قطعاناً من البهائم يسومونها سوء العذاب فيقول‪ :‬فالذين‬
‫ل يزالون يعيشون في عالم ( ألف ليلة وليلة ) إنما يعيشون في عالم الحلم‪ ،‬إنما يعيشون في فـي بيت أوهن من‬
‫بيوت العنكبوت‪ ،‬إنمـا يعيشون فـي بيـت مهدد بالخطار ل يدرون متـى يكبـس ول يدرون متـى تعمـل فيـه معاول‬
‫الهدم‪ ،‬وإن سلموا من كل هذا فل يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم‪ ،‬فإنه بيت قائم على غير أساس متين‬
‫وعلى غير دعائم قوية‪.‬‬
‫أل إن عهــد ( ألف ليلة وليلة ) قــد مضــى فل يخدعــن أقوام نفوســهم بعجلة قــد تكســرت وتحطمــت‪ ،‬إن الملوكيــة‬
‫مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفد زيته واحترقت فتيلته‪ ،‬فهو إلى انطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة‪.‬‬
‫إنه ل محل في السلم لي نوع من أنواع الثرة‪ ،‬إنه ل محل فيه للثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض‬
‫المم الشرقية والقطار السلمية‪ ،‬ول محل فيه للثرة المنظمة التي نراها في أوروبا وأمريكا وفي روسيا‪ ،‬فهي‬
‫فـي أوروبـا أثرة حزب مـن الحزاب‪ ،‬وفـي أمريكـا أثرة الرأسـماليين‪ ،‬وفـي روسـيا قلة آمنـت بالشيوعيـة المتطرفـة‬
‫وفرضـت نفسـها على الكثرة‪ ،‬وهـي تعامـل العمال والمعتقليـن بقسـوة نادرة ووحشيـة ربمـا ل يوجـد لهـا نظيـر فـي‬
‫تأريخ السخرة الظالمة‪.‬‬
‫إن الثرة بجميع أنواعها ستنتهي وإن النسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً‪ ،‬إنه ل مستقبل في العالم إل‬
‫للسـلم السـمح العادل الوسـط وإن طال أجـل هذه ( الثرات ) وأرخـي لهـا العنان وتمادت فـي غيهـا وطغيانهـا مدة‬
‫من الزمان‪.‬‬
‫إن الثرة – فرديـة كانـت أو عائليـة أو حزبيـة أو طبقيـة – غيـر طبيعيـة فـي حياة المـة وإنهـا تتخلص منهـا فـي أول‬
‫فرصـة‪ ،‬إنـه ل محـل لهـا فـي السـلم ول محـل لهـا فـي مجتمـع واع بلغ الرشـد ول أمـل فـي اسـتمرارها‪ ،‬فخيـر‬
‫للمسـلمين وخيـر للعرب وخيـر لقادتهـم وولة أمورهـم أن يخلصـوا أنفسـهم منهـا ويقطعوا صـلتهم بهـا قبـل أن تغرق‬
‫فيغرقوا معها‪.11‬‬
‫ونجد المفكر السلمي الشيخ محمد الغزالي يصف مآسي أدركها بنفسه ونعاها على أمته محذراً من مغبة انتكاس‬
‫آثارهـا على السـلم نفسـه عندمـا يسـكت أبناؤه عنهـا ول يقاومونهـا بروحـه الحيـة الدفاقـة بالخيـر التـي ل ترضـى‬
‫بالظلم ول تقـر الهوان‪ ،‬وذلك فـي قوله‪ ( :‬وأخطـر مطعـن يوجـه إلى السـلم وشـر معرة تلحـق بمبادئهـا نفسـها بقاء‬
‫الحالة الجتماعيـة والسـياسية فـي بلده‪ ،‬تثيـر القاويـل منـه‪ ،‬وتعرضـه على العالم فـي أسـوأ لباس‪ ،‬ذلك أن جماهيـر‬
‫المسلمين تضطرب في مستوى دنيء من المعيشة المادية والتفكير العقلي‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪.‬أبو الحسن الندوي‪ ،‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين‪ ،‬ص ‪ ،290 -288‬ط‪.‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‬
‫‪11‬‬
‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪291 -290‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ول أحسـب أن نظامًا مـا مـن نظـم الغرب يرضـى أن ينحدر أبناؤه إلى الحضيـض الذي وصـلنا إليـه‪ ،‬فهـل يعقـل أن‬
‫يرضى السلم بهذه الحالة بله أن يسخر لبقائها؟‪.‬‬
‫ولقـد كتـب صـحافي أمريكـي يصـف لبناء العالم الجديـد حالة الشعـب المصـري ومقدار التعاسـة التـي تنصـب على‬
‫رأسـه مـن نظام الطبقات المتغلغـل فيـه فقال‪ :‬إن الطبقـة الحاكمـة فــي مصــر ل يزيـد عدد أفرادهـا عـن ‪ %5‬مـن‬
‫مجموع السكان‪ ،‬وأفراد هذه الطبقة يملكون نحو ‪ %95‬من خيرات البلد‪.‬‬
‫أمـا الفلح فيعيـش هـو وأسـرته وجاموسـته وحماره فـي بيـت واحـد مـن اللبـن‪ ،‬وقـد يترك الباشـا مـن باشوات مصـر‬
‫طعاماً لم يمس على مائدته يكفي لشباع فلح مع أسرته الكبيرة عدة أسابيع‪.‬‬
‫ثم يصف أفراد هذه الطبقة بالتضليل واستغلل سذاجة الشعب‪ ،‬وعدم مواجهة المشاكل الحقيقية في مصر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وليـس هناك مـن شـك فـي أن الحركات التـي يقوم بهـا العمال فـي الوقـت الحاضـر لتحسـين أحوالهـم سـتوصف‬
‫بأنها حركات شيوعية‪ ،‬غير أن هذه الوصاف ستتلشى من تلقاء نفسها قريباً‪.‬‬
‫وهذه الحوال نحن أعرف الناس بها‪ ،‬لننا نعيش فيها‪ ،‬والذي نريـد أن نقوله‪ :‬إن السلم لم يذكـر بخيـر قـط‪ ،‬ولن‬
‫يُؤثر عنه خير أبداً إذا بقيت أمور المسلمين بهذه المثابة المحزنة‪ ،‬وبقي المتكلمون باسم الدين سكوتاً بإزائها‪ ،‬وأي‬
‫حجة تقوم للدين إذا فشل في تحديد موقفه علمياً من هذه المآسي المفجعة؟)‪.12‬‬
‫ولئن كانت السياسة المتعجرفة التي أفرزت هذه المشكلة فأذاقت الجماهير لباس الجوع والخوف وجرّعتهم حميم‬
‫الذل والهوان‪ ،‬فهاكم صوراً من نظم اقتصادية جائرة عنت النسانية شرها الوبيل ورزحت الشعوب تحت نيرها‬
‫ردحاً من الزمن‪ ،‬بل ول تزال وهي تلفحها بضرام سعيرها المحرق‪.‬‬

‫‪ )1‬الرأسمالية‪:‬‬
‫تمخضـت الثورة الصـناعية فـي الغرب عـن ميلد النظام الرأسـمالي‪ ،‬وهـو نظام له خصـائصه الفلسـفية ومنهجـه‬
‫القتصـــادي‪ ،‬فهـــو يقوم على التصـــور المادي المطلق للحياة‪ ،‬وذلك بعزل الديـــن والخلق جانباً عــن النهضـــة‬
‫القتصـادية فـي جميـع شؤون الحياة‪ ،‬فهـو يفسـح المجال لينطلق العملق الرأسـمالي الخارج مـن رحـم هذه الثورة‬
‫الكبرى غير مكبل بقيود الدين ول مراقب برقيب من الخلق‪ ،‬لن ذلك مما يعوق انطلقه في دنيا الناس ليحقق‬
‫مآربه ويصـيب مراميه ويصل إلى غاياته‪ ،‬وبناءً على ذلك تميـز منهجه القتصادي بإعطاء الفرد حريته المطلقة‬
‫في الثراء من غير أن يقيم وزناً للمجتمع‪ ،‬فل يزعجه تصاعد أنات المحرومين وصرخات المعوزين وزفرات‬
‫الظالميـن‪ ،‬ول يكدر صـفو حياتـه مـا يشاهده مـن أحوال البؤسـاء الواخزة لضمائر أولي الفطـر السـليمة المحركـة‬
‫لمشاعرهـم‪ ،‬ولهذا كانـت يـد الفرد المطلقـة – بحكـم هذا النظام ‪ -‬للسـتكثار مـن الثراء بقدر المسـتطاع‪ ،‬فأباح له‬
‫الربــا والمقامرة والحتكار ولو مــن القوات الضروريــة‪ ،‬كمــا أباح له أن يثري مــن خلل المتاجرة بالعراض‬
‫والخمور وغيرهـا ممـا يزيـد الشعوب والمـم إغراقًا فـي الفقـر وإنهاكاً للقوى وعجزاً عـن النهوض لملحقـة ركـب‬
‫التقدم ومواكب الزدهار‪.‬‬
‫وحسـبكم أن الربــا الذي هـو أسـاس هذا النظام ومحرك قطاره ل يُبقـي فــي نفوس آكله نبعاً للرحمــة إل غوّره ول‬
‫باعثاً للحسان إل قضـى عليه‪ ،‬فهو سـعير ملتهـب ل يُبقـي ول يذر‪ ،‬ينهـك المؤسـسات القتصـادية والمصانع حتـى‬
‫يدع روضها النضير يباباً‪ ،‬ويصف ذلك الستاذ الشهيد سيد قطب فيقول في كتابه ( العدالة الجتماعية في السلم‬
‫)‪ " :‬إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة القتصادية البحتة‪ ،‬وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة‬
‫القتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم قد نشأوا في ظله وأُشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال‬
‫فــي كــل فروع الثقافــة والتصــور والخلق‪ ،‬وفــي مقدمــة هؤلء الســاتذة الذيــن يعيبون هذا النظام مــن الناحيــة‬
‫القتصادية البحتة ( دكتور شاخت ) اللماني ومدير بنك الرايخ اللماني سابقاً‪ ،‬وقد كان مما قاله في محاضرة له‬
‫‪12‬‬
‫‪.‬محمد الغزالي‪ ،‬السلم والمناهج الشتراكية‪ ،‬ص ‪ ،31 -30‬ط‪.‬نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫بدمشـق عام ‪1953‬م أنه بعملية رياضيـة ( غيـر متناهيـة ) يتضح أن جميـع المال فـي الرض صـائر إلى عدد قليـل‬
‫جداً من المرابين‪ ،‬ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة‪ ،‬ومن‬
‫ثـم فإن المال كله فـي النهايـة ل بـد – بالحسـاب الرياضـي – أن يصـير إلى الذي يربـح دائماً‪ ،‬وأن هذه النظريـة فـي‬
‫طريقهــا للتحقــق الكامــل‪ ،‬فإن معظــم مال الرض الن يملكــه – ملكاً حقيقياً – بضعــة ألوف‪ ،‬أمــا جميــع الملك‬
‫وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال‪ ،‬وغيرهم فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب‬
‫المال‪ ،‬ويجري ثمرة كدهم أولئك اللوف‪.‬‬
‫وليس هذا وحده هو كـل ما للربا من جريرة‪ ،‬فإن قيام النظام القتصادي على السـاس الربوي يجعل العلقـة بين‬
‫أصـحاب الموال وبيـن العامليـن فـي التجارة والصـناعة علقـة مقامرة ومشاكسـة مسـتمرة‪ ،‬فإن المرابـي يجتهـد فـي‬
‫الحصـول على أكـبر فائدة‪ ،‬ومـن ثـم يمسـك المال حتـى يزيـد اضطرار التجارة والصـناعة إليـه فيرتفـع سـعر الفائدة‪،‬‬
‫ويظـل يرفـع السـعر حتـى يجـد العاملون فـي التجارة أنـه ل فائدة لهـم مـن اسـتخدام هذا المال‪ ،‬لنـه ل يدر عليهـم مـا‬
‫يوفون بـه الفائدة ويفضـل لهـم منـه شيـء‪ .‬عندئذ ينكمـش حجـم المال المسـتخدم فـي هذه المجالت التـي تشتغـل فيهـا‬
‫المليين؛ وتضيق المصانع دائرة إنتاجها‪ ،‬ويتعطل العمال فتقل القدرة على الشراء‪ ،‬وعندما يصل المر إلى هذا‬
‫الحـد ويجـد المرابون أن الطلب على المال قـد نقـص أو توقـف يعودون إلى خفـض سـعر الفائدة اضطراراً‪ ،‬فيقبـل‬
‫عليــه العاملون فــي الصــناعة والتجارة مــن جديــد‪ ،‬وتعود دورة الحياة إلى الرخاء‪ ..‬وهكذا دواليــك تقــع الزمات‬
‫القتصادية الدورية العالمية‪ ،‬ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة !‪.‬‬
‫ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين‪ ،‬فإن أصحاب الصناعات والتجار ل يدفعون فائدة‬
‫الموال التـي يقترضونهـا بالربـا إل مـن جيوب المسـتهلكين‪ ،‬فهـم يزيدونهـا فـي أثمان السـلع السـتهلكية فيتوزع‬
‫عبؤها على أهل الرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية‪.‬‬
‫أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالصلحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم‬
‫الذيـن يؤدون فائدتهـا للبنوك الربويـة كذلك‪ ،‬إذ إن هذه الحكومات تضطـر إلى زيادة الضرائب المختلفـة لتسـدد منهـا‬
‫هذه الديون وفوائدها‪ ،‬وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف‪ ..‬وقلما ينتهي المر‬
‫عند هذا الحد‪ ،‬ول يكون الستعمار هو نهاية الديون‪..‬ثم تكون الحروب بسبب هذا الستعمار )‪.13‬‬
‫وهذا يعني أن الربا يجتاح الثروات ويفقر الغنياء ويوسع الهوة بين الطبقات‪ ،‬فقد تزداد به طبقة ما ثراء في حين‬
‫يزيـد الفقراء فقراً‪ ،‬ول ريـب أن النظام الرأسـمالي قائم على الربـا والسـتغلل وتوسـع حريـة الفرد فـي الملكيـة‪،‬‬
‫ولذلك ل يبالي بالمعاء الجائعــة والجســام العاريــة‪ ،‬وإنمــا يحرص على التوفيــر لطبقــة الغنياء المســتغلين ولو‬
‫باجتياح أقوات جماهيــر الناس إحراقاً أو إغراقاً‪ ،‬فكــم يحرق مــن أطنان الحبوب لتبقــى أســعارها حســب رغبات‬
‫الطبقـة الثريـة المنتجـة‪ ،‬وكـم يراق مـن بحيرات اللبان حفاظاً على أسـعارها وفـق رغباتهـم‪ ،‬كـل ذلك على حسـاب‬
‫الجماهيـر الكادحـة المسـتهلكة‪ ،‬مـع أن أمماً تموت جوعاً ول تجـد مأوى يقيهـا لفـح الحـر فـي وهـج الصـيف وقسـوة‬
‫البرد في زمهرير الشتاء‪ ،‬وقد ل تجد حتى شيئًا من السمال البالية لمواراة سوءاتها‪.‬‬
‫وبهذا التعسـف المقيـت والجور المفرط مـن هذا النظام تمخـض عـن انفجار نظامٍـ ثوري ضده كردة فعـل عنيفـة مـن‬
‫قبـل الطبقات الكادحـة المحرومـة التـي كانـت وقود حركات النتاج والتنميـة‪ ،‬فنعـم المترفون على حسـابهم وبنوا‬
‫حياتهـم على أشلئهـم‪ ،‬فل غرو أن غصـت بهذا صـدور المحروميـن بالحقاد حتـى تفجرت حمماً محرقـة وقنابـل‬
‫مدمرة أتــت على الخضــر واليابــس‪ ،‬وأهلكــت الحرث والنســل واجتاحــت الطارف والتليــد‪ ،‬تلك هــي الشيوعيــة‬
‫الحمراء التـي التهـب سـعيرها فـي كثيـر مـن المجتمعات فحولهـا إلى أكوامٍـ مـن رماد تذروه الرياح‪ ،‬ومـا كانـت هذه‬
‫الثورة الجهنميـة التـي جاءت عكـس الفطرة البشريـة منـذ أسـاسها لتندلع لول المعاناة مـن الحرمان فـي ظـل السـيادة‬
‫الرأسـمالية الجائرة‪ ،‬فإن إمام الشيوعيـة كارل ماركـس كان بنفسـه يكتوي بنار هذا الحرمان‪ ،‬وذلك الذي أشعـل فـي‬
‫نفسـه هذا الحقـد المتأجـج ضـد المجتمعات الرأسـمالية ونظامهـا‪ ،‬ويكفـي لتصـوير بؤسـه مـا كتبتـه زوجتـه – واسـمها‬
‫جينــي – إلى صــديق لهــا تطلب إليــه العون‪ ،‬قالت‪ ( :‬ائذن لي أن أصــف لك يومًا مــن أيام هذه الحياة وســترى أن‬
‫غيرنا لم يقاس ما قاسينا‪ ،‬فأنا مريضة سقيمة‪ ،‬ومع أن ما بظهري وثديي من أوجاع وآلم ممضة فإنني مضطرة‬

‫‪13‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬العدالة الجتماعية في السلم‪ ،‬ص ‪.136 -134‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أن أرضع طفلي الرابع الحديث الولدة من ثديي؛ لنني ل أستطيع أن أدفع أجر مرضعة‪ ،‬ولكن طفلي كان يرضع‬
‫الحزن واللم والسقم فيتلوى من الوجع ليل نهار‪ ،‬ومنذ أن ولد لم ينم إل ساعتين أو ثلث في اليوم كله‪ ،‬ومع كل‬
‫هذا الفقـر والحاجـة دخلت علينـا صـاحبة المنزل وطلبـت مـا تجمـع لهـا مـن أجرة ونقود اقترضناهـا منهـا‪ ،‬والجرة‬
‫والقرض خمسة جنيهات‪ ،‬ولما كنا عاجزين عن الدفع فقد أحضرت سمسارين استوليا على كل ما نملك من أثاث‬
‫وفراش وملبس حتى مهد الطفل استوليا عليه‪ ،‬وخرجنا إلى الشارع وكان المطر ينهمر بغزارة والبرد قارس ل‬
‫يرحم‪ ،‬وبذل زوجي كل ما في وسعه من جهد فلم نجد من يقبل إضافتنا أو إيواءنا )‪.14‬‬
‫وقالت زوجـة ماركـس تصـف إحدى ليالي البؤس‪ ( :‬أحسـت إبنتنـا بنزلة شعبيـة وصـارعت الموت ثلثـة أيام‪ ،‬ثـم‬
‫ماتت وأخذنا نبكي عليها‪ ،‬ولم يكن لدينا ما نجهزها‪ ،‬وأبقينا الجثة ريثما نجد ما نستعين به على دفنها‪ ،‬ومضيت‬
‫إلى جار فرنسي مهاجر فأعطاني جنيهين‪ ،‬وا أسفاه وفدت ابنتنا إلى الدنيا فلم تجد مهداً وعند مغادرتها لم تجد كفناً‬
‫)‪.15‬‬
‫فهـل مـن عجـب بعـد الطلع على هذه المآسـي أن فقدت الجماهيـر الكادحـة رشدهـا وصـوابها وهـي تشاهـد الترف‬
‫المفرط والنعيـم الفائض تهنـأ بـه طبقـة مـن الناس مـن غيـر أن تخـز ضمائرهـم هذه المشاعـر المؤلمـة‪ ،‬مـع كون تلك‬
‫الجماهيـر ليـس لهـا وازع مـن ديـن قويـم وأخلق سـليمة‪ ،‬فأي عجـب إن ثارت تلك الثورة النكراء مسـتهدفة ذلك‬
‫النظام الذي أنزل بهم هذه المآسي من غير إحساس برحمة أو شعور بحق إنساني تجاههم‪.‬‬

‫‪ )2‬الشيوعية‬
‫لئن كانـت الرأسـمالية بنظامهـا الجائر تتيـح للثري فرصـة لزدراد الموال مـن غيـر أن يحـس بهاجـس يدفعـه إلى‬
‫الرفـق والرحمـة بالضعفاء‪ ،‬وتدُعّ المحتاج فـي المهلكات دعاً فل يزداد بمرور اليام إل فقراً وضعفاً وذلة‪ ،‬اللهـم‬
‫إل إن واتتـه الفرصـة للسـتغلل والنهـب ليتحول مـن طبقـة كادحـة مسـتهلكة إلى طبقـة الثرياء المسـتغلين؛ فإن‬
‫النظام الشيوعـي يجرع الذيـن تحـت سـطوته جميعاً غصـة الحرمان‪ ،‬فل ريـب أنـه يسـلب الغنـي كـل مـا يملك ويزيـد‬
‫الفقراء فقراً‪ ،‬ويُعبّدـ جميـع طبقات الناس لحفنـة مـن المتسـلطين ل تكاد تكون إل مـن النذال الرعاع تمسـك بزمام‬
‫الحزب الشيوعي الذي يحل محل الله المعبود في كونه له السلطة المطلقة والمر النفاذ‪ ،‬وما على جماهير الناس‬
‫إل الطاعـة العمياء والنقياد فـي كـل مـا يأمـر بـه أو ينهـى عنـه ولو سـلبهم إرادتهـم فـي أي تصـرف فـي أنفسـهم‬
‫وأموالهـم‪ ،‬حتـى ل يملكوا حركـة ول سـكوناً ول رضـى ول غضباً ول حزناً ول سـروراً‪ ،‬إذ يجـب – حتـى يكونوا‬
‫صـادقين فـي الولء – أن يحكّموا الحزب الجائر فـي مشاعرهـم الباطنـة وهواجسـهم الكامنـة‪ ،‬فل يفكروا إل بدماغ‬
‫أولئك القاهريـن المسـتيدين القابضيـن على نواصـي المور فضلً عـن أن تكون لهـم حريـة فـي التصـرف فـي أمور‬
‫معاشهم بدون إيحاء من الحزب‪ ،‬إذ كل فرد من الفراد محكوم بإرادة الحزب في مطعمه ومشربه وملبسه وسكناه‬
‫وتحركه وانتقاله ودراسته وعمله بحيث ل تكون له حرية في اختيار أي نمط من أنماط الحياة نفسها‪ ،‬وإنما عليه‬
‫أن يكون كاللة الصـماء التـي تتحرك بإرادة غيرهـا بمجرد ضغـط على زر كهريائي ول تملك لنفسـها أي إرادة‪،‬‬
‫ذلك لن مبادئ الشيوعية بنفسها تؤدي إلى ذلك‪ ،‬فمبادؤها تقوم على السس التالية‪:‬‬
‫ل منها‪.‬‬
‫‪-1‬إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتاً وإحلل الملكية الجماعية بد ً‬
‫‪-2‬إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البروليتاريا وإبادة الطبقات الخرى‪.‬‬
‫‪-3‬كفالة الدولة لجميع المواطنين في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالًَ ونساء‪.‬‬
‫‪-4‬المساواة في الجور‪.‬‬
‫‪-5‬إلغاء الدّين‪.‬‬
‫ل بحسب حاجته )‪.‬‬ ‫ل بحسب طاقته ولك ٍ‬ ‫‪-6‬تطبيق مبدأ ( من ك ٍ‬
‫‪-7‬إلغاء الصراع من المجتمع البشري بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫‪.‬أحمد عبد الغفور عطا‪ ،‬الشيوعية وليدة الصهيونية‪ ،‬ص ‪ ،59-58‬ط‪.‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بيروت‬
‫‪15‬‬
‫نفس المصدر السابق ص ‪59‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪-8‬إلغاء الحكومة في المستقبل وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة‪.16‬‬

‫ومن المور البدهية أن مثل هذا النظام ليس وراءه إل الفقر المدقع الذي تغرق فيه المة بأسرها‪ ،‬وماذا عسى أن‬
‫تكون عاقبة نظام يسلب النسان خصائصه النسانية من الرادة والحرية وحياة الضمير فضلً عن امتلك شيء‬
‫يحرص على تنميته وحفظه؟ بل الفرد وما تحت يده ملك للحزب الجائر المتسلط باسم الشعب أو المة‪.‬‬

‫إن مثـل هذا النظام هـو سـبب لموت الضمائر فـي نفوس الفراد‪ ،‬فل يعنيهـم شيـء مـن المحافظـة على المال العام‬
‫الذي يقتاتون ويعيشون بمـا يسـمح لهـم مـن فتاتـه المتسـاقط مـن أيدي جبابرة السـلطة وقادة الحزب‪ ،‬وهذا مـا اطلعنـا‬
‫عليه عن كثب‪ ،‬ففي نفس العام الذي كان فيه انهيار التحاد السوفييتي كنت في زيارة لبعض جمهورياته‪ ،‬فزرت‬
‫روسـيا وأوزبكسـتان وطاجكسـتان‪ ،‬وقـد التقـط سـمعي ممـا كان يتسـاقط فـي أافواه المواطنيـن هناك أن إنتاج القمـح‬
‫وصـل فـي ذلك العام إلى أكثـر مـن مليونـي طـن‪ ،‬ولكـن تلف أكثره بفعـل الهمال وكونـه عرضـة للمطار الهاطلة‬
‫والسـيوف الجارفـة‪ ،‬وذلك أن أي فرد مـن الفراد ل يعنيـه مـن المحافظـة على ذلك شيـء‪ ،‬إذ ل يزداد ربحـه بنماء‬
‫ثروة الدولة مـا دام الفتات الذي يعتاش بـه مضموناً له سـوا ًء نمـت ثروتهـا أو نقصـت‪ ،‬وكيـف يفكـر أحـد فـي ربـح‬
‫الدولة وخسرانها مع أنه من حوله مليين أو قل مئات المليين من أمثاله ل يفكر أحدهم في ذلك؟‪.‬‬

‫وما الذي يدعوهم إلى التفكير في هذا‪ ،‬مع أن تلكم الدولة هي بنفسها جردتهم من خصائصهم البشرية وأماتت فيه‬
‫الضميـر النسـاني‪ ،‬وأنزلتهـم منزلً فـي الدناءة والذل ل ينزله حتـى الحيوان العجـم؟ على أن دعوى المسـاواة بيـن‬
‫ل وتضليلً فإن الحاكميـن – كمـا يتصـرفون فـي حريـة‬ ‫الشعوب والحاكميـن فـي هذا الحرمان ل تعدو أن تكون دج ً‬
‫الشعوب بحيث ل يسمح أن يتصرف أحد منهم إل بإذنهم وعلى حسب هواهم – يتصرفون كذلك في ثرواتها كما‬
‫يشاءون بغيـر وازع ول رقيـب‪ ،‬وكافيكـم شاهداً على ذلك مـا كان مـن سـتالين عندمـا تزوجـت ابنتـه ( سـفيتلنا )‬
‫بميخائيـل كاجنوفيتـش وكان ذلك هـو زواجهـا الثانـي فـي حياتهـا‪ ،‬فقـد نقلت صـحيفة النهضـة التـي كانـت تصـدر‬
‫بسـلطنة زنجبار آنذاك عـن الصـحف الروسـية ( أن حفلت زواج ابنـت سـتالين هذه كانـت أفخـم مـن حفلت زواج‬
‫ملوك الشرق‪ ،‬وأن تكاليف ثوب العروس بلغت مائة ألف جنيه‪ ،‬لنه كان موشّى بالحجار الكريمة‪ ،‬وقد استمرت‬
‫حفلت الزفاف ‪ 14‬ليلة‪ ،‬وحضرهــا آلف مــن المدعويــن والمدعوات‪ ،‬وقدم لهــم ســتالين شمبانيــا والكونياك فــي‬
‫أكواب مـن الذهـب الخالص وهـي الكواب الملكيـة التـي صـادرها الشيوعيون حيـن أعدموا قيصـر روسـيا وأسـرته‬
‫المالكــة‪ ،‬واشتركــت فــي إحياء هذه الحفلت أجمــل راقصــات الباليــه الروســي وأمهــر فرق الموســيقى‪ ،‬وســافر‬
‫العروسان لتمضية شهر العسل في براغ ووخارست ووراسو وصوفيا وسينزلن ضيفين رسميين على حكومات‬
‫هذه البلد؟)‪.17‬‬
‫وهذا نبأ غني عن التعليق‪ ،‬فإن كل أحد يدرك من خلله كيف تتصرف السلطة الشيوعية التي تنصب نفسها إلهاً‬
‫معبوداً لشعبها في المال العام تبذيراً في البذخ الذي ل يعود على الشعب إل بالويل والحرمان‪ ،‬في حين يقتر على‬
‫الشعب في النفاق حتى في مطالبه الضرورية‪ ،‬فأين المساواة المزعومة بين الحكام والمحكومين؟‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن الفكر الشيوعي الملحد بذاته يقضي على روح التنافس في العمل بقتله ضمائر الفراد‪ ،‬فالجماهير‬
‫تنساق بسياط الحزب الجائر المستبد إلى العمل كارهة من غير إحساس بمسؤولية أمام ال‪ ،‬ول خشية من حساب‬
‫فـي الدار الخرة‪ ،‬ول رجاء مكافأة للمحسـن على إحسـانه‪ ،‬ومـن غيـر أن يعود العمـل على العامـل بامتلك منفعـة‬
‫منه‪ ،‬فليس لفرد أن يمتلك مالً وإنما عليه أن يعمل جهده كما يسيّر ويوجّه‪ ،‬من غير أن يكافئ على إتقان العمل‪،‬‬
‫ل لسـودٍ‬ ‫ومـن غيـر أن يطمـح إلى مسـتقبل مشرق منوط بعمله يبدد مـا حوله مـن ظلم قاتـم‪ ،‬ويبدل مـا يجلله مـن لي ٍ‬
‫بهيـم إلى نها ٍر أبيضٍـ مشرق‪ ،‬وإنمـا يوقـن أنـه مهمـا عمـل وأخلص فـي العمـل لن يزال مسـحوقاًَ تحـت أقدام جبابرة‬
‫الحزب التـي ل تزال تطؤه بدون شفقـة ول رحمـة‪ ،‬فمـا الذي يدعـو هذا الفرد الذي سـحقت كرامتـه وسـلبت آدميتـه‬
‫‪16‬‬
‫‪.‬محمد قطب‪ ،‬مذاهب فكرية معاصرة‪ ،‬ص‪ ،414.‬ط‪.‬دار الشروق‬
‫‪17‬‬
‫‪.‬جريدة النهضة‪ ،‬زنجبار‪ 4 ،‬ذي الحجة ‪1370‬هـ‪ 6 ،‬سبتمبر ‪1951‬م‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫إلى الخلص في العمل غير الرعب من توقع العقاب الجائر عندما يُكتشف منه قصورٌ في العمل؟ ولكن يا تُرى‬
‫هـل يتفانـى فـي عمله إن شعـر بغمضـة عيـن الرقيـب‪ ،‬أو أن ذلك يبعثـه إلى انتهاز فرصـة ليريـح نفسـه المرهقـة‬
‫وجسـمه المكدود مـن عناء تكاليـف العمـل الشاقـة مـن غيـر مبالة بمكان العمـل؟ وفـي النهايـة ل يعود هذا النظام إل‬
‫بالفلس والخيبة كما تكشف ذلك في كل مجتم ٍع رُزئ فيه‪ ،‬أول يكفي ما شوهد من أحوال بائسة وتحجر لحركة‬
‫الحياة وسيرها في كل بلد حل بها هذا الوباء؟‪.‬‬

‫‪ )3‬الشتراكية‪:‬‬
‫لئن كانت الشيوعية بضرامها المستعر تأكل الخضر واليابس‪ ،‬وبجشعها المفرط تمتص الدم وتنهش العظم وتبيد‬
‫حتــى المشاش؛ فإن الشتراكيــة ‪-‬التــي هــي ربيبتهــا – والتــي تغنــى بهــا كثيرٌ مــن المحروميــن فــي ظــل النظمــة‬
‫الدكتاتوريــة الرأســمالية الجائرة راجيــن نعيمهــا المحلوم بــه‪ ،‬حتــى أفضــى بهــم الغرور بهــا إلى أن عزوهــا إلى‬
‫السلم‪ ،‬وجعلوا رائدها نبيه ‪-‬عليه أفضل الصلة والسلم‪ -‬ليست أقل من أمها الشيوعية في إشاعة الفقر وتجميد‬
‫النتاج‪ ،‬وإن كانت ل تسلب الفراد كل ما يملكون وإنما تُبقي بأيديهم لعاعة تسليهم ل تسمن ول تغني من جوع‪،‬‬
‫على أنهـا مهمـا أبقـت فإن حماس النتاج ينعدم أو يكاد فـي ظـل نظامهـا‪ ،‬إذ ل يكاد أحـد ينمـي ثروة يمتلكهـا حتـى‬
‫تستوسق ويغزر خيرها ويمتد نفعها إل وتمتد يد الشتراكية الثمة إليها‪ ،‬فتبتزها منه فل يبقى له منها نصيب –‬
‫بعـد عرقـه الذي سـكبه فـي تنميتهـا وسـهره الذي كابده وجهده الدءوب الذي بذله – إل الحسـرة والسـى وذكريات‬
‫ل للمحافظـة على مـا يسـلب وتنميـة مـا‬‫المشقـة والعناء مـع تجرع غصـص الحرمان‪ ،‬على أن ذلك النظام ليـس مؤه ً‬
‫يحتوي؛ إذ ليـس لذلك مـن عاقبـة إل الهمال‪ ،‬فعندمـا غشيـت الناس غاشيـة مـن هذا الظلم وطمـت موجـة مـن نظامـه‬
‫المتعسـف على بعـض بلد العرب‪ ،‬تراجـع النمـو القتصـادي فيهـا إلى أدنـى درجاتـه‪ ،‬ومـن ذلك مـا أخـبرنيه رجـل‬
‫كان من الموسرين والثرياء وكان مما يمتلكه حديقة غناء فيها النخل وأنواع الفاكهة‪ ،‬وقد كان ما فيها من النخيل‬
‫ثلثـة آلف مـن الباسـقات ذات الطلع النضيـد‪ ،‬فطال كثيرًا مـن ممتلكاتـه ظلم التأميـم باسـم الثورة الزراعيـة‪ ،‬وكانـت‬
‫حديقتــه هذه ممــا لفحتــه هذه الثورة بســموم جهنمهــا‪ ،‬فلم يأت عليهــا زمان حتــى تحولت إلى قفــر يباب‪ ،‬وعادت‬
‫مروجهـا الخضراء هشيماً تذروه الرياح كالرماد الذي تخلفـه النيران‪ ،‬وحاول بعـد ذلك الغاصـبون أن يعيدوا إليـه‬
‫أرض حديقته اليباب فرفض محتسبًا أجر مظلمته عند ال‪.‬‬

‫ول يعجـب مـن مثـل هذه العاقبـة؛ فمـا الخلي كالشجـي ول النائحـة كالثكلى ول الغانـم كالغارم‪ ،‬فأنّى لظلوم غاصـب‬
‫أن يحـس بمـا يحـس بـه المظلوم الكادح الذي كابـد العرق والرق وامتزج دمعـه بدمـه فـي سـبيل تنميـة ثروة يرجـو‬
‫خيرهـا فـي شدائده‪ ،‬وإنمـا مثلهمـا كمثـل امرأتيـن تنازعتـا طفلً حملتـه إحداهـا فـي أحشائهـا وغذتـه بخلصـة دمائهـا‬
‫ووضعته كرهًا كما حملته وربته مغمورًا بعطفها وحنانها‪ ،‬تشقى ليرتاح وتسهر لينام وتجوع ليشبع وتظمأ ليروى‬
‫وتعرى ليكتسـي‪ ،‬لنـه قرة عينهـا وفلذة كبدهـا وثمرة فؤادهـا وزهرة حياتهـا وأمـل مسـتقبلها‪ ،‬والخرى ل تعدو أن‬
‫تكون أرادت به ترفاً في حياتهـا وسـلوى تشغل به فراغهـا‪ ،‬فهـي لم تحمله ولم تضعه ولم تضحّ من أجله بغالٍ ول‬
‫رخيـص‪ ،‬ول تشدهـا إليـه صـلة نسـب ول سـبب‪ ،‬فأنـى تسـتويان فـي حنانهمـا وبرهمـا ورعايتهمـا؟! وأنـى يجـد عنـد‬
‫الخرى ما يجد عند أمه الرؤوم من الحسان والتربية السليمة؟! فكذلك الثروات؛ تضاع وتهدر عندما تؤول ظلماً‬
‫وعدواناً إلى من استأثر بها من غير كدحٍ في تحصيلها وتنميتها‪ ،‬ومن غير مغرم مادي لجل ذلك‪.‬‬

‫وهذا مـا جعـل البلد التـي طالتهـا ألسـنة نيران الثورات الشتراكيـة غارقـة فـي الفقـر‪ ،‬كابدتـه إبان وقوعهـا تحـت‬
‫نيران الظلم الشتراكـي‪ ،‬كمـا ظلت تكابده بعـد انحسـاره عنهـا؛ لتغلغـل آثار ذلك الظلم فيهـا‪ ،‬مـع مـا عسـاه أن يكون‬
‫ق وفير‪.‬‬
‫فيها من خيرٍ عظيم ورز ٍ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ول يخفــى أن شبــح التأميــم عندمــا يهدر رؤوس الموال ويقــض مضاجــع أصــحاب الثروات يجمــد الحركــة‬
‫القتصــادية ويقــف بعجلتهــا عــن الدوران بســبب تعطيله الطاقات وتجميده الملكات؛ فمــن الذي يأمــن أن يقوم‬
‫بمشروع تجاري أو صناعي أو زراعي عملق تشغّل فيه أيدي العاطلين وتشبع من ورائه بطون الجياع وتكتسي‬
‫بنتاجه أجساد العراة مع أن عين النظام ساهرة ترقب كل مشروع من هذا النوع لتسلط عليه نار التأميم الملتهبة‪،‬‬
‫التـي يأتـي ضرامهـا على كـل ثروة فيحوله أكوامًا مـن الرماد المتطايـر؟! فكيـف يطمئن أحـد فـي مثـل هذه الجواء‬
‫المرعبـة إلى القيام بأي مشروع مـع أن هذا الشبـح المخيـف يلحقـه؟! أليـس مثـل هذا النظام هـو الذي يدفـع بالناس‬
‫إلى التحايـل على القانون ولو بأسـاليب مسـتميتة مـن أجـل تهريـب مـا تبقـى مـن ثرواتهـم تحـت أغشيـة مـن الظلم‬
‫الدامـس إلى مجتمعات أخرى توفـر أنظمتهـا للمشروعات القتصـادية أجواء آمنـة يمكـن فيهـا لربابهـا أن يمارسـوا‬
‫أنشطتهـم بكـل هدوء وطمأنينـة؟! وهذا مـا يجعـل موطـن تلك الثروات مقفراً مـن خيراتهـا‪ ،‬وإنمـا تنعـم بـه مواطـن‬
‫أخرى لم تكن تمت بصلة إلى أهلها‪.‬‬

‫‪ )4‬العولمة‪:‬‬
‫بعـد تلك المكابدة المريرة مـن أنظمـة الشيوعيـة والشتراكيـة الجائرة التـي عصـرت المجتمعات عصـراً مسـتنفدة مـا‬
‫فيهـا مـن ماء الحياة‪ ،‬أخذت هذه المبادئ فـي النحسـار لصـطدامها بنواميـس الفطرة وتقهقرهـا أمام المـد الطـبيعي‬
‫للحياة‪ ،‬ولكـن مـا كاد الناس يسـتعيدون أنفاسـهم حتـى تمكنهـم الراحـة والسـترخاء فـي أجواء آمنـة مـن القلق إل وقـد‬
‫فوجئوا بمارد عملق يخرج إليهــم مــن باب النظام العالمــي الجديــد فاغرًا فاه ليبتلع شعوب العالم‪ ،‬قاضمــة أنيابــه‬
‫العصل ثرواتها وخصائصها ومقوماتها‪ ،‬ذلك هو مارد العولمة الجشع المنهوم الذي ل يُقنع رحى معدته الطحون‬
‫إل اجتياح العالم والتهام ثرواته‪ ،‬ومع كل ذلك يصيح وينادي‪ :‬هل من مزيد؟‪.‬‬

‫فما هي العولمة؟ وكيف وصلت إلى هذا القدر من نشر الرعب في قلوب المنين؟‬

‫( إن كلمـة " العولمـة " لفظـة جديدة فـي القاموس السـياسي والقتصـادي‪ ،‬فهـي كلمـة حديثـة لم تدخـل بعـد قوائم‬
‫المفردات فــي القواميــس الســياسية والقتصــادية‪ ،‬ومــع هذا فهــي منســوبة إلى " العالم " أي الكون وليــس إلى "‬
‫العِلم"‪ ،‬ولهذا فهـي توصـف بأنهـا شي ٌء أو نظام جديـد يُراد بـه توحيـد العالم فـي إطار جديـد واحـد‪ ،‬ومـن هنـا أطلق‬
‫عليـه البعـض " النظام العالمـي الجديـد "‪ ،‬ومـع أن عبارة " النظام العالمـي الجديـد " توحـي بـل وتشيـر إلى النظام‬
‫الســياسي بشكــل خاص إل أنهــا فــي التســمية الحديثــة تشمــل الســياسة والقتصــاد والثقافــة والجتماع والتربيــة‬
‫والعراف والتقاليـد وغيـر ذلك‪ ،‬بـل إنهـا تتجاوز ذلك كله إلى الحدود السـياسية والجغرافيـة بيـن الدول‪ ،‬حتـى أنـه‬
‫قيــل‪ :‬إن العولمــة ســتجعل العالم يعيــش فــي عصــر " القريــة الكونيــة " الموعودة‪ ،‬فــي حيــن اعتبرهــا آخرون "‬
‫إمبراطورية جديدة "‪.‬‬

‫وبهذا يمكننـا تعريـف العولمـة بأنهـا ‪ :‬نظام عالمـي جديـد‪ ،‬يقوم على العقـل اللكترونـي والثورة المعلوماتيـة القائمـة‬
‫على المعلومات والبداع التقنـــي غيـــر المحدود دون اعتبار للنظمـــة والحضارات والثقافات والقيـــم والحدود‬
‫الجغرافية والسياسية القائمة في العالم‪.‬‬

‫كما عُرفت العولمة بأنها‪ :‬القوى التي ل يمكن السيطرة عليها للسواق الدولية والشركات المتعددة الجنسية‪ ،‬التي‬
‫ليس لها ولء لية دولة قومية‪.‬‬

‫وهناك تعريفـٌ آخــر يقول‪ :‬إنهــا حريــة حركــة الســلع والخدمات واليدي العاملة ورأس المال والمعلومات عــبر‬
‫الحدود الوطنية والقليمية‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ويعرف برهان غليون العولمـة بأنهـا‪ :‬ديناميكيـة جديدة تـبرز داخـل العلقات الدوليـة مـن خلل تحقيـق درجـة عاليـة‬
‫من الكثافة والسرعة في عملية انتشار المعلومات والمكتسبات التقنية والعملية للحضارة‪ ،‬يتزايد فيها دور العامل‬
‫الخارجي في تحديد مصير الطراف الوطنية المكونة لهذه الدائرة المندمجة وبالتالي لهوامشها أيضاً‪ ،‬ومن وجهة‬
‫نظره فإن العولمــة تعنــي‪ :‬الدخول بســبب الثورة المعلوماتيــة والتقنيــة والقتصــادية معاً فــي طو ٍر مــن التطور‬
‫الحضاري ليصبح فيه مصير النسان موحداً أو نازعاً للتوحد )‪.18‬‬

‫وأمـا أهدافهـا فإنهـا قـد تبدي أهدافاً خدّاعـة تسـتهوي الغمـر غيـر المتعمـق فـي دراسـتها‪ ،‬ولكـن مـا تخفيـه فـي طياتهـا‬
‫أدهى وأمر من كل ما عساه يتصوره الذهن‪ ،‬فبجانب إذابتها للهويات الثقافية والدبية والجتماعية والفكرية لدى‬
‫الشعوب هــي أتون متأجــج ضرامــه يلتهــم ثروات المــم والشعوب لتعود غذاء هنيئًا للمارد العملق الذي فرض‬
‫سـيطرته على العالم بدهائه ومكره وقوتـه وعتاده‪ ،‬فهـي تمتـص الدماء مـن أوردة الشعوب والدول حتـى ل تسـتطيع‬
‫دولة أن تقف على قدميها‪ ،‬ول يتمكن شعبٌ من أن تكون له إرادة أو خيار‪.‬‬

‫هذه هــي العولمــة وتلكــم هــي غايتهــا‪ ،‬فمــن الناحيــة القتصــادية تزيــد الشعوب المســتضعفة ضعفاً‪ ،‬وتســلب ذوي‬
‫الثروات مـا كان لهـم مـن خيـر أفاضـه ال عليهـم‪ ،‬ليتقوى بهـا المتسـلط الجبار ليمعـن فـي جـبروته وقهره وليدوس‬
‫النسانية بوطأة غطرسته وظلمه‪.‬‬

‫‪ )5‬الصهيونية‪:‬‬
‫إن مـن المسـلمات التـي ل تقبـل الجدل أن العنصـر اليهودي امتزج بحـب الثرة والسـتغلل‪ ،‬وأن حـب المال حبًا‬
‫جماً طبـع متأصـل فـي اليهود مـع مـا عرفوا بـه فـي تعاملهـم مـن التواء المسـالك والركون إلى الخلبـة والخداع‪ ،‬قال‬
‫ال تعالى‪ (( :‬فبظل مٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبا تٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل ال كثيراً * وأخذهم الربا‬
‫وقــد نهوا عنــه وأكلهــم أموال الناس بالباطــل وأعتدنــا للكافريــن منهــم عذابًا أليماً * )) ( النســاء‪،)160،161 :‬‬
‫ووصــفهم بقوله‪ (( :‬س ـمّاعون للكذب أكّالون للســحت )) ( المائدة‪ ،)42:‬وقــد امتزج هذا الجشــع بســائر طباعهــم‬
‫كحقدهم الدفين واستعلئهم على الشعوب والمم معتقدين أنهم شعب ال المختار‪ ،‬مع اعتقادهم بأن ما بأيدي سائر‬
‫الشعوب ملك لهـم (( ذلك بأنهـم قالوا ليـس علينـا فـي المييـن سـبيلٌ )) ( آل عمران‪ ،)75:‬فلذلك مـا فتئوا يحبكون‬
‫المآمرات ويدبرون المكائد ويدسـون الدسـائس ضـد جميـع الشعوب والنظمـة‪ ،‬ناهيـك أنهـم – بجانـب كونهـم رأس‬
‫الحربـة الرأسـمالية الجائرة – هـم الذيـن حركوا الثورات الشيوعيـة التـي لم تبـق ولم تذر‪ ،‬لن مـن طبعهـم تأجيـج‬
‫نيران الفتــن وإلهاب الســخائم والحقاد (( كلمــا أوقدوا ناراً للحرب أطفأهــا ال ويســعون فــي الرض فســاداً ))‬
‫ل هداماً يقوض‬ ‫( المائدة‪ ،)64 :‬ولكـل مـا ذكرتـه شواهـد فـي يروتوكولت حكماء صـهيون‪ ،‬فل غرو إن كانوا معو ً‬
‫اقتصــاد أمــة الســلم‪ ،‬وســعيراً متأججاً يلتهــم ثروات المــم التهاماً‪ ،‬وإننــي لحيــل قارئ بحثــي هذا إلى كتاب‬
‫( المخططات الصـهيونية للسـيطرة القتصـادية على الوطـن العربـي ) للسـتاذ حلمـي عبـد الكريـم الزعـبي‪ ،‬ففيـه مـا‬
‫يغني عن الطالة‪.‬‬

‫وبجانـب مـا ذكرتـه مـن هذه العوامـل المؤثرة فـي الفقـر الراجعـة إلى النظـم السـياسية هنالك عوامـل أخرى ليسـت‬
‫بمنأى عن المخططات الصهيونية والستعمارية‪ ،‬أقتصر على ذكر عاملين منها‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬انتشار المخدرات والخمور‪:‬‬


‫‪18‬‬
‫‪.‬محمد بن سعيد بن سهو أبو غرور‪ ،‬العولمة‪ :‬ماهيتها‪ ،‬نشأتها‪ ،‬أهدافها‪ ،‬الخيار البديل‪ ،‬ص ‪،15-13‬ط‪.‬دار البيارق‪ ،‬عمّان‪ ،‬الردن‪1998 ،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫فإنـه مـن أخطـر مـا يهدد الشعوب والمـم‪ ،،‬وهـو مـن ضمـن دسـائس الصـهيونية العالميـة فـي نشـر أوبئة الفسـاد‬
‫وتحطيـم مقومات الشعوب والمـم‪ ،‬ذلك لن الحياة فرصـة ل تعوض ونعمـة ل تقدر بثمـن‪ ،‬فمـن ثـم كان النسـان‬
‫مسئولً عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبله؟ وهل العمل لخير الدنيا والخرة إلى بانتهاز فرص الزمان؟‬
‫فمـن أضاعهـا خسـر العمـل‪ ،‬بـل خسـر الدنيـا والخرة معاً‪ ،‬والعمـل ل يكون إل بتدبيرٍ وإتقان‪ ،‬وأنّى ذلك إل بعقلٍ‬
‫سـليم يبصـر النسـان بمـا يأتيـه ويذره‪ ،‬لذلك كان العقـل ملك الحقيقـة النسـانية وسـر حياتهـا‪ ،‬وبمـا أن السـلم ديـن‬
‫الفطرة شدد في تعاطي النسان أي شيء مما يؤثر في عقله من مسكرات أو مخدرات‪ ،‬لن تعطيل العقل تعطيلٌ‬
‫للحياة كلها‪ ،‬وماذا عسى أن تكون حالة من فقد عقله إل أنه عبءٌ ثقيل على مجتمعه؟ فهو يضر ول ينفع‪ ،‬ويأخذ‬
‫ول يعطـي ويسـتهلك ول ينتـج‪ ،‬وبهذا تـبين لكـل ذي بصـر أن المخدرات والخمور هـي مـن أسـباب الفقـر‪ ،‬لنهـا‬
‫تفضــي إلى تعطيــل ملكات الذيــن يتعاطونهــا فضلً عمــا يصــرف فيهــا مــن أموالٍ طائلة تتجاوز أرقامهــا جميــع‬
‫التصـورات‪ ،‬ومـا هـي إل على حسـاب المجتمـع الذي هـو أحوج مـا يكون إليهـا‪ ،‬فهـي ثروات تهدر وحقوق تضاع‪،‬‬
‫على أن المخدّر والمخمور ل يفتآن فـي حال نشوة الخمـر والمخدرات يبذران تبذيراً‪ ،‬فيبددان كـل لديهمـا مـن ثروة‬
‫وما تمتد إليه أيديهما من ثروات الخرين تبديداً ل يكاد يُصدق‪.‬‬

‫قال الدكتور أحمـد عبـد العزيـز الصـفر‪ ( :‬تشكـل البعاد القتصـادية والسـياسية لنتشار تعاطـي المخدرات عام ً‬
‫ل‬
‫اسـاسياً من عوامـل انتشار الفقر بصورة عامة‪ ،‬وفي المجتمع العربـي بشكـل خاص‪ ،‬ذلك أن التحليـل الموضوعـي‬
‫لنتشار الظاهرة فـي معظـم دول العالم يدل على ارتباط نمـو الظاهرة بالبعاد القتصـادية والسـياسية للصـراعات‬
‫بين الدول والشعوب‪ ،‬وتعد حرب الفيون التي فرضتها بريطانيا على الصين سنة ‪1840‬م لتسهيل تجارة الفيون‬
‫فيها أوضح من دليل على البعاد القتصادية والسياسية لتجارة المخدرات ‪.19‬‬

‫تعدّ الصــين مــن الدول ذات الســوق الســتهلكية الواســعة بســبب ارتفاع عدد ســكانها‪ ،‬وجودة قوتهــم الشرائيــة‬
‫بالموازنـة مـع سـكان المناطـق الخرى‪ ،‬وخاصـة المجاورة لهـا‪ ،‬وقـد نجحـت فـي الحتفاظ باسـتقللها ولم تقـع تحـت‬
‫حكم دولة أجنبية‪ ،‬وذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫وكانت قد بدأت باستيراد الفيون من الهند منذ بداية القرن الخامس عشر‪ ..‬لكن نطاق هذه التجار لم يتسع إل على‬
‫يد التجار الوروبيين خصوصًا شركة الهند الشرقية التي كانت تحتكر التجارة البريطانية‪.‬‬

‫وفـي عام ‪1800‬م أصـدرت الحكومـة الصـينية قرارات تمنـع مـن خللهـا اسـتيراد الفيون لي سـبب مـن السـباب‬
‫لتضـع حدًا لهذا الداء الذي يهدد كيان الشعـب ويسـتنفد ثروة البلد‪ ،‬غيـر أن الربـح الفاحـش حمـل الوروبييـن على‬
‫تهريــب الفيون إلى الصــين وشراء ضمائر الموظفيــن بالرشوة‪ ..‬المــر الذي دفــع الحكومــة الصــينية إلى منــع‬
‫موظفيهـا مـن الجتماع بالتجار والتفاعـل معهـم‪ ،‬وبرغـم الجراءات المشددة المفروضـة على التعامـل مـع التجار‬
‫الجانـب غيـر أن ذلك لم يضـع حداً لتجارة الفيون التـي اسـتفحلت معهـا بقوة مظاهـر الفسـاد والرشوة‪ ..‬ثـم ازداد‬
‫المر سوءًا بعد عام ‪1834‬م عندما اتخذت الحكومة الصينية مجموعة من الجراءات الصارمة بخصوص الحد‬
‫من تهريب الفيون‪ ،‬وأمرت التجار الجانب أن يسلموا جميع الكميات الموجودة لديهم من الفيون‪ ..‬ولما رفضوا‬
‫ذلك عملت الدولة على إرغامهم وعزلهم في معاملهم‪ ،‬وحمل الخدم والعمال الصينيين على هجرهم ومنع وصول‬
‫الطعام إليهـم‪ ..‬ممـا أجـبرهم على المصـالحة وتسـليم مـا ل يقـل عـن عشريـن ألف صـندوق مـن الفيون‪ ..‬وأمرت‬
‫الدولة بإحراق هذه الكمية التي كانت معدة للتهريب‪.20‬‬

‫‪19‬‬
‫‪www.999,8m.net‬‬
‫‪20‬‬
‫‪www.alwahm.8m.com‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫غير أن المر سرعان ما أدى إلى نشوب حربٍ واسعة مع بريطانيا انتهت بهزيمة الصين‪ ،‬وتوقيع معاهدة مشينة‬
‫وإطلق حريـة التجار بالفيون‪ ،‬أمـا مقدار الضرر الذي يلحقـه الفيون بالشعـب الصـيني فلم يزعـج بال بريطانيـا‪،‬‬
‫التي ل يهمها إل المكاسب المادية التي يجنيها تجارها من تهريب الفيون‪ ،‬وما يدره ذلك على الخزينة البريطانية‬
‫من دخل‪ ،‬فقامت الحرب عام ‪1840‬م لن أغلب الفيون الذي أحرقته الحكومة الصينية كان ملكًا لتجار بريطانيا‪،‬‬
‫فأعلنـت بريطانيـا الحرب بحجـة الدفاع عـن تكرامتهـا وشرفهـا‪ ،‬وعرفـت هذه الحرب " بحرب الفيون " وانتهـت‬
‫بفرض تعاطـي سـم الفيون على الصـين‪ ،‬وهكذا تمكنـت بريطانيـا مـن النتصـار‪ ،‬وأن تفرض تجارة الفيون على‬
‫الصين )‪.21‬‬

‫وفـي عام ‪ 1856‬عادت المشكلت مـن جديـد‪ ،‬وأخذت دول أوروبيـة أخرى بالتحالف مـع بريطانيـا‪ ،‬وكانـت فرنسـا‬
‫على رأس هذه الدول‪ ،‬ونشبت حرب الفيون الثانية للغراض ذاتها‪ ،‬وتمكنت الدول المشاركة من النتصار على‬
‫الصـين مر ًة ثانيـة‪ ،‬وفرض شروط جديدة تضمـن لهـم حريـة تجارة الفيون بشكـل خاص‪ ،‬حيـث تـم افتتاح خمسـة‬
‫موانـئ جديدة لهذا الغرض‪ ،‬وسـمحت الحكومـة الصـينية بانتشار المسـيحية فـي الصـين‪ ،‬وكان مـن نتيجـة ذلك أن‬
‫ارتفع عدد المدمنين في الصين من حوالي ( ‪ ) 2‬مليون نسمة عام ‪1878‬م‪ ،‬أي في أقل من ثلثين عاماَ‪.22‬‬

‫ول يختلف المر في الوقت الراهن عما كان عليه فـي الماضي إل من الناحية العلمية وحسب‪ ،‬فتحاول الدول‬
‫المنتجة للمخدرات نفي أن تكون من الدول المنتجة سعياً وراء تجنب المشكلت السياسية التي يمكن أن تتعرض‬
‫لهـا فـي علقاتهـا مـع الدول الخرى‪ ،‬خاصـة وأن معظـم الدول أصـبحت مرتبطـة باتفاقيات دوليـة للحـد مـن النتاج‬
‫غيـر المشروع للمخدرات‪ ،‬وفـي هذا السـياق يلحـظ الدكتور سـعد المغربـي أن هناك عاملً اقتصـاديًا كـبير التأثيـر‬
‫فــي إنتاج المخدرات عامــة وإنتاج الفيون بخاصــة‪ ،‬إذ يرجــع اهتمام الدول بزراعتــه وإنتاجــه وعدم تعاونهــا مــع‬
‫الدول الخرى في الشراف على هذا النتاج إلى أنه يعد مصدراً أساسيًا وضخماً من مصادر الدخل لهذه الدول‪،‬‬
‫ويسهم ما يترتب عليه من مردود اقتصادي في تمويل الحكومات‪ ،‬ونتيجة لذلك فإن الجهود الدولية لضبط النتاج‬
‫وتوجيهه تسير ببطء شديد‪.‬‬

‫ويلحظ الدكتور المغربي أن كل المعاهدات والتفاقيات الدولية التي تمت منذ عام ‪1912‬م تهدف إلى التحكم في‬
‫عمليات النتاج والتوزيـــع‪ ،‬ومـــع ذلك فإن الحـــل النهائي لم تصـــل إليـــه هذه الدول‪ ،‬ذلك أن الحـــل ســـيؤدي إلى‬
‫اضطرابات اقتصادية لدى الدول المنتجة والتي تعتمد في دخلها وميزانيتها على إنتاج الفيون وتصديره‪.23‬‬

‫ويكشـــف أندرياس بوبر فـــي كتابـــه المنشور باللغـــة اللمانيـــة بعنوان " جرائم أجهزة المخابرات " عـــن تعاون‬
‫مجموعـة مـن أجهزة المخابرات الغربيـة – المريكيـة واللمانيـة وغيرهمـا – فيمـا بينهـا على مدار سـنوات طويلة‬
‫ومـع رؤسـاء منظمات المافيـا العالميـة لتهريـب المخدرات بغيـة تنفيـذ العمليات الرهابيـة والعداد لهـا‪ ،‬وأن هذه‬
‫الجهزة حققـت أرباحاً طائلة مـن وراء صـفقات المخدرات‪ ،‬وبهذه الرباح غيـر الشرعيـة تـم التفاق على عمليات‬
‫غير شرعية ضد دول أخرى أيضاً‪.24‬‬

‫وإذا كان لنتشار المخدرات أبعاد سـياسية واقتصـادية متنوعـة فـي معظـم الدول‪ ،‬فإنـه فـي المجتمـع العربـي أكثـر‬
‫وضوحاً وأشـد تأثيراً‪ ،‬غيـر أن وسـائل العلم العربيـة ومراكـز البحاث المتخصـصة فـي هذا المجال ضعيفـة إلى‬
‫الحد الذي ل تستطيع فيه الكشف عن أية أبعاد من هذا القبيل‪ ،‬وهي تبني القسم الكبر من تقاريرها وأبحاثها على‬

‫‪21‬‬
‫‪www.alwahm.8m.com‬‬
‫‪22‬‬
‫نفس المصدر السابق‬
‫‪23‬‬
‫المغربي‪1986،10 ،‬‬
‫‪24‬‬
‫‪www.freemuslim.org‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫مـا توفره المؤسـسات الغربيـة مـن بيانات وأرقام ومعلومات‪ ،‬فمراكـز البحاث العربيـة ليسـت منتجـة حتـى للبيانات‬
‫بقدر ما هي مستهلكة لما هو متداول بين مراكز البحاث العالمية والغربية منها بشكل خاص‪.‬‬

‫إن المنطقـة العربيـة ومنطقـة الشرق المشرق العربـي بشكـل خاص هـي مـن أكثـر المناطـق فـي العالم حسـاسية مـن‬
‫الناحيـة السـياسية ‪ ،‬وتعـد مشكلة الصـراع العربـي الصـهيوني مـن أقدم المشكلت المسـتعصية على الحـل فـي العالم‬
‫المعاصر‪ ،‬وتكتسي فيها القضايا الجتماعية والقتصادية أبعاداً سياسية على نحو بالغ‪ ،‬غير أن الوعي بمخاطرها‬
‫مـا زال ضعيفاً‪ ،‬فالفسـاد الداري والمالي والمخدرات والدعارة ليسـت قضايـا اجتماعيـة فحسـب بقدر مـا تحمـل فـي‬
‫مضمونهــا بعداً ســياسيًا هدفــه تقويــض دعائم النظام الجتماعــي ونشــر النحلل الخلقــي وتحطيــم أي مشروع‬
‫مستقبلي في تصور البناء ‪ ،‬سواءً أكان المشروع مبنياً على أسس دينية أم على أسس قومية‪.‬‬

‫إن آليـة التفكيـر الصـهيوني تقوم على دعامتيـن أسـاسيتين تتمثـل الولى فـي السـيطرة على مصـادر القوة وممارسـة‬
‫الرهاب‪ ،‬وتظهـر الثانيـة بالسـعي لفسـاد الخـر وتحطيـم قوتـه‪ ،‬ويأخـذ التفكيـر الصـهيوني بالمبدأ القائل بأن قوة‬
‫الذات إنمـا تكمـن بفسـاد الخـر‪ ،‬وقـد وصـفهم ال عـز وجـل بأنهـم (( يسـعون فـي الرض فسـاداً )) ( المائدة‪،) 64:‬‬
‫وضمــن هذا التصــور يعمــل المفكرون فــي الحركــة الصــهيونية على إثارة المجازر والمذابــح وإقامــة النظمــة‬
‫الرهابية الدموية وتخريب الحكومات القائمة على مبادئ الخير والعقائد النسانية الصحيحة‪.‬‬

‫والمشكلة أن الحركة الصهيونية تملك إلى تجانب مشاريعها المعادية للشعوب وسائل العلم المضللة التي تخفي‬
‫حقائق المور وتقلبهـا رأسـاً على عقـب‪ ،‬وقـد تجعـل مـن خصـومها دعاة للرهاب والقتـل التشريـد كمـا يحدث اليوم‬
‫في الصراع العربي الصهيوني‪ ،‬في حين تظهر نفسها وكأنها داعية للخير والحق والعدالة‪.‬‬

‫كمـا يعتمـد المفكرون فـي الحركـة الصـهيونية بدرجـة كـبيرة على بـث سـموم الشقاق والنزاع داخـل البلد الواحـد‬
‫وتمزيقـه إلى فئات متناحرة‪ ،‬وإشاعـة الحقـد والبغضاء بيـن أبناء البلد الواحـد حتـى تتقوض جميـع مقومات المجتمـع‬
‫الدينيـة والخلقيـة والماديـة‪ ،‬والوصـول بـه وبصـورة تدريجيـة إلى النتيجـة المرجوة بعـد ذلك كله وهـي تحطيـم‬
‫الحكومات الشرعيــة والنظمــة الجتماعيــة الســليمة ‪ ،‬وتهديــم الديــن والخلق والفكــر والكيانات القائمــة عليهــا‬
‫المجتمعات‪ ،‬تمهيداً لنشـر الفوضـى والكفـر والفسـق والرهاب واللحاد‪ ،‬وذلك مـن خلل اسـتعمال الرشوة بالمال‬
‫واسـتخدام الفسـاد والجنـس دون أي وازع بمـا فـي ذلك الشذوذ الخلقـي فـي سـبيل الوصـول إلى الشخاص الذيـن‬
‫يشغلون المراكـــز العلميـــة أو القتصـــادية أو الســـياسية الحســـاسة فـــي المناطـــق التـــي تصـــبح هدفًا للمشروع‬
‫الصهيوني‪.25‬‬

‫وإذا كان الذهب بمثابة القوة الحقيقية الولى فإن " الصحافة " هي القوة الثانية برأي المفكرين الصهاينة ( وحينما‬
‫نسيطر على الصحافة نسعى جاهدين إلى تحطيم الحياة العائلية والخلق والدين والفضائل )‪ ،‬التي تعد من ( أهم‬
‫مقومات الشعوب فيسهل السيطرة عليهم وتوجيهها كيفما نريد )‪.26‬‬

‫وفـي سـياق هذا التوجـه بصـورة عامـة يمكـن تلمـس البعاد السـياسية لنشـر الفسـاد الجتماعـي والخلقـي فـي الدول‬
‫العربيـة‪ ،‬ونشـر المخدرات‪ ،‬غيـر أن المـر ل يقـف عنـد حدود العتبارات الماديـة والقتصـادية فحسـب بقدر مـا‬
‫يرتبـط بالبعاد السـياسية‪ ،‬فكـل مـا مـن شأنـه تقويـض دعائم النظام الجتماعـي فـي الدول العربيـة ونشـر الفسـاد‬
‫الخلقي والجتماعي يسهم على نحو مباشر تارةً وغير مباشر تار ًة أخرى في دعم المشروع الصهيوني وتعزيز‬
‫وجوده فــي المنطقــة‪ ،‬ولهذا ليــس مــن الغريــب أن يعمــل الكيان الصــهيوني على دعــم نشــر المخدرات فــي الدول‬

‫‪25‬‬
‫‪www.arabmail.de‬‬
‫‪26‬‬
‫نفس المصدر السابق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫العربيـة ونشـر الفسـاد‪ ،‬حتـى أن ذلك يعـد بالنسـبة إليـه جزءاً ل يتجزأ مـن الحروب التـي تقوم بهـا " إسـرائيل " ضـد‬
‫الدول العربية مجتمعةً أو منفردةًَ‪.‬‬

‫ول تعــد المســألة جديدة‪ ،‬فســعي الكيان الصــهيوني لنشــر المخدرات فــي المجتمــع العربــي وجعــل ذلك جزءًا مــن‬
‫معركـة " إسـرائيل " ضـد الدول العربيـة يعود إلى المراحـل الولى مـن تأسـيس الكيان الصـهيوني‪ ،‬إذ يكشـف عبـد‬
‫العزيـز صـفوت سـنة ‪1956‬م فـي تقريـر له مرفوع إلى أميـن عام جامعـة الدول العربيـة عـن الدور الذي تقوم بـه‬
‫إسرائيل في نشر المخدرات في الدول العربية المجاورة بعد أن كانت النظار متجهة نحو سوريا ولبنان لوصفهما‬
‫دول منتجـة‪ ،‬جاء فـي المذكرة المرفوعـة سـنة ‪1956‬م ( ذكرت فـي التقريـر السـابق أن إسـرائيل زرعـت مسـاحة‬
‫كبيرة في أراضيها بنبات الحشيش في العام الفائت بجهة المثلث المتاخمة لحدود المملكة الردنية الهاشمية‪ ،‬ولقد‬
‫علمـت أن إسـرائيل لم تزرع فـي هذا العام نبات الحشيـش فـي أراضيهـا اكتفا ًء بمـا يهرب إليهـا لتهريبـه تباعًا إلى‬
‫الراضي المصرية‪.‬‬

‫أمـا فيمـا يختـص بالمواد المخدرة البيضاء فمـن المقطوع بـه أن إسـرائيل أنشأت بضعـة مصـانع صـغيرة لصـناعة‬
‫الكوكاييـن والهيرويـن والمواد المخدرة الصـناعية تعمـل على تهريبهـا لبعـض بلد الشرق الوسـط وبعـض البلدان‬
‫الوروبيـة‪ ،‬ولو أنهـا تضـع على عبوات هذه المخدرات أسـماء لشركات محترمـة بأوروبـا‪ ،‬كمـا أنهـا تعمـل على‬
‫تهريــب المواد البيضاء للوليات المتحدة عــن طريــق فرنســا بحراً وجواً عــن طريــق المطارات التــي تقصــدها‬
‫الطائرات )‪.27‬‬

‫وفــي موقــع آخــر يذكــر اللواء صــفوت ( ولقــد لمســت فــي الســنوات الخيرة انتشار المواد المخدرة " الكوكاييــن‬
‫والهيروين " والمواد المخدرة المصنعة فـي ربوع لبنان وسوريا وكنت قـد وجهت نظر المسئولين إلى ذلك‪ ،‬ولقد‬
‫تــبين أن مصــدر هذه المخدرات تركيــا و" إســرائيل " لوجود مصــانع ســرية تعمــل على صــناعة هذه المخدرات‬
‫وتصديرها إلى الشرق الوسط‪.‬‬

‫كمــا علمــت أن " إســرائيل " نشطــت فــي المدة الخيرة نشاطاً منعدم النظيــر‪ ،‬فأباحــت زراعــة القنــب الهندي "‬
‫الحشيـش " والخشخاش ببعـض أراضيهـا خصـوصاً ناحيـة المثلث المتاخمـة لراضـي المملكـة الردنيـة الهاشميـة‪،‬‬
‫وأنها تعمل على تهريب هذه المخدرات إلى دول الشرق الوسط بصورة عامة )‪.28‬‬

‫وفـي الوقت الراهـن تكشـف دراسـات معاصرة عن اسـتخدام " إسـرائيل " للمخدرات في حربهـا مـع الدول العربيـة‬
‫بشكل عام‪ ،‬ومع النتفاضة الفلسطينية بشكل خاص‪ ،‬فبعد فشل الوسائل القمعية الهادفة إلى إخماد جذوة النتفاضة‬
‫بدأت سـلطات الحتلل الصـهيوني بترويـج المخدرات فـي أوسـاط الشباب الفلسـطيني ليقاعهـم فـي دائرة الدمان‬
‫والنتحار البطيـء‪ ،‬مسـتغلة فـي ذلك الوضاع السـيئة التـي يعيشهـا مـن النواحـي القتصـادية والجتماعيـة حيـث‬
‫البطالة وانعدام ضروريات الحياة بسبب الحصار السرائيلي المستمر للقرى الفلسطينية‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫صفوت‪ ،‬د‪.‬ت‪43،‬‬
‫‪28‬‬
‫نفس المصدر‪38.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫وفـي مقابلة مـع الدكتور ممدوح جـبر رئيـس الهيئة الفلسـطينية للصـحة النفسـية والجتماعيـة خلل زيارتـه للقاهرة‬
‫أشار إلى أن المسـتوطنات السـرائيلية فـي الضفـة الغربيـة وقطاع غزة تؤدي دورًا كـبيرًا فـي نقـل المخدرات بيـن‬
‫الطرف الفلسطيني المتمثل في العملء والطرف السرائيلي‪ ،‬كما أن هذه المستعمرات والمستوطنات تنتشر فيها‬
‫زراعة أنواع المخدرات التي يتم إدخالها وسط الفلسطينيين‪.‬‬

‫وقال‪ :‬إن دافــع بعــض الفلســطينيين للتعاون مــع المخابرات الســرائيلية فــي مجال جلب وترويــج المخدرات بيــن‬
‫الشباب الفلسـطيني هـو الرغبـة فـي الثراء السـريع نتيجـة انتشار البطالة التـي يرى فيهـا سـبباً أسـاسيًا فـي تعاطـي‬
‫المخدرات والتجار بها معاً في المجتمع الفلسطيني‪.‬‬

‫وأشار إلى أن الحتلل السـرائيلي عمـد إلى زيادة معدلت البطالة فـي صـفوف الفلسـطينيين لدفعهـم إلى تعاطـي‬
‫المخدرات التـي تدمـر العقـل والجسـم معاً‪ ،‬وتؤدي المعابر الحدوديـة التـي تقـع تحـت السـيطرة السـرائيلية كمركـز‬
‫لدخال المخدرات إلى الجانــب الفلســطيني‪ ،‬إلى جانــب الطرق المؤديــة إلى المســتوطنات‪ ،‬وتســتخدم الســلطات‬
‫الســرائيلية ضغوطًا مختلفــة على العمال الفلســطينيين الذيــن يعملون داخــل " إســرائيل " لتجنيــد بعضهــم للعمــل‬
‫كمروجين للمخدرات في الحياء والمناطق الفلسطينية‪.29‬‬

‫وفي هذا السياق أفادت جريدة القبس في عددها ‪ 5238‬تاريخ ‪15/12/1986‬م بأن ثلثة من كبار تجار المخدرات‬
‫المصـريين اعترفوا بعـد القبـض عليهـم بأن اثنيـن مـن الدبلوماسـيين اليهود كانـا وراء تهريـب عشريـن طنًا مـن‬
‫المخدرات إلى مصـر عـبر منفـذ طابـا‪ ،‬وتـبين أن أحدهمـا يعمـل بالملحقيـة الداريـة للسـفارة السـرائيلية بالقاهرة‪،‬‬
‫والثاني في المركز الكاديمي اليهودي‪.30‬‬

‫كمـا أفادت الصـحيفة ذاتهـا فـي عددهـا ‪ 5324‬تاريـخ ‪9/3/1987‬م بــأن السـلطات المصـرية اكتشفـت شحنات مـن‬
‫الغذيــة الملوثــة بالشعاع النووي داخــل مصــر‪ ،‬وكانــت الســفارة اليهوديــة فــي القاهرة لعبــت دور الوســيط بيــن‬
‫المصدّر والمستهلك المصري‪.31‬‬

‫وتفيـد مجلة السـبوع الدبـي بأن الكيان الصـهيوني اسـتطاع أن يقوم بشـن حرب اجتماعيـة خطيرة على المجتمـع‬
‫العربي في مصر بعد اتفاقيات السلم‪ ،‬فقد تم تنفيذ مجموعة كبيرة من عمليات تهريب المخدرات وبذل الجنس‪،‬‬
‫وترويـج العملت المزورة ونشـر اليدز‪ ،‬إضافـة إلى الحروب الثقافيـة والعلميـة والسـباسية والقتصـادية‪ ،‬إذ بلغـت‬
‫قضايا تهريب المخدرات ( ‪ ) 4520‬قضية‪ ،‬ضبطتها وزارة الداخلية المصرية ما بين عامي ‪1979‬م و ‪1989‬م‪،‬‬

‫‪29‬‬
‫‪www.islamonline.net‬‬
‫‪30‬‬
‫‪www.alsalafyoon.com‬‬
‫‪31‬‬
‫نفس المصدر السابق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ل فــي تجنيــد المصــريين للقيام بهذه العمليات وبصــورة خاصــة بدو‬
‫وقــد لعبــت المخابرات الســرائيلية دورًا فعا ً‬
‫سيناء‪.32‬‬

‫ومن المفيد ذكره أيضاً أن الكيان الصهيوني يقوم في كثير من الحيان بتقديم المخدرات للمتعاملين معه بدلً عن‬
‫الموال مقابل المعلومات والبيانات الهامة التي يحصلون عليها ويقدمونها للجهات المعنية في " إسرائيل "‪ ،‬ومن‬
‫الطـبيعي أن يجدوا أن مـن أهـم واجباتهـم بعـد ذلك توزيـع المخدرات ونشرهـا فـي الوسـاط المناسـبة التـي يمكـن أن‬
‫تتقبلها بسرعة‪ ،‬وقد قضت محكمة مصرية بالحكم المؤبد على مصري متورط في عملية تجسس مقابل الحصول‬
‫على كميات كبيرة من المخدرات‪.33‬‬

‫كمـا تفيـد دلئل كثيرة بأن كميات كـبيرة مـن المخدرات وخاصـة الهيرويـن يتدفـق إلى السـواق المصـرية بأسـعار‬
‫منخفضة جدًا ل تكافئ أسعارها في السواق العالمية‪ ،‬وأن قدرًا كبيراً من المخدرات إنما يأتي مصدره من سيناء‪،‬‬
‫عبر الحدود المصرية السرائيلية‪.34‬‬

‫ول يقــف المــر فــي حدود الصــراع العربــي الصــهيوني فحســب‪ ،‬بــل يمتــد إلى العلقات التــي تقيمهــا الحركــة‬
‫الصــهيونية مــع العالم أيضًا بمــا فــي ذلك الوليات المتحدة نفســها التــي تعــد مــن أشــد الدول دفاعاً عــن العدوان‬
‫السـرائيلي‪ ،‬فعلى الرغـم مـن التعتيـم التـي تمارسـه وسـائل العلم المريكيـة على كـل مـا يختـص بالعمليات القذرة‬
‫التي تمارسها إسرائيل في الوليات المتحدة‪ ،‬وهي عمليات تهريب مخدرات وتبييض أموال كان يتم غض النظر‬
‫عنهـا‪ ،‬غيـر أن وصول عملء تـل أبيـب إلى مواقـع حسـاسة فـي الوليات المتحدة دفـع بعـض المؤسـسات المريكيـة‬
‫إلى متابعـة التغلغـل السـرائيلي‪ ،‬وقـد تمكنـت جهات أمنيـة هناك مـن تحقيـق بعـض النتائج فـي هذا الخصـوص‪ ،‬وتـم‬
‫القبض على عشرات السرائيليين المرتبطين بعمليات التجسس‪ ،‬وقد سعت بعض المؤسسات المريكية لكشف ما‬
‫تحاول الدارة المريكيــة إخفاءه مــن معلومات تؤكــد التورط الســرائيلي بهجمات أيلول‪ ،‬بفعــل الضغوط التــي‬
‫تمارسها جماعات الضغط " اللوبي الصهيوني " على آليات اتخاذ قرار الوليات المتحدة‪.35‬‬

‫كما تكشف الدكتورة " دفنة شيرفمن " المحاضرة في مجال العلوم السباسية في كلية الجليل الغربي وعضو سابق‬
‫فـي الوفـد السـرائيلي لمؤتمـر فيينـا لحقوق النسـان الذي عقـد عام ‪1993‬م ولهيئة المـم المتحدة عام ‪1994‬م ــــ‬
‫‪1995‬م‪ ،‬والتـي تعمـل حاليًا رئيسـة للجنـة حقوق النسـان التابعـة للمنظمـة الشتراكيـة الدوليـة‪ ،‬عـن العلقـة الوثيقـة‬
‫التــي تربــط الكيان الصــهيوني بســوق المخدرات فــي كولومبيــا عام ‪1989‬م‪ ،‬كمــا أفادت بذلك وكالة المخابرات‬
‫الكولومبية التي أكدت وجود شركات إسرائيلية تقوم بتدريب خليا للقتال مرتبطة بكارتيلت المخدرات‪.36‬‬

‫‪32‬‬
‫‪www.awu-dam.org‬‬
‫‪33‬‬
‫‪www.alqanat.com‬‬
‫‪34‬‬
‫نفس المصدر السابق‬
‫‪35‬‬
‫نديم‪ ،‬الشرق الوسط‪2002 ،‬م‬
‫‪36‬‬
‫‪www.fateh.net‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وتنشـر صـحيفة الحياة فـي عددهـا الصـادر فـي ‪1/3/1999‬م مـا يفيـد بأن الشرطـة القضائيـة الفرنسـية كشفـت عـن‬
‫شبكـة إسـرائيلية فـي جنوب فرنسـا كانـت تصـدر إلى الوليات المتحدة وكندا حبوب هلوسـة مصـنعة فـي هولندا‪،‬‬
‫وأوضحـت الشرطـة القضائيـة بأن المهربيـن أو أعضاء الشبكـة تـم اعتقالهـم فـي آب ‪1998‬م فـي فرنسـا وبلجيكـا‬
‫وألمانيا وفي القارة المريكية‪ ،‬ومنهم أوديدت ( ‪ 37‬عاما ) الذي يحمل الجنسبة السرائيلية‪ ،‬وجيسون سي ( ‪26‬‬
‫عامــا ) المولود فــي " إســرائيل " والمقيــم فــي لوس أنجلوس والذي كان مكلفًا بتجنيــد مهربيــن وتنظيــم شبكات‬
‫التوزيع في الوليات المتحدة‪.37‬‬

‫وإذا كانــت مجموعات الضغــط الصــهيونية فــي الوليات المتحدة تمارس أعمالهــا لصــرف النظــر عــن القوانيــن‬
‫والعراف المتبادلة بيـن الدول بغيـة تحقيـق المكاسـب الماديـة والمعنويـة للمشروع الصـهيوني‪ ،‬فل شـك أن نشاط‬
‫جماعات الضغـط الصـهيونية والتـي تكتسـب فـي كثيـر مـن الحيان جنسـيات مختلفـة أكثـر خطورة على المجتمـع‬
‫العربـي‪ ،‬وإذا كانـت دولة " إسـرائيل " قـد فكرت باسـتثمار التجارة غيـر المشروعـة للمخدرات فـي حربهـا ضـد‬
‫العرب منـذ بدايـة الخمسـينات‪ ،‬فل شـك فـي أنهـا اليوم أكثـر قدرة على اسـتثمار ذلك‪ ،‬وأكثـر قدرة على إخفاء هذه‬
‫الحقائق لعتبارات تتصل بالتطور التقاني ( هكذا كتبت في الصل ) الواسع من جهة‪ ،‬وبامتلكها ناصية وسائل‬
‫العلم ومكاتــب التحقيقات‪ ،‬ومراكــز البحاث فــي عدد كــبير مــن الدول الوروبيــة مــن خلل جماعات الضغــط‬
‫الصهيونية المنتشرة في معظم بقاع العالم‪ ،‬وهي تخدم المشروع الصهيوني على نحو من النحاء‪.‬‬

‫ويضاف إلى ذلك أن جماعات الضغط الصهيونية المنتشرة في معظم بقاع العالم‪ ،‬والتي تحمل جنسيات مختلفة ل‬
‫تورط نفسـها فـي شبكات الرهاب والتجارة غيـر المشروعـة للمخدرات عـبر أشخاص ينتسـبون إليهـا بالفعـل‪ ،‬إنمـا‬
‫مـن خلل توريـط أشخاص آخريـن مـن جنسـيات عربيـة أو إسـلمية مسـتفيدين مـن مظاهـر الضعـف التـي تعصـف‬
‫ببعضهـم‪ ،‬وليـس مـن الغريـب أن تسـعى جماعات الضغـط للكشـف عنهـم وإظهارهـم على أنهـم إرهابيون وتجار‬
‫مخدرات ومـن جنسـيات إسـلمية أو عربيـة عندمـا تجـد لذلك المسـوغ المناسـب‪ ،‬فيأتـي العائد المعنوي والسـياسي‬
‫والعلمـي أكـبر مـن النفقات التـي اسـتهلكت لهذا الغرض‪ ،‬وقـد يتعرض هؤلء الذيـن يشاركون بمثـل هذه العمال‬
‫ويحملون جنسـيات عربيـة أو إسـلمية لضغوط نفسـية واجتماعيـة‪ ،‬وعمليات غسـل دماغ تجعلهـم يتورطون بالفعـل‬
‫بعلميات إرهابية‪ ،‬أو عمليات متاجرة غير مشروعة بالمخدرات وترويجها‪.‬‬

‫ففي حديثه مع صحيفة ألمانية حول إمكانية أن يكون مواطنون سعوديون متورطين في عمليات الحادي عشر من‬
‫أيلول ينفـي الميـر نايـف بـن عبدالعزيـز إمكانيـة ذلك لغياب الدلة‪ ،‬ومـع هذا فإنـه فـي حالة ثبوث ذلك فل شـك أن‬
‫الشخاص المشاركيــن ل بــد أن يكونوا قــد تعرضوا لعمليــة غســل دماغ‪ ،‬ومــن الممكــن أن يكونوا قــد تعرضوا‬
‫لضغوط نفسية‪ ،‬وتم استغللهم وغرر بهم للقيام بهذه العمال‪.38‬‬

‫وباختصار إن انتشار المخدرات ل يعد مسألة اجتماعية فحسب‪ ،‬بل يحمل في مضمونه بعداً سياسياً هدفه تقويض‬
‫دعائم النظام الجتماعـي العربـي‪ ،‬فمـا يحققـه الكيان الصـهيوني مـن انتصـارات فـي المنطقـة العربيـة إثـر انتشار‬
‫المخدرات ونشر الفساد الخلقي وتعزيز مظاهر الفرقة بين صفوف المسلمين ل يمكن تحقيقه بالحروب التي قد‬
‫‪37‬‬
‫‪www.moqawama.org‬‬
‫‪38‬‬
‫الشرق الوسط‪22/12/2001،‬م‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫تزيـد فـي نفقاتهـا مئات المرات دون تحقيـق الجدوى الفعليـة التـي تنجـم عـن انتشار ظاهرة تعاطـي ونشـر الفسـاد‬
‫ل مهيئًا لنتشارها‪ ،‬ول يمكن إغفاله على نحو‬‫والفرقة‪ ،‬ولهذا فإن البعد السياسي لنتشار ظاهرة التعاطي يعد عام ً‬
‫مـن النحاء‪ ،‬وبالتالي فإن السـعي لمكافحـة ظاهرة تعاطـي المخدرات والعمـل على الحـد مـن انتشارهـا هـو مشروع‬
‫وطني سياسي وديني وأخلقي‪ ،‬وليس مجرد قضية اجتماعية وحسب"‪.39‬‬

‫هذا وقد حرصت على نقل كلمه مع طوله لهميته‪ ،‬لنه كشف الستار عن كثير من الحقائق الخفية‪.‬‬

‫ومــن الواضــح أن الخمور ل تقــل ضرراً عــن المخدرات بــل هــي أم الخبائث ومصــدر الشرور وأســاس البطالة‬
‫والفقـر‪ ،‬تسـتهلك مـا بيـد شاربهـا مـن طارفـه وتليفـه حتـى يغدو ول يجـد مـا يسـتر بـه سـوأته أو يسـد بـه مسـغبته‪،‬‬
‫فانتشارهـا مـن عوامــل الفقــر والضياع‪ ،‬ومـن التناقـض العجيــب أن نرى إجماعاً عالميًا على محاربـة المخدرات‬
‫وإنزال العقوبات بمســتهلكيها وتجارهــا ومروجيهــا؛ بينمــا الخمــر تجري أنهاراً فــي أماكــن الســياحة والمطاعــم‬
‫والمتاجـر ول نكيـر مـن أحـد‪ ،‬بـل تُعـد رمـز الحضارة المعاصـرة وشارة الرقـي والتقدم‪ ،‬حتـى إن الحفلت ل تأخـذ‬
‫حظهـا مـن الزدهار إل حيـن تدار كؤوس الخمـر بيـن حضورهـا‪ ،‬ومـن العجيـب أن يكون المسـلمون مـن بيـن مَن‬
‫اسـتشرى فيهـم هذا المرض الفتاك وإيفوا بهذه العدوى الخطيرة مـع أن كتاب ربهـم يناديهـم (( يـا أيهـا الذيـن ءامنوا‬
‫إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن‬
‫يوقـع بينكـم العداوة والبغضاء فـي الخمـر والميسـر ويصـدكم عـن ذكـر ال وعـن الصـلة فهـل أنتـم منتهون *))‬
‫( المائدة‪ ،)91-90:‬ونبيهم عليه أفضل الصلة والسلم يعلن بينهم ‪" :‬لعن ال الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها‬
‫وحاملها والمحمولة إليه "‪ ،‬وفي بعض الروايات زيادة ومعتصرها وآكل ثمنها‪.‬‬

‫ثانيهما‪ :‬المقامرة‪:‬‬

‫فإنها تبيد الثروات كما تبيد النار الهشيم‪ ،‬وتعطل الملكات والطاقات‪ ،‬وتأسر نفوس من اعتادوها حتى ل يروا إلى‬
‫الفكاك منهـا سـبيلً‪ ،‬وكأيـن مـن ثري ورث أموالً طائلة ل تكاد تدخـل تحـت الحصـر‪ ،‬تحول بتأثيـر المقامرة إلى‬
‫عائل مساكين يستعطف الناس من أجل لقمة يشغل بها شيئاً من فراغ أمعائه‪ ،‬أو طمر يواري به سوأته‪ ،‬أو مأوى‬
‫يأويـه مـن لهيـب الصـيف أو لفـح الشتاء‪ ،‬أظلمـت فـي وجهـه الدنيـا بعـد ابيضاضهـا‪ ،‬وضاقـت بـه رحاب الفضاء بعـد‬
‫اتساعها‪ ،‬واكفهر في وجهه الزمن بعد انبساطه‪ ،‬وما كان ذلك إل بغشيانه نوادي القمار التي تجتاح في ساعة من‬
‫ثروة النسـان مـا قـد جمعـه آباؤه فـي قرون‪ ،‬فإذا هـي أثـر بعـد عيـن‪ ،‬ولكـم سـمعنا وقرأنـا عمـن خسـروا الملييـن‬
‫والمليارات في مقامرة ساعة‪ ،‬وقد يخسر أحدهم حتى ثيابه التي على جسمه‪ ،‬ولربما أفضى به شغف المقامرة إلى‬
‫أن يقامر حتى بحليلته‪.‬‬

‫ل كانـت‬
‫نقـل السـيد محمـد رشيـد رضـا فـي تفسـيره المنار عـن أسـتاذه المام محمـد عبده أنـه قال‪ ( :‬إننـي أعرف رج ً‬
‫ثروته ل تقل عن ثلثة آلف جنيه " ثلثة مليين " فما زال شيطان القمار يغريه باللعب فيه حتى فقد ثروته كلها‬
‫‪39‬‬
‫أحمد عبدالعزيز الصفر‪ ،‬عوامل ظاهرة انتشار المخدرات في المجتمع العربي‪/‬ص ‪104-92‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وعاش بقيـة حياتـه فقيرًا معدمًا حتـى مات جائعاً‪ ،‬وذكـر أنـه ربـح فـي ليلة تسـعمائة فرنـك فقال‪ :‬ل أبرح حتـى أتمهـا‬
‫مليوناً‪ ،‬فلم يـبرح حتـى خسـرها إلى مليون آخـر‪ ،‬وهكذا شأن أكثـر المقامريـن‪ ،‬يغترون بالربـح الذي يكون لهـم أو‬
‫لغيرهم أحيانًا فيسترسلون في المقامرة حتى ل يبقى لهم شيء )‪.40‬‬

‫ل رأى مـن ولده ميلً إلى المقامرة لمعاشرتـه بعـض أهلهـا‪ ،‬فلمـا حانـت وفاتـه‬
‫وقال أيضاً‪ ( :‬ويحكـى أن رجلً عاق ً‬
‫وخاف أن يضيّع ولده ما يرثه عنه‪ ،‬وعلم أن النهي ل يكون إل إغراءً‪ ،‬قال له‪ :‬يا بني إذا شئت أن تقامر أوصيك‬
‫بأن تبحث عن أقدم مقامر في البلد وتلعب معه‪ ،‬فطفق الولد بعده يبحث ويسأل‪ ،‬وكلما دُل على واحد علم منه أن‬
‫هناك مـن هـو أقدم منـه‪ ،‬حتـى إذا انتهـى بـه البحـث إلى شيـخ رث الثياب ظاهـر الكتئاب‪ ،‬فعلم مـن حاله ومقاله أن‬
‫مآل المقامر إلى أسوأ مآب‪ ،‬وأن والده قد اجتهد بنصيحته فأصاب‪ ،‬وأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب‪ ،‬ورجع هو‬
‫إلى رشده وأناب‪ ،‬فلم يدخل بيت المقامرة من طاق ول باب )‪.41‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬الحل السلمي‬

‫إن الســلم الحنيــف لم ينحصــر علجــه لمشكلة الفقــر فــي محاربتــه وحده‪ ،‬بــل أتــى على مشكلت الحياة مشكل ًة‬
‫مشكلة‪ ،‬فحل عقدها وقضى على أسبابها وتتبع جذورها‪ ،‬فشملها استئصالً وإبادة‪ ،‬وجاء البش َر بنظا مٍ رتيب ينظم‬
‫الحياة بأسرها‪ ،‬وينسق بين جميع جوانبها‪ ،‬ويقضي على كل نشازٍ واضطراب فيها‪ ،‬وقبل أن يعنى بهذه الجوانب‬
‫المترامية النحاء بدأ بالنفس البشرية التي هي محور هذا المر‪ ،‬فأصلح فسادها وقوّم اعوجاجها بما دعا إليه من‬
‫تزكيتها (( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها * )) ( الشمس‪ ،)10-9:‬وكانت نقطة انطلقه في هذا المجال‬
‫الرحب هي وصل هذا المخلوق بخالقه حتى تكون نزعته في الحياة نزعة ربانية‪ ،‬ل يرد ول يصدر في أي شيء‬
‫كان إل حسب ما يكون مرضياً ل وموافقاً لحكمه‪ ،‬ثم وصل الفرد بمجتمعه وذا القربى بقريبه‪ ،‬بل وصل النسان‬
‫بجنسه‪ ،‬كما أنه ربط بين العمل وجزائه وقرن بين الدنيا والخرة وبين الملك والملكوت وبين عالم الشهادة وعالم‬
‫الغيب‪ ،‬ومع كثرة نصائحه وتوجيهاته ووفرة أوامره ونواهيه لم يؤكد على شيء تأكيده على تقوى ال‪ ،‬كما يلحظ‬
‫ذلك بتكرر المـر بالتقوى فـي معرض التذكيـر والمتنان‪ ،‬ومقام الترغيـب والترهيـب‪ ،‬وفـي حال التشريـع والبيان‪،‬‬
‫بل نجد التأكيد على التقوى حتى في أدق المواقف وأحرجها‪ ،‬وذلك عندما يحمى وطيس الحرب ويشب ضرامها‬
‫وتمتـد ألسـنة سـعيرها لتبيـد الخضـر واليابـس وتهلك الحرث والنسـل‪ ،‬وهـو موقـف مـا كان يعرف فيـه إل فقدان‬
‫التوازن وانعدام النضباط فــي التصــرف‪ ،‬ولكــن الســلم لم يرض بأن يكــل المــر فيــه إلى العواطــف المتأججــة‬
‫والحماس الثائر‪ ،‬بل فرض على المسلم أن ل يتجاوز حدود التقوى في ذلك مهما يكن إحساسه بنشوة النتصار أو‬
‫خشيتــه مــن مغبــة الهزيمــة‪ ،‬فقــد قال تعالى‪ (( :‬وقاتلوا فــي ســبيل ال الذيــن يقاتلونكــم ول تعتدوا إن ال ل يحــب‬
‫المعتديـن ))‪ ،‬إلى أن قال‪ (( :‬واتقوا ال واعلموا أن ال مـع المتقيـن )) ( البقرة ‪ ،)194-190‬وقـد علق خيـر الدنيـا‬
‫والخرة على السـتمساك بعروة التقوى‪ ،‬أمـا الخرة فل سـبيل إليهـا إل بتقوى ال‪ ،‬فإن السـعادة فيهـا ل تكون إل‬
‫للمتقيـن‪ ،‬قال تعالى‪ (( :‬وسـارعوا إلى مغفرة مـن ربكـم وجن ٍة عرضهـا السـموات والرض أُعدت للمتقيـن )) ( آل‬
‫ت تجري من تحتها النهار خالدين‬ ‫عمران‪ ،)133:‬وقال‪ (( :‬قل أؤنبكم بخيرٍ من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنا ٍ‬
‫فيهـا وأزواجٌـ مطهرةٌ ورضوانٌـ مـن اله وال بصـيرٌ بالعباد )) ( آل عمران‪ ،)15:‬وقال‪ (( :‬وللدار الخرة خيرٌ‬

‫‪40‬‬
‫السيد محمد رشيد رضا‪ ،‬تفسير المنار ‪،2/266‬ط‪.‬الهيئة المصرية العامة‬
‫‪41‬‬
‫نفس المصدر السابق‪:‬ص ‪267‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ن يدخلونها تجري من تحتها النهار لهم‬
‫للذين اتقوا )) ( يوسف‪ ،)109:‬وقال‪ (( :‬ولنعم دار المتقين * جنات عد ٍ‬
‫فيها ما يشاؤون كذلك يجزي ال المتقين )) ( النحل‪.) 31-30:‬‬

‫وأمـا الدنيـا فإن تقوى ال هـي أعظـم وسـيلة لجتلب خيرهـا ودفـع شرهـا قال تعالى‪ (( :‬واتقوا ال واعلموا أن ال‬
‫مع المتقين )) ( البقرة‪ ،)194:‬وقال‪ (( :‬ومن بتق ال يجعل له مخرجاً * رزقه من حيث ل يحتسب )) ( الطلق‪:‬‬
‫‪ ،)3-2‬وقال‪ (( :‬ومـن يتـق ال يجعـل له مـن أمره يسـراً )) ( الطلق‪ ،)4 :‬ومـن المعلوم أن تقوى ال تعنـي اتقاء‬
‫سـخطه بفعـل مـا أمـر بـه وترك مـا نهـى عنـه‪ ،‬وذلك يقتضـي حرص مـن اتقـى أن يؤتـي كـل ذي حـق حقـه‪ ،‬وأن ل‬
‫يحرم ذوي الحاجات من حقوقهم الواجبة في ماله‪ ،‬كما ل يستغل حاجتهم ليرزأهم شيئاً من أموالهم بغير حق‪.‬‬

‫المال في نظام السلم هو مال ال‪:‬‬

‫إن نظرة السـلم إلى المال تبايـن نظرة جميـع النظمـة البشريـة‪ ،‬فهـو وإن منـح النسـان حـق التملك ل يجعله مالكًا‬
‫حقيقياً للمال‪ ،‬ولذلك ل يمنحه حق مطلق التصرف فيه‪ ،‬وإنما مالكه الحقيقي هو ال‪ ،‬لذلك كان التصرف فيه ل بد‬
‫مــن أن يكون مقروناً بإذنــه‪ ،‬وهذا مــا يُفهــم مــن قوله تعالى‪ (( :‬وآتوهــم مــن مال ال الذي آتاكــم )) ( النور‪،)33:‬‬
‫وقوله‪ (( :‬وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبيرٌ *)) ( الحديد‪ ،)7:‬وهو يعني‬
‫أن النسـان ل يعدو أن يكون أميناً على المال ومسـتخلفاً فيـه‪ ،‬ومـن المعلوم أن السـتخلف يقتضـي عدم تصـرف‬
‫الخليفة فيما استخلف فيه إل بحسب توجيهات من استخلفهخ‪ ،‬ولهذا لم يطلق السلم يد النسان لكتساب المال أو‬
‫إنفاقه وفق رغبات نفسه بل وفق إذن ربه‪ ،‬وهذا ما يدل عليه حديث أبي برزة السلمي مرفوعاً عند الترمذي " ل‬
‫تزول قدما ابن آدم من عند ربه حتى يسأل عن خمس‪ "..‬إلى أن قال‪ " :‬وعن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه؟"‪.‬‬

‫لذلك حرم على المسـلم الربـا أخذاًَ وعطا ًء قال تعالى‪ (( :‬الذيـن يأكلون الربـا ل يقومون إل كمـا يقوم الذي يتخبطـه‬
‫الشيطان مـن المـس ذلك بأنهـم قالوا إنمـا البيـع مثـل الربـا وأحـل ال البيـع وحرم الربـا فمـن جاءه موعظ ٌة مـن ربـه‬
‫فانتهــى فله مــا ســلف وأمره إلى ال ومـن عاد فأولئك أصـحاب النار هـم فيهــا خالدون * يمحــق ال الربــا ويربــي‬
‫الصدقات وال ل يحب كل كفارٍ أثيم *)) ( البقرة‪ ،)276-275:‬وقال‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا اتقوا ال وذروا ما‬
‫بقـي مـن الربـا إن كنتـم مؤمنيـن * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍـ مـن ال ورسـوله وإن تبتـم فلكـم رؤوس أموالكـم ل‬
‫تظلمون ول تُظلمون *)) ( البقرة‪ ،)279-278:‬وقال‪ (( :‬يـا أيهـا الذيـن ءامنوا ل تأكلوا الربـا أضعافاً مضاعفةً‬
‫واتقوا ال لعلكم تفلحون *)) (آل عمران‪ ،)130:‬وقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لعن ال الربا وآكله وموكله وكاتبه‬
‫وشاهديـه "‪ ،‬وقال‪ " :‬هـم سـواء "‪ ،‬وقال‪ " :‬اتقوا السـبع الموبقات "‪ ،‬وذكـر منهـا أكـل الربـا‪ ،‬كمـا شدد السـلم فـي‬
‫الحتكار لمـا فيـه مـن التضييـق على الناس‪ ،‬فقـد أخرج مسـلم والترمذي وأبـو داود مـن طريـق معمـر بـن أبـي معمـر‬
‫أنه قال‪ :‬قال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬من احتكر فهو خاطئ "‪ ،‬وجاء في رواية " المحتكر ينتظر اللعنة "‪.‬‬

‫وشدد السـلم فـي أكـل الموال بأي وجـه إل بوجـه حـق أذن ال بـه‪ ،‬فقـد قال تعالى‪ (( :‬ول تأكلوا أموالكـم بينكـم‬
‫بالباطــل وتدلوا بهــا إلى الحكام لتأكلوا فريقًا مــن أموال الناس بالثــم وأنتــم تعلمون )) ( البقرة‪ ،)188:‬وفــي ذلك‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫إشارة إلى حرمـة الرشوة‪ ،‬وقـد نـص على ذلك حديـث رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فقـد جاء فيـه‪ " :‬لعـن ال‬
‫الراشي والمرتشي‪ ،"..‬وقال تعالى‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا ل تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إل أن تكون تجارةً عن‬
‫تراضٍـ منكـم ول تقتلوا أنفسـكم إن ال كان بكـم رحيماً * ومـن يفعـل ذلك عدوانًا وظلماً فسـوف نصـليه ناراً وكان‬
‫ذلك على ال يسيراً *)) (النساء‪ ،)30-29:‬وبالغ في التشديد في أكل أموال اليتامى وذلك حيث قال تعالى‪ (( :‬إن‬
‫الذيـن يأكلون أموال اليتامـى ظلمًا إنمـا يأكلون فـي بطونهـم ناراً وسـيصلون سـعيراً *)) ( النسـاء‪ ،)10:‬واسـتفاضت‬
‫الروايات عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مشددة فـي أخـذ المال بغيـر وجـه شرعـي‪ ،‬ومن ذلك قوله صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم ‪ " :‬القليـل مـن أموال الناس يورث النار "‪ ،‬وقال عليـه الصـلة والسـلم ‪ " :‬مـن اقتطـع حـق أخيـه بيمينـه حرم‬
‫ال عليـه الجنـة وأوجـب عليـه النار " قيـل له‪ :‬وإن كان شيئًا يسـيراً يـا رسـول ال؟ قال‪ " :‬وإن كان قضيباً مـن أراك‬
‫"‪ ،‬وقال‪ " :‬ردوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عارٌ على أهله يوم القيامة "‪ ،‬وهذا كله يعني أن على المسلم‬
‫أن يحترز في اكتساب المال وأن ل يأخذه إل بوجهه الشرعي الذي أذن به ال‪.‬‬

‫وكما أن على المسلم أن يكون دقيقاً في مراعاة الوجوه الشرعية في الكسب‪ ،‬كذلك يجب عليه أن ل يتصرف في‬
‫ماله إل بحسب ما أذن به ال‪ ،‬بحيث يكون إنفاقه دائرًا بين الوجوه الواجب النفاق فيها وما يندب وما يباح‪ ،‬ولو‬
‫تعدى ذلك فل يتعدى المكروه إلى المحرم‪ ،‬لذلك حرم الســراف ولو فــي الطعام أو الشراب‪ ،‬قال تعالى‪ (( :‬وكلوا‬
‫واشربوا ول تسرفوا إنه ل يحب المسرفين *)) ( العراف‪ ،)31:‬وأمر حتى في النفقات الخيرية أن يكون النفاق‬
‫قصــداً بيــن التبذيــر والتقتيــر‪ ،‬قال تعالى ‪ (( :‬وآت ذا القربــى حقــه والمســكين وابــن الســبيل ول تبذر تبذيراً * إن‬
‫المبذريـن كانوا إخوان الشياطيـن وكان الشيطان لربـه كفوراً *)) ( السـراء‪ ،)27-26 :‬وقال‪ (( :‬ول تجعـل يدك‬
‫مغلولةً إلى عنقـك ول تبسـطها كـل البسـط فتقعـد ملومًا محسـوراً * إن ربـك يبسـط الرزق لمـن يشاء ويقدر إنـه كان‬
‫بعباده خبيرًا بصيراً *)) ( السراء‪.)30-29:‬‬

‫ومع هذا الضبط الدقيق في إنفاق المال في الجوانب التي يكون للنفس ميل إلى النفاق فيها‪ ،‬أمر ال تعالى بإنفاقه‬
‫في جوانب ربما كانت بادئ ذي بدء تكره النفاق فيها‪ ،‬وهو من باب التعويد على الخير وغرس مشاعر الرحمة‬
‫في النفس‪ ،‬فإن عادة من ينفق في البر والحسان أن يرق للمحتاجين ويرثي لحوالهم ويتألم للمهم‪ ،‬فل يشفي ما‬
‫في نفسه إل بإيتائهم نصيباً من ماله‪ ،‬يسد به عوزهم ويقضي به حاجتهم‪.‬‬

‫والنفاق في السلم خارج محيط النفس والعيال ينقسم قسمين‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬إنفاق مقدر بمقادير معينة‪ ،‬وهو الزكاة الواجبة في أصناف مخصوصة ببلوغ مقادير معينة وهي نصاب‬
‫كـل صـنف منهـا وبمرور زمـن محدد عليهـا وهـو الحول فـي غيـر الزروع والثمار‪ ،‬وهـي فريضـة بنـص الكتاب‬
‫والسنة وإجماع جميع المسلمين سلفهم وخلفهم فل مجال للتخلف عنها‪ ،‬كيف وقد قرنت في القرآن الكريم بأعظم‬
‫ركن عملي في السلم وهو إقام الصلة‪ ،‬فكم جاء في القرآن ‪ (( :‬وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة )) ( البقرة‪،)43 :‬‬
‫وجعلت مـع الصـلة أبرز صـفات أهـل الخيـر‪ ،‬فقـد قال تعالى‪ (( :‬هدى وبشرى للمؤمنيـن * الذيـن يقيمون الصـلة‬
‫ويؤتون الزكاة )) ( النمـل‪ ،)3-2:‬وقال‪ (( :‬هدىً ورحم ًة للمحسـنين * الذيـن يقيمون الصـلة ويؤتون الزكاة ))‬
‫( لقمان‪ ،)4-3 :‬وبإقامة هذين الركنين العظيمين بجانب الركن العقدي تتحقق توبة من كان مجانباً للسلم منابذاً‬
‫لهله‪ ،‬فإن ال تعالى قال‪ (( :‬فإن تابوا وأقاموا الصلة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن ال غفورٌ رحيمٌ *)) ( التوبة‪:‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪ ،)5‬كمـا أن بذلك تتحقـق الخوة اليمانيـة بيـن المسـلمين‪ ،‬وذلك لقوله تعالى‪ (( :‬فإن تابوا وأقاموا الصـلة وآتوا‬
‫الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل اليات لقومٍ يعلمون *)) ( التوبة‪.)11:‬‬

‫وثانيهمـا‪ :‬إنفاق ل يختـص بشيـء مـن الصـناف الماليـة‪ ،‬ول يقدر بمقدار ول يشترط له بلوغ نصـاب معيـن ول‬
‫مرور زمـن معيـن‪ ،‬وهـو النفاق العام الذي أمـر ال بـه وحـض عليـه فـي آياتٍـ كثيرة مـن كتابـه‪ ،‬ووعـد عليـه خيـر‬
‫الدنيـا والخرة‪ ،‬وهـو واجـب على ذوي اليسـار لدفـع خصـاصة أو تحقيـق منفعـة عامـة أو لتمتيـن أواصـر قربـى‪،‬‬
‫ولجـل أهميـة هذا النفاق قرنـه ال تعالى باليمان فـي قوله ‪ (( :‬ولكـن البر مـن آمـن بال واليوم الخـر والملئكـة‬
‫والكتاب والنـبيين وآتـى المال على حبـه ذوي القربـى واليتامـى والمسـاكين وابـن السـبيل والسـائلين وفـي الرقاب ))‬
‫( البقرة‪ ،)177 :‬وهـو بالطبـع غيـر الزكاة المفروضـة بدليـل مـا ولي ذلك مـن قوله تعالى‪ (( :‬وأقام الصـلة وآتـى‬
‫الزكاة )) ( البقرة‪ ،)177:‬فإن العطف يقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه‪.‬‬

‫وجاء الحض على هذا النفاق في مقام التذكير بالموت وغصته وتمني النسان عند احتضاره أن لو يفسح له في‬
‫عمره بقدر ما يتصدق وذلك في قوله تعالى‪ (( :‬وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب‬
‫ل قريبٍـ فأصـدق وأكـن مـن الصـالحين )) ( المنافقون‪ ،)10:‬وفـي مقام التذكيـر باليوم الخـر‬ ‫لول أخرتنـي إلى أج ٍ‬
‫وهوله وما يكون فيه من انقطاع العلئق وانعدام السباب‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما‬
‫رزقناكم من قبل أن يأتي يو ٌم ل بيعٌ فيه ول خلةٌ ول شفاعةٌ )) ( البقرة‪.)254:‬‬

‫وجاء التنـبيه على عظـم أجور هذا النفاق فـي قوله سـبحانه‪ (( :‬مثـل الذيـن ينفقون أموالهـم فـي سـبيل ال كمثـل حب ٍة‬
‫أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مئة حبةٍ وال يضاعف لمن يشاء وال واسعٌ علي مٌ *)) ( البقرة‪ ،)261:‬يرتقي هذا‬
‫النفاق إلى درجـة البر‪ ،‬ول يكون له وزن إل عندمـا يكون خالصـاً لوجـه ال مـن غيـر أن تشوبـه شائبـة مـن رياء‪،‬‬
‫وأن يكون غيـر مشوب بمـا ينغصـه على المنفـق عليـه مـن المـن والذى‪ ،‬قال تعالى‪ (( :‬الذيـن ينفقون أموالهـم فـي‬
‫سبيل ال ثم ل يتبعون ما أنفقوا مناً ول أذىً لهم أجرهم عند ربهم ول خوفٌ عليهم ول هم يحزنون * )) ( البقرة‪:‬‬
‫‪ ،)266‬ثم قال‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن‬
‫بال واليوم الخر فمثله كمثل صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ل يقدرون على شي ٍء مما كسبوا )) (‬
‫البقرة‪.)264 :‬‬

‫وفـي هذا رفـع للمعاناة عـن المحروميـن وردم للهوة الفاصـلة بيـن طبقتـي الغنياء والفقراء‪ ،‬حتـى ل يحـس أولوا‬
‫الخصاصة بالجفوة والحرمان ول تعتمل في نفوسهم نوازع الحقد بسبب شعورهم بضيق العيش ومكابدتهم لواء‬
‫الحياة‪ ،‬مـع مـا يرون فيـه أهـل اليسـر مـن رغـد العيـش ونعيمـه‪ ،‬فإن الخـذ بهذه الوصـايا الربانيـة واتباع هذا النهـج‬
‫المستقيم يصل قلوب الغنياء والفقراء بعضها ببعض‪ ،‬فقلوب الغنياء تفيض بالرحمة تجاه إخوانهم الفقراء حتى‬
‫ل يهنـأ لهـم عيـش ول يهدأ لهـم بال إل أن يغمروهـم بفيـض مـن البر والحسـان يذهـب بمـا بهـم مـن الشدة‪ ،‬وقلوب‬
‫الفقراء تتدفــق بالحــب والولء تجاه إخوانهــم الغنياء‪ ،‬فل تلبــث ألســنتهم أن تلهــج بالدعاء لهــم بالخيــر والتوفيــق‬
‫والجزاء الحسن في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وبجانـب هذه الصـدقات المقطوعـة فثـم صـدقات جاريـة يتواصـل برهـا باسـتمرار منفعتهـا وهـي الوقاف الخيريـة‪،‬‬
‫سوا ًء كانت على الفقراء والمساكين‪ ،‬أو كانت على ذوي القربى أو اليتامى أو في الرقاب‪ ،‬أو كانت في المصالح‬
‫العامـة كالدعوة والتعليـم وعلج المرضـى وسـائر المنافـع العامـة‪ ،‬وذلك بأن يحبـس أصـل المال عـن التصـرف فيـه‬
‫ليصـرف ريعـه فـي الوجـه الذي خصـص له مـن البر‪ ،‬وقـد أرشـد إلى ذلك النـبي صـلى ال عليـه وسـلم عمرَ بـن‬
‫الخطاب رضـي ال عنـه وأخـذ بهذا الرشاد كثيـر مـن الصـحابة رضوان ال عليهـم‪ ،‬فحبسـوا جانبًا مـن أموالهـم‬
‫وتصدقوا بريعها فيما خصصوها له من وجوه البر‪.‬‬

‫المال العام‪:‬‬

‫لئن كان الســلم جعــل فــي المال الخاص الذي بيــد الفرد حقاً مشروعًا لذوي القربــى واليتامــى والمســاكين وابــن‬
‫السـبيل والسـائلين وفـي الرقاب وسـائر وجوه البر التـي تعود بالمصـلحة على المجتمـع والمـة‪ ،‬فإن المال العام لكـل‬
‫هؤلء حــق فيــه‪ ،‬وذلك لقوله تعالى‪ (( :‬مــا أفاء ال على رســوله مــن أهــل القربــى فلله وللرســول ولذي القربــى‬
‫واليتامـى والمسـاكين وابـن السـبيل كـي ل يكون دول ًة بيـن الغنياء منكـم )) ( الحشـر‪ ،)7:‬وفـي هذا التعليـل مـا يدل‬
‫على أن السـلم الحنيـف ل يقـر أبداً أن تشرب النفوس حـب المال حتـى يتلشـى نصـيب الفقراء فـي خضـم جشـع‬
‫الغنياء‪ ،‬ويذهـب بأس القوياء بحقوق الضعفاء‪ ،‬إذ لو أرخـي العنان للطبقات القويـة والغنيـة فـي احتواء المال لمـا‬
‫بقـي لمـن كان دونهـا نصـيب‪ ،‬وذلك ممـا يوسـع الهوة بيـن طبقات الناس حسـاً ومعنـى‪ ،‬لن عاقبتـه أن يزداد الغنـي‬
‫غنىً والفقير فقراً‪ ،‬قال الستاذ الشهيد سيد قطب‪ ( :‬قاعدة التنظيم القتصادي تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية‬
‫القتصـادية فـي السـلم‪ ،‬فالملكيـة الفرديـة معترفٌـ بهـا فـي هذه النظريـة ولكنهـا محددة بهذه القواعـد؛ قاعدة أن ل‬
‫يكون المال دولة بيـن الغنياء‪ ،‬ممنوعًا مـن التداول بيـن الفقراء‪ ،‬فكـل وضـع ينتهـي إلى أن يكون المال دولة بيـن‬
‫الغنياء وحدهم فهو وضع يخالف النظرية القتصادية السلمية كما يخالف هدفاً من أهداف التنظيم الجتماعي‬
‫كله‪ ،‬وجميـع الرتباطات والمعاملت فـي المجتمـع السـلمي يجـب أن تنظـم بحيـث ل تخلق مثـل هذا الوضـع أو‬
‫تبقي عليه إن وجد‪.‬‬

‫ولقد أقام السلم بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة‪ ،‬ففرض الزكاة وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفاً في‬
‫المئة مـن أصـل رؤوس الموال النقديـة‪ ،‬وعشرة أو خمسـة فـي المئة مـن جميـع الحاصـلت‪ ،‬ومـا يعادل ذلك فـي‬
‫النعام‪ ،‬وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الرض مثلها في المال النقدي‪ ،‬وهي نسب كبيرة‪ ،‬ثم جعل أربعة‬
‫أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء أو أغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء‪ ،‬وجعل نظامه المختار في إيجار الرض‬
‫هو المزارعة أي المشاركة في المحصول الناتح بين صاحب الرض وزارعها‪ ،‬وجعل للمام الحق في أن يأخذ‬
‫فضول أموال الغنياء فيردهـا على الفقراء‪ ،‬وأن يوظـف فـي أموال الغنياء عنـد خلو بيـت المال‪ ،‬وحرم الحتكار‬
‫وحظر الربا وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الغنياء‪.‬‬

‫وعلى الجملة أقام نظامـه القتصـادي كله بحيـث يحقـق تلك القاعدة الكـبرى‪ ،‬التـي تعـد قيدًا أصـيلً على حـق الملكيـة‬
‫الفردية بجانب القيود الخرى‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ومن ثم فالنظام السلمي نظام يبيح الملكية الفردية‪ ،‬ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي‪ ،‬كما أن النظام الراسـمالي‬
‫ليـس منقولً عنـه‪ ،‬فمـا يقوم النظام الرأسـمالي إطلقاً بدون ربـا وبدون احتكار‪ ،‬إنمـا هـو نظام خاص مـن لدن حكيـم‬
‫خـبير‪ ،‬نشـأ وحده وسـار وحده وبقـي حتـى اليوم وحده‪ ،‬نظاماً فريداً متوازن الجوانـب‪ ،‬متعادل الحقوق والواجبات‪،‬‬
‫متناسقًا تناسق الكون كله‪ ،‬مذ كان صدوره عن خالق الكون‪ ،‬والكون متناسقٌ موزون )‪.42‬‬

‫وقال العلمــة ابــن عاشور‪ ( :‬وقــد بدا مــن هذا التعليــل أن مــن مقاصــد الشريعــة أن يكون المال دولة بيــن المــة‬
‫الســلمية على نظام محكــم فــي انتقاله مــن كــل مال لم يســبق عليــه ملك لحــد مثــل‪ :‬الموات‪ ،‬والفيــء واللقطات‬
‫والركاز‪ ،‬أو كان جزءًا معينًا مثــل‪ :‬الزكاة والكفارات‪ ،‬وتخميــس المغانــم والخراج والمواريــث وعقود المعاملت‬
‫التي بين جانبي مال وعمل مثل‪ :‬القراض والمغارسة والمساقاة‪ ،‬وفي الموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل‬
‫وسعي مثل‪ :‬الفيء والركاز وما ألقاه البحر )‪.43‬‬

‫السلم يدعو إلى مكافحة الفقر بتوفير النتاج‪:‬‬

‫ل يقتصـر السـلم الحنيـف فـي مكافحتـه للفقـر على دعوتـه إلى البر والمرحمـة بالفقراء والمسـاكين‪ ،‬وإنمـا يقاوم‬
‫الفقر بجانب ذلك بدعوته إلى تفجير ينابيع الثراء بالكسب الحلل‪ ،‬وناهيكم أن ال قرن بين أمهات العبادات وبين‬
‫الكســب الحلل؛ لعفاف النفــس والنفقــة الواجبــة على العيال‪ ،‬قال تعالى‪ (( :‬فإذا قضيــت الصــلة فانتشروا فــي‬
‫الرض وابتغوا مـن فضـل ال واذكروا ال كثيرًا لعلكـم تفلحون )) ( الجمعـة‪ ،)10:‬وقال‪ (( :‬ليـس عليكـم جناحٌـ أن‬
‫تبتغوا فضلً مـن ربكـم فإذا أفضتـم مـن عرفاتٍـ فاذكروا ال عنـد المشعـر الحرام واذكروه كمـا هداكـم وإن كنتـم مـن‬
‫قبله لمـن الضاليـن )) ( البقرة‪ ،)198:‬وقرن الكسـب بالجهاد بـل قدمـه عليـه فـي قوله‪ (( :‬وآخرون يضربون فـي‬
‫الرض يبتغون من فضل ال وآخرون يقاتلون في سبيل ال )) ( المزمل‪ ،)20:‬وجعل يد النسان حر ًة مطلقة في‬
‫النتفاع بالموجودات فـي الرض حيـث قال‪ (( :‬هـو الذي خلق لكـم مـا فـي الرض جميعًا ثـم اسـتوى إلى السـماء‬
‫فسواهن سبع سمواتٍ وهو بكل شيءٍ عليم )) ( البقرة‪ ،)29:‬بل وبكل ما يمكنه التوصل إليه من الكائنات المنبثة‬
‫فـي هذا الكون وذلك بقوله‪ (( :‬وسـخر لكـم مـا فـي السـموات ومـا فـي الرض جميعًا منـه إن فـي ذلك لياتٍـ لقومٍـ‬
‫يتفكرون )) ( الجاثية‪.)13:‬‬

‫ومن المعلوم أن التوصل إلى النتفاع بهذه الكائنات إنما هو منوط بالخبرة‪ ،‬وكل شيء يطلب بوسيلته‪ ،‬وكل غاية‬
‫يسـعى إليهـا مـن سـبيلها‪ ،‬فالعلم هـو رائد النسـان فـي اسـتخدام هذه الكائنات وتسـخير طاقاتهـا لمنافعـه‪ ،‬لذلك سـبق‬
‫السـلم جميـع دعوات الصـلح فـي الدعوة إلى التوسـع فـي مجال العلم‪ ،‬بـل جعـل العلم هـو المعراج الذي يرقـى‬
‫عليـه النسـان مناصـب الشرف والتكريـم‪ ،‬لن اختيار ال تعالى له لن يكون خليفـة فـي الرض إنمـا هـو لمـا منحـه‬
‫إياه من خصائص العلم التي لم تكن في غيره‪ ،‬كما هو واضح في قوله تعالى‪ (( :‬وإذ قال ربك للملئكة إني جاعلٌ‬
‫في الرض خليف ًة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ل‬
‫‪42‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬في ظلل القرآن ‪،3525-6/3524‬ط‪.‬دار الشروق‬
‫‪43‬‬
‫الطاهر بن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير ‪28/85‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫تعلمون * علم آدم السـماء كلهـا ثـم عرضهـم على الملئكـة فقال أنبئونـي بأسـماء هؤلء إن كنتـم صـادقين * قالوا‬
‫سـبحانك ل علم لنـا إل مـا علمتنـا إنـك أنـت العليـم الحكيـم * قال يـا آدم أنبئهـم بأسـمائهم فلمـا أنبأهـم بأسـمائهم قال ألم‬
‫أقل لكم إني أعلم غيب السموات والرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * )) ( البقرة‪.)31-30:‬‬

‫هذا في حين نرى أن توراة اليهود تعكس هذه الحقيقة حين تعد العلم سبب طرد النسان من الجنة‪ ،‬ومنشأ ضلله‬
‫عن القصد‪.‬‬

‫ومـن تكريـم السـلم للعلم وأهله قوله تعالى‪ (( :‬قـل هـل يسـتوي الذيـن يعلمون والذيـن ل يعلمون إنمـا يتذكـر أولوا‬
‫اللباب )) ( الزمر‪ ،)9:‬وقوله‪ (( :‬يرفع ال الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجا تٍ وال بما تعملون خبيرٌ‬
‫ل على قيمة العلم في موازين السلم وأن تعاليمه جميعاً تدور في فلك العلم أن‬ ‫*)) ( المجادلة‪ ،)11 :‬وحسبنا دلي ً‬
‫ال عـز وجـل افتتـح وحيـه المنزل على نـبيه الخاتـم عليـه الصـلة والسـلم بقوله ‪ (( :‬اقرأ )) وهـي كلمـة ل تعادلهـا‬
‫كلمـة اخرى فـي الحـث على طلب العلم بوسـائله والخـذ فيـه بأسـبابه‪ ،‬لنهـا أمـر بالقراءة‪ ،‬والقراءة إنمـا تكون لمـا‬
‫ســبق تدوينــه‪ ،‬ومعنــى هذا أن النســانية ممثلة فــي أمــة الســلم مطالبــة بأن تطلب العلم مــن مظانــه‪ ،‬وتســتخرج‬
‫مكنوناتــه مــن معادنــه‪ ،‬وأن تحرص على تبادل المعارف ونشرهــا فــي نواحــي الرض وتخلدهــا للتوارث عــبر‬
‫الجيال المتعاقبة مزبورة في الدواوين بجانب كونها محفوظة في الذهان ومتناقلة باللسنة‪ ،‬وذلك مما يؤكده قوله‬
‫سبحانه في هذه السورة نفسها بعيد هذا المطلع‪ (( :‬اقرأ وربك الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان ما لم يعلم‬
‫*)) ( العلق‪ ،)5-3 :‬فإن القلم كان هو الوسـيلة الوحيدة فـي تخليـد العلم ونشره‪ ،‬ول يزال له أثره الكـبير فـي حياة‬
‫العلم مع تطور الوسائل الخرى التي أشار إليها سبحانه في قوله‪ (( :‬علم النسان ما لم يعلم )) ( العلق‪.)5:‬‬

‫وإن تعجـب فاعجـب أن تكون أمـة السـلم – التـي هذا كتابهـا وهذه رسـالتها وهـي روحهـا مـن بدايـة تكوينهـا – هـي‬
‫المة المتأخرة في مواكب المم التي تشق طريق العلم‪ ،‬إذ أصبحت تسير ببطء – كما يمشي الوجي الروحل‪- 44‬‬
‫خلف قوافل المم جميعاً‪ ،‬وتعتاش بما تلتقطه مما يتناثر من أزواد الخرين من فتات يتساقط من أيديهم‪ ،‬واعجب‬
‫بجانـب ذلك أن يكون أولئك الذيـن وصـف العلم فـي كتابهـم بأنـه مصـدر الضللة والغوايـة مـن أبرز المتسـابقين فـي‬
‫مضمار الحياة العلمية‪ ،‬القادرين على اقتطاف ثماره من أشجاره التي غرسوها‪ ،‬واعجب كذلك أن تكون أمة ليس‬
‫لها في حياتها الروحية كتاب سماوي تستهدي به أو تنتسب إليه هي السباقة التي أحرزت قصبات السبق في مجال‬
‫العلم والنتاج‪ ،‬فليت شعري ما الذي دفع باليابان إلى مقدمة الركب في الحياة العلمية حتى أصبحت رائدة في بناء‬
‫القتصاد في عصرنا هذا؟إل أنها عنيت بتنمية العقل البشري في أبنائها‪ ،‬ورغم ضيق أرضها ووعورتها وانعدام‬
‫موارد الثروة فيهــا‪ ،‬وكونهــا عرضــة للكوارث مــن الزلزل والبراكيــن‪ ،‬وكثرة شعبهــا‪ ،‬فإن قوة اقتصــادها تفوق‬
‫اقتصاد جميع الدول السلمية مجتمعة بعشرة أضعاف‪.‬‬

‫وفـي هذا العام زارنـي فـي مكتـبي رئيـس المكتـب التجاري والثقافـي لتايوان فـي سـلطنة عمان‪ ،‬وأفادنـي أن تايوان‬
‫مساحتها ( ‪ )36‬ألف كيلو متر مربع‪ ،‬وأنها عديمة الموارد وأن سكانها ( ‪ ) 22‬مليون نسمة‪ ،‬ومع ذلك فإن دخلها‬
‫القومـي ( ‪ )350‬مليار دولر أمريكـي‪ ،‬وصـادراتها ( ‪ ) 300‬مليار‪ ،‬ورصـيدها الحتياطـي ( ‪ ) 250‬بليون‪ ،‬فمـا‬

‫‪44‬‬
‫(الوجي‪ :‬الحافي‪ ،‬الوحل‪:‬الطين الرقيق‪ ،‬أي يمشي ببطء شديد كمشي الرجل الحافي في الطين ( مراجعه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الذي رفعهـم إلى هذا المسـتوى؟إل عنايتهـم ببناء العقـل البشري مـع حسـن الدارة والتنظيـم‪ ،‬فهـل يكفينـا أن نتفرج‬
‫على هذه الرقام الخيالية وندع الساحة لغيرنا؟! فما أعجب أن تكون أمة السلم أفقر المم‪ ،‬وهي أمة وسط حتى‬
‫فـي موقعهـا الجغرافـي‪ ،‬تحتـل مـن بقاع الرض سـرتها وكبدهـا وقلبهـا مـع تميـز أراضيهـا بتنوع مواردهـا وكثرة‬
‫خيراتها‪ ،‬واكتناز جوفها بمصادر الثروة من نفط وغاز وأنواع المعادن‪ ،‬وقد أنعم ال عليها بالطاقة البشرية‪ ،‬فهي‬
‫ل تحتاج إل إلى أمريـن اثنيـن وهمـا‪ :‬التخطيـط السـليم والتنفيـذ الميـن‪ .‬فهل عنيـت بذلك مـع أن دينهـا يفرض عليهـا‬
‫أن تكون رائدة في التقدم العلمي والنتاج العملي‪ ،‬فليس نهوضها من هذه العثرة استجابة لمطلب دنيوي فحسب بل‬
‫هو استجابة لمطلب ديني‪ ،‬فالمؤمن القوي خير وأحب إلى ال من المؤمن الضعيف‪ ،‬وهي مع هذا كله ليست فقيرة‬
‫مـن الطاقات العقليـة والملكات العلميـة لو أنهـا اسـتقطبت ذوي المواهـب فـي مجالت العمـل مـن أبنائهـا ووطأت لهـم‬
‫الكناف‪ ،‬ويسرت لهم الوسائل‪ ،‬وهيأت لهم مناخ العلم والعمل في بلدهم‪.‬‬

‫فقد ذكرت جريدة الوطن العمانية في عددها ( ‪ ) 7617‬الصادر يوم الربعاء ‪ 6‬من ربيع الثاني ‪1425‬هـ الموافق‬
‫‪ 26‬مـن مايـو ‪2004‬م فـي الملحـق القتصـادي نقلً عـن دراسـة لمركـز الخليـج للدراسـات السـتراتيجية ( أن هجرة‬
‫العقول العربيـــة تكلف الدول العربيـــة خســـائر ل تقـــل عـــن ( ‪ ) 200‬مليار دولر‪ ،‬مضيفـــة أن الدول الغربيـــة‬
‫الرأســمالية تعــد الرابــح الكــبر مـن هجرة مــا ل يقــل عـن ( ‪ ) 450‬ألف مــن هذه العقول مــن هذه العقول‪ ،‬ورأت‬
‫الدراسـة التـي اطلعـت وكالة أنباء الكويتيـة ( كونـا ) على نسـخة منهـا أن المجتمعات العربيـة أصـبحت بيئة طاردة‬
‫للكفاءات العلميـة العربيـة وليسـت جاذبـة أو حاضنـة لهذه الكفاءات‪ ،‬المـر الذي أدى إلى اسـتفحال ظاهرة هجرة‬
‫العقول والدمغــة العلميــة العربيــة إلى الخارج‪ ،‬خاصــة إلى بلدان الغرب‪ ،‬وذكرت أن ‪ %45‬مــن الطلب العرب‬
‫الذيـن يدرسـون فـي الخارج ل يعودون إلى بلدانهـم‪ ،‬وأن ‪ %34‬مـن الطباء الكفاء فـي بريطانيـا هـم مـن العرب‪،‬‬
‫مضيفــة أن هناك نحــو ‪ %75‬مــن الكفاءات العلميــة العربيــة مهاجرة بالفعــل إلى ثلث دول تحديداً هــي أمريكــا‬
‫وبريطانيـا وكندا‪ ،‬ونوهـت أن الوطـن العربـي يسـاهم بــ ‪ %31‬مـن هجرة الكفاءات مـن الدول الناميـة إلى الغرب‬
‫الرأســمالي بنحــو ‪ %50‬مــن الطباء و ‪ %23‬مــن المهندســين‪ ،‬و ‪ %15‬مــن العلماء النابهيــن مــن العالم الثالث‪،‬‬
‫واعتبرت الدراسة أن من الحقائق المذهلة أن مستوى النفاق على البحث العلمي والتقني في الوطن العربي يبلغ‬
‫درجـة متدنيـة مقارنـة بمـا هـو الحال عليـه فـي بقيـة دول العالم‪ ،‬موضحـة أن النفاق السـنوي للدول العربيـة على‬
‫البحـث العلمـي ل يتجاوز ‪ %0.2‬مـن إجمالي الموازنات العربيـة‪ ،‬وذكرت أن هذه النسـبة المتدنيـة تأتـي فـي حيـن‬
‫تبلغ في إسرائيل ‪ %2.6‬في الموازنة السنوية‪ ،‬وذلك مقارنة بما تنفقه أمريكا ‪ ،%3.6‬والسويد ‪ ،%3.3‬وسويسرا‬
‫واليابان ‪ ،%2.7‬وفرنســا والدنمارك ‪ ،%2‬ورأت الدراســة أن ضعــف الهتمام بالعلم والبحــث العلمــي يعــد أحــد‬
‫العوامـل المركزيـة فـي الضعـف السـتراتيجي العربـي فـي مواجهـة إسـرائيل‪ ،‬وأحـد السـباب الرئيسـية وراء إخفاق‬
‫مشاريـع النهضـة العربيـة‪ ،‬ودعـت إلى مضاعـة النفاق العربـي على البحـث العلمـي إلى ‪ 11‬ضعفاً عـن المعدلت‬
‫الحالية )‪.45‬‬

‫ومـع تجاذب أطراف الحديـث بينـي وبيـن أحـد ممـن له خـبرة فـي هذا المجال للتنفيـس عـن الصـدور الضائقـة بهذه‬
‫الهموم ذكرت له مـا جاء فـي جريدة الوطـن‪ ،‬فرد علي بأن هذه الخسـارة ليسـت إل جزءاً مـن ضروب الخســران‬
‫الذي رزئ به العرب بسبب سوء التصرف وانعدام التخطيط السليم عندهم‪ ،‬فلئن كانوا يخسرون في كل عام هذا‬
‫القدر بسـبب هجرة ذوي الخـبرة مـن بلدهـم‪ ،‬فإنهـم يخسـرون ثلثـة أضعافـه بطمرهـم العقول الملهمـة فـي بلدهـم‬
‫بحيلولتهـم بينهـا وبيـن النتاج‪ ،‬ولئن كانـت هذه خسـارة العرب وحدهـم وهـم جزء مـن أمـة السـلم فناهيكـم بخسـارة‬
‫المـة كلهـا ممثلة فـي جميـع شعوبهـا وأجناسـها ممـا تعانيـه مـن طمـر العقول وتهجيرهـا‪ ،‬فليـت شعري لو أن المـة‬

‫‪45‬‬
‫جريدة الوطن العمانية‪،‬ص ‪،11‬العدد (‪،)7617‬السنة ال(‪،)34‬يوم الربعاء (‪ )6‬من ربيع الثاني ‪1425‬هـ‪26/5/2004-‬م‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أعطت هذه العقول الذكية فرصة للنتاج في بلدها في إطار من التخطيط السليم‪ ،‬وشجعتها على المضي قدماً في‬
‫سـبي التقدم والرقـي‪ ،‬وعنيـت باسـتقطاب المهارات والكفاءات ممـن اختصـهم ال بمواهبـه مـن أبنائهـا مـع التنسـيق‬
‫الدقيق والضبط المحكم لخطواتها‪ ،‬أل تكون هي سيدة الموقف في هذا العالم مع ما آتاها ال من هدي تستبصر به‬
‫وديـن بوازن بيـن جميـع متطلبات حياتهـا وينسـق بيـن جميـع حركاتهـا وسـكناتها‪ ،‬ومـا اختصـها ال بـه مـن أرض‬
‫مباركـة طيبـة تتدفـق خيراتهـا على العالم‪ ،‬وبيئة تمتاز على جميـع البيئات بخصـائصها المتنوعـة؟ ناهيكـم أن مـا‬
‫تتوجـه إليـه الن أنظار خـبراء العالم مـن اسـتغلل الطاقـة الشمسـية ليـس له مناخ أنسـب مـن مناخ البلد السـلمية‬
‫لخصائصها البيئية المشار إليها‪.‬‬

‫وإنما ذلك مرهون بخلوص النية وسلمة القصد وحسن التخطيط وأمانة التنفيذ‪ ،‬فما أحوجنا إلى هذا كله استمساكاً‬
‫ل إيجابــي بناء نخرج بــه مــن هذا المؤتمــر‬
‫بديننــا‪ ،‬وحرصـاً على مصــلحتنا ونهوضاً بأمتنــا‪ ،‬وإنــا لنتطلع إلى عم ٍ‬
‫الميمون‪ ،‬كمـا نتطلع إلى دور رائد عملق تقوم بـه دولة ماليزيـا التحاديـة‪ ،‬وهـي بحمـد ال بدأت مشكورة تخطـو‬
‫خطوات مدروســة محكمــة فــي هذا الســبيل الخيّـر نحــو هذه الغايــة المحمودة‪ ،‬ونتطلع أيضاً إلى جميــع الدول‬
‫السلمية مهيبين بها أن تحذو حذو هذه الدولة في اتباع هذا النهج مع التنسيق بين هذه الجهود جميعاً حتى تتآزر‬
‫وتتكامل في ظل الوحدة السلمية المنشودة (( وقل اعملوا فسيرى ال عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى‬
‫عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )) ( التوبة‪.)105:‬‬

‫خاتمة في مقترحات تتعلق بالموضوع‬

‫بعـد وضوح هذه الصـورة ومـا فيهـا ممـا يؤلم ويؤمـل أضـع بيـن أيديكـم هذه المقترحات‪ ،‬راجياً أن تسـهم فـي إيجاد‬
‫الحل المنشود لمكافحة الفقر والنهوض بالمة‪:‬‬

‫‪-1‬الخــذ بتعاليــم الســلم فــي تجســيد الوحدة الســلمية الشاملة فــي بناء المــة فكريًا وأدبياً واجتماعياً‬
‫ل بقوله تعالى‪:‬‬ ‫واقتصــادياً‪ ،‬ليتــم التكامــل بيــن الشعوب والدول والتنســيق بيــن رؤاهــا وخططهــا عم ً‬
‫‪ ،)2‬وتجســيداً لقوله‪ (( :‬إنمــا المؤمنون إخوة ))‬ ‫(( وتعاونوا على البر والتقوى )) ( المائدة‪:‬‬
‫( الحجرات‪ ،)10 :‬وقول النــبي صــلى ال عليــه وســلم‪ " :‬ترى المؤمنيــن فــي توادهــم وتراحمهــم‬
‫وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "‪.‬‬

‫‪-2‬إعداد المواطن المسلم إعداداً علمياً وعملياً نابعاً من عقيدة السـلم‪ ،‬ومرتبطًا بمصـالح أمته ومتوائمًا‬
‫مـــع متطلبات العصـــر‪ ،‬وذلك بإعطائه فرصـــة للتعلم وتشجيعـــه على البحـــث العلمـــي ماديًا وأدبياً‪،‬‬
‫ووضعه في المكان المناسب في مجال العمل‪ ،‬وإشباع طموحاته بإطلق مواهبه للنتاج مع إحاطته‬
‫بالظروف المناسبة لذلك‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪-3‬مراعاة الكفاءات العلميـة والعمليـة‪ ،‬وتنميـة المواهـب والمزايـا التـي تتميـز بهـا عقليات معينـة فـي بلد‬
‫السلم‪ ،‬وتشجيعها مادياً ومعنوياً على البقاء والنتاج في أوطانها لتسعد بها المة وتنعم بمشاركتها‬
‫في دفع عجلة حياتها إلى المام‪.‬‬

‫‪-4‬الخذ بنظام السلم في التكافل الجتماعي وتدخل في ذلك جباية الزكاة من أموال الغنياء ووضعها‬
‫فـي الصـناف المسـتحقة لهـا حسـب نظامهـا الشرعـي‪ ،‬مـع مراعاة أن يتـم ذلك بواسـطة هيئات شرعيـة‬
‫أمينة مخلصة‪.‬‬

‫‪-5‬إيجاد مؤسـسات إسـلمية عالميـة خالصـة مـن شوائب المعاملت المحرمـة‪ ،‬لتتـم مـن خللهـا تنميـة‬
‫رؤوس الموال بوجوه شرعيـة مباحـة تحـل محـل المعاملت الربويـة وسـائر المعاملت المحجورة‬
‫شرعاً‪.‬‬

‫‪-6‬تشجيع القرض الحسن الخالي من الربا لتغطية حاجات عامة الناس الشخصية وغيرها‪.‬‬

‫‪-7‬مكافحــة البطالة بإيجاد فرص عمــل فــي المجال الصــناعي والزراعــي‪ ،‬وفتــح الســواق للمنتوجات‬
‫السلمية‪..‬‬

‫‪-8‬التكامل بين أمة السلم بالتنسيق بين دولها جميعاً في تنمية مواردها الطبيعية والبشرية‪ ،‬مع مراعاة‬
‫إسهام كل دولة بما اختصها ال به من مواهبه‪.‬‬

‫‪-9‬تشجيـع مؤسـسات الوقـف وتطويرهـا لتتواءم مـع متطلبات العصـر وتسـهم فـي بناء العقليـة السـلمية‬
‫المعاصرة‪ ،‬وتقديم العون إلى ذوي الحاجات حتى يتمكنوا من اللحاق بالموكب الحضاري السائر في‬
‫طريق التقدم‪.‬‬

‫هذا وال من وراء القصد وهو ولي التوفيق وصلى ال وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫تم بحمد ال‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬

You might also like