You are on page 1of 81

‫بـسـم ال الـرحـمـن الـرحـيـم‬

‫الـحـمـد ل رب الـعـالـمـيـن و الـصـلة و الـسـلم عـلـى أشـرف النـبـيـاء و‬


‫الـمـرسـلـيـن‬

‫ســيـدنـا و مـولنـا حـبـيـبـنـا و قـرة أعـيـنـنـا مـحـمـد و عـلـى آلـه و صـحـبـه‬


‫أجـمـعـيـن‬

‫و مـن تـبـعـهـم بـإحـســان إلـى يــوم الـديـن‬

‫فتوح الغيب‬

‫للقطب الرباني الشيخ محي الدين عبدالقادر‬


‫الجيلني‬

‫رضي ال عنه وأرضاه‬


‫مـقـدمـة الـمـؤلـف‬
‫قال الشيخ عبد الرزاق ولد المؤلف ‪ :‬قال والدي رضي ال تعالى عنه مؤيد‬
‫الئمة سيد الطوائف أبو محمد محي الدين عبد القادر الجيلني الحسني‬
‫الحسيني الصديقي‪ ،‬ابن أبي صالح موسى جنكى دوست ابن المام عبد ال ابن‬
‫المام يحيى الزاهد ابن المام محمد ابن المام داود ابن المام موسى ابن‬
‫المام عبد ال ابن المام موسى الجون ابن المام عبد ال المحض ابن المام‬
‫الحسن المثنى ابن المام أمير المؤمنين سيدنا الحسن السبط ابن المام الهمام‬
‫أسد ال الغالب‪ ،‬فخر بني غالب‪ ،‬أمير المؤمنين سيدنا علي ابن أبي طالب‪،‬‬
‫كرم ال وجهه‪ ،‬ورضي عنه وعنهم أجمعين آمين ‪:‬‬

‫ل وأخرا وظاهرًا وباطنًا‪ ،‬عدد خلقه ومداد كلماته‪،‬‬‫ب العالمين أو ً‬


‫الحمد ل ر ّ‬
‫وزنة عرشه‪ ،‬ورضاء نفسه‪ ،‬وعدد كل شفع ووتر‪ ،‬ورطب ويابس في كتاب‬
‫مبين‪ ،‬وجميع ما خلق ربنا وذرأ وبرأ‪ ،‬خالق بل مثال أبدًا سرمدًا طيبًا مباركًا‪،‬‬
‫الذي خلق فسوى‪ ،‬وقدر فهدى‪ ،‬وأمات وأحيى‪ ،‬وأضحك وأبكى‪ ،‬وقرب‬
‫وأدنى‪ ،‬وأرحم وأخزى‪ ،‬وأطعم وأسقى‪ ،‬وأسعد وأشقى‪ ،‬ومنع وأعطى‪ ،‬الذي‬
‫بكلمته قامت السبع الشداد‪ ،‬وبها رست الرواسي والوتاد واستقرت الرض‬
‫المهاد‪ ،‬فل مقنوطًا من رحمته‪ ،‬ول مأمونًا من مكره وغيرته وإنفاذ أقضيته‬
‫وفعله وأمره‪ ،‬ول مستنكفًا عن عبادته‪ ،‬ول مخلوًا من نعمته‪ ،‬فهو المحمود بما‬
‫أعطى‪ ،‬والمشكور بما زوى‪ ،‬ثم الصلة على نبيه المصطفى محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬الذي من اتبع ما جاء به اهتدى ومن صدف عنه ضل وارتدى‪،‬‬
‫النبي الصادق المصدوق‪ ،‬الزاهد في الدنيا‪ ،‬الطالب الراغب في الرفيق‬
‫العلى‪ ،‬المجتبى من خلقه‪ ،‬المنتخب من بريته‪ ،‬الذي جاء بالحق بمحبته‪ ،‬زهق‬
‫الباطل بظهوره‪ ،‬وأشرقت الرض بنوره‪.‬‬

‫ثم الصلوات الوافيات‪ ،‬والبركات الطيبات‪ ،‬الزاكيات المباركات عليه ثانياً‬


‫وعلى آله الطيبين‪ ،‬وأصحابه والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬الحسنين لربهم فعل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ثم تضرعنا ودعاؤنا‬‫القومين له قيل‪ ،‬والصوبين إليه طريقًا وسبي ً‬
‫ورجوعنا إلى ربنا‪ ،‬ومنشئنا وخالقنا ورازقنا‪ ،‬ومطعمنا ومسقينا‪ ،‬ونافعنا‬
‫ب والدافع عنا جميع ما يؤذينا ويسوءنا‪ ،‬كل‬ ‫وحافظنا‪ ،‬وكالئنا ومحيينا‪ ،‬والذا ّ‬
‫ذلك برحمته وتحننه وفضله ومتنه بالحفظ الدائم في القوال والفعال في السر‬
‫والعلن‪ ،‬والظهار والكتمان والشدة والرخاء والنعمة والبأساء والضراء‪ ،‬إنه‬
‫فعال لما يريد‪ ،‬والحاكم بما يشاء‪ ،‬العالم بما يخفى‪ ،‬المطلع على الشؤون‬
‫والحوال‪ ،‬من الزلت والطاعات والقربات‪ ،‬السامع للصوات‪ ،‬المجيب‬
‫للدعوات‪ ،‬لمن يشاء من غير تنازع وتردد‪.‬‬

‫أما بعد ‪ :‬فإن نعم ال علي كثيرة متواترة‪ ،‬في آناء الليل وأطراف النهار‬
‫ل ‪َ{ :‬وِإن‬ ‫والساعات واللحظات والخطرات وجميع الحالت‪ ،‬كما قال عّز وج ّ‬
‫صوَها}‪.‬إبراهيم ‪ .34‬وقوله تعالى ‪َ{ :‬وَما ِبُكم ّمن ّنْعَمٍة َفِم َ‬
‫ن‬ ‫ح ُ‬
‫ل َل ُت ْ‬
‫تا ّ‬
‫َتُعّدوْا ِنْعَم َ‬
‫ل}‪.‬النحل ‪ .53‬فل يدان لي ول جنان ول لسان في إحصائها وأعدادها‪ ،‬فل‬ ‫ا ّ‬
‫يدركها التعداد ول تضبطها العقول والذهان‪ ،‬ول يحصيها الجنان ول يعبرها‬
‫اللسان‪ .‬فمن جملة ما مكن عن تعبيرها اللسان‪ ،‬وأظهرها الكلم وكتبها البنان‪،‬‬
‫وفسرها البيان‪ ،‬كلمات برزت وظهرت لي من فتوح الغيب فحلت في الجنان‪،‬‬
‫فأشغلت المكان فأنتجها وأبرزها صدق الحال‪ ،‬فتولى إبرازها لطف المنان‪،‬‬
‫ب النام في قالب صواب المقال‪ ،‬لمريدي الحق والطلب‪.‬‬ ‫ورحمة ر ّ‬

‫المقالة الولى‬

‫فـيمـا ل بـّد لـكـل مـؤمـن‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل بد لكل مؤمن في سائر أحواله من‬
‫ثلثة أشياء ‪ :‬أمر يمتثله‪ ،‬ونهي يجتنبه‪ ،‬وقدر يرضى به‪ ،‬فأقل حالة المؤمن ل‬
‫يخلو فيها من أحد هذه الشياء الثلثة‪ ،‬فينبغي له أن يلزم همها قلبه‪ ،‬وليحدث‬
‫بها نفسه‪ ،‬ويؤاخذ الجوارح بها في سائر أحواله‪.‬‬

‫المقالة الثانية‬

‫فـي الـتـواصـي بـالـخـيـر‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬اتبعوا ول تبتدعوا‪ ,‬وأطيعوا ول‬


‫تمرقوا‪ ،‬ووحدوا ول تشركوا‪ ,‬ونزهوا الحق ول تتهموا‪ ،‬وصدقوا ول تشكوا‪،‬‬
‫واصبروا ول تجزعوا‪ ،‬واثبتوا ول تنفروا‪ ,‬واسألوا ول تسأموا‪ ,‬وانتظروا‬
‫وترقبوا ول تيأسوا‪ ,‬وتواخوا ول تعادوا‪ ،‬واجتمعوا على الطاعة ول تتفرقوا‪،‬‬
‫وتحابوا ول تباغضوا‪ ,‬وتطهروا عن الذنوب وبها ل تدنسوا ول تتلطخوا‪,‬‬
‫وبطاعة ربكم فتزينوا‪ ,‬وعن باب مولكم فل تبرحوا‪ ،‬وعن القبال عليه فل‬
‫تتولوا‪ ،‬وبالتوبة فل تسوفوا‪ ،‬وعن العتذار إلى خالقكم في آناء الليل وأطراف‬
‫النهار فل تملوا‪ ،‬فلعلكم ترحمون وتسعدون‪ ،‬وعن النار تبعدون‪ ،‬وفي الجنة‬
‫تحبرون‪ ،‬وإلى ال توصلون‪ ،‬وبالنعيم وافتضاض البكار في دار السلم‬
‫تشتغلون‪ ،‬وعلى ذلك تخلدون‪ ،‬وعلى النجائب تركبون‪ ,‬وبحور العين وأنواع‬
‫الطيب وصوت القيان مع ذلك النعيم تحبرون‪ ،‬ومع النبياء والصديقين‬
‫والشهداء والصالحين ترفعون‪.‬‬

‫المقالة الثالثة‬

‫فـي البـتـلء‬

‫ل في‬‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا ابتلي العبد ببلية تحرك أو ً‬
‫نفسه بنفسه‪ ,‬فإن لم يتخلص منها استعان بالخلق كالسلطين وأرباب المناصب‬
‫وأرباب الدنيا وأصحاب الحوال وأهل الطب في المراض والوجاع‪ ،‬فإن لم‬
‫يجد في ذلك خلصًا رجع إلى رّبه بالدعاء والتضرع والثناء‪ .‬ما دام يجد بنفسه‬
‫نصرة لم يرجع إلى الخلق‪ ،‬وما دام يجد به نصرة عند الخلق لم يرجع إلى‬
‫الخالق‪ ,‬ثم إذا لم يجد عند الخلق نصرة استطرح بين يديه مديمًا للسؤال‬
‫والدعاء والتضرع والثناء والفتقار مع الخوف والرجاء‪ ,‬ثم يعجزه الخالق عّز‬
‫ل عن الدعاء‪ ,‬ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع السباب‪ ،‬فحينئذ ينفذ فيه‬ ‫وج ّ‬
‫القدر ويفعل فيه الفعل‪ ،‬فيفنى العبد عن جميع السباب والحركات‪ ،‬فيبقى روحًا‬
‫فقط‪ ,‬فل يرى إل فعل الحق فيصير موقنًا موحدًا ضرورة يقطع أن ل فاعل في‬
‫الحقيقة إل ال ل محرك ول مسكن إل ال ول خير ول ضر ول نفع ول عطاء‬
‫ول منع‪ ,‬ول فتح ول غلق‪ ،‬ول موت ول حياة‪ ،‬ول عّز ول ذل إل بيد ال‬
‫فيصير في القدر كالطفل الرضيع في يد الظئر والميت الغسيل في يد الغاسل‬
‫والكرة في صولجان الفارس‪ ،‬يقلب ويغير ويبدل‪ ,‬ويكون ول حراك به في‬
‫نفسه ول في غيره فهو غائب عن نفسه في فعل موله ‪ ,‬فل يرى غير موله‬
‫وفعله‪ ,‬ول يسمع ول يعقل من غيره إن بصر وإن سمع وعلم‪ ,‬فلكلمه سمع‪،‬‬
‫ولعلمه علم‪ ،‬وبنعمته تنعم‪ ،‬وبقربه تسعد‪ ،‬وبتقريبه تزين وتشرف‪ ,‬وبوعده‬
‫طاب وسكن‪ ,‬به اطمأن‪ ,‬وبحديثه أنس‪ ,‬وعن غيره استوحش ونفر‪ ,‬وإلى ذكره‬
‫ل وثق وعليه توكل‪ ،‬وبنور معرفته اهتدى وتقمص‬ ‫التجأ وركن‪ ,‬وبه عّز وج ّ‬
‫وتسربل‪ ,‬وعلى غرائب علومه اطلع‪ ،‬وعلى أسرار قدرته أشرف‪ ،‬ومنه سمع‬
‫ووعي‪ ,‬ثم على ذلك حمد وأثنى وشكر ودعا‪.‬‬

‫المقالة الرابعة‬

‫فـي الـمـوت الـمـعـنـوي‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا مت عن الخلق قيل لك رحمك ال‬
‫وأماتك عن الهوى‪ ،‬وإذا مت عن هواك قيل رحمك ال وأماتك عن إرادتك‬
‫ومناك‪ ،‬وإذا مت عن الرادة قيل رحمك ال وأحياك حياة ل موت بعدها‪،‬‬
‫وتغنى غنى ل فقر بعده‪ ،‬وتعطى عطاء ل منع بعده‪ ,‬وتراح براحة ل شقاء‬
‫بعدها‪ ،‬وتنعم بنعمة ل بؤس بعدها‪ ،‬وتعلم علمًا ل جهل بعده‪ ،‬وتؤمن أمنًا ل‬
‫خوف بعده‪ ،‬وتسعد فل تشقى‪ ,‬وتعز فل تذل‪ ,‬وتقرب فل تبعد‪ ,‬وترفع فل‬
‫توضع‪ ,‬وتعظم فل تحقر‪ ,‬وتطهر فل تدنس‪ ,‬لتحقق فيك الماني‪ ,‬وتصدق فيك‬
‫القاويل‪ ,‬فتكون كبريتًا أحمر فل تكاد ترى‪ ,‬وعزيزًا فل تماثل‪ ,‬وفريدًا فل‬
‫تشارك‪ ,‬ووحيدًا فل تجانس‪ ,‬فردًا بفرد ووترًا بوتر‪ ,‬وغيب الغيب‪ ,‬وسر السر‪,‬‬
‫فحينئذ تكون وارث كل نبي وصديق ورسول‪ .‬بك تختم الولية وإليك تصير‬
‫البدال وبك تنكشف الكروب‪ ,‬وبك تسقى الغيوث‪ ,‬وبك تنبت الزروع‪ ,‬وبك‬
‫يدفع البلء والمحن عن الخاص والعام وأهل الثغور والراعي والرعايا‪,‬‬
‫والئمة والمة وسائر البرايا‪ ,‬فتكون شحنة البلد والعباد‪ ,‬فتنطلق إليك الرجل‬
‫بالسعي‪ ,‬والرجال واليدي بالبذل والعطاء والخدمة بإذن خالق الشياء في‬
‫سائر الحوال‪ ,‬واللسن بالذكر الطيب والحمد والثناء وجمع المجال‪ ,‬ول‬
‫يختلف فيك اثنان من أهل اليمان‪ ,‬يا خير من سكن البراري وجال بها {َذِل َ‬
‫ك‬
‫ظيِم}‪.‬الحديد ‪.21‬‬
‫ضِل اْلَع ِ‬
‫ل ُذو اْلَف ْ‬
‫شاُء َوا ُّ‬
‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬
‫ضُل ا ِّ‬
‫َف ْ‬

‫المقالة الخامسة‬

‫فـي بـيـان الـدنـيـا و الـحـث عـلـى عـدم اللـتـفـات إلـيـهـا‬


‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا رأيت الدنيا في يدي أربابها‬
‫بزينتها وأباطيلها وخداعها ومصائدها وسمومها القتالة‪ ,‬مع لين مس ظاهرها‪,‬‬
‫وضراوة باطنها وسرعة إهلكها‪ ,‬وقتلها لمن مسها واغتر بها وغفل عن وليها‬
‫وعيرها بأهلها ونقض عهدها‪ ،‬فكن كمن رأى انسانًا على الغائط بالبراز بادية‬
‫سوأته وفائحة رائحته‪ ,‬فإنك تغض بصرك عن سوأته‪ ،‬وتسد أنفك من رائحته‬
‫ونتنه‪ ,‬فهكذا كن في الدنيا‪ ,‬إذا رأيتها غض بصرك عن زينتها‪ ،‬وسد أنفك عما‬
‫يفوح من روائح شهواتها ولذاتها‪ ,‬فتنجو منها ومن آفاتها‪ ,‬ويصل إليك قسمك‬
‫منها وأنت مهنأ‪ ,‬قال ال تعالى لنبيه المصطفى صلى ال عليه وسلم ‪َ{ :‬وَل‬
‫حَياِة الّدنَيا ِلَنْفِتَنُهْم ِفيِه‬
‫ك ِإَلى َما َمّتْعَنا ِبِه َأْزَواجًا ّمْنُهْم َزْهرََة اْل َ‬
‫عْيَنْي َ‬
‫ن َ‬
‫َتُمّد ّ‬
‫خْيٌر َوَأْبَقى}‪.‬طـه ‪.131‬‬ ‫ك َ‬ ‫ق َرّب َ‬‫َوِرْز ُ‬

‫المقالة السادسة‬

‫فـي الـفـنـاء عـن الـخـلـق‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬افن عن الخلق بإذن ال تعالى‪ ,‬عن‬
‫ن}‪.‬المائدة ‪ .23‬وعن‬
‫ل َفَتَوّكُلوْا ِإن ُكنُتم ّمْؤِمِني َ‬
‫عَلى ا ّ‬ ‫هواك بأمر ال تعالى {َو َ‬
‫إرادتك بفعل ال تعالى‪ .‬وحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم ال تعالى‪ ,‬فعلمة‬
‫فنائك عن خلق ال تعالى انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في‬
‫أيديهم‪ ،‬وعلمة فنائك عن هواك ترك التكسب والتعلق بالسبب في جلب النفع‬
‫والضرر‪ ,‬فل تحرك ول تعتمد عليك ول لك ول تذب عنك ول تنتصر لنفسك‪،‬‬
‫ل إليه‬
‫ل فيتوله آخرًا‪ ,‬كما كان موكو ً‬ ‫تكل ذلك كله إلى ال تعالى لنه توله او ً‬
‫ل في مهدك‪ ,‬وعلمة فنائك‬ ‫في حال كونك مغيبًا في الرحم‪ ،‬وكونك رضيعًا طف ً‬
‫عن إرادتك بفعل ال أنك ل تريد مرادًا قط ‪ ,‬ول يكون لك غرض‪ ,‬ول يبقى لك‬
‫حاجة ول مرام‪ ,‬فإنك ل تريد مع إرادة ال سواها‪ ,‬بل يجري فعل ال فيك‪,‬‬
‫فتكون أنت عند إرادة ال وفعله ساكن الجوارح مطمئن الجنان منشرح الصدر‬
‫منور الوجه عامر البطن غنيًا عن الشياء بخالقها‪ ,‬تقلبك يد القدرة‪ ,‬ويدعوك‬
‫ل‪ ,‬ويكسوك أنوارًا منه والحلل‪ ,‬وينزلك من أولي‬ ‫ب اْلِمَل ْ‬
‫لسان الزل‪ ,‬ويعلمك ر ّ‬
‫العلم الول‪ ,‬فتكون منكسرًا أبدًا‪ ,‬فل يثبت فيك شهوة وإرادة كالناء المنثلم‬
‫الذي ل يثبت فيه مائع وكدر‪ ,‬فتنقى عن أخلق البشرية‪ ,‬فلن يقبل باطنك شيئًا‬
‫ل‪ ,‬فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات‪ ,‬فيرى‬ ‫غير إرادة ال عّز وج ّ‬
‫ذلك منك في ظاهر الفعل والحكم‪ ,‬وهو فعل ال وإرادته حقًا في العالم‪ ,‬فتدخل‬
‫حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية وأزيلت‬
‫شهواتهم الطبيعية فاستؤنفت لهم إرادة ربانية كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫ي من دنياكم ثلث ‪ :‬الطيب ‪ ،‬والنساء ‪ ,‬وجعلت قرة عيني في‬ ‫وسلم ‪) :‬حبب إل ّ‬
‫الصلة( فأضيف ذلك بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا بما أشرنا‪ ,‬وتقدم‪ .‬قال‬
‫ال تعالى في حديثه القدسي ‪" :‬أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" فإن ال‬
‫تعالى ل يكون عندك حتى تنكسر جملة هواك وإرادتك‪ ,‬فإذا انكسرت ولم يثبت‬
‫فيك شيء ولم يصلح فيك شيء‪ ,‬أنشأك ال فجعل فيك إرادة‪ ,‬فتريد بتلك‬
‫ب تعالى بوجودك‬ ‫الرادة‪ ,‬فإذا صرت في الرادة المنشأة فيك‪ ،‬كسرها الر ّ‬
‫فيها‪ ,‬فتكون منكسر القلب أبدًا‪ ,‬فهو ل يزال يجدد فيك إرادة ثم يزيلها عند‬
‫وجودك فيها هكذا إلى أن يبلغ الكتاب أجله‪ ,‬فيحصل اللقاء‪ ,‬فهذا هو معنى‬
‫"عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" ومعنى قولنا عند وجودك فيها هو ركونك‬
‫وطمأنينتك إليها‪ .‬قال ال تعالى في حديثه القدسي ‪ ,‬الذي يرويه صلى ال عليه‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه ‪ ,‬فإذا أحببته كنت سمعه‬ ‫وسلم ‪) :‬ل يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫الذي يسمع به ‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬ويده التي يبطش بها ‪ ،‬ورجله التي‬
‫يمشي بها( وفي لفظ آخر "فبي يسمع ‪ ،‬وبي يبطش وبي يعقل"‪ .‬وهذا إنما‬
‫يكون في حالة الفناء ل غير‪ ,‬فإذا فنيت عنك وعن الخلق‪ ,‬والخلق إنما هو خير‬
‫وشر‪ ,‬فلم ترج خيرهم ول تخاف شرهم بقي ال وحده كما كان‪ ,‬ففي قدر ال‬
‫خير وشر‪ ,‬فيؤمنك من شر القدر ويغرقك في بحار خيره‪ ,‬فتكون وعاء كل‬
‫خير‪ ,‬ومنبعًا لكل نعمة وسرور وحبور وضياء أمن وسكون‪ ،‬فالفناء والمنى‬
‫والمبتغى والمنتهى حد ومرد ينتهي إليه مسير الولياء‪ ,‬وهو الستقامة التي‬
‫طلبها من تقدم من الولياء والبدال أن يفنوا عن إرادتهم وتبدل بإرادة الحق‬
‫ل رضي ال‬ ‫ل‪ ,‬فيريدون بإرادة الحق أبدًا إلى الوفاة‪ ،‬فلهذا سموا أبدا ً‬
‫عّز وج ّ‬
‫عنهم‪ ,‬فذنوب هؤلء السادة أن يشركوا إرادة الحق بإرادتهم على وجه السهو‬
‫والنسيان وغلبة الحال والدهشة‪ ,‬فيدركهم ال تعالى برحمته بالتذكرة واليقظة‪,‬‬
‫فيرجعوا عن ذلك ويستغفروا ربهم‪ ,‬إذ ل معصوم عن الرادة إل الملئكة‪,‬‬
‫عصموا عن الرادة‪ ،‬والنبياء عصموا عن الهوى‪ ,‬وبقية الخلق من النس‬
‫والجن المكلفين لم يعصموا منها غير أن الولياء بعضهم يحفظون عن الهوى‪,‬‬
‫والبدال عن الرادة‪ ,‬ول يعصمون منهما على معنى يجوز في حقهم الميل‬
‫ل باليقظة برحمته‪.‬‬‫إليهما في الحيان‪ ,‬ثم يتداركهم ال عّز وج ّ‬

‫المقالة السابعة‬

‫فـي إذهـاب غـمـم الـقـلـب‬


‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أخرج من نفسك وتنح عنها‪ ,‬وانعزل‬
‫عن ملكك وسلم الكل إلى ال‪ ,‬فكن بوابه على باب قلبك‪ ،‬وامتثل أمره في‬
‫إدخال من يأمرك بإدخاله‪ ،‬وانته بنهيه في صد من يأمرك بصده‪ ،‬فل تدخل‬
‫الهوى قلبك بعد أن خرج منه‪ ،‬فإخراج الهوى من القلب بمخالفته‪ ،‬وترك‬
‫متابعته في الحوال كلها‪ ،‬وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته‪ ،‬فل ترد إرادة‬
‫غير إرادته‪ ,‬وغير ذلك منك تمن وهو وادي الحمقى‪ ,‬وفيه حتفك وهلكك‬
‫وسقوطك من عينه وحجابه عنك‪ ,‬أحفظ أبدًا أمره‪ ,‬وانته أبدًا بنهيه‪ ،‬وسلم‬
‫لمقدوره‪ ,‬ول تشركه بشيء من خلقه‪ ,‬فإرادتك وهواك وشهواتك كلها خلقه‪ ,‬فل‬
‫جو‬
‫ن َيْر ُ‬
‫ترد ول تهوى ول تشته كيل تكون مشركًا‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬فَمن َكا َ‬
‫حدًا}‪.‬الكهف ‪.110‬‬
‫ك ِبِعَباَدِة َرّبِه َأ َ‬
‫شِر ْ‬
‫صاِلحًا َوَل ُي ْ‬
‫ل َ‬
‫عَم ً‬
‫ِلَقاء َرّبِه َفْلَيْعَمْل َ‬

‫ليس الشرك عبادة الصنام فحسب‪ ,‬بل هو متابعتك هواك‪ ،‬وأن تختار مع ربك‬
‫ل غيره‪ ،‬فإذا‬ ‫شيئًا سواه من الدنيا وما فيها والخرة وما فيها‪ ,‬فما سواه عّز وج ّ‬
‫ل غيره‪ ,‬فاحذر ول تركن‪ ,‬وخف ول‬ ‫ركنت إلى غيره فقد أشركت به عّز وج ّ‬
‫ل ومقامًا‪ ,‬ول تدع شيئًا‬ ‫تأمن‪ ,‬وفتش فل تغفل فتطمئن‪ ,‬ول تضف إلى نفسك حا ً‬
‫ل أو أقمت في مقام فل تختر شيئًا واحدًا من ذلك‪ ,‬فإن‬ ‫من ذلك‪ ,‬فإن أعطيت حا ً‬
‫ن}‪.‬الرحمن ‪ .29‬في تغيير وتبديل‪ ,‬وإنه يحول بين المرء‬ ‫شْأ ٍ‬
‫ال {ُكّل َيْوٍم ُهَو ِفي َ‬
‫وقلبه‪ ,‬فيزيلك عما أخبرت به‪ ,‬ويغيرك عما تخيلت ثباته وبقاءه‪ ,‬فتخجل عند‬
‫من أخبرته بذلك‪ ،‬بل أحفظ ذلك فيك ول تعده إلى غيرك فإنه كلي الثبات‬
‫والبقاء‪ ,‬فتعلم أنه موهبة وتسأل التوفيق للشكر واستر رؤيته وإن كان غير ذلك‬
‫سْ‬
‫خ‬ ‫ل ‪َ{ :‬ما َنن َ‬ ‫كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور وتيقظ وتأديب‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫يٍء‬‫ش ْ‬
‫ى ُكّل َ‬
‫عَل َ‬
‫ل َ‬
‫نا ّ‬‫خْيٍر ّمْنَها َأْو ِمْثِلَها َأَلْم َتْعَلْم َأ ّ‬
‫ت ِب َ‬
‫سَها َنْأ ِ‬
‫ن آَيٍة َأْو ُنن ِ‬
‫ِم ْ‬
‫َقِديٌر}‪.‬البقرة ‪ .106‬فل تعجز ال في قدرته‪ ،‬ول تتهمه في تقديره ول تدبيره‪ ،‬ول‬
‫تشك في وعده‪ ,‬فليكن لك في رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة حسنة‪,‬‬
‫نسخت اليات والسور النازلة عليه المعمولة بها المقروءة في المحاريب‬
‫المكتوبة في المصاحف‪ ,‬ورفعت وبدلت وأثبت غيرها مكانها‪ ,‬ونقل صلى ال‬
‫عليه وسلم إلى غيرها‪ ,‬هذا في ظاهر الشرع‪ ،‬وأما في الباطن والعلم والحال‬
‫ل فكان يقول ‪) :‬إنه ليغان على قلبي فأستغفر ال في‬ ‫فيما بينه وبين ال عّز وج ّ‬
‫كل يوم سبعين مرة( ويروى )مائة مرة( وكان صلى ال عليه وسلم ينقل من‬
‫حالة إلى أخرى ويسير به في منازل القرب وميادين الغيب‪ ،‬ويغير عليه خلع‬
‫النوار‪ ،‬فتبين الحالة الولى عند ثانيها ظلمة ونقصانًا وتقصيرًا في حفظ‬
‫الحدود‪ ،‬فيلقن الستغفار لنه أحسن حال العبد‪ ،‬والتوبة في سائر الحوال لن‬
‫فيها اعترافه بذنبه وقصوره‪ ،‬وهما صفتا العبد في سائر الحوال‪ ،‬فهما وراثة‬
‫من أبي البشر آدم عليه السلم إلى المصطفى صلى ال عليه وسلم حين اعترت‬
‫صفاء حاله ظلمة النسيان للعهد والميثاق‪ ،‬وإرادة الخلود في دار السلم‪,‬‬
‫ومجاورة الحبيب الرحمن المنان‪ ،‬ودخول الملئكة الكرام عليه بالتحية‬
‫والسلم‪ ,‬فوجد هناك مشاركة إرادته لرادة الحق‪ ,‬فانكسرت لذلك تلك الرادة‪,‬‬
‫وزالت تلك الحالة‪ ,‬وانعزلت تلك الولية‪ ,‬فانهبطت تلك المنزلة وأظلمت تلك‬
‫النوار وتكدر ذلك الصفاء‪ ,‬ثم تنبه وذكر صفي الرحمن‪ ،‬فعرف العتراف‬
‫سَنا َوِإن ّلْم َتْغِفْر َلَنا‬
‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬
‫بالذنب والنسيان‪ ,‬ولقن القرار فقال ‪َ{ :‬رّبَنا َ‬
‫ن}‪.‬العراف ‪ .23‬فجاءت أنوار الهداية وعلوم التوبة‬ ‫سِري َ‬
‫خا ِ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن ِم َ‬
‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫َوَتْر َ‬
‫ومعارفها‪ ،‬والمصالح المدفونة فيها ما كان غائبًا من قبل‪ ,‬فلم تظهر إل بها‪،‬‬
‫فبدلت تلك الرادة بغيرها والحالة الولى بأخرى‪ ,‬وجاءته الولية الكبرى‬
‫ل‪ ,‬والعقبى لهم‬ ‫والسكون في الدنيا ثم في العقبى‪ ,‬فصارت الدنيا له ولذريته منز ً‬
‫ل ومرجعًا وخلدًا‪ ,‬فلك برسول ال وحبيبه المصطفى وأبيه آدم صفي ال‬ ‫موئ ً‬
‫عليهم الصلة والسلم عنصر الحباب والخلء أسوة في العتراف بالقصور‬
‫والستغفار في الحوال كلها‪.‬‬

‫المقالة الثامنة‬

‫فـي الـتــقــرب إلــى ال‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا كنت في حالة ل تختر غيرها‬
‫أعلى منها ول أدنى‪ ،‬فإذا كنت على باب الملك ل تختر الدخول إلى الدار حتى‬
‫تدخل إليها جبرًا ل اختيارًا‪ ,‬وأعني بالجبر أمرًا عنيفًا متأكدًا متكررًا‪ ,‬ول تكف‬
‫بمجرد إذن بمجرد الدخول‪ ,‬لجواز أن يكون ذلك منكرًا وخديعة من الملك‪ ,‬لكن‬
‫ل من الملك‪,‬‬ ‫اصبر حتى تجبر على الدخول فتدخل الدار جبرًا محضًا وفض ً‬
‫فحينئذ ل يعاقب الملك على فعله‪ ,‬إنما تتعرض العقوبة لك لشؤم تخيرك‬
‫وشرهك‪ ،‬وقلة صبرك وسوء أدبك‪ ,‬وترك الرضي بحالتك التي أقمت فيها‪ ,‬فإذا‬
‫حصلت فكن مطرقًا غاضًا لبصرك متأدبًا‪ ,‬محافظًا لما تؤمر به من الشغل‬
‫ل ‪َ{ :‬وَل‬ ‫والخدمة فيها غير طالب للترقي إلى الذروة العليا‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫حَياِة الّدنَيا ِلَنْفِتَنُهْم ِفيِه‬
‫ك ِإَلى َما َمّتْعَنا ِبِه َأْزَواجًا ّمْنُهْم َزْهرََة اْل َ‬
‫عْيَنْي َ‬
‫ن َ‬
‫َتُمّد ّ‬
‫ل لنبيه المختار صلى‬ ‫خْيٌر َوَأْبَقى}‪.‬طـه ‪ .131‬فهذا تأديب منه عّز وج ّ‬ ‫ك َ‬ ‫ق َرّب َ‬‫َوِرْز ُ‬
‫خْيٌر‬
‫ك َ‬ ‫ق َرّب َ‬ ‫ال عليه وسلم في حفظ الحال والرضا بالعطاء بقوله ‪َ{ :‬وِرْز ُ‬
‫َوَأْبَقى}‪.‬طـه ‪ .131‬أي ما أعطيتك من الخبر والنبوة والعلم والقناعة والصبر‬
‫وولية الدين‪ ,‬والعروة فيه أولى مما أعطيت وأحرى‪ ,‬فالخير كله في حفظ‬
‫الحال والرضا بها وترك اللتفات إلى ما سواها‪ ,‬لنه ل يخلو إما أن يكون‬
‫قسمك أو قسم غيرك‪ ,‬أو أنه ل قسم لحد بل أوجده ال فتنة‪ ,‬فإن كان قسمك‬
‫وصل إليك شئت أم أبيت فل ينبغي أن يظهر منك سوء الدب والشره في‬
‫طلبه‪ ,‬فإن ذلك غير محمود في قضية العلم والعقل‪ ,‬وإن كان قسم غيرك فل‬
‫تتعب فيما لم تناوله ول يصل إليك أبدًا‪ ,‬وإن كان ليس بقسم لحد بل هو فتنة‬
‫فكيف يرضى للعاقل ويستحسن أن يطلب لنفسه فتنة ويستجلبها لها‪ ,‬فقد ثبت أن‬
‫الخير كله والسلمة في حفظ الحال‪ ,‬فإذا رقيت إلى الغرفة ثم إلى السطح فكن‬
‫كما ذكرنا من الحفظ والطراق والدب‪ ,‬بل يتضاعف ذلك منك‪ ,‬لنك أقرب‬
‫إلى الملك وأدنى بالخطر‪ ,‬فل تتمن النتقال منها إلى أعلى منها ول إلى أدنى‪,‬‬
‫وثباتها وبقائها‪ ,‬ول تغير وصفها وأنت فيها‪ ,‬ول يكون لك اختيار ألبته‪ ,‬فإن‬
‫ذلك كفر في نعمة الحال والكفر يحل بصاحبه الهوان في الدنيا والخرة فاعمل‬
‫على ما ذكرناه أبدًا حتى ترقى إلى حالة تصير لك مقامًا تقام فيه فل تزال عنه‪،‬‬
‫فتعلم حينئذ أنه موهبة ظهر بيانها فتمسكه ول تزل‪ ،‬فالحوال للولياء‬
‫والمقامات للبدال وال يتولى هداك‪.‬‬
‫المقالة التاسعة‬

‫فـي الـكـشــف و الـمـشـاهـدة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬يكشف للولياء والبدال من أفعال‬


‫ال ما يبهر العقول ويخرق العادات والرسوم فهي على قسمين ‪ :‬جلل وجمال‪,‬‬
‫فالجلل والعظمة يورثان الخوف المقلق والوجل المزعج‪ ,‬والغلبة العظيمة‬
‫على القلب بما يظهر على الجوارح‪ ,‬كما روي عن أن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم " كان يسمع من صدره أزيز كأزيز المرجل في الصلة من شدة الخوف‬
‫ل وينكشف له من عظمته‪ ،‬ونقل مثل ذلك عن‬ ‫" لما يرى من جلل ال عّز وج ّ‬
‫إبراهيم خليل الرحمن صلوات ال عليه وعمر الفاروق رضي ال عنه‪.‬‬

‫أما مشاهدة الجمال ‪ :‬فهو التجلي للقلوب بالنوار والسرور واللطاف‪ ,‬والكلم‬
‫اللذيذ والحديث النيس‪ ,‬والبشارة بالمواهب الجسام والمنازل العالية‪ ,‬والقرب‬
‫ل‪ ,‬وجف به القلم من أقسامهم‬ ‫ل مما سيئول أمرهم إلى ال عّز وج ّ‬ ‫منه عّز وج ّ‬
‫ل منه ورحمة‪ ,‬وإثباتًا منه لهم في الدنيا إلى بلوغ الجل‬ ‫في سابق الدهور فض ً‬
‫وهو الوقت المقدور‪ ,‬لئل تفرط بهم المحبة من شدة الشوق إلى ال تعالى‬
‫فتنفطر مرائرهم‪ ,‬فيهلكون ويضعفون عن القيام بالعبودية إلى أن يأتيهم اليقين‬
‫حِكيٌم‬
‫الذي هو الموت‪ ،‬فيفعل ذلك بهم لطفًا منه ورحمة ومداراة لها {ِإّنُه َ‬
‫حيٌم}‪.‬التوبة ‪.128+117‬النور ‪.20‬الحشر ‪.10‬‬
‫ف ّر ِ‬
‫عِليٌم}‪.‬النعام ‪.139‬الحجر ‪ .25‬لطيف بهم {َرُؤو ٌ‬
‫َ‬
‫ولهذا روي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول لبلل المؤذن رضي‬
‫ال عنه )أرحنا بها يا بلل( أي بالقامة لندخل في الصلة لمشاهدة ما ذكرناه‬
‫من الحال‪ ,‬ولهذا قال صلى ال عليه وسلم ‪) :‬وجعلت قرة عيني في الصلة(‪.‬‬

‫المقالة العاشرة‬
‫فـي الـنـفـس و أحــوالـهـا‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إنما هو ال ونفسك وأنت المخاطب‪،‬‬


‫والنفس ضد ال وعدوه‪ ,‬والشياء كلها تابعة ل‪ ,‬والنفس له خلقًا وُملكًا‪ ,‬وللنفس‬
‫ل في مخالفة‬ ‫ادعاء وتمن وشهوت ولذة بملبستها‪ ,‬فإذا وافقت الحق عّز وج ّ‬
‫ل لداود عليه‬ ‫النفس وعدوانها فكنت ل خصمًا على نفسك كما قال ال عّز وج ّ‬
‫السلم ‪" :‬يا داود أنا بدك اللزم فألزم بدك‪ ،‬العبودية أن تكون خصمًا على‬
‫ل‪ ,‬وأتتك القسام هنيئًا‬ ‫نفسك" فتحققت حينئٍذ موالتك وعبوديتك ل عّز وج ّ‬
‫مريئًا مطيبًا وأنت عزيز ومكرم‪ ,‬وخدمتك الشياء وعظمتك وفخمتك‪ ,‬لنها‬
‫بأجمعها تابعة لرّبها موافقة له إذ هو خالقها ومنشئها‪ ,‬وهي مقرة له بالعبودية‪.‬‬
‫حْمَدِه َوَلـِكن ّل َتْفَقُهو َ‬
‫ن‬ ‫ح ِب َ‬ ‫سّب ُ‬
‫يٍء ِإّل ُي َ‬‫ش ْ‬‫قال ال تعالى ‪َ{ :‬وِإن ّمن َ‬
‫طْوعًا َأْو َكْرهًا َقاَلَتا َأَتْيَنا‬
‫ض ِاْئِتَيا َ‬
‫لْر ِ‬ ‫حُهْم}‪.‬السراء ‪َ{ .44‬فَقاَل َلَها َوِل َْ‬‫سِبي َ‬‫َت ْ‬
‫ن}‪.‬فصلت ‪ .11‬فالعبادة كل العبادة في مخالفة نفسك‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَل‬ ‫طاِئِعي َ‬‫َ‬
‫ل}‪.‬ص ‪ .26‬وقال لداود عليه السلم ‪" :‬أهجر‬ ‫سِبيِل ا ِّ‬‫عن َ‬ ‫ك َ‬
‫ضّل َ‬
‫َتّتِبِع اْلَهَوى َفُي ِ‬
‫هواك فإنه منازع"‪.‬‬

‫ب العزة‬ ‫والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي رحمه ال لما رأى ر ّ‬


‫في المنام فقال له ‪ :‬كيف الطريق إليك ؟‪ ،‬قال ‪ :‬اترك نفسك وتعال‪ ,‬فقال ‪:‬‬
‫فانسلخت كما تنسلخ الحية من جلدها‪ ,‬فإذا الخير كله في معادتها في الجملة في‬
‫الحوال كلها‪ ,‬فإن كنت في حال التقوى فخالف النفس‪ ,‬بأن تخرج من حرام‬
‫الخلق وشبهتهم ومنتهم والتكال عليهم والثقة بهم والخوف منهم‪ ,‬والرجاء لهم‬
‫والطمع فيما عندهم من أحكام الدنيا‪ ,‬فل ترج عطاياهم على طريق الهدية‬
‫والزكاة والصدقة أو النذر‪ ,‬فاقطع هّمك منهم من سائر الوجوه والسباب حتى‬
‫إن كان لك نسب ذو مال ل تتمن موته لترث ماله‪ ,‬فاخرج من الخلق جادًا‬
‫وجعلهم كالباب يرد ويفتح‪ ،‬وشجرة توجد فيها ثمر تارة وتختل أخرى وكل‬
‫ب‪ ،‬ول تنس‬ ‫ل وعل‪ ,‬لتكون موحدًا للر ّ‬ ‫ذلك بفعل فاعل وتدبير مدبر وهو ال ج ّ‬
‫مع ذلك كسبهم لتخلص من مذهب الجبرية‪ ,‬واعتقد أن الفعال ل تتم بهم دون‬
‫ال ل تعبدهم وتنسى ال‪ .‬ول تقل فعلهم دون فعل ال فتكفر فتكون قدريًا‪ ,‬لكن‬
‫قل هي ل خلقًا وللعباد كسبًا كما جاءت به الثار‪ ,‬لبيان موضع الجزاء من‬
‫الثواب والعقاب‪ ,‬وامتثل أمر ال فيهم‪ ,‬وخلص قسم منهم بأمره ول تجاوزه‬
‫فحكم ال قائم بحكمه عليك وعليهم‪ ,‬فل تكن أنت الحاكم‪ ,‬وكونك معهم قدر‬
‫والقدر ظلمة فادخل بالظلمة في المصباح وهو كتاب ال وسنة رسوله صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ,‬ل تخرج عنهما فإن خطر خاطر أو وجد إلهام فاعرضه على‬
‫الكتاب والسنة‪ ,‬فإن وجدت فيها تحريم ذلك مثل أن تلهم بالزنا والرياء‬
‫ومخالطة أهل الفسق والفجور وغير ذلك من المعاصي‪ ,‬فادفعه عنك واهجره‬
‫ول تقبله ول تعمل به‪ ,‬واقطع بأنه من الشيطان اللعين نعوذ بال منه‪ .‬وإن‬
‫وجدت فيها إباحة كالشهوات المباحة من الكل أو الشرب أو اللبس أو النكاح‬
‫فاهجره أيضًا ول تقبله‪ ,‬واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها وقد أمرت‬
‫بمخالفتها وعداوتها‪ .‬وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه وإباحته‪ ,‬بل هو‬
‫أمر ل تعقله مثل السائق لك ائت موضع كذا وكذا‪ ,‬الق فلنًا صالحًا‪ ,‬ول حاجة‬
‫لك هناك ول في الصالح لستغنائك عنه بما أولك ال من نعمته من العلم‬
‫ل وعل‬ ‫والمعرفة‪ ،‬فتوقف في ذلك ول تبادر إليه فتقول هذا إلهام من الحق ج ّ‬
‫ل بأن يتكرر ذلك‬‫فأعمل به بل انتظر الخير كله في ذلك وفعل الحق عّز وج ّ‬
‫ل يعقلها العقلء‬
‫اللهام وتؤمر بالسعي‪ ,‬أو علمة تظهر لهل العلم بال عّز وج ّ‬
‫من الولياء والمؤيدون من البدال‪ ,‬وإنما لم يتبادر إلى ذلك لنك ل تعلم عاقبته‬
‫وما يؤول المر إليه‪ ,‬وما كان فيه فتنة وهلك ومكر من ال وامتحان فاصبر‬
‫ل الفاعل فيك‪ ,‬فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك‬ ‫حتى يكون هو عّز وج ّ‬
‫ل محفوظًا فيها‪ ,‬لن ال تعالى ل يعاقبك على فعله‬ ‫واستقبلتك فتنة كنت محمو ً‬
‫وإنما تتطرق العقوبة نحوك لكونك في الشيء‪ ,‬وإن كنت في حالة الحقيقة وهي‬
‫حالة الولية فخالف هواك واتبع المر في جملة‪.‬‬

‫واتباع المر على قسمين ‪:‬‬

‫أحدهما أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس وتترك الحظ ‪ ,‬وتؤدي‬


‫الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن‪.‬‬

‫ل‪ ,‬يأمر عبده وينهاه‪,‬‬‫والقسم الثاني ما كان بأمر باطن‪ ,‬وهو أمر الحق عّز وج ّ‬
‫وإنما يتحقق بهذا المر في المباح الذي ليس له حكم في الشرع على معنى‬
‫ليس من قبيل النهي ول من قبيل المر الواجب‪ ,‬بل هو مهمل ترك العبد‬
‫يتصرف فيه باختياره فسمي مباحًا فل يحدث للعبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر‬
‫ل‪ ,‬ما في الشرع‬ ‫المر فيه‪ ,‬فإذا أمر امتثل فتصير حركاته وسكناته بال عّز وج ّ‬
‫حكمه فبالشرع‪ ،‬وما ليس له حكم في الشرع فبالمر الباطن فحينئذ يصير محقًا‬
‫من أهل الحقيقة‪ ,‬وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حاله التسليم‪ ,‬وإن‬
‫كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحو والفناء وهي حالة البدال المنكسري‬
‫القلوب لجله الموحدين العارفين أرباب العلوم والعقل السادة المراء الشحن‬
‫خفراء الخلق خلفاء الرحمن وأخلئه وأعيانه وأحبائه عليهم السلم‪ ,‬فإتباع‬
‫المر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‪ ,‬وأن ل يكون لك إرادة‬
‫وهمة في شيء البتة دنيا وعقبى‪ ,‬فتكون عبد الَملك ل عبد اْلُمْلك وعبد المر ل‬
‫عبد الهوى كالطفل مع الظئر‪ ,‬والميت الغسيل مع الغسل‪ ,‬والمريض المقلوب‬
‫على جنبيه بين يدي الطبيب فيما سوى المر والنهي وال أعلم‪.‬‬

‫المقالة الحادية عشرة‬


‫فـي الــشــــهـوة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا ألقيت عليك شهوة النكاح في حالة‬
‫ل‪ ,‬إما‬ ‫الفقر وعجزت عن مؤنته فصبرت عنه منتظر الفرج من الباري عّز وج ّ‬
‫بزوالها وإقلعها عنك بقدرته التي ألقاها عليك وأوجدها فيك فيعينك أو‬
‫يصونك وحياتك عن حمل مؤنتها أيضًا أو بإيصالها إليك موهبة مهنئًا مكفيًا‬
‫ل صابرًا شاكرًا‬ ‫من غير ثقل في الدنيا ول تعب في العقبى‪ ,‬وسماك ال عّز وج ّ‬
‫لصبرك عنها راضيًا بقسمته فزادك عصمة وقوة‪ .‬فإن كان قسمًا لك ساقها إليك‬
‫مكفيًا مهنئًا فينقلب الصبر شكرًا‪ ,‬وهو عّز وجلّ وعد الشاكرين بالزيادة في‬
‫عَذاِبي‬
‫ن َ‬
‫شَكْرُتْم َلِزيَدّنُكْم َوَلِئن َكَفْرُتْم ِإ ّ‬
‫ل ‪َ{ :‬لِئن َ‬
‫العطاء قال ال عّز وج ّ‬
‫شِديٌد}‪.‬إبراهيم ‪.7‬‬
‫َل َ‬

‫وإن لم تكن قسمًا لك فالغنى عنها بقلعها من القلب إن شاءت النفس أو أبت‪,‬‬
‫فلزم الصبر وخالف الهوى وعانق المر وارض بالقضاء‪ ,‬وارج بذلك‬
‫جَرُهم ِبَغْيِر‬
‫ن َأ ْ‬
‫صاِبُرو َ‬
‫الفضل والعطاء‪ ,‬وقد قال ال تعالى ‪ِ{ :‬إّنَما ُيَوّفى ال ّ‬
‫ب}‪.‬الزمر ‪.10‬‬
‫سا ٍ‬
‫ح َ‬
‫ِ‬

‫المقالة الثانية عشرة‬

‫فـي الـنـهـي عـن حـب الـمـال‬

‫ل مالً‬
‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا أعطاك ال عّز وج ّ‬
‫فاشتغلت به عن طاعته حجبك به عنه دنيا وأخرى‪ ,‬وربما سلبك إياه وغيرك‬
‫وأفقرك لشتغالك بالنعمة عن المنعم‪ ,‬وإن اشتغلت بطاعته عن المال جعله‬
‫موهبة ولم ينقص منه حبة واحدة وكان المال خادمك وأنت خادم المولى‪,‬‬
‫ل وفي العقبى مكرمًا مطيبًا في جنة المأوى مع الصديقين‬‫فتعيش في الدنيا مدل ً‬
‫والشهداء والصالحين‪.‬‬

‫المقالة الثالثة عشرة‬


‫فـي الـتـســلـيـم لمــر ال‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تختر جلب النعماء ول دفع‬
‫البلوى‪ ،‬فالنعماء واصلة إليك إن كانت قسمك استجلبتها أو كرهتها‪ ,‬والبلوى‬
‫حاّلٌة بك إن كانت قسمك مقضية عليك سواء كرهتها أو رفعتها بالدعاء أو‬
‫صبرت وتجلدت لرضى المولى‪ ,‬بل سلم في الكل‪ ,‬فيفعل الفعل فيك‪ ،‬فإن كانت‬
‫النعماء فاشتغل بالشكر‪ ,‬وإن كانت البلوى فاشتغل بالتصبر والصبر‪ ,‬أو‬
‫الموافقة والتنعم بها أو العدم أو الفناء فيها على قدر ما تعطى من الحالت‬
‫وتنتقل فيها‪ ,‬وما تسير في المنازل في طريق المولى الذي أمرت بطاعته‬
‫والموالة‪ ,‬لتصل إلى الرفيق العلى‪ ,‬فتقام حينئذ مقام من تقدم ومضى من‬
‫الصديقين والشهداء والصالحين‪ ,‬لتعاين من سبقك إلى المليك ومنه دنا‪ ,‬ووجد‬
‫عنده كل طريفة وسرورًا وأمنًا‪ ,‬وكرامة ونعما‪.‬‬

‫دع البلية تزورك‪ ,‬خل من سبيلها‪ ,‬ول تقف ول تجزع من مجيئها وقربها‪,‬‬
‫فليس نارها أعظم من نار جهنم ولظى‪ ,‬فقد ثبت في الخبر المروي عن خير‬
‫البرية‪ ,‬وخير من حملته الرض وأظلته السماء محمد المصطفى صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال ‪) :‬إن نار جهنم تقول للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك‬
‫لهبي( فهل كان نور المؤمن الذي أطفأ لهب النار في لظى إل الذي صحبه في‬
‫الدنيا الذي لن يمر من أطاعها وعصى‪ ,‬فليطفئ هذا النور لهب البلوى‪ ,‬ولتجد‬
‫برد صبرك وموافقتك للمولى وهيج ما حل بك من ذلك ومنك دنا‪ ،‬فالبلية لم‬
‫تأتك لتهلكك‪ ,‬لكنها تأتيك لتجربك وتحقق صحة إيمانك وتوثيق عروة يقينك‬
‫حّتى َنْعَلَم‬
‫ويبشرك باطنها من مولك بمباهاته بك‪ ,‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَلَنْبُلَوّنُكْم َ‬
‫خَباَرُكْم}‪.‬محمد ‪ .31‬فإذا ثبت مع الحق إيمانك‬ ‫ن َوَنْبُلَو َأ ْ‬
‫صاِبِري َ‬
‫ن ِمنُكْم َوال ّ‬
‫جاِهِدي َ‬
‫اْلُم َ‬
‫ووافقته في فعله بيقينك كل ذلك بتوفيق منه ومنة‪ ,‬فكن حينئذ أبدًا صابرًا موافقًا‬
‫سّلَمًا ل تحدث فيك ول في غيرك حادثة ما خرج عن المر والنهي‪ ,‬فإذا كان‬ ‫ُم َ‬
‫ل فتسامع وتسارع وتحرك ول تسكن ول تسلم للقدر والفعل‪ ,‬بل‬ ‫أمره عّز وج ّ‬
‫ابذل طوقك وجهودك لتؤدي المر‪ ,‬فإن عجزت فدونك اللتجاء إلى مولك‬
‫ل‪ ,‬فالتجئ إليه وتضرع واعتذر‪ ,‬وفتش عن سبب عجزك عن أداء‬ ‫عّز وج ّ‬
‫أمره وصدك عن التشوق لطاعته لعل ذلك لشؤم دعائك وسوء أدبك في‬
‫طاعته‪ ,‬ورعونتك واتكالك على حولك وقوتك‪ ,‬وإعجابك بعلمك وشركك إياك‬
‫بنفسك وخلقه‪ ,‬فصدك عن بابه‪ ,‬وعزلك عن طاعته وخدمته‪ ,‬وقطع عنك مدد‬
‫توفيقه‪ ,‬وولى عنك وجهه الكريم‪ ,‬ومقتك وقلك‪ ,‬وشغلك ببلئك دنياك وهواك‪،‬‬
‫وإرادتك ومناك‪.‬‬

‫أما تعلم أن كل ذلك مشغول عن ذلك‪ ,‬وقاطعك عن عين الذي خلقك ورباك‪،‬‬
‫وخّولك وأعطاك وأحياك‪.‬‬
‫احذر ل يلهيك عن مولك غير مولك‪ ,‬وكل من سوى مولك غيره‪ ,‬فل تؤثر‬
‫عليه غيره فإنه خلقك له‪ ,‬فل تظلم نفسك فتشغل بغيره عن أمره فيدخلك النار‬
‫التي وقودها الناس والحجارة فتندم‪ ,‬فل ينفعك الندم‪ ,‬وتعتذر فل تعذر‪,‬‬
‫وتستعتب فل تعتب‪ ,‬وتسترجع إلى الدنيا لتستدرك وتصلح فل ترجع‪.‬‬

‫ارحم نفسك وأشفق عليها‪ ,‬واستعمل اللت والدوات التي أعطيتها في طاعة‬
‫مولك من الفعل واليمان والمعرفة والعلم‪.‬‬

‫استضيء بنورهما في ظلمات القدار‪ ,‬وتمسك بالمر والنهي‪ ,‬وسيرهما في‬


‫طريق مولك وسلم ما سواهما إلى الذي خلقك وأنشأك‪ ,‬فل تكفر بالذي خلقك‬
‫ل سواك‪ ،‬ول ترد غير أمره‪ ,‬ول تكره‬‫من تراب ورباك‪ ,‬ثم من نطفة ثم رج ً‬
‫غير نهيه‪.‬‬

‫اقنع من الدنيا والخرى بهذا المراد واكره فيهما هذا المكروه‪ ,‬فكل ما يراد تبع‬
‫لهذا المراد‪ ,‬وكل مكروه تبع لهذا المكروه‪.‬‬

‫إذا كنت مع أمره كانت الكوان في أمرك‪ ,‬وإذا كرهت نهيه فرت منك المكاره‬
‫أين كنت وحللت‪.‬‬

‫ل في بعض كتبه ‪) :‬يا ابن آدم أنا ال ل إله إل أنا أقول للشيء‬ ‫قال ال عّز وج ّ‬
‫ل ‪) :‬يا دنيا‬
‫كن فيكون ‪ ،‬أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون( وقال عّز وج ّ‬
‫ل فكن كأنك‬ ‫من خدمني فاخدميه ومن خدمك فأتعبيه( فإذا جاء نهيه عّز وج ّ‬
‫مسترخي المفاصل‪ ,‬مسكن الحواس‪ ,‬مضيق الذرع‪ ،‬متماوت الجسد‪ ،‬زائل‬
‫الهوى‪ ,‬منطمس الوسوم‪ ،‬منمحي الرسوم‪ ،‬منسي الثر‪ ,‬مظلم القنا‪ ,‬متهدم‬
‫البناء‪ ،‬خاوي البيت‪ ,‬ساقط العرش‪ ,‬ل حس ول أثر‪ ,‬فليكن سمعك كأنه أصم‬
‫وعلى ذلك مخلوق‪ ،‬وبصرك كأنه معصب أو مرمود أو مطموس‪ ,‬وشفتاك‬
‫ل‪ ،‬وأسنانك كأن بهما‬ ‫كأن بهما قرحة وبثورًا‪ ,‬ولسانك كأنه به خرسًا وكلو ً‬
‫ل وعن البطش قصورا‪ ,‬ورجلك‬ ‫ضريانًا وألمًا ونشورا‪ ,‬ويداك كأن بهما شل ً‬
‫كأن بهما رعدة وارتعاشًا وجروحًا‪ ,‬وفرجك كأن به عنة وبغير ذلك الشأن‬
‫مشغول‪ ,‬وبطنك كأن به امتلء وارتواء وعن الطعام غنى‪ ,‬وعقلك كأنك‬
‫مجنون ومخبول‪ ,‬وجسدك كأنك ميت وإلى القبر محمول‪ ,‬فالتسامع والتسارع‬
‫في المر‪ ,‬والتعاقد والتجاعد والتقاصر في النهي‪ ,‬والتماوت والتعادم والتفاني‬
‫في القدر‪ ,‬فاشرب هذه الشربة‪ ,‬وتداو بهذا الدواء‪ ,‬وتغذ بهذا الغذاء‪ ،‬تنجح‬
‫وتشفى‪ ,‬وتعافى من أمراض الذنوب وعلل الهواء‪ ,‬بإذن ال تعالى إن شاء ال‪.‬‬

‫المقالة الرابعة عشرة‬


‫فـي إتـبـاع أحـوال الـقــوم‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تدع حالة القوم يا صاحب الهوى‬
‫أنت تعبد الهوى وهم عبيد المولى‪ ,‬أنت رغبتك في الدنيا ورغبة القوم في‬
‫ب الرض والسماء‪ ,‬وأنت أنسك بالخلق‬ ‫العقبى‪ ,‬أنت ترى الدنيا وهم يرون ر ّ‬
‫وأنس القوم بالحق‪ ،‬أنت قلبك متعلق بمن في الرض وقلوب القوم بر ّ‬
‫ب‬
‫العرش‪ ,‬أنت يصطادك من ترى وهم ل يرون من ترى بل يرون خالق الشياء‬
‫وما يرى‪ ,‬فاز القوم به وحصلت لهم النجاة‪ ,‬وبقيت أنت مرتهنًا بما تشتهي من‬
‫الدنيا وتهوى‪ ،‬فنوا عن الخلق والهوى والرادة والمنى فوصلوا إلى الملك‬
‫ضُل‬
‫ك َف ْ‬
‫العلى‪ ,‬فأوقفهم على غاية ما رام منهم من الطاعة والجد والثناء {َذِل َ‬
‫عِليٌم}‪.‬المائدة ‪ .54‬فلزموا ذلك وواظبوا بتوفيق‬
‫سٌع َ‬
‫ل َوا ِ‬
‫شاُء َوا ّ‬
‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬
‫ا ّ‬
‫منه وتيسير بل عناء‪ ,‬فصارت الطاعة لهم روحًا وغذاء‪ ,‬وصارت الدنيا إذ‬
‫ذاك في حقهم نقمة وخزيًا‪ ،‬فكأنها لهم جنة المأوى إذ ما يرون شيئًا من الشياء‬
‫حتى يروا قبله فعل الذي خلق وأنشأ فيهم ثبات الرض والسماء‪ ,‬وقرار الموت‬
‫والحياء إذ جعلهم مليكهم أوتادًا للرض الذي دحى‪ ,‬فكل كالجبل الذي رسى‪,‬‬
‫فتنح عن طريقهم ول تزاحم من لم يفده عن قصده الباء والبناء‪ ،‬فهم خير من‬
‫خلق ربي وبث في الرض وذرأ‪ ,‬فعليهم سلم ال وتحياته ما دامت الرض‬
‫والسماء‪.‬‬

‫المقالة الخامسة عشرة‬

‫فـي الـخــوف و الـرجــاء‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬رأيت في المنام كأني في موضع‬


‫شبه مسجد وفيه قوم منقطعون‪ ,‬فقلت ‪ :‬لو كان لهؤلء فلن يؤدبهم ويرشدهم‪,‬‬
‫فأشرت إلى رجل من الصالحين فاجتمع القوم حولي فقال واحد منهم ‪ :‬فأنت‬
‫لي شيء ل تتكلم ؟ فقلت ‪ :‬إن رضيتموني ذلك‪ ,‬ثم قلت ‪ :‬إذا انقطعتم من‬
‫الخلق إلى الحق فل تسألوا الناس شيئًا بألسنتكم‪ ,‬فإذا تركتم ذلك فل تسألوهم‬
‫بقلوبكم‪ ,‬فإن السؤال بالقلب كالسؤال باللسان‪.‬‬

‫ن}‪.‬الرحمن ‪ .29‬في تغيير وتبديل ورفع‬


‫شْأ ٍ‬
‫ثم اعلموا أن ال {ُكّل َيْوٍم ُهَو ِفي َ‬
‫وخفض‪ ,‬فقوم يرفعهم إلى عليين‪ ,‬وقوم يحطهم إلى أسفل سافلين‪ ,‬فخوف الذين‬
‫رفعهم إلى عليين أن يحطهم إلى أسفل سافلين‪ ,‬ورجاؤهم أن يبقيهم ويحفظهم‬
‫على ما هم عليه من الرفع‪ ,‬وخوف الذين حطهم إلى أسفل سافلين‪ ,‬أن يبقهم‬
‫ويخلدهم على ما هم فيه من الحط‪ ,‬ورجاؤهم أن يرفعهم إلى عليين‪ ,‬ثم انتبهت‪.‬‬

‫المقالة السادسة عشرة‬

‫فـي الـتـوكـل و مـقـامـاتـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما حجبت عن فضل ال ونعمه إل‬
‫لتكالك على الخلق والسباب‪ ,‬والصنائع والكتساب‪ ,‬فالخلق حجابك عن‬
‫الكل بالسنة وهو المكسب‪ ,‬فما دمت قائمًا مع الخلق راجيًا لعطاياهم وفضلهم‬
‫ل لهم مترددًا إلى أبوابهم فأنت مشرك بال خلقه‪ ,‬فيعاقبك بحرمان الكل‬ ‫سائ ً‬
‫بالسنة الذي هو الكسب من حلل الدنيا‪ ,‬ثم إذا تبت عن القيام مع الخلق‬
‫ل إياهم ورجعت إلى الكسب فتأكل بالكسب وتتوكل على‬ ‫وشركك برّبك عّز وج ّ‬
‫ل‪ ,‬فأنت مشرك أيضًا‪ ،‬إل أنه‬ ‫الكسب وتطمئن إليه وتنسى فضل الرب عّز وج ّ‬
‫ل ويحجبك عن فضله والبداءة‬ ‫شرك خفي أخفى من الول‪ ,‬فيعاقبك ال عّز وج ّ‬
‫به‪ ,‬فإذا تبت عن ذلك وأزلت الشرك عن الوسط‪ ,‬ورفعت اتكالك عن الكسب‬
‫ل هو الرزاق‪ ,‬وهو المسبب والمسهل‬ ‫والحول والقوة‪ ,‬ورأيت ال عّز وج ّ‬
‫والمقوي على الكسب‪ ,‬والموفق لكل خير والرزق بيده‪ ,‬تارة يواصلك به‬
‫بطريق الخلق على وجه المسألة لهم في حالة البتلء أو الرياضة أو عند‬
‫ل‪ ,‬وأخرى بطريق الكسب معاوضة وأخرى من فضله مبادأة‬ ‫سؤالك له عّز وج ّ‬
‫من غير أن ترى الواسطة والسبب‪ ,‬فرجعت إليه واستطرحت بين يديه‪ ,‬ورفع‬
‫الحجاب بينك وبين فضله‪ ,‬وباداك وغذاك بفضله‪ ,‬عند كل حاجة على قدر ما‬
‫يوافق حالك‪ ,‬كفعل الطبيب الشفيق الرقيق الحبيب للمريض حماية منه عّز‬
‫ل‪ ,‬وتنزيهًا لك عن الميل إلى من سواه‪ ,‬يرضيك بفضله‪ ,‬فإذًا ينقطع عن‬ ‫وج ّ‬
‫قلبك كل إرادة وكل شهوة ولذة ومطلوب ومحبوب‪ ,‬فل يبقى في قلبك سوى‬
‫ل‪ ,‬فإذا أراد أن يسوق إليك قسمك الذي لبّد من تناوله وليس هو‬ ‫إرادته عّز وج ّ‬
‫رزقًا لحد من خلقه سواك‪ ,‬أوجد عندك شهوة ذلك القسم وساقه إليك‪ ,‬فيواصلك‬
‫به عند الحاجة‪ ,‬ثم يوفقك ويعرفك أنه منه وهو سائقه إليك ورازقه لك‪ ,‬فتشكره‬
‫حينئٍذ وتعرف وتعلم‪ ,‬فيزيدك خروجًا من الخلق وبعدًا من النام‪ ,‬وأخليت‬
‫ل‪ ,‬ثم إذا قوي علمك ويقينك‪ ,‬وشرح صدرك ونور‬ ‫الباطن عما سواه عّز وج ّ‬
‫قلبك‪ ,‬وزاد قربك من مولك ومكانتك لديه عنده‪ ،‬وأهليتك لحفظ السرار‬
‫ل منه ومنة وهداية‪,‬‬ ‫ل لحرمتك فض ً‬ ‫علمت متى يأتيك قسمك كرامة لك وإجل ً‬
‫صَبُروا َوَكاُنوا ِبآَياِتَنا‬ ‫ن ِبَأْمرَِنا َلّما َ‬‫جَعْلَنا ِمْنُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ‬
‫قال ال تعالى ‪َ{ :‬و َ‬
‫سُبَلَنا َوِإ ّ‬
‫ن‬ ‫جاَهُدوا ِفيَنا َلَنْهِدَيّنُهْم ُ‬‫ن َ‬ ‫ن}‪.‬السجدة ‪ .24‬وقال ال تعالى ‪َ{ :‬واّلِذي َ‬ ‫ُيوِقُنو َ‬
‫ل}‪.‬البقرة‬ ‫ل َوُيَعّلُمُكُم ا ّ‬‫ن}‪.‬العنكبوت ‪ .69‬وقال تعالى ‪َ{ :‬واّتُقوْا ا ّ‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬
‫ل َلَمَع اْلُم ْ‬
‫ا َّ‬
‫‪ .282‬ثم يرد عليك التكوين فتكون بالذن الصريح الذي هو ل غبار عليه‬
‫والدللت اللئحة كالشمس المنيرة‪ ,‬وبكلمه اللذيذ الذي هو ألذ من كل لذيذ‪,‬‬
‫وإلهام صدق من غير تلبس مصفى من هواجس النفس ووساوس الشيطان‬
‫الرجيم‪.‬‬

‫قال ال تعال في بعض كتبه ‪) :‬يا ابن آدم أنا ال الذي ل إله إل أنا أقول للشيء‬
‫كن فيكون‪ ,‬أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون(‪ ,‬وقد فعل ذلك بكثير من‬
‫أنبيائه وأوليائه وخواصه من بني آدم‪.‬‬

‫المقالة السابعة عشرة‬

‫فـي كـيـفـيـة الـوصـول إلـى ال بـواســطـة الـمـرشــد‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا وصلت إلى ال قربت بتقريبه‬
‫ل خروجك عن الخلق والهوى‬ ‫وتوفيقه‪ ،‬ومعنى الوصول إلى ال عّز وج ّ‬
‫والرادة والمنى‪ ,‬والثبوت مع فعله ومن غير أن يكون منك حركة فيك ول في‬
‫خلقه بك‪ ،‬بل بحكمه وأمره وفعله‪ ,‬فهي حالة الفناء يعبر عنها بالوصول‪،‬‬
‫ل ليس كالوصول إلى أحد من خلقه المعقول المعهود‬ ‫فالوصول إلى ال عّز وج ّ‬
‫ل الخالق أن يشبه‬ ‫صيُر}‪.‬الشورى ‪ .11‬ج ّ‬ ‫سِميُع الَب ِ‬
‫يٌء َوُهَو ال ّ‬
‫ش ْ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫{َلْي َ‬
‫ل معروف عند أهل‬ ‫بمخلوقاته أو يقاس على مصنوعاته‪ ,‬فالواصل إليه عّز وج ّ‬
‫ل لهم كل واحد على حدة ل يشاركه فيه غيره‪ ,‬وله‬ ‫الوصول بتعريفه عّز وج ّ‬
‫ل مع كل واحد من رسله وأنبيائه وأوليائه سر من حيث هو ل يطلع‬ ‫عّز وج ّ‬
‫على ذلك أحد غيره‪ ,‬حتى أنه قد يكون للمريد سر ل يطلع عليه شيخه‪ ,‬وللشيخ‬
‫سر ل يطلع عليه مريده الذي قد دنا سيره إلى عتبة باب حالة شيخه‪ ,‬فإذا بلغ‬
‫ل فيفطمه‬ ‫المريد حالة شيخه أفرد عن الشيخ وقطع عنه‪ ،‬فيتوله الحق عّز وج ّ‬
‫عن الخلق جملة‪ ,‬فيكون الشيخ كالضئر والداية‪ ,‬ل رضاع بعد الحولين‪ ,‬ول‬
‫خلق بعد زوال الهوى والرادة‪ .‬الشيخ يحتاج إليه ما دام ثم هوى وإرادة‬
‫لكسرهما‪ ,‬وأما بعد زوالهما فل‪ ,‬لنه ل كدورة ول نقصان‪ ,‬فإذا وصلت إلى‬
‫ل فل ترى لغيره‬ ‫ل على ما بينا فكن آمنًا أبدًا من سواه عّز وج ّ‬ ‫الحق عّز وج ّ‬
‫وجودًا البتة‪ ,‬ل في الضر ول في النفع‪ ,‬ول في العطاء ول في المنع‪ ,‬ول في‬
‫ل {َأْهُل الّتْقَوى َوَأْهُل اْلَمْغِفَرِة}‪.‬المدثر ‪.56‬‬
‫الخوف ول في الرجاء‪ ,‬هو عّز وج ّ‬
‫ل بطاعته‪ ,‬مباينًا عن جميع خلقه‬ ‫فكن أبدًا ناظرًا إلى فعله مترقبًا لمره‪ .‬مشتغ ً‬
‫دنيا وأخرى‪.‬‬
‫ل تعلق قلبك بشيء منهم واجعل الخليقة أجمع كرجل َكّتَفُه سلطان عظيم ملكه‬
‫شديد أمره‪ ,‬مهولة صولته وسطوته‪ ,‬ثم جعل الغل في رقبته ورجليه‪ ,‬ثم صلبه‬
‫على شجرة الرزة‪ ،‬على شاطىء نهر عظيم موجه‪ ,‬فسيح عرضه‪ ,‬عميق‬
‫غوره‪ ,‬شديد جريه‪ ,‬ثم جلس السلطان على كرسيه‪ ,‬عظيم قدره‪ ,‬عال سماؤه‪,‬‬
‫ل من السهام والرماح والنبل‬ ‫بعيد مرامه ووصوله‪ ,‬وترك إلى جنبه أحما ً‬
‫وأنواع السلح والقسى ومما ل يبلغ قدرها غيره‪ ,‬فجعل يرمي إلى المصلوب‬
‫بما شاء من ذلك السلح‪ ,‬فهل يحسن لمن يرى ذلك أن يترك النظر إلى‬
‫السلطان والخوف منه والرجاء له وينظر إلى المصلوب ويخاف منه ويرجوه‪,‬‬
‫أليس من فعل ذلك يسمى في قضية العقل عديم العقل والحس مجنونا‪ .‬بهيمة‬
‫غير إنسان؟؟ نعوذ بال من العمى بعد البصيرة‪ ,‬ومن القطيعة بعد الوصول‪,‬‬
‫ومن الصدود بعد الدنو والقرب‪ ,‬ومن الضللة بعد الهداية‪ ,‬ومن الكفر بعد‬
‫اليمان‪ ,‬فالدنيا كالنهر العظيم الجاري الذي ذكرناه كل يوم في زيادة ماء وهي‬
‫شهوات بني آدم ولذاتهم فيها‪ ,‬والدواهي التي تصيبهم منها‪ ,‬وأما السهام وأنواع‬
‫السلح فالبليا التي يجري بها القدر إليهم‪ ,‬فالغالب على بني آدم في الدنيا‬
‫البليا واللم والمحن‪ ,‬وما يجدون من النعم واللذات فيها فمشوبة بالفات إذا‬
‫اعتبرها كل عاقل ل حياة له ول عيش ول راحة إل في الخرة إن كان مؤمنًا‪,‬‬
‫لن ذلك خصوصًا في حق المؤمن‪ .‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬ل عيش‬
‫إل عيش الخرة( وقال عليه الصلة والسلم ‪) :‬ل راحة للمؤمن دون لقاء‬
‫ربه( ذلك في حق المؤمنين ‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪) :‬الدنيا سجن المؤمن‬
‫وجنة الكافر( ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪) :‬التقي ملجم( فمع هذه الخبار‬
‫والعيان كيف يدعي طيب العيش في الدنيا‪ .‬فالراحة كل الراحة في النقطاع‬
‫ل وموافقته‪ ,‬والستطراح بين يديه‪ ,‬فيكون العبد بذلك خارجًا‬ ‫إلى ال عّز وج ّ‬
‫ل‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬
‫عن الدنيا‪ ،‬فحينئذ يكون الدلل رأفة ورحمة ولطفًا وفض ً‬

‫المقالة الثامنة عشرة‬

‫فـي الـنـهـي عـن الـشـكـوى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الوصية ل تشكون إلى أحد ما نزل‬
‫ل فيما فعل‬‫بك من خير كائنًا من كان صديقًا أو عدوًا ول تتهمن الرب عّز وج ّ‬
‫فيك وأنزل بك من البلء‪ ,‬بل أظهر الخير والشكر‪ ,‬فكذبك باظهارك للشكر من‬
‫غير نعمة عندك خير من صدقك في إخبارك جلية الحال بالشكوى‪ ,‬من الذي‬
‫ل َل‬‫ل؟؟ قال ال تعالى ‪َ{ :‬وِإن َتُعّدوْا ِنْعَمَة ا ّ‬
‫خل من نعمة ال عّز وج ّ‬
‫صوَها}‪.‬النحل ‪ .18‬فكم من نعمة عندك وأنت ل تعرفها؟؟ ل تسكن إلى أحد من‬ ‫ح ُ‬
‫ُت ْ‬
‫الخلق‪ ,‬ول تستأنس به‪ ,‬ول تطلع أحدًا على ما أنت فيه‪ ,‬بل يكون أنسك بال‬
‫ل‪ ،‬وسكونك إليه وشكواك منه وإليه ل ترى ثانيًا‪ ,‬فإنه ليس لحد ضر‬ ‫عّز وج ّ‬
‫ونفع‪ ,‬ول جلب ول دفع‪ ,‬ول عّز ول ذل‪ ,‬ول رفع ول خفض‪ ,‬ول فقر ول‬
‫ل وبيد ال عّز‬ ‫غنى‪ ,‬ول تحريك ول تسكين‪ ,‬الشياء كلها خلق ال عّز وج ّ‬
‫ل‪ ،‬بأمره وإذنه جريناها‪ ,‬وكل يجري لجل مسمى‪ ,‬وكل شيء عنده بمقدار‪,‬‬ ‫وج ّ‬
‫ك الّ‬
‫سَ‬ ‫س ْ‬‫ل ‪َ{ :‬وِإن َيْم َ‬‫ل مقدم لما أخر‪ ,‬ول مؤخر لما قدم‪ ,‬قال ال عّز وج ّ‬
‫شاُء‬
‫صيبُ ِبِه َمن َي َ‬‫ضِلِه ُي َ‬
‫ل َرآّد ِلَف ْ‬
‫خْيٍر َف َ‬
‫ك ِب َ‬
‫ف َلُه ِإّل ُهَو َوِإن ُيِرْد َ‬
‫ش َ‬ ‫ل َكا ِ‬‫ضّر َف َ‬
‫ِب ُ‬
‫ل وأنت‬ ‫حيُم}‪.‬يونس ‪ .107‬فإن شكوت منه عّز وج ّ‬ ‫عَباِدِه َوُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ‬
‫ن ِ‬‫ِم ْ‬
‫معافى وعندك نعمة طالبًا الزيادة وتعاميًا عن ماله عندك من النعمة والعافية‬
‫استهزاًء بها‪ ,‬غضب عليك وأزالهما عنك‪ ,‬وحقق شكواك‪ ,‬وضاعف بلواك‪،‬‬
‫وشدد عقوبتك ومقتك وقلك‪ ,‬وأسقطك من عينه ‪ :‬احذر الشكوى جدًا ولو‬
‫قطعت وقرض لحمك بالمقاريض‪.‬‬

‫إّياك إّياك ثم إّياك‪ ,‬ال ال ثم ال‪ ,‬النجاة النجاة‪ ,‬الحذر الحذر‪ ,‬فإن أكثر ما ينزل‬
‫ل‪ .‬كيف يشتكى منه عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫بابن آدم من أنواع البلء بشكواه من رّبه عّز وج ّ‬
‫وهو أرحم الراحمين‪ ,‬وخير الحاكمين‪ ,‬حكيم خبير‪ ,‬رؤوف رحيم‪ ,‬لطيف‬
‫بعباده‪ ,‬وليس بظلم للعبيد‪ ,‬كطبيب حكيم حبيب شفيق لطيف قريب هل تتهم‬
‫الوالدة الرحيمة‪ ,‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬ال أرحم بعبده من الوالدة‬
‫بولدها(‪ .‬أحسن الدب يا مسكين‪ ,‬تصّبر عند البلء إن ضعفت على الصبر‪ ,‬ثم‬
‫اصبر إن ضعفت عن الرضا والموافقة‪ ,‬ثم أرض ووافق إن وجدت‪ ,‬ثن أفن إذا‬
‫فقدت‪ ,‬أيها الكبريت الحمر أين أنت أين توجد وترى؟؟ أما تسمع إلى قوله عّز‬
‫خْيٌر‬
‫شْيئًا َوُهَو َ‬
‫سى َأن َتْكَرُهوْا َ‬ ‫ع َ‬
‫عَلْيُكُم اْلِقَتاُل َوُهَو ُكْرٌه ّلُكْم َو َ‬
‫ب َ‬
‫ل ‪ُ{ :‬كِت َ‬ ‫وج ّ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪.216‬‬‫ل يَْعَلُم َوَأنُتْم َل َتْعَلُمو َ‬
‫شّر ّلُكْم َوا ّ‬‫شْيئًا َوُهَو َ‬‫حّبوْا َ‬ ‫سى َأن ُت ِ‬ ‫ع َ‬
‫ّلُكْم َو َ‬
‫طوى عنك علم حقيقة الشياء وحجبك عنه‪ ,‬فل تسيء الدب فتكره بك أو‬
‫تحب بك‪ ,‬بل اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك إن كنت في حالة التقوى التي‬
‫هي القدم الولى‪ ,‬واتبع المر في حالة الولية وخمود وجود الهوى ول‬
‫تجاوزه وهي القدم الثانية‪ ,‬وأرض بالفعل ووافق‪ ,‬وافن في حالة البدلية‬
‫والغوثية والقطبية والصديقية‪ ,‬وهي المنتهى‪ ,‬تنح عن طريق القدر‪ ,‬خل عن‬
‫سبيله‪ ,‬رد نفسك وهواك‪ ,‬كف لسانك عن الشكوى‪ ,‬فإذا فعلت ذلك‪ ,‬إن كان‬
‫خيرًا زادك المولى طيبة وسرورًا ولذة‪ ,‬وإن كان شرًا حفظك في طاعته فيه‪,‬‬
‫وأزال عنك الملمة‪ ,‬وأفقدك فيه حتى يتجاوز عنك‪ ,‬ويرحل عند انقضاء أجله‪,‬‬
‫كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار‪ ,‬والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف‪ ,‬ذلك‬
‫أنموذج عندك‪ ,‬فاعتبر بهم‪ ,‬ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويثات بأنواع المعاصي‬
‫والخطيئات ول يصلح لمجالسة الكريم إل الطاهر عن أنجاس الذنوب‬
‫والزلت‪ ,‬ول يقبل على سدته إل طيبًا من درن الدعاوى والوهوسات‪ ،‬كما ل‬
‫يصلح لمجالسة الملوك إل الطاهر من النجاس وأنواع النتن والوساخ‪،‬‬
‫فالبليا مكفرات مطهرات قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬حمى يوم كفارة‬
‫سنة( صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫المقالة التاسعة عشرة‬

‫فـي المـر بـوفـاء الـعـهـد و الـنـهـي عـن خـلـفـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا كنت ضعيف اليمان واليقين‬
‫ف بوعدك‪ ,‬ول تخلف كيل يزول إيمانك ويذهب يقينك‪.‬‬ ‫ووعدت بوعد و ّ‬

‫ك اْلَيْوَم َلَدْيَنا ِمِكينٌ‬


‫وإذا قوي ذلك في قلبك وتمكنت خوطبت بقوله ‪ِ{ :‬إّن َ‬
‫ل بعد حال فكنت من الخواص بل‬ ‫ن}‪.‬يوسف ‪ .54‬وتكرر هذا الخطاب لك حا ً‬
‫َأِمي ٌ‬
‫من خواص الخواص ولم يبق لك إرادة ول مطلب‪ ,‬ول عمل تعجب به ول‬
‫قربة تراها‪ ,‬ول منزلة تلمحها‪ ,‬فتسمو همتك إليها‪ ,‬فصرت كالناء المنثلم الذي‬
‫ل يثبت فيه مائع‪ ,‬فل يثبت فيك إرادة ول خلق ول همة إلى شيء من الشياء‬
‫دنيا وأخرى‪ ,‬وطهرت مما سوى ال تعالى‪ ,‬وأعطيت رضاك عن ال عّز‬
‫ل عنك‪ ,‬ولذذت ونعمت بأفعال ال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫ل‪ ,‬ووعدت برضوانه عّز وج ّ‬ ‫وج ّ‬
‫أجمع‪ ,‬فحينئذ توعد بوعد‪ ,‬فإذا اطمأننت إليه ووجدت فيه إمارة إرادة ما نقلت‬
‫عن ذلك الوعد إلى ما هو أعلى منه‪ ,‬وصرفت إلى أشرف منه‪ ,‬وعوضت عن‬
‫الول بالغنى عنه‪ ,‬وفتحت لك أبواب المعارف والعلوم وأطلعت على غوامض‬
‫المور وحقائق الحكمة والمصالح المدفونة في النتقال من الول إلى ما يليه‬
‫ويزاد حينئذ في مكانتك في حفظ الحال ثم المقال‪ ,‬وفي أمانتك في حفظ‬
‫السرار وشرح الصدور وتنوير القلب وفصاحة اللسان والحكمة البالغة في‬
‫إلقاء المحبة عليك‪ ,‬فجعلت محبوب الخليقة أجمع الثقلين وما سواهما دنيا‬
‫ل وعل‪,‬‬ ‫ل‪ ,‬والخلق تابع للحق ج ّ‬ ‫وأخرى‪ .‬إذا صرت محبوب الحق عّز وج ّ‬
‫ل‪ .‬فإذا‬‫ومحبتهم مندرجة في محبته‪ ,‬كما أن بغضهم يندرج في بغضه عّز وج ّ‬
‫بلغت المقام الذي ليس فيه إرادة شيء البتة جعلت لك إرادة شيء من الشياء‪,‬‬
‫فإذا تحققت إرادتك لذلك الشيء أزيل الشيء وأعدم‪ ,‬وصرفت عنه فلم تعطه‬
‫في الدنيا‪ ,‬وعوضت عنه الخرى بما يزيدك قربة وزلفى إلى العلي العلى‪,‬‬
‫وما تقر به عيناك في الفردوس العلى وجنة المأوى‪ ,‬وإن كنت لم تطلب ذلك‬
‫وتأمله وترجوه وأنت في دار الدنيا التي هي دار الفناء والتكاليف والعناء‪ ,‬بل‬
‫رجاؤك وأنت فيها وجه الذي خلق وبرأ ومنع وأعطى‪ ,‬وبسط الرض ورفع‬
‫السماء إذ ذاك هو المراد والمطلوب والمنى‪ ,‬وربما عوضت عن ذلك بما هو‬
‫أدنى منه أو مثله في الدنيا بعد انكسار قلبك وبصرك‪ ,‬حينئذ يصدك عن ذلك‬
‫المطلوب والمراد‪ ,‬وتحقيق العوض في الخرى على ما ذكرنا وبينا‪ ,‬وال‬
‫سبحانه أعلم‪.‬‬
‫المقالة العشرون‬

‫فـي قـولـه صـلـى ال عـلـيـه و ســلـم ‪:‬‬


‫)) دع مـا ُيـريـبـك إلـى مـا ل يـريـبـك ((‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬دع ما يريبك إذا اجتمع مع مال‬
‫يريبك‪ ,‬فخذ بالعزيمة الذي ل يشوبها ريب ول شك‪ ,‬ودع ما يريبك‪ ,‬فأما إذا‬
‫تجرد المريب المشوب الذي لم يصف عن حز القلب وحكه فتوقف فيه وانظر‬
‫المر فيه‪ ,‬فإن أمرت بتناوله تناوله فدونك وإن أمرت بالكف عنه ومنعت‬
‫فكف‪ ,‬فليكن ذلك عندك كأنه لم يكن ولم يوجد‪ ,‬ارجع إلى الباب وابتغ عند رّبك‬
‫لل‬ ‫الرزق‪ ,‬وإن ضعفت عن الصبر أو الموافقة أو الرضا أو الفنا فهو عّز وج ّ‬
‫ل يطعم الكفار‬
‫يحتاج أن يذكر فليس بغافل عنك وعن غيرك‪ ,‬وهو عّز وج ّ‬
‫والمنافقين والمدبرين عنه فكيف ينساك؟؟ أيها المؤمن الموحد المقبل على‬
‫طاعته والقائم بأمره في آناء الليل وأطراف النهار‪.‬‬

‫) وجه آخر ( دع ما في أيدي الخلق فل تطلبه ول تعلق قلبك به‪ ,‬ول ترجو‬
‫ل وهو ما ل يريبك‪ ,‬وليكن لك‬ ‫الخلق ول تخافهم‪ ,‬وخذ من فضل ال عّز وج ّ‬
‫مسؤول واحد ومرجو واحد ومخوف واحد وموجود واحد وهمة واحدة وهو‬
‫ل الذي نواصي الملوك بيده وقلوب الخلق بيده التي هي أمراء‬ ‫ربك عّز وج ّ‬
‫ل‪ ,‬وهم وكلؤه وأمناؤه‪ ,‬وحركة أيديهم‬ ‫الجساد‪ ,‬وأموال الخلق له عّز وج ّ‬
‫ل وأمره وتحريكه‪ ,‬وكفها عن عطائك ذلك‪ ,‬قال ال‬ ‫بالعطاء لك بإذنه عّز وج ّ‬
‫ن َتْعُبُدو َ‬
‫ن‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫ضِلِه}‪.‬النساء ‪ .32‬وقال تعالى ‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫ل ِمن َف ْ‬ ‫سَأُلوْا ا ّ‬‫عز وجل ‪َ{ :‬وا ْ‬
‫شُكُروا َلُه‬‫عُبُدوُه َوا ْ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫ل الّرْز َ‬ ‫عنَد ا ِّ‬
‫ن َلُكْم ِرْزقًا َفاْبَتُغوا ِ‬
‫ل َل َيْمِلُكو َ‬‫ن ا ِّ‬
‫ِمن ُدو ِ‬
‫عّني َفِإّني َقِري ٌ‬
‫ب‬ ‫عَباِدي َ‬ ‫ك ِ‬ ‫سَأَل َ‬
‫ن}‪.‬العنكبوت ‪ .17‬وقال سبحانه ‪َ{ :‬وِإَذا َ‬ ‫جُعو َ‬‫ِإَلْيِه ُتْر َ‬
‫جبْ‬‫سَت ِ‬‫عوِني َأ ْ‬ ‫ن}‪.‬البقرة ‪ .186‬وقال تعالى ‪{ :‬اْد ُ‬ ‫عا ِ‬
‫ع ِإَذا َد َ‬
‫عَوَة الّدا ِ‬
‫ب َد ْ‬‫جي ُ‬‫ُأ ِ‬
‫ن}‪.‬الذاريات ‪.58‬‬ ‫ق ُذو اْلُقّوِة اْلَمِتي ُ‬ ‫ل ُهَو الّرّزا ُ‬‫ن ا َّ‬‫َلُكْم}‪.‬غافر ‪ .60‬وقال تعالى ‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ب}‪.‬آل عمران ‪.37‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫حَ‬‫شاُء ِبَغْيِر ِ‬
‫ق َمن َي َ‬ ‫ل َيْرُز ُ‬
‫نا ّ‬ ‫وقال تعالى ‪{ :‬إ ّ‬

‫المقالة الحادية والعشرون‬


‫فـي مـكـالـمـة إبـلـيـس نـعـوذ بال مـنـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬رأيت إبليس اللعين في المنام وأنا في‬
‫جمع كثير فهّممت بقتله‪ ,‬فقال لي لعنه ال لم تقتلني وما ذنبي؟؟ إن جرى القدر‬
‫بالشر فل أقدر أغيره إلى خير وأنقله إليه‪ ,‬وإن جرى بالخير فل أقدر أغيره‬
‫إلى شر وأنقله إليه‪ ,‬فأي شيء بيدي؟؟ وكانت صورته على صورة الخناثي لين‬
‫الكلم مشوه الوجه طاقات شعر في ذقنه حقير الصورة دميم الخلقة‪ ,‬ثم تبسم‬
‫في وجهي تبسم خجل ووجل وذلك في ليلة الحد ثاني عشر من ذي الحجة من‬
‫سنة ستة عشر وخمسمائة‪ ,‬وال الهادي لكل خير‪.‬‬

‫المقالة الثانية والعشرون‬

‫فـي ابـتـلء الـمـؤمـن عـلـى قـدر إيـمـانـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل يزال ال يبتلى عبده المؤمن على‬
‫قدر إيمانه‪ ،‬فمن عظم إيمانه وكثر وتزايد عظم بلؤه‪ ،‬الرسول بلؤه أعظم من‬
‫بلء النبي‪ ،‬لن إيمانه أعظم‪ ،‬والنبي بلؤه أعظم من بلء البدل وبلء البدل‬
‫أعظم من بلء الولي‪ ،‬كل واحد على قدر إيمانه ويقينه‪ .‬وأصل ذلك قول النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪) :‬إنا معشر النبياء أشد الناس بلء ثم المثل فالمثل(‬
‫فيديم ال تعالى البلء لهؤلء السادات الكرام حتى يكونوا أبدًا في الحضرة ول‬
‫يغفلوا عن اليقظة‪ ،‬لنه يحبهم‪ ،‬فهم أهل المحبة يحبون الحق‪ ،‬والمحب أبدًا ل‬
‫يختار بعد محبوبه‪ ،‬فالبلء خطاف لقلوبهم وقيد لنفوسهم‪ ،‬يمنعهم عن الميل إلى‬
‫غير مطلوبهم والسكون والركون إلى غير خالقهم‪ ،‬فإذا دام ذلك في حقهم ذابت‬
‫أهويتهم وانكسرت نفوسهم وتميز الحق من الباطل فتنزوي الشهوات‬
‫والرادات‪ ،‬والميل إلى اللذات والراحات دنيا وأخرى بأجمعها إلى ما يلي‬
‫ل‪ ،‬والرضا بقضائه‪ ،‬والقناعة‬ ‫النفس ويصير السكون إلى وعد الحق عّز وج ّ‬
‫بعطائه‪ ،‬والصبر على بلئه‪ ،‬والمن من شر خلقه إلى ما يلي القلب‪ ،‬فتقوى‬
‫شوكة القلب‪ ،‬فتصير الولية على الجوارح إليه‪ ،‬لن البلء يقوى القلب‬
‫واليقين‪ ،‬ويحقق اليمان والصبر‪ ،‬ويضعف النفس والهوى‪ ،‬لنه كلما وصل‬
‫ل‪ ،‬رضي‬ ‫اللم ووجد من المؤمن الصبر والرضا والتسليم لفعل الرب عّز وج ّ‬
‫الرب تعالى عنه وشكره‪ ،‬فجاءه المدد والزيادة والتوفيق‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬لِئن‬
‫شَكْرُتْم َلِزيَدّنُكْم}‪.‬إبراهيم ‪ .7‬وإذا تركت النفس بطلب شهوة من شهواتها ولذة من‬
‫َ‬
‫لذاتها من القلب فأجابها القلب إلى مطلوبها ذلك من غير أمر من ال تعالى‬
‫وإذن منه حصلت بذلك غفلة عن الحق تعالى وشرك ومعصية‪ ،‬فعمهما ال‬
‫تعالى بالخذلن والبليا وتسليط الخلق‪،‬والوجاع والمراض واليذاء‬
‫والتشويش‪ ،‬فينال كل واحد من القلب والنفس حظ وإن لم يجب القلب والنفس‬
‫ل بإلهام في حق الولياء‪،‬‬‫إلى مطلوبها حتى يأتيه الذن من قبل الحق عّز وج ّ‬
‫ووحي صريح في حق المرسلين والنبياء‪ ،‬عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فعمل ذلك‬
‫عطاء ومنعًا‪ ،‬وعمهما ال بالرحمة والبركة‪ ،‬والعافية والرضا‪ ،‬والنور‬
‫والمعرفة‪ ،‬والقرب والغنى والسلمة من الفات‪ ،‬والنصر على العداء فاعلم‬
‫ذلك وأحفظه وأحذر البلء جدًا في المسارعة إلى إجابة النفس والهوى‪ ،‬بل‬
‫ل جلله‪ ،‬فتسلم في الدنيا والعقبى إن شاء‬
‫توقف وترقب في ذلك إذن المولى ج ّ‬
‫ال تعالى‪.‬‬

‫المقالة الثالثة والعشرون‬

‫فـي الـرضـا بـما قـســم ال تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أرض بالدون وألزمه جدًا حتى يبلغ‬
‫الكتاب أجله فتنقل إلى العلى والنفس‪ ،‬وبها تهنأ وفيه تبقى وتحفظ بل عناء‬
‫دنيا وأخرى ول تبعة ول عدوى‪ ،‬ثم تترقى من ذلك إلى ما هو أقر عينًا منه‬
‫وأهنأ‪.‬‬

‫وأعلم أن القسم ل يفوتك بترك الطلب‪ ،‬وما ليس بقسم ل تناله بحرصك في‬
‫الطلب والجد والجتهاد‪ ،‬فاصبر وألزم الحال وأرض به‪ ،‬ل تأخذ بك حتى‬
‫تؤمر‪ ،‬ول تعطى بك حتى تؤمر‪ ،‬ول تتحرك بك ول تسكن بك‪ ،‬فتبتلى بك‬
‫وبمن هو شر منك من الخلق لنك بذلك تظلم والظالم ل يغفل عنه قال ال عّز‬
‫ن َبْعضًا}‪.‬النعام ‪ .129‬لنك في دار ملك عظيم‬ ‫ظاِلِمي َ‬‫ض ال ّ‬
‫ك ُنَوّلي َبْع َ‬ ‫ل ‪َ{ :‬وَكَذِل َ‬ ‫وج ّ‬
‫أمره شديدة شوكته‪ ،‬كثير جنده نافذة مشيئته قاهر حكمه باق ملكه دائم سلطانه‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫عْنُه ِمْثَقاُل َذّرٍة ِفي ال ّ‬
‫دقيق علمه بالغة حكمته عدل قضاؤه {َل َيْعُزبُ َ‬
‫ض}‪.‬سبأ ‪ .3‬ل يجاوزه ظلم ظالم فأنت أعظمهم ظلمًا وأكبرهم‬ ‫َوَل ِفي اَْلْر ِ‬
‫ل بهواك‪ .‬قال ال‬ ‫جريمة‪ ،‬لنك أشركت بتصرفك فيك وفى خلقه عّز وج ّ‬
‫ل َل‬ ‫نا ّ‬ ‫ظيٌم}‪.‬لقمان ‪ .13‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫عِ‬‫ظْلٌم َ‬‫ك َل ُ‬
‫شْر َ‬
‫ن ال ّ‬‫ل ِإ ّ‬
‫ك ِبا ِّ‬
‫شِر ْ‬ ‫تعالى ‪َ{ :‬ل ُت ْ‬
‫شاُء}‪.‬النساء ‪ .116_48‬أتق الشرك جدًا‬ ‫ك ِلَمن َي َ‬‫ن َذِل َ‬
‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬‫شَر َ‬ ‫َيْغِفُر َأن ُي ْ‬
‫ول تقربه‪ ،‬واجتنبه في حركاتك وسكناتك وليلك ونهارك‪ ،‬في خلوتك وجلوتك‪.‬‬
‫وأحذر المعصية في الجملة في الجوارح والقلب واترك الثم ما ظهر منه وما‬
‫ل فيدركك‪ ،‬ول تنازعه في قضائه فيقصمك‪،‬‬ ‫بطن‪ .‬ل تهرب منه عّز وج ّ‬
‫وتتهمه في حكمه فيخذلك‪ ،‬ول تغفل عنه فينبهك ويبتليك‪ ،‬ول تحدث في داره‬
‫حادثة فيهلكك‪ ،‬ول تقل في دينه بهواك فيرديك ويظلم قلبك‪ ،‬ويسلب إيمانك‬
‫ومعرفتك‪ ،‬ويسلط عليك شيطانك ونفسك وهواك وشهواتك وأهلك وجيرانك‬
‫وأصحابك وأخلءك وجميع خلقه حتى عقارب دارك وحياتها وجنها وبقية‬
‫هوامها فينغص عيشك في الدنيا ويطيل عذابك في العقبى‪.‬‬

‫المقالة الرابعة والعشرون‬

‫فـي الـحـث عـلـى مـلزمـة بـاب ال تـعـالـى‬

‫ل جدًا‪،‬‬ ‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أحذر معصية ال عّز وج ّ‬


‫وألزم بابه حقًا وأبذل طوقك وجهدك في طاعته معتذرًا متضرعًا مفتقرًا‬
‫خاضعًا‪ ،‬متخشعًا مطرقًا‪ ،‬غير ناظر إلى خلقه ول تابع لهواك‪ ،‬ول طالب‬
‫للعواض دنيا وأخرى‪ ،‬ول ارتقاء إلى المنازل العالية والمقامات الشريفة‪،‬‬
‫واقطع بأنك عبده والعبد وما ملك لموله‪ ،‬ل يستحق عليه شيئًا من الشياء‪،‬‬
‫أحسن الدب ول تتهم مولك‪ ،‬فكل شئ عنده بمقدار‪ ،‬ل مقدم لما أخر ول‬
‫مؤخر لما قدم‪ ،‬يأتيك ما قدر لك عند وقته وأجله إن شئت أو أبيت‪ ،‬ل تشره‬
‫على ما سيكون لك‪ ،‬ول تطلب وتلهف على ما هو لغيرك‪ ،‬فما ليس هو عندك‬
‫ل يخلو إما أن يكون لك أو لغيرك‪ ،‬فإن كان لك فهو إليك صائر وأنت إليه مقاد‬
‫ومسير‪ ،‬فاللقاء عن قريب حاصل‪ ،‬وما ليس لك فأنت عنه مصروف وهو عنك‬
‫مول فأنى لكما التلق فاشغل بإحسان الدب فيما أنت بصدده من طاعة مولك‬
‫ل في وقتك الحاضر‪ ،‬ول ترفع رأسك ول تمل عنقك إلى ما سواه‪ .‬قال‬ ‫عّز وج ّ‬
‫حَياِة الّدنَيا‬
‫ك ِإَلى َما َمّتْعَنا ِبِه َأْزَواجًا ّمْنُهْم َزْهَرَة اْل َ‬
‫عْيَنْي َ‬
‫ن َ‬‫ال تعالى ‪َ{ :‬وَل َتُمّد ّ‬
‫ل عن‬ ‫خْيٌر َوَأْبَقى}‪.‬طـه ‪ .131‬فقد نهاك ال عّز وج ّ‬ ‫ك َ‬‫ق َرّب َ‬‫ِلَنْفِتَنُهْم ِفيِه َوِرْز ُ‬
‫اللتفات إلى غير ما أقامك فيه ورزقك من طاعته وأعطاك من قسمه ورزقه‬
‫وفضله‪ ،‬ونبهك أن ما سوى ذلك فتنة افتتنهم به‪ ،‬ورضاك قسمك خير لك‬
‫وأبقى وأبرك وأحرى وأولى‪ ،‬فليكن هذا دأبك ومتقلبك ومثواك‪ ،‬وشعارك‬
‫ودثارك ومرادك ومرامك‪ ،‬وشهوتك ومناك‪ ،‬تنل به كل المرام‪ ،‬وتصل به إلى‬
‫كل مقام وترقى به إلى كل خير ونعيم وطريف وسرور ونفيس‪ .‬قال ال‬
‫جَزاء ِبَما َكاُنوا‬ ‫ن َ‬‫ي َلُهم ّمن ُقّرِة َأعُْي ٍ‬ ‫خِف َ‬‫س ّما ُأ ْ‬‫ل َتْعَلُم َنْف ٌ‬
‫تعالى ‪َ{ :‬ف َ‬
‫ن}‪.‬السجدة ‪ .17‬ول عمل بعد العبادات الخمس وترك الذنوب‪ ،‬ول أجمع ول‬ ‫َيْعَمُلو َ‬
‫ل‪ ،‬ول أرضى عنده مما ذكرنا لك‪،‬‬ ‫أعظم ول أشرف ول أحب إلى ال عّز وج ّ‬
‫وفقنا ال وإياك لما يحب ويرضى بمنه‪.‬‬
‫المقالة الخامسة والعشرون‬

‫فـي شــجـرة اليـمـان‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تقولن يا فقير اليد‪ ،‬يا مولى عنه‬
‫الدنيا وأبناؤها‪ ،‬يا خامل الذكر بين ملوك الدنيا وأربابها‪ ،‬يا جائع يا نايع يا‬
‫عريان الجسد يا ظمآن الكبد يا مشتتًا في كل زاوية من الرض من مسجد‬
‫وبقاع خراب‪ ،‬ومردودًا من كل باب‪ ،‬ومدفوعًا عن كل مراد‪ ،‬ومنكسرًا‬
‫ومزدحمًا في قلبه كل حاجة مرام‪ .‬إن ال تعالى أفقرني وذوى عنى الدنيا‬
‫وغرني‪ ،‬وتركني وقلني وفرقني ولم يجمعني‪ ،‬وأهانني ولم يعطني من الدنيا‬
‫كفاية‪ ،‬وأخملني ولم يرفع ذكرى بين الخليقة وإخواني‪ ،‬وأسبل على غيري‬
‫ي وعلى أهل دياري‬ ‫نعمة منه سابغة يتقلب فيها في ليله ونهاره‪ ،‬وفضله عل ّ‬
‫وكلنا مسلمان مؤمنان ويجمعنا أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلم‪ ،‬أما أنت‬
‫فقد فعل ال ذلك بك‪ ،‬لن طينتك حرة وندى رحمة ال متدارك عليك من‬
‫الصبر والرضا واليقين والموافقة والعلم وأنوار اليمان والتوحيد متراكم‬
‫لديك‪ ،‬فشجرة إيمانك وغرسها وبذرها ثابتة مكينة مورقة مثمرة متزايدة‬
‫متشعبة غضة مظللة متفرعة‪ ،‬فهي كل يوم في زيادة ونمو‪ ،‬فل حاجة بها إلى‬
‫ل من أمرك على ذلك‪،‬‬ ‫سباطة وعلف لتنمى بها وتربى‪ ،‬وقد فرغ ال عّز وج ّ‬
‫وأعطاك في الخرة دار البقاء وخولك فيها‪ ،‬وأجزل عطاءك في العقبى مما ل‬
‫ل َتْعَلُم‬
‫عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ .‬قال ال تعالى‪َ{ :‬ف َ‬
‫ن}‪.‬السجدة ‪ .17‬أي ما‬‫جَزاء ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫ن َ‬
‫عُي ٍ‬
‫ي َلُهم ّمن ُقّرِة َأ ْ‬
‫خِف َ‬
‫س ّما ُأ ْ‬
‫َنْف ٌ‬
‫عملوا في الدنيا من أداء الوامر‪ ،‬والصبر على ترك المناهى‪ ،‬والتسليم‬
‫والتفويض إليه في المقدور‪ ،‬والموافقة له في جميع المور‪ .‬وأما الغير الذي‬
‫ل الدنيا وخوله ونعمه بها وأسبغ عليه فضله فعل به ذلك‪،‬‬ ‫أعطاه ال عّز وج ّ‬
‫لن محل إيمانه أرض سبخة وصخر ل يكاد يثبت فيها الماء وتنبت فيها‬
‫الشجار‪ ،‬ويتربى فيها الزرع والثمار فصب عليها أنواع سباطه وغيرها مما‬
‫يربى به النبات والشجار‪ ،‬وهى الدنيا وحطامها ليحفظ بها ما أنبت فيها من‬
‫شجرة اليمان وغرس العمال‪ ،‬فلو قطع ذلك عنها لجف النبات والشجار‪،‬‬
‫وانقطعت الثمار‪ ،‬فخربت الديار‪ ،‬وهو عّز وجلّ مريد عمارتها‪ ،‬فجشرة إيمان‬
‫الغنى ضعيفة المنبت وخال عما هو مشحون به منبت شجرة إيمانك يا فقير‪،‬‬
‫فقوتها وبقاؤها بما ترى عنده من الدنيا وأنواع النعيم‪ ،‬فلو قطع ذلك عنه مع‬
‫ضعف الشجرة جفت‪ ،‬فكان كفرًا وجحودًا وإلحاقًا بالمنافقين والمرتدين‬
‫ل إلى الغنى عساكر الصبر والرضا‬ ‫والكفار‪ ،‬اللهّم إل أن يبعث ال عّز وج ّ‬
‫واليقين والتوفيق والعلم وأنواع المعارف فيقوى اليمان بها فحينئذ ل يبالى‬
‫بانقطاع الغنى والنعيم‪ ،‬وال الهادي الموفق‪.‬‬

‫المقالة السادسة والعشرون‬

‫فـي الـنـهـي عـن كـشــف الـبـرقـع عـن الـوجـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تكشف البرقع والقناع عن وجهك‬
‫حتى تخرج من الخلق وتوليهم ظهر قلبك في جميع الحوال ويزول هواك‪ ،‬ثم‬
‫تزول إرادتك ومناك‪ ،‬فتفنى عن الكوان دنيا وأخرى‪ ،‬فتصير كإناء منثلم ل‬
‫ل وبحكمه‪ ،‬إذا خرج‬ ‫ل فتمتلئ به عّز وج ّ‬
‫يبقى فيك غير إرادة ربك عّز وج ّ‬
‫الزور دخل النور‪ ،‬فل يكون لغير ربك في قلبك مكان ول مدخل وجعلت بواب‬
‫قلبك‪ ،‬وأعطيت سيف التوحيد والعظمة والجبروت‪ ،‬فكل من رأيته دنا من‬
‫ساحة صدرك إلى باب قلبك ندرت رأسه من كاهله فل يكون لنفسك وهواك‬
‫وإرادتك ومناك في دنياك وأخراك عندك رأس امتثال ول كلمة مسموعة‪ ،‬ل‬
‫ل‪ ،‬والوقوف معه والرضا بقضائه‬ ‫أرى متبع إل إتباع أمر الرب عّز وج ّ‬
‫ل وأمره ل عبد‬ ‫وقدره‪ ،‬بل الفناء في قضائه وقدره‪ ،‬فتكون عبد الرب عّز وج ّ‬
‫الخلق وآرائهم‪ ،‬فإذا استمر المر فيك كذلك ضربت حول قلبك سرادقات‬
‫الغيرة وخنادق العظمة وسلطان الجبروت‪ ،‬وحف بجنود الحقيقة والتوحيد‪،‬‬
‫ل‪ ،‬كيل يخلص الخلق إلى تطلب القلب‬ ‫ويقام دون ذلك حراس من الحق عّز وج ّ‬
‫من الشيطان والنفس والهوى‪ ،‬والرادات والماني الباطلة‪ ،‬والدعاوى الكاذبة‬
‫الناشئة من الطباع والنفس المرة بالسوء‪ ،‬والضللت الناشئة من الهوى‪،‬‬
‫فحينئذ إن كان في القدر مجئ الخلق وتواترهم إليك وتتابعهم وتطابقهم عليك‪،‬‬
‫ليصيبوا من النوار اللئحة والعلمات المنيرة والحكم البالغة‪ ،‬ويروا من‬
‫الكرامات الظاهرة وخوارق العادة المستمرة‪ ،‬ويزدادوا بذلك من القربات‬
‫ل‪ ،‬حفظت عنهم‬ ‫والطاعات والمجاهدات والمكايدات في عبادة ربهم عّز وج ّ‬
‫أجمعين وعن ميل النفس إلى هواها‪ ،‬وعجبها ومباهاتها‪ ،‬وتعاظمها بالتكبر بهم‬
‫وبقبولهم لك وإقبال وجوههم إليك‪ ،‬وكذلك إن قدر مجئ زوجة حسناء جميلة‬
‫بكفايتها وسائر مؤنتها حفظت من شرها وحمل أثقالها وأتباعها وأهلها‪،‬‬
‫وصارت عندك موهبة مكفاة مهناة منقاة مصفاة من الغش والخبث والغل‬
‫والحقد والغضب والخيانة في الغيب‪ ،‬فتكون لك مسخرة‪ ،‬وهى وأهلها محمولة‬
‫عنك مؤنتها‪ ،‬مدفوعة عنك أذيتها‪ ،‬وإن قدر منها ولد كان صالحًا ذرية طيبة‬
‫ب َلَنا‬‫جُه}‪.‬النبياء ‪ .90‬وقال تعالى‪َ{ :‬ه ْ‬ ‫حَنا َلُه َزْو َ‬ ‫صَل ْ‬
‫قرة عين‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَأ ْ‬
‫ن ِإَمامًا}‪.‬الفرقان ‪ .74‬وقال‬ ‫جَعْلَنا ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ن َوا ْ‬ ‫عُي ٍ‬
‫جَنا َوُذّرّياِتَنا ُقّرَة َأ ْ‬
‫ن َأْزَوا ِ‬ ‫ِم ْ‬
‫ضّيا}‪.‬مريم ‪ .6‬فتكون هذه الدعوات التي في هذه اليات‬ ‫ب َر ِ‬ ‫جَعْلُه َر ّ‬ ‫تعالى‪َ{ :‬وا ْ‬
‫ل بها مستجابة في حقك إن دعوت بها أو لم تدع‪ ،‬إذ هي في محلها‬ ‫معمو ً‬
‫ل لهذه المنزلة‪،‬‬ ‫وأهلها‪ ،‬وأولى من يعامل بهذه النعمة ويقابل بها من كان أه ً‬
‫وأقيم في هذا المقام وقدر له من الفضل والقرب هذا المقدار‪ ،‬وكذلك إن قدر‬
‫مجئ شئ من الدنيا وإقبالها ل يضر إذ ذاك‪ ،‬فما هو قسمك منها فلبّد من‬
‫ل‪ ،‬وورود المر يتناوله وأنت ممتثل‬ ‫تناوله وتصفيته لك بفعل ال عّز وج ّ‬
‫للمر مثاب على تناوله‪ ،‬كما تثاب على فعل صلوات الفرض وصيام الفرض‪،‬‬
‫وتؤمر فيما ليس بقسمك منها بصرفه إلى أربابه من الصحاب والجيران‬
‫والخوان المستحقين الفقراء منهم وأصحاب القسام على ما يقتضى الحال‪،‬‬
‫فالحوال تكشفها وتميزها‪ ،‬ليس الخبر كالمعاينة‪ .‬فحينئذ تكون من أمرك على‬
‫بيضاء نقية ل غبار عليها ول تلبيس ول تخليط ول شك ول ارتياب‪ ،‬فالصبر‬
‫الصبر‪ ،‬الرضا الرضا‪ ،‬حفظ الحال حفظ الحال‪ ،‬الخمول الخمول‪ ،‬الخمود‬
‫الخمود‪ ،‬السكوت السكوت‪ ،‬الصموت الصموت‪ ،‬الحذر الحذر‪ ،‬النجا النجا‪،‬‬
‫الوحا الوحا‪ ،‬ال ال ثم ال‪ ،‬الطراق الطراق الغماض الغماض الحياء‬
‫الحياء إن يبلغ الكتاب أجله‪ ،‬فيؤخذ بيدك فتقدم وينزع عنك ما عليك ثم تغوص‬
‫في بحار الفضائل والمنن والرحمة ثم تخرج منها فتخلع عليك النوار‬
‫والسرار والعلوم والغرائب المدنية‪ ،‬ثم تقرب وتحدث فيه بإعلم وإلهام وتكلم‬
‫ن}‪.‬يوسف‬ ‫ن َأِمي ٌ‬‫ك اْلَيْوَم َلَدْيَنا ِمِكي ٌ‬‫وتعطى وتغنى وتشجع وترفع‪ ،‬وتخاطب بـ {ِإنّ َ‬
‫‪ .54‬فحينئذ أعتبر حالة يوسف الصديق عليه السلم حين خوطب بهذا الخطاب‬
‫ل معبرًا بهذا‬ ‫على لسان ملك مصر وعظيمها وفرعونها‪ ،‬كان لسان الملك قائ ً‬
‫ل على لسان المعرفة‪ ،‬سلم إليه المالك‬ ‫الخطاب والمخاطب هو ال عّز وج ّ‬
‫الظاهر وهو ملك مصر‪ ،‬وملك النفس وملك المعرفة والعلم والقربة‬
‫ل‪ .‬قال تعالى في ملك الملك ‪{ :‬‬ ‫والخصوصية وعلو المنزلة عنده عّز وج ّ‬
‫ض}‪.‬يوسف ‪ .56‬أي في أرض مصر {َيَتَبّوُأ ِمْنَها‬ ‫ف ِفي اَلْر ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك َمّكّنا ِلُيو ُ‬‫َوَكَذِل َ‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .56‬قال‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬‫جَر اْلُم ْ‬ ‫ضيُع َأ ْ‬ ‫شاء َوَل ُن ِ‬ ‫حَمِتَنا َمن ّن َ‬ ‫ب ِبَر ْ‬‫صي ُ‬ ‫شاُء ُن ِ‬ ‫ث َي َ‬
‫حْي ُ‬ ‫َ‬
‫عَباِدَنا‬‫ن ِ‬ ‫شاء ِإّنُه ِم ْ‬‫ح َ‬ ‫سوَء َواْلَف ْ‬ ‫عْنُه ال ّ‬ ‫ف َ‬ ‫صِر َ‬ ‫ك ِلَن ْ‬ ‫تعالى في ملك النفس‪َ{ :‬كَذِل َ‬
‫عّلمَِني‬ ‫ن}‪.‬يوسف ‪ .24‬وقال تعالى في ملك المعرفة والعلم‪َ{ :‬ذِلُكَما ِمّما َ‬ ‫صي َ‬ ‫خَل ِ‬
‫اْلُم ْ‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪.37‬‬ ‫خَرِة ُهْم َكاِفُرو َ‬ ‫ل َوُهم ِبال ِ‬ ‫ن ِبا ّ‬ ‫ت ِمّلَة َقْوٍم ّل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫َرّبي ِإّني َتَرْك ُ‬
‫فإذا خوطبت بهذا الخطاب يا أيها الصديق الكبر‪ ،‬أعطيت الحظ الوفر‪ ،‬من‬
‫العلم العظم‪ ،‬ومنحت وهنيت بالتوفيق والمنن والقدرة والولية العامة‪ ،‬والمر‬
‫النافذ على النفس وغيرها من الشياء والتكوين‪ ،‬بإذن إله الشياء في الدنيا قبل‬
‫الخرة‪ .‬وأما في الخرى في دار السلم والجنة العليا‪ ،‬فالنظر إلى وجه المولى‬
‫الكريم زيادة ومنة‪ ،‬وهو المنى الذي ل غاية له ول منتهى‪ ،‬وال الموفق لحقائق‬
‫ذلك‪ ،‬إنه رؤوف رحيم‪.‬‬
‫المقالة السابعة والعشرون‬

‫فـي أن الـخـيـر و الـشّــر ثـمـرتـان‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أجعل الخير والشر ثمرتين من‬
‫غصنين من شجرة واحدة‪ ،‬أحد الغصنين يثمر حلوا والخر مرًا‪ ،‬فاترك البلد‬
‫والقاليم ونواحي الرض التي يحمل إليها هذه الثمار المأخوذة من هذه‬
‫الشجرة‪ ،‬وابعد منها ومن أهلها واقترب من الشجرة وكن سائسها وخادمها‬
‫القائم عندها‪ ،‬وأعرف الغصنين والثمرتين والجانبين‪ ،‬فكن إلى جانب الغصن‬
‫المثمر حلوًا‪ ،‬فحينئذ يكون غذاؤك وقوتك منها‪ ،‬واجتنب أن تقدم إلى جانب‬
‫الغصن الخر فتأكل من ثمرته فتهلك من مرارتها‪ ،‬فإذا دمت على هذا كنت‬
‫في دعة وأمن وراحة وسلمة من الفات كلها‪ ،‬إذ الفات وأنواع البليا تتولد‬
‫من تلك الثمرة المرة‪ ،‬وإذا غبت عن تلك الشجرة وهمت في الفاق وقدم بين‬
‫يديك من تلك الثمرتين وهى مخلطة غير متميزة الحلوة من المرة هنا فتناولت‬
‫منها‪ ،‬فربما وقعت يدك على المرة فأدنيتها من فيك فأكلت منها جزءًا‬
‫ومضغته‪ ،‬فسرت المرة إلى أعماق لهواتك وباطن حلقك وخياشيمك‪ ،‬فعملت‬
‫فيك وسرت في عروقك وأجزاء جسدك فهلكت بها‪ ،‬ولفظك الباقي من فيك‬
‫وغسل أثره ل ينفع ل ويدفع عنك ما قد سرى في جسدك ول ينفعك‪ ،‬وإن أكلت‬
‫ابتداء من الثمرة الحلوة وسرت حلوتها في أجزاء جسدك وانتفعت بها‬
‫وسررت فل يكفيك ذلك‪ ،‬فلبد تتناول غيرها ثانيًا‪ ،‬فل تأمن أن تكون الثانية‬
‫من المرة فيحل بك ما ذكرته لك‪ ،‬فل خير في البعد عن الشجرة والجهل‬
‫ل‪،‬‬
‫بثمرتها والسلمة في قربها والقيام معها‪ ،‬فالخير والشر بفعل ال عّز وج ّ‬
‫خَلَقُكْم َوَما‬
‫ل َ‬
‫ل ‪َ{ :‬وا ُّ‬
‫وال هو فاعلهما ومجريهما‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬الصافات ‪ .96‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬ال خلق الجازر‬ ‫َتْعَمُلو َ‬
‫خُلواْ‬
‫ل وكسبهم‪ .‬قال تعالى ‪{ :‬اْد ُ‬ ‫وجزوره( وأعمال العباد خلق ال عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬النحل ‪ .32‬سبحانه ما أكرمه وأرحمه أضاف العمل إليهم‬ ‫جّنَة ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬
‫اْل َ‬
‫وأنهم استحقوا الدخول إلى الجنة بعملهم‪ ،‬وهو بتوفيقه ورحمته لهم في الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم ‪) :‬ل يدخل الجنة أحد بعمله‪ ،‬فقيل له ول أنت يا‬
‫رسول ال؟ فقال ‪ :‬ول أنا إل أن يتغمدني ال برحمته‪ ،‬ووضع يده على رأسه(‬
‫مروي ذلك في حديث عائشة رضي ال عنها‪ ،‬فإذا كنت طائعًا ل عّز وجلّ‬
‫ل لمره منتهيًا لنهيه مسلمًا له في قدره‪ ،‬حماك عن شره وتفضل عليك‬‫ممتث ً‬
‫بخيره وحماك عن السواء جميعها دينًا ودنيا‪ .‬أما دنيا فقوله تعالى‪َ{ :‬كَذِلكَ‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .24‬وأما دينًا‬ ‫صي َ‬‫خَل ِ‬ ‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫شاء ِإّنُه ِم ْ‬‫ح َ‬
‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬ ‫صِر َ‬ ‫ِلَن ْ‬
‫شاِكرًا‬‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫شَكرُْتْم َوآَمنُتْم َوَكا َ‬ ‫ل ِبَعَذاِبُكْم ِإن َ‬
‫ل ‪ّ{ :‬ما َيْفَعُل ا ّ‬
‫فقوله عّز وج ّ‬
‫عِليمًا}‪ .‬النساء ‪ .147‬مؤمن شاكر ما يفعل البلء عنده وهو إلى العافية أقرب من‬ ‫َ‬
‫شَكْرُتْم‬ ‫ل ‪َ{ :‬لِئن َ‬ ‫البلء‪ ،‬لنه في حمل المزيد أيضًا لنه شاكر‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫َلِزيَدّنُكْم}‪.‬إبراهيم ‪.7‬فإيمانك يطفئ لهب النار في الخرة التي هي عقوبة كل‬
‫عاص‪ ،‬فكيف ل يطفئ نار البليا في الدنيا؟؟ اللهّم إل أن يكون العبد من‬
‫المجذوبين المختارين للولية والصطفاء والجتباء‪ ،‬فلبد من البلء ليصفى‬
‫به من خبث الهوى والميل إلى الطباع‪ ،‬والركون إلى شهوات النفس ولذاتها‪،‬‬
‫والطمأنينة إلى الخلق والرضا بقربهم‪ ،‬والسكون إليهم والثبوت معهم والفرح‬
‫بهم‪ ،‬فيبتلى حتى يذوب جميع ذلك‪ ،‬ويتنظف القلب بخروج الكل‪ ،‬ويبقى توحيد‬
‫ل ومعرفته وموارد الغيب من أنواع السرار والعلوم وأنوار‬ ‫الرب عّز وج ّ‬
‫جٍل ّمن‬ ‫ل ِلَر ُ‬‫جَعَل ا ُّ‬ ‫ل ‪ّ{ :‬ما َ‬ ‫القرب‪ ،‬لنه بيت ل يسعه اثنان‪ ،‬قال ال عّز وج ّ‬
‫سُدوَها‬ ‫خُلوا َقْرَيًة َأْف َ‬‫ك ِإَذا َد َ‬‫ن اْلُمُلو َ‬‫جْوِفِه}‪.‬الحزاب ‪ .4‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫َقْلَبْي ِ‬
‫عّزَة َأْهِلَها َأِذّلًة}‪.‬النمل ‪ .34‬فأخرجوا العزة عن طيب المنازل ونعيم‬ ‫جَعُلوا َأ ِ‬
‫َو َ‬
‫العيش‪ ،‬وكانت الولية على القلب للشيطان والهوى والنفس والجوارح متحركة‬
‫بأمرهم من أنواع المعاصي والباطيل والترهات فزالت تلك الولية فسكنت‬
‫الجوارح وفرغت دار الملك التي هي القلب وتنظفت الساحة التي هي الصدر‪.‬‬
‫فأما القلب فصار مسكنًا للتوحيد والمعرفة والعلم‪ .‬وأما الساحة فمهبط الموارد‬
‫والعجائب من الغيب‪ ،‬كل ذلك نتيجة البليا وثمراتها‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪) :‬إنا معاشر النبياء أشد الناس بلء ثم المثل فالمثل( وقال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪) :‬أنا أعرفكم بال وأشدكم منه خوفًا( فكل من قرب من الملك اشتد‬
‫خطره وحذره‪ ،‬لنه في مرأى من الملك ل يخفى عليه تصاريفه وحركاته‪ .‬فإن‬
‫ل بأجمعهم كشخص واحد ل يخفى عليه منهم‬ ‫قلت‪ :‬فالخليقة عند ال عّز وج ّ‬
‫شئ‪ ،‬فأي فائدة لهذا الكلم؟‬

‫فنقول لك ‪ :‬لما علت منزلته وشرفت رتبته عظم خطره‪ ،‬لنه وجب عليه شكر‬
‫ما أوله من جسيم نعمه وفضله فأدنى اللتفات عن خدمته تقصير في شكره‬
‫ت ِمنكُ ّ‬
‫ن‬ ‫ي َمن َيْأ ِ‬
‫ساء الّنِب ّ‬
‫ل ‪َ{ :‬يا ِن َ‬
‫وذلك نقصان في طاعته‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬الحزاب ‪ .30‬قال ذلك لهن لتمام نعمه‬ ‫ضْعَفْي ِ‬
‫ب ِ‬
‫ف َلَها اْلَعَذا ُ‬
‫ع ْ‬
‫ضا َ‬‫شٍة ّمَبّيَنٍة ُي َ‬
‫ح َ‬
‫ِبَفا ِ‬
‫ل عليهن باتصالهن بالنبي صلى ال عليه وسلم فكيف من كان مواص ً‬
‫ل‬ ‫عّز وج ّ‬
‫س َكِمْثِلِه‬
‫ل وقربه‪ ،‬تعالى ال علوًا كبيرًا عن التشبيه بخلقه {َلْي َ‬ ‫بال عّز وج ّ‬
‫صيُر}‪.‬الشورى ‪ .11‬وال الهادي‪.‬‬ ‫سِميُع الَب ِ‬
‫يٌء َوُهَو ال ّ‬ ‫ش ْ‬
‫َ‬

‫المقالة الثامنة والعشرون‬


‫فـي تـفـصـيـل أحـوال الـمـريـد‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أتريد الراحة والسرور والدعة‬


‫والحبور‪ ،‬والمن والسكون والنعيم والدلل وأنت بعد في كير السبك والتذويب‬
‫وتمويت النفس ومجانبة الهوى وإزالة المرادات والعواض دنيا وأخرى وقد‬
‫ل مهل‪ ،‬يا‬ ‫بقيت فيك بقية من ذلك ظاهرة لئحة؟؟ على رسلك يا مستعجل مه ً‬
‫مترقب الباب مسدود إلى ذلك‪ ،‬وقد بقيت عليك منه وفيك ذرة ومنه المكاتب‬
‫عبد ما بقى عليه درهم‪ ،‬أنت مصدود عن ذلك ما بقى عليك من الدنيا مقدار‬
‫مص نواة‪ ،‬والدنيا هواك ومرادك‪ ،‬ورؤيتك بشئ من الشياء أو طلبك بشئ من‬
‫الشياء وتشوق نفسك إلى شئ من العواض دنيا وأخرى‪ ،‬فما دام فيك شئ‬
‫من ذلك فأنت في باب الفناء‪ ،‬فاسكن حتى يحصل الفناء على التمام والكمال‪،‬‬
‫فتخرج من الكير وتكمل صياغتك وتجلى وتكسى وتطيب وتبخر‪ ،‬ثم ترفع إلى‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .54‬فتؤانس‬
‫ن َأِمي ٌ‬
‫ك اْلَيْوَم َلَدْيَنا ِمِكي ٌ‬
‫الملك الكبر فتخاطب ‪ِ{ :‬إّن َ‬
‫وتلطف‪ ،‬وتطعم من الفضل ومنه وتسقى وتقرب وتدنى وتطلع على السرار‬
‫وهى عنك ل تخفى فتغتني بما نعطي من ذلك عن جميع الشياء‪ .‬أل ترى إلى‬
‫قراضة الذهب متفرقة مبتذلة متداولة غادية رائحة في أيدي العطارين‬
‫والبقالين والقصابين والدباغين والنقاطين والكناسين والكفافين أصحاب‬
‫الصنائع النفيسة والرذيلة الدنية الخبيثة‪ ،‬ثم تجمع فتجعل في كير الصائغ‬
‫فتذوب هناك بإشعال النار عليها‪ ،‬ثم تخرج منه فتطرق وترقق وتطلع وتصاك‬
‫فتجعل حليًا‪ ،‬ثم تجلى وتطيب فتترك في خير المواضع والمكنة من وراء‬
‫الغلق في الخزائن والصناديق والحقاق وتحلى بها العروس وتزين وتكرم‪،‬‬
‫وقد تكون العروس للملك العظم فتنقل القراضة من هذه إلى قرب الملك‬
‫ومجلسه بعد السبك والدق‪ ،‬هكذا أنت يا مؤمن إذا صبرت على مجاري القدار‬
‫ل في‬
‫فيك ورضيت بالقضاء في جميع الحوال قربت إلى مولك عّز وج ّ‬
‫الدنيا‪ ،‬فتنعم بالمعرفة والعلوم والسرار‪ ،‬وتسكن في الخرة دار السلم مع‬
‫النبياء والصديقين والشهداء والصالحين في جوار ال وداره وقربه عّز‬
‫ل‪ ،‬فاصبر ول تستعجل‪ ،‬وأرض بالقضاء ول تتهم‪ ،‬فسينالك برد عفو ال‬ ‫وج ّ‬
‫ولطفه وكرمه بمنه تعالى‪.‬‬

‫المقالة التاسعة والعشرون‬


‫فـي قـولـه صلى ال عليه وسلم كـاد الـفـقـر أن يـكـون كـفـرا‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬يـؤمن العبد بال ويسلم المور كلها‬
‫ل‪ ،‬ويعتقد تسهيل الرزق منه وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه‪ ،‬وما‬ ‫إليه عّز وج ّ‬
‫خَرجًا‬‫جَعل ّلُه َم ْ‬
‫ل َي ْ‬
‫ق ا َّ‬
‫ل {َوَمن َيّت ِ‬ ‫أخطأه لم يكن ليصبه‪ ،‬ويؤمن بقوله عّز وج ّ‬
‫سُبُه}‪.‬الطلق ‪.3–2‬‬ ‫ح ْ‬‫ل َفُهَو َ‬‫عَلى ا ِّ‬
‫ب َوَمن َيَتَوّكْل َ‬
‫س ُ‬
‫حَت ِ‬
‫ث َل َي ْ‬
‫حْي ُ‬
‫ن َ‬
‫* َوَيْرُزْقُه ِم ْ‬
‫ويقول ذلك ويؤمن به وهو في حال العافية والغنى ثم يبتليه ال عّز وج ّ‬
‫ل‬
‫بالبلء والفقر فيأخذ في السؤال والتضرع فل يكشفهما عنه فحينئذ يتحقق قوله‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪) :‬كاد الفقر أن يكون كفرًا( فمن تلطف ال به كشف عنه‬
‫ما به فأدركه بالعافية والغنى ويوفقه للشكر والحمد والثناء ويديم له ذلك إلى‬
‫اللقاء ‪ .‬ومن يرد ال فتنته يديم بلءه وفتنته وفقره فيقطع عنه مدد إيمانه فيكفر‬
‫ل والشك في وعده فيموت كافرا بال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫بالعتراض والتهمة له عّز وج ّ‬
‫جاحدًا لياته ومسخطًا على ربه‪ ،‬وإليه أشار رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بقوله ‪) :‬أن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل جمع ال له بين فقر الدنيا وعذاب‬
‫الخرة( نعوذ بال من ذلك وهو الفقر المنسي الذي استعاذ منه النبي صلى ال‬
‫ل اصطفاءه واجتباءه‬ ‫عليه وسلم * والرجل الثاني هو الذي أراد ال عّز وج ّ‬
‫وجعله من خواصه وأحبائه وأخـلئه ووارث أنبيائه وسيد أوليائه ومن عظماء‬
‫عباده وعلمائهم وحكمائهم وشفعائهم وشيخهم ومتبوعهم ومعلمهم وهاديهم إلى‬
‫مولهم ومرشدهم إلى سبل الهدى واجتناب سبل الردى فأرسل إليه جبال‬
‫الصبر وبحار الرضا والموافقة والغنى في قضائه وفعله ثم يدركه بجزيل‬
‫العطاء ويدللـه في آناء الليل وأطراف النهار في الجلوة والخلوة في الظاهر‬
‫مرة والباطن أخرى بأنواع اللطف وفنون الجذبات فيتصل له ذلك إلى حين‬
‫اللقا وال الهادي‪.‬‬

‫المقالة الثلثون‬

‫فـي الـنـهـي عـن قـول الـرجـل أي شــيء أعـمـل و مـا‬


‫الـحـيـلـة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما أكثر ما نقول ‪ :‬أي شئ أعمل؟؟‬
‫وما الحيلة؟؟ فيقال لك ‪ :‬قف مكانك ول تجاوز حدك حتى يأتيك الفرج ممن‬
‫صِبُروْا‬
‫ن آَمُنوْا ا ْ‬
‫ل ‪َ{ :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫أمرك بالقيام فيما أنت فيه‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬آل عمران ‪ .200‬أمرك بالصبر يا‬ ‫حو َ‬ ‫ل َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ‬
‫طوْا َواّتُقوْا ا ّ‬
‫صاِبُروْا َوَراِب ُ‬‫َو َ‬
‫مؤمن ثم بالمصابرة والمرابطة والمحافظة والملزمة له ثم حذرك تركه فقال ‪:‬‬
‫{واتقوا ال} في ترك ذلك‪ ،‬أي ل تتركوا الصبر فإن الخير والسلمة فيه‪،‬‬
‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬الصبر من اليمان كالرأس من الجسد(‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬كل شئ ثوابه بمقدار إل ثواب الصبر فإنه جزاف غير مقدر لقوله‬
‫ب}‪.‬الزمر ‪ .10‬فإذا اتقيت ال عّز‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬
‫جَرُهم ِبَغْيِر ِ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫صاِبُرو َ‬‫تعالى ‪ِ{ :‬إّنَما ُيَوّفى ال ّ‬
‫ل حفظك للصبر ومحافظة الحدود وأنجز لك ما وعدك في كتابه وهو قوله‬ ‫وج ّ‬
‫ث َل‬
‫حْي ُ‬‫ن َ‬‫خَرجًا * َوَيْرُزْقُه ِم ْ‬ ‫جَعل ّلُه َم ْ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ق ا َّ‬
‫ل ‪َ{ :‬وَمن َيّت ِ‬ ‫عّز وج ّ‬
‫ب}‪.‬الطلق ‪ .3–2‬وكنت بصبرك حتى يأتيك الفرج من المتوكلين وقد وعدك‬ ‫س ُ‬‫حَت ِ‬
‫َي ْ‬
‫سُبُه}‪.‬الطلق ‪ .3‬وكنت‬ ‫ح ْ‬‫ل َفُهَو َ‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫ل بالكفاية فقال ‪َ{ :‬وَمن َيَتَوّكْل َ‬ ‫ال عّز وج ّ‬
‫ل ‪َ{ :‬وَكَذِل َ‬
‫ك‬ ‫مع صبرك وتوكلك من المحسنين وقد وعدك بالجزاء فقال عّز وج ّ‬
‫ح ّ‬
‫ب‬ ‫ل ُي ِ‬
‫نا ّ‬ ‫ن}‪.‬القصص ‪ .14‬ويحبك ال مع ذلك لنه قال ‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫جِزي اْلُم ْ‬ ‫َن ْ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪ .195‬فالصبر رأس كل خير وسلمة دنيا وأخرى‪ ،‬ومنه يترقى‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬
‫اْلُم ْ‬
‫ل حالة‬ ‫المؤمن إلى حالة الرضى والموافقة ثم الفناء في أفعال ال عّز وج ّ‬
‫البدلية والغيبة‪ ،‬فاحذر أن تتركه فيخذلك في الدنيا والخرة ويفوتك خيرهما‬
‫نعوذ بال من ذلك‪.‬‬

‫المقالة الحادية والثلثون‬

‫فـي الـبـغـض فـي ال‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا وجدت في قلبك بغض شخص أو‬
‫حبه فأعرض أعماله على الكتاب والسنة‪ ,‬فإن كانت فيهما مبغوضة و أنت‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وإن كانت أعماله فيهما محبوبة‬ ‫تبغضه فأبشر بموافقتك ال عّز وج ّ‬
‫وأنت تبغضه فاعلم بأنك صاحب هوى‪ ،‬تبغضه بهواك ظالمًا له ببغضك إياه‪،‬‬
‫ل من بغضك‬ ‫ل ولرسوله تخالف لهما فتب إلى ال عّز وج ّ‬ ‫ص ل عّز وج ّ‬‫وعا ٍ‬
‫ل محبة ذلك الشخص وغيره من أحبائه وأوليائه وأصفيائه‬ ‫واسأله عّز وج ّ‬
‫ل‪ .‬وكذلك أفعل فيمن تحبه يعني‬ ‫والصالحين من عباده‪ ،‬لتكون موافقًا له عّز وج ّ‬
‫أعرض أعماله على الكتاب والسنة فإن كانت محبوبة فيهما فأحبه‪ .‬وإن كانت‬
‫مبغوضة فابغضه‪ .‬كيل تحبه بهواك وتبغضه بهواك وقد أمرت بمخالفة هواك‬
‫ل}‪.‬ص ‪.26‬‬
‫سِبيِل ا ِّ‬
‫عن َ‬
‫ك َ‬‫ضّل َ‬
‫ل ‪َ{ :‬وَل َتّتِبِع اْلَهَوى َفُي ِ‬
‫قال عّز وج ّ‬

‫المقالة الثانية والثلثون‬


‫فـي عـدم الـمـشــاركـة فـي مـحـبـة الـحـق‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما أكثر ما تقول كل من أحبه ل تدوم‬
‫محبتي إياه فيحال بيننا إما بالغيبة أو بالموت أو بالعداوة وأنواع المال بالتلف‬
‫والفوات من اليد‪ ،‬فيقال لك ‪ :‬أما تعلم يا محبوب الحق المعنى المنظور إليه‬
‫ل غيور خلقك وتروم أن تكون لغيره‪ ،‬أما‬ ‫المغار عليه‪ ،‬ألم تعلم أن ال عّز وج ّ‬
‫خَلْق ُ‬
‫ت‬ ‫حّبوَنُه}‪.‬المائدة ‪ .54‬وقوله تعالى ‪َ{ :‬وَما َ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬
‫ل ‪ُ{ :‬ي ِ‬‫سمعت قوله عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬الذاريات ‪ .56‬أما سمعت قول الرسول صلى ال عليه‬ ‫س ِإّل ِلَيْعُبُدو ِ‬
‫ن َواِْلن َ‬
‫جّ‬
‫اْل ِ‬
‫وسلم ‪) :‬إذا أحب ال عبدا ابتله فإن صبر افتناه‪ .‬قيل يا رسول ال و ما افتناه‪.‬‬
‫قال لم يذر له مال ول ولدا(‪ .‬وذلك لنه إذا كان له مال وولد أحبهما فتنقص‬
‫ل وبين غيره وال تعالى ل يقبل‬ ‫وتجزي فتصير مشتركة بين ال عّز وج ّ‬
‫الشريك وهو غيور قاهر فوق كل شئ غالب لكل شئ فيهلك شريكه ويعدمه‬
‫حّبُهْم‬
‫ل ‪ُ{ :‬ي ِ‬
‫ليخلص قلب عبده له من غير شريك فيتحقق حينئذ قوله عّز وج ّ‬
‫حّبوَنُه}‪.‬المائدة ‪ .54‬حتى إذا تنظف القلب من الشركاء والنداد من الهل‬ ‫َوُي ِ‬
‫والمال والولد واللذات والشهوات وطلب الوليات والرياسات والكرامات‬
‫والحالت والمنازل والمقامات والجنات والدرجات والقربات والزلفات فل‬
‫يبقى في القلب إرادة ول أمنية يصير كالناء المنثلم الذي ل يثبت فيه مائع لنه‬
‫ل كلما تجمعت فيه إرادة كسرها فعل ال وغيرته‬ ‫أنكسر لفعل ال عّز وج ّ‬
‫فضربت حوله سرادقات العظمة والجبروت والهيبة وأحضرت من دونها‬
‫خنادق الكبرياء والسطوة فلم يخلص إلى القلب إرادة شئ من الشياء‬
‫والكرامات والحكم والعلم والعبادات فإن جميع ذلك يكون خارج القلب فل‬
‫ل بل يكون جميع ذلك كرامة من ال لعبده ولطفا به ونعمة‬ ‫يغار ال عّز وج ّ‬
‫ورزقا ومنفعة للواردين عليه فيكرمون به ويرحمون ويحفظون لكرامته على‬
‫ل فيكون خفيرًا لهم وكنفا وحرزا وشفيعا دنيا وأخرى‪.‬‬ ‫ال عّز وج ّ‬

‫المقالة الثالثة والثلثون‬

‫فـي تـقـســيـم الـرجـال إلـى أربـعـة أقـســام‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الناس أربعة رجال ‪:‬‬

‫رجل ‪ :‬ل لسان له ول قلب وهو العاصي الغر الغبي ل يعبأ ال به‪ ،‬ل خير فيه‪،‬‬
‫ل برحمته‪ ،‬فيهدي‬‫وهو وأمثاله حثالة ل وزن لهم إل أن يعمهم ال عّز وج ّ‬
‫ل‪ .‬فأحذر أن تكون‬‫قلوبهم لليمان به ويحرك جوارحهم بالطاعة له عّز وج ّ‬
‫منهم‪ ،‬ول تكترث بهم ول تقم فيهم فإنهم أهل العذاب والغضب والسخط سكان‬
‫ل منهم‪ ،‬إل أن تكون من العلماء بال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫النار وأهلها نعوذ بال عّز وج ّ‬
‫ومن معلمي الخير وهـداة الدين وقواده ودعاته‪ ،‬فدونك فأتهم وادعهم إلى‬
‫ل‪ ،‬وحذرهم معصيته‪ ،‬فتكتب عند ال حينئذ جهبذا‪ ،‬فتعطى‬ ‫طاعة ال عّز وج ّ‬
‫ثواب الرسل والنبياء‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لمير المؤمنين‬
‫علي بن أبي طالب رضي ال عنه ‪) :‬لن يهدى ال بهداك رجل خير لك مما‬
‫طلعت عليه الشمس(‪.‬‬

‫الرجل الثاني ‪ :‬رجل له لسان بل قلب فينطق بالحكمة ول يعمل بها‪ ،‬يدعو‬
‫ل‪ ،‬يستقبح عيب غيره ويدوم هو على مثله‬ ‫الناس إلى ال وهو يفر منه عّز وج ّ‬
‫ل بالعظائم من المعاصي‪ ،‬إذا‬‫في نفسه‪ ،‬يظهر للناس تنسكا ويبارز ال عّز وج ّ‬
‫خل كأنه ذئب عليه ثياب‪ ،‬وهو الذي حذر منه النبي صلى ال عليه وسلم بقوله‬
‫‪) :‬أخوف ما أخاف على أمتي من منافق عليم اللسان(‪ .‬وفي حديث آخر ‪:‬‬
‫)أخوف ما أخاف على أمتي من علماء السوء(‪ .‬نعوذ بال من هذا‪ ،‬فابعد منه‬
‫وهرول‪ ،‬لئل يختطفك بلذيذ لسانه فتحرقك نار معاصيه‪ ،‬ويقتلك نتن باطنه‬
‫وقلبه‪.‬‬

‫ل عن خلقه‪،‬‬‫والرجل الثالث ‪ :‬قلب بل لسان‪ ،‬وهو مؤمن ستره ال عّز وج ّ‬


‫وأسبل عليه كنفه‪ ،‬وبصره بعيوب نفسه‪ ،‬ونور قلبه‪ ،‬وعرفه غوائل مخالطة‬
‫الناس وشؤم الكلم والنطق‪ ،‬وتيقن أن السلمة في الصمت والنزواء‬
‫سِمَع‬
‫سّمَع قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬من صمت نجا(‪ .‬و َ‬ ‫والنفراد‪ ،‬وت َ‬
‫قول بعض العلماء ‪ :‬العبادة عشرة أجزاء‪ ،‬تسعة منها في الصمت فهذا رجل‬
‫ل‪ ،‬في ستر ال محفوظا ذو سلمة وعقل وافر‪ ،‬جليس الرحمن‬ ‫ولي ال عّز وج ّ‬
‫منعم عليه‪ ،‬فالخير كل الخير عنده‪ ،‬فدونكه ومصاحبته ومخالطته وخدمته‬
‫والتحبب إليه بقضاء حوائج تسنح له ومرافق يرتفق بها‪ ،‬فيحبك ال ويصفيك‪،‬‬
‫ويدخلك في زمرة أحبائه وعباده الصالحين ببركته إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫والرجل الرابع ‪ :‬المدعو في الملكوت بالعظيم كما جاء في الحديث عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪) :‬من تعلم ‪ ،‬وعلم ‪ ،‬وعمل ‪ ،‬دعي في الملكوت عظيمًا(‪.‬‬
‫ل قلبه غرائب علمه‪،‬‬ ‫ل وآياته‪ ،‬استودع ال عّز وج ّ‬ ‫وهو العالم بال عّز وج ّ‬
‫وأطلعه على أسرار طواها عن غيره‪ ،‬واصطفاه واجتباه وجذبه إليه ورقاه‪،‬‬
‫وإلى باب قربه هداه‪ ،‬وشرح صدره لقبول تلك السرار والعلوم‪ ،‬وجعله جهبذا‬
‫وداعيًا للعباد ونذيرا لهم وحجة فيهم‪ ،‬هاديًا مهديًا شافعًا مشفعًا صادقًا صديقًا‪،‬‬
‫ل لرسله وأنبيائه عليهم صلواته وسلمه وتحياته وبركاته‪ .‬فهذه هي الغاية‬ ‫بد ً‬
‫القصوى في بني آدم‪ ،‬ل منزلة فوق منزلته إل النبّوة‪ ،‬فعليك به وأحذر أن‬
‫تخالفه وتنافره وتجانبه وتعاديه وتترك القبول منه والرجوع إلى نصيحته‬
‫وقوله‪ ،‬فإن السلمة فيما يقول عنده‪ ،‬والهلك والضلل عند غيره إل من يوفقه‬
‫ل ويمده بالسداد والرحمة‪.‬‬ ‫ال عّز وج ّ‬
‫فقد قسمت لك الناس‪ ،‬فانظر لنفسك إن كنت ناظرًا‪ ،‬واحترز لها إن كنت‬
‫محترزًا لها شفيقًا عليها‪ ،‬هدانا ال وإياك لما يحبه ويرضاه‪.‬‬

‫المقالة الرابعة والثلثون‬

‫فـي الـنـهـى عـن الـســخـط عـلـى ال تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما أعظم تسخطك على رّبك و‬
‫ل بالظلم‪،‬‬
‫ل‪ ،‬و اعتراضك عليه و انتسابك له عّز وج ّ‬
‫تهمتك له عّز وج ّ‬
‫واستبطائك في الرزق والغنى وكشف الكروب والبلوى‪ ،‬أما تعلم أن لكل أجل‬
‫كتاب‪ ،‬ولكل زيادة بلية وكربة غاية منتهى ونفاد‪ ،‬ل يتقدم ذلك ول يتأخر‪،‬‬
‫أوقات البليا ل تقلب فتصير عوافى ووقت البؤس ل ينقلب نعيما‪ ،‬وحالة الفقر‬
‫ل تستحيل غنى‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وتب‬ ‫أحسن الدب وألزم الصمت والصبر والرضا والموافقة لربك عّز وج ّ‬
‫عن تسخطك عليه وتهمتك له في فعله‪ ،‬فليس هناك استيفاء وانتقام من غير‬
‫ذنب‪ ،‬ول عرض على الطبع كما هو في حق العبيد بعضهم في بعض‪ ،‬هو عّز‬
‫ل منفرد بالزل وسبق الشياء‪ ،‬خلقها وخلق مصالحها ومفاسدها وعلم‬ ‫وج ّ‬
‫ل حكيم في فعله متقن في صنعه ل‬ ‫ابتداءها وانتهاءها وانقضاءها‪ ،‬وهو عّز وج ّ‬
‫ل لعبًا‪ ،‬ول تجوز عليه النقائص‬ ‫تناقض في فعله‪ ،‬ل يفعل عبثًا ول يخلق باط ً‬
‫ول اللوم في أفعاله‪ ،‬فانتظر الفرج حتى إن عجزت عن موافقته وعن الرضا‬
‫والغنى في فعله حتى يبلغ الكتاب أجله‪ ،‬فتسفر الحالة عن ضدها بمرور الزمان‬
‫وانقضاء الجال‪ ،‬كما ينقضي الشتاء فيسفر عن الصيف‪ ،‬وينقضي الليل فيسفر‬
‫عن النهار‪ ،‬فإذ طلبت نور ضوء النهار ونوره بين العشاءين لم تعطه‪ ،‬بل‬
‫يزداد في ظلمة الليل حتى إذا بلغت الظلمة غايتها وطلع الفجر وجاء النهار‬
‫بضوئه طلبت ذلك وأردته وسكت عنه وكرهته‪ ،‬فإن طلبت إعادة الليل حينئذ‬
‫لم تجب دعوتك ولم تعطه لنك طلبت الشئ في غير حينه ووقته فتبقى حسيرًا‬
‫ل‪ ،‬فأرخ هذا كله وألزم الموافقة وحسن الظن بربك عّز‬ ‫منقطعًا متسخطًا خج ً‬
‫ل والصبر الجميل‪ ،‬فما كان لك ل تسلبه‪ ،‬وما ليس لك ل تعطاه‪ .‬لعمري‬ ‫وج ّ‬
‫ل بالدعاء والتضرع وهما عبادة وطاعة‬ ‫إنك تدعو وتبتهل إلى ربك عّز وج ّ‬
‫ب َلُكْم}‪.‬غافر ‪ .60‬وقوله‬
‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫عوِني َأ ْ‬‫ل في قوله تعالى ‪{ :‬اْد ُ‬‫ل لمره عّز وج ّ‬ ‫امتثا ً‬
‫ضِلِه}‪.‬النساء ‪ .32‬وغير ذلك من اليات والخبار‪،‬‬ ‫ل ِمن َف ْ‬
‫سَأُلوْا ا ّ‬
‫تعالى ‪َ{ :‬وا ْ‬
‫أنت تدعو وهو يستجيب لك عند حينه وأجله إذا أراد وكان لك في ذلك مصلحة‬
‫في دنياك وأخراك ويوافق في ذلك قضاءه وانتهاء أجله‪ ،‬ل تتهمه في تأخير‬
‫الجابة ول تسأم من دعائه‪ ،‬فإنك إن لم تربح لم تخسر‪ ،‬وإن لم يجبك عاج ً‬
‫ل‬
‫ل‪ ،‬فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه و سلم ‪:‬‬ ‫أثابك آج ً‬
‫)والعبد يرى في صحائفه حسنات يوم القيامة ل يعرفها فيقال له إنها بدل‬
‫سؤالك في الدنيا الذي لم يقدر قضاؤه فيها( أو كما ورد‪ .‬ثم أقل أحوالك أنك‬
‫ل موحدًا له حيث تسأله ول تسأل أحدًا غيره‪ ،‬ول‬ ‫تكون ذاكرًا لربك عّز وج ّ‬
‫تترك حاجتك لغيره تعالى‪ ،‬فأنت بين الحالتين في زمانك كله ليلك ونهارك‬
‫وصحتك وسقمك وبؤسك ونعمائك وشدتك ورخائك‪ ،‬وإما أن تمسك عن‬
‫ل‪ ،‬كالميت بين يدي‬ ‫السؤال‪ ،‬وترضى بالقضاء وتوافق وتسترسل لفعله عّز وج ّ‬
‫الغاسل‪ ،‬والطفل الرضيع في يدي الظئر‪ ،‬والكرة بين يدي الفارس يقلبها‬
‫بصولجانه‪ ،‬فيقلبك القدر كيف يشاء‪ ،‬إن كان النعماء فمنك الشكر والثناء ومنه‬
‫شَكْرُتْم َلِزيَدّنُكْم}‪.‬إبراهيم ‪.7‬‬ ‫ل المزيد في العطاء‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ{ :‬لِئن َ‬ ‫عّز وج ّ‬
‫وإن كان البأساء فالصبر والموافقة منك بتوفيقه والتثبت والنصرة والصلة‬
‫ل َمَع‬ ‫نا ّ‬ ‫ل بفضله وكرمه‪ ،‬كما قال عّز من قائل‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫والرحمة منه عّز وج ّ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪.153‬النفال ‪ .46‬بنصره وتثبيته‪ ،‬وهو لعبده ناصر له على نفسه‬ ‫صاِبِري َ‬
‫ال ّ‬
‫م}‪.‬محمد‬ ‫صْرُكْم َوُيَثّبتْ َأْقَداَمُك ْ‬
‫لَ َين ُ‬‫صُروا ا ّ‬ ‫وهواه وشيطانه‪ .‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إن َتن ُ‬
‫‪ .7‬إذا نصرت ال في مخالفة نفسك وهواك بترك العتراض عليه والسخط‬
‫بفعله فيك وكنت خصمًا ل على نفسك سيافًا عليها كلما تحركت بكفرها‬
‫وشركها حززت رأسها بصبرك وموافقتك لرّبك والطمأنينة إلى فعله ووعده‬
‫ل‪:‬‬‫ل لك معينا‪ .‬وأما الصلة والرحمة‪ ،‬فقوله عّز وج ّ‬ ‫والرضا بهما كان عّز وج ّ‬
‫جعو َ‬
‫ن‬ ‫ل َوِإّنـا ِإَلْيِه َرا ِ‬‫صيَبٌة َقاُلوْا ِإّنا ِّ‬‫صاَبْتُهم ّم ِ‬
‫ن ِإَذا َأ َ‬
‫ن * اّلِذي َ‬
‫صاِبِري َ‬
‫شِر ال ّ‬‫{َوَب ّ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪-155‬‬ ‫ك ُهُم اْلُمْهَتُدو َ‬ ‫حَمٌة َوُأوَلـِئ َ‬
‫ت ّمن ّرّبِهْم َوَر ْ‬ ‫صَلَوا ٌ‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫ك َ‬‫* ُأوَلـِئ َ‬
‫ل بالدعاء والتضرع إعظامًا‬ ‫‪ .157‬والحالة الخرى أنك تبتهل إلى ربك عّز وج ّ‬
‫ل لمره‪ ،‬وفيه وضع الشئ في موضعه‪ ،‬لنه ندبك إلى سؤاله‬ ‫له وامتثا ً‬
‫ل منك إليه وموصلة ووسيلة لديه‬ ‫والرجوع إليه‪ ،‬وجعل ذلك مستراحًا ورسو ً‬
‫بشرط ترك التهمة والسخط عليه عند تأخير الجابة إلى حينها‪ ،‬اعتبر ما بين‬
‫الحالتين ول تكن ممن تجاوز عن حديهما‪ ،‬فإنه ليس هناك حالة أخرى‪ ،‬فاحذر‬
‫ل ول يبالى كما أهلك من‬ ‫أن تكون من الظالمين المعتدين فيهلكك عّز وج ّ‬
‫مضى من المم السالفة في الدنيا بتشديد بلئه وفى الخرة بأليم عذابه‪.‬‬

‫المقالة الخامسة والثلثون‬

‫فـي الـــورع‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬عليك بالورع وإل فالهلك في زيقك‬
‫ملزم لك ل تنجو منه أبدا إل أن يتغمدك ال تعالى برحمته‪ ،‬فقد ثبت في‬
‫الحديث المروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪) :‬إن ملك الدين‬
‫الورع‪ ،‬وهلكه الطمع‪ ،‬وإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه‪ ،‬كالراتع‬
‫إلى جنب الزرع يوشك أن يمد فاه إليه ل يكاد أن يسلم الزرع منه( وعن أبى‬
‫بكر الصديق رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬كنا نترك سبعين بابًا من المباح مخافة‬
‫أن نقع في الجناح‪ .‬وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه أنه‬
‫قال ‪ :‬كنا نترك تسعة أعشار الحلل مخافة أن نقع في الحرام‪ ،‬فعلوا ذلك‬
‫تورعًا في مقاربة الحرام أخذًا بقول النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬لكل ملك‬
‫حمى( وإن حمى ال محارمه‪ ،‬فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه‪ ،‬فمن‬
‫دخل حصن الملك فجاز الباب الول ثم الثاني والثالث حتى قرب من سدته‬
‫خير ممن وقف على الباب الول الذي يلي البر‪ ،‬فإنه إن أغلق عنه غلق الباب‬
‫الثالث لم يضره وهو من وراء بابين من أبواب القصر ومن دونه حراس الملك‬
‫وجنده‪ ،‬وأما إذا كان على الباب الول فأغلقوا عنه بقى في البر وحده فأخذته‬
‫الذئاب والعداء وكان من الهالكين‪ ،‬فهكذا من سلك العزيمة ولزمها‪ .‬إن سلب‬
‫عنه مدد التوفيق والرعاية وانقطعت عنه حصل في الرخص ولم يخرج عن‬
‫الشرع‪ .‬فإذا أدركته المنية كان على العبادة والطاعة ويشهد له بخير العمل‪،‬‬
‫ومن وقف على الرخص ولم يتقدم إلى العزيمة إن سلب عنه التوفيق فقطعت‬
‫عنه أمداده فغلب الهوى عليه وشهوات النفس‪ ،‬فتناول الحرام خرج من‬
‫ل الضالين عن سبل‬ ‫الشرع‪ ،‬فصار في زمرة الشياطين أعداء ال عّز وج ّ‬
‫الهدى‪ ،‬فإن أدركته المنية قبل التوبة كان من الهالكين إل أن يتغمده ال تعالى‬
‫برحمته وفضله‪ ،‬فالخطر في القيام مع الرخص‪ ،‬والسلمة كل السلمة مع‬
‫العزيمة‪ ،‬وال الهادي إلى سواء الطريق‪.‬‬

‫المقالة السادسة والثلثون‬

‫فـي بـيـان الـدنـيـا و الخـرة و مـا يـنـبـغـي أن يـعـمـل‬


‫فـيـهـمـا‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أجعل آخرتك رأس مالك ودنياك‬
‫ل في تحصيل آخرتك‪ .‬ثم إن فضل من زمانك شئ‬ ‫ربحه‪ ،‬وأصرف زمانك أو ً‬
‫اصرفه في دنياك وفى طلب معاشك‪ ،‬ول تجعل دنياك رأس مالك وآخرتك‬
‫ربحه‪ .‬ثم إن فضل من الزمان فضلة صرفتها في آخرتك تقتضى فيها‬
‫الصلوات تسبكها سبيكة واحدة ساقطة الركان‪ ،‬مختلفة الواجبات من غير‬
‫ركوع وسجود وطمأنينة بين الركان‪ ،‬أو يلحقك التعب والعياء فتنام عن‬
‫ل في النهار تابعًا لنفسك وهواك وشيطانك‪،‬‬
‫القضاء جملة‪ ،‬جيفة في الليل بطا ً‬
‫وبائعًا آخرتك بدنياك عند النفس ومطيتها‪ ،‬أمرت بركوبها وتهذيبها ورياضتها‬
‫والسلوك بها في سبيل السلمة وهى طرق الخرة وطاعة مولها عّز وج ّ‬
‫ل‬
‫فظلمتها بقوبلك منها وسلمت زمامها إليها وتبعتها في شهواتها ولذاتها‬
‫وموافقتها وشيطانها وهواها ففاتك خير الدنيا والخرة وخسرتهما فدخلت‬
‫القيامة أفلس الناس وأخسرهم دينًا ودنيا‪ ،‬وما وصلت بمتابعتها إلى أكثر من‬
‫قسمك من دنياك‪ ،‬ولو سلكت بها طريق الخرة وجعلتها رأس مالك ربحت‬
‫الدنيا والخرة ووصل إليك قسمك من الدنيا هنيئًا مرئيًا وأنت مصون مكرم‪،‬‬
‫كما قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬إن ال يعطى الدنيا على نية الخرة ول‬
‫يعطى الخرة على نية الدنيا( وكيف ل يكون كذلك ونية الخرة هي طاعة ال‬
‫لن النية روح العبادات وذاتها‪.‬‬

‫وإذا أطعت ال بزهدك في الدنيا أو طلبك دار الخرة كنت من خواص ال عّز‬
‫ل وأهل طاعته ومحبته‪ ،‬وحصلت لك الخرة وهى الجنة وجوار ال عّز‬ ‫وج ّ‬
‫ل وخدمتك الدنيا فيأتيك قسمك الذي قدر لك منها‪ ،‬إذ الكل تبع لخالقها‬ ‫وج ّ‬
‫ل‪ ،‬وإن اشتغلت بالدنيا وأعرضت عن الخرة غضب‬ ‫ومولها وهو ال عّز وج ّ‬
‫الرب عليك ففاتتك الخرة وتعاصت الدنيا عليك وتعسرت وأتعبتك في إيصال‬
‫ل عليك لنها مملوكته‪ ،‬تهين من عصاه وتكرم‬ ‫قسمك إليك لغضب ال عّز وج ّ‬
‫من أطاعه فيتحقق حينئذ قوله صلى ال عليه وسلم ‪) :‬الدنيا والخرة ضرتان‪،‬‬
‫إن أرضيت إحداهما أسخطت عليك الخرى(‪ .‬قال تعالى ‪ِ{ :‬منُكم ّمن ُيِريُد‬
‫خَرَة}‪.‬آل عمران ‪ .152‬يعنى به أبناء الخرة‪ ،‬فانظر من‬ ‫الّدْنَيا َوِمنُكم ّمن ُيِريُد ال ِ‬
‫أبناء أيهما أنت؟؟ ومن أي القبيلتين تحب أن تكون وأنت في الدنيا؟؟ ثم إذا‬
‫صرت إلى الخرة فالخلق فريقان فريق في طلب الدنيا وفريق في طلب‬
‫ق ِفي‬‫جّنِة َوَفِري ٌ‬
‫ق ِفي اْل َ‬
‫الخرة‪ ،‬وهم أيضًا يوم القيامة فريقان {َفِري ٌ‬
‫سِعيِر}‪.‬الشورى ‪ .7‬فريق في الموقف قيام في طول الحساب {ِفي َيْوٍم َكا َ‬
‫ن‬ ‫ال ّ‬
‫سَنٍة}‪.‬المعارج ‪ .4‬مما تعدون كما قال تعالى‪ ،‬وفريق في ظل‬ ‫ف َ‬‫ن َأْل َ‬
‫سي َ‬
‫خْم ِ‬
‫ِمْقَداُرُه َ‬
‫العرش كما أخبر النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬إنكم تكونون يوم القيامة في ظل‬
‫العرش عاكفون على الموائد‪ ،‬عليها أطايب الطعام والفواكه والشهد أبيض من‬
‫الثلج(‪ .‬كما جاء في الحديث ‪) :‬وينظرون منازلهم في الجنة حتى إذا فرغ من‬
‫حساب الخلق دخلوا الجنة‪ ،‬يهتدون إلى منازلهم كما يهتدي أحد الناس في الدنيا‬
‫إلى منزله(‪ .‬فهل وصلوا إلى هذه إل بتركهم الدنيا واشتغالهم بطلب الخرة‬
‫والمولى‪ .‬وهل وقعوا أولئك في الحساب وأنواع الشدائد والذل إل لشتغالهم‬
‫بالدنيا ورغبتهم فيها وزهدهم في الخرة وقلة المبالة بأمرها ونسيان يوم‬
‫القيامة وما سيصيرون إليه غدًا مما ذكر في الكتاب والسنة‪.‬‬

‫فانظر لنفسك نظر رحمة وشفقة‪ ،‬واختر لها خير القبيلتين وأفردها عن أقران‬
‫السوء من شياطين النس والجن‪ ،‬وأجعل الكتاب والسنة أمامك وأنظر فيهما‬
‫وأعمل بهما‪ ،‬ول تغتر بالقال والقيل والهوس‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَما آَتاُكُم‬
‫ل}‪.‬الحشر ‪ .7‬ول تخالفوه‬ ‫عْنُه َفانَتُهوا َواّتُقوا ا َّ‬ ‫خُذوُه َوَما َنَهاُكْم َ‬
‫سوُل َف ُ‬
‫الّر ُ‬
‫ل وعبادة كما قال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫فتتركوا العمل بما جاء به وتخترعوا لنفسكم عم ً‬
‫م}‪.‬الحديد‬ ‫عَلْيِه ْ‬
‫عوَها َما َكَتْبَناَها َ‬ ‫في حق قوم ضلوا سواء السبيل {َوَرْهَباِنّيًة اْبَتدَ ُ‬
‫ل نبيه صلى ال عليه وسلم ونزهه عن الباطل‬ ‫‪ ،. 27‬ثم إنه زكى هو عّز وج ّ‬
‫حيٌ‬‫ن ُهَو ِإّل َو ْ‬‫ن اْلَهَوى * ِإ ْ‬ ‫عِ‬‫ق َ‬ ‫ط ُ‬‫ل ‪َ{ :‬وَما َين ِ‬ ‫والزور فقال عّز وج ّ‬
‫حى}‪.‬النجم ‪ .4–3‬أي ما آتاكم به فهو من عندي ل من هواه ونفسه فاتبعوه‪ ،‬ثم‬ ‫ُيو َ‬
‫ل}‪.‬آل عمران ‪ .31‬فبين أن‬ ‫حِبْبُكُم ا ّ‬‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬‫نا ّ‬ ‫حّبو َ‬‫قال تعالى ‪ُ{ :‬قْل ِإن ُكنُتْم ُت ِ‬
‫ل‪ ،‬فالنبي عليه الصلة والسلم قال ‪) :‬الكتساب‬ ‫ل وفع ً‬ ‫طريق المحبة إتباعه قو ً‬
‫سنتي‪ ،‬والتوكل حالتي( أو كما قال‪ ،‬فأنت بين سنته وحالته وإن ضعف إيمانك‬
‫فالتكسب الذي هو سنته وإن قوى إيمانك فحالته التي هي التوكل قال ال‬
‫ن}‪.‬المائدة ‪ .23‬وقال تعالى ‪َ{ :‬وَمن‬ ‫ل َفَتَوّكُلوْا ِإن ُكنُتم ّمْؤِمِني َ‬
‫عَلى ا ّ‬ ‫تعالى ‪َ{ :‬و َ‬
‫ن}‪.‬آل‬
‫ب اْلُمَتَوّكِلي َ‬
‫ح ّ‬‫ل ُي ِ‬
‫نا ّ‬ ‫سُبُه}‪.‬الطلق ‪ .3‬وقال تعالى ‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ل َفُهَو َ‬
‫عَلى ا ِّ‬‫َيَتَوّكْل َ‬
‫عمران ‪ .159‬فقد أمرك بالتوكل ونبهك عليه كما أمر نبيه صلى ال عليه وسلم في‬
‫ل}‪.‬النساء ‪.81‬النفال ‪.61‬الحزاب ‪ .48+3‬فاتبع أوامر ال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫عَلى ا ِّ‬‫قوله ‪َ{ :‬وَتَوّكْل َ‬
‫في سؤاله في أعمالك فهي مردودة عليك قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬من‬
‫ل ليس عليه أمرنا فهو رد( هذا يعلم طلب الرزق والعمال والقوال‪،‬‬ ‫عمل عم ً‬
‫ليس لنا نبي غيره فنتبعه ول كتاب غير القرآن فنعمل به‪ ،‬فيضلك هواك‬
‫ل}‪.‬ص ‪.26‬‬ ‫سِبيِل ا ِّ‬‫عن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضّل َ‬
‫والشيطان‪ .‬قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَل َتّتِبِع اْلَهَوى َفيُ ِ‬
‫فالسلمة مع الكتاب والسنة‪ ،‬والهلك مع غيرهما‪ ،‬وبهما يترقى العبد إلى حالة‬
‫الولية والبدلية والغوثية‪،‬وال أعلم‪.‬‬

‫المقالة السابعة والثلثون‬

‫فـي ذم الـحـســد و المـر بـتـركـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬مالي أراك يا مؤمن حاسدًا لجارك‬
‫في مطعمه ومشربه وملبسه ومنكحه ومسكنه وتقلبه في غناه ونعم موله عّز‬
‫ل وقسمه الذي قسم له؟؟ أما تعلم أن هذا مما يضعف إيمانك ويسقطك من‬ ‫وج ّ‬
‫ل ويبغضك إليه؟؟ أما سمعت الحديث المروى على النبي‬ ‫عين مولك عّز وج ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪) :‬قال ال تعالى في بعض ما تكلم به‪ :‬الحسود‬
‫عدو نعمتي( وما سمعت قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬إن الحسد يأكل‬
‫الحسنات كما تأكل النار الحطب( ثم على أي شئ تحسده يا مسكين؟؟ أعلى‬
‫قسمه أم على قسمك؟؟ فإن حسدته على قسمه الذي قسمه ال له في قوله‬
‫حَياِة الّدْنَيا}‪.‬الزخرف ‪ .32‬فقد ظلمته‪،‬‬ ‫شَتُهْم ِفي اْل َ‬
‫سْمَنا َبْيَنُهم ّمِعي َ‬
‫ن َق َ‬
‫حُ‬‫تعالى ‪َ{ :‬ن ْ‬
‫رجل يتقلب في نعمة موله التي تفضل بها عليه وقدرها له ولم يجعل لحد‬
‫ل منك؟؟ وإن‬ ‫فيها حظًا ول نصيبًا‪ ،‬فمن يكون أظلم وأبخل وأرعن وأنقص عق ً‬
‫حسدته على قسمك فقد جهلت غاية الجهل‪ ،‬فإن قسمك ل يعطى غيرك ول‬
‫ي َوَما َأَنا‬
‫ل ‪َ{ :‬ما ُيَبّدُل اْلَقْوُل َلَد ّ‬‫ينتقل منك إليه‪ ،‬حاش ل‪ .‬قال ال عّز وج ّ‬
‫ل ل يظلمك فيأخذ ما قسم وقدر لك فيعطى‬ ‫لٍم ّلْلَعِبيِد}‪.‬ق ‪ .29‬إن ال عّز وج ّ‬
‫ظّ‬‫ِب َ‬
‫غيرك‪ ،‬فهذا جهل منك وظلم لخيك‪ ،‬ثم حسدك للرض التي هي معدن الكنوز‬
‫والذخائر من أنواع الذهب والفضة والجواهر مما جمعته الملوك المتقدمة من‬
‫عاد وثمود وكسرى وقيصر أولى من حسدك لجارك المؤمن أو الفاجر‪ ،‬فإن ما‬
‫في بيته ل يكون جزءًا من أجزاء ألف ألف جزء مما هناك‪ ،‬فما حسدك لجارك‬
‫إل كمثل رجل رأى ملكًا مع سلطانه وجنوده وحشمه وملكه وعلى أراضى‬
‫واجباته خراجها وارتفاعها لديه وتنعمه بأنواع النعم واللذات والشهوات فلم‬
‫يحسده على ذلك ثم رأى كلبًا بريًا يخدم كلبًا من كلب ذلك الملك يقوم ويقعد‬
‫ويصيح فيعطى من مطبخ الملك بقايا الطعام ورداءته فيتقوت به فأخذ يحسده‬
‫ويعاديه ويتمنى موته وهلكه وكونه مكانه وأن يخلفه في ذلك خسة ودناءة ل‬
‫زهدًا ودينًا وقناعة‪ ،‬فهل يكون في الزمان رجل أحمق منه وأرعن وأجهل؟‬

‫ثم لو علمت يا مسكين ما سيلقى جارك غدًا من طول الحساب يوم القيامة إن لم‬
‫يكن أطاع ال فيما حوله وأدى حقه فيها‪ ،‬وامتثال أمره وانتهاء نهيه فيها‪،‬‬
‫واستعان بها على عبادته وطاعته ما يتمنى انه لم يعط من ذلك ذرة ول رأى‬
‫نعيمًا يومًا قط‪،‬أما سمعت ما قد ورد في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه قال ‪) :‬ليتمنين أقوام يوم القيامة أن تقرض لحومهم بالمقاريض مما يرون‬
‫لصحاب البلء من الثواب( فيتمنى جارك غدًا مكانك في الدنيا لما يرى من‬
‫طول حسابه ومناقشته وقيامه خمسين ألف سنة في حر الشمس في القيامة‪،‬‬
‫لجل ما يمتنع به من النعيم في الدنيا وأنت في معزل عن ذلك في ظل العرش‬
‫ل شاربًا متنعما فرحًا مسرورًا مستريحًا‪ ،‬لصبرك على شدائد الدنيا وضيقها‬ ‫آك ً‬
‫ل فيما دبر وقضى‬ ‫وآفاتها وبؤسها وفقرها‪ ،‬ورضاك وموافقتك لربك عّز وج ّ‬
‫من فقرك وغناء غيرك‪ ،‬وسقمك وعافية غيرك‪ ،‬وشدتك ورخاء غيرك‪ ،‬وذلك‬
‫وعز غيرك‪ ،‬جعلنا ال وإياك ممن صبر عند البلء‪ ،‬وشكر على النعماء‪،‬‬
‫وفوض المور إلى رب السماء‪.‬‬

‫المقالة الثامنة والثلثون‬

‫فـي الـصـــدق و الـنـصـيـحـة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬من عامل موله بالصدق والنصاح‪،‬‬
‫استوحش مما سواه في المساء والصباح‪.‬‬
‫يا قوم ل تدعوا ما ليس لكم‪ ،‬ووحدوا‪ ،‬ول تشركوا‪ ،‬وال إن سهام القدر‬
‫ل‪ ،‬من كان في ال تلفه فعلى ال خلفه‪.‬‬
‫تصيبكم خدشًا ل قتا ً‬

‫المقالة التاسعة والثلثون‬

‫فـي تـفـســيـر الـشــقـاق و الـوفـاق و الـنـفـاق‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الخذ مع وجود الهوى من غير‬


‫المر عناد وشقاق‪ ،‬الخذ مع عدم الهوى وفاق واتفاق وتركه رياء ونفاق‪.‬‬

‫المقالة الربعون‬

‫فـي مـتـى يـصـح لـلـسـالـك أن يـكـون في زمـرة‬


‫الـروحـانـيـيـن‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تطمع أن تدخل في زمرة‬


‫الروحانيين حتى تعادى جملتك‪ ،‬وتباين جميع الجوارح والعضاء‪ ،‬وتنفرد عن‬
‫وجودك وحركاتك وسكناتك وسمعك وبصرك وكلمك وبطشك وسعيك‬
‫وعملك وعـقلك‪ ،‬وجميع ما كان منك قبل وجود الروح فيك وما أوجد فيك بعد‬
‫ل‪ ،‬فإذا صرت روحاً‬ ‫نفخ الروح‪ ،‬لن جميع ذلك حجابك عن ربك عّز وج ّ‬
‫منفردة‪ ،‬سر السر‪،‬غيب الغيب‪ ،‬مباينًا للشياء في سرك‪ ،‬متخذًا للكل عدوًا‬
‫ب‬
‫عُدّو ّلي ِإّل َر ّ‬
‫وحجابًا وظلمة كما قال إبراهيم الخليل عليه السلم {َفِإّنُهْم َ‬
‫ن}‪.‬الشعراء ‪ .77‬قال ذلك للصنام‪ ،‬فجعل أنت جملتك وأجزاءك أصنامًا مع‬ ‫اْلَعاَلِمي َ‬
‫سائر الخلق‪ ،‬فل تطع شيئًا من ذلك ول تتبعه جملة‪ ،‬فحينئذ تؤمن على السرار‬
‫والعلوم أللدنية وغرائبها‪ ،‬ويرد إليك التكوين وخرق العادات التي هي من قبيل‬
‫القدرة التي تكون للمؤمنين في الجنة‪ ،‬فتكون في هذه الحالة كأنك أحييت بعد‬
‫الموت في الخرة‪ ،‬فتكون كليتك قدرة‪ ،‬تسمع بال‪ ،‬وتنطق بال‪ ،‬وتبصر بال‪،‬‬
‫وتبطش بال وتسعى بال‪ ،‬وتقل بال‪ ،‬وتطمئن وتسكن بال‪ ،‬فتعمى عن سواه‬
‫وتصم عنه فل ترى لغيره وجودًا مع حفظ الحدود والوامر والنواهي‪ ،‬فإن‬
‫أنخرم فيك شيء من الحدود فاعلم أنك مفتون متلعبة بك الشياطين‪ ،‬وأرجع‬
‫إلى حكم الشرع ودع عنك رأى الهوى‪ ،‬لن كل حقيقة لم تشهد لها الشريعة‬
‫فهي زندقة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫المقالة الحادية والربعون‬

‫مـثـل فـي الـفـنـاء و كـيـفـيـتـه‬

‫ل في الفناء فنقول‪ :‬أل‬ ‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬نضرب لك مث ً‬


‫ل من العوام ولية على بلدة من البلد‪ ،‬ويخلع عليه‬ ‫ترى أن الملك يولى رج ً‬
‫ويعقد له ألوية ورايات‪ ،‬ويعطيه الكؤوس والطبل والجند فيكون على برهة من‬
‫الزمان‪ ،‬حتى إذا اطمأن واعتقد بقاءه وثباته‪ ،‬وعجب به ونسي حالته الولى‬
‫ونقصانه وذله وفقره وخموله‪ ،‬وداخلته النخوة والكبرياء جـاءه العزل من‬
‫الملك في أشر ما كان من أمره‪ ،‬ثم طالبه الملك بجرائم صنعها وتعدى أمره‬
‫ونهيه فيها‪ ،‬فحبسه في أضيق الحبوس وأشدها‪ ،‬وطال حبسه ودام ضره له‬
‫وذله وفقره‪ ،‬وذابت نخوته وكبرياؤه‪ ،‬وانكسرت نفسه وخمدت نار هواه‪ ،‬وكل‬
‫ذلك في عين الملك ثم تعطف الملك عليه فنظره بعين الرأفة والرحمة‪ ،‬فأمر‬
‫بإخراجه من الحبس والحسان إليه‪ ،‬والخلعة عليه ورّد الولية إليه ومثلها‬
‫معها وجعلها له موهبة‪ ،‬فدامت له وبقيت مصفاة مكفاة مهنأة وكذلك المؤمن إذا‬
‫قربه ال إليه واجتباه فتح قبالة عين قلبه باب الرحمة والمنة والنعام‪ ،‬فيرى‬
‫بقلبه ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ ،‬من مطالعة‬
‫الغيوب من ملكوت السموات والرض وتقريب وكلم لذيذ لطيف ووعد‬
‫جميل‪ ،‬ووفاء به‪ ،‬وإجابة دعاء وكلمات حكمة وتصديق وعد‪ ،‬فإنها ترمى إليه‬
‫قلبه قذفًا من مكان بعيد فتظهر على لسانه‪ ،‬ومع ذلك يسبغ عليه نعمة ظاهرة‬
‫على جسده وجوارحه‪ ،‬في المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح الحلل‬
‫ل ذلك لعبده‬‫والمباح وحفظ الحدود والعبادات الظاهرة‪ ،‬فيديم ال عّز وج ّ‬
‫المؤمن المجذوب برهة من الزمان‪ ،‬حتى اطمأن العبد إلى ذلك واغتر به‬
‫واعتقد دوامه فتح عليه أبواب البليا وأنواع المحن في النفس والمال والهل‬
‫والولد والقلب فينقطع عنه جميع ما كان أنعم ال عليه من قبل‪ ،‬فيبقى متحيرًا‬
‫حسيرًا منكسرًا مقطوعًا به‪.‬‬

‫إن نظر إلى ظاهره رأى ما يسوؤه‪ ،‬وإن نظر إلى قلبه وباطنه رأى ما يحزنه‪،‬‬
‫وإن سأل ال تعالى كشف ما به من الضر لم ير إجابته‪ ،‬وإن طلب وعدًا جمي ً‬
‫ل‬
‫لم يجده سريعًا وإن وعد بشئ لم يعثر على الوفاء به‪ ،‬وإن رأى رؤيا لم يظفر‬
‫ل‪ ،‬وإن‬‫بتعبيرها وتصديقها‪ ،‬وإن رام الرجوع إلى الخلق لم يجد إلى ذلك سبي ً‬
‫ظهرت له في ذلك رخصة فعمل بها تسارعت العقوبات نحوه وتسلطت أيدي‬
‫الخلق على جسمه وأسنتهم على عرضه‪ ،‬وإن طلب القالة مما قد أدخل فيه‬
‫من الحالة الولى قبل الجتباء لم يقل‪ ،‬وإن طلب الرضا أو الطيبة والتنعم بما‬
‫به من البلء لم يعط فحينئذ يأخذ النفس في الذوبان والهوى في الزوال‬
‫والرادة والماني في الرحيل والكوان في التلشي‪ ،‬فيدام له ذلك بل يزداد‬
‫تشديدًا وعصرًا وتأكيدًا‪ ،‬حتى إذا فني العبد من الخلق النسانية والصفات‬
‫سٌل‬‫ك َهَذا ُمْغَت َ‬
‫جِل َ‬
‫ض ِبِر ْ‬
‫البشرية وبقى روحًا فقط يسمع نداء في باطنه {اْرُك ْ‬
‫ب}‪.‬ص ‪ .42‬كما قيل لسيدنا أيوب عليه السلم‪ ،‬فيمطر ال عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫شَرا ٌ‬
‫َباِرٌد َو َ‬
‫في قلبه بحار رحمته ورأفته ولطفه ومنته‪ ،‬ويحييه بروحه ويطيبه بمعرفته‬
‫ودقائق علومه‪ ،‬ويفتح عليه أبواب رحمته ونعمته ودلله‪ ،‬وأطلق إليه اليدي‬
‫بالبذل والعطاء والخدمة في سائر الحوال واللسن بالحمد والثناء‪ ،‬والذكر‬
‫الطيب في جميع المحال‪ ،‬والرجل بالترحال‪ ،‬وذلك له وسخر له الملوك‬
‫والرباب‪ ،‬وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة‪ ،‬تربيته ظاهرة بخلقه ونعمه‪،‬‬
‫ويستأثره تربيته باطنة بلطفه وكرمه‪ ،‬وأدام له ذلك إلى اللقاء‪ ،‬ثم يدخله فيما ل‬
‫ل وعل ‪َ{ :‬ف َ‬
‫ل‬ ‫عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ ،‬كما قال ج ّ‬
‫ن}‪.‬السجدة ‪.17‬‬ ‫جَزاء ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫ن َ‬
‫عُي ٍ‬
‫ي َلُهم ّمن ُقّرِة َأ ْ‬
‫خِف َ‬
‫س ّما ُأ ْ‬
‫َتْعَلُم َنْف ٌ‬

‫المقالة الثانية والربعون‬

‫فـي بـيـان حـالـتـي الـنـفـس‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬النفس لها حالتان ل ثالث لهما‪ :‬حالة‬
‫عافية‪ ،‬وحالة بلء‪ ،‬فإذا كانت في بلء فالجزع والشكوى والسخط والعتراض‬
‫والتهمة للحق جل وعل ل صبر ول رضى ول موافقة‪ ،‬بل سوء الدب‬
‫والشرك بالحق والسباب والكفر‪ ،‬وإذا كانت في عافية فالشره والبطر وإتباع‬
‫الشهوات واللذات‪ ،‬كلما نالت شهوة طلبت أخرى‪ ،‬واستحقرت ما عندها من‬
‫النعم من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح ومسكون ومركوب‪ ،‬فتخرج لكل‬
‫واحدة من هذه النعم عيوبًا ونقصًا‪ ،‬وتطلب أعلى منها وأسنى مما لم يقسم لها‪،‬‬
‫وتعرض عما قسم لها‪ ،‬فتوقع النسان في تعب طويل‪ ،‬ول ترضى بما في يديها‬
‫وما قسم لها‪ ،‬فيرتكب الغمرات ويخوض المهالك في تعب طويل ل غاية له‬
‫ول منتهى في الدنيا‪ ،‬ثم في العقبى‪ ،‬كما قيل‪ :‬إن من أشد العقوبات طلب ما ل‬
‫يقسم‪ .‬وإذا كانت في بلء ل تتمنى سوى انكشافها وتنسى كل نعيم وشهوة ولذة‬
‫ول تطلب شيئًا منها‪ ،‬فإذا عوفيت منها رجعت إلى رعونتها وشرها وبطرها‬
‫وإعراضها عن طاعة ربها وانهماكها في معاصيه‪ ،‬وتنسى ما كانت فيه من‬
‫أنواع البلء والضر وما حل بها من الويل‪ ،‬فترد إلى أشد ما كانت عليه من‬
‫أنواع البلء والضر‪ ،‬لما اجترحت وركبت من العظائم فطمًا لها وكفًا عن‬
‫المعاصى في المستقبل‪ ،‬إذ ل تصلح لها العافية والنعمة بل حفظها في البلء‬
‫والبؤس‪ ،‬فلو أحسنت الدب عند انكشاف البلية ولزمت الطاعة والشكر‬
‫والرضى بالمقسوم لكان خيرًا لها دنيا وأخرى‪ ،‬وكانت تجد زيادة في النعيم‬
‫والعافية والرضى من ال عز وجل والطيبة والتوفيق‪ ،‬فمن أراد السلمة في‬
‫الدنيا والخرى فعليه بالصبر والرضا‪ ،‬وترك الشكوى إلى الخلق وإنزال‬
‫حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه و النقطاع إليه عز‬
‫وجل‪ ،‬إذ هو خير من غيره ومن جميع خلقه‪ ،‬حرمانه عطاء‪ ،‬عقوبته نعماء‪،‬‬
‫بلؤه دواء‪ ،‬وعده نفذ‪ ،‬قوله فعل مشيئة حاله {ِإّنَما} وقوله وأمره َأْمُرُه {ِإَذا‬
‫ن}‪.‬يس ‪ .82‬كل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة‪،‬‬ ‫ن َفَيُكو ُ‬
‫ن َيُقوَل َلُه ُك ْ‬
‫شْيئًا َأ ْ‬
‫َأَراَد َ‬
‫غير أنه طوى على المصالح من عباده وتفرد به‪ ،‬فالولى واللئق بحاله‬
‫والرضى والتسليم‪ ،‬واشتغاله بالعبودية من أداء الوامر وانتهاء النواهي‬
‫والتسليم في القدر‪ ،‬وترك الشتغال في الربوبية التي هي علة القدار‬
‫ومحاربتها‪ ،‬والسكوت عن لم وكيف ومتى؟ والتهمة للحق عز وجل في جميع‬
‫حركاته وسكناته‪ ،‬وتستند هذه الجملة إلى حديث بن عباس رضي ال عنهما‪،‬‬
‫وهو ما روى عن عطاء بن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬بينما أنا رديف‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ قال لي ‪ :‬يا غلم "أحفظ ال يحفظك‪ ،‬أحفظ‬
‫ال تجده أمامك‪ ،‬فإذا سألت فاسأل ال‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بال‪ ،‬جف القلم بما‬
‫هو كائن" فلو جهد العباد أن يضروك بشئ لم يقضه ال عليك لم يقدروا عليه‬
‫فإن استطعت أن تعامل الناس بالصدق واليقين فاعمل‪ ،‬وإن لم تستطع فإن‬
‫الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا‪ .‬وأعلم أن النصرة بالصبر والفرج مع‬
‫الكرب‪ ،‬وإن مع العسر يسرًا‪ ،‬فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة‬
‫لقلبه وشعاره ودثاره وحديثه‪ ،‬فيعمل به في جميع حركاته وسكناته حتى يسلم‬
‫ل‪.‬‬
‫في الدنيا والخرة ويجد العزة فيهما‪ ،‬برحمة ال عّز وج ّ‬

‫المقالة الثالثة والربعون‬

‫فـي ذم الـســؤال مـن غـيـر ال تـعـالـى‬

‫قـال قـّدس ال ســّره ‪ :‬ما سأل الناس من سأل إل لجهله بال عّز وجلّ‬
‫وضعف إيمانه ومعرفته ويقينه وقلة صبره‪ ،‬وما تعفف من تعفف عن ذلك إل‬
‫ل في‬
‫ل وقوة إيمانه ويقينه وتزايد معرفته بربه عّز وج ّ‬
‫لوفور علمه بال عّز وج ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫كل يوم ولحظة وحياته منه عّز وج ّ‬

‫المقالة الرابعة والربعون‬

‫فـي ســبـب عـدم اســتـجـابـة دعـاء الـعـارف بـال تـعـالـى‬


‫قـال قـّدس ال ســّره ‪ :‬إنما لم يستجب للعارف كلما يسأل ربه عز وجل‬
‫ويوفى له بكل وعد لئل يغلب عليه الرجاء فيهلك‪ ،‬لن ما من حالة ومقام إل‬
‫ولذاك خوف ورجاء هما جناحي طائر ل يتم اليمان إل بهما وكذلك الحال‬
‫والمقام‪ ،‬غير أن خوف كل حالة ورجاءها بما يليق بها‪ ،‬فالعارف مقرب‬
‫وحالته ومقامه أن ل يريد شيئًا سوى موله عز وجل ول يركن ول يطمئن إلى‬
‫غيره عز وجل‪ ،‬ول يستأنس بغيره‪ ،‬فطلبه لجابة سؤاله والوفاء بعهده غير ما‬
‫هو بصدده ولئق بحاله ففي ذلك أمران اثنان ‪ :‬أحدهما لئل يغلب عليه الرجاء‬
‫والغرة بمكر ربه عز وجل فيغفل عن القيام بالدب فيهلك‪ ،‬والخر شركه بربه‬
‫عز وجل يشئ سواه‪ ،‬إذ ل معصوم في العالم في الظاهر بعد النبياء عليهم‬
‫وعلى نبينا أفضل الصلة والسلم‪ ،‬فل يجيبه ول يوفى له كيل‪ ،‬يسأل عادة‬
‫ويريده طبعًا ل امتثال للمر‪ ،‬لما في ذلك من الشرك والشرك كبيرة في‬
‫الحوال كلها والقدام جميعها والمقامات بأسرها‪.‬‬

‫وأما إذا كان السؤال بأمر فذلك مما يزيده قربًا كالصلة والصيام وغيرهما من‬
‫ل للمر‪.‬‬‫الفرائض والنوافل‪ ،‬لنه يكون في ذلك ممتث ً‬

‫المقالة الخامسة والربعون‬

‫فـي الـنـعـمـة و البـتـلء‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إن الناس رجلن‪ :‬منعم عليه‪،‬‬
‫ومبتلى بما قضى ربه عز وجل ‪ ،‬فالمنعم ل يخلو من المعصية والتكدر فيما‬
‫أنعم عليه‪ ،‬فهو في أنعم ما يكون من ذلك إذ جاء القدر بما يكدره عليه من‬
‫أنواع البليا من المراض والوجاع والمصائب في النفس والمال والهل‬
‫والولد فيتعظ بذلك‪ ،‬فكأنه لم ينعم عليه قط وينسى ذلك النعيم وحلوته وإن‬
‫كان الغنى قائمًا بالمال والجاه والعبيد والماء والمن من العداء فهو في حال‬
‫ل {َفّعاٌل ّلَما‬
‫النعماء كأن ل بلء في الوجود‪ ،‬كل ذلك لجهله بموله عّز وج ّ‬
‫ُيِريُد}‪.‬هود ‪.107‬البروج ‪ .16‬يبدل‪ ،‬ويحلى ويمر‪ ،‬ويغنى ويفقر‪ ،‬ويرفع ويخفض‪،‬‬
‫ويعز ويذل ويحيى ويميت‪ ،‬ويقدم ويؤخر‪ .‬لما اطمأن إلى ما به من النعيم‪ ،‬ولما‬
‫اغتر به‪ ،‬ولما أيس من الفرج في حالة البلء‪ ،‬وبجهله أيضًا بالدنيا اطمأن إليها‬
‫وطلب بها صفاء ل يشوبه كدر‪ ،‬ونسى إنها دار بلء وتنغيص‪ ،‬وتكاليف‬
‫وتكدير وأن أصلها بلء وطارفها نعماء فهي كشجرة الصبر أول ثمرتها مر‬
‫وآخرها شهد حلو‪ ،‬ل يصل المرء إلى حلوتها حتى يتجرع مرارتها‪ ،‬فلن يبلغ‬
‫إلى الشهد إل بالصبر على المر‪ ،‬فمن صبر على بلئها حلى له نعيمها‪ ،‬إنما‬
‫يعطى الجير أجره بعد عروق جبينه وتعب جسده وكرب روحه وضيق‬
‫صدره وذهاب قوته وإذلل نفسه وكسر هواه في خدمة مخلوق مثله‪ ،‬فلما‬
‫تجرع هذه المرائر كلها أعقبت له طيب طعام وإدام وفاكهة ولباس وراحة‬
‫وسرور ولو أقل قليل‪ ،‬فالدنيا أولها مرة كالصحفة العليا من عسل في ظرف‬
‫مشوبة بمرارة‪ ،‬فل يصل الكل إلى قرار الظرف ويتناول الخالص منه إل بعد‬
‫تناول الصحفة العليا‪ ،‬فإذا صبر العبد على أداء أوامر الرب عز وجل وانتهاء‬
‫نواهيه والتسليم والتفويض فيما يجرى به القدر‪ ،‬وتجرع مرائر ذلك كله‬
‫وتحمل أثقاله‪ ،‬وخالف هواه وترك مراده‪ .‬أعقبه ال عز وجل بذلك طيب‬
‫العيش في آخر عمره والدلل والراحة والعزة‪ ،‬ويتوله ويغذيه كما يغذى‬
‫الطفل الرضيع من غير تكلف منه وتحمل مؤنة وتبعة في الدنيا والخرى كما‬
‫يتلذذ آكل المر من الصحفة العليا من العسل يأكله من قرار الظرف‪ ،‬فينبغي‬
‫للعبد المنعم عليه أن ل يأمن مكر ال عز وجل فيغتر بالنعمة ويقطع بدوامها‪،‬‬
‫ويغفل عن شكرها ويرخى قيدها بتركه لشكرها‪ .‬قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪) :‬النعمة وحشية فقيدوها بالشكر( فشكر نعمة المال العتراف بها للمنعم‬
‫المتفضل وهو ال عز وجل والتحدث بها لنفسه في سائر الحوال ورؤية فضله‬
‫ومنته عز وجل وأن ل يتملك عليه ول يتجاوز حده فيه‪ ،‬ول يترك أمره فيه‪ ،‬ثم‬
‫بأداء حقوقه من الزكاة والكفارة والنذر والصدقة‪ ،‬وإغاثة الملهوف‪ ،‬وافتقاد‬
‫أرباب الحاجات وأهلها في الشدائد عند تقلب الحوال وتبدل الحسنات‬
‫بالسيئات‪ ،‬أعنى ساعات النعيم والرخاء بالبأساء والضراء‪ .‬وشكر نعمة العافية‬
‫في الجوارح والعضاء في الستعانة بها على الطاعات والكف عن المحارم‬
‫والسيئات والمعاصي والثام فذلك قيد النعم عن الرحلة والذهاب‪ ،‬وسقى‬
‫شجرتها وتنمية أغصانها وأوراقها‪ ،‬وتحسين ثمرتها‪ ،‬وحلوة طعمها وسلمة‬
‫عاقبتها‪ ،‬ولذة مضغها‪ ،‬وسهولة بلها‪ ،‬وتعقب عافيتها وريعها في الجسد‪ ،‬ثم‬
‫ظهور بركتها على الجوارح من أنواع الطاعات والقربات والذكار‪ ،‬ثم دخول‬
‫العبد بعد ذلك في الخرة في رحمة ال عز وجل‪ .‬والخلود في الجنان مع –‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا – فإن لم يفعل‬
‫ذلك واغتر بما ظهر من زينة الدنيا وبما ذاق من لذتها‪ ،‬واطمأن إلى بريق‬
‫سرابها وما لح من بريقها وما هب من نسيم أول نهار قيظها‪ ،‬ونعمومة جلود‬
‫حياتها وعقاربها‪ ،‬وغفل وعمى عن سمومها القاتلة المودعة في أعماقها‪،‬‬
‫ومكامنها ومصايدها المنصوبة لخذه وحبسه وهلكه‪ ،‬فليهنأ للردى وليستبش‬
‫بالعطف والفقر العاجل‪،‬مع الذل والهوان في الدنيا والعذاب الجل في النار‬
‫ولظى‪.‬‬

‫وأما المبتلى‪ .‬فتارة يبتلى عقوبة ومقابلة لجريمة ارتكبها ومعصية اقترفها‬
‫وأخرى يبتلى تكفيرًا وتحميصًا‪ ،‬وأخرى يبتلى لرتفاع الدرجات وتبليغ‬
‫المنازل العاليات ليلحق بأولى العالم من أهل الحالت والمقامات‪ ،‬مما سبقت‬
‫لهم عناية من رب الخليقة والبريات‪ ،‬وسيرهم مولهم ميادين البليات على‬
‫مطايا الرفق واللطاف‪ ،‬وروحهم بنسيم النظرات واللحظات في الحركات‬
‫والسكنات‪ ،‬إذ لم يكن ابتلهم للهلك والهواء في الدركات‪ ،‬ولكن اخبرهم‬
‫بها للصطفاء والجتباء واستخراج بها منهم حقيقة اليمان وصفاها وميزها‬
‫من الشرك والدعاوى والنفاق‪،‬ونحلهم بها أنواع العلوم والسرار والنوار‪،‬‬
‫فجعلهم من اخلص الخواص‪ ،‬ائتمنهم على أسراره‪ ،‬وارتضاهم لمجالسته‪ .‬قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪) :‬الفقراء الصبر جلساء الرحمن يوم القيامة( دنيا‬
‫وأخرى‪ ،‬في الدنيا بقلوبهم وفى الخرة بأجسادهم‪ ،‬فكانت البليا مطهرة‬
‫لقلوبهم من دون الشرك‪ ،‬والتعلق بالخلق والسباب والماني والرادات‪،‬‬
‫وذوابة لها وسباكة من الدعاوى والهوسات‪ ،‬وطلب العواض بالطاعات من‬
‫الدرجات والمنازل العاليات في الخرة في الفردوس والجنات‪.‬‬

‫فعلمة البتلء على وجه المقابلة والعقوبات‪ ،‬عدم الصبر عن وجودها‬


‫والجزع والشكوى إلى الخليقة والبريات‪.‬‬

‫وعلمة البتلء تكفيرًا وتمحيصًا للخطيات وجود الصبر الجميل من غير‬


‫شكوى وإظهار الجزع إلى الصدقاء والجيران والتضجر بأداء الوامر‬
‫والطاعات‪.‬‬

‫وعلمة البتلء ارتفاع وجود الرضا والموافق‪ ،‬وطمأنينة النفس والسكون‬


‫بفعل إله الرض والسموات‪ ،‬والفناء فيها إلى حين النكشاف بمرور اليام‬
‫والساعات‪.‬‬

‫المقالة السادسة والربعون‬

‫فـي قـولـه عـز و جـل فـي الـحـديـث الـقـدســي‬


‫) مـن شــغـلـه ذكـرى…( إلـى آخــره‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬في قوله النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫عن ربى عز وجل ‪) :‬من شغله ذكرى عن مسئلتى أعطيته أفضل ما أعطى‬
‫السائلين( وذلك أن المؤمن إذا أراد ال عز وجل اصطفاءه واجتباءه‪ ،‬سلك به‬
‫الحوال وامتحنه بأنواع المحن والبليا فيفقره بعد الغنى ويضطره إلى مسألة‬
‫الخلق في الرزق عند سد جهاته عليه‪ ،‬ثم يصونه عن مسألتهم ويضطره إلى‬
‫الكسب ويسهله وييسره له فيأكل بالكسب الذي هو السنة‪ ،‬ثم يعسره عليه‬
‫ويلهمه السؤال للخلق‪ ،‬ويأمره به بأمر باطن يعلمه ويعرفه ويجعل عبادته فيه‬
‫ومعصيته في تركه‪ ،‬ليزول بذلك هواه وتنكسي نفسه وهى حالة الرياضة‬
‫فيكون سؤاله على وجه الجبار ل على وجه الشرك بالجبار‪ ،‬ثم يصونه عن‬
‫ذلك ويأمره بالفرض منهم أمرًا جزمًا ل يمكنه تركه كالسؤال من قبل ثم ينقله‬
‫من ذلك ويقطعه عن الخلق ومعاملتهم‪ ،‬فيجعل رزقه في السؤال له عز وجل‬
‫فيسأله جميع ما يحتاج إليه فيعطيه عز وجل ول يقطعه إن سكت وأعرض عن‬
‫السؤال‪ ،‬ثم ينقله من السؤال باللسان إلى السؤال القلب فيسأله بقلبه جميع ما‬
‫يحتاج فيعطيه حتى أنه لو سأله جملة ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬فيناديه بجميع ما يصلحه‬
‫ويقوم به أوده من المأكول والمشروب والملبوس وجميع مصالح البشر من‬
‫غير أن يكون هو فيها أو تخطر بباله‪ .‬فيتوله عز وجل وهو قوله عز وجل {‬
‫ن}‪.‬العراف ‪ .196‬فيتحقق‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ب َوُهَو َيَتَوّلى ال ّ‬‫ل اّلِذي َنّزَل اْلِكَتا َ‬
‫يا ّ‬
‫ن َوِلّيـ َ‬
‫ِإ ّ‬
‫حينئذ قوله عز وجل )من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى‬
‫السائلين( وهى حالة الفناء التي هي غاية أحوال الولياء والبدال ثم قد يرد‬
‫إلى التكوين فيكون جميع ما يحتاج إليه بإذن ال وهو قوله جل وعل في بعض‬
‫كتب "يا ابن آدم أنا ال الذي ل غليه إل أنا أقول للشئ كن فيكون‪ ،‬أطعني‬
‫أجعلك تقول للشئ كن فيكون"‪.‬‬

‫المقالة السابعة والربعون‬

‫فـي الـتـقـرب إلـى ال تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬سألني رجل شيخ في المنام فقال ‪:‬‬
‫ل ؟؟ فقلت ‪ :‬لذلك ابتداء وانتهاء فابتداؤه‬
‫أي شئ يقرب العبد إلى ال عّز وج ّ‬
‫الورع وانتهاؤه الرضى والتسليم والتوكل‪.‬‬

‫المقالة الثامنة والربعون‬

‫فـي مـا يـنـبـغـي لـلـمـؤمـن أن يـشــتـغـل بـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ينبغي للمؤمن أن يشتغل أولً‬


‫بالفرائض‪ ،‬فإذا فرغ منها اشتغل بالسنن‪ ،‬ثم يشتغل بالنوافل والفضائل‪ ،‬فما لم‬
‫يفرغ من الفرائض فالشتغال بالسنن حمق ورعونة‪ ،‬فإن اشتغل بالسنن‬
‫والنوافل قبل الفرائض لم يقبل منه وأهين‪ ،‬فمثله مثل رجل يدعوه الملك إلى‬
‫خدمته فل يأتي إليه ويقف في خدمة المير الذي هو غلم الملك وخادمه‬
‫وتحت يده ووليته‪.‬‬

‫عن أمير المؤمنين سيدنا على بن أبى طالب رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪) :‬إن مثل مصلى النوافل قبل الفرائض مثل حبلى‬
‫حملت فلما دنا نفاسها أسقطت فل هي ذات حمل ول هي ذات ولدة( كذلك‬
‫المصلى ل يقبل ال له نافلة حتى يؤدى الفريضة‪ .‬ومثل المصلى كمثل التاجر‬
‫ل يخلص له ربحه حتى يأخذ رأس ماله‪ ،‬وكذلك المصلى بالنوافل ل تقبل له‬
‫نافلة حتى يؤدى الفريضة‪ ،‬وكذلك من ترك السنة واشتغل بنافلة لم ترتب مع‬
‫الفرائض ولم ينص عليها ويؤكد أمرها فمن الفرائض ترك الحرام والشرك‬
‫بال عز وجل في خلقه‪ ،‬والعتراض عليه في قدره وقضائه وإجابة الخلق‬
‫وطاعتهم‪ ،‬والعراض عن أمر ال عز وجل وطاعته‪ ،‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪) :‬ل طاعة لملخوق في معصية خالق(‪.‬‬

‫المقالة التاسعة والربعون‬

‫فـي ذم الــنـــوم‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬من اختار النوم على الذي هو سبب‬
‫اليقظة فقد اختار النقص والدنى واللحوق بالموت والغفلة عن جميع‬
‫المصالح‪ ،‬لن النوم أخو الموت ولهذا ل يجوز النوم على ال لما انتفى عز‬
‫وجل عن النقائض أجمع‪ ،‬وكذلك الملئكة لما قربوا منه عز وجل نفى النوم‬
‫عنهم‪ ،‬وكذلك أهل الجنة لما كانوا في أرفع المواضع وأطهرها وأنفسها‬
‫وأكرمها نفى النوم عنهم لكونه نقصًا في حالتهم‪ ،‬فالخير كل الخير في اليقظة‪،‬‬
‫والشر كل الشر في النوم والغفلة‪ ،‬فمن أكل بهواه أكل كثيرًا فشرب كثيرًا فنام‬
‫ل من الحرام كان كمن‬ ‫ل وفاته خير كثير‪ ،‬ومن أكل قلي ً‬
‫كثيرا فندم كثيرًا طوي ً‬
‫أكل كثيرًا من المباح بهواه‪ ،‬لن الحرام يغطى اليمان فل صلة ول عبادة ول‬
‫ل في النشاط‬ ‫إخلص‪ ،‬ومن أكل من الحلل كثيرًا بالمر كان كمن أكل منه قلي ً‬
‫في العبادة والقوة‪ ،‬فالحلل نور في نور‪ ،‬والحرام ظلمة في ظلمة‪ ،‬ل خير فيه ‪.‬‬
‫أكل الحلل بهواه بغير المر‪ ،‬وأكل الحرام مستجلبان للنوم‪ ،‬فل خير فيه‪.‬‬
‫المقالة الخمسون‬

‫فـي عـلج دفـع الـبـعـد عـن ال تـعـالـى‬


‫و بـيـان كـيـفـيـة الـتـقـرب مـنـه تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل يخلو أمرك من قسمين‪:‬‬

‫ل إليه‪ ،‬فإن كنت غائباً‬


‫إما أن تكون غائبًا عن القرب من ال أو قريبًا منه واص ً‬
‫عنه فما قعودك وتوانيك عن الحظ الوفر والنعيم والعز الدائم والكفاية الكبرى‬
‫والسلمة والغنى والدلل في الدنيا والخرى؟ فقم وأسرع في الطيران إليه عز‬
‫وجل بجناحين‪ :‬أحداهما‪ :‬ترك اللذات والشهوات الحرام منها والمباح‬
‫والراحات أجمع‪.‬‬

‫والخر احتمال الذى والمكاره وركوب العزيمة والشد‪ ،‬والخروج من الخلق‬


‫والهوى والرادات والمنى دنيا وأخرى حتى تظفر بالوصول والقرب‪ ،‬فتجد‬
‫عند ذلك جميع ما تتمنى‪ ،‬وتحصل لك الكرامة العظمى والعزة الكبرى فإن‬
‫كنت من المقربين الواصلين إليه عز وجل ممن أدركتهم العناية وشملتهم‬
‫الرعاية وجذبتهم المحبة ونالتهم الرحمة والرأفة‪ ،‬فأحسن الدب ول تغتر بما‬
‫أنت فيه‪ ،‬فتقصر في الخدمة‪ ،‬ول تخلد إلى الرعونة الصلية من الظلم والجهل‬
‫جُهوًل}‪.‬الحزاب ‪.72‬‬
‫ظُلومًا َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِإّنُه َكا َ‬
‫سا ُ‬
‫حَمَلَها اِْلن َ‬
‫والعجل في قوله تعالى ‪َ{ :‬و َ‬
‫جوًل}‪.‬السراء ‪ .11‬وأحفظ قلبك من اللتفات إلى‬ ‫عُ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ُ‬‫ن اِلن َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ{ :‬وَكا َ‬
‫ما تركته من الخلق والهوى والرادة والتخير وترك الصبر والموافقة والرضا‬
‫عند نزول البلء‪ ،‬واستطرح بين يدي ال عز وجل كالكرة بين يدي الفارس‬
‫يقلبها بصولجانه‪ ،‬والميت بين يدي الغاسل‪ ،‬والطفل الرضيع في حجر أمه‬
‫وظئره‪ ،‬تعامى عمن سواه عز وجل فل ترى لغيره وجودًا ول ضرًا ول نفعًا‬
‫ول عطاء ول منعًا‪ ،‬أجعل الخليقة والسباب عند الذية والبلية كسوطه عز‬
‫وجل يضربك به‪ ،‬وعند النعمة والعطية كيده يلقمك بها‪.‬‬

‫المقالة الحادية والخمسون‬

‫فـي الـــزهــــــد‬
‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الـزاهـد يثاب بسبب القسام مرتين‬
‫ل‪ ،‬فل يأخذها بهواه و موافقة النفس‪ ،‬بل يأخذها بمجرد‬ ‫يثاب في تركها أو ً‬
‫عد من المحقين و أهل‬ ‫المر‪ ،‬فإذا تحققت عداوته لنفسه و مخالفته لهواه ُ‬
‫الولية و أدخل في زمرة البدال و العارفين أمر حنيئذ بتناولها و التلبس بها‪،‬‬
‫إذ هي قسمة لبد له منها لم تخلق لغيره‪ ،‬جف بها القلم و سبق بها العلم‪ ،‬فإذا‬
‫امتثل المر فتناول أو أطلع بالعلم فتلبس بها بجريان القدر و الفعل فيه من‬
‫غيري أن يكون هو فيه‪ ،‬ل هوى و ل إرادة و ل همة أثيب بذلك ثانيًا‪ ،‬هو‬
‫ممتثل للمر بذلك أو موافق لفعل الحق عز و جل فيه‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬كيف أطلقت القول بالثواب لمن هو في المقام الخير الذي‬
‫ذكرته من أنه أدخل في زمرة البدال و العارفين المفعول فيهم‪ ،‬الفانين عن‬
‫الخلق و النفس و الهوية و الرادات و الحظوظ و الماني و العواض على‬
‫ل من ال عز و جل و نعمة‬ ‫العمال الذين يرون جميع طاعاتهم و عباداتهم فض ً‬
‫و رحمة و توفيقا و تيسيرًا منه عز و جل ويعتقدون أنهم عبيد ال عز و جل ‪،‬‬
‫و العبد ل يستحق على موله حقًا‪ ،‬إذ هو برمته مع حركاته و سكناته و أكسابه‬
‫ملك لموله‪ ،‬فكيف يقال في حقه يثاب و هو ل يطلب ثوابًا و ل عوضًا على‬
‫ل‪ ،‬بل يرى نفسه من البطالين و أفلس المفلسين من‬ ‫فعله و ل يرى له عم ً‬
‫العمال‪.‬‬

‫فتقول ‪ :‬صدقت‪ ،‬غير أن ال عز و جل يواصله بفضله و يدلـله بنعمه و يربيه‬


‫بلطفه و رأفته و بره و رحمته و كرمه‪ ،‬إذ كف يده عن مصالح نفسه و طلب‬
‫الحظوظ لها و جلب النفع إليها و دفع الضر عنها‪ ،‬فهو كالطفل الرضيع الذي‬
‫ل حراك له في مصالح نفسه و هو مدلل بفضل ال عز و جل و رزقه الدار‬
‫على يدي والديه الوكيلين الكفيلين‪ ،‬فلما سلب عنه مصالح نفسه عطف قلوب‬
‫الخلق عليه و أوجد رحمة و شفقة له في القلوب حتى كل واحد يرحمه و‬
‫ن عن سوى ال الذي ل يحركه غيره أمره‬ ‫يتعطف عليه و يبره‪ ،‬فهكذا الكل فا ٍ‬
‫أو فعله مواصل بفضل ال عز و جل دنيا و أخرى مدلل فيهما مدفوع عنه‬
‫ل اّلِذي َنّزَل اْلِكَتابَ َوُهَو َيَتَوّلى‬
‫يا ّ‬
‫ن َوِلّيـ َ‬
‫الذى متولي‪ ،‬قال تعالى ‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ن}‪.‬العراف ‪.196‬‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ال ّ‬
‫المقالة الثانية والخمسون‬

‫فـي سبب ابتلء طائفة من المؤمنين‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إنما يبتلى ال طائفة من المؤمنين‬


‫الحباب من أهل الولية ليردهم بالبلء إلى السؤال فيحب سؤالهم‪ ،‬فإذا سألوا‬
‫يحب إجابتهم فيعطى الكرم والجود حقهما لنهما يطالبان لنه عز و جل عند‬
‫سؤال المؤمنين من الجابة‪ ،‬وقد تحصل الجابة ول يحصل النقد والنقاد‬
‫لتعويق القدر ل على وجه عدم الجابة والحرمان‪ ،‬فليتأدب العبد عند نزول‬
‫البلء‪ ،‬وليفتش عن ذنوبه في ترك الوامر وارتكاب المناهى ما ظهر منا وما‬
‫بطن‪ .‬والمنازعة في القدر إذا تعاقب عليه‪ ،‬إنما يبتلى بذلك مقابلة‪ ،‬فان انكشف‬
‫البلء‪ ،‬وإل‪ ،‬فليتخذ إلى الدعاء والتضرع والعتذار فيديم بالسؤال لجواز أن‬
‫يكون ابتله ليسأله‪ ،‬ول يتهمه لتأخير الجابة لما بيناه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫المقالة الثالثة والخمسون‬

‫فـي المـر بـطـلـب الرضا مـن ال و الـفـنـاء بـه تـعـالـى‬

‫ل الرضا أو‬ ‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أطلبوا من ال عّز و ج ّ‬


‫الفناء‪ ،‬لنه هو الراحة الكبرى والجنة العالية المنفرة في الدنيا‪ ،‬وهو باب ال‬
‫الكبر وعلة محبة ال لعبده المؤمن‪ ،‬فمن أحبه ال لم يعذبه في الدنيا والخرة‬
‫ل والوصول إليه‪ ،‬ول تشتغلوا بطلب الحظوظ وأقسام‬ ‫فيه اللحوق بال عّز و ج ّ‬
‫لم تقسم أو قسمت‪ ،‬فإن كانت لم تقسم فالشتغال بطلبها حمق ورعونة وجهالة‪،‬‬
‫وهو أشد العقوبات‪ ،‬كما قيل‪ :‬من أشد العقوبات طلب ما ل يقسم وإن كانت‬
‫مقسومة فالشتغال بها شره وحرص وشرك من باب العبودية والمحبة‬
‫ل شرك‪ ،‬وطالب الحظ ليس بصادق‬ ‫والحقيقية‪ ،‬لن الشتغال بغير ال عّز و ج ّ‬
‫في محبته ووليته فمن احتال مع ال غيره فهو كذاب وطالب العوض على‬
‫عمله غير مخلص‪ ،‬وإنما المخلص من عبد ال ليعطى الربوبية حقها للمالكية‬
‫ل يملكه ويستحق عليه العمل والطاعة له بحركاته‬ ‫والحقيقة‪ ،‬لن الحق عّز و ج ّ‬
‫وسكناته وسائر أكسابه‪ ،‬والعبد وما في يده ملك لموله كيف وقد بينا في غير‬
‫موضع أن العبادات بأسرها نعمة من ال وفضل منه على عبده إذ وفقه لها‬
‫وأقدره عليها‪ ،‬فالشتغال بالشكر لربه خير وأولى من طلبه من العواض أو‬
‫الجزاء عليها‪ ،‬ثم كيف تشتغل بطلب الحظوظ‪ ،‬وقد ترى خلقًا كثيرًا كلما كثرت‬
‫الحظوظ عندهم وتواترت وتتابعت اللذات والنعم والقسام إليهم زاد سخطهم‬
‫على ربهم وتضجرهم وكفرهم بالنعمة وكثرة هموهم وغمومهم وفقرهم إلى‬
‫أقسام لم تقسم غير ما عندهم وحقرت وصغرت وقبحت أقسامهم عندهم‬
‫وعظمت وكبرت وحسنت أقسام غيرهم وأنحلت قواهم‪ ،‬وكبرت سنهم وشتت‬
‫أحوالهم وتعبت أجسادهم وعرقت جباههم وسودت صحائفهم بكثرة آثامهم‬
‫وارتكاب عظائم الذنوب في طلبها وترك أوامر ربهم فلم ينالوها وخرجوا من‬
‫الدنيا مفاليس ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء‪ ،‬ل شكروا ربهم فيما قسم لهم من‬
‫اقسامهم فاستعانوا بها على طاعته‪ .‬وما نالوا ما طلبوا من أقسام غيرهم‪ ،‬بل‬
‫ضيعوا دنياهم وآخرتهم‪ ،‬فهم أشر الخليقة وأجهلهم وأحمقهم وأخسهم عقو ً‬
‫ل‬
‫وبصيرة‪ ،‬فلو أنهم رضوا بالقضاء وقنعوا بالعطاء وأحسنوا طاعة المولى‬
‫لتتهم أقسامهم من الدنيا من غير تعب ول عناء‪ ،‬ثم نقلوا إلى جوار العلي‬
‫العلى فوجدوا عنده كل مراد ومنى‪ ،‬جعلنا ال وإياكم ممن رضي بالقضاء‪،‬‬
‫وجعل سؤاله ذلك والفناء وحفظ الحال والتوفيق بما يحبه ويرضى‪.‬‬

‫المقالة الرابعة والخمسون‬

‫فـي مـن أراد الـوصـول إلـى ال تـعـالـى‬


‫و بـيـان كـيـفـيـة الـوصـول إلـيـه تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬من أراد الخرة فعليه بالزهد في‬
‫الدنيا‪ ،‬و من أراد ال فعليه بالزهد في الخرة‪ ،‬فيترك دنياه لخرته و آخرته‬
‫لربه‪ ،‬فما دام في قلبه شهوة من شهوات الدنيا و لذة من لذاتها و طلب راحة‬
‫من راحتها من سائر الشياء من مأكول و مشروب و ملبوس و منكوح و‬
‫مسكون و مركوب‪ ،‬و ولية‪ ،‬و رياسة و طبقة في علم من فنون العلم من الفقه‬
‫فوق العبادات الخمس‪ ،‬و رواية الحديث و قراءة القرآن بروايته‪ ،‬و النحو و‬
‫اللغة و الفصاحة و البلغة‪ ،‬و زوال الفقر و وجود الغنى و ذهاب البلية و‬
‫مجيء العافية‪ ،‬و في الجملة انكشاف الضر و نجئ النفع فليس بزاهد حقًا لن‬
‫كل واحد من هذه الشياء فيه لذة النفس و موافقة الهوى و راحة الطبع و حب‬
‫له‪ ،‬و كل ذلك من الدنيا و مما يحبب البقاء فيها و يحصل السكون و الطمأنينة‬
‫إليها‪ ،‬فينبغي أن يجاهد في إخراج جميع ذلك عن القلب‪ ،‬و يأخذ نفسه بإزالة‬
‫ذلك و قلعه و الرضا بالعدم و الفلس و الفقر الدائم‪ ،‬فل يبقى من ذلك مقدار‬
‫مص نواة ليخلص زهده في الدنيا‪ ،‬فإذا تم له ذلك زالت الغموم و الحزان من‬
‫القلب و الكرب عن الحشا‪ ،‬و جاءت الراحات و الطيب و النس بال كما قال‬
‫عز و جل‪ ) :‬الزهد في الدنيا يريح القلب و الجسد ( فما دام في قلبه شئ من‬
‫ذلك فالهموم و الخوف و الوجل قائم في القلب و الخذلن لزم له‪ ،‬و الحجاب‬
‫عن ال عز و جل وعن قربه متكاثف متراكم فل ينكشف جميع ذلك إل بزوال‬
‫حب الدنيا على الكمال و قطع العلئق بأثرها‪ ،‬ثم يزهد في الخرة‪ ،‬فل يطلب‬
‫الدرجات و المنازل العاليات و الحور و الولدان و الدور و القصور و البساتين‬
‫و المراكب و الخيل و الحلي و المآكل و المشارب و غير ذلك مما أعده ال‬
‫تعالى لعباده المؤمنين‪ ،‬فل يطلب على عمله جزاء أو أجرًا من ال عز و جل‬
‫ل منه و‬
‫البتة دنيا و ل أخرى‪ ،‬فحنيئذ يجد ال عز و جل فيؤتيه حسابه تفض ً‬
‫رحمة‪ ،‬فيقربه منه و يدنيه و يلطف به و يتعرف إليه بأنواع ألطافه و بره كما‬
‫هو دأبه عز و جل مع رسله و أنبيائه و أوليائه و خواصه و أحبابه أولى العلم‬
‫به عز و جل فيكون العبد كل يوم في مزيد أمره مدة حياته‪ .‬ثم ينتقل إلى دار‬
‫الخرة إلى ما ل عين رأت و ل أذن سمعت و ل خطر على قلب بشر‪ ،‬مما‬
‫تضيق عنه الفهام و تعجز عن و صفه العبارات‪ ،‬و ال أعلم‪.‬‬
‫المقالة الخامسة والخمسون‬

‫فــي تــرك الـحــظــوظ‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ترك الحظوظ ثلث مرات‪ :‬الولى‬
‫يكون العبد مارًا في عشواه متخبطًا فيه متصرفًا بطبعه في جميع أحواله من‬
‫غير تعبد لربه و لزم في الشرع يرده و ل جده من جدود ينتهي إليه عن‬
‫حكمه‪ ،‬فبينما هو على ذلك ينظر ال إليه يعنى يرحمه‪ ،‬فيبعث ال إليه واعظًا‬
‫من خلقه من عباده الصالحين فينبهه‪ ،‬و يثنيه بواعظ من نفسه‪ ،‬فيتضافر‬
‫الواعظان على نفسه و طبعه‪ ،‬فتعمل الموعظة عملها‪ ،‬فتبين عندها عيب ما‬
‫هي فيه من ركوب مطية الطبع و المخافة فتميل إلى الشرع في جميع‬
‫تصرفاتها فيصير العبد مسلمًا قائمًا مع الشرع فانيًا عن الطبع‪ ،‬فيترك حرام‬
‫الدنيا و شبهاتها و منن الخلق‪ ،‬فيأخذ مباح الحق عز و جل و حلل الشرع في‬
‫مأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و جميع ما لبد منه‪ ،‬لتحتفظ البنية و يتقوى‬
‫على طاعة الرب عز و جل‪ ،‬و ليستوفى قسمه المقسوم له الذي ل يتجاوزه و‬
‫ل سبيل إلى الخروج من الدنيا قبل تناوله و التلبس به و استيفائه فيسير على‬
‫مطية المباح و الحلل في الشرع في جميع أحواله تنتهي به هذه المطية إلى‬
‫عتبة الولية و الدخول في زمرة المحققين و الخواص أهل العزيمة مريدي‬
‫الحق‪ ،‬فيأكل بالمر‪ ،‬فحينئذ يسمع نداء من قبل الحق عز و جل من باطنه‪:‬‬
‫أترك نفسك و تعال‪ ،‬أترك الحظوظ و الخلق إن أردت الخالق‪ ،‬و أخلع نعليك‪،‬‬
‫و دنياك و آخرتك‪ ،‬و تجرد عن الكوان و الموجودات و ما سيوجد و الماني‬
‫بأسرها‪ ،‬و تعر عن الجميع وافن عن الكل و تطيب بالتوحيد و أترك الشرك و‬
‫صدق الرادة‪ .‬ثم وطء البساط بالدب مطرقًا‪ ،‬ل تنظر يمينًا إلى الخرة و ل‬
‫ل إلى الدنيا و ل إلى الخلق و ل إلى الحظوظ‪ ،‬فإذا دخل في هذا المقام‪ ،‬و‬ ‫شما ً‬
‫تحقق الوصول جاءت الخلعة من قبل الحق عز و جل‪ ،‬و غشيته أنواع‬
‫المعارف و العلوم و أنواع الفضل‪ ،‬فيقال له‪ :‬تلبس بالنعم و الفضل و ل تسئ‬
‫الدب بالرد وترك التلبس‪ ،‬لن رد نعم الملك افتئاتا على الملك و استخفافًا‬
‫بحضرته و حينئذ يتلبس بالفضل و القسمة بال من غير أن يكون هو فيه و من‬
‫قبل كأن يتلبس بهواه و نفسه فله أربع حالت في تناول الحظوظ و القسام‪:‬‬

‫الولى بالطبع هو الحرام‪ .‬و الثانية بالشرع و هو المباح و الحلل‪ .‬و الثالثة‬
‫بالمر و هي حالة الولية و ترك الهوى‪ .‬و الرابعة بالفضل و هي حالة زوال‬
‫الرادة و حصول البدلية و كونه مرادًا قائمًا مع القدر الذي هو فعل الحق و‬
‫هي حالة العلم و التصاف بالصلح‪ ،‬فل يسمى صالحًا على الحقيقة إل وصل‬
‫ب َوُهَو َيَتَوّلى‬
‫ل اّلِذي َنّزَل اْلِكَتا َ‬
‫يا ّ‬
‫ن َوِلّيـ َ‬
‫إلى هذا المقام‪ ،‬و هو قوله تعالى‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ن}‪.‬العراف ‪ .196‬فهو العبد الذي كفت يده عن جلب مصالحه و منافعه و‬ ‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ال ّ‬
‫عن رد مضاره و مفاسده‪ ،‬كالرضيع مع الظئر‪ ،‬و الميت الغسيل مع الغاسل‪،‬‬
‫فتتولى يد القدر تربيته من غير أن يكون له اختيار و تدبير‪ ،‬فان عن جميع ذلك‬
‫ل و ل مقامًا و ل إرادة‪ ،‬بل القيام مع القدرة‪ ،‬تارة يبسط و تارة يغنى و‬‫ل حا ً‬
‫تارة يفقر‪ ،‬و يختار و ل يتمنى زوال ذلك و تغيره‪ ،‬بل الرضى الدائم و‬
‫الموافقة البدية‪ ،‬فهو آخر ما تنتهي أحوال الولياء قدست أسرارهم‪.‬‬

‫المقالة السادسة والخمسون‬

‫فـي فـنـاء الـعـبـد عـن الـخـلـق و الـهـوى‬


‫و الـنـفـس و الرادة و المـانـي‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا فني العبد عن الخلق و الهوى و‬
‫النفس و الرادة و الماني دنيا و أخرى و لم يرد إل ال عز و جل و خرج‬
‫الكل عن قلبه وصل إلى الحق‪ ،‬و اصطفاه و اجتباه‪ ،‬و أحبه و حببه إلى خلقه‪،‬‬
‫و جعله يحبه و يحب قربه‪ ،‬و يتنعم بفضله و يتقلب في نعمه و فتح عليه أبواب‬
‫رحمته‪ ،‬و وعده أن ل يغلقها عنه أبدًا‪ ،‬فيختار العبد حينئذ ال‪ ،‬و يدبر بتدبيره‬
‫و يشاء بمشيئته‪ ،‬و يرضى برضاه يمتثل أمره دون غيره‪ ،‬و ل يرى لغيره عز‬
‫ل‪ ،‬فحينئذ يجوز أن يعده ال بوعد ثم ل يظهر للعبد وفاء‬ ‫و جل وجودًا و ل فع ً‬
‫بذلك‪ ،‬و ل يغير ما قد توهمه من ذلك‪ ،‬لن الغيرية قد زالت بزوال الهوى و‬
‫الرادة فصار في فعل ال عز و جل و إرادته فيصير الوعد حينئذ في حقه مع‬
‫ال عز و جل كرجل عزم على فعل شئ في نفسه و نواه ثم صرفه إلى غيره‬
‫كالناسخ و المنسوخ فيما أوحى ال عز و جل إلى نبينا محمد صلى ال عليه‬
‫خْيٍر ّمْنَها َأْو ِمْثِلَها‬
‫سَها َنْأتِ ِب َ‬
‫ن آَيٍة َأْو ُنن ِ‬‫خ ِم ْ‬
‫سْ‬ ‫وسلم قوله عز و جل ‪َ{ :‬ما َنن َ‬
‫يٍء َقِديٌر}‪.‬البقرة ‪ .106‬لما كان النبي صلى ال عليه‬ ‫ش ْ‬
‫ى ُكّل َ‬‫عَل َ‬
‫ل َ‬‫نا ّ‬ ‫َأَلْم َتْعَلْم َأ ّ‬
‫وسلم منزوع الهوى و الرادة سوى المواضع التي ذكرها ال عز و جل في‬
‫عِزيٌز‬ ‫ل َ‬ ‫خَرَة َوا ّ‬ ‫ل ُيِريُد ال ِ‬ ‫ض الّدنَْيا َوا ّ‬ ‫عَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫القرآن من السر يوم بدر {ُتِريُدو َ‬
‫ظيٌم}‪.‬النفال ‪.68–67‬‬ ‫عِ‬ ‫عَذابٌ َ‬ ‫خْذُتْم َ‬
‫سُكْم ِفيَما َأ َ‬
‫ق َلَم ّ‬
‫سَب َ‬
‫ل َ‬ ‫نا ّ‬‫ب ّم َ‬‫حِكيٌم * ّلْوَل ِكَتا ٌ‬ ‫َ‬
‫كذا قالوا‪ ،‬و غيره و هو مراد الحق عز و جل لم يترك على حالة واحدة بل‬
‫نقله إلى القدر إليه فصرفه في القدر و قلبه منها‪ ،‬نبهه بقوله تعالى‪َ{ :‬أَلْم َتْعَلْم‬
‫يٍء َقِديٌر}‪.‬البقرة ‪ .106‬يعنى أنك في بحر القدر تقلبك أمواجه‬ ‫ش ْ‬
‫ى ُكّل َ‬ ‫عَل َ‬
‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫َأ ّ‬
‫تارة كذا و تارة كذا‪ ،‬فمنتهى أمر الولي ابتداء أمر النبي ما بعد الولية و البدلية‬
‫إل النبوة‪ ،‬و ال أعلم‪.‬‬
‫المقالة السابعة والخمسون‬

‫فـي عـدم الـمـنـازعـة فـي الـقــدر و المــر بـحـفـظ الـرضـا‬


‫بـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الحوال قبض كلها‪ ،‬لنه يؤمر‬
‫الولي بحفظها وكل ما يؤمر بحظفه فهو قبض‪ ،‬والقيام مع القدر بسط كله‪ ،‬لنه‬
‫ليس هناك شئ يؤمر بحفظه سوى كونه موجودًا في القدر‪ ،‬فعليه أن ل ينازع‬
‫في القدر بل يوافق ول ينازع في جميع ما يجرى عليه مما يحلو ويمر‪.‬‬
‫الحوال معدودة فأمر بحفظ حدوده‪ ،‬والفضل الذي هو القدر غير محدود‬
‫فيحفظ‪.‬‬

‫وعلمة أن العبد دخل في مقام القدر والفعل والبسط أنه يؤمر بالسؤال في‬
‫الحظوظ بعد أن أمر بتركها والزهد فيها‪ ،‬لنه لما خل باطنه من الحظوظ ولم‬
‫ل بوسط فأمر بالسؤال والتشهي وطلب الشياء التي‬ ‫يبق غير الرب عّز و ج ّ‬
‫هي قسمه‪ ،‬ولبد من تناولها والتوصل إليه بسؤاله‪ ،‬ليتحقق كرامته عند ال عّز‬
‫ل عليه بإجابته إلى ذلك‪ ،‬والطلق‬ ‫ل ومنزلته‪ ،‬وامتنان الحق عّز و ج ّ‬‫وجّ‬
‫بالسؤال في عطاء الحظوظ من أكثر علمات البسط بعد القبض‪ ،‬والخراج‬
‫من الحوال والمقامات والتكليف في حفظ الحدود‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬هذا يدل على زوال التكلف والقول بالزندقة والخروج من السلم‪،‬‬
‫ن}‪.‬الحجر ‪ .99‬قيل ل يدل‬‫ك اْلَيِقي ُ‬
‫حّتى َيْأِتَي َ‬‫ك َ‬ ‫عُبْد َرّب َ‬
‫ل ‪َ{ :‬وا ْ‬ ‫ورد قوله عّز و ج ّ‬
‫على ذلك ول يؤدى إليه بل ال أكرم و وليه أعز عليه من أن يدخله في مقام‬
‫النقص والقبيح في شرعه ودينه‪ ،‬بل يعصمه من جميع ما ذكر ويصرفه عنه‬
‫ويحفظه وينبهه ويسدده لحفظ الحدود‪ ،‬فتحصل العصمة وتتحفظ الحدود من‬
‫ل ‪َ{ :‬كَذِل َ‬
‫ك‬ ‫تكليف منه ومشقة‪ ،‬وهو عن ذلك في غيبة في القرب قال عّز و ج ّ‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .24‬وقال عّز‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شاء ِإّنُه ِم ْ‬‫ح َ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬ ‫صِر َ‬
‫ِلَن ْ‬
‫ن}‪.‬الحجر ‪.42‬السراء ‪ .65‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إّل‬ ‫طا ٌ‬ ‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬‫ك َ‬ ‫س َل َ‬
‫عَباِدي َلْي َ‬‫ن ِ‬‫ل ‪ِ{ :‬إ ّ‬ ‫وجّ‬
‫ن}‪.‬الصافات ‪ .160+128+74+40‬يا مسكين هو محمول الرب وهو‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬
‫ل اْلُم ْ‬
‫عَباَد ا ِّ‬
‫ِ‬
‫مراده‪ ،‬وهو يربيه في حجر قربه ولطفه‪ ،‬أنى يصل الشيطان غليه وتتطرق‬
‫القبائح والمكاره في الشرع نحوه؟ أبعدت النجعة وأعظمت الفرية وقلت قو ً‬
‫ل‬
‫فظيعًا‪ ،‬تبًا لهذه الهمم الخسيسة الدنية والعقول الناقصة البعيدة و الراء الفاسدة‬
‫المتخلخلة‪ ،‬أعاذنا ال والخوان من الضللة المختلفة بقدرته الشاملة ورحمته‬
‫الواسعة‪ ،‬وسترنا بأستاره التامة المانعة الحامية‪ ،‬وربانا بنعمه السابغة وفضائله‬
‫الدائمة بمنه وكرمه تعالى شأنه‪.‬‬
‫المقالة الثامنة والخمسون‬

‫فـي صـرف الـنـظـر عـن كـل الـجـهـات‬


‫و طـلـب جـهـة فـضـل ال تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬تقام عن الجهات كلها ول تبصبص‬


‫على شئ منها‪ ،‬فما دمت تنظر إلى واحدة منها ليفتح لك جهة فضل ال عز‬
‫وجل وقربه‪ ،‬فسد الجهات جميعا بتوحيده وإمحاء نفسك ثم فنائك ومحوك‬
‫وعلمك‪ ،‬فحينئذ يفتح عين قلبك جهة فضل ال العظيم‪ ،‬فتراها بعيني رأسك إذا‬
‫ذاك شعاع نور قلبك وإيمانك ويقينك فيظهر عند ذلك النور من باطنك على‬
‫ظاهرك كنور الشمعة التي في البيت المظلم في الليلة الظلماء‪ ،‬يظهر من كوى‬
‫البيت ومنافذه فيشرق ظاهر البيت بنور باطنه‪ ،‬فتسكن النفس و الجوارح إلى‬
‫وعد ال وعطائه عن عطاء غيره و وعد غيره عز و جل‪ .‬و ارحم نفسك ول‬
‫تظلمها ول تلقها في ظلمات جهلك ورعونتك‪ ،‬فتنظر إلى الجهات وإلى الخلق‬
‫والحول والقوة والكسب والسباب فتوكل إليها‪ ،‬فتسد عنك الجهات ولم تفتح لك‬
‫جهة فضل ال عز وجل عقوبة ومقابلة لشركك بالنظر إلى غيره عز وجل‪،‬‬
‫فإذا وجدته ونظرت إلى فضله ورجوته دون غيره وتعاميت عما سواه‪ ،‬قربك‬
‫وأدناك‪ ،‬ورحمك ورباك وأطعمك وسقاك‪ ،‬وداواك وعفاك‪ ،‬وأعطاك وأغناك‪،‬‬
‫فل ترى بعد ذلك ل فقرك ول غناك‪.‬‬

‫المقالة التاسعة والخمسون‬

‫فـي الـرضـا عـلـى الـبـلـيـة و الـشــكـر عـلـى الـنـعـمـة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تخلو حالتك إما أن تكون بلية‬
‫أونعمة‪ .‬فإن كانت بلية فتطالب فيها بالصبر‪ ،‬وهو الدنى‪ ،‬والصبر وهو أعلى‬
‫منه‪ .‬ثم الرضا والموافقة‪ ،‬ثم الفناء‪ ،‬وهو للبدال‪ ،‬وإن كانت نعمة فتطالب فيها‬
‫بالشكر عليها‪ .‬والشكر باللسان والقلب والجوارح‪.‬‬

‫أما باللسان فالعتراف بالنعمة أنها من ال عز وجل ‪ :‬وترك الضافة إلى‬


‫الخلق ل إلى نفسك وحولك وقوتك وكسبك ول إلى غيرك من الذين جرت على‬
‫أديهم‪ ،‬لنك وإياهم أسباب وآلت وأداة لها‪ ،‬وإن قاسمها ومجريها وموجدها‬
‫والشاغل فيها والمسبب لها هو ال عز وجل والقاسم هو ال‪ ،‬والمجرى هو‬
‫والموجد هو‪ ،‬فهو أحق بالشكر من غيره‪.‬‬

‫ل نظر إلى الغلم الحمال للهدية إنما النظر إلى الستاذ المنفذ المنعم بها قال‬
‫حَياِة الّدْنَيا َوُهْم‬
‫ن اْل َ‬
‫ظاِهرًا ّم َ‬
‫ن َ‬
‫ال تعالى في حق من عدم هذا المنظر ‪َ{ :‬يْعَلُمو َ‬
‫ن}‪.‬الروم ‪ .7‬فمن نظر إلى الظاهر والسبب ولم يجاوز علمه‬ ‫غاِفُلو َ‬
‫خَرِة ُهْم َ‬
‫لِ‬‫نا ْ‬
‫عِ‬
‫َ‬
‫ل لنظره في‬ ‫ومعرفته فهو الجاهل الناقص قاصر العقل‪ ،‬إنما سمى العاقل عاق ً‬
‫العواقب‪.‬‬

‫وأما الشكر بالقلب‪ ،‬فبالعتقاد الدائم‪ .‬والعقد الوثيق الشديد المتبرم‪ .‬إن جميع ما‬
‫بك من النعم والمنافع واللذات في الظاهر والباطن في حركاتك وسكناتك من‬
‫ال عز وجل ل من غيره‪ ،‬ويكون شكرك بلسانك معبرًا عما في قلبك‪ .‬وقد قال‬
‫عَلْيُكْم‬
‫سَبَغ َ‬
‫ل}‪.‬النحل ‪ .53‬وقال تعالى ‪َ{ :‬وَأ ْ‬ ‫نا ّ‬‫عز وجل ‪َ{ :‬وَما ِبُكم ّمن ّنْعَمٍة َفِم َ‬
‫ل َل‬‫طَنًةً}‪.‬لقمان ‪ .20‬وقال تعالى‪َ{ :‬وِإن َتُعّدوْا ِنْعَمَة ا ّ‬ ‫ظاِهَرًة َوَبا ِ‬
‫ِنَعَمُه َ‬
‫صوَها}‪.‬النحل ‪ .18‬فمع هذا ل يبقى لمؤمن منعم سوى ال تعالى‪.‬‬ ‫ح ُ‬ ‫ُت ْ‬

‫وأم الشكر بالجوارح فبأن تحركها وتستعملها في طاعة ال عز وجل دون‬


‫غيره من الخلق‪ ،‬فل تجيب أحدًا من الخلق‪ ،‬فيما فيه إعراض عن ال تعالى‪،‬‬
‫وهذا يعم النفس والهوى والرادة والماني وسائر الخليقة‪ ،‬كجعل طاعة ال‬
‫ل ومتبوعًا وإمامًا وما سواها فرعًا وتابعًا ومأمومًا‪ ،‬فإن فعلت غير ذلك‬ ‫أص ً‬
‫كنت جائرًا ظالمًا حاكمًا بغير حكم ال عز وجل الموضوع لعباده المؤمنين‪،‬‬
‫حُكم ِبَما َأنَزَل ا ّ‬
‫ل‬ ‫وسالكًا غير سبيل الصالحين‪ .‬قال ال عز وجل ‪َ{ :‬وَمن ّلْم َي ْ‬
‫حُكم ِبَما َأنَزَل ا ّ‬
‫ل‬ ‫ن}‪.‬المائدة ‪ .44‬وفى آية أخرى ‪َ{ :‬وَمن ّلْم َي ْ‬ ‫ك ُهُم اْلَكاِفُرو َ‬
‫َفُأْوَلـِئ َ‬
‫ن}‪.‬المائدة ‪ .47‬فيكون‬ ‫سُقو َ‬ ‫ن}‪.‬المائدة ‪ .45‬وفى أخرى ‪ُ{ :‬هُم اْلَفا ِ‬
‫ظاِلُمو َ‬
‫ك ُهُم ال ّ‬‫َفُأْوَلـِئ َ‬
‫انهاؤك إلى التي وقودها الناس والحجارة‪ ،‬وأنت ل تصبر على حمى ساعة في‬
‫الدنيا وأقل بسطة وشرارة من النار فيها‪ ،‬فكيف صبرك على الخلود في الهاوية‬
‫مع أهلها النجا النجا‪ ،‬الوحا الوحا‪ ،‬ال ال‪ ،‬أحفظ الحالتين وشروطهما‪ ،‬فإنك ل‬
‫تخلو في جميع عمرك من أحديهما إما البلية وإما النعمة فأعط كل حالة حظها‬
‫وحقها من الصبر والشكر على ما بينت لك‪ ،‬فل تشكون في حالة البلية إلى أحد‬
‫من خلق ال‪ ،‬ول تظهرن الضجر لحد ول تتهمن ربك في باطنك‪ .‬ول تشكن‬
‫في حكمته واختر الصلح لك في دنياك‪ ،‬وآخرتك‪ ،‬فل تذهبن بهمتك إلى أحد‬
‫من خلقه في معافاتك فذاك إشراك منك به عز وجل‪ ،‬ل يملك معه عز وجل في‬
‫ملكه أحد شيئًا ل ضار ول نافع ول دافع‪ ،‬ول جالب ول مسقم‪ ،‬ول مبلي‪ ،‬ول‬
‫معاف ول مبرئ غيره عز وجل‪ ،‬فل تشتغل بالخلق ل في الظاهر ول في‬
‫الباطن‪ ،‬فإنهم لن يغنوا عنك من ال شيئًا‪ ،‬بل ألزم الصبر والرضا والموافقة‬
‫والفناء في فعله عز وجل‪ ،‬فإن حرمت ذلك كله فعليك بالستغاثة إليه عز‬
‫وجل‪ ،‬والتضرع من شؤم النفس‪ ،‬ونزاهة الحق عز وجل والعتراف له‬
‫بالتوحيد بالنعيم‪ ،‬والتبرى من الشرك‪ ،‬وطلب الصبر والرضا والموافقة‪ ،‬إلى‬
‫حين يبلغ الكتاب أجله‪ ،‬فتزول البلية وتنكشف الكربة‪ ،‬وتأتى النعمة والسعة‬
‫والفرحة والسرور‪ ،‬كما كان في حق نبي ال أيوب عليه وعلى نبينا أفضل‬
‫الصلة وأشرف السلم‪ ،‬كما يذهب سواد الليل ويأتي بياض النهار‪ ،‬ويذهب‬
‫برد الشتاء ويأتي نسيم الصيف وطيبه لنه لكل شئ ضدًا وخلفًا وغاية وبدءًا‬
‫ومنتهى‪ ،‬فالصبر مفتاحه وابتداؤه وانتهاؤه وجماله كما جاء في الخبر ) الصبر‬
‫من اليمان كالرأس من الجسد ( وفى لفظ ) الصبر اليمان كله ( وقد يكون‬
‫الشكر هو التلبس بالنعم وهى أقسامه المقسومة لك‪ ،‬فشكر التلبس بها في حال‬
‫فنائك‪ ،‬وزوال الهوى والحمية والحفظ‪ ،‬وهذه حالة البدال وهى المنتهى‪،‬‬
‫اعتبر ما ذكرت لك ترشد إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫المقالة الستون‬

‫فـي الـبـدايـة و الـنـهـايـة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬البداية ‪ :‬هي الخروج من المعهود‬


‫إلى المشروع ثم المقدور‪ ،‬ثم الرجوع للمعهود‪ .‬ويشترط حفظ الحدود‪ ،‬فتخرج‬
‫من معهودك من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والمسكون والطبع‬
‫والعادة إلى أمر الشرع ونهيه‪ ،‬فتتبع كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه و‬
‫عْنُه‬
‫خُذوُه َوَما َنَهاُكْم َ‬‫سوُل َف ُ‬ ‫سلم كما قال ال تعالى ‪َ{ :‬وَما آَتاُكُم الّر ُ‬
‫حِبْبُكُم‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬‫نا ّ‬ ‫حّبو َ‬‫َفانَتُهوا}‪.‬الحشر ‪ .7‬وقال تعالى ‪ُ{ :‬قْل ِإن ُكنُتْم ُت ِ‬
‫ل}‪.‬آل عمران ‪ .31‬فتفنى عن هواك ونفسك ورعونتها في ظاهرك وباطنك فل‬ ‫ا ّ‬
‫يكون في باطنك غير توحيدك له وفى ظاهرك غير طاعة ال وعبادته مما أمر‬
‫ونهى‪ ،‬فيكون هذا دأبك وشعارك ودثارك في حركتك وسكونك‪ ،‬في ليلك‬
‫ونهارك‪ ،‬وسفرك وحضرتك‪ ،‬وشدتك ورخائك‪ ،‬وصحتك وسقمك‪ ،‬وأحوالك‬
‫كلها‪ ،‬ثم تحمل إلى وادي القدر فيتصرف فيك القدر‪ ،‬فتفنى عن جدك واجتهادك‬
‫وحولك وقوتك‪ ،‬فتساق إليك القسام التي جف بها القلم وسبق بها العلم‪ ،‬فتلبس‬
‫بها وتعطى منها الحفظ والسلمة فتحفظ فيها الحدود ويحصل فيها الموافقة‬
‫لفعل المولى‪ ،‬ول تتخرق قاعدة الشرع على الزندقة وإباحة المحرم قال‬
‫ن}‪.‬الحجر ‪ .9‬وقال تعالى ‪َ{ :‬كَذِل َ‬
‫ك‬ ‫ظو َ‬ ‫حاِف ُ‬
‫ن َنّزْلَنا الّذْكَر َوِإّنا َلُه َل َ‬
‫حُ‬‫تعالى ‪ِ{ :‬إّنا َن ْ‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .24‬فتصحب‬ ‫صي َ‬ ‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫شاء ِإّنُه ِم ْ‬ ‫ح َ‬‫سوَء َواْلَف ْ‬ ‫عْنُه ال ّ‬‫ف َ‬‫صِر َ‬
‫ِلَن ْ‬
‫الحفظ والحمية وإنما هي أقسامًا معدة لك‪ ،‬فحبسها عنك في حال سيرك‬
‫وطريقك وسلوكك فيافي الطبع ومفاوز الهوى المعهود‪ ،‬لنها أثقال أحمال ما‬
‫زيحت عنك‪ ،‬لئل يثقلك فتضعفك إلى حين الوصول إلى عتبة الفناء‪ ،‬وهو‬
‫الوصول إلى قرب الحق عز وجل والمعرفة به‪ ،‬والختصاص بالسرار‬
‫والعلوم الدينية‪ ،‬والدخول في بحار النوار‪ ،‬حيث ل تضر ظلمة الطبائع‬
‫والنوار‪ ،‬فالطبع باق إلى أن تفارق الروح الجسد لستيفاء القسام‪ ،‬إذ لو زال‬
‫الطبع من الدمي للتحق بالملئكة وبطلت الحكمة‪ ،‬فبقى الطبع يستوفى‬
‫القسام والحظوظ‪ ،‬فيكون ذلك وظائفًا ل أصليًا كما قال النبي صلى ال عليه و‬
‫سلم‪ ) :‬حبب إلي من دنياكم ثلث‪ :‬الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في‬
‫الصلة ( فلما فني النبي صلى ال عليه و سلم عن الدنيا وما فيها ردت إليه‬
‫أقسامه المحبوسة عنه في حال سيره إلى ربه عز وجل ‪ ،‬فاستوفاها موافقة‬
‫ل لمره‪ ،‬قدست أسمائه وعمت رحمته‪ ،‬شمل‬ ‫لربه تعالى والرضا بفعله ممتث ً‬
‫فضله لوليائه وأنبيائه عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فهكذا الولي في هذا الباب ترد‬
‫إليه أقسامه وحظوظه مع حفظ الحدود‪ ،‬فهو الرجوع من النهاية إلى البداية‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬

‫المقالة الحادية والستون‬

‫فـي الـتـوقـف عـنـد كـل شـئ حـتـى يـتـبـيـن لـه إبـاحـة فـعـلـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬كل مؤمن مكلف بالتوقف و التفتيش‬
‫عند حضور القسام عن التناول و الخذ‪ ،‬حتى يشهد له الحكم بالجابة‪ ،‬و العلم‬
‫بالقسمة‪ ،‬و المؤمن فتاش و المنافق لقاف‪ .‬و قال صلى ال عليه و سلم‬
‫) المؤمن وقاف ( و قال صلى ال عليه و سلم ‪ ) :‬دع ما يريبك إلى ما ل‬
‫يريبك ( فالمؤمن يقف عند كل قسم من مأكول و مشروب و ملبوس و منكوح‬
‫و سائر الشياء التي تفتح له فل يأخذ حتى يحكم له بجواز الخذ و التناول‬
‫كحكمه إذا كان في حالة التقوى‪ .‬أو حتى يحكم له بذلك المر إذا كان في حالة‬
‫الولية‪ .‬أو حتى يحكم العلم في حالة البدلية و الغوثية‪ ،‬و الفعل الذي هو القدر‬
‫المحض و هي حالة الفناء‪ ،‬ثم تأتيه حالة أخرى تتناول كل ما يأتيه و يفتح له‬
‫ما لم يعترض عليه الحكم والمر والعلم‪ ،‬فإذا اعترض أحد هذه الشياء امتنع‬
‫من التناول‪ ،‬فهي ضد الولى‪.‬‬

‫ففي الولى الغالب عليه التوقف و التثبت‪ .‬و في الثانية الغالب عليه التناول و‬
‫الخذ و التلبس بالفتوح‪ .‬ثم تأتى الحالة الثالثة‪.‬‬

‫فالتناول المحض و التلبس بما يفتح من النعم من غير اعتراض أحد الشياء‬
‫الثلثة و هي حقيقة الفناء‪ ،‬فيكون المؤمن فيها محفوظًا من الفات وخرق‬
‫حدود الشرع مصانًا مصروفًا عنه السواء‪ ،‬كما قال ال تعالى ‪َ{ :‬كَذِل َ‬
‫ك‬
‫ن}‪.‬يوسف ‪ .24‬فيصير‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬
‫عَباِدَنا اْلُم ْ‬
‫ن ِ‬
‫شاء ِإّنُه ِم ْ‬
‫ح َ‬
‫سوَء َواْلَف ْ‬
‫عْنُه ال ّ‬
‫ف َ‬
‫صِر َ‬
‫ِلَن ْ‬
‫العبد مع الحفظ عن خرق الحدود كالمقرض إليه المأذون له و المطلق له في‬
‫الباحات الميسر له الخير‪ ،‬ما يأتيه قسمه المصفى له من الفات و التبعات في‬
‫الدنيا و الخرة‪ ،‬و الموافق لرادة الحق و رضاه و فعله و ل حالة فوقها و هي‬
‫الغاية‪ ،‬و هي السادة الولياء الكبار الخلص أصحاب السرار‪ ،‬الذين أشرفوا‬
‫على عتبة أحوال النبياء صلوات ال عليهم أجمعين‪.‬‬

‫المقالة الثانية والستون‬

‫فـي الـمـحـبـة و الـمـحـبـوب و مـا يـجـب فـي حـقـهـمـا‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما أكثر ما يقول المؤمن قرب فلن‬
‫و بعدت‪ ،‬وأعطى فلن و حرمت‪ ،‬وأغنى فلن و أفقرت و وفى فلن و‬
‫أسقمت‪ ،‬و عظم فلن و حقرت‪ ،‬و حمد فلن و ذممت‪ ،‬و صدق فلن و كذبت‪.‬‬
‫أما يعلم أنه الواحد‪ .‬وأن الواحد يحب الوحدانية في المحبة‪ ،‬و يحب الواحد في‬
‫محبته‪.‬‬

‫إذا قربك بطريق غيره نقصت محبتك له عز و جل و شعبت فربما دخلك الميل‬
‫إلى من ظهرت المواصلة و النعمة على يديه‪ ،‬فتنقص محبة ال في قلبك‪ ،‬و هو‬
‫عز و جل غيور ل يحب شريكه فكف أيدي الغير عنك بالمواصلة و لسانه عن‬
‫حمدك و ثنائك و رجليه عن السعي إليك كيل تشتغل به عنه‪ ،‬أما سمعت قول‬
‫النبي صلى ال عليه و سلم ‪ ) :‬جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ( فهو‬
‫عز و جل يكف الخلق عن الحسان إليك من كل وجه و سبب حتى توحده و‬
‫تحبه‪ ،‬و تصير له من كل وجه بظاهرك و باطنك في حركاتك و سكناتك‪ ،‬فل‬
‫ترى الخير إل منه و ل الشر إل منه عز و جل ‪ ،‬و تفنى عن الخلق و عن‬
‫النفس‪ ،‬و عن الهوى و الرادة و المنى‪ ،‬و عن جميع ما سوى المولى‪ ،‬ثم‬
‫يطلق اليدي إليك بالبسط و البذل و العطاء‪ ،‬و اللسن بالحمد و الثناء فيدلك‬
‫ابدًا في الدنيا ثم في العقبى‪ ،‬فل تسئ الدب‪ ،‬انظر إلى من ينظر إليك‪ ،‬و اقبل‬
‫على من أقبل إليك‪ ،‬و أحب من يحبك و استجب من يدعوك و أعط يدك من‬
‫يثبتك من سقطك و يخرجك من ظلمات جهلك‪ ،‬و ينجيك من هلكك و يغسلك‬
‫من نجاسك‪ ،‬و ينظفك من أوسخاك‪ ،‬و يخلصك من جيفك و نتنك‪ ،‬و من‬
‫أوهامك الردية‪ ،‬و من نفسك المارة بالسوء و أقرانك الضلل المضلين‬
‫شياطنيك‪ ،‬و أخلئك الجهال قطاع طريق الحق الحائلين بينك و بين كل نفيس‬
‫و ثمين و عزيز‪.‬‬

‫إلى متى المعاد‪ ،‬إلى متى الحق‪ ،‬إلى متى الهوى‪ ،‬إلى متى الرعونة‪ ،‬إلى متى‬
‫الدنيا‪ ،‬إلى متى الخرة‪ ،‬إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك و الشياء‪،‬‬
‫و المكون الول الخر الظاهر الباطن‪ ،‬و المرجع و المصدر إليه‪ ،‬و له القلوب‬
‫و طمأنينة الرواح و محط الثقال و العطاء و المتنان‪ ،‬عز شأنه‪.‬‬
‫المقالة الثالثة والستون‬

‫فــي نــوع مــن الــمــعــرفــة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬رأيت في المنام كأني أقول يا مشرك‬
‫بربه في باطنه بنفسه و في ظاهره بخلقه و في عمله بإرادته‪ ،‬فقال رجل إلى‬
‫جنبي ما هذا الكلم‪ ،‬فقلت هذا نوع من أنواع المعرفة‪.‬‬

‫المقالة الرابعة والستون‬

‫فــي الـمـوت الذي ل حـيـاة فـيـه و الـحـيـاة الـتـي ل مـوت‬


‫فـيـهـا‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ضاق أبى المر يومًا فتحرك في‬
‫النفس‪ ،‬فقيل لي ‪ :‬ماذا تريد؟؟ فقلت‪ :‬أريد موتًا ل حياة فيه و حياة ل موت‬
‫فيها؟؟ فقيل لي‪ :‬ما الموت الذي ل حياة فيه و ما الحياة التي ل موت فيها؟؟‬
‫قلت‪:‬‬

‫الموت الذي ل حياة فيه موتى عن جنسي من الخلق فل أراهم في الضر و‬


‫النفع‪ ،‬و موتى عن نفسي و هوائي و إرادتي و منائى في الدنيا و الخرى فل‬
‫أحس في جميع ذلك و ل أجد‪.‬‬

‫ل بل وجودي فيه‪ ،‬و‬ ‫و أما الحياة التي ل موت فيها‪ :‬فحياتي بفعل ربى عّز و ج ّ‬
‫ل‪ ،‬فـكـانـت هـذه الرادة أنـفـس إرادة‬
‫الموت في ذلك وجودي معه عّز و ج ّ‬
‫أردتـهـا مـنـذ عـقـلـت‪.‬‬

‫المقالة الخامسة والستون‬


‫فـي الـنـهـي عـن الـتـســخـط عـلـى ال فـي تـأخـيـر إجـابـة‬
‫الـدعـاء‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ما هذا التسخط على ربك عّز و جلّ‬
‫من تأخير إجابة الدعاء؟؟ تقول حرم على السؤال للخلق و أوجب على السؤال‬
‫و أنا أدعوه و هو ل يجبيبنى فيقال لك أحر أنت أم عبد فإن قلت أنا حر فأنت‬
‫كافر وغن قلت أنا عبد ل‪ ،‬فيقال لك أمتهم أنت لوليك في تأخير إجابة دعائك و‬
‫شاك في حكمته و رحمته بك و بجميع خلقه وعلمه بأحوالهم أو غير متهم له‬
‫ل ؟؟ فإن كنت غير متهم له و مقر بحكمته و إرادته و مصلحته لك و‬ ‫عّز و ج ّ‬
‫ل‪ ،‬لنه اختار لك الصلح و النعمة و دفع‬ ‫تأخير ذلك فعليك بالشكر له عّز و ج ّ‬
‫الفساد‪ ،‬و إن كنت متهمًا له في ذلك فأنت كافر بتهمتك له‪ ،‬لنك بذلك نسبت له‬
‫الظلم و هو ليس بظلم للعبيد‪ ،‬ل يقبل الظلم و يستحيل عليه أن يظلم إذ هو‬
‫مالكك و مالك كل شئ فل يطلق عليه اسم الظالم‪ ،‬و إنما الظالم من يتصرف‬
‫في ملك غيره بغير إذنه فانسد عليك سبيل التسخط عليه في فعله فيك بما‬
‫يخالف طبعك و شهوة نفسك و إن كان في الظاهر مفسدة لك‪.‬‬

‫فعليك بالشكر و الصبر و الموافقة‪ ،‬و ترك السخط و التهمة و القيام مع رعونة‬
‫النفس و هواها الذي يضل عن سبيل ال‪.‬‬

‫ل‪ ،‬و‬‫وعليك بدوام الدعاء و صدق اللتجاء‪ ،‬و حسن الظن بربك عّز و ج ّ‬
‫انتظار الفرج منه‪ ،‬و التصديق بوعده‪ ،‬و الحياء منه‪ ،‬و الموافقة لمره‪ ،‬و حفظ‬
‫توحيده و المسارعة إلى أداء أوامره‪ ،‬و التماوت عن نزول قدره بك و بفعله‬
‫فيك‪ ،‬و إن كان لبد أن تتهم و تسئ الظن فنفسك المارة بالسوء العاصية لربها‬
‫ل أولى بهما‪ ،‬و نسبتك الظلم إليها أحرى من مولك‪ .‬فاحذر موافقتها و‬ ‫عّز و ج ّ‬
‫موالتها‪ ،‬و الرضى بفعلها و كلمها في الحوال كلها‪ ،‬لنها عدوة ال و‬
‫عدوتك‪ ،‬و موالية لعدو ال و عدوك الشيطان الرجيم‪ ،‬هي خليلته و جاسوسته‬
‫و مصافيته‪ ،‬ال ال ثم ال‪ ،‬الحذر الحذر النجا النجا‪ ،‬أتهمها و أنسب الظلم إليها‬
‫م}‪.‬النساء‬‫شَكْرُتْم َوآَمنُت ْ‬
‫ل ِبَعَذاِبُكْم ِإن َ‬
‫ل ‪ّ{ :‬ما َيْفَعُل ا ّ‬
‫و اقرأ عليها قوله عّز و ج ّ‬
‫سُهمْ‬‫ن الّناسَ َأنُف َ‬ ‫شْيئًا َوَلـِك ّ‬
‫س َ‬‫ظِلُم الّنا َ‬
‫ل َل َي ْ‬
‫نا ّ‬
‫ل ‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫‪ .147‬وقوله عّز و ج ّ‬
‫ن}‪.‬يونس ‪ .44‬و غيرها من اليات و الخبار‪.‬‬ ‫ظِلُمو َ‬
‫َي ْ‬

‫ل‪ ،‬و محاربًا و سيافًا و‬


‫ل لها عنه عّز و ج ّ‬
‫كن مخاصمًا ل على نفسك مجاد ً‬
‫ل‪ ،‬قال ال تعالى ‪ " :‬يا‬ ‫صاحب جنده و عسكره‪ ،‬فإنها أعدى عدو ال عّز و ج ّ‬
‫داود أهجر هواك فإنه ل منازع ينازعني في ملكي غير الهوى "‪.‬‬
‫المقالة السادسة والستون‬

‫فـي المـر بـالـدعـاء و الـنـهـى عـن تـركـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تقل ل أدعو ال‪ ،‬فإن كان ما أسأله‬
‫مقسومًا فسيأتي إن سألته أو لم أسأله‪ ،‬و إن كان غير مقسوم فل يعطيني‬
‫ل جميع ما تريد و تحتاج إليه من خير الدنيا و‬ ‫بسؤال‪ ،‬بل اسأله عّز و ج ّ‬
‫الخرة ما لم يكن فيه محرم و مفسدة لن ال تعالى أمر بالسؤال له و حث‬
‫ل ‪َ{ :‬وَل‬ ‫ب َلُكْم}‪.‬غافر ‪ .60‬و قال عّز و ج ّ‬‫ج ْ‬
‫سَت ِ‬
‫عوِني َأ ْ‬‫عليه‪ .‬قال تعالى ‪{ :‬اْد ُ‬
‫ضِلِه}‪.‬النساء ‪.32‬‬
‫ل ِمن َف ْ‬
‫سَأُلوْا ا ّ‬
‫ض{} َوا ْ‬
‫عَلى َبْع ٍ‬
‫ضُكْم َ‬‫ل ِبِه َبْع َ‬
‫ضَل ا ّ‬
‫َتَتَمّنْوْا َما َف ّ‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ) :‬اسألوا ال و أنتم موقنون بالجابة ( و قال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ) :‬اسألوا ال ببطون أكفكم ( و غير ذلك من الخبار‪ .‬و‬
‫ل تقل إني أسأله فل يعطيني فإذا ل أسأله‪ ،‬بل دم على دعائه‪ ،‬فإن كان ذلك‬
‫مقسومًا ساقه إليك بعد أن تسأله‪ ،‬فيزيد ذلك إيمانًا و يقينًا و توحيدًا و ترك‬
‫ل‪،‬‬ ‫سؤال الخلق و الرجوع إليه في جميع أحوالك و إنزال حوائجك به عّز و ج ّ‬
‫ل بالقصص‪.‬‬ ‫و إن لم يكن مقسومًا لك أعطاك الغناء عنه و الرضا عنه عّز و ج ّ‬
‫فإن كان فقرًا أو مرضًا أرضاك بهما و إن كان دينًا قلب الدائن من سوء‬
‫المطالبة إلى الرفق و التأخير و التسهيل إلى حين ميسرتك أو إسقاطه عنك أو‬
‫ل ما‬‫ل ثوابًا جزي ً‬ ‫نقصه‪ ،‬فإن لم يسقط و لم يترك منه في الدنيا أعطاك عّز و ج ّ‬
‫لم يعطك بسؤالك في الدنيا‪ ،‬لنه كريم غنى رحيم‪ ،‬فل يخيب سائله في الدنيا و‬
‫ل فقد جاء في الحديث‪:‬‬ ‫ل و إما آج ً‬ ‫الخرة فلبد من فائدة‪ ،‬و نائلة إما عاج ً‬
‫) المؤمن يرى في صحيفته يوم القيامة حسنات لم يعملها و لم يدر بها فيقال له‬
‫أتعرفها ؟ فيقول ما أعرفها من أين لي هذه ؟ فيقال له إنها بدل مسألتك التي‬
‫ل يكون ذاكرًا ال و موحدًا‬ ‫سألتها في دار الدنيا ( و ذلك أنه بسؤال ال عّز و ج ّ‬
‫و واضع الشئ في موضعه‪ ،‬و معطي الحق أهله‪ ،‬و متبرئًا من حوله و قوته‪،‬‬
‫و تاركًا للتكبر و التعظيم و النفة‪ ،‬و جميع ذلك أعمال صالحة ثوابها عند ال‬
‫ل‪.‬‬
‫عّز و ج ّ‬

‫المقالة السابعة والستون‬

‫فـي جـهـاد الـنـفـس و تـفـصـيـل كـيـفـيـتـه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬كلما جاهدت نفسك و غلبتها و قتلتها‬
‫بسيف المخالفة أحياها ال‪ ،‬و نازعتك و طلبت منك الشهوات و اللذات الجناح‬
‫منها و المباح‪ ،‬لتعود إلى المجاهدة ليكتب لك ثوابًا دائمًا‪ ،‬و هو معنى قول‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ) :‬رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر (‬
‫أراد مجاهدة النفس لدوامها و استمرارها على الشهوات و اللذات‪ ،‬و إنهماكها‬
‫حّتى َيْأِتَي َ‬
‫ك‬ ‫ك َ‬
‫عُبْد َرّب َ‬
‫ل ‪َ{ :‬وا ْ‬
‫في المعاصي‪ ،‬و هو معنى قوله عّز و ج ّ‬
‫ل لنبيه صلى ال عليه وسلم بالعبادة و هي‬ ‫ن}‪.‬الحجر ‪ .99‬أمر ال عّز و ج ّ‬
‫اْلَيِقي ُ‬
‫مخالفة النفس‪ ،‬لن العبادة كلها تأباها النفس و تريد ضدها إلى أن يأتيه اليقين‬
‫يعنى الموت‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬كيف تأبى نفس رسول ال صلى ال عليه وسلم العبادة و هو عليه‬
‫حٌ‬
‫ي‬ ‫ن ُهَو ِإّل َو ْ‬
‫ن اْلَهَوى * ِإ ْ‬‫عِ‬‫ق َ‬‫ط ُ‬‫والصلة و السلم ل هوى له {َوَما َين ِ‬
‫ل خاطب نبيه صلى ال عليه وسلم ليتقرر‬ ‫حى}‪.‬النجم ‪ .4–3‬فيقال أنه عّز و ج ّ‬ ‫ُيو َ‬
‫به الشرع فيكون عامًا بين أمته إلى أن تقوم الساعة‪ .‬ثم إن ال عّز و ج ّ‬
‫ل‬
‫أعطى نبيه عليه الصلة و السلم القوة على النفس و الهوى‪ ،‬كيل يضراه و‬
‫يحوجاه إلى المجاهدة‪ ،‬بخلف أمته‪ ،‬فإذا دام المؤمن على هذه المجاهدة إلى أن‬
‫ل بسيف مسلول ملطخ بدم النفس و الهوى‬ ‫يأتيه الموت و يلحق بربه عّز و ج ّ‬
‫ف َمَقاَم َرّبِه‬
‫خا َ‬ ‫ن َ‬
‫ل ‪َ{ :‬وَأّما َم ْ‬
‫أعطاه ما ضمن له من الجنة‪ ،‬لقوله عّز و ج ّ‬
‫ي اْلَمْأَوى}‪.‬النتزعات ‪ .41–40‬فإذا أدخله‬ ‫جّنَة ِه َ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن اْلَهَوى * َفِإ ّ‬
‫عِ‬
‫س َ‬
‫َوَنَهى الّنْف َ‬
‫الجنة و جعلها داره و مقره و مصيره‪ ،‬أمن من التحويل عنها و النتقال إلى‬
‫غيرها و العودة إلى دار الدنيا جدد له كل يوم و كل ساعة من أنواع النعيم و‬
‫تغير عليه أنواع الحال و الحلى إلى ما ل نهاية و ل غاية و ل نفاد‪ ،‬كما جدد‬
‫في الدنيا كل يوم و كل ساعة و لحظة مجاهدة النفس و الهوى‪.‬‬

‫و أما الكافر و المنافق و العاصي لما تركوا مجاهدة النفس و الهوى في الدنيا‬
‫و تابعوها‪ ،‬و وافقوا الشيطان تمرجوا في أنواع المعاصي من الكفر و الشرك‬
‫و ما دونهما حتى أتاهم الموت من غير السلم و التوبة‪ ،‬أدخلهم ال النار التي‬
‫ن}‪.‬آل‬‫ت ِلْلَكاِفِري َ‬
‫عّد ْ‬
‫ل ‪َ{ :‬واّتُقوْا الّناَر اّلِتي ُأ ِ‬
‫أعدت للكافرين في قوله عّز و ج ّ‬
‫عمران ‪ .131‬فإذا أدخلهم فيها و جعلها مقرهم و صيرهم‪ ،‬فأحرقت جلودهم و‬
‫ج ْ‬
‫ت‬ ‫ضَ‬‫ل ‪ُ{ :‬كّلَما َن ِ‬ ‫ل جلودًا و لحومًا كما قال عّز و ج ّ‬ ‫لحومهم جدد لهم عّز و ج ّ‬
‫ل بهم ذلك كما وافقوا‬ ‫غْيَرَها}‪.‬النساء ‪ .56‬يفعل عّز و ج ّ‬ ‫جُلودًا َ‬
‫جُلوُدُهْم َبّدْلَناُهْم ُ‬
‫ُ‬
‫ل ‪ ،‬فأهل النار تجدد لهم كل‬ ‫أنفسهم و أهواءهم في الدنيا في معاصيه عّز و ج ّ‬
‫وقت جلود و لحوم ليصال العذاب و اللم إليهم‪ .‬و سبب ذلك مجاهدة النفس‬
‫و عدم موافقتها في دار الدنيا و هذا معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫) الدنيا مزرعة الخرة (‪.‬‬

‫المقالة الثامنة والستون‬


‫فـي قـولـه تـعـالـى ‪ ) :‬كـل يـوم هـو فـي شــأن (‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬إذا أجاب ال عبدًا ما سأله و أعطاه‬
‫ما طلبه لم تنخرم إرادته و ل ما جف به القلم و سبق به العلم‪ ،‬لكنه يوافق‬
‫ل في وقته‪ ،‬فتحصل الجابة و قضاء الحاجة في‬ ‫سؤاله مراد ربه عّز و ج ّ‬
‫الوقت المقدر الذي قدره له في السابقة لبلوغ القدر وقته كما قال أهل العلم قوله‬
‫ن}‪.‬الرحمن ‪ .29‬أي يسوق المقادير إلى المواقيت‪،‬‬‫شْأ ٍ‬
‫ل ‪ُ{ :‬كّل َيْوٍم ُهَو ِفي َ‬
‫عّز و ج ّ‬
‫يعطى ال أحدًا شيئًا في الدنيا بمجرد دعائه‪ ،‬و كذلك ل يصرف عنه شيئًا‬
‫بدعائه المجرد‪ ،‬و الذي ورد في الحديث ) و ل يرد القضاء إل الدعاء ( قيل‬
‫إن المراد به ل يرد القضاء إل الدعاء الذي قضى أن يرد لقضائه‪ ،‬و كذلك ل‬
‫ل‪ ،‬لكنه يعطى العباد‬‫يدخل أحد الجنة في الخرة بعمله‪ ،‬بل برحمة ال عّز و ج ّ‬
‫في الجنة الدرجات على قدر أعمالهم‪.‬‬

‫و قد ورد في حديث عائشة رضي ال عنها ) أنها سألت النبي صلى ال عليه و‬
‫سلم هل يدخل أحد الجنة بعمله؟ فقال ل برحمة ال‪ ،‬فقالت و ل أنت؟ فقال و ل‬
‫أنا إل أن يتغمدني ال برحمته و وضع يده على هامته ( و ذلك لن ال عّز و‬
‫ل ل يجب عليه لحد حق و ل يلزمه الوفاء بالعهد‪ ،‬بل يفعل ما يريد يعذب‬ ‫جّ‬
‫من يشاء و يغفر لمن يشاء‪ ،‬و يرحم من يشاء‪ ،‬فعال لما يريد و ل يسال عما‬
‫يفعل و هم يسئلون‪ ،‬يرزق من يشاء بغير حساب بفضل رحمته و منته‪ ،‬و يمنع‬
‫من شاء بعدله‪ ،‬و كيف ل يكون كذلك و الخلق من لدن العرش إلى الثرى التي‬
‫هي الرض السابعة السفلى ملكه و صنعه‪ ،‬ل مالك لهم غيره و ل صانع لهم‬
‫لِ}‪.‬فاطر ‪ .3‬و قال تعالى ‪َ{ :‬أِإَلٌه‬ ‫غْيُر ا ّ‬ ‫ق َ‬ ‫خاِل ٍ‬‫ن َ‬ ‫ل ‪َ{ :‬هْل ِم ْ‬ ‫غيره‪ ،‬قال عّز و ج ّ‬
‫سِمّيا}‪.‬مريم ‪ .65‬و قال‬ ‫ل}‪.‬النمل ‪ .64–63–62–61–60‬و قال تعالى ‪َ{ :‬هْل َتْعَلُم َلُه َ‬ ‫ّمَع ا ِّ‬
‫شاء‬ ‫ك ِمّمن َت َ‬ ‫ع اْلُمْل َ‬
‫شاء َوَتنِز ُ‬ ‫ك َمن َت َ‬ ‫ك ُتْؤِتي اْلُمْل َ‬ ‫ك اْلُمْل ِ‬
‫تعالى ‪ُ :‬قِل الّلُهّم َماِل َ‬
‫يٍء َقِديٌر * ُتوِل ُ‬
‫ج‬ ‫ش ْ‬‫ى ُكّل َ‬ ‫عَل َ‬
‫ك َ‬ ‫خْيُر ِإّن َ‬‫ك اْل َ‬‫شاء ِبَيِد َ‬ ‫شاء َوُتِذّل َمن َت َ‬ ‫َوُتِعّز َمن َت َ‬
‫ج اَلَمّي َ‬
‫ت‬ ‫خِر ُ‬
‫ن اْلَمّيتِ َوُت ْ‬‫ي ِم َ‬‫حّ‬ ‫ج اْل َ‬‫خِر ُ‬ ‫ج الّنَهاَر ِفي الّلْيِل َوُت ْ‬ ‫الّلْيَل ِفي اْلّنَهاِر َوُتوِل ُ‬
‫ب}‪.‬آل عمران ‪.27–26‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬‫شاء ِبَغْيِر ِ‬ ‫ق َمن َت َ‬ ‫ي َوَتْرُز ُ‬
‫حّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ِم َ‬

‫المقالة التاسعة والستون‬

‫فـي المـر بـطـلـب الـمـغـفـرة و الـعـصـمـة‬


‫و الـتـوفـيـق و الـرضـا و الـصـبـر مـن ال تـعـالـى‬
‫ن من ال شيئًا سوى المغفرة‬ ‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل تطلب ّ‬
‫حسن‬ ‫للذنوب السابقة و العصمة منها في اليام التية اللحقة‪ ،‬و التوفيق ل ُ‬
‫الطاعة‪ ،‬و امتثال المر و الرضا بمر القضاء‪ ،‬و الصبر على شدائد البلء‪ ،‬و‬
‫الشكر على جزيل النعماء و العطاء‪ ،‬ثم الوفاة بخاتمة الخير‪ ،‬و اللحوق‬
‫بالنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقًا و ل تطلب‬
‫منه الدنيا و ل كشف الفقر و البلء إلى الغناء و العافية‪ ،‬بل الرضا بما قسم و‬
‫دبر‪ ،‬و اسأله الحفظ الدائم على ما أقامك فيه و أحلك و ابتلك‪ ،‬إلى أن ينقلك‬
‫منه إلى غيره و ضده‪ ،‬لنك ل تعلم الخير في أيهما‪ ،‬في الفقر أو في الغناء‪ ،‬في‬
‫ل بمصالحها‬ ‫البلء أو في العافية‪ ،‬طوى عنك علم الشياء و تفرد هو عّز و ج ّ‬
‫و مفاسدها‪.‬‬

‫فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ :‬ل أبالى على أي حال أصبح‪،‬‬
‫على ما أكره أو على ما أحب‪ ،‬لني ل أدرى الخير في أيهما‪ .‬قال ذلك لحسن‬
‫ل‪ ،‬و الطمأنينة على اختياره و قضائه‪ .‬قال ال‬ ‫رضاه بتدبير ال عّز و ج ّ‬
‫خْيٌر‬
‫شْيئًا َوُهَو َ‬
‫سى َأن َتْكَرُهوْا َ‬ ‫ع َ‬‫عَلْيُكُم اْلِقَتاُل َوُهَو ُكْرٌه ّلُكْم َو َ‬
‫ب َ‬
‫تعالى ‪ُ{ :‬كِت َ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪.216‬‬
‫ل يَْعَلُم َوَأنُتْم َل َتْعَلُمو َ‬
‫شّر ّلُكْم َوا ّ‬‫شْيئًا َوُهَو َ‬ ‫حّبوْا َ‬ ‫سى َأن ُت ِ‬‫ع َ‬
‫ّلُكْم َو َ‬

‫كن على هذا الحال إلى أن يزول هواك و تنكسر نفسك فتكون ذليلة مغلوبة‬
‫تابعة ثم تزول إرادتك و أمانيك‪ ،‬و تخرج الكوان من قلبك و ل يبقى في قلبك‬
‫شئ سوى ال تعالى‪ ،‬فيمتلئ قلبك بحب ال تعالى‪ ،‬و تصدق إرادتك في طلبه‬
‫ل فيرد إليك الرادة بأمره بطلب حظ من الحظوظ دنيوية و أخروية‪،‬‬ ‫عّز و ج ّ‬
‫ل لمره‪ ،‬إن أعطاك شكرته و‬ ‫ل بذلك و تطلبه ممتث ً‬
‫فحينئذ تسأله عّز و ج ّ‬
‫تلبست به‪ ،‬و إن منعك لم تتسخط عليه و لم تتغير عليه في باطنك و ل تتهمه‬
‫في ذلك ببخل‪ ،‬لنك لم تكن طلبته بهواك و إرادتك‪ ،‬لنك فارغ القلب عن ذلك‬
‫ل لمره بالسؤال و السلم‪.‬‬‫غير مريد له‪ ،‬بل ممتث ً‬

‫المقالة السبعون‬

‫فـي الـشــكـر و العـتـراف بـالـتـقـصـيـر‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬كيف يحسن منك العجب في أعمالك‬
‫و رؤية نفسك فيها و طلب العواض عليها‪ ،‬و جميع ذلك بتوفيق ال تعالى و‬
‫عونه و قوته و إرادته و فضله‪ ،‬و إن كان ترك معصيته فبعصمته و حفظه و‬
‫حميته‪.‬‬

‫أين أنت من الشكر على ذلك و العتراف بهذه النعم التي أولكها‪ ،‬ما هذه‬
‫الرعونة و الجهل‪ ،‬تعجب بشجاعة غيرك و سخائه و بذل ماله إذا لم تكن قات ً‬
‫ل‬
‫بعودك إل بعد معاونة شجاع ضرب في عدوك ثم تمنيت قتله‪ ،‬لوله كنت‬
‫ل لبعض مالك إل بعد ضمان صادق كريم‬ ‫مصروعًا مكانه و بدله‪ ،‬و ل باذ ً‬
‫أمين ضمن لك عوضه و خلفه‪ ،‬لول قوله و طمعك فيما وعد لك و ضمن لك‬
‫ما بذلت حبة منه‪ ،‬كيف تعجبك بمجرد فعلك‪.‬‬

‫أحسن حالك الشكر و الثناء على المعين و الحمد ل الدائم و إضافة ذلك إليه في‬
‫الحوال كلها إل الشر و المعاصي و اللوم‪ ،‬فإنك تضيفها إلى نفسك و تنسبها‬
‫إلى الظلم و سوء الدب و تتهمها به‪ ،‬فهي أحق بذلك لنها مأوى لكل شر و‬
‫أمارة بكل سوء و داهية وإن كان هو عّز و جلّ خالقك و خالق أفعالك مع‬
‫ل ‪ :‬تجئ‬ ‫كسبك‪ ،‬أنت الكاسب و هو الخالق كما قال بعض العلماء بال عّز و ج ّ‬
‫و ل بد منك‪ ،‬و قوله صلى ال عليه و سلم ‪ ) :‬اعملوا و قاربوا و سددوا فكل‬
‫ميسر لما خلق له (‪.‬‬

‫المقالة الحادية السبعون‬

‫فـي الــمــريـــد والــمـــراد‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬ل يخلو إما أن تكون مريدًا أو مرادًا‪.‬‬

‫فإن كنت مريدًا فأنت محمل و حمال يحمل كل شديد و ثقيل‪ ،‬لنك طالب و‬
‫الطالب مشقوق عليه حتى يصل إلى مطلوبه و يظفر بمحبوبه و يدرك مرامه‪،‬‬
‫و ل ينبغي لك أن تنفر من بلء ينزل بك في النفس و المال و الهل و الولد‪،‬‬
‫إلى أن يحط عنك العمال‪ ،‬و يزال عنك الثقال‪ ،‬و يرفع عنك اللم و يزال‬
‫عنك الذى و الذلل‪ ،‬فتصان عن جميع الرذائل و الدران و الوساخ و‬
‫المهانات و الفتقار إلى الخليقة و البريات‪ ،‬فتدخل في زمرة المحبوبين‬
‫المدللين المرادين‪.‬‬

‫ل في إنزال البلية بك أيضًا‪ ،‬و ل‬‫و إن كنت مرادًا فل تتهمن الحق عّز و ج ّ‬
‫ل‪ ،‬لنه قد يبتليك ليبلغك مبلغ الرجل‪،‬‬
‫تشكن في منزلتك و قدرك عنده عّز و ج ّ‬
‫و يرفع منزلتك إلى منازل الولياء‪.‬‬
‫أتحب ما يحط منزلتك عن منازلهم و درجاتك عن درجاتهم و أن تكون خلعتك‬
‫لل‬‫و أنوارك و نعيمك دون ما لهم‪ ،‬فإن رضيت أنت بالدون فالحق عّز و ج ّ‬
‫ن}‪.‬البقرة ‪.232+216‬آل‬
‫ل َيْعَلُم َوَأنُتْم َل َتْعَلُمو َ‬
‫يرضى لك بذلك ‪ .‬قال تعالى ‪َ{ :‬وا ّ‬
‫عمران ‪.66‬النور ‪ .19‬يختار لك العلى و السنى و الرفع و الصلح و أنت تأبى‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬كيف يصلح ابتلء المراد مع هذا النعيم و البيان مع أن البتلء إنما‬
‫هو للمحب‪ ،‬و المدلل إنما هو المحبوب‪.‬‬

‫ل و سمرنا بالنادر الممكن ثانيًا‪.‬‬


‫يقال لك ذكرنا الغلب أو ً‬

‫ل خلف أن النبي صلى ال عليه و سلم كان سيد المحبوبين أشد الناس بلء‪ ،‬و‬
‫قد قال صلى ال عليه و سلم ) لقد خفت في ال ما ل يخافه أحد‪ ،‬و لقد أوذيت‬
‫في ال لم يؤذه أحد‪ ،‬و لقد أتى علي ثلثون يومًا و ليلة و ما لنا طعام إل شيء‬
‫يواريه إبط بلل ( و قد قال صلى ال عليه و سلم ) إنا معاشر النبياء أشد‬
‫الناس بلء ثم المثل فالمثل ( و قد قال صلى ال عليه و سلم ) أنا أعرفكم بال‬
‫و أشدكم منه خوفًا ( فكيف يبتلى المحبوب و يخوف المدلل المراد و لم يكن‬
‫ذلك إل بما أشرنا إليه من بلوغ المنازل العالية في الجنة لن المنازل في الجنة‬
‫ل تشيد و ل ترفع بالعمال في الدنيا‪.‬‬

‫الدنيا مزرعة الخرة‪ ،‬و أعمال النبياء و الولياء بعد أداء الوامر و انتهاء‬
‫النواهي و الصبر و الرضا و الموافقة في حالة البلء يكشف عنهم البلء و‬
‫يواصلون بالنعيم و الفضل و الدلل و اللقاء أبد الباد‪ ،‬و ال أعلم‪.‬‬

‫المقالة الثانية والسبعون‬

‫فـي مـن إذا دخـل الســواق و مـال إلـى مـا فـيـهـا‬


‫و مـن إذا دخـلـهـا و صـبـر‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬الذين يدخلون السواق من أهل الدين‬
‫و النسك في خروجهم إلى أداء ما أمر ال تعالى من صلة الجمعة و الجماعة‬
‫و قضاء حوائج تسنح لهم على أضرب ‪:‬‬

‫مــنــهــم من إذا دخل السوق و رأى فيه من أنواع الشهوات و اللذات تقيد بهما‬
‫و علقت بقلبه فتن‪ ،‬و كان ذلك سبب هلكه و تركه دينه و نسكه و رجوعه إلى‬
‫ل برحمته و عصمته و‬
‫موافقة طبعه و إتباع هواه إل أن يتداركه عّز و ج ّ‬
‫إصباره إياه عنها فتسلم‪.‬‬

‫و مــنــهــم من إذا رأى ذلك كاد أن يهلك بها رجع إلى عقله و دينه و تصبر و‬
‫تجرع مرارة تركها‪ ،‬فهو كالمجاهد ينصره ال تعالى على نفسه و طبعه و‬
‫هواه‪ ،‬و يكتب له الثواب الجزيل في الخرة‪ .‬كما جاء في بعض الخبار عن‬
‫النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال ‪ ) :‬يكتب للمؤمنين بترك شهوة عند العجز‬
‫عنها أو عند المقدرة سبعون حسنة ( أو كما قال‪.‬‬

‫و مــنــهــم من يتناولها و يتلبس بها و يحصلها بفضل نعمة ال عّز و جلّ التي‬
‫ل عليها‪.‬‬
‫عنده من سعة الدنيا و المال‪ ،‬و يشكر ال عّز و ج ّ‬

‫و مــنــهــم من ل يراها و ل يشعر بها‪ ،‬فهو أعمى عن ما سوى ال عّز و‬


‫ل‪ ،‬فل يرى غيره‪ ،‬و أصم عما سواه فل يسمع من غيره‪ ،‬عنده شغل عن‬ ‫جّ‬
‫النظر إلى غير محبوبه و اشتهائه‪ ،‬فهو في معزل عما العالم فيه فإذا رايته و‬
‫قد دخل السوق فسألته عما رأى في السوق يقول ما رأيت شيئًا‪ .‬نعم قد رأى‬
‫الشياء لكن قدر رآها ببصر رأسه ل ببصر قلبه‪ ،‬و نظرة فجاءت ل نظرة‬
‫شهوة‪ ،‬نظر صورة ل نظر معنى‪ ،‬نظر الظاهر ل نظر الباطن‪ ،‬فبظاهره ينظر‬
‫ل‪ ،‬إلى جلله تارة و إلى‬ ‫إلى ما في السوق و بقلبه ينظر إلى ربه عّز و ج ّ‬
‫جماله تارة أخرى‪.‬‬

‫ل رحمة لهم‪ ،‬فتشغله‬ ‫و مــنــهــم من إذا دخل السوق امتل قلبه بال عّز و ج ّ‬
‫الرحمة لهم عن النظر إلى ما لهم و بين أيديهم فهو في حين دخوله إلى حين‬
‫خروجه في الدعاء و الستغفار و الشفاعة لهله و الشفقة و الرحمة عليهم و‬
‫ل بما أولى الكافة من‬
‫لهم‪ ،‬و عينه مغرورقة و لسانه في ثناء و حمد ل عّز و ج ّ‬
‫نعمه و فضله فهذا يسمى شحنة البلد و العباد‪ ،‬و إن شئت سميته عارفًا و بد ً‬
‫ل‬
‫ل محبوبًا مرادًا و نائبًا في الرض على عباده‪ ،‬و‬ ‫و زاهدًا و عالمًا غيبًا و بد ً‬
‫ل و مرشدًا فهذا هو الكبريت‬‫سفيرًا و جهبذًا و نفاذا و هاديًا و مهديًا و دا ً‬
‫الحمر و بيضة العقعق‪ ،‬رضوان ال عليه و على كل مؤمن مريد ل وصل‬
‫إلى انتهاء المقام‪ ،‬و ال الهادي‪.‬‬

‫المقالة الثالثة والسبعون‬

‫فـي قـســم مـن الولـيـاء قـد يـطـلـعـه ال عـلـى عـيـوب‬


‫غـيـرهـم‬
‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬قد ُيطلع ال تعالى وليه على عيوب‬
‫غيره و كذبه و دعوته و شركه في أفعاله و أقواله و إضماره و نيته‪ ،‬فيغار‬
‫ولى ال لربه و لرسوله و دينه فيشتد غضب باطنه ثم ظاهره حاضرًا و غائبًا‪،‬‬
‫كيف يدعى السلمة مع العلل و الوجاع الباطنة والظاهرة؟؟ و كيف يدعى‬
‫التوحيد مع الشرك‪ ،‬و الشرك كفر و بعد عن قرب ال و هو صفة العدو و‬
‫الشيطان اللعين‪ ،‬و المنافقين المقطوع لهم بالدرك السفل من النار و الخلود‬
‫فيها فيجرى على لسان الولي ذكر عيوبه و أفعاله الخبيثة و وقاحته بعريض‬
‫دعاويه أحوال الصديقين و مزاحمته للفانين في قدر ال و فعله‪،‬و المراد من‬
‫ل‪ ،‬مرة على وجه النكار له و الموعظة له‬ ‫على وجه الغيرة ل عّز و ج ّ‬
‫ل و إرادته و شدة غضبه على‬ ‫أخرى‪ ،‬و على وجه الغلبة بفعل ال عّز و ج ّ‬
‫ل غيبة‪ ،‬فيقال أيغتاب الولي و هو يمنع‬ ‫الكذب أخرى فيضاف إلى ال عّز و ج ّ‬
‫منها أو يذكر الغائب و الحاضر بما يظهر عند الخواص و العوام؟؟ فيصير‬
‫ما}‪.‬البقرة‬
‫ل ‪َ{ :‬وِإْثُمُهَما َأْكَبُر ِمن ّنْفِعِه َ‬
‫ذلك النكار في حقهم كما قال ال عّز و ج ّ‬
‫ب و العتراض عليه‬ ‫‪ .219‬في الظاهر إنكار المنكر و في الباطن إسخاط الر ّ‬
‫فيصير حاله الخيرة‪ ،‬فيكون فرضه فيها السكوت و التسليم و طلب المساعي‬
‫ب و الولي يطعنان لفترائه‬ ‫لذلك في الشرع‪ ،‬و الجواز ل العتراض على الر ّ‬
‫و كذبه‪ ،‬و قد يكون ذلك سببًا لقلعه و توبته و رجوعه عن جهله و حيرته‪،‬‬
‫ل َيْهِدي َمن‬ ‫فيكون كرهًا للولي نفعًا للمغرور الهالك بغروره و رعونته‪َ{ .‬وا ّ‬
‫سَتِقيٍم}‪.‬البقرة ‪.213‬النور ‪.46‬‬
‫ط ّم ْ‬
‫صَرا ٍ‬
‫شاُء ِإَلى ِ‬
‫َي َ‬

‫المقالة الرابعة والسبعون‬

‫فـيـمـا يـنـبـغـي لـلـعـاقـل أن يـســتـدل بـه‬


‫عـلـى وحـدانـيـة ال تـعـالـى‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أول ما ينظر العاقل في صفة نفسه و‬
‫تركيبه ثم في جميع المخلوقات و المبدعات فيستدل بذلك على خالقها و‬
‫بمدعها‪ ،‬لن فيه دللة على الصانع و في القدرة المحكمة آية على الحكيم‪ ،‬فإن‬
‫الشياء كلها موجودة به‪.‬‬

‫و في مـعـنـاه ما ذكر عن ابن عباس رضي ال عنهما في تفسير قوله‬


‫جِميعًا ّمْنُه}‪.‬الجاثية ‪.13‬‬
‫ض َ‬
‫ت َوَما ِفي اَْلْر ِ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫خَر َلُكم ّما ِفي ال ّ‬
‫سّ‬‫تعالى ‪َ{ :‬و َ‬
‫فقال في كل شئ اسم من أسمائه و اسم كل شئ من اسمه‪ ،‬فإنما أنت بين‬
‫أسمائه و صفاته و أفعاله‪ ،‬باطن بقدرته و ظاهر بحكمته‪ ،‬ظهر بصفاته و بطن‬
‫بذاته حجب الذات بالصفات و حجب الصفات بالفعال‪ ،‬و كشف العلم بالرادة‬
‫و أظهر الرادة بالحركات‪ ،‬و أخفى الصنع و الصنيعة و أظهر الصنعة‬
‫يٌء‬
‫ش ْ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫بالرادة‪ ،‬فهو باطن في غيبه و ظاهر في حكمته و قدرته {َلْي َ‬
‫صيُر}‪.‬الشورى ‪.11‬‬
‫سِميُع الَب ِ‬
‫َوُهَو ال ّ‬

‫و لـقـد أظـهـر في هذا الكلم من أسرار المعرفة ما ل يظهر إل من مشكاة فيها‬


‫مصباح‪ ،‬أمره برفع يد العصمة اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل‪ ،‬أنالنا ال‬
‫تعالى بركاتهم و حشرنا في زمرتهم و حرمتهم آمين‪.‬‬

‫المقالة الخامسة والسبعون‬

‫فـي الـتـصـوف و عـلـى أي شــئ مـبـنـاه‬

‫قـال رضـي ال تـعـالـى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أوصـيـك بـتـقوى ال و طـاعـتـه‪ ،‬و‬


‫لـزوم ظـاهـر الـشــرع و ســلمـة الـصـدر‪ ،‬و ســخـاء الـنـفـس‪ ،‬و بـشــاشــة‬
‫الـوجـه‪ ،‬و بـدل الـنـدى‪ ،‬و كـف الذى‪ ،‬و تـحـمـل الذى و الـفـقـر‪ ،‬و حـفـظ‬
‫حـرمـات الـمـشــايـخ و الـعـشــرة مـع الخـوان‪ ،‬و الـنـصـيـحـة لـلصـاغـر و‬
‫الكـابـر‪ ،‬و تـرك الـخـصـومـة‪ ،‬و الرفـاق‪ ،‬و مـلزمـة اليـثـار و مـجـانـبـة‬
‫الدخار‪ ،‬و تـرك صـحـبـة مـن لـيـس مـن طـبـقـتـهـم‪ ،‬و الـمـعـاونـة في أمـر‬
‫الـديـن و الـدنـيـا‪.‬‬

‫و حـقـيـقـة الـفـقـر أن ل تـفـتـقـر عـلـى مـن هـو مـثـلـك و حـقـيـقـة الـغـنـى أن‬
‫تستغني عـمـن هـو مـثـلـك‪.‬‬

‫و الـتـصـوف لـيـس أخـذ عـن الـقـيـل و الـقـال و لـكـن أخـذ عـن الـجـوع و‬
‫قـطـع الـمـألـوفـات و الـمـســتـحـســنـات‪ ،‬و ل تبدءا الـفـقـيـر بـالـعـلـم و‬
‫إبـدائـه بـالـرفـق‪ ،‬فـإن الـعـلـم يـوحـشــه و الـرفـق يـؤنـســه‪.‬‬

‫و الـتـصـوف مـبـنـي عـلـى ثــمــان خــصـال ‪:‬‬

‫الــســـــــخــــاء لـســـــيــدنــا لبـــراهــــــيــــم عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬


‫الـــــرضـــــــا لـســـــيــدنــا لســــــــحـــــاق عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الـــصــــــبــــر لـســـــيــدنــا ليــــــــــــــــوب عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الشــــــــــــارة لـســـــيــدنــا لــــزكــــــريـــــا عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الـــغــــــربـــــة لـســـــيــدنــا لـــيــــحـــــيــــى عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الــتـــصـــــوف لـســـــيــدنــا لـــمــــوســـــــى عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الــســــيـــاحـــة لـســـــيــدنــا لـــعــــيــــســــى عــــلــــيــــه الـــســــــلم‬
‫الـــفــــــقـــــــر لـســـــيــدنــا لـسـيـدنـا مــحـمــد صـلـى ال عـلـيـه و سـلـم‬

‫و عـلى إخـوانـه مـن الـنـبـيـيـن و الـمـرســلـيـن و آل كـل و صـحـب كـل و‬


‫ســلـم أجـمـعـيـن‬

‫المقالة السادسة والسبعون‬

‫فـي الــوصـــيـــة‬

‫قـال رضـي ال تـعـالـى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬أوصــيــك أن تصحب الغنياء‬


‫بالتعزز‪ ،‬و الفقراء بالتذلل‪ ،‬و عليك بالتذلل و الخلص‪ ،‬و هو دوام رؤية‬
‫الخالق‪ ،‬و ل تتهم ال في السباب و استكن إليه في جميع الحوال‪ ،‬و ل تضع‬
‫ل على ما بينك و بينه من المودة‪.‬‬
‫حق أخيك اتكا ً‬

‫حسن الدب و السخاء‪ ،‬و أمت‬‫و عـلـيـك بـصـحـبـة الـفـقـراء بالتواضع و ُ‬


‫نفسك حتى تحيى‪ ،‬و أقرب الخلق من ال تعالى أوسعهم خلقًا‪ ،‬و أفضل‬
‫العمال ‪ :‬رعاية السر عن اللتفات إلى ما سوى ال تعالى‪.‬‬

‫و الـصـولـة بـالـحـق و الـصـبـر‪ ،‬و حسبك من الدنيا شيئان ‪ :‬صحبة فقير و‬


‫خدمة ولي‪ ،‬و الفقير هو الذي ل يستغنى بشئ دون ال تعالى‪.‬‬

‫و الـصـولـة عـلـى من هو دونك ضعف‪ ،‬و على من هو فوقك فخر‪ ،‬و على‬
‫من هو مثلك سوء خلق‪.‬‬

‫و الـفـقـر و الـتـصـوف جدان فل تخلطهما بشئ من الهزل‪ ،‬وفقنا ال و إياكم و‬


‫المسلمين آمين‪.‬‬

‫يـا ولــي عـلـيـك بذكر ال في كل حال فإنه للخير جامع‪ .‬و عليك بالعتصام‬
‫بحبل ال فإنه للمضار دافع‪ .‬و عليك بالتأهب لتلقى موارد القضاء فإنه واقع‪.‬‬
‫و أعـلـم أنـك مـســئـول عن حركاتك و سكناتك‪ ،‬فاشتغل بما هو أولى في‬
‫الوقت و إياك و فضول تصرفات الجوارح‪.‬‬

‫و عـلـيـك بـطـاعـة ال و رســوله و مـن واله و أد إليه حقه و ل تطالبه بما‬


‫يجب عليه‪ ،‬و ادع في كل حال‪.‬‬

‫و عـلـيـك بـحـســن الـظـن في المسلمين و إصلح النية لهم‪ ،‬و تسعى بينهم في‬
‫كل خير‪ ،‬و أن ل تبيت و لحد في قلبك شر و ل شحناء و ل بغض‪ ،‬و أن‬
‫ل‪.‬‬
‫تدعو لمن ظلمك‪ ،‬و راقب ال عّز و ج ّ‬

‫و عـلـيـك بأكل الحلل‪ ،‬و السؤال لهل العلم بال فيما ل تعلم‪ ،‬و عليك بالحياء‬
‫من ال سبحانه و تعالى‪.‬‬

‫و أجـعـل صـحـبـتـك مع من ال معه و أصحب من سوى ال بصحبته‪ ،‬و‬


‫تصدق في كل صباح بقرصك و إذا أمسيت فصل صلة الجنازة على كل من‬
‫مات من المسلمين في ذلك اليوم و إذا صليت المغرب فصلة الستخارة و‬
‫تقول بكرة و عشيًا سبع مرات ) الـلـهـّم أجـرنـا مـن الـنـار ( و حافظ على قول‬
‫عاِلُم‬
‫ل اّلِذي َل ِإَلَه ِإّل ُهَو َ‬
‫أعوذ بال السميع العليم من الشيطان الرجيم {ُهَو ا ُّ‬
‫حيُم}‪.‬الحشر ‪ .22‬إلى آخر سورة الحشر‪ ،‬و ال‬ ‫ن الّر ِ‬
‫حَم ُ‬
‫شَهاَدِة ُهَو الّر ْ‬
‫ب َوال ّ‬
‫اْلَغْي ِ‬
‫الموفق و المعين‪ ،‬إذ ل حول و ل قوة إل بال العلى العظيم‪.‬‬

‫المقالة السابعة والسبعون‬

‫فـي الـوقـوف مـع ال و الـفـنـاء عـن الـخـلـق‬

‫ل كأن ل خلق‪،‬‬‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬كن مع ال عّز وج ّ‬


‫ل بل خلق وجدت‪ ،‬وعن‬ ‫ومع الخلق كأن ل نفس‪ ،‬فإذا كنت مع ال عّز وج ّ‬
‫الكل فنيت‪ .‬وإذا كنت مع الخلق بل نفس عدلت وبقيت ومن التبعات سلمت‪،‬‬
‫وأترك الكل على باب خلوتك‪ ،‬وأدخل وحدك تر مؤنسك في خلوتك بعين‬
‫سّرك‪ ،‬وتشاهد ما وراء العيان‪ ،‬وتزول النفس ويأتي مكانها أمر ال وقربه‪،‬‬
‫فإذن جهلك علم‪ ،‬وبعدك قرب‪ ،‬وصمتك ذكر‪ ،‬ووحشتك أنس‪.‬‬

‫عُدّو ّلي‬
‫يا هذا ‪ :‬ما ثم إل خلق وخالق‪ ،‬فإذا اخترت الخالق فقل لهم ‪َ{ :‬فِإّنُهْم َ‬
‫ن}‪.‬الشعراء ‪.77‬‬
‫ب اْلَعاَلِمي َ‬
‫ِإّل َر ّ‬
‫ثم قال رضي ال عنه و أرضاه ‪ :‬من ذاق عرف‪ ،‬فقيل له ‪ :‬من غلبت عليه‬
‫مرارة صفرته كيف يجد حلوة الذوق؟؟ فقال ‪ :‬يتعمل في الشهوات من قبله‬
‫بقصد وتكلف‪.‬‬

‫يا هذا ‪ :‬المؤمن إذا عمل صالحًا انقلبت نفسه قلبًا وأدرك مدركات القلب‪ ،‬ثم‬
‫انقلب قلبه سرًا ثم انقلب الفناء فصار وجودًا وبقاء‪.‬‬

‫ثم قال رضي ال عنه و أرضاه ‪ :‬الحباب يسعهم كل باب‪.‬‬

‫يا هذا ‪ :‬الفناء إعدام الخلئق‪ ،‬وانقلب طبعك عن طبع الملئكة‪ ،‬ثم الفناء عن‬
‫طبع الملئكة‪ ،‬ثم لحوقك بالمنهاج الول‪ ،‬وحينئذ يسقيك رّبك ما يسقيك‪،‬‬
‫ويزرع فيك ما يزرع‪.‬‬

‫إن أردت هذا فعليك بالسلم ثم الستسلم‪ ،‬ثم العلم بال ثم المعرفة ثم‬
‫الـوجود‪ .‬وإذا كان وجودك له كان كلك له‪.‬‬

‫الزهد عمل ساعة ‪ ،‬و الورع عمل ساعتين ‪ ،‬و المعرفة عمل البد‪.‬‬
‫المقالة الثامنة والسبعون‬

‫فـي أهـل الـمـجـاهـدة و الـمـحـاســبـة و أولـى الـعـزم‬


‫و بـيـان خـصـالـهـم‬

‫قـال رضـي ال تـعـالى عـنـه و أرضـاه ‪ :‬لهل المجاهدة و المحاسبة و أولى‬


‫العزم عشر خصال جربوها‪ ،‬فإذا أقاموها و أحكموها بإذن ال تعال وصلوا‬
‫إلى المنازل الشريفة ‪:‬‬

‫ل صادقًا و ل كاذبًا عامدًا و ل ساهيًا‪،‬‬‫) الولـى ( أن ل يحلف بال عّز و ج ّ‬


‫لنه إذا أحكم ذلك من نفسه و عود لسانه رفعه ذلك إلى ترك الحلف ساهيًا و‬
‫عامدًا‪ ،‬فإذا اعتاد ذلك فتح ال له باب من أنواره يعرف منفعة ذلك في قلبه‪ ،‬و‬
‫رفعه في درجة و قوة في عزمه و في صبره و الثناء عند الخوان‪ ،‬و الكرامة‬
‫عند الجيران حتى يهتم به من يعرفه و يهابه من يراه‪.‬‬

‫ل و ل جادًا‪ ،‬لنه إذا فعل ذلك و أحكمه من‬


‫) الـثـانـيـة ( يجتنب الكذب ل هاز ً‬
‫نفسه و اعتاده لسانه شرح ال تعالى به صدره و صفا به علمه‪ ،‬كأنه ل يعرف‬
‫الكذب‪ ،‬و إذا سمعه من غيره عاب ذلك عليه و عيره به في نفسه‪ ،‬و إن دعا له‬
‫بزوال ذلك كان له ثواب‪.‬‬
‫) الـثـالـثـة ( أن يحذر أن يعد أحدًا شيئًا فيخلفه‪ ،‬و يقطع العدة البتة فإنه أقوى‬
‫لمره و أقصد بطريقه‪ ،‬لن الخلف من الكذب فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء‬
‫و درجة الحياء و أعطى مودة في الصادقين و رفعة عند ال جل ثناؤه‪.‬‬

‫) الـرابـعـة ( أن يجتنب أن يلعن شيئًا من الخلق‪ ،‬أو يؤذى ذرة فما فوقها‪ ،‬لنها‬
‫من أخلق البرار و الصديقين‪ ،‬و له عاقبة حسنة في حفظ ال تعالى في الدنيا‬
‫مع ما يدخر له من الدرجات‪ ،‬و يستنقذ من مصارع الهلك‪ ،‬و يسلمه من‬
‫ل‪.‬‬
‫الخلق‪ ،‬و يرزقه رحمة العباد‪ ،‬و يقربه منه عّز و ج ّ‬

‫) الـخـامـسـة ( أن يجتنب الدعاء على أحد من الخلق و إن ظلمه فل يقطعه‬


‫بلسانه‪ ،‬و ل يكافئه بقول و ل فعل‪ ،‬فإن هذه الخصلة ترفع صاحبها إلى‬
‫الدرجات العلى‪ .‬و إذا تأدب بها ينال منزلة شريفة في الدنيا و الخرة‪ ،‬و‬
‫المحبة و المودة في قلوب الخلق أجمعين من قريب و بعيد‪ ،‬و إجابة الدعوة و‬
‫الغلوة في الخلق‪ ،‬و عز في الدنيا في قلوب المؤمنين‪.‬‬

‫) الـسـادسـة ( أن ل يقطع الشهادة على أحد من أهل القبلة بشرك و ل كفر و‬


‫ل نفاق‪ ،‬فإنه أقرب للرحمة‪ ،‬و أعلى في الدرجة و هي تمام السنة‪ ،‬و أبعد عن‬
‫الدخول في علم ال‪ ،‬و أبعد من مقت ال و أقرب إلى رضاء ال تعالى و‬
‫رحمته‪ ،‬فإنه باب شريف كريم على ال تعالى يورث العبد الرحمة للخلق‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫) الـســابـعـة ( أن يجتنب النظر إلى المعاصي و يكف عنها جوارحه‪ ،‬فإن ذلك‬
‫من أسرع العمال ثوابًا في القلب و الجوارح في عاجل الدنيا‪ ،‬مع ما يدخره‬
‫ال له من خير الخرة‪ .‬نسأل ال أن يمن علينا أجمعين و يعلمنا بهذه الخصال‪،‬‬
‫و أن يخرج شهواتنا عن قلوبنا‪.‬‬

‫) الـثـامـنـة ( يجتنب أن يجعل على أحد من الخلق منه مؤنة صغيرة و ل‬


‫كبيرة‪ ،‬بل يرفع مؤنته عن الخلق أجمعين مما أحتاج إليه و استغنى عنه‪ ،‬فإن‬
‫ذلك تمام عزة العابدين و شرف المتقين‪ ،‬و به يقوى على المر بالمعروف و‬
‫النهى عن المنكر‪ ،‬و يكون الخلق عنده أجمعين بمنزلة واحدة‪ ،‬فإذا كان كذلك‬
‫ل‪ ،‬و ل يرفع أحدًا سواه‪ ،‬و تكون‬
‫نقله ال إلى الغناء و اليقين و الثقة به عّز و ج ّ‬
‫الخلق عنده في الحق سواء‪ ،‬و يقطع بأن هذه السباب عز المؤمنين و شرف‬
‫المتقين‪ ،‬و هو أقرب باب الخلص‪.‬‬

‫) الـتـاســعـة ( ينبغي له أن يقطع طعمه من الدميين‪ ،‬و ل يطمع نفسه فيما في‬
‫أديهم‪ ،‬فإنه العز الكبر‪ ،‬و الغنى الخاص‪ ،‬و الملك العظيم‪ ،‬و الفخر الجليل‪ ،‬و‬
‫اليقين الصافي‪ ،‬و التوكل الشافي الصريح و هو باب من أبواب الثقة بال عّز و‬
‫ل‪ ،‬و هو باب من أبواب الزهد‪ ،‬و به ينال الورع و يكمل نسكه‪ ،‬و هو من‬
‫جّ‬
‫ل‪.‬‬
‫علمات المنقطعين إلى ال عّز و ج ّ‬

‫) الـعـاشــرة ( التواضع لنه به يشيد محل العابد و تعلو منزلته‪ ،‬و يستكمل‬
‫العز و الرفعة عند ال سبحانه و عند الخلق‪ ،‬و يقدر على ما يريد من أمر الدنيا‬
‫و الخرة و هذه الخصلة أصل الخصال و كلها و فرعها و كمالها‪ ،‬و بها يدرك‬
‫العبد منازل الصالحين الراضين من ال تعالى في السراء و الضراء و هي‬
‫كمال التقوى‪.‬‬

‫و الـتـواضـع ‪ :‬هو أن ل يلقى العبد أحدًا من الناس إل رأى له الفضل عليه‪ ،‬و‬
‫يقول عسى أن يكون عند ال خيرًا مني و أرفع درجة‪ ،‬فإن كان صغيرًا قال‬
‫هذا لم يعص ال تعالى و أنا قد عصيت فل شك أنه خير مني‪ ،‬و إن كان كبيرًا‬
‫قال هذا عبد ال قبلي‪ ،‬و إن كان عالمًا هذا أعطي ما لم أبلغ‪ ،‬و نال ما لم أنل‪،‬‬
‫ل قال هذا عصى ال بجهل‬ ‫و علم ما جهلت‪ ،‬و هو يعمل بعلمه و إن كان جاه ً‬
‫و أنا عصيته بعلم‪ ،‬و ل أدرى بما يختم لي و بما يختم له‪ ،‬و إن كان كافرًا قال‬
‫ل أدرى عسى أن يسلم فيختم له بخير العمل‪ ،‬و عسى أن أكفر فيختم لي بسوء‬
‫العمل‪ ،‬و هذا باب الشفقة و الوجل‪ ،‬و أولى ما يصحب و آخر ما يبقى على‬
‫العباد‪ ،‬فإذا كان العبد كذلك سلمه ال تعالى من الغوائل‪ ،‬و بلغ به منازل‬
‫ل و كان من أصفياء الرحمن و أحبائه‪ ،‬و كان من أعداء‬ ‫النصيحة ل عّز و ج ّ‬
‫إبليس عدو ال لعنه ال و هو باب الرحمة ومع ذلك يكون قطع باب الكبر و‬
‫جبال العجب‪ ،‬و رفض درجة العلو في نفسه في الدين و الدنيا و الخرة‪ ،‬و هو‬
‫مخ العبادة‪ ،‬و غاية شرف الزاهدين‪ ،‬و سيما الناسكين‪ ،‬فل شئ منه فضل‪ ،‬و‬
‫مع ذلك يقطع لسانه عن ذكر العالمين و ما ل يعنى‪ ،‬فل يتم له عمل إل به‪ ،‬و‬
‫يخرج الغل و الكبر و البغي من قلبه في جميع أحواله‪ ،‬و كان لسانه في السر و‬
‫العلنية واحدًا‪ ،‬و مشيئته في السر و العلنية واحدة‪ ،‬و كلمه كذلك‪ ،‬و الخلق‬
‫عنده في النصيحة واحد‪ ،‬و ل يكون من الناصحين‪ ،‬و هو يذكر أحدًا من خلق‬
‫ال بسوء أو يعيره بفعل‪ ،‬أو يحب أن يذكره عنده واحدا بسوء‪ .‬و هذه آفة‬
‫العابدين‪ ،‬و عطب النساك‪ ،‬و هلك الزاهدين إل من أعانه ال تعالى و حفظ‬
‫لسانه و قلبه برحمته و فضله و إحسانه‪.‬‬

‫تـمـت بـعـون ال‬

‫مـقـالت ســيـدي الـغـوث العـظـم قـّدس ال ســّره‬

‫وصيتكم الدعاء ‪ :‬أبو حمزة‬


‫تكملة في ذكر وصاياه لولده قّدست أسرارهم‬
‫و بعض مقالت نافعة أوردها‬
‫و مرضه و وفاته رضي ال عنه و أرضاه‬

‫انه رضي ال تعالى عنه و أرضاه لما مرض مرضه الذي مات فيه و قال له‬
‫ابنه عبد الوهاب قدس سره‪ ،‬أوصني يا سيدي بما أعمل به بعدك فقال رضي‬
‫ل‪ ،‬و ل تخف أحدًا سوى‬ ‫ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬عليك بتقوى ال عّز و ج ّ‬
‫ل‪ ،‬و ل تعتمد إل‬‫ال‪ ،‬و ل ترج أحدًا سوى ال‪ ،‬وكل الحوائج إلى ال عّز و ج ّ‬
‫عليه‪ ،‬و أطلبها جميعًا منه تعالى‪ ،‬و ل تتكل على أحد غير ال سبحانه‪ ،‬التوحيد‬
‫التوحيد جماع الكل‪.‬‬

‫لل‬
‫و قال رضي ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬إذا صح القلب مع ال عّز و ج ّ‬
‫يخلو منه شئ و ل يخرج منه شئ‪.‬‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬أنا لب بل قشر‪.‬‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه لولده ‪ :‬أبعدوا من حولي فإني معكم بالظاهر و‬
‫مع غيركم بالباطن‪.‬‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه ‪ :‬قد حضر عندي غيركم فأوسعوا لهم و تأدبوا‬
‫معهم‪ ،‬هاهنا رحمة عظيمة‪ ،‬و ل تضيقوا عليهم المكان‪.‬‬

‫و كان رضي ال تعالى عنه يقول ‪ :‬عليكم السلم و رحمة ال و بركاته‪ ،‬غفر‬
‫ال لي و لكم‪ ،‬تاب ال على و عليكم‪ ،‬بسم ال غير مودعين‪ .‬قال ذلك يوماً و‬
‫ليلة‪.‬‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه ‪ :‬ويلكم أن ل أبالى بشئ‪ ،‬ل بملك و ل بملك‬
‫الموت‪ ،‬منح لنا من يتولنا سواك‪ ،‬و صاح صيحة عظيمة و ذلك في اليوم‬
‫الذي مات في عشيته رضي ال تعالى عنه‪.‬‬
‫و أخبر ولداه الشيخ عبد الرزاق و الشيخ موسى قدست أسرارهما أن حضرة‬
‫الغوث رضي ال تعالى عنه كان يرفع يديه و يمدها و يقول ‪ :‬و عليكم السلم‬
‫و رحمة ال و بركاته‪ ،‬توبوا و أدخلوا في الصف إذا جئ إليكم‪.‬‬

‫و كان رضي ال تعالى عنه يقول ‪ :‬أوقفوا‪ ،‬ثم أتاه الحق و سكرة الموت‪.‬‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه ‪ :‬بيني و بينكم و بين الخلق كلهم بعد ما بين‬
‫السماء و الرض‪ ،‬فل تقيسوني بأحد و ل تقيسونا على أحد‪ ،‬ثم سأله ولده‬
‫الشيخ عبد العزيز قدس سره عن ألمه و حاله فقال رضي ال تعالى عنه ‪ :‬ل‬
‫ل‪.‬‬
‫يسألني أحد عن شئ‪ ،‬أنا أتقلب في علم ال عّز و ج ّ‬

‫و قال رضي ال تعالى عنه و قد سأله ولده الشيخ عبد العزيز قدس سره أيضًا‬
‫عن مرضه‪ ،‬فقال رضي ال تعالى عنه ‪ :‬إن مرضى ل يعلمه أحد و ل يعقله‬
‫أحد إنس و ل جن و ل ملك‪ ،‬ما ينقص علم ال بحكم ال‪ ،‬الحكم يتغير و العلم‬
‫سَأُل‬
‫عنَدُه ُأّم اْلِكَتابِ}‪.‬الرعد ‪ – .39‬و – {َل ُي ْ‬
‫ت َو ِ‬
‫شاُء َوُيْثِب ُ‬
‫ل َما َي َ‬
‫حو ا ّ‬ ‫ل يتغير {َيْم ُ‬
‫ن}‪.‬النبياء ‪ .23‬أخبار الصفات تمر كما جاءت‪.‬‬ ‫سَأُلو َ‬
‫عّما َيْفَعُل َوُهْم ُي ْ‬
‫َ‬

‫و سأله ولده الشيخ عبد الجبار قدس سره ‪ :‬ماذا يؤلمك في جسمك؟ فقال‬
‫رضي ال تعالى عنه ‪ :‬جميع أعضائي تؤلمني إل قلبي فما به ألم و هو مع ال‬
‫ل‪ ،‬ثم أتاه الموت فكان رضي ال تعالى عنه يقول ‪ :‬استعنت بل إلـه‬‫عّز و ج ّ‬
‫إل ال سبحانه و تعالى‪ ،‬و الحي الذي ل يخشى الموت‪ ،‬سبحان من تعزز‬
‫بالقدرة و قهر عباده بالموت‪ ،‬ل إلـه إل ال محمد رسول ال‪.‬‬

‫و أخبر ولده الشيخ موسى قدس سره أنه قال ‪ :‬لما قربت وفاة حضرة الشيخ‬
‫رضي ال تعالى عنه و أرضاه كان يقول ‪ :‬تعزز و لم يؤدها على الصحة‬
‫فمازال يكررها حتى إذا قال تعزز و مد بها صوته و شدها حتى صاح لسانه‪،‬‬
‫ثم قال ال ال ال ثم خفي صوته و لسانه ملتصق بسقف حلقه‪ ،‬ثم خرجت‬
‫روحه الكريمة رضوان ال تعالى عليه‪.‬‬

‫فـي بـيـان تـاريخ وفـاتـه و ولدتـه‬


‫و كـم لـه مـن الـعـمـر حـيـن دخـل بـغـداد و كـم عـاش‬
‫قـدس ال ســّره و رضـي عـنـه‬
‫فـأمـا ولدتـه رضي ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬ففي عام أربعمائة وسبعين‬
‫و أمـا وفـاتـه رضي ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬في عام خمسمائة وأحد‬
‫وستين‬
‫و أمـا عـمـره رضي ال تعالى عنه و أرضاه ‪ :‬فأحد وتسعون سنة‬
‫و دخـل بـغـداد و له من العمر ثمانية عشر سنة‬
‫و ل در بعضهم حيث جمع ذلك كله‬
‫يعنى تاريخ الولدة و الوفاة و العمر في بيت مفرد حيث قال ‪:‬‬

‫إن بـــاز ال ســــلــطـان الــرجــــال‬


‫جـاء فـي عـشـق و مـات فـي كـمـال‬
‫فعلى هذا كلمة ) عشق ( عددها بالجمل أربعمائة وسبعين‪ ،‬فهو تاريخ الولدة‬

‫و كلمة ) كمال (‪ ،‬أحد وتسعون فهو قدر العمر‬


‫و إذا ضمينا كلمة ) عشق ( مع كلمة ) كمال (‬
‫يكون الحاصل من العدد خمسمائة وأحد وستون‪ ،‬فهو تاريخ الوفاة‬

‫كذا حققه في ) البهجة‪ ،‬و قلئد الجواهر‪ ،‬و نزهة الخواطر (‬

‫و ال أعلم‬

‫الـلّــهُــّـم انــشــــر نـــفــحــات الـرضـــوان عــلــيــه‬


‫و أمــــدنــا بـالســــرار الــتــي أودعـــتــهــا لــديــه‬

You might also like