You are on page 1of 7

1

‫شمع وعسل ‪ :‬مأثرة النحلة زينة السداسية ‪.‬‬


‫بقلم ‪ :‬فريد أبو سرايا ‪.‬‬

‫ألجل ذلك يعمل النحل‪ ،‬تلك المخلوقات التي تقوم بواسطة قانون من قوانين‬
‫‪.‬‬ ‫الطبيعة بتعليم الناس النظام‪.‬‬
‫وليم شكسبير ‪ ،‬مسرحية ( هنري الخامس )‬

‫في الصراعات والحروب‪ ،‬عندما يموت أشخاصٌ مغمورون من أولئك الذين يعيشون على هامش‬
‫الحياة‪ ،‬دفاعاعن قضية ما‪ ،‬يقوم مؤيدو تلك القضية ببناء نصبا تذكاريا لتخليد تضحيات أولئك البسطاء‬
‫المغمورون‪ ،‬ويطلقون عليه اسم نصب الجندي المجهول‪ .‬الجنود المجهولون إذن هم أموات يحاول األحياء أن‬
‫يوفوهم حقهم من الحمد والعرفان بالجميل‪ ،‬ولكن هناك جنو ٌد مجهولون من نوع آخر‪ ،‬جنو ٌد مجهولون ولكن‬
‫ليسوا أمواتا‪ ،‬بل أحياء يعملون بال كلل وال ملل في سبيل قضية الحياة‪ ،‬وهناك أحياء فضالء يعترفون لهؤالء‬
‫األحياء المجهولون بالفضل‪ ،‬ويقرون لهم بالجميل‪ ،‬ومن بين هؤالء األحياء‪ ،‬النحل التي يخرج من بطونها‬
‫شراب فيه دواء للناس‪ ،‬ومن بين هؤالء الفضالء‪ ،‬الخبير الدولي بافان سوخديف الذي يقول؛ أنه ال يجب‬
‫تجاهل عطاء النحل لنا ألننا نتحصل عليه بالمجان‪.‬‬
‫لقد بنى سوخديف نصبا جديدا للجندي المجهول‪ ،‬ولكن هذه المرة لتذكر أحياء يعملون بصمت؛ وبكفاءة‬
‫وفعالية‪ ،‬ولكن الكثيرون ينظرون إليهم بنظر يعوزه الكفاءة والفعالية ‪.‬‬
‫لم يحدث قط أن أرسلت لك نحلة واحدة فاتورة‪ .‬وهذا هو جزء من المشكلة‪ ،‬ألن معظم ما يأتينا من‬
‫الطبيعة هو مجاني‪ ،‬وألنه ليس ُمعد في فواتير‪ ،‬وألنه ليس ُمسعر‪ ،‬وال يتاجر به في األسواق‪ ،‬فإننا‬
‫نميل إلى تجاهله ‪.‬‬
‫بافان سوخديف‪ ،‬تقرير األمم المتحدة ‪ ،‬اقتصاد المجاالت الحيوية‪ ،‬والتنوع الحيوي‬
‫‪2‬‬
‫عندما قامت مملكة النحل أول مرة حدث كثير من اللغط حول الشكل الذي ينبغي للنحل بناء بيوته به‪،‬‬
‫وانقسم النحل إلى شيع وطوائف؛ فكانت هناك طائفة ترى أن الخاليا الدائرية هي البيوت المثلى للنحل‪ ،‬وطائفة‬
‫مع فكرة بناء خاليا مربعة‪ ،‬وأخرى أيدت الخاليا المثلثة‪ ،‬ثم بعد برهة من الزمن ظهرت نحلة بفكرة جديدة‬
‫تدعو من خاللها إلى بناء خاليا سداسية الشكل‪ ،‬وقالت تلك النحلة بلغة الرقص أن الشكل السداسي هو الشكل‬
‫الهندسي األمثل لبناء الخاليا‪ .‬استجابة لرقصة النحلة‪ ،‬هب النحل من كل الطوائف بأداء رقصات للتعبير عن‬
‫آرائها‪ ،‬ولتوضيح أفكارها والدعاية لها‪ ،‬ولتفنيد فكرة النحلة المبتدعة ‪ ،‬وأفكار النحل اآلخرين‪.‬‬
‫وذات يوم من األيام‪ ،‬وهو ذلك اليوم الذي تغيرت فيه مملكة النحل عسال وشمعا‪ ،‬طارت النحلة التي‬
‫كانت تدعو إلى بناء خاليا سداسية الشكل‪ ،‬وألنسنة الموضوع‪ ،‬والتقريب إلى األذهان؛ دعونا نطلق على هذه‬
‫النحلة اسم "زينة" لما لهذا االسم من ارتباط تاريخي بالنحل‪ .‬لم تكن زينة هذه بملكة وال ذكرا‪ ،‬وإنما كانت‬
‫إحدى الشغاالت في مملكة النحل‪ .‬رسمت زينة بطيرانها عدة دوائر في الهواء‪ ،‬وهي في الواقع لم تكن تدعو‬
‫إلى بناء بيوتا دائرية‪ ،‬ولكن على النقيض من ذلك تماما ‪ ،‬فقد كانت تفند فكرة بناء الخاليا الدائرية‪ ،‬وقالت زينة‬
‫مخاطبة الشغاالت على وجه الخصوص‪:‬‬

‫ــ " أيتها الشغاالت الكادحات‪ ،‬الثابت أنه لو كان لدينا كمية محددة من مادة البناء وأردنا أن نبني بها‬
‫مخزنا بأقصى مساحة‪ ،‬ليتسع ألكثر ما يمكن‪ ،‬فلن يكون ذلك المخزن إال على شكل دائرة‪" .‬‬

‫توقفت زينة قليال لترتب أفكارها‪ ،‬لكي تحافظ على تسلسلها وسالستها‪ ،‬ثم أردفت راقصة‪:‬‬

‫ــ " إن هدفنا الرئيسي هو االستفادة القصوى من الحيز المكاني‪ ،‬لتخزين أكبر قدر من العسل بأقل قدر‬
‫من الشمع‪ .‬والثابت أيضا‪ ،‬أنه بامكاننا بناء خاليا دائرية من الشمع‪ ،‬فهي تتسع ألكبر كمية من العسل من تلك‬
‫التي تتسع لها خاليا سداسية لها نفس المحيط‪ .‬ولكن المثلبة الكبرى يا أخواتي الشغاالت هي أن بناء خاليا‬

‫‪3‬‬
‫دائرية يخلق فراغات فيما بين بعضها البعض‪ ،‬وهذه الفراغات هي مساحات غير مستغلة‪ ،‬في قرص العسل‬
‫‪ Honeycomb‬وبالتالي ال يمكن تخزين العسل فيها‪" .‬‬

‫ثم أرادت زينة أن تؤكد على عدم جدوى فكرة بناء خاليا دائرية الشكل‪ ،‬فتابعت حديثها الراقص قائلة‪:‬‬

‫ــ " لو كنا نحن معشر النحل نبني خلية واحدة لما وجدنا أفضل من الدائرة شكال نبني به تلك الخلية‪،‬‬
‫ولكننا نبني خاليا متراصة تشكل في مجموعها قرص عسل‪" .‬‬

‫ٌ‬
‫طنين من النحل المستمعين‪ ،‬فأصغت زينة إليه‪ ،‬وكان الطنين في مجمله يدعو إلى التفاؤل‪ ،‬ثم استطردت‬ ‫صدر‬
‫في حديثها الراقص قائلة‪:‬‬

‫ــ " لقد واجه أسالفنا هذه المشكلة ولكنهم لم يتوصلوا إلى حل مقنع لها‪ .‬إن مادة البناء التي نستعملها‬
‫هي الشمع الذي هو من لدنا‪ ،‬ومن المعلوم أنه لكي ننتج وحدة واحدة من الشمع‪ ،‬علينا أن نأكل سبع وحدات‬
‫من العسل‪ ،‬ولذلك فالشمع بالنسبة لنا هو سبعة أعسال‪ ،‬أو سبعة عسول‪ .‬نحن في الواقع يا أخواتي الشغاالت‪،‬‬
‫نبني مما نأكل‪ ،‬ونأكل مما نبني‪ .‬إن الشمع هو الحاوية التي تحوي عسلنا وبيوضنا‪ ،‬وبدونه سيتبدد كل شيء‪،‬‬
‫إنه الحاوية التي تحوي حياتنا نفسها‪ ،‬واالقتصاد في استهالكه سيوفر لنا مزيدا من العسل‪ ،‬ولكي أوضح أهمية‬
‫الشمع ساضرب المثال التالي‪ :‬لو افترضنا أننا معشر النحل أردنا في يوم من األيام أن نبني معرضا لتماثيل‬
‫الشمع فلن يكون عسيرا علينا فعل ذلك‪ ،‬لكننا سوف لن نجد في يوم افتتاح المعرض مشروب عسل لنقدمه إلى‬
‫الضيوف الحاضرين‪ ،‬ولو كانت مدام توسو ‪ Madame Tussauds‬لنا ظهيرا‪ ،‬ألننا ببساطة سنكون حينها‬
‫قد التهمنا كل العسل في عملية انتاج الشمع الذي صنعنا منه تماثيل المشاهير‪" .‬‬

‫توقفت زينة قليال لتستطلع رأي النحل في كالمها‪ ،‬فلمست من إصغاء النحل إلى حديثها وعدم مقاطعتهن إياها‬
‫استحسانا لكالمها‪ ،‬فتابعت حديثها الراقص قائلة‪:‬‬

‫ــ " أيتها الشغاالت الكادحات‪ ،‬إن أولى أولوياتنا هي بناء مخزن بأقل مادة ممكنة‪ ،‬ليتسع ألكثر مادة‬
‫ممكنة‪ ،‬ومن البديهي أنه إذا كنا نخزن العسل في خاليا نبنيها من الشمع‪ ،‬وننتج هذا الشمع بأكلنا مما نخزنه‬
‫من العسل‪ ،‬فنحن في الواقع نخزن العسل في خاليا مصنوعة من العسل! أال ترين معي‪ ،‬أن مادة البناء في هذه‬
‫الحالة هي في غاية األهمية‪ ،‬وسيكون اإلفراط في استعمالها على حساب مادة الحياة نفسها؟ "‬

‫حينذاك قامت إحدى الشغاالت ورقصت رقصة مفادها‪ ،‬السؤال التالي ‪:‬‬

‫ــ " أيتها الشغالة الحكيمة‪ ،‬لقد تحدثت فأجدت الحديث وأوجزت العبارة‪ ،‬ولكن ماذا عن إمكانية صنع‬
‫أقراص عسل‪ ،‬ببناء خاليا مربعة الشكل‪ ،‬أو على شكل مثلث متساوي األضالع‪ ،‬ففي هذه الحالة ال تنشأ‬
‫فراغات بين الخاليا‪ ،‬ويكون البناء متراصا‪ ،‬أليس كذلك؟ "‬
‫‪4‬‬
‫أجابت زينة الحكيمة على هذا السؤال برقصة معبرة تقول حركاتها‪:‬‬

‫ــ " هذا سؤال ذكي‪ ،‬جدير حقا أن تسأله نحلة‪ .‬يا سيدتي الفاضلة‪ ،‬لقد اهتديت إلى حقيقة مدهشة‪ ،‬أال‬
‫وهي أن األشكال المختلفة‪ ،‬متساوية المساحة‪ ،‬تختلف محيطاتها في الطول‪ .‬وهذا يعني؛ إن باالمكان‪ ،‬بمحيط‬
‫محدد أن يكون لنا أشكاال مختلفة‪ ،‬لها مساحات مختلفة‪" .‬‬

‫أجالت زينة نظرها في سرب النحل أمامها‪ ،‬فرأت منه ما يشجعها على المضي في كالمها‪ ،‬فتابعت حديثها‬
‫الراقص مخاطبة السرب قائلة‪:‬‬

‫ــ " أيتها الشغاالت الكادحات‪ ،‬نحن نتعامل باألشكال‪ ،‬وال بد في هذه الحالة من األخذ في الحسبان أن‬
‫مساحة الشكل هي العسل‪ ،‬وأن محيطه في الظاهر هو من الشمع‪ ،‬ولكن في جوهره هو من العسل‪ .‬إن المساحة‬
‫هي الهدف وتحقيقها هو ما يعرف بالكفاءة‪ ،‬ولكن االقتصاد في المحيط هو الضابط الذي يحدد الفعالية‪" .‬‬

‫ولكي تعزز زينة جدلها‪ ،‬وتجعله أكثر منطقية‪ ،‬وبالتالي أكثر قبوال في عقول النحل‪ ،‬رأت أن األرقام هي‬
‫الكفيل بذلك‪ ،‬فلجأت إلى حديث األرقام‪ ،‬ورقصت هذه المرة رقصة رقمية تقول في مضمونها‪:‬‬

‫ــ " دعوني أوضح لكن أيتها الكادحات‪ ،‬ما أقصده بلغة األرقام‪ ،‬ألنها في نظري أصدق لغة ‪:‬‬
‫لو افترضنا أننا نريد أن نرسم بمقدار من الشمع طوله ‪ 36‬وحدة طول‪ ،‬عدة أشكال هندسية؛ ففي مرة‬
‫نرسم به دائرة‪ ،‬وفي مرة ثانية نرسم به مربعا‪ ،‬وفي ثالثة نرسم به مثلث متساوي أضالع‪ ،‬وفي رابعة نرسم‬
‫به مسدسا‪ ،‬فكم ستكون مساحة هذه األشكال؟ "‬

‫لم تجب أي واحدة من النحل على الفور على سؤال زينة‪ ،‬ألنه لم يكن أيا منها تحفظ قوانين مساحات األشكال‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬فتطوعت زينة باإلجابة على سؤالها‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫ــ " ستكون مساحة الدائرة ‪ 103‬وحدة مساحة‪ ،‬وهذا يعني أنه بـمحيط من الشمع قدره ‪ ، 36‬تتسع‬
‫الدائرة لكمية من العسل قدرها ‪ .103‬وسيتسع المسدس إلى ‪ ،93.5‬والمربع إلى ‪ ،81‬والمثلث إلى ‪. 62‬‬
‫بالطبع إن الدائرة هي خارج حساباتنا بسبب مشكلة الفراغات‪ ،‬فال يتبق لدينا سوى المربع‪ ،‬والمثلث‪،‬‬
‫والمسدس‪ .‬ال شك أن األرقام اآلنفة الذكر توضح أنه عند بناء خلية سداسية الشكل سيكون باإلمكان بكمية من‬
‫الشمع قدرها ‪ ،36‬تخزين كمية من العسل قدرها ‪" 93.5‬‬

‫ثم ختمت زينة خطبتها بالعبارة التالية‪:‬‬

‫ــ " عندما تتكلم األرقام ينبغي أن تصمت الحروف‪" .‬‬


‫‪5‬‬
‫بهذا البرهان قطعت زينة قول كل خطيب‪ ،‬واقتنع النحل بكالمها ( أو باألحرى برقصها )‪ ،‬ومنذ ذلك الحين اتخذ‬
‫النحل الشكل السداسي نمطا لبناء خالياه‪ ،‬وصار الشكل السداسي شعارا له‪.‬‬

‫هذه هي قصة النحلة زينة وما فعلته لتزيين حياة النحل والناس منذ أن رقصت رقصاتها المعبرة في زمن‬
‫سحيق في القدم من تاريخ النحل‪ ،‬ولسد أي ثغرة‪ ،‬وإزالة أي إلتباس في أساسيات هذه القصة‪ ،‬فإننا نفترض‬
‫أنه قد يدور بخلد القارئ السؤال التالي‪ :‬ماذا لو بنى النحل خالياه على شكل مربع أو على شكل مثلث متساوي‬
‫األضالع؟‬

‫سئلت زينة هذا السؤال‪ ،‬لرقصت رقصة معبرة مفادها‪:‬‬


‫من المؤكد أنه لو ُ‬

‫ــ " سنكون نحن معشر النحل حينها نفعل األشياء بطريقة صحيحة‪ ،‬وهذا ما يسميه علماء اإلدارة‬
‫بالكفاءة ‪ ،Efficiency‬أما عندما نبني خاليا سداسية الشكل ‪ Hexagonal‬فنكون عندها نفعل األشياء‬
‫الصحيحة‪ ،‬وهذا ما يسمى بالفعالية ‪ .Effectiveness‬نحن معشر النحل نبني خاليا سداسية الشكل ألن‬
‫الفعالية هي أولوية قصوى لدينا‪" .‬‬

‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أنه لو أطلعت زينة على انجازات بيتر دراكر في علم إدارة الوقت‪ ،‬لقالت‪:‬‬

‫ــ " ما هو الجديد الذي قدمه هذا الغر عندما قال‪:‬‬


‫الكفاءة هي فعل األشياء بطريقة صحيحة‪ ،‬والفعالية هي فعل األشياء الصحيحة‪" .‬‬

‫‪6‬‬
‫وال شك أيضا‪ ،‬أن زينة كانت ستردف قائلة‪:‬‬

‫ــ " إذا كانت الكفاءة هي فعل األشياء بطريقة صحيحة‪ ،‬والفعالية هي فعل األشياء الصحيحة‪ ،‬فنحن‬
‫معشر النحل دائما وبصمت نفعل األشياء الصحيحة‪ ،‬وبطريقة صحيحة‪ ،‬فيا ليت شعري ما هو المصطلح الذي‬
‫يمكن أن يُطلق على عملنا هذا؟ "‬

‫فريد أبو سرايا‬


‫وما توفيقي إالّ باهلل‬
‫الجمعة ‪ 12 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 17‬مايو ‪2019‬‬

‫‪7‬‬

You might also like