You are on page 1of 192

‫أسفار الشياطين‬

‫ر‬ ‫أسفار‬
‫الشياطين‬
‫واية‬

‫إذا صادفت بابًا مفتو ًحا بين العوامل فال تعبهر‪..‬‬


‫فطريق العودة الوحيد هو الدم‪.‬‬

‫�سامح �شوقي‬
‫تم التحميل من‬
‫موقع عصير الكتب‬
‫لمزيد من الكتب الحصرية‬
‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫هن��اك كيان��ات كث�يرة غام�ض��ة لطامل��ا عا�ش��ت معن��ا‬
‫عل��ى الأر���ض‪ ..‬و�س��وا ًء عرفه��ا البع���ض‪� ..‬أو �أنكره��ا‬
‫البع���ض‪ ..‬فه��ذا ل��ن يغ�ير م��ن حقيق��ة وجوده��ا �ش��ي ًئا‪..‬‬
‫و�إذا كان��ت املعرف��ة ه��ي ظ��ل احلقيق��ة‪ ..‬فاحلقيق��ة‬
‫الكاملة تختفي خلف �ستار رقيق‪ ..‬ما علينا �إال �أن نرفع‬
‫ال�س��تار لرنى احلقيق��ة بو�ضوح‪..‬‬

‫ولن يرفع ذلك ال�ستار �إال الإميان‪.‬‬


‫الرواية مستوحاة من أحداث حقيقية‬
‫)‪(1‬‬

‫خمدوعا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ل�ست‬
‫ما ر�أيته كان حقيق ًيا‪..‬‬
‫ما زالت لعنته تطاردين‪ ..‬‬
‫�أ�شعر بها كل يوم‪..‬‬
‫و�أحيا حتت وط�أة ذلك الهجوم‪..‬‬
‫و�أذكر �أحداث تلك الليلة البعيدة ك�أمنا كانت بالأم�س‪..‬‬
‫كانت �صاحبة هذا املنزل من الأ�شخا�ص املقربني‪ ..‬كان الطالء‬
‫على جدران البيت يقع ب�شكل ملفت للنظر‪ ..‬ورائحة الن�شادر كث ًريا ما‬
‫كانت متلأ املكان‪ ..‬وتتحرك مع �صاحبة البيت من غرفة �إىل غرفة‪..‬‬
‫�شخ�صا معرو ًفا بقدرته على طرد الأرواح‬
‫ً‬ ‫ا�ستدعى رب هذه الأ�سرة‬
‫‪9‬‬
‫بعد �أن فا�ض الكيل وبد�أ الزوجان ي�شعران ب�أ�شواك يف الفرا�ش‬
‫متنعهما من الرقود كلما �أرادا النوم‪� ..‬أو متددا على الفرا�ش‪..‬‬
‫جاء ذلك الرجل متو�سط الطول‪� ..‬أبي�ض الوجه‪ ..‬كث اللحية‪ ..‬تبدو‬
‫عليه عالمات الطيبة والهدوء برغم �أنه مل يكن ب�شو�ش الوجه‪ ..‬طلب‬
‫منا � ّأل ن�صلي الع�شاء حتى ي�أتي لن�صليه معه جماعة‪� ..‬أخذ يتجول‬
‫يف املنزل فور و�صوله وهو ي�ستمع �إىل �شكوى �أهل البيت وق�صتهم‪..‬‬
‫ثم �أجل�سنا يف الغرفة الرئي�سية وذهب ي�ؤذن للع�شاء وهو يوجه �صوته‬
‫�إىل كل �أرجاء املنزل‪..‬‬
‫وما �إن بد�أ يف الأذان حتى بد�أت كل امل�صابيح الكهربية يف البيت‬
‫تنطفئ وت�ضيء من تلقاء نف�سها حتى انتهى من الأذان فتوقفت هذه‬
‫الظاهرة الغريبة‪ ..‬ثم عادت مع الإقامة ثم توقفت �أثناء ال�صالة‪.‬‬
‫بعد ال�صالة جل�سنا جمي ًعا يف الغرفة الرئي�سية‪ ..‬كانت غرفة متوا�ضعة‬
‫الأثاث‪ ..‬لي�س على احلائط �سوى لوحة قما�شية لآية الكر�سي باخليط‬
‫البارز‪..‬وم�صباحيفمنت�صفال�سقفقويكفايةلي�ضيءالغرفةبالكامل‪..‬‬
‫بد�أ رب املنزل (الأ�ستاذ ر�ؤوف) يف حماولة المت�صا�ص الذهول بل‬
‫الرعب الذي �أ�صاب بع�ضنا من ظاهرة امل�صابيح الكهربية‪..‬‬
‫فقال‪� :‬إن الكهرباء يف املنطقة كث ًريا ما تت�سبب يف مثل هذه‬
‫الظواهر‪....‬‬

‫‪10‬‬
‫�إال �أن كالمه انقطع كما انقطع انتباهنا �إليه من رائحة الن�شادر‬
‫الفجة التي ملأت املكان فج�أة‪ ..‬لقد كان الأمر �أ�شبه برائحة املراحي�ض‬
‫العامة من �شدة وفجاجة الرائحة‪ ..‬وهي رائحة اعتاد �أهل البيت عليها‬
‫منذ بداية جتربتهم املريرة يف هذا امل�سكن‪..‬‬
‫كان مقعدي يف ذلك املجل�س بجوار ال�سيدة (راندا) �صاحبة املنزل‪..‬‬
‫وهي �سيدة �شابة يف الثانية والثالثني من العمر‪ ..‬لديها ثالثة �أطفال‪..‬‬
‫كانت تغيب معظم �أيام ال�سنة عن املنزل لعملها هي وزوجها يف اخلارج‪..‬‬
‫وما �إن عادت �إىل منزلها يف ذلك العام منذ �ستة �أ�شهر حتى بد�أت الظواهر‬
‫يف م�صاحبتها وحتويل حياتها �إىل جحيم من الأرق والرعب م ًعا‪..‬‬
‫قطع الأ�ستاذ (نزار) طارد الأرواح ال�صمت املطبق الذي لف الغرفة‬
‫بقراءة �آية الكر�سي ب�صوت مرتفع‪ ..‬ثم تبعها ب�آيات متفرقة من �سورة‬
‫ال�صافات وخواتيم �سورة البقرة‪� ..‬إىل �أن بد�أت الرائحة يف التال�شي‬
‫من الغرفة �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ..‬حتى مل يعد ي�شعر بها �سوى �أنا وال�سيدة‬
‫راندا‪..‬‬
‫فقال لنا نزار‪� :‬إن الكيان الذي يعبث بذلك البيت الآن يقف بينكما‪..‬‬
‫مل يتكلم �أحد‪ ..‬اكتفينا بال�صمت والنظرات املتبادلة احلائرة حتى‬
‫�س�أل نزار‪ :‬هل ر�أى �أحد ذلك الكيان بعينه؟‬
‫فقالت ال�سيدة راندا فو ًرا‪ :‬نعم �أنا ر�أيته‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫‪11‬‬
‫كان رد ال�سيدة راندا مفاج ًئا ملعظم اجلال�سني‪ ..‬فال�سيدة راندا مل‬
‫تق�ص على �أحد تلك احلادثة املفزعة خو ًفا من فرار النا�س من زيارتها‬
‫�أو م�ساعدتها‪..‬‬
‫الحظ نزار تلك املفاج�أة على الوجوه فتابع مبا�شرة‪ُ :‬ق�صي ّ‬
‫علي ما‬
‫حدث بالتف�صيل‪..‬‬
‫قالت راندا‪ :‬بد�أ الأمر منذ فرتة‪ ..‬بعد و�صويل من اخلارج بحوايل‬
‫�أ�سبوع‪ ..‬كنت كلما دخلت احلمام لأي �سبب ولو لغ�سل يدي وعندما �أغلق‬
‫الباب �أ�سمع �صوتًا غري ًبا‪ ..‬مل �أتبينه يف البداية ولكن بد�أت �أتتبعه حتى‬
‫ا�ستوعبته‪� ..‬إنه �صوت و�شو�شة ك�أن هناك من ينادي «ب�س�ست ب�س�ست»‪..‬‬
‫ظننته من خارج احلمام لكني بعد فرتة �أ�صبحت �أ�سمعه يف �أذين‪ ..‬ثم‬
‫بد�أت �أ�شعر بيد على ج�سدي‪ ..‬مرة على كتفي ومرة على خ�صري‪..‬‬
‫ثم تبع ذلك �شعوري ب�أنفا�س تالحقني �أينما ذهبت‪ ..‬وبد�أت يف ذلك‬
‫الوقت ظواهر �أخرى تظهر كانطفاء امل�صابيح و�إ�شعالها تلقائ ًيا‪..‬‬
‫وبد�أت رائحة بول يف الظهور يف املنزل‪ ..‬يف البداية كانت خفيفة‬
‫تظهر وتختفي‪ ..‬ثم ازداد الأمر �سو ًءا‪ ..‬وبد�أت تظهر حادة ومنفرة‪..‬‬
‫مفزوعا يبكي ويقول‪� :‬أمي لقد ر�أيت ً‬
‫وح�شا‪..‬‬ ‫ً‬ ‫يوما‬
‫ثم جاء ابني ال�صغري ً‬
‫ثم �أطرقت راندا �شاردة وقالت‪ :‬مل �أكن �أتخيل �أن ما ر�آه ابني‬
‫حقيقة حتى تلك الليلة ال�سوداء منذ �أ�سبوعني‪.‬‬

‫‪hhh‬‬

‫‪12‬‬
‫كان اجلال�سون قد تعلقت �أعينهم بال�سيدة راندا وهم ين�صتون �إىل‬
‫حديثها يف ذهول بينما �أخذ نزار ي�ستزيدها يف التفا�صيل‪..‬‬
‫فقال بهدوء‪ :‬ماذا حدث يف تلك الليلة؟‬
‫فقالت‪ :‬منذ �أ�سبوعني تقري ًبا يف تلك الليلة املظلمة مل يكن �أحد معي‬
‫بالبيت‪ ..‬كان الأوالد باخلارج مع �أبيهم وكنت �أرتب املنزل‪ ..‬مل يكن‬
‫يف ذلك اليوم �أي حدث غري معتاد �أو حتى الرائحة املنفرة املعتادة‪..‬‬
‫متاما ومن غري املتوقع حدوث �أي �شيء‪ ..‬تو�ض�أت‬ ‫كان كل �شيء هاد ًئا ً‬
‫ووقفت لأ�صلي الع�شاء هنا يف هذه الغرفة ‪-‬و�أ�شارت بيدها‪ -‬وقفت هنا‬
‫حيث احلمام عن مييني �إىل اخللف‪ ..‬وكان امل�صباح كما ترى ُيلقي‬
‫بال�ضوء ب�شكل جيد ناحية احلمام‪ ..‬وبد�أتُ �أ�صلي وبينما كنت �أركع‬
‫قادما من احلمام‪ ..‬حتديدً ا كان �صوت وعاء بال�ستيك‬ ‫�سمعت �صوتًا ً‬
‫كبري يتحرك بل ي�سقط ك�أمنا ي�ضربه �أحد ويقلبه على الأر�ض‪ ..‬كان‬
‫وا�ضحا ال يختلط على �أذين وال �أ�شك فيه‪..‬‬
‫ً‬ ‫ال�صوت‬
‫فخرجت ب�شكل ال �إرادي من ال�صالة لأنظر ناحية احلمام من‬
‫مكاين‪..‬‬
‫ف�إذا بي �أراه‪..‬‬
‫امتلأت عينا راندا بالدموع واختنق �صوتها وهي ت�ستطرد‪ :‬ر�أيته‬
‫يطل بر�أ�سه من احلمام‪ ..‬ك�أمنا يراقب من بالبيت‪ ..‬كان ينظر �إىل‬
‫وجهي مبا�شرة‪ ..‬كان ر�أ�سه عال ًيا يكاد يلم�س حافة الباب‪ ..‬مل يكن يف‬
‫ذلك الر�أ�س كثري من التفا�صيل‪ ..‬كانت لديه عينان مدورتان �شديدتا‬
‫‪13‬‬
‫احلمرة‪ ..‬ك�أمنا كانتا جمرتني من نار‪ ..‬وقرنان يبتدئان من جانب‬
‫العينني ويرتفعان عال ًيا ثم ي�ستديران واحد �إىل اليمني والآخر �إىل‬
‫الي�سار ثم يهبطان �إىل �أ�سفل ويقرتبان من الوجه ثم يبتعدان عنه يف‬
‫النهاية‪� ..‬إنهما قرنان �أ�شبه ب�شكل الأذن حتى �إين ظننتهما �أذنيه يف‬
‫البداية‪ ..‬ولكنهما كانا �أ�سودين �شديدي ال�سواد‪..‬‬
‫رفعت راندا �إلينا عينيها وقد غلبها البكاء وهي تقول‪ :‬مل �أ�شعر‬
‫بقدمي و�أنا �أجري و�أخرج من باب البيت ومل �أفق من الذهول �إال و�أنا‬
‫عند اجلريان �أ�ستجري بهم وال يفهمون ما هي �شكواي‪ ..‬وقررت املبيت‬
‫خارج البيت يف ذلك اليوم‪ ..‬وقد كانت تلك الليلة �أول يقيني ب�أن كيا ًنا‬
‫مظل ًما وراء كل ما نعانيه‪ ..‬وبد�أت �أ�شعر �أننا يجب �أن نوقف كل ذلك‬
‫ون�ستعني ب�شخ�ص ما‪ ..‬ولكن ما حدث الح ًقا هو ما �أجربنا على الإ�سراع‬
‫بتلك اخلطوة وا�ستدعائك يا �سيد نزار لهذه اجلل�سة‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫قال نزار يف نربة ال تخلو من العطف على ال�سيدة راندا وحالها‬


‫الذي �أ�صبح ُيرثى له‪ :‬اهد�أي يا �سيدتي واطمئني وبعون اهلل �ستنتهي‬
‫معاناتك بال رجعة‪ ..‬ولكن �أخربيني‪ ..‬هل �أنت كثرية الأحالم؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬هل ترين يف منامك بح ًرا؟‬

‫‪14‬‬
‫‪ -‬كث ًريا‪..‬‬
‫‪ -‬هل ترين ً‬
‫قططا وكال ًبا؟‬
‫‪ -‬دائ ًما‪..‬‬
‫‪ -‬هل يظهر على ج�سدك بقع زرقاء؟‬
‫‪ -‬نعم وال �أفهم لها تف�س ًريا‪..‬‬
‫فقال نزار بثبات‪ :‬كل هذه عالمات مميزة ملا مترين به‪ ..‬وهي‬
‫�إ�شارات لوجود ن�شاط �شيطاين حولك‪..‬‬
‫فقالت‪ :‬هل هو عمل؟‬
‫فقال‪ :‬بل هو �سحر‪ ..‬مق�صود به التفرقة بينك وبني زوجك‪..‬‬
‫وطردكما من هذا البيت‪ ..‬لقد �شعرت به عندما دخلت البيت‪..‬‬
‫وانقب�ض �صدري و�أح�س�ست بحرارته يف املكان‪ ..‬وازدادت �شكوكي‬
‫عندما مررت بجاركم يف الطابق الثالث‪..‬‬
‫فانتف�ض اجلال�سون ‪-‬وكنت منهم‪ -‬مت�سائلني‪ :‬ملاذا بالتحديد‬
‫ذلك اجلار وتلك ال�شقة‪ ..‬فهذه البناية الطابق فيها به �شقة واحدة‪..‬‬
‫ف�شخ�ص واحد بعينه هو املق�صود‪ ..‬فلماذا؟‬
‫قال نزار‪ :‬ما بالكم �أمل تالحظوا تلك املق�شة املعلقة على اجلدار‬
‫بجانب باب تلك ال�شقة؟ �أمل تروا النعلني املت�صالبني املعلقني بجوارها؟‬

‫‪15‬‬
‫فرد ر�ؤوف‪ :‬ال ندري �شي ًئا ذا معنى عن هذه الأ�شياء ومل نظنها �إال‬
‫عادة ذلك اجلار‪ ..‬اعتاد �أن ي�ضع �أ�شياءه بهذا ال�شكل وقد و�ضع �أ�شياء‬
‫�أخرى على ال�سلم كحافظة الأحذية وقف�ص للب�صل والثوم و�أ�شياء تنم‬
‫عن اعتياده �إخراج هذه الأ�شياء من البيت‪..‬‬
‫فقال نزار‪ :‬بل هي �أيقونات لل�سحر وال�شعوذة ومعها تعلق الطال�سم‬
‫ومترون عليها يف ال�صعود والنزول وهي مق�صودة وموجهة �إليكم على‬
‫ما �أعتقد‪ ..‬والأ�شياء الأخرى هي لت�شتيت الأنظار‪ ..‬ولكن �أخربوين‬
‫ملاذا �أثارت �سرية ذلك اجلار انتباهكم؟‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬لأن هذا اجلار بالذات نرتك له مفتاح �شقتنا كل عام‬
‫ونحن يف اخلارج‪ ..‬ليعتني بها‪ ..‬ويفتحها للتهوية كل فرتة‪ ..‬ال �سيما‬
‫وبيننا وبينه من القرابة �صلة‪..‬‬
‫ف�س�أل نزار متعج ًبا‪ :‬فلماذا مل يح�ضر تلك اجلل�سة؟‬
‫فردت راندا‪ :‬لقد �أخربين اجلريان يف البناية املقابلة �أنهم ر�أوه يف‬
‫�شقتنا وكان مم�س ًكا ب�إناء فخار وير�ش منه على الأر�ض يف كل �أركان‬
‫ال�شقة قبل �أن ن�صل من اخلارج ب�أيام‪ ..‬وملا تنبه ملن ي�شاهده �أ�سرع‬
‫متاما‪ ..‬وهذا ما‬‫ب�إغالق النوافذ‪ ..‬وعندما �س�ألناه عن ذلك �أنكر ً‬
‫�أ�صابنا بال�شك من جانبه‪ ..‬ف�أخفينا عنه �شكوانا بعد �أن �أخربناه بها‬
‫اهتماما �أو حماولة امل�ساعدة حلل امل�شكلة‪..‬‬
‫ً‬ ‫يف البداية ومل نلحظ منه‬
‫قال نزار‪ :‬ح�س ًنا فعلتم ف�إن مث‪....‬‬
‫‪16‬‬
‫نظر اجلميع �إىل نزار الذي انقطع كالمه فج�أة ليجدوا على وجهه‬
‫نظرة واجمة تبدو منها ال�صدمة‪ ..‬كانت عيناه مثبتتني على حائط من‬
‫وا�ضحا من باب غرفة اجلل�سة‪ ..‬وعليه �صورة‬
‫ً‬ ‫الغرفة املجاورة يبدو‬
‫معلقة لقطتني تقفان بع�ضهما �أمام بع�ض‪..‬‬
‫ف�س�أله ر�ؤوف‪ :‬هل هناك م�شكلة؟‬
‫نزار‪ :‬بل م�شاكل‪ ..‬كم �صورة لديكم مثل تلك ال�صورة يف هذه‬
‫ال�شقة؟‬
‫ر�ؤوف‪ :‬حوايل �أربعة‪ ..‬ولكن ملاذا؟‬
‫فرد نزار وعيناه معلقتان بال�صورة‪� :‬أال ترون فيها �شي ًئا غري ًبا؟‬
‫فقمنا جمي ًعا لننظر ماذا يق�صد‪..‬‬
‫وعندما هممنا بالتوجه للباب‪� ..‬سمعنا �صوتًا عني ًفا يف ال�سقف‪..‬‬
‫ك�صوت جر الأثاث‪ ..‬ك�أمنا يجر اجلريان يف الأعلى من�ضدة ثقيلة �أو‬
‫مقاعد خ�شبية كبرية‪..‬‬
‫لبع�ض يف فزع �شديد‪..‬‬
‫فنظر الزوجان بع�ضهما ٍ‬
‫فقال �أحد احلا�ضرين‪ :‬ال تفزعا يبدو فقط �أنهم اجلريان يف‬
‫الأعلى‪..‬‬
‫فنظرت �إليه راندا وقد �شحب وجهها وقالت‪ :‬نحن ن�سكن يف الدور‬
‫الأخري‪ ..‬ال يوجد فوقنا �أحد ومفتاح ال�سطح معي هنا‪..‬‬

‫‪17‬‬
‫�ساد ال�صمت حلظة‪ ..‬قبل �أن ن�سمع �صوتًا �شديدً ا لزجاج يتحطم‪..‬‬
‫وعندما هممنا بالتحرك مل�صدر ال�صوت‪ ..‬انقطعت الكهرباء‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كاد الرعب يقتلنا‪ ..‬للحظات غرقنا يف الظالم الدام�س‪ ..‬وكان ال‬


‫يزال �صوت الزجاج ينبعث وال ندري حتديدً ا من �أي غرفة كان ي�أتي‪..‬‬
‫وال�صوت الذي ي�أتي من ال�سقف يتغري �إىل �صوت جر �أنبوبة غاز ثم‬
‫يعود �إىل �صوت جر �أثاث خ�شبي‪ ..‬مل منلك رباطة ج�أ�ش كافية �أو حتى‬
‫الوقت لن�ستوعب ما يحدث حتى عادت الكهرباء فج�أة وانقطعت جميع‬
‫الأ�صوات‪..‬‬
‫ثوان بعد رجوع النور كافية لنتنف�س ال�صعداء ونكت�شف �أن‬
‫كانت ٍ‬
‫ال�سيدة راندا قد اختفت‪..‬‬
‫هممنا �سري ًعا بالبحث عنها ومل يكن هناك مكان يف البيت �أقرب‬
‫�إىل تفكرينا يف تلك اللحظة من احلمام‪ ..‬وبالفعل دخلنا احلمام‬
‫لنجدها ملقاة على ظهرها يف و�ضع ا�سرتخاء تام‪ ..‬ك�أنها نائمة‪..‬‬
‫�أخرجناها ور�ش زوجها على وجهها بع�ض قطرات من ماء لت�ستفيق‪..‬‬
‫عاد �إليها وعيها لكن مل يعد �إىل ذاكرتها ذكرى واحدة مما حدث‬
‫منذ �أن انقطع النور‪ ..‬فال هي �سمعت ما �سمعنا وال تدري ما الذي‬
‫�ألقاها على ظهرها فاقد ًة وعيها يف احلمام‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫مل ن�ش�أ �أن جنهدها �أو نثقل عليها‪ ..‬هد�أنا من روعها‪ ..‬و�سقيناها‬
‫كو ًبا من الع�صري‪..‬‬
‫بعد دقائق كانت قد هد�أت نفو�سنا وا�ست�أن�سنا بنزار ذلك الرجل‬
‫الذي تبعث كلماته على الطم�أنينة وت�شجع على مواجهة املوقف بثبات‪..‬‬
‫�أخذ يق�ص علينا كيف �أنه يعمل مدر ًبا للكونغ فو‪ ..‬وهو حري�ص على‬
‫لياقته ومهارته لأنه كث ًريا ما يدخل يف ا�شتباك بالأيدي مع بع�ض‬
‫الكيانات ال�شيطانية التي تتلب�س ببع�ض النا�س وت�صرعهم وتتحدث‬
‫على �أل�سنتهم‪ ..‬وقد ي�ستخدم ج�سد �ضحيته يف اال�شتباك‪ ..‬وعندما‬
‫يعود ال�شخ�ص ً‬
‫رجل �أو امر�أة �إىل وعيه ف�إنه ال يذكر الت�ضارب الذي مت‬
‫وال الأمل الذي كان يعانيه‪..‬‬
‫�س�ألناه عما كان قد ر�آه خارج الغرفة قبل بداية الأحداث الغريبة‬
‫منذ قليل‪ ..‬ولكنه �أخذ يراوغ ومل يخربنا ب�شيء بل �أخذ يلح على �ضرورة‬
‫التخل�ص من �صور القطط تلك خا�ص ًة ال�صورة التي جند يف عيونها‬
‫وا�ضحا ف�إنها م�سكن لل�شياطني‪..‬‬
‫ً‬ ‫ملعا ًنا‬
‫كنا على يقني �أنه ر�أى �شي ًئا ما ومل ي�ش�أ �أن يخربنا به‪ ..‬فلي�س يف الإخبار‬
‫فائدة ُترجى‪ ..‬فلن ي�ضيف �شي ًئا �إال مزيدً ا من الرعب للموقف واحل�ضور‪..‬‬
‫مت�سائل‪ :‬هل �أنت على ا�ستعداد ال�ستكمال‬ ‫ً‬ ‫توجه نزار لل�سيدة راندا‬
‫اجلل�سة؟‬
‫فردت يف �إ�صرار‪ :‬نعم بكل ت�أكيد‪..‬‬

‫‪19‬‬
‫قال بنربة ودودة وابت�سامة هادئة‪ :‬ح�س ًنا‪ ..‬قلت �أن بعد تلك الليلة‬
‫منذ �أ�سبوعني حدثت بع�ض الأ�شياء التي دفعتكم للبحث عن رجال‬
‫مثلي‪..‬‬
‫ف�أوم�أت له راندا بالإيجاب‪..‬‬
‫فقال‪ :‬ماذا حدث بالتف�صيل �إن مل يكن يف ذلك �ضغط على‬
‫�أع�صابك؟‬
‫قالت‪ :‬ال ب�أ�س �س�أحكي لك‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫توجه اجلميع من�صتني لراندا التي بدت يف حالة تركيز �شديدة‬


‫وقوة مل تكن عليها يف بداية الليلة‪..‬‬
‫قالت ب�صوت مرتفع ونربة قوية‪ :‬بعد تلك الليلة امل�ش�ؤومة بيومني‬
‫كان والدي يف زيارة لنا‪� ..‬أتى من ال�صعيد ليزورنا ودخل لينام بعد‬
‫مفزوعا وجاء �إىل هنا‬
‫ً‬ ‫الع�شاء‪ ..‬وبعد حوايل �ساعتني من نومه‪ ..‬قام‬
‫وهو يقول‪ :‬خري يا رندا ماذا حدث؟ وملاذا ت�صرخني؟‬
‫‪� -‬أنا مل �أ�صرخ ومل �أناد عليك ومل �أفتح فمي بكلمة‪ ..‬فالأوالد‬
‫نائمون وال �أريد �إيقاظهم‪..‬‬
‫‪ -‬ولكني �سمعت �صوتك ت�صرخني ب�شدة وتناديني با�ستغاثة‪..‬‬
‫‪20‬‬
‫ف�شعرت �أن �أبي يتعر�ض لهجوم من ذلك الكيان �أو على الأقل �شيء‬
‫من امل�ضايقة‪ ..‬ومل �أ�ش�أ �أن �أخربه مبا يحدث لنا حتى ي�ستطيع النوم‪..‬‬
‫كابو�سا وطم�أنته على اجلميع‪ ..‬ودخل �أبي لينام غري‬
‫ف�أكدت له �أنه ر�أى ً‬
‫م�سرتيح لذلك املوقف‪ ..‬وقبل ال�شروق ا�ستيقظت لأ�صلي الفجر ف�إذا‬
‫بي �أرى �أبي يقف يف ال�شرفة‪ ..‬فاقرتبت منه وقلت‪� :‬صباح اخلري يا‬
‫�أبي‪� ..‬أ�صليت الفجر؟‬
‫علي ومل ينظر خلفه‪ ..‬كل ما فعله �أنه �صعد فوق ال�سور‬
‫فلم يرد ّ‬
‫وقفز يف ال�شارع‪..‬‬
‫ف�صرخت مفزوعة وجريت نحو ال�شرفة �أنظر �إليه وما �إن دخلت‬
‫ال�شرفة حتى �سمعت �صوت �أبي من خلفي يقول بهدوء‪� :‬صباح اخلري‬
‫يا راندا‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كانت �أنفا�سنا قد احتب�ست ونحن ن�ستمع �إىل هذه الق�صة وكان‬


‫�سكوتنا فيه ا�ستزادة للحديث وذهول ممزوج بالرعب‪ ..‬ا�ستطردت‬
‫راندا‪ :‬جريت على �أبي واحت�ضنته وبكيت‪..‬‬
‫فقال يل‪ :‬اهد�أي يا بنيتي‪� ..‬أنا �أفهم ما تعانيه‪..‬‬
‫فنظرت �إليه متعجبة‪ ..‬فبادرين بالكالم‪� :‬أنا تعر�ضت للهجوم‪..‬‬
‫متاما �سبب انزعاجك‪ ..‬و�إن كنت ال �أعرف تفا�صيله‪..‬‬
‫�أعرف ً‬
‫‪21‬‬
‫‪ -‬كيف؟ ماذا حدث لك يا �أبي؟‬
‫‪ -‬ن�صلي الفجر جماعة ثم �أق�ص عليك ما حدث‪..‬‬
‫بعد ال�صالة جل�سنا قرب ال�شرفة وقال يل‪:‬‬
‫كابو�سا‪� ..‬سمعتك ت�صرخني‬ ‫‪ -‬ما حدث ليلة �أم�س مل يكن حل ًما �أو ً‬
‫ومل �أكن �أتوهم ذلك‪ ..‬لقد عدت �إىل فرا�شي وتظاهرت �أين اقتنعت‬
‫بكالمك عن الكوابي�س‪ ..‬ولكني بعد منت�صف الليل قمت مرة �أخرى‬
‫على �صوت �أمك رحمها اهلل تناديني‪ ..‬كان �صوتها مرتف ًعا ك�أمنا‬
‫تناديني من مكان بعيد‪ ..‬قمت وخرجت �إىل ال�صالة ثم �إىل ال�شرفة‪..‬‬
‫لأنظر يف ال�شارع‪ ..‬فلم �أجد �أحدً ا‪ ..‬ولكني عرفت وقتها �أن ثمة �شيطا ًنا‬
‫هو من يفعل ذلك‪ ..‬ف�أنا قد تعر�ضت للنداهة و�أنا �صغري‪ ..‬و�أعرف تلك‬
‫اللعبة جيدً ا‪..‬‬
‫‪� -‬أنا مل �أ�سمع تلك الق�صة من قبل‪ ..‬متى نادتك النداهة وكيف‬
‫ت�صرفت؟‬
‫‪ -‬نادتني النداهة و�أنا طفل �صغري ب�صوت �أمي و�سمعها معي ال�شيخ‬
‫عي�سى �إمام امل�سجد ف�أم�سك بي ومنعني من الذهاب خلف �صوتها‪..‬‬
‫وعندما �صرخت قال �إنها لي�ست �أمك و�أجربين على الذهاب للبيت‬
‫معه وعندما �أعادين لأمي وق�ص عليها ما حدث‪ ..‬بكت و�أق�سمت �أنها‬
‫مل تخرج من البيت وظلت مدة طويلة تبكي من خوفها ال�شديد من �أن‬
‫يناديني اجلن و�أذهب وال �أعود‪..‬‬
‫‪22‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت مل ينادين �أحد قط من مكان ال �أراه مبا�شرة‬
‫متاما‪ ..‬ولكني اليوم مل �أقاوم �صوت �أمك الذي ا�شتقت‬ ‫�إال و�أهملته ً‬
‫�إليه كث ًريا‪ ..‬فلما مل �أجدها وفهمت ما يجري‪ ..‬وقفت وبكيت‪ ..‬وبعد‬
‫التفت خلفي‪ ..‬ف�إذا بي‬
‫�أن م�سحت دموعي و�أردت �أن �أعود للفرا�ش‪ُّ ..‬‬
‫برجل ملت�صق بي كادت �أنفه �أن تالم�س �أنفي‪ ..‬كان ً‬
‫�شيخا كب ًريا �أبي�ض‬
‫ال�شعر واللحية‪ ..‬كان ك ٌل من �شعره وحليته �شديد النعومة حتى ظننته‬
‫من رجال الأ�ساطري‪ ..‬ولكن‪....‬‬
‫‪� -‬أكمل يا �أبي‪ ..‬ولكن ماذا؟‬
‫‪ -‬مل تكن له عيون‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ كيف؟‬
‫‪ -‬كان جبينه ً‬
‫عري�ضا وا�س ًعا ينتهي عند �أنفه‪ ..‬مل يكن يف وجهه غري‬
‫الأنف وال�شارب واللحية وال�شعر‪ ..‬كانت مالب�سه رمادية رثة‪ ..‬وما �إن‬
‫واجهته حتى �شعرت بدبيب منل يف ج�سدي كله‪�ُ ..‬شلت حركتي ً‬
‫متاما‪..‬‬
‫كنت �أحاول رفع يدي �أو حتريك قدمي ولكن مل �أفلح‪ ..‬حاولت �أن �أفتح‬
‫كامل ومل يبق‬‫أي�ضا مل �أ�ستطع‪�ُ ..‬شل ج�سدي ً‬
‫فمي لأقر�أ قر�آ ًنا‪ ..‬ولكني � ً‬
‫حماول �أن يتخل�ص من القيود اخلفية على اجلوارح‬ ‫ً‬ ‫�سوى عقلي ً‬
‫يقظا‬
‫دون جدوى‪� ..‬سمعت �صوت �أنفا�سه عال ًيا وبه �أنني‪ ..‬و�شممت رائحة‬
‫ن�شادر عنيفة‪ ..‬ثم فج�أة بد�أ التنميل الذي بج�سدي يزول تدريج ًيا وبد�أ‬
‫معه ج�سد هذا الكيان يتبدد ك�أنه �سحابة دخان تتبدد يف الهواء‪ ..‬حتى‬
‫‪23‬‬
‫متاما‪ ..‬وخرج ج�سدي من �أ�سر ذلك الهجوم‪ ..‬ف�سقطت على‬
‫اختفى ً‬
‫الأر�ض‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫مل يكن هناك تعليق ميكن قوله على كالم ال�سيدة راندا‪ ..‬كان‬
‫هناك �ألف �س�ؤال بداخلنا‪ ..‬ولكن ال كالم‪ ..‬كنت �شخ�ص ًيا �أبحث عن‬
‫حرويف و�صوتي ولكني مل �أجدها لأ�س�أل‪ ..‬كنت �أخ�شى �أن �أ�س�ألها ف�أقطع‬
‫احلديث وال نعرف نهاية الأحداث الغريبة التي حتدث يف ذلك البيت‬
‫أي�ضا‪� ..‬سكتنا لنف�سح لها‬ ‫امللعون‪ ..‬و�أظن �أن الآخرين كانوا كذلك � ً‬
‫املجال للكالم ومل تتوقف هي عن احلديث‪ ..‬وا�ستطردت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬قال �أبي هذا الكيان قوي وبغي�ض‪ ..‬ال �أدري �أهو مت�سلط عليكم‬
‫بنف�سه �أم �أنه م�سلط بال�سحر من قبل �أحد‪ ..‬ال �أدري ولكن يجب‬
‫مطاردته وحربه فو ًرا‪� ..‬أكرثوا من قراءة القر�آن يف البيت و�أكرثوا من‬
‫البخور‪ ..‬و�أنا �س�أ�س�أل عندنا يف ال�صعيد عمن ي�ستطيع �أن يطرد ذلك‬
‫ال�شيء‪ ..‬ولكن ن�صيحتي لك �أال تخايف‪ ..‬لأنه يتغذى على اخلوف‪..‬‬
‫قاوميه وال ت�ست�سلمي �أو تهربي من مواجهته �إذا ما ر�أيتيه‪ ..‬واهلل معك‪..‬‬
‫فالثبات يف مواجهته يقلل من حاالت ظهوره وجت�سده‪ ..‬وي�ضعف قوته‪..‬‬
‫أي�ضا �س�أبحث‪..‬‬ ‫و�أ�سرعي يف البحث عمن يطرده و�أنا � ً‬
‫هجوما تعر�ض له �أبي ثم �سافر �إىل ال�صعيد و�أخربنا‬
‫ً‬ ‫كان ذلك‬
‫عنك يا �سيد نزار وقال �أنه �سري�سل لنا رقم هاتفك لن�ست�شريك يف �أمر‬
‫هذا البيت‪..‬‬
‫‪24‬‬
‫قال نزار‪� :‬أعتقد �أن ما ر�آه والدك فيه الكفاية من الرعب لتطلبي‬
‫النجدة من �أي �إن�سان‪..‬‬
‫فرد زوجها ال�سيد ر�ؤوف‪ :‬كنا نظن ذلك‪ ..‬كنا نظن �أنه ال �شيء‬
‫�أ�سو�أ ميكن �أن يحدث‪ ..‬لوال ما حدث بعد ذلك بثالثة �أيام‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كان احلا�ضرون يف هذه اجلل�سة �سبعة �أفراد‪ ..‬كنت واحدً ا منهم‪..‬‬


‫بل كنت واحدً ا من �أقربهم �إىل راندا التي كانت �صديقة مقربة لعائلتي‬
‫وكنت يف مقام الأخ بالن�سبة لها‪ ..‬وكنت على علم بكثري مما تعر�ضت‬
‫له تلك العائلة‪ ..‬ولكني مل �أكن على علم بالظواهر العنيفة التي‬
‫تعر�ضوا لها بالكامل‪ ..‬فكان يف كثري مما حتكيه راندا مفاج�أ ًة يل‪..‬‬
‫كان زوجها ال�سيد ر�ؤوف �شا ًبا يف ال�ساد�سة والثالثني من العمر‪ ..‬كان‬
‫�ضخ ًما قا�سي املالمح‪ ..‬لكنه طيب القلب ودود‪..‬‬
‫جال�سا يف ذلك‬
‫قال ر�ؤوف ب�صوت هادئ ال يخلو من اخلوف‪ :‬كنت ً‬
‫اليوم بعد �صالة الع�صر �أ�شرب ال�شاي‪ ..‬كنت على مقعد يف غرفتي‬
‫يف مواجهة ال�شرفة‪ ..‬كان معي �أبنائي وكانت راندا جتل�س يف املقعد‬
‫املقابل‪ ..‬وبينما �أنا جال�س �شعرت ك�أن �أحدً ا مر من جانبي‪ ..‬مل يكن‬
‫�أحد من الأوالد‪ ..‬كان �أبنائي كلهم �أمام عيني يلعبون‪ ..‬مل يكن �شعو ًرا‬
‫فقط‪ ..‬كان حقيقة‪ ..‬لقد �شعرت بلم�س ج�سده جل�سدي ثم �شعرت ك�أن‬
‫يدً ا فوق ذراعي‪..‬‬
‫‪25‬‬
‫قاطعته راندا موجهة كالمها �إىل نزار‪ :‬ال �أعرف كيف حدث ذلك‪..‬‬
‫فج�أة ر�أيت «ر�ؤوف» راف ًعا ذراعه وهو مم�سك بكوب ال�شاي حتى �أ�صبح‬
‫ذراعه يف م�ستوى ر�أ�سه‪ ..‬ف�س�ألته‪ :‬ما بك يا ر�ؤوف ملاذا ترفع يدك‬
‫هكذا؟ ولكنه كان واج ًما وال يرد‪ ..‬ينظر بعني مذهولة �إىل ذراعه‪..‬‬
‫�صمت فرتة ثم قال‪� :‬أنا ال �أفعل �شي ًئا‪ ..‬انظري �إىل كم قمي�صي‪..‬‬
‫فنظرت ف�إذا بكم قمي�صه من عند مع�صمه م�شدود و ُيرفع لأعلى‬
‫وترتفع معه ذراعه ك�أنه مربوط بخيط و ُي�شد من �أعلى‪ ..‬كنت �أفكر‬
‫كيف �أت�صرف ب�سرعة‪ ..‬فقمت من مقعدي م�سرع ًة نحو ذراعه‪..‬‬
‫�أم�سكتها بهدوء‪ ..‬ف�إذا بنا ن�سمع �صوت �أقدام م�سرعة جتري �أمام باب‬
‫الغرفة من اخلارج‪ ..‬كان �أبنا�ؤنا معنا يف الغرفة‪ ..‬فجرينا ناحية الباب‬
‫لرنى من باخلارج‪ ..‬ولن ت�صدقوا ما حدث‪.‬‬
‫فقال نزار‪ :‬ملاذا ما الذي حدث؟‬
‫راندا‪ :‬ر�أى كل منا �شي ًئا غري الذي ر�آه الآخر‪..‬‬
‫نزار‪ :‬كيف؟‬
‫راندا‪� :‬أما �أنا فر�أيت ً‬
‫قطا �أ�سود مل يكن مثل �أي قط ميكن �أن تراه‪..‬‬
‫كان �أ�شعث مفرق ال�شعر ك�أمنا �أ�صابه جرب‪ ..‬وك�أن ذيله مقطوع �أو‬
‫م�صاب‪ ..‬كان �سمني البطن يتهدل ج�سده وهو ي�سري‪ ..‬ول�سانه خارج‬
‫من فمه ك�أنه مقطوع يتدىل من فمه‪ ..‬جرى ناحية باب احلمام وقفز‬
‫�إىل الداخل ف�أ�سرعت �إليه خائفة وتناولت ع�صا كانت يف طريقي‬
‫ودخلت احلمام فلم �أجد �شي ًئا‪ ..‬فارتعبت خو ًفا‪ ..‬عندها �سمعت �صوت‬
‫‪26‬‬
‫ر�ؤوف ي�صرخ يف غرفة ال�صالون ف�أ�سرعت نحوه‪ :‬ماذا بك يا ر�ؤوف؟‬
‫قال‪ :‬كان هنا واختفى‪..‬‬
‫فقال ر�ؤوف مقاط ًعا راندا‪ :‬نعم �أنا مت�أكد مما ر�أيت‪ ..‬كان كل ًبا‬
‫�أ�سود ولكن مالحمه مل تكن كالكالب‪ ..‬كان غري ًبا ال �صوت للهاثه �أو‬
‫يل فور �أن خرجت‬ ‫�أثر للعابه الذي كان ي�سقط منه با�ستمرار‪ ..‬نظر �إ ّ‬
‫من الغرفة وجرى حتى دخل غرفة ال�صالون فدخلت وراءه فلم �أجد‬
‫�شي ًئا‪..‬‬
‫ف�أخذت راندا وخرجنا من ال�صالون لنفتح القر�آن يف املنزل‪..‬‬
‫ولكننا عندما و�صلنا للغرفة الرئي�سية جتمدنا يف مكاننا ك�أمنا ُ�شلت‬
‫�أقدامنا من هول ما ر�أينا‪..‬‬
‫ً‬
‫مذهول‪ :‬ماذا ر�أيتم هذه املرة؟‬ ‫فنظر �إليه نزار‬
‫قائل‪ :‬كانت كل حمتويات الغرفة على الأر�ض‪ ..‬الكتب‬ ‫تابع ر�ؤوف ً‬
‫التي كانت يف املكتبة على احلائط كانت مبعرثة‪ ..‬كل براويز ال�صور‪..‬‬
‫التلفاز والكا�سيت‪� ..‬أواين الزهور وحامالت ال�شموع‪ ..‬كل �شيء بال‬
‫ا�ستثناء كان على الأر�ض يف فو�ضى عارمة ك�أمنا انفجرت قنبلة يف‬
‫هذه الغرفة‪ ..‬كانت رائحة حريق خانقة متلأ الغرفة خمتلطة برائحة‬
‫ن�شادر‪ ..‬مل تكن تلك هي املفاج�أة التي ت�شل الأقدام‪ ..‬كنا ننظر �إىل‬
‫ذلك املنظر املريع يف ذهول ولكن الذي حب�س �أنفا�سنا ح ًقا هو ذلك‬
‫جال�سا على الأريكة يف هدوء‪..‬‬
‫الرجل الذي وجدناه ً‬
‫قال نزار‪ :‬هل كان ً‬
‫رجل حقيق ًيا من حلم ودم؟‬
‫‪27‬‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬ال مل يكن كذلك‪..‬‬
‫نزار‪� :‬إذن �صف يل بالتف�صيل ما ر�أيت‪..‬‬
‫ر�ؤوف‪ :‬كان كيا ًنا دخان ًيا على هيئة رجل‪ ..‬مل يكن يف وجهه �أي‬
‫مالمح‪ ..‬ثم بد�أت تظهر مالحمه �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ..‬كان بال عيون‪ ..‬لكنه‬
‫كان يتجه بوجهه ناحيتنا‪ ..‬كان يبت�سم ولكن عندما بد�أت عيناه يف‬
‫ت�شف‬
‫الظهور بدت ابت�سامته خبيثة فيها من التحدي بقدر ما فيها من ٍ‬
‫وانت�صار‪ ..‬ظهرت عيناه حلظة �أو حلظتني قبل �أن يختفي ويتبدد‬
‫ج�سده يف الهواء‪ ..‬خمل ًفا رائحة عفنة‪ ..‬وتار ًكا �إياي يف ذهول ورعب‪..‬‬
‫وتار ًكا راندا على الأر�ض فاقد ًة وعيها‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫تنهد نزار بعمق وهز ر�أ�سه ك�أنه يريد �أن يوقظ نف�سه من غفوة‪� ..‬أو‬
‫يزيل ال�شرود عن عقله‪ ..‬وقد اعتدل ورجع بظهره �إىل اخللف‪ ..‬و�صمت‬
‫برهة ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا بعد كل ما �سمعته �أعتقد �أن ما نواجهه الآن �شيء �آخر �أكرب‬
‫بكثري مما كنت �أتوقع‪ ..‬ولكن اخلرب اجليد هو �أنه ال �شيء يف الدنيا‬
‫يخرج عن �سلطان اهلل وم�شيئته‪ ..‬اهلل هو املهيمن وامل�سيطر والقاهر‬
‫فوق عباده‪ ..‬ال �شيء ُي�ستثنى من هذا ال�سلطان‪ ..‬وال يتحرك مبعزل عن‬
‫هذه امل�شيئة‪ ..‬ال ب�أ�س من ال�شعور باخلوف ولكن ال ت�سمحوا بالفزع �أن‬
‫يتملككم‪ ..‬ف�إن ال�شجاعة والإقدام واجلر�أة يف مواجهة هذه الكيانات‬
‫‪28‬‬
‫تقل�ص قدرتها‪ ..‬وكلما زاد الرعب زادت الهجمات وزادت حاالت‬
‫التج�سد‪� ..‬إنه �شيء مثل اال�ضطهاد‪ ..‬مثل مطاردة الوح�ش لفري�سته‪..‬‬
‫خوفها هو ما ي�شجعه على مهاجمتها وي�شلها عن املقاومة‪� ..‬إن اخلوف‬
‫قد يدفع الفري�سة �أحيا ًنا جتاه املفرت�س واملواجهة بقوة و�إميان هي ما‬
‫تنهي هذه الأحداث يف غالب الأحيان‪� ..‬سنقوم الآن بعملية طرد لهذا‬
‫ال�شيطان ولكن علينا جمي ًعا �أن نتكاتف كي ننت�صر‪ ..‬فهل اجلميع‬
‫م�ستعدون؟‬
‫بع�ض ثم �أجبنا يف �صوت واحد‪ :‬نعم‪.‬‬
‫نظر بع�ضنا �إىل ٍ‬
‫فطلب نزار من ر�ؤوف �أن يح�ضر قلم ر�سم (فلوما�سرت) �أحمر‪..‬‬
‫وقطعة قما�ش كبرية بي�ضاء طولها مرت مربع‪ ..‬وطلب وعاء ماء كبري‬
‫من الأطباق امل�ستخدمة يف غ�سل املالب�س حتى تكون �سعته كبرية تقري ًبا‬
‫ع�شرين لرتًا من املاء‪..‬‬
‫ذهب ر�ؤوف لإح�ضار املطلوب ومل يغب كث ًريا‪ ..‬ثم �أخرج نزار من‬
‫كي�سا كب ًريا من الزعفران �أخربنا �أنه من نوع جيد جدً ا‪ ..‬وقام‬
‫حقيبته ً‬
‫ب�إذابته يف املاء يف الطبق الكبري فتحول لون املاء �إىل الأ�صفر املائل‬
‫للحمرة‪� ..‬أخرج جمموعة من الأوراق مكتوب فيها �آيات قر�آنية متفرقة‬
‫من �سور �شتى‪ ..‬وقال لنا‪ :‬على اجلميع �أن يجل�سوا و�أن يكونوا على‬
‫مقربة من بع�ضهم البع�ض‪ ..‬وعلى من يخاف �أال يح�ضر تلك اجلل�سة‪..‬‬
‫لأن اجلن قد يتلب�س ب�أي �شخ�ص يف هذه الغرفة وهو غال ًبا يبحث عن‬
‫‪29‬‬
‫الأ�ضعف‪ ..‬والأكرث خو ًفا هو الأكرث �ضع ًفا‪ ..‬وهو الأكرث عر�ضة للتلب�س‪..‬‬
‫و�إذا ما �شعرمت ب�شيء من الن�شاط ال�شيطاين فال تفزعوا‪ ..‬متا�سكوا‬
‫وعليكم بقراءة �آية الكر�سي‪..‬‬
‫وحتد‪..‬‬
‫توافق اجلميع على القبول وقررنا خو�ض التجربة بثبات ٍ‬
‫وبد�أت جل�سة الطرد‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫و�ضع نزار يده داخل املاء‪ ..‬ثم بد�أ يف قراءة الآيات من الورق الذي‬
‫بني يديه موج ًها فمه نحو املاء‪ ..‬ومل يكد يبد�أ يف قراءة الآيات حتى‬
‫انت�شرت رائحة الن�شادر يف البيت كله وكانت ت�شتد �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ..‬مل‬
‫يكن نزار ي�شمها فحاولنا تنبيهه لها‪ ..‬ف�أنهى �آية كان يقر�أها ثم قال‪:‬‬
‫اقر�أوا �آية الكر�سي‪..‬‬
‫بد�أنا يف قراءة �آية الكر�سي ولكن الرائحة مل تذهب‪ ..‬كانت �شديدة‬
‫ومنت�شرة وفجة جدً ا‪ ..‬وفج�أة نظرنا �إىل بع�ضنا البع�ض يف نف�س الوقت‬
‫وقد فغر كل منا فاه يف تعجب‪ ..‬لقد �أ�صابنا نف�س ال�شيء يف �آن واحد‪..‬‬
‫نظر �إلينا نزار يف هدوء وقال‪� :‬أعرف ما �أ�صابكم‪ ..‬لقد ن�سيتم �آية‬
‫الكر�سي فج�أة ك�أن مل تتعلموها قط‪ ..‬ف�أجبنا كلنا‪ :‬بال�ضبط‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫يف الواقع لقد كنت يف حرية من �أمري وذهول‪ ..‬فتلك التجربة‬
‫يوما �أن تذهب كلمات �آية الكر�سي‬
‫كانت الأوىل بالن�سبة يل‪ ..‬ومل �أ�شك ً‬
‫من عقلي وذاكرتي قط‪ ..‬لقد كانت مثل ا�سمي يف الذاكرة والوجدان‪..‬‬
‫جزء ال يتجز�أ من عقلي ول�ساين يوم ًيا منذ حفظتها يف طفولتي‪ ..‬كيف‬
‫�أ�ستدعيها الآن وال �أجدها‪ ..‬كيف �أتوقف يف منت�صف قراءتها و�أن�سى‬
‫تتابع الكلمات‪ ..‬كيف ي�صيب ذلك جماعة من النا�س يف �آن واحد‪ ..‬هل‬
‫فعل ي�ستطيع اجلن �أن ُيذهب‬‫ميلك اجلن هذه القدرة الغريبة؟ هل ً‬
‫العقل؟ ويجعل الإن�سان م�شردًا يهيم يف الطرقات وال عقل له؟‬
‫م�صطلحا علم ًيا‪ ..‬ولكنها كلمة ا�ستخدمها‬
‫ً‬ ‫�إن كلمة جمنون لي�ست‬
‫الأقدمون يف ت�سمية من يذهب عقله ب�سبب اجلن‪ ..‬ف�سموه ن�سبة للجن‬
‫«جمنون»‪.‬‬
‫لقد جربت �شي ًئا من ذلك بنف�سي الآن‪ ..‬وقناعتي بت�أثري اجلن‬
‫على الإن�سان الآن ال ميكن �أن تتزعزع‪ ..‬جالت تلك اخلواطر بعقلي يف‬
‫حلظات قبل �أن يكمل نزار كالمه ً‬
‫قائل‪ :‬من ي�شعر ب�ضياع �آية الكر�سي‬
‫فلي�صل على النبي‪..‬‬
‫ِ‬ ‫من عقله‬
‫�صليت على النبي مرة وكان العجيب �أين تذكرت الآية من الكلمة‬
‫التي توقفت عندها �ساب ًقا ومل �أحتج �أن �أعيد الآية من البداية‪ ..‬لقد‬
‫كانت جتربة مل �أمر بها من قبل‪ ..‬ذلك الت�أثري الذي ت�سلط على عقلي‬
‫والذي عاجلته فعولج‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ولكن يبدو �أن الأمر مل يكن بهذه ال�سهولة مع بع�ض اجلال�سني فقام‬
‫ر�ؤوف ب�إنزال �آية الكر�سي املعلقة على احلائط وو�ضعها �أمامنا لنقر�أ‬
‫منها حتى ال نن�سى‪..‬‬
‫كانت رائحة الن�شادر تزداد وت�شتد قبل �أن تنقطع الكهرباء ونغرق‬
‫يف ظالم عميق‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫يف و�سط ذلك الظالم �سمعنا «نزار» يقول‪ :‬ال تتحركوا وا�ستمروا يف‬
‫قراءة �آية الكر�سي‪..‬‬
‫كان الغريب يف الأمر �أن خوفنا بد�أ بالفعل يف الزوال‪ ..‬لقد �أ�صبحنا‬
‫�أقوى و�أ�شجع و�أكرث حتد ًيا و�إ�صرا ًرا‪ ..‬ال �أدري هل كان ذلك بت�أثري من‬
‫كلمات نزار �أم كان تبلدً ا �أ�صابنا من جراء ما ر�أيناه و�سمعناه يف تلك‬
‫الليلة‪ ..‬ال �أدري ال�سبب ولكني بالفعل بد�أت �أ�شعر بتبدد اخلوف مني‬
‫بدرجة كبرية جعلتني �أكرث ثقة يف قدرتي على مواجهة ذلك ال�شيء‪..‬‬
‫كانت هناك �أ�صوات خمتلطة مل نفهمها‪ ..‬نوع من الهمهمة‪..‬‬
‫و�صوت حركة غريب مل يكن معتادًا منذ ح�ضرنا يف املنزل‪ ..‬وطالت‬
‫فرتة انقطاع الكهرباء و�أ�صبح اعتمادنا على �إ�ضاءة الهاتف اجلوال‬
‫غري ُم ٍد‪ ..‬فقام ر�ؤوف �سري ًعا ب�إ�شعال ال�شموع التي كانت جاهزة على‬
‫�شمعدان على مكتبة كتب حول التلفاز‪� ..‬أ�شعل جمموعة �شموع �أخرى‬
‫وو�ضعها على جانب �آخر من الغرفة �ألقى ب�ضوء ال�شموع الهادئ ناحية‬
‫‪32‬‬
‫احلمام الذي كان بابه ن�صف مفتوح‪� ..‬أنهى نزار قراءة الآيات بالكامل‬
‫وكانت الرائحة والأ�صوات املختلطة قد اختفت تقري ًبا‪..‬‬
‫�ساد ال�صمت حلظة �شعرنا فيها بال�سالم وك�أن الأمر قد انتهى‪..‬‬
‫وقال نزار‪ :‬احلمد هلل �أنهينا القراءة على املاء‪..‬‬
‫ف�س�أل �أحد احلا�ضرين «نزار»‪ :‬هل انتهى الأمر هكذا وطرد ذلك‬
‫الكيان؟‬
‫وقبل �أن يهم نزار بالرد جذب انتباهنا �صوت باب احلمام ُيفتح‬
‫رويدً ا رويدً ا‪ ..‬و�سمعنا جلبة �شديدة يف احلمام‪ ..‬فتوجهنا ب�أنظارنا‬
‫فزعا‪..‬‬
‫نحوه ليتجمد كل منا يف مكانه ً‬
‫ال �صوت وال حركة‪..‬‬
‫كانت مفاج�أة ُت ّمد الأع�صاب‪..‬‬
‫ثم �شممنا رائحة حريق خانقة خملوطة بالن�شادر فج�أة‪..‬‬
‫ثم عادت الكهرباء‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كان رجوع ال�ضوء للمنزل هو ال�شيء الوحيد الذي �أنقذ قلوبنا من‬
‫�أن تتوقف‪ ..‬بل �إنه كان ال�سبيل الوحيد ال�سرتخاء �أع�صابنا التي كانت‬
‫م�شدودة �إىل حد الت�شنج‪ ..‬ظل ال�صمت خمي ًما علينا لدقائق بعد‬
‫‪33‬‬
‫رجوع الكهرباء رمبا كانت ال�صدمة هي التي �سيطرت علينا ومنعتنا‬
‫من الكالم‪ ..‬حتى نزار الذي كان �أكرثنا ثباتًا وخربة ومعرفة بهذه‬
‫الأمور‪ ..‬كانت ال�صدمة وا�ضحة على مالحمه لأول مرة منذ ر�أيناه‪..‬‬
‫و�أظن �أنه لوال رنني الهاتف الذي فزعنا ل�سماعه لظل ال�صمت طوال‬
‫الليل خمي ًما على هذه اجلل�سة‪..‬‬
‫�أ�شاح ر�ؤوف بيده �ضي ًقا بحركة معناها جتاهلوا هذا الرنني فل�ست‬
‫على ا�ستعداد للرد‪ ..‬وكانت راندا حتب�س دموعها التي تزاحمت على‬
‫عينها حتى مل تكد ترى �شي ًئا حينما �س�ألتُ �أنا‪ :‬هل ر�أيتم ما ر�أيت؟‬
‫وك�أن �س�ؤايل قد فتح الباب املغلق فانطلقوا واحدً ا تلو الآخر‪� :‬أنا‬
‫ر�أيت �شي ًئا‪..‬‬
‫وقال �آخر‪� :‬أنا ال �أعرف هل ر�أيته وحدي �أم ال‪..‬‬
‫وقال �أحدهم � ً‬
‫أي�ضا‪� :‬أنا ر�أيت ما �أعجز عن و�صفه‪..‬‬
‫فقال نزار‪ :‬ح�س ًنا يبدو �أننا ر�أينا نف�س ال�شيء‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫ما ر�أيناه كان مرع ًبا كفاية لتنعقد �أل�سنتنا عن احلديث‪ ..‬رمبا مل‬
‫يكن با�ستطاعتنا حتى اال�ستعاذة �أو التفكري املنطقي املرتب يف كيفية‬
‫الت�صرف‪ ..‬ف�إذا كانت املفاج�آت تربك التفكري‪ ..‬فالإ�صابة بالذعر‬
‫متاما‪..‬‬
‫ت�شله ً‬
‫‪34‬‬
‫كان ال�ضوء خافتًا‪ ..‬ثالث �شموع على م�سافة �أكرث من مرتين ُتلقي‬
‫ب�ضوئها ناحية باب احلمام‪ ..‬ذلك الباب الذي بد�أ فج�أة ُيفتح ببطء‬
‫مطل ًقا �صوت �صرير الأبواب القدمية‪ ..‬عندما �سمعنا جلب ًة �شديدة مل‬
‫نفهم معناها وال �سببها‪ ..‬فنظرت ناحية باب احلمام‪ ..‬واجته اجلميع‬
‫ب�أنظارهم �صوبه‪ ..‬فر�أيت كيا ًنا رهي ًبا يخرج بهدوء �شديد من ذلك‬
‫الباب‪..‬‬
‫ما هذا ال�شيء ال�ضخم املفزع؟‬
‫�أهو ح�صان؟ يا �إلهي‪ ..‬ما هذا الفزع الذي يتملكني؟‬
‫�إنه لي�س ح�صا ًنا‪� ..‬إن ن�صفه ال�سفلي ج�سد ح�صان �أو ثور كبري‪..‬‬
‫والن�صف العلوي ج�سد �إن�سان غزير ال�شعر!‬
‫�ص ّعدتُ فيه النظر‪ ..‬يا �إلهي ما هذا اجلنون؟‬
‫�إن ر�أ�سه لي�س ر�أ�س �إن�سان‪ ..‬هذه العيون احلمراء كجمر النار يف‬
‫�ضوء ال�شموع اخلافت‪ ..‬والقرون الكبرية الغليظة املعقوفة تخرج من‬
‫بني �شعر كثيف غليظ كالثعابني ال�صغرية التي تتحرك يف كل اجتاه‬
‫ك�أنها تبحث عن فري�سة‪ ..‬تخرج القرون وتعلو وتتجه لليمني والي�سار‬
‫ثم تنزل �إىل �أ�سفل م�ستوى الذقن متجهة نحو الوجه ثم تعود فتلف‬
‫قليل لتنتهي ب�شكل مدبب‪ ..‬ذقنه كذقن‬ ‫يف االجتاه املعاك�س وترتفع ً‬
‫اجلدي‪ ..‬وجهه مثلث قاعدته لأعلى‪ ..‬فم ن�صف مفتوح يتدىل منه‬
‫ل�سان كل�سان الثعبان‪ ..‬يخرج ويدخل كما ت�صنع الأفعى‪� ..‬إنه لي�س‬
‫ح�صا ًنا وال �إن�سا ًنا‪..‬‬
‫‪35‬‬
‫�إنه �شيطان‪..‬‬
‫خرج بهدوء ووقف ينظر �إلينا‪ ..‬ر�أى كل منا �أنه يحدق فيه وحده‪..‬‬
‫يا ربي ما هذا الذي �أراه؟ هل هذا يحدث ً‬
‫فعل؟‬
‫ملأت املكان رائحة حريق �شديدة وخانقة ك�أنه مطاط يحرتق‪..‬‬
‫رائحة ن�شادر عنيفة خمتلطة � ً‬
‫أي�ضا كانت متلأ املكان‪..‬‬
‫�أردت للحظة �أن �أبكي من الفزع وال�ضيق واالختناق‪..‬‬
‫ولكن‪ ..‬عاد النور‪..‬‬
‫واختفى ذلك ال�شيء املفزع خمل ًفا �إيانا يف �صمت و�شرود‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫عندما ق�ص�صت ما ر�أيته على احلا�ضرين اتفقوا معي يف و�صف ما‬


‫ر�أيناه‪ ..‬وكان نزار ي�ؤ ّمن على كالمنا فقد ر�أى ما ر�أينا‪..‬‬
‫كان ذلك التج�سد هو �أق�سى �شيء حدث يف حالة هذه الأ�سرة‬
‫احلزينة حتى تلك اللحظة‪ ..‬ومل يكن الأمر يختلف بالن�سبة لنزار فقد‬
‫قال هو الآخر �أنه مل ير �شي ًئا مثل هذا من قبل‪..‬‬
‫قال نزار‪ :‬ح�س ًنا ما ر�أيناه اليوم هو يقني ولي�س ظ ًنا �أو ً‬
‫خيال‪ ..‬وهذا‬
‫معناه �أن ما �سنفعله اليوم �سيكون حت�ض ًريا فقط‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫فقالت راندا م�ستنكرة‪ :‬حت�ض ًريا؟!‬
‫فقال‪ :‬نعم‪� ..‬أنا ال �أ�ستطيع مواجهة هذا ال�شيء وحدي ال بد من‬
‫ح�ضور (ال�شيخ �سابق)‪..‬‬
‫قال ر�ؤوف‪� :‬ألهذا احلد؟! ومن هو ال�شيخ �سابق؟!‬
‫قال نزار‪ :‬ال�شيخ �سابق هو ال�شخ�ص الوحيد الذي ي�ستطيع �أن‬
‫يفهم ما الذي نتعامل معه هنا‪ ..‬ورمبا يكون هو الوحيد القادر على‬
‫مواجهته‪ ..‬فظني �أنه �أحد ملوك اجلن ولي�س �شيطا ًنا عاد ًيا‪..‬‬
‫رد ر�ؤوف يف جزع‪ :‬ومتى ي�ستطيع ال�شيخ �سابق �أن ي�أتي هنا‪ ..‬لقد‬
‫ر�أيت بنف�سك ما نحن فيه؟ و�أنا لن �أبيت الليلة هنا‪ ..‬الأوالد عند جدهم‬
‫يف ال�صعيد ونحن �سنبيت الليلة يف فندق حتى نرى ماذا �سنفعل‪.‬‬
‫قال نزار‪ :‬اهد�أ يا �سيد ر�ؤوف‪� ..‬س�أكلمه و�أت�صل بك‪ ..‬والآن �سنبد�أ‬
‫التح�ضري ونرتك املنزل حلني ح�ضور ال�شيخ �سابق‪..‬‬
‫ثم �أم�سك نزار طبق املاء وجتول يف ال�شقة‪ ..‬ر�ش املاء على كل ركن‬
‫وكل حائط‪ ..‬ركز الر�ش على ال�صور املعلقة والتي كان بها قطط‪ ..‬ركز‬
‫الر�ش يف احلمام ويف الأماكن التي حدث بها جت�سد‪ ..‬ويف الأماكن التي‬
‫كرث فيها الن�شاط وظهرت فيها الرائحة‪� ..‬أنهى الر�ش وعب�أ ما بقي من‬
‫املاء يف زجاجات‪.‬‬
‫وقال لراندا‪ :‬اغت�سلي بهذا املاء وا�شربي منه‪ ..‬وا�شربوا منه‬
‫جمي ًعا‪..‬‬
‫‪37‬‬
‫وا�ست�أذنهم يف زجاجة من هذا املاء لنف�سه‪ ..‬ثم قام بفرد القما�شة‬
‫البي�ضاء و�أتى بالقلم الأحمر ففتحه من اخللف وقام ب�صب بع�ض ماء‬
‫الزعفران فيه و�أغلقه ثم بد�أ يف كتابة هذه اجلملة‪..‬‬
‫«با�سم اهلل م�سخر اجلن والريح والطري واجلبال وال�شم�س والقمر‪..‬‬
‫من امللك �سليمان نبي اهلل ملك اجلن والريح‪� ..‬إىل كل من دخل هذا‬
‫البيت من الإن�س واجلن‪ ..‬اخرجوا منه ب�سالم ال مت�سوا �أهل البيت‬
‫ب�سوء‪ ..‬وال مي�سكم منا �سوء‪ ..‬و�إال فاخرجوا منه ملعونني �أينما ذهبتم‬
‫ت�صحبكم لعنة ال فكاك منها �إال باملوت‪ ..‬لعنة تقطع الن�سل ومتر�ض‬
‫ال�صحيح‪ ..‬تخر�س الناطق وت�صم �آذان ال�سامع‪ ..‬وحتب�س �صاحب فعل‬
‫ال�شر منكم حتى املوت»‪.‬‬
‫كتب هذه اجلملة بخط وا�ضح كبري وعلقها يف مدخل البيت �أمام‬
‫الباب‪ ..‬ثم غادر‪.‬‬

‫‪h‬‬

‫‪38‬‬
‫)‪(2‬‬

‫يف اليوم التايل مررت على ر�ؤوف الذي كان قد �أم�ضى ليلته هو‬
‫وراندا يف فندق وذهبنا �إىل نزار يف النادي الذي يعمل به مدر ًبا‪..‬‬
‫رحب بنا ثم �أخذنا �إىل ركن هادئ وطلب لنا قهوة ثم جل�س يتكلم معنا‬
‫وا�ضحا عليه �أنه يتجنب الكالم عما حدث‬ ‫ً‬ ‫يف موا�ضيع �شتى‪ ..‬كان‬
‫يف الليلة املا�ضية‪ ..‬ظننا �أنه ال يريد الكالم فيه يف مكان عمله حتى‬
‫ال ي�شتهر الأمر �أو يظن زمال�ؤه �أنه يناق�ش �أمو ًرا �شخ�صية يف مكان‬
‫العمل‪ ..‬ولكن ات�ضح لنا �أنه ال يريد �أن يحرج «ر�ؤوف» بالكالم يف هذا‬
‫الأمر يف مكان مفتوح‪ ..‬انتهى وقت عمله فخرجنا م ًعا وركبنا ال�سيارة‪..‬‬
‫ويف الطريق قررت �أن �أفتح احلوار الذي يتجنبه اجلميع‪..‬‬
‫‪ -‬ما �أخبار ال�شيخ �سابق يا �سيد نزار؟‬
‫‪ -‬لقد حدثته �أم�س و�أخذت منه موعدً ا و�سنذهب له لنق�ص عليه‬
‫احلكاية ونطلب منه املعونة‪..‬‬
‫‪39‬‬
‫‪ -‬هل هو م�شغول �إىل هذا احلد؟‬
‫‪ -‬نعم يا �سيد مازن فالكثريون يطلبونه من �أجل �أن ي�ساعدهم يف‬
‫التخل�ص من هذه الكيانات التي تهاجمهم‪.‬‬
‫فقال ر�ؤوف‪ :‬هل هو متخ�ص�ص يف هذه الأ�شياء �أو ما �شابه؟‬
‫‪ -‬نعم‪� ..‬إن ال�شيخ �سابق �أم�ضى حياته كلها يف درا�سة تلك الأمور‪..‬‬
‫هو ذو �شفافية عالية جدً ا‪ ..‬حتى �إنه يرى بع�ض تلك الأ�شياء من دون‬
‫�أن تتج�سد‪ ..‬و�صقل موهبته و�شفافيته وقدراته بالتدريب‪ ..‬فهو من‬
‫القالئل الذين ميار�سون الإ�سقاط النجمي‪..‬‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬ماذا؟‬
‫‪ -‬الإ�سقاط النجمي‪ ..‬هو باخت�صار القدرة عن االنف�صال عن‬
‫اجل�سد والتحرك باجل�سم الأثريي‪..‬‬
‫فقال ر�ؤوف‪� :‬أهو م�شعوذ �أم دجال؟‬
‫فقال نزار م�ستنك ًرا‪ :‬ال هذا وال ذاك‪ ..‬ولكنه � ً‬
‫أي�ضا لي�س فقي ًها‬
‫دين ًيا‪� ..‬إنه �شخ�ص ذو قدرات خا�صة ولكن كل قدراته هذه مل جتعله يف‬
‫مكانته التي هو فيها اليوم حتى ليلة حادثة املحطة منذ ثالث �سنوات‪..‬‬
‫�أ�صبح من ليلتها الأ�ستاذ �سابق من نعرفه اليوم با�سم ال�شيخ �سابق‪..‬‬
‫فقلت �أنا‪ :‬ملاذا؟ ما الذي غري الأمور يف تلك الليلة؟‬
‫فقال نزار‪� :‬س�أحكي لكما‪..‬‬
‫‪40‬‬
‫كان الأ�ستاذ �سابق يقطن قرية �صغرية تطل على بحرية‪ ..‬ومل‬
‫تكن املرافق واخلدمات ت�صل �إىل هذه القرية ب�شكل كامل �ش�أنها �ش�أن‬
‫قرى كثرية‪ ..‬فالكهرباء مل ت�صل �إال �إىل بع�ض البيوت كبيت العمدة‬
‫ومركز ال�شرطة وبع�ض بيوت الكبار‪ ..‬وبالتايل بع�ض البيوت املجاورة‪..‬‬
‫وكان منها بيت الأ�ستاذ �سابق‪ ..‬كذلك املياه مل ت�صل �إىل معظم بيوت‬
‫القرية‪ ..‬وال توجد موا�صالت عامة منها �أو �إليها �إال القطار‪ ..‬وبع�ض‬
‫الدراجات البخارية التي ت�ستخدم ب�شكل غري ر�سمي للتو�صيل بني‬
‫الأهايل‪..‬‬
‫كان الوقت مت�أخ ًرا يف تلك الليلة �شديدة الربد واملطر منذ ثالث‬
‫�سنوات �أو �أكرث ً‬
‫قليل‪ ..‬كان الأ�ستاذ �سابق عائدً ا من عمله يف املدينة‪..‬‬
‫وكان يركب القطار الأخري الذي ي�صل القرية يف هذه الليلة‪ ..‬ورمبا مل‬
‫يكن به راكب �إىل تلك القرية �سوى �سابق ومل يكن �أحد باملحطة لريكب‬
‫القطار منها حيث انقطعت ال�سبل من و�إىل املحطة ب�سبب املطر الغزير‬
‫الذي ح ّول القرية �إىل بركة من املاء‪ ..‬وال �ضوء يف الطرقات �إال �ضوء‬
‫الربق الذي ال يتوقف‪ ..‬و�أ�صم �صوت الرعد الآذان‪ ..‬فاختفى النا�س يف‬
‫بيوتهم خ�شية الهالك حتى تنتهي تلك العا�صفة‪.‬‬
‫نزل �سابق من القطار �إىل املحطة التي مل تكن �سوى ر�صيف �صغري‬
‫ال يتعدى الع�شرة �أمتار‪ ..‬وما �إن غاب القطار حتى غاب ال�ضوء الأخري‬
‫عن املنطقة �إال ما �أ�ضاءها من الربق‪� ..‬أخذ �سابق يخطط للذهاب‬
‫�إىل بيته حتت جنح الظالم و�صوت الرعد‪ ..‬ويتناول بع�ض الأحجار‬
‫املك�سورة لعله ي�صنع لنف�سه بها طري ًقا يعفيه من الغو�ص بقدمه يف‬
‫املياه‪..‬‬

‫‪41‬‬
‫وبينما كان يتح�س�س طريقه يف الظالم وميد قدمه ليت�أكد من‬
‫�صالبة الأر�ض حتتها ليمد قدمه الأخرى‪� ..‬إذا بالربق ي�ضرب �ضربة‬
‫قوية‪ ..‬كي يتجمد الدم يف عروق �سابق حني فوجئ بطرف ثوب امر�أة‬
‫�أمام قدمه مبا�شرة‪ ..‬فرفع نظره فج�أة �إليها وهو يقول‪ :‬ب�سم اهلل‬
‫الرحمن الرحيم‪ ..‬ما هذا؟‬
‫ف�إذا بها امر�أة عجوز طاعنة يف ال�سن منحنية الظهر نحيلة اجل�سد‬
‫يبدو عليها الإعياء والربد‪ ..‬مالب�سها خفيفة ال تكاد تقيها العا�صفة وال‬
‫املطر حتمل ً‬
‫طفل ر�ضي ًعا يبكي من اجلوع والربد‪..‬‬
‫فلما تبني ل�سابق حالها قال لها‪ :‬ال�سالم عليكم‪ ..‬ماذا �أتى بك هنا‬
‫يا �سيدتي يف هذا اجلو القار�س‪ ..‬والظالم احلالك؟‬
‫قالت‪ :‬وعليكم ال�سالم‪ ..‬يا بني �أنا هنا يف انتظار القطار‪ ..‬لكن‬
‫يبدو �أنه مل ي�أت بعد‪..‬‬
‫‪ -‬بل �أتى وذهب‪ ..‬لقد كنت فيه وقد رحل منذ ربع �ساعة تقري ًبا‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟ يبدو �أين ت�أخرت ب�سبب املطر وانقطاع الطريق‪..‬‬
‫ح�س ًنا لي�س �أمامي �إال انتظار القطار التايل‪ ..‬واهلل يتوىل حفيدي‬
‫هذا‪ ..‬فهو مل يطعم الر�ضاعة منذ ال�صباح‪ ..‬وكنت �أريد �أن �أعود به‬
‫�إىل �أمه لرت�ضعه‪..‬‬
‫تال‪ ..‬لن يعود القطار حتى ال�صباح‪..‬‬
‫‪ -‬يا �سيدتي لي�س هناك قطار ٍ‬
‫بقي �أكرث من ن�صف يوم حتى يعود‪ ..‬ولو بقيت هنا �ستتجمدين �أنت‬
‫جوعا‪ ..‬ولكن تعايل معي تبيتني‬
‫وحفيدك من الربد‪ ..‬و�ستموتان ً‬
‫‪42‬‬
‫ليلتك‪ ..‬وزوجتي ميكنها �إر�ضاع �صغريك‪ ..‬فعندنا ر�ضيع ابن ثمانية‬
‫�أ�شهر‪ ..‬وتنامني دافئة حتى ال�صباح ويف ال�صباح �س�أو�صلك بنف�سي‬
‫�إىل القطار‪.‬‬
‫‪� -‬شك ًرا يا ولدي بارك اهلل فيك‪..‬‬
‫‪ -‬ال �شكر على واجب‪ ..‬ما زالت الدنيا بخري‪..‬‬
‫ذهبا �إىل البيت‪ ..‬وقامت زوجته ب�إر�ضاع الطفل‪ ..‬و�إعداد الطعام‬
‫لل�سيدة العجوز‪ ..‬وجل�س معها �سابق يطعمها بنف�سه‪ ..‬و�أتى لها بغطاء‬
‫فرا�شا داف ًئا‪ ..‬وناموا حتى ال�صباح‪ ..‬يف ال�صباح‬
‫ثقيل‪ ..‬وجهز لها ً‬
‫�أيقظها و�أتى لها بالفطور و�أر�ضعت زوجته الطفل ر�ضعة تكفيه حتى‬
‫يعود �إىل �أمه‪ ..‬و�أو�صلها �سابق �إىل القطار‪ ..‬وودعها‪ ..‬فقالت له‪:‬‬
‫�س�أراك الح ًقا‪..‬‬
‫مر �أ�سبوع قبل �أن يطرق طارق باب بيت الأ�ستاذ �سابق يوم اجلمعة‬
‫بعد الع�صر بنحو �ساعتني‪ ..‬ففتح الباب ف�إذا به يجد نف�س ال�سيدة‬
‫�أمامه‪..‬‬
‫فقالت له‪� :‬أمل �أقل �س�أراك الح ًقا؟‬
‫‪ -‬مرح ًبا‪ً � ..‬‬
‫أهل بك يا �سيدتي‪� ..‬إنها لزيارة �سعيدة‪ ..‬تف�ضلي لقد‬
‫�أُعد الطعام و�ستكونني �ضيفتنا اليوم‪..‬‬
‫‪ -‬بل �أبلغ �سيدة الدار حتياتي و�سالمي وتعال معي‪.‬‬
‫فقال متعج ًبا‪� :‬إىل �أين؟‬
‫‪43‬‬
‫‪ -‬تعال و�ستعرف‪..‬‬
‫فذهب معها‪ ..‬وطال بهما ال�سري‪ ..‬قطعا م�سافة طويلة حتى جتاوزا‬
‫حدود العمار يف القرية وو�صال حمطة القطار فظن �أنها تريد الركوب‬
‫وال متلك النقود‪ ..‬فتح�س�س جيبه ليت�أكد �أنه ميلك النقود‪..‬‬
‫فقالت له‪ :‬لن نركب القطار‪..‬‬
‫فتعجب منها‪� :‬إىل �أين �إذن؟‬
‫قالت‪� :‬ستعرف‪..‬‬
‫ا�ستمرا يف امل�شي مدة حتى دخل وقت الع�شاء وقد جتاوزا القرية‬
‫وم�شيا مبحاذاة البحرية‪ ..‬حتى وقفا عند �أطراف البحرية بعد الع�شاء‬
‫بقليل‪ ..‬و�أخذت املر�أة تنظر يف �صفحة املاء التي �أ�صبحت حتت‬
‫�أقدامهما‪ ..‬يف مكان منقطع ال �صوت فيه �إال �صوت الريح الباردة وال‬
‫�ضوء فيه �إال �ضوء القمر‪..‬‬
‫وقالت له‪� :‬أتعرف املكان الذي �أ�سكن فيه؟‬
‫فقال �سابق‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬هنا‪ ..‬و�أ�شارت �إىل البحرية!‬
‫فنظر �سابق بتلقائية �إىل املاء الذي يرمي القمر ب�ضوئه عليه‪..‬‬
‫لرتتعد فرائ�صه هل ًعا حينما ر�أى وجهه يف املياه ومل ي َر بجواره �أي‬
‫انعكا�س للمر�أة‪� ..‬أخذ ينظر يف فزع �إليها‪ ..‬ويعود لينظر يف املاء‪..‬‬
‫‪44‬‬
‫ظل يف املاء‪ ..‬فرتاجع للخلف ب�سرعة‪� :‬أعوذ باهلل من‬‫فال يجد لها ً‬
‫ال�شيطان الرجيم‪� ..‬أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪..‬‬
‫فقالت له‪ :‬ال تخف‪� ..‬أنا من اجلن ال�سفلي‪ ..‬ولكني ل�ست كما‬
‫تظن‪� ..‬أنت مل يكن يفرت�ض بك �أن تراين تلك الليلة منذ �أ�سبوع‪ ..‬لكن‬
‫يبدو �أنك خمتلف‪ ..‬ولقد �أح�سنت �إ ّ‬
‫يل و�إىل حفيدي‪ ..‬و�أنا �س�أكافئك‬
‫مكاف�أة كبرية مل تكن لتحلم بها‪� ..‬س�أجعلك ً‬
‫�شيخا يق�صده النا�س من‬
‫كل مكان‪..‬‬
‫وبالفعل لقد �أ�صبح �سابق من يومها ال�شيخ �سابق‪..‬‬
‫فقال ر�ؤوف‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬لقد �أ�صبح خماو ًيا لتلك اجلنية‪ ..‬ي�أتيه النا�س ي�ستفتونه‪..‬‬
‫مم�سو�سا‪� ..‬أو من‬
‫ً‬ ‫فتو�شو�شه يف �أذنه مبا فيهم من علة‪ ..‬من كان‬
‫كان يعاين من ال�سحر‪ ..‬وتعينه على اجلن‪ ..‬في�ضرب هو املم�سو�س‬
‫بكرباجه �أو ع�صاه وتعذب هي اجلن وتعاقبهم وتهددهم وتخرجهم‬
‫من الأج�ساد‪ ..‬ب�سلطانها وخدامها من اجلن ال�سفلي‪ ..‬فهي من امللوك‬
‫الغوا�صني‪.‬‬
‫قلت‪� :‬إذن هو �ساحر كما قلنا‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال هو ال ي�سحر �أبدً ا‪� ..‬إمنا هو ي�ساعد النا�س وي�صنع املعروف‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬وهل اال�ستعانة باجلن حالل حتى ولو لفعل اخلري؟‬
‫قال‪� :‬أظن �أنه ال‪ ..‬لي�س ً‬
‫حالل‪ ..‬ولكن �إن مل يكن �أمامنا �إال باب‬
‫‪45‬‬
‫ال�شيخ �سابق نطرقه فعلينا ذلك وال علينا مما ي�أخذه من �أ�سباب ما‬
‫دمنا ال نرتكب خط�أ وال نطيعه يف مع�صية‪ ..‬و�إن كان هناك �إثم فهو من‬
‫يرتكبه ول�سنا نحن‪ ..‬هذا هو ر�أيي واهلل �أعلم‪ ..‬والأمر يعود �إليكما‪..‬‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬الأمر هلل‪� ..‬إن كان احلل عنده ف�سنذهب له‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫ذهبنا يف املوعد املحدد �إىل ال�شيخ �سابق‪ ..‬طرقنا الباب‪ ..‬ففتح لنا‬
‫ال�شيخ �سابق بنف�سه‪ ..‬رجل �أبي�ض طويل القامة ب�شكل ملفت للنظر‪..‬‬
‫مع �ضخامة يف اجل�سم‪ ..‬وع�ضالت بارزة وا�ضحة‪ ..‬يبدو �أ�صغر من‬
‫�سنه الذي عرفناه من نزار‪ ..‬لقد كان يف نهاية الأربعينيات‪ ..‬بينما‬
‫يبدو عليه �أنه مل يتجاوز اخلام�سة والثالثني على �أق�صى تقدير‪..‬‬
‫أي�ضا �أنه كان يلعب امل�صارعة ورفع الأثقال لوقت قريب‪..‬‬‫�أخربنا نزار � ً‬
‫�شعره �أ�سود كثيف‪ ..‬كث ال�شارب‪ ..‬حليق اللحية‪ ..‬هادئ ال�صوت‪..‬‬
‫توحي هيئته بالثقة‪ ..‬و�إن كان يف وجهه �شيء من الغمو�ض‪ ..‬رمبا كان‬
‫ذلك ب�سبب �أنها املقابلة الأوىل‪..‬‬
‫�أدخلنا �سابق �إىل بيته مرح ًبا‪ ..‬جل�سنا �إىل طاولة م�ستديرة‬
‫يتو�سطها �شمعدان‪ ..‬ك�أننا مقبلون على جل�سة لإجراء طقو�س‪� ..‬أو‬
‫رمبا هذه الأفكار كانت جتول يف ر�أ�سي ب�سبب ما �سمعته من ق�صته‬
‫وتاريخه‪ ..‬فقد كان الغمو�ض والإثارة حول هذا الرجل يثريان تفكريي‬
‫ب�شدة‪ ..‬وتراودين �أفكار مع كل حركة والتفاتة منه‪ ..‬فلعل جنيته هي‬
‫‪46‬‬
‫من جتعله �شا ًبا هكذا‪� ..‬أو لعلها هي من �ستقدم لنا ال�شاي‪� ..‬أو لعل‬
‫هذه الوحمة على كف يده من �أثر م�صافحتها له‪� ..‬أو لعل هذه الرائحة‬
‫النفاذة يف البيت هي رائحتها‪..‬‬
‫ثوان‪ ..‬كما لو كان ال ميلك الوقت لي�ضيعه‬‫و�ضع ال�شاي �أمامنا يف ٍ‬
‫علي �أفكاري و�أوهامي‪ ..‬ف�شعرنا‬
‫يف مناق�شات ودية‪� ..‬أو يريد �أن يقطع ّ‬
‫�أننا يجب �أن ندخل يف املو�ضوع فو ًرا‪..‬‬
‫بد�أ نزار الكالم‪ :‬لقد �أتينا اليوم بخ�صو�ص الأ�ستاذ ر�ؤوف‪ ..‬لقد‬
‫�شهد بيته �أحدا ًثا خارقة‪ ..‬وهجوم متكرر من كيان �شيطاين‪ ..‬و�أنا‬
‫ذهبت عندهم �أم�س ور�أيناه جمي ًعا‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ر�أيتموه؟ هل يتج�سد؟‬
‫قال نزار‪ :‬نعم �إنه يتج�سد كث ًريا‪� ..‬إنه كيان عنيف جدً ا‪ ..‬كما �أنه‬
‫جريء يف املواجهة والظهور‪ ..‬متالعب للغاية‪ ..‬اتخذ �أكرث من خم�سة‬
‫�أ�شكال‪ ..‬ما بني قط وكلب ورجل م�سن و�أخ ًريا �أم�س‪ ..‬ظهر �أم�س ب�شكل‬
‫خمتلف‪ ..‬كان ن�صف ثور �أو ح�صان وج�سد �إن�سان‪ ..‬بينما الر�أ�س كان‬
‫خمتل ًفا‪ ..‬كان ر�أ�سه ب�ش ًعا كالر�ؤو�س التي وردت يف كتاب «العزيف»‪..‬‬
‫انتبه ال�شيخ �سابق وات�سعت عيناه وقال متوج ًها بر�أ�سه ناحية نزار‪:‬‬
‫هل �أنت مت�أكد �أنه ورد يف كتاب العزيف �أم �أنك تخمن؟‬
‫متاما‪ ..‬ولكن �أظن ذلك‪..‬‬
‫قال نزار‪ :‬ل�ست مت�أكدً ا ً‬
‫قلت لهم‪ :‬ما هو العزيف وما الفرق بني وروده فيه �أو عدم وروده؟‬
‫‪47‬‬
‫نظر �إ ّ‬
‫يل ال�شيخ �سابق وهز ر�أ�سه �صامتًا ثم قال‪� :‬س�أقول لك‪..‬‬
‫العزيف هو �سفر �شيطاين لعني ميكن �أن يكون هو �أخطر الأ�سفار‬
‫يوما‪ ..‬كتبه رجل متهم باجلنون ا�سمه عبد اهلل‬‫التي عرفتها الب�شرية ً‬
‫احلظرد‪ ..‬رجل عربي عا�ش يف عهد الأمويني ر�سم احلظرد يف هذا‬
‫ال�سفر �صور اجلن احلقيقية كما ر�آهم‪..‬‬
‫‪ -‬ر�آهم؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬حتكي الق�ص�ص عن حياته �أنه عا�ش ع�شر �سنوات يف‬
‫�صحراء الربع اخلايل يف جزيرة العرب ويقال �أنه قابل �شياطني‬
‫�إرم‪ ..‬مدينة �إرم ذات العماد التي ذكرت يف القر�آن‪ ..‬وهم من �أعانوه‬
‫على الر�سم‪ ..‬وعلموه �شفرات االت�صال باجلن‪ ..‬وطال�سم ا�ستح�ضار‬
‫الأرواح‪..‬‬
‫وقيل �إنه ذهب �إىل �أر�ض العراق‪ ..‬و�سكن �أطالل بابل‪ ..‬وقابل‬
‫�شياطينها‪ ..‬وتلقى ال�سحر البابلي منهم ومن �صابئة العراق الأراميني‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬ال�سحر البابلي؟ وهل هناك جن�سيات لل�سحر؟‬
‫قال‪� :‬إن �أر�ض بابل هي مهد ال�سحر يف العامل‪ ..‬و�صابئة العراق هم‬
‫من تلقوا ال�سحر من هاروت وماروت‪ ..‬ومل يكن يف الدنيا �أخطر وال �أدق‬
‫من ال�سحرة ال�صابئة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬مل �أ�سمع عنهم مطل ًقا‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫قال‪ :‬لن ت�سمع عنهم �إال �إذا كنت مهت ًما بدرا�سة الأمر‪� ..‬ستجد‬
‫مثل يف الكتاب املقد�س‪ ..‬عند ذكر والدة امل�سيح‪..‬‬ ‫ذكرهم قد ورد ً‬
‫فذكر �أن ثالثة �سحرة من �أر�ض بابل ر�أوا النجم‪ ..‬جنم امل�سيح‪..‬‬
‫فتبعوه �إىل �أر�ض فل�سطني للبحث عنه‪ ..‬و�أنقذوه من امللك ال�شرير‪..‬‬
‫وقدموا له ولأمه الهدايا‪ ..‬و�صور امللوك الثالثة موجودة يف الأديرة‬
‫اليوم‪ ..‬ويف �أملانيا كني�سة ُجمعت فيها رفات ال�سحرة الثالثة يف �صندوق‬
‫من ذهب‪ ..‬ويوم الغطا�س ي�سمى عيد �سجود املجو�س‪� ..‬أو يوم امللوك‬
‫الثالثة‪� ..‬إنهم هم الثالثة من �أر�ض بابل‪.‬‬
‫قلت‪� :‬إذن ف�سحر بابل هذا لي�س �سي ًئا‪ ..‬و ُيعترب ً‬
‫مقبول يف امل�سيحية؟‬
‫قال‪ :‬ال �أبدً ا‪ ..‬بل مت حظر كتاب العزيف يف الغرب و�أُحرق ب�أمر‬
‫البابا‪ ..‬وعوقب �أكرث من �ألف ق�س وراهب كانوا ميلكون هذا الكتاب‬
‫وا ُتهموا بالهرطقة‪..‬‬
‫قلت‪� :‬أهو خطري �إىل هذا احلد؟‬
‫�شجاعا فقط ميكنك االطالع على �صفحات ذلك‬ ‫ً‬ ‫قال‪ :‬لو كنت‬
‫ال�سفر اللعني‪� ..‬إنها �صور �أقدم كيانات �شيطانية عا�شت على الأر�ض‪..‬‬
‫�إنها م�سوخ حقيقية ال تتمنى �أن تراها يف الواقع‪� ..‬إنهم ملوك اجلن‪..‬‬
‫ومع �صورهم طال�سم حت�ضري الأرواح‪ ..‬وا�ستنطاق جثث املوتى‪� ..‬إنه‬
‫لعنة �سوداء بني جلدتي كتاب‪ ..‬حرق امل�سلمون كل ن�سخ الكتاب‪ ..‬بعدما‬
‫مات م�ؤلفه �أمام �أعني النا�س بوا�سطة كيان �شيطاين غريب ومفزع‬
‫ظهر له والتهمه �أمام النا�س‪ ..‬ومل يبق من العزيف �إال الن�سخ املرتجمة‬

‫‪49‬‬
‫قبل احلرق �إىل الالتينية‪ ..‬ومت ترجمته �إىل الإجنليزية منذ قرابة مئة‬
‫عاما‪..‬‬
‫وع�شرين ً‬
‫و له عدة �أ�سماء غري العزيف فا�سمه �سفر (قوانني املوتى) �أو �سفر‬
‫(�أ�سماء املوتى) �أو (نيكرونوميكون) ولكن اال�سم العربي القدمي ال‬
‫يزال عل ًما عليه‪..‬‬
‫قائل‪ :‬لو كان ما عندكم هو �أحد تلك‬ ‫ثم نظر �سابق �إىل نزار ور�ؤوف ً‬
‫الكيانات‪ ..‬فنحن هنا يف م�أزق حقيقي وال ي�سعنا �إال اال�ستعانة باهلل‪..‬‬
‫فهذه الكيانات الفاجرة الكافرة مل ي�سيطر عليها �إال نبي اهلل �سليمان‪..‬‬
‫كان عليه ال�سالم ي�سومهم �سوء العذاب كلما خرجوا عن طاعته‪ ..‬كان‬
‫يذلهم ويحب�س منهم من يع�صيه‪ ..‬وبعد موته مل يجدوا من يك�سر‬
‫�شوكتهم‪ ..‬فعادوا �إىل غرورهم القدمي وكفرهم كما فعلوا قبل خلق‬
‫�آدم‪ ..‬فهم من ا�ستوطنوا الأر�ض قبل �آدم وف ًقا لكتاب العزيف‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫حب�ست كلمات ال�شيخ �سابق �أنفا�سنا فلم يتفوه �أحدنا بكلمة‪..‬‬


‫تبادلنا النظرات املتح�سرة �أو احلائرة‪ ..‬ومل ننطق‪..‬‬
‫قال ال�شيخ �سابق‪ :‬فيم هذا ال�صمت؟‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬وهل بعد ما قلته ميكن لأي �شيء �أن يقال؟!‬
‫‪50‬‬
‫قال �سابق‪ :‬ال يا �سيد ر�ؤوف‪ ..‬ال �أريد �أن �أ�سمع منك هذا الكالم‪..‬‬
‫نحن ما زلنا غري مت�أكدين بعد من حقيقة ما نتعامل معه‪ ..‬و�أ ًيا ما‬
‫كانت حقيقته قبيحة فاخلرب اجليد هو �أن ه�ؤالء يف النهاية هم خلق‬
‫اهلل ال يخرجون من �سلطانه‪ ..‬خماطبون بالقر�آن‪ ..‬فالنبي حممد‬
‫قد �أر�سل �إىل الثقلني‪ ..‬وهم مدعوون �إىل الإ�سالم مثلنا‪ ..‬كما �أنهم‬
‫يدخلون يف عموم قول اهلل }إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إال من اتبعك‬
‫ً‬
‫ضعيفا{‪..‬‬ ‫من الغاوين{‪� ..‬أو قوله }إن كيد الشيطان اكن‬

‫�إن من ذكروا يف كتاب العزيف لي�سوا ب�أقوى وال �أخطر من �إبلي�س‪..‬‬


‫نف�سا �إال و�سعها‪ ..‬فاطمئن‬
‫ولن ي�سلطهم اهلل على ب�شر‪ ..‬ولن يكلف اهلل ً‬
‫واجعل ثقتك باهلل �أقوى من �أي �شيء وكل �شيء‪..‬‬
‫�أعادنا كالم ال�شيخ �سابق مرة �أخرى لنتنف�س ال�صعداء‪ ..‬زادنا‬
‫ذلك الكالم ثق ًة فيه‪ ..‬و�شعرنا ب�أنه لي�س ذلك ال�ساحر الذي توقعناه‪..‬‬
‫كما زاد حر�صنا على التح�صن بالقر�آن والأذكار من ذلك الكيان الذي‬
‫يبدو �أنه �أ�سو�أ مما اعتقدنا‪..‬‬
‫قال ال�شيخ �سابق‪ :‬ح�س ًنا يجب علينا �أن نتحرى الدقة الآن‪ ..‬ون�أتي‬
‫بكل الأدوات الالزمة معنا حتى ال ن�ضطر لرتك املنزل والعودة �إليه‪..‬‬
‫كل الأدوات �س�أجهزها �أنا و�أح�ضرها معي‪..‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪ :‬هل بجوار البيت م�سجد؟‬ ‫ثم نظر �إىل ر�ؤوف‬
‫فرد ر�ؤوف‪ :‬نعم‪ ..‬بل م�ساجد وقريبة جدً ا‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهل ت�صل �أ�صواتها �إىل البيت بقوة؟‬
‫‪51‬‬
‫فقال‪ :‬نعم‪..‬‬
‫فرد �سابق‪� :‬إذن توكلنا على اهلل‪ ..‬ولكن على من ي�أتي �أن يتحلى‬
‫بال�شجاعة‪ ..‬ال جمال ملن ترتعد فرائ�صه من اخلوف وال جمال لوجود‬
‫�أطفال‪ ..‬كلكم ي�أتي على و�ضوء‪ ..‬ومعه م�صحفه‪ ..‬و�س�أح�ضر ال�ساعة‬
‫�صباحا‪ ..‬و�أمتنى �أن ن�ستطيع ا�ستدراجه نحو الفجر‪..‬‬
‫الثانية والن�صف ً‬
‫قال ر�ؤوف‪ :‬الفجر؟‬
‫قال �سابق‪ :‬نعم‪� ..‬أذان الفجر قد يكون هو املطرقة الأخرية لو‬
‫عجزنا عن ال�سيطرة على الو�ضع‪..‬‬
‫قال نزار‪ :‬توكلنا على اهلل‪.‬‬

‫‪h‬‬

‫‪52‬‬
‫)‪(3‬‬

‫�صباحا كنا جمي ًعا يف االنتظار يف‬


‫ً‬ ‫يف ال�ساعة الثانية والن�صف‬
‫البيت‪ ..‬ح�ضرت �أنا ونزار ور�ؤوف وراندا واحلاج طاهر والد راندا‬
‫الذي جاء من ال�صعيد حل�ضور هذه الليلة‪ ..‬كنا يف ترقب وقلق مما‬
‫حدث يف املرة املا�ضية والذي مل يفارق ذاكرة �أي واحد منا‪ ..‬ف�أتى‬
‫كل منا مب�صحفه وجل�سنا نقر�أ قر�آ ًنا يف انتظار ح�ضور ال�شيخ �سابق‪..‬‬
‫دق جر�س الباب ودخل ال�شيخ �سابق ومعه حقيبة متو�سطة احلجم‪..‬‬
‫ً‬
‫متخيل ما بداخلها‪ ..‬ح ّدثت‬ ‫�سلم علينا وجل�س‪ ..‬نظرت �إىل حقيبته‬
‫و�شموعا‬
‫ً‬ ‫نف�سي �أنه �إذا فتحها �سيخرج جماجم موتى وقنينة من الدماء‬
‫و�أحجبة وتعاويذ وطال�سم‪ ..‬وعرائ�س قما�ش‪ ..‬و‪.....‬‬
‫قطع هذه الأوهام �صوت ال�شيخ �سابق وهو يقول‪ :‬ب�سم اهلل وفتح‬
‫مت�سائل‪ :‬هل كل �شيء على ما يرام؟ هل حدث �شيء منذ‬ ‫ً‬ ‫حقيبته‬
‫ح�ضرمت؟‬
‫‪53‬‬
‫قلنا له و�أنظارنا جمي ًعا على احلقيبة‪ :‬ال‪.‬‬
‫و�أخ ًريا انفتحت احلقيبة‪ ..‬كانت بالن�سبة يل كن ًزا �أريد ا�ستك�شافه‪..‬‬
‫ف�إذا به يخرج منها كرباج جلد مبقب�ض عاجي يبدو عليه �أنه م�صنوع‬
‫�صناعة خا�صة وجيدة وعلى املقب�ض بع�ض النقو�ش التي ال �أعرفها وال‬
‫كي�سا من العظام‪ ..‬عظام البقر كالتي ت�أتي‬ ‫�أعرف لها معنى‪ ..‬و�أخرج ً‬
‫مع اللحم من عند اجلزار‪..‬‬
‫ما هذا؟ هل هذه حمتويات حقيبة الرعب التي كنت �أتخيلها منذ‬
‫حلظة؟! �أهذا كل �شيء؟‬
‫ولكن احلقيبة ما زالت تبدو ممتلئة‪ ..‬ح�س ًنا لعل اجلماجم‬
‫والطال�سم وزجاجات الدم موجودة بالداخل‪ ..‬لن �أفقد الأمل‪..‬‬
‫توجه ال�شيخ �سابق لل�سيدة راندا ً‬
‫قائل‪ :‬هل �أنت م�ستعدة ملواجهة‬
‫ليلة طويلة يا �سيدتي؟‬
‫قالت بحما�سة‪ :‬نعم‪..‬‬
‫كانت عيناي تنظران رغ ًما عني بف�ضول يف حماولة يائ�سة‬
‫ال�ستك�شاف ما مل يخرج من احلقيبة عندما قال ال�شيخ �سابق‪� :‬أريد‬
‫ثالثة من احل�ضور ي�أخذ كل منهم م�صح ًفا‪ ..‬ويفتح الأول �سورة البقرة‬
‫والثاين �سورة ال�صافات‪ ..‬والثالث �سورة الدخان‪ ..‬والرابع يكون‬
‫كامل‪ ..‬و�أن تنتظروا مني كلمة ولتكن (الآن)‬‫جاه ًزا لي�ؤذن الأذان ً‬
‫ف�إذا �سمعتموها يبد�أ كل منكم يف قراءة ال�سورة التي يخت�ص بها ورفع‬
‫‪54‬‬
‫عال وقوي ومهما تداخلت الأ�صوات فال‬
‫الأذان يف �آن واحد و�صوت ٍ‬
‫تتوقفوا حتى �أقول لكم كفى‪..‬‬
‫فتناول نزار م�صح ًفا وفتحه على �سورة ال�صافات‪ ..‬و�أخذ احلاج‬
‫طاهر م�صح ًفا وفتحه على �سورة الدخان‪ ..‬وتناول ر�ؤوف م�صح ًفا‬
‫وفتحه على �سورة البقرة‪ ..‬وقلت �أنا �أنني �س�أرفع الأذان‪..‬‬
‫قال‪ :‬ح�س ًنا افتحوا نوافذ املنزل‪ ..‬و�أغلقوا النوافذ القريبة التي‬
‫تطل على جاركم يف الطابق الثالث‪ ..‬ال نريده �أن ي�سمعنا‪..‬‬
‫فرد نزار‪ :‬هل �شعرت ب�شيء؟‬
‫قال �سابق‪ :‬مبجرد �أن مررت ببابه انقب�ض �صدري‪ ..‬وقد �أنزلت‬
‫املق�شة التي يعلقها � ً‬
‫أر�ضا‪ ..‬و�ألقيت النعلني املعلقني على احلائط يف‬
‫املنور‪ ..‬فلي�ضيع وقته يف البحث عنهما �إن �شاء‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬افتحوا �أنوار ال�شقة كلها حتى �إذا ما انطف�أ النور يف هذه‬
‫كاف ي�ضيء لنا الغرفة فال نن�شغل ب�إ�شعال النور‪..‬‬
‫الغرفة‪ ..‬بقي لنا نور ٍ‬
‫و�أ�ضيئوا تلك ال�شموع ووزعوها يف البيت حتى �إذا انقطع النور كله‬
‫بقيت ال�شموع ف�إذا ما انطف�أت ف�إن النوافذ وال�شرفة املفتوحة �ست�ضيء‬
‫لنا من نور ال�شارع القوي‪ ..‬لن ن�سمح له �أن يغرقنا يف ظالم يتالعب‬
‫فيه بعقولنا وقلوبنا‪ ..‬فلنبد�أ ب�سم اهلل‪.‬‬
‫فتح ال�شيخ �سابق كي�س العظام املك�سورة الذي �أح�ضره وقام بن�شرها‬
‫على املن�ضدة املو�ضوعة �أمامه‪..‬‬

‫‪55‬‬
‫ثم قال‪ :‬هكذا ن�ستطيع ا�ستثارته‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬كيف؟‬
‫فقال‪� :‬أال تعلم �أن رزقهم على العظام وعلف دوابهم على الروث‪..‬‬
‫اجلن يتزاحمون على �أي عظم �أو روث لأن طعامهم ورزقهم عليه‪..‬‬
‫�إنهم يتغذون على الدماء والأبخرة‪ ..‬كذلك هناك �أنواع من البخور‬
‫يحبونها ت�ستخدم يف جذبهم وحت�ضريهم كالين�سون والكندر الذي‬
‫�سن�ستخدمه الآن‪..‬‬
‫ثم �أخرج قطعة رخام من احلقيبة املثرية للف�ضول وو�ضع فوقها‬
‫ثالث قطع من الفحم �سريع اال�شتعال وزجاجة �صغرية كزجاجة‬
‫قطرات العني بها مادة قابلة لال�شتعال و�صب نقطتني على الفحم ثم‬
‫�أ�شعله‪ ..‬ف�أم�سكت فيه النار حتى التهب و�أ�صبح جاهزًا‪..‬‬
‫قليل من البخور ثم و�ضعه على الفحم‪ ..‬فثارت رائحة‬ ‫�أخرج ً‬
‫البخور ودخانه ومعه رائحة ين�سون وا�ضحة‪ ..‬فتحنا النوافذ‪ ..‬و�أوقدنا‬
‫ال�شموع‪ ..‬ثم جل�سنا يف �صمت تام نراقب ال�شيخ �سابق وقد بد�أ يتمتم‬
‫بكلمات ال ن�سمعها وال ن�سمع �إال همهمته �أثناء �إلقائها‪ ..‬وقد �أغم�ض‬
‫عينيه‪ ..‬ثم بد�أ يهز ر�أ�سه ه ًزا خفي ًفا‪ ..‬وبدا ك�أنه يتكلم مع �أحد وي�سمع‬
‫منه ويرد بحركات و�أ�صوات من فمه املغلق �أحيا ًنا واملتحرك �أحيا ًنا‬
‫�أخرى‪..‬‬
‫ثم �سكن فج�أة‪ ..‬ك�أمنا �أ�سكته �شيء‪.‬‬
‫فانتبهنا‪..‬‬
‫‪56‬‬
‫فتوجه بر�أ�سه وعينيه املغم�ضتني ناحية اليمني ً‬
‫قليل �إىل الناحية‬
‫املطلة على احلمام‪ ..‬وك�أنه يرى من خلف عينيه املغم�ضتني ثم قال‪:‬‬
‫ها قد بد�أنا‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫مل نكن نفهم �شي ًئا �أو ن�سمع �شي ًئا حتى هذه اللحظة‪ ..‬حني بد�أنا‬
‫ن�شم رائحة حريق‪..‬‬
‫بدا �أن «�سابق» كان حم ًقا‪ ..‬و�أننا على و�شك هجوم حمتمل‪..‬‬
‫بد�أت رائحة ن�شادر تظهر وتطغى على رائحة الين�سون‪ ..‬بل تطغى‬
‫على رائحة احلريق‪ ..‬بد�أ �سابق الذي كانت عيناه ال تزاالن مغم�ضتني‬
‫يف رفع �صوته بالهمهمة‪ ..‬وبد�أنا ن�شعر بنوع من احلركة والأ�صوات غري‬
‫املحددة‪ ..‬حني انطف�أت جميع ال�شموع فج�أة‪ ..‬ففوجئنا بال�شيخ �سابق‬
‫يفتح عينيه ب�شدة ك�أنه يف حالة فزع‪ ..‬بدت عيناه غريبتني قا�سيتني‬
‫مت�سعتي احلدقة‪ ..‬كان يبدو ك�أنه �سيبط�ش ب�أحد ما حني قال ب�صوت‬
‫كالرعد‪ :‬يااا عثماااان‪ ...‬يااا عمررر‪� ...‬أم�سكا ذلك امللعون‪..‬‬
‫مل نكد نفكر فيما يحدث حتى ر�أينا العظام التي كانت على املن�ضدة‬
‫تتحرك وترجت ب�شدة‪ ..‬ثم فج�أة طارت عظمتان منهما يف الهواء ك�أنهما‬
‫�أُلقيتا بعنف‪� ..‬أ�صابت �إحداهما مبا�شرة زجاج باب احلمام فتحطم‬

‫‪57‬‬
‫و�أ�صابت الأخرى امل�صباح الذي ي�ضيء الغرفة ف�أظلم‪ ..‬وظل ال�ضوء‬
‫ي�أتينا من بقية غرف البيت‪..‬‬
‫فقال �سابق الذي ثبت ر�أ�سه جتاه احلمام يف زئري قوي‪ :‬ما ا�سمك‬
‫يا ملعون؟ ا�سمك و�إال �أحرقتك‪ ..‬تعلم �أين �أ�ستطيع‪ ..‬تعلم �أين �أملك‬
‫العهد‪ ..‬ولدي �سلطان امللوك‪.‬‬
‫�سكتت الأ�صوات كلها فج�أة‪ ..‬ثواين معدودة‪ ..‬ثم فج�أة ارجتفت‬
‫املن�ضدة �أمامنا ثم ارجتفت حمتويات الغرفة كلها ثم انطلقت من‬
‫داخل احلمام دوامة ك�أنها �إع�صار يتحرك على �شكل عمود طويل من‬
‫الأر�ض لل�سقف‪� ..‬أخذت تدور بعنف يف طرف الغرفة ناحية احلمام‪..‬‬
‫تظهر منها معامل وجه غري حمدد ثم حتركت ناحية ال�صالة يف اخلارج‬
‫وبد�أت تكرب ويتعاظم قطرها‪..‬‬
‫ثوان قليلة فجعلتها‬
‫دارت تلك الدوامة على كل حمتويات ال�صالة يف ٍ‬
‫كلها على الأر�ض يف فو�ضى ال ت�صدق‪ ..‬فتناول ال�شيخ �سابق كرباجه‬
‫الغريب وقام �إىل ال�صالة‪..‬‬
‫قمنا وراءه‪..‬‬
‫وقف �سابق �أمام الدوامة و�أ�شار بيده الي�سرى عليها ك�أنه يتحكم‬
‫فيها فوقفت �أمامه تدور يف مكانها‪..‬‬
‫ثم قال‪ :‬ثبتووووه‪..‬‬
‫رفع كرباجه ثم قال يف �صوت ي�صم الآذان‪ :‬يا خادم النار امللعون‪..‬‬
‫‪58‬‬
‫ثم نزل بالكرباج على تلك الدوامة ف�أ�صابها ك�أنها ج�سد من حلم‬
‫ودم‪..‬‬
‫‪� -‬أمل حتذرك امللكة الغوا�صة �أين قادم؟‬
‫و�ضرب �ضربة ثانية �أ�شد من الأوىل‪..‬‬
‫ثم رفع يده بالثالثة وقال‪� :‬ألعنك بلعنة امللك �سليمان‪ ..‬لأقيمك بها‬
‫يف العذاب املهني‪..‬‬
‫و�ضربه الثالثة فانطلقت �شرارة قوية‪..‬‬
‫َ َ َّ ُ َ ْ َ ّ ُ ْ َ ّ ُ ُ َ َ ْ ُ ُ ُ َ ٌ َ َ‬
‫ثم تال ب�صوت مرتفع }الل َّ ال إِهل إِال هو الح القيوم ال تأخذه ِسنة وال‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ ٌ َّ ُ َ‬
‫ات َوما ِف األ ْر ِض من ذا الِي يشفع عِندهُ إِال بِإِذن ِ ِه يعل ُم ما‬ ‫نوم ل ما ِف السماو ِ‬
‫َ ُ ُّ ُ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َْ َ َْ ْ َ َ َ َْ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ ْ ّ ْ ْ‬
‫ش ٍء ِمن عِل ِم ِه إِال بِما شاء َو ِسع ك ْر ِسيه‬ ‫ِيهم وما خلفهم وال يِيطون ب ِ‬ ‫بي أيد ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الس َم َاو ِات َواأل ْر َض َوال يَ ُؤ ُودهُ حِف ُظ ُه َما َو ُه َو ال َع ِ ُّل ال َع ِظ ُيم{‪.‬‬
‫َّ‬

‫عندها هاجت الدوامة بقوة و�أ�سرعت وكربت وتعاظمت ودارت‬


‫دورتني يف مكانها يف دائرة قطرها حوايل مرت ثم ارتفعت كلها �إىل‬
‫ال�سقف وهبطت يف ملح الب�صر بقوة على الأر�ض‪..‬‬
‫ولكن ما هبط من ال�سقف مل يكن دوامة مرة �أخرى‪..‬‬
‫مفزعا ك�أمنا ُقذف علينا من‬
‫بل هبط من ال�سقف كيا ًنا متج�سدً ا ً‬
‫اجلحيم‪..‬‬
‫‪hhh‬‬
‫‪59‬‬
‫كان الكيان الذي هبط من �سقف الغرفة مهي ًبا �إىل حد كادت قلوبنا‬
‫تتوقف منه رع ًبا‪ ..‬كان ماردًا عظي ًما ك�أمنا �أتى من �أ�ساطري الأولني‪..‬‬
‫م�سخا م�شوهً ا ي�شبه العقرب‪ ..‬لكنه لي�س عقر ًبا‪ ..‬فله ذراعان‬ ‫كان ً‬
‫يقف عليهما كذراعي تنني‪ ..‬لكنهما طويلتان جدً ا‪ ..‬تنتهيان ب�أربعة‬
‫�أ�صابع‪ ..‬وكانت له ثالثة ر�ؤو�س‪ ..‬كل ر�أ�س به قرون مدببة‪ ..‬ر�ؤو�س‬
‫ك�أنها من ال�صخور ال حلم فيها‪ ..‬يتدىل من ذقنه �شيء طويل ك�أنه‬
‫حلية ولكنها يف �شكلها ت�شبه �أرجل الطيور‪ ..‬وج�سده كج�سد العقرب‬
‫يتمدد �إىل اخللف من دون �أقدام يقف عليها‪ ..‬لينتهي بذنب كذنب‬
‫العقرب ملت ٍو ويتحرك فوق ر�أ�سه ذها ًبا و�إيا ًبا ك�أنه يهاجم به خ�صمه‪..‬‬
‫هبط من ال�سقف ووقف �أمام �سابق‪ ..‬ثم �صرخ �صرخة قوية ت�شبه‬
‫زئري الأ�سد‪ ..‬ك�أنه يهدد «�سابق» بالفتك به‪� ..‬صرخة طويلة �أ�صمت‬
‫�آذاننا وحطمت كل قطعة زجاج يف هذا املنزل‪ ..‬كان الزجاج يتطاير‬
‫علينا وحولنا وال ن�ستطيع �أن نتقيه‪..‬‬
‫وقف �سابق ثابتًا يف مكانه متحد ًيا وراف ًعا �صوته بقوة‪� :‬سيف اليمني‬
‫يا عمررر‪..‬‬
‫ف�شعرنا ب�شيء ي�ضرب ذلك املارد من جانبه وهو يتزحزح من‬
‫ال�ضربة وي�صرخ‪..‬‬
‫ثم ب�صوت الرعد قال �سابق‪� :‬سيف الي�سار يا عثماااان‪..‬‬
‫فر�أينا املارد ي�صرخ ب�شدة و�أخذ يتلوى ك�أمنا يقاوم هذين‬
‫ال�شخ�صني اللذين ال نراهما‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫فقال �سابق بعنف وق�سوة‪ :‬الآااااان‪..‬‬
‫ا�ستغرقنا ثواين حتى ا�ستوعبنا �أن الأمر كان موج ًها لنا نحن هذه‬
‫املرة كي نبد�أ يف القراءة املتفق عليها‪ ..‬فبد�أتُ �أنا ب�صوت �ضعيف ثم‬
‫ت�شجعت فرفعت الأذان وما �إن قلت «اهلل �أكرب اهلل �أكرب» حتى ن�سي‬
‫يل بوجوهه الثالثة وعيونه ال�ست‪ ..‬وهو‬ ‫ذلك املارد ما يقا�سيه ونظر �إ ّ‬
‫علي‪..‬‬
‫يز�أر ك�أمنا يتوعدين بنظرة كدت �أ�سقط منها مغ�ش ًيا ّ‬
‫عندها بد�أ �صوت نزار يرتفع وهو يقر�أ �سورة ال�صافات كما ظهر‬
‫�صوت احلاج طاهر الذي كان �صوته جهور ًيا ب�سورة الدخان‪ ..‬وو�صل‬
‫�صوت ر�ؤوف ب�سورة البقرة‪ ..‬ف�أثار ذلك غ�ضب املارد فنظر �إىل �أعلى‬
‫وهو يز�أر ب�شدة‪ ..‬فعلها مرتني ثم نظر �إلينا وقد ات�سعت عيونه وانتفخ‬
‫نف�سا عمي ًقا ثم �ضرب بيديه ب�شدة على‬
‫وجهه‪ ..‬ثم بدا ك�أنه ي�أخذ ً‬
‫الأر�ض فعاد �إىل �شكل الدوامة و�أخذ يدور بجنون يف مكانه ثم انطلق‬
‫خارجا من النافذة‪..‬‬
‫ً‬
‫‪hhh‬‬

‫مل منلك �إال �أن نتوقف عن القراءة لنلتقط �أنفا�سنا‪ ..‬كما توقف‬
‫�سابق وهو يلهث ً‬
‫قائل‪ :‬ملاذا توقفتم؟ �أكملوا للنهاية‪..‬‬
‫فما كدنا نعود حتى �سمعنا �صوت راندا ت�ضحك �ضحكة عالية وهي‬
‫م�سرعا‪ ..‬فنطقت راندا ب�صوت �أج�ش‬
‫ً‬ ‫تنظر �إىل �سابق‪ ..‬الذي جاء‬

‫‪61‬‬
‫متعدد النربات ك�أن ر�ؤو�س املارد الثالثة تتكلم م ًعا‪ :‬هل تظن �أنك‬
‫انتهيت مني؟ �س�أحرقها و�أحرق عائلتها و�أحرق البيت عليكم‪.‬‬
‫ثم دفعت «ر�ؤوف» الذي كان قد �أم�سك ذراعها متح ًريا دفعة قوية‬
‫ف�سقط على املقعد بجانبها‪ ..‬يف اللحظة التي و�صل فيها �سابق �إليها‬
‫فحاولت �أن مت�سك ر�أ�سه بكلتا يديها‪ ..‬ف�أم�سك هو يديها بيديه و�أخذ‬
‫بلي‬
‫يقاومها حتى مد ذراعيها بجانبها واقرتب وجهه من وجهها ثم قام ّ‬
‫ذراعيها خلف ظهرها وقال‪ :‬و�أنا هنا لأنهي حياتك اللعينة البائ�سة‪..‬‬
‫�أما عرفت �أين �سلطان الكلمة‪� ..‬س�أر�سلك �إىل اجلحيم‪..‬‬
‫عال‪ :‬يا عمررر‪ ..‬يا �أبا بكر‪ ..‬يا عثمااان‪ ..‬يا‬
‫ثم نادى ب�صوت ٍ‬
‫علي‪� ..‬سلطوا �سيوف اللعنة على ر�ؤو�س ال�شيطان وذنبه‪..‬‬
‫�صرخت راندا بذلك ال�صوت الذي ال �أن�ساه �أبدً ا‪ ..‬ثم خرج من‬
‫فمها �سائل رغوي غريب‪..‬‬
‫فقال �سابق بعنف‪� :‬أخربين ا�سمك و�إال �أذقتك عذاب احلريق‪.‬‬
‫رد املارد على ل�سان راندا‪ :‬ال �ش�أن لك با�سمي‪ ..‬ه�ؤالء ملكي‬
‫فاتركهم يل‪..‬‬
‫فرد �سابق‪ :‬ال تراوغ �أيها امللعون و�أخربين ا�سمك‪ ..‬ح�س ًنا ال تريد �أن‬
‫تنطق‪� ..‬أنت اجلاين على نف�سك‪..‬‬
‫ثم نظر �سابق �إىل �أعلى ونادى‪ :‬يا ملكة البحرية الغوا�صة‪ ..‬يا ملكة‬
‫قبيلة الـ‪...‬‬
‫‪62‬‬
‫قاطعه ال�صوت امللعون ً‬
‫قائل‪ :‬ال ال‪� ..‬س�أتكلم‪� ..‬س�أتكلم‪ ..‬ا�سمي‬
‫نرجال‪.‬‬
‫فقال �سابق‪ :‬هل لك ديانة؟‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪� -‬إذن يا نرجال‪� ..‬أ�سلم وا�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممدً ا ر�سول‬
‫اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬بل �أ�سلم و�أتركك‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬لآخر مرة‪� ..‬أ�سلم هلل خالقك و�سرتحل يف �سالم‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪� -‬إذن ُاعذرنا فيك‪ ..‬كافر حمارب ٍ‬
‫معتد‪� ..‬أيها ال�شيطان نرجال‬
‫با�سم اهلل اخرج منها و�إال �أحرقتك‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬ال‪.‬‬
‫ف�صرخ �سابق‪ :‬الآااان‪.‬‬
‫فبد�أنا يف تالوة القر�آن والأذان‪..‬‬
‫فقاطعنا ال�صوت‪ :‬ح�س ًنا �س�أخرج ولكن اجعل ُخدام امللكة يرتكوين‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫قال �سابق‪ :‬تعلم �أنك لن تخدعني و�سي�أتون بك من حتت الأر�ض �أو‬
‫باطن البحر‪.‬‬
‫‪� -‬أعدك ب�أين �س�أخرج‪.‬‬
‫‪� -‬أنا ال �آخذ وعدً ا من �أمثالك‪ ..‬بل �سترتك عالمة‪.‬‬
‫‪� -‬س�أترك عالمة يف �صدرها‪.‬‬
‫فهزه �سابق هزة قوية وقال‪ :‬يا ملعون �ستخرج وترتك عالمة يف‬
‫مكان ال ي�شوهها‪� ..‬سترتك عالمة يف املكان الذي �أحدده‪.‬‬
‫ثم دفع راندا على الكر�سي‪ ..‬فبدت ك�أنها ما زالت مقيدة‪ ..‬ثم‬
‫تناول من حقيبته ب�سرعة �آلة حادة ت�شبه امل�سمار‪ ..‬ثم �أم�سك بقدمها‬
‫و�ضرب باطن �إ�صبع قدمها الإبهام بالآلة �ضربة قوية وقال‪ :‬اخرج من‬
‫هنا‪..‬‬
‫ف�صرخ ال�صوت الأج�ش �صرخة عنيفة طويلة كادت حتطم‬
‫اجلدران‪ ..‬و�إذا بوجه راندا يت�شنج ويتحول لونه �إىل الأزرق‪ ..‬ك�أنها‬
‫ً‬
‫وعر�ضا‪ ..‬و�أخذ ج�سدها يت�شنج ب�شدة‬ ‫تختنق‪ ..‬وت�شقق وجهها ً‬
‫طول‬
‫حتى ظننا �أن ظهرها �سينك�سر‪..‬‬
‫�أم�سك بها ر�ؤوف و�سابق وقال لنا‪ :‬الآااان‪..‬‬
‫فبد�أنا القراءة والأذان بقوة وبغري توقف ووجهنا �أ�صواتنا جتاه‬
‫راندا التي كانت ال تزال ت�صرخ‪ ..‬ففوجئنا ب�صوتها يتقطع ك�أنها‬
‫مفزعا‪..‬‬
‫ً‬ ‫�ستتقي�أ‪ ..‬وعينها تفتح على ات�ساعها‪ ..‬ك�أنها ترى منظ ًرا‬
‫‪64‬‬
‫ف�ضرب �سابق �إ�صبعها مرة �أخرى ب�إبرته‪ ..‬وقال‪ :‬ال تقاوم �أيها امللعون‪..‬‬
‫اخرج الآن‪..‬‬
‫فرد على ل�سانها‪ :‬بل‪� ..‬س‪� ..‬أق‪ ..‬تل‪ ..‬ها‪..‬‬
‫وحتد وقوة‪ ..‬وكانت راندا على و�شك املوت‬
‫قال هذه الكلمة ب�إ�صرار ٍ‬
‫فعل‪ ..‬تختنق وتت�شنج بعنف‪ ..‬فانفجر ر�ؤوف بالبكاء وقال‪ :‬يارب‬ ‫ً‬
‫انقذها وانقذنا‪..‬‬
‫واختنق �صوت احلاج طاهر والدها ونزل على ر�أ�س ابنته يقبلها‬
‫ويبكي‪..‬‬
‫بينما خر نزار عليها مم�س ًكا بها ب�شدة ك�أمنا يحاول �أن ينتزعها‬
‫بي�أ�س من يد املارد‪..‬‬
‫نظرتُ �إىل �سابق الذي اغرورقت عيناه بالدموع و�شعر بالعجز‬
‫التام‪ ..‬وظل يردد بعجز مرا ًرا‪ :‬اللهم ال ملج�أ وال منجى منك �إال �إليك‪..‬‬
‫و وقفت �أنا باك ًيا‪� ..‬أردد بكل ما �أوتيت من قوة ويدي على ر�أ�سها‪:‬‬
‫�أعوذ باهلل العظيم ووجهه الكرمي و�سلطانه القدمي من ال�شيطان‬
‫الرجيم‪..‬‬
‫ر ّددتها قرابة الع�شر مرات‪..‬‬
‫وبينما الي�أ�س ي�سدل علينا �سرته الثقيلة‪ ..‬وارتفعت �أ�صواتنا‬
‫بالنحيب‪ ..‬و�أدركنا �أننا فقدنا راندا �إىل الأبد‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫�إذا ب�صوت �أذان الفجر يخرتق البيت الذي كان مفتوح النوافذ‪:‬‬
‫(اهلل �أكرب‪ ..‬اهلل �أكرب)‪..‬‬
‫(اهلل �أكرب‪ ..‬اهلل �أكرب)‪..‬‬
‫كان ال�صوت يدخل من كل مكان‪ ..‬ثالثة م�ساجد حول البيت ك�أمنا‬
‫تباعا‬
‫تزاحمت �أ�صواتهم واحدً ا تلو الآخر كما لو كانت مددًا ي�أتي �إلينا ً‬
‫من ال�سماء‪..‬‬
‫فاهتزت الأر�ض ب�شدة من حتت �أقدامنا‪ ..‬و�إذا ب�سيل من دماء‬
‫�سوداء ثقيلة تنفجر من �إ�صبعها الذي �ضربه �سابق‪ ..‬و�إذا ب�صوت‬
‫قعقعة يزلزل البناية كلها‪ ..‬وي�شرخ اجلدران‪ ..‬و�إذا بالدوامة ترتفع‬
‫فوق راندا وتدور بجنون يف �سقف البيت ثم جاء �صوت القعقعة مرة‬
‫�أخرى ك�أمنا �ستنفجر اجلدران وما �إن و�صل �إىل النافذة حتى �سمعنا‬
‫�صوت انفجار وحتولت الدوامة �إىل كرات عديدة من النار انطلقت‬
‫للخارج واختفت يف ال�سماء‪..‬‬
‫نظرنا �إىل راندا فوجدناها تفقد الوعي‪� ..‬أو هكذا بدت لنا‪..‬‬
‫وي�سرتخي ج�سدها الذي كان قد اعت�صرته الت�شنجات‪ ..‬فهد�أت‬
‫�أنفا�سنا وبد�أنا نخف�ض �أ�صواتنا‪ ..‬فلم نكن نعرف ما الذي يتوجب‬
‫علينا فعله‪ ..‬فقام �سابق �سري ًعا مب�سح الدم عن قدمها بقطعة قما�ش‪..‬‬
‫فوجدنا ثق ًبا كب ًريا حمفو ًرا يف �إ�صبعها كالفنجان‪..‬‬
‫فقال �سابق وهو يتنف�س ال�صعداء‪ :‬ح�س ًنا هذه هي العالمة‪..‬‬
‫‪hhh‬‬
‫‪66‬‬
‫�صباحا ونحن ما زلنا نحاول �أن نلملم‬
‫كانت ال�ساعة تدق ال�ساد�سة ً‬
‫الفو�ضى التي خلفتها املعركة ال�ضارية حتى الفجر‪ ..‬عندما خرجت‬
‫طويل‪ ..‬ن�صحها �سابق ب�أن تذهب �إىل‬‫نوما ً‬ ‫راندا �إلينا بعد �أن نامت ً‬
‫البحر كل يوم فج ًرا ملدة ثالثة �أيام‪ ..‬فهذه �ساعة ُي�سبح فيها البحر‬
‫ويغت�سل‪ ..‬ويطرد كل ما به من خملفات �أو قاذورات على ال�شاطئ‪..‬‬
‫ن�صحها �أن تذهب وتغط�س كل يوم ‪ ٢١‬مرة‪ ..‬كما ن�صحنا �سابق ب�أن‬
‫نقر�أ �سورة البقرة و�آل عمران �أكرث من مرة يف البيت‪ ..‬و�أن نخرج‬
‫�أي عظام تبقى من الطعام‪ ..‬وال نبيتها يف بيوتنا‪� ..‬أخرج من حقيبته‬
‫قليل وقال عطروا بها وجوهكم‬ ‫زجاجة م�سك ودهن لكل منا على يده ً‬
‫و�أيديكم‪ ..‬فهذا امل�سك طاهر وتهرب من رائحته ال�شياطني‪ ..‬واطم�أن‬
‫على اجلميع‪ ..‬وطلب منهم �أن يت�صلوا به بعد �أيام ليطمئن على‬
‫الكدمات الزرقاء هل اختفت �أم ال‪ ..‬وودعنا جمي ًعا ثم رحل‪..‬‬
‫نزلت معه لأو�صله و�أحاول �أن �أ�س�أله على �أجر ما فعل يف تلك‬
‫الليلة‪ ..‬فقال �إنه ال ي�أخذ �أج ًرا واملهم �أن يدعو له النا�س بظهر الغيب‬
‫عندما ي�شفيهم اهلل‪ ..‬و�أو�صاين �أن �أكلمه كلما ا�ستطعت‪ ..‬وعدت �إىل‬
‫بيت راندا �سري ًعا‪..‬‬
‫وعندما و�صلت �إىل الطابق الثاين �سمعت �صوت باب يف الطابق‬
‫الثالث ُيغلق‪ ..‬يبدو �أن �صاحبنا �شعر مبا حدث‪ ..‬وال بد �أنه كان ي�سرتق‬
‫قليل �أمام بابه‪ ..‬وقفت و�شعرت �أنه يقف‬‫ال�سمع‪ ..‬فقررت �أن �أقف ً‬
‫خلف الباب يراقبني‪ ..‬فاق�شعر ج�سدي من ذلك الإح�سا�س‪ ..‬ولكن‬
‫�إ�صراري على التحدي �سرعان ما تبدد عندما اكت�شفت �أين �أقف على‬

‫‪67‬‬
‫بقعة ماء على الأر�ض‪ ..‬يبدو �أن الرجل كان مي�سح �أمام باب بيته ولي�س‬
‫هناك ما يف ر�أ�سي من �أوهام‪..‬‬
‫�صعدت �إىل البيت و�أكملنا ترتيب املنزل حتى �أعدناه �إىل �سريته‬
‫الأوىل‪� ..‬أعدت لنا راندا الإفطار‪ ..‬و�أعطى ر�ؤوف لكل منا زجاجة‬
‫ماء بزعفران‪ ..‬مقروء عليها �آيات من القر�آن‪ ..‬لن�شرب منها ونغ�سل‬
‫وجوهنا‪ ..‬ثم جل�س على مقعده ك�أنه يتنف�س ال�صعداء‪ ..‬كنت �أ�شعر به‬
‫ينظر �إلينا يف خجل مما حل بهم �أمامنا‪ ..‬وكانت راندا ت�شعر به‪..‬‬
‫فجاءت بقطعة قما�ش و�صبت عليها من زجاجة ماء الزعفران و�أخذت‬
‫مت�سح ر�أ�سه وتقبلها‪..‬‬
‫وقالت له‪ :‬هون عليك‪ ..‬لقد انتهى كل �شيء‪ ..‬كل �شيء �سيكون على‬
‫ما يرام‪..‬‬
‫اطم�أننت عليهم و�سلمت على اجلميع‪ ..‬ورحلت‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫أياما بعدها ال تفارق تفكريي تلك الليلة‪ ..‬وال �أ�ستطيع �أن‬


‫لبثت � ً‬
‫ليل‪ ..‬مرت فرتة لي�ست بالقليلة لتهد�أ يف نف�سي ذكرى ما حدث‪..‬‬ ‫�أغفو ً‬
‫ويعود �إ ّ‬
‫يل النوم‪ ..‬ولكني مل �أن�سها‪ ..‬م�ضت �شهور طويلة على تلك الليلة‬
‫البعيدة‪ ..‬وما زلت �أذكرها ك�أمنا كانت بالأم�س‪ ..‬كنت يومها على‬
‫‪68‬‬
‫موعد مل �أزل �أذكره‪ ..‬حتوم �أ�شباحه يف ذاكرتي كل يوم‪ ..‬واليوم �أدون‬
‫ذكراه‪..‬‬
‫ولكني مل �أكن وقتها �أعرف ما ينتظرين‪ ..‬فتلك الليلة مل تكن �سوى‬
‫البداية فقط‪.‬‬

‫‪h‬‬

‫‪69‬‬
70
‫)‪(4‬‬

‫بعد عدة �أ�سابيع من تلك الليلة الطويلة يف بيت راندا كان يومي‬
‫الأول يف ال�سنة النهائية باجلامعة‪ ..‬كانت املدينة اجلامعية هي امللج�أ‬
‫الطبيعي لأمثايل ممن يغرتب عن مدينته من �أجل اجلامعة‪ ..‬وكانت‬
‫هذه هي املرة الأوىل يل التي �ألتحق فيها باملدينة اجلامعية لأعفي‬
‫نف�سي من ال�سفر يوم ًيا فهذا عامي الأخري باجلامعة وال يجب �أن يكون‬
‫هناك �أية معوقات‪..‬‬
‫دخلت �إىل �ش�ؤون الطلبة باملدينة اجلامعية‪ ..‬كانت وجوه املوظفني‬
‫ب�شو�شة‪ً ..‬‬
‫رجال ون�سا ًء‪ ..‬معاملة لطيفة‪ ..‬بها الكثري من االحرتام كما‬
‫كان بها الكثري من الر�أفة باملغرتبني‪ ..‬كنت مت�أخ ًرا يف الدخول للمدينة‬
‫ب�سبب طول الإجراءات‪ ..‬حتى تقل�ص عدد الغرف يف �أبنيتها‪ ..‬ومل يعد‬
‫يتوفر غرف �شاغرة ب�شكل كامل‪ ..‬بل يتوفر �أماكن مفردة �شاغرة يف‬
‫بع�ض الغرف والتي كانت �سعتها ثالثة �أفراد‪ ..‬قابلت �صديقني يل‬
‫‪71‬‬
‫�أحدهما كرمي وهو �صديق قدمي والآخر �صديق حديث يدعى طارق‬
‫تعرفنا عليه يف الكلية‪ ..‬كان ً‬
‫زميل يف نف�س الدفعة‪ ..‬جمعتنا ال�صدفة‬
‫يف الكلية ثم يف الت�أخري على ال�سكن يف املدينة اجلامعية فاتفقنا على‬
‫�أن ن�سكن ثالثتنا م ًعا حتى ال يتفرق كل منا يف غرفة مع �أ�شخا�ص ال‬
‫يعرفهم �أو ال ي�سرتيح �إليهم‪.‬‬
‫ذهبنا مل�س�ؤول الت�سكني‪ ..‬ففرقنا على غرف خمتلفة‪ ..‬فقلنا له ما‬
‫نريد‪.‬‬
‫فقال‪ :‬لي�س لدينا غرف لت�سكنوا فيها م ًعا‪ ..‬مل يبق �إال �أماكن‬
‫متفرقة يف غرف عديدة‪ ..‬ال جمال لت�سكنوا م ًعا‪..‬‬
‫حاولنا كث ًريا‪ ..‬ولكن ال فائدة‪ ..‬ا�ست�سلمنا للأمر الواقع وقلنا قدر‬
‫اهلل وما �شاء فعل‪� ..‬أخذنا جنر �أقدامنا على الأر�ض ونحن نخرج وعلى‬
‫عال‪:‬‬
‫كتف كل منا حمل من الهموم ب�سبب ما حدث‪ ..‬حني نادانا �صوت ٍ‬
‫متاما‪..‬‬
‫هناك غرفة واحدة فقط يف املدينة اجلامعية خالية ً‬
‫التفتنا بفرحة و�أمل‪ ..‬ف�إذا باملدير والذي مل يكن تفوه بكلمة منذ‬
‫دخلنا‪ ..‬ذهبنا له فرحني‪ ..‬قلت له‪� :‬أين هي؟ �سن�أخذها‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬اذهبوا ف�ألقوا عليها نظرة � ًأول‪ ..‬ولو وافقتم �ستكتبون‬
‫موافقة خطية منكم على �سكناها‪ ..‬عندها ن�سكنكم فيها‪..‬‬
‫فقال طارق‪ :‬نحن موافقون بدون معاينة‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال ميكن‪ ..‬يجب �أن تعاينوها � ًأول‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫فقلت‪ :‬ح�س ًنا �أين هي؟‬
‫قال‪ :‬ا�صعدوا مبنى (د) وا�س�ألوا عن امل�شرف الأ�ستاذ لطفي‪..‬‬
‫و�أخربوه ما قلته لكم لي�سمح لكم مبعاينتها‪..‬‬
‫فقلنا‪ :‬ح�س ًنا �سنذهب ون�أتي يف ملح الب�صر‪..‬‬
‫خرجنا م�سرعني نحو املبنى (د)‪ ..‬ونحن يف منت�صف الطريق �إذا‬
‫به ينادينا‪.‬‬
‫املدير‪ :‬يا �شباب ن�سيتم �أن ت�أخذوا رقم الغرفة‪� ..‬إنها الغرفة ‪٤٤٩‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كنا نت�سابق يف الو�صول للأ�ستاذ لطفي‪ ..‬هذا امل�شرف امل�ستقبلي‪..‬‬


‫دخلنا مكتبه‪ ..‬ف�إذا به رجل �أ�سمر ذو �شارب كبري معقوف اجلانبني‬
‫لأ�سفل‪ ..‬حلية نابتة مهملة‪� ..‬شعر �أ�شيب غري منظم‪ ..‬مالب�س متوا�ضعة‬
‫غري مهندمة باملرة‪ ..‬بالكاد ن�ستطيع �أن نناديه بـ»�أ�ستاذ لطفي» فهو‬
‫يبدو �سجا ًنا �أكرث منه م�شر ًفا‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬عندك غرفة �شاغرة ونريد ثالثتنا �أن ن�سكنها‪.‬‬
‫قال بدون حتى �أن يرفع نظره �إ ّ‬
‫يل‪ :‬ال لي�س عندي غرف‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬بل يوجد‪� ..‬إنها الغرفة ‪٤٤٩‬‬

‫‪73‬‬
‫فنظر �إ ّ‬
‫يل بتعجب وقال‪ :‬وما �أدراك؟‬
‫‪� -‬أخربنا عنها املدير‪.‬‬
‫قال ب�ضيق‪ :‬ح�س ًنا �أين �أوراق ال�سكن؟‬
‫�أثارت طريقته و�إنكاره الريبة يف نف�سي ونفو�س �أ�صدقائي‪..‬‬
‫فرتاجعنا خطوة للوراء‪..‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬يجب �أن نراها � ًأول ثم نوافق �أو نرف�ض‪.‬‬
‫فقال‪ :‬نحن ل�سنا يف فندق‪� ..‬أنا لي�س عندي غرف‪.‬‬
‫قلت له بنربة تهديد خفية‪ :‬ح�س ًنا �س�أقول للمدير �أنك امتنعت عن‬
‫تنفيذ كالمه الذي �أر�سلنا به �إليك و�أنه لي�س لديك غرف للأ�سف‪..‬‬
‫�سالم عليكم‪.‬‬
‫فقال ب�ضيق �شديد جعل �صوته يرتفع‪ :‬انتظر‪� ..‬س�أريكم �إياها‪..‬‬
‫ذهبنا �إىل الغرفة وفتحها لنا‪ ..‬لرنى ما مل نكن نتوقعه‪..‬‬
‫كانت الغرفة مهملة ب�شكل مل ي�سبق له مثيل‪� ..‬سرر حمطمة وبال‬
‫مراتب‪ ..‬جدار ن�صفه زجاج‪ ..‬ك�أنه كان �شرفة ومت غلقها بالزجاج‬
‫ل�صنع غرفة‪ ..‬وباب زجاجي �آخر يطل على �شرفة خارجية‪ ..‬وعلى‬
‫ر�سوما غريبة‪� ..‬صورة جلمجمة يخرج منها �شعر‬‫ً‬ ‫احلائط وجدنا‬
‫كثيف‪� ..‬صورة لثعبان يقف مهاج ًما ل�شخ�ص‪ ..‬كلمات غريبة مثل‬
‫�شك) و(ط ْهط ْهطهْ) ور�سوم وجداول مملوءة بالأرقام‪..‬‬‫(�ش ْك�ش ْك ْ‬

‫‪74‬‬
‫ويف نهاية �أحد اجلدران وجدنا �آية الكر�سي مكتوبة بالطبا�شري على‬
‫حائط يبدو مغطى بطبقة من الطالء ك�أنها ت�سرت �شي ًئا ما‪ ..‬الباب غري‬
‫من�ضبط وينخلع ب�سهولة وامل�صباح يف ال�سقف ال ي�ستقر م�ضي ًئا لفرتة‬
‫طويلة‪ ..‬ولي�س هناك �سوى ن�سخة واحدة للمفتاح‪..‬‬
‫بع�ض وكان ل�سان حالنا يقول ما هذه‬ ‫وقفنا ننظر بع�ضنا �إىل ٍ‬
‫اخلرابة‪ ..‬ولكننا يف النهاية مل يكن �أمامنا �سوى �أن نقبل‪ ..‬فاالحتماالت‬
‫متاما‪ ..‬وافقنا بدون اقتناع‪ ..‬و�سك ّنا الغرفة خالل‬
‫الأخرى مرفو�ضة ً‬
‫ع�شر دقائق‪ ..‬لتبد�أ بنا رحلة مل نتوقع �أن نعي�ش �أحداثها قط‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫منذ �أن دخلنا تلك الغرفة ونحن ن�شعر �أن هناك �شي ًئا ما خاط ًئا‬
‫بخ�صو�صها‪ ..‬عندما �س�ألنا عن القبلة يف الغرفة عرفنا �أنها يف نف�س‬
‫االجتاه الذي وجدنا عليه �آية الكر�سي على اجلدار‪ ..‬مما �أثار االنتباه‪..‬‬
‫هل يكتب النا�س على احلوائط يف البيوت واملدن اجلامعية والفنادق‬
‫�آية قر�آنية يف اجتاه القبلة؟‬
‫لي�س هذا بال�شيء امل�ألوف ال يف بيوت النا�س وال يف املدن اجلامعية‪..‬‬
‫ولكن ال ب�أ�س‪ ..‬لي�ست هذه امل�شكلة‪ ..‬امل�شكلة احلقيقية الآن يف ذلك‬
‫امل�صباح الذي ال ي�ستقر �أبدً ا‪ ..‬يجب �أن نت�صرف ب�ش�أنه‪..‬‬
‫‪75‬‬
‫قام طارق بو�ضع عود ثقاب ل ُيحكم به و�ضع امل�صباح فال يهتز‪..‬‬
‫وهكذا ُحلت امل�شكلة م�ؤقتًا‪..‬‬
‫رتبنا احلجرة وجهزنا ُف ُر�شنا‪ ..‬وجل�س كل منا حتت غطائه يف‬
‫الفرا�ش ثم �أخذنا نت�سامر ً‬
‫قليل قبل النوم‪ ..‬فتحنا �أكرث من مو�ضوع‪..‬‬
‫يل دائ ًما و�أبرزها يف قراءاتي واطالعي هو‬ ‫كان �أبرزها و�أحبها �إ ّ‬
‫قليل‪ ..‬ن�صف �ساعة مرت‬‫مو�ضوع اجلن وال�شياطني وال�سحر‪ ..‬تكلمنا ً‬
‫علينا ونحن نتكلم حول هذا املو�ضوع‪ ..‬بد�أ م�صباح الغرفة الرئي�سي‬
‫والذي كان قد مت �إ�صالحه منذ قليل ينطفئ وي�ضيء مرة �أخرى‪ ..‬كان‬
‫من املمكن �أن نعترب الأمر ً‬
‫ف�شل من طارق يف �إ�صالح امل�صباح‪ ..‬ولكن‬
‫نظ ًرا لأننا كنا للتو نتكلم عن اجلن والأالعيب ال�شيطانية‪ ..‬فقد ت�سلل‬
‫التوتر والقلق �إىل قلوبنا فو ًرا‪..‬‬
‫قلت لطارق وكرمي‪ :‬ما ر�أيكما لننتهي من ق�صة تالعب ذلك‬
‫امل�صباح فلنطفئ الكهرباء حتى ال�صباح؟ ويف كل الأحوال �سوف ننام‬
‫ولن نحتاج النور يف �شيء‪..‬‬
‫قال يل طارق‪ :‬ح�س ًنا �أطفئه �أنت‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬بل �أنت‪.‬‬
‫فقال طارق‪� :‬إذن يطفئه كرمي‪.‬‬
‫فرد كرمي‪� :‬أنا لن �أحترك من مكاين‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫كان كل منا يحاول �أن يجد يف رفيقيه ال�شجاعة التي يحاول هو �أن‬
‫ي�صطنعها �أو يتظاهر بها حتى يقل التوتر ً‬
‫قليل‪ ..‬ولكن يف احلقيقة كنا‬
‫على درجة من التوتر و�صلت حلد اخلوف‪..‬‬
‫وليغط كل منا ر�أ�سه حتى ال يوتره‬
‫ِ‬ ‫اتفقنا �أن ننام والنور مفتوح‬
‫تالعب النور �أكرث‪ ..‬نحن يف ال�شتاء واجلو بارد ونريد �أن ننعم بليلة‬
‫دافئة حتى ال�صباح‪� ..‬شددت الغطاء على ر�أ�سي كذلك فعل طارق‬
‫وكرمي ومننا‪..‬‬
‫مرت ع�شر دقائق كنت �أفكر يف ما �س�أفعله يف الغد يف الكلية وما‬
‫�س�أ�شرتيه لزينة الغرفة حني جاء �أحد الرفيقني يوقظني‪ ..‬و�ضع يده‬
‫�ضجيجا للثالث‪..‬‬
‫ً‬ ‫على �صدري و�أخذ يوخزين وخزًا بيده كيال ي�صنع‬
‫فقلت له‪ :‬اتركني لن �أقوم �س�أنام‪..‬‬
‫ا�ستمر يوخزين بل �أ�صبح وخزه �أ�شد تتاب ًعا و�أملًا‪ُ ..‬‬
‫فخيل �إ ّ‬
‫يل �أنه‬
‫خائف ويريد �إيقاظي لأطفئ النور‪ ..‬و�أ�صررت على عدم القيام‪ ..‬مل‬
‫يتوقف الوخز فهممت �أن �أقوم لأم�سك الو�سادة و�أ�ضربه بها‪..‬‬
‫فقمت فو ًرا و�أنا �أقول‪ :‬يا �أخي اتركني و�ش�أ‪.....‬‬
‫مل �أجد �أحدً ا بجانبي �أو حويل‪ ..‬نظرت �إىل طارق ف�إذا به م�ستقر‬
‫على �سريره و�إذا بكرمي يغط يف نوم عميق‪..‬‬

‫‪77‬‬
‫كانا م�ستقرين بال حراك وال �أثر يدل على �أن �أحدً ا منهما كان‬
‫بجانبي وقفز على �سريره‪ ..‬ففزعت وناديت عليهما بهدوء وك�أين‬
‫�أخ�شى �أن ي�سمعني �أحد‪..‬‬
‫قام طارق الذي كان قد غط يف النوم ً‬
‫فعل‪ ..‬بينما كان كرمي غار ًقا‬
‫يف النوم حتى �إنه مل ي�سمعني � ً‬
‫أ�صل‪ ..‬ظللنا ننادي عليه �أنا وطارق‬
‫بعدما ق�ص�صت عليه ما حدث‪ ..‬قام كرمي مت�ضج ًرا منا وقال‪ :‬ماذا‬
‫تريدان؟‬
‫قلت‪ :‬لقد �شعرت بوجود �شيء غري ب�شري يف هذه الغرفة‪..‬‬
‫انتبه كرمي ونظر �إىل طارق الذي كان مبت�س ًما ابت�سامة ا�ست�سالم‬
‫وعقل من �أن �أدعي �أو �أتوهم �شي ًئا‬
‫فقد كان على يقني �أين �أكرث وع ًيا ً‬
‫مل يحدث‪ ..‬ظل كل منا على فرا�شه ال نتحرك‪ ..‬ك�أننا نخ�شى من و�ضع‬
‫�أقدامنا على الأر�ض‪ ..‬اتفقنا �أن نقر�أ القر�آن وننام يف هدوء و�ضوء‬
‫الغرفة مفتوح‪ ..‬وفعلنا‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كان �صديقي اجلديد طارق �شا ًبا ً‬


‫ب�سيطا مل ت�سبق له خربة يف تلك‬
‫الأمور وكانت تلك هي املرة الأوىل التي يتعر�ض فيها لن�شاطات غريبة‬
‫من هذا النوع‪ ..‬بينما كان كرمي �صدي ًقا قد ًميا �أعرفه منذ املدر�سة‬
‫حافظا للقر�آن‪ ..‬وكانت له جتربة �سابقة ولكن مع‬ ‫ً‬ ‫الثانوية‪ ..‬كان‬
‫‪78‬‬
‫كائنات غري �شيطانية فقد كان يرى بع�ض الكيانات ال�شفافة البي�ضاء‬
‫ت�شبه الدخان‪ ..‬على هيئة رجال يقفون يف بيته وي�صلون من وقت‬
‫لآخر‪ ..‬ومل يكن يرى منهم �أي �شيء ي�ؤذيه بل مل يكن ي�شعر بخري �إذا‬
‫ما اختفوا عن �أنظاره فرتة‪ ..‬كان الأمر بالن�سبة يل لي�س فيه م�شكلة‬
‫كبرية فقد كنت بطبعي �أحب هذه الإثارة وت�ست�أن�س بها نف�سي ما دمت‬
‫ال �أت�أذى‪ ..‬كما كانت خربتي �سابقة مع ر�ؤوف وراندا‪..‬‬
‫يف اليوم التايل بدا ك�أن ثالثتنا نتجنب احلديث حول املو�ضوع‪..‬‬
‫ذهبنا �إىل الكلية وعدنا �إىل غرفتنا يف هدوء‪ ..‬مل يكن عندنا الرغبة‬
‫وظالما‬
‫ً‬ ‫يف تذكر ما حدث بالأم�س‪ ..‬ما زال نور الغرفة يتذبذب �ضو ًءا‬
‫ولكن الأمر �أ�صبح معتادًا و�أ�صبحنا ال نكرتث به‪..‬‬
‫ذهبنا لنغلي املاء يف احلمام ‪ -‬حيث مواقد الغاز يف املدينة‬
‫اجلامعية ‪ -‬ل�صنع ال�شاي‪ ..‬خرجنا �سري ًعا وعدنا نحن الثالثة يف‬
‫دقائق خم�سة‪ ..‬دخلنا الغرفة التي كنا �أحكمنا �إغالقها باملفتاح جيدً ا‪..‬‬
‫ونحن ن�ضحك‪ ..‬ومل نكن نعلم �أن مفاج�أة يف االنتظار‪..‬‬
‫ت�سمرت �أعيننا نحن الثالثة على الأر�ض بينما ارت�سمت مالمح‬
‫االنزعاج والتوتر علينا عندما ر�أينا ال�شاي مبع ًرثا على �أر�ض الغرفة‬
‫وكذلك ال�سكر‪ ..‬بينما عبوات ال�شاي وال�سكر موجودة يف مكانها على‬
‫املن�ضدة ومغلقة ب�إحكام‪ ..‬ولكنها منقو�صة بقدر ال�شاي وال�سكر على‬
‫الأر�ض‪..‬‬
‫قال طارق‪ :‬هل هذا حقيقي؟‬

‫‪79‬‬
‫قلت له‪ :‬نعم نحن نرى نف�س ال�شيء وال وهم يف الأمر‪ ..‬ال بد �أن‬
‫هناك من �صنع هذا‪.‬‬
‫قال كرمي‪ :‬كيف وقد كان املفتاح معنا ومل نغب عن الغرفة دقائق‬
‫ليدخلها �أحد ب�سرعة ويخرج ب�سرعة؟‬
‫قلت‪� :‬إذن هذا ما كنا نهرب منه طيلة النهار‪ ..‬يبدو �أن هناك �شي ًئا‬
‫ما بهذه الغرفة ً‬
‫فعل‪..‬‬
‫مل يعد لنا حوار يف ذلك اليوم �إال هذا املو�ضوع وقد �أ�صبح البحث‬
‫عن تف�سري مادي علمي �أو حتى تف�سريه بالأوهام غري جدي‪� ..‬أ�صبحنا‬
‫على يقني �أن هناك كيا ًنا غري ب�شري ي�سكن هذه الغرفة‪..‬‬
‫قررنا النوم ب�شجاعة والدفاع عن غرفتنا �ضد �أي �شيء فنحن رجال‬
‫ولن تهزنا تلك الكيانات‪ ..‬كما كنا منني �أنف�سنا �أننا ت�سرعنا يف احلكم‬
‫على الأمر ورمبا لي�س هو كما نعتقد‪ ..‬ذهب كل منا �إىل فرا�شه‪� ..‬أطف�أ‬
‫كرمي النور ومتدد على فرا�شه الذي كان مواج ًها لفرا�شي‪ ..‬وبجواره‬
‫باب زجاجي يطل على ال�شرفة اخلارجية العمومية للطابق الرابع الذي‬
‫ن�سكنه‪ ..‬كانت الغرفة ال تغرق يف الظالم �أبدً ا‪ ..‬فالزجاج من كل مكان‬
‫والأ�ضواء اخلارجية تطل منه دائ ًما ال �سيما �أبراج النور العمومية التي‬
‫تنري طوال الليل‪ ..‬كان الزجاج مطل ًيا بلون داكن ليمت�ص �شي ًئا من‬
‫ال�ضوء اخلارجي ولكنه مل يفلح يف تعتيم الغرفة بالكامل‪..‬‬
‫بعد مرور بع�ض الوقت يف حماوالت فا�شلة للنوم نظرت جتاه كرمي‬
‫ثم رفعت عيني على ثقوب يف الطالء على زجاج الباب بجواره‪ ..‬ت�أملت‬
‫‪80‬‬
‫فيه‪ ..‬رمبا مل يجدر بي ذلك‪ ..‬ولكنه القدر الذي �أراد �أن يزيح �شي ًئا‬
‫ال�س ُت من على �أ�سرار تلك الغرفة‪� ..‬إنها لي�ست ثقو ًبا يف الطالء‪..‬‬
‫من ُ‬
‫�إنها �صورة وجه مت نحتها يف الطالء‪� ..‬إنها �صورة جمجمة ذات قرون‪..‬‬
‫�إنها وجه �شيطاين‪..‬‬
‫قمت من مكاين وتوجهت يف الظالم املمزوج ب�ضوء اخلارج لأتبني‬
‫مفزوعا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ذلك الوجه ووقفت بجوار فرا�ش كرمي‪ ..‬و�إذا بكرمي يقف‬
‫فقلت له‪ :‬ال تخف‪� ..‬إنه �أنا مازن‪.‬‬
‫مفزوعا �إىل اجلدار‬
‫ً‬ ‫علي‪ ..‬فدققت النظر له ف�إذا به ينظر‬
‫مل يرد ّ‬
‫خلف ظهري‪ ..‬وي�شري يف خوف �شديد‪..‬‬
‫كرمي‪ُ :‬انظر يا مازن!‬
‫فنظرت خلفي لأرى امر�أة كاملة ترتدي ز ًيا �أ�سود‪ ..‬مبعرثة ال�شعر‪..‬‬
‫ذراعا وتوجهه نحونا ك�أنها تت�سول‪ ..‬بينما الذراع الأخرى �ساقطة‬‫ترفع ً‬
‫بجانبها ك�أنها م�شلولة‪ ..‬تقف على املن�ضدة امللت�صقة باجلدار‪ ..‬امر�أة‬
‫كاملة ولكنها ق�صرية‪ ..‬ال لي�ست ق�صرية‪� ..‬إن �أبعادها غري منطقية‪..‬‬
‫هي امر�أة كاملة ولي�ست قزمة ولكن طولها حوايل مرت‪ ..‬لقد بدت وك�أننا‬
‫نرى �صورة هولوجرامية �أو �صورة ثالثية الأبعاد المر�أة‪ ..‬عندما بد�أت‬
‫تتحرك نحونا نزلت على الأر�ض ف�صارت بحجم املر�أة الطبيعية‪..‬‬
‫كانت مت�شي على قدم وجتر الأخرى‪ ..‬جريت على مقب�س النور لأفتح‪..‬‬
‫ف�إذا ال �شيء‪..‬‬
‫‪81‬‬
‫اختفت املر�أة وبقينا كالأ�صنام لدقائق نلملم �شتات الأفكار‬
‫والكلمات قبل �أن نتكلم �أو يتحرك �أي منا من مكانه‪.‬‬
‫�أول �شيء جال بخاطري هو �أن �أنظر فوق املن�ضدة‪ ..‬ال يوجد �شيء‪..‬‬
‫ال يوجد �أثر‪ ..‬فنظرت �إىل اجلدار الذي كانت املر�أة تقف �أمامه‪..‬‬
‫ال�شيء �سوى جدول و�أرقام وبع�ض اخلطوط الع�شوائية‪ ..‬فتجولت‬
‫بعيني على اجلدار حول هذا املكان‪ ..‬هذه ق�صيدة �شعر مكتوبة بخط‬
‫وا�ضح‪ ..‬وحكمة مكتوبة بخط �آخر‪ ..‬قانون فيزيائي‪ ..‬ال �شيء على‬
‫اجلدار �سوى �آثار مذاكرة من �سبقونا يف �سكنى هذه الغرفة‪..‬‬
‫خلفتنا تلك احلادثة منهكني ك�أمنا كنا نعدو يف �سباق‪� ..‬أيقظنا‬
‫طارق وق�ص�صنا عليه املوقف‪ ..‬فتيقظ وجل�سنا حائرين حتى ال�صباح‪..‬‬

‫‪h‬‬

‫‪82‬‬
‫)‪(5‬‬

‫مع الأيام بد�أت �أخبار غرفتنا تنت�شر يف املدينة اجلامعية بعد �أن‬
‫حكى كل منا ملن يقابله يف �صالة التلفاز وامل�سجد واحلمام واملطعم‪..‬‬
‫تناقلت النا�س احلكاية‪� ..‬أ�صبحت الغرفة ‪ ٤٤٩‬حديث املدينة‪ ..‬و�أ�صبح‬
‫ثالثتنا مدار �أحاديث النا�س يف ال�صباح‪ ..‬و�أحدوثة �سمرهم قبل‬
‫النوم‪ ..‬حتى قابلني �أحد ال�شباب يف يوم يف احلمام ونحن جنتمع على‬
‫�صنع ال�شاي‪ ..‬ف�س�ألني‪ :‬هل �أنت من �سكان الغرفة ‪٤٤٩‬؟‬
‫فقلت له‪ :‬نعم‪..‬‬
‫فقال‪� :‬أنا زاهر ولقبي قلب الأ�سد‪� ..‬أريد �أن �أ�ستبدل معك الغرفة‪..‬‬
‫فقلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ب�أن �أفرغ لكم غرفتي وترتكوين وحدي يف غرفتكم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فقلت له‪ :‬وملاذا؟‬
‫فقال‪ :‬لأين �أريد �أن �أتزوج من �إحدى اجلنيات‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬وما �أدراك �أنك �إن بقيت يف الغرفة �ستقابل جنية‬
‫و�ستتزوجك‪ ..‬لقد �صار لنا �شهر ومل نر �أي بادرة �إيجابية �أو حماولة‬
‫توا�صل واحدة من �أي كيان من الكيانات التي ت�سكن تلك الغرفة‬
‫امللعونة‪ ..‬كلها �أالعيب �شيطانية فقط‪.‬‬
‫قال‪� :‬أنا �أعرف كيف �أفعل هذا‪ ..‬ف�أنا مم�سو�س من اجلن‪ ..‬واجلن‬
‫يكبلوين �أحيا ًنا بالقيود و�أ�سمع تهديدات ت�أتيني يف �أذين‪..‬‬
‫عندها �شعرت بق�شعريرة ت�سري يف ج�سدي فاعتذرت له ب�أين ل�ست‬
‫الوحيد �صاحب القرار كما �أين اتفقت مع �أ�صحابي �أال نتخلى عن‬
‫بع�ضنا البع�ض ونظل م ًعا حتى النهاية‪ ..‬اعتذرت وذهبت‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫�أرهقتنا تلك الغرفة وذلك التفكري امل�ستمر‪� ..‬أرهقنا التوتر الدائم‪..‬‬


‫فقررنا يف يوم �أن نخرج لنتن�سم الهواء‪� ..‬صنعنا �أقداح قهوتنا وقررنا‬
‫ال�صعود �إىل ال�سطح‪ ..‬مل نخرج �إىل �سطح ذلك املبنى من قبل‪ ..‬لي�س‬
‫باملكان الرائع ولكنه نوع من التغيري والتجديد قد ميت�ص كل ما منر‬
‫به من م�شاعر �سلبية‪ ..‬عادة يفعل التغيري ذلك وجتديد املكان‪ ..‬فلكل‬

‫‪84‬‬
‫مكان روح‪ ..‬وتلك الروح وال �شك تتفاعل مع �أرواح املتواجدين‪� ..‬سل ًبا‬
‫و�إيجا ًبا‪..‬‬
‫�صعدنا �إىل ال�سطح‪ ..‬مكان بعيد‪ ..‬لفحات ن�سيم و�أ�صوات طيور‪..‬‬
‫كان املبنى كب ًريا جدً ا‪ ..‬وم�ساحة ذلك ال�سطح �ضخمة جدً ا‪ ..‬كان‬
‫الوقت بعد الغروب بقليل‪ ..‬مل يكن ثمة م�صباح ي�ضيء �سطح البناية‪..‬‬
‫�إال ما بقي من �ضوء الغروب‪ ..‬وما زاغ من الأ�ضواء يف الأ�سفل‪ ..‬مل يكن‬
‫كثري من النا�س فوق ال�سطح‪ ..‬كان ثالثتنا ن�ستمتع بالن�سيم‪ ..‬بينما‬
‫كان على م�سافة حوايل ع�شرين مرتًا بع�ض ال�شباب يلعبون الكرة‪..‬‬
‫قال طارق‪ :‬ما �أجمل هذا الن�سيم‪ ..‬مل �أظن �أن اجللو�س هنا ممتع‬
‫�إىل هذا احلد‪..‬‬
‫متنف�سا بعيدً ا عن‬
‫ً‬ ‫فقلت له‪ :‬نعم عندك حق نحمد اهلل �أننا وجدنا‬
‫ال�صخب بالأ�سفل‪..‬‬
‫قال كرمي‪ :‬ولكن يبدو �أن املكان ذو �شعبية كبرية فالنا�س ال يكتفون‬
‫بال�صعود بل يلعبون � ً‬
‫أي�ضا‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬جيد لعلنا ن�ستعد يف املرة القادمة ون�شاركهم اللعب‪..‬‬
‫مر وقت ق�صري حتى تنبه طارق فج�أة وقال‪� :‬أال تالحظون �شي ًئا‬
‫غري ًبا؟ ما زال ه�ؤالء ال�شباب يلعبون برغم الظالم‪ ..‬كيف يلعبون‬
‫الكرة بنف�س احلما�س؟ كيف يرون الكرة ليلعبوا � ً‬
‫أ�صل؟‬
‫‪85‬‬
‫م�سرعا نحوهم وقال مبت�س ًما‪� :‬س�آتي لكم بخربهم فو ًرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫قام كرمي‬
‫فعل كيف مل ننتبه؟‬‫بينما نظرت �إىل طارق وقلت له‪� :‬شيء غريب ً‬
‫�أال تالحظ �أنهم ال ي�صدرون �أي �صوت‪ ..‬وال ن�سمع �صوت الكرة‪� ..‬أال‬
‫تالحظ �أنهم يتحركون بنمط ثابت ال يكاد يتغري؟‬
‫مفزوعا وانتبهت �أنا � ً‬
‫أي�ضا للكارثة‪ ..‬ف�صرخنا يف �آن‬ ‫ً‬ ‫يل طارق‬‫نظر �إ ّ‬
‫واحد‪ :‬كرمي تعال اااا‪ ..‬تعااااال اااااا‬
‫قمنا م�سرعني نحو كرمي الذي مل نعد نراه يف ال�ضوء اخلافت الذي‬
‫ي�ضيء ال�سطح‪ ..‬وال ن�سمع منه ردًا‪ ..‬ظللنا ن�سرع اخلطى نحو املكان‬
‫الذي كنا نرى فيه �شبا ًبا يلعبون‪ ..‬وكلما جرينا نحوهم كلما �شعرنا‬
‫�أنهم ي�صغرون‪ ..‬قلت‪ :‬طارق‪ ..‬ما هذا �إنهم �أطفال؟‬
‫وما �إن �أدرك طارق ما �أدركت حتى �صرخ‪� :‬أعوذ باهلل ه�ؤالء لي�سوا‬
‫ب�ش ًرا‪..‬‬
‫وما كاد طارق ينهي كلماته حتى فوجئنا بهم يقفون مت�سمرين‪..‬‬
‫من كان وجهه لنا ومن كان ظهره لنا كان ينظر خلفه �إلينا‪ ..‬كانت‬
‫ع�شر عيون متوهجة يف الظالم تنظر �إلينا‪ ..‬وما عرفت �أنهم خم�سة‬
‫�إال من عدد عيونهم‪ ..‬فتجمدت يف مكاين �أنا وطارق‪ ..‬وقد �سرت يف‬
‫ج�سدي ق�شعريرة وارتفعت نب�ضات قلبي حتى كاد نف�سي يتوقف‪ ..‬ثم‬
‫فج�أة ا�ستداروا جمي ًعا و�أ�سرعوا نحو �سور ال�سطح وقفزوا يف ال�شارع‪..‬‬
‫جرينا خلفهم حتى و�صلنا �إىل ال�سور فوجدنا «كرمي» يقف متخ�ش ًبا‬
‫ك�أن على ر�أ�سه الطري‪ ..‬ينظر �إىل �أ�سفل‪ ..‬فلما و�صلنا �إليه قلنا له‪:‬‬
‫كرمي احلمد هلل �أنك بخري‪ ..‬هل ر�أيت ما ر�أيناه؟‬
‫‪86‬‬
‫قال‪ :‬بل ر�أيت �أكرث‪ ..‬انظروا لقد قفزوا هنا‪ ..‬هل كنتم تعرفون �أن‬
‫هذا املبنى جماور للمبنى الذي ن�سكنه‪ ..‬وال يف�صل بيننا �إال جدار؟‬
‫نظرنا فتجمد الدم يف عروقنا‪..‬‬
‫لقد كان املبنى املجاور لنا هو مبنى م�شرحة املدينة وثالجة املوتى‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫ذهبنا �إىل غرفتنا ال ندري ما الذي نفعله‪ ..‬كان طارق ترتعد‬


‫فرائ�صه من الرعب الذي تعر�ضنا له‪ ..‬يف طريقنا قابلنا بع�ض‬
‫�أ�صدقائنا ف�س�ألوا‪ :‬ماذا بكم؟‬
‫فق�ص�صنا عليهم ما جرى‪ ..‬وما كادوا ي�سمعون اخلرب حتى قالوا‪:‬‬
‫لن متر الليلة �إال وقد �أنهينا هذه امل�شكلة‪..‬‬
‫اتفقنا على �أن جنتمع بعد �ساعة نحن ال�ستة‪ ..‬ثالثتنا وثالثة‬
‫�أ�صدقاء �آخرون‪ ..‬لنقر�أ �سورة ال�صافات ونطهر تلك الغرفة مما بها‪..‬‬
‫جتمعنا يف املوعد و�أغلقنا الباب وقام زميل لنا يدعى �شرف ب�إغالق‬
‫الباب باملفتاح من الداخل حتى ال يخرج �أحد من الغرفة مهما حدث‪..‬‬
‫جل�سنا وفر�شنا �سجادة �صالة �أ�سفل امل�صباح و�سط الغرفة‪..‬‬
‫وجل�س كرمي الذي كان يحفظ القر�آن ليقر�أ ال�صافات‪ ..‬مل يكد كرمي‬
‫يتخطى الآية الثانية حتى انفجر م�صباح الغرفة م�صد ًرا �صوت انفجار‬
‫‪87‬‬
‫عال‪ ..‬وانطف�أ النور ثم يف حلظة عاد ثم انقطع النور عن املبنى‪ ..‬وبقي‬
‫ٍ‬
‫لثوان‪ ..‬ثم عاد �إىل املبنى وانقطع يف غرفتنا‪..‬‬
‫يف غرقتنا ٍ‬
‫ف�أ�شعلنا �أ�ضواء الهواتف يف �إ�صرار على �أن ُنكمل‪ ..‬كان �صوت‬
‫قراءة القر�آن عال ًيا فجاء �أحدهم لي�س�أل ماذا يحدث وي�ستف�سر عن‬
‫�صوت االنفجار الهائل الذي حدث‪ ..‬فحاول طارق �أن يفتح الباب لكنه‬
‫كان مغل ًقا واملفتاح مع �شرف‪ ..‬الذي قام ليبعد طارق ً‬
‫قائل‪ :‬لن ينفتح‬
‫الباب فهو مغلق ومفتاحه معي ولن �أفتحه الآن‪..‬‬
‫ومل يكد �شرف ينتهي من كلماته حتى �سمعنا �صوت مزالج القفل‬
‫ينفتح وانفتح الباب فج�أة‪..‬‬
‫وقفنا مذهولني للحظة‪ ..‬والباب مفتوح‪ ..‬حلظات حتى �أدرك‬
‫اجلميع ما حدث‪ ..‬فانطلق �شرف وطارق هرو ًبا من الغرفة وخرج‬
‫كرمي وبقية الأ�صدقاء‪ ..‬ثم متالكت �أع�صابي ومتكنت قدماي من �أن‬
‫حتمالين فخرجت و�أغلقت الباب‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫جتمعنا يف املطعم‪ ..‬كنا نحن ال�ستة نفكر وال نتكلم‪ ..‬كان ما حدث‬
‫يدور ب�أذهاننا وال ندري ماذا نفعل‪� ..‬أق�سم �شرف �أنه لن يدخل تلك‬
‫احلجرة جمددًا مهما حدث‪ ..‬بينما �أ�صر حممود على �أن نتجمع كلنا‬
‫يف تلك الغرفة حتد ًيا ونبيت فيها‪ ..‬تناق�شنا كث ًريا وا�ستقر ر�أينا على �أن‬

‫‪88‬‬
‫نبيت يف الغرفة ونتحدى الكيانات الغام�ضة تلك‪ ..‬كنا خم�سة‪ ..‬ثالثتنا‬
‫وحممود وعز الدين‪� ..‬أخذ كل منا م�صحفه يف �صدره و�أغلقنا النور‬
‫ومننا‪..‬‬
‫نوما عمي ًقا لكنه مل ُ‬
‫يطل‬ ‫ال �أدري كم غفونا ولكننا مننا بعمق‪ ..‬كان ً‬
‫كث ًريا حتى فتحت عيني على �صوت مزعج‪� ..‬صوت �أقدام مت�شي متثاقلة‬
‫وا�ضحا‪� ..‬إنه من داخل الغرفة وال‬
‫ً‬ ‫حتك الأر�ض ح ًكا‪ ..‬كان ال�صوت‬
‫�شك‪ ..‬مل يكن باخلارج‪ ..‬ثم �سمعت �صوت �أحد ما ي�شرب املاء‪ ..‬مل‬
‫�أكن �أجر�ؤ على رفع ر�أ�سي لأنظر‪ ..‬ناديت ب�صوت �أعلى من الهم�س‪:‬‬
‫من؟ من؟ كرمي؟‬
‫فوجئت ب�صوت كرمي يرد‪� :‬أنا على �سريري‪.‬‬
‫فرد طارق‪ :‬و�أنا‪.‬‬
‫قال حممود‪ :‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا‪� ..‬أت�سمعون ما �أ�سمع؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪� :‬س�أقوم و�أفتح النور لرنى‪ ..‬ما الذي يح‪........‬‬
‫�سكت �صوت حممود فج�أة‪..‬‬
‫نادى طارق‪ :‬حممود؟ حممود؟ ملاذا ال تر‪.......‬‬
‫انقطع �صوت طارق‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫قال كرمي‪ :‬ما بالكم ما الذي يحدث؟ انطق‪.....‬‬
‫عندما انقطع �صوت كرمي �شعرت بفزع وجتا�سرت وا�ستجمعت‬
‫نف�سي وقمت‪ ..‬ومل �أكن �أت�صور ما الذي ميكن �أن �أراه‪..‬‬
‫نظرت ف�إذا الأربعة جال�سون على الفرا�ش وينظرون �إىل �أ�سفل‪..‬‬
‫وعيونهم و�أفواههم مفتوحة على ات�ساعها‪ ..‬نظرت فتجمدت مكاين‬
‫متاما مثلهم‪..‬‬
‫ً‬
‫لقد كان ن�صف الغرفة ال�سفلي م�ضي ًئا ً‬
‫متاما كما لو كان امل�صباح‬
‫متاما ك�أننا يف قرب مغلق‪..‬‬
‫مفتوحا‪ ..‬بينما ن�صف الغرفة العلوي مظلم ً‬
‫ً‬
‫ومل يكن النور ي�ستطرق على الظالم وال العك�س‪ ..‬ك�أن بينهما ً‬
‫برزخا ال‬
‫يبغيان‪ ..‬وعلى الأر�ض يف النور يتمدد رجل طويل بطول الغرفة ور�أ�سه‬
‫عند الباب‪ ..‬له �شارب طويل‪ ..‬طال حتى غادر وجهه ومتدد بجانبه‬
‫على الأر�ض‪ ..‬يده اليمنى غري موجودة‪ ..‬عيناه �شديدتا ا ُ‬
‫حلمرة‪ ..‬وال‬
‫فم له‪..‬‬
‫مل يكن هناك جمال للتفكري‪ ..‬لقد �أ�صاب ال�شلل عقولنا و�أج�سادنا‪..‬‬
‫فحتى �إذا فكرنا يف �أي �شيء‪ ..‬فالأر�ض غري ممهدة للحركة مع هذا‬
‫الذي يتمدد عليها‪ ..‬قمت لأقف على �سريري ومددت يدي ببطء وفتحت‬
‫النافذة التي تعلو جانب ال�سرير‪ ..‬وما �إن دخل النور من النافذة حتى‬
‫تبدد كل ما كان يف الغرفة بلحظة‪..‬‬

‫‪90‬‬
‫�أعتقد �أن �أع�صابنا قد انهارت و�أج�سادنا املت�شنجة ا�سرتخت فج�أة‬
‫�إىل حد االنهيار‪ ..‬مل يكد �أحد منا ميلك القدرة على الكالم‪ ..‬جرجر‬
‫كرمي قدمه لي�ضيء امل�صباح وجل�س يلتقط �أنفا�سه‪ ..‬وبقينا على‬
‫ال�صمت ما يقرب من ع�شر دقائق‪ ..‬ك�سر ال�صمت �أذان الفجر فقمنا‬
‫لن�صلي‪..‬‬

‫‪h‬‬

‫‪91‬‬
‫)‪(6‬‬

‫يف ال�صباح ذهبت مبا�شر ًة �إىل مدير الإدارة طال ًبا منه تغيري‬
‫الغرفة‪� ..‬إال �أنه �أجاب ب�أن ال�سكن ال يتوفر به غرف �شاغرة الآن كما‬
‫�أبدى ا�ستياءه و�سخريته من ال�شكوى وك�أنه يتهمنا باجلنون‪..‬‬
‫مل �أدر ماذا �أفعل فذهبت �إىل اجلامعة متع ًبا منه ًكا من قلة النوم‬
‫والتوتر‪ ..‬قابلت يف اجلامعة �صدي ًقا يل والذي �أبدى اهتمامه بهيئتي‬
‫املتعبة‪ ..‬و�أ�صر على ا�ستك�شاف الأمر‪ ..‬فق�ص�صت عليه ما �أ ُم ّر به‪..‬‬
‫فقال‪� :‬أتعلم؟ لن يجد لنا ً‬
‫حل �إال زميلنا �أمني‪ ..‬فقد �سمعته يتحدث‬
‫عن �شيخ يف قريته يتعامل مع هذه الأ�شياء‪ ..‬وحتدث � ً‬
‫أي�ضا عن رجل‬
‫�صالح يعرفه‪ ..‬ويل من �أولياء اهلل ال�صاحلني يلج�أ �إليه النا�س � ً‬
‫أي�ضا‬
‫ولكنه يف ال�صعيد‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬ال لن �أ�سافر لل�صعيد‪� ..‬أريد �أقرب �أحد ممكن‪..‬‬
‫‪92‬‬
‫قابلنا «�أمني» الذي كان ودودًا للغاية‪� ..‬أبدى �أ�سفه ملا يحدث واتفقنا‬
‫على �أن ي�أخذ لنا موعدً ا مع ال�شيخ (راجي) يف قريته التي تبعد عن‬
‫اجلامعة حوايل �أربعني دقيقة‪� ..‬أف�ضل لنا من ال�سفر لل�صعيد وت�ضييع‬
‫الوقت‪..‬‬
‫ويف اليوم التايل كان املوعد‪ ..‬تقابلنا يف اجلامعة ثم انطلقنا �إىل‬
‫رجل متو�سط‬‫حيث ي�سكن ال�شيخ راجي يف القرية‪ ..‬كان ال�شيخ راجي ً‬
‫الطول‪� ..‬أ�سمر الب�شرة‪� ..‬أ�صلع‪ ..‬يرتدي جلبا ًبا ويجل�س يف �ساحة‬
‫بجوار بيته الريفي اجلميل‪ ..‬كان يجل�س وبجواره حو�ض ماء كبري‪..‬‬
‫طوله حوايل مرتين ون�صف �أو ثالثة �أمتار‪ ..‬و�شبه ممتلئ باملياه‪ ..‬كان‬
‫الزحام �شديدً ا على جمل�سه مبن ي�شكون من الأعمال وال�سحر وم�س‬
‫اجلن‪ ..‬عندما و�صلنا كان يتعامل مع حالة ال �أكاد �أن�ساها‪..‬‬
‫كانت فتاة �شابة حديثة الزواج‪ ..‬كانت تلب�س ف�ستا ًنا �أبي�ض وعلى‬
‫�صدرها جنمة �سدا�سية ف�ضية كبرية جدً ا‪ ..‬مل �أر �أحدً ا من قبل يرتدي‬
‫جنمة بهذا احلجم‪� ..‬إنه احلجم الذي يعلق على احلوائط ولي�س على‬
‫ال�صدور‪� ..‬إنه رمز ديني يهودي معروف با�سم جنمة داوود‪ ..‬ويقف‬
‫بجوارها زوجها‪� ..‬شاب يافع يبدو عليه الإرهاق‪ ..‬فوجهه عليه �آثار‬
‫�ضرب مربح‪ ..‬و�آثار جروح تبدو �أنها بفعل �أظافر زوجته‪ ..‬ومالب�سه‬
‫ممزقة ك�أنه كان يف �شجار عنيف وجل�س يحكي ق�صتهما‪..‬‬
‫قال‪ :‬تزوجنا منذ ثالثة �أ�شهر‪ ..‬ومل �أدخل بها حتى الآن‪ ..‬كلما‬
‫اقرتبت منها ظهر عليها ذلك الكيان الذي يتلب�سها‪ ..‬وت�ضربني �ضر ًبا‬
‫‪93‬‬
‫�شديدً ا حتى �أفقد وعيي‪ ..‬ثم تدخل احلمام وتغلق الباب على نف�سها‬
‫وي�ستمر هو يف �ضربها �إىل �أن ُتنهك قواها فتخرج‪..‬‬
‫لقد �أجربها على بيع كل ما متلك من الذهب لت�شرتي تلك النجمة‬
‫الكبرية وتعلقها على �صدرها ليل نهار‪ ..‬رغم �أننا م�سلمون‪..‬‬
‫قال لها ال�شيخ راجي‪ :‬اجل�سي هنا �أمامي‪..‬‬
‫فجل�ست‪..‬‬
‫ف�أم�سك ال�شيخ راجي ع�صا �صغرية جدً ا ال تتعدى خم�س ع�شرة‬
‫بو�صة‪ ..‬و�ضربها �ضربات خفيفة على ذراعها وهو يتحدث‪ ..‬ولكن‬
‫الفتاة كانت ترتعد ك�أنه ي�ضربها ب�سياط من نار‪.‬‬
‫كان يقول‪� :‬أ�شموداي اللعني‪� ..‬أنت مرة �أخرى؟ �أمل �أحذرك �أن‬
‫تقرتب من �أج�ساد بنات الإن�س؟ �أكل عام؟ �أال يحلو لك �إال الأبكار‬
‫بالذات؟‬
‫فنطق �صوت حاد على ل�سان الفتاة ً‬
‫قائل‪� :‬أنا حر‪ ..‬هي يل ولن‬
‫تكون لغريي‪ ..‬هي زوجتي �أنا‪..‬‬
‫فقال له راجي‪ :‬اخر�س �أيها النج�س‪ ..‬عندما �أتكلم تخر�س �أنت وال‬
‫تتكلم �إال عندما �آمرك بالكالم‪ ..‬اخرج الآن وال ترجع لها و�إال قطعت‬
‫رقبتك‪..‬‬
‫فهم ال�صوت �أن يقول‪ :‬ال‪........‬‬

‫‪94‬‬
‫ولكن ال�شيخ راجي كان �أ�سرع‪ ..‬ف�أم�سك بالفتاة بيد واحدة وهو‬
‫جال�س و�ألقى بها يف حو�ض املياه يف حلظة‪ ..‬وبال �أي جمهود‪ ..‬وعاد‬
‫ينف�ض مالب�سه يف هدوء‪..‬‬
‫فزع النا�س مما حدث‪ ..‬بينما كانت الفتاة تغو�ص وتطفو‪..‬ت�صرخ‬
‫وتت�شنج‪ ..‬تخرج يديها من املاء ك�أمنا ت�ستنجد‪ ..‬ثم تعيدهما بقوة �إيل‬
‫املاء ك�أمنا ي�سحبهما �أحد‪ ..‬كانت تتقلب ظهر ًا لبطن عندما هم زوجها‬
‫ليدركها فقال له ال�شيخ راجي‪ :‬اتركها ال تخف‪ ..‬كل �شيء �سيكون على‬
‫ما يرام‪ ..‬هذا من اجلن العا�شق‪� ..‬إنه �شيطان عرباين‪� ..‬أنا �أعرفه‬
‫و�أخرجته من غريها قبل ذلك مرتني‪..‬‬
‫فقال الزوج‪� :‬أيعني هذا �أننا ل�سنا م�سحورين؟‬
‫فقال راجي‪ :‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬هو يحبها ويريدها لنف�سه‪ ..‬احر�ص فقط على‬
‫�أال تخلع مالب�سها وتكرث من النظر يف املر�آة مرة �أخرى‪ ..‬واجعلها تدمي‬
‫الذكر يف ال�صباح وامل�ساء‪ ..‬فالذكر يعمي ال�شياطني عن عورات بني‬
‫الإن�س‪..‬‬
‫ه�ؤالء ينظرون �إىل عورات الإن�س ف�إذا �أحبوه ف�إنهم يفعلون به كما‬
‫يفعلون بزوجتك‪ ..‬و�أحيا ًنا يكون بينهما الولد‪ ..‬ه�ؤالء �أعطوا العهد‬
‫�إىل النبي �سليمان فلم ي�سجنهم عندما �سجن ال�شياطني‪ ..‬ولكنهم بعد‬
‫موته �أخلفوا عهدهم‪..‬‬
‫�ستباحا من اجلن بهذا‬
‫فقال الزوج‪ :‬هل ميكن �أن يكون الإن�س ُم ً‬
‫ال�شكل؟‬
‫‪95‬‬
‫فقال راجي‪ :‬ال بالعك�س هناك جدار ثقيل بني العوامل بع�ضها‬
‫البع�ض‪ ..‬ولكن هناك بوابات تنفتح بينها‪ ..‬بوابات يفتحها ال�سحرة‬
‫بالطقو�س والعزائم‪ ..‬وبوابات تفتح بالطال�سم‪ ..‬وبوابات يفتحها‬
‫النا�س بحماقة وعدم معرفة‪ ..‬وطرق �أخرى كثرية‪ ..‬واجلن العا�شق‬
‫يتخذ املرايا �أحيا ًنا ولي�س دائ ًما بوابات للنفاذ �إىل عامل الإن�س‪ ..‬فال‬
‫ُتطل النظر �إىل املر�آة‪..‬‬
‫بينما كانوا يتكلمون الحظ اجلميع �أن حركة الفتاة قد هد�أت فج�أة‬
‫وك�أمنا قد غرقت‪ ..‬فقام ال�شيخ راجي يف حلظة بجر الفتاة خارج‬
‫احلو�ض و�ألقى بها على الأر�ض‪ ..‬ف�إذا بالنجمة التي على �صدرها‬
‫متاما‪ ..‬ثم �أخرج من جيبه �آلة حادة‪ ..‬وقام ب�ضرب الفتاة‬‫متفحمة ً‬
‫يف �إ�صبع قدمها الإبهام من �أ�سفل‪ ..‬فخرجت نقطة دم واحدة �سوداء‪..‬‬
‫م�سحها مبنديل وقال لها‪ :‬حمدً ا هلل على �سالمتك‪..‬‬
‫ذكرين ذلك مبا حدث مع راندا يف تلك الليلة البعيدة‪ ..‬و�أخذت‬
‫�أجتول يف ذاكرتي بني �أحداثها حتى مل �أدرك �أن «�أمني» ي�شدين لنجل�س‬
‫�أمام ال�شيخ راجي لنعر�ض عليه ال�شكوى‪..‬‬
‫�سمع ال�شيخ ما جرى لنا‪ ..‬ثم �أطال النظر والتفكر وهز ر�أ�سه مرا ًرا‬
‫وك�أنه ي�ستمع �إىل �أحد ما يحدثه‪ ..‬كان كث ًريا ما يذكرين بال�شيخ �سابق‪..‬‬
‫ثم قال ال�شيخ راجي‪ :‬لي�س عندك �شيء‪� ..‬أنت ل�ست م�سحو ًرا‬
‫وما عندك يف ال�سكن رمبا هو من �آثار طقو�س �سحر حدثت يف هذه‬
‫‪96‬‬
‫الغرفة‪ ..‬ن�صيحة اتركها‪ ..‬وال ت�ضيع وقتك حتى يف تطهريها‪� ..‬إنها‬
‫لي�ست بيتك لرتهق نف�سك بال داعي‪..‬‬
‫يل يف �شفقة وا�ضحة وقال‪ :‬احذر يا ولدي‪ ..‬فهناك �شيء‬ ‫ثم نظر �إ ّ‬
‫مفتوحا‬
‫ً‬ ‫غام�ض حولك‪ ..‬فح�صن نف�سك بالذكر‪ ..‬و�إذا �صادفت با ًبا‬
‫بني العوامل فال تعربه‪ ..‬فطريق العودة الوحيد هو الدم‪..‬‬
‫مل �أفهم تلك الن�صيحة‪ ..‬و�إن كانت قد �أثارت خماويف‪� ..‬إال �أين مل‬
‫�أطل الكالم‪ ..‬ومل �أ�س�أل‪ ..‬قمنا من عنده م�سرعني وعدنا وقد �أخذت‬
‫قراري ب�أن �أترك �أنا و�أ�صدقائي الغرفة‪..‬‬
‫عندما عدنا ذهبت �إىل �أحد املقاهي كي �أ�سرتيح ً‬
‫قليل من ال�سفر‪..‬‬
‫كنت يف الواقع �أهرب من الذهاب �إىل تلك الغرفة‪ ..‬جل�ست �أ�شرب‬
‫قهوتي و�أبحث يف هاتفي على الإنرتنت عن �أي �شيء له عالقة بال�سحر‪..‬‬
‫فوجدت مقط ًعا ل�ساحر تائب‪ ..‬كان يتكلم فيه عن الأعمال وال�سحر‬
‫والطل�سمات‪ ..‬وكان من بني ما جاء فيه �أنه ا�ستعر�ض طل�س ًما ُي�سمى‬
‫خامت داوود‪� ..‬إنه النجمة ال�سدا�سية اليهودية امل�شهورة‪ ..‬وطل�س ًما‬
‫ا�سمه خامت �سليمان وطل�س ًما ا�سمه خامت يعقوب‪ ..‬و�آخر ا�سمه خامت‬
‫�أ�صحاب الكهف‪ ..‬هذه الطل�سمات �أ�سماها اجلن خوامت‪ ..‬و�أل�صقوها‬
‫ب�أ�سماء الأنبياء كي يخدعون بها النا�س فرتتديها ترب ًكا وثقة يف‬
‫الأنبياء‪ ..‬واحلق �أنها طال�سم و�شفرات تعمل كمفاتيح للبوابات بني‬
‫عاملي ال�شياطني والإن�س‪ ..‬وا�ستعر�ض طل�س ًما يعمل ك�شفرة لإناث اجلن‬
‫�إنه (خامت بنت �إبلي�س)‪ ..‬و‪......‬‬

‫‪97‬‬
‫ً‬
‫مهل هذا الطل�سم لإناث اجلن‪......‬‬
‫�إنه جدول ح�سابي‪..‬‬
‫�أنا �أعرف هذا اجلدول‪� ..‬إنه‪.....‬‬
‫يا ربي كان ال�شيخ راجي حم ًقا‪ ..‬يجب �أن �أرى الر�سوم على احلائط‬
‫يف الغرفة فو ًرا‪..‬‬
‫م�سرعا �إىل الغرفة‪ ..‬مل يكن طارق �أو كرمي متواجدين بها‪..‬‬
‫ً‬ ‫قمت‬
‫كانت باردة كئيبة فارغة مظلمة برغم ال�ضوء‪ ..‬توجهت فو ًرا �إىل‬
‫ً‬
‫جدول ح�ساب ًيا مكتو ًبا بالقلم‬ ‫احلائط املواجه لفرا�شي‪ ..‬كان عليه‬
‫الأزرق‪ ..‬ر�أيته من اليوم الأول لدخويل الغرفة ومتددي على ذلك‬
‫الفرا�ش وظننته من كان قبلنا هنا كان ي�ستذكر درو�سه وي�شرح لنف�سه‪..‬‬
‫يا �إلهي �إنه نف�س اجلدول‪ ..‬ت�سع خانات جمموع كل ثالث يف �أي‬
‫اجتاه هو ‪ ..١٥‬جمموع اخلانات الر�أ�سية ‪ ١٥‬والأفقية ‪ ١٥‬واملائلة ‪١٥‬‬
‫كما و�صفها ال�ساحر املحنك‪� ..‬إنه �شفرة بنت �إبلي�س‪..‬‬
‫تتبعت بقية الر�سوم على احلائط‪ ..‬ما هذا؟ �إن معظم ما هو على‬
‫اجلدار طال�سم‪ ..‬فهذا خامت داوود‪ ..‬وهذا خامت يعقوب‪ ..‬وهذا خامت‬
‫�سليمان‪ ..‬واجلدول مكتوب على �أكرث من جدار‪ ..‬وهناك طل�س ًما على‬
‫الباب‪ ..‬وفوق املن�ضدة‪........‬‬
‫فلمعت يف عقلي فج�أة فكرة غريبة‪� ..‬أغلقت جميع النوافذ ونور‬
‫م�صباح الغرفة ف�أظلمت‪ ..‬ومل يبق �إال ال�ضوء الداخل من ثقوب الطالء‬
‫يف النوافذ‪..‬‬
‫‪98‬‬
‫يا ربي مل �أكره من قبل �أن �أكون حم ًقا �إىل هذا احلد‪..‬‬
‫�إن ال�ضوء النافذ من ثقب الطالء ي�سقط مبا�شرة على الطل�سم‬
‫اجلدول فوق املن�ضدة حيث ظهرت املر�أة لنا‪ ..‬والنافذة الأخرى ي�سقط‬
‫منها ال�ضوء على طل�سم غريب على الباب حيث كان ر�أ�س الرجل املمدد‬
‫على الأر�ض‪� ..‬إن الثقوب نف�سها تر�سم وج ًها �شيطان ًيا على الزجاج‬
‫يظهر ك�صورة �سلبية فوق الطل�سمات على اجلدران‪..‬‬
‫�شعرت وقتها �أن ج�سدي يق�شعر و�أح�س�ست بربودة غريبة و�شديدة‬
‫يف اجلو‪ ..‬ثم �شعرت بدوار عنيف ورائحة ت�شبه العفن �أو الرطوبة‪..‬‬
‫ومل �أمتالك نف�سي من الرعب الذي اجتاحني ف�سقطت على الأر�ض‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫�أيقظني طارق وكرمي‪ ..‬فوجدت نف�سي على الفرا�ش يف الغرفة‬


‫منزعجا يف حالة هي�سترييا �شديدة قلت لهم‪� :‬أما زلنا يف‬‫ً‬ ‫فقمت‬
‫هذه الغرفة‪ ..‬هيا نخرج من هنا‪� ..‬إننا حماطون بال�سحر والطال�سم‬
‫والكفريات من جميع اجلهات‪ ..‬و�شرحت لهم املوقف فانزعجا ب�شدة‪..‬‬
‫وقمنا جمي ًعا فحزمنا �أمتعتنا ورحلنا‪ ..‬رحل كل منا �إىل بلده على �أن‬
‫ق�سطا من راحة الأع�صاب‬‫نلتقي بعد �أ�سبوع يف اجلامعة‪ ..‬لي�أخذ كل منا ً‬
‫ثم نلتقي فنبحث عن �سكن جديد خارج �أ�سوار املدينة اجلامعية‪..‬‬
‫‪h‬‬
‫‪99‬‬
100
‫)‪(7‬‬

‫يوما للراحة والهدوء ثم قررت يف‬


‫عندما عدت �إىل مدينتي �أخذت ً‬
‫علي وقت طويل‬
‫اليوم التايل �أن �أت�صل بال�سيدة راندا‪ ..‬وكنت قد م�ضى ّ‬
‫مل �أ�س�أل عنها‪ ..‬رمبا �أكرث من �ستة �أ�شهر‪ ..‬وكانت قد غريت م�سكنها‬
‫متاما �إىل‬
‫�إىل م�سكن جديد بعيدً ا عن �شقتها القدمية التي �أغلقتها ً‬
‫حني‪ ..‬فات�صلت بها‪..‬‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل بك يا مازن كيف حالك؟‬
‫‪ -‬كيف حالك �أنت يا �سيدتي مل �أ�سمع �صوتك منذ مدة؟‬
‫‪ -‬احلمد هلل �أتعافى‪.‬‬
‫‪ -‬تتعافني؟ من �أي �شيء؟‬
‫‪ -‬منذ وفاة والدي و�أنا مل �أذق الراحة‪..‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ احلاج طاهر تويف؟ متى؟‬
‫‪ -‬منذ قرابة ال�شهر‪.‬‬
‫‪ -‬البقاء هلل‪� ..‬س�آتي لزيارتك يف امل�ساء هل عندك مانع؟‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل بك يف �أي وقت‪..‬‬
‫ذهبت لها يف امل�ساء وطرقت الباب ففتح زوجها ر�ؤوف وقد ظهر‬
‫عليه الإعياء وك�أنه قد �أ�صبح يف ال�ستني من عمره‪..‬‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل يا مازن تف�ضل‪.‬‬
‫دخلت فوجدت راندا جال�سة على مقعد قد ظهر عليها احلزن‬
‫فجعلها تبدو �أكرب من �سنها ب�سنني‪ُ ..‬ترك ذراعها ببطء لتتناول ما‬
‫تريده من حولها‪ ..‬ال �أدري ما هذا‪� ..‬أيفعل بهما احلزن على احلاج‬
‫طاهر كل هذا‪� ..‬أم �أن هناك �أم ًرا ً‬
‫غام�ضا ال �أعلمه؟‬
‫قلت‪ :‬البقاء هلل لقد �أحزنني موت احلاج طاهر‪ ..‬و�أعتذر عن‬
‫ً‬
‫من�شغل فهو عامي الأخري وال�ضغط‬ ‫الت�أخري فقد كنت يف اجلامعة‬
‫�شديد جدً ا والوقت مزدحم ال يكفي لأي �شيء‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ال عليك املهم �أن تكون بخري‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬كيف حدث هذا هل كان ً‬
‫مري�ضا؟‬
‫فقالت‪ :‬ال �إنه حادث حريق‪ ..‬وما زلنا ال نعلم �سببه حتى الآن‪..‬‬
‫التحقيقات املبد�أية ترجح �أنه كان هناك �شيء مثل عود ثقاب �أو �شمعة‬
‫‪102‬‬
‫ً‬
‫مثل �سقطت و�أم�سكت نريانها يف ال�سجاد وال�ستائر وانت�شر احلريق يف‬
‫البيت ولكن التحقيق مل ينته بعد‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال حول وال قوة �إال باهلل‪ ..‬رحمه اهلل رحمة وا�سعة‪ ..‬هو من‬
‫ال�شهداء �إن �شاء اهلل‪..‬‬
‫�إذن وكيف حالكما هل احلزن هو ما �أثر على �صحتكما هكذا؟ لقد‬
‫خ�سر الأ�ستاذ ر�ؤوف من وزنه كث ًريا‪ ..‬و�شعره قد غلب ُ‬
‫بيا�ضه �سوا َده‪..‬‬
‫وعينه �شديدة احلمرة‪ ..‬و�أنت �أراك تتحاملني على نف�سك لتتكلمي �أو‬
‫تتناويل �شي ًئا‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ال لي�س ب�سبب احلزن‪ ..‬ف�أبي مات بعد �أن �أ�صابنا ما‬
‫�أ�صابنا‪� ..‬أما ر�ؤوف فقد �أ�صابه داء الهزال منذ �شهرين‪ ..‬ونرجح �أنه‬
‫داء ال�سكر‪ ..‬لكنه مل يجد وقتًا للك�شف والفحو�ص الطبية‪ ..‬و�أما �أنا‬
‫فقد �أ�صابني ال�شلل‪..‬‬
‫علي هذا الكالم كال�صاعقة‪ ..‬مل �أدر ما �أقول لهما ومل �أمتالك‬
‫نزل ّ‬
‫عيني ف�سقطت مني دمعة رحمة بهما‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وما �أخبار الأوالد؟‬
‫قالت‪ :‬احلمد هلل �إنهم بخري‪..‬‬
‫مل �أُطل البقاء عندهما بعد ذلك‪ ..‬عدت �إىل منزيل و�أنا مت�أمل‪..‬‬
‫كنت �أريد �أن �أ�ستلهم منهما القوة ملا �أواجه ولكن وجدتهما على �أ�سو�أ‬
‫حال‪..‬‬
‫‪hhh‬‬
‫‪103‬‬
‫عدت �أنا و�أ�صدقائي للجامعة‪ ..‬التقينا لنبحث عن م�سكن‪ ..‬ق�ضينا‬
‫كامل نبحث فيه عن �شقة �صغرية بال فائدة‪ ..‬يف �آخر الليل كان‬ ‫يوما ً‬‫ً‬
‫هناك �سم�سار �أخري علينا �أن نقابله‪ ..‬ترددنا كث ًريا ثم ذهبنا وقابلناه‪..‬‬
‫كان احلاج زين ال�سم�سار من �أقدم ال�سما�سرة يف املدينة‪ ..‬كان يف‬
‫اخلام�سة وال�ستني من العمر‪ ..‬وقد �أم�ضى عمره يف هذا العمل‪ ..‬قابلنا‬
‫يف مقهى �شعبي و�أخذ يتجاذب معنا حدي ًثا ود ًيا‪..‬‬
‫احلاج زين‪ :‬هل لكم كثري من الوقت تبحثون؟ يبدو عليكم الإرهاق‪.‬‬
‫�صباحا نبحث بال جدوى‪..‬‬
‫�أنا‪ :‬نحن منذ التا�سعة ً‬
‫‪ -‬وهل م�ضى عليكم كل ذلك الوقت منذ بدء العام الدرا�سي و�أنتم‬
‫بال �سكن؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬نحن ن�سكن يف املدينة اجلامعية ولكننا نريد تركها فهي غري‬
‫مريحة‪.‬‬
‫قال با�ستنكار‪ :‬غري �صحيح‪ ..‬املدينة اجلامعية يف بلدنا من �أف�ضل‬
‫ي�ش ُك �أحد منها قط‪.‬‬
‫ما ميكن ومل ْ‬
‫‪ -‬هذا ما حدث يا حاج‪.‬‬
‫‪ -‬يا بني ال تغ�ضب‪� ..‬أنا مثل والدك‪� ..‬صارحني‪ ..‬ما هي �شكواك‬
‫احلقيقية؟‬
‫‪ -‬ب�صراحة هي م�سكونة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪ -‬م�سكونة؟ كيف؟‬
‫فق�ص�صت له الق�صة كاملة وقلت له ما وجدناه‪ ..‬و�أن �آخر من �سكن‬
‫هذه الغرفة قبلنا هو من ت�سبب يف لعنها‪ ..‬قال‪ :‬وما ا�سمه هذا الفاجر؟‬
‫قلت له‪ :‬ال �أذكر وال يهم حتى‪ ..‬ما الذي �سنفعله لقد �سكنها منذ‬
‫ثالث �سنوات ومل ُتفتح بعده‪ ..‬حتى �أ�صبحت خرا ًبا‪.‬‬
‫قال كرمي‪� :‬أنا �أذكر ا�سمه‪ ..‬ا�سمه عاكف اجلوهري‪ ..‬لقد �س�ألت‬
‫امل�شرف عنه منذ الأ�سبوع الأول‪.‬‬
‫ف�ضحك احلاج زين �ضحكة عالية �ساخرة وقال‪ :‬هل �أنت مت�أكد؟‬
‫قال كرمي‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬عاكف اجلوهري �ساحر؟ �أنتم مل تقابلوه �إذن؟‬
‫قلنا له‪ :‬كيف نقابله؟ لقد ذهب منذ ثالث �سنوات وم�ؤكد �أنه عاد‬
‫�إىل بلده‪..‬‬
‫قال‪ :‬عاكف اجلوهري هنا يف املدينة وهو طبيب �أمرا�ض نف�سية‬
‫يعمل يف امل�ست�شفى العام‪ ..‬و�أنا من وفرت له ال�شقة التي ي�سكنها الآن‪..‬‬
‫وتقي يعرف اهلل‪ ..‬وال ميكن �أن تكون‬
‫وهو �صديق عزيز ورجل طيب‪ّ ..‬‬
‫له عالقة بال�سحر‪..‬‬
‫فقلت له‪� :‬أرجوك �أعطني هاتفه �أو �صلني به‪..‬‬
‫فقال‪ :‬بكل �سرور‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫على الفور كلم احلاج زين الدكتور عاكف‪.‬‬
‫و�س�أله مبا�شرة‪ :‬يا دكتور عاكف هل كنت يف املدينة اجلامعية منذ‬
‫ثالث �سنوات؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬هل كنت ت�سكن غرفة رقمها ‪٤٤٩‬؟‬
‫‪ -‬نعم وكيف عرفت؟‬
‫‪� -‬سكان الغرفة هذا العام معي الآن هنا ويريدون مقابلتك‪..‬‬
‫‪ -‬ملاذا ما الأمر؟‬
‫‪ -‬عندما نلتقي �سنحكي لك‪.‬‬
‫‪� -‬إذن بعد �ساعة �س�أنهي ورديتي و�أقابلكم يف املقهى الذي جتل�سون‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪� -‬شك ًرا يا دكتور‪..‬‬
‫ثم �أغلق الهاتف وقال‪� :‬أمل �أقل لكم �إنه رجل طيب جدً ا؟ �سي�أتي‬
‫بنف�سه �إليكم‪..‬‬
‫مرت ال�ساعة ك�أنها �سنة حتى ح�ضر الدكتور عاكف‪ ..‬رجل هادئ‬
‫املالمح مريح الوجه‪ ..‬ب�شو�ش‪ ..‬خفيف الظل على عك�س ما توقعنا �أن‬
‫نراه من �ساحر‪ ..‬مل يكد ي�سمع ما نعانيه حتى �ضحك من قلبه �ضحكة‬
‫�أثارت ا�ستياءنا‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫قال‪� :‬أعتذر لكم و�أقدر معاناتكم‪ ..‬ولكن ما ر�أيتموه ال عالقة له‬
‫بالغرفة‪ ..‬وال �صلة له مبا على اجلدران‪ ..‬فعندما �سكنت بالغرفة كانت‬
‫هذه الكتابات موجودة على احلائط ومل تكن هناك م�شكلة وع�شت بها‬
‫وال �شيء من �شكواكم حدث يل‪.‬‬
‫قلت له‪� :‬أهي �صدفة �أن توجد طال�سم ون�شاهد كيانات غريبة‬
‫تطاردنا؟‬
‫قال‪� :‬أنا ال �أنكر ما ر�أيتموه‪ ..‬ولكن بالفعل لي�س له �صلة بالكتابات‬
‫على اجلدران‪ ..‬الطال�سم ال تعمل بهذا ال�شكل‪ ..‬الطال�سم هي و�سائل‬
‫ال�ستح�ضار اجلن ولكن لي�ست مبجرد كتابتها ُت�ستح�ضر اجلن‪ ..‬ال بد‬
‫من طقو�س وعزائم وبخور وحتري �أوقات حمددة‪ ..‬و�أ�شياء �أخرى‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬ح�س ًنا لعل بقية الطقو�س قد متت من قبل ففتحت باب‬
‫الدخول‪ ..‬ومل يتم �صرف ما ح�ضر من الأرواح‪..‬‬
‫يوما يف هذه‬
‫أعان ً‬
‫قال‪ :‬رمبا ولكن هذا مل يحدث و�أنا فيها‪� ..‬أنا مل � ِ‬
‫الغرفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومب تف�سر عدم رغبتهم يف �إ�سكاننا فيها يف البداية �إال‬
‫مبوافقتنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال �أعرف ولكني �أعتقد لأنها كثرية النوافذ فهي غري مريحة‬
‫يف النوم وال�ضوء وال�ضو�ضاء يدخالنها ليل نهار‪ ..‬ومن ي�سكنها دائ ًما‬
‫ما يكرث ال�شكوى‪ ..‬ويقدم الطلبات لتغيري ال�سكن‪� ..‬إن ُ�سكناها مزعج‬
‫بالن�سبة لهم جدً ا‪ ..‬هذا ما عندي واهلل �أعلم‪..‬‬
‫‪107‬‬
‫انتهت هذه املقابلة و�أنا على يقني �أن «عاكف» هذا هو من وراء‬
‫الق�صة و�إنكاره كان مبثابة الت�أكيد يل على ذلك‪ ..‬ولكن ماذا �سنفعل؟‬
‫ال �شيء‪ ..‬ال بد �أن نرتكها على كل حال‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫وجدنا �شقة جديدة مب�ساعدة احلاج زين وانتقلنا فيها بالفعل‬


‫وبد�أنا فيها يومنا الأول‪� ..‬شقة �ضيقة ولكنها جيدة التهوية وم�ؤمنة‬
‫متاما وهادئة ن�ستطيع �أن نق�ضي بها وقتًا هاد ًئا‪ ..‬بالفعل كانت الليلة‬
‫ً‬
‫الأوىل هادئة وجميلة‪ ..‬مننا فيها جمي ًعا باطمئنان‪ ..‬و�أنا على وجه‬
‫اخل�صو�ص منت با�ستغراق �شديد‪ ..‬منت ما يقرب االثنتي ع�شرة‬
‫�ساعة‪ ..‬مل �أدر بنف�سي ومل �أ�سمع �صوت �آلة التنبيه‪ ..‬قمت و�أنا �سعيد‬
‫ون�شيط و�شعرت �أنها بداية جديدة ونهاية لكل ما عانيناه‪..‬‬
‫ومل �أكن �أعرف �أنها الليلة الأخرية التي �س�أنام فيها مطمئ ًنا‪� ..‬أو‬
‫�أعرف فيها طع ًما لراحة البال‪..‬‬

‫‪h‬‬

‫‪108‬‬
‫)‪(8‬‬

‫يف ال�صباح ارتدينا مالب�سنا وناق�شنا م�شكلة عدم جتهيز ال�شقة‪..‬‬


‫فهي غري جمهزة يف املطبخ وال احلمام وال الإ�ضاءة وال توجد �شماعات‬
‫للمالب�س‪� ..‬أ�شياء ب�سيطة ولكن ا�ستكمالها مهم ومرهق يف الوقت‬
‫نف�سه‪ ..‬اتفقنا على تق�سيم هذه املهام بيننا‪� ..‬سيذهب ك ٌل منا يف‬
‫اجتاه‪ ..‬اخرتت لنف�سي �أب�سط مهمة‪ ..‬فقلت �أنني �س�أ�شرتي �شماعتني‬
‫واحدة بجوار باب حجرة النوم‪ ..‬وواحدة على باب احلمام من الداخل‬
‫وواحدة �صغرية بجوار باب ال�شقة الرئي�سي للمفاتيح‪ ..‬واتفقت‬
‫معهما على �أماكن تعليقها بالتحديد حتى ال نختلف �إذا علقتها قبل‬
‫ح�ضورهما‪ ..‬وافق �صديقاي على ذلك واتفقنا �أن نلتقي يف امل�ساء حيث‬
‫�سنعود للبيت يف �أوقات خمتلفة‪..‬‬

‫‪109‬‬
‫عدت �إىل املنزل وتناولت الطعام‪ ..‬وبعدما �أخذت قيلولة الغداء‪..‬‬
‫قمت لأبد�أ يف تعليق �شماعات املالب�س تلك‪ ..‬ولكني فوجئت ب�أن‬
‫رفيقي دق‬
‫ّ‬ ‫الأماكن التي اتفقنا عليها للتعليق بها �أثر‪ ..‬يبدو �أن �أحد‬
‫م�سما ًرا بالفعل يف اجلدار حتى �إنه �أ�سقط جز ًءا من طالء احلائط‬
‫رفيقي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وبيا�ضه على الأر�ض من �أثر الطرق‪ ..‬ناديت على‬
‫�أنا‪ :‬من منكما دق تلك امل�سامري؟ لقد ت�شوه اجلدار بال داعي‪.‬‬
‫قال طارق‪� :‬أنا مل �أدق �شي ًئا‪ ..‬ولي�س معي مطرقة وال م�سامري حتى‪.‬‬
‫ورد كرمي‪� :‬إنه �أنت يا مازن من تعهد بتثبيت ال�شماعات‪..‬‬
‫قلت لهما‪� :‬أنا مل �أفعل �أي �شيء‪� ..‬أنا هممت �أن �أبد�أ الآن فوجدت‬
‫هذا الأثر‪ ..‬هل ر�أيتماه من قبل؟‬
‫قالوا‪ :‬ال‪ ..‬فال�شقة جديدة وجتهيزها حديث‪ ..‬ومل ي�سكن قبلنا‬
‫�أحد‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ذلك؟ �إن الأثر يف نف�س املكان الذي �أ�شرتُ �إليه يف‬
‫ال�صباح‪ ..‬وكذلك يف احلمام وبجوار الباب‪� ..‬إنه �أثر م�سمار مت دقه ثم‬
‫خلعه‪ ..‬يف مكان دقيق جدً ا مقارنة مبا �أ�شرت �إليه بيدي هذا ال�صباح‪..‬‬
‫قال كرمي بقلق‪ :‬ماذا تق�صد؟‬

‫‪110‬‬
‫قلت وقد بدا على �صوتي الإحباط‪� :‬أق�صد �أننا مل يكن معنا رابع‪..‬‬
‫واتفقنا على و�ضع م�سامري يف مكان بعينه‪ ..‬فوجدنا �أثر دق م�سامري يف‬
‫نف�س املكان بعدها ب�ساعات‪ ..‬حتى لو دخل �أحد هذا املنزل يف غيابنا‬
‫ف�أ ّنى له �أن يعرف ما اتفقنا عليه ويحدد مكانه بدقة‪ ..‬وهذا لي�س له‬
‫�سوى معنى واحد‪.‬‬
‫�صرخ طارق‪ :‬اللعنة‪ ..‬اللعنة على ذلك العفريت‪ ..‬اللعنة على‬
‫عاكف‪ ..‬اللعنة عليك يا مازن‪ ..‬اللعنة على اجلميع‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬وما �ش�أين �أنا‪� ..‬أ�أنا �أح�ضرته هنا؟‬
‫علي‪ ..‬نظر �إ ّ‬
‫يل نظرة حادة‪ ..‬ثم ذهب �إىل الغرفة وارتدى‬ ‫مل يرد ّ‬
‫مالب�سه �سري ًعا وخرج‪..‬‬
‫وقف كرمي ً‬
‫حمبطا فاقد احليلة وقال يل‪ :‬ماذا �سنفعل؟‬
‫‪hhh‬‬

‫جل�ست وكرمي نحاول �أن نلهي �أنف�سنا يف �أي �شيء لنتلهى عن الأفكار‬
‫التي تع�صف بعقل كل منا‪ ..‬كنا نلعب الورق قبل �أن ن�سمع �صوت طرق‬
‫�شديد على الباب‪ ..‬ظننته «طارق»‪ ..‬فقمت لأفتح فلم �أجد �أحدً ا‪..‬‬
‫�أوج�ست يف نف�سي خيفة‪ ..‬دخلت فوجدت «كرمي» ينظر يل يف ذهول‬

‫‪111‬‬
‫وقبل �أن يهم بالكالم �سمعنا نف�س الطرق على باب احلمام‪ ..‬جرينا‬
‫�إىل احلمام‪ ..‬ف�سمعنا الطرق على باب غرفة النوم‪ ..‬فوقفنا حائرين‪..‬‬
‫ف�صرخت ب�صوت مرتفع‪ :‬اذهب �إىل اجلحيم �أيها امللعون‪� ..‬أتظن‬
‫�أنك �ستحول حياتنا �إىل جنون ب�أفعالك‪ ..‬لن �أ�سمح لك‪� ..‬س�أ‪........‬‬
‫قطع كالمي ذلك ال�شيء الذي ر�أيته فج�أة يقفز يف ال�صالة‪..‬‬
‫�إنه �ضفدع‪..‬‬
‫وقفت �أنظر �إليه يف تعجب‪ ..‬بينما حترك كرمي ب�سرعة ليم�سكه‪..‬‬
‫فقفز �إىل داخل الغرفة‪ ..‬فدخل كرمي �سع ًيا خلفه‪..‬‬
‫ف�سمعته ي�صرخ‪ :‬ماااااازن‪ ..‬تعال ااااا‪..‬‬
‫دخلت فوجدت ثعبا ًنا كب ًريا يلتهم ال�ضفدع ثم نظر �إلينا وارتفع‬
‫بر�أ�سه وج�سمه حتى �أ�صبح يف طول �أج�سامنا‪..‬‬
‫فتحركنا للخلف‪ ..‬و�أ�شرت �إىل كرمي �أن حترك بهدوء ودون �صوت‬
‫حتى نخرج من الغرفة‪ ..‬وما �إن و�صلنا �إىل الباب حتى حتركنا للخارج‬
‫ب�سرعة‪ ..‬و�أغلقنا الباب‪ ..‬ونزلنا م�سرعني من ال�شقة‪ ..‬كان �أول �شيء‬
‫نفكر فيه هو �شخ�ص متخ�ص�ص يف الأفاعي حتى يخل�صنا من ذلك‬
‫ال�شيء املحبو�س يف الغرفة‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫ثالث �ساعات من البحث عن ذلك ال�شخ�ص حتى عرثنا عليه‪..‬‬
‫م�صطفى‪ ..‬ذلك الرفاعي الكبري الذي يعرفه النا�س يف قرية بجانب‬
‫املدينة‪ ..‬رجل �أ�سمر ق�صري فيه �شيء من البدانة‪ ..‬ق�صري ال�شعر‬
‫�أ�سوده‪ ..‬جهوري ال�صوت تبدو عليه هيئة الوجاهة القروية برغم كونه‬
‫فالحا �شديد الب�ساطة‪� ..‬أخربناه اخلرب ثم ا�صطحبناه �إىل البيت‪..‬‬
‫ً‬
‫ولأكرث من �ساعة ظل م�صطفى يبحث عن ذلك الثعبان بال فائدة‪..‬‬
‫م�صطفى‪ :‬يبدو �أنه ال يوجد ثعبان هنا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لعله ذهب و�سوف يعود‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال يوجد جحر له يف البيت‪ ..‬البيت �أثاثه ب�سيط و�أركانه‬
‫مك�شوفة‪ ..‬ال يوجد جحر‪ ..‬ف�إما �أن هذا الثعبان جاء يبحث عن �شيء‬
‫ولن يعود‪� ..‬أو �أنه يف الأ�سا�س لي�س ثعبا ًنا‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬رمبا جن من عوامر البيت‪ ..‬فاجلن العوامر يت�شكل ب�شكل‬
‫الثعابني كث ًريا‪..‬‬
‫قال هذا الكالم ونظر �إلينا وك�أنه يعرف كل �شيء‪..‬‬
‫فقلت له‪ :‬رمبا فنحن نعاين من مطاردة منذ مدة‪..‬‬
‫احك يل‪.‬‬
‫فقال‪ِ :‬‬
‫‪113‬‬
‫�أخربته باخت�صار ما مررنا به‪.‬‬
‫�شخ�صا قد يفيدك يف مثل هذا‬ ‫ً‬ ‫م�صطفى‪ :‬ا�سمع‪� ..‬أنا �أعرف‬
‫الكالم‪ ..‬تعالوا معي‪ ..‬رمبا يكون عنده حل �أو ن�صيحة على الأقل‪� ..‬إنه‬
‫احلاج �إبراهيم‪..‬‬
‫فوافقنا وخرجنا معه على الفور‪..‬‬
‫ذهبنا �إىل احلاج �إبراهيم يف بيته‪ ..‬رجل م�سن �أبي�ض ال�شعر‬
‫واللحية‪ ..‬قمحي الب�شرة عايل البطن‪ ..‬يرتدي خا ًمتا كب ًريا يف يده‬
‫اليمنى و�آخر مثله يف الي�سرى‪ ..‬بيته متوا�ضع يف الطابق الأر�ضي ويبدو‬
‫رجل وامر�أة يخرجان من عنده‬ ‫عليه �أن النا�س تق�صده كث ًريا‪ ..‬قابلنا ً‬
‫يبدو �أنهما كانا على موعد معه � ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬قابل م�صطفى ُم َر ّح ًبا‪ ..‬ونظر‬
‫�إلينا نظرة مت�سائلة‪..‬‬
‫فبادره م�صطفى‪ :‬معي �أ�صدقاء يريدون امل�شورة‪..‬‬
‫ق�ص�صنا عليه ما ر�أينا فقال‪� :‬أرى �أن ثعبانكم هو جن‪ ..‬ولكن ال‬
‫ب�أ�س من �أن ن�س�أل الرمل ف�سنجد عنده اجلواب لنعرف حتى ما �س ُّر كل‬
‫ما يحدث‪ ..‬وهل هو عاكف �أم �أن الأمر �أبعد من ذلك؟‬
‫فقلت له‪ :‬الرمل؟ ال �أنا ال �أريد ذلك‪� ..‬أنا ال �أ�ؤمن بهذه الأ�شياء‪..‬‬
‫ولن �أ�ست�شري الرمل �إمنا جئنا لطلب م�شورتك‪ ..‬ومل �أطلب غري ذلك‬
‫وقد �أ�شرت علينا بر�أيك �شك ًرا لك‪..‬‬
‫‪114‬‬
‫فقال م�صطفى‪ً :‬‬
‫مهل يا مازن �إمنا هو يريد امل�ساعدة‪..‬‬
‫فقلت‪� :‬أعرف‪ ..‬ولكن �أنا ال �أريد الرمل وال تلك الكهانات‪� ..‬أنا‬
‫�أ�صلي وال �أريد �شبهة تبطل �أعمايل‪..‬‬
‫�شعرت �أن �إبراهيم قد ا�ستاء من كالمي‪..‬‬
‫قال‪ :‬هل تظن �أين دجال �أو �أمار�س ال�شعوذة؟ ما �أحدثك عنه هي‬
‫علوم جليلة‪..‬‬
‫علوما جليلة لوجدتها تنت�شر وت�صنع يف العلن وال متار�س‬
‫‪ -‬لو كانت ً‬
‫�س ًرا خلف الأبواب املغلقة‪..‬‬
‫‪ -‬جرب � ًأول ثم احكم بنف�سك �أهو �سحر �أم علم جليل‪..‬‬
‫كانت الظروف التي مررت بها تع�صر ذهني وت�شتتني يف كل اجتاه‪..‬‬
‫ً‬
‫احتمال ولو واحد باملئة �أن ال يكون هناك ُكفر‬ ‫�شعرت �أنه لو �أن هناك‬
‫يف الأمر فال يجب �أن �أفوت الفر�صة لأعرف احلقيقة‪� ..‬أو رمبا هكذا‬
‫خدعت نف�سي لأروي ف�ضويل حول �س�ؤال الرمل هذا‪ ..‬مطمئ ًنا نف�سي‬
‫�أنه لي�س بكفر‪..‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا ميكن �أن �أرى و�أحكم‪.‬‬
‫‪ -‬تعال معي‪ ..‬وال ت�أت �أنت يا م�صطفى وال كرمي‪..‬‬

‫‪115‬‬
‫قام ف�أدخلني حجرة �صغرية لي�س بها �سوى من�ضدة ومر�آة‬
‫ومقعدين وجمموعة ُ�س ُت على اجلدران وركن به مكتبة كتب قدمية‪..‬‬
‫تلك احلجرة لها بابان دخلت من الأول ثم اجتزنا الغرفة ً‬
‫و�صول للباب‬
‫الثاين‪ ..‬فتحه فوجدت ُ�سل ًما يقود �إىل �أ�سفل‪ ..‬ع�شر درجات لأ�سفل ثم‬
‫م�ساحة مظلمة مل �أتبني معاملها‪ ..‬اجتزناها �إىل م�ساحة �أخرى خلف‬
‫�ستار دخلتها ف�شعرت �أين �أحيا جز ًءا من �أ�سطورة‪� ..‬إنها حرف ًيا ت�شبه‬
‫كهوف الأ�ساطري‪ ..‬فاجلدران �صخرية متعرجة بها �أجزاء ناتئة و�أجزاء‬
‫منتفخة و�أخرى غائرة‪ ..‬اجلدران يف عمومها رمادية متداخل معها‬
‫لون �أ�سود‪ ..‬ك�أن هذا اجلزء من البيت حمفور يف جبل‪ ..‬يف اجلدار‬
‫�أكرث من كوة موزعة على اجلدران الثالثة بكل كوة �شمعة ق�صرية‬
‫قطرها ال يقل عن �أربع بو�صات‪ ..‬ت�ضيء ب�شكل جيد‪ ..‬ويف منت�صف‬
‫الغرفة من�ضدة م�ستديرة خ�شبها قدمي وك�أنها ُ�صنعت من �ألف عام‪..‬‬
‫وعلى املن�ضدة �شمعتان‪ ..‬وحمفور يف �أحد اجلدران �أرفف عليها كتب‬
‫خمطوطة لي�ست مطبوعة‪ ..‬يبدو �أنها كتب �أثرية من مئات ال�سنني‪..‬‬
‫ولفائف خمطوطات‪ ..‬ال �شيء يف هذه الغرفة ُ�صنع يف الع�صر احلديث‬
‫�أبدً ا‪..‬‬
‫�أوقفني عند املن�ضدة حيث ال مقعد يف تلك الغرفة‪ ..‬و�أ�ضاء‬
‫ً‬
‫خمطوطا‪ ..‬مل يكن‬ ‫ال�شمعتني‪ ..‬وذهب �إىل �أحد الأرفف وحمل كتا ًبا‬
‫جمرد كتاب‪ ..‬بدا �أنه �سفر من �أمهات الكتب‪ ..‬ثقيل �ضخم ت�شبه �أوراقه‬
‫�أوراق الربدي‪ ..‬و�أتى بقطعة رخام وفحم وبخور من فوق �أحد الرفوف‬
‫و�أ�شعل البخور وو�ضع الكتاب �أمامي وقال‪ :‬تعامل �أنت مع الكتاب‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال �أفهم ماذا �أ�صنع؟‬
‫‪116‬‬
‫‪ -‬كل �شيء مكتوب يف الكتاب ولكن التزم مبا هو مكتوب‪..‬‬
‫قال ذلك ثم التفت وخرج من الغرفة يف حلظة‪.‬‬
‫نظرت �إىل ذلك ال�سفر ال�ضخم فوجدته مكتو ًبا بلغة عربية وقد‬
‫ُكتب عليه بخط يد كبري ووا�ضح باللون الأحمر‪:‬‬
‫((كتاب الطالع الفلكي والرملي))‬
‫هذا الكتاب هو خال�صة ما و�صل �إىل �أيدينا من‪:‬‬
‫كتاب اله�شتمرج الهندي‬
‫كتاب الربيدج الفار�سي‬
‫علم �سر العدد العربي‬
‫علم النقطة من الرمل ال�شريف‬
‫هذا الكتاب دائري مت�صل �أوله ب�آخره يف احل�ساب‬
‫الفلكي‪� ..‬أي لي�س له بداية وال نهاية‬
‫كان الكتاب يف يدي له ت�أثري �آخر‪� ..‬شعرت ب�سحر رهيب‪�َ ..‬س َح َر‬
‫عقلي‪ ..‬و�أثار ف�ضويل �أكرث و�أكرث‪� ..‬شعرت �أنه ال ب�أ�س من التجربة‪..‬‬
‫�س�أطرح �س� ًؤال يف الكتاب وت�أتي الإجابة من الكتاب‪ ..‬هذا كل ما يف‬
‫الأمر‪ ..‬هو كاللعبة ال ا�ستعانة بجن وال انتظار لإخبارهم وال تدخلهم‪..‬‬
‫‪hhh‬‬
‫‪117‬‬
‫فتحت الكتاب ف�إذا مكتوب فيه بخط كبري‪:‬‬
‫"خط يف ورقة بي�ضاء ثالثة خطوط طويلة على �شكل‬ ‫ُ‬
‫نقاط‪ ..‬بدون �أن تعد‪ ..‬احذف النقاط اثنتي ع�شرة نقطة‬
‫اثنتي ع�شرة نقطة‪ ..‬ما تبقى يف النهاية هو ما نطق به �سر‬
‫العدد‪ ..‬احفظه جيدً ا واخرت ال�س�ؤال الذي تريد ا�ست�شارة‬
‫الفلك يف الإجابة عليه‪ ..‬واحفظ احلرف املكتوب �أمامه فهو‬
‫مفتاح الإجابة‪ ..‬اذهب �إىل ال�صفحة التي عنوانها احلرف‬
‫مفتاح الإجابة �ستكون هي بالن�سبة لك رقم ‪ ١‬وما يليها رقم‬
‫‪ ٢‬وقم بعد ال�صفحات بعدد نقاط �سر العدد‪ ..‬ف�إذا و�صلت‬
‫لل�صفحة الأخرية قم بعد ال�سطور من �أول ال�صفحة بعدد‬
‫نقاط �سر العدد‪.‬‬
‫انرث الرماد على هذا ال�سطر الأخري واطرق ع�شر مرات‬
‫على الكتاب هناك فقط �ستجد الإجابة‪..‬‬
‫ولكن احذر‪� ..‬إذا بد�أت الطق�س فيجب �أن تكمله للنهاية‪..‬‬
‫وال ت�س�أل الطالع �أكرث من �س�ؤال واحد يف الليلة الواحدة‪..‬‬
‫ال تخطئ يف العد وال تقطع الطق�س مهما كانت الأ�سباب‪..‬‬
‫�إذا مل تلتزم بهذه ال�شروط ف�أن�صحك �أال تبد�أ �أبدً ا"‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫كان الكتاب بني يدي ورائحة البخور وجو الغرفة كل ذلك ي�ضعني‬
‫يف حالة نف�سية مت�أهبة لأي �شيء‪� ..‬شعرت �أن الأمر ب�سيط وطريقة‬
‫اال�ستخدام �سهلة و�سريعة‪ ..‬ولكن �س� ًؤال واحدً ا‪ ..‬فما هو ال�س�ؤال الذي‬
‫�س�أختار؟ قلبت ال�صفحة فوجدت ال�صفحة الأوىل‪ ..‬باب احلياة‪ ..‬اثني‬
‫ع�شر �س� ًؤال‪ ..‬يف اثني ع�شر �سط ًرا‪ ..‬ال�صفحة التالية باب املوت نف�س‬
‫ال�شيء كال�صفحة الأوىل‪ ..‬ويليهما باب املال وباب العمل وباب الزواج‬
‫وباب الأبناء وباب ال�سعادة وباب الرزق وباب ال�صحة‪ ..‬كل �صفحة‬
‫اثني ع�شر �سط ًرا‪ ..‬كل �سطر �س�ؤال وعلى ر�أ�س كل �س�ؤال حرف هجاء‬
‫وهو مفتاح الإجابة‪ ..‬نظرت حويل فوجدت ور ًقا �أبي�ض وقلمني ر�صا�ص‬
‫على رف خلفي‪ ..‬تناولتهم وخططت اخلطوط الثالثة كل خط على‬
‫�سطر كامل يف الورقة‪ ..‬ثم بد�أت بحذف النقاط‪ ..‬وبقي يف النهاية‬
‫ت�سع نقاط‪..‬‬
‫هذا ما نطق به �سر العدد �إذن‪ ..‬ت�سعة‪.‬‬
‫حتريت كث ًريا يف �أي باب �أ�س�أل و�أي �س�ؤال �أختار‪ ..‬مل يخربين احلاج‬
‫�إبراهيم كيف �أح�صل على ال�س�ؤال املتعلق مبا �أعاين‪ ..‬وال �أ�ستطيع �أن‬
‫�أخرج الآن لأ�س�أله‪ ..‬فال ينبغي �أن �أقطع الطق�س‪.‬‬
‫�إذن ال بد يل �أن �أ�صل بنف�سي ملا �أريد‪..‬‬
‫ح�س ًنا ما الذي يهمني ب�شدة �أكرث لأ�س�أل فيه؟ هذه الفر�صة رمبا‬
‫لن ُتتح يل مرة �أخرى‪ ..‬مل �أحتري �أكرث‪ ..‬قلبت �سري ًعا يف الكتاب مرة‬

‫‪119‬‬
‫�أخرى وح�سمت �أمري واخرتت باب املوت‪ ..‬كان ال�س�ؤال الذي اخرتته‬
‫هو‬
‫(كيف �س�أموت؟)‬
‫ذهبت �إىل مفتاح الإجابة وعددت ت�سع �صفحات ثم عددت ت�سعة‬
‫�سطور‪ ..‬كانت ال�صفحة خالية من �أي كتابة‪� ..‬إال من م�سحوق �أ�سود‬
‫على ال�سطر التا�سع‪ ..‬بقيت خطوة الرماد‪ ..‬مل �أعرف �أي رماد ميكن‬
‫�أن �أنرثه‪ ..‬نظرت حويل لعلي �أجد �إبراهيم لأ�س�أله‪ ..‬مل �أجده‪ ..‬ولكن‬
‫ا�صطدمت عيني بالفحم والبخور بجانبي الذي �أ�شعله قبل �أن مي�شي‪..‬‬
‫ح�س ًنا هذا هو الرماد‪ ..‬ولكن �أي كمية يجب �أن �أنرث؟ �أخذت كل الكمية‬
‫املوجودة ونرثتها على ال�سطر التا�سع‪ ..‬وطرقت الكتاب ع�شر مرات‪..‬‬
‫وكلما طرقت على الكتاب طرقة‪ ..‬كان خليط امل�سحوق والرماد‬
‫انتظاما مع كل طرقة‪..‬‬
‫ً‬ ‫يتحرك على ال�سطر ويتخذ � ً‬
‫أ�شكال تبدو �أكرث‬
‫متاما مكو ًنا جملة‪ ..‬كان هذا بالن�سبة‬
‫حتى الطرقة الأخرية‪ ..‬انتظم ً‬
‫مفزعا‪ ..‬ولكن لي�س �أكرث من اجلملة التي تكونت‪..‬‬
‫يل ً‬
‫متاما ال لب�س فيها‪:‬‬
‫كانت اجلملة وا�ضحة ً‬
‫"�ستموت وحيدًا خائ ًفا و�سيلطخ دمك الأر�ض واجلدار"‬

‫‪h‬‬
‫‪120‬‬
‫)‪(9‬‬

‫خرجت من عند �إبراهيم و�أنا م�أخوذ العقل‪ ..‬مل �أكد �أ�سمع ما يدور‬
‫حويل وال �أذكر حتى �إن كنت �سلمت عليه قبل �أن �أخرج �أم �أين خرجت‬
‫من �سردابه ال�سري �إىل ال�شارع مبا�شرة‪ ..‬كانت كلمات ذلك الكتاب‬
‫الغريب تدور يف ذهني‪..‬‬
‫�سر العدد‪ ..‬الرمل ال�شريف‪ ..‬باب املوت‪ ..‬باب الرزق‪ ..‬اله�شتمرج‪..‬‬
‫الربيدج‪� ..‬ستموت وحيدً ا‪� ..‬ستموت وحيدً ا‪� ..‬سيلطخ دمك الأر�ض‬
‫واجلدار‪ ..‬دجل و�شعوذة‪ ..‬كهف وبخور‪� ..‬ستموت وحيدً ا‪..‬‬
‫مل �أ�ستفق �إال و�أنا �أمام �سيارة ت�ضرب نفريها بعنف ورجل يطل‬
‫بر�أ�سه من نافذة ال�سيارة ً‬
‫موبخا يل‪ ..‬وكرمي ي�شدين �إىل جانب‬
‫الطريق‪ ..‬فقد كدت �أموت حتت �إطارات ال�سيارة من غياب وعيي‪..‬‬
‫‪121‬‬
‫كنت �شاردًا �إىل درجة �أين مل �أجد م�صطفى‪ ..‬الذي �أح�ضرين وال بد‬
‫�أنه خرج معنا‪ ..‬وال �أعرف �أين ذهب‪ ..‬قلت لكرمي �أريد �أن �أذهب �إىل‬
‫البيت‪..‬‬
‫يف الثانية ع�شرة ً‬
‫ليل و�صلنا املنزل‪ ..‬مل يكن طارق قد عاد بعد‪..‬‬
‫فدخلت غرفتي ومنت‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫كانت ال�ساعة تدق الثانية والن�صف عندما ا�ستيقظت على �صوت‬


‫غريب‪ ..‬كان ال�صوت ي�أتي من خالل الفرا�ش ك�أن �أحدً ا ما حتت‬
‫ال�سرير يتكلم‪ ..‬كان ال�صوت همهمة وو�شو�شة‪ ..‬و�أ�صوات �أنني وفحيح‬
‫ك�صوت الثعابني‪ ..‬ا�سرتقت ال�سمع‪� ..‬إنها لغة‪ ..‬كلمات وجمل كاملة‪..‬‬
‫�إنها تبدو كلغة عربية‪ ..‬يتكلم بها �شخ�ص يبدو على �صوته الذعر‬
‫واللهفة‪� ..‬سريع ولكن اللغة وا�ضحة‪ ..‬وكان الربد �شديدً ا لدرجة‬
‫التجمد رغم �أنها كانت ليلة معتدلة الطق�س‪ ..‬توقف ال�صوت فج�أة‬
‫�شخ�صا يقف بجوار فرا�شي ويحدق يف وجهي يف‬ ‫فهممت بالقيام لأجد ً‬
‫الظالم‪ ..‬كان قري ًبا حتى �إين �أكاد �أ�شم �أنفا�سه‪ ..‬كان الظالم ً‬
‫ثقيل‬
‫فلم �أتبني وجهه‪ ..‬هل هو كرمي؟ �أهو طارق؟ ولكن هذا ال�شعر املنت�شر‬
‫وال�صمت القاتل والتحديق يف الظالم؟ يا �إلهي �إنها امر�أة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬من؟‬

‫‪122‬‬
‫مل ترد‪ ..‬ر�أيتها يف الظالم تهبط �إىل �أ�سفل ببطء‪..‬‬
‫م�سرعا وفتحت النور ونظرت حتت ال�سرير‪ ..‬ولكن ال �شيء‪..‬‬
‫ً‬ ‫قمت‬
‫رفعت ر�أ�سي فر�أيتها تخرج من الغرفة‪..‬‬
‫خارجا من الغرفة‪ ..‬فلم �أجد �أحدً ا‪ ..‬بحثت يف كل مكان بال‬
‫عدوت ً‬
‫جدوى‪..‬‬
‫فذهبت لأغ�سل وجهي‪ ..‬وتو�ض�أت وهممت �أن �أجل�س ً‬
‫قليل لأقر�أ‬
‫القر�آن‪ ..‬ف�إذا بطارق يفتح الباب ويدخل‪..‬‬
‫طارق‪ :‬ال�سالم عليكم‪.‬‬
‫قادما من اخللف‪ :‬وعليكم ال�سالم �أين كنت يا طارق؟‬
‫كرمي ً‬
‫طارق‪ :‬كنت مع بع�ض الأ�صدقاء يف املقهى‪ ..‬مازن �أريد �أن �أحتدث‬
‫معك يف مو�ضوع‪..‬‬
‫كرمي‪ :‬خري يا طارق؟‬
‫طارق‪� :‬أريد �أن �أتكلم مع مازن فيما و�صلنا له �أنا و�أنت‪.‬‬
‫كرمي‪ :‬طارق‪ ..‬لي�س هذا وقتًا منا�س ًبا‪.‬‬
‫طارق‪ :‬بل هو الوقت الأن�سب‪ ..‬يجب �أن يعرف احلقيقة‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬ما بك يا طارق ما الذي و�صلت له؟‬

‫‪123‬‬
‫قال طارق مبا�شرة‪ :‬يا مازن �أنت �صديق عزيز ويجب �أن تذهب‬
‫ل�شيخ ما‪ ..‬لأن كل الظواهر التي ن�شكو منها هي ب�سببك �أنت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا؟ �إننا نعاين من نف�س الأ�شياء م ًعا‪ ..‬ر�أيناها جمي ًعا منذ‬
‫�سك ّنا تلك الغرفة‪� ..‬أم �أنني خمطئ؟‬
‫قال كرمي مرتددًا‪ :‬لي�س بال�ضبط‪.‬‬
‫قلت م�ستنك ًرا‪ :‬ماذا؟‬
‫قال طارق وك�أنه ي�صفعني �صفعة عنيفة‪ :‬كل الظواهر ارتبطت‬
‫بوجودك‪ ..‬ومل ن�شاهد �أي �شيء ونحن وحدنا‪ ..‬دائ ًما ال بد �أن تكون‬
‫متواجدً ا‪ ..‬وما �إن تخرج �أو تغيب �أو ت�سافر حتى يختفي كل �شيء‪ ..‬هذه‬
‫املعاناة مرتبطة بك �أنت‪..‬‬
‫�شعرت بدوار خفيف ومل �أرد‪.‬‬
‫قال كرمي‪ :‬يا مازن �أنت �صديقنا ولن نتخلى عنك ولكن يجب �أن‬
‫ت�سعى ل�شيخ ممن يعاجلون بالقر�آن لأنه يبدو �أن هذا ال�شيء مرتبط‬
‫بك �أنت‪.‬‬
‫حاولت �أن �أمللم �شتات �أفكاري‪ ..‬نك�ست ر�أ�سي لأ�سفل وو�ضعت كفي‬
‫على وجهي وك�أين �أخبئ وجهي منهما‪ ..‬وقلت‪ :‬هذا كالم فارغ‪ ..‬الغرفة‬
‫مليئة بالطال�سم‪ ..‬وال�ضوء يعبث بها‪ ..‬وعاكف كان �ساح ًرا‪ ..‬وكانوا‬
‫يعرفون ذلك قبل �أن ن�سكن ومل يكونوا يريدون �إ�سكاننا بالغرفة لذلك‪..‬‬
‫‪124‬‬
‫كان كالمي يبدو مفك ًكا‪ ..‬فلم �أكن �أ�ستطيع �أن �أفكر‪ ..‬كنت �أحاول‬
‫�إثبات براءتي من املوقف ب�أي �شكل‪ ..‬كان �صوتي مرجت ًفا‪ ..‬كنت �أخ�شى‬
‫�صحيحا‪ ..‬ورمبا كنت �أ�شك يف ذلك � ً‬
‫أي�ضا ولكني �أريد‬ ‫ً‬ ‫�أن يكون كالمهما‬
‫دفع هذه الأفكار بعيدً ا عني ب�أي �شكل‪ ..‬فلم �أكن على ا�ستعداد ملواجهة‬
‫امل�شكلة وحدي بدون عون‪ ..‬كما مل �أكن �أريد �أن �أ�شعر �أين �سبب م�شكلة‬
‫�صديقي و�سوء �أحوالهما‪ ..‬ما �أ�سو�أ �أن �أكون �سب ًبا يف متاعب الآخرين‪..‬‬
‫ّ‬
‫لف ال�صمت تلك الغرفة دقائق حتى ك�سر ال�صمت رنني الهاتف‪..‬‬
‫�صباحا‪ ..‬من �سيكلمني يف هذا الوقت؟‬
‫ما هذا؟ ال�ساعة الثالثة ً‬
‫�إنها ال�سيدة راندا‪ ..‬هناك خطب ما �إذن‪..‬‬
‫�أنا‪ :‬ال�سيدة راندا كيف حالك؟‬
‫ردت راندا متالحقة الأنفا�س وهي يف حالة فزع رهيبة‪ :‬مازن كيف‬
‫�أنت‪ ..‬اع ِنت بنف�سك جيدً ا‪ ..‬نحن حتت هجوم عنيف‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تق�صدين؟‬
‫قالت‪ :‬التحقيقات �أثبتت �أن �أبي مل يكن يف بيته حريق وال �شموع وال‬
‫�شيء‪ ..‬وظهر �شاهدان كانا خمتبئني من يوم احلادث خو ًفا‪ ..‬فقد كانا‬
‫ً‬
‫�صراخا �شديدً ا‬ ‫ميران بجوار البيت ليلة وفاة �أبي وقاال ب�أنهما �سمعا‬
‫مرع ًبا مل ي�سمعاه من قبل‪ ..‬و�صوت حتطم زجاج و�أ�صوات ا�ستغاثة‪..‬‬
‫ومل يكن يف البيت زجاج مك�سور‪ ..‬وال �سبب وا�ضح للحريق‪ ..‬يا مازن‬
‫نحن حتت هجوم �أظن �أنه انتقام‪� ..‬إنه ال�شيطان نرجال مرة �أخرى‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫كل من ح�ضر تلك الليلة اللعينة منذ �شهور يتعر�ض للهجوم‪� ..‬أنا‬
‫وزوجي كما ر�أيتنا‪ ..‬و�أبي‪ ..‬حتى نزار‪ ..‬وال �أدري ب�ش�أنك ولكن يجب‬
‫وداعا يا �أخي‪..‬‬
‫�أن ت�أخذ حذرك‪ ..‬ال �أحد يعلم ما ميكن �أن يحل بنا‪ً ..‬‬
‫كانت كلمات راندا مبثابة ال�صفعة التي �أيقظتني من كل الوهم‪..‬‬
‫نعم �إن الهجوم الذي ينتابنا كان ب�سببي‪ ..‬هذا حقيقي‪ ..‬كل‬
‫�صباحا‪� ..‬إنه موعد اجلل�سة‪..‬‬
‫ً‬ ‫الهجوم يحدث يف الثانية والن�صف‬
‫�صديقاي ال يهاجمان �إال و�أنا موجود‪� ..‬إنه يطاردين �أنا‪� ..‬إنه املارد‬
‫نرجال‪ ..‬كان عاكف حم ًقا‪� ..‬إنه لي�س �ساح ًرا‪ ..‬والطال�سم ال تعمل‬
‫بهذا ال�شكل الذي ظننته‪ ..‬واجلن ي�سعى خلفي‪� ..‬صوت حتطم الزجاج‬
‫يف بيت احلاج طاهر �سمعناه يف تلك الليلة‪ ..‬ذلك ال�شيطان مل ميت‪..‬‬
‫لقد عاد‪ ..‬واتخذنا �أعداء له‪ ..‬وهو الآن ينتقم‪ ..‬لقد اتخذ املوعد الذي‬
‫حددناه للجل�سة موعدً ا لالنتقام‪� ..‬إنه يتحدانا باملوعد الذي حددناه‬
‫ب�أنف�سنا‪ ..‬فجعله موعدً ا النتقامه‪ ..‬دار كل ذلك يف ر�أ�سي للحظات‪..‬‬
‫وك�أنها حلظات �إماطة اللثام عن كل ما حدث‪..‬‬
‫لقد فهمت وليتني مل �أفعل‪ ..‬ليتني ظللت على �ضاليل القدمي‪..‬‬
‫علي ب�شدة حتى �إين مل �أرد بكلمة على راندا التي �أنهت‬
‫زاد الدوار ّ‬
‫مكاملتها و�أغلقت اخلط‪� ..‬سقط الهاتف من يدي و�سقطت على الأر�ض‬
‫فاقدً ا الوعي‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫‪126‬‬
‫مرت دقائق قبل �أن يعود �إ ّ‬
‫يل وعيي لأجد «طارق» و»كرمي» بجواري‪..‬‬
‫قلت لهما �أعتذر لكما عن كل �شيء‪ ..‬مل �أكن �أعرف ومل �أق�صد �أن‬
‫�أت�سبب لكما يف فزع �أو رعب‪ ..‬لقد كان خط�أي والآن فهمت‪.‬‬
‫قال كرمي‪ :‬ال تعتذر واعلم �أين معك �أينما ذهبت‪ ..‬وال خري يف هذه‬
‫الدنيا لو كنت يف حمنة وتخلى عنك الأ�صدقاء‪..‬‬
‫قلت له‪� :‬أنت ل�ست م�ضط ًرا لهذا‪ ..‬اع ِنت بنف�سك وحياتك‬
‫وم�ستقبلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تفقد الثقة هكذا‪ ..‬وال ت�سعى لأن حتيا وحدك خو ًفا من‬
‫�إزعاج النا�س‪ ..‬ال بد من معنى �أو قيمة نثق فيها حتى ت�ستقيم بنا‬
‫احلياة‪ ..‬و�إن مل نثق �أن ال�صداقة �سوف تعطينا طوق جناة فلن تبقى‬
‫يف الدنيا ف�سحة �أمل �أو ملج�أ نلوذ به يف ال�ضيق‪� ..‬أنا معك يا �صديقي‬
‫فال تبتئ�س‪..‬‬
‫قال طارق‪ :‬يا مازن رمبا يعرفك كرمي منذ زمن �أما �أنا فمعرفتي‬
‫بك قريبة ولكن لي�س هذا معناه �أن تعتذر‪ ..‬ال تعتذر فقد ُخلقت‬
‫ال�صداقة لأجل هذا‪ ..‬من يتحملك �إن مل يكن �صديقك‪ ..‬من يدافع‬
‫عنك غري ال�صديق‪ ..‬كيف نتخلى عنك‪ ..‬ملاذا نحن �أ�صدقاء �إذن‪..‬‬
‫هل ال�صداقة من �أجل اللعب وال�ضحك يف الرخاء فقط‪ ..‬ال�صداقة‬
‫هي �أن �أغيثك �إذا ا�ستغثت‪ ..‬و�أنبهك �إذا غفلت‪ ..‬و�أحملك �إذا عرثت‪..‬‬
‫و�أ�شد ع�ضدك �إذا �ضعفت‪ ..‬ولن �أ�ضحك معك من قلبي يف ال�سراء‬
‫�إال �إذا كنت �س�أغيثك يف لهفتك بكل جوارحي‪ ..‬و�أجندك من غري �أن‬
‫ت�ستنجدين‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫قلت لهما‪� :‬شك ًرا لكما‪.‬‬
‫قال كرمي‪ :‬حاول �أن تنام الآن لرتتاح ويف ال�صباح �سنذهب �إىل‬
‫�شيخ يفتينا يف الأمر‪� ..‬أعرف ً‬
‫�شيخا كب ًريا يف امل�سجد الكبري بامليدان‬
‫العام ي�أتيه النا�س من كل مكان لي�ستفتونه‪� ..‬سنذهب له‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫مل �أمن طيلة الليل حتى ال�صباح‪ ..‬كنت متع ًبا ولكن مل يعرف النوم‬
‫لعيني طري ًقا‪ ..‬ويف ال�صباح توجهنا �إىل امل�سجد الكبري‪ ..‬كان امل�سجد‬
‫فارغا �إال من عامل ينظف الأر�ض‪ ..‬و�شيخ كبري جل�س �أمام حمراب‬ ‫ً‬
‫�شيخا كب ًريا م�س ًنا وقو ًرا تبدو عليه هيبة‬
‫امل�سجد يقر�أ القر�آن‪ ..‬كان ً‬
‫معتدل ك�أنه �شاب فتي‪ ..‬كان‬ ‫ً‬ ‫العلم‪ ..‬حليته بي�ضاء طويلة‪ ..‬يجل�س‬
‫�صوته بدي ًعا‪� ..‬أخذين ال�صوت اجلميل ك�أين خرجت من بحر متالطم‬
‫وهبطت على �شواطئ الطم�أنينة‪� ..‬شعرت براحة نف�سية عميقة‪ ..‬وددت‬
‫معها �أال �أخرج من امل�سجد و�أن �أقيم به فرتة �أ�سرتيح فيها من العناء‬
‫و�أنعم بهذا االطمئنان الذي يقر العيون‪� ..‬شعر ال�شيخ ب�أننا جنل�س‬
‫بجانبه ال لن�ستمع و�إمنا لن�س�أل‪� ..‬أنهى قراءته وتوجه �إلينا‪.‬‬
‫ال�شيخ‪ :‬ال�سالم عليكم‪ً � ..‬‬
‫أهل بكم يا �شباب‪.‬‬
‫رددنا‪ :‬وعليكم ال�سالم‪ً � ..‬‬
‫أهل بك يا �شيخنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هل �أ�ستطيع خدمتكم؟‬
‫‪128‬‬
‫قلنا‪ :‬نعم‪ ..‬لقد جئنا �إليك يف �أمر نريد فيه الفتوى والن�صيحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬تف�ضلوا‪.‬‬
‫ق�ص�صنا عليه الق�ص�ص بالتف�صيل‪ ..‬كان ي�ستمع �إلينا وال ُيبدي �أي‬
‫انطباع �أو انفعال‪ ..‬كانت انفعاالته اخلاملة ت�صيبني بالإحباط حتى‬
‫�إين ترددت �أثناء الكالم وقررت �أال �أكمل‪ ..‬ولكن يبدو �أن جمرد �سرد‬
‫امل�أ�ساة يخفف من وط�أتها �أو �أملها يف النف�س‪ ..‬ف�أكملت حتى مكاملة‬
‫راندا يف الليلة املا�ضية‪..‬‬
‫قال ال�شيخ‪ :‬هل انتهيت من كل �شيء؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ً � :‬أول اجلن ال تتلب�س بالنا�س‪ ..‬وال ت�ستطيع �أن ت�ؤذي‪ ..‬يقول‬
‫اهلل «�إن كيد ال�شيطان كان �ضعي ًفا» ويقول «�إن عبادي لي�س لك عليهم‬
‫�سلطان»‪..‬‬
‫فاجلن ال تفعل ذلك‪ ..‬كل هذا تهويل و�أوهام نف�سية‪ ..‬يحركها‬
‫اخلوف والقلق‪ ..‬ولو امتلك اجلن هذه القدرة ملا هن�أ للإن�سان عي�ش‪..‬‬
‫ول�س ّلط اجلن امل�سلم على �أعداء امل�سلمني ففتحوا‬
‫وملا كان لنا �أعداء‪ُ ..‬‬
‫البلدان ودانت الدنيا ملن ُي ّ‬
‫�سخر اجلن‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا �شيخ �ألي�س ال�سحر موجودًا وحقيق ًيا؟‬
‫قال‪ :‬ال�سحر موجود ولكنه يفرق بني املرء وزوجه‪ ..‬ويوقع البغ�ضاء‬
‫بني النا�س‪ ..‬وي�ؤذي ال�ساحر‪ ..‬ولكن �أن يفعل كل ما حتكيه فال‪� ..‬إن‬
‫‪129‬‬
‫ال�شيطان يو�سو�س وما �إن ت�ستعيذ باهلل منه حتى يفر‪ ..‬فال حتزن وثق‬
‫باهلل وال تخف من �شيء‪ ..‬فاخلوف هو ما يعطيك الوهم ويجعلك تربط‬
‫بني كل حدث وبني خماوفك‪ ..‬ا�ستعن باهلل وح�صن نف�سك‪ ..‬واعلم‬
‫�أن ما �أ�صابك مل يكن ليخطئك وما �أخط�أك مل يكن لي�صيبك‪ ..‬ولن‬
‫ي�صيبك �إال ما كتب اهلل لك‪ ..‬ولي�س اجلن �أو ال�شياطني‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني ر�أيت ما ر�أيته وكان �أ�صدقائي معي‪.‬‬
‫قال طارق وكرمي‪ :‬نعم نحن �شاهدنا الأمر ومل نكن نعلم ما حدث‬
‫معه من قبل‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن �أ�شكك يف �صدقكم‪ ..‬ولكن نفرت�ض �أنكم �شاهدمت اجلن‬
‫متج�سدً ا‪ ..‬هل م�س منكم �أحدً ا؟‬
‫قلنا جمي ًعا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬هكذا هو ال�شيطان‪� ..‬إنه يو�سو�س‪ ..‬يزرع اخلوف وال�شك‪..‬‬
‫ولكن ال يخاف منه �إال �أوليا�ؤه فاحر�صوا على دينكم لأنكم حتتاجون‬
‫�إىل تقوية �صلتكم باهلل‪..‬‬
‫مل �أرد بكلمة ومل �أناق�ش �أكرث من ذلك‪� ..‬شكرته وان�صرفت‪..‬‬
‫خرجت �أنا و�صديقاي ننظر بع�ضنا لبع�ض‪ ..‬فقلت لهما‪ :‬ولكني‬
‫واثق مما ر�أيت‪� ..‬إذا كان هذا هو قول الدين فال بد �أن �شي ًئا ما خط�أ‪..‬‬

‫‪hhh‬‬
‫‪130‬‬
‫)‪(10‬‬

‫كانت اختبارات نهاية العام قد بد�أت‪ ..‬وكنت �أتنقل كل يوم يف‬


‫مكان‪� ..‬أ�سهر طيلة الليل للمذاكرة مع الأ�صدقاء �إىل وقت االختبار‬
‫ليل‪ ..‬كانت‬ ‫ثم �أعود لأنام طيلة النهار‪ ..‬انقلب الليل نها ًرا والنهار ً‬
‫بع�ض الظواهر ت�صاحبني �أحيا ًنا ويالحظها من حويل ممن ال يعرفون‬
‫عن الأمر �شي ًئا‪ ..‬فيفزعون �أحيا ًنا وي�ضحكون �أحيا ًنا‪ ..‬وكنت �أختار �أن‬
‫عمل بن�صيحة ال�شيخ‪ ..‬فهذه �أوهام واجلن ال يفعل‬ ‫متاما ً‬ ‫�أجتاهلها ً‬
‫ذلك‪ ..‬و�إال خلا�ضوا احلروب مع الب�شر وفتحوا الفتوحات‪ ..‬هكذا كنت‬
‫�أحدث نف�سي دائ ًما‪..‬‬
‫انتهت االختبارات‪ ..‬بالكاد اجتزتها‪ ..‬و�أخذت وقتًا وجي ًزا للراحة‬
‫قبل االنتظام يف العمل احلكومي‪ ..‬فقررت �أن �أذهب لراندا ور�ؤوف‬
‫لأطمئن عليهما و�أنقل لهما ما علمته من ال�شيخ اجلليل‪..‬‬
‫وليتني ما فعلت‪..‬‬
‫‪131‬‬
‫ات�صلت بال�سيدة راندا لأحدد موعدً ا للزيارة‪ ..‬فلم ترد‪ ..‬ات�صلت‬
‫بالهاتف اجلوال فوجدته مغل ًقا‪ ..‬وكذا كان هاتف ر�ؤوف‪ ..‬ذهبت �إىل‬
‫بيتها بعد تردد‪ ..‬طرقت الباب فلم يرد �أحد‪ ..‬كتبت ر�سالة وتركتها‬
‫على الباب «ح�ضرت ومل �أجدكم»‪ ..‬ونزلت متفك ًرا ترى هل �سافرت �إىل‬
‫ال�صعيد‪ ..‬هل �سافرت �أوروبا مرة �أخرى‪ ..‬هل هي تهرب من النا�س وال‬
‫تريد لقاء �أحد‪ ..‬رمبا ذهبت لت�ستجم بعد كل ما عانت‪..‬‬
‫قطع �أفكاري البواب الذي �س�ألني ب�شكل مفاجئ‪ :‬هل �أ�ستطيع‬
‫خدمتك؟‬
‫قلت‪ :‬ال �شك ًرا‪ ..‬كنت �أق�صد بيت الأ�ستاذ ر�ؤوف ومل �أجدهم‪� ..‬أال‬
‫تعرف متى �سيعودون؟‬
‫قال يل‪ :‬هل عدت قري ًبا من �سفر؟‬
‫قلت‪ :‬نعم كنت يف مدينة �أخرى للدرا�سة‪ ..‬ملاذا وكيف عرفت؟‬
‫قال‪ :‬لذلك �أنت ال تعرف‪ ..‬لقد مات االثنان‪..‬‬
‫ً‬
‫�صارخا‪ :‬ماذا ما الذي تقوله؟ متى؟‬ ‫قلت‬
‫قال‪ :‬ماتت هي منذ �أ�سبوع‪ ..‬وهو قبلها ب�شهرين‪.‬‬
‫�إذن فقد مات ر�ؤوف بعد �آخر مكاملة لها معي ب�أيام قليلة‪..‬‬
‫ف�س�ألته‪ :‬ما الذي حدث؟‬

‫‪132‬‬
‫قال يل‪ :‬لي�س عندي تفا�صيل ولكن الأ�ستاذ باهر مدر�س الكيمياء‬
‫الذي ي�سكن يف الطابق الثاين هو من يعرف التفا�صيل كلها‪ ..‬لقد كان‬
‫معهم نعم ال�سند ومل ينقطع عنهم حتى دفنت ال�سيدة راندا رحمها‬
‫اهلل‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬هل هو موجود الآن؟‬
‫قال‪ :‬نعم هذه �سيارته‪.‬‬
‫م�سرعا نحو الطابق الثاين وطرقت الباب‪ ..‬فتح يل‬
‫ً‬ ‫ف�صعدت‬
‫الأ�ستاذ باهر بنف�سه‪..‬‬
‫�أنا‪ :‬ال�سالم عليكم‪ ..‬الأ�ستاذ باهر؟‬
‫باهر‪ :‬وعليكم ال�سالم‪ ..‬نعم �أنا‪.‬‬
‫�أنا‪� :‬أنا مازن‪ ..‬كنت �صدي ًقا لعائلة ال�سيد ر�ؤوف وال�سيدة راندا‪..‬‬
‫وكنت م�ساف ًرا ومل �أعلم �إال الآن بنب�أ وفاتهما‪.‬‬
‫فقال‪ :‬رحمهما اهلل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كنت �أطمع يف دقائق من وقتك لأ�س�ألك عنهما ولن �أطيل‬
‫عليك‪.‬‬
‫لثوان ثم قال يل‪ :‬انتظرين دقيقة‪..‬‬
‫تردد باهر ٍ‬
‫ودخل دقيقة ثم عاد فقال يل‪ :‬تف�ضل‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫جل�ست ال �أعرف من �أين �أبد�أ‪ ..‬كان احلزن ي�شو�ش عقلي فما لبثت‬
‫�أن بكيت ب�شدة‪..‬‬
‫فقال يل‪ :‬هون عليك‪ ..‬املوت حق علينا جمي ًعا‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬نعم ولكن موتهما مفاجئ بالن�سبة يل‪ ..‬فهما مل يكمال‬
‫الأربعني بعد‪ ..‬ولكن هل كان بهما �أمرا�ض �أم ماذا‪ ..‬ما الذي حدث‬
‫بال�ضبط؟‬
‫قال‪ :‬اهد�أ و�س�أحكي لك‪....‬‬
‫جل�س باهر مطر ًقا ك�أن �شريط الذكريات مير �أمام عينيه‪ ..‬كان‬
‫يل حي ًنا وينظر يف الأر�ض حي ًنا‪ ..‬وينظر ناحية النافذة �أحيا ًنا‬
‫ينظر �إ ّ‬
‫عندما تغلبه دموعه‪..‬‬
‫قال‪ :‬كان ر�ؤوف �صديقي‪ ..‬كنا نتقابل كث ًريا‪ ..‬وكانوا يزوروننا‬
‫ونزورهم‪ ..‬ون�سهر كث ًريا‪ ..‬و�أنا من �أر�شدته لل�شقة اخلالية يف هذه‬
‫البناية عندما �أراد �أن ينتقل‪ ..‬مل يكن ر�ؤوف يعاين من �أي �شيء‪ ..‬كان‬
‫بكامل ال�صحة‪ ..‬و�سنه �صغري على الأمرا�ض املزمنة‪ ..‬ولكنه فج�أة‬
‫بد�أ يفقد وزنه ب�شكل ملحوظ‪ ..‬قام بفحو�صات عديدة‪ ..‬يف البداية‬
‫�شككنا �أنه م�صاب بداء ال�سكري‪ ..‬ولكن الأمر مل يكن كذلك‪� ..‬أثبتت‬
‫الفحو�صات والتحاليل �أنه ال يعاين من �أي مر�ض‪ ..‬ومنذ فرتة بد�أت‬
‫تطارده كوابي�س يومية‪ ..‬ثم بد�أ معها ي�شعر ب�صداع‪ ..‬كان خفي ًفا‬
‫يف البداية ثم بد�أ ي�شتد وال ي�ستجيب مل�سكنات‪ ..‬كان يقوم يف الليل‬
‫مفزوعا‪ ..‬و�أحيا ًنا كان ي�صرخ �أثناء النوم وبعد �أن ي�ستيقظ‪ ..‬حتى‬
‫ً‬
‫‪134‬‬
‫�أ�صبح ال يريد النوم خو ًفا من الكوابي�س‪ ..‬ويف الأيام الأخرية ازداد‬
‫الأمر �سو ًءا‪ ..‬ا�شتد عليه ال�صداع‪ ..‬و�أنهكته قلة النوم‪ ..‬وبدا عليه‬
‫ال�شحوب ال�شديد وانخف�ض وزنه ب�شكل �أ�صبح ميثل خط ًرا على �صحته‪..‬‬
‫كالما غري ًبا مل نكن ن�ستوعبه �أو ن�صدقه‪ ..‬وظنناه من‬
‫كما بد�أ يقول ً‬
‫�أثر الإعياء الذي يعانيه‪..‬‬
‫�أنا‪ :‬ماذا تعني بالكالم الغريب؟ هل كان يهذي؟‬
‫باهر‪ :‬ال لي�س بال�ضبط‪ ..‬كان يتحدث عن امر�أة منت�شرة ال�شعر‬
‫�شعثاء ترتدي مالب�س �سوداء ممزقة‪ ..‬قال �إنه كان يراها يف كوابي�سه‬
‫ثم بد�أ يراها يف اليقظة‪ ..‬كان �إذا غفلت عينه ي�ستيقظ على �صوت‬
‫مفزع ليجد هذه املر�أة تقف بجوار فرا�شه حتدق فيه‪ ..‬ثم تخرج من‬
‫الباب‪ ..‬يخرج وراءها فال يجد �أحدً ا‪ ..‬كان الأمر يبدو وه ًما‪ ..‬حتى‬
‫الليلة الأخرية‪ ..‬تبني لنا �أنه �صادق‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪ -‬لقد ر�أتها ال�سيدة راندا‪..‬‬
‫‪ -‬ماذا ر�أت بال�ضبط؟‬
‫‪ -‬قالت راندا �أنها كانت جال�سة على املقعد يف ال�صالة‪ ..‬عندما‬
‫ر�أت فج�أة امر�أة �سوداء جمعدة ال�شعر حمراء العني يبدو عليها‬
‫الغ�ضب‪ ..‬مفزعة الهيئة‪ ..‬ممزقة املالب�س‪ ..‬تخرج من غرفة النوم‬
‫ثوان خرج خلفها ر�ؤوف ك�أنه غائب العقل‪..‬‬
‫وتتوجه لل�شرفة‪ ..‬وبعد ٍ‬
‫‪135‬‬
‫ُم�سا ًقا خلف املر�أة‪ ..‬وتوجه �إىل ال�شرفة‪ ..‬وقف ً‬
‫قليل فنادت عليه راندا‬
‫ب�صوت مرتفع‪ ..‬فلم يرد‪ ..‬وقف على ال�سور ثم قفز‪..‬‬
‫نزلت دموع الأ�ستاذ باهر وهو يط�أطئ ر�أ�سه ويقول‪ :‬رحمه اهلل كم‬
‫اهتماما‪ ..‬مل يكن‬
‫ً‬ ‫ا�شتكى من تلك املر�أة ومل �أكن �أعري تلك ال�شكوى‬
‫عندي �شك �أنها هلو�سة من �شدة �إعيائه وكانت راندا توافقني ذلك‬
‫الر�أي‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬هون عليك حتى �إن �صدقت �شكواه مل يكن بيدك �شيء‬
‫لتفعله‪..‬‬
‫�سكت ً‬
‫قليل حتى م�سح دموعه ف�س�ألته‪ :‬وال�سيدة راندا ماذا حدث‬
‫لها؟‬
‫قال‪ :‬كانت راندا قعيدة منذ فرتة بال �سبب طبي مفهوم‪� ..‬أ�صيبت‬
‫بال�شلل فج�أة والذي و�صفه الأطباء ب�أنه يرجع لأ�سباب نف�سية‪ ..‬ولكن‬
‫بعد �أن تويف والدها وزوجها‪ ..‬بد�أت معاناتها احلقيقية‪ ..‬كانت تتحدث‬
‫�أنها م�ستهدفة من كيان غام�ض‪ ..‬لقد كانت تقول ذلك ب�إ�صرار ويقني‬
‫وا�ضحا لنا �أن‬
‫ً‬ ‫وهي يف كامل عقلها‪ ..‬وبالطبع مل ي�صدقها �أحد‪ ..‬كان‬
‫الأمر راجع �إىل �صدمة وفاة ر�ؤوف‪ ..‬خا�صة وقد كانت ت�شكو نف�س‬
‫�شكواه‪ ..‬نف�س املر�أة ال�شعثاء ذات املالب�س ال�سوداء كانت تطاردها‪..‬‬
‫�أ�صبحت �شديدة التوتر والقلق‪ ..‬وحتول الأمر �إىل و�سوا�س‪ ..‬مل تعد تثق‬
‫يف �أحد‪� ..‬أ�صيبت بارتياب اال�ضطهاد‪ ..‬وانتقلت للإقامة يف م�صحة‬
‫للعالج النف�سي والع�صبي‪� ..‬أ�صبحت عنيفة مع الوقت‪ ..‬كانت تنتابها‬

‫‪136‬‬
‫نوبات ع�صبية حادة يف منت�صف الليل‪ ..‬كانت ت�صرخ بكل قوتها‬
‫وتهذي بكلمات غري مفهومة‪� ..‬إىل �أن ت�أخذ جرعة خمدرة لتنام‪ ..‬حتى‬
‫ليلة وفاتها �سمعتها املمر�ضة ت�صرخ ثم �سكتت‪ ..‬دخلت عليها املمر�ضة‬
‫لينخلع قلبها مما ر�أت‪..‬‬
‫قالت املمر�ضة‪ :‬لقد كانت ميتة وعلى وجهها نظرة فزع رهيبة‬
‫ك�أنها ر�أت �شيطا ًنا‪ ..‬كانت النوبات الع�صبية قد زادت عليها يف الأيام‬
‫الأخرية‪ ..‬حتى �أ�صبحت يومية‪ ..‬ويف يوم وفاتها كانت تلح على �أن �أبقى‬
‫بجانبها يف الغرفة لأن املر�أة ال�سوداء تقف يف الركن وال ترفع عينيها‬
‫من عليها‪..‬‬
‫�سكت الأ�ستاذ باهر ً‬
‫قليل ونظر �إ ّ‬
‫يل و�أنا �أبكي وقال‪� :‬أتعرف؟ �أ�شعر‬
‫الآن �أن ما كان ينتابها من نوبات مل يكن وه ًما �أو ً‬
‫مر�ضا نف�س ًيا‪� ..‬أ�شعر‬
‫غام�ضا ً‬
‫فعل‪..‬‬ ‫�أنه كان كيا ًنا ً‬
‫والتفت له‪ :‬ملاذا تقول ذلك؟‬
‫ّ‬ ‫جففت دموعي‬
‫قال‪ :‬لقد اهتممت باملو�ضوع على نحو خا�ص بعد وفاتها‪ ..‬انتبهت‬
‫ل�شيء غريب ال �أفهمه ولكني �أعتقد �أنه ذو داللة خا�صة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬لقد كانت �شكوى ر�ؤوف من امر�أة ترتدي ال�سواد‪ ..‬وكانت‬
‫نوبات الفزع ت�أتيه كل يوم بعد منت�صف الليل حوايل ال�ساعة الثانية‬
‫والن�صف‪ ..‬حتى ليلة وفاته قفز بعد منت�صف الليل‪ ..‬ذهبت وبحثت‬
‫‪137‬‬
‫عن تقرير الطبيب ال�شرعي‪ ..‬فوجدته قد حدد موعد الوفاة يف ال�ساعة‬
‫الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل‪..‬‬
‫ثم بد�أت راندا ت�شتكي من نف�س املر�أة‪ ..‬وقد ذهبتُ للم�صحة‬
‫النف�سية بعد وفاتها وقابلت املمر�ضة وطلبت منها برجاء �شخ�صي‬
‫�أن تريني ملفها لأطلع عليه‪ ..‬وكانت املفاج�أة الغريبة �أن النوبات التي‬
‫كانت تنتابها يوم ًيا يف ال�ساعة الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل‪ ..‬يا‬
‫لها من م�صادفة غريبة‪� ..‬ألي�س كذلك؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬والأغرب �أنه قد ُ�سجلت �ساعة الوفاة يف ال�ساعة الثانية وواحد‬
‫وثالثني دقيقة بعد منت�صف الليل‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬ما الذي تق�صده حتديدً ا؟‬
‫قال‪ :‬حتى هنا مل يكن هناك �شيء يثري كث ًريا من الريبة‪ ..‬فارتباطها‬
‫النف�سي مبا حدث لزوجها قد ي�صنع تلك ال�صدفة‪ ..‬ولكني عدت منذ‬
‫يومني من ال�صعيد‪� ..‬أتدري �أين كنت؟‬
‫قلت‪� :‬أين؟‬
‫قال‪ :‬يف بيت �أخت ال�سيدة راندا‪ ..‬حيث يعي�ش �أوالدها‪ ..‬زرتهم‬
‫واطم�أننت عليهم‪ ..‬و�أخذت �أجتاذب احلديث مع زوج �أختها‪ ..‬حول‬
‫احلاج طاهر‪ ..‬قال يل‪� :‬إن التحقيقات �أثبتت �أنه مل يكن هناك �سبب‬
‫حلريق‪ ..‬وال �أثر لوجود �أحد معه يف البيت‪ ..‬كما �أن البيت مل يحرتق‪..‬‬
‫‪138‬‬
‫�إن احلاج طاهر احرتق هو وبع�ض قطع الأثاث‪ ..‬قطع متفرقة يف البيت‬
‫ولي�س حري ًقا يلتهم البيت وينتقل من غرفة �إىل غرفة‪ ..‬وهناك �شهود‬
‫�صراخا وحتطيم زجاج يف البيت بعد منت�صف‬ ‫ً‬ ‫قالوا �أنهم �سمعوا‬
‫الليل‪ ..‬وهو نف�س توقيت اندالع احلريق‪ ..‬فقد �سجلت التحقيقات‬
‫وملفات الدفاع املدين �أن �ساعة اندالع احلريق كانت ال�ساعة الثانية‬
‫والن�صف بعد منت�صف الليل‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬عندك حق لي�ست هذه م�صادفات‪ ..‬ولكن مل يعد ب�أيدينا‬
‫�شيء نفعله‪ ..‬رحمهم اهلل جمي ًعا‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫خرجت من عند الأ�ستاذ باهر و�أنا مبعرث امل�شاعر‪ ..‬ال �أكاد �أفهم‬
‫فعل ذلك ال�شيطان نرجال يفعل بنا كل هذا‪ ..‬هل جعلنا‬ ‫�شي ًئا‪ ..‬هل هو ً‬
‫هد ًفا له ويرت�صدنا واحدً ا فواحدً ا‪� ..‬إذن فالكل يف خطر‪ ..‬يجب ّ‬
‫علي �أن‬
‫�أنتبه �أنا والباقون‪..‬‬
‫الباقون؟‬
‫مل يبق �إال �أنا ونزار و�سابق‪� ..‬أين ه�ؤالء القوم وملاذا مل ي�أت �أحدهم‬
‫لي�س�أل عن هذه املر�أة امل�سكينة‪ ..‬بد�أت �أمللم �شتات �أفكاري ونف�سي‬
‫وتوجهت �إىل مكان عمل نزار‪..‬‬

‫‪139‬‬
‫دخلت �أبحث عنه ومل �أجده‪ ..‬ال يف مكان التدريب وال يف اال�سرتاحة‬
‫وال يف غرفة املالب�س‪ ..‬يبدو �أنه �أنهى عمله باك ًرا‪ ..‬قابلت �أحد املدربني‬
‫خارجا من �صالة الألعاب ف�س�ألته‪ :‬لو �سمحت �أين �أجد الأ�ستاذ نزار؟‬‫ً‬
‫قال‪� :‬أتق�صد كابنت نزار املدرب؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬للأ�سف يا �سيدي البقاء هلل‪..‬‬
‫علي مبا يكفي لأقف مكاين وال �أنطق‬
‫كانت تلك ال�صدمة عنيفة ّ‬
‫بكلمة‪..‬‬
‫قال يل‪ :‬يبدو �أنك �صديقه‪.‬‬
‫احتب�س �صوتي ف�أ�شرت له بر�أ�سي �إ�شارة عليلة بالإيجاب‪..‬‬
‫قال‪ :‬تعال معي لت�شرب �شي ًئا‪.‬‬
‫�أخذين الرجل من يدي كالطفل �أم�شي معه ال �أملك �إيجا ًبا وال‬
‫رف�ضا‪ ..‬جل�سنا يف اال�سرتاحة وطلب يل كو ًبا من ال�شاي‪ ..‬وجل�س‬ ‫ً‬
‫�أمامي يوا�سيني و�أخذ يتكلم يف �أي �شيء بعيد عن �سرية نزار‪.‬‬
‫قاطعته‪ :‬هل كان نزار �صديقك؟‬
‫قال يل‪ :‬نعم كان �صديقي املقرب‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬كيف تويف؟‬

‫‪140‬‬
‫قال‪� :‬إنها ق�صة حزينة‪ ..‬مل يكن بنزار �أي علة‪ ..‬كان يحر�ص على‬
‫الريا�ضة ويبتعد عن �أي �شيء ي�ضر �صحته‪ ..‬ولكن تغري كل هذا منذ‬
‫فرتة‪ ..‬كان ي�أتي مره ًقا �إىل العمل‪ ..‬وكان ي�شكو من ا�ضطرابات يف‬
‫أياما‪..‬‬
‫النوم‪ ..‬ثم بد�أ الأمر يزداد �سو ًءا‪ ..‬حتى انقطع عن العمل � ً‬
‫ذهبت لزيارته فر�أيته يف �أ�سو�أ حال‪ ..‬بدا �شديد ال�شحوب‪ ..‬هاالت‬
‫�سوداء ثقيلة حتت عينيه‪� ..‬س�ألته عن �سر ذلك فقال �إنه ال ينام �إال‬
‫القليل جدً ا‪..‬‬
‫كان يتكلم بغري تفا�صيل عن ليلة و�صفها بامل�ش�ؤومة‪ ..‬تغريت بعدها‬
‫�أحواله‪..‬‬
‫ليل ومهما كان نومه عمي ًقا ف�إنه ي�ستيقظ‬ ‫كان ي�ستيقظ من النوم ً‬
‫يف الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل على �صوت زجاج يتحطم‪..‬‬
‫فيقوم ليبحث يف البيت وال يجد �شي ًئا‪ ..‬ويعود �إىل فرا�شه ليجد �أغطيته‬
‫وو�سائده على الأر�ض‪..‬‬
‫ومهما حاول �أن ينام بعدها ال يعود �إليه النوم �إال يف ال�صباح‪..‬‬
‫تكرر هذا على فرتات متقطعة‪ ..‬ثم زاد حتى �أ�صبح حاد ًثا يوم ًيا‪..‬‬
‫متاما‬
‫بد�أ ي�أخذ حبو ًبا منومة من دون فائدة‪ ..‬يف الثانية والن�صف ً‬
‫ي�ستيقظ‪ ..‬حتى �إنه مل يعد قاد ًرا على الذهاب للعمل‪ ..‬كانت �صحته‬
‫هزيل بدرجة كبرية‬ ‫مت�أخرة ب�شدة‪ ..‬كان الأرق ي�أكل ج�سده‪� ..‬أ�صبح ً‬
‫وكانت ت�أتيه نوبات قيء عنيفة حتى لو مل ي�أكل‪� ..‬إىل �أن فقد �شهيته‬
‫متاما‪ ..‬ويف الأيام الأخرية ازدادت حدة نوبات القيء حتى كان‬
‫للطعام ً‬
‫دما‪ ..‬مل يفلح معه العالج‪ ..‬ثم ُنقل �إىل م�ست�شفى ليكون حتت‬ ‫يتقي�أ ً‬
‫‪141‬‬
‫املالحظة امل�ستمرة‪ ..‬تويف بعدها ب�ستة �أيام‪ ..‬رحمه اهلل فقد كان نعم‬
‫ال�صديق‪.‬‬
‫مل �أمتالك نف�سي ف�سقطت من عيني الدموع ال�صامتة على ذلك‬
‫الرجل الطيب الذي وقف بجانب راندا‪ ..‬و�أنا وحدي الآن الذي �أعرف‬
‫ما الذي ق�ضى عليه‪..‬‬
‫�أنا وحدي �أعرف ال�سبب‪ ..‬ولكني ال �أ�ستطيع �أن �أتكلم مع �أحد‪..‬‬
‫�شكرت الرجل على �ضيافته واعتذرت عن �إزعاجه‪ ..‬وا�ست�أذنت يف‬
‫التفت له ً‬
‫�سائل‪:‬‬ ‫الرحيل‪ ..‬وبعد �أن خطوت ب�ضع خطوات مبتعدً ا عنه‪ّ ..‬‬
‫�إذا �سمحت �س�ؤال �أخري‪ ..‬متى كانت �ساعة وفاته بال�ضبط؟‬
‫قال‪ :‬لقد كانت بعد منت�صف الليل‪ ..‬نعم لقد �أنهيت الإجراءات‬
‫بنف�سي ال�ستخراج �شهادة الوفاة‪ ..‬كان موعد الوفاة هو الثانية‬
‫والن�صف بعد منت�صف الليل‪..‬‬
‫قلت له‪� :‬شك ًرا‪..‬‬
‫وان�صرفت‪.‬‬
‫الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل‪..‬‬
‫لي�س هناك مكان لل�صدفة يف كل ذلك‪ ..‬هذا هو املوعد �إذن‪..‬‬
‫ذلك املوعد الذي حدده لنا �شيطان‪ ..‬وقرر �أن يزورنا فيه كل يوم‪..‬‬
‫‪h‬‬
‫‪142‬‬
‫)‪(11‬‬

‫خرجت من عنده وكلي حزن و�أ�سى على نزار‪ ..‬ذلك الرجل‬


‫الطيب‪ ..‬مل يكن له ذنب فيما حدث �سوى �أنه �أراد �أن ي�ساعد تلك‬
‫الأ�سرة‪ ..‬ذهبت �إىل بيت ال�شيخ �سابق لأ�س�أل عنه لعله بقي معي بعد‬
‫كل ما حدث‪ ..‬ولعلي ل�ست وحيدً ا يف ذلك اجلنون‪� ..‬س�ألت عنه فقيل‬
‫يل �إنه قد �سافر منذ مدة طويلة ومل يعد حتى الآن وال ُيعرف هل‬
‫�سيعود �أم ال‪� ..‬أين �سافر ال �أدري‪ ..‬لعله عاد �إىل قريته يتح�صن عند‬
‫بحريته التي �أعطته مددها قد ًميا‪ ..‬املهم �أين اطم�أننت �أنه بخري مل‬
‫ي�ؤذ برغم �أنه كان �أوىل احلا�ضرين يف تلك الليلة بالإيذاء‪ ..‬املهم �أين‬
‫بقيت الآن من كل املجموعة‪ ..‬وهذا يعني �أين غال ًبا الآن على موعد مع‬
‫ذلك ال�شيطان‪ ..‬مل يبق غريي‪ُ ..‬ق�ضي على اجلميع‪ ..‬وبقيت وحدي‪..‬‬
‫�أو بقيت �أنا و�سابق‪ ..‬فماذا �أ�صنع؟ هل �أ�ست�سلم لذلك ال�شر املطلق؟‬
‫ال بد �أن هناك من طريقة للتخل�ص من اللعنة‪� ..‬سابق غري موجود‬
‫لال�ست�شارة‪ ..‬فلمن �أذهب؟‬
‫‪143‬‬
‫يل الذي حدثني عنه �أمني قبل �أن نذهب‬ ‫تذكرت فج�أة ذلك الو ّ‬
‫�إىل راجي‪ ..‬فقررت �أن �أبحث عن �أمني لأعرف منه عنوان ذلك‬
‫الرجل‪ ..‬فرمبا �أجد عنده احلل ملا �أنا فيه‪ ..‬تو�صلت له بالفعل و�أخذت‬
‫منه عنوانه‪� ..‬إنه يف ال�صعيد‪ ..‬قرية بعيدة‪ ..‬ي�ستغرق القطار �إليها ما‬
‫علي �أن‬
‫يقرب من الأربع ع�شرة �ساعة لي�صل �إىل املدينة ثم يتوجب ّ‬
‫�أركب موا�صلة �صغرية للو�صول للقرية‪ ..‬وموا�صلة ثالثة للو�صول لبيت‬
‫ال�شيخ‪ ..‬فهو رجل زاهد يعتزل الدنيا والنا�س واملدنية‪ ..‬و�إن كانت هي‬
‫مل تعتزله‪ ..‬ويق�صده النا�س من كل حدب و�صوب‪..‬‬
‫هذا معناه �أين �س�أحتاج �إىل �أربعة �أيام على الأقل يف هذه الرحلة �إن‬
‫ُكتب يل التوفيق يف مقابلة ال�شيخ فور و�صويل‪..‬‬
‫�سافرت �إىل حيث يقطن هذا ال�شيخ الكبري‪ ..‬ال�شيخ م�ؤن�س‪ ..‬ا�سم‬
‫علم يف هذه البلدة‪ ..‬ما �إن �س�ألت عنه حتى وجدت من يو�صلني �إليه‬
‫بدون مقابل‪ ..‬ويقول اذكرين عند ال�شيخ‪ ..‬لآخذ الربكة‪..‬‬
‫دخلت تلك الدار‪ ..‬دار كبرية �أكرب مما تخيلت‪ ..‬لقد تخيلته يقطن‬
‫�صومعة‪ ..‬هذا ما كنت �أفهمه من الزهد واعتزال النا�س‪ ..‬ولكن الدار‬
‫كبرية تكفي الألف‪ ..‬فناء الدار مزدحم بالنا�س يجل�سون يهمهمون‬
‫ويذكرون اهلل‪ ..‬وي�أكلون الطعام‪ ..‬موائد الطعام كثرية‪ ..‬ويجذبك‬
‫القائمون عليها جذ ًبا لت�أكل‪� ..‬إن مل يكن للجوع فلأخذ الربكة‪ ..‬فقد‬
‫بارك ال�شيخ ذلك الطعام‪ ..‬و�أنا مل �أ�سمع من قبل عن مباركة الطعام‬
‫هذه‪..‬‬

‫‪144‬‬
‫قلت لأحد احل�ضور‪ :‬كيف بارك ال�شيخ ذلك الطعام هل قر�أ عليه‬
‫قر�آ ًنا �أم ماذا؟‬
‫قال‪ :‬ال بل �أكل من كل �إناء لقمة و�شرب من كل �سقاء �شربة‪..‬‬
‫هل هكذا يكون ال�شيخ قد بارك الطعام؟ �أهو مقد�س عندهم لهذا‬
‫احلد؟ هذا لي�س من الدين وال الربكة يف �شيء‪� ..‬أ�سررتها يف نف�سي ومل‬
‫�أبدها لهم‪ ..‬فقد قطعت م�سافة طويلة ولن �أتنازل عن عودتي ب�شيء‬
‫له قيمة‪.‬‬
‫اجتزت ذلك الفناء ودخلت الدار فوجدت به ًوا يجل�س فيه رجال‬
‫حال من ه�ؤالء باخلارج‪ ..‬يبدو �أن من‬‫يبدو من هيئتهم �أنهم �أف�ضل ً‬
‫باخلارج هم فقراء النا�س ومريدو ال�شيخ من املعدمني والكادحني‪..‬‬
‫�أما من بالداخل فهم من �أ�صحاب املال وعلية القوم الذين جاءوا‬
‫للعبادة والربكة �أو امل�شورة‪ ..‬وال يتناولون �أكرث من ال�شاي والقهوة‪..‬‬
‫كان هناك على الي�سار ملحق جانبي لهذا البهو عبارة عن غرفة‬
‫مت�سعة م�ساحتها تبدو ن�صف م�ساحة البهو‪ ..‬لي�س بينهما باب �أو‬
‫ُ�س ُت‪ ..‬جتل�س فيه الن�ساء‪ ..‬وعلى اليمني غرفة ملحقة ولكنها مغلقة‪..‬‬
‫باب خ�شبي كبري ثقيل ومرتفع‪ ..‬كان ذلك البهو �أكرث هدو ًءا بكثري‬
‫من الفناء اخلارجي املكتظ بالنا�س والطعام‪ ..‬رائحة بخور متلأ‬
‫املكان‪ ..‬وجدت مقعدً ا خال ًيا فجل�ست‪ ..‬وبعد �أن ا�ستقر بي اجللو�س‪..‬‬
‫بد�أت �أنتبه ل�صوت ينبعث من تلك الغرفة املغلقة على اليمني‪� ..‬صوت‬
‫جماعي يبدو فيه االنتظام كالنغم‪ ..‬ك�أن من بالداخل ين�شدون �شي ًئا‪..‬‬

‫‪145‬‬
‫أي�ضا �أن عددهم كبري‪ ..‬كان ال�صوت ي�أتي من الداخل �ضعيف‬ ‫يبدو � ً‬
‫ثم بد�أ ي�شتد‪ ..‬ال �أدري هل ما �أ�سمعه حقيقي �أم �أنني ال �أتبني الكلمات‬
‫بالفعل‪ ..‬لقد �سمعتهم يقولون «�أوه �أوه‪� ..‬أوه �أوه‪� ..‬أو هوه هوه» ال �أدري‬
‫ما هذا‪ ..‬كانوا يقولونها بانتظام وثبات و ُي ّ‬
‫قطعونها تقطي ًعا ك�أنها �إيقاع‬
‫حلن معني يحفظونه جمي ًعا‪..‬‬
‫تناولت كو ًبا من ال�شاي و�أخذت �أفكر‪ ..‬هل هذه دار رجل زاهد‪..‬‬
‫هل كل هذا البذخ ي�صنعه رجل منقطع للعبادة‪ ..‬من �أين ينفق هذا‬
‫ال�شيخ الزاهد والويل ال�صالح الذي باع الدنيا و�أتى ليقطن هذا املكان‬
‫البعيد؟ متى ينقطع للعبادة �إذا كان هذا ال�صخب اليومي ال ينقطع؟‬
‫مل �أفهم‪..‬‬
‫نظرت �إىل رجل بجانبي يبدو عليه الهدوء والوقار كما يبدو عليه‬
‫�أنه معتاد على هذا املكان ويعرف من فيه بالكامل‪ ..‬قلت له‪ :‬ما هذا‬
‫ال�صوت الذي ي�أتي من الداخل؟‬
‫قال‪� :‬إنها احل�ضرة النبوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وملاذا يغلقون الباب؟‬
‫قال‪� :‬إنهم اخلوا�ص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا يقولون لأين ال �أفهم؟‬
‫قال‪ :‬هذا ذكر اخلوا�ص يبد�أون بالذكر املعتاد ومعهم ال�شيخ ثم‬
‫تتجلى عليهم الأنوار العليا‪ ..‬ويبد�أون يف ذكر اخلوا�ص‪ ..‬ثم خوا�ص‬
‫اخلوا�ص‪ ..‬وي�صلون به �إىل �أعلى درجات التجلي واملكا�شفة‪..‬‬
‫‪146‬‬
‫قلت‪� :‬إذن متى ينقطع ال�شيخ للعبادة مع كل هذا؟‬
‫قال‪� :‬إنه يرتك كل هذا ويدخل اخللوة ما �شاء اهلل ثم يخرج لنا‪..‬‬
‫ف�إذا خرج بعد اخللوة كانت له نفحات مباركة �أكرث منه قبل الدخول‪.‬‬
‫قلت‪� :‬إذن هو ال يعمل؟‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن �أين له بهذه النفقات‪� ..‬إنه يحتاج �إىل �أموال طائلة‬
‫لي�صنع كل هذا كل يوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو من عند اهلل‪ ..‬وهي بركة من ال�شيخ‪ ..‬فهو يبارك الطعام‬
‫القليل فيكفي اجلماعة الكبرية‪� ..‬إن ال�شيخ م�ؤن�س من العارفني باهلل‬
‫�أ�صحاب الكرامات‪ ..‬وكثري ممن يق�ضي ال�شيخ حاجاتهم ي�أتون‬
‫بالنفقات كرامة لل�شيخ‪ ..‬و�صدقة على مريديه‪..‬‬
‫قلت له‪� :‬صاحب كرامات؟‬
‫قال‪ :‬نعم كرامات‪� ..‬إنه من �أهل اخلطوة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪� :‬إنه يقول با�سم اهلل‪ ..‬ثم يخطو خطوة واحدة‪ ..‬فيطوي اهلل‬
‫الأر�ض حتت قدميه‪ ..‬في�ضع قدمه الأخرى يف بلد �آخر‪� ..‬إنه كث ًريا ما‬
‫يرتكنا ويذهب �إىل مكة ي�صلي ثم يعود وال ي�ستغرق الأمر �أكرث من‬
‫ن�صف �ساعة‪..‬‬

‫‪147‬‬
‫قلت‪ :‬وما �أدراك �أنه يذهب �إىل مكة؟‬
‫فرمقني ذلك الرجل بنظرة حادة ك�أنه ينهرين على ا�ستنكاري‬
‫وا�ستف�ساراتي وقال‪� :‬إن ال�شيخ ال يكذب‪� ..‬إنه و ّ‬
‫يل �ص ّديق‪ ..‬وهناك‬
‫�أنا�س قابلوه يف مكة و�أكدوا �أنهم ر�أوه ي�صلي معهم عندما عادوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ح�س ًنا ال تغ�ضب �أنا ال علم يل بكل هذا وهذه �أول مرة يل �أزور‬
‫ول ًيا‪..‬‬
‫فج�أة قطع حديثنا �صوت امر�أة دخلت البهو ووقفت �أمام الباب‬
‫علي �أوفيه لك‪..‬‬
‫وقالت‪ :‬مدد يا �شيخ م�ؤن�س‪ ..‬هذا نذر ّ‬
‫ظننت �أن اخلدم واملريدين �سيقومون �إليها ي�سكتونها‪ ..‬ولكن ال‬
‫�شيء حدث‪ ..‬الكل ينظر �إليها وي�ستمع‪ ..‬بينما �س�ألها �أحدهم‪ :‬ماذا‬
‫حدث يا �سيدتي؟‬
‫قالت‪ :‬منذ يومني كنت يف طريقي �إىل بيتي ولي�ست هناك‬
‫موا�صالت‪� ..‬سرت حتى انقطع بي الطريق‪ ..‬مل يعد �أحد حويل فخ�شيت‬
‫على نف�سي‪ ..‬ف�أخذت �أقر�أ القر�آن‪ ..‬وفج�أة ظهرت �أمامي حية كبرية‬
‫�ضخمة‪ ..‬لو فتحت فمها البتلعتني‪ ..‬ورفعت ر�أ�سها عن الأر�ض حتى‬
‫�أ�صبحت �أمام وجهي‪ ..‬ففكرت ماذا �أ�صنع‪ ..‬لقد كدت �أموت خو ًفا‪..‬‬
‫حتى خطر ببايل �شيخي م�ؤن�س‪ ..‬فقلت مدد يا �شيخ م�ؤن�س‪� ..‬أدركني‬
‫يا �شيخ م�ؤن�س‪� ..‬أق�سمت عليك �أيتها احلية بال�شيخ م�ؤن�س �أال ت�ؤذيني‪..‬‬
‫فتوقفت احلية ك�أنها ا�ستجابت يل‪ ..‬وط�أط�أت ر�أ�سها على الأر�ض‬
‫ك�أنها تنحني �أمامي‪ ..‬ولكني فوجئت ب�صوت قدم خلفي فنظرت ف�إذا به‬
‫‪148‬‬
‫ال�شيخ م�ؤن�س‪ ..‬يقف خلفي ويرفع يده‪ ..‬لقد �سمعني و�أتاين لينقذين‪..‬‬
‫و�أطاعته احلية‪ ..‬ر�أيتها ُتط�أطئ ر�أ�سها طاعة له‪ ..‬ف�أم�سكها ولفها حول‬
‫جذع �شجرة‪ ..‬وقال لها ارعي ب�أمان يف �أر�ض اهلل وال تقربي �أحدً ا من‬
‫ريدي‪ ..‬ال تقربي �أحدً ا ي�ستجري بي‪ ..‬ف�أخذت احلية يف الدوران حول‬‫ُم ّ‬
‫ال�شجرة ثم هربت‪..‬‬
‫ثم التفت �إ ّ‬
‫يل ال�شيخ وقال‪ :‬اطمئني‪..‬‬
‫فقلت له‪� :‬شك ًرا لك يا �شيخي قل يل ماذا �أفعل لك؟‬
‫قال‪ :‬ال �أريد منك �شي ًئا‪ ..‬ولكن اذبحي �شاة و�أطعميها للمريدين‬
‫الفقراء وعابري ال�سبيل الذين ي�أتون �إىل داري هذ �أف�ضل �شيء‬
‫تفعلينه‪.‬‬
‫فنذرت �أن �آتي اليوم لأذبح �شاة و�أطعمها ملريدي ال�شيخ‪..‬‬
‫فانطلق بع�ض احلا�ضرين‪ :‬اهلل �أكرب‪ ..‬اهلل �أكرب‪ ..‬مدد يا �شيخ‬
‫م�ؤن�س مدد‪.‬‬
‫يل الرجل الذي بجانبي نظرة انت�صار وقال‪� :‬أر�أيت‪ ..‬هذه‬ ‫فنظر �إ ّ‬
‫كرامة � ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬هذا ال�شيخ ويل من �أولياء اهلل ال�صاحلني‪..‬‬
‫نظرت �إليه وهززت ر�أ�سي بالإيجاب‪ ..‬و�سكت‪.‬‬
‫يل �أحد العاملني يف هذه الدار ً‬
‫�سائل‪� ..‬أي خدمة‬ ‫بعد قليل جاء �إ ّ‬
‫يا �أ�ستاذ؟‬

‫‪149‬‬
‫قلت له‪� :‬أريد ال�شيخ يف م�شورة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هل تريده يف فتوى �أم �أن هناك طل ًبا وخدمة؟‬
‫قلت له‪ :‬ال �أعلم‪ ..‬عندي م�شكلة �س�أحكيها له وهو ير�شدين ملا‬
‫علي فعله‪.‬‬
‫يتوجب ّ‬
‫قال‪ :‬ح�س ًنا‪� ..‬إذا كانت م�شورة وفتوى فال �شيء عليك‪ ..‬و�إذا كانت‬
‫حاجة �سيق�ضيها لك فيجب عليك �أن ترتك �صدقة قبل الدخول لتحل‬
‫الربكة و�إذا ق�ضيت حاجتك يجب �أن تذبح ملريدي ال�شيخ �إذا كنت‬
‫ت�ستطيع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬موافق‪.‬‬
‫قال‪ :‬تعال معي‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫�أدخلني ذلك اخلادم �إىل غرفة ملحقة بغرفة ال�شيخ م�ؤن�س‪ ..‬لي�س‬
‫بينهما حجاب‪ ..‬قال يل‪ :‬اخلع حذاءك و�أنت تدخل على ال�شيخ وانتظر‬
‫دورك عندما ينتهي ال�شيخ من ق�ضاء حاجة الذي بني يديه الآن‪ ..‬و�إذا‬
‫جل�ست �أمامه فقبل يده‪..‬‬
‫كان يجل�س بني يدي ال�شيخ م�ؤن�س رجل ق�صري بدين‪ ..‬جاءه‬
‫بقما�شة فيها عظام غريبة رقيقة كعظام الدجاج‪ ..‬وقال له‪� :‬أريد منك‬
‫ختم هذه العظام يل يا موالنا‪..‬‬
‫‪150‬‬
‫ف�أم�سك ال�شيخ م�ؤن�س بالعظام وق ّلب فيها النظر ثم قال له‪ :‬ارم‬
‫هذه العظام‪ ..‬فال نفع منها‪..‬‬
‫قال‪ :‬كيف �أرميها يا موالنا؟ لقد كلفتني الكثري!‬
‫م�ؤن�س‪ :‬اخلط�أ خط�ؤك‪ ..‬فعظام الهدهد لها طرق وطقو�س‬
‫ال�ستخراجها‪.‬‬
‫�سمعت كلمة عظام الهدهد ففزعت‪ ..‬وانتبهت للكالم‪.‬‬
‫قال الرجل لل�شيخ‪� :‬إذن علمني مما علمك اهلل‪.‬‬
‫قال ال�شيخ م�ؤن�س‪� :‬أهم �شرط من �شروط ا�ستخراج عظام الهدهد‬
‫�أن ال ي�ستخرجه م�سلم‪ ..‬لأن امل�سلمني ال تطيعهم الأرواح والقوى‬
‫الكونية‪ ..‬وال ت�شرتيه من م�سلم‪..‬‬
‫معاك�سا‪� ..‬أي �أن الرجل‬
‫ً‬ ‫ثان ًيا يجب �أن ت�شرتيه ح ًيا‪ ..‬وت�شرتيه‬
‫ي�شرتي �أنثى والأنثى ت�شرتي ذك ًرا‪.‬‬
‫ثال ًثا ال يجوز ذبحه باجتاه �أي قبلة‪ ..‬الكعبة �أو بيت املقد�س‪..‬‬
‫ويجب �أن تذبحه �أنثى بكر‪ ..‬ويكون ذبحه من اخللف‪� ..‬أي مت�سكه‬
‫الفتاة بيديها وت�ضعه خلف ظهرها وتذبحه‪ ..‬ويجب �أن ال ت�سقط نقطة‬
‫دم واحدة منه على الأر�ض‪ ..‬ويجب �أن ُيذبح بخنجر من ذهب عليه‬
‫الرموز الأرامية املباركة‪ ..‬و ُيذبح بني �أربعة قبور‪ ..‬قرب مرتفع وقرب‬
‫منخف�ض‪ ..‬وقرب قدمي وقرب حديث‪ ..‬وهناك دعوات وعزائم‪ ..‬ثم بعد‬
‫ليل‪ ..‬بحيث ال تراه �شم�س‪ ..‬ثم ُت�ستخرج عظامه‪ ..‬فتختار‬ ‫ذلك ُيطبخ ً‬
‫‪151‬‬
‫اجلناح الأي�سر‪ ..‬ثم اجعله فوق البخور‪ ..‬ثم ائتني به لأختمه لك مبا‬
‫تريد‪..‬‬
‫جل�س الرجل حزي ًنا وقال‪� :‬أال يوجد حل يا �شيخ م�ؤن�س؟ ال�شروط‬
‫�صعبة و�أنا �أحتاجه‪..‬‬
‫قال‪ :‬احلل �أن ترتك فعل ال�صابئة‪� ..‬أنت تختار الأ�صعب والأخطر‪..‬‬
‫ورمبا ال ميلك لك ما تريده غري واحد‪ ..‬فال يوجد قطبني لل�صابئة يف‬
‫زمان واحد‪ ..‬وقطبهم الآن يف تركيا ولي�س يف العراق‪ ..‬وال ت�ضيع وقتي‬
‫يا عبد اهلل �أكرث من ذلك‪..‬‬
‫قال‪� :‬إذن بدون عظام الهدهد ما الذي �س�أحتاجه من �أدوات؟‬
‫قال م�ؤن�س‪ :‬ائتني ب�أثر عدوك وا�سم �أمه‪ ..‬واذبح �شاة للمريدين‪..‬‬
‫و�إن كان هناك طلبات �أخرى �س�أخربك بها يف حينها‪..‬‬
‫فقام وقال‪ :‬ح�س ًنا �س�أح�ضر هدهدً ا �آخر‪ ..‬و�آتي لك‪ ..‬ف�إن مل‬
‫�أ�ستطع �س�أرى مو�ضوع الأثر‪..‬‬
‫قال هذا الكالم ب�صوت منك�سر حزين وهو يرتدي حذاءه ثم خرج‪.‬‬
‫�أ�شار �إ ّ‬
‫يل اخلادم �أن �أقوم لأجل�س بني يدي ال�شيخ م�ؤن�س‪..‬‬
‫جل�ست ومل �أقبل يده فقال‪ً � :‬‬
‫أهل بك‪ ..‬هل �أكلت؟ و�أخذت واجب‬
‫ال�ضيافة يف داري؟‬
‫قلت له‪ :‬نعم احلمد هلل‪ ..‬بوركت يا �شيخ م�ؤن�س‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫قال‪ :‬ما حاجتك؟‬
‫فق�ص�صت عليه ق�صتي كاملة‪ ..‬وا�ستمع يل ب�آذان م�صغية ثم قال‪:‬‬
‫�شخ�صا‬
‫ً‬ ‫الأمر ح ًقا جلل‪ ..‬والق�صة طويلة مت�شعبة وي�صعب �أن حتدد‬
‫بعينه مبجرد الر�أي‪..‬‬
‫‪ -‬وما العمل �إذن؟‬
‫‪ -‬ال بد من املكا�شفة‪� ..‬سن�ستعني باهلل ونرفع �سرت الغيب عن الأمر‪..‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪� -‬سنفتح املندل‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أفهم‪ ..‬ماذا �سنفعل؟‬
‫‪ -‬تعال معي‪.‬‬
‫قمت معه فدخلنا غرفة خالية ال �شيء فيها �إال ثالثة مقاعد كبرية‬
‫ملت�صقة باجلدار الأمين للغرفة‪ ..‬و�أمامهم على اجلدار املقابل‬
‫مر�آة كبرية طولها يقرب من املرتين‪ ..‬تبد�أ من الأر�ض‪ ..‬وتقف على‬
‫عجالت‪ ..‬لها �إطار خ�شبي �أنيق منقو�ش عليه نقو�ش غريبة‪ ..‬حمفورة‬
‫يف اخل�شب وبارزة‪ ..‬عندما اقرتبت اكت�شفت �أنها طال�سم‪ ..‬وبجوار‬
‫املر�آة حامل خ�شبي �أنيق على قمته �شمعة كبرية‪ ..‬وحتتها موقد بخور‪..‬‬
‫تركني ثم عاد بعد قليل ومعه طفل �صغري �سنه قرابة ال�سبع‬
‫�سنوات‪� ..‬أجل�سه �أمام املر�آة التي جرها �إىل منت�صف الغرفة هي‬

‫‪153‬‬
‫وحامل ال�شمعة‪ ..‬ثم �أ�شعل بخو ًرا خفي ًفا‪ ..‬ولكن رائحته نفاذة‪ ..‬و�أ�ضاء‬
‫ال�شمعة‪ ..‬ثم �أطف�أ النور‪..‬‬
‫�شمعة واحدة كبرية وغريبة‪ ..‬مل �أر مثلها من قبل‪ ..‬حمراء اللون‪..‬‬
‫وعليها طال�سم حمفورة‪ ..‬ومو�ضوعة يف قاعدة زجاجية‪� ..‬أ�ضاءها‬
‫فكان �ضو�ؤها ً‬
‫مذهل‪� ..‬أ�ضاءت الغرفة‪ ..‬ولكن‪......‬‬
‫مل يكن هناك انعكا�س للنار امل�شتعلة يف املر�آة‪ ..‬هذا ال�ضوء املبهر‬
‫الذي �أ�ضاء الغرفة بالكامل لي�س له �أي انعكا�س يف املر�آة‪ ..‬نظرت خلف‬
‫املر�آة فوجدت ال�شيخ م�ؤن�س مي�سك ري�ش ًة ومدادًا غري ًبا وير�سم �شي ًئا‬
‫على ظهر املر�آة‪� ..‬إنه طل�سم‪ ..‬بل عدة طال�سم‪..‬‬
‫ثم قال يل‪� :‬سينظر ابننا هذا يف املر�آة و�سنتلو عليه القر�آن‪..‬‬
‫لتنك�شف عنه احلجب ب�إذن احلي القيوم‪ ..‬ثم �سن�س�أله فيما ر�أى‪ ..‬وال‬
‫تخ�ش �شي ًئا فهو طفل والأطفال طاهرون و�أبرياء وال يكذبون‪ ..‬ولكن‬
‫اجل�س �أنت بجانب املر�آة واجعل حافتها على ي�سارك‪..‬‬
‫بينما جل�س الطفل ال�صغري مواج ًها للمر�آة‪ ..‬ناظ ًرا �إليها ثم و�ضع‬
‫ال�شيخ على عينيه ع�صابة وربطها‪ ..‬وبد�أ يتلو �آيات من القر�آن‪ ..‬مل يكن‬
‫يتلو �آية واحدة كاملة‪ ..‬كان يقطع بع�ض الآيات يف منت�صفها ليبد�أ �آية‬
‫وا�ضحا‬
‫ً‬ ‫�أخرى‪ ..‬ليقطعها هي الأخرى يف منت�صفها ويبد�أ غريها‪ ..‬كان‬
‫متاما �أنني �أخ�ضع لطق�س من طقو�س ال�سحر الأ�سود‪ ..‬ولكني كنت‬ ‫يل ً‬
‫م�ست�سل ًما‪ ..‬فلم يكن يل ملج�أ وقتها‪ ..‬و�أريد �أن �أعرف �أي �شيء‪� ..‬أي‬
‫طريقة لإزالة اللعنة التي تطاردين‪..‬‬

‫‪154‬‬
‫انتهى ال�شيخ مما كان يفعل‪ ..‬ورفع الع�صابة عن عني الطفل‪ ..‬نظر‬
‫الولد ال�صغري بفزع �إىل املر�آة‪ ..‬بينما �شعرت �أنا �أنها تهتز‪ ..‬حتى بد�أت‬
‫ترجت ب�شدة‪ ..‬و�صرخ الطفل �صرخة عنيفة‪ ..‬ف�أطف�أ ال�شيخ ال�شمعة وفتح‬
‫النور فو ًرا‪..‬‬
‫�سقاه ال�شيخ كو ًبا من املاء‪ ..‬وقال له بغلظة ال ُيفرت�ض �أن تكون مع‬
‫طفل �صغري‪..‬‬
‫ً‬
‫تف�صيل ماذا ر�أيت؟‬ ‫م�ؤن�س‪ :‬قل يل‬
‫قال بفزع وهو يرتع�ش‪ :‬لقد ر�أيت خم�سة �أ�شخا�ص على �صدورهم‬
‫كف مر�سوم بالدم‪..‬‬
‫ور�أيت ً‬
‫رجل على يديه عالمة‪..‬‬
‫و ر�أيت ُحجرة بها كتب كبرية‪..‬‬
‫ور�أيت عني ماء و�صخو ًرا وج�س ًرا ونا ًرا وطفل ًة‪..‬‬
‫ثم ر�أيت يدً ا مم�سوخة تخرج من املر�آة لتذبح هذا الرجل‪..‬‬
‫و�أ�شار �إ ّ‬
‫يل‪..‬‬
‫كانت كلماته بالن�سبة يل مبهمة‪ ..‬ومل �أفهم �أي �شيء‪ ..‬غري �أن يدً ا‬
‫تذبحني‪ ..‬وكان ذلك كاف ًيا بالن�سبة يل لإثارة الذعر‪..‬‬
‫قال ال�شيخ م�ؤن�س‪ :‬هل ت�ستطيع و�صف الأ�شخا�ص �أو الرجل الذي‬
‫يف يده عالمة؟‬
‫‪155‬‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬هل هناك �شيء �آخر؟‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬ان�صرف‪.‬‬
‫فتحرك الطفل نحو الباب ثم التفت �إلينا وقال‪ :‬لقد كانت الغرفة‬
‫رمادية اجلدران وعلى اجلدار لوحة �سوداء‪..‬‬
‫ثم ا�ستدار وان�صرف‪..‬‬
‫قلت لل�شيخ‪� :‬أنا مل �أفهم �أي �شيء غري �أين �أُذبح على يد م�سخ‪.‬‬
‫يل ال�شيخ م�ؤن�س ً‬
‫طويل ثم قال‪ :‬لقد مت و�ضع عالمة عليك‬ ‫نظر �إ ّ‬
‫ومعك �أربعة �أ�شخا�ص‪ ..‬يبدو �أنهم احل�ضور يف ذلك اليوم‪ ..‬لقد متت‬
‫الت�ضحية بكم كقربان من �أجل النجاة‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬مل �أفهم‪.‬‬
‫�شخ�صا ما بالقتل‪ ..‬ف�ساومه بكم كقربان‬
‫‪ -‬هذا املارد نرجال هدد ً‬
‫مقابل حياته‪ ..‬وو�ضع على ال�ضحايا عالمة لتكون دماءكم فدية له‪..‬‬
‫‪ -‬ومن ذلك الذي و�ضع علينا عالمة وكيف و�ضعها؟‬
‫‪ -‬هو رجل على يديه عالمة مميزة‪ ..‬عليك �أنت �أن تعرفه‪.‬‬
‫‪ -‬ثم؟‬
‫‪156‬‬
‫‪� -‬إما �أن ت�سوي معه امل�س�ألة �أو‪......‬‬
‫‪ -‬ال تقف الآن‪� ..‬أخربين ما العمل‪..‬‬
‫‪� -‬أو تقدم قربا ًنا لتفتدي نف�سك من اللعنة‪.‬‬
‫‪ -‬قربان؟ كيف؟‬
‫‪ -‬لكي تتخل�ص من هذه اللعنة يجب عليك الت�ضحية بدم‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫متاما‪ ..‬نطقت بها املر�آة‪ ..‬يجب �أن حتمل‬
‫‪ -‬دم‪ ..‬ال�شروط وا�ضحة ً‬
‫�ضحية‪ ..‬نف�س بريئة‪ ..‬وتذهب يف مكان فيه بحر بني جبلني‪� ..‬ستجد‬
‫هناك بواب ًة وج�س ًرا‪ ..‬لن يظهرا حتى تقف هناك يف ليلة جمعة‪..‬‬
‫والقمر بدر‪ ..‬وتقر�أ عزمية‪ ..‬وال �ضوء حولك‪ ..‬وتقف يف املوعد الذي‬
‫قلت عليه الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل‪ ..‬وعليك بعبور اجل�سر‬
‫ثم البوابة‪ ..‬ثم تذبح �ضحيتك �أمام النار‪ ..‬وقبل الذبح �ست�ضع يف فمك‬
‫قطعة حديد وت�ضغط عليها ب�أ�سنانك وال تفتح فمك مطل ًقا‪ ..‬وت�ضع‬
‫كفك يف الدم وتلطخ به �صدرك ووجهك‪ ..‬ثم تعود لتخرج من البوابة‬
‫�إىل اجل�سر‪ ..‬ف�إذا ما ُتركت متر ب�سالم تكون اللعنة قد انحلت‪..‬‬
‫‪ -‬وهل ميكن �أن �أفعل كل هذا وال يرتكني �أمر ب�سالم؟‬
‫قال‪ :‬ممكن‪� ..‬ستخرج من البوابة فال جتد اجل�سر‪ ..‬و�ستكون‬
‫النهاية‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫نف�سا‪.‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أ�ستطيع �أن �أفعل ذلك‪� ..‬أنت تطلب مني �أن �أقتل ً‬
‫نف�سا بريئة‪ ..‬بالتحديد طفلة غري بالغة‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬يجب �أن تكون ً‬
‫نف�سا �أو حتى حيوا ًنا؟‬
‫‪ -‬وملاذا يجب �أن �أ�ضحي‪ ..‬ملاذا �أذبح ً‬
‫‪ -‬هكذا هي البوابات بني عامل الإن�س واجلن‪ ..‬قد تعربها ب�سهولة‪..‬‬
‫ولكن ال ت�ستطيع العودة منها �إال بدم‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ال �أ�ستطيع‪� ..‬س�أعرث عليه و�أ�سوي معه امل�س�ألة‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا يا بني‪ ..‬ولكن من الأف�ضل �أن ت�سرع فلم يعد لديك الكثري‬
‫من الوقت‪� ..‬إنه يف �أثرك‪.‬‬
‫نظرت �إليه �آ�س ًفا و�أنا �أكاد �أبكي من اخلوف والهم‪ ..‬ثم خرجت‪.‬‬
‫‪hhh‬‬

‫خرجت من عند ال�شيخ م�ؤن�س‪ ..‬و�أنا على �أ�سو�أ حال‪ ..‬كنت �أ�شعر‬
‫ب�صدمة نف�سية عنيفة‪ ..‬فلم �أتوقع �أن ُيطلب مني يف يوم من الأيام‬
‫نف�سا بريئة؟ هل ميكن �أن تكون هذه ن�صيحة رجل‬ ‫طلب كهذا‪� ..‬أ�أقتل ً‬
‫دين؟ هل ميكن �أن ي�صل بي الأمر �إىل هذا احلد؟ �إنها لعنة حقيقية‪..‬‬
‫�سمعت ندا ًء من اخللف‪ :‬يا �أ�ستاذ‪..‬‬

‫‪158‬‬
‫نظرت خلفي فوجدت �شا ًبا ياف ًعا مهندم الهيئة‪ ..‬قدم �إ ّ‬
‫يل وقال‪:‬‬
‫قليل؟‬‫هل يل �أن �أحتدث معك ً‬
‫‪ -‬تف�ضل‪..‬‬
‫‪ -‬تعال معي من�شي ً‬
‫قليل بعيدً ا عن املكان‪.‬‬
‫قليل قبل �أن يبد�أ باحلديث ً‬
‫قائل‪� :‬أنا �صالح الدين‪..‬‬ ‫ابتعدنا ً‬
‫مهند�س‪� ..‬أنا من العا�صمة‪ ..‬و�أنت؟‬
‫‪ -‬و�أنا مازن‪� ..‬صيديل‪ ..‬من العا�صمة � ً‬
‫أي�ضا‪..‬‬
‫‪� -‬سمعت حوارك مع الرجل املُريد بالداخل‪ ..‬وفهمت �أنك �أول‬
‫مرة ت�أتي لل�شيخ‪ ..‬ويبدو �أنك على جهل تام ب�أمور الطرق ال�صوفية‪..‬‬
‫ور�أيتك تخرج من عند ال�شيخ حزين الوجه‪..‬‬
‫‪ -‬ال �أبدً ا �أنا �أتيت �إىل هنا طل ًبا للم�شورة والن�صيحة من ال�شيخ بعد‬
‫�أن انقطعت بي ال�سبل‪.‬‬
‫‪ -‬هل �أكلت؟‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫فدعاين �إىل الطعام يف مطعم لي�س ببعيد حتى يت�سنى لنا احلديث‪..‬‬
‫جل�سنا �إىل الطعام ففاج�أين بقوله‪� :‬أ ًيا كان ال�شيء الذي �أتيت‬
‫لت�س�أل عنه ال�شيخ‪ ..‬فقد ق�صدت ال�شخ�ص اخلط�أ‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫‪ -‬ملاذا �إنه رجل مربوك‪ ..‬يحظى بحب النا�س وثقتهم‪.‬‬
‫‪� -‬أتظن ح ًقا �أنه �شيخ و ّ‬
‫يل؟‬
‫‪ -‬ب�صراحة ال‪ ..‬مل �أقتنع‪ ..‬ولكن �إن مل يكن كذلك فما هو �إذن؟‬
‫‪� -‬إنه �ساحر‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟‬
‫‪� -‬أنا يل ع�شر �سنوات الآن �أجوب البلدان �أتتبع ال�سحرة والأولياء‪..‬‬
‫الدجالني وامل�شعوذين‪ ..‬و�أ�صبح عندي ال�شيء الكثري من هذا العلم‪..‬‬
‫فهمت كث ًريا مما ال يفهمه النا�س‪ ..‬وال ي�صح �إعالنه على العامة و�إال‬
‫لقتلوين انت�صا ًرا مل�شايخهم‪.‬‬
‫‪ -‬ا�شرح يل �أكرث‪ ..‬هل ال�صوفية دجل؟‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬لي�ست ال�صوفية بدجل‪..‬هي �سبيل �إيل اهلل كغريها من‬
‫ال�سبل‪ ..‬ولكن هناك من �شيوخ بع�ض الطرق ال�صوفية �سحرة يتعاملون‬
‫مع الروحانيني‪ ..‬وي�ستغلون جهل النا�س وحاجتهم‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هم الروحانيون؟‬
‫‪ -‬هم ر�ؤ�ساء ع�شائر اجلن‪ ..‬ي�أتي الواحد منهم �إىل ال�شيخ املبتدع‬
‫الذي ي�صل �إىل مرتبة القطب ويوهمه �أنه مالك‪ ..‬و�أنه ُمر�سل �إليه من‬
‫اهلل ليخربه �أن اهلل قد �أعفاه من العبادة وفرائ�ض ال�شريعة فال �صالة‬
‫عليه وال �صيام‪ ..‬و�أنه و ّ‬
‫يل من الأولياء‪ ..‬حتى �إذا ما �صدقه و�أطاعه‪..‬‬
‫‪160‬‬
‫يطلب منه قربات‪ ..‬قربات �شركية وكفرية‪ ..‬ف�إذا ما �صنعها له ال�شيخ‪..‬‬
‫خدما له‪ ..‬يفعلون له الأعاجيب‪ ..‬وي�أتيه‬ ‫�أ�صبح الروحاين وع�شريته ً‬
‫النا�س فيق�ضي لهم احلاجات باال�ستعانة باجلن‪ ..‬وهم من يلفقون‬
‫لل�شيخ كراماته حتى ي�ضلون بها النا�س‪.‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أ�صدق ما �أ�سمع!‬
‫‪� -‬س�أثبت لك‪ ..‬هل تعلم �أن من �شروط اجلن على امل�شايخ �أال‬
‫ي�صلون الع�صر واجلمعة؟‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬هذه �أول عالمة تعرفها يف الأولياء والعارفني‪� ..‬إذا وجدته ميتنع‬
‫عن �صالة الع�صر واجلمعة فاعلم �أنه �ساحر‪..‬‬
‫‪ -‬وهل ميتنع ال�شيخ م�ؤن�س؟‬
‫‪ -‬طب ًعا‪ ..‬دائ ًما يقول �أنه �سيذهب يف الع�صر واجلمعة �إىل مكة‬
‫ي�صلي ثم يعود‪ ..‬وطب ًعا هم ي�صدقون �أنه من �أهل اخلطوة‪ ..‬ويذهب‬
‫�إىل مكة‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف تعرف �أنه لي�س مبكة؟‬
‫‪ -‬الأمر وا�ضح ولكن النا�س ت�صدق ما تريده عقولهم �أن يكون‬
‫حقيقة‪ ..‬ال�صالة يف مكة ُتقام قبل ال�صالة هنا ب�ساعة ون�صف‪..‬‬
‫فلماذا يذهب �ساعة �صالة الع�صر هنا ولي�س بتوقيت مكة؟ وملاذا‬
‫الع�صر واجلمعة؟‬
‫‪161‬‬
‫‪ -‬ولكنهم يرونه يرفع قدمه ويخطو خطوة فينتقل �إىل بلد �آخر‬
‫وي�أتي من يقابله ويحكي �أنه قابله‪..‬‬
‫‪ -‬ال مانع‪ ..‬فاجلن ي�ستطيعون نقله يف ثانية �إىل �أي مكان بعيدً ا عن‬
‫�أعني النا�س‪� ..‬إن هذه اخلطوة التي يخطوها ي�ضع بها قدمه على يد‬
‫اجلني الذي يخدمه‪ ..‬ال تنخدع به�ؤالء‪ ..‬وال يوجد من يقول �أنه ر�آه‪..‬‬
‫ه�ؤالء كذبة �أفاقون‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن بيته مليء بالنا�س الفقراء‪ ..‬يطعمهم الطعام‪ ..‬وجمل�س‬
‫ذكر اهلل بالداخل‪.‬‬
‫‪ -‬هذه هي اخلديعة‪ ..‬لي�س �إطعام الطعام هو ال�شرع‪ ..‬وكل بر‬
‫وفاجر ول�ص وقاتل ميكنه �إطعام الطعام‪ ..‬ولي�ست العبادة هي �إطعام‬
‫الفقري‪ ..‬فال ب�أ�س عندهم من �أعمال اخلري‪ ..‬لن ي�ضره يف �شيء بل‬
‫هو من و�سائل جذب النا�س �إليه‪� ..‬أما ما ت�سميه جمل�س ذكر فهو دليل‬
‫على كالمي‪..‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪ -‬هل ي�ستقيم يف عقلك �أن يكون ذكر اهلل هو �أن جتل�س فتقول‬
‫«اهلل‪ ..‬اهلل‪ ..‬اهلل»؟‬
‫‪ -‬ال �أعرف‪.‬‬
‫‪ -‬بل تعرف‪� ..‬إنها بداهة عقلية‪ ..‬فذكر اهلل هو ت�سبيحه �أو حمده‪..‬‬
‫�أو ا�ستغفاره‪� ..‬أو تكبريه‪� ..‬أو دعا�ؤه‪ ..‬ولي�س ذكر ا�سمه جمردًا بغري‬
‫‪162‬‬
‫دعاء �أو حتى �أي جملة مفيدة‪ ..‬ثم هل �سمعت ما يخرج من غرفة‬
‫اخلوا�ص؟‬
‫‪ -‬نعم هو ذكر اخلوا�ص‪.‬‬
‫‪ -‬ال بل هو ذكر اجلن‪ ..‬يبد�أون بقول اهلل اهلل الذي هو لي�س بذكر‬
‫هلل � ً‬
‫أ�صل‪ ..‬ولي�س يف قول لفظ اجلاللة جمردًا �أي ثواب‪ ..‬ثم يبد�أون‬
‫يف رفع حرف الألف ويقولون هلل هلل‪ ..‬ثم يتطورون فريفعون الالم‬
‫ويقولون «ل ُه لهُ»‪ ..‬ثم يرفعون الالم الأخرى ً‬
‫و�صول �إىل ذكر اجلن‪..‬‬
‫«هوه هوه»‪ ..‬وهو تقرب �إىل اجلن ويخدعون اجلهلة من النا�س ب�أنه‬
‫ذكر اخلوا�ص‪ ..‬ثم يتجلى ال�شيخ الأفاق‪ ..‬وتتجلى غفلة النا�س‪ ..‬حيث‬
‫يدعي ال�شيخ الفاجر �أن النبي حممد قد ح�ضر‪ ..‬وي�سمونها احل�ضرة‬
‫النبوية‪ ..‬و�أحيا ًنا ي�سمونها احل�ضرة الإلهية‪ ..‬ولك �أن تتخيل من‬
‫يزعمون ح�ضوره يف تلك احل�ضرة الإلهية‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أ�صدق هل نحن نحيا يف عامل يعج بال�سحرة �إىل هذا احلد؟‬
‫‪ -‬ا�سمع‪� ..‬إذا ر�أيت الرجل مي�شي على املاء �أو يطري يف الهواء‪ ..‬وهو‬
‫خمالف ل�شرع اهلل مبتدع‪ ..‬فاعلم �أنه م�ؤيد ب�شيطان‪..‬‬
‫لي�ست الكرامة هي دليل �صحة العقيدة �أو الوالية‪ ..‬هذه خدعة‬
‫اجلهلة وال�ضعفاء‪ ..‬يرونهم يقرتفون الفواح�ش واملعا�صي التي تقرب‬
‫�إىل ال�شيطان‪ ..‬ويبجلونهم ويعتقدون �أنهم �إىل اهلل �أقرب‪..‬‬
‫‪� -‬أتظن �أين لو �س�ألت ال�شيخ فلن ينفعني؟‬

‫‪163‬‬
‫‪ -‬من �أتى �ساح ًرا ف�صدقه فقد كفر‪ ..‬ما الذي ميكن �أن يقدمه لك‬
‫�ساحر‪� ..‬سيجرك �إىل الكفر ج ًرا‪ ..‬ال جتعل �أي حمنة تدفعك لل�شرك‬
‫باهلل‪ ..‬اجلن ال يخدم الإن�س �إال بالكفر‪� ..‬سيطلب منك قربا ًنا وال �شك‪.‬‬
‫‪ -‬وما �أدراين بقرابينهم؟‬
‫احك يل‬
‫‪ -‬هذه الأمور وا�ضحة ولن تختلط على رجل متعلم مثلك‪ِ ..‬‬
‫ما حدث عند ال�شيخ‪.‬‬
‫فق�ص�صت عليه ما حدث‪ ..‬فقال‪ :‬هل كانت ال�شمعة التي ر�أيتها‬
‫حمراء؟‬
‫‪ -‬نعم‪..‬‬
‫‪ -‬عليها طل�سم؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬بل طال�سم‪.‬‬
‫‪� -‬إنها هي �إذن‪� ..‬إنها �شمعة هاروت وماروت‪..‬‬
‫‪ -‬وماذا �إذن؟‬
‫‪ -‬ال عليك كنت قد �سمعت عنها‪ ..‬مل �أكن ر�أيت �أحدً ا ي�ستخدمها‬
‫من قبل‪� ..‬إنها نادرة ولي�س كل �ساحر قادر على ا�ستخدامها‪..‬‬
‫‪ -‬مل تقل يل ما ر�أيك فيما قاله يل م�ؤن�س؟‬

‫‪164‬‬
‫نف�سا‪ ..‬وتقربها قربا ًنا لل�شيطان‪ ..‬وتعرب‬
‫‪ -‬هو يطلب منك �أن تقتل ً‬
‫بوابة بني عاملينا‪ ..‬عامل اجلن وعامل الإن�س‪ ..‬هل بعد كل ذلك ت�س�أل؟‬
‫كل هذا �شرك وكفر‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن اللعنة �ستنحل‪.‬‬
‫‪ -‬غري �صحيح‪ ..‬فا�ستدراجك �إىل الكفر عمل �أ�صيل لل�شيطان‪..‬‬
‫لي�س له عالقة برغباته الأخرى �أو انتقامه‪� ..‬إنها فقط فر�صة‪ ..‬فقتلك‬
‫و�أنت كافر خري عنده من قتلك و�أنت م�ؤمن‪ ..‬ثم هو يجرك �إىل لعنة‬
‫�أكرب‪� ..‬إنها لعنة قتل النف�س الربيئة بغري نف�س‪� ..‬إنها لعنة ال تنحل‬
‫بقرابني الأر�ض‪� ..‬ستلقى بها اهلل‪..‬‬
‫�سكت ونظرت �إىل الأر�ض حريان‪..‬‬
‫ُّ‬
‫‪� -‬أمل تقل �إنكم كنتم �ستة يف تلك الليلة؟‬
‫‪ -‬نعم �أنا ونزار واحلاج طاهر ور�ؤوف وراندا و�سابق‪..‬‬
‫‪ -‬فكيف كانوا خم�سة هم من و�ضعت عليهم العالمة؟‬
‫علي كلماته ك�صفعة قوية �شعرت معها بالدم يتدفق �إىل‬
‫نزلت ّ‬
‫ر�أ�سي بعنف‪ ..‬كيف مل �أنتبه لذلك؟‬
‫يا ربي‪ ..‬هذا معناه �أن �أحد احل�ضور هو من و�ضع العالمة‪..‬‬
‫مل يبق غريي �أنا و�سابق‪ ..‬نعم �إنه �سابق‪ ..‬لقد كان على يد �سابق‬
‫عالمة بارزة‪� ..‬إنها وحمة �سوداء كبرية على ظهر يده‪� ..‬أذكر يوم‬

‫‪165‬‬
‫ر�أيتها‪ ..‬وظننتها من �أثر م�صافحته للجنية‪ ..‬وقد �سافر ومل نعرف له‬
‫�أثر‪ ..‬لقد م�سح �أيدينا بزجاجة م�سك‪� ..‬إنها العالمة‪..‬‬
‫‪� -‬إذن ابحث عن �سابق‪ ..‬فيمكنك �أن حتل معه امل�س�ألة وتعفي‬
‫نف�سك من الكفر لفك اللعنة‪..‬‬
‫نعم هذا هو احلل‪� ..‬س�أعرث على �سابق ولو جئت به من قاع بحريته‬
‫يف القرية‪..‬‬

‫‪h‬‬

‫‪166‬‬
‫)‪(12‬‬

‫انق�ضت عدة �أ�سابيع و�أنا �أبحث عن �سابق يف حماولة يائ�سة للفكاك‬


‫من اللعنة ولكن بال جدوى‪ ..‬مل �أكن �أ�صدق نف�سي‪ ..‬هل �سابق ذلك‬
‫الرجل الذي وثقنا فيه كل هذه الثقة‪ ..‬هو من يخدعنا ويلعننا تلك‬
‫اللعنة‪� ..‬أ ُيعقل �أن ينخدع الإن�سان بهذا ال�شكل؟ وكيف يل الآن �أن‬
‫�أجده؟ لقد �سافر‪ ..‬هرب �أو مات �أو ذهب �إىل اجلحيم‪ ..‬مل يعد ميثل‬
‫مكانه فار ًقا‪ ..‬لقد لعننا وذهب‪..‬‬
‫بدا يل البحث عن �سابق بعد الآن م�ضيعة للوقت فاتخذت قرا ًرا‬
‫غري ًبا‪ ..‬مل �أكن �أخطط ملا �س�أفعل ولكني قررت �أال �أ�ستقر مبكان‪..‬‬
‫�أال �أترك فر�صة لذلك الكيان �أن ي�ستمر يف مطاردتي‪ ..‬كنت مرعو ًبا‬
‫من �أن �ألقى م�صري ر�ؤوف �أو راندا �أو نزار �أو احلاج طاهر‪ ..‬كنت قد‬
‫ا�ستلمت عملي بالتكليف احلكومي‪ ..‬كنت �أذهب �إىل عملي جمهدً ا فلم‬
‫�أكن �أنام طيلة الليل‪ ..‬وكنت �أنام نها ًرا بعدما �أنتهي من عملي‪ ..‬وما �إن‬
‫‪167‬‬
‫ي�أتي الليل حتى �أخرج �إىل ال�شوارع �أجل�س يف املقاهي حي ًنا ويف امل�ساجد‬
‫�أحيا ًنا‪� ..‬أذهب �إىل �أفراح لأ�شخا�ص ال �أعرفهم‪� ..‬أرمي بنف�سي يف �أي‬
‫زحام‪ ..‬كان وجودي بني النا�س يزيل الرهبة عن قلبي‪ ..‬كنت �أهرب‬
‫منه و�سط الزحام‪ ..‬ورمبا كنت �أهرب من نبوءة الطالع‪ ..‬ال �أريد �أن‬
‫�أبقى وحيدً ا وال خائ ًفا‪ ..‬كنت �أهرب من �أن حت�صرين اجلدران يف‬
‫ليل‪ ..‬لن �أ�سمح له ب�أن يلطخ بدمي الأر�ض‬ ‫ال�ساعة الثانية والن�صف ً‬
‫واجلدار‪ ..‬كانت هذه هي طريقتي لك�سر نبوءة الطالع‪ ..‬كانت احلياة‬
‫مملة ورتيبة وغري منتجة‪ ..‬وبد�أت �أ�شعر بعد فرتة �أين بال حياة‪� ..‬أنا‬
‫هارب من ث�أر لي�س يل فيه ناقة وال جمل‪ ..‬حتى ذلك املوعد مل �أكن‬
‫�أنا من حدده‪ ..‬حدده �سابق الذي �سافر ومل نعد نعرف له طري ًقا‪� ..‬أنا‬
‫ل�ست مذن ًبا‪ ..‬ملاذا ميكن حلياتي �أن ُتدمر بهذا ال�شكل‪ ..‬هل �س�أ�ستمر‬
‫هكذا �إىل الأبد‪ ..‬ال بد من و�ضع نهاية لهذه احلال و�إال ف�ستتحول احلياة‬
‫�إىل ال �شيء‪ ..‬ال �شيء‪.‬‬
‫كانت ليلة �شديدة الربودة‪ ..‬وكنت �أم�شي وحيدً ا كالعادة يف نهاية‬
‫الليل ومل يكن يف الطريق غريي‪ ..‬كنت �أمر على الطرق ال �أجد لنف�سي‬
‫ملج�أ غري الأر�صفة طوال الليل حتى قبيل مطلع الفجر‪ ..‬ف�أذهب �إىل‬
‫قليل قبل العمل‪ ..‬حينما وجدت من‬ ‫�أقرب م�سجد لأ�صلي و�أرتاح ً‬
‫يناديني من �سيارته‪..‬‬
‫‪ -‬مازن‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬

‫‪168‬‬
‫‪� -‬أنا ه�شام �أال تذكرين؟‬
‫�إنه ه�شام الذي كان جا ًرا لر�ؤوف وراندا يف الطابق الثالث يف‬
‫�شقتهما القدمية‪.‬‬
‫‪ -‬بالطبع �أذكرك‪ً � ..‬‬
‫أهل بك‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا ت�سري وحدك؟ تعال �أو�صلك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �شك ًرا‪� ..‬أنا �أمت�شى ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪ -‬ولكني �أريد �أن �أتكلم معك‪.‬‬
‫فركبت معه ال�سيارة‪..‬‬
‫قال‪ :‬ملاذا ال ت�أتي لزيارتنا؟‬
‫‪ -‬ومنذ متى ونحن نتزاور؟‬
‫‪ -‬ومل ال؟‬
‫‪ -‬لأين ال �أريد �أن �أدخل تلك البناية مرة �أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬لأنها حتمل بالن�سبة يل ذكرى �سيئة‪.‬‬
‫‪� -‬أعلم �أنك كنت �صدي ًقا لراندا ور�ؤوف‪ ..‬ولكن يجب �أن تكون �أقوى‬
‫من ذلك‪ ..‬لقد كانا عزيزين علينا جمي ًعا‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ومد يده �إىل �صندوق التبغ بجواره و�أخذ لفافة ومد يده �إ ّ‬
‫يل بها‪..‬‬
‫وما �إن نظرت �إليها حتى لفت نظري طرف و�شم على باطن ذراعه‬
‫يخرج من حتت كم قمي�صه‪ ..‬ف�أم�سكت ذراعه بعنف �شديد‪ ..‬وقلت‬
‫له‪ :‬ما هذا؟‬
‫فارتبك ب�شدة وقال‪ :‬ماذا؟ �إنه و�شم!‬
‫مل يخطر على ر�أ�سي حلظتها �إال قول الطفل الذي فتح املندل «�إنه‬
‫رجل على يده عالمة»‪..‬‬
‫نعم �إنه هو‪ ..‬والعالمة قد خرج وو�ضعها على الأر�ض يف تلك‬
‫الليلة‪� ..‬إنه املاء الذي ر�شه على الأر�ض‪ ..‬ومررنا عليه جمي ًعا �أثناء‬
‫نزولنا‪ ..‬و�سابق مل يتعر�ض للعنته لأنه كان قد رحل‪ ..‬و�أنا مررت على‬
‫املاء �أول مرة بعد �أن ودعت «�سابق» و�شعرت به�شام على ال�سلم‪..‬‬
‫لقد كان ي�ضع العالمة‪ ..‬العالمة التي يتتبعها ال�شيطان لي�أخذنا‬
‫قربا ًنا‪� ..‬إنه مل يكن �سابق هو اخلائن بل كان ذلك الوغد‪.‬‬
‫�أم�سكت به وكدت �أن �أحطم عنقه‪ ..‬و�أقتله خن ًقا‪ ..‬كان يقاومني‬
‫ومل �أدر ما تلك القوة التي دبت يف ج�سدي حلظتها‪ ..‬لقد كدت �أن‬
‫�أفتك به‪ ..‬لوال �أنه مد يده �إىل مقب�ض مقعد ال�سيارة اجلانبي‪ ..‬رفعه‬
‫فهبط ظهر املقعد �إىل اخللف حتى متدد‪ ..‬فتناول �أداة حديدية كانت‬
‫على املقعد اخللفي لل�سيارة و�ضربني بها على ر�أ�سي‪ ..‬ففقدت الوعي‪..‬‬
‫يل الوعي‪ ..‬فوجدت «ه�شام»‬‫مل �أدر كم مر من الوقت حتى عاد �إ ّ‬
‫بجانبي يدخن لفافة يف هدوء‪ ..‬و�أنا ممدد على �أريكة يف مدخل منزل‪..‬‬
‫‪170‬‬
‫قلت‪� :‬أين �أنا؟‬
‫‪� -‬أنت يف بيتي‪.‬‬
‫فهممت �أن �أقوم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ال تخف �أنت يف �أمان و�أنا لن �أ�ؤذيك‪.‬‬
‫‪� -‬أريد �أن �أم�شي‪.‬‬
‫ام�ش ولكن �أخربين � ًأول ملاذا حاولت قتلي؟‬
‫‪ -‬ح�س ًنا ِ‬
‫فم�سحت وجهي وقلت له‪� :‬أنت ال�سبب يف كل ما جرى‪.‬‬
‫‪ -‬ما معنى هذا؟‬
‫ً‬
‫�صارخا‪� :‬أل�ست �أنت الذي �سحرت «ر�ؤوف» وراندا؟ �أل�ست �أنت‬ ‫قلت‬
‫من و�ضع العالمة علينا وجعلتنا فري�سة ل�شيطانك؟‬
‫قال بتعجب‪ :‬هل تظن �أين �ساحر؟‬
‫‪� -‬أنا مت�أكد‪� ..‬أمل تعلق لنا مق�شة‪ ..‬ونعلني؟‬
‫‪ -‬تظن �أين �ساحر لأين �أ�ضع مق�شة ونعلني‪ ..‬لقد كنت �أحاول �أن‬
‫�أحمي نف�سي وعائلتي من ذلك ال�ساحر ال�شيطاين‪..‬‬
‫‪ -‬نعم �أنت �ساحر‪.‬‬
‫‪� -‬أنت ال تعرف �شي ًئا‪ ..‬مل �أكن �أنوي �أن �أك�شف ال�سر الذي كنت‬
‫�أخفيه‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫قلت ب�ضيق‪ :‬تكلم باخت�صار‪.‬‬
‫‪ -‬لن �أتكلم‪ ..‬تعال معي‪.‬‬
‫‪� -‬إىل �أين؟‬
‫‪ -‬ا�صرب‪� ..‬إذا �أردت �أن تعرف احلقيقة عليك بالتزام ال�صمت حتى‬
‫يت�س ّنى لعقلك �أن يتكلم‪.‬‬
‫�أخذين و�صعدنا �إىل ال�سطح فوق �شقة ر�ؤوف وراندا القدمية والتي‬
‫كانت يف الطابق الأخري‪ ..‬ووقفنا �أمام الباب ف�أخرج من جيبه ق�ضي ًبا‬
‫حجر ًيا غري ًبا طوله ع�شرة �سنتيمرتات تقري ًبا‪..‬‬
‫فقلت له‪ :‬ما هذا؟‬
‫‪ -‬هذا حجر ي�سمى عرق ال�سواحل‪.‬‬
‫‪ -‬وما هو عرق ال�سواحل؟‬
‫‪ -‬هذا حجر كرمي له خوا�ص عظيمة وبه من الطاقة والقوى اخلفية‬
‫حي‪ ..‬و�أعظم خا�صية له هي فتح‬
‫الكثري‪� ..‬إن به �س ًرا �إله ًيا‪ ..‬فهو حجر ّ‬
‫الأقفال املغلقة‪..‬‬
‫‪ -‬كنت �أعلم �أنك �ساحر‪.‬‬
‫جاهل‪ ..‬قلت لك هذا حجر له قوى عظيمة ال عالقة‬ ‫‪ -‬ال تكن ً‬
‫لها باجلن‪� ..‬أو ال�سحر‪ ..‬هذا احلجر لو و�ضعته مع بع�ض حبات طعام‬
‫كالأرز ً‬
‫مثل ل�ستة �أ�شهر �ستختفي بالكامل‪� ..‬إنه حي ويتغذى‪� ..‬إنه من‬
‫�أ�سرار الطبيعة‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫ثم �أخذ ي�سمي ويقول «با�سم احلي القيوم» ويطرق بهذا الق�ضيب‬
‫على مكان املفتاح‪ ..‬كان الطرق خفي ًفا ومتتاب ًعا‪ ..‬ول�ست �أفهم ما الذي‬
‫حدث وال كيف حدث‪ ..‬ولكن انفتح الباب فج�أة‪..‬‬
‫قلت له بانفعال‪ :‬ماذا تفعل؟‬
‫‪� -‬ش�ش�ش�ش�ش‪ ..‬ادخل‪.‬‬
‫قليل يف الظالم حتى و�صلنا �إىل غرفة‬‫دخلنا ال�سطح ثم م�شينا ً‬
‫منعزلة مل �أكن �أعلم �أنها موجودة على ال�سطح‪ ..‬يختبئ بابها خلف‬
‫مر�آة كبرية جدً ا وقدمية يغطيها الرتاب‪ ..‬ظننتها ت�ستند �إىل اجلدار‪..‬‬
‫ولكنها كانت هي الباب نف�سه‪ ..‬ا�ستخدم احلجر الغريب الذي فتح به‬
‫باب ال�سطح على طرف املر�آة‪ ..‬ف�سمعت �صوت مزالج ينفتح‪ ..‬فجذب‬
‫تلك املر�آة فانفتحت الغرفة‪.‬‬
‫انفتح نور الغرفة مبجرد �أن فتح بابها‪ ..‬ف�إذا بها مفاج�أة كادت‬
‫تذهب بعقلي‪� ..‬إنها غرفة رمادية جدرانها مل�ساء وعلى اجلانب الأي�سر‬
‫من الباب لوحة مربعة �سوداء معلقة على اجلدار‪..‬‬
‫�شعرت بدوار خفيف‪ ..‬دارت معه كل الذكريات �أمام عيني‪ ..‬الطفل‬
‫الذي فتح املندل‪ ..‬الغرفة الرمادية التي كانت �آخر ما ذكره الطفل قبل‬
‫�أن مي�ضي‪ ..‬العالمة‪ ..‬ال�شيطان‪ ..‬كلمات ر�ؤوف ون�صيحته ب�أن �أحر�ص‬
‫على �سالمتي‪..‬‬
‫يا �إلهي‪ ..‬ما هذا اجلنون؟‬

‫‪173‬‬
‫ر�ؤوف هو ال�ساحر؟!‬
‫�أيعقل �أن يكون كل ما حدث كان ب�سببه؟ �أكان هو اللغز وهو احلل؟‬
‫نعم �أذكر جيدً ا �أننا �سمعنا ليلة �أن ح�ضر نزار يف البيت �صوت‬
‫حترك �أثاث خ�شبي و�أنبوبة غاز يف ال�سقف‪ ..‬وقالت راندا �أن مفتاح‬
‫ال�سطح هم ميلكونه وال �أحد ي�صعد هناك‪ ..‬الآن ال�صورة وا�ضحة‪..‬‬
‫�إنها غرفة ال�شعوذة بنف�سها‪ ..‬و�أنا �أراها الآن‪..‬‬
‫كانت رائحة الغرفة رطبة وعفنة‪ ..‬على الرغم من �أن الأ�شياء‬
‫فيها مل يكن يعلوها الرتاب‪ ..‬جتولت يف الغرفة فر�أيت خوامت كثرية‬
‫و�شموعا‪ ..‬ورق ًعا من اجللد‪ ..‬وزجاجات بها عظام‬‫ً‬ ‫و�أحجا ًرا ملونة‪..‬‬
‫�صغرية‪ ..‬كان هناك خفا�ش ميت يبدو �أنه كان يف و�ضع الت�شريح �أو‬
‫كامل به �أ�سفار كثرية‪ ..‬كتاب �شم�س‬‫التجهيز لطق�س ما‪ ..‬ور�أيت رك ًنا ً‬
‫املعارف الكربى‪ ..‬منبع �أ�صول احلكمة‪ ..‬ال�سر املكتوم‪ ..‬غاية احلكيم‪..‬‬
‫كتاب الفالحة النبطية‪ ..‬م�صاحف الكواكب ال�سبعة‪� ..‬إنها الأ�سفار‬
‫ال�شيطانية التي كنت �أقر�أ عنها‪ ..‬كان هناك من ي�شكك يف وجودها‪..‬‬
‫وها هي الآن بني يدي‪� ..‬أمهات الكتب يف ال�شعوذة والعرافة وا�ستح�ضار‬
‫ملوك اجلان‪� ..‬أ�سفار الكفر وال�شرك واللعنة‪..‬‬
‫كنت �أنظر �إىل الأ�شياء من حويل وال �أكاد �أ�صدق ما �أراه‪ ..‬وكنت‬
‫�أ�شعر ب�شعور يعاودين بني احلني واحلني من وقتها‪� ..‬شعور ال �أ�ستطيع‬
‫و�صفه‪� ..‬شعرت بالغفلة وال�صدمة‪� ..‬شعرت باخلديعة واخليانة و�شعرت‬
‫بغ�صة يف حلقي‪ ..‬كل الأفكار كانت تتقاطع يف ر�أ�سي‪..‬‬

‫‪174‬‬
‫قطع كل هذا ه�شام ً‬
‫قائل‪ :‬لقد حذرته كث ًريا من نتائج ما يفعل‪..‬‬
‫ولكنه مل يكن ي�ستمع لأحد‪..‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أ�ستطيع �أن �أ�صدق عيني‪..‬‬
‫‪ -‬معك حق �أال ت�صدق‪ ..‬ولكنها احلقيقة‪ ..‬لقد كان ي�شرتي‬
‫كتب ال�سحر من كل مكان ويتتبعها منذ كنا يف اجلامعة‪ ..‬هو ميلك‬
‫هذه الغرفة منذ �سنني ويرف�ض �أن ي�ؤجرها لأي �أحد‪ ..‬بد�أ ممار�سة‬
‫الطقو�س عندما �سافر للخارج‪ ..‬ثم نقل كل �أدواته هنا عندما عاد‪..‬‬
‫لي�ستقر هنا‪ ..‬كنا ن�سمع كل يوم �أ�صواتًا غريبة ت�أتي من �شقته‪ ..‬و�أحوال‬
‫غريبة يف البناية ي�شعر بها ال�سكان وال يفهمون من �أين ت�أتي‪ ..‬كنت �أنا‬
‫الذي �أعرف ومل �أ�ش�أ �أن �أف�ضحه‪ ..‬ولكنه ملأ البيت بالأ�شباح‪ ..‬كان‬
‫ي�ستح�ضر الأرواح وال�شياطني‪ ..‬كان يرتزق من وراء هذا الأمر كث ًريا‪..‬‬
‫ولكن مل يكن �أحد من مريديه يعرف عنوانه‪ ..‬كان يقابلهم بعيدً ا‪..‬‬
‫وي�صنع طقو�سه يف البيت‪ ..‬حتى جاء يوم وقال يل فيه �أنه تاب عما‬
‫كان يفعل‪ ..‬وترك هذا العمل‪ ..‬ولكنهم مل يرتكوه‪.‬‬
‫‪ -‬من هم؟‬
‫‪ -‬ال�شياطني‪ ..‬هل حت�سب �أن الأمر بهذه ال�سهولة‪� ..‬إنه فخ‪� ..‬إن‬
‫طريق الذهاب غري طريق العودة‪� ..‬إن التقرب من ه�ؤالء يكون بقرابني‬
‫وكفر‪ ..‬وتركهم ال يكون �إال باملوت‪� ..‬أو الت�ضحية بدم‪ ..‬هذا ما قاله يل‬
‫ر�ؤوف بنف�سه‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪ -‬ولكن �أل�ست �أنت من ترك العالمة‪� ..‬أمل تر�ش ما ًء على الأر�ض‬
‫يوم كنا جنتمع هنا؟‬
‫‪ -‬كنت �أر�ش كل يوم بعد الفجر ما ًء مبلح لأطهر عتبة الدار من �أي‬
‫�شيء ميكن �أن ي�ؤذينا‪ ..‬وال �أ�سمح لأرواحه �أن متر من هنا‪..‬‬
‫‪ -‬ولكن املندل قال �أن من و�ضع العالمة رجل على يده عالمة‪..‬‬
‫‪ -‬هل فتحت املندل؟ وتدعي �أنني �أنا ال�ساحر؟ ح�س ًنا �إنه هو‪ ..‬لقد‬
‫كان ر�ؤوف نف�سه هو من و�ضع العالمة‪ ..‬فر�ؤوف كان على يده اليمني‬
‫ندبة كبرية تركها حرق ليده منذ الطفولة‪ ..‬وهو �أثر ظاهر‪..‬‬
‫‪ -‬نعم �أعرف ذلك‪ ..‬ولكن كيف و�ضع العالمة؟‬
‫‪� -‬أمل ير�ش عليك �شي ًئا؟‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬لعله و�ضعه لك يف الطعام �أو ال�شراب يف بيته‪.‬‬
‫ف�ضربت بيدي على جبيني‪ ..‬ومرت �أمام عيني الأحداث �سري ًعا‪:‬‬
‫نعم لقد �أعطانا جمي ًعا زجاجات بها ماء وقال �إنه زعفران لغ�سل الوجه‬
‫وال�شرب‪ ..‬ومل يكن �سابق موجودًا‪ ..‬لهذا مل ت�صبه اللعنة‪.‬‬
‫ولكن ال �أفهم‪ ..‬كيف �أ�صابت اللعنة «ر�ؤوف» نف�سه؟‬
‫‪ -‬ال �أعرف رمبا �شرب من املاء من غري ق�صد‪..‬‬

‫‪176‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬تذكرت الآن‪ ..‬يومها قامت راندا ب�أخذ القليل من املاء من‬
‫زجاجتها على منديل وجاءت مت�سح جبينه بها‪ ..‬نظر �إىل الزجاجة يف‬
‫يدها‪ ..‬ور�أيت على وجهه نظرة مل �أف�سرها وقتها مطل ًقا‪..‬‬

‫‪h‬‬

‫‪177‬‬
‫)‪(13‬‬

‫تركت «ه�شام» يف غرفة ر�ؤوف ونزلت �أهيم على وجهي‪ ..‬مل �أدر‬
‫ماذا ميكن �أن �أ�صنع‪ ..‬لقد اختلط كل �شيء‪ ..‬مل يعد �شيء بداخلي‬
‫متما�س ًكا‪ ..‬ال مبد�أ وال �صداقة‪ ..‬وال ثقة‪ ..‬وال علم‪..‬‬
‫م�شيت يف الطرقات هائ ًما على وجهي لي�س يل مكان بعينه لأتوجه‬
‫�إليه‪ ..‬فتوجهت �إىل امل�سجد املعتاد الذي �أبيت فيه‪ ..‬جل�ست حتى �صالة‬
‫الفجر‪ ..‬وبعد ال�صالة جل�ست يف جانب امل�سجد‪ ..‬كادت عيناي تغفوان‬
‫عندما ر�أيت �إمام امل�سجد �أمامي‪ ..‬كان ً‬
‫�شيخا كب ًريا �أبي�ض الوجه‬
‫ق�صري اللحية‪ ..‬يبدو على وجهه �أثر ال�سنني‪� ..‬إنه يبدو يف ال�سبعني‬
‫ينحن ظهره‪ ..‬وقف �أمامي مبت�س ًما‬
‫من العمر‪ ..‬ولكنه �صحيح �سليم مل ِ‬
‫وقال‪� :‬أما �آن لك �أن تتكلم؟‬
‫‪ -‬معذرة ماذا تق�صد؟‬

‫‪178‬‬
‫‪� -‬أراك هنا كل يوم‪ ..‬ت�أتي ذابل الوجه حزي ًنا مرتق ًبا‪ ..‬ت�صلي‬
‫وتغفو مدة ثم تذهب‪ ..‬و�أرى حالك يزداد �سو ًءا كل يوم‪ ..‬هل بك من‬
‫علة‪ ..‬هل حتتاج �إىل م�ساعدة‪� ..‬إذا اتخذت امل�سجد ملج�أ جل�سدك فهو‬
‫� ً‬
‫أي�ضا ملج�أ لروحك‪� ..‬أنا امل�س�ؤول عن هذا امل�سجد‪..‬‬
‫‪� -‬أنا يف جحيم يا �سيدي وال �أدري كيف �سينتهي‪..‬‬
‫فاحك يل لعلي �أ�ستطيع امل�ساعدة‪..‬‬
‫‪� -‬إن مل يكن عندك مانع ِ‬
‫‪� -‬س�أحكي لك‪...‬‬
‫ق�ص�صت عليه كل ما حدث منذ بداية الأحداث �إىل اكت�شايف‬
‫احلقيقة‪ ..‬وتعمدت �أن �أ�ؤكد على ما قاله يل ال�شيخ يف امل�سجد الكبري‪.‬‬
‫قال‪ :‬مبد�أ ًيا ال ينكر تلب�س اجلن بالإن�س �إال من قل علمه‪ ..‬و�ضل‬
‫فهمه‪ ..‬اجلن مت�س الإن�س وال�شيطان ي�ؤذي الإن�سان‪ ..‬وقد �أتانا من‬
‫ر�سول اهلل في�ض من الأخبار عن الرقي وال�سحر واحلرز من ال�شيطان‪..‬‬
‫‪ -‬نعم ُيحرتز من و�سوا�س ال�شيطان‪.‬‬
‫‪ -‬ال لي�س هذا كل �شيء‪..‬‬
‫يقول النبي ً‬
‫مثل «من قال ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ..‬له امللك‬
‫وله احلمد يحيي ومييت وهو على كل �شيء قدير يف يوم مئة مرة كانت‬
‫له حر ًزا من ال�شيطان ذلك اليوم»‪..‬‬

‫‪179‬‬
‫�أتراها حر ًزا يف ذلك اليوم من الو�سوا�س و»�أعوذ باهلل من ال�شيطان‬
‫الرجيم» لي�ست بحرز ذلك اليوم؟‬
‫بالطبع ال‪ ..‬بل لكل منهما عمله‪ ..‬فاال�ستعاذة تذهب بو�سو�سة‬
‫ال�شيطان‪ ..‬والذكر املخ�صو�ص هو احلرز الذي مينع امل�س والتلب�س‪..‬‬
‫�إن اجلن ريح‪ ..‬والريح تدخل ج�سم الإن�سان من فمه �أو �أنفه‪..‬‬
‫ولكنها حتتاج �إىل باب ُيفتح للدخول‪ ..‬فالفرح ال�شديد والغ�ضب‬
‫ال�شديد وال�ضحك ال�شديد والفزع ال�شديد‪ ..‬كلها تفتح الباب ليدخل‬
‫ال�شيطان مع النف�س ويجري جمرى الدم‪ ..‬ونحن نراه ينطق على ل�سان‬
‫املم�سو�س وهو م�صروع‪ ..‬ال ينكر ذلك �إال من ال جتربة له‪ ..‬ويحكم مبا‬
‫ي�ستح�سنه عقله من ا�ستحالة ذلك‪..‬‬
‫فقلت‪ :‬يا �سيدي كيف ذلك ويف القر�آن «�إن عبادي لي�س لك عليهم‬
‫�سلطان»؟‬
‫فقال‪� :‬أنت تخلط الأمر ك�سائر اخللق‪..‬‬
‫هل �إذا �أم�سك بك رجل يف الطريق و�ضربك �أو حتى قتلك‪� ..‬أيكون‬
‫بذلك له �سلطان عليك؟‬
‫فرددت‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقال‪ :‬بالطبع ال‪ ..‬لي�س الإيذاء ب�سلطان‪ ..‬ال�سلطان هو �أن ي�أمرك‬
‫ً‬
‫�ساخطا‪ ..‬هو �إذن له �سلطان عليك‪..‬‬ ‫فتطيعه �سوا ًء كنت را�ض ًيا �أم‬
‫مينعك من ع�صيانه‪ ..‬ي�سخرك له‪� ..‬أما �أن تدخل معه يف حرب‬
‫‪180‬‬
‫في�ؤذيك وت�ؤذيه‪ ..‬فلي�س لأحد منكما �سلطان على الآخر‪..‬‬
‫‪ -‬لقد قال ذلك عامل كبري فكيف �أرد قوله؟‬
‫‪ -‬يا بني لقد قال ذلك عن عدم علم‪ ..‬ولي�س عن علم بالعدم‪� ..‬أما‬
‫من جرب ور�أى فال ي�سعه الإنكار‪ ..‬فلي�س من ر�أى كمن �سمع‪ ..‬وقد �أتانا‬
‫اخلرب ال�صحيح ب�أن النبي �ضرب �صدر الغالم املم�سو�س وقال «اخرج‬
‫عدو اهلل �أنا نبي اهلل»‪ ..‬ترى من �أي �شيء �أمره الر�سول �أن يخرج عند‬
‫�أ�صحاب العقول؟‬
‫‪ -‬نعم ولكن امل�صروع ي�ستجيب للدواء والعالج واملر�أة امل�صروعة‬
‫دعا لها النبي ومل يقل لها �أنها مم�سو�سة‪..‬‬
‫هز ر�أ�سه نف ًيا وقال‪ :‬هناك �صرع يعرفه الأطباء ال دخل لل�شيطان‬
‫به‪ ..‬وهناك �صرع ال يعرفونه وهو ما نراه على الرجل يتخبطه ال�شيطان‬
‫من امل�س‪..‬‬
‫‪ -‬ولكن �أل�ستم جميعكم علماء دين واحد‪ ..‬كيف ينكره �أحدهم‬
‫وتثبته �أنت؟‬
‫يل نظرة �آ�سفة وقال‪ :‬ما يفتيك به املفتي هو مذهبه ومعتنقه‬‫نظر �إ ّ‬
‫من الآراء املتعددة‪ ..‬وال ُي�شرتط �أن ي�صيب ر�أيه احلق من الأحكام‪..‬‬
‫فمعتنقه ي�أتي من اجتهاده وممار�سته‪ ..‬ولي�س من القراءة والتنظري‪..‬‬
‫العامل املجتهد هو العامل املجرب الذي تد ّين بعلمه‪ ..‬ومار�س الأن�ساك‬
‫وعرف الع�سر والي�سر وفرق بني �أحوال النا�س‪ ..‬ولي�س املفتي من يحفظ‬
‫حفظا فيلقيه عليك حال ال�س�ؤال‪ ..‬الأحكام متوفرة يف الكتب‬‫احلكم ً‬
‫‪181‬‬
‫ملن يقر�أ‪ ..‬ولكن فتوى العامل �شيء �آخر‪� ..‬إنها خال�صة فقهه للحياة‬
‫و�صروف الدهر و�أحوال النا�س‪ ..‬الفتوى ترتبط باحلياة املتغرية‬
‫ال�صاخبة املزدحمة بالأحداث‪ ..‬وهذا ال ُيد ّر�س يف الكتب‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تق�صد؟ مل �أعد �أفهم‪..‬‬
‫‪� -‬س�أعطيك ً‬
‫مثال‪ ..‬ميكنك �أن تقر�أ الفقه‪ ..‬وميتلئ عقلك ب�أقوال‬
‫الفقهاء والتفا�سري‪ ..‬ولكن ما يحكم عليك هو ما ملأ قلبك ولي�س‬
‫عقلك‪ ..‬هو الذي يوجهك‪ ..‬هو الذي يخرج على ل�سانك‪ ..‬هو الذي‬
‫ميلأ فتاويك‪ ..‬ميكنك �أن جتيز اخلمر املتخذ من ثمرة دون التمر‬
‫ورعا‬
‫والعنب لأن يف الكتب من قال ذلك اجتهادًا‪ ..‬ولكن لو كان قلبك ً‬
‫خا�ش ًعا هلل‪ ..‬فلن تتجر�أ على اهلل‪ ..‬و�ستحرم اخلمر ولو اتخذت من‬
‫املاء‪ ..‬وحتكم بخط�أ من قال غري ذلك‪..‬‬
‫فر ٌق بني �أن تكون عاملًا حتفظ الأحكام وموا�ضع اخلالف‪ ..‬و�أن‬
‫ورعا تعرف حق اهلل وترعاه‪..‬‬
‫تكون فقي ًها ً‬
‫‪ -‬نعم ولكن اختالف الأمة رحمة وهذا معناه �أن �أي ر�أي �أخذت‬
‫فهو حق‪..‬‬
‫قال م�ستنك ًرا‪ :‬هذا كالم ال ي�صح‪ ..‬لي�س كل اختالف رحمة‪..‬‬
‫وهناك فرق بني اخلالف واالختالف‪ ..‬الرحمة قد تكون يف االختالف‬
‫يف امل�سكوت عنه فقط‪� ..‬سكت اهلل عنه رحمة بنا غري ن�سيان‪� ..‬أما ما‬
‫ح�سمه ال�شرع فاالختالف فيه ف�ساد‪..‬‬
‫‪182‬‬
‫افهم ذلك جيدً ا‪� ..‬إذا اجتهد عامل يف �أمر ما و�أخط�أ ف�سيكون له‬
‫�أجر‪ ..‬ولكن اجتهاده يظل خط�أ‪ ..‬فاحلق يف النهاية واحد‪ ..‬ولي�س كل‬
‫ر�أي يذهب �إليه عامل يكون ح ًقا‪� ..‬أيقول �شيخ على �أمر ما ً‬
‫حالل و�آخر‬
‫حراما وكالهما يكون �صوا ًبا؟ هذا خلل يف فهم االختالف‪.‬‬
‫يقول ً‬
‫‪� -‬ألي�س الدين ي�سر؟‬
‫قال متعج ًبا‪ :‬وما هو الع�سر فيما �أقول‪ ..‬هل الي�سر يف نظرك هو‬
‫ما ذهب �إليه هواك وما ا�ستح�سنته من �أحكام‪ ..‬هل الي�سر هو �إنكار‬
‫ما ينكره العقل‪ ..‬هل الي�سر هو التخفف من التكليف‪ ..‬هل الي�سر هو‬
‫�أن ترتك ما يثقل عليك فعله‪ ..‬هل الي�سر هو �أن تقرتف املع�صية بحجة‬
‫اال�ضطرار؟‬
‫‪ -‬ال ولكن ال�ضرورات تبيح املحظورات‪..‬‬
‫‪ -‬لي�س كل �ضرورة تبيح حمظو ًرا‪ ..‬بل حتى لي�ست كل رخ�صة‬
‫م�أتية‪ ..‬فاحتياجك ال�شديد للمال ً‬
‫مثل �ضرورة‪ ..‬فهل تبيح لك تلك‬
‫ال�ضرورة �أن ت�أكل الربا‪� ..‬أو ت�سرق‪� ..‬أو تقتل؟‬
‫لو طوع الإن�سان كل حمظور وا�ست�سلم لل�ضرورة مل يبق يف النا�س‬
‫دين‪ ..‬ومل تبق لهم �أخالق‪ ..‬وال كان هناك عفة �أو �شرف‪� ..‬ست�ستباح‬
‫ال�سرقة والفواح�ش لل�ضرورة‪..‬‬
‫ثم �أي رغبة يف نظرك جتزم �أنها �ضرورة؟ ال يوجد قانون �أو �ضابط‬
‫لل�ضرورات‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫الرغبة يف امتالك قوت يومك‪� ..‬أم الرغبة يف ت�أمني م�ستقبلك‪..‬‬
‫�أيهما يف نظرك �ضرورة تبيح حمظو ًرا؟‬
‫كلها رغبات ُتلح على �أ�صحابها وال يرونها �إال �ضرورة‪ ..‬وال�سرقة‬
‫حمظور‪ ..‬والربا حمظور‪ ..‬والقتل حمظور‪ ..‬ف�أي حمظور من ه�ؤالء‬
‫تريد �إباحته‪ ..‬وما احلجة التي تبيح �أحدهم وال تبيح الآخر؟‬
‫تفكر جيدً ا يا بني فالعبادة حتتاج �إىل العقل‪ ..‬لي�س العقل الذي‬
‫يبيح ويي�سر وينتقد ويرف�ض الت�شريع ويتالعب بالأدلة‪ ..‬ولكن العقل‬
‫الذي ين�صف ويتورع ويتقي �سخط اهلل‪ ..‬ولو ب�سخط النا�س‪.‬‬
‫‪� -‬أرى �أن عالج ال�ساحر هو العالج الأف�ضل والأ�سرع ولي�س العالج‬
‫بالدين‪� ..‬إنهم‪.......‬‬
‫قال مقاط ًعا‪� :‬أخط�أت‪ ..‬فال عالج بال�سحر‪ ..‬لأنه ا�ستعانة باجلن‪..‬‬
‫واجلن ال يعني الإن�سان �إال بالتقرب له‪ ..‬والتقرب له يكون بال�شرك‪..‬‬
‫قليل‪ ..‬قد يخدعك بعالج زائف‬ ‫واجلن كذوب متالعب ال ي�صدُق �إال ً‬
‫ثم يزداد الأمر �سو ًءا‪ ..‬وهذا �أمر مل�سناه ب�أيدينا‪ ..‬وال ينبئك مثل خبري‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ولكني ر�أيت بعيني ً‬
‫رجال م�ؤمنني‪� ..‬صلوا واتخذوا كل ما‬
‫ا�ستطاعوا من الذكر وال�صالة والعمل ال�صالح وال يرب�أون من هذه‬
‫اللعنات‪..‬‬
‫‪ -‬هذا ما تظن‪ ..‬الإميان يا بني له قانونه اخلا�ص‪ ..‬فلي�س كل �إميان‬
‫هو كما تظنه‪ ..‬لي�س كل من قال �أنه م�ؤمن فهو م�ؤمن خمل�ص �صادق‪..‬‬
‫خال�صا لوجه اهلل‪ ..‬ويخلو من‬
‫را�سخا‪ ..‬ولي�س كل �إميان ً‬ ‫لي�س كل �إميان ً‬
‫‪184‬‬
‫ال�شرك‪ ..‬ولي�س كل �إميان مبن ًيا على عقيدة �صحيحة‪ ..‬هناك �إميان‬
‫ميكنك �أن حتيا به يف ال�سراء فقط‪ ..‬وما �إن ت�أتي املحنة حتى تكت�شف‬
‫�أنك كنت تعبد اهلل على حرف‪ ..‬يهتز �إميانك ومتلأه ال�شكوك‪ ..‬املحنة‬
‫يا بني هي التي حتكم على �إميانك بالقوة �أو ال�ضعف‪ ..‬البالء هو‬
‫املحك‪..‬‬
‫البالء هو مر�آة ال تكذب‪ُ ..‬يعرف فيه ال�صادق من املُ ّدعي‪..‬‬
‫‪ -‬لقد عانينا‪ ..‬وكثري من النا�س يعاين من م�س اجلن‪ ..‬ملاذا يعانون‬
‫بهذا ال�شكل؟ ملاذا ي�سمح اهلل بت�سلط اجلن على النا�س؟ لقد فتح حجر‬
‫ال�شيطان الباب �أمام عيني‪ ..‬كيف ُي�سمح للجن بهذا الطغيان؟‬
‫‪ -‬يا بني ال تظلم نف�سك‪..‬‬
‫لقد حرم اهلل الظلم على نف�سه وحرمه بني خلقه‪ ..‬ومع هذا فهم‬
‫يظلمون‪ ..‬فلي�س يف هذا ظلم من اهلل لأحد‪ ..‬ولي�س يف ظلم اجلن‬
‫للإن�س �شي ٌء �أكرث من ظلم الإن�س للإن�س‪� ..‬أال ترى كث ًريا من النا�س‬
‫يتعر�ض لظلم و�إيذاء من �صاحب �سلطة �أو جاه �أو مال؟ �أال يرتب�ص‬
‫النا�س بع�ضهم لبع�ض وي�سفكون دماءهم؟‬
‫الفرق هنا �أن الظامل خفي عن الأنظار‪..‬‬
‫�أما ذلك الباب الذي فتحه حجر ال�سحر ف�إنه مل يكن مغل ًقا قط‪.‬‬
‫‪ -‬غري �صحيح‪ ..‬لقد كان مغل ًقا �أنا متيقن من ذلك‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ -‬قال النبي حممد «�إذا ذهبت �ساعة من الليل فكفوا �صبيانكم‪..‬‬
‫و�أغلقوا �أبوابكم واذكروا ا�سم اهلل‪ ..‬وخمروا �آنيتكم واذكروا ا�سم‬
‫اهلل‪ ..‬و�أوكئوا قربكم واذكروا ا�سم اهلل‪ ..‬ف�إن ال�شيطان ال يفتح با ًبا‬
‫مغل ًقا»‪.‬‬
‫ق�سم باهلل لو ُذكر ا�سم اهلل على ذلك الباب وهو ُيغلق ما فتحته‬ ‫�أُ ُ‬
‫�شياطني الأر�ض ولو اجتمعوا على �ألف عرق �سواحل‪ ..‬ولكننا نغلق‬
‫�أبوابنا وال نذكر عليها ا�سم اهلل‪.‬‬
‫ا�سمعني يا بني‪ ..‬ال ت�سمح للأفكار �أن تتالعب بك وت�شك باهلل‪..‬‬
‫واجه القدر بنف�س را�ضية وتوكل‪ ..‬لقد �شاهدت من ي�سكنون الغيب‬
‫بعينك وروحك‪ ..‬ولقد �أ�صبحت متلك اليقني فيما ي�شك فيه كثري من‬
‫النا�س‪.‬‬
‫‪ -‬ولكني �أدفع حياتي ثم ًنا لهذا اليقني‪..‬‬
‫‪ -‬وهناك من يدفع حياته باختياره فدا ًء لذلك اليقني‪ ..‬هناك من‬
‫يندفع يف معركة م�ضح ًيا بحياته وماله وزوجته و�أوالده ورخاء عي�شه‬
‫فدا ًء ليقني امتلكه فملك عليه حياته‪ ..‬فاحلياة الدنيا لي�ست هي كل‬
‫�شيء‪ ..‬هناك حياة �أخرى �أبقى‪ ..‬وكلنا عائدون �إىل ربنا‪ ..‬ف�إن ُقدر‬
‫لك �أن تكون رحلة عودتك �إىل ربك هي رحلة يقني فال ت�ضيعها ب�أفكار‬
‫�شيطانية تهز اليقني الذي �أُهدي �إليك‪..‬‬
‫‪� -‬إذن ما الذي ينتظره ذلك ال�شيطان؟ ملاذا مل ي�أت لقتلي‪ ..‬ملاذا‬
‫ي�صنع كل هذا بي؟‬
‫فقال م�شف ًقا‪ :‬لأنه �ضعيف‪ ..‬ال تخدعك الأ�شكال التي ر�أيتها‪� ..‬إنه‬
‫يت�شكل ولي�س كل �شكل ي�أخذه هو بال�ضرورة اخللقة التي خلقه اهلل‬
‫‪186‬‬
‫أي�ضا �ضعيف‪ ..‬لذلك فهو يتخذ‬ ‫عليها‪ ..‬هو بالفعل �ضعيف وكيده � ً‬
‫� ً‬
‫أ�شكال حتب�س الأنفا�س‪ ..‬وي�سحب ال�ضوء والطاقة من املكان‪ ..‬هذا نوع‬
‫من اال�ضطهاد‪ ..‬ي�ضطهد �ضحيته حتى ي�صنع اخلوف‪ ..‬ف�إذا تواجد‬
‫اخلوف ف�إنه يتغذى عليه‪ ..‬ي�ستطيع معه �أن يخيل �إليك الكثري‪ ..‬ويرتفع‬
‫بخوفك �إىل اجلنون‪ ..‬وقتها ي�ستطيع �أن يفعل بك ما ي�شاء‪ ..‬ف�إذا كنت‬
‫تريد الن�صيحة‪ ..‬فهي �أال تخاف‪..‬‬
‫�إذا كان مقد ًرا لك �أن متوت ف�ستموت‪ ..‬ولن مينع اخلوف ذلك‪..‬‬
‫�إذا كان مقد ًرا لك �أن يكون موتك على يده فاخلوف لن يقدم ولن‬
‫ري لك من �أن متوت خائ ًفا جبا ًنا‪..‬‬
‫�شجاعا خ ٌ‬
‫ً‬ ‫ي�ؤخر‪ ..‬فلتمت‬
‫‪ -‬من �أين �آتي بال�شجاعة و�أنا �أجهل عدوي؟‬
‫‪ -‬بل تعرفه جيدً ا‪ ..‬عدوك �ضعيف‪ ..‬و�إن كان به قوة ف�شجاعتك‬
‫هي فقط التي تعطيك الفر�صة لتقاوم وقد تنت�صر‪ ..‬ف�إذا مل تنت�صر‬
‫فلن تكون فري�سة �سهلة‪ ..‬ال ت�سمح لنبوءة الطالع �أن جتعلك خائ ًفا‪..‬‬
‫اطرح خماوفك جان ًبا لتك�سر تلك النبوءة‪ ..‬تعامل معه كل�ص يحاول‬
‫�أن يت�سلل �إىل بيتك خفية‪� ..‬ألن تواجهه وتقتله؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا افعل ذلك و�ستجد �شجاعتك‪ ..‬تعامل معه كعدو من الإن�س‬
‫دفاعا عن حياتك وال ت�ست�سلم للخوف‪ ..‬اخلوف‬
‫يريد �إيذاءك‪ ..‬وقاتل ً‬
‫�سيقتلك �ألف مرة بدون �سالح‪ ..‬اخلوف �سيقتل روحك قبل �أن ميوت‬
‫ج�سدك‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫جراحا يف نف�سي وفتحت‬
‫‪� -‬شك ًرا لك يا �سيدي‪ ..‬لقد داوت كلماتك ً‬
‫يل �أبوا ًبا من الرحمة‪ ..‬ليتني قابلتك منذ مدة‪ ..‬كان ميكن لأ�شياء‬
‫كثرية �أن تتغري‪.‬‬
‫‪ -‬لكل �شيء وقته املقدر‪ ..‬ورمبا لو �سمعت كلماتي بالأم�س مل ُت�صب‬
‫من قلبك مو�ض ًعا‪ ..‬فالقلوب تتقلب‪ ..‬اليوم قلبك مفتوح يقظ‪ ..‬ورمبا‬
‫بالأم�س كان ً‬
‫غافل قا�س ًيا مل تكن تزده كلماتي �إال ق�سوة ونفو ًرا‪..‬‬
‫هل تريدين �أن �آتي معك؟‬
‫تفكرت ً‬
‫قليل ثم قلت‪ :‬ال يا �سيدي �شك ًرا لك‪� ..‬أنا �أعرف الآن ماذا‬
‫�س�أفعل‪..‬‬
‫ثم قبلت ر�أ�سه وان�صرفت‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫ذهبت يف ذلك اليوم وا�ست�أجرت هذا البيت الذي �أحيا به الآن‪..‬‬


‫لقد قررت �أن �أحترر‪..‬‬
‫�أحترر من القيد الذي كبلني به ذلك ال�شيطان‪ ..‬بل كبلني به‬
‫اخلوف‪..‬‬
‫لن �أهرب مرة �أخرى‪..‬‬
‫مل يعد �أحد ممن يعرف احلقيقة موجودًا‪� ..‬أنا وحدي الذي �أعرف‬
‫ما حدث‪ ..‬من البداية �إىل النهاية‪..‬‬
‫‪188‬‬
‫ولقد قررت �أن �أق�صها‪..‬‬
‫ها �أنا �أكتب كل ما �شاهدته وعرفته‪ ..‬فقد قررت �أن �أف�ضح‬
‫ال�شيطان‪� ..‬أف�ضح �سر قوته‪ ..‬و�أف�ضح �سر �ضعفه‪..‬‬
‫�أردت �أن �أجد طريقة �أخرى لك�سر اللعنة غري الدم‪ ..‬قر�أت كث ًريا‪..‬‬
‫وتعلمت كث ًريا مما كنت �أجهل‪ ..‬وتك�شفت يل حقائق كنت �أجهلها‪..‬‬
‫وجنحت يف منعه عني حتى الآن‪ ..‬ولكني مل �أجنح يف جعله يي�أ�س‪..‬‬
‫�أ�شعر به يطاردين‪� ..‬أ�شعر ب�أنفا�سه تالحقني‪� ..‬أ�سمع �صوته يف �أذين‬
‫درعا يحميني‪ ..‬يف كل‬ ‫�أحيا ًنا‪ ..‬ولكني مل �أعد �أخ�شاه‪� ..‬إمياين �أ�صبح ً‬
‫ليلة ويف املوعد املحدد �أ�شعر به يحوم حويل‪ ..‬ولكن ال يقرتب �أكرث‪..‬‬
‫عرفت كيف �أمنعه‪ ..‬وما زال يحاول‪.‬‬
‫لقد ع�شت يف خوف وترقب طيلة ال�شهور املا�ضية‪ ..‬والآن قررت �أن‬
‫�أحيا مثل كل النا�س‪ ..‬قررت �أن �أتخلى عن رهاب املطاردة‪ ..‬و�أحرر‬
‫نف�سي بكتابتي تلك املذكرات‪..‬‬
‫حتى لو جاءين ال�شيطان يف املوعد‪ ..‬فلن �أكرتث‪ ..‬فلقد �أ�صبحت‬
‫�أملك ال�سالح الذي �أحمي به نف�سي‪.‬‬
‫مل �أعد خائ ًفا بعد الآن‪..‬‬
‫الآن �أ�شعر �أين �أكرث حرية‪..‬‬
‫الآن �أ�شعر �أين �أ�ستطيع اخللود للنوم‪ ..‬وي�ستقر ج�سدي على فرا�ش‪.‬‬
‫الآن فقط �أ�شعر بال�سالم‪..‬‬
‫مازن ن�صر الدين‬
‫‪hhh‬‬
‫‪189‬‬
‫�أغلق مازن مفكرته بعد �أن انتهى من كتابة رحلته بني �أروقة‬
‫ال�شياطني و�أ�سفارهم‪ ..‬مع �صائدي الأ�شباح‪� ..‬أو امل�شعوذين‪� ..‬أو حتى‬
‫حماربيهم من رجال العلم والدين‪� ..‬أخذ يتذكرهم فردًا فردًا‪ ..‬نزار‬
‫و�سابق وملكته الغوا�صة‪ ..‬ر�ؤوف وراندا‪� ..‬إبراهيم ونبوءة الطالع‪..‬‬
‫راجي و�أمني‪ ..‬م�ؤن�س واملندل و�صالح الدين‪ ..‬الغرفة ‪� ..449‬شيخ‬
‫امل�سجد الكبري والعامل الذي �أنقذ عقله من ال�ضياع‪..‬‬
‫تنهد تنهيدة طويلة ثم �أخذ يفرك عينيه من الإرهاق‪ ..‬بعد �أن‬
‫�أم�ضى طيلة النهار �إىل ن�صف الليل يف الكتابة‪ ..‬ثم قام لي�شرب كو ًبا‬
‫من ال�شاي‪ ..‬ويتجول يف م�سكنه اجلديد الذي ا�ست�أجره منذ �شهر‪..‬‬
‫�شقة مفرو�شة‪� ..‬أثاثها بحالة جيدة‪ ..‬وم�ؤمنة الأبواب والنوافذ‪ ..‬جيدة‬
‫التهوية‪ ..‬دافئة يف الليايل ال�شتوية الباردة كتلك الليلة‪..‬‬
‫كانت غرفة اجللو�س التي يكتب فيها غرفة وا�سعة مفتوحة‪ ..‬يف‬
‫�أق�صى ميينها ممر رفيع يتعامد يف نهايته على منت�صف ممر �ضيق‬
‫�آخر‪ ..‬هذا املمر �إىل الي�سار ينتهي بغرفة النوم‪ ..‬و�إىل اليمني بعد ثالثة‬
‫�أمتار ينتهي بجدار ت�ستند عليه من�ضدة ذات مر�آة كبرية‪ ..‬ينعك�س‬
‫عليها باب غرفة النوم‪ ..‬وفوقها �ساعة حائط كبرية ذات بندول‪� ..‬إنها‬
‫�إحدى ال�ساعات العتيقة التي تدق على ر�أ�س كل �ساعة وت�شبه دقاتها‬
‫�أجرا�س الكنائ�س‪..‬‬
‫كانت ال�ساعة ت�شري �إىل الثانية والن�صف‪ ..‬وقد بد�أ التوتر يت�سرب‬
‫�إىل قلب مازن ً‬
‫قليل كاملعتاد يف ذلك املوعد‪ ..‬كان يتجول حي ًنا ويقف‬
‫يف ال�شرفة حي ًنا‪ ..‬حتى جتاوزت ال�ساعة املوعد املحدد‪ ..‬واقرتبت‬
‫�صباحا‪ ..‬ومل يكن ي�شعر مبا ي�شعر به كل يوم من‬
‫ً‬ ‫ال�ساعة من الثالثة‬
‫الأنفا�س والأ�صوات واملطاردة‪..‬‬
‫‪190‬‬
‫�شعر مازن ب�شيء من االنت�صار‪ ..‬و�أخذ يحدث نف�سه ب�أنه على‬
‫ما يبدو �أن ما فعله قد �أتى ثماره‪ ..‬وانك�سرت اللعنة‪ ..‬ف�أخذ يخطو‬
‫خطوات واثقة يف البيت ذها ًبا و�إيا ًبا‪ ..‬حتى انتهى به املطاف مع‬
‫الر�شفة الأخرية لكوب ال�شاي عند املر�آة‪� ..‬أخذ ينظر فيها �إىل نف�سه‪..‬‬
‫وي�ضحك زه ًوا وثقة وفخ ًرا‪..‬‬
‫دقت ال�ساعة الثالثة‪ ..‬فنظر �إىل ال�ساعة بفرح‪..‬‬
‫لقد انتهت اللعنة‪..‬‬
‫ثم ا�ستند على املن�ضدة �أمام املر�آة‪ ..‬وط�أط�أ ر�أ�سه لأ�سفل �ضاح ًكا‪..‬‬
‫ولكن �ضحكته بد�أت يف الزوال �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ..‬عندما �سمع �صوت‬
‫�صرير باب حجرة نومه يف اخللف‪ ..‬فرفع ر�أ�سه برفق ونظر �إىل املر�آة‬
‫التي ينعك�س عليها باب الغرفة‪ ..‬ف�إذا بالباب ينفتح بهدوء �شديد‪..‬‬
‫و�إذا عند احلافة العليا من الباب يرى يف و�سط ظالم الغرفة عينني‬
‫كجمرتني من النار تتوهجان يف الظلمة وتنظران �إليه‪..‬‬
‫ثم‪...‬‬
‫انقطع النور‪..‬‬
‫‪hhh‬‬

‫ً‬
‫م�شعل لفافة تبغ مرت�ش ًفا �إياها‬ ‫�صباحا وقف ه�شام‬
‫ً‬ ‫يف ال�سابعة‬
‫يف هدوء و�أخذ يهز ر�أ�سه يف ر�ضا وهو ينظر �إىل الزحام وعربات‬
‫الإ�سعاف وال�شرطة �أمام البناية التي يقطنها مازن‪ ..‬بينما كان بجواره‬
‫‪191‬‬
‫ً‬
‫�صراخا �شديدً ا و�صوت‬ ‫اجلريان يتحدثون �أنهم يف الليلة املا�ضية �سمعوا‬
‫زجاج يتحطم‪ ..‬وا�ستمر ال�صوت طيلة الليل حتى الفجر ولكن مل تعرث‬
‫ال�شرطة على �أي �أثر لزجاج مك�سور بجوار جثة ذلك ال�شاب امل�سكني‪..‬‬
‫راحل وهو يتنف�س ال�صعداء‪ ..‬فا�صطدم برجل كان‬ ‫التفت ه�شام ً‬
‫يقف وراءه مبا�شرة يف قوة وثقة وا�ض ًعا يديه يف جيبه‪ ..‬فرفع ب�صره‬
‫�إليه ليت�سمر يف مكانه من املفاج�أة‪ ..‬وهو يقول‪ :‬ما‪ ..‬مازن‪ ..‬كيف؟‬
‫ثم نظر �إىل �سيارة الإ�سعاف يف فزع وهو يقول‪ :‬من الذي مات �إذن؟‬
‫ف�أخرج مازن يده من جيبه‪ ..‬ف�إذا به مم�سك حجر عرق ال�سواحل‪..‬‬
‫�أخذ يقذفه يف الهواء وعلى وجهه نظرة �سخرية ثم قال‪:‬‬
‫مل تعد وحدك من ب�إمكانه �أن ي�ضع العالمات‪.‬‬

‫‪ -‬تمت ‪-‬‬

‫‪h‬‬

‫‪192‬‬

You might also like