Professional Documents
Culture Documents
ر أسفار
الشياطين
واية
�سامح �شوقي
تم التحميل من
موقع عصير الكتب
لمزيد من الكتب الحصرية
www.booksjuice.com
هن��اك كيان��ات كث�يرة غام�ض��ة لطامل��ا عا�ش��ت معن��ا
عل��ى الأر���ض ..و�س��وا ًء عرفه��ا البع���ض� ..أو �أنكره��ا
البع���ض ..فه��ذا ل��ن يغ�ير م��ن حقيق��ة وجوده��ا �ش��ي ًئا..
و�إذا كان��ت املعرف��ة ه��ي ظ��ل احلقيق��ة ..فاحلقيق��ة
الكاملة تختفي خلف �ستار رقيق ..ما علينا �إال �أن نرفع
ال�س��تار لرنى احلقيق��ة بو�ضوح..
خمدوعا..
ً ل�ست
ما ر�أيته كان حقيق ًيا..
ما زالت لعنته تطاردين ..
�أ�شعر بها كل يوم..
و�أحيا حتت وط�أة ذلك الهجوم..
و�أذكر �أحداث تلك الليلة البعيدة ك�أمنا كانت بالأم�س..
كانت �صاحبة هذا املنزل من الأ�شخا�ص املقربني ..كان الطالء
على جدران البيت يقع ب�شكل ملفت للنظر ..ورائحة الن�شادر كث ًريا ما
كانت متلأ املكان ..وتتحرك مع �صاحبة البيت من غرفة �إىل غرفة..
�شخ�صا معرو ًفا بقدرته على طرد الأرواح
ً ا�ستدعى رب هذه الأ�سرة
9
بعد �أن فا�ض الكيل وبد�أ الزوجان ي�شعران ب�أ�شواك يف الفرا�ش
متنعهما من الرقود كلما �أرادا النوم� ..أو متددا على الفرا�ش..
جاء ذلك الرجل متو�سط الطول� ..أبي�ض الوجه ..كث اللحية ..تبدو
عليه عالمات الطيبة والهدوء برغم �أنه مل يكن ب�شو�ش الوجه ..طلب
منا � ّأل ن�صلي الع�شاء حتى ي�أتي لن�صليه معه جماعة� ..أخذ يتجول
يف املنزل فور و�صوله وهو ي�ستمع �إىل �شكوى �أهل البيت وق�صتهم..
ثم �أجل�سنا يف الغرفة الرئي�سية وذهب ي�ؤذن للع�شاء وهو يوجه �صوته
�إىل كل �أرجاء املنزل..
وما �إن بد�أ يف الأذان حتى بد�أت كل امل�صابيح الكهربية يف البيت
تنطفئ وت�ضيء من تلقاء نف�سها حتى انتهى من الأذان فتوقفت هذه
الظاهرة الغريبة ..ثم عادت مع الإقامة ثم توقفت �أثناء ال�صالة.
بعد ال�صالة جل�سنا جمي ًعا يف الغرفة الرئي�سية ..كانت غرفة متوا�ضعة
الأثاث ..لي�س على احلائط �سوى لوحة قما�شية لآية الكر�سي باخليط
البارز..وم�صباحيفمنت�صفال�سقفقويكفايةلي�ضيءالغرفةبالكامل..
بد�أ رب املنزل (الأ�ستاذ ر�ؤوف) يف حماولة المت�صا�ص الذهول بل
الرعب الذي �أ�صاب بع�ضنا من ظاهرة امل�صابيح الكهربية..
فقال� :إن الكهرباء يف املنطقة كث ًريا ما تت�سبب يف مثل هذه
الظواهر....
10
�إال �أن كالمه انقطع كما انقطع انتباهنا �إليه من رائحة الن�شادر
الفجة التي ملأت املكان فج�أة ..لقد كان الأمر �أ�شبه برائحة املراحي�ض
العامة من �شدة وفجاجة الرائحة ..وهي رائحة اعتاد �أهل البيت عليها
منذ بداية جتربتهم املريرة يف هذا امل�سكن..
كان مقعدي يف ذلك املجل�س بجوار ال�سيدة (راندا) �صاحبة املنزل..
وهي �سيدة �شابة يف الثانية والثالثني من العمر ..لديها ثالثة �أطفال..
كانت تغيب معظم �أيام ال�سنة عن املنزل لعملها هي وزوجها يف اخلارج..
وما �إن عادت �إىل منزلها يف ذلك العام منذ �ستة �أ�شهر حتى بد�أت الظواهر
يف م�صاحبتها وحتويل حياتها �إىل جحيم من الأرق والرعب م ًعا..
قطع الأ�ستاذ (نزار) طارد الأرواح ال�صمت املطبق الذي لف الغرفة
بقراءة �آية الكر�سي ب�صوت مرتفع ..ثم تبعها ب�آيات متفرقة من �سورة
ال�صافات وخواتيم �سورة البقرة� ..إىل �أن بد�أت الرائحة يف التال�شي
من الغرفة �شي ًئا ف�شي ًئا ..حتى مل يعد ي�شعر بها �سوى �أنا وال�سيدة
راندا..
فقال لنا نزار� :إن الكيان الذي يعبث بذلك البيت الآن يقف بينكما..
مل يتكلم �أحد ..اكتفينا بال�صمت والنظرات املتبادلة احلائرة حتى
�س�أل نزار :هل ر�أى �أحد ذلك الكيان بعينه؟
فقالت ال�سيدة راندا فو ًرا :نعم �أنا ر�أيته.
hhh
11
كان رد ال�سيدة راندا مفاج ًئا ملعظم اجلال�سني ..فال�سيدة راندا مل
تق�ص على �أحد تلك احلادثة املفزعة خو ًفا من فرار النا�س من زيارتها
�أو م�ساعدتها..
الحظ نزار تلك املفاج�أة على الوجوه فتابع مبا�شرةُ :ق�صي ّ
علي ما
حدث بالتف�صيل..
قالت راندا :بد�أ الأمر منذ فرتة ..بعد و�صويل من اخلارج بحوايل
�أ�سبوع ..كنت كلما دخلت احلمام لأي �سبب ولو لغ�سل يدي وعندما �أغلق
الباب �أ�سمع �صوتًا غري ًبا ..مل �أتبينه يف البداية ولكن بد�أت �أتتبعه حتى
ا�ستوعبته� ..إنه �صوت و�شو�شة ك�أن هناك من ينادي «ب�س�ست ب�س�ست»..
ظننته من خارج احلمام لكني بعد فرتة �أ�صبحت �أ�سمعه يف �أذين ..ثم
بد�أت �أ�شعر بيد على ج�سدي ..مرة على كتفي ومرة على خ�صري..
ثم تبع ذلك �شعوري ب�أنفا�س تالحقني �أينما ذهبت ..وبد�أت يف ذلك
الوقت ظواهر �أخرى تظهر كانطفاء امل�صابيح و�إ�شعالها تلقائ ًيا..
وبد�أت رائحة بول يف الظهور يف املنزل ..يف البداية كانت خفيفة
تظهر وتختفي ..ثم ازداد الأمر �سو ًءا ..وبد�أت تظهر حادة ومنفرة..
مفزوعا يبكي ويقول� :أمي لقد ر�أيت ً
وح�شا.. ً يوما
ثم جاء ابني ال�صغري ً
ثم �أطرقت راندا �شاردة وقالت :مل �أكن �أتخيل �أن ما ر�آه ابني
حقيقة حتى تلك الليلة ال�سوداء منذ �أ�سبوعني.
hhh
12
كان اجلال�سون قد تعلقت �أعينهم بال�سيدة راندا وهم ين�صتون �إىل
حديثها يف ذهول بينما �أخذ نزار ي�ستزيدها يف التفا�صيل..
فقال بهدوء :ماذا حدث يف تلك الليلة؟
فقالت :منذ �أ�سبوعني تقري ًبا يف تلك الليلة املظلمة مل يكن �أحد معي
بالبيت ..كان الأوالد باخلارج مع �أبيهم وكنت �أرتب املنزل ..مل يكن
يف ذلك اليوم �أي حدث غري معتاد �أو حتى الرائحة املنفرة املعتادة..
متاما ومن غري املتوقع حدوث �أي �شيء ..تو�ض�أت كان كل �شيء هاد ًئا ً
ووقفت لأ�صلي الع�شاء هنا يف هذه الغرفة -و�أ�شارت بيدها -وقفت هنا
حيث احلمام عن مييني �إىل اخللف ..وكان امل�صباح كما ترى ُيلقي
بال�ضوء ب�شكل جيد ناحية احلمام ..وبد�أتُ �أ�صلي وبينما كنت �أركع
قادما من احلمام ..حتديدً ا كان �صوت وعاء بال�ستيك �سمعت �صوتًا ً
كبري يتحرك بل ي�سقط ك�أمنا ي�ضربه �أحد ويقلبه على الأر�ض ..كان
وا�ضحا ال يختلط على �أذين وال �أ�شك فيه..
ً ال�صوت
فخرجت ب�شكل ال �إرادي من ال�صالة لأنظر ناحية احلمام من
مكاين..
ف�إذا بي �أراه..
امتلأت عينا راندا بالدموع واختنق �صوتها وهي ت�ستطرد :ر�أيته
يطل بر�أ�سه من احلمام ..ك�أمنا يراقب من بالبيت ..كان ينظر �إىل
وجهي مبا�شرة ..كان ر�أ�سه عال ًيا يكاد يلم�س حافة الباب ..مل يكن يف
ذلك الر�أ�س كثري من التفا�صيل ..كانت لديه عينان مدورتان �شديدتا
13
احلمرة ..ك�أمنا كانتا جمرتني من نار ..وقرنان يبتدئان من جانب
العينني ويرتفعان عال ًيا ثم ي�ستديران واحد �إىل اليمني والآخر �إىل
الي�سار ثم يهبطان �إىل �أ�سفل ويقرتبان من الوجه ثم يبتعدان عنه يف
النهاية� ..إنهما قرنان �أ�شبه ب�شكل الأذن حتى �إين ظننتهما �أذنيه يف
البداية ..ولكنهما كانا �أ�سودين �شديدي ال�سواد..
رفعت راندا �إلينا عينيها وقد غلبها البكاء وهي تقول :مل �أ�شعر
بقدمي و�أنا �أجري و�أخرج من باب البيت ومل �أفق من الذهول �إال و�أنا
عند اجلريان �أ�ستجري بهم وال يفهمون ما هي �شكواي ..وقررت املبيت
خارج البيت يف ذلك اليوم ..وقد كانت تلك الليلة �أول يقيني ب�أن كيا ًنا
مظل ًما وراء كل ما نعانيه ..وبد�أت �أ�شعر �أننا يجب �أن نوقف كل ذلك
ون�ستعني ب�شخ�ص ما ..ولكن ما حدث الح ًقا هو ما �أجربنا على الإ�سراع
بتلك اخلطوة وا�ستدعائك يا �سيد نزار لهذه اجلل�سة..
hhh
14
-كث ًريا..
-هل ترين ً
قططا وكال ًبا؟
-دائ ًما..
-هل يظهر على ج�سدك بقع زرقاء؟
-نعم وال �أفهم لها تف�س ًريا..
فقال نزار بثبات :كل هذه عالمات مميزة ملا مترين به ..وهي
�إ�شارات لوجود ن�شاط �شيطاين حولك..
فقالت :هل هو عمل؟
فقال :بل هو �سحر ..مق�صود به التفرقة بينك وبني زوجك..
وطردكما من هذا البيت ..لقد �شعرت به عندما دخلت البيت..
وانقب�ض �صدري و�أح�س�ست بحرارته يف املكان ..وازدادت �شكوكي
عندما مررت بجاركم يف الطابق الثالث..
فانتف�ض اجلال�سون -وكنت منهم -مت�سائلني :ملاذا بالتحديد
ذلك اجلار وتلك ال�شقة ..فهذه البناية الطابق فيها به �شقة واحدة..
ف�شخ�ص واحد بعينه هو املق�صود ..فلماذا؟
قال نزار :ما بالكم �أمل تالحظوا تلك املق�شة املعلقة على اجلدار
بجانب باب تلك ال�شقة؟ �أمل تروا النعلني املت�صالبني املعلقني بجوارها؟
15
فرد ر�ؤوف :ال ندري �شي ًئا ذا معنى عن هذه الأ�شياء ومل نظنها �إال
عادة ذلك اجلار ..اعتاد �أن ي�ضع �أ�شياءه بهذا ال�شكل وقد و�ضع �أ�شياء
�أخرى على ال�سلم كحافظة الأحذية وقف�ص للب�صل والثوم و�أ�شياء تنم
عن اعتياده �إخراج هذه الأ�شياء من البيت..
فقال نزار :بل هي �أيقونات لل�سحر وال�شعوذة ومعها تعلق الطال�سم
ومترون عليها يف ال�صعود والنزول وهي مق�صودة وموجهة �إليكم على
ما �أعتقد ..والأ�شياء الأخرى هي لت�شتيت الأنظار ..ولكن �أخربوين
ملاذا �أثارت �سرية ذلك اجلار انتباهكم؟
قال ر�ؤوف :لأن هذا اجلار بالذات نرتك له مفتاح �شقتنا كل عام
ونحن يف اخلارج ..ليعتني بها ..ويفتحها للتهوية كل فرتة ..ال �سيما
وبيننا وبينه من القرابة �صلة..
ف�س�أل نزار متعج ًبا :فلماذا مل يح�ضر تلك اجلل�سة؟
فردت راندا :لقد �أخربين اجلريان يف البناية املقابلة �أنهم ر�أوه يف
�شقتنا وكان مم�س ًكا ب�إناء فخار وير�ش منه على الأر�ض يف كل �أركان
ال�شقة قبل �أن ن�صل من اخلارج ب�أيام ..وملا تنبه ملن ي�شاهده �أ�سرع
متاما ..وهذا ماب�إغالق النوافذ ..وعندما �س�ألناه عن ذلك �أنكر ً
�أ�صابنا بال�شك من جانبه ..ف�أخفينا عنه �شكوانا بعد �أن �أخربناه بها
اهتماما �أو حماولة امل�ساعدة حلل امل�شكلة..
ً يف البداية ومل نلحظ منه
قال نزار :ح�س ًنا فعلتم ف�إن مث....
16
نظر اجلميع �إىل نزار الذي انقطع كالمه فج�أة ليجدوا على وجهه
نظرة واجمة تبدو منها ال�صدمة ..كانت عيناه مثبتتني على حائط من
وا�ضحا من باب غرفة اجلل�سة ..وعليه �صورة
ً الغرفة املجاورة يبدو
معلقة لقطتني تقفان بع�ضهما �أمام بع�ض..
ف�س�أله ر�ؤوف :هل هناك م�شكلة؟
نزار :بل م�شاكل ..كم �صورة لديكم مثل تلك ال�صورة يف هذه
ال�شقة؟
ر�ؤوف :حوايل �أربعة ..ولكن ملاذا؟
فرد نزار وعيناه معلقتان بال�صورة� :أال ترون فيها �شي ًئا غري ًبا؟
فقمنا جمي ًعا لننظر ماذا يق�صد..
وعندما هممنا بالتوجه للباب� ..سمعنا �صوتًا عني ًفا يف ال�سقف..
ك�صوت جر الأثاث ..ك�أمنا يجر اجلريان يف الأعلى من�ضدة ثقيلة �أو
مقاعد خ�شبية كبرية..
لبع�ض يف فزع �شديد..
فنظر الزوجان بع�ضهما ٍ
فقال �أحد احلا�ضرين :ال تفزعا يبدو فقط �أنهم اجلريان يف
الأعلى..
فنظرت �إليه راندا وقد �شحب وجهها وقالت :نحن ن�سكن يف الدور
الأخري ..ال يوجد فوقنا �أحد ومفتاح ال�سطح معي هنا..
17
�ساد ال�صمت حلظة ..قبل �أن ن�سمع �صوتًا �شديدً ا لزجاج يتحطم..
وعندما هممنا بالتحرك مل�صدر ال�صوت ..انقطعت الكهرباء..
hhh
18
مل ن�ش�أ �أن جنهدها �أو نثقل عليها ..هد�أنا من روعها ..و�سقيناها
كو ًبا من الع�صري..
بعد دقائق كانت قد هد�أت نفو�سنا وا�ست�أن�سنا بنزار ذلك الرجل
الذي تبعث كلماته على الطم�أنينة وت�شجع على مواجهة املوقف بثبات..
�أخذ يق�ص علينا كيف �أنه يعمل مدر ًبا للكونغ فو ..وهو حري�ص على
لياقته ومهارته لأنه كث ًريا ما يدخل يف ا�شتباك بالأيدي مع بع�ض
الكيانات ال�شيطانية التي تتلب�س ببع�ض النا�س وت�صرعهم وتتحدث
على �أل�سنتهم ..وقد ي�ستخدم ج�سد �ضحيته يف اال�شتباك ..وعندما
يعود ال�شخ�ص ً
رجل �أو امر�أة �إىل وعيه ف�إنه ال يذكر الت�ضارب الذي مت
وال الأمل الذي كان يعانيه..
�س�ألناه عما كان قد ر�آه خارج الغرفة قبل بداية الأحداث الغريبة
منذ قليل ..ولكنه �أخذ يراوغ ومل يخربنا ب�شيء بل �أخذ يلح على �ضرورة
التخل�ص من �صور القطط تلك خا�ص ًة ال�صورة التي جند يف عيونها
وا�ضحا ف�إنها م�سكن لل�شياطني..
ً ملعا ًنا
كنا على يقني �أنه ر�أى �شي ًئا ما ومل ي�ش�أ �أن يخربنا به ..فلي�س يف الإخبار
فائدة ُترجى ..فلن ي�ضيف �شي ًئا �إال مزيدً ا من الرعب للموقف واحل�ضور..
مت�سائل :هل �أنت على ا�ستعداد ال�ستكمال ً توجه نزار لل�سيدة راندا
اجلل�سة؟
فردت يف �إ�صرار :نعم بكل ت�أكيد..
19
قال بنربة ودودة وابت�سامة هادئة :ح�س ًنا ..قلت �أن بعد تلك الليلة
منذ �أ�سبوعني حدثت بع�ض الأ�شياء التي دفعتكم للبحث عن رجال
مثلي..
ف�أوم�أت له راندا بالإيجاب..
فقال :ماذا حدث بالتف�صيل �إن مل يكن يف ذلك �ضغط على
�أع�صابك؟
قالت :ال ب�أ�س �س�أحكي لك.
hhh
مل يكن هناك تعليق ميكن قوله على كالم ال�سيدة راندا ..كان
هناك �ألف �س�ؤال بداخلنا ..ولكن ال كالم ..كنت �شخ�ص ًيا �أبحث عن
حرويف و�صوتي ولكني مل �أجدها لأ�س�أل ..كنت �أخ�شى �أن �أ�س�ألها ف�أقطع
احلديث وال نعرف نهاية الأحداث الغريبة التي حتدث يف ذلك البيت
أي�ضا� ..سكتنا لنف�سح لها امللعون ..و�أظن �أن الآخرين كانوا كذلك � ً
املجال للكالم ومل تتوقف هي عن احلديث ..وا�ستطردت قائلة:
-قال �أبي هذا الكيان قوي وبغي�ض ..ال �أدري �أهو مت�سلط عليكم
بنف�سه �أم �أنه م�سلط بال�سحر من قبل �أحد ..ال �أدري ولكن يجب
مطاردته وحربه فو ًرا� ..أكرثوا من قراءة القر�آن يف البيت و�أكرثوا من
البخور ..و�أنا �س�أ�س�أل عندنا يف ال�صعيد عمن ي�ستطيع �أن يطرد ذلك
ال�شيء ..ولكن ن�صيحتي لك �أال تخايف ..لأنه يتغذى على اخلوف..
قاوميه وال ت�ست�سلمي �أو تهربي من مواجهته �إذا ما ر�أيتيه ..واهلل معك..
فالثبات يف مواجهته يقلل من حاالت ظهوره وجت�سده ..وي�ضعف قوته..
أي�ضا �س�أبحث.. و�أ�سرعي يف البحث عمن يطرده و�أنا � ً
هجوما تعر�ض له �أبي ثم �سافر �إىل ال�صعيد و�أخربنا
ً كان ذلك
عنك يا �سيد نزار وقال �أنه �سري�سل لنا رقم هاتفك لن�ست�شريك يف �أمر
هذا البيت..
24
قال نزار� :أعتقد �أن ما ر�آه والدك فيه الكفاية من الرعب لتطلبي
النجدة من �أي �إن�سان..
فرد زوجها ال�سيد ر�ؤوف :كنا نظن ذلك ..كنا نظن �أنه ال �شيء
�أ�سو�أ ميكن �أن يحدث ..لوال ما حدث بعد ذلك بثالثة �أيام..
hhh
تنهد نزار بعمق وهز ر�أ�سه ك�أنه يريد �أن يوقظ نف�سه من غفوة� ..أو
يزيل ال�شرود عن عقله ..وقد اعتدل ورجع بظهره �إىل اخللف ..و�صمت
برهة ثم قال:
-ح�س ًنا بعد كل ما �سمعته �أعتقد �أن ما نواجهه الآن �شيء �آخر �أكرب
بكثري مما كنت �أتوقع ..ولكن اخلرب اجليد هو �أنه ال �شيء يف الدنيا
يخرج عن �سلطان اهلل وم�شيئته ..اهلل هو املهيمن وامل�سيطر والقاهر
فوق عباده ..ال �شيء ُي�ستثنى من هذا ال�سلطان ..وال يتحرك مبعزل عن
هذه امل�شيئة ..ال ب�أ�س من ال�شعور باخلوف ولكن ال ت�سمحوا بالفزع �أن
يتملككم ..ف�إن ال�شجاعة والإقدام واجلر�أة يف مواجهة هذه الكيانات
28
تقل�ص قدرتها ..وكلما زاد الرعب زادت الهجمات وزادت حاالت
التج�سد� ..إنه �شيء مثل اال�ضطهاد ..مثل مطاردة الوح�ش لفري�سته..
خوفها هو ما ي�شجعه على مهاجمتها وي�شلها عن املقاومة� ..إن اخلوف
قد يدفع الفري�سة �أحيا ًنا جتاه املفرت�س واملواجهة بقوة و�إميان هي ما
تنهي هذه الأحداث يف غالب الأحيان� ..سنقوم الآن بعملية طرد لهذا
ال�شيطان ولكن علينا جمي ًعا �أن نتكاتف كي ننت�صر ..فهل اجلميع
م�ستعدون؟
بع�ض ثم �أجبنا يف �صوت واحد :نعم.
نظر بع�ضنا �إىل ٍ
فطلب نزار من ر�ؤوف �أن يح�ضر قلم ر�سم (فلوما�سرت) �أحمر..
وقطعة قما�ش كبرية بي�ضاء طولها مرت مربع ..وطلب وعاء ماء كبري
من الأطباق امل�ستخدمة يف غ�سل املالب�س حتى تكون �سعته كبرية تقري ًبا
ع�شرين لرتًا من املاء..
ذهب ر�ؤوف لإح�ضار املطلوب ومل يغب كث ًريا ..ثم �أخرج نزار من
كي�سا كب ًريا من الزعفران �أخربنا �أنه من نوع جيد جدً ا ..وقام
حقيبته ً
ب�إذابته يف املاء يف الطبق الكبري فتحول لون املاء �إىل الأ�صفر املائل
للحمرة� ..أخرج جمموعة من الأوراق مكتوب فيها �آيات قر�آنية متفرقة
من �سور �شتى ..وقال لنا :على اجلميع �أن يجل�سوا و�أن يكونوا على
مقربة من بع�ضهم البع�ض ..وعلى من يخاف �أال يح�ضر تلك اجلل�سة..
لأن اجلن قد يتلب�س ب�أي �شخ�ص يف هذه الغرفة وهو غال ًبا يبحث عن
29
الأ�ضعف ..والأكرث خو ًفا هو الأكرث �ضع ًفا ..وهو الأكرث عر�ضة للتلب�س..
و�إذا ما �شعرمت ب�شيء من الن�شاط ال�شيطاين فال تفزعوا ..متا�سكوا
وعليكم بقراءة �آية الكر�سي..
وحتد..
توافق اجلميع على القبول وقررنا خو�ض التجربة بثبات ٍ
وبد�أت جل�سة الطرد..
hhh
و�ضع نزار يده داخل املاء ..ثم بد�أ يف قراءة الآيات من الورق الذي
بني يديه موج ًها فمه نحو املاء ..ومل يكد يبد�أ يف قراءة الآيات حتى
انت�شرت رائحة الن�شادر يف البيت كله وكانت ت�شتد �شي ًئا ف�شي ًئا ..مل
يكن نزار ي�شمها فحاولنا تنبيهه لها ..ف�أنهى �آية كان يقر�أها ثم قال:
اقر�أوا �آية الكر�سي..
بد�أنا يف قراءة �آية الكر�سي ولكن الرائحة مل تذهب ..كانت �شديدة
ومنت�شرة وفجة جدً ا ..وفج�أة نظرنا �إىل بع�ضنا البع�ض يف نف�س الوقت
وقد فغر كل منا فاه يف تعجب ..لقد �أ�صابنا نف�س ال�شيء يف �آن واحد..
نظر �إلينا نزار يف هدوء وقال� :أعرف ما �أ�صابكم ..لقد ن�سيتم �آية
الكر�سي فج�أة ك�أن مل تتعلموها قط ..ف�أجبنا كلنا :بال�ضبط..
30
يف الواقع لقد كنت يف حرية من �أمري وذهول ..فتلك التجربة
يوما �أن تذهب كلمات �آية الكر�سي
كانت الأوىل بالن�سبة يل ..ومل �أ�شك ً
من عقلي وذاكرتي قط ..لقد كانت مثل ا�سمي يف الذاكرة والوجدان..
جزء ال يتجز�أ من عقلي ول�ساين يوم ًيا منذ حفظتها يف طفولتي ..كيف
�أ�ستدعيها الآن وال �أجدها ..كيف �أتوقف يف منت�صف قراءتها و�أن�سى
تتابع الكلمات ..كيف ي�صيب ذلك جماعة من النا�س يف �آن واحد ..هل
فعل ي�ستطيع اجلن �أن ُيذهبميلك اجلن هذه القدرة الغريبة؟ هل ً
العقل؟ ويجعل الإن�سان م�شردًا يهيم يف الطرقات وال عقل له؟
م�صطلحا علم ًيا ..ولكنها كلمة ا�ستخدمها
ً �إن كلمة جمنون لي�ست
الأقدمون يف ت�سمية من يذهب عقله ب�سبب اجلن ..ف�سموه ن�سبة للجن
«جمنون».
لقد جربت �شي ًئا من ذلك بنف�سي الآن ..وقناعتي بت�أثري اجلن
على الإن�سان الآن ال ميكن �أن تتزعزع ..جالت تلك اخلواطر بعقلي يف
حلظات قبل �أن يكمل نزار كالمه ً
قائل :من ي�شعر ب�ضياع �آية الكر�سي
فلي�صل على النبي..
ِ من عقله
�صليت على النبي مرة وكان العجيب �أين تذكرت الآية من الكلمة
التي توقفت عندها �ساب ًقا ومل �أحتج �أن �أعيد الآية من البداية ..لقد
كانت جتربة مل �أمر بها من قبل ..ذلك الت�أثري الذي ت�سلط على عقلي
والذي عاجلته فعولج.
31
ولكن يبدو �أن الأمر مل يكن بهذه ال�سهولة مع بع�ض اجلال�سني فقام
ر�ؤوف ب�إنزال �آية الكر�سي املعلقة على احلائط وو�ضعها �أمامنا لنقر�أ
منها حتى ال نن�سى..
كانت رائحة الن�شادر تزداد وت�شتد قبل �أن تنقطع الكهرباء ونغرق
يف ظالم عميق.
hhh
يف و�سط ذلك الظالم �سمعنا «نزار» يقول :ال تتحركوا وا�ستمروا يف
قراءة �آية الكر�سي..
كان الغريب يف الأمر �أن خوفنا بد�أ بالفعل يف الزوال ..لقد �أ�صبحنا
�أقوى و�أ�شجع و�أكرث حتد ًيا و�إ�صرا ًرا ..ال �أدري هل كان ذلك بت�أثري من
كلمات نزار �أم كان تبلدً ا �أ�صابنا من جراء ما ر�أيناه و�سمعناه يف تلك
الليلة ..ال �أدري ال�سبب ولكني بالفعل بد�أت �أ�شعر بتبدد اخلوف مني
بدرجة كبرية جعلتني �أكرث ثقة يف قدرتي على مواجهة ذلك ال�شيء..
كانت هناك �أ�صوات خمتلطة مل نفهمها ..نوع من الهمهمة..
و�صوت حركة غريب مل يكن معتادًا منذ ح�ضرنا يف املنزل ..وطالت
فرتة انقطاع الكهرباء و�أ�صبح اعتمادنا على �إ�ضاءة الهاتف اجلوال
غري ُم ٍد ..فقام ر�ؤوف �سري ًعا ب�إ�شعال ال�شموع التي كانت جاهزة على
�شمعدان على مكتبة كتب حول التلفاز� ..أ�شعل جمموعة �شموع �أخرى
وو�ضعها على جانب �آخر من الغرفة �ألقى ب�ضوء ال�شموع الهادئ ناحية
32
احلمام الذي كان بابه ن�صف مفتوح� ..أنهى نزار قراءة الآيات بالكامل
وكانت الرائحة والأ�صوات املختلطة قد اختفت تقري ًبا..
�ساد ال�صمت حلظة �شعرنا فيها بال�سالم وك�أن الأمر قد انتهى..
وقال نزار :احلمد هلل �أنهينا القراءة على املاء..
ف�س�أل �أحد احلا�ضرين «نزار» :هل انتهى الأمر هكذا وطرد ذلك
الكيان؟
وقبل �أن يهم نزار بالرد جذب انتباهنا �صوت باب احلمام ُيفتح
رويدً ا رويدً ا ..و�سمعنا جلبة �شديدة يف احلمام ..فتوجهنا ب�أنظارنا
فزعا..
نحوه ليتجمد كل منا يف مكانه ً
ال �صوت وال حركة..
كانت مفاج�أة ُت ّمد الأع�صاب..
ثم �شممنا رائحة حريق خانقة خملوطة بالن�شادر فج�أة..
ثم عادت الكهرباء.
hhh
كان رجوع ال�ضوء للمنزل هو ال�شيء الوحيد الذي �أنقذ قلوبنا من
�أن تتوقف ..بل �إنه كان ال�سبيل الوحيد ال�سرتخاء �أع�صابنا التي كانت
م�شدودة �إىل حد الت�شنج ..ظل ال�صمت خمي ًما علينا لدقائق بعد
33
رجوع الكهرباء رمبا كانت ال�صدمة هي التي �سيطرت علينا ومنعتنا
من الكالم ..حتى نزار الذي كان �أكرثنا ثباتًا وخربة ومعرفة بهذه
الأمور ..كانت ال�صدمة وا�ضحة على مالحمه لأول مرة منذ ر�أيناه..
و�أظن �أنه لوال رنني الهاتف الذي فزعنا ل�سماعه لظل ال�صمت طوال
الليل خمي ًما على هذه اجلل�سة..
�أ�شاح ر�ؤوف بيده �ضي ًقا بحركة معناها جتاهلوا هذا الرنني فل�ست
على ا�ستعداد للرد ..وكانت راندا حتب�س دموعها التي تزاحمت على
عينها حتى مل تكد ترى �شي ًئا حينما �س�ألتُ �أنا :هل ر�أيتم ما ر�أيت؟
وك�أن �س�ؤايل قد فتح الباب املغلق فانطلقوا واحدً ا تلو الآخر� :أنا
ر�أيت �شي ًئا..
وقال �آخر� :أنا ال �أعرف هل ر�أيته وحدي �أم ال..
وقال �أحدهم � ً
أي�ضا� :أنا ر�أيت ما �أعجز عن و�صفه..
فقال نزار :ح�س ًنا يبدو �أننا ر�أينا نف�س ال�شيء..
hhh
ما ر�أيناه كان مرع ًبا كفاية لتنعقد �أل�سنتنا عن احلديث ..رمبا مل
يكن با�ستطاعتنا حتى اال�ستعاذة �أو التفكري املنطقي املرتب يف كيفية
الت�صرف ..ف�إذا كانت املفاج�آت تربك التفكري ..فالإ�صابة بالذعر
متاما..
ت�شله ً
34
كان ال�ضوء خافتًا ..ثالث �شموع على م�سافة �أكرث من مرتين ُتلقي
ب�ضوئها ناحية باب احلمام ..ذلك الباب الذي بد�أ فج�أة ُيفتح ببطء
مطل ًقا �صوت �صرير الأبواب القدمية ..عندما �سمعنا جلب ًة �شديدة مل
نفهم معناها وال �سببها ..فنظرت ناحية باب احلمام ..واجته اجلميع
ب�أنظارهم �صوبه ..فر�أيت كيا ًنا رهي ًبا يخرج بهدوء �شديد من ذلك
الباب..
ما هذا ال�شيء ال�ضخم املفزع؟
�أهو ح�صان؟ يا �إلهي ..ما هذا الفزع الذي يتملكني؟
�إنه لي�س ح�صا ًنا� ..إن ن�صفه ال�سفلي ج�سد ح�صان �أو ثور كبري..
والن�صف العلوي ج�سد �إن�سان غزير ال�شعر!
�ص ّعدتُ فيه النظر ..يا �إلهي ما هذا اجلنون؟
�إن ر�أ�سه لي�س ر�أ�س �إن�سان ..هذه العيون احلمراء كجمر النار يف
�ضوء ال�شموع اخلافت ..والقرون الكبرية الغليظة املعقوفة تخرج من
بني �شعر كثيف غليظ كالثعابني ال�صغرية التي تتحرك يف كل اجتاه
ك�أنها تبحث عن فري�سة ..تخرج القرون وتعلو وتتجه لليمني والي�سار
ثم تنزل �إىل �أ�سفل م�ستوى الذقن متجهة نحو الوجه ثم تعود فتلف
قليل لتنتهي ب�شكل مدبب ..ذقنه كذقن يف االجتاه املعاك�س وترتفع ً
اجلدي ..وجهه مثلث قاعدته لأعلى ..فم ن�صف مفتوح يتدىل منه
ل�سان كل�سان الثعبان ..يخرج ويدخل كما ت�صنع الأفعى� ..إنه لي�س
ح�صا ًنا وال �إن�سا ًنا..
35
�إنه �شيطان..
خرج بهدوء ووقف ينظر �إلينا ..ر�أى كل منا �أنه يحدق فيه وحده..
يا ربي ما هذا الذي �أراه؟ هل هذا يحدث ً
فعل؟
ملأت املكان رائحة حريق �شديدة وخانقة ك�أنه مطاط يحرتق..
رائحة ن�شادر عنيفة خمتلطة � ً
أي�ضا كانت متلأ املكان..
�أردت للحظة �أن �أبكي من الفزع وال�ضيق واالختناق..
ولكن ..عاد النور..
واختفى ذلك ال�شيء املفزع خمل ًفا �إيانا يف �صمت و�شرود..
hhh
36
فقالت راندا م�ستنكرة :حت�ض ًريا؟!
فقال :نعم� ..أنا ال �أ�ستطيع مواجهة هذا ال�شيء وحدي ال بد من
ح�ضور (ال�شيخ �سابق)..
قال ر�ؤوف� :ألهذا احلد؟! ومن هو ال�شيخ �سابق؟!
قال نزار :ال�شيخ �سابق هو ال�شخ�ص الوحيد الذي ي�ستطيع �أن
يفهم ما الذي نتعامل معه هنا ..ورمبا يكون هو الوحيد القادر على
مواجهته ..فظني �أنه �أحد ملوك اجلن ولي�س �شيطا ًنا عاد ًيا..
رد ر�ؤوف يف جزع :ومتى ي�ستطيع ال�شيخ �سابق �أن ي�أتي هنا ..لقد
ر�أيت بنف�سك ما نحن فيه؟ و�أنا لن �أبيت الليلة هنا ..الأوالد عند جدهم
يف ال�صعيد ونحن �سنبيت الليلة يف فندق حتى نرى ماذا �سنفعل.
قال نزار :اهد�أ يا �سيد ر�ؤوف� ..س�أكلمه و�أت�صل بك ..والآن �سنبد�أ
التح�ضري ونرتك املنزل حلني ح�ضور ال�شيخ �سابق..
ثم �أم�سك نزار طبق املاء وجتول يف ال�شقة ..ر�ش املاء على كل ركن
وكل حائط ..ركز الر�ش على ال�صور املعلقة والتي كان بها قطط ..ركز
الر�ش يف احلمام ويف الأماكن التي حدث بها جت�سد ..ويف الأماكن التي
كرث فيها الن�شاط وظهرت فيها الرائحة� ..أنهى الر�ش وعب�أ ما بقي من
املاء يف زجاجات.
وقال لراندا :اغت�سلي بهذا املاء وا�شربي منه ..وا�شربوا منه
جمي ًعا..
37
وا�ست�أذنهم يف زجاجة من هذا املاء لنف�سه ..ثم قام بفرد القما�شة
البي�ضاء و�أتى بالقلم الأحمر ففتحه من اخللف وقام ب�صب بع�ض ماء
الزعفران فيه و�أغلقه ثم بد�أ يف كتابة هذه اجلملة..
«با�سم اهلل م�سخر اجلن والريح والطري واجلبال وال�شم�س والقمر..
من امللك �سليمان نبي اهلل ملك اجلن والريح� ..إىل كل من دخل هذا
البيت من الإن�س واجلن ..اخرجوا منه ب�سالم ال مت�سوا �أهل البيت
ب�سوء ..وال مي�سكم منا �سوء ..و�إال فاخرجوا منه ملعونني �أينما ذهبتم
ت�صحبكم لعنة ال فكاك منها �إال باملوت ..لعنة تقطع الن�سل ومتر�ض
ال�صحيح ..تخر�س الناطق وت�صم �آذان ال�سامع ..وحتب�س �صاحب فعل
ال�شر منكم حتى املوت».
كتب هذه اجلملة بخط وا�ضح كبري وعلقها يف مدخل البيت �أمام
الباب ..ثم غادر.
h
38
)(2
يف اليوم التايل مررت على ر�ؤوف الذي كان قد �أم�ضى ليلته هو
وراندا يف فندق وذهبنا �إىل نزار يف النادي الذي يعمل به مدر ًبا..
رحب بنا ثم �أخذنا �إىل ركن هادئ وطلب لنا قهوة ثم جل�س يتكلم معنا
وا�ضحا عليه �أنه يتجنب الكالم عما حدث ً يف موا�ضيع �شتى ..كان
يف الليلة املا�ضية ..ظننا �أنه ال يريد الكالم فيه يف مكان عمله حتى
ال ي�شتهر الأمر �أو يظن زمال�ؤه �أنه يناق�ش �أمو ًرا �شخ�صية يف مكان
العمل ..ولكن ات�ضح لنا �أنه ال يريد �أن يحرج «ر�ؤوف» بالكالم يف هذا
الأمر يف مكان مفتوح ..انتهى وقت عمله فخرجنا م ًعا وركبنا ال�سيارة..
ويف الطريق قررت �أن �أفتح احلوار الذي يتجنبه اجلميع..
-ما �أخبار ال�شيخ �سابق يا �سيد نزار؟
-لقد حدثته �أم�س و�أخذت منه موعدً ا و�سنذهب له لنق�ص عليه
احلكاية ونطلب منه املعونة..
39
-هل هو م�شغول �إىل هذا احلد؟
-نعم يا �سيد مازن فالكثريون يطلبونه من �أجل �أن ي�ساعدهم يف
التخل�ص من هذه الكيانات التي تهاجمهم.
فقال ر�ؤوف :هل هو متخ�ص�ص يف هذه الأ�شياء �أو ما �شابه؟
-نعم� ..إن ال�شيخ �سابق �أم�ضى حياته كلها يف درا�سة تلك الأمور..
هو ذو �شفافية عالية جدً ا ..حتى �إنه يرى بع�ض تلك الأ�شياء من دون
�أن تتج�سد ..و�صقل موهبته و�شفافيته وقدراته بالتدريب ..فهو من
القالئل الذين ميار�سون الإ�سقاط النجمي..
قال ر�ؤوف :ماذا؟
-الإ�سقاط النجمي ..هو باخت�صار القدرة عن االنف�صال عن
اجل�سد والتحرك باجل�سم الأثريي..
فقال ر�ؤوف� :أهو م�شعوذ �أم دجال؟
فقال نزار م�ستنك ًرا :ال هذا وال ذاك ..ولكنه � ً
أي�ضا لي�س فقي ًها
دين ًيا� ..إنه �شخ�ص ذو قدرات خا�صة ولكن كل قدراته هذه مل جتعله يف
مكانته التي هو فيها اليوم حتى ليلة حادثة املحطة منذ ثالث �سنوات..
�أ�صبح من ليلتها الأ�ستاذ �سابق من نعرفه اليوم با�سم ال�شيخ �سابق..
فقلت �أنا :ملاذا؟ ما الذي غري الأمور يف تلك الليلة؟
فقال نزار� :س�أحكي لكما..
40
كان الأ�ستاذ �سابق يقطن قرية �صغرية تطل على بحرية ..ومل
تكن املرافق واخلدمات ت�صل �إىل هذه القرية ب�شكل كامل �ش�أنها �ش�أن
قرى كثرية ..فالكهرباء مل ت�صل �إال �إىل بع�ض البيوت كبيت العمدة
ومركز ال�شرطة وبع�ض بيوت الكبار ..وبالتايل بع�ض البيوت املجاورة..
وكان منها بيت الأ�ستاذ �سابق ..كذلك املياه مل ت�صل �إىل معظم بيوت
القرية ..وال توجد موا�صالت عامة منها �أو �إليها �إال القطار ..وبع�ض
الدراجات البخارية التي ت�ستخدم ب�شكل غري ر�سمي للتو�صيل بني
الأهايل..
كان الوقت مت�أخ ًرا يف تلك الليلة �شديدة الربد واملطر منذ ثالث
�سنوات �أو �أكرث ً
قليل ..كان الأ�ستاذ �سابق عائدً ا من عمله يف املدينة..
وكان يركب القطار الأخري الذي ي�صل القرية يف هذه الليلة ..ورمبا مل
يكن به راكب �إىل تلك القرية �سوى �سابق ومل يكن �أحد باملحطة لريكب
القطار منها حيث انقطعت ال�سبل من و�إىل املحطة ب�سبب املطر الغزير
الذي ح ّول القرية �إىل بركة من املاء ..وال �ضوء يف الطرقات �إال �ضوء
الربق الذي ال يتوقف ..و�أ�صم �صوت الرعد الآذان ..فاختفى النا�س يف
بيوتهم خ�شية الهالك حتى تنتهي تلك العا�صفة.
نزل �سابق من القطار �إىل املحطة التي مل تكن �سوى ر�صيف �صغري
ال يتعدى الع�شرة �أمتار ..وما �إن غاب القطار حتى غاب ال�ضوء الأخري
عن املنطقة �إال ما �أ�ضاءها من الربق� ..أخذ �سابق يخطط للذهاب
�إىل بيته حتت جنح الظالم و�صوت الرعد ..ويتناول بع�ض الأحجار
املك�سورة لعله ي�صنع لنف�سه بها طري ًقا يعفيه من الغو�ص بقدمه يف
املياه..
41
وبينما كان يتح�س�س طريقه يف الظالم وميد قدمه ليت�أكد من
�صالبة الأر�ض حتتها ليمد قدمه الأخرى� ..إذا بالربق ي�ضرب �ضربة
قوية ..كي يتجمد الدم يف عروق �سابق حني فوجئ بطرف ثوب امر�أة
�أمام قدمه مبا�شرة ..فرفع نظره فج�أة �إليها وهو يقول :ب�سم اهلل
الرحمن الرحيم ..ما هذا؟
ف�إذا بها امر�أة عجوز طاعنة يف ال�سن منحنية الظهر نحيلة اجل�سد
يبدو عليها الإعياء والربد ..مالب�سها خفيفة ال تكاد تقيها العا�صفة وال
املطر حتمل ً
طفل ر�ضي ًعا يبكي من اجلوع والربد..
فلما تبني ل�سابق حالها قال لها :ال�سالم عليكم ..ماذا �أتى بك هنا
يا �سيدتي يف هذا اجلو القار�س ..والظالم احلالك؟
قالت :وعليكم ال�سالم ..يا بني �أنا هنا يف انتظار القطار ..لكن
يبدو �أنه مل ي�أت بعد..
-بل �أتى وذهب ..لقد كنت فيه وقد رحل منذ ربع �ساعة تقري ًبا.
-كيف ذلك؟ يبدو �أين ت�أخرت ب�سبب املطر وانقطاع الطريق..
ح�س ًنا لي�س �أمامي �إال انتظار القطار التايل ..واهلل يتوىل حفيدي
هذا ..فهو مل يطعم الر�ضاعة منذ ال�صباح ..وكنت �أريد �أن �أعود به
�إىل �أمه لرت�ضعه..
تال ..لن يعود القطار حتى ال�صباح..
-يا �سيدتي لي�س هناك قطار ٍ
بقي �أكرث من ن�صف يوم حتى يعود ..ولو بقيت هنا �ستتجمدين �أنت
جوعا ..ولكن تعايل معي تبيتني
وحفيدك من الربد ..و�ستموتان ً
42
ليلتك ..وزوجتي ميكنها �إر�ضاع �صغريك ..فعندنا ر�ضيع ابن ثمانية
�أ�شهر ..وتنامني دافئة حتى ال�صباح ويف ال�صباح �س�أو�صلك بنف�سي
�إىل القطار.
� -شك ًرا يا ولدي بارك اهلل فيك..
-ال �شكر على واجب ..ما زالت الدنيا بخري..
ذهبا �إىل البيت ..وقامت زوجته ب�إر�ضاع الطفل ..و�إعداد الطعام
لل�سيدة العجوز ..وجل�س معها �سابق يطعمها بنف�سه ..و�أتى لها بغطاء
فرا�شا داف ًئا ..وناموا حتى ال�صباح ..يف ال�صباح
ثقيل ..وجهز لها ً
�أيقظها و�أتى لها بالفطور و�أر�ضعت زوجته الطفل ر�ضعة تكفيه حتى
يعود �إىل �أمه ..و�أو�صلها �سابق �إىل القطار ..وودعها ..فقالت له:
�س�أراك الح ًقا..
مر �أ�سبوع قبل �أن يطرق طارق باب بيت الأ�ستاذ �سابق يوم اجلمعة
بعد الع�صر بنحو �ساعتني ..ففتح الباب ف�إذا به يجد نف�س ال�سيدة
�أمامه..
فقالت له� :أمل �أقل �س�أراك الح ًقا؟
-مرح ًباً � ..
أهل بك يا �سيدتي� ..إنها لزيارة �سعيدة ..تف�ضلي لقد
�أُعد الطعام و�ستكونني �ضيفتنا اليوم..
-بل �أبلغ �سيدة الدار حتياتي و�سالمي وتعال معي.
فقال متعج ًبا� :إىل �أين؟
43
-تعال و�ستعرف..
فذهب معها ..وطال بهما ال�سري ..قطعا م�سافة طويلة حتى جتاوزا
حدود العمار يف القرية وو�صال حمطة القطار فظن �أنها تريد الركوب
وال متلك النقود ..فتح�س�س جيبه ليت�أكد �أنه ميلك النقود..
فقالت له :لن نركب القطار..
فتعجب منها� :إىل �أين �إذن؟
قالت� :ستعرف..
ا�ستمرا يف امل�شي مدة حتى دخل وقت الع�شاء وقد جتاوزا القرية
وم�شيا مبحاذاة البحرية ..حتى وقفا عند �أطراف البحرية بعد الع�شاء
بقليل ..و�أخذت املر�أة تنظر يف �صفحة املاء التي �أ�صبحت حتت
�أقدامهما ..يف مكان منقطع ال �صوت فيه �إال �صوت الريح الباردة وال
�ضوء فيه �إال �ضوء القمر..
وقالت له� :أتعرف املكان الذي �أ�سكن فيه؟
فقال �سابق :ال.
فقالت :هنا ..و�أ�شارت �إىل البحرية!
فنظر �سابق بتلقائية �إىل املاء الذي يرمي القمر ب�ضوئه عليه..
لرتتعد فرائ�صه هل ًعا حينما ر�أى وجهه يف املياه ومل ي َر بجواره �أي
انعكا�س للمر�أة� ..أخذ ينظر يف فزع �إليها ..ويعود لينظر يف املاء..
44
ظل يف املاء ..فرتاجع للخلف ب�سرعة� :أعوذ باهلل منفال يجد لها ً
ال�شيطان الرجيم� ..أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم..
فقالت له :ال تخف� ..أنا من اجلن ال�سفلي ..ولكني ل�ست كما
تظن� ..أنت مل يكن يفرت�ض بك �أن تراين تلك الليلة منذ �أ�سبوع ..لكن
يبدو �أنك خمتلف ..ولقد �أح�سنت �إ ّ
يل و�إىل حفيدي ..و�أنا �س�أكافئك
مكاف�أة كبرية مل تكن لتحلم بها� ..س�أجعلك ً
�شيخا يق�صده النا�س من
كل مكان..
وبالفعل لقد �أ�صبح �سابق من يومها ال�شيخ �سابق..
فقال ر�ؤوف :كيف؟
قال :لقد �أ�صبح خماو ًيا لتلك اجلنية ..ي�أتيه النا�س ي�ستفتونه..
مم�سو�سا� ..أو من
ً فتو�شو�شه يف �أذنه مبا فيهم من علة ..من كان
كان يعاين من ال�سحر ..وتعينه على اجلن ..في�ضرب هو املم�سو�س
بكرباجه �أو ع�صاه وتعذب هي اجلن وتعاقبهم وتهددهم وتخرجهم
من الأج�ساد ..ب�سلطانها وخدامها من اجلن ال�سفلي ..فهي من امللوك
الغوا�صني.
قلت� :إذن هو �ساحر كما قلنا..
قال :ال هو ال ي�سحر �أبدً ا� ..إمنا هو ي�ساعد النا�س وي�صنع املعروف.
قلت له :وهل اال�ستعانة باجلن حالل حتى ولو لفعل اخلري؟
قال� :أظن �أنه ال ..لي�س ً
حالل ..ولكن �إن مل يكن �أمامنا �إال باب
45
ال�شيخ �سابق نطرقه فعلينا ذلك وال علينا مما ي�أخذه من �أ�سباب ما
دمنا ال نرتكب خط�أ وال نطيعه يف مع�صية ..و�إن كان هناك �إثم فهو من
يرتكبه ول�سنا نحن ..هذا هو ر�أيي واهلل �أعلم ..والأمر يعود �إليكما..
قال ر�ؤوف :الأمر هلل� ..إن كان احلل عنده ف�سنذهب له..
hhh
ذهبنا يف املوعد املحدد �إىل ال�شيخ �سابق ..طرقنا الباب ..ففتح لنا
ال�شيخ �سابق بنف�سه ..رجل �أبي�ض طويل القامة ب�شكل ملفت للنظر..
مع �ضخامة يف اجل�سم ..وع�ضالت بارزة وا�ضحة ..يبدو �أ�صغر من
�سنه الذي عرفناه من نزار ..لقد كان يف نهاية الأربعينيات ..بينما
يبدو عليه �أنه مل يتجاوز اخلام�سة والثالثني على �أق�صى تقدير..
أي�ضا �أنه كان يلعب امل�صارعة ورفع الأثقال لوقت قريب..�أخربنا نزار � ً
�شعره �أ�سود كثيف ..كث ال�شارب ..حليق اللحية ..هادئ ال�صوت..
توحي هيئته بالثقة ..و�إن كان يف وجهه �شيء من الغمو�ض ..رمبا كان
ذلك ب�سبب �أنها املقابلة الأوىل..
�أدخلنا �سابق �إىل بيته مرح ًبا ..جل�سنا �إىل طاولة م�ستديرة
يتو�سطها �شمعدان ..ك�أننا مقبلون على جل�سة لإجراء طقو�س� ..أو
رمبا هذه الأفكار كانت جتول يف ر�أ�سي ب�سبب ما �سمعته من ق�صته
وتاريخه ..فقد كان الغمو�ض والإثارة حول هذا الرجل يثريان تفكريي
ب�شدة ..وتراودين �أفكار مع كل حركة والتفاتة منه ..فلعل جنيته هي
46
من جتعله �شا ًبا هكذا� ..أو لعلها هي من �ستقدم لنا ال�شاي� ..أو لعل
هذه الوحمة على كف يده من �أثر م�صافحتها له� ..أو لعل هذه الرائحة
النفاذة يف البيت هي رائحتها..
ثوان ..كما لو كان ال ميلك الوقت لي�ضيعهو�ضع ال�شاي �أمامنا يف ٍ
علي �أفكاري و�أوهامي ..ف�شعرنا
يف مناق�شات ودية� ..أو يريد �أن يقطع ّ
�أننا يجب �أن ندخل يف املو�ضوع فو ًرا..
بد�أ نزار الكالم :لقد �أتينا اليوم بخ�صو�ص الأ�ستاذ ر�ؤوف ..لقد
�شهد بيته �أحدا ًثا خارقة ..وهجوم متكرر من كيان �شيطاين ..و�أنا
ذهبت عندهم �أم�س ور�أيناه جمي ًعا.
فقال :ر�أيتموه؟ هل يتج�سد؟
قال نزار :نعم �إنه يتج�سد كث ًريا� ..إنه كيان عنيف جدً ا ..كما �أنه
جريء يف املواجهة والظهور ..متالعب للغاية ..اتخذ �أكرث من خم�سة
�أ�شكال ..ما بني قط وكلب ورجل م�سن و�أخ ًريا �أم�س ..ظهر �أم�س ب�شكل
خمتلف ..كان ن�صف ثور �أو ح�صان وج�سد �إن�سان ..بينما الر�أ�س كان
خمتل ًفا ..كان ر�أ�سه ب�ش ًعا كالر�ؤو�س التي وردت يف كتاب «العزيف»..
انتبه ال�شيخ �سابق وات�سعت عيناه وقال متوج ًها بر�أ�سه ناحية نزار:
هل �أنت مت�أكد �أنه ورد يف كتاب العزيف �أم �أنك تخمن؟
متاما ..ولكن �أظن ذلك..
قال نزار :ل�ست مت�أكدً ا ً
قلت لهم :ما هو العزيف وما الفرق بني وروده فيه �أو عدم وروده؟
47
نظر �إ ّ
يل ال�شيخ �سابق وهز ر�أ�سه �صامتًا ثم قال� :س�أقول لك..
العزيف هو �سفر �شيطاين لعني ميكن �أن يكون هو �أخطر الأ�سفار
يوما ..كتبه رجل متهم باجلنون ا�سمه عبد اهللالتي عرفتها الب�شرية ً
احلظرد ..رجل عربي عا�ش يف عهد الأمويني ر�سم احلظرد يف هذا
ال�سفر �صور اجلن احلقيقية كما ر�آهم..
-ر�آهم؟
-نعم ..حتكي الق�ص�ص عن حياته �أنه عا�ش ع�شر �سنوات يف
�صحراء الربع اخلايل يف جزيرة العرب ويقال �أنه قابل �شياطني
�إرم ..مدينة �إرم ذات العماد التي ذكرت يف القر�آن ..وهم من �أعانوه
على الر�سم ..وعلموه �شفرات االت�صال باجلن ..وطال�سم ا�ستح�ضار
الأرواح..
وقيل �إنه ذهب �إىل �أر�ض العراق ..و�سكن �أطالل بابل ..وقابل
�شياطينها ..وتلقى ال�سحر البابلي منهم ومن �صابئة العراق الأراميني..
قلت له :ال�سحر البابلي؟ وهل هناك جن�سيات لل�سحر؟
قال� :إن �أر�ض بابل هي مهد ال�سحر يف العامل ..و�صابئة العراق هم
من تلقوا ال�سحر من هاروت وماروت ..ومل يكن يف الدنيا �أخطر وال �أدق
من ال�سحرة ال�صابئة..
قلت :مل �أ�سمع عنهم مطل ًقا.
48
قال :لن ت�سمع عنهم �إال �إذا كنت مهت ًما بدرا�سة الأمر� ..ستجد
مثل يف الكتاب املقد�س ..عند ذكر والدة امل�سيح.. ذكرهم قد ورد ً
فذكر �أن ثالثة �سحرة من �أر�ض بابل ر�أوا النجم ..جنم امل�سيح..
فتبعوه �إىل �أر�ض فل�سطني للبحث عنه ..و�أنقذوه من امللك ال�شرير..
وقدموا له ولأمه الهدايا ..و�صور امللوك الثالثة موجودة يف الأديرة
اليوم ..ويف �أملانيا كني�سة ُجمعت فيها رفات ال�سحرة الثالثة يف �صندوق
من ذهب ..ويوم الغطا�س ي�سمى عيد �سجود املجو�س� ..أو يوم امللوك
الثالثة� ..إنهم هم الثالثة من �أر�ض بابل.
قلت� :إذن ف�سحر بابل هذا لي�س �سي ًئا ..و ُيعترب ً
مقبول يف امل�سيحية؟
قال :ال �أبدً ا ..بل مت حظر كتاب العزيف يف الغرب و�أُحرق ب�أمر
البابا ..وعوقب �أكرث من �ألف ق�س وراهب كانوا ميلكون هذا الكتاب
وا ُتهموا بالهرطقة..
قلت� :أهو خطري �إىل هذا احلد؟
�شجاعا فقط ميكنك االطالع على �صفحات ذلك ً قال :لو كنت
ال�سفر اللعني� ..إنها �صور �أقدم كيانات �شيطانية عا�شت على الأر�ض..
�إنها م�سوخ حقيقية ال تتمنى �أن تراها يف الواقع� ..إنهم ملوك اجلن..
ومع �صورهم طال�سم حت�ضري الأرواح ..وا�ستنطاق جثث املوتى� ..إنه
لعنة �سوداء بني جلدتي كتاب ..حرق امل�سلمون كل ن�سخ الكتاب ..بعدما
مات م�ؤلفه �أمام �أعني النا�س بوا�سطة كيان �شيطاين غريب ومفزع
ظهر له والتهمه �أمام النا�س ..ومل يبق من العزيف �إال الن�سخ املرتجمة
49
قبل احلرق �إىل الالتينية ..ومت ترجمته �إىل الإجنليزية منذ قرابة مئة
عاما..
وع�شرين ً
و له عدة �أ�سماء غري العزيف فا�سمه �سفر (قوانني املوتى) �أو �سفر
(�أ�سماء املوتى) �أو (نيكرونوميكون) ولكن اال�سم العربي القدمي ال
يزال عل ًما عليه..
قائل :لو كان ما عندكم هو �أحد تلك ثم نظر �سابق �إىل نزار ور�ؤوف ً
الكيانات ..فنحن هنا يف م�أزق حقيقي وال ي�سعنا �إال اال�ستعانة باهلل..
فهذه الكيانات الفاجرة الكافرة مل ي�سيطر عليها �إال نبي اهلل �سليمان..
كان عليه ال�سالم ي�سومهم �سوء العذاب كلما خرجوا عن طاعته ..كان
يذلهم ويحب�س منهم من يع�صيه ..وبعد موته مل يجدوا من يك�سر
�شوكتهم ..فعادوا �إىل غرورهم القدمي وكفرهم كما فعلوا قبل خلق
�آدم ..فهم من ا�ستوطنوا الأر�ض قبل �آدم وف ًقا لكتاب العزيف..
hhh
h
52
)(3
55
ثم قال :هكذا ن�ستطيع ا�ستثارته.
فقلت له :كيف؟
فقال� :أال تعلم �أن رزقهم على العظام وعلف دوابهم على الروث..
اجلن يتزاحمون على �أي عظم �أو روث لأن طعامهم ورزقهم عليه..
�إنهم يتغذون على الدماء والأبخرة ..كذلك هناك �أنواع من البخور
يحبونها ت�ستخدم يف جذبهم وحت�ضريهم كالين�سون والكندر الذي
�سن�ستخدمه الآن..
ثم �أخرج قطعة رخام من احلقيبة املثرية للف�ضول وو�ضع فوقها
ثالث قطع من الفحم �سريع اال�شتعال وزجاجة �صغرية كزجاجة
قطرات العني بها مادة قابلة لال�شتعال و�صب نقطتني على الفحم ثم
�أ�شعله ..ف�أم�سكت فيه النار حتى التهب و�أ�صبح جاهزًا..
قليل من البخور ثم و�ضعه على الفحم ..فثارت رائحة �أخرج ً
البخور ودخانه ومعه رائحة ين�سون وا�ضحة ..فتحنا النوافذ ..و�أوقدنا
ال�شموع ..ثم جل�سنا يف �صمت تام نراقب ال�شيخ �سابق وقد بد�أ يتمتم
بكلمات ال ن�سمعها وال ن�سمع �إال همهمته �أثناء �إلقائها ..وقد �أغم�ض
عينيه ..ثم بد�أ يهز ر�أ�سه ه ًزا خفي ًفا ..وبدا ك�أنه يتكلم مع �أحد وي�سمع
منه ويرد بحركات و�أ�صوات من فمه املغلق �أحيا ًنا واملتحرك �أحيا ًنا
�أخرى..
ثم �سكن فج�أة ..ك�أمنا �أ�سكته �شيء.
فانتبهنا..
56
فتوجه بر�أ�سه وعينيه املغم�ضتني ناحية اليمني ً
قليل �إىل الناحية
املطلة على احلمام ..وك�أنه يرى من خلف عينيه املغم�ضتني ثم قال:
ها قد بد�أنا..
hhh
مل نكن نفهم �شي ًئا �أو ن�سمع �شي ًئا حتى هذه اللحظة ..حني بد�أنا
ن�شم رائحة حريق..
بدا �أن «�سابق» كان حم ًقا ..و�أننا على و�شك هجوم حمتمل..
بد�أت رائحة ن�شادر تظهر وتطغى على رائحة الين�سون ..بل تطغى
على رائحة احلريق ..بد�أ �سابق الذي كانت عيناه ال تزاالن مغم�ضتني
يف رفع �صوته بالهمهمة ..وبد�أنا ن�شعر بنوع من احلركة والأ�صوات غري
املحددة ..حني انطف�أت جميع ال�شموع فج�أة ..ففوجئنا بال�شيخ �سابق
يفتح عينيه ب�شدة ك�أنه يف حالة فزع ..بدت عيناه غريبتني قا�سيتني
مت�سعتي احلدقة ..كان يبدو ك�أنه �سيبط�ش ب�أحد ما حني قال ب�صوت
كالرعد :يااا عثماااان ...يااا عمررر� ...أم�سكا ذلك امللعون..
مل نكد نفكر فيما يحدث حتى ر�أينا العظام التي كانت على املن�ضدة
تتحرك وترجت ب�شدة ..ثم فج�أة طارت عظمتان منهما يف الهواء ك�أنهما
�أُلقيتا بعنف� ..أ�صابت �إحداهما مبا�شرة زجاج باب احلمام فتحطم
57
و�أ�صابت الأخرى امل�صباح الذي ي�ضيء الغرفة ف�أظلم ..وظل ال�ضوء
ي�أتينا من بقية غرف البيت..
فقال �سابق الذي ثبت ر�أ�سه جتاه احلمام يف زئري قوي :ما ا�سمك
يا ملعون؟ ا�سمك و�إال �أحرقتك ..تعلم �أين �أ�ستطيع ..تعلم �أين �أملك
العهد ..ولدي �سلطان امللوك.
�سكتت الأ�صوات كلها فج�أة ..ثواين معدودة ..ثم فج�أة ارجتفت
املن�ضدة �أمامنا ثم ارجتفت حمتويات الغرفة كلها ثم انطلقت من
داخل احلمام دوامة ك�أنها �إع�صار يتحرك على �شكل عمود طويل من
الأر�ض لل�سقف� ..أخذت تدور بعنف يف طرف الغرفة ناحية احلمام..
تظهر منها معامل وجه غري حمدد ثم حتركت ناحية ال�صالة يف اخلارج
وبد�أت تكرب ويتعاظم قطرها..
ثوان قليلة فجعلتها
دارت تلك الدوامة على كل حمتويات ال�صالة يف ٍ
كلها على الأر�ض يف فو�ضى ال ت�صدق ..فتناول ال�شيخ �سابق كرباجه
الغريب وقام �إىل ال�صالة..
قمنا وراءه..
وقف �سابق �أمام الدوامة و�أ�شار بيده الي�سرى عليها ك�أنه يتحكم
فيها فوقفت �أمامه تدور يف مكانها..
ثم قال :ثبتووووه..
رفع كرباجه ثم قال يف �صوت ي�صم الآذان :يا خادم النار امللعون..
58
ثم نزل بالكرباج على تلك الدوامة ف�أ�صابها ك�أنها ج�سد من حلم
ودم..
� -أمل حتذرك امللكة الغوا�صة �أين قادم؟
و�ضرب �ضربة ثانية �أ�شد من الأوىل..
ثم رفع يده بالثالثة وقال� :ألعنك بلعنة امللك �سليمان ..لأقيمك بها
يف العذاب املهني..
و�ضربه الثالثة فانطلقت �شرارة قوية..
َ َ َّ ُ َ ْ َ ّ ُ ْ َ ّ ُ ُ َ َ ْ ُ ُ ُ َ ٌ َ َ
ثم تال ب�صوت مرتفع }الل َّ ال إِهل إِال هو الح القيوم ال تأخذه ِسنة وال
َ ْ َ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ َّ َ َ َ ْ ٌ َّ ُ َ
ات َوما ِف األ ْر ِض من ذا الِي يشفع عِندهُ إِال بِإِذن ِ ِه يعل ُم ما نوم ل ما ِف السماو ِ
َ ُ ُّ ُ َّ َ َ َْ َ َْ ْ َ َ َ َْ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ ْ ّ ْ ْ
ش ٍء ِمن عِل ِم ِه إِال بِما شاء َو ِسع ك ْر ِسيه ِيهم وما خلفهم وال يِيطون ب ِ بي أيد ِ
ْ ْ ْ َ َ
الس َم َاو ِات َواأل ْر َض َوال يَ ُؤ ُودهُ حِف ُظ ُه َما َو ُه َو ال َع ِ ُّل ال َع ِظ ُيم{.
َّ
مل منلك �إال �أن نتوقف عن القراءة لنلتقط �أنفا�سنا ..كما توقف
�سابق وهو يلهث ً
قائل :ملاذا توقفتم؟ �أكملوا للنهاية..
فما كدنا نعود حتى �سمعنا �صوت راندا ت�ضحك �ضحكة عالية وهي
م�سرعا ..فنطقت راندا ب�صوت �أج�ش
ً تنظر �إىل �سابق ..الذي جاء
61
متعدد النربات ك�أن ر�ؤو�س املارد الثالثة تتكلم م ًعا :هل تظن �أنك
انتهيت مني؟ �س�أحرقها و�أحرق عائلتها و�أحرق البيت عليكم.
ثم دفعت «ر�ؤوف» الذي كان قد �أم�سك ذراعها متح ًريا دفعة قوية
ف�سقط على املقعد بجانبها ..يف اللحظة التي و�صل فيها �سابق �إليها
فحاولت �أن مت�سك ر�أ�سه بكلتا يديها ..ف�أم�سك هو يديها بيديه و�أخذ
بلي
يقاومها حتى مد ذراعيها بجانبها واقرتب وجهه من وجهها ثم قام ّ
ذراعيها خلف ظهرها وقال :و�أنا هنا لأنهي حياتك اللعينة البائ�سة..
�أما عرفت �أين �سلطان الكلمة� ..س�أر�سلك �إىل اجلحيم..
عال :يا عمررر ..يا �أبا بكر ..يا عثمااان ..يا
ثم نادى ب�صوت ٍ
علي� ..سلطوا �سيوف اللعنة على ر�ؤو�س ال�شيطان وذنبه..
�صرخت راندا بذلك ال�صوت الذي ال �أن�ساه �أبدً ا ..ثم خرج من
فمها �سائل رغوي غريب..
فقال �سابق بعنف� :أخربين ا�سمك و�إال �أذقتك عذاب احلريق.
رد املارد على ل�سان راندا :ال �ش�أن لك با�سمي ..ه�ؤالء ملكي
فاتركهم يل..
فرد �سابق :ال تراوغ �أيها امللعون و�أخربين ا�سمك ..ح�س ًنا ال تريد �أن
تنطق� ..أنت اجلاين على نف�سك..
ثم نظر �سابق �إىل �أعلى ونادى :يا ملكة البحرية الغوا�صة ..يا ملكة
قبيلة الـ...
62
قاطعه ال�صوت امللعون ً
قائل :ال ال� ..س�أتكلم� ..س�أتكلم ..ا�سمي
نرجال.
فقال �سابق :هل لك ديانة؟
-ال.
� -إذن يا نرجال� ..أ�سلم وا�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممدً ا ر�سول
اهلل.
-ال.
-بل �أ�سلم و�أتركك.
-ال.
-لآخر مرة� ..أ�سلم هلل خالقك و�سرتحل يف �سالم.
-ال.
� -إذن ُاعذرنا فيك ..كافر حمارب ٍ
معتد� ..أيها ال�شيطان نرجال
با�سم اهلل اخرج منها و�إال �أحرقتك.
-ال ..ال ..ال.
ف�صرخ �سابق :الآااان.
فبد�أنا يف تالوة القر�آن والأذان..
فقاطعنا ال�صوت :ح�س ًنا �س�أخرج ولكن اجعل ُخدام امللكة يرتكوين.
63
قال �سابق :تعلم �أنك لن تخدعني و�سي�أتون بك من حتت الأر�ض �أو
باطن البحر.
� -أعدك ب�أين �س�أخرج.
� -أنا ال �آخذ وعدً ا من �أمثالك ..بل �سترتك عالمة.
� -س�أترك عالمة يف �صدرها.
فهزه �سابق هزة قوية وقال :يا ملعون �ستخرج وترتك عالمة يف
مكان ال ي�شوهها� ..سترتك عالمة يف املكان الذي �أحدده.
ثم دفع راندا على الكر�سي ..فبدت ك�أنها ما زالت مقيدة ..ثم
تناول من حقيبته ب�سرعة �آلة حادة ت�شبه امل�سمار ..ثم �أم�سك بقدمها
و�ضرب باطن �إ�صبع قدمها الإبهام بالآلة �ضربة قوية وقال :اخرج من
هنا..
ف�صرخ ال�صوت الأج�ش �صرخة عنيفة طويلة كادت حتطم
اجلدران ..و�إذا بوجه راندا يت�شنج ويتحول لونه �إىل الأزرق ..ك�أنها
ً
وعر�ضا ..و�أخذ ج�سدها يت�شنج ب�شدة تختنق ..وت�شقق وجهها ً
طول
حتى ظننا �أن ظهرها �سينك�سر..
�أم�سك بها ر�ؤوف و�سابق وقال لنا :الآااان..
فبد�أنا القراءة والأذان بقوة وبغري توقف ووجهنا �أ�صواتنا جتاه
راندا التي كانت ال تزال ت�صرخ ..ففوجئنا ب�صوتها يتقطع ك�أنها
مفزعا..
ً �ستتقي�أ ..وعينها تفتح على ات�ساعها ..ك�أنها ترى منظ ًرا
64
ف�ضرب �سابق �إ�صبعها مرة �أخرى ب�إبرته ..وقال :ال تقاوم �أيها امللعون..
اخرج الآن..
فرد على ل�سانها :بل� ..س� ..أق ..تل ..ها..
وحتد وقوة ..وكانت راندا على و�شك املوت
قال هذه الكلمة ب�إ�صرار ٍ
فعل ..تختنق وتت�شنج بعنف ..فانفجر ر�ؤوف بالبكاء وقال :يارب ً
انقذها وانقذنا..
واختنق �صوت احلاج طاهر والدها ونزل على ر�أ�س ابنته يقبلها
ويبكي..
بينما خر نزار عليها مم�س ًكا بها ب�شدة ك�أمنا يحاول �أن ينتزعها
بي�أ�س من يد املارد..
نظرتُ �إىل �سابق الذي اغرورقت عيناه بالدموع و�شعر بالعجز
التام ..وظل يردد بعجز مرا ًرا :اللهم ال ملج�أ وال منجى منك �إال �إليك..
و وقفت �أنا باك ًيا� ..أردد بكل ما �أوتيت من قوة ويدي على ر�أ�سها:
�أعوذ باهلل العظيم ووجهه الكرمي و�سلطانه القدمي من ال�شيطان
الرجيم..
ر ّددتها قرابة الع�شر مرات..
وبينما الي�أ�س ي�سدل علينا �سرته الثقيلة ..وارتفعت �أ�صواتنا
بالنحيب ..و�أدركنا �أننا فقدنا راندا �إىل الأبد..
65
�إذا ب�صوت �أذان الفجر يخرتق البيت الذي كان مفتوح النوافذ:
(اهلل �أكرب ..اهلل �أكرب)..
(اهلل �أكرب ..اهلل �أكرب)..
كان ال�صوت يدخل من كل مكان ..ثالثة م�ساجد حول البيت ك�أمنا
تباعا
تزاحمت �أ�صواتهم واحدً ا تلو الآخر كما لو كانت مددًا ي�أتي �إلينا ً
من ال�سماء..
فاهتزت الأر�ض ب�شدة من حتت �أقدامنا ..و�إذا ب�سيل من دماء
�سوداء ثقيلة تنفجر من �إ�صبعها الذي �ضربه �سابق ..و�إذا ب�صوت
قعقعة يزلزل البناية كلها ..وي�شرخ اجلدران ..و�إذا بالدوامة ترتفع
فوق راندا وتدور بجنون يف �سقف البيت ثم جاء �صوت القعقعة مرة
�أخرى ك�أمنا �ستنفجر اجلدران وما �إن و�صل �إىل النافذة حتى �سمعنا
�صوت انفجار وحتولت الدوامة �إىل كرات عديدة من النار انطلقت
للخارج واختفت يف ال�سماء..
نظرنا �إىل راندا فوجدناها تفقد الوعي� ..أو هكذا بدت لنا..
وي�سرتخي ج�سدها الذي كان قد اعت�صرته الت�شنجات ..فهد�أت
�أنفا�سنا وبد�أنا نخف�ض �أ�صواتنا ..فلم نكن نعرف ما الذي يتوجب
علينا فعله ..فقام �سابق �سري ًعا مب�سح الدم عن قدمها بقطعة قما�ش..
فوجدنا ثق ًبا كب ًريا حمفو ًرا يف �إ�صبعها كالفنجان..
فقال �سابق وهو يتنف�س ال�صعداء :ح�س ًنا هذه هي العالمة..
hhh
66
�صباحا ونحن ما زلنا نحاول �أن نلملم
كانت ال�ساعة تدق ال�ساد�سة ً
الفو�ضى التي خلفتها املعركة ال�ضارية حتى الفجر ..عندما خرجت
طويل ..ن�صحها �سابق ب�أن تذهب �إىلنوما ً راندا �إلينا بعد �أن نامت ً
البحر كل يوم فج ًرا ملدة ثالثة �أيام ..فهذه �ساعة ُي�سبح فيها البحر
ويغت�سل ..ويطرد كل ما به من خملفات �أو قاذورات على ال�شاطئ..
ن�صحها �أن تذهب وتغط�س كل يوم ٢١مرة ..كما ن�صحنا �سابق ب�أن
نقر�أ �سورة البقرة و�آل عمران �أكرث من مرة يف البيت ..و�أن نخرج
�أي عظام تبقى من الطعام ..وال نبيتها يف بيوتنا� ..أخرج من حقيبته
قليل وقال عطروا بها وجوهكم زجاجة م�سك ودهن لكل منا على يده ً
و�أيديكم ..فهذا امل�سك طاهر وتهرب من رائحته ال�شياطني ..واطم�أن
على اجلميع ..وطلب منهم �أن يت�صلوا به بعد �أيام ليطمئن على
الكدمات الزرقاء هل اختفت �أم ال ..وودعنا جمي ًعا ثم رحل..
نزلت معه لأو�صله و�أحاول �أن �أ�س�أله على �أجر ما فعل يف تلك
الليلة ..فقال �إنه ال ي�أخذ �أج ًرا واملهم �أن يدعو له النا�س بظهر الغيب
عندما ي�شفيهم اهلل ..و�أو�صاين �أن �أكلمه كلما ا�ستطعت ..وعدت �إىل
بيت راندا �سري ًعا..
وعندما و�صلت �إىل الطابق الثاين �سمعت �صوت باب يف الطابق
الثالث ُيغلق ..يبدو �أن �صاحبنا �شعر مبا حدث ..وال بد �أنه كان ي�سرتق
قليل �أمام بابه ..وقفت و�شعرت �أنه يقفال�سمع ..فقررت �أن �أقف ً
خلف الباب يراقبني ..فاق�شعر ج�سدي من ذلك الإح�سا�س ..ولكن
�إ�صراري على التحدي �سرعان ما تبدد عندما اكت�شفت �أين �أقف على
67
بقعة ماء على الأر�ض ..يبدو �أن الرجل كان مي�سح �أمام باب بيته ولي�س
هناك ما يف ر�أ�سي من �أوهام..
�صعدت �إىل البيت و�أكملنا ترتيب املنزل حتى �أعدناه �إىل �سريته
الأوىل� ..أعدت لنا راندا الإفطار ..و�أعطى ر�ؤوف لكل منا زجاجة
ماء بزعفران ..مقروء عليها �آيات من القر�آن ..لن�شرب منها ونغ�سل
وجوهنا ..ثم جل�س على مقعده ك�أنه يتنف�س ال�صعداء ..كنت �أ�شعر به
ينظر �إلينا يف خجل مما حل بهم �أمامنا ..وكانت راندا ت�شعر به..
فجاءت بقطعة قما�ش و�صبت عليها من زجاجة ماء الزعفران و�أخذت
مت�سح ر�أ�سه وتقبلها..
وقالت له :هون عليك ..لقد انتهى كل �شيء ..كل �شيء �سيكون على
ما يرام..
اطم�أننت عليهم و�سلمت على اجلميع ..ورحلت..
hhh
h
69
70
)(4
بعد عدة �أ�سابيع من تلك الليلة الطويلة يف بيت راندا كان يومي
الأول يف ال�سنة النهائية باجلامعة ..كانت املدينة اجلامعية هي امللج�أ
الطبيعي لأمثايل ممن يغرتب عن مدينته من �أجل اجلامعة ..وكانت
هذه هي املرة الأوىل يل التي �ألتحق فيها باملدينة اجلامعية لأعفي
نف�سي من ال�سفر يوم ًيا فهذا عامي الأخري باجلامعة وال يجب �أن يكون
هناك �أية معوقات..
دخلت �إىل �ش�ؤون الطلبة باملدينة اجلامعية ..كانت وجوه املوظفني
ب�شو�شةً ..
رجال ون�سا ًء ..معاملة لطيفة ..بها الكثري من االحرتام كما
كان بها الكثري من الر�أفة باملغرتبني ..كنت مت�أخ ًرا يف الدخول للمدينة
ب�سبب طول الإجراءات ..حتى تقل�ص عدد الغرف يف �أبنيتها ..ومل يعد
يتوفر غرف �شاغرة ب�شكل كامل ..بل يتوفر �أماكن مفردة �شاغرة يف
بع�ض الغرف والتي كانت �سعتها ثالثة �أفراد ..قابلت �صديقني يل
71
�أحدهما كرمي وهو �صديق قدمي والآخر �صديق حديث يدعى طارق
تعرفنا عليه يف الكلية ..كان ً
زميل يف نف�س الدفعة ..جمعتنا ال�صدفة
يف الكلية ثم يف الت�أخري على ال�سكن يف املدينة اجلامعية فاتفقنا على
�أن ن�سكن ثالثتنا م ًعا حتى ال يتفرق كل منا يف غرفة مع �أ�شخا�ص ال
يعرفهم �أو ال ي�سرتيح �إليهم.
ذهبنا مل�س�ؤول الت�سكني ..ففرقنا على غرف خمتلفة ..فقلنا له ما
نريد.
فقال :لي�س لدينا غرف لت�سكنوا فيها م ًعا ..مل يبق �إال �أماكن
متفرقة يف غرف عديدة ..ال جمال لت�سكنوا م ًعا..
حاولنا كث ًريا ..ولكن ال فائدة ..ا�ست�سلمنا للأمر الواقع وقلنا قدر
اهلل وما �شاء فعل� ..أخذنا جنر �أقدامنا على الأر�ض ونحن نخرج وعلى
عال:
كتف كل منا حمل من الهموم ب�سبب ما حدث ..حني نادانا �صوت ٍ
متاما..
هناك غرفة واحدة فقط يف املدينة اجلامعية خالية ً
التفتنا بفرحة و�أمل ..ف�إذا باملدير والذي مل يكن تفوه بكلمة منذ
دخلنا ..ذهبنا له فرحني ..قلت له� :أين هي؟ �سن�أخذها..
قال :ال ..اذهبوا ف�ألقوا عليها نظرة � ًأول ..ولو وافقتم �ستكتبون
موافقة خطية منكم على �سكناها ..عندها ن�سكنكم فيها..
فقال طارق :نحن موافقون بدون معاينة..
قال :ال ميكن ..يجب �أن تعاينوها � ًأول.
72
فقلت :ح�س ًنا �أين هي؟
قال :ا�صعدوا مبنى (د) وا�س�ألوا عن امل�شرف الأ�ستاذ لطفي..
و�أخربوه ما قلته لكم لي�سمح لكم مبعاينتها..
فقلنا :ح�س ًنا �سنذهب ون�أتي يف ملح الب�صر..
خرجنا م�سرعني نحو املبنى (د) ..ونحن يف منت�صف الطريق �إذا
به ينادينا.
املدير :يا �شباب ن�سيتم �أن ت�أخذوا رقم الغرفة� ..إنها الغرفة ٤٤٩
hhh
73
فنظر �إ ّ
يل بتعجب وقال :وما �أدراك؟
� -أخربنا عنها املدير.
قال ب�ضيق :ح�س ًنا �أين �أوراق ال�سكن؟
�أثارت طريقته و�إنكاره الريبة يف نف�سي ونفو�س �أ�صدقائي..
فرتاجعنا خطوة للوراء..
-ال ..يجب �أن نراها � ًأول ثم نوافق �أو نرف�ض.
فقال :نحن ل�سنا يف فندق� ..أنا لي�س عندي غرف.
قلت له بنربة تهديد خفية :ح�س ًنا �س�أقول للمدير �أنك امتنعت عن
تنفيذ كالمه الذي �أر�سلنا به �إليك و�أنه لي�س لديك غرف للأ�سف..
�سالم عليكم.
فقال ب�ضيق �شديد جعل �صوته يرتفع :انتظر� ..س�أريكم �إياها..
ذهبنا �إىل الغرفة وفتحها لنا ..لرنى ما مل نكن نتوقعه..
كانت الغرفة مهملة ب�شكل مل ي�سبق له مثيل� ..سرر حمطمة وبال
مراتب ..جدار ن�صفه زجاج ..ك�أنه كان �شرفة ومت غلقها بالزجاج
ل�صنع غرفة ..وباب زجاجي �آخر يطل على �شرفة خارجية ..وعلى
ر�سوما غريبة� ..صورة جلمجمة يخرج منها �شعرً احلائط وجدنا
كثيف� ..صورة لثعبان يقف مهاج ًما ل�شخ�ص ..كلمات غريبة مثل
�شك) و(ط ْهط ْهطهْ) ور�سوم وجداول مملوءة بالأرقام..(�ش ْك�ش ْك ْ
74
ويف نهاية �أحد اجلدران وجدنا �آية الكر�سي مكتوبة بالطبا�شري على
حائط يبدو مغطى بطبقة من الطالء ك�أنها ت�سرت �شي ًئا ما ..الباب غري
من�ضبط وينخلع ب�سهولة وامل�صباح يف ال�سقف ال ي�ستقر م�ضي ًئا لفرتة
طويلة ..ولي�س هناك �سوى ن�سخة واحدة للمفتاح..
بع�ض وكان ل�سان حالنا يقول ما هذه وقفنا ننظر بع�ضنا �إىل ٍ
اخلرابة ..ولكننا يف النهاية مل يكن �أمامنا �سوى �أن نقبل ..فاالحتماالت
متاما ..وافقنا بدون اقتناع ..و�سك ّنا الغرفة خالل
الأخرى مرفو�ضة ً
ع�شر دقائق ..لتبد�أ بنا رحلة مل نتوقع �أن نعي�ش �أحداثها قط..
hhh
منذ �أن دخلنا تلك الغرفة ونحن ن�شعر �أن هناك �شي ًئا ما خاط ًئا
بخ�صو�صها ..عندما �س�ألنا عن القبلة يف الغرفة عرفنا �أنها يف نف�س
االجتاه الذي وجدنا عليه �آية الكر�سي على اجلدار ..مما �أثار االنتباه..
هل يكتب النا�س على احلوائط يف البيوت واملدن اجلامعية والفنادق
�آية قر�آنية يف اجتاه القبلة؟
لي�س هذا بال�شيء امل�ألوف ال يف بيوت النا�س وال يف املدن اجلامعية..
ولكن ال ب�أ�س ..لي�ست هذه امل�شكلة ..امل�شكلة احلقيقية الآن يف ذلك
امل�صباح الذي ال ي�ستقر �أبدً ا ..يجب �أن نت�صرف ب�ش�أنه..
75
قام طارق بو�ضع عود ثقاب ل ُيحكم به و�ضع امل�صباح فال يهتز..
وهكذا ُحلت امل�شكلة م�ؤقتًا..
رتبنا احلجرة وجهزنا ُف ُر�شنا ..وجل�س كل منا حتت غطائه يف
الفرا�ش ثم �أخذنا نت�سامر ً
قليل قبل النوم ..فتحنا �أكرث من مو�ضوع..
يل دائ ًما و�أبرزها يف قراءاتي واطالعي هو كان �أبرزها و�أحبها �إ ّ
قليل ..ن�صف �ساعة مرتمو�ضوع اجلن وال�شياطني وال�سحر ..تكلمنا ً
علينا ونحن نتكلم حول هذا املو�ضوع ..بد�أ م�صباح الغرفة الرئي�سي
والذي كان قد مت �إ�صالحه منذ قليل ينطفئ وي�ضيء مرة �أخرى ..كان
من املمكن �أن نعترب الأمر ً
ف�شل من طارق يف �إ�صالح امل�صباح ..ولكن
نظ ًرا لأننا كنا للتو نتكلم عن اجلن والأالعيب ال�شيطانية ..فقد ت�سلل
التوتر والقلق �إىل قلوبنا فو ًرا..
قلت لطارق وكرمي :ما ر�أيكما لننتهي من ق�صة تالعب ذلك
امل�صباح فلنطفئ الكهرباء حتى ال�صباح؟ ويف كل الأحوال �سوف ننام
ولن نحتاج النور يف �شيء..
قال يل طارق :ح�س ًنا �أطفئه �أنت.
فقلت :بل �أنت.
فقال طارق� :إذن يطفئه كرمي.
فرد كرمي� :أنا لن �أحترك من مكاين.
76
كان كل منا يحاول �أن يجد يف رفيقيه ال�شجاعة التي يحاول هو �أن
ي�صطنعها �أو يتظاهر بها حتى يقل التوتر ً
قليل ..ولكن يف احلقيقة كنا
على درجة من التوتر و�صلت حلد اخلوف..
وليغط كل منا ر�أ�سه حتى ال يوتره
ِ اتفقنا �أن ننام والنور مفتوح
تالعب النور �أكرث ..نحن يف ال�شتاء واجلو بارد ونريد �أن ننعم بليلة
دافئة حتى ال�صباح� ..شددت الغطاء على ر�أ�سي كذلك فعل طارق
وكرمي ومننا..
مرت ع�شر دقائق كنت �أفكر يف ما �س�أفعله يف الغد يف الكلية وما
�س�أ�شرتيه لزينة الغرفة حني جاء �أحد الرفيقني يوقظني ..و�ضع يده
�ضجيجا للثالث..
ً على �صدري و�أخذ يوخزين وخزًا بيده كيال ي�صنع
فقلت له :اتركني لن �أقوم �س�أنام..
ا�ستمر يوخزين بل �أ�صبح وخزه �أ�شد تتاب ًعا و�أملًاُ ..
فخيل �إ ّ
يل �أنه
خائف ويريد �إيقاظي لأطفئ النور ..و�أ�صررت على عدم القيام ..مل
يتوقف الوخز فهممت �أن �أقوم لأم�سك الو�سادة و�أ�ضربه بها..
فقمت فو ًرا و�أنا �أقول :يا �أخي اتركني و�ش�أ.....
مل �أجد �أحدً ا بجانبي �أو حويل ..نظرت �إىل طارق ف�إذا به م�ستقر
على �سريره و�إذا بكرمي يغط يف نوم عميق..
77
كانا م�ستقرين بال حراك وال �أثر يدل على �أن �أحدً ا منهما كان
بجانبي وقفز على �سريره ..ففزعت وناديت عليهما بهدوء وك�أين
�أخ�شى �أن ي�سمعني �أحد..
قام طارق الذي كان قد غط يف النوم ً
فعل ..بينما كان كرمي غار ًقا
يف النوم حتى �إنه مل ي�سمعني � ً
أ�صل ..ظللنا ننادي عليه �أنا وطارق
بعدما ق�ص�صت عليه ما حدث ..قام كرمي مت�ضج ًرا منا وقال :ماذا
تريدان؟
قلت :لقد �شعرت بوجود �شيء غري ب�شري يف هذه الغرفة..
انتبه كرمي ونظر �إىل طارق الذي كان مبت�س ًما ابت�سامة ا�ست�سالم
وعقل من �أن �أدعي �أو �أتوهم �شي ًئا
فقد كان على يقني �أين �أكرث وع ًيا ً
مل يحدث ..ظل كل منا على فرا�شه ال نتحرك ..ك�أننا نخ�شى من و�ضع
�أقدامنا على الأر�ض ..اتفقنا �أن نقر�أ القر�آن وننام يف هدوء و�ضوء
الغرفة مفتوح ..وفعلنا.
hhh
79
قلت له :نعم نحن نرى نف�س ال�شيء وال وهم يف الأمر ..ال بد �أن
هناك من �صنع هذا.
قال كرمي :كيف وقد كان املفتاح معنا ومل نغب عن الغرفة دقائق
ليدخلها �أحد ب�سرعة ويخرج ب�سرعة؟
قلت� :إذن هذا ما كنا نهرب منه طيلة النهار ..يبدو �أن هناك �شي ًئا
ما بهذه الغرفة ً
فعل..
مل يعد لنا حوار يف ذلك اليوم �إال هذا املو�ضوع وقد �أ�صبح البحث
عن تف�سري مادي علمي �أو حتى تف�سريه بالأوهام غري جدي� ..أ�صبحنا
على يقني �أن هناك كيا ًنا غري ب�شري ي�سكن هذه الغرفة..
قررنا النوم ب�شجاعة والدفاع عن غرفتنا �ضد �أي �شيء فنحن رجال
ولن تهزنا تلك الكيانات ..كما كنا منني �أنف�سنا �أننا ت�سرعنا يف احلكم
على الأمر ورمبا لي�س هو كما نعتقد ..ذهب كل منا �إىل فرا�شه� ..أطف�أ
كرمي النور ومتدد على فرا�شه الذي كان مواج ًها لفرا�شي ..وبجواره
باب زجاجي يطل على ال�شرفة اخلارجية العمومية للطابق الرابع الذي
ن�سكنه ..كانت الغرفة ال تغرق يف الظالم �أبدً ا ..فالزجاج من كل مكان
والأ�ضواء اخلارجية تطل منه دائ ًما ال �سيما �أبراج النور العمومية التي
تنري طوال الليل ..كان الزجاج مطل ًيا بلون داكن ليمت�ص �شي ًئا من
ال�ضوء اخلارجي ولكنه مل يفلح يف تعتيم الغرفة بالكامل..
بعد مرور بع�ض الوقت يف حماوالت فا�شلة للنوم نظرت جتاه كرمي
ثم رفعت عيني على ثقوب يف الطالء على زجاج الباب بجواره ..ت�أملت
80
فيه ..رمبا مل يجدر بي ذلك ..ولكنه القدر الذي �أراد �أن يزيح �شي ًئا
ال�س ُت من على �أ�سرار تلك الغرفة� ..إنها لي�ست ثقو ًبا يف الطالء..
من ُ
�إنها �صورة وجه مت نحتها يف الطالء� ..إنها �صورة جمجمة ذات قرون..
�إنها وجه �شيطاين..
قمت من مكاين وتوجهت يف الظالم املمزوج ب�ضوء اخلارج لأتبني
مفزوعا..
ً ذلك الوجه ووقفت بجوار فرا�ش كرمي ..و�إذا بكرمي يقف
فقلت له :ال تخف� ..إنه �أنا مازن.
مفزوعا �إىل اجلدار
ً علي ..فدققت النظر له ف�إذا به ينظر
مل يرد ّ
خلف ظهري ..وي�شري يف خوف �شديد..
كرميُ :انظر يا مازن!
فنظرت خلفي لأرى امر�أة كاملة ترتدي ز ًيا �أ�سود ..مبعرثة ال�شعر..
ذراعا وتوجهه نحونا ك�أنها تت�سول ..بينما الذراع الأخرى �ساقطةترفع ً
بجانبها ك�أنها م�شلولة ..تقف على املن�ضدة امللت�صقة باجلدار ..امر�أة
كاملة ولكنها ق�صرية ..ال لي�ست ق�صرية� ..إن �أبعادها غري منطقية..
هي امر�أة كاملة ولي�ست قزمة ولكن طولها حوايل مرت ..لقد بدت وك�أننا
نرى �صورة هولوجرامية �أو �صورة ثالثية الأبعاد المر�أة ..عندما بد�أت
تتحرك نحونا نزلت على الأر�ض ف�صارت بحجم املر�أة الطبيعية..
كانت مت�شي على قدم وجتر الأخرى ..جريت على مقب�س النور لأفتح..
ف�إذا ال �شيء..
81
اختفت املر�أة وبقينا كالأ�صنام لدقائق نلملم �شتات الأفكار
والكلمات قبل �أن نتكلم �أو يتحرك �أي منا من مكانه.
�أول �شيء جال بخاطري هو �أن �أنظر فوق املن�ضدة ..ال يوجد �شيء..
ال يوجد �أثر ..فنظرت �إىل اجلدار الذي كانت املر�أة تقف �أمامه..
ال�شيء �سوى جدول و�أرقام وبع�ض اخلطوط الع�شوائية ..فتجولت
بعيني على اجلدار حول هذا املكان ..هذه ق�صيدة �شعر مكتوبة بخط
وا�ضح ..وحكمة مكتوبة بخط �آخر ..قانون فيزيائي ..ال �شيء على
اجلدار �سوى �آثار مذاكرة من �سبقونا يف �سكنى هذه الغرفة..
خلفتنا تلك احلادثة منهكني ك�أمنا كنا نعدو يف �سباق� ..أيقظنا
طارق وق�ص�صنا عليه املوقف ..فتيقظ وجل�سنا حائرين حتى ال�صباح..
h
82
)(5
مع الأيام بد�أت �أخبار غرفتنا تنت�شر يف املدينة اجلامعية بعد �أن
حكى كل منا ملن يقابله يف �صالة التلفاز وامل�سجد واحلمام واملطعم..
تناقلت النا�س احلكاية� ..أ�صبحت الغرفة ٤٤٩حديث املدينة ..و�أ�صبح
ثالثتنا مدار �أحاديث النا�س يف ال�صباح ..و�أحدوثة �سمرهم قبل
النوم ..حتى قابلني �أحد ال�شباب يف يوم يف احلمام ونحن جنتمع على
�صنع ال�شاي ..ف�س�ألني :هل �أنت من �سكان الغرفة ٤٤٩؟
فقلت له :نعم..
فقال� :أنا زاهر ولقبي قلب الأ�سد� ..أريد �أن �أ�ستبدل معك الغرفة..
فقلت :كيف؟
قال :ب�أن �أفرغ لكم غرفتي وترتكوين وحدي يف غرفتكم.
83
فقلت له :وملاذا؟
فقال :لأين �أريد �أن �أتزوج من �إحدى اجلنيات.
فقلت له :وما �أدراك �أنك �إن بقيت يف الغرفة �ستقابل جنية
و�ستتزوجك ..لقد �صار لنا �شهر ومل نر �أي بادرة �إيجابية �أو حماولة
توا�صل واحدة من �أي كيان من الكيانات التي ت�سكن تلك الغرفة
امللعونة ..كلها �أالعيب �شيطانية فقط.
قال� :أنا �أعرف كيف �أفعل هذا ..ف�أنا مم�سو�س من اجلن ..واجلن
يكبلوين �أحيا ًنا بالقيود و�أ�سمع تهديدات ت�أتيني يف �أذين..
عندها �شعرت بق�شعريرة ت�سري يف ج�سدي فاعتذرت له ب�أين ل�ست
الوحيد �صاحب القرار كما �أين اتفقت مع �أ�صحابي �أال نتخلى عن
بع�ضنا البع�ض ونظل م ًعا حتى النهاية ..اعتذرت وذهبت..
hhh
84
مكان روح ..وتلك الروح وال �شك تتفاعل مع �أرواح املتواجدين� ..سل ًبا
و�إيجا ًبا..
�صعدنا �إىل ال�سطح ..مكان بعيد ..لفحات ن�سيم و�أ�صوات طيور..
كان املبنى كب ًريا جدً ا ..وم�ساحة ذلك ال�سطح �ضخمة جدً ا ..كان
الوقت بعد الغروب بقليل ..مل يكن ثمة م�صباح ي�ضيء �سطح البناية..
�إال ما بقي من �ضوء الغروب ..وما زاغ من الأ�ضواء يف الأ�سفل ..مل يكن
كثري من النا�س فوق ال�سطح ..كان ثالثتنا ن�ستمتع بالن�سيم ..بينما
كان على م�سافة حوايل ع�شرين مرتًا بع�ض ال�شباب يلعبون الكرة..
قال طارق :ما �أجمل هذا الن�سيم ..مل �أظن �أن اجللو�س هنا ممتع
�إىل هذا احلد..
متنف�سا بعيدً ا عن
ً فقلت له :نعم عندك حق نحمد اهلل �أننا وجدنا
ال�صخب بالأ�سفل..
قال كرمي :ولكن يبدو �أن املكان ذو �شعبية كبرية فالنا�س ال يكتفون
بال�صعود بل يلعبون � ً
أي�ضا..
قلت له :جيد لعلنا ن�ستعد يف املرة القادمة ون�شاركهم اللعب..
مر وقت ق�صري حتى تنبه طارق فج�أة وقال� :أال تالحظون �شي ًئا
غري ًبا؟ ما زال ه�ؤالء ال�شباب يلعبون برغم الظالم ..كيف يلعبون
الكرة بنف�س احلما�س؟ كيف يرون الكرة ليلعبوا � ً
أ�صل؟
85
م�سرعا نحوهم وقال مبت�س ًما� :س�آتي لكم بخربهم فو ًرا..
ً قام كرمي
فعل كيف مل ننتبه؟بينما نظرت �إىل طارق وقلت له� :شيء غريب ً
�أال تالحظ �أنهم ال ي�صدرون �أي �صوت ..وال ن�سمع �صوت الكرة� ..أال
تالحظ �أنهم يتحركون بنمط ثابت ال يكاد يتغري؟
مفزوعا وانتبهت �أنا � ً
أي�ضا للكارثة ..ف�صرخنا يف �آن ً يل طارقنظر �إ ّ
واحد :كرمي تعال اااا ..تعااااال اااااا
قمنا م�سرعني نحو كرمي الذي مل نعد نراه يف ال�ضوء اخلافت الذي
ي�ضيء ال�سطح ..وال ن�سمع منه ردًا ..ظللنا ن�سرع اخلطى نحو املكان
الذي كنا نرى فيه �شبا ًبا يلعبون ..وكلما جرينا نحوهم كلما �شعرنا
�أنهم ي�صغرون ..قلت :طارق ..ما هذا �إنهم �أطفال؟
وما �إن �أدرك طارق ما �أدركت حتى �صرخ� :أعوذ باهلل ه�ؤالء لي�سوا
ب�ش ًرا..
وما كاد طارق ينهي كلماته حتى فوجئنا بهم يقفون مت�سمرين..
من كان وجهه لنا ومن كان ظهره لنا كان ينظر خلفه �إلينا ..كانت
ع�شر عيون متوهجة يف الظالم تنظر �إلينا ..وما عرفت �أنهم خم�سة
�إال من عدد عيونهم ..فتجمدت يف مكاين �أنا وطارق ..وقد �سرت يف
ج�سدي ق�شعريرة وارتفعت نب�ضات قلبي حتى كاد نف�سي يتوقف ..ثم
فج�أة ا�ستداروا جمي ًعا و�أ�سرعوا نحو �سور ال�سطح وقفزوا يف ال�شارع..
جرينا خلفهم حتى و�صلنا �إىل ال�سور فوجدنا «كرمي» يقف متخ�ش ًبا
ك�أن على ر�أ�سه الطري ..ينظر �إىل �أ�سفل ..فلما و�صلنا �إليه قلنا له:
كرمي احلمد هلل �أنك بخري ..هل ر�أيت ما ر�أيناه؟
86
قال :بل ر�أيت �أكرث ..انظروا لقد قفزوا هنا ..هل كنتم تعرفون �أن
هذا املبنى جماور للمبنى الذي ن�سكنه ..وال يف�صل بيننا �إال جدار؟
نظرنا فتجمد الدم يف عروقنا..
لقد كان املبنى املجاور لنا هو مبنى م�شرحة املدينة وثالجة املوتى..
hhh
جتمعنا يف املطعم ..كنا نحن ال�ستة نفكر وال نتكلم ..كان ما حدث
يدور ب�أذهاننا وال ندري ماذا نفعل� ..أق�سم �شرف �أنه لن يدخل تلك
احلجرة جمددًا مهما حدث ..بينما �أ�صر حممود على �أن نتجمع كلنا
يف تلك الغرفة حتد ًيا ونبيت فيها ..تناق�شنا كث ًريا وا�ستقر ر�أينا على �أن
88
نبيت يف الغرفة ونتحدى الكيانات الغام�ضة تلك ..كنا خم�سة ..ثالثتنا
وحممود وعز الدين� ..أخذ كل منا م�صحفه يف �صدره و�أغلقنا النور
ومننا..
نوما عمي ًقا لكنه مل ُ
يطل ال �أدري كم غفونا ولكننا مننا بعمق ..كان ً
كث ًريا حتى فتحت عيني على �صوت مزعج� ..صوت �أقدام مت�شي متثاقلة
وا�ضحا� ..إنه من داخل الغرفة وال
ً حتك الأر�ض ح ًكا ..كان ال�صوت
�شك ..مل يكن باخلارج ..ثم �سمعت �صوت �أحد ما ي�شرب املاء ..مل
�أكن �أجر�ؤ على رفع ر�أ�سي لأنظر ..ناديت ب�صوت �أعلى من الهم�س:
من؟ من؟ كرمي؟
فوجئت ب�صوت كرمي يرد� :أنا على �سريري.
فرد طارق :و�أنا.
قال حممود :و�أنا � ً
أي�ضا� ..أت�سمعون ما �أ�سمع؟
قلت :نعم.
قال� :س�أقوم و�أفتح النور لرنى ..ما الذي يح........
�سكت �صوت حممود فج�أة..
نادى طارق :حممود؟ حممود؟ ملاذا ال تر.......
انقطع �صوت طارق.
89
قال كرمي :ما بالكم ما الذي يحدث؟ انطق.....
عندما انقطع �صوت كرمي �شعرت بفزع وجتا�سرت وا�ستجمعت
نف�سي وقمت ..ومل �أكن �أت�صور ما الذي ميكن �أن �أراه..
نظرت ف�إذا الأربعة جال�سون على الفرا�ش وينظرون �إىل �أ�سفل..
وعيونهم و�أفواههم مفتوحة على ات�ساعها ..نظرت فتجمدت مكاين
متاما مثلهم..
ً
لقد كان ن�صف الغرفة ال�سفلي م�ضي ًئا ً
متاما كما لو كان امل�صباح
متاما ك�أننا يف قرب مغلق..
مفتوحا ..بينما ن�صف الغرفة العلوي مظلم ً
ً
ومل يكن النور ي�ستطرق على الظالم وال العك�س ..ك�أن بينهما ً
برزخا ال
يبغيان ..وعلى الأر�ض يف النور يتمدد رجل طويل بطول الغرفة ور�أ�سه
عند الباب ..له �شارب طويل ..طال حتى غادر وجهه ومتدد بجانبه
على الأر�ض ..يده اليمنى غري موجودة ..عيناه �شديدتا ا ُ
حلمرة ..وال
فم له..
مل يكن هناك جمال للتفكري ..لقد �أ�صاب ال�شلل عقولنا و�أج�سادنا..
فحتى �إذا فكرنا يف �أي �شيء ..فالأر�ض غري ممهدة للحركة مع هذا
الذي يتمدد عليها ..قمت لأقف على �سريري ومددت يدي ببطء وفتحت
النافذة التي تعلو جانب ال�سرير ..وما �إن دخل النور من النافذة حتى
تبدد كل ما كان يف الغرفة بلحظة..
90
�أعتقد �أن �أع�صابنا قد انهارت و�أج�سادنا املت�شنجة ا�سرتخت فج�أة
�إىل حد االنهيار ..مل يكد �أحد منا ميلك القدرة على الكالم ..جرجر
كرمي قدمه لي�ضيء امل�صباح وجل�س يلتقط �أنفا�سه ..وبقينا على
ال�صمت ما يقرب من ع�شر دقائق ..ك�سر ال�صمت �أذان الفجر فقمنا
لن�صلي..
h
91
)(6
يف ال�صباح ذهبت مبا�شر ًة �إىل مدير الإدارة طال ًبا منه تغيري
الغرفة� ..إال �أنه �أجاب ب�أن ال�سكن ال يتوفر به غرف �شاغرة الآن كما
�أبدى ا�ستياءه و�سخريته من ال�شكوى وك�أنه يتهمنا باجلنون..
مل �أدر ماذا �أفعل فذهبت �إىل اجلامعة متع ًبا منه ًكا من قلة النوم
والتوتر ..قابلت يف اجلامعة �صدي ًقا يل والذي �أبدى اهتمامه بهيئتي
املتعبة ..و�أ�صر على ا�ستك�شاف الأمر ..فق�ص�صت عليه ما �أ ُم ّر به..
فقال� :أتعلم؟ لن يجد لنا ً
حل �إال زميلنا �أمني ..فقد �سمعته يتحدث
عن �شيخ يف قريته يتعامل مع هذه الأ�شياء ..وحتدث � ً
أي�ضا عن رجل
�صالح يعرفه ..ويل من �أولياء اهلل ال�صاحلني يلج�أ �إليه النا�س � ً
أي�ضا
ولكنه يف ال�صعيد..
قلت له :ال لن �أ�سافر لل�صعيد� ..أريد �أقرب �أحد ممكن..
92
قابلنا «�أمني» الذي كان ودودًا للغاية� ..أبدى �أ�سفه ملا يحدث واتفقنا
على �أن ي�أخذ لنا موعدً ا مع ال�شيخ (راجي) يف قريته التي تبعد عن
اجلامعة حوايل �أربعني دقيقة� ..أف�ضل لنا من ال�سفر لل�صعيد وت�ضييع
الوقت..
ويف اليوم التايل كان املوعد ..تقابلنا يف اجلامعة ثم انطلقنا �إىل
رجل متو�سطحيث ي�سكن ال�شيخ راجي يف القرية ..كان ال�شيخ راجي ً
الطول� ..أ�سمر الب�شرة� ..أ�صلع ..يرتدي جلبا ًبا ويجل�س يف �ساحة
بجوار بيته الريفي اجلميل ..كان يجل�س وبجواره حو�ض ماء كبري..
طوله حوايل مرتين ون�صف �أو ثالثة �أمتار ..و�شبه ممتلئ باملياه ..كان
الزحام �شديدً ا على جمل�سه مبن ي�شكون من الأعمال وال�سحر وم�س
اجلن ..عندما و�صلنا كان يتعامل مع حالة ال �أكاد �أن�ساها..
كانت فتاة �شابة حديثة الزواج ..كانت تلب�س ف�ستا ًنا �أبي�ض وعلى
�صدرها جنمة �سدا�سية ف�ضية كبرية جدً ا ..مل �أر �أحدً ا من قبل يرتدي
جنمة بهذا احلجم� ..إنه احلجم الذي يعلق على احلوائط ولي�س على
ال�صدور� ..إنه رمز ديني يهودي معروف با�سم جنمة داوود ..ويقف
بجوارها زوجها� ..شاب يافع يبدو عليه الإرهاق ..فوجهه عليه �آثار
�ضرب مربح ..و�آثار جروح تبدو �أنها بفعل �أظافر زوجته ..ومالب�سه
ممزقة ك�أنه كان يف �شجار عنيف وجل�س يحكي ق�صتهما..
قال :تزوجنا منذ ثالثة �أ�شهر ..ومل �أدخل بها حتى الآن ..كلما
اقرتبت منها ظهر عليها ذلك الكيان الذي يتلب�سها ..وت�ضربني �ضر ًبا
93
�شديدً ا حتى �أفقد وعيي ..ثم تدخل احلمام وتغلق الباب على نف�سها
وي�ستمر هو يف �ضربها �إىل �أن ُتنهك قواها فتخرج..
لقد �أجربها على بيع كل ما متلك من الذهب لت�شرتي تلك النجمة
الكبرية وتعلقها على �صدرها ليل نهار ..رغم �أننا م�سلمون..
قال لها ال�شيخ راجي :اجل�سي هنا �أمامي..
فجل�ست..
ف�أم�سك ال�شيخ راجي ع�صا �صغرية جدً ا ال تتعدى خم�س ع�شرة
بو�صة ..و�ضربها �ضربات خفيفة على ذراعها وهو يتحدث ..ولكن
الفتاة كانت ترتعد ك�أنه ي�ضربها ب�سياط من نار.
كان يقول� :أ�شموداي اللعني� ..أنت مرة �أخرى؟ �أمل �أحذرك �أن
تقرتب من �أج�ساد بنات الإن�س؟ �أكل عام؟ �أال يحلو لك �إال الأبكار
بالذات؟
فنطق �صوت حاد على ل�سان الفتاة ً
قائل� :أنا حر ..هي يل ولن
تكون لغريي ..هي زوجتي �أنا..
فقال له راجي :اخر�س �أيها النج�س ..عندما �أتكلم تخر�س �أنت وال
تتكلم �إال عندما �آمرك بالكالم ..اخرج الآن وال ترجع لها و�إال قطعت
رقبتك..
فهم ال�صوت �أن يقول :ال........
94
ولكن ال�شيخ راجي كان �أ�سرع ..ف�أم�سك بالفتاة بيد واحدة وهو
جال�س و�ألقى بها يف حو�ض املياه يف حلظة ..وبال �أي جمهود ..وعاد
ينف�ض مالب�سه يف هدوء..
فزع النا�س مما حدث ..بينما كانت الفتاة تغو�ص وتطفو..ت�صرخ
وتت�شنج ..تخرج يديها من املاء ك�أمنا ت�ستنجد ..ثم تعيدهما بقوة �إيل
املاء ك�أمنا ي�سحبهما �أحد ..كانت تتقلب ظهر ًا لبطن عندما هم زوجها
ليدركها فقال له ال�شيخ راجي :اتركها ال تخف ..كل �شيء �سيكون على
ما يرام ..هذا من اجلن العا�شق� ..إنه �شيطان عرباين� ..أنا �أعرفه
و�أخرجته من غريها قبل ذلك مرتني..
فقال الزوج� :أيعني هذا �أننا ل�سنا م�سحورين؟
فقال راجي :ال ..ال ..هو يحبها ويريدها لنف�سه ..احر�ص فقط على
�أال تخلع مالب�سها وتكرث من النظر يف املر�آة مرة �أخرى ..واجعلها تدمي
الذكر يف ال�صباح وامل�ساء ..فالذكر يعمي ال�شياطني عن عورات بني
الإن�س..
ه�ؤالء ينظرون �إىل عورات الإن�س ف�إذا �أحبوه ف�إنهم يفعلون به كما
يفعلون بزوجتك ..و�أحيا ًنا يكون بينهما الولد ..ه�ؤالء �أعطوا العهد
�إىل النبي �سليمان فلم ي�سجنهم عندما �سجن ال�شياطني ..ولكنهم بعد
موته �أخلفوا عهدهم..
�ستباحا من اجلن بهذا
فقال الزوج :هل ميكن �أن يكون الإن�س ُم ً
ال�شكل؟
95
فقال راجي :ال بالعك�س هناك جدار ثقيل بني العوامل بع�ضها
البع�ض ..ولكن هناك بوابات تنفتح بينها ..بوابات يفتحها ال�سحرة
بالطقو�س والعزائم ..وبوابات تفتح بالطال�سم ..وبوابات يفتحها
النا�س بحماقة وعدم معرفة ..وطرق �أخرى كثرية ..واجلن العا�شق
يتخذ املرايا �أحيا ًنا ولي�س دائ ًما بوابات للنفاذ �إىل عامل الإن�س ..فال
ُتطل النظر �إىل املر�آة..
بينما كانوا يتكلمون الحظ اجلميع �أن حركة الفتاة قد هد�أت فج�أة
وك�أمنا قد غرقت ..فقام ال�شيخ راجي يف حلظة بجر الفتاة خارج
احلو�ض و�ألقى بها على الأر�ض ..ف�إذا بالنجمة التي على �صدرها
متاما ..ثم �أخرج من جيبه �آلة حادة ..وقام ب�ضرب الفتاةمتفحمة ً
يف �إ�صبع قدمها الإبهام من �أ�سفل ..فخرجت نقطة دم واحدة �سوداء..
م�سحها مبنديل وقال لها :حمدً ا هلل على �سالمتك..
ذكرين ذلك مبا حدث مع راندا يف تلك الليلة البعيدة ..و�أخذت
�أجتول يف ذاكرتي بني �أحداثها حتى مل �أدرك �أن «�أمني» ي�شدين لنجل�س
�أمام ال�شيخ راجي لنعر�ض عليه ال�شكوى..
�سمع ال�شيخ ما جرى لنا ..ثم �أطال النظر والتفكر وهز ر�أ�سه مرا ًرا
وك�أنه ي�ستمع �إىل �أحد ما يحدثه ..كان كث ًريا ما يذكرين بال�شيخ �سابق..
ثم قال ال�شيخ راجي :لي�س عندك �شيء� ..أنت ل�ست م�سحو ًرا
وما عندك يف ال�سكن رمبا هو من �آثار طقو�س �سحر حدثت يف هذه
96
الغرفة ..ن�صيحة اتركها ..وال ت�ضيع وقتك حتى يف تطهريها� ..إنها
لي�ست بيتك لرتهق نف�سك بال داعي..
يل يف �شفقة وا�ضحة وقال :احذر يا ولدي ..فهناك �شيء ثم نظر �إ ّ
مفتوحا
ً غام�ض حولك ..فح�صن نف�سك بالذكر ..و�إذا �صادفت با ًبا
بني العوامل فال تعربه ..فطريق العودة الوحيد هو الدم..
مل �أفهم تلك الن�صيحة ..و�إن كانت قد �أثارت خماويف� ..إال �أين مل
�أطل الكالم ..ومل �أ�س�أل ..قمنا من عنده م�سرعني وعدنا وقد �أخذت
قراري ب�أن �أترك �أنا و�أ�صدقائي الغرفة..
عندما عدنا ذهبت �إىل �أحد املقاهي كي �أ�سرتيح ً
قليل من ال�سفر..
كنت يف الواقع �أهرب من الذهاب �إىل تلك الغرفة ..جل�ست �أ�شرب
قهوتي و�أبحث يف هاتفي على الإنرتنت عن �أي �شيء له عالقة بال�سحر..
فوجدت مقط ًعا ل�ساحر تائب ..كان يتكلم فيه عن الأعمال وال�سحر
والطل�سمات ..وكان من بني ما جاء فيه �أنه ا�ستعر�ض طل�س ًما ُي�سمى
خامت داوود� ..إنه النجمة ال�سدا�سية اليهودية امل�شهورة ..وطل�س ًما
ا�سمه خامت �سليمان وطل�س ًما ا�سمه خامت يعقوب ..و�آخر ا�سمه خامت
�أ�صحاب الكهف ..هذه الطل�سمات �أ�سماها اجلن خوامت ..و�أل�صقوها
ب�أ�سماء الأنبياء كي يخدعون بها النا�س فرتتديها ترب ًكا وثقة يف
الأنبياء ..واحلق �أنها طال�سم و�شفرات تعمل كمفاتيح للبوابات بني
عاملي ال�شياطني والإن�س ..وا�ستعر�ض طل�س ًما يعمل ك�شفرة لإناث اجلن
�إنه (خامت بنت �إبلي�س) ..و......
97
ً
مهل هذا الطل�سم لإناث اجلن......
�إنه جدول ح�سابي..
�أنا �أعرف هذا اجلدول� ..إنه.....
يا ربي كان ال�شيخ راجي حم ًقا ..يجب �أن �أرى الر�سوم على احلائط
يف الغرفة فو ًرا..
م�سرعا �إىل الغرفة ..مل يكن طارق �أو كرمي متواجدين بها..
ً قمت
كانت باردة كئيبة فارغة مظلمة برغم ال�ضوء ..توجهت فو ًرا �إىل
ً
جدول ح�ساب ًيا مكتو ًبا بالقلم احلائط املواجه لفرا�شي ..كان عليه
الأزرق ..ر�أيته من اليوم الأول لدخويل الغرفة ومتددي على ذلك
الفرا�ش وظننته من كان قبلنا هنا كان ي�ستذكر درو�سه وي�شرح لنف�سه..
يا �إلهي �إنه نف�س اجلدول ..ت�سع خانات جمموع كل ثالث يف �أي
اجتاه هو ..١٥جمموع اخلانات الر�أ�سية ١٥والأفقية ١٥واملائلة ١٥
كما و�صفها ال�ساحر املحنك� ..إنه �شفرة بنت �إبلي�س..
تتبعت بقية الر�سوم على احلائط ..ما هذا؟ �إن معظم ما هو على
اجلدار طال�سم ..فهذا خامت داوود ..وهذا خامت يعقوب ..وهذا خامت
�سليمان ..واجلدول مكتوب على �أكرث من جدار ..وهناك طل�س ًما على
الباب ..وفوق املن�ضدة........
فلمعت يف عقلي فج�أة فكرة غريبة� ..أغلقت جميع النوافذ ونور
م�صباح الغرفة ف�أظلمت ..ومل يبق �إال ال�ضوء الداخل من ثقوب الطالء
يف النوافذ..
98
يا ربي مل �أكره من قبل �أن �أكون حم ًقا �إىل هذا احلد..
�إن ال�ضوء النافذ من ثقب الطالء ي�سقط مبا�شرة على الطل�سم
اجلدول فوق املن�ضدة حيث ظهرت املر�أة لنا ..والنافذة الأخرى ي�سقط
منها ال�ضوء على طل�سم غريب على الباب حيث كان ر�أ�س الرجل املمدد
على الأر�ض� ..إن الثقوب نف�سها تر�سم وج ًها �شيطان ًيا على الزجاج
يظهر ك�صورة �سلبية فوق الطل�سمات على اجلدران..
�شعرت وقتها �أن ج�سدي يق�شعر و�أح�س�ست بربودة غريبة و�شديدة
يف اجلو ..ثم �شعرت بدوار عنيف ورائحة ت�شبه العفن �أو الرطوبة..
ومل �أمتالك نف�سي من الرعب الذي اجتاحني ف�سقطت على الأر�ض..
hhh
101
-ماذا؟ احلاج طاهر تويف؟ متى؟
-منذ قرابة ال�شهر.
-البقاء هلل� ..س�آتي لزيارتك يف امل�ساء هل عندك مانع؟
ً �-
أهل بك يف �أي وقت..
ذهبت لها يف امل�ساء وطرقت الباب ففتح زوجها ر�ؤوف وقد ظهر
عليه الإعياء وك�أنه قد �أ�صبح يف ال�ستني من عمره..
ً �-
أهل يا مازن تف�ضل.
دخلت فوجدت راندا جال�سة على مقعد قد ظهر عليها احلزن
فجعلها تبدو �أكرب من �سنها ب�سننيُ ..ترك ذراعها ببطء لتتناول ما
تريده من حولها ..ال �أدري ما هذا� ..أيفعل بهما احلزن على احلاج
طاهر كل هذا� ..أم �أن هناك �أم ًرا ً
غام�ضا ال �أعلمه؟
قلت :البقاء هلل لقد �أحزنني موت احلاج طاهر ..و�أعتذر عن
ً
من�شغل فهو عامي الأخري وال�ضغط الت�أخري فقد كنت يف اجلامعة
�شديد جدً ا والوقت مزدحم ال يكفي لأي �شيء..
قالت :ال عليك املهم �أن تكون بخري.
قلت لها :كيف حدث هذا هل كان ً
مري�ضا؟
فقالت :ال �إنه حادث حريق ..وما زلنا ال نعلم �سببه حتى الآن..
التحقيقات املبد�أية ترجح �أنه كان هناك �شيء مثل عود ثقاب �أو �شمعة
102
ً
مثل �سقطت و�أم�سكت نريانها يف ال�سجاد وال�ستائر وانت�شر احلريق يف
البيت ولكن التحقيق مل ينته بعد..
قلت :ال حول وال قوة �إال باهلل ..رحمه اهلل رحمة وا�سعة ..هو من
ال�شهداء �إن �شاء اهلل..
�إذن وكيف حالكما هل احلزن هو ما �أثر على �صحتكما هكذا؟ لقد
خ�سر الأ�ستاذ ر�ؤوف من وزنه كث ًريا ..و�شعره قد غلب ُ
بيا�ضه �سوا َده..
وعينه �شديدة احلمرة ..و�أنت �أراك تتحاملني على نف�سك لتتكلمي �أو
تتناويل �شي ًئا..
قالت :ال لي�س ب�سبب احلزن ..ف�أبي مات بعد �أن �أ�صابنا ما
�أ�صابنا� ..أما ر�ؤوف فقد �أ�صابه داء الهزال منذ �شهرين ..ونرجح �أنه
داء ال�سكر ..لكنه مل يجد وقتًا للك�شف والفحو�ص الطبية ..و�أما �أنا
فقد �أ�صابني ال�شلل..
علي هذا الكالم كال�صاعقة ..مل �أدر ما �أقول لهما ومل �أمتالك
نزل ّ
عيني ف�سقطت مني دمعة رحمة بهما..
قلت :وما �أخبار الأوالد؟
قالت :احلمد هلل �إنهم بخري..
مل �أُطل البقاء عندهما بعد ذلك ..عدت �إىل منزيل و�أنا مت�أمل..
كنت �أريد �أن �أ�ستلهم منهما القوة ملا �أواجه ولكن وجدتهما على �أ�سو�أ
حال..
hhh
103
عدت �أنا و�أ�صدقائي للجامعة ..التقينا لنبحث عن م�سكن ..ق�ضينا
كامل نبحث فيه عن �شقة �صغرية بال فائدة ..يف �آخر الليل كان يوما ًً
هناك �سم�سار �أخري علينا �أن نقابله ..ترددنا كث ًريا ثم ذهبنا وقابلناه..
كان احلاج زين ال�سم�سار من �أقدم ال�سما�سرة يف املدينة ..كان يف
اخلام�سة وال�ستني من العمر ..وقد �أم�ضى عمره يف هذا العمل ..قابلنا
يف مقهى �شعبي و�أخذ يتجاذب معنا حدي ًثا ود ًيا..
احلاج زين :هل لكم كثري من الوقت تبحثون؟ يبدو عليكم الإرهاق.
�صباحا نبحث بال جدوى..
�أنا :نحن منذ التا�سعة ً
-وهل م�ضى عليكم كل ذلك الوقت منذ بدء العام الدرا�سي و�أنتم
بال �سكن؟
-ال ،نحن ن�سكن يف املدينة اجلامعية ولكننا نريد تركها فهي غري
مريحة.
قال با�ستنكار :غري �صحيح ..املدينة اجلامعية يف بلدنا من �أف�ضل
ي�ش ُك �أحد منها قط.
ما ميكن ومل ْ
-هذا ما حدث يا حاج.
-يا بني ال تغ�ضب� ..أنا مثل والدك� ..صارحني ..ما هي �شكواك
احلقيقية؟
-ب�صراحة هي م�سكونة.
104
-م�سكونة؟ كيف؟
فق�ص�صت له الق�صة كاملة وقلت له ما وجدناه ..و�أن �آخر من �سكن
هذه الغرفة قبلنا هو من ت�سبب يف لعنها ..قال :وما ا�سمه هذا الفاجر؟
قلت له :ال �أذكر وال يهم حتى ..ما الذي �سنفعله لقد �سكنها منذ
ثالث �سنوات ومل ُتفتح بعده ..حتى �أ�صبحت خرا ًبا.
قال كرمي� :أنا �أذكر ا�سمه ..ا�سمه عاكف اجلوهري ..لقد �س�ألت
امل�شرف عنه منذ الأ�سبوع الأول.
ف�ضحك احلاج زين �ضحكة عالية �ساخرة وقال :هل �أنت مت�أكد؟
قال كرمي :نعم.
قال :عاكف اجلوهري �ساحر؟ �أنتم مل تقابلوه �إذن؟
قلنا له :كيف نقابله؟ لقد ذهب منذ ثالث �سنوات وم�ؤكد �أنه عاد
�إىل بلده..
قال :عاكف اجلوهري هنا يف املدينة وهو طبيب �أمرا�ض نف�سية
يعمل يف امل�ست�شفى العام ..و�أنا من وفرت له ال�شقة التي ي�سكنها الآن..
وتقي يعرف اهلل ..وال ميكن �أن تكون
وهو �صديق عزيز ورجل طيبّ ..
له عالقة بال�سحر..
فقلت له� :أرجوك �أعطني هاتفه �أو �صلني به..
فقال :بكل �سرور.
105
على الفور كلم احلاج زين الدكتور عاكف.
و�س�أله مبا�شرة :يا دكتور عاكف هل كنت يف املدينة اجلامعية منذ
ثالث �سنوات؟
-نعم.
-هل كنت ت�سكن غرفة رقمها ٤٤٩؟
-نعم وكيف عرفت؟
� -سكان الغرفة هذا العام معي الآن هنا ويريدون مقابلتك..
-ملاذا ما الأمر؟
-عندما نلتقي �سنحكي لك.
� -إذن بعد �ساعة �س�أنهي ورديتي و�أقابلكم يف املقهى الذي جتل�سون
فيه.
� -شك ًرا يا دكتور..
ثم �أغلق الهاتف وقال� :أمل �أقل لكم �إنه رجل طيب جدً ا؟ �سي�أتي
بنف�سه �إليكم..
مرت ال�ساعة ك�أنها �سنة حتى ح�ضر الدكتور عاكف ..رجل هادئ
املالمح مريح الوجه ..ب�شو�ش ..خفيف الظل على عك�س ما توقعنا �أن
نراه من �ساحر ..مل يكد ي�سمع ما نعانيه حتى �ضحك من قلبه �ضحكة
�أثارت ا�ستياءنا.
106
قال� :أعتذر لكم و�أقدر معاناتكم ..ولكن ما ر�أيتموه ال عالقة له
بالغرفة ..وال �صلة له مبا على اجلدران ..فعندما �سكنت بالغرفة كانت
هذه الكتابات موجودة على احلائط ومل تكن هناك م�شكلة وع�شت بها
وال �شيء من �شكواكم حدث يل.
قلت له� :أهي �صدفة �أن توجد طال�سم ون�شاهد كيانات غريبة
تطاردنا؟
قال� :أنا ال �أنكر ما ر�أيتموه ..ولكن بالفعل لي�س له �صلة بالكتابات
على اجلدران ..الطال�سم ال تعمل بهذا ال�شكل ..الطال�سم هي و�سائل
ال�ستح�ضار اجلن ولكن لي�ست مبجرد كتابتها ُت�ستح�ضر اجلن ..ال بد
من طقو�س وعزائم وبخور وحتري �أوقات حمددة ..و�أ�شياء �أخرى..
قلت له :ح�س ًنا لعل بقية الطقو�س قد متت من قبل ففتحت باب
الدخول ..ومل يتم �صرف ما ح�ضر من الأرواح..
يوما يف هذه
أعان ً
قال :رمبا ولكن هذا مل يحدث و�أنا فيها� ..أنا مل � ِ
الغرفة.
قلت :ومب تف�سر عدم رغبتهم يف �إ�سكاننا فيها يف البداية �إال
مبوافقتنا.
قال :ال �أعرف ولكني �أعتقد لأنها كثرية النوافذ فهي غري مريحة
يف النوم وال�ضوء وال�ضو�ضاء يدخالنها ليل نهار ..ومن ي�سكنها دائ ًما
ما يكرث ال�شكوى ..ويقدم الطلبات لتغيري ال�سكن� ..إن ُ�سكناها مزعج
بالن�سبة لهم جدً ا ..هذا ما عندي واهلل �أعلم..
107
انتهت هذه املقابلة و�أنا على يقني �أن «عاكف» هذا هو من وراء
الق�صة و�إنكاره كان مبثابة الت�أكيد يل على ذلك ..ولكن ماذا �سنفعل؟
ال �شيء ..ال بد �أن نرتكها على كل حال..
hhh
h
108
)(8
109
عدت �إىل املنزل وتناولت الطعام ..وبعدما �أخذت قيلولة الغداء..
قمت لأبد�أ يف تعليق �شماعات املالب�س تلك ..ولكني فوجئت ب�أن
رفيقي دق
ّ الأماكن التي اتفقنا عليها للتعليق بها �أثر ..يبدو �أن �أحد
م�سما ًرا بالفعل يف اجلدار حتى �إنه �أ�سقط جز ًءا من طالء احلائط
رفيقي..
ّ وبيا�ضه على الأر�ض من �أثر الطرق ..ناديت على
�أنا :من منكما دق تلك امل�سامري؟ لقد ت�شوه اجلدار بال داعي.
قال طارق� :أنا مل �أدق �شي ًئا ..ولي�س معي مطرقة وال م�سامري حتى.
ورد كرمي� :إنه �أنت يا مازن من تعهد بتثبيت ال�شماعات..
قلت لهما� :أنا مل �أفعل �أي �شيء� ..أنا هممت �أن �أبد�أ الآن فوجدت
هذا الأثر ..هل ر�أيتماه من قبل؟
قالوا :ال ..فال�شقة جديدة وجتهيزها حديث ..ومل ي�سكن قبلنا
�أحد..
قلت :فكيف ذلك؟ �إن الأثر يف نف�س املكان الذي �أ�شرتُ �إليه يف
ال�صباح ..وكذلك يف احلمام وبجوار الباب� ..إنه �أثر م�سمار مت دقه ثم
خلعه ..يف مكان دقيق جدً ا مقارنة مبا �أ�شرت �إليه بيدي هذا ال�صباح..
قال كرمي بقلق :ماذا تق�صد؟
110
قلت وقد بدا على �صوتي الإحباط� :أق�صد �أننا مل يكن معنا رابع..
واتفقنا على و�ضع م�سامري يف مكان بعينه ..فوجدنا �أثر دق م�سامري يف
نف�س املكان بعدها ب�ساعات ..حتى لو دخل �أحد هذا املنزل يف غيابنا
ف�أ ّنى له �أن يعرف ما اتفقنا عليه ويحدد مكانه بدقة ..وهذا لي�س له
�سوى معنى واحد.
�صرخ طارق :اللعنة ..اللعنة على ذلك العفريت ..اللعنة على
عاكف ..اللعنة عليك يا مازن ..اللعنة على اجلميع..
قلت له :وما �ش�أين �أنا� ..أ�أنا �أح�ضرته هنا؟
علي ..نظر �إ ّ
يل نظرة حادة ..ثم ذهب �إىل الغرفة وارتدى مل يرد ّ
مالب�سه �سري ًعا وخرج..
وقف كرمي ً
حمبطا فاقد احليلة وقال يل :ماذا �سنفعل؟
hhh
جل�ست وكرمي نحاول �أن نلهي �أنف�سنا يف �أي �شيء لنتلهى عن الأفكار
التي تع�صف بعقل كل منا ..كنا نلعب الورق قبل �أن ن�سمع �صوت طرق
�شديد على الباب ..ظننته «طارق» ..فقمت لأفتح فلم �أجد �أحدً ا..
�أوج�ست يف نف�سي خيفة ..دخلت فوجدت «كرمي» ينظر يل يف ذهول
111
وقبل �أن يهم بالكالم �سمعنا نف�س الطرق على باب احلمام ..جرينا
�إىل احلمام ..ف�سمعنا الطرق على باب غرفة النوم ..فوقفنا حائرين..
ف�صرخت ب�صوت مرتفع :اذهب �إىل اجلحيم �أيها امللعون� ..أتظن
�أنك �ستحول حياتنا �إىل جنون ب�أفعالك ..لن �أ�سمح لك� ..س�أ........
قطع كالمي ذلك ال�شيء الذي ر�أيته فج�أة يقفز يف ال�صالة..
�إنه �ضفدع..
وقفت �أنظر �إليه يف تعجب ..بينما حترك كرمي ب�سرعة ليم�سكه..
فقفز �إىل داخل الغرفة ..فدخل كرمي �سع ًيا خلفه..
ف�سمعته ي�صرخ :ماااااازن ..تعال ااااا..
دخلت فوجدت ثعبا ًنا كب ًريا يلتهم ال�ضفدع ثم نظر �إلينا وارتفع
بر�أ�سه وج�سمه حتى �أ�صبح يف طول �أج�سامنا..
فتحركنا للخلف ..و�أ�شرت �إىل كرمي �أن حترك بهدوء ودون �صوت
حتى نخرج من الغرفة ..وما �إن و�صلنا �إىل الباب حتى حتركنا للخارج
ب�سرعة ..و�أغلقنا الباب ..ونزلنا م�سرعني من ال�شقة ..كان �أول �شيء
نفكر فيه هو �شخ�ص متخ�ص�ص يف الأفاعي حتى يخل�صنا من ذلك
ال�شيء املحبو�س يف الغرفة..
112
ثالث �ساعات من البحث عن ذلك ال�شخ�ص حتى عرثنا عليه..
م�صطفى ..ذلك الرفاعي الكبري الذي يعرفه النا�س يف قرية بجانب
املدينة ..رجل �أ�سمر ق�صري فيه �شيء من البدانة ..ق�صري ال�شعر
�أ�سوده ..جهوري ال�صوت تبدو عليه هيئة الوجاهة القروية برغم كونه
فالحا �شديد الب�ساطة� ..أخربناه اخلرب ثم ا�صطحبناه �إىل البيت..
ً
ولأكرث من �ساعة ظل م�صطفى يبحث عن ذلك الثعبان بال فائدة..
م�صطفى :يبدو �أنه ال يوجد ثعبان هنا..
قلت :لعله ذهب و�سوف يعود.
قال :ال ..ال يوجد جحر له يف البيت ..البيت �أثاثه ب�سيط و�أركانه
مك�شوفة ..ال يوجد جحر ..ف�إما �أن هذا الثعبان جاء يبحث عن �شيء
ولن يعود� ..أو �أنه يف الأ�سا�س لي�س ثعبا ًنا.
قلت له :كيف؟
قال :رمبا جن من عوامر البيت ..فاجلن العوامر يت�شكل ب�شكل
الثعابني كث ًريا..
قال هذا الكالم ونظر �إلينا وك�أنه يعرف كل �شيء..
فقلت له :رمبا فنحن نعاين من مطاردة منذ مدة..
احك يل.
فقالِ :
113
�أخربته باخت�صار ما مررنا به.
�شخ�صا قد يفيدك يف مثل هذا ً م�صطفى :ا�سمع� ..أنا �أعرف
الكالم ..تعالوا معي ..رمبا يكون عنده حل �أو ن�صيحة على الأقل� ..إنه
احلاج �إبراهيم..
فوافقنا وخرجنا معه على الفور..
ذهبنا �إىل احلاج �إبراهيم يف بيته ..رجل م�سن �أبي�ض ال�شعر
واللحية ..قمحي الب�شرة عايل البطن ..يرتدي خا ًمتا كب ًريا يف يده
اليمنى و�آخر مثله يف الي�سرى ..بيته متوا�ضع يف الطابق الأر�ضي ويبدو
رجل وامر�أة يخرجان من عنده عليه �أن النا�س تق�صده كث ًريا ..قابلنا ً
يبدو �أنهما كانا على موعد معه � ً
أي�ضا ..قابل م�صطفى ُم َر ّح ًبا ..ونظر
�إلينا نظرة مت�سائلة..
فبادره م�صطفى :معي �أ�صدقاء يريدون امل�شورة..
ق�ص�صنا عليه ما ر�أينا فقال� :أرى �أن ثعبانكم هو جن ..ولكن ال
ب�أ�س من �أن ن�س�أل الرمل ف�سنجد عنده اجلواب لنعرف حتى ما �س ُّر كل
ما يحدث ..وهل هو عاكف �أم �أن الأمر �أبعد من ذلك؟
فقلت له :الرمل؟ ال �أنا ال �أريد ذلك� ..أنا ال �أ�ؤمن بهذه الأ�شياء..
ولن �أ�ست�شري الرمل �إمنا جئنا لطلب م�شورتك ..ومل �أطلب غري ذلك
وقد �أ�شرت علينا بر�أيك �شك ًرا لك..
114
فقال م�صطفىً :
مهل يا مازن �إمنا هو يريد امل�ساعدة..
فقلت� :أعرف ..ولكن �أنا ال �أريد الرمل وال تلك الكهانات� ..أنا
�أ�صلي وال �أريد �شبهة تبطل �أعمايل..
�شعرت �أن �إبراهيم قد ا�ستاء من كالمي..
قال :هل تظن �أين دجال �أو �أمار�س ال�شعوذة؟ ما �أحدثك عنه هي
علوم جليلة..
علوما جليلة لوجدتها تنت�شر وت�صنع يف العلن وال متار�س
-لو كانت ً
�س ًرا خلف الأبواب املغلقة..
-جرب � ًأول ثم احكم بنف�سك �أهو �سحر �أم علم جليل..
كانت الظروف التي مررت بها تع�صر ذهني وت�شتتني يف كل اجتاه..
ً
احتمال ولو واحد باملئة �أن ال يكون هناك ُكفر �شعرت �أنه لو �أن هناك
يف الأمر فال يجب �أن �أفوت الفر�صة لأعرف احلقيقة� ..أو رمبا هكذا
خدعت نف�سي لأروي ف�ضويل حول �س�ؤال الرمل هذا ..مطمئ ًنا نف�سي
�أنه لي�س بكفر..
-ح�س ًنا ميكن �أن �أرى و�أحكم.
-تعال معي ..وال ت�أت �أنت يا م�صطفى وال كرمي..
115
قام ف�أدخلني حجرة �صغرية لي�س بها �سوى من�ضدة ومر�آة
ومقعدين وجمموعة ُ�س ُت على اجلدران وركن به مكتبة كتب قدمية..
تلك احلجرة لها بابان دخلت من الأول ثم اجتزنا الغرفة ً
و�صول للباب
الثاين ..فتحه فوجدت ُ�سل ًما يقود �إىل �أ�سفل ..ع�شر درجات لأ�سفل ثم
م�ساحة مظلمة مل �أتبني معاملها ..اجتزناها �إىل م�ساحة �أخرى خلف
�ستار دخلتها ف�شعرت �أين �أحيا جز ًءا من �أ�سطورة� ..إنها حرف ًيا ت�شبه
كهوف الأ�ساطري ..فاجلدران �صخرية متعرجة بها �أجزاء ناتئة و�أجزاء
منتفخة و�أخرى غائرة ..اجلدران يف عمومها رمادية متداخل معها
لون �أ�سود ..ك�أن هذا اجلزء من البيت حمفور يف جبل ..يف اجلدار
�أكرث من كوة موزعة على اجلدران الثالثة بكل كوة �شمعة ق�صرية
قطرها ال يقل عن �أربع بو�صات ..ت�ضيء ب�شكل جيد ..ويف منت�صف
الغرفة من�ضدة م�ستديرة خ�شبها قدمي وك�أنها ُ�صنعت من �ألف عام..
وعلى املن�ضدة �شمعتان ..وحمفور يف �أحد اجلدران �أرفف عليها كتب
خمطوطة لي�ست مطبوعة ..يبدو �أنها كتب �أثرية من مئات ال�سنني..
ولفائف خمطوطات ..ال �شيء يف هذه الغرفة ُ�صنع يف الع�صر احلديث
�أبدً ا..
�أوقفني عند املن�ضدة حيث ال مقعد يف تلك الغرفة ..و�أ�ضاء
ً
خمطوطا ..مل يكن ال�شمعتني ..وذهب �إىل �أحد الأرفف وحمل كتا ًبا
جمرد كتاب ..بدا �أنه �سفر من �أمهات الكتب ..ثقيل �ضخم ت�شبه �أوراقه
�أوراق الربدي ..و�أتى بقطعة رخام وفحم وبخور من فوق �أحد الرفوف
و�أ�شعل البخور وو�ضع الكتاب �أمامي وقال :تعامل �أنت مع الكتاب..
قلت :ال �أفهم ماذا �أ�صنع؟
116
-كل �شيء مكتوب يف الكتاب ولكن التزم مبا هو مكتوب..
قال ذلك ثم التفت وخرج من الغرفة يف حلظة.
نظرت �إىل ذلك ال�سفر ال�ضخم فوجدته مكتو ًبا بلغة عربية وقد
ُكتب عليه بخط يد كبري ووا�ضح باللون الأحمر:
((كتاب الطالع الفلكي والرملي))
هذا الكتاب هو خال�صة ما و�صل �إىل �أيدينا من:
كتاب اله�شتمرج الهندي
كتاب الربيدج الفار�سي
علم �سر العدد العربي
علم النقطة من الرمل ال�شريف
هذا الكتاب دائري مت�صل �أوله ب�آخره يف احل�ساب
الفلكي� ..أي لي�س له بداية وال نهاية
كان الكتاب يف يدي له ت�أثري �آخر� ..شعرت ب�سحر رهيب�َ ..س َح َر
عقلي ..و�أثار ف�ضويل �أكرث و�أكرث� ..شعرت �أنه ال ب�أ�س من التجربة..
�س�أطرح �س� ًؤال يف الكتاب وت�أتي الإجابة من الكتاب ..هذا كل ما يف
الأمر ..هو كاللعبة ال ا�ستعانة بجن وال انتظار لإخبارهم وال تدخلهم..
hhh
117
فتحت الكتاب ف�إذا مكتوب فيه بخط كبري:
"خط يف ورقة بي�ضاء ثالثة خطوط طويلة على �شكل ُ
نقاط ..بدون �أن تعد ..احذف النقاط اثنتي ع�شرة نقطة
اثنتي ع�شرة نقطة ..ما تبقى يف النهاية هو ما نطق به �سر
العدد ..احفظه جيدً ا واخرت ال�س�ؤال الذي تريد ا�ست�شارة
الفلك يف الإجابة عليه ..واحفظ احلرف املكتوب �أمامه فهو
مفتاح الإجابة ..اذهب �إىل ال�صفحة التي عنوانها احلرف
مفتاح الإجابة �ستكون هي بالن�سبة لك رقم ١وما يليها رقم
٢وقم بعد ال�صفحات بعدد نقاط �سر العدد ..ف�إذا و�صلت
لل�صفحة الأخرية قم بعد ال�سطور من �أول ال�صفحة بعدد
نقاط �سر العدد.
انرث الرماد على هذا ال�سطر الأخري واطرق ع�شر مرات
على الكتاب هناك فقط �ستجد الإجابة..
ولكن احذر� ..إذا بد�أت الطق�س فيجب �أن تكمله للنهاية..
وال ت�س�أل الطالع �أكرث من �س�ؤال واحد يف الليلة الواحدة..
ال تخطئ يف العد وال تقطع الطق�س مهما كانت الأ�سباب..
�إذا مل تلتزم بهذه ال�شروط ف�أن�صحك �أال تبد�أ �أبدً ا".
118
كان الكتاب بني يدي ورائحة البخور وجو الغرفة كل ذلك ي�ضعني
يف حالة نف�سية مت�أهبة لأي �شيء� ..شعرت �أن الأمر ب�سيط وطريقة
اال�ستخدام �سهلة و�سريعة ..ولكن �س� ًؤال واحدً ا ..فما هو ال�س�ؤال الذي
�س�أختار؟ قلبت ال�صفحة فوجدت ال�صفحة الأوىل ..باب احلياة ..اثني
ع�شر �س� ًؤال ..يف اثني ع�شر �سط ًرا ..ال�صفحة التالية باب املوت نف�س
ال�شيء كال�صفحة الأوىل ..ويليهما باب املال وباب العمل وباب الزواج
وباب الأبناء وباب ال�سعادة وباب الرزق وباب ال�صحة ..كل �صفحة
اثني ع�شر �سط ًرا ..كل �سطر �س�ؤال وعلى ر�أ�س كل �س�ؤال حرف هجاء
وهو مفتاح الإجابة ..نظرت حويل فوجدت ور ًقا �أبي�ض وقلمني ر�صا�ص
على رف خلفي ..تناولتهم وخططت اخلطوط الثالثة كل خط على
�سطر كامل يف الورقة ..ثم بد�أت بحذف النقاط ..وبقي يف النهاية
ت�سع نقاط..
هذا ما نطق به �سر العدد �إذن ..ت�سعة.
حتريت كث ًريا يف �أي باب �أ�س�أل و�أي �س�ؤال �أختار ..مل يخربين احلاج
�إبراهيم كيف �أح�صل على ال�س�ؤال املتعلق مبا �أعاين ..وال �أ�ستطيع �أن
�أخرج الآن لأ�س�أله ..فال ينبغي �أن �أقطع الطق�س.
�إذن ال بد يل �أن �أ�صل بنف�سي ملا �أريد..
ح�س ًنا ما الذي يهمني ب�شدة �أكرث لأ�س�أل فيه؟ هذه الفر�صة رمبا
لن ُتتح يل مرة �أخرى ..مل �أحتري �أكرث ..قلبت �سري ًعا يف الكتاب مرة
119
�أخرى وح�سمت �أمري واخرتت باب املوت ..كان ال�س�ؤال الذي اخرتته
هو
(كيف �س�أموت؟)
ذهبت �إىل مفتاح الإجابة وعددت ت�سع �صفحات ثم عددت ت�سعة
�سطور ..كانت ال�صفحة خالية من �أي كتابة� ..إال من م�سحوق �أ�سود
على ال�سطر التا�سع ..بقيت خطوة الرماد ..مل �أعرف �أي رماد ميكن
�أن �أنرثه ..نظرت حويل لعلي �أجد �إبراهيم لأ�س�أله ..مل �أجده ..ولكن
ا�صطدمت عيني بالفحم والبخور بجانبي الذي �أ�شعله قبل �أن مي�شي..
ح�س ًنا هذا هو الرماد ..ولكن �أي كمية يجب �أن �أنرث؟ �أخذت كل الكمية
املوجودة ونرثتها على ال�سطر التا�سع ..وطرقت الكتاب ع�شر مرات..
وكلما طرقت على الكتاب طرقة ..كان خليط امل�سحوق والرماد
انتظاما مع كل طرقة..
ً يتحرك على ال�سطر ويتخذ � ً
أ�شكال تبدو �أكرث
متاما مكو ًنا جملة ..كان هذا بالن�سبة
حتى الطرقة الأخرية ..انتظم ً
مفزعا ..ولكن لي�س �أكرث من اجلملة التي تكونت..
يل ً
متاما ال لب�س فيها:
كانت اجلملة وا�ضحة ً
"�ستموت وحيدًا خائ ًفا و�سيلطخ دمك الأر�ض واجلدار"
h
120
)(9
خرجت من عند �إبراهيم و�أنا م�أخوذ العقل ..مل �أكد �أ�سمع ما يدور
حويل وال �أذكر حتى �إن كنت �سلمت عليه قبل �أن �أخرج �أم �أين خرجت
من �سردابه ال�سري �إىل ال�شارع مبا�شرة ..كانت كلمات ذلك الكتاب
الغريب تدور يف ذهني..
�سر العدد ..الرمل ال�شريف ..باب املوت ..باب الرزق ..اله�شتمرج..
الربيدج� ..ستموت وحيدً ا� ..ستموت وحيدً ا� ..سيلطخ دمك الأر�ض
واجلدار ..دجل و�شعوذة ..كهف وبخور� ..ستموت وحيدً ا..
مل �أ�ستفق �إال و�أنا �أمام �سيارة ت�ضرب نفريها بعنف ورجل يطل
بر�أ�سه من نافذة ال�سيارة ً
موبخا يل ..وكرمي ي�شدين �إىل جانب
الطريق ..فقد كدت �أموت حتت �إطارات ال�سيارة من غياب وعيي..
121
كنت �شاردًا �إىل درجة �أين مل �أجد م�صطفى ..الذي �أح�ضرين وال بد
�أنه خرج معنا ..وال �أعرف �أين ذهب ..قلت لكرمي �أريد �أن �أذهب �إىل
البيت..
يف الثانية ع�شرة ً
ليل و�صلنا املنزل ..مل يكن طارق قد عاد بعد..
فدخلت غرفتي ومنت..
hhh
122
مل ترد ..ر�أيتها يف الظالم تهبط �إىل �أ�سفل ببطء..
م�سرعا وفتحت النور ونظرت حتت ال�سرير ..ولكن ال �شيء..
ً قمت
رفعت ر�أ�سي فر�أيتها تخرج من الغرفة..
خارجا من الغرفة ..فلم �أجد �أحدً ا ..بحثت يف كل مكان بال
عدوت ً
جدوى..
فذهبت لأغ�سل وجهي ..وتو�ض�أت وهممت �أن �أجل�س ً
قليل لأقر�أ
القر�آن ..ف�إذا بطارق يفتح الباب ويدخل..
طارق :ال�سالم عليكم.
قادما من اخللف :وعليكم ال�سالم �أين كنت يا طارق؟
كرمي ً
طارق :كنت مع بع�ض الأ�صدقاء يف املقهى ..مازن �أريد �أن �أحتدث
معك يف مو�ضوع..
كرمي :خري يا طارق؟
طارق� :أريد �أن �أتكلم مع مازن فيما و�صلنا له �أنا و�أنت.
كرمي :طارق ..لي�س هذا وقتًا منا�س ًبا.
طارق :بل هو الوقت الأن�سب ..يجب �أن يعرف احلقيقة.
قلت له :ما بك يا طارق ما الذي و�صلت له؟
123
قال طارق مبا�شرة :يا مازن �أنت �صديق عزيز ويجب �أن تذهب
ل�شيخ ما ..لأن كل الظواهر التي ن�شكو منها هي ب�سببك �أنت.
قلت :ماذا؟ �إننا نعاين من نف�س الأ�شياء م ًعا ..ر�أيناها جمي ًعا منذ
�سك ّنا تلك الغرفة� ..أم �أنني خمطئ؟
قال كرمي مرتددًا :لي�س بال�ضبط.
قلت م�ستنك ًرا :ماذا؟
قال طارق وك�أنه ي�صفعني �صفعة عنيفة :كل الظواهر ارتبطت
بوجودك ..ومل ن�شاهد �أي �شيء ونحن وحدنا ..دائ ًما ال بد �أن تكون
متواجدً ا ..وما �إن تخرج �أو تغيب �أو ت�سافر حتى يختفي كل �شيء ..هذه
املعاناة مرتبطة بك �أنت..
�شعرت بدوار خفيف ومل �أرد.
قال كرمي :يا مازن �أنت �صديقنا ولن نتخلى عنك ولكن يجب �أن
ت�سعى ل�شيخ ممن يعاجلون بالقر�آن لأنه يبدو �أن هذا ال�شيء مرتبط
بك �أنت.
حاولت �أن �أمللم �شتات �أفكاري ..نك�ست ر�أ�سي لأ�سفل وو�ضعت كفي
على وجهي وك�أين �أخبئ وجهي منهما ..وقلت :هذا كالم فارغ ..الغرفة
مليئة بالطال�سم ..وال�ضوء يعبث بها ..وعاكف كان �ساح ًرا ..وكانوا
يعرفون ذلك قبل �أن ن�سكن ومل يكونوا يريدون �إ�سكاننا بالغرفة لذلك..
124
كان كالمي يبدو مفك ًكا ..فلم �أكن �أ�ستطيع �أن �أفكر ..كنت �أحاول
�إثبات براءتي من املوقف ب�أي �شكل ..كان �صوتي مرجت ًفا ..كنت �أخ�شى
�صحيحا ..ورمبا كنت �أ�شك يف ذلك � ً
أي�ضا ولكني �أريد ً �أن يكون كالمهما
دفع هذه الأفكار بعيدً ا عني ب�أي �شكل ..فلم �أكن على ا�ستعداد ملواجهة
امل�شكلة وحدي بدون عون ..كما مل �أكن �أريد �أن �أ�شعر �أين �سبب م�شكلة
�صديقي و�سوء �أحوالهما ..ما �أ�سو�أ �أن �أكون �سب ًبا يف متاعب الآخرين..
ّ
لف ال�صمت تلك الغرفة دقائق حتى ك�سر ال�صمت رنني الهاتف..
�صباحا ..من �سيكلمني يف هذا الوقت؟
ما هذا؟ ال�ساعة الثالثة ً
�إنها ال�سيدة راندا ..هناك خطب ما �إذن..
�أنا :ال�سيدة راندا كيف حالك؟
ردت راندا متالحقة الأنفا�س وهي يف حالة فزع رهيبة :مازن كيف
�أنت ..اع ِنت بنف�سك جيدً ا ..نحن حتت هجوم عنيف..
قلت :ماذا تق�صدين؟
قالت :التحقيقات �أثبتت �أن �أبي مل يكن يف بيته حريق وال �شموع وال
�شيء ..وظهر �شاهدان كانا خمتبئني من يوم احلادث خو ًفا ..فقد كانا
ً
�صراخا �شديدً ا ميران بجوار البيت ليلة وفاة �أبي وقاال ب�أنهما �سمعا
مرع ًبا مل ي�سمعاه من قبل ..و�صوت حتطم زجاج و�أ�صوات ا�ستغاثة..
ومل يكن يف البيت زجاج مك�سور ..وال �سبب وا�ضح للحريق ..يا مازن
نحن حتت هجوم �أظن �أنه انتقام� ..إنه ال�شيطان نرجال مرة �أخرى.
125
كل من ح�ضر تلك الليلة اللعينة منذ �شهور يتعر�ض للهجوم� ..أنا
وزوجي كما ر�أيتنا ..و�أبي ..حتى نزار ..وال �أدري ب�ش�أنك ولكن يجب
وداعا يا �أخي..
�أن ت�أخذ حذرك ..ال �أحد يعلم ما ميكن �أن يحل بناً ..
كانت كلمات راندا مبثابة ال�صفعة التي �أيقظتني من كل الوهم..
نعم �إن الهجوم الذي ينتابنا كان ب�سببي ..هذا حقيقي ..كل
�صباحا� ..إنه موعد اجلل�سة..
ً الهجوم يحدث يف الثانية والن�صف
�صديقاي ال يهاجمان �إال و�أنا موجود� ..إنه يطاردين �أنا� ..إنه املارد
نرجال ..كان عاكف حم ًقا� ..إنه لي�س �ساح ًرا ..والطال�سم ال تعمل
بهذا ال�شكل الذي ظننته ..واجلن ي�سعى خلفي� ..صوت حتطم الزجاج
يف بيت احلاج طاهر �سمعناه يف تلك الليلة ..ذلك ال�شيطان مل ميت..
لقد عاد ..واتخذنا �أعداء له ..وهو الآن ينتقم ..لقد اتخذ املوعد الذي
حددناه للجل�سة موعدً ا لالنتقام� ..إنه يتحدانا باملوعد الذي حددناه
ب�أنف�سنا ..فجعله موعدً ا النتقامه ..دار كل ذلك يف ر�أ�سي للحظات..
وك�أنها حلظات �إماطة اللثام عن كل ما حدث..
لقد فهمت وليتني مل �أفعل ..ليتني ظللت على �ضاليل القدمي..
علي ب�شدة حتى �إين مل �أرد بكلمة على راندا التي �أنهت
زاد الدوار ّ
مكاملتها و�أغلقت اخلط� ..سقط الهاتف من يدي و�سقطت على الأر�ض
فاقدً ا الوعي..
hhh
126
مرت دقائق قبل �أن يعود �إ ّ
يل وعيي لأجد «طارق» و»كرمي» بجواري..
قلت لهما �أعتذر لكما عن كل �شيء ..مل �أكن �أعرف ومل �أق�صد �أن
�أت�سبب لكما يف فزع �أو رعب ..لقد كان خط�أي والآن فهمت.
قال كرمي :ال تعتذر واعلم �أين معك �أينما ذهبت ..وال خري يف هذه
الدنيا لو كنت يف حمنة وتخلى عنك الأ�صدقاء..
قلت له� :أنت ل�ست م�ضط ًرا لهذا ..اع ِنت بنف�سك وحياتك
وم�ستقبلك.
قال :ال تفقد الثقة هكذا ..وال ت�سعى لأن حتيا وحدك خو ًفا من
�إزعاج النا�س ..ال بد من معنى �أو قيمة نثق فيها حتى ت�ستقيم بنا
احلياة ..و�إن مل نثق �أن ال�صداقة �سوف تعطينا طوق جناة فلن تبقى
يف الدنيا ف�سحة �أمل �أو ملج�أ نلوذ به يف ال�ضيق� ..أنا معك يا �صديقي
فال تبتئ�س..
قال طارق :يا مازن رمبا يعرفك كرمي منذ زمن �أما �أنا فمعرفتي
بك قريبة ولكن لي�س هذا معناه �أن تعتذر ..ال تعتذر فقد ُخلقت
ال�صداقة لأجل هذا ..من يتحملك �إن مل يكن �صديقك ..من يدافع
عنك غري ال�صديق ..كيف نتخلى عنك ..ملاذا نحن �أ�صدقاء �إذن..
هل ال�صداقة من �أجل اللعب وال�ضحك يف الرخاء فقط ..ال�صداقة
هي �أن �أغيثك �إذا ا�ستغثت ..و�أنبهك �إذا غفلت ..و�أحملك �إذا عرثت..
و�أ�شد ع�ضدك �إذا �ضعفت ..ولن �أ�ضحك معك من قلبي يف ال�سراء
�إال �إذا كنت �س�أغيثك يف لهفتك بكل جوارحي ..و�أجندك من غري �أن
ت�ستنجدين..
127
قلت لهما� :شك ًرا لكما.
قال كرمي :حاول �أن تنام الآن لرتتاح ويف ال�صباح �سنذهب �إىل
�شيخ يفتينا يف الأمر� ..أعرف ً
�شيخا كب ًريا يف امل�سجد الكبري بامليدان
العام ي�أتيه النا�س من كل مكان لي�ستفتونه� ..سنذهب له..
hhh
مل �أمن طيلة الليل حتى ال�صباح ..كنت متع ًبا ولكن مل يعرف النوم
لعيني طري ًقا ..ويف ال�صباح توجهنا �إىل امل�سجد الكبري ..كان امل�سجد
فارغا �إال من عامل ينظف الأر�ض ..و�شيخ كبري جل�س �أمام حمراب ً
�شيخا كب ًريا م�س ًنا وقو ًرا تبدو عليه هيبة
امل�سجد يقر�أ القر�آن ..كان ً
معتدل ك�أنه �شاب فتي ..كان ً العلم ..حليته بي�ضاء طويلة ..يجل�س
�صوته بدي ًعا� ..أخذين ال�صوت اجلميل ك�أين خرجت من بحر متالطم
وهبطت على �شواطئ الطم�أنينة� ..شعرت براحة نف�سية عميقة ..وددت
معها �أال �أخرج من امل�سجد و�أن �أقيم به فرتة �أ�سرتيح فيها من العناء
و�أنعم بهذا االطمئنان الذي يقر العيون� ..شعر ال�شيخ ب�أننا جنل�س
بجانبه ال لن�ستمع و�إمنا لن�س�أل� ..أنهى قراءته وتوجه �إلينا.
ال�شيخ :ال�سالم عليكمً � ..
أهل بكم يا �شباب.
رددنا :وعليكم ال�سالمً � ..
أهل بك يا �شيخنا.
قال :هل �أ�ستطيع خدمتكم؟
128
قلنا :نعم ..لقد جئنا �إليك يف �أمر نريد فيه الفتوى والن�صيحة.
قال :تف�ضلوا.
ق�ص�صنا عليه الق�ص�ص بالتف�صيل ..كان ي�ستمع �إلينا وال ُيبدي �أي
انطباع �أو انفعال ..كانت انفعاالته اخلاملة ت�صيبني بالإحباط حتى
�إين ترددت �أثناء الكالم وقررت �أال �أكمل ..ولكن يبدو �أن جمرد �سرد
امل�أ�ساة يخفف من وط�أتها �أو �أملها يف النف�س ..ف�أكملت حتى مكاملة
راندا يف الليلة املا�ضية..
قال ال�شيخ :هل انتهيت من كل �شيء؟
قلت :نعم.
قالً � :أول اجلن ال تتلب�س بالنا�س ..وال ت�ستطيع �أن ت�ؤذي ..يقول
اهلل «�إن كيد ال�شيطان كان �ضعي ًفا» ويقول «�إن عبادي لي�س لك عليهم
�سلطان»..
فاجلن ال تفعل ذلك ..كل هذا تهويل و�أوهام نف�سية ..يحركها
اخلوف والقلق ..ولو امتلك اجلن هذه القدرة ملا هن�أ للإن�سان عي�ش..
ول�س ّلط اجلن امل�سلم على �أعداء امل�سلمني ففتحوا
وملا كان لنا �أعداءُ ..
البلدان ودانت الدنيا ملن ُي ّ
�سخر اجلن..
قلت :يا �شيخ �ألي�س ال�سحر موجودًا وحقيق ًيا؟
قال :ال�سحر موجود ولكنه يفرق بني املرء وزوجه ..ويوقع البغ�ضاء
بني النا�س ..وي�ؤذي ال�ساحر ..ولكن �أن يفعل كل ما حتكيه فال� ..إن
129
ال�شيطان يو�سو�س وما �إن ت�ستعيذ باهلل منه حتى يفر ..فال حتزن وثق
باهلل وال تخف من �شيء ..فاخلوف هو ما يعطيك الوهم ويجعلك تربط
بني كل حدث وبني خماوفك ..ا�ستعن باهلل وح�صن نف�سك ..واعلم
�أن ما �أ�صابك مل يكن ليخطئك وما �أخط�أك مل يكن لي�صيبك ..ولن
ي�صيبك �إال ما كتب اهلل لك ..ولي�س اجلن �أو ال�شياطني..
قلت :ولكني ر�أيت ما ر�أيته وكان �أ�صدقائي معي.
قال طارق وكرمي :نعم نحن �شاهدنا الأمر ومل نكن نعلم ما حدث
معه من قبل.
قال :لن �أ�شكك يف �صدقكم ..ولكن نفرت�ض �أنكم �شاهدمت اجلن
متج�سدً ا ..هل م�س منكم �أحدً ا؟
قلنا جمي ًعا :ال.
قال :هكذا هو ال�شيطان� ..إنه يو�سو�س ..يزرع اخلوف وال�شك..
ولكن ال يخاف منه �إال �أوليا�ؤه فاحر�صوا على دينكم لأنكم حتتاجون
�إىل تقوية �صلتكم باهلل..
مل �أرد بكلمة ومل �أناق�ش �أكرث من ذلك� ..شكرته وان�صرفت..
خرجت �أنا و�صديقاي ننظر بع�ضنا لبع�ض ..فقلت لهما :ولكني
واثق مما ر�أيت� ..إذا كان هذا هو قول الدين فال بد �أن �شي ًئا ما خط�أ..
hhh
130
)(10
132
قال يل :لي�س عندي تفا�صيل ولكن الأ�ستاذ باهر مدر�س الكيمياء
الذي ي�سكن يف الطابق الثاين هو من يعرف التفا�صيل كلها ..لقد كان
معهم نعم ال�سند ومل ينقطع عنهم حتى دفنت ال�سيدة راندا رحمها
اهلل.
قلت له :هل هو موجود الآن؟
قال :نعم هذه �سيارته.
م�سرعا نحو الطابق الثاين وطرقت الباب ..فتح يل
ً ف�صعدت
الأ�ستاذ باهر بنف�سه..
�أنا :ال�سالم عليكم ..الأ�ستاذ باهر؟
باهر :وعليكم ال�سالم ..نعم �أنا.
�أنا� :أنا مازن ..كنت �صدي ًقا لعائلة ال�سيد ر�ؤوف وال�سيدة راندا..
وكنت م�ساف ًرا ومل �أعلم �إال الآن بنب�أ وفاتهما.
فقال :رحمهما اهلل..
قلت :كنت �أطمع يف دقائق من وقتك لأ�س�ألك عنهما ولن �أطيل
عليك.
لثوان ثم قال يل :انتظرين دقيقة..
تردد باهر ٍ
ودخل دقيقة ثم عاد فقال يل :تف�ضل.
133
جل�ست ال �أعرف من �أين �أبد�أ ..كان احلزن ي�شو�ش عقلي فما لبثت
�أن بكيت ب�شدة..
فقال يل :هون عليك ..املوت حق علينا جمي ًعا.
فقلت :نعم ولكن موتهما مفاجئ بالن�سبة يل ..فهما مل يكمال
الأربعني بعد ..ولكن هل كان بهما �أمرا�ض �أم ماذا ..ما الذي حدث
بال�ضبط؟
قال :اهد�أ و�س�أحكي لك....
جل�س باهر مطر ًقا ك�أن �شريط الذكريات مير �أمام عينيه ..كان
يل حي ًنا وينظر يف الأر�ض حي ًنا ..وينظر ناحية النافذة �أحيا ًنا
ينظر �إ ّ
عندما تغلبه دموعه..
قال :كان ر�ؤوف �صديقي ..كنا نتقابل كث ًريا ..وكانوا يزوروننا
ونزورهم ..ون�سهر كث ًريا ..و�أنا من �أر�شدته لل�شقة اخلالية يف هذه
البناية عندما �أراد �أن ينتقل ..مل يكن ر�ؤوف يعاين من �أي �شيء ..كان
بكامل ال�صحة ..و�سنه �صغري على الأمرا�ض املزمنة ..ولكنه فج�أة
بد�أ يفقد وزنه ب�شكل ملحوظ ..قام بفحو�صات عديدة ..يف البداية
�شككنا �أنه م�صاب بداء ال�سكري ..ولكن الأمر مل يكن كذلك� ..أثبتت
الفحو�صات والتحاليل �أنه ال يعاين من �أي مر�ض ..ومنذ فرتة بد�أت
تطارده كوابي�س يومية ..ثم بد�أ معها ي�شعر ب�صداع ..كان خفي ًفا
يف البداية ثم بد�أ ي�شتد وال ي�ستجيب مل�سكنات ..كان يقوم يف الليل
مفزوعا ..و�أحيا ًنا كان ي�صرخ �أثناء النوم وبعد �أن ي�ستيقظ ..حتى
ً
134
�أ�صبح ال يريد النوم خو ًفا من الكوابي�س ..ويف الأيام الأخرية ازداد
الأمر �سو ًءا ..ا�شتد عليه ال�صداع ..و�أنهكته قلة النوم ..وبدا عليه
ال�شحوب ال�شديد وانخف�ض وزنه ب�شكل �أ�صبح ميثل خط ًرا على �صحته..
كالما غري ًبا مل نكن ن�ستوعبه �أو ن�صدقه ..وظنناه من
كما بد�أ يقول ً
�أثر الإعياء الذي يعانيه..
�أنا :ماذا تعني بالكالم الغريب؟ هل كان يهذي؟
باهر :ال لي�س بال�ضبط ..كان يتحدث عن امر�أة منت�شرة ال�شعر
�شعثاء ترتدي مالب�س �سوداء ممزقة ..قال �إنه كان يراها يف كوابي�سه
ثم بد�أ يراها يف اليقظة ..كان �إذا غفلت عينه ي�ستيقظ على �صوت
مفزع ليجد هذه املر�أة تقف بجوار فرا�شه حتدق فيه ..ثم تخرج من
الباب ..يخرج وراءها فال يجد �أحدً ا ..كان الأمر يبدو وه ًما ..حتى
الليلة الأخرية ..تبني لنا �أنه �صادق.
-كيف؟
-لقد ر�أتها ال�سيدة راندا..
-ماذا ر�أت بال�ضبط؟
-قالت راندا �أنها كانت جال�سة على املقعد يف ال�صالة ..عندما
ر�أت فج�أة امر�أة �سوداء جمعدة ال�شعر حمراء العني يبدو عليها
الغ�ضب ..مفزعة الهيئة ..ممزقة املالب�س ..تخرج من غرفة النوم
ثوان خرج خلفها ر�ؤوف ك�أنه غائب العقل..
وتتوجه لل�شرفة ..وبعد ٍ
135
ُم�سا ًقا خلف املر�أة ..وتوجه �إىل ال�شرفة ..وقف ً
قليل فنادت عليه راندا
ب�صوت مرتفع ..فلم يرد ..وقف على ال�سور ثم قفز..
نزلت دموع الأ�ستاذ باهر وهو يط�أطئ ر�أ�سه ويقول :رحمه اهلل كم
اهتماما ..مل يكن
ً ا�شتكى من تلك املر�أة ومل �أكن �أعري تلك ال�شكوى
عندي �شك �أنها هلو�سة من �شدة �إعيائه وكانت راندا توافقني ذلك
الر�أي..
قلت له :هون عليك حتى �إن �صدقت �شكواه مل يكن بيدك �شيء
لتفعله..
�سكت ً
قليل حتى م�سح دموعه ف�س�ألته :وال�سيدة راندا ماذا حدث
لها؟
قال :كانت راندا قعيدة منذ فرتة بال �سبب طبي مفهوم� ..أ�صيبت
بال�شلل فج�أة والذي و�صفه الأطباء ب�أنه يرجع لأ�سباب نف�سية ..ولكن
بعد �أن تويف والدها وزوجها ..بد�أت معاناتها احلقيقية ..كانت تتحدث
�أنها م�ستهدفة من كيان غام�ض ..لقد كانت تقول ذلك ب�إ�صرار ويقني
وا�ضحا لنا �أن
ً وهي يف كامل عقلها ..وبالطبع مل ي�صدقها �أحد ..كان
الأمر راجع �إىل �صدمة وفاة ر�ؤوف ..خا�صة وقد كانت ت�شكو نف�س
�شكواه ..نف�س املر�أة ال�شعثاء ذات املالب�س ال�سوداء كانت تطاردها..
�أ�صبحت �شديدة التوتر والقلق ..وحتول الأمر �إىل و�سوا�س ..مل تعد تثق
يف �أحد� ..أ�صيبت بارتياب اال�ضطهاد ..وانتقلت للإقامة يف م�صحة
للعالج النف�سي والع�صبي� ..أ�صبحت عنيفة مع الوقت ..كانت تنتابها
136
نوبات ع�صبية حادة يف منت�صف الليل ..كانت ت�صرخ بكل قوتها
وتهذي بكلمات غري مفهومة� ..إىل �أن ت�أخذ جرعة خمدرة لتنام ..حتى
ليلة وفاتها �سمعتها املمر�ضة ت�صرخ ثم �سكتت ..دخلت عليها املمر�ضة
لينخلع قلبها مما ر�أت..
قالت املمر�ضة :لقد كانت ميتة وعلى وجهها نظرة فزع رهيبة
ك�أنها ر�أت �شيطا ًنا ..كانت النوبات الع�صبية قد زادت عليها يف الأيام
الأخرية ..حتى �أ�صبحت يومية ..ويف يوم وفاتها كانت تلح على �أن �أبقى
بجانبها يف الغرفة لأن املر�أة ال�سوداء تقف يف الركن وال ترفع عينيها
من عليها..
�سكت الأ�ستاذ باهر ً
قليل ونظر �إ ّ
يل و�أنا �أبكي وقال� :أتعرف؟ �أ�شعر
الآن �أن ما كان ينتابها من نوبات مل يكن وه ًما �أو ً
مر�ضا نف�س ًيا� ..أ�شعر
غام�ضا ً
فعل.. �أنه كان كيا ًنا ً
والتفت له :ملاذا تقول ذلك؟
ّ جففت دموعي
قال :لقد اهتممت باملو�ضوع على نحو خا�ص بعد وفاتها ..انتبهت
ل�شيء غريب ال �أفهمه ولكني �أعتقد �أنه ذو داللة خا�صة..
قلت :ما هو؟
قال :لقد كانت �شكوى ر�ؤوف من امر�أة ترتدي ال�سواد ..وكانت
نوبات الفزع ت�أتيه كل يوم بعد منت�صف الليل حوايل ال�ساعة الثانية
والن�صف ..حتى ليلة وفاته قفز بعد منت�صف الليل ..ذهبت وبحثت
137
عن تقرير الطبيب ال�شرعي ..فوجدته قد حدد موعد الوفاة يف ال�ساعة
الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل..
ثم بد�أت راندا ت�شتكي من نف�س املر�أة ..وقد ذهبتُ للم�صحة
النف�سية بعد وفاتها وقابلت املمر�ضة وطلبت منها برجاء �شخ�صي
�أن تريني ملفها لأطلع عليه ..وكانت املفاج�أة الغريبة �أن النوبات التي
كانت تنتابها يوم ًيا يف ال�ساعة الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل ..يا
لها من م�صادفة غريبة� ..ألي�س كذلك؟
قلت :نعم.
قال :والأغرب �أنه قد ُ�سجلت �ساعة الوفاة يف ال�ساعة الثانية وواحد
وثالثني دقيقة بعد منت�صف الليل.
قلت له :ما الذي تق�صده حتديدً ا؟
قال :حتى هنا مل يكن هناك �شيء يثري كث ًريا من الريبة ..فارتباطها
النف�سي مبا حدث لزوجها قد ي�صنع تلك ال�صدفة ..ولكني عدت منذ
يومني من ال�صعيد� ..أتدري �أين كنت؟
قلت� :أين؟
قال :يف بيت �أخت ال�سيدة راندا ..حيث يعي�ش �أوالدها ..زرتهم
واطم�أننت عليهم ..و�أخذت �أجتاذب احلديث مع زوج �أختها ..حول
احلاج طاهر ..قال يل� :إن التحقيقات �أثبتت �أنه مل يكن هناك �سبب
حلريق ..وال �أثر لوجود �أحد معه يف البيت ..كما �أن البيت مل يحرتق..
138
�إن احلاج طاهر احرتق هو وبع�ض قطع الأثاث ..قطع متفرقة يف البيت
ولي�س حري ًقا يلتهم البيت وينتقل من غرفة �إىل غرفة ..وهناك �شهود
�صراخا وحتطيم زجاج يف البيت بعد منت�صف ً قالوا �أنهم �سمعوا
الليل ..وهو نف�س توقيت اندالع احلريق ..فقد �سجلت التحقيقات
وملفات الدفاع املدين �أن �ساعة اندالع احلريق كانت ال�ساعة الثانية
والن�صف بعد منت�صف الليل..
قلت له :عندك حق لي�ست هذه م�صادفات ..ولكن مل يعد ب�أيدينا
�شيء نفعله ..رحمهم اهلل جمي ًعا.
hhh
خرجت من عند الأ�ستاذ باهر و�أنا مبعرث امل�شاعر ..ال �أكاد �أفهم
فعل ذلك ال�شيطان نرجال يفعل بنا كل هذا ..هل جعلنا �شي ًئا ..هل هو ً
هد ًفا له ويرت�صدنا واحدً ا فواحدً ا� ..إذن فالكل يف خطر ..يجب ّ
علي �أن
�أنتبه �أنا والباقون..
الباقون؟
مل يبق �إال �أنا ونزار و�سابق� ..أين ه�ؤالء القوم وملاذا مل ي�أت �أحدهم
لي�س�أل عن هذه املر�أة امل�سكينة ..بد�أت �أمللم �شتات �أفكاري ونف�سي
وتوجهت �إىل مكان عمل نزار..
139
دخلت �أبحث عنه ومل �أجده ..ال يف مكان التدريب وال يف اال�سرتاحة
وال يف غرفة املالب�س ..يبدو �أنه �أنهى عمله باك ًرا ..قابلت �أحد املدربني
خارجا من �صالة الألعاب ف�س�ألته :لو �سمحت �أين �أجد الأ�ستاذ نزار؟ً
قال� :أتق�صد كابنت نزار املدرب؟
قلت :نعم.
قال :للأ�سف يا �سيدي البقاء هلل..
علي مبا يكفي لأقف مكاين وال �أنطق
كانت تلك ال�صدمة عنيفة ّ
بكلمة..
قال يل :يبدو �أنك �صديقه.
احتب�س �صوتي ف�أ�شرت له بر�أ�سي �إ�شارة عليلة بالإيجاب..
قال :تعال معي لت�شرب �شي ًئا.
�أخذين الرجل من يدي كالطفل �أم�شي معه ال �أملك �إيجا ًبا وال
رف�ضا ..جل�سنا يف اال�سرتاحة وطلب يل كو ًبا من ال�شاي ..وجل�س ً
�أمامي يوا�سيني و�أخذ يتكلم يف �أي �شيء بعيد عن �سرية نزار.
قاطعته :هل كان نزار �صديقك؟
قال يل :نعم كان �صديقي املقرب.
قلت له :كيف تويف؟
140
قال� :إنها ق�صة حزينة ..مل يكن بنزار �أي علة ..كان يحر�ص على
الريا�ضة ويبتعد عن �أي �شيء ي�ضر �صحته ..ولكن تغري كل هذا منذ
فرتة ..كان ي�أتي مره ًقا �إىل العمل ..وكان ي�شكو من ا�ضطرابات يف
أياما..
النوم ..ثم بد�أ الأمر يزداد �سو ًءا ..حتى انقطع عن العمل � ً
ذهبت لزيارته فر�أيته يف �أ�سو�أ حال ..بدا �شديد ال�شحوب ..هاالت
�سوداء ثقيلة حتت عينيه� ..س�ألته عن �سر ذلك فقال �إنه ال ينام �إال
القليل جدً ا..
كان يتكلم بغري تفا�صيل عن ليلة و�صفها بامل�ش�ؤومة ..تغريت بعدها
�أحواله..
ليل ومهما كان نومه عمي ًقا ف�إنه ي�ستيقظ كان ي�ستيقظ من النوم ً
يف الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل على �صوت زجاج يتحطم..
فيقوم ليبحث يف البيت وال يجد �شي ًئا ..ويعود �إىل فرا�شه ليجد �أغطيته
وو�سائده على الأر�ض..
ومهما حاول �أن ينام بعدها ال يعود �إليه النوم �إال يف ال�صباح..
تكرر هذا على فرتات متقطعة ..ثم زاد حتى �أ�صبح حاد ًثا يوم ًيا..
متاما
بد�أ ي�أخذ حبو ًبا منومة من دون فائدة ..يف الثانية والن�صف ً
ي�ستيقظ ..حتى �إنه مل يعد قاد ًرا على الذهاب للعمل ..كانت �صحته
هزيل بدرجة كبرية مت�أخرة ب�شدة ..كان الأرق ي�أكل ج�سده� ..أ�صبح ً
وكانت ت�أتيه نوبات قيء عنيفة حتى لو مل ي�أكل� ..إىل �أن فقد �شهيته
متاما ..ويف الأيام الأخرية ازدادت حدة نوبات القيء حتى كان
للطعام ً
دما ..مل يفلح معه العالج ..ثم ُنقل �إىل م�ست�شفى ليكون حتت يتقي�أ ً
141
املالحظة امل�ستمرة ..تويف بعدها ب�ستة �أيام ..رحمه اهلل فقد كان نعم
ال�صديق.
مل �أمتالك نف�سي ف�سقطت من عيني الدموع ال�صامتة على ذلك
الرجل الطيب الذي وقف بجانب راندا ..و�أنا وحدي الآن الذي �أعرف
ما الذي ق�ضى عليه..
�أنا وحدي �أعرف ال�سبب ..ولكني ال �أ�ستطيع �أن �أتكلم مع �أحد..
�شكرت الرجل على �ضيافته واعتذرت عن �إزعاجه ..وا�ست�أذنت يف
التفت له ً
�سائل: الرحيل ..وبعد �أن خطوت ب�ضع خطوات مبتعدً ا عنهّ ..
�إذا �سمحت �س�ؤال �أخري ..متى كانت �ساعة وفاته بال�ضبط؟
قال :لقد كانت بعد منت�صف الليل ..نعم لقد �أنهيت الإجراءات
بنف�سي ال�ستخراج �شهادة الوفاة ..كان موعد الوفاة هو الثانية
والن�صف بعد منت�صف الليل..
قلت له� :شك ًرا..
وان�صرفت.
الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل..
لي�س هناك مكان لل�صدفة يف كل ذلك ..هذا هو املوعد �إذن..
ذلك املوعد الذي حدده لنا �شيطان ..وقرر �أن يزورنا فيه كل يوم..
h
142
)(11
144
قلت لأحد احل�ضور :كيف بارك ال�شيخ ذلك الطعام هل قر�أ عليه
قر�آ ًنا �أم ماذا؟
قال :ال بل �أكل من كل �إناء لقمة و�شرب من كل �سقاء �شربة..
هل هكذا يكون ال�شيخ قد بارك الطعام؟ �أهو مقد�س عندهم لهذا
احلد؟ هذا لي�س من الدين وال الربكة يف �شيء� ..أ�سررتها يف نف�سي ومل
�أبدها لهم ..فقد قطعت م�سافة طويلة ولن �أتنازل عن عودتي ب�شيء
له قيمة.
اجتزت ذلك الفناء ودخلت الدار فوجدت به ًوا يجل�س فيه رجال
حال من ه�ؤالء باخلارج ..يبدو �أن منيبدو من هيئتهم �أنهم �أف�ضل ً
باخلارج هم فقراء النا�س ومريدو ال�شيخ من املعدمني والكادحني..
�أما من بالداخل فهم من �أ�صحاب املال وعلية القوم الذين جاءوا
للعبادة والربكة �أو امل�شورة ..وال يتناولون �أكرث من ال�شاي والقهوة..
كان هناك على الي�سار ملحق جانبي لهذا البهو عبارة عن غرفة
مت�سعة م�ساحتها تبدو ن�صف م�ساحة البهو ..لي�س بينهما باب �أو
ُ�س ُت ..جتل�س فيه الن�ساء ..وعلى اليمني غرفة ملحقة ولكنها مغلقة..
باب خ�شبي كبري ثقيل ومرتفع ..كان ذلك البهو �أكرث هدو ًءا بكثري
من الفناء اخلارجي املكتظ بالنا�س والطعام ..رائحة بخور متلأ
املكان ..وجدت مقعدً ا خال ًيا فجل�ست ..وبعد �أن ا�ستقر بي اجللو�س..
بد�أت �أنتبه ل�صوت ينبعث من تلك الغرفة املغلقة على اليمني� ..صوت
جماعي يبدو فيه االنتظام كالنغم ..ك�أن من بالداخل ين�شدون �شي ًئا..
145
أي�ضا �أن عددهم كبري ..كان ال�صوت ي�أتي من الداخل �ضعيف يبدو � ً
ثم بد�أ ي�شتد ..ال �أدري هل ما �أ�سمعه حقيقي �أم �أنني ال �أتبني الكلمات
بالفعل ..لقد �سمعتهم يقولون «�أوه �أوه� ..أوه �أوه� ..أو هوه هوه» ال �أدري
ما هذا ..كانوا يقولونها بانتظام وثبات و ُي ّ
قطعونها تقطي ًعا ك�أنها �إيقاع
حلن معني يحفظونه جمي ًعا..
تناولت كو ًبا من ال�شاي و�أخذت �أفكر ..هل هذه دار رجل زاهد..
هل كل هذا البذخ ي�صنعه رجل منقطع للعبادة ..من �أين ينفق هذا
ال�شيخ الزاهد والويل ال�صالح الذي باع الدنيا و�أتى ليقطن هذا املكان
البعيد؟ متى ينقطع للعبادة �إذا كان هذا ال�صخب اليومي ال ينقطع؟
مل �أفهم..
نظرت �إىل رجل بجانبي يبدو عليه الهدوء والوقار كما يبدو عليه
�أنه معتاد على هذا املكان ويعرف من فيه بالكامل ..قلت له :ما هذا
ال�صوت الذي ي�أتي من الداخل؟
قال� :إنها احل�ضرة النبوية.
قلت :وملاذا يغلقون الباب؟
قال� :إنهم اخلوا�ص.
قلت :وماذا يقولون لأين ال �أفهم؟
قال :هذا ذكر اخلوا�ص يبد�أون بالذكر املعتاد ومعهم ال�شيخ ثم
تتجلى عليهم الأنوار العليا ..ويبد�أون يف ذكر اخلوا�ص ..ثم خوا�ص
اخلوا�ص ..وي�صلون به �إىل �أعلى درجات التجلي واملكا�شفة..
146
قلت� :إذن متى ينقطع ال�شيخ للعبادة مع كل هذا؟
قال� :إنه يرتك كل هذا ويدخل اخللوة ما �شاء اهلل ثم يخرج لنا..
ف�إذا خرج بعد اخللوة كانت له نفحات مباركة �أكرث منه قبل الدخول.
قلت� :إذن هو ال يعمل؟
قال :ال.
قلت :ومن �أين له بهذه النفقات� ..إنه يحتاج �إىل �أموال طائلة
لي�صنع كل هذا كل يوم.
قال :هو من عند اهلل ..وهي بركة من ال�شيخ ..فهو يبارك الطعام
القليل فيكفي اجلماعة الكبرية� ..إن ال�شيخ م�ؤن�س من العارفني باهلل
�أ�صحاب الكرامات ..وكثري ممن يق�ضي ال�شيخ حاجاتهم ي�أتون
بالنفقات كرامة لل�شيخ ..و�صدقة على مريديه..
قلت له� :صاحب كرامات؟
قال :نعم كرامات� ..إنه من �أهل اخلطوة..
قلت :كيف؟
قال� :إنه يقول با�سم اهلل ..ثم يخطو خطوة واحدة ..فيطوي اهلل
الأر�ض حتت قدميه ..في�ضع قدمه الأخرى يف بلد �آخر� ..إنه كث ًريا ما
يرتكنا ويذهب �إىل مكة ي�صلي ثم يعود وال ي�ستغرق الأمر �أكرث من
ن�صف �ساعة..
147
قلت :وما �أدراك �أنه يذهب �إىل مكة؟
فرمقني ذلك الرجل بنظرة حادة ك�أنه ينهرين على ا�ستنكاري
وا�ستف�ساراتي وقال� :إن ال�شيخ ال يكذب� ..إنه و ّ
يل �ص ّديق ..وهناك
�أنا�س قابلوه يف مكة و�أكدوا �أنهم ر�أوه ي�صلي معهم عندما عادوا.
قلت :ح�س ًنا ال تغ�ضب �أنا ال علم يل بكل هذا وهذه �أول مرة يل �أزور
ول ًيا..
فج�أة قطع حديثنا �صوت امر�أة دخلت البهو ووقفت �أمام الباب
علي �أوفيه لك..
وقالت :مدد يا �شيخ م�ؤن�س ..هذا نذر ّ
ظننت �أن اخلدم واملريدين �سيقومون �إليها ي�سكتونها ..ولكن ال
�شيء حدث ..الكل ينظر �إليها وي�ستمع ..بينما �س�ألها �أحدهم :ماذا
حدث يا �سيدتي؟
قالت :منذ يومني كنت يف طريقي �إىل بيتي ولي�ست هناك
موا�صالت� ..سرت حتى انقطع بي الطريق ..مل يعد �أحد حويل فخ�شيت
على نف�سي ..ف�أخذت �أقر�أ القر�آن ..وفج�أة ظهرت �أمامي حية كبرية
�ضخمة ..لو فتحت فمها البتلعتني ..ورفعت ر�أ�سها عن الأر�ض حتى
�أ�صبحت �أمام وجهي ..ففكرت ماذا �أ�صنع ..لقد كدت �أموت خو ًفا..
حتى خطر ببايل �شيخي م�ؤن�س ..فقلت مدد يا �شيخ م�ؤن�س� ..أدركني
يا �شيخ م�ؤن�س� ..أق�سمت عليك �أيتها احلية بال�شيخ م�ؤن�س �أال ت�ؤذيني..
فتوقفت احلية ك�أنها ا�ستجابت يل ..وط�أط�أت ر�أ�سها على الأر�ض
ك�أنها تنحني �أمامي ..ولكني فوجئت ب�صوت قدم خلفي فنظرت ف�إذا به
148
ال�شيخ م�ؤن�س ..يقف خلفي ويرفع يده ..لقد �سمعني و�أتاين لينقذين..
و�أطاعته احلية ..ر�أيتها ُتط�أطئ ر�أ�سها طاعة له ..ف�أم�سكها ولفها حول
جذع �شجرة ..وقال لها ارعي ب�أمان يف �أر�ض اهلل وال تقربي �أحدً ا من
ريدي ..ال تقربي �أحدً ا ي�ستجري بي ..ف�أخذت احلية يف الدوران حولُم ّ
ال�شجرة ثم هربت..
ثم التفت �إ ّ
يل ال�شيخ وقال :اطمئني..
فقلت له� :شك ًرا لك يا �شيخي قل يل ماذا �أفعل لك؟
قال :ال �أريد منك �شي ًئا ..ولكن اذبحي �شاة و�أطعميها للمريدين
الفقراء وعابري ال�سبيل الذين ي�أتون �إىل داري هذ �أف�ضل �شيء
تفعلينه.
فنذرت �أن �آتي اليوم لأذبح �شاة و�أطعمها ملريدي ال�شيخ..
فانطلق بع�ض احلا�ضرين :اهلل �أكرب ..اهلل �أكرب ..مدد يا �شيخ
م�ؤن�س مدد.
يل الرجل الذي بجانبي نظرة انت�صار وقال� :أر�أيت ..هذه فنظر �إ ّ
كرامة � ً
أي�ضا ..هذا ال�شيخ ويل من �أولياء اهلل ال�صاحلني..
نظرت �إليه وهززت ر�أ�سي بالإيجاب ..و�سكت.
يل �أحد العاملني يف هذه الدار ً
�سائل� ..أي خدمة بعد قليل جاء �إ ّ
يا �أ�ستاذ؟
149
قلت له� :أريد ال�شيخ يف م�شورة.
قال :هل تريده يف فتوى �أم �أن هناك طل ًبا وخدمة؟
قلت له :ال �أعلم ..عندي م�شكلة �س�أحكيها له وهو ير�شدين ملا
علي فعله.
يتوجب ّ
قال :ح�س ًنا� ..إذا كانت م�شورة وفتوى فال �شيء عليك ..و�إذا كانت
حاجة �سيق�ضيها لك فيجب عليك �أن ترتك �صدقة قبل الدخول لتحل
الربكة و�إذا ق�ضيت حاجتك يجب �أن تذبح ملريدي ال�شيخ �إذا كنت
ت�ستطيع.
قلت :موافق.
قال :تعال معي.
hhh
�أدخلني ذلك اخلادم �إىل غرفة ملحقة بغرفة ال�شيخ م�ؤن�س ..لي�س
بينهما حجاب ..قال يل :اخلع حذاءك و�أنت تدخل على ال�شيخ وانتظر
دورك عندما ينتهي ال�شيخ من ق�ضاء حاجة الذي بني يديه الآن ..و�إذا
جل�ست �أمامه فقبل يده..
كان يجل�س بني يدي ال�شيخ م�ؤن�س رجل ق�صري بدين ..جاءه
بقما�شة فيها عظام غريبة رقيقة كعظام الدجاج ..وقال له� :أريد منك
ختم هذه العظام يل يا موالنا..
150
ف�أم�سك ال�شيخ م�ؤن�س بالعظام وق ّلب فيها النظر ثم قال له :ارم
هذه العظام ..فال نفع منها..
قال :كيف �أرميها يا موالنا؟ لقد كلفتني الكثري!
م�ؤن�س :اخلط�أ خط�ؤك ..فعظام الهدهد لها طرق وطقو�س
ال�ستخراجها.
�سمعت كلمة عظام الهدهد ففزعت ..وانتبهت للكالم.
قال الرجل لل�شيخ� :إذن علمني مما علمك اهلل.
قال ال�شيخ م�ؤن�س� :أهم �شرط من �شروط ا�ستخراج عظام الهدهد
�أن ال ي�ستخرجه م�سلم ..لأن امل�سلمني ال تطيعهم الأرواح والقوى
الكونية ..وال ت�شرتيه من م�سلم..
معاك�سا� ..أي �أن الرجل
ً ثان ًيا يجب �أن ت�شرتيه ح ًيا ..وت�شرتيه
ي�شرتي �أنثى والأنثى ت�شرتي ذك ًرا.
ثال ًثا ال يجوز ذبحه باجتاه �أي قبلة ..الكعبة �أو بيت املقد�س..
ويجب �أن تذبحه �أنثى بكر ..ويكون ذبحه من اخللف� ..أي مت�سكه
الفتاة بيديها وت�ضعه خلف ظهرها وتذبحه ..ويجب �أن ال ت�سقط نقطة
دم واحدة منه على الأر�ض ..ويجب �أن ُيذبح بخنجر من ذهب عليه
الرموز الأرامية املباركة ..و ُيذبح بني �أربعة قبور ..قرب مرتفع وقرب
منخف�ض ..وقرب قدمي وقرب حديث ..وهناك دعوات وعزائم ..ثم بعد
ليل ..بحيث ال تراه �شم�س ..ثم ُت�ستخرج عظامه ..فتختار ذلك ُيطبخ ً
151
اجلناح الأي�سر ..ثم اجعله فوق البخور ..ثم ائتني به لأختمه لك مبا
تريد..
جل�س الرجل حزي ًنا وقال� :أال يوجد حل يا �شيخ م�ؤن�س؟ ال�شروط
�صعبة و�أنا �أحتاجه..
قال :احلل �أن ترتك فعل ال�صابئة� ..أنت تختار الأ�صعب والأخطر..
ورمبا ال ميلك لك ما تريده غري واحد ..فال يوجد قطبني لل�صابئة يف
زمان واحد ..وقطبهم الآن يف تركيا ولي�س يف العراق ..وال ت�ضيع وقتي
يا عبد اهلل �أكرث من ذلك..
قال� :إذن بدون عظام الهدهد ما الذي �س�أحتاجه من �أدوات؟
قال م�ؤن�س :ائتني ب�أثر عدوك وا�سم �أمه ..واذبح �شاة للمريدين..
و�إن كان هناك طلبات �أخرى �س�أخربك بها يف حينها..
فقام وقال :ح�س ًنا �س�أح�ضر هدهدً ا �آخر ..و�آتي لك ..ف�إن مل
�أ�ستطع �س�أرى مو�ضوع الأثر..
قال هذا الكالم ب�صوت منك�سر حزين وهو يرتدي حذاءه ثم خرج.
�أ�شار �إ ّ
يل اخلادم �أن �أقوم لأجل�س بني يدي ال�شيخ م�ؤن�س..
جل�ست ومل �أقبل يده فقالً � :
أهل بك ..هل �أكلت؟ و�أخذت واجب
ال�ضيافة يف داري؟
قلت له :نعم احلمد هلل ..بوركت يا �شيخ م�ؤن�س.
152
قال :ما حاجتك؟
فق�ص�صت عليه ق�صتي كاملة ..وا�ستمع يل ب�آذان م�صغية ثم قال:
�شخ�صا
ً الأمر ح ًقا جلل ..والق�صة طويلة مت�شعبة وي�صعب �أن حتدد
بعينه مبجرد الر�أي..
-وما العمل �إذن؟
-ال بد من املكا�شفة� ..سن�ستعني باهلل ونرفع �سرت الغيب عن الأمر..
-كيف؟
� -سنفتح املندل.
-ال �أفهم ..ماذا �سنفعل؟
-تعال معي.
قمت معه فدخلنا غرفة خالية ال �شيء فيها �إال ثالثة مقاعد كبرية
ملت�صقة باجلدار الأمين للغرفة ..و�أمامهم على اجلدار املقابل
مر�آة كبرية طولها يقرب من املرتين ..تبد�أ من الأر�ض ..وتقف على
عجالت ..لها �إطار خ�شبي �أنيق منقو�ش عليه نقو�ش غريبة ..حمفورة
يف اخل�شب وبارزة ..عندما اقرتبت اكت�شفت �أنها طال�سم ..وبجوار
املر�آة حامل خ�شبي �أنيق على قمته �شمعة كبرية ..وحتتها موقد بخور..
تركني ثم عاد بعد قليل ومعه طفل �صغري �سنه قرابة ال�سبع
�سنوات� ..أجل�سه �أمام املر�آة التي جرها �إىل منت�صف الغرفة هي
153
وحامل ال�شمعة ..ثم �أ�شعل بخو ًرا خفي ًفا ..ولكن رائحته نفاذة ..و�أ�ضاء
ال�شمعة ..ثم �أطف�أ النور..
�شمعة واحدة كبرية وغريبة ..مل �أر مثلها من قبل ..حمراء اللون..
وعليها طال�سم حمفورة ..ومو�ضوعة يف قاعدة زجاجية� ..أ�ضاءها
فكان �ضو�ؤها ً
مذهل� ..أ�ضاءت الغرفة ..ولكن......
مل يكن هناك انعكا�س للنار امل�شتعلة يف املر�آة ..هذا ال�ضوء املبهر
الذي �أ�ضاء الغرفة بالكامل لي�س له �أي انعكا�س يف املر�آة ..نظرت خلف
املر�آة فوجدت ال�شيخ م�ؤن�س مي�سك ري�ش ًة ومدادًا غري ًبا وير�سم �شي ًئا
على ظهر املر�آة� ..إنه طل�سم ..بل عدة طال�سم..
ثم قال يل� :سينظر ابننا هذا يف املر�آة و�سنتلو عليه القر�آن..
لتنك�شف عنه احلجب ب�إذن احلي القيوم ..ثم �سن�س�أله فيما ر�أى ..وال
تخ�ش �شي ًئا فهو طفل والأطفال طاهرون و�أبرياء وال يكذبون ..ولكن
اجل�س �أنت بجانب املر�آة واجعل حافتها على ي�سارك..
بينما جل�س الطفل ال�صغري مواج ًها للمر�آة ..ناظ ًرا �إليها ثم و�ضع
ال�شيخ على عينيه ع�صابة وربطها ..وبد�أ يتلو �آيات من القر�آن ..مل يكن
يتلو �آية واحدة كاملة ..كان يقطع بع�ض الآيات يف منت�صفها ليبد�أ �آية
وا�ضحا
ً �أخرى ..ليقطعها هي الأخرى يف منت�صفها ويبد�أ غريها ..كان
متاما �أنني �أخ�ضع لطق�س من طقو�س ال�سحر الأ�سود ..ولكني كنت يل ً
م�ست�سل ًما ..فلم يكن يل ملج�أ وقتها ..و�أريد �أن �أعرف �أي �شيء� ..أي
طريقة لإزالة اللعنة التي تطاردين..
154
انتهى ال�شيخ مما كان يفعل ..ورفع الع�صابة عن عني الطفل ..نظر
الولد ال�صغري بفزع �إىل املر�آة ..بينما �شعرت �أنا �أنها تهتز ..حتى بد�أت
ترجت ب�شدة ..و�صرخ الطفل �صرخة عنيفة ..ف�أطف�أ ال�شيخ ال�شمعة وفتح
النور فو ًرا..
�سقاه ال�شيخ كو ًبا من املاء ..وقال له بغلظة ال ُيفرت�ض �أن تكون مع
طفل �صغري..
ً
تف�صيل ماذا ر�أيت؟ م�ؤن�س :قل يل
قال بفزع وهو يرتع�ش :لقد ر�أيت خم�سة �أ�شخا�ص على �صدورهم
كف مر�سوم بالدم..
ور�أيت ً
رجل على يديه عالمة..
و ر�أيت ُحجرة بها كتب كبرية..
ور�أيت عني ماء و�صخو ًرا وج�س ًرا ونا ًرا وطفل ًة..
ثم ر�أيت يدً ا مم�سوخة تخرج من املر�آة لتذبح هذا الرجل..
و�أ�شار �إ ّ
يل..
كانت كلماته بالن�سبة يل مبهمة ..ومل �أفهم �أي �شيء ..غري �أن يدً ا
تذبحني ..وكان ذلك كاف ًيا بالن�سبة يل لإثارة الذعر..
قال ال�شيخ م�ؤن�س :هل ت�ستطيع و�صف الأ�شخا�ص �أو الرجل الذي
يف يده عالمة؟
155
قال :ال.
-هل هناك �شيء �آخر؟
قال :ال.
فقال له :ان�صرف.
فتحرك الطفل نحو الباب ثم التفت �إلينا وقال :لقد كانت الغرفة
رمادية اجلدران وعلى اجلدار لوحة �سوداء..
ثم ا�ستدار وان�صرف..
قلت لل�شيخ� :أنا مل �أفهم �أي �شيء غري �أين �أُذبح على يد م�سخ.
يل ال�شيخ م�ؤن�س ً
طويل ثم قال :لقد مت و�ضع عالمة عليك نظر �إ ّ
ومعك �أربعة �أ�شخا�ص ..يبدو �أنهم احل�ضور يف ذلك اليوم ..لقد متت
الت�ضحية بكم كقربان من �أجل النجاة..
قلت له :مل �أفهم.
�شخ�صا ما بالقتل ..ف�ساومه بكم كقربان
-هذا املارد نرجال هدد ً
مقابل حياته ..وو�ضع على ال�ضحايا عالمة لتكون دماءكم فدية له..
-ومن ذلك الذي و�ضع علينا عالمة وكيف و�ضعها؟
-هو رجل على يديه عالمة مميزة ..عليك �أنت �أن تعرفه.
-ثم؟
156
� -إما �أن ت�سوي معه امل�س�ألة �أو......
-ال تقف الآن� ..أخربين ما العمل..
� -أو تقدم قربا ًنا لتفتدي نف�سك من اللعنة.
-قربان؟ كيف؟
-لكي تتخل�ص من هذه اللعنة يجب عليك الت�ضحية بدم.
-ماذا؟
متاما ..نطقت بها املر�آة ..يجب �أن حتمل
-دم ..ال�شروط وا�ضحة ً
�ضحية ..نف�س بريئة ..وتذهب يف مكان فيه بحر بني جبلني� ..ستجد
هناك بواب ًة وج�س ًرا ..لن يظهرا حتى تقف هناك يف ليلة جمعة..
والقمر بدر ..وتقر�أ عزمية ..وال �ضوء حولك ..وتقف يف املوعد الذي
قلت عليه الثانية والن�صف بعد منت�صف الليل ..وعليك بعبور اجل�سر
ثم البوابة ..ثم تذبح �ضحيتك �أمام النار ..وقبل الذبح �ست�ضع يف فمك
قطعة حديد وت�ضغط عليها ب�أ�سنانك وال تفتح فمك مطل ًقا ..وت�ضع
كفك يف الدم وتلطخ به �صدرك ووجهك ..ثم تعود لتخرج من البوابة
�إىل اجل�سر ..ف�إذا ما ُتركت متر ب�سالم تكون اللعنة قد انحلت..
-وهل ميكن �أن �أفعل كل هذا وال يرتكني �أمر ب�سالم؟
قال :ممكن� ..ستخرج من البوابة فال جتد اجل�سر ..و�ستكون
النهاية.
157
نف�سا.
� -أنا ال �أ�ستطيع �أن �أفعل ذلك� ..أنت تطلب مني �أن �أقتل ً
نف�سا بريئة ..بالتحديد طفلة غري بالغة.
-نعم ..يجب �أن تكون ً
نف�سا �أو حتى حيوا ًنا؟
-وملاذا يجب �أن �أ�ضحي ..ملاذا �أذبح ً
-هكذا هي البوابات بني عامل الإن�س واجلن ..قد تعربها ب�سهولة..
ولكن ال ت�ستطيع العودة منها �إال بدم.
-ال ..ال �أ�ستطيع� ..س�أعرث عليه و�أ�سوي معه امل�س�ألة.
-ح�س ًنا يا بني ..ولكن من الأف�ضل �أن ت�سرع فلم يعد لديك الكثري
من الوقت� ..إنه يف �أثرك.
نظرت �إليه �آ�س ًفا و�أنا �أكاد �أبكي من اخلوف والهم ..ثم خرجت.
hhh
خرجت من عند ال�شيخ م�ؤن�س ..و�أنا على �أ�سو�أ حال ..كنت �أ�شعر
ب�صدمة نف�سية عنيفة ..فلم �أتوقع �أن ُيطلب مني يف يوم من الأيام
نف�سا بريئة؟ هل ميكن �أن تكون هذه ن�صيحة رجل طلب كهذا� ..أ�أقتل ً
دين؟ هل ميكن �أن ي�صل بي الأمر �إىل هذا احلد؟ �إنها لعنة حقيقية..
�سمعت ندا ًء من اخللف :يا �أ�ستاذ..
158
نظرت خلفي فوجدت �شا ًبا ياف ًعا مهندم الهيئة ..قدم �إ ّ
يل وقال:
قليل؟هل يل �أن �أحتدث معك ً
-تف�ضل..
-تعال معي من�شي ً
قليل بعيدً ا عن املكان.
قليل قبل �أن يبد�أ باحلديث ً
قائل� :أنا �صالح الدين.. ابتعدنا ً
مهند�س� ..أنا من العا�صمة ..و�أنت؟
-و�أنا مازن� ..صيديل ..من العا�صمة � ً
أي�ضا..
� -سمعت حوارك مع الرجل املُريد بالداخل ..وفهمت �أنك �أول
مرة ت�أتي لل�شيخ ..ويبدو �أنك على جهل تام ب�أمور الطرق ال�صوفية..
ور�أيتك تخرج من عند ال�شيخ حزين الوجه..
-ال �أبدً ا �أنا �أتيت �إىل هنا طل ًبا للم�شورة والن�صيحة من ال�شيخ بعد
�أن انقطعت بي ال�سبل.
-هل �أكلت؟
-ال.
فدعاين �إىل الطعام يف مطعم لي�س ببعيد حتى يت�سنى لنا احلديث..
جل�سنا �إىل الطعام ففاج�أين بقوله� :أ ًيا كان ال�شيء الذي �أتيت
لت�س�أل عنه ال�شيخ ..فقد ق�صدت ال�شخ�ص اخلط�أ.
159
-ملاذا �إنه رجل مربوك ..يحظى بحب النا�س وثقتهم.
� -أتظن ح ًقا �أنه �شيخ و ّ
يل؟
-ب�صراحة ال ..مل �أقتنع ..ولكن �إن مل يكن كذلك فما هو �إذن؟
� -إنه �ساحر.
-كيف ذلك؟
� -أنا يل ع�شر �سنوات الآن �أجوب البلدان �أتتبع ال�سحرة والأولياء..
الدجالني وامل�شعوذين ..و�أ�صبح عندي ال�شيء الكثري من هذا العلم..
فهمت كث ًريا مما ال يفهمه النا�س ..وال ي�صح �إعالنه على العامة و�إال
لقتلوين انت�صا ًرا مل�شايخهم.
-ا�شرح يل �أكرث ..هل ال�صوفية دجل؟
-ال ..لي�ست ال�صوفية بدجل..هي �سبيل �إيل اهلل كغريها من
ال�سبل ..ولكن هناك من �شيوخ بع�ض الطرق ال�صوفية �سحرة يتعاملون
مع الروحانيني ..وي�ستغلون جهل النا�س وحاجتهم.
-ومن هم الروحانيون؟
-هم ر�ؤ�ساء ع�شائر اجلن ..ي�أتي الواحد منهم �إىل ال�شيخ املبتدع
الذي ي�صل �إىل مرتبة القطب ويوهمه �أنه مالك ..و�أنه ُمر�سل �إليه من
اهلل ليخربه �أن اهلل قد �أعفاه من العبادة وفرائ�ض ال�شريعة فال �صالة
عليه وال �صيام ..و�أنه و ّ
يل من الأولياء ..حتى �إذا ما �صدقه و�أطاعه..
160
يطلب منه قربات ..قربات �شركية وكفرية ..ف�إذا ما �صنعها له ال�شيخ..
خدما له ..يفعلون له الأعاجيب ..وي�أتيه �أ�صبح الروحاين وع�شريته ً
النا�س فيق�ضي لهم احلاجات باال�ستعانة باجلن ..وهم من يلفقون
لل�شيخ كراماته حتى ي�ضلون بها النا�س.
� -أنا ال �أ�صدق ما �أ�سمع!
� -س�أثبت لك ..هل تعلم �أن من �شروط اجلن على امل�شايخ �أال
ي�صلون الع�صر واجلمعة؟
-ال.
-هذه �أول عالمة تعرفها يف الأولياء والعارفني� ..إذا وجدته ميتنع
عن �صالة الع�صر واجلمعة فاعلم �أنه �ساحر..
-وهل ميتنع ال�شيخ م�ؤن�س؟
-طب ًعا ..دائ ًما يقول �أنه �سيذهب يف الع�صر واجلمعة �إىل مكة
ي�صلي ثم يعود ..وطب ًعا هم ي�صدقون �أنه من �أهل اخلطوة ..ويذهب
�إىل مكة.
-وكيف تعرف �أنه لي�س مبكة؟
-الأمر وا�ضح ولكن النا�س ت�صدق ما تريده عقولهم �أن يكون
حقيقة ..ال�صالة يف مكة ُتقام قبل ال�صالة هنا ب�ساعة ون�صف..
فلماذا يذهب �ساعة �صالة الع�صر هنا ولي�س بتوقيت مكة؟ وملاذا
الع�صر واجلمعة؟
161
-ولكنهم يرونه يرفع قدمه ويخطو خطوة فينتقل �إىل بلد �آخر
وي�أتي من يقابله ويحكي �أنه قابله..
-ال مانع ..فاجلن ي�ستطيعون نقله يف ثانية �إىل �أي مكان بعيدً ا عن
�أعني النا�س� ..إن هذه اخلطوة التي يخطوها ي�ضع بها قدمه على يد
اجلني الذي يخدمه ..ال تنخدع به�ؤالء ..وال يوجد من يقول �أنه ر�آه..
ه�ؤالء كذبة �أفاقون.
-ولكن بيته مليء بالنا�س الفقراء ..يطعمهم الطعام ..وجمل�س
ذكر اهلل بالداخل.
-هذه هي اخلديعة ..لي�س �إطعام الطعام هو ال�شرع ..وكل بر
وفاجر ول�ص وقاتل ميكنه �إطعام الطعام ..ولي�ست العبادة هي �إطعام
الفقري ..فال ب�أ�س عندهم من �أعمال اخلري ..لن ي�ضره يف �شيء بل
هو من و�سائل جذب النا�س �إليه� ..أما ما ت�سميه جمل�س ذكر فهو دليل
على كالمي..
-كيف؟
-هل ي�ستقيم يف عقلك �أن يكون ذكر اهلل هو �أن جتل�س فتقول
«اهلل ..اهلل ..اهلل»؟
-ال �أعرف.
-بل تعرف� ..إنها بداهة عقلية ..فذكر اهلل هو ت�سبيحه �أو حمده..
�أو ا�ستغفاره� ..أو تكبريه� ..أو دعا�ؤه ..ولي�س ذكر ا�سمه جمردًا بغري
162
دعاء �أو حتى �أي جملة مفيدة ..ثم هل �سمعت ما يخرج من غرفة
اخلوا�ص؟
-نعم هو ذكر اخلوا�ص.
-ال بل هو ذكر اجلن ..يبد�أون بقول اهلل اهلل الذي هو لي�س بذكر
هلل � ً
أ�صل ..ولي�س يف قول لفظ اجلاللة جمردًا �أي ثواب ..ثم يبد�أون
يف رفع حرف الألف ويقولون هلل هلل ..ثم يتطورون فريفعون الالم
ويقولون «ل ُه لهُ» ..ثم يرفعون الالم الأخرى ً
و�صول �إىل ذكر اجلن..
«هوه هوه» ..وهو تقرب �إىل اجلن ويخدعون اجلهلة من النا�س ب�أنه
ذكر اخلوا�ص ..ثم يتجلى ال�شيخ الأفاق ..وتتجلى غفلة النا�س ..حيث
يدعي ال�شيخ الفاجر �أن النبي حممد قد ح�ضر ..وي�سمونها احل�ضرة
النبوية ..و�أحيا ًنا ي�سمونها احل�ضرة الإلهية ..ولك �أن تتخيل من
يزعمون ح�ضوره يف تلك احل�ضرة الإلهية.
-ال �أ�صدق هل نحن نحيا يف عامل يعج بال�سحرة �إىل هذا احلد؟
-ا�سمع� ..إذا ر�أيت الرجل مي�شي على املاء �أو يطري يف الهواء ..وهو
خمالف ل�شرع اهلل مبتدع ..فاعلم �أنه م�ؤيد ب�شيطان..
لي�ست الكرامة هي دليل �صحة العقيدة �أو الوالية ..هذه خدعة
اجلهلة وال�ضعفاء ..يرونهم يقرتفون الفواح�ش واملعا�صي التي تقرب
�إىل ال�شيطان ..ويبجلونهم ويعتقدون �أنهم �إىل اهلل �أقرب..
� -أتظن �أين لو �س�ألت ال�شيخ فلن ينفعني؟
163
-من �أتى �ساح ًرا ف�صدقه فقد كفر ..ما الذي ميكن �أن يقدمه لك
�ساحر� ..سيجرك �إىل الكفر ج ًرا ..ال جتعل �أي حمنة تدفعك لل�شرك
باهلل ..اجلن ال يخدم الإن�س �إال بالكفر� ..سيطلب منك قربا ًنا وال �شك.
-وما �أدراين بقرابينهم؟
احك يل
-هذه الأمور وا�ضحة ولن تختلط على رجل متعلم مثلكِ ..
ما حدث عند ال�شيخ.
فق�ص�صت عليه ما حدث ..فقال :هل كانت ال�شمعة التي ر�أيتها
حمراء؟
-نعم..
-عليها طل�سم؟
-نعم ..بل طال�سم.
� -إنها هي �إذن� ..إنها �شمعة هاروت وماروت..
-وماذا �إذن؟
-ال عليك كنت قد �سمعت عنها ..مل �أكن ر�أيت �أحدً ا ي�ستخدمها
من قبل� ..إنها نادرة ولي�س كل �ساحر قادر على ا�ستخدامها..
-مل تقل يل ما ر�أيك فيما قاله يل م�ؤن�س؟
164
نف�سا ..وتقربها قربا ًنا لل�شيطان ..وتعرب
-هو يطلب منك �أن تقتل ً
بوابة بني عاملينا ..عامل اجلن وعامل الإن�س ..هل بعد كل ذلك ت�س�أل؟
كل هذا �شرك وكفر.
-ولكن اللعنة �ستنحل.
-غري �صحيح ..فا�ستدراجك �إىل الكفر عمل �أ�صيل لل�شيطان..
لي�س له عالقة برغباته الأخرى �أو انتقامه� ..إنها فقط فر�صة ..فقتلك
و�أنت كافر خري عنده من قتلك و�أنت م�ؤمن ..ثم هو يجرك �إىل لعنة
�أكرب� ..إنها لعنة قتل النف�س الربيئة بغري نف�س� ..إنها لعنة ال تنحل
بقرابني الأر�ض� ..ستلقى بها اهلل..
�سكت ونظرت �إىل الأر�ض حريان..
ُّ
� -أمل تقل �إنكم كنتم �ستة يف تلك الليلة؟
-نعم �أنا ونزار واحلاج طاهر ور�ؤوف وراندا و�سابق..
-فكيف كانوا خم�سة هم من و�ضعت عليهم العالمة؟
علي كلماته ك�صفعة قوية �شعرت معها بالدم يتدفق �إىل
نزلت ّ
ر�أ�سي بعنف ..كيف مل �أنتبه لذلك؟
يا ربي ..هذا معناه �أن �أحد احل�ضور هو من و�ضع العالمة..
مل يبق غريي �أنا و�سابق ..نعم �إنه �سابق ..لقد كان على يد �سابق
عالمة بارزة� ..إنها وحمة �سوداء كبرية على ظهر يده� ..أذكر يوم
165
ر�أيتها ..وظننتها من �أثر م�صافحته للجنية ..وقد �سافر ومل نعرف له
�أثر ..لقد م�سح �أيدينا بزجاجة م�سك� ..إنها العالمة..
� -إذن ابحث عن �سابق ..فيمكنك �أن حتل معه امل�س�ألة وتعفي
نف�سك من الكفر لفك اللعنة..
نعم هذا هو احلل� ..س�أعرث على �سابق ولو جئت به من قاع بحريته
يف القرية..
h
166
)(12
168
� -أنا ه�شام �أال تذكرين؟
�إنه ه�شام الذي كان جا ًرا لر�ؤوف وراندا يف الطابق الثالث يف
�شقتهما القدمية.
-بالطبع �أذكركً � ..
أهل بك.
-ملاذا ت�سري وحدك؟ تعال �أو�صلك.
-ال �شك ًرا� ..أنا �أمت�شى ً
قليل.
-ولكني �أريد �أن �أتكلم معك.
فركبت معه ال�سيارة..
قال :ملاذا ال ت�أتي لزيارتنا؟
-ومنذ متى ونحن نتزاور؟
-ومل ال؟
-لأين ال �أريد �أن �أدخل تلك البناية مرة �أخرى.
-ملاذا؟
-لأنها حتمل بالن�سبة يل ذكرى �سيئة.
� -أعلم �أنك كنت �صدي ًقا لراندا ور�ؤوف ..ولكن يجب �أن تكون �أقوى
من ذلك ..لقد كانا عزيزين علينا جمي ًعا.
169
ومد يده �إىل �صندوق التبغ بجواره و�أخذ لفافة ومد يده �إ ّ
يل بها..
وما �إن نظرت �إليها حتى لفت نظري طرف و�شم على باطن ذراعه
يخرج من حتت كم قمي�صه ..ف�أم�سكت ذراعه بعنف �شديد ..وقلت
له :ما هذا؟
فارتبك ب�شدة وقال :ماذا؟ �إنه و�شم!
مل يخطر على ر�أ�سي حلظتها �إال قول الطفل الذي فتح املندل «�إنه
رجل على يده عالمة»..
نعم �إنه هو ..والعالمة قد خرج وو�ضعها على الأر�ض يف تلك
الليلة� ..إنه املاء الذي ر�شه على الأر�ض ..ومررنا عليه جمي ًعا �أثناء
نزولنا ..و�سابق مل يتعر�ض للعنته لأنه كان قد رحل ..و�أنا مررت على
املاء �أول مرة بعد �أن ودعت «�سابق» و�شعرت به�شام على ال�سلم..
لقد كان ي�ضع العالمة ..العالمة التي يتتبعها ال�شيطان لي�أخذنا
قربا ًنا� ..إنه مل يكن �سابق هو اخلائن بل كان ذلك الوغد.
�أم�سكت به وكدت �أن �أحطم عنقه ..و�أقتله خن ًقا ..كان يقاومني
ومل �أدر ما تلك القوة التي دبت يف ج�سدي حلظتها ..لقد كدت �أن
�أفتك به ..لوال �أنه مد يده �إىل مقب�ض مقعد ال�سيارة اجلانبي ..رفعه
فهبط ظهر املقعد �إىل اخللف حتى متدد ..فتناول �أداة حديدية كانت
على املقعد اخللفي لل�سيارة و�ضربني بها على ر�أ�سي ..ففقدت الوعي..
يل الوعي ..فوجدت «ه�شام»مل �أدر كم مر من الوقت حتى عاد �إ ّ
بجانبي يدخن لفافة يف هدوء ..و�أنا ممدد على �أريكة يف مدخل منزل..
170
قلت� :أين �أنا؟
� -أنت يف بيتي.
فهممت �أن �أقوم.
فقال :ال تخف �أنت يف �أمان و�أنا لن �أ�ؤذيك.
� -أريد �أن �أم�شي.
ام�ش ولكن �أخربين � ًأول ملاذا حاولت قتلي؟
-ح�س ًنا ِ
فم�سحت وجهي وقلت له� :أنت ال�سبب يف كل ما جرى.
-ما معنى هذا؟
ً
�صارخا� :أل�ست �أنت الذي �سحرت «ر�ؤوف» وراندا؟ �أل�ست �أنت قلت
من و�ضع العالمة علينا وجعلتنا فري�سة ل�شيطانك؟
قال بتعجب :هل تظن �أين �ساحر؟
� -أنا مت�أكد� ..أمل تعلق لنا مق�شة ..ونعلني؟
-تظن �أين �ساحر لأين �أ�ضع مق�شة ونعلني ..لقد كنت �أحاول �أن
�أحمي نف�سي وعائلتي من ذلك ال�ساحر ال�شيطاين..
-نعم �أنت �ساحر.
� -أنت ال تعرف �شي ًئا ..مل �أكن �أنوي �أن �أك�شف ال�سر الذي كنت
�أخفيه.
171
قلت ب�ضيق :تكلم باخت�صار.
-لن �أتكلم ..تعال معي.
� -إىل �أين؟
-ا�صرب� ..إذا �أردت �أن تعرف احلقيقة عليك بالتزام ال�صمت حتى
يت�س ّنى لعقلك �أن يتكلم.
�أخذين و�صعدنا �إىل ال�سطح فوق �شقة ر�ؤوف وراندا القدمية والتي
كانت يف الطابق الأخري ..ووقفنا �أمام الباب ف�أخرج من جيبه ق�ضي ًبا
حجر ًيا غري ًبا طوله ع�شرة �سنتيمرتات تقري ًبا..
فقلت له :ما هذا؟
-هذا حجر ي�سمى عرق ال�سواحل.
-وما هو عرق ال�سواحل؟
-هذا حجر كرمي له خوا�ص عظيمة وبه من الطاقة والقوى اخلفية
حي ..و�أعظم خا�صية له هي فتح
الكثري� ..إن به �س ًرا �إله ًيا ..فهو حجر ّ
الأقفال املغلقة..
-كنت �أعلم �أنك �ساحر.
جاهل ..قلت لك هذا حجر له قوى عظيمة ال عالقة -ال تكن ً
لها باجلن� ..أو ال�سحر ..هذا احلجر لو و�ضعته مع بع�ض حبات طعام
كالأرز ً
مثل ل�ستة �أ�شهر �ستختفي بالكامل� ..إنه حي ويتغذى� ..إنه من
�أ�سرار الطبيعة.
172
ثم �أخذ ي�سمي ويقول «با�سم احلي القيوم» ويطرق بهذا الق�ضيب
على مكان املفتاح ..كان الطرق خفي ًفا ومتتاب ًعا ..ول�ست �أفهم ما الذي
حدث وال كيف حدث ..ولكن انفتح الباب فج�أة..
قلت له بانفعال :ماذا تفعل؟
� -ش�ش�ش�ش�ش ..ادخل.
قليل يف الظالم حتى و�صلنا �إىل غرفةدخلنا ال�سطح ثم م�شينا ً
منعزلة مل �أكن �أعلم �أنها موجودة على ال�سطح ..يختبئ بابها خلف
مر�آة كبرية جدً ا وقدمية يغطيها الرتاب ..ظننتها ت�ستند �إىل اجلدار..
ولكنها كانت هي الباب نف�سه ..ا�ستخدم احلجر الغريب الذي فتح به
باب ال�سطح على طرف املر�آة ..ف�سمعت �صوت مزالج ينفتح ..فجذب
تلك املر�آة فانفتحت الغرفة.
انفتح نور الغرفة مبجرد �أن فتح بابها ..ف�إذا بها مفاج�أة كادت
تذهب بعقلي� ..إنها غرفة رمادية جدرانها مل�ساء وعلى اجلانب الأي�سر
من الباب لوحة مربعة �سوداء معلقة على اجلدار..
�شعرت بدوار خفيف ..دارت معه كل الذكريات �أمام عيني ..الطفل
الذي فتح املندل ..الغرفة الرمادية التي كانت �آخر ما ذكره الطفل قبل
�أن مي�ضي ..العالمة ..ال�شيطان ..كلمات ر�ؤوف ون�صيحته ب�أن �أحر�ص
على �سالمتي..
يا �إلهي ..ما هذا اجلنون؟
173
ر�ؤوف هو ال�ساحر؟!
�أيعقل �أن يكون كل ما حدث كان ب�سببه؟ �أكان هو اللغز وهو احلل؟
نعم �أذكر جيدً ا �أننا �سمعنا ليلة �أن ح�ضر نزار يف البيت �صوت
حترك �أثاث خ�شبي و�أنبوبة غاز يف ال�سقف ..وقالت راندا �أن مفتاح
ال�سطح هم ميلكونه وال �أحد ي�صعد هناك ..الآن ال�صورة وا�ضحة..
�إنها غرفة ال�شعوذة بنف�سها ..و�أنا �أراها الآن..
كانت رائحة الغرفة رطبة وعفنة ..على الرغم من �أن الأ�شياء
فيها مل يكن يعلوها الرتاب ..جتولت يف الغرفة فر�أيت خوامت كثرية
و�شموعا ..ورق ًعا من اجللد ..وزجاجات بها عظامً و�أحجا ًرا ملونة..
�صغرية ..كان هناك خفا�ش ميت يبدو �أنه كان يف و�ضع الت�شريح �أو
كامل به �أ�سفار كثرية ..كتاب �شم�سالتجهيز لطق�س ما ..ور�أيت رك ًنا ً
املعارف الكربى ..منبع �أ�صول احلكمة ..ال�سر املكتوم ..غاية احلكيم..
كتاب الفالحة النبطية ..م�صاحف الكواكب ال�سبعة� ..إنها الأ�سفار
ال�شيطانية التي كنت �أقر�أ عنها ..كان هناك من ي�شكك يف وجودها..
وها هي الآن بني يدي� ..أمهات الكتب يف ال�شعوذة والعرافة وا�ستح�ضار
ملوك اجلان� ..أ�سفار الكفر وال�شرك واللعنة..
كنت �أنظر �إىل الأ�شياء من حويل وال �أكاد �أ�صدق ما �أراه ..وكنت
�أ�شعر ب�شعور يعاودين بني احلني واحلني من وقتها� ..شعور ال �أ�ستطيع
و�صفه� ..شعرت بالغفلة وال�صدمة� ..شعرت باخلديعة واخليانة و�شعرت
بغ�صة يف حلقي ..كل الأفكار كانت تتقاطع يف ر�أ�سي..
174
قطع كل هذا ه�شام ً
قائل :لقد حذرته كث ًريا من نتائج ما يفعل..
ولكنه مل يكن ي�ستمع لأحد..
� -أنا ال �أ�ستطيع �أن �أ�صدق عيني..
-معك حق �أال ت�صدق ..ولكنها احلقيقة ..لقد كان ي�شرتي
كتب ال�سحر من كل مكان ويتتبعها منذ كنا يف اجلامعة ..هو ميلك
هذه الغرفة منذ �سنني ويرف�ض �أن ي�ؤجرها لأي �أحد ..بد�أ ممار�سة
الطقو�س عندما �سافر للخارج ..ثم نقل كل �أدواته هنا عندما عاد..
لي�ستقر هنا ..كنا ن�سمع كل يوم �أ�صواتًا غريبة ت�أتي من �شقته ..و�أحوال
غريبة يف البناية ي�شعر بها ال�سكان وال يفهمون من �أين ت�أتي ..كنت �أنا
الذي �أعرف ومل �أ�ش�أ �أن �أف�ضحه ..ولكنه ملأ البيت بالأ�شباح ..كان
ي�ستح�ضر الأرواح وال�شياطني ..كان يرتزق من وراء هذا الأمر كث ًريا..
ولكن مل يكن �أحد من مريديه يعرف عنوانه ..كان يقابلهم بعيدً ا..
وي�صنع طقو�سه يف البيت ..حتى جاء يوم وقال يل فيه �أنه تاب عما
كان يفعل ..وترك هذا العمل ..ولكنهم مل يرتكوه.
-من هم؟
-ال�شياطني ..هل حت�سب �أن الأمر بهذه ال�سهولة� ..إنه فخ� ..إن
طريق الذهاب غري طريق العودة� ..إن التقرب من ه�ؤالء يكون بقرابني
وكفر ..وتركهم ال يكون �إال باملوت� ..أو الت�ضحية بدم ..هذا ما قاله يل
ر�ؤوف بنف�سه.
175
-ولكن �أل�ست �أنت من ترك العالمة� ..أمل تر�ش ما ًء على الأر�ض
يوم كنا جنتمع هنا؟
-كنت �أر�ش كل يوم بعد الفجر ما ًء مبلح لأطهر عتبة الدار من �أي
�شيء ميكن �أن ي�ؤذينا ..وال �أ�سمح لأرواحه �أن متر من هنا..
-ولكن املندل قال �أن من و�ضع العالمة رجل على يده عالمة..
-هل فتحت املندل؟ وتدعي �أنني �أنا ال�ساحر؟ ح�س ًنا �إنه هو ..لقد
كان ر�ؤوف نف�سه هو من و�ضع العالمة ..فر�ؤوف كان على يده اليمني
ندبة كبرية تركها حرق ليده منذ الطفولة ..وهو �أثر ظاهر..
-نعم �أعرف ذلك ..ولكن كيف و�ضع العالمة؟
� -أمل ير�ش عليك �شي ًئا؟
-ال.
-لعله و�ضعه لك يف الطعام �أو ال�شراب يف بيته.
ف�ضربت بيدي على جبيني ..ومرت �أمام عيني الأحداث �سري ًعا:
نعم لقد �أعطانا جمي ًعا زجاجات بها ماء وقال �إنه زعفران لغ�سل الوجه
وال�شرب ..ومل يكن �سابق موجودًا ..لهذا مل ت�صبه اللعنة.
ولكن ال �أفهم ..كيف �أ�صابت اللعنة «ر�ؤوف» نف�سه؟
-ال �أعرف رمبا �شرب من املاء من غري ق�صد..
176
-ال ..تذكرت الآن ..يومها قامت راندا ب�أخذ القليل من املاء من
زجاجتها على منديل وجاءت مت�سح جبينه بها ..نظر �إىل الزجاجة يف
يدها ..ور�أيت على وجهه نظرة مل �أف�سرها وقتها مطل ًقا..
h
177
)(13
تركت «ه�شام» يف غرفة ر�ؤوف ونزلت �أهيم على وجهي ..مل �أدر
ماذا ميكن �أن �أ�صنع ..لقد اختلط كل �شيء ..مل يعد �شيء بداخلي
متما�س ًكا ..ال مبد�أ وال �صداقة ..وال ثقة ..وال علم..
م�شيت يف الطرقات هائ ًما على وجهي لي�س يل مكان بعينه لأتوجه
�إليه ..فتوجهت �إىل امل�سجد املعتاد الذي �أبيت فيه ..جل�ست حتى �صالة
الفجر ..وبعد ال�صالة جل�ست يف جانب امل�سجد ..كادت عيناي تغفوان
عندما ر�أيت �إمام امل�سجد �أمامي ..كان ً
�شيخا كب ًريا �أبي�ض الوجه
ق�صري اللحية ..يبدو على وجهه �أثر ال�سنني� ..إنه يبدو يف ال�سبعني
ينحن ظهره ..وقف �أمامي مبت�س ًما
من العمر ..ولكنه �صحيح �سليم مل ِ
وقال� :أما �آن لك �أن تتكلم؟
-معذرة ماذا تق�صد؟
178
� -أراك هنا كل يوم ..ت�أتي ذابل الوجه حزي ًنا مرتق ًبا ..ت�صلي
وتغفو مدة ثم تذهب ..و�أرى حالك يزداد �سو ًءا كل يوم ..هل بك من
علة ..هل حتتاج �إىل م�ساعدة� ..إذا اتخذت امل�سجد ملج�أ جل�سدك فهو
� ً
أي�ضا ملج�أ لروحك� ..أنا امل�س�ؤول عن هذا امل�سجد..
� -أنا يف جحيم يا �سيدي وال �أدري كيف �سينتهي..
فاحك يل لعلي �أ�ستطيع امل�ساعدة..
� -إن مل يكن عندك مانع ِ
� -س�أحكي لك...
ق�ص�صت عليه كل ما حدث منذ بداية الأحداث �إىل اكت�شايف
احلقيقة ..وتعمدت �أن �أ�ؤكد على ما قاله يل ال�شيخ يف امل�سجد الكبري.
قال :مبد�أ ًيا ال ينكر تلب�س اجلن بالإن�س �إال من قل علمه ..و�ضل
فهمه ..اجلن مت�س الإن�س وال�شيطان ي�ؤذي الإن�سان ..وقد �أتانا من
ر�سول اهلل في�ض من الأخبار عن الرقي وال�سحر واحلرز من ال�شيطان..
-نعم ُيحرتز من و�سوا�س ال�شيطان.
-ال لي�س هذا كل �شيء..
يقول النبي ً
مثل «من قال ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له ..له امللك
وله احلمد يحيي ومييت وهو على كل �شيء قدير يف يوم مئة مرة كانت
له حر ًزا من ال�شيطان ذلك اليوم»..
179
�أتراها حر ًزا يف ذلك اليوم من الو�سوا�س و»�أعوذ باهلل من ال�شيطان
الرجيم» لي�ست بحرز ذلك اليوم؟
بالطبع ال ..بل لكل منهما عمله ..فاال�ستعاذة تذهب بو�سو�سة
ال�شيطان ..والذكر املخ�صو�ص هو احلرز الذي مينع امل�س والتلب�س..
�إن اجلن ريح ..والريح تدخل ج�سم الإن�سان من فمه �أو �أنفه..
ولكنها حتتاج �إىل باب ُيفتح للدخول ..فالفرح ال�شديد والغ�ضب
ال�شديد وال�ضحك ال�شديد والفزع ال�شديد ..كلها تفتح الباب ليدخل
ال�شيطان مع النف�س ويجري جمرى الدم ..ونحن نراه ينطق على ل�سان
املم�سو�س وهو م�صروع ..ال ينكر ذلك �إال من ال جتربة له ..ويحكم مبا
ي�ستح�سنه عقله من ا�ستحالة ذلك..
فقلت :يا �سيدي كيف ذلك ويف القر�آن «�إن عبادي لي�س لك عليهم
�سلطان»؟
فقال� :أنت تخلط الأمر ك�سائر اخللق..
هل �إذا �أم�سك بك رجل يف الطريق و�ضربك �أو حتى قتلك� ..أيكون
بذلك له �سلطان عليك؟
فرددت :ال.
فقال :بالطبع ال ..لي�س الإيذاء ب�سلطان ..ال�سلطان هو �أن ي�أمرك
ً
�ساخطا ..هو �إذن له �سلطان عليك.. فتطيعه �سوا ًء كنت را�ض ًيا �أم
مينعك من ع�صيانه ..ي�سخرك له� ..أما �أن تدخل معه يف حرب
180
في�ؤذيك وت�ؤذيه ..فلي�س لأحد منكما �سلطان على الآخر..
-لقد قال ذلك عامل كبري فكيف �أرد قوله؟
-يا بني لقد قال ذلك عن عدم علم ..ولي�س عن علم بالعدم� ..أما
من جرب ور�أى فال ي�سعه الإنكار ..فلي�س من ر�أى كمن �سمع ..وقد �أتانا
اخلرب ال�صحيح ب�أن النبي �ضرب �صدر الغالم املم�سو�س وقال «اخرج
عدو اهلل �أنا نبي اهلل» ..ترى من �أي �شيء �أمره الر�سول �أن يخرج عند
�أ�صحاب العقول؟
-نعم ولكن امل�صروع ي�ستجيب للدواء والعالج واملر�أة امل�صروعة
دعا لها النبي ومل يقل لها �أنها مم�سو�سة..
هز ر�أ�سه نف ًيا وقال :هناك �صرع يعرفه الأطباء ال دخل لل�شيطان
به ..وهناك �صرع ال يعرفونه وهو ما نراه على الرجل يتخبطه ال�شيطان
من امل�س..
-ولكن �أل�ستم جميعكم علماء دين واحد ..كيف ينكره �أحدهم
وتثبته �أنت؟
يل نظرة �آ�سفة وقال :ما يفتيك به املفتي هو مذهبه ومعتنقهنظر �إ ّ
من الآراء املتعددة ..وال ُي�شرتط �أن ي�صيب ر�أيه احلق من الأحكام..
فمعتنقه ي�أتي من اجتهاده وممار�سته ..ولي�س من القراءة والتنظري..
العامل املجتهد هو العامل املجرب الذي تد ّين بعلمه ..ومار�س الأن�ساك
وعرف الع�سر والي�سر وفرق بني �أحوال النا�س ..ولي�س املفتي من يحفظ
حفظا فيلقيه عليك حال ال�س�ؤال ..الأحكام متوفرة يف الكتباحلكم ً
181
ملن يقر�أ ..ولكن فتوى العامل �شيء �آخر� ..إنها خال�صة فقهه للحياة
و�صروف الدهر و�أحوال النا�س ..الفتوى ترتبط باحلياة املتغرية
ال�صاخبة املزدحمة بالأحداث ..وهذا ال ُيد ّر�س يف الكتب.
-ماذا تق�صد؟ مل �أعد �أفهم..
� -س�أعطيك ً
مثال ..ميكنك �أن تقر�أ الفقه ..وميتلئ عقلك ب�أقوال
الفقهاء والتفا�سري ..ولكن ما يحكم عليك هو ما ملأ قلبك ولي�س
عقلك ..هو الذي يوجهك ..هو الذي يخرج على ل�سانك ..هو الذي
ميلأ فتاويك ..ميكنك �أن جتيز اخلمر املتخذ من ثمرة دون التمر
ورعا
والعنب لأن يف الكتب من قال ذلك اجتهادًا ..ولكن لو كان قلبك ً
خا�ش ًعا هلل ..فلن تتجر�أ على اهلل ..و�ستحرم اخلمر ولو اتخذت من
املاء ..وحتكم بخط�أ من قال غري ذلك..
فر ٌق بني �أن تكون عاملًا حتفظ الأحكام وموا�ضع اخلالف ..و�أن
ورعا تعرف حق اهلل وترعاه..
تكون فقي ًها ً
-نعم ولكن اختالف الأمة رحمة وهذا معناه �أن �أي ر�أي �أخذت
فهو حق..
قال م�ستنك ًرا :هذا كالم ال ي�صح ..لي�س كل اختالف رحمة..
وهناك فرق بني اخلالف واالختالف ..الرحمة قد تكون يف االختالف
يف امل�سكوت عنه فقط� ..سكت اهلل عنه رحمة بنا غري ن�سيان� ..أما ما
ح�سمه ال�شرع فاالختالف فيه ف�ساد..
182
افهم ذلك جيدً ا� ..إذا اجتهد عامل يف �أمر ما و�أخط�أ ف�سيكون له
�أجر ..ولكن اجتهاده يظل خط�أ ..فاحلق يف النهاية واحد ..ولي�س كل
ر�أي يذهب �إليه عامل يكون ح ًقا� ..أيقول �شيخ على �أمر ما ً
حالل و�آخر
حراما وكالهما يكون �صوا ًبا؟ هذا خلل يف فهم االختالف.
يقول ً
� -ألي�س الدين ي�سر؟
قال متعج ًبا :وما هو الع�سر فيما �أقول ..هل الي�سر يف نظرك هو
ما ذهب �إليه هواك وما ا�ستح�سنته من �أحكام ..هل الي�سر هو �إنكار
ما ينكره العقل ..هل الي�سر هو التخفف من التكليف ..هل الي�سر هو
�أن ترتك ما يثقل عليك فعله ..هل الي�سر هو �أن تقرتف املع�صية بحجة
اال�ضطرار؟
-ال ولكن ال�ضرورات تبيح املحظورات..
-لي�س كل �ضرورة تبيح حمظو ًرا ..بل حتى لي�ست كل رخ�صة
م�أتية ..فاحتياجك ال�شديد للمال ً
مثل �ضرورة ..فهل تبيح لك تلك
ال�ضرورة �أن ت�أكل الربا� ..أو ت�سرق� ..أو تقتل؟
لو طوع الإن�سان كل حمظور وا�ست�سلم لل�ضرورة مل يبق يف النا�س
دين ..ومل تبق لهم �أخالق ..وال كان هناك عفة �أو �شرف� ..ست�ستباح
ال�سرقة والفواح�ش لل�ضرورة..
ثم �أي رغبة يف نظرك جتزم �أنها �ضرورة؟ ال يوجد قانون �أو �ضابط
لل�ضرورات.
183
الرغبة يف امتالك قوت يومك� ..أم الرغبة يف ت�أمني م�ستقبلك..
�أيهما يف نظرك �ضرورة تبيح حمظو ًرا؟
كلها رغبات ُتلح على �أ�صحابها وال يرونها �إال �ضرورة ..وال�سرقة
حمظور ..والربا حمظور ..والقتل حمظور ..ف�أي حمظور من ه�ؤالء
تريد �إباحته ..وما احلجة التي تبيح �أحدهم وال تبيح الآخر؟
تفكر جيدً ا يا بني فالعبادة حتتاج �إىل العقل ..لي�س العقل الذي
يبيح ويي�سر وينتقد ويرف�ض الت�شريع ويتالعب بالأدلة ..ولكن العقل
الذي ين�صف ويتورع ويتقي �سخط اهلل ..ولو ب�سخط النا�س.
� -أرى �أن عالج ال�ساحر هو العالج الأف�ضل والأ�سرع ولي�س العالج
بالدين� ..إنهم.......
قال مقاط ًعا� :أخط�أت ..فال عالج بال�سحر ..لأنه ا�ستعانة باجلن..
واجلن ال يعني الإن�سان �إال بالتقرب له ..والتقرب له يكون بال�شرك..
قليل ..قد يخدعك بعالج زائف واجلن كذوب متالعب ال ي�صدُق �إال ً
ثم يزداد الأمر �سو ًءا ..وهذا �أمر مل�سناه ب�أيدينا ..وال ينبئك مثل خبري.
-نعم ولكني ر�أيت بعيني ً
رجال م�ؤمنني� ..صلوا واتخذوا كل ما
ا�ستطاعوا من الذكر وال�صالة والعمل ال�صالح وال يرب�أون من هذه
اللعنات..
-هذا ما تظن ..الإميان يا بني له قانونه اخلا�ص ..فلي�س كل �إميان
هو كما تظنه ..لي�س كل من قال �أنه م�ؤمن فهو م�ؤمن خمل�ص �صادق..
خال�صا لوجه اهلل ..ويخلو من
را�سخا ..ولي�س كل �إميان ً لي�س كل �إميان ً
184
ال�شرك ..ولي�س كل �إميان مبن ًيا على عقيدة �صحيحة ..هناك �إميان
ميكنك �أن حتيا به يف ال�سراء فقط ..وما �إن ت�أتي املحنة حتى تكت�شف
�أنك كنت تعبد اهلل على حرف ..يهتز �إميانك ومتلأه ال�شكوك ..املحنة
يا بني هي التي حتكم على �إميانك بالقوة �أو ال�ضعف ..البالء هو
املحك..
البالء هو مر�آة ال تكذبُ ..يعرف فيه ال�صادق من املُ ّدعي..
-لقد عانينا ..وكثري من النا�س يعاين من م�س اجلن ..ملاذا يعانون
بهذا ال�شكل؟ ملاذا ي�سمح اهلل بت�سلط اجلن على النا�س؟ لقد فتح حجر
ال�شيطان الباب �أمام عيني ..كيف ُي�سمح للجن بهذا الطغيان؟
-يا بني ال تظلم نف�سك..
لقد حرم اهلل الظلم على نف�سه وحرمه بني خلقه ..ومع هذا فهم
يظلمون ..فلي�س يف هذا ظلم من اهلل لأحد ..ولي�س يف ظلم اجلن
للإن�س �شي ٌء �أكرث من ظلم الإن�س للإن�س� ..أال ترى كث ًريا من النا�س
يتعر�ض لظلم و�إيذاء من �صاحب �سلطة �أو جاه �أو مال؟ �أال يرتب�ص
النا�س بع�ضهم لبع�ض وي�سفكون دماءهم؟
الفرق هنا �أن الظامل خفي عن الأنظار..
�أما ذلك الباب الذي فتحه حجر ال�سحر ف�إنه مل يكن مغل ًقا قط.
-غري �صحيح ..لقد كان مغل ًقا �أنا متيقن من ذلك.
185
-قال النبي حممد «�إذا ذهبت �ساعة من الليل فكفوا �صبيانكم..
و�أغلقوا �أبوابكم واذكروا ا�سم اهلل ..وخمروا �آنيتكم واذكروا ا�سم
اهلل ..و�أوكئوا قربكم واذكروا ا�سم اهلل ..ف�إن ال�شيطان ال يفتح با ًبا
مغل ًقا».
ق�سم باهلل لو ُذكر ا�سم اهلل على ذلك الباب وهو ُيغلق ما فتحته �أُ ُ
�شياطني الأر�ض ولو اجتمعوا على �ألف عرق �سواحل ..ولكننا نغلق
�أبوابنا وال نذكر عليها ا�سم اهلل.
ا�سمعني يا بني ..ال ت�سمح للأفكار �أن تتالعب بك وت�شك باهلل..
واجه القدر بنف�س را�ضية وتوكل ..لقد �شاهدت من ي�سكنون الغيب
بعينك وروحك ..ولقد �أ�صبحت متلك اليقني فيما ي�شك فيه كثري من
النا�س.
-ولكني �أدفع حياتي ثم ًنا لهذا اليقني..
-وهناك من يدفع حياته باختياره فدا ًء لذلك اليقني ..هناك من
يندفع يف معركة م�ضح ًيا بحياته وماله وزوجته و�أوالده ورخاء عي�شه
فدا ًء ليقني امتلكه فملك عليه حياته ..فاحلياة الدنيا لي�ست هي كل
�شيء ..هناك حياة �أخرى �أبقى ..وكلنا عائدون �إىل ربنا ..ف�إن ُقدر
لك �أن تكون رحلة عودتك �إىل ربك هي رحلة يقني فال ت�ضيعها ب�أفكار
�شيطانية تهز اليقني الذي �أُهدي �إليك..
� -إذن ما الذي ينتظره ذلك ال�شيطان؟ ملاذا مل ي�أت لقتلي ..ملاذا
ي�صنع كل هذا بي؟
فقال م�شف ًقا :لأنه �ضعيف ..ال تخدعك الأ�شكال التي ر�أيتها� ..إنه
يت�شكل ولي�س كل �شكل ي�أخذه هو بال�ضرورة اخللقة التي خلقه اهلل
186
أي�ضا �ضعيف ..لذلك فهو يتخذ عليها ..هو بالفعل �ضعيف وكيده � ً
� ً
أ�شكال حتب�س الأنفا�س ..وي�سحب ال�ضوء والطاقة من املكان ..هذا نوع
من اال�ضطهاد ..ي�ضطهد �ضحيته حتى ي�صنع اخلوف ..ف�إذا تواجد
اخلوف ف�إنه يتغذى عليه ..ي�ستطيع معه �أن يخيل �إليك الكثري ..ويرتفع
بخوفك �إىل اجلنون ..وقتها ي�ستطيع �أن يفعل بك ما ي�شاء ..ف�إذا كنت
تريد الن�صيحة ..فهي �أال تخاف..
�إذا كان مقد ًرا لك �أن متوت ف�ستموت ..ولن مينع اخلوف ذلك..
�إذا كان مقد ًرا لك �أن يكون موتك على يده فاخلوف لن يقدم ولن
ري لك من �أن متوت خائ ًفا جبا ًنا..
�شجاعا خ ٌ
ً ي�ؤخر ..فلتمت
-من �أين �آتي بال�شجاعة و�أنا �أجهل عدوي؟
-بل تعرفه جيدً ا ..عدوك �ضعيف ..و�إن كان به قوة ف�شجاعتك
هي فقط التي تعطيك الفر�صة لتقاوم وقد تنت�صر ..ف�إذا مل تنت�صر
فلن تكون فري�سة �سهلة ..ال ت�سمح لنبوءة الطالع �أن جتعلك خائ ًفا..
اطرح خماوفك جان ًبا لتك�سر تلك النبوءة ..تعامل معه كل�ص يحاول
�أن يت�سلل �إىل بيتك خفية� ..ألن تواجهه وتقتله؟
-نعم.
-ح�س ًنا افعل ذلك و�ستجد �شجاعتك ..تعامل معه كعدو من الإن�س
دفاعا عن حياتك وال ت�ست�سلم للخوف ..اخلوف
يريد �إيذاءك ..وقاتل ً
�سيقتلك �ألف مرة بدون �سالح ..اخلوف �سيقتل روحك قبل �أن ميوت
ج�سدك.
187
جراحا يف نف�سي وفتحت
� -شك ًرا لك يا �سيدي ..لقد داوت كلماتك ً
يل �أبوا ًبا من الرحمة ..ليتني قابلتك منذ مدة ..كان ميكن لأ�شياء
كثرية �أن تتغري.
-لكل �شيء وقته املقدر ..ورمبا لو �سمعت كلماتي بالأم�س مل ُت�صب
من قلبك مو�ض ًعا ..فالقلوب تتقلب ..اليوم قلبك مفتوح يقظ ..ورمبا
بالأم�س كان ً
غافل قا�س ًيا مل تكن تزده كلماتي �إال ق�سوة ونفو ًرا..
هل تريدين �أن �آتي معك؟
تفكرت ً
قليل ثم قلت :ال يا �سيدي �شك ًرا لك� ..أنا �أعرف الآن ماذا
�س�أفعل..
ثم قبلت ر�أ�سه وان�صرفت..
hhh
ً
م�شعل لفافة تبغ مرت�ش ًفا �إياها �صباحا وقف ه�شام
ً يف ال�سابعة
يف هدوء و�أخذ يهز ر�أ�سه يف ر�ضا وهو ينظر �إىل الزحام وعربات
الإ�سعاف وال�شرطة �أمام البناية التي يقطنها مازن ..بينما كان بجواره
191
ً
�صراخا �شديدً ا و�صوت اجلريان يتحدثون �أنهم يف الليلة املا�ضية �سمعوا
زجاج يتحطم ..وا�ستمر ال�صوت طيلة الليل حتى الفجر ولكن مل تعرث
ال�شرطة على �أي �أثر لزجاج مك�سور بجوار جثة ذلك ال�شاب امل�سكني..
راحل وهو يتنف�س ال�صعداء ..فا�صطدم برجل كان التفت ه�شام ً
يقف وراءه مبا�شرة يف قوة وثقة وا�ض ًعا يديه يف جيبه ..فرفع ب�صره
�إليه ليت�سمر يف مكانه من املفاج�أة ..وهو يقول :ما ..مازن ..كيف؟
ثم نظر �إىل �سيارة الإ�سعاف يف فزع وهو يقول :من الذي مات �إذن؟
ف�أخرج مازن يده من جيبه ..ف�إذا به مم�سك حجر عرق ال�سواحل..
�أخذ يقذفه يف الهواء وعلى وجهه نظرة �سخرية ثم قال:
مل تعد وحدك من ب�إمكانه �أن ي�ضع العالمات.
-تمت -
h
192