You are on page 1of 58

‫�قاعدة‬

‫المتعدي أفضل من ال�قاصر‬


‫اً‬
‫تأصيل وتطبيً�قا‬

‫�إعداد‪:‬‬
‫د‪ .‬م�سلّم بن حممد الدو�رسي‬
‫الأ�ستاذ امل�شارك بق�سم �أ�صول الفقه‬
‫ال�سالمية‬
‫المام حممد بن �سعود إ‬ ‫كلية ال�رشيعة ‪ -‬جامعة إ‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املقدمة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على الر�سول الأمني‪ ،‬نبينا‬


‫حممد‪ ،‬عليه �أف�ضل ال�صالة و�أمت الت�سليم‪ ،‬وعلى �آله ومن تبعه ب�إح�سان �إلى‬
‫يوم الدين‪� ،‬أما بعد‪:‬‬
‫درجات‪ ،‬وفا�ضل بينهم (ﭑ ﭒ‬
‫ٍ‬ ‫فقد خلق اهلل اخللق‪ ،‬وجعلهم‬
‫ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ) [الأنعام] ‪( ،‬ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ) [�آل عمران]‪ ،‬كما تواترت ن�صو�ص ال�سنة يف‬
‫بع�ض‪ ،‬وقد كانت معاين ذلك التف�ضيل ظاهر ًة‬ ‫تف�ضيل بع�ض الأعمال على ٍ‬
‫�سليم‪.‬‬
‫عقل ٍ‬ ‫يدركها كل ٍ‬
‫ونحن �إذا ت�أملنا تلك الن�صو�ص جند �أن �أ�سباب املفا�ضلة بني الأعمال‬
‫التي وردت ال�شريعة باملفا�ضلة بينها متفاوت ٌة‪ ،‬ويعد التعدي يف النفع من �أبرز‬
‫‪19‬‬ ‫الأ�سباب التي وردت الن�صو�ص بالإ�شارة �إليها‪ ،‬ومتثلت يف واقع تعليالت‬
‫علماء ال�شريعة يف موا�ضع ال حت�صى‪� ،‬إال �أن الأعمال التي يتعدى نفعها كث ًريا‬
‫ما تتعار�ض مع الأعمال القا�صرة وتتزاحم معها‪ ،‬فيقع الرتدد يف املقدم‬
‫منهما �سوا ٌء لدى املفتي ‪�-‬أي العامل املجتهد‪� -‬أو لدى العامي املقلد �أو من‬
‫حظا من العلم ومل يبلغ رتبة االجتهاد‪.‬‬‫�أوتي ًّ‬
‫وكث ًريا ما وقع اخلالف يف فروع الفقه يف م�س�أل ٍة ما ب�سبب تعار�ض العملني‬
‫املتعدي والقا�صر‪ ،‬وا�شتباه الأمر على الفقيه ب�سبب اال�شتباه يف حمل احلكم‪،‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫خا�ص ًة و�أن املقدم يف الأعمال املتعار�ضة واملتزاحمة هو ما �أف�ضى �إلى‬


‫امل�صلحة الراجحة‪ ،‬ومن املعلوم �أن تقدير حتقق امل�صالح ومقدارها يخ�ضع‬
‫لالجتهاد و�إعمال النظر‪ ،‬وهذا م�أخ ٌذ ينبغي االلتفات �إليه عند التحقيق يف‬
‫�سبب تفاوت مواقف الفقهاء يف املقدم من العملني املتعدي والقا�صر‪.‬‬
‫متهيد �إلى �شيءٍ من �أهمية هذا املو�ضوع‬ ‫ٍ‬ ‫وحيث �أملحنا فيما �أ�سلفنا من‬
‫فقد كان الغر�ض منه �أن ندلف �إلى مو�ضوع هذا البحث‪ ،‬الذي يتناول‪:‬‬
‫(قاعدة املتعدي �أف�ضل من القا�صر ‪ -‬ت� اً‬
‫أ�صيل وتطبي ًقا)‪.‬‬
‫ونحن �إذا �أدركنا �أن �أعمال املكلف ال تخلو من �أن تكون متعدي ًة �أو قا�صر ًة‪،‬‬
‫و�أنه يعر�ض له يف يومه ما يف�ضي �إلى تزاحم الأعمال املتعدية والأعمال‬
‫القا�صرة لديه‪ ،‬و�أنه يحتاج �إلى معرفة الأقرب �إلى منهج ال�شرع يف املوازنة‬
‫والرتجيح بني العملني املتزاحمني‪ ،‬ف�إننا �سندرك �أهمية حترير مو�ضوع هذه‬
‫القاعدة‪ ،‬وتقريب مواقف العلماء منها‪ ،‬و�إي�ضاح جمال �إعمال هذه القاعدة‪،‬‬
‫و�شروط �إعمالها‪ ،‬وذلك للتحقق من مدى �صحة �إطالقها‪ ،‬واال�ستناد �إليها‬
‫يف العمل والفتوى‪.‬‬
‫وقد ر�أيت �أن يكون هذا البحث وفق الآتي‪:‬‬
‫املقدمة‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫متهي ٌد يف �أهمية املفا�ضلة بني الأعمال‪ ،‬و�أ�سبابها‪.‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬معنى القاعدة‪.‬‬
‫املبحث الثاين‪� :‬ألفاظ القاعدة‪ ،‬و�أركانها‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪� :‬ضوابط التعدي يف الأعمال‪.‬‬
‫املبحث اخلام�س‪� :‬شروط �إعمال القاعدة‪.‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث ال�ساد�س‪ :‬اال�ستدالل للقاعدة‪.‬‬


‫املبحث ال�سابع‪ :‬مواقف العلماء من القاعدة‪ ،‬وجمال �إعمالها‪.‬‬
‫املبحث الثامن‪ :‬تطبيقات القاعدة‪.‬‬
‫املبحث التا�سع‪ :‬املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية‪.‬‬
‫اخلامتة‪.‬‬
‫وترجع �أ�سباب اختيار هذا املو�ضوع �إلى الآتي‪:‬‬
‫‪1.1‬عدم و�ضوح مواقف العلماء من �صحة �إطالق هذه القاعدة‪ ،‬و�إنكار‬
‫بع�ضهم �صحة �إطالقها‪ ،‬وا�ضطراب مواقفهم عند التطبيق‪.‬‬
‫‪2.2‬تكرر وقوع الأعمال املتعدية والقا�صرة من عموم املكلفني وحاجتهم‬
‫�إلى معرفة املقدم منها‪ ،‬ووجه تقدميه‪.‬‬
‫‪3.3‬حترير بع�ض املو�ضوعات املتعلقة باملفا�ضلة بني الأعمال املتعدية‪ ،‬مثل‬
‫م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية‪ ،‬و�ضوابط التعدي يف الأعمال‪.‬‬
‫‪4.4‬حترير بع�ض الق�ضايا امل�ؤثرة يف حتقيق �صحة �إطالق هذه القاعدة‪،‬‬
‫و�شروط �إعمالها‪ ،‬وجمال الإعمال‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪5.5‬عر�ض جمل ٍة من التطبيقات الفقهية املتقدمة واملعا�صرة لتقرير ما‬
‫يرتجح لدينا يف جمال �إعمال هذه القاعدة‪.‬‬
‫ا�ستدالالت‬
‫ٍ‬ ‫ويعتمد منهجي يف البحث على ا�ستقراء ما �أورده العلماء من‬
‫ومناق�شات يف امل�سائل ذات العالقة بتزاحم الأعمال املتعدية والقا�صرة‬
‫ٍ‬
‫واملفا�ضلة بينها‪ ،‬وحتليلها‪ ،‬ومناق�شتها‪ ،‬والإفادة منها يف الت�أ�صيل لهذه‬
‫القاعدة‪ ،‬مع العناية بالتوثيق‪ ،‬وعزو الآيات‪ ،‬وتخريج الأحاديث وفق املنهج‬
‫العلمي املتبع‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫وبح�سب بحثي مل �أجد من �أفرد هذه القاعدة بالبحث والدرا�سة وفق‬


‫خطة البحث التي اعتمدتها لدرا�ستها‪� ،‬إال �أنه جتدر الإ�شارة �إلى �أن هناك‬
‫درا�سات تناولت مو�ضوع املفا�ضلة ب�صور ٍة عام ٍة‪ ،‬وكان من �أهمها ما يلي‪:‬‬
‫ٍ‬
‫� اًأول‪ :‬كتاب (املفا�ضلة يف العبادات ‪ -‬قواعد وتطبيقات) ل�سليمان بن‬
‫حممد النجران‪ ،‬وهو يف �أ�صله ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬تناول فيها الباحث‬
‫جمل ًة من الق�ضايا ذات العالقة بت�أ�صيل مبد�أ املفا�ضلة‪ ،‬وخ�ص بحثه‬
‫مبا يتعلق بجانب العبادات‪ ،‬كما تعر�ض الباحث ملو�ضوع التف�ضيل‬
‫باعتبار التعدي يف الأعمال عند كالمه على �أ�سباب املفا�ضلة بني‬
‫العبادات‪ ،‬وقد نقل يف هذا املعنى عددًا من الن�صو�ص النبوية امل�ؤيدة‬
‫ملبد�أ التف�ضيل باعتبار التعدي يف النفع‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬كتاب (نظرية التفا�ضل ال�شرعي عند الإمام ابن تيمية ‪ -‬درا�سة‬
‫يف �ضوء مقا�صد ال�شريعة) للح�سن بن مو�سى اجلزائري‪ ،‬والكتاب‬
‫يف �أ�صله ر�سالة علمية‪ ،‬تناول فيها الباحث عددًا من الق�ضايا‬
‫الت�أ�صيلية لت�أ�سي�س نظرية التفا�ضل ال�شرعي عند الإمام ابن تيمية‪،‬‬
‫وقد ر ّكز الباحث جهده على تفح�ص م�ؤلفات �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‬
‫والن�صو�ص الواردة عنه يف مباحث التفا�ضل ال�شرعي يف الأعمال‪� ،‬إال‬
‫�أن هذه الدرا�سة مل تتطرق �إلى قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)‬
‫‪22‬‬
‫�أو �إلى ما يتعلق بجوانب التعدي يف النفع يف الأعمال‪.‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫متهيدٌ‬
‫يف �أهمية املفا�ضلة بني الأعمال‪ ،‬و�أ�سبابها‬

‫اهتم العلماء بدرا�سة �أ�سباب املفا�ضلة بني الأعمال‪ ،‬ووجوهها‪ ،‬و�أنواعها‪،‬‬


‫وذلك من �أجل عدم اخللط بني فا�ضل الأعمال ومف�ضولها‪ ،‬فت�ضطرب‬
‫عبودية اخللق خلالقهم‪ ،‬وقد �أ�شار عد ٌد من العلماء �إلى �أهمية هذا املو�ضوع‪،‬‬
‫أحد وال ي�س ّوي‬ ‫أحد �أن ُي ّ‬
‫ف�ضل �أحدً ا على � ٍ‬ ‫فقال العز بن عبدال�سالم‪“ :‬لي�س ل ٍ‬
‫أحد حتى يقف على �أو�صاف التف�ضيل”(‪ ،)1‬ويقول ابن تيمية‪“ :‬وهذا‬ ‫�أحدً ا ب� ٍ‬
‫الباب �إنْ مل ُيعرف فيه التف�ضيل‪ ،‬و�أن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال يف كث ٍري‬
‫ري” (‪.)2‬‬
‫ا�ضطراب كب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫من الأعمال‪ ،‬و�إال وقع فيه‬
‫ولذا ف�إن العلم بحقيقة املفا�ضلة و�أنواعها وحترير �أ�سبابها تقي من‬
‫اخللط بني الفا�ضل واملف�ضول‪ ،‬فرمبا ُف ّ�ضل عم ٌل على ٍ‬
‫عمل‪ ،‬و ُر ّجح دون وجه‬
‫ترجيح �أو تف�ضيل‪ ،‬كما يح�صل يف ترجيح بع�ض الأعمال املت�ساوية التي ال‬ ‫ٍ‬
‫مقاوما ملا يخت�ص به الآخر(‪،)3‬‬
‫تفا�ضل بينها‪ ،‬وقد يكون ما يخت�ص به �أحدها ً‬
‫اً‬
‫تف�ضيل مطل ًقا وف�ضلها مقي ٌد‪� ،‬أو العك�س‪.‬‬ ‫ورمبا ُف ّ�ضلت بع�ض الأعمال‬
‫‪23‬‬
‫ولذا ف�إن وجوه �أهمية املفا�ضلة بني الأعمال تتمثل يف الآتي‪:‬‬
‫الوجه الأول‪ :‬ا�ستظهار مقا�صد ال�شرع‪.‬‬
‫وح َك ٌم جليل ٌة‪ ،‬ومنها ظهور‬
‫ف�إن التفا�ضل بني الأعمال له مقا�صد عظيمة ِ‬
‫مقت�ضيات �أ�سماء اهلل احل�سنى و�صفاته العلى يف �شريعته‪ ،‬التي هي خامتة‬
‫(((  و�صف التف�صيل يف ك�شف التف�ضيل (�ص‪.)20‬‬
‫(((  جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)199/24‬‬
‫(((  جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)252/24‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫ال�شرائع‪ ،‬وكمال ربوبيته على خلقه‪ ،‬واكتمال عبودية اخللق خلالقهم عز‬
‫وجل‪ ،‬وحتقيق العدل يف الأعمال والأ�شخا�ص‪.‬‬
‫كما �أن العمل وفق مقت�ضيات امل�صالح الراجحة �أو املفا�سد الغالبة هو‬
‫من �أعظم مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ويتجلى هذا املق�صد من خالل مراعاة الوجوه‬
‫ال�شرعية للمفا�ضلة و�أ�سبابها املعتربة‪ ،‬التي من خاللها ُتق ّدم امل�صالح‬
‫وتراعى املفا�سد الراجحة‪.‬‬
‫ُي�ضاف �إلى هذا �أن يف مراعاة �أحوال التفا�ضل حتقي ًقا ملق�صد رفع احلرج‬
‫والتي�سر على املكلفني؛ وذلك �أن اختالف �أحوال التفا�ضل باختالف الأحوال‪،‬‬
‫حال �أخرى‪ ،‬بح�سب اختالف‬ ‫اً‬
‫مف�ضول يف ٍ‬ ‫حال قد يكون‬ ‫فما يكون اً‬
‫فا�ضل يف ٍ‬
‫الأزمنة �أو الأمكنة �أو الأ�شخا�ص‪ ،‬وهذا من متام الي�سر ورفع احلرج؛ �إذ �إن‬
‫التفات �إلى اختالف الأحوال مدعا ٌة �إلى‬
‫ٍ‬ ‫املفا�ضلة املطلقة بني الأعمال دون‬
‫وقوع العنت والع�سر‪ ،‬ويف هذا يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪�“ :‬أكرث النا�س‬
‫وجه ال ينتفعون به‪،‬‬
‫يعجزون عن �أف�ضل الأعمال‪ ،‬فلو �أمروا بها لفعلوها على ٍ‬
‫مرجوحا‪ ،‬فيكون يف حق �أحد ه�ؤالء العمل الذي ينا�سبه‬
‫ً‬ ‫انتفاعا‬
‫ً‬ ‫�أو ينتفعون‬
‫الذكر لكثري من النا�س‬‫وينتفع به �أف�ضل له مما لي�س كذلك‪ ،‬ولهذا يكون ِّ‬
‫�أف�ضل من قراءة القر�آن‪.)1(”...‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬حتقيق كمال االمتثال بالوقوف عند حدود ال�شرع‪.‬‬ ‫‪24‬‬
‫وذلك �أن النا�س جتاه الأعمال عند تزاحمها من يخطئ املق�صود‪ ،‬فيقدم‬
‫املف�ضول و ُيهمل الفا�ضل‪� ،‬أو يبالغ يف تقدمي الفا�ضل متجاو ًزا به ما �شرع‬
‫اهلل‪ ،‬اعتمادًا على رجحانه‪ ،‬وقد يح�صل �أن ُيهمل املف�ضول بالكلية مع �إمكان‬
‫حال �أخرى‪ ،‬ولذا ف�إن �إدراك وجوه الرتجيح واملفا�ضلة بني‬ ‫حت�صيله يف ٍ‬
‫�شرعا مما يعني على‬
‫الأعمال عند تزاحمها وفق �أ�سباب املفا�ضلة املعتربة ً‬
‫(((  جمموع الفتاوى (‪.)237/24‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫القيام بالعمل وفق مراد ال�شرع ومق�صوده‪ ،‬كما �أن �إدراك وجوه املفا�ضلة بني‬
‫الأعمال مما مينع ا�ضطراب اخللق وتفاوتهم يف تقدمي العمل الذي من حقه‬
‫التقدمي‪ ،‬فتنتظم بذلك �أحوال اخللق‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬الأخذ بالراجح من الأعمال عند تزاحمها‪.‬‬
‫وذلك �أن الأعمال �إذا تعار�ضت وتزاحمت ف�إن املخرج من ذلك �أن‬
‫ُيق َّدم الفا�ضل على املف�ضول‪ ،‬وهذا ال يكون �إال �إذا ح�صل متام الفقه بوجوه‬
‫مطلوب‪ ،‬وما يو�صل‬
‫ٌ‬ ‫املفا�ضلة بني تلك الأعمال املتزاحمة‪ ،‬ف�إن العمل بالراجح‬
‫مطلوب‪ ،‬ف�إذا ح�صل �إدراك الفا�ضل من الأعمال يقي ًنا �أو‬
‫ٌ‬ ‫�إلى املطلوب فهو‬
‫ظ ًّنا ب�إدراك �أوجه املفا�ضلة و�أ�سبابها‪ ،‬فقد حتقق مق�صود املفا�ضلة‪ ،‬ومعلو ٌم‬
‫�أن املجتهد م�أمو ٌر بالأخذ بالراجح الفا�ضل‪ ،‬فيكون جهله بوجوه التف�ضيل‬
‫مف�ض ًيا �إلى جمانبة احلق وال�صواب‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬حتقيق مبد�أ العدل والق�سط‪.‬‬
‫وذلك �أن �إدراك فقه املفا�ضلة بني الأعمال مما يعني على حتقيق العدل‬
‫والق�سط الذي �أمر اهلل به؛ ف�إن من غفل عن النظر يف وجوه التفا�ضل‬
‫و�أ�سبابه ف�إنه �سيقع يف اخلط�أ وتقدمي ما حقه الت�أخري‪ ،‬وجعل الفا�ضل‬
‫جهل‪ ،‬وقد يكون عن هوى‪ ،‬وكال احلالني حك ٌم‬ ‫اً‬
‫مف�ضول‪ ،‬وذلك قد يكون عن ٍ‬
‫‪25‬‬ ‫بنقي�ض العدل والق�سط‪� ،‬إال �أن تقدمي املف�ضول على الفا�ضل عن هوى هو‬
‫يف�ضل املف�ضول مع علمه ب�أنه مف�ضو ٌل‪ ،‬ويحكم‬
‫غاية الظلم‪� ،‬إذ �إن الظامل ّ‬
‫ب�أن املف�ضول ي�ستحق تلك املنزلة دون الفا�ضل‪ ،‬وهذا غاية اجلهل والظلم(‪.)1‬‬
‫و�إذا تقرر هذا ف�إن للمفا�ضلة بني الأعمال �أ�سبا ًبا يح�سن �إدراكها‪ ،‬لي�سهل‬
‫الوقوف على وجوه املفا�ضلة بني الأعمال املتزاحمة‪ ،‬ولذا يقول ابن القيم‪:‬‬
‫“فعلى املتكلم يف هذا الباب �أن يعرف �أ�سباب الف�ضل � اًأول‪ ،‬ثم درجاتها‪،‬‬
‫(((  اجلواب ال�صحيح (‪.)133 ،131/5‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫بع�ض‪ ،‬واملوازنة بينها ثان ًيا‪ ،‬ثم ن�سبتها �إلى من قامت به‬
‫ون�سبة بع�ضها �إلى ٍ‬
‫ثال ًثا كرث ًة وقو ًة‪ ،‬ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت حملها راب ًعا‪. ”...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫و�أكرث اخلط�أ الواقع يف التف�ضيل يرجع �إلى عدم �إدراك الأ�سباب ال�شرعية‬
‫ال�صحيحة للتف�ضيل‪� ،‬أو عدم التفريق بني وجوه التف�ضيل مقيدً ا �أو مطل ًقا‬
‫جن�سا �أو �أفرادًا(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫وملا كان التف�ضيل بني الأعمال حك ًما �شرع ًّيا‪ ،‬كان البد �أن تكون �أ�سباب‬
‫املفا�ضلة �شرعي ًة �أي�ضً ا‪ ،‬ومل يرد يف ال�شرع حتديد �أ�سباب املفا�ضلة بني‬
‫منا�سبات خمتلف ٍة تف�ضيل بع�ض الأعمال على‬‫ٍ‬ ‫الأعمال‪� ،‬إال �أنه قد ورد يف‬
‫بع�ض‪ ،‬ومن جمموع هذه املنا�سبات قد يح�صل تقريب هذه الأ�سباب‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬
‫هذا يقول ابن الزملكاين‪“ :‬العبادات والقربات فيها �أف�ضل ومف�ضول‪ ،‬وقد‬
‫دل على ذلك املعقول واملنقول‪ ،‬ومنها ما يو�صل �إلى املقام الأ�سنى‪ ،‬لكن قد‬
‫ف�ضل‪ ،‬فليف�صل ذلك ليتخذه � اً‬
‫أ�صل‪،‬‬ ‫يعر�ض للمف�ضول ما يك�سبه على غريه اً‬
‫ف�إن العبادة تف�ضل تار ًة بح�سب زمانها‪ ،‬و�أخرى بح�سب مكانها‪ ،‬وطو ًرا بح�سب‬
‫حال املت�صف بها‪ ،‬و�آون ًة مبقت�ضى �سببها‪ ،‬ومر ًة ترتجح لعموم االنتفاع‪،‬‬
‫و�أخرى بوقوعها يف بع�ض الأزمنة �أو البقاع”(‪.)3‬‬
‫وبا�ستقراء موا�ضع التف�ضيل يف �أحكام ال�شرع يتقرر منها �أن �أ�سباب‬
‫عام‪ ،‬وهو‪ِ :‬ع َظم امل�صلحة املرتتبة على القيام‬
‫واحد ٍ‬
‫�سبب ٍ‬
‫التف�ضيل ترجع �إلى ٍ‬ ‫‪26‬‬
‫بالعمل‪.‬‬
‫وهذه امل�صلحة قد تعود على العمل �إذا كان العمل قا�صر النفع‪ ،‬وقد تعود‬
‫على املعمول له �أو عليهما م ًعا �إذا كان العمل متعدي النفع‪ ،‬ويف هذا يقول العز‬
‫ابن عبدال�سالم‪“ :‬فهذان الق�سمان(‪)4‬مبنيان على رجحان م�صالح الأعمال‪،‬‬
‫ بدائع الفوائد (‪.)126/3‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬ق�ضاء الأرب يف �أ�سئلة حلب (�ص‪.)394‬‬ ‫(((‬
‫ في�ض القدير (‪.)7/4‬‬ ‫(((‬
‫ �أي تقدمي العمل املتعدي تار ًة وتقدمي العمل القا�صر تار ًة �أخرى‪.‬‬ ‫(((‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫ف�إنْ كانت م�صلحة القا�صر �أرجح من م�صلحة املتعدي فالقا�صر �أف�ضل من‬
‫املتعدي‪ ،‬و�إنْ كانت م�صلحة املتعدي �أرجح ُقدمت على القا�صر”(‪.)1‬‬
‫وقال القرايف‪“ :‬قول الفقهاء‪ :‬القربة املتعدية �أف�ضل من القا�صرة ال‬
‫بدرهم‪ ،‬و�إمنا الف�ضل على‬
‫ٍ‬ ‫ي�صح‪ ،‬لأن الإميان واملعرفة �أف�ضل من الت�صدق‬
‫قدر امل�صالح النا�شئة من القربات”(‪.)2‬‬
‫رجحان امل�صلحة التي هي �سبيل‬
‫ِ‬ ‫وهناك جهاتٌ عدة هي معرفاتُ‬
‫التف�ضيل بني الأعمال‪ ،‬وهذه اجلهات ترجع �إلى العمل ذاته(‪ ،)3‬وذلك قد‬
‫يكون من جهة الكيفية �أو من جهة الكمية �أو من جهة احلكم �أو من جهة‬
‫امل�شاق �أو من جهة نوع العمل وثمرته‪.‬‬
‫فمن �أمثلة املفا�ضلة بني الأعمال من جهة كيفية العمل تف�ضيل قراءة‬
‫الذكر‪ ،‬وجن�س ال�صالة �أف�ضل من جن�س ال�صيام‪،‬‬ ‫القر�آن الكرمي على جن�س ِّ‬
‫ولذا يقول العز بن عبدال�سالم‪“ :‬فمن الأعمال ما يكون �شري ًفا بنف�سه وفيما‬
‫ُرتب عليه من جلب امل�صالح ودرء املفا�سد‪ ،‬فيكون القليل منه �أف�ضل من‬
‫الكثري من غريه‪ ،‬واخلفيف منه �أف�ضل من ال�شاق من غريه”(‪.)4‬‬
‫واملفا�ضلة بني الأعمال من جهة الكيفية التي ترجع �إلى العامل قد تكون‬
‫بالنظر �إلى باطن العامل‪ ،‬وقد تكون بالنظر �إلى ظاهره‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫أمر‬
‫وهذا التف�ضيل بني الأعمال من جهة كيفيتها �إما �أن يكون بنا ًء على � ٍ‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫أمر ٍ‬‫باطن‪ ،‬وقد يكون بنا ًء على � ٍ‬
‫ٍ‬
‫ فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص‪.)141‬‬ ‫(((‬
‫ الذخرية (‪.)357/13‬‬ ‫(((‬
‫ ذكر بع�ض الباحثني �أن املفا�ضلة بني الأعمال قد تكون من جهة العامل �أي�ضً ا �سوا ٌء يف الكيفية �أو الكمية‪.‬‬ ‫(((‬
‫انظر‪ :‬املفا�ضلة يف العبادات (�ص‪ .)137-100‬والذي �أراه �أن املفا�ضلة بني الأعمال ال تكون �إال من جهة‬
‫العمل‪ ،‬وما مت �إيراده من �أن املفا�ضلة فيه كانت من جهة العامل فواقعها يرجع �إلى التفا�ضل من جهة‬
‫العمل ال العامل‪ ،‬خا�صة ًو�أن ال�شرع مل يعهد عنه �إناطة الأحكام ب�أعيان الأ�شخا�ص حتى ميكن �أن يكونوا‬
‫حملاًّ للمفا�ضلة‪.‬‬
‫ قواعد الأحكام (�ص‪.)28‬‬ ‫(((‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫فمثال تف�ضيل الأعمال بالنظر �إلى باطنها‪ :‬املفا�ضلة بينها بح�سب ما يف‬
‫القلوب من الإميان واملحبة والتعظيم والإجالل والإخال�ص‪ ،‬ولذا يقول ابن‬
‫إخال�ص تكون �أعظم من‬ ‫و�صدق و� ٍ‬‫ٍ‬ ‫تيمية‪“ :‬والعبد قد ي�أتي باحل�سنة بني ٍة‬
‫�أ�ضعافها”(‪ ،)1‬وقال ابن القيم‪“ :‬تفا�ضل الأعمال لي�س بكرثتها وعددها‪ ،‬و�إمنا‬
‫ب�إكمالها و�إمتامها وموافقتها لر�ضا الرب و�شرعه”(‪ ،)2‬وقال �أي�ضً ا‪“ :‬فتفا�ضل‬
‫الأعمال عند اهلل بتفا�ضل ما يف القلوب من الإميان والإخال�ص واملحبة وتوابعها‪،‬‬
‫كامل‪ ،‬والناق�ص بح�سبه‪،‬‬ ‫وهذا العمل الكامل هو الذي يك ّفر الذنوب تكف ًريا اً‬
‫وبهاتني القاعدتني تزول �إ�شكاالتٌ كثري ٌة‪ ،‬وهما‪ :‬تفا�ضل الأعمال بتفا�ضل ما يف‬
‫القلوب يف حقائق الإميان‪ ،‬وتكفري ال�سيئات بح�سب كماله ونق�صانه”(‪.)3‬‬
‫و�أما تف�ضيل الأعمال بالنظر �إلى ظواهرها فاملق�صود به �أن يقع العمل‬
‫وفق ما �أمر به اهلل عز وجل �أو ما �أمر به ر�سوله ‪ ،S‬ب�أن ال يتعمد املكلف‬
‫النق�ص من العبادة �أو الزيادة عليها خال ًفا ملا جاء به ال�شرع‪.‬‬
‫و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة كمية العمل فيعني �أن جن�س العمل‬
‫الكثري �أف�ضل من جن�س العمل القليل‪ ،‬ف�إذا كانت ال�صالة �أف�ضل من ال�صيام‬
‫يوم‬
‫واحلج‪ ،‬فال يعني هذا �أن تكون ركعتان �أف�ضل من حجة التطوع �أو �صيام ٍ‬
‫كامل‪ ،‬و�إمنا املق�صود تف�ضيل جن�س ال�صالة على جن�س ال�صيام واحلج‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ولذا يقول النووي‪“ :‬لي�س املراد بقولهم ال�صالة �أف�ضل من ال�صوم �أن �صالة‬
‫ركعتني �أف�ضل من �صيام �أيام؛ ف�إن ال�صوم �أف�ضل من ركعتني بال�شك”(‪،)4‬‬ ‫‪28‬‬
‫ويقول العز بن عبدال�سالم‪�“ :‬إذا احتد نوع امل�صلحة واملف�سدة كان التفاوت‬
‫وثوب وثوبني و�شا ٍة و�شاتني”(‪.)5‬‬
‫بدرهم ودرهمني‪ٍ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بالقلة والكرثة‪ ،‬كال�صدقة‬
‫وقد � ّأ�صل القرايف قاعد ًة يف هذا املعنى‪ ،‬فقال‪“ :‬كرثة الثواب كرثة‬
‫ جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)660/11‬‬ ‫(((‬
‫ املنار املنيف (�ص‪.)41‬‬ ‫(((‬
‫ الوابل ال�ص ّيب (�ص‪.)15‬‬ ‫(((‬
‫ املجموع (‪.)239/3‬‬ ‫(((‬
‫ الفوائد يف اخت�صار املقا�صد (�ص‪.)143‬‬ ‫(((‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫الفعل‪ ،‬وقلة الثواب قلة الفعل”(‪ ،)1‬ثم ع ّلل لهذه القاعدة ب�أن كرثة الأفعال‬
‫يف القربات ت�ستلزم كرثة امل�صالح غال ًبا(‪.)2‬‬
‫فعل كان �أكرث اً‬
‫ف�ضل)(‪ )3‬من �أجل‬ ‫وقد ق ّعد العلماء قاعدة (ما كان �أكرث اً‬
‫�ضبط �أحكام هذه املعاين‪.‬‬
‫و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة احلكم؛ فمن املعلوم �أن الأحكام‬
‫التكليفية خم�س ٌة‪ ،‬وهي الوجوب‪ ،‬والندب‪ ،‬والتحرمي‪ ،‬والكراهة‪ ،‬والإباحة‪.‬‬
‫ففي جانب امل�أمورات يكون فعل الواجب �أف�ضل من فعل املندوب‪ ،‬ويف‬
‫املنهيات يكون اجتناب املح ّرم �أف�ضل من توقي املكروه‪ ،‬وعند تزاحم‬
‫امل�أمورات واملنهيات يكون ترك املحرم �أف�ضل من فعل الواجب �أو املندوب‪،‬‬
‫ويكون ترك املكروه �أف�ضل من فعل املندوب‪ ،‬ولذا يقول العز بن عبدال�سالم‪:‬‬
‫وجه‪ ،‬ويكون الأجر على مفرو�ضها �أف�ضل من‬ ‫“قد تت�ساوى امل�صالح من كل ٍ‬
‫نقد �أو قوت‬
‫درهم �أو بقر ٍة �أو بع ٍري �أو ٍ‬
‫الأجر على مندوبها‪ ،‬فمن زكى ب�شا ٍة �أو ٍ‬
‫مع�شر‪ ،‬ثم ت�صدق بنظريه‪ ،‬ف�إن الزكاة �أف�ضل‪ ،‬و�إن كانت م�صاحلها الدنيوية‬‫ٍ‬
‫وجه” ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫مت�ساوي ًة من كل ٍ‬
‫و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة ما ي�صحبها من امل�شاق‪ ،‬ف�إنه من‬
‫املتقرر �أن الق�صد من التكليف جلب امل�صلحة ودرء املف�سدة‪ ،‬و�أن اهلل عز‬
‫‪29‬‬ ‫وجل مل ي�شرع امل�شقة يف حق هذه الأمة كي ُيتقرب بها �إليه‪� ،‬إال �أن امل�شقة غري‬
‫�سبب‬
‫املق�صودة من املكلف التي تقع يف طريق القيام بالتكاليف ال�شرعية ٌ‬
‫ملفا�ضلة العمل على غريه‪ ،‬ويف هذا جم ٌع بني الن�صو�ص الواردة يف ذم ق�صد‬
‫امل�شقة يف العمل والن�صو�ص الواردة يف ترتيب زيادة الأجر على ما ت�ضمنه‬
‫العمل من م�شق ٍة‪.‬‬
‫ �أنوار الربوق (‪.)133/2‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫(((‬
‫ الأ�شباه والنظائر لل�سيوطي (�ص‪.)268‬‬ ‫(((‬
‫ الفوائد يف اخت�صار املقا�صد (�ص‪.)142‬‬ ‫(((‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫ففي ق�صة �أبي �إ�سرائيل عندما نذر �أن يقوم وال يقعد وال ي�ستظل‬
‫وال يتكلم وي�صوم‪ ،‬فقال النبي ‪ُ « :S‬مره فليتكلم ولي�ستظل وليقعد وليتم‬
‫�صومه»(‪ ،)1‬فنهاه النبي ‪ S‬عن امل�شقة املجردة التي ال م�صلحة فيها‪ ،‬و�أبقى‬
‫ما فيه م�صلحة‪.‬‬
‫�شيخا ُيهادى بني ابنيه‪ ،‬قال‪« :‬ما ُ‬
‫بال هذا؟»‪ ،‬قالوا‪:‬‬ ‫وملا ر�أى النبي ‪ً S‬‬
‫لغني» و�أمره �أن يركب(‪.)2‬‬
‫نذر �أن مي�شي‪ .‬قال‪�« :‬إن اهلل عن تعذيب هذا نف�سه ٌّ‬
‫ف�ألغى النبي ‪ S‬امل�شقة التي ال م�صلحة فيها؛ ومل يجعل امل�شقة هنا‬
‫وج ًها من وجوه تف�ضيل العمل‪ ،‬وذلك لأن امل�شقة يف هاتني الواقعتني جاءت‬
‫مق�صود ًة من املكلف ق�صدً ا ابتدائ ًّيا‪.‬‬
‫وملا �أمر النبي ‪ S‬عائ�شة �أن تخرج �إلى التنعيم لت�أتي بعمر ٍة‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫نفقتك» �أو« َن َ�ص ِب ِك»(‪.)3‬‬
‫«ولكنها على قدر ِ‬
‫قال النووي‪“ :‬هذا ظاه ٌر يف �أن الثواب والف�ضل يف العبادة يكرث بكرثة‬
‫ال َّن َ�صب والنفقة‪ ،‬واملراد‪ :‬ال َّن َ�صب الذي ال يذمه ال�شرع وكذا النفقة”(‪.)4‬‬
‫وقال ‪�« :S‬أال �أدلكم على ما ميحو اهلل به اخلطايا‪ ،‬ويرفع به الدرجات؟»‬
‫قالوا‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل‪ .‬قال‪�« :‬إ�سباغ الو�ضوء على املكاره‪ ،‬وكرثة ا ُ‬
‫خلطا �إلى‬
‫امل�ساجد‪ ،‬وانتظار ال�صالة بعد ال�صالة‪ ،‬فذلكم الرباط»(‪.)5‬‬
‫‪30‬‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب الأميان والنذور‪ ،‬باب النذر فيما ال ميلك ويف مع�صية (‪)164/22‬‬ ‫(((‬
‫برقم (‪.)6704‬‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب جزاء ال�صيد‪ ،‬باب من نذر امل�شي �إلى الكعبة (‪ )122/7‬برقم‬ ‫(((‬
‫وم�سلم يف �صحيحه يف كتاب النذور‪ ،‬باب من نذر �أن مي�شي �إلى الكعبة (‪ )101/11‬برقم‬
‫ّ‬ ‫(‪،)1865‬‬
‫(‪.)4336‬‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب العمرة‪ ،‬باب العمرة على قدر الن�صب(‪ )488/6‬برقم (‪،)1787‬‬ ‫(((‬
‫وم�سلم يف �صحيحه يف كتاب احلج‪ ،‬باب بيان وجوه الإحرام و�أنه يجوز �إفراد احلج والتمتع والقران‬
‫ّ‬
‫(‪)29/8‬برقم (‪.)2986‬‬
‫ �شرح النووي على �صحيح م�سلم (‪.)123/8‬‬ ‫(((‬
‫ �أخرجه م�سل ٌم يف �صحيحه يف كتاب الطهارة‪ ،‬باب ف�ضل �إ�سباغ الو�ضوء على املكاره (‪ )234/2‬برقم‬ ‫(((‬
‫(‪.)610‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫قال العز بن عبدال�سالم‪“ :‬وذلك كاالغت�سال يف ال�صيف والربيع‬


‫بالن�سبة �إلى االغت�سال يف �شدة برد ال�شتاء؛ ف�إن �أجرهما �سوا ٌء لت�ساويهما‬
‫يف ال�شرائط وال�سنن والأركان‪ ،‬ويزيد �أجر االغت�سال يف ال�شتاء لأجل حتمل‬
‫م�شقة الربد”(‪.)1‬‬
‫ولوجود امل�شقة على البدن والنف�س جاء الربط بني اجلهاد واحلج يف �أكرث‬
‫مو�ضع يف ال�شرع‪ ،‬حتى �إنه ‪ S‬ملا ا�ست�أذنته بع�ض الن�ساء يف اجلهاد قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫مو�ضع �آخر‪« :‬جهاد الكبري وال�ضعيف واملر�أة‬
‫ٍ‬ ‫«جهادكن احلج»(‪ ،)2‬وقال يف‬
‫احل ُّج والعمرة»(‪.)3‬‬
‫ويو�ضح العز بن عبدال�سالم وجه املفا�ضلة بني الأعمال بامل�شقة التي‬
‫ي�ؤجر عليها بقوله‪“ :‬ف�إن قيل‪ :‬ما �ضابط الفعل ال�شاق الذي ي�ؤجر عليه �أكرث‬
‫مما ي�ؤجر على اخلفيف؟ قلت‪� :‬إذا احتد الفعالن يف ال�شرف وال�شرائط‬
‫وال�سنن والأركان‪ ،‬وكان �أحدهما �شا ًّقا فقد ا�ستويا يف �أجرهما لت�ساويهما يف‬
‫جميع الوظائف‪ ،‬وانفرد �أحدهما بتحمل امل�شقة لأجل اهلل ‪ ،‬ف�أثيب على‬
‫حتمل امل�شقة ال على عني امل�شاق؛ �إذ ال ي�صح التقرب بامل�شاق”(‪.)4‬‬
‫وي�ؤكد هذا املعنى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية بقوله‪“ :‬فكث ًريا ما يكرث الثواب‬
‫على قدر امل�شقة والتعب‪ ،‬ال لأن التعب وامل�شقة مق�صو ٌد من العمل‪ ،‬ولكن لأن‬
‫‪31‬‬ ‫العمل م�ستلز ٌم للم�شقة والتعب”(‪.)5‬‬
‫و�أما املفا�ضلة بني الأعمال من جهة نوع العمل �أو ثمرته فهذه تتعدد‬
‫فيف�ضل العمل �إذا كان مق�صدً ا على العمل لو كان و�سيل ًة‪ ،‬ويف�ضل‬
‫مع ّرفاتها؛ ّ‬
‫ قواعد الأحكام (�ص‪.)66‬‬ ‫(((‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب اجلهاد‪ ،‬باب جهاد الن�ساء (‪ )329/10‬برقم (‪.)2875‬‬ ‫(((‬
‫ �أخرجه �أحمد يف م�سنده (‪ )222/20‬برقم (‪ ،)9691‬والن�سائي يف �سننه يف كتاب منا�سك احلج‪ ،‬باب‬ ‫(((‬
‫ف�ضل احلج (‪ )120/5‬برقم (‪ ،)2625‬والبيهقي يف ال�سنن الكربى يف كتاب ال�سري‪ ،‬باب من له عذ ٌر‬
‫بال�ضعف واملر�ض (‪ )380/2‬برقم (‪.)18270‬‬
‫ قواعد الأحكام (�ص‪.)66‬‬ ‫(((‬
‫ جمموع الفتاوى (‪.)622/10‬‬ ‫(((‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫العمل �إذا كان مبا�شر ًة على العمل لو كان ت�سب ًبا‪ ،‬ويف�ضل العمل ذي الأثر‬
‫النافع على فاعله على ما �سواه‪ ،‬ويف�ضل العمل ذي النفع املتعدي �إلى الغري‬
‫على العمل ذي النفع القا�صر على فاعله‪.‬‬
‫ويف هذا املعنى يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية مقر ًرا �أن العمل ذي الأثر‬
‫النافع على فاعله �أف�ضل من غريه‪ ،‬ولو كان جن�س ذلك الغري �أف�ضل‪“ :‬وقد‬
‫يكون العمل املف�ضول �أف�ضل بح�سب حال ال�شخ�ص املعني؛ لكونه عاجزًا عن‬
‫الأف�ضل‪� ،‬أو لكون حمبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه باملف�ضول �أكرث‪ ،‬فيكون‬
‫�أف�ضل يف حقه؛ ملا يقرتن به من مزيد عمله وحبه و�إرادته وانتفاعه‪ ...‬و�إن‬
‫الذكر لبع�ض النا�س يف بع�ض‬ ‫كان جن�س ذلك �أف�ضل‪ ،‬ومن هذا الباب �صار ِّ‬
‫الأوقات خ ًريا من القراءة‪ ،‬والقراءة لبع�ضهم يف بع�ض الأوقات خ ًريا من‬
‫ال�صالة‪ ،‬و�أمثال ذلك؛ لكمال انتفاعه‪ ،‬ال لأنه يف جن�سه �أف�ضل”(‪ ،)1‬وقال‬
‫�أي�ضً ا‪“ :‬وقد يكون �أف�ضل لبع�ض النا�س؛ لأن انتفاعه به �أمت‪ ،‬وهذا حال �أكرث‬
‫النا�س قد ينتفعون باملف�ضول ملنا�سبته لأحوالهم الناق�صة ما ال ينتفعون‬
‫بالفا�ضل الذي ال ي�صلون �إلى �أن يكونوا من �أهله”(‪.)2‬‬
‫وقاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) تدخل يف هذا النوع من املفا�ضلة‪،‬‬
‫وذلك �أن مالحظة التعدي والق�صور يف �أثر العمل مما يندرج يف ثمرة العمل‪.‬‬
‫‪32‬‬

‫(((  جمموع الفتاوى (‪.)198/24‬‬


‫(((  جمموع الفتاوى (‪.)348/22‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث الأول‬
‫معنى القاعدة‬

‫لإي�ضاح معنى قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) البد من الوقوف‬


‫عند معاين �ألفاظها على �سبيل الإفراد‪ ،‬حتى ميكن الوقوف على معناها‬
‫الإجمايل‪.‬‬
‫� اً‬
‫أول‪ :‬املعنى الإفرادي للقاعدة‪:‬‬
‫ألفاظ حتتاج �إلى البيان‪ ،‬وذلك على النحو‬
‫هذه القاعدة مكونة من عد ٍة � ٍ‬
‫الآتي‪:‬‬
‫ •لفظ (املتعدي) من التعدي‪ ،‬وهو يعني ال�شيء املتجاوز يف �أثره(‪،)1‬‬
‫وذلك يعني �أن التعدي ي�ستلزم �أن يكون العمل ذا � ٍأثر‪ ،‬واملق�صود �أن‬
‫يح�صل النفع من العمل؛ �إذ �إن التعدي قد يكون بالنفع �أو ُّ‬
‫ال�ضر‪.‬‬
‫ •والنفع قد يكون بح�صول النعمة وقد يكون باندفاع النقمة(‪)2‬؛ �إذ �إن‬
‫جلب‬
‫اندفاع النقمة نف ٌع‪ ،‬ملا هو متقر ٌر من �أن دفع املف�سدة هو يف ذاته ٌ‬
‫‪33‬‬
‫للم�صلحة‪.‬‬
‫ •ف�إذا كان تعدي الأثر يف �أن يف العمل دف ًعا ملف�سد ٍة فهو داخ ٌل يف مفهوم‬
‫هذه القاعدة مثله مثل تعدي الأثر بجلب امل�صلحة‪ ،‬وذلك كاجلهاد؛‬
‫ف�إنه عم ٌل متعدي الأثر؛ وفيه دف ٌع ملف�سدة ذهاب الدين‪ ،‬وهذا الأثر‬
‫جلب مل�صلحة بقاء ال�شرع وا�ستقراره‪.‬‬‫وجه �آخر ٌ‬ ‫متعد‪ ،‬وهو من ٍ‬‫ٍّ‬
‫(((  انظر‪ :‬العني (‪ )213/2‬مادة (عدا)‪ ،‬ول�سان العرب (‪ )31/15‬مادة (عدا)‪.‬‬
‫(((  انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)184/16‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫ •و�سي�أتي يف املطلب التايل ذكر ال�ضوابط التي متيز العمل املتعدي عن‬
‫العمل القا�صر‪.‬‬
‫ •ولفظ (�أف�ضل) هو �أفعل التف�ضيل‪ ،‬ويعني الداللة على �أن �شيئني‬
‫ا�شرتكا يف �صف ٍة وزاد �أحدهما على الآخر فيها‪ ،‬وهو ٌ‬
‫لفظ �صري ٌح يف‬
‫التف�ضيل(‪ ،)1‬وتقد ِمي �أحد العملني على الآخر‪ ،‬والتفا�ضل �إمنا يقع بني‬
‫�شيئني ف�صاعدً ا‪ ،‬وال يكون �إال �إذا ثبت للفا�ضل من اخل�صائ�ص ما ال‬
‫يوجد مثلها يف املف�ضول(‪ ،)2‬بحيث ي�ستويان يف رتبة الطلب وينفرد‬
‫�أحدهما بخ�صائ�ص التف�ضيل؛ ذلك �أن الأمور امل�شرتكة ال توجب‬
‫التف�ضيل(‪.)3‬‬
‫ •ولفظ (القا�صر) من الق�صور‪ ،‬ويعني ال�شيء الذي يقف �أثره عند ٍّ‬
‫حد‬
‫مع ٍني وال يتجاوز حمله(‪ ،)4‬واملق�صود به هنا‪ :‬العمل الذي يقف نفعه‬
‫على �صاحبه وال يتجاوزه �إلى نفع غريه‪.‬‬
‫ •ولي�س املق�صود بالق�صور هنا �أن ال يكون للعمل �أث ٌر‪ ،‬بل املق�صود �أن‬
‫يكون له �أث ٌر لكنه ال يتعدى مو�ضعه‪ ،‬وال ميتد �إلى غري �صاحبه ب�صور ٍة‬
‫مبا�شر ٍة؛ وهذا احرتا ٌز من الأعمال التي يكون �أثرها قا�ص ًرا على‬
‫فاعلها �إال �أن لها �أث ًرا على غريه ب�صور ٍة غري مبا�شر ٍة‪ ،‬ف�إنها تبقى‬
‫مثل؛ ف�إنها معدود ٌة من الأعمال‬‫قا�صر ًة؛ وذلك كال�صالة وال�صيام اً‬ ‫‪34‬‬
‫القا�صر �أث ُرها على فاعلها‪� ،‬إال �أن لها �أث ًرا على الغري؛ من جهة �أن‬
‫ِ‬
‫ما يح�صل لفاعلها من �آثا ٍر حميد ٍة كاال�ستقامة على اخلري وح�صول‬
‫التقوى متنعه من الوقوع يف الآثام وتحَ ْ ُج ُر ُه عن ارتكاب املعا�صي‪،‬‬
‫فيف�ضي ذلك �إلى ا�ستقرار املجتمع و�صالحه‪.‬‬
‫ انظر‪� :‬شرح الر�ضي على الكافية (‪ ،)447/3‬والكليات (‪.)130/1‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)140/17( ،)414/4‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)286/26‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬العني (‪ )378/1‬مادة (ق�صر)‪ ،‬ول�سان العرب (‪ )95/5‬مادة (ق�صر)‪.‬‬ ‫(((‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫قا�صر البد و�أن يكون له �أث ٌر يف الغري ب�صور ٍة غري‬


‫ٍ‬ ‫ •وهكذا فكل ٍ‬
‫عمل‬
‫مبا�شر ٍة‪ ،‬ولو عددنا ذلك �سب ًبا لعدِّ ها � اً‬
‫أعمال متعدي ًة ملا بقي عم ٌل‬
‫قا�ص ُر الأثر‪ ،‬ف ُيف�ضي ذلك �إلى وقوع اخللل يف اال�صطالح‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬املعنى الإجمايل للقاعدة‪:‬‬
‫�أن العمل الذي يتعدى نفعه و�أثره �إلى غري القائم به‪ ،‬مقد ٌم يف �أولوية‬
‫الفعل والأجر على العمل الذي يكون نفعه و�أثره مق�صو ًرا على فاعله وحده‪.‬‬
‫وهذا يعني �أنه ال بد من تزاحم العملني‪ ،‬بحيث ال ميكن حت�صيل �أدائهما‬
‫�إال برتك �أحدهما‪ ،‬و�أنه ال بد �أن تتحقق يف هذين العملني �شروط التعار�ض‪،‬‬
‫ومن �أهمها �أن يكون العمالن يف رتب ٍة واحد ٍة وحكمهما واح ٌد؛ �إذ �إن التقدمي‬
‫هنا وج ُه من وجوه الرتجيح‪ ،‬والرتجيح ال ُيطلب �إال يف حال التعار�ض‪،‬‬
‫والتعار�ض ال يتحقق يف حال تفاوت املراتب �أو الأحكام‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫املبحث الثاين‬
‫�ألفاظ القاعدة و�أركانها‬

‫هذه القاعدة تكرر ذكرها يف كتب الفقه يف جمال التعليل لعدد من‬
‫الفروع الفقهية‪ ،‬ومل تربز يف كتب القواعد الفقهية باعتبارها قاعدة �إال يف‬
‫بع�ض كتب القواعد الفقهية‪ ،‬وممن �أبرزها وعدها قاعدة �أبو عبداهلل املقري‬
‫املالكي (ت ‪ ٧٥٨‬هـ) يف كتابه (قواعد الفقه)‪ ،‬والزرك�شي (ت ‪749‬هـ) يف‬
‫كتابه (املنثور)‪ ،‬وال�سيوطي (ت ‪911‬هـ) يف كتابه (الأ�شباه والنظائر)‪.‬‬
‫وهذا املطلب معقو ٌد لبيان الألفاظ التي وردت بها هذه القاعدة يف كتب‬
‫الفقه والقواعد الفقهية‪ ،‬مع توثيق هذه الألفاظ من عدد من امل�صادر التي‬
‫جاءت فيها‪.‬‬
‫اللفظ الأول‪“ :‬القربة املتعدية �أف�ضل من القا�صرة”‪.‬‬
‫وهذا اللفظ ذكره املقري يف القاعدة الثالثة وال�ستني بعد املئة‪ ،‬ون�سب‬
‫هذه القاعدة �إلى الفقهاء(‪.)1‬‬ ‫‪36‬‬
‫اللفظ الثاين‪“ :‬العمل املتعدي �أف�ضل من القا�صر”‪.‬‬
‫وهذا اللفظ ذكره الزرك�شي �ضمن مباحث (العمل)‪ ،‬وجعل احلديث‬
‫عنها �ضمن املبحث الثالث من تلك املباحث (‪.)2‬‬
‫اللفظ الثالث‪“ :‬املتعدي �أف�ضل من القا�صر”‪.‬‬
‫(((  انظر‪ :‬القواعد (�ص‪.)162‬‬
‫(((  انظر‪ :‬املنثور (‪.)420/2‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫وهذا اللفظ ذكره ال�سيوطي للقاعدة الع�شرين من الكتاب الثاين‪ ،‬والذي‬


‫عنونه بـ “قواعد كلية يتخرج عليها ما ال ينح�صر من ال�صور اجلزئية”(‪.)1‬‬
‫كما ورد لدى بع�ض فقهاء املالكية اً‬
‫تعليل ملن قال بتف�ضيل النكاح على‬
‫نوافل العبادات؛ حيث ترتتب امل�صالح العظيمة عليه؛ �إذ يوجب النكاح �إعفاف‬
‫الزوجني‪ ،‬ووجود من يوحد اهلل ‪ ،‬ويكاثر به عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬ولذا‬
‫كان نفعه متعد ًيا(‪.)2‬‬
‫اللفظ الرابع‪“ :‬احل�سنة املتعدية �إلى الغري �أف�ضل من القا�صرة على‬
‫الفاعل”‪.‬‬
‫عدد من علماء املالكية يف جمال التعليل جلواز‬
‫وهذا اللفظ ورد لدى ٍ‬
‫وقف �أو حمجورٍ؛ �إذ �إن �أ�شرف‬
‫الزيادة عند رد القر�ض �إذا اقرت�ض جلهة ٍ‬
‫املنفعة ما تعلق باخللق(‪.)3‬‬
‫اللفظ اخلام�س‪“ :‬الأجر على قدر منفعة العمل وم�صلحته وفائدته”‬
‫وهذا اللفظ ذكره �شيخ الإ�سالم ابن تيمية(‪ ،)4‬وهو يعني �أن الأعمال‬
‫تتفا�ضل بقدر ما فيها من املنفعة وامل�صلحة والفائدة‪ ،‬ولذا يكون املتعدي‬
‫�أف�ضل من القا�صر؛ لأن املتعدي نفعه �أكرب وم�صلحته �أعظم وفائدته �أغلب‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫وظاه ٌر منه �أن هذا اللفظ �أعم من قولهم (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)؛‬
‫وذلك لأن ِعظم النفع وامل�صلحة والفائدة قد تكون بطريق تعدي النفع وقد‬
‫تكون بغريه من اعتبارات املفا�ضلة بني الأعمال ووجوهها‪.‬‬
‫ونحن �إذا ت�أملنا هذه الألفاظ �سنجد �أن بينها تقار ًبا يف اللفظ واملعنى‪،‬‬
‫فالعبارات الواردة يف مو�ضوع القاعدة (املتعدي) �أو (العمل املتعدي) �أو‬
‫ انظر‪ :‬الأ�شباه والنظائر (�ص‪.)271‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬الذخرية (‪.)190/4‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬عار�ضة الأحوذي (‪ ،)72/6‬وقد نقله املناوي يف في�ض القدير عن علماء املالكية (‪.)621/3‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)281/25‬‬ ‫(((‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫(احل�سنة املتعدية) �أو (القربة املتعدية) � ٌ‬


‫ألفاظ متقاربة‪� ،‬إال �أن اللفظ الوارد‬
‫عن املقري والذي عرب بقوله‪( :‬القربة املتعدية) �أخ�ص؛ وذلك باعتباره قد‬
‫ق�صر مو�ضوع القاعدة على ال ُقرب‪ ،‬بينما �أن مو�ضوع القاعدة �أعم؛ �إذ ي�شمل‬
‫عمل �سوا ٌء �أكان قرب ًة �أم مل يكن‪.‬‬
‫�أي ٍ‬
‫�أما قولهم (احل�سنة املتعدية) فهو ٌ‬
‫لفظ حمتم ٌل لأن ُيق�صد به القربة و�أن‬
‫ُيق�صد به العمل النافع‪ ،‬ولذا فالتعبري بلفظ (املتعدي) �أو (العمل املتعدي)‬
‫هو الأولى؛ وذلك ملا ي�أتي‪:‬‬
‫� اًأول‪� :‬أن هذا اللفظ �أعم من غريه من الألفاظ‪ ،‬في�شمل القربات وغريها‬
‫من املعامالت التي جتري بني اخللق‪.‬‬
‫ن�ص يف املراد مبو�ضوع القاعدة‪ ،‬وال يدخله االحتمال‪.‬‬
‫ثان ًيا‪� :‬أنه ٌّ‬
‫و�إذا تقرر هذا ف�إن لهذه القاعدة ركنني مو�ضو ٌع وحممو ٌل‪� ،‬أي املحكوم‬
‫عليه واحلكم‪ ،‬ف�أما مو�ضوعها ‪�-‬أي املحكوم عليه‪ -‬فهو العمل املتعدي‪ ،‬و�أما‬
‫حممولها ‪�-‬أي احلكم‪ -‬فهو كونه �أف�ضل من القا�صر‪.‬‬
‫مثل‪ ،‬وهو عم ٌل متعدي النفع �إلى الغري‪� ،‬أف�ضل من‬‫فاال�شتغال بالتعليم اً‬
‫اال�شتغال بنوافل العبادات؛ لأنها عم ٌل قا�صر النفع على �صاحبه‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث الثالث‬
‫م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية‬

‫املفا�ضلة بني املتعدي والقا�صر‪ ،‬وتقدمي العمل املتعدي‪ ،‬له م�سالك‬


‫اعتربها ال�شرع و�أقرها‪ ،‬وهذه امل�سالك ميكن ا�ستخدامها لك�شف الفا�ضل‬
‫ومتييزه عن املف�ضول‪ ،‬وبا�ستقراء �أحوال املفا�ضلة بني املتعدي والقا�صر‬
‫ميكن ح�صر م�سالك املفا�ضلة هنا يف الآتي‪:‬‬
‫� اًأول‪ :‬داللة الن�ص ال�شرعي على تف�ضيل املتعدي على القا�صر‪.‬‬
‫واملق�صود بهذا امل�سلك �أن يدل الن�ص ال�شرعي على �أف�ضلية العمل‬
‫بلفظ من �ألفاظ التف�ضيل‪ ،‬ومن �أمثلته ما ي�أتي‪:‬‬
‫املتعدي على العمل القا�صر ٍ‬
‫‪1.1‬تقدمي �إ�صالح ذات البني‪ ،‬وهو عم ٌل متعدي النفع‪ ،‬على التنفل‬
‫بال�صيام والقيام‪ ،‬وهما عمالن قا�صران على �إ�صالح النف�س‪ ،‬وقد‬
‫دل ال�شرع على هذا �صراح ًة وبلفظ التف�ضيل؛ حيث ورد عن ر�سول‬ ‫ّ‬
‫اهلل ‪� S‬أنه قال‪�« :‬أال �أخربكم ب�أف�ضل من درجة ال�صيام والقيام؟»‬
‫‪39‬‬
‫قالوا‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪�« :‬إ�صالح ذات البني‪ ،‬وف�ساد ذات البني‬
‫هي احلالقة‪ ،‬ال �أقول حتلق ال�شعر‪ ،‬ولكن حتلق الدين»(‪.)1‬‬
‫‪2.2‬تقدمي اجلهاد يف �سبيل اهلل‪ ،‬وهو عم ٌل متعدي النفع‪ ،‬على االنقطاع‬
‫للعبادة واعتزال النا�س‪ ،‬وهو عم ٌل قا�صر النفع على �صاحبه‪ ،‬وقد َّ‬
‫دل‬
‫رجل من‬‫ال�شرع على هذا �صراح ًة وبلفظ التف�ضيل؛ حيث ورد �أن اً‬
‫(((  �أخرجه �أحمد يف م�سنده(‪ ،)500/45‬و�أبوداود يف �سننه (‪ ،)321/5‬والرتمذي يف �سننه (‪-633/4‬‬
‫‪ ،)664‬وقال‪« :‬حديثٌ �صحي ٌح»‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫ب�شعب فيه ُعيين ٌة من ماءٍ عذب ٍة ف�أعجبته‬


‫�أ�صحاب ر�سول اهلل ‪ S‬م ّر ٍ‬
‫اعتزلت النا�س‪ ،‬ف�أقمت يف هذا ال�شعب‪ ،‬ولن �أفعل‬
‫ُ‬ ‫لطيبها‪ ،‬فقال‪ :‬لو‬
‫حتى �أ�ست�أذن ر�سول اهلل ‪ ،S‬فذكر ذلك لر�سول اهلل ‪ ،S‬فقال‪:‬‬
‫«ال تفعل‪ ،‬ف�إن مقام �أحدكم يف �سبيل اهلل �أف�ضل من �صالته يف بيته‬
‫عاما‪� ،‬أال حتبون �أن يغفر اهلل لكم ويدخلكم اجلنة‪.)1(»...‬‬
‫�سبعني ً‬
‫ثان ًيا‪ :‬داللة العقل على تف�ضيل املتعدي على القا�صر‪.‬‬
‫عمل لت�ضمنه‬
‫واملق�صود بهذا امل�سلك �أن تتفق العقول ال�سليمة على تقدمي ٍ‬
‫م�صلح ًة متعدي ًة‪� ،‬أو �أن يدل ا�ستقراء ن�صو�ص ال�شريعة و�أحوالها على تقدميه‬
‫لكونه متعدي النفع‪.‬‬
‫وذلك �أن العقول ال�سليمة قد ت�شرتك يف احلكم على بع�ض الأ�شياء‬
‫بالتف�ضيل باعتبار تعدي نفعها في�صبح الأمر من اليقينيات‪ ،‬بل قد ت�صبح‬
‫من امل�ألوف الذي ال يتفطنون له ل�شدة ظهوره يف العقول ومتكنه منها‬
‫بالفطرة‪.‬‬
‫ومن �أمثلة هذا‪� :‬أن اال�شتغال بك�سب العي�ش من خالل الوظيفة �أو الأعمال‬
‫التجارية عم ٌل متعدي النفع �إلى من يعولهم املرء‪ ،‬واالنقطاع للعبادة عم ٌل‬
‫قا�صر النفع على �صاحبه‪ ،‬ولذا ف�إن العقول ال�سليمة تدل على �أن اال�شتغال‬
‫‪40‬‬
‫بك�سب العي�ش يف هذه احلال �أف�ضل من االنقطاع للعبادة‪ ،‬القت�صار نفعها‬
‫وم�صلحتها على فاعلها‪.‬‬
‫كما �أن اال�شتغال ب�أعمال �إغاثة املنكوبني يف الكوارث الطبيعية واحلروب‬
‫عم ٌل متعدي النفع‪ ،‬واال�شتغال بنوافل العبادات عم ٌل قا�صر النفع‪ ،‬ولذا‬
‫كان اال�شتغال ب�أعمال �إغاثة املنكوبني يف تلك احلال �أف�ضل‪ ،‬وقد َّ‬
‫دل على‬
‫(((  �أخرجه �أحمد يف م�سنده(‪ ،)458/16( ،)474-473/15‬والرتمذي يف �سننه (‪ ،)181/4‬واحلاكم يف‬
‫امل�ستدرك(‪ ،)78/2‬وقال‪« :‬حديثٌ ح�سنٌ »‪.‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫معروف ي�صل‬
‫ٍ‬ ‫تف�ضيلها ا�ستقراء ن�صو�ص ال�شرع‪ ،‬التي دلت على تف�ضيل كل‬
‫�أثره �إلى اخللق‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬داللة العرف على تف�ضيل املتعدي على القا�صر‪.‬‬
‫عمل لكونه متعدي‬
‫واملق�صود بهذا �أن تدل عادة عامة النا�س على تف�ضيل ٍ‬
‫النفع‪.‬‬
‫وهذا يعني �أن العرف هنا م�ستن ٌد يف ن�ش�أته �إلى حتقق امل�صلحة املتعدية‬
‫واحل َرف التي تعزز ال�صناعة‬
‫يف العمل‪ ،‬ومن �أمثلة هذا‪� :‬أن اال�شتغال باملهن ِ‬
‫والإنتاج‪ ،‬وت�ؤدي �إلى اكتفاء البالد من العاملني فيها‪ ،‬تعد من الأعمال‬
‫املتعدية‪ ،‬وهذا بخالف اال�شتغال باملهن التي ال تعزز الإنتاج‪ ،‬ويكون نفعها‬
‫قا�ص ًرا على �صاحبها‪ ،‬وهذا التف�ضيل م�صدره العرف امل�ستند �إلى مراعاة‬
‫امل�صلحة الراجحة املتعدية النفع‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫املبحث الرابع‬
‫�ضوابط التعدي يف الأعمال‬

‫هذه القاعدة تدور حول و�صفي التعدي والق�صور‪ ،‬وهما من الألفاظ التي‬
‫يتبادر للذهن طرف من معناهما‪ ،‬ومع ذلك �أرى �أن من املنا�سب عر�ض‬
‫متعد �أو‬
‫بع�ض ال�ضوابط التي ميكن من خاللها احلكم على العمل ب�أنه ٍّ‬
‫قا�ص ٌر‪ ،‬وهذه ال�ضوابط لي�ست مطلوبة على �سبيل االجتماع‪ ،‬ولكن املق�صود‬
‫منها تقريب احلكم بالتعدي �أو الق�صور ح�سب نوع امل�سائل الفقهية التي‬
‫تجُ رى فيها هذه القاعدة‪.‬‬
‫ال�ضابط الأول‪� :‬أن يت�ضمن العمل نف ًعا متعل ًقا بالغري‪.‬‬
‫فلو مل يت�ضمن العمل نف ًعا ‪�-‬أي �أنه ت�ضمن مف�سد ًة‪� -‬أو ت�ضمن نف ًعا ال‬
‫يتعلق بالغري ف�إنه ال يدخل يف مفهوم العمل املتعدي املراد يف هذه القاعدة‪.‬‬
‫وحيث �إن الأ�صل فيما يقوم به املكلف من الأعمال �أن تت�ضمن نف ًعا؛ �إال �أن‬
‫هذا النفع �إن كان متعل ًقا ب�صاحب العمل فقط ف�إن العمل يكون قا�ص ًرا‪ ،‬و�إن‬
‫‪42‬‬
‫كان ممتدً ا يف �أثره �إلى الغري كان العمل متعد ًيا‪.‬‬
‫ال�ضابط الثاين‪� :‬أن يكون عملاً بدن ًّيا ال عملاً قلب ًّيا‪.‬‬
‫وذلك �أن الأعمال القلبية ال تتعدى يف نفعها �صاحبها؛ �إذ ال يت�صور تعدي‬
‫النفع �إلى الغري يف عمل القلب‪ ،‬وذلك كالإميان �أو التوحيد‪ ،‬ولذا ف�إن ما ُيت�صور‬
‫فيه تعدي النفع البد �أن يكون اً‬
‫عمل بدن ًّيا‪ ،‬واملق�صود بالعمل البدين ما ي�شمل‬
‫الأقوال والأفعال‪ ،‬فيدخل يف ذلك العبادات البدنية والعبادات املالية و�سائر‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫ت�صرفات املكلف القولية والفعلية‪ ،‬وذلك كالزكاة‪ ،‬وتعليم القر�آن‪ ،‬واجلهاد‪،‬‬


‫وبر الوالدين‪ ،‬و�أعمال الإغاثة‪ ،‬و�إنقاذ الغرقى واملنكوبني‪.‬‬
‫وهذا يعني �أن �أعمال القلوب كالنيات تعد � اً‬
‫أعمال قا�صرة النفع على‬
‫�أ�صحابها‪.‬‬
‫ال�ضابط الثالث‪� :‬أن يكون العمل مما ت�صح النيابة فيه‪ ،‬ويجوز‬
‫التوكيل فيه‪.‬‬
‫وذلك �أنه �إذا كان العمل مما ال يقبل �أن ي�ؤدى عن الغري نياب ًة �أو اً‬
‫توكيل‬
‫ف�إن نفعه �سيكون مق�صو ًرا على فاعله‪ ،‬وذلك ِّ‬
‫كالذكر وقراءة القر�آن‪ ،‬و�أما‬
‫ما يقبل النيابة �أو التوكيل كالزكاة �أو ال�صدقة �أو �أعمال الإغاثة ف�إن نفعه‬
‫�سيكون متعد ًّيا �إلى غري فاعله‪ ،‬ولذا ف�إن ما ت�صح فيه النيابة ويجوز التوكيل‬
‫فيه‪ ،‬ف�إنه مظنة �أن يكون متعدي النفع‪.‬‬
‫ال�ضابط الرابع‪� :‬أن يكون العمل قابلاً لتجاوز نفعه �إلى الغري‪.‬‬
‫وذلك �أن بع�ض الأعمال برغم �أنها من الأعمال البدنية �إال �أن النفع فيها‬
‫ال يتجاوز فاعلها‪ ،‬وال تقبل لأن يتجاوز نفعها‪ ،‬وذلك كال�صالة وال�صوم‬
‫واحلج؛ ف�إنهما و�إن كانت من الأعمال البدنية �أو فيها �شائبة البدنية ب�صور ٍة‬
‫غالب ٍة �إال �أن النفع فيها ال يتجاوز فاعلها‪ ،‬وال تقبل لأن يتجاوز نفعها �إلى‬
‫‪43‬‬
‫الغري‪ ،‬ولذا فهذا النوع من الأعمال هو من الأعمال قا�صرة النفع‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫املبحث اخلام�س‬
‫�شروط �إعمال القاعدة‬

‫ي�شرتط لإعمال قاعدة املتعدي �أف�ضل من القا�صر‪ ،‬وتف�ضيل املتعدي على‬


‫ً‬
‫�شروطا يجب مراعاتها عند املفا�ضلة؛ �إذ لي�س املتعدي ب�أف�ضل من‬ ‫القا�صر‬
‫القا�صر ب�إطالق‪.‬‬
‫ال�شرط الأول‪ :‬تزاحم العملني املتعدي والقا�صر وعدم �إمكان اجلمع‬
‫بينهما‪.‬‬
‫وذلك �أن املفا�ضلة بني العمل املتعدي والقا�صر وج ٌه من وجوه الرتجيح‬
‫التي ُيلج�أ �إليها لدفع التعار�ض بني املتماثالت‪ ،‬ومن املتقرر �أن كال العملني‬
‫املتعدي والقا�صر يتماثالن يف �أن كلاًّ منهما عم ٌل ي�صدر من املكلف بق�صد‬
‫النفع وجلب امل�صلحة‪ ،‬ولذا يرتدد يف ذهن املكلف املق ّد ُم منهما مطل ًقا �أو يف‬
‫حال تزاحمهما‪.‬‬
‫واملق�صود بتقدمي املتعدي على القا�صر يف هذه القاعدة �إمنا هو يف حال‬
‫تزاحمهما وعدم �إمكان اجلمع بينهما من املكلف‪ ،‬بحيث ال ميكنه �أداء‬ ‫‪44‬‬
‫وحينئذ‬
‫ٍ‬ ‫العملني م ًعا �أو يف وقتني خمتلفني مع �إمكان �إدراك م�صلحتهما‪،‬‬
‫ُيلج�أ �إلى الأخذ بالأرجح؛ لإدراك الف�ضل يف العمل‪.‬‬
‫وقد تقرر مما تقدم �أن العمل املتعدي هو الأرجح يف حال تزاحمه مع العمل‬
‫القا�صر؛ ملا بيناه من �أن امل�صلحة يف العمل املتعدي �أرجح و�أكرث؛ �إذ تتحقق‬
‫بالعمل املتعدي م�صلحتان‪ :‬نفع �صاحبه ونفع الغري‪ ،‬بخالف العمل القا�صر‬
‫الذي يتحقق به نفع �صاحبه فح�سب‪.‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫وهنا يجدر التنبيه �إلى �أنه يف حال عدم تزاحم العملني املتعدي والقا�صر‬
‫ووجود اخليار للمكلف يف فعل � ٍأي منهما ف�إن الأف�ضلية تثبت لأحدهما‬
‫دليل مع ٍني يدل على تف�ضيل �أحدهما على الآخر‪� ،‬أو‬
‫باعتبارات �أخرى كوجود ٍ‬
‫ٍ‬
‫بح�سب رجحان م�صلحة �أحد العملني على الآخر‪.‬‬
‫ال�شرط الثاين‪ :‬ا�ستواء العملني املتعدي والقا�صر يف الرتبة‪.‬‬
‫وهذا ال�شرط ي�شري �إلى �أن الأعمال قد تتفا�ضل بح�سب الرتبة باعتبار‬
‫احلكم‪� ،‬أو باعتبار حتقيقها للمقا�صد ال�شرعية‪.‬‬
‫وهذا يعني �أن املفا�ضلة بني املتعدي والقا�صر يف هذه القاعدة يجب �أن تكون‬
‫بني واجبني �أو بني مندوبني �أحدهما متعدٍّ والآخر قا�ص ٌر‪� ،‬أو بني عملني يقعان‬
‫يف مرتبة ال�ضروريات‪� ،‬أو يف مرتبة احلاجيات‪� ،‬أو يف مرتبة التح�سينيات‪.‬‬
‫متعد وقا�ص ٌر‪ ،‬وحكمهما متفاوتٌ‬ ‫وبنا ًء عليه ف�إنه �إذا تزاحم عمالن ٍّ‬
‫ك�ضروري‬
‫ٍّ‬ ‫متعد وقا�ص ٌر ورتبتهما متفاوت ٌة‬
‫ومندوب‪� ،‬أو تزاحم عمالن ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫كواجب‬
‫ٍ‬
‫التفات �إلى تعديه �أو ق�صوره‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وحاجي‪ ،‬ف�إنه يقدم الأعلى رتب ًة منهما دون‬
‫ٍّ‬
‫حلجاج وتقد ُمي‬ ‫الفر�ض وخدم ُة ا ُ‬
‫ُ‬ ‫وهذا مثل ما لو تزاحم لدى املكلف احل ُّج‬
‫الإر�شاد والتوعي ِة الدينية لهم‪ ،‬ف�إن حج الفر�ض مقد ٌم مع �أنه عم ٌل قا�صر‬
‫للحجاج مع �أنه عم ٌل متعدي النفع‪،‬‬ ‫النفع على �صاحبه على تقدمي اخلدمة ُ‬
‫‪45‬‬ ‫وال يت�أتى �إعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) هنا؛ لتفاوت مرتبة‬
‫احلكم يف العملني‪.‬‬
‫ومثل ما لو تزاحم لدى املكلف �صالة الفر�ض مع �إ�سعاف املري�ض عند‬
‫وجود من ي�سعفه �سواه‪ ،‬ف�إن �صالة الفر�ض مقدم ٌة مع �أنها عم ٌل قا�صر النفع‬
‫على �صاحبه على �إ�سعاف املري�ض يف هذه احلالة مع �أنه عم ٌل متعدي النفع؛‬
‫وذلك الختالف رتبتهما‪ ،‬فال�صالة الفر�ض تقع يف رتبة ال�ضروريات‪ ،‬و�إ�سعاف‬
‫املري�ض يف هذه احلال يقع يف رتبة احلاجيات‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫ال�شرط الثالث‪� :‬أن يتعني املكلف للقيام بالعمل املتعدي‪.‬‬


‫وهذا ال�شرط يدخل فيه الواجبات العينية‪ ،‬كما يدخل فيه ما يعرف لدى‬
‫الأ�صوليني بتعني الواجب الكفائي �أو تعني �سنة الكفاية‪.‬‬
‫ف�إن من املتقرر يف علم �أ�صول الفقه �أن الواجب الكفائي وكذا املندوب يف‬
‫فعلهما خري ٌة للمكلف؛ و�أن الواجب الكفائي قد يتعني على املكلف يف ٍ‬
‫حاالت‬
‫منها‪:‬‬
‫� اًأول‪ :‬حال ال�شروع يف الواجب الكفائي(‪ ،)1‬كما لو ح�ضر ال�صف يف القتال‪،‬‬
‫ف�إنه يتعني عليه‪ ،‬وال يجوز له الرجوع‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬حال �أمر الإمام بالواجب الكفائي(‪ ،)2‬كما لو ا�ستنفر الإمام النا�س‬
‫للجهاد والقتال‪ ،‬ف�إنه يتعني على كل قادرٍ‪.‬‬
‫ثال ًثا‪� :‬إذا مل يوجد من يقوم به �سواه حقيق ًة �أو حك ًما قط ًعا �أو ظ ًّنا(‪ ،)3‬كما‬
‫�شخ�ص واح ٌد ُيح�سن ال�سباحة‪� ،‬أو مل‬ ‫ٌ‬ ‫لو �شهد الغريقَ الذي ي�ستغيث‬
‫�شخ�ص واح ٌد ودُعي لل�شهادة‪� ،‬أو مل يوجد يف البلد‬ ‫ٌ‬ ‫ي�شهد احلادث َة �إال‬
‫طبيب واحدٌ‪ ،‬واحتاج النا�س فيه للعالج‪.‬‬ ‫�إال ٌ‬
‫وكذلك احلال يف تعني �سنة الكفاية؛ وذلك �أن �سنة الكفاية تعني �أن‬
‫يقع االمتثال لأمر اال�ستحباب بفعل البع�ض‪ ،‬وتنقطع داللة الن�ص على‬ ‫‪46‬‬
‫اال�ستحباب فيما زاد على ذلك وال يبقى م�ستح ًّبا بل اً‬
‫داخل يف حيز املباح‪،‬‬
‫(((  اختلف العلماء يف حكم تعني فر�ض الكفاية يف حال ال�شروع فيه؛ فمنهم من �أطلق القول بتعينه‪ ،‬ومنهم‬
‫من �أطلق القول بعدم تعينه‪ ،‬ومنهم خ�ص التعني ببع�ض الفرائ�ض كاجلهاد و�صالة اجلنازة يف حال‬
‫ال�شروع فيها دون ما �سواها‪.‬‬
‫انظر‪ :‬الأ�شباه والنظائر البن ال�سبكي (‪ ،)90/2‬والبحر املحيط (‪ ،)250/1‬و�سال�سل الذهب (�ص‪،)116‬‬
‫والقواعد والفوائد الأ�صولية (�ص ‪ ،)189 ،188‬ولب الأ�صول (�ص‪ )28‬و�شرح الكوكب املنري (‪،)378/1‬‬
‫ونرث الورود (‪.)229‬‬
‫(((  انظر‪ :‬الأ�شباه والنظائر البن ال�سبكي (‪ ،)91/2‬والبحر املحيط (‪.)251/1‬‬
‫(((  انظر‪� :‬شرح املحلي مع الآيات البينات (‪ ،)329/1‬وتي�سري التحرير (‪ ،)215/2‬و�شرح الكوكب املنري‬
‫(‪ ،)376/1‬ومناهج العقول (‪.)125/1‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫كما هو احلال يف الأذان والإقامة ورد ال�سالم والت�شميت(‪ ،)1‬فهذه �أعما ٌل‬
‫حمدد؛ وذلك يف حال �إذا مل يوجد‬
‫�شخ�ص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫م�ستحب ٌة قد تتعني �سنيتها يف حق‬
‫من يقوم بها �سواه‪.‬‬
‫ووجه ا�شرتاط هذا ال�شرط �أن املفا�ضلة وجه من وجوه الرتجيح بني‬
‫الأعمال املتزاحمة كما تقدم‪ ،‬وهذه املفا�ضلة ال تت�أتى حينما يكون للمكلف‬
‫خري ٌة يف الإقدام على العمل املتعدي �أو الإحجام عنه‪.‬‬
‫ف�إذا مل يكن العمل املتعدي متعي ًنا على املكلف ف�إنه ال تت�أتى املفا�ضلة بينه‬
‫وبني العمل القا�صر وفق اعتبار التعدي والق�صور‪ ،‬بل تثبت الأف�ضلية لأحد‬
‫دليل مع ٍني يدل على تف�ضيل‬‫باعتبارات �أخرى كوجود ٍ‬
‫ٍ‬ ‫العملني املتعدي والقا�صر‬
‫�أحدهما على الآخر‪� ،‬أو بح�سب رجحان م�صلحة �أحد العملني على الآخر‪.‬‬
‫و�إذا تقرر هذا ف�إنه يجدر التنبيه �إلى �أن �أبا املعايل اجلويني قد ذهب �إلى‬
‫تف�ضيل فرو�ض الكفايات على فرو�ض الأعيان مطل ًقا كما هو ظاهر كالمه؛‬
‫لأن امل�صلحة املتح�صلة من القيام بفر�ض الكفاية م�صلح ٌة متعدي ٌة تعم الأمة‬
‫كلها‪ ،‬بخالف فر�ض العني‪ ،‬حيث قال‪“ :‬القيام مبا هو من فرو�ض الكفايات‬
‫�أحرى ب�إحراز الدرجات‪ ،‬و�أعلى يف فنون القربات من فرائ�ض الأعيان‪ ،‬ف�إن‬
‫ما تعني على املتعبداملكلف لو تركه ومل يقابل �أمر ال�شارع فيه باالرت�سام‬
‫‪47‬‬ ‫فر�ض من فرو�ض‬ ‫اخت�ص الإثم به‪ ،‬ولو �أقامه فهو املثاب‪ ،‬ولو ُفر�ض تعطيل ٍ‬
‫لعم امل�أثم على الكافة على اختالف الرتب والدرجات‪ ،‬فالقائم به‬ ‫الكفايات َّ‬
‫كاف نف�سه وكافة املخاطبني احلرج والعقاب‪ ،‬و� ِآم ٌل �أف�ضل الثواب‪ ،‬وال يهون‬ ‫ٍ‬
‫ملهم من مهمات الدين” ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫قدر من يحل حمل امل�سلمني �أجمعني يف القيام ٍ‬
‫وهذا التف�ضيل املطلق لفر�ض الكفاية على فر�ض العني باعتبار تعدي‬
‫مكلف‪ ،‬بخالف‬ ‫النفع ال ي�صح �إطالقه‪� ،‬إذ �إن فر�ض العني متعني الأداء من كل ٍ‬
‫(((  انظر‪ :‬البحر املحيط (‪.)292/1‬‬
‫(((  غياث الأمم (�ص‪.)359‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫مكلف‪ ،‬وهذا يعني �أن فر�ض العني‬‫فر�ض الكفاية الذي ال يتعني �أدا�ؤه على كل ٍ‬
‫مكلف‪ ،‬بخالف فر�ض الكفاية الذي ترب�أ الذمة‬ ‫ال ترب�أ الذمة �إال بفعله من كل ٍ‬
‫كاف لتف�ضيل فر�ض العني‬ ‫منه بفعل بع�ض املكلفني‪ ،‬وهذا وج ٌه للفرق بينهما ٍ‬
‫على فر�ض الكفاية على خالف ما �أطلقه �أبواملعايل اجلويني‪.‬‬
‫�إال �أنه ميكن �أن يكون لكالم �أبي املعايل اجلويني وج ٌه مقبو ٌل �إذا كان‬
‫مراده حال تعني فر�ض الكفاية؛ ف�إن فر�ض الكفاية يف حال تعينه �إذا تزاحم‬
‫عيني �آخر ف�إن فر�ض الكفاية املتعني �أف�ضل من فر�ض العني‬ ‫فر�ض ٍ‬ ‫مع ٍ‬
‫باعتبار وجه املفا�ضلة الذي �أ�شار �إليه اجلويني فيما نقلناه عنه‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث ال�ساد�س‬
‫اال�ستدالل للقاعدة‬

‫هذه القاعدة دل على معناها عد ٌد من الأدلة النقلية والعقلية‪ ،‬وجمموع‬


‫هذه الأدلة يفيد تف�ضيل العمل املتعدي على العمل القا�صر‪ ،‬وذلك على النحو‬
‫الآتي‪:‬‬
‫الدليل الأول‪:‬‬
‫قوله تعالى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ) [الن�ساء]‪.‬‬
‫ووجه الداللة منها �أن الآية الكرمية قد ن�صت على نفي امل�ساواة يف الأجر‬
‫والثواب والدرجة واملكانة بني املتخلفني عن اجلهاد يف �سبيل اهلل من �أهل‬
‫الإميان باهلل وبر�سوله‪ ،‬واملجاهدين يف �سبيل اهلل ب�أموالهم و�أنف�سهم‪ ،‬وهذا‬
‫يعني تف�ضيل املجاهدين يف �سبيل اهلل ب�أموالهم و�أنف�سهم‪ ،‬وهو عم ٌل متعدي‬
‫‪49‬‬ ‫النفع‪ ،‬على القاعدين عن اجلهاد وهم من �أهل الإميان‪ ،‬وعملهم قا�صر‬
‫النفع عليهم‪.‬‬
‫الدليل الثاين‪:‬‬
‫ما ورد عن ر�سول اهلل ‪� S‬أنه قال‪�« :‬أال �أخربكم ب�أف�ضل من درجة‬
‫ال�صيام والقيام؟» قالوا‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪�« :‬إ�صالح ذات البني‪ ،‬وف�ساد‬
‫ذات البني هي احلالقة‪ ،‬ال �أقول حتلق ال�شعر‪ ،‬ولكن حتلق الدين»(‪.)1‬‬
‫(((  �أخرجه �أحمد يف م�سنده (‪ ،)500/45‬و�أبوداود يف �سننه (‪ ،)321/5‬والرتمذي يف �سننه (‪-633/4‬‬
‫‪ ،)664‬وقال‪« :‬حديثٌ �صحي ٌح»‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫فقد دل احلديث على تف�ضيل �إ�صالح ذات البني‪ ،‬وهو عم ٌل متعدي النفع‪،‬‬
‫على التنفل بال�صيام والقيام‪ ،‬وهما عمالن قا�صران على �إ�صالح النف�س‪،‬‬
‫حيث يتعدي �أثر �إ�صالح ذات البني �إلى الغري‪ ،‬في�ؤدي �إلى ح�صول االجتماع‬
‫ونبذ التفرق‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫ب�شعب فيه ُعيين ٌة من ماءٍ‬
‫رجل من �أ�صحاب ر�سول اهلل ‪ S‬م ّر ٍ‬ ‫ما ورد �أن اً‬
‫اعتزلت النا�س‪ ،‬ف�أقمت يف هذا ال�شعب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عذب ٍة ف�أعجبته لطيبها‪ ،‬فقال‪ :‬لو‬
‫ولن �أفعل حتى �أ�ست�أذن ر�سول اهلل ‪ ،S‬فذكر ذلك لر�سول اهلل ‪ ،S‬فقال‪:‬‬
‫«ال تفعل‪ ،‬ف�إن مقام �أحدكم يف �سبيل اهلل �أف�ضل من �صالته يف بيته �سبعني‬
‫عاما‪� ،‬أال حتبون �أن يغفر اهلل لكم ويدخلكم اجلنة‪.)1(»...‬‬
‫ً‬
‫فقد دل احلديث على النهي عن التفريط يف امل�صالح املتعدية التي‬
‫حت�صل من اجلهاد يف �سبيل اهلل من �أجل �إدراك بع�ض امل�صالح التي يقت�صر‬
‫نفعها على الفاعل وحده باالنقطاع للعبادة واعتزال النا�س‪ ،‬وهذا دلي ٌل على‬
‫�أن العمل الذي يتعدى نفعه �أف�ضل من العمل القا�صر‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫�شهر‬
‫ري من �صيام ٍ‬ ‫يوم وليل ٍة خ ٌ‬
‫ما ورد �أن ر�سول اهلل ‪ S‬قال‪« :‬رباط ٍ‬
‫وقيامه‪.)2(»...‬‬ ‫‪50‬‬
‫فقد دل احلديث على تف�ضيل الرباط يف �سبيل اهلل على ال�صيام والقيام م ًعا‪،‬‬
‫وذلك �أن الرباط يتعدى نفعه‪ ،‬فيح�صل به حماية الثغور واحلدود‪ ،‬ومنع العدوان‬
‫على امل�سلمني‪ ،‬ف�أما ال�صيام والقيام فنفعهما قا�ص ٌر على فاعلهما‪ ،‬وذلك دلي ٌل‬
‫على �أن العمل املتعدي نفعه �أف�ضل من العمل القا�صر نفعه على الفاعل وحده‪.‬‬
‫(((  �أخرجه �أحمد يف م�سنده(‪ ،)458/16( ،)474-473/15‬والرتمذي يف �سننه (‪ ،)181/4‬واحلاكم يف‬
‫امل�ستدرك(‪ ،)78/2‬وقال‪« :‬حديثٌ ح�سنٌ »‪.‬‬
‫(((  �أخرجه م�سل ٌم يف �صحيحه (‪.)473/12‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫الدليل اخلام�س‪:‬‬
‫ما ورد �أن الر�سول ‪ S‬قال‪« :‬ف�ضل العامل على العابد كف�ضل القمر ليلة‬
‫البدر على �سائر الكواكب»(‪.)1‬‬
‫فقد دل احلديث على تف�ضيل العلم على العبادة‪ ،‬وذلك تف�ضي ٌل يف‬
‫اجلملة‪ ،‬فالعلم نفعه يتعدى �إلى من �سوى املتعلم‪ ،‬فينتفع منه جمهور النا�س‪،‬‬
‫حني ُيع ّلم اجلاهل‪ ،‬و ُير�شد ال�ضال‪ ،‬وي�صلح الفا�سد‪ ،‬و ُي�ص ّوب املخطئ‪،‬‬
‫وتقام حدود اهلل و�شريعته‪ ،‬و�أما العبادة فيقت�صر نفعها على العابد وحده‪،‬‬
‫فدل هذا على �أن العمل املتعدي النفع �أف�ضل من العمل الذي يق�صر نفعه‬
‫على �صاحبه‪.‬‬
‫الدليل ال�ساد�س‪:‬‬
‫اتفاق العلماء على �أن النفع املتعدي �أف�ضل من النفع القا�صر على املرء‬
‫نف�سه‪ ،‬وقد نقل ابن احلاج هذا االتفاق‪ ،‬فقال‪“ :‬وال خالف بني الأئمة يف �أن‬
‫اخلري املتعدي �أف�ضل من اخلري القا�صر على املرء نف�سه” (‪ ،)2‬وقال �أي�ضً ا‪:‬‬
‫“وال ُيختلف �أن النفع املتعدي �أف�ضل من القا�صر على املرء نف�سه ب�شرط‬
‫ال�سالمة من الآفات التي تعتوره يف ذلك” (‪.)3‬‬
‫وهذا االتفاق ُيق�صد به التف�ضيل يف حال التزاحم بني الأعمال املتعدية‬
‫‪51‬‬ ‫والقا�صرة‪ ،‬ولذا ف�إن ما �سي�أتي من وجود مواقف لبع�ض العلماء بخالف هذا‬
‫تحُ مل على املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية والقا�صرة يف حال عدم التزاحم بينها‪.‬‬
‫الدليل ال�سابع‪:‬‬
‫�أن تف�ضيل العمل الذي يتعدى نفعه على العمل الذي يقت�صر نفعه على‬
‫(((  �أخرجه �أحمد يف م�سنده (‪ ،)46 ،45/36‬و�أبوداود يف �سننه (‪ ،)317/3‬والرتمذي يف �سننه (‪،)48/5‬‬
‫وابن ماجة يف �سننه (‪ ،)81/1‬والدارمي يف �سننه (‪.)83/1‬‬
‫(((  املدخل (‪.)126/1‬‬
‫(((  املدخل (‪.)218/2‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫عقل؛ ف�إن العمل الذي يتعدى نفعه تتحقق منه م�صالح‬‫�صاحبه هو املالئم اً‬
‫�أعم و�أكرث �أث ًرا‪ ،‬و�أما العمل القا�صر فم�صلحته خا�ص ٌة‪ ،‬وال �شك �أن حت�صيل‬
‫امل�صالح العامة �أولى من طلب وحت�صيل امل�صالح اخلا�صة‪.‬‬
‫الدليل الثامن‪:‬‬
‫�شرعا �أن الأعمال تتفا�ضل بقدر ما فيها من املنفعة وامل�صلحة‬
‫�أن املتقرر ً‬
‫والفائدة‪ ،‬ولذا يكون املتعدي �أف�ضل من القا�صر؛ لأن املتعدي نفعه �أكرب‪،‬‬
‫وم�صلحته �أعظم‪ ،‬وفائدته �أغلب‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث ال�سابع‬
‫مواقف العلماء من القاعدة‪ ،‬وجمال �إعمالها‬

‫تفاوتت مواقف العلماء من قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)‪ ،‬وذلك‬


‫على النحو الآتي‪:‬‬
‫املوقف الأول‪:‬‬
‫من يرى �أن هذه القاعدة �أغلبية‪ ،‬ولي�ست مطرد ًة‪ ،‬و�إلى هذا ذهب‬
‫الزرك�شي‪ ،‬والهيتمي‪ ،‬حيث قال الزرك�شي‪“ :‬و�أما ال�شبهة التي ا�ستند �إليها‬
‫هذا القائل فمبني ٌة على �أن العمل املتعدي �أف�ضل من القا�صر‪ ،‬ولي�ست بقاعد ٍة‬
‫مطرد ٍة”(‪ ،)1‬وقال الهيتمي‪“ :‬قاعدة �أن العمل املتعدي �أف�ضل من القا�صر‪...‬‬
‫�أغلبية‪ ،‬لأن القا�صر قد يكون �أف�ضل‪ ،‬كالإميان �أف�ضل من اجلهاد”(‪ ،)2‬وقال‬
‫�أي�ضً ا‪“ :‬الغالب �أن العمل املتعدي �أف�ضل من العمل القا�صر”(‪.)3‬‬
‫ووجه هذا القول‪� :‬أن قاعدة (العمل املتعدي �أف�ضل من القا�صر) َي ِر ُد‬
‫عليها بع�ض اال�ستثناءات التي تخرج من حكمها‪ ،‬ووجود اال�ستثناء دلي ٌل على‬
‫‪53‬‬ ‫�أن القاعدة ال تنطبق على كل جزئياتها بل على �أكرثها‪ ،‬فتكون بهذا قاعد ًة‬
‫�أغلبي ًة ال كلي ًة‪.‬‬
‫املوقف الثاين‪:‬‬
‫من يرى �أن التف�ضيل بني الأعمال �إمنا يكون بح�سب نفع العمل ل�صاحبه‬
‫وحاجته �إليه‪ ،‬فقد يكون نفع العمل القا�صر ل�صاحبه �أكرث من نفع العمل‬
‫(((  املنثور (‪.)39/3‬‬
‫(((  حتفة املحتاج (‪.)289/7‬‬
‫(((  الفتاوى الفقهية الكربى (‪.)437/3‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫املتعدي له‪ ،‬فالعربة بحال نفع العمل ل�صاحبه ال بالعمل نف�سه‪ ،‬وبنا ًء على‬
‫هذا القول ال ي�صح �إطالق التف�ضيل بني الأعمال باعتبار التعدي‪.‬‬
‫وهذا املوقف تبناه �شيخ الإ�سالم ابن تيمية فيما ظهر يل من جمموع كالمه‬
‫يف املوا�ضع التي حتدث فيها عن املفا�ضلة بني الأعمال؛ حيث �أ�شار يف �أكرث‬
‫من منا�سب ٍة �إلى هذا املعنى‪ ،‬فقال‪“ :‬الأف�ضل يتنوع بتنوع �أحوال النا�س”(‪،)1‬‬
‫وقال‪“ :‬الأف�ضل يف حق ال�شخ�ص هو بح�سب حاجته ومنفعته”(‪ ،)2‬وقال‪:‬‬
‫“تف�ضيل العمل على العمل قد يكون مطل ًقا‪...‬وقد يكون مقيدً ا‪...‬وقد يكونان‬
‫وقت �أف�ضل من الفا�ضل‪،‬‬
‫متماثلني يف حق ال�شخ�ص‪ ،‬وقد يكون املف�ضول يف ٍ‬
‫وقد يكون املف�ضول يف حق من يقدر عليه وينتفع به �أف�ضل من الفا�ضل يف حق‬
‫من لي�س كذلك”(‪ ،)3‬وقال‪“ :‬من الأعمال ما يكون جن�سه �أف�ضل‪ ،‬ثم يكون‬
‫مرجوحا‪� ،‬أو منه ًيا عنه”(‪.)4‬‬
‫ً‬ ‫تار ًة‬
‫مو�ضع �آخر ب�أن الف�ضل‬
‫ٍ‬ ‫على �أن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية قد �صرح يف‬
‫بح�سب كرثة م�صلحة الفعل(‪ ،)5‬وهذا ال يناق�ض ما �أوردناه عنه فيما تقدم‬
‫بيانه يف موقفه يف اعتبارات املفا�ضلة؛ وذلك لأن كرثة م�صلحة الفعل �إمنا‬
‫تقدر بح�سب انتفاع املكلف بالعمل متعد ًيا �أو قا�ص ًرا‪.‬‬
‫ويف هذا ال�سبيل ق ّرر �شيخ الإ�سالم ابن تيمية �أن الأعمال ال تتفا�ضل‬
‫والقدر‪ ،‬و�إمنا تتفا�ضل مبا يح�صل يف القلوب حال العمل‪ ،‬حيث �إن‬ ‫بالكرثة ْ‬ ‫‪54‬‬
‫الأعمال ت ْف ُ�ض ُل بنيات �أ�صحابها‪ ،‬وح�سن االتباع (‪ ،)6‬ف ُر ّب ت�سبيح ٍة من � ٍ‬
‫إن�سان‬
‫�أف�ضل من ملء الأر�ض من عمل غريه(‪.)7‬‬
‫ انظر‪ :‬الفتاوى الكربى (‪.)500/2‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)55/23‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)399/11‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬الفتاوى الكربى (‪.)500/2‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪.)37/26‬‬ ‫(((‬
‫ انظر‪ :‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪ ،)378/4‬ومنهاج ال�سنة (‪ ،)412/8‬ودقائق التف�سري‬ ‫(((‬
‫(‪.)170/2‬‬
‫ انظر‪ :‬الفتاوى الكربى (‪.)5/1‬‬ ‫(((‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫والذي يظهر �أن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية قد اعتمد يف مبد�أ املفا�ضلة بني‬
‫مرجحات تعود بالنفع على �صاحبه‪ ،‬ولي�س‬
‫ٍ‬ ‫الأعمال على ما يحتف بالعمل من‬
‫�إلى ذات العمل وطبيعته وما يف�ضي �إليه من امل�صالح املتعلقة بغري فاعله‪.‬‬
‫املوقف الثالث‪:‬‬
‫من يرى التف�صيل بح�سب �أحوال التعدي والق�صور‪ ،‬و�أن القاعدة لي�ست‬
‫على �إطالقها‪ ،‬و�أنها لو �أُخذت بهذا الإطالق ف�إنها ال ت�صح‪ ،‬و�إلى هذا ذهب‬
‫العز بن عبدال�سالم‪ ،‬والقرايف‪ ،‬واملقري (‪.)1‬‬
‫حال قد يكون العمل القا�صر �أف�ضل من املتعدي‪ ،‬وذلك كالتوحيد‬ ‫ففي ٍ‬
‫والإميان والإ�سالم‪ ،‬و�أركان الإ�سالم عدا الزكاة‪ ،‬فقد قال ‪« :S‬خري �أعمالكم‬
‫و�سئل ‪� :S‬أي الأعمال �أف�ضل؟ فقال‪�« :‬إميا ٌن باهلل ور�سوله» قيل‬‫ال�صالة» (‪ُ ،)2‬‬
‫ثم ماذا؟ قال‪« :‬جها ٌد يف �سبيل اهلل» قيل ثم ماذا؟ قال‪« :‬ح ٌج مربو ٌر»(‪.)3‬‬
‫ف�ضل النبي ‪ S‬الإميان على اجلهاد‪ ،‬والإميان عم ٌل قا�صر النفع على‬ ‫فقد ّ‬
‫�صاحبه‪.‬‬
‫الذكر والت�سبيح عقب ال�صالة على الت�صدق بف�ضول‬ ‫وف�ضل النبي ‪ِّ S‬‬ ‫ّ‬
‫الذكر والت�سبيح عم ٌل قا�صر النفع‪ ،‬بخالف الت�صدق‬ ‫الأموال(‪ ،)4‬ومعلو ٌم �أن ِّ‬
‫بف�ضول الأموال‪ ،‬فهو عم ٌل ٍّ‬
‫متعد‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫حال �أخرى قد يكون العمل املتعدي �أف�ضل من العمل القا�صر‪ ،‬كما‬‫ويف ٍ‬
‫م َّر يف تف�ضيل اجلهاد يف �سبيل اهلل‪ ،‬وهو عم ٌل ٍّ‬
‫متعد‪ ،‬على احلج املربور‪ ،‬وهو‬
‫عم ٌل قا�ص ٌر‪.‬‬
‫ انظر‪ :‬فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص‪ ،)141 ،140‬والفوائد يف اخت�صار املقا�صد(�ص‪ ،)122‬والذخرية‬ ‫(((‬
‫(‪ ،)357/13‬والقواعد للمقري (�ص‪.)162‬‬
‫ �أخرجه �أحمد يف م�سنده (‪ ،)282 ،276/5‬وابن ماجة يف �سننه (‪ ،)342/1‬وابن حبان يف‬ ‫(((‬
‫�صحيحه(‪ ،)305/3‬والبيهقي يف �سننه (‪ ،)457/1‬واحلاكم يف امل�ستدرك(‪.)438-436/1‬‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه (‪ ،)55/6‬وم�سل ٌم يف �صحيحه (‪.)307/1‬‬ ‫(((‬
‫ �أخرجه البخاري يف �صحيحه (‪ ،)123/21( ،)423/3‬وم�سل ٌم يف �صحيحه (‪.)316/6( ،)134/4‬‬ ‫(((‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫و�إنقاذ الغريق يف حال القدرة على �إنقاذه‪� ،‬أف�ضل من اال�شتغال بال�صالة‪،‬‬


‫ولو كانت فر�ضً ا‪ ،‬ولو �ضاق وقتها‪ ،‬لأن �إنقاذ الغريق يتعدى نفعه �إلى الغري‪،‬‬
‫بخالف ال�صالة فنفعها قا�ص ٌر على فاعلها وحده‪.‬‬
‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫ثم �إن �أ�صحاب هذا املوقف قد جعلوا �ضابط التف�ضيل هنا‬
‫ب�أمرين‪:‬‬
‫�أولهما‪ :‬رجحان م�صلحة العمل‪ ،‬فالعمل الذي تكون م�صلحته �أرجح يكون‬
‫�أف�ضل �سوا ٌء �أكان اً‬
‫عمل متعد ًيا �أم قا�ص ًرا‪.‬‬
‫ن�ص بتف�ضيله يكون �أف�ضل‬ ‫ثانيهما‪ :‬ورود الن�ص بتف�ضيل العمل‪ ،‬فما ورد ٌّ‬
‫و�إنْ مل ُيدرك �سبب رجحانه(‪.)1‬‬
‫ويقرب من هذا املوقف موقف من يرى �أن هذه القاعدة مقيد ٌة يف واقعها‬
‫ب�شرط‪ ،‬وهو �أن تكون امل�صلحة الناجتة عن العمل املتعدي �أرجح من امل�صلحة‬
‫ٍ‬
‫الناجتة من العمل القا�صر‪ ،‬وهو اختيار القرايف ‪ ،‬فك�أن ن�ص القاعدة‬
‫(‪)2‬‬

‫عنده‪( :‬املتعدي الذي رجحت م�صلحته �أف�ضل من القا�صر)‪.‬‬


‫وبنا ًء عليه ي�صح �إطالق القاعدة بهذه العبارة‪� ،‬إال �أن لها ً‬
‫�شرطا يجب‬
‫حتققه لإعمالها‪ ،‬وال يجب الت�صريح به يف ن�صها‪ ،‬وال يرد عليها اال�ستثناء‬
‫م�ستثنى من القاعدة هو غري‬
‫ً‬ ‫كما قال �أ�صحاب املوقف الأول‪ ،‬لأن ما قيل �إنه‬
‫داخل يف القاعدة من الأ�صل؛ �إذ مل ينطبق عليه �شرط القاعدة‪ ،‬فك�أن ن�ص‬ ‫ٍ‬ ‫‪56‬‬
‫القاعدة‪( :‬املتعدي الذي رجحت م�صلحته �أف�ضل من القا�صر)‪.‬‬
‫والذي يظهر �أن العمل املتعدي �أف�ضل من العمل القا�صر مطل ًقا يف حال‬
‫�شرعا‪ ،‬واملالئم اً‬
‫عقل‪،‬‬ ‫تعار�ضهما‪ ،‬وعدم �إمكان اجلمع بينهما‪ ،‬وهو املنا�سب ً‬
‫�إذ ال�شرع والعقل قد دال على �أن العمل الذي رجحت م�صلحته وتعدى نفعه‬
‫(((  انظر‪ :‬فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص ‪ ،)141‬والقواعد للمقري (�ص‪.)162‬‬
‫(((  انظر‪� :‬أنوار الربوق (‪.)133-131/2‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫�أف�ضل من العمل الذي تكون م�صلحته مرجوح ًة‪� ،‬أو يكون �أثره قا�ص ًرا على‬
‫�صاحبه يف حال التعار�ض وعدم �إمكان اجلمع‪.‬‬
‫و�أما تف�ضيل العمل القا�صر على املتعدي بنا ًء على بع�ض الن�صو�ص الواردة‬
‫فيه‪ ،‬فتحمل على التف�ضيل املطلق الذي ال يكون يف حال التعار�ض‪ ،‬كتف�ضيل‬
‫ل�شخ�ص دون‬
‫ٍ‬ ‫وقت �أو‬
‫حال �أو ٍ‬
‫الإميان على اجلهاد يف �سبيل اهلل‪� ،‬أو تف�ضيله يف ٍ‬
‫ما عدا ذلك‪ ،‬وذلك كتف�ضيل الذكر بعد ال�صالة على ال�صدقة باملال؛ حيث‬
‫�إن هذا التف�ضيل �إمنا هو لأولئك الذين �س�ألوا النبي ‪ S‬ومن كان مثلهم ممن‬
‫ال ميلك املال للت�صدق به‪ ،‬و�أما من ميلك املال وال ميكنه الت�صدق به و�إي�صاله‬
‫الذكر‪ ،‬ل�ضيق وقته وخوف فوات حت�صيل امل�ستحق‪،‬‬ ‫مل�ستحقيه �إال �إذا ترك ِّ‬
‫ف�إن الذي يظهر �أن حت�صيل بذل ال�صدقة �أف�ضل من الذكر يف حقه‪.‬‬
‫وهذا مثل تف�ضيل بع�ض الأعمال املتعدية على بع�ض‪ ،‬فقد يح�صل �أن‬
‫ف�ضل عم ٌل ٍّ‬
‫متعد �آخر‪ ،‬ويكون‬ ‫مو�ضع �آخر ُي ّ‬
‫ٍ‬ ‫يف�ضل عم ٌل ٍّ‬
‫متعد على غريه‪ ،‬ويف‬ ‫ّ‬
‫ذلك بح�سب الأحوال �أو الأ�شخا�ص �أو املنا�سبات‪ ،‬كما ورد يف تف�ضيل بر‬
‫الوالدين واجلهاد يف �سبيل اهلل(‪ ،)1‬وورد تف�ضيل �إدخال ال�سرور على امل�ؤمن‬
‫وق�ضاء الدين عنه و�إطعامه(‪ ،)2‬وورد تف�ضيل التودد �إلى النا�س على غريه(‪.)3‬‬
‫وبنا ًء على ما تقدم ف�إن الذي يظهر �أنه ال ُيحتاج �إلى تقييد �إطالق‬
‫‪57‬‬ ‫القاعدة مب�ضمون ال�شرط املذكور ‪-‬وهو رجحان م�صلحة العمل املتعدي‪-‬‬
‫لأن رجحان م�صلحة العمل من طبيعة العمل املتعدي‪ ،‬و�صاحب العقل ال�سليم‬
‫يرجح العمل ذا النفع املتعدي على العمل ذي النفع القا�صر‪.‬‬
‫والنظر امل�ستقيم ّ‬

‫(((  تقدم �إيراده‪.‬‬


‫(((  �أخرجه الطرباين يف املعجم الكبري (‪ ،)307 ،84/11‬ويف املعجم الأو�سط (‪ ،)282/12‬ويف املعجم‬
‫ال�صغري (‪.)2/3‬‬
‫(((  �أخرجه الطرباين يف املعجم الكبري (‪ ،)448/19‬ويف املعجم الأو�سط (‪ ،)327/13‬والبيهقي يف �شعب‬
‫الإميان (‪.)97 ،96/17‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫املبحث الثامن‬
‫تطبيقات القاعدة‬

‫قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) يندرج حتتها ما ال يح�صى من‬


‫التطبيقات الفقهية ذات االرتباط املبا�شر مبو�ضوع القاعدة‪ ،‬وهذه التطبيقات‬
‫منها ما هو م�سطو ٌر يف كتب الفقهاء املتقدمني‪ ،‬ومنها ما هو من الوقائع‬
‫املعا�صرة‪ ،‬خا�ص ًة و�أن مو�ضوع القاعدة ذا �صل ٍة بكث ٍري من الأعمال التطوعية‬
‫واخلدمية ذات النفع الإن�ساين‪ ،‬ف�أخذت هذه القاعدة بذلك ُبعدً ا وا�س ًعا حتى‬
‫لدى غري امل�سلمني؛ �إذ �إن حتكيم هذه القاعدة يتوافق مع الطبائع ال�سليمة‬
‫والعقول امل�ستقيمة‪ ،‬وي�سري مع الفطرة الإن�سانية التي ُجبل عليها �أ�صحاب‬
‫العقول الرا�شدة يف تقدمي ما كرثت م�صاحله وتعدت منافعه‪.‬‬
‫و�إذا تقرر هذا فمن التطبيقات الفقهية على هذه القاعدة ما يلي‪:‬‬
‫‪�1.1‬أن اال�شتغال بطلب العلم �أف�ضل من اال�شتغال بنوافل العبادات (‪)1‬؛‬
‫وذلك �أن اال�شتغال بطلب العلم يتعدى نفعه‪ ،‬بخالف نوافل العبادات‬
‫ف�إن نفعها قا�ص ٌر عليها‪ ،‬ف�إذا كان اال�شتغال بنوافل العبادات م�ؤد ًيا‬ ‫‪58‬‬
‫�إلى فوات الدر�س‪ ،‬ف�إن النافلة ترتك لأجل �إدراك الدر�س‪.‬‬
‫‪�2.2‬أن بر الوالدين والعمل على ق�ضاء حوائجهما �أف�ضل من اال�شتغال‬
‫بنوافل العبادات (‪�)2‬إذا مل ميكن حت�صيلهما م ًعا‪ ،‬ف�إذا كان اال�شتغال‬
‫بنوافل العبادات م�ؤد ًيا �إلى التفريط يف حق الوالدين‪ ،‬ف�إن النافلة‬
‫ترتك لأجل �إدراك برهما‪.‬‬
‫(((  انظر‪ :‬املنثور (‪ ،)421/2‬والأ�شباه والنظائر لل�سيوطي (�ص‪.)271‬‬
‫(((  انظر‪ :‬فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص‪.)141‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫‪�3.3‬أن �إنقاذ الغريق يف حال القدرة على �إنقاذه‪� ،‬أو من داهمه احلريق‪،‬‬
‫�أف�ضل من اال�شتغال بال�صالة‪ ،‬ولو كانت فر�ضً ا‪ ،‬ولو �ضاق وقتها‪ ،‬لأن‬
‫�إنقاذ الغريق �أو من داهمه احلريق يتعدى نفعه �إلى الغري‪ ،‬بخالف‬
‫ال�صالة‪ ،‬فنفعها قا�ص ٌر على فاعلها وحده (‪.)1‬‬
‫حلجاج وتقدمي العون لهم �أو اال�شتغال ب�إر�شادهم‬‫‪�4.4‬أن اال�شتغال بخدمة ا ُ‬
‫يف �أحكام املنا�سك �أف�ضل من حج التطوع‪ ،‬وذلك لأن اال�شتغال بخدمة‬
‫حلجاج وتقدمي العون لهم �أو اال�شتغال ب�إر�شادهم يف �أحكام املنا�سك‬ ‫ا ُ‬
‫حلجاج‪ ،‬بخالف حج التطوع‪ ،‬فنفعه قا�ص ٌر‬ ‫�أعما ٌل يتعدى نفعها �إلى ا ُ‬
‫على فاعله وحده‪.‬‬
‫‪�5.5‬أن �أعمال الرب التي ينتفع بها عامة امل�سلمني‪ ،‬كن�شر العلم‪ ،‬والإغاثة‬
‫بالإطعام والك�سوة‪� ،‬أف�ضل من نوافل العبادات التي يكون نفعها مق�صو ًرا‬
‫على �أ�صحابها‪ ،‬كالتنفل بالعمرة �أو �أداء حج النافلة‪.‬‬
‫‪�6.6‬أن اال�شتغال بالأعمال التطوعية ك�إ�سعاف امل�صابني يف احلوادث �أو‬
‫الكوارث �أو احلروب‪� ،‬أو توعية النا�س ب�أخاطر الأمرا�ض و�سبل الوقاية‬
‫منها‪� ،‬أف�ضل من اال�شتغال بح�ضور امل�ؤمترات والندوات العلمية‪ ،‬وذلك‬
‫�أن هذا العمل نفعه قا�ص ٌر على �صاحبه‪ ،‬بخالف تلك الأعمال؛ ف�إن‬
‫نفعها يتعدى �إلى عموم اخللق‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫‪�7.7‬أن توجيه �أعمال التربعات املالية وميزانيات امل�شاريع الإن�شائية‬
‫والت�شغيلية �إلى ما يتعدى نفعه �أف�ضل من توجيهها �إلى الأعمال‬
‫القا�صرة النفع �أو ما فيها �شائبة الق�صور‪ ،‬فتوجيه �أعمال التربعات‬
‫املالية لدعم الأعمال الإن�سانية ك�إ�سعاف امل�صابني واملنكوبني يف‬
‫أعمال‬
‫احلروب �أو لدعم م�شاريع مكافحة الفقر �أف�ضل من توجيهها ل ٍ‬
‫تعود بالنفع على �صاحبها فقط‪.‬‬
‫(((  انظر‪ :‬فتاوى العز بن عبدال�سالم (�ص‪.)141‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫‪�8.8‬أن نزع ملكية العقار للم�صلحة العامة �أف�ضل من �إبقاء العقار يف ملك‬
‫�صاحبه‪ ،‬لأن نزع العقار يف هذه احلالة يتعدى نفعه لعامة النا�س‪،‬‬
‫بخالف �إبقاء العقار يف ملك �صاحبه ف�إن نفعه قا�ص ٌر عليه‪.‬‬
‫‪�9.9‬أن الت�سعري على التجار و�إجبارهم على البيع بقيمة املثل يف حال‬
‫ُ�شح ال�سلع اال�ستهالكية يف ال�سوق‪ ،‬وحب�س التجار ملا عندهم من هذه‬
‫ال�سلع‪� ،‬أف�ضل من تركهم يبيعون وفق ما ي�شا�ؤون؛ لأن الت�سعري يف‬
‫هذه احلال يتعدى نفعه لعموم النا�س بخالف ترك التجار يبيعون‬
‫كيف ي�شا�ؤون؛ حيث �إن نفع ذلك قا�ص ٌر عليهم‪.‬‬
‫‪�1010‬أن اال�شتغال بالأعمال التي يتعدى نفعها كالتعليم والق�ضاء بني النا�س‬
‫والإ�صالح بينهم والطب والتمري�ض وما يح�صل به �إنقاذ النا�س‬
‫والدفاع عنهم من الأعمال الع�سكرية �أف�ضل من اال�شتغال بالأعمال‬
‫التي يق�صر نفعها على �صاحبها كاال�شتغال ب�أعمال الرعي اً‬
‫مثل �إذا‬
‫كان لأجل نفع النف�س فح�سب‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املبحث التا�سع‬
‫املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية‬

‫ملا كان مو�ضوع هذه القاعدة متعل ًقا باملفا�ضلة بني الأعمال املتعدية‬
‫والأعمال القا�صرة‪ ،‬وملا كانت بع�ض الأعمال القا�صرة مما ميكن �أن تلحقه‬
‫بوجه ما‪ ،‬فقد نا�سب �أن نختم الكالم على هذه‬ ‫�شائبة التعدي يف النفع ٍ‬
‫القاعدة بالكالم على املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية يف حال تزاحمها‪.‬‬
‫فال يخفى �أن الأعمال تتفاوت عند اهلل عز وجل بح�سب ف�ضلها و�أجرها‪،‬‬
‫عمل‬
‫وذلك يختلف باختالف رتب م�صاحلها يف الف�ضل وال�شرف‪ ،‬وكل ٍ‬
‫نفع �أو يدفعه من �ض ٍّر‪ ،‬وعلى هذا تتقدر الأجور‬
‫يتفاوت بتفاوت ما يجلبه من ٍ‬
‫والآثام‪ ،‬لأن ال�ش�أن يف ال�شريعة التقدمي بقوة امل�صلحة‪ ،‬ولذا ف�إذا �أراد املكلف‬
‫حتقيق م�صالح ال�شريعة فيجب عليه �أن يختار من الأعمال �أف�ضلها و�أكملها‪.‬‬
‫فالأعمال املتعدية تتمايز وتتفا�ضل فيما بينها على ح�سب �شمول نفعها‬
‫اً‬
‫و�شمول يف‬ ‫ات�ساعا‬
‫ً‬ ‫وامتداده للآخرين‪ ،‬فكلما كانت الأعمال املتعدية �أكرث‬
‫‪61‬‬ ‫�أثرها حازت مزيدً ا من الف�ضل والرجحان؛ فالعمل الذي يتعدى نفعه �إلى‬
‫خا�ص �أو ُق ْط ٍر‬
‫بلد ٍّ‬‫�أهل البلد كلهم �أف�ضل من العمل الذي يتعدى نفعه �إلى ٍ‬
‫مع ٍني‪.‬‬
‫حجر يف معر�ض بيانه لقول الر�سول اهلل ‪:S‬‬ ‫وهذا ما نبه �إليه ابن ٍ‬
‫تف�ضيل لتعليم‬
‫ٍ‬ ‫«خريكم من تعلم القر�آن وعلمه»(‪ ،)1‬وما قد ُيفهم منه من‬
‫القر�آن على الأمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهاد يف �سبيل اهلل‪ ،‬حيث‬
‫(((  �أخرجه البخاري يف �صحيحه يف كتاب ف�ضائل القر�آن‪ ،‬باب خريكم من تعلم القر�آن وعلمه (‪)27/17‬‬
‫برقم (‪.)5027‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫قال‪“ :‬ف�إن قيل‪ :‬فيلزم �أن يكون املقرئ �أف�ضل ممن هو �أعظم َغنا ًء يف‬
‫الإ�سالم باملجاهدة والرباط والأمر باملعروف والنهي عن املنكر مثلاً ‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬حرف امل�س�ألة يدور على النفع املتعدي‪ ،‬فمن كان ح�صوله عنده �أكرث‬
‫كان �أف�ضل”(‪.)1‬‬
‫ويف هذا ال�ش�أن قرر العلماء �أنه �إذا احتد جن�س ال�صفات كان املت�صف‬
‫ب�أكرثها �أف�ضل من املت�صف ب�أقلها‪ ،‬و�أنه كلما زادت ال�صفات زاد التف�ضيل‪،‬‬
‫والقدر الزائد يزداد به الف�ضل‪.‬‬
‫و�أما �إذا اختلفت الأو�صاف ف�إن التف�ضيل يكون ب�أ�شرف الأو�صاف قد ًرا‬
‫و�أجلها فائد ًة‪.‬‬
‫ولذا ف�إن الأعمال املتعدية ُيفا�ضل بينها �إذا تزاحمت مبقدار ما تت�صف‬
‫به من تعدي النفع‪ ،‬ومعيار قيا�س تعدي النفع هنا هو العموم وال�شمول‬
‫اً‬
‫و�شمول يف النفع كان‬ ‫الذي يتحقق من خاللها‪ ،‬فكلما كان العمل �أكرث تعد ًيا‬
‫�أف�ضل‪ ،‬وقد ورد عن �شيخ الإ�سالم ابن تيمية �أنه قال‪“ :‬الف�ضل بح�سب كرثة‬
‫م�صلحة الفعل”(‪.)2‬‬
‫وبنا ًء عليه �سيكون ذلك املقدار والو�صف الزائد من الف�ضل بني الأعمال‬
‫عمل وتقدميه‬
‫عمل على ٍ‬‫ن�صو�ص بتف�ضيل ٍ‬
‫ٌ‬ ‫اجتهاد‪ ،‬ما مل ترد‬
‫ٍ‬ ‫املتعدية حمل‬
‫‪62‬‬
‫عليه‪.‬‬
‫ري من الفروع الفقهية التي تتزاحم فيها الأعمال‬
‫وينبني على ما تقدم كث ٌ‬
‫املتعدية‪ ،‬وتكون املفا�ضلة بينها بح�سب تعدي نفعها‪ ،‬ومن ذلك اً‬
‫مثل‪:‬‬
‫املفا�ضلة بني بع�ض املهن امل�شروعة كال�صناعة والتجارة والزراعة‪ ،‬ف�إنها‬
‫تتفا�ضل فيما بينها بح�سب تعدي نفعها للمجتمع‪ ،‬فحيث تق ّل الأقوات ويحتاج‬
‫(((  فتح الباري (‪.)76/9‬‬
‫(((  جمموع الفتاوى (‪.)37/26‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫املجتمع �إلى الغذاء تكون الزراعة �أف�ضل‪ ،‬وحيث تكرث الأقوات و ُيحتاج �إلى‬
‫ال�صناعة لتحقيق االكتفاء الذاتي للمجتمع تكون ال�صناعة �أف�ضل‪ ،‬وعندما‬
‫تتوافر الزراعة وال�صناعة و ُيحتاج �إلى من ينقل ذلك الإنتاج �إلى البالد‬
‫الأخرى تكون التجارة �أف�ضل‪ ،‬فتتفاوت رتب هذه الأعمال و�أف�ضليتها بح�سب‬
‫ما حتققه من النفع املتعدي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫اخلامتة‬

‫ات�ضح لنا مما تقدم جمل ٌة من الأمور التي تقررت من خالل ترديد النظر‬
‫يف مباحث هذه الدرا�سة‪ ،‬ولذا ف�إنه ميكن القول �إن من �أهم النتائج التي‬
‫خل�صت �إليها هذه الدرا�سة ما يلي‪:‬‬
‫‪1.1‬تقررت لنا �أهمية قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)‪ ،‬وتعدد‬
‫تطبيقاتها يف الزمن ال�سابق‪ ،‬وجتدد احلاجة �إليها يف الزمن احلا�ضر‪.‬‬
‫‪2.2‬تبني لنا �أن هذه القاعدة مل ت�أخذ حقها من البحث والتحقيق لدى‬
‫من �ألفوا يف القواعد الفقهية‪ ،‬كما مل حتظ بالدرا�سة والتدقيق لدى‬
‫الباحثني املعا�صرين‪.‬‬
‫‪�3.3‬أن من �أعظم فوائد العلم بحقيقة املفا�ضلة و�أنواعها وحترير �أ�سبابها‬
‫�أن تقي من اخللط بني الفا�ضل واملف�ضول‪ ،‬فرمبا ُف ّ�ضل عم ٌل على‬ ‫‪64‬‬
‫ترجيح �أو تف�ضيل‪ ،‬ورمبا ُف ّ�ضلت بع�ض الأعمال‬
‫ٍ‬ ‫عمل‪ ،‬و ُر ّجح دون وجه‬
‫ٍ‬
‫اً‬
‫تف�ضيل مطل ًقا‪ ،‬وف�ضلها مقي ٌد‪� ،‬أو العك�س‪.‬‬
‫‪�4.4‬أن للمفا�ضلة بني الأعمال �أ�سبا ًبا يح�سن �إدراكها‪ ،‬لي�سهل الوقوف‬
‫على وجوه املفا�ضلة بني الأعمال املتزاحمة‪ ،‬و�أن �أكرث اخلط�أ الواقع يف‬
‫التف�ضيل يرجع �إلى عدم �إدراك الأ�سباب ال�شرعية ال�صحيحة للتف�ضيل‪،‬‬
‫�أو عدم التفريق بني وجوه التف�ضيل مقيدًا �أو مطل ًقا ً‬
‫جن�سا �أو �أفرادًا‪.‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫‪ 5.5‬تقرر يف �أثناء هذا البحث �أنه مل يرد يف ال�شرع حتديد �أ�سباب‬


‫منا�سبات خمتلف ٍة تف�ضيل‬
‫ٍ‬ ‫املفا�ضلة بني الأعمال‪� ،‬إال �أنه قد ورد يف‬
‫بع�ض‪ ،‬ومن جمموع هذه املنا�سبات قد يح�صل‬ ‫بع�ض الأعمال على ٍ‬
‫تقريب هذه الأ�سباب‪.‬‬
‫‪�6.6‬أنه با�ستقراء موا�ضع التف�ضيل يف �أحكام ال�شرع تقرر منها �أن �أ�سباب‬
‫عام‪ ،‬وهو‪ِ :‬ع َظم امل�صلحة املرتتبة‬
‫واحد ٍ‬
‫�سبب ٍ‬‫التف�ضيل ترجع �إلى ٍ‬
‫على القيام بالعمل‪.‬‬
‫‪�7.7‬أن تف�ضيل الأعمال باعتبار تعدي نفعها تندرج حتت مو�ضوع املفا�ضلة‬
‫بني الأعمال من جهة نوع العمل �أو ثمرته‪ ،‬وهي مع ّرف من معرفات‬
‫عظم امل�صلحة التي هي �سبب التف�ضيل بني الأعمال كافة‪.‬‬
‫‪�8.8‬أن املفا�ضلة بني املتعدي والقا�صر‪ ،‬وتقدمي العمل املتعدي‪ ،‬له م�سالك‬
‫اعتربها ال�شرع و�أقرها‪ ،‬وهذه امل�سالك ميكن ا�ستخدامها لك�شف‬
‫الفا�ضل ومتييزه عن املف�ضول‪ ،‬وبا�ستقراء �أحوال املفا�ضلة بني‬
‫املتعدي والقا�صر مت ح�صر م�سالك املفا�ضلة يف داللة الن�ص ال�شرعي‬
‫وداللة العقل وداللة العرف‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪�9.9‬أن لتعدي النفع يف العمل واحلكم بكون العمل متعدي النفع معرفاتٌ‬
‫مت عر�ضها من خالل �ضوابط التعدي يف العمل‪.‬‬
‫ً‬
‫�شروطا يجب‬ ‫‪�1010‬أن لإعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر)‬
‫حتققها‪ ،‬وهذه ال�شروط مت ا�ستنباطها من واقع تطبيقات هذه‬
‫القاعدة‪ ،‬ومل �أجد من ن�ص عليها من العلماء والباحثني الذين‬
‫تعر�ضوا لبحث هذه القاعدة‪.‬‬
‫‪�1111‬أن مالحظة �شروط �إعمال القاعدة لها �أث ٌر مبا�ش ٌر يف حتديد جمال‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫�إعمالها‪ ،‬كما �أن ملالحظتها �أث ًرا يف التوفيق بني مواقف العلماء‬
‫جتاهها‪ ،‬والتقريب بني �آرائهم يف �صحة اال�ستناد �إليها‪.‬‬
‫‪�1212‬أنه ي�شرتط لإعمال قاعدة (املتعدي �أف�ضل من القا�صر) �أن يتزاحم‬
‫العمالن املتعدي والقا�صر‪ ،‬فال ميكن اجلمع بينهما‪ ،‬و�أن ي�ستوي‬
‫العمالن يف الرتبة‪ ،‬و�أن يتعني املكلف للقيام بالعمل املتعدي‪.‬‬
‫‪1313‬ات�ضح لدينا �أنه قد دل على معنى هذه القاعدة عد ٌد من الأدلة‬
‫النقلية والعقلية‪ ،‬وجمموع هذه الأدلة يفيد تف�ضيل العمل املتعدي‬
‫على العمل القا�صر‪.‬‬
‫‪1414‬تقرر من خالل هذا البحث �أن العمل املتعدي �أف�ضل من العمل‬
‫القا�صر مطل ًقا يف حال تعار�ضهما‪ ،‬وعدم �إمكان اجلمع بينهما‪ ،‬وهو‬
‫�شرعا‪ ،‬واملالئم اً‬
‫عقل‪ ،‬و�أما تف�ضيل العمل القا�صر على‬ ‫املنا�سب ً‬
‫املتعدي بنا ًء على بع�ض الن�صو�ص الواردة فيه‪ ،‬فتحمل على التف�ضيل‬
‫املطلق الذي ال يكون يف حال التعار�ض‪.‬‬
‫‪�1515‬أن الذي يظهر �أنه ال ُيحتاج �إلى تقييد �إطالق القاعدة مب�ضمون‬
‫�شرط رجحان م�صلحة العمل املتعدي؛ لأن تعدي النفع من طبيعة‬
‫يرجح العمل‬
‫العمل املتعدي‪ ،‬و�صاحب العقل ال�سليم والنظر امل�ستقيم ّ‬ ‫‪66‬‬
‫ذا النفع املتعدي على العمل ذي النفع القا�صر‪.‬‬
‫‪1616‬ات�ضح لنا �أن لهذه القاعدة تطبيقات يف املجال الفقهي قد ًميا‬
‫وحدي ًثا‪ ،‬ولذا يكرث دوران هذه القاعدة على �أل�سنة العلماء والباحثني‬
‫يف مقام التعليل والتوجيه واال�ستدالل يف كثري من الق�ضايا املعا�صرة‪.‬‬
‫‪�1717‬أن حترير هذه القاعدة وحتقيق م�سائلها مما يفيد يف �إي�ضاح بع�ض‬
‫احلقائق املتعلقة مبا يعرف بفقه الأولويات �أو فقه املوازنات‪ ،‬وهما‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫مو�ضوعان متداخالن مع مو�ضوع املفا�ضلة بني الأعمال‪ ،‬وقاعدتنا‬


‫ذات �صل ٍة وثيق ٍة بهذه املو�ضوعات‪.‬‬
‫‪1818‬تقرر لدي �أن �إطالق هذه القاعدة بهذه العبارة (املتعدي �أف�ضل من‬
‫القا�صر) �إطال ٌق �صحي ٌح‪� ،‬إذا روعيت �شروط �إعمال القاعدة التي‬
‫�أ�شرنا �إليها يف �أثناء البحث‪ ،‬وبنا ًء عليه تكون هذه القاعدة قاعدة ً‬
‫كلي ًة ال �أغلبي َة‪.‬‬
‫هذا ما تي�سر حت�صيله يف هذا البحث‪ ،‬وبختام خامتته نحمد اهلل تعالى‬
‫حممد‪،‬‬
‫على متامه‪ ،‬ون�س�أله تعالى التوفيق والقبول‪ ،‬و�صلى اهلل و�سلم على نبينا ٍ‬
‫وعلى �آله و�صحبه و�سلم‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫فهر�س امل�صادر واملراجع‬

‫‪1.1‬الأ�شباه والنظائر‪ ،‬جلالل الدين عبدالرحمن بن �أبي بكر ال�سيوطي‪،‬‬


‫جالل الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪�2.2‬أنوار الربوق يف �أنواء الفروق‪ ،‬ل�شهاب الدين �أحمد بن �إدري�س القرايف‪،‬‬
‫وبهام�شه �إدرار ال�شروق على �أنواء الفروق البن ال�شاط‪ ،‬النا�شر دار‬
‫عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪3.3‬البحر املحيط‪ ،‬لبدر الدين حممد بن بهادر الزرك�شي‪ ،‬حتقيق د‪ .‬عمر‬
‫�سليمان الأ�شقر ود‪ .‬عبدال�ستار �أبوغدة‪ ،‬ود‪.‬حممد �سليمان الأ�شقر‪،‬‬
‫وال�شيخ عبدالقادر العاين‪ ،‬طبع بدار ال�صفوة بالقاهرة‪ ،‬النا�شر وزارة‬
‫الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية بالكويت‪ ،‬ط ‪1409 ،1 /‬ه‪1988 - ،‬م‪.‬‬
‫‪4.4‬بدائع الفوائد‪ ،‬ملحمد بن �أبي بكر �أيوب ابن القيم‪ ،‬حتقيق ه�شام‬
‫عبدالعزيز عطا‪ ،‬عادل عبداحلميد العدوي‪ ،‬مكتبة نزار م�صطفى‬
‫الباز‪ ،‬مكة املكرمة‪ ،‬ط‪1416 ،1 /‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫‪5.5‬حتفة املحتاج ب�شرح املنهاج‪ ،‬ل�شهاب الدين �أبي العبا�س �أحمد بن‬
‫حممد بن علي بن حجر الهيتمي‪ ،‬درا�سة وحتقيق‪ :‬عبداهلل حممود عمر‬
‫حممد‪ ،‬دار الكتب العلمية بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬ ‫‪68‬‬
‫‪6.6‬تي�سري التحرير‪ ،‬ملحمد �أمني املعروف ب�أمري باد�شاه‪ ،‬النا�شر دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت‪1403 ،‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫‪7.7‬اجلواب ال�صحيح ملن بدل دين امل�سيح‪ ،‬لأبي العبا�س �أحمد بن‬
‫عبداحلليم ابن تيمية‪ ،‬حتقيق علي ح�سن نا�صر و�آخرين‪ ،‬دار العا�صمة‪،‬‬
‫ط‪ ،1 /‬الريا�ض‪1414 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪8.8‬دقائق التف�سري‪ ،‬ل�شيخ الإ�سالم �أبي العبا�س تقي الدين �أحمد بن‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫عبداحلليم ابن تيمية‪ ،‬حتقيق حممد ال�سيد اجللنيد‪ ،‬م�ؤ�س�سة علوم‬


‫القر�آن‪ ،‬دم�شق‪ ،‬ط ‪1404 ،2 /‬هـ‪.‬‬
‫‪9.9‬الذخرية‪ ،‬ل�شهاب الدين �أحمد بن �إدري�س القرايف‪ ،‬حتقيق حممد‬
‫بوخبزة‪ ،‬النا�شر دار الغرب الإ�سالمي‪ ،‬ط ‪1994 ،1 /‬م‪.‬‬
‫‪�1010‬سال�سل الذهب‪ ،‬لبدر الدين الزرك�شي‪ ،‬حتقيق ودرا�سة حممد املختار‬
‫ابن حممد الأمني ال�شنقيطي‪ ،‬النا�شر مكتبة ابن تيمية بالقاهرة‪ ،‬ومكتبة‬
‫العلم بجدة‪ ،‬ط ‪1411 ،1 /‬هـ ‪1990/‬م‪.‬‬
‫‪�1111‬سنن ابن ماجة‪ ،‬لأبي عبداهلل حممد بن يزيد القزويني (ت ‪275‬هـ)‪،‬‬
‫حقق ن�صو�صه‪ ،‬ورقم كتبه‪ ،‬و�أبوابه و�أحاديثه‪ ،‬وعلق عليه حممد‬
‫ف�ؤاد عبدالباقي‪ ،‬النا�شر املكتبة الإ�سالمية للطباعة والن�شر والتوزيع‬
‫ب�إ�ستانبول‪ ،‬تركيا‪.‬‬
‫‪�1212‬سنن �أبي داود‪ ،‬للحافظ �سليمان بن الأ�شعث بن �إ�سحاق ال�سج�ستاين‬
‫(ت ‪275‬هـ)‪ ،‬مطبوع مع �شرحه عون املعبود لأبي الطيب حممد �شم�س‬
‫احلق العظيم �آبادي‪ ،‬ومعه �شرح احلافظ �شم�س الدين ابن ق ّيم اجلوزية‪،‬‬
‫النا�شر دار الكتب العلمية ببريوت‪ ،‬الطبعة الأولى �سنة ‪1419‬هـ‪1998/‬م‪.‬‬
‫‪�1313‬سنن الرتمذي (جامع الرتمذي)‪ ،‬للحافظ �أبي عي�سى حممد بن عي�سى‬
‫الرتمذي (ت‪279‬هـ)‪ ،‬مطبوع مع �شرحه حتفة الأحوذي �شرح جامع‬
‫‪69‬‬ ‫الرتمذي‪ ،‬لأبي العال حممد عبدالرحمن بن عبدالرحيم املباركفوري‬
‫(ت‪1353‬هـ)‪ ،‬النا�شر دار الكتب العلمية ببريوت‪ ،‬الطبعة الأولى �سنة‬
‫‪1410‬هـ‪1990/‬م‪.‬‬
‫‪�1414‬سنن الدارمي‪ ،‬لأبي حممد عبداهلل بن عبدالرحمن الدارمي‪ ،‬حتقيق‬
‫د‪ .‬م�صطفى ديب البغا‪ ،‬النا�شر دار القلم بدم�شق‪ ،‬ط ‪142 ،1 /‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫‪1515‬ال�سنن الكربى‪ ،‬لأبي بكر �أحمد بن احل�سني البيهقي‪ ،‬مطبعة جمل�س‬
‫دائرة املعارف العثمانية‪ ،‬الهند‪ ،‬ط ‪1346 ،1 /‬هـ‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫‪1616‬ال�سنن الكربى‪ ،‬لأبي عبدالرحمن �أحمد بن �شعيب الن�سائي (ت‪303‬هـ)‪،‬‬


‫حققه وخ ّرج �أحاديثه ح�سن عبداملنعم �شلبي‪ ،‬و�أ�شرف على التحقيق‬
‫�شعيب الأرنا�ؤوط‪ ،‬النا�شر م�ؤ�س�سة الر�سالة ببريوت‪ ،‬الطبعة الأولى �سنة‬
‫‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪�1717‬شرح الكوكب املنري‪ ،‬ملحمد بن �أحمد بن عبدالعزيز الفتوحي‪ ،‬املعروف‬
‫بابن النجار‪ ،‬حتقيق د‪ .‬حممد الزحيلي‪ ،‬ود‪ .‬نزيه حماد‪ ،‬النا�شر مكتبة‬
‫العبيكان بالريا�ض‪1413 ،‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫‪�1818‬شرح النووي على �صحيح م�سلم‪ ،‬لأبي زكريا يحيى بن �شرف النووي‪،‬‬
‫دار �إحياء الرتاث العربي‪ ،‬بريوت‪ ،،‬ط‪1392 ،2/‬هـ‪.‬‬
‫‪�1919‬شرح املحلي على جمع اجلوامع‪ ،‬جلالل الدين حممد بن �أحمد املحلي‪،‬‬
‫مطبوع مع الآيات البينات‪ ،‬لأحمد بن قا�سم العبادي‪ ،‬حتقيق زكريا‬
‫عمريات‪ ،‬النا�شر دا رالكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1417 ،1 /‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫‪�2020‬صحيح البخاري‪ ،‬ملحمد بن �إ�سماعيل البخاري‪ ،‬حتقيق د‪ .‬م�صطفى‬
‫ديب البغا‪ ،‬دار ابن كثري‪ ،‬اليمامة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1407 ،3 /‬هــ ‪1987 /‬م‪.‬‬
‫‪�2121‬صحيح ابن حبان‪ ،‬ملحمد بن حبان الب�ستي‪ ،‬حتقيق �شعيب الأرنا�ؤوط‪،‬‬
‫النا�شر م�ؤ�س�سة الر�سالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1418 / 3‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫‪�2222‬صحيح م�سلم‪ ،‬مل�سلم بن احلجاج الق�شريي‪ ،‬حتقيق حممد ف�ؤاد‬
‫عبدالباقي‪ ،‬دار �إحياء الرتاث العربي‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪70‬‬
‫‪2323‬عار�ضة الأحوذي ب�شرح �صحيح الرتمذي‪ ،‬ملحمد بن عبداهلل بن‬
‫العربي‪ ،‬النا�شر دار العلم للجميع‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪2424‬العني‪ ،‬للخليل بن �أحمد الفراهيدي‪ ،‬حتقيق د‪.‬مهدي املخزومي‪،‬‬
‫ود‪� .‬إبراهيم ال�سامرائي‪ ،‬النا�شر م�ؤ�س�سة الأعلمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1/‬‬
‫‪1408‬هـ ‪1988-‬م‪.‬‬
‫‪2525‬غياث الأمم والتياث الظلم‪ ،‬لعبدامللك بن عبداهلل بن يو�سف اجلويني‪،‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫حتقيق د‪ .‬ف�ؤاد عبداملنعم‪ ،‬د‪ .‬م�صطفى حلمي‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬الإ�سكندرية‪،‬‬


‫ط‪1979 ،1 /‬م‪.‬‬
‫‪2626‬الفتاوى‪ ،‬للعز بن عبدال�سالم‪ ،‬حتقيق عبدالرحمن بن عبدالفتاح‪،‬‬
‫النا�شر دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1406 ،1 /‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫‪2727‬الفتاوى الكربى‪ ،‬ل�شيخ الإ�سالم �أبي العبا�س تقي الدين �أحمد بن عبداحلليم‬
‫ابن تيمية‪ ،‬النا�شر دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1409 ،1/‬هـ ‪1980 -‬م‪.‬‬
‫‪2828‬الفتاوى الكربى الفقهية على مذهب الإمام ال�شافعي‪ ،‬لأحمد بن حممد بن‬
‫حممد بن علي ابن حجر الهيتمي‪ ،‬درا�سة وحتقيق‪ :‬عبدالقادر بن �أحمد‬
‫ابن علي الفاكهي املكي‪� ،‬ضبطه و�صححه‪ :‬عبداللطيف عبدالرحمن‪،‬‬
‫دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان الطبعة الأولى‪1417 ،‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪2929‬فتح الباري �شرح �صحيح البخاري‪ ،‬لأحمد بن علي ابن حجر الع�سقالين‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬حمب الدين اخلطيب‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪3030‬الفوائد يف اخت�صار املقا�صد‪ ،‬لعز الدين بن عبدال�سالم‪ ،‬حتقيق �إياد‬
‫الطباع‪ ،‬النا�شر دار الفكر املعا�صر ببريوت‪ ،‬ودار الفكر بدم�شق‪ ،‬ط ‪/‬‬
‫‪1416 ،1‬هـ ‪1996/‬م‪.‬‬
‫‪3131‬في�ض القدير �شرح اجلامع ال�صغري من �أحاديث الب�شري النذير‪ ،‬ملحمد‬
‫ابن عبدالر�ؤوف املناوي‪ ،‬املكتبة التجارية الكربى‪ ،‬ط‪ ،1/‬م�صر‪1356 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫‪3232‬ق�ضاء الأرب يف �أ�سئلة حلب‪ ،‬لتقي الدين ال�سبكي الكبري‪ ،‬حتقيق حممد‬
‫عبداملجيد‪ ،‬املكتبة التجارية‪ ،‬مكة املكرمة‪1413 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪3333‬قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام‪ ،‬لعز الدين عبدالعزيز بن عبدال�سالم‬
‫ال�سلمي‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬نزيه حماد‪ ،‬ود‪ .‬عثمان �ضمرييه‪ ،‬ط ‪ ،1 /‬دار القلم‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫دم�شق‪.‬‬
‫‪3434‬القواعد‪ ،‬لعبداهلل حممد بن حممد املقري‪ ،‬حتقيق الدكتور حممد‬
‫الدردابي‪ ،‬النا�شر دار الأمان بالرباط‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫‪3535‬القواعد والفوائد الأ�صولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية‪ ،‬لعلي بن‬
‫عبا�س البعلي احلنبلي ال�شهري بابن اللحام‪ ،‬حتقيق وت�صحيح حممد حامد‬
‫الفقي‪ ،‬النا�شر دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1403 ،1 /‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫‪3636‬لب الأ�صول‪ ،‬لأبي يحيى زكريا الأن�صاري‪ ،‬مطبوع بهام�ش �شرحه غاية‬
‫الو�صول‪ ،‬طبع مبطبعة عي�سى البابي احللبي و�شركاه مب�صر‪.‬‬
‫‪3737‬ل�سان العرب‪ ،‬ملحمد بن مكرم الأن�صاري (ابن منظور)‪ ،‬النا�شر امل�ؤ�س�سة‬
‫امل�صرية‪ ،‬والدار امل�صرية‪ ،‬طبعة م�صورة عن طبعة بوالق‪.‬‬
‫‪3838‬املجموع �شرح املهذب‪ ،‬لأبي زكريا حميي الدين بن �شرف النووي‪،‬‬
‫املطبعة املنريية‪ ،‬م�صر‪.‬‬
‫‪3939‬جمموع فتاوى �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪ ،‬لأبي العبا�س �أحمد بن‬
‫عبداحلليم ابن تيمية‪ ،‬جمع وترتيب عبدالرحمن بن قا�سم وابنه‬
‫حممد‪ ،‬مكتبة ابن تيمية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪4040‬املدخل‪ ،‬لأبي عبداهلل حممد بن حممد العبدري املعروف بابن احلاج‪،‬‬
‫النا�شر مكتبة الرتاث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪4141‬امل�ستدرك على ال�صحيحني‪ ،‬ملحمد بن عبداهلل احلاكم‪ ،‬حتقيق م�صطفى‬
‫عبدالقادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1411 ،1 /‬هـ ‪1990 -‬م‪.‬‬
‫‪4242‬امل�سند‪ ،‬لأحمد بن حنبل ال�شيباين‪ ،‬النا�شر م�ؤ�س�سة قرطبة‪ ،‬م�صر‪.‬‬
‫‪4343‬املعجم الأو�سط‪ ،‬للحافظ الطرباين‪ ،‬حتقيق د‪ .‬حممود الطحان‪ ،‬النا�شر‬
‫‪72‬‬
‫مكتبة املعارف بالريا�ض‪ ،‬ط ‪1405 ،1 /‬هـ ‪1985 -‬م‪.‬‬
‫‪4444‬املعجم ال�صغري‪ ،‬للحافظ الطرباين‪ ،‬حتقيق عبدالرحمن حممد عثمان‪،‬‬
‫النا�شر املكتبة ال�سلفية‪ ،‬املدينة املنورة‪1388 ،‬هـ ‪1968-‬م‪.‬‬
‫‪4545‬املعجم الكبري‪ ،‬للحافظ الطرباين‪ ،‬حتقيق حمدي عبداملجيد ال�سلفي‪،‬‬
‫النا�شر مركز �إحياء الرتاث الإ�سالمي بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬
‫باجلمهورية العراقية‪ ،‬ط ‪.2 /‬‬
‫‪4646‬املفا�ضلة يف العبادات قواعد وتطبيقات‪ ،‬ل�سليمان بن حممد النجران‪،‬‬
‫وتطبيقا‬
‫ً‬ ‫قاعدة املتعدي أفضل من القاصر تأصيلاً‬

‫النا�شر مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪1425 ،1/‬هـ ‪2004 /‬م‪.‬‬


‫‪4747‬املنار املنيف يف ال�صحيح وال�ضعيف‪ ،‬لأبي عبداهلل حممد بن �أبي بكر ابن‬
‫قيم اجلوزية‪ ،‬حتقيق عبدالفتاح �أبوغدة‪ ،‬مكتبة املطبوعات الإ�سالمية‪،‬‬
‫ط‪ ،2 /‬حلب‪1402 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪4848‬مناهج العقول �شرح منهاج الو�صول‪ ،‬ملحمد بن احل�سن البدخ�شي‪،‬‬
‫مطبوع معه �شرح الأ�سنوي نهاية ال�سول‪ ،‬النا�شر دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط م ‪1405 ،1‬هـ ‪1984 -‬م‪.‬‬
‫‪4949‬املنثور يف القواعد‪ ،‬ملحمد بن بهادر الزرك�شي‪ ،‬حتقيق د‪ .‬تي�سري فائق‬
‫�أحمد حممود‪ ،‬وزارة الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة‪،2 /‬‬
‫‪1405‬هـ‪.‬‬
‫‪5050‬منهاج ال�سنة النبوية يف نق�ض كالم ال�شيعة القدرية‪ ،‬حتقيق حممد‬
‫ر�شاد �سامل‪ ،‬م�ؤ�س�سة قرطبة‪ ،‬م�صر‪ ،‬ط ‪1406 ،1 /‬هـ‪.‬‬
‫‪5151‬الوابل ال�صيب ورافع الكلم الطيب‪ ،‬لأبي عبداهلل حممد بن �أبي بكر ابن‬
‫قيم اجلوزية‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة الأولى‪ ،‬بريوت‪1418 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪5252‬نرث الورود على مراقي ال�سعود‪ ،‬ملحمد الأمني بن حممد املختار‬
‫ال�شنقيطي‪ ،‬حتقيق و�إكمال تلميذه د‪.‬حممد ولد �سيدي ولد حبيب‬
‫ال�شنقيطي‪ ،‬النا�شر حممد حممود اخل�ضر القا�ضي‪ ،‬ط ‪1415 ،1 /‬هـ ‪-‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪1995‬م‪.‬‬
‫‪5353‬و�صف التف�صيل يف ك�شف التف�ضيل‪ ،‬لعز الدين بن عبدال�سالم‪ ،‬ومعه‬
‫مقدمة يف تفا�ضل املخلوقات‪ ،‬ملحمد الأمني ال�شنقيطي‪ ،‬عناية عبداهلل‬
‫نذير �أحمد‪ ،‬املكتبة املكية‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الريان‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1420 ،1 /‬هـ‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسلم بن حممد الدوسري‬ ‫د‪.‬‬

‫فهر�س املحتويات‬

‫املقدمة‪19 ................................................................‬‬
‫متهيد ‪23..................................................................‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬معنى القاعدة ‪33...........................................‬‬
‫املبحث الثاين‪� :‬ألفاظ القاعدة‪ ،‬و�أركانها ‪36..............................‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬م�سالك تف�ضيل الأعمال املتعدية ‪39.......................‬‬
‫املبحث الرابع‪� :‬ضوابط التعدي يف الأعمال ‪42............................‬‬
‫املبحث اخلام�س‪� :‬شروط �إعمال القاعدة ‪44..............................‬‬
‫املبحث ال�ساد�س‪ :‬اال�ستدالل للقاعدة ‪49..................................‬‬
‫املبحث ال�سابع‪ :‬مواقف العلماء من القاعدة‪ ،‬وجمال �إعمالها ‪53..........‬‬
‫املبحث الثامن‪ :‬تطبيقات القاعدة ‪58.....................................‬‬
‫املبحث التا�سع‪ :‬املفا�ضلة بني الأعمال املتعدية ‪61.........................‬‬
‫اخلامتة ‪64................................................................‬‬
‫فهر�س امل�صادر واملراجع ‪68..............................................‬‬

‫‪74‬‬

You might also like