You are on page 1of 8

‫كتاب ‪ :‬ذم قسوة القلب ‪.

‬‬
‫للحافظ ابن رجب الحنبلي‬
‫رحمه هللا‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫قال اإلمام العالمة الحافظ زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب–‬
‫فسح هللا في مدته ونفه به – ‪:‬‬
‫الحم ُد هلل‬
‫وذكر أسبابها ‪ ،‬وما تَزول به ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رسالة في ذ ِّم قسوة القلب ‪،‬‬
‫أما ذ ُّم القسوة ‪:‬‬
‫س َوةً} ‪ ،‬ثم‬ ‫ستْ قُلُوبُ ُكم ِّمن بَ ْع ِد َذلِكَ فَ ِه َي َكا ْل ِح َجا َر ِة أَ ْو أَ َ‬
‫ش ُّد قَ ْ‬ ‫قال تعالى ‪{ :‬ثُ َّم قَ َ‬
‫بيَّن وجه كونها أش ّد قسوة بقوله تعالى ‪َ { :‬وإِنَّ ِمنَ ا ْل ِح َجا َر ِة لَ َما يَتَفَ َّج ُر ِم ْنهُ األَ ْن َها ُر‬
‫ق فَيَ ْخ ُر ُج ِم ْنهُ> ا ْل َماء َوإِنَّ ِم ْن َها لَ َما يَ ْهبِطُ ِمنْ َخ ْ‬
‫شيَ ِ>ة هّللا ِ} البقرة ‪:‬‬ ‫َوإِنَّ ِم ْن َها لَ َما يَ َّ‬
‫شقَّ ُ‬
‫‪. 74‬‬
‫وقال تعالى ‪{ :‬أَلَ ْم يَأْ ِن لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا أَن ت َْخ َ‬
‫ش َع قُلُوبُ ُه ْم لِ ِذ ْك ِر هَّللا ِ َو َما نَ َز َل ِمنَ‬
‫ستْ قُلُوبُ ُه ْم}‬ ‫ق َواَل يَ ُكونُوا َكالَّ ِذينَ أُوتُوا ا ْل ِكت َ‬
‫َاب ِمن قَ ْب ُل فَطَا َل َعلَ ْي ِه ُم اأْل َ َم ُد فَقَ َ‬ ‫ا ْل َح ِّ‬
‫اسيَ ِة قُلُوبُ ُهم ِّمن ِذ ْك ِر هَّللا ِ أُ ْولَئِ َك فِي َ‬
‫ضاَل ٍل‬ ‫الحديد ‪ ، 16 :‬وقال تعالى ‪{ :‬فَ َو ْي ٌل لِّ ْلقَ ِ‬
‫ين} الزمر ‪ ، 22 :‬فوصف أهل الكتاب بالقسوة ‪ ،‬ونهانا عن التشبّه بهم‪.‬‬
‫ُمبِ ٍ‬
‫قـال بعض السلف‪ :‬ال يكون أش ّد قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا ‪.‬‬
‫وفي الترمذي من حديث ابن ُعمر قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫(( ال تُكثروا الكالم بغير ذكر هللا ‪ ،‬فإنَّ كثرة الكالم بغير ذكر هللا قسوةٌ للقلب ‪ ،‬وإنَّ‬
‫أبعد الناس من هللا القلب القاسي )) ‪.‬‬
‫وفي مسند الب َّزار عن أنس ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ (( :‬أربعة‬
‫من الشقاء‪ :‬جمود العين ‪ ،‬وقساوة القلب ‪ ،‬وطول األمل ‪ ،‬والحرص على الدنيا ))‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫وذكره ابن الجوزي في الموضوعاتـ من طريق أبي داوود النخعي َّ‬
‫الكذاب ‪ ،‬عن‬
‫إسحاق بن عبدهللا بن أبي طلحة ‪ ،‬عن أنس ‪.‬‬
‫وقـال مـالك بـن دينار ‪ :‬مـا ضُرب عبد بعـقوبة أعـظم من قسوة القلب ‪ .‬ذكره‬
‫عبدهللا بن أحمد في الزهد ‪.‬‬
‫وقـال حُـذيفة المـرعشي ‪ :‬ما أُصيب أح ٌد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه ‪ .‬رواه‬
‫أبو نعيم ‪.‬‬

‫وأما أسباب القسوة ‪ ..‬فكثيرة‪:‬‬


‫منها ‪ :‬كثرة الكالم بغير ذكر هللا ‪ ،‬كما في حديث ابن عمر السابق ‪.‬‬
‫ض ِهم ِّميثَاقَ ُه ْم لَعنَّا ُه ْم‬
‫ومنها ‪:‬نقضُ العهد مع هللا تعالى ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬فَبِ َما نَ ْق ِ‬
‫اسيَةً} المائدة ‪. 13 :‬‬
‫َو َج َع ْلنَا قُلُوبَ ُه ْم قَ ِ‬
‫قال ابن عقيل يوما ً في وعظه ‪ :‬يا من يجد من قلبه قسوة ! احذر ْ‬
‫أن تكون‬
‫نقضت عهداً ! فإن هللا يقول ‪{ :‬فَبِ َما نَ ْق ِ‬
‫ض ِهم ِّميثَاقَ ُه ْم ‪ }..‬اآلية ‪.‬‬

‫ومنها ‪ :‬كثرةُ ال َّ‬


‫ضحك ‪ ،‬ففي الترمذي عن الحسن ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ (( :‬ال تُكثروا الضحك ‪ ،‬فإن كثرة الضحك تُميت القلب‬
‫)) ‪ ،‬وقال ‪ :‬ر ُوي عن الحسن قوله ‪.‬‬
‫الجزَ ري ‪ ،‬عن برد بن ِسنان ‪ ،‬عن‬
‫وخرَّج ابن ماجة من طريق أبي رجاء َ‬
‫مكحول ‪ ،‬عن واثلة بن األسقع ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ (( :‬كثرة الضحك تُميت> القلب ))‪ ،‬ومن طريق إبراهيم بن عبدهللا بن حُنين ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫إن كان من ال ُّشبهات أو الحرام‪.‬‬
‫ومنها ‪:‬كثرةُ األكل ‪ ،‬وال سيما ْ‬
‫قال بشر بن الحارث ‪ :‬خَ صلتان تُقسِّيان القلب ‪ :‬كثرة الكالم ‪ ،‬وكثرة األكل ‪.‬‬
‫ذكره أبو نعيم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وذكر المرُّ وذي في كتاب الورع قال ‪ُ :‬‬
‫قلت ألبي عبدهللا – يعني أحمد بن حنبل‬
‫– ‪ :‬يج ُد الرجل من قلبه رقّة وهو شبع ؟ قال ‪ :‬ما أرى ‪.‬‬
‫ومنها ‪:‬كثرة الذنوب ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬كَاَّل بَ ْل َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِهم َّما َكانُوا‬
‫يَ ْك ِ‬
‫سبُونَ } المطففين ‪. 14 :‬‬
‫وفي ال ُمسند ‪ ،‬والترمذي عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال ‪ (( :‬إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتةٌ سوداء في قلبه ‪ ،‬فإنْ تاب ونزع واستغفر‬
‫صقل قلبه ‪ ،‬وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ‪ ،‬فذلك الران الذي ذكر هللا في كتابه ‪:‬‬
‫ُ‬
‫{كَاَّل بَ ْل َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِهم َّما َكانُوا يَ ْك ِ‬
‫سبُونَ } )) ‪ .‬قال الترمذي ‪ :‬صحيح ‪.‬‬
‫ق ‪ ،‬وكذلك القلب إذا قلّت خطاياه‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬البدن إذا عري ر َّ‬
‫أسرعت دمعته ‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك – رحمه هللا – ‪:‬‬
‫رأيتُ الذنوب تُميت القلوب *** ويُـورثـك الــ ُذ َّل إدمانـهـا‬
‫وترك الذنوب حياة القلوب *** وخي ٌر لـنفـسـك عـصيانهـا‬

‫وأ َّما مزيالتُ القسوة فمتعددة أيضا ً ‪:‬‬


‫فمنها ‪:‬كثرةُ ذكر هللا الذي يتواطأ عليه القلب واللسان ‪ ،‬قال المعلَّى بن زياد ‪:‬‬
‫إن رجالً قال للحسن ‪ :‬يا أبا سعيد ‪ ،‬أشكو إليك قسوة قلبي ؟ قال ‪ :‬أدنه من الذكر ‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال وهب بن الورد ‪ :‬نظرنا في هذا الحديث ‪ ،‬فلم نجد شيئا ً أرق لهذه‬
‫القلوب ‪ ،‬وال أشد استجالبا ً للحق؛ ِمن قراءة القرآن لمن تدبَّره ‪.‬‬
‫وقـال يحيى بن ُمعاذ ‪ ،‬وإبراهيم الخ َّواص ‪ :‬دوا ُء القلب خمسة أشياء ‪ :‬قراءة‬
‫القرآن بالتفكر ‪ ،‬وخالء البطن ‪ ،‬وقيام الليل ‪ ،‬والتض ّرع عند السحر ‪ ،‬ومجالسة‬
‫الصالحين ‪.‬‬
‫واألصل في إزالة قسوة القلب بالذكر؛ قوله تعالى ‪{ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َوتَ ْط َمئِنُّ‬
‫وب} الرعد ‪ ، 28 :‬وقوله تعالى ‪{ :‬هَّللا ُ نَ َّز َل‬ ‫قُلُوبُ ُهم بِ ِذ ْك ِر هّللا ِ أَالَ بِ ِذ ْك ِر هّللا ِ تَ ْط َمئِنُّ ا ْلقُلُ ُ‬
‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذينَ يَ ْخش َْونَ َربَّ ُه ْم ثُ َّم تَلِينُ‬
‫ث ِكتَابا ً ُّمتَشَابِها ً َّمثَانِ َ>ي تَ ْق َ‬ ‫سنَ ا ْل َح ِدي ِ‬ ‫أَ ْح َ‬

‫‪10‬‬
‫ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ} الزمر ‪ ، 23 :‬وقال تعالى ‪{ :‬أَلَ ْم يَأْ ِن لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا أَن‬
‫ش َع قُلُوبُ ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّللا ِ َو َما نَزَ َل ِمنَ ا ْل َح ِّ‬
‫ق} الحديد ‪. 16 :‬‬ ‫ت َْخ َ‬
‫وفي حديث عبدالعزيز بن أبي ر َّواد ُمرسالً ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫(( إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد )) قيل ‪ :‬فما جالؤها يا رسول هللا ؟ قال ‪:‬‬
‫(( تالوةُ كتاب هللا ‪ ،‬وكثرة ذكره )) ‪.‬‬

‫ومنها ‪:‬اإلحسان إلى اليتامى والمساكين ‪ ،‬روى ابن أبي الدنيا ‪ :‬حدثنا علي بن‬
‫أن رجالً‬
‫الجعد ‪ ،‬حدثني ح َّماد بن سلمة ‪ ،‬عن أبي عمران الجوني ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪َّ :‬‬
‫شكى إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قسوةَ قلبه ؟ فـقـال ‪ (( :‬إنْ أحببت أنْ يليـن‬
‫قلبك؛ فـامسح رأس اليتيم ‪ ،‬وأطعم المساكين )) إسناده جيد‪ ،‬وكـذا رواه ابن مهدي‬
‫عن حماد بن سلمة ‪ ،‬ورواه جعفر بن مسافر ‪ :‬حدثنا ُمؤ َّمل ‪ ،‬حدثنا ح َّماد ‪ ،‬عن أبي‬
‫عمران ‪ ،‬عن عبدهللا بن الصامت ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫وهذا كأنَّه غي ُر محفوظ عن ح َّماد‪ ،‬ورواه الجوزجاني ‪ :‬حدثنا محمد بن عبدهللا‬
‫ال ّرقاشي ‪ ،‬حدثنا جعفر ‪ ،‬حدثنا أبو عمران الجوني ُمرسالً ‪ ،‬وهو أشبه ‪ ،‬وجعفر‬
‫أحفظ لحديث أبي عمران من ح َّماد بن سلمة ‪.‬‬
‫وروى أبو نُعيم ‪ ،‬من طريق عبدالرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن صاحب له ‪َّ :‬‬
‫أن أبا‬
‫الدرداء كتب إلى سلمان ‪ :‬ارحم اليتيم وأدنه منك ‪ ،‬وأطعمه من طعامك ‪ .‬فأنّي سمعت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأتاه رج ٌل يشتكي قسـاوةَ قلبـه ؟ فقال ‪ (( :‬أتحـب أنْ‬
‫يليـن قلبـُك ؟ )) فقـال لـه ‪ :‬نعم ‪ .‬فقال ‪ (( :‬ادن اليتيم منك وامسح رأسه ‪ ،‬وأطعمه‬
‫من طعامك ‪ ،‬فإنَّ ذلك يُلين قلبك ‪ ،‬وتقدر على حاجتك )) ‪.‬‬
‫قال أبو نُعيم ‪ :‬ورواه ابن جابر ‪ ،‬وال ُمطعم بن المقدام ‪ ،‬عن محمد بن واسع ‪:‬‬
‫أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان مثله ‪.‬‬
‫أن رجالً سأل أبا عبدهللا – يعني أحمد بن حنبل – فقال له ‪:‬‬
‫ونقل أبو طالب ‪َّ :‬‬
‫كيف ير ُّ‬
‫ق قلبي ؟ قال ‪ :‬ادخل المقبرة ‪ ،‬وامسح رأس اليتيم ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ومنها ‪:‬كثرة ذكر الموت ‪ ،‬ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده ‪ ،‬عن منصور بن‬
‫عبدالرحمن ‪ ،‬عن صفية ‪َّ :‬‬
‫أن امرأة أتت عائشة تشكو إليها القسوة ؟ فقالت ‪ :‬أكثري‬
‫حاجتك ‪ .‬قالت ‪ :‬ففعلت ‪ ،‬فأنِ ْ‬
‫ست من قلبها‬ ‫ِ‬ ‫ذكر الموت؛ ير ّ‬
‫ق قلبك ‪ ،‬وتقدرين على‬
‫رشداً فجاءت تشكر لعائشة رضي هللا عنها ‪.‬‬
‫وكان غير واحد من السلف منهم‪ :‬سعيد بن جُبير وربيع بن أبي راشد ‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬لو فارق ذك ُر الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبنا ‪.‬‬
‫وفي السُّنن ‪ :‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ (( :‬أكثروا ذكر هاذم اللّذات )) –‬
‫الموت – ‪.‬‬
‫ورُوي ُمـرسالً عن عطاء الخراساني قال ‪ّ :‬مر رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم بمجـلس قد استعاله الضحك ! فقال ‪ (( :‬شُوبوا مجلسكم بذكر مكدِّر اللّذات ))‬
‫قـالـوا ‪ :‬وما يُكدر اللّذات يا رسول هللا ؟ قال ‪ (( :‬الموت )) ‪.‬‬
‫ومنها ‪:‬زيارة القبور والتفكر في حال أهلها ومصيرهم ! وقد سبق قول أحمد‬
‫للذي سأله ما يُر ُّ‬
‫ق قلبي ؟ قال ‪ :‬ادخل المقبرة ! ‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم ‪ :‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال ‪ُ (( :‬زوروا القبور فإنها تُذ ِّكر الموت )) ‪.‬‬
‫وعن بُريدة ‪َّ ،‬‬
‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ (( :‬كنت نهيتكم عن زيارة‬
‫القبور فزوروها ‪ ،‬فإنَّها تذكر اآلخرة )) رواه أحمد ‪ ،‬والترمذي وصححه ‪.‬‬
‫وعن أنس ‪ ،‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ (( :‬كنت قد نهيتكم عن زيارة‬
‫القبور ‪ ،‬ثم بدا لي أنَّه تُر ُّ‬
‫ق القلب ‪ ،‬وتُدمع العين ‪ ،‬وتُذكر اآلخرة ‪ ،‬فزوروها وال‬
‫تقولوا هُجرا )) رواه اإلمام أحمد ‪ ،‬وابن أبي الدنيا ‪.‬‬
‫وذكر ُ‬
‫ابن أبي الدنيا ‪ :‬عن محمد بن صالح التمار قال ‪ :‬كان صفوان بن سليم‬
‫َّ‬
‫انظرن ما يصنع !‬ ‫يأتي البقيع في األيام فيمر بي ‪ ،‬فاتبعته ذات يوم؛ وقلت ‪ :‬وهللا ال‬
‫ُ‬
‫ظننت أنه‬ ‫قال ‪ :‬فقنَّع رأسه وجلس إلى قبر منها ‪ ،‬فلم يزل يبكي حتى رحمته ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫قبر بعض أهله ! قال ‪ :‬فم َّر بي مرة أخرى ‪ ،‬فاتبعته فقعد إلى جنب ٍ‬
‫قبر غيره ‪ ،‬ففعل‬
‫ُ‬
‫ظننت أنه قبر بعض أهل ‪.‬‬ ‫فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر وقلت ‪ :‬إنّما‬
‫ُ‬ ‫مثل ذلك ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫فقال محمد ‪ :‬كلهم أهل وإخوانه ! إنَّما هو رجل يُحَّرك قلبه بذكر األموات كلَّما‬
‫عرضت لهو قسوة ‪ .‬قال ‪ :‬ثم جعل محمد بن المنكدر بعد ي ّمر بي فيأتي البقيع ‪،‬‬
‫فسلَّ ُ‬
‫مت عليه ذات يوم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما نفعتك موعظة صفوان ؟ قال ‪ :‬فظننت أنه انتفع بما‬
‫ُ‬
‫ألقيت إليه منها ‪.‬‬
‫أن عجوزاً متَعبِّدة من عبدالقيس كانت تُكثر إتيان القبور ‪،‬‬
‫وذكر أيضا ً ‪َّ :‬‬
‫إن القلب القاسي إذا جفا لم يليِّنه إال رسول البِلى ‪ ،‬وأنّي‬
‫فعُوتبت في ذلك ‪ .‬فقالت ‪َّ :‬‬
‫آلتي القبور وكأني انظر إليه وقد خرجوا من بين أطباقها ‪ ،‬وكأني انظر إلى تلك‬
‫الوجوه المتعفِّره ‪ ،‬وإلى تلك األجسام المتغيِّرة ‪ ،‬وإلى تلك األكفان الدنسة !! فيا له من‬
‫منظر لم أَ ُس ّر به قلوبَهم ‪ ،‬ما أنكل مرارة األنفس ‪ ،‬وأشد تلفة األبدان ‪.‬‬
‫وقال زياد النميري ‪ :‬ما اشتقت إلى البكاء إال مررت عليه ‪ .‬قال له رجل ‪:‬‬
‫ُ‬
‫أردت ذلك خرجت إلى المقابر فجلست إلى بعض تلك القبور ‪،‬‬ ‫وكيف ذلك ؟ قال ‪ :‬إذا‬
‫ثم ف َّك ُ‬
‫رت فيما صاروا إليه من البِلى ‪ ،‬وذكرت ما نحن فيه من ال ُمهلة ‪ .‬قال ‪ :‬فعند ذلك‬
‫تختفي أطواري ! ‪.‬‬
‫وقلت وهللا الموفِّق ‪:‬‬
‫ُ‬
‫أفي دار الخـراب تظل تبني *** وتـعـمر مـالعمران ُخلقتا‬
‫ومـا تركت لـك األيام عذراً *** لقـد وعظتك لـكن ما تعظتا‬
‫تُنـادي للـرحيـل بكل حين *** وتُعلن إنّـ َما المقصـو ُد أنتا‬
‫وتُسمعـك النـدا َء وأنت ال ٍه *** عن الداعي كـأنَّك ما سمعتا‬
‫وتعلم أنَّه سـفـ ٌر بـعـيـد *** وعـن إعـداد زا ٍد قد غفلتا‬
‫ساع *** وراءك ال يـنام فكيـف نمتا‬
‫ٍ‬ ‫تنـام وطالـب األيـام‬
‫معائب هـذه الـدنيـا كثير *** وأنـت علـى محبّتـها طُبعتا‬
‫ب ولهو *** ولو أٌعطيت عقالً ما لعـبتـا‬
‫يضيع العم ُر في لعـ ٍ‬
‫فما بعد الممات سـوى جحيم *** لعـاص أو نـعيم إنْ أطعتـا‬
‫ولست بآم ِر باط ٍل رداً لدنيا *** فتعـم ُل صـالحا ً فيما تركتـا‬
‫وأ َّو ُل من ألوم اليوم نفسـي *** فقد فعلتْ نظائـ َر مـا فعلتـا‬

‫‪10‬‬
‫أيا نفسي أخوضا ً في المعاصي *** وبعد األربعين وغـب ستـا‬
‫وأرجـو أنْ يطول العم ُر حتى *** أرى زاد الـرحيـل وقد تأتّى‬
‫أيا ُغصن الشباب تميل زهواً *** كأنك قد مضى زمـن وشبتا‬
‫علمتَ فدع سبي َل الجهل واحذر *** وصحح قد علمتَ وما عملتا‬
‫ويا من يجمع األموال قـل لي *** أيمنعك ال ّردي ما قد جمعتـا‬
‫ويا من يبتغي> أمـراً مطاعا ً *** ليُسمع نافـذاً َمن قـد أمـرتا‬
‫عججت إلـى الوالية ال تُبالي *** أجرت علـى البرية أم عدلتا‬
‫أال تـدري بـأنك يوم صارت *** إليك بغـير سكـين ُذبـحتـا‬
‫وليس يقوم فرحةُ قد تولَّـى *** بترحة يوم تسمع قد عُزلتـا‬
‫وال تُهمل فإن الوقت يسري *** فإنْ لم تغتنمه> فقـد أضعتـا‬
‫ترى األيام تُبلي كـل ُغصن *** وتطوي ِمن سرورك ما نشرتا‬
‫وتعلـم إنِّمـا الدنيـا منـام *** فأحلـى ما تكون إذا انتبهتا‬
‫فكيف تص ّد عن تحصيل باق *** وبـالفاني وزخرفـه شُغلـتا‬
‫هـي الـدنيا إذا سرتك يوما ً *** تسوؤك ضعف ما فيها ُ‬
‫سررت‬
‫تغ ّرك كـالسراب فأنت تسري *** إليه وليـس تشعر إن ُغررتا‬
‫وأشهد ُكـ ْم أبادت من حبيب *** كـأنك آمن ممـا شهـدتـا‬
‫سرور *** بما قـد نلت من إرث وحرثا‬
‫وتـدفنهم وتـرجع ذا ُ‬
‫وتنساهـم وأنت غداً ستفنى *** كـأنك مـا ُخلقت وال وجدتا‬
‫ت ُِّحـدث عنهم وتقـول كانوا *** نعم كـانوا كمـا وهللا كنتـا‬
‫حديثك هـ ُم وأنت غداً حديث *** لغيرهم فـأحسن ما استطعتا‬
‫يعود المرء بعد الموت ذكراً *** فكن حسن الحديث إذا ذُكرتا‬
‫سـل األيام عـن عم وخال *** وما لك والسؤال وقد علمتا‬
‫ألست تـرى ديـارهم خالء *** فقد أنـكرت منها ما عرفتا‬
‫ومنها ‪:‬النظ ُر في ديار الهالكين ‪ ،‬واالعتبار بمنازل الغابرين ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫روى ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر واالعتبار بإسناده ‪ :‬عن عمر بن سُليم‬
‫الباهلي ‪ ،‬عن أبي الوليد أنه قال ‪ :‬كان ابن عمر إذا أراد ْ‬
‫أن يتعاهد قلبه؛ يأتي الخَربة‬
‫فيقف على بابها ‪ ،‬فيُنادي بصوت حزين فيقول ‪ :‬أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول‬
‫‪ :‬كلُّ شيء هال ٌ‬
‫ك إال وجهه !! ‪.‬‬
‫وروى في كتاب القبور بإسناده ‪ :‬عن محمد بن قدامة قال ‪ :‬كان الرَّبيع بن‬
‫ُخثَيم إذا وجد ِمن قلبه قسوةً يأتي منزل صديق له قد مات؛ في الليل فيُنادي ‪ :‬يا فالن‬
‫بن فالن ‪ ،‬يا فالن بن فالن ‪ .‬ثم يقول ‪ :‬ليت ِشعري !! ما فعلتَ وما فُعل بك ؟ ثم يبكي‬
‫حتى تسيل دموعه ‪ ،‬فُيعرف ذلك فيه إلى مثلها ‪.‬‬

‫ومنها ‪:‬أك ُل الحالل ‪ ،‬روى أبو نُعيم وغيره ‪ ،‬من طريق عمر بن صالح‬
‫ذهبت أنا ويحيى الجالء – وكان يُقال إنّه من األبدال – إلى أبي‬
‫ُ‬ ‫الطرسوسي قال ‪:‬‬
‫عبدهللا أحمد بن حنبل فسألته – وكان إلى جنبه بوران و ُزهير وهارون الجمال –‬
‫فقلت ‪ :‬رحمك هللا يا أبا عبدهللا بما تلين القلوب ؟ فنظر إلى أصحابه فغمزهم بعينه ‪،‬‬
‫ُ‬
‫فمررت كما أنا إلى أبي نصر‬ ‫ثم أطرق ثم رفع رأسه فقال ‪ :‬يا بني بأكل الحالل ‪.‬‬
‫بشر بن الحارث فقلت له ‪ :‬يا أبا نصر بما تلين القلوب ؟ فقال ‪ :‬أال بذكر هللا تطمئن‬
‫ُ‬
‫جئت من عند أبي عبدهللا ‪ .‬قال ‪ :‬هيه ! أي شي ٍء قال لك أبو‬ ‫ُ‬
‫فقلت ‪ :‬فـإني‬ ‫القلوب ‪.‬‬
‫ُ‬
‫فمررت إلى‬ ‫عبدهللا ؟ قلت ‪ :‬قال ‪ :‬بأكل الحالل ‪ .‬فقال جاء باألصل ‪ ،‬جاء باألصل !‬
‫ُ‬
‫فقلت ‪ :‬يا أبا الحسن بما تلين القلوب ؟ فقال ‪ :‬أال بذكر هللا تطمئن‬ ‫عبدالوهاب الوراق‬
‫ُ‬
‫جئت من أبي عبدهللا ‪ .‬فاحمرَّت وجنتاه من الفرح ! فقال لي ‪ :‬أي‬ ‫القلوب ‪ .‬قلت ‪ :‬فإن‬
‫شي ٍء قال أبو عبدهللا ‪ .‬قلت ‪ :‬قال ‪ :‬بأكل الحالل ‪ .‬فقال ‪ :‬جاءك بالجوهر ‪ ،‬جاءك‬
‫بالجوهر ‪ ،‬األصل كما قال ‪ ،‬األصل كما قال !! ‪.‬‬
‫والحمد هلل وحده ‪.‬‬

‫‪10‬‬

You might also like