You are on page 1of 22

‫كافكا وميلينا‪ ..

‬قصة حب مميزة نهايتها محزنة‬


‫بقلم‪ :‬نورهان راضي‬
‫مجلة ميم يناير ‪2019 ,19‬‬
‫‪0‬‬

‫‪:‬المرء على أية حال ال يثرثر إال عندما يشعر مرة بشيء من السعادة ‪”.‬وهكذا كانت رسائله لألديبة‬ ‫في ظن كافكا“‬
‫التشيكية‪ ،‬ثرثرة تلو األخرى‪ .‬يتلهفان إلرسال المظاريف الجادة الفلسفية‪ ،‬القلقة كعادتها‪ ،‬المؤرقة كشأنه‪ ،‬و الخجلة المتوردة‬
‫كقلبيهما بين العشق والكتابة والموسيقى والفن والمرض!‬

‫من كافكا إلى ميلينا‪“ :‬أنا اآلن في انتظار أحد أمرين‪ ،‬إما أن تواصلي الصمت الذي سيكون معناه ال‬
‫ي‪ ،‬أنا في خير حال أو باألحرى بضع سطور قالئل”‪ .‬كان كافكا يوبّخ ميلينا حين تتأ ّخر في‬ ‫تخش عل ّ‬
‫َ‬
‫عليك أن تكوني أكثر مسؤولية‪ ”.‬عتابات‬ ‫الرد على رسائله أو تقابل سطوره بالصمت بأن يقول‪ِ “ :‬‬
‫ال ُكتاب لبعضهم رقيقة جدًا وتكاد تحث االبتسام‪.‬‬

‫كثيرا ويتفقان أال يتفقا‪ ،‬لكنهما يتقنان امتصاص غضب‬


‫األجمل من ذلك‪ ،‬أنهما كثنائي يتناقشان ً‬
‫بعضهما‪ .‬فإذا شدّ أحدهما‪ ،‬الن اآلخر‪ ،‬و هكذا دواليك‪ .‬يدخل على المثقفين المتفاهمين سوء تفاهم‬
‫ويوطد الصالت‪ .‬فيوضّح لها أن‪“ :‬ك ّل منا يخطئ ‪-‬‬‫ّ‬ ‫مبين‪ ،‬وهو صحي‪ .‬صحي جدا‪ ،‬ويثري الفكر‬
‫بسبب الخوف‪ -‬فَهم اآلخر”‪.‬وفرانز كافكا هو الرجل الوحيد الذي رأيته يقول المرأة أنه تلميذها‪ .‬وفي‬
‫رسائل أخرى‪ ،‬يلقّبها بمدرسته‪ ،‬وهو الذي يكبرها بأربعة عشر عا ًما على حد قوله‪.‬‬

‫فار من الزواج مغرم بامرأة متزوجة‬

‫كانت ميلينا في الثالثة والعشرين من العمر حين بدأت عالقتها الزوجية تنهار‪ ،‬وهو ما أدى لالنفصال‬
‫التام‪ .‬كما فسخ كافكا خطوبته من فليسيه باور التي ترجاها الليالي لمدة خمس سنوات كي تقبل به‪ .‬ففي‬
‫ت دائما عند نقطة الزوال تماما‪ ،‬وأنا عند نقطة إنهاك نفسي بنفسي”‪ .‬كان‬ ‫رسالة لفيليس باور قال‪“ :‬أن ِ‬
‫يضغط عليها بحبه‪ ،‬كما تضغط المطرقة على مسمار نحيل فيتقوس و ينثني تما ًما‪ .‬فرضخت له رغم‬
‫ما يراودها من شكوك حياله‪ .‬فهي ال تشعر بالدفء تجاهه‪ ،‬وهما يجلسان على ذات األريكة‪ .‬كيف لها‬
‫ذلك‪ ،‬وهو الذي فسخ خطوبته مرتين قبل الزفاف بأيام قالئل وبها يُت ّم الثالثة‪.‬‬

‫أرسلت له برقية للقاء‪ ،‬لكنّه لم يحضر‪ .‬وفضّل أن يخاطب ميلينا عو ً‬


‫ضا عن ذلك‪ ،‬مفسرا توتره ونذالته‪.‬‬
‫برر لها أال لوم عليها وأنّه فقط المدان‪ .‬فهو ليس مال ًكا‪ ،‬وقد اعتاد الخطأ في حق الكثيرين‪ .‬وهو‬
‫وقد ّ‬
‫باألحرى ال يرضيه أبدًا‪ ،‬لكنّهم كذلك اعتادوا أال يلوموه‪ ،‬ويكملوا حياتهم على أكمل وأسعد وجه بدونه‪.‬‬
‫و بذلك يكون ّ‬
‫منز ًها عن أية عتاب!‬

‫ويحق القول أنّه كان يعاني من فوبيا الزواج‪ .‬وعالقته باألطفال ليست جيدة أبدًا‪ ،‬وتخلو من الود‪ .‬فقد‬
‫ّ‬
‫تعرض لمحاوالت عديدة للتخلص منه‪ ،‬تقودها ثالث شقيقات صغيرات يقيم معهن‪ ،‬أكبرهن تكاد تبلغ‬
‫الخامسة‪ .‬وكان يصفها بمحاوالت قتل‪ ،‬بينما أمه التي تكور بطنها وزوجها يضحكان على عراك‬
‫األطفال المستمر معه‪.‬‬

‫كافكا لم يكن بحاجة لتبادله ميلينا الحب‪ -‬كما ثقافتها وإرادتها وجمال ذهنها وحضور روحها‪ .‬إيمانها‬
‫تحول لعشق ناضج‪،‬‬‫كناقدة‪ ،‬به ككاتب لم يكن سببا محوريا لهذا التعلق واالفتتان بها‪ .‬تعلّق سرعان ما ّ‬
‫حاوال تبديده بعقالنيتهما‪ ،‬لكنه لم يصل أبدًا حد الزوال‪ .‬وقد ترجمت هذا بوادره القصصية القصيرة‬
‫التي مهدت لحياته األدبيّة‪ .‬فعبّر عن مشاعره تجاهها بأبسط الكلمات‪:‬‬

‫مرة ثانية على اإلطالق”‬


‫أراك ّ‬
‫ِ‬ ‫ي حتى ولو ُقدّر لي أال‬
‫ت تنتمين إل ّ‬
‫“أن ِ‬
‫سل أم الحب أم الذل؟‬
‫أيّهم أكثر فتكا‪ ..‬ال ُ‬
‫سل أما ميلينا الكاثوليكية‬
‫نهاية كافكا وميلينا كانت بائسة‪ .‬بعد عامين من غرامهما‪ ،‬قضى األول نحبه بال ُ‬
‫أن خادمة كافكا الرؤوم قد‬ ‫فقد قبعت سجينة يفترسها المرض والذل في السجون النازية‪ .‬جدير بالذكر ّ‬
‫توقّعت داء كافكا قبل الطبيب‪ ،‬حين رأت النزيف يسيل من فمه‪ ،‬فقالت‪“ :‬سيدي الدكتور ‪-‬مشيرة‬
‫لكافكا‪ -‬إنك لن تعيش طويال”‪ ،‬أ ّما أجمل ما وصف به كافكا نفسه‪ ،‬فكان‪“ :‬إنّك لست متعبًا‪ ،‬لكنك خائف‬
‫من ذلك التعب الالنهائي الذي سوف يعقب ذلك القلق الالنهائي‪”.‬‬

‫رسائل إلى ميلينا‪ :‬كيف ظل كافكا سوداويا حتى في الحب‬

‫«فرانز كافكا» (‪ )1924 – 1883‬كاتب تشيكي‪ ،‬ولد ببراغ لعائلة يهودية ناطقة باأللمانية ومن الطبقة‬
‫المتوسطة‪ .‬رائد الكتابة الكابوسية ويعد أحد أفضل األدباء األلمان في فن الرواية والقصة القصيرة‪ .‬عاش‬
‫تعرف إلى‬
‫سا وفاقدًا لألمل في كل شيء‪ .‬لكن أجمل سنوات حياته كما يقول هو‪ ،‬هي عندما َّ‬ ‫حياته معذبًا يائ ً‬
‫ميلينا و بدءا بتبادل الرسائل‪.‬‬

‫رسائله إليها ُج ِمعت في كتاب «رسائل إلى ميلينا»‪ ،‬بينما فُقدت جميع رسائلها هي؛ ما شكل خسارة فادحة‬
‫عا لهذه الرسائل المتفردة بين روحين قلقتين متقلبي المزاج‪ .‬في هذا المقال نعرض لفحوى هذه المناجاة‬ ‫وانقطا ً‬
‫بين هذا الكاتب الكبير ومعشوقته المميزة ميلينا‪ ،‬والتي لم يُقدَّر لها أن تنتهي نهاية سعيدة‪.‬‬
‫كافكا‪ :‬المعذب البائس‬
‫كان هيرمان‪ ،‬والد كافكا‪ ،‬رجل أعمال يُوصف بأنه طاغية ومستبد‪ ،‬وكان غير موافق على سلوك ابنه طريق‬
‫األدب والكتابة‪ .‬كتب له كافكا رسالة طويلة بعنوان «رسالة ألب»‪ ،‬بث فيها كل مشاعره و معاناته التي عاشها‬
‫معه منذ طفولته‪ ،‬لكنه لم يرسلها إليه‪ .‬وتعد هذه الرسالة من أهم المداخل نحو فهم أعمق لشخصية كافكا‪ .‬في‬
‫رسائله لميلينا‪ ،‬يتحدث كافكا عن هذه الرسالة فيقول‪:‬‬

‫ً‬
‫عاجزا حتى عن محاولة النجاة‪،‬‬ ‫ما أخافه وعيناي مفتوحتان على اتساعهما‪ ،‬بعد أن غرقت في أعماق خوفي‪،‬‬
‫هو تلك المؤامرة التي تقوم في داخلي ضد ذاتي‪ ،‬تلك المؤامرة وحدها هي ما أخشاه‪ ،‬وهذا ما ستفهمينه‬
‫بصورة أوضح بعد قراءة رسالتي إلى أبي‪ ،‬وإن كنت لن تفهمي ذلك منها تمام الفهم مع ذلك‪ ،‬ألن تلك الرسالة‬
‫قد وجهت في إحكام بالغ نحو هدفها‪.‬‬
‫ً‬
‫أثرا سيئا عليه منذ‬
‫كان والده كذلك عصبي المزاج‪ ،‬وغالبًا ما كان يوجه جا ّم غضبه على ابنه كافكا؛ ما أحدث ً‬
‫طفولته األولى‪ ،‬وهو ما يتبدى في خوفه الشديد ومقته في نفس الوقت للمدرسة – كما يحكي ذلك لميلينا في‬
‫إحدى رسائله إليها‪ -‬و يتجلى كذلك في استصغاره لنفسه وإذاللها‪ ،‬وفي شعوره بالحزن والكآبة اللذين رافقانه‬
‫طيلة حياته‪.‬‬

‫حياته االجتماعية لم تكن تسير على ما يرام‪ ،‬فقد خطب مرتين (أو ثالث مرات باألحرى‪ ،‬حيث خطب فتاة‬
‫منهما مرتين) لكنه في كل مرة كان يفسخ العقد‪ ،‬وربما كان ذلك بسبب قلقه ومرضه‪ .‬فمن المتفق عليه عمو ًما‬
‫أن كافكا عانى من االكتئاب اإلكلينيكي والقلق االجتماعي طوال حياته‪ ،‬كما عانى من الصداع النصفي‪،‬‬
‫واألرق وغيرها من األمراض التي تأتي عادة بسبب الضغوط واإلجهاد المفرط‪ ،‬وذاك هو السبب ذاته الذي‬
‫كان يمنعه في وقت الحق – باإلضافة إلى أسباب أخرى‪ -‬من زيارة ميلينا في فيينا (لكنه زارها فيما بعد‬
‫بالرغم من التعقيدات العديدة واإلنهاك الذي أصابه جراء السفر‪).‬‬

‫لقاء في المقهى‬
‫في بداية الخريف في شهر سبتمبر‪/‬أيلول من العام ‪ ،1919‬وفي مقهى في براغ‪ ،‬كان اللقاء األول بين فرانز‬
‫كافكا والشابة ميلينا يزينسكا‪ ،‬حيث اقترحت عليه مباشرة ترجمة أعماله من األلمانية التي كان يكتب بها إلى‬
‫اللغة التشيكية‪ ،‬فكانت بذلك امتدادًا له‪ ،‬كأنها «كافكا» آخر يتجول في شوارع فيينا‪.‬‬

‫بعد لقائهما بدءا بالتراسل‪ .‬كتب كافكا ما يقرب من ‪ 149‬رسالة وبطاقة بريدية‪ 140 .‬رسالة منها كتبت خالل‬
‫فترة ال تزيد عن ‪ 10‬أشهر‪ ،‬من مارس‪/‬آذار إلى ديسمبر‪/‬كانون األول من العام ‪ ،1920‬بمعدل يصل أحيانًا‬
‫إلى أكثر من رسالة في اليوم الواحد‪ .‬أما الرسائل المتأخرة فتعود إلى العامين ‪ 1922‬و‪.1923‬‬

‫كانت ميلينا تتميز بمميزات عدة‪ ،‬فقد كانت آنذاك امرأة شابة متزوجة مثقفة وفي بداية مشوارها كصحفية‬
‫وكاتبة قصصية ومترجمة‪ ،‬وعالوة على ذلك فهي مسيحية‪ ،‬مما كان يعتبر في نظر كافكا اليهودي مشكلة‬
‫مثقلة بالتعقيدات النفسية‪ ،‬ويظهر ذلك جليًا في احتقاره لنفسه ألنه يهودي رغم علمه أن هذا األمر ال يمثل‬
‫كبيرا لميلينا (كون زوجها يهوديًا)‪ ،‬بل يمثل مشكلة له هو مع نفسه‪ ،‬وباإلضافة لطبعه الق ِلق‪ ،‬فهو‬ ‫ً‬
‫مشكال ً‬
‫يستصغر نفسه أمام كل شيء‪ ،‬فما بالك بالحبيبة التي قدرها في قلبه ال يضاهيه قدر أي شخص آخر‪ ،‬بما في‬
‫ذلك نفسه؟‪.‬‬

‫ميلينا‪ ،‬أنت بالنسبة لي‪ ،‬لست امرأة‪ ،‬أنت فتاة‪ ،‬فتاة لم أر مثلها أبدًا من قبل‪ ،‬لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على‬
‫أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة‪ ،‬تلك اليد الملوثة‪ ،‬والمعروقة‪ ،‬المهتزة‪ ،‬المترددة‪ ،‬التي تتناوبها السخونة والبرودة‪.‬‬
‫أتعلمين يا ميلينا‪ ،‬إنك عندما تذهبين إليه (يقصد زوجها) فإنك بذلك تخطين خطوة واسعة إلى أسفل بالنسبة‬
‫لمستواك‪ ،‬لكنك إذا خطوت نحوي فسوف تتردين في الهاوية‪ ،‬هل تدركين ذلك؟‪.‬‬
‫قد يبدو أن هذه الطريقة في الحط من قدر نفسه إنما هي زيف فقط‪ ،‬كمن يقلل من شأنه عندما يتلقى مدي ًحا (كما‬
‫كان الحال مع دوستويفسكي مثال)‪ ،‬لكن بالنسبة له‪ ،‬فهذا الشعور بالنقص من اآلخرين واستصغاره لنفسه‬
‫والحط من قدرها حقيقة وطبع فيه‪ ،‬وقد كتب إلى ميلينا في أحد رسائله يشرح لها ذلك‪.‬‬

‫من عاشق سعيد إلى محب يائس‬


‫ونحن نقرأ رسائل كافكا التي وصلت إلينا نجد تدر ًجا ملحو ً‬
‫ظا في حدة العواطف وميلها إلى البرود مع كل‬
‫رسالة جديدة‪ .‬ففي بداية األمر يتبدى جليًا شعور كافكا بارتياح غريب – غريب على من مثله في بؤسه وقلقه‬
‫أن يحسه‪ -‬فهو وربما للمرة األولى تزايله كل أحزانه وتنتعش روحة المتعبة رغم مرضه الجسدي‪.‬‬

‫اآلن فقط انقطع المطر الذي دام سقوطه يومين وليلة‪ ،‬مع أن انقطاعه قد ال يستمر سوى لحظة‪ ،‬لكنه مع ذلك‬
‫حدث يستحق أن يحتفل به المرء‪ ،‬وهذا ما أفعله بالكتابة إليك‪ .‬إنني أعيش هنا في خير حال‪ ،‬وال يطيق الجسد‬
‫الفاني مزيدًا من العناية‪ ،‬وتطل شرفة غرفتي على حديقة محاطة بسور‪ ،‬تزدهر فيها الشجيرات المزهرة‪،‬‬
‫وتتعرض شرفة الغرفة ألشعة الشمس‪ ،‬تزورني في الغرفة السحالي والطيور وأنواع مختلفة من الكائنات‪،‬‬
‫تزورني أزوا ًجا أزوا ًجا‪ ،‬إنني أرغب رغبة شديدة في أن تكوني هنا‪.‬‬
‫سل لالطمئنان على حال شخص ما أو لغرض اإلخبار بشيء‪ ،‬فإن كافكا لم‬ ‫وبخالف الرسائل العادية التي تر َ‬
‫يكن يكتب رسائله ال لهذا الغرض و ال لذاك‪ ،‬بل كان منكبًا على نقل أحداث يومه بشكل حرفي إلى ميلينا‪،‬‬
‫مشاطرا إياها مشاعره وكأنها تشاركه نفس المكان‪ ،‬وذلك ما يعبر عنه في غير ما مرة‪.‬‬
‫ً‬

‫نهارا ً‬
‫وليال؟ ال بد‬ ‫ما شكل تلك الشقة التي كتبت لي منها يوم السبت؟ هل هي فسيحة وخالية؟ هل أنت وحيدة؟ ً‬
‫أن يكون هذا محزنًا حقًا‪ .‬على الرغم من صغر حجرتي‪ ،‬فإن ميلينا الحقيقية‪ ،‬تلك التي زايلتك صراحة يوم‬
‫السبت‪ ،‬توجد معي هنا‪ ،‬وصدقيني إنه شيء رائع جدًا‪ ،‬أن أكون معها‪ .‬ستكون كذبة بالنسبة لي لو قلت إنني‬
‫أفتقدك‪ ،‬إنه السحر الكامل‪ ،‬المؤلم‪ ،‬إنك توجدين هنا مثلما أنا هنا‪ ،‬إن وجودك مؤكد أكثر من وجودي‪ ،‬إنك‬
‫كثيرا من وجودي في الحقيقة‪.‬‬
‫تكونين حيث أكون‪ ،‬وجودك كوجودي‪ ،‬و أكثر ً‬
‫ً‬
‫طويال مع كافكا‪ ،‬فها هي الغيرة تنخر قلبه‪ ،‬ويبدأ كل منهما في إلقاء‬ ‫لكن اإلحساس بالسعادة واالرتياح ال يدوم‬
‫كثيرا ما تلقي اللوم عليه لخوفه الشديد‪ ،‬غير المبرر في كثير من األحيان‪ ،‬والذي‬
‫اللوم على اآلخر‪ ،‬كانت ً‬
‫مسيطرا عليه حتى أصبح كـتهديد دائم له‪.‬‬
‫ً‬ ‫أصبح‬
‫إنني أرتعش فحسب تحت وطأة الهجوم‪ ،‬أعذب نفسي إلى درجة الجنون‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬حياتي‪ ،‬وجودي‪ ،‬إنما‬
‫ضا وجودي‪ .‬إنه طريقتي في المشاركة في‬ ‫يتألف من هذا التهديد السفلي‪ ،‬فلو توقف هذا التهديد لتوقف أي ً‬
‫الحياة‪ .‬فلو توقف هذا التهديد‪ ،‬سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغالق المرء لعينيه‪.‬‬
‫مع ازدياد عدد الرسائل‪ ،‬تزداد نوبات االحتقار الذاتي لدى كافكا والتقليل من شأن نفسه‪ ،‬ويبدأ جلد الذات‬
‫ومحاولة العودة إليها‪ ،‬ويبدأ كذلك تحليل األمور ورؤية المآل الذي ال مفر منه‪.‬‬

‫ضا يا ميلينا‪ ،‬نوع الشخص الذي خطا نحوك‪ ،‬إن رحلة الثمانية والثالثين عا ًما تستلقي‬ ‫يجب أن تتدبري أنت أي ً‬
‫خلفه‪ ،‬ولما كنت يهوديًا فإن الرحلة في حقيقتها أطول بالفعل من ذلك‪ ،‬فلو أنني عند منعطف عارض تبدى لي‬
‫في طريقي‪ ،‬قد رأيتك‪ ،‬أنت التي لم أتوقع أن أراك مطلقًا‪ ،‬وأن تجيء رؤيتي لك فوق ذلك متأخرة إلى هذا‬
‫الحد‪ ،‬عندئذ ال يمكنني يا ميلينا أن أصبح ملو ًحا لك‪ ،‬و ال أن يهتف لك شيء في داخلي‪ ،‬و ال أن أقول آالف‬
‫األشياء الحمقاء التي ال أجد لدي شيئًا منها‪ ،‬وأحذف الحماقات األخرى التي أحس أن لدي منها ما يزيد عن‬
‫حاجتي‪.‬‬
‫وكما يظهر في رسائله‪ ،‬فإن ميلينا هي األخرى كانت متقلبة المزاج وقلقة قلقًا يشبه أو ربما يفوق قلق‬
‫دوستويفسكي (وال عجب فإنه كان كاتبها المفضل)‪ ،‬بسبب األجواء العصيبة التي سادت األوساط األدبية في‬
‫ضا‪ ،‬كما لو أن المعاناة هي ذلك السلك الرفيع الذي يربطهما‪،‬‬ ‫فيينا في تلك الفترة‪ ،‬وربما بسبب تأثيره هو أي ً‬
‫ً‬
‫حتى أنها بدأت تتوهم أنها مصابة بمرض الرئة مثله‪ ،‬حتى سقطت فريسة له حقا‪ .‬هنا يكتب إليها كافكا كما لو‬
‫كان هو المصاب‪ ،‬ويصل إحساسه باليأس حدًا ال يطاق‪:‬‬

‫وهكذا فأنت تشعرين بالمرض كما لم تشعري به منذ عرفتك؟ وهذه المسافة التي ال يمكن اجتيازها‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى آالمك لتجعلني أشعر كما لو كنت أنا في حجرتك وأنك ال تكادين تتعرفين علي‪ ،‬وأنني أتجول بال حيلة‬
‫ذهابًا وجيئة بين الفراش والنافذة‪ ،‬وأحدق في السماء الكئيبة التي بعد كل مرح السنوات المنقضية وبهجتها‪،‬‬
‫تتبدى للمرة األولى في يأسها الحقيقي‪ ،‬عديمة الحيلة‪ ،‬مثلي تما ًما‪.‬‬
‫ضا بسبب عالقتها بزوجها أرنست التي كانت في طور االنهيار‪ .‬يتردد ذكر اسم‬ ‫قلق ميلينا كان في تزايد أي ً‬
‫زوج ميلينا في الرسائل المتأخرة‪ ،‬حيث يظهر آنذاك جالء الحقيقة واستحالة بلوغ عالقتهما أية غاية سعيدة‪.‬‬

‫حب من نوع آخر‬


‫قبرا‪.‬‬ ‫ً‬
‫فاصال أصبح اآلن حدًا‪ ،‬أو سلسلة من الجبال‪ ،‬أو على نحو أكثر دقة ً‬ ‫ما تعودنا على أن نعتبره خي ً‬
‫طا‬
‫في رسائل كافكا يظهر حب من نوع غريب ونادر‪ ،‬إنه ذلك الذي يجعلك تكتشف نفسك‪ ،‬وتراها على حقيقتها‪،‬‬
‫كأنما قد وقفت إلى مرآة‪ ،‬وهذا النوع من الحب هو سكين ذات حدين‪ ،‬إذ كما لك االمتياز في أن تكتشف في‬
‫قبال‪ ،‬فإنه في ذات الوقت تتجلى عيوبك أمامك كلها واضحة‪ ،‬في مقابل صفات اآلخر‬ ‫نفسك ما لم تكن تعرف ً‬
‫المتناهية الجمال‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهذا شيء مختلف تما ًما‪ .‬إن‬


‫إنني أعيش في قذارتي‪ ،‬فهذا هو ما يشغلني‪ ،‬لكن أن أجرجرك إلى داخلها أي ً‬
‫الشيء المزعج هو شيء بعيد باألحرى حيث أنني من خاللك أصبح أكثر وعيًا بقذارتي على نحو زائد‪ ،‬ومن‬
‫كثيرا في صعوبته‪.‬‬
‫خالل وعيي يصبح الخالص أكثر ً‬
‫رسائل كافكا هذه الفريدة من نوعها تكشف لنا معدن هذا العاشق‪ ،‬الذي لم يمر على معبد المرأة كما مر أسالفه‬
‫وخلفه من العشاق‪ ،‬كان حالة خاصة متفردة‪ .‬ورغم النهاية التي تبدو مألوفة في مثل هذه القصص‪ ،‬لكن‬
‫أحداثها لم تكن عادية ومألوفة‪ ،‬كون من نسج خيوطها شخص غريب‪ ،‬محب‪ ،‬بائس‪ ،‬جمع المتناقضات في‬
‫شخصيته‪ ،‬وترك لنا رسائل بديعة نستمتع بقراءتها إلى اليوم‪!.‬‬

‫رسالة من فرانز كافكا إلى فيليس باور‬

‫‪25‬آذار(‪ :)1914‬من فرانز كافكا إلى فيليس باور‪.‬‬


‫استمرت مراسالت كافكا مع فيليس باور من أيلول عام ‪ 1912‬إلى تشرين األول لعام ‪ ،1917‬متداخلة‬
‫مع كتابته للمسخ‪ ،‬في مستوطنة العقاب‪ ،‬و بداية عمله على المحاكمة‪ .‬بالرغم من وعيه الخانق لذاته ‪،‬‬
‫كان كافكا فاسقا ً متحمساً‪ ،‬كان منخرطا ً بالعديد من العالقات الرومانسية( وارتياد بيوت الدعارة) طوال‬
‫حياته‪ .‬هنا‪ ،‬يحاول إقناع باور بالزواج منه‪ ،‬محاوالً تبديد توقها للتبعية الزوجية‪.‬‬
‫ف األعز‪،.‬‬
‫في رسالتك األخيرة ( كم طويالً توقفت بال حراك عند تلك الكلمة‪ ،‬متمنيا ً لو كنت هنا!) هناك جملة‬
‫جلية تماما ً بالنسبة لي من كل ناحية‪ ،‬هذا لم يحصل منذ وقت طويل‪ .‬تتعلق بالمخاوف التي تشعرين بها‬
‫حول مقاسمتك الحياة إياي‪ .‬أنت ال تظنين‪ -‬أو ربما أنت تتساءلين فحسب‪ ،‬أو ربما أنك ترغبين فحسب‬
‫بسماع آرائي حوله – فيما إذا كنت ستجدين بداخلي الدعم الحي الذي تحتاجينه بال شك‪ .‬ليس هناك‬
‫شيء أستطيع قوله في الحال حول ذلك‪ .‬أنا ربما أيضا ً متعب جدا ً في هذه اللحظة( كان علي أن أنتظر‬
‫ي انتظار رسالتك أربع‬
‫برقيتك حتى الخامسة مسا ًء لماذا؟ وأكثر من ذلك‪ ،‬بعكس ما وعدتِ‪ ،‬كان عل َّ‬
‫وعشرون ساعة لماذا؟) وبعيدا ً عن تعبي أنا سعيد جدا ً برسالتك‪.‬‬
‫لقد تأخر الوقت مسا ًء‪ .‬لن أكون قادرا ً على الكتابة عن أكثر األمور أهمية اليوم‪ .‬المعلومات الدقيقة‬
‫التي ترغبين بمعرفتها عني‪ ،‬عزيزتي ف‪ ،.‬ال يمكنني منحك إياها‪ ،‬يمكنني أن أعطيك إياها‪ ،‬على كل‬
‫حال‪ ،‬فقط عندما أجري خلفك في التيرجارتن (متنزه في برلين ) ‪ ،‬أنت دائما ً عند نقطة الزوال تماماً‪،‬‬
‫وأنا عند نقطة إنهاك نفسي بنفسي ‪ ،‬فقط عندما يصل ذُلّي ‪ ،‬إلى حد أكثر عمقا ً من أي كلب‪ ،‬سأكون‬
‫قادرا ً على فعل ذلك‪ .‬عندما تطرحين هذا السؤال اآلن يمكنني فقط القول ‪ :‬أحبك‪ ،‬ف‪ ،.‬بأقصى قوتي‪،‬‬
‫في هذا الصدد يمكنك أن تثقي بي تماماً‪.‬‬
‫لكن بالنسبة للبقية‪ ،‬ف‪ ،.‬ال أعرف نفسي تماماً‪ .‬مفاجآت وخيبات من حولي تتبع بعضها بعضا ً في‬
‫متوالية ال نهائية‪ .‬ما أتمناه هو أن هذه المفاجآت والخيبات ستكون لي وحدي‪ ،‬سأستعمل كامل قوتي كي‬
‫سك سوى مفاجآتي األكثر إمتاعا ً من طبيعتي ‪ ،‬يمكنني أن أجزم‬
‫ال أرى شيئا ً سوى السرور‪ ،‬لن تم َّ‬
‫بهذا‪ ،‬لكن ما ال يمكنني أن أجزم به فيما إذا كنت سأنجح دوماً‪ .‬كيف يمكنني أن أجزم بذلك في ضوء‬
‫االرتباك المحير في رسائلي التي تلقيتها مني طوال هذا الوقت؟ لم نكن سوية لوقت طويل‪ ،‬هذه حقيقة‪،‬‬
‫لكن حتى لو كنا قد قضينا وقتا ً طويالً معاً‪ ،‬لكنت طلبت منك( ألن ذلك سيكون مستحيالً حينها) أن‬
‫تحكمي علي من خالل رسائلي وليس من خالل تجربتك الشخصية‪ .‬اإلمكانيات الكامنة في رسائلي هي‬
‫كامنة في داخلي على حد سواء‪ ،‬السيء منها كما الجيد‪ ،‬التجربة الشخصية تسرق واحدة من وجهات‬
‫النظر‪ ،‬وفي حالتي الخاصة هذا خسارة لي‪]…[ .‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬أنا أؤمن بأن خبرتي القليلة تلك‪ ،‬هذه التقلبات في طبيعتي‪ ،‬مرة سعيد‪ ،‬ومرة غير‬
‫سعيد‪ ،‬ال يلزم أن تكون بأي شكل حاسمة بالنسبة لسعادتك المستقبلية معي‪ ،‬ليس من الالزم أن تكوني‬
‫عرضة مباشرة آلثارها‪ .‬أنت ال تعتمدين على اآلخرين‪ ،‬ف‪ ،.‬ربما تتشوقين لذلك‪ ،‬أو بالحري أنك‬
‫بالتأكيد تتوقين لالرتباط‪ ،‬لكنك بالتأكيد لن تستسلمي بسهولة لذلك النوع من التوق‪ .‬ال يمكنك فعل ذلك‪.‬‬
‫بالنسبة لسؤالك األخير‪ ،‬بأية حال‪ ،‬فيما إذا كان ممكنا ً بالنسبة لي أن أقبلك كما لو أن شيئا ً لم يحدث‪،‬‬
‫يمكنني القول فقط بأن هذا ليس ممكناً‪ .‬لكن الممكن‪ ،‬وفي الواقع‪ ،‬الضروري‪ ،‬بالنسبة لي أن أقبلك‬
‫بالرغم من كل ما جرى‪ ،‬وابقى لك إلى حد الهذيان‪.‬‬
‫ّ‬
‫أرق التحيات‪ ،‬لك‪،‬‬
‫فرانز ك‬
‫النص باالنجليزية منشور هنا‪:‬‬
‫‪/http://theamericanreader.com/25-march-1914-franz-kafka-to-felice-bauer‬‬
‫أرسل كافكا إلى فيليس باور ‪ Felice Bauer‬في برلين في غضون خمسة أعوام (‪)1917 -1912‬‬
‫‪ 342‬رسالة و ‪ 145‬بطاقة بريدية‪ ،‬وعلى األرجح كتبت له ما يقارب هذا العدد‪ .‬لم يلتقيا سوى مرات‬
‫قليلة‪ .‬عقد خطوبته عليها وفسخها مرتين‪ .‬فيما بعد أتلف كافة رسائلها إليه‪ ،‬مثلما أتلف رسائل‬
‫ومخطوطات أخرى‪ .‬في عام ‪ 1936‬هاجرت فيليس مع زوجها وولديها إلى نيويورك‪ .‬وإذ أخفق‬
‫زوجها‪ ،‬اضطرت للعمل من أجل إعالة أربعة أفراد‪ .‬غير أنها لم توفق في دكانها الصغير‪ .‬بعد أكثر‬
‫من ثالثين عاما ً من وفاة كافكا بحث دارسون عنها وعثروا عليها‪ ،‬وعرضوا عليها ابتياع رسائل كافكا‬
‫إليها‪ .‬اضطرارا ً وعلى كره منها باعتها في عام ‪ 1955‬بمبلغ خمسة آالف دوالر‪ .‬في عام ‪1960‬‬
‫توفيت فيليس‪ .‬بعد ذلك بيعت الرسائل مرة أخرى بمبلغ ‪ 660‬ألف دوالر‪ .‬في عام ‪ 1967‬نشر معظمها‬
‫في كتاب يقع في ‪ 984‬صفحة‪.‬‬
‫راينر شتاخ يقول‪" :‬هذه الرسائل تغفو في خزينة ما يملكها شخص ما‪ .‬ثمنها لن يق ّل كثيرا ً عن مئة‬
‫مليون يورو‪".‬‬

‫رسائل كافكا‪ :‬قبالت مكتوبة تتخاطفها األشباح | ترجمة‪ :‬شذى يوسف‬


‫العدد ‪ | 28 176‬آب ‪2015‬‬

‫سهل االعتقاد أن فرانز كافكا لم يكن يمارس الجنس أو أنه كان يعاني نقصا ً في االنجذاب‬ ‫من ال ّ‬
‫الجنسي‪ .‬حيث تفتقر أعماله بشكل ملحوظ لوجود أي شكل من أشكال اإلثارة الجنسيّة (النزعة‬
‫اإليروتيكيّة)‪ .‬كما أن تفصيالً واضحا ً ساد في سيرته الذاتيّة أال وهو خوفه الكبير من والده‪ ،‬األمر الذي‬
‫أثّر على طفولته بشكل أو آخر‪ .‬وهناك هذه الصورة عنه‪ ،‬كما كتبت مجلّة "سبايكد"‪ ،‬على أنّه "متب ّ‬
‫ص ٌر‬
‫وحيد وشديد القدسيّة في هذا العالم الغارق بالفساد"‪ ،‬كل هذا كتبه جيمس هاويس في "التنقيب عن‬
‫ي ضدّ الوثنيّة سواء كانت أدبيّة‬ ‫كافكا"‪ ،‬واصفا ً ما اصطلح على تسميته "كافكا الحقيقي" بأنه "نس ٌج نق ّ‬
‫أو متعلّقة بالدّين"‪ ،‬هو الذي "كان يتردد على بيوت الدّعارة في براغ‪ ".‬رغم كونه معذّبا ً برغباته‬
‫الجنسيّة – كما وصفه صديقه وكاتب سيرته الذاتيّة ومنفّذ وصيّته ماكس برود – لم ينكر كافكا على‬
‫نفسه تمضية أوقات برفقة المومسات بصورة متكررة إضافةً إلى اهتمامه بالبورنوغرافيا‪.‬‬
‫الرواية‪ ،‬ال نستغرب أن كافكا عانى نقصا ً حادا ً في الثّقة بالنفس خالل عالقتي حب‬ ‫لكن في جزء من ّ‬
‫عاشهما مع امرأتين –خطوبته على فيليس باور ثم عالقته بالصحافيّة التشيكيّة ميلينا يسينسكا – وقد‬
‫بحق‪ ،‬مشكلتان مطالبة لكافكا "بااللتزام" هو الذي "سعى على الدوام‬ ‫كانت هاتان العالقتان "تعذيباً" ّ‬
‫للتهرب منه"‪ .‬كما أنه أمضى معظم فترة خطوبته من فيليس بالمراسلة‪ ،‬وقد قامت مكتبة "شوكين"‬
‫بنشر مراسالته الشخصيّة مع كلتا المرأتين في مجلّدات منفصلة‪" .‬لرواياته بصمة واضحة‪ :‬نفس‬
‫االهتمام العصابي بالتفاصيل الدقيقة؛ نفس جنون االرتياب من تبدل موازين القوى؛ نفس مناخ‬
‫االختناق العاطفي الممتزج بصورة مفاجئة بما فيه الكفاية‪ ،‬مع لحظات من الحماس والبهجة‬
‫الصبيانيّة‪ ".‬هذا ما كتبته الناقدة ميتشيكو كاكوتاني في صحيفة اليويورك تايمز‪ ،‬وذلك في بحثها الذي‬
‫حمل عنوان رسائل إلى فيليس عام ‪"1988‬النيويورك تايمز" في بحثها الذي حمل عنوان "رسائل إلى‬
‫فيليس"عام ‪.1988‬‬
‫سد رسالة الخامس والعشرين من آذار‪ /‬مارس‪ 1914 ،‬إلى فيليس هذه الصفات‪ ،‬بما في ذلك ميل‬ ‫تُج ّ‬
‫كافكا إلى "توبيخ" خطيبته و"تراجع واضح" عن نيّته الزواج منها‪ .‬وكجواب على سؤالها غير‬
‫الصريح فيما إذا كانت باور قد تجد فيه "الدّعم الحيوي الذي تحتاجه بال شك" كتب كافكا‪" ،‬ال شيء‬
‫صراحةً أستطيع قوله عن ذلك"‪:‬‬
‫عزيزتي ف‪ ،‬إن ما تريدين معرفته عني هو أمر ال أستطيع أن أمنحك إيّاه‪ ،‬أستطيع أن أعطيه لك فقط‬
‫عندما أركض خلفك في التيرجارتين (حديقة في ألمانيا)‪ ،‬وأنت على وشك التواري تماماً‪ ،‬وأنا نفسي‬
‫أتعرض لإلذالل ككلب‪ ،‬هكذا أستطيع القيام بذلك‪ .‬واآلن عندما‬ ‫سجود؛ فقط عندما ّ‬ ‫على وشك ال ّ‬
‫صدد يمكنك أن‬ ‫ي هذا السؤال أستطيع فقط أن أقول‪ :‬أحبّك يا ف‪ ،.‬بك ّل جوارحي‪ ،‬بهذا ال ّ‬ ‫تطرحين عل ّ‬
‫ص البقيّة‪ ،‬عزيزتي ف‪ ،.‬فأنا ال أعرف نفسي تماماً‪ .‬فما ينتابني من مفاجآ ٍ‬
‫ت‬ ‫تثقي بي تماماً‪ .‬أ ّما فيما يخ ّ‬
‫يستمر كسلسلة ال تنتهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وخيبات أم ٍل عن نفسي‪،‬‬
‫عناصر غالبا ً ما‬
‫ٌ‬ ‫ك ّل هذا اإلحباط‪ ،‬احتقار الذّات‪ ،‬التلميحات الغامضة والخائفة‪ ،‬والتشبّه بالكالب‬
‫ارتبطت بفرانز كافكا‪ ،‬وعلى الرغم من اعترافه الصريح بالحب‪ .‬لم يمض وقت طويل بعد أن ت ّم‬
‫تشخيص إصابته بالسل عام ‪ ،1917‬حتى قام كافكا بفسخ الخطوبة‪ .‬في عام ‪ ،1920‬بدأ عالقة غراميّة‬
‫قويّة من ناحيته – مكتوبة بكثافة –مع ميلينا يسينسكا‪ ،‬ظهر هذا جليّا ً في ما ت ّم جمعه من رسائله إليها‪.‬‬
‫المنظمة‪ :‬عبارات اإلخالص‬ ‫ّ‬ ‫تض ّمنت هذه الرسائل األسلوب نفسه من الدوافع الشخصية واألدبية‬
‫الرقيقة التي تصل إلى طرق مظلمة وغامضة مثل "القبالت المكتوبة ‪ ...‬تتخاطفها األشباح على طول‬
‫الطريق" و "لقد أمضيت كل حياتي في مقاومة الرغبة بوضع حد لها‪ ".‬رسالة واحدة يبدو أن العالقة‬
‫لها بميلينا على اإلطالق بل هي تجسيد لمشروع كافكا الكاتب‪:‬‬
‫أحاول باستمرار التواصل مع شيء ال يمكن إشراك الغير فيه‪ ،‬لشرح شيء ال يمكن تفسيره‪،‬‬
‫وألتحدّث عن شيء أشعره أنا وحدي في عظامي وال يمكن ألحد آخر أن يحس به‪ .‬من حيث الجوهر‬
‫لكن الخوف ينتشر ليصل إلى كل شيء‪ ،‬الخوف من‬ ‫هو ليس ّإال هذا الخوف الذي تحدّثنا عنه غالباً‪ّ ،‬‬
‫األمور الكبيرة كما الصغيرة‪ ،‬والخوف من العجز عن نطق كلم ٍة واحدة‪ ،‬على الرغم من أن هذا‬
‫توق إلى شيءٍ أكبر من كل ما هو مخيف‪.‬‬‫مجرد خوف‪ ،‬بل ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الخوف قد ال يكون‬
‫تبرر التأكيد في عنوان بحث كاكوتاني‪" :‬رسائل حب كافكا الكافكاويّة"‪ .‬كما لو أنّه‬
‫مختارات كهذه ّ‬
‫ّ‬
‫ستشق‬ ‫استخدم هذه الرسائل كحقل تجارب لصراعاته الداخليّة المتشابكة‪ ،‬شكوكه‪ ،‬وهواجسه التي‬
‫ّ‬
‫طريقها إلى رواياته في النهاية‪ .‬باإلضافة إلى ما نراه فيها‪ ،‬من هذه الزخارف الكافكاويّة المقطرة‪ .‬أبدع‬
‫كافكا خالل فترة خطبته لفيليس باور "أعماله األكثر أهمية‪ ،‬بما فيها رواية "المسخ"‪ ،‬وخالل عالقته‬
‫ي شخصيّا ً "القصر‪".‬‬
‫بميلينا يسينسكا تبلورت روايته المفضلة لد ّ‬
‫ورغم أن موضة مقاربة األدب عبر سيرة الكاتب الشخصية قد ولت‪ ،‬أي قراءة حياة كاتب ما من خالل‬
‫أعماله‪ ،‬فإن وجود المئات من رسائل كافكا المنشورة جعل أمر فصل أعماله عن حياته أمرا ً صعباً‪.‬‬
‫وقد وصف إلياس كانيتّي رسائل كافكا بأنها حوار "كان يجريه مع نفسه"‪ ،‬وكل منها "تعتبر فهرسا ً‬
‫لألحداث العاطفية التي ألهمته رواية "المحاكمة" وغيرها من أعماله"‪ .‬وعلى الرغم من النوبات‬
‫العاطفيّة غير المتوقعة التي انتابت كافكا‪ ،‬فإن هذه الرسائل أضافت قيمة كبيرة لدعم ذلك التقييم النّقدي‪.‬‬
‫_________________________________‬
‫المقال مأخوذ من موقع‪openculture.com‬‬

‫كافكا عاشقًا‬
‫تحول في فراشه إلي‬
‫أحالم مزعجة‪ ،‬ليجد نفسه قد ّ‬
‫ٍ‬ ‫ذات صباح‪ ،‬أفاق جاريجور سامسا من‬
‫حشرة رهيبة‪.‬‬

‫صغيرا‪ ،‬قرأ افتتاحية «المسْخ»‪ .‬بعدها أغلق‬


‫ً‬ ‫في أحد األيام‪ ،‬بينما كان غابرييل جارسيا ماركيز‬
‫حدث هذا فعالً!‬
‫َ‬ ‫عا وصرخ‪ :‬يا إلهي! هل‬‫فز ً‬
‫«غابو» الكتاب ِ‬

‫ب من‬
‫سوداويّة إلي مذه ٍ‬ ‫ب سوداويّةً في التّاريخ حدّ ن ْس ِ‬
‫ب ك ِّل الكتابات ال ّ‬ ‫أكثر كات ٍ‬
‫أن َ‬ ‫َم ْن يصدّق َّ‬
‫ي قاتم!» أن يكون يو ًما ما‪ ..‬عاشقًا‪.‬‬ ‫لك من كافكاو ّ‬
‫اشتقاق اسمه «يا َ‬

‫دورا في حياة كافكا – رغم استحالة‬


‫بوصفها أحد مصادر اإللهام وأسباب البقاء؛ لعبت المرأة ً‬
‫مرتين – أدي إلي ظهور ذلك جليًّا في كتاباته‬
‫رابط ٍة طبيعيّة والتي لم تنتهي إال بفسخ خطوباته ّ‬
‫الرغم أن كافكا تخلّص من تسعين بالمئة من كتاباته في حياته‪ ،‬وطلب من صديقه‬ ‫ويوميّاته‪ ،‬علي ّ‬
‫ماكس برود أن يتخلّص منها بعد موته‪ ،‬إال أن برود نشر يوميّاته في مجل ٍد ضخم (ترجم للعربيّة‬
‫عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في ‪ )2010‬وكذلك رسائله إلي عشيقتيه ال ّ‬
‫شهيرتين‪.‬‬

‫كانت لكافكا حياة ً جنسيّة فعَّالة‪ ،‬وطبقًا لصديقه «برود»؛ كافكا كان معذّبًا برغباته الجنسيّة؛‬
‫صرح أن حياته كانت عامرة ً بعالقات نسائيّة غير بريئة‪ ،‬وكذلك‬ ‫وكاتب سيرته رينير سيتاش ّ‬
‫كبيرا‬
‫مليئة بالخوف من اإلخفاقات الجنسيّة‪ .‬تردد علي بيوت الدّعارة وكان له اهتما ًما ً‬
‫ت حميمة مع نساءٍ عديدا ٍ‬
‫ت في حياته‪.‬‬ ‫بالبورنوغرافيا‪ ،‬باإلضافة لعالقا ٍ‬

‫خطابات كافكا‬

‫في الثالث عشر من أغسطس من العام ‪ ،1914‬التقي كافكا بفيليس بيير‪ ،‬وهي قريبة لب ْْرودْ‪،‬‬
‫والتي كانت تعمل في شركة ديكتافون (شركة أسسها جرهام بيل)‪ .‬بعد أسبوعٍ من لقاءها كتب‬
‫كافكا في يوميّاته‪:‬‬

‫«اآلنسة ف‪ .‬ب‪ .‬عندما حللتُ عند برود في الثالث عشر من أغسطس‪ ،‬كانت هي تجلس إلي‬
‫لتوها‬
‫المنضدة‪ .‬لم أكن أعير اهتما ًما إلى من كانت هي‪ .‬لكن باألحرى أعتقد أنها كانت ّ‬
‫محظوظة»‪.‬‬

‫تبادل كافكا مع فيليس رسائل عديدة جمعت في مجلد كبير‪:‬‬

‫أسألك معروفًا قد يبدو مجنونًا إلي ح ٍد ّما والذي يجب أن أعتبره كذلك‬
‫ِ‬ ‫« ُم ْق ِد ٌم أنا اآلن علي أن‬
‫أكثر األشخاص دماثةً‬
‫اختبار حتي ُ‬
‫ٍ‬ ‫الخطاب‪ .‬وهو أيضًا أعظم‬ ‫حيث أنا الشّخص الذي سيستلم ِ‬ ‫ُ‬ ‫؛‬
‫ضع فيه‪ .‬حسنًا‪ ،‬هذا هو‪:‬‬
‫يمكن أن يُو َ‬

‫مرةً أسبوعيًّا فقط؛ لكي يص ِل ِخطابُ ِك يوم األحد‪ .‬ألني ال استطيع الصمود حيال‬ ‫اًكتُبي لي ّ‬
‫ب واح ٍد ِ‬
‫منك‪،‬‬ ‫يب علي خطا ٍ‬ ‫قادرا علي تح ُّم ِلهم‪ .‬علي سبيل المثال ‪ :‬أ ُ ِج ُ‬
‫ً‬ ‫طاباتك اليوميّة؛ لستُ‬
‫ِ‬ ‫ِخ‬
‫بك‪.‬‬
‫واع فقط ِ‬ ‫ط داخل جسدي ُك ِلّه‪ ،‬و ْهو ٍ‬ ‫وم ْن ث َّم أرق ُد في السرير في هدوءٍ بيّن‪ ،‬لكن قلبي يتخبّ ُ‬‫ِ‬
‫ق أُخري لشرحِ هذا‪ ،‬ليس ذلك قويًّا بما فيه ال ِكفاية‪.‬‬ ‫بك ؛ ال يوجد – حقيقةً – طري ٌ‬ ‫ق أنا ِ‬ ‫ُمتع ِلّ ٌ‬
‫كثيرا لدرجة أال أستطيع أن‬
‫لكن‪ ،‬لهذا السبب الدقيق ؛ ال أريد أن أعلم ما ترتدينه ؛ ذلك ير ِبكُني ً‬
‫أتعامل في الحياة‪ .‬وهذا هو السبب أني ال أريد أن أعل َم أنَّ ِك مغرمةٌ بي‪ْ .‬‬
‫وإن فعلتُ ‪ ،‬كيف‬
‫أستطيع – ويا لي من أحمق‪ -‬أن أذهب وأجلس بمكتبي أوهنا بالمنزل بدال من التوثّب علي‬
‫معك؟»‬
‫ِ‬ ‫القطار بعينينين مغلقتين – فات ًحا إيّاهما فقط‪ ،‬عندما أكونُ‬

‫ت ‪،‬الحقًا‬ ‫في العام ‪ 1917‬كان توقيتُ ظهور ال ّ‬


‫سل هوما أنهي العَالقة التي استمرت خمس سنوا ٍ‬
‫ي حيث قال‪:‬‬ ‫ي كذريعة عن السبب النفس ّ‬ ‫ب فيسيولوج ّ‬
‫أشار كافكا لسب ٍ‬

‫لعدم فع ِل ذلك س؛ سأختصر ‪ :‬ص ّحتي جيّدةٌ فقط ما يكفي‬


‫ف ؛ مؤسف ِ‬ ‫س ٌ‬
‫سبب مؤ ِ‬
‫ٌ‬ ‫أوه‪ ،‬يوجد‬
‫األبوة ! حتي اآلن عندما‬
‫ّ‬ ‫ناهيك عن‬
‫ِ‬ ‫لنفسي وحدها‪ ،‬ليست علي ما يُرا ُم ِكفايةً من أجل ّ‬
‫الزواج‪.‬‬
‫خطابك؛ أشعر أني أستطيع أن أتغاضي عن ذلك‪ ،‬حتي ربّما ع ّما ال يمكن إغفاله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أقرأ‬

‫يستأنف دعوته التي يبدو أنه يو ّجهها إلي نفسه ال إليها‪:‬‬

‫سبت؛ أُنا ِ‬
‫شد ُِك أال تكتبي لي مج ّددًّا وأن أقطع أنا وعدًا‬ ‫خطاب يوم ال ّ‬
‫َ‬ ‫إن كنتُ أرسلتُ بالبريد‬ ‫ْ‬
‫الرسالة‪.‬؟ ك ُّل شيءٍ سيكو ُن علي ما يُرام‪.‬‬‫مماثالً‪ .‬يا إلهي !ما الذي منعني من إرسال هذه ّ‬
‫مرةً واح ًد‬‫ب أحدُنا اآلخر ّ‬ ‫ممكن اآلن؟ هل سيكون ذا جدوي إن كاتَ َ‬ ‫ٍ‬ ‫سلمي‬
‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬هل من ح ٍ ّل‬
‫فقط أ ُ ْ‬
‫سبوعيّا؟‬

‫ال‪ ،‬لو كان ِل ُمعاناتي أن تُشْفى بمثْ ِل تلكَ الوسائل ؛ فلن تكون جادّة‪ .‬وبالفعل ؛ أتوقّع أني لن‬
‫ضائعة؛ أُنا ِ‬
‫شد ُِك بما‬ ‫لتعويض فرصة يوم األحد ال ّ‬
‫ِ‬ ‫قادرا علي تح ّم ِل رسائ ِل األحد‪ .‬لذا ؛‬ ‫َ‬
‫أكون ً‬
‫قوة من أجلي في نهاية هذا الخطاب‪.‬‬ ‫لديك من ّ‬
‫ِ‬ ‫تبقّي‬

‫ي‪:‬‬
‫َفس كافكاو ّ‬
‫ويختتم بن ٍ‬

‫إن ُكنّا نقد ُّر حيواتنا؛ دعينا نهجرها تما ًما … ُمكبّ ٌل أنا بنفسي إلي األبد؛ هذا هو أنا‪ ،‬وهذا ما‬
‫ْ‬
‫علي أن أحيا به‪.‬‬‫يجب ّ‬
‫صة في تصريحه الشهير‪:‬‬ ‫ّ‬
‫بالطبع لرج ٍل زاوج المتعة باأللم – خا ّ‬ ‫يبدو ذلك مفهوما‬

‫«البد للكتاب أن يكون كالمعول للبحر المتج ّمد بدواخلنا‪».‬‬

‫عا في‬‫متذر ً‬
‫ّ‬ ‫ِكر من فيليس؛ كان يصرخ بها إلحباطها إيّاه‪ ،‬ثم يعود ويعتذر‬‫مر يو ٌم دون ذ ٍ‬
‫إن ّ‬ ‫ْ‬
‫تشعر بالذّنب‪ ،‬كان دو ًما يشكو من مرضه‪ ،‬صداعه‪ ،‬أرقِه وعصبيّته‪ ،‬ثم‬‫ُ‬ ‫خطابه التّالي أن جعلها‬
‫تتحول نبرته إلي نبرة ال ُمح ِقّ ّق ليسألها عن العمل أوعن أشياء شخصيّة‪« :‬ماذا حدث بالضبط في‬
‫ّ‬
‫ت في المكتب؟‪».‬‬
‫بيتك يوم األحد؟»‪« ،‬ماذا ترتدين وأن ِ‬ ‫ِ‬

‫عزيزتي فـــ‬

‫جالس بال حراك ُمنكبًّا فوق هذا الكالم متمنّيًا‬


‫ٌ‬ ‫في خطابِ ِك األخير ( لكم مضي من الزمن وأنا‬
‫الزوايا‪ .‬لم يحدث ذلك منذُ وق ٍ‬
‫ت‬ ‫ت هنا) هناك عبارةٌ واضحةٌ كفايةً بالنسبة لي من جميع ّ‬ ‫لوكن ِ‬
‫ظنين – أو‬ ‫ت ال ت ُ‬
‫مقاسمتك الحياة معي‪ .‬أن ِ‬
‫ِ‬ ‫طويل – تتعلّق بالمخاوف التي تشعرين بها إزاء‬
‫آرائي عنها ؛ أنه لدي ستجدين الدّعم‬ ‫َ‬ ‫لربما تتسائلين وحسب‪ ،‬أوربما فقط تريدين أن تسمعي‬
‫الحيوي الذي بال شكٍ تحتاجينه‪ .‬ال شي َء صراحةً أستطيع قوله حيا َل ذلك‪ .‬من الممكن أيضًا أن‬ ‫ّ‬
‫اتك حتي الخامسة مسا ًء‪ .‬لماذا ؟ أضف إلي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أكون مرهقا اآلن فقط‪ .‬أضطررتُ أن أنتظر برقيَ ِ‬
‫خطابك‪ .‬لماذا‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫أربع وعشرين ساعة من أجل‬ ‫ٍ‬ ‫طررتُ أن أنتظر طوال‬ ‫لوعدك – أض ُ‬
‫ِ‬ ‫ذلك – خالفًا‬
‫خطابك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫؟ وبعيدًا عن ت َ َعبي؛ سعي ٌد أنا للغاية بخصوص‬

‫قادرا أن أكتب معظم أحداث اليوم الها ّمة‪ .‬اإلفادات الدقيقة‬ ‫الوقتُ هو المسا ُء متأ ّخ ًرا‪ .‬لن أكون ً‬
‫إعطائك إيّاها‪ .‬باستطاعتي أن أعطي ِكها علي كل‬ ‫ِ‬ ‫التي تريدينها عني عزيزتي فــــ لستُ أستطي ُع‬
‫وشك‬
‫ِ‬ ‫ت علي‬ ‫تايرجارتين ( ُم ّ‬
‫تنزهٌ عا ٌم بألمانيا ) أن ِ‬ ‫ْ‬ ‫خلفك في‬
‫ِ‬ ‫حال‪ ،‬فقط عند المشي بمحاذا ٍة‬
‫التّواري‪ ،‬وأنا علي وشك الجثوم بنفسي‪ ،‬فقط عندما أُذ َّل كجرو هكذا‪ ،‬أستطي ُع أن أفعل‬
‫ذلك‪.‬عندما تطرحين هذا السؤال اآلن أستطي ُع فقط أن أقول ‪ :‬أ ُ ِحبُّ ِك فـــ‪ ،‬بأقصي حدود قواي‪،‬‬
‫يمكنك أن تثقي بي تما ًما‪ .‬لكن بالنسبة للباقي يا فـــــ‪ ،‬ال أعلم نفسي تما ًما‪ .‬مفاجآتٌ‬ ‫ِ‬ ‫بهذا الصدد‬
‫َ‬
‫وإحباطاتٌ عن نفسي تتبع إحداها األخري بتسلس ٍل النهاية له ‪ ,‬ما أتمنّاه هوأن هذي المفاجآت‬
‫سار؛ بل األكثر‬
‫قواي لكي أراها ال شيء‪ ،‬إال ال ّ‬ ‫َ‬ ‫واإلحباطات أن تكون لي وحدي‪ ،‬سأستخد ُم ك َّل‬
‫عليك‪ ،‬أضم ُن ِ‬
‫لك ذلك ؛ لكن‪ ،‬ما ال أستطيع‬ ‫ِ‬ ‫سرورا من المفاجآت عن طبيعتي التي ستستحوذ‬
‫ً‬
‫ضمانه هو أن أنجح دو ًما في ذلك‪.‬‬

‫اإلرتباك المح ِيّر في خطاباتي التي قد استلمتِها مني طوال هذا‬


‫ِ‬ ‫لك ذلك في ضوء‬‫كيف أضم ُن ِ‬
‫كثيرا – وهذا صحيح – لكن ؛ حتي لوكنّا قد بقينا م ًعا بالقدر الكافي لكنتُ‬
‫الوقت ؟لم نمكث معًا ً‬
‫يك – بسبب تلك الـ «كنتُ سـ»؛ لذا قد صارت مستحيلة علي ال ِفعل – أن تُط ِلقي‬
‫سأطلب إل ِ‬
‫ُ‬
‫بخبرتك الشخصيّة‪ .‬القوي الكامنة داخل رسائلي؛ كامنةٌ‬‫ِ‬ ‫ح ْك َم ِك ّ‬
‫علي من خالل خطاباتي وليس‬
‫في‪.‬‬
‫بالمثل ّ‬

‫سارةٌ‪ ،‬ربّما ُ‬
‫غير‬ ‫عالوةً علي ذلك؛ أؤمن أن عدم نضوجي؛ تلك التقلّبات في طبيعتي التي ربما ّ‬
‫سعادتك المستقبليّة معي ؛‬
‫ِ‬ ‫بأي حا ٍل من األحوال مصيريّة من أجل‬ ‫سارة‪ ،‬ال تحتاج أن تكون ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫ت اعتماديّة علي اآلخرين يا ف‪ ،‬لربُما‬ ‫ت في حاج ٍة أن تتعرضي مباشرة آلثارها‪ .‬لس ِ‬ ‫لس ِ‬
‫ت قليالً ما ستستسلمين لذلك‬
‫ت بالتأكيد تنزعين أن تكوني إعتماديّة ؛ لكن أن ِ‬‫تطمحين أو ربُما أن ِ‬
‫غير مس ّمي‪ .‬لن تستطيعي ِفع َل ذلك‪.‬‬
‫الرغبة إلي أج ٍل ِ‬
‫النوع من ّ‬

‫تساؤلك األخير‪ .‬مع ذلك؛ إذا ما كان ممكنًا لي أن آ ُخذُ ِك كما لو َّ‬
‫أن شيئ ًا لم يكن؛ يمكنني أن‬ ‫ِ‬ ‫لدي‬
‫آخذك‬
‫ِ‬ ‫ضروري – هو أن‬
‫ّ‬ ‫أقول أن ذلك ليس مستحيالً‪ .‬لكن ما هو ممك ٌن لي – في الحقيقة هو‬
‫بك ح َّد الهذيان‪.‬‬
‫مهما حدث‪ ،‬وأن أتشبّث ِ‬

‫تحيّاتي‪،‬‬

‫ال ُمخ ِلص‬

‫في عام ‪ 1920‬التقي بميلينا ﭼـيسينسكا وبدآ عالقة دامت فترة‪ ،‬تبادال رسائل عديدة‪ُ ،‬ج ِ ّمعت في‬
‫المصريّة عام‬ ‫كتابه «رسائل إلي ميلينا» ( ت ُ ِ‬
‫رج َم للعربية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ِ‬
‫‪)1997‬‬
‫كافكا ُمشتاقًا‬

‫شعور أننا في غرفة واحدة لها بابان متقابالن وك ٌل منَّا ممسكٌ بمقبض‬
‫ٌ‬ ‫«أحيانًا يكون ّ‬
‫لدي‬
‫الباب‪ .‬أحدنا ينقر (برمشة عين)‪ ،‬واآلخر بالفعل خلف بابه‪ .‬واآلن‪ ،‬أول واحد قد فعل‪ ،‬إال أن‬
‫ع أن يُري‪.‬‬
‫يصرح في الحال بكلمة‪ ،‬فإن الثاني يغلق الباب خلفه ولن يعود يُستطا ُ‬
‫ّ‬

‫عينيك‪ ،‬في‬
‫ِ‬ ‫أتجول بين السطور‪ ،‬تحت نور‬
‫ّ‬ ‫ألكتب عنه؛ أنا فقط‬
‫َ‬ ‫ال أستطي ُع التَّفكير في أي شيء‬
‫وسارا حتي لو أن الرأس مرهقة ومتعَبَة‪».‬‬
‫ً‬ ‫سار‪ ،‬يبقي جميالً‬ ‫فمك ك َمث َ ِل ٍ‬
‫يوم ٍ ّ‬ ‫إتساع ِ‬

‫كافكا ال ُمعذَّب‬

‫ضجة عن‬‫سبب في أني أثير مثل هذه ال ّ‬ ‫«أنا قّذ ٌِر يا ميلينا‪ ،‬قذارةً ال نهايةَ لها ؛ هذا هو ال ّ‬
‫طهارة كما في أعماق الجحيم‪ .‬إنه التغنّي الذي ظنناه شدو‬‫طهارة‪ .‬ال أحد يستطيع أن يشدو بال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫المالئكة‪.‬‬

‫لمستوي أو اثنين‪،‬‬
‫ً‬ ‫أتعلمين عزيزتي؟ عندما تكونين مع آخرين‪ ،‬من الممكن أن تنحدري تما ًما‬
‫بنفسك إلي الهاويَة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ولوتصيرين معي؛ ستقذفين‬

‫يان لألسباب التي قد عاش‬


‫في تِ ْب ٍ‬

‫الكتابة مكافأة عذبة رائعة‪ ،‬لكن مكافأة على ماذا؟ في الليل كان واض ًحا لي أنها مكافأة على‬
‫خدمة الشيطان‪ .‬ربما توجد كتابة أخرى أيضًا‪ ،‬لكنني ال أعرف سوى هذه‪.‬‬

‫عشقهن‪ -‬هي أحد أسباب وجوهر الوجود الذي قد عاش من‬ ‫ّ‬ ‫ومن ث ّم النساء التي‬
‫كانت ال ِكتابة – ِ‬
‫أجله ؛ لوال ذلك لكان أنهي حياته باالنتحار لليأس من المرض‪ ،‬الدور الذي يلقي الضوء علي‬
‫قدرة طاقة الحب علي وهب أسباب الحياة – مهما تصنّع رافضها السمو عنها – فالطبيعة‬
‫ي كافكا‪ ..‬عاشقًا‪.‬‬
‫سواداو ُّ‬
‫وأخيرا‪ ،‬رأينا ال ّ‬
‫ً‬ ‫البشرية ال يمكن التالعب بها‪،‬‬
‫ملهمات في حياة ”كافكا”‬

‫فرانز كافكا ولد عام ‪ 1883‬في مدينة براغ األلمانية لعائلة يهودية محافظة ‪ ،‬حصل على درجة‬
‫الدكتوره في القانون و مارس القانون كمهنة مدة قصيرة من الزمن ‪ ،‬لكنه تركه و فضل التأمل في‬
‫الكون مهما كان الثمن‬

‫انعزل فترة في حياته كسرت سنين العزلة تلك صحته فأصيب بداء السل الذي فتك به و أنهى حياته‬
‫عام ‪ 1924‬و كان في الواحدة و األربعين من عمره‬

‫متأثرا فيها بعالقاته العاطفية ‪ ،‬حبيباته و ملهماته ‪ ،‬و‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫أعماال روائية مهمة‬ ‫كتب كافكا في حياته‬
‫الالتي شكلن جز ًءا مهما من حياة و فكر كافكا ‪ ،‬فكان بعد كل عالقة عاطفية ينطلق في كتابة إحدى‬
‫أعماله مثل "القلعة "و"المحاكمة "و"أميركا"‬

‫في إحدى رسائله كتب يقول "أن يكون إلى جانبك أحد يكون متفهم‪ ،‬أن يكون امرأة‪ ،‬يعني أنك محاط‬
‫بعناية من كل جانب‪ ،‬أنّك تملك هللا "‪ ،‬و في بعض رسائل أخرى له كان يقارن كافكا بين عشيقاته‬
‫والعواصف الثلجية و الخوف و الملل ‪ ،‬كان في حبه حزينا و سوداويًا وحزين و هارب إنه لم يقوى‬
‫على التشبث بحبيبة حتى النهاية ‪ ،‬كان يتدرب دائ ًما على على الوحدة و المرارة و الفقدان ‪ ،‬فنجد‬
‫في كثير من نصوصه حضور كلمة "مفقود "‪ ،‬كانت نساؤه و معذباته هن مصدر استعاراته‬
‫الجميلة ‪ ،‬غن كافكا يفضل الحب عن بعد‬

‫لذلك كان يخشى الزواج بالرغم أنه أحب وو تعرف على العديد من الفتيات إال أنه كان يخشى أن‬
‫تتعارض حياته الزوجية مع ميوله األدبية فكتب يقول "سأكون زو ًجا غير صالح ‪ ،‬يخونك كل ليلة‬
‫مع كتاباته "‬

‫في حياة كافكا ثالث ملهمات أشهرن ميلينا جينيسكا ‪ ،‬و األخريات هن فيليس باور و دورا ديامان‬

‫مـيــلـيــنـا جـيـنـيـسـكـا‪:‬‬
‫ميلينا جينيسكا ‪ ،‬كانت متزوجة في الرابعة و العشرين من عمرها ‪ ،‬كانت جميلة تفيض بكامل‬
‫األنوثة إلتقاها كافكا ذات يوم في مقهى في براغ ‪ ،‬و كان اللقاء األل ً‬
‫كفيال بأن يقع في عشقها و‬
‫يكتب لها العديد من الرسائل و التي صدرت مكتوبة بعنوان "رسائل إلى ميلينا "تجمع رسائله من‬
‫عام ‪ 1920‬حتى عام ‪ 1924‬كانت رسائلة لميليلنا األجمل ‪ ،‬ألن ميلينا نفسها كانت األجمل و األقرب‬
‫إليه من بين كل ملهماته ‪ ،‬كانت األكثر فه ًما له لذلك كان يشعر معها باالرتياح و الحرية ‪ ،‬كانت‬
‫مهتمة بألدب و الموسيقى و الفن متحررة‬

‫إلي ‪ ،‬لست إمرأة بل فتاة شابة ‪ ،‬لم أعرف في حياتي فتاة أشد صبا منك"‬
‫"بالنسبة ّ‬
‫كانت البداية بينهما حين ترجمت ميلينا قصصصا لكافكا إلى اللغة التشيكية ‪ ،‬من هنا بدأت‬
‫المراسالت بشكل كتابي ثم التقيا عام ‪ 1920‬لمدة أربعة أيام كانت األفضل في حياة كافكا بأسرها‬
‫قرارا‬
‫ً‬ ‫حيث صح فيها و اختفى فيها مرضه و زال خوفه ‪ ,‬لكن ميلينا كانت متردد و خائفة ال تمتلك‬
‫فقد كانت ميلينا متزوجة و ال تستطيع التخلي عن زوجها ‪ ،‬و رغم كل خوفه هو أيضَا المصاحب‬
‫لشخصيته إال أنه ال يملك ملجأ يأوي إليه غيرها و كانت رغبته فوق كل شيء أن يلقي برأسه فوق‬
‫ركبتها إلى األبد‬

‫حين انقطعت المراسالت بينهما ‪،‬و كان فقدان كافكا لميلينا كان يعني له الموت ‪ ،‬في نهايته التقاها‬
‫يو ًما و أعطاها مذكراته لتقرأها و تحتفظ بها‬

‫رسالة من كافكا إلى ميلينا‬

‫ميران – انترمياس‬

‫بنسيون أوتبورغ‬
‫عزيزتي ميلينا ‪،‬‬

‫كتبت لك مالحظة من براغ ‪ ،‬و بعدها من ميران‪ .‬لم أحصل على جواب‪ .‬في الحقيقة المالحظات ال‬
‫صمتك ال يعني سوى إشارة إلى محافظة نسبية ‪ -‬و هذه عادة ً ما‬ ‫ِ‬ ‫ب عاجل ‪ ،‬فإذا كان‬
‫تحتاج إلى جوا ٍ‬
‫شعورا بالنفور من الكتابة‪ -‬فأنا راض تما ًما‪.‬‬
‫ً‬ ‫تعبر عن نفسها في‬

‫أهنتك بطريقة ما في مالحظاتي (يا لها من‬


‫ِ‬ ‫لكنه من الممكن –و لهذا أنا أكتب هذه الرسالة‪ -‬أن أكون قد‬
‫ي ٍد خرقاء التي أملك ‪ ،‬تعاكس كل نواياي ‪ ،‬ال بد أنها كذلك) أو لربما في الحقيقة أسوأ من ذلك ‪ ،‬بأن‬
‫ت قد كتبته ‪ ،‬قد ولت مجددًا و مرة أخرى وقتًا سيء‬
‫أنفاسك من الذي كن ِ‬
‫ِ‬ ‫تكون اللحظة التي تأخذين فيها‬
‫يجيئك‪.‬‬
‫ِ‬

‫لالحتمال األول ‪ ،‬ال أملك شيء لقوله ‪ ،‬إذ أنه من المستبعد لي ‪ ،‬و كل شيء آخر هو أقرب‪ .‬حول‬
‫االحتمال اآلخر ‪ ،‬لن أنصح –و كيف لي أن أفعل‪ -‬لكن ببساطة أسأل ‪ :‬لما ال تخرجين من فيينا لبعض‬
‫ت غير عديمة المأوى مثل اآلخرين‪.‬‬
‫الوقت؟ بعد كل شيء ‪ ،‬أن ِ‬
‫ت ‪-‬لسبب ال أعرفه‪ -‬ال ترغبين‬‫أليست رحلة قصيرة إلى بوهيما قد تعطيك بعض النشاط ؟ و ما إذا كن ِ‬
‫مكان آخر ‪ ،‬ربما تكون ميران‪ .‬هل تعرفينها ؟‬
‫ٍ‬ ‫بالذهاب إلى بوهيما ‪ ،‬فلما ال تذهبين إلى‬

‫صمتك و الذي يعني "ال تقلق أنا بخير ‪".‬أو لربما بعض‬
‫ِ‬ ‫لذا أتوقع إحدى األمرين ‪ ،‬إما أن تستمرين في‬
‫األسطر‪.‬‬

‫ألطف تحياتي‬

‫كافكا‬

‫فرانز كافكا وغرامياته المستحيلة (‪)1‬‬


‫‪1‬ـ كافكا‪ ،‬الخاطب الخالد‪:‬‬
‫بين سنوات ‪ 1912‬و ‪ ،1924‬حين كرس كافكا نفسه لألدب‪ ،‬مثل يائس وسط دوامة تتأرجح بين‬
‫الرغبة والواجب‪ ،‬االنجذاب والنفور‪ ،‬فقد أراد الظفر بامرأة تكون زوجة له‪ ،‬كي ال تسري عليه لعنة‬
‫التلمود‪ ،‬التي بحسبها فكل شخص عازب غير جدير باالنتماء إلى النوع البشري‪ .‬لكن‪ ،‬األمر ليس هينا‪.‬‬
‫كافكا الذي كتب إلى عشيقته ميلينا« ‪ Milena :‬الحب‪ ،‬معناه‪ ،‬أن تكوني بالنسبة إلي‪ ،‬س ّكين أقلّب به‬
‫ذاتي»‪ ،‬ال يقر حتما بالوصول إلى إشباع مشترك‪ .‬هل كان كافكا مجبرا على أن يبقى عازبا‪ ،‬بسبب‬
‫مزاجه الفني الذي يربك سعيه إلى التمتع بالحب؟‬
‫إنه السـؤال‪ ،‬الـذي طـرحـه كتـاب «جاكليـن راول دوفال » ‪» « Jacqueline Raoul Duval‬‬
‫[كافكا‪ ،‬الخاطب الخالد]‪ )2(.‬سرد هجين‪ ،‬بحيث يبدو كأنه يأخذ فقط منحى بيوغرافيا‪ ،‬لكنه أيضا‪،‬‬
‫حكي مختلف حول حياة كافكا الغرامية‪ .‬يرجع‪ ،‬لهذا العمل‪ ،‬الفضل في تجميع مقاطع مأخوذة من‬
‫يومياته وفقرات من رسائله‪ ،‬ثم موضعتها ثانية في سياقات حسية‪ ،‬فأعطى ذلك لحياة كافكا صيغة‬
‫استمرارية‪ ،‬ألن القارئ عندما يتصفح مذكراته أو رسائله‪ ،‬لن يجد غالبا إال شذرات منفصلة الواحدة‪،‬‬
‫عن األخرى‪.‬‬
‫يوجد خيط يعبر هذه التواريخ‪ ،‬يتلوى في كل االتجاهات كي ينتهي‪ ،‬بخنق للحب‪ .‬هذا الدافع‪ ،‬أضاء‬
‫مسار «جاكلين دوفال»‪ ،‬ومكنها من وضع اليد على شخص‪ ،‬سيعترف‪« :‬ال أشبه‪ ،‬نفسي إال قليال‬
‫جدا»‪ .‬وإلى صديقه ماكس برود‪ ،‬كتب كافكا سنة ‪ ،1921‬مصرحا بهذا الفكر الذي يبدو بأن جميع ما‬
‫عاشه‪ ،‬يحيل عليه‪ .‬يقول ‪« :‬كان مستحيال أن أحب‪ ،‬إال إذا استطعت بالمطلق‪ ،‬جعل موضوعي فوق‬
‫ذاتي‪ ،‬فيصير بالتالي منيعا‪».‬‬
‫من خالل نص جاكلين دوفال‪ ،‬ندرك بأن جملة كهاته ليست فقط تأكيدا فكريا‪ ،‬بل تجد لها صدى مباشرا‬
‫في حياة الكاتب وحيثيات تعاسته الكبرى‪ .‬سرد رائع!‬
‫فيليس بوير‪ ، Felice Bauer‬شابة ألمانية‪ ،‬صاحبة «وجه نحيل‪ ،‬ال تميزه أية داللة تقريبا»‪ ،‬رآها‬
‫كافكا مرة واحدة‪ ،‬لكنه‪ ،‬سيصف لها في مراسالته المجنونة (ثالث رسائل يوميا) طبيعة حبه السلبية ‪:‬‬
‫«إن رغبتي في الكتابة إليك باستمرار‪ ،‬ليس دافعها الحب‪ ،‬بل نتيجة شقاء استعدادي الفكري»‪ .‬لكن‪،‬‬
‫كافكا‪ ،‬اليائس من مبدأ االلتزام‪ ،‬وأضفى عليه مفهوما مميتا‪ ،‬قرر قطع عالقاته لألبد مع «فيليس» بعد‬
‫خطوبتين متتاليتين‪ .‬لماذا‪ ،‬اتخذ قرارا كهذا؟ ضغط عائلي؟ أم الشعور بأن الحب يتهاوى‪ ،‬لما يصير‬
‫شهوة والتحاما جسديا‪ ،‬فيرتبط حينئذ لدى كافكا بالعقاب؟ «كيف يمكننا العثور على السعادة في العالم‪،‬‬
‫إن لم تكن مجرد تمويه؟»‪ .‬يكتب في إحدى مذكراته‪ .‬الجواب‪ ،‬يبقى بعيد المنال‪.‬‬
‫أيامه‪ ،‬إذن مع فيليس صارت معدودة‪ ،‬مثل صفحات هذه الرواية‪ ،‬التي يبدو بأن قوتها السرية خاضعة‬
‫دائما لضرورة ‪ :‬االندثار‪ ،‬بهدف ترك المكان لكلمات كافكا ومنح القارئ صورة مباشرة عنه‪ .‬بيد‪ ،‬أنه‬
‫في اللحظة‪ ،‬التي استطاعت مقاربة «جاكلين دوفال» تحقيق هذه المعجزة الصغيرة‪ ،‬المتعلقة بتجسيد‬
‫موضوعها‪ ،‬كاد أيضا أن يضيع منها‪ .‬فكافكا‪ ،‬المصاب بالسل‪ ،‬سيعتبر مرضه مثل «سالح» ‪ :‬لقد‬
‫أجبره على مغادرة مدينة براغ‪ ،‬ونسيان خمس سنوات من العذاب مع فيليس‪.‬‬
‫في قرية قريبـة من بـراغ‪ ،‬سيلتقـي كافكـا بـ«جولـي فوريزيك« ‪» « Julie Wohryzek »:‬ال تق ّل‪،‬‬
‫قط تفاهة عن هذه الذبابة التي تحلق نحو الضوء»‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬اقترح عليها الزواج‪ .‬قضية‪ ،‬بال تتمة‪،‬‬
‫التعليل واضح‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬تنقيب كافكا‪ ،‬بالرغم من إخفاقاته وتعبه الكبير‪ ،‬لم يؤدي إلى حجب قلبه أو عينه‪ ،‬فيظهر األمر‬
‫جد مثير ‪ :‬شيء ما‪ ،‬ينبغي أن يحدث مرة أخرى‪ ،‬حتى ولو أنهك قواه‪.‬‬
‫سنة ‪ ،1920‬وقد بلغ كافكا السابعة والثالثين‪ ،‬وفي إحدى مقاهي براغ تعرف على ميلينا جيسينكا‬
‫‪ ،Milena Jesenka‬امرأة في العشرين من عمرها‪ ،‬أرادت أن تترجم إلى التشيكية (اللغة األم‪،‬‬
‫لكافكا)‪ ،‬مجموعة مؤلفاته مثـل المحاكمـة » ‪ « Le verdict‬وكذا المسخ ‪« la métamorphose ».‬‬
‫بداية حوار أدبي‪ ،‬أشعل بسرعة الفتة شغفا‪ ،‬تضمنته رسائلهما‪ .‬شعور‪ ،‬ابتدأ سعيدا‪ ،‬ثم سرعان ما جف‬
‫نبعه وتحول إلى آالم ويأس‪ ،‬كتب كافكا ‪« :‬ميلينا‪ ،‬ينبغي االنتهاء من هذه الرسائل المترنحة‪ ،‬لقد حولتنا‬
‫إلى مجانين‪ .‬فال يمكنني‪ ،‬على أية حال‪ ،‬االحتفاظ بزوبعة داخل غرفتي»‪ .‬أيضا‪ ،‬ومرة أخرى‪ ،‬عندما‬
‫تختلط اللغة بالفكر‪ ،‬سيأخذ كل شيء‪ ،‬صيغة مناقشات ال متناهية‪ .‬لقد تواردت باستمرار كلمة ضجر‬
‫بين طيات مراسالته مع ميلينا‪ .‬الحب‪ ،‬رسالة ميتة‪.‬‬
‫سنة ‪ ،1923‬قبل عام واحد من وفاته‪ ،‬وعلى ساحل البلطيق صادف كافكا دورا ديامان ‪Dora‬‬
‫‪ ،Diamant‬يهودية بولونية في عقدها الثاني‪ .‬إنه الحب األخير‪ ،‬الذي رافقه حتى رحيله‪ ،‬سيحاول‬
‫معها تحقيق مشروع‪ ،‬كان عزيزا عليه‪ :‬أن يعيش في برلين‪ ،‬منتظرا الرحيل ربما ذات يوم إلى تل‬
‫أبيب كي يقيم مطعما‪.‬‬
‫استحضار الشهور األخيرة من حياته‪ ،‬مؤثر للغاية‪ .‬زخم‪ ،‬سرد «جاكلين دوفال»‪ ،‬يمسك بأدق‬
‫التفاصيل الواقعية‪ ،‬المكتوبة بتحفظ‪ ،‬والتي تترك شيئا فشيئا‪ ،‬بياضا على الصفحة‪ ،‬كما الحال مع‬
‫نصوص كافكا الشذراتية‪ .‬بعدها بفترة قليلة‪ ،‬مات‪.‬‬
‫لقد صار كافكا منهكا وهزيال‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬امتلك القوة كي يبعث من سريره‪ ،‬ببعض الجمل إلى أصدقائه ‪:‬‬
‫«ألديكم لحظة؟ إذن أرجوكم امنحوا قليال من الماء إلى نبات الفوانيا‪ ،‬إنه منكسر جدا »‪ .‬ثم توفي يوم ‪3‬‬
‫يونيو ‪ 1924‬بالنمسا‪.‬‬
‫‪2‬ـ كرونولوجيا حياة كافكا‪:‬‬
‫‪3‬يونيو ‪ ،1883‬والدته بمدينة براغ‪ .‬سنة ‪ ،1902‬بداية صداقته مع ماكس برود‪ ،‬الذي سيصدر له‪،‬‬
‫قسما كبيرا من كتاباته بعد وفاته‪ .‬سنة ‪ ،1907‬اشتغاله في شركة إيطالية للتأمينات‪ .‬سنة ‪ ،1912‬تعرفه‬
‫على شابة من برلين اسمها فيليس بوير‪ .‬سنة ‪ ،1913‬صدور رواية «المحاكمة»‪ .‬سنة ‪ ،1915‬صدور‬
‫رواية «المسخ»‪ .‬سنة ‪ ،1917‬أولى تجليات أعراض السل‪ .‬سنة ‪ ،1919‬عقد قران خطبته على جولي‬
‫فوريزيك‪ ،‬التي كانت تعمل سكرتيرة في براغ‪ .‬سنة ‪ ،1920‬مراسالت غرامية مع ميلينا جيسينكا‪،‬‬
‫صحفية وكاتبة تشيكوسلوفاكية‪ .‬سنة ‪ ،1922‬صـدور عمـله‪:‬‬
‫‪ Un champion de Jeûne.‬سنة ‪ ،1923‬لقاؤه مع دورا ديامان‪ ،‬ثم السفر إلى برلين‪ .‬سنة ‪،1924‬‬
‫الوفاة بالنمسا‪ ،‬نتيجة اإلصابة بمرض السل وسوء التغذية‪.‬‬
‫‪3‬ـ العري األعزل لكاتب‪ ،‬يبحث عن الخالص‪:‬‬
‫سنة ‪ ،1917‬وقد أنهكه المرض‪ ،‬ثم نتيجة عالقة عاصفة مع فيليس بوير‪ ،‬اضطر كافكا إلى البحث عند‬
‫مالذ بوهيمي عن أخته «أوطال‪ ،» Ottla‬التي تعيش بمنطقة ‪ « Zürau ».‬خالل إقامته لثمانية أشهر‬
‫دون كافكا‪ ،‬في صيغة ِحكم أفكاره األكثر حميمية‪ ،‬وهو العمل المترجم حديثا عن األلمانية‪،‬‬‫في البادية‪ّ ،‬‬
‫تحت عنوان ‪ : [Les aphorismes de Zürau].‬بإشراف وتقديم «روبرتو كاالسو»‪ .‬يقترح توضيبا‬
‫للصفحات‪ ،‬متطابقا مع أوراق كافكا ‪ :‬جملة واحدة في الصفحة تضمنت هواجس الكاتب‪ :‬الخطأ‪،‬‬
‫الفضيحة‪ ،‬السعي إلى اإلفالت…‪ .‬صيغ‪ ،‬تشير إلى نوع من التعزيم‪ .‬فبكلمات قليلة‪ ،‬استجمع كافكا كل‬
‫قواه‪ ،‬كي يكتب مثال صالة ليلية ‪« :‬المالجئ متعددة‪ ،‬إنها الخالص الوحيد‪ ،‬لكن إمكانيات الخالص‬
‫أيضا وافرة مثل المالجئ»‪ .‬يبدو مع هذه الصفحات‪ ،‬بأن الرهان محدد ‪ :‬يقترب الكاتب جدا من وظيفة‬
‫فكره‪ ،‬وفق عري مستسلم ‪« :‬لقد هيأت العدة نحو هذا العالم‪ ،‬بطريقة تثير السخرية‪».‬‬
‫صراعات‪ ،‬ألغاز‪ ،‬مباهج الفكر وكل تمظهرات الكاتب الكبير‪ ،‬تلمع بين طيات صفحات أبدعها في‬
‫حالة نسبية من السكينة‪ ،‬بعيدا عن مدينة «براغ» واإلدارة ومآسيه العاطفية‪ .‬حينما‪ ،‬يتوقف كافكا عن‬
‫الكتابة‪ ،‬فإنه سيخرج إلى الحقول من أجل التنزه وتقشير الخضر وتقديم العلف للماعز‪ .‬مع الكتابة‬
‫والمرض والريف‪ ،‬فقد عثر كافكا على ما يتخيل بعه السعادة‪.‬‬
‫‪5‬ـ مقطع من كتاب ]‪:[Kafka, l’éternel fiancé‬ص ‪:61‬‬
‫بدأت‪ ،‬مرافعته على إيقاع صوت خافت‪ ،‬ثم تفخم حتى أص ّم فيليس‪ ،‬الفتاة الشابة‪ ،‬التي أجابته قائلة ‪:‬‬
‫«نعم‪ ،‬أريد أن أكون زوجتك‪».‬‬
‫ثم قاطعها‪:‬‬
‫إذن‪ ،‬تريدين بالرغم من كل شيء حمل هذا الصليب‪ .‬إنك‪ ،‬فيليس تحاولين مقاومة المستحيل؟‬
‫نعم‪ ،‬ستكون زوجا طيبا‪.‬‬
‫تتوهمين‪ ،‬فلن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدة يومين‪ .‬أنا رخو‪ ،‬أزحف على األرض‪ .‬أنا‪ ،‬صامت‬
‫طول الوقت‪ ،‬انطوائي‪ ،‬كئيب‪ ،‬متذمر‪ ،‬أناني وسوداوي‪ .‬هل ستتحملين حياة الرهبنة‪ ،‬كما أحياها؟‬
‫أقضي معظم الوقت محتجزا في غرفتي أو أطوي األزقة وحدي‪ .‬هل ستصبرين‪ ،‬على أن تعيشي بعيدة‬
‫كليا عن والديك وأصدقائك بل وكل عالقة أخرى‪ ،‬ما دام ال يمكنني مطلقا تصور الحياة الجماعية‬
‫بطريقة مغايرة؟ ال أريد‪ ،‬تعاستك يا فيليس‪ .‬أخرجي‪ ،‬من هذه الحلقة الملعونة التي سجنتك فيها‪ ،‬عندما‬
‫أعماني الحب‪».‬‬
‫هوامش–‪:‬‬
‫‪1 – Le monde :vendredi 15 avril 2011.‬‬
‫‪2‬ـ‪Jacqueline Raoul – Duval : Kafka, l’éternel fiancé‬‬

You might also like