You are on page 1of 208

‫الهاجريون‬

‫تأليف‬
‫مايكل كوك‬ ‫باتريشيا كرونه‬

‫ترجمة‬
‫نبيل فياض‬

‫حقوق النشر محفوظة‬

‫الطبعة األولى ‪9111‬‬

‫‪1‬‬
‫عنوان الكتاب األصلي‬

HAGARISM
THE MAKING OF THE
ISLAMIC WORLD

PATRICIA CRONE
SENIOR RESEARCH FELLOW, THE WARBURG INSTIUTE
UNIVERSITY OF LONDON

MICHAEL COOK
LECTURER IN ECONOMIC HISTORY WITH REFERENCE
TO THE MIDDLE EAST
SCHOOL OF ORIENTAL AND AFRICAN STUDIES

CAMBRIDGE UNIVERSITY PRESS


CAMBRIDGE

LONDON NEW YORK NEW ROCHELLE


MELBOURNE SYDNEY

2
‫بطاقة شكر‬

‫إىل السيدة باتريشيا كرونه على زيارهتا لنا يف دمشق وعلى كل ما أرسلته إلينا من كتب ومراجع ومصادر‬
‫ساعدت للغاية يف فهم أرضية كتابة هذا العمل‪.‬‬
‫إىل السيد مايكل كوك الذي تفضل مشكوراً بإرسال عمله الرائع « محمد » إلينا والذي ساعدنا أيضاً يف فهم‬
‫نظرته لصريورة تكوين اإلسالم‪.‬‬
‫إىل الصديق إيكارت فورتس صاحب فكرة ترمجة هذا العمل‪.‬‬
‫إىل الصديق ينس هانسن الذي كان واسطيت يف التعرّف إىل السيدة كرونه‪.‬‬
‫إىل الصديق الورانس شيكوريللي على كل مقرتحاته البناءة‪.‬‬
‫وأخرياً إىل الصديق د‪.‬د‪ .‬هارتر الذي لوال جهوده اخلرية ملا رأت الكثري من أعمايل النور‪.‬‬

‫نبيل فياض‬

‫‪3‬‬
‫مالحظة‬

‫كتاب ينضح باملشاكل فعالً؛ وإذا كنّا ال نوافق السيدين كرونه وكوك يف كل ما كتباه‪،‬‬ ‫«اهلاجريون» ٌ‬
‫فإننا ال خنالفهما باملقابل يف كل ما كتباه أيضاً‪ .‬وكان أفضل للهاجريون لو ُكتِب بلغة اقل استعراضية ‪-‬‬
‫أكادميية وأكثر عمقاً فكرياً‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يظل اهلاجريون شهادة حيّة على عمق اطالع الغرب على الفكر‬
‫العريب واإلسالمي وذلك مقارنة بعمق اطالع العرب واملسلمني على أفكار غريهم‪.‬‬
‫يبقى أن نذكر أخرياً أننا استخدمنا بعض األلفاظ ذات األصل غري العريب ألننا مل جند يف العربية ما‬
‫يعطي معناها كامالً واليت جيب أن نوضح ما تعنيه للقار العريب‪.‬‬
‫‪ -‬كوزموبوليتاين‪ - 1 :‬شخص مبنظور عاملي وليس إقليمياً أو حملياَ؛ ‪ - 2‬شخص ذو ثقافة عاملية؛‬
‫‪ - 3‬موضع مكون من أشخاص أو عناصر من كل أرجاء العامل؛ ‪ - 4‬شيء موجود يف معظم أحناء‬
‫العامل‪.‬‬
‫‪ -‬ميثة‪ :‬قصة تقليدية تتضمن حوادث تارخيية ظاهرياً تفيد يف الكشف عن رؤية عاملية لشعب ما أو‬
‫تفسري عرف‪ ،‬اعتقاد‪ ،‬أو ظاهرة طبيعية‪.‬‬
‫‪ -‬أنتيك‪ :‬األزمنة اليت سبقت العصور الوسطى وإفرازاهتا املادية والثقافية‪.‬‬
‫كذلك فقد استخدمنا مصطلح أمم ‪ Gentiles‬أو أغيار أحياناً وهو اللفظ الذي استخدمه‬
‫اليهود لوصف الشعوب غري اليهودية‪ ،‬ليس بغري ازدراء؛ وآثرنا أن نفرق بني برابرة وبربر بإضافة كلميت‬
‫مشال إفريقيا إىل األخرية‪ .‬والبد أن نشري إىل أن األوىل ال حتتوي مضامني سلبية بالكامل ‪ -‬وهي أقرب ما‬
‫تكون إىل مفهوم إرادة القوة غري املتسامية عند نيتشه‪ :‬مبعىن الشعوب ذات القوة الكامنة واليت مل تصل‬
‫بعد إىل احلضارة لتسامي هبا تلك القوة‪ .‬وكل الشعوب إذاًكانت برابرة يف يوم من األيام‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫مدخل‬

‫احلضارة اإلسالمية هي احلضارة الوحيدة يف العامل اليت استمرت يف حقبتها التشكيلية إىل ما بعد‬
‫األلف امليالدية األوىل‪ .‬إن ظهورها بالتايل يش ّكل حدثاً غري اعتيادي‪ ،‬وبسبب مجلة من األسباب ذات‬
‫الصلة‪ ،‬يبدو احلدث حدثاً متميّزاً‪ .‬وهذا الكتاب هو حماولة لتفسري ذلك‪.‬‬
‫عندما قمنا مبحاولتنا هذه تبنّينا مقاربة ختتلف بشكل ملموس عن مقاربة الكتابات األكثر تقليدية اليت‬
‫تناولت هذا احلقل‪ .‬أوالً‪ ،‬إن روايتنا لتش ّكل اإلسالم كدين رواية جديدة جذرياً‪ ،‬أو بدقة أكثر إهنا رواية خترج‬
‫عن النمط السائد منذ القرن السابع امليالدي‪ :‬إهنا تعتمد على االستخدام املكثّف جملموعة صغرية من املصادر‬
‫غري اإلسالمية املعاصرة لتلك احلقبة واليت متّ جتاهل شواهدها حىت اآلن‪ .‬ثانياً‪ ،‬لقد بذلنا الكثري من الطاقة‪،‬‬
‫على الصعيدين الدراسي والفكري‪ ،‬حىت نأخذ جبدية احلقيقة الواضحة القائلة إن تش ّكل احلضارة اإلسالمية‬
‫ث يف مرحلة متأخرة من مراحل االنتيك‪ ،‬بل يف جزء متميز منه‪ .‬أخرياً‪ ،‬فقد شرعنا‪ ،‬بنوع من الطيش‪ ،‬يف‬ ‫َح َد َ‬
‫خلق خمطط متماسك عام ألفكار يف حقل مل حيفر العلم األسس يف الكثري من ميادينه بعد‪.‬‬
‫قد ال يكون من السطحي بالنسبة لنا أن حناول صون هذه املبادرة يف وجه دهشة االختصاصيني‪،‬‬
‫يقوم االختصاصيون عملنا‪ ،‬وحكم‬ ‫لكن ذلك سيكون بال معىن حتماً‪ :‬فآخر ما يهمنا هو أن ّ‬
‫االختصاصيني ليس عرضة للرشوة عرب مق ّدمات الكتب‪ .‬ما قيل سابقاً يكفي أيضاً لتحذير غري‬
‫قاس للغاية‪ ،‬وليس سياحة‬ ‫بلد ٍ‬ ‫االختصاصيني ممّا جيب أن ال يتوقعونه‪ :‬هذا العمل هو محلة ريادية يف ٍ‬
‫حتتل موقعاً خاصاً‪.‬‬
‫القراء واليت ّ‬
‫بإشراف مرشدين وأدالء سياحيني‪ .‬مع ذلك مثة مجاعة متميزة واحدة من ّ‬
‫ألنه رغم كون كل الشخوص الذين يظهرون يف قصتنا ميتني‪ ،‬فاملنحدرون منهم أحياء جداً‪.‬‬
‫أي مسلم مؤمن‪ :‬ليس ألهنا‬ ‫أوالً‪ ،‬إن الرواية اليت نق ّدمها حول أصول اإلسالم ليست تلك اليت يقبل هبا ّ‬
‫تقلّل البتة من الدور التارخيي حملمد‪ ،‬بل ألهنا تق ّدمه يف دور خيتلف بالكامل عن ذاك الذي أخذه يف د‬
‫أي منظور‬‫اإلسالمي‪ .‬هذا كتاب خطّه كافران جملموعة من الكافرين‪ ،‬وهو يعتمد على ما جيب أن يظهر من ّ‬
‫متطرفاً لشهادات املصادر الكافرة‪ .‬روايتنا ليست فقط غري مقبولة؛ بل هي أيضاً رواية لن جيد‬‫إسالمي إجالالً ّ‬
‫أي مسلم عنده حبّة خردل من إميان أية صعوبة يف رفضها‪.‬‬
‫ظل يكن‬ ‫ثانياً‪ :‬مثة كمية ال بأس هبا من هذا الكتاب قد ال تعجب املسلم الذي فقد إميانه لكنه ّ‬
‫الفخار لألجداد‪ .‬وما نرغب أن نؤّكد عليه ملثل هذا القار هو أن املعاين اإلضافية التخمينية القوية للّغة‬
‫اليت حلّلنا هبا تش ّكل احلضارة اإلسالمية ال تؤدي إىل أي حكم مبسط‪ ،‬ال مع وال ضد‪ .‬لقد ق ّدمنا‬
‫احلضارة اجلديدة كإجناز ثقايف فريد‪ ،‬إجناز مل تقدم أسالب أجدادنا الربابرة أي شيء يوازيه على اإلطالق؛‬
‫لكننا باملقابل ق ّدمنا اإلجناز كإجناز محل معه أكالفاً ثقافية استثنائية‪ ،‬وحاولنا قبل كل شيء أن نشرح‬
‫الرباط بني اإلجناز واألكالف‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫أي اكتشاف جديد ملواد قدمية ميكنه أن يؤّكد مواقفنا أو يب ّدهلا‪ ،‬أو يدحضها‪.‬‬
‫‪ ‬يعقب ذلك‪ ،‬طبعاً‪ ،‬أن ّ‬

‫‪5‬‬
‫يف مسار حبثنا هذا ق ّدم لنا يد العون عدد من الباحثني واملؤسسات البحثية‪ .‬فقد بلغ من لطف‬
‫الدكتور سباستيان بروك والسيّد غ‪.‬م‪ .‬هوتينغ والدكتور م‪ .‬ج‪ .‬كيسرت أن ق ّدموا لنا تعليقاهتم على مسودة‬
‫كل‬
‫األول‪ .‬أما الدكتور بروك‪ ،‬الدكتور ب‪ .‬ج‪ .‬فراندسن والربوفسور آ‪ .‬شايرب فقد ساعدونا ّ‬ ‫قدمية للقسم ّ‬
‫يف جمال اختصاصه‪ .‬كذلك فقد مت ّكنا من اإلطالع على خمطوطة سريانية مل تكن إىل حد ما متاحة لنا‬
‫وس ّهل لنا األمر إىل درجة كبرية عرب لطف األب وليم ماكوبر‬ ‫وذلك عرب منحة من األكادميية الربيطانية ُ‬
‫والدكتور ج‪ .‬سي‪ .‬ج‪ .‬ساندرز‪ .‬أما الربوفسور برنارد لويس فقد بلغت الطيبة به إىل درجة أنه وضع بني‬
‫أيدينا ترمجته لقصيدة قيامية يهودية حىت قبل نشرها‪ .‬كذلك فإن معهد فاربورغ ومدرسة الدراسات‬
‫الشرقية واألفريقية ساعدا للغاية وبطرق خمتلفة يف إكمالنا هلذا البحث‪.‬‬
‫نسجل ما ندين به إىل تأثريين مل يكن‬‫إضافة إىل ديون إجناز العمل السابقة تلك‪ ،‬حنب أيضاً أن ّ‬
‫تعرضنا ملقاربة الدكتور جون وانسربو الشكوكية حول تارخيية‬ ‫ختيّل هذا العمل ممكناً بدوهنما‪ .‬األول كان ّ‬
‫التقليد اإلسالمي؛ ودون هذا التأثري مل تكن لتخطر ببالنا نظرية األصول اإلسالمية اليت يق ّدمها هذا‬
‫الكتاب‪ .‬الثاين هو التحليل القوي واملليء باإلحياءات للمعىن الثقايف املظْ َهر يف عمل جون دن؛ مع‬
‫نكن لنمتلك غري الفكرة األكثر‬‫ذلك رمبا كان مبقدورنا تقدمي روايتنا لبدايات اإلسالم دونه‪ ،‬لكن مل ُ‬
‫ضبابية حول ما ميكن أن نفعل هبا‪.‬‬
‫أخرياً‪ ،‬نريد أن نشكر الربوفسور ج‪ .‬ب‪ .‬سيغال على تعليمه إيانا اللغة السريانية‪ ،‬والدكتور د‪ .‬ج‪.‬‬
‫كامهي على تقدميه التلمود لنا‪.‬‬
‫يتحمل‬
‫غين عن القول إن ما جيب االعرتاف به يف هذه احلالة أن أحداً من هؤالء الذين ساعدونا ال ّ‬
‫املعرب عنها يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫أية مسؤولية عن اآلراء ّ‬

‫ب‪ .‬ك‬
‫م‪ .‬آ‪ .‬ك‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ ‬لقد استفدنا أيضاً من تبادل اآلراء مع الدكتور وانسربو وذلك يف حلقة دراسية عقدت يف ربيع ‪ ،1794‬واستخدمنا ما تعلّمناه ٍ‬
‫آنئذ‬
‫نقر هبذه الديون يف مواضعها اخلاصة؛ إقرارات كهذه سوف تؤخذ لإلشارة على أن مادة الفكرة‬ ‫يف عدد من النقاط يف جدلنا‪ .‬وسوف ّ‬
‫ليست منسوبة لنا‪ ،‬كذلك ال ميكن أن يُعزا الشكل الذي تظهر فيه للدكتور وانسربو‪ .‬ملزيد من املعلومات‪ ،‬قارن عمله‪:‬‬
‫‪Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptual Interpretation.‬‬

‫‪6‬‬
‫حاشية‪:‬‬

‫من أجل مسح مساعد يغطّي معظم املصادر املستخدمة يف هذا الكتاب‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪S. P. Brock, «Syriac Sources for Seventh Century History»,‬‬
‫‪ .Byzantine and Modern Greek Studies 1976‬من أجل ورود عبارة «أهل‬
‫اإلسالم» يف نقش من عام ‪91‬هـ‪ ،.‬والذي أغفلناه يف هناية القسم األول‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪H. M. el- Hawary, «The second oldest Islamic monument‬‬
‫‪ .known», Journul of the Royal Asiatic Society 1932, p. 290‬من أجل‬
‫تأريخ أقدم الكسرات القرآنية‪ ،‬واليت سرتد يف القسم الثالث‪ ،‬مع أن التأريخ ليس دقيقاً كفاية بالنسبة لنا‪،‬‬
‫أنظر‪:‬‬
‫‪A. Grohmann, «The problems of dating early Qur’ans», Der‬‬
‫‪Islam 1958.‬‬

‫‪9‬‬
‫القسم األول ‪ :‬االسالم الى أين ؟؟‬
‫‪1‬‬
‫الهاجرية ‪ -‬اليهودية‬

‫األويل تنظر إىل األمر باعتباره بديهياً حبيث يبدو ممكناً‬


‫يف الواقع أن كل الروايات عن ظهور اإلسالم ّ‬
‫استخراج اخلطوط اخلارجية على األقل لعملية الصريورة هذه من املصادر اإلسالمية‪ .‬لكننا نعرف جيداً أنه‬
‫ال ميكن إثبات قِ َدم هذه املصادر‪ .‬فليس مثة دليل قوي حول وجود القرآن بأي شكل قبل العقد األخري‬
‫املنزل‪ ،‬املبهم إىل حد ما‪ ،‬يف سياقه التارخيي‪ ،‬مل يُ ْش َهد‬
‫من القرن السابع‪ ،‬والتقليد الذي يق ّدم هذا النص ّ‬
‫على صحته قبل منتصف القرن الثامن‪ .‬وهكذا فتارخيية التقليد اإلسالمي تثري املشاكل بدرجة أو بأخرى‪:‬‬
‫ففي حني ال توجد أسس خارجية متماسكة لرفضها‪ ،‬ليست هنالك باملقابل أسس داخلية متماسكة‬
‫للقبول هبا‪ .‬يف هذه الظروف ليس من غري املعقول االستمرار بالطريقة املعتادة وذلك عن طريق تقدمي‬
‫نسخة من التقليد حمررة بطريقة معقولة كحقيقة تارخيية‪ .‬لكن باملقابل يبدو من املعقول إىل حد ما النظر‬
‫إىل التقليد باعتباره دون حمتوى تارخيي حمدد‪ ،‬واإلصرار على أن ما ي ّدعى أنه روايات حلوادث تارخيية يف‬
‫(‪)1‬‬
‫كماً‬
‫القرن السابع ال يفيد إال يف دراسة األفكار الدينية يف القرن الثامن ‪ .‬تق ّدم لنا املصادر اإلسالمية ّ‬
‫وافراً من اجملاالت اليت تساعد على القيام هبذه املقاربات املختلفة‪ ،‬لكنها ال مت ّدنا إال بالقليل مما ميكن‬
‫استخدامه بأية طريقة حامسة للفصل بني تلك املقاربات‪ .‬إذاً فالطريقة الوحيدة للخروج من هذه املعضلة‬
‫ال تكون إال باخلروج من التقليد اإلسالمي بالكامل والبدء من جديد‪.‬‬
‫إذا اخرتنا أن نبدأ من جديد‪ ،‬فسوف نبدأ بنص عقيدة يعقوب ‪ ،Doctrina Jacobi‬وهو‬
‫عبارة عن رسالة يونانية معادية لليهود سبّبها االضطهاد اهلراقلي(‪ .)2‬إهنا موجودة على شكل حوار بني‬
‫اليهود املوجودين يف قرطاجة عام ‪634‬؛ لكن من احملتمل أيضاً أهنا كتبت يف فلسطني قبيل ذلك التاريخ‬
‫أو بعيده بسنوات قليلة(‪ .)3‬ويف إحدى نقاط اجلدل يُشار إىل حوادث جتري آنئذ يف فلسطني وذلك على‬
‫شكل رسالة من يهودي فلسطيين‪ ،‬امسه ابراهيم(‪:)4‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حتري شاخت ألصول الشرع اإلسالمي‪.‬‬ ‫متري نقد غولدتسيهر ملوثوقية احلديث ويف ّ‬ ‫متضمن أيضاً يف املقاربات اليت ّ‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬هذا املوقف‬
‫باملناسبة‪ ،‬فإن إعادة بناء شاخت للصيغة األقدم للتأرخيية اإلسالمية مقيد مبحتوى أقدم كسرة خمطوطة تارخيية ما تزال بني أيدينا (أنظر‬
‫مالحظته يف ‪ 1969 Arabia‬وكذلك الحقاً املالحظة ‪.)56‬‬
‫(‪ )2‬حترير ن‪ .‬بونفتش‪ .‬عنوان النص هو‪ Doctrina Iacobi nuper baptizati :‬املنشور يف‪niglichen Gesellschaft ِAbhandlungen der k :‬‬
‫‪ttingen, Philologisch-historische Klasse,n.s.,vol.xii,Berlin 1910.ِder Wissenschaft zu G‬‬
‫(‪ )3‬أنظر‪ :‬ف‪ ،‬ناو‪ ،«La Didascalie de Jacob» ،‬املنشور يف ‪ ،Patrologia Qurientalis‬حترير‪ ،‬ر‪ .‬غرافن وف‪ .‬ناو‪ ،‬باريس‪،1793 ،‬‬
‫اجمللد ‪ ،VIII‬الصفحات ‪ 715‬وما بعد‪ .‬إن فقدان إدراك طبيعة احلدث بعد وقوعه فيما خيص الغزو العريب يوحي أن التاريخ الذي اقرتحه‬
‫ناو‪ ،649 ،‬هو تاريخ متأخر جداً دون أدىن ريب‪.‬‬
‫(‪Doctrina, pp. 86 f )4‬‬

‫‪8‬‬
‫لقد ظهر نيب كاذب بني‬
‫السَرسنيني‪ ...‬إهنم يقولون‬
‫َ‬
‫إن النيب الذي ظهر مقبل‬
‫مع السرسنيني‪ ،‬وهو يعلن عن‬
‫قدوم ‪ advent‬املمسوح الذي‬
‫سيأيت ]‪[tou erkhomennou Eleimmenou kei Khristou‬‬
‫فذهبت أنا ابراهيم إىل‬
‫رجل عجوز مطلع للغاية على األسفار‬
‫املقدسة وأحلت إليه املسألة‪.‬‬
‫وسألته‪« :‬ما رأيك‪ ،‬أيها السيّد واملعلم‪ ،‬بالنيب الذي ظهر بني السرسنيني؟»‬
‫أجاب‪ ،‬وهو يتأوه للغاية‪« :‬إنه دجال‪ .‬وهل يأيت األنبياء بسيف ومركبة حربية؟ إن هذه األحداث‬
‫اليوم هي حقاً أعمال فوضى‪ ...‬لكن اذهب‪ ،‬يا سيد ابراهيم‪ ،‬واستعلم عن النيب الذي ظهر»‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫قمت أنا‪ ،‬ابراهيم‪ ،‬بتحريايت‪ ،‬وأخربين أولئك الذين التقوه «ليس مثة من حقيقة ميكن أن توجد عند النيب‬
‫املزعوم‪ ،‬سوى إراقة الدماء؛ إما ما تقوله حول امتالكه ملفاتيح اجلنة‪ ،‬فهو أمر غري قابل للتصديق»‪.‬‬
‫مثة نقاط هامة عديدة يف هذه الرواية‪ .‬إحدى هذه النقاط هي عقيدة املفاتيح‪ .‬إهنا بالطبع غري‬
‫إسالمية‪ ،‬لكن مثة مؤشرات خفيفة تفيد أهنا كانت عقيدة بذل التقليد اإلسالمي جهداًكبرياًكي يقمعها‪:‬‬
‫هنالك جمموعة تقاليد تسامت فيها مفاتيح اجلنة إىل استعارة غري مؤذية(‪ ،)5‬كذلك فإن قَ َس َماً بيزنطياً‬
‫بالتن ّكر لإلسالم يذكر االعتقاد القائل إن النيب كان سيأخذ مفاتيح اجلنة وذلك باعتباره‪ ،‬أي االعتقاد‪،‬‬
‫السرية للسرسنيني(‪.)6‬‬
‫جزءاً من العقيدة ّ‬
‫ليست املسألة عظيمة األمهية‪ ،‬لكنها توحي أنه لدينا يف «عقيدة يعقوب» طوراً من االعتقاد أقدم‬
‫من التقليد اإلسالمي ذاته‪ .‬لكن واقعة أن النيب مق ّدم يف النص بأنه كان على قيد احلياة زمن غزو العرب‬
‫لفلسطني هلا أمهية تارخيية كبرية‪ .‬فهذه شهادة تتناقض مع روايات سرية النيب اإلسالمية لكنها جتد توثيقاً‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )5‬أنظر‪. A. J. Wensinck et al, Concordance et indices de la tradition musulmane, Lyden 1933 - 69, s.v. miftah:‬حيث مفاتيح‬
‫السماء صالة وشهادة‪.‬‬
‫(‪« )6‬إين ألعن عقيدة السرسنيني السريّة ووعد موءمد ‪ amedِM‬بأنه سيكون حارس بوابة )‪ (kleidon khos‬اجلنّة‪(E. Montet, Un »...‬‬

‫‪ .)rituel d’ abjuration des Musulmans dans l’églis grecque, Revue de’l’ histoire des religions 1906, p. 151‬يبدو أن القسم‬
‫جتميع ملواد متغايرة اخلواص من القرن التاسع‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫مستقالً يف التقاليد التارخيية عند اليعاقبة‪ ،‬النساطرة‪ ،‬والسامريني(‪)9‬؛ أما املعىن العقائدي للتناقض فسوف‬
‫يؤخذ بعني االعتبار الحقاً(‪.)8‬‬
‫لكن الشيء املذهل فعالً يف «عقيدة يعقوب» هو قوله إن النيب كان يبشر بقدوم «املمسوح الذي‬
‫سيأيت»‪ .‬هذا يعين أن جوهر رسالة النيب‪ ،‬يف أقدم شهادة متاحة لنا خارج التقليد اإلسالمي‪ ،‬يظهر‬
‫يعز على املرء التآلف مع هذه الفكرة‪ ،‬لكننا نكرر أهنا موثقة بدليل مستقل على‬ ‫باعتباره مسيانية يهودية‪ّ .‬‬
‫حنو ملفت للنظر(‪.)7‬‬
‫يف املوضع األول لدينا سفر رؤيوي يهودي يرجع إىل منتصف القرن امليالدي الثامن‪ ،‬يدعى «أسرار‬
‫احلرب مشعون بن يوحاي»‪ ،‬والذي حيتفظ بتفسري مسياين للغزو العريب(‪ .)19‬ومبا أن املسيا ينتمي إىل هناية‬
‫النص الرؤيوي وليس إىل منتصفه‪ ،‬فهذا التفسري مأخوذ على األرجح من سفر رؤيوي أقدم منه ُكتب‬
‫مباشرة بعد احلوادث اليت يشري إليها(‪ .)11‬أما ما يهمنا يف حبثنا احلايل فهو املقطع التايل(‪:)12‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )9‬أقدم توثيق لذلك هو توثيق نص ‪ Continuati Byzantia Arabia‬الذي حيفظ لنا يف ترمجة التينية تارخيياً سريانياً يرجع إىل زمن هشام‬
‫(أنظر القسم التاسع‪ ،‬اهلامش ‪ ) 7‬ورمبا يكون من أصل يعقويب أو ملكاين‪ .‬يرى هذا املصدر‪ ،‬أن السرسنيني غزوا أقاليم سوريا‪ ،‬شبه‬
‫اجلزيرة العربية وبالد مابني النهرين حتت قيادة مهمت (حترير ‪ ،) T. Mommsen‬أنظر‪Chronica Minora,vol..ii (=Monumenta :‬‬

‫‪ ،Germaniae Historica, Auctores Antiquissimi, vol.xi),Berlin 1894,p.337‬من ناحية أخرى فإن أهم شهادة من اجلانب اليعقويب‬
‫هي الرواية القدمية ألصول اإلسالم اليت حفظها لنا ميخائيل السرياين (أنظر‪ ،Chronique de Michel le Syrien :‬باريس ‪- 1877‬‬
‫مدونة سريانية جمهولة‬
‫‪ ،1719‬اجمللد ‪ ،IV‬ص ‪ = 495‬اجمللد ‪ ،ii‬ص ‪ 493‬وما بعد‪ .‬حترير ‪)J. B. Chabot‬؛ ميكن أن نضيف إىل هذا ّ‬
‫املؤلف تعود إىل هناية القرن الثامن (أنظر‪I. Guidi et al., Chronica Minora, (= Corpus Scriptorum Christianorum Qrientalium, :‬‬

‫‪ .Scriptores Syri, third series, vol. iv) Louvain 1903 - 7, pp. 348 = 274.‬من اجلانب النسطوري فإن شاهداً متأخراً عن تاريخ‬
‫سيئريد ‪ Si’rid‬العريب يبدو واضحاً (أنظر‪ Histoire nestorienne :‬اجلزء الثاين‪ ،‬يف ‪ ،Patrologia Qrientalis‬اجمللد ‪ ،xiii‬ص ‪ ،691‬حترير‬
‫ميرر بشكل إحيائي‬ ‫وترمجة ‪ ،)A.Scher‬يف حني أن تارخياً سريانياً مكتوباً على األرجح يف حوزستان يف العقد السابع من القرن السابع ّ‬
‫ِذ ْكَر حممد كحاكم للعرب يف خضم ‪ ‬رواية الفتوحات (أنظر‪ ،Chronica Minora :‬صص ‪26 = 39‬؛ نولدكه هو الذي ح ّدد تاريخ‬
‫العمل‪ ،‬أنظر‪Die von Guidi herausgegebene syrische Chronik, Sitzungsberichte der philologischhistorischen Classe der :‬‬

‫‪ .)Kaiserlichen Akademie der Wissenschaft, vol. cxxviii,Vienna 1893,pp.2f‬من اجلانب السامري لدينا شهادة لتحرير عريب‬
‫للتقليد ترجع إىل القرون الوسطى (أنظر‪ ،Abulfathi Annales Samaritani, Gotha 1863, p. 180 :‬حترير ‪ .)E. Vilmar‬والتقارب هنا‬
‫مدهش للغاية‪.‬‬
‫(‪ )8‬أنظر‪ ،‬ص اهلامش ‪ 28‬فصل ‪.4‬‬
‫(‪ )7‬جتد هذه الفكرة انعكاساً مشوشاً أيضاً يف ما تربزه رواية تيوفانس لبدايات اإلسالم حول يهود اعتربوا أن حممداً هو مسيحهم املنتظر‬
‫)‪.(chronographia, A. M. 6122‬‬
‫(‪ )19‬من أجل النص العرباين‪ ،‬أنظر‪A. Jellinek, Bet ha-Midrash, Leipzig 1855, vol iii, pp. 78-82 :‬؛ من أجل مناقشة النص وترمجته‬
‫اجلزئية‪ ،‬أنظر‪B. Lewis, An Apocalyptic Vision of Islamic History, Bulletin of the School of Oriental and African Studies :‬‬

‫‪.1950‬‬
‫(‪Lewis, Apocalyptic Vision p. 323 )11‬‬

‫(‪ Lewis, Apocalyptic Vision p. 321ff )12‬إضافة للتفسري يف الصفحات ‪ .322 - 4‬لكننا ع ّدلنا يف الرتمجة قليالً‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫حني رأى أن مملكة امسعيل كانت آتية‪ ،‬شرع يقول‪« :‬أمل يكف ما فعلته بنا مملكة ادوم الشريرة‪ ،‬حىت‬
‫تأتينا مملكة امسعيل أيضاً؛ وللفور أجابه متاترون أمري التشجيع بقوله‪« :‬ال ختف‪ ،‬ياابن اإلنسان‪،‬‬
‫فالقدوس املبارك ال يأيت مبملكة امسعيل إال لتخلّصكم من هذا الشر‪ .‬إنه حبسب إرادته يقيم عليهم نبياً‬
‫وسوف يفتح هلم األرض وسوف يأتون وحييوهنا بعظمة‪ ،‬وسيكون هنالك خوف مريع بينهم وبني أبناء‬
‫عيسو»‪ .‬أجاب احلرب مشعون قائالً‪« :‬كيف نعرف أهنم خالصنا؟» أجاب‪« :‬أمل يقل النيب اشعيا‪« :‬فريى‬
‫ركباً‪ ،‬ازواج فرسان» اخل؟»(‪ )13‬ملاذا جعل رّكاب احلمري قبل رّكاب اجلمال‪ ،‬يف حني أنه ال حيتاج إال ألن‬
‫يقول‪« :‬رّكاب مجال ورّكاب محري»؟ لكن حني يأيت راكب اجلمل(‪ )14‬أوالً فاململكة سوف تقوم عرب‬
‫راكب على أحد احلمري‪ .‬ومن جديد نقول‪« :‬رّكاب محري»‪ ،‬كونه يركب على محار‪ ،‬تظهر أهنم خالص‬
‫إسرائيل‪ ،‬مثل خالص الراكب على أحد احلمري»‪.‬‬
‫إضافة إىل ما سبق‪ ،‬حتتوي «األسرار» بعض اإلشارات إىل القينيني املذكورين يف سفر العدد‬
‫‪ 21:24‬واليت ال ميكن فهمها إال كتفسري مسياين بديل ملسألة الغزو(‪.)15‬‬

‫لن نتفاجأ أبداً إذاً حني جند أن سفراً رؤيوياً يهودياً منذ ذلك الزمان يق ّدم الغزو العريب الذي أهنى‬
‫احلكم الروماين لفلسطني كحدث إجيايب يف الدراما اإلسكاتولوجية‪ ،‬فاملوقف ذاته يظهر يف مؤلفف آخر‬
‫مشابه‪ ،‬أال وهو القصيدة الرؤيوية اليت تدعى «يف ذلك اليوم»(‪ .)16‬لكن كاتب املقطع املستشهد به آنفاً‬
‫من «األسرار» يفعل أكثر من هذا‪ :‬فهو يق ّدم دور اإلمساعيليني ونبيّهم باعتباره جوهرياً بالنسبة للحوادث‬
‫املسيانية ذاهتا‪ .‬وهذا التفسري يصبح ذا معىن حني يوضع جانب شهادة «عقيدة يعقوب» القائلة إن النيب‬
‫كان يف الواقع يعلن عن جميء املسيا‪ ،‬ويف الوقت ذاته يق ّدم تأكيداً مستقالً على موثوقيته‪ .‬قد يبدو‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )13‬اإلشارة هنا هي إىل سفر أشعيا ‪« :9:21‬فريى ركباً‪ ،‬أزواج فرسان‪ .‬رّكاب محري وركاب مجال»‪ .‬إن اختالل املعىن يف بقية املقطع‬
‫خيتفي حاملا يدرك املرء أن املؤلف األصلي للسفر الرؤيوي كان يستند على الرتغوم‪ ،‬وليس على النص العرباين الذي منتلكه اآلن‪ .‬ففي‬
‫حني يتح ّدث النص العرباين عن «أزواج فرسان‪ .‬رّكاب محري ورّكاب مجال»‪ ،‬يتح ّدث الرتغوم عن «أزواج فرسان‪ ،‬واحد يركب على‬
‫محار‪ ،‬وآخر يركب على مجل»‪ .‬هذا يوحي أن أصل هذا املقطع من «األسرار» كان باللغة اآلرامية‪.‬‬
‫(‪ )14‬أي أن النيب الذي يركب احلمار هو طبعاً املسيّا‪.‬‬
‫(‪ )15‬أنظر‪ :‬امللحق‪.‬‬
‫(‪ ) 16‬النص العربي موجود يف عمل ل‪ .‬غنزبرغ‪Geniza Studies in Memory of Doctor Solomon Schechter, vol. i New York 1928, ،‬‬

‫‪pp 310 - 12‬؛ أما مناقشة النص وترمجته فموجودة يف عمل ب‪ .‬لويس؛ ‪«on that day: A Jewish apocalyptic poem on the Arab‬‬

‫‪ . conquests»; in P. Salmon (ed), Mélanges d’ Islamologie, Leyden 1974.‬دور العرب هنا املتمثل باإلطاحة باحلكم الروماين متميز‬
‫متاماً عن احلوادث املسيانية الصحيحة‪(.‬ص‪)299.‬‬

‫‪11‬‬
‫غريباً بالطبع أن يقبل اليهود بأوراق اعتماد ن ٍيب عريب مفرتض باعتباره بشري املسيّا؛ لكن كان مثة سابقة‬
‫يهودية معروفة لقيام أحد العرب هبذا الدور(‪.)19‬‬
‫التأكيد املباشر اآلخر على مسيانية «عقيدة يعقوب» ميكن أن جنده متحجراً يف الرتاث اإلسالمي‪،‬‬
‫حيث يكشف لنا عرضياً عن هوية املسيّا ذاته‪ :‬إنه عمر(‪ ،)18‬اخلليفة الثاين وفق الرتتيب اإلسالمي والذي‬
‫حيتفظ حىت التقليد اإلسالمي بلقب مسياين له هو «الفاروق»‪ ،‬والذي يعين املخلص(‪ .)17‬يف الوقت ذاته‬
‫فإن دخوله القدس هو أداء مناسب هلذا الدور(‪ ،)29‬يف حني يبدو أن «األسرار» جيعله ينهمك يف مهمة‬
‫مسيانية موازية أال وهي إعادة بناء اهليكل(‪ .)21‬وجود عمر باالسم مل يرتك بالطبع غري مصقول يف التقليد‬
‫اإلسالمي‪ .‬وبعدما نُسي املعىن اآلرامي األصلي للمصطلح بنجاح أخرياً‪ ،‬أحرز ايتمولوجيا عربية مأمونة‬
‫اجلانب كما اعتُقد أن هذا املصطلح أ ّكده النيب ذاته‪ .‬لقد حاول رأي أكثر قدماً أن جيد متلّصاً تارخيياً‬
‫أكثر منه إيتمولوجياً‪ :‬فإن أهل الكتاب هم الذين مسّوا عمر بالفاروق‪ ،‬مث انزلقت التسمية إىل حد ما على‬
‫ألسنة املسلمني(‪ .)22‬إن الروايات التارخيية التفصيلية حول الطريقة اليت كان ُحيَ ّّي هبا عمر الفضويل برباءة‬
‫يف سوريا وذلك بوصفه الفاروق(‪ )23‬تـُ َوازن من مث مبا يعزا إليه من أفعال تنكر على حنو مؤّكد دوره‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )19‬أنظر‪ ،ttingen 1929, pp. 449ِH. Gressmann, Der Messias, G :‬باإلشارة إىل التلمود البابلي ونسخ موازية‪ .‬قارن أيضاً عادة إيليا‬
‫(الذي يلعب النيب دوره يف «عقيدة يعقوب») يف الظهور بزي عريب من الصحراء (املوسوعة اليهودية‪ ،‬نيويورك ولندن ‪ ،1725‬فقرة‬
‫«إيليا»)‪.‬‬
‫تزعم غزو مصر واألقطار األخرى وذلك كما يقول تاريخ‬ ‫(‪ )18‬وجوده التارخيي ليس موضع شك‪ :‬إنه بوضوح ملك اإلمساعيليني الذي ّ‬
‫سيبوس ‪ Sebeos‬األرمين القدمي (أنظر‪ ،Histoire d’ Héraclius par l’Evêque Sebêos, Paris 1904, p. 101 :‬من أجل النص األرمين‬
‫األصلي‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ ،39‬ومن أجل زمنه انظر اهلامش ‪ .)36‬لكنه امسه هنا هو عمرو ‪ :Amr‬فإما أن سيبيوس (ومصادر مسيحية‬
‫تصورنا‪ ،‬أهنما فُصال ضمن التقليد اإلسالمي‪.‬‬
‫أخرى) دمج بني عمر وعمرو (بن العاص)‪ ،‬أو‪ ،‬وفق حدود ّ‬
‫(‪ )17‬قارن‪J. Levy. Neuhebr :‬ن‪isches und chald‬ن‪rterbuch über die Talmudim und Midraschim, Leipzig 1876 - 89, s.v. ِisches W‬‬
‫‪paroqa‬‬
‫‪(W. L.‬‬ ‫لكن عمر مل يُ َس ّم مسيحاً قط (باستثناء إشارة له ملفتة للنظر «كفاروقي مسيحي» يف نصائح الوزراء لساري حممد باشا حترير‪:‬‬
‫‪.Wright, Ottoman Statecraft, Princeton, N. J. 1953, Text, p. 53.‬‬
‫(‪ )29‬قارن أيضاً‪ ،‬حديث سيف القائل إن عمر يف زيارته الرابعة لسوريا دخلها راكباً أحد احلمري (حممد بن جرير الطربي‪ ،‬تاريخ الرسل‬
‫وامللوك‪ ،‬حترير‪ , M. J. de Goeje et al.,،‬اليدن‪ ،1791- 1897‬ص‪.) 2491.‬‬
‫(‪ )21‬يبدأ املقطع حول «امللك الثاين الذي يظهر من امسعيل» (أنظر ‪ )Lewis, Apocalyptic Vision, pp. 324f :‬بالقول إنه «سيكون‬
‫سريمم صدوعهم وصدوع اهليكل»‪ .‬وهذا ما يوحي حتماً بإشارة أكثر قدماً إىل عمر‪ .‬لكن بقية النص تصبح‬ ‫حبيب بين إسرائيل؛ فهو ّ‬
‫أقل مالئمة لعمر‪ ،‬حيث توحي بنوع من التشوش يف البناء التارخيي للسفر يف هذه الفقرة‪ .‬من أجل العرب على جبل اهليكل‪ ،‬أنظر‬
‫«اهلاجرية دون يهودية»‪.‬‬
‫(‪ )22‬الطربي‪ ،‬تاريخ ‪ ،I‬صص ‪ 2928‬وما بعد؛ حممد بن سعد‪ ،‬كتاب الطبقات الكبري‪ ،‬حترير ‪ ،E. Sachau et al‬اليدن ‪،21 - 1794‬‬
‫جملد ‪ 173 ،iii‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪ )23‬من أجل اليهودي الدمشقي الذي حييّي عمر باعتباره الفاروق الذي سيأخذ القدس‪ ،‬أنظر‪ :‬الطربي‪ ،‬تاريخ‪ ،I ،‬ص‪ .2493‬من‬
‫أجل النبوءة املسيانية اليهودية حول قدوم الفاروق واليت يطبقها كعب األحبار على عمر يف القدس‪ ،‬أنظر املصدر السابق‪ ،‬ص‪.2497‬‬

‫‪12‬‬
‫كمخلّص يهودي(‪ .)24‬لكن من املثري للسخرية أن عزو كل شيء للنيب بشكل حتمي قد يكون صحيحاً‬
‫يبشر بقدوم املسيّا‪ ،‬يصعب أن يكون أمراً‬
‫يف هذا املثال‪ .‬ألنه إذا كان مثة دليل معاصر يفيد أن النيب كان ّ‬
‫تصادفياً أن الرجل الذي جاء بعده حيمل لقباً مسيانياً صرحياً حىت يف التقليد اإلسالمي‪.‬‬
‫لقد رّكزنا انتباهنا إىل حد كبري على السمة املسيانية لغزو فلسطني؛ لكن كما ميكن أن يكون متوقعاً‪،‬‬
‫تق ّدم لنا املصادر التارخيية دالئل على محيمية أكرب يف العالقات بني العرب واليهود يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫فاحلرارة يف ردة الفعل اليهودية على الغزو العريب اليت يشهد عليها سفر «عقيدة يعقوب»(‪ )25‬ويق ّدم أمثلة‬
‫عليها نص «األسرار» هي أقل ظهوراً للعيان بكثري يف املواقف اليهودية الالحقة(‪ .)26‬لكن األكثر‬
‫(‪)29‬‬
‫وضوحاً‪ ،‬هو غياب هذه احلرارة بالكامل من ردات فعل املسيحيني املعاصرين‪ ،‬سواء أكانوا أرثوذكساً‬

‫‪(M.J. Kister, Haddithü‬ل ‪n bani‬‬ ‫قارن أيضاً النكهة املسيانية لتأكيد كعب األحبار بأن عمر كان قد وصف يف التوراة بأنه بوق حديد‬
‫‪isra’ila wa-l‬ن ‪.)haraja; Israel Oriental Studies 1972, p. 223‬‬
‫(‪ )24‬حىت فوق موضع اهليكل‪ ،‬جنده يؤّكد على املكانة اليت ال لبس فيها للكعبة اإلسالمية (الطربي‪ ،‬تاريخ‪2498« ،I ،‬؛ أبو عبيد‬
‫القاسم بن سالّم‪ ،‬كتاب األموال‪ ،‬حترير ‪M.K. Har‬م‪ ،s‬القاهرة ‪ ،1768‬رقم ‪ .)439‬إنه جي ّدد حترمي إقامة اليهود يف القدس (الطربي‪،‬‬
‫تاريخ ‪ ،I‬ص‪ ،)2495‬وهو فعل ال يصادق عليه أي مصدر قدمي ومن غري املرجح أن يكون تارخيياً‪ ،‬كما يطرد اليهود من شبه جزيرة‬
‫العرب‪ .‬أما غرض التقليد شبه التافه الذي جيعل من عمر مؤسساً للمهدية اإلسالمية بسبب اعتقاده بعودة النيب (املصدر السابق‪،‬‬
‫صص ‪ 1815‬وما بعد) فهو رمبا يكمن أصالً يف الدقة واإلحكام اللذين ُجيْ َعل عمر ينكر هبما مكانته املسيانية اخلاصة‪.‬‬
‫(‪ )25‬الحظ على حنو خاص اإلشارة إىل فرح اليهود (عقيدة يعقوب‪ ،‬ص‪.)86 .‬‬
‫(‪ ) 26‬الحظ على سبيل املثال العدائية جتاه االمساعيليني اليت جتد تعبرياً هلا يف سفر ‪ ، Pirkê de Rabbi Eliezer‬ترمجة ‪ ،G. Friedlander‬لندن‬
‫‪ ،1716‬صص ‪ .359 ،231‬لكن أكثر األمثلة لفتاً للنظر حول تغيري املواقف نلمسه ُم َق ّدماً يف «األسرار» يف املقطع الذي يعقب‬
‫مباشرة التفسري املسياين الذي استشهدنا به سابقاً‪ :‬فمقابل االستخدام السابق لسفر اشعيا ‪ 9:21‬لتقدمي االمساعيليني باعتبارهم‬
‫خالص إسرائيل‪ ،‬تُربط اآلن املواقف السياسية والزراعية للدولة بسفري دانيال ‪ 37:11‬وحزقيال ‪ 13:4‬على الرتتيب‪ ،‬لنصل إىل نتيجة‬
‫مفادها أن االمساعيليني يطرحون كمضطهدين ظاملني إلسرائيل منفية‪ .‬أما االنطباع بأن ل دينا هنا حماولة متأخرة إلضفاء الصبغة احليادية‬
‫يتعزز بالتبديل املفاجئ للمرجع الذي يلقي بظالله هنا‪ :‬فالتفسري املسياين لسفر اشعيا ‪ 9:21‬يـُنْقل‬ ‫على مسيانية املقطع السابق فهو ّ‬
‫إىل احلاخام مشعون عن طريق ميتاترون وذلك يف سياق رؤيا اسكاتولوجية يف إحدى املغاور‪ ،‬يف حني أن املالحظات األكثر رزانة واليت‬
‫تعقب ما سبق تـُنْقل عربه من احلاخام امسعيل‪ ،‬الذي يعترب أحد املصادر الربانية اهلامة يف األزمنة السابقة‪ .‬ويف «امللوك العشرة» الذي‬
‫هو أحدث من النص السابق‪ ،‬جند أن الرؤيا يف املغارة وقد «حتومخت» [من حاخام] وفق اخلطوط ذاهتا (أنظر‪Lewis, «Apocalyptic :‬‬

‫‪Vision», pp. 321-3‬؛ يُشار إىل هذه العملية أيضاً يف جزء «األسرار» من الغنزا املشار إليها سابقاً‪ ،‬ص‪.)397‬‬
‫(‪ ) 29‬بالنسبة لبطريرك القدس صفرونيوس (‪ )638 - 634‬الغزاة هم برابرة ك ّفار (أنظر‪ :‬رسالة إىل السينودس للعام ‪ 634‬يف عمل ‪P.J.‬‬

‫املسمى ‪ ،Patorolgia Gareco-Latin‬باريس ‪ ،66 - 1759‬اجمللد ‪ ،Lxxxvii‬اجلزء الثالث‪ ،‬العمود ‪3179‬؛ وعظته يف عيد‬ ‫‪ّ Migne‬‬
‫امليالد من السنة ذاهتا املوجودة يف نص ‪ ، «Weihnachtspredigt des Sophronios» Rheinisches Museum für Philologie 1886‬حترير‬
‫‪ ،H. Usener‬صص ‪)514 ،599‬؛ ويف عظته حول العماد يق ّدم تصنيفاً نارياً جلرائم السرسنيني (أنظر‪A. I. Papadopoulos - :‬‬

‫‪ .)Kerameus, Analekta Hierosolymitikës stakhyologias St. Petersburg 1891-8, vol. v, pp 167f‬يُظهر مكسيموس املعرتف موقفاً‬
‫مشاهباً حنو الربابرة الفظّني يف إحدى رسائله (أنظر‪ PG, vol. xci, cols. 540f, dated to 634-40 :‬يف عمل ‪An :P. Sherwood‬‬

‫)‪ Annotated Date-List of the Works of Maximus the Confessor (= Studia Auselmiana, fasc. xxx‬روما ‪ ،1752‬صص ‪ 49‬وما‬
‫يفسران الغزو على حد سواء كعقاب على خطايا املسيحيني‪ .‬باملناسبة‪ ،‬فالطريقة اليت يتح ّدث هبا‬ ‫بعد)‪ .‬يتميّز اإلثنان بأهنما ّ‬

‫‪13‬‬
‫أم هراطقة(‪ .)28‬يف الوقت ذاته‪ ،‬فاملصادر التارخيية تشهد على ترمجة تلك املشاعر الودية جتاه العرب إىل‬
‫نوع من االنغماس السياسي العيين‪« .‬فعقيدة يعقوب» تشري إىل اليهود الذين خيتلطون بالسرسنيني(‪،)27‬‬
‫يف حني يقول أحد املصادر األرمنيّة القدمية إن حاكم القدس يف أعقاب الغزو كان يهودياً(‪.)39‬‬
‫يُ َك ّمل الدليل على العالقة احلميمة اليهودية ‪ -‬العربية عرب إشارات عدائية متميزة ضد املسيحيني من‬
‫قبل الغزاة‪ .‬فاليهودي الذي اعتنق املسيحية يف «عقيدة يعقوب» حيتج بأنه لن ينكر املسيح‪ ،‬ابن اهلل‪،‬‬
‫حىت لو أمسكه اليهود والسرسنيون وقطعوه إرباً(‪ .)31‬أما حامية غزة املسيحية فقد وضعت التصميم ذاته‬
‫يف خضم التطبيق العملي‪ ،‬واستشهدت نتيجة لذلك(‪ .)32‬وتتحدث إحدى الرتاتيل من ذلك الزمن عن‬
‫آثام السرسنيني فتورد منها إحراق الكنائس‪ ،‬تدمري األديرة‪ ،‬تدنيس الصلبان‪ ،‬وجتديفات مريعة ضد املسيح‬
‫والكنيسة(‪ .)33‬كراهية سرسنية عنيفة للصليب توردها أيضاً رواية قدمية حول وصول الغزاة إىل جبل‬

‫مكسيموس عن الربابرة الذين حيتاجون أراضي اآلخرين كما لو أهنا ملك هلم‪ ،‬وعن دور اليهود يف جميء املسيح الدجال‪ ،‬توحي أنه رمبا‬
‫كان يعرف شخصية الغزو املسيانية والساعية إىل اسرتاد اإلراضي ؛ لكن رفعة أسلوبه يف عمل كهذا توحي بالغموض‪.‬‬
‫(‪ ) 28‬من األقباط‪ ،‬لدينا إشارة فظة إىل الغزاة السرسنيني يف ترتيلة مكتوبة رمبا بعد الغزو مباشرة ‪(H.de Vis (ed.and tr.) Homélies coptes‬‬

‫‪)de la Vaticane, vol. ii (= Coptica, vol. v), Copenhagen 1929, pp. 62, 100‬؛ ‪ ‬يف هناية القرن جند أن يوحنا من نيكيو ‪John of‬‬

‫‪ Nikiu‬يف روايته عن الغزو يقول إن نري املسلمني كان « أثقل من النري الذي وضعه فرعون على رقاب بين إسرائيل» (أنظر‪The :‬‬

‫‪ ،Chronicle of John Bishop of Nikiu‬حترير ‪ ،R.H Charles‬لندن ‪ ،1716‬ص‪ .)175 .‬هنالك أيضاً خمطوطة قبطية تشري إىل‬
‫عذابات املسيحيني على أيدي السرسنيني والبلميني الكفرة‪ ،‬الذين يبدون أهنم كانوا يضعون ايديهم على الكنائس ‪(E. Revillout,‬‬
‫‪«Mémoire sur les Blemmyes», Mémoires présentés par divers savants‬ل ‪l’ Académie des Inscriptions et Belles-Letters, 1874,‬‬
‫‪)pp. 402 - 4‬؛ يعيد رفيلوت تاريخ املخطوطة إىل احلقبة املا قبل إسالمية على أسس ضعيفة إىل حد ما‪ .‬من اجلانب النسطوري‪ ،‬لدينا‬
‫التعابري املبهمة لكن املصائبية اليت يشري هبا سادونا‪ ،‬الذي قد يكون كتب يف منتصف القرن السابع‪ ،‬إىل ما جيب أن يكونه الغزو العريب‬
‫‪(Martyrius (Sahdona), Oeuvres spirituelles, vol.i. ed. and tr. A. de Halleux (= CSCO, Scriptores Syri, vol. Lxxxvif), Louvain‬‬
‫‪.)) 1960, pp. 40 = 41 and pp. vf‬لألسف الشديد ليس لدينا شيء يف سوريا اليعقوبية قبل هناية القرن السابع؛ فيعقوب الرهاوي يعترب‬
‫أن خضوع املسيحيني للنري العريب عقاب إهلي‪ ،‬عبودية ميكن مقارنتها بعبودية اليهودية القدمية ‪(Scholia on Passages of the Old‬‬

‫‪.) Testement, ed.and tr. G. Phillips, London 1864, pp. 27=42‬عبء النري اإلمساعيلي يشكل بالطبع مقولة مركزية يف السفر الذي‬
‫يعزا مليثودوسيوس املنحول والذي يرجع إىل هناية القرن السابع (أنظر اهلامش ‪ 9‬من القسم الرابع)؛ لكن ليس من الواضح ما إذا كان‬
‫هذا النص قد صدر عن بيئة هرطوقية أم أرثوذكسية‪.‬‬
‫(‪ )27‬عقيدة يعقوب‪ ،‬ص‪(. 88‬يقول مرجع يهودي من القرن احلادي عشر إنه كان مثة يهود مع الغزاة اإلمساعيليني وهم الذين أظهروا هلم‬
‫احلرم وأقاموا معهم بعد ذلك؛ أنظر‪J. Mann, The Jews in Egypt and in Palestine under the F :‬ن ‪timid Caliphs, vol. i. Oxford‬‬
‫َُ‬
‫‪1920, p 43.‬‬
‫‪K. R. Patkanean (ed. ), Patmout’iun Sebëos Episkoposi i Herakln, St. Petersburg 1879, p. 111= Sebeos, Histoire, p.‬‬‫(‪ )39‬أنظر‪:‬‬
‫‪ .103‬يف سياق النص يبدو أن «حاكم» هي أنسب ترمجة لكلمة «ايشخان»‪.‬‬
‫(‪Doctrina, p. 88 )31‬‬

‫(‪H. Delahaye, «Passio sanctom sexaginta martyrum», Analecta Bollandiana 1904. )32‬‬

‫(‪ )33‬عظمة صفرونيوس يف املعمودية‪ ،‬املذكورة سابقاً‪ ،‬هامش رقم ‪ . 29‬يالحظ تاريخ سرياين من بداية القرن الثامن قتل الرهبان زمن‬
‫الغزو )‪ (Chronica Minora, pp. 148 = 114‬يف حني يشهد تاريخ اخلوزستاين على قتل مطارنة وشخصيات أكلريوسية أخرى (املصدر‬
‫متعمد من قبل الغزاة للكنائس‬
‫السابق‪ ،‬صص ‪ 39 = 39‬وما بعد)‪ .‬يف سرينيكا [ليبيا احلالية] هنالك دليل أركيولوجي على تدمري ّ‬
‫‪(W. M and R. Goodchild, «The West Church at Apollonia in Cyrenaica», in Papers of the British School at Rome 1960, p.‬‬
‫‪(.)71n‬ميكن أن نضيف هنا تاريخ سيئريد املتأخر الذي يقول إن العرب الذين كانوا خييمون يف احلرية ليلة معركة القادسية َدنّسوا على‬

‫‪14‬‬
‫سيناء(‪ .)34‬والالزمة العقائدية هلذا كلّه جتد تعبرياً دقيقاً هلا حني جيعل املرجع األرمين السابق الذكر حاكماً‬
‫امساعيلياً قدمياً يطلب من اإلمرباطور أن يشجب «ذلك اليسوع الذي تدعونه املسيح والذي مل يستطع‬
‫(‪)35‬‬
‫صحة الصورة اإلسالمية كحركة‬ ‫أن خيلّص حىت نفسه من اليهود» ‪ .‬ليس مثة شيء هنا يثبت ّ‬
‫ختاصمت مع اليهود قبل الغزو‪ ،‬ونظرت إىل اليهودية واملسيحية مبجموعة التساهل والتحفظ ذاهتا‪.‬‬
‫ما ال تق ّدمه املواد املفحوصة حىت اآلن هو الصورة العينية عن الطريقة اليت حدث هبا هذا االرتباط‬
‫الي هودي العريب‪ .‬ألجل هذا جيب أن نرجع إىل أقدم رواية ذات الصلة باملوضوع واليت تتحدث عن سرية‬
‫النيب‪ ،‬رواية مق ّدمة يف تاريخ أرمين مكتوب يف العقد السادس من القرن السابع يعزا للمطران سيبوس(‪.)36‬‬
‫تبدأ القصة خبروج الالجئني اليهود من الرها بعدما اسرتدها هرقل من أيدي الفرس عام ‪ 628‬تقريباً‪:‬‬
‫لقد خرجوا إىل الصحراء وجاءوا إىل جزيرة العرب‪ ،‬عند أبناء امسعيل‪ .‬فقد التمسوا العون منهم‪،‬‬
‫وأفهموهم أهنم أقارهبم حبسب الكتاب املقدس‪ ،‬ومع أهنم [اإلمساعيليون] على استعداد للقبول هبذه‬
‫القرابة احلميمة‪ ،‬إال أهنم [اليهود] مل يستطيعوا إقناع عامة الناس‪ ،‬ألن عباداهتم خمتلفة‪.‬‬
‫كان هنالك يف ذلك الوقت امساعيلي امسه مهميت(‪ ،)39‬وكان يعمل تاجراً؛ لقد ق ّدم هلم نفسه‪ ،‬كما‬
‫لو أن اهلل أمره بذلك‪ ،‬كبشري‪ ،‬كطريق إىل احلقيقة‪ ،‬وعلّمهم كيف يعرفون إله ابراهيم‪ ،‬ألنه كان مطلعاً‬
‫وملماً هبا للغاية‪ .‬وألن األمر جاء من العلى‪ ،‬فقد توحدوا كلهم حتت سلطة رجل‬ ‫على قصة موسى ّ‬
‫واحد‪ ،‬يف ظل شرع واحد‪ ،‬وعادوا إىل اإلله احلي الذي كشف ذاته ألبيهم ابراهيم‪ ،‬بعد أن هجروا‬
‫حرم عليهم مهميت أكل أي حيوان ميت‪ ،‬شرب اخلمر(‪ ،)38‬الكذب أو الزىن‪ .‬لكنه أضاف‪:‬‬ ‫عباداهتم‪ّ .‬‬

‫حنو مريع الكنائس واألديرة )‪ (Scher, Histoire nestorienne , p. 627‬؛ هذه الشهادة تعارض اإلصرار العام للتقليد النسطوري على‬
‫إحسان حممد وخلفائه)‪.‬‬
‫(‪F. Nau (ed.), ‘Le texte grec des récits du moine Anstase sur les saints pères de Sinaï’, Revue de l’Institute catholique de )34‬‬
‫‪Paris 1902, pp. 38 f.‬‬
‫(‪ )35‬سيبوس‪ ،‬تاريخ‪ ،‬صص ‪ 137‬وما بعد؛ يبدو أن الزمن هو ‪ 653‬وليس ‪ .651‬قارن اإلقرار باملكانة املسيانية ليسوع وعقيدة‬
‫الصلب الذوقانية اللتني تتمثالن يف خرستولوجيا القرآن‪ .‬الحظ أيضاً أن التقليد اإلسالمي‪ ،‬رغم قبوله بيسوع كمسيا‪ ،‬يواصل االشارة‬
‫إىل أتباعه على أهنم «نصارى»‪ ،‬وهي صيغة قد تكون مستعارة من اليهود‪.‬‬
‫(‪ )36‬سيبيوس‪ ،‬تاريخ‪ ،‬صص ‪ .6 - 74‬ينتهي التاريخ عام ‪ ،661‬ومن الواضح أن الذي كتبه هو أحد املعاصرين لتلك احلقبة؛ ال هتمنا‬
‫مسألة صاحب العمل احلقيقي أو عنوانه احلقيقي‪ .‬ويقال إن روايته حول الغزوات العربية إمنا تعتمد على شهادة شهود عيان سجنهم‬
‫العرب (ص‪.)192‬‬
‫حممد ‪ mwhmd‬يف مالحظة سريانية من ذلك الزمن حول غزو سوريا = ‪(Chronica Minora, pp.. 15‬‬ ‫(‪ )39‬يظهر االسم أيضاً يف صيغة ُْ‬
‫)‪.60‬‬
‫(‪ ) 38‬التحرميان قرآنيان على حد سواء‪ ،‬لكن وحده األول هاالخي [يرد يف الشرع اليهودي]‪ .‬ويشهد ذيودوروس سيكلوس )‪ (xix: 94‬على‬
‫حترمي األنباط للخمر يف هناية القرن الرابع؛ لكنه إحدى مسات اليهودية النسكية أيضاً (قارن‪ :‬الرحابيون‪ ،‬املنذورون‪ ،‬والقديس يوحنا‬
‫املعمدان)‪ ،‬مسة تظهر على ما يبدو وكأهنا متبناة من قبل يهود عديدين مقابل النصائح األكثر حكمة للحاخامني يف احلقبة اليت تلت‬
‫دمار اهليكل (التلمود البابلي‪ ،‬بابا باترا‪ ،‬الورقة ‪.)b 69‬‬

‫‪15‬‬
‫«لقد وعد اهلل هبذه األرض البراهيم ونسله من بعده إىل األبد؛ لقد عمل حبسب وعده [اهلل] حني أحب‬
‫إسرائيل‪ .‬واآلن أنتم‪ ،‬أنتم أبناء ابراهيم‪ ،‬وعربكم ينجز اهلل الوعد الذي أعطاه البراهيم ونسله‪ .‬أحبوا فقط‬
‫إله ابراهيم‪ ،‬اذهبوا وخذوا بلدكم اليت أعطاها الرب ألبيكم ابراهيم‪ ،‬فما من أحد سيقدر على مقاومتكم‪،‬‬
‫ألن اهلل معكم»‪ .‬مث اجتمعوا كلّهم من حويلة إىل شور اليت جتاه مصر [سفر التكوين ‪]18:25‬؛ لقد‬
‫مقسمني إىل اثين عشر سبطاً وفق سالالت آبائهم‪ .‬وبني قبائلهم االثنيت عشرة‬ ‫خرجوا من صحراء فاران ّ‬
‫قسموا االثين عشر ألف إسرائيلي‪ ،‬ألف ألف لكل قبيلة‪ ،‬وذلك هلدايتهم إىل أرض إسرائيل‪ .‬وانطلقوا‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫مسا‪ ،‬حدار‪ ،‬تيما‪،‬‬‫خميّماً بعد خميم‪ ،‬وفق نظام آبائهم‪ :‬نبايوت‪ ،‬قيدار‪ ،‬أدبئيل‪ ،‬مبسام‪ ،‬مشماع‪ ،‬دومة‪ّ ،‬‬
‫يطور‪ ،‬نافيش وقدمة [سفر التكوين ‪ .]18-15 :25‬هؤالء هم أسباط امساعيل‪...‬‬
‫وجاء كل من بقي من شعوب بين إسرائيل لينضم إليهم‪ ،‬حىت ش ّكلوا جيشاً عظيماً‪ .‬مث أرسلوا بسفري‬
‫إىل امرباطور اليونان‪ ،‬ليقول له‪« :‬لقد أعطى اهلل هذه األرض إرثاً ألبينا ابراهيم ونسله من بعده؛ وحنن‬
‫ختل عنها بسالم‪ ،‬وسوف لن نغزو بالدك؛ وإال فسوف‬ ‫أبناء ابراهيم؛ وأنت أخذت بلدنا مبا فيه الكفاية؛ ف‬
‫نسرتد ما أخذت ونزيد عليه»‪.‬‬
‫تبدو هذه الرواية املتعلقة بأصول اإلسالم وكأهنا رواية غري مألوفة‪ .‬إهنا أيضاً واضحة يف ال تارخييتها‬
‫وذلك يف مزجها لعلم نشوء األعراق التورايت‪،‬كما أهنا خمطئة حتماً يف الدور الذي تعزوه لليهود الالجئني‬
‫من الرها‪ .‬هذا الدور‪ ،‬بغض النظر متاماً عن استحالته جغرافياً‪ ،‬مستحيل تارخيياً فعالً‪ :‬فهو يعين أن دولة‬
‫حممد ال ميكن أن تكون قد أسست قبل عام ‪ 628‬بكثري‪ ،‬يف حني أن لدينا دليالً وثائقياً منذ عام‬
‫‪ 643‬يفيد أن العرب كانوا يستخدمون تقومياً يبدأ بعام ‪ .)37(622‬وكانت فلسطني احملتلة آنذاك من‬
‫قبل الفرس ستبدو نقطة بداية أكثر معقولية بكثري بالنسبة لليهود الالجئني من الرها(‪ .)49‬مع ذلك فهذا‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪A.‬‬ ‫تؤرخ باليونانية عرب االشارة اىل السنة اخلمس عشرية املوافقة لعام ‪ 643‬وبالعربية يف صيغة «السنة الثانية والعشرين»‪.‬‬
‫(‪ّ 558 )37‬‬
‫‪Grohmann, «Aperçu de papyrologie arabe»; Etudes de papyrologie 1932; pp. 41f, 43‬؛ (يبدو واضحاً من الصفحة أن التاريخ‬
‫اليوناين مكتوب أوالً)‪« .‬عام ‪ »19‬املؤرخ على أقدم قطعة نقد عربية دمشقية يشهد كما هو مفروض على استخدام أقدم للتقومي ذاته‪،‬‬
‫لكن ال يوجد تأريخ مسيحي مقابل ‪(H. Lavoix, Catalogue des monnaies musulmanes de la Bibliothèque nationale: Khalifes‬‬

‫‪ .)orientaux, Paris 1887, uss. 1f‬لذلك جيب أن نفرتض أن هذا التقومي مييّز تأسيس الدولة‪ ،‬متاماً كما يقول التقليد اإلسالمي‪( .‬من‬
‫املهم أن نالحظ أنه دون التأريخ اليوناين ‪ 558‬كان التأريخ اإلسالمي األويل سيبدو يف حرية من أمره للغاية‪ .‬وهكذا فإن تقومياً يبدأ‬
‫بسنتني أو ثالث بعد عام ‪ 622‬يوحي به التأريخ الشاذ لسيف بن عمر ولنقود عربية ساسانية بعينها (من أجل النقود‪ ،‬أنظر ‪A.D.‬‬

‫‪Mordtmann, «Zur Pehlevi - Münzkunde», Zeitschrift der Deutschen Morgenl‬ن‪ ،)ndischen Gesellschaft 1819, p. 97‬وعدد‬
‫سنوات سبع أو مثان (_مقابل عشر) حلكم حممد يظهر يف تاريخ يعقوب الرهاوي )‪ ،(Chronica Minora, pp. 326 = 250‬يف تاريخ ما‬
‫شاء اهلل التنجيمي الذي يرجع إىل القرن الثامن ‪(E. S. Kennedy and D. Pingree, The Astrological History of M‬ن‪sh‬ن‪’ all‬ن ‪h,‬‬

‫‪ ،)Cambridge, mass. 1971, p.132‬بل لقد أورده املقريزي ذاته ‪(H. Lammens «L’ êge de Mohamet et la chronologie de la Sîra,‬‬

‫‪Journal asitique, 1911, p. 219‬؛ قارن أيضاً رقم ‪ 13‬سنة الشاذ الذي يرد عند البالذري وغريه؛ راجع املصدر السابق‪ ،‬ص‪.))215‬‬
‫(‪ ) 49‬لقد أمكن إيراد عدد من املصادر من ذلك الزمان إلعطاء معقولية إلعادة بناء كهذه‪ .‬فسيبيوس ذاته يسجل طرد الفرس اليهود من‬
‫القدس )‪ ،(Histoire, p. 69‬ويؤيده يف هذا تاريخ اخلوزستاين ‪(Chronica‬‬

‫‪16‬‬
‫املطلب ال يضعف الصورة اليت يق ّدمها سيبيوس عن بنيان العالقات اليهودية العربية يف احلقبة املوصلة إىل‬
‫الغزو‪ ،‬وموثوقية هذه الرواية مؤكدة بشكل ملفت للنظر من قبل طرف غري متوقع تقريباً‪ .‬فمقابل الرواية‬
‫اإلسالمية املعتمدة حول العالقات بني حممد وأسباط اليهود يف املدينة‪ ،‬يَظْ َهر اليهود يف وثيقة تعرف‬
‫باسم «عهد املدينة» على أهنم يش ّكلون أمة واحدة مع املؤمنني رغم احتفاظهم بديانتهم اخلاصة‪ ،‬وهم‬
‫يتوزعون دون أمساء متميزة ضمن عدد من أسباط العرب(‪ .)41‬ومبا أن هذه الوثيقة خمالفة ملا هو متعارف‬
‫عليه على حنو واضح وتعترب عنصراً دا ِرساً ‪ archaic‬للوهلة األوىل يف التقليد اإلسالمي‪ ،‬فاتفاقها يف‬
‫هذه املسائل مع أقدم األوصاف الروائية حول أصول اإلسالم هام إىل درجة كبرية‪ .‬وهكذا ميكن لنا أن‬
‫نقبل بسيبيوس باعتباره يقدم اإلطار الروائي األساسي الذي تنتمي إليه محيمية العالقات اليهودية ‪-‬‬
‫العربية املقدمة سابقاً يف هذا الفصل‪.‬‬
‫ما جيب على سيبيوس قوله له أمهية بالغة حبد ذاته أيضاً‪ .‬فهو يقدم لنا يف املوضع األول تعبرياً‬
‫واضحاً عن التوجيه الفلسطيين للحركة‪ ،‬وهي مسة متض فمنَة يف السيناريو املسياين ويؤكدها على حنو مستقل‬
‫التقليد التارخيي لليعاقبة(‪ )42‬؛ وبالطبع فإن إصرار التقليد اإلسالمي على أن عاصمة الغزاة‪ ،‬حىت يف زمن‬
‫الغزو‪ ،‬كانت مكة أكثر وليس القدس(‪ ،)43‬ال خيلو من بعض التوتر‪ .‬وبشكل أكثر ختصيصاً‪ ،‬فإن تقدمي‬

‫‪ ،)Minora, pp. 26 = 23 ‬إضافة إىل مصادر متأخرة عديدة‪ .‬ويروى أن قديساً مسيحياً هارباً من االحتالل الفارسي للقدس أحاق به‬
‫ملرات عديدة خطر األسر على يد «السرسنيني والعربانيني»‪[C. Houze (ed. and tr.)], Sancti Georgii Chozebitae Confessoris et .‬‬

‫‪monachi vita, Analecta Bollandiana 1888, p. 134‬؛ الحظ أن اهلروب إىل شبه جزيرة العرب يبدو كمسار حمتمل للفعل‪ ،‬صص‬
‫‪ .133 ،127‬ويشهد سفر قيامي يهودي على ما ميكن أن تكون عليه حالة مسيانية معادية للفرس موازية يف فلسطني عام ‪(I. .628‬‬

‫‪ .)Lévi, ‘L’ Apocalyps de Zorobabel et le roi de Perse Siroés’, Revue dea études juives 1914, pp. 135 = 151‬لكن وحدها‬
‫املصادر املتأخرة تقدم إشارة واضحة إىل أن احلركة كانت موجهة أصالً ضد الفرس (يدس توماس ارتسروين (القرن العاشر) إشارة إىل‬
‫الفرس يف رواية تعتمد على نص سيبيوس‪M. Brosset, Collection d’ historiens arméniens, vol. I, st. Petressburg, 1874, p. 88 ،‬؛‬
‫وهنالك حتريف مشابه يف نسخة ميخائيل السرياين األرمنية‪ ،‬أنظر‪V. Langlois (tr.) (Chronique de Michel le Grand, Venice 1868, :‬‬

‫‪p. 223‬؛ لكن التدمري الفارسي للجزيرة العربية مذكور يف سرية حياة القديس يوحنا املتص ّدق واليت تعود إىل تلك احلقبة‪(E. Dawes and .‬‬

‫‪.)N. H. Baynes, Three Byzantine Saintes, Oxford, 1948, pp. 205 f.‬‬
‫(‪ )41‬حممد بن اسحق‪« ،‬سرية سيدنا حممد رسول اهلل» ‪ ،‬حترير ف‪ .‬فوستنفلد‪ ،‬غوتنغن ‪ ،1758‬صص‪ 342‬وما بعد = الكاتب ذاته‪،‬‬
‫‪ ،The Life of Mohammad‬ترمجة آ‪ .‬غوليوم‪ ،‬لندن ‪ ،1755‬ص‪233‬؛ أبو عبيد‪ ،‬كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪ .519‬لقد كانت هذه السمة‬
‫للوثيقة مثرية للتلغيز دائماً‪ ،‬أنظر مثالً‪ J. Wellhausen, «Muhammads Gemeindeordung von Medina» :‬يف عمله ‪Skizzen und‬‬

‫‪ ،Vorarbeiten‬اجمللد ‪ ،IV‬برلني ‪ ،1886‬صص ‪ 95‬وما بعد‪.‬‬


‫(‪ .Michael the Syrian, Chronique, vol. iv, p. 404 = vol. I. pp. 403f )42‬قارن املسح العقائدي األكثر كالسيكية الذي سيأيت الحقاً‪،‬‬
‫تصور فيه الكعبة على حنو بارز باعتبارها القبلة‪.‬‬
‫والذي ّ‬
‫(‪ )43‬قارن‪ :‬اهلامش رقم ‪ 24‬السابق‪ .‬مثة اثر من التوجه الفلسطيين األصلي يستمر يف التقليد اإلسالمي مع فلسطني اليت تظهر هنا يف‬
‫ثوب سوريا‪ :‬سيكون هنالك جند يف سوريا‪ ،‬اليمن والعراق‪ ،‬لكن النيب زّكى سوريا باعتبارها األرض اليت اختارها اهلل للمصطفني من‬
‫عبيده (أبو داود سليمان بن األشعث السجستاين‪ ،‬صحيح سنن املصطفى‪ ،‬القاهرة ‪ .1348‬اجمللد ‪ ،1‬ص‪388‬؛ قارن أمحد بن حممد‬

‫‪19‬‬
‫احلركة باعتبارها مذهباً اسرتادياً موجهاً حنو اسرتداد حق بكورية لألرض املقدسة ممنوح إهلياً هو أمر يوحي‬
‫بنوع من التجميع املسياين للمنفيني‪ .‬باملقابل فالنفي داخل الصحراء الذي تبدأ به القصة ميكن النظر إليه‬
‫فعالً باعتباره تشريعية لفنتازيا مسيانية راسخة(‪ .)44‬يف الوقت ذاته فإن هذا الدور الذي يعزا للصحراء‪ ،‬إذا‬
‫ما مجعناه مع تذكر ألمساء املواضع يف الغزو اإلسرائيلي األصلي لألرض املقدسة(‪ )45‬إضافة إىل العبارة‬
‫القائلة إن النيب كان مطلعاً جيداً على قصة موسى‪ ،‬فإنه يوحي بقوة باملوازاة احلاخامية بني الفدائني‬
‫املوسوي واملسياين(‪ :)46‬بكلمات أخرى‪ ،‬التأكيد موسوي أكثر منه داوودي‪ .‬وهكذا فإن سيبيوس‪ ،‬دون‬
‫أن يؤكد بشكل مباشر على املقولة املسيانية‪ ،‬يساعد يف تقدمي سياق عقائدي تشعر فيه املقولة باأللفة‬
‫الكاملة‪.‬‬
‫لكن سيبيوس يق ّدم لنا أيضاً شيئاً يغيب بالكامل عن املصادر اليت مت فحصها حىت اآلن‪ :‬وصف‬
‫للطريقة اليت ق ّدم هبا النيب األساس املنطقي للتدخل العريب يف متثيل املسيانية اليهودية‪ .‬وهذا األساس‬
‫مكون من استلهام ثنائي الطبيعة لألصل االبراهيمي للعرب وذلك بوصفهم امساعيليني‪ :‬حىت‬ ‫املنطقي ّ‬
‫(‪)49‬‬
‫يضفي عليهم من ناحية حق بكورية بالنسبة لألرض املقدسة ‪ ،‬وكي يعطيهم من ناحية أخرى علم‬

‫منجد‪،‬‬
‫بن حنبل‪ ،‬املسند‪ ،‬القاهرة ‪ ،1313‬اجمللد ‪ ،5‬صص ‪ 33‬وما بعد؛ علي بن حسن بن عساكر‪ ،‬تاريخ مدينة دمشق‪ ،‬حترير س‪ّ .‬‬
‫اجمللد ‪ ،1‬دمشق ‪ ،1751‬صص ‪.)94 - 49‬‬
‫(‪ )44‬هذه الفنتازيا‪ ،‬اليت استحدثها أتباع طائفة البحر امليت‪ ،‬ممثّلة على حنو جيد يف األدب احلاخامي (أنظر على سبيل املثال من أجل‬
‫شهادة قدمية‪ B. Mandelbaum (ed), Pesikta de Rav Kahana, vol. i, New York 1962, pp. 92f; :‬من أجل مقطع مواز‪ ،‬أنظر‪J.J. :‬‬

‫‪ .) Slotki (tr), Midrash Rabbah (Numbers, vol.i, London 1939; pp. 413 f‬كما تظهر يف سفرين قياميني من احلقبة ذاهتا ’‪(Levi, «L‬‬

‫‪ ،)Apocalypse de Zorobable», pp. 135 mste 28 = 151 note 7, 136 f = 153; Lewis, «On that day», p. 200‬وكذلك يف رواية سريانية‬
‫حول مسيح مزعوم من بالد مابني النهرين ظهر يف ثالثينات القرن الثامن ‪(I. B. Chabot (ed), Incerti auctoris Chronicon pseudo -‬‬
‫‪Dionysianum vulgo dictum (= CSCO, Scriptores Syri vol. Liii), Louvain 1933, pp. 173f = id (tr.) Chronique de Denys de‬‬
‫)‪Tell - Mahré, Paris 1895, pp. 26 f‬‬
‫(‪ )45‬الحظ اإلشارات إىل برية فاران‪ ،‬عربوت موآب (سيبيوس‪ ،‬تاريخ‪ ،‬ص‪ ،)76 .‬أرحيا (ص‪ )78 .‬وصحراء السن (ص‪ .)191 .‬إىل‬
‫هذا السياق تنتمي أيضاً اإلشارات إىل أسباط إسرائيل االثين عشر‪ .‬لكن هذه التحريفات الكتابية قد ال تعكس شيئاً بالطبع غري مذاق‬
‫أديب للمؤرخ؛ قارن هنا علم األنساب االمساعيلي عنده‪.‬‬
‫(‪ )46‬إنه مبدأ حاخامي ذلك الذي يعترب أن املخلّص األخري (أي‪ ،‬املسيا) جيب أن يكون مثل املخلّص األول (أي موسى)؛ أنظر على‬
‫سبيل املثال‪ .Mandelbaum (ed.), Pesikta de Rav Kahana :‬واملقارنة بني املخلصني هي طبعاً أقدم من زمن احلاخامني؛ قارن‪ :‬اشعيا‬
‫‪ . 16:11‬يف مالحظة أكثر عملية‪ ،‬قارن الصدى املوسوي القوي عند كريتان ‪ Cretan‬الذي ادعى أنه املسيا يف القرن اخلامس والذي‬
‫قاد أتباعه إىل شاطئ البحر حيث توقع أن املوج سوف ينفرق كي يعربوا إىل فلسطني ‪(Socrates Scholasticus, Historia‬‬

‫‪ ،PG Ecchlesiastica‬اجمللد ‪ ،Lxvii‬العمود ‪ .)825‬كذلك فقد زعم مدعي املسيانية من القرن الثامن املشار إليه آنفاً يف اهلامش ‪،44‬‬
‫بالفعل أنه موسى ذاته العائد كي يقود بين إسرائيل من الصحراء ويعيدهم إىل األرض املوعودة‪.‬‬
‫فضل مضر [امسعيل] العراق على سوريا‪« ،‬فاندهش عمر كيف‬ ‫(‪ )49‬انعكاس شاحب هلذه الفكرة ميكن تقصيه يف التقليد وذلك حني ّ‬
‫استطاعوا نسيان أسالفهم السوريني» (الطربي‪ ،‬تاريخ‪ ،1 ،‬صص ‪ 2222‬وما بعد)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫موحد‪ .‬مل يكن أي من االستلهامني دون سوابق(‪ .)48‬لكن إذا كان صعباً اعتبار الرسالة أصيلة‬ ‫أنساب ِّ‬
‫جداً‪ ،‬فقد كانت حتتوي‪ ،‬إضافة إىل األساس املنطقي ملشاركة اإلمساعيليني يف اخلروج اإلسرائيلي‪ ،‬بذرة‬
‫هوية دينية عربية متميزة عن مقابلتها عند معلميهم واحملميني من قبلهم من اليهود‪.‬‬
‫ال يوجد سبب معقول يدفعنا إىل االفرتاض أن حاملي اهلوية البدئية هذه دعوا أنفسهم «مسلمني»‪.‬‬
‫وأول ذكر هلذا املصطلح على حنو مبني كان يف قبة الصخرة عام ‪ 671‬وما بعد(‪)47‬؛ وال جنده من ناحية‬
‫أخرى خارج التقليد األديب اإلسالمي حىت القرن الثامن(‪ .)59‬لكن مصادرنا تكشف عن تسمية للجماعة‬
‫أكثر قدماً من السابقة‪ ،‬تسمية تتناسب جيداً مع سياق األفكار اليت قدمها سيبيوس‪ .‬تظهر هذه‬
‫التسمية يف اليونانية بصيغة «ماغاريتاي ‪ »Magaritai‬وذلك يف بردية تعود للعام ‪642‬؛ أما يف‬
‫السريانية فهي «ماهغري ‪ »Mahgre‬أو «ماهغرايه ‪ »Mahgraye‬واليت تظهر منذ البدايات أي‬
‫من أربعينيات القرن السابع(‪)51‬؛ واملصطلح العريب املقابل هو مهاجرون(‪ .)52‬مثة فكرتان متضمنتان هنا‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )48‬يناقش كل من تكوين راباه ‪ 9:61‬والتلمود البابلي‪ ،‬رسالة السنهدرين ‪ 71‬آ وما بعد‪ ،‬فكرة حق بكورية امسعيل باألرض املقدسة‬
‫ويرفضاهنا‪ .‬ويف سفر اليوبيل ‪ .) (R. H. Charles (tr.), The Book of Jubiless, London 1952, pp. 129 - 31‬تظهر رخصة تسمح بديانة‬
‫عربية ابراهيمية (امساعيلية وقطورية)‪ ،‬تتضمن التوحيد‪ ،‬اخلتان حبسب العهد‪ ،‬وبعض الوصايا األخالقية التشريعية‪.‬‬
‫(‪( M. van Berchem, Matériaux pour un Corpus Inscriptionum Arabicarum, part tow, vol. ii, Cairo 1927, no. 217 )47‬كلمة‬
‫إسالم تظهر يف املالحظة ‪.)215‬‬
‫(‪ ) 59‬يرجع أقدم دليل على مسألة ذات عالقة بعلم القطع النقدية أو ما شابه إىل العام ‪(Lavoix, Catalogue des monnais 968‬‬

‫‪.) musulmanes de la Bibliothèque nationale: Khalifes orientaux, nos. 1554f: Mahdi as wali‘ahd al-muslimin‬‬
‫أما أقدم ظهور للمصطلح باللغة السريانية (ماشليمانه مبعىن مسلمني) فهو ذلك الذي رأيناه يف أحد التواريخ من العام ‪(Chabot .999‬‬

‫‪ .)(ed.), Chronicon pseudo- Dionysinum, p. 195 - id(tr.), Chronique de Denys de Tell-Mahré, p. 46‬لكن أقدم منوذج يف بردية‬
‫موثقة وصل إلينا هو ذلك الذي يرجع إىل العام ‪( 973‬باليونانية ‪624‬؛ أنظر‪A. Grohmann, From the World of Arabic Papyri, :‬‬

‫‪ .) Cairo 1952, pp. 132-134‬من أجل مثال عن أمنوذج لربدية عربية مسيحية‪ ،‬واليت أمكن تأرخيها من منتصف القرن الثامن‪ ،‬إذا كانت‬
‫قراءة احملرر للنص وختمينه لتارخيه صحيحني‪ ،‬أنظر‪ffentlichungen ِG. Graf, Christlich - arabische Texte, in F. Bilabel (ed.), Ver :‬‬

‫‪ .aus den badischen Papyrus Sammlungen, vol. v, Heidelberg, 1934, p. 10‬وبسبب هذه الشهادات الواهية واملتأخرة يصعب علينا‬
‫أن نتخيل أن مصطلحي «إسالم» و «مسلمون» كانا يستخدمان كتسمية للدين ومعتنقيه يف زمن الغزوات‪.‬‬
‫(‪« )51‬ماغاريتاي»‪ 564 :‬بالتاريخ اليوناين ‪(A. Grohmann, «Greek Papyri of the Early Islamic Period in the Collection of‬‬

‫‪ .)Archduke Rainer», Etudes de Papyrologie 1957, pp. 28 f‬أيضاً ‪ 558‬بالتاريخ اليوناين الذي يوافق عام ‪( 643‬أنظر اهلامش‬
‫‪ 37‬السابق)‪« .‬ماهغري»‪ :‬ايشوع يهب الثالث‪Liber Epistularum , ed. and tr. R. Duval (= CSCO, Scriptores Syri, second ،‬‬

‫‪ُ (.series, vol. Lxiv), Paris 1904 f., pp. 97 = 73‬كتبت الرسالة حني كان ايشوع يهب ما يزال اسقفاً؛ وألنه صار مطراناً قبل أن يصبح‬
‫مارمه كاثوليكوس (املرجع السابق‪ ،‬صص ‪ ،) 83 = 197‬جيب أن ال تكون الرسالة بعد أربعينات القرن السابع)‪ .‬تظهر «ماهغرايه»‬ ‫ّ‬
‫مرات عديدة يف وصف جدل ديين حدث على األغلب عام ‪F. Nau, «Un collaque du Patriarche Jean avec L’émir des :644‬‬

‫‪( Agaréens», Journal asiatique 1915, pp. 248, 251 = 257, 260f‬قارن الصيغة «مهغرا»)‪.‬إن الظهور القدمي للمصطلح خارج موطنه‬
‫األصلي يف مناطق بعيدة كمصر والعراق ملفت للنظر‪.‬‬
‫(‪ )52‬مع أن اللفظ العريب ال يوجد شواهد عليه قبل ظهور صيغة «مواغرايتاي» يف بردية قره بن شريك‪ ،‬حاكم مصر بني عامي ‪- 997‬‬
‫‪(H.I. Bell (ed.), The Aphrodito Papyri (= Greek Papyri in the British Museum, vol. iv), London, 1910, nos, 1335, .914‬‬

‫‪.)1349, 1394 etc‬‬

‫‪17‬‬
‫األوىل‪ ،‬وهي شبه مفقودة يف التقليد اإلسالمي(‪ ،)53‬هلا عالقة بعلم األنساب‪« :‬املهغرايه»‪ ،‬كما خيربنا‬
‫مرجع سرياين قدمي‪ ،‬هم املنحدرون من ابراهيم عرب هاجر(‪ .)54‬لكن جبانب هذه املكانة املعزوة إليهم‬
‫هنالك أيضاً مكانة حمرزة واليت حيتفظ هبا التقليد اإلسالمي بالكامل‪ :‬املهاجرون هم أولئك الذين‬
‫يشاركون يف هجرة(‪ ،)55‬أي نفي‪.‬‬
‫يف التقليد اإلسالمي جند أن اخلروج الذي حنن بصدده هو من مكة إىل املدينة‪ ،‬والذي يتطابق موعده مع‬
‫بداية التقومي العريب عام ‪ .622‬لكن ما من مصدر تارخيي قدمي يشهد على صحة تارخيية هذا اخلروج(‪،)56‬‬
‫واملصادر اليت مت فحصها يف هذا الفصل تق ّدم بديالً معقوالً أال وهو هجرة اإلمساعيليني من اجلزيرة العربية إىل‬
‫األرض املوعودة‪ .‬هنالك نقطتان تعمالن لصاحل هذا البديل تستحقان أن توردا هنا‪ .‬ففي املوضع األول‪،‬‬
‫مهاجرو التقليد اإلسالمي هم العنصر القائد للجماعة الدينية الغازية ليس إال؛ ومع ذلك فاملصادر اليونانية‬
‫والسريانية تستخدم مصطلحي «ماغاريتاي» و«مهغرايه» مع كل ظهور لإلشارة إىل اجلماعة ككل(‪ .)59‬ثانياً‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )53‬لكن الحظ كيف أنه حىت يف «املرسوم األمريي» الشامل الذي يعزا إىل عمر الثاين‪ ،‬يُستخدم فعل هاجر يف حالة العرب‪ ،‬وفعل‬
‫فارق يف حالة غري العرب‪( .‬أبو حممد عبد اهلل بن عبد احلكم‪ ،‬سرية عمر بن عبد العزيز‪ ،‬حترير أمحد عبيد‪ ،‬القاهرة ‪ ،1729‬صص‬
‫‪ 74‬وما بعد)‪.‬‬
‫(‪ )54‬حتمل قلفونة النص تاريخ ‪ 63‬من تقومي مهغرايه بين ايش [معيل] بار هاغار بار ابراهام‪(W. Wrght, Catalogue of Syriac .‬‬
‫‪Manuscripts in the British Museum, London 1870, p 92).‬‬
‫(‪ ) 55‬ميكن مقارنة مركزية فكرة اخلروج هذه مع الطريقة اليت يقدم هبا التقليد اإلسالمي ذاته مسألة «اهلجرة» وذلك باعتبارها الواجب‬
‫الديين الذي حل اإلسالم حمله وهكذا يروى أن عائشة قالت إن واجب اهلجرة مل يعد موجوداً اآلن ألن اهلل أظهر اإلسالم‪( .‬أبو عبيد‪،‬‬
‫كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪ 535‬؛ حممد بن امساعيل البخاري‪ ،‬كتاب اجلامع الصحيح‪ ،‬حترير ‪ ،L. Kreh‬اليدن ‪ ،1798 - 1862‬اجمللد ‪،3‬‬
‫ص‪ .) 35‬النيب ذاته يشهد على صحة نسخ بيعة اهلجرة ببيعة اإلسالم (املصدر السابق‪ ،‬اجمللد ‪ ،2‬صص‪ 269‬وما بعد؛ واجمللد ‪،3‬‬
‫صص ‪ 145‬وما بعد)‪ .‬يف خلفية هذه التقاليد جند إصراراً أكثر عمومية على إبطال واجب اهلجرة (أنظر على سبيل املثال‪ :‬أبو عبيد‪،‬‬
‫كتاب األموال‪ ،‬األرقام ‪534 - 531‬؛ يعزو األخري إنكار اخلالص إىل امر ال يقوم باهلجرة)‪.‬‬
‫(‪ ) 56‬أول من يشهد على صحة بيوغرافيا النيب الداخلية (مكة‪ ،‬قريش‪ ،‬ومعركة بدر‪ ،‬لكن بنوع من االحنراف التأرخيي البسيط) هو بردية‬
‫من هناية احلقبة األموية‪ .)(A. Grohmann, Arabic Papyri from Hirbet el-Mird, Louvain 1963, no 71 .‬لكن ما من مصدر من القرن‬
‫السابع يعترب أن التقومي العريب هو تقومي اهلجرة‪ .‬واملواد العربية (عمالت‪ ،‬برديات‪ ،‬نقوش) حتذف باستمرار اسم احلقبة (شاهدة القرب‬
‫اليت حتمل تاريخ «السنة التاسعة والعشرين من اهلجرة»‪ ،‬واليت يستشهد هبا غرومهان ‪ln, 1966, ِ(Arabische Chronologie, Leyden/ K‬‬

‫‪ )p. 14‬ليست معروفة إال من مصدر أديب متأخر)‪ .‬وختربنا املواد اليونانية والسريانية حقبة من كانت‪ ،‬حيث عادة ما تشري إليها باعتبارها‬
‫حقبة العرب؛لكن املفتاح الوحيد لفهم طبيعة احلدث الذي شكل نقطة بدايتها هو التارخيان اللذان حتملهما وثيقتان إكلريوسيتان‬
‫نسطوريتان أي ‪ 696‬و ‪« 689‬من حكم العرب»‪(shultana de - tayyaye, J. B. Chabot (ed. and tr.), Synodicon Orientale ou .‬‬
‫‪Recueil de Synodes nestoriens (= Notices et extraits manuscrits de la Bibliothèque Nationale, vol. xxxvii) Paris 1902; pp.‬‬
‫‪.)216 = 482, 227 = 490‬‬
‫(‪ )59‬يصعب علينا أن نتخيل أن االمرأة اللكعة اليت هتدد بأهنا ستغري دينها (أهغر) إذا حرمت من املناولة بسبب إقامتها لعالقة جنسية‬
‫مع املهغرايه إمنا هي تعتزم االنضمام إىل صفوف املهاجرين املكيني‪(C. Kayser (ed. and tr.), Die Kanones Jacobs von Edessa, .‬‬

‫دراج (أمحد بن حيّي البالدري‪ ،‬كتاب‬ ‫‪)Leipzig 1886, pp. 13 = 39‬؛ قارن أيضاً مسألة موىل معاوية والعنصر األمريي عبد اهلل بن ّ‬
‫أنساب األشراف‪ ،‬اجمللد الرابع ب‪ ،‬حترير م شلوزنغر‪ ،‬القدس ‪ ،1738‬ص‪ ،)123 .‬والذي ميكن االفرتاض أنه مل يكن عربياً لكنه‬
‫يوصف بأنه «مهغرايه» يف مصدر سرياين من تلك احلقبة‪(F. Nau, “Notice historique sur le monastere de Qartamin”, Actes du .‬‬

‫‪29‬‬
‫حيفظ لنا التقليد اإلسالمي مناذج من استخدام «اهلجرة» واملصطلحات املرتبطة هبا يف سياقات حيث ال تكون‬
‫اهلجرة ضمن اجلزيرة العربية بل من اجلزيرة العربية إىل األقطار املغزوة(‪ .)58‬بل هنالك تقليد حيصر التسمية‬
‫بفلسطني ضمناً‪ :‬سوف تكون هنالك هجرة بعد هجرة‪ ،‬لكن أفضل الناس هم الذين سيتبعون هجرة‬
‫ابراهيم(‪ .)57‬ميكن النظر إىل «املهغرايه» إذاً باعتبارهم املشاركني اهلاجريني يف هجرة إىل األرض املوعودة‪ ،‬ويف‬
‫هذه التورية تكمن أقدم هوية للدين الذي كان عند متام الزمن سيصبح اإلسالم‪.‬‬

‫‪ .) XIV, Congrès internationale des Orientalistes, part two, Paris 1907, pp. 95 = 84‬قارن النبوءة اليت حتفظها لنا املسيحية العربية‬
‫واليت يشري فيها القديس القبطي صموئيل القلموين إىل الغزو العريب باعتباره جميء «األمة اليت هي املهاجرون»‪(R. Basset (ed. and .‬‬

‫‪( .)tr.), “Le Synaxaire arabe jacobite (Rédaction copte) in Patrologia Orientalis, vol. iii. p. 408‬مهما كانت الصيغة القبطية‬
‫املستخدمة يف الرتمجة هنا‪ ،‬فمصطلح مهاجرون يشكل على األرجح أساس االستخدام امللفت للنظر ملصطلح هجرة وذلك باعتباره‬
‫تسمية للغزاة العرب يف النسخة الكاملة من سفر صموئيل القيامي‪(J. Ziadeh (ed and tr.), “L’ Apocalypse de Samuel supérieur de .‬‬

‫‪Deir el Qalamoun”, Revue de L’Orient chétien 1915 - 17, pp. 383, 389 et passim‬؛ الحظ بشكل خاص عبارة «أمة اهلجرة‬
‫يعيد ناو زمن تأليف هذا السفر القيامي إىل بداية القرن الثامن )‪ (ibid, p. 405‬لكنه قد يكون بعد ذلك‪.‬‬ ‫العربية»)‪.‬‬
‫(‪ )58‬ابن عبد احلكم‪ ،‬سرية عمر‪ ،‬ص‪75‬؛ أبو عبيد‪ ،‬كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪549‬؛ قارن أيضاً‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬رقم ‪536‬؛ الطربي‪ ،‬تاريخ‬
‫‪2995 :1‬؛ أمحد بن حيّي البالذري‪ ،‬كتاب فتوح البلدان‪ ،‬حترير ‪ ،M. J. de Goeje‬اليدن ‪ ،1866‬ص‪ .383‬على حنو مشابه تطلق‬
‫عبارة «دار هجرة» على الكوفة (املصدر السابق‪ ،‬ص‪ 295‬؛ أبو حنيفة أمحد بن داود الدنيوري‪ ،‬كتاب األخبار الطوال‪ ،‬حترير ‪V.‬‬

‫‪ ،Guirgass‬اليدن ‪ ،1888‬ص‪ .)131‬كما تطلق أيضاً على توج (املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)141‬‬
‫(‪ )57‬أبو داود‪ ،‬سنن‪ ،‬اجمللد ‪ ،i‬ص‪( ،383‬ترد بالعربية على هذا النحو‪ :‬ألزمهم مهاجر ابراهيم)‪ .‬قارن القرآن ‪.25 :27‬‬

‫‪21‬‬
‫‪2‬‬
‫الهاجرية دون يهودية‬

‫التفاهم املتبادل الذي مفاده أنه «ميكنك أن تكون يف حلمي إذا استطعت أن أكون يف‬
‫حلمك» ميكن أن يق ّدم قاعدة قابلة للتطبيق على احللف بني اليهود والعرب يف الربيّة‪ .‬لكن حني ُشِّرعت‬
‫فانتازيا مسيانية يهودية على شكل غزو عريب لألرض املقدسة‪ ،‬راح النجاح السياسي يبدو وكأنه يظهر‬
‫نوعاً من اإلرباك باملنظور العقائدي‪ .‬فعاجالً وليس آجالً‪ ،‬كان مزيج الفداء اإلسرائيلي والنسب‬
‫اإلمساعيلي يف طريقه الن يفسد‪ .‬ألنه يف صميم الربنامج املسياين كان السؤال الذي طرح ذات مرة على‬
‫يسوع الناصري‪« :‬رب‪ ،‬أال تريد أن تعيد اآلن اململكة إىل إسرائيل؟» يسوع‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أخذ موقفاً ممتازاً‬
‫للتملّص من هذا السؤال‪ ،‬واستمر أصحابه يف تشكيل ديانة حول هذا التملّص‪ .‬لكن جناح العرب حتديداً‬
‫هو الذي منع انفصاالً تدرجيياً عن املسيانية اليهودية‪ ،‬وتطلّب عوضاً عن ذلك صدعاً حاداً وآنياً‪.‬‬
‫إن السياق الذي حدث فيه هذا الصدع فعالً رمبا يكون العمل الرمزي املركزي يف الربنامج املسياين‪،‬‬
‫أال وهو ترميم اهليكل‪ .‬فمن ناحية لدينا استعداد املصادر األوىل للحديث عن فعالية البناء العربية يف‬
‫املوقع وذلك باعتبارها ترميماً للهيكل(‪ ،)1‬وهو ما يوحي على األقل بأن هذا هو ما أخذ العرب على‬
‫عاتقهم القيام به أصالً؛ وحنن لدينا‪ ،‬على حنو خاص‪ ،‬عبارة من «األسرار» مفادها أن امللك الثاين الذي‬
‫يظهر من امسعيل سيكون حبيب إسرائيل وهو الذي «يرمم صدوعاهتا وصدوعات اهليكل»(‪ .)2‬لكن من‬
‫ناحية أخرى لدينا الرواية اليت يق ّدمها سيبيوس حول نزاع علين بني اليهود والعرب بشأن ملكية موقع‬
‫قدس األقداس‪ ،‬والذي أحبط فيه العرب خطة اليهود السرتداد اهليكل وبنوا عوضاً عن ذلك مصلى‬
‫خاصاً هبم(‪ .)3‬وليس من غري املرجح أن يكون «األسرار» وسيبيوس يشريان إىل طورين متعاقبني من‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حول «امللك الثاين»‪ ،‬إمنا يشري إىل بناء قبة الصخرة بوصفه إصالحاً للهيكل‪.‬‬ ‫(‪ )1‬يبدو أن «األسرار»‪ ،‬مبعزل عما كان عليه أن يقوله‬
‫)‪ . (Lewis, “Apocalyptic Vision’, pp. 325, 327‬وتصف كسرة من سفر قيامي يهودي آخر عبد امللك باعتباره باين اهليكل‬
‫(‪ .(I, Lévi, “Une apocalypse judéo - arabe”, Revue des études juives 1914, pp. 178f‬قارن أيضاً النبوءة‬
‫املنسوبة إىل شنويت ‪ - Shenouti‬قد تكون قدمية لكنها مل حتفظ إال بالعربية ‪ -‬حول جميء أبناء امسعيل وعيسو‪ ،‬والذين ستبين بقية‬
‫منهم اهليكل يف القدس ‪(E. Amélineau, Monuments pour servir a l’histoire de l’Egypte chrétienne aux IV‬‬
‫‪et V siécles (= Mémoires publiés par les membres de la Mission Archéologique Française au Caire,‬‬
‫‪.)vol. iv) Paris 1888, p 341‬‬
‫(‪ )2‬أنظر اهلامش ‪ 21‬يف الفصل السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬سيبيوس‪ ،‬تاريخ‪ ،‬صص ‪ 192‬وما بعد‪ .‬قارن العبارة الالحقة يف «األسرار» بشأن «امللك الثاين» الذي يبين مسجداً (هشتاحوايا)‬
‫هناك على هيكل الصخرة» )‪ (Lewis, “Apocalyptic Vision, pp. 324 f‬مع املبىن اخلشيب املستخدم كبديل مؤقت والذي رآه‬
‫آركولف ‪ Arculf‬يف مكان اهليكل عام ‪ 699‬تقريباً‪.‬‬
‫‪(“Relatio de locis sanctis” in T. Tobler and A.Molinier (eds.) , Itenera Hierosolymitana et‬‬
‫‪.)descriprtiones Terrae Sanctae, Geneva 1879 f, p. 145‬‬

‫‪22‬‬
‫العالقات اليهودية العربية(‪ .)4‬لكن سيبيوس جيعل روايته للصدع مباشرة بعد موجة الغزوات األوىل(‪)5‬؛‬
‫وتبدو أيام املسيا بأية حال وكأهنا قصرية األجل نوعاً ما(‪.)6‬‬
‫أول شيء كان اهلاجريون حباجة له يف هذه الورطة هو األساس املنطقي للصدع مع املسيانية‬
‫اليهودية‪ .‬والتقليد اإلسالمي حيتفظ لنا بدليل ما حول ما أبدعته اهلاجرية يف هذا السياق‪ :‬فقد رأينا للتو‬
‫الطريقة اليت جعلت هبا تسمية «عمر» «خملّصاً» غري ضارة‪ ،‬وسوف نصل الحقاً إىل القدر الغريب‬
‫لفكرة «اخلالص» املوافقة لذلك(‪ .)9‬لكن مثلما كانت التبدالت حبد ذاهتا هامة‪ ،‬فقد كانت إىل حد ما‬
‫غري ضرورية أيضاً‪ .‬ومنذ زمن طويل كان املسيحيون قد واجهوا املشكلة وحلوها بأسلوب خمتلف جداً‪.‬‬
‫ما أن انسلخ اهلاجريون عن رعاياهم اليهود السالفني واكتسبوا أعداداً ضخمة من اخلاضعني‬
‫املسيحيني‪ ،‬حىت راحت عدائيتهم البدئية للمسيحية تتعرض للتآكل بشكل واضح‪ .‬وهكذا فإن ايشوع‬
‫يهب الثالث‪ ،‬الكاثوليكوس النسطوري بني عامي ‪ 658 - 649‬تقريباً‪ ،‬يعلّق على موقف العرب حيال‬
‫اخلري إىل درجة عالية(‪ ،)8‬يف حني كتب نسطوري آخر يف اجلزيرة السورية يف العقد األخري من‬ ‫الكنيسة ّ‬
‫ذلك القرن يذكر أن الغازين كانوا حيملون أوامر من قادهتم لصاحل املسيحيني(‪ .)7‬يف الوقت ذاته فإن قصة‬
‫حياة البطريرك اسحق الراقوطي القبطية تشهد على العالقات الرائعة اليت كانت بينه وبني احلاكم عبد‬
‫العزيز بن مروان يف مثانينات القرن السابع‪ ،‬وعلى حب األخريللمسيحيني(‪ .)19‬على هذه األرضية كان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )4‬الحظ أنه يف حني يصف «األسرار» أفعال «امللك الثاين» الذي يبدو أنه «عمر» يف البدايات علىاألقل‪ ،‬تتضمن رواية سيبيوس أن‬
‫احلاكم اهلاجري مل يكن موجوداً يف القدس‪ .‬أما النبوءة املوجودة يف القصيدة القيامية املشار إليها آنفاً واليت تفيد أن إسرائيل «لن تبقى‬
‫بعيدة بعد اآلن عن بيت الصالة» )‪ (Lewis, “On That day”, p. 199‬فهي على ما يبدو ترتبط باحلقيقة اليت سبقت الصدع‬
‫الذي وصفه سيبيوس‪ ،‬هذا إذا كان هلا أساس تارخيي‪.‬‬
‫تتضمن التاريخ ‪ 641‬وما بعد‪ .‬لكن بينما ذكر سيبيوس غزو مصر (تاريخ‪ ،‬ص‪ ،)78 .‬فإن إشارة‬ ‫وضعية الوصف يف رواية سيبيوس ّ‬
‫( ‪)5‬‬

‫يوحنا الذي من نيكيو ‪ Nikiu‬إىل اخلوف اليهودي من املسلمني خالل الغزو يوحي بأن الصدع حدث قبل دخول العرب إىل مصر‬
‫)‪.(Chronicle, p. 13‬‬
‫(‪ )6‬إن تبين تقومياً يبدأ بعام ‪ ، 622‬مع أنه ميكن الربهنة بشكل معقول على تاريخ يبدأ بعام ‪ 638‬وما بعد (قارن مع اهلامش ‪37‬‬
‫ا لسابق)‪ ،‬يشري يف االجتاه ذاته‪ .‬لكن املسيانيني كانوا سيؤرخون منذ حترير صهيون‪.‬‬
‫(‪ )9‬أنظر ص هامش ‪ 6‬فصل ‪.3‬‬
‫(‪ . ’ yahb III, Liber Epitisularum, pp. 251 = 182 ِIs )8‬يذكر تاريخ اخلوزستاين اإلجالل الرفيع الذي احتفظت به السلطات‬
‫مارمه اآلنف الذكر )‪ (Chronica Minora, pp. 32 = 27‬لكن رمبا يكون هذا مكافأة على تعاون سابق‪.‬‬ ‫االمساعيلية للبطريرك ّ‬
‫(أنظر‪’ yaw III d’Adiabéne (580 - ِ’ yaw le Grand. Vie du Catholicos nestorien IsِJ. M. Fiey, Is :‬‬
‫‪)659)”, Orientalia Christiana Periodica 1970, p.5‬‬
‫(‪ Bar Penkaye in Mingana (ed. and tr.),Sources syriaques ,Leipzig n.d., pp. 146 = 175 )7‬؛ قارن أيضاً النص‬
‫غري املرتجم يف الصفحة ‪ ،141‬حيث يبدو أن الغزوالعريب ينظر إليه على أنه عمل العناية اإلهلية («القائد» يف املقطع األول هو حممد)‪.‬‬
‫قارن العاطفة املمحبة للمسيحيني امللحوظة (واملعادية لليهود) يف القرآن ‪.85:5‬‬
‫(‪E. Amélineau (ed. and tr.), Histoire du Patriarche copte Isaac (= Publications de l’ Ecole des )19‬‬
‫‪ . Lettres d’ Alger, vol. ii), Paris 1890, pp. 58 - 63‬يُشار إىل أرضية شعور معاد للمسيحية أكثر قدماً ومستمر مبعيار ما‬
‫(صص‪69 ،43‬؛ الحظ استمرارية كراهية احلاكم للصليب)‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫التلني العقائدي حيال شخص يسوع ذاته‪ .‬ويف وصف جلدل بني بطريرك مسيحي وأمري‬ ‫متوقعاً نوع من ّ‬
‫هاجري والذي قد يكون حدث عام ‪ ،)11(644‬يبدو األمري وكأنه ال يرفض مكانة يسوع املسيانية‬
‫(‪)12‬‬
‫التلني ميكن أن جنده يف رواية حمفوظة يف كسرة من تأريخ‬ ‫وال يؤكدها ‪ .‬لكن أقدم دليل على هذا ّ‬
‫ماروين قدمي ألعمال معاوية بعد إذ صار «ملكاً» يف القدس عام ‪ :657‬فهو يبدأ بالصالة يف اجللجلة‪،‬‬
‫اجلثمانية وقرب العذراء‪ ،‬وهذه موافقة مسلكية على موت املسيح اخلالصي(‪ .)13‬وهذا أكثر مما كان يسلّم‬
‫به التقليد اإلسالمي‪ :‬ليس يف اإلسالم أية فكرة عن يسوع كمخلّص‪ ،‬وعلى الرغم من قبول التقليد‬
‫مبكانته املسيانية‪ ،‬إال أنه يتدبّر األمر لسرمدة الكراهية اهلاجرية األوىل للصليب وذلك عرب استلهام ذكي‬
‫للذوقانية(‪ .)14‬وحبسب املصدر املاروين‪ ،‬فقد حاول معاوية ذاته‪ ،‬أن يصك نقوداً دون الصليب(‪ .)15‬لكن‬
‫املتضمن يف عبادات معاوية والصريح يف القرآن(‪.)16‬‬
‫ّ‬ ‫ما يهمنا هنا هو االعرتاف بيسوع كمسيا‪،‬‬
‫إن أهم شاهد على هذا اإلقرار موجود يف رسالة ليعقوب الرهاوي (مات عام ‪ 998‬تقريباً) حول‬
‫مسألة نَ َسب العذراء(‪:)19‬‬
‫يعرتف اجلميع‪ ،‬يهود‪ ،‬مهغرايه‪ ،‬ومسيحيون‪ ،‬بأن املسيح من نسل داود‪ .‬ويعرتف اجلميع أيضاً‪،‬‬
‫يهود‪ ،‬مهغرايه‪ ،‬ومسيحيون‪ ،‬أن املسيح‪ ،‬باجلسد‪ ،‬من نسل داود‪ ،‬ويعتربون ذلك شيئاً أساسياً‪ ..‬املهغرايه‬
‫أيضاً‪ ..‬يعرتفون بثبات كلهم أنه [يسوع] هو املسيح احلق الذي كان سيأيت والذي أخرب عنه األنبياء؛ ال‬
‫جدل بيننا وبينهم يف هذا املوضوع‪ ،‬لكن جدلنا مع اليهود‪ .‬فهم يؤكدون هلم بطريقة تأنيبية‪ .‬أن املسيح‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪Nau, ‘Colloque’ )11‬‬
‫‪ ‬من أجل تارخيية التفصيل الثانوي املعطى يف النص‪ ،‬أنظر املرجع السابق‪ ،‬صص ‪ 226‬وما بعد‪ .‬يف حكاية اجلدل اليت يق ّدمها ميخائيل‬
‫السرياين )‪ (Chronique, vol. iv, pp.421f = vol ii, pp. 431f‬جند أن اسم األمري هو عمرو بار سعد‪ ،‬وميكننا أن نشك أن املقصود به‬
‫عمري بن سعد األنصاري الذي يظهر كحاكم حلمص ومناطق أخرى يف احلقبة املمتدة بني عامي ‪( 644 - 641‬طربي‪ ،‬تاريخ‪ ،I ،‬صص‬
‫‪ 8 ،2646‬و‪29‬؛ الحظ االحتاد االستثنائي بالكامل لدمشق ومحص حتت سلطة املشار إليه يف املصدرين على حد سواء)‪ .‬وفقاً لذلك يبدو‬
‫تاريخ ‪ 644‬أفضل من التاريخ البديل ‪ .637‬من أجل مسألة كمالية النص‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ ،29‬القسم الثالث‪.‬‬
‫(‪ )12‬الحظ على حنو خاص كلمات هذا السؤال‪« :‬ذاك الذي تقول إنه املسيح‪ ،‬هل هو اهلل أم ال؟»‪.‬‬
‫)‪(Nau, “Colloque”, pp. 248f = 238‬‬
‫بعد ذلك يشري األمري ببساطة إىل يسوع باعتباره املسيح‪ .‬قارن هنا رسالة امللك االمساعيلي اليت ترجع للعام ‪.653‬‬
‫(‪Chronica Minora, pp. 71 = 55 )13‬‬
‫يعرب عنه الشياطني للحَنبه ‪( hanpe‬من الواضح أهنم املهغرايه هنا) مقابل اليهود على‬
‫القرآن ‪ .156:4‬الحظ أيضاً التفضيل الذي ّ‬
‫(‪)14‬‬

‫أساس أن األولني «ال يؤمنون أن املسيح هو اهلل» وذلك يف نص سرياين يرجع إىل زمن معاوية على األرجح ‪(Nau, “Notice‬‬
‫)‪ historique’, pp. 94 = 82‬؛ أما املؤلف‪ ،‬وهو دانيال الرهاوي‪ ،‬فقد كان اسقفاً يف تلك املدينة بني العامني ‪684 - 665‬‬
‫(املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)96‬‬
‫(‪.Chronica Minora, pp. 71 = 55f )15‬‬
‫(‪ )16‬القرآن ‪ 49:3‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪F. Nau, “Letter de Jacques d’Edeasse sur la généalgie de la sainte Vierge”, Revue de l’Srient )19‬‬
‫‪ .chrétien 1901, pp. 518 = 523f‬الرسالة مكتوبة قبيل وفاته‪ ،‬لكنها قد تعكس جتربة أقدم من ذلك‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫كان سيولد من داود‪ ،‬بل أن هذا املسيح الذي أتى ولد من مرمي‪ .‬يعرتف املهغرايه هبذا بثبات‪ ،‬وال جيادل‬
‫أحد منهم فيه‪ ،‬ألهنم يقولون للجميع دائماً أن يسوع ابن مرمي هو املسيح حقاً‪.‬‬
‫ترتبط أمهية هذا املقطع بطريقة االعتقاد أكثر منها باحملتوى‪ .‬فهي مت ّكننا من أن نرى يف اإلقرار‬
‫القرآين اجلاحد والالمبايل نوعاً ما بيسوع كمسيا بقية عقيدة هاجرية مؤكدة بقوة يف اجلدل مع اليهود‪.‬‬
‫وغرض عقيدة كهذه واضح مبا يكفي‪ .‬فقد قدمت املسيحية يف شخص يسوع مسيّا متحرراً بالكامل من‬
‫مقادير اليهود السياسية‪ .‬وكل ما كان على اهلاجريني فعله ليخلّصوا أنفسهم من كابوسهم املسياين اخلاص‬
‫هو استعارة املسيا من املسيحيني‪.‬‬
‫مطوراً هلوية‬
‫يف حني كان استبدال املسيانية اليهودية مبسيانية مسيحية أقل إفادة للهاجريني فقد كان ّ‬
‫دينية إجيابية خاصة هبم‪ .‬وكلما قوي اعتمادهم على املسيحية ليفصلوا أنفسهم عن اليهود‪ ،‬كلما تعاظم‬
‫خطر أهنم سينتهون بأن يصبحوا مسيحيني مثل غالبية اخلاضعني هلم ليس إال‪ .‬ومبصطلحات مفاهيمية‬
‫نقول إن املفتاح إىل استمراريتهم كان يكمن يف اهلوية الدينية البدئية املرسومة يف اهلاجرية اليهودية‪،‬‬
‫وبشكل خاص يف استلهام النيب لرب ابراهيم من أجل تقدمي توحيدية غريبة على العرب وذلك باعتبارها‬
‫ديانة أسالفهم(‪ .)18‬من نقطة البداية هذه واصل اهلاجريون تطوير ديانة ابراهيمية باملعىن الكامل للكلمة‪.‬‬
‫يف القرآن تبدو فكرة ديانة ابراهيم بارزة طبعاً‪ .‬فهي تـُ َق ّوم بوضوح كديانة مستقلة بذاهتا (‪:16‬‬
‫صنّف مؤسسها كنيب فحسب (‪42 :17‬؛ قارن سفر التكوين ‪ )9 :29‬بل‬ ‫‪124‬؛ ‪)99 :22‬؛ وال يُ َ‬
‫إنه وللمرة األوىل ُمينح كتاباً مقدساً‪ ،‬يدعى صحف ابراهيم (‪ 35 :53‬وما بعد؛ ‪ 18 :89‬وما بعد)‪.‬‬
‫املصادر العقائدية هلذا الدين متتد إىل دور حممد الغامض كتابياً لكن اإلحيائي الديين أساسياً (‪:2‬‬
‫لتطور الفكرة «إسالم»(‪ . )17‬لكن النقطة الوحيدة اليت‬ ‫‪ ،)123‬ويبدو أيضاً أهنا ق ّدمت السياق األويل ّ‬
‫حتتفظ عندها ديانة ابراهيم القرآنية بنوع املعقولية العملية هي الرواية حول تأسيسه‪ ،‬بالتعاون مع امسعيل‬
‫(‪ ،)29‬ملا صار يعرف يف التقليد اإلسالمي باحلرم املكي (‪ 118 :2‬وما بعد)(‪.)21‬‬
‫ويعوض عن هذا‬‫ما نفتقده يف املعطيات القرآنية هو الشعور مبشروع عيين ومتكامل لديانة هاجرية‪ّ .‬‬
‫الفقدان أحد املراجع املسيحية وذلك عن طريق تقدميه لفكرة وصايا ابراهيم ‪ -‬مشار إليها يف «االسرار»‬
‫أيضاً(‪ - )22‬وحتديدها بأهنا اخلتان واألضحية‪ .‬يتضمن هذا النص الذي يرجع إىل هناية احلقبة األموية‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )18‬أنظر سابقا‪ ،‬هامش ‪ 46‬من الفصل األول‪.‬‬
‫ً‬
‫(‪ )17‬أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 31‬الفصل ‪.3‬‬
‫(‪ )29‬ليس التخصيص دون أمهية بالكامل‪ ،‬ما دامت ديانة ابراهيم العربية استطاعت أن تكون أيضاً مسألة قطورية‪ ،‬وبالتايل سبئيةة أو‬
‫ميديانية‪( .‬قارن اهلامش ‪ 48‬من الفصل السابق؛ واهلامش ‪ 38‬من هذا الفصل‪ ،‬واهلامش ‪ 49‬من الفصل الرابع)‪.‬‬
‫(‪ )21‬أنظر‪ :‬هامش‪ 1‬فصل ‪ 4‬د‪.‬‬
‫(‪« )22‬أرى أن بين اإلنسان ال يأكلون إال بناء على وصايا (ميصووت) إيتان العازري»‪ Lewis, Apocalyptic Vision”, p313( .‬؛ قارن‬
‫;‪. Jellinek, Bet ha - Midrash, vol. iii, p. 79‬جيب أن يكون إيتان العازري متطابقاً مع ابراهيم‪ :‬فهذه مطابقة حاخامية معيارية‬
‫(أنظر مثالً‪ :‬التلمود البابلي‪ ،‬بابا برتا‪ ،‬الورقة ‪ 15‬آ)‪ ،‬و «األسرار» ليس نسيج وحده يف الربط بني ابراهيم وسفر العدد ‪21:24‬‬
‫(والتفسري الذي ينتمي إليه الشاهد) عرب ورود كلمة ايتان يف اآلية (خروج راباه‪.)6:29 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫(‪)23‬‬
‫احلوار‬ ‫والذي هو جدل بالسريانية بني راهب من بيت حاله ‪ Hale‬وأحد أتابع األمري مسلمة‬
‫التايل(‪:)24‬‬
‫العريب‪ :‬مل ال تؤمن بابراهيم ووصاياه‪ ،‬إذا كان أباً لألنبياء وامللوك‪ ،‬والكتاب املق ّدس يشهد بصالحه؟‬
‫الراهب‪ :‬وأي نوع من اإلميان بابراهيم تتوقع منا‪ ،‬وأية وصايا هذه اليت تريد منا مراعاهتا؟‬
‫العريب‪ :‬اخلتان واألضحية‪ ،‬ألنه تلقامها من اهلل(‪.)25‬‬
‫مصدران آخران يق ّدمان موازيات جزئية هلذا االعتناق اهلاجري للختان واألضحية يف ظل تسويغ‬
‫ابراهيمي‪ .‬املصدر األول هو جمموعة رسائل متبادلة يقال إهنا كانت بني عمر الثاين واالمرباطور ليون‬
‫الثالث ‪ Leo III‬وفق ما يظهره تاريخ ليفوند األرمين(‪ .)26‬وهنا جند أحد توبيخات عمرللمسيحيني‬
‫حولوا اخلتان إىل معمودية واألضحية إىل افخارستيا(‪ .)29‬أما‬
‫بأهنم ب ّدلوا اعتباطياً كل الشرائع‪ ،‬حيث ّ‬
‫املصدر الثاين فهو نبوءة تعزا للقديس افرام تتحدث عن خروج اهلاجريني من الصحراء‪ ،‬والذين يوصفون‬
‫فيها بأنه شعب «يتمسك بعهد ابراهيم»(‪.)28‬‬
‫إذاً إن حتديد األركان العبادية لديانة ابراهيم مبسأليت اخلتان واألضحية ميتلك مضمونني هامني‪ .‬يهتم‬
‫األول بالعالقة بني هذا الدين واإلسالم‪ .‬واستمرار عناصر العبادة االبراهيمية ضمن التقليد اإلسالمي‬
‫مسألة حقيقية طبعاً(‪ .)27‬لكنها فَـ َقدت مركزيتها األصلية(‪ :)39‬مثة ميل المتصاص األضحية يف ذبح‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )23‬إن نص هذه «اجملادلة اليت حدثت بني أحد العرب وراهب من دير بيت «حاله» حمفوظة يف فهرست ديار بكر‪ ،‬رقم ‪ ،75‬وهي‬
‫موجودة اآلن يف الكنيسة الكلدانية يف ماردين‪ .‬اإلشارة الوحيدة إىل تارخيها هي ذكر األمري مسلمة (الورقة ‪1‬آ من اجملادلة)‪ .‬وعلى‬
‫أساس مقدمة تصنيف شر ‪ Scher‬جملموعة ديار بكر‪ ،‬ح ّدد باومشتارك هوية العمل بأنه رسالة ابراهيم من بيت حاله «ضد العرب»‬
‫املذكورة يف تصنيف عبد يشوع‪( .‬أنظر‪A. Baumstark, Geschichte der syrischen Literatur, Bonn 1922, pp. :‬‬
‫‪ )211‬إذا كان هذا التحديد صحيحاً‪ ،‬فالتاريخ الذي يعطى عادة البراهيم (‪ 699‬تقريباً) مبكر إىل درجة كبرية‪.‬‬
‫(‪ )24‬اجملادلة‪ ،‬الورقة ‪ 2‬ب‪.‬‬
‫(‪ )25‬قارن أيضاً عبارة العريب اليت تقول «إننا متيقظون لوصايا حممد وأضحيات ابراهيم» (اجملادلة‪ ،‬الورقة ‪1‬ب)‪.‬‬
‫كل من‪:‬‬ ‫(‪)26‬‬
‫‪K. Patkanian (Istoriya Khalifov Vardapeta Gevonda,‬‬ ‫يعتمد استعمالنا «لرسالة وإجابة ليون» على ترمجيت ّ‬
‫)‪St Petersberg 1862, pp. 29 - 70‬‬
‫‪A. Jeffery (“Ghevond’s text of the Correspondence between Umar II and Leo III”, The Harvard‬‬
‫‪.) Theological Review 1944‬ال يوجد سبب جدي للشك أن هذا النص التارخيي يرجع إىل هناية القرن الثامن؛ لكن املراسلة‬
‫تعطي االنطباع بإعادة إفراغ ملواد من تواريخ خمتلفة للغاية‪«( .‬اجلاحظية» هي من تلفيق املرتمجني املعاصرين»)‪.‬‬
‫(‪ .Levond, “Letter”, tr. Patkanian, p. 30 = tr. Jeffery, p. 278 )29‬يُتهم املسيحيون أيضاً بأهنم حيفظون األحد عوض‬
‫السبت (قارن‪ :‬اإلدعاء بأن معاوية نقل صالة اجلمعة إىل السبت‪ ،‬ابن عساكر‪ ،‬تاريخ‪ ،‬اجمللد ‪ ،1‬ص‪.)351 .‬‬
‫(‪E. Beck (ed. and tr.), Des heiligen Ephraem des Syrers Sermones III (= CSCO, Scriptores Syri, vol. )28‬‬
‫‪ .cxxxviiif) Louvain 1972, pp. 61 = 81‬اإلشارة هي إىل اخلتان طبعاً‪.‬‬
‫(‪ )27‬الحظ على سبيل املثال التعبريين «كل من يصلي مثلما نصلي‪ ،‬يتوجه إىل قبلتنا‪ ،‬ويأكل ذبيحتنا فهو مسلم» (البالذري‪ ،‬فتوح‪،‬‬
‫ص‪67‬؛ الطربي‪ ،‬تاريخ‪292:1 ،‬؛ أبو عبيد‪ ،‬كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪ )51‬و « ّ‬
‫كل من يقر بشهادتنا‪ ،‬يتوجه إىل قبلتنا‪ ،‬وخمتون‪ ،‬ال‬
‫تؤخذ منه اجلزية» (أبو عبيد‪ ،‬كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪.)125‬‬

‫‪26‬‬
‫طقسي(‪ ،)31‬وهنالك شكوك أيضاً بالنسبة لضرورة اخلتان(‪ .)32‬باملقابل‪ ،‬فباستثناء حالة األضحية اخلاصة‬
‫يف العاصمة الدينية‪ ،‬فإن األساس املنطقي البطريركي [ابراهيم وساللته هم البطاركة هنا] أقل كثرياً يف‬
‫ظهوره للعيان‪ .‬وهكذا فنحن نواجه بتبديد عام لبنيان ديانة ابراهيم يف اإلسالم‪ ،‬وهي مسألة هامة ستؤخذ‬
‫الحقاً بعني االعتبار(‪.)33‬‬
‫ثانياً‪ :‬إن كالً من اخلتان واألضحية مربهن عليهما يف جزيرة العرب قبل اإلسالم(‪ ،)34‬وهنالك بالتايل‬
‫نوع من فرضية يقول إنه جيب البحث هناك عن أصل األعراف اهلاجرية‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬فهذه الفرضية‬
‫معززة يف حالة األضحية باعتبار آخر‪ .‬فاملصادر املسيحية تشري إلىاألضحية بأهنا كانت عرفاً عبادياً قياسياً‬
‫يف سوريا‪ .‬وهكذا فالبطريرك اليعقويب أثناسيوس البَـلَدي‪ ،‬يف رسالة له من العام ‪ 684‬حول احملاذير‬
‫الدينية لالتصال املسيحي مع الغزاة‪ ،‬يهتم على حنو خاص بامتناع املسيحيني عن أكل أضاحي‬
‫«الوثنيني»(‪)35‬؛ أما يعقوب الرهاوي‪ ،‬فيذكر أن العرب ميارسون اخلتان ويركعون ثالث مرات باجتاه‬
‫اجلنوب أثناء قيامهم بالتضحية‪ ،‬وذلك يف معرض ذكره لبعض املالحظات اهلامة حول عادات األرمن‬
‫الدينية السيئة(‪ .)36‬إذاً فاألضحية خارج العاصمة الدينية‪ ،‬مهما كان إقرارها الكتايب االبراهيمي(‪ ،)39‬ال‬
‫ميكن أن تكون عملياً استعارة من أحد املذاهب التوحيدية األكثر قدماً‪ .‬وهكذا لدينا أسبابنا يف اعتبار‬
‫أن اخلتان واألضحية استمرارية لعرف وثين يف ظل درع ابراهيمي جديد(‪.)38‬‬

‫(‪ )39‬الحظ أنه ما من نص يف التعبريين السابقني يذكر اخلتان والتضحية معا‪.‬‬


‫(‪J. Wellhausen, Reste arabischen Heidentums, Berlin 1897, p. 120 )31‬‬
‫(‪ )32‬قارن مالحظة عمر الثاين بأن اهلل أرسل حممداًكداعي وليس كخاتن (الطربي‪ ،‬تاريخ‪.)1354:2 ،‬‬
‫(‪ )33‬أنظر‪ :‬هامش ‪ 34‬ف ‪.3‬‬
‫(‪ )34‬من أجل اخلتان‪ ،‬أنظر على سبيل املثال‪S. Krauss, “Talmudische Nachrichten über Arabien”, Zeitschrift der :‬‬
‫‪Deutschen Morgenl‬ن‪.. ndischen Gesellschaft 1916m p. 351‬من أجل األضحية‪ ،‬أنظر على سبيل املثال‪Reste :‬‬
‫‪. arabischen Heidentums, p. 119‬‬
‫(‪. F. Nau, “Littérature canonique syriaque in édite”, Revue de l’ Orient chrétien 1909, pp. 128 - 30 )35‬من‬
‫أجل التاريخ الدقيق‪ ،‬أنظر‪bus, Syrische Kanones Sammlungen, vol. i (=CSCO, Subsidia vol. xxxv, ِِA. V :‬‬
‫‪xxxviii), Louvain 1970, p. 201‬‬
‫يظهر الغزاة حتت اسم «مهغراي» يف ترويسة الرسالة (اليت قد تكون أكثر تأخراً‪ ،‬لكنها ليست بعد القرن الثامن‪ ،‬املرجع السابق‪،‬‬
‫ص‪ ،)299‬وحتت اسم حنبه (قارن الفتوى املاقبل إسالمية يف املوضوع ذاته) )‪. (Nau, “Littérature canonique”, p.46‬‬
‫(‪ .Kayser, Die Canones Jacobs von Edessa, pp. 4 = 35 )36‬يتضح من واقع استمرارية يعقوب يف التعامل مع احلنبه كفئة‬
‫منفصلة أن الطيايه الذين حنن بصددهم ليسوا الوثنيني القدامى‪.‬‬
‫(‪ )39‬من بني اإلشارات يف سفر التكوين إىل فعاليات ابراهيم األضحوية‪ ،‬جيب أن تؤخذ ‪ 18:13‬على األقل باعتبارها ريفية‪.‬‬
‫(‪ )38‬ميكن إظهار مدى سهولة استدعاء هذا الدرع‪ ،‬الذي يكون جديداً بالكامل إذا كانت لذلك حاجة‪ ،‬وذلك من مرجع من القرن‬
‫اخلامس يصف الصابئة على أهنم منحدرون من ابراهيم وقطورة وميارسون اخلتان (يف اليوم الثامن!) ويق ّدمون األضحاحي (وثنية دون‬
‫لبس)‪. (Philostorgius as epitomised by Photius, P.G, vol. lxv, col. 481) .‬‬

‫‪29‬‬
‫األويل للهاجرية مل يكن فقط إلعطاء مكانة‬ ‫التطور ّ‬
‫إن ما يوحي به هذا هو أن دور ابراهيم يف ّ‬
‫سلفية للنظرية التوحيدية؛ كان أيضاً إلضفاء مكانة توحيدية على عرف سلفي‪ .‬وهذا حتماً هو السياق‬
‫الذي اعطى اإلسالم املصطلح امللفت للنظر حنيف‪ ،‬املرتبط بقوة كبرية مع ابراهيم وديانته‪ :‬فباستعارة‬
‫كلمة كانت تعين «وثنياً» يف مفردات اهلالل اخلصيب‪ ،‬واستخدامها لتسمية معتنق التوحيد االبراهيمي‬
‫غري املسفسط‪ ،‬جنح اهلاجريون يف استنباط فضيلة دينية من الوصمة ملاضيهم الوثين(‪ .)37‬يف الوقت ذاته‬
‫نستطيع أن نستبني يف هذا التوجه بدايات إعادة تالؤم بعيدة األثر حيث أصبحت أصول بدايات تُرى‬
‫يف عالقة مدروسة وعضوية مع اإلرث الوثين الفعلي أو املتخيل‪.‬‬
‫لقد ق ّدمت ديانة ابراهيم نوعاً من اإلجابة على السؤال املتعلق بكيفية استطاعة اهلاجريني دخول‬
‫ا لعامل التوحيدي دون أن يفقدوا هويتهم يف أي من تقليديه الكبريين‪ .‬لكنها حبد ذاهتا كانت فكرة بسيطة‬
‫وبالية للغاية وذلك كي تتمخض عن البىن الدينية األساسية اليت استلزمت مثل تلك الرغبة باالستقاللية‪.‬‬
‫على هذا الصعيد فالسامرية كانت الديانة اليت لديها أكثر ما ميكن تقدميه للهاجريني‪ .‬فالسامريون واجهوا‬
‫مشكلة االنفصال عن اليهودية قبل املسيحيني‪ ،‬دون أن ميتصوا من قبلهم إطالقاً‪ .‬كذلك فقد حلّوا‬
‫املشكلة بطريقة خمتلفة للغاية عن طريقة املسيحيني‪ ،‬وذات صلة وثيقة للغاية حباجات اهلاجريني اآلنية‪:‬‬
‫ففي حني سامى املسيحيون املقوالت اليهودية إىل نوع من اجملاز‪ ،‬استبدهلا السامريون ببدائل عينية(‪.)49‬‬
‫وبناء على هذه الصلة األساسية‪ُ ،‬س ِّهل التقبل اهلاجري لألفكار السامرية مفاهيمياً عرب إبراز موسى يف‬
‫كل من اهلاجرية اليهودية(‪ )41‬والسامرية‪ ،‬وسياسياً عرب حيادية اجلماعة السامرية حتديداً(‪.)42‬‬
‫إن أقدم استعارة هاجرية من السامريني واليت منتلك دليالً عليها هي موقفهم من الكتاب املق ّدس‪.‬‬
‫(‪)43‬‬
‫فسر له‪ ،‬كيف‬ ‫ففي إحدى مراحل اجلدل املشار إليه آنفاً بني البطريرك واألمري ‪ ،‬يطالب األمري بأن يُ ّ‬
‫ختتلف الطوائف املسيحية فيما بينها يف مسألة االعتقاد‪ ،‬إذا كان اإلجنيل واحداً‪ .‬فأجاب البطريرك(‪:)44‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )37‬قارن استخدام مصطلح حنبه من قبل كل من اثناسيوس البلدي (الحظ اهلامش ‪ 35‬السابق) ودانيال الرهاوي (الحظ اهلامش ‪14‬‬
‫السابق)‪( .‬من أجل استخدام عريب متأخر ملصطلح «حنيف» مبعىن «وثين» أنظر‪S.M. Stern, “Abd Al-Jabb :‬ن ‪r’s Account‬‬
‫‪of how Christs Religion was falsified by the Adoption of Roman Customs”, The Journal of‬‬
‫‪.) Theological Studies 1968, pp. 161 f‬‬
‫(‪ )49‬سوف نأخذ املثال األوضح‪ ،‬أال وهو مسألة النسب املق ّدس‪ :‬فمكانة يوسف مقابل يهودا بالنسبة للسامريني واليت تشبه مكانة امسعيل‬
‫مقابل اسرائيل بالنسبة للهاجريني‪ ،‬تُ َسرمد مصطلحاً له عالقة بعلم األنساب والذي هو ضائع يف ديانة تعترب أن كل الناس أخوة‪.‬‬
‫(‪ )41‬أنظر هامش ‪ 46‬ف ‪. 1‬‬
‫(‪ )42‬ال نعرف سوى القليل عن العالقات األوىل بني السامريني والغزاة‪ .‬ويشهد مصدران سريانيان على ذبح السامريني زمن الغزو‪.‬‬
‫‪.) (Chronica Minora, pp. 148 = 114; Michael the Syrian, Chronique, vol. iv, p. 411 = vol. ii, p. 413‬‬
‫أما من أجل حقبة ما بعد الغزو‪ ،‬فقد أُخربنا أن السامريني مل يدفعوا ضرائب األراضي مقابل خدماهتم كأدالء وجواسيس (البالذري‪،‬‬
‫فتوح‪ ،‬ص‪ .)185.‬ويظهر التقليد التارخيي السامري نوعاً من التحيز حملمد‪(Vilmar (ed.), Abulfathi Annales, p. 180) .‬‬
‫(‪ )43‬أنظر هامش ‪ 13‬ف ‪. 2‬‬
‫(‪Nau, “Colloque”, pp. 248 = 257f )44‬‬

‫‪28‬‬
‫متاماً كما أن أسفار التوراة اخلمسة األوىل هي واحدة‪ ،‬ومقبولة من قبلنا حنن املسيحيون ومن قبلكم‬
‫أنتم املهغرايه‪ ،‬ومن قبل اليهود والسامريني‪ ،‬فكل طائفة تنقسم عن األخرى دينياً؛ كذلك ايضاً دين‬
‫االجنيل‪ ،‬فكل هرطقة تفهمه وتفسره على حنو خمتلف‪.‬‬
‫(‪)45‬‬
‫يتحول النقاش‬
‫وهكذا فاهلاجرية تصنّف كديانة تؤمن بأسفار التوراة اخلمسة األوىل ‪ .‬بعد ذلك ّ‬
‫إىل مسألة ألوهية يسوع ومكانته كابن هلل‪ ،‬فيطالب األمري بربهان من أسفار التوراة اخلمسة األوىل‪ .‬جييب‬
‫البطريرك جبملة من الشواهد الكتابية غري املتخصصة‪ ،‬واليت كان حمتواها نبوئياً بوضوح‪ .‬لكن ردة فعل‬
‫األمري يف هذه املرحلة تبدو حامسة(‪:)46‬‬
‫مل يقبل األمري الشهري هبذه [األقوال] من أسفار األنبياء‪ ،‬وراح يطالب بأن [يُستشهد] مبوسى كي‬
‫يـُثْبت له أن املسيح كان اهلل‪.‬‬
‫إن القبول بأسفار التوراة اخلمسة األوىل ورفض أسفار األنبياء هو املوقف السامري من الكتاب‬
‫املقدس‪.‬‬
‫ميكن استبيان هذا املوقف من الكتاب أيضاً يف بعض املقاطع من نسخة ليفون ‪Levond‬‬
‫للمراسلة بني عمر وليون(‪ .)49‬كان هذا أحد أسئلة عمر(‪:)48‬‬
‫ملاذا ال جيد املرء يف شرائع موسى أي شيء عن اجلنة‪ ،‬جهنم‪ ،‬الدينوية األخرية أو القيامة؟‬
‫اإلجنيليون‪ ..‬هم الذين حتدثوا عن هذه األشياء وفق فهمهم اخلاص(‪.)47‬‬
‫على هذا جييب ليون بنوع من الشرح ملوضوعة الكشف التدرجيي للوحي اإلهلي‪ ،‬ملحاً على أن اهلل‬
‫مل يتكلم إىل البشر مرة واحدة فقط عرب نيب واحد‪ ،‬ومنكراً موقف مستجوبه الذي يفيد بأن «كل ما‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫إنك تقبل مبوسى وكتاباته» (املصدر السابق صص ‪.)258 = 247‬‬ ‫(‪ )45‬قارن أيضا مالحظة البطريرك الالحقة القائلة‪« :‬قلت‬
‫ً‬
‫(‪ )46‬املصدر السابق صص ‪269 = 250f‬‬
‫(‪ )49‬أنظر هامش‪ 33‬ف‪.2‬‬
‫(‪Levond, “Letter”, tr. Patkanian, p. 30 = tr. Jeffery, p.277 )48‬‬
‫‪(G. Hoffmann, Auszüge aus syrischen. Akten persicher‬‬ ‫(‪ )47‬يظهر إنكار القيامة عند جمموعات هرطقية خمتلفة‪( .‬أنظر‪:‬‬
‫‪M‬ن‪ .) rtyer, Leipzig 1880, pp. 75f, 122ff‬لكن ما يتضمنه سؤال عمر هو ذلك اجلمع الصدوقي القدمي بني هذا اإلنكار‬
‫ورفض األنبياء‪ ،‬وبالنسبة لبداية احلقبة االسالمية فهذا ال جيد شاهداً إال يف اهلرطقة السامرية (من أجل استمرار هذه اهلرطقة حىت القرن‬
‫التاسع‪ ،‬أنظر‪ . (Vilmer (ed.), Abulfathi Annales, p. Lxxxiii :‬قارن التلميح القرآين إىل أهل الكتاب الذين ال يؤمنون باهلل‬
‫أو باليوم اآلخر (قرآن ‪ ،)27:7‬وإدخال ليون يف قائمة مجاعات هرطقية‬
‫إسالمية أولئك الذين «ينكرون وجود اهلل والقيامة» ‪tr. Jeffery, p. (Levond, “Letter”, tr. Patkanian, p. 42 = ‬‬
‫‪ .)295‬إن موضوعة العري أثناء القيامة ‪ )(Ibid, tr. Patkanian, p. 42 = tr. Jeffery, p. 297‬هلا أيضاً تداعيات سامرية (قارن‬
‫املسألة السامرية اليت أوردها ليفي ‪ ، rterbuch, s.v. schaliahِW‬ومما يستحق اإلضافة هنا رمبا هو أن االستخدام الشيعي ملصطلح‬
‫قائم له سابقة أيضاً يف اهلرطقة السامرية ‪.)H. G. Kippenberg, Garizim und Synagoge, Berlin 1971, p. 131n‬‬

‫‪27‬‬
‫ضمنه اهلل للعرق البشري كان قد أوحي إىل موسى» )‪ .(50‬إىل جانب هذه األصولية املوسوية ميكن‬
‫مالحظة اإلنتقاص من األنبياء الذي يظهر يف أسئلة عمر األخرى(‪:)51‬‬
‫ملاذا ال تقبل كل ما يقوله يسوع عن ذاته‪ ،‬وتبحث يف كتاتبات األنبياء ويف املزامري واضعاً يف ذهنك‬
‫أن جتد شهادات تدعم جتسد يسوع؟ أنت‪ ..‬غري راض مبا شهد به املسيح عن ذاته‪ ،‬لكنك تؤمن مبا قاله‬
‫األنبياء‪ .‬لكن يسوع كان أهالً للتصديق فعالً‪ ،‬كان أقرب إىل اهلل‪ ،‬وقد عرف ذاته أكثر بكثري مما عرفته‬
‫كتابات حمرفة ومشوهة ألناس ال تعرفهم‪.‬‬
‫على أية حال‪ ،‬فالطرف اهلاجري مييل بوضوح إىل املوقف السامري من الكتاب املقدس(‪ .)52‬وطريقة‬
‫تصوير أنبياء اليهود الكبار يف القرآن ‪ -‬حيث نادراً ما نصادفهم‪ -‬قد تكون بقية إسالمية هلذه‬
‫العقيدة(‪.)53‬‬
‫كان لدى املوقف السامري من الكتاب املقدس ما يقدمه للهاجريني على مستويني‪ .‬فبشكل نوعي‪،‬‬
‫جند أنه شطب األساس الكتايب للعنصر الداوودي يف املسيانية اليهودية ‪ -‬ال يوجد دليل يف أسفار التوراة‬
‫اخلمسة األوىل على شرعية امللَكية الداوودية وال على قداسة القدس(‪ )54‬؛ ويف الوقت ذاته‪ ،‬فقد قام‬
‫َ‬
‫بشيء لتعزيز التأكيد البطريركي على ديانة ابراهيم‪ .‬وبشكل أكثر عمومية‪ ،‬فالتقيّد بأسفار التوراة األوىل‬
‫اخلمسة دون األنبياء ح ّدد موقفاً بالنسبة ملسألة املرجعية الدينية يف شكلها الكتايب على األقل‪ ،‬موقف‬
‫كان قابالً للحياة جدلياً يف العامل التوحيدي(‪.)55‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫)‪Levond, “Letter”, tr. Patkanian, pp. 39f = tr. Jeffery, p. 291 (50‬‬
‫(‪ibid, tr. Patkanian, p. 29 = tr. Jeffery, p. 277 )51‬‬
‫(‪ )52‬يف مقطع آخر ملئ باإلحياءات‪ ،‬يالحظ ليون االستخفاف اهلاجري باألناجيل وبأسفار األنبياء وذلك على أساس أهنم مزيفون‪ ،‬ويتابع من مث‬
‫ليقيم حجته على سلسلة من الشواهد الكتابية اليت هي‪ ،‬كما يؤكد بإحلاح‪ ،‬مأخوذة من أسفار التوراة اخلمسة األوىل‪(ibid, tr. Patkanian, .‬‬
‫)‪ pp. 42f = tr. Jeffery, pp. 299f‬الحظ أيضاً الرنة السامرية للتلميح اهلاجري اليت استباهنا ليون واليت تقول إن عرزا هو الذي زيّف‬
‫األسفار املق ّدسة‪.‬‬
‫)‪. (tr. Patkanian, p. 38 = tr. Jeffery, p. 289‬‬
‫(‪ )53‬الحظ ايضاً غياب ذكر االنبياء يف عبارة من مصدر سرياين متأخر‪ ،‬تقول إن حممداً «قبل مبوسى وكتابه‪،‬وقبل‬
‫باالجنيل‪(J.B.Chabot (ed. and tr.),Chronicon ad annum Christi 1234 pertinens(=CSCO,Scriptores .»...‬‬
‫)‪Syri,vols.xxxvif,lvi),Louvain 1916 etc.pp.229=179‬‬
‫قارن أيضاً نسخة ميخائيل السرياين املوازية‪ (Chronique ,vol.iv,p.406=vol.ii,p.404):‬حيث االنبياء متضمنون على حنو‬
‫مناسب‪.‬‬
‫(‪ )54‬اقرتحت السامرية أيضاً بدائل عينية واليت سنأخذها بعني االعتبار يف القسم الرابع‪.‬‬
‫(‪ )55‬ليس واضحاً ما إذا كنا سنفكر هنا بالتوراة اليت يقرأها عبد اهلل بن عمرو بن العاص جبانب الفرقان ‪(Kister, “Haddithü”, p.‬‬
‫)‪ ،231‬والتوره (هكذا‪ ،‬ليس أورايتا ) اليت يوردها راهب بيت حله جبانب القرآن وأعمال أخرى كمصدر للشريعة (أنظر اهلامش ‪ 14‬من‬
‫القسم التايل)‪ ،‬كنوع من ترغوم عريب‪ .‬اليوجد أثر لذلك يف اجملادلة بني البطريرك واألمري‪.(Nau, “Colloque”, pp. 251=260f) .‬‬

‫‪39‬‬
‫وهكذا وجد اهلاجريون حلوالً ملعظم املشكالت امللحة اليت واجهوها بعد االنفصال عن اليهودية‪.‬‬
‫فديانتهم االبراهيمية وطدت أسس ما كانوا عليه‪ ،‬مسيانيتهم املسيحية ساعدهتم يف تأكيد ما مل يكونوه‪،‬‬
‫وموقفهم من الكتاب املقدس‪ ،‬إضافة إىل مساعدة املسيانية‪ ،‬منحهم نوعاً من املعرفة العقائدية االبتدائية‪،‬‬
‫شيئاً يتفاخرون به‪ .‬كانت املشكلة أن هذه احللول بدت متنافرة مع بعضها باملعىن الكامل للكلمة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪3‬‬
‫النبي ِمثْل موسى‬

‫إن اجلميع بني ديانة ابراهيم ومسيانية مسيحية مساعدة كان حبد ذاته مجعاً ملفتاً للنظر بغرابته‪،‬‬
‫وإحلاق املوقف السامري من الكتاب املق ّدس به مل يفد يف جعله أكثر معقولية‪ .‬من ناحية فإن رفض‬
‫األنبياء‪ ،‬بالدقة ذاهتا اليت استأصل هبا األساس الكتايب للمسيانية الداوودية‪ ،‬أفقد اإلقرار باملسيا املسيحي‬
‫كل معىن؛ ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن االعرتاف بأسفار التوراة اخلمسة األوىل دون غريها كان يعين نوعاً من‬ ‫ّ‬
‫السيطرة املوسوية واليت أفسدت ديانة ابراهيم‪ .‬لكن جذر املشكلة كان يكمن يف أن اهلاجريني مل يكونوا‬
‫قد تصدوا بعد ملعضلة ورطتهم الدينية‪ .‬فقد بدأوا جبمع مضطرب بني الفداء اإلسرائيلي وعلم األنساب‬
‫االمساعيلي؛ قد يتبدل احملتوى النوعي لكل مصطلح‪ ،‬لكن املشكلة األساسية بقيت يف جعل حقيقة دينية‬
‫غريبة عليهم ملكاً هلم‪ .‬مل يكن هنالك بالفعل سوى حلّني‪ .‬فمن ناحية كان باستطاعتهم أن يتابعوا‬
‫بطريقة املسيحيني األثيوبيني‪ ،‬أي بأن يتبنوا ألنفسهم نسباً إسرائيلياً‪ .‬لكن بسبب املسرحية اليت اختلقوها‬
‫حول سلسلة نسبهم االمساعيلي‪ ،‬ال نتفاجأ إذا وجدناهم متعلقني به خالل كامل تطورهم العقائدي‪.‬‬
‫ث على الذهاب إليهم‪ .‬فعلى أساس‬ ‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬إذا مل يكونوا ليذهبوا إىل احلقيقة‪ ،‬فاحلقيقة قد ُحت َ‬
‫علم أنساهبم اإلمساعيلي‪ ،‬كان عليهم أن يشيدوا علم نبوة امساعيلي مالئم‪ .‬كانت خطوة جريئة بالنسبة‬
‫ألمة حمدثة النعمة دينياً للغاية‪ ،‬لكنها كانت طريق النجاة الوحيدة‪.‬‬
‫التكيفات العقائدية االستهاللية احملللة يف الفصل السابق تركت حممد عاطالً عن العمل جزئياً بطريقة‬
‫متميزة‪ .‬فقمع املسيانية اختزل رسالته إىل رسالة مبشر توحيدي ذي مكانة سيئة التحديد نوعاً ما‪ .‬كان‬
‫من املستحيل إعطاء هذه املكانة حتديداً أكثر دقة وذلك عرب االستنجاد بفكرة إحيائي مرسل إلحياء‬
‫ديانة ابراهيم(‪ .)1‬لكن من املواد احملفوظة يف القرآن‪ ،‬كان سيبدو أن االجتاه املسيطر كان يف وضع النيب يف‬
‫صف واحد مع سلسلةمن املنذرين الذين مل يذكرهم الكتاب املقدس والذين أرسلوا إىل شعوب األمم(‪.)2‬‬
‫وكون هذا األمنوذج القدمي يعكس طوراً عقائدياً هاماً فذلك ما يوحي به من ناحية كثرة تقدميه والوضوح‬
‫النسيب يف ذلك التقدمي(‪ ،)3‬ومن ناحية أخرى التأثري الذي ميارسه حىت على شخص موسى(‪ .)4‬واملفتاح‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حملمد واليت قدما بار بنكايي‪ :‬لقد كان هادي العرب الذين أخذوا منه‬ ‫(‪ )1‬الحظ هامش ‪ 21‬ف‪ .2‬قارن أيضا الشخصية اإلحيائية‬
‫ً‬
‫توحيدهم وذلك حبسب «الشرع القدمي»‪.(Mingana, Sources syiriaques, pp. 146f = 175) .‬‬
‫(‪ )2‬أنظر على سبيل املثال‪ ،‬القرآن ‪ .46:28‬لقد اعتربناه ثانوياً ذلك العزو القرآين املتكرر ألحد الكتب للنيب حىت يف دوره كنذير‪ :‬إنه ال‬
‫ميتد إىل أي من النذراء األولني‪.‬‬
‫(‪ )3‬قابل املعاجلة القرآنية الغريبة واملعزولة عن سياقها للنبوة يف الكتاب املقدس‪.‬‬
‫(‪ )4‬الحظ كيف أن فادي اإلسرائيليني والذي أعطاهم الشريعة مييل ألن يصبح رسوالً غري مذكور يف الكتاب املق ّدس مرسالً إلنذار‬
‫مرة «أجئتنا لتفتنا عما وجدناعليه آباءنا» (القرآن ‪.)98:19‬‬ ‫املصريني‪ ،‬بدرجة كبرية حىت أن األخريين يسألونه ذات ّ‬

‫‪32‬‬
‫الذي يوصلنا إىل سر جاذبيته ال بد أنه متوضع يف مجعه بني البساطة واملراوغة‪ :‬فاختزال الرسالة إىل حتذير‬
‫جمرد معطى يف سياق إثين ضيّق َجنّب احلاجة إىل تعريف عالقته حبقل الوحي التوحيدي األكثر اتساعاً‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وحدها هذه العالقة كانت حباجة إىل تعريف لو أريد لعلم نبوة امساعيلي أن ُخيْلَق‪ .‬كان على النذير‬
‫العريب أن يتخطى دوره احملدود املريح حنو األعايل الشاهقة للوحي الكتايب‪ :‬كان عليه اآلن أن يقف يف‬
‫سهلتا هذا‬‫صف واحد‪ ،‬ليس مع هود وصاحل‪ ،‬بل مع موسى طور سيناء‪ .‬مستان يف الرتكيبة املوسوية ّ‬
‫االصطفاف‪ .‬األوىل كانت السهولة اليت ميكن هبا االنتقال ضمن املثال املوسوي من الفداء إىل الوحي‪،‬‬
‫حممد يف دور قائد اخلروج املوسوي‪ ،‬ومل يكن هنالك ما‬ ‫من البحر األمحر إىل سيناء‪.‬مل يكن صعباً رؤية ّ‬
‫مينعه من إكمال عمله بتلقي وحي على جبل مق ّدس مناسب(‪ .)5‬تب ّدل التوكيد مالحظ على حنو ممتاز يف‬
‫الصيغ املتقابلة لعالقة موسى مبحمد واليت يق ّدمها لنا تارخيان أرمنيان‪ :‬فبالنسبة لسيبيوس األبكر تارخياً‪،‬‬
‫يبدو أن حممداً مطلع جيداً على قصة موسى‪ ،‬يف حني يرى صموئيل اآلين األكثر تأخراً‪ ،‬أن اطالعه على‬
‫شريعة موسى(‪ )6‬غري كامل‪ .‬لكن الشاهد األكثر لفتاً للنظر على هذا التبدل هو التطور الغريب يف علم‬
‫داللة األلفاظ للمصطلح فرقان من معناه اآلرامي األصلي «فداء» إىل املعىن العريب الثانوي «وحي»(‪:)9‬‬
‫حول اخلالص للراكب على احلمار إىل ِسفر مقدس للراكب‬ ‫يف الصورة الواردة يف سفر اشعيا ‪ّ ،9:21‬‬
‫على اجلمل(‪.)8‬‬
‫السمة األخرى املساعدة يف الرتكيبة املوسوية كانت الوعد الذي يرد يف سفر التثنية حول «نيب مثل‬
‫موسى»(‪ .)7‬يبدو القرآن ذاته متواضعاً جداً حبيث ال خيتار النيب هلذا الدور‪ :‬فالواقع أنه يق ّدم وحيه‬
‫كمجرد شهادة عربية على وحي موسى (‪ 11:46‬وما بعد)‪ .‬لكن السرية مت ّدنا بأمثلة واضحة حول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(B. J. Bamberger, “Revelations of Torah after Sinai” ,Hebrew‬‬ ‫(‪ )5‬الحظ أيضا األمنوذج املوسوي للوحي املتسلسل‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪.)Union College Annual, 1941‬‬
‫(‪ )6‬من أجل سيبيوس‪ ،‬أنظر‪ :‬هامش‪ 49 .‬ف ‪ . 1‬من أجل صموئيل اآلين‪ ،‬أنظر‪E. Dulaurier, Recherches sur la :‬‬
‫‪. chronologie arméniene, vol. i, Paris 1859, p. 354‬‬
‫(‪ )9‬من أجل االستخدام القرآين ملصطلح فرقان هبذين املعنيني‪ ،‬يف السياقني املوسوي واملوافق للزمن القرآين‪ ،‬أنظر‪The Encyclopaedia :‬‬
‫”‪ . of Islam, Leyden and London 1960 - art. “Firkan‬قارن أيضاً حتويل العالمات املوثوقة للسياق الفدائي (قارن مع‬
‫الكلمة العربية اوتوت) إىل آيات كتابية (بالعربية آيات)‪.‬‬
‫(‪ )8‬قارن تفسري اآلية الذي يقدمه «األسرار» (ص‪ )5‬مع ما يعزوه ليفون لعمر ‪(“Letter”, tr. Patkanian, p.30 = tr. Jeffery, p.‬‬
‫‪ .) 278‬يف النص األول الراكب على احلمار هو املسيا اليهودي‪ ،‬والراكب على اجلمل يبشر بقدومه ليس إال؛ يف النص الثاين الراكب‬
‫املشرع اهلاجري‪.‬‬
‫على احلمار هو املسيا املسيحي‪ ،‬يف حني أن الراكب على اجلمل هنا رفيقه ونظريه‪ ،‬إنه ّ‬
‫(‪ )7‬سفر التثنية ‪« .18 ،15 :18‬األخوة» يف هاتني اآليتني أمكن تفسريهم مباشرة على أهنم االمساعيليون بالنسبة لإلسرائيليني (أنظر‬
‫على سبيل املثال‪(A. Mingana (ed. and tr.), “Timothy’s Apology for Christianity”, in his Woodbrooke :‬‬
‫)‪ .Studies, vol. ii, Cambridge 1928, pp. 123 = 50‬أنظر أيضاً‪ :‬أبو الرحيان حممد بن أمحد البريوين اخلوارزمي‪ ،‬كتاب اآلثار‬
‫الباقية عن القرون اخلالية‪ ،‬حترير س‪ .‬ي‪ .‬شاو‪ ،‬اليبتسيغ ‪ ،1898‬ص‪.)17‬‬

‫‪33‬‬
‫اعتبار أن حممداً هو النيب الذي يتحدث عنه سفر التثنية(‪ .)19‬وهكذا فالرتكيبة املوسوية قدمت لنا كالً من‬
‫اإلمنوذج واإلقرار من أجل إعادة صياغة دور حممد كحامل لوحي جديد‪.‬‬
‫إن املوضع الذي كان على اهلاجريني اإلتكال على أنفسهم فيه متثّل يف تأليف كتاب مقدس فعلي‬
‫لنبيهم‪ ،‬أقل غربة من كتاب موسى وأكثر واقعية من كتاب ابراهيم(‪ .)11‬لكن ما من مصدر قدمي يلقي‬
‫بأي ضوء مباشر حول كيف ومىت َمتف هذا‪ .‬ففيما يتعلق بطريقة اإلنشاء‪ ،‬مثة سبب ما يدفعنا لالفرتاض‬
‫بأن القرآن ُمجع من عدد وافر من األعمال الدينية اهلاجرية األقدم منه‪ .‬ويف املوضع األول‪ ،‬ميكن الربهنة‬
‫على هذا العدد الوافر بطرق عديدة‪ .‬فمن اجلانب اإلسالمي‪ ،‬يق ّدم لنا القرآن ذاته إشارات غامضة تفيد‬
‫بأن كمالية النص مسألة عويصة(‪ ،)12‬ومع هذا ميكن لنا أن نقارن االدعاء ضد عثمان بأن القرآن كان‬
‫كتباً عديدة مل يرتك منها غري واحد(‪ .)13‬ومن اجلانب املسيحي‪ ،‬فإن راهب بيت حله مييّز حب ّدة بني‬
‫القرآن وسورة البقرة كمصدرين للشريعة(‪ ،)14‬يف حني أن ليفون جيعل االمرباطور ليون يصف كيف أتلف‬
‫احلجاج «الكتابات» اهلاجرية القدمية(‪ .)15‬ثانياً‪ ،‬هنالك دليل داخلي من الشخصية األدبية للقرآن‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كل من اللغة‬‫فالكتاب ملفت للنظر يف افتقاره للبنيان املتكامل‪ ،‬لكثرة غموضه وعدم تناسقه منطقياً يف ّ‬
‫واملضمون‪ ،‬لروتينيته يف ربطه ملواد متباينة‪ ،‬والدمانه على إعادة مقاطع كاملة يف نصوص خمتلفة‪ .‬على هذا‬
‫األساس ميكن الربهان بشكل معقول أن هذا الكتاب ليس سوى نتيجة لتحرير متأخر وغري كامل ملواد‬
‫مأخوذة من جمموعة تقاليد وافرة(‪.)16‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫= ‪.249‬‬ ‫(‪ )19‬ابن اسحق‪ ،‬سرية‪ ،‬صص ‪353 ،169 = 231‬‬
‫(‪ )11‬من أجل كتاب ابراهيم‪ ،‬أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 21‬ف ‪.2‬‬
‫(‪ )12‬العبارة اليت تقول إن النيب تلقى سبع مثاين والقرآن (‪89 :15‬؛ املكانة الكتابية للمثاين واضحة من ‪ )24 :37‬تعقبها إدانة ألولئك‬
‫الذين يقسمون القرآن (‪ 79 :15‬وما بعد)؛ ينكر بعض «األحزاب» بعض ما أوحي للنيب (‪ - )36 :13‬بغض النظر متاماً عن أولئك‬
‫الذين يعتقدون أنه كان جيب أن ينزل دفعة واحدة (‪ )22 :25‬أو يريدون غريه أو أن يكون متبدالً (‪ .)15 :19‬ورمبا يكون الفرق بني‬
‫احملكم واملتشابه يف ‪ 5 :3‬جمرد بقية للرأي املقدم يف ‪.36 :13‬‬
‫طربي‪ ،‬تاريخ ‪( 2752 :1‬إشارة ندين بأمهيتها إىل مناقشة مع الدكتور وانسربو ‪ .)Wansbrough‬قارن ايضاً التقليد الذي ّ‬
‫يسمي‬ ‫(‪)13‬‬

‫ما يـُ ْف َرتض أنه «عهد املدينة» وحياً (خباري‪ ،‬صحيح‪.)269 :2 ،‬‬
‫( ) يسأل العريب ملاذا يعبد املسيحيون الصليب يف حني ال يوجد مرجع هلذا العرف يف اإلجنيل‪ .‬فيجيب الراهب‪« :‬ال أعتقد أن حممداً‬
‫‪14‬‬

‫علمكم يف القرآن كل شرائعكم ووصاياكم؛ لكن هنالك بعض ما تعلمتموه (هكذا) من القرآن‪ ،‬والبعض اآلخر يف سورة البقرة‪ ،‬ويف‬
‫اجليجي ‪ gygy‬ويف التوره ‪ .twrh‬كذلك األمر بالنسبة لنا‪ :‬فبعض الوصايا عل منا إياها ربنا‪ ،‬وبعضها اآلخر تلفظ به الروح القدس عرب‬
‫أفواه عبيده والرسل‪ ،‬وبعضها الثالث [متّ العريف به] عرب املعلمني‪ ،‬الذين يوجهوننا ويروننا طريق احلياة ودرب النور» (الورقة ‪6‬آ)‪ .‬لكن‬
‫ما هو اجليجي؟‬
‫(‪ )15‬أنظر اهلامش ‪ 21‬من هذا الفصل‪.‬‬
‫(‪ )16‬حنن ندين بالكامل هبذا التفسري لشخصية القرآن األدبية للدكتور فانسربو‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫يف الوقت ذاته فإن عدم اكتمال التحرير يوحي أن ظهور القرآن كان بالضرورة حدثاً مفاجئاً‪ ،‬إن مل‬
‫نقل سريعاً‪ .‬لكننا نكرر القول‪ ،‬إنه ال يوجد شاهد قدمي مباشر بالنسبة لتاريخ احلدث(‪ .)19‬وقبة الصخرة‬
‫تشهد فعالً‪ ،‬عند هناية القرن السابع‪ ،‬بوجود مواد تعترب قرآنية يف نص يتوافق ليس نادراً مع النص الذي‬
‫لنا(‪)18‬؛ لكنه ال يق ّدم طبعاً أية إشارة بشأن الشكل األديب الذي ظهرت فيه هذه املواد اعتيادياً يف ذلك‬
‫الزمن‪ .‬تظهر أقدم إشارة من خارج التقليد األديب اإلسالمي إىل كتاب يدعى القرآن يف حوار يرجع إىل‬
‫هناية احلقبة األموية بني العريب والراهب الذي من بيت حله(‪ )17‬؛ لكنه كما رأينا‪ ،‬رمبا كان خيتلف بشكل‬
‫معترب يف حمتواه عن القرآن الذي نعرفه اليوم‪ .‬على أية حال‪ ،‬ومع استثناء وحيد ألحد املقاطع من احلوار‬
‫بني البطريرك واألمري والذي ميكن تفسريه كإشارة ضمنية إىل الشرع القرآين املتعلق باإلرث(‪ ،)29‬ال توجد‬
‫أية إشارة تدل على وجود القرآن قبل هناية القرن السابع‪ .‬لكن املصادر املسيحية واإلسالمية على حد‬
‫سواء تعزو إىل احلجاج دوراً ما يف تاريخ الكتاب املقدس اإلسالمي‪ .‬ويف الرواية اليت يعزوها ليفون إىل‬
‫أحل حملها كتابات أخرى ألّفت وفق‬ ‫احلجاج مجع الكتابات اهلاجرية القدمية وأتلفها مث ّ‬ ‫ليون‪ ،‬يقال إن‬
‫(‪)22‬‬ ‫(‪)21‬‬
‫مذاقه الشخصي ؛ لكن التقاليد اإلسالمية أكثر حتفظاً‪ ،‬مع أهنا بعيدة عن التناسق ‪ .‬وهكذا فليس‬
‫من غري املرجح أننا منتلك هنا السياق التارخيي الذي مجع فيه القرآن للمرة األوىل وذلك بوصفه كتاب‬
‫حممد املق ّدس‪.‬‬
‫ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ال تساعدنا إال قليالً يف حتديد السياق التارخيي الذي نشأ فيه‪ .‬واإلشارات القليلة‬ ‫(‪ )19‬ال نكاد حنتاج إىل التأكيد بأن حمتويات القرآن ذاته‬
‫الصرحية إىل بيئة وثنية وعربية توازن بإشارة ضمنية يف إعادة تالوة للقصص الكتابية اليت تفرتض مجهوراً معتاداً عليها؛ قارن أيضاً الطريقة‬
‫اليت يعتمد فيها اجلدل حول القيامة على بديهية خلق توحيدي أوالً (ندين بكال األمرين إىل الدكتور وانسربو)‪.‬‬
‫نصنا يف الرقم ‪( 215‬لكن الحظ‬ ‫(‪)18‬‬
‫‪ .Van Berchen, Corpus, part two, vol. ii, nos. 215-217‬هنالك اتفاق شاسع مع ّ‬
‫على حنو خاص الدمج لفقرتينا ‪ 1:64‬و‪ 2:59‬الذي يظهر مرتني‪ ،‬واألشكال اللفظية املختلفة للفقرة ‪)34:17‬؛ من ناحية أخرى‪،‬‬
‫نصنا يف الفقرة‪ 216‬وما بعد (يف حالة الفقرة ‪ ، 217‬ما من آية من اآليات األربع املقدسة هي يف صيغة تتوافق مع‬ ‫مثة احنراف كبري عن ّ‬
‫نصنا‪ ،‬والعقيدة بشكل خاص (األقرب إىل فقرتنا‪ )139:2‬يظهر فيها شيئان حمذوفان وثالثة أشياء خمتلفة)‪ .‬قارن أيضاً كسرة الربدية‬ ‫ّ‬
‫القدمية اليت يظهر فيها احلرفان طب مباشرة بعد ‪.)(Grohmann, Arabic Papyri from Hirbet el-Mird, no72 .3-1 :1‬‬
‫(‪ .“Dispute”, ff. 1a, 6a (qwr’n) )17‬اإلشارة األوىل غري متناسقة‪ ،‬أما الثانية فقد ذكرت يف اهلامش ‪ 14‬السابق‪.‬‬
‫(‪ )29‬يسأل األمري عن شرائع املسيحيني‪ ،‬طبيعتها وحمتواها‪ ،‬وبشكل خاص ما إذا كانت مكتوبة يف اإلجنيل أم ال‪ .‬ويضيف‪« :‬إذا مات‬
‫إنسان وترك أبناء أو بنات وزوجة وأم وأخت وابن عم‪ ،‬كيف ميكن تقسيم أمالكه ‪ ‬بينهم‪(Nau, “Colloque”, oo. 251 = .‬‬
‫)‪ .261‬إذاً‪ ،‬وكما يوحي السياق‪ ،‬فاألمري يشعر أن اجلواب جيب أن يكون موجوداً يف الكتاب املق ّدس املسيحي‪ ،‬واالفرتاض عندئذ هو‬
‫أن هذا اجلواب كان جيب أن يكون موجوداً أيضاً يف كتابه املق ّدس اخلاص؛ والشرائع القرآنية‪ ،‬مع تقسيمها التفصيلي لإلرث‪( ،‬القرآن‬
‫‪ 4:8‬وما بعد)‪ ،‬جتيب على هذا السؤال بشكل أفضل إىل حد ما مما جتيب عليه أسفار التوراة اخلمسة األوىل حيث جند أن البنات‬
‫واألقارب اآلخرين ال يرثون إال حني ال يكون هنالك أوالد ذكور (سفر العدد ‪ .)8:29‬لكن املسألة ليست حمسومة‪ ،‬وصياغة السؤال‬
‫تشبه إىل حد كبري أسلوب كتب الشرع املسيحية (أنظر مثالً‪E. Schau, Syrische Rechtbücher, Berlin 1907 - 14, vol. :‬‬
‫‪.)ii, pp. 90 = 91, and vol. iii, pp. 94 = 91‬‬
‫مثة داع ألن نشك أنه يف هذا اجلزء من اجملادلة قد ال يكون لدينا النص يف حالته األصلية‪ :‬بناء اجلزء خملخل بأسلوب غري تشخيصي‬
‫(فمثالً‪ ،‬يتجاهل البطريرك يف إجابته ببساطة سؤال األمري املتعلّق باإلرث)‪ .‬والصيغة «مهغرا» ال تظهر إال يف النقاش املتعلق بالشريعة‬
‫(قارن اهلامش ‪ 51‬من القسم األول)‪.‬‬
‫(‪ )21‬احلجاج «مجع كل كتاباتكم القدمية‪ ،‬ألّف أخرى حبسب مذاقه اخلاص‪ ،‬ونشرها بني أمتكم‪ ..‬مل ينج من هذا اإلتالف سوى عدد‬
‫قليل من أعمال أبو تراب [أي‪ ،‬علي]‪ ،‬ألنه مل يستطع أن خيفيها كلها»‪(Levond, “Letter”, tr. Patkanian, p. 44 = tr. .‬‬
‫من أجل رواية الكندي عن دور احلجاج‪ ،‬أنظر مالحظة جفري )‪ .(Loc. cit‬قارن مع ما يعزوه ليون‬ ‫)‪.Jeffery, p. 298‬‬
‫من تأليف للبوركان (أي‪ ،‬الفرقان) لعمر‪ ،‬علي‪ ،‬وسلمان الفارسي‪.)(ibid, tr. Patkanian, p. 40 = tr Jeffery, p. 292 .‬‬
‫(‪ )22‬أنظر املادة اليت مجعها جيفري يف مالحظته على املقطع املقتبس من ليفون يف املالحظة السابقة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ما أن وطّدت أقدام حممد يف دور نيب كتايب موسوي‪ ،‬حىت كانت هويّة الدين اجلديد آمنة أخرياً‪.‬‬
‫ففي املوضع األول‪ّ ،‬أدى االنتقال من علم نبوة أكثر رجعية من اليهودية إىل علم نبوة أكثر تقدمية من‬
‫املسيحية إىل إدخال الديانة التوحيدية األكثر قدماً يف منظور أكثر راحة‪ .‬تقهقر احلضور املوسوي بشكل‬
‫أو بآخر(‪ ،)23‬والتوراة كما يقول أحد التقاليد أُغرقت يف حبرية طربية بنوع من التوقري(‪ .)24‬باملقابل صار‬
‫اهلاجريون اآلن يف موقع يؤهلهم لالعرتاف بأنبياء الشرع اليهودي(‪ ،)25‬ولتوسيع دور يسوع بوضعه بني‬
‫موسى وحممد يف سلسلة متعاقبة من مشرعني عظام وفق األمنوذج املوسوي(‪ .)26‬ثانياً‪ ،‬لقد تلقت مشكلة‬
‫إضفاء الصبغة القومية على النبوة حالً فاعالً مل تصل إليه من قبل قط(‪ .)29‬فظهور امساعيل ٍي خالص‬
‫حل التوتّر األسوأ بني احلقيقة الغريبة واهلوية الوطنية‪ .‬يف الوقت‬
‫مشرع للتاريخ الديين ّ‬
‫النسب يف دور آخر ّ‬
‫ذاته فإن جرأة هذا احلل جعلت ديانة ابراهيم‪،‬مع مناصرهتا اخلجولة للنيب األخري الذي استطاع أن يشارك‬
‫امسعيل شرعياً مع إسرائيل‪ ،‬عقيمة مفاهيمياً(‪ .)28‬وما أن راح بنياهنا يذوب‪ ،‬حىت اهنارت فروضها العبادية‬
‫أمام الدعائم األقل رجعية لديانة حممد(‪ . )27‬وصار الدين اجلديد واثقاً كفاية اآلن عموماً يف بعده عن‬
‫أصوله اليهودية حبيث يواجه اليهودية على أرضها الوطنية‪ :‬حني بىن عبد امللك القبة اليت أذاع فيها رسالة‬
‫حممد النبوية‪ ،‬وضعها على صخرة اهليكل بالذات(‪.)39‬‬
‫يف الوقت ذاته‪ ،‬فإن أحجار الدرج السامرية واإلبراهيمية لديانة حممد ق ّدمت هلا مقولة مركزية بالنسبة‬
‫ملكانتها كديانة مستقلة‪ ،‬أال وهي اإلسالم(‪ .)31‬لقد سامهت السامرية بفكرة اإلسالم مبعىن التسليم هلل‪.‬‬
‫والفعل «أسلم» له أقارب يف العربية‪ ،‬اآلرامية والسريانية‪ .‬لكن يف حني ال يقدم لنا األدب اليهودي وال‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Kister, “Haddithü”, p. 234; if.‬‬ ‫(‪ )23‬وهكذا يقول حممد يف أحد التقاليد‪« ،‬لو كان موسى بينكم فتبعتموه وتركتموين‪ ،‬لضللتم»‪.‬‬
‫‪.)ahs p. 235‬‬
‫(‪ )24‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪236‬‬
‫(‪ )25‬تشهد قبة الصخرة على االعتقاد اهلاجري «باألنبياء»‪ .)(van Berchen, Corpus, part two, vol. ii, no, 217 .‬كذلك‬
‫فالعريب الذي جتادل مع راهب بيت حله يعرتف مبرجعيتهم دون مواربة («اجملادلة»‪ ،‬الورقة ‪5‬ب)‪ .‬الحظ أنه كان لعبد امللك ابن امسه‬
‫سليمان وحفيدان حيمالن امسي أيوب وداود‪.‬‬
‫(‪ )26‬يصبح اإلجنيل بالتايل كتاباً منزالً على يسوع (أنظر على سبيل املثال‪ :‬القرآن ‪ )59:5‬والذي يش ّكل شريعة ميكن مقاضاة أتباعه على‬
‫أساسها (‪.)51 :5‬‬
‫النبوة وعلم األنساب إال على حساب رفض واضح للكتابني املقدسني اليهودي‬ ‫(‪)29‬‬
‫مل يكن باإلمكان الوصول إىل انسجام كامل بني ّ‬
‫واملسيحي‪ .‬وإذا كان ملثل هذا الرأي أن يوطد أسسه يوماً‪ ،‬فهو قد يكون تسبب حبرم غريب لعقيدة تعرف «بالفقه األكرب ‪« :»I‬إن كل‬
‫من يؤمن بكل ما عليه أن يؤمن به‪ ،‬باستثناء أنه يقول‪ ،‬ال أعرف ما إذا كان موسى ويسوع ينتميان إىل الرسل أم ال‪ ،‬فهو كافر»‪(A. .‬‬
‫‪.)J. Wensinck, The Muslim Greed, Cambridge 1932, p. 104‬‬
‫ظلت املواقف اإلسالمية الفعلية حيال العالقة بني اإلثنية واحلقيقة الدينية متكافئة ضدياً وإىل حد ما نسبية‪.‬‬
‫(‪ )28‬من أجل اللخبطة العلم ‪ -‬نبوية الناشئة عن البقية القرآنية لديانة ابراهيم‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪Katib Chelebi, The Balance of Truth, tr. G. I. Lewis, London 1957, pp. 110 - 23‬‬
‫(‪ )27‬أنظر هامش‪ 28‬ف ‪.2‬‬
‫(‪van Berchen, Corpus, part two, vol. ii, no. 217 )39‬‬
‫‪P. Crone, The Mawali in the Umayyad Period,‬‬ ‫(‪ )31‬من أجل مناقشة تفصيلية ‪ -‬مع أهنا عتيقة قليالً اآلن ‪ -‬أنظر‪:‬‬
‫‪.London Ph.D. 1974, pp. 219ff‬‬

‫‪36‬‬
‫األدب املسيحي سابقة مقنعة لالستخدام اإلسالمي(‪ ،)32‬فإننا جند موازيات دقيقة يف أهم نص سامري‬
‫من احلقبة املاقبل إسالمية(‪ .)33‬ميكن للمرء أن جيادل طبعاً أن هذا ميثّل تلوثاً للتقليد النصي السامري‬
‫بالتأثري اإلسالمي؛ لكن يف حالة اإلسالم ال يبدو هذا األمر مرجحاً‪ ،‬أقلّه ألن االستخدام السامري‪،‬‬
‫بعكس اإلسالمي‪ ،‬مؤتلف مع مدى من االستخدامات املشاهبة من اجلذور ذاهتا ومن جذور أخرى(‪.)34‬‬
‫لكن إذا كانت السامرية قد قدمت للهاجريني الفكرة «إسالم»‪ ،‬فهي تق ّدم فقط مفتاحاً لفهم أمهية‬
‫اكتساهبا بالنسبة هلم‪ .‬إن سياق الفكرة يف السامرية آبائي [اآلباء هم ابراهيم وساللته]‪ ،‬وأمثولتها القائدة‬
‫ابراهيمية‪ .‬وهكذا فقد كانت ديانة ابراهيم املكان األنسب من أجل متثّل االستعارة وتطويرها؛ واملادة‬
‫القرآنية تؤيد هذا االستنتاج‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬تعطي هذه املادة إحساساً قوياً باملكانة األمثولية لتسليم‬
‫ابراهيم وبالدور املركزي للتسليم يف ديانته(‪ .)35‬أما من الناحية األكثر خصوصية‪ ،‬فاملعاجلة القرآنية لعهد‬
‫اسحق‪ ،‬وهو املثال املفتاح لتسليم ابراهيم‪ ،‬مصاحبة بتفسري يبدو أنه ذو نكهة سامرية(‪ .)36‬يفعل هذا‬
‫الدور لديانة ابراهيم شيئاً يف املساعدة على تفسري االهتمام الذي أواله اهلاجريون لفكرة سامرية شبه‬
‫هامشية؛ لكن يصعب عليه تفسري سبب الربوز الذي أحرزته هذه الفكرة يف اإلسالم‪ .‬هنالك اجتاهان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ملاره مبعىن «أسلم نفسه للرب»‪ .‬لكن ما من مثال يهودي من تلك األمثلة اليت‬ ‫(‪ )32‬يزودنا كالمها بأمثلة عبارات من منط أشلم نفشه‬
‫أوردت حىت اآلن ميكن االتكال عليه (فذلك الذي يُ ْستشهد به من مدراش تنحوما )‪ (ed. S. Buber, Wilna 1885m p. 63‬ال‬
‫ميكن اعتماده حبد ذاته‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫)”‪ .(Encyclopaedia Judica, Jerusalem 1917, art. “Tanhuma Yalammedenu‬يف اللغة السريانية هنالك شواهد‬
‫مطلقة على وجود هذا االستعمال يف احلقبة املا قبل إسالمية‪ .‬لكن إما أنه يعين «ميوت» (كما يف نص «حياة» رابّوال‪ ،‬أنظر‪J.J. :‬‬
‫‪Overbeck (ed.), S.Ephraemi Syri, Rablae apiscopi Edesseni, Balaei aliorumque opera selecta,‬‬
‫‪)Oxford 1851, p. 206‬؛ أو أن اإلشارة هي للمسيح‪ ،‬كما يف حالة الشبان «الذين حثّهم ّربنا‪ ،‬فسلّموا أنفسهم له» يف «أعمال‬
‫القديس توما» (‪(W. Wright (ed. and tr.), Apocryphal acts of the Apostles, London 1871, pp. 182 = 156‬؛‬
‫من أجل تاريخ هذا النص؛ قارن الصفحة ‪ 14‬وما بعد من «مقدمة» النص‪ .‬قارن أيضاً حالة اإلنسان الذي «يسلّم نفسه‪ ..‬للمسيا»‬
‫يف نص من النصف الثاين من القرن السابع‪(Palladius, Hieronymus et al, The Book of Paradise, ed and tr. E. ،‬‬
‫‪ .)A. W. Budy, London 1904, pp. 222 = 275‬من أجل تاريخ الرتمجة السريانية أنظر‪(Baumstark, Geschichte der :‬‬
‫‪.)syrischen Literetur, pp. 201 f‬‬
‫(‪( .J. Macdonald (ed. and tr.), Memar Marqah, Berlin 1963, pp. 85 = 136 )33‬أشلم نفشه ملاره‪ ،‬واحلديث هنا عن‬
‫ابراهيم)؛ ‪( 149 = 79‬واحلديث هنا عن اآلباء ‪ -‬ابراهيم وساللته ‪ -‬بشكل عام)‪ .‬يف املقطع الثاين‪ ،‬ترتبط الفكرة بتعويض اهلل على‬
‫األخيار‪ ،‬وذلك يف موازاة ملفتة للنظر مع القرآن ‪.193 :2‬‬
‫(‪ )34‬قارن‪ :‬شلّم نفشه ملاره )‪ (Memar Marqah, pp. 43 = 67‬اشتلم )‪(pp. 60 - 93‬؛ اشتعبد ومشتعبدبن (املصدر السابق)؛‬
‫واالستخدام املتكرر للجذر ركن (مثالً‪ :‬صص ‪.)193 ،162 = 194 ،78‬‬
‫(‪ )35‬الحظ على حنو خاص املوازاة بني تسليم الرجل الصاحل هلل وأتباعه مللة ابراهيم (القرآن ‪ ،)124 :4‬والحظ أيضاً تلك املوازاة بني‬
‫التسميتني ملة ابراهيم ومسلمون (‪.)99 :22‬‬
‫(‪ )36‬إن مقارنة بني النسخة القرآنية (‪ 77 :39‬وما بعد) والنسخ الرتغومية وفق حتليل فرمز ‪(G. Vermes, Scripture and‬‬
‫‪ )Tradition in Jerusalem, Leyden 1961, Chapter 8‬تظه ر بوضوح الطريقة اليت يتبع هبا القرآن الرواية الرتغومية يف بناء‬
‫الدور الطوعي إلسحق فقط كي حيذف التفسري الذي وضعت هذه القصة لدعمه‪ ،‬أي‪ ،‬القوة الفادية للقربان الذايت اإلسحاقي‪ .‬وعوضاً‬
‫يفسر القرآن احلادث كمثال على جزاء اهلل للمحسنني (‪ .)119 ،195 :39‬إهنا ليست مقولة هامة جداً‪ ،‬بل إهنا على‬ ‫عن ذلك ّ‬
‫وجه الدقة املقولة اليت لوحظ للتو تداعيها مع التسليم السامري‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ميكن أن نبحث فيهما عن التح ّدي الذي حث على هذه اإلجابة‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬علينا بوضوح أن‬
‫نتعامل مع مقولة دينية عامة حت ّدد العالقة بني اإلنسان واهلل وحتتل موقعاً مشاهباً ملوقع العهد يف اليهودية‪.‬‬
‫وهكذا تنشأ احتمالية أن نرى يف اإلسالم نوعاً من التطوير لعهد ابراهيم يف وجه حتدي العهد املوسوي‪.‬‬
‫كان هذا سيجعل على األقل معىن لسمة مستعصية للغاية يف علم دالالت املصطلح‪ ،‬وهي حقيقة أن‬
‫االستخدام القرآين ملصطلح إسالم والصيغ املرتبطة به يتطلب باستمرار ً‬
‫معىن الزماً [مقابل املتع ّدي يف‬
‫القواعد]‪ ،‬على حنو ّأويل رمبا‪ .‬املعىن األكثر معقولية للجذر الذي نستحضره هنا هو معىن «السالم»‪ ،‬ويف‬
‫اآلرامية الرتغومية(‪ )39‬جند شواهد جيدة على أن «يصنع السالم» تعين أسلم‪ ،‬اللفظة القريبة من إسالم‪،‬‬
‫ومن هذا ميكن أن نربهن أن املعىن األويل إلسالم كان الدخول يف عهد سالم(‪ .)38‬إذا كان األمر كذلك‪،‬‬
‫فإن إعادة تفسري هذا املفهوم على أساس معىن «التسليم» املتحكم بشكل مطلق ميكن أن ينظر إليه‬
‫مباشرة على أنه كان بنية فصل العهد اهلاجري عن العهد اليهودي‪.‬‬
‫لكن إذا كان اإلسالم املنافس املفاهيمي إلحدى األفكار املوسوية‪ ،‬فهو أيضاً اخلليفة التارخيي لفكرة‬
‫أخرى‪ .‬ففي اهلاجرية األوىل ش ّكلت فكرة «اخلروج» الواجب املركزي للدين‪ ،‬وق ّدمت يف الوقت ذاته امساً‬
‫ألنصاره(‪ .)37‬وبدا كما لو أن املقولة املركزية لديانة موسى كانت إشارة إىل البحر األمحر‪ .‬لكن حني صار‬
‫الفداء كتاباً مقدساً‪ ،‬احتاجت اهلاجرية إىل مقولة مبدى أكثر سينيائية‪ .‬وهكذا حل إسالم حمل هجرة‬
‫باعتباره الواجب الديين األساسي(‪ ،)49‬وصار املهغرايه بالتايل مسلمني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )39‬أنظر مادة اشلم يف‪Levy, Chald :‬ن‪.rterbuch über die Targum, Leipzig 1867fِisches W‬‬
‫(‪ )38‬قارن‪D. Künstlinger, “ “Islam” , “Muslim”, “aslama” im Kuran” , Rocznik Omjentalistyczny 1935, :‬‬
‫‪.pp. 133f, 136‬‬
‫‪ ‬قارن أيضاً االستخدام املليئ باإلحياءات السم املفعول العربي املوافق مُشلم يف سياق العالقة بني اإلنسان واهلل (أنظر ‪M. Jastrow,‬‬
‫‪A Dictionary of the Targumim, the Talmud Babli and Yerushalmi, and the Midrashic Literature,‬‬
‫‪.)London 1895 - 1903‬‬
‫املثال الذي يورد من تكوين راباه هو حتماً قبل إسالمي‪.‬‬
‫(‪ )37‬أنظر هامش‪ 48‬ف ‪.1‬‬
‫(‪ )49‬أنظر اهلامش ‪ 55‬من القسم األول‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪4‬‬
‫النسخ السامرية‬

‫اليهودية ضمن أشياء أخرى هي التكريس الديين حلكم ما‪ :‬تكريس عاصمته‪ ،‬القدس‪ ،‬وتشريع دولته‪،‬‬
‫امللَكية الداوودية‪ ،‬احلكم ذاته اخنفى منذ زمن طويل‪ ،‬لكن ذكراه بقيت‪ ،‬بأنشط ما ميكن يف الطموحات‬
‫َ‬
‫اإلحيائية للمسيانية‪ .‬وكان على أية حركة دينية تفصل ذاهتا عن اليهودية أن تطرد غصباً عنها شبح هذه‬
‫احلكومة(‪ .)1‬لقد فعل أتباع يسوع ذلك عن طريق حتويل معىن املسيا ومدينته إىل روحانية صاافية‪ :‬كانت‬
‫أورشليم مساوية جيدة كفاية لطائفة مل تكن مملكتها يف هذا العامل(‪ .)2‬لكن اهلاجريني‪ ،‬كوهنم امتلكوا قوة‬
‫حبل ذي صفة أكثر شدة وعينية‪ .‬وهنا ميكن أن جند اإلرث البنيوي الدائم من السامرية‬‫سياسية آنية‪ ،‬طالبوا ّ‬
‫لإلسالم‪ ،‬رغم التعقيدات اليت أحدثتها طائفة من التفاعالت الثانوية‪ ،‬وذلك على شكل زوج ملحوظ من‬
‫النسخ اهلاجرية(‪.)3‬‬
‫ّأول هذين هو احلرم امل ّكي‪ .‬فقد كان جوهر السامرية رفض احلََرم يف القدس واستبداله باحلرم‬
‫اإلسرائيلي األقدم منه يف شكيم‪ .‬كان هذا يعين أنه حني حتلّل اهلاجريون بدورهم من االلتزام بالقدس(‪،)4‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫نب لنسب إسرائيلي (قارن‪ ،‬هامش ‪1‬‬ ‫(‪ )1‬ما عدا يف احلالة املتميزة ألثيوبيا‪ ،‬حيث تُضفى الصبغة القومية على امللكية الداوودية بفضل ت ٍ‬
‫ف‪.)3‬‬
‫(‪ )2‬مع أن األمر ليس كذلك طبعاً بالنسبة لوليم بليك مع حماولته أنكلزة [من انكلرتا] اجلغرافيا املقدسة للكتاب املقدس على أساس دين‬
‫ابراهيم درودي ‪.Druidic‬‬
‫لتقصي التأثريات األخرى احملتملة للسامرية على اإلسالم‪ .‬أكثر التأثريات وضوحاً كان سيبدو الشهادة بالوحدانية‪،‬‬ ‫( ‪)3‬‬
‫مل نقم بأية حماولة ّ‬
‫وذلك كما اقرتح م‪ .‬غاسرت ”‪ )(The Encyclopaedia of Islam, Leyden, 1913 - 1938, art. “Samaritans‬وشهادة «أن‬
‫ليس هنالك سوى إله واحد» هي طريقة تعبري سامرية متميزة يف شكلها‪ ،‬وهي شائعة جداً يف النصوص السامرية املاقبل إسالمية‪ .‬وكما‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬فهي تعترب شهادة‪( .‬أنظر‪A. Ben - Hayyim, The Literary and Oral Tradition of Hebrew and :‬‬
‫‪ )Aramaic amongst The Samaritans, vol. iii, part two, Jerusalem 1967, p. 164‬وقارن العبارة الثابتة «‬
‫نشهد‪ »..‬اليت تسبق على حنو منتظم الشهادة يف ميمار مرقاه‪ .‬ختتلف النسختان‬
‫‪ ‬اإلسالمية والسامرية طبعاً يف كلمة الشهادة األخرية‪ ،‬لكن الحظ عدم استقرارية الصيغ القرآنية يف هذا الصدد (‪39 :13‬؛ ‪:39‬‬
‫‪35‬؛ ‪ )13 :64‬واإلضافة العامة ِل «وحده» إىل الصيغة اإلسالمية املعيارية‪ ،‬كما يف قبة الصخرة على سبيل املثال‪ .‬يف هذه‬
‫احلالة‪،‬كما باألحرى يف حالة اإلسالم‪ ،‬فإن مسألة تلوث النصوص السامرية باألثر اإلسالمي تثريدائماً شيئاً من اإلرباك (أنظر على حنو‬
‫خاص مالحظات ز‪ .‬بن حاييم املتعلقة بنص امليمار مرقاه وذلك يف مراجعته لتحرير ماكدوالند ‪(Bibliotheca Orientalis 1966,‬‬
‫)‪p. 90‬؛ ال تربز هذه القضية فيما يتعلق باملوقف السامري من الكتاب املق ّدس‪ ،‬أو‪ ،‬باستثناء أمور تفصيلية‪ ،‬يف النسخ املأخوذة بعني‬
‫االعتبار يف هذا الفصل)‪.‬‬
‫(‪ )4‬من أجل احلقبة اليت تفصل بني الصدع مع اليهود وبناء قبة الصخرة فنحن ال منتلك سوى دليل سليب حول املواقف اهلاجرية من قداسة‬
‫املدينة‪ :‬الرتكيز املسيحي على اهتمام معاوية بطبوغرافيتها املقدسة (أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 19‬ف ‪)2‬؛ السمة البدائلية للمصلّى اخلشيب‬
‫الذي حدثنا عنه اركولف على موقع اهليكل بعد عقد من ذلك الزمن(أنظر اهلامش ‪ 3‬من الفصل الثاين)؛ واستهزاء القديس‬
‫أناستاسيوس السينيائي يف جدليته ضد اليهود بأن معبدهم يرقد مدمراً وحمروقاً )‪(PG. vol. Lxxxix, col. 1226‬‬

‫‪37‬‬
‫كان باستطاعة شكيم تقدمي أمنوذج بسيط ومناسب خللق حرم جديد خاص هبم‪ .‬التشابه مدهش‪ .‬فكل‬
‫طرف يق ّدم البنيان الثنائي اجلانب ملدينة مقدسة مرتبطة بقوة مع جبل مق ّدس قريب منها‪ ،‬ويف احلالتني‬
‫جند أن الطقس األساسي يتمثل يف حج من املدينة إىل اجلبل‪ .‬يف احلالتني احلرم هو موضع أسسه ابراهيم‪،‬‬
‫فالدعامة اليت قدم عليها ابراهيم قربانه يف شكيم جتد ما يقابلها يف ركن احلرم املكي(‪ .)5‬أخرياً‪ ،‬يف احلالتني‬
‫جند أن احلرم املرتبط بإحدى املدن يرتبط بقوة ايضاً مع قرب أحد اآلباء [ابراهيم وساللته] املناسبني‪:‬‬
‫يوسف (مقابل يهوذا) يف احلالة السامرية‪ ،‬وامسعيل (مقابل اسحق) يف احلالة املكية‪.‬‬
‫هذه املتوازيات هي األكثر لفتاً للنظر يف أ ّن احلرم املكي هو بوضوح ليس سوى هناية لتطور معقد‪.‬‬
‫تأملية للطريقة اليت قد‬
‫نعني العمليات الفاعلة يف هذا التطور‪ ،‬وحناول تقدمي رواية ّ‬
‫يف السطور التالية سوف ّ‬
‫تكون تفاعلت فيها‪.‬‬
‫يف املوضع األول‪ ،‬ميكن الربهان على أن موضع شكيم اهلاجرية يف مكة مسالة ثانوية‪ .‬فالتقليد‬
‫اإلسالمي ال يدعنا نشك‪ ،‬طبعاً‪ ،‬بان مكة كانت احلرم االبراهيمي األصلي لالمساعيليني؛ لكن ال يوجد‬
‫عوز يف الدليل كي نقرتح أن األمر احتاج لبعض الوقت قبل أن يعرف اهلاجريون ما إذا كانوا ذاهبني أم‬
‫عائدين(‪ .)6‬سلبياً‪ ،‬ما من مصدر قدمي خارج التقليد األديب اإلسالمي يشري إىل م ّكة باالسم‪ .‬وعلى ما‬
‫يبدو فإن أقدم اإلشارات هي تلك املوجودة يف إحدى النسخ السريانية من سفر ميثوديوس القيامي‬
‫املنحول؛ لكن رغم أن السفر ذاته يعود إىل هناية القرن السابع‪ ،‬فاإلشارات إىل مكة اليت متيّز هذه‬
‫النسخة تبدو على األرجح ثانوية(‪ .)9‬أما اإلشارة املسيحية الثانية فرتد يف «التواصل البيزنطي العريب»(‪،)8‬‬
‫وهو مصدر يرجع إىل بداية حكم هشام(‪ .)7‬القرآن‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬يق ّدم إشارة واحدة إىل مكة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )5‬من أجل الركن املكي‪ ،‬أنظر‪.Wellhausen, Reste arabischen Heidentums, p. 74 :‬‬
‫كان عمود ابراهيم ظاهراً للعيان يف القرن الثالث بعد املسيح ‪.)(Kippenberg, Garizim und Synagoge, p.12‬‬
‫(‪« )6‬قد نرى تقلب وجهك يف السماء» هي اجلملة اليت جيعلها القرآن يف املقطع الذي يعترب مفتاحاً لفهم مسألة القبلة (‪ .)144 :2‬هذه‬
‫اإلشارة إىل عدم ثبوتية القبلة ليست املؤشر القرآين الوحيد على اجلدل يف هذا اجملال‪ :‬فاآلية ‪ 199 :7‬تشري إىل مسجد مت تبنيه بنوع‬
‫من املكر هبدف تفريق املؤمنني‪ ،‬أما اآلية ‪ 115 :2‬فتوحي باالستغناء عن القبلة‪.‬‬
‫(‪F. Nau, “Révélations et légends. Méthodius. Clément. Andronicus”, Journal asiatique 1917, pp. 427, )9‬‬
‫يبدو برهان ناو على أن هذه النسخة من السفر هي النسخة األصلية غري مقنع‪ :‬ليس هنالك أثر ملكة‬ ‫‪. 341 = 437, 440‬‬
‫يف التقاليد األوربية أو السورية املتأخرة مليثوديوس املنحول‪ ،‬وقبل كل شيء فهي ال تظهر يف نسخة الفهرست الفاتيكاين السرياين ‪،58‬‬
‫والذي اعتربه كموسكو أفضل شهادة على النص األصلي‪(M. Kmosko, “Das R .‬ن ‪stel des Pseudomethodius,‬‬
‫)‪Byzantion 1931, p.276‬؛ حنن مدينان للدكتور سيباستيان بروك على ضبطه لنا نسخته من املخطوطة‪.‬‬
‫(‪ . “Continuatio Byzantia Arabica”, p. 347 )8‬السياق هو احلرب األهلية الثانية‪ .‬التاريخ يلحظ االدعاء بأهنا بيت ابراهيم‪،‬‬
‫ويق ّدم موضعاً يف الصحراء بني أور الكلدانيني وحران‪.‬‬
‫(‪ )7‬ينتهي التاريخ بارتقاء هشام العرش )‪ (“Continuatio Byzantia Arabica”, p. 359‬ومن الواضح أنه مكتوب أثناء حكمه‬
‫(املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)346‬‬

‫‪49‬‬
‫(‪ ،)24 :48‬وذلك يف سياق عمليات عسكرية ذات عالقة باحلرم‪ ،‬لكنه مل ميوضع احلرم هناك قط‬
‫فعالً(‪)19‬؛ وهو يشري إىل قبلة ملغاة يصعب جداً يف السياق حتديد موقعها بأنه يف القدس (‪.)138:2‬‬
‫إجيابياً‪ ،‬خيربنا القرآن ذاته باسم املكان الذي كان فيه احلرم بالفعل‪ :‬بكه (‪.)76:3‬والتقليد اإلسالمي‬
‫(‪)11‬‬
‫أي من مصادرنا بأي ضوء على‬ ‫يبذل جهداً كبرياً كي يطابق هذا املكان مع مكة ‪ ،‬يف حني ال يلقي ّ‬
‫موقعه األصلي‪ .‬مع ذلك فثمة مصدر غري مؤّكد التاريخ‪ ،‬أال وهو النص اآلرامي السامري املعروف باسم‬
‫األساطري‪ ،‬والذي يوحي بأن االسم بكة قد يكون بقية مرحلة مهجورة من البحث عن حرم هاجري‪.‬‬
‫وحبسب هذا النص‪ ،‬فإن أبناء نبايوت بنوا مكة‪ ،‬كما هو مكتوب‪« :‬وأنت آت (بكه) حنوآشور‪ .‬وكان‬
‫قد نزل قبالة مجيع أخوته» (سفر التكوين ‪ .)12()18 :25‬البكه ‪ b’kh‬يف هذه اآلية‪ ،‬اليت تصبح باكا‬
‫‪ baka‬يف العربية السامرية(‪ ،)13‬هي إشارة واضحة إىل املكان الذي نعرفه يف القرآن باسم ب ّكه‪ ،‬وسياق‬
‫اآلية يربطه بأحكام مع موت امسعيل‪ .‬هذا التمرين املرهق يف فقه لغة الكتاب املق ّدس قد ال يكون بالطبع‬
‫أكثر من مثال على انتيكية سامرية عنيدة‪ .‬لكن قد يكون لدينا هنا أيضاً بقية حماولة هاجرية للحصول‬
‫من معلميهم السامريني على إقرار من أسفار التوراة اخلمس األوىل حبرم هاجري(‪.)14‬‬
‫وهكذا يبدو معقوالً أن نفحص خريطة شبه اجلزيرة العربية من اجل آثار حمتملة حلرمات منبوذة‪ ،‬ويف هذا‬
‫السياق يق ّدم عدد من األمكنة مسات هامة‪ .‬يف احلجاز ذاته‪ ،‬الدليل غري مرض إىل درجة كبرية ألنه مستمد‬
‫بالكامل تقريباً من التقليد اإلسالمي‪ .‬مع ذلك مثة موضعان يستحقان املالحظة‪ :‬يثرب‪ ،‬اليت سنعود إليها‬
‫الحقاً(‪ ،)15‬والطائف‪ .‬الطائف تق ّدم حماكاة غري خالية من الشك لشكيم وذلك يف أهنما (باملقارنة مع مكة)‬
‫حرمان متوضعان يف بيئتني تشتهران باخلضرة(‪)16‬؛ وأهنا مادة تقليد إسالمي مشكوك به‪ ،‬يفيد أهنا كانت ذات‬
‫يوم مكاناً يف فلسطني(‪.)19‬‬
‫تتحسن نوعية الدليل‪ ،‬مع أن املشاكل تظل تزوغ من حل دقيق‪ .‬نصل اآلن إىل‬ ‫بعيداً حنو الشمال ّ‬
‫منطقة توجد فيها شواهد قوية على االستيطان اليهودي يف األزمنة املاقبل إسالمية‪ ،‬منطقة رمست هلا‬
‫جغرافيا مقدسة يف الرتغومات اليهودية‪ .‬هنا‪ ،‬وذلك مقابل أعماق اجلنوب‪ ،‬مل يكن على اهلاجريني أن‬
‫تفسر كونه مكاناً جيداً للبداية‪.‬‬
‫يبدأوا من الشيء ‪ -‬وهو أحد األسباب اليت ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫مثل عرفات (‪ )178:2‬والصفا واملروة (‪.)158:2‬‬ ‫(‪ )19‬وهو يشري أيضا إىل تلك املواقع الثانوية (وبالتايل املتحركة)‬
‫ً‬
‫(‪ )11‬القراءة املقبولة للعمود الفقري الساكن قد ال تكون أكثر من طريقة جلعلها متناغمة مع مكة‪.‬‬
‫(‪( M. Gaster, The Asatir, London 1927, pp. 34 = 268 )12‬ندين هبذه اإلشارة للدكتور غ‪ .‬م‪ .‬هوتيغ)‬
‫(‪J. H. Petermann, Versuch einer hebr )13‬ن ‪ischen Formenlehere nach der Aussprache der beutigen‬‬
‫‪. Samaritaner, Leipzig 1869, p. 186‬‬
‫(‪ )14‬الحظ أن املعاجلة القرآنية ملسألة القبلة تشري إىل نوع من اإلقرار من الكتاب املقدس (‪ .)141 ،137 :2‬وليفون جيعل عمر يتهم‬
‫املسيحيني بأهنم ال يصلون إىل املكان الذي تشري إليه الشرائع‪. (“Letter”, tr. Patkanian, p. 55 = tr. Jeffery, p. 310) .‬‬
‫(‪ )15‬أنظر‪،‬هامش ‪ 36‬ف‪.3‬‬
‫(‪ )16‬قارن مع التقليد القائل إن وادي مكة كان خصيباً يف األزمنة اخلالية ‪(A. J. Wensinck, The Idees of the Western Semites‬‬
‫‪.)concerning the Navel of the Earth, Amsterdam 1916, p. 34‬‬
‫‪M. J. Kister: “You shall only set out for three mosques”: a study of an early tradition”, Le Muséon )19(.‬‬
‫‪. 1969, p. 192‬‬

‫‪41‬‬
‫ق ّدمت الرتغومات‪ ،‬عرب عادهتا اليت تتجلّى يف حتديث أمساء املواقع يف الكتاب املق ّدس‪ ،‬نسخاً من‬
‫سفر التكوين نُقلت فيها جوالت الشخوص املفتاحية ‪ -‬ابراهيم‪ ،‬هاجر‪ ،‬وامسعيل ‪ -‬إىل مشال غرب شبه‬
‫اجلزيرة العربية(‪ .)18‬يف املوضع األول‪ ،‬ق ّدمت بعض هذه الرتمجات الرتغومية تصويراً خرائطياً سطحياً لذلك‬
‫اإلقليم يف شبه اجلزيرة العربية(‪ .)17‬وكانت النتيجة إضفاء صفة آبائية [من اآلباء ابراهيم وساللته] على‬
‫املراكز العبادية النبطية يف البرتاء والوسا‪ .‬وحنن ال نعرف إىل مىت استمرت هذه التقاليد الوثنية يف تلك‬
‫املنطقة‪ .‬لكننا الحظنا لتونا إعادة تقومي حنيفية مميزة لعرف وثين مطبق هنا‪ ،‬وقد أشري منذ زمن طويل إىل‬
‫وجود بعض الروابط امللفتة للنظر بني العبادات الوثنية يف ذلك اإلقليم من شبه اجلزيرة العربية والعبادة‬
‫املكية كما نعرفها يف التقليد اإلسالمي(‪.)29‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فقد ق ّدمت ترمجات أخرى تصويرات خرائطية أكثر عمقاً مل يعد فيها املوقع‬
‫احلدودي الوسا بل حغرا(‪ ،)21‬أي مدينة احلجر العربية(‪ .)22‬أهم مسألة هنا هي الربط بني ذكر حغرا‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )18‬مال الرتغوم السامري باملقابل إىل ترك هذه التسميات اجلغرافية على حاهلا‪ .‬وقد أمكن لرتمجات البشيطا [النسخة السريانية من‬
‫الكتاب املقدس] أن تكون أكثر إفادة‪ .‬فالصيغة َمنشا ‪ Mansha‬اليت تظهر هناك بدل ميشا ‪ Mesha‬يف سفر التكوين (‪)39 :19‬‬
‫اليت تقع على حدود منطقة بين يقطان قد تكون مصدر الصيغة املنساه ‪ ،al-Mansah‬وهي إحدى تسميات مكة األكثر إهباماً‪(R. .‬‬
‫)‪ .Dozy. Die Israeliten zu Mekka, Leipzig and Haarlem 1864, p. 89‬ومستوى اإلهتمام باإلمكانيات الكامنة يف‬
‫األسفار املقدسة لشعب آخر الذي قد يتضمنه هذا األمر ليس شيئاً غري اعتيادي يف تلك احلقبة‪ :‬فعند ايشوع داد الذي من مرف‬
‫‪ Merv‬جند نسطوريا كان باستطاعته استخدام األسفار السامرية املقدسة لدعم آرائه حول اجلغرافيا املقدسة ‪(C. vanden Eynde‬‬
‫‪(ed. and tr.), Commentaire d’ Iso’dad de Merv sur L’Ancien Testament (= CSCO, Scriptores Syri,‬‬
‫‪.)vols. Lxvii, Lxxv, etc), Louvain 1950 - , 11, Exodo - Deutéronomie, pp. 129 = 174 f‬‬
‫(‪ِ )17‬رقَم ‪=( Reqam‬البرتاء) بدل قادش‪ :‬اونكلوس يوناتان املنحول ونيوفاييت على سفر التكوين ‪ 14 :16‬و‪ .1 :29‬حلوصا (=‬
‫ايلوسا) بدل شور‪ :‬يوناتان املنحول على سفر التكوين ‪ 18:25‬ونيوفاييت هناك وعلى سفر التكوين ‪ 9:16‬و‪1:29‬؛ حلوصا بدل‬
‫بارد‪ :‬يوناتان املنحول ونيوفاييت على سفر التكوين ‪( . 14:16‬تظهر الوسا باسم اخللوص يف برديات من سبعينات القرن السابع)‪.‬‬
‫أنظر‪C. J. Kraemer, Non Literary Papyri, (= Excavations at Nessana, vol. iii), Princeton, N. J. 1958, :‬‬
‫‪.nos 60, 62‬‬
‫(‪T. Noldeke, “der Gott mr’ byt’ und die Ka’ba”, Zeitschrift fur Assyriologie und verwandte Gebiete )29‬‬
‫‪(A. Grohmann, Arabien,‬‬ ‫‪( .1909‬الحظ الدليل املوجود يف اهلامش على وجود اإلله هبل واالسم قصي يف الشمال الغريب)‪.‬‬
‫‪Munich 1963, p. 87;. G. L. Hardig, An Index and Concordance of pre-Islamic Arabian names and‬‬
‫‪ .)inscriptions, Toronto 1971, s.n. qy‬قارن أيضاً حجر البرتاء األسود‪tJ. H. Mordtmann, “Dusares bei :‬‬
‫‪Epiphanius”, Zeitschrift der Deutschen Morgrenl‬ن‪ .ndischen Gesellschafft1876, p. 104‬والشواهد اهلامشية‬
‫الوافرة وغريها من الشواهد حول اآلهلات العربية الثالث يف القرآن ‪ 29 - 17 :53‬املوجودة يف الشمال الغريب‪(Grohmann, .‬‬
‫)‪.Arabien, pp. 82 - 4‬‬
‫(‪ )21‬حغرا بدل شور‪ :‬انوكلوس على سفر التكوين ‪18:25 ،1:29 ،9:16‬؛ يونان املنحول على سفر التكوين ‪ 9:16‬و ‪1:29‬؛ حغرا‬
‫بدل بارد‪ :‬اونكلوس على سفر التكوين ‪.14:16‬‬
‫( ) ليس هذا املوقع الوحيد املمكن حلغرا الرتغومية (التلمود البابلي‪ ،‬غطني‪ ،‬الورقة ‪4‬آ‪ ،‬يشري إىل موضع جماور ألرض إسرائيل)؛ لكن نقشاً‬
‫‪22‬‬

‫يهودياً ُوِجد مؤخراً يف املنطقة يشهد على وجود االسم وعلى حقيقة االستيطان اليهودي يف القرن الرابع بعد املسيح‪(F. Altheim .‬‬
‫‪.)and R. Stiehl, Die Araber in der Alten Welt, vol. v, part one, Berlin 1968, pp. 305f‬‬

‫‪42‬‬
‫وموت امسعيل يف سفر التكوين ‪ .18:25‬وهكذا فاحلجر كانت موضعاً ال لبس فيه لرفاة امسعيل‪ .‬وكون‬
‫اهلاجريون استخدموا هذا فعالً فهو أمر توحي به إحدى السمات الغريبة للطبوغرافيا امل ّكية‪ :‬فحىت يف‬
‫مكة‪ ،‬جند أن امسعيل مدفون يف احلجر‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬يبدو أن لدينا هنا موازياً ملفتاً للنظر حلالة بكة‪.‬‬
‫ويف احلالتني يظهر اهلاجريون وكأنه خرجوا ليجدوا ألنفسهم حرماً من سفر التكوين ‪ ،18:25‬يف احلالة‬
‫األوىل عرب التوراة السامرية‪ ،‬ويف احلالة الثانية عرب الرتغوم اليهودي؛ ويف كلتا احلالتني يبدو أهنم هجروا‬
‫املوقع‪ ،‬آخذين معهم امسي املنطقتني إىل مستودعهم املكي النهائي(‪.)23‬‬
‫وهكذا فالرتمجات الرتغومية ق ّدمت الشمال الغريب باعتباره ارضاً مناسبة حلرم هاجري؛ وصالت م ّكة‬
‫باحلجر ووثنية املناطق الريفية من شبه جزيرة العرب توحي بأن هذه اإلمكانية رمبا تكون استُغِلّت‪ .‬فرضية‬
‫كهذه كانت ستتناسب مع بروز الشمال الغريب يف جغرافية القرآن املتعلقة بشبه جزيرة العرب واليت قد‬
‫تكون هزيلة إىل حد ما(‪ ،)24‬وستخلق معىن لبعض اإلشارات اجملهولة املصدر يف التقليد اإلسالمي‬
‫والقائلة إن احلرم كان موجوداً يف إحدى املراحل يف مشال املدينة(‪)25‬املنورة‪.‬‬
‫لكن أمهية الشمال الغريب الرتغومي يف جغرافيا اهلاجريني املق ّدسة تـُ َؤّكد على حنو هو األعظم إثارة‬
‫عرب ما نعرفه عن التاريخ األويل للقبلة‪ :‬يبدو أهنم اجتهوا يف الصالة إىل مكان ما يف الشمال الغريب من‬
‫األول‪ ،‬لدينا الدليل األركيولوجي على وجود مسجدين أمويني يف العراق‪،‬‬ ‫جزيرة العرب‪ .‬يف املوضع ّ‬
‫مسجد احلجاج يف واسط وآخر يـُ ْعزا إىل احلقبة ذاهتا تقريباً قرب بغداد‪ .‬هذان املسجدان متوجهان مشاالً‬
‫إىل درجة كبرية مبقدار ‪ 33‬درجة و‪ 39‬درجة على الرتتيب(‪)26‬؛ ومع هذا ميكن لنا أن نقارن الشهادة‬
‫األدبية اليت تفيد أن القبلة العراقية كانت حنو الغرب(‪ .)29‬ثانياً‪ ،‬لدينا الدليل األديب املتعلق مبصر(‪،)28‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )23‬الحظ أنه يف حني امتصت مكة بكة بالكامل‪ ،‬ظلت احلجر مكاناً له موقعه اخلاص‪ ،‬مع أن القرآن يعيد تصنيفها كهدف لغضب‬
‫إهلي (‪.)84 :98 :15‬‬
‫(‪ )24‬جيب أن يُبحث هنا عن كل األمم اخلالية اهلامة يف املاضي العريب‪ :‬مدين‪ ،‬مثود وعاد (من أجل موقع األخرية‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪ .)Encyclopaedia of Islam, s.n.‬والحظ كيف خيرب النيب معاصريه أن اهلل َد ّمر مدناً حوهلم (‪ .)25 :46‬قارن أيضاً القرآن‬
‫‪ 1:39‬وما بعد حيث يقال غلبت الروم يف أدىن األرض‪.‬‬
‫(‪ )25‬يف احلربني األهليتني األوىل والثانية‪ ،‬جند روايات عن أناس يتقدمون من املدينة إىل العراق عرب م ّ‬
‫كة (من أجل طلحة والزبري‪ ،‬أنظر‪J. :‬‬
‫‪van Ess, Frühe Mu’tazilitische H‬ن‪)resiographie, Beirut 1971, text p. 16‬؛ (من أجل احلسني؛ أنظر‪ :‬حممد بن‬
‫أمحد الذهيب‪ ،‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬القاهرة ‪7 - 1369‬؛ ‪.)343 :2‬‬
‫(‪K. A. C. Creswell, “Early Muslim Architecture”, vol. i, part one, Oxford 1969, pp. 137ff. (Wasit); )26‬‬
‫‪.G. Fehérvari, Development of the Mihrab down to the XIVth Century, London PH. D. 1961, p. 89.‬‬
‫(أيشف بين جنيد قرب بغداد)‪ .‬يُدخل اجلاحظ تبديل قبلة واسط ضمن األفعال السيئة للوليد الثاين وساللته (هـ‪ .‬السندويب (حمرر)‪،‬‬
‫رسائل اجلاحظ‪ ،‬القاهرة ‪ ،1733‬ص‪.)276 .‬‬
‫متضمن يف التقليد املتعلّق بأول مسجد يف الكوفة كما يورده البالذري يف الفتوح‪ ،‬ص‪ ،296‬كما جنده عند يعقوب الرهاوي يف‬ ‫هذا ّ‬
‫(‪)29‬‬

‫املقطع املشار إليه الحقاً‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫فمن اجلانب اإلسالمي هنالك تقليد يقول إن مسجد عمرو بن العاص يف الفسطاط كان متوجهاً حنو‬
‫الشمال البعيد‪ ،‬وكان البد من تصحيحه حتت حكم قره بن شريك(‪ .)27‬من اجلانب املسيحي لدينا عبارة‬
‫شهرية ليعقوب الرهاوي‪ ،‬وهو شاهد عيان من ذلك الزمن‪ ،‬تقول إن «املهغرايه» يف مصر كانوا يصلون‬
‫إىل الشرق حنو الكعبة(‪ .)39‬واجلمع بني الدليل األركيولوجي من العراق والدليل األديب من مصر يشري دون‬
‫لبس إىل حرم يف مشال غرب اجلزيرة العربية‪ ،‬وهبذا يصعب أن نتجنب االستنتاج بأن موقع احلرم اهلاجري‬
‫يف مكة كان ثانوياً‪.‬‬
‫املصدر الكبري اآلخر لالهتمام يف اجلغرافيا املقدسة لشبه جزيرة العرب كان البحث عن سيناريو‬
‫مناسب ألعمال النيب املوسوية‪ .‬باد ذي بدء كان هذا يعين اختيار موقع جديد للخروج اهلاجري‪.‬‬
‫سلبياً‪ ،‬أخلي سبيل النيب من املغامرة الفلسطينية األصلية عن طريق تنقيح تأرخيي جعله ميوت قبل سنتني‬
‫من بدء الغزو(‪ .)31‬إجيابياً‪ ،‬فقد ُحبث يف الغزوات غري الفلسطينية عن وجهة أقل إرباكاً للخروج‪ :‬حيفظ لنا‬
‫التقليد االسالمي آثار نقل فكرة األرض املوعودة إىل غزو العراق(‪ ،)32‬وتعميم اخلروج حبيث يشمل كل‬

‫مشرقني إىل‪..‬‬ ‫(‪)28‬‬


‫إضافة إىل الشواهد اليت جرت مناقشتها يف النص‪ ،‬فإن عبارة سويروس القائلة إن العرب يصلّون «إىل اجلهة القبلية ّ‬
‫الكعبة»‪ .‬قد ال تكون سوى انعكاس مشوش إلحدى العبارات الواردة يف مرجع قبطي واليت تفيد بأهنم كانوا يصلون إىل الشرق‪.‬‬
‫‪(Severus ibn al-Muqaffa’, History of the Patriarchs of the Coptic Church of Alexandria, ad. and tr.‬‬
‫‪.)B. Evetts, in Patrologia Orientalis, vol. i. p. 492‬‬
‫(‪ .Creswell, Early Muslims Architecture, vol. I, part one, pp. 37, 150. )27‬ال يُشار إىل كمية االحنراف‪ ،‬لكن قارن‬
‫التقليد القائل إن عمرو صلّى متوجهاً إىل اجلنوب الشرقي تقريباً (أمحد بن علي املقريزي‪،‬كتاب املواعظ واالعتبار‪ ،‬القاهرة ‪،1326‬‬
‫‪ .)6:4‬قارن أيضاً التقليد الذي يرتبط فيه «املصلّى» مع اجلبل امللعون وذلك مقابل اجلبل املقدس‪( .‬حممد بن يوسف الكندي‪ ،‬كتاب‬
‫الوالة وكتاب القضاة‪ ،‬حتقيق ر‪ .‬غوست‪ ،‬اليدن ولندن ‪ ،1712‬ص‪.)13‬‬
‫(‪( British Museum, Add. 12, 172, f. 1242. )39‬أنظر‪ .)Wright, Catalogue of Syriac Mauscripts, p. 604 :‬إنه‬
‫(سغدين) حنوه اليهود‪،‬وال‬
‫يتملّص من سؤال سخيف يقول ملاذا يصلي اليهود حنو اجلنوب‪ ،‬بقوله‪« :‬ألنه ليس اجلنوب هو الذي يصلي َ‬
‫للجنوب يصلي املهغرايه‪ .‬فاليهود الذين يعيشون يف مصر‪ ،‬مثلهم مثل املهغرايه هناك‪ ،‬كما رأيت بأم عيين وسوف أريك ذلك اآلن‪،‬‬
‫كانوا يصلّون إىل الشرق‪ ،‬وما يزالون يفعلون ذلك‪ ،‬الشعبان على حد سواء ‪ -‬اليهود حنو القدس‪ ،‬واملهغرايه حنو الكعبة (كعبت‬
‫‪ . (K’bt‬أما اليهود املوجودون يف جنوب القدس فيصلون إىل الشمال؛ وأولئك املوجودون يف بابل وحنرت ’‪ nhrt‬وبصرت ’‪bwsrt‬‬
‫يصلون إىل الغرب‪ .‬وكذلك فاملهغرايه املوجودون هناك يصلّون إىل الغرب‪ ،‬حنو الكعبة؛ أما أولئك املوجودون جنوب الكعبة فيصلون إىل‬
‫الشمال‪ ،‬حنو ذلك املكان‪ .‬يتضح لنا من كل هذا إذاً أن اليهود واملهغرايه املوجودين هنا يف أقاليم سوريا ال يصلون إىل اجلنوب بل حنو‬
‫القدس أو الكعبة‪ ،‬وهي مواضع آباء (أهباياتا) ساللتهم»‪ .‬نالحظ هنا أن يعقوب درس يف االسكندرية خالل فرتة شبابه‪bus, ِِ(V .‬‬
‫)‪.Syrische Kanonessammlungen, p. 207‬‬
‫(‪ )31‬أنظر سابقاً‪ ،‬صص ‪ . 54 - 53‬قارن الرواية املتعلقة بزيارة حممد املبكرة كتاجر واليت يق ّدمها تاريخ يعقوب الرهاوي‪،‬الذي جيعل النيب يزور‬
‫فلسطني وفينيقا‪ ،‬مع الرواية اليت تقدمها السرية‪ ،‬واليت ال جتعله يذهب إىل أبعد من بصرى‪ Chronica Minora, pp. 326 = 250) .‬؛ ابن‬
‫اسحق‪ ،‬سرية‪ ،‬صص ‪.)97 = 115‬‬
‫(‪ )32‬يزعم الغزاة أن اهلل وعدهم باألرض (موعود اهلل‪ ،‬طربي‪ ،‬تاريخ‪ ،)2254 :1 ،‬وأهنا إرث منحهم اهلل إياه (املرجع السابق‪ ،‬ص‪ .)2284‬يف‬
‫مقطع آخر (املرجع السابق‪ ،‬ص‪َ )2286‬جت ْمع هذه األفكار مع االستشهاد القرآين (‪ )195 :21‬باملزمور ‪ 27 :39‬يف مسألة أن األرض يرثها‬
‫الصاحلون‪ .‬قارن إعادة التشكيل املتحيزة لسرية خالد بن الوليد يف التقليد التارخيي اإلسالمي‪.(Encyclopaedia of Islam, s.n) .‬‬

‫‪44‬‬
‫(‪)33‬‬
‫احلل احمل ّدد كان يف فصل اخلروج عن الغزوات بالكامل وإعادة موضعته داخل‬ ‫األراضي املغزو ‪ .‬لكن ّ‬
‫شبه جزيرة العرب‪ .‬وهكذا أصبح «يوم الفرقان» يف القرآن (‪ )41:8‬حدثاً يف سرية النيب‪ ،‬يتماثل يف‬
‫جتمع املنفيني اليهود يف فلسطني على يدي‬ ‫التقليد اإلسالمي مع موقعة بدر‪ .‬وعلى حنو معكوس صار ّ‬
‫الفادي طرداً هلم من شبه جزيرة العرب على يدي خليفة مسلم(‪ ،)34‬وصاراملتعاونون اليهود يف املغامرة‬
‫الفلسطينية أنصار املدينة املنورة العرب (لكنهم ليسوا امساعيليني)(‪ .)35‬وهكذا فاخلروج املتب ّدل املوقع ُختم‬
‫داخل وضعه العريب اجلديد عرب التقليد القائل‪« ،‬ال هجرة بعد فتح مكة»(‪.)36‬‬
‫يتضمن بالضرورة أكثر من مكان‪ ،‬والتقليد االسالمي‬ ‫يبدوأن تبديل موقع اخلروج عملية مع ّقدة ألنه ّ‬
‫(‪)39‬‬
‫يتحضر الستعادة‬
‫ّ‬ ‫يعمل مبقولتني أساسيتني‪ :‬اخلروج يأخذ النيب إىل «اإلقليم»‪ ،‬املدينة املنورة ‪ ،‬حيث‬
‫العاصمة‪ ،‬أم القرى‪ .‬من املعقول تارخيياً اآلن أن نفرتض أن النيب شرع يف غزو فلسطني من إحدى القواعد يف‬
‫شبه جزيرة العرب(‪.)38‬و ميكن لنا أن نتخيل أن هذه القاعدة كانت يثرب(‪ ،)37‬مع أن الربط بني املدينة‬
‫ومدين(‪ )49‬واملعقولية اجلغرافية عموماً قد يوحيان مبوقع أبعد مشاالً‪ .‬مع ذلك فاملقولة احلامسة هي العاصمة‪،‬‬
‫الفلسطينية اصال‪ ،‬لكنها يف القرآن توجد يف شبه اجلزيرة العرب دون التباس(‪ .)41‬لقد أمكن مقاربة مشكلة‬
‫موضعة عاصمة كهذه بإحدى طريقتني‪.‬‬
‫لقد جتلّى أوضح احللول يف رفع تدرجيي ملكانة القاعدة حىت تصبح مبكانة العاصمة ليس إال‪ :‬أعيد‬
‫تفسري «ريف» حممد اآلن على أنه «مدينته»‪ .‬وكون هذا احلل قد مت تبنيه يف بعض النواحي فذلك ما‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )33‬أنظر هامش ‪ 49‬ف‪ . 1‬قابل مع ما يتضمنه املقطع املستشهد به من سيبيوس (صص ‪ )56 - 55‬والذي يعترب أن الغزوات غري‬
‫الفلسطينية جمرد محلة شنت على االغتصاب البيزنطي لألرض املقدسة‪.‬‬
‫(‪ )34‬قارن على سبيل املثال املقطع املتعلق «بطرد اليهود من شبه جزيرة العرب» عند أبو داود‪ ،‬سنن ‪34 :2‬؛ وقصة طرد عمر لليهود من‬
‫شبه جزيرة العرب إىل سوريا عند ابن سعد‪ ،‬كتاب الطبقات‪.293 :3 ،‬‬
‫(‪ )35‬الحظ التقليد القائل إن األوس واخلزرج كانوا من أصل يهودي )‪.(Kuster, “Haddithu”, p. 233‬‬
‫(‪ )36‬البخاري‪ ،‬صحيح‪ 269 :2 ،‬وما بعد‪ ،‬حيث تق ّدم تقاليد أخرى تتضمن املعىن ذاته أيضاً؛ أنظر أيضاً‪ :‬املصدر السابق ‪35 :3‬؛ أبو عبيد‪،‬‬
‫كتاب األموال‪ ،‬رقم ‪.531‬أنظر أيضاً‪.Wensinck, Concordance, s. n. hijra :‬‬
‫(‪ )39‬املعىن البدئي ملصطلح «مدينا» يف االستخدام اليهودي هو «إقليم او ريف او منطقة غري حضرية» وذلك مقابل «حرم» (مقداش)؛‬
‫وبعكس املعىن البديل «مدينة» يعطي هذا ‪ -‬مدينا ‪ -‬التقابل الصحيح مع أم القرى‪.‬‬
‫(‪ )38‬ال يذكر سيبيوس قاعدة كهذه‪ ،‬لكننا جند يف كسرة التاريخ املاروين أن معاوية مل يكن يرغب بأن حيكم من مقر (كرسي) حممد‬
‫)‪.(Chronica Minora, pp. 71 = 56‬‬
‫(‪ )37‬يف تاريخ اخلوزستاين تظهر مماثلة قوية بني املدينة ويثرب )‪ .(Chronica Minora, pp. 38 = 31‬من أجل هذا املصدر قارن‬
‫اهلامش ‪ 9‬من الفصل األول‪ .‬تبدو اإلشارات القرآنية إىل املدينة يف تلك النقطة بطريقة توحي كما لو أهنا كانت قاعدة النيب (‪69 :33‬‬
‫وما بعد)؛ والقرآن يشري إىل يثرب يف موضع آخر (‪ ،)13 :33‬لكنه ال يق ّدم لنا ما يوحي ما إذا كانت يثرب هي املدينة أم ال‪.‬‬
‫(‪ )49‬جيدر بنا أن نأخذ بعني املالحظة من جديد تاريخ اخلوزستاين )‪(loc.cit‬؛ قارن ايضاً القول إن يثرب هي مدينة قطورة يف تاريخ سيئريد‬
‫)‪ . (Scher, Histoire nestorienne, p. 600‬أما الرواية املركبة حول أصول اإلسالم اليت يقدمها توماس ارتسروين ‪(Brasset,‬‬
‫‪ .)Collection d’histoierns arméniens, vol i , pp. 88 - 90‬فيقول إن اسم قاعدة النيب هو مديان‪ ،‬ويطابق عرضياً بني‬
‫مكة وفاران‪ ،‬املوجودة دون غموض يف آرابيا برتايا ‪ . Arabia Petraea‬من املعروف أن بلدة مديان موجودة يف الشمال الغريب وذلك‬
‫يف املصادر القدمية والعربية على حد سواء‪ ،‬وقد مت حتديد موقع هلا (أنظر‪A. Musil, The Northern Hegas, New York :‬‬
‫‪ .1926, pp. 278 - 82,‬وأيضاً‪P. J. Parr et al., “Preliminary Survey in N.W. Arabia, 1968”, Bulletin of :‬‬
‫‪ )the Institute of Archaeology 1971, pp. 30 - 5‬يتخلّص القرآن بالطبع من مدين جبعلها هدفاً لعقوبة إهلية‪.‬‬
‫(‪ )41‬إهنا تتلقى إنذارها باللغة العربية (القرآن ‪.)9 :42‬‬

‫‪45‬‬
‫توحي به السمة احلاضرية امللفتة للنظر اليت تبديها املدينة يف بعض الوجوه‪ :‬إهنا حبد ذاهتا حرم(‪ ،)42‬وهي‬
‫بالنتيجة القدر النهائي للخروج اهلاجري(‪ ،)43‬والعاصمة السياسية دون ريب للتاريخ اإلسالمي‬
‫األويل(‪ .)44‬كان البديل هو أن يتمحور اخلروج حول املكانة اإلقليمية للقاعدة‪ :‬فقد احتفظت املدينة‪ ،‬إذا‬
‫صح القول‪ ،‬بدواميتها‪ ،‬يف حني انتقل الغزو املق ّدس من القدس إىل مكة‪ .‬ورغم مسات العاصمة اليت‬
‫حتملها املدينة‪ ،‬فهذا هو احلل الذي مييل إليه التقليد اإلسالمي أساساً‪.‬‬
‫يف هذه النقطة حنتاج إىل تذ ّكر مسة هامة للخلفية العقائدية‪ :‬التق ّدم من ديانة ابراهيم إىل ديانة حممد‪.‬‬
‫فمن الواضح أن القصد من احلرم اإلبراهيمي كان العاصمة اهلاجرية؛ لكن بالنسبة إلسالم متخيل كديانة‬
‫حملمد‪ ،‬رمبا يبدو احلرم احملمدي مركزاً أكثر مناسبة‪ .‬لكن الواقع أن ما ظهر كان تسوية احتفظ فيها حممد‬
‫باليد العليا‪« :‬كانت مكة حرم ابراهيم واملدينة حرمي»‪ ،‬كما يقول النيب(‪ ،)45‬لكن مكة ظلت املركز‬
‫العبادي لإلسالم‪ .‬تبدو عودة مكة إىل سابق عهدها مفاجئة هنا‪ :‬ميكن للمرء أن يتوقع أن يكون احلرم‬
‫االبراهيمي قد استُوعب أو ترك لالهنيار جنباً إىل جنب مع العبادة االبراهيمية‪ .‬والتفسري الذي سنقرتحه‬
‫هو أن أولوية مكة أنقذت عرب وضع دور موسوي غريب آخر فوق احلرم االبراهيمي‪ .‬وحني صار الفداء‬
‫كتاباً مقدساً‪ ،‬وجد اهلاجريون أنفسهم حباجة إىل سيناء يف اجلزيرة العربية‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬فقد كان‬
‫عليهم أن جيدوها يف جزء من شبه جزيرة العرب أقل تلوثا باليهودية من املدينة املنورة‪ ،‬مسرح الصدع‬
‫اهلاجري ‪ -‬املنقول وامللقى به إىل اخللف ‪ -‬مع اليهود‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )42‬بل إهنا متتلك مبىن يشبه الكعبة أصال‪،‬والذي عدله من‬
‫مث عمر بن عبد العزيز كي مينع اعتباره قبلة‪ ،‬وح ّددت هويته يف التقليد اإلسالميي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫باعتباره قرب النيب ‪ .)(J. Sanvaget, La Mosquée omeyyade de Médine, Paris 1947, p. 89‬يف غري ذلك‪ ،‬ميكن مقارنة حُجَر‬
‫تضم ِحجر‬ ‫ِ‬
‫مسجد املدينة مع حجر احلرم املكي‪ :‬حُجَر املدينة (حتدد هويتها على أهنا «حجرات» زوجات النيب) ّ‬
‫تضم قرب حممد متاماً كما ّ‬
‫املكية قرب امسعيل‪ ،‬وهي تدخل ضمن املسجد الذي أعاد بناءه عمر بن عبد العزيز (املرجع السابق‪ ،‬صص ‪ )16 - 19‬متاماً كما تدخل ‪‬‬
‫ِحجر يف الكعبة اليت أعاد بناءها ابن الزبري‪ .‬كذلك يسهل علينا للغاية حتديد شبيه مديين للحج املكي إىل املكان املقدس خارج البلدة‪:‬‬
‫فقد اعتاد النيب‪ ،‬يف العيدين الكبريين ‪ ،‬أن خيرج إىل مصلى يف منطقة بنو سلمى‪ ،‬بل ويضحي هناك‪F. Buhl, Das Leben ( .‬‬
‫‪ .)Muhammeds, Heidelberg 1961, p. 205‬الحظ أيضاً أن املدينة‪ ،‬وليس مكة‪ ،‬كانت مقر اإلقامة األوىل للساللة املقدسة‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬ونعين بذلك العلويني‪.‬‬
‫(‪ )43‬قارن مع التقليد القدمي الذي يقول إن النيب أمر بأن ال يكون مسجد املدينة «غري سقيفة مثل سقيفة موسى ألن االمر (سوف حيدث)‬
‫بأسرع من ذلك»‪(M. J. Kister, “A booth like the booth of Moses...”: a study of an early hadith”, .‬‬
‫‪.)Bulletin of the School of Oriental and African Studies 1962‬‬
‫(‪ )44‬الحظ أن هنالك شاهداً قدمياً حول هذا‪ .‬ومن سيبيوس يتضح لنا كفاية أن امللوك االمساعيليني األوائل حكموا من مكان ما بعيداً عن‬
‫املسرح‪ ،‬وهذا موضع يبدو معقوالً اعتباره موجوداً يف شبه جزيرة العرب (من أجل عمرو‪ ،‬انظر‪Histoire, p. 101 :‬؛ ومن أجل حاكم‬
‫ميكن القول إنه عثمان‪ ،‬أنظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪) 147‬؛ من ناحية أخرى‪ ،‬مما يلفت النظر يف إشارة سريانية قدمية إىل معركة صفني‪،‬‬
‫وصف أيب تراب الذي غلبه معاوية هناك بأنه أمري احلرية‪(S. Brock, “An Early Syriac life of Maximus the .‬‬
‫‪ Confessor”, Analecta Bollandiana 1973, pp. 313=319‬والتعليق يف الصفحة ‪.)327‬‬
‫(‪ )45‬من أجل تقاليد من هذا النمط‪ ،‬أنظر‪R. B. Serjeant, “Haram and Hawtah”, in Mélanges Taha Husain, :‬‬
‫‪.Cairo 1962, p. 50.‬‬

‫‪46‬‬
‫شوهه وحي موسوي‪ .‬يف‬ ‫يبدو معقوالً يف الواقع أن حنلل املبىن امل ّكي املرّكب باعتباره حرماً ابراهيمياً ّ‬
‫التقليد اإلسالمي‪ ،‬السيناء املكية اليت يتلقى عليها النيب ّأول وحي له هي بالطبع حراء(‪ .)46‬لكن عرفات‪،‬‬
‫اجلبل الذي ينتمي إىل املبىن املركب االبراهيمي‪ ،‬حيمل أيضاً آثار التلوث املوسوي‪ .‬ففي املوضع األول‪،‬‬
‫جند أنه يف حني توحي صيغة احلج باحلج السامري إىل جبل جرزمي‪ ،‬يق ّدم حمتواه الطقسي موازيات‬
‫مدهشة للوصف التورايت النتظار اإلسرائيليني عند جبل سيناء(‪ .)49‬ويبدو األمر كما لو أن الطقس كان‬
‫إعادة متثيل النتظار االمساعيليني لنبيهم اخلاص الذي كان قد صعد جبلهم اخلاص‪ .‬ثانياً‪ ،‬خيتلف املبىن‬
‫املكي املرّكب بإحدى السمات اهلامة عن املبىن املرّكب يف شكيم‪ :‬فقد نُقل «بيت اهلل» من اجلبل إىل‬
‫البلدة(‪ - )48‬مع أن طقس األضحية الفعلي‪ ،‬وهو أمر قد ال يبدو متناسقاً‪َ ،‬خلّفه وراءه(‪ .)47‬ولو أن‬
‫األمنوذج كان يف إحدى املراحل سينيائياً أكثر منه جرزميياً ألفاد ذلك يف شرح هذه التعرية للجبل‪.‬‬
‫على أية حال‪ ،‬فقد متّ تبين مكة باعتبارها مسرح آيات حممد املنزلة األوىل؛ وهبذا منتلك أساسيات‬
‫األمنوذج امللفت للنظر جلغرافيا احلجاز املقدسة‪ ،‬واليت تـُ َق ّسم األدوار املوسوية للنيب بني حرمي ابراهيم‬
‫وحممد املتمايزين‪.‬‬
‫النسخة السامرية الكبرية األخرى كانت أساساً منطقياً للمرجعية السياسية بني اهلاجريني‪ .‬فاملسيانية‬
‫اليهودية‪ ،‬بغض النظر متاماً عن كوهنا يهودية‪ ،‬كانت يف االساس تشريعية دينية حلدث ذي عالقة باملناخ‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )46‬قارن تعليق ورقة بن نوفل على أول وحي نزل على حممد هناك‪« :‬لقد نزل عليك الناموس األعظم‪ ،‬الذي نزل علىموسى» (ابن‬
‫اسحق‪ ،‬سرية‪ ،‬صص ‪.)199 = 154‬‬
‫(‪ )49‬أنظر‪.The Encyclopaedia of Islam, art. Hajj, p. 32 :‬‬
‫(‪ )48‬موقع أقدم خارج البلدة يوحي به رمبا تاريخ اسباين عريب والذي يصف مكة‪ ،‬يف مقطع أشرنا إليه سابقاً (هامش ‪ 14‬ف ‪ ،)4‬على‬
‫أهنا «جبانب بلدة يف الصحراء»؛ قارن اإلشارات املوجودة يف التقليد اإلسالمي القائلة إن الكعبة ال بد أن تكون علىجبل‬
‫)‪ (Wensinck, The Navel of the Earth, pp. 14f‬؛ حنن ندين هبذه النقطة إىل السيد غ‪ .‬ر‪ .‬هوتيغ‪ ،‬الذي يشري إىل إحيائية‬
‫الشواهد املتعلقة جببل أبو قبيس‪ ،‬وبشكل خاص إىل وجود مسجد ابراهيم عليه‪ .‬وإذا كان «البيت» قد بقي على اجلبل حىت مرحلة‬
‫متأخرة نسبياً من تطور احلرم االبراهيمي‪ ،‬فهذا قد يساعد يف تفسري تآمر املراجع املسيحية األوىل على ترك البلدة دون اسم‪ .‬من أجل‬
‫يعقوب الرهاوي يف مسألة الكعبة‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ 39‬من هذا الفصل؛ تاريخ اخلوزستاين‪ ،‬يف مقطع مشار إليه آنفاً (اهلامش ‪ 37‬من‬
‫ويكرس بعض السطور «لقبة ابراهيم»‪ ،‬لكنه ال حي ّدد هلا موقعاً؛ يذكر بار بنكايه‬
‫هذا الفصل)‪ ،‬يذكر عدة مناطق يف شبه جزيرة العرب ّ‬
‫محاسة [ابن] الزبري «لبيت اهلل»‪،‬جميئه إىل مكان كان يف جنوبه «بيت العبادة» اهلاجري‪ ،‬وإحراق بيت العبادة اهلاجري هذا بسبب‬
‫عدائيات الحقة‪ ،‬لكن الكاتب ال حيدد أيضاً أمساء طوبوغرافية‪ .(Mingana, Sources Syriaques, pp. 155 = 183) .‬إذا كان‬
‫جيب البحث عن انعكاس لالنتقال يف التقليد اإلسالمي‪ ،‬فاملرشح الواضح سيكون إدخال ِ‬
‫احلجر يف الكعبة اليت أعاد ابن الزبري بناءها‪.‬‬
‫(‪ )47‬يف مىن يف حالة احلج ويف املروة يف حالة العمرة ‪ ،‬التضحية على جبل عرفات انقطعت يف اإلسالم (الكالسيكي)؛ قارن‪ :‬اإلشارات إىل‬
‫وجود بيت يف املروة واليت يق ّدمها هـ‪ .‬المنس ‪“Les sancturaies préislamites dans L’Arbie occldentale”,‬‬
‫‪ .“Mélanges de l’Université Saint Joseph 1926, pp.52 - 4‬وهكذا فاألمر يوحي نوعاً ما بوجود موقع للحرم خارج‬
‫تصور كطقس أساسي يف القرآن (‪78 - 76 :5‬؛ ‪34 :22‬؛ وقارن ‪:48‬‬ ‫املناطق احلضرية حبيث تبدو التضحية يف احلرم وكأهنا ّ‬
‫‪ .)25‬كذلك فإن تاريخ اخلوزستاين يذكر يف وصفه «لقبة ابراهيم» أن ابراهيم بناها لتقدمي األضاحي‪ ،‬يف حني يقول ليفون إن ليون‬
‫يشري إىل «بيت مذبح األضاحي الوثين الذي تدعونه بيت ابراهيم» ‪.)(“Letter”, tr. Patkanan, p. 55 = tr. Jeffery, p. 310‬‬

‫‪49‬‬
‫وليس ملرجعية متنامية‪ .‬باملقابل‪ ،‬فاالمرباطورية املسيحية اليت أزاحها اهلاجريون كانت جمرد ضم ملنطومتني‬
‫مفاهيميتني متمايزتني األمر الذي مل يقدم أي أساس منطقي ديين جوهرياً حلكم امرباطوري(‪ .)59‬وما مل‬
‫يستطع املسيحيون وال اليهود استنباطه كان تشريعية دينية جوهرياً ملرجعية متنامية‪ .‬وقد كان هذا‪ ،‬مبا‬
‫يكفي من الغرابة‪ ،‬ما استطاع السامريون حتديداً تقدميه‪ :‬القيمة السياسية املركزية يف السامرية هي التشريعية‬
‫املتواصلة لكهنوتية هارونية(‪ .)51‬وهكذا م ّكن الكهنوت األبدي اهلاجريني من مغادرة السنوات األلف‬
‫دون الوقوع يف فخ امللَكية(‪.)52‬‬
‫َ‬
‫اإلمامة اإلسالمية(‪ )53‬هي نسخة سامرية هو أمر يوحي به التشابه البنيوي بني العرفني‪ .‬ففي كلتا احلالتني‬
‫لدينا منصباً تُدمج فيه سلطة سياسية ودينية فائقة‪ ،‬ويف كلتا احلالتني املؤهل األويل للمنصب هو اجلمع بني املعرفة‬
‫الدينية والنسب املق ّدس(‪ .)54‬التشابه واضح مبا يكفي‪ ،‬وقد عُ ِرف منذ زمن طويل‪ :‬فالسامريون أنفسهم يف كتاباهتم‬
‫العربية تَـَبـنّوا اإلمامة من أجل تفسري كهنوهتم العايل اخلاص(‪.)55‬‬
‫لكن التشابه يف حالة اإلمامة العلوية هو األكثر إدهاشاً‪ .‬ففي املوضع األول‪،‬تأخذ املعرفة الدينية‪،‬‬
‫مميزة(‪ .)56‬ثانياً‪ ،‬يُشحذ املؤهل النَ َسيب عرب حت ّدر من أحد‬
‫سرانية ّ‬‫عند الشيعية كما عند السامرية‪ ،‬نكهة ّ‬
‫أقارب النيب املتميزين‪ ،‬أي هارون يف احلالة السامرية وعلي يف احلالة اإلسالمية(‪)59‬؛ التشابه يصبح واضحاً‬
‫متاماً يف التقاليد الشيعية اليت تدعم مطالب علي باإلمامة عرب تأكيد الفرضية القائلة إن علياً حملمد هو‬
‫مثل هارون ملوسى وتطوير هذه الفرضية(‪ .)58‬ثالثاً‪ ،‬يف بعض املالحظات املتعلقة بشيعية احلرب األهلية‬
‫الثانية واليت ترد يف نص عريب يبدو أنه يرجع إىل زمن معاصر لتلك احلرب تقريباً ميكن أن جند أوضح‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ومبكر‪.‬‬ ‫(‪ )59‬حال البعد الثقايف والديين يف حالة إيران دون متثل فعال‬
‫ّ‬
‫(‪ )51‬مل يكن الكهنوت العايل اليهودي ميتلك الصيغة السياسية ذاهتا‪ ،‬كون اليهودية ال تقر إال بامللكية الداوودية؛ وحبسب أحد األعراف‪،‬‬
‫َ‬
‫فقد ماتت منذ قرون‪.‬‬
‫(‪ )52‬تشهد كسرات التاريخ املاروين على حقيقة أن معاوية‪ ،‬رغم جولته احملابية للمسيحية يف القدس مل يكن يلبس تاجاً ( ‪Chronica‬‬
‫‪.)Minora, pp. 71 = 56‬‬
‫نفضل أن نستخدم هنا «إمامة» بدل «خالفة» ألن األوىل حتتفظ على حنو أفضل بالنكهة الكهنوتية للمنصب؛ لكن رمبا كان‬ ‫(‪)53‬‬
‫حنن ّ‬
‫املصطلح اهلاجري األصلي خليفة وليس إمام؛ قارن‪ ،‬هامش ‪ 68‬ف ‪.4‬‬
‫يتضمن التحليل املق ّدم هنا ضرورة النظر إىل قريش («أو الساللة العلوية») كمعادل عدمي املفعول طقسياً للكهنوت الالوي (أو‬ ‫(‪)54‬‬
‫ّ‬
‫اهلاروين)‪ .‬قارن إقامة قريش يف حرم ابراهيم والساللة العلوية يف حرم حممد‪.‬‬
‫(‪ )55‬من أجل مثال ملفت‪ ،‬أنظر الفصل حول اإلمامة يف الكتاب التشريعي الذي يعود إىل القرن احلادي عشر والذي صاحبه هو يوسف‬
‫ابن سالمة العسكري‪.)(S. Noj (tr.), Il Kitab al Kafi dei Samaritani, Naples 1970, pp. 13 - 25 .‬‬
‫(‪ )56‬الحظ ظهور االسم األعظم هلل كجزء من حمتوى هذه التعاليم ‪(J. Macdonald(ed.), The Samaritan Chronicle no II,‬‬
‫‪Berlin 1969, p. 105‬؛ احلسن بن موسى النوخبيت‪ ،‬كتاب فرق الشيعة‪ ،‬حترير هـ‪ .‬ريرت‪ ،‬اسطنبول ‪ ،1731‬ص‪.)39‬‬
‫(‪ )59‬التشابه هو األقرب يف حالة الشيعة اإلمامية‪ ،‬حيث يعرب املنصب من األب إىل االبنكما هي احلال بني السامريني‪.‬‬
‫(‪ )58‬انظر على سبيل املثال‪ :‬النوخبيت‪ ،‬كتاب فرق الشيعة‪ ،‬ص‪16‬؛ ‪Kister, “Haddithu”, p. 223‬‬

‫‪48‬‬
‫تشخيص للمرجعية الدينية يف اإلسالم‪ ،‬والذي يرافق بتسمية مدهشة لرجال الدين هي كهنة(‪ .)57‬أخرياً‪،‬‬
‫من املمكن متاماً أنه قد يكون لدينا يف الرواية القرآنية املتعلقة بالعجل الذهيب إدانة جمازية للدور السامري‬
‫يف خلق الكهنوت العايل العلوي(‪.)69‬‬
‫كما يف حالة احلرم املكي‪ ،‬فحالة أمنوذج سامري بسيطة إىل حد ما أساساً‪ .‬لكن هذه احلالة حتتاج‬
‫مرت به املفاهيم يف اهلاجرية قبل أن تصل‬ ‫هنا أيضاً إىل توصيف وذلك عرب حماولة إلمجال التطور الذي ّ‬
‫إىل شكلها اإلسالمي األخري‪ .‬وعلى ما يبدو فإن مصدر التشويشات يف هذه احلالة كان االنبعاث‬
‫الثانوي للتأثري اليهودي‪.‬‬
‫مل تكن فكرة مرجعية كهنوت ٍ‬
‫عال غريبة طبعاً على اليهودية الربّانية‪ .‬لكن السمة الفعلية للمرجعية الدينية‬
‫كما هي موجودة يف هذا الوسط كانت مناقضة بوضوح لألداء الناعم لعرف كهذا‪ .‬ويف هناية املطاف فهذا‬
‫يفيدنا كثرياً يف وصف االفرتاق بني اإلسالم األرثوذكسي والشيعية‪ :‬فمع تشتت املرجعية الدينية بني مجاعة‬
‫علمانية متعلمة غري منظّمة(‪ ،)61‬ال نتفاجأ حني جند املؤهل النسيب وقد تراخى والتعاليم اإلمامية وقد فقدت‬
‫السراين‪ .‬وعلى املدى القصري‪ ،‬تساعد اخللفية الربّانية يف تفسري ظهور حركة يف الوسط اليهودي العراقي‬‫ح ّدها ّ‬
‫عرت اإلمامة من مستها الكهنوتية‪ .‬لقد قبل اخلوارج باإلمامة عموماً ‪ -‬فأي بديل عياين كان على‬ ‫القوي ّ‬
‫سرانية‪ ،‬كما ُرفضت فكرة‬ ‫جمردة من أية صفة ّ‬ ‫اليهودية أن تق ّدمه؟ لكن املعرفة اليت يتمتع هبا اإلمام كانت ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .J. van Ess, “Das Kitab al-irja’ des Hasan b. Muhammad‬يعزو‬ ‫(‪b. al-Hanafiyya”, Arabica 1974, p. 24 )57‬‬
‫هذا النص إىل السبأية شكل مرجعية دينية تقوم على أفكار املعرفة السرانية والقبول الكامل مبرجعية الساللة املقدسة اليت يعتربوهنا‬
‫أئمتهم‪.‬‬
‫سرانية‪.‬‬ ‫(‪)69‬‬
‫العجل الذهيب يف الرواية القرآنية (‪ 89 :29‬وما بعد) هو نتيجة جهود أحد السامريني الذي يزعم امتالكه املتميز ملعرفة دينية ّ‬
‫(يصعب الشك أن السامري القرآين هو سامري فعالً‪ :‬فهنالك شواهد قوية من األزمنة املاقبل إسالمية على أن «المساس» الواردة يف‬
‫اآلية ‪ 79 :29‬هي مقولة سامرية؛ (أنظر‪A. Sharf, Byzantine Jewry from Justinian to the Fourth Crusade, :‬‬
‫‪ .) London 1971, p.44‬مناسبة هذا احلدث يف القصة املوجودة يف أسفار التوراة اخلمسة األوىل ميكن أن جنده يف تلك اإلشارات‬
‫من الكتاب املق ّدس إىل «عجل السامرة» املوجودة يف سفر هوشع ‪ 5 :8‬وما بعد‪ ،‬لكن هدفها يظل غامضاً‪ .‬جند أن لدينا اآلن يف‬
‫سياق احلرب األهلية الثانية يف التقليد التارخيي قصة غامضة أيضاً حول التوابني‪ ،‬أي الذين يتوبون عن اتباع العجل الذهيب (أنظر على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬الطربي‪ ،‬تاريخ‪ ،)599 :2 ،‬وخيرجون كما يتطلب األمر كي يُذحبوا ‪ -‬ميكن للمرء أن يضيف على يد الالويني يف هيئة‬
‫األمويني (قارن‪ :‬سفر اخلروج ‪ 39‬والقرآن ‪ .)51 :2‬يف التقليد كما هو بني أيدينا‪ ،‬يبدو غامضاً تقريباً تفسري ملاذا أن الفشل يف احملاربة‬
‫ألجل احلسني جيب أن يعترب كاتباع للعجل الذهيب‪ .‬لكننا يف موضع آخر جند أن العجل الذهيب يتماثل مع العلويني أنفسهم (كما‬
‫يقول الوليد الثاين يف الطربي‪ ،‬تاريخ‪ .)1994 :2 ،‬إذا كان هذا التماثل يف الواقع متاثالً أصيالً‪ ،‬فالبد إذاً أن إمث التوابني كان أصالً‬
‫مناصرهتم لقضية علي وليس فشلهم يف احملاربة ألجله‪ ،‬وهو ما كان سيعطي معىن للتسمية أوسع مما متلكه اآلن؛ ويف الوقت ذاته‪ ،‬كان‬
‫الدور القرآين للسامري يف خلق العجل سيظهر كإشارة إىل الدور التارخيي للسامريني يف خلق الكهنوت العايل العلوي‪ .‬وميكن إذاً‬
‫البحث عن أمهية لقب أبو تراب الذي محله علي يف قبضة الرتاب اليت خلق منها العجل (القرآن‪.)76 :29‬‬
‫(‪ )61‬قارن‪ ،‬هامش ‪ 12‬ف ‪.5‬‬

‫‪47‬‬
‫(‪)62‬‬
‫علي يف احلرب‬
‫النسب املق ّدس ‪ .‬وعلى حنو مالئم للغرض يعزو التقليد اإلسالمي للخوارج الذين انشقوا عن ّ‬
‫األهلية األوىل شعار «ال حكم إال حكم اهلل»‪ :‬رغم الشكل السامري املتميز للشعار‪ ،‬يبدو حمتواه إىل حد ما‬
‫وكأنه إنكار ألحد االمتيازات الكهنوتية ‪ -‬العالية األساسية(‪.)63‬‬
‫لكن أهم إسهام يهودي كان يتجلّى يف إعادة اإلصرار على الدافع املسياين األصلي للهاجرية‬
‫اليهودية يف وضع مفاهيمي جديد‪ .‬ويف العراق عاد املسيا من جديد هبيئة املهدي(‪ .)64‬عقائدياً‪ ،‬التحول‬
‫الذي اجتازه املسيا املقموع كان كبرياً‪ ،‬ويبدو أن األكثر ترجيحاً فعالً هو أن األمنوذج ألجل املهدي مل‬
‫يكن املسيا أصالً بل موسى الذي يبعث حياً(‪ .)65‬لكن مهما كان التفاوت العقائدي‪ ،‬فمن الواضح‬
‫كفاية أن املهدي ورث دور الفادي السياسي الذي يكمن يف قلب املسيانية اليهودية‪.‬‬
‫وهكذا يبدو معقوالً باملصطلحات اجلينية حتديد هوية احملاولتني اهلاجريتني املتمازيتني متاماً لتعريف‬
‫عال وذلك مقابل إمتام وشيك ملهدوية يهودية‬ ‫معىن سياساهتم‪ :‬التشريعية املستمرة لكهنوت سامري ٍ‬
‫نلح على السمة املتميزة بل املتعارضة‬ ‫جديدة‪ .‬ويبدو شبه معقول أيضاً بلغة املصادر اإلسالمية أن ّ‬
‫للفكرتني يف منتصف القرن الثامن على األقل‪ .‬فمن ناحية لدينا اإلمامة املتناقلة يف الساللتني الكهنوتيتني‬
‫العلويتني للحسن واحلسني‪ ،‬اليعيزر وايثامار املخطط السامري‪ ،‬وحترر هاتني الساللتني من التلوث‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )62‬بني خوارج احلرب األهلية الثانية نسمع عن طائفة‪ ،‬امسها النجدية‪ ،‬تعتقد أن الكتاب املقدس كاف واإلمامة غري ضرورية (النوخبيت‪،‬‬
‫كتاب فرق الشيعة‪ ،‬ص‪.)19‬‬
‫(‪ )63‬من أجل الشكل‪ ،‬قارن شهادة التوحيد (أنظر اهلامش ‪ 3‬من هذا الفصل) مع بن ‪ -‬حاييم ‪Literary and Oral Tradition,‬‬
‫‪ .vol. iii, part two, pp. 41ff‬ومن أجل امتياز احلكم عند الكهنوت العايل‪ ،‬أنظر سفر اخلروج ‪39 :28‬؛ ‪Macdoland, The‬‬
‫‪ .Samaritan Chronicle, no. II, p. 109; Memar Marquh, p. 93‬يظهر التحكيم على نقود القطري بن الفجاءة‪688 ،‬‬
‫‪(J. Walker, A Catalogue of the Arab-Sassanian Coins, London 1941, p. 112f); 679-‬‬
‫(‪ )64‬قارن متاثل املصطلحني املتضمنني يف التقليد‪« .‬ال مهدي إال عيسى ابن مرمي» (عبد الرمحن بن محد بن خلدون‪ ،‬مق ّدمة‪ ،‬حترير ‪M.‬‬
‫‪ ،Quatremere‬اجمللد ‪ ،1‬اجلزء الثاين‪ ،‬باريس ‪ ،1858‬ص‪.)163‬‬
‫(‪ )65‬ألجل شواهد حول فكرة عودة موسى بني يهود تلك احلقبة؛ أنظر ‪Lévi, “L’ Apocalypse de Zorobable”, pp. 139 -‬‬
‫‪155‬؛ واهلامش ‪ 46‬من الفصل األول‪ ،‬حيث الدور اخلالصي ملوسى العائد مدهش على حنو متميز‪ .‬من أجل تاريخ أقدم للفكرة‪ ،‬أنظر‬
‫مثالً‪N. Wieder, “The “Law interpreter” of the Sect of the Dead Sea Scrolls: The Second Moses”, :‬‬
‫‪ .Journal of Jewish Studies 1953‬من اجلانب اإلسالمي توجد بعض الدالئل اليت توحي أن املهدي كان يف األصل حممداً‬
‫عائداً‪ .‬ويف املوضع األول هذه عقيدة معزوة البن سبأ يف الطربي (تاريخ ‪ ،)2742 :1‬وهي متتلك كما رأينا أمنوذجاً يهودياً طبعاً؛ مع‬
‫ذلك فإن رأي اختصاصيي اهلرطقات القائل إن علياً هو الذي كان يتوقعه إمنا يبدو وكأنه حماولة إلدخال السبأية يف الشيعية املتأخرة‬
‫(من أجل شواهد متنوعة‪ ،‬أنظر‪(I. Friedlander, “Abdallah b. Saba, der Begründer der Si’a, und sein  :‬‬
‫ثانياً‪ ،‬وكما أشار‬ ‫‪.)judischer Ursprung, Zeitschrift für Assyriologie und verwandte Gebiete 1909‬‬
‫كازانوفا‪ ،‬فاملبدأ الغريب الذي يقول إن املهدي جيب أن يكون مسّياً للنيب سيبدو معقوالً لو أن املهدي كان قد ُختَيفل أصالً كمحمد‬
‫عائد ‪(P. Casanova, Mohammed et la fin du Monde: étude critique sur l’Islam primitif, Paris 1911, p.‬‬
‫تكىن أم أبيها؛ أنظر‪ :‬ابن سعيد‪ ،‬كتاب الطبقات‪69 :5 ،‬؛ وقارن أيضاً اهلامش ‪ 67‬الالحق‪.‬‬ ‫‪ .)58‬بل لقد كان حملمد بن احلنفية ابنة ّ‬
‫الحظ أيضاً االستلهام الصريح لسابقة موسوية يف التقليد املشار إليه آنفاً (اهلامش ‪ 24‬من الفصل األول) املتعلق باعتقاد عمر بعودة‬
‫النيب‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫املهدوي حىت حقبة ما بعد الثورة العباسية‪ .‬ومن ناحية أخرى لدينا السالالت من خارج العائلة املقدس‪.‬‬
‫وهم م ّدعون ال ميتلكون أية مكانة داخل املخطط السامري والذين يبدوا أن أدوارهم األولية كانت‬
‫مهدوية(‪.)66‬‬
‫مع ذلك ففي إحدى املراحل‪ ،‬واليت قد تكون يف نصف القرن الذي أعقب الثورة العباسية‪ ،‬راحت‬
‫الفكرتان املتعارضتان تؤثر كل باألخرى‪ .‬لكن ما يهمنا بشأن هذه العودة للعالقات الودية ليس سياستها‬
‫بل آليتها املفاهيمية املركزية‪ .‬من السمات البارزة للعقيدة واليت تعزوها املصادر اإلسالمية لعبد اهلل بن‬
‫سبأ هي تلك اليت تقول إن علياً وريث حممد وذلك‬
‫يف نوع من التشابه الصريح مع يشوع يف عالقته مبوسى(‪ .)69‬وهذا االستخدام للمخطط املوسوي ميتلك‬
‫مفهومني ضمنيني هامني‪ .‬يف املوضع األول‪ ،‬مل يكن يشوع جمرد خليفة ملوسى‪ ،‬بل كان خليفته الوحيد‪.‬‬
‫والقول إن علياً‪ ،‬ليس باعتباره األول يف سلسلة كهنة عاليني‪ ،‬بل باعتباره اخلليفة الوحيد للنيب‪ ،‬كان‬
‫لتوضيح املستقبل من أجل جميء املهدي‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن اعتبار علي مثل يشوع مناسب ليجعل منه رجالً‬
‫علمانياً غري مرتبط بالنيب‪ ،‬وذلك مقابل‬
‫أخ كهنويت(‪.)68‬‬
‫يتضح النقاء القدمي هلذه العقيدة عرب الطريقة اليت تتوضح فيها حقيقة أن علياً ال ميكن أن يكون‬
‫هارون ويشوع يف آن‪ .‬لكن تعايش خيارين متنافسني لعلي كان سينتهي على األرجح بنوع من االندماج‪،‬‬
‫واملفتاح إىل فهم الفكرة اإلسالمية عن اإلمامة هو حتديداً انصهار الشخصني املوسويني‪ .‬فاخلليفة‬
‫اليشوعي واألخ اهلاروين دخال يف تسوية جتعل من علي ابن عم النيب(‪ .)67‬ومن ناحية أكثر عمومية‪،‬‬
‫اندمج الكهنوت األبدي واخلالفة الوحيدة يف سلسلة من اخللفاء الكهنوتيني إىل حد ما‪ ،‬مع حتديد‬
‫شيعي متميّز للخليفة األخري يف السلسلة وذلك باعتباره املهدي‪ .‬وتتوحد مؤهالت املنصب ‪ -‬املعرفة‬
‫الدينية‪ ،‬السرانية تقريباً‪ ،‬والنسب املق ّدس‪ ،‬احمل ّدد بشكل ضيق تقريباً ‪ -‬مع االمنوذج اخلاص بالساللة‬
‫احلاكمة لسرمدة الكهنوت السامري العايل‪ .‬لكن حتديد هوية العرف على أهنا خالفة للنيب إمنا يش ّكل‬
‫بقية التالعب املهدوي بشخص يشوع‪ .‬عن هذا الدمج يـُ َع ّرب بلطافة يف إعادة تفسري لفكرة اخلالفة(‪:)99‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )66‬مثة شاهد من العام ‪ 968‬يشري إىل دمج العباسيني بني ا ملزاعم اإلمامية واملهدوية‪ :‬قطع العملة املعدنية اليت يظهر عليها مصطلح‬
‫مسلم للمرة األوىل (أنظر اهلامش ‪ 59‬من الفصل األول) إمنا تشري إىل وارث ذي حق ال ينازع فيه وذلك بوصفه اإلمام املهدي‪.‬‬
‫(‪.Friedlander, “Abdallah b. Saba”. )69‬‬
‫(‪ )68‬األثر الوحيد للمفهوم علماين جيب أن يكون الرواية املوجود يف «األسرار» واليت تتح ّدث عن امللك العظيم الذي ينهض من‬
‫حضرموت (ابن قطان) ويقتل بعد فرتة حكم قصرية على يد الرجال األقوياء أبناء قيدار (ابن امسعيل)‪Lewis, “Apocalyptic ،‬‬
‫‪ ،Vision” ,p.325‬مع تعيني هوية امللك على أنّه علي يف الصفحة ‪.328‬‬
‫وحممد؛‬ ‫(‪)67‬‬
‫مثة درجة من التململ يف عالقة القرابة بني الرجلني يوحي هبا هذا االستنساخ لشخصية فاطمة وذلك باعتبارها (آ)‪ّ :‬جدة علي ّ‬
‫(ب) أم علي؛ (ج) ابنة حممد وزوجة علي‪ ،‬واألخرية حتمل اللقب امللفت للنظر‪ ،‬أم أبيها‪.‬‬
‫(‪ )99‬السمة الكهنوتية للخالفة قبل إعادة التفسري هذه ال يوحي هبا فقط لقب «خليفة اهلل» (أنظر املالحظة التالية)‪ ،‬بل القرآن أيضاً ‪:2‬‬
‫يسوغ مكانة آدم كخليفة هو امتالكه للمعرفة السرانية‪.‬‬
‫‪31 - 28‬؛ فما ّ‬

‫‪51‬‬
‫فقد صار خليفة اهلل خليفة لرسول اهلل(‪ ،)91‬وأول خليفة من هذا النوع ُخلِق عن طريق اإللقاء بزمن وفاة‬
‫النيب يف عام ‪ )92(632‬وذلك بعد هتيئة اخلليفة يف فجوة السنتني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫خليفة رسول اهلل‪ .‬باملقابل‪ ،‬فلقب خليفة اهلل يظهر على قطع نقدية من األعوام‬ ‫(‪ )91‬ال يوجد يف أي مصدر قدمي ما يشهد على لقب‬
‫‪ 679 - 699‬تقريباً‪.‬‬
‫‪(J. Walker, A Catalogue of the Arab - Byzantine and Post - Reform Umaiyad Coins, London 1956,‬‬
‫‪)pp. 30f‬؛ وهو يرد أيضاً (ما مل نشك بتلوث متأخر) يف املمار مرقاه السامري املاقبل إسالمي‪ ،‬حيث أطلقه موسى أثناء احتضاره‬
‫على اليعزر (حليفت يهوه‪ ،‬صص ‪ .)177 = 121‬لذلك ميكن أن نفرتض أن خليفة اهلل هو األويل‪.‬‬
‫(‪ )92‬قارن الصعوبة اليت جتدها املصادر املسيحية اليت تذكر أن النيب كان حياً حني بدأت الغزوات وذلك يف عهد أيب بكر (أنظر النصوص‬
‫عند ميخائيل السرياين ”‪ “Continuatio Byzantia Arabica‬املشار اليهما أنفاً يف اهلامش ‪ 9‬من الفصل االول)‪ .‬ترد أوىل‬
‫االشارات اىل أيب بكر من خارج التقليد األديب اإلسالمي يف مصدرين سريانيني يرجعان إىل حقبة حكم الوليد األول (قائمة امللوك‬

‫الذي نشره احملرر ج‪ .‬ب‪ .‬ن‪ .‬الند )”‪ (Ancedota Syriaca, vol. ii, Leyden 1868, p. 11, of the “Addenda‬خطأ‬
‫‪(Michael‬‬ ‫وتاريخ يعقوب الرهاوي املوجود يف )‪(Chronica Minora, pp. 327 = 251‬؛ من أجل حقبة تاريخ يعقوب أنظر‪:‬‬
‫)‪.the Syrian, Chronique, vol. iv, p 450 = vol. ii, p. 483‬‬

‫‪52‬‬
‫‪5‬‬
‫بـابـل‬

‫مع ارتقاء حممد إىل دور نيب ذي كتاب ومتثّل االستعارات السامرية‪ ،‬أفسحت اهلاجرية اجملال‬
‫لشيء ميكن إدراك إسالميته‪ .‬ميكن موضعة التحول بشكل معقول يف هناية القرن السابع‪ ،‬وبشكل أكثر‬
‫حتديداً يف زمن حكم عبد امللك‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬تظهر البقايا النَـ ْق ِديه‪ ،‬الوثائقية واملعمارية من هذه احلقبة‬
‫مسة دينية جديدة ومؤكدة(‪ .)1‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬متيّزت احلقبة يف التقليد اإلسالمي بتدمري وإعادة بناء‬
‫(‪)2‬‬
‫نص قرآين‬
‫َحَرمات ‪ ،‬بالصراعات السياسية الدائرة حول املقوالت املهدوية واإلمامية‪ ،‬ومبحاولة فرض ّ‬
‫قياسي ‪ -‬ذكريات جتد بعض التأكيد من خارج التقليد(‪ ،)3‬وهي توحي بقوة حبقبة تغيري ديين عنيفة‪.‬‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬فالبحوث املعاصرة تـُ ْرجع إىل حقبة حكم عبد امللك أصول الالهوت اإلسالمي(‪.)4‬‬
‫ولدينا بالتايل ما يدعونا إىل افرتاض أ ّن خطوط اإلسالم العريضة كما نعرفه اآلن ظهرت يف بدايات القرن‬
‫الثامن‪.‬‬
‫لكن ال يوجد ما يدعونا ألن ندخل يف هذه اخلطوط العريضة الثقافة احلاخامية اليت هي مسة بارزة‬
‫(‪)5‬‬
‫تطور كهذا غري حمتمل بديهياً‪ .‬فإسالم عبد امللك‬ ‫جداً لإلسالم الكالسيكي ‪ .‬ففي املوضع األول‪ّ ،‬‬
‫محاية سورية‪ ،‬ومل يكن هنالك يف البيئة السورية ما جيرب اهلاجريون على توحيد الشرع املقدس‬ ‫ظهر حتت ٍ‬
‫مع العلمانية املثقفة‪ .‬واالرتباط اهلاجري االستهاليل مع اليهودية كان قصرياً جداً يف فرتته ومسيانياً جداً‬
‫يف حمتواه حىت يرتك فضالة سكوالستية كبرية‪ .‬باملقابل فالتخلل البطيء للتأثري الثقايف من البيئة املسيحية‬
‫الغامرة مل يكن حمتمالً أن يدفع اهلاجريني يف هذا االجتاه‪ .‬قبل كل شيء‪ ،‬فالسامرية‪ ،‬صاحبة األثر الكبري‬
‫على اهلاجرية يف حقبتها التشكيلية‪ ،‬ق ّدمت أمنوذجاً كان املعارض اجلوهري لألمنوذج احلاخامي‪ ،‬وبلغة‬
‫التجسيد االجتماعي للمرجعية الدينية‪ ،‬تتميز السامرية بتعاليم سرانية لنخبة كهنوتية وراثية؛ وبلغة احملتوى‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫املسيانية ليسوع‪ ،‬قبول األنبياء‪ ،‬تلقي حممد للوحي‪ ،‬واستخدام مصطلحي‬ ‫(‪ )1‬تقدم لنا النقوش على قبة الصخرة شاهدا على املكانة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫«إسالم» و «مسلمني»‪.)(Vau Berchen, Corpus, part two, vol. ii, nos. 215, 217 .‬‬
‫(‪ )2‬الحظ بشكل خاص التقليد القائل إن الوليد األول كتب إىل كل املناطق يأمرهم هبدم املساجد وتوسيعها‪.‬‬
‫‪(Kitab al-’uyun wa’l-hada’iq, in M. de Goeje and P. de Jong (eds.) Fragmenta Historicorum‬‬
‫‪.)Arabicorum, vol. I, Leyden 1869, p. 4‬‬
‫(‪ )3‬الحظ أيضاً قرار إبادة اخلنازير الذي أصدره عبد امللك (أنظر مثالً‪.)Chronica Minora, pp. 232 = 176 :‬‬
‫(‪ )4‬حنن مدينون لألستاذ ج‪ .‬فان إس على إتاحة الفرصة لنا كي نطلع على نص حبثه غري املنشور «التطور األويل للكالم»‪ ،‬الذي قرأه يف‬
‫لقاء حول احلقبة التشكيلية للتاريخ اإلسالمي والذي عقد يف اكسفورد يف متوز ‪ -‬يوليو ‪ ،1795‬وخلص فيه نتائج حبوثه‪.‬‬
‫(‪ )5‬قار الصفحات التالية الذي هو غري معتاد على املصطلحات األساسية يف اليهودية جيب أن يالحظ أن التعاليم اليهودية مقسمة‬
‫حسب حمتواها إىل هاالخا (شرع) وهاغادا (الباقي)‪ ،‬وحبسب الشكل إلىمدراش (تفسري الكتاب املقدس) ومشنا (التقليد الشفوي)‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الفكري هلذه التعاليم‪ ،‬فالسامرية‪ ،‬مع تأكيدها املوسوي‪ ،‬ال يبدو أهنا كانت ديانة هاالخية بالدرجة ذاهتا‬
‫اليت لليهودية(‪.)6‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فإن دليالً قاصراً كالذي لدينا والذي يتعلق بالسمات ذات الصلة باهلاجرية(‪ )9‬إمنا‬
‫مييل لتأكيد هذه االستدالالت بطريقتني‪ .‬أوالً‪ ،‬هنالك إشارات من اجلانب اإلسالمي إىل التفاهة النسبية‬
‫لصنف الشرع الديين يف اهلاجرية‪ .‬فالشرع اإلسالمي حيتفظ بذكريات عن ممارسة شرعية أموية‪ ،‬لكنه نادراً‬
‫ما حيتفظ بأي شيء ميكن تسميته شرعاً أموياً(‪)8‬؛ باملقابل‪ ،‬فالكتاب املق ّدس الذي أورثته اهلاجرية‬
‫لإلسالم كان كتاباً متواضعاً على حنو متميّز يف حمتواه اهلاالخي(‪ .)7‬ثانياً‪ ،‬من اجلدير باملالحظة أنه بقدر‬
‫ما توجد إشارات إىل معرفة شرعية‪ ،‬فهي إمنا تشري إىل شرع مق ّدس يعتمد مباشرة إن مل يكن بسذاجة‬
‫على الكتاب املق ّدس(‪.)19‬‬
‫حنن متأ ّكدون يف الواقع متاماً بأن اإلسالم أحرز شكله احلاخامي الكالسيكي يف ظل اليهودية‬
‫البابلية‪ ،‬ورمبا يف أعقاب انتقال السلطة من سوريا إىل العراق يف منتصف القرن الثامن‪ .‬يبدو أن األمنوذج‬
‫اليهودي مرتسخ وذلك عرب احلقيقة القائلة إنه ما من دين غريه ق ّدم اجلمع ذاته بني الشرع املق ّدس‬
‫والعلمانية املثقفة‪ ،‬وهذا التشابه البنيوي العام ُم َعّزز بدليل من استعارات نوعية‪ ،‬أكثرها وضوحاً الطريقة‬
‫ومصطلح قياس(‪ .)11‬البيئة البابلية ال ميكن أن تكون عرضة للشك‪ :‬فقد كانت بابل يف هذه احلقبة مركز‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )6‬يصعب اعتبار أن امليمار مرقاه متثل مقاربة هاالخية إىل أسفار التوراة اخلمسة األوىل‪ ،‬ويصعب أن يكون أدب الشرع السامري كما‬
‫يظهر الحقاً بالعربية يوحي بتقليد هاالخي حمصن وبارز دينياً‪.‬‬
‫احملمدية اليت أوردها سيبيوس (أنظر ‪ ،)47‬واإلشارات اليت نصادفها يف موضع آخر حول حمتوى الشرع اهلاجري‪ ،‬فإن‬ ‫(‪)9‬‬
‫مبعزل عن قائمة التحرميات ّ‬
‫كل ما على املصادر غري اإلسالمية أن تقوله حول السمة العامة هلذا الشرع مفرغ إىل حد ما يف ثالثة مراجع‪ :‬اإلصرار على أن الشرع مؤسس‬
‫ّ‬
‫على الكتاب املق ّدس وذلك يف احلوار بني البطريرك واألمري (أنظر اهلامش ‪ 29‬يف الفصل الثالث)؛ ذكر بار بنكاي لشرائع (ناموسه) حممد‬
‫وتقليده الشفوي (مشلمانوتا) )‪(Mingana, Sources syriaques, pp. 146ff = 175‬؛ وجمموعة مصادر الشرع امللفتة للنظر اليت أوردها‬
‫راهب بيت حله (أنظر اهلامش ‪ 12‬من الفصل الثالث)‪.‬‬
‫(‪.J. Schacht, The Origines of Muhammedan Jurisprudence, Oxford 1950, pp. 190ff )8‬‬
‫(‪. J. Schacht, An Introduction to Islamic Law, Oxford 1964, pp. 10 - 14 )7‬‬
‫(‪ )19‬من اجلانب اإلسالمي‪ ،‬لدينا إصرار غريب على الشرع ذي االساس الكتايب يف القرآن (‪)52 - 49 :5‬؛ ومن اجلانب املسيحي‪،‬‬
‫لدينا مطالبة األمري يف جدله مع البطريرك بإخباره عن األساس الكتايب للشرع املسيحي (أنظر اهلامش ‪ 29‬من الفصل الثالث)‪ .‬ال‬
‫يوجد يف احلالتني أ ي ذكر لصنف التقليد الشفوي (قارن املكانة الكتابية الغريبة لشبيهة مشنا القرآنية؛ أنظر اهلامش ‪ 12‬من الفصل‬
‫الثالث)‪ .‬الحظ أيضاً أن بديل تاريخ شاو لشمعون الريورداشريي سوف جيعله يف منتصف القرن السابع (قارن املالحظة ‪ 18‬الالحقة)‪.‬‬
‫(‪ .Schacht, Origins, p. 99 )11‬وهكذا ليس من الواضح أبداً ما إذا كان شاخت حمقاً يف اشتقاق فكرة إمجاع العلماء من مفهوم‬
‫‪( opinio prudentium‬املصدر السابق‪ ،‬املقدمة‪ ،‬ص‪ ) 29‬وليس من األفكار اليهودية اليت ميكن مقارنتها معه (أنظر على سبيل‬
‫املثال‪ :‬التلمود البابلي‪ ،‬براخوت‪ ،‬الورقة ‪7‬آ‪ ،‬من أجل املبدأ‪ ،‬والورقتني ‪2‬آ و‪2‬ب من أجل التطبيقات)‪ .‬ليس هنالك عوز طبعاً لألثر‬
‫اليهودي على الشرع األساسي لإلسالم يف مساته األكثر دينية (أنظر على حنو خاص‪A. J. Wensinck, “Die Entstehung der :‬‬
‫‪ .)muslimischen Reinheitsgesetzgebung, Der Islam, 1914‬حنن ندين للدكتور م‪ .‬كسيرت يف لفت أنظارنا إىل هذه‬
‫الدراسة‪ .‬من أجل ماسيلي‪ ،‬أنظر أيضاً امللحق‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫اليهودية احلاخامية الذي ال يضاهى‪ ،‬وباملقابل فإىل هذه املنطقة عزا البحث من اجلانب اإلسالمي أصول‬
‫الشرع اإلسالمي(‪.)12‬‬
‫باملقابل فإن موقف املدارس العراقية األوىل من مصادر الشرع قريب من موقف احلاخامني‪ .‬وعلى حنو‬
‫خاص‪ ،‬هنالك القبول دون تفكري تقريباً بتقليد شفوي موضوع آلياً يف ظل محاية عامة وذلك عن طريق‬
‫ربطه بالنيب‪ .‬فاحلاخامون يرون أن تقليدهم الشفوي عموماً إمنا يرجع إىل موسى‪ ،‬وذلك حبسب املثل‬
‫الذي يقول إن «كل التوراه(‪ )13‬هي هاالخا موسوية من سيناء(‪ .»)14‬كذلك فاملشرعون العراقيون‬
‫يستخدمون «سنّة النيب» إلضفاء تصديق عام مشابه على تقليد مدرستهم احلي(‪ .)15‬يف الوقت ذاته‬
‫يظهر أن دور الكتاب املقدس يف الشرع اإلسالمي األويل كان يف احلدود الدنيا(‪ ،)16‬وهو ما يعكس على‬
‫األرجح توحيداً ألمنوذج مشنائي مبسط مع الظهور املتأخر للقرآن(‪ .)19‬وهكذا فثمة ما يغوي املرء كي‬
‫يقول إن هاالخا العراق بريئة من الكتاب املقدس مثلما أن كتاب سوريا املقدس بريء من اهلاالخا‪.‬‬
‫أهنيت هذه الرباءة بعنف عرب اجللبة داخل الدين حول مكانة التقليد الشفوي واليت ظهرت يف النصف‬
‫الثاين من القرن الثامن‪ .‬كان هذا اجلدل حدثاً ذا أمهية كبرية عند اجلماعتني اليهودية واملسلمة على حد سواء‪،‬‬
‫بل يبدو أن عدواه انتقلت اىل أهم مجاعة مسيحية يف بابل‪ ،‬أال وهي النساطرة(‪ .)18‬ففي كل من اليهودية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حول السمة العينية للعالقات بني الطائفتني‪ ،‬يوحي الشعاع الغريب بني‬ ‫(‪ . Schacht, Origins, p.p. 220f )12‬رغم ندرة الدالئل‬
‫‪I. Goldziher, “Usages juifes d’apres la littérature religieuse‬‬ ‫اليهودية واإلسالم والذي يشهد عليه الشيباين (أنظر‪:‬‬
‫‪ )des musulmans, Revue des études juives 1894, pp. 91f‬بوجود وسط حمتمل النتقال األفكار من طرف إىل آخر‪.‬‬
‫الحظ أيضاًكيف أن فكرة خمالفة أهل الكتاب موجهة عملياً ضد اليهود وليس ضد املسيحيني (املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)89‬‬
‫(‪ )13‬أي الشفوي واملكتوب على حد سواء‪.‬‬
‫(‪ .Gerhardsson, Memory and Manuscript, Uppsula 1981, p. 82n )14‬قارن أيضاً الفكرة القائلة إنه حىت كلمات أحد التالمذة‬
‫املاهرين حبضور معلمه إمنا هي معطاة فوق سيناء (املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)n 193‬‬
‫(‪ Schacht, Origins, pp. 44, 76 )15‬؛ قارن أيضاً الصفحتني ‪ 99‬و‪ 92‬من املصدر السابق حول األوزاعي‪ .‬قارن أيضاً إصرار‬
‫الشافعي أن اآلراء غري املنقولة فعلياً عن النيب ال ميكن النظر إليها بأن ترجع إليه ضمنياً (املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)89‬‬
‫(‪. Schacht, Origins, pp. 224 - 7 )16‬‬
‫(‪ )19‬وهكذا رغم حقيقة أن الوصية القرآنية ‪ 19:69‬تش ّكل األساس الكتايب الكالسيكي الذي ال يـُتَحدى لتحرمي زواج النساء املسلمات من غري‬
‫املسلمني‪ ،‬يُقال إن ابن مسعود كان فقط يناشد أخته أن تتزوج مسلماً‪ ،‬سواء أكان رومياً أمحر أو حبشياً أسود‪ ،‬دون إشارة إىل هذه الوصية‬
‫القرآنية أو غريها (عبد اهلل بن أمحد بن قدامة‪ ،‬كتاب املغين‪ ،‬حترير رشيد رضا‪ ،‬القاهرة ‪ .)392:9 ،1739 - 1722‬باملقابل‪ ،‬فمن الصعب‬
‫أن نتخيل كيف أن إرضاء احلديث لذاته يف أن اعتناق عقوبة الرجم للبالغني املتزوجني مقابل اإلحنراف اليهودي عن كتاهبم املق ّدس أُمكن له أن‬
‫خيرج من وسط عرف القرآن ومطلبه الواضح باجللد‪ .‬قارن‪(G. Vajda, “Juifs et musulmans selon le hadit”, Journal :‬‬
‫‪ .)asiatique 1937, pp. 930 - 99‬ومبا أنه كانت هنالك حماوالت بعد ذلك لتطبيق هذه السمة العنيفة للعالج‪ ،‬فقد مت اخرتاع إقرار‬
‫قرآين بالرجم ُز ِعم أنه حمذوف من املخطوط‪.‬‬
‫(‪ )18‬هنالك عمالن تشريعيان نسطوريان من فارس‪ّ ،‬أرخهما حمررمها األول بشكل هنائي واآلخر على حنو غري حمدد على أهنما يرجعان إىل‬
‫النصف الثاين من القرن الثامن‪(Schau, Syriche Rechtbücher, vol. iii, p. ix (Ishobokht), xixf (Simen of .‬‬
‫‪ ،) Réwardashir‬واللذان يتضمنان مقدمات دفاعية حول مكانة الشرع املسيحي (الدين) (صص ‪ .)35-219 ،32-2‬السياق‬

‫‪55‬‬
‫واإلسالم‪ ،‬برز حت ّد لطريقة التفكري الراسخة وذلك عرب رفض كامل للتقليد الشفوي لصاحل أساس كتايب وحيد‬
‫القرائية‪ .‬ومن اجلانب اإلسالمي‪ ،‬يظهر يف صيغة‬
‫للشرع املق ّدس‪ .‬من اجلانب اليهودي‪ ،‬أخذ هذا الرفض شكل ّ‬
‫عقيدة اعتزالية أوىل(‪.)17‬‬
‫إذا كانت القضية هي ذاهتا عند كال الطائفتني‪ ،‬فقد كانت املصادر املتاحة للجماعتني املتعارضتني‬
‫خمتلفة للغاية‪ .‬ففي احلالة اليهودية‪ ،‬كان احلاخامون معتادين على أن ينسبوا تقليدهم ملوسى كما كان‬
‫باستطاعتهم إيراد سلسلة من األسناد لتوطيد موثوقية النقل(‪)29‬؛ وهذه السلسلة كانت مصقولة كما جيب‬
‫القرائي(‪ .)21‬لكن احلاخامني مل يكونوا يف موقع يؤهلهم للمضي هبذه الطريقة بالنسبة‬‫ملواجهة التحدي ّ‬
‫لكل فقرة إفرادية من التقليد‪ .‬فتاريخ نقله بني موسى واحلاخامني كان قد استحوذت عليه مقوالت واليت‬
‫كانت موحدة بشكل أخرق للغاية حبيث ميكن اعرتاف هبكذا تفريق‪ .‬من هنا جاء البعد التلمودي للعلم‬
‫احلاخامي‪ ،‬حماولة الغمارا لتوطيد أسس الرأي القائل إن الفقرات اإلفرادية مل تكن متساوقة تبادلياً‬
‫فحسب بل ُم َقّرة كتابياً أيضاً(‪ .)22‬وألن احلاخامني كانوا ميتلكون جمموعة ضخمة ومتنوعة من األسفار‬
‫املقدسة مع كم ال بأس به من احملتوى اهلاالخي‪ ،‬فقد كانت الفرص إلثبات كهذا غنية متاماً‪.‬‬
‫ميكن لنا أن نربهن اآلن أن أي رفض أصويل للتقليد ال حيتاج حبسب مكوناته إىل أكثر من أن يوجد‬
‫ضمن املعاين املستحاثية للكتاب املق ّدس‪ .‬حىت ذلك احلد فالفرق بني الرفضني اليهودي واإلسالمي يقول‬

‫اجلديل العام واضح من إيراد ايشوخبت لزعم اليهود واحلنابه (املسلمون هنا كما هو مفروض) الذي مفاده أن املسيحيني ليس لديهم‬
‫دين (صص ‪ .) 21 = 29‬ويف حني مييل ايشوخبت إىل التأكيد على األنتينومانيزم ‪[ Antinominianism‬االعتقاد أنه ال حاجة‬
‫للشرع ألن اخلالص هوباإلميان وحده] الفطري يف املسيحية وبالتايل إىل إنكار احلاجة إىل شرع مدين مسيحي حم ّدد (أنظر على سبيل‬
‫املثال املقطع املشار إليه للتور‪ ،‬وقارن مع مقدمة البطريرك تيموثاوس لكتابه التشريعي من عام ‪895‬؛ اجمللد ‪ ،ii‬ص‪ ،)55 = 54‬فإن‬
‫مشعون مييل إىل توفيقية أكثر وضوحاً‪ :‬فهو يقدم ما كان يعترب إرثاً تشريعياً أرضياً أساساً وذلك باعتباره التقليد الشفوي املسيحي شكلياً‬
‫(املصدر السابق‪ ،‬اجمللد ‪ ،iii‬صص ‪ ،) 4 - 232 = 233‬ويدافع بوضوح عن هذا التقليد الشفوي وذلك بوصفه املقابل لألساس‬
‫الكتايب للشرع املسيحي (صص ‪ .)4 - 239 = 3-231‬قارن أيضاً االهتمام بني العيالميني مبصادر الشرع املسيحي يف احلقبة ذاهتا‬
‫‪(O. Braun, (ed. and tr.), Timothei Patriarchae I Epistula, I (= CSCO, Scriptos Syri, vol. xxxf),‬‬
‫‪)Louvain 1914 f., pp. 102 - 6 = 67 - 9‬؛ الرسالة موضع االهتمام يعيد تارخيها ر‪ .‬ج‪ .‬بيداويد إىل األعوام ‪978 - 975‬‬
‫وذلك يف عمله )‪ .(Les Lettres du patriarche nestorien Timothée I, Rome 1956, p. 74‬ال يوجد أثر من اهتمام‬
‫كهذا يف العملني اللذين نشرمها شاو واللذين يعودان إىل ما قبل القرن الثامن‪.‬‬
‫(‪ )17‬حيث يستشهد )‪ (Schacht, Origins, pp. 40 f‬بالشافعي يف مسألة أهل الكالم؛ ‪J. van Ess, “Ein unbeckanntes‬‬
‫‪Fragment des Nazzam”, in Der Orient in der Forschung: Festsschrift für Otto Spies, Wiesbaden‬‬
‫‪.1967‬‬
‫(‪ )29‬هذه السلسلة موجودة يف الرسالة املشنائية آبوت‪.‬‬
‫(‪ )21‬أنظر‪ ،Abraham ibn Daud, The Book of Tradition, ed. and tr. G. D. Cohen, London 1967 :‬خاصة مقدمة‬
‫الناشر‪.‬‬
‫(‪ )22‬هذه الفعالية ليست غري مقدمة طبعاً يف املشنا ذاهتا‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ببساطة إنه حيثما جيد األول تلقيمه يف املسيانية القمرانية(‪ ،)23‬جيدها اآلخر يف العقالنية اليونانية(‪.)24‬‬
‫لكن ليست كل األسفار املقدسة سهلة االنقياد ألغراض األصوليني على حنو متعادل‪ ،‬ويف هذه احلالة‬
‫فإن اختالف املوقف بني اجملموعتني حاسم لكن ليس دون اختالف يف حسمه‪ .‬وفقط ألن احلاخامني‬
‫القرائني أن يأملوا بإضفاء موقف شرعي‬ ‫كان لديهم املصادر الكتابية لغماراهم‪ ،‬استطاع مناوؤهم من ّ‬
‫قابل للتطبيق على ما ميكن للمرء أن يدعوه اختزاهلم املشنا إىل مدراش‪ .‬وهكذا فاألسفار العربانية‬
‫القرائية كدين‬
‫احململة للغاية بثقل التمثيل القياسي‪ ،‬كانت كافية للحفاظ على فعالية ّ‬ ‫املق ّدسة‪ّ ،‬‬
‫(‪)25‬‬
‫أقل حظاً‪ :‬فكتاهبم املقدس كان أقصر‪ ،‬أقل تنوعاً‪ ،‬أقل يف حمتواه‬ ‫هاالخي ‪ .‬لكن املعتزلة كانوا ّ‬
‫اهلاالخي‪ ،‬والساللة الناجتة تظهر بطريقتني‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬يبدو الشرع املعتزيل وكأنه جذر كله دون‬
‫فروع(‪ :)26‬فهم حياولون إجهاد األسس الكتابية للشرع بالعقل‪ ،‬وينتهون بالعقل عوضاً عن الشرع‪ .‬ومن‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فالرفض الكامل للتقليد الشفوي ذاته خيتفي من مذاهب املدرسة(‪ . )29‬كان الشرع‬
‫اإلسالمي سعيداً دائماً يف وضع ذاته حتت محاية قرآنية عامة؛ لكن اختزال املشنا فقرة فقرة إىل مدراش‬
‫هو فقط عملية غري مالئمة يف اإلسالم‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬فاحلاخامون املسلمون كانوا يف وضع أفضل بكثري من نظرائهم اليهود والذي ّأهلهم كي‬
‫يستجيبوا للتح ّدي األصويل‪ .‬فتاريخ نقل التقليد الشفوي بني النيب وعلماء القرن الثامن كان ما يزال لدناً‬
‫بطريقة مرضية‪ .‬وكان ممكناً بالتايل الدفاع عن التقليد الشفوي فقرة فقرة‪ ،‬وذلك بإرجاع كل عنصر إفرادي‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪Paul, Ecris de Qumran et sectes juives aux premiers siecles de l’Islam. Recherches sur l’Origine du )23‬‬
‫‪.Qaraisme, Paris 1969‬‬
‫(‪ )24‬حنن نفرتض هنا أن املذهب االعتزايل كان يف املوضع األول أحد مناذج الالهوت وبدرجة ثانوية فقط كان موقفاً من مصادر الشريعة‪.‬‬
‫ومبوقف أكثر استهانيةً من تارخيية املصادر اإلسالمية‪ ،‬باستطاعة املرء قلب النتيجة طبعاً‪ :‬قارن املصطلح اعتزال مع إصرار عنان بأن‬
‫أتباعه يعزلون (برص) أنفسهم عن أولئك الذين حوهلم‪(N. Wieder, The Judean Scrolls and Karaism, London .‬‬
‫قارن اإلشارة احلاخامية من القرن العاشر اىل «املعتزلني(موفديل)من ابناء اسرائيل» الذين تعاهدوا مع‬ ‫)‪.1962, pp. 154f‬‬
‫‪(J.Mann,in Hebrew Union College Annual‬‬ ‫«املعتزلني من ابناء امسعيل» فيما خيص بداية الشهر‬
‫‪ ) 1937f.,pp.442=422‬والحظ كيف صار املعتزلة بالنسبة البن قتيبة‪ ،‬وليس بالنسبة للشافعي‪ ،‬أهل النظر الذين يهتمون بالنقدية‬
‫العقالنية للتقاليد )‪.(Schacht, Origins,p.45‬‬
‫القرائية إىل شخصيتها القمرانية اجلديد‪،‬‬ ‫(‪)25‬‬
‫لكن ما عليك إالّ أن تالحظ كيف كان بنيامني النهاوندي‪ ،‬يف اجليل الذي سبق وصول ّ‬
‫يتسلّل إىل داخل العادات املألوفة للشرع الرباين‪.)(Paul, Ecrits de Qumran, p. 87 .‬‬
‫(‪ )26‬من أجل الفشل يف تقدمي شرح معتزيل عيين أنظر‪Schacht, Origins, p. 258 :‬‬
‫(‪Schacht, Origins, p. 259 )29‬؛ قارن أيضاً‪J. van Ess, “Dirar b. ‘Amr und die “Cahmiya”. Biographie einer :‬‬
‫‪.vergessenen Schule”, Der Islam 1968, pp. 43 - 6‬‬

‫‪59‬‬
‫إىل النيب عرب سلسلة أسناد مناسبة‪ .‬ففي حني فشل األصوليون يف اختزال املشنا اإلسالمية إىل مدراش‪،‬‬
‫كان علماء التقليد قادرين على متجيدها عرب تكثري األسناد‪ ،‬فنقدية األسناد هي الغمارا اإلسالمية(‪.)28‬‬
‫ميكن بالتايل النظر إىل انتصار احلل الشافعي ملشكلة التقليد كاستجابة مناسبة ملنطق احلالة‪ .‬لكنه‬
‫املشرعني العراقيني األوائل‪ ،‬ورفضه الكامل بني‬
‫كان أكثر من ذلك‪ .‬فالقبول الساذج بالتقليد الشفوي بني ّ‬
‫املعتزلة‪ ،‬يكشفان على حد سواء عن االعتماد اهلاجري القدمي على النماذج غري االسالمية‪ ،‬وهي يف هذه‬
‫(‪)27‬‬
‫حلل الشافعي‪ ،‬مثله مثل الكثري غريه‪ ،‬كان يف‬ ‫احلالة النماذج اليهودية ‪ .‬جند اآلن أن أول ظهور ّ‬
‫بابل(‪)39‬؛ وميكن ربطه بأسلوب هامشي بأفكار حاخامية أقدم منه(‪ .)31‬مع ذلك تظل احلقيقة أنه دون‬
‫سابقات يهودية أساساً‪ .‬فقد أحرز اهلاجريون حالً جديداً‪ ،‬مستقالً وفاعالً‪ ،‬إلحدى معضالت الوحدانية‬
‫املثقفة؛ وهبذا وصلت تابعيتهم غري املبجلة للشعوب اليت غزوها إىل هنايتها أخرياً‪.‬‬
‫لكن التطور الذي أحرز به اإلسالم هذا التميّز األكادميي كان أيضاً اإلنكار النهائي ألصوله‬
‫اخلالصية‪ .‬فحني ترك اهلاجريون يف مسار املغامرة املسيانية األصلية شبه جزيرة العرب‪ ،‬فقد فعلوا ذلك كي‬
‫يصلوا إىل هدفهم‪ ،‬كي يرسخوا أقدامهم يف أرض موعودة واليت كانت ملكاً هلم‪ ،‬كي يستمتعوا حبق إرث‬
‫مؤكد إهلياً‪ .‬وفسح اخلالص اليهودي اجملال بالتايل للنسخ السامرية‪ :‬الكاهن األعلى أخذ مكان املسيا‪،‬‬
‫الس َعر اللحظي إىل‬
‫احلرم االبراهيمي أخذ مكان حرم القدس‪ .‬كان انتقاالً إىل ركن أدىن مقاماً‪ ،‬حتوالً من َ‬
‫االستمرارية املؤسساتية‪ ،‬لكنه حبد ذاته مل يكن أمراً غري سعيد‪ .‬فالسامرية ليست ديانة نفي‪ ،‬واالرتباط‬
‫بني حرمها وكهنوهتا‪ ،‬مهما بدا متكلفاً باملعىن الكتايب(‪ ،)32‬قدمي ومحيم‪ .‬مع ذلك فقد ُك ِسر هذا االرتباط‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )28‬املساواة ليست فقط مفاهيمية جمردة‪ :‬ففي حني تعتمد مشنا املسلمني على سلسلة من املوثوقني (إسناد)‪ ،‬تعتمد مشنا اليهود على آية‬
‫من الكتاب املقدس (أمسختا)‪.J. Horovits, ‘Alter und Ursprung des Isnad’. Der Islam 1918, p. 74 .‬‬
‫عجل بظهور احلركة القرائية‪ ،‬رغم سابقاهتا اليهودية العقائدية (أنظر امللحق)‪.‬‬ ‫(‪)27‬‬
‫ما مل يكن طبعاً أن تأثرياً إسالمياً‪ّ ،‬‬
‫(‪.Schacht, Origins, p. 28 )39‬‬
‫(‪ )31‬ميكن تقدميه كقرار يهدف إ ىل أن يطبق على اجلميع دون استثناء الفكرة املشنائية حول هاالخا موسوية من سيناء‪(W. Bacher, .‬‬
‫‪،)Tradition und Tradenten in den Schulen Palastinas und Babyloniens, Leipzig 1914, chapter3‬‬
‫باالشرتاك مع احلكمة التلمودية القائلة‪« ،‬إذا استطعت اقتفاء أثر سلسلة األسناد وصوالً إىل موسى‪ ،‬فافعل ذلك» ‪(Horovits,‬‬
‫‪ .) “Alter und Ursprung des Isnad, p. 46‬وميكن النظر إليه باعتباره نقطة األوج لتيارات كانت فاعلة بني احلاخامني آنذاك‬
‫(من أجل امليل األمورائي لتوسيع جمال تطبيق فكرة هاالخا موسوية من سيناء‪ ،‬أنظر‪.)Tradition und Tradenten, pp. 41 f :‬‬
‫من أجل تنقيح اثنني من أسناد املشنا املوسوية النوعية الثالثة يف التوسفتا والتلمود‪ ،‬أنظر املرجع السابق‪ ،‬صص ‪ 25‬وما بعد؛ من أجل‬
‫التطوير العام لإلسناد يف رسالة آبوت التلمودية يف الكتاب املتأخر آبوت رايب ناتان‪( ،‬أنظر املصدر السابق‪ ،‬ص‪ .)29‬مع ذلك يبقى‬
‫أن فكرة هاالخا موسوية من سيناء كانت أساساً سهماً أخرياً يف جعبة احلاخامني حني ختذهلم مصادر الكتاب املقدس (املصدر‬
‫السابق‪ ،‬صص ‪ 34‬وما بعد)‪ ،‬واألسناد املوسوية القليلة اليت لفقها احلاخامون تبدو بائسة نوعاً ما إذا عايرناها مبوازين نقدية األسناد‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫(‪J. D. Purvis, The Samaritan Pentateuch and the Origion of the Samaritan Sect , Cambridge, Mass, )32‬‬
‫‪.1968‬‬

‫‪58‬‬
‫يف اإلسالم‪ .‬فمتطلبات السياسة استدعت وجود عاصمة هاجرية يف األقاليم املغزوة‪ ،‬سياسة ديانة تطلّبت‬
‫أن يكون موقعها يف أعماق اجلزيرة العربية‪ .‬ورمبا أن معاوية مل يلبس تاجاً‪ ،‬لكنه مل يكن راغباً بالعودة إىل‬
‫كرسي حممد(‪ .)33‬ويبدو أنه يف إحدى املراحل كان مثة اهتمام معني باسرتداد االرتباط‪ .‬ومهما كانت‬
‫درجة املصداقية اليت ميكن أن نعزوها للتقاليد اليت تتحدث عن حماولة عبد امللك نقل احلجر إىل القدس‪،‬‬
‫فقبة الصخرة هي مبىن عواصمي معمارياً(‪ .)34‬ومقابل هذا اإلحياء مبحاولة أموية براغماتية إلحضار احلرم‬
‫إىل الكهنوت األعلى ميكن وضع التصميم الطوباوي البن الزبري ألخذ الكهنوت األعلى إىل احلرم‪ .‬لكن‬
‫من ذلك احلني فصاعداً صار الصدع قطعياً‪.‬‬
‫كانت النتيجة إدخال صفة َسبَوية (من سيب) يف العالقة بني املرجعية السياسية واجلغرافيا املق ّدسة يف‬
‫اهلاجرية‪ .‬وحني أدت الثورة العباسية إىل نقل الكهنوت العايل من سوريا إىل بابل‪ ،‬كانت خشبة املسرح‬
‫مهيأة الحنطاطه النهائي إىل جالوتية جمردة(‪ ،)35‬إىل ظل ألحد الظالل‪ ،‬ولالختفاء أخرياً على أيدي املغول‬
‫بصحبة نظريه اليهودي‪ .‬وحىت عند اإلماميني‪ ،‬فقد نقل الكهنوت العايل غري الفاعل سياسياً من عاصمته‬
‫العلوية إىل األسر البابلي‪ ،‬وتضاعف األسر يف أحد املسارات عرب إختفاء كان متسامياً‬
‫‪ transcendental‬بالفعل‪ .‬أما أولئك الشيعة الذين استمروا يف النظر إىل حقيقة الكهنوت العايل‬
‫ظل أمامهم بالطبع بديل أسر بابلي مضاعف مع خروج إىل قمم اجلبال‬ ‫كقيمة دينية مركزية‪ ،‬فقد ّ‬
‫اخلروجية يف قزوين أو اليمن‪ .‬لكن يف بابل ذاهتا كانت القيمة ‪ -‬املفتاح للسياسة الدينية هي استمرارية‬
‫يائسة لالستكانة احلاخامية يف وجه حكومة غريبة أو مرجتلة(‪ . )36‬وهكذا فالتطور الديين الطويل واملعقد‬
‫للهاجريني مل يكن دون استدارية هتكمية‪ .‬فقد بدأت أوديسيتهم الدينية وانتهت‪ ،‬ويف الصريورة متّ إلغاء‬
‫تطور مأساوي‬ ‫احلرم السامري يف شبه جزيرة العرب والكهنوت العايل السامري يف سوريا‪ .‬لكن كان مثة ّ‬
‫أيضاً يف االستدارية الظاهرية‪ .‬فقد فسحت يهودية فلسطني اخلالصية الدرب أمام يهودية بابل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(G. R.‬‬ ‫يف التقليد اإلسالمي حول حماولته نقل منرب النيب إىل سوريا‪.‬‬ ‫(‪ . Chronica Minora, pp. 71 = 56 )33‬قارن الروايات‬
‫‪Hawtig, “The Umayyads and the Hijaz, in Proceedings of the Fifth Seminar for Arabian Studies,‬‬
‫‪.)London 1972, pp. 42 f‬‬
‫‪“The Omayyad Strauctures near the Temple‬‬ ‫من أجل املباين األموية األخرى اليت ما تزال موجودة يف القدس‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫(‪)34‬‬

‫‪Mount”, published with B. Mazar, “The Excavations in the Old City near the Temple Mount”,‬‬
‫‪.Jerusalem 1971‬‬
‫(‪ )35‬قارن املالحظات املليئة باللمز والتعريض اليت ق ّدمها الفلكيون واليت خيربنا عنها البريوين‪ ،‬القائلة إن سلطة اخلليفة العباسي صارت روحانية صرفة‬
‫وذلك حبسب طريقة اجلالوت اليهودي‪(W. Madelung, “The Assumption of the Title Shahanshah by the Buyids and .‬‬
‫‪.)“The Reign of Daylam (Dawlat al-Deylam)””, Journal of Near Eastern Studies 1906 bis, p. 98‬‬
‫(‪ )36‬أنظر على سبيل املثال‪ .I. Goldziher, “Muslems Studies, London 1967, 1971, vol. ii, pp. 93 - 7 :‬ال ميكن أن‬
‫يكون هنالك تدمرياً ملقولة الفداء أكثر مناسبة من تلك الرواية اليت يقدمها الكتّاب املسلمون حول تزكية اهلل ملوسى طيلة مدة حكم فرعون‪:‬‬
‫«أثناء حكمه يُبقي الدروب آمنة»‪ ،‬اخل‪(A. K. S. Lambton, Islamic Mirrors for Princes, in Atti del Convegno .‬‬
‫‪.)Internazionale sul tema: La Persia nel Medioevo, Rome 1971, pp. 453, 437‬‬

‫‪57‬‬
‫األكادميية‪ ،‬وبشارة صهيون فسحت الدرب أمام سالم بابل‪ .‬لقد هجر اهلاجريون املسيا فقط كي ينتهي‬
‫هبم األمر مع جالوت‪ ،‬ورفضوا املقدَش اليهودي فقط كي ينتهوا يف املديناه ذاهتا(‪.)39‬‬
‫سجان أنفسهم‪ ،‬وسبيهم حىت تلك الدرجة كان‬ ‫كان هنالك بالطبع فرق حاسم‪ :‬فاهلاجريون كانوا ّ‬
‫سبياً أفضل يقينياً(‪ .)38‬وظلوا ميتعون خبصال الشرف‪ ،‬احلب‪ ،‬الطاعة‪ ،‬وقوافل األصدقاء‪ .‬ورغم إحراق‬
‫حرمهم يف إحدى املناسبات‪ ،‬إال أنه مل يُ َد ّمر كما ُد ِّمر اهليكل اليهوي‪ :‬مل يصبحوا قط بالفعل نَدّايب‬
‫تصوفهم‪ ،‬فقد حافظوا على بقية محاسة واليت أمكنها حىت بني األئمة أن تـُ ْف ّعل يف وقت‬ ‫مكة‪ .‬ورغم كل ّ‬
‫بعينه عن طريق خطر حكم كافر(‪ .)37‬لكن إذا كانت نَِعم السيب املفروض ذاتياً أساسية‪ ،‬فتكاليفها‬
‫ذهبت حنوأعمق األعماق‪ .‬لقد ذهب اليهود إىل السيب فاقدين كل شيء بسبب احلقد الغامر إلحدى‬
‫القوى الكافرة؛ وإذا كان السيب عقاباً هلم على خطاياهم‪ ،‬فاهلل على األقل أرسل البابليني كي‬
‫يعاقبوهم(‪ .)49‬إن جممل احلرمان حتديداً‪ ،‬ومسته اخلارجية املنشأ أساساً‪ ،‬كانا يعنيان أن اليهود لديهم‬
‫التطهري واألمل‪ .‬لكن املغول جاءوا متأخرين جداً كي يؤدوا خدمة كهذه لالقتصاد الشعوري لإلسالم‪.‬‬
‫دون تطهري‪ ،‬كان املاضي مفسداً‪ .‬وغري العرب ال توجد سوى شعوب قليلة تستطيع أن تدعي وجود‬
‫تاريخ ناجح إىل درجة مريعة وذلك يف احلقبة املمتدة من الغزوات األوىل حىت سقوط األمويني؛ مع ذلك‬
‫فاملصادر الكالسيكية تتنفس هواء خيبة فأل مطلقة‪ .‬فقد ُو ِسم األمويون بأهنم ملوك‪ ،‬سياستهم بأهنا‬
‫استبداد‪ ،‬ضرائبهم بأهنا ابتزاز(‪ ،)41‬غزواهتم بأهنا جتمري(‪ ،)42‬واعتقاداهتم بأهنا فسق؛ وحدها األطراف‬
‫اخلاسرة يف احلربية األهليتني كان هلا أمل بنوع من التقديس ذي عالقة باملاضي(‪ .)43‬لكن اجلائحة متتد‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )39‬قارن سابقا‪ ،‬هامش ‪ 33‬ف ‪.4‬‬
‫ً‬
‫(‪ )38‬لكن ليس بالطبع يف احلالة اإلمامية‪ ،‬حيث اسرتداد الغيتو يبدو كامالً‪ :‬بل إن كاتبا إمامياً من القرن العاشر حيتال لألمر كي يلوي‬
‫فكرة «اهلجرة» حىت يعزوها إىل عمل اهلامشيني يف االنضمام للنيب أثناء حالة احلصار الطويلة اليت أُخضع هلا يف أرباض عبد املطّلب يف‬
‫مكة‪(E. Kohlberg, The Attitude of the Imami shi‘is to the Companions of the Prophet, Oxford ph.D. .‬‬
‫‪.)1971, p. 94‬‬
‫(‪Kohlberg, The Development of the Imami shi‘i Doctrine of Jihad”, Zeitschrift der Deutschen )37‬‬
‫‪Morgenl‬ن‪. ndischen Gesellschaft 1976‬‬
‫(‪ )49‬بل إن االستكانة القادرة على التواؤم بنوع من الفرح لكل من بوليو وسامياس كانت متوقفة على واقعة أن هريودوس كأن أدومياً‪(E. .‬‬
‫‪Schürer, The History of the Jewish People in the Age of Jesus Christ (175B.X - A.D. 135) revised by‬‬
‫‪.)G. Vermes and F. Millar, vol. i, Edinburgh 1973, p. 296‬‬
‫(‪ )41‬املساواة بني االثنني على أساس أهنما مكس هلا أسبقيات يهودية بارزة (قارن‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.)396‬‬
‫تعرض مكانة‬ ‫(‪)42‬‬
‫وهو يعين احتجاز اجليش يف احلقل‪ ،‬خاصة أثناء الشتاء‪ .‬وعلى حنو خاص فإن شكاوى الغزاة‪ ،‬وليس املغزوين‪ ،‬هي اليت ّ‬
‫الغزو األخالقية للخطر‪.‬‬
‫(‪ )43‬مقارنة بأبعاد العاطفة املؤيدة للعلويني يف اإلسالم‪ ،‬فإن أبعاد العاطفة املؤيدة لألمويني تبعث على السخرية‪ :‬مسألة شذوذات كالنابتة‬
‫‪.Nabitah‬‬

‫‪69‬‬
‫حىت إىل تاريخ اخلالفة الراشدة يف قلب شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وتلتهم املوقف األخالقي ألبطال الغزو من‬
‫أمثال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد‪ .‬وباملقابل‪ ،‬فدون التطهري‪ ،‬مل يكن هنالك أمل‪ :‬ذويان املاضي‬
‫ماض مقدس صارت‬ ‫كان يعين ذويان املستقبل‪ .‬وحني ذهبت اليهود إىل السيب‪ ،‬أخذوا معهم ذكرى ٍ‬
‫استعادته مستقبالً قيمة دينية مركزية‪ .‬أما اهلاجريون‪ ،‬فألن غزواهتم اخلاصة هي اليت أخذهتم إىل السيب‪،‬‬
‫وألنه مل يكن عندهم قامعون سوى أنفسهم‪ ،‬مل يكن لديهم ٍ‬
‫ماض مناسب أن يُ ْس َرتد‪ :‬فكل جمد قيدار‬
‫فشل‪ .‬ويف حني يأيت املسيا الستعادة الواقع السياسي للملَكية الداوودية‪ ،‬ميأل املهدي العامل ٍ‬
‫بعدل ال لون‬ ‫َ‬
‫له تارخيياً فقط(‪ .)44‬وحينما يكون جتمع املسبيني اإلسرائيليني مقولة مركزية يف الربنامج السياسي‪ ،‬يبدو‬
‫جتمع اإلمساعيليني االسكاتولوجي فنتازيا مسيحية صرفة(‪ .)45‬قد ميتلك الباكون على صهيون ذات يوم‬ ‫ّ‬
‫َمجَاالً بدل الرماد؛ لكن ليس المساعيل فاد‪ ،‬فقد استمتعوا به أيام عمر الفاروق‪ .‬وزوابع اجلنوب خفت‬
‫لترتك اإلسالم‪ ،‬مثل اليهودية‪ ،‬ديانة يسيطر عليها التقيد احلريف بشرع احلاخامني البابليني‪ :‬لكن يف حني‬
‫أن الوجه اآلخر للعملة يف اليهودية هو األمل املسياين الوجه اآلخر للعملة يف اإلسالم هو التسليم‬
‫الصويف‪.‬‬

‫‪(W. Madelung, Der Imam. al - Qasim ibn Ibrahim und die Geschichte der Zaiditen, Berlin 1965,‬‬
‫‪Exbus), the Yezidis, and Marwanites of Central Asia (V.V. Batrol’d “Musul’ manskarya sekta‬‬
‫‪.)mervanitov”, Izvestiya Imperatorkoy Akademii Nauk 1915‬‬
‫سجاين أنفسهم وبالتايل لديهم ٍ‬
‫ماض يبكون عليه‪ :‬ألنه ميكن النظر إىل اإلمامية‬ ‫طبعاً باستثناء يف حالة اإلماميني‪ ،‬الذين مل يكونوا ّ‬
‫(‪)44‬‬

‫كضحية حلقد خارجي غامر‪ ،‬فهي أيضاً ذلك الذي سيعيده املهدي‪ ،‬بفضل متاثله مع اإلمام األخري‪.‬‬
‫(‪.Nau, ‘Révélations et légendes’, p. 437 )45‬‬

‫‪61‬‬
‫ملحق‬
‫القيني؛ السبب والعرف‬

‫القيني‪:‬‬
‫يف «األسرار» (أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 12‬ف ‪ )1‬ثالثة مقاطع تشري إىل سفر العدد ‪ .12:24‬وهذه‬
‫اآلية تش ّكل جزءاً من نبوءة بلعام املسيانية الكالسيكية‪ ،‬وتقول‪« :‬مث رأى القينيني‪ ،‬فأنشد قصيدته وقال‪:‬‬
‫متني مسكنك‪ ،‬وعلى الصخرة وكرك» (التورية ِقن [بالعربية «وكر»] وِقين [بالعربية قيين] مفقودة من‬
‫الرتمجة)‪ .‬وحبسب ترقم األسطر يف نص يلنك ‪ ،Jellinek‬ترد املقاطع يف «األسرار» كما يلي‪:‬‬
‫ويفسر «ونظر إىل القينيني» (السطر الرابع ف‪،‬‬ ‫(‪ )1‬وراح [يف السياق‪ ،‬احلاخام مشعون] جيلس ّ‬
‫تضيف كسرة الغنيزا (أنظر‪ )Lewis, ‘Apocalyptic Vision”, p. 309 :‬الكلمات‬
‫الثالث الالحقة من اآلية‪.‬‬
‫(‪ )2‬من جديد‪« ،‬تطلع إىل القينيني»‪ :‬وأي َمثل أخذه الشرير [بلعام]‪ ،‬باستثناء أنه حني رأى أبناء‬
‫أبنائه [القيين] الذين كانوا يقومون وخيضعون إسرائيل‪ ،‬راح يبتهج ويقول‪« :‬قوي مسكنك»؟ إنين أرى أن‬
‫أبناء اإلنسان ال يأكلون إال حبسب وصايا إيتان اإلزراحي (السطور ‪ 25 -21‬؛من أجل اإلشارة إىل‬
‫إيتان‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ 22‬من الفصل الثاين)‪.‬‬
‫(‪ )3‬وهو [يف السياق‪ ،‬امللك اإلمساعيلي] يبين مسجداً (هيشتاحواواياه) هناك على صخرة اهليكل‪،‬‬
‫كما يقال‪« ،‬على الصخرة وكرك» (السطر‪.)28‬‬
‫من هو القيين؟ يف «صالة احلاخام مشعون بن يوحاي»‪ ،‬وهو سفر قيامي من أيام الصليبيني أ ِ‬
‫ُدخلَت‬
‫فيه نسخة من «األسرار»‪ ،‬جند اإلجابة واضحة مبا يكفي أساساً‪ :‬القيين ميثل مملكة ظاملة تسبق مباشرة‬
‫مملكة امسعيل )‪ .(Lewis, “Apocalyptic Vision”, pp. 312f‬وسواء أكان علينا أن‬
‫نف ّكر بروما (أنظر شرح لويس للنص السابق‪ ،‬ص‪ )312‬أو بفارس (قارن‪ :‬احلصار القيين للقدس‪،‬‬
‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪ ،)312‬فاألمر ال يهمنا كثرياً‪ .‬لكن هل نستطيع البحث عن اجلواب يف «األسرار»‪،‬‬
‫املصدر الذي يبدو أن شخصية القيين يف «الصالة» مأخوذة منه؟ حجتان تشريان إىل أننا ال نستطيع‬
‫ذلك‪ ،‬وعلينا باملقابل أن مناثل بني القيين والعرب أنفسهم‪ .‬يف املوضع األول‪ ،‬لدينا الدليل الداخلي‪.‬‬
‫سلبياً‪ ،‬ما من سبب يدفعنا العتبار أن القيين يسبق العرب‪ ،‬ألنه مذكور قبل وبعد ظهور مملكة امسعيل؛‬
‫وليس هنالك على حنو خاص أي سبب العتباره ميثّل روما‪ ،‬اليت تق ّدم لتوها على أهنا ادوم (السطران ‪2‬‬
‫و‪ .)6‬إجيابياً‪ ،‬هنالك سبب طيب للمطابقة بني القيين والعرب‪ ،‬إذ يُستشهد بسفر العدد ‪21:24‬‬
‫وذلك بشأن أعمال بناء على جبل اهليكل‪ .‬ثانياً‪ ،‬هنالك دليل خارجي‪ .‬فثمة تقليد راسخ يتعلق هبوية‬

‫‪62‬‬
‫القيين‪ .‬الرتمجة القياسية هي «شلمانيوم» (أنظر على سبيل املثال‪ ،‬اونكلوس‪ ،‬يوناتان املنحول ونوفييت‬
‫على سفر التكوين ‪ ،17:15‬واونكلوس‪ ،‬الرتغوم املتشظي ونوفييت على سفر العدد ‪ ،)21:24‬وهو‬
‫اسم لقبيلة عربية ذات عالقة قوية باألنباط (أنظر على حنو خاص‪Stephanus of :‬‬
‫”‪ .)Byzatium, Ethnika, s.n. “Salamioi‬هنالك ترمجات أخرى تشمل األنباط‬
‫(التلمود البابلي‪ ،‬رسالة بابا برتا‪ ،‬الورقة ‪ 56‬آ‪ ،‬لكن النص ّ‬
‫مشوه)‪« ،‬العرب» (التلمود األورشليمي‪،‬‬
‫شبعيت‪ ،‬الورقة ‪35‬ب)‪ ،‬و «يثرو املهتدي»(يوناتان املنحول على سفر العدد ‪ .)21:24‬على أساس مما‬
‫سبق‪ ،‬فالتطابق مع روما أو فارس مستبعد بقدر ما التطابق مع العرب مناسب‪.‬‬
‫إذا كان القينيون يف «األسرار» ميثّلون العرب‪ ،‬فما هو هدف هذاالتحديد هلوية القينيني؟ إن تفسري‬
‫سفر العدد ‪ 12:24‬املق ّدم يف اجلملة األوىل من املقطع الثاين معاد جداً للقينيني‪ .‬لكن عدداً من مسات‬
‫هذا التفسري يدعو للريبة‪ .‬فأوالً‪ ،‬هنالك وعد بالتفسري يف املقطع األول‪ ،‬لكنه ال يظهر إال بعد ستة عشر‬
‫سطراً فقط‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن شرح إشارات بلعام للقينيني التكميلية وذلك بوصفها تعبرياً عن شعوره العدائي‬
‫لإلسرائيليني هو أمر غري مناسب إطالقاً‪ :‬بلعام هو نيب وهو ال يستطيع بالتايل أن ينطق بغري الكلمات‬
‫اليت يضعها اهلل يف فمه‪ .‬ثالثاً‪ ،‬يتناقض هذا الشرح امل ْخ َرتع بالكامل مع أرضية التفسري احلاخامي هلذه‬
‫ُ‬
‫اآلية‪ ،‬كما سنرى الحقاً بعد قليل‪ .‬هنالك بالتايل أسس قوية ألن نشك بأن التفسري املعادي للعرب‬
‫دساً ثانوياً‪ ،‬إعادة تنقيح ميكن‬‫لسفر العدد ‪ 12:24‬يف النص الذي بني أيدينا اآلن جيب أن يكون ّ‬
‫مقارنة دوافعها بدوافع حتييد التفسري املسياين لسفر اشعيا ‪ 9:12‬وذلك من قبل سفري دانيال ‪37:11‬‬
‫وحزقيال ‪ .13:4‬يف أية حالة‪ ،‬نستطيع أن نستدل ما الذي كانت عليه رسالة هذا التفسري املَراقب؟‬
‫ُ‬
‫األول‪ ،‬جند أن احلاخامني يوردون سفر العدد ‪ 21:24‬وذلك بالعالقة مع يثرو (التلمود‬ ‫يف املوضع ّ‬
‫البابلي‪ ،‬سنهدرين‪ ،‬الورقة ‪196‬آ؛ خروج راباه ‪6 ،3 :29‬؛ قارن التفسري الرتغومي «للقيين» باعتباره‬
‫«يثرو املهتدي» املذكور آنفاً)‪ .‬ويثرو بالطبع هو محو موسى وهو أمنوذج للهداية‪(B. J. .‬‬
‫‪Bomberger, Proselytism in the Talmudic Period, New York‬‬
‫‪ .)1968, pp. 182 - 9‬لذلك فمن غري املفاجئ أن يأخذ احلاخامون هذه اآلية كإعالن إهلي يف‬
‫صاحل يثرو‪ ،‬وهنالك افرتاض قوي يوحي بأن التفسري األصلي «لألسرار» كان سيفعل الشيء ذاته‪ .‬ثانياً‪،‬‬
‫اخلري جتاه القينيني هو مشاركتهم يف حوادث اخلالص األ ّول‪ .‬وهكذا‬ ‫إن املصدر األويل هلذا املوقف ّ‬
‫فنقاشات احلاخامني ملصدر املوقف املميّز من الكتبة القينيني (وهم الركابيون يف الوقت ذاته) الذي يبديه‬
‫سفر األخبار األول ‪ 55:2‬تستشهد على حنو منتظم بسفر القضاة ‪ ،61:1‬الذي يقول إن القينيني‬
‫«صعدوا من مدينة النخل مع بين يهوذا إىل برية يهوذا‪ ...‬وسكنوا مع الشعب» (التلمود البابلي‪،‬‬
‫سنهدرين‪ ،‬الورقتان ‪ 194‬آ و‪196‬آ؛ قارن سيفره على سفر العدد ‪ .)27:19‬وهكذا يبدو معقوالً جداً‬
‫أن التفسري األصلي «لألسرار» كان يشري إىل هذه املشاركة‪ .‬ثالثاً‪ ،‬يبدو واضحاً املضمون املسياين هلذه‬

‫‪63‬‬
‫املادة‪ :‬فإن تطبيقاً بسيطاً ملبدأ التشابه بني اخلالصني املوسوي واملسياين (أنظر اهلامش ‪ 46‬من الفصل‬
‫األول) ميكنه أن مي ّدنا مبق ّدمة منطقية دقيقة لدور عريب يف املغامرة املسيانية اليهودية؛ ومن جديد نقول إن‬
‫التفسري املَراقب ال بد أنه كان حيتوي مق ّدمة منطقية من هذا النوع‪ .‬فضالً عن ذلك‪ ،‬مثة مصدر مدراشي‬
‫ُ‬
‫متأخر والذي يق ّدم موازياً موحياً‪ .‬فمخريي يدخل يف مو ّاده حول سفر اشعيا ‪ 9:52‬بعض املالحظات‬
‫عن دور الركابيني يف العصر املسياين‪ .‬إهنم هم الذين سيأتون بالبشرى إىل القدس‪ ،‬بل هم الذين‬
‫سيدخلون اهليكل ويق ّدمون القرابني هناك‪(J. Spira (ed.), Yalqut ha-Makhiri al .‬‬
‫)‪ .Yeshayahu, Berlin 1894, p. 195‬والركابيون‪ ،‬كما يقول سفر األخبار األول ‪55:2‬‬
‫بوضوح‪ ،‬هم القينيون (ظرف ليس دون أمهية يف سياق حترمي اخلمر)‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يف نظر احلاخامني‪ ،‬فهم أبناء‬
‫يثرو وأحفاده (أنظر مثالً‪ :‬خميلتا د‪ .‬رايب امشعيل‪ ،‬عمليق‪ 4 ،‬لسفر اخلروج ‪.)29:18‬‬
‫هل أن شخصية القيين هي الفضالة ملا كان ذات مرة سفراً قيامياً مستقالً؟ ثالث نقاط توحي‬
‫بذلك‪ .‬أوالً‪ ،‬من الصعب تسويغ أن يظهر العرب كقينيني وامساعيليني ضمن تفسري واحد ألحد األسفار‬
‫القيامية‪ .‬ثانياً‪ ،‬املقاطع القينية مندجمة على حنو فقري مع بقية السفر القيامي‪ :‬فمما يلفت النظر هنا أن‬
‫املقطع األول بشكل خاص هو يف غري حمله (فالتحضري للمباشرة يف تفسري لسفر اخلروج ‪ 21:24‬نادراً‬
‫ما يكون ردة فعل مناسبة لرؤيا اسكاتولوجية ال يلعب فيها القينيون أي دور على اإلطالق‪ ،‬والواقع أننا‬
‫نعود إىل الرؤيا مباشرة)‪ .‬ثالثاً‪ ،‬هنالك اختالف يف اللغة‪ .‬فكما ظهر من اهلامش ‪ 13‬يف الفصل األول ال‬
‫يكون تفسري اشعيا ‪ 9:21‬ذا معىن إال إذا أُوِرد املقطع من الرتغوم أصالً‪ ،‬يف حني أنه يف املقطعني الثاين‬
‫والثالث حول القينيني‪ ،‬جند أن اللغة العربية هي املطلوبة (من أجل التورية إتان يف املقطع الثاين‪ ،‬أنظر‬
‫اهلامش ‪ 22‬من الفصل الثاين؛ املقطع الثالث ينحى إىل اعتبار «الصخرة» على أهنا إشارة إىل صخرة‬
‫اهليكل‪ ،‬وهو رباط يغدو مفقوداً نوعاً ما لو استبدلناه بالرتمجات الرتغومية «جرف الصخرة» (نوفييت)‪،‬‬
‫«جروف الصخور» (يوناتان املنحول)‪« ،‬جرف» (الرتغوم املتشظي) و «حصن» (أونكلوس))‪ .‬لدينا إذاً‬
‫أسبابنا كي نعتقد أن «األسرار» حيتفظ بفضالة تفسريين مسيانيني مستقلني أصالً للغزو العريب‪.‬‬
‫السبب والعرف‪:‬‬
‫إذا كان حتليلنا للعالقة بني املقوالت الفقهية اإلسالمية واليهودية صحيحاً‪ ،‬فهو حيتاج ألن ميت ّد إىل‬
‫فكرتني يهوديتني أقل وضوحاً‪ .‬أوالً‪ ،‬متيّز الشرع اإلسالمي األول بربوز مصطلح رأي وذلك مبعىن «رأي»‬
‫(أحد األفراد) أو «تفكري» (بشكل عام) )‪ (Schacht, Origins, pp. 79, 89ff‬وقارن‪:‬‬
‫‪ :)(van Ess, Untersuchungen, p. 27‬وله مرادفات تشمل فقه‬
‫)‪ .(Encyclopaedia of Islam, s. v.‬أما املصطلحات اليهودية املقابلة فهي دَعَت (فردية‬
‫عادة لكن ليس دائماً) وشعارا (عامة‪ ،‬لكنها غالباً ما تكون مرافقة بالفعل شعر لتقدمي وجهات نظر‬

‫‪64‬‬
‫فردية)‪( .‬أنظر‪ .)(Bacher, Exegetische Terminologie, s.vv :‬واالستخدام‬
‫اليهودي‪ ،‬كاالستخدام اإلسالمي األويل‪ ،‬ليس انتقاصياً‪ .‬ثانياً‪ ،‬يعري الشرع اإلسالمي األويل اعتباراً غالباً‬
‫لسلطة العامة أو العرف‪ :‬عمل أو سنّة ‪(Schacht, Origins, pp. 58ff; van Ess,‬‬
‫‪ ،)“Untersuchungen, p. 42‬واألخرية غري حمددة هويتها بعد على أهنا سنّة النيب‪ .‬املعادالن‬
‫اليهوديان مها منهغ ومعسه )‪ .(Encyclopaedia Judaica, s.v.v‬وعند اجلانبني على حد‬
‫سواء جند الفكرة القائلة إن العرف ميكن أن يبطل الشرع (قارن عبارة منهغ مبطل هاالخا مع ما يقوله شاخت‬
‫يف كتابه ‪( Origines, pp. 65‬حيث يفتقد ابن قاسم مصطلح هاالخا ملعسه فقط‪.))89 ،‬‬
‫ميكن رؤية أثر اجلدل من القرن الثامن حول هذه املقوالت عند كال اجلانبني‪ ،‬لكن ال خيفى على‬
‫أحد أنه أكثر عنفاً يف احلالة اإلسالمية‪ .‬فأوالً‪ ،‬إن إعادة التأكيد اليهودية على مرجعية التقليد الشفوي‬
‫إمنا تقود إىل اإلنقاص من قيمة السفارا‪ :‬الحظ زعم يهوداي غاون (عام ‪ 969‬تقريباً) بأنه مل جيب قط‬
‫على سؤال ما مل يكن لديه دليل من التلمود ومصادقة عملية من معلمه‪ ،‬الذي أخذها بدوره من معلمه‬
‫‪ .(Gizberg, Geniza Studies, vol. ii, pp. 55ff‬من اجلانب اإلسالمي (ما عدا‬
‫الظهور بعيد األمد لتقليد مشابه) لدينا حتوالن يعادل أحدمها اآلخر‪ :‬رأي الذي حتط قيمته حبيث يصبح‬
‫مصطلح شتيمة (فبعدما مت تعيني هويته على أنه فردي‪ ،‬ختلّصوا منه باعتباره ذاتياً)؛ وفقه الذي يـَُرفس إىل‬
‫أعلى الدرج ليصبح امساً للشرع عموماً‪ .‬ثانياً‪ ،‬منهغ خيضع للضغط أيضاً‪ :‬ومن جديد فإن يهوداي غاون‬
‫ليحض على ترك العادات اليت متّ تبنيها حتت وطأة‬ ‫ّ‬ ‫هو الذي يكتب إىل االرض املقدسة(فلسطني)‬
‫االضطهاد البيزنطي وذلك لصاحل التزام كامل بالشرع (الفلسطينيون‪ ،‬الذين هم القرويون يف هذه القصة‪،‬‬
‫التطور املوازي يف‬
‫ردوا بنوع من العناد أن العرف يطرد الشرع) (املصدر السابق‪ ،‬صص ‪ 557‬وما بعد)‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫اإلسالم هو اهلجوم على الذرائع الشرعية للعرف‪ :‬والشافعي يـُ َقابل بالعناد ذاته يف «أرض امسعيل» مثله‬
‫مثل يهوداي يف االرض املقدسة (أنظر على حنو خاص‪ .)Schacht, Origins, p.65 :‬ونعيد‬
‫ثانية‪ ،‬إن التطور اإلسالمي مضاعف السمات‪ :‬عمل ختفض قيمته إىل عرف جمرد ويـُ ْه َمل تقريباً‪ ،‬لكن‬
‫سُنّة ترفع إىل مستوى سنّة النيب وتصبح فائقة على ما عداها‪.‬‬
‫نود العودة أخرياً إىل مسألة األسبقية يف الرفض األصويل للتقليد الشفوي‪ .‬فالشافعي الذي جيادل‬
‫أولئك الذين يرفضون كل التقاليد ألجل القرآن (املصدر السابق‪ ،‬صص ‪ 49‬وما بعد)وبن بابوي الذي‬
‫يشجب أولئك اخلنازير الذين يدرسون التوراة املكتوبة لكنهم ينكرون الشفوية ‪(Ginzberg,‬‬
‫)‪ Geniza Studies, vol ii, p. 571‬متزامنان وحنن نعرفهما من املصدر األصلي؛ وحنتاج إىل‬
‫بضع وخزات ضمري بشأن إرجاع الرفض الذي يديناه إىل عنان بن داوود وضرار بن عمرو‪.‬لكن كم هو‬
‫أي مدى يشري الشيئيلوت الذي هو الحاي من‬ ‫أقدم من ذلك؟ من اجلانب اليهودي‪ ،‬املسألة هي إىل ّ‬

‫‪65‬‬
‫القرائية باعتبارها حركة كانت يف طور النشوء أثناء حياته‪ .‬ومن اجلانب‬ ‫شفحا (مات عام ‪ )952‬إىل ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬هل على املرء أن يقرأ موقف ضرار يف تلك املعلومة املتشظية اليت لدينا حول آراء عمرو بن‬
‫عبيد (مات عام ‪)961‬؟‬
‫مع ذلك يتبقى لنا دليل األصولية الساذجة (أصولية دون رفض واضح للتقليد الشفوي) يف مرحلة‬
‫تطور اإلسالم (أنظر اهلامش ‪ 29‬من الفصل الثالث)؛ وانطباعنا بأن هذا الدليل يسبق‬ ‫مبكرة جداً من ّ‬
‫القرآن ذاته زمنياً يعززه اجلدل حول عقوبة الزنا (أنظر اهلامش ‪ 19‬من الفصل اخلامس)‪ ،‬ما يتضمنه‬
‫يقرون إال بكتاب واحد والذي هو ليس كتاهبم‪،‬‬ ‫مصطلح أهل الكتاب من أن املسلمني األوائل مل يكونوا ّ‬
‫بل حىت بعض النصوص القرآنية (اهلامش ‪ 19‬من الفصل اخلامس)‪ .‬ورغم جهلنا بشرع سامري من هذه‬
‫احلقبة؛ فثمة ما يستحق االعتقاد أن هذه األصولية الساذجة رمبا صاحبها‪ ،‬أو أوحى هبا‪ ،‬موقف سامري‬
‫من الكتاب املقدس (قارن هنا مع إصرار املرقاه بأننا «ال نؤمن [بأي شيء] خارج توراتك [ياهلل]»‬
‫)‪ .(Ben Hayyim, Literary and Oral Tradition, p. 196‬يبدو اآلن وكأن هذه‬
‫األصولية متتلك نوعاً من البقاء يف ّ‬
‫نصني يـُ َقال إهنما يرجعان إىل هناية القرن السابع‪ ،‬ومها قدميان بالفعل‪.‬‬
‫إهنما جيمعان بني اجلهل امللفت للنظر باحلديث واالعتماد الكبري على الكتاب املق ّدس (وهو هنا طبعاً‬
‫القرآن) ويصفان بني احلينة واألخرى القرآن مبزاج أصويل (من أجل رسالة عبد اهلل بن إباض أنظر‪:‬‬
‫‪Schacht, “Sur l’expression” Sunna du Prophete”, p. 363‬؛ ومن أجل‬
‫رسالة احلسن البصري‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪Pitter, “Studien zur Geschichte der islamischen‬‬
‫‪.)Frommigkeit” p. 68‬‬
‫وهكذا تربز االحتمالية القائلة إن األرضية اآلنية للرفض الواضح للتقليد الشفوي يف اليهودية‬
‫واإلسالم مل تكن يهودية بل إسالمية‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬االنتيك ما مصيره ؟؟‬

‫‪6‬‬
‫احلضارات اإلمربيالية‬

‫مدى غنياً وحاذقاً من املعاين من واقع متع ّدد‬


‫باستطاعة رؤيا اىل العامل تع ّددية اآلهلة أن تظهر ً‬
‫الوجوه‪ .‬مع ذلك فمن احملتمل أن تفعل هذا بكلفة عالية‪ :‬فما يظهر أن معانيها تكسبه يف التعددية‪،‬‬
‫يظهر أهنا ختسره أيضاً يف السلطة‪ .‬فتعددية اآلهلة‪ ،‬على حنو خاص‪ ،‬ليست متوحدة مبا يكفي لتفصح‬
‫بقوة فعلية عن التضامن الذايت للشعب‪ ،‬وال هي كاسحة مبا يكفي لتقدمي وصف ثاقب فعلي لطبيعة‬
‫الكون املوضوعية‪ .‬واملشكلة أنه ال يوجد بديل وحيد لتعددية اآلهلة يف هذين الدورين‪ .‬األول يقوم به‬
‫بأفضل ما ميكن إله شخصي‪ ،‬والثاين مفاهيم ال شخصية ‪ -‬استقطابية مفهومة جيداً يف املقابلة بني‬
‫(‪)1‬‬
‫اليهودية والبوذية‪ .‬ويف حني أنه من املمكن متاماً خلط املقوالت أو إساءة استخدامها ‪ ،‬ال يبدو حمتمالً‬
‫إيصال القوى الكامنة للطرفني إىل حدودها العليا يف الوقت ذاته‪ .‬واخليارات اليت قام هبا اإليرانيون‬
‫املتجسدة يف اليهودية والبوذية؛ لكنها كانت خمتلفة مبا‬
‫ّ‬ ‫واليونانيون كانت أقل توحيداً إهلياً من اخليارات‬
‫يكفي لتقدمي مفتاح لفهم االنفراق الالحق يف تاريخ الشعبني‪.‬‬
‫يظهر أن السياق الفكري الذي أخذت فيه الزرادشتية شكلها إمنا كان مشرتكاً بني اإليرانيني‬
‫واليونانيني واهلنود‪ :‬ففي احلقبة ذاهتا تقريباً‪ ،‬وباملصادر الفكرية ذاهتا تقريباً(‪ ،)2‬باشرت الشعوب الثالثة يف‬
‫التحول من إرث تعددي اآلهلة متحلل تقريباً إىل علم كون مفاهيمي أكثر وحدانية‪ .‬لكن السياق التارخيي‬ ‫ّ‬
‫لسرية زرادشت يف إحدى مساته احلامسة إمنا يذ ّكرنا مبوسى أكثر مما يذكرنا ببارمنيدس أو بوذا‪ :‬لقد ُش ّكلت‬
‫الزرادشتية يف وسط حمكوم باملواجهة االثنية بني إيران وطوران ‪ .Turan‬لذلك فمن غري املفاجئ أن تكون‬
‫العالقة اجلينية بني املنظومة الكونية الزرادشتية واملنظومة الكونية عند اليونان أو اهلنود أقل لفتاً للنظر يف احملاولة‬
‫األخرية من عالقة التشابه بني اإلله الزرادشيت وإله العربانيني؛ لكنهم رّكبوا خارج علم الكون هذا إهلاً شخصياً‬
‫ش ّكلت مواجهته لقوى الشر املعىن األهم للكون(‪.)3‬باملقابل فقد امتلك كهنة اجملوس ‪ Magi‬فلسفة مبعىن مل‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الحظ على سبيل املثال تصميم املاركسية على أن تولد‬
‫ّ من املنطق املوضوعي ملفاهيمها غري الشخصية تضامناً ذاتياً لطبقة خمتارة‪.‬لكن‬
‫برمتها آنئذ دجماً متقلقالً إلرث اليونان املفاهيمي مع إرث إسرائيل اخلالصي‪.‬‬
‫هذه املنظومة تكون ّ‬
‫(‪ )2‬انظر على حنو خاص‪.M. L. West, Early Greek Philosophy and the Orient,Oxford 1971 :‬‬
‫(‪ )3‬وهكذا فإن أهورا مازدا هو تلفيق عقائدي بقدر ما أن يهوه هو استعارة تعاقدية‪ :‬كان سيبدو وكأن اآلهلة االثنية ال تأيت بشكل طبيعي‬
‫أبداً‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ميتلكها فيه احلاخامون‪ :‬لكنها كانت فلسفة موجهة حنو الفهم التأملي لعملية صريورة كونية غري شخصية بأقل‬
‫من توجهها حنو مشاركة فاعلة يف صراع كوين شخصي‪.‬‬
‫لقد امتلك هذا مفهومني ضمنيني أساسيني بالنسبة لشخصية امللة الزرادشتية‪ .‬ففي املوضع األول‪،‬‬
‫عرفت إيران كأمة منفصلة‪ .‬إجيابياً‪ ،‬الزرادشتية هي تكريس لالثنية اآلرية‪ :‬أهورا مازدا‬ ‫اليت‪ّ )4‬‬ ‫الزرادشتية هي‬
‫هو «إله اآلريني»( بقدر ما هو يهوه «إله إسرائيل»‪ .‬وسلبياً‪ ،‬الزرادشتية ليست قابلة للتصدير لغري‬
‫اآلريني ‪ .)5(Anéran‬ميكن النظر إىل الثنوية الزرادشتية كالتوحيدية اليهودية‪ ،‬مبدأياً‪ ،‬كحقيقة لكل‬
‫اجلنس البشري؛ لكن عملياً جند أن األمثولية املانوية‪ ،‬كاألمثولة املسيحية‪،‬وهي أمثولة جلعل الرسالة العاملية‬
‫متاحة للعامل كلّه‪ ،‬مل تكن تصديراً للديانة بل خلق لديانة جديدة(‪ .)6‬ومثل اليهودية‪ ،‬كان باستطاعة‬
‫الزرادشتية أن تتسامح بوجود شعاع حمدد من األنصار من غري اليهود أو الزرادشتيني أصالً‪:‬‬
‫األرستقراطيون املتعاونون من الشعوب املقهورة يف احلالة اإليرانية يتماثلون مع املشايعني روحياً يف احلالة‬
‫اليهودية‪ .‬لكن الزرادشتية ظلت طائفة دينية متجذرة أساساً يف أرض والدهتا‪ .‬وبالنسبة للعامل اخلارجي‪،‬‬
‫كان اآلريون شعباً خمتاراً بقدر ما كان اليهود كذلك‪.‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فإن النتيجة الطبيعية للتمايز اإلثين اخلارجي كانت إلتزاماً بقابلية انتشار اجتماعي‬
‫داخلية‪ .‬مل تق ّدم النظرة االعتبارية الزرادشتية أي تكريس لالمباالة فلسفية حنو امليول احملبة للميثولوجيا عند‬
‫اجلماهري‪ .‬وزرادشت مل يسام التعددية اإلهلية التقليدية لإليرانيني‪ ،‬بل فككها وأصلحها؛ وكان على كل من‬
‫اجلماهري وآهلتها االحنياز جانباً يف الصراع الكوين الذي غمر كل شيء‪ .‬وبعض اآلهلة القدمية‪ ،‬كمثرا‪ ،‬عاد‬
‫للظهور جبانب املالئكة؛ وبعضها اآلخر‪ ،‬كإندرا‪ ،‬أعيد تقوميه باعتباره شيطاناً‪ .‬مل يكن باستطاعة عبادة‬
‫الشياطني باملفهوم الزرادشيت أن تكون شيئاً أقل من اخليانة الكونية والقومية‪ .‬وما حصل فعالً بالنسبة للخبث‬
‫الشيطاين كان طبعاً مسألة عرضية تارخيياً؛ وال يبدو أن البارثيني على حنو خاص اهتموا به كثرياً‪ .‬لكن النقوش‬
‫مفضلة يف احلقبة الساسانية(‪ .)9‬وهكذا مل‬
‫األمخينية تشهد على حماولة الستئصال عبادة الشيطان‪ ،‬واملقولة تبدو ّ‬
‫يكن املكان للشياطني وعابديهم يف إيران بأرحب من املكان للبعليم وعابديهم يف إسرائيل؛ فداخلياً‪ ،‬كان‬
‫اآلريون أمة من الكهنة بقدر ما كان اليهود كذلك‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد بنيت الزرادشتية كي تكون حصرية أفقياً‬
‫وشاملة عمودياً يف آن‪ :‬أي بكلمات أخرى‪ ،‬ديانة أمة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(F. H. Weissbach, Die Keilinschriften Der‬‬ ‫‪.Behistun‬‬‫(‪ )4‬العبارة يف الواقع تظهر يف نسخة عيالمية لنقش هبستون‬
‫‪Ach‬ن‪)meniden, Leipzig 1911, PP. 64-67‬؛ وحنن ندين هبذا املصدر إىل توجيه الربوفسور ج‪ .‬م‪ .‬كووك‪.‬‬
‫(‪ )5‬كانت فعاليات قرطري ‪ Kartir‬سوف تظهر كاستثناء‪ .‬إن معظم حماوالت اعتناق الدين مما نظر إليه على أنه من غري اإليرانيني إمنا تتعلّق‬
‫بأرمينيا‪ ،‬واملفتاح لفهم هذا هو حماولة حمتملة إلضفاء الصبغة اإليرانية على البلد‪ ،‬وذلك إذا حنينا السياسة جانباً‪.‬‬
‫(‪ )6‬املانوية هي الديانة العاملية األكثر متاسكاً بني كل األديان؛ لكن يف حني كانت االستعارة اجملازية كافية لتوليد مسيحية بولسية‪ ،‬كان على‬
‫حيول مجال خليقة أهورا مازدا إىل غائط شيطاين‪ ،‬وذلك كي ين ّقي الثنوية من هويتها اإليرانية‪(G. .‬‬ ‫ماين أن يرفض املسألة‪ ،‬أن ّ‬
‫‪.)Widengren, Mani and Manichaeism, London 1965, p. 55‬‬
‫(‪ )9‬من أجل أحشورش والديودانه ‪ ،Daivadana‬أنظر‪R. G. Kent, Old Persian: Grammar, Texts, Lexicon, New :‬‬
‫‪ .Haven 1950, p. 151‬من أجل احلقبة الساسانية‪ ،‬أنظر‪R. C. Zaehner, Zurvan: A Zoroastrian Dilemma, :‬‬
‫‪.Oxford 1955, pp. 25, 53.‬‬

‫‪68‬‬
‫إذا ما كان الدوران القوميان ألهوار مازدا ويهوه متشاهبني بشكل مدهش‪ ،‬فإن دوريهما البيئويني كانا‬
‫املتحضرة‪ :‬بامسه خرجوا من الصحراء‪،‬‬
‫متعارضني بالكامل‪ .‬فيهوه كان إله الغزاة الربابرة لكنعان املستقرة و ّ‬
‫وبامسه انسحبوا إىل الغيتو حني متّ رد الغزاة يف هناية األمر‪ .‬أهورا مازدا باملقابل كان إله جمتمع كنعاين‬
‫مستقر يدافع عن طريقته يف احلياة يف وجه الغزاة البدو؛ إنه قد ال يظهر كإله معقد ثقافياً وفق طريقة‬
‫انكي ‪ ،Enki‬لكنه ليس على اإلطالق بربرياً ملتزماً بطريقة يهوه‪ .‬وكانت النتيجة سعادة يف العالقة بني‬
‫الزرادشتية واإلرث املؤسسايت لوسطها الكنعاين وهي عالقة كانت غائبة بشكل ملحوظ عن اليهودية‪.‬‬
‫يف املوضع األول‪ ،‬أمضت الزرادشتية حياهتا يف تعايش سهل مع الكهنوت اجملوسي؛ واستطاع الكهنة‬
‫اجملوس أن يشاركوا يف إدراك القوة القومية الكامنة للزرادشتية بطريقتني‪ .‬فبالنسبة إىل التحديد اخلارجي‬
‫للشعب املختار‪ ،‬فقد عززت املكانة الدينية للنسب الكهنويت على حنو مناسب املكانة الدينية للنسب‬
‫االثين‪ :‬اآلريون‪ ،‬يف الشريعة اليت ينسبها راولنسن إىل ادميوس‪ ،‬هم أولئك الذين يعتربون كهنة اجملوس‬
‫كهنتهم(‪ .)8‬أما بالنسبة للتماسك الداخلي للطائفة‪ ،‬فقد ق ّدم الكهنة اجملوس أوليات لعرف ميكن جعل‬
‫العقيدة فعالة اجتماعياً معه‪ :‬الكهنوت اجملوسي لألزمنة األمخينية صار الكنيسة الزرادشتية لألزمنة‬
‫الساسانية‪.‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فقد أضفت الزرادشتية معىن دينياً ال لبس فيه على امللَكية اآلرية‪ .‬ففي إيران كما‬
‫َ‬
‫يف إسرائيل‪ ،‬كان مثة نوع من التكريس ذي اجلوهر الديين متاحاً للقيادة السياسية الفاعلة للشعب املختار‬
‫يف وجه أعدائه‪ .‬لكن يف احلالة اإلسرائيلية فإن رفض اإلرث الكنعاين كان يعين ذهاب هذه الربكة إىل‬
‫األنبياء والقضاة األوائل كان أسهل من ذهاهبا إىل املمالك القومية املتأخرة‪ .‬باملقابل‪ ،‬ففي إيران كانت‬
‫توأمية الديانة وامللَكية أساسية تارخيياً وليس فيها أية مشاكل عقائدياً؛ واإلقرار بشرعية احلكم امللكي‬
‫َ‬
‫جملتمع مستقر محل معه اإلقرار بشرعية البنيان األرستقراطي الذي يتماشى معه(‪ .)7‬ويف النقوش األمخينية‬
‫جند أن أهورا مازدا هو اإلله الوصي على َملَكية آرية‪ ،‬وكل الثائرين على هذه السلطة يفسرون على أهنم‬
‫ممثلون للكذب(‪.)19‬‬
‫التقليد الزرادشيت بالتايل هو اإلفصاح عن هوية متكاملة متاماً‪ .‬ويظهر التواجه الكوين للخري والشر‬
‫عقائدياً من جديد يف التواجه االثين إليران وغري إيران؛ أما عرفياً فإن الدور الديين للكهنوت اجملوسي‬
‫للملَكية اآلرية‪ .‬ويصعب أن تفاجئنا استمرارية تقليد كهذا يف وجه الغزو املقدوين؛ بل‬
‫يُقابل بدور سياسي َ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪G. Rawlinson, The Five Great Monarchies of the Ancient‬‬ ‫(‪Eastern World , London 1871, vol. iii, p. )8‬‬
‫‪164n‬‬
‫(‪ )7‬التكريس الزرادشيت للبنية االجتماعية ليس بالطبع أحادي اهلدف أو الفكرة كما هي احلال عند اهلندوس‪ .‬وكانت مساواة األرثوذكسية‬
‫بقبول البنيان االجتماعي اآلري ستبدو غريبة جداً يف السياق اإليراين؛ وقد استطاع املزدكيون شجب هذا البنيان االجتماعي باسم‬
‫زرادشت يف حني مل يستطع املنشقون اهلنود فعل ذلك باسم الفيدات‪.‬‬
‫(‪ )19‬أنظر على سبيل املثال‪.Kent, Old Persian, pp. 117 = 119, 129 = 131 :‬‬

‫‪67‬‬
‫إن االنتعاش اجلزئي على أيدي البارثيني يتجاوز أي شيء أحرزه يف احلقبة ذاهتا املصريون أو البابليون‪.‬‬
‫واإلحياء «اخلالص‪ -‬النسب» للتقليد على أيدي الساسانيني كان بالطبع نتاجاً أقل قابلية للتنبؤ به ‪ -‬مل‬
‫يكن عليهم أن يبدأوا إنعاشاً أحادي اهلدف ملا كانوا يعتقدون أن املقدونيني أطاحوا به‪ .‬لكن إذا كان‬
‫الوصول إىل اهلدف عطية َعَرضية تارخيية‪ ،‬فالقوة الكامنة كانت إىل حد كبري عطية التقليد ذاته‪ :‬املشروع‬
‫الذي ن ّفذه الساسانيون يف إيران مل يكن باملستطاع حىت ختيّله يف اليونان ‪.Hellas‬‬
‫إذا كانت احلالة اإليرانية تقارب احلالة اليهودية يف تأكيدها على دور إله شخصي‪ ،‬فاحلالة اليونانية‬
‫تقارب احلالة البوذية يف تأكيدها على الدور ملفاهيم غري شخصية‪ .‬ومثل اإليرانيني‪ ،‬كان لليونانيني‬
‫أعداؤهم البشريون‪ :‬الطرواديون ميثولوجياً‪ ،‬والفرس تارخيياً‪ .‬لكن الطرواديني كانوا بعيدين جداً يف الزمن‪،‬‬
‫ومتمثلني جداً للثقافة العامة لنخبة بطولية‪ ،‬وذلك كي يتمتعوا مبا يؤهلهم ألن يكونوا خطراً طروادياً على‬
‫طريقة احلياة اآلخية؛ يف حني كان الفرس متأخرين جداً يف الزمن‪ ،‬ونتيجة لذلك بعيدين جداً يف املسافة‪،‬‬
‫(‪)11‬‬
‫التطور بالتايل هو حماولة غامرة لإلمساك ليس‬ ‫وذلك كي يضعوا نغمة التطور الفكري للهلينية ‪ .‬هذا ّ‬
‫طوروا علم كون مفاهيمي ليضعوا به الكون وآهلته‬ ‫بالعدائية البشرية بل بالسفاسف الكونية‪ .‬فاليونانيون ّ‬
‫يف نصاهبم الصحيح‪ ،‬وليس ميثة إهلية ينغمسون هبا كمشاركني يف دراما كونية‪.‬‬
‫وهكذا فإن مضامني علم الكون الزرادشيت بسبب طبيعة امللّة اليت ناصرته تأخذ شكالً معكوساً يف‬
‫احلالة اليونانية‪ .‬ففي املوضع األول املفاهيم اليونانية‪ ،‬بسبب كل تداعياهتا مع أسلوب احلياة اليوناين‪ ،‬مل‬
‫تق ّدم أساساً قابالً للحياة حىت يفرد اليونان جانباً كشعب خمتار(‪ .)12‬وإذا ما ابتعدت احلقائق الفلسفية‬
‫عن تقدمي وسيلة ناقلة معقولة للهوية اإلثنية‪ ،‬فإهنا تصبح َملكية مشرعة لكل من هو قادر عليها أو يرغب‬
‫بقبوهلا‪ .‬الزرادشتية كانت عقيدة واليت بدأت ُحكْماً يف إيران وظلت حكماً يف إيران؛ باملقابل فاليونانيون‬
‫كانوا سعيدين يف أن يعزوا أصول مفاهيمهم للمصريني‪ ،‬وواصلوا يف الوقت املناسب نقلها إىل الرومان‪.‬‬
‫الفلسفة اليونانية مل تصبح هامدة يف أرض مولدها فعالً وفق طريقة البوذية(‪)13‬؛ لكن مل يكن ممكناً‬
‫استخدامها لفرز أرض مقدسة معزولة عن بقية العامل‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )11‬لنفرتض أن هتديداً فارسياً أكثر قدماً وقوة كان قد ش ّكل حيوات جزءاً أساسياً من السكان اإلغريق‪ :‬أمل يكن لتلك امليول الفكرية مثل‬
‫التأكيد إمياين على عدالة زيوس وعلى عدالة رسالة هرياقليط شبه الزرادشتية )‪ (West, EarlyGreek Philosophy, pp. 192f‬أن‬
‫تندمج بتلك اآلثار السياسية للغزوات الفارسية مثل التكذيب األويل لعرافة دلفي والتوحيد األويل يف هيئة حلف ديلوس؟ مع ذلك تظل‬
‫حقيقة أن اإلغريق حني اختاروا يف هناية األمر أن يؤمنوا بوجود إله‪ ،‬كان عليهم أن يستوردوا يهوه أكثر مما كان عليهم أن حييوا زيوس؛‬
‫متاماً كما هي احلال مع بيزنطة حني صارت يف هناية األمر عاصمة امرباطورية رومانية‪ ،‬فقد فعلت ذلك كروما جديدة أكثر منها كأثينا‬
‫جديدة‪.‬‬
‫( ) كان هنالك الكثري من الشوفينية اإلثنية كي جتد تعبرياً هلا يف رأي أرسطو القائل إن الربابرة كانوا عبيداً بالسليقة؛ لكنه كان موقفاً‬
‫‪12‬‬

‫وم َعفززة ذاتياً تارخيياً‪.‬‬


‫ضعيفاً علمياً ومل ٍغ لذاته بذاته تارخيياً‪ ،‬يف حني كان االنتخاب اإلهلي عند اآلريني عقيدة قوية دينياً ُ‬
‫(‪ ) 13‬مع أن الفارايب كان يؤمن بذلك‪ ،‬وعزا باملقابل أصوهلا إىل بالد مابني النهرين؛ فإن كال اإلجرائني‪ ،‬مهما كانت عدم دقتهما على‬
‫الصعيد التارخيي‪ ،‬يوفيان بالغرض مفاهيمياً )‪(R. Walzer, L Eveil de la Philosophie Islamique, Paris 1971, p19‬‬

‫‪99‬‬
‫يف املوضع الثاين كانت هذه النزعة حنو االنتشار مرتافقة بعجز عن كمال عمودي‪ :‬فكما مل تكن‬
‫احلقائق الكونية للثنوية الزرادشتية لغري اآلريني مبدأياً‪ ،‬كذلك متاماً فاحلقائق الكونية للفلسفة اليونانية مل‬
‫تكن للجماهري مبدأياً‪ .‬لكن هذا ال يعين أن الفالسفة اليونان كانوا غري مبالني كالبوذيني اهلنود حنو‬
‫شرعها املشاؤون‬‫«ديانة البشر»‪ .‬فاألبيقوريون أمهلوا اعتقادات اجلماهري باعتبارها خرافة جاهلة‪ ،‬يف حني ّ‬
‫كرموز حلقيقة عالية‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬إذا كانت هذه هي الروح اليت قارب هبا الفالسفة الديانة الشعبية‪،‬‬
‫فليس يهم كثرياً الشعب الذي اختاروا مقاربته‪ :‬فما فعله ابيقور وزينون ألجل ديانة اليونان‪ ،‬استطاع‬
‫وجعلت‬‫لوقراسيوس وباناتيوس أن يفعاله متاماً آلهلة الرومان أيضاً‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فحني حدث ُ‬
‫اجلماهري حتت السيطرة‪ ،‬ظهر األبيقوريون مبدأياً مهدئني لألعصاب بقدر ما كان املشاؤون مبدأياً‬
‫جامدي الشعور(‪ .)14‬الفلسفة اليونانية مل تكن إصالحاً للديانة اليونانية(‪ ،)15‬فهي مل تكن متلك الرغبة‬
‫وال الطريقة جلعل اليونانيني أمة فالسفة‪ .‬باختصار‪ ،‬حيثما تصنع الزرادشتية أمة‪ ،‬تصنع اهللينية خنبة ثقافية‬
‫كوزموبوليتانية‪.‬‬

‫وكما افتقدت اهللينية القوة الكامنة األيديولوجية املوجودة يف الزرادشتية‪ ،‬كذلك متاماً افتقدت أيضاً‬
‫يوزعوا فلسفة‬
‫جتسيدها للعرف‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬مل يكن لدى اهللينية كهنة اجملوس‪ :‬الكهنة اليونانيون مل ّ‬
‫قومية‪ ،‬والفالسفة اليونانيون مل يكونوا بديالً لكهنوت قومي‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فالعالقة شبه الغامضة‬
‫بني اهللينية والسياسة مل ِ‬
‫تعط تكريساً لسياسة قومية‪ .‬فتارخيياً‪ ،‬ارتبط الفكر اليوناين بقوة حبياة حكومة‬
‫املدينة‪ .‬وهكذا فبؤرته السياسية النوعية كانت وفق املعايري اإليرانية ضيقة جداً‪ :‬فبالرغم من طموحات‬
‫للملَكية‪ ،‬مل تكن اجلمهورية شرعة مللَكية قومية أكثر من اإللياذة(‪ .)16‬أما مفاهيمياً‪ ،‬فاهتمام‬ ‫َ‬ ‫الفالسفة‬
‫َ‬
‫الفالسفة السامي بالكون كان يتضمن ميالً ألن يكون فوق السياسة‪ .‬وهكذا فبؤرهتا الفكرية العامة‬
‫كانت وفق املعايري اإليرانية واسعة جداً‪ :‬فإذا كان التأمل الفلسفي هو اخلري األرفع‪ ،‬يصبح إختيار املرء أن‬
‫يتفلسف يف مكتبة االسكندرية أو يف حوض أثيين مسألة ذوق‪.‬‬
‫النتيجة كانت هي أن امللَكية اهللينية مل تستطع أن تكون حكومة قومية‪ .‬والواقع أن الغزوات املقدونية‬
‫َ‬
‫خلّصت الفكر اليوناين من هاجسه السياسي األبرشي احملدود‪ :‬فحكومة املدينة‪ ،‬باعتبارها عتيقة الطراز‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫يعرب عنه ابيقور بألفاظ ال تنسى‪« ،‬األمور اليت أعرفها‪ ،‬ال تستحسنها الدمهاء‪ ،‬لكين ال أعرف شيئاً‪ ،‬عما تستحسنه‬ ‫(‪ )14‬وهو ما ّ‬
‫الدمهاء»‪ .(R. E. Dodds, The Greeks and the Irrational, Berkeley and Los Angeles 1951, p. 241) .‬إن‬
‫التزام النخبة الفلسفية بالغزو املفاهيمي للجماهري هو ظاهرة حديثة جداً على الصعيد التارخيي‪.‬‬
‫(‪ )15‬تصري أقرب ما ميكن ألن تصبح كذلك يف رد أفالطون على هتديد الدميقراطية الشعبية ورد يوليانوس اجلاحد على هتديد املسيحية‬
‫الشعبية‪.‬‬
‫(‪ )16‬الشك بالطبع أن اجلمهورية األفالطونية أيضاً‪ ،‬بعد مغامرهتا الزيدية الفاشلة يف سراقوسة‪ ،‬أودعها مؤسسها يف غيبة ال تفيد معها‬
‫ايب أو ٍ‬
‫لبلثون وذلك إلعادهتا ثانية‪ .‬لكن إذا حدث وصار أفالطون فوق السياسة فإن سياسة دولة املدينة تلك اليت‬ ‫اجلهود املتقطعة لفار ٍّ‬
‫كان فوقها‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫حترر الفالسفة من مشاغل احلكومة‪ ،‬حىت عادوا إىل‬ ‫سياسياً‪ ،‬استمرت أساساً كشكل ثقايف‪ .‬لكن ما أن ّ‬
‫مشاكل الكون الدئمة‪ .‬وصار مواطنو املدن مواطنني للكون‪ ،‬وليس لليونان؛ وأفسح اجملال ترابطهم‬
‫املشرتك‪ ،‬ليس لتضامن إثين‪ ،‬بل ألخوية بشرية‪ .‬على أساس من هذه األرضية‪ ،‬استطاع امللوك املقدونيون‬
‫أن يزعموا أهنم ينتقمون للهلينية من الفرس وأهنم يعملون كحماة هلا يف األراضي البعيدة؛ لكن هذه‬
‫األدوار ظلت خارجية بالنسبة لتقليد ال متتلك امللَكيات اهللينية داخله أيةمكانة جوهرية موثوقة‪ .‬مل يكن‬
‫َ‬
‫ممكناً أن يوجد أمخينيون فرس‪ ،‬وعلى هذا األساس مل يكن ممكناً أن يوجد ساسانيون يونان؛ وكان على‬
‫تأسيس مملكة اليونان أن ينتظر بافاريي القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫وهكذا فقد كان مثة ما حيول دون إحراز العامل اليوناين لكمال سياسي وديين من مصادره اخلاصة‪.‬‬
‫لكن يف الوقت ذاته فإن مسة التقليد جعلته ينفتح على تلك النِ َعم خارج احلدود‪ .‬ويف املوضع األول‪،‬كان‬
‫لدى اهللينية فائض أنصار خلف حدودها اإلثنية؛ وهكذا فقد استطاع اليونانيون أن يـُ ْغَزوا من قبل‬
‫روافدهم الثقافية اخلاصة‪ ،‬يف حني مل يستطع اإليرانيون أن يعانوا من هذا ال َق َدر إال على أيدي أعدائهم‬
‫األيديولوجيني(‪ .)19‬ويف املوضع الثاين‪ ،‬مل يكن لدى اهللينية سوى مصادر قليلة للتحكم األيديولوجي‬
‫يغريوا ديانتهم على أيدي مرسلني من ديانة غريبة‪ ،‬يف حني مل‬ ‫جبماهريها؛ وهكذا استطاع اليونانيون أن ّ‬
‫يكن ممكناً حتطيم القبضة الزرادشتية على شعب إيران إال عن طريق الغزو‪ .‬وكانت النتيجة أن إيران ظلت‬
‫املوحد حىت د فمر الغزاة اهلاجريون حكمها وسياستها بضربة واحدة‪ ،‬يف‬ ‫حمافظة على بنياهنا ذي الكيان ِّ‬
‫حني كان اليونان يدينون بتلك الوحدة الدينية والسياسية واليت ُدلّ َست عليهم إىل إمرباطور روماين وإله‬
‫يهودي‪.‬‬
‫لقد فعل هذا التدليس املزدوج شيئاً من أجل ربط العامل اليوناين ببعضه‪ ،‬لكنه أبعده كثرياً عن أن‬
‫يصبح إيران غربية‪ .‬سياسياً‪ ،‬كانت هنالك العالقة الغامضة بني اليونان والرومان‪ .‬من ناحية املبدأ‪ ،‬قد‬
‫يكون الرومان أكملوا تلقيهم للثقافة اليونانية بتبين اإلثنية اليونانية؛ لكن عملياً كانت عندهم الرغبة‬
‫والوسيلة على االستمرار يف أن يكونوا خمتلفني إثنياً‪ ،‬وألهنم وجدوا أنفسهم عند هومريوس متحدرين من‬
‫طروادة فقد واصلوا تثقيفهم للفلسفة اليونانية إمنا بثوب التيين‪ .‬وكانت النتيجة مبعىن ما إعطاء اليونانيني‬
‫تكاملية سياسياً والرومان تكاملية ثقافياً داخل حضارة إمربيالية يونانية ‪ -‬رومانية‪ .‬لكن هذه احلضارة‬
‫الثنائية الوجه كانت تعين يف الوقت ذاته توتراً ثنائي الوجه‪ .‬فاليونانيون‪ ،‬رغم امتالكهم لسندات متلك‬
‫الثقافة‪ ،‬مل يستطيعوا أن يفقدوا بالكامل قط ريفيتهم السياسية؛ أما الرومان‪ ،‬فرغم سعادهتم بتطورهم من‬
‫دولة املدينة إىل اإلمرباطورية‪ ،‬مل يستطيعوا قط أن حييوا بطريقة ينسون معها بالكامل ريفيتهم الثقافية‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وهكذا فاملعادل اإليراين للرومان هو املزدكيون‪ :‬فالرومان يصورون املغامرة اليت يقوم هبا املرء حني خيرب عن حقائقه جلريانه‪ ،‬يف حني‬ ‫(‪)19‬‬

‫يتحدث املزدكيون عن املغامرة اليت يقوم هبا املرء يف إخبار حقائقه جلماهريه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫دينياً‪ ،‬كانت هنالك العالقة امللتبسة بني «اليونانيني ‪ -‬الرومان» واليهود‪ .‬لقد دعا العامل القدمي إهلاً‬
‫شخصياً وجتربته اإلله احلارس لشعب صغري وسيء الطالع إىل حد ما‪ .‬العالقة الناجتة عن ذلك كانت‬
‫حمفوفة باملشاكل بطريقتني‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬كان معىن الدعوة أن يهوه كان إهلاً شخصياً؛ لكن جعل‬
‫يتضمن علىاألرجح كمية ال بأس هبا من عدم الراحة عند‬ ‫إله شخصي مسؤوالً عن كون مفاهيمي هو أمر ّ‬
‫كال اجل انبني‪ .‬يف املوضع الثاين‪ ،‬لقد وضع ماضي يهوه االثين خارج احلضارة اليت تبنته اآلن‪ .‬املسيحيون‬
‫حيولوا اليونانيني إىل دينهم‪ ،‬بعكس الرومان الذين حافظوا على إثنيتهم وغزوهم‪.‬‬ ‫طبعاً ضحوا بإثنيتهم كي ّ‬
‫ملاض قومي متميز‬ ‫لكن رغم جتريد يهوه من طابعه القومي‪ ،‬فقد أحضر معه سجالً كتابياً تفصيلياً ٍ‬
‫ثقافياً(‪.)18‬‬
‫وهكذا فقد احتدت ثقافة يونانية‪ ،‬حكومة رومانية وديانة يهودية‪ .‬وحىت يف شكله البيزنطي‪ ،‬فقد ظل‬
‫مكوناته الثالثة يف توتر متبادل‬‫ضم سطحي لعناصر من أصول خمتلفة‪ ،‬والذي كانت ّ‬ ‫جمرد ّ‬
‫هذا التقليد ّ‬
‫كامن‪ .‬لقد ظهر إيطالوس التعيس احلظ‪ ،‬وهو راهب من القرن احلادي عشر وتلميذ لبسيلوس‪ ،‬كرببري‬
‫التيين بالنسبة آلنا كومنينا‪ ،‬كفيلسوف متزندق علىنحو خطري بالنسبة للكنيسة‪ ،‬وكشخص مضحك يف‬
‫«لباسه اجلليلي» بالنسبة حلكماء األنتيك يف العامل السفلي(‪ .)17‬لقد كان البيزنطيون ورثة اهللينية‪ ،‬مع‬
‫ذلك فبسبب احرتامهم لديانتهم مل يغامروا يف أن يدعوا أنفسهم هلينيني(‪)29‬؛ مل يكن فرجيل أو شيشرون‬
‫يعنيان أي شيء هلم‪ ،‬مع ذلك فبسبب احرتامهم لدولتهم دعوا أنفسهم روماناً(‪ .)21‬والواقع أهنم مل يبالوا‬
‫كثرياً مبدى عمل بيزنطة‪ :‬فحني يكون املرء على قمة العامل‪ ،‬يستطيع أن يتحمل أن يكون غري مرتابط‪.‬‬
‫تفعله‪ :‬فما مجعه التاريخ على حنو‬ ‫يتضمن شيئاً هاماً والذي ميكن لظروف أقل طيبة أن ّ‬ ‫لكن االمر كان ّ‬
‫مهلهل‪ ،‬كان باستطاعته أن يفككه بالسهولة ذاهتا متاماً‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )18‬لو كانت املرقونية انتصرت‪ ،‬لكانت حررت املسيحية من كابوس أسفارها املقدسة اليهودية؛ قارن ذلك مع الدور الثقايف لبوذية الزن يف الصني‪.‬‬
‫والوصية عند الزن القائلة أقتل البوذا حىت تلتقيه جتد صداها املسيحي يف نصيحة لوثر بأنه جيب أن نضرب موسى حىت املوت ونرمجه حبجارة كثرية‬
‫(من أجل هذه العقائد القاتلة‪ ،‬أنظر‪K. K. S. Ch’en, The Chinese Transformation of Buddhism, Princetion, N.J. :‬‬
‫‪1973, p. 11; P. D. L. Avis, “Moses and the Magistrate: a Study in the rise of Protestant Legalism: The‬‬
‫‪ .)Journal of Ecclesiastical History 1975, p. 152‬لكن بسبب حديث لوثر الذي على طاولة الطعام هذا‪ ،‬كان القرار املسيحي‬
‫ضد مارقيون مبكراً وغري قابل للرد‪.‬‬
‫(‪J. M. Hussery, Church and Learning in the Byzantine Empire 867 - 1185, New York 1963, pp. 91, )17‬‬
‫‪94, 113‬‬
‫تغري الصيغة يف القرن األخري من التاريخ البيزنطي أعاد فقط نقل املشكلة‪ :‬إذا كان املسيحيون البيزنطيون هيلينني‪ ،‬فالشيء املنطقي‬ ‫(‪)29‬‬
‫إن ّ‬
‫الوحيد بالنسبة لبليثون كان العودة إىل الوثنية‪ ،‬أنظر‪S. Runciman, The Last Byzantine Renaissance, Cambridge :‬‬
‫‪.1970, pp. 14 - 23‬‬
‫(‪ )21‬احلقل الوحيد الذي فرض فيه الالتني وجودهم كان بالطبع القانون‪ :‬قارن بني املشكلة من القرن الرابع حول احملافظة على الالتينية‬
‫الشرعية يف الشرق ضمن حدود مع مشكلة إحيائها اليت ترجع إىل القرن احلادي عشر‪(J. H. W. G. Liebesschuetz , .‬‬
‫;‪Antioch: City and Imperial Administration in the Later Roman Empire, Oxford 1972, pp. 242 - 255‬‬
‫‪.)Hussey, Church and Learning, p. 56‬‬

‫‪93‬‬
94
‫‪7‬‬
‫أقاليم الشرق األدنى‬

‫كانت سوريا‪ ،‬مصر والعراق مجيعاً مراكز لتقاليد ثقافية قدمية جداً‪ .‬لكن ما من تقليد من هذه‬
‫التقاليد ظل على حاله خالل ألف عام من احلكم األجنيب لكل من األمخينيني‪ ،‬اليونانيني‪ ،‬الرومان‪،‬‬
‫البارثيني‪ ،‬الساسانيني والذي سبق الغزوات العربية‪ .‬باملقابل فاملستوى املتدين لالندماج الثقايف الذي ميّز‬
‫على حنو خاص اإلمرباطوريتني « اليونانية ‪ -‬الرومانية» والبارثية ضمن عدم اختفاء أي من هذه التقاليد‬
‫بالكامل‪ .‬ويف القرن الثالث بعد املسيح ميكن أن جندها على قيد احلياة؛ لكن يف القرن الثالث أيضاً كان‬
‫التسامح الثقايف القدمي سيصل إىل هنايته‪ .‬ولو كان العرب اختاروا تنفيذ غزواهتم يف هذه املرحلة‪ ،‬لكانوا‬
‫قد وجدوا ثقافة حملية وأخرى امربيالية تتعايشان الواحدة قرب األخرى ‪ -‬كما كانت عليه احلال فعالً يف‬
‫أجلوا غزواهتم حىت القرن العاشر ألمكن لنا أن نتخيل‬ ‫مشال إفريقيا؛ وعلى العكس من ذلك‪ ،‬فلو أهنم ّ‬
‫(مع أن األمر ليس مرجحاً جداً) أهنم لن جيدوا شيئاً غري طبقة مثقفة حملية تعيد بإخالص إنتاج الثقافة‬
‫اإلمربيالية ‪ -‬كما فعلوا يف اسبانيا فعالً‪ .‬لكن مبا أهنم اختاروا أن يغزوا مصر واهلالل اخلصيب يف القرن‬
‫السابع‪ ،‬فقد كان ما وجدوه فعالً هو ثالثة تركيبات متمايزة إىل درجة عالية‪ ،‬تطورت حتت محاية درع‬
‫مسيحي يف ردة فعل على ضغط العاصمة على االحنراف الثقايف‪.‬‬
‫إن قدرة اهللينية والثقافات احمللية على التعايش دون إزعاج تقريباً إمنا كانت نتيجة الفصل اهلليين بني‬
‫النخبة واجلماهري‪ ،‬سياسياً كمواطنني وخاضعني‪ ،‬ثقافياً كيونانيني وبرابرة‪ ،‬فكرياً كأنصار للمفاهيم وأنصار‬
‫لألسطورة‪ .‬ومبا أن اليونانيني كانوا يعملون إما حبقائق عالية ذات ختلل اجتماعي حم ّدد أو حبقائق قابلة‬
‫للتخلل االجتماعي لكن قيمتها الفكرية حمددة‪ ،‬فالتوتر بني املعايري واالعتقادات املتصارعة داخل‬
‫االمرباطورية كان قد أُبطل مفعوله‪ :‬فالنخبة اليونانية ‪ -‬الرومانية كانت ُحمَّررة من االلتزام بعرض حقائقها‬
‫الفائقة اخلاصة على اجلماهري‪ ،‬يف حني مل يكن لديها من جهة أخرى ما يربر سحبها من الربابرة الذين‬
‫كانوا راغبني يف اعتناق تلك الثقافة‪ .‬ولو أن أولئك الذين قبعوا بعيدين مل يـُتَابعوا وأولئك الذين جاءوا مل‬
‫يـُْرفَضوا‪ ،‬الستطاع األولون أن يُرتكوا للعيش بسالم وفق أساليبهم الرببرية يف حني كان ميكن التوقع من‬
‫األخريين أن يتن ّكروا ألساليبهم الرببرية بالكامل‪ .‬وهكذا ففي طول احلقبة وعرضها استنضبت اهللينية‬
‫أعدداً ثابتة من الربابرة؛ لكن ألن اهللينية مل تكن هتتم يف جعل القيم احمللية تتسلل من أجل اكتساب‬
‫أحد األشخاص‪ ،‬فإن بعضاً من هؤالء الذين اعتنقوا ثقافتها إمنا كانوا خيونون أصوهلم احمللية‪ .‬وهكذا‬
‫فاالمرباطورية الرومانية اليت كانت تسري سياسياً ككونفدرالية حلكومات مدن حتت إشراف مفكك‬
‫لإلمرباطور الروماين‪،‬وفكرياً ككونفدرالية مدارس فلسفية حتت إشراف مفكك لآلهلة املدينية‪ ،‬كانت مثل‬
‫شبكة واسعة ترمي خيوطها الرفيعة على جمموعات متنافرة من الربابرة‪ :‬اخليوط‪ ،‬أينما كان‪ ،‬كانت متسك‬

‫‪95‬‬
‫برجال لصقلهم بالثقافة املتناسقة للغاية ذاهتا‪ ،‬لكن عيون الشبكة كانت‪ ،‬أينما كان‪،‬واسعة مبا يكفي‬
‫جلعل غالبية الربابرة ينجون ومعهم لغاهتم‪ ،‬عقائدهم‪ ،‬وأعرافهم غري املهذبة‪.‬‬
‫كان حقل الدين طبعاً استثناء يف هذا األمنوذج العام للفصل بني األمور اليونانية واألمور الرببرية‪.‬‬
‫خمولني بامتالك آراء اليعرفها اليونانيون‪ ،‬فال يوجد ما مينع تبادالً توفيقياً‬
‫وإذا كان الربابرة يف هذا الصدد ّ‬
‫أصيالً؛ والتوفيقية الدينية طبعاً هي إحدى السمات األكثر لفتاً للنظر يف احلضارة اهللينية‪ .‬مع ذلك فقد‬
‫استمرت الفجوة األخالقية بني النخبة واجلماهري‪ :‬فحيثما كان اليونانيون يرون مفاهيماً كان القرويون‬
‫يرون معات ‪ّ ،ma’at‬أما الكهنة احمللّيون‪ ،‬الذين وقع على عاتقهم واجب حفظ احلقيقة‪ ،‬فقد افتقدوا‬
‫اإلرادة واألسلوب على حد سواء للسيطرة على التنوعات االجتماعية واجلغرافية لعقائدهم(‪.)1‬‬
‫األول‪،‬‬
‫كان للتطورات اليت وضعت ح ّداً هلذه احلالة يف القرن الثالث وما بعد وجهان‪ .‬ففي املوضع ّ‬
‫ب ّدلت الروح احلربية البنيان اإلداري لإلمرباطورية‪ ،‬حارمة املوظفني الكبار‬
‫يف العامل اليوناين ‪ -‬الروماين من احتكارهم للسلطة السياسية واإلستقامة الثقافية على حد سواء‪.‬‬
‫سياسياً‪ ،‬فقد اهنزم اليونانيون طبعاً أمام الرومان مع الغزو الروماين؛ لكن امرباطوراً يرتدي قناع املواطن األول‬
‫مل يستطع أن يكون شخصاً معادياً بالكامل لدولة املدينة‪ ،‬ومل تفسح احلكومات احمللية لدول املدن اجملال أمام‬
‫حكم امرباطوري مباشر إال حتت وطأة تأثري الغزوات الرببرية‪ .‬ومن حتت قناعه ظهر اآلن أصحاب املقامات‬
‫العليا ‪ Princeps‬يف هيئة سيطرة ‪ ،dominus‬وأفسحت دائرة جملس الشيوخ ‪ Curiales‬احلصرية‬
‫اجملال أمام املوظفني ‪ officiales‬البريوقراطيني الدخيلني‪ .‬ومع اإلزالة املنظمة لألرستقراطية التقليدية‪ ،‬حصل‬
‫سكان األقاليم على فرصهم لصنع مسالك معيشية مرحبة مالياً كبريوقراطني سواء مركزياً أم حملياً‪ ،‬بل حىت‬
‫كأباطرة‪ ،‬ومن غري املدهش‪ ،‬أن سكان األقاليم استجابوا‪ .‬وهكذا فقد أحرز الربابرة السابقون مشاركة يف‬
‫حكومة اإلمرباطورية‪ ،‬يف حني أحرزت احلكومة االمرباطورية باملقابل تشعبات حملّية‪ .‬وعام ‪ 211‬صار اجلميع‬
‫مواطنني شكلياً لكنهم كانوا مو ٍال أساسياً يف مسار القرون اليت تلت‪.‬و سياسياً مل يكن هنالك مواطن وال‬
‫موىل‪ ،‬بل كان اإلمرباطور كل شيء وفوق كل شيء‪.‬‬
‫من الناحية الثقافية‪ ،‬فقد بُ ِرهن على الشمولية املتأصلة للحضارة اهللينية عرب تبنيها طبعاً من قبل‬
‫الرومان‪ .‬لكن دولة املدينة ظلت التجسيد العيين ألسلوب احلياة اليوناين‪ ،‬وكما استطاع اليونانيون تعريف‬
‫السياسة فوضوياً على أهنا مسألة دول املدن حىت القرن الثالث‪ ،‬كذلك استطاعوا أيضاً تعريف الثقافة‬
‫بأهنا مسألة أسلوب حياة يوناين حىت جعل زوال دولة املدينة الفكر اليوناين متاحاً للجميع دون أدىن‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬قارن االحتقار الذي يبديه مؤلّفو اجملموعة اهلرطوقية‪ Corpus Hermeticum‬املتهلينون للجماهري يف حني حيتفظون يف الوقت ذاته‬
‫بكل احتقارهم لليونانيني‪(P. Derchain in P. Grimal et al., Hellenism and the Rise of Rome, London 1968, .‬‬
‫‪.)p. 217‬‬

‫‪96‬‬
‫لبس‪ .‬لقد تلقى الربابرة اآلن دروساً يف القواعد‪ ،‬علم البيان أو القانون وذلك بأمل احلصول على وظيفة‬
‫حكومية بطريقة أوتريبوس ‪ ،)3(Eutropius‬أو درسوا احلكمة اليونانية كي حيرزوا آراء دينية بطريقة‬
‫بورفريوس ‪)4(Porphyry‬؛ ومع فقدان املوظفني الكبار للسلطة وأسلوب احلياة على حد سواء‪ ،‬بدأت‬
‫املصطلحات التوفيقية للتجارة بالتب ّدل‪ .‬ثقافياً‪ ،‬مل يعد هنالك يونانيون وال برابرة‪ ،‬بل تعليم كان كل شيء‬
‫وفوق كل شيء‪.‬‬
‫غريت املسيحية البنيان املعريف لإلمرباطورية‪ ،‬حارمة املوظفني الكبار من‬ ‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فقد ّ‬
‫احتكارهم للحقيقة‪ .‬وكان اإلله املسيحي قد ورث صفتني‪ -‬مفتاحني من ماضيه اإلثين واللتني كانتا متيزانه‬
‫عن اآلهلة األخرى ذات الشعبية يف ذلك الزمن‪ .‬فمن ناحية مل تسمح غريته باحلدود املعرفية وال‬
‫اإلجتماعية‪ ،‬واملبشرون املسيحيون بالتايل كانوا يبشرون أساساً باحلقيقة ذاهتا للنخبة واجلماهري على حد‬
‫سواء‪ .‬واحلقيقة أن املسيحيني اكتسبوا شيئاً من االحتقار اهلليين للربابرة واجلهلة ‪idioati‬؛ لكنهم ظلّوا‬
‫مع ذلك صيّادي بشر والذين ال ينوون ترك أصغر مسكة هترب منهم‪ ،‬ويف سياق مسيحي صار رفض‬
‫املتكرب شأناً إحسانياً ملتطلبات األنفس األدىن منهم شأناً‪ .‬من ناحية أخرى فقد تطلب متاسك‬ ‫اليونانيني ّ‬
‫يهوه شكالً من التعريف اإلثين‪ ،‬فبعدما فَـ َقد أسباطه ليصبح إله غري اليهود‪ ،‬مال بشكل غري طبيعي ألن‬
‫يتبىن عوضاً عنهم احلكومة اليت ُو ِضع فيها(‪ .)5‬وقد أدى التقاء غريته بالفلسفة اليونانية بالتايل إىل‬
‫أرثوذكسية مبينة مفاهيمياً مفروضة على َعبَدة األقانيم وعبدة القديسني على حد سواء؛ يف حني ولّد‬
‫التقاء متاسكه باإلمرباطورية الرومانية منظمة إكلريوسية أ ُْم ِكن جعل هذه األرثوذكسية عربها فعالة‬
‫اجتماعياً(‪ .)6‬ومعرفياً مل يكن هنالك فالسفة وال جهلة‪ ،‬فاملسيح كان الكل ويف الكل(‪.)9‬‬
‫التطور يف إيران كان أقل شهرة على حنو مطلق‪ ،‬إال أنه مل يكن خمتلفاً‪ .‬فكونفدرالية املمالك‬ ‫رغم أن ّ‬
‫املفككة اليت كانت قد ش ّكلت اإلمرباطورية البارثية‪ ،‬أفسحت اجملال ململكة مركزية ساسانية‪ ،‬يف حني وصل‬
‫التيار احملب للهلينية ثقافياً والالمبايل دينياً عند البارثيني إىل هنايته مع اسرتداد الساسانيني ملبدأ زرادشيت‬
‫متكامل‪ .‬ومبا أن أهورا مازدا هو إله اآلريني‪ ،‬فقد أظهر الساسانيون اهتماماً مماثالً بشأن إبقاء األرثوذكسية‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪.O. Seeck, Die Briefe des Libanius Zeitlichgeorndnet, Leipzig 1906, s.n Eutropius V )3‬‬
‫(‪Eunapius, Lives of the Philosophers, ed. and tr. E. H. Warmington and W. Wright, London 1968, )4‬‬
‫‪.pp. 352ff‬‬
‫(‪ )5‬قارن عدم املباالة باعتناق الربابرة خلف حدود اإلمرباطورية للدين‪(E. A. Thompson, “Christianity and the Northern :‬‬
‫‪Barbarians” in A. Momigliano (ed.),The Conflict between Paganism and Christianity in the Forth‬‬
‫‪ .)Century, Oxford, 1963, p. 64‬ومما يلف ت النظر على حنو خاص أن حماولة تصدير احلقيقة املسيحية بتلك الطريقة ظهرت‬
‫كمقولة خاطئة حىت بالنسبة ألحد اآلريني )‪.(ibid, p. 69‬‬
‫(‪ )6‬قارن الدور املفتاحي لإلمرباطور يف تطور إجراءات القرار اخلاص باجمللس‪.‬‬
‫(‪ )9‬قارن إحلاح أفرام السرياين بأن نري اإلميان هو ذاته بالنسبة للمتعلم واجلاهل‪ ،‬الداهية والبسيط‪(E. Beck, Die Theologie des .‬‬
‫‪.)Ephraem in seimen Hymen uber den Glauben (=Studie Anselmiana,fasc, xxi, Rome 1949, p. 64‬‬

‫‪99‬‬
‫ضمن حدود اإلمرباطوية اإليرانية؛ ومبا أنه يف حيازة َملَكية مركزية‪ ،‬فقد أنشأوا منظمة مماثلة‪ ،‬ولو أولياً‪ ،‬من‬
‫أجل فرضه بالقوة‪.‬‬
‫يف كال اإلمرباطوريتني كانت الزيادة يف الدمج تعين الزيادة يف التضامن ‪ -‬حروب كراسوس وأوردس‬
‫أفسحت اجملال حلمالت هرقل وكسرى الثاين العنيفة؛ ويف كال اإلمرباطوريتني كانت الزيادة يف الدمج تعين‬
‫للتحول‬
‫الزيادة يف التوتر بني األجزاء املكونة لكل إمرباطورية ‪ -‬فالريفية احمللية اهلادئة البال أفسحت اجملال ّ‬
‫الديين واألجبدية اليونانية ‪ -‬الرومانية يف الغرب(‪ ،)8‬وللهربادات التبشريني يف الشرق(‪ .)7‬ولو أن كل‬
‫القرويني احملليني كانوا برابرة أصليني لكان التوتر دون شك حمدوداً‪ :‬فاختيار احلضارة يف شكلها اليوناين أو‬
‫الروماين احملتوم‪ ،‬مل يكن خياراً صعباً بالنسبة لسكان قاريا أو للسلت‪ .‬باملقابل فإن الرفض القبائلي‬
‫للحضارة من قبل البلميني أو بربر مشال افريقيا مل يشكل مشكلة كبرية‪ .‬لكن بالنسبة إىل السكان احملليني‬
‫يف الشرق األدىن فالثقافة اليونانية ‪ -‬الرومانية مل تكن الشكل احملتوم أو األكثر مرغوبية فعالً والذي‬
‫باستطاعة احلضارة تقدمي ذاهتا على األرض من خالله؛ وإذا كان التسامح الثقايف م ّكنهم من احلفاظ على‬
‫هويتهم الذاتية‪ ،‬فقد أجربهم التعجرف الثقايف اآلن على تأكيدها على حنو فاعل يف وجه ثقافة العاصمة‪،‬‬
‫أو على إعادة تأكيدها ضمنها‪ .‬وحتديداً ألن املسيحية كانت يف الوقت ذاته احلقيقة الفائقة لثقافة‬
‫العاصمة واحلقيقة الوحيدة اليت دانت هبا هذه الثقافة للربابرة فقد أعطتهم الفرصة لضرب اليونان يف الدين‬
‫ُمكن أن يُقر هلا بفضل الوحدة األخالقية لبيزنطة‬ ‫مثلما ضرهبم اليونان يف الفلسفة‪ .‬واآلهلة اإلثنية اليت أ ِ‬
‫وإيران أُمكن أيضاً هلا ذاهتا أن تُدخل يف رصيدها اإلنشقاق الديين ملصر وسوريا والعراق‪.‬‬
‫قبل عام ‪ 525‬ق‪.‬م‪ .‬كانت اهلوية املصرية نتاجاً دقيقاً للغاية لكل من اجلغرافيا‪ ،‬اإلثنية‪ ،‬اللغة‪،‬شكل‬
‫تعرف كلّها حتديداً الكيان ذاته‪ .‬فاجلغرافيا (أو النيل) كانت هبة اإلله‬
‫احلكم‪ ،‬والدين‪ ،‬فالعناصر املختلفة ّ‬
‫وقد حالت أللوف السنني دون انقسام مصر رغم توايل أشكال احلكم عليها كمرزبانية فارسية‪ ،‬مملكة‬
‫بلطيمية‪ ،‬إقليم روماين‪ ،‬وأبرشية مسيحية؛ يف حني أ ُْعفيت العناصر الباقية من تآكل كامل يف احلقبة‬
‫البلطمية بفضل ظرفني رئيسني‪.‬‬
‫يف املوضع األول‪ ،‬فقد كان لدى مصر‪ ،‬بعكس سوريا وبابل‪ ،‬ديلم يف مملكة النوبة التابعة هلا‪ ،‬والذي‬
‫ضم املعيار الصحيح للتصلب السياسي واإلتكالية الثقافية وذلك من أجل القيام بدور اجملدد للملكية‬ ‫ّ‬
‫الفرعونية إذا ما ذهب الفراعنة ذات يوم‪ :‬لقد انشق الطيبيون حتت حكم امللوك النوبيني من عام ‪296‬‬
‫حرض على الثورة الطيبية عام ‪،)11(165‬‬ ‫(‪)19‬‬
‫إىل عام ‪185‬ق‪.‬م ‪ ،‬ورمبا أن ملكاً نوبياً ثالثاً هو الذي ّ‬
‫وبأية حال فقد واصلت طيبة كوهنا متن ّفساً لكراهية أمون التقليدية مللوك الشمال حىت عام ‪88‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪P. Brown, “Christianity and Local Culture in Late Roman Africa”, Journal of Roman Studies‬‬ ‫(‪ )8‬قارن‪:‬‬
‫‪.1968, p. 10‬‬
‫(‪M. L. Chaumont, “Recherches sur le clergé zoroastrien: le hérbad”, Revue de l’histoire des )7‬‬
‫‪. religions 1960, pp. 71 - 76‬‬
‫(‪. P. Lacou, “Un graffito égyptien d’Abydos écrit en Lettres greques”, Etudes de papyrologie 1934 )19‬‬
‫(‪P. Jougut, “Le roi Hurgonaphor et les révoltes de la Thébaide”, in Mélanges O. Navarre., )11‬‬
‫‪.Toulouse 1935, pp. 265 - 273‬‬

‫‪98‬‬
‫ق‪.‬م(‪ .)12‬ويف هناية املطاف كان على البطاملة أن يصبحوا هم أنفسهم جمددين‪ ،‬خاصة بعدما واجهوا‬
‫إمكانية جتديد وطين من اجلنوب وضم روماين من الشمال‪ :‬صار ملوك البطاملة فراعنة بألقاب وحفالت‬
‫تنصيب وعاصمة مصرية كاملة‪ ،‬واستعيدت أمالك الكهنة وامتيازاهتم(‪ .)13‬ولو أن الغزو الروماين مل‬
‫حيصل‪ ،‬لواجه البطاملة خطر أن متتصهم الدولة املصرية‪.‬‬
‫يف املوضع الثاين فإن اليونانيني‪ ،‬رغم عددهم القوي يف اإلسكندرية‪ ،‬كانوا خارجها شبه مشتتني يف‬
‫البلد‪« .‬اإلسكندرية يف مصر» كانت بالطبع مدينة غري مصرية بالكامل‪ ،‬أما االسكندرانيون‪ ،‬فرغم‬
‫الوجود احملتوم لعناصر مصرية بينهم‪ ،‬فقد ظلّوا يعتربون غري مصريني حىت يف احلقبة املسيحية(‪)14‬؛ لكن‬
‫أسسوا بعكس السالجقة بضع مدن يونانية‪ ،‬واستقرت الغالبية الساحقة يف قرى وحواضر الوالية‬ ‫البطاملة ّ‬
‫حيث بدأوا بسرعة يصبحون مصريني(‪ ،)15‬رغم احلظر املفروض على الزواج املتبادل‪ .‬ولو أن الرومان مل‬
‫يغزوا مصر‪ ،‬ملا استطاع اليونان جتنّب أن متتصهم اإلثنية املصرية‪.‬‬
‫ميكن القول إذاً إن روما أنقذت اليونانيني‪ .‬وكان هذا يعين خسارة احلكم الفرعوين اليت ال تعوض‪:‬‬
‫فمن جهة استُْبدل امللوك البطاملة املتعاقبني ورجال دينهم املخصيني اليونانيني ‪ -‬املصريني بإمرباطور‬
‫روماين وفريقه اليوناين ‪ -‬الروماين(‪)16‬؛ ومن جهة أخرى أستُبدلت القوات اليونانية ‪ -‬املصرية جبيش‬
‫روماين متمركز خارج مصر وبنخبة جتارية جديدة ذات أصول إثنية خمتلطة وثقافة هلينية داخلها(‪.)19‬‬
‫وحدهم الكهنة حافظوا على وجودهم طيلة تاريخ من اخلسارة الثابتة‪ ،‬ليس فقط للسلطة والثروة(‪ ،)18‬بل‬
‫أيضاً لألمل‪ :‬فقد ظل باستطاعتهم التمرد يف ظل حكم ماركوس اورليوس(‪ ،)17‬لكن يف هناية احلقبة‬
‫(‪)29‬‬
‫أيضا خسارة الثقافة‬ ‫الرومانية مل يكن باستطاعتهم سوى أن يندبوا مصر املقدسة ‪ .‬ذلك يعين ً‬
‫الفرعونية اليت ال تعوض‪ :‬القواميس اهلريوغليفية يف القرن األول بعد املسيح تعلن مب ّكراً زوال اللغة يف‬
‫الثالث(‪ ،)21‬يف حني أن تاريخ التقليد املصري كما هو يُعكس يف السلسلة الكهنوتية املتعاقبة من‬
‫بتوسرييس ومانثو‪ ،‬حريمون وبطليموس املندي‪ ،‬وصوالً إىل الكتّاب اهلرمسيني‪ ،‬هو تاريخ ذوبان متواصل‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪C. Préaux, “Esquisse d’une histoire des révolutions égyptiennes sous les Lagides”, Chronique‬‬ ‫(‪)12‬‬
‫‪. d’Egypte 1936‬‬
‫(‪W. Tarn and G. T. Griffith, Hellenistic Civilisation, London 1966, pp. 205f. )13‬‬
‫(‪R. MacMullen, “Nationalism in Roman Egypt”, Aegyptus 1964, pp. 183f; Palladius, The Paradise )14‬‬
‫‪. Garden of the Holy Fathers, tr. E. A. W. Budge, London 1907, vol. i, pp. 114, 134, 135‬‬
‫(‪A. H. M, Jones, The Cities of the Eastern Roman Provinces, Oxford 1971, pp. 295ff; H. I. Bell, )15‬‬
‫‪. “Hellenic Culture in Egypt”, Journal of Egyptian Archaeology 1922, pp. 146f‬‬
‫(‪ )16‬من أجل إدارة مصر الرومانية أنظر‪. Jones, Cities, pp. 314ff :‬‬
‫(‪. M. Rostovtzeff, Rome, London 1960, p. 225 )19‬‬
‫(‪W. Otto, Priester und Templ im hellenistischen )18‬ؤ ‪gypten, Leipzig and Berlin 1905 - 8, vol. i, pp.‬‬
‫‪. 58ff, 403ff‬‬
‫(‪. J. G. Milne, A History of Egypt under Roman Role, London 1924, p. 52 )17‬‬
‫(‪Asclepius, chapters 24f, in A. D. Nock and A. J. Festugière (ed. and tr.), Corpus Hermeticum, )29‬‬
‫‪. Paris 1945 - 54, vol. ii, pp. 326 - 9‬‬
‫(‪E. Iversen, “Fragments of Hieroglyphic Dictionary”, Historisk- filologiske Skrifter Kongelige )21‬‬
‫‪Danske Videnskabernes Selskab 1958; P. Scott - Moncrieff, Paganism and Christianity in Egypt,‬‬
‫‪. Cambridge 1913, p. 23‬‬

‫‪97‬‬
‫مع ذلك فقد كان أمراً حامساً أن حيافظ الكهنة على استمراريتهم‪ :‬ولو كان احلكم الوطين استمر ملدة‬
‫كافية يف شكله البلطيمي حبيث يرتك خلفة صورة ‪ afterimage‬قوية‪ ،‬لكانوا قادرين على إبقائه على‬
‫قيد احلياة‪ .‬رمبا مل يكونوا قادرين على أن حياربوا‪ ،‬لكنهم بعكس السوريني كان لديهم على األقل ما‬
‫يبكون عليه(‪ .)22‬على حنو مشابه فقد كان أمراً حامساً أيضاً أن الرومان مل يؤسسوا مدناً ومل يستعمروا‬
‫الريف(‪)23‬؛ ولو أن اإلثنية الوطنية تواصلت يف ظل البطاملة إىل اليونانيني املتمصرين‪ ،‬لكانت قادرة على السيطرة‬
‫على الريف‪ .‬قد يكون املصريون اُفْقروا ثقافياً‪ ،‬لكنهم بعكس السوريني‪ ،‬عرفوا علىاألقل من هم يكونون‪.‬‬
‫بكلمات أخرى‪ ،‬اختفت احلضارة الوطنية‪ ،‬لكن اهلوية ظلت‪ :‬مل يعد ممكناً اسرتداد الكيمه‪ ،‬لكن ما يزال‬
‫باستطاعة البقية أن تسرتد مصر املقدسة‪.‬‬
‫مع ذلك فإن اسرتداداً كهذا مل يصبح ُملِ فحاً وممكناً إال بعد أن ش ّدت املسيحية العالقة املفككة بني‬
‫مصر‪ ،‬اإلسكندرية يف مصر‪ ،‬واإلمرباطورية الرومانية اليت كانت كلتامها جزءاً منها‪ُ :‬ملِ ّحاً ألن مصر‬
‫وجدت نفسها وقد أمسكت هبا البىن العقائدية واملنظماتية الصارمة للكنيسة اهللينية‪ ،‬ويف حني استطاعت‬
‫االسكندرية اليونانية احلفاظ على هويتها وتفوقها الفكري ضمن هذه البُـ َىن‪ ،‬كان الريف املصري مواجهاً‬
‫جمرد؛ وممكناً ألن البُىن العقائدية واملنظماتية ذاهتا اليت أ ُْم ِسكت هبا مصر ألجل العامل اليوناين‬
‫بامتصاص ّ‬
‫الروماين أ ُْم ِكن استخدامها أيضاً لإلفصاح عن هوية مصرية ضمنه‪.‬‬
‫لذلك كان أول آثار املسيحية إبطال مفعول التوتر السياسي بني اإلسكندرية واإلمرباطورية‬
‫الرومانية(‪ )24‬بينما ازدادت يف الوقت ذاته حدة التوتر الثقايف بني مصر والعامل اليوناين ‪ -‬الروماين ككل؛‬
‫لكن ردات الفعل املصرية األوىل كانت متميزة وغري فاعلة يف آن‪ .‬فمن ناحية وصل النزوع املصري إىل‬
‫التباهي بشهدائهم الوطنيني يف مواجهة العامل اخلارجي إىل درجة التأزم وذلك مع االنشقاق املالطيوسي‬
‫‪ Melatian‬وتشكيل كنيسة الشهداء‪ ،‬املسيطر عليها قبطياً واملناصرة ملصر العليا‪ ،‬لكن احملكوم عليها‬
‫بالفشل يف هناية األمر(‪ .)25‬ومن ناحية أخرى فقد قاد البحث الوطين عن منافذ للهروب من الشبكة‬
‫اليونانية ‪ -‬الرومانية باملصريني إىل إسقاط احلضارة بالكامل‪ ،‬رافضني الثقافة الروحانية واملادية على حد‬
‫سواء(‪)26‬؛ ورمبا أن أمونيوس(‪ )29‬حارب ألجل حكمة اليونان يف اإلسكندرية ورمبا قرأها أورجيانس يف‬
‫أسفاره املقدسة‪ ،‬لكن القديس أنطونيوس رفض اكتساهبا(‪ )28‬وشجبها ديوقلس(‪)27‬؛ مثل ذلك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪L. K‬ل ‪kosy, “Prophecies of Ram Gods”, Acta Orientalia Academiae Scientiarum Hungaricae‬‬ ‫(‪)22‬‬
‫‪.1966; MacMullen “Nationalism in Roman Egypt”, pp. 184f‬‬
‫(‪ )23‬أنتينوبوليس هي االستثناء الوحيد )‪.(Jones, Cities, p. 311‬‬
‫(‪ )24‬ال يوجد دليل على العدائية اإلسكندرانية بعد كتاب أعمال الشهداء الوثنيني‪Acts of the Pagan Martyrs (ed. H. A. .‬‬
‫‪)Musurillo, Oxford 1945‬؛ قارن‪A. H. M. Jones, “Were Ancient Heresies National or Social :‬‬
‫‪. Movements in Disguise?”, Journal of Theological Studies 1959, pp. 286f‬‬
‫(‪W. H. C. Frend, Martyrdom and Persecution in Early Chrch, Oxford 1965, pp. 539ff; R. )25‬‬
‫‪MacMullen, “Provincial Languages in the Roman Empire”, American Journal of Philology 1966, pp.‬‬
‫‪. 106; H. I. Bell, Jews and Christians in Egypt, Oxford 1924, Chapter 2‬‬
‫(‪. Brown, The World of Late Antiqity, pp. 96ff )26‬‬
‫(‪ )29‬وهو عامل حنو وثين وأحد كهنة اإلله توت والذي حارب املسيحيني يف اإلسكندرية‪ ،‬أنظر‪Seeck, Briefe, s.n. Ammonius :‬‬
‫‪. II‬‬
‫(‪ )28‬من أجل القديس أنطونيوس كتلميذ يف إحدى املدارس‪ ،‬أنظر‪S. Athanasius, “Vita S. Antonii”, in PG, vol. xxvi, :‬‬
‫‪ . col 841‬من أجل مساواته يف الزمن الالحق بني الوثنية والفلسفة اليونانية‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ 69‬من هذا الفصل‪.‬‬
‫(‪. Palladius, Paradise, vol. i, p. 181 )27‬‬

‫‪89‬‬
‫النساك رفضوا كالً من املآوي اليت صنعها اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫فاإلسكندرانيون رمبا استمتعوا بفوائد احلضارة‪ ،‬لكن‬
‫امللوث الذي كانوا حياولون نسيانه(‪.)39‬‬
‫واألطعمة اليت صنعها اإلنسان وذلك باعتبارها جزءاً من العامل ّ‬
‫وبتشخيصهم الستيائهم من احلضارة على أهنا إحدى نتائج سقوط آدم يف املعصية وخروجه من اجلنة‪،‬‬
‫فقد حاولوا اسرتداد بربرية آدم الربيئة‪ :‬فكما أغوت إحدى عاهرات املعبد انكيدو كي يدخل يف‬
‫احلضارة‪،‬كذلك أغوت خطيبة للمسيح أحد املصريني كي يغادرها «كرجل عجوز عار والذي كان يأكل‬
‫مع الوحوش»(‪ .)31‬مع ذلك فقد كان مثة مستقبل لردة الفعل الثانية هذه‪.‬‬
‫كان تطور الرهبنة هو التغ ّري احلاسم‪ .‬فها حنن جند القديس أنطونيوس جيمع أتباعه ضمن مجاعات‬
‫شبه رهبانية؛ ومع باخوميوس فسحت املغاور الطريق أمام مستوطنات رهبانية أكثر اتساعاً‪ ،‬مثلما أفسح‬
‫النساك الطريق أمام ألوف النزالء‪ ،‬واالستقاللية املنعزلة أمام قواعد وقوانني لرؤساء أديرة أصحاب قوة‬
‫متزايدة‪ ،‬ومع حلول القرن اخلامس دانت كل مصر تقريباً بآرائها إىل األمثولية الرهبانية(‪ .)32‬وإذا ظل‬
‫النساك ميسكون بالفخار الشكالين للمكان‪ ،‬فأمثولتهم الزهدية ا ُهتِمت اآلن بالرباعة النسكية؛ وهكذا‬ ‫ّ‬
‫فقد مت تربيد مهّة العزلة‪ ،‬اإلفراط يف احلماسة يف الصالة ويف إماتة اجلسد وطلب الشهادة وذلك لصاحل‬
‫فكل الرهبان‪ ،‬سواء أكانوا أعضاء يف األديرة‬
‫ّ‬ ‫احلياة املشرتكة‪ ،‬اإلطاعة‪ ،‬وقبل كل شيء‪ ،‬العمل(‪ .)33‬إذاً‪،‬‬
‫الباخومية أو يف املستعمرات شبه النسكية‪ ،‬كانوا يعملون إلعالة أنفسهم وإلعالة الفقراء(‪)34‬؛ فالزراعة‬
‫وحرف أخرى كانت متَُارس واكتست الصحراء باحلدائق‪ ،‬احلقول‪ ،‬الغابات والبساتني وذلك لتشجيع‬
‫تغل فواكه ألولئك الذين يؤمنون‬ ‫على أن ّ‬ ‫املزارعني املسيحيني الذين آمنوا أن «الصحراء كانت قادرة‬
‫باهلل»(‪ .)35‬وإذا كانت صحراء مصر قد بـَنَت كنيسة األمم(‪ ،)36‬فإن كنيسة األمم باملقابل بـَنَت مصر‬
‫التطور اختفى على حنو متميّز اخلط احلاد الذي يفصل بني القداسة‬ ‫املق ّدسة يف الصحراء‪ .‬مع هذا ّ‬
‫والعامل‪ :‬كان الراهب قادراً بالطبع على تكريس حياته كلها هلل‪ ،‬لكن العامل الذي ينشط يف العامل قد‬
‫يعادل الرهب يف القداسة أو حىت يتفوق عليه(‪)39‬؛ واجلميع كانوا يعملون بطرق خمتلفة لألمثولة ذاهتا‪،‬‬
‫لكن األديرة كانت متثّل‪ ،‬إذا صح القول‪ ،‬الكيبوتزمي‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )39‬قارن ما يظهره بولس الناسك من جتاهل مؤثر للقديس أنطونيوس‪ :‬هل ما يزال مدن يف العامل‪ ،‬ما يزال ملوك‪ ،‬ما يزال حكام‬
‫خاضعني لعثرات الشيطان‪.(Palladius, Paradise, vol. i, p. 200) .‬‬
‫(‪ . D. Chitty, The Desert City, Oxford 1966, p. 4; Palladius, Paradise, vol. i, pp. 236ff; )31‬قارن‪A. F. :‬‬
‫‪Shore, “Christian and Coptic Egypt”, in J. R. Harris (ed.), The Legacy of Egypt, Oxford 1971, pp.‬‬
‫‪. 402f‬‬
‫‪Shore, “Christan and Coptic Egypt”, pp. 405, 408; F. R. Farag, Sociological and Moral Studies in‬‬ ‫(‪)32‬‬
‫‪the Field of Coptic Monasticism, Leyden 1964, pp. 11-35; P. van Cauwenbergh, Etudes sur les‬‬
‫‪moines d’ Egypt dapuis le Concil de Chalcedone(451), jusqù’à l’invasion arabe (640), Paris 1914,‬‬
‫‪. pp. 159, 172‬‬
‫(‪. Palladius, Paradise, vol. i, pp. 291 - 3, 301 - 4; Chitty, The Desert a City, pp. 20ff )33‬‬
‫(‪. Palladius Paradise, vol. i, pp. 169, 175, 326, 334, 356, etc )34‬‬
‫(‪. Ibid., vol. i, pp. 371 )35‬‬
‫(‪ )36‬قارن‪« . Ibid., vol.i, p. 344 :‬وكلمة النيب حول الكنيسة بني الشعوب غري اليهودية أُجنزت وأُكملت أيضاً عرب صحراء مصر‪ ،‬ألن أبناء‬
‫اهلل كانوا أكثر عدداً هناك من الذين يف األرض اليت استوطنها الناس واحتلوها»‪.‬‬
‫(‪ . Ibid., vol. i, p. 333 )39‬قارن قصة باسيوس واشعيا‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬صص ‪ 198‬وما بعد‪ ،‬والرهبان الذين جيدون‬
‫أناساً أكثر تقوى منهم بني اخلياطني أو الرعاة من بعض القرى‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬اجمللد الثاين‪ ،‬صص ‪.151 - 147‬‬

‫‪81‬‬
‫نتيجة لذلك أضحت مصر متتلك عنصرين متمايزين ومتنافسني كمونياً‪ :‬فمن جهة لدينا‬
‫اإلسكندرية‪ ،‬مقر البطريرك الذي كان حيكم أبرشيته املكتنزة بكل املصادر املنظماتية والفكرية للكنيسة‬
‫اهللينية(‪)38‬؛ ومن ناحية أخرى لدينا الصحراء‪ ،‬مقر الرهبان الذين حكموا األبرشية ذاهتا بكل املصادر‬
‫الشعورية للفالحية املصرية‪ .‬أما ما ميكن هلذا التنافس فعله لو أنه دخل يف التاريخ املفتوح فذلك ما ال‬
‫يُروى ألنه قُ ِمع من قبل مصاحل متب ّدلة‪ .‬فدون دعم اإلسكندرية‪ ،‬مل يكن باستطاعة الرهبان إحراز ميثة‪،‬‬
‫بغض النظر عن فرضها‪ ،‬تفصح عن هويتهم اإلقليمية احمللية اخلاصة‪ :‬ذلك هو الدرس الذي كان على‬
‫الرهبان أخذه من الفشل املالطيوسي(‪ .)37‬لكن باملقابل‪ ،‬دون دعم الرهبان‪،‬مل يكن باستطاعة‬
‫اإلسكندرية السيطرة على األبرشية‪ ،‬بغض النظر عن فرض مفاهيمها اخلاصة على العامل اليوناين ‪-‬‬
‫الروماين‪ :‬ذلك هو الدرس الذي أخذه أثناسيوس من التهديد املالطيوسي(‪ .)49‬وهكذا كان هنالك‬
‫حتالف‪ :‬فالبطاركة تلقوا دعماً رهبانياً يف حماوالهتم لتأكيد الصدارة الفكرية اإلسكندرانية‪ ،‬والرهبان تلقوا‬
‫دعماً من البطاركة يف حماوالهتم إلجياد إميان مصري(‪ :)41‬لقد دافع ديوسقورس عن عقيدة كريلس‬
‫املونوفيزية مع جيش من الرهبان السيئي السلوك يف جممع اللصوص يف أفسس عام ‪ ،)42(447‬وباملقابل‬
‫أضحى البطريرك املونوفيزي القائد الفرعوين لألقباط(‪.)43‬‬
‫هذا احللف املق ّدس‪ ،‬أو غري املق ّدس‪ ،‬بني البطريركية اليونانية والفالحية املصرية هو الذي صنع‬
‫األول إن القوام االجتماعي‬
‫الكنيسة القبطية‪ ،‬والذي خترج منه مساهتا الثالث الرئيسة‪ .‬ففي املوضع ّ‬
‫للكنيسة القبطية هو البساطة الريفية وليس النخبوية املدنية‪ .‬لقد كان يف مصر‪ ،‬بالطبع‪ ،‬طبقة أرستقراطية‬
‫بفضل اإلصالحات اإلدارية العائدة إىل القرن الثالث‪ .‬هذه اإلصالحات‪ ،‬مع أهنا احتوت هنا مثل أي‬
‫مكان آخر انتقاالً للسلطة‪ ،‬فقد عملت بطريقة خاصة تقريباً يف مصر‪ :‬فبما أن مصر كانت دائماً إقليماً‬
‫مركزياً إىل درجة عالية‪ ،‬فاالنتقال مل يكن من النخبة املدنية إىل البريوقراطيني الريفيني‪ ،‬بل من البريوقراطيني‬
‫اليونانيني إىل خنبة ريفية(‪ .)44‬هبذه الطريقة فالنخبة اهللينية يف احلواضر والقرى‪ ،‬واليت رأت روما أن من‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪E. R. Hardy, Christian Egypt, Church and People,‬‬ ‫(‪ )38‬من أجل األبرشية والوالية املباشرة للبطريرك على أساقفته‪ ،‬قارن‪:‬‬
‫‪. New York 1952, pp. 108f‬‬
‫(‪ )37‬كان مالطيوس أسقف ليكوبوليس يف مصر العليا‪ ،‬وليس بطريركاً لإلسكندرية؛ من أجل دعمه الرهباين‪ ،‬أنظر‪Bell, Jews and :‬‬
‫‪.Christians, pp.. 38ff; Frend, Martyrdom, p. 540‬‬
‫(‪Frend, Martyrdom, p. 541 )49‬؛ يـُْرَمز إىل التحالف على حنو دقيق بالظهور املزعوم لشنودة مع كريلس يف أفسس عام ‪431‬‬
‫)‪.(Shore,” Christian and Coptic Egypt”, p. 413‬‬
‫(‪. W. H. C. Frend, The Rise of Monophysite Movement, Cambridge 1972 )41‬‬
‫(‪. K. J. von Hefele, Histoire de Conciles, tr. H. Leclercq, Paris 1907-52, vol. ii, part one, pp. 584ff )42‬‬
‫(‪ . E. L. Woodward, (Christianity and Nationalism in the Later Roman Empire, London 1916, p. 42 )43‬عادة ما‬
‫يكون االسم املستعار الفرعوين الذي يطلق على بطاركة اإلسكندرية بذيئاً بالطبع؛ قارن التهمة القائلة إن ديوسقورس اعتقد بأنه هو وليس غريه‬
‫الذي كان احلاكم الفعلي ملصر‪(Harly, Christian Egypt, p. 112) .‬؛ لكن الذي كان طاغية بالنسبة للهراطقة كان بطالً بالنسبة‬
‫لألرثوذكس‪.‬‬
‫(‪. Jones, Cities, pp. 32 ff )44‬‬

‫‪82‬‬
‫مصلحتها محايتها‪ ،‬كانت تق ّدم معظم احل ّكام خارج اإلسكندرية مع حلول القرن اخلامس(‪ )45‬حبيث‬
‫برمته وسيطروا عليه مع حلول‬ ‫تطورت لتصبح طبقة من أقطاب حمليني والذين امتلكوا كلهم تقريباً الريف ّ‬
‫القرن السادس(‪ .)46‬لكن رغم متازج املصريني‪ ،‬فهذه الطبقة األرستقراطية املتمازجة أثنياً اليونانية ثقافياً مل‬
‫تستطع أن تزعم متثيل مصر املقدسة؛ وهكذا‪ ،‬بعكس آشوريا‪ ،‬فالفالحون‪ ،‬وليس هذه الطبقة‬
‫األرستقراطية‪ ،‬هم الذين ش ّكلوا الكنيسة احمللّية‪ .‬لكن باملقابل‪ ،‬فرغم ثقافتهم اليونانية‪ ،‬فاألرض اليت كانوا‬
‫كرستها الكنيسة القبطية؛ وهكذا‪ ،‬بعكس سوريا‪ ،‬مل يـُْرفَضوا للحال والتو‪ .‬واالختيار‬ ‫يسيطرون عليها ّ‬
‫(‪)49‬‬
‫الصعب بني شجب مونوفيزي للسلطة واحتفاظ ملكاين هبا مل يكن جمهوالً بالطبع يف مصر ‪ ،‬لكنه مل‬
‫يكن اختياراً شائعاً جداً‪ .‬وهكذا فثروة األبيونيني ‪ )48(Apions‬وسلطتهم الكبريتان مل جتعال منهم بأية‬
‫حال يونانيني أخالقياً‪ :‬فقد جنحوا‪ ،‬بعدما صنفوا أنفسهم كأبناء بلد مصريني وبعدما احتلّوا مكانة عالية‬
‫آنئذ(‪ ،)47‬ويف اسرتداد‬ ‫حملياً ومركزياً‪ ،‬يف االحتفاظ بعقيدهتم املونوفيزية قبالة اإلمرباطور رغم الضعف ٍ‬
‫مكانتهم الدنيوية قبالة األقباط عن طريق األعمال اخلريية والدعم السخيني(‪ .)59‬وقد قال أحد التجار‬
‫كرس هبا‪ ،‬ليس‬ ‫ات اليت ّ‬ ‫لبفنوتيوس(‪« ،)51‬مثار جتاريت من أجل الصاحلني»؛ وهذا الشعار كان أحد الشعار‬
‫فقط األبيونيون‪ ،‬بل بشكل عام املصريون أصحابا األطيان‪ ،‬مكانتهم الدينية(‪ .)52‬وإذا كانت الطبقة‬
‫أقرت مصر بشرعيتها باعتبارها الطبقة األرستقراطية اخلاصة هبا غري فرعونية‪ ،‬فرمبا أهنا‬ ‫األرستقراطية اليت ّ‬
‫زعمت يف أحد األوقات أهنا بطلمية‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Hardy, Christian Egypt, pp. 110, 122 )45‬‬
‫(‪. Id., The Large Estates of Byzantine Egypt, New York 1931 )46‬‬
‫(‪ )49‬قارن النبالء والضباط الذين شكلوا أتباع بروتريوس امللكاين ‪ .)(Frend, Monophysite Movement, p. 155‬وذلك مقابل‬
‫اآلمون الذي ختلى عن ثروته يف نيرتيا يف األزمنة الغابرة ‪ .)(Palladius, Paradise, vol. i, p. 377‬لكن أمون ينتمي طبعاً إىل‬
‫حقبة قبل أن تضعف النسكية املونوفيزية الفرق بني القداسة والعامل‪.‬‬
‫(‪ )48‬من أجل هذه العائلة‪ ،‬أنظر‪Hardy, Large Estates, chapter 2 :‬؛ من أجل أمالكهم يف أوكسريخنوس‪ ،‬سينوبوليس‪،‬‬
‫آرسينويس‪ ،‬اخل‪ ،‬سجوهنم اخلاصة‪ ،‬خدماهتم الربيدية‪ ،‬اسطبالهتم املخصصة لسباقات اخليل‪ ،‬مصارفهم‪ ،‬جامعي ضرائبهم‪ُ ،‬ح ّجاهبم‪،‬‬
‫موظفيهم‪ ،‬اخل‪ ،‬أنظر‪ibid., index, s.v. “Apion estate”; H. I. Bell, Egypt from Alexander the Great to the :‬‬
‫‪. Arab Conquest, Oxford 1948, pp. 122f.‬‬
‫(‪ )47‬لقد أهدى سوريوس كتاباً إىل ابيون )‪ ،(Hardy, Christian Egypt, p. 122‬لكن أبيون اعتنق املذهب اخللقيدوين عام ‪،518‬‬
‫وعام ‪ 533‬كان ابنه سرتاجتيوس ما يزال خلقيدونياً (املصدر السابق‪ ،‬ص‪)134‬؛ مع ذلك فمع حلول العام ‪ 616‬جندهم مونوفيزيني‬
‫ثانية‪ ،‬حني لعب سرتاجتيوس الثالث دوراً بارزاً يف املفاوضات اليت ادت إىل الصلح بني البطاركة السوريني واملصريني (املصدر السابق‪،‬‬
‫ص‪ .)158‬تتزامن خلقيدونيتهم مع وصول تراكم مواقعهم املركزية إىل ذروته‪. (ibid., Large Estates, p. 36) .‬‬
‫(‪. Hardy, Large Estates, pp. 140-4 )59‬‬
‫(‪. Palladius, Paradise, vol. I, p.361 )51‬‬
‫(‪ )52‬قارن اإلرث الضخم للكنيسة )‪،(Hardy, Christian Egypt, p. 167‬؛ العالقات احلارة بني الرعية و«األمراء واملوظفني» يف‬
‫أوكسريخنوس‪ (Palladius, Paradise, vol. I, p. 338) .‬؛ وأمري طيبة الذي تعاطف مع الكنيسة القبطية يف أيام يوستنيانوس‬
‫)‪،(Hardy, Christian Egypt, p. 142‬؛ ورمبا كان طبعاً أحد األبيونيني‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فإن القوام العاطفي للكنيسة القبطية هو الشوفينية اإلثنية واللغوية‪ :‬إن شرف مصر‬
‫حرض حبسب الرواية القبطية على غزو قمبيز(‪ )53‬يعاود الظهور يف شكل التضامن اإلثين للرهبان‬ ‫الذي ّ‬
‫املونوفيزيني يف وجه اضطهاد هرقل لألقباط(‪ ،)54‬الفخار اللغوي للمسيحيني األقباط يف مقاومة الغارات‬
‫العربية(‪ ،)55‬وجمد مصر يف مدائح القديسني املصريني(‪ .)56‬سوف تعود اآلهلة إىل السماء‪ ،‬ومصر‪ ،‬هذه‬
‫األرض األقدس‪ ،‬بعد أن ترتمل من آهلتها‪ ،‬سوف متوت ‪ -‬تلك هي الرتنيمة اجلنائزية للكاهن الوثين(‪)59‬؛‬
‫«إفرحي وابتهجي يا مصر‪ ،‬مع‬
‫حمب اإلنسان» ‪ -‬ذلك هو جواب الكنيسة القبطية(‪.)58‬‬ ‫كل ختومك‪ ،‬ألنه سيأيت إليك ّ‬ ‫كل أبنائك و ّ‬
‫يف املوضع الثالث‪ ،‬فإن القوام الفكري للكنيسة القبطية مل يكن فلسفة اسكندرانية بل جالفة‬
‫فالحية‪ :‬كان كريلس آخر الهويت هام‪ ،‬وكان يوحنا فيلوبونوس الفيلسوف األخري‪ّ ،‬أما ما بقي من األدب‬
‫القبطي فهو بليد ثقافياً بقدر ما هو نابض باحلياة شعورياً‪ .‬إن انعزال مصر عن االسكندرية والذي أ ّكد‬
‫يؤمن‬
‫استمراراً قوياً للهوية املصرية كان يف الوقت ذاته عزالً لإلرث املصري عن الفكر اليوناين والذي مل ّ‬
‫غري على استمرارية ضئيلة للحقيقة املصرية؛ كذلك فرغم استمرارية معينة يف تاريخ السحر املصري‪ ،‬فإن‬
‫مشاركة هذا اإلرث يف ثقافة مصر القبطية كانت حمددة ببضع مواضيع شعبية(‪ .)57‬ولو أن االسكندرية‬
‫احتكرت على حنو أقل الفعالية الفكرية يف مصر الوثنية‪ ،‬أو لو أن الكهنة اهللينيني كانوا ممثلني على حنو‬
‫متعادل يف كافة أرجاء اإلقليم‪ ،‬أو لو أن اإلقليم امتلك خنبة مدنية رفيعة الثقافة من أصل وطين‪ ،‬فلرمبا‬
‫قبلت مصر الوثنية بالفكر اليوناين باعتباره وطنياً يف جانبه األخالقي؛ عوضاً عن ذلك‪ ،‬رفضت مصر‬
‫املسيحية اإلرث الوثين باعتباره يونانياً يف جانبه األخالقي(‪ .)69‬لقد ق ّدمت مصر القبطية رجاالً عمليني‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. H. L. Jansen (ed. and tr.), The Coptic Story of Cambyses’ Invasion of Egypt, Oslo 1950, p. 64 )53‬‬
‫احلقيقة القائلة إن إحدى القرى اليت تصور يف إحدى سري القديسني األقباط واليت يُشار إليها عرضياً بأهنا أُحرقت على يد قمبيز أمنا‬
‫توحي بأنه ظل يتمتع بسمعة قبيحة معينة يف صفوف الشعب‪(O. von Lemm, “Kleine Koptische Studien”, no. .‬‬
‫‪.)xviii, in Isvestiya Imperatorskoy Akademii Nauk 1900, p. 64‬‬
‫(‪. Severus ibn al-Muqaffa’, History of the Patriarchs, in Patrologia Orientalis, vol. i, p. 498 )54‬‬
‫(‪. Ziadeh, “L’Apocalypse de Samuel, pp. 379 = 395 )55‬‬
‫برمته‪ ،‬وسوف لن يكون مثة مثيل هلا حىت هناية الزمن‪(H. Fleisch (ed. .‬‬ ‫(‪ )56‬لقد أضحت مصر مقر اإلله‪ ،‬املالئكة‪،‬وقديسي العامل ّ‬
‫‪and tr.), “Une homélie copte de Théophile d’Alexandrie”, Revue de L’orient chrétien 1935f, pp. 383‬‬
‫‪) = 382‬؛ إن معظم القديسني كانوا إما مصريني أوأن مصر جذبتهم إليها‪ ،‬ومن هؤالء ابراهيم‪ ،‬يعقوب‪ ،‬يوسف‪ ،‬موسى‪ ،‬إرميا‪ ،‬يوحنا‬
‫‪(G. Garitte,‬‬ ‫املعمدان والقديس أنطونيوس؛ ألنه أين تشرق الشمس إن مل يكن يف مصر وأين سنجد اجملد إن مل يكن يف بلدنا؟‬
‫‪“Panégyrique de Saint Antoine par Jean, évêque d’ Hermopolis”, Orientalia Christiana Periodica‬‬
‫‪.)1943, pp. 119 - 21‬‬
‫(‪. Asclepius, chapter 24, in Nock and Festugère, Corpus Hermeticun, p. 327 )59‬‬
‫(‪ )58‬التسبيحة القبطية حول عيد دخول ربنا إىل أرض مصر‪ ،‬موجودة يف‪O. E. A. Meinardus, In the Steps of Holy :‬‬
‫‪. Family from Bethlehem to Upper Egypt, Cairo 1963, p. 15‬‬
‫(‪. W. Kosack, Die Legende im Koptischen, Bonn 1970, pp. 80ff )57‬‬
‫(‪ )69‬مقابل النخبة اهللينية اليت كان باستطاعتها قراءة هومريوس‪ ،‬أناخارسيس‪ ،‬مناندير‪ ،‬وغريهم يف أعماق اجلنوب يف القرن السادس‪(J. .‬‬
‫‪Maspero, “Un dernier poéte grec d’Egypte: Dioscore fils d’Apollôs, Revue des études grecques‬‬

‫‪84‬‬
‫من منط باخوميوس أو شنودة‪ ،‬لكنها مل تق ّدم مفكرين‪ ،‬وإذا ما قارناها مع سوريا والعراق‪ ،‬فهي مل تكن‬
‫متتلك سوى تعليم رهباين ابتدائي‪.‬‬
‫هذا ال يعين أن مصر كانت ستنفصل عن االمرباطورية البيزنطية سواء سياسياً أم ثقافياً حىت دون‬
‫الغزوات العربية‪ .‬واحلقيقة طبعاً أن االمرباطور كان شخصاً خارجياً بالنسبة ملصر املقدسة‪ ،‬كما أن‬
‫املصريني أصروا على أن يبدأوا تارخيهم باضطهاد ديوقليتيانوس وليس باهتداء قسطنطني(‪)61‬؛ لكن فرعوناً‬
‫بسلطة اكلريوسية فحسب‪ ،‬طبقة أرستقراطية بثقافة يونانية ‪ -‬رومانية فحسب‪ ،‬ومعابد مرتامية يف‬
‫الصحراء فحسب ليست هي العناصر املكونة حلكم مستقل قابل للحياة؛ وسكان الكيبوتزات يف‬
‫الصحراء مل يعرتيهم الوهم بشأن حاجتهم إىل امرباطور يف القسطنطينية ميكنه أن يص ّد الربابرة‪ .‬باملقابل‬
‫فاجلالفة الريفية القبطية مل تكن قادرة على تقدمي أسس لثقافة مستقلة قابلة للحياة‪ .‬مع ذلك فالسمات‬
‫مصر متميزة‬
‫املكونة لإلقليمية الفالحية املتميزة على حنو بارز‪ٌ :‬‬ ‫اخلاصة بالكنيسة القبطية ق ّدمت العناصر ّ‬
‫عن بق ية العامل بقداستها اخلاصة لكنها مرتبطة به مع ذلك بوصفها أمثولة للجنس البشري ‪ -‬بكلمات‬
‫(‪)62‬‬
‫مصر متميزة عن بقية العامل بإثنيتها اخلاصة‬‫مصر وفق أمنوذج ق ّدمه آخر الكهنة الوثنيني ؛ أو ٌ‬ ‫أخرى‪ٌ ،‬‬
‫وطبقتها األرستقراطية شبه الوطنية لكنها مرتبطة به مع ذلك كعضو يف اإلمرباطورية «اليونانية ‪-‬‬
‫مصر أمنوذج عُ ِكس يف هناية احلقبة العثمانية(‪.)63‬‬
‫الرومانية» ‪ -‬بكلمات أخرى‪ٌ ،‬‬
‫بعكس مصر‪ ،‬فقد اتسع العراق ليس هلوية إقليمية واحدة‪ ،‬بل هلويتني‪ ،‬مها اآلشورية والبابلية‪ .‬لقد‬
‫عانت الثقافتان على حد سواء‪ ،‬طبعاً‪ ،‬من تدمري عنيف عند سقوطهما قبل الغزوات العربية بألف سنة‪:‬‬
‫حول نابوباالسر وامليديون آشوريا إىل «ركام وخرائب» عام ‪ 612‬ق‪.‬م(‪ ،)64‬كذلك فقد ّ‬
‫دك‬ ‫فكما ّ‬
‫وحول إهلها إىل سبيكة ذهبية وذلك بعد ثورة ‪482‬‬ ‫جرد مواطنيها من أمالكهم ّ‬ ‫أحشورش أسوار بابل‪ّ ،‬‬
‫ق‪.‬م(‪ .)65‬مع ذلك فقد بقيت اهلويتان على حد سواء‪ ،‬األوىل حتت محاية درع مسيحي‪ ،‬والثانية حتت‬
‫محاية درع وثين‪.‬‬

‫‪ ،) 1911‬لدينا القديس أنطونيوس الذي كان حيتقر الوثنية باعتبارها مأخوذة عن الفلسفة اليونانية اليت مل حتفز أحداً على الشهادة‬
‫وتطرح أسئلة عوض اإلجابة عليها )‪ ،(Frend, Monophysite Movement, p. 72‬احتقار شنودة للمفكرين اليونانيني (املصدر‬
‫السابق) وكل ما هو يوناين عموماً‪ .)(J. Leipoldt, Schenute von Atripe, Leipzig 1903, pp. 71ff .‬قارن أيضاً املساواة‬
‫بني الوثنية والفسق اإلسكندراين يف ‪ ،)(Palladius, Paradise, vol. i, p. 199‬والشيطان الذي يلح على القسم باسم جوبيرت‬
‫وهرقل )‪.(ibid., pp. 128, 194‬‬
‫(‪ )61‬قارن برهان فيلوبونوس ملصلحة التيار املونوفيزي بأن امللك ليس صورة اإلله وأن احلكومة تستند على اإلرادة احلرة للمحكومني‪.‬‬
‫)‪.(Frend, Monophysite Movement, p. 59‬‬
‫(‪ )62‬قارن‪Asclepius, chapter 24, in Nock and Festugère, Corpus Hermeticun, p. 326; and Derchain in :‬‬
‫‪. Grimal, Hellenism and the Rise of Rome, p. 217‬‬
‫(‪ )63‬قارن هامش ‪ 54‬ف‪11‬‬
‫(‪A. T. Olmstead, History of Assyria, London and New York 1923, p. 640. )64‬‬
‫(‪S. K. Eddy, The King is Dead: Studies in Near Eastern Resistance to Hellenism 334 - 31 B.C., )65‬‬
‫‪. Licoln, Neb. 1961, p. 102‬‬

‫‪85‬‬
‫كان هذا التقسيم غري العادي للعمل بني املسيحية والوثنية نتيجة األثر املختلف للحكم األجنيب‬
‫على اإلقليمني‪ .‬فآشور‪ ،‬اليت مل يكن لديها الثروة اخلرافية وال األمهية اإلسرتاتيجية اليت لبابل‪ ،‬تركت‬
‫وشأهنا فعالً من قبل األمخينيني والسلوقيني(‪ )66‬؛ وألن العامل اخلارجي حكم عليها بالنسيان‪ ،‬فقد‬
‫استطاعت أن تعيد جتميع ماضيها اجمليد بنوع من اهلدوء(‪ .)69‬وهكذا فحني عادت املنطقة إىل بؤرة‬
‫التاريخ يف ظل حكم البارثيني‪ ،‬فقد عادت بتعريف آشوري للذات‪ ،‬وليس فارسياً‪ ،‬بغض النظر عن‬
‫اليوناين؛ أُعيد جتديد معبد آشور‪ ،‬وأعيد بناء املدينة(‪ ،)68‬وعادت إىل الوجود دولة خالفة آشورية على‬
‫هيئة مملكة أديابني التابعة(‪ .)67‬وضع الساسانيون حداً الستقالل هذه اململكة(‪ ،)99‬لكنهم مل يستبدلوا‬
‫احل ّكام احملليني بطبقة بريوقراطية فارسية‪ :‬مع أن مكانتهم أُنِْقصت حبيث أصبحوا خدماً مطيعني‬
‫للشاهنشاه‪ ،‬وبالتايل استمرت موجودة طبقة أرستقراطية وطنية(‪ .)91‬مع ذلك‪ ،‬ففي هذا الصدد‪ ،‬كان‬
‫موقعهم يف الدولة الفارسية غري مريح‪ .‬ففي ظل حكم البارثيني راح الشاهنشاهات يطالبون بوحدة دينية‬
‫رداً على األمهية السياسية(‪)92‬؛ أما يف ظل حكم الساسانيني فقد فعلوا ذلك على حنو منظم‪ ،‬وفرضوا‬ ‫ّ‬
‫بالتايل حقيقة فارسية على اهلوية اآلشورية‪ .‬وطاملا كان مستوى اإلندماج متدنياً أ ُْم ِكن تغطية هذا التنافر‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪W. Andrae, Das wiedererstandene Assur, Leipzig 1938, p. 169; M. Meulean in Grimal, Hellenism‬‬ ‫(‪)66‬‬
‫‪. and the Rise of Rome, pp. 272, 277‬‬
‫‪(S. Smith, “Notes on the” Assyrian Tree””, Bulletin of the‬‬ ‫(‪ )69‬قارن االستخدام املتواصل لألمساء اآلشورية القدمية؛‬
‫‪.)School of Oriental Studies 1926, p. 69‬‬
‫(‪. Andrae, Assur, pp. 171 ff )68‬‬
‫(‪ )67‬مل تكن حياة هذه اململكة أقصر من حياة مم لكة البارثيني بكثري‪ .‬فهي تظهر للمرة األولىكمملكة من عصر ما عام ‪44‬م‪ ،‬حني‬
‫اعتنق امللك إيزاتيس ‪ Izates‬الثاين اليهودية ‪)(P. Kahle, The Cairo Geniza, London 1947, pp. 184ff‬؛ ومع أن تارجان‬
‫‪(Paulys Realencyclop‬ن ‪die der classischen‬‬ ‫‪ Tarjan‬أدرجها لفرتة قصرية ضمن االمرباطورية حتت اسم إقليم آشور‬
‫‪)Altertumswissenschaft, ed. G. Wissowa, Stutgart 1893 - s.v. “Adiabene‬و وامللوك املتأخرون يظهرون يف املصادر‬
‫السريانية )‪(Msiha-Zkha in Mingana, Sources syriaques, pp. 25, 28 = 101f, 105‬؛ أما املصادر العربية فتشري ضمناً‬
‫إىل أهنا ُد ِّمرت يف هناية األمر على يد أردشري ‪(J. Marquart, Osteurop‬ن ‪ische und ostasiatische Streifzüge, Leipzig‬‬
‫‪)1903, p. 229n‬؛ قارن‬
‫‪(Msiha-Zkha in Mingana, Sources syriaques, pp.31 = 108).‬؛ من أجل اهلوية اآلشورية للمملكة‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪“Doctrine of Addai” in W. Cureton (ed. and tr.), Ancient Syriac Documents, London and Edinburgh‬‬
‫‪ ،1964, pp. 15 - 16‬حيث جند أن تالميذ أداي يعودون إىل «موطنهم بلد اآلشوريني» زمن نارساي ملك اآلشوريني‪ ،‬قارن أيضاً‪:‬‬
‫‪. ibid., pp. 34 = 34‬‬
‫‪(A. Christensen, L’Iran‬‬ ‫(‪ )99‬أمريٌ ساساين محل منذ ذلك احلني لقب ملك اديابني‪ ،‬وبالتايل أردشري الثاين قبل توليه العرش‪.‬‬
‫)‪. sous les Sassanides, Copenhagen 1944, pp. 102, 312‬‬
‫(‪ )91‬يف أيام شاهبور األول حني كان األمراء يف كل مكان يُ ْد َعون ملوكاً كان هنالك بوالر ‪ Pular‬يف إقليم دارسوس ‪(Hoffmann,‬‬
‫)‪Auszüge, pp. 9f‬؛ ويف زمن يوليانوس اجلاحد كان مثة سنحريب‪ ،‬ملك آثور‪ ،‬وهو كاهن جموسي اعتنق ابنه املسيحية ‪(P. Bedjan‬‬
‫‪)(ed.), Acta Martyrum et Sanctorum, Paris 1890 - 7, vol. ii, p. 401 = Hoffmann, Auszüge, p. 17‬؛ أما‬
‫مار قره داغي‪ ،‬وهو من ساللة ملكية عظيمة‪ ،‬إذ ينحدر من منرود وسنحريب فقد احتل منصب مرزبان آشوريا للساسانيني حىت اعتناقه‬
‫املسيحية‪.)(J. B. Abbeloos (ed. and tr.), “Acta Mar Kardaghi”, Analecta Bollandiana 1890, pp. 12ff .‬‬
‫قارن أيضاً اهلامش ‪ 77‬من هذا الفصل‪.‬‬
‫(‪ )92‬قارن ردة فعل النبالء الفرس على تبديل إيزاتيس لدينه‪ :‬فقد طلبوا من فولوغسس أمرياً بارثياً ألن ملكهم نسخ عادات أجدادهم‪.‬‬
‫)‪.(Marquart, Streifzüge, pp. 292 - 5‬‬

‫‪86‬‬
‫مبحاوالت توفيقية(‪)93‬؛ لكن ما أن وضع الساسانيون الطبقة األرستقراطية احمللّية يف متاس أقوى مع البالط‬
‫الفارسي‪ ،‬حىت أُ ْغلِقت عيون الشبكة(‪ .)94‬وهكذا فقد عملت َملَكية فارسية من أجل إله إثين يف الشرق‬
‫متسك اآلشوريون بنسبهم‪ ،‬لكنهم بعكس أقاليم‬ ‫ما عمله إله إثين من أجل ثقافة يونانية يف الغرب‪ّ ،‬‬
‫الغرب مل يكن باستطاعتهم أن يتهرطقوا فحسب‪ :‬فحىت زرادشتية هرطوقية ظلت من منظور مفاهيمي‬
‫فارسية‪ ،‬لذلك كان اآلشوريون حباجة مقابل الفرس إىل ديانة خمتلفة بالكامل(‪ .)95‬من ناحية أخرى‪ ،‬فحىت‬
‫مسيحية أرثوذكسية ظلت جمرد يونانية بالتداعي‪ ،‬لذلك فمقابل اإلغريق تبدو هرطقة ما وكأهنا تفي‬
‫بالغرض‪ .‬وهكذا‪ ،‬بعد انعطاف عرب اليهودية‪ ،‬تبىن اآلشوريون املسيحية ووجدوا هرطقتهم يف‬
‫(‪.)96‬‬
‫النسطورية‬
‫بابل‪ ،‬باملقابل‪ ،‬مل ترتك وشأهنا قط‪ .‬ومبعزل عن دياسبوراهتا اليهودية الضخمة‪ ،‬فقد تدفق إليها‬
‫مهاجرون فرس يف ظل حكم األمخينيي‪ ،‬يونانيون يف ظل حكم السلوقيني‪ ،‬واملزيد من الفرس مع‬
‫الساسانيني؛ واألخريون بنوا عاصمتهم هناك وأضافوا يف أحد األوقات دفعة أخرى من الغرباء أيضاً‬
‫وذلك على شكل أسرى حروب سوريني ويونانيني(‪ .)99‬ونتيجة لذلك حتلّل شكل الدولة البابلي‪.‬‬
‫واحلقيقة أن شبح بابل راح يطارد العراق األدىن حنو قرنني من الزمن يف هيئة مملكة مسني‪Mesene‬‬
‫التابعة واليت صارت آرامية بسرعة(‪ ،)98‬رغم أن مؤسسها حاكم إيراين؛ والشك أنه كان مثة ملوك آراميون‬
‫آخرون يف ظل حكم البارثيني(‪ .)97‬لكن يف املوضع األول فقد بدت اهلوية البابلية ملسني ضعيفة(‪ ،)89‬ويف‬
‫املوضع الثاين فإن اختيار الساسانيني للعراق األدىن كمركز إلمرباطوريتهم مل يرتك جماالً أمام وجود‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )93‬يف بابل متت املطابقة بني أهورا مازدا وبعل‪ ،‬ويفرتض أن حيالً مشاهبة مت تبنيها يف آشور‪.‬‬
‫‪(Abbeloos, “Acta Mar‬‬ ‫(‪ )94‬الحظ كيف دعا شهبور الثاين قره داغي السنحرييب إىل البالط الفارسي حىت قبل تعيينه كمرزبان‬
‫)‪.Kardaghi”, pp. 13 - 15‬‬
‫(‪ )95‬إال إذا صاروا مانويني طبعاً‪ ،‬وذلك كما فعل الكثري منهم بالفعل؛ قارن‪bus, History of Asceticism in the ِِ(A. V :‬‬
‫‪ .)Syrian Orient (=CSCO, Subsidia, vols. xiv, xvii), Louvain 1958 - 60, vol. I, pp. 158f‬لكن عقيدة معادية‬
‫جداً للمادة كان من غري املرجح أن حتتفظ بوالءات أناس مرتبطني هبا حاملا أصبحت املسيحية يف متناول اليد‪.‬‬
‫(‪ )96‬كان من غري املرجح أن تنجح اليهودية‪ ،‬وهي ديانة إثنية أخرى‪ ،‬على املدى البعيد‪ :‬لقد ّفر إيزاتيس وعائلته من الفرس‪ ،‬لكنهم انتهوا يف‬
‫القدس‪ .‬من أجل انتشار املسيحية‪ ،‬أنظر‪J. M. Fiey, Jalons pour une histoire de l’église en Iraq (=CSCO, Subsidia, :‬‬
‫‪ .vol. xxxvi), Louvain 1970, pp. 32ff‬من أجل االنفصال العقائدي والشرعي عن الغرب؛ أنظر‪. ibid., pp. 66ff, 113ff :‬‬
‫(‪. Fiey, Jalons, pp. 55 - 56 )99‬‬
‫(‪A. R. Bellinger, “Hyspaosines of Charax”, Yale Classical Studies 1942; Pauly - Wissowa, )98‬‬
‫‪Realencyclop‬ن”‪ . die, s.v., “Mesene‬قارن‪. H. H. Schaeder, “Hasan al-Basri”, Der Islam 1923, pp. 4ff :‬‬
‫يف ظل حكم الساسانيني محل أمراء البيت اللقب ميشانشاه )‪.(Christensen, Iran, p. 102‬‬
‫(‪ )97‬قارن ملوك احلقبة البارثية الذين يظهرون عند ابن وحشية‪(D. Chwolson, .‬ـ‪ ebd reb‬ـ ‪ebddbst rbd aeteaeredeeserbe‬‬
‫‪ netbdatad ee adaeeserbe‬ـ‪ ), St Petersburg 1859, p. 137ebdsbtsaeb‬واملسعودي (أبواحلسن علي بن احلسني املسعودي‪،‬‬
‫كتاب مروج الذهب‪ ،‬حترير وترمجة ‪ ،A. C. Barbier de Meynard and A. J. B. Pavet de Courteille‬باريس ‪،99 - 1861‬‬
‫اجمللد الثاين‪ ،‬ص‪.)161‬‬
‫(‪ )89‬ذلك ما تتضمنه قصة ايشوع داد عن نابو‪(van den Eynde, Commentaire, I. Genèse (=CSCO, Scriptores :‬‬
‫)‪ .Syri, vols. Lxvii, Lxxv), Louvain 1950, 1955, pp. 6 = 7‬لكن مسني مل تكن بابل جغرافياً‪ ،‬بل جارهتا فحسب‪،‬‬
‫ومع أن امللوك وضعوا أيديهم على سلوقية وبابل لربهة من الزمن‪ ،‬فحىت البارثيني مل يستطيعوا السماح هلم منطياً باالحتفاظ هبما‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫أرستقراطية وطنية‪ ،‬ويف حني كان لدى اآلشوريني ذكرى واضحة ملاضيهم‪ ،‬مل يكن لدى البابليني‬
‫ذلك(‪ .)81‬قد يتوقع واحدنا أن تذوي اهلوية البابلية بالكامل‪ ،‬ولو أهنا ظلت موجودة فذلك ليس ألهنا‬
‫تذكرت ذاهتا يف العزلة‪ ،‬بل ألهنا تسامت بذاهتا واكتسبت احرتاماً عاملياً‪ :‬فاليونانيون احننوا مذعنني لعلم‬
‫التنجيم البابلي واستعاروه دون أن خيفوا أصله الكلداين(‪ ،)82‬ومن مث فالكلدانيون استطاعوا أن يستعريوا‬
‫الفلسفة اليونانية دون أن يفقدوا هويتهم‪ .‬لقد ولّد إنصهار الوثنية اليونانية والبابلية جمموعة متنوعة من‬
‫الديانات ذات العالقة بالتنجيم واليت استطاعت‪ ،‬بعكس الوثنية األم‪ ،‬أن حتافظ على وثنيتها يف وجه‬
‫احلقائق الفائقة للزرادشتية‪ ،‬واليت كانت‪ ،‬بعكس املسيحية‪ ،‬ممتلكة من قِبَل ماركة إثنية‪:‬اآلشوري مل ميتلك‬
‫غري هوية‪،‬واملسيحي مل ميتلك غري حقيقة‪ ،‬لكن الكلداين كان ميتلك هوية وحقيقة يف آن‪ .‬لذلك حافظ‬
‫الوثنيون على تواجدهم يف بالد الكلدان‪.‬‬
‫امت ّدت املسيحية‪ ،‬بالطبع‪ ،‬إىل بابل؛ لكن يف حني كانت يف آشوريا طريقة لتكريس هوية إقليمية‪ ،‬فقد‬
‫كانت يف بابل طريقة إلزالة التكريس عن اهلويتني‪ .‬فبالنسبة لبيئة العراق األدىن الكوزموبوليتانية العالية‪ ،‬كانت‬
‫املسيحية‪ ،‬كاملانوية‪ ،‬احتجاجاً على الديانات اإلثنية‪ ،‬وليس طريقة للوصول إىل ديانة إثنية‪ :‬املانوية تسامت‬
‫باحلقائق الكلدانية والفارسية عن طريق ضمها كأفكار أقل قيمة وذلك ضمن خمطط لألشياء أوسع وأكثر‬
‫فخامة‪ ،‬أما املسيحية فقد فعلت الشيء ذاته عن طريق رفض الطرفني بوصفهما متماثلني‪ .‬مل يفتقد مسيحيو‬
‫العراق األدىن اهلوية قط‪ :‬كانوا يضمون الفرس‪ ،‬اليونانيني‪ ،‬العيالميني‪ ،‬اآلراميني‪ ،‬القطرية‪ ،‬العرب وآخرين(‪.)83‬‬
‫يسموا أنفسهم سريانه وذلك مقابل الوثنيني؛ لكنهم مل يتشاركوا بني‬ ‫ومثل اآلشوريني‪ ،‬كان باستطاعتهم أن ّ‬
‫أنفسهم بأية هوية قط‪ :‬اهلوية الوحيدة اليت كان عليهم وراثتها كانت الكلدانية‪ ،‬وعندما غّري الكلداين دينه رفض‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )81‬من اجلانب الوثين فابن وحشية يفشل يف تذ ّكر أي ملوك بابليني أصليني‪ ،‬ويتذ ّكر أولئك املدلّسني كحكماء وعقالء يف الدرجة األوىل‬
‫‪(Chwolson,‬ـ‪)ebddbstbe sasseb‬؛ أما يف اجلانب الفارسي فالكافيون مييلون إىل ّ‬
‫تويل املآثر السياسية للملوك األصليني‪(A. .‬‬
‫‪Christensen, Les Kayanides, Copenhagen 1971, pp. 93ff; H. Lewy, “The Babylonian Background of Kay‬‬
‫‪Kâûs Legend”, Archiv Orientaln‬ي‪.) 1949, pp. 29 - 33‬‬
‫‪J. Bides, “Les écoles chaldéennes sous Alexandre et les Sélecuides”, Annuaire de l’Institute de‬‬ ‫(‪)82‬‬
‫‪. philologie er d’histoire orientales 1935‬‬
‫(‪ )83‬أو بكلمات أخرى‪ ،‬مل يكن مثة ما ميكن لنا أن ندعوه مجاعة املسيحيني البابليني‪ :‬فقد صدف وأن صار العراق األدىن ببساطة مركز‬
‫الرسالة املسيحية يف اإلمرباطورية الفارسية وخلف حدودها‪ .‬قارن غياب العنصر اإلثين حني يقال إن أ ّغاي هدى كل اآلشوريني‬
‫«واملناطق اليت حول بابل» ‪ ،)(Cureton, Ancient Syriac Document, pp. 34 = 34‬ويف إشارة الكندي إىل مسيحيي العراق‬
‫األدىن باعتبارهم «مهجين الدلتا الكلدانية» ‪.(W. Muir, The Apology of Alkindy, London 1882, pp. 23f).‬‬

‫‪88‬‬
‫اثنيته كمجوسي وثقافته كزرادشيت(‪ .)84‬املسيحيون اآلشوريون ميتلكون سابقة أصيلة المسهم‪ ،‬لكن املسيحيني‬
‫مل يدعوا كلدانيني إال بطريقة استعمال الشيء يف غري حملّه(‪.)85‬‬
‫كان هنالك بالتايل نسختان متمايزتان عن املسيحية يف الكنيسة النسطورية‪ :‬فمن ناحية كنيسة‬
‫آشوريا احمللية‪ ،‬وهي تأكيد شوفيين على هوية ريفية؛ ومن ناحية أخرى كنيسة فارس احلضرية واليت كان‬
‫مركزها يف بابل‪ ،‬وهي تأكيد كوزموبوليتاين على حقيقة أممية‪ .‬لكن إذا أ ُْم ِكن مقارنة كنيسة آشوريا يف هذا‬
‫الصدد بالكنيسة املصرية‪ ،‬فشوفينيتها أخذت شكالً خمتلفاً إىل حد ما‪ .‬فقد احتفظت مصر بإثنية ولغة‬
‫مميزتني هلا ضمن طبقتها الفالحية‪ ،‬يف حني كانت طبقتها األرستقراطية تنتمي إىل العامل اهلليين األكثر‬
‫اتساعاً؛ آشوريا باملقابل امتلكت طبقة أرستقراطرية مميزة هلا‪ ،‬يف حني شاركت العامل اآلرامي األكثر‬
‫اتساعاً يف إثنيتها ولغتها‪ .‬وهكذا ففي حني كانت الشوفينية القبطية إثنية ولغوية‪ ،‬استدارت شوفينية‬
‫آشوريا إىل ذكريات ماض جميد‪ .‬يف هذا السياق فإن اهتدائني جاءا يف الوقت املناسب أفادا يف تنقية‬
‫امللوك اآلشوريني من سوء مسعتهم حيال الكتاب املق ّدس‪ .‬األول هو سردانا‪ ،‬ابن سنحريب‪ ،‬امللك الثاين‬
‫وشرع‬
‫والثالثون آلشوريا بعد بيلوس وحاكم ثلث العامل املأهول‪ ،‬والذي أذعن لرسالة يونان التوحيدية ّ‬
‫صوم نينوى الذي أنقذ نينوى من الدمار(‪ )86‬؛ ومبا أن الصوم أنقذ اآلشوريني من غضب الرب يف‬
‫املاضي‪ ،‬فقد أعاد تشريعه سابريشو من كرخا دي بيت سلوخ إلنقاذهم من الوباء بعد ألف سنة(‪.)89‬و‬
‫الثاين هو إعادة حترير نسخة اعتناق إيزاتيس الثاين الذي من أديابني اليهودية يف نسخة اعتناق نارساي‬
‫اآلشوري املسيحية(‪ .)88‬كان هذا يعين أن اآلشوريني كانوا موحدين قبل املسيح ومسيحيني بعده‪ ،‬واملاضي‬
‫بالتايل قاد حنو احلاضر دون أي شرخ‪ .‬وهكذا فتاريخ كارخا دي بيت سلوخ يبدأ بامللوك اآلشوريني‬
‫وينتهي بالشهداء اآلشوريني‪ :‬فرعون أسسه(‪ )87‬والشهداء جعلوه «حقالً مباركاً للمسيحية»(‪ .)79‬يشبه‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪J. Bides and F. Cumont, Les mages hellénisés, Paris‬‬ ‫(‪ )84‬من أجل املماثلة بني األشياء الكلدانية واجملوسية‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪ .1938, vol. i, pp. 34f‬من أجل استمراريتها يف الشرق املسيحي‪ ،‬أنظر‪. ibid., pp. 42ff :‬‬
‫(‪ )85‬حنانيا الذي هو من هناية القرن السادس كان كلدانياً‪ ،‬أي جربياً‪(Babai, Liber de unione, ed. and tr. A. Vaschalde .‬‬
‫‪)(CSCO, Scriptores Syri, vols. xxxivf) Louvain 1935, pp. 109 = 77‬؛ أما وطن غيفارغيس‪ ،‬وهو شخص اعتنق‬
‫املسيحية‪ ،‬فكان َكلَديا يف بابل حيث تـُ ْعبد الشياطني واالمور املخلوقة‪.(Hoffmann, Auszüge, p. 93) .‬‬
‫(‪Bedjan (ed.), Acta Martyrum, vol. ii, p. 705 = Hoffmann, Auszüge, p. 43 )86‬؛ قارن مع دور هود بني مسلمي‬
‫اليمن‪.‬‬
‫(‪P. Krüger, “Die Regenbitten Aphrem des Syrers”, Oriens Christianus 1933, pp. 35f; )89‬‬
‫‪. J. M. Fiey, Assyrie chrétienne, vol. iii, Beirut 1968, p. 20‬‬
‫(‪. Marquart, Streifzüge, pp. 296ff )88‬‬
‫(‪( .Bedjan, Acta Martyrum, vol. ii, p. 509 = Hoffmann, Auszüge, p. 44 )87‬على الصفحتني ‪ 599‬و‪43‬‬
‫علىالرتتيب جند أن ساردانا هو الذي يؤسسه)‪.‬‬
‫(‪. Bedjan, Acta Martyrum, vol. ii, p. 512 = Hoffmann, Auszüge, p. 46 )79‬‬

‫‪87‬‬
‫ذلك أنه يف القرن السابع قبل املسيح وقف العامل كله مرعوباً من ساردانا(‪ ،)71‬ويف القرن السابع بعد‬
‫املسيح احتل القديسون مكانه باعتباره «مشس آثور» و «جمد نينوى»(‪.)72‬‬
‫باملقابل‪ ،‬فالكنيسة يف بابل‪ ،‬مل تكن متتلك فخار مصر اللغوي واإلثين وال فخار آشوريا التارخيي‪.‬‬
‫وباملقارنة مع مصر فقد حددوا هويتهم كأغيار(‪ )73‬واستخدموا الفارسية والسريانية على حد سواء(‪.)74‬‬
‫وباملقارنة مع آشوريا‪ ،‬فقد ختلّوا للوثنيني عن املاضي البابلي‪ :‬فنمرود‪ ،‬الذي هو يف آشوريا أحد األسالف‬
‫من امللوك والذي كانوا حيتفلون بذكراه حتت أمساء القديسني املسيحيني(‪ ،)75‬احتُ ِفظ يف بابل مبماثلته مع‬
‫كمؤسس للوثنية الفارسية(‪ )79‬أو اُْدخل يف حل اسرتضائي باعتباره‬ ‫ّ‬ ‫زرادشت(‪ )76‬فأضحى إما مرفوضاً‬
‫املرشد الذي يوحى إليه والذي قاد اجملوس يف البحث عن املسيح(‪)78‬؛ لكنه يف كال احلالتني ظل غريباً‪.‬‬
‫كذلك فبقدر ما أن التقليد الذي مثله ايشوداد املسيحي الذي من مرد يبدو مفصوالً بالكامل عن‬
‫املاضي البابلي‪ ،‬رغم ضخامة تعاليمه‪ ،‬بقدر ما أن التقليد الذي ميثله ابن وحشية يبدو يف عالقة حب‬
‫كاملة مع املاضي البابلي‪ ،‬رغم ضخامة أخطائه‪.‬‬
‫مع ذلك فقد اختلفت الكنيستان اآلشورية والبابلية على حد سواء عن كنيسة مصر يف توجههما‬
‫األرستقراطي؛ األوىل ألن هويتها اآلشورية أُلْبِ َست ثوب أرستقراطية وطنية‪ ،‬والثانية ألن اإلنفصال عن‬
‫هوية وطنية مسح هلا بق بول كامل للقيم األرستقراطية الفارسية‪ .‬وهكذا فنبالء الكنيسة اآلشورية هم الذين‬
‫كونوها‪ :‬التسلسل الالهنائي للفالحني يف أقوال آباء الكنيسة املصريني يفسح اجملال هنا إىل تسلسل ال‬ ‫ّ‬
‫هنائي لعلّية القوم يف أعمال الشهداء الفرس‪ ،‬ويف حني أن عليّة القوم املصريني مل يستطيعوا افتداء‬
‫مكانتهم الدنيوية إال باملضي حنو املونوفيزية‪،‬‬
‫فاملصادر النسطورية تطفح فعالً باإلقرار الشرعي بالطبقة األرستقراطية(‪ .)77‬إن خوف آشوريا على‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Bedjan, Acta Martyrum, vol. ii, p. 507 = Hoffmann, Auszüge, p. 43 )71‬‬
‫(‪E. A. W. Budge (ed. and tr.), The Histories of Rabb )72‬م‪rmîzd the Persian and Rabbِn H‬م ‪n Bar ‘Idta,‬‬
‫‪. London 1952, pp. 115, 119 = 116, 240‬‬
‫(‪ )73‬من يوكتان ‪ Yoktan‬خرجت األمم الثالث عشرة اليت تتحدث اللغة السريانية واليت متت ّد مواطن سكنها من سفارفيم إىل ميشا‪ ،‬أي‬
‫من حدود كنعان إىل مسني‪ ،‬حيث تصل حدودها إىل عيالم (هذا ما قاله اشوع داد؛ أنظر‪van den Eynde, Commentaire, :‬‬
‫‪I, Genèse, pp. 131f = 143‬؛ قارن‪Solomon of Basra, The Book of the Bee, ed. and tr. E. A. W. Budge, :‬‬
‫‪.)Oxford 1886, chapter xxii, pp. 36 = 36‬‬
‫(‪. Sachau, Syriche Rechtbücher, vol. iii, p. vii )74‬‬
‫(‪. Bedjan, Acta Martyrum, vol. iv, pp. 184ff )75‬‬
‫(‪ )76‬قارن‪. Bidez and Cumont, Les mages hellénisés,vol.i,pp.42ff :‬‬
‫(‪ )79‬يعلّم منرود أردشري التنجيم والعادات اجلنسية الزرادشتية القبيحة وذلك كما يقول‪E. A. W. Budge (tr.), The Book of the :‬‬
‫‪. Cave of Treasures, London 1927, pp. 143f‬‬
‫(‪A. Rücker, “Zwei nestorianische Hymnen über die Magier”, Oriens Christianus 1923 )78‬؛ قارن‪:‬‬
‫‪. Monneret de Villard, Le Leggende Orientali sui Magi evangelici, Rome 1952‬‬
‫(‪ )77‬إضافة إىل النبالء املذكورين آنفاً (اهلامش ‪ 91‬من هذا الفصل)‪ ،‬الحظ أيضاً رازشاه‪ ،‬وهو رجل غين وحمرتم من أديابني اهتدى مع‬
‫أتباعه‪(Msiha-Zkha in Mingana, Sources syriaques, pp. 14ff - 90ff). .‬؛ نبالء أربيال الذين رغبوا بسابريشو كمطران‬
‫هلم ‪(A. Scher, “Histoire du Couvent de Sabri‬ڑ‪)o”, Revue de L’Orient chrétien 1906, p. 187‬؛إقطاعي بيت‬

‫‪79‬‬
‫منروداهتا أو سنحاريباهتا احملليني مقرتن باجالهلا احلضري للساللة امللكية ألي سابا‪ ،‬يوحنان‪ ،‬أو‬
‫غوليندخت(‪ ،)199‬والنساطرة بالتايل كانوا متوحدين يف تقديرهم العايل للسلطة‪ ،‬الثروة‪ ،‬وللشهرة‬
‫(‪)191‬‬
‫تعصب الشاهنشاهات حيول دون العمل يف البالط‬ ‫الدنيوية ‪ .‬والواقع أنه من حني آلخر كان ّ‬
‫امللكي(‪ )192‬؛ مع ذلك فاألقطاب احملليون استطاعوا البقاء يف السلطة‪ ،‬كما لعب العلمانيون دوراً بارزاً يف‬
‫الكنيسة النسطورية‪ ،‬أما الشاهنشاهات املتساحمون فقد كانوا يتلقون اخلدمات الطوعية ملواليهم‬
‫املسيحيني(‪)193‬؛ من بني كل العلمانيني جند يزدين الكركوكي املوظّف األمريي املسؤول عن الضرائب‬
‫واجلزية والغنائم خلسرو الثاين‪ ،‬والذي كان مبجالً باعتباره «املدافع عن الكنيسة بطريقة قسطنطني‬
‫وثيودوسيوس» (‪ .)194‬وهكذا فالنساطرة كانوا متشاهبني يف احتاد موقفهم من امللك الفارسي‪ :‬فاجلميع‬
‫قبلوا بالتفوق السياسي لإلمرباطورية الفارسية‪ ،‬وحىت اآلشوريني مل يكن باستطاعتهم أن يأملوا بإعادة‬

‫غورباك‪ ،‬وهو أحد النبالء املؤمنني املستقيمني )‪(Budge, Histoiries, pp. 136 = 201‬؛ والد ترييز ‪-‬اشوع املفرط يف غناه والذي‬
‫ق ّدم لبارعوتا حقالً غايل الثمن )‪ (ibid., pp. 143 = 214‬؛ نبالء بيت غارماي وبيت نوهاردا الذين زاروا مار اشوع سابران يف‬
‫السجن ‪(Isho ‘yahab of Adiabene, Histoire de Jésus - Sabran, ed. with French Summary by J. - B.‬‬
‫‪)Chabot, Paris 1897, p. 498‬؛ اشوع ‪-‬يهب االديابيين‪ ،‬الذي هو ذاته ابن أحد النبالء ‪(Thomas of Marga, The Book‬‬
‫‪)of Governor, ed. and tr. E. A. Budge, London 1893, pp. 194 = 378‬؛ توما املارغاين‪ ،‬الذي كتب كتاب احلكام‬
‫بناء على طلب أحد حكام أديابني الذي قد يكون ابن سابريشوع‪ ،‬وهو أحد األقطاب الذين زاروا دير الناسك سابريشوع ‪(Scher,‬‬
‫‪“Histoire du couvent de Sabri‬ڑ‪ .)o”, p. 194n‬مار بنيامني من بيت نوهاردا‪ ،‬وهو ابن لوالدين مشهورين والمعني‪ ،‬وصاحيب‬
‫مقام رفيع يف البالط الفارسي‪ ،‬واللذين اعتنقا املسيحية يف زمن متأخر ‪(V. Scheil, “La vie de Mar Benjamin”, Revue de‬‬
‫‪.)l'Orient chrétien 1897, p. 247‬‬
‫(‪ )199‬سابا هي عائلة مهران ‪ .)(Bedjan, Acta Martyrum, vol. ii, p. 603 = Hoffmann, Auszüge, p. 68‬مار يوحنان‬
‫كانت جتري يف عروقه دماء ملكية‪(Isho’denah, Livre de chasteté, ed. and tr. J. B. Chabot, Paris 1896, pp. 4 .‬‬
‫‪)= 230‬؛ مثله أيضاً مار غريغور )‪(Hoffmann, Auszüge, p. 78‬؛ غوليندخت وأقارهبا كانوا ينتمون إما إىل طبقة النبالء الفرس أو‬
‫إىل طبقة الكهنة ‪(P. Pectres, “Sainte Golindouch, martyre prese’, Analecta Bollandiana 1944, pp. 82,‬‬
‫‪105; P. Devos, “Sainte‬ٹ‪sِîrîn, martyre sous Khosrau I An‬م‪.)rvan, ibid, 1946, pp. 94f‬‬
‫(‪ )191‬األمثولة متجسدة يف يوسف وتقال اللذين من خوزستان‪ ،‬واللذين كانا ينعمان جيداً بثروات هذا العامل الذي سيذهب وسوف‬
‫يتحلّل وهكذا فقد كان اخلدم من الذكور واإلناث يرعون مصاحلهما حني كانا يقومان خبدمة املالئكة عرب الصوم والصالة ‪(Budge,‬‬
‫)‪.Histories, pp. 9 = 13f‬‬
‫احلزي الذي كان يعمل‬‫(‪ )192‬من هنا جاء نكران الذات و‪/‬أو شهادة كل من مارقره داغ (أنظر اهلامش ‪ 91‬من هذا الفصل)‪ ،‬يوحنان ّ‬
‫رامياً للنبل يف حاشية امللك ‪(Scher,“Histoire du couvent de Sabri‬ڑ‪ ،)o”, pp. 189f‬طقطق الذي كان خادماً للملك‬
‫(‪ ،) Bedjan, Acta Martyrum, vol. iv, pp. 181ff‬غريغور الذي كان حاكم احلدود الشمالية ‪(Hoffmann, Auszüge,‬‬
‫)‪ ،pp.78f‬وغريهم‪.‬‬
‫(‪ )193‬من ذلك السكرتارية املسيحية لقائد سالح الفرسان امللكي ‪،)(Isho ‘-yahab, Histoire de Jésus - Sabran, p. 495‬‬
‫املسؤول املسيحي عن السجن الذي ُرمي فيه ايشوع ‪ -‬سابران )‪ ،(ibid., p. 496‬وغريهم من العلمانيني العديدين الذين برزوا داخل‬
‫البالط الساساين وخارجه كما خيربنا‪J. M. Fiey. “Les laïcs dans l’histoire de L’Eglise syreinne orientale”, :‬‬
‫‪. Proche - Orient Chrétien 1964‬‬
‫الع ّشار»‪.‬‬
‫اخلري»‪« ،‬يزدين الفاضل»‪« ،‬يزدين َ‬ ‫(‪Fiey, Assyrie chrétienne, vol. iii, p23 )194‬؛ قارن‪« :‬يزدين املؤمن»‪« ،‬يزدين ّ‬

‫‪71‬‬
‫إحياء سنحاريبية؛ لكن ما أثار حنقهم كان تعصب الزرادشتية اإلثين‪ ،‬لذلك فقد كان هدفهم هداية‬
‫الشاهنشاه إىل املسيحية وليس اإلنفصال عن حكمه(‪.)195‬‬
‫كأعضاء يف كنيسة أرستقراطية كان النساطرة خيتلفون أيضاً عن األقباط يف امتالكهم لثقافة علمانية‬
‫غنية‪ :‬فتقديرهم الرفيع للسلطة الدنيوية كان مقرتناً بتقديرهم الرفيع للعقل البشري‪،‬وهي مسألة صادق‬
‫عليها الالهوت النسطوري‪ .‬كان مرجعهم الرمسي‪ ،‬وهو ثيودوروس املصيصي‪ ،‬يعرف بالطبع عقيدة سقوط‬
‫آدم التقليدية‪ ،‬واليت ترى حالة اخللود واملباركة األوىل قد عُطِّلت باإلمث وأفسدت على حنو تصاعدي‬
‫وذلك حىت العودة الدرامية للنعمة مع املوت اخلالصي ليسوع‪ .‬لكنه كان يعلّم أيضاً عن عقيدة أخرى‬
‫حتكي عن حالة نقص ّأولية تق ّدم اإلنسان منها يف ظل اهلداية اإلهلية حىت أُعيد اكتساب اخللود مع قيامة‬
‫املسيح األمثولية(‪ .)196‬وهكذا فقد أكدت العقيدة األوىل على حاجة اإلنسان للنعمة‪ ،‬يف حني أكدت‬
‫األخرى على قدرته على مساعدة ذاته‪ :‬إذا كان للتوجيه اإلهلي أي تأثري فاإلنسان جيب أن يكون‬
‫بالضرورة قادراً على التمييز بني اخلري والشر وأن يعمل مبا ميليه عليه عقله‪ ،‬ولذلك جيب أن يكون الشر‬
‫اخلرية(‪ .)199‬هذا الرأي الثاين هو الذي اختاره النساطرة‪ ،‬وإذا مل ميضوا يف‬
‫فعالً لإلرادة وفعالً ضد املعرفة ّ‬
‫طريقهم حنو البيالجية(‪ ،)198‬أو خيتزلوا الفداء إىل جمرد رمز خللود مستقبلي(‪ ،)197‬فهم حتماً عظّموا العقل‬
‫على حساب النعمة(‪.)119‬‬
‫لقد أدى امتالك التفكري العلماين ملالذ آمن اجتماعياً وعقائدياً إىل أمرين بالنسبة للثقافة النسطورية‪.‬‬
‫أوالً‪ ،‬يف حني كانت الكنيسة القبطية ريفية جلفة‪ ،‬كانت الكنيسة النسطورية أكادميية‪ .‬بل إن أكثر ما‬
‫يلفت النظر يف املسألة‪ ،‬هو أهنا دشنت واحدة من مدارس الالهوت اليت ال عالقة هلا باألديرة القليلة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫اجملل للملك الفارسي؛ وهم مل يهتموا بأن‬
‫(‪ )195‬كما يظهر إىل حد ما يف حماوالهتم املركزة هلداية الطبقة النبيلة الفارسية‪ ،‬وإىل حد ما يف موقفهم ّ‬
‫يربهنوا على شرعية أعماهلم فقط(قارن‪P.Devos, ‘ Abgar , hgagiographe perse méconnu’ , Analecta :‬‬
‫‪.)Bollandiana,p.323‬بل لقد أضفوا على يزدجرد املتسامح كل االلقاب اليت اطلقت على قسطنطني‪:‬فمثل قسطنطني‪،‬كان يزجرد حيقق‬
‫اهلل‪،‬احل السلم يف العامل ( ‪ibid.,‬‬
‫ّ‬ ‫االنتصار تلو االنتصار ‪،)(Chabot,Synodicon Orientale,pp.20=258‬وصل اىل امللَكية بنعمة من‬
‫َ‬
‫‪،)pp. 37=276‬كان مسيحياً(كذا) ومباركاً بني امللوك (‪.)Chronica Minora,pp.137=107‬مل تظهر حرارة كهذه قط أمام اخللفاء‬
‫املسلمني‪ ،‬متساحمني كانوا أم غري متساحمني‪.‬‬
‫(‪W. F. Macomber, “The Theological Synthesis of Cyrus of Edessa”, Orientalia Christiana )196‬‬
‫‪. Periodica 1965‬‬
‫(‪bus, History of the School of Nisibis (=CSCO, Subsidia, vol. xxvi), Louvain 1965, pp. ِِ;A. V )199‬‬
‫‪ . 237f‬قارن‪id., “Theological Reflexions on Human Nature in Ancient Syriac Traditions”, in P. J. :‬‬
‫‪Hefner (ed.), The Scope of Grace, Essays on Nature and Grace in Honor of Joseph Sittler,‬‬
‫‪. Philadelphia 1964‬‬
‫(‪. F. Heiler. Die Ostkirchen, Munich and Basel 1971, p. 317 )198‬‬
‫(‪A. Boumstark, “Die nestorianische Schriften de causis festorum”, Oriens Christianus 1901, p. )197‬‬
‫‪. 340‬‬
‫(‪ )119‬قارن‪P. Krüger, “Zum theologischen Menschenbild des Babai d. Gr.”, Oriens Christianus 1960; :‬‬
‫‪id., “Das Problem Pelagianisimus bei Babai dem. Grossen.”, ibid, 1962; id., “Das Geheimnis der‬‬
‫‪ ،Taufe in den Werken Babais d. Gr.”, ibid, 1963,‬قارن أيضاً ثقة أشوع داد بأن البشر يستطيعون بالقانون الطبيعي‬
‫التمييز بني اخلري والشر‪.)(van den Eynde, Commentaire, I, Genèse, pp. 65f = 71 .‬‬

‫‪72‬‬
‫العدد يف الشرق األدىن وذلك حني هاجرت مدرسة الرها إىل نصيبني(‪ ،)111‬ونصيبني بدورها أوجدت‬
‫سلسلة مدارس أخرى أصغر منها حجماً؛ كذلك فقد دشنت مدرسة ثانية مع استقرار سجناء احلرب يف‬
‫(‪)112‬‬
‫تكرر تأسيس املدارس الواحدة تلو األخرى يف حياة وجهاء‬ ‫جنديسابور ‪ .‬وبشكل عام فقد ّ‬
‫النساطرة‪ ،‬والقليل من األديرة كان دون مدرسة (‪.)113‬‬
‫ثانياً‪ ،‬يف حني رفضت الكنيسة القبطية الفكر اليوناين باعتباره فكراً وثنياً من الناحية األخالقية‪ ،‬فقد‬
‫أضفت عليه الكنيسة النسطورية صفة شرعية باعتباره مسيحياً جاء قبل أوانه‪ .‬ألنه مل تكن ثقافة آشورية‬
‫تلك اليت كانت تـُ َعلفم يف املدارس اآلشورية‪ :‬اإلفقار الثقايف يف آشوريا مل يكن أقل انتشاراً من اإلفقار‬
‫الثقايف يف مصر‪ ،‬وكما كان اإلرث املصري يف األدب القبطي حمدداً مبقوالت من القصص الشعيب‪ ،‬كذلك‬
‫متاماً كان اإلرث اآلشوري يف األدب املسيحي حمدداً بأحيقار‪ ،‬وزير امللوك اآلشوريني(‪ .)114‬لكن بعكس‬
‫الفالحني املصريني‪ ،‬استطاعت النخبة اآلشورية استعاضة ما فقدته باحلقائق الشاملة للفلسفة اليونانية‪.‬‬
‫فهم مل يرتمجوا الفالسفة فحسب بل جمّدوهم(‪ ،)115‬ويف الوقت املناسب صار النساطرة ماهرين يف‬
‫الفلسفة مبا يكفي ألن يص ّدروها إىل العرب من جديد(‪.)116‬‬
‫يف الوقت ذاته فإن مصري الرهبنة عند النساطرة كان بالتايل خمتلفاً عن مصري الرهبنة بني املونوفيزيني‪.‬‬
‫فقد بدأت مسيحية مابني النهرين كحركة رهبانية وفق األمنوذج السوري‪ ،‬مع كنيسة أبرشية م ّكونة من‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. bus, History of the School of NisibisِِA. V )111‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, c.v, “Gondeshapour” )112‬‬
‫(‪bus, History of the School of Nisibis, pp. 204-7, 290, 299, 311; Scher,“Histoire du ِِA. V )113‬‬
‫‪couvent de Sabri‬ڑ‪. o”, p. 184; Macomber, “Theological Synthesis”, p. 7‬‬
‫(‪Baumstark, Geschichte der syrischen Literatur, pp. 11f )114‬‬
‫(‪ )115‬كان حنانيا يق ّدم لتالميذه طبقاً شهياً من األسفار املقدسة مملحاً بكلمات الفالسفة األنيقة ‪(Barhadbeshabba, La cause‬‬
‫‪)de la fondation des ecoles, ed. and tr. A. Sher, in Patrologia Orientalis, vol. iv, p. 392‬؛ أما داد ايشوع‬
‫قطرايا فلم يفهم ملاذا كان عليه أن يستشهد بالكتاب املقدس أو بأقوال آباء الكنيسة يف مسألة أولوية حياة العزلة إذا كان الفالسفة قد‬
‫قالوا ذلك واختربوه ‪(A. Mingana (ed. and tr.), “Treatise on Solitude and Prayre by Dadisho Katraya, in his‬‬
‫‪)Woodbrooke Studies, vol. vii, Cambridg 1934, f 28b. = p. 111‬؛ لقد جاء جمد نينوىمن الفالسفة الذين كانت‬
‫تقدمهم ‪)(Budge, Histories, pp. 159 = 240‬؛ أما ايشوع داد فكان من أنصار الرأي القائل إن كتّاب إسرائيل ثـُ ِّقفوا يف أسرار‬
‫اهلندسة‪ ،‬احلساب‪ ،‬البالغة والفلسفة )‪(van den Eynde, Commentaire, I, Genèse, pp. 6 = 7‬؛ ويعتقد توما املارغي أن‬
‫إيزال ‪ Izla‬بالنسبة للنساطرة كانت مثل أثينا بالنسبة لليونانيني ‪.)(Book of Governers, pp. 23 = 42‬‬
‫(‪ )116‬بولس الفارسي‪ ،‬وهو أحد خرجيي نصيبني‪ ،‬هو مؤلف كتاب ‪( Instituta regularia divinae lgis‬أدرجة ‪ J. P. Migne‬يف‬
‫‪ ،Patrologia Latina‬باريس ‪ ،1871 - 1844‬اجمللد ‪ )Lxviii‬وقد تُرجم إىل الالتينية‪ ،‬رمبا من اليونانية‪ ،‬حتت عنوان‬
‫‪ quaestor sacri palati‬يف القسطنطينية ‪bus, “Abraham De-Bet Rabban and his Role in the ِِ(V‬‬
‫‪.)Hermeneutic Traditions of the School of Nisibis”, The Harvard Theological Review, 1965, pp 211f‬‬

‫‪73‬‬
‫«أبناء العهد»(‪ )119‬املنذورين‪ .‬لكن كما وجد القبط أن باستطاعتهم أعادة بناء مصر املقدسة يف‬
‫الصحراء‪ ،‬كذلك متاماً وجد اآلشوريون أن باستطاعتهم إعادة خلق صورة لنظام ُحكْمهم حول طبقتهم‬
‫األرستقراطية‪ .‬لذلك يبدو مفاجئاً‪ ،‬أن النظام النسكي قد استؤصل بالفعل‪ ،‬وذلك مع تبين العقيدة‬
‫النسطورية‪ :‬مل يبق من «أبناء العهد» إال االسم(‪ ،)118‬فألغيت عزوبة رجال الدين(‪ ،)117‬ومل تعد الرهبانية‬
‫حتظ بالتشجيع(‪ .)129‬باملقابل فحني عادت النسكية يف هناية األمر‪ ،‬كانت يف شكل جديد وخمتلف‪.‬‬
‫وكما يف مصر‪ ،‬فقد نُظِّمت الرهبانية وفق األمنوذج الباخومي؛ مع ذلك فمقارنة مبصر كان الرهبان ال‬
‫ميثّلون سوى مرحلة إعدادية يف املسرية الروحانية‪ .‬وكما يف سوريا‪ ،‬فإن النساك هم الذين حافظوا على‬
‫فخار املكان؛ مع ذلك فمقارنة بسوريا كان سبب وجودهم إيفاغرياً‪ .)121( Evagrian‬وهكذا مل يكن‬
‫لدى العراق كيبوتزمي‪ :‬مل يكن النساطرة ينفرون من السكن يف الصحراء‪ ،‬لكنهم كانوا يفعلون ذلك‬
‫بسبب العزلة اليت تصاحب هذا السكن‪ ،‬وليس كي يزرعوا الزهور يف الرمال‪ .‬لكن باملقابل‪ ،‬مل يكن لدى‬
‫العراق قديسون عموديون‪ :‬فالنساطرة مل يكرهوا إماتة اجلسد‪ ،‬لكنهم كانوا يفعلون ذلك ليعفوا أنفسهم‬
‫من اخلدمة الكهنوتية املرهقة بسبب متطلباهتا اليت مل يكن لديهم هلا وقت وال تفكري ألهنم كانوا يالحقون‬
‫(‪.)122‬‬
‫الرؤيا السرانية هلل‪ ،‬وليس ملعاقبة اجلسد على خطاياه‬
‫باملقارنة مع مصر وآشوريا فإن إقليم سوريا املتشظي مل ميتلك قط ال هوية وال هويتني‪ ،‬وعوضاً عن‬
‫ذلك كان مش ّكالً من جمموعة وحدات دقيقة سياسية‪ ،‬إثنية ودينية‪ .‬ما من أحد كان يتذ ّكر يف مصر تلك‬
‫األيام اليت كان فيها لكل والية ملك‪ ،‬أما اللقب الفرعوين فال يُذ ّكر إال بأن البلد كانت ذات يوم‬
‫مملكتني؛ باملقابل ففي سوريا كان اجلميع يعرفون أنه‪ ،‬قبل أيام أغسطس‪ ،‬كان لكل مدينة‪ ،‬وعملياً لكل‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪Church History 1951 e”ease oprb Mdebees di Odeasteeesb ee Obsdsdtabeaِِ ِV )119‬؛ قارن ص‬
‫‪.169‬‬
‫(‪A. Rücker, ‘Eine Anweisung für geistliche )118‬ـ‪nche des 7. Jahrhunderts’, ِbungen nestorianischer M‬‬
‫‪. Oriens Christianus 1974, p. 194‬‬
‫(‪. Chabot, Synodicon Orientale, pp. 56ff = 303 ff )117‬‬
‫(‪B. Spuler, Die morgenl )129‬ن ‪. ndischen Kirchen, Leyden 1964, p. 129‬‬
‫(‪. A. J. Wensinck (tr.), Mystic Treatises by Issac of Ninive, Amsterdam 1923, pp. xxiiff )121‬‬
‫(‪ )122‬هكذا يقول‪Martyrius (Sahdona), Qeuvres spirituelles, vol. i-iii, ed. and tr. A. de Halleux (=CSCO, :‬‬
‫‪ .Scriptores Syri, vols. Lxxxvif, xcf, cxf), Louvain 1960 - 5‬وأيضاً املقاالت السرانية اليت نشرها ‪ Mingana‬يف‬
‫عمله ‪ ، Woodbrooke Studies, vol. vii‬اجمللد السابع‪ .‬الحظ كيف أن املنذورين والالهوتيني يف العراق أضحوا يشرتكون يف توجه‬
‫مسالياً ‪Liber ،Messalian‬‬ ‫سراين عام‪ ،‬وإن ليس بدرجة متشاهبة من األرثوذكسية وذلك مع العمل الذي حيتمل أن يكون ّ‬ ‫ّ‬
‫‪)graduum(ed. and tr. M. Kmosko, in R. Graffin (ed.), Patrologia Syriaca, Paris 1894 - 1926, vol. iii,‬‬
‫من ناحية‪ ،‬وعمل باباي ‪ Liber de unione‬من ناحية أخرى‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫(‪)123‬‬
‫مقسمة‬
‫قرية‪ ،‬ملكها اخلاص هبا ‪ .‬كذلك فقد كان ملصر اثنيتها الوحيدة والفريدة‪ ،‬لكن سوريا كانت ّ‬
‫بني الفينيقيني‪ ،‬اآلراميني‪ ،‬اليهود‪ ،‬الكنعانيني‪ ،‬العرب‪ ،‬إخل؛ ويف حني كان ملصر ديانتها الوحيدة والفريدة‪،‬‬
‫كانت تعددية امللوك احملليني يف سوريا مقرتنة بتعددية بعليم (مجع بعل)حمليني‪.‬‬
‫مدمراً‪ .‬فمن ناحية مل‬
‫إن تأثري الغزو الغريب على جمموعة اهلويات ذات النطاق الصغري هذه كان ّ‬
‫يكن مثة فرعون سوري لألنباط أو لزنوبيا كي يسرتدوه‪ ،‬أو للسلوقيني وللرومان كي يرثوه؛ وحب اهللينية‬
‫بىن سياسية حملية(‪ .)124‬ومن ناحية‬ ‫بالنسبة لإلثنني األولني يقرتن بفشل اإلثنني اآلخرين يف إدامة أي ً‬
‫أخرى مل يستطع الغزاة ترك الريف وشأنه‪ .‬وبعكس البطاملة الذين استطاعوا حكم مصر باسكندرية ضد‬
‫ممفيس وبطليماس ضد طيبة‪ ،‬كان على السلوقيني أن يبنوا مدينة لكل ملك مدينة؛ وحني استطاعت‬
‫اهلوية الوطنية ملصر أن هت ّدد باستيعاب اليونانيني‪ ،‬مل تستطع إثنيات سوريا الوطنية سوى أن ختسر كياناهتا‬
‫الفردية لتبزغ كإثنية آرامية مقابل اليونانيني‪ .‬وهنا كما هناك‪ ،‬حافظ الكهنة على وجودهم‪ .‬لكن بسبب‬
‫السمة املتشظية للتقاليد اليت كانوا ميثلوهنا‪ ،‬وتعرضهم الكامل للهلينية‪ ،‬فقد كانت قدرهتم على حفظ‬
‫اهلوية الوطنية بالضرورة حمدودة جداً‪ .‬فمن منظور ثقايف‪ ،‬مل يكن مثة مانثو ‪ Manetho‬أو بريوسوس‬
‫دون التقليد الفينيقي‪ ،‬مل يكن كاهناً حملياً بل أنتيكياً يكن‬
‫اجلبيلي‪ )،‬الذي ّ‬ ‫‪ Berossus‬سوري‪ :‬وفيلون‬
‫حباً هلينياً للعلوم السرية الشرقية ؛ يف حني أن هليودوروس‪ ،‬الذي رمبا كان كاهناً يف محص‬
‫(‪125‬‬

‫‪ ،Emesa‬كتب كروائي يكن حباً هلينياً للعجائب الشرقية(‪ .)126‬من الناحية السياسية‪ ،‬مل يكن لدى‬
‫الكهنة السوريني ما حياربون ألجله أو يبكون عليه‪ :‬فأورانيوس انطونيوس الذي ص ّد الفرس باحلمصيني‬
‫احملليني‪ ،‬مل يكن ايزودورس الذي حارب الرومان بالبوكولوي ‪ )129(boukoloi‬احملليني؛ يف حني أن‬
‫جوليا دومنا كانت تطمح إىل صنع أباطرة رومان‪ ،‬وليس ملوكاً سوريني‪ ،‬متاماً كما أن نوستاليجيتها كانت‬
‫للوثنية اليونانية عموماً‪ ،‬وليس لطقوس محص املقدسة على حنو خاص(‪.)128‬‬
‫وهكذا اختفت أشكال احلكم الوطنية ليس فقط مادياً‪ ،‬بل أيضاً أخالقياً‪ :‬فكما استطاع إيونوس‬
‫‪ Eunus‬الذي محسته اإلهلة سريا ‪ Dea Syra‬كي حيارب من أجل حريته الشخصية يف صقلية‬
‫الرومانية القدمية أن يعلن أنه ملك هليين ليس إال(‪)127‬؛ كذلك متاماً فإن ثيودورتيس الذي أهلمته‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪Theodoretus of Cyrrhus, Thérapeutique des maladies helléniques, ed. and tr., P. Canivet, Paris‬‬ ‫(‪)123‬‬
‫‪ .1958, x:35‬مات ثيودوريتوس عام ‪ 469‬تقريباً‪.‬‬
‫احملرض على سياسة التمصري إلفرغيتس ‪ Euergetes‬الثاين يف مصر وسياسة اهللينة ألنطونيوس إبيفانس يف‬ ‫(‪ )124‬كان خطر روما هو ّ‬
‫كرس إبيفانس ذاته يف املعابد اليهودية واملسيحية‪.‬‬
‫نصب إفرغيتس باوس الوطين دوقاً لطيبة‪ّ ،‬‬
‫سوريا؛ ويف حني ّ‬
‫(‪J. Hastings (ed.), Encyclopaedia of Religion and Ethics, Edinburg 1908 - 26, s.nn “Philo )125‬‬
‫‪.Byblius”, "Sanchuniathon‬‬
‫(‪ . E. Rohde, Der griechische Roman, Leipzig 1910,pp.453ff )126‬موقعه الكهنويت متضمن يف زعمه بأنه متحدر‬
‫من هليوس‪.‬‬
‫(‪ )129‬رغم أن أورانيوس ينحدر من اإلله احمللي فقد حاول أن يصل إىل مكانة أغسطس إمرباطور‪(R. MacMullen, Enemies of .‬‬
‫‪.)the Roman Order, Cambridge, Mass. 1967, pp. 18f‬‬
‫(‪ )128‬قارن كفالتها املالية ألبولونيوس الذي من تيانا ‪.Tyana‬‬
‫(‪ )127‬سوري من أفاميا‪ ،‬قاد ثورة العبيد الصقليني عام ‪ 136‬قبل امليالد مطلقاً على نفسه اسم «أنطيوخوس‪ ،‬ملك السوريني» ‪(J.‬‬
‫)‪Vogt, Struktur der antiken Sklavenkriege, Mainz 1957, pp. 18f‬‬

‫‪75‬‬
‫مسيحيته كي يدافع عن استقالليته الثقافية يف أواخر العصر الروماين يف سوريا استطاع استعمال امللوك‬
‫الفينيقيني ليزعم فقط عن امتالك سابق حلقيقة يهودية(‪ .)139‬وحدها الرها‪ ،‬اليت حافظت على استقالل‬
‫متقلقل وفق األمنوذج اآلشوري حىت عام ‪ ،216‬حافظت على ذكرى ملوكها احملليني(‪)131‬؛ ويف حني‬
‫كانت اديابني حكومة خالفة آشورية‪ ،‬فإن اوسرهونة ‪ Osrhoene‬مل تكن مملكة متياين شاحبة(‪.)132‬‬
‫لكن من كان الس ّكان اآلراميون ملدينة يونانية حمكومة من ساللة ملكية عربية بني فارس وروما‪ ،‬حني هم‬
‫بال ماض(‪)133‬؟ لقد اختفى ملوك املدن وذكرياهتم بالضرورة من أرض البشرعلى حد سواء‪ ،‬ومعهم‬
‫ُضفيت عليهم‪ .‬وظل إقليم مصر الروماين كيمه ‪ ،Kème‬فكيمه هي اليت‬ ‫اختفت اهلويات اليت أ ِ‬
‫جمرد إقليم روماين‪ ،‬فسوريا كانت النتاج لغزو‬
‫حافظت على وجود الغزو الغريب‪ ،‬لكن فينيقيا كانت ّ‬
‫أجنيب(‪.)134‬‬

‫على حنو مشابه‪ ،‬فالثقافات احمللية جرى طمسها‪ .‬ويف حني كانت الفعاليات الفكرية اليونانية يف‬
‫مصر مركزة على حنو كبري يف اإلسكندرية‪ ،‬كان يف سوريا الكثري من تلك املراكز‪ .‬فالكهنة املتهلينون وخنبة‬
‫مدنية كانوا موجودين يف كل بقعة من تلك األرض‪ ،‬وهكذا فقد قبلت سوريا الوثنية بالثقافة اليونانية‬
‫يدي كاهن سوري‪ ،‬والكاهن السوري أرسل ابنه إىل مدرسة‬ ‫باعتبارها حملية أخالقياً‪ُ :‬كِّرس يوليانوس على ّ‬
‫يونانية(‪)135‬؛ األباطرة كافأوا أبناء اإلقليم السوريني مبنصب حملي‪ ،‬وأبناء اإلقليم السوريون تلقوا تعليماً‬
‫يونانياً ‪ -‬رومانياً(‪ .)136‬لذلك لن نتفاجأ إذا ما وجدنا سوريا تق ّدم سرباً من األدباء املتهلينني مل تق ّدم‬
‫مصر ما يوازيهم ال كماً وال نوعاً‪ :‬رمبا أن بوسيدونيوس األفامي كان من أصل يوناين‪ ،‬لكن بورفرييوس‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪Theodoretus of Cyrrhus, Thérapeutique des maladies helléniques, ii: 44 - 6 )139‬‬
‫(‪. J. B. Segal, Edessa, the Blessed City, Oxford 1970, pp. 9ff )131‬‬
‫(‪ )132‬مع أن احلوريني رمبا ُخيَلّدون طبعاً حتت اسم اورهاي ‪ /‬اوسرهونه؛ لكنه من ديدن احلالة السورية أنه حىت يف القرن السادس عشر‬
‫قبل املسيح كان جيب أن يكون احلوريون من طبقة أرستقراطية آرية‪.‬‬
‫(‪ )133‬حت ّدد املصادر الغربية هوياهتم عموماً بأهنم عرب ‪(Pauly - Wissowa, Realencyclop‬ن”‪)die, art. “Edessa‬؛ أما‬
‫املصادر السريانية فتقول اهنم بارثيون على اإلمجال‪ ،‬أنظر على سبيل املثال‪Cureton, Ancient Syriac Document, pp. 41, :‬‬
‫‪ .94 = 42, 93‬قارن‪.Segal, Edessa, p. 131, 170 :‬‬
‫(‪ )134‬قد تكون طبعاً فينيقيا احمللية اليت تقع خلف نظر َملِك بعلبك املسياين‪(P. J. Alexander, The Oracle of Baalbek (= .‬‬
‫‪ )Dumbarton Oaks Studies, vol. x), Washington D.C. 1967, Lines 205ff = p. 29‬لكنها حتتاج إىل عيون جيدة‬
‫كي تراها‪ .‬وحىت الرها‪ ،‬مل تكن تتوق لعودة أجبرها‪..‬‬
‫(‪ )135‬كما يف حالة رابّوال )‪(Overbeck, Opera selecta, p. 160‬‬
‫(‪ )136‬هنالك ع ّدة أمثلة أوردها سيك؛ أنظر‪ .Seeck ,Briefe des Libanius :‬أنظر مثالً‪« :‬يوليانوس السابع»؛ «أوليبيانوس‬
‫األول»؛ «كريلّس األول»؛ «غايانوس األول»؛ « ّأديايوس»؛ صاحب االسم األخري قد يكون هو ذاته ّأداي الذي كان مسؤوالً‬
‫حكومياً يف الرها عام ‪376‬؛ أنظر‪(F. C. Burkitt (ed. and tr.), Euphemia and the Gothus, London 1913, pp. :‬‬
‫‪ .)46 = 131‬قارن أيضاً بروز املفكرين السوريني يف أثينا يف القرن الثالث‪(F. Millar, “P. Herennius Dexippus, the .‬‬
‫‪.)Greek World and the Third Century Invasions”, Journal of Roman Studies 1969, pp. 16, 18‬‬

‫‪76‬‬
‫وامبليخوس كانا سوريني حتماً؛ أما أميانوس مارسيلينوس األنطاكي الذي كتب بالالتينية فكان على‬
‫األرجح يونانياً‪ ،‬لكن لوقيانوس السميساطي كان حتماً سورياً يكتب باليونانية وهلم جرى‪.‬‬
‫يف هذه الظروف فإن البنيان املعريف للهلينية مل يستطع‪ ،‬كما يف مصر‪ ،‬أن ينحط حبيث يرتك السكان‬
‫احملليني يكتوون بنار خرافاهتم‪ .‬الوجه اآلخر للتسامح الثقايف هو التعددية الثقافية‪ ،‬وإذا كان املصريون قد‬
‫وجدوا أن سوقهم الثقافية راكدة يف عزلة عن العاصمة اهللينية‪ ،‬فالسوريون باملقابل وجدوا أن سوقهم‬
‫الثقافية مغمورة حقاً حبقائق منافسة من املدن القريبة‪ .‬التعددية الثقافية طبعاً هي ظاهرة مدمرة دائماً‪ ،‬وما‬
‫من أحد يف مصر األنتيك املتأخر خرج منها معاىف بالكامل‪ .‬لكن إذا كان السوريون امتلكوا هوية راسية‬
‫برسوخ يف شكل حكم أو اثنية أو ماض أو إله اثين‪ ،‬أو يف األربعة مجيعاً وفق الطريقة اليهودية‪ ،‬فقد كان‬
‫من الصعب عليهم االسهام بتلك املشاركة غري املتناسقة يف عصر القلق اليوناين ‪ -‬الروماين‪.‬واليونانيون‬
‫والرومان‪ ،‬ألهنم اخرتعوا احلضارة‪ ،‬جنوا من اخلطر دون اغرتاب غري مالئم عنها(‪ )139‬؛ يف حني أن اليهود‪،‬‬
‫ألنه كانت هلم هويتهم الفريدة‪ ،‬استطاعوا أن يرفضوا احلضارة دون أن ترتك توتراً غري مالئم على تقليدهم‬
‫الذايت(‪ .)138‬لقد عرف املصريون كذلك من هم كانوا‪ ،‬حىت لو أن حقائقهم كانت قد بدأت ترتنح(‪)137‬؛‬
‫ولو بدأ الكون يظهر مقلقالً‪ ،‬فقد كان لديهم على األقل تقنية عريقة جلعله فاعالً يف السحر ‪ -‬فن حملي‬
‫لألنتيك العظيم يف مصر والذي كان خارجها جمرد سبيل آخر يف الزحف العام حنو املوثوقية‬
‫واحلقيقة(‪ .)149‬باملقابل‪ ،‬فحقائق احلرانيني مل تستطع أن تتداعى‪ ،‬حىت لو كانت لديهم شكوك رمبا بشأن‬
‫من كانوا‪ :‬كمواطنني حمليني من بابل‪ ،‬كانت لديهم ديانة تنجيمية تفوق بالكامل تقلبات العامل‬
‫الدنيوي(‪.)141‬‬
‫أقل حظاً‪ .‬وإذا كانوا قد حصلوا على أكثر من حصتهم من القلق‪،‬‬ ‫لكن غالبية السوريني كانت ّ‬
‫فذلك ألهنم كانوا نسيج وحدهم يف فقداهنم الكامل هلوياهتم وحقائقهم لصاحل ثقافة ختلت بالكامل عن‬
‫مسؤولية احللول حمل تلك اهلويات واحلقائق‪ .‬وهكذا فقد كانوا حمرومني على حنو فريد من البديهيات واليت‬
‫يقيّمون هبا البضاعة الغريبة املق ّدمة هلم ويدجمموهنا‪ .‬فهم مل يستطيعوا من ناحية أن يسلّموا بصحة شيء‪:‬‬
‫فهم مل يفقدوا آهلتهم الوطنية فحسب‪ ،‬بل نسوا أيضاً ما اعتادت اآلهلة على قوله‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬مل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. E. R. Dodds, Pagnan and Christian in an Age of Anxiety, Cambridge 1965 )139‬‬
‫املبشر القائل إنه يف احلكمة الكثرية يوجد الكثري من احلزن يعكس بالطبع الورطة العامة‪.‬‬
‫تذمر ّ‬‫(‪ )138‬مع أن ّ‬
‫(‪ )137‬قارن دليل خيبة الفأل والشكوكية الذي ق ّدمه ‪ Derchain‬يف‪ ،Grimal, Hellinism and the Rise of Rome :‬والسببية‬
‫القاتلة يف قول «إن اإلنسان ليس سوى تراب وقش وإن اهلل يش ّكله كل يوم كما يشاء» )‪.(ibid., p. 234‬‬
‫(‪. ibid., pp. 238 - 41 )149‬‬
‫(‪ )141‬أنظر من أجل حتليل النصوص‪،‬أنظر‪،D. Chwolson, Die Ssabier und der Ssabismus, St. Petersburg 1856 :‬‬
‫ومن أجل حتليل بعينه‪،‬أنظر‪J. Hj:‬ن ‪rpe, Analyse critiques des traditions arabes sur les Sabéens harraniens,‬‬
‫‪. Uppsala 1972‬‬

‫‪79‬‬
‫تكن مثة جمموعة آهلة واحدة يستبدلون هبا آهلتهم‪ ،‬بل كثرة مضطربة من آهلة خمتلفة بشرائع خمتلفة ألناس‬
‫خمتلفني(‪ .)142‬ودون يقينيات فهم مل يستطيعوا أن يرفضوا ويوفقوا‪ ،‬ودون رفض أو توفيقية مل يكن‬
‫تعهدوا املبدأ‬
‫باستطاعتهم احلفاظ على عاملهم يف حالته الصحيحة؛ وألن احلقيقة مل تعد واحدة‪ ،‬فقد ّ‬
‫النسيب‪ ،‬وهو مرض بعل ثقايف أفسحت فيه لغة احلقيقة الفائقة السلفية اجملال أمام هلجات ال حصر هلا‬
‫ذات تداول حملّي صرف(‪ .)143‬إن فقدان واقع بديهي كان يعين فقدان القدرة على خلق معىن لتلك‬
‫املشاكل اليت هت ّدد على حنو متكرر بابتالع العامل البشري لنظام مليء باملعاين ‪ -‬املرض‪ ،‬الشر‪ ،‬اجلنون‬
‫واملوت؛ والن العامل كان جمرداً من معىن الفطرة السليمة‪ ،‬فقد أُعيد إسكانه عوضاً عن ذلك بالشياطني‬
‫الكابوسيني‪ .‬مل يكن السوريون نسيج وحدهم طبعاً يف مطاردة الشياطني هلم؛ فقد كان التدخل الشيطاين‬
‫متفسخ للجنس البشري عن حالة الفوضى اليت يعيشها يف هناية عصر‬ ‫عرب هبا كون ّ‬ ‫الطريقة الوحيدة اليت ّ‬
‫األنتيك(‪ .)144‬لكنهم كانوا نسيج وحدهم حتماً يف املعدل والقوة اللذين ضربتهم هبما هذه التواصالت‬
‫الشيطانية‪ .‬وكما كان على أولئك الذين أكلوا للغاية من شجرة املعرفة أن يعانوا من أكثر أنواع السقوط‬
‫املعريف كارثية إذا صح القول‪ ،‬كذلك متاماً هي حالة أولئك الذين ابتلوا بأكثر التطفالت استحواذية‬
‫وغولية من العوامل اجملهولة‪ .‬لقد مالت هذه التطفالت خارج سوريا ألن متثّل مناطق من اللغو‪ ،‬اإلمث والشر‬
‫مطوقة حمصورة يف عامل ظل باإلمكان محله على تقدمي معىن(‪)145‬؛ لكنها يف سوريا مالت إىل التفشي يف‬
‫العامل‪ ،‬ملوثةً اإلنسان واملادة بِ َش ٍر جتاوز املخيلة البشرية(‪.)146‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Abbé Martin, “Discourse‬‬ ‫(‪ )142‬قارن القائمة املؤثرة لآلهلة القدمية اليت ق ّدمها يعقوب سروجي يف حديثه حول سقوط األوثان‪.‬‬
‫‪de Joques de Saroug sur la chut des idole”, Zeitschrift der Deutschen Morgenl‬ن ‪ndischen‬‬
‫‪ ،) Gesellschaft 1875‬حماولة تاتيان لإلبقاء على تشريع واحد فحسب ‪(Oratio adversus Graecos, in PG, vol.‬‬
‫‪Liber legum‬‬ ‫)‪ ،vol.vi,col.865‬وتعليق بارديصان القائل إن غري املؤمنني فريسة لكل رعب وال يعرفون أي شيء عن الثقة‪.‬‬
‫‪.)regionum, ed. and tr. F. Nau, in Patrologia Syriaca, vol. i, part one, col. 543).‬‬
‫كل هذا قارن‪P. L. Berger and T. Luckmann, The Social Construction of Reality, :‬‬ ‫(‪ )143‬من أجل ّ‬
‫‪Harmondsworth 1971, pp. 110 - 122; P. L. Berger, The Sacred Canopy, New York 1967, pp. 19 -‬‬
‫‪. 28, 48-52, 126ff‬‬
‫‪P. Brown,”Sorcery,Demons and the Rise of Christianity: from Late Antiquity into the‬‬ ‫(‪ )144‬قارن‪:‬‬
‫‪. Middle Ages”, in his Religion and Society in the Age of St. Augustine, London 1972, pp. 132ff‬‬
‫‪A. Adnès‬‬ ‫(‪ )145‬شياطني املرض كانت أمراً شائعاً يف سوريا كما يف أي مكان آخر (من أجل أمثلة من كاتب رصني نسبياً‪ ،‬قارن‪:‬‬
‫‪and P. Canivet, “Guérisons miraculeuses et exorcismes dans l’Histoire Philothée” de Théodoret de‬‬
‫)‪) Cyr:, Revue de l’histoire des religions 1967‬؛ على حنو مشابه جند الشياطني الذين يهامجون اجلزء الشهواين من‬
‫النفس‪ ،‬فيستحضرون أرواح األصدقاء‪،‬األقارب‪،‬النساء‪ ،‬ويغوون كذلك األبصار‪ ،‬وهنا نستخدم عبارة إيفاغريوس‪(A. Guillaumont, .‬‬
‫‪)“Un philosophe au désert: Evagre le pontique”, ibid 1972, pp. 36 - 42‬؛ وهم ذاهتم الذين يغوون مار بنيامني‪.‬‬
‫‪.)(Scheil, “La vie de Mar Benjamin”, pp. 250f‬‬
‫حيل يف اجلسد‪ ،‬أنظر‪bus, History of Asceticism, vol ii, p. ِِV :‬‬ ‫املسايل حول الشيطان الذي ّ‬ ‫(‪ )146‬من أجل املفهوم ّ‬
‫‪ . 135ff‬لقد فشلت الفلسفة والديانة السرانيتان يف حترير تاتيان من االستعباد الشيطاين للعديد من السادة ولكثرة من الطغاة‪ ،‬ومثله‬
‫أيضاً رابّوال‪ ،‬لكن اإلثنني ُحِّررا عند اعتناقهما املسيحية )‪.(ibid., vol. I, pp. 32f; Overbeck, Opera Selecta, p. 163‬‬
‫وبغض النظر عن عجائبه العادية‪ ،‬كان هارون السروجي مشهوراً على حنو خاص بسبب حربه املستمرة لشيطان أصر على مالحقته من‬
‫مكان إىل مكان ‪(E. Nau (ed. and tr.), Les Legendes syriaques d’Aaron de Saroug, in Patrologia‬‬

‫‪78‬‬
‫مع املسيحية‪ ،‬عاد املعىن والنظام‪ :‬احلقيقة عادت من جديد‪ ،‬ومن جديد عرفت هويات املتطفلني‬
‫كزهاد أسلحتهم حملاربة‬
‫املرعبني والطريقة اليت كان جيب معاملتهم هبا على حد سواء‪ .‬لقد تل ّقى السوريون ّ‬
‫كزهاد دخل السوريون الكنيسة‪« :‬أبناء العهد» الذين ش ّكلوا الكنيسة‬ ‫النسل الشرير لالختالط الثقايف‪ ،‬و ّ‬
‫عزاب امتنعوا عن اخلمر واللحم وفق التقليد النذوري القدمي(‪.)149‬‬ ‫األوىل كانوا منذورين ‪ ،nazirs‬فهم ّ‬
‫مع النذورية املسيحية عادت النعمة إىل عامل ساقط‪ :‬وحدهم املنذورين كانوا يستحقون أن يتلقوا التعميد‬
‫(‪)148‬‬
‫ضرون للتعميد واعتناق املسيحية‪.‬‬‫؛ وكل من عداهم كانوا جمرد أشخاص ُحيَ ّ‬ ‫واألفخارسيتا‬
‫لكن إذا كانت النعمة قد فعلت شيئاً لتعويض آثار السقوط من اجلنة‪ ،‬فاجلنة ظلت غري مستعادة‪.‬‬
‫فمن ناحية‪ ،‬مل يكتشف السوريون يف اكتشافهم حلقيقتهم اجلديدة هويتهم القدمية‪ :‬فآراميو سوريا ظلوا‬
‫غري فينيقيني‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فحقيقتهم اجلديدة مل متنحهم إثنية جديدة‪ :‬فآراميو سوريا ظلّوا غري‬
‫يهود‪ .‬نظرياً‪ ،‬رمبا بقوا آراميني طبعاً بطريقة النساطرة(‪)147‬؛ لكنهم مل يستطيعوا ذلك عملياً‪ .‬وألهنم فقدوا‬
‫كنوزهم اخلاصة‪ ،‬مل يكن باستطاعة السوريني سوى ربط اهلوية اآلرامية بالوثنية اليونانية اليت ّأدت إىل هذا‬
‫(‪)159‬‬
‫احلرانيني الوثنيني لالحتفاظ باهلوية هي الوجه اآلخر إلنكارها من قبل‬ ‫الضياع ‪ .‬وهكذا فإن قابلية ّ‬
‫السوريني املسيحيني‪ :‬فبفضل املطابقة بني اآلراميني واهللينيني والوثنيني(‪،)151‬شكل احلرانيون ملّة كما فعل‬
‫الكلدانيون متاماً‪ ،‬أي هوية وطنية منصهرة مع وثنية خمتارة ومجاعة دينية سوف تُ ْس َرتد ذات يوم كشكل‬
‫للحكم(‪ )152‬؛ يف حني أن السوريني‪ ،‬بفضل املطابقة بني السوريانه واملسيحيني‪ ،‬ختلّوا عن إثنيتهم الوثنية‬
‫من أجل مسيحية أممية وأورشليم مساوية سوف تسرتد ثانية عند هناية الزمان فقط‪.‬‬
‫بكلمات أخرى‪ ،‬كان السوريون الضحايا املزودجني لتعددية متآكلة ووحدانية أممية‪ .‬فكسوريانه‪ ،‬جند‬
‫صنِّفوا مع اآلشوريني الذين أطاحوا بثقافتهم يف املاضي‪ ،‬وهي تسمية خاطئة كانوا يدينون هبا‬ ‫أهنم ُ‬
‫لإلغريق الذين استمروا يف طرحها يف احلاضر(‪ .)153‬وكمسيحيني‪ ،‬كانوا متميّزين عن اآلراميني الذين‬

‫‪ .)Orientalis, vol. v, pp. 697ff‬الحظ أيضاً السمة املطمئنة للمتعرف عليهم عند الشياطني الذين يغوون القديس أنطونيوس‬
‫بأهواء إفاغرية ومار قره داغ بسلطة ساسانية؛ باملقابل‪ ،‬فإن أفاعي رابّوال وزواحفه‪ ،‬كانت ستغوي ايرنيموس بوش‪.‬‬
‫(‪bus, History of Asceticism, vol.i,pp.97ff;id., “The Institution of the Benai Qeiama and ِِA. V )149‬‬
‫‪.Benai Qeiama in the Ancient Syrian Church”, Church History 1961, p. 21‬‬
‫(‪. ibid., p. 19 )148‬‬
‫(‪ )147‬باستمرار يتح ّدث السوريانه يف العراق النسطوري عن أنفسهم ولغتهم كآراميني‪.‬‬
‫املصور يف وصف االحتفال الرهاوي بعيد الربيع اليوناين‪ :‬فالرهاويون يسخرون من أسالفهم جلهلهم‬
‫(‪ )159‬قارن االغرتاب الثقايف املزدوج ّ‬
‫باحلكمة اليونانية‪ ،‬ورجال الدين يلومون الرهاويني على تعلّقهم بالوثنية اليونانية‪(Joshua the Stylite, Chronicle, ed. and .‬‬
‫‪.)tr., W. Wright, Cambridge 1882, pp. 25f = 20f‬‬
‫(‪ )151‬قارن‪ldeke, “Die Namen der aramِT. N :‬ن ‪ischen Nation und Sprach”, Zeitschrift der Deutschen‬‬
‫‪Morgenl‬ن‪. dishen Gesellschaft 1871, p. 116‬‬
‫(‪B. Dodge (tr.), The Fihrist if al-Nadîm, New York 1970, vol. ii, p. 763 )152‬‬
‫قارن أمل ابن وحشية بإحياء كلداين‪(Chwolson, :‬ـ‪. , p. 49)ebddbstb‬‬
‫(‪. ldeke, “Assyrios, Syrios, Syros,” Hermes 1971ِT. N )153‬‬

‫‪77‬‬
‫حافظوا على ما تركه الغزاة من التقليد الوطين‪ .‬كسوريانه كانوا قرويني حمليني‪ ،‬وكسوريانه كانوا منفصلني‬
‫أيضاً عن ريفهم اإلقليمي اخلاص‪ .‬وكان باستطاعة املسيحية أن ختربهم مبا كانوه أمام اهلل والشيطان‪،‬‬
‫لكنها مل تستطع أن تقول هلم ما كانوه يف هذا العامل‪ .‬ومبا أن عيون شبكة احلضارة اليونانية ‪ -‬الرومانية‬
‫أغلقت عليهم‪ ،‬فما صار يهم كان على وجه التحديد ما كانوه أمام اليونانيني‪.‬‬
‫وبالنظر إىل أن هويتهم السورية كانت فارغة‪ ،‬كان ميكن للمرء أن يتوقع منهم ردة فعل بأن يصريوا‬
‫يونانيني ‪ -‬سواء باالنتقاص من قيمة أصلهم الريفي لإلندماج مع عامل حضري وذلك وفق طريقة القاريني‬
‫‪ Carians‬القدامى‪ ،‬أو بتعظيم قيمته للمحافظة على نوع من التمايز ضمن ذلك العامل وفق طريقة‬
‫النبطيني املعاصرين هلم‪ .‬وإذا كان اإلسكندر قد سرق هويتهم‪ ،‬فرمبا أهنم باملقابل سرقوا هويته كي ي ّدعوا‬
‫أهنم سوريون مقدونيون(‪ ،)154‬أي أحفاد املستوطنني املقدونيني الذين انطبعوا بالصبغة اآلرامية ‪ -‬إعادة‬
‫تعديل للنسب استطاعت قصة اإلسكندر احمللية تقدمي وسيلة مناسبة هلا كي تنتشر‪.‬‬
‫مع ذلك فهم مل يصبحوا يونانيني‪ .‬فالسوريون ‪ -‬املقدونيون تُركوا كي ميوتوا دون خالئف‪ ،‬وهكذا‬
‫فقصة اإلسكندر احمللية ليست سوى اسكاتولوجية(‪ .)155‬إن السبب هلذا العوز الواضح للمخيلة بـَ ّني‬
‫كفاية‪ :‬إن العوز ألي دمج بعيد املرمى بني احلقيقة واهلوية والذي م ّكن اآلشوريني من تبين مسيحية‬
‫يونانية ‪ -‬رومانية دون أن يصبحوا يونانيني هو ذاته الذي ّأدى إىل حرمان نسب يوناين من جاذبيته‬
‫للسوريني‪ .‬رمبا أن كالً من أفالطون وأغسطس ميتلك شرعية معينة بأنه كان هلما بعض الفضل يف املسامهة‬
‫بانتشار املسيحية بطريقة أو بأخرى‪ ،‬لكنهما مل يستطيعا أن يصبحا مسيحيني أساساً‪ :‬إذا مل يكن‬
‫(‪)156‬‬
‫وحد العامل‬ ‫ظل غري يوناين‪ ،‬وإذا كان أغسطس ّ‬ ‫‪)159‬ث اللغة األتيكية ‪ ،‬فيسوع ّ‬ ‫أفالطون غري موسى يتح ّد‬
‫(‬
‫ظل غري يهودي‪ .‬فقط عندما سقطوا مجيعاً ضحايا للغزو العريب ذاته‪،‬‬ ‫من أجل عودة املسيح ‪ ،‬فقد ّ‬
‫بدأ يلوح عليهم أهنم كلّهم كانوا من األرومة ذاهتا‪ :‬فقد راح النسب الرومي يثبت أنه جذاب فعالً بالنسبة‬
‫ملسيحيي اجلزيرة من القرن العاشر‪ ،‬وهو ما مل يكن بالنسبة ملسيحيي بالد مابني النهرين يف القرن‬
‫السادس(‪.)158‬‬
‫كذلك فالسوريون مل يستطيعوا أن يبقوا ببساطة سوريني حينما كانوا يتبنون الثقافة اهللينية وفق طريقة‬
‫األمة‪ ،‬سواء على الزيت أو على الثقافة‪ ،‬يتطلب أمة‪ ،‬ويف حني امتلك الرومان‬ ‫الرومان‪ :‬إن إضفاء صفة ّ‬
‫أمة نشيطة حباجة إىل حضارة‪ ،‬امتلك السوريون حضارة حمتضرة حباجة إىل أمة(‪ .)157‬وهكذا فمقابل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )154‬تظهر الصيغة يف تاريخ يعقوب الرهاوي )‪. (Chronica Minora, pp. 281 = 211‬‬
‫(‪ )155‬عوضاً عن تأسيس أمة سورية‪ ،‬تنبأ االسكندر بنهاية العامل‪(Jacob of Sarug, “Discourse on Alexander, the .‬‬
‫‪believing King”, in E. A. W. Budge, The History of Alexander the Great, Cambridge 1889, pp.‬‬
‫‪.192ff‬‬
‫(‪ ،Theodoretus, Thérapeutique, ii: 114 )156‬وقد استشهد هنا بنومينوس‪.‬‬
‫(‪ )159‬قارن‪F. E. Cranz, “Kingdom and Polity in Eusebius of Caesarea”, The Harvard Theological :‬‬
‫‪. Review 1952, p. 52‬‬
‫(‪ )158‬شاهد من ابن وحشية يرد يف العمل التايل‪T. Fahd, “L’Agriculture Nabatéene: son apport a l’historie :‬‬
‫‪économique de la Mésopotamie avant l’Islam, unpuplished paper presented to the Conference on the‬‬
‫‪. Social and Economic History of the Middle East held at Princeton, June 1974, p. 18‬‬
‫(‪ )157‬قارن دور األلواح اإلثين عشر يف تعريف األمة الرومانية مع دور «شرائع قسطنطني وتيودوسيوس» يف إزالة سوريا من الوجود‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫التبين الروماين لنسب ضد ‪ -‬يوناين من امللحمة اهلومريوسية(‪ ،)169‬لدينا العجز السوري عن فعل أي‬ ‫ّ‬
‫(‪)161‬‬
‫شيء غري ترمجته ألحد اخللفاء العرب ؛ ومقابل روما اجلمهورية اليت دافع فيها كاتون ‪ Cato‬عن‬
‫صحة ماض قومي قاس يف حني واصل سيبيون ‪ Scipio‬عملية إضفاء الصبغة القومية على الثقافة‬
‫اليونانية‪ ،‬لدينا سوريا املسيحية اليت مل يستطيع فيها سوريوس سبوخت سوى املدافعة عن الكمالية الثقافية‬
‫لألمم غري اليونانية عموماً‪ ،‬يف حني كان حياول إضفاء الصبغة القومية على علم الفلك باعتباره‬
‫بابلياً(‪.)162‬‬
‫لكن إذا مل يستطيعوا احلفاظ على هويتهم وتأميمها‪ ،‬فهم باالحرى مل يستطيعوا رفض الثقافة‬
‫اليونانية ببساطة واملضي كربابرة ‪ -‬اخلط الذي أخذه على حنو صريح أو بشكل ضمين الكتّاب املعادين‬
‫لليونان ‪ adversus Graecos‬من تاتيان(‪ )163‬إىل ثيودوريتوس(‪ .)164‬واحلقيقة أن هذا اخلط‪،‬‬
‫بالطبع‪ ،‬نال جوائزه يف بداية األمر‪ :‬فيسوع مل يكن يونانياً والشهداء الذين ألبسهم الظلم اليوناين‪-‬‬
‫الروماين تاجهم كانوا إىل حد كبري الكنز اخلاص بالربابرة(‪ .)165‬لكن كان واضحاً أنه خط دون مستقبل‪:‬‬
‫تكرس أخرى‪ .‬لقد‬ ‫ففي هناية األمر تبىن اهللينيون احلقيقة الرببرية‪ ،‬وهذه احلقيقة حبد ذاهتا مل تق ّدم إثنية ومل ّ‬
‫كان املاضي املسيحي يهودياً وهو بالتايل ال سبيل إليه(‪)166‬؛ أما احلاضر املسيحي فقد كان أممياً وهو‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. J. Perret, Les origines de la légende troyenne de Rome, Paris 1942 )169‬‬
‫(‪ )161‬وهو ما فعله ثيوفيلوس الرهاوي للمهدي ‪.)(Baumstark, Geschichte der syrischen Literatur, p. 341‬‬
‫(‪ )162‬اليونانيون ال يعرفون كل شيء‪ ،‬يشهد على ذلك اهلنود‪ ،‬والبابليون الذين اخرتعوا علم الفك؛ والسوريون اآلن هم البابليون‪(F. ...‬‬
‫‪)Nau, “La Cosmographie au VII siécle chez les syriens”, Revue de l’Orient chrétien 1910, pp. 249f‬؛‬
‫وذلك يف مقالة سوريوس حول األسطرالب‪.‬‬
‫‪(col.‬‬ ‫(‪ )163‬يتحدث تاتيان عن نفسه كآشوري )‪ (Oratio, col. 888‬والذي تبىن عقيدة الربابرة حول املسيح ورفض التعاليم اليونانية‬
‫)‪.888‬الشك أنه جاء من سوريا‪ ،‬وليس من اديابني‪ ،‬وهذا لعدد من األسباب‪ .‬فأوالً‪ ،‬غالباً ما يظهر السوريون كآشوريني يف كتابات‬
‫يونانية ‪ -‬رومانية من احلقبة ذاهتا (قارن األمثلة اليت أوردها نولدكه‪ ،“Assyrios, Syrios, Syros” :‬صص‪ 462 .‬وما بعد)‪ ،‬وال‬
‫يوجد عوز للكتّاب الذين يصفون تاتيان‪ ،‬باملقابل‪ ،‬على أنه سوري (قارن‪bus, “History of Asceticism”, vol. i, p. ِِV :‬‬
‫‪)32n‬؛ ثانياً‪« ،‬آشوري» كانت بشكل عا م شتيمة؛ قارن االسم املستعار إلليغابالوس؛ وهذا يتوافق مع استخدام تاتيان اجلر للشتيمة‬
‫«بربري»‪.‬ثالثاً‪ ،‬يصعب أن نفهم كيف أن أديابني‪ ،‬اليت مل حتتلها روما إال لفرتة قصرية ومل يكن عندها يف تلك املرحلة ثقافة هلينية‬
‫صلبة‪ ،‬استطاعت تقدمي إنسان كتاتيان والذي كان يتم تع بثقافة يونانية صلبة‪ ،‬والذي كان يعتاش منها من سوريا إىل روما‪.‬‬
‫(‪ )164‬والذي كان سيسلك مساراً معيناً لتفسري اهتمام ثيودوريتوس باهلجوم على اهللينيني يف هذه املرحلة املتأخرة نسبياً‪.‬‬
‫(‪ « )165‬لقد سقط الفالسفة واخلطباء يف خضم النسيان‪ ،‬واجلماهري ال تعرف حىت أمساء األباطرة والقادة‪ ،‬لكن اجلميع يعرفون امساء‬
‫الشهداء أفضل من معرفتهم بأمساء أقرب األصدقاء إليهم» ‪.)(Theodoroetus, Thérapeutique, vii: 67‬‬
‫(‪ )166‬قارن حماولة ثيودوريتوس العقيمة جلعل الربابرة املتمدنني يستفيدون من االكتشاف اليهودي للحقيقة‪ :‬فالعربانيون‪ ،‬الفينيقيون‪،‬‬
‫املصريون‪ ،‬والبابليون وجدوا كلّهم احلقيقة قبل اليونانيني‪ ،‬الفينيقيون ألهنم كانوا جريان العربانيني‪ ،‬املصريون بسبب عبودية العربانيني‬
‫هناك‪ ،‬البابليون بسبب السيب العرباين هناك )‪ .(Thérapeutique, I: 43ff‬كان السوريون قريبني جداً من موقع احلدث اليهودي‬
‫حبيث يزعمون أهنم من أصل إسرائيلي بطريقة األثيوبيني‪ ،‬أو أن يعتربوا أنفسهم أسباط إسرائيل الضائعة بطريقة من حيتمل أهنم سكان‬
‫يهود حمليون من اديابني )‪ ،(Marquart, Streifzüng, p. 288‬أو حىت أن يق ّدموا اليهود على أهنم سبط فرعي أرامي وذلك كي‬
‫يزعموا أن يسوع سوري (من أجل إشارة عاثرة إىل يسوع كسوري‪ ،‬واليت ق ّدمها ديونيسيوس ابن الصلييب‪ ،‬أنظر عمله‪“Treatise :‬‬
‫‪againt the Melchites”, ed. and tr. Mingana in his Woodbrooke Studies, vol. I, Cambridge 1927, pp.‬‬
‫‪.)88 = 57‬‬

‫‪191‬‬
‫بالتايل غري متجانس ثقافياً‪ .‬وبالنسبة ألولئك الذين كان لديهم هوية‪ ،‬فقد ق ّدم هذا وسيلة جناة مناسبة‬
‫من االغرتاب الثقايف‪ :‬فأورشليم السماوية‪ ،‬حبمد اهلل‪ ،‬مل تكن منافساً َج ّدياً لروما أو أثينا أرضيتني‪ .‬لكن‬
‫بالنسبة ألولئك الذين كانوا حباجة إىل هوية‪ ،‬فقد كان ذلك يعين أن السيب املسيحي على األرض صار‬
‫عينياً بطريقة مريعة‪ :‬إذا كان لدى اليهود اجلاهلية والسماء القدس‪ ،‬فإن شيئاً مل يبق أمام السوريني سوى‬
‫التحضر للموت وانتظاره‪.‬‬
‫ّ‬
‫يطوق املشكلة عرب اإلحلاح على أن النسب غري مهم أساساً‪.‬‬ ‫أثناء ذلك‪ ،‬رمبا حاول أحدهم بالطبع أن ّ‬
‫فاليونانيون ليسوا أفضل من الربابرة‪ ،‬ألهنم كلهم ينحدرون من آدم(‪)169‬؛ واللغة األتيكية ليست أفضل من باقي‬
‫اللغات‪ ،‬ألهنا كلّها تقول الشيء ذاته(‪)168‬؛ واهللينية ليست أفضل من بقية الثقافات‪ ،‬ألهنن مجيعاً مبدعات‬
‫(‪)167‬‬
‫يفسر ملاذا جيب أن حيتكر‬
‫كل الناس من آدم وآدم من تراب‪ ،‬فما من سبب ّ‬ ‫على حنو متعادل ‪ .‬وإذا كان ّ‬
‫اليونانيون الثقافة اليونانية(‪ )199‬؛ لكن باملقابل‪ ،‬إذا كانت الثقافة اليونانية تنتمي إىل البشر مجيعاً‪ ،‬فليس هنالك‬
‫ما جيعلها سوريةً حتديداً(‪ .)191‬وهكذا ظلت املشكلة‪ :‬اليوننة مل تكن حالً؛ وإضفاء الصبغة القومية على الثقافة‬
‫اليونانية مل يكن باستطاعتهم ألهنم كانوا يفتقدون األمة ‪ -‬مل يكن لديهم سوى أسالف روحانيني؛ ورفض‬
‫الثقافة اليونانية مل يكن باستطاعتهم ألهنم افتقدوا البديل ‪ -‬مل يكن لديهم سوى ثقافة روحانية‪.‬‬
‫وهكذا فمعضلة السوريني كانت مشاهبة ملعضلة أبناء عمومتهم البونيني يف مشال إفريقيا‪ ،‬والذين‬
‫يتمسكوا بتمايزية إثنية ولغوية واهية دون غريها‪ :‬فالتينية فينقيي مشال‬
‫على حنو مشابه تدبروا أمرهم كي ّ‬
‫إفريقيا مل تكن أكثر من يونانية سوريي فينيقيا‪ .‬لكن إذا كانوا جتنّبوا أن ميُتصوا حني كانت عيون الشبكة‬
‫واسعة‪ ،‬فهم مل يكن لديهم ما حياربون به حني ضيقتها املسيحية إىل حجم ثقب إبرة؛ والطرفان على حد‬
‫اختزال إىل هروب غيب‪ ،‬إىل فرار مجاعي مذعور من احلضارة واحلياة ذاتيهما‪ ،‬مطوحني بأنفسهم من‬ ‫سواء ُ‬
‫على الصخور‪ ،‬رامني بأنفسهم إىل الوحوش الضارية‪ ،‬مضرمني النار يف أنفسهم‪ ،‬أو أهنم كانوا فقط‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Theodoretus, Therapeutique, v:55 )169‬‬
‫(‪. Ibid., v: 70f )168‬‬
‫(‪. Ibid., i: 19 - 22 )167‬‬
‫(‪ )199‬هذا ما يقوله ثيودورتوس‪ .‬وقائمة االخرتاعات الرببرية اليت يق ّدمها تتطابق تقريباً مع قائمة تاتيان‪ ،‬لكن يف حني أن تاتيان يصل إىل‬
‫نتيجة مفادها أن الثقافة اليونانية ليست جديرة باإلمتالك‪ ،‬استنتج ثيودورتوس أنه ميكن متلّكها هي أيضاً؛ قارن معاجلتيهما ألفالطون‪،‬‬
‫حيث جند أن تاتيان يرفضه بعد وقت قصري‪ ،‬يف حني يعتربه ثيودورتوس موسى يتحدث األتيكية‪.‬‬
‫(‪ )191‬يقول مليجر الغارادي ‪ Meleager of Garada‬من القرن الثاين قبل امليالد‪ « :‬ما العجب يف أن أكون سورياً؟ أيها الغريب‪،‬‬
‫حنن نقطن بلداً واحداً‪ ،‬هو العامل؛ وخلط واحد أجنب كل البشر »؛ لكن رغم أن النسب غري ذي شأن وكل الناس جاءوا يف اخللط‪،‬‬
‫فإنه يظل راغباً بأن يكون هومريوس سوريّاً وأن يكون اآلخيون سبطاً سورياً‪(M. Hadas, Hellenistic Culture: Fusion and .‬‬
‫‪.)Diffusion, New York 1959, pp. 83, iii‬‬

‫‪192‬‬
‫يهيمون حىت اهلالك‪ ،‬يف الصحراء‪ ،‬حيث كان الرهبان املتأخرون سيجدون جثثهم املتجففة ويتعجبون‬
‫منها(‪.)192‬‬
‫مع حلول القرن الرابع بدا أن قدر فينيقيي مشال إفريقيا هو االنقراض بطريقة أو بأخرى‪ ،‬ومقابل‬
‫انتحارهم املحاول‪ ،‬لدينا قراءة القديس أغسطينس للسالوس ( « ثالثة») البوين باعتباره بشرياً الستيعاهبم‬
‫ُ‬
‫الوشيك من قبل خالص ‪ Salavito‬التيين(‪ . )193‬لكن حني ّقرر السوريون ذات مرة أن حيافظوا على‬
‫نسبهم‪ ،‬مل يكن مثة سؤال حول متلّق اخلالص ‪ Sotéria‬اليوناين هلم أو إجبارهم على أن يُستَوعبوا من‬
‫قبله‪ .‬مسيحيون أمام اهلل وريفيون أمام اليونانيني‪ ،‬مل يكن باستطاعة السؤال غري أن يكون كيف كان‬
‫عليهم أن يعطوا معىن ملكانتهم اإلزدواجية‪.‬‬
‫اجلواب هو أهنم مل يستطيعوا أن يعطوا ذلك‪ .‬من املمكن متاماً أن ختلق فضيلة مسيحية من هوية‬
‫حملية‪ ،‬وهذا حتديداً ما فعله املصريون واآلشوريون‪ .‬لكن ضمن ثقافة مسيحية ال ميكن أن ختلق فضيلة‬
‫حملية من هوية مسيحية‪ ،‬وهو ما حاوله السوريون‪ .‬لقد كان السوريون أبناء للمسيحية مبثلما كان‬
‫الباكستانيون ابناء لإلسالم‪ .‬يف كال احلالتني ح ّددت الديانة أتباعها خارج نسيجهم العلماين‪ ،‬آرامياً كان‬
‫تكرس أية إثنية‪،‬‬
‫أم هندياً؛ لكنها تفشل يف احلالتني على حد سواء يف تقدمي بديل‪ ،‬املسيحية ألهنا ال ّ‬
‫طورت‬‫يكرس إثنية تبدو بعيدة جداً‪ ،‬رغم اجلهود الباكستانية احلثيثة‪ .‬ومثل مصر وآشوريا‪ّ ،‬‬
‫واإلسالم ألنه ّ‬
‫سوريا مسيحيتها اإلقليمية‪ ،‬املتميزة عن بقية العامل املسيحي وذلك بوساطة إحدى اهلرطقات من ناحية‬
‫ونظام رهباين لنوعها اخلاص من ناحية أخرى‪ .‬لكن مصر كانت لديها املضامني اليت ستحمل املاركة‪ ،‬يف‬
‫حني كان على سوريا أن تبحث عن مضامني من املاركة ذاهتا؛ وعلى الرغم من اجلهود السورية‪ ،‬فحىت‬
‫املسيحية اهلرطقية ال تكفي لصنع إنسان‪ .‬فدون إثنية‪ ،‬دون جاهلية‪ ،‬ودون أثينا‪ ،‬مل يكن لديهم شيئاً كي‬
‫يكونوا‪ ،‬كي يبكوا على هذا اجلانب من جنة عدن أو حيبوه‪ .‬ومبا أنه مل يكن لديهم ما ميكن اسرتداده غري‬
‫جنة عدن‪ ،‬فقد وضعوا أعينهم على إعادة غزو السماء ‪ -‬األرض اليت غادر إليها الشهداء‪ ،‬وليس األرض‬
‫اليت جاءوا منها‪.‬‬
‫ظل السوريون منذورين(‪ )194‬أساساً‪ .‬لكن مفهوم الكنيسة املتهلني خرج ناجحاً رغم الصعوبات‬ ‫لقد ّ‬
‫طبعاً‪ :‬فمع هناية القرن الثالث أو بداية الرابع(‪ )195‬مت قبول املتحضرين للعماد السابقني يف عضوية كاملة‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪.bus, History of Asceticism, vol. ii, pp. 19 - 31 (Syria), 32f (North Africa)ِِV )192‬‬
‫(‪. Brown, “Christianity and Local Culture in Late Roman Africa”, pp. 88f )193‬‬
‫أسسها تاتيان‪ ،‬وهو شخص ُمدان يف الغرب ومبجل يف الشرق‪ ،‬وقد أخذ أفكاره من مذهب املنذورين يف العهد‬ ‫(‪ )194‬الرهبة السورية ّ‬
‫القدمي ‪ bus, History of Asceticism, vol. i, pp. 35ff)ِِ(V‬؛ واملنذور الكامل ميتنع عن كل الطعام عدا العدس‪ ،‬أوراق‬
‫الشجر‪ ،‬اخلبز‪ ،‬املاء وامللح‪ ،‬وميضي حياته يف صالة منعزلة ودموع ال تنتهي‪(John of Ephesus, Lives of the Eastern .‬‬
‫‪.)Saints, ed. and tr. E. W. Brooks, in Patrologia Orientalis, vols. xvii - xix, Part one, pp. 36 - 40‬‬
‫نالحظ أن نازيرا‪ ،‬نازيروثا مها التسميتان اللتان تطلقان على الناسك عموماً‪ ،‬يف اللغة السريانية‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫حتول «أبناء العهد» إىل جمموعة منعزلة مت جلبهم تدرجيياً إىل سيطرة اإلكلريوس ومن مث استيعاهبم من‬‫ومع ّ‬
‫قبل الرهبان من ناحية ورجال الدين األدىن مرتبة من ناحية أخرى(‪)196‬؛ وبعد ذلك مل يستمر الرأي‬
‫(‪)199‬‬
‫القائل إن كل مسيحي هو راهب إال بني املساليني وغريهم من اهلراطقة ‪ .‬لكن سوريا مل تستفد كثرياً‬
‫من فكرة مجاعة املؤمنني ‪ekklesia‬؛ وإذا مل يعد باستطاعة الكنيسة أن تكون عهداً‪ ،‬فقد صارت‬
‫طاغ‪ ،‬وضمن رهبانيتها توجهت على حنو طاغ حنو النذورية‬ ‫عوضاً عن ذلك رهبانية على حنو ٍ‬
‫اإلنعزالية(‪ .)198‬ويف حني كان لألقباط كيبوتزاهتم وللنساطرة سرانياهتم املثقفة‪ ،‬كانت الكنيسة السورية‬
‫ظل العامل‬
‫حمكومة برجال أخذوا على عاتقهم أن تظل على قيد احلياة‪ ،‬لكن لفرتة قصرية فقط‪ .‬لقد ّ‬
‫بالنسبة هلم أساساً سدوم وعمورة اللتني ليس باإلمكان أن يكون فيهما شيئاً مق ّدساً واللتني على الراهب‬
‫ضم نفسه إىل رياضيي املسيح املنعزلني أولئك الذين‬‫أن ال يستدير لينظر إليهما ثانية أبداً‪ ،‬فما أن قرر ّ‬
‫حاربوا أنفسهم حىت سيطروا على الشياطني(‪ ،)197‬حىت بدا أن الدور املناسب الوحيد الذي كان‬
‫باستطاعته التعامل عربه مع العامل الذي تَـَركه هو دور طارد األرواح الشريرة(‪ .)189‬كانت األمثولة املصرية‬
‫أنه على الرهبان أن يعملوا‪ ،‬يناموا‪ ،‬يأكلوا ويصلّوا معاً‪ ،‬أن يعملوا حىت على حساب الصالة؛ لكن‬
‫بالنسب ة للسوريني مل يكن باستطاعة الرهبان سوى أن يقصروا أهدافهم على أمثولة استخدام اليدين فقط‬
‫املساء‪،‬كل لوحده(‪ .)181‬لقد ترك األقباط حضارة كي يبنوا‬
‫ٌ‬ ‫وحتمل اجلوع‪ ،‬العطش وصلوات‬ ‫للصالة‪ّ ،‬‬
‫غريها يف الصحراء‪ ،‬حيث راحوا حياربون شياطينهم اليونانيني عن طريق جعل الصحراء مزدهرة؛ لكن‬
‫السوريني تسلّقوا األعمدة‪ ،‬تاركني البشر من أجل السماء‪ ،‬حماربني العامل بإماتة اجلسد‪ .‬كان باستطاعة‬

‫(‪.bus, "The Institution of Bani Qeiama”,p19ِِV )195‬‬


‫‪(G.‬‬ ‫لب الكنيسة وذلك يف سرية رابّوال من القرن اخلامس‬
‫(‪Ibid., pp. 23f )196‬؛ لكن الحظ أنه ما يزال « أبناء العهد » متخيلني باعتبارهم ّ‬
‫‪G. Blum, Rubbula von Edessa: der Christ, der Bischof, der Theologe (=CSCO, Subsidia, vol. xxiv),‬‬
‫‪)Louvain 1969, pp. 65f‬؛ قابل مع التطور يف آشوريا‪ ،‬حيث ُِمسح « ألبناء العهد » عام ‪ 485‬بالزواج وأكل اللحم‪ ،‬وذلك بعد أن احتلوا‬
‫موقع رجال دين هم وسط بني العلمانيني والرهبان ‪(Rücker,”Fine Anweisung für geistliche‬ـ ‪bungen nestorianischer‬‬
‫‪ .)nche des 7. Jahrhanderts”, p. 194ِM‬قارن أيضاً ُِ معاجلة ايشوع داد غري املتعاطفة ملوضوع املنذورين‪(van den Eynde, :‬‬
‫‪.)Commentaire, II, Exode - Déuteronomie, pp. 89 = 102‬‬
‫(‪.bus, History of Asceticism, vol. ii, pp.23ffِِV )199‬‬
‫(‪ )198‬من أجل ظهور احلركة النسكية‪ ،‬أنظر‪ .bus, History of Asceticism, vol. ii, pp. 61 - 123ِِV :‬من أجل األمثولة‬
‫االعتزالية‪ ،‬أنظر‪ . Ibid., pp. 304 - 6:‬الحظ أيضاً هلع اسحق األنطاكي من التطور اجلديد‪ :‬إسرائيل يف الصحراء مل تزرع‪ ،‬ومل جتن‬
‫ومل تغرس األشجار‪. (Ibid., p. 148) .‬‬
‫(‪ )197‬قارن مع آشوريا ‪ -‬مع األخذ بعني االعتبار بعض التداخل بني ما بني النهرين السورية واآلشورية ‪ -‬حيث احلقيقة القائلة إن‬
‫النساك املسيحيني لديهم حيلة لطرد الشياطني ال حتمل أي مضمون يفيد بأنه على كل املسيحيني ممارسة املهن الطبية‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )189‬قارن‪. bus, History of Asceticism, vol. ii, pp. 192 - 315ِِV :‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 294 - 300 )181‬‬

‫‪194‬‬
‫األقباط األمل بتكريس مصر‪ ،‬لكن السوريني مل يأملوا إال بتكريس أنفسهم‪ ،‬إال بالصعود إىل السماء عرب‬
‫تشع نعمة اهلل من بني أقذار تراهبم األرضي(‪.)182‬‬
‫اهلبوط إىل اجلحيم وانتظار أن ّ‬
‫كذلك مل يكن هنالك الكثري مما باستطاعة السوريني فعله بالكهنوتية اهللينية‪ .‬فكما كان «أبناء‬
‫العهد» والنساك هم املمثّلون للكنيسة السورية وليس األبرشيات‪ ،‬كذلك أيضاً فإن النساك العلمانيني‬
‫وليس الرعاة الكهنوتيني هم الذين مالوا إىل جتميع النعمة وتوزيعها‪ :‬قوى عجائبية لطرد األرواح‪ ،‬شفاء‬
‫األمراض‪ ،‬إقامة املوتى واألفعال املشاهبة املتوالدة خارج القنوات الرمسية لإلحسان اإلهلي‪ ،‬كما أن النساك‬
‫يف أكثر من مناسبة أضفوا على أنفسهم حق منح القرابني املقدسة(‪ .)183‬لكن النساك مل يستطيعوا أن‬
‫حمل اهلرم الكهنويت‪ .‬مع ذلك فاألساقفة باملقابل مل يستطيعوا أن يأملوا بإيقاف تدفق‬ ‫يأملوا بأن حيلّوا ّ‬
‫النعمة من خارج القناة الكهنوتية‪ .‬وهكذا فالتنافس احلاصل بني النعمة امل ْحرزة والنعمة املعزوة وصل إىل‬
‫ُ‬
‫النساك(‪)184‬؛ أما‬
‫ّ‬ ‫بني‬ ‫من‬ ‫خيتارون‬ ‫نوع من التسوية يف مرحلة مبكرة؛ فاألساقفة على حنو شبه دائم كانوا‬
‫النساك املتفوقون يف إحراز النعمة فكانوا مييلون إىل حتقيق مكانة رمسية كان يفرتض أن تلك القوى‬ ‫ّ‬
‫(‪)185‬‬
‫مأخوذة منها ‪.‬‬
‫كذلك مل يستطع السوريون أن يفعلوا باألسقفية الشيء الكثري‪ .‬وما كانت تشكله أنطاكية هو‬
‫خال(‪ ،)186‬وهكذا مل تتعرض إال للقليل من الضغط من‬ ‫ماض ٍ‬
‫أبرشية الشرق الرومانية‪ ،‬وليس حكومة ٍ‬
‫أجل أن يكون طاقم العاملني فيها سوريني حصراً‪ .‬لقد ساد السوريون بالطبع‪ ،‬لكن الربابرة اآلخرين‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )182‬يق ّدم نولدكه تلخيصاً ال بأس به ملثل هذا اهلبوط يف اجلحيم‪ ،‬وذلك يف عمله ‪ ،Sketches from Eastern History‬لندن‬
‫وأدنربة ‪ ،1872‬الفصل السابع‪ .‬قارن أيضاً الربط بني التوجه الكوزموبوليتاين ونكران الذات عند الكلبيني‪ :‬إذا كان املرء مواطناً يف‬
‫الالمكان‪ ،‬فإن اختياره أن يستوطن فوق عمود سوري أو يف حوض أثيين يغدو مسألة مذاق‪.‬‬
‫(‪bus, Syriac and Arabic Documents Regarding Legislation Relative to Syrian Asceticism ِِA. V )183‬‬
‫‪1960, no. 7, p. 28; no. 20, p. 31; nos. 2f, p. 95; id., History of Asceticism, vol. i, p. 276; f. ibid., vol.‬‬
‫‪.ii, p. 300, 323, 326‬؛ من أجل دليل أخر على التنافس‪.‬‬
‫(‪. W. Hage, Die syrisch-jacobitische Kirche in fruhislamischer Zeit, Wiesbaden 1966, pp. 12, 24 )184‬‬
‫مفسر عظيم للكتاب املقدس‪ ،‬حكيم وفيلسوف‬ ‫(‪ )185‬قارن اإلمرباطور الذي يعتقد أن فيلوَكسينوس يستحق األسقفية على أساس أنه ّ‬
‫وصانع عظيم للعجائب‪(Eli of Qartamin, Memra sur S. Mar Philoxéne de Mabboy, ed. and tr. A. de .‬‬
‫)‪Hallex (=CSCO, Scriptores Syri, vols. cf), Louvain 1963, lines 137 - 46 = p. 6‬؛ وتكريس إفرام بعد موته من‬
‫قبل كاتب سريته‪ .(Bedjan, Acta Martyrum, vol. iii, p. 648) .‬إن كالً من التنافس وعزمه ميكن مقارنتهما مع التنافس‬
‫وعزمه احلاصل بني الربكة احملرزة والربكة املعزوة يف مراكش اإلسالمية (قارن الويل اليوسي الذي يضمن تكريساً رمسياً من السلطان العلوي‬
‫‪)(C. Geertz. Islam Observed, Chicago 1971, pp. 34f‬؛ لكن يف حني أعطى اإلسالم املراكشيني نسباً عربياً ليلعبوا به‬
‫لعبة الغزو‪ ،‬مل تعط املسيحية السوريني غري الكنيسة اهللينية‪.‬‬
‫(‪R. Devréesse, La Patriarchet d’Antioche depuis la paix de l’Eglise jasqu’à la conquête arabe, )186‬‬
‫‪. Paris 1945, pp. 45ff‬‬

‫‪195‬‬
‫سواء أكانوا أثيوبيني‪ ،‬آراميني‪ ،‬مسيحيني من فارس(‪ ،)189‬أو مصريني(‪ ،)188‬مل يكونوا مستبعدين أبداً‪ .‬مل‬
‫تستطع أية منظمة أرضية أن تكون أورشليم سورية‪ :‬لقد استطاعت مصر أن تق ّدس كنيسة مرئية‪ ،‬لكن‬
‫سوريا مل تستطع أن تق ّدس غري األفراد‪.‬‬
‫إذا كانت سوريا قد وجدت أن الكنيسة اهللينية غري مساعدة‪ ،‬فاألخرية وجدت أن سوريا صعبة‬
‫كريلس مواليه على حنو مباشر بأسلوب‬ ‫املنال‪ .‬أوالً‪ ،‬إن بطريركية إنطاكية مل تكن َملَكية‪ :‬ففي حني حكم ّ‬
‫فرعون‪ ،‬فقد ورث يوحنا األنطاكي ملوك املدينة هبيئة مطارنة صعيب املراس‪ .‬ثانياً‪ ،‬مل يكن لدى األبرشية‬
‫جيش‪ :‬ففي حني كان باستطاعة كريلس أن جينّد كتائب قوية من الرهبان األقباط‪ ،‬مل يكن باستطاعة‬
‫تدخل‬
‫يوحنا األنطاكي يف أفضل األحوال غري أن حيشد فدائيني من العموديني أو يستجدي ّ‬
‫الربابرة(‪ .)187‬لذلك ال نتفاجأ حني نكتشف أن حلفاً بني الرهبنة احمللية والبطريركية اليونانية‪ ،‬كذلك الذي‬
‫تبين هرطقة خاصة‬‫ش ّكل الكنيسة القبطية يف مصر‪ ،‬فشل يف الظهور يف سوريا‪ .‬فمن ناحية فشلت يف ّ‬
‫هبا‪ ،‬رغم احلقيقة القائلة إن نسطوريوس كان بطريرك القسطنطينية وقد تل ّقى دعم يوحنا األنطاكي حني‬
‫اصطدم مع كريلس(‪ .)179‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬حني حصلت سوريا يف هناية األمر على هرطقتها املصرية‪،‬‬
‫فقد فعلت ذلك بشكل مستقل عن أنطاكية وذلك على يدي يعقوب الربادعي ‪ -‬الذي مل يكن بطريركاً‬
‫وحاكماً باألسلوب الفخم للبطل املصري‪ ،‬بل قديس فقري ومضطهد يف التقليد الزهدي‪ ،‬يقطع الفيايف‬
‫على قدميه والذي ساعده يف احملاولة األخرية أحد امللوك العرب(‪.)171‬‬
‫ويف حني تش ّكلت الكنيسة القبطية على يد فالحيها‪ ،‬والكنيسة النسطورية على يد نبالئها‪،‬‬
‫فكنيسة سوريا أُسست بالتايل على زهادها‪ .‬وكان هذا يعين‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن سوريا كانت يف موقع أقل‬
‫ضعفاً من غريها حىت تغذي آمال انفصال سياسي ‪ -‬وذلك مقابل اإلسكاتولوجي ‪ -‬عن اإلمرباطورية‬
‫الرومانية‪ :‬مل يكن مثة بديل ميكن تبجيله‪.‬‬
‫احلق أن ملكاً مسيانياً سوف يأيت من بعلبك‪ ،‬لكن فقط عند هناية الزمان حني سنكون كلنا‬
‫أي حكم دنيوي هو مثل اآلخر عملياً(‪ .)173‬لكن ذلك كان يعين بوضوح‬ ‫(‪)172‬‬
‫موتى ؛ أما اآلن فيبدو أن ّ‬
‫أيضاً أن سوريا مل تستطع أن تضفي على طبقتها األرستقراطية الدنيوية الصفة الشرعية‪ ،‬سواء أكان هؤالء‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Hage, Die syrisch - jacobitische Kirche, p. 36 )189‬‬
‫(‪ .Hardy, Christian Egypt, pp. 33, 140 )188‬قارن ايضاً التوجه الرببري أكثر منه السوري ختصيصاً لرحالت يعقوب الربادعي‪.‬‬
‫)‪.(Frend, Monophysite Movement, p. 287‬‬
‫(‪ )187‬األخري يف هيئة العرب املسيحيني الذين كان ملكهم احلارث بن جبلة مفيداً يف إحياء ليس النسطورية‪ ،‬بل املونوفيزية (قارن‪:‬‬
‫املصدر السابق‪ ،‬صص ‪ 284‬وما بعد‪.)326 ،‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 15ff )179‬‬
‫(‪. Ibid. pp. 283ff )171‬‬
‫(‪. Alexander, The Oracle of Baalbek, lines 205ff = p. 29 )172‬‬
‫صر كاغي ‪ Kaegi‬املصادر حبثاً عما ميكن تسميته مصلحة سورية يف القدر احملتوم لإلمرباطورية الرومانية‪(E. W. .‬‬ ‫(‪ )173‬لقد َع َ‬
‫صرها من أجل مشاعر استياء‬ ‫وع ْ‬
‫‪)Kaegi, Byzantium and the Decline of Rome, Princeton 1968, pp. 146ff‬؛ َ‬
‫معادية لإلمرباطورية كان سيقدم كما يفرتض حصاداً هزيالً مشاهباً‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫يونانيني مستقرين يف سوريا منذ زمن طويل مثل أوربانوس(‪ ،)174‬أو كانوا سوريني انغمسوا منذ زمن طويل‬
‫الدي ثيودوريتوس(‪ .)175‬املكوث يف السلطة‪ ،‬الثروة‪ ،‬واملنصب‪ ،‬كما رأى تاتيان‬ ‫يف الثقافة اليونانية مثل و ّ‬
‫حبق‪ ،‬كان مكوثاً يف اجلنوب غري املق ّدس‪ ،‬يف حني كان االنسحاب منها وعياّ سليماً مقدساً(‪)176‬؛ لقد‬
‫بدا أ ّن كل من يتعلق بالعامل هومدان باعتباره يونانياً ملكانياً(‪ ،)179‬يف حني أن كل من كان يرغب‬
‫باالنضمام إىل السوريانه املونوفيزية كان عليه أن يتربأ منه حتماً(‪ .)178‬فقط يف الرها‪ ،‬اليت كانت مباركة‬
‫تكرس طبقة نبيلة علمانية(‪ .)177‬ويف أي مكان آخر كانوا‬ ‫فعالً يف هذا العامل‪ ،‬استطاعت عقيدة مونوفيزية أن ّ‬
‫سيتخلون عن مناصبهم‪ ،‬سيبيعون أمالكهم‪ ،‬سيوزعون مواردهم على الفقراء ويرتكون اسرهم بفعل اعتناق‬
‫للدين عنيف منطياً؛ وهكذا فاألمنوذج ش ّكل شرخاً جذرياً مع ماض مل تستطع مثار جتارهتم فيه أن تكون ألجل‬
‫راحة األخيار(‪)299‬؛ نكراناً للذات مفاجئاً حيث أصبح حىت العظماء أهالً معه ألن حيتقروا العامل ويعاملوا أموره‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Seeck,‬‬ ‫وزع إرثه على الفقراءكي يصبح راهباً‪.‬‬
‫(‪ )174‬أوربانوس كان مستشاراً عند كوميس أورنيتيس عام ‪ 357‬وما بعد؛ أما ابنه فقد ّ‬
‫)‪. Briefe des Libanius, s.n‬‬
‫وزع‬
‫(‪ )175‬وكانا من مالّك األراضي يف أنطاكية‪ ،‬ومها سوريان بالنسب‪ ،‬مسيحيان بالدين‪ ،‬يونانيان بالثقافة وبعضوية اجمللس؛ وعندما ماتا ّ‬
‫ثيودوروتوس إرثه على الفقراء كي يصبح راهباً‪ ،‬أنظر مقدمة كانيفيت لكتاب ثيودوروتوس ‪ ،Thérapeutique‬اجمللد األول‪ ،‬صص‬
‫‪ 19‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪. Tatian, Oratio, col. 829 )176‬‬
‫(‪ )179‬وهكذا فسرجون بن منصور الرومي‪ ،‬الذي ورثه العرب‪ ،‬كان ملكياً بشكل منطي‪.‬‬
‫(‪ )178‬هكذا رابّوال‪ ،‬وهو رجل غين كان يشغل منصباً إقليمياً )‪(Overbeck, Opera Selecta, p. 166‬؛ توماس األمدي‪ ،‬وهو‬
‫منحدر من أحد النبالء‪ ،‬وقد ترك أمالكه وثرواته كي حييا يف حفرة ‪(John of Ephesus, Live of the Eastern Asints, Part‬‬
‫‪) one, p. 191‬؛ حرفط احلنزيطي‪ ،‬وهو من أ سرة عظيمة وغنية‪ ،‬والذي ترك أمالكه ألخيه كي ينسحب إىل أحد األديرة ‪ -‬أما األخ‬
‫الذي احتفظ بتلك الثروة فقد صار على حنو منطي رجالً خمادعاً والذي أقحم نفسه يف املسائل القضائية خلدمة احلاكم ‪(ibid., pp.‬‬
‫‪) 158ff‬؛ املباركة قيصرية‪ ،‬وهي نبيلة من عرق ملكي عظيم أخضعت ذاهتا للذل وحطت ذاهتا إىل مكانة متدنية ‪(ibid., part three,‬‬
‫)‪pp. 185ff‬؛ وكثريون غريهم‪.‬‬
‫أنظر‪Segal, :‬‬ ‫(‪ )177‬بسبب استقالليتهم الطويلة األمد‪ ،‬احتال الرهاويون لألمر حىت ينقذوا ماضيهم جبعل أجبر أوّكاما يعتنق املسيحية (‬
‫‪ ،Edessa, p. 62ff‬من أجل األسطورة اليت حتكي عن ذلك وطريقة عرضها يف أديابني)‪ .‬وهكذا فالعالقات بني الرهاويني ووجهائهم‬
‫توحدت املدينة ضده ‪bus, School of the Nisibis, p. ِِ(V‬‬ ‫تظهر حرارة معينة‪ ،‬كما يف مناسبة جممع اللصوص يف أفسس الذي ّ‬
‫)‪ ،29‬أو أثناء اجملاعة عام ‪ 599‬وما بعد‪ ،‬حني احتد احلاكمون‪ ،‬الوجهاء واجلنود يف جهودهم اإلسعافية ‪(Joshua the Stylite,‬‬
‫‪ .) Chronicle, pp. 38 = 32‬من أجل روسبايي‪ ،‬تل مهرايه‪ ،‬واألبيونيني الرهاويني اآلخرين الذين مجعوا بني الثروة والسلطة والعقيدة‬
‫التصرف‬
‫املونوفيزية؛ أنظر‪Segal, Edessa, pp. 126, 146 :‬؛ هنا‪ ،‬كما يف أي مكان آخر طبعاً‪ ،‬ميكن أن نثق أن النبالء سيسيئون ّ‬
‫إذا تُركوا خارج السيطرة األسقفية‪(Joshua the Stylite, Chronicle, pp. 81, 84f = 68, 71; Overbeck, Opera .‬‬
‫‪.)Selecta pp. 182, 187‬‬
‫(‪ )299‬الحظ التناقض بني الطرق اليت يسلكها التاجر املصري ورابوال يف طلبهما لآللئ الروحانية ‪(Palladius, Paradise, vol.i,‬‬
‫)‪.pp. 161f; Overbeck, Opera Selecta, pp. 165f‬‬

‫‪199‬‬
‫باحتقار(‪ ،)291‬وذلك عرب تبنيهم حلياة مق ّدسة مثل النساك والرهبان املتسولني اجلوالني‪ ،‬الذين يشحذون‬
‫االزدراء من أجل أنفسهم الصاحلة(‪.)292‬‬
‫باملقابل‪ ،‬فقد كانت األسس الزهدية للكنيسة السورية تعين أن سوريا مل تستطع إضفاء طابع شرعي على‬
‫تعاليمها الدنيوية‪ ،‬وحطام السفينة اهلليين الضخم الذي كان يطوف دون مرساة يف األدب السوري مل يستطع‬
‫أن جيد بالتايل أرضاً صلبة قط‪ .‬هذا ال يعين القول إنه مل يكن مثة كهنة متهلينون‪ :‬يف هذا الصدد ال تُقارن‬
‫سوريا على حنو سيء جداً مع آشوريا(‪ .)293‬كذلك فهو ال يعين القول إن النساك كانوا قرويني‪ :‬الرهبان‬
‫السوريون ليسوا فالحني مصريني(‪ .)294‬لكن إذا كانت اهللينة الشاملة لسوريا الوثنية تعين أنه كان مثة كم طيب‬
‫(‪)295‬‬
‫هشاً‪ :‬السوريون‬
‫من التعاليم اليونانية هنا وهناك ‪ ،‬فقد كانت تعين أيضاً أن الوعاء املسيحي كان بالتايل ّ‬
‫قبلوا كوثنيني بالفكر اليوناين وأضاعوا هويتهم‪ ،‬أما كمسيحيني فقد ه ّدد الفكر الوثين بتقويض أسس هويتهم‬
‫اجلديدة والوحيدة‪ .‬وهكذا فقد امتلكت سوريا مدرسة وأديرة كان فيها اإلرث اإلغريقي جزءاً أساسياً من املنهج‬
‫الدراسي‪ ،‬حيث أم ّدنا برجال كنيسة ضليعني يف القواعد والبالغة اإلغريقية القائمة على الكتابات الوثنية‪ ،‬وقد‬
‫استمر رجال الدين هؤالء يف ترمجة الفالسفة‪ ،‬وكتابة تفاسري ألرسطو‪ ،‬وتأليف مقاالت علمية(‪)296‬؛ لكن‬
‫سوريا امتلكت أيضاً مدارس وأديرة أزالت اإلرث اليوناين من منهجها الدراسي‪ ،‬حيث ق ّدمت لنا رجال كنيسة‬
‫ضليعني يف قواعد وعلم بالغة سريانيني مؤسسني على األسفار احمللية(‪ ،)299‬وقد استمر هؤالء يف تأليفهم لسري‬
‫السامة(‪ .)298‬وهكذا لدينا من ناحية‬
‫القديسني‪ ،‬إضافة إىل أحاديث يف اإلميان ومقاالت ضد حكمة اليونان ّ‬
‫ثيودوريتوس الذي يدافع عن الفالسفة باعتبارهم مسيحيني تقريباً‪ ،‬ولدينا من ناحية أخرى افرام الذي يهاجم‬
‫كل شيء يوناين باعتباره وثنياً بشكل مطلق(‪)297‬؛ ومن ناحية رغبة يعقوب الرهاوي يف تعلّم اليونانية‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬
‫(‪)219‬‬
‫ناحية أخرى رفض الرهبان الغاضب لتعلمها ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )291‬كما يقال عن بطرس وفونيوس‪ ،‬ويوحنا األفسسي‪. Lives of the Eastern Saints, Part three, p. 197 ،‬‬
‫(‪ )292‬كما فعل ثيوفيلوس ومرمي‪ ،‬فوحدهم أبناء العائالت األنطاكية الغنية الذين تركوا العامل كي يعيشوا حياة مقدسة كانوا يتنكرون هبيئة‬
‫مهرجني سيئي السمعة‪.‬‬
‫تظل مدرسة نصيبني جمرد استرياد من الرها‪.‬‬
‫(‪ )293‬أخرياً ّ‬
‫(‪. bus, History of Asceticism, vol. ii, p. 388fِِV )294‬‬
‫(‪ )295‬من أجل عينة مؤثرة عن حطام السفينة من اجلاهلية اليونانية‪ ،‬أنظر‪S. Brock (ed. and tr.), The Syriac Verssion of :‬‬
‫‪. the Pseude-Nommos Mythological Scholia, Cambridge 1971‬‬
‫(‪ )296‬قارن‪F. Nau, “L’araméen Chrétien (Syriaque). Les traductions faites du grec eu syriaque du VII :‬‬
‫‪. siécle”, Revue de l’histoire des religions 1929, pp. 256ff‬‬
‫(‪ . A. H. M. Jones, The Later Roman Empire, 284-602, Oxford 1964, vol. ii, p. 1007 )299‬قارن رابّوال الذي أشاد مدارس‬
‫لتعليم أبناء األمراء واألغنياء الوثنيني احلقيقة باللغة السريانية‪(E. de. Stoop (ed. and tr.), Vie d’Alexandre L’Acémète, in .‬‬
‫)‪.Patrologia Orientalis, vol. vi, pp. 673f‬‬
‫(‪ )298‬قارن‪E. Beck (ed. and tr.), Des heiligen Ephraem des Syrers Hymmen de fide (CSCO, Scriptores :‬‬
‫‪ ،Syri, vols. Lxxiiif), Louvain 1925‬تقول الرتتيلة ‪ « 24:2‬سعيد من مل يتذوق حكمة اليونان السامة »‪.‬‬
‫(‪ )297‬لقد شفت فصاحة أفرام أهل الرها من أسرهم للحكمة اليونانية هلارمونيوس‪ ،‬ابن بارديصان «اآلرامي»‪(Bedjan, Acta .‬‬
‫‪Martyrum, vol. iii, pp. 652; Ephraem Prose Refutations, ed. C. W. Mitchell, London, 1919 - 21, vol.‬‬
‫فسر افرام اآلريوسية على أهنا نتيجة احملاولة غري املربرة « للروح اليونانية » الخرتاق طبيعة اهلل‪.‬‬
‫‪)ii, pp. 8, 225‬؛ كذلك فقد ّ‬
‫(‪Bar Hebraeus, Chronica Ecclesiasticum, ed. and tr. J. B. Abbeloos and T. J. Lamy, Louvain )219‬‬
‫‪ 1872 - 7, vol.i, cols. 291 = 292‬؛ نتيجة لذلك ترك يعقوب الدير‪ .‬قارن فشل ايشوع يهب يف تأسيس مدرسة يف دير بيت‬

‫‪198‬‬
‫لذلك فقد متثّل التعايش القلق ‪ -‬مقابل التحالف ‪ -‬بني كنيسة متهلينة وعهد‪ ‬سوري والذي‬
‫سيطر على املسيحية السورية يف حقل االبستمولوجيا أيضاً‪ :‬فمن ناحية كان مثة رجال مثل فيلوكسينوس‬
‫الذي كان يدافع عن كمال العقل البشري‪ ،‬ومن ناحية أخرى كان مثة رجال مثل رابّوال الذي ارتأى أن‬
‫العقل البشري فاسد جذرياً(‪ .)211‬بالنسبة لفيلوكسينوس‪ ،‬وهو راهب إفاغراين‪ ،‬الشيء أسوأ للعاملَ من‬
‫انغماسه يف املشاكل التافهة للحياة اليومية(‪)212‬؛ لقد كان عامل الكثريين الذين رمبا يُ ّربرون بالسلوك‬
‫يتعمد(‪)212‬؛ وحدهم أولئك‬ ‫تربر هبا يسوع ذاته قبل أن ّ‬ ‫الفاضل‪ ،‬أو بكلمات أخرى‪ ،‬بالشريعة اليت ّ‬
‫القليلون الذين فصلوا أنفسهم عن املشاكل الدنيوية استطاعوا فعالً الوصول إىل الكمال وأن يتربروا‬
‫بالنعمة اإلهلية(‪ .)214‬وبالنسبة لفيلوكسينوس فقد كان اإلميان عينني جديدتني وأذنني جديدتني(‪،)215‬‬
‫إضافة تكميلية لفقرنا الطبيعي باحلواس(‪ ،)216‬بعداً رابعاً ميكن للعقل فيه أن ميسك باحلقيقة اليت يصعب‬
‫الوصول إليها‪ ،‬القابعة خلف ظواهر العامل الزائلة‪ ،‬وأن يدرك جاللة اهلل الراسخة(‪ .)219‬باملقابل‪ ،‬فإن رابّوال‬
‫مل يعرف غري عامل ساقط أفسد فيه اإلمث اجلسد‪ ،‬وبلّد العقل وب ّدد أسس الوجود اإلنساين بالذات(‪)218‬؛‬
‫فكما أن الشريعة مل تكن كافية ‪ -‬خارج النعمة ال نستطيع أن نعرف ماهية احلياة اليت ختشى اهلل ‪-‬‬
‫كذلك متاماً فإن األمل بفهم حقائق ليست يف متناول اليد بدا الغياً ‪ -‬عقل اإلنسان الضعيف ال‬
‫يستطيع أبداً أن يفهم ما يعرفه عرب النعمة(‪ .)217‬لذلك على املرء أن يؤمن‪ ،‬حيب ويطيع‪ ،‬ال أن يفتش‪،‬‬
‫يبحث ويستعلم(‪ ،)229‬ألن اإلنسان يستطيع من خالل إرادته البشرية بالنعمة اإلهلية أن يعيش حياة‬
‫فاضلة؛ يستطيع املرء أن جيين مثاراً طيبة حتت نور الشمس‪ ،‬لكن ال يعمي عينيه إال بالتحديق يف‬

‫‪(Fiey, ‘Iso‘yaw le Grand,‬‬ ‫عوى ألن الرهبان كانوا ينشدون السالم واهلدوء‪ ،‬ونتيجة لذلك بُنيت املدرسة يف مكان آخر‬
‫‪.)Orientalia Christiana Periodica 1969, p. 323‬‬
‫‪ ‬املقصود بذلك أبناء العهد (مرتجم)‬
‫(‪ )211‬من أجل اإلثنني عموماً‪ ،‬أنظر‪Blum, “Rabbula von Edess; A. de Halleux, Philoxéne de Mabboy: sa vie, :‬‬
‫‪. ses écrits, sa theologie, Louvain 1963‬‬
‫(‪Philoxenus, Discourses, ed. and tr. E. A. W. Budge, London 1894, pp. 260 = 250 )212‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 244ff = 234ff. )212‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 256ff, 308f = 246ff, 295 )214‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 52 = 49 )215‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 36 = 33 )216‬‬
‫يسوغ‬
‫(‪Ibid., pp 288 = 275ff )219‬؛ قارن أيضاً رسالته إىل الرهبان املشغولني بتهذيب الفضائل اليت تقود إىل الكمال‪ ،‬وهو ظرف ّ‬
‫جرأته يف التحدث إليهم عن « احلكمة اليت ال ميكن الوصول إليها »‪(Lettre aux miones de Senoun, ed. and tr. A. de .‬‬
‫)‪.Halleux (=CSCO, Scriptores Syri, vols. xcviiif), Louvain 1963, pp. 71 = 58‬‬
‫(‪. Blum, Rabbula von Edessa, pp. 133ff )218‬‬
‫(‪. Overbeck, Opera Selecta, p. 239 )217‬‬
‫(‪. Ibid., p. 241 )229‬‬

‫‪197‬‬
‫الشمس(‪ .)221‬مل يكن اإلميان بالنسبة لرابوال ملحقاً بالعقل‪ ،‬بل على وجه التحديد‪ ،‬بديل له(‪ .)222‬لقد‬
‫آمن فيلوكسينوس حىت يفهم‪ ،‬وحبث حىت جيد؛ لقد باع بضاعته الدنيوية حىت يشرتي احلكمة‬
‫السرانية(‪ .)223‬لكن رابوال آمن حىت يُ ْشفى‪ ،‬أطاع حىت ُخيَلّص؛ لقد باع بضاعته الدنيوية ليخلّص نفسه‬
‫ليجمل مساءه‪.‬‬
‫من الشياطني‪ ،‬وصلب عقله وجسده معاً ّ‬
‫كان فيلوكسينوس املدافع الوحيد تقريباً عن العقل يف سوريا‪ ،‬لكن باملقابل مل يكن رابّوال الظالمي‬
‫األوحد‪ :‬فإبستمولوجيته متتلك أصداء يف مناطق أخرى من األدب السرياين(‪ ،)224‬متاماً كما أن مسريته‬
‫نساك سوريني آخرين ال حصر هلم والذين مل جيعلوا الصحراء خضراء‪ ،‬ومل ميارسوا‬ ‫تعكس أصداء حياة ّ‬
‫فلسفة مسيحية‪ ،‬لكنهم كانوا منذورين وظلّوا كذلك‪ .‬إذاً‪ ،‬فالناسكون السوريون‪ ،‬ابستمولوجياً وسلوكياً‪،‬‬
‫قُ ّدوا من أدمي واحد‪ :‬فبعدما تسلّحوا باألسفار املق ّدسة اليت استمدوا منها هويتهم‪ ،‬وإمياهنم وعملهم‪،‬‬
‫انطلقوا حياربون شياطينهم يف حبثهم عن النعمة‪.‬‬
‫كان هنالك إذاً نوع من التشابه بني سوريا عام ‪ 299‬قبل امليالد وسوريا عام ‪ 699‬م‪ .‬فقد تعايش‬
‫حمل اإلداريني‬
‫يف الزمنني خنبة مدنية وكهنوت متهلني مع تقليد حملّي‪ :‬يف املدن أخذ املوظفون املسيحيون ّ‬
‫حمل نظرائهم الوثنيني؛ يف حني‬
‫حل من هو مسيحي من كهنة‪ ،‬خطباء‪ ،‬مف ّكرين‪ ،‬وعلماء ّ‬ ‫الوثنيني‪ ،‬كما ّ‬
‫تطلّع السكان احملليون يف الريف إىل الصحراء من أجل اهلداية والوحي اللذين حصلوا عليهما سابقاً من‬
‫آهلتهم احمللية‪ .‬لكن إذا كان الدمج الثقايف والذي أحدثته املسيحية قد فشل يف خلق حتالف بني الطرفني‪،‬‬
‫حتول التقليد احمللّي‪ ،‬الذي ظل على‬
‫إال أنه ب ّدل بعنف ميزان القوى التجاديل‪ :‬فمع حلول عام ‪699‬م‪ّ ،‬‬
‫مدى أربعمئة سنة يفقد بثبات املعقولية واملصادر الفكرية حتت تأثري حقائق غريبة‪ ،‬إىل بديل حسن‬
‫التجهيز ومرتابط منطقياً‪ .‬فأوالً‪ ،‬املنذور السوري‪ ،‬رغم رفضه للعامل اإلمرباطوري‪ ،‬إال أنه كان نتاج ثقافة‬
‫إمرباطورية مثله مثل سوريا والسوريانه على حنو دقيق‪ .‬وهكذا كان يف متناول يده مصادر ثقافية حمنّكة‪،‬‬
‫ويف حني مل يستطع الفالحون األقباط سوى حتويل أفسس إىل جممع لصوص باستخدام نوع من الثورة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Loc. cit )221‬‬
‫(‪ )222‬مسألة ترد بقوة للغاية يف رواية اعتناقه للمسيحية )‪(Overbeck, Opera Selecta, pp. 162 - 164‬؛ ويف حني يستخدم‬
‫ثيودوريتوس سقراط إلثبات أن العقل البشري يربهن على جهلنا )‪ ،(Therapeutique, i:83f‬يستغيث ناصحو رابّوال باضطهاد‬
‫الشياطني له للوصول إىل املسألة ذاهتا؛ ويف حني يرفض أويدا ‪ Awida‬القبول مببدأ العقيدة كعقل ‪Credo ut intelligam‬‬
‫‪ )(Bardesanes, Liber legum regionum, vol. 541‬؛ يقبل رابوال مببدأ العقيدة كمخلص ‪. Credo ut liberer‬‬
‫(‪. Philoxenus, Discourses, pp. 309 = 296 )223‬‬
‫(‪C. Moss, “Isaac of Antioch, Homily on the Royal City”, Zeitschrift für Semitistik 1929 and 1932, )224‬‬
‫‪ . pp. 305f‬قارن أيضاً‪I. Harsherr, “Les grands courants de spiritualité orientale”, Orientalia Christiana :‬‬
‫‪ .Periodica 1935, pp. 119 - 21‬العراق النسطوري‪ ،‬الذي بدا يف العديد جداً من مساته كإقليم يف سوريا‪ ،‬ميتلك أصداء مماثلة؛‬
‫قارن انقسام املوالني لنارساي بني ثيودوروس املصيصي و « اله افرام املبهم »‪(T. Jansma, “Narsai and Ephraem. Some .‬‬
‫‪Observation on Narsai’s Homilies on Creation and Ephraem’s Hymns on Faith”, Parole de l’Orient‬‬
‫‪ .)1970‬لكن اإلهبام الذي أحاق باإلله النسطوري وصل إىل حده األدىن بسرعة كبرية‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الفكرية‪ ،‬فقد استطاع رابّوال تقدمي مذهبه املقاوم النتشار املعرفة جملموعة من املستمعني املثقفني يف‬
‫القسطنطينية(‪ .)225‬ثانياً‪ ،‬لقد اختلف املنذور عن الثقافة اإلمرباطورية‪ ،‬مع أنه كله نتاج هلا‪ ،‬وذلك يف‬
‫امتالكه ملرسى صلب يف الريف‪ .‬كان باستطاعة حطام السفينة اإلمرباطورية أن يظل طافياً يف سوريا عرب‬
‫احلقيقة الصرحية اليت تقول إنه صدف وأن كان امرباطورياً؛ لكن ذلك كان حدثاً تارخيياً عارضاً‪ ،‬وإذا ما‬
‫كان على الغشاء السياسي واإلكلريوسي للعامل اليوناين ‪ -‬الروماين أن ينفجر‪ ،‬لكان املنذور هو الذي‬
‫سينقذ السوريني‪ ،‬ألنه كان كل ما ميلكون‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Overbeck, Opera Selecta, p. 239 )225‬‬

‫‪111‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬االصطدام‬
‫‪8‬‬
‫الشروط المسبقة لتشكيل الحضارة اإلسالمية‬

‫احلضارة اإلسالمية هي النتاج لغزو بربري ألراض ذات تقاليد ثقافية قدمية جداً‪ .‬وهي حبد ذاهتا‬
‫يدمر الربابرة‬
‫فريدة يف التاريخ‪ .‬ال يوجد عوز طبعاً لتجارب غزو بربري يف تاريخ احلضارة؛ لكن بقدر ما ال ّ‬
‫احلضارة اليت يغزوهنا‪ ،‬بقدر ما يسرمدوهنا عادة‪ .‬كذلك ليس هنالك أي عوز النتقاالت بربرية إىل احلضارة‬
‫يف تاريخ الربابرة؛ لكن بقدر ما ال يستهلك الربابرة ألوف السنوات لتطوير حضارة خاصة هبم‪ ،‬بقدر ما‬
‫يستعريوهنا عادة‪ .‬لكن عالقة العرب باألنتيك ال تتناسب مع أي من هذه النماذج‪ .‬مع ذلك فمما ال‬
‫يسرتعي انتباه خاص طبعاً أن العرب مل يكونوا برابرة حبيث يستأصلون احلضارة وال أصالء حبيث خيرتعون‬
‫حضارة خاصة هبم‪ .‬لكنهم كانوا غري عاديني فعالً يف أهنم عاجالً أم آجالً‪ ،‬مل يكسبوا أنفسهم ومل‬
‫يفقدوها يف احلضارة اليت غزوها‪ .‬عوضاً عن ذلك‪ ،‬كان نتاج اصطدامهم مع األنتيك تشكيل حضرة‬
‫جديدة للغاية من مواد قدمية جداً‪ ،‬وكان ذلك سريعاً إىل درجة أنه حلظة استقرار غبار الغزو كانت‬
‫صريورة التشكيل قد مضت قدماً للتو‪ .‬وأية حماولة لفهم هذا احلدث الثقايف الفريد ال بد أن تبدأ بإظهار‬
‫ماذا كان عليه وضع الغزاة واملغزويني حبيث صار نتاج كهذا ممكناً‪.‬‬
‫حام لتشكيل حضارة جديدة يف عامل األنتيك كان البد أن يـُ َق ّدم من قبل أعدائه‪.‬‬ ‫إن أي درع ٍ‬
‫واحلقيقة احلامسة حول هؤالء األعداء هي أهنم كانوا من نوعني‪ .‬فأوالً كان هنالك الربابرة اخلارجيون الذين‬
‫املتحضر‪ .‬ووجودهم حبد ذاته مل‬
‫ّ‬ ‫أشرنا إليهم للتو‪ ،‬والذين ميضون «حياهتم املنعزلة» خلف حدود العامل‬
‫يأخذ سوى وضعية التهديد املألوف بغزو بربري‪ :‬مبعىن أنه كانت لديهم القوة لقلب احلضارة‪ ،‬لكن‬
‫ليست لديهم القيم الستبداهلا(‪ .)1‬ثانياً‪ ،‬كان عند األنتيك عدو أكثر من غري عادي والذي متثّل يف هيئة‬
‫اليهود املوجودين ضمن حدوده‪ ،‬والذين يعيشون يف الغيتو رفضهم للعامل اليوناين ‪ -‬الروماين‪ .‬لقد ش ّكل‬
‫وجودهم إدانة أخالقية للحضارة‪ :‬مبعىن أنه كانت لديهم قيمهم اخلاصة اليت يرفضون هبا الثقافة السائدة‪،‬‬
‫لكن حىت يف مأواهم الصغري كانت تنقصهم القوة لقلبها‪ .‬مل يكن باستطاعة أي من الفريقني تقدمي أي‬
‫نوع من احلماية من عنده من أجل تشكيل حضارة جديدة‪ .‬مل يكن هنالك قط أي شيء مما يقال له‬
‫حضارة يهودية‪ ،‬ومل يكن هنالك قط أي شيء مما يقال له حضارة بربرية‪ .‬مع ذلك فقد كان مثة شيء‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬اهلاجرية دين‪ ،‬لكن حب التخريب العبثي ‪ Vandalism‬هو جمرد عارض مرضي سلوكي‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫معني‪ :‬إذا كان ممكناً إدخال القوة الرببرية والقيم اليهودية يف مؤامرة ما‪ ،‬كان من احملتمل‬
‫تكميلي واضح ّ‬
‫متاماً أن تستطيعا أن حتققا سوية ما عجزتا عن حتقيقه كل على حدة‪.‬‬
‫للوهلة األوىل نرى أن شروط مؤامرة كهذه كانت منتشرة على حنو ملحوظ‪ .‬ويف هناية األمر‪ ،‬فقد‬
‫استسلم عامل األنتيك‪ ،‬يف الشرق والغرب على حد سواء‪ ،‬للغزو الرببري والقيم اليهودية أخرياً‪ .‬مع ذلك‬
‫كان مثة فرق أساسي‪ :‬الغزو اجلرماين وانتشار املسيحية كانا عمليتني تارخييتني منفصلتني يف الغرب‪.‬‬
‫إنتشار املسيحية‪ ،‬من ناحية‪ ،‬مل يكن غزواً عسكرياً‪ .‬فاملسيحية‪،‬كاهلاجرية‪ ،‬كانت نتاج تبشري بالقيم‬
‫اليهودية يف بيئة أممية‪ .‬لكن يف احلالة املسيحية فقد عرفت املسيانية فشالً براغماتياً يف سياقها اليهودي‬
‫األصلي‪ ،‬هناية بشعة ملهنة يف الطب الشعيب‪ ،‬قبل تسويقها بني شعب أممي والذي كان متحضراً‪ ،‬متغاير‬
‫اخلواص إثنياً‪ ،‬وخامالً سياسياً‪ .‬والسنوات اليت أمضاها بولس الرسول يف شبه جزيرة العرب قبل اعتناقه‬
‫املسيحية كانت غري بارزة يف السياسة الدينية للمسيحية‪ :‬املؤسس أعلم أتباعه أن املسيح ليس يف‬
‫الصحراء (مىت ‪ .)26:24‬وعوضاً عن ذلك‪ ،‬بدأت املسيحية يف شكلها البوليسي االخرتاق السلمي‬
‫للعامل املتحضر‪ .‬وهذا القرار ق ّدم كالً من الدافع والوسيلة لتغيري بعيد املدى والذي به مت ُم َساماة أكثر‬
‫املالمح خشونة يف اإلرث اليهودي إىل استعارة جمازية‪ .‬لقد ق ّدم الدافع حبيث ال يكون باستطاعة اليهودية‬
‫تسويق ذاهتا يف العامل املتحضر دون أن تتفاهم معه‪ ،‬وقدم الوسيلة حبيث أن الثقافة اهللينية السائدة هلذا‬
‫تسام كهذا‪ .‬اعتُرب أن احلقائق احلرفية للنسب اليهودي هي استعارات‬ ‫العامل كانت هي اخلبرية حتديداً يف ٍ‬
‫جمازية‪ ،‬وبذلك أُبْ ِطلت قدسية اإلثنية اليهودية وصار ممكناً لألمم أن يصبحوا أبناءً للعهد؛ يف الوقت ذاته‬
‫فإن ديانة ‪ cult‬الروح أذابت قساوة التحرمي حلرفية الشرع‪ ،‬واألمل العيين خبالص إلسرائيل يف هذاالعامل‬
‫استُْب ِدل باالنتظار التَـ َقوي خلالص املؤمنني يف العامل اآلخر‪ .‬لكن هذه املساماة لإلرث اليهودي مل تكن‬
‫وبأي شكل كاملة طبعاً‪ :‬فاملسيحية إمجاالً ليست مرقيونية‪ ،‬متاماً مثلما أن البوذية الصينية ليست زن‪ .‬مع‬
‫ذلك يبقى أن املسيحية حلّت مشكلة ختليص جوهر القيم اليهودية من الغيتو عرب وسيلة ترك مادة القيم‬
‫خلفها‪ .‬اليهودية يف شكلها املسيحي َه َدت احلضارة إىل اإلميان على حساب القبول هبا(‪.)2‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فالغزوات اجلرمانية مل تكن حركة دينية‪ .‬كان لدى اجلرمان بالطبع قوهتم الرببرية‪،‬‬
‫ورمبا أهنم بدأوا باستخدامها مبا يكفي من الوحشية‪َ :‬شَرع حاكم قوطي يف بداية القرن اخلامس بإحالل‬
‫قوطيا مكان رومانيا (‪ .)3‬لكن من ناحية‪ ،‬القوط‪ ،‬وهم الجئون من اهلون و الذين صاروا حلفاء الرومان‪،‬‬
‫أي نوع من قوطيا مثري جداً للذكريات والعواطف؛ ومن ناحية أخرى‪ ،‬فحىت‬ ‫كانت تنقصهم القوة خللق ّ‬
‫لو كانوا قادرين على إقامة امرباطورية قوطية عاصمتها يف الوطن وشرع قوطي امرباطوري بطريقة املغول‪،‬‬
‫حام إلعادة صنع حضارة‪ .‬لذلك كانوا حباجة إىل قيم دينية‬ ‫فإن إجنازهم كان سيظل غري ٍ‬
‫كاف لتقدمي درٍع ٍ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ « )2‬هذه املدينة السماوية‪ ،‬إذاً‪ ،‬عندما توجد على األرض‪ ،‬تدعو مواطنني من كل األمم غري مرتددين بشأن العادات‪ ،‬الشرائع واألعراف‬
‫اليت يصان هبا السالم األرضي ويؤكد‪ ...‬لذلك فهي بعيدة عن إلغاء وإزالة هذه الفروقات‪ ،‬بل إهنا حتافظ عليها وتتبناها‪ ،‬بقدر ما ال‬
‫تشكل هذه الفروقات عقبة يف طريق عبادة اإلله األعلى واحلقيقي »‪(Augustine, City of God, xix: 17, as cited in .‬‬
‫‪ .)Avis, “Moses and the agistrate: a Study in the Rise of Protestant Legalism”, p. 150‬من أجل تقدمي‬
‫للقضية حب ّدة معادلة ضمن منظور أكثر عدائية يف عمل قدمه أحد املسلمني أنظر‪(Stern, “‘Abd Al Jabbar’s Account of :‬‬
‫”‪.)how Christ’s Religion was Falsified by the Adoption of Roman Customs‬‬
‫(‪ )3‬أنظر‪J. M. Wallce - Hardill, “Gothia and Romania”, in his The Long - Haired Kings and others :‬‬
‫‪. studies in Frankish history, London 1962, p. 25‬‬

‫‪113‬‬
‫وقوية؛ لكن مل يكن هلم وجود ديين تقريباً‪ .‬لقد بدأ اجلرمان يف معظم وقتهم كوثنيني ألهنم جاءوا من‬
‫اخلارج؛ وانتهوا كمسيحيني ألهنم أضحوا يف الداخل‪ .‬لكن مل تستطع ال الوثنية وال املسيحية تقدمي ما‬
‫املتحضر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كانوا حباجة إليه‪ :‬الوثنية اجلرمانية كانت بعيدة جداً عن املعايري الدينية السائدة يف العامل‬
‫واملسيحية كانت قد فرغت لتوها من قبول هذا العامل وهدايته‪ ،‬واإلثنان مل ينصهرا تارخيياً مع الغزو‪.‬‬
‫جمردة‪ ،‬إرثاً حملياً والذي ظل على قيد احلياة ليق ّدم‬
‫وهكذا فقد كانت فضالة الغزوات اجلرمانية فضالة إثنية ّ‬
‫األساس النهائي‪ ،‬ليس حلضارة جديدة‪ ،‬بل لكراهيات قومية داخل حضارة جديدة‪ .‬وكالقيم اليهودية‬
‫للمسيحيني‪ ،‬فقد استطاعت القوة الرببرية للجرمان عبور احلدود إىل داخل احلضارة لكن فقط على‬
‫حساب اإلستسالم هلا‪.‬‬
‫كان هنالك بالطبع نوع من اإلرتباط بني القوةوالقيمة يف الشكل القوطي لآلريوسية‪ .‬لكن يف ضوء‬
‫ما قلناه سابقاً‪ ،‬فمن الواضح أن األمل كان ضعيفاً يف قيام الشكل القوطي لآلريوسية بأية مؤامرة فاعلة‬
‫ضد احلضارة‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬كانت هنالك الطريقة اليت تبناها هبا القوط(‪ .)4‬فقد وصلت اآلريوسية‬
‫إىل القوط بالطبع قبل أن يعربوا الدانوب؛ لكنها مل تبدأ مع ذلك هبدايتهم على أي مستوى‪.‬وأولفيال‪،‬‬
‫مثل حممد‪ ،‬كانت له هجرته؛ لكن هروبه كان من االضطهاد القوطي إىل احلماية اإلمرباطورية الرومانية(‪.)5‬‬
‫وحني تبعه القوط يف الوقت املناسب كغزاة‪ ،‬فقد فعلوا ذلك يف معظم الوقت كوثنيني يدخلون إمرباطورية‬
‫حمبذة لآلريوسية‪ .‬وفقط حني وصل القوط إىل الغرب‪ ،‬وبدأوا باعتناق اآلريوسية يف بيئة ذات غالبية‬
‫أرثوذكسية‪ُ ،‬ش ِّكل احللف بني اهلرطقة املسيحية واإلثنية الرببرية‪ .‬ثانياً‪ ،‬يف اعتناق القوط لآلريوسية‪ ،‬كانوا‬
‫يتبنون ليس ديانة خاصة هبم بل هرطقة موجودة من ديانة موجودة‪ ،‬هي املسيحية‪ .‬ورغم مفردات التحقري‬
‫اخلريستولوجية‪ ،‬مل يكن اآلريوسيون يهوداً‪ .‬فمن ناحية اشرتكت اآلريوسية مع املسيحية األرثوذكسية يف‬
‫قبوهلا للحضارة السائدة‪ :‬مل تكن يف موقع يؤهلها ألن تعترب العامل اليوناين ‪ -‬الروماين كنعاناً ثقافية‪ .‬ومن‬
‫املطهرة من اهلوية اإلثنية‪ :‬مل‬
‫ناحية أخرى كانت اآلريوسية تنتمي مع املسيحية إىل أحد اشكال اليهودية ّ‬
‫تكن يف موقع يؤهلها لتكريس األسباط القوطية عرب تقدميهم يف دور اإلسرائيليني الغزاة‪ .‬وهكذا فحىت لو‬
‫انصهرت اآلريوسية مع الغزو القوطي باملفهوم التارخيي‪ ،‬فقد كانت ستفتقد املصادر األيديولوجية‬
‫الستثمار تلك الفرصة‪.‬‬
‫إن الصلة الناجتة بني اهلرطقة اآلريوسية واإلثنية القوطية كانت من بعض النواحي قوية متاماً‪.‬‬
‫فاآلريوسية صارت بالنسبة للقوط «إمياننا الكاثوليكي» وذلك مقابل «الديانة الرومانية»(‪ ،)6‬وكان هنالك‬
‫إحساس حم ّدد بأهنا كانت ديانة للقوط دون سواهم(‪ .)9‬لقد قام احللف بشيء إلطالة مدى استمرارية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪E. A. Thompson, The Visiogoths in the Times of Ulfila, Oxford 1966.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫(‪Ibid., p. xviii )5‬‬
‫(‪E. A. Thompson, The Goths in Spain, Oxford 1969, pp. 40n, 84. )6‬‬
‫(‪ )9‬من أجل فقدان أية رغبة يف اكتساب مهتدين من بني سكان إسبانيا القوطية الغربية األصليني واحملاولة التكميلية لليوفيجيلد هلداية‬
‫سوفيي غاالسيا اجلرمان‪ ،‬أنظر‪ .Ibib., pp.106f :‬قارن مع سلوك الغزاة السرسنيني عند جبل سيناء (أنظر‪ :‬ص ‪.)269‬‬

‫‪114‬‬
‫حمتوى الطرفني اللذين يشكالنه‪ :‬فقد محى اآلريوسية من أن تُستوعب يف املسيحية األرثوذكسية‪ ،‬ودعم‬
‫كون اآلريوسي وال القوطي كان كتيماً بأية‬ ‫اهلوية القوطية كي ال تستوعبها اإلثنية الرومانية‪ .‬لكن ال امل ِّ‬
‫ُ‬
‫حال أمام الثقافة الشائعة‪ .‬وهكذا كان هنالك ملوك قوط وإكلريوس قوطي‪ ،‬لكن مل يكن مثة «عبد‬
‫امللك» قوطي‪ :‬يف إسبانيا القوطية الغربية صارت الطبقة البريوقراطية تستخدم اللغة الالتينية‪ ،‬واللغة املعاد‬
‫إصالحها مل تكن حتمل أية أساطري آريوسية(‪ .)8‬كانت اآلريوسية وسيلة دفاع فاعلة متاماً عن هرطقة‬
‫وإثنية‪ ،‬لكنها مل تكن حتمل أي أمل يف خلق حضارة ما‪.‬‬
‫يف الشرق أ ُْم ِكن بسهولة اإلنتهاء اىل النتيجة ذاهتا إىل حد كبري‪ .‬ولو أن اإلسالم انتشر بطريقة‬
‫املسيحية اهلادئة‪ ،‬لتعلّم بالضرورة كيف يوفق بني تقاليد الشعوب اليت أدخلها يف ديانته ‪ -‬كيف يبحث‬
‫عن آهلة جمهولة‪ ،‬كيف يق ّدم ذاته كنوع من احلقيقة واليت قد هتتم النخب املوجودة بأن تعرتف هبا‪ ،‬وكيف‬
‫حيول كتابه املق ّدس إىل مصطلحات بإمكاهنم فهمها(‪ .)7‬لقد برهن اإلسالم بني حني وآخر على مرونة‬ ‫ّ‬
‫مدهشة وذلك حني تواجه مع مصطلحات التجارة التوفيقية من ذلك النوع الذي واجه املسيحية‬
‫األوىل‪:‬التكيفات الدخيلة إلسالم مسامل مع تقاليد جاوا أو داغومبا(‪ )19‬ال مت ّدنا بامثلة عن التعبري القائل‬
‫جيب ما قبله»(‪ .)11‬باملقابل فالعصب الثقايف لإلسالم مل يصمد دائماً يف سياقات حيث‬ ‫«اإلسالم ّ‬
‫اإلسالم ذاته كان متعرضاً لغزو غريب‪ :‬الحظ ضعف التصلّب الديين والقبول مبطالب شرعية القانون‬
‫والنسب غري اإلسالميني يف الشمال الشرقي يف أعقاب الغزو املغويل(‪ .)12‬ولو استطاع إسالم التاريخ‬
‫الفعلي أن ينحين هبذه الطريقة أمام التقاليد غري املخضعة جلاوا اهلندوسية أو داغومبا الوثنية‪ ،‬وأن يرتاجع‬
‫أمام التقاليد الغازية للمغول أو يف وقت ما للغرب‪ ،‬عندئذ فمن باب أوىل ميكن متاماً ختيل أن إسالماً‬
‫انتشر بشكل سلمي منذ البداية‪ ،‬قد انتهى كديانة ذات شكل حكم روماين وحضارة يونانية‪ ،‬أو كإميان‬
‫أممي يشمل عدداً كبرياً من شعوب مسلمة واليت حتتفظ بثقافات أسالفها جنباً إىل جنب مع ديانتها‬
‫اجلديدة(‪.)13‬‬
‫باملقابل مل يكن على الغزوات العربية أن تأخذ شكل حركة دينية‪ .‬ولو أن الشرق األوسط غُزي من‬
‫للعزى والالت عرب إعادة متثيل أقل تالشياً للغزو النبطي لسوريا‪ ،‬ملا اختلف مسار‬ ‫قبل عابدين وثنيني ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Ibid. pp. 175 )8‬‬
‫(‪ )7‬قارن بني التاريخ املتعدد اللغ ات لألسفار املسيحية (أو البوذية) مع عدم القابلية الصلبة لرتمجة القرآن‪.‬‬
‫(‪ )19‬يف احلالة اجلاوية فإن ما يدل على شروط التجارة هو أن أولئك الذين يأخذون مطالب ديانتهم على حنو جدي يؤولون من قبل‬
‫رفاقهم من أهل البلد على أهنم غرباء‪ .)(C. Greetz, The Religion of Java, Glencoe, Ill. 1960, p. 123 .‬يف حالة غرب‬
‫أفريقيا ميكن فهم شيء من العالقة بني اإلسالم وأشكال احلكم الوثنية يف تسمية املسلمني « زوجات الزعيم »‪(N. Levtzion, .‬‬
‫‪.)Muslims and Shiefs in West Africa, Oxford 1968, pp. 58, 132‬‬
‫(‪. Wensinck, Concordance, s.v. hadama )11‬‬
‫(‪M. Mole, “Les Kubrawiya entre sunnisme et shiisme aux huitieme et neuviéme siécles )12‬‬
‫‪del’Hégire”, Revue des études islamiques 1961, pp. 78 - 91‬؛ ‪D. Hyalon, The Great Yasa of Chingiz‬‬
‫‪( . Khan. A reexamination (B)”, Studia Islamica 1971, pp. 177 - 80‬يش ّكل املنحدرون من جنكيز خان هنا أهل‬
‫بيت والذين ميكن مقارنة وظيفتهم يف توليد شرعية سياسية مع وظيفة عائلة النيب)‪.‬‬
‫(‪ )13‬قارن النَ ْدب النبيه لزيا غوكالب‪(N. Berkes (tr.), Turkish Nationalism and Western Civilisation: Selected .‬‬
‫‪.)Enays of Ziya Gokalp, London 1959, p. 227‬‬

‫‪115‬‬
‫الغزاة الديين كثرياً رمبا عن مسار الفرانكيني(‪ .)14‬ولو كانت الغزوات استهلت حتت محاية اللخميني أو‬
‫الغساسنة‪ ،‬لو أهنا جنمت عن نسخة أكثر دوامية عن اإلمرباطورية الرومانية واليت هلا صلة قوية مبصاحل‬
‫واحدة أو أخرى من اهلرطقات املسيحية الكبرية‪ ،‬فمن غري املرجح أن األمهية الثقافية للعرب كانت‬
‫ستختلف كثرياً يف النوع عن األمهية الثقافية للقوط اآلريوسيني‪ .‬ومل يكن الغزاة يف أي من احلاالت يف‬
‫موقع يؤهلهم كي يرتكوا وراءهم أكثر من األسس السياسة والثقافية لقومية هنائية واليت ميكن مقارنتها‬
‫باألسس السياسية والثقافية للهنغار أو للسالف األرثوذكس(‪.)15‬‬
‫عوضاً عن ذلك‪ ،‬فالغزو الرببري وتشكيل اإلميان اليهودي الذي كان سينتصر أخرياً يف الشرق كانا‬
‫جزءاً من احلدث التارخيي ذاته‪ .‬ما هو أكثر من ذلك‪ ،‬فأن التحامهما كان واضحاً يف الشكل األويل‬
‫وحدت بشارة حممد بني حقيقة دينية مستعارة من التقليد‬ ‫للعقيدة اليت كانت ستصبح اإلسالم‪ .‬لقد ّ‬
‫اليهودي وإفصاح ديين عن هوية إثنية ألتباعه العرب‪ .‬وهكذا ففي حني كانت العقيدة اآلريوسية جمرد‬
‫طور‬
‫جمرد هوية‪ ،‬فاهلاجرية كانت اإلثنيتني معاً‪ .‬ويف مسار ارتقائهم التايل‪ّ ،‬‬ ‫حقيقة واإلثنية القوطية ّ‬
‫مفصل‪ .‬لكن من‬ ‫اهلاجريون حقيقتهم بشكل يفوق تقريباً حدود إدراكنا وأرسوا هويتهم يف ماض وثين ّ‬
‫ناحية‪ ،‬فاحلقائق الدينية اليت انتقوها‪ ،‬ألهنا كانت يهودية منذ البداية ومل تكن قط مسيحية إال بشكل‬
‫هامشي‪ ،‬خلقت هوة بينهم وبني مواليهم أوسع من تلك اليت استطاعت خلقها هرطقة جمردة يف الغرب‪:‬‬
‫ظل شنتوهم أقل من شنتو‪ :‬فقد مت التعبري عن‬ ‫فهرطقتهم كانت أكثر من هرطقة‪ .‬ومن ناحية أخرى ّ‬
‫هويتهم الرببرية مبصطلحات مأخوذة من الكتاب املقدس مبا يكفي ألن تكون مفهومة وقابلة ألن يُ َدافع‬
‫عنها باللغة الدينية للعامل الذي غزوه‪ .‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬بقي الرباط العضوي بني حقيقتهم وهويتهم‪ .‬إذاً‪،‬‬
‫إن بنيان العقيدة اهلاجرية جعلها قادرة على استمرار طويل األجل‪ ،‬ومتاسك جمتمع الغزو ضمن أهنا‬
‫استمرت فعالً‪ .‬لقد نالت القيم اليهودية مساندة القوة الرببرية‪ ،‬ونالت القوة الرببرية تكريس القيم‬
‫اليهودية؛ واملؤامرة أخذت شكالً‪.‬‬
‫حصن هذا الشكل اهلاجريني ضد الثقافات اليت غزوها بطريقتني اثنتني‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬مل‬ ‫لقد ّ‬
‫تتلني بطريقة املسيحية‪ .‬فمن الناحية التارخيية‪ ،‬تركت‬
‫تكن مثة دعوة للقيم اليهودية اليت تبنتها اهلاجرية ألن ّ‬
‫للتوسل إىل القيم الثقافية ملواليهم‪ .‬ومن‬
‫هذه القيم الغيتو ال لتهدي العامل بل لتغزوه؛ ومل يكن الغزاة حباجة ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )14‬من أجل كل ماضيهم اجلاهلي‪ ،‬قارن املقطع املأخوذ من ‪ Diodoras Siculus‬املستشهد به آنفاً‪ ،‬اهلامش ‪ ،38‬القسم األول‪،‬‬
‫والنبطيون كانوا سريعني مبا يكفي حني أعلنوا هلينيتهم عند احتالهلم لدمشق‪(Schürer, The History of the Jewish .‬‬
‫)‪. People, p. 578‬‬
‫مكونة ببساطة تامة من أحفاد‬‫(‪ « )15‬األمة » اهلنغارية األرستقراطية قبل قدوم التيار القومي احلديث يف معرفتها اخلاصة بذاهتا كانت ّ‬
‫الغزاة اجملريني الوثنيني الربابرة؛ والوجه اآلخر هلذا الشعور القوي جداً باإلثنية كان خضوع اهلنغار الكامل للثقافة األوروبية‪ .‬السالفيون‬
‫األرثوذكس أقل تأثرياً من الناحية السياسية‪ ،‬لكنهم استنبطوا نوعاً من االستقالل الثقايف الفرعي عن طريق اجلمع بني استخدام قدمي‬
‫للهجة العامية كلغة أدبية واستخدام ظالمي للهسيكازم ‪ Hesychasm‬يف مواجهة العنصر اهلليين يف تقليدهم البيزنطي‪ .‬وإذا كان‬
‫أحفاد النيب بديالً سياسياً فقرياً لألرستقراطية اهلنغارية‪ ،‬فإن اهلسيكازم بديل ثقايف رديء جداً للحنبلية‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫الناحية املفاهيمية‪ ،‬فصل اهلاجريون أنفسهم عن اليهود عن طريق إعادة ترتيب األمور وليس‬
‫مساماهتا(‪ :)16‬بدل تطوير فكرة «إسرائيل حقيقية‪ » Verus Israel‬بطريقة املسيحية األممية‪ ،‬قاموا‬
‫ببساطة باستبدال اإلثنية اإلسرائيلية بأخرى إمساعيلية(‪)19‬؛ وبدالً من تطوير مذهب اخلالص باإلميان‬
‫وليس بأعمال الشريعة البولسي‪ ،‬واصلوا استبدال حرفية الشرع املوسوي حبرفية الشرع احملمدي‪ .‬وهكذا‬
‫حافظوا على ذلك اجلمع بني إثنية حرفية وحرفية شرع ديين وهو ما ش ّكل اساس «احلياة االنعزالية»‬
‫اليهودية(‪ .)18‬فاهلل‪ ،‬مثل يهوه‪ ،‬كان إهلاً غيوراً‪.‬‬
‫ثانياً‪ ،‬إن التكريس الذي استطاعت القيم اليهودية إضفاءه على القوة الرببرية كان تكريساً مثرياً جداً‬
‫لألفكار والذكريات‪ .‬قد يكون اليهود عاشوا يف الغيتو‪ ،‬لكن امليثة ‪ myth‬اليت أفصحت عن عزلتهم عن‬
‫العامل الكنعاين احمليط هبم كانت ميثة األسباط اإلسرائيليني يف الصحراء(‪.)17‬وهكذا فاستبدال اإلسرائيليني‬
‫باإلمساعيليني يف دور الشعب املختار ّأدى إىل ما هو أكثر من تكريس اهلوية اإلثنية للغزاة‪ :‬لقد طوق‬
‫«حياهتم املنعزلة السابقة» املنعزلة يف الصحراء هبالة دينية متميّزة أيضاً‪ .‬لقد تلقفت اهلاجرية االغرتاب عن‬
‫احلضارة لكل من الغيتو والصحراء وصهرته‪ .‬وبدا األمر كما لو أن الغزو القبائلي لكنعان أوصل مباشرة‬
‫إىل املقاومة الفريسية للهلينية عن طريق إختصار عنيف للتاريخ اإلسرائيلي‪ :‬ففي حني تلقت اليهودية إىل‬
‫الربية‪ .‬وهكذا‬
‫حد ما البصمة احلضارية ملَلَكية شرق ‪ -‬أدنوية‪ ،‬احتفظت اهلاجرية بقساوة احلياة الركابية يف ّ‬
‫فقد رفض اهلاجريون اإلجنازات الثقافية للشعوب املغزوة وكأهنا أشياء كنعانية كريهة‪ ،‬ووضعوا أسس حياهتم‬
‫الثقافية يف املاضي القبائلي لوطنهم العريب األصلي‪.‬‬
‫املادي للغزوات اجلرمانية‬
‫وهكذا فالتعارض بني الشرق والغرب كان أساسياً‪ .‬ففي الغرب‪ ،‬كان األثر ّ‬
‫كارثياً‪ :‬فقد حتللت اإلمرباطورية واختفى جهازها البريوقراطي‪ ،‬ودخلت ثقافتها يف عصر الظلمات‪.‬‬
‫باملقابل فدور القيم املسيحية يف هذه القصة كان لطيفاً إىل درجة مدهشة‪ .‬واحلقيقة أن مسيحيي‬
‫اإلمرباطورية الرومانية أولوا اهتماماً خاصاً بالطبع ملسألة اعتبار أنفسهم يف السيب‪ .‬لكن سبيهم كان سبياً‬
‫متسامياً استخدموه لتعزيتهم عن أوطاهنم اخلاصة ليذهبوا إىل مواطنهم وليتحركوا بذاهتم ‪in sedibus‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫صح القول‪ُ ،‬م ّسحت أكثر من كوهنا‬
‫(‪ )16‬استثناء شبه ملفت للنظر يستحق أن يذكر هنا‪ :‬إن املفاتيح إىل فهم العقيدة ‪ ،Doctrina‬إذا ّ‬
‫هتوجرت (أنظر هامش ‪ 12‬ف‪ .)1‬قارن مع هذا العمل من القرن السابع‪“Treatise on the Shortest Path that brings us :‬‬
‫= ‪near to God” of Joseph Hazzaya, ed. and tr. Mingana in his Woodbrooke Studies, vol. iii, f. 87b‬‬
‫‪. p181‬‬
‫(‪ )19‬وهكذا فإن مساماة النسب اإلبراهيمي إىل استعارة جمازية من قبل اليهودي املتهلني بولس الطرسوسي متَُيّز بداية املسيحية كما نعرفها‬
‫(رسالة غالطية ‪ ،)121:24‬يف حني أن احملاولة املشاهبة اليت قام هبا املصري املتهلني طه حسني يف هناية القرن التاسع عشر ه ّددت‬
‫بوضع هناية لإلسالم كما نعرفه‪(N. Safran, Egypt in Search of Political Community, Cambridge, Mass. .‬‬
‫‪.)1961, n. 155‬‬
‫(‪ )18‬الحظ أن هذه السمات حتديداً هي أساس رفض اليهود املتنصرين إتباع املسيحية البولسية يف قبوهلا للهلينية‪ .‬أنظر‪E. R. :‬‬
‫‪. Goodenough, Jewish Symbols in the Greco-Roman Period, vol. i, New York 1953, p. 37‬‬
‫(‪ )17‬من أجل املعىن املستمر للصحراء بالنسبة لليهودية أنظر سابقاً‪،‬هامش ‪ 46‬ف ‪ . 1‬قارن‪ :‬القبائلية اجلديدة لطائفة البحر امليت ‪(Y.‬‬
‫‪Yadin (ed. and tr.), The Scroll of the War of the Sons of Light against the Sons of Darkness, Oxford‬‬
‫‪.)1962, p. 38‬‬

‫‪119‬‬
‫‪ ،suis peregrinos esse se noverunt‬ليذهبوا إىل ‪ in sedibus suis‬درسوا كتابات‬
‫املاضي الوثين‪ .‬إن رد أغسطينس على الغزو الوثين املتمثل باإلنسحاب إىل فراش موته وأفلوطني على‬
‫شفتيه ال يدل على اغرتاب ثقايف عميق عن عامل األنتيك(‪ .)29‬وهكذا فمن املناسب القول إن استمرار‬
‫األنتيك يف القرون اليت أعقبت موت أغسطينس كان إىل حد كبري بسبب الدور احملافظ للكنيسة‬
‫املسيحية‪ ،‬ومن الطبيعي أن ينظر املسيحيني يف العصور الوسطى إىل أنفسهم باعتبارهم الوريثني الشرعيني‬
‫هلذا اإلرث البايل‪ ،‬حىت لو مل يكونوا يستحقون ذلك‪ .‬أما يف الشرق‪ ،‬فأدوار اجلرمانيني واملسيحيني‪ ،‬إذا‬
‫صح القول‪ ،‬بدت معكوسة‪ .‬ورغم الدمار األويل الذي أحدثته الغزوات العربية‪ ،‬استمر واقع اإلمرباطورية‬
‫مع الكثري من آليته‪ ،‬كما متت احملافظة علىمستوى ثقايف حبيث كان العامل اإلسالمي يف أحد األوقات يف‬
‫موقع يؤهله ألن يقوم بنقل كبري للتعاليم اهللينية إىل الغرب‪ .‬وإذا كانت الغزوات اهلاجرية أقل إيذاء‬
‫لألنتيك من غزوات اجلرمانيني‪ ،‬فإن مفاهيمهم آذته بأكثر مما آذته مفاهيم املسيحيني‪ .‬فالسيب‬
‫اهلاجري‪،‬كالسيب اليهودي‪ ،‬كان عن هذا العامل‪ ،‬لذلك محل معه اغرتاباً أكثر عينية عن بيئته الثقافية‪:‬‬
‫حىت األشاعرة ماتوا نادمني على ما محلوه من أثقال من حكمة اليونان السامة(‪ .)21‬وهكذا فقد تع ّذر‬
‫على اهلاجريني‪ ،‬بسبب إمياهنم‪ ،‬أن يرثوا بشكل مباشر أياً من تقاليد العامل الذي غزوه‪ .‬لكن قرون‬
‫اإلسالم األوىل مل تكن بأية حال عصر ظالم أواخر عمر األنتيك؛ إمنا النور الذي ألقي عليها كان جيب‬
‫ضع الستقطاب أجنيب للغاية‪.‬‬ ‫أن ُخيْ َ‬
‫رغم أن هذا الصهر للقوة والقيمة كان ضرورياً لو كان الغزاة يريدون خلق حضارة جديدة‪ ،‬فقد كان‬
‫بعيداً عن أن يكون كافياً لتمكينهم من فعل ذلك بصرف النظر عن البيئة الثقافية‪ .‬ورمبا أن نقطتني سلبيتني‬
‫واضحتني تق ّدمان شيئاً يوحي مبا كان عليه الشرق األدىن يف القرن السابع حبيث صار أرضاً خصبة ملثل هذه‬
‫مكوناً من جمموعة تقاليد متكاملة‪ ،‬لكل تقليد هويته وحقيقته‪ ،‬لبدوا‬
‫املغامرة‪ .‬أوالً‪ ،‬لو أن العرب غزوا شرقاً أدىن ّ‬
‫إىل حد كبري وكأهنم املغول‪ :‬الفرصة اليت ال سابق هلا هلؤالء الغزاة القادمني من آسيا الوسطى كي ميزجوا‬
‫احلضارات املختلفة اليت غزوها مل تصل اىل مستوى كوهنا تغيرياً من أجل صهرها‪ .‬ثانياً‪ ،‬لو كان العرب غزوا‬
‫موحد‪ ،‬لكانوا وقعوا إىل حد كبري يف الورطة اليت وقع فيها غزاة الصني من‬
‫شرقاً أدىن مندجماً يف كيان ثقايف ّ‬
‫الربابرة املتعاقبني‪ :‬مل يستطع أولئك الربابرة‪ ،‬وقد واجههم تعريف موحد للغاية ملا كانت عليه احلضارة وملا عليها‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ .P. Brown, Augustine of Hippo: a biography, London 1967, pp. 425f )29‬إن القصة الكاملة لقولبة الديانة وفق‬
‫خطوط فلسفية يف حياة أحد أعظم القديسني املسيحيني هي قصة كان من الصعب حتويلها إىل مصطلحات إسالمية خارج املذهب‬
‫تفسر توظيف املذهب االمساعيلي ملوهبة فكرية باهرة)‪ .‬من الصعب أن نتخيّل أن اغسطينس‬ ‫االمساعيلي(وهو واحد من األسباب اليت ّ‬
‫ِ‬
‫الشاب ‪ ،‬الذي ظل جيفل من احلرفية املؤملة لكلمة اإلله العرباين حىت حررته استعارات أمربوسيوس اجملازية اهللينية الرفيعة‪ ،‬أُمكن أخذه‬
‫بالنعمة إىل علم بالغة مؤسس على الكمالية األسلوبية البديهية للقرآن‪ ،‬أو إىل « الهوت » يقبل حبقائق كتابة املق ّدس بال كيف‪.‬‬
‫(‪. G. Makdisi, “Ash‘ari and Ash‘arites in Islamic History, Studia Islamica 1963, p. 31 )21‬‬

‫‪118‬‬
‫أن تكون‪ ،‬سوى االستسالم بنوع من اللباقة للتمثيل الثقايف احملتوم؛ فهم مل يكونوا يف موقع يؤهلهم ألن يشرعوا‬
‫يف إعادة تشكيل ما كانوا أغاروا عليه(‪.)22‬‬
‫هذه اإلمكانيات املتمايزة مفاهيمياً هي أيضاً أقطاب ارتقاء تارخيي‪ .‬فتاريخ احلضارة يف الشرق‬
‫األدىن يبدأ بالتعددية ‪ -‬سومر ومصر ‪ -‬ورمبا يف وقت مناسب ظهر يف شكل حضارة بيزنطية صلبة‪،‬‬
‫وذلك مع زوال اخلطر اإليراين وإنقطاع عالقة تقاليد اهلالل اخلصيب القدمية يف الواقع مسألة مثلها مثل‬
‫التقاليد القدمية لبالد األناضول‪ .‬هذا يعين أن بيزنطة رمبا كانت يف هناية األمر السبب يف التجانس الذي‬
‫كان‪ ،‬وفق الواقع التارخيي‪ ،‬إجناز اإلسالم‪ .‬من الواضح يف هذا املنظور أن األسباب اليت أفضت إىل شرق‬
‫أدىن القرن السابع البُد أن يُبحث عنها يف املوقع الوسيط بني القطبني‪.‬‬
‫حيتاج هذا املوقع الوسيط ألن يُشرح بثالثة طرق‪ .‬أوالً‪ ،‬الشرق األوسط ‪ -‬باستثناء إيران ‪ -‬كان‬
‫منطقة فقدت شعوهبا حضاراهتا القدمية واستبدلتها مبا تستعريه من اآلخرين؛ لكنهم فعلوا ذلك دون أن‬
‫ينسوا أهنم كانوا ذات يوم متحضرين ودون أن يدجموا هوياهتم يف هويات أصحاب التقاليد اليت‬
‫استعاروها‪ .‬وهلذه احلالة كان مثة شبيه صغري يف الغرب الالتيين‪ :‬لقد أحرز اإلسبان حضارة متكاملة ودجموا‬
‫هويتهم يف هوية الرومان الذين جاءوا إليهم باحلضارة‪ ،‬يف حني احتفظ بربر مشال افريقيا برببرية متكاملة‬
‫غري ملونة بأية حضارة(‪ .)23‬وهكذا فقد كان موجوداً يف الكثري من أرجاء الشرق األوسط انفصال بني‬
‫احلقيقة األجنبية واهلوية احملليّة‪.‬‬
‫ثانياً‪ ،‬لقد ّأدى فقدان شعوب الشرق األوسط حلضاراهتا اخلاصة إىل جعلهم ريفيني بثقافة خاصة‬
‫إىل حد ما‪ ،‬هي اهللينية‪ .‬واهللينة‪ ،‬رغم أصوهلا اإلثنية‪ ،‬كانت كما رأينا مالئمة ألن تصبح ثقافة خنبة‬
‫كوزموبوليتانية(‪.)24‬على الصعيد التارخيي فإهنا تطورت أيضاً‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬بطريقة واليت سحبت معها بعضاً‬
‫من لسع أصلها اإلثين وخنبويتها االجتماعية على حد سواء‪ .‬وهكذا فقد كابد الشرق األوسط من عملية‬
‫جمانسة ملحوظة للحقيقة الثقافية‪ ،‬واحلقيقة الثقافية فقدت بالتايل الكثري من خصوصيتها األوليّة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(E. I.‬‬ ‫(‪ )22‬التنقوطيون ‪ ،Tanguts‬الذي اقتصر غزوهم على أطراف الصني النائية‪ ،‬قّدموا ثقافة قومية عن طريق تقليد حضارة الصينيني‪.‬‬
‫‪ .)Kychanov, Ocherk istorii tangustkogo gosudarstva, Moscow 1968, pp. 259ff‬أما املنشوريون فقد ثبتوا هوية‬
‫قومية عن طريق تقليد الرببرية املغولية ‪(D. M. Fraquhar, “The Origins of the Manchus Mongolian Policy” in J.‬‬
‫‪ .)K. Fairband (ed.), The Chinese World Order, Cambridge Mass 1968‬يف كلتا احلالتني كان اإلستسالم اجلوهري‬
‫لشكل الثقافة الصيين كامالً (قارن املعىن الذي قد يكون اإلسالم خلقه من اهلجرة إىل داخل الصحراء والذي يبدأ به تاريخ حكومة‬
‫تنقوط ‪ Tangut‬املستقلة)‪.‬‬
‫(‪ )23‬حىت املسيحية التبشريية فإهنا مل تق ّدم آداباً باللغة اإليربية أو اللغة الرببرية الشمال إفريقية؛ ومل يظهر أدب باسكي حىت القرن السادس‬
‫عشر‪ ،‬أما األدب الرببري الشمال إفريقي فقد كان عمل إسالم هرطقي‪.‬‬
‫(‪ )24‬مل يكن األمر بالطبع دون سابقات يف املنطقة؛ لكن ثقافة أكاد املسمارية كانت معيقة جداً للحركة‪ ،‬واالستخدام العاملي للغة آرامية‬
‫دنيوية كان منفعياً جداً‪ ،‬حىت يولّد أي شيء مشاهباً جداً للهلينية كثقافة خنبة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫ثالثاً‪ ،‬لقد خضع الشرق األوسط ملا يشبه دينياً هذه الصريورة الثقافية‪ .‬فبعدما استعار ثقافته من‬
‫اليونانيني‪ ،‬أخذ اآلن ديانته من اليهود؛ وكما أن اهلوية اليونانية للحقيقة الدينية شحبت إىل حد كبري مع‬
‫زوال الدولة املقدونية واهنيار املدن‪ ،‬كذلك متاماً فإن هوية التوحيد اليهودية فقدت لسعتها مع زوال الدولة‬
‫اليهودية وختليص البشارة من الغيتو‪ .‬وهنا من جديد‪ ،‬كان الشرق األوسط جيتاز عملية جمانسة احلقيقة‪،‬‬
‫ويف هذه احلالة احلقيقة ذاهتا قطعت عالقاهتا مع ماضيها اإلثين‪.‬‬
‫يبدو أن هذه العالقات بني ريفيي الشرق األوسط وحقائقهم املستعارة‪ ،‬كانت أساسية لتشكيل احلضارة‬
‫اإلسالمية‪ .‬أوالً‪ ،‬مثة عالقة بني الريفيني وثقافتهم‪ .‬فمن وجهة نظر الثقافة ذاهتا‪ ،‬هذه العالقة كانت تعين وجود‬
‫تكاملية كامنة معينة بني اهللينية واهلاجرية‪ :‬فبنيان جمتمع الغزو اهلليين حتلّل ليرتك طبقة حضارة رقيقة على اهلوية‪،‬‬
‫وبنيان جمتمع الغزو اهلاجري كان موشكاً على التحلل ليرتك طبقة هوية رقيقة على احلضارة‪ ،‬وكان مثة اساس هنا‬
‫لصفقة ثقافية ال ميكن ختيّل مثلها بني اهلاجرية وإيران‪.‬فمن وجهةنظر العرب‪ ،‬الشخصية الريفية للثقافة اليت‬
‫واجهوها جعلتها أقل طغياناً ‪ -‬يف هذا الصدد بدا من احلكمة غزو سوريا دون بيزنطة‪ ،‬متاماً مثلما كان من‬
‫احلصافة أخذ إسبانيا دون روما؛ بينما يف الوقت ذاته جعل تآلفهم النسيب مع شعوب اهلالل اخلصيب ‪ -‬وهم‬
‫نتاج ملنطقة جماورة جغرافياً ولتاريخ طويل من التعامل الثقايف مع العرب ‪ -‬احلضارة يف هذا الشكل الريفي أقرب‬
‫كثريا إىل متناول أيديهم‪ .‬أما من وجهة نظر الريفيني أنفسهم‪ ،‬فالشخصية اخلاصة جداً لريفيتهم جعلتهم مجاعة‬
‫تناسب بشكل ملفت للنظر العمل كوسطاء ثقافيني‪ .‬فالشخصية األجنبية حلقائقهم ‪ -‬خاصة يف حالة اهللينية‬
‫‪ -‬والشخصية الشاحبة هلوياهتم ‪ -‬وحالة سوريا تأيت يف الطليعة ‪ -‬كانتا تعنيان أهنم مل يكونوا سادة الثقافة‬
‫بقدر ماهم جتارها‪.‬أما اإليراين الذي اعتنق اإلسالم فكان خائناً حلقبة كاملة من تاريخ قوي ومتكامل؛ لكن‬
‫عرين‬
‫كم ّ‬
‫حني ّقرر الغزو اهلاجري تفكيك الوحدة الزائدة اجملردة يف التقليد البيزنطي‪ ،‬استطاع اإلقليميون العمل ُ‬
‫مساعدين لإلرث احملجوز عليه دون أي إحساس ميكن مقارنته بشعور خيانة الكهنوت‪des clercs‬‬
‫‪ .trabison‬باختصار‪ ،‬فإن العالقة بني الريفيني وثقافتهم م ّكنت اهلاجريني من تعريض أنفسهم للحضارة‬
‫لكن فقط يف شكل ُمص ّفى عرب جمموعة خاصة من املصايف الريفية‪.‬‬
‫ثانياً‪ ،‬لقد امتلكت عالقة الريفيني بإمياهنم اليهودي طاقات كامنة ثقافية هامة‪ .‬لكن أكثر األمور‬
‫وضوحاً‪ ،‬هو حقيقة أن املسيحية واهلاجرية كانتا على حد سواء حتويرين للحقيقة اليهودية ذاهتا واليت‬
‫أنعمت على دين الغزاة مفهومية‪ ،‬مل يكن ممكناً ختيّل التمتع هبا قبل بضع قرون يف الشرق األوسط الوثين‪.‬‬
‫يف الوقت ذاته فحقيقة أن الشرق األوسط صار ميتلك اآلن ليس تداوالً للحقيقة عاملياً معتمداً واحداً بل‬
‫إثنني أدت إىل ظهورية احتمالية التفكري يف أن أحدمها ضد اآلخر‪ :‬ففي حني صك النبطيون حني غزوا‬
‫دمشق نقداً حمباً لليونانيني يف نوع من التحالف احملتوم مع الثقافة اليت هزموها‪ ،‬استطاع اهلاجريون أن‬
‫يصكوا ضدها نقداً حمباً للتوحيد؛ مقابل ذلك‪ ،‬فالريفيون استطاعوا أن يبيعوا اهللينية دون أن خيونوا‬

‫‪129‬‬
‫أسالفهم وال رّهبم‪ .‬لكن قبل كل شيء فقد كان املهم هو االختالف بني التداولني‪ :‬ويف هناية األمر مل‬
‫يكن حدثاً حصل بني ضحايا التعصب املسيحي‪ ،‬فقد كان هروب اليهود من هرقل وليس هروب‬
‫(‪)25‬‬
‫تبين‬
‫الفالسفة من يوستنيايوس هو الذي أدى خروجه ‪ exodus‬إىل ظهور االسباط العربية ‪ .‬ألنه يف ّ‬
‫حىت نسخة ملطفة من اليهودية‪ ،‬نزلت احلضارة على الرب مع نوع من كعب أخيلوس األيديولوجي(‪.)26‬‬
‫واستفادة اهللينية من فظاظة االسباط الرببرية كانت قليلة كاستفادة الكونفوشيوسية منها (‪)29‬؛ لكن‬
‫املسيحية‪ ،‬كديانة مشتقة من التقليد اإلسرائيلي‪ ،‬كانت مفتوحة على اإلحياء املغوي القائل إن الفظاظة‬
‫اليت كانت رذيلة بالنسبة للحضارة أمكن أن تكون أيضاً فضيلة توحيدية‪ .‬قد تناولنا للتو‪ ،‬ما الذي كان‬
‫يعنيه هذا بالنسبة للعرب أنفسهم حني أعادوا متثيل غزو كنعان‪ ،‬أما النقطة اليت جيب أن نؤّكد عليها هنا‬
‫فهي التب ّدل الدقيق يف السيناريو األيديولوجي الذي حيدث حني يكون الكنعانيون أنفسهم املناصرين‬
‫امللتزمني بنوع من عبادة يهوه كنعانية إىل حد ما‪ .‬هذه املرة مل يكن الطابور اخلامس الكامن الرببري ضمن‬
‫احلضارة مقصوراً على البغايا(‪.)28‬‬
‫جيب أن تربط هذه االعتبارات بديهياً طبعاً بالشكل الفعلي للغزو العريب‪ :‬والتعارض املهيمن هنا هو‬
‫بني إيران وبيزنطة‪ .‬فإيران مل تكن شيئاً قيماً جديراً باالقتناء بالنسبة للربابرة املندجمني يف إعادة تشكيل‬
‫حلضارة‪ :‬فتقليد متكامل مل يتأثر إال بلطف حبقائق اليونانيني واليهود‪ ،‬كان العرب عدميي التبصر ثقافياً مبا‬
‫يكفي البتالعه إمجاالً‪ .‬ولو كانت إيران كل ما غزوه‪ ،‬فإن حظوظهم يف خلق حضارة كانت ستصبح يف‬
‫حدودها الدنيا؛ لكن واحلالة هذه‪ ،‬فمن الواضح أن إيران كانت أكرب أعبائهم‪ .‬مع ذلك فقد ساعدت‬
‫يف احلدث عدة عناصر يف سحب أسوأ شيء من بني أسناهنا‪ .‬والشيء األوضح‪ ،‬هو أن إيران كانت‬
‫معني للمدن‬ ‫ضائعة إىل حد ما يف حقل الغزاة الواسع‪ .‬أما األمر الدقيق‪ ،‬فهو أنه كان مثة نزع سالح ّ‬
‫اإليرانية عرب تآلب للظروف‪ :‬فمن ناحية كانت العاصمة الساسانية ‪ -‬ألسباب جغرافية تظهر جزئياً مع‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪W. B. Emery,‬‬ ‫(‪ )25‬أما من أجل استقبال البلميني ‪ Blemmyes‬الوثنيني احلماسي ألوليمبيودوروس يف بداية القرن اخلامس‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪. Egypt in Nubia, London 1965, p. 236‬‬
‫(‪ )26‬قارن االخرتاع الغريب االمحق الذي يدعى املاركسية‪ ،‬والذي م ّكن ضحايا احلضارة االوروبية من غري االوروبيني من رفض العامل الذي‬
‫أُقحم عليهم على أساس حقائق املاركسية اخلاصة‪ .‬فاملاركسية‪ ،‬كالتوحيد‪ ،‬هي رسالة عقائدية مبا يكفي ألن تنتزع من وسطها الثقايف‬
‫ويعاد إفرغها يف شكل مبسط كي يستخدمه أولئك الذين يظل وسطها األصلي غريباً عليهم جداً‪.‬‬
‫(‪ )29‬حني كان كونفوشيوس يفكر بالذهاب للعيش بني قبائل الشرق الربية التسع‪ ،‬متت مواجهته باعرتاض يقول‪ « :‬إهنم قوم جلفون؛‬
‫كيف بإمكانك أن تفعل شيئاً كهذ؟ » على ذلك أجاب السيد‪ « :‬إذا أقام بينهم رجل فائق‪ ،‬فأية جالفة ستكون هناك؟ »‪(H. .‬‬
‫‪Miyakawa,”The Confucianization of South China”, in A.F.Wright (ed.),The Confucian Persuasion,‬‬
‫‪ ) Stanford, Col. 1960 p. 24‬اجلالفة بالتايل هي رذيلة قبائلية واليت كانت الفضيلة الكونفوشيوسية ستزيلها؛ لكن الكونفوشيوسية‬
‫مل متتلك مصادر من أي نوع لتأويل الرذيلة باعتبارها فضيلة‪ .‬وهكذا ظل كونفوشيوس يف وطنه‪ ،‬واعتنق جنوب الصني الكونفوشيوسية‪،‬‬
‫ُسلِم الشرق األوسط‪.‬‬
‫يف حني استوطن حممد بني قبائل اجلنوب الربية وأ ْ‬
‫(‪ )28‬قارن سفر يشوع ‪ 1:2‬وما بعد‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫األمخينيني ‪ -‬تقع خارج املوطن االثين إليران يف الوسط الكوزموبوليتاين يف العراق األدىن؛ ومن ناحية‬
‫األويل للهاجريني ‪ -‬يف احلقبة‬ ‫أخرى كانت العاصمة اهلاجرية ‪ -‬ألسباب نامجة عن التاريخ السياسي ّ‬
‫احلامسة اليت أعقبت الغزوات موجودة يف إقليم بيزنطي وليس يف العاصمة الساسانية‪ .‬نتيجة لذلك تُِرك‬
‫حطام العاصمة الساسانية كي يهرت دون الدعم الذي كان سيتلقاه لو كان موجوداً يف قلب موطنه‬
‫اإلثين‪ ،‬أو االنتباه الذي كان سيجلبه لو كان يف موضع العاصمة اهلاجرية‪.‬‬
‫لكن اجلغرافيا السياسية للعالقة اهلاجرية بالعامل البيزنطي كانت خمتلفة للغاية‪ :‬فتقليد أ ُْم ِكن تفكيكه‬
‫كان حبد ذاته جمبوباً جغرافياً‪ .‬وبعكس إيران‪ ،‬كان لبيزنطة مركزها السياسي يف ما ميكن دعوته نسبياً قلبها‬
‫اإلثين‪ ،‬وعلى هذا األساس كانت بعيدة عن ريفيي اهلالل اخلصيب‪ :‬يونانيو سوريا مل يكونوا شيئاً باملقارنة‬
‫مع فرس العراق‪ .‬ومقابل غزوهم السريع والكامل إليران‪ ،‬ترك العرب بيزنطة األناضول املتهلينة دون غزو‬
‫حىت أواخر العصور الوسطى‪ .‬وهكذا فقد أوصل اهلاجريون‪ ،‬بطريقة مالئمة‪ ،‬مبادرهتم الثقافية إىل أقصى‬
‫درجاهتا حني كانوا يهبطون بالعاصمة الساسانية إىل مكانة ريفية ويشيدون عاصمتهم اخلاصة يف ريف‬
‫بيزنطي متعنت‪ .‬ومن نقطة التقاطع بني الوحدانية الرببرية والريفية املتحضرة هذه ولدت احلضارة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫‪1‬‬
‫قدر األنتيك‬
‫‪I‬‬
‫هوجرة الهالل الخصيب‬

‫يبدو أن التفاعل الداخلي بني اهلاجرية وأقاليم اهلالل اخلصيب هو العملية األكثر حسماً وتعقيداً يف‬
‫تشكيل احلضارة اجلديدة‪ .‬وهي أيضاً عملية جند يف حتليلها أن أقدار األقاليم داخل هذه احلضارة من‬
‫جهة‪ ،‬ومسامهاهتم هبا من جهة أخرى‪ ،‬هي يف احملاولة األخرية غري قابلة للفصل‪ .‬مع ذلك فأبسط شيء‬
‫الفجة القائلة إن اهلالل اخلصيب كان قد أُسلم أو‬
‫هو أن نبدأ على حنو أحادي اجلانب باحلقيقة التارخيية ّ‬
‫عُِّرب على حنو غامر عاجالً أم آجالً‪ .‬لكن من املفيد أن نبدأ باملسارات املتنوعة للطوائف املختلفة يف‬
‫العراق‪.‬‬
‫كان ضعف املوقف املسيحي يف العراق ذا شقني‪ :‬فالبنيان األرستقراطي لكنيستهم جعل املسيحيني‬
‫قابلني اجتماعياً ألن يُغزوا من قبل إله غيور‪ ،‬والطبيعة االممية حلقيقتهم جعلت من السهل نسبياً عليهم‬
‫أن يرتكوها من أجل حقيقة أخرى‪ .‬لكن مع أن هذه النقاط تنطبق بشكل متساو على كنيسة آشوريا‬
‫الريفية وكنيسة بابل العاصمية‪ ،‬كان هنالك مع ذلك فرق بني اإلثنتني بشأن آليات اإلهنيار‪ .‬لقد قامت‬
‫الكنيسة اآلشورية بشكل شبه حصري على أكتاف طبقة أرستقراطية من مالك األراضي‪ ،‬وكان‬
‫األرستقراطيون والفالحون على حد سواء آراميني حصرياً‪.‬لقد استفاد اآلشوريون بالتايل من دماثة يهوه‬
‫املسيحية لتكريس خلفة صورة ‪ after - image‬شكل حكمهم اآلشوري اخلاص‪ ،‬ومع أن اإلثنية‬
‫اآلشورية كانت حبد ذاهتا ضعيفة ومنتشرة يف آن‪ ،‬فمسيحيو مشال بالد مابني النهرين متتعوا كآشوريني‬
‫بتضامن إثين‪ ،‬اجتماعي وتارخيي والذي كان يف آن دنيوياً ومتسامياً‪ :‬بعكس املسيحيني احلضريني فهم مل‬
‫يكونوا جمرد أبناء للعهد وأخوة يف املسيح‪ .‬إذاً‪ ،‬كان النبالء والفالحون متآزرين هنا‪ .‬ولو كان املسلمون‬
‫مهيأين ألن يتساحموا بوجود طبقة أرستقراطية حملية ذات إميان حملي‪ ،‬فلرمبا استمر وجود املسيحيني‬
‫تطوع املسلمون لتكريس الطبقة األرستقراطية باعتبارها‬‫كأديابني يف ظل حكم عريب؛ باملقابل‪ ،‬فلو ّ‬
‫غري املسيحيون مجيعاً دينهم يف خلفة صورة مسلمة ألديابني‪ .‬لكن املسلمني مل يظهروا‬ ‫طبقتهم‪ ،‬لرمبا ّ‬
‫عملياً التسامح املطلوب ومل يكن للنبالء ذلك االهتمام يف أن يعتنقوا الدين‪ .‬وكانت النتيجة أن النبالء‬
‫والفالحني على حد سواء ظلّوا مسيحيني(‪ ،)1‬النبالء احنطوا تدرحيياً إىل فالحني(‪ ،)2‬والفالحون احنطوا‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Mingana, Sources syriaques,‬‬ ‫(‪ )1‬نالحظ على حنو متميز أن فهرست بار بنقاية لآلثام املسيحية ال يذكر تغيري الدين‪.‬‬
‫‪.)Chapter xv‬على حنو مشابه فإن آراء ‪ Sententiae‬حنان ‪ -‬ايشوع‪ ،‬رغم أنه معاصر ليعقوب الرهاوي (أنظر اهلامش ‪ 89‬من‬
‫الفصل السابق)‪ ،‬تتضمن قرارات بشأن ضريبة الرؤوس لكن ليس بشأن تغيري الدين ‪(in Sachau, Syrische Rechtbücher, vol.‬‬
‫)‪. ii‬‬

‫‪123‬‬
‫عزل للصوص البدو الذين كانوا يغريون عليهم من الصحراء وللجيوش الرتكية واملغولية‬ ‫تدرجيياً إىل ضحايا ّ‬
‫أي ممثلني حيافظون‬ ‫اليت زحفت عرب أراضيهم بني مراكز احلضارة‪ .‬فمع خسارهتم لنبالئهم مل يعد لديهم ّ‬
‫على استمراريتهم‪ ،‬كما أهنم مل ميتلكوا قط أية ديانة إثنية متنعهم عن تبديل دينهم‪ :‬بل إن نينوى مل تكن‬
‫بديلة لصهيون‪ ،‬متاماً مثلما أن الكهنة الظالميني(‪ )3‬مل يكونوا خلفاء للحاخامني؛ ومع أهنم رفضوا أن‬
‫ينتهوا بالكامل من على وجه البسيطة‪ ،‬فإن ما كان على األوروبيني اكتشافه جبانب آثار ماضيهم كان‬
‫بقية مؤسفة آلشوريا‪.‬‬
‫باملقابل فقد كان لدى املسيحيني يف بابل طبقة ارستقراطية يهيمن عليها الفرس يف ريف ذي غالبية‬
‫آرامية من ناحية‪ ،‬وخنبة مدنية من أصول متنوعة مشاهبة من ناحية أخرى‪ .‬هنا‪ ،‬إذاً‪ ،‬استُ ْخ ِدمت كياسة‬
‫يهوه املسيحية إلزالة التكريس عن شكل احلكم الفارسي حبيث ميكن للمسيحيني القبول به‪ ،‬وباملقابل‬
‫فاإلستمرارية اإلثنية واالجتماعية للكنيسة كانت هنا متسامية صرفة‪ .‬وهذا بالطبع جعل كنيسة احلواضر‬
‫لدنة للغاية‪ :‬فما ق ّدمه النساطرة إىل ملك ملوك علماين مل يكونوا ليمنعوه عن خليفة علماين(‪ ،)4‬ولو مل‬
‫تكن احلكومة املسلمة دينية جوهرياً‪ ،‬فلرمبا حافظ املسيحيون على وجودهم‪ .‬لكن هذا جعل كنيسة‬
‫احلواضر مفككة جداً أيضاً‪ :‬ففي مشال بالد مابني النهرين دعم اجلهاز اإلكلريوسي تواصلية أخالقية‬
‫مهمة ال يبدو أن‬‫كانت موجودة من قبل بني النخبة واجلماهري‪ ،‬أما يف بابل فقد كان عليهم خلقها ‪ّ -‬‬
‫جناح التوجه األرستقراطي للكنيسة كان فيها متميزاً‪ .‬لذلك‪ ،‬حني ّقرر كل النبالء باإلمجاع التمسك هبا‬
‫كمسيحيني(‪ ،)5‬تركهم فالحوهم يفعلون ذلك كمسلمني؛وبعدما غادر الفالحون باجتاه بصرى بثبات منذ‬

‫(‪ )2‬الحظ كيف يف ّكر توما املارغاين من القرن التاسع بالدهاقني كفالحني بائسني ال يستطيعون سوى الذهاب إىل أسقفهم إلنصافهم من‬
‫جامع ضرائب مبتز‪.‬‬
‫(‪ )3‬كان على النسطوري عبد اهلل بن الطيب الذي عاش يف القرن احلادي عشر أن يدافع عن العلم ضد التهمة القائلة إنه ليس فقط غري‬
‫ضروري‪ ،‬ألن املسيحية قائمة على معجزة‪ ،‬بل إنه ايضاً عقبة يف الطريق إىل اهلل‪ ،‬شيء خمز يبدو من اخلطأ اكتسابه‪(S. Khalil - .‬‬
‫‪Kussaim, “Nécessité de la science, Texte d’Abdallah Ibn at-Tayyib (m. 1043)”, Parol de l’Orient‬‬
‫‪.)1972, pp. 249ff‬‬
‫(‪ )4‬إهنم حقاً ال يفتقدون اإلستعداد لذلك واملسألة قدمية قدم القرن السابع (أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 19‬ف ‪ .)2‬التستمر بالطبع الفكرة اليت تقول‬
‫إن الغزاة العرب كانوا عقاباً على آثام املسيحيني؛ أنظر‪Muir, The Apology of Al Kindy, p. 13; Solomon of Basra, The :‬‬
‫‪ . Book of the Bee, pp. 140f = 124‬لكننا مع حلول القرن الثالث عشر جند أيضاً مسيحيني يتلفظون بالربكات آلياً بعد أمساء حممد‪،‬‬
‫علي وعمر الثاين‪(Scher, Histoire nestorienne, pp. 600, 618; H. Gismondi (ed. and tr.), Maris Amri et Slibae .‬‬
‫‪.)De Patriarchis Nestorianorum, Rome 1899, pp. 62, 63‬‬
‫(‪ )5‬باستثناء الدهاقني الذين يذكرهم البالذري (فتوح‪ ،‬ص‪ ،)265‬الذين كان بعضهم مسيحياً دون شك؛ الحظ فشلهم يف خلق أنساب‬
‫أرستقراطية رغم تغيريهم لدينهم مبكراً‪ .‬من أجل أفول الدهاقني عموماً‪ ،‬قارن‪. Encyclopaedia of Islam, art. “Dihkan” :‬‬

‫‪124‬‬
‫منتصف احلقبة األموية وما بعد(‪ ،)6‬صارت «الدلتا الكلدانية» إقليماً مسلماً صلباً مع حلول منتصف‬
‫القرن التاسع(‪.)9‬‬
‫استسلمت النخبة املسيحية الباقية يف املدن للوحدانية اهلاجرية بشكل أساسي عرب التعددية املتهلينة‬
‫اليت أوجدها العباسيون‪ ،‬وهي الظاهرة اليت ّأدت يف حاصل األمر إىل هالك كل النخب املدنية غري‬
‫املسلمة باستثناء اليهود‪.‬وحني استدرج عصر التنوير العباسي غري املسلمني من غيتوياهتم كي يشاركوا يف‬
‫نقاش عقائدي متبادل حول احلقيقة السارية يف لغة الفلسفة العاملية يف البالط البغدادي‪ ،‬كانت النتيجة‬
‫هجوماً متجدداً غري مفاجيء لدوار النسبية‪ :‬فمن ناحية مل تعد احلقائق املنافسة معزولة بالفصل املادي‪،‬‬
‫ومن ناحية أخرى مل تعد مبقية جانباً بالفصل الفكري‪ .‬فاللغة املشرتكة حرمت التفاسري التقليدية للتعددية‬
‫الدينية من معقوليتها الطائشة القدمية‪ ،‬وذلك مع عاقبة جديدة وقلقة تقول إن كالً من التفاسري واحلقائق‬
‫وض َعت يف نصاهبا الصحيح وتوقفت بالتايل عن أن تكون فائقة‪ .‬كان هنالك بعض الذين ساروا يف طريق‬ ‫ِ‬
‫التبصرات األكثر رفعة للفلسفة املفاهيمية‪:‬‬
‫الرواقية‪ ،‬فاستخدموا األديان مثل آرمات البلدية من أجل ّ‬
‫هكذا كان الفارايب(‪ ،)8‬إخوان الصفا والدوائر اإلمساعيلية األخرى(‪ ،)7‬أوكتاب علة العلل السرياين الذي‬
‫يعود إىل القرن التاسع(‪ )19‬؛ باملقابل‪ ،‬كان هنالك بعض الذين ساروا يف طريق األبيقورية‪ ،‬رافضني‬
‫الديانات مثلها مثل العديد من اخلرافات ومتبنني على حنو متصلب ضدها احلقائق الفائقة للفلسفة‪:‬‬
‫هكذا كان العديد من الزنادقة(‪ ،)11‬الدهريني(‪ ،)12‬الرازي(‪ ،)13‬ابن الراوندي(‪ ،)14‬اليهودي هيوي‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )6‬الطربي‪ ،‬تاريخ ‪=( W. Ahlwardt (ed.), Anonyme arabische Chronik, Greifswald ; 1883, pp. 336f122:2‬‬
‫املربد‪ ،‬الكامل يف اللغة‪ ،‬حترير ‪ ،W. Wright‬اليبتسغ ‪،72 - 1864‬‬
‫البالذري‪ ،‬كتاب أنساب األشراف‪ ،‬اجمللد ‪)11‬؛حممد بن يزيد ّ‬
‫‪.286:1‬‬
‫(‪. Muir, The Apology of Al Kindy, pp.33f )9‬‬
‫(‪. Walzer, L’Eveil de la philosophie islamique, p. 20 )8‬‬
‫(‪Y. Marquet, “Imâmat, Résurrection et Hiérarchie selon les Ikhwâm as - Safâ”, Revue des études )7‬‬
‫‪. islamique 1962, pp. 137f; B. Lewis, The Origins of Isma ‘ilism, Cambridge 1940, pp 93ff‬‬
‫(‪Baumstark, Geschichte der syrischen Literatur, pp. 280ff )19‬؛ حيث من املناسب أن نقارن هنا مع ‪Nathan der‬‬
‫‪. Weise‬‬
‫‪F. Gabrieli, “La ‘Zandaqa’ au I ‘siecle abbasside’, in C. Cohen et al., L’Elaboration de l’Islam,‬‬ ‫(‪)11‬‬
‫‪. Paris 1961‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, art. “Dahriyya” )12‬‬
‫(‪. Walzer, L’Eveil de la Philosophie islamique, p. 19 )13‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, s.n )14‬‬

‫‪125‬‬
‫(‪)16‬‬ ‫(‪)15‬‬
‫البلخي ‪ ،‬أو الكلداين ابن وحشية ‪ .‬لكن يف مجيع األحوال فقد سببت هذه التعددية الدينية اضراراً‬
‫لآلهلة‪ ،‬معيدة بابل الفكرية إىل حيث كانت تنتمي(‪.)19‬‬
‫كان واضحاً أن غري املسلمني هم الذين كانوا سيخسرون يف هذا البحث عن حقيقة فوق احلقائق‪.‬‬
‫فغري املسلمني كانوا يف موقف دفاعي يف حني مل يكن املسلمون كذلك‪ ،‬ونسبية حقائقهم كانت تعين‬
‫(‪)18‬‬
‫توصلت منذ زمن‬ ‫نسبية دفاعاهتم ‪ .‬كان للمسيحيني ميزة على اليهود جتلّت يف أن املسيحية كانت قد ّ‬
‫طويل إىل تفاهم مع الفلسفة املفاهيمية‪ ،‬وأولئك املسيحيون الذين ُجلبوا إىل تبديل الدين عرب الفلسفة‬
‫مباشرة كانوا بالتايل قلّة(‪)17‬؛ كما كانت هلم ميزة على الكلدانيني الوثنيني جتلّت يف أن الفلسفة مل تكن‬
‫وسيلة نقل هويتهم‪ ،‬األمر الذي جاءت منه السهولة الكربى اليت استطاعوا هبا أن يتشاركوا مع املسلمني‬
‫يف اهلوية‪ .‬لكنهم باملقابل كانوا أضعف من اليهود والوثنيني يف السهولة اليت استطاعوا هبا تبديل حقيقتهم‬
‫الدينية حني خلق تيار التنوير ثقافة ذات جاذبية علمانية‪ :‬لقد استطاع علي بن عيسى‪ ،‬كمسلم يف‬
‫بغداد‪ ،‬أن يدرس الفلسفة والطب اليونانيني‪ ،‬أن يهذب القواعد‪ ،‬الشعر واألسلوب اخلاص بالعمل‬
‫الكتايب‪ ،‬أن يبحث يف الديانة احلرانية‪ ،‬أن جيادل اليهود‪ ،‬وأن يكتشف أية مسيحية كانت قد تركت يف‬
‫التصوف اإلسالمي(‪ .)29‬واملسيحيون الذين مل يكن لديهم صهيون وال بالد الكلدان إلبقائهم يف «حياة‬ ‫ّ‬
‫(‪)21‬‬
‫منعزلة» اختفوا يف هيئة مسلمني منشقني ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Encyclopaedia Judaica,s.n. )15‬‬
‫‪, p. 155 n; A. von Gutschmidt,‬ن ‪ische Landwirtschaft und ihre‬‬ ‫(‪Chwolson, )16‬ـ‪“Die nabatebddbstb‬‬
‫‪Geschwister”, Zeitschrift der Deutschen Morgenl‬ن‪. ndischen Gesellschaft 1861, pp. 91f‬‬
‫(‪ )19‬يف كلمات فريون املالئمة للموضوع هنا واليت ترجع إىل القرن السابع عشر‪« :‬آه يا بابل املرتبكة! املتقلبة واليت تدعي الدين‪ ،‬وكل‬
‫نقط اجلدل» [بالفرنسية يف النص] ‪(R. H. Popkin, The History of Scepticism from Erasmus to Descartes”,‬‬
‫‪.)Assen 1964, p. 73‬‬
‫(‪ )18‬كان مسيحياً ذلك الذي كتب ناتان احلكيم ‪ Nathan der Weise‬يف عصر التنوير االورويب‪،‬لكن اليهود هم الذين اعتنقوا‬
‫املسيحية باسم العقل االورويب‪.‬‬
‫غري دينه على أيدي املأمون ‪(D. M. Dunlop, “The Translations of al-Bitriq and‬‬ ‫(‪ )17‬من املفروض أن يوحنا ابن البطريق ّ‬
‫‪ .)Yahya (Yuhanna) b. al-Bitriq”, Journal of the Royal Asiatic Society 1959, p. 142‬على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬كان الفالسفة املسيحيون هامني يف بداية القرن احلادي عشر مبا يكفي ألن يشن عليهم ابن سينا هجومه‪(S. Pines, “La .‬‬
‫‪“Philosophie Orientale” d’Avicenne et sa polêmique contre les Baghdadiens”, Archives d'histoire‬‬
‫‪.)doctrinal et littéaire du Moyen Age 1952‬‬
‫(‪D. Sourdel, Le Vizirat abbaside de 749 )29‬ل‪ . 936, Damascus 1959f, pp. 520 - 6‬كان علي بن عيسى حفيد‬
‫احلجاب‪.‬‬
‫أحد املسيحني املتحولني عن دينهم من دير قنّه والذي أسس ساللة من ّ‬
‫(‪ )21‬بدأ طوفان املسيحيني املتحولني عن دينهم يف العصر العباسي فضل بن مروان‪ ،‬وهو وزير بني العامني ‪836 - 833‬‬
‫)‪ (Encyclopaedia of Islam, s.n‬؛ من أجل عيسى بن فرخانشاه‪ ،‬أمحد بن إسرائيل األنباري‪ ،‬حسن بن خملد‪ ،‬سعيد بن خملد‪،‬‬
‫وغريهم‪ ،‬أنظر‪ .Sourdel, Le Vizirat abbaside, pp. 291, 295, 313, 316f etc:‬ظل عبدون بن خملد‪ ،‬أخو سعيد‪،‬‬
‫مسيحياً‪ ،‬لكن أخاه رمبا ترك دينه )‪(Fiey, Assyrie chrétienne, vol. iii, pp. 117 f‬؛ والطوفان ذاته يبدو يف اهنيار امللل‬
‫املسيحية يف ‪ ‬فارس مع هناية القرن العاشر وبداية احلادي عشر‪(id., "L'Elm, La premiére des métropolis .‬‬

‫‪126‬‬
‫من ناحية أخرى فاليهود والوثنيون كانوا يف القارب ذاته إىل درجة أن الطرفني دجموا حقائقهم‬
‫هبوياهتم(‪ ،)22‬وقد ُمثّل الطرفان بطبقة علمانية مثقفة‪.‬كان هذا يعين‪ ،‬أن هؤالء‪ ،‬بعكس املسيحيني‪ ،‬مل‬
‫يكونوا غري حصينني للغزو الغريب؛ ومن النظرة األوىل نعرف أن اجلماعتني كانتا يف موضع جيد على حنو‬
‫متعادل ملقاومة تبديل الدين‪ .‬لكن كان مثة فرق حيوي بالطبع‪ :‬احلقيقة اليهودية كانت إهلاً شخصياً‪،‬‬
‫وحقيقة الوثنيني كانت مفاهيم غري شخصية‪ .‬وكان هذا يعين شيئني‪.‬‬
‫ففي املوضع األول‪ ،‬مل تستطع الدوائر التنجيمية للكلدانيني توليد وحدة إثنية‪ ،‬تضامناً اجتماعياً‪ ،‬وال‬
‫معىن تارخيياً‪ .‬فمن منظور إثين كانت الدوائر دون شعب خمتار؛ ومن منظور اجتماعي مل تكن مفهومة إال‬ ‫ً‬
‫للنخبة؛ أما من املنظور التارخيي فلم يستطيعوا سوى تفسري احلاضر‪ ،‬لكن ليس تسويغه‪ .‬استطاع اليهود‬
‫إطاعة إهلهم‪ ،‬البكاء على شكل حكمهم‪ ،‬االمل خبالصهم؛ لكن الكلدانيني مل يستطيعوا سوى دراسة‬
‫ثورات مجوحة‪ .‬واحلقيقة أن اللب التنجيمي للوثنية املتأخرة اجتاز طبعاً تعديالت ال هنائية يف إدراك‬
‫حقيقة أن البشر يع ّذبون بعواطف دنيوية؛ فمن ناحية كان الكلدانيون ينوحون على حكمهم ويأملون أن‬
‫طوروا مهّاً معيناً ألجل اجلماهري(‪ .)24‬مع ذلك بقيت حقيقة‬ ‫(‪)23‬‬
‫دورهم سوف يعود ‪ ،‬ومن ناحية أخرى ّ‬
‫أن النجوم مل تستطع االفصاح عن هذه املشاعر‪ :‬املسألة حتديداً هي أنه كان جيب أن تكون فوقها‪،‬‬
‫وطاملا ظلّت النجوم على حاهلا مل يكن باستطاعة املنجمني أن يتبنوا منظوراً أرضياً أكثر متاسكاً‪ .‬مع‬
‫ذلك‪ ،‬مل يكن مرجحاً أن حترز اجلماهريموضوعية كهذه؛ ومن ناحية إذا أيقظت النجوم شعباً حبيث أنكر‬

‫‪ecclésiastiques seyrienne orientales, Melto 1969 and Parole de l'Orient 1970; id., Médic chrétienne",‬‬
‫‪.)ibid‬‬
‫(‪ )22‬من هنا تأيت على األرجح حقيقة وجود ابيقوريني من اليهود والكلدانيني واملسلمني‪ ،‬لكن ال يوجد سوى مسيحيني مشائني‪ :‬فبعكس‬
‫األخريين‪ ،‬ال يعود املسيحي مسيحياً إذا انغمس يف الشكوكية‪.‬‬
‫(‪ )23‬كما فعل ابن وحشية‪ ،‬بأعظم افتقار غري كلداين للنزاهة العلمية‪.‬‬
‫(‪ )24‬خنض بالذكر هنا املندائيني‪ ،‬الذين ذهبوا إىل ابعد ما ميكن رمبا يف طمس العنصر التنجيمي‪ ،‬والذين تنكروا أيضاً هلويتهم الكلدانية؛‬
‫قارن‪ ،‬من ناحية ‪ ،‬تاريخ هجرهتم ‪(E. Yamauchi, Gnostic Ethics and Mandaean Origins, Cambridge, Mass‬‬
‫‪ ، )1977, pp. 68ff‬ورفضهم «للعرافني والكلدانيني»‪ ،‬من ناحية أخرى‪(M. Lidzbarski (tr.), Ginza: Der Schatz oder :‬‬
‫‪das grosse Buch der Man‬ن‪.)der, Gottingen 1925, pp. 37, 278, 299 etc‬‬

‫‪129‬‬
‫تأثريها(‪ ،)25‬ومن ناحية أخرى جعل منها هذا الشعب تقدمة تضامن ومعىن عرب عبادة ‪ cult‬إله إثين‪ ،‬ال‬
‫وغريت دينها(‪.)26‬‬
‫نستغرب إذا أطاعت اجلماهري النجوم ّ‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فإن الشخصية املفاهيمية للوثنية الكلدانية كانت تعين أن أنصارها مل يستطيعوا‬
‫املشاركة يف حقيقتهم دون طمس هويتهم‪ .‬والشرائع الكونية تستطيع أن تكون حقيقة خاصة فقط عرب‬
‫حق التأليف أو النشر ‪ ،copyright‬وليس بالعمل؛ وحيثما أصبح املرء يهودياً أو صادر اإلله‬
‫اليهودي‪ ،‬استطاع ممارسة علم التنجيم بأعظم ما ميكن من التسليم امله ّذب‪ .‬لقد استطاع املسلمون أن‬
‫يستعريوا احلقائق الكلدانية‪ ،‬دون أن يغامروا بأن يصبحوا كلدانيني؛ لكن الكلدانيني الذين باعوا حقائقهم‬
‫باعوا أيضاً هويتهم‪ ،‬وهذا مل يستطيعوا فعله يف بيئة مسلمة دون أن يغامروا باإلختفاء هم أنفسهم فيها‪.‬‬
‫وهكذا فقد استسلمت النخبة الوثنية للتعددية اإلسالمية‪ :‬حني استطاع واحدهم أن يكون مسلماً‬
‫حران(‪ )29‬يف‬
‫ممارساً للتنجيم‪ ،‬مل يعد لدى الوثنيني حقيقة يقاومون هبا‪ .‬وخروج ثابت بن قره وأمثاله من ّ‬
‫القرن التاسع‪ ،‬قاد بالتايل إىل تبديل هالل الصابئي لدينه يف القرن العاشر يف بغداد(‪ )28‬؛ يف حني مل‬
‫يستطع ابن وحشية يف القرن العاشر سوى إعادة التأكيد على حقوق التأليف والنشر الشعوبية(‪.)27‬‬
‫يتحملوا أن يكونوا‬
‫وحدهم اليهود كان لديهم إله إثين‪ :‬وبعكس املسيحيني فقد استطاعوا أن ّ‬
‫يتحملوا ممارسة‬
‫شكوكيني وحيافظوا مع ذلك على إثنيتهم اليهودية‪ ،‬وبعكس الكلدانيني فقد استطاعوا أن ّ‬
‫التنجيم وحيافظوا مع ذلك على إهلهم اليهودي(‪ .)39‬اإلله اليهودي مل يتواءم بالطبع مع املفاهيم‪ ،‬وقد كان‬
‫مثة يهود جيء هبم بالتايل إىل تبديل الدين بوساطتها(‪)31‬؛ لكن معظمهم كان ميضي وقته يف العبث هبذه‬
‫اللعب املفاهيمية اجلديدة ليس إال‪ .‬لقد استعار سعاديا غاؤون الفلسفة‪ ،‬أطاع إهله وناح على ُحكْمه‪ ،‬يف‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )25‬جمموعة ظروف اليفهمها املندائيون (مقابل املسيحيني)‪ ،‬كما يتوضح من الرواية املقدمة يف الغينزا حول عريب امسه عبد اهلل والذي‬
‫يدين بثروته ملارس ‪/‬نريغ‪ /‬نرغال والذي يقول ألتباعه إن خدم النجوم ليس لديهم سلطان )‪ .(ibid, pp 233f‬فإذا كان من املمكن‬
‫التنبؤ بالغزوات العربية عن طريق التنجيم )‪ ،(ibid., p. 412‬ليس هنالك معىن للبكاء على رحيل أنوش(‪(ibid., p. 300‬واختفاء‬
‫الديانة من على وجه البسيطة )‪ :(ibid., p. 54‬ميكن للمرء أيضاً أن يندب قانون اجلاذبية‪ .‬لكن إذا كان مارس ‪ Mars‬ممالئ للروح‬
‫الشريرية‪ ،‬والعرب ميكن احلكم عليهم بالرمي يف اجلحيم ‪ Scheol‬بسبب أعماهلم )‪ ،(ibid., pp. 233f‬ليس هنالك معىن لتتبع‬
‫الكواكب‪ :‬ميكن للمرء أن يصبح مانوياً أيضاً‪.‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 30, 233 )26‬‬
‫(‪. Chwolson, Die Ssabier, vol. I, pp. 546ff )29‬‬
‫(‪ )28‬أو القرن احلادي عشر إذا كان تبديله لدينه حصل عام ‪(Encyclopaedia of Islam, s.n) 1912‬‬
‫(‪ )27‬الحظ رأيه القائل إن معظم الشعب اعتاد أن يتبىن ديانة امللوك منذ الغزوات الكنعانية (أي‪ ،‬العربية)‪(Chwolson, ،‬ـ‪, ebddbstb‬‬
‫)‪.p. 27‬‬
‫(‪ )39‬مثلما فعل ماشاء اهلل مع جتاهل ملفت للنظر لقناعاته املهنية‪.‬‬
‫غري دينه على يدي املأمون‪)(Dodge, The Fihrist of AL-Nadim, P. 652‬؛ قارن أيضاً‬
‫ص َمد اليهودي‪ ،‬الذي ّ‬
‫(‪ )31‬هكذا كان َ‬
‫ابن ملكا ‪.(Encyclopaedia of Islam,) art. “Abu L-Barajat‬‬

‫‪128‬‬
‫حني استسلم ابن وحشية إلله ما واستعار لغة يهودية ليندب هبا حكمه(‪ .)32‬وهكذا استمر يهود بابل‬
‫يف جتمعهم يف األزمنة املعاصرة عرب فدائهم العلماين؛ أما الوثنيون‪ ،‬فلم يبق منهم لألزمنة املعاصرة سوى‬
‫املندائيني لينشدوا الفداء يف الثورات املاركسية(‪.)33‬‬
‫وهكذا رغم أن العراق صار بلداً ذا غالبية مسلمة‪ ،‬فقد ظل قدره هوجرة ال ترحم‪ .‬ففي املوضع‬
‫األول‪ ،‬ظل من بقي من املسيحيني «سرياناً»(‪ :)34‬رغم تبين اللغة العربية(‪ )35‬منذ البداية واإلختفاء املطلق‬
‫للغة السريانية السريانية كلغة أدبية(‪ ،)36‬استمرت اللغة السريانية كلغة طقوسية يف كافة أرجاء اإلقليم‬
‫وكلهجة عامية يف معاقل اآلشوريني الريفية(‪)39‬؛ على حنو مشابه‪ ،‬فرغم اجلهل الكلّي الذي احندر إليه‬
‫اآلشوريون‪ ،‬فهم مل يشكوا يف هويتهم غري العربية‪ .‬وهكذا فقد كان جميء األوروبيني يعين إحياء‬
‫السوريانه‪ ،‬واختفاءهم النهائي ضمن العرب لكن ليس كما يف سوريا‪ .‬ففي حني كان على مسيحيي‬
‫(‪)38‬‬
‫سوريا العودة إىل ماركة الروم املستعربني‪ ،‬فقد قبِل مسيحيو العراق حتديداً هلويتهم ككلدان وآشوريني‬
‫تبىن مسيحيو مشال‬‫؛ ويف حني كان على مسيحيي سوريا قيادة املسريةحنو خلق ثقافة عربية حديثة‪ّ ،‬‬
‫العراق لغة سريانية حديثة؛ ويف حني كان على مسيحيي سوريا تقدمي النظريات للقومية العربية‪ ،‬تاق‬
‫اآلشوريون إىل حكم جديد يف مدينة نينوى اجلميلة وسهل املوصل اخلصيب(‪.)37‬‬
‫غريوا دينهم خلفة صورة‪ :‬صورة آلشوريا مسقطة على شاشة عربية‬ ‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فقد ترك الذين ّ‬
‫يف حالة املسيحيني‪ ،‬وصورة لبابل يف شكلها الكلداين يف حالة الوثنيني‪ .‬لقد كان لآلشوريني أحد أشكال‬
‫احلكم يف حني كان املسيحيون احلضريني فوق كل أشكال احلكم‪ ،‬لذلك ال يبدو مفاجئاً أن آشوريا‬
‫ظلت على قيد احلياة رغم األزمات عرب املسيحيني فقط‪ .‬لكن يف الوقت ذاته فاآلشوريون شاركوا يف‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وضح ابن وحشية شعوبيته الكلدانية عن طريق عكس لتاريخ الكتاب املق ّدس‪ :‬فاليهود يظهرون كح ّكام لبابل يف املصادر املندائية‪.‬‬
‫(‪ )32‬لقد ّ‬
‫)‪ .(Yamauchi, Gnostic Ethics and Mandean Origins, p. 68‬وألن الغيتو عاد يف هيئة األسباط العربية‪ ،‬فابن وحشية يواصل‬
‫توبيخ العرب ساخراً وذلك بوصفهم غزاة كنعانيني ألرض الكلدان‪ ،‬وتقومي ابراهيم كمهاجر كنعاين إىل كوثا َربّا ‪(Chwolson,‬ـ ‪ebddbstbe‬‬
‫‪.)sasseb‬‬
‫(‪. B. Vernier, L’Iraq d’aujourd’hui, Paris 1963, p. 92 )33‬‬
‫(‪ )34‬قارن ما سبق‪ ،‬هامش ‪ 53‬ف ‪.9‬‬
‫(‪ )35‬كلغة أدبية عرب الفالسفة أوالً؛ قارن‪G. Graf, Geschischte der Christlichen arabischen Literatur, Rome :‬‬
‫‪. 1944 - 5, vol. ii, pp. 109 - 20‬‬
‫(‪ )36‬كما يف سوريا يف الوقت ذاته تقريباً‪ ،‬مع أن األمر يبدو إىل حد ما أكثر مقاومة (قارن مالحظات بروكلمان يف‪C. :‬‬
‫‪.)Brockelmann et al., Geschischte der Christlichen Litteraturen des Orients, Leipzig 1909, p. 55‬‬
‫(‪F. Rosenthal,Die Aram )39‬ن‪ffentlichung, Leiden 1939, p. ِistische Forschung seit th. Noldeke’s Ver‬‬
‫‪. 255ff‬‬
‫(‪ .J. Joseph, The Nestorians and their Muslim Neighbours, Princeton 1961, pp. 5ff )38‬كانت ميزة طبعاً أن‬
‫فضلوا العرب املعاصرين على الروم املعاصرين‪،‬‬
‫الكلدانيني واآلشوريني‪ ،‬بعكس الروم‪ ،‬مل يكن هلم جتسيد معاصر؛ لكن إذا كان امللكيون ّ‬
‫فالنساطرة على ما يفرتض كانوا سيفضلون األكاديني املعاصرين‪.‬‬
‫(‪ )37‬قارن القصيدة الواردة يف املرجع السابق‪ ،‬ص‪152‬؛ وانظر بشكل عام صص ‪ 151‬وما بعد‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫اثنيتهم(‪ )49‬أما املسيحيون احلضريون فكانوا فوق كل اإلثنيات؛ ومن غري املفاجئ أيضاً أن املسيحيني‬
‫فشلوا يف أن يرتكوا بصمتهم إثنياً أو لغوياً يف اإلسالم‪ :‬من جهة مل يكن هنالك شعوبية سورية(‪ ،)41‬ومن‬
‫(‪)42‬‬
‫غريوا دينهم يف االحتفاظ‬ ‫جهة أخرى مل يكن هنالك مسلمون سريان ‪ .‬لكن إذا فشل الذين ّ‬
‫حبضارهتم باعتبارهم «سوريانه» فقد استطاعوا مع ذلك أن حيتفظوا هبا كعرب جنوبيني؛ فبعد أن استقر‬
‫الرحا‪ ،‬صار «عريب من دير قنّاء» يعين مينياً‬ ‫مسيحيو جنران العرب يف جنران الكوفة كي يكونوا قطب ّ‬
‫مزيفاً(‪ .)43‬وهكذا فقد صار املسيحيون الذين بدلوا دينهم عرباً‪ ،‬لكن عرباً بصفة مميّزة؛ وقد كان جزءاً من‬
‫هذا اإلرث العريب املختلف إىل حد ما‪ ،‬أن آشوريا املب ّدلني(‪ )44‬لدينهم عادت للظهور‪ .‬فملك مدينة حرتا‬
‫يف مشال بالد مابني النهرين كان إذاً ّإما آشورياً(‪ ،)45‬عربياً حيمل لقباً آشورياً(‪ ،)46‬أو ببساطة عربياً من‬
‫جنوب شبه اجلزيرة(‪)49‬؛ وإذا كانت الذاكرة صحيحة متاماً يف أنه هزم سبتيموس سويروس(‪ ،)48‬وأنه ُهزم‬
‫بدوره على يد شاهبور(‪ ،)47‬فهو أيضاً الذي اشتهر على حنو ومهي للغاية بأنه قاد محلة سنحاريب ضد‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )49‬أو بقدر ما مل يفعلوا فقد كانت واهية إىل درجة مفرطة‪ :‬سواء احندروا من غورومو املصادر املسمارية أو من غارامياوي بطليموس‪،‬‬
‫فسكان بيت غارما مل يتدبروا أمرهم حبيث يعزلوا آشوريا عن باقي اهلالل اخلصيب‪ ،‬ورغم أن املصادر اإلسالمية متيّز بني األنباط‬
‫واجلرامقة‪ ،‬فهي تعرف متاماً أن اجلرامقة سريانيون‪. (Fiey. Assyri Chétienne, vol. iii, pp. 14ff).‬‬
‫(‪ )41‬ماهية الشعوبية هناك مسيحية‪ ،‬وقد هدفت أوالً إىل دحض أولوية اللغة العربية دون تركها تذهب إىل الوثنيني‪ :‬فالسريانية‪ ،‬وليس‬
‫العربية‪ ،‬كانت اللغة األوىل‪)(Badge, The Book of the Cave of Treasures, p. 132.‬؛ ومبا أن ابراهيم كان أحد مواطين‬
‫قش قار يف بابل‪ ،‬فقد كان يتحدث بلغة البابليني األصلية‪ ،‬والبابليون هم اآلراميون‪ ،‬واآلراميون هم السريان‪ ،‬واللغة العربية هي دمج بني‬
‫السريانية والكنعانية )‪ .(van den Eynde, Commentaire I, Genése, pp. 135f = 147, pp. 175f = 189‬هنالك دفاع‬
‫متأخر عن اللغة السريانية ق ّدمه ضد العرب بشكل خاص عبد اشوع من القرن الثالث عشر‪ :‬العرب حيتقرون اللغات األخرى وبشكل‬
‫خاص اللغة السريانية‪ ،‬لكن السريانية هي أول لغة وقد حت ّدثها آدم مع اهلل‪(P. P. Zingerle, “ .‬ـ ‪ber das syrische Buch des‬‬
‫‪Paradieses von Ebedjes, Metropolit von Nisibis”, Zeitschrift der Deutschen Morgenl‬ن ‪ndischen‬‬
‫‪ .) Gesellschaft 1875, pp. 493‬مع ذلك‪ ،‬ففي اإلسالم جند أن ابن الندمي هو الذي يلحظ هذه املسألة من معرفته بالكتب‬
‫املسيحية‪ ،‬وليس أحد الشعوبيني السوريني‪ .(Dodge, The Fihrist of AL-(Nadim, pp. 22 .‬كذلك أيضاً فالشعوبيون‬
‫السوريون استطاعوا فقط أن خيتفوا يف اجلوقة العامة القائلة إن كل األنبياء السابقني كانوا غري عرب‪ ،‬واستوجبت عقائدياً أنه على‬
‫املف ّكرين أن ال يعزوا للعرب ميزة خاصة يف سياق أهنم مل ميتلكوا نبياً خاصاً هبم‪( .‬أنظر اهلامش ‪ 15‬من الفصل ‪.)12‬‬
‫(‪ )42‬ليس قبل أن يستخدم اآلشوريون نسباً غري عريب لألكراد وهرطقة اليزيديني للزعم أن كليهما معاً« آشوريون مسلمون » ‪(J. Joseph, The‬‬
‫)‪.Nestorians and their Muslim Neighbours, p. 154‬‬
‫(‪. Fiey, Assyri chrétienne, vol. iii, p. 190 )43‬‬
‫(‪ )44‬باعتبارها مقابلة آلشوريا املصادر الكالسيكية اليت أخذ منها املسلمون باملطلق معرفتهم املدرسية عن املاضي اآلشوري‪.‬‬
‫(‪ )45‬هو ساطريون بن اوسيطرون‪ ،‬اجلرقمي‪ ،‬ملك السريانيني (ياقوت بن عبد اهلل‪ ،‬معجم البلدان‪ ،‬حترير ف‪ .‬فوستنفلد‪ ،‬اليبتسغ ‪1866‬‬
‫‪284 :2 ،93 -‬؛ املسعودي يف عمل كفولسون‪ ،‬الصابئة‪.)673 :2 ،‬‬
‫(‪Enyclopaedia of Islam, art. “Al-Hadar” )46‬؛ يف كتاب كفولسون‪ ،‬الصابئة‪ .675 :2 ،‬يقال إن «ساطريون» كلمة‬
‫سريانية‪.‬‬
‫(‪ )49‬ضيزن بن معاوية القاضي (ياقوت‪ ،‬معجم ‪.)282 :2‬‬
‫(‪ )48‬علي بن حممد بن األثري‪ ،‬الكامل يف التاريخ‪ ،‬حترير ‪ ،C. J. Tornberg‬اليدن ‪297:1 ،96 ،1869‬؛ قارن‪Pauly- :‬‬
‫‪Wissow, Realencyclo‬ن”‪. die, art. “Hatra‬‬
‫(‪. Enyclopaedia of Islam, art. “Al-Hadar” )47‬‬

‫‪139‬‬
‫القدس أيام ارميا(‪ .)59‬كذلك فإن ملك احلرية الواقعة يف جنوب بالد مابني النهرين كان يعترب ّإما آشورياً‬
‫أو عربياً من جنوب شبه اجلزيرة(‪ ،)51‬وإذا كانت ساللة حكام احلرية ذائعة الصيت إلحرازها مآثر كتابية‬
‫[من الكتاب املق ّدس]‪ ،‬فقد استطاعت على األقل أن تنحدر من احيقار(‪ )52‬؛ يف حني أن أحيقار ذاته‪،‬‬
‫املعروف يف العربية املسيحية‪ ،‬يعاود الظهور يف ثوبه اإلسالمي باعتباره لقمان احلكيم(‪.)53‬‬
‫خلفة الصورة الكلدانية‪ ،‬باملقابل‪ ،‬عادت للظهور مبا هلا من حق خاص‪ .‬فالكلدانيون‪ ،‬بعدما دجموا‬
‫حقيقتهم مع هويتهم‪ ،‬كانوا ُملزمني مبقاومة التعريب باستخدام كل املصادر اللغوية‪ ،‬السياسية‪ ،‬والثقافية‬
‫اليت كانت حتت تصرفهم‪ .‬وهكذا صارت الدعاية لآلرامية صادرة أساساً عن خلفية وثنية(‪ ،)54‬متاماً مثلما‬
‫أن الوثنيني وحدهم هم الذين ق ّدموا مسلمني يتكلمون اآلرامية(‪ .)55‬وملوك بابل املذكورون يف احلكايات‪،‬‬
‫كهنتها أصحاب احلكمة السرانية‪ ،‬أدباؤها وحكماؤها استُحضروا مع قوة‪ ،‬رغم تشحيب التقليد(‪،)56‬‬
‫ضمنت لبابل خلفة صورة يف اإلسالم ال متاثلها غري خلفة صورة إيران (‪ .)59‬لكن احلماسة الكلدانية‬
‫أحبطت نفسها بنفسها‪ :‬ففي حني اجتمع الشعوبيون اآلخرون يف كورس من احملتجني على هوية اإلسالم‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )59‬ياقوت‪ ،‬معجم‪.284:2 ،‬‬
‫(‪ )51‬يقول اليمنيون إن املنذر بن ماء السماء احندر من خلم‪ ،‬لكن « علماءنا » يقولون إنه احندر من ساطريون ابن االسريطون‪ ،‬ملك‬
‫احلضر‪ ،‬وهو جرمقاين من املوصل ‪(A. A. Bevan (ed.), The Naka’id of Jarir and al-Farazdak, Leyden 1905-‬‬
‫‪) 12, pp.885‬؛ ويقول اليمنيون إن النعمان بن املنذر كان من خلم‪ ،‬أما علماء العراق فيقولون إنه احندر من ساطريون بن االسيطرون‪،‬‬
‫ملك السريانيني ‪ .)(ibid., pp. 298‬يقول املسعودي أشياء مشاهبة )‪.(Chwolson, Die Ssabier, vol. ii, pp. 693‬‬
‫(‪W. Caskil, Gamharat an-Nasab: Das genealogische Werk des Hi )52‬ڑ ‪am b. Muhammad al-Kalbi,‬‬
‫‪Leyden 1960, vol. ii, p. 84‬؛ كان أحيقارجد ملوك احلرية‪ ،‬وهو أحد الغرباء‪.‬‬
‫(‪F. C. Conybeare et al. (ed. and tr.), The Story of Ahkar, Cambridge 1913, pp. Lxxivff )53‬؛ يظهر أحيقار‬
‫باسم حيقار يف النص العريب املسيحي‪ .‬الحظ أيضاً إدخال النمرودات يف الزعم الشعويب العام بأن كل امللوك السابقني كانوا من غري‬
‫العرب‪( .‬أمحد بن حممد بن عبد ربيع‪ ،‬كتاب العقد الفريد‪ ،‬حترير ا‪ .‬ين‪ ،‬القاهرة ‪.)494:3 ،1765 - 1749‬‬
‫(‪ )54‬بشكل خاص يف حالة ابن وحشية‪ ،‬الذي يؤكد أن اخلط السرياين القدمي كان أول أجبدية إهلية علّمها اهلل آلدم (أنظر عمله‪:‬‬
‫= ‪Ancient Alphabets and Hieroglyphic Characters, ed. and tr. J. Hammer, London 1806, pp. 116‬‬
‫‪)42‬؛ قارن أيضاً فكرة لغة البابليني النقية قبل اإلندماج ‪(Chwolson,‬ـ‪ ., p. 11)ebddbst‬وهكذا فإن أبا عيسىاملغريب الذي آمن أن‬
‫‪(Chwolson, Die‬‬ ‫السوريني كانوا أقدم شعب يف العامل وأن آدم كان يتكلم اللغة السريانية اعتقد أيضاً أن ديانتهم كانت الصابئية‬
‫‪.)Ssabier, vol. ii, pp. 499‬‬
‫(‪ )55‬ياقوت‪ ،‬معجم‪.566:3 ،‬‬
‫(‪ )56‬لقد أخذ ابن وحشية تيوكروسه البابلي من الفرس باسم تنكلوشا ‪(C. Nallino, “Tracce di opere greche giunte agli Arabi‬‬
‫‪ ،)per trafile Pehlevica” in A Volume of Oriental Studies Presented to E. G. Brown, Cambridge 1922‬وأخذ‬
‫بريوسسه من اليونان يف هيئة آرابياسيوس )‪ .(Ibn Wahshiyya, Ancient Alphabets, pp. 16 = 11‬لكن رمبا أن عقرقوف وبروسيبا‬
‫ميثالن استمرارية لتقليد حملي‪ :‬منذ اكتشاف عقرقوف قيل إهنا موقع دور كوريغالزو ‪ ،‬مدينة كوريغالزو الثاين (‪ 24 - 1345‬ق‪.‬م)؛ أما بروسيبا‬
‫فهي طبعاً مدينة بابلية شهرية (من أجل القرائتني ’‪،brs’wy , qwq‬أنظر‪T. Noldeke, “Noch Eniges über die” nabataische :‬‬
‫‪Landwirtschaft”, Zeitschrift der Deutschen Morgenl‬ن‪.)ndischen Gesellschaft 1875, n. 449n‬‬
‫مر التقليد عرب مصفاة فارسية) وانظر‪:‬‬
‫(‪ )59‬أنظر على حنو خاص‪( .Dodge, The Fihrist of al-Nadim, pp. 572ff :‬حيث ّ‬
‫املسعودي‪ ،‬مروج الذهب‪( 195 - 75 :2 ،‬حيث مر التقليد عرب مصفاة يونانية)‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وجه ابن وحشية كراهيته دون متييز إىل كل الذين ه ّددوا الصدارة الكلدانية‪ ،‬سواء أكانوا عرباً‪،‬‬
‫العربية‪ّ ،‬‬
‫(‪)61‬‬ ‫(‪)69‬‬ ‫(‪)57‬‬ ‫(‪)58‬‬
‫فصلوا هويتهم بلغة مفاهيم‬‫فرساً ‪ ،‬يونانيني ‪ ،‬آشوريني ‪ ،‬أو حىت سوريني ‪.‬وألن الكلدانيني ّ‬
‫كونية‪ ،‬كان على احلضارة إما أن تكون كلدانية بالكامل‪ ،‬أو أن ترتك الكلدان وشأهنم(‪ .)62‬لكن مبا أن‬
‫مفاهيم الكلدان وصلت إلينا يف نسخ أوضح من اليونان وإيران‪ ،‬فالكلدانيون فقدوا حقوق التاليف‬
‫والنشر؛ ومبا أهنم عاشوا يف العراق األدىن‪،‬مل يستطيعوا أن يُرتكوا وشأهنم؛ وهكذا فعلى الرغم من كل‬
‫احليوية البدئية خللفة صورهتم‪ ،‬أضاع الكلدانيون إثنيتهم يف إثنية العرب مثلما فقدوا حقائقهم يف اإلسالم‪.‬‬
‫وهكذا فقد كانت مسارات طوائف العراق املختلفة بعيدة عن التطابق‪ :‬العالقات املختلفة بني‬
‫هوياهتم وحقائقهم من ناحية‪ ،‬والتجسيدات االجتماعية املختلفة للتقاليد املتنوعة من جهة أخرى‪ ،‬أدت‬
‫عامة‪ :‬فكل‬‫إىل إمكانيات متفاوتة للغاية ملقاومة اهلوجرة‪ .‬لكن هذه االختالفات ختفي مع ذلك تناسقية ّ‬
‫أي‬
‫الطوائف العراقية‪ ،‬سواء أكانت مسيحية‪ ،‬يهودية أم وثنية‪ ،‬متيزت مبعرفتها الكاملة لكينونتها‪ ،‬ومل تكن ّ‬
‫منها حباجة خاصة إىل هوية عربية‪ .‬وباستثناء اليهود‪ ،‬فقد غشيتهم اهلاجرية كلهم تقريباً‪ ،‬لكن ما غشاهم‬
‫كان دون أدىن التباس قدرهم‪ ،‬وليس قسمتهم‪.‬‬
‫بعكس التجربة العراقية‪ ،‬فاهلاجرية مل تكن قدر سوريا بل خالصها‪ .‬واحلقيقة أن النعمة ظلت بالطبع‬
‫خمفية زي نقمة‪ .‬اهلاجريون يف هناية األمر ليسوا مسيحيني‪ ،‬والسريان كان لديهم دون شك التصميم‬
‫يؤهلهم كي يستمروا‬‫أحسوا بوجودهم يف موقع ّ‬ ‫الكبري كي يستمروا كالسابق‪ .‬لكن رغم أهنم قد يكونون ّ‬
‫كغري عرب حتت اسم املسيحية مثلما استمروا كغري يونان حتت اسم املونوفيزية‪ ،‬فالواقع أن السريان كانوا‬
‫حمكومني بالقدر احملتوم‪.‬‬
‫جمرد دين‪ .‬لقد كانت يف آن احلقيقة احلضرية‬ ‫لقد استمر السريان يف بيزنطة املسيحية ألن املسيحية ّ‬
‫الفائقة واحلقيقة الوحيدة اليت مل خيرتعها احلضريون؛ وطاملا كانت احلقيقة واهلوية هبذه الطريقة متمايزتني‬
‫جمرد دين‪ ،‬أو بكلمات‬‫مفاهيماً‪ ،‬استطاع السريان اللعب بواحدة ضد األخرى‪ .‬باملقابل‪ ،‬فألن املسيحية ّ‬
‫أخرى حقيقة ميكن توحيدها مع أية إثنية أو شكل حكم‪ ،‬فقد استطاع املسيحيون أن ينجحوا يف البقاء‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )58‬من أجل األكراد الذين يزعمون امتالك أسفار آدم‪ ،‬صفريث‪ /‬ضغريث‪ ،‬قوثامي‪ ،‬الدواناي (أي أدوناي) وأنبياء بابل اآلخرين وحكمائها‪،‬‬
‫أنظر‪.Ibn Wahshiyya, Ancient Alphabets, pp. 131ff = 52ff :‬‬
‫‪(Chwolson,‬‬ ‫(‪ )57‬يعتقد اليونانيون أهنم افضل من البابليني؛ لكن رغم وجود بعض املمتازين بينهم‪ ،‬إال أنه عموماً يشبهون القطيع‬
‫ـ)‪.berrest, p.91‬‬
‫(‪ )69‬ال يتحدث اجلرامقة البابلية‪ ،‬بل لغة يقولون إن عطارد (أي نابو) علّمهم إياها قبل ألف سنة (املصدر السابق‪ ،‬ص‪)194‬؛ إهنم‬
‫ليسوا أبناء آدم‪ ،‬وسوف لن يتوقفوا أبداً عن كراهية البابليني (املصدر السابق‪ ،‬ص‪ .)44‬إىل هذا املدى خيالف احلظ تعيني ابن الندمي‬
‫نسباً البن وحشية من سنحاريب ”‪.)(Enyclopaedia of Islam, art. “Ibn Wahshiyya‬‬
‫يصح علىاليونانيني يصح على السوريني ‪ (Chwolson,‬ـ)‪.berrest, pp. 60f‬‬‫(‪ )61‬ما ّ‬
‫(‪ )62‬كما فعل الفرس؛ قارن غياب احملاوالت لتبديل ديانة الوثنيني من ناحية‪ ،‬واحرتام ابن وحشية للفرس الذين يتمسكون خبرافاهتم من‬
‫ناحية أخرى (املصدر السابق‪ ،‬ص‪.)41‬‬

‫‪132‬‬
‫يف سوريا املسلمة(‪ :)63‬انطباعات حول يهود عرب‪ ،‬زرادشتيني عرب‪ ،‬أو بربر عرب ال تثري أية مشكلة‪،‬‬
‫لكن املسيحيني العرب هم وجع الرأس الوحيد للمسلمني‪ .‬وهكذا ففي حني حاول أبو عيسى‬
‫األصف هاين‪ ،‬هبافريد وحاييم إنقاذ هوياهتم اإلثنية والسياسية عن طريق صفقات توفيقية مع احلقيقة‬
‫اهلاجرية اجلديدة‪ ،‬كان صعباً على املسيحيني أن يثوروا باسم املسيحية(‪ )64‬مثلما كان سهالً عليهم‬
‫للسبب ذاته أن يقبلوا بالعرب كمخلصني هلم(‪ .)65‬مع ذلك فألن املسيحية كانت جمرد دين ايضاً مل‬
‫يستطع السريان احملافظة على وجودهم حني توقف التمييز بني احلقيقة واهلوية احلضريتني عن الوجود‪ .‬لقد‬
‫استطاعوا ضرب اليونانيني بعقيدهتم الرببرية‪ ،‬لكنهم ضد اهلاجريني كانوا حباجة إىل هوية دنيوية‪ ،‬ومن‬
‫األفضل أن تكون هوية مصهورة مع حقيقتهم؛ وهذا ما مل يكن لديهم‪ .‬رمبا أربك اهللينيني أن يسوع مل‬
‫يكن يونانياً‪ ،‬لكن كان عليه أن يكون سورياً ملتزماً جداً حىت ترتك إثنيته انطباعاً كهذا على اهلاجريني؛‬
‫كذلك فرمبا أثّر يف نفوس اهللينيني أن اإلبداعية الثقافية مل تكن يونانية حبتة‪ ،‬لكن شعوبية السريان‬
‫املسيحية الصرفة مل يكن عندها شيء هلزم الفخار الثقايف للهاجريني(‪ .)66‬لقد استطاع الغساسنة العرب‬
‫املشاركة يف إحياء كنيسة سريانية وذلك باعتبارهم رفاقاً يف الرببرية ضد اليونانيني؛ لكنهم مل يكونوا برابرة‬
‫سوريني ضد العرب‪ ،‬وإذا كان جبلة بن األيهم قد آثر خروجاً مسيحياً إىل بيزنطة(‪ ،)69‬فإن معظم مواليه‬
‫وطنوا أنفسهم بصورة الئقة كهاجريني يف سوريا‪ .‬مسيحيون بالنسبة هلل وبرابرة بالنسبة لليونانيني‪ ،‬كان‬
‫السريان حباجة إىل هوية أكثر متاسكاً ضد العرب‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬حني بدا واضحاً أن العقاب اإلهلي كان سيستمر أطول كثرياً من امل ّدة العادية اليت تستمر هبا‬
‫يؤدب هبا الرب عادة الذين حيبّهم‪ ،‬بدأ السريان‬ ‫اهلزات األرضية‪ ،‬اجلفاف‪ ،‬اجلراد‪ ،‬األوبئة والغزوات اليت ّ‬
‫يلينون‪ .‬ومع هناية القرن الثامن أضحى العقاب على خطايا املسيحييني والذي كانوا يأملون أن يكون‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Mingana, Sources‬‬ ‫دونه بار بنكايه‬
‫(‪ )63‬إن التحول الواسع النطاق من امللكانية إىل املونوفيزية يف ظل حكم معاوية والذي ّ‬
‫)‪ syriaques, pp. 147 = 176‬هو دليل ملفت للنظر على هذه القابلية للحياة لسوريا اليعقوبية‪.‬‬
‫(‪ )64‬من أجل االستثناء الوحيد‪ ،‬أنظر‪ .F. Omar, The Abbasid Caliphate, Baghdad 1969, p. 316 :‬لقد اعتقد ربّان ‪-‬‬
‫ايشوع أن الرب أذل السريان إىل درجة عظيمة‪ ،‬فأجاب بار صلييب أن مملكة الرب ليست يف هذا العامل ‪(Bar Salibi, Treatise‬‬
‫تدخل‬
‫)‪against the Melchites”, pp. 80 = 49f‬؛ وذلك سبب معقولية عبارة املطران عزيز غونيل القائلة إنه مل حيدث قط وأن ّ‬
‫السريان يف السياسة )‪. (A. Günel, Türk Süryaniler Tarihi, Diyarbekir 1970, p. 322‬‬
‫(‪ )65‬مثلما راحوا يفعلون مع مرور الوقت على حنو متزايد‪ :‬من أجل احلميّة املؤثرة عام ‪ ،1799‬أنظر اهلامش ‪ 98‬من الفصل ذاته‪.‬‬
‫(‪ )66‬من أجل شعوبية كهذه‪ ،‬أنظر‪A. Abel, “La polémique damascénienne dt son influence sur les origines de :‬‬
‫‪la théologie musulmane”, in Cahen, L’Elaboration de l’Islam, p. 63‬؛ من أجل االنطباع الذي تركه‪ ،‬قارن‪A. :‬‬
‫‪Rücker, “Das fünfte Buch der Rhetorik des Antun von Tagrit”, Oriens Christianus 1934, p. 17‬؛ يعترب‬
‫أبناء امسعيل اللغة السريانية فقرية‪ ،‬حمدودة وتافهة‪.‬‬
‫(‪ )69‬البالذري‪ ،‬فتوح‪ ،‬ص‪.136‬‬

‫‪133‬‬
‫مؤقتاً عقاباً أبدياً على هرطقات اليونانيني على ما يبدو(‪ )68‬؛ وحني ه ّدد الصليبيون يف القرن الثالث عشر‬
‫بإعادة اخللقيدونيني‪ ،‬كان هنالك اتفاق جازم بأن الغزوات كانت قد جعلتنا يف موقع أفضل(‪ .)67‬ورمبا‬
‫تكون اللغة العربية قد بدأت بشن غارات على اللغة السريانية كلغة حمكية يف وقت قدمي قدم بدايات‬
‫القرن الثامن(‪)99‬؛ وهكذا فبحلول القرن العاشر أضحت اللغة السريانية إحدى اللغات األدبية‬
‫املسيحية(‪ ،)91‬وتوقف التح ّدث هبا مع حلول القرن احلادي عشر(‪ ،)92‬أما حبلول القرن الرابع عشر‬
‫(‪)93‬‬
‫كل اليعاقبة تقريباً من بني العرب‪ ،‬وورث‬ ‫فتوقفت عن أن تكون مكتوبة ‪ .‬يف ذاك الزمان اختفى ّ‬
‫امللكانيون اللقب سوريانه(‪)94‬؛ ومع حلول القرن السادس عشر اختفى كل اليعاقبة تقريباً يف اإلسالم(‪،)95‬‬
‫وتابع امللكانيون يف وراثة أسالفهم الغساسنة(‪ .)96‬وحني جاءت اإلرساليات األوروبية إىل سوريا‪ ،‬كان من‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )68‬يق ّدم لنا يشوع العمودي )‪ (Chronicle, pp. 1-7=1-5‬إحصاءً دقيقاً للطرق اليت يعاقب هبا الرب‪ ،‬وكان يشوع يرى أن الفرس‬
‫هم الذين يأخذون دور قضيب غضب اآلشوريني‪ .‬مع ذلك فالعرب يتولون الدور ذاته حبسب يعقوب الرهاوي (قارن املقطع املشار إليه‬
‫يعرب عنها املؤلف اجملهول « حلياة‬
‫آنفاً يف اهلامش ‪ 28‬من الفصل األول)؛ لكن الحظ املواقف املتبدلة حيال الغزوات الغربية اليت ّ‬
‫يعقوب املنحول » من ناحية ومار سريياك يف عمله « كتابات حول مار يعقوب املقدس ذاته » عام ‪ 941‬من ناحية أخرى‪ :‬يف األول‬
‫جند أن يعقوب الربادعي يتوعد بأن الرب سوف يطرد الفرس من الرها مثلما طرد سنحاريب من القدس؛ بينما يف الثاين جند أن الفرس‬
‫النصان موجودان يف‬
‫يأخذون كل األراضي الواقعة شرق الفرات وذلك عرب قرار إهلي ملعاقبة فوكاس ‪ Phocas‬على طرده األرثوذكس؛ ّ‬
‫‪( ،Patrologia Orientalis‬ترمجة وحترير ‪ ،(E. W. Brooks‬اجمللد ‪ ،xix‬صص ‪ 268 ،263‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪Michael the Syrian, Chronique vol. iv, p. 410 = vol. ii, pp. 412f; Bar Hebraeus, Chronicon )67‬‬
‫‪ .Ecclessiasticum, vol. I, cols. 273 = 274‬يف حني سابقاً ليس حب اهلل للعرب هو الذي مسح هلم بغزو سوريا‪ ،‬صار اآلن‬
‫أذل السريان‪(Bar Salibi, “Treatise against the Melchites, pp. 84 = 51) .‬؛ من‬ ‫أنه ليس عقاباً على آثامهم أن اهلل ّ‬
‫أجل دليل آخر على العدائية للصليبيني؛ أنظر‪(Cahen, La Syric du nord a l’époque des croisades, Paris 1940, :‬‬
‫‪.)pp. 338ff‬‬
‫(‪ )99‬هذا إذا كان بروكلمان دقيقاً على األقل يف تفسريه لعلم قواعد يعقوب الرهاوي ‪(Brockelmann, Geschischte der‬‬
‫‪ .) christlichen Litteraturen des Orients, p.49‬لكن مل يكن مثة شك يف املسألة مع حلول القرن التاسع؛ قارن‪M. :‬‬
‫‪. Haddad, Syrian Christians in Muslem Society, Princeton, N.J. 1970, p. 15n‬‬
‫(‪ )91‬بدأ امللكانيون يف القرن الثامن مع ثيودوروس أبو قرة‪ ،‬وحذا اليعاقبة حذوهم مع حبيب بن خدمة وحيّي ابن عدي عند هناية التاسع‬
‫وبداية العاشر‪.)(Graf, Geschischte der christlichen arabischen Literatur, vol. ii, pp. 220ff .‬‬
‫(‪ Brockelmann, Geschischte der christlichen Litteraturen des Orients, p. 55; )92‬قارن يوحنا املارديين (مات‬
‫عام ‪ ،)1165‬الذي أشاد مدارس إلحياء « لغة أرضنا السريانية » ‪ ،‬اليت كانت منسية يف يومه ذاك‪ ،‬من وضعها امليت ‪(A.‬‬
‫‪bus, “Neues Licht über das Restaurationswerk des Johannan von Mardi”, Oriens Christianus ِِV‬‬
‫‪.)1963, p. 132‬‬
‫يسمى مؤلفاً سريانياً‪.‬‬
‫(‪ )93‬ابن العربي هو آخر من يستحق أن ّ‬
‫(‪J. Nasrallah, “Syriens et Suriens”, in Symposium Syriacum (=Orientalia Christiana Analecta, vol. )94‬‬
‫‪. cxvii), Rome 1974, p. 490‬‬
‫(‪ )95‬قارن التقديرات املوجودة عند ح ّداد‪. Syrian Christians in Muslims Society, p. 10 :‬‬
‫(‪D. Hopwood, The Russian Presence in Syria and Palestine, 1843 - 1914, Oxford 1969, p. 27 )96‬؛ ينكر‬
‫امللكانيون أهنم يونانيون مستعربون ويزعمون أهنم ينحدرون من عرب غسان (املونوفيزيني) وعرب احلرية ( النساطرة)‪ .‬لكن ليس من‬

‫‪134‬‬
‫بقي من املسيحيني باستثناءات قليلة «أوالد عرب» يف لغتهم احملكية‪ ،‬األدبية والطقسية‪ ،‬ويف الثقافة‬
‫والسلف(‪ .)99‬فاجلنة املفقودة بالنسبة لليونانيني كانت اجلنة املعاد اكتساهبا مع العرب‪ :‬فبعدما خلّصهم‬
‫يسوع املسيا يف العامل التايل‪ ،‬احتاج األمر إىل عمر الفاروق كي خيلّصهم يف هذا العامل(‪.)98‬‬
‫لكن إذا حافظت أقلية مسيحية صغرية على وجودها عرب القرون‪ ،‬فإن الغالبية العظمى من السوريانه‬
‫احملرض واآللية على‬
‫ب ّدلت اهلوية واحلقيقة على حد سواء‪ .‬وكما ق ّدم الفصل بني اهلوية واحلقيقة احلضريتني ّ‬
‫حد سواء لبقاء السوريني يف مواجهة اليونانيني‪ ،‬كذلك متاماً فإن اندماجهما ش ّكل اآلن شركاً وقبضة على‬
‫امل َخنفق على حد سواء يف مواجهة اهلاجريني‪ .‬فالسوريني من ناحية مل يعد باستطاعتهم االستمرار داخل‬
‫ُ‬
‫اإلسالم بأكثر من استطاعتهم اإلستمرار خارجه‪ :‬بعكس اإليرانيني‪ ،‬مل ميتلك السوريون هوية علمانية‪،‬‬
‫وإذا كان هنالك مسلمون فرس مل يكن هنالك قط أي سوريانه مسلم‪ .‬ومن ناحية أخرى مل يكن لديهم‬
‫ما حيفزهم على حماولة االستمرار يف اإلسالم‪ ،‬مع أهنم حاولوا ذلك حتماً خارجه‪ :‬بعكس اإليرانيني‪ ،‬مل‬
‫يكن لديهم ما خيسرونه‪ ،‬و يتطلّب األمر معرفة واسعة للحصول على شعويب سوري(‪ .)97‬يف الوقت ذاته‪،‬‬
‫فالسمة التشتيتية على حنو استثنائي لإلستيطان العريب يف سوريا كانت تعين أنه‪ ،‬إذا مل يكن العرب‬
‫ليمتصوا ضمن السوريني‪ ،‬فالسوريون كانوا سيمتصون على حنو أسهل ضمن العرب‪.‬‬
‫حتول الثقافة‬
‫لذلك جند أن اعتناق سوريا اإلسالم مفقود بالكامل يف املصادر اإلسالمية مثله مثل ّ‬
‫السورية إىل إسالمية‪ .‬فالتواريخ ال تسجل تدفّق فالحني إىل املدن العربية وفق األمنوذج النسطوري وال‬
‫ثورات فالحية كاسحة وفق األمنوذج القبطي‪ ،‬وحيتاج األمر إىل مراجعة املصادر السريانية إلظهار أن‬
‫السوريني مل يكن عليهم أن يُستَدرجوا من البلد وال أن يسحقوا‪ :‬بدأت العملية مبكراً(‪ )89‬واستمرت دون‬

‫‪(Haddad, Syrian‬‬ ‫الواضح مىت مت تبين هذ النسب؛ مع ذلك فامللكانيون اعتمدوا اللغة العربية يف طقوسهم قبل القرن السابع عشر‪.‬‬
‫‪.)Christians in Muslim Society, p. 20‬‬
‫(‪ )99‬باستثناء املوارنة‪ ،‬الذين ما يزالون يستخدمون السريانية كلغة طقسية [هذا خطأ واضح‪ :‬املرتجم] )‪ ،(loc. cit‬وجيوب معزولة من‬
‫الناطقني بالسريانية يف لبنان وطور عابدين‪ :‬أنظر‪Rosenthal, Die Aram :‬ن‪. istische Forschung, pp. 160 ff, 261‬‬
‫(‪ )98‬بفضل إعطاء السريان لعمر مفاتيح بالد مابني النهرين كان قادراً على احتالهلا‪ ،‬لذلك كتب هلم براءة عظيمة؛ ولسرمدة ذكرى هذا‬
‫ا خلالص عرب العصور‪ ،‬أطلق السريان على عمر لقب الفاروق‪ ،‬وهو مصطلح سرياين يعين « خملّص » والذي لفظه العرب بالدقة ذاهتا‬
‫اليت أخذوه هبا من السريانية )‪.(Günel, Türk Süryaniler Tarihi, p. 322‬الحظ أن السريان يف تركيا هم أتراك‪ ،‬متاماً مثلما أن‬
‫السريان يف سوريا هم عرب؛ يف حني أن « األرمن األتراك » ‪ ،‬بالرغم من أن العديد منهم ال يتحدث سوى اللغة الرتكية‪ ،‬هو تناقض يف‬
‫املصطلحات‪.‬‬
‫(‪ )97‬من أجل مثال ديك اجلن املعزول‪ ،‬أنظر‪. Goldziher, Muslim Studies, vol. I, p. 144 :‬‬
‫(‪ )89‬يضع يعقوب الرهاوي قاعدة تقول إن املسيحيني الذين يصبحون هاجريني أو وثنيني مث يعودون إىل املسيحية بعد ذلك ال جيب أن‬
‫يـُ َع فمدوا‪ .(Kayser, Die Canones Jacobs von Edessa, pp. 8 = 37).‬كذلك فميثوديوس املنحول يتأفف من تغيري الدين‪ ،‬أي إىل‬
‫اإلسالم ‪ .)(E. Sackur, Sibyllinische Text und Forschungen, Halle 1898, p. 86‬أنظر اهلامش ‪ 59‬من الفصل األول و‬
‫الصفحة هامش ‪ 39‬ف ‪.2‬‬

‫‪135‬‬
‫(‪)81‬‬
‫تسجل أية حماولة سورية إلدخال حضارهتم يف اإلسالم‪ :‬واألمر حيتاج إىل‬ ‫هوادة ‪ .‬كذلك فالتواريخ ال ّ‬
‫مراجعة املصادر السريانية إلظهار أن ما كان لديهم من حضارة إمنا عبؤوها كمسيحيني(‪ ،)82‬أما ما عبؤوه‬
‫كمسلمني فلم يكن ساخنونياتون‪ ،‬جوليا دومنا‪ ،‬وال القديسني السوريني‪ ،‬بل جمد قيدار(‪ .)83‬فاملسيا‬
‫السوري ليس ملك بعلبك‪ ،‬بل السفياين الذي سيعيد امرباطورية معاوية السورية والذي سيأيت‪ ،‬إن شاء‬
‫اهلل‪ ،‬قبل هناية الزمن حيث سنكون أحياء كلّنا(‪ .)84‬باملقابل فالثقافة السورية كانت عرباً وزواحف معاً‪:‬‬
‫تبىن ابن‬
‫ففي ذلك الوقت حتديداً‪ ،‬حني كان البالط العباسي يشرتي الفلسفة اليونانية من النساطرة‪ّ ،‬‬
‫ثيودوسيوس‪ ،‬وهو أحد مخّاري دمشق‪ ،‬اسم حبيب بن أوس الطائي ليصبح مدافعاً عن عرب جنوب شبه‬
‫اجلزيرة‪ ،‬وقد كان شاعراً عظيماً وجامعاً أعظم للقطع األدبية اهلامة والذي كان سيتلو قصائدة يف ثوب‬
‫(‪)85‬‬
‫بدوي أمام مأمون ناكر للجميل‪ .‬وسواء أكانوا مسيحيني أم مسلمني‪ ،‬فقد اكتشف السوريني أخرياً‬
‫من هم كانوا‪.‬‬
‫ما أن تالشت سوريا من أيدي املسيحيني واملسلمني على حد سواء‪ ،‬حىت بدا أن حماولة إحيائها مل‬
‫املعراة من غزاهتا املوحدين أن‬
‫تستطع أن تكون غري سخيفة بعكس الفرعونية‪ .‬فقد كان باستطاعة مصر ّ‬
‫تظل كيمة ‪ Keme‬بالنسبة لألقباط؛ لكن سوريا اخلاضعة للتعامل ذاته مل تكن لرتاها غري عني أنطون‬
‫أي هرم قط‬‫ماض حقيقي‪ ،‬لكن سوريا مل متتلك ّ‬ ‫سعادة(‪ )86‬الرفيعة يف علميتها‪ .‬لقد عادت الفرعونية إىل ٍ‬
‫يف مواجهة زوابع اجلنوب‪ .‬من هنا‪ ،‬فإذا كان قدر املسلمني السوريني أن يصبحوا أصحاب نزعة عروبية‬
‫شاملة‪ ،‬فقدر املسيحيني مل يستطع أن يكون غري ضرب املسلمني يف العروبية مثلما ضرهبم املسلمون هبا‬
‫يف البداية‪ .‬وهكذا أصبح اإلسالم املتطهر من زوائده التوحيدية(‪ )89‬ثقافة عربية بالنسبة جلرجي زيدان‪،‬‬
‫قومية عربية بالنسبة لنجيب عزوري‪ ،‬إشرتاكية عربية بالنسبة مليشيل عفلق‪ ،‬ومقاومة عربية بالنسبة جلورج‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )81‬ترك س ّكان حلب دينهم عام ‪ 978‬تقريباً ‪(Bar Hebraeus, Chronicon Ecclesiasticum, vol.i, cols. 337 = 338‬؛‬
‫من أجل تبديل الرهاويني لديانتهم يف الزمن ذاته تقريباً‪ ،‬أنظر‪.Segal, Edessa, pp. 201, 206 :‬حيث كانوا يبدلون ديانتهم يف‬
‫جمموعات من عشرة أشخاص إىل ثالمثائة‪.‬‬
‫(‪ )82‬أنظر اهلامش ‪ 66‬من هذا الفصل‪.‬‬
‫(‪ )83‬الكنز الوحيد السرياين‪ ،‬أو شبه السرياين‪ ،‬والذي وصلنا كان زنوبيا اليت شحب لوهنا كثرياً ‪(F. Müller, Studien über‬‬
‫‪)Zenobia nach orientalischen Quellen, Kirchhain 1902‬؛ يف هذه النسخة ختتزل روما إىل جمرد إضافة يف حرب عربية‬
‫بني القبائل‪ ،‬وكل ما حتتفظ به زنوبيا من هلينيتها نسب يوناين وانتحار روماين واإلثنان خاطئان‪.‬‬
‫(‪H. Lammens, “Le “Sofiani”, Héros national des Arabes syriens”, Bulletin de l’Institute francais )84‬‬
‫‪. d.’archéologie orientale 1923‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, art, “Abu Tammam Habib b. Aws” )85‬‬
‫(‪. L.Zuwiyya Yamak, The Syrian Social Nationalist Party, Cambridge Mass. 1966, pp. 76ff )86‬‬
‫(‪ )89‬قارن « األرسوزي القومي العريب العلوي »‪ ،‬الذي « مل يأخذ إال ما هو قبل إسالمي يف اإلسالم » ‪(E. Kedourie, Arab‬‬
‫‪.)Political Memoris and Other Studies, London 1974, p. 200‬‬

‫‪136‬‬
‫حبش ‪ .‬أما األقباط والنساطرة فهم الصهاينة الذين فقدوا مطلبهم باألرض اليت امتلكوها ذات يوم(‪)88‬؛‬
‫لكن السوريني انضموا إىل الفلسطينيني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(E. Kendourie, The Chatham House Version and other‬‬ ‫(‪ )88‬من هنا جاء الشعار « إىل فلسطني مع األقباط! »؟‬
‫‪)Middle-Eastern Studies, London 1970, p. 200‬؛ قارن مع التهمة القائلة إن مار مشعون كان يتآمر مع الصهيونية‬
‫لتأسيس دولة مثل إسرائيل يف قلب العامل العريب ;‪)(Proche Orient chrétien 1951, p. 140‬؛ قارن أيضاً ‪Joseph, The‬‬
‫‪.Nestorians and their Muslim Neighbours, p. 224‬‬

‫‪139‬‬
‫‪91‬‬
‫قدر األنتيك‬
‫‪ii‬‬
‫المصادرة الثقافية للهالل الخصيب‬

‫بفضل التوحيد اليهودي امتلك اهلاجريون الذين غزوا سوريا حقيقة وهوية؛ لكن اإلثنتني مل ترقيا إىل‬
‫مستوى حضارة‪ .‬فمن ناحية مل تكن يف أي منهما أية إجابات على مشكالت احلياة املستقرة‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى فإن وجود تلك اإلجابات يف األراضي اليت غزوها جعل من املستحيل على اهلاجريني التأين‬
‫يف تطوير أجوبتهم‪ .‬باملقابل‪ ،‬فبفضل التعددية اهللينية‪ ،‬كان لدى كنعانيي سوريا القرن السابع حضارة‬
‫وحقيقة؛ لكن اإلثنتني مل ترقيا إىل مستوى هوية‪ .‬فمن ناحية كانت حقيقتهم دينية صرفة‪ ،‬ومن ناحية‬
‫أخرى فاحلضارة مل تكن حضارة خاصة هبم‪ .‬وهكذا كان العرب والسوريون قادرين على حنو فذ ألن‬
‫يساعدوا بعضهم بعضاً‪ .‬ولو أن العرب غزوا اإلقليم يف القرن الثالث بعد املسيح‪ ،‬مل يكن خلروج النخبة‬
‫اليونانية إىل العاصمة أن يرتك للغزاة الكثري مما ميكنهم متلّكه؛ ولو أهنم انتظروا حىت القرن العاشر‪ ،‬ملا ترك‬
‫تآكل اهلوية السورية مسافة كبرية بني الثقافة والريفيني احملليني‪ .‬لكن ما حصل هو أن اهلاجريني أسسوا‬
‫عاصمتهم يف إقليم حيث التوحد بني حقيقة مسيحية وهوية شاحبة ّأدى إىل اغرتاب ثقايف ليس أقل‬
‫عينية من توحد حقيقة يهودية وهوية بربرية بني اهلاجريني أنفسهم‪ .‬لقد أُحيل بني السوريني وبني قبوهلم‬
‫لتقاليد العامل الذي استوطنوه‪ ،‬متاماً كما أحيل بني اهلاجريني وبني استيالئُهم على تلك التقاليد حني غزوا‬
‫ذلك العامل‪ .‬من هنا‪ ،‬إذا كان هنالك نوع من التكامل العام بني احتياجات ومصادر اهلاجريني والريفيني‬
‫اإلقليميني‪ ،‬ففي سوريا كان هذا التكامل األوضح ظهوراً‪ .‬لقد كانت سوريا بالفعل مليئة بامللكية الثقافية‬
‫كمعرين مساعدين‪ ،‬فإن املطورين‬ ‫اليت ال صاحب هلا؛ ويف حني كان العراقيون مؤهلني حتماً للعمل ّ‬
‫السوريني للرببرية هم الذين كانوا حباجة فعالً ألن يروجوا لثقافة يونانية مقابل اهلوية‪ :‬مل يستطيعوا إضفاء‬
‫الصبغة القومية علىاحلضارة إال كعرب‪ .‬باملقابل‪ ،‬فالعرب يف اختيارهم السترياد اهللينية من السوريني‬
‫استطاعوا النجاة من التابعية الثقافية للمطورين النبطيني للحضارة‪ :‬لقد أحرزوا حضارة بزي نتاج عريب‪.‬‬
‫وهكذا فعمل القوة ‪ tour de force‬العريب كان مقرتناً بعمل ضعف ‪ tour de faibless‬سوري‬
‫نب سوري لشبه اجلزيرة العربية أو كمصادرة عربية لسوريا‪ ،‬فقد كان‬ ‫عامة معادل‪ :‬سواء أوصف ذلك كت ٍ‬
‫قدر سوريا أن ختتفي وأن تكون مسامهتها بالتايل حامسة وصعب إدراكها بالفكر‪ .‬من السهل االستيالء‬
‫تقصي أثر مالكيه‪ ،‬وإذا كانت اإلرسالية احلضاروية السورية‬
‫على ملك ثقايف ال مالك له مثلما هو صعب ّ‬
‫تتمثل يف هوجرة ثقافتها‪ ،‬فاهلاجريون كانوا سيظهرون وكأهنم خلقوا بأنفسهم هذه الثقافة فعالً‪ .‬وألن أوالد‬

‫‪138‬‬
‫اهلاجريني تعلّموا على يد الكهنة املسيحيني يف سوريا عبد امللك(‪ ،)1‬استطاع املتوكل حتديداً أن يطرد أوالد‬
‫سامراء اإلسالمية(‪.)2‬‬
‫املسيحيني من املدارس اإلسالمية والكهنة املسيحيني من ّ‬
‫مؤهلني على حنو فريد لتطوير حضارة ضمن توجيهات ُو ِضعت من‬ ‫بكلمات أخرى فالسوريون كانوا ّ‬
‫قبل الدرع اهلاجري احلامي‪ .‬باد ذي بدء‪ ،‬مل يكن السوريون ميتلكون تقليداً متكامالً والذي‬
‫باستطاعتهم إما نقله إىل غزاهتم أو معاناة ضياعه منهم‪ .‬ومن وجهة نظر الغزاة القبائليني‪ ،‬فالفرق بني‬
‫الغزوات اإلمساعيلية واإلسرائيلية لألرض متثّل يف أن البعليم الثقايف للكنعانيني املتهلينني مل يعد ميتلك قوة‬
‫لإلغواء؛ أو لنقل التصوير ملا َو َجب أن يكون يف وقته غزواً ثانياً لألرض‪ ،‬فلو أن يسوع ختلى اضطرارياً‬
‫عن هذا العامل إلمرباطوٍر روماين‪ ،‬فمن باب أوىل أن اهلاجريني مل يقعوا حتت إغواء مضاد للتخلي عن‬
‫العامل اآلخر للكهنة املسيحيني‪ .‬وهكذا فإن سوريا اليت مل تكن متتلك غري امرباطور غريب‪ ،‬وكنيسة‬
‫غريبة‪ ،‬اجتنبهما اهلاجريون بسهولة للحفاظ على صهرهم للدين والسياسة يف نوع من اإلمامية السامرية‪.‬‬
‫لكن مع أن هذا كان حافزاً أساسياً حلفظ الديانة اهلاجرية‪ ،‬فهو حبد ذاته مل مينع بقاء احلضارة اهللينية(‪.)3‬‬
‫أحسوا أن حضارهتم ملكهم فعالً‪ ،‬فلرمبا بالتايل قرنوا مصريهم مبصري الكهنة األمويني‬ ‫ولو كان السوريون ّ‬
‫يف حماولة إلنقاذ تراث أكثر تكاملية‪ .‬مع ذلك فرغم اإلشارة العرضية إىل مثل هذا التعاون(‪ ،)4‬فقد أحس‬
‫اإلمرباطور ببعض التوق إىل نظام روماين للمجتمع(‪ )5‬متاماً مثلما أحس األسقف ببعض التوق إىل نظام‬
‫يوناين للكون‪ .‬وهكذا فإن ما أشرع له األبواب كل من اإلمرباطور‪ ،‬النخبة وفلسفتها عند رحيلهم كان‬
‫عهداً‪ ،‬أمثولة نذرية‪ ،‬وكتاباً مق ّدساً‪ :‬بكلمات أخرى‪ ،‬املصادر غري الكافية لرفض ضمين للحضارة‪ .‬لقد‬
‫قام الكنعانيون يف حاصل األمر مبحاولة عمل هاجرية(‪)6‬لكنهم فشلوا‪،‬فقد كانوا يفتقدون األسباط‪،‬‬
‫وهكذا فحني وصلت األسباط يف هناية األمر‪ ،‬كانت اهلاجرية ال اهللينية هي اليت مثّلت اإلغواء(‪.)9‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ . Kayser, Die Canones Jacobs von Edessa, p. 29, question 58 )1‬هل ميكن لقس أن يعلّم أوالد املهغرايه؟ جواب‬
‫يعقوب إجيايب‪(Syriac Text in A. P. de Lagarede, Reliqiae iuris ecclesiastici antiquissimae, Vienna .‬‬
‫‪.)1856, p. 140‬‬
‫(‪. Fiey, Assyrie chrétienne, vol. iii, p. 119n )2‬‬
‫(‪ )3‬أنظر‪ ،‬هامش ‪ 22‬ف ‪.13‬‬
‫(‪ )4‬قارن التحالف بني يزيد الثالث والغيالنية ‪(J. van Ess,:Les Qadarites et la Gailaniya, deYazid III, Studia‬‬
‫‪.)Islamica 1970‬‬
‫(‪ )5‬تتمثل األمثولة السياسية السورية بعمر الثاين‪ ،‬مع خوفه من اهلل ونار جهنم‪ ،‬عزوفه عن النساء والطعام‪ ،‬دموعه اليت تنم عن التقوى‬
‫وعن نـَ َفس النسكية النذرية العام (ابن عبد احلكم‪ ،‬سرية عمر‪ ،‬صص ‪)59 - 27‬؛ كانت أمثولة‪ ،‬بعكس التقليد امللكي الفارسي‪،‬‬
‫أمكن اعتبارها راشدية بسهولة‪.‬‬
‫(‪ )6‬مل يكن السوريون يف هذا نسيج وحدهم‪ .‬فشيء مشابه أكثر حداثة على أرضية مسيحية مستقرة هو ذلك الذي قام به الراستفاريون‬
‫يف جامايكا‪ .‬تتضمن احملاولة اعتبار إحدى اإلثنيات الواردة يف العهد القدمي جتسيداً لإلسرائيليني القدامى‪ ،‬وهي تشبه استيالء إثنياً على‬
‫أنبياء العهد القدمي‪ ،‬وتعترب أن أرضاً موعودة يف أثيوبيا تقابل سبياً يف جامايكا حيث سيقوم هيالسيالسي جبمعهم‪ ،‬وتعترب األمهرية اللغة‬
‫املقدسة‪ ،‬إضافة إىل نوع من اإللتزام بالشرع الالوي املق ّدس؛ أنظر‪(L. E. Barrett, The Rastafarians: A Study in :‬‬

‫‪137‬‬
‫ثانياً‪ ،‬لقد كان أمام السوريني أخرياً هوية متكاملة حيصلون عليها‪ .‬يف هذا الصدد تبدو حالة أيب متام‬
‫أمنوذجية‪ :‬كابن لثيودوسيوس مل يستطع يف أفضل األحوال سوى تقليد اليونانيني‪ ،‬لكن كابن ألوس فرمبا‬
‫تفوق عليهم‪ .‬وكما أن معاوية يف سوريا هو الذي مجع املعلقات(‪ ،)8‬كذلك متاماً فإن أبا‬ ‫نافسهم أو حىت ّ‬
‫متّام هو الذي جمّد املاضي العريب عرب ذروته البطولية يف ذي قار(‪ .)7‬كان على أنطونيوس التكرييت‬
‫كمسيحي أن يستشهد هبومريوس وبلوتارخ إضافة إىل إفرام ليثبت تفوق اللغة اليونانية(‪ )19‬؛ لكن‬
‫البحرتي‪ ،‬ميمون بن مهران وبين املهاجر كانوا متحررين كمسلمني هلم دجمهم املفاهيمي للجاهلية‪ ،‬احلكم‬
‫والكتاب املقدس‪ ،‬من الشعراء املستوردين‪ ،‬احليوات الشبيهة واألسفار املقدسة املرتمجة على حد سواء‪.‬‬
‫وهكذا فقد استطاع البحرتي أن يكتب شعراً عربياً خلليفة عريب(‪ ،)11‬متاماً كما استطاع ميمون ابن مهران‬
‫ويدون مآثره(‪ ،)12‬وكما استطاع أبو املهاجر أن خيدم غريه‪ ،‬فيعلّم أوالده‬‫خدمة آخر‪ ،‬فيعلّم أوالده ّ‬
‫(‪)13‬‬
‫املوحد املطمئن لل َفَرادة العربية ذاهتا‪ .‬لقد انتزعت‬
‫ويتخصص يف الكتاب ‪ ،‬وذلك ضمن اإلطار ّ‬
‫حبكات من الدرامات اهللينية‪ ،‬مقوالت من الروايات اهللينية‪ ،‬قطع وأجزاء من الفكر اليوناين(‪ ،)14‬وزوائد‬

‫‪ .)Messianic Cultism in Jamaica, Puerto Rico 1969, pp. 128ff‬لكن الرجل األسود فقد أسباطه بقدر ما فقدهم‬
‫السوريون‪ ،‬ورغم بعض التلويح التهديدي بفكرة اجلهاد ( عرب املسلمني السود دون ريب)‪ ،‬فالراستفاريون ال يستطيعون سوى انتظار‬
‫خالصهم باستسالم‪.‬‬
‫(‪ )9‬الحظ التقابل بني فارس العصور الوسطى‪،‬اليت رغم اعتناقها لإلسالم كانت تُالحق خبلفة صورة ساسانية‪ ،‬وسوريا العصور الوسطى‪،‬‬
‫اليت رغم إخالصها للمسيحية كانت تُطارد من قبل اإلسالم‪.‬ومثال ملفت للنظر بشكل متميز على هذا ‪ ،‬هو ابن الصلييب مع رفضه‬
‫احلاخامي للملوك األرضيني ‪ ،‬إعتماده املطلق على الكتاب املقدس ‪ ،‬وكراهيته للموسيقى والرتاتيل الكنيسة‪(“Treatise against .‬‬
‫‪.)the Melchites”,passim‬‬
‫(‪M. J. Kister, “The Seven Odes: Some notes on the compilation of the Mu’allaqat, Rivista degli )8‬‬
‫‪. Studi Orientali 1969, p. 29‬‬
‫(‪G. E. von Grunebaum, Islam: Essays in the Nature and the Growth of a Cultureof Tradition, )7‬‬
‫‪. London 1961, p. 35‬‬
‫(‪. Rücker, “Das fünfte Buch der Rhetorik den Antun von Tagrit”,p.17 )19‬‬
‫(‪ )11‬قد يكون نسب البحرتي الطائي أصيالً طبعاً؛ لكنه تعلّم أمنوذجه الكالسيكي احملدث من أيب متام‪(Encyclopaedia of .‬‬
‫)‪. Islam, art. al-Buhturi‬‬
‫(‪ )12‬هو موىل من بالد مابني النهرين لألزد أو لباهلة‪ ،‬وكان حاكماً علىاجلزيرة لعمر الثاين‪ ،‬وقد علّم أوالده‪ ،‬وكان أحد املراجع األساسية‬
‫احملرب‪ ،‬حترير ‪I, Lichtenst‬ن‪ ،dter‬حيدر أباد‬
‫يف مسائل أخالق هذا اخلليفة وعاداته‪( .‬الطربي‪ ،‬تاريخ؛ حممد بن حبيب‪ ،‬كتاب ّ‬
‫‪ ،1744‬ص‪498‬؛ يزيد بن حممد األزدي‪ ،‬تاريخ املوصل‪ ،‬حترير آ‪ .‬حبيبة‪ ،‬القاهرة ‪ ،1769‬ص‪.)39‬‬
‫(‪ )13‬امسعيل بن عبد اهلل بن أيب املهاجر هو موىل من دمشق‪ ،‬كان معلّماً ألوالد عبد امللك‪ ،‬حاكماً لشمال أفريقيا لعمر الثاين‪ ،‬هادياً‬
‫لرببر مشال إفريقيا ‪ ،‬ومشهوراً مع أوالده كمرجع يف قراءة القرآن‪( .‬حممد بن حيان البسيت‪ ،‬كتاب مشاهري علماء األمصار‪ ،‬حترير ‪M.‬‬
‫احملرب‪ ،‬ص‪496‬؛ البالذري‪ ،‬فتوح ‪ ،‬ص‪231‬؛ ابن عساكر‪،‬‬ ‫‪ ،Fleichhammer‬فسبادن ‪ ،1757‬ص‪197‬؛ ابن حبيب‪ ،‬كتاب ّ‬
‫تاريخ مدينة دمشق‪.)59:2 ،‬‬
‫(‪. G.E.von Grunebaum,Medieval Islam: A Study in Cultural Orientation,Chicago 1961,pp.294-319)14‬‬

‫‪149‬‬
‫ونتائج من الشرع الروماين(‪ )15‬عن سياقاهتا األصلية لتقدمي مواد ألجل صرح عريب‪ .‬ويف كل احلاالت كان‬
‫العرب يزودون بالبىن‪ ،‬والسوريون جيربون ممتنني على تقدمي أحجار البناء‪.‬‬
‫كانت هذه السمة املتحاشية بذاهتا عن الناس واليت ميّزت الدور السوري تعين شيئني‪ .‬أوالً‪ ،‬لقد‬
‫اخلاصة‪ .‬ففي حني مل يستطع الرومان املتعرضون للتقليد اليوناين‬
‫م ّكنت الربابرة من وضع نربهتم الثقافية ّ‬
‫سوى تقدمي جاهليتهم يف شكل ملحمة هومريوسية‪ ،‬ومل يستطع املانشوس ‪ Manchus‬يف الصني‬
‫الكونفوشيوسية سوى حتويل جاهليتهم إىل أسئلة مقاالتية من أجل امتحانات الدولة‪ ،‬مل يكن اهلاجريون‬
‫مكرهني على ذلك النحو كي يعيدوا صياغة هويتهم حبسب اللغة الثقافية ملواليهم‪ .‬ولو أن السوريني‬
‫صاروا مع حلول القرن السابع يونانيني غيورين مثلما صار السلت االيربيون روماناً‪ ،‬فلرمبا طالب معاوية‬
‫بوضع جمموعة املعلقات يف شكل إلياذة عربية؛ لكن مهما كانت املكانة النهائية للشعر العريب‪ ،‬فناقلوه مل‬
‫يكونوا مقلدين دون املستوى هلومريوس‪ .‬مقابل ذلك‪ ،‬فلو أن العاصمة العربية متوضعت يف العراق‪ ،‬فلرمبا‬
‫علي بتحرير ‪ edition‬للماضي العريب وفق أمنوذج حترير اإليرانيني ملاضيهم؛ لكن مهما كان دور‬ ‫ّ‬ ‫أمر‬
‫محّاد الراوية(‪ )16‬يف نقل الشعر القبائلي وتزويره‪ ،‬فهو مل يكن أحد أسالف الفردوسي‪ .‬وهكذا فقد كان‬
‫العرب يف موضع يؤهلهم العتبار جاهليتهم كثقافة متميزة على حنو خاص‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن التحاشي بالذات‬
‫عن الناس السوري كان يعين أن سوريا استطاعت العمل كمرشِّحة‪ ،‬ليس فقط للتقليد اليوناين يف سوريا‬
‫ذاهتا‪ ،‬بل أيضاً للتقاليد األخرى‪ ،‬يونانية أم غري يونانية‪ ،‬واليت ُرشِّحت للتو عرب بيئة إقليمية يف مكان‬
‫آخر‪ .‬وهكذا ففن احلكم اإليراين مل يصلهم إال عرب نسخة عبد احلميد بن حيّي الريفية‪ ،‬الذي رمبا كان‬
‫مسيحياً من األنبار‪ ،‬والذي يبدو أيضاً وكأنه مجع بني األمنوذج الرسائلي إلقليميي سوريا البيزنطية‬
‫واألمنوذج الرسائلي إلقليميي العراق الساساين‪ ،‬خالقاً بالتايل توليفة عرببية خاصة واليت وضعت يف هناية‬
‫األمر نربة مكتب احملفوظات العريب(‪ .)19‬مل ميتلك اهلاجريون يف سوريا تواريخ البالط البيزنطي وال‬
‫احلوليات امللكية الساسانية كي يتعاملوا معها‪ :‬فكما صانتهم السريانية من بريوكوبيوس ‪،Procopius‬‬
‫كذلك متاماً حصلوا على تارخيهم اإليراين عرب جنوب شبه جزيرة العرب‪ ،‬من أشخاص مثل عبيد بن‬
‫شارية‪ ،‬وهو ميين يفرتض أنه استمد معرفته من اإليرانيني احملليني‪ .‬على حنو مشابه ففي اليمن أحرز‬
‫اإليراين وهب بن منبه جمموعة معارفه اليهودية اليت نقلها إىل هاجريي سوريا‪ ،‬متاماً مثلما أن اليمين‬
‫(‪)18‬‬
‫تعرض لنسخ‬ ‫األوزاعي هو الذي ق ّدم هلم الشرع اليهودي ‪ .‬هبذه الطريقة استطاع اهلاجريون َحت ّمل ّ‬
‫شاحبة يف دمشق قبل أن يتوجب عليهم مواجهة التقاليد األكثر تكاملية يف العراق‪ .‬فالسوريون مل‬
‫ضرت إىل إقليمهم بعد‬ ‫يهوجروا أنفسهم والثقافة اليت عرفوها قبل الغزو فحسب‪ ،‬بل أيضاً كل ثقافة أُح ِ‬
‫ْ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. J.Schacht,’Droit byzantin et droit musulman’,in XII Convegno ‘Volta’,Rome 1957)15‬‬
‫(‪ )16‬كان محّاد إيرانياً من العراق )‪.(Encyclopaedia of Islam, s.n‬‬
‫(‪ Encyclopaedia of Islam, s.n )19‬؛قارن أيضاً حاالت عبد الصمد بن عبد العالء‪ ،‬الذي كان جده أسرياً من عني التمر‪ ،‬والذي‬
‫كان معلماً خصوصياً للوليد بن يزيد‪ ،‬وندمياً وشاعراً (الطربي‪،‬تاريخ‪:1 ،‬‬
‫‪2122 ‬؛ ‪)1944 ،1941 :2‬؛ محّاد األجرد‪ ،‬وهو شاعر كويف من املوايل والذي جاء أيضاً إىل بالط الوليد‬
‫)‪(Encyclopaedia of Islam, s.n‬؛ أو بشار بن برد‪ ،‬الذي مل تصل شعوبيته إىل سوريا إال عرب األمراء األمويني يف العراق ‪(Ibid,‬‬
‫)‪.s.n‬‬
‫(‪Dodge, The Fihrst of al-Nadim, P. 194; Encyclopaedia of Islam, art. “Wahb b. Munabbih”; )18‬‬
‫”‪. “Encyclopaedia of Islam, art. al-Aawza‘i‬‬

‫‪141‬‬
‫كان هنالك استثناءان فقط هلذه اجلاهزية العامة عند السوريني لتسويق هكذا ثقافة واليت جاءت يف‬
‫طريقهم كقطع غيار‪ .‬فأوالً‪ ،‬كان لديهم كنز خاص هبم يف هيئة املنذور؛ والناسك السوري ظهر من احملن‬
‫على حنو غري مفاجىء ليس يف كماليته فحسب‪ ،‬بل وعلىنحو مبكر أيضاً‪ ،‬يف هيئة أيب ذر‪ ،‬أيب الدرداء‪،‬‬
‫وأمثاهلم(‪ ،)17‬والذين راحوا مع الوقت يتطورون ليصبحوا قديسني صوفيني‪ .‬وثانياً‪ ،‬كان لدى السوريني‬
‫زي إسالمي‪ ،‬بشكل مقتصد يف‬ ‫املسيحية ظهورها يف ّ‬ ‫تقليد الهويت متكامل مبا يكفي ألن تعيد املفاهيم‬
‫(‪)21‬‬ ‫(‪)29‬‬
‫الغيالنية وبشكل أكثر امتالء يف جرأته يف القدرية ؛ ولو أن سوريا ظلّت العاصمة فلرمبا لعبت دوراً‬
‫يف نقل الفلسفة اليونانية أكرب من الذي لعبته فعلياً(‪.)22‬‬
‫مع ذلك فقد كانت هاتان املسامهتان حبد ذاتيهما قصريتني تبادلياً إىل حد ما‪ .‬ليس هنالك بالطبع‬
‫معراة من منظومتها‬ ‫تنافر جوهري بني الصوفية والالهوت‪ ،‬فبقدر ما ميكن تعريف الصوفية كمسيحية ّ‬
‫اإلكلريوسية‪ ،‬مل يكن هنالك ما مينع أن يكون الالهوتيون والصوفيون فروعاً من الفلسفة اليونانية ذاهتا؛‬
‫وقد كانوا كذلك يف العراق فعالً‪ .‬لكن مع أن الالهوتيني السوريني ورثوا شيئاً من مفاهيم الكنيسة‬
‫متحضرين للتخلّي‬
‫ّ‬ ‫اهللينية‪ ،‬فقد سرمد الصوفيون السوريون قيم املنذورين املنافسة‪ .‬ومبا أن السوريني كانوا‬
‫عن املدن للحاخامني املسلمني إذا كان األخريون بدورهم سيحولون «شعب األرض» إىل منذورين‬
‫مسيحيني‪ ،‬فقد عاشت سوريا على نسكيتها النذورية وليس على مفاهيمها الالهوتية‪ .‬وكما كانت‬
‫الفلسفة اليونانية استمراراً للمسيحية النسطورية وليس اليعقوبية(‪ ،)23‬كذلك متاماً أيضاً فاإلرث اليوناين يف‬
‫الصوفية مأخوذ من العراق‪ ،‬ال من سوريا(‪ .)24‬بعضهم عراقي الثقافة سوري الزهد‪ ،‬كما هي احلال مع‬
‫أخوان الصفا(‪ ،)25‬وهكذا فليس من غري املالئم أن يتلقى السوريون فلسفتهم اليونانية عرب بغداد(‪.)26‬‬
‫واملنذور عمر بن عبد قيس الذي نُفي من البصرة رمبا كان سيجد بيئة أكثر جتانساً يف سوريا معاوية(‪،)29‬‬
‫لكن القدريني الذين اختفوا من سوريا وجدوا بيئة أكثر جتانساً يف بصرة املعتزلة(‪ .)28‬لقد سفح أبو الدرداء‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )17‬من أجل أهل الصفة السوريني أنظر‪ ،‬املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪Madelung, al-Qasim, pp. 239f )29‬؛ الحظ التسلسل املتميّز لإلرادة احلرة‪ ،‬النعمة‪ ،‬النسب العربيب والسفيانية‪.‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, art. “Kadariyya” )21‬‬
‫(‪ )22‬قارن فشل التأريخ السوري يف االستمرار كتقليد مستمر‪ :‬لقد انتهى كل من عوانه وهيثم بن عدي يف بغداد‪ .)ibid, s.n.n) .‬ال‬
‫يفاجئنا عدم استمرار أي تقليد سوري بعد تبديل العاصمة‪ :‬فبعكس الفرس‪ ،‬مل يستطيعوا حتمل التشحيب‪.‬‬
‫(‪F. E. Peters, Aristotle and the Arabs: The Aristotalian Tradition in Islam, New York 1968, pp. )23‬‬
‫‪ . 41ff‬قارن‪. N. Rescher, The Development of Arabic Logic, Pittsburg, Pa. 1964, p. 20 :‬‬
‫(‪M. Molé, Les mystiques musulmans, Paris 1965, p. 21 )24‬؛ من أجل استمرار ثيوفيليوس ومرمي كقديسني مالميت‪،‬‬
‫أنظر املصدر السابق‪ ،‬صص ‪ 19‬وما بعد‪ .‬من أجل الفرق بني األولياء بالشريعة واألولياء بالنعمة املعروفني لفيلوكسينوس لكنهم األكثر‬
‫شعبية يف العراق؛ أنظر املصدر السابق‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫(‪Marquet, “Imâmat, Résurrection et Hiérarchie selon les Ikhwân as - Safâ” ,p. 139 )25‬‬
‫‪(N. Rescher,‬‬ ‫(‪ )26‬بشكل خاص حيّي بن عدي وعيسى بن زرعة‪ ،‬اللذان كان عليهما أن يكتبا دفاعات عن دراستهما للمنطق‪.‬‬
‫)‪.Studies in Arabic Philisophy, Pittsburg, Pa. 1968, pp. 39f‬‬
‫(‪ )29‬الطربي‪ ،‬تاريخ‪ :1 ،‬صص ‪ 2723‬وما بعد؛ مع أنه ُجيْ َعل يف الصفحة ‪ 2724‬وما بعد ينكر نذوريته‪.‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, art. “Kadariyya” )28‬‬

‫‪142‬‬
‫دموعاً مسيحية ال ختطئها العني(‪ ،)27‬وأفراد قبيلة بين عذرة كانوا مبتلني حبب أفالطوين مهوجر(‪)39‬؛ لكن‬
‫سرمدة اإلرث اليوناين حبد ذاهتا مل يكن ممكناً أن تكون عمل السوريني‪ .‬وبعدما نفجر الغشاء‬
‫اإلكلريوسي والرهباين للهلينية‪ ،‬مل يكن للسوريني وال للعرب مصلحة يف احلفاظ على حمتوياته كما هي؛‬
‫ونـَ ْقل التقليد اهلليين‪ ،‬وذلك عوضاً عن سحقه‪ ،‬كان بالتايل البد أن يكون مسامهة عراقية على حنو غامر‪.‬‬
‫كان العراق إقليماً ذا مصادر ثقافية أكثر غىن من سوريا‪ ،‬لكنه كان أيضاً إقليماً مل يستمر فيه‬
‫تشحيب اهلوية وال جمانسة احلقيقة لفرتة طويلة‪ .‬ولو أن الغزاة اهلاجريني اختاروا أن جيعلوا عاصمتهم يف‬
‫كوفة علي وليس يف دمشق معاوية‪ ،‬فإن فرصهم بالتايل خللق حضارة جديدة كانت ستكون أقل كثرياً‬
‫جداً‪ .‬فأوالً‪ ،‬كان للثقافة العراقية مالكون حمدودون للغاية‪ ،‬والتبعية الثقافية احملتومة كان ميكن أن تتطور‬
‫بسهولة إىل قبول ثقايف‪ :‬كان األمر سيحتاج إىل كم كبري من اجلَلَد الكهنويت لتقدمي تقاليد متكاملة‬
‫باعتبارها هاجرية فطرياً‪ ،‬وحىت لو سارت املسائل على هذا النحو‪ ،‬فاحلاخامون فشلوا يف سحقها‬
‫(‪)31‬‬
‫صفِّي اإلرث‬ ‫بالكامل ‪ .‬ثانياً‪ ،‬امتلك العراق إرثني متنافرين‪ ،‬مها اليهودي واهلندو ‪ -‬أورويب‪ .‬لقد ُ‬
‫اليهودي أساساً عرب الكوفة‪ ،‬اليت ختصصت من مث يف الشرع‪ ،‬فولّدت هرطقات إمامية‪ ،‬ورأت انبعاث‬
‫ختصصت من مث يف‬ ‫صفِّي أساساً عرب البصرة‪ ،‬واليت ّ‬ ‫املسيانية مع املختار؛ أما اإلرث اهلندو‪-‬أورويب فقد ُ‬
‫القواعد وفقه اللغة‪ ،‬فأجنبت املعتزلة‪ ،‬ورأت عودة ظهور األفكار الفارسية حول امللَكية من ناحية(‪،)32‬‬
‫َ‬
‫والديانة الفارسية‪ ،‬اليونانية واهلندية على شكل الزندقة(‪ )33‬والصوفية من ناحية أخرى‪ .‬من هنا فحىت لو‬
‫حتمل خصال التبعية الثقافية‪ ،‬فهم مل يستطيعوا جتنب خصال الصراع‬ ‫أثبت اهلاجريون أهنم قادرون على ّ‬
‫الثقايف ‪ -‬كما مل يفعلوا حقاً حني اجتمعت الكوفة والبصرة يف بغداد أخرياً‪ .‬ولو أن دراما ابن حنبل‬
‫واملأمون ُمثِّلت بعد احلرب األهلية الثانية وليس الرابعة‪ ،‬فلرمبا تفككت اهلوية الدينية اجلنينية للغزاة‬
‫بالكامل‪ ،‬تاركة اهلاجريني كي خيتفوا ليصبحوا يهوداً ومسيحيني عاجالً أم آجالً‪ .‬وحىت كما كان عليه‬
‫توجب على الصراع أن يرتك تنافراً والذي أضحى مسة اإلسالم الدائمة‪ .‬وهكذا فقد كانت‬ ‫األمر‪ ،‬فقد ّ‬
‫حصيلة احلرب األهلية األوىل ذات أمهية ثقافية رئيسة‪ :‬ألن سوريا النذورية محت اهلاجرييني من التقليد‬
‫احلضري يف حواضرهم فقد جتنبوا التبعية الثقافية‪ ،‬وألن سوريا املسيحية مل تق ّدم سوى حقيقة واحدة فقد‬
‫جتنبوا الصراع الثقايف‪ .‬وهكذا فقد استمر اهلاجريون طيلة قرن من الزمن يف تلقي ثقافتهم‪ ،‬عراقية وغري‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Ibid., art. “Bakka” )27‬‬
‫(‪ . Ibid., art. “Djamil”. al-Udhri” )39‬الحظ التقابل بني الشخصية العربية األصيلة للحب األفالطوين كما يظهر عند السوري‬
‫مجيل والتعريف األفالطوين الواضح الذي ظهر يف العراق ‪.)(von Grumbaum, Medieval Islam. p. 317‬‬
‫(‪ )31‬سوف حنلل يف الفصل الثالث عشر املضامني الثقافية للفرق بني احلاخامني والكهنة‪.‬‬
‫(‪ )32‬البد أن كتاب أيب عبيدة كتاب التاج هو أحد أقدم األمثلة‪.)(Goldziher, Muslim Studies, vol. I, p. 182.‬‬
‫(‪ )33‬مع بشار بن برد ( ‪.(Encyclopaedia of Islam, s.n‬‬

‫‪143‬‬
‫عراقية‪ ،‬جبرعات صغرية على أيدي السوريني؛ ومبا أهنم استخدموا احلماية فهذا م ّكنهم من حتصني هويتهم‬
‫الدينية اخلاصة‪ ،‬واحلصيلة يف العراق العباسي مل تعد قدر اهلاجرية بل قدراحلضارة‪.‬‬
‫إن نتيجة الرتقية العباسية للعراق إىل مكانة عاصمية كانت بالتايل فورة لسوية متزايدة للغاية من‬
‫الصراع الثقايف بني جمموعة أكثر متايزاً من أنصار الثقافة‪ :‬بكلمات أخرى‪ ،‬فالوضعية التعددية هي اليت‬
‫كانت تنزل مثل ذلك الدمار بالوالءات الدينية للنخب غري اإلسالمية‪ .‬ويف هذا الصدد فاجللبة بني‬
‫األطراف الدينية حول مكانة التقليد الشفوي تبدو أمثولية‪ :‬عنان بن داود وأبو حنيفة اللذان يناقشان‬
‫الشريعة يف سجن اخلليفة(‪ )34‬يقرتنان مع ثيودورس أبو قره والعلماء الذين يناقشون الدين يف بالط‬
‫اخلليفة(‪ )35‬و مع الشعوبيني الذين يناقشون الثقافة مع وزير اخلليفة(‪ .)36‬لكن يف الوقت ذاته فقد‬
‫حصلت هذه احلوادث ضمن قيود حمددة للغاية‪ .‬فمن ناحية كان هنالك حدود اآلن على حرية تناوهلا‬
‫لإلرث اليهودي‪ :‬وهكذا مل يعد هنالك أي شك أنه كان على اإلسالم أن جيد جتسيده الديين كشرع‬
‫أقروا باحلاخامني عوضاً عن حماولة‬‫منزل‪ ،‬حيتوي كل شيء‪ ،‬ذي أمنوذج يهودي‪ ،‬والعباسيون وفقاً لذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫(‪)39‬‬
‫وضع شرع أمرباطوري ‪ .‬لكن من ناحية أخرى كان هنالك حد أيضاً ال يستطيعون جتاوزه يف حماولة‬
‫االستغناء عن اإلرث اهلندو‪-‬أورويب‪ :‬مل يكن هنالك حىت ذلك الوقت الكثري من الشك بأنه كان على‬
‫اإلسالم أن جيد جتسيده السياسي يف إمرباطورية موحدة على النمط الفارسي‪ ،‬والعباسيون بالتايل استعاروا‬
‫آداب سلوك من البالط الفارسي عوض اإلنسحاب إىل داخل الغيتو‪ .‬لكن إذا أ ُْم ِكن أخذ هذين القيدين‬
‫األساسيني كما أعطيا‪ ،‬فقدكان تنافرمها التباديل يعين أن نتائجهما مل يكن أخذها كما أعطيت‪ .‬وجوهر‬
‫املسألة يكمن يف املوقف الغامض للحاخامني املسلمني كحاخامني بالغزو‪ .‬فبعدما تركوا الغيتو‪ ،‬مل يعد‬
‫باستطاعتهم أن يرفضوا ببساطة إرثاً من أجل اآلخر بطريقة اليهود؛ لكن كوهنم فعلوا ذلك كغزاة وليس‬
‫كمبشرين‪ ،‬مل يعد بإمكاهنم دمج اإلثنني ببساطة بطريقة املسيحيني‪ .‬عوضاً عن ذلك‪ُ ،‬و ِضعوا وفق تنظيم‬
‫احلاخامني يف بيئة حيث كتلة املادة الغريبة كانت تضغط يف اجتاه القبول الثقايف‪ ،‬وكان عليهم القبول‬
‫ببعضها ولو حىت كي يعطوا جوهراً لتقليدهم احملدث النعمة ليس إال‪.‬‬
‫ميكن أن نبدأ بأكثر حاالت التمثل احلاخامي جناحاً‪ ،‬أال وهي قدر الشرع الروماين‪ .‬بالنسبة‬
‫ألغراضنا اآلنية ميكن التفكري بنظام تشريعي بلغة هرمية‪ :‬التعريف األكثر جتريدية للنظام يتناسب مع‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ . Paul, Ecrits de Qumran et sectes juives aux premiers siècles de l’Islam, pp. 15f. and 145n )34‬اخلليفة‬
‫يف هذه القصة هو املنصور‪.‬‬
‫(‪A. Guillaume, “A Debate between Christian and Muslim Doctors”, Journal of the Royal Asiatic Society, )35‬‬
‫‪.Centenary supplement, 1924.‬اخلليفة موضع التساؤل هو املأمون‪.‬‬
‫(‪ )36‬حممد بن حيّي الصويل‪ ،‬أدب الكتّاب‪ ،‬حترير م‪.‬ب‪ .‬األثري‪ ،‬القاهرة وبغداد ‪ ،1341‬ص‪ .173‬الوزير هو حيّي بن خالد الربمكي‪..‬‬
‫(‪ )39‬أنظر‪.D. Goitein, Studies in Islamic History and Institutions, Leyden 1966, pp. 163ff:‬‬

‫‪144‬‬
‫القمة‪ ،‬وتتناسب كتلة التفاصيل واألجزاء مع القاعدة‪ ،‬أما يف الوسط فلدينا طبقة هي يف آن أقل رفعة‬
‫وأقل خصوصية وهي اليت تودع فيها بُىن النظام وإجراءاته املميزة‪ .‬وهكذا فالشرع الروماين‪ ،‬يف ترتيب‬
‫يتكون من مقولة «الشرع املدين»‪ ،‬علم الفقه‪ ،‬وكتلة الشرع األساسية‪ .‬نقول اآلن إنه إذا كان‬
‫تنازيل‪،‬كان ّ‬
‫على احلاخامني املسلمني أن ال يقبلوا باهلرم ككل وال يرفضوه ككل‪ ،‬فقد كان عليهم تفكيكه؛ ومن أجل‬
‫هذه العملية كان وسط اهلرم هو املنطقة احلامسة‪ .‬ألنه لو استطاع احلاخامون التخلص من الوسط الروماين‬
‫واستبداله بنظرية فقهية خاصة هبم‪ ،‬ألضحى ممكناً بالنسبة هلم تبديل الشرع املدين بشرع مق ّدس‪ :‬فمن‬
‫ناحية استطاعوا على القمة استبدال مقولة الشرع املدين بإرادة اهلل‪،‬ومن ناحية أخرى استطاعوا إعادة‬
‫تشكيل الشرع األساسي على القاعدة لتقدميه كتطوير إلرادة إهلهم وككنز خاص بأمتهم(‪.)38‬‬
‫لقد ساعد ظرفان إثنان احلاخامني املسلمني إىل حد كبري يف حتقيق هذا االستبدال‪.‬ففي املوضع‬
‫األول‪ ،‬فقد أحرز العرب أمثولتهم من اليهود يف مرحلة مبكرة‪ :‬ففي الزمن الذي يُزعم أن أبا حنيفة وعنان‬
‫التقيا فيه يف سجن اخلليفة‪ ،‬كان اهلاجريون يقرتبون من هناية تبعيتهم الدينية لليهود‪ .‬ثانياً‪ ،‬كان اهلرم‬
‫الغريب هشاً بشكل غري اعتيادي‪ :‬ألنه‪ ،‬بعكس شرع سوريا‪ ،‬كان شرع العراق النسطوري منفصالً‬
‫سياسياً عن أرومته الرومانية‪ .‬وكانت النتيجة أن الفقه الروماين اختفى فعالً‪ .‬فالنساطرة قبلوا بالشرع املدين‬
‫لألباطرة الرومان ألهنم كانوا مسيحيني‪ ،‬وأطاعوا الشرع العام لألباطرة الفرس ألهنم كانوا مواليهم؛ لكن‬
‫النظرية الوحيدة اليت استطاعت أن تستحوذ على اهتمامهم املفاهيمي كانت نظرية الشرع املسيحي‪.‬‬
‫وهكذا مال الفقه ألن ُخيْتَزل إىل مباد مسيحية‪ ،‬يف حني انزلق الشرع املدين إىل شرع كنسي وصار‬
‫الشرع العام قبوالً بالعدالة التنفيذية للدولة‪ .‬من ناحية‪ ،‬كان هذا يعين أن النساطرة يف غيتوهم الفارسي‬
‫صاروا مكافئني تقريباً ملا استطاع فعله ورثة مبدأ اخلالص بالنعمة البولسي بالشرع احلاخامي؛ ومن ناحية‬
‫أخرى كان هذا يعين أن العالقة بني قمة اهلرم الشرعي وقاعدته صارت مقلقلة إىل أبعد حد‪ .‬يف الوقت‬
‫ذاته فإن طالق الشرع النسطوري من احلكم الروماين أثّر يف شخصية القاعدة ذاهتا‪ .‬فالشرع األساسي‬
‫للنساطرة كان يفقد طابعه الروماين‪ ،‬من جهة عرب حتويله الذي استمر زمناً طويالً إىل شرع كنسي‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى عرب إشابته املتواصلة للشرع الروماين بالعرف الفارسي‪ .‬باختصار نقول‪ ،‬إنه يف حني احتفظ‬
‫شرع سوريا الروماين بشكل متكامل وبالتايل مقاوم‪ ،‬كان سهالً نسبياً على املسلمني يف احلالة النسطورية‬
‫إدخال أمثولتهم اخلاصة يف الوسط وسحق شرع أساسي والذي كان قد لُِّني لتوه عند القاعدة(‪.)37‬‬
‫وهكذا كان هنالك الشكل املميّز للشرع اإلسالمي‪ :‬إرادة اهلل فوق القمة‪ ،‬يف الوسط تأيت نظرية فقهية‬
‫تدول حول فكرة شرع نبوي‪ ،‬ويف القاعدة جند خليطاً مشوشاً من مواد أنظمة تشريعية أكثر قدماً تعود‬
‫إىل منطقة الشرق األوسط مطحونة داخل كتلة غري ذات بنيان من تقاليد نبوية غامرة‪ .‬مل يكن يف العملية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )38‬من أجل التبعية كمثال على األخري‪ ،‬أنظر‪. Crone, The Mawali in the Umayyad Period, chapter 4:‬‬
‫(‪ )37‬من أجل مثال توضيحي‪ ،‬أنظر أحد كتايب شاخت املشار إليهما آنفاً‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ما مينع أن خترج إىل السطح كمية طيبة من الشرع الروماين؛ لكن املقولة حبد ذاهتا رميت عند التخوم‬
‫متاماً‪ .‬ويف الكلمة قانون وقف الشرع املدين مداناً باعتباره جناسة غريبة؛ ومت التأكيد على املسألة عن طريق‬
‫إسقاط أصول الشرع اإلسالمي يف قلب شبه جزيرة العرب(‪.)49‬‬
‫أقل عرضة إمجاالً من التقليد الروماين هلذا النوع من التعامل‪ .‬فمفاهيم الفلسفة‬
‫كان التقليد اليوناين ّ‬
‫مل يكن باإلمكان سحقها ألن جوهرها بالذات كان بنياهنا‪ .‬لكن باملقابل فهذه املفاهيم ذاهتا هي‬
‫بالضرورة موضع شك احلاخامني‪ :‬ابستمولوجياً ألهنا غري شخصية‪ ،‬اجتماعياً ألهنا خنبوية‪ ،‬وإثنياً ألهنا‬
‫غريبة‪ .‬حىت هذا احلد مل تكن حالة الفلسفة اليونانية ختتلف طبعاً عن حالة الفقه الروماين‪ .‬لكن يف‬
‫املوضع األول‪ ،‬فقد امتلك التقليد اليوناين مركز جاذبية خمتلفاً للغاية‪ .‬فالفقه ال يستطيع أن يطمح إىل‬
‫أكثر من أن يكون خادماً لشرع اساسي؛ لكن يف سياق يوناين فالعلم األساسي كان كما هو معروف‬
‫تابعاً للفلسفة‪ .‬وهكذا مل يكن باإلمكان ختيّل أن احلاخامني يضربون الوسط أو يعيدون تشكيله حىت‬
‫سيدمرونه‪ .‬ويف املوضع الثاين‪ ،‬فحىت لو متكنوا من‬
‫يستولوا على اهلرم‪ :‬فهم لو فعلوا ذلك لكانوا ببساطة ّ‬
‫ضرب الوسط‪ ،‬فإرثهم اليهودي مل يكن باستطاعته تقدمي بديل ومل يفعل ذلك‪ .‬كان هنالك على األقل‬
‫نظرية يهودية ضمنية حول طبيعة الشرع‪ ،‬لكن النظرية اليهودية حول طبيعة الطبيعة كانت ببساطة مذهباً‬
‫بالقراص املفاهيمي أو‬
‫توحيدياً والذي شطب املقولة بالكامل‪ .‬وهكذا كان على احلاخامني إما أن ميسكوا ّ‬
‫أن يدافعوا عنهم‪ :‬أن يوحدوا بني كتاهبم املقدس والفلسفة لتوليد الهوت مفاهيمي يندمج فيه اهلل مع‬
‫املفاهيم‪ ،‬أو أن جيعلوا كتاهبم املقدس يف مواجهة الفلسفة كي يقضوا عليها بالكامل‪ .‬ومبا أهنم مل‬
‫يستطيعوا أخذها‪ ،‬فقد رفضوها‪.‬‬
‫لكن إذا كان من الضروري أن يضيع معىن اهلرم اليوناين عن احلاخامني‪ ،‬فقد ظلت هنالك إمكانية‬
‫إنقاذ العلم األساسي الذي عند قاعدته‪ .‬ألنه إذا كانت عمليات اإلرادة اإلهلية يف مسائل الشرع سهلة‬
‫يفسر ملاذا جيب على عملياهتا يف مسائل املادة أن ال‬
‫اإلنصياع للفقه التوحيدي‪ ،‬مل يكن هنالك سبب ّ‬
‫تثبت سهولة اإلنصياع للعلم التوحيدي‪ .‬وبني تأكيد هليين على شرع طبيعي والذي أرسل اهلل يف غيبة‬
‫سببية‪ ،‬وتأكيد يهودي على إرادة اهلل واليت اختزلت السببية إىل شطحات حلاالته النفسية‪ ،‬ظلت هنالك‬
‫أرضية وسطى حم ّددة‪ :‬استطاع املرء أن يسأل على حنو معقول عن اإلله الذي كان عليه أن يش ّكل‬
‫املعول عليها‪ ،‬أي «سنة اهلل» وفق التعبري ال َفرِح يف القرآن‪ .‬وهكذا فقد استطاع‬
‫جمموعة من العادات ّ‬
‫املسلمون تبجيل إرثهم اليهودي عن طريق احملافظة على عاملهم خالياً من الشرع الطبيعي بقدر ما كان‬
‫حكمهم خالياً من الشرع املدين؛ لكنهم باملقابل مل يستطيعوا اإلفالت من تشويش إرادية شاملة عرب‬
‫حتويل طب اليونان الوثين إىل طب اإلسالم النبوي(‪.)41‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )49‬من أجل الدور الذي يعزا ألرص امشعيل [أرض امسعيل]‪ ،‬أنظر‪. Schacht, Origins, p. 349:‬‬
‫(‪ .ln 1970, pp. 184ffِM. Ullmann, Die Medizin in Islam, Leyden and K )41‬قارن مع املسيحية حيث رغم وجود‬
‫أسس كتابية فعلية لطب نبوي‪ ،‬فإن حماولة تطوير هكذا مقولة مقابل الطب العلماين حمفوظة للبدائيني واملهووسني‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫لكن احملاولة فشلت‪ ،‬وكان هذا لسببني واضحني‪ .‬فأوالً‪ ،‬مل يكن مثة أمثولة يهودية متاحة ‪ -‬وهو ماترك‬
‫على عاتق املسلمني العبء اإلضايف لواجب اخرتاعها بأنفسهم‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن الرباط بني الفلسفة والعلم األساسي‬
‫كان سيئاً‪ .‬ولو أن املسلمني استكشفوا التجريبية العنيدة للتقليد اهليبوقراطي عن طريق إزالة الزوائد التالوية‬
‫للنظرية النفسانية‪ ،‬لكانوا وجدوا أنفسهم مع كتلة جزيئات يسهل إعادة جتميعها حتت محاية درع سنّة اهلل؛ لكن‬
‫هذا الكشف مل ينجز يف إسالم القرن التاسع‪ ،‬بل يف أوروبا القرن السابع عشر‪ ،‬والعالقة بني الطب‬
‫وميتانظريته‪ ‬الفلسفية كانت بالتايل كما تدل كل الظواهر جوهرية‪ .‬وما كان يصح على الطب كان يصح من‬
‫باب أوىل على علم التنجيم‪ :‬ولو أن املسلمني مل يستطيعوا عزل هيبوقراط‪ ،‬فإن إستطاعتهم على استخالص‬
‫املعلومات التجريبية لأللواح املسمارية من التفاسري اليونانية النظرية اليت كانت تتخلّلها كانت أقل‪.‬‬
‫ألنه مل يكن باإلمكان صريورة التقليد اليوناين إبستمولوجياً‪ ،‬كان مستحيالً باملقابل تقدميه بطريقة‬
‫غري مؤذية إثنياً‪ .‬لقد أ ُْمكن بالطبع إنقاص قيمة إثنيته‪ .‬فاملفاهيم هي من طبيعة كوزموبوليتانية‪ ،‬والتاريخ‬
‫فعل الكثري كي يوضح هذا‪ :‬فبعدما ُجِّرد من شكل ُحكمه على يد املقدونيني‪ ،‬ومن آهلته على يد‬
‫اليهود‪ ،‬ومن لغته على يد املرتمجني السوريني‪ُ ،‬حّرر التقليد الفلسفي بطريقة فاعلة من منبته اليوناين مثلما‬
‫ُحِّرر الشرع النسطوري من منبته الروماين‪ .‬وكما أحلّ اجلاحظ على حنو مالئم للغرض‪ ،‬فالفلسفة اليونانية‪،‬‬
‫مل تكن رومانية وال مسيحية(‪)42‬؛ ومن املالئم إىل هذا احلد أن نرى يف البريوين خوارزمياً مسلماً يق ّدم‬
‫دفاعاً رواقياً عن الوثنية اهلندية(‪ .)43‬لكن إذا كان الواقع يقول إن املفاهيم هي فوق اخلصوصية وهو ما‬
‫يسهل عليها االنتقال‪ ،‬فهو أيضاً جيعل من الصعب عليها أن تأخذ الصبغة القومية‪ .‬وإذا كانت الفلسفة‬
‫مبدأياً «مشرتكة بني كل األمم والطوائف»(‪ ،)44‬فللسبب ذاته مل يكن هنالك ما جيعلها عربية بشكل‬
‫خاص ‪ -‬وهو ما كان املعضلة السورية القدمية(‪ .)45‬أقصى ما أمكن فعله هو حماولة تأكيد حقوق التأليف‬
‫ألحد الكتّاب ‪ -‬وهو ما كان املعضلة الكلدانية القدمية‪ .‬لكن يف حني استطاع قومي يوناين من القرن اخلامس‬
‫عشر مثل بلثون ‪ Pelthon‬القيام هبذه احلركة على أرض وطنه(‪ ،)46‬فاملسألة كانت ستحتاج إىل جهد كبري‬
‫موح إىل هذا التكتيك‪ :‬نظرية الفارايب القائلة إن‬‫لتقدمي مزاعم مماثلة من جانب العرب‪ .‬هنالك تلميح شبه ٍ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ ‬مبعىن ما وراء نظريته (مرتجم)‪.‬‬
‫(‪ )42‬أنظر كتابه الرد على النصارى يف‪. J. Finkel (ed.)., Three Essays, Cairo 1926, pp. 16f:‬‬
‫(‪. R. Walzer, Greek into Arabic Essays in Islamic Philosophy, Oxford 1962, pp. 172 - 4 )43‬‬
‫(‪ )44‬هكذا قال العامل اإلسباين من القرن الثاين عشر ابن طملوس‪ ،‬وذلك عند إشارته إىل علوم القدماء‪ ،‬أي الفلسفة‪(I. Goldziher, .‬‬
‫‪“Stellung der alten islamischen Orthrodoxie zu den antiken Wissenschaften”, Abhandlungen der‬‬
‫‪niglich preussischen Akademi der Wissenschaften, Philosophisch-historische Klasse, Jahrgang ِk‬‬
‫‪.)1915, Berlin 1916, p. 3‬‬
‫(‪ )45‬لقد كانت املعضلتان خمتلفتني بقدر ما أن العرب مل يكونوا حباجة ألمة يضفون معها الصبغة القومية‪ .‬ومثل الرومان‪ ،‬كان العرب‬
‫شعباً ذا هوية جاهلية برز سياسياً على قمة احلضارة؛ وإىل هذا احلد قبلوا رمبا بالتقليد الكوزموبوليتاين كما هو ‪ -‬مثلما فعلوا حقاً يف‬
‫تلني الصالبة احلرفية للشرع احمللي وأن تسامي عبادهتم احلرفية إىل‬
‫بغداد املأمون‪ .‬وبني العرب‪ ،‬كما بني الرومان‪ ،‬استطاعت الرواقية أن ّ‬
‫شكل رمزي‪ ،‬متاماً كما استطاع هومريوس تقدمي األمنوذج إلعادة الصياغة امللحمية للماضي الرببري (قارن اهتمام املهدي هبومريوس‪،‬‬
‫هامش ‪ 155‬ف‪ . 9‬وكون تناول الرومان والعرب للتقليد اليوناين ال ميتلك يف واقع األمر سوى أشياء قليلة مشرتكة إمنا ذلك إشارة إىل‬
‫غري فيه ظهور الوحدانية اليهودية اإلمكانيات الثقافية الكامنة لعالقة الربابرة باحلضارات‪.‬‬
‫احلد الذي ّ‬
‫(‪. Runciman, The Last Byzantine Renaissance, pp. 78ff )46‬‬

‫‪149‬‬
‫الفلسفة نشأت يف بالد مابني النهرين(‪ )49‬أدت إىل نتيجة فحواها اإلضفاء عليها مكانة أحد أنواع «فلسفة‬
‫ابراهيم»‪ .‬لكن يصعب القول إن اإلنعطافية اإلثنية للفلسفة انتهت مع حممد‪ ،‬وتكتيك االستيالء اإلثين مل حيظ‬
‫بأية فرصة للنجاح فعلية‪ .‬وإذا مل تستطع الفلسفة أن تكون عربية‪ ،‬فذاك جعلها غري حيادية إثنياً بقدر ماهي‬
‫غريبة على حنو صريح‪ .‬وهكذا ُش ِّهر بالفلسفة على اعتبار أهنا تقليد ‪ Tradition‬أجنيب إىل درجة أن أمساء‬
‫أعظم رجاهلا كانت بربرة يعسر لفظها على ألسنة املؤمنني احلقيقيني(‪)48‬؛ باملقابل‪ ،‬مل نكن نتوقع هذا الشكل‬
‫من التسامح الذي استمتع به الشعر العريب‪ ،‬رغم قَ َدريته الالدينية‪ ،‬ألنه كان عربياً (‪.)47‬‬
‫وهكذا فالرفض احلاخامي للفلسفة كان إبستمولوجياً وإثنياً يف آن‪ .‬ونتائجه ليست بعيدة عن‬
‫تقصيها حبذق يف درجات التوفيقية املختلفة اليت واجهها املسيحي فيلوبونوس من القرن‬ ‫التلمس‪ :‬ميكن ّ‬‫ّ‬
‫(‪)59‬‬
‫السادس واملسلم الكندي من القرن التاسع يف حماولتيهما إلعطاء تفسريات فلسفية للعقيدة الدينية ؛‬
‫لقاض سين من القرن الثالث عشر من أن اإلسالم‪ ،‬حبمد اهلل‪،‬‬ ‫أو ميكن حماكاهتا بسخرية فجة يف قول ٍ‬
‫ليست لديه أدىن حاجة ملنطق مهما كانت نوعيته‪ ،‬وإنه جيب ختيري الفالسفة بني اإلسالم أو‬
‫السيف(‪ .)51‬وإذا كانت تضامنية القيم اإلسالمية مل تُلغ علنياً اهللينية بطريقة عنيفة للغاية‪ ،‬فإن أعداءها‬
‫على مستوى املبدأ قاموا مبحاولة عنيفة لقتل الفيزيك وامليتافيزيك بإعادة التقليد اليوناين ذاته‪ :‬ذرات‬
‫دميوقريطس هي على وجه التحديد رمال على شاطئ البحر األمحر يف مذهب التصادفية اإلسالمي(‪.)52‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Walzer, L’Eveil de la Philosophie islamique, p. 19 )49‬‬
‫(‪ .Goldziher, Muslim Studies, vol. i, p. 1970; id., “Stellung”, pp. 5, 17, 40f )48‬قارن أيضاً‪ :‬النربة الدفاعية يف رسالة‬
‫الكندي إىل املعتصم‪« :‬جيب أن ال خنجل من استحسان احلقيقة‪ ،‬وال من االستيالء على احلقيقة‪ ،‬من أي مصدر جاءت‪ ،‬حىت ولو كانت من‬
‫أمم وأعراق نائية وغريبة عنّا» (ورد النص يف كتاب‪A. J. Araberry, Revelation and Reason in Islam, London 1957, pp. :‬‬
‫‪.)34f‬‬
‫(‪ )47‬قارن‪Goldziher, Muslim Studies, vol. i, p. 56. and H. Ringgren, Studies in Arabian Fatalism, :‬‬
‫‪ . Uppsala 1955‬وهذا رغم العدائية القرآنية الصرحية للشعراء (‪ .) 224:26‬إن مسحة العدائية لتقليد شبه اجلزيرة العربية الوثين‬
‫تبدو يف اإلسالم هامشية مثلها مثل مسحة العدائية لتقليد اليونان الوثين يف املسيحية‪.‬‬
‫اجملرد؟» وذلك مقابل«من كان فيلوبونوس حىت يثرثر يف‬ ‫(‪« )59‬ومن كان الكندي حىت يندفع إىل مساعدة اهلل بوسائل من العقل البشري ّ‬
‫أعقاب الفالسفة العظماء؟»‪( .‬قارن‪.)Walzer, Greek into Arabic, pp. 191f :‬‬
‫(‪ . Goldziher, Muslim Studies, p. 35 - 9 )51‬قارن الشخصية غري الواثقة لدفاع الغزايل عن استخدام املنطق يف العلوم الدينية‬
‫)‪.(ibid, pp. 29 - 33‬‬
‫(‪ )52‬من أجل هذا احللف غري املقدس اهلادف إىل تدمري مقولة السببية السماوية واليت أعطت الكون اهلليين النظام واجلمال‪ ،‬أنظر‪M. :‬‬
‫‪. es and Aquinas, London 1958, chpter I fِFakhry, Islamic Occasionalism and its Critique by Averr‬‬
‫قارن مع سطور وليم بليك التالية‪:‬‬
‫ذرات ديموقريطس‬
‫ّ‬
‫وأجزاء ضوء نيوتن‬
‫والرمال على شاطئ البحر األحمر‬
‫حيث تشع خيام إسرائيل بلمعان شديد‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫رمبا أن فكرة فلسفة مسيحية تعترب عويصة بنتيجة مفيدة؛ لكن انطباع فلسفة إسالمية‪ ،‬كما الحظ‬
‫احلاخامون يف القرن التاسع عشر حبق‪ ،‬هو تناقض يف املفاهيم(‪ .)53‬على هذه األرضية احملبطة من العدائية‬
‫الدينية املتواصلة‪ ،‬كان تاريخ الفلسفة اإلسالمية طويالً وليس غري مؤثر‪ .‬لكن إذا كان تآكل مكانتها‬
‫بطيئاً‪ ،‬فقد كان ايضاً ال هوادة فيه‪ .‬لقد اختزلت علوم القدماء على حنو مضطرد إىل نوع من البورنوغرافية‬
‫الفكرية‪ ،‬والنخبة ثاقفت تلك العلوم إىل ثقافة‪ -‬فرعية مضنية وسيئة السمعة(‪ .)54‬رمبا مل جيد هاسدربال‬
‫القرطاجي اهلليين مكاناً للفلسفة يف موطنه‪ ،‬لكنه استطاع على األقل تركها لإلحرتام األكادميي يف أثينا‬
‫(‪ )55‬؛ لكن حني وجد حي بن يقظان نفسه على حنو مشابه يف غري موضعه يف اإلسالم‪ ،‬مل يكن أمامه‬
‫سوى العودة إىل جزيرته الصحراوية(‪.)56‬‬
‫وهكذا كان قدرا الشرع الروماين والفلسفة اليونانية يف هناية األمر متساوقني‪ .‬ففي حالة الشرع فقد‬
‫أُزيل بنجاح الشكل املفاهيمي‪ ،‬وهكذا حبيث أُمكن إعادة حتزمي كتلة التفاصيل عدمية الشكل باعتبارها‬
‫نتاجات حملية عرب نَسبِها إىل النيب أو إىل ماض قبائلي معياري؛ أما يف حالة الفلسفة فقد رفضت املفاهيم‬
‫االستمرار‪ ،‬مع نتيجة تقول إن اهلرم برمته فشل يف تبديل هويته الثقافية يف االنتقال واحتفظ ببصمة أصله‬
‫عن طريق السمة التشخيصية‪ .‬فقد أدينت فلسفة األنتيك باعتبارها فلسفة‪ ،‬متاماً كما أدين شرعه باعتباره‬
‫قانوناً؛ لكن بعكس الشرع األساسي‪ ،‬مل حيرز الطب األساسي أي تكريس قط‪ .‬وهكذا فقد فَـ َقد الشرع‬
‫الروماين طبيعته‪ ،‬يف حني فشلت الفلسفة يف التطبيع؛ لكن قدري الطريقني كانا عدم السعادة‪.‬‬
‫لقد كانت ثقافة الشعوبيني يف ديوان وزير اخلليفة فارسية على حنو غامر‪ ،‬وإن مل يكن حصرياً‪.‬‬
‫وكانت قيمتهم املركزية أمثولة سياسية واليت نستطيع تقدميها من جديد على شكل هرم‪ :‬فكرة ساللة‬
‫ملكية على القمة‪ ،‬منظومة جمتمع ارستقراطية يف الوسط‪ ،‬وعلم فن حكم يف القاعدة‪ .‬وهنا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ال‬
‫نتعامل إال بشكل قليل نسبياً مع املفاهيم اجملردة والكوزموبوليتانية‪ :‬النظام الفارسي للمجتمع َمثفل تقليداً‬

‫الكالم‪(S. Pines, Beitr‬ن ‪ge zur islamischen‬‬ ‫وإذا ما قبل املرء من ناحية أخرى بالرباهني على أصل هندي لذرات‬
‫‪) Atomenlehre, Berlin 1936, pp. 102 - 22‬فإن ال قداسة احللف تبقى على حاهلا‪ :‬ففي اهلند كما يف اليونان‪ ،‬فإن هدف‬
‫الذرات هو توليد كون يعمل دون هداية ما فوق طبيعية‪.‬‬
‫(‪.S. Mardina, The Genesis of Young Ottoman Thonght, Princeton, N.J. 1962, p. 238 )53‬‬
‫(‪ )54‬قارن املعىن املتب ّدل للسرانية الفلسفية‪ :‬فما كان عليه أن ميثل يف األنتيك هبوط خنبة فكرية معتمدة اجتماعياً بذاهتا اىل مستوى‬
‫القدرات احملدودة للنفوس األكثر بساطة يصبح يف اإلسالم شيئاً يكاد يتاخم حدود جنون االضطهاد (قارن النغمة املناصرة املعتدلة‬
‫شرح يف عمل و‪ .‬جيغر ‪W. Jaeger, Early Christianity and Greek Paideia,‬‬ ‫ملصطلح ‪[ simpliciores‬بسطاء] كما يُ ْ‬
‫‪ ،Cambridge, Mass 1962, pp. 129 - 31‬مع اخلوف من العامّة الذي يتخلل الثقافة والذي يوصف يف عمل ن‪.‬ر‪ .‬كدي‪N. .‬‬
‫‪. )R. Keddie, “Symbol and Sincerity in Islam”, Studia Islamica 1963‬‬
‫(‪. B.H.Warmington,Carthage,London 1969,p.152 )55‬‬
‫(‪( )56‬قصة ابن طفيل) ‪. Encyclopaedia of Islam, s.n‬‬

‫‪147‬‬
‫حاضرياً مرتبطاً حبميمية قوية مع إثنيته ومنبته الديين حبيث كان حباجة ماسة إىل إفصاح نظري‪ .‬مل يكن‬
‫الرباط بالطبع خالياً من النزاعات‪ :‬فكما كان مزدك الفارسي قادراً على رفض النظام االجتماعي اإليراين‬
‫باسم زرادشت‪ ،‬كذلك أيضاً كان املسيحيون اآلراميون قادرين على القبول به باسم املسيح‪ .‬مل يكن‬
‫باستطاعة النساطرة أن يعملوا للتقليد اإليراين ما عملوه مع الرومان؛ لكن التقليد الذي واجهه العرب يف‬
‫العراق كان قادراً مبدأياً على األقل على أن يفقد قدسيته وإثنيته‪ .‬إذاً‪ ،‬فقد كان من املمكن مبدأياً بالنسبة‬
‫للغزاة الربابرة أن يقبلوا باإلرث اإليراين على أساس أنه كان ميثّل حضارة ليست متنافرة مع اإلسالم‪ ،‬مع‬
‫أهنا غري إسالمية جوهرياً‪ .‬أما عملياً‪ ،‬فإن الصهر اهلاجري للحقيقة واهلوية كان يعين أن الثقافة الفارسية‬
‫سرتفَض على أساس أهنا مل تكن عربية‪ ،‬متاماً مثلما أن املاضي العريب كان سيق ّدس حىت لو‬ ‫كانت ُ‬
‫وضحت ال إسالميته‪.‬‬
‫ردة فعل املسلمني من غري العرب أخذت شكل سلسلة يائسة من احملاوالت لتحرير اإلسالم من‬
‫غشائه العريب‪ .‬وحركة اخلوارج كانت واحدة من أقدم الوسائل الدينية املستخدمة يف هذا السبيل؛ لكن مع‬
‫أنه أُمكن استخدام حركة اخلوارج إلزالة القداسة عن اإلثنية العربية‪ ،‬فهي مل تكن وسيلة مناسبة لتكريس‬
‫احلضارة ‪ .‬وهكذا فسحت اجملال أمام الزندقة‪ ،‬وهي مانوية إسالمية حاولت إزالة القداسة عن ّ‬
‫(‪)59‬‬
‫كل من‬
‫اإلثنيتني الفارسية والعربية كي تضم ثقافة األوىل إىل ديانة الثانية؛ لكن بقدر ما كانت املانوية معادية‬
‫حتول وشل‬‫شكالنياً لكل من املادة والتوحيد‪ ،‬كانت فرصها للنجاح يف هذه املغامرة ضعيفة‪ .‬وهكذا حاملا ّ‬
‫معتنقي املذهب إىل فيضان‪ ،‬أفسحت املانوية الطريق بدورها أمام الشعوبية‪ ،‬وهي حركة من املسلمني من‬
‫غري العرب كانوا ينشدون إضفاء الشرعية علىحضارهتم بالربهان على أن اإلسالم منذ البداية كان غري‬
‫عريب(‪ )58‬وذلك دون االستعانة باهلرطقات‪.‬وهكذا فقد ولّد الضغط املتسق لإلسالم العريب على احلضارة‬
‫غري العربية رجاالً اشرتكوا يف االسرتاتيجية الثقافية ذاهتا رغم تنوع تكتيكاهتم الدينية‪ .‬فلدينا اخلارجي أبو‬
‫كرس نفسه نظامياً ألمثولة تطهريية لسلطة سياسية وذلك كي يدافع عن أمثولة فارسية‬ ‫عبيدة‪ ،‬الذي ّ‬
‫لسلطة تاجية(‪ )57‬؛ املانوي ابن املقفع‪ ،‬وهو نبيل إيراين كانت احلضارة بالنسبة له أنتيكاً كبرياً(‪ ،)69‬والذي‬
‫وحيول لغتهم إىل‬
‫فيدرسهم آداب املائدة‪ّ ،‬‬ ‫حراسها‪ّ ،‬‬‫شرع كموىل للعرب يف تعليم سادته الربابرة أن يكونوا ّ‬
‫أداة مسفسطة لتعبري أديب‪ ،‬ويتطوع من أجل برنامج لتحويل ديانتهم إىل عقيدةٍ إمرباطور ٍية مطواعة(‪،)61‬‬
‫ليواجه موته حتت التعذيب وهو يف سن السادسة والثالثني ليس إال(‪)62‬؛ أو الشعوبيون عموماً الذين‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )59‬أنظر‪،‬هامش ‪ 5‬ف ‪13‬‬
‫توجه إىل احلمر والسود من البشر‪ ،‬وهكذا فقد كان غري العرب نصف اإلسالم منذ البداية األوىل (ابن عبد اربه‪،‬‬
‫(‪ )58‬من ذلك أن النيب ّ‬
‫كتاب العقد‪ 496:3 ،‬وما بعد)‪.‬‬
‫‪H. A. R. Gibb, “The Social Significance of the Shuubiya” in his Studies in the‬‬ ‫(‪ )57‬من أجل خوارجيته‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪ Civilization of Islam, London 1962, pp. 67ff‬؛ من أجل عمله كتاب التاج‪ ،‬قارن اهلامش ‪ 32‬يف هذا الفصل‪.‬‬
‫(‪ )69‬كل شيء هام قيل يف أعمال األجيال السابقة‪.)(Goitein, Studies in Islamic History and Instituations, p. 152:‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 152ff )61‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, s.n )62‬‬

‫‪159‬‬
‫أشاروا بيأس‪ ،‬وقد حصرهتم يف الزاوية ديانة عنيدة‪ ،‬إىل أن كل احلضارات‪ ،‬باهلل عليك‪ ،‬كانت غري عربية‪،‬‬
‫فسواء الفراعنة‪ ،‬النماردة‪ ،‬القياصرة‪ ،‬أو الشاهنشاهيون‪ ،‬الشعراء‪ ،‬الفالسفة أو األنبياء قبل حممد‪ ،‬كل‬
‫هؤالء أجنبهم غري العرب يف سياق بناء حضارات اجلنس البشري يف حني كان العرب يأكلون السحايل يف‬
‫صحرائهم(‪ .)63‬وسواء اختذنا موقفنا بناء على تقوى أيب عبيدة اخلوارجية‪ ،‬وجاهة ابن املقفع األرستقراطية‪،‬‬
‫أو سخريات الكورس الشعويب وتفاخره وهتكمه وشتائمه‪ ،‬فجوهر الرسالة كان ذاته‪ :‬اإلسالم ديانة لكل‬
‫األمم(‪ .)64‬وحده الدمج اهلاجري للمعىن الديين بالقوة العنيفة للغزوات حكم على هذه احملاولة العمالقة‬
‫بالفشل‪ :‬ولو توقف اإلسالم عن كونه ديانة عربية بالكامل‪ ،‬فإن شدة املشاعر الشعوبية بالذات‪ ،‬التواصل‬
‫الطويل لنضاهلم‪ ،‬والدالالت السيئة ملصطلح شعوبية يف االزمنة احلديثة‪ ،‬كل ذلك يظهر بوضوح كاف أن‬
‫الشعوبيني مل يكونوا أبطال اإلسالم بل ضحاياه(‪.)65‬‬
‫لذلك مل يكن كافياً أن ال تتنافر الثقافة الفارسية مع اإلسالم‪ :‬كان جيب أن ُجتعل إسالمية جوهرياً‪.‬‬
‫ومبا أن هذا كان عمالً عظيماً ال يستطيع إجنازه سوى احلكمة السرانية للكهنة‪ ،‬والذي فشل العباسيون‬
‫يف الواقع يف إمتامه‪ ،‬فإن ما بقي من قدر التقليد الفارسي تُرك يف أيدي احلاخامني‪ .‬كان التقليد مريباً‬
‫بالنسبة للحاخامني بناء على حسبتني‪ .‬ففي املوضع األول مل يستطع قط أن يصبح عربياً جوهرياً‪ ،‬مع‬
‫ذلك فهذه السمة األجنبية مت تالفيها إىل حد ما حبقيقة أن الفرس صاروا يف الوقت املناسب مسلمني؛‬
‫وهكذا فقدت البقية اإلثنية للرتكة الفارسية الكثري من الوصمة اليت احتفظت هبا تركة اليونانيني‪ .‬وصار‬
‫ممكناً إىل حد ما اإلقرار باألصل الفارسي ملواضيع ثانوية يف احلضارة اإلسالمية(‪ .)66‬أما يف املوضع الثاين‬
‫فالرتكة الفارسية كانت متنافرة‪ ،‬رمبا ليس مع اإلسالم حبد ذاته‪ ،‬بل حتماً مع اإلسالم يف شكله‬
‫احلاخامي‪ .‬فالصنو احلاخامي للهرم الفارسي مل يستطع أن يتش ّكل إال من اهلل‪ ،‬طبقة علمانية غري‬
‫متناسقة‪ ،‬وشريعة موحاة‪ .‬وهكذا فقد اغتصب ملك امللوك موضع اإلله اإلسالمي؛ ورغم أن الكهنة‬
‫تبين جوهر التقليد امللكي دون امسه وذلك على أساس أنه إسالمي جوهرياً‪ ،‬فاحلاخامون مل‬ ‫استطاعوا ّ‬
‫يستطيعوا سوى رفضه باعتباره كافراً أساساً(‪ .)69‬على حنو مشابه مل تكن مثة طريق ميكن جلب احلاخامني‬
‫عربها للقبول بنظام أرستقراطي للمجتمع والذي كان يهدد العالقة املباشرة بني اهلل واملؤمن الفرد؛ واالطبقة‬
‫األرستقراطية الوحيدة اليت استطاع احلاخامون إضفاء الصبغة الشرعية عليها كانت منحدرة من النيب‬
‫العريب‪ .‬أخرياً مل تكن مثة أمثولة واليت باستطاعة احلاخامني إقحامها إلنقاذ قاعدة اهلرم‪ :‬كطبقة نبيلة دينية‬
‫صرفة فإن املنحدرين من النيب استطاعوا أن يصبحوا حاملني ألصول حكم فارسي مسحوق لكن ليس‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )63‬ابن عبد ربه‪ ،‬كتاب العقد‪ 494:3 ،‬وما بعد‪.‬‬
‫(‪ )64‬من أجل تقدمي زاخر باحليوية ملزاعم الشعوبيني‪ ،‬أنظر‪. Goldziher, Muslim Studies, vol.i, chpter 3-5:‬‬
‫(‪ )65‬أو لنأخذ صورة من ذلك الزمن‪ ،‬فالقوى املقنعة للناس الذين « ُجّروا إىل اجلنة يف سالسل» كانت بالضرورة حمدودة (خباري‪،‬‬
‫صحيح‪259:2 ،‬؛ ابن عبد ربه‪ ،‬كتاب العقد‪.)412:3 ،‬‬
‫(‪ )66‬مثال شهري هو الديوان‪.‬‬
‫(‪ )69‬أنظر اهلامش ‪ 49‬من الفصل الثاين عشر‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫بأكثر مما استطاع شرع ديين صرف أن حيتوي حطام امرباطورية متشظية‪ .‬والنتيجة كانت بالتايل تنويعة‬
‫جيرد من طبيعته ومل يُطَبّع(‪.)68‬‬
‫ودق‪ ،‬لكنه مل ّ‬
‫برمته واستمر‪ ،‬ضرب ّ‬
‫على إرث اليونان‪ :‬لقد دخل اهلرم ّ‬
‫ينشأ اإلختالف عن احلقيقة القائلة إنه يف حني استطاعت الفلسفة أن تتدبر وجوداً دقيقاً تقريباً بني‬
‫احلاخامني املسلمني واملماليك األتراك طاملا كان هنالك منشقون مسلمون‪ ،‬فالدرجة املنخفضة لإلفصاح‬
‫النظري املميز للفكرة األرستقراطية كانت تعين إهنا قلما استطاعت اإلبقاء على االختفاء املادي للبيوتات‬
‫األرستقراطية‪ .‬لقد فقد دادويا املبارك مكانته األرستقراطية ليصبح جمرد أداة مالية استطاع احلجاج شلّها‬
‫حبرية؛ أما ابن املشلول‪ ،‬ابن املقفع‪ ،‬فقد ظل بإمكانه تعزيز أمثوالته األرستقراطية كحاجب جمرد والذي‬
‫حبرية‪ .‬لكن حفيد املشلول‪ ،‬الذي عاش دون أذية ليموت موتاً طبيعياً‪ ،‬مل يرتك‬ ‫استطاع اخلليفة إعدامه ّ‬
‫عزى نفسه عوضاً عن ذلك باحلقائق األبدية‬ ‫خلفه ورثة أرستقراطيني وال أمثوالت أرستقراطية‪ :‬لقد ّ‬
‫للفلسفة اليونانية اليت كان يرتمجها للبالط العباسي(‪ .)67‬من هنا‪ ،‬ففي حني كان على احلاخامني أن يشنوا‬
‫حرباً على الفلسفة اليونانية ال هناية هلا‪ ،‬وإن كان واضحاً أهنا راحبة‪ ،‬فقد اخنسف وسط اهلرم اإليراين‬
‫ببساطة وإىل األبد‪ .‬ودون أن يكون عندهم َو َسط لتقدمي األمثولة‪ ،‬مل يستطع احلاخامون إزالة طبيعية‬
‫أصول احلكم اإليرانية والتطبيعها كما فعلوا مع الشرع الروماين؛ لكن باملقابل‪ ،‬فدون وسطه احلاسم‪،‬‬
‫أُمكن على األقل التساهل مع اهلرم اإليراين بينما مل يكن ذلك ممكناً مع اليوناين‪ .‬وهكذا فنحن لدينا‬
‫بقايا ملنظومة جمتمع إيراين وذلك يف إعادة صياغتها السنّية على أهنا اهلل‪ ،‬امللوك وأصول احلكم‪ ،‬واليت‬
‫تتواجد ببساطة مع املنظومة السنية القائم على اهلل‪ ،‬الطبقة العلمانية والشرع املق ّدس‪ ،‬دون إضفاء الصبغة‬
‫أي منهما أو مقاومتها إىل درجة كبرية‪ .‬لقد ُكسرت الشرعية الساللية للملوك الفرس عرب‬ ‫التشريعية على ّ‬
‫إله عنيد وذلك لتقدمي سياسة تصادفية(‪ ،)99‬واستطاع امللوك احلفاظ على شرعية أدواتية معينة‪ ،‬متاماً مثلما‬
‫استطاع علمهم أن يستمر باعتباره ترسانة دنسة ألصول احلكم‪.‬‬
‫بقدر ما ميكن تعريف احلضارة اإلسالمية على أهنا ذلك الذي بقي بعد طحن األنتيك عرب الطاحونة‬
‫هامان لالختزال العام لبدائل السحق أو الرفض‪ .‬فقد ُو ِضع‬ ‫احلاخامية‪ ،‬أُمكن أن يكون هنالك استثناءان ّ‬
‫التصوف والفن بالكامل تقريباً خارج جمال التعريف احلاخامي‪ ،‬وبذلك أمكن لكليهما أن يُرتك كي يتطور‬
‫دون أن يتعكر نسبياً بالصراع بني الكهنة العباسيني واحلاخامني البابليني‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )68‬نواة الفوضى» من وجهة نظر احلاخامني (قارن‪.)Gibb, Studies on the Civilization of Islam, p. 72 :‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, art. “Ibn al-Muqaffa’” )67‬‬
‫(‪ )99‬املرايا اإلسالمية لألمراء واملصادر املشاهبة مطلعة على فر‪-‬ي يزدي‪ ،‬لكنها تظهر أيضاً العوز املكشوف ألي بعد تارخيي يف مثل‬
‫ذلك اإلرث الذي يطالبون به للملوك‪ :‬التأكيد على اختيار إهلي اعتباطي ودون وسيط تارخيي وذلك باعتباره العامل احلاسم يف مسألة‬
‫من حيكم كان إىل حد كبري أكثر مناسبة إليران اإلسالمية مهما كان سيبدو عليه يف إيران الساسانية أو أوروبا العصور الوسطى (من‬
‫أجل شواهد من أمنوذج «اهلل خيتار واحداً من الشعب»‪« ،‬إنه يعطيها [امللَكية] ملن يشاء»‪ ،‬أنظر مثالً‪A. K. S. Lambton, :‬‬
‫َ‬
‫‪“The Theroy of Kingship in the Nasihat ul-Muluk of Gazali’, The Islamic Quarterly 1954, pp. 49,‬‬
‫‪.)52‬‬

‫‪152‬‬
‫كانت الصوفية بالطبع مريبة بالنسبة للحاخامني بقدر ما كان عرفها موجهاً لتجسري اهلوة بني‬
‫اإلنسان واهلل؛ كما كانت لعنة بالنسبة هلم بقدر ما أن نظريتها استبدلت سر املسيحية املبتور بأحدية‬
‫اهلند املستوردة(‪ .)91‬لكن أوالً‪ ،‬فرغم أن املقاربتني الصوفية والتشريعية إىل اهلل متنافستان كونياً‪ ،‬فقد مالتا‬
‫ألن تكونا متكاملتني وليس حصريتني تبادلياً؛ وما دام الصوفيون ممسكني عن االزدهاء العلين بأحدية غري‬
‫متحفظة‪ ،‬كان احلاخامون املسلمون قادرين ببساطة على التعايش معهم بطريقة نظرائهم اليهود‪ .‬ثانياً‪،‬‬
‫صار املتنافسون كمونياً حباجة إىل بعضهم يف اإلسالم‪ .‬ولو أن املسلمني عاشوا تقواهم التشريعية يف غيتو‬
‫يظل التعايش صعباً كما كان يف أيام أيب يزيد البسطامي أو‬ ‫ابستمولوجي‪ ،‬لكان من املمكن متاماً أن ّ‬
‫احلالج السيء السمعة‪ .‬لكن صدف وأن ُهدِّد احلاخامون بالشرائع واملقوالت املوضوعية للفلسفة اليونانية‬
‫إىل درجة أنه كان عليهم هم أنفسهم أن يستخدموا مفاهيم موضوعية للدفاع عن اإلرادة الشخصية‬
‫إلهلهم؛ ومبا أن املفاهيم دفعت باإلله يف منطقة متطرفة من العامل اآلخر دون تأسيس لشرائع قياسية من‬
‫هذا العامل‪ ،‬فقد كانت املطاردة الصوفية لوجه اهلل وليس الدراسة التجريبية ألفعاله هي اليت أوحت بذاهتا‬
‫تستدر الصوفية ومضامينها رفضاً حاخامياً آلياً‪ .‬لكن‬‫ّ‬ ‫مكمالً للقراءة التقوية لكلماته‪ .‬لذلك مل‬
‫باعتبارها ّ‬
‫باملقابل‪ ،‬ألن الصوفية تطورت خارج جمال التعريف احلاخامي‪ ،‬فهي مل تكن حباجة ألن تلجأ إىل السحق‬
‫املنظومايت ذاته للعناصر اليت دخلت فيها‪ .‬فالصوفيون مل يذهبوا بعيداً حبيث يق ّدموا إقراراً ال إعاقة فيه‬
‫حول اعتمادهم على مصادر أجنبية وذلك بطريقة «الفالسفة املسيحيني» يف العراق النسطوري؛ ومقابل‬
‫ذلك رموا ببعض استعاراهتم داخل شبه جزيرة العرب(‪ .)92‬لكن الصوفية إمجاالً متثّل حالة توفيقية إسالمية‬
‫أصيلة‪.‬‬
‫الفن‪ ،‬بعكس الصوفية‪ ،‬كان جمرد ممارسة فهو من ناحية توقف عن امتالك اية عالقة عضوية مع‬
‫هم الفالسفة وليس الفنانني‪ .‬ومن ناحية أخرى مل‬ ‫النظرية‪ :‬مفاهيم اجلمال اليونانية كانت منذ زمن طويل ّ‬
‫تكن للفن عالقة إجيابية مع اإلله اليهودي‪ :‬احملتوى اجلمايل للمذهب التوحيدي اختُزل إىل حترمي الصور‬
‫احملفورة‪ .‬وهكذا فبعدما مارس األمويون اجتهادهم الكهنويت يف هذه املسألة عن طريق ملء قصورهم‬
‫الصيفية‪ ،‬وقبة الصخرة أيضاً‪ ،‬بثروة من الصور اجلميلة جداً‪ ،‬تدخل احلاخامون يف الواقع لسحق الفن عن‬
‫طريق فرض التحرمي الوحداين؛ واىل هذا احلد فإن تلفيفة زينة البناء اليونانية املختزلة إىل اآلرابيسك هي‬
‫املعادل الدقيق للشرع الروماين املختزل إىل التقاليد النبوية‪ .‬لكن خارج هذه املسألة املناظرة غري قابلة‬
‫للتطبيق‪ :‬حترمي الصور احملفورة مل يكن أمثولة لفن نبوي؛ وما أن فُ ِرض على الفنانني‪ ،‬مل يعد جمال الفن‬
‫يهم احلاخامني بأكثر مما كان يه ّددهم‪ .‬وهكذا فقد ظل الفن يف اإلسالم حرفة جمردة‪ ،‬إنه عمل‬
‫املعماريني‪ ،‬مهندسي الديكور واملزخرفني‪ .‬وألنه ال توجد نظرية إسالمية حول الفن‪ ،‬ال يوجد أصول‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. R. C. Zaehner, Hindu and Muslim, London 1960 )91‬‬
‫(‪ )92‬قارن مع أهل الصفة‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫لألرابيسك‪ ،‬فال األرابيسك وال أشكال الفنون األخرى كان من الواجب إعادة توضيبها باعتبارها‬
‫نتاجات غربية حملية(‪ .)93‬تبعاً لذلك مل يكن هنالك ما مينع هتجيناً ألشكال فنية غريبة‪ ،‬مثلما أنه مل يكن‬
‫هنالك ما مينع هتجيناً لنباتات غريبة‪ ،‬يف العامل اإلسالمي؛ وإىل هذا احلد‪ ،‬جنا الفن‪ ،‬كالصوفية‪ ،‬بالبدائل‬
‫من السحق أو الرفض‪.‬‬

‫تظل هي ذاهتا‪ :‬اإلسالم مل يستطع التطبيع إال عرب إزالة‬


‫مع ذلك فالقوة السلبية لكل هذه احلاالت ّ‬
‫يقروا إال مبصدر شرعي أوحد‬ ‫الصبغة الطبيعية‪ .‬وسواء أقُبلت اآلهلة الغريبة أم رفضت‪ ،‬فاملسلمون مل ّ‬
‫ألمثوال هتم الثقافية والدينية‪ :‬شبه جزيرة عرب نبيهم‪ .‬وبالنسبة للربابرة الذين غزوا أقدم مراكز احلضارة‬
‫البشرية وأكثرها إجالالً‪ ،‬كان هذا جولة قوة ال مثيل هلا يف التاريخ؛ لكن على هذا األساس مل يستطع‬
‫قدر احلضارة يف اإلسالم سوى أن يكون قدراً تعيساً إىل درجة استثنائية‪ .‬ويف احملاولة األخرية فقد كان‬
‫املتطرف للسوريني من ناحية‬
‫دمج املعىن اليهودي مع قوة الغزو العريب من ناحية‪ ،‬واالغرتاب الثقايف ّ‬
‫أخرى‪ ،‬هو الذي ح ّدد ملاذا وأية حضارة إسالمية كان جيب أن تكون‪ .‬وبعكس القوط اآلريوسيني‪ ،‬مل‬
‫يكن مقدراً للهاجريني أن خيتفوا يف الثقافة اليت غزوها‪ .‬مع ذلك فهم مل يستطيعوا كغزاة أن يدعموا‬
‫الشخصية العينية «حلياهتم املنعزلة» سواء يف الصحراء أم يف الغيتو‪ .‬وكانت احلصيلة حضارة جديدة‪ .‬لكن‬
‫كما أن اآلريوسية القوطية مل تكن كافية‪ ،‬كذلك متاماً فاهلاجرية كانت كثرية جداً‪ .‬اهلاجرية بُنيت كي‬
‫تتحاشى الثقافة الكنعانية اليت غزهتا؛ وهذا التحاشي الذي أفاد مبدأياً يف منع امتصاص اهلاجرية يف‬
‫احلضارة ظل معيقاً المتصاص احلضارة يف اهلاجرية‪ .‬باملقابل‪ ،‬فكما كان العراق التعددي كثرياً جداً‪،‬‬
‫كذلك متاماً كانت سوريا النذورية أيضاً قليلة جداً‪ .‬فالسوريون أبعدوا أنفسهم عن احلضارة الكنعانية اليت‬
‫استوطنوها؛ وهذا البعد الذي أفاد مبدأياً يف منع امتصاص السوريني ضمن اهللينية مضى كي يدعم‬
‫تصلّب اهلاجرية‪.‬‬
‫ذات مرة أغوت إحدى عاهرات املعبد أنكيدو كي يرتك بريته من أجل احلضارة؛ وكانت حضارة‬
‫سومر تستحق ذلك‪ ،‬رغم كل ما تكلّفه‪ .‬وإىل ذلك احلد كان صحيحاً ومناسباً أن خروج نبونيدوس إىل‬
‫يثرب كان يف أحسن األحوال خصوصية ثقافية(‪ ، )94‬ولو أن مروان الثاين أمضى وقته يف حران يف دراسة‬
‫احلكمة القدمية فإن ذلك سيبدو نتيجة طبيعية مناسبة‪ .‬مع حلول القرن السابع بعد املسيح عُّريت املعابد‬
‫من عاهراهتا‪ :‬كانت الوحدانية هي اليت أغوت العرب على ترك ّبريتهم‪ ،‬كما أ ن حضارة سوريا فقدت‬
‫قوهتا على اإلغواء‪ .‬عوضاً عن ذلك تقاطع خروج العرب من الصحراء باسم يهودية مهوجرة مع احملاولة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪O. Grabar, The Formation‬‬ ‫(‪ )93‬وحدهم العلماء األوربيون حاولوا أن جيدوا أصول الفن اإلسالمي يف شبه جزيرة العرب‪( .‬قارن‪:‬‬
‫‪.)of Islamic Art, New Haven Conn. 1973, p. 80‬‬
‫(‪ )94‬من أجل خروج نبونيدوس من قريته الظاملة؛ قارن‪C. J. Gadd, “The Harran Inscription Nabonidus, Anatolian :‬‬
‫‪Studies 1958, pp. 57ff.‬‬

‫‪154‬‬
‫السورية السرتداد خروج يف يهودية أممية‪ .‬والنتيجة كانت حضارة؛ لكنها كانت حضارة منتابة بالغيتو‬
‫ماض مفقود‪ .‬لكن‬ ‫والصحراء‪.‬وبقدر ما كان العرب منتابني بالغيتو‪ ،‬كانوا‪ ،‬كاليهود والوثنيني‪ ،‬نادبني على ٍ‬
‫يف حني بكى اليهود على صهيوهنم والوثنيون على أرض كلداهنم‪ ،‬كان العرب عند مياه بابل يندبون على‬
‫ّبرية‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪99‬‬
‫قدر األنتيك‬
‫‪III‬‬
‫تصلّب الحضارة اإلسالمية‬

‫كانت احلضارة اإلسالمية يف اهلالل اخلصيب نتاج التفاعل بني الغزاة واملغزوين‪ .‬باملقابل‪ ،‬ففي غري‬
‫هذا املكان‪ ،‬كانت احلضارة اجلديدة حبد ذاهتا حضارة أحد أطراف التفاعل‪ .‬والصفقات اليت وقعها‬
‫السوريون والعراقيون مع ديانة متصلبة خلقت حضارة واليت كانت مبعيار ما نتاج احتياجاهتم الثقافة‬
‫اخلاصة‪ .‬لكن كان على الباقني أن يصلوا إىل تفاهم‪ ،‬ليس فقط مع ديانة متصلبة‪ ،‬بل أيضاً مع حضارة‬
‫متصلبة مل يلعبوا أي دور يف تشكيلها‪ .‬ويف هذه الظروف اخلشنة‪ ،‬من املفهوم أهنم سامهوا أقل وعانوا‬
‫أكثر‪.‬‬
‫أكثر األمثلة درامية على احلالة األخرية هو قَ َدر التقليد اإليراين يف وطنه اإلثين‪ .‬لقد كانت إيران كل‬
‫شيء مل تكنه سوريا‪ ،‬وال حيتاج األمر إال إىل القليل من التخيّل حىت نفهم أن ما كان نعمة يف ثوب نقمة‬
‫بالنسبة لطرف كان مصيبة غري ُم َقنّعة بالنسبة للطرف اآلخر‪ .‬ففي حني كانت سوريا إقليماً‪ ،‬كانت إيران‬
‫إمرباطورية؛ ويف حني كانت سوريا تفتقد اهلوية إىل درجة أهنا احتاجت إىل الغزاة القبائليني‪ ،‬كان لدى‬
‫إيران هوية منصهرة مع حقيقة وذلك يف جتربة مقاومة الغزو القبائلي؛ ويف حني استطاع السوريون أن‬
‫يتصورا طوران العائدة مع إله غريب؛‬
‫يصلوا إىل أن يروا العرب كمخلّصني‪ ،‬مل يستطع اإليرانيون سوى أن ّ‬
‫ويف حني استطاع السوريون إعادة بناء ركام أحجار بنائهم على شكل صرح عريب‪ ،‬كان الصرح اإليراين‬
‫قد قُ ّد من صخرة مفردة واليت مل يكن باإلمكان غري أخذها أو تركها‪ .‬واملسلمون بالطبع مل يستطيعوا‬
‫أخذها وال تركها؛ لكنهم كما فشلوا يف اختزال قصر خسرو إىل أحجار بناء من أجل مبىن إسالمي‬
‫معصوم(‪ ،)1‬كذلك متاماً فقد فشلوا أيضاً يف اختزال فارس إىل بلد إسالمي معصوم‪.‬‬
‫ميكن لنا أن ندلّل على عظم الكارثة اليت ضربت إيران باملقارنة مع األرضية األكثر حذقاً لليونان‬
‫واهلند‪ ،‬اللتني مثلتا مثل إيران تقاليداً حضرية‪ ،‬واليت كان إليران ذاهتا عالقة هبا‪ .‬لقد امتلك اهلنود تقليداً‬
‫تعايشت فيه جممل عناصر حملية دون اندماج(‪)2‬؛ يف حني أوصل التطور اليوناين إىل تقليد تعايشت فيه‬
‫جممل عناصر متغايرة يف اندماج سطحي تارخيياً‪ .‬وهكذا إذا أمكن مقارنة اهلند بصخرة واحدة غزيرة‬
‫النقوش من األعلى واألسفل‪ ،‬فقد كانت بيزنطة باملقابل صرحاً مفرداً بُين بأنواع خمتلفة من أحجار البناء‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. J. Lanner, The Topography of Baghdad in th Early Middle Ages, Detroit 1970, p. 128 )1‬‬
‫(‪ )2‬احلقيقة طبعاً هو أن اهلنود أحرزوا ‪،‬جبانب طبقاهتم ومفاهيمهم احمللية‪ ،‬عباداهتم الدينية من الدرافيديني؛ لكنه هذا يشبه االكتساب‬
‫اليوناين القدمي لديونيسوس من تريس ‪ Thrace‬بأكثر مما يشبه اكتساهبم املتأخر ليهوه من اليهود‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫وحني خضعوا للغزو اإلسالمي كان اهلنود واليونانيون بالتايل يف نوع من املركب ذاته وذلك مقابل‬
‫اإليرانيني‪ :‬فمن ناحية‪ ،‬كان احتمال عودة ظهور تقاليدهم كهويات متكاملة ضمن اإلسالم أقل من‬
‫احتمالية عودة ظهور تقاليد إيران؛ يف حني من الناحية األخرى‪ ،‬كان للعناصر اإلفرادية يف تقليدهم فرصة‬
‫أفضل المتصاص أو تكيف تدرجييني‪.‬‬
‫يف الوقت ذاته‪ ،‬فقد عُِّزر هذا الفرق بني التقاليد بقوة عن طريق إختالف سرعة الغزو‪ .‬ففي حني‬
‫غزيت إيران بكاملها يف القرن السابع‪ ،‬جنا اليونانيون واهلنود من هذا القدر حىت وقت أكثر تأخراً‪ .‬وقد‬
‫ش ّكل يونانيو األقاليم البيزنطية الذين اهنزموا أمام الغزاة العرب طبقة سكانية رقيقة؛ لكن هنود السند كانوا‬
‫أكثر كثافة‪ ،‬مع أنه كان إقليماً صغرياً ونائياً‪ .‬بل لقد تركت غزوات الرتك األكثر انتشاراً واليات بيزنطية‬
‫وهندوسية دون غزو حىت القرنني اخلامس عشر والسادس عشر‪ .‬وألن هذه التقاليد استمرت لفرتة طويلة‬
‫خارج اإلسالم‪ ،‬فقد كان هنالك بالتايل ضغط عليهاأقل حبيث تعاود الظهور على السطح يف شكل‬
‫متكامل من داخله‪.‬‬
‫وهكذا كان ممكناً لإلسالم يف بالد اليونان واهلنود أن يسكت عن الديانة الشعبية يف حني كان ميتص‬
‫مفاهيم النخبة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬مل يكن لدى اإلسالم األرثوذكسي أية شكوك حول لياقة املسيحية املتساحمة‬
‫‪ -‬ديانة خمتلفة لكن اإلله ذاته ‪ -‬وقد كان باستطاعته إقناع ذاته بتسامح قسري حيال الوثنية اهلندية‬
‫واملنظومة االجتماعية اليت سارت معها‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬استطاع املسلمون حترير مفاهيم اليونانيني‬
‫واهلنود من نسجها اإلثنية مثلما يبدو أن اإليرانيني قد فعلوا قبلهم‪ .‬يف الوقت ذاته‪ ،‬مل تعدإىل السطح يف‬
‫اإلسالم أية هوية يونانية أو هندية متكاملة‪ .‬ليس‬
‫مثة اسرتداد لبيزنطة إسالمية(‪ ،)3‬بغض النظر عن غوبتات ‪ Guptas‬إسالمية؛ مل يكن هنالك شعوبية‬
‫صاحب هندي للنيب‪ ،‬أما صاحبه اليوناين‪ ،‬صهيب‪ ،‬فقد فَـ َقد عصبه‬
‫ٌ‬ ‫يونانية وال هندية؛ ومل يكن هنالك‬
‫اإلثين على حنو يالئم الغرض ليبحث عن العزاء يف نسب عريب زائف(‪.)4‬‬
‫وحني دخل يونانيو األناضول العامل اإلسالمي يف هناية األمر‪ ،‬مل يفعلوا ذلك كيونانيني بل كأتراك‬
‫مسلمني؛ يف حني قام مسلمو اهلند بعدهم بكل ما يف وسعهم كي يتبعوا خطى اليوناين صهيب‪.‬‬
‫احلالة اإليرانية كانت خمتلفة جداً‪ .‬فإيران كانت قد ابتُلِعت ككل يف مرحلة مبكرة من تاريخ التوسع‬
‫اإلسالمي‪ .‬كان لدى بقايا اجليش البيزنطي بيزنطة ميكنهم الرتاجع إليها؛ لكن األساورا انتهوا يف البصرة‬
‫كحلفاء للغزاة(‪ .)5‬رمبا كان هنالك أمراء إيرانيون يف الصني(‪ )6‬وجتار إيرانيون يف اهلند‪ ،‬لكنهم كانوا‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(S. Vryonis ,The Decline of Medieval Hellenism‬‬ ‫(‪ )3‬كان هنالك حقاً دانيشمنديد والذي مسّى نفسه «ملك كل رومانيا»‬
‫‪in Asia Minor and the Proces of Islamization from the Eleventh through the Fifteenth Century,‬‬
‫‪ )Berckly 1971, p. 473‬لكن ال يوجد هنالك مل مثيل سلجوقي‪ ،‬واحلسن بن غرباس مل يكن ابن مقفع يونانياً )‪.(ibid., p. 231‬‬
‫(‪. Goldziher, Muslim Studies, vol. i, p. 128 )4‬‬
‫(‪ )5‬البالذري‪ ،‬فتوح‪ ،‬صص ‪ 393‬وما بعد‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫جتمعات الجئني حمدودة احلجم‪ .‬ورغم ثورة ميديا الكبرية واليت تعود إىل زمن أويل واليت ّأرخ هلا‬
‫سبيوس(‪ ،)9‬مل يبق هنالك أي جزء من إقليم غري خمُْضع استطاع التقليد املتكامل فيه أن يستمر دون أن‬
‫ميسه اإلسالم‪.‬كان على اإليرانيني أن يصنعوه داخل العامل اإلسالمي أو ال يصنعوه إطالقاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫كانت النتيجة اصطداماً رأساً برأس‪.‬وإذا كان جوهر اهللينية مفاهيمها‪ ،‬فقد أُمكن إىل حد ما‬
‫استعارهتا؛ وإذا كان جوهر اهلندوسية طبقاهتا‪ ،‬فقد أ ُْم ِكن إىل حد كبري أن ترتك وشأهنا‪ .‬الفلسفات‬
‫اإلنسانية كانت رفيعة جداً‪ ،‬ونظام الطبقات البشري كان شعبياً جداً‪ ،‬وذلك حبيث بدا متع ّذراً على الغزو‬
‫أي من اإلثنني يف املوقع األشد إيالماً؛ لكن املفاهيم والطبقات على حد سواء كانت‬ ‫اإلسالمي ضرب ّ‬
‫إىل حد ما هامشية بالنسبة لألرضية اليت يـُ َعّرف عليها اإلسالم بأكثف ما ميكن‪ .‬لكن مل يكن ممكناً ختيل‬
‫هذا النوع من املواءمة الزوراء يف حالة إيران‪ .‬فإله اآلريني كان بالنسبة لشعبه اإلله القاتل(‪ )8‬بقدر ما كان‬
‫إله إسرائيل‪ .‬ويف أيام األمخينيني عرفت إسرائيل بالطبع موقعها‪ ،‬والعالقات بني اإلهلني كانت سلمية مبا‬
‫يكفي(‪ .)7‬لكن حني صادر االمساعيليون إله إسرائيل وانطلقوا يغزون العامل معه‪ ،‬مل يعد هنالك ما يكفي‬
‫ص ِهرت فيها اإلثنية‪ ،‬الديانة‪ ،‬ونظام احلكم‬‫لكبح غريته املفرطة‪ .‬كانت رهانات الطرفني هي على هوية ُ‬
‫حتت محاية إله حارس أوحد‪ :‬لقد أمكن تفكيك بيزنطة‪ ،‬لكن إيران مل يكن ممكناً سوى سحقها‪.‬‬
‫يف عرضنا لنتائج هذا االصطدام‪ ،‬ميكن نبدأ بشكل احلكم‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬لدينا يف إيران شكل حكم‬
‫ذو مكانة دينية قوية جوهرياً‪ :‬الدين والدولة كانا توأمني‪ .‬التوأمية ال تعين بالطبع التطابق بني الدين‬
‫ُحرزت يف بيزنطة‪،‬‬ ‫والدولة الذي مييّز املفهوم اإلسالمي لإلمامة؛ لكنها عالقة أكثر محيمية من تلك اليت أ ْ‬
‫حيث مل يكن بني الدين اليهودي والدولة الرومانية حىت قرابة دم‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬لدينا دين غا ٍز‬
‫للمليكني‬
‫كانت فيه مكانة شكل احلكم دينية جوهرياً أيضاً‪ .‬كانت املسيحية سعيدة عموماً يف مسحها ُ‬
‫(تصغري ملوك) املولودين من أودين وامللوك صانعي املعجزات للشعوب الذين هدهتم إليها بقدر ما كانت‬
‫سعيدة قبل ذلك يف االعرتاف باإلمرباطور الروماين(‪ .)19‬وحىت يف حالة املسيحية الغازية‪ ،‬فلم يكن هنالك‬
‫يفسر ملاذا جيب على الغزاة املسيحيني أن ال حيرتموا أشكال احلكم الدارسة‬ ‫سبب ذو جوهر ديين ّ‬

‫‪J. Harmatta, “The middle Persian-Chinese Bilingual Inscription from Hsiam and the Chinese -‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫‪. Sasanian Relations”, in Atti del Convegno Internazionale sul tema: Le Persia nel Medioevo‬‬
‫(‪. Sebeos, Histoire, p. 143 )9‬‬
‫(‪Ut animae nascentibus, ita populis fatalis genii dividuntur (Symmachus, cited in P. Courcelle, )8‬‬
‫‪“Anti-Christian Arguments and Christian Platonism From Arnobius to st. Ambrose”, in Momigliano,‬‬
‫‪.)The Conflict between Paganism and Christianity in the Fourth Century, p. 175‬‬
‫(‪ )7‬قارن مع قد ر مردوخ‪ ،‬الذي جعلته كفالته لسلسلة من األدعياء البابليني ينكسر حىت النفاذ الكامل‪.‬‬
‫(‪ )19‬أو قارن من جديد العالقة بني البوذية وسريالنكا‪ .‬فمقارنة مع الزرادشتية جتاه إيران‪ ،‬مل يكن للبوذية ما تقوله عن سيالنكا يف‬
‫أسفارها املقدسة احلضرية‪ .‬لكن باملقارنة مع اإلسالم جتاه إيران‪ ،‬فقد أعطت البوذية السريالنكيني تفويضاً تاماً ألن يقولوا ما يشاؤون‬
‫عن أنفسهم يف التاريخ الكنسي اإلقليمي‪ .‬البوذية أساساً مل تكن ضد سريالنكا وال معها‪ ،‬لقد كانت ببساطة فوقها‪ .‬لكن اإلسالم كان‬
‫ضد إيران بقدر ما كانت الزرادشتية معها‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫(‪)11‬‬
‫يفسر‬
‫للخاضعني هلم ؛ بينما حىت يف حالة املسيحية الرببرية‪ ،‬مل يكن هنالك سبب ذو جوهر ديين ّ‬
‫ملاذا جيب على الربابرة املسيحيني أن ال يعيدوا إحياء إمرباطورية رومانية مق ّدسة‪ .‬لكن األمر ليس كذلك‬
‫يف اإلسالم‪ .‬ففي بعض املناطق اهلامشية قبل الغزاة املسلمون فعالً باستمرارية اإلمارات التقليدية‪ :‬أنظر‬
‫احلماية املفروضة على ساللة اسروشنه(‪ )12‬امللكية الوطنية‪ .‬باملقابل‪ ،‬ففي بعض املناطق اهلامشية عادت‬
‫أشكال حكم وطنية للظهور يف تلك احملميّات يف زي إسالمي‪ :‬أنظر اخلوارزشاهات(‪ .)13‬لكن املأمول‬
‫من تطور كهذا يف إيران كان ضئيالً‪.‬‬
‫وهكذا فبعد فشل احملاوالت األوىل لتجديد تقليد شكل احلكم الزرادشيت‪ ،‬عُ ِزل هذا األخري يف جبال‬
‫الديلم‪ .‬ويف الوقت املناسب جاء دور الدياملة‪ ،‬ومثل البويهيني‪ ،‬مثل البارثيني قبلهم بألف سنة‪ ،‬زعم‬
‫هؤالء أهنم ينحدرون من الساللة امللكية الساقطة وأعادوا إحياء لقبهم «ملك امللوك»(‪ .)14‬وأخذ الساللة‬
‫امللكية اإلسالمية هلذه اخلطوة دليل باهر على التصميم اإليراين على االستمرار يف اإلسالم أكثر من أي‬
‫شيء آخر‪ .‬لكن رغم أن الدياملة كانوا على استعداد إلسقاط عدائيتهم لإلسالم من أجل «إمرباطورية‬
‫فارسية مقدسة(‪ ،»)15‬فاملسلمون مل يكونوا راغبني بقبول ذلك؛ وما بقي من املغامرة البويهية كان إسهاماً‬
‫يف األلقاب الشرفية اإلسالمية وليس أي معىن عميق الستمرارية إيران الساسانية‪.‬‬
‫إن املوت الفعلي للزرادشتية باملعىن الديين هو مؤشر درامي على أثر اإلسالم القوي ومشولية غزوه‪.‬‬
‫هنالك اليوم دولة اليونان املسيحية ودولة اهلند اهلندوسية؛ أما الزرادشتيون فهم جمرد أقلية‪ .‬مل يكن املوت‬
‫بالطبع آنياً‪ :‬فحىت القرن العاشر ظل هنالك وجود حي سياسياً للديانة القدمية يف الديلم‪ ،‬متاماً مثلما كان‬
‫هنالك وجود حي عقائدياً يف فارس القرن التاسع؛ وبروز املقوالت اهللينية يف كتب القرن التاسع ووجود‬
‫كتاب مقدس زرادشيت بصيغة مكتوبة قد يكونان دالئل حمتملة على قدرة زرادشتية على التكيف مع‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )11‬املقارنة بني موقف اهلنود حتت احلكم اإلسباين وموقف اليونانيني حتت احلكم العثماين مفيد علمياً‪ :‬فقد مثلت مجهورية اهلنود‬
‫السماح الرمسي بتمايز سياسي ضمن إمرباطورية متناسقة دينياً‪ ،‬أما ملّة األرثوذكس فقد مثلت السماح الرمسي بتمايز ديين ضمن‬
‫إمرباطورية متناسقة سياسياً‪.‬‬
‫(‪ )12‬أنظر‪ ،‬هامش ‪ 1‬ف ‪.13‬‬
‫(‪E. Sachau, Zur Geschichte von Khwarizm, Abhandlungen der Kaiserlichen Akademie der )13‬‬
‫‪. Wissenschaft, Philologisch - historische Klasse, vol. Lxxiv, Berlin 1873‬‬
‫(‪ )14‬من أجل الفورة العريضة للنسب الساساين بني السالالت اإليرانية من تلك احلقبة أنظر‪C. E. Brosworth, “The Heritage :‬‬
‫‪of Rulership in Early Islamic Iran and the Search for Dynastic Connections with the Past”, Iran‬‬
‫;‪1973‬؛بل إن يزيديي شروان العرب صاروا دعاة للساسانية )‪.(ibid., p. 20‬‬
‫‪(Madelung, “The Assumption of the Title‬‬ ‫(‪ )15‬الحظ كيف حت ّدث املغامرون القزوينيون األوائل بلغة إحياء معاد لإلسالم‬
‫‪)Shahanshah”, pp. 86 - 8‬؛ قارن األمل احلي بإحياء كهذا والذي جيد تعبرياً له يف كتابات القرن التاسع الزرادشتية ‪(H. W.‬‬
‫‪.)Bailey, Zoroastrian Problems in the Ninth-Century Books, Oxford 1971, pp. 195ff‬‬

‫‪157‬‬
‫البيئة اجلديدة(‪ .)16‬لكن مل يكن هنالك مسألة ج ّدية حول إحياء ديين يف إيران‪ :‬ملوك امللوك هذه املرة مل‬
‫يكن لديهم قرطري‪ .‬من استطاع اآلريون أن يكونوا إذاً حني مل يعد اجملوس كهنة هلم؟‬
‫يف باد األمر كان السؤال ما إذا كان باستطاعة شيء من الديانة القدمية أن يظهر مع شيء من‬
‫اإلسالم على أيدي األنبياء التوفيقيني يف النصف الثاين من القرن الثامن‪ .‬لكن جناحهم كان عابراً‪ :‬مل‬
‫يكن لينبثق برغواطا إيراين من سرية هبافريد‪ ،‬وتوقع أحد اهلراطقة اخلوارج األوائل بأن اهلل سريسل نبياً‬
‫جديداً من غري العرب إلبطال ديانة حممد(‪ ،)19‬مهما بدا مناسباً لتوقع ظهور تركيا القرن العشرين‪ ،‬فقد‬
‫ظل غري منجز يف إيران العصور الوسطى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مل يكن مثة خيار سوى القبول باإلطار اإلسالمي كما هو‪ ،‬واملسألة كانت إذاً ما إذا باستطاعة هوية‬
‫إيرانية أن تتكيف داخله‪ .‬ألسباب سنعرضها على حنو أوىف يف مرحلة الحقة‪ ،‬ق ّدم التشيع نسخة من‬
‫اإلطار اإلسالمي مقبولة على حنو خاص‪ .‬فمن جهة‪ ،‬اإلمام املعصوم وملك امللوك كانا ضحايا التاريخ‬
‫السين ذاته ‪ -‬وأمل يتزوج احلسني من أمرية فارسية(‪)18‬؟ ومن جهة أخرى‪ ،‬فالسرانية الشيعية‬ ‫ّ‬
‫كانت‪،‬كمونياً‪ ،‬مذهباً توفيقياً ‪ -‬وأمل يكن الفارسي‪ ،‬صاحب النيب شخصية مركزية يف هذه السرانية؟‬
‫يصر مصدر سرياين لثورة املختار من تلك احلقبة على التغايرية اإلثنية ألتباعه ويتوقع منهم بالكامل‬
‫وحني ّ‬
‫أن ينهوا السيطرة العربية(‪ ،)17‬فنحن ال نستغرب أن يقبل الكرماثيون الذين جاءوا الحقاً بالكامل‬
‫بالدجال الفارسي والذي توقعوا منه أن خيلصهم من الديانة العربية(‪.)29‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ . Ibid., pp. 80 - 92, 162ff )16‬إن عدم حتمية الدليل يف هاتني املسألتني أمر مؤسف‪ ،‬لكنه ال خيلو من أمهيته اخلاصة‪ .‬لقد‬
‫للحل بدالً عن ذلك عرب مفاهيم اليونانيني واهلنود‪ .‬لكن بسبب‬
‫كانت الثنوية الزرادشتية يف األصل حالً باملعىن الفكري ملشكلة قابلة ّ‬
‫العلل التارخيي ة أخذ احلل الزرادشيت شكل إميانية إهلية إثنية‪ ،‬وقام بسهولة باالنتقال من عضوية اجملموعة املفاهيمية األصلية إلىعضوية‬
‫اجملموعة التوحيدية اجلديدة واليت نشأت من التقليد اليهودي‪ .‬لقد الحظ اليونانيون ذلك التشابه بني موسى وزرادشت وذلك باعتبارمها‬
‫معطيني إثنيني للشريعة زعما تكريساً إهلياً‪.)(Bider and Cumont, Les mages hellénisés, vol. ii, p. 30 .‬وحني صار‬
‫األمنوذج اليهودي معيارياً‪ ،‬مل يكن على الزرادشتيني سوى التأكيد على التشابه‪ :‬صارت فلسفة كهنة اجملوس الهوهتم‪ .‬وإنه إطراء على‬
‫حممل الذم لقوة التشابه حني استجاب املسيحيون واملسلمون على ذلك بوسم زرادشت على أنه يهودي )‪.(ibid., vol. i, p. 50‬‬
‫(‪Goldziher, Muslim Studies, vol. i, p. 130. )19‬‬
‫‪(G. Le Strange and R. A.‬‬ ‫(‪ )18‬احلسينيون بالتايل متميزون على احلسنيني بفضل احلقيقة القائلة إن شهربانويا كانت أمهم‪.‬‬
‫‪Nicholson (eds.), The F‬ل‪rsn‬ل‪.)ma of Ibnu’l-Balkhi, London 1921, p. 4‬قارن ايضاً الرأي الكارماثي القائل إن اهلل‬
‫ال حيب العرب ألهنم قتلوا احلسني ويفضل أتباع خسرو ألهنم وحدهم دافعوا عن حقوق األئمة‪(Goldziher, Muslim Studies, .‬‬
‫)‪.vol. i, p.162‬‬
‫(‪( .Der Penkaye in Mingana, Sources syriaques, pp. 156 - 68 = 183 - 95 )17‬ال تقدم أية معلومة عن عقيدة‬
‫املختار)‪ .‬وهكذا هنالك جزء صغري معقول من احلقيقة يف رأي ابن حزم العتيق الطراز‪« :‬إن السبب الكامن خلف هجرة هذه الطوائف‬
‫لديانة اإلسالم‪ ،‬هو اساساً ما يلي‪ :‬لقد كان الفرس أصالً سادة مملكة شاسعة وكانت هلم اليد العليا على كل األمم‪ ..‬لكن ملا‪ ..‬أخذ‬
‫منهم العرب إمرباطوريتهم‪ ..‬وضعوا يف رؤوسهم التحايل على اإلسالم‪(I. Friedlaender, “The Heterodoxies of The »...‬‬
‫‪.) Shiites in the Presentation of Ibn Hazm”, Journal of the American Oriental Society 1907, p. 35‬‬
‫(‪ )29‬يقول املسعودي‪ ،‬إنه كان ينحدر من امللوك الفرس‪ ،‬ويف أصفهان ذاهتا تنبأ املنجمون بظهور ساللة ملكية فارسية واليت ستنهي‬
‫اخلالفة‪.(Madelung, ‘The Assumption of the Title Shahanshah, p. 87n).‬‬

‫‪169‬‬
‫مع ذلك فالتقارب بني التشيع وإيران كان حمدوداً للغاية‪ .‬وإىل حد ما‪ ،‬كان هذا التقارب مسألة‬
‫صدفة تارخيية‪ :‬فبعدما ضيّع البويهيون فرصتهم‪ ،‬مل يـُْلبَس التشيع خلفة الصورة إليران الساسانية إال مع‬
‫ظهور الصفويني فقط؛ لكن يف هذا الوقت فإن بنيان احلضارة اإلسالمية كان قد أُسس إىل درجة احليلولة‬
‫دون تطور التناظر اخلارجي إىل تناغم داخلي‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ميكن لنا أن نشك ما إذا كان األمر سيختلف‬
‫كثرياً لو أن إيران أصبحت دولة شيعية حتت محاية البويهيني‪ .‬يبدو ممكناً بالكامل طبعاً أن متاثل إحدى‬
‫الطوائف الشيعية ذاهتا مع إثنية غري عربية‪ ،‬كما فعل النقطويون يف إيران(‪ ،)21‬أو أن تتمثل أفكاراً غري‬
‫إسالمية حيوية من وسط كهذا‪ ،‬كما فعل النزاريون يف اهلند‪ .‬لكن نوعية الطائفة اليت تفعل هذا حبكم‬
‫الطبع هامشي بالنسبة للمشهد اإلسالمي‪ .‬باملقابل‪ ،‬يبدو ممكناً متاماً أن يتبىن شعب غري عريب شيعية‬
‫ذات مركزية ال نزاع فيها يف مكانتها اإلسالمية‪ ،‬كما هي احلال مع اإلمامية يف إيران احلديثة‪ .‬لكن مركزية‬
‫تقليد كهذا بالذات‪ ،‬حتول دون أي إفصاح فاعل للغاية عن هوية غري عربية‪ .‬لقد أخذت اإلمامية شكل‬
‫ضري‪ ،‬كما أن قادهتا‪ ،‬مع أهنم رمبا‬ ‫هرطقة مثقفة وحمرتمة يف الوسط السين والناطق بالعربية يف العراق احلَ َ‬
‫متلّقوا بنوع من الكياسة أحد البويهيني باعتباره «ملك امللوك»(‪ ،)22‬مل يكونوا بكطاشاً أمكن تطعيم‬
‫دينهم بالشطط األممي للنقطويني أو للنزاريني(‪.)23‬‬
‫احلقيقية طبعاً أن أي ديانة عاملية جيب أن تصل إىل نوع من التفاهم مع اخلصوصيات‪.‬والقضية بالنسبة‬
‫لإلسالم هو أنه ال يفعل ذلك إال على أسس تبدو‪ ،‬من وجهة نظر أية أمة غري عربية طموحة‪ ،‬غري مرغوبة‬
‫متطرفة أو خرافة شعبية‪ .‬مثالنا على احلالة األوىل هو علم الكون عند النقطويني؛ ومثالنا على‬ ‫أبداً‪ :‬هرطقة ّ‬
‫احلالة الثانية هو امليثة اليت اخرتعها بربر اية اته ‪ Ait Atta‬الشمال إفريقيني كي يضفوا على جبلهم املق ّدس‬
‫احمللي مكانة إسالمية(‪ .)24‬لقد كان لإليرانيني أيضاً خرافاهتم واليت حاولوا أن حيتلّوا هبا ألنفسهم جماالً إثنياً‬
‫(‪)25‬‬
‫تطرف النقطويني أو‬ ‫مرحياً يف اإلسالم ‪ .‬لكن مبا أن اإليرانيني كانوا شعباً أضخم وأكثر مركزية من أن خيتار ّ‬
‫خرافة اية اته اجلاهلة‪ ،‬فقد ظلت خصوصيتهم اإلثنية بالضرورة دون إفصاح كاف يف اإلسالم(‪.)26‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. J. Aubin. “La politique des Safovides”, in T. Fahd et al., Le Shî‘ism imâmite, Paris 1970, p. 240 )21‬‬
‫(‪. Madelung, “The Assumption of Title Shahanshah”, p. 175n )22‬‬
‫(‪ )23‬حبذر يوحي الكاتب قطب الدين اشكفاري من القرن السابع عشر بنوع من التشابه بني السوشانات الزرادشتيني واملهدي اإلمامي‪.‬‬
‫‪(H. Corbin, Le’idée du Paraclet en philosophie eranienne’, in Atti del Convegno Internazionale sul‬‬
‫‪ ) tema: La Persia nel Medioevo, p. 58.‬لكن هذا شيء يقرب من اإلكتشاف؛ يف حني تبدو فكرة أن اإلمام االمساعيلي‬
‫جتسيد لفشنو مسألة عادية بالنسبة للنزارية يف اهلند‪.‬‬
‫(‪. E. Gellner, Saints of the Atlas, London 1969, p. 295 )24‬‬
‫(‪ )25‬من أجل خرافات العجم هذه ‪،‬أنظر‪.Goldziher, Muslim Studies, vol.i, pp. 135f :‬‬
‫(‪ )26‬قارن مع جاهزية البوذية لتقدمي آثار أقدام مؤسسها طبقاً لضرورات اجلغرافيا السياسية‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫من هنا فاحلقل الوحيد الذي أمكن أن حيدث فيه انبعاث مستمر إليران كان الثقافة‪ .‬كانت ثقافة‬
‫إيران قبل اإلسالم مركزة حول الدين بقدر ما كانت عليه ثقافة اإلسالم العريب‪ .‬لكن رغم ‪ -‬ورمبا بسبب‬
‫‪ -‬الدمار الواسع للتقليد القدمي‪ ،‬كان مثة احتمالية على األقل كي تطفو على السطح من جديد ثقافة‬
‫إيرانية مطهرة من التلوث يف العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫يف املوضع األول كانت هنالك إمكانية عودة إيرانية ثقافية لكن بلغة الغزاة‪ :‬الشعوبية‪ .‬لقد كانت‬
‫حركة عنيفة لكنها عاجزة‪ .‬فحني ترجم منثو وبريوسوس قبل ذلك بألف سنة أجماد مصر وبابل الغابرة إىل‬
‫لغة غزاهتم اليونانيني‪ ،‬فقد فعال ذلك ككاهنني‪ ،‬كعضوين يف خنبة حملية متتعت بنوع من التشريف يف العامل‬
‫اهلليين باعتبارها مستودعات حكمة شعوهبم القدمية‪ .‬إمنا مل يكن هنالك جموس مسلمون‪ :‬يف إيران القرن‬
‫التاسع مل يكتب كاهن أكرب كمنوشهر(‪ )29‬عن طائفته إال باللغة الكهنوتية القدمية‪ .‬وهكذا فقد كان‬
‫إعادة تقدمي الرتاث اإليراين باللغة العربية عمل اخلارجني عن الدين وليس الكهنة‪ .‬لكن املوايل اإليرانيني مل‬
‫يكونوا خنبة حمصنة تعمل على سرمدة تقليد قدمي؛ لقد كانوا املطبّعني احملتقرين جملتمع غزاة قبائليني‪،‬‬
‫املطورين املتحضرين للرببرية‪ .‬أما نشوزهم عن جمتمعهم اخلاص فهو مل يع ِن طبعاً أهنم تطهروا من كل‬
‫الشوائب خالل عملية‪-‬الصريورة‪ :‬وقد قيل‪ ،‬إخدش شعوبياً‪ ،‬فستجد زرادشتياً(‪ .)28‬املسألة هي أن‬
‫اإلسالم مل يكن حباجة ألن يفعل أي شيء لطبيعة االحتكام إىل التقليد اإليراين يف سياق كهذا؛ إنه فقط‬
‫امتص ما أمهه من حتاته‪.‬‬
‫(‪)27‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬كانت هنالك احتمالية خلق ثقافة إيرانية إقليمية داخل الوسط اإلسالمي ‪ .‬مل‬
‫تكن مثة مسألة استمرارية مباشرة للتقليد القدمي هنا‪ :‬التقليد األفسيت يف إيران اإلسالمية مل يكن ميتلك‬
‫وال بصورة من الصور املكانة الثقافية اليت امتكلها التقليد السنسكرييت يف جاوا املسلمة‪ ،‬وليس هنالك ما‬
‫مياثل استمرارية األدب اجلاوي باخلط احمللي بعد قبول اإلسالم يف اللغة البهلوية(‪ .)39‬وهكذا فقد‬
‫تش ّكلت اللغة األدبية اجلديدة عوضاً عن ذلك من اللغة احمللية املكتوبة باخلط العريب‪ ،‬وغالباً ما كان‬
‫استخدامها يف باد األمر ذا دافع مصلحي‪ .‬مع ذلك فقد كانت ظاهرة خمتلفة للغاية عن الظهور‬
‫العرضي للغة اليونانية باخلط العريب والذي كان ألجل أغراض تكثري املعرفة البشرية(‪ :)31‬أصبحت الفارسية‬
‫لغة أدبية إسالمية وهو ما مل تستطع فعله اليونانية‪ .‬وبفعلها هذا‪ ،‬قدمت وسطاً أمكن للتقليد اإليراين فيه‬
‫أن يصبح يف متناول اليد يف إيران املسلمة؛ فقد صارت الشاهنامه بالنسبة لإليرانيني‪ ،‬القرآن(‪ ، )32‬أو‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫من أجل مكانته يف التسلسل الكهنويت‪ ،‬أنظر‪Bialey, Zoroastrian Problems, p. 78.:‬‬ ‫(‪)29‬‬
‫‪(I. Goldziher, “Die Su‘ûbijja unter den Muhammedanern in‬‬ ‫(‪ )28‬كان ذلك على األقل رأي الصاحب بن عبّاد‪.‬‬
‫‪Spanien’, Zeischrift der Deutschen Morgenl‬ن‪.)dischen Gesellschaft 1899, p. 605n‬‬
‫(‪ )27‬ألجل هذا التطور أنظر على حنو خاص‪G. Lazard, La langue des plus anciens monuments de la prose :‬‬
‫‪persane, Paris 1963, introduction and part one, and id., Les premiers poètes persans (IX - X siècles),‬‬
‫‪. Paris and Tehran 1964, vol.i‬‬
‫(‪ )39‬حىت الرتمجة املباشرة نادرة (من أجل مثال معزول لكنه هام‪ ،‬أنظر‪(Minorsky, “The Older Preface to the Shah- :‬‬
‫‪.)nameh”, in his Iranica: Twenty Articles, Tehran 1964‬وحنن نعرف عن األدب البهلوي من الرتمجات إىل العربية أكثر‬
‫مما نعرفه من الرتمجات إىل الفارسية‪.‬‬
‫(‪ )31‬كما على سبيل املثال يف األشعار اليونانية للسلطان فِلِد ‪(Vryonis, The Decline of Medieval Hellenism in :Veled‬‬
‫‪.)Asia Minor, p. 381n‬‬
‫(‪ )32‬هذا ما يقوله ابن األثري اجلزري)‪. (Goldziher, Muslim Studies, vol.i, p. 160n‬‬

‫‪162‬‬
‫ميكن أن نقول اهلومريوس(‪ .)33‬ومقابل الشخصية امل ْج َهضة إلظهارات إيران السياسية والدينية يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬أثبت هذا االنتعاش الثقايف أنه حاسم‪ .‬ومن ُ‬
‫أحد املعايري على قوته أنه حني دخل يف هناية األمر‬
‫اليونانيون واهلنودمع تعاقب القرون يف اإلسالم‪ ،‬فإن متثلهم الثقايف أُجنز باعتبارهم أقاليم من اإلسالم‬
‫اإليراين‪ ،‬وليس العريب‪.‬‬
‫أما ما بقي من أقاليم ضمن حدود الغزو اإلسالمي ‪ -‬مصر‪ ،‬إسبانيا‪ ،‬ومشال إفريقيا ‪ -‬فقد أحرزت‬
‫كلها واجهات إسالمية ال عيب فيها‪ :‬وهي‪ ،‬بعكس اهلالل اخلصيب‪،‬مل تساهم فعالً بأي شيء لإلسالم‬
‫ضري‪ ،‬وقد فشلت‪ ،‬بعكس فارس‪ ،‬يف االحتفاظ بتمايز إقليمي‪ .‬ليس من غري الطبيعي أن جند‬ ‫احلَ َ‬
‫األسباب خلف الواجهات‪ ،‬وميكن تقدميها بأفضل ما ميكن على أهنا عكس احلاالت اليت فحصناها‬
‫للتو‪.‬‬
‫إذا بدأنا بالنظر خلف واجهة مصر املسلمة‪ ،‬فسوف جند أنفسنا وقد عدنا إىل األقباط؛ ويف بعض‬
‫النواحي تبدو درجة طمس مصر القبطية مفاجئة‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬كانت اهلوية القبطية قابلة للمقارنة‬
‫يف قوهتا مع اهلويات يف العراق؛ وكان سيبوس قد أشار على حنو ملفت للنظر إىل مرونتها األولية‪ ،‬وهو‬
‫الذي يتح ّدث عن حتوالت عربية ضخمة إىل املسيحية يف مصر يف زمن حيث ميزان القوى السياسية كان‬
‫يتب ّدل بني حلظة وأخرى(‪ .)34‬باملقابل فإن جتانس احلقيقة استمر يف مصر إىل مسافة أبعد حىت من‬
‫سوريا‪،‬وكان ذلك إىل احلد الذي أمكن ملصر فيه أن تظهر كموضع مناسب لبث ثقافة جمردة من اإلثنية‪.‬‬
‫وهكذا أُمكن للمرء أن يتوقع أن جيد يف اإلسالم إرثاً قبطياً ميكن مقارنته مع إرث النساطرة‪ .‬وإذا مل يكن‬
‫األمر كذلك فهذا قبل كل شيء يعكس احلقيقة القائلة إن الكنيسة القبطية كانت كنيسة فالحني يف‬
‫حني كانت الكنيسة النسطورية كنيسة نبالء‪ :‬بكلمات أخرى مصر القبطية كانت عراقاً معكوساً‬
‫اجتماعياً‪ .‬وأمهية العكس واضحة يف طرق ثالث‪.‬‬
‫غري دينه ببطء‪ .‬واألقباط الذين كانوا معتادين‬‫أوالً‪ ،‬كانت ريفية الكنيسة املصرية تعين أن اإلقليم ّ‬
‫يعولوا يف امورهم على القادة الفالحني‪ ،‬سواء يف القرية أم يف الدير‪ ،‬مل يؤثر هبم رحيل الطبقة‬‫على أن ّ‬
‫األرستقراطية أو اهنيارها مثلما أثّر يف فالحي بالد آشور؛ وحني تعرضوا إىل ضغط الضرائب العربية‪ّ ،‬فروا‬
‫يفروا إىل مدن عربية كما فعل فالحو بابل(‪.)35‬‬ ‫من قراهم إىل مناطق أخرى أو إىل األديرة‪ ،‬لكنهم مل ّ‬
‫وكانت النتيجة مقاومة قبطية مؤثرة لتبديل الدين؛ ورغم موحات االرتداد التصادفية(‪ ،)36‬إال أن السبيل مل‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )33‬مقارنة تعرض املكاسب األيديولوجية ‪،‬إذا مل يكن األدبية أيضاً‪ ،‬اليت جيب أن جتىن من تأليف املرء مللحمته القومية بعد احلدث‪ :‬فال‬
‫اإللياذة وال املهاهبارتا تشجعان العتبارها شريعتني لوحدة قومية‪.‬‬
‫(‪(.Sebeos, Histoire, p. 149 )34‬اإلشارة هي إىل احلرب األهلية األوىل)‪.‬‬
‫(‪. D. Dennett, Conversion and Poll-tax in Early Islam, Cambridge, Mass. 1950, chapter 5 )35‬‬
‫(‪ )36‬بغض النظر عن القسر على تبديل الدين الذي يعزا إىل أصبغ وعمر الثاين‪(C. H. Becker, “Historische Studien über ،‬‬
‫‪ ،)das Londoner Aphroditowerk”, Der Islam 1911, p. 365‬فإن أبرز األمثلة هو إجبار ‪ 24.999‬مسيحي على‬

‫‪163‬‬
‫تتمهد إىل اعتناق مصر اإلسالم ببطء لكن بصالبة(‪ )39‬أخرياً إال بعد الضغط املايل الذي قاد بالفالحني‬
‫مجيعاً إىل ثورة يف ظل العباسيني األوائل واليت كانت نتيجتها قمعاً أدى إىل دمار املنظومة القروية‪.‬‬
‫ثانياً‪ ،‬كانت الفالحية تعين أن القبط ليس لديهم ما يسامهوا به‪ .‬فبعدما فشل الفكر اليوناين يف أن‬
‫ضاهى‬ ‫يكون مقبوالً يف الكنيسة القبطية‪ ،‬راحت الريفية ذات التوجه الداخلي للجماهري القبطية تُ َ‬
‫باسكندرية ذات توجه خارجي وطبقة أرستقراطية متهلينة؛ وهكذا فحني انقطع األخريون بسبب الغزوات‬
‫العربية عن العامل اليوناين األكثر اتساعاً‪ ،‬فهم إما غادروا أو انقرضوا‪ .‬ك ّدت مدرسة االسكندرية‬
‫فحران‪ ،‬وأخرياً إىل‬
‫واجتهدت للمحافظة على وجود ضعيف ملدة قرن قبل أن تنتقل إىل أنطاكية‪ّ ،‬‬
‫بغداد(‪)38‬؛ وظل باستطاعة خالد بن يزيد بن معاوية أن حيصل على كتبه يف اخليماء من الفالسفة‬
‫اليونانيني يف مصر(‪ ،)37‬أما ذو النون املصري الذي عاش يف القرن التاسع فقد كان مطّلعاً مبا يكفي على‬
‫تراث االسكندرية اليوناين والنسكية املسيحية للريف املصري وذلك كي يضمهما يف صوفيته‬
‫اإلسالمية(‪ .)49‬لكن ما وجده العرب حني ش ّقوا يف هناية األمر الصفوف الصلبة جلماهري الفالحني كان‬
‫أساساً إثنية وحشداً من القديسني املصريني‪ .‬وكما أن مصر املسيحية مل تنتج فالسفة تضاهي هبم األدباء‬
‫النساطرة الذين ورثوا مدرسة اإلسكندرية يف بغداد(‪ ،)41‬كذلك متاماً فإن مصر املسلمة مل تق ّدم مدرسة‬
‫شرائع(‪ ،)42‬وال حركة الهوتية(‪ )43‬وال الكثري من الشعراء‪ ،‬بغض النظر عن هرطقة أو أمثولية سياسية‪.‬‬
‫فقط حني أحرز اإلقليم ثقافة إسالمية صلبة من اخلارج اسرتد موقعه البارز الفكري القدمي‪.‬‬

‫‪(Basset, “Le Synaxaire arabe jacobite”, in Patrologia Orientalis, vol.‬‬ ‫تبديل دينهم على يد حفص بن الوليد‬
‫‪xvi, p. 233‬؛ الكندي‪ ،‬كتاب الوالة‪ ،‬صص ‪ 84‬وما بعد؛ ‪Severus ibn al-Muquffa’, History of the Patriarchs in‬‬
‫غري دينه أيضاً مع وصول العباسيني )‪.(ibid., p. 189‬‬
‫‪ )Patrologia Orientalis, vol. v, pp. 116f‬مع أن بعضهم ّ‬
‫(‪I. M. Lapidus, “The Converion of Egypt to Islam”, Israel Oriental Studies 1972; C. H. Becker, )39‬‬
‫‪“Die Arabisierung”, in his Beitr‬ن ‪ge zur Geschichte‬ؤ‪.gyptens unter dem Islam, trassburg 1902f‬يبدو‬
‫على األرجح أن الدليل حول تبديل الدين يف كتاب زيادة ”‪ “L’ Apocalypse de Samuel,pp.389=402‬إمنا يشري اىل احلقبة‬
‫الفاطمية‪.‬‬
‫(‪M. Meyerhof. “Von Alexandrien nach Baghdad”, in Sitzungsberichte der Preussischen Akademie )38‬‬
‫‪. der Wissenschaften, Philologisch-historishe Klasse, vol. xxii, Berlin 1930‬‬
‫(‪. Dodge, The Fihrist of al-Nadîm, p. 181 )37‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam, s.n )49‬‬
‫(‪ )41‬وهكذا فقد كان على املصري ابن الرضوان الذي عاش يف القرن احلادي عشر أن جيعل فضيلة عظيمة من كونه شخصاً علّم ذاته‬
‫بذاته وذلك يف مناظرته مع ابن بطالن‪ ،‬الفيلسوف املسيحي املتميز يف بغداد‪(J. Schacht, “.‬ـ ‪ber den Hellenismus in‬‬
‫‪Baghdad und Cairo im 11. Jahrhundert”, Zeitshrift der Deutschen Morgenl‬ن ‪ndischen Gesellschaft‬‬
‫‪ .)1936‬لقد ق ّدم الفاطميون للكنيسة القبطية شيئاً هو أقرب ما يكون إىل صيف هندي على الصعيد الفكري؛ لكن بطرس بن الراهب‬
‫الذي عاش يف القرن الثالث عشر‪ ،‬الذي كان أشبه ما يكون بابن بطالن قبطي ‪،‬وجه معرفته بالفلسفة إىل حماربتها على حنو منطي‪.‬‬
‫)‪.(Rescher, The Development of Arabic Logic, pp. 205f‬‬
‫(‪. Schacht, Origins, p. 9 )42‬‬

‫‪164‬‬
‫ثالثاً‪ ،‬كانت الريفية تعين أن مصر استبدلت إقليميتها املتميزة ضمن هرطقة مسيحية بإقليمية ُم َقلفدة‬
‫ضمن إسالم أرثوذكسي‪ .‬قد يتوقع املرء أن ترتك اهلوية القبطية بقية من خصوصية يف اإلسالم على األقل‪.‬‬
‫لكن اىل حد ما ألن الوشل الثابت من الذين يب ّدلون دينهم امتلك فرصاً قليلة حلشد مصادره القبطية‬
‫ضد قبضة اإلسالم اإلثنية اخلانقة‪ ،‬وبشكل أكثر حتديداً ألن اهلوية القبطية كانت بريئة من املصادر‬
‫الثقافية بقدر ما كانت الثقافة السورية بريئة من املصادر اإلثنية‪ ،‬مل ترتك مصر القبطية أي حطام خلفها‪.‬‬
‫فمن ناحية مل يكن هنالك مسلمون أقباط‪ :‬اختفت اللغة القبطية كلغة حمكية حىت بني املسيحيني(‪،)44‬‬
‫بل أن رنينها يف اللهجة العربية املصرية يبدو ضعيفاً إىل درجة ملفتة للنظر(‪ .)45‬ومن ناحية أخرى مل يكن‬
‫هنالك سوى أوهن تلميح إىل خلفة صورة قبطية‪ .‬لكن املصريني مل يفقدوا كل اهتمامهم طبعاً مباضيهم‬
‫املاقبل‪-‬إسالمي‪ :‬فرعون يف أدهبم يبدو أكثر من ذلك السافل الذي يصوره القرآن‪ .‬مع ذلك فمصر‬
‫املرتدي(‪ )46‬وأشباهه هي حفيدة مصر املنجمني(‪ )49‬وليست حفيدة مصر الفالحني؛ ومسة هذا النوع‬
‫حسي أساساً‪ ،‬إهنا انغماس يف القصور الرائعة واملعابد املقدسة ملوكب احتفايل‬
‫اجلديد أنتيكية على حنو ّ‬
‫باطين وواه‪ .‬رمبا أهنا حتمل اآلثار الباقية من صوت وضراوة قبطيني حمددين(‪)48‬؛ لكن ال يوجد فيها ما‬
‫يصلح للمقارنة مع التذكر امللحمي للمجد املاقبل إسالمي الذي يتخلل شاهنامه الفردوسي‪ ،‬أو مع‬

‫(‪ )43‬كان غيالن بالطبع قبطياً‪ ،‬لكن الغيالنية كانت حركة سورية‪ ،‬وليست مصرية؛ الحظ أيضاً أن مصر وخراسان فقط مل يكن هلما‬
‫ممثلون بني القدريني )”‪.(Encyclopaedia of Islam, art. “Kadariyya‬‬
‫(‪ )44‬ندرة األمثلة حول اللغة القبطية باخلط العريب هي دليل واضح على فقدان اللغة القبطية يف املسيحية ‪ ،‬وليس على اجلهود حلفظها يف‬
‫اإلسالم ‪(. .‬أنظر من أجل هذا النص‪E. Galtier, “Coptica-Arabica”, Bulettin de l’Institut francais :‬‬
‫‪.)d’archéologie orientale 1906, pp. 91ff‬‬
‫(‪. W. B. Bishai, “The Transition from Coptic to Arabic”, The Muslim World 1963, p. 149 )45‬‬
‫(‪ .G. Wiet (ed.), L’Egypte de Murtadi flis du Gaphiphe, Paris 1953. )46‬من أجل الكاتب أنظر مالحظة ي‪.‬‬
‫راغب يف ‪.1794 Arabica‬‬
‫(‪ .F. Cumont, L’Egypte des astrologues, Brussels 1937 )49‬الحظ أيضاً أن هورابولون املسلم مل يكن منجماً مصرياً‪،‬‬
‫بل كلداين‪ :‬إن ابن وحشية هو الذي يتباهى باهلريوغليفية املصرية يف عمله األجبديات القدمية‪.‬‬
‫(‪ )48‬لقد قبل غولدت سهري باقرتاح بارون فون روسن القائل إن مواد وصيف شاه هي من أصل شعويب‪(Muslim Studies, vol. i, .‬‬
‫)‪ .pp. 147‬يف هذا السياق تبدو مهمة أيضاً الرواية حول غزو نبوخذ نصر ملصر املوجودة عند ابن احلكم ومصادر عربية أخرى (قارن‬
‫املراجع اليت قدمها فيت ‪ .) p. 28n, L’Egypte de Murtadi‬من الواضح أن هذه الرواية مأخوذة عن نسخة قريبة من تلك اليت‬
‫قدمها يوحنا الذي من ‪ ‬نيكيو حول غزو قمبيز ملصر ‪(Charles, The Chronicle of John Bishop of Nikiu, chapter‬‬
‫‪ ،)Li‬واليت متثّل حبد ذاهتا مرحلة متقدمة من ميثة تدمريية الغزو الفارسي واليت ظهرت للمرة األوىل عند هريودوتس‪ ،‬أنظر ‪(F. K.‬‬
‫‪Kienitz, Die politische Geschichte‬ؤ ‪gyptens von 7. bis zum 4. Jahrhundert vor der Zeitwende, Berlin‬‬
‫‪ .) 1953, p. 55n‬من الواضح أن رواية يوحنا الذي من نيكيو ترتبط بدورها بالقصة القبطية املتعلقة بغزو قمبيز‪/‬نبوخذ نصر ملصر‬
‫(أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 55‬ف‪ .) 9‬إن الدمج بني قمبيز ونبوخذ نصر‪ ،‬الذي يأخذ عند يوحنا الذي من نيكيو شكل حتديد هوية األول‬
‫برمته‪ :‬وهو يرجع إىل بداية القرن اخلامس بعد املسيح على األقل‪(A. Lincke, ،‬‬ ‫باعتباره نبوخذ نصر الثاين‪ ،‬يتخلل التقليد ّ‬
‫‪“Kambyses in der Sage, Litteratur und Kunst des Mittelalters in Aegyptiaca: Festschrift für Georg‬‬
‫‪ ،)Ebers, Leipzig 1897, p. 45‬وما يزال واضحاً يف بعض املصادر العربية‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫العمق الشعوري الستغاثة ابن وحشية باملاضي البابلي‪ .‬رمبا كان باستطاعة هرطقة أقل عناداً يف طموحاهتا‬
‫ضرية من اإلمساعيلية أن تنقذ ما بقي من الصوت والضراوة(‪ )47‬؛ لكن اهتمام الفاطميني يف قاعدهتم‬ ‫احلَ َ‬
‫املصرية كان حمدداً باملوارد اليت كان باستطاعتها تقدميها هلم من أجل مغامرات كان معناها يكمن يف‬
‫مكان آخر‪ .‬من هنا ففي حني أمكن إدخال اخلصوصية الباقية من اإلرث اإليراين واخلاصية العرضية‬
‫العَرض يف آن‪.‬‬
‫للتقليد اإلمامي يف إيران ضمن تساوق خارجي معني‪ ،‬فإن مصر فقدت البقية وأنقذت َ‬
‫لقد استمر األقباط كأقباط بالطبع رغم تبنيهم للغة العربية‪ ،‬وبعكس من بقي من بالد آشور فقد‬
‫حافظوا على سندات متلك ماضيهم الفرعوين‪ .‬لكن األقباط يف هذا مل يكن لديهم سوى أساس صغري‬
‫كي خيلقوا هوية مصرية حديثة أو يشاركوا هبا‪ .‬وكانوا نتيجة لذلك منفيني يف وطنهم اخلاص‪ :‬استعداد‬
‫األقباط لإلنضمام إىل جرياهنم املسلمني باسم مصر قوبل بتهيؤ املسلمني إلرسال جرياهنم األقباط إىل‬
‫(‪)59‬‬
‫مقتىن غامضاً‪:‬‬
‫فلسطني باسم اإلسالم ‪ .‬واألهرامات اليت كان عليهم تقدميها كانت يف أفضل األحوال ً‬
‫فرعونية يف مصر مسلمة مع أقلية قبطية كانت ملعونة مرتني‪ ،‬مرة كوثنية عنيدة ومرة كمسيحية‬
‫تشييدية(‪ .)51‬مصر يف اإلسالم مل تكن أمة أو حىت بلد بقدر ما كانت جمرد مكان‪.‬‬
‫لقد حلمت مصر اهللينية بعودة الفراعنة‪ ،‬ورمبا حلمت مصر البيزنطية بإحياء البطاملة يف الوقت‬
‫املناسب؛ لكن مصر العثمانية مل تستطع أن حتلم إال بإحياء مملوكي‪ .‬وبقدر ما كانت مصر حتلم بأية‬
‫حال‪ ،‬كان باستطاعة املرء القول إهنا ما تزال بلداً‪ .‬لكنها كانت بلداً مل يتبدل فيه أمنوذج مصر البيزنطية‬
‫بقدر ما عُ ِكس‪ .‬حتت حكم اليونانيني كانت اجلماهري الفالحية هي اليت مثّلت اخلصوصية املنطوية على‬
‫ذاهتا‪ ،‬يف حني كانت النخبة متوجهة بثبات حنو العامل اخلارجي‪ :‬خذوا األبيونيني وزمالئهم األرستقراطيني‪،‬‬
‫مع ذلك ظلت مصر فضالة الكيمه‪ .‬لكن يف ظل حكم العثمانيني كانت النخبة وليس الفالحني هي‬
‫املمثلة للخصوصية‪ :‬خذوا علي بيه وخلفاءه اخلديويني‪ ،‬ومصر أصبحت بقية اجلمهورية العربية املتحدة‪.‬‬
‫تبدو إسبانيا للوهلة األوىل حالة تبعث على الكثري من احلرية‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬امتلكت إسبانيا ثقافةً‬
‫إقليميةً قائمةً على التقليد مع كل ما يستلزمه القبول الثقايف‪ ،‬وهويةً إسبانية رومانية مع كل ما يستلزمه‬
‫الضمان اإلثين‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬كانت إسبانيا يف آن إقليماً نائياً للغاية يف العامل اإلسالمي‪ ،‬وأيضاً‪،‬‬
‫مبحض املصادفة إقليماً منشقاً سياسياً‪ .‬مع ذلك فاحلضارة اإلسالمية ق ّدمت يف إسبانيا واجهة شرقية ال‬
‫عيب فيها مثلها مثل مصر وساحل مشال أفريقيا(‪ .)52‬بل إن املسيحيني أظهروا درجة من التمثل داخل‬
‫الثقافة اإلسالمية يصعب أن جند ما يوازيها يف الشرق(‪ ،)53‬كما أهنا ال جتد شبيهاً هلا بني زرادشتيي إيران‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Z.‬‬ ‫(‪ )47‬قارن بقية الشعور الوطين املصري الذي توحي به وصية ابن طولون املتعلقة باستخدام ُح ّجاب حمليني وليس عراقيني يف مصر‪.‬‬
‫)‪.M. Hassan, Les Tulunides, Paris 1933, p. 215‬‬
‫(‪ )59‬قارن اهلامش ‪ 88‬من الفصل التاسع‪.‬‬
‫(‪ )51‬قارن موقف املأمون‪ ،‬الذي أمر بفتح اإلهرامات مبناسبة زيارته ملصر‪.‬‬
‫‪(E. Lévi-Provençal,‬‬ ‫(‪ )52‬قارن التعليق احملبط للصاحب بن عباد على عقد ابن عبد ربه‪« :‬إنه فقط بضاعتنا ردت إلينا»‪.‬‬
‫‪.)Histoire de l’Espagne musulmane, Paris and Leyden 1950 - 3, vol. iii, p. 493‬‬
‫(‪G. Leve della Vida, “I Mozarabi tra Occidente e Islam”, in L’Occidente e l’Islam nell’alto )53‬‬
‫‪. Medeoevo (=Centro Italiano di Studi sull’alto Medioevo, Settimane di Studi, no. xii), Spoleto 1965‬‬

‫‪166‬‬
‫مل يكن هنالك شيء ميكن أن ندعوه فارس مزرابية‪ .‬باملقابل‪ ،‬فإسبانيا مل تقدم ما يوازي عودة إيران‬
‫للسطح يف اإلسالم‪ .‬مل تكن مثة حركة بني املسلمني احملليني إلحياء إمرباطورية رومانية أو َملَكية‬
‫قوطية(‪ ،)54‬بل أن املسيحيني املزراب ق ّدموا شهداء(‪ ،)55‬وليس أدعياء‪ .‬أما اللغة الرومانسية‪ ،‬فعلى الرغم‬
‫من استمرارها كلهجة حملية‪ ،‬إال أهنا مل تصبح قط لغة أدبية إسالمية بطريقة اللغة الفارسية‪ :‬الغََرض من‬
‫املدوية لذكريات ماض قومي جميد‪ ،‬أما غرض بيوت الشعر باللغة الرومانسية يف‬ ‫الشهنامه هو إثارهتا ّ‬
‫املوشحات األندلسية فهو حتديداً ّ‬
‫(‪)56‬‬
‫خلوها من التقليد األديب ‪ .‬وهكذا يبدو مالئماً القول إن أكثر‬
‫السمات لفتاً للنظر يف الشعوبية اإلسبانية ‪ -‬كما كانت عليه احلال ‪ -‬كانت اعتمادها على النماذج‬
‫اإليرانية(‪.)59‬‬
‫هنالك غياب مشابه ألي مطلب ديين بتميز إسباين داخل اإلسالم‪ .‬فإسبانيا مل تق ّدم أي هبافريد‪:‬‬
‫النيب التوفيقي الوحيد الذي كان ميكن أن يظهر على الرتاب اسياين كان بربرياً(‪ )58‬مشال إفريقي‪ .‬كذلك‬
‫تبد أي تقبّل ألشكال اإلسالم اهلرطقية‪ ،‬األقل تقيداً إثنياً(‪ .)57‬بل إن اختيارها للمدرسة‬ ‫فإسبانيا مل ِ‬
‫التشريعية السنية خيربنا بالقصة ذاهتا‪ :‬عوضاً عن متييزها لذاهتا باعتبارها امللجأ األخري لألوزاعية السورية‪،‬‬
‫فقد تبنت إسبانيا مالكية املدينة(‪ ،)69‬وهي أكثر املدارس التشريعية احلضرية ثباتاً بني كل املدارس‪ .‬لكن‬
‫ال يبدو باملقابل أن احلكم األموي الذي استمر طويالً استُغِ فل لعزل البلد‪ .‬مل يبد هنالك بالطبع أي شيء‬
‫إسباين جوهرياً على األمويني ‪ -‬احلكم القرشي يف هناية األمر هو شيء اشرتك فيه مواطنو إسبانيا مع‬
‫مواطين السند؛ لكن حىت إذا مل يكن اإلسبان ميالني ألن يصبحوا مروانيني غربيني(‪ ،)61‬فإن حكمهم‬
‫األموي مسح بشيء من اإلغرتاب وشيء من التعلق باملاضي املهجور إزاء العامل اإلسالمي احلضري‪ :‬ظل‬
‫اجلند لفرتة طويلة يش ّكلون أساس اجليش اإلسباين بعد إفساح اجملال للمماليك يف مناطق واقعة يف أقصى‬
‫الغرب كإفريقيا(‪ .)62‬لكن إذا كانت إسبانيا يف حمصلة األمر خمتلفة إىل حد ما‪ ،‬فهي مل تقم بأدىن حماولة‬
‫لرفع االختالف إىل سوية التمايز‪ ،‬ورمبا أن مسلمي إسبانيا مالوا إىل التأخر عن اللحاق بالزمن‪ ،‬لكن مل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )54‬مع أن أحد الكتاب من القرن العاشر ازدهى بنسبه القوطي امللكي‪.)(Lévi-Provençal, Histoire, vol. i, p. 76 .‬‬
‫(‪. Ibid., vol. ii, pp. 225 - 39 )55‬‬
‫(‪. S. M. Stern, Hispano-Arabic Strophic Poetry, Oxford 1974 )56‬‬
‫(‪ .Goldziher, “Die Sû‘bijja unter den Muhammedanern in Spanien”, p. 608 )59‬الحظ أن الطريقة اليت كتب فيها‬
‫الطرطوشي‪ ،‬يف كتابته عن امللَكية يف األندلس‪ ،‬كانت تتبع أسلوباً فارسياً‪ ،‬وليس قوطياً‪(Lambton. “Islamic Mirrors for .‬‬
‫َ‬
‫)‪Princes”, p. 424‬؛ لكن الطريقة اليت يزعم هبا املولّد ابن حزم النسب الفارسي أقل تأكيداً ‪(Lévi-Provençal, Histoire,‬‬
‫)‪. vol. iii, p. 182‬‬
‫مسرة‪.)(Ibid., vol. iii, p. 485 .‬‬
‫(‪.Ibid., vol. i, p. 113n )58‬قارن افتقاد اللون احمللي يف زندقات الصويف ابن ّ‬
‫(‪. Ibid., p. 480 )57‬‬
‫(‪ )69‬قارن‪R. Brunschvig, “Polémiques médiévales autour du rite de M :‬م‪. lik”, Al-Andalus 1950‬‬
‫(‪ )61‬قارن اهلامش ‪ 43‬من الفصل اخلامس‪.‬‬
‫(‪ )62‬قارن‪Lévi-Provençal, Histoire, vol. ii, pp. 127, 224f; M. Talbi, L’émirat Aghlabide 184 - 296/800 - :‬‬
‫‪. 909; Histoire politique, Paris 1966‬‬

‫‪169‬‬
‫يكن هنالك أدىن شك باستعدادهم ألن يعيشوا زمنهم متاماً‪ :‬مل يكن النسب األموي حائالً دون‬
‫تسرحيات الشعر العباسية(‪.)63‬‬
‫يبد كما لو أن اإلسبان كانوا يتحولون إىل مجاعة صلبة من املسلمني املستعربني‪،‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬فاألمر مل ُ‬
‫كما كانت عليه احلالة يف ساحل مشال إفريقيا تقريباً‪ .‬كانت هنالك أعداد ضخمة من املسيحيني‬
‫املستعدين للموت للتباهي بديانتهم غري اإلسالمية‪ ،‬وكانت هنالك أعداد ضخمة من املسلمني‬
‫املستعدين للقتال يف سبيل الدفاع عن هويتهم غري العربية(‪ .)64‬مع ذلك فحني حاول ابن حفصون‪ ،‬وهو‬
‫أعظم واحد بينهم‪ ،‬أن يعطي تعبرياً أكثر حتديداً عن هذه اهلوية غري العربية يف اإلسالم‪ ،‬مل جيد أمامه‬
‫طريقة غري أن يصبح مسيحياً(‪.)65‬‬
‫يكمن مفتاح فهم هذا الوضع خلف الواجهة يف موقف املزرابيني‪ ،‬وهم اجملموعة اليت تش ّكل الطرف‬
‫املعاكس للموايل اإليرانيني‪ :‬ففي حني حارب املسلمون اإليرانيون للحفاظ على ثقافتهم يف اإلسالم‪،‬‬
‫وليخلقوا بالتايل ثقافة إيرانية ‪ -‬مسلمة متميزة‪ ،‬كان املسيحيون اإلسبان سعداء يف استخالص الثقافة من‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومن مث خلق ثقافة إسبانية ‪ -‬مسيحية متميزة‪ .‬ومن الواضح أن املفتاح لفهم هذا من جديد هو‬
‫السمة التعددية لإلرث اإلسباين مقابل إرث إيران‪ .‬فأوالً‪ ،‬مل تكن إسبانيا على الصعيد الثقايف غري إقليم‬
‫روماين تقريباً‪ .‬كان لربيطانيا املاقبل رومانية طابع حضري معني وذلك باعتبارها مركز الدراسات الدرودية‬
‫املتقدمة(‪ ،)66‬أما بريطانيا املابعد رومانية‪ ،‬فقد كانت سلتية صرحية‪ ،‬بقدر ما مل تكن جرمانية‪ .‬لكن ال‬
‫يوجد هنا ما ميكننا مقارنته بإسبانيا‪ .‬ثانياً‪ ،‬كانت إسبانيا إقليماً ال يوجد ما مييزه يف املسيحية الغربية‪.‬‬
‫وثالثاً‪ ،‬عانت إسبانيا من غزو جرماين‪ .‬وهذا الغزو مل خيتف دون أثر كما كانت احلالة عليه يف إفريقيا كما‬
‫أنه مل خيلق بلداً بربرياً صلباً كما كانت احلال عليه يف إنكلرتا؛ كذلك فهو مل يؤد أيضاً إىل حماولة إلجياد‬
‫هوية قوطية متكاملة بطريقة اإلسالم العريب‪ .‬لكنه عىن زمن الغزو العريب أن إسبانيا كان هلا شكل حكم‬
‫جرماين خاص هبا والذي كان يتعايش ببساطة مع عضوية إسبانيا يف الثقافة الرومانية واملسيحية الغربية‪.‬‬
‫على املستوى السطحي‪ ،‬فقد خلقت جغرافية الغزو اإلسالمي إذاً حالة مشاهبة للحالة اليت نشأت‬
‫يف إيران‪ :‬ديلم إسبانية يف الس أستورياس‪ ،‬حيث التجأ النظام القدمي يف ظل سلسلة من أدعياء القوطية‪،‬‬
‫وذلك مقابل فارين ‪ Fars‬إسبان يف األندلس‪ ،‬حيث عاشت الديانة القدمية يف ظل حكم إسالمي‪.‬‬
‫لكن تعددية الوالءات اإلسبانية وشخصيتها جعلت القوى الكامنة للوضعني خمتلفة للغاية‪ .‬ففي املوضع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Lévi-Provençal, Histoire, vol. i, pp. 269f )63‬‬
‫(‪ )64‬أنظر على سبيل املثال‪. Ibid., pp, 342ff :‬‬
‫(‪ Ibid., p. 377 )65‬؛ (قارن أيضاً‪ .)vol. ii, p. 16n :‬كان بالطبع انتهازياً سياسياً؛ لكن االنتهازيني السياسيني كما هو مفرتض‬
‫ينتهزون الفرص األيديولوجية‪.‬‬
‫(‪. S. Piggot, The Druids, London 1968, pp. 114, 127 )66‬‬

‫‪168‬‬
‫األول‪ ،‬رمبا كانت الس أستورياس امللجأ األخري للملَ َكية القوطية‪ ،‬لكنها مل تشكل أية أمهية بالنسبة‬
‫للثقافة الرومانية أو للمسيحية الغربية عموماً‪ .‬ويف هناية املطاف فإن أفضل ما استطاع الديلميون فعله هو‬
‫التحول إىل املسلمني وإحياء لقب ملك امللوك ضمن عامل إسالمي اخرتقوه كمرتزقة‪ .‬لكن مسيحيي الس‬ ‫ّ‬
‫أستورياس كان خلفهم بقية أوروبا املسيحية‪ :‬مل تكن لديهم حاجة إلرساليات زيدية لذلك استمروا يف‬
‫إحياء اإلمرباطورية الرومانية(‪ )69‬خارج عامل إسالمي والذي دخلوه بطريقة إعادة الغزو‬
‫‪ .reconquista‬وألنه كان لديهم شيء مميّز سياسياً يف شكل امللَكية القوطية‪ ،‬استطاع اإلسبان‬
‫َ‬
‫إعادة تأسيس النظام القدمي يف اجلبال؛ لكن باملقابل ألن العنصرين املكونني للنظام القدمي أي الروماين‬
‫واملسيحي مل يكونا إسبانيني بل فقط أوروبيني‪ ،‬فقد استطاعوا وضع أيديهم عليه كله وإعادة فرضه أخرياً‬
‫على اجلنوب‪.‬‬
‫ثانياً‪ ،‬لقد عملت التعددية ذاهتا على حنو خمتلف جداً يف اجلنوب‪ .‬فقد أزال الغزو اإلسالمي شكل‬
‫احلكم القوطي ليرتك إقليماً رومانياً ومسيحياً‪ .‬بلغة دينية‪ ،‬فإن أولئك الذين ظلّوا مسيحيني استفادوا اآلن‬
‫من العوز لوالء ثقايف جوهري يف املسيحية مثلما استفادوا من قبل من عوزها للوالء السياسي اجلوهري‪:‬‬
‫كما كانوا قادرين على القبول مبَلَكية قوطية دون إثنية قوطية أو ديانة آريوسية‪ ،‬كذلك متاماً كانوا قادرين‬
‫اآلن على أخذ الثقافة العربية دون اإلثنية العربية أو الدين اإلسالمي‪ .‬وهكذا فقد توحدت تعددية القيم‬
‫الثقافية املسيحية مع استمرارية النظام القدمي خلف احلدود اإلسالمية لتم ّكن املزرابيني من أن يستعريوا‬
‫دون أن يذعنوا‪ .‬وهكذا فقد حافظت اإلقليمية الغيورة لإلسبان‪ ،‬داخل اإلسالم وخارجه‪ ،‬علىاستمراريتها‬
‫مع حتوهلم من حاضرة رومانية إىل حاضرة إسالمية؛ لكن يف حني أن الواجهة اإلسالمية اليت خلقها الوالء‬
‫الثقايف لبغداد كانت إىل حد ما غري متميزة‪ ،‬فإن الستارة اخللفية املسيحية اليت أدت إىل ظهورها كانت‬
‫بالضرورة غري اعتيادية إىل درجة عالية(‪.)68‬‬
‫مقابل األقباط واملزرابيني‪ ،‬أطل بربر مشال افريقياخلف واجهة إفريقيا األغالبة بدرجة كبرية حىت أهنم‬
‫يستمروا‬
‫ّ‬ ‫من وقت آلخر كانوا يربزون ليق ّدموا واجهة من عندهم‪ .‬مل يكن متخيالً أن باستطاعتهم أن‬
‫كحاضرة بطريقة اإليرانيني‪ .‬فهم يف الواقع مل يكونوا شيئاً بالنسبة للعامل املتحضر‪ ،‬إهنم جمرد جمموعة من‬
‫الربابرة اهلامشيني والذين كانوا ميتلكون كل األسباط املفتقدة إىل الثقافة واليت كان السوريون املثقفون‬
‫حباجة هلا‪ .‬ويف هذا كان غزاهتم العرب الشعب الذي اتفقوا معه بأعظم ماميكن‪ .‬جماهبة العرب صنعت‬
‫لرببر مشال افريقيا شيئاً مل يصنعه هلم الرومان قط‪ :‬لقد أدخلتهم يف مواجهة أ ُْمكن فيها أخذ لغة أعدائهم‬
‫لإلفصاح عن وضعهم اخلاص‪ .‬كان اإلسالم ديناً مبيناً‪ ،‬دين مبني لألسباط واحلاخامني‪.‬حتتاج املدن‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Lévi-Provençal, Histoire, vol. ii, p. 51 )69‬‬
‫(‪ )68‬قارن ترمجة املزامري إىل الرجز ‪(Leve della Vida, “I Mozarabi tra Occidente e Islam”, p. 680‬؛ قارن استخدام‬
‫املقامات الكالسيكية للشعر الديين يف بيزنطة‪ .)(Hussey, Church and Learning, p. 33 ،‬من الواضح أن فريجيل كان يعين‬
‫إلسبانيا الرومانية املتأخرة أكثر مما كان يعنيه هومريوس لسوريا الرومانية املتأخرة‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الطبقات األرستقراطية‪ ،‬املفاهيم وكل ما مييّز احلضارة كي تؤدي عملها بشكل سلس إىل ديانة ال ميكن‬
‫فهمها بسهولة‪ ،‬كاليت كان اإليرانيون يف هناية األمر فخورين يف وصفها(‪)67‬؛ لذلك فقد عانت احلضارة‬
‫غري األسباط واحلاخامون موطن إقامتهم‪ .‬لكن السوريني الذين كانوا ضحايا احلضارة وبربر مشال‬ ‫عندما ّ‬
‫افريقيا الذين مل يكونوا حباجة إليها استمروا على حد سواء يف اإلحراز كل بطريقته اخلاصة‪ .‬مل يستطع‬
‫السوريون إحراز هوية من قيم الثقافة اليونانية ‪ -‬الرومانية عندما كانوا ينكرون أهنم يونانيون‪ ،‬ومل يستطع‬
‫بربر مشال افريقيا اإلفصاح عن هويتهم عندما كانوا ينكرون أهنم رومان‪ .‬وأي من الطرفني مل يرغب باتباع‬
‫أمثولة اإلسبانيني‪ ،‬الذين كانوا روماناً أكثر من الرومان‪ ،‬ففي حني حاولت سوريا املستقرة أن تقوم برتكيبة‬
‫إقليمية‪ ،‬اختار بربر مشال افريقيا عوضاً عن ذلك أن يظلوا جانباً‪ .‬وبعكس السوريني‪ ،‬مل يكن لدى بربر‬
‫مشال افريقيا ما يسامهون به وال الرغبة يف أن يصبحوا عرباً؛ لكنهم فهموا األسباط واستطاعوا استخدام‬
‫احلاخامني‪ ،‬ويف ظل شرط مضمونه أنه باستطاعتهم محاية إثنيتهم يف وجه جذب إسالم عريب‪ ،‬كان‬
‫سهالً عليهم كفاية تبين هوية بلغة القيم اإلسالمية‪ .‬وبأية حال مل يكن لديهم ما يفقدونه يف تلك‬
‫العملية‪ :‬مل يكن هنالك شيء ميكن إعتباره ثقافة وحكماً وديانة بربرية مشال افريقية مندجمة‪ .‬ويقدم غىن‬
‫حضور بربر مشال افريقيا وتنوعه يف مشال إفريقيا املسلم وذلك مقابل جمهوليتهم الرببرية أيام الرومان واحداً‬
‫من أكثر األمثلة التوضيحية لفتاً للنظر عن البيئة اليت بدا فيها اإلسالم وكأنه يف بيته على حنو هو األكثر‬
‫حقيقية‪.‬‬
‫لقد أخذت حماولة بربر مشال افريقيا لإلفصاح عن هوية مبصطلحات إسالمية شكلني‪ ،‬كما هي‬
‫احلال يف إيران‪ .‬ما هو أكثر جذرية كان تطوير النسخ الرببرية الشمال افريقية عن اإلسالم العريب‪ :‬جاء‬
‫أنبياء بربر مشال افريقيا بآيات موحاة بربرية مشال افريقية (‪ .)99‬لقد اختفى النمط يف هناية األمر؛ لكنه يف‬
‫مستقل ومتميز دينياً‪ ،‬هو الربغواطة‪ ،‬الذي استمر حىت‬
‫ّ‬ ‫أحد األمثلة ق ّدم شكل حكم بربري مشال افريقي‬
‫القرن الثاين عشر‪ .‬ما هو أكثر اعتداالً‪ ،‬هو أن اخلصوصية الرببرية الشمال افريقية وجدت تعبرياً هلا يف‬
‫تبين أشكال هرطوقية لإلسالم(‪ .)91‬فمن ناحية لدينا اخلوارج الرببر الشمال افريقيني‪ ،‬املتجسدين عرفياً‬ ‫ّ‬
‫قبل كل شيء يف إمامية تاهرت االباضية بساللتها امللكية اإليرانية وميوهلا الشعوبية(‪)92‬؛ ومن ناحية‬
‫أخرى لدينا الشيعية الرببرية الشمال افريقية يف هيئة األدارسة‪ ،‬انتثار الدويالت العلوية من احلقبة‬
‫ذاهتا(‪ ،)93‬واملذهب اإلمساعيلي يف قتامة‪ .‬ومن جديد نقول‪ ،‬إن الظاهرة اختفت يف هناية األمر تقريباً‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪Pahlavi Texts (=M. Müller (ed.), The Sacred Books of the‬‬ ‫(‪ )67‬هكذا يقول «السد در»‪ ،‬ترمجة ي‪ .‬و‪ .‬وست يف‪:‬‬
‫‪. East, vol. xif), New York 1901, part three, p. 346; Bailey, Zoroastrian Problems, p. 162‬‬
‫(‪T. Lewicki, “Prophétes, devins et magiciens chez les Berbères médiévaux”, Folia Orientalia )99‬‬
‫‪. 1965, pp. 7 - 12‬‬
‫(‪ )91‬الحظ ما توحيه حوادث ثورة قطامة عام ‪ 711‬ومابعد من مساواة بني النبوة الرببرية واهلرطقة‪ :‬بعدما قتل احلاكم الفاطمي الداعي‬
‫اإلمساعيلي الذي مجع الرببر حول اإلمساعيلية‪ ،‬وضعوا على رأسهم نبياً بربرياً اُ ْعلِن أن موضع إقامته قبلة )‪.(ibid., pp. 9f‬‬
‫(‪C. Bekri, “Le Kharijisme berbère. Quelques espects du royaume rustumide”, Annales de l’Institute )92‬‬
‫‪.d'études orientales 1957.‬الحظ أيضاً كيف تقدم إباضية مشال افريقيا املوضع لظهور (أو لعودة ظهور؟) عرف ديين غري‬
‫العزابة‪.(Encyclopaedia of Islam, art “Halka”) .‬‬ ‫معروف يف أي مكان آخر يف اإلسالم‪ ،‬هو ّ‬
‫(‪. G. Marçais, La Berbérie musulmane et l’Oriént au moyen âge, Paris 1946, pp. 119f )93‬‬

‫‪199‬‬
‫التواجد االباضي يف مشال إفريقيا اليوم حمدود‪ ،‬والسالطني األشراف‪ ،‬رغم نسبهم العلوي‪ ،‬مل يكونوا‬
‫كالصفويني بالنسبة لرببر مشال افريقيا‪ .‬لكن االنتصار النهائي للمالكية يف مشال إفريقيا كان مغنماً صعباً‬
‫بقدر ما كان سهالً يف البداية يف إسبانيا‪.‬‬
‫مع ذلك ففي البعد السياسي كانت أناقة هذا االنتقال من كوهنم خمتلفني خارج روما إىل كوهنم‬
‫خمتلفني داخل اإلسالم هي األكثر وضوحاً‪ .‬وبعكس الدياملة‪ ،‬مل يكن لدى بربرمشال افريقيا ماض سياسي‬
‫يفقدونه يف اإلسالم‪ ،‬وال حىت َملَكية فاندالية يأخذوهنا إىل اجلبال‪ .‬ففي الديلم كان عمل اإلرساليات‬
‫للملَكية الساسانية‪ ،‬مل يكن الدياملة‬
‫اهلرطوقية بطريقة من الطرق زائداً عن احلاجة‪ :‬فحىت حد تذ ّكرهم َ‬
‫حباجة إىل إمامة إسالمية‪ .‬لكن بربرمشال افريقيا الذين مل تكن لديهم ذكريات كهذه‪ ،‬مل تكن‬
‫أيديولوجياهتم السياسية مضطرة ألن تكون دينية يف اهلامها‪ .‬اىل ذلك احلدكانوا واقعني يف الورطة ذاهتا‬
‫اليت وقع فيها فاسري وأكسيدو‪ ،‬القائدان املقدسان الدوناتيان اللذان أقاما الدنيا ومل يقعداها يف املنطقة‬
‫الواقعة خلف الساحل اإلفريقي أيام أغسطينس(‪ .)94‬مع ذلك فاملسألة الدوناتية‪ ،‬رغم كل صحتها‪ ،‬مل‬
‫تستطع أن تكون مسألة سياسية جوهرياً‪ :‬ال متتلك املسيحية شكالً للحكم‪ ،‬إمنا فقط مسيا حمجوباً‬
‫واستكانية خمصية‪ ،‬وهكذا كان على السريكومسيلويونيني ‪ Circumcellions‬أن حياربوا كمشاركني‬
‫من خلف الكواليس يف انشقاق إكلريوسي للمدن الساحلية‪.‬‬
‫يف هذه احلالة فإن جميء اإلسالم كان يعين إعادة توزيع بيئوية عنيفة للمعىن السياسي‪ .‬ففي األيام‬
‫اخلوايل كان حكم الساحل يعين متثيل روما اخلالدة‪ ،‬يف حني أن تربية اسباط يف الداخل كانت تعين أن‬
‫يكونوا خلف حظرية السياسات املتحضرة‪ .‬لكن هذا التقابل عُ ِكس يف منظور إسالمي‪ :‬أن حتكم‬
‫الساحل صار ميثل اآلن سلطة غري شرعية ترجيحياً‪ ،‬يف حني أن تربية األسباط يف املناطق الداخلية صار‬
‫عمل الويل الصاحل‪ .‬وهكذا ففي حني كان على فاسري وأكسيدو أن ينتزعا معنامها من انشقاق سياسي يف‬
‫الساحل‪ ،‬أخذ أبو عبد اهلل الشيعي وأبو يزيد معنامها مباشرة من مذهب اإلمامية‪ .‬ويف حني خرج‬
‫املسلمون الدياملة من جباهلم وأعادوا إحياء أحفاد أردشري‪ ،‬فعل بربرمشال افريقيا املسلمون ذلك لصاحل‬
‫البيت النبوي‪ .‬لقد حطّم تصلّب احلضارة اإلسالمية إيران يف الشرق ومسح األقاليم اليونانية ‪ -‬الرومانية‬
‫يف الغرب؛ لكن بربرمشال افريقيا احتلوا موقعاً فريداً أهلهم ألن جيعلوا هذا التصلب خاصاً هبم‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪W. H. C. Frend, The Donatist Church: A Movement of Protest in Roman North Africa,‬‬ ‫(‪ )94‬قارن‪:‬‬
‫‪.Oxford 1952, pp. 172 - 8‬‬

‫‪191‬‬
‫‪91‬‬
‫قدر الهاجرية‬

‫إن قوة اهلاجرية يف إعادة تشكيل عامل األنتيك تكمن يف توحيدها بني القيم اليهودية والزخم الرببري‪ .‬مع‬
‫ذلك فرغم كل قوته‪ ،‬فقد أُفْ ِسد هذا االنصهار بني احلقيقة واهلوية بتوتر الميكن حلّه‪ .‬التوتر كان ثابتاً‪ ،‬وأفضل‬
‫ما ميكن مقاربته هو عرب املقابلة بني روايتني قدميتني جداً بشأن حماوالت اهلاجريني لنشر ديانتهم‪ .‬تصف األوىل‬
‫استشهاد حامية غزة بعد الغزو بفرتة قصرية‪ .‬لقد دعيت احلامية إىل هجر إمياهنا‪ ،‬وإنكار املسيح‪ ،‬واملشاركة يف‬
‫طقوس السارسانيني؛ وكانوا باملقابل سيتمتعون باجملد ذاته الذي متتع به السارسانيون أنفسهم(‪ .)1‬وحلسن احلظ‪،‬‬
‫ووفق حدود معرفتنا للحدث‪ ،‬فقد صمدت احلامية واستشهد الرجال عن بكرة أبيهم(‪ .)2‬أما الدليل اآلخر‬
‫فيشري إىل وصول الغزاة إىل جبل سيناء إلجبار السارسانيني احملليني على اإلرتداد عن املسيحية(‪.)3‬‬
‫فاستسلموا(‪ )4‬كلهم باستثناء واحد وترك هلم مسألة أن ينضموا إىل السارسانيني يف ديانتهم‪ .‬واملضمون واضح‬
‫ومفاده أن الغزاة مل يظهروا أدىن اهتمام يف إدخال الرهبان املسيحيني يف ديانتهم(‪.)5‬‬
‫ميكن تفسري الفرق بني موقف السرسانيني من جنود غزة من ناحية وموقفهم من رهبان سيناء من‬
‫ناحية أخرى إىل حد ما مبصطلحات كرونولوجية‪ .‬فنحن ال نعرف على وجه الدقّة مىت وصل الغزاة إىل‬
‫جبل سيناء‪ ،‬لكن رمبا أنه حدث بعد سقوط غزة ببعض الوقت‪ .‬ال ميكن أن يُ َشك أن قدر حامية غزة‪،‬‬
‫وهي تـُ َواجه خبيار حمفوظ يف اإلسالم الكالسيكي للمشركني من العرب‪ ،‬إمنا يعكس امليل البدئي املعادي‬
‫للمسيحية عند اهلاجرية ‪ -‬اليهودية؛ يف حني ميكن النظر إىل احلوادث على جبل سيناء يف ضوء‬
‫اإلنسحاب اهلاد الذي جاء بعد ذلك داخل عامل ديانة ابراهيم الضيّق إثنياً‪ .‬والدالئل القدمية األخرى‬
‫حول مسألة تبديل الدين تنصاع إىل درجة ما للمعاجلة ذاهتا‪ .‬مع ذلك فهنالك طريقة أكثر حتليلية ملقاربة‬
‫ُس َس ْست يف هوية إثنية متميزة(‪)6‬؛‬
‫هذا الفرق‪ .‬فحىت يف شكل اهلاجرية ‪ -‬اليهودية‪ ،‬فالديانة اجلديدة أ ِّ‬
‫وحىت يف شكل ديانة إبراهيم‪ ،‬فهي ظلت متتلك حقيقة كونية كمونياً(‪ .)9‬وإذا كان قتل حامية غزة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪Delahye, “Passio sanctorum sexaginta martyrum”, pp. 301f‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫(‪ )2‬الحظ العدوانية العقائدية‪ ،‬كما يظهر لنا من الرواية اليت يقدمها سيبيوس‪ ،‬واليت يدعو هبا احلاكم اهلاجري اإلمرباطور البيزنطي «إىل‬
‫عباد اإلله العظيم الذي أعبد‪ ،‬إله ابينا ابراهيم» (أنظر سابقاً‪ ،‬هامش ‪ 33‬ف ‪.)1‬‬
‫(‪Nau, “Le texte grec des récits du moine Anastase”, pp. 8-9 = id., “Les récits inédits du moine )3‬‬
‫‪ .Anastase”, pp. 45‬اإلشارة العرضية يف موضع آخر من النص ذاته (صص ‪ )38=82‬إىل السرسانيني على جبل سيناء وهم‬
‫جيدفون على املكان املقدس توحي بأهنم مل يكونوا قد أدركوا بعد اهلوية املسيحية للجبل‪.‬‬
‫(‪ )4‬قارن رائحة اإلسالم يف التطابق السلوكي بني اإلستسالم وتبديل الدين‪.‬‬
‫(‪ )5‬قارن تقرير البطريرك النسطوري ايشوع يهب الثالث القائل إنه قد ُِمسح للمزون من عُمان بالبقاء مسيحيني لكن مقابل تسليم نصف متلكاهتم‬
‫فقط‪ ،‬والحظ تأكيده على موقف الغزاة الطيّب من كنيسة منطقته‪.‬‬
‫(‪ )6‬قارن موقع «اخلائفني من اهلل» من األمم يف األزمنة اهللينية مقابل معلميهم اليهود‪.‬‬
‫(‪ )9‬وحدها الرواية املسيحية املتعلقة باحلرم اإلبراهيمي واليت يق ّدمها لنا تاريخ اخلوزستاين (أنظر اهلامش ‪ 48‬من الفصل الرابع) جند فيها أن‬
‫اجملرد لسلف متميّز من قبل أحفاده املؤمنني‪.‬‬
‫العبادة ُم َق ّدمة بنسبية دفاعية مستمرة باعتبارها اإلجالل ّ‬

‫‪192‬‬
‫إلحقاق احلق ش ّكل معىن‪ ،‬فإن جتاهل رهبان سيناء يف مسار إدراك اهلوية باملقابل ش ّكل معىن أيضاً‪.‬‬
‫ومزج االثنتني معاً ش ّكل معىن أيضاً‪ :‬فقد كان مستحيالً إيصال احلقيقة واهلوية إىل حدمها األقصى يف‬
‫الوقت ذاته‪.‬‬
‫املسار األكثر وضوحاً كان دون شك حنو إيصال اهلوية إىل ح ّدها األعلى‪ .‬واهلاجرية يف هناية األمر‬
‫كانت حبثاً عن حقيقة تناسب نسباً هاجرياً(‪ ،)8‬ومبا أن اهلاجريني األوائل كانوا غزاة‪ ،‬وليس مبشرين‪ ،‬مل‬
‫تكن هنالك مناسبة للتضحية اآلنية باإلثنية االمر الذي مييّز انتشار املسيحية‪ .‬وهكذا فقد كان باستطاعة‬
‫تذمر من أن الذين هدهتم إليها‬‫اهلاجرية أن تبحث عن احلفاظ على ديانة إثنية بطريقة اليهودية‪ ،‬وأن ت ّ‬
‫كانوا قساة على امسعيل كاجلذام(‪ . )7‬بتعابري عينية‪ ،‬كان هذا خياراً مرحياً يف البد ‪ .‬فقد عىن من‬
‫ناحية‪،‬أن اهلاجريني دفعوا حصصاً من األرباح بالنسبة اىل التماسك األيديولوجي بني صفوف الغزاة‪ .‬ويف‬
‫زمن متأخر كحقبة الوليد األول‪ ،‬قُتِل القائد التغليب على أساس أنه من العيب أن يعبد زعيم العرب‬
‫الصليب(‪ .)19‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن إيصال اهلوية إىل حدها األقصى ساعد يف البداية على إبقاء أولئك‬
‫الذين هم من غري العرب والذين شاركوا الغزاة يف قرعتهم يف مواقعهم الثابتة‪ ،‬بغض النظر عن حقيقة‬
‫املتحول اىل الدين الذي دعا نفسه مهاجراً زبوناً بالقدر ذاته الذي كانه‬
‫ّ‬ ‫قناعاهتم الدينية‪ :‬بل لقد كان‬
‫التابع الطفيلي الذي حافظ على ديانة أجداده‪ .‬وهكذا فاهلاجرية عند كال اجلانبني كانت تكريساً مناسباً‬
‫للبنيان البدئي للمجتمع الغازي‪.‬‬
‫مع ذلك فإن فكرة هاجرية يف صورة إثنية لليهودية كانت معضلة عويصة‪ :‬يف مستني وثيقيت الصلة‬
‫باملوضوع‪ ،‬مل يكن اهلاجريون مثل اليهود‪ .‬أوالً‪ ،‬لو كان اهلاجريون شعباً خمتاراً‪ ،‬فمكانتهم كانت مكانة‬
‫حديثي نعمة على حنو مربك(‪ .)11‬رمبا حلّوا هذه املشكلة مبدأيّاً عن طريق إعادة سبك جممل تاريخ‬
‫التوحيد منذ ابراهيم حىت االنتصار اجمليد لإلمساعيلني‪ ،‬وذلك عن طريق االبتداء بعطية عهد المسعيل يف‬
‫توراة هاجرية(‪ .)12‬أما عملياً فلم يكن لديهم اجللد على ذلك‪ .‬وهكذا فقد كانوا يف موقع يؤهلهم ألن‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )8‬يف ا لقرن اخلامس أبلغ القديس أوثيميوس الذين اعتنقوا ديانته من العرب أهنم مل يعودوا أبناء هاجر بل أبناء سارة ‪ ،‬وهم بالتايل ورثة‬
‫العهد‪(Cyril of Scythopolis, “Vita et res gesta S.P.N. Euthymii”, P.G, vol. cxiv, col. 617.‬؛ قارن رسالة‬
‫القديس بولس إىل روما ‪ ،7:7‬رسالة القديس بولس إىل غالطية ‪.)28:4‬وهكذا فتعاليم النيب اهلاجري كانت عكساً دقيقاً لتعاليم‬
‫القديس املسيحي‪ :‬ففي حني داور القديس املسيحي النسب حىت انسلك يف الوعد‪ ،‬داور حممد الوعد حىت انسلك يف النسب‪.‬‬
‫(‪ )7‬قارن‪ .Bamberger, Proselytism in the Talmudic Period, p. 163 :‬وهذا بالطبع ليس إلنكار أن التوتر احمللّل هنا يف اإلسالم‬
‫يـُ َق ّدم يف مواقف يهودية جنينية حنو املهتدي إىل الدين (قارن‪.)Ibid., pp. 149f :‬‬
‫(‪. Michael the Syrian, Chronique, vol. iv, pp. 451 = vol. ii, pp. 480n )19‬‬
‫(‪ )11‬إن عبارات من منط «لقد ُشِّرف العرب برسول اهلل» (أنظر اهلامش ‪ 24‬من هذا الفصل)‪ ،‬تتخلّى ضمنياً عن النسب اإلبراهيمي‬
‫كحالة سيئة‪.‬‬
‫(‪ )12‬قارن الزعم الذي مفاده أن اهلل اختار امسعيل من بني أبناء ابراهيم (ابن قدامة‪ ،‬كتاب املغين‪395:9 ،‬؛ زين الدين عبد الرمحن‬
‫العراقي‪ ،‬القرب يف حمبة العرب‪ ،‬حترير ي‪ .‬هـ‪ .‬القادري‪ ،‬اإلسكندرية ‪ ،1761‬ص‪.)72‬‬

‫‪193‬‬
‫يشرعوا‪،‬كورثة للتقليد ذاته الذي حجب عنهم املرياث‪ ،‬إلعادة تلقي روح النبوة بعد طريق متعرجة طويلة‬
‫على حنو حمرج(‪ .)13‬أكثر من هذا‪ ،‬فإن مكانة حمدثي النعمة اليت احتلوها هلم كانت تعين أن اهلاجرية مل‬
‫تستطع أن تكون حصرية إثنياً إال على حساب كوهنا ضيقة النظر إبستمولوجياً‪ .‬وحبكم الضرورة كان على‬
‫حممد أن يـَُق ّدم كمؤسس متأخر مللّة موازية مللّيت موسى ويسوع؛ فهو مل يستطع أن حيل حملّهما أو أن يظهر‬
‫كخليفة هلما‪ .‬وهكذا كان على حقيقة مكانة اإلسالم أن تُ َسيفج بنسبية علم ‪ -‬نبوية واليت من الواضح جداً‬
‫أهنا مؤشر فشله‪ ،‬حىت يف شكلها الكالسيكي‪ ،‬يف أن يصبح ديانة عاملية دون أدىن حتفظ(‪ .)14‬وأحرزت بالتايل‬
‫وسيلة الدفاع االجتماعية عن اهلوية اهلاجرية على حساب إنزال املرتبة العقائدية للحقيقة اهلاجرية‪ .‬ثانياً‪ ،‬لقد‬
‫كانت اهلوية اهلاجرية يف هناية األمر قابلة ألن يدافع عنها اجتماعياً؛ وهذا للسبب ذاته الذي مفاده أن‬
‫اهلاجريني‪ ،‬بعكس اليهود‪ ،‬كانوا غزاة‪ .‬ميكن استبعاد العامل األممي من الغيتو ألنه ال ميتلك رغبة بدخوله عموماً‪،‬‬
‫يف حني يستفيد الغزاة من المباالة كهذه حيال الدخول يف صفوفهم من قبل مواليهم‪.‬لقد استطاع التعريف‬
‫الذايت اإلثين للهاجريني حتمل الوشل األول دون جهد أيديولوجي ال طائل منه؛ لكنه مل يستطع أن يأمل‬
‫باإلستمرار دون تآكل حني يصبح الوشل فيضاناً بعد ذلك‪ .‬وهكذا فقد كان أي إحلاح على إيصال اهلوية إىل‬
‫حدها األعلى يه ّدد على املدى الطويل بتخفيض درجة اهلوية و احلقيقة على حد سواء‪.‬‬
‫كان البديل إيصال احلقيقة إىل حدها األقصى‪ .‬وحىت يف شكل لديانة ابراهيم حيمل صفات‬
‫اسية العرقية‪ ،‬مل تكن اهلاجرية أكثر من توقري ألحد األسالف‪ :‬كانت أيضاً حقيقة توحيدية يف‬ ‫الدس ّ‬
‫ّ‬
‫نقائها البدئي‪ ،‬املعيار الذي ابتعدت عنه امللل األخرى‪ ،‬األكثر سفسطائية‪ .‬ومن باب أوىل فإن ارتقاء‬
‫حممد إىل دور نيب صاحب كتاب جديد يقف يف صف واحد مع موسى ويسوع أضفى على رسالته‬
‫مكانة عاملية ال لبس فيها‪ .‬يف الوقت ذاته فقد كانت إحدى املكرمات العربية هي أن يـُ ْق َفل تاريخ الوحي‬
‫التوحيدي بأحد االمساعيليني‪ .‬لكن كان مثة غصة يف احللق‪ .‬فإذا وجب أن تكون للرسالة هذه الشخصية‬
‫الرفيعة‪ ،‬فبأي طريقة كان باستطاعة اإلثنية االمساعيلية حلامل الرسالة أن تكون أكثر من حدث تارخيي‬
‫عارض؟ لكن إذا كانت احلالة كذلك‪ ،‬فليس من الواضح كيف استطاع دور العرب يف بداية تاريخ الديانة‬
‫أي تسويغ ذي جوهر ديين أن يوجد ألجل صدراهتم التالية‬ ‫أن ميتلك أية أمهية جوهرياً‪ ،‬أو كيف استطاع ّ‬
‫داخل امللّة(‪ .)15‬املسألة ُمتَض فمنة يف حدث حامية غزة‪ :‬لو كانت اهلاجرية حقيقة كونية مبا يكفي ألن‬
‫تطلب مصادقة جنود رومانيني‪ ،‬فاألمر املنطقي الوحيد هو أنه كان على الغزاة تعزيز جاذبيتها عن طريق‬
‫إبداء استعدادهم ألن يتشاركوا بشرفهم مع أعدائهم املقهورين‪ .‬ألنه إذا كان إيصال اهلوية إىل حدها‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(Goldziher,‬‬ ‫(‪ )13‬قارن املسألة الشعوبية الشديدة األثر يف النفس واليت مفادها أن كل األنبياء اهلامني قبل حممد كانوا من غري العرب‪.‬‬
‫)‪.Muslims Studies, vol. i, p. 1555‬‬
‫(‪ )14‬قارن‪ :‬القرآن ‪66:22‬؛ ‪Kister, “Hadduthu”, p. 234‬؛ وسابقاً هامش ‪ 2‬ف ‪. 3‬‬
‫(‪ )15‬قارن حتذير علي للعرب خبصوص احلمراء «بأهنم سوف يضربونكم يف الدين رداً على ضربكم إياهم فيه يف البداية» (أبو عبيد‬
‫القاسم بن سالم‪ ،‬غريب احلديث‪ ،‬حيدر أباد ‪ ،) 483:3 ،1766‬والرأي املنسوب لثمامة واجلاحظ والذي مفاده أن األنباط أفضل‬
‫من العرب لكوهنم اتبعوا اإلسالم دون أن يكون النيب ظهر بينهم‪(J. van Ess, “Gahiz und die ashab al-ma‘rif”, Der .‬‬
‫)‪.Islam 1966, p. 176n‬‬

‫‪194‬‬
‫األقصى ّأدى إىل ديانة إثنية بالصورة اليهودية‪ ،‬فإن إيصال احلقيقة إىل حدها األقصى أدى إىل ديانة أممية‬
‫بالصورة املسيحية؛ وجدير باملالحظة هنا أنه يف حني أن كل املسيحيني هم أبناء للعهد جمازياً‪ ،‬فاإلثنية‬
‫احلرفية الوحيدة اليت ال متثل يف املسيحية هي إثنية اليهود‪ .‬هل كان على اهلاجريني إذاً أن يسريوا يف‬
‫الدرب اليت سار هبا قبلهم اليهود املتنصرون(‪)16‬؟‬
‫مكونة‬
‫لقد تعايشت يف احلدث على حنو مضطرب املطالب اخلاصة باحلقيقة واهلوية داخل ملّة دينية ّ‬
‫من لب عريب والذي مل يكن شعباً خمتاراً متاماً(‪ )19‬وظل غري عريب والذي مل يكن أممياً متاماً(‪ .)18‬لقد قبل‬
‫اإلسالم مبعيار ما مبوت «احلياة املنعزلة» اإلثنية‪ ،‬وصار مبعىن ما ديانة كونية؛ لكنه فعل ذلك دون توقف‬
‫نبيه عن أن ُجيَل يف بلده األم(‪ .)17‬وهكذا فاملنزلة الدينية للعريب ولغري العربيب ضمن امللّة كانت مسألة‬
‫أصرت‬‫مشوشة للغاية‪ .‬فالقرآن من ناحية أعلن أن أكرم الناس عند اهلل أتقاهم (‪ ،)13:47‬يف حني ّ‬
‫تقاليد ال حصر هلا على أنه ليس هنالك نسب بني اهلل واملؤمن غري نسب الطاعة(‪ ،)29‬وأنه ال فضل‬
‫لعريب على غري عريب إال بالتقوى(‪)21‬؛ شهادات على تأكيد مشويل على اإلحراز مليزة دينية ذات منط‬
‫مألوف من املسيحية‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬جند النيب يعلن أن حب العرب هو جزء من الدين وحي ّذر ملّته‬
‫بأنكم «حني تكرهون العرب فأنتم تكرهونين»(‪ )22‬؛ آراء مل يكن التقليد املسيحي ليضعها يف فم‬
‫مؤسسه فيما يتعلّق بإثنيته اخلاصة‪ ،‬وهي يف الوقت ذاته شهادات على ميل معاكس إىل ختصيص امليزة‬ ‫ّ‬
‫(‪)24‬‬ ‫(‪)23‬‬
‫الدينية بإسناد نَ َسيب ‪ .‬وهكذا فاملبدآن املتناقضان متتّعا بفعالية خالصية ‪ .‬كذلك فإن العالقة بني‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )16‬قارن‪. Goldziher, Muslims Studies, vol. i, p. 112 :‬‬
‫حجة الدارمي الذي عاش يف القرن الرابع عشر واليت مفادها أن العرب هم املرجع األول يف مسألة العرف الطقسي «ألن الدين‬
‫(‪ )19‬قارن ّ‬
‫عريب» ‪ ،)(R. Levy, The Social Structure of Islam, Cambridge 1957, pp. 174f‬مع الفكرة احلاخامية األكثر‬
‫إحكاماً واليت تقول « مع أن اإلسرائيليني ليسوا أنبياء‪ ،‬فهم ابناء األنبياء ‪(Gerhardson, Memory and Manuscript, p.‬‬
‫)‪.»75n‬‬
‫(‪ )18‬قارن حماوالت الشعب كله ألن ي ّدعي نسباً عربياً‪(Goldziher, Muslims Studies, vol. i, pp. 134f.; Y. F. Hasan, .‬‬
‫‪The Arabs and the Sudan: from the seventh to the early sixteenth Century, Edingurgh 1967,‬‬
‫‪.)Chapter5‬‬
‫معني أُعطي عاجالً أم‬
‫التطور املفاهيمي لديانة عاملية من طريقة حياة شعب ّ‬ ‫(‪ )17‬الحظ التطهري اإلثين يف املسيحية والبوذية‪ ،‬حيث ّ‬
‫آجالً تعزيزاً عينياً عرب اإلنفصال عن الشعب الذي كانت الديانة ديانته أصالً‪.‬‬
‫(‪ )29‬أنظر على سبيل املثال‪ ،‬الطربي‪ ،‬تاريخ‪.2216 :1 ،‬‬
‫(‪ )21‬أنظر على سبيل املثال القسم األخري من الشاهد الوارد الحقاً‪ ،‬اهلامش ‪24‬؛ أنظر أيضاً‪Goldziher, Muslims Studies, :‬‬
‫‪.vol. i, p. 72‬‬
‫(‪ )22‬أبو بكر حممد بن أمحد السرخسي‪ ،‬كتاب املبسوط‪ ،‬القاهرة ‪1331 - 1324‬؛ ‪24 :5‬؛ ‪Goldziher, Muslims Studies,‬‬
‫‪.vol. i, p. 142‬‬
‫(‪ )23‬قارن الفكرة اليهودية حول «فضل اآلباء»‪.)(Bamberger, Proselytism in the Talmudic Period, p. 151 .‬‬
‫(‪ )24‬ترابط متسلسل ملفت للنظر بني اإلثنني تُـ َق ّدمه رواية عمر عن املباد اليت يقوم عليها تنظيمه للديوان (ابن سعد‪ ،‬طبقات‪:1:3 ،‬‬
‫شرفوا برسول‬
‫‪ 212‬وما بعد)‪ .‬فهو يبدأ باحلديث عن حممد‪ « :‬إنه شرفنا وشعبه هو أشرف العرب؛ أما الباقون فهم أدىن منهم‪ .‬العرب ّ‬
‫اهلل»‪ .‬وهكذا فالفضل موزع حبسب النسب‪ .‬لكنه يتابع حديثه باإلصرار على أنه‪ ،‬مهما كان نسب املرء قريباً من نسب النيب‪« ،‬حىت‬
‫يف تلك احلالة‪ ،‬واهلل‪ ،‬إذا جاء غري العرب باألعمال وحنن مل نأت بشيء‪ ،‬فهم سيكونون أقرب منا إىل حممد يوم القيامة»‪ .‬لو أن‬
‫الشرف نبالة دنيوية‪ ،‬قبائلية أو سواها‪ ،‬فلسوف يكون لدينا فصل بني تساوي املسلمني مجيعاً باعتبارهم مؤمنني وعدم تساويهم على‬
‫اعتبار أهنم أعضاء يف بنيان اجتماعي يف عاملنا هذا؛ لكن واحلالة هذه يصبح لدينا انقسام ضمن مفهوم ميزهتم كمسلمني‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫اإلثنية‬
‫واعتناق الدين تظهر تناقضاً ضدياً مشاهباً‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬رفض الفقهاء إنزال مكانة معتنق الدين إىل‬
‫مكانة التابع(‪ - )25‬حركة عملية يف اجتاه االنفكاك من بنيان اجملتمع الغازي لصاحل إسالم أممي‪ .‬لكنهم‬
‫من ناحية أخرى أجنزوا هذا الرفض عن طريق استبدال التبعية بعالقة قرىب واإلصرار على التمثل اآليل‬
‫للمب ّدل لدينه أو لساللة هذا الشخص‪ ،‬يف اإلثنية العربية(‪- )26‬‬
‫إعادة تأكيد نظرية على التوق اهلاجري القدمي إىل امللّة اإلثنية لشعب خمتار‪ ،‬والذي وجد له دعماً طقسياً‬
‫يف استمرارية اخلتان‪ .‬كل الناس من آدم وآدم من تراب؛ ومع ذلك فقد كانت العربية لغة آدم يف‬
‫اجلنة(‪ .)29‬مل تستطع اهلاجرية أن تدعم دمج الدين واإلثنية وفق األمنوذج اليهودي‪ ،‬وال أن توفّق بني ذاهتا‬
‫وبني انفصاهلا وفق األمنوذج املسيحي؛ وقد ّأدى التصادم‬
‫اإلثين بني اهلاجرية وشعوب األنتيك إىل حضارة واليت وقعت بثبات ودون إمكانية إنقاذ بني كرسيني‪.‬‬
‫لو أن اهلاجريني بدأوا كشعب خمتار وفق أمنوذج اليهود‪ ،‬لكانوا قد أحرزوا سريعاً عرفاً سياسياً خمتاراً‬
‫وفق أمنوذج السامريني‪ .‬وهكذا فإن الدمج بني الدين واإلثنية قُ ِرن بدمج بني الدين والسياسة‪ .‬وبعكس‬
‫املسيحيني‪ ،‬مل يكن لدى اهلاجريني سبب كي ُِحيلّوا مسيانيتهم األصلية يف روحانية غري سياسية‪ :‬لقد‬
‫قمعوا مسياهم‪ ،‬لكن مملكتهم ظلت من هذا العامل إىل حد كبري‪ .‬وبعكس اجلرمان‪ ،‬فقد استطاع‬
‫معىن معيارياً من مملكتهم دون استعانة بتقليد دنيوي مللَكية بربرية(‪ )28‬وال بالتقاليد‬
‫ً‬ ‫اهلاجريون أن يصنعوا‬
‫َ‬
‫اإلمرباطورية لألقاليم املغزوة‪ :‬تباين األدوار حني راح امللك القوطي أوريك يتصرف وكأنه الكاهن األكرب‬
‫للطائفة األريوسية ُحيَ ّل يف اإلسالم بطريقة أنيقة(‪ .)27‬وهكذا فإن استبدال املسيا بكاهن أكرب حفظ‬
‫الشخصية الدينية جوهرياً لشكل احلكم اهلاجري األصلي(‪.)39‬‬
‫يدمر بالكامل هذه القداسة اجلوهرية‪ .‬لكن إذا استمرت فكرة اإلمامة‬ ‫االنتقال من سوريا إىل بابل مل ّ‬
‫يف الوجود‪ ،‬فقد كانت ُجتَّرد على حنو متزايد من الفعالية العملية‪ .‬سقط الكاهن األكرب بني احلاخامني‪:‬‬
‫رغم كل املوارد اليت وضعتها السلطة والكهنوتية يف متناول املأمون(‪ ،)31‬فإن ابن حنبل هو الذي كان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Crone, The Mawali in Umayyad Period, chapter 4 )25‬‬
‫(‪. Ibid., chapter 4 and pp. 280, 282 )26‬‬
‫(‪ )29‬العراقي‪ ،‬قرب‪ ،‬ص‪.194‬حني طرد آدم من اجلنة حت ّدث بالسريانية‪ ،‬وحني تاب ُمسح له أن يتحدث بالعربية ثانية‪.‬‬
‫للملَكية الرببرية البارز جداً يف تاريخ أوروبا يبدو غائباً بالتايل عن التاريخ اإلسالمي باعتباره تقاليد‬
‫(‪ )28‬وهكذا فاإلرث التشريعي َ‬
‫إمرباطورية‪.‬‬
‫(‪ )27‬قارن‪ .Wallace-Hadrill, The Long-Haired Kings, p. 44 :‬على حنو مشابه فالتقليد اإلثين الكامن خلف إحلاح‬
‫األثناريك القوطي على تصنيفه «كقاض» وليس «كملك» مل جيد تكريساً دينياً يف املسيحية‪(Thompson, The Visigoth in .‬‬
‫)‪.the Time of Ulfila, p. 46.‬‬
‫(‪ )39‬هذه السمة بادية للعيان أيضاً خلف مستوى العرف املركزي‪ :‬الحظ دور احلاكم اإلقليمي القرشي‪ ،‬املسؤول عن احلرب والصالة‪،‬‬
‫والذي ُوطِّد يف مقر إقامة مالصق ألقدس جدران املسيجد مع مدخل خاص به (بكلمات زياد بني أبيه‪« ،‬اليبدو مناسباً أن يعرب اإلمام‬
‫بني الشعب» البالذري‪ ،‬فتوح‪ ،‬ص ‪.)349‬‬
‫(‪D. Sourdel, “La politique religieuse du calife ‘Abbâside Al-Mamûn”, Revue des études islamiques )31‬‬
‫‪.1963‬الحظ على حنو خاص التأكيد على التعليم‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫حيارب يف ميدانه‪ .‬ومرجعية الكهنوت األعلى يف اإلسالم األرثوذكسي‪ ،‬رغم أهنا مل ختضع قط الحتباس‬
‫رمسي‪ ،‬فقد كانت متآكلة بعمق(‪ .)32‬مل تعد اإلمامة منطمرة يف سياق كهنويت أكثر اتساعاً‪ :‬أفسحت‬
‫كهنوتية األمنوذج السامري املتكاملة الطريق أمام تعايش مضطرب بني كهنوت عال وأساس بناء حاخامي‬
‫‪ -‬أساس بناء اعتاد منذ فرتة طويلة على االغرتاب السياسي وعلى غياب السلطة احلاخامية‪ ،‬والذي افتقد‬
‫يف شكله اإلسالمي حىت فضالة املوارد املنظماتية لليهودية احلاخامية املتأخرة(‪ .)33‬وهكذا فاالنفصال‬
‫احلاخامي املتميز بني التقوى والسلطة نُظِّم يف اإلسالم يف صيغة إفرادية خاصة على حساب الكهنوت‬
‫العايل‪ .‬إن غيمة الشكوك اليت حتيط بعالقة أيب يوسف بالسلطان ترمي بثقلها على موثوقيته كناقل للتقليد‬
‫الديين(‪ ،)34‬العناد اهلاد الذي واجه به ابن حنبل بنوع من الالمباالة االضطهاد الذي عاىن منه على يد‬
‫املأمون واإلحسان الذي عاىن منه على يد املتوكل(‪ ،)35‬والتصلّب الطقوسي ألداء سحنون يف دور غري‬
‫ٍ (‪)36‬‬
‫كل هذه مواضيع مميزة لثقافة تكمن فيها الفضيلة الدينية ليس يف املمارسة التشريعية‬
‫لقاض ‪ّ ،‬‬ ‫مرغوب‬
‫التلوث هبا‪.‬‬
‫للسلطة السياسية‪ ،‬بل يف اجتناب ّ‬
‫إن هروب التقوى والتعليم إىل احلاخامية ترك أثواب السلطة الكهنوتية بالية على حنو متزايد‪ .‬فعلى‬
‫املستوى العقيدي‪ ،‬مل تكن األسس اليت أقام عليها العباسيون األوائل مزاعمهم التشريعية مقبولة يف‬
‫اإلسالم األرثوذكسي(‪ ،)39‬يف حني أن األسس اليت أقر عليها اإلسالم األرثوذكسي بشرعية العباسيني‬
‫دمرت مغزى الثورة العباسية(‪ .)38‬وعلى الصعيد السياسي‪ ،‬توقفت اإلمامة باعتبارها العرف املركزي لشكل‬‫ّ‬
‫احلكم اإلسالمي عن أن تكون فاعلة بشكل أو بآخر‪ :‬ال يهم من وجهة النظر هذه ماإذا أقمنا موقفنا‬
‫املطولة للكسل العباسي(‪ ،)37‬إنبعاث امللَكية يف الشرق(‪ ،)49‬أو خبس شرفية لقب اخلليفة يف‬
‫على اإلهانة ّ‬
‫َ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪“Some‬‬ ‫(‪ )32‬قارن املقطع اهلام من كتاب جيب ‪ Studies on the Civilization of Islam‬والذي حيمل عنوان‬
‫”‪.Considerations on the Sunni Theroy of the Caliphate‬‬
‫(‪ )33‬واقع إن اإلسالم تنقصه البىن املراجعية وذلك باملقارنة مع املسيحية هو انعكاس جزئي الهنيار اليهودية على الصعيد املنظومايت‪:‬‬
‫انسلخت املسيحية عن اليهودية حني كان ما يزال هنالك سنهدرين والذي خرجت منه التوراة إىل كل إسرائيل‪ .‬لكنه يعكس تنازالً‬
‫داخلياً للهاجرية مبعىن أنه يف حني تبدو املتفتا اليهودية مؤسسة أكادميية‪ ،‬اجمللس اإلسالمي ليس غري حدث عرضي أكادميي‪.‬‬
‫(‪ )34‬أنظر‪. Goitein, Studies in Islamic History and Isntitutions, p. 205 :‬‬
‫(‪ )35‬أنظر‪. W. M. Patton, Ahmed ibn Hanbal and the Mihna, Leyden 1897, pp. 141 - 54 :‬‬
‫(‪ )36‬أنظر‪. Talbi, L’émirat Aghalbide, pp. 232-46. :‬‬
‫(‪ )39‬حىت وقت متأخر كخالفة املهدي ‪،‬مل يكن ممكناً تصنيف املذهب العباسي باملعايري السنية إال على أنه من منط رافضي (النوخبيت‪،‬‬
‫كتاب فرق الشيعة‪ ،‬ص‪.)43‬‬
‫(‪. Encyclopaedia of Islam. art. ‘Imama’ )38‬‬
‫(‪ )37‬قارن اهلامش ‪ 35‬من الفصل اخلامس‪.‬‬
‫(‪Madelung, “The Assumption of the Title Shahanshah; )49‬؛ قابل معارضة التقليد الديين (وهو موروث عن اليهودية‬
‫مباشرة) للقب «ملك األمالك»)‪.(ibid., p. 84‬‬

‫‪199‬‬
‫الغرب(‪ّ .)41‬أما اإلمامة السنية‪ ،‬فقد مالت‪ ،‬بقدر ما استمرت يف تواجدها‪ ،‬ألن تصبح إمامة شرفية أكثر‬
‫(‪)42‬‬
‫السين كمذهب سياسي يهتم بإقرار شبه غري حم ّدد بواقع السلطة‬ ‫منها إمامة هوية ‪ ،‬وصار اإلسالم ّ‬
‫(‪)43‬‬
‫املكملة هي إنزال‬
‫السياسية أكثر من اهتمامه بتكوين سلطة سياسية شرعية ‪ .‬وكانت عملية الصريورة ّ‬
‫مرتبة احلكومة املقدسة إىل مرتبة ريف شبه هرطقي‪ .‬ويف «احلياة املنعزلة» لإلمامتني اإلباضية والزيدية‪،‬‬
‫ُح ّول الكهنوت العايل إىل شرعة قابلة للحياة معيارياً فقط وسط السياسات القبائلية القدمية واحلرمانات‬
‫املادية الفاحشة للجبال والصحاري‪ ،‬أمنوذج حلكومة ذات تعاطف أيديولوجي محيم مع سرية النيب ذاته يف‬
‫دواخل شبه جزيرة العرب‪.‬‬
‫املغزوة‪ .‬وكما هي احلال مع القبول حبكم الواقع‬
‫كان البديل لإلمامة تبين الثقافة السياسية للشعوب ّ‬
‫‪ de facto‬باهلوية األممية‪ ،‬فقد كان هذا مساراً هو يف آن مقحم على اهلاجريني من قبل وضعهم كغزاة‬
‫برابرة وممنوع عليهم عرب قيمهم اليهودية؛ ومن جديد كانت النتيجة معقدة ومتنافرة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬رفض‬
‫اهلاجريون التقاليد اإلمرباطورية اليت مسح بفضلها حلكومة عامل مدين باملرور باعتبارها شرعية‪ .‬وألهنم مل‬
‫جمرد‬
‫جمرد مسلمني‪ ،‬فهم مل يستطيعوا القبول باإلمرباطوريات بطريقة املسيحيني؛ وألهنم مل يكونوا ّ‬‫يكونوا ّ‬
‫عرب‪ ،‬فهم مل يستطيعوا إحياءها بطريقة الفرنكيني‪ .‬و ما احتفظ به املسلمون من الفكر السياسي إليران‬
‫الزرادشتية مل يكن يف احملاولة األخرية قيمه بل معناه العام(‪ :)44‬صارت السياسات اقتصاديات بال‬
‫منازع(‪ .)45‬وبذلك كان زوال الشرعية السياسية خارج الريف كامالً‪ :‬ألنه مل يكن قادراً حبد ذاته على‬
‫دمر اإلسالم يف الوقت ذاته املوارد التشريعية‬‫إضفاء تشريعية إجيابية على حكومة جمتمع مدين‪ ،‬فقد ّ‬
‫للتقاليد اليت غزاها‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فقد كان على اهلاجريني بالضرورة أن يسرمدوا اجلهاز اإلداري‬
‫للحكومة اإلمرباطورية يف األراضي اليت أخضعوها؛ لكنهم مل يستطيعوا إضفاء الطابع الشرعي عليه وذلك‬
‫(‪)46‬‬
‫تليب‬
‫بلغة قيمهم الدينية اخلاصة ‪ ،‬كذلك فقد كانت قدرهتم أقل على إعادة صياغة تلك القيم كي ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. M. van Berchem, “Titres califiens d’Occident”, Journal asitique 1907 )41‬‬
‫(‪ )42‬أمثلة ترتاوح من اإلضفاء السخي للخالفات عند الدواين على كل احلكام الصاحلني‪ ،‬دون استثناء لويل نعمته ازن حسن ‪(A. K.‬‬
‫‪Lambton,” Quis custodie custodes: Some Reflection on the Persian Theory of Government”, Studia‬‬
‫‪ )Islamica 1950 bis, part one, p. 146‬إىل الطموحات الشاذة للملك فاروق ‪Egypt and the Caliphate” in his The‬‬
‫‪.)Chatbam House Version‬هنالك بالطبع استثناءات جزئية‪ ،‬وبشكل خاص مراكش األشراف‪.‬‬
‫(‪ )43‬قارن عبارة ابن مجاعة الشهرية اليت ترد يف شهادة حول نضج الشرق األوسط ألن تتوىل السلطة فيه الشيوعية يف عمل ب‪ .‬لويس‪،‬‬
‫‪“Communism and Islam”, in W. Z. Laqueur (de.), The Middle East in Transition, London 1958, p.‬‬
‫‪.319‬‬
‫(‪ )44‬الحظ كيف يزّكي «املرايا ألجل األمراء» األمنوذج الساساين ليس ألجل ذاته بل كنوع من «العدالة النفعية»‪ ،‬كتقنية للمحافظة على‬
‫التوازن البيئوي يف جمتمع مستقر (أنظر على سبيل املثال‪A. K. S. Lambton, “Justice in the Medieval Perssian :‬‬
‫‪.)Theory of Kingship”, Studia Islamica, 1962, pp. 100, 107, 118‬‬
‫(‪ )45‬قارن‪L. Dumont, “The Conception of Kingship in Ancient India”, in his Religion / Politics and :‬‬
‫‪.)History in India, Paris/ The Hague 1970, p. 80 (on the Arthasastra‬‬
‫(‪ )46‬حتمل الربديات املصرية شهادة بليغة على أسلمة عبد امللك للغة الديوان؛ لكن طرائقه ومجلة املوظفني فيه ظلوا من الك ّفار لبعض‬
‫قرون‪ ،‬أي أنه بقي ِح ْكراً على األقباط وهو ما كان يربر بكمد على أساس احلاجة‪ ،‬لكنهم مل يطردوا منه يف هناية األمر إال حني أجهض‬

‫‪198‬‬
‫حاجاته(‪ .)49‬يف تاريخ الصني مثة توتر عضوي ومحيم بني النظرية الكونفوشيوسية والعرف املتمسك‬
‫بالشرع(‪)48‬؛ أما بني النظرية اإلسالمية والعرف املاقبل إسالمي فهنالك ببساطة خليج فاغر فمه‪.‬‬
‫احلكم اإلمرباطوري وأسسه االجتماعية ظاهرة معقدة وحماكية ملا قبلها‪ ،‬ومثل هذا احلرمان من املوارد‬
‫التشريعية ليس أمراً تافهاً‪ .‬فهو أوالً يفعل شيئاً يف سبيل تفسري زوال الطبقة األرستقراطية يف اإلسالم‪ :‬ال نتفاجأ‬
‫إذا وجدنا طبقة الغزو األرستقراطية القبائلية وقد تفسخت يف وقت مناسب‪ ،‬لكن ما يلفت نظرنا‪ ،‬هو أنه بدالً‬
‫من أن تفسح اجملال لطبقة ارستقراطية إمرباطورية جديدة فقد خسرت سلطتها لصاحل القادة وشرفها لصاحل‬
‫األولياء ‪ -‬إنفصال إسالمي متميز(‪ .)47‬ثانياً‪ ،‬إن ندرة املوارد التشريعية اليت هي يف متناول يد احلكام املسلمني‬
‫تساعد يف تفسري احلقيقة القائلة إن جيش الغزاة القبائلي مل يفسح اجملال أمام فيالق هاجرية بل أمام مملوكني‬
‫مستوردين‪ ،‬وهم ظاهرة إسالمية مميزة(‪ .)59‬وحصيلة ذلك كانت أسلوب حكم والذي هو مل يستطع‪ ،‬رغم أهنم‬
‫ائتلفوا على اعتباره مسلماً تقريباً‪ ،‬أن يكون إسالمياً على وجه اخلصوص فقط‪.‬‬
‫وهكذا فقد وقع شكل احلكم اإلسالمي ضحية ملؤامرة القوة والقيمة اللتني أدان هلما بوجوده أصالً‪.‬‬
‫فالعدائية القبائلية القدمية جتاه احلكومات الغريبة واجلائرة للمجتمعات املستقرة اتفقت مع اغرتاب‬
‫احلاخامني عن دنيوية السلطة السياسية املوجود كلّها‪ ،‬وكانت النتيجة أن املخيلة السياسية لإلسالم ظلّت‬
‫مثبتة على الصحراء‪ .‬هذا التثبت ليس دون تشابه معني مع إحدى القيم الرئيسة لفهم الشيوعية الصينية‬
‫واليت ميكن التعبري عنها بالقول «أمحر خري من خبري»‪ :‬فضيلة سياسية تستوطن يف تواصلية القداسة‬
‫الصارمة لدار اهلجرة يف ينان‪ ،‬وليس يف السفسطة التكنوقراطية الدنيوية لساحل كانتون والذي كان على‬
‫املهاجرين املاويني أن يغزوه يف هناية األمر(‪ .)51‬ومهما كان مستقبل اإلمحرار واخلربة يف الصني‪ ،‬فإن احملاولة‬
‫ب التاريخ اإلسالمي‪ .‬فمن جهة لدينا‬ ‫ِ‬
‫العباسية ألن تكون أسوداً وخبرياً كانت فاشلة‪ .‬وبعد ذلك استُـ ْقط َ‬
‫اإلماميات يف الريف‪ ،‬واليت كانت أمينة أللواهنا وحمرومة من اخلربة؛ ومن جهة أخرى‪ ،‬اختالط السواد واخلربة يف‬

‫‪D. S. Richards, “The Coptic‬‬ ‫عرف احلكومة املسلمة ذاته على يد عرق آخر من الكفار‪ ،‬هم الربيطانيون‪( .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Bureaucracy and the Mamluks, and A. H. Hourani, The Syrians in Egypt in the Eighteenth and‬‬
‫‪Nineteenth Centuries”, p. 228, both in Colloque International sur l’Histoire du Caire,‬‬
‫‪Gr‬ن‪ .) fenhainichen n.d.‬قارن الثقافة الدنيوية واملاقبل إسالمية املريبة للوزراء العباسيني وللوسط الذي خرجوا منه‪Sourdel, .‬‬
‫‪.“Le Vizirat ‘abbâside, pp. 570ff‬‬
‫(‪ )49‬قارن املشروع الذي قدمه ابن املقفع‪ ،‬والذي كان اخلليفة وفقاً له سيفعل بالشرع اإلسالمي ما فعله يوستنيانوس بالشرع الروماين‪.‬‬
‫(‪J. R. Levenson, Confucian China and its Modern Fate, Berkeley and Los Angeles 1968, vol. ii, )48‬‬
‫‪. part two‬‬
‫(‪ .Crone, The Mawali in Umayyad Period, chapter 4 )47‬من أعراض زوال الطبقة األرستقراطية أيضاً بروز التجار واإلماء‬
‫واجلواري‪.‬‬
‫(‪ Ibid., )59‬الرومان باملقابل مل يقتنوا املماليك إال بدافع املتعة فقط‪.‬‬
‫(‪ )51‬قارن‪J. Dunn, Modern Revolutions: An Introduction to the Analysis of a Political Phenomenon, :‬‬
‫‪. Cambridge 1972, p. 94‬‬

‫‪197‬‬
‫االستكانية الرمادية للمجتمع املسلم املستقر‪ .‬وهكذا فالتاريخ اإلسالمي متميّز خبطر اإلغارة القبائلية على‬
‫اجملتمع املستقر واليت هي ليست مادية فقط‪ ،‬كما يف حالة الصني التقليدية‪ ،‬بل ايضاً أخالقية‪ ،‬كما متيّزت‬
‫السياسات اإلسالمية بانفصال أساسي بني احلكومة املقدسة واحلضارة‪.‬‬
‫يتكرر شيء من العالقة ذاهتا بني اإلسالم واحلضارة اليت غزاها‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬لدينا‬ ‫يف حقل الثقافة ّ‬
‫حررت املسلمني من االتكال‬ ‫إرث كان كنز اهلاجريني اخلاص‪ :‬جاهلية‪ّ ،‬‬
‫مكتملة ببطولتها وشعرها‪ ،‬واليت ّ‬
‫على جاهلية اليونانيني(‪ )52‬وش ّكلت األساس لثقافة أدبية إسالمية‪ .‬لقد أمكن للصينيني أن يشريوا‬
‫باحتقار إىل رائحة الغنم اليت أفسدت شعر أدباء الساللة الرببرية‪ ،‬لكن الشعر العريب هو رائحة اجلِ َمال‪.‬‬
‫حمل ثقافة األنتيك‬
‫حيل بالكامل تقريباً ّ‬
‫مع ذلك فلو استطاع هذا اإلرث يف صيغة مدروسة كما جيب أن ّ‬
‫األدبية‪ ،‬فهو مل يستطع إجناز اخلدمة ذاهتا للمسلمني يف نطاق الفكر املنظومايت‪ .‬فاجلاهلية العربية تطورت‬
‫على حنو خمتلف جداً عن جاهلية اليونانيني‪ :‬كان األحناف‪ ،‬وليس املاقبل سقراطيني‪ ،‬هم الذين ح ّددوا‬
‫الطريق من اجلهل إىل احلكمة يف صحراء شبه جزيرة العرب‪ ،‬وكان نيب‪ ،‬وليس فيلسوفاً‪ ،‬هوالذي أدان‬
‫وثنية الشعراء‪ .‬أن تفكر فقد كان يعين أن تفكر مبفاهيم‪ ،‬واملفاهيم كانت نتاج تطور ثقايف لليونانيني‪.‬‬
‫ومن ناحية املبدأ‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬مل يستطع اإلسالم متثّل الفكر اليوناين وال التعايش معه؛ مع ذلك فاملسلمون‬
‫مل يستطيعوا إنكار تقنيات الفكر املتحضربأكثر ما استطاعوا إنكار تقنيات حكومة متحضرة‪ .‬وكانت‬
‫النتيجة ثقافة منزوعة من مكاهنا بعمق‪.‬‬
‫أكثر األمثلة مشولية على هذا اإلنتزاع هو ذبول التماسك الفكري واملعىن الشعوري يف بنيان الكون‬
‫اإلسالمي‪ .‬ويف هذا اجملال كان املسلمون ورثة لعاملني مؤسسني منذ زمن طويل‪ ،‬ومها عامل العربانيني وعامل‬
‫اليونانيني‪ .‬كان العربانيون شعباً صغرياً يعيش ملتصقاً بإهله اإلثين الفريد‪ .‬وكان لصغر ميزان هذا العامل‬
‫وضيق بؤرته أثران تكامليان‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬كان عاملاً إختيارياً‪ :‬مل يكن مثة دعوة إلرادة إهله كي تأخذ صبغة‬
‫عرفية يف شكل نظامي ُمعتمد‪ .‬ومن الناحية األخرى‪ ،‬فقد عُ ِّدلت االستبدادية باحلميمية‪ :‬ثورات يهوه‬
‫الشرسة كانت خطرة على حنو مفزع للمعنيني باألمر‪ ،‬لكنها كانت أيضاً مفهومة على حنو يعيد‬
‫وحولوا العامل إىل عملية‬
‫اإلحساس بالطمأنينة‪ .‬اليونانيون‪ ،‬باملقابل‪ ،‬وضعوا آهلتهم يف نصاهبا الصحيح ّ‬
‫املفاهيم املنظمة واملتسقة‪ .‬وسواء أقمنا موقفنا على حماولة زرع معىن ميتافيزيكي جوهري يف الكون يف‬
‫تقليد الرواقيني‪ ،‬أو على حماولة تعريته لصاحل سببية مادية ال هوادة فيها وال لني‪ ،‬فاألمر من وجهة النظر‬
‫هذه غري هام‪ .‬ففي أي من الطريقني‪ ،‬كان الكون اليوناين كوناً خالياً من اإلستبدادية الشخصية‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )52‬والذي ال يعين بالطبع إنكار مطابقة األمنوذج اليوناين ملقتضى احلال‪ .‬فلو كانت العربية حباجة ألن تفرق إىل لغة أتيكية وكوينه [لغة‬
‫التخاطب املشرتكة بني أقوام هلم لغات خمتلفة]‪ ،‬الحتاجت إىل تقليد القواعد اليونانية كي حتافظ عليهما منفصلتني؛ وإذا أراد القرآن أن‬
‫يكون معجزة كمال األسلوب‪ ،‬الحتاج إىل كل سفسطة التقليد البالغي اليوناين ليظهر كيف كان ذلك‪( .‬الحظ كيف ظل املرء يف‬
‫سوريا يتعلم األتيكية يف قنسرين‪.((Michael the Syrian, Chronique, vol. iv, p. 447 = vol. ii, p. 475) ،‬‬

‫‪189‬‬
‫مبعىن من املعاين فقد كان عامل العربانيني وعامل اليونانيني خمتلفني إىل درجة أنه كان من العبث حماولة‬
‫التوفيق بينهما(‪ .)53‬فاآلهلة الشخصية واملفاهيم غري الشخصية ال تصنع كي ختتلط‪،‬حقيقة بقدر ما هي‬
‫حمجوبة على حنو مؤمل يف الالهوت املسيحي بقدر ما هي مكشوفة على حمو مفرح يف امليثولوجيا‬
‫معىن أخالقياً آنياً للكون(‪ ،)55‬وتستطيع‬ ‫الشيفية (من شيفا)‪ .‬تستطيع اآلهلة الشخصية أن تصنع ً‬
‫(‪)54‬‬

‫معىن سببياً بعيداً‪ ،‬لكن من املستحيل إيصال الدفء الشعوري‬ ‫املفاهيم غري الشخصية أن تصنع له ً‬
‫واملنظومة املفاهيمية إىل احلد األقصى على حنو متزامن(‪ .)56‬إن أية ديانة تقيم الهوتاً منظّوماتياً على‬
‫أسس من قدرة اهلل البديهية سوف تـُ َع فذب بالتايل بقلق املعتزلة بشأن الالمتاسك األخالقي احلاصل‪،‬متاماً‬
‫مثلما أن الديانة اليت تقيم الهوتاً منظوماتياً على أسس من خريه البديهي سوف تولّد قلقاً زورفانياً بشأن‬
‫فحل وسط بني العاملني كان ممكناً عملياً‪ ،‬بل ال غىن عنه‪،‬‬ ‫عدم التماسك السببـي احلاصل‪ .‬مع ذلك ّ‬
‫خارج محيمية الغيتو اإلثنية املعزولة‪ .‬وإذا أُمكن متثل العربانيني هبرطقة أخذت خطاً ليناً عند املفاهيم‪،‬‬
‫واليونان مبدرسة أخذت على حنو مشابه خطاً ليناً عند اآلهلة‪ ،‬فمن الواضح أنه كانت هنالك إمكانيات‬
‫للتوفيق بني الطرفني وخلطهما ببعض‪ .‬مل يكن ممكناً حتقيق إصالح ذات البني بني احلاخامني‬
‫واالبيقوريني؛ لكن املسيحيني والرواقيني كان باستطاعتهم الوصول إىل تفاهم‪ .‬فمن ناحية‪َ ،‬خنَس اإلله‬
‫العرباين إىل مسافة ميتافيزيكية مناسبة‪ :‬حيث البحث املسيحي املتواصل عن حضورات روحانية أكثر‬
‫محيمية ومألوفية‪ ،‬رغم التأكيدات املتكررة حول العطف اإلهلي‪ .‬لكن من ناحية أخرى‪ ،‬فقد تعلّم يهوه يف‬
‫هناية األمر أن يندب مفوضاً عنه‪ :‬رغم التجددات املتواترة جلريان الكون العجائيب‪ ،‬فإن جريانه الفعلي متّ‬
‫حد كبري للمفاهيم‪ .‬ورغم أن اإلله املسيحي يظل يف هناية األمر طاغية‪ ،‬فهو مع ذلك إله‬ ‫التخلّي عنه اىل ٍ‬
‫مستنري إىل حد ماوفق املعايري اهللينية‪ .‬مل يعد يُعطى حبد ذاته إىل فعل جمهد للغاية؛ لكنه أظهر ثبوتية‬
‫تعويضية‪،‬كرمز فوق الشرائع غري الشخصية‪ .‬لقد أفسحت اآلهلة الغيورة اليهودية اجملال جلوهر إهلي يوناين‪،‬‬
‫متاماً مثلما أفسح السلوك التقوي احلاخامي اجملال ألرثوذكسية األساقفة املفاهيمية‪.‬‬
‫املسلمون‪ ،‬باملقابل‪ ،‬ورثوا أسوأ مايف العاملني‪ .‬واملواجهة بني اإلرثني حدثت وفق شروط خمتلفة للغاية‪.‬‬
‫كانت نتيجة الغزو اهلاجري إخراج التوحيد يف أصلب أشكاله احلاخامية من الغيتو ؛ لكن باملقابل‬
‫فأولئك الذين يغزون العامل ال يستطيعون أن يرفضوا بعزم ثابت احملاولة خللق معىن سببـي منه‪ ،‬فالغزو‬
‫أعطى اهلاجريني مسلكاً سهالً إىل املوارد اهللينية اليت تطلبتها احملاولة‪ .‬وكانت النتيجة التنافر الذي ال‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )53‬قارن تفاسري غالن ‪ ،Galen‬وبشكل خاص مناقشته ملسألة اخللق من العدم ‪ ex nihilo‬باعتباره الفعل اجملّاين األمسى‬
‫)‪.(R.Walzer, Galen on Jews and Christians, London 1949, pp. 23 - 37‬‬
‫(‪ )54‬قارن‪W. D. O. O’Flaherty, Asceticism and Eroticism in the Methology of :‬ٹ‪.iva, London 1973‬‬
‫معىن حيفل بالتفكري الكثري‪ ،‬قارن سفر أيوب‪.‬‬
‫(‪ )55‬مع أنه ليس ً‬
‫(‪ )56‬بقدر مايكون البوذيون واملاركسيون نائني عن النجاح يف هذا ويف أي موقع‪ ،‬فإن الطرفني على حد سواء يصالن إىل ذلك بفضل‬
‫مصدر يقبع خارج هذا الكون‪ :‬ما يفعله اإلنقراض للبوذية يعمله املستقبل للماركسية‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫بتويل إدارة غيتو مبالغ يف‬
‫سبيل إىل تسويته بدل التسوية املسيحية‪ .‬وحني ه ّددت أرثوذكسية مفاهيمية ّ‬
‫يطوروا بأنفسهم دوغماتية مل يكن هلا مكان يف التقليد‬ ‫مت ّدده‪ ،‬كان على احلاخامني املسلمني أن ّ‬
‫اختُزلت السمات احلميمية إلهلهم الشخصي إىل تشبيهية [نسبة الصفات البشرية إىل اإلله]‬ ‫احلاخامي‪ْ :‬‬
‫فسر بتجهيلية نظرية غري عملية(‪ .)59‬يف الوقت ذاته أُجرب الالهوتيون على تطوير لودية‬ ‫باردة تُ ّ‬
‫‪ Luddism‬مفاهيمية مل تكن جزءاً من التقليد الفكري‪ :‬اختزلت مفاهيم الكون األنيقة غري الشخصية‬
‫إىل تصادفية معادية للمفاهيم‪ ،‬وهو دمج شاذ إلرادية مؤمنة بوجود إله و َذ ّرية ‪ atomism‬ملحدة‬
‫للدفاع عن سيادة إله عرباين يف وجه حيل السببية اهللينية‪ .‬ومثل اإلله املسيحي‪َ ،‬خنَس اهلل [إله املسلمني]‬
‫عن عامل أتباعه‪ :‬ففي حني تعاهد العربانيون مع إهلهم‪ ،‬استسلم اهلاجريون ليس إال‪ ،‬ويف حني صعد‬
‫موسى اجلبل مث نزله حامالً لأللواح ومصلحاً لذات البني‪ ،‬تل ّقى حممد آياته املوحاة عرب وساطة تابع‬
‫يعوض اهلل عن هذا االبتعاد بأن يعلّم التفويض‪ :‬لقد أضاع‬ ‫مالئكي‪ .‬لكن بعكس اإلله املسيحي‪ ،‬مل ّ‬
‫محيمية اإلله العرباين لكنه استبقى استبداديته‪ ،‬وتوقف عن أن يكون حضوراً مادياً دون أن يصبح جوهراً‬
‫ميتافيزيكياً‪ .‬وبعد أن انقطعت شخصية اإلله العرباين عن السياق احملتوي «للحياة املعزولة» اإلثنية‪ ،‬لكن‬
‫دون أن متسها املفاهيم الكوزموبوليتانية لألمم‪ ،‬افسحت اجملال أمام قدرة غريبة وغامضة أفرغت الكون‬
‫من الدفء الشخصي واملنظومة الالشخصية على حد سواء‪ .‬ونتائج هذا اإلفراغ تبدو سريعة التفشي‬
‫على حنو مدهش يف اإلسالم املتأخر‪ .‬فمن جهة جند يف كل مكان تقريباً من العامل اإلسالمي احملاولة‬
‫الستعادة الدفء املفقود وذلك من خالل الصوفية‪ :‬بعدما ُح ِرم كحاخام من إهله الشخصي‪ ،‬استسلم‬
‫للصوفية‪ ،‬حىت لو كان حنبلياً قاسياً للغاية مثل ابن تيمية(‪ .)58‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬لدينا اإلدراك األجرد‬
‫لكون دون معىن أخالقي أو سبيب والذي مييّز اإلسالم الشعيب‪ :‬احنط التسليم لإلله إىل نوع من التنجيم‬
‫التصاديف‪.‬‬
‫يف مستوى أقل مسواً نوعاً ما‪ ،‬كان هذا التفاعل يعين أن املسلمني ورثوا سببية العامل اليوناين دون أن‬
‫يرثوا معناه الفلسفي‪ .‬فإرادية قاسية هي يف هناية األمر نوع من رديف الهويت لإلمامية اإلباضية‪ :‬تش ّدد‬
‫املتحضر حني يصل إىل مرحلة القيام باألمور‪ .‬بل جيب‬ ‫ّ‬ ‫دقيق يف املبدأ‪ ،‬لكنه ال يساعد كثرياً يف العامل‬
‫على أنصار إله تصاديف أن يصلوا إىل نوع من التكيف السلوكي مع احلقيقة اليت مفادها أهنم يعيشون يف‬
‫كون له نوع من االستقاللية السببية‪ .‬يف عامل كهذا يبدو أن علوماً كالطب والنجامة متثّل تقنيات سلطة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )59‬قارن مالحظة الغزايل الشهرية اليت مفادها أن الشرط األساسي كي يثبت إنسان على دين ما هو أن عليه أن ال يعلم أنه تقليدي‪:‬‬
‫حني يكون احلاخام اليهودي الذي يؤمن بال كيف تقليدياً من منظور الغزايل‪ ،‬فاحلاخام املسلم الذي يؤكد على البالكيف اخلاصة به‬
‫بنوع من الشعور بالذات فقد هذه النعمة‪.‬‬
‫(‪G. Makdisi, ‘Ibn Taymiya: a Sufi of the Qadiriya Order’, The American Journal of Arabic Studies )58‬‬
‫‪ ،1973‬كانت نِ َع ُم الصوفية بالطبع غري آمنة بنيوياً يف ديانة مل يكن ممكناً فيها اسرتداد احلميمية اليهودية الضائعة عرب الشكل املسيحي‬
‫للسر‪[ .‬صوفية ‪ Mysticism‬من سر ‪.]Mystery‬‬

‫‪182‬‬
‫متالعبة وتكهنية هائلة احلجم‪ .‬وكما مل يستطع احل ّكام املسلمون اإلستغناء عملياً عن التقنيات املالية‬
‫للعامل املاقبل إسالمي بفضل التقيّد باحلرفية النظرية غري العملية‪ ،‬كذلك متاماً فهم مل يستطيعوا أيضاً أن‬
‫ومنجميه بفضل تصادفية نظرية غري عمليّة‪ .‬األنبياء غري املتعلمني‬
‫يتاح هلم العمل دون خدمات أساتذته ّ‬
‫مجيعاً هم على غاية ما يرام يف امور الدين؛ لكن يف أمور العلم الليسكنويون ‪ Lysenkos‬ترف‬
‫أيديولوجي مكلف‪ .‬وهكذا فالسوق املتواصلة لعدالة الفرس املساعدة على قضاء الغرض قُ ِرنت بسوق‬
‫متواصلة لعلم اليونانيني املساعد على قضاء الغرض(‪ .)57‬لكن إذا كان العرف أمراً ال غىن عنه‪ ،‬فالنظرية مل‬
‫تكن مقبولة؛ وحقل القيم األكثر اتساعاً والذي كانت بفضله علوم اليونانيني أكثر من تالعبات سحروية‬
‫ظل مشبوهاً بعمق يف اإلسالم(‪.)69‬‬
‫وهكذا فإن عدم متاسك احلضارة اإلسالمية يف أبعادها املكونة من اإلثنية‪ ،‬شكل احلكم والنظرة‬
‫االعتبارة هو عدم متاسك متناسق على حنو ملفت‪ .‬رمبا كان هلاجرية اختصاصية أن تق ّدم التكريس الديين‬
‫ص ْهر عمودي ضيّق ُربطت فيه ملّة إثنية خاصة بإمنوذج‬ ‫ٍ‬
‫«حلياة منعزلة» عينية بطريقة اليهود إىل حد ما‪َ :‬‬
‫ثقايف وسياسي مميّز حتت رعاية إله مؤمن على حنو مطلق مبذهب االختيار‪ .‬ورمبا كان إلسالم شامل أن‬
‫حد ما‪ :‬طبقة أفقية رقيقة مرتبطة فقط عرب حدث تارخيي‬ ‫يتطور إىل «ديانة جمردة» بطريقة املسيحية إىل ٍ‬
‫مع شكل حكم وثقافة حمددين‪ ،‬قانعة ألن تقبل بسياستها من الفرس وحبكمتها من اليونانيني‪.‬مل يكن‬
‫أي من البديلني تارخيياً‪ :‬لقد جعل الغزو اهلاجريني قابلني للتخلّل جداً حبيث ال يبقون‬‫حمتمالً حدوث ٍّ‬
‫مثل اليهود وأقوياء جداً حبيث ال يصبحون مثل املسيحيني‪ .‬لكن أياً من احلالتني مل يكن باستطاعتها‬
‫خلق حضارة‪ ،‬وذلك مقابل رفض حضارة موجودة أو القبول هبا‪ .‬مع ذلك فإذا كان اإلجناز خاصاً‬
‫باهلاجريني‪ ،‬كذلك أيضاً كانت الكلفة‪ .‬فاهلاجريون مل ينتهوا إىل هذا الشيء وال إىل ذاك‪ ،‬ال مرتاصني‬
‫على حنو مريح وال متفضفضني على حنو مريح‪ .‬ليس األنتيك وحده الذي عاىن حني أُقْ ِحمت احملتويات‬
‫القدمية يف شكل اهلاجرية؛ فإن قدر اهلاجرية يف احلضارة اإلسالمية كان بطريقته اخلاصة غري سعيد أيضاً‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )57‬قارن الفرص املهنية للفيزيائيني النوويني األملان والبوليس السري األملاين بعد احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫(‪ )69‬لقد استطاع حنني بن اسحاق أن يكسب رضا املأمون عرب اإلشارة إىل الشريعتني‪ ،‬اهليبوقراطية والنصرانية‪ ،‬اللتني كان خاضعاً هلما‬
‫(أبو العباس أمحد بن القاسم بن أيب أصيبعة‪ ،‬كتاب عيون األنباء يف طبقات األطباء‪ ،‬حترير آ‪ .‬مولر‪ ،‬القاهرة ‪.)188:1 ،1882‬‬
‫لكن حنني كان مسيحياً واملأمون كان كاهناً‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫‪91‬‬
‫اإلسالم الصدوقي‬

‫للقوة الرببرية بالقيمة اليهودية مل يكن ممكناً لشئ كاحلضارة اإلسالمية أن يوجد‪ ،‬ووقفة‬ ‫دون اندماج ّ‬
‫اإلسالم الصلبة مقابل إرث األنتيك كان بالتايل جزءاً من الثمن الذي كان جيب أن يُدفع من أجل‬
‫وجوده بالذات‪ .‬لكن إذا كان إنكار هذا الدمج بني القوة الرببرية والقيم اليهودية يعين إنكار احلضارة‬
‫ذاهتا‪ ،‬فليس واضحاً أبداً أ ّن قوة بربرية كبرية للغاية يف املرحلة األوىل‪ ،‬والقيم اليهودية ذاهتا يف التطور‬
‫الثانوي‪ ،‬كانتا مطلوبتني لتكوين تلك احلضارة‪ .‬وهكذا يربز سؤال يقول ما إذا كان باستطاعة اهلاجرية أن‬
‫تتطور بطريقة واليت كانت ستخفض من السعر بشكل جوهري دون أن ختسر البضاعة؛ أو‪ ،‬ولو كان‬
‫تاملياً كهذا يتجاوز جمال التاريخ‪ ،‬ما إذا كانت قد تطورت يف الواقع بطريقة هي‬ ‫هنالك شعور بأن تفكرياً ّ‬
‫خارج التقليد املركزي الذي درسناه حىت اآلن‪.‬‬
‫بني احلدين األقصيني الكتساح عنيف للحضارة وفق أمنوذج املغول ولتسرب سلمي فيها وفق أمنوذج‬
‫املسيحيني‪ ،‬مثة جتربة غري اعتيادية لغزو جمهد تقريباً‪ .‬فقد وجد اهلاجريون عموماً أن اكتساح حضارة ليس‬
‫أكثر مشقة مما وجده املغول‪ ،‬وعندما قاموا بذلك ذهبت عموماً النتيجة سدى على الربابرة‪ :‬مل تبق‬
‫حضارة ميكن اكتساهبا من الصعوبات اليت عرفها العرب يف إخضاع مشال أفريقيا أو القوقاز‪ .‬مع ذلك‬
‫فقد كان مثة استثناء هام‪ .‬كان لدى إيران الشرقية اإلمارات احملصنة جيداً واحلضارة احملصنة جيداً على‬
‫حد سواء؛ وحني واجه اهلاجريون هذه اإلمارات‪ ،‬وجدوا أنفسهم ولو ملرة واحدة يف تاريخ غزوهم الذي مل‬
‫يتطلب جهوداً أهنم جمربون على تقدمي تنازالت لبنيان سلطة حملّي‪ ،‬ودون مفاجأة وجدوا أن عليهم‬
‫الوصول إىل نوع من التفاهم مع احلضارة اليت مثّلها ذلك البنيان أيضاً‪ .‬مل يُ ْس َحب شعب شرق إيران إىل‬
‫اجلنّة بالسالسل(‪ ،)1‬فقد دخلوها كحلفاء(‪ ،)2‬ونتيجة لذلك كان عندهم ما يقولونه بشأن اختيار خط‬
‫الرحلة‪.‬‬
‫على الصعيد التارخيي‪ ،‬فإن استمرار منظومة اجتماعية إيرانية مبباركة إسالمية يساعد كثرياً يف تفسري‬
‫ضرية هي اليت لعبت الدور القيادي يف اإلنبعاث اإليراين‪.‬‬‫ملاذا كانت اراضي احلدود النائية وليس فارس احلَ َ‬
‫ومع أنه أ ُْمكن للنبالء والكهنة أن يكونوا بني شعبهم‪ ،‬فإن خنبة إيران الغربية مل تكن يف موقع يؤهلها ألن‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬قارن اهلامش ‪ 65‬من الفصل العاشر‪.‬‬
‫(‪ )2‬من أجل إيران الشرقية وذلك بوصفها سلسلة من احملميات اهلاجرية‪ ،‬أنظر‪H. A. R. Gibb, The Arab Conquests in :‬‬
‫‪ . Central Asia, London 1923‬قارن اعرتاف املأمون واملعتصم مبجموعة كاملة من اإلياالت يف إيران الشرقية عرب االستخدام احلر‬
‫ملفهوم الوالء (الوالء هنا لإلسالم ‪ -‬البالذري‪ ،‬فتوح‪ ،‬صص ‪ 439‬ومابعد)‪ ،‬والذي احنط الحقاً إىل جمرد وسيلة حلفظ ماء الوجه‬
‫يستخدمها اخلليفة أمام الشاهنشاهات البويهيني )‪.(Mandelung, “The Assumption of Title Shahanshah, p. 105‬‬

‫‪184‬‬
‫تساوم الغزاة من أجل مكانة أعلى من التيار العام ملعتنقي الدين التابعني؛ وسواء اختاروا أن يعيشوا‬
‫جبانب إرثهم يف عزلة عن الغزاة‪ ،‬أو التخلّي عنه من أجل حياة مشرتكة معهم‪ ،‬فاإلرث ذاته كان قد‬
‫حكم عليه بالزوال‪ .‬فقط يف خراسان وماوراء سوكسانيا مالت املصطلحات التوفيقية للتجارة إىل صاحل‬
‫الذين اعتنقوا الدين‪ ،‬وتبعاً لذلك استطاع هنا اجملوس املتأسلمون يف هيئة األنبياء التوفيقيني‬
‫واألرستقراطيون املتأسلمون يف هيئة السالالت الوارثية احلاكمة تقدمي مسامهة إليران متأسلمة واليت‬
‫استمرت بعد خسارة الطرفني أمام احلاخامني واململوكني ‪ .‬يساعد استمرار منظومة اجتماعية إيرانية كثرياً‬
‫(‪)3‬‬

‫أيضاً يف تفسري دور إيران الشرقية كواحدة من آخر حصون اإلبستمولوجيا اهللينية‪ .‬وإذا أمكن تصدير‬
‫يبق سوى أقليات قليلة ميكنها استريادها‪:‬‬‫املفاهيم اليونانية إىل أية خنبة‪ ،‬فمع حلول القرن احلادي عشر مل َ‬
‫من وجهة النظر هذه يبدو مناسباً متاماً القول إنه يف خوارزم ألّف الرواقي البريوين سجله املتبحر وإن كان‬
‫انفعالياً آلثار املاضي‪.‬‬
‫على الصعيد املفاهيمي‪ ،‬تتيح إيران إملاحة سريعة ملا كان رمبا سيحدث‪ ،‬أي إسالم هجر تركيزه على‬
‫يكرس املدن‪ ،‬الطبقات األرستقراطية واملفاهيم‪ ،‬وختلّى عن تركيزه على العرب ليفسح اجملال‬ ‫الصحراء كي ّ‬
‫أمام هوية غري عربية‪ .‬ولو أن الشعوب املغزوة يف املناطق األخرى كانت قادرة على حنو مشابه على إعاقة‬
‫سرعة إيقاع الغزو العريب‪ ،‬فلرمبا جنحوا كما هو مفروض يف إحراز صفقات مرغوبة مشاهبة‪ .‬لكن األمر‬
‫كان معكوساً‪ ،‬فقد أدى فشلهم يف فعل ذلك بإيران الشرقية إىل الوقوع دون مفر يف الورطة ذاهتا‪.‬‬
‫الشأن الثاين الذي كانت فيه احلضارة اإلسالمية على حنو قابل جلدل مكلّفة بأكثر مما حيتاج األمر‪،‬‬
‫هو قيمها اليهودية‪ .‬ويف هذه احلالة ميكن اعتبار أن البدائل ذات الصلة تارخيياً هي النماذج لألديان‬
‫الثالث اليت سامهت كثرياً يف تشكيل اهلاجرية‪ :‬اليهودية‪ ،‬املسيحية والسامرية‪ .‬ومن الواضح أن فكرة تطور‬
‫يقرب اهلاجرية من اليهودية أو من املسيحية ال متتلك ما تق ّدمه يف هذا السياق‪ .‬وعلى حنو خاص‪،‬‬ ‫ثانوي ّ‬
‫ال اخلوارج وال الصوفية يوحيان بأهنما وسيلتان معقولتان إلعادة صنع احلضارة‪ .‬األوىل كانت تطهريية‬
‫جداً‪ ،‬والثانية كانت متساهلة جداً‪ ،‬حبيث مل تتمكنا من اإلمساك بإرث األنتيك بطريقة فاعلة تكوينياً‪.‬‬
‫كان القدر املناسب حلركة اخلوارج هو أن تستهلك «حياهتا املنعزلة» خلف حدود العامل املتحضر(‪)4‬؛ يف‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )3‬قارن تواصلية النكهة الدينية لشكل احلكم احمللي يف اسروشنه‪ ،‬رغم أن الساللة اعتنقت الدين امسياً‪ ،‬وذلك كما يظهر من حماكمة‬
‫افشني (طربي‪ ،‬تاريخ‪.)3 - 1397 :3 ،‬‬
‫(‪ )4‬يبدو حقيقياً بالطبع أن حركة اخلوارج جتمع بني دفء حنو األمم وقبول باإلمامة‪ ،‬مجع يذكرنا بالشيعية‪.‬لكن يف احلالتني أبطلت‬
‫التطهريية اليهودية هذه القوة الثقافية الكامنة ‪.‬أوالً‪ ،‬املوقف الطيب حلركة اخلوارج من األمم كان مسألة هوية إثنية ال ثقافية‪ :‬وهكذا‬
‫التجأت حركة اخلوارج إىل رجال القبائل من بربر مشال افريقيا وإىل قطاع الطرق من سيستان‪ ،‬لكن مل يكن لديها ما تقدمه بطريقة‬
‫التوفيقية الثقافية للسكان املتحضرين يف إفريقيا أو ما وراء ساكسونيا‪ .‬ثانياً‪ ،‬إن معاجلة حركة اخلوارج ملسألة اإلمامة أنقص قدرهتا على‬
‫العمل كنقطة استناد ثقافية إىل حدها األدىن‪ :‬إمامة اخلوارج غري منطمرة يف ساللة مقدسة‪ ،‬ويف احلالة اإلباضية على األقل (الوحيدة‬
‫ذات األمهية تارخيياً) جند أهنا مسيجة بأمنوذج حاخامي من غيتو البصرة‪ .‬إهنا إمامية تاهرت الرمسية تلك اليت تذهب إىل أبعد ما ميكن‬
‫يف اجتاه االنعتاق من هذه القيود‪ :‬ساللة ملكية إيرانية تق ّدم بديالً حمدداً للعلويني‪ ،‬والتقبل اجلزئي للمذهب اإلعتزايل بني أباضيي مشال‬

‫‪185‬‬
‫حني كان الدور املناسب للصوفية هو أن ال متضي إىل ما هو أبعد من تليني حدود حضارة جاءت إىل‬
‫الوجود يف محاية درع خمتلف للغاية(‪.)5‬‬
‫مكون وفق علم‬
‫األمنوذج السامري أكثر أمهية‪ .‬والطابع السامري حم ّدد بسيطرة كهنوت متعلّم لكنه ّ‬
‫األنساب والذي يف الوقت ذاته ميارس تلك السلطة السياسية املتواجدة ضمن اجلماعة(‪ .)6‬لقد رأينا كم‬
‫تبين هذا األمنوذج يف اإلسالم‪ ،‬وميكننا أن نتخيل متاماً أنه استطاع يف الواقع أن يسود هناك‪ :‬اإلرث‬ ‫متّ ّ‬
‫املسياين لصحراء اليهودية مل يـُْلزم حبد ذاته اهلاجريني بإرث بابل احلاخامي‪.‬‬
‫البد أن نوضح اآلن أن الثقافتني الكهنوتية واحلاخامية ختتلفان يف مسألتني أساسيتني‪ .‬ففي املوضع‬
‫األول‪ ،‬فإن مكانة أحد الكهنة هي أوالً مسألة إسناد نَ َسيب‪ ،‬أما مكانة احلاخام فهي حترز إىل حد كبري‬
‫عرب التعلّم‪ .‬لذلك فالكاهن يف موضع يؤهله كي خياطر بتعليمه‪ :‬وهو ال يضع نَ َسبه بذلك موضع الريبة‪.‬‬
‫لكن احلاخام الذي يتالعب بتقليد اآلباء يقوض أسس هويته كحاخام‪ .‬ويف املوضع الثاين‪ ،‬مييل هذا‬
‫االختالف يف دور التعليم ألن يـُ ْقَرن باختالف يف الشكل‪ .‬فالعمود الفقري للتعليم احلاخامي هو احلرفية‬
‫الظاهرية لشرع ديين حاو لكل شيء؛ أما القوام األساسي للتعليم الكهنويت فيصبح بسهولة االجتهاد‬
‫السراين لنخبة ثقافية‪.‬‬
‫اليبدو أن هذه الطاقة التوفيقية الكامنة استُغِلّت كثرياً من قبل السامريني أنفسهم‪ .‬مع ذلك فالتقابل‬
‫تارخيياً بني كهنوتية السامريني وحاخامية اليهود يعكس استقطاباً حدث قبل قرون يف منطقة اليهودية‬
‫املتهلينة؛ ويف العدائية التبادلية بني الصدوقيني والفريسيني‪ ،‬تبدو القوى الكامنة التوفيقية املختلفة للغاية‬
‫هلذين الشكلني الدينيني للمرجعية ظاهرة جداً للعيان‪ .‬يف هذا السياق كانت نقطة اخلالف بالطبع هي‬
‫القبول باحلضارة املنتشرة‪ ،‬وليس خلق حضارة جديدة؛ فاليهود مل يكونوا غزاة‪ .‬لكن على افرتاض أنه يف‬
‫أعقاب الغزوات اهلاجرية كان إسالماً صدوقياً وليس فريسياً ذلك الذي اشرف على التفاعل الثقايف‬
‫احلاصل‪ .‬هل كان باستطاعة تلك الكوكبة أن تقدم من ناحية املبدأ حضارة جديدة أكثر تكامالً من‬
‫احلضارة اليت ظهرت بالفعل؟‬
‫يف املوضع األول‪ ،‬ال ميكن لنا الشك أن إسالماً صدوقياً كان باستطاعته تقدمي جماالت أكثر راحة ملا‬
‫بقي من هويات الشعوب املغزوة‪.‬فبشكل من األشكال‪ ،‬سار النسب الكهنويت بالطبع ضد هذا مباشرة‪.‬‬

‫أفريقيا يضيف املوازي مع الشيعي ة‪ .‬لكن ليس إىل حد بعيد‪ :‬بيئة بربر وعقيدة خوارج ال توحيان مبزيح والذي استطاع حىت األئمة‬
‫اإليرانيني أن يستلّوا منه حضارة‪.‬‬
‫(‪ )5‬كوهنا بقية مسيحية‪ ،‬فالصوفية كانت أكثر تقبلية ثقافياً من اإلسالم األرثوذكسي؛ لكن كوهنا بقية مسيحية يف اإلسالم‪ ،‬فالتطبيع الثقايف الذي‬
‫استطاعت تدبريه مل يرق اال اىل مستوى مواطنية من الدرجة الثانية فقط‪.‬‬
‫(‪ )6‬باملصطلحات السياسية فقد شهد الكهنوت العايل اإلسرائيلي أياماً أفضل بالطبع‪ :‬قارن تعيني مسعان املكايب «قائداً وعظيم كهنة»‬
‫لشعبه (سفر املكابيني األول ‪.)41:14‬‬

‫‪186‬‬
‫ففي حني أن رفض اخلوارج للنسب املق ّدس فتح حبد ذاته كل األدوار الدينية أمام غري العرب‪ ،‬فإن اإللتزام‬
‫الشيعي بنسب علي حفظ األدوار األساسية إلثنية النيب اخلاصة‪ .‬وهكذا ليس هنالك من شيء غري‬
‫مناسب يف مسحة االفتخار اجلاهلي اليت جتري عرب شكل معني من األدب الشيعي(‪ .)9‬لكن األمر‬
‫األك ثر جوهرية هو أن حصر النسب املقدس بالكهنوت أفرغ إثنية الطبقة العلمانية من أمهيتها الدينية‪،‬‬
‫سهلت التالعب هبذه احليادية اإلثنية‪ .‬وهكذا‬ ‫والرخصة الكهنوتية اليت أضفيت على العائلة املقدسة ّ‬
‫فمهما كان عمل القوة اخلوارجي مؤثراً يف إضفاء الصبغة الشرعية على حكم كاهن أعلى فارسي لطبقة‬
‫علمانية من بربرمشال افريقيا‪ ،‬فقد كانت األمور تسري مع غري العرب عملياً باملقابل على غاية ما يرام عرب‬
‫قرن مصريهم مبصري كهنوت عريب‪.‬‬
‫عامة مناسبة بأن اإلثنية العربية غري الزمة(‪)8‬؛ ومن اجلانب‬‫من اجلانب الشيعي‪ ،‬لدينا احتجاجات ّ‬
‫األممي‪ ،‬فإن جمموعة من شعوب غري عربية تلعب مبفاتن الشيعية‪ .‬جزئياً‪ ،‬فإن هذا الدور للشيعية إمنا فقط‬
‫يكرر الدور اخلوارجي‪ .‬هذا يعين القول‪ ،‬إنه ق ّدم شكالً لإلسالم أكثر مالءمة هلويات الشعوب اليت ال‬
‫متتلك حضارة ميكن أن تفتقدها ‪ -‬بربرمشال افريقيا‪ ،‬الرتك‪ ،‬األلبان(‪ .)7‬لكن ماهو أكثر أمهية من هذا‬
‫بكثري هو االستعداد لسرمدة شيء أكثر من اإلثنية اجملردة والذي يظهر على حنو غري كامل يف العالقة‬
‫اليت تطورت بني الشيعة واإليرانيني‪ .‬وحىت يف أعظم صدوقية لكل عامل ممكن‪ ،‬كان البد من وجود حدود‬
‫دون شك الحتماليات ملثل هذه العودة للعالقات الودية(‪)19‬؛ ويف عامل حيث التيار السين صاغ املعايريملا‬
‫كان هرطقة حمرتمةوملا مل يكن‪ ،‬كانت هذه احلدود‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬ضيقة للغاية‪ .‬لكن إذا كان انتهاء إيران‬
‫كدولة شيعية صدفة تارخيية‪ ،‬فهي صدفة موفقة بطريقة غري اعتيادية‪.‬‬
‫يف املوضع الثاين‪ ،‬فالسؤال املطروح هو ما إذا كان باستطاعة إسالم صدوقي إضفاء الصبغة الشرعية‬
‫أساس ثقايف متكامل‪ ،‬والذي‬ ‫على التشكيل حلضارة إسالمية واليت ش ّكل فيها إرث األنتيك جزءاً من ٍ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪M. J. Kister, “On the papyrus of Wahb b. Munabbih”, Bulletin of the School of Oriental and‬‬ ‫(‪)9‬‬
‫‪.African Studies 1974, p. 563‬‬
‫(‪ )8‬قارن االحنياز الشيعي إىل املبدأ القائل‪« :‬إن العربية ليست أب أحد منكم بل جمرد لغة» (أنظر على سبيل املثال أبا حنيفة النعمان بن‬
‫حممد التميمي املغريب‪ ،‬دعائم اإلسالم‪ ،‬حترير آ‪ .‬فيضي‪ ،‬القاهرة ‪ .)927 :2 ،1769 - 1751‬جتد طريقة التفكري هذه جتسيداً‬
‫عينياً يف الرفض الشيعي ملبدأ الكفاءة الشرعي بني املسلمني ‪(E. Griffini (ed.), “Corpus Iuris”, di Zaid ibn ‘Ali,‬‬
‫‪Milan 1919, p. 199f‬؛ حممد بن يعقوب الكليين‪ ،‬كتاب الكايف‪ ،‬حترير آ‪ .‬آ‪ .‬الغ ّفاري‪ ،‬طهران ‪45 - 337 :5 ،9 - 1754‬؛‬
‫أبو القالسم جعفر بن احلسن احملقق احللّي‪ ،‬شرائع اإلسالم‪ ،‬حترير آ‪ .‬م‪ .‬علي‪ ،‬النجف ‪277 :2 ،1767‬؛ نعمان‪ ،‬دعائم‪:2 ،‬‬
‫‪ 176‬وما بعد)‪ .‬قارن أيضاً التقليد القائل إن علياً مل جيد أفضيلة ألبناء امسعيل على أبناء اسحق يف كتاب اهلل (كليين‪ ،‬كتاب الكايف‪،‬‬
‫‪.)67:8‬‬
‫(‪ )7‬األخريون جمهزون على حنو يالئم الغرض مبلحمة مسهبة حتمل عنوان خمتار نامه‪.‬‬
‫(‪ )19‬عامل كهذا هو طبعاً فوق متناول هوامش الصفحات؛ لكن واحدنا يشك حىت ما إذا كان باستطاعة خليفة فاطمي هناك أن يتساهل‬
‫ع سرمد عبادة وثن هندي‪(D. M. Stern, “Isma‘ili (Propaganda and Fatimid Rule in Sind, Islamic .‬‬ ‫مع دا ٍ‬
‫‪.Culture 1949, pp. 299f‬‬

‫‪189‬‬
‫جترده من طبيعته‪ .‬هل أ ُْم ِكن أن يكون هنالك شكل‬ ‫سيطرت عليه هندسة معمارية إسالمية دون أن ّ‬
‫(‪)11‬‬
‫حكم إسالمي والذي متت فيه املواءمة بني عرف احلكومة املدنية ونظرية احلكومة املقدسة ‪ ،‬ثقافة‬
‫إسالمية كان فيها إرث شبه جزيرة العرب األديب مرتاحاً مع إرث اليونان املفاهيمي‪ ،‬عامل إسالمي متت‬
‫فيه مساواة يف الرتبة بني سيطرة إله شخصي ونظامية علم غري شخصي؟ ومن جديد نقول‪ ،‬إن املواد اليت‬
‫يساهم هبا املسار الفعلي للتاريخ جبواب هي متشظية ومليئة باإلحياءات يف آن‪.‬‬
‫ظاهرتان تارخييتان تستأهالن االهتمام يف هذا السياق‪ .‬األوىل‪ ،‬هنالك العالقة بني سالليت التاريخ‬
‫اإلسالمي األويل الكهنوتيتني الكبريتني وبني إرث الشعوب اليت غزوها(‪ .)12‬فمن اجلانب األموي‪ ،‬الدليل‬
‫األول أركيولوجي‪ .‬وآثار سوريا األموية تشعرنا بتوازن ثقايف وسط الثروات الفنية واملعمارية للعامل القدمي‬
‫وهو شيء مل يستطع حاخامو بابل إحرازه قط(‪ :)13‬قاعة األلعاب الرياضية اليت بناها الكاهن الصدوقي‬
‫األكرب جاسون ‪ Jason‬يف حماولة لتبديل أورشليم إىل مدينة يونانية جتد صداها األخري يف الرياضيني‬
‫الذين يزينون القصر األموي يف قصري عمره‪ .‬أما من اجلانب العباسي‪ ،‬فلدينا رباطة جأش اخللفاء األوائل‬
‫حمرية‪ ،‬واليت ميكن اعتبار أن اللدانة التوفيقية للكهنوت العايل‬
‫الثقافية الشهرية واليت هي من نواح أخرى ّ‬
‫تق ّدم مفتاحاً مفاهيمياً هلا‪ .‬ولو أن العباسيني األوائل قدموا أنفسهم كأئمة رافضيني(‪ ،)14‬فرمبا أهنم‬
‫استطاعوا بسبب تلك املقدرة فقط أن يضفوا الصبغة الشرعية على التقليد امللكي الفارسي دون أن‬
‫يفقدوا قداستهم الدينية الفطرية‪ .‬على حنو مشابه‪ ،‬فعن طريق دمج اإلمامية باملهدية استطاعوا تشكيل‬
‫طبقة أرستقراطية إسالمية جوهرياً‪ ،‬من جهة عرب استخدام اإلشرتاك يف احلدث األبوكاليبيت الذي حتّي‬
‫ذكراه بأمسائهم(‪ )15‬وذلك باعتباره ِشرعة لطبقة أرستقراطية حكومية ختلف طبقة القبائل‬
‫األرستقراطية(‪ ،)16‬ومن جهة أخرى عرب مزاولة اجتهادهم الكهنويت اخلاص كما يف التكريس الليربايل‬
‫للطبقة األرستقراطية الفارسية يف شرق إيران(‪ .)19‬وأخرياً‪ ،‬عرب دمج اإلمامية باإلبستمولوجيا اليونانية‬
‫استطاعوا أن يكفلوا الهوتاً مفاهيمياً لشطب حرفية الشرع‪ ،‬وأن يستخدموا عقلهم حيث شطب شرع‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )11‬ال يوجد شيء حاخامي آلياً يف إرث قبائلي‪ :‬فإرث العربانيني مل مينع سليمان من تنصيب إله قبائلي مائل إىل التسكع يف معبد مدين‬
‫جمرد باحلقيقة العنيدة املتجسدة يف فكرة‬‫يش ّكل جزءاً أساسياً من مبىن القصر املعقد‪ .‬إن استبدال رخصة الكهنوت الثقافية باعرتاف ّ‬
‫«الضرورة» احلاخامية هو الذي يعطي شكل احلكم اإلسالمي عناده األخالقي (من أجل الضرورة عند الفقهاء‪ ،‬أنظر‪Schacht, An :‬‬
‫‪.)Introduction to Islamic Law, p. 84‬‬
‫(‪ )12‬من أجل املكانة الكهنوتية لألمويني‪ ،‬أنظر اهلامش ‪ 91‬من الفصل الرابع‪ ،‬وحول لقب خليفة اهلل‪ ،‬قارن أيضاً إشارة الغزايل إىل‬
‫األموية من اإلمامية‪(I. Goldziher, Streitschrift des Gazali gegen die Batinijja-Sekte, Leyden 1916, text. .‬‬
‫‪.)14‬‬
‫(‪Grabar, The Formation of Islamic Art, pp. 45 - 8, 160 - 2 )13‬‬
‫(‪ )14‬أنظر سابقاً اهلامش ‪ 39‬من الفصل الثاين عشر‪.‬‬
‫(‪B. Lewis, “The regnal titles of the first Abbasid Caliphs”, in Dr. Zakir Husain. )15‬‬
‫‪. Presentation Volume, New Delhi 1968‬‬
‫(‪ )16‬من أجل أهل الدولة وأبناء الدولة كطبقة أرستقراطية حكومية جمهضة‪ ،‬أنظر‪Crone, The Mawali in the Umayyad :‬‬
‫‪. Period, Chapter 3‬‬
‫(‪ )19‬قارن اهلامش ‪ 2‬من هذا الفصل‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫إعتزايل التقليد النبوي(‪ .)18‬باختصار‪ ،‬لقد استطاعوا بعقل مقدس أن يليّنوا قساوات النزعة القبائلية‬
‫املقدسة وأن يسهلوا تقبّل احلضارة الشعوبية‪.‬‬
‫(‪)17‬‬
‫الظاهرة التارخيية األخرى اهلامة هنا هي القبول النسيب باملفاهيم اليونانية الذي أظهرته الشيعية ‪.‬‬
‫فمن ناحية هنالك ولع الشيعة املعتدلة باملذهب اإلعتزايل‪ :‬الحظ الدمج اجلزئي لإلعتزالية يف اإلمامية‬
‫واستمرارها املتكامل يف الزيدية(‪ .)29‬ومن ناحية أخرى هنالك اهللينية األكثر قوة اليت تظهر بني أتباع‬
‫املذهب اإلمساعيلي‪ :‬الحظ تقبّل اإلمساعيلية الشرقية(‪ )21‬لفلسفة أفالطونية جديدة‪ ،‬والتوفيقية التنجيمية‬
‫امللفتة للنظر لرسائل إخوان الصفا(‪.)22‬‬
‫نستطيع أن نرى أيضاً يف السلوك الشيعي شيئاً من اآلليات االجتماعية والفكرية‪ ،‬لإلسالم‬
‫السين ‪ -‬يف انقسام أساسي‬ ‫الصدوقي‪ .‬فمن منطلق اجتماعي تشرتك الشيعية واهللينية ‪ -‬مقابل اإلسالم ّ‬
‫بني اخلاصة والعامة‪ :‬الكهنوت العلوي مقابل العلمانيني يف احلالة الشيعية(‪ ،)23‬والنخبة الفلسفية مقابل‬
‫اجلماهري يف احلالة اهللينية‪ .‬وهكذا فما كان موضع جدل يف العالقات بني الشيعية واهللينية كان اندماج‬
‫حكمي النخبة‪ ،‬واألمر املناسب الوحيد هو أنه كان على الطرفني أن خيسرا أمام إسالم العامة‬
‫احلاخامي(‪ .)24‬ومن منطلق فكري فقد ق ّدم هذا التناظر االجتماعي األساس الذي استطاع العمل‬
‫الطرفان عليه‪ .‬فمن ناحية استطاعت اهللينية تقدمي حشوة فكرية خفية ملطالب الكهنوت العلوي السرانية‪:‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حران «وبيت احلكمة» الذي للمأمون‪ ،‬حيث نُِقلت حكمة اليونانيني إىل الغة العربية‪،‬‬ ‫(‪ )18‬من أجل «كنز احلكمة» يف ّ‬
‫أنظر‪Encyclopaedia of Islam. art. “Bayt al-hikma”:‬؛ من أجل انشغال املأمون يف اإلفصاح عن الهوت إسالمي‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫””‪. Sourdel, “La politique religieuse du calif “Abbaside Al-Ma’mun‬‬
‫(‪ )17‬ليست بالطبع احلقائق اليونانية وحدها واليت استطاعت أن تكون الشيعية أكثر تقبلية هلا‪ :‬إهنا مسة تشخيصية تلك اليت تفيد أنه يف‬
‫أدب اإلماميني واإلمساعيليني حيتفظ بالنسخ العربية لقصة بوذا البهلوية‪(D. Gimaret, La liver de Bilawhar et Budasp .‬‬
‫‪.)selon la version arabe ismaélienne, Paris 1971, pp.27-32‬‬
‫(‪( .W. Madelung, ‘Imâmism and Mu’tazilite Theology”, in Fahd, Le Shî‘isme imâmite; id., al-Qâsim )29‬من‬
‫املثري للتهكم أن القبول باالعتزالية كان جيب أن يكون ميزة الزيدية اجلبلية أكثر من الزيدية الكوفية)‪.‬هنالك بالطبع أمهية أخرى هلذه العودة‬
‫للعالقات الودية بني الشيعية واالعتزالية‪ :‬العدائية الصدوقية القدمية لتقليد الفريسيني القدمي عادت عرب أفاتارها القرائي إىل احلظرية الكهنوتية‪.‬‬
‫وهكذا فالتبين الكامل لالعتزالية داخل الزيدية‪ ،‬وذلك مقابل اإلمامية‪ ،‬مقرتن بالغياب الفعلي لزيدية إخبارية‪.‬‬
‫(‪S. M. Stern, “Abu “L-Q )21‬م ‪sim al-Busti and his refutation of Isma‘ilism”, Journal of the Royal‬‬
‫املطرفية يف دمج فلسفة مقارنة داخل اليزيدية‪(Mandelung, al-Qasim, .‬‬ ‫‪.Asiatic Society 1961, pp. 21 - 3‬قارن فشل ّ‬
‫)‪.pp. 201 - 3‬‬
‫‪S.M.Stern,”New Information about the Authors of the “Epistles of the Sincere‬‬ ‫(‪)22‬‬
‫‪. Brethren””,Islamica Stduies 1964‬هذا الطموح التوفيقي ليس دون أهبة كمحاولة إلحياء كمالية "سلسلة الكينونة العظيمة‬
‫"يف عامل إسالمي‪.‬لكنه ايضاً ليس دون محاقة كمحاولة ملزج متنافرات‪ :‬اإلرث التنجيمي للكلدان يقلل من قيمة معىن حوادث تارخيية‬
‫خاصة ‪،‬اما الوعد اليهودي املسياين فريفع من قيمة معناها‪ ،‬والدوائر اخلالصية اليت ال ميكن اجتناهبا واليت تتولد عرب دمج التقليدين هي‬
‫غري متماسكة ال فكرياً وال شعورياً‪( .‬قارن‪Y. Marquet, “Les Cycles de la souveraineté selon les épitres des :‬‬
‫‪.)Ihwan Al-Safa”, Studia Islamica 1972‬‬
‫(‪ )23‬قارن يف املرقاه معارضة «الكهنة» أو «الالويني« »للشعب» (عمّه)‪.‬أنظر ممار مرقاه‪ ،‬صص‪.77 ،74 :63 ،69 .‬‬
‫(‪ )24‬من أجل املطابقة بني ما صار يعرف باإلسالم األرثوذكسي والعامة‪ ،‬قارن طرد علماء التقليد على يد أعدائهم وذلك على أساس‬
‫أهنم حشو العامة (أنظر على سبيل املثال ‪ .)Mandelung, al-Qasim, pp. 151‬وهتمة تكفري العوام املوجهة ضد املعتزلة‪(J. .‬‬
‫‪.)van Ess, Die Erkenntinislechre des ‘Adudaddin al- Ici, Wiesbaden 1966, p. 49‬‬

‫‪187‬‬
‫للتوسع يف اسم الرب والتقومي‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فقد أ ُْمكن استخدام حكمة الكهنة‬ ‫مفاهيم وتنجيم ّ‬
‫السرانية كنوع من تفويض مطلق إلضفاء الصبغة الشرعية على قبول ما كان يف الواقع حكمة اليونانيني‪:‬‬
‫االستعارات اهللينية يف الشيعية ُكّرست على حنو خاص عرب عزوها إىل عائلة النيب(‪.)25‬‬
‫وهكذا فهنالك أساس لالفرتاض القائل إنه كان بإمكان حضارة إسالمية أفضل تكاملية التش ّكل يف‬
‫ظل محاية إسالم صدوقي‪ .‬فمن منظور استداليل‪ ،‬كان كهنوت وفق األمنوذج السامري يف موقع يؤهله‬
‫ألن جيمع بني قبول ثقايف غائب عن األمنوذج اليهودي وبني قوة إلعادة التشكيل غائبة عن األمنوذج‬
‫املسيحي‪ .‬ومن منظور استقرائي‪ ،‬فالتاريخ يق ّدم لنا حملات خاطفة لكنها مليئة باإلحياءات حول النمط‬
‫الذي رمبا عاجل فيه إسالم صدوقي هويات األنتيك وحقائقه‪ .‬وهذه املسائل تؤسس معاً معقولية معينة‬
‫لعاملنا االفرتاضي‪.‬‬
‫لكن يف العامل الفعلي يبدو أن الذي أشرف على تشكيل احلضارة اإلسالمية كان إسالم فريسي‪،‬‬
‫وهنالك سبب تارخيي طيب يدفعنا لإلفرتاض أن األمر مل يكن على غري ذلك النحو‪.‬وحبد ذاته يظهر‬
‫فشل املأمون أمام ابن حنبل طبعاً أن احملاولة العباسية كانت قد جرت يف وقت متأخر جداً ليس إال‪،‬‬
‫وقت يبدو من الواضح فيه أن بنيان السلطة احلاخامي لإلسالم قد أشيد مرة وإىل األبد‪ .‬لكن الواقع أن‬
‫تفسر ليس فقط ملاذا فشل العباسيون‪ ،‬بل أيضاً ملاذا كان عليهم أن يفشلوا‪ ،‬إمنا ترتبط‬‫األسباب اليت ّ‬
‫بطريقة استخدام األمويني للكهنوت قبلهم‪.‬‬
‫لقد ش ّكل الكهنوت بالنسبة لألمويني املورد الوحيد الذي كان حبوزهتم إلكمال واجبني متمايزين‪ ،‬مها‬
‫إنشاء اهلوية الدينية اهلاجرية وخلق حضارة هاجرية‪ .‬مع ذلك فالظروف اليت واجهوها تآمرت عليهم‬
‫حبيث جعلت من شبه املستحيل عليهم أن يستخدموا سلطتهم الكهنوتية يف اإلثنني معاً‪ .‬ففي إنشاء‬
‫هويتهم الدينية كان على األمويني اتباع إسوتني سالفتني‪ ،‬مها السامرية واملسيحية‪ .‬من ناحية‪ ،‬كان‬
‫باستطاعتهم أن خيتاروا األوىل‪ ،‬كما فعلوا واقعياً‪ ،‬وأن يستخدموا كهنوتيتهم إلحداث إسقاط باملعىن احلريف‬
‫إلرثهم اليهودي على سيناريو عريب‪ .‬لكنهم بعكس السامريني‪ ،‬فقد َح فولوا أنفسهم بذلك إىل كهنة يف‬
‫السيب؛ وعلىأساس بروز بابل بني غزواهتم وبروز رجال األسباط بني الغزاة‪ ،‬كانوا بذلك يغامرون حبفر‬
‫سيؤدي إىل رفض احلضارة‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فقد‬ ‫قبورهم لصاحل تواطؤ األسباط واحلاخامني والذي كان ّ‬
‫كان باستطاعتهم اتباع األسوة املسيحية‪ ،‬كما كان على العباسيني مبعىن من املعاين أن يفعلوا‪ ،‬ومن مث‬
‫يتسامون بإرثهم اليهودي إىل استعارة جمازية‪ .‬لكنهم بعكس العباسيني مل يكونوا قد وصلوا بعد إىل موقع‬
‫يؤهلهم ألن يسلّموا جدالً بصحة هويتهم الدينية؛ وعلى أساس رجحان كفة املسيحيني بني مواليهم‪ ،‬كان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪Marquet, “Imâmat,‬‬ ‫(‪( Mandelung, al-Qasim, pp. 35 )25‬الزيديون واالعتزالية)‪( 292 ،‬املطرفية والفلسفة)‪ .‬قارن‪:‬‬
‫‪( Résurrection et Hiérarchie selon les Ikhwân as-Safa”, pp. 68‬رسائل إخوان الصفا والتنجيم)‪ .‬قارن مع التسمية‬
‫املستعلية للرسائل بأهنا قرآن األئمة واليت يوردها ‪. Stern, “New Information”, p. 217‬‬

‫‪179‬‬
‫صوا يف املسيحية ويف حضارة مسيحية‪ .‬والطريقة الوحيدة اليت استطاع األمويون أن يضمنوا‬ ‫عليهم أن ميُْتَ ّ‬
‫هبا استمرارية الدين اهلاجري وبقائية احلضارة املغزوة كانت ستؤسس عالقة خمتلفة متاماً بينهم هم أنفسهم‬
‫تسام جمازي‪ ،‬بل على‬ ‫وبني األديان التوحيدة السابقة‪ :‬عالقة ال تقوم على إسقاط مبنظور حريف وال على ٍ‬
‫وسيلة غري مسبوقة بالكامل إلضفاء الصبغة القومية على حنو فوري‪ .‬ولو أن اهلاجريني ق ّدموا نسباً عربياً‬
‫ألورشليم‪ ،‬األنبياء واألسفار املق ّدسة‪ ،‬عوضاً عن تزيني شبه جزيرة العرب باورشليم‪ ،‬موسى وتوراة‪ ،‬لكانوا‬
‫نسخوا بثبات وعلى حنو هنائي كالً من اليهودية واملسيحية ‪ -‬عوضاً عن التعايش معهما يف ختليط غامض من‬
‫احملاكاة والتعاقب اخلطّي(‪ . )26‬لكن هذا كان سيتطلّب َجلَداً‪ ،‬جلد مل يكن ميتلكه‪ ،‬يف احملاولة األخرية‪ ،‬حىت‬
‫عبد امللك؛ وإىل املدى القائل إن اخليار مل يكن واقعياً قط‪ ،‬فليس من املفاجئ أن األمويني اختاروا أن يتعلّموا‬
‫من السامريني الذين أعطوهم الكهنوت ذاته‪ .‬والنتيجة النهائية هلذا اخليار كانت اختزال الكهنوت إىل وجود‬
‫مستحائي يف عامل كانت حيواناته احلية حاخامية‪ .‬يبقى أن نضيف أن مصري الكهنوتية مل يكن أكثر سعادة يف‬
‫الشيعية ذاهتا‪.‬‬
‫وحيث أن متاسك القوة العدائية جعل من غري احملتمل على حنو متزايد أن يكون ممكناً تأسيس إمامة‬
‫علوية يف العامل املتمدن‪ ،‬فقد استجاب شيعة العراق يف اجتاهني خمتلفني للغاية‪ .‬فمن ناحية اختار‬
‫اإلماميون أن يظلوا حيثما كانوا مهما كانت التكلفة األيديولوجية‪ ،‬وأن يشرعوا يف تكييف إرثهم اجلهادي‬
‫أصالً مع الضروريات األكثر إستكانية لبيئتهم‪ .‬لقد حاولوا مبنظور عام‪ ،‬إبطال مفعول عالقتهم باإلسالم‬
‫األرثوذكسي عن طريق تلطيف ح ّدة(‪ )29‬السمات األكثر إيذاء للشعور يف إرثهم أو إخفائها(‪ .)28‬أما‬
‫مبنظور خاص‪ ،‬فقد ُرّكز احلق يف استهالل ثورة شرعية يف باد األمر يف سلسلة منفردة من أئمة ثقة غري‬
‫نشطاء (‪ ،)27‬لكنه ُِحمق بالكامل يف هناية األمر وذلك مع إرسال اإلمام إىل غيبة متسامية حقاً(‪.)39‬‬
‫وهكذا فقد كانت سياسة اإلمامية إحياءً ألكثر سياسات الغيتو استكانية(‪.)31‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )26‬ف ّكر بأن العالقة املختلفة جداً بني اإلسالم وسلفيه كانت ستتضمن شرعة كتابية حتتوي التوراة‪ ،‬اإلجنيل والقرآن‪.‬‬
‫(‪ )29‬الحظ االرتقاء إىل موقف أكثر متدناً من صحابة النيب )‪ (Kohlberg, The Attitude of the Imami, pp. 111 - 22‬ومن‬
‫املسلمني غري اإلماميني بشكل عام )‪(ibid., pp. 104 - 8‬؛ قارن ايضاً االبتعاد عن عقيدة بدعية مربكة فيما خيص كمالية القرآن‬
‫‪(id., “Some Notes on the Imamite Attitude to the Qur’an in S. M. Stern et al.(ed.), Islamic‬‬
‫‪.)Philosophy and the Classical Tradition., Oxford 1972‬‬
‫(‪I. Goldziher, “Das Prinzip der Takijja in Islam”, Zeitschrift der Deutschen Morgenl )28‬ن ‪ndischen‬‬
‫‪ . Gesellschaft 1906‬الحظ على حنو خاص الطريقة اليت يقدم هبا فقهاء اإلمامية التقية وذلك بوصفها واجباً حنو أخوة املرء يف‬
‫الدين )‪.(ibid., pp. 219 - 21‬‬
‫(‪ )27‬قارن الرأي املنسوب إىل هشام بن عبد امللك‪ :‬ال يتوقع من اإلمام أن يثور ‪،‬ومن غري املسموح أن تتم الثورة حلسابه‬
‫)‪ .(Encyclopaedia of Islam, s.n‬لكن هذا حبد ذاته ال يتعارض مع طبيعة السياسة الكهنوتية‪ :‬فقد اعتاد الكهنوت العايل‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬باستثناء يف أفخر حلظاته املكابية‪ ،‬على التعايش مع سلطان غريب وشبه جائر‪.‬‬
‫(‪ )39‬من أجل احلتمية القطعية للغيبة اإلمامية‪ ،‬أنظر‪J. Eliash, “The Ithna‘ashari-shi‘i juristic theory of political and :‬‬
‫‪ .legal authority”, Studia Islamica 1960‬يظهر معىن الغيبة اإلمامية على حنو شبه دقيق يف احلقيقة القائلة إهنا استدعيت‬
‫مرتني‪ ،‬يف سياقني خمتلفني للغاية‪ ،‬إلهناء سلسلة غري مرغوبة من األئمة االمساعيليني‪(S. M. Sern, The Succession to the .‬‬
‫‪Fatimid Imam alAmir, the Claims of the Later Fatimids to the Imamate, and the Rise of Tayyibi‬‬

‫‪171‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فقد اختار الزيديون متابعة طموحاهتم السياسية مهما كانت التكلفة البيئوية‪.‬‬
‫مبنظور عمومي‪ ،‬الزيدية متميزة خباصية مغامراتية ال ميكن كبحها واليت تتناقص بكل شيء مع استكانية‬
‫اإلماميني الشديدة الوطأة(‪ .)32‬ومبنظور خصوصي‪ ،‬فالتخليط البيئوي للمغامرات الزيدية األوىل يتناقض‬
‫مع الشخصية امللفتة للنظر يف تعقيدها لنجاحاهتم املستمرة؛ حني استقر الـغبار‪ ،‬راح الزيديون يقايضون‬
‫غيتوهات بابل املدنية باألسباط اجلبلية لقزوين واليمن(‪ .)33‬وكان على اإلمامية الزيدية أن تستقر كحجر‬
‫زاوية لنمط صيغة دولة قبائلية قائمة يف هناية األمر على الرضى الذي ال ميكن لغري القداسة أن حتثه‪،‬‬
‫وذلك يف غياب الرتكيزات اهلامة للسلطة أو الثروة(‪.)34‬‬
‫يف هذه التطورات املتباينة وصلتنا السياسات الشيعية متكاملة يف تطورين اثنني‪ .‬ففي هناية األمر‬
‫التزمت اإلمامية والزيدية على حد سواء بأمثولة إمامة مشولية فعلية‪ .‬لكن يف حني ضحت اإلمامية بالواقع‬

‫‪Ismailism”, Oriens 1951, pp. 204f ; W. Ivanow, “The Sect of Imam Shah in Gujarat”, Journal of the‬‬
‫‪.)Bombay Branch of the Royal Asiatic Society 1936, pp. 43 - 5‬قارن إحنجاب املسيا‪ ،‬وبالتايل أية كمونية لسياسة‬
‫فاعلة عند أقلية دينية مدنية أخرى‪ ،‬هي املسيحيون األوائل‪.‬‬
‫(‪ )31‬قارن اإلحلاح يف احلقبة اليت أعقبت غياب اإلمام على أنه على املؤمن أن ال يذكر امسه وال يسأل عن مكان وجوده كي ال خياطر‬
‫حبياة اإلمام وحياة ملته (النوخبيت‪ ،‬كتاب فرق الشيعة‪ ،‬ص‪.)72‬‬
‫(‪ )32‬يف حني ترّكز اإلمامية اإلمامة يف سلسلة منفردة وغري متواصلة يف هناية األمر من األئمة غري الفاعلني‪ ،‬توزع الزيدية حق استهالل‬
‫اإلمامة عرب ثورة صاحلة بني كل األعضاء الذين حيملون مؤهل االنتساب اىل الساللة النبوية (قارن العبارة املالئمة حول قواعد اللعبة اليت‬
‫أعاد تقدميها ‪ R. Strothmann‬يف عمله ‪ . )Das Staatsrecht der Zaiditen, Strassburg 1912, pp. 104 - 6‬ويف حني‬
‫تفرغ اإلمامية حاضر املعىن السياسي لصاحل مستقبل مهدوي بعيد على حنو غري حمدد‪ ،‬تق ّدم الزيدية عرضها الواقعي الثابت للعدل‬
‫اإلمامي هنا واآلن (باستثناء وحيد‪،‬هو زيدية جبلية خالية من املهدوية على حنو ملفت‪ ،‬أنظر‪(Mandelung, al-Qasim, pp. :‬‬
‫تفسر اإلمامية اجلهاد كحجب للذات ألسرارها عن املسلمني اآلخرين ‪(Goldziher, “Das Prinzip”, p.‬‬ ‫‪ .198 ( 210‬ويف حني ّ‬
‫)‪ ،221n‬تفسره الزيدية كجهاد مسلّح ضدهم‪(C. van Arendonk, Les débuts de l’imamat zaidite au Yamen, .‬‬
‫‪ .) Leyden 1960, p. 225‬ويف حني تضرب اإلمامية على معزوفة الفتوى القرآنية لصاحل املؤمن الذي ينكر اهلل حتت الضغط لكنه‬
‫يظل مؤمناً يف قلبه (‪( )198 :16‬انظر على سبيل املثال‪ ،)Kohlberg, The Attitude of the Imami-Shi‘is, p. 32 f :‬جتد‬
‫الزيدية قانوهنا يف الفتوى القرآنية لصاحل أولئك الذين يرفعون السالح ألهنم اضطهدوا دون وجه حق (‪( )37:22‬أنظر على سبيل‬
‫املثال‪.)S. M. Stern, “The Coins of Amul’, The Numismatic Chronicle 1967, pp. 211 f, 217 :‬‬
‫(‪ )33‬الحظ إعادة اإللقاء الدقيقة هلذا التقابل البيئوي يف سرية النيب‪ :‬ف في حني ختتار اإلمامية سريته النبوية باعتبارها األمنوذج البدئي‬
‫لالستكانية احملاصرة لغيتو مدين (أنظر اهلامش ‪ 38‬من الفصل اخلامس ؛ وأبو خلف سعد بن عبد اهلل القمي‪ ،‬كتاب املقاالت والفرق‪،‬‬
‫حترير م‪ .‬ج‪ .‬مشكور‪ ،‬طهران ‪ ،1763‬ص ‪ ،)193‬تأخذ الزيدية سريته يف املدينة كأمثولة لفعالية سياسة يف جمتمع قبائلي (قارن‬
‫حماكاة األمنوذج النبوي اليت يتضمنها استخدام تعبريي املهاجرون واألنصار يف سياق تأسيس اإلمامية الزيدية يف اليمن ‪(van‬‬
‫‪ ،)Arendonk, Débuts, p. 164‬والدقة يف استلهام اهلادي العرف النبوي يف تسويغ معاجلته غري القانونية تقريباً للزكاة ‪(ibid., pp.‬‬
‫)‪.260f‬‬
‫(‪ )34‬االنسجام بني القبائل الذي كان مؤسس اإلمامية الزيدية قادراً على ترسيخه بقوة القداسة حيث فشل قبل ذلك حاكم مع جيش‬
‫هو أمثولة على هذا النمط من السياسات ‪ .)(van Arendonk, Débuts, pp. 134f’ pp. 140f‬قارن الطريقة اليت يق ّدم هبا‬
‫احلاكم عدالته لرجال القبائل كي تنال استحساهنم (أنظر‪.)ibid., pp. 196-8 :‬‬

‫‪172‬‬
‫لتحتفظ بشمولية ظل‪ ،‬ضحت الزيدية بالشمولية على حساب إحراز حقيقة أبرشية ضيقة(‪)35‬؛ ويف حني‬
‫ضرية على حساب إنكار املمارسة العملية‪ ،‬ظلت الزيدية هرطقة عملية على‬ ‫ظلت اإلمامية هرطقة َح َ‬
‫حساب إنكار احلواضر(‪.)36‬‬
‫ميكن بسهولة توضيح املضامني الثقافية هلذا التفسخ السياسي‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬قاد التطور اإلمامي‬
‫مباشرة إىل إعادة امتصاص السلطة الكهنوتية العليا يف الوسط احلاخامي للغيتو‪ .‬وانتهت مؤامرة غري‬
‫ناجحة على حنو مثري للشفقة ضد أئمة الضالل كمؤامرة ناجحة على حنو مثري للتهكم ضد أئمة اهلداية؛‬
‫والبقية اهلامة الوحيدة من السلطة الكهنوتية كمنت اآلن يف احلقيقة القائلة إن احلاخامية اإلمامية‪ ،‬إذا‬
‫صح القول‪ ،‬ظلّت تنائية(من تنا)‪ ،‬يف حني ظلت احلاخامية السنية جمرد أمورائية(من أمورا)‪ .‬ومن ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬أضحت اإلمامية الزيدية بذرة واليت تنمو فقط على أرضية حجرية‪ .‬لقد انسحبت الزيدية من‬
‫احلضارة كي حتيا يف تعايش تكافلي مع الرببرية‪ ،‬وتبدو «أبيض أفضل من خبري» صيغة معتدلة لرسالتها‬
‫العقائدية وسجلها السياسي‪ .‬لقد حافظ األئمة الزيديون يف معاقلهم اجلبلية على تعهد مؤثر بالتعليم(‪)39‬؛‬
‫لكن مسامهة سلطتهم الكهنوتية يف تشكيل احلضارة كانت بالضرورة يف حدودها لدنيا‪ .‬باختصار نقول‪،‬‬
‫إن اإلماميني هجروا إمامتهم وانسحبوا إىل داخل الغيتو‪ ،‬يف حني حافظ الزيديون على إمامتهم وانسحبوا‬
‫تنم عن‬
‫تنم عن االنفتاح الثقايف للصدوقيني أقل مما ّ‬‫إىل داخل الريف؛ لكن يف احلالتني‪ ،‬كانت احلصيلة ّ‬
‫«احلياة املنعزلة» الفريسية‪.‬‬
‫على هذه األرضية قامت الشيعية يف شكلها االمساعيلي بآخر حماوالهتا‪ ،‬واليت هي بطريقة أو بأخرى‬
‫أكثر حماوالهتا تأثرياً‪ ،‬للجمع بني القداسة واحلضارة(‪)38‬؛ وفشلها شهادة حية على صعوبة املشكلة‪.‬‬
‫(‪)37‬‬
‫كهرطقة إسالمية‪ ،‬فقد بُنيت اإلمساعيلية يف عمق تنظيمي وأيديولوجي فريد‪ ،‬مبعىن أهنا تعددية بيئوياً‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )35‬لكن التضحية بالشمولية مل تأت بسهولة‪ :‬فالقادة األوائل أنفسهم دعاة وليس أئمة‪،)(Mandelung, al-Qasim, pp. 154 -6‬‬
‫والزيدية مل تتكيف عقائدياً بوضوح قط مع وجود شكلي احلكم الزيدي املنفصلني إىل درجة كبرية‪ ،‬وهو تكيف تبناه االباضيون يف‬
‫ظروف مشاهبة‪ ،‬أي اإلقرار بأنه رمبا يكون هنالك أكثر من إمام شرعي يف الوقت ذاته (أنظر‪.)ibid., pp. 196-8 :‬‬
‫(‪ )36‬البد أن نالحظ أن الوصف القصري املق ّدم هنا يتجاهل االنتقال اهلام من الزيدية الكوفية إىل الزيدية اجلبلية‪ ،‬ويطمر أشكال الرتدد‬
‫القدمية للزيدية الكوفية‪.‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )39‬تربز أمهية هذا الرفض لتخفيض املعايري األكادميية يف أن أكثر من حاكم زيدي ُرفض اإلقرار به كإمام على أساس عدم كفاية علومه‬
‫(أنظر على سبيل املثال‪ .)Mandelung, al-Qasim, pp 208 :‬وحىت وقت متأخر هو بداية هذا القرن حتدى أحد املطالبني‬
‫باإلمامة آخر إىل معركة الهوتية ‪(R. Bidwell (ed.), The Affairs of Arabia 1905 - 6, London 1971, vol. ii,‬‬
‫‪.)section iii, p. 4‬‬
‫(‪ )38‬قارن اإلمامة العباسية‪ ،‬اليت مل تتضاءل إىل إمامة ضيقة يف براري آسيا الوسطى بالطريقة الزيدية‪ ،‬ومل ختتلف يف غيبة شكالنية‬
‫بالطريقة اإلمامية‪.‬‬
‫(‪ )37‬من أجل جمموعة املواقع اليت انطلقت منها اإلمساعيلية إىل العمل‪ ،‬أنظر‪S. M. Stern, “Isma‘ilis and Qarmatians”, in :‬‬
‫‪.Cahen et al., L’Elaboration de L’Islam, p. 101‬‬

‫‪173‬‬
‫(‪)49‬‬
‫وحولت مقدرهتا على ضبط التوترات الناجتة‪ ،‬احلفاظ على توازن دقيق متعلّق‬ ‫ومرنة عقائدياً يف آن ‪ّ .‬‬
‫مبجموعة من اخلدمات السياسية احمللية‪ ،‬إىل فكرة دينية ‪ -‬سياسية مسيطرة وحيدة‪ :‬مهدية إمامية واليت‬
‫وعدت حبقيقية اإلمامية الزيدية دون حمدوديتها األبرشية‪ ،‬وبعاملية األبوكاليبس اإلمامية دون عدم لزوميتها‬
‫السياسية‪.‬‬
‫من منظور تنظيمي‪ ،‬فالشخصية املفتاح يف هذا البنيان كانت الداعي‪ ،‬الذي جيمع بني مكانة حملية‬
‫يف مشكاة بيئوية ضيقة وبني دور ذرائعي يف مؤامرة عاملية أكثر عظمة(‪ .)41‬يف هذا التوازن يكمن كل من‬
‫القوة املميزة للمنظمة اإلمساعيلية وقابليتها املميزة لالجنراح‪ .‬فمن ناحية لدينا هنا حماولة ديناميكية لتجاوز‬
‫التكيفات البيئوية لإلمامية والزيدية‪ :‬يف األوىل‪ ،‬باملقابل‪ ،‬مل يعد هنالك شخص أُمكن لشخص حملي أن‬
‫يتآمر لصاحله‪ ،‬يف حني كان اإلمام ذاته يف الثانية شخصية حملية ذات مكانة كاملة دينية‪ .‬لكن من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬فقد كان ممكناً اإلخالل بالتوازن يف أي من االجتاهني بسهولة‪ :‬عن طريق دارة قصرية صرف هبا‬
‫الداعي حوالة املهدي املصرفية حلسابه اخلاص(‪ ،)42‬أو عن طريق تبخري املؤامرة األكثر اتساعاً والذي‬
‫بفضله امتلك دوره معناه البيئوي(‪ .)43‬وهكذا فاملرونة التنظيمية لإلمساعيلية كانت معلقة بني هتديدات‬
‫الصالبة العنيدة من جهة واإلنتفاخ غري احملدود من ناحية أخرى‪.‬‬
‫من منظور أيديولوجي‪ ،‬فمفهوم اإلمساعيلية املركزي هو مهدية حمايثة تولّد عالقة بني احلاضر‬
‫واملستقبل هي يف آن لدنة إدراكياً ومتوترة شعورياً‪ .‬ومن جديد نعيد أن التوازن متزعزع‪ .‬لو أن احلوالة‬
‫يتقوض املستقبل داخل احلاضر‪ ،‬ويفسح التوازن اجملال أمام الالمعنوية‬‫املصرفية املهدية تُقبض اآلن‪ّ ،‬‬
‫اجلوهرية للواقع املابعد اسكاتولوجي‪ :‬رمبا أن عبيد اهلل املهدي كان سيبدو أكثر سعادة كإمام زيدي‪ .‬ولو‬
‫أن احلوالة املصرفية لن تقبض أبداً‪ ،‬فاحنسار املستقبل املهدوي يفرغ احلاضر من معناه السياسي‪ ،‬ويكون‬
‫التوتر الشعوري مفقوداً‪ :‬رمبا أن الداعي املثقف من القرن احلادي عشر‪ ،‬الكرماين‪ ،‬كان سيبدو أكثر‬
‫سعادة أكثر كحاخام إمامي(‪ .)44‬أو لنق ّدم األمر على حنو خمتلف قليالً‪ ،‬فاملقدرة على اإلقناع يف‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪W.‬‬ ‫(‪ )49‬من أجل التدوميات األيديولوجية اليت سعى قادة احلركة من خالهل ا يف أوقات خمتلفة ألخذ أقسام جوهرية من اتباعهم‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪Madelung, “Das Imamat in der frühen ismailitischen Lehre”, Der Islam 1961; B, Lewis, The‬‬
‫‪Assassins: A Radical Sect in Islam, London 1967, pp. 71 - 83.‬‬
‫(‪ )41‬وهكذا فالصليحيون‪ ،‬بكلمات أحد املصدر‪« ،‬مجعوا بني منصب الداعي [أي‪ ،‬حلساب اإلمام الفاطمي] واحلكم املسيطر [أي‪،‬‬
‫داخل اليمن]»‪.)(Stern, “The Succession to the Fatimid Imam alAmir”, pp. 21719 .‬‬
‫(‪ )42‬كما يف حالة علي بن الفاضل يف اليمن‪ .‬استطاع املوظفون البريوقراطيون أن يفعلوا الشيء ذاته يف املركز‪ ،‬كما يف حالة الفاطميني‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫(‪ )43‬وهكذا فعلى االرجح كان الدعاة املكرميون يف اليمن أئمة زيديني أيضاً؛ أو باملقابل‪ ،‬رمبا ُأودع األئمة املخفيون الذين كانوا ميثلوهنم‬
‫أيضا يف غيبة إمامية متقنة وذلك على أيدي أتباعهم من البهرة‪.‬‬
‫(‪ )44‬بالنسبة للكرماين فالوعد باملستقبل ُخيتزل إىل االنتظار املروع بضعفه لنحو من ثالثني خليفة فاطمي‪(Mandelung, “Das .‬‬
‫)‪.Imamat”, p. 126‬‬

‫‪174‬‬
‫اإلمساعيلية تعتمد على قوة استعاراهتا اجملازية‪ :‬لكن لو ثـُفِّلت االستعارات اجملازية إىل حقيقة َح ْرفية(‪،)45‬‬
‫(‪)46‬‬
‫لتدمر‬
‫كما يف عقيدة الدروز األوىل‪ ،‬أو ُمدِّدت إىل صوفية جمردة ‪ ،‬كما يف كتابات ناصر خسرو‪ّ ،‬‬
‫عندئذ التوازن الدقيق بني التلميحية والتملّصية‪ .‬ألنه على اإلمساعيليني‪ ،‬كاملاركسيني‪ ،‬أن خيفوا حتت مظهر‬
‫خادع احلقيقة القائلة إن عليهم أن خيتاروا يف احملاولة األخرية بني أن يقبضوا مثن وعدهم إمامة روسية قذرة‬
‫أو أن يرفضوا قبض مثنه يف جالوت فارسي عقيم؛ لكن عظمة اإلمساعيلية‪ ،‬كعظمة املاركسية‪ ،‬إمنا تكمن‬
‫يف رؤيا ال بد أن تَبلى معقوليتها عاجالً أم آجالً‪.‬‬
‫لقد حاول النزاريون أن ينجوا من هذا الشرك عن طريق احلجة القدمية بأهنم بدأوا من جديد‪ .‬لكن‬
‫األمر حيتاج إىل أكثر من اجلِ ّدة إلحداث إصالح‪ ،‬واليوتوبية السطحية «للتبشري اجلديد» إمنا ّ‬
‫يدل عليها‬
‫جيداً اهلجمة السريعة حملدودية التفكري واالهنيار املوازي للفلسفة إىل سحر(‪ .)49‬وكانت النتيجة بالفعل‬
‫مفصل على حنو غري معقول‬ ‫جمرد إمامية زيدية أخرى يف الريف‪ ،‬مع ثقلة إضافية من إرث عقائدي ّ‬
‫ومساعدة هامشية من غيتو إمامي والذي أدان ببقائه إىل وجوده على هامش العامل اإلسالمي‪ .‬ففي هناية‬
‫الزمان جاءت حوادث التاريخ باإلمامة إىل الغيتو‪ :‬انتهى الكاهن األعظم يف اهلند الربيطانية مثلما ابتدأ‬
‫اخلريين البعيدين‪.‬‬
‫يف بالد اليهودية األمخينية‪ ،‬أي القائد جلماعة دينية صغرية أمام حكامها اإلمرباطوريني ّ‬
‫ويف هذا املوقع أحرز اإلسالم الصدوقي أكثر جناحاته الثقافية درامية‪ .‬لقد أعلن اآلغاخانات إلغاء‬
‫الغيتو(‪ )48‬وتقبّلهم للحضارة؛ وإذا كانوا يفضلون مضمار سباق اخليل على قاعة األلعاب الرياضية‪ ،‬فقد‬
‫كانوا مع ذلك ورثة مستحقني للكهنة الكبار يف منطقة اليهودية اهللينية‪ .‬لكن مهما كانت انتصارات‬
‫اإلسالم الصدوقي يف هذا املوقع الغريب واملستبعد‪ ،‬فقد تُركت لبقية العامل اإلسالمي أدواته الفريسية‬
‫اخلاصة‪« :‬حىت لو أننا صدوقيون‪ ،‬فنحن مع ذلك خناف من الفريسيني»(‪.)47‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )45‬بطلت األمثال بظهور املمثوالت )‪.(ibid., p. 118‬‬
‫(‪. Ibid., pp. 130 - 2 )46‬‬
‫(‪Lewis. The Assassins, pp. 67, 112, 135 )49‬‬
‫(‪« )48‬حيثما تعيشون‪ ،‬كونوا مواطنني» ‪ .)(H. S. Morris, The Indians in Uganda, London 1968, p. 193‬حنن ندين‬
‫بفهمنا ملغامرات اآلغاخانات الثقافية لبحث ق ّدمه األستاذ ي‪ .‬غلّز قبل بضع سنني‪.‬‬
‫(‪ )47‬التلمود البابلي‪ ،‬يوما‪ ،‬الورقة ‪ 17‬ب‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪94‬‬
‫قسوة التاريخ اإلسالمي‬

‫يتميز التاريخ اإلسالمي مبا يلفت النظر من ضيق للموارد اخلاصة باملعىن يف اللغة وثبوتيتها‪.‬لقد كان‬
‫مرّكباً طبعاً من العناصر الثالثية الكالسيكية‪ ،‬العربانية والرببرية ذاهتا اليت ُرّكب منها تاريخ أوروبا‪ .‬لكن يف‬
‫حني ظلت املصادر الثالثة يف أوروبا متمايزة‪ ،‬فقد رفض اإلسالم العنصر األول ودمج االثنني اآلخرين؛‬
‫ونتيجة لذلك ترتكز موارده على حنو ثقيل يف تقليد أوحد وذي خصوصية دينية‪ .‬لقد رأينا للتو ما كان‬
‫يعنيه هذا بالنسبة لشخصية احلضارة اإلسالمية يف عالقتها مع احلضارات اليت خلفتها‪ .‬مع ذلك فاألمر‬
‫يستأهل إعطاء التحليل نوعاً من التأكيد عن طريق توسيع املقارنة لتشمل تاريخ أوروبا املختلف للغاية‪.‬‬
‫ألنه كما تتحمل املصدرية الفردية للتقليد اإلسالمي عبء الشخصية األحادية القاسية للكثري جداً من‬
‫التاريخ اإلسالمي‪ ،‬كذلك متاماً فتعددية املصادر للثقافة يف أوروبا هي الشرط املسبق أيضاً لتطورها‬
‫املخولة ثقافياً كان األوروبيون مبتلني بذلك‬
‫التارخيي املعقد‪ .‬فعرب تفاعل التقاليد املتغايرة تارخيياً لكن ّ‬
‫السعي الذي ال يهدأ خلف احلقائق اليت منعت فاوستسوس ال َقلِق عن االستمرار يف حديقة غرتشن؛ على‬
‫حنو معاكس‪ ،‬يف حني أنه بعدما أحرز املسلمون اتزان املوثوقية‪ ،‬مل يتعرضوا إلغواء نظرة خاطفة على‬
‫احلقيقة النهائية‪.‬ويف حني يبدو هذا التعارض أساسياً إىل درجة أنه ميكن اعتباره بديهياً‪ ،‬فإنه ميكن‬
‫توضيحه مع بعض الدقّة عرب مقارنة النتائج املختلفة لألصولية يف جمايل احلقيقة واهلوية يف عاملي أوروبا‬
‫واإلسالم‪.‬‬
‫نقطة البداية بالنسبة لنا هي نوع من املوازاة بني ظهور اإلسالم وظهور اإلصالح الربوتستانيت‪ .‬ففي‬
‫الشرق والغرب على حد سواء‪ ،‬أحرز عامل األنتيك نسخة ملطفة من اليهودية وذلك يف هيئة املسيحية‪.‬‬
‫ويف الشرق والغرب على حد سواء‪ ،‬ومبقتضى احلال جعل هذا التبين اجلزئي للقيم اليهودية مشروع أخذ‬
‫هذه القيم جبدية أكرب متاحاً‪ .‬ويف كليهما‪ ،‬وجد املشروع جتسيداً تارخيياً يف حركات رفضت مسيحية‬
‫متفسخة على األسس ذاهتا نوعاً ما‪ :‬هنالك اإلصرار ذاته على وحدانية قاسية ضد تعددية آهلة مسيحيي‬ ‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫األيام األخرية أو وثنيتهم‪ ،‬البرت ذاته للسر من العالقة األخالقية بني الناس وإهلهم ‪ ،‬واإلزالة ذاهتا‬
‫للصبغة الطبيعية عن اجملتمع والطبيعة عرب حتويل سلطة الكون إىل احلكم املطلق لإلرادة اإلهلية(‪.)2‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬إن واجب الراعي الكالفين‪ ،‬هو «عن طريق جلب البشر إىل طاعة اإلجنيل»‪« ،‬لتقدميهم إذا صح القول يف القربان هلل»‪ ،‬وليس‪« ،‬كما‬
‫تفاخر أتباع الباباوات حىت اآلن‪ ،‬التضحية باملسيح ملصاحلة البشر مع اهلل»‪(Calvin cited in M. Walzer, The Revolution .‬‬
‫‪ .)of the Saints: A Study in the Origins of Radical Politics, London 1966, pp. 24 f‬مع ذلك فاملصطلح‬
‫إسالم مفتقد قليالً هنا‪.‬‬
‫(‪ )2‬من أجل الكالفنية‪ ،‬أنظر‪.Walzer, The Revolution of the Saints, pp. 35 , 152:‬‬

‫‪176‬‬
‫لكن خلف هذه النقطة‪ ،‬يق ّدم الشرق والغرب تقابالً بسيطاً وأساسياً‪ .‬ففي الشرق كان التوجه يف‬
‫القرن السابع حنو تيار عرباين أكثر مشولية حركة متولدة يف اخلارج‪ :‬القيم ليهودية ظلت خارج املسيحية‬
‫الشرقية روحانياً مندجمة مع قوة الربابرة الذين ظلوا مادياً خارجها‪ .‬لكن فشل اآلريوسية القوطية يف القرن‬
‫الرابع يف الغرب يف االحتياط سلفاً لظهور اإلسالم كان يعين أنه مل يعد ممكناً إعادهتا إىل املسرح يف القرن‬
‫السادس عشر‪ :‬ظل باستطاعة اليهود طبعاً تقدمي قسطهم من الالجئني‪ ،‬لكن سويسريي القرن السادس‬
‫عشر مل يعودوا برابرة والذين كان ممكناً تسجيل أمسائهم يف نوع من االكتتاب لإلطاحة باملسيحية أو‬
‫باحلضارة(‪.)3‬‬
‫تبدو الشخصية ذات املنشأ الداخلي للربوتستانتية ‪ -‬أو للكالفينية‪ ،‬من أجل حتديد املناقشة ‪-‬‬
‫باملقارنة مع اإلسالم حامسة بسبب عالقتها مبا كان قبلها‪ .‬واملسألة تنطبق على مستويي األفكار والوقائع‬
‫على حد سواء‪ .‬فعلى صعيد األفكار‪ ،‬استطاع استعمال أصويل لإلرث العرباين يف املسيحية توفري ترخيص‬
‫مفيد للتدمري (‪ .)4‬لكن حىت بالنسبة لديانة كانت جمموعة أسفارها املقدسة تتضمن العهدين القدمي‬
‫واجلديد‪ ،‬فإن األصولية مل تكن مورداً يكفي ألن يبىن به العامل من جديد‪ .‬ويف أية حال فاألصولية‬
‫املسيحية هي بالضرورة صرح دون أساس‪ :‬فعن طريق فقداهنا ألسسها يف االستعارة اجملازية حتديداً صارت‬
‫املسيحية ديانة عاملية(‪ .)5‬وهكذا فاحلقيقة القائلة إن الكالفينة استطاعت أن تطال اإلرث العرباين من‬
‫خالل املسيحية فقط كانت تعين أن مواردها املتميزة اخلاصة باملعىن يف اللغة كانت ُم ْق َفرة إىل درجة‬
‫التصور العسكري للكالفنية‬
‫عظيمة وذلك باملقارنة مع موارد اإلسالم املتميزة اخلاصة باملعىن يف اللغة‪ .‬إن ّ‬
‫والذي جيد جتسيداً عينياً له يف جيوش الرب من القرن السابع عشر‪ ،‬تصور احلج غري املتوقف الذي جيد‬
‫أداءً متثيلياً عينياً يف اهلجرات الدينية إىل جنيف أو ماساشوشتس‪،‬والتوق املتكرر ملنظومة سياسيةذات‬
‫جوهر ديين‪ ،‬إمنا هي تلميحات عديدة خمذولة ملقوالت اجلهاد‪ ،‬اهلجرة‪ ،‬واإلمامة اإلسالمية‪ .‬لكنها مل‬
‫تستطع أن تكون أكثر من تلميحات‪ :‬فالصليبيون كانوا األسوة شبه الوحيدة اليت استطاع الكالفنيون‬
‫تقدميها كحجة على روحهم العسكرية(‪ ،)6‬وجوالت ابراهيم مل يكن باستطاعتها امتالك معىن جغرافياً‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )3‬لو أن الزيديني علموا جون نوكس‪ ،‬لكان مستحيالً على التاريخ أن خيربنا مبا حصل ألسباط اجلبال يف اسكتلندا والذي حفظهم على‬
‫حنو غري متخيل من أجل جتديدية ستيوارت‪.‬‬
‫(‪ « )4‬دعهم ينشدون بقدر ما يشاؤون عن حقوقهم اخلاصة‪ ،‬فسوف خنربهم عن الكتاب املقدس؛ عن العرف‪ ،‬يف الكتاب املقدس؛ عن‬
‫األعمال والقوانني يف الكتاب املقدس أيضاً»‪( .‬ميلتون عام ‪1641‬؛ أوردها‪M. Walzer, The Revolution of the Saints, :‬‬
‫‪.)p. 130‬‬
‫(‪ )5‬قارن‪.Avis, “Moses and the Magistrate: a Study in the Rise of Protestent Legalism” :‬‬
‫يكرس اإلسالم عنف احلرب الدينية‪ ،‬فإن الكالفنية متارسه على‬
‫(‪ .M. Walzer, The Revolution of the Saints, p. 8 )6‬يف حني ّ‬
‫أساس «علّة الدين» )‪.(ibid., p. 274‬‬

‫‪179‬‬
‫حرفياً لتقليد يقول «اجلنة وطننا األم»(‪ ،)9‬بل أن دور النيب املنذر املأخوذ من العهد القدمي والذي انتحله‬
‫قديس مناصر للقضية مثل جون نوكس كان طفيلياً على وجود امللوك الظاملني الذين كان على النيب أن‬
‫ينذرهم(‪ .)8‬رمبا كانت جنيف مدينة كالفن املنورة‪ ،‬لكن نويونس مل تكن مكة؛ وحىت يف الربية األمريكية‬
‫فإن قدرة القديسني على ختيل شكل حكم مقدس تبدو ضامرة على حنو مريع وفق املعايري اإلسالمية(‪.)7‬‬
‫على صعيد الوقائع‪ ،‬فاحلقيقة القائلة إنه كان على الكالفنية حبكم الضرورة أن تُفسد أوروبا من‬
‫الداخل وليس أن تغزوها من اخلارج استلزمت باملقابل قبوالً بعيد املدى مبا مضى قبلها‪ .‬بل إن انتشار‬
‫الكالفنية مل حيدث بالطريقة اهلادئة للمسيحية األوىل‪ :‬كانت مسريهتا قابلة للمقارنة يف عنفها مبسرية‬
‫اإلسالم األويل على األقل‪ .‬كانت املسألة أن مداخل الكالفنية العسكرية كمنت يف حرب أهلية‪ ،‬وليس‬
‫يف الغزو‪ .‬بعدما غزا اإلسالم إيران‪ ،‬استطاع أن يعري انتباهه قليالً ملعايري الطبقة األرستقراطية الفارسية؛‬
‫لكن دون احتكام عميق للطبقة النبيلة الفرنسية‪ ،‬مل يكن للكالفنية الفرنسية أن حتتفظ بأي أمل(‪.)19‬‬
‫وهكذا فقد كان على الكالفنية بالضرورة أن تأخذ كنقطة انطالق هلا النزعات الثقافية والسياسية لسكان‬
‫املدن السويسريني‪ ،‬األرستقراطيني الفرنسيني‪ ،‬أو كرام الناس اإلنكليز؛ وهنالك تكيف سياسي إضافة إىل‬
‫فقر أيديولوجي يف احلقيقة القائلة إن الكالفنيني عملوا على إفساد السياسات املعاصرة هلم حتت اسم‬
‫األعراف الدنيوية والقدمية الضيقة‪.‬‬
‫إذا حتولنا من سياسات أوروبا املعاصرة إىل جذورها الثقافية النهائية‪ ،‬فالصورة هي ذاهتا أساساً‪ .‬وحىت‬
‫يف نسخته احملررة مسيحياً‪ ،‬ظل باستطاعة اإلرث العرباين أن يوحي بالسؤال القائل ماذا كانت حاجة‬
‫القديسني للحضارة إذا كان اإلله ذاته بربرياً‪ .‬وهذا التحلل القوي من التحالف مع احلضارة طُبّق عرضياً‬
‫يف أكثر األوساط تطرفاً‪ :‬أدان جون نوكس الذي عاش يف القرن السادس عشر الرتاث الكالسيكي ألنه‬
‫مل جيد قيمة إال يف «اإلعادة األبدية» لكلمة اهلل(‪ ،)11‬شجب جون وبسرت الذي عاش يف القرن السابع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )9‬القول لريتشارد غرينهام‪ ،‬وهو يرد يف كتاب ‪ ،M. Walzer, The Revolution of the Saints‬ص ‪139‬؛ قارن استلهام بيزا [دي‬
‫بيز] هلجرة ابراهيم )‪ (ibid., p. 48‬وحىت برية أمريكا فقد كانت بالنسبة للمهاجرين البيوريتانيني عقيمة ببساطة بديهياً ‪(P. Miller,‬‬
‫‪ ،) Errand into the Wilderness, Cambridge, Mass. 1956, p. 12n‬واجليل الثاين بالتايل استحوذت عليه مشكلة معىن‬
‫جمتمعهم يف الربية )‪ . (ibid., p. 10‬مل تكن هنالك مثل هذه املشكلة القطعية حول املعىن عند الزيديني يف اليمن أو األباضيني يف‬
‫ُعمان؛ لكن أياً من هاتني اجملموعتني مل خيلق من مث شيئاً يشبه الواليات املتحدة‪.‬‬
‫(‪.M. Walzer, The Revolution of the Saints, pp. 98 - 100 )8‬‬
‫(‪ )7‬الحظ اقرتاح دستور إنكليزي يعتمد على الكتاب املقدس أساساً والذي أرسله إىل الوطن األم عام ‪ 1657‬جون اليوت «الرسول إىل‬
‫اهلنود»‪ ،‬مع خمططه التفصيلي القائم على عشرات سفر اخلروج ومئاته‬
‫ينكب على ختيّل شكل حكم‬ ‫ّ‬ ‫)‪ .(ibid., p. 232‬وحىت يف أقصى دار هجرة يف العامل البيوريتاين‪ ،‬فإن القديس األقرب استطاع أن‬
‫ديين جوهرياً كان بالتايل األساس الفعال القوي الذي تبناه موسى يف الرد على نقد مراقب مدياين ماكر‪ :‬مل يكن لدى البيوريتانيني غري‬
‫آالت احلكومة النبوية دون الوجود النبوي الذي وحده أعطاها معناها الديين‪.‬‬
‫(‪ibid., pp. 68 ff. )19‬‬
‫(‪ibid., p. 101. )11‬‬

‫‪178‬‬
‫عشر احلب اإلكلرييكي «لذلك التعليم البشري الذي ُحرم منه الناس البسطاء»(‪ ،)12‬لكن أندفاع‬
‫البيوريتانية عموماً مل يكن حنو رفض الرتاث الكالسيكي جوهرياً بل أن ختضعه «لكالفينية» سطحية يف‬
‫الشكل‪ .‬وهكذا فقد اعرتف كالفن ذاته بقيمة األعراف السياسية لليونانيني الوثنيني؛ لكنه حفظ إلهله‬
‫اليهودي ماء وجهه عرب تصنيف هذه األعراف على أهنا «أميز عطايا الروح اإلهلية»(‪ .)13‬كذلك فإن‬
‫انكريز مذر سلّم جدالً بصحة العلة اليونانية للماراثون؛ لكنه فقط أضفى عليه الصبغة املسيحية عرب عزوه‬
‫ليس إىل الصدفة احلسنة بطريقة التارخييني الوثنيني‪ ،‬بل إىل احلقيقة القائلة إن اإلغريق «كانت نفوسهم‬
‫ُحمّركة على حنو سري وغري مرئي من قبل املالئكة»(‪ .)14‬وإذا كان املرء ال يستطيع أن جيعل اليونانيني‬
‫مماثلني للمالئكة تقريباً‪ ،‬فهو يستطيع على األقل أن جيعل املالئكة مماثلني لليونانيني ؛ واحلب البيوريتاين‬
‫لإلله العرباين ال يقود إىل التربؤ من اليونان بل إىل تبنيها االستعادي من قبله‪.‬‬
‫تبدو هذه النتيجة مدهشة يف حقل الفلسفة على حنو خاص‪ .‬رمبا استخدم الكالفنيون مبدأياً إحياء‬
‫احلكم اإلهلي غري احملدود للقضاء على تراث اليونانيني املفاهيمي؛ وهنالك رائحة حنبلية قوية يف كل من‬
‫املقت الكالفين العام ألي ميل للخوض يف مياه الهوتية عميقة(‪ )15‬ويف التهمة النوعية اليت وجهها وبسرت‬
‫لرجال اجلامعات «بأهنم سحبوا الالهوت داخل طريقة منطقية حمددة وحمكمة‪ ،‬وبذلك سيجوه بأعمال‬
‫وإظهارات أحد إسرائيل املق ّدس»(‪ .)16‬لكن االستجابة البيوريتانية للفلسفة مل تكن رفضاً عميقاً عموماً‬
‫بل كلفنة سطحية‪.‬‬
‫لقد كان من املمكن طبعاً إحداث هذا التمثّل عرب خلق صنف شكالين من «الفلسفة النبوية»‬
‫مشابه لصنف «الطب النبوي» الشكالين يف اإلسالم‪ :‬من هنا جاءت «الفلسفة املوسوية» املسيحية‬
‫شكالنياً وذات احملتوى اهلرمزي جوهرياً(‪ .)19‬لكن احلل الكالفين املميز كان استلهام اإلله ذاته‪ :‬عوضاً عن‬
‫صرفه باعتباره إحدى صيغ العقل البشري اليت اخرتعها اليونانيون الوثنيون‪ُ ،‬جمِّد «منطق اهلل»(‪ )18‬باعتباره‬
‫التكرم عليهم به على حنو جزئي ال يكن غيبه‪ .‬مل يصنع الكالفنيون‬ ‫جزءاً من اإلرادة اإلهلية والذي متّ ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪P. Miller, The New England Mind: The Seventeenth‬‬ ‫(‪ )12‬من أجل هذا التجدد النتشار حشو العامة‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪. Century, Boston, Mass. 1961, pp. 67ff‬‬
‫(‪ ، M. Walzer, The Revolution of the Saints, p. 32 )13‬قارن الدفاع البيوريتاين يف القرن السابع عشر عن «فضائل الوثنيني‬
‫احملببة إىل القلب»‪.(Miller, The New England Mind, p. 82) .‬‬
‫(‪. Ibid., p. 463 )14‬‬
‫(‪. M. Walzer, The Revolution of the Saints, p. 24 )15‬‬
‫(‪. Miller, The New England Mind, p. 114 )16‬‬
‫(‪ .R. Hooykaas, Humanisme, Science et Réforme, Leyden 1958, pp. 108 - 12 )19‬القدران املختلفان للصنفني‪،‬‬
‫مع توترمها املشرتك بني الشكل العرباين واحملتوى الوثين‪ ،‬مفيدان علمياً‪ :‬يف الغرب رفضت الفلسفة الوعاء النبوي ويف الشرق رفض الوعاء‬
‫النبوي الطب‪.‬‬
‫(‪. Miller, The New England Mind, p. 128 )18‬‬

‫‪177‬‬
‫بالطبع أرسطويني متحمسني؛ لكن الرفض الكالفين ألرسطو مل يؤد إىل حنبلية بل إىل راموسية(‪،)17‬‬
‫وذلك يف تقدمي منطق جديد والذي كان بدرجةً قوية جدا كالفنياً بالتداعي‪ ،‬إن مل يكن على حنو جوهري‬
‫متاماً‪ .‬وهكذا ففي حني كتب ابن تيمية‪ ،‬وهو حنبلي صارم متحفظ‪ ،‬بالعربية ليح ّذر املؤمنني احلقيقيني‬
‫من منطق اليونانيني(‪ ،)29‬كتب اليوت‪ ،‬املبشر البيوريتاين الذي ال يقل عنه تقوى باأللغونية‪ ،‬ليق ّدم هلنود‬
‫أمريكا املعرفة مبنطق اهلل(‪.)21‬‬
‫وهكذا مل تستطع الكالفنية تدمري ما جاء قبلها ال باملعىن السياسي وال باملعىن الثقايف(‪ .)22‬هذا ال‬
‫يعين طبعاً القول إن الكالفنية كانت يف أي من اجملالني حمافظة‪ .‬لكن شخصيتها الداخلية النمو‪ ،‬عوزها‬
‫ألي حمتوى متميز بعمق والذي جتعل به ذاهتا مميزة‪ ،‬صبّها لطاقاهتا الثورية يف صرامة منط ملحوظة‪ :‬إذا‬
‫كانت املسألة مناطة باألدوار اليت جيب متثيلها فلم يكن هنالك شيء جديد جداً حتت الشمس‬
‫الكالفنية‪ ،‬وكان على اجلِ ّدة بالضرورة أن تكمن يف التُقى املتميز للتمثيل‪ .‬مل يكن أمام اهلل خيار سوى أن‬
‫حيب الظروف (يف القواعد) ‪ .)23(Adverbs‬ومبا أن الطهارة (نالحظ أن البيوريتانية مشتقة كتسمية‬
‫من الطهارة ‪ )purity‬أساس يتطلب ملّة دينية أكثر من اإلثنية‪ ،‬فقد كان على الكالفنيني أن يعملوا‬
‫ألجل هويتهم بطريقة مل يعمل هبا اإلسالم؛ وهكذا ففي حني كانت حقيقة ونسب كافيني حملمد‪ ،‬كان‬
‫على كالفن أن يلد أيديولوجيا ويعمل جمموعة قيم أخالقية‪.‬‬
‫نقول اآلن إن ما كان موجوداً من أجل تفعيل هذه الصرامة هو املوارد السياسية والثقافية ألوروبا‬
‫عصر النهضة‪ .‬لكن كما كانت أوروبا هناية العصور الوسطى عاملاً ملتزماً بإله عرباين إمنا مل يتمثل صورته‬
‫إال على حنو ناقص‪ ،‬كذلك متاماً كانت أيضاً عاملاً ملتزماً مبفاهيم اليونانيني لكنه مل يتمثّل منطقها إال‬
‫على حنو ناقص‪ .‬وكوهنا مسيحية جمردة‪ ،‬فقد ظل باستطاعة أوروبا القرن السادس عشر أن تـُ َهز حىت‬
‫جذورها عرب حركة إصالح؛ لكن باملقابل‪ ،‬كوهنا مسيحية جمردة‪ ،‬فقد ظل بإمكاهنا أن متتلك عصر هنضة‪.‬‬
‫اإلسالم باملقابل‪ ،‬مل ميتلك أياً من االثنتني‪ ،‬ألنه حبد ذاته ديانة جديدة وحضارة جديدة‪ .‬ومبا أن قيم‬
‫السياسات احلديثة والعلم احلديث نتاج التفاعل بني عصر النهضة وحركة اإلصالح أساساً‪ ،‬ينتج عن‬
‫ذلك أن اآلليات املفاهيمية اليت ولِّدت عربها تلك السياسات وذلك العلم مل تكن قابلة ألن تُ َ‬
‫تخيّل يف‬
‫العامل اإلسالمي‪ .‬ألنه يف حني مال شد عيون الشبكة العربانية مع جميء اإلسالم إىل إلغاء املفاهيم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ibid., p.‬‬ ‫(‪ )17‬الحظ كيف يرفض راموس املنطق األرسطوي على أساس حمدد فحواه أنه جمرد مسند للمفاهيم؛ أنظر ص ‪ .395‬أنظر‬
‫)‪.)123‬‬
‫(‪. Goldziher, “Stellung”, pp. 40f )29‬‬
‫(‪. Miller, The New England Mind, p. 114 )21‬‬
‫(‪ )22‬وهكذا فإن راموس قارن منطقه بإمرباطور روماين يدير األرض كلها بشرائع عاملية )‪(ibid., 128‬؛ لقد وقف الرتاث اليوناين الروماين‬
‫مع بعضه يف الغرب متاماًكما سقط مع بعضه يف الشرق‪.‬‬
‫(‪ )23‬قارن‪Joseph Hall cited in J. M. Dunn, The Political Thought of John Locke, Cambridge 1962, p. :‬‬
‫‪.226n‬‬

‫‪299‬‬
‫بالكامل يف الشرق‪ ،‬فإن ش ّد عيون الشبكة مع ظهور الكالفنية يف الغرب أدى إىل جعلها أكثر نفوذية‬
‫من أي وقت مضى‪.‬‬
‫يف حالة أصول السياسات الراديكالية‪ ،‬فاملسألة تستحق املعاجلة على الصعيدين التارخيي‬
‫واالجتماعي‪ .‬فعلى الصعيد التارخيي‪ ،‬يبدو أن اإلحلاح املشرتك لإلسالم والكالفنية على العالقة اآلنية بني‬
‫املؤمن وإهله هو مذيب قوي لشرعية كل البىن السياسية الفاصلة‪ .‬لكن يف حني أن قوة هذا يف اإلسالم‬
‫كانت لتنقية العامل لصاحل سلطان مستبد وغري شرعي‪ ،‬مل تستطع الكالفنية ذلك ومل ختلق خواء أخالقياً‬
‫قابالً للمقارنة‪ .‬وهكذا فقد كانت قوهتا التدمريية مستخدمة لصاحل قيم سياسية أخرى‪ :‬يف البداية أصولية‬
‫أعراف قدمية(‪ ،)24‬ويف النهاية فلسفة مفاهيم مستقبلية(‪ .)25‬من منظور اجتماعي‪ ،‬فاإلصرار املشرتك يف‬
‫اإلسالم والكالفنية على أحادية عالقة كل املؤمنني بإهلهم هو مذيب قوي للعزل اهلليين القدمي للنخبة عن‬
‫اجلماهري يف ثوبه املسيحي الشاحب‪ .‬لكننا نعيد من جديد أن النتاجني اإلسالمي والكالفين كانا يف هناية‬
‫املطاف متعارضني متاماً‪ .‬فظهور اإلسالم‪ ،‬الذي دعمته النهضة السنية يف الوقت املناسب‪ ،‬قاد إىل الغزو‬
‫الروحي للنخبة من قبل إله ذي غرية متزايدة؛ لكن ظهور الكالفنية‪ ،‬الذي عاكسته العلمانية يف الوقت‬
‫املناسب‪ ،‬قاد إىل الغزو الفكري للجماهري من قبل مفاهيم ذات قساوة متزايدة(‪ .)26‬ويف حني كان الرفض‬
‫اإلسالمي للكهنوت يعين تقويض آمال الفالسفة‪ ،‬فإن علمنة كل املؤمنني املابعد كالفنية كانت تعين أن‬
‫الفالسفة صاروا صياديي بشر(‪ :)29‬مقابل السياسات الظالمية اإلستكانية للسلطانية‪ ،‬لدينا السياسات‬
‫العقالنية الفاعلة للثورة(‪ . )28‬فقط يف النأي لشبه جزيرة عربية قبائلية‪ ،‬بكل ما فيها من فعالية دينية‬
‫مستوطنة‪ ،‬توصل تارخيا البيوريتانية إىل إظها ٍر ملعيا ٍر ٍ‬
‫حمدد من التالقي‪ .‬إن املذهب اإلمياين الداعي إىل‬
‫املساواة بني البشر عند خوارج حضرموت العصور الوسطى واملذهب املفاهيمي الداعي إىل املساواة بني‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. M. Walzer, The Revolution of the Saints, p. 76. )24‬‬
‫(‪ )25‬قارن‪J. M. Dunn, “Justice and the interpretation of Locke’s political theroy”, Political Studies :‬‬
‫‪.1968, pp. 76n , 83f‬‬
‫(‪ )26‬الحظ املساواة الوظيفية املتبدلة للكالفنية واملشائية‪ .‬فحني انتشرت اإلثنتان بطريقة متوازية بني الطبقة الفرنسية النبيلة يف القرن‬
‫السادس عشر‪ ،‬وجدنا أن الكالفنية تأخذ دور فلسفة خنبة واعية وهو الدور املميز جداً للمشائية الرومانية ‪(Walzer, The‬‬
‫)‪Revolution of the Saints, p. 61‬؛ لكن حني يـَُزّكى التدريب العسكري اجلديد الذي أعطى له الكالفنيون قيمة عظيمة بسبب‬
‫صالحه الشديد كوسيلة لفضائل مشائية ال حصر هلا يف اجلندية العادية‪ ،‬وجدنا أن املشائية تأخذ دور أيديولوجيا ترويض أبرشي وهو‬
‫الدور املميز جداً للكالفنية )‪.(ibid., p. 287‬‬
‫(‪ )29‬إذا كان املنطق الراموسي يهاجم باسم اهلل حىت اهلنود األمريك يني‪ ،‬فإن خيال لوك اإلهلي الذي يرى أنه على كل عامل انكليزي أن‬
‫ميضي ست ساعات يومياً يف جهد إدراكي يبدو خياالً معتدالً حبد ذاته ‪(Dunn, The Political Thought of John Locke,‬‬
‫)‪.p. 231‬‬
‫(‪ )28‬أو إذا قدمنا املسألة على حنو خمتلف قليالً‪ ،‬ميكن القول إنه يف حني ال يستطيع اإلسالم سوى اختزال السياسات إىل اقتصاد‪ ،‬رفعت‬
‫أوروبا سوية االقتصاد ليصبح سياسات‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫البشر عند معاصريهم من األفاتارات املاويني يشرتكان‪ ،‬يف هناية األمر‪ ،‬بالكراهية العقائدية ذاهتا لعائلة‬
‫النيب العريب‪.‬‬
‫يُظهر هذا التقابل يف مسته اإلدراكية أحد الشروط الضرورية لتطور العلم احلديث‪ .‬فالعلم احلديث‬
‫يقوم على عالقة متوترة بني النتائج اجملنونة للعقل التأملي الذي يزعم أن األرض مستديرة‪ ،‬واملالحظات‬
‫العادية لإلدراك البشري اليت تظهر أن تسطّحها واضح‪ .‬إن تثقيف التفكري التأملي يؤدي منطياً إىل تعددية‬
‫مذاهب فلسفية‪ ،‬مدارس تتعايش يف االختالف وتزدهر يف مسألة التساهالت لتهتم بسلوكها الدنيوي‬
‫البائس؛ يف حني متيل التجربيبة على حنو معاكس ألن جتد جتسيداً هلا يف املسندات‪ ،‬وهي مصنفات‬
‫ٍ‬
‫لتصنيف ُمغَففل خلصوصيات جمردة‪ .‬لكن ال األوىل وال الثانية ترقى حبد ذاهتا إىل مرتبة العلم؛‬ ‫مكرسة‬
‫فحىت يتولد علم جيب أن تندمج شرائع السماء واألرض‪.‬‬
‫لقد ورث العاملان األوريب واإلسالمي علىحد سواء عن اإلغريق مفهوم الشرائع السماوية اليت ال‬
‫تتغري‪ ،‬جبانب املذاهب الرئيسة للتيارات الفلسفية اهللينية‪ .‬لكن مبا أنه يف اإلسالم مل يكن ممكناً أخذ‬
‫مفهوم كهذا على حنو ج ّدي إال يف الدوائر اهلرطقية‪ ،‬فإن السعي وراء تفكري تأملي يف بيئة مسلمة‪ ،‬مهما‬
‫بدا قوي التأثري وفق معايري أوروبا العصور الوسطى‪ ،‬كان جيب أن يقصر عن بلوغ السوية امل ْحَرزة يف عصر‬
‫ُ‬
‫النهضة‪ .‬كانت طاقات الفالسفة املسلمني‪ ،‬املواجهني بعامل أرثوذكسي عدواين‪ ،‬قد استحوذ عليها الدفاع‬
‫عن الفكرة القائلة إن العامل ُم ْعطى مع لوغوس حتديداً؛ لكنهم مل يكونوا يف موقع يؤهلهم ألن يسلّموا‬
‫استجرت العدائية‬
‫ّ‬ ‫سر أفعاله الداخلية‪ .‬فمن ناحية‬
‫بوجود هذا اللوغوس وأن يستمروا يف البحث عن ّ‬
‫األرثوذكسية الفالسفة كي يرقعوا نقاط االختالف بني أفالطون وأرسطو ال أن يستثمروها وذلك إلقامة‬
‫جبهة موحدة(‪)27‬؛ ومن ناحية أخرى ق ّدمت للمذاهب الفلسفية ميالً ال ختطئه العني كي تنزلق إىل احلق‬
‫اإلدراكي‪ :‬األبيقورية‪ ،‬وفق مقتضيات احلال‪ ،‬كانت قد فقدت الكثري من َجلَدها املادي حىت تصبح‬
‫أفالطونية جديدة(‪ ،)39‬يف حني فقدت األفالطونية الكثري من َجلَدها التأملي حىت تصبح باطنية(‪ .)31‬ويف‬
‫حني أن إضفاء الصبغة الرياضياتية على الكون يف فكر غاليله ميّز انتصار العقل التأملي يف أوروبا‪ ،‬فإن‬
‫(‪.)32‬‬
‫السرانية لإلمام‬
‫التأمل اإلسالمي يف التناسب الصويف لألرقام ميّز هروب العقل إىل احلكمة ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )27‬لقد بدأ هذا الرتقيع طبعاً يف األنتيك‪ ،‬لكن مثة حماوالت قليلة لوضع حد له يف اإلسالم‪.‬‬
‫(‪ )39‬قارن‪Pines, Beitr :‬ن‪. ge zur islamischen Atomenlehre, p. 74‬‬
‫ط مستوى الرياضيات وجعلها حروفية‪.‬‬ ‫(‪ )31‬واضح عند الكندي امليل حل ّ‬
‫(‪ .The Encyclopaedia of Islam, art, “Huruf” (‘ilm al-)” and “Djafr”. )32‬منط مشابه من التأمل العددي كان بالطبع‬
‫متاحاً لغاليله‪(A. Koyré, Metaphysics and Measurement, Essays in Scientific Revolution, London 1968, .‬‬
‫‪.)p. 40n‬‬

‫‪292‬‬
‫مقابل ذلك‪ ،‬فقد ورث العاملان األورويب واإلسالمي على حد سواء عن اليهود الفكرة القائلة إن اهلل‬
‫مسؤول عن كل خصوصية ميكن مالحظتها على األرض(‪ .)33‬لكن مبا أن املسيحية مل تأخذ الفكرة جدياً‬
‫بأي ميزان‪ ،‬فقد كان على األصولية يف بيئة مسيحية‪ ،‬مهما بدت مؤثرة وفق معايري كاثوليكية العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬أن تعمل يف هناية األمر دون األساس الذي امتلكته يف اإلسالم‪ .‬لقد استطاع كالفن أن يؤكد‬
‫طبعاً «أنه ما من ريح تنشأ أو هتب أبداً‪ ،‬إال بأمر خاص من اهلل»(‪ ،)34‬وهو رفض لعلم األحوال اجلوية‬
‫املادي عند امللطيني(‪ )35‬مثل أي شيء مرفوض أساسياً يف اإلسالم؛ لكنه مل يستطع عملياً أن يلغي مقولة‬
‫َ‬
‫الطبيعة من العامل املسيحي بأكثر مما استطاع املسلمون إنقاذها ألجل كوهنم‪ .‬ولو كان الربوتستانت‬
‫قادرين علىأن يعملوا مع الكتاب املقدس حصرياً‪ ،‬لرمبا سار كالفن على خطى األصوليني املسلمني يف‬
‫إدانة «من يتعلم علم الفلك والفنون املعقدة األخرى» وذلك باعتباره كافراً ناشئاً؛ لكن الربوتستانت‬
‫بعدما جعلوا كتاب الطبيعة جبانب كتاب إهلهم‪ ،‬كان على الكافر كمونياً أن يذهب ببساطة إىل «مكان‬
‫آخر»(‪ .)36‬باملقابل‪ ،‬فقد كان فرنسيس بيكون دون كتاب الطبيعة سيمتلك حتديداً اجلمع بني العلم‬
‫الواسع والشك بالفلسفة األرسطوية ليجعل ابن حزٍم يعزف علىنغمة رذائل التشبيه بتطبيقه على كتاب‬
‫اهلل؛ لكنه عوضاً عن ذلك «ذهب إىل مكان آخر» للعزف على نغمة فضائل االستقراء بتطبيقه على‬
‫أعمال اهلل‪ .‬ويف هناية املطاف كان على الربوتستانت أن يتبنّوا عرضية ثنائية‪ :‬لقد استطاعوا إزالة شرائع‬
‫النعمة‪ ،‬لكنهم استطاعوا فقط أن جيعلوا شرائع الطبيعة أكثر عدم قابلية ألن يدرك كنهها‪.‬‬
‫نقول اآلن إن تويل التجريبيني الربوتستانت للسلطة يف عامل جترييب هو الذي أغلق حتديداً فتحات‬
‫التأملي‪ .‬من هنا‬
‫الشبكة الكونية‪ :‬مل يعد باستطاعة احلقائق اجملردة أن تنزلق عرب الشبكة اليت نشرها العقل ّ‬
‫السراين واملادة الظاهرية أن يوافقا على العقيدة العلمية ذاهتا‪ ،‬وكان على الطبيعة أن‬
‫ّ‬ ‫فقد كان على العقل‬
‫تُستَقصى‪ ،‬أو أن تـُ َعّرض للتعذيب التجرييب‪ ،‬إلجبارها علىتقدمي دليل جترييب يف وجه احلس العام(‪.)39‬‬
‫وهكذا ففي حني أنتج التقاء اإلرثني اهلليين والعرباين يف الشرق عرضية إسالمية‪ ،‬ولد عنه يف الغرب علم‬
‫أورويب‪ .‬وهلذا التقابل اإلدراكي مثيله االجتماعي أيضاً‪ :‬ففي حني وجدت األصولية اإلسالمية جتسيداً هلا‬
‫يف التاجر الفقيه الذي سلّم إرادته هلل‪ ،‬املتشكك بالعامل لكنه املتأكد من أن الشريعة تقود إىل‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪(H. A. Wolfson, Religious Philosophy: A‬‬ ‫(‪ )33‬قارن رفض فيلون للرأي املشائي القائل إن اهلل ال يهتم إال لألمور العظيمة‪.‬‬
‫‪.)Group of Essays, Cambridge, Mass 1961, p. 8‬‬
‫(‪. Walzer, The Revolution of the Saints, p. 35 )34‬‬
‫(‪ )35‬قارن‪. West, Early Greek Philosophy :‬‬
‫(‪ )36‬أي‪ ،‬ليس يف الكتاب املق ّدس‪(R. Hooykaas, Religion and the Rise of Modern Science, Edinburgh and London .‬‬
‫‪ .)1972, p. 118‬قارن رأي كبلر املتعلق بالفلكي باعتباره كاهن الرب العلماين يف كتاب الطبيعة‪(M. Caspar, Kepler, London and .‬‬
‫‪.)New York 1959, p. 375f‬‬
‫(‪ )39‬قارن أيضاً العالقة املتبدلة بني املعرفة النظرية واملعرفة العملية‪ :‬فبعد أن كانتا مفروزتني سابقاً على أساس أن األوىل تتعلق بالشرائع‬
‫الثابتة أما الثانية فتتعلق بالعامل الدنيوي فقد احتدتا عرب عرف أعيد حتديده بأنه نظرية تطبيقية‪ .‬وهكذا فقد وجب حماكمة اإلثنتني عرب‬
‫مثارمها‪ ،‬وهو مطلب غري مفهوم يف سياق كالسيكي‪(N. Lobkowicz, Theroy and Practice: History of a Concept .‬‬
‫‪.)from Aristotle to Marx, London 1967, pp. 89f‬‬

‫‪293‬‬
‫اخلالص(‪ ،)38‬فقد قادت العرضية الثنائية الربوتستانت يف هناية األمر إىل جمتمع ُسلِّمت إرادة اهلل فيه إىل‬
‫الرأمساليني والعلماء اإلختباريني‪ .‬إذا كان اإلسالم‪ ،‬حبمد اهلل‪ ،‬ليس حباجة إىل أي نوع من املنطق‪،‬‬
‫فأوروبا‪ ،‬حبمد العلم‪ ،‬مل تكن حباجة إىل أي إله(‪.)37‬‬
‫وهكذا فقد حال التاريخ اإلسالمي دون ش ّد عيون الشبكة والذي اندجمت به املفاهيم السياسية مع‬
‫احلقائق االقتصادية لتقدمي سياسات حديثة‪ ،‬واملفاهيم السماوية مع احلقائق األرضية لتقدمي علم حديث‪.‬‬
‫لكنه حال باملقابل دون توسيع تعويضي لعيون اهلوية والذي نشدت أوروبا من خالله احلصول على‬
‫الراحة من التضييق املزعج لعيون شبكة احلقيقة‪ :‬مل يستطع اإلسالم أن يلد قومية‪ .‬مل يستطع أن يفعل‬
‫ذلك ألن اإلسالم والقومية ميثالن أشياء خمتلفة وحصرية تبادلياً عما يستطيع تقليد أن يعمله مع برابرته‪.‬‬
‫لقد حافظت أوروبا على ثقافتها الكالسيكية‪ ،‬إهلها اليهودي وغزاهتا الربابرة متمايزين مفاهيمياً؛ وكانت‬
‫بالتايل يف موقع يؤهلها ألن تستلهم أسالفها الربابرة من أجل تقدمي التكريس التارخيي لوجود تعددية أمم‬
‫ضمن ملّة تتشارك يف حقيقة‪ .‬أمم بالنسبة لديانتهم اليهودية وأمم بالنسبة حلضارهتم اليونانية الرومانية‪،‬‬
‫كان سكان أملانيا أحراراً يف أن يكونوا أملاناً بالنسبة ألنفسهم(‪ .)49‬وهكذا فقد بدا مالئماً أنه يف احلقبة‬
‫حيث كان الغرب يبحث عن اسرتداد وضعية ديانته وثقافته األصلية األوىل شرعت أوروبا مشال األلب يف‬
‫إعادة صقل أنساهبا الرببرية(‪ .)41‬لكن اإلسالم باملقابل دمج بني غزاته الربابرة وبني ديانته وثقافته على‬
‫كرس أمة واحدة فقط‪ ،‬هي األمة‪ ،‬ومن ناحية أخرى أعاق التالعب‬ ‫(‪)42‬‬ ‫ٍ‬
‫حد سواء ‪ :‬فمن ناحية‪ّ ،‬‬
‫باألنساب غري العربية الستخدامها كألقاب شرعية هلوية متمايزة داخل هذه األمة‪ .‬لقد كان عدم جتانس‬
‫يبد ممكناً تأويل هذه الرذيلة اإلسالمية كفضيلة غربية‬‫النسل يف العامل اإلسالمي حقيقياً كفاية؛ لكن مل ُ‬
‫قبل تلقي القومية يف أوروبا‪ .‬وهكذا ففي حني طورت أوروبا قومية علمانية‪ ،‬مل يستطع اإلسالم أن يلد‬
‫غري القومية الدينية للعرب والشعوبية الالدينية لألمم‪.‬‬
‫كان لدى أوروبا بالتايل ثالثة أصول ميكن أن تعود إليها‪ ،‬يف حني مل يكن لدى العامل اإلسالمي غري‬
‫أصل واحد‪ :‬مقابل اإلصالح الديين‪ ،‬عصر النهضة‪ ،‬والقومية‪ ،‬ال يستطيع اإلسالم أن يعرض سوى‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪. Goitein, Studies in Islamic History and Institutions, pp. 218f )38‬‬
‫(‪ )37‬قارن اهلامش ‪ 35‬من الفصل اخلامس‪.‬‬
‫(‪ )49‬قارن استلهام جاكوب وميفلينغ القومي املنمط للشخصية األممية يف املسيحية‪ :‬إذا كان اعتناق األملان للمسيحية على أيدي الرومان‬
‫حجة من أجل التدفق غري العادي للنقود األملانية إىل روما‪ ،‬على هذا األساس إذن‪ ،‬كان على الرومان الذين اعتنقوا املسيحية على‬
‫أ يدي الفلسطينيني‪ ،‬أن يرسلوا حتويالت مالية إىل سوريا‪(G. Strauss, Manifestations of Discontent in Germany on .‬‬
‫‪.)the Eve of the Reformation, Bloomington, Ind 1971, p. 42‬‬
‫(‪F. Hotman, Francogallia, ed and tr. R. E. Giesey and J. H. M. Salman, .Ibid., Chapter 39. )41‬‬
‫‪Cambridge 1972, editorial introduction‬‬
‫(‪ )42‬وهكذا فقد احتُـلّت الربية اإلسالمية من قبل الدين؛ وباملقابل فالربية األوروبية مل تكن لتزدهر من أجل البيوريتانيني‪ ،‬لكن بنوع من‬
‫التعويض ظلت هنالك إمكانية استصالحها على أيدي الرومنطيقيني العلمانيني‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫السلفية‪ ،‬وهي عودة إىل الديانة‪ ،‬الثقافة واإلثنية املوحدة لألسالف األخيار(‪ .)43‬لقد أدت ردات الفعل‬
‫التفاعلية للتاريخ األورويب إىل خلق حداثة طوقت العامل؛ أما ردة فعل اإلسالم التوحيدية فقد أدت إىل‬
‫خلق وهابية يف الربية الواقعة يف قلب شبه جزيرة العرب‪.‬‬
‫إن عوز تعددية األصول‪ ،‬حبد ذاته‪ ،‬ليس حاجزاً بالطبع أمام تنوعية املعاين الثقافية‪ :‬الحظ العمق‬
‫الثقايف للماضي الصيين املعياري‪ ،‬أو املدى الكيفي للتقليد الديين يف اهلند(‪ .)44‬لكن العرب مل يأخذوا‬
‫ألوف السنوات لتطوير حضارة خاصة هبم يف عزلة نسبية عن بقية العامل؛ والشروط اليت مضوا يف ظلها‬
‫حنو العمل كانت تعين أن احلضارة اإلسالمية أحرزت يف مرحلة متقدمة من تارخيها الطويل تعريفاً ذاتياً‬
‫شبه حمدد‪ ،‬وسلبياً إىل درجة معتربة‪ .‬حىت ذلك احلد مل يكن لدى التاريخ اإلسالمي غري شيء واحد‬
‫يقوله‪ ،‬وقد قاله يف وقت شبه مبكر من تارخيه‪ .‬أكثر من ذلك فقد كانت رسالته بطريقة أو بأخرى رسالة‬
‫منغصة للغاية‪ .‬فاهلاجريون أخطأوا يف غزو العامل باسم القيم اليهودية‪ .‬وبعدما غزوا العامل‪ ،‬مل يعد‬
‫باستطاعتهم أن يأملوا بأن يـُ ْف َدوا بطريقة اليهود‪ ،‬وال أن يرفضوا على حنو صريح أن يـُ ْف َدوا بطريقة‬
‫املسيحيني‪ .‬وألهنم غزوا حضارة‪ ،‬فهم مل يستطيعوا متثّلها بطريقة املسيحيني وال عزل أنفسهم عنها بطريقة‬
‫اليهود‪ .‬ال فداؤهم وال حضارهتم استطاعا أن يصال يوماً إىل مرحلة اإلمثار‪.‬‬
‫مع ذلك فجاذبية اإلسالم‪ ،‬قدرته على محل القناعة يف حيوات أنصاره الذين ال حصر هلم‪ ،‬تبدو‬
‫حقيقية بقدر ما ميكن أن تبدو حمرية‪ ،‬وذلك وفق معايري املأخوذة بعني االعتبار حىت اآلن‪ .‬ميكن بالطبع‬
‫تفسري اجلاذبية إىل حد ما‪ .‬ففي املوضع األول‪ ،‬إن مركز اجلاذبية يف تركيب غري مريح يستوجب اىل حد‬
‫يفسر بلغة إحدى القوى املفتاحية اليت جاءت به إىل الوجود‪ ،‬أي قوة الغزو‪ .‬يف البداية املسألة‬
‫كبري أن ّ‬
‫واضحة‪ ،‬أما فيما بعد فإن كماً ضخماً مما يُعرف اآلن بالعامل اإلسالمي ُجلب إىل اإلسالم عرب الغزو‬
‫أيضاً‪ .‬لكن األمر كان سيبدو ساذجاً لو حاولنا تفسري اجلاذبية املتواصلة لإلسالم كديانة عاملية فقط عرب‬
‫احلقيقة القائلة‪ ،‬إنه ما أن انطلق‪ ،‬حىت كان من الصعب إيقافه‪ .‬ويف املوضع الثاين‪،‬ال يهم تارخيياً أن‬
‫اإلسالم احتفظ بنوع من الفرار من انزعاجاته اخلاصة‪ .‬واخلالص الذي أجهض يف اإلسالم األرثوذكسي‬
‫ما يزال ممكناً متابعته يف مهدية الشيعة والريف؛ واحلضارة اليت قمعها اإلسالم األرثوكسي ما يزال ممكناً‬
‫تثقيفها يف وسط الشيعة والصوفية األكثر تساحماً ثقافياً‪ .‬ويف الوقت ذاته فإن الشخصية الدينية لشكل‬
‫احلكم اإلسالمي‪ ،‬املمثّلة على حنو سيء يف الوقائع املبهرجة دون ذوق للحكومة اإلسالمية‪ ،‬احتفظت‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )43‬كان برنامج القاضي زاديني يف اسطنبول القرن السابع عشر يتضمن كما أشار أحد أعدائهم‪ ،‬تعرية العثمانيني حىت الكشف عن‬
‫العجيزة مث إلباسهم يف منطقة احلقو بطريقة عرب الصحراء ‪(L. V. Thomas, A Study of Naima, New Tork 1972, p.‬‬
‫‪ .)109‬وهكذا يبدو مناسباً القول إن األصوليني صدقوا قول ناقدهم فظهروا ثانية يف جند القرن الثامن عشر؛ متاماً كما أنه ال يفاجئنا‬
‫أن إشراقية كاتب جليب قدمت ملجأ غري واف لعصر النهضة العثماين‪ ،‬وأن القومية الرتكية كانت نتاج القرن العشرين‪.‬‬
‫(‪ )44‬من األمور امللفتة للنظر أن يف هاتني احلضارتني جاءت البوذية وذهبت دون أن ترتك أي معىن خبسارة ثقافية تبعث على احلزن‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫حبيوية متواترة يف املواجهة العنيفة لإلسالم مع الفكر‪ .‬لكننا نعيد من جديد‪ ،‬إن وجود طرق جناة من‬
‫قمعية التقليد اإلسالمي ال تكفي ألن تعترب سبباً جلاذبيته املتواصلة‪.‬‬
‫البد أن موضع هذه اجلاذبية يكمن إىل حد ما يف مساحة اجتنبت حىت اآلن شؤون هذا الكتاب‬
‫وشجونه‪ :‬عامل البشر وسط عوائلهم‪ .‬وهذا العامل بالطبع هو إحدى مسات احلياة البشرية واليت جيب على‬
‫كل ديانة‪ ،‬باستثناء ديانة اإلنكار الكلي للذات‪ ،‬أن تفهمها؛ واملسيحية واليهودية ال تشكالن استثنائني‪.‬‬
‫مع ذلك فاملعىن الذي تستطيعان بثه يف هذا اجملال هو معىن نسيب إىل حد كبري عند الطرفني‪ .‬ففي‬
‫املسيحية‪ ،‬احلاضر األسروي مفرغ من املعىن الديين عرب األمل باخلالص املستقبلي‪ ،‬وإنتشارية اإلمث اليت‬
‫تعطي لذلك اخلالص صفته املتقلقلة القلقة جتعل كل احلياة األسروية متفسخة على حنو جذري وحتمي‪.‬‬
‫إن من مميزات املسيحية هي إقامتها ألعرافها الدينية على فرضية فساد الزواج‪ .‬وضوح هذه النتائج يف‬
‫اليهودية أقل بكثري‪ ،‬ومع ذلك ميكن اكتشافها‪ :‬فمن ناحية يأخذ املعىن الديين للحاضر األسروي طابعاً‬
‫نسبياً عرب األمل بفداء قومي يف املستقبل‪ ،‬ومن ناحية أخرى تتقوض أسسه عرب قساوة شرع ال ميكن‬
‫تطبيقه على حنو كامل يف احلياة العادية‪ .‬وإذا كان القدر التقليدي املناسب للفتاة املسيحية هو الرهبنة‬
‫النسائية‪ ،‬فإن القدر احلديث املناسب للفتاة اليهودي هو اجليش اإلسرائيلي‪ .‬ويف املسيحية واليهودية على‬
‫حد سواء تبدو وسيلة النعمة غري أكيدة أو كثرية املطالب للغاية‪ ،‬واألمل باجملد حيوياً جداً‪ ،‬حبيث يبدو‬
‫من غري املمكن بالنسبة حلياة أسروية أن تش ّكل جماالً مقدساً مطلقاً يف هذا العامل‪.‬‬
‫املسلمون باملقابل ال ميتلكون األمل اليهودي بفداء يف هذا العامل وال القلق املسيحي حول آمال‬
‫حتمله فعالً(‪ .)45‬لكن‬
‫اخلالص يف العامل اآليت‪ ،‬ونري شرعهم هو نري يستطيع البشر‪ ،‬على مستوى العائلة‪ّ ،‬‬
‫يف حني يعيش اليهود حياة الالجئني الذين ال كرامة هلم بانتظار إعادهتم إىل موطنهم األصلي‪ ،‬وينشغل‬
‫املسيحيون يف هتافتهم غري الالئق بكرامتهم على اخلالص‪ ،‬يستطيع اإلسالم على األقل أن يتيح‬
‫للمسلمني هدوءاً راضياً وكرمياً وسط عوائلهم‪ .‬مل يكن ابن حنبل ليتسلق شجرة خنيل خلف فتاة مجيلة‬
‫بطريقة احلاخام عقيبا؛ لكن كليهما مل يكن حيتاج ليتسلق عموداً حبثا عن اهلل بطريقة القديس مسعان‬
‫العمودي‪ .‬لقد كانت الذخرية الشعورية الناجتة عن الثقافة اإلسالمية ذخرية غري رومانطيقية حتماً‪ .‬ال‬
‫يوجد يف اإلسالم موازيات للقوى الشعورية الكامنة واليت جعلت من املمكن أن يوجد يف املاركسية علمنة‬
‫ليهودية مسيانية ويف الفرويدية علمنة لربوتستانتية مسيحية؛ والوجه اآلخر الوحيد جلاذبية املسلمني هو‬
‫قهقهة نسائهم‪ .‬لكن التعويض واقعي جداً‪ ،‬ولديه معىن ألجل احليوات اليومية للناس العاديني‪ .‬لقد‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )45‬وهكذا فالشرع اإلسالمي حيتل موقعاً وسطاً بني الشرع الفريسي (سواءاً يف مذهب بيت مشاي األكثر صرامة‪ ،‬أو نسخة بيت هليل‬
‫األكثر تساحماً) ومذهب اخلالص بالنعمة وليس بالشرع (سواء املتحد مع حرفية شرع آخر‪ ،‬كما هي احلال مع قبول الفاطميني بالشرع‬
‫األساسي لألئمة‪ ،‬أو مع شرع علماين عموماً‪ ،‬كما هي احلال مع القبول املسيحي بروما)‪( .‬حنن ندين للدكتور إي‪ .‬كولربغ هبذا‬
‫التشخيص للشرع الفاطمي)‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫اهنارت املنظومة العامة للمجتمع اإلسالمي منذ زمن طويل؛ لكن تويل اإلماء ملسؤولية احلياة العائلية مل‬
‫يكن بأي شكل بعيد األثر كتويل اململوكني ملسؤولية احلياة العامة‪ .‬وهكذا فالقداسة اليت هربت من احلقل‬
‫العام وجدت األمان يف ملجئها اخلاص‪ :‬املسجد اإلسالمي يشري عرب الصحراء إىل مكة‪ ،‬لكن البيت‬
‫اإلسالمي حيتوي قبلته داخله‪ .‬وقد تكون آخر بقية من الغزوات اإلسالمية أن املسلمني يستطيعون أن‬
‫يشعروا بالراحة يف بيوهتم‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫الفهرس‬

‫مدخل ‪7 .........................................................‬‬
‫القسم األول‪ :‬اإلسالم من أين ‪13 ....................................‬‬
‫‪ - 1‬اهلاجرية اليهودية ‪15 .................................‬‬
‫‪ - 2‬اهلاجرية دون يهودية ‪35 .............................‬‬
‫‪ - 3‬النيب مثل موسى ‪47 .................................‬‬
‫‪ - 4‬النسخ السامرية ‪57 ..................................‬‬
‫‪ - 5‬بابل‪97 .............................................‬‬
‫ملحق‪ :‬القيين؛ السبب والعرف ‪71 .....................................‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬األنتيك ما مصريه؟‪79 ...................................‬‬
‫‪ - 6‬احلضارات اإلمربيالية ‪77 .............................‬‬
‫‪ - 9‬أقاليم الشرق األدىن ‪197 ..............................‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬اإلصطدام ‪157 .........................................‬‬
‫‪ - 8‬الشروط املسبقة لتشكيل احلضارة اإلسالمية ‪161 .........‬‬
‫‪ - 7‬قدر األنتيك‬
‫‪ - I‬هوجرة اهلالل اخلصيب ‪195 .....................‬‬
‫‪ - 19‬قدر األنتيك‬
‫‪ - II‬املصادر الثقافية للهالل اخلصيب ‪175 ...........‬‬
‫‪ - 11‬قدر األنتيك‬
‫‪ - III‬تصلب احلضارة اإلسالمية ‪217 ................‬‬
‫‪ - 12‬قدر اهلاجرية ‪265 ...................................‬‬
‫‪ - 13‬اإلسالم الصدوقي ‪259 ..............................‬‬
‫‪ - 14‬قسوة التاريخ اإلسالمي ‪293 .........................‬‬

‫‪298‬‬

You might also like