Professional Documents
Culture Documents
حزيران – 2021
اإلنسانية ،منذ قرون ،حائرة في اإلجابة عن مسألة هامة و غامضة :يا ترى ،كيف خ ِلقت الكائنات على وجه
شأ اإلنسان و تكاث َر؟ و نرى الناس تائهين بين فرضيتين ت َمثالن قطبين متعاكسين :األولى اإلرض ،و كيف نَ َ
"علمية" ،ترى بأن اإلنسان جاء نتيجة تطور عشوائي (طفرة) من مخلوقات أقل تعقيداً ،ع َمالً بمبدأ يطلَ ق عليه
"اإلنتقاء الطبيعي" ) ،(natural selectionبينما الثانية نظرة الهوتية مأخوذة من العهد القديم ،تقول أن
ضل ِعه زوجهاإلنسان العاقل خ ِل ق دفعة واحدة ،من َرجل واحد إسمه "آدم" ،ج ِب َل من طين األرض ،ثم خ ِلقَت من ِ
"حواء" ،و من ثم َحدَث التكاثر بين أوالدهما ِسفاحاً ،إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اآلن.
حورت اآلراء بين هاذين القطبين .فإما أن نتبنى الفرضية األولى المادية ،أو نأخذ بقصة الخل ق كما هكذا ،ت َ َم َ
وردت حرفيا ً في العهد القديم.
و لكن ماذا لو كان هناك رأي ثالث غير مسموع فيما يخص مسألة الخَل ق ،ال يقول بهذه الفرضية و ال بتلك ،بل
يعطي تفسيرا ً مغايرا ً لهما؟ ماذا لو كان القرآن ،بعيدا ً عن شروحات أهل التراث و بهلوانيات "المفَ ِسرين" ،يضع
الحقيقة الساطعة حول نشأة اإلنسان أمام أعينِنا ،ولكننا لإلسف لم نفهمها ،بسبب إهاالت وإغراقات يهودية
المصدر ،تأثرت بها الروايات و كتب التفسير؟
ماذا لو كان القرآن ين ِسف فرضية التطور الداروينية ) (Darwinian Evolutionو قصة الخل ق الواردة في
العهد القديم في آن؟
ئ ٱلنَّ ْ
شأة ٱ َْل ِخرةِ ،إ َّن ٱ َّّلل على ُك ِل ش ْىءٍ ش ُ نظ ُر ۟
وا كيْف بدأ ٱ ْلخ ْلق ،ث ُ َّم ٱ َّّللُ يُن ِ ض فٱ ُ ير ۟
وا فِى ٱ ْألرْ ِ }قُ ْل ِ
س ُ
قدِير.[20:29]...
نستر ِشد بالقرآن ،ألن حقيقة الخل ق المغَيبة محفوظة فيه ،تؤيدها األساطير القديمة التي – و لألسف – نَ َبذناها
وراء ظهورنا و اعتبرناها خرافات أو قصص أطفال .هذا القرآن الذي و َجدنا فيه ِسر األسرار؛ ِس ٌّر لطالما
سلماتنا.
كثير من تناقضات م َ
قرأناه فلم نَ ِعهِ ،س ٌّر لطالما رددناه و لم نفهمه .و لو أننا فعَلنا ،ألجبنا به عن ٍ
****
سمى لم تكن األمة الواحدة مخت ِلفة قط وال جاهلة في مسألة خل ق اإلنسان وكيفيته ،قبل بزوغ نصوص ما ي َ
سخوا األساطير القديمة هيمنا ً في مثل هذه المسائل .فإن الكهنة الذين استن َ
ص َبت نفسها َح َكما ً م ِ
"التوراة" ،التي نَ َ
حول موضوع الخل ق و نشأة اإلنسان و اقتبسوها ضمن أسفار العهد القديم األولى قاموا – عمدا ً و جهالً –
بكتابتها وف ق أسلوبهم و وف ق منظورهم وفهمهم ونواياهم ،بعد أن أحاطوا تدويناتهم تلك بسياجٍ من القدسية ،إذ
سلمات ال سبوها إلى النبي موسى (ص) – و بالتالي إلى هللا عز شأنه – حتى باتت على مر العصور بمثابة م َ نَ َ
تقبل النقاش أو الجدال.
فعلى الرغم من أن هللا تعالى قالِ } :إ َّن هذا ْالقُرْ آن يقُص على بنِي ِإسْرائِيل أ ْكثر الَّذِي ُه ْم ِفي ِه
ق ُمصدِقا ِلما بيْن يد ْي ِه ِمن ْال ِكتا ِ
ب و ُمهي ِْمنا عل ْي ِه، ي ْخت ِلفُون{ ،[76:27]...وقال} :وأنز ْلنا إِليْك ْال ِكتاب ِب ْالح ِ
ق ِل ُك ٍل جع ْلنا ِمن ُك ْم شِرْ عة{ ،[48:5]...إال أن اح ُكم بيْنهُم بِما أنزل اّللُ وَل تتَّبِعْ أ ْهواء ُه ْم عمَّا جاءك ِمن ْالح ِ
ف ْ
الحال انقلب رأسا ً على عقب ،فأصبح بنو إسرائيل هم من يقصون على المسلمين أكثر الذي هم فيه يختلفون،
ير المسلمون القرآن كتابا كامال مت َكامال ،فاعتمدوا أسفار العهد القديم مكملة ومفسرة له! وبهذا وذلك عندما لم َ
سر على ضوئها. هي َمنَت مخطوطات األحبار وأصبحت هي الحاكمة على كل الكتب ،فصار القرآن يف َهم و يفَ َّ
إنه ِلمن المؤسف ،ثانيةً ،أن الذهن البشري ظ َّل من عادته التواطؤ على صاحبه و التنصل من مسئوليته البحثية.
فاإلنسان يميل فكره إلى الم َحاكاة ،و إلى التواري في ظالل الغير ،فيأنَس لو قال َمقالَته أناس سبقوه ،ويرت َ ِعد لو
ب أو ما سيعتَبَر " ِبدعة"؛ إذ أن "الحشر مع الناس عيد" كما يقولون .فهو بطب ِعه يأنَس للمألوف كان سيأتي بغري ٍ
ويستظل به ألنه يرى فيه ِمتراس حصين يدافع من ورائه ،بينما ينفر من الغريب وغير المسموع ِ والمسموع
ألن تبَنيه ال يجلب الراحة ،بل يج ِب َره على أن يقيم متاريسه لوحده للصمود في وجه الرأي السائد.
فالذهن – بهذا – يدخل بصاحبه في نَفَ ق مؤامرة خفية لمواراة الحقيقة الناصعة و العزباء؛ لهذا َحدَث التواطؤ
الالشعوري و الغير معلَن بين أهل القرآن وأهل العهد القديم في كثير من القضايا ،مع وجود فِصال ساف ٍر بين
ظاهر بين األمتين! و الوضع لغاية اآلن ال يزال على ما هو عليه؛ لذا فإن أي طرحٍ جديد حول ٍ الكتابين وعداءٍ
مسألة جوهرية مثل هذه سوف يوا َجه بَداهةً بعنف هذا التواطؤ الذي اكتسب فيه ك ٌّل من الطرفين قوته من اآلخر
ال من نفسه ،و استمدَّه من تشاب ٍه زائف و وهمي بين النصوص القرآنية الشريفة و أسفار العهد القديم ،فت َّ
سرب
نتيجة لهذا المنهج الفهم "التوراتي" الخرافي إلى عقيدة المسلمين ،و انداح على النص القرآني بتواتر القصاصين،
فح ِجبت حقيقة خل ق اإلنسان عن األجيال.
نعم ،لو أنهم ربطوا القرآن بالمدونات السومرية و البابلية والمندائية و السورية القديمة و برديات حضارة وادي
ب
صيغَت بقال ٍ النيل لكان أجدى ،ألن تلك األساطير – كما سنرى في بحث الح ق – هي حقائ ق ِ
رمزي ،و هي ليست مقوالت ظنونية؛ وألنها أصيلة غير منت َ َحلَة ،وألنها تريد تعليم الحقيقة ال ادعائها ،وألنها
أخيرا ً د ِونَت ٍ
بعلم و يقين ،ال بجه ٍل وافتراض.
يبقى السؤال :لما هذا البحث؟ لما الكتابة حول هذا الموضوع؟ هل انتهت كل مشاكل األمة حتى نغوص في مثل
هذه المسألة التي يعتبرها كثيرون مجرد ت ََرف فكري ال أكثر؟
الواقع أن البحث في مسألة الخل ق ليس و ال ينبغي أن يكون من باب الترف الفكري ،وإنما بغرض اإلجابة عن
دهر ،و بهدف تقديم تصور مقبول عقال ومنطقاً ،كما أنه ملزم حير تبحث اإلنسانية له عن إجابة منذ ٍسؤال م ِ
لوجود الخال ق؛ بحيث ال يمكن أن يكون الخل ق قد حدث صدفة ،أو نتيجة "طفرات عشوائية" ،وإنما تحتم كيفيته
بتدبير رباني و وف ق
ٍ – التي سيكتشفها القارئ في هذه الصفحات – أن تكون النشأة األولى لإلنسان خلقا ً مباشرا ً
ق عليم.
تصميم خال ٍ
ثم إن التدبر في آيات هللا عز و جل أمر واجب ،السيما في مسألة ذ ِكرت مرات عديدة في القرآن ،فهي أمر
خاطرة هامشية بحال ،كما أنه دعوة للتفكر وإعمال الذهن فيما ينفع .ذلك ألن معرفة نشأتنا هيعظيم و ليست ِ
بحد ذاتها َمطلَب ،ألنها اللبنة الصحيحة في أساس بنائنا ومعمارنا الثقافي ،وفي تشكيل وعيِنا لحقيقة وجودنا من
أجل فهم من نحن وما هو دورنا على هذه األرض.
و قبل أن نبدأ حديثنا ،نود أن نذكر القارئ الكريم أننا سنتكلَّم عن تصور الخل ق كما ورد في كتاب هللا ،باعتبار
ستنط ق ظاهر تلك اآليات لنجعلها
تحتمل التأويل .وهذا يحتم علينا أن نَ ِ ِ تناولَته آيات مح َكمات ال
اآليات التي َ
تخبِرنا بما تقول ،من دون لف و دوران ،و من دون تخريجات من أي نوع ،ال أن نس ِقط تصوراتنا السابقة على
ورثناه .بتعبير آخر ،سوف نتعامل مع ألفاظ القرآن كما هي ،بدون اآليات لنرغمها على أن تكون دليال يدعم ما ِ
تعميم أو تخصيص ،و ال تقديم أو تأخير ،مع الحرص على عدم إيجاد تعارضات بين دالالت آليات وآيات
سبب باختالفات في كتاب هللا تت َّ َخذ حجة علينا من قِبَل الطا ِعنين.أخرى ،كي ال نت َ َ
موجز الحقيقة ،كما يقصها القرآن ،أن اإلنسان ،ذلك الكائن العاقل و الصالح إلعمار األرض ،قد انبث ق قبل
صنَم طيني أو من فراغ – كما َحشَت أسفار العهد القديم ذلكعشرات اآلالف من السنين ،لكنه لم ينشأ هكذا من َ
في عقول جماهير المتَدَينين حول العالم .بل جاء هذا اإلنسان من قمة ساللة بشرية بدائية ،تطورت بدورها عبر
شري َحقَبات م ِ
تالحقة .بتعبير آخر :آدم يمثِل أول جنس إنساني تم اصطفاءه من محيطه ،لكنه ليس أول مخلوق بَ َ
على اإلطالق .و شتان بين مفهومي "البشر" و "اإلنسان" ،كما سنكتشِف قريباً.
أما كيف خ ِل ق أول كائن بشري ،فليس هناك كائن بشري واحد أول ) ،(prototypeبل مجموعة من كائنات
بدائية نَشَأَت بتدبير القوة الربانية ،مباشرة من طين األرض و عناصرها الغير عضوية )،(inorganic matter
في أجواء معَينة و استثنائية َم َّرت بها األرض ،من ضغط و حرارة و مغناطيس و كيمياءَ ،جعَلت مناخها أشبه
شرية البدائية ،التي كانت في األصل خنث بمناخ رحم اإلمرأة حال اح ِتضا ِنه للجنين .ثم هذه الكائنات ال َب َ
) ،(hermaphroditeأَخَذت تظ ِهر خصائص الذكورة و األنوثة ) ،(gender characteristicsفي حقبة
نجب السالالت البشرية. الحقة ،لتتكاثر فيما بعد و ت ِ
َفلَم يَرتقي الكائن البشري من قِرد أو من كائنات أدنى ،أو من أصل واحد مشت َرك للكل ،كما يقول أصحاب
مدرسة "اإلنتقاء الطبيعي" ،بل بدأت الكائنات جميعها متما ِيزة بأنواعها عن بعضها البعض ،بجيناتها الخاصة
بها ،و نَ َمت في حاضنات (بيوض) طينية بدالً من األرحام ،حتى اكتمل نضوجها ،فخ ََرجت إلى الدنيا ،لتبدأ فيما
بعد حقبة أخرى ،هي حقبة الت َزاوج بين ذَ َكر كل صنف و أنثاه.
فلو أتي َح لنا أن نكون حاضري ذلك المشهد الرهيب ،في سفر عبر الزمن السحي ق ،لما حسِبنا إال أننا على سطح
جامحا ً من أفالم الخيال العلمي ،حول تخل ق كائنات غريبة و انبثاقها حية من باطن
عالم آخر ،نعايِن فيه فيلما ً ِ
مستنقعات الطين ،بدون تزاوج.
قد يبدو هذا األمر مست َن َكرا ً لدى القارىء ،لكن القرآن يعلن في كثير من آياته ،و بوضوح تام ال يقبل اللف أو
الدوران أو التأويل ،أن هناك نشأة للبشر من األرض مباشرة ،و هي التي سماها الذِكر الحكيم "النشأة األولى"،
أو "اإلنبات" ،ثم في مرحلة الحقة ،نشأة أخرى مغايِرة ،من رحم األنثى.
فالحرف "إذ" المستخدَم في اآلية أعاله واضح الداللة في أننا أمام َحقبَتين للخل ق.
و في موضع آخر من القرآن ،نقرأ بكل وضوح المزيد حول هذه الحقيقة المدَوية:
الحظوا هنا دالالت الفعل "بدأ" و الحرف "ثُم" .و هذه اآليات ال تحت َِمل يمينا ً و ال شماالً ،مهما حاول
"المفسرون" لَي عنقها تقديما ً أو تأخيرا ً أو تقديراً .فهي تقول لنا بوضوح ،و ب ِلسان عربي مبين ،أن اإلنسان بدأ
خلقه من طين (و هو طوره البشري األول) ،ثُم فيما بعد ،صار لهذا البشر ساللة (أجيال متعا ِقبة) تأتي من ِلقاح
ذكوره إلناثِه ،ثم فيما بعد ،نفخ هللا فيه من روحه ،لكي يتحول هذا البشر البدائي إلى بشر إنساني.
فالخاليا األولى التي كانت بمثابة بذور البشر ،و المتكونة على ضفاف األنهار و المست َنقعات ،كانت خنثى
تختزن الجنسين الذكر و األنثى معاً .هذا يعني ،بلغة مبَسطة ،أن فعالية المياه العذبة َك َّونت خاليا
ِ ) ،(xy-xxأي
شواطىء المسطحات المائية .و كذلك كان ِ الطمي الطيني المتش َِكل علىكل مخلوق حي ،بت َدبير رباني ،في َّ
الحال ،إلى أن بلَغَت هذه الخاليا ال ِبدئية المائية ،في مراحل تطورها ،التكاثر باإلنقسام ،ثم ع ِلقَت و نَ َمت ،حتى
فقَّست عن بشر مكت َِملي النمو ،نَبَتوا من "بيوض" داخل قوا ِلب طينية ،كما نَبَت كل شيء قبلهم بمئات و آالف
ب من تواجد أجيال مديدة من أولئك البشر ،انتقل التكاثر إلى مرحلة أخرى ،ليكون عن السنين .ثم بعد أحقا ٍ
طري ق النطفة الذَّ َكرية و الب َويضة األنثوية ،أي بتالقح الجن َ
سين.
ون أُمَّهاتِ ُك ْم ،فَل تُزك ٓو ۟ا أنفُس ُك ْم، ض ،و ِإ ْذ أنت ُ ْم أ ِجنَّةٌ فِى ب ُ
ُط ِ س ُع ٱ ْلم ْغ ِفر ِةُ .هو أ ْعل ُم ِب ُك ْم ِإ ْذ أنشأ ُكم ِمن ٱ ْألرْ ِ
}ِ ...إ َّن ربَّك وا ِ
ُهو أ ْعل ُم ِبم ِن ٱتَّقى{.[32:53]...
الحظوا الحقبتين جلياً" :إذ" األولى تتحدث عن مرحلة خل ق البشر قبل والدة األرحام (أي النشأة األولى من
األرض مباشرة) ،و "إذ" الثانية تبيِن تولد الجنس البشري في األرحام.
أجنة بشرية تكونت في بيوض طينية ،ثم انشقت األرض عنهم ذكورا و إناثا بالغين
صطلح "البَشَر" يدل بكل وضوح على كائن حي مثلنا ،و ليس على تمثا ٍل أو دميَة من طين أو فخار على إن م َ
هيئتِنا ،كما ت َدَّعي كتب التراث المتشبعة بأباطيل أحبار اليهود القدماء .فالتعبير القرآني }و إذ قال ربك للمَلئكة
سر بما معناه" :إنييحتمل ،بأي شكل من األشكال ،أن يفَ َِّ ق بشرا من صلصا ٍل من حمأ مسنون{ ،ال إني خال ٌ
خال ق من الطين تِمثاالً كهيئة البشر" .فالبشر المخلوق من طين هو أصالً و بحد ذاته كائن حي ،ال محالة،
و كذلك األمر بالنسبة لساللته ،حتى قبل تسويَت َه و نفخ روح هللا فيه .و هذه بداهة ال تحتاج فلسفة و ال تعقيد.
لقد وقَع السواد األعظام من الناس في غلط فاحش ،تم على أث َ ِره الخلط بين مفهومي "الروح" )(spirit
و "النفس" ) ،(soulفظنوا أنهما مترادِف َين ،و أن الروح ِسر الحياة .نتيجة لهذا الخلط الكارثي ،ساد اإلعتقاد
الخاطىء أن اإلنسان ،عندما يموت ،تصعد "روحه" إلى هللا .كما نرى عامة الناس ،في كالمهم المعتاد ،يتحدثون
عن "أرواح" في صيغة الجمع! مع العلم أن القرآن ينفي هذه المقوالت جملة و تفصيالً ،و يميز بشكل واضح
بين "الروح" ( و هو مصطلح يأتي دائما ً في صيغة المذكر) ،و "النفس" (و هي لفظة ت َِرد دائما ً في صيغة
المؤنث) .و هذه ليست مصادفة ،بل هي ظاهرة لن يستو ِعبَها سوى من يقرأ القرآن بتَدَبر.
بارئها عند الوفاة ،و ليس الروح إطالقاً .و هاكم اآليات لكي تتأكدوا
فالقرآن يجزم أن النفس هي التي تعود إلى ِ
من هذا األمر:
س ُل ٱ ْأل ُ ْخرى }ٱ َّّللُ يتوفَّى ا ْألنفُس ِحين موْ تِها ،و ٱلَّتِى ل ْم ت ُم ْت فِى من ِ
امها ،فيُمْ س ُِك الَّتِى قضى عليْها ٱ ْلموْ ت و يُرْ ِ
ت ِلقوْ ٍم يتف َّك ُرون{.[42:39]... إِلى أج ٍل مسمًّى .إِ َّن فِى ذ ِلك آليا ٍ
َصف لنا النوم و كأنه موت مؤقت ،حيث يتوفى هللا األنفُس (و ليس "األرواح" – إذ ال يوجد "أرواح"
هذه اآلية ت ِ
في صيغة الجمع أصالً).
}وَل تُع ِْجبْك أمْوالُ ُه ْم وأوْ َٰلدُ ُه ْم ،إِنَّما ي ُِريدُ ٱ َّّللُ أن يُعذِبهُم بِها فِى ٱلد ْنيا و ت ْزهق أنفُ ُ
س ُه ْم و ُه ْم ٰكافِ ُرون{.[85:9]...
اآلية أعاله تقول بكل وضوح أن األنفُس هي التي ت َزهَ ق عند الموت ،ال "األرواح" ،كما دَ ِر َج في كالمنا
و تراثِنا المتَشَبِعان باللغو و األباطيل.
}وإِذا النفُ ُ
وس ُز ِوجت{.[7:81]...
تصف ما سيحدث يوم القيامة و البعث .لماذا لم تقل" :و إذا األرواح ز ِو َجت"؟
هذه اآلية ِ
السبب ،بكل بساطة ،هو أن مفهوم "األرواح" و تصويرها على أنها مثل األشباح التي تخرج من أجساد الناس
عند الموت ،مفهوم خرافي ،بعيد كل البعد عن الحقيقة القرآنية.
أما الروح ،فال عالقة له بالحياة أوالموت إطالقاً ،و إنما هو – في سياق موضو ِعنا – ِسر األن َ
سنَة ،أي سر تحول
البشر البدائي األول إلى بشر إنساني عاقل ،م َهيأ ً لتكليفه م ِهمة إعمار األرض .فالروح عبارة عن أمر رباني
جاء من خارج عالَ ِمنا و وعيِنا ،وهِب لبني آدم بشكل َجماعي ) ،(collectiveلكي يرتقي بهم عن بقية
المخلوقات .هنا تحديدا ً يكمن حل الم ِ
عضلة .و لهذا السبب يخ ِبرنا القرآن ما يلي:
وحى فقع ۟
ُوا لهۥُ سا ِجدِين{... }إِ ْذ قال ربك ِل ْلم ٰ َٓلئِك ِة إِنِى خا ِل ٌۢ ٌ
ق بشرا ِمن ِطين * ف ِإذا سوَّ ْيتُهۥُ و نف ْخ ُ
ت فِي ِه ِمن ر ِ
].[72-71:38
جامد من الفخار) ،و الذيهذا النفخ في الكائن البشري الذي و ِلد ابتدا ًء من رحم األرض (و ليس نفخ في تمثال ِ
عمت أسفار تطورت ساللته عبر َحقَبات زمنية تقاس بعشرات اآلالف من السنين ،لم يكن نفخ النفس ،كما ز َ
العهد القديم – التي أ َ َخذنا منها الكثير من معت َقَداتنا – بل نفخ الروح في مخلوق كان حيا ً في األصل ،و هو الذي
أكمل حلقة تس ِو َيته ) ،(perfectionو تميزه عن سائر المخلوقات الحية ذات األنفس .و عبارة "نفخ" في القرآن
اجىء لها معنى واحد فقط ،و هو :التحول أو التبدل أو اإلرتفاع السريع في الشيء .هذا يعني أن هناك تحول مف ِ
صل على المستوى الجيني ) (genetic transformationأدى إلى ارتقاء هذا البشر إلى إنسان .بتعبير آخر، َح َ
هناك تدبير إلهي أدى إلى "إيقاذ" شيء ما داخل هذا الكائن البشري ،إلى اآلن لم نكتَشِف ِسره .فعندما يقول هللا
نفخت فيه من روحي{ ،فهو يعني "أيقَذت في هذا المخلوق البَشري البدائي شيئا ً من عندي". ُ }
من ناحية أخرى ،عبارة }إذا سوَّ يتُه{ هذه تحتوي على حرف "إذا" ،للداللة على أمر مؤكد الحدوث و لكن في
المستقبل .نأخذ على سبيل المثال:
فبين خل ق البشر البدائي من طين ،و تسويته ) ،(perfectionثم النفخ من روح هللا فيه لكي يتحول إلى إنسان
فترة زمنية غير معروفة ،و لكنها تقاس بآالف السنين ،ال بالماليين كما يزعم أنصار مدرسة داروين.
و نستطيع فهم الفرق بين "البشر" و "اإلنسان" بصورة أعم ق عندما نميز بين الطب البشري و العلوم اإلنسانية.
فعندما ندرس الطب البشري ،نتناول الجسم من الناحية الفيزيولوجية الصرفة ،بما فيه من جلد و لحم و عظام
و أعصاب و أوعية دموية و أعضاء مختلفة .أما عندما نتحدث عن العلوم أو الفنون اإلنسانية ،فإننا نقصد أمور
مثل علم القانون و علم اإلجتماع و علم النفس و فن المسرح و فن الرسم و النحت ،و غير ذلك من المجاالت
التي يمتاز بها اإلنسان عن غيره من المخلوقات الحية.
درك على أكمل هذا يعني أن كل إنسان هو في األصل َبشَر بالضرورة .لكن العكس غير صحيح .و من هنا ن ِ
وجه معنى وصف شخص بأنه "روحاني" – أي أنه ذاك الشخص الذي يكون قريبا ً من هللا في تصرفاته
و تعامله مع اآلخرين ،و يبت ِعد عن الشهوات الكامنة فيه ،و النا ِتجة عن أص ِله البشري .لهذا السبب ،نرى أن
يخاطب عقول مست َِمعيه ،ال يبدأ الخطاب في صيغة "يا أيها البشر" أبدا ً .بل ينادي عليهم
ِ القرآن ،عندما يريد أن
قائالً} :يا أيها الناس{ أو }يا أيها الذين آمنوا{.
خالصة القول أنه قبل آدم – أي قبل مرحلة التسوية و النفخ من الروح – كان هناك بشر َه َمجي خالص ،غير
صنَما ً من
يتزاوج و يس ِفك الدماء ،و لم يكن َ
َ إنساني .و كان هذا المخلوق حيا ً بطبيعة الحال ،يأكل و يشرب و
طين ،كما يحلو للبعض أن يعت ِقد.
__________________________
* راجع القرآن ].[94-91:17
هكذا ،يمكن اآلن عرض تسلسل أطوار الخل ق بشيء من التفصيل ،كما يلي:
ست عنهم بالغين ،همجيين ،و خنث (أي أن تركيبتهم )1والدة أجدادنا البشر مباشرة من بيوض طينية ،فق َ
الجسمانية كانت في األصل الجنسية – أو تحتوي على الجنسين معاً).
)3التسوية التي رافقت إنتهاء مرحلة النشأة األولى ،حيث دخل البشر في طور التزاوج بين الذكور
و اإلناث ،فانتقلت الوالدة من رحم األرض إلى رحم األنثى.
)4نفخة الروح اإللهي ،التي أحدَث َت طفرة نوعية و تحول سريع في البشر الهمجي ،فصار بشرا ً إنسانيا ً
صالحا ً إلعمار األرض و تلقي رسائل السماء .و هذه هي تحديدا ً بداية حقبة "آدم و زوجه" .و قد عاصر
ضت اإلرادة اإلنسان ،في مرحلة طفولته البعيدة تلك ،بقايا جنس ال َه َمج ،إذ تم اصطفاءه من بينهم .كما اقت َ َ
ينقرض الجنس الهمجي من على وجه األرضِ ،وف ق تدبير و خطة ربانية سوف نكشِف لكم اإللهية أن ِ
أبعادها في الجزء الثاني من هذا البحث ،بعنوان" :آدم و شجرة المعصية".
إن المتَت َبِع لمج َمل آيات الذِكر الحكيم سيفهم أن نفخة الروح ارت َقَت بالبشر البدائي لتجعل منه كائنا ً عاقالً ،مفكراً،
خاطب القرآن النبي قائالً له...
جامد من فخار إلى رجل حي .و عندما ي ِ مت َِأمالً ،و لم تحول صنم ِ
مْرنا ،ما ُكنت ت ْد ِري ما ا ْل ِكتابُ وَل اْليما ُن ،و ٰل ِكن جع ْلناهُ نُورا نَّ ْه ِدي بِ ِه من ٰ
}و كذ ِلك أوْ حيْنا ٓ إِليْك ُروحا ِم ْن أ ِ
نشا ُء ِمن ِعبادِنا ،و ِإنَّك لت ْه ِدي ِإلى ِصراطٍ ُمسْت ِقيم{.[52:42]...
ي إليه طب لم يكن دميةً من طين أو فخار ،بل كان رجالً حيا ً فيه نفس .لكن الروح الذي ِ
أوح َ درك أن المخا َ ...ن ِ
ارتقى به إلى النبوة ،تماما ً كما كانت نفخة الروح قد ارتقَت بالبشر البدائي األول إلى مستواه اإلنساني (أي طوره
"اآلدمي") .فالروح ليس سر الحياة ،كما أفهمونا ،و إنما هو أمر إالهي خص به بني آدم فقط ،و هو دائما يؤدي
– بطريقة أو بأخرى – إلى اإلرتقاء من حالة إلى حالة أخرى ).(transcendence
بشر همجي ( +ثم) تسوية ( +ثم) نفخة الروح = بشر إنساني عادي.
بشر إنساني عادي +روح الوحي = بشر إنساني نبي.
المعادلة بسيطة للغاية .لكن طالما أننا نقرأ القرآن من دون تدَبر ،و بعيون مستعارة ،سوف تظل هذه الحقيقة
مغَيَّبة بالنسبة لنا.
****
موضع ،أن النشأة األولى هي تماما ً كالنشأة ِ و المدهِش أكثر من كل ما سبَ ق أن القرآن قد كرر ،في أكثر من
اآلخرة ،و كما َبدَأنا سنعود ،بنفس الكيفية! لذلك ،احت َفَظ التقليد الديني في ِمن َ
طقتنا ،منذ ال ِقدَم ،بطرائِ ق دفن للموتى
يجب أن يدفَن لكي يعاد حواضن من الطين ،فهكذا ِ ِ تراعي هذه البداية .فكما نَشَأ (تخَلَّ ق) البشر في قوالب أو
إنشاؤه يوم البعث إنباتا ً مرة أخرى.
لنقرأ حول هذه الحقيقة المدوية كما هي ،من دون أي تخريجات أو بهلوانيات "تفسيرية":
مارس دَفن موتاه ،و غالبا ً في وضعية فاإلنسان القديم ،منذ آالف السنين ،كان يعي تماما ً ما يفعله حين كان ي ِ
الجنين ) .(fetal positionفهو يحاكي بذلك وضعية البداية ،ألنه يعلَم يقينا ً أنها عين النهاية.
} ِم ْنها خل ْقنا ُك ْم و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم و ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم تارة أ ُ ْخرى{.[55:20]...
تلك هي الحقيقة البيِنة ،من دون شوائب ،و من دون تخريجات المفسرين و كتب التراث .تلك هي الحقيقة
ص َرح بها القرآن ،لمن أراد أن يتَدَبرها:
الناصعة و الكاملة ،كما َ
ِ
}و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم{ ،و هو الموت و مآل الجسد األخير ،سواء دفِن أو لم يدفَن.
هكذا كانت البداية و هكذا ستكون النهاية .لذلك ،يؤكد لنا الذِكر الحكيم ما يلي:
إن داللة حرف "كاف" للتشبيه و المحاكاة العربية في هذه اآلية ال تترك أي مجال للشك ،و ال تعطي إال الكيفية
نفسها ،و هي الكيفية البدئية للخل ق و الخروج من األرض مباشرة ،كما يخرج النبات.
ض ۟
وا على ر ِبك صفًّا ،لَّق ْد }ويوْ م نُسيِ ُر ٱ ْل ِجبال و ترى األرض ب ِارزة ،و حشرْ نا ُه ْم فل ْم نُغادِرْ ِم ْن ُه ْم أحدا * و ُ
ع ِر ُ
ِجئْت ُ ُمونا كما خل ْقنا ُك ْم أوَّ ل مرَّ ٍة ،ب ْل زعمْ ت ُ ْم ألَّن نَّ ْجعل ل ُكم مَّوْ ِعدا{.[48-47:18]...
ج ْالم ِيت ِمن ٱ ْلحي ،و ي ُْحي ِ ٱ ْألرْ ض بعْد موْ تِها ،و ك ٰذ ِلك ت ُ ْخرجُون * و ِم ْن آياتِه ج ٱ ْلح َّي ِمن الم ِي ِ
ت و ي ُْخ ِر ُ }ي ُْخ ِر ُ
س ُكنُ ٓو ۟ا ِإليْها،
س ُك ْم أ ْزو ٰاجا ِلت ْ
ب ث ُ َّم إِذا أنتُم بش ٌر تنتش ُِرون * و ِم ْن آياتِه أ ْن خلق ل ُكم ِم ْن أنفُ ِأ ْن خلق ُكم ِمن تُرا ٌۢ ٍ
ت ِلقوْ ٍم يتف َّك ُرون{.[21-19:30]... و جعل بيْن ُكم مَّودَّة ور ْحمةِ ،إ َّن ِفى ٰذ ِلك آليا ٍ
اآلخرة سيكون مماثِل للنشأة األولى ،التي ش ِهدَت إخراجنا من األرض هذه اآليات صريحة بأن الخروج في ِ
الميتة تماما ً كما يخرج النبات ،فإذا نحن ب َ
شر ينتشِر و يدب هنا و هناك ،فتلك آية ربانية مذهِلة .ثم أعقَ َبها باآلية
الثانية ،حين تعارفَت إناث البشر و ذكورها ،لتبدأ مرحلة الت َزاوج ،و هي الحقبة التي عاصرها اإلنسان اآلدمي
فيما بعد.
سراعا كأنَّ ُه ْم ِإلى وا يوْ م ُه ُم ٱلَّ ِذي يُوعدُون * يوْ م ي ْخ ُرجُون ِمن ٱ ْأل ْجدا ِ
ث ِ ُوا حتَّى ي ُٰلقُ ۟
وا و ي ْلعب ۟
ض ۟}فذرْ ُه ْم ي ُخو ُ
وا يُوعدُون{.[44-42:70]... ٰ
شعة أبْصا ُر ُه ْم ،ترْ هقُ ُه ْم ذِلةٌ ،ذ ِلك ٱ ْليوْ ُم ٱلَّذِى كانُ ۟ضون * خا ِ ب يُوفِ ُ نُ ُ
ص ٍ
ث كأنَّ ُه ْم جرادٌ
شعا أبْصا ُر ُه ْم ،ي ْخ ُرجُون ِمن ٱ ْأل ْجدا ِ }فتو َّل ع ْن ُه ْم يوْ م ي ْد ُ
ع ٱلدَّاعِ ِإلى ش ْىءٍ نُ ُكر * ُخ َّ
منتشِر{.[7-6:54]...
أين القبر الذي سيخرج منه ذاك الذي مات غريقا ً في بحر أو نهر ،و أ َك َلت جسده األسماك؟ أين القبر الذي
سيخرج منه ذاك الذي مات في انفجار طائرة ،و ف ِقدت جثته؟ أين القبر الذي سيخرج منه ذاك الذي مات في
س ِط مجتمعٍ يحرق اجساد موتاه وينثر رمادها في الهواء أو في األنهار؟
و َ
من خالل هذه التساؤالت ،نكت َ ِشف ان األجداث ال يمكن أن تعني القبور.
و قد يحتج البعض على ما نقوله باستشهاده باآلية التالية التي تشير صراحة إلى بعث من هم في القبور:
ث م ْن فِي ْالقُب ِ
ُور{.[7:22]... }وأ َّن السَّاعة آتِيةٌ َل ريْب فِيها وأ َّن َّ
اّلل يبْع ُ
نرد عليه بالقول :هذه اآلية الكريمة كانت بمثابة تصريح لمتلقيها من المشككين أن جميع من هم في القبور،
و الذين صارت عظامهم رميما ً مع مرور السنين ،سوف يعاد إخراجهم من األرض أحيا ًء حقا ً .و لكنها ال تعني
بأي حال من األحوال أن خروجهم بحد ذاته سيكون من نفس القبور التي دفِنوا فيها .فاإلعتقاد بأن الناس يوم
تصف لنا بكل وضوح القيامة سيبعثون من مراقِدهم الحالية اعتقاد خاطىء ،كونه يصطدم مع اآليات التالية التي ِ
ما سوف يحل باألرض من أهوال في اآلخرة:
ت ْال ِجبا ُل بسًّا * ت ْالواقِعةُ * ليْس ِلو ْقعتِها كاذِبةٌ * خافِضةٌ رافِعةٌ * إِذا ُر َّج ِ
ت ْاألرْ ضُ رجًّا * وبُ َّ
س ِ }إِذا وقع ِ
ًّ
فكان ْت هباء ُم ْنبثا{.[6-1:56]...
سفُها ر ِبي نسْفا * فيذ ُرها قاعا ص ْفصفا * َل ترى فِيها ِعوجا وَل أمْ تا * يوْ م ِئ ٍذ }ويسْألُونك ع ِن ْال ِجبا ِل فقُ ْل ي ْن ِ
ات لِلرَّ ْحم ِن فَل تسْم ُع إِ ََّل همْ سا{.[107-105:20]... ت ْاأل ْ
صو ُ يت َّ ِبعُون الدَّا ِعي َل ِعوج لهُ وخشع ِ
ت ْاألرْ ضُ و ْال ِجبا ُل فدُ َّكتا د َّكة و ِ
احدة * فيوْ مئِ ٍذ وقع ِ
ت ور ن ْفخةٌ و ِ
احدةٌ * و ح ُِمل ِ }ف ِإذا نُ ِفخ فِي الص ِ
ْالوا ِقعةُ{.[15-13:69]...
اح ِد ْالقه ِ
َّار{.[48:14]... ات وبر ُزوا ِ َّّللِ ْالو ِ }يوْ م تُبدَّ ُل ْاألرْ ضُ غيْر ْاألرْ ِ
ض والسَّماو ُ
فكيف يستقيم ،رغم كل ذلك ،أن تبقى القبور التي نعرفها اآلن كما هي؟ كال ،بل أن القبور التي نراها حاليا ً
سوف ت َبعثَر ،بمعنى أنها سوف تتحطم و تتالشى أما ِكن وجودها من جراء تحرك صفائح األرض و ارتِجافها
و زلزلتها ،و تفتت الجبال ،و انشقاق السماء ،و غير ذلك من التغيرات التي ستحدث قبيل يوم القيامة.
طالما أن خروج البشر من األرض مماثِل لخروج النبات ،فهذا يعني أن األجداث ال يمكن أن تكون سوى بذور
صف القرآن هذا ال َحدَث بأنه }شيء نُ ُكر{ – أي أو بيوض ) (cacoonsيخرج منها الناس يوم البعث .و قد َو َ
شرات منت َ ِشرة!مشهد رهيب و غير مألوف ،حيث يخرج الناس من األرض ِسراعاً ،كأنهم َح َ
فالنشأة اآلخرة إذا ً ستكون مماثلة تماما ً للنشأة األولى ،حيث يبعَث الناس يوم القيامة من البيوض الطينية ،ليالقوا
ربهم و مصيرهم النهائي – كما بدأهم يعودون.
فبهذا الكشف ،تتضح الخارطة كلها ويزول اإلشكال ،حيث أن هللا تعالى صنَعَنا في طين األرض وأنبتنا منها
لنخرج في البدء ،ثم متنا – أينما متنا ولو في قاع سابع محيط – ثم سوف يتم "إعادتنا" في نهاية األمر (بمعنى
شر ،لنخرج مرة ثانية كما خرجنا أول مرة.
تصنيعنا) في طين أرض المح َ
فهل من المعقول أن التراث العربي القديم و الصحيح يعرف كل هذا؟ نعم ،ألن نوح (ص) ،حسبما أخبرنا
ض نباتا * ث ُ َّم يُ ِعيدُ ُك ْم فِيها و ي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخراجا{ .كما أن اّللُ أنبت ُكم ِمن ْاألرْ ِ
القرآن ،هو الذي قال لقومه} :و َّ
استرسال جواب موسى (ص) لفرعون هو حديث آيتنا المستهلة } ِم ْنها خل ْقنا ُك ْم و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم و ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم
تارة أ ُ ْخر ٰى{ ،و هي المحا ِكية لمقالة نوح (ص) تماماً.
ٱنظ ُر ۟
وا كيْف بدأ ضف ُ ير ۟
وا فِى األرْ ِ ٱّللُ ْٱلخ ْلق ث ُ َّم يُ ِعيدُ ٓهُۥِ ،إ َّن ٰذ ِلك على َّ
ٱّللِ يسِير * قُ ْل ِ
س ُ }أول ْم يروْ ۟ا كيْف يُ ْبدِئُ َّ
ٱّلل على ُك ِل ش ْىءٍ قدِير{.[20-19:29]... شأة اآلخرة ،إِ َّن َّ ئ ٱلنَّ ْ
ش ُ ْٱلخ ْلق ،ث ُ َّم َّ
ٱّللُ يُن ِ
صدق الرواية هذه اآلية تدعو الناس بصراحة للسير في األرض للتيقن من أنها منشأ البشر األول ،و لينكشِف لهم ِ
القرآنية للخل ق ،ال بأن يأخذوها من كتب التراث و "التفسير" ،التي َج َعلت أسفار العهد القديم هي األساس لفهم
الموضوع ،في حين أصبح القرآن مجرد رديف تابع لها ،ال غاية له سوى تصديقها فحسب .هذه اآلية تدلنا على
اآلخرة ستكون تماما ً كالنشأة األولى.
رأس الخيط :أن النشأة ِ
المسألة ليست بحاجة ألن نكون ضليعين في ِعلم اآلثار .فهناك قرائن كثيرة تدل على أن أصل اإلنسان من
األرض ،و أنه ال يختلف عن النبات في هذه الحيثية.
تفكروا قليالً :تضعون بذرة في األرض ،في التربة الخصبة ،و في غضون بضع سنوات ،في ظروف مناخية
مناسبة ،تعطيكم شجرة قد يبلغ طولها عشرة أمتار .الشجرة تتكون من نفس العناصر الكيميائية الموجودة في
التربة – كربون و نيتروجين و أوكسيجين و هيدروجين و معادن ،كما أنها تأخذ غذائها من األرض ،حيث لديها
جذور تمتد في التربة .و الشجرة فيها عروق ،بداخلها سائل ينقل هذا الغذاء من جذورها إلى أطرافها .و هي
تحيا و تعطي ثِمارا ً يمكن أخذ بذور منها ثم زرعها في األرض لكي تنبت بدورها أشجارا ً أخرى .الشجرة تحيا
تضمحل و تموت عندما ينتهي عمرها .و قد تصاب بغزو فطريات تأكلها من الداخل ،فتموت قبل أوانها. ِ ثم
و إذا اقت ِلعت الشجرة من جذورها و ن ِقلَت إلى أرض بعيدة بمناخ مختلف ،قد تدبل أو ربما ال تعطي ثمارا ً.
اآلن أنظروا إلى الجسم البشري :يتغذى من األرض ،إما مباشرة (أكل الفاكهة و الخضار) أو بطريقة غير
مباشرة (أكل لحوم أنعام تتغذى بدورها من األرض) .في داخله عروق يجري فيها الدم ،ليحمل الغذاء إلى كافة
الجسم م َك َّو ن من نفس العناصر الموجودة في األرض (كربون و نيتروجين و أوكسيجين األعضاء .هذا ِ
ب متفا ِوتة ،و هو كذلك يم ِكن أن يصاب بفطريات تفتِك به من الداخل،
س ٍ
و هيدروجين و معادن) ،و إن بِنِ َ
و تنتقل من أنسجة إلى أخرى .و اإلنسان يمكن أن يزرع بذرته في "تربة خصبة" (و هو رحم اإلمرأة الصالحة)،
نجبا "ثمارا ً" (أوالد) .و إذا ما اقت ِلع اإلنسان من جذوره و أجبِ َر على العيش في أرض أخرى ،بعيدا ً عن أهله،
لي ِ
فهو – و إن لم يمت في الجسد ،ألنه يستطيع أن يتأقلَم مع م ِ
حيطه الجديد (و هنا يمتاز اإلنسان عن الشجرة) –
لكن نفسيته لن تكون هي ذاتها ،و سيظل يشعر بحنين إلى وطنه و األرض التي تغذى منها.
قارنوا و تفكروا
صورة لجراد ينتشر على األرض تخرج من األرض
صورة لحشرة الجراد و هي ُ
معارك كثيرة ،من ِجداالت و تخريجات و تخمينات عقيمة مألَت كتب التراث ،و ي َجاب ِ بهذه الكيفية ،تنحسِم
أمرها ،من أن ماليين الناس لم تدفَن في القبور .فمنهم من أ ِ
حرقَ و ذ َّر على التِباسات شتى لطالما احت َرنا في ِ
ِرماده ،و منهم من افترسته الحيوانات ،و منهم من مات انفجارا ً في الجو ،أو غرقا ً في قاع البحر ،و منهم
و منهم ...و لكن في النهاية ،الكل سوف يخرج بهذه الصورة ،من بيوض طينية (أجداث) ،سواء دفِن أو لم
يدفَن ،ك ِفن أو لم ي َكفَن ،و تتوحد بذلك أرض ِ
المحشَر كمست َن ِبت ألبدان المبعوثين ،سوا ًء لمن ط ِمر تحت ركام
حرقَ في بومباي ،أو مات مفقودا ً جليد سيبيريا و كندا ،أو غ َِرقَ في فياضانات بنغالديش و أندونيسيا ،أو أ ِ
و َمنسِيا ً في أي ناحية من أنحاء المعمورة.
****
و جبل الرب اْلله آدم تُرابا من األرض ،و نفخ في أن ِفه نسمة حياة ،فصار آدم نفسا حية (التكوين .)7:2
كيف؟ كيف جبِل آدم من تراب كما يجبَل التِمثال ،و من ثم ن ِف َخ فيه ليتحول إلى رجل حي؟!
هذا التصور يخا ِلف القرآن تماماً .فالمخلوق الترابي هو الجنس البشري بأ َ ِ
سره ،ال آدم وحده – كما بينا لكم –
و خرجوا أوالً كالنبات ،كائنات حية ،حتى قبل نفخة الروح .و قد رأينا كيف ر َ
س َم القرآن صورة النشأة األولى:
فاإلنسان لم يجبل كتمثال من طين ،كما ز ِعم كهنة العهد القديم ،الذين كانوا ذوي فِهم بدائي و منظور جامد.
و قد أ َخذَ بهذا لألسف السواد األعظم من الناس اليوم ،بما في ذلك المسلمين ،الذين فسروا خل ق اإلنسان األول
برجلهعلى أنه ج ِب َل من تراب ،و ت ِركَ حتى يجف ،ثم صار الشيطان يدخل من أن ِفه و يخرج من دب ِره و ير ِفسه ِ
زرية جاءت بدايةً عن الكهنة اليهود ،الذين أساؤوا فِهم األساطير القديمة سد! هذه الصورة الم ِمن الغيرة و ال َح َ
حول نشأة اإلنسان و حرفوا مدلوالتها ،و من ثم تلقَّفَها آباؤنا و زيَّنوها لألذهان و القلوب ،و هي ال تزال ترت َع
حتى يومنا في كتب التراث الصفراء.
و في المقابِل ،فإن نظرية التطور الداروينية العشوائية قد سقطت بدورها سقوطا ً مدوياً .فكل كائِن حي ،بأص ِله
و فروعه ،خرج من بذرة أرضية بتركيبته الجينية الخاصة ،و بتكوين مت َم ِيز عن كائنات البذور األخرى.
يشترك مع اإلنسان بانحدارهما من ِ ضبع ،و ال ِقرد ال
فالبعوضة لم تتحول إلى خفاش ،و ال ِقط لم يتطور ليصير َ
تميز ،و ك ٌّل يتغيَّر لكي
نفرد و الم ِ أصل واحد ،كما يزعمون .بل ك ٌّل جاء من شجرته الخاصة ،من أصله الم ِ
يتكيَّف مع ظروفه البيئية و المناخية و الجغرافية ،لكنه يظل ضمن منظومته الجينية الخاصة به.
يتبع...