You are on page 1of 19

‫النشأة األولى‬

‫الجزء األول‪ :‬كما بدأ ُ ُكم تعودون‬

‫حزيران – ‪2021‬‬
‫اإلنسانية‪ ،‬منذ قرون‪ ،‬حائرة في اإلجابة عن مسألة هامة و غامضة‪ :‬يا ترى‪ ،‬كيف خ ِلقت الكائنات على وجه‬
‫شأ اإلنسان و تكاث َر؟ و نرى الناس تائهين بين فرضيتين ت َمثالن قطبين متعاكسين‪ :‬األولى‬ ‫اإلرض‪ ،‬و كيف نَ َ‬
‫"علمية"‪ ،‬ترى بأن اإلنسان جاء نتيجة تطور عشوائي (طفرة) من مخلوقات أقل تعقيداً‪ ،‬ع َمالً بمبدأ يطلَ ق عليه‬
‫"اإلنتقاء الطبيعي" )‪ ،(natural selection‬بينما الثانية نظرة الهوتية مأخوذة من العهد القديم‪ ،‬تقول أن‬
‫ضل ِعه زوجه‬‫اإلنسان العاقل خ ِل ق دفعة واحدة‪ ،‬من َرجل واحد إسمه "آدم"‪ ،‬ج ِب َل من طين األرض‪ ،‬ثم خ ِلقَت من ِ‬
‫"حواء"‪ ،‬و من ثم َحدَث التكاثر بين أوالدهما ِسفاحاً‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اآلن‪.‬‬

‫حورت اآلراء بين هاذين القطبين‪ .‬فإما أن نتبنى الفرضية األولى المادية‪ ،‬أو نأخذ بقصة الخل ق كما‬ ‫هكذا‪ ،‬ت َ َم َ‬
‫وردت حرفيا ً في العهد القديم‪.‬‬

‫و لكن ماذا لو كان هناك رأي ثالث غير مسموع فيما يخص مسألة الخَل ق‪ ،‬ال يقول بهذه الفرضية و ال بتلك‪ ،‬بل‬
‫يعطي تفسيرا ً مغايرا ً لهما؟ ماذا لو كان القرآن‪ ،‬بعيدا ً عن شروحات أهل التراث و بهلوانيات "المفَ ِسرين"‪ ،‬يضع‬
‫الحقيقة الساطعة حول نشأة اإلنسان أمام أعينِنا‪ ،‬ولكننا لإلسف لم نفهمها‪ ،‬بسبب إهاالت وإغراقات يهودية‬
‫المصدر‪ ،‬تأثرت بها الروايات و كتب التفسير؟‬

‫ماذا لو كان القرآن ين ِسف فرضية التطور الداروينية )‪ (Darwinian Evolution‬و قصة الخل ق الواردة في‬
‫العهد القديم في آن؟‬

‫شأة ٱ ْألُولى فلوْ َل تذ َّك ُرون{‪.[62:56]...‬‬


‫}و لق ْد علِمْ ت ُ ُم ٱلنَّ ْ‬

‫ئ ٱلنَّ ْ‬
‫شأة ٱ َْل ِخرة‪ِ ،‬إ َّن ٱ َّّلل على ُك ِل ش ْىءٍ‬ ‫ش ُ‬ ‫نظ ُر ۟‬
‫وا كيْف بدأ ٱ ْلخ ْلق‪ ،‬ث ُ َّم ٱ َّّللُ يُن ِ‬ ‫ض فٱ ُ‬ ‫ير ۟‬
‫وا فِى ٱ ْألرْ ِ‬ ‫}قُ ْل ِ‬
‫س ُ‬
‫قدِير‪.[20:29]...‬‬

‫فإلى أين نسير؟ و عن ماذا نبحث؟‬

‫نستر ِشد بالقرآن‪ ،‬ألن حقيقة الخل ق المغَيبة محفوظة فيه‪ ،‬تؤيدها األساطير القديمة التي – و لألسف – نَ َبذناها‬
‫وراء ظهورنا و اعتبرناها خرافات أو قصص أطفال‪ .‬هذا القرآن الذي و َجدنا فيه ِسر األسرار؛ ِس ٌّر لطالما‬
‫سلماتنا‪.‬‬
‫كثير من تناقضات م َ‬
‫قرأناه فلم نَ ِعه‪ِ ،‬س ٌّر لطالما رددناه و لم نفهمه‪ .‬و لو أننا فعَلنا‪ ،‬ألجبنا به عن ٍ‬

‫****‬
‫سمى‬ ‫لم تكن األمة الواحدة مخت ِلفة قط وال جاهلة في مسألة خل ق اإلنسان وكيفيته‪ ،‬قبل بزوغ نصوص ما ي َ‬
‫سخوا األساطير القديمة‬ ‫هيمنا ً في مثل هذه المسائل‪ .‬فإن الكهنة الذين استن َ‬
‫ص َبت نفسها َح َكما ً م ِ‬
‫"التوراة"‪ ،‬التي نَ َ‬
‫حول موضوع الخل ق و نشأة اإلنسان و اقتبسوها ضمن أسفار العهد القديم األولى قاموا – عمدا ً و جهالً –‬
‫بكتابتها وف ق أسلوبهم و وف ق منظورهم وفهمهم ونواياهم‪ ،‬بعد أن أحاطوا تدويناتهم تلك بسياجٍ من القدسية‪ ،‬إذ‬
‫سلمات ال‬ ‫سبوها إلى النبي موسى (ص) – و بالتالي إلى هللا عز شأنه – حتى باتت على مر العصور بمثابة م َ‬ ‫نَ َ‬
‫تقبل النقاش أو الجدال‪.‬‬

‫و مع أن القرآن جا َهدَ ليس ِقط تلك القداسة عما َّ‬


‫خطه األحبار و كت َّاب أسفار العهد القديم‪ ،‬الذين إما أنهم أخفوا ما‬
‫ال يواف ق أهوائهم من حقائ ق الكتاب أو حرفوها‪ ،‬وإما أنهم لفقوا و دسوا غيرها ثم ادعوا أنها من عند هللا‪ ،‬إال أن‬
‫عطلَت تلك القداسة الزائفة‬ ‫األمر‪ ،‬ومع األسف‪ ،‬مضى تاريخيا ً بخالف التعليمات و التوصيات القرآنية‪ .‬فكان أن َ‬
‫أمر كان محسوما ً لدى األوائل – ال بل أنه عدَّ من بديهياتهم – مما أدى في نهاية المطاف إلى‬ ‫مسيرة الفكر في ٍ‬
‫َ‬
‫كثير من أهل الكتاب في الملة الجديدة (أو‬ ‫تعطيل فكر األمة برمته في مثل هذه القضايا‪ ،‬خاصة بعد دخول ٍ‬
‫تظاهرهم الدخول)‪ ،‬حاملين معهم مفاهيمهم القديمة و شروحاتهم المظنونة قدسيتها‪.‬‬

‫فعلى الرغم من أن هللا تعالى قال‪ِ } :‬إ َّن هذا ْالقُرْ آن يقُص على بنِي ِإسْرائِيل أ ْكثر الَّذِي ُه ْم ِفي ِه‬
‫ق ُمصدِقا ِلما بيْن يد ْي ِه ِمن ْال ِكتا ِ‬
‫ب و ُمهي ِْمنا عل ْي ِه‪،‬‬ ‫ي ْخت ِلفُون{‪ ،[76:27]...‬وقال‪} :‬وأنز ْلنا إِليْك ْال ِكتاب ِب ْالح ِ‬
‫ق ِل ُك ٍل جع ْلنا ِمن ُك ْم شِرْ عة{‪ ،[48:5]...‬إال أن‬ ‫اح ُكم بيْنهُم بِما أنزل اّللُ وَل تتَّبِعْ أ ْهواء ُه ْم عمَّا جاءك ِمن ْالح ِ‬
‫ف ْ‬
‫الحال انقلب رأسا ً على عقب‪ ،‬فأصبح بنو إسرائيل هم من يقصون على المسلمين أكثر الذي هم فيه يختلفون‪،‬‬
‫ير المسلمون القرآن كتابا كامال مت َكامال‪ ،‬فاعتمدوا أسفار العهد القديم مكملة ومفسرة له! وبهذا‬ ‫وذلك عندما لم َ‬
‫سر على ضوئها‪.‬‬ ‫هي َمنَت مخطوطات األحبار وأصبحت هي الحاكمة على كل الكتب‪ ،‬فصار القرآن يف َهم و يفَ َّ‬

‫إنه ِلمن المؤسف‪ ،‬ثانيةً‪ ،‬أن الذهن البشري ظ َّل من عادته التواطؤ على صاحبه و التنصل من مسئوليته البحثية‪.‬‬
‫فاإلنسان يميل فكره إلى الم َحاكاة‪ ،‬و إلى التواري في ظالل الغير‪ ،‬فيأنَس لو قال َمقالَته أناس سبقوه‪ ،‬ويرت َ ِعد لو‬
‫ب أو ما سيعتَبَر " ِبدعة"؛ إذ أن "الحشر مع الناس عيد" كما يقولون‪ .‬فهو بطب ِعه يأنَس للمألوف‬ ‫كان سيأتي بغري ٍ‬
‫ويستظل به ألنه يرى فيه ِمتراس حصين يدافع من ورائه‪ ،‬بينما ينفر من الغريب وغير المسموع‬ ‫ِ‬ ‫والمسموع‬
‫ألن تبَنيه ال يجلب الراحة‪ ،‬بل يج ِب َره على أن يقيم متاريسه لوحده للصمود في وجه الرأي السائد‪.‬‬

‫فالذهن – بهذا – يدخل بصاحبه في نَفَ ق مؤامرة خفية لمواراة الحقيقة الناصعة و العزباء؛ لهذا َحدَث التواطؤ‬
‫الالشعوري و الغير معلَن بين أهل القرآن وأهل العهد القديم في كثير من القضايا‪ ،‬مع وجود فِصال ساف ٍر بين‬
‫ظاهر بين األمتين! و الوضع لغاية اآلن ال يزال على ما هو عليه؛ لذا فإن أي طرحٍ جديد حول‬ ‫ٍ‬ ‫الكتابين وعداءٍ‬
‫مسألة جوهرية مثل هذه سوف يوا َجه بَداهةً بعنف هذا التواطؤ الذي اكتسب فيه ك ٌّل من الطرفين قوته من اآلخر‬
‫ال من نفسه‪ ،‬و استمدَّه من تشاب ٍه زائف و وهمي بين النصوص القرآنية الشريفة و أسفار العهد القديم‪ ،‬فت َّ‬
‫سرب‬
‫نتيجة لهذا المنهج الفهم "التوراتي" الخرافي إلى عقيدة المسلمين‪ ،‬و انداح على النص القرآني بتواتر القصاصين‪،‬‬
‫فح ِجبت حقيقة خل ق اإلنسان عن األجيال‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لو أنهم ربطوا القرآن بالمدونات السومرية و البابلية والمندائية و السورية القديمة و برديات حضارة وادي‬
‫ب‬
‫صيغَت بقال ٍ‬ ‫النيل لكان أجدى‪ ،‬ألن تلك األساطير – كما سنرى في بحث الح ق – هي حقائ ق ِ‬
‫رمزي‪ ،‬و هي ليست مقوالت ظنونية؛ وألنها أصيلة غير منت َ َحلَة‪ ،‬وألنها تريد تعليم الحقيقة ال ادعائها‪ ،‬وألنها‬
‫أخيرا ً د ِونَت ٍ‬
‫بعلم و يقين‪ ،‬ال بجه ٍل وافتراض‪.‬‬

‫يبقى السؤال‪ :‬لما هذا البحث؟ لما الكتابة حول هذا الموضوع؟ هل انتهت كل مشاكل األمة حتى نغوص في مثل‬
‫هذه المسألة التي يعتبرها كثيرون مجرد ت ََرف فكري ال أكثر؟‬

‫الواقع أن البحث في مسألة الخل ق ليس و ال ينبغي أن يكون من باب الترف الفكري‪ ،‬وإنما بغرض اإلجابة عن‬
‫دهر‪ ،‬و بهدف تقديم تصور مقبول عقال ومنطقاً‪ ،‬كما أنه ملزم‬ ‫حير تبحث اإلنسانية له عن إجابة منذ ٍ‬‫سؤال م ِ‬
‫لوجود الخال ق؛ بحيث ال يمكن أن يكون الخل ق قد حدث صدفة‪ ،‬أو نتيجة "طفرات عشوائية"‪ ،‬وإنما تحتم كيفيته‬
‫بتدبير رباني و وف ق‬
‫ٍ‬ ‫– التي سيكتشفها القارئ في هذه الصفحات – أن تكون النشأة األولى لإلنسان خلقا ً مباشرا ً‬
‫ق عليم‪.‬‬
‫تصميم خال ٍ‬

‫ثم إن التدبر في آيات هللا عز و جل أمر واجب‪ ،‬السيما في مسألة ذ ِكرت مرات عديدة في القرآن‪ ،‬فهي أمر‬
‫خاطرة هامشية بحال‪ ،‬كما أنه دعوة للتفكر وإعمال الذهن فيما ينفع‪ .‬ذلك ألن معرفة نشأتنا هي‬‫عظيم و ليست ِ‬
‫بحد ذاتها َمطلَب‪ ،‬ألنها اللبنة الصحيحة في أساس بنائنا ومعمارنا الثقافي‪ ،‬وفي تشكيل وعيِنا لحقيقة وجودنا من‬
‫أجل فهم من نحن وما هو دورنا على هذه األرض‪.‬‬

‫و قبل أن نبدأ حديثنا‪ ،‬نود أن نذكر القارئ الكريم أننا سنتكلَّم عن تصور الخل ق كما ورد في كتاب هللا‪ ،‬باعتبار‬
‫ستنط ق ظاهر تلك اآليات لنجعلها‬
‫تحتمل التأويل‪ .‬وهذا يحتم علينا أن نَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تناولَته آيات مح َكمات ال‬
‫اآليات التي َ‬
‫تخبِرنا بما تقول‪ ،‬من دون لف و دوران‪ ،‬و من دون تخريجات من أي نوع‪ ،‬ال أن نس ِقط تصوراتنا السابقة على‬
‫ورثناه‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬سوف نتعامل مع ألفاظ القرآن كما هي‪ ،‬بدون‬ ‫اآليات لنرغمها على أن تكون دليال يدعم ما ِ‬
‫تعميم أو تخصيص‪ ،‬و ال تقديم أو تأخير‪ ،‬مع الحرص على عدم إيجاد تعارضات بين دالالت آليات وآيات‬
‫سبب باختالفات في كتاب هللا تت َّ َخذ حجة علينا من قِبَل الطا ِعنين‪.‬‬‫أخرى‪ ،‬كي ال نت َ َ‬
‫موجز الحقيقة‪ ،‬كما يقصها القرآن‪ ،‬أن اإلنسان‪ ،‬ذلك الكائن العاقل و الصالح إلعمار األرض‪ ،‬قد انبث ق قبل‬
‫صنَم طيني أو من فراغ – كما َحشَت أسفار العهد القديم ذلك‬‫عشرات اآلالف من السنين‪ ،‬لكنه لم ينشأ هكذا من َ‬
‫في عقول جماهير المتَدَينين حول العالم‪ .‬بل جاء هذا اإلنسان من قمة ساللة بشرية بدائية‪ ،‬تطورت بدورها عبر‬
‫شري‬ ‫َحقَبات م ِ‬
‫تالحقة‪ .‬بتعبير آخر‪ :‬آدم يمثِل أول جنس إنساني تم اصطفاءه من محيطه‪ ،‬لكنه ليس أول مخلوق بَ َ‬
‫على اإلطالق‪ .‬و شتان بين مفهومي "البشر" و "اإلنسان"‪ ،‬كما سنكتشِف قريباً‪.‬‬

‫أما كيف خ ِل ق أول كائن بشري‪ ،‬فليس هناك كائن بشري واحد أول )‪ ،(prototype‬بل مجموعة من كائنات‬
‫بدائية نَشَأَت بتدبير القوة الربانية‪ ،‬مباشرة من طين األرض و عناصرها الغير عضوية )‪،(inorganic matter‬‬
‫في أجواء معَينة و استثنائية َم َّرت بها األرض‪ ،‬من ضغط و حرارة و مغناطيس و كيمياء‪َ ،‬جعَلت مناخها أشبه‬
‫شرية البدائية‪ ،‬التي كانت في األصل خنث‬ ‫بمناخ رحم اإلمرأة حال اح ِتضا ِنه للجنين‪ .‬ثم هذه الكائنات ال َب َ‬
‫)‪ ،(hermaphrodite‬أَخَذت تظ ِهر خصائص الذكورة و األنوثة )‪ ،(gender characteristics‬في حقبة‬
‫نجب السالالت البشرية‪.‬‬ ‫الحقة‪ ،‬لتتكاثر فيما بعد و ت ِ‬

‫َفلَم يَرتقي الكائن البشري من قِرد أو من كائنات أدنى‪ ،‬أو من أصل واحد مشت َرك للكل‪ ،‬كما يقول أصحاب‬
‫مدرسة "اإلنتقاء الطبيعي"‪ ،‬بل بدأت الكائنات جميعها متما ِيزة بأنواعها عن بعضها البعض‪ ،‬بجيناتها الخاصة‬
‫بها‪ ،‬و نَ َمت في حاضنات (بيوض) طينية بدالً من األرحام‪ ،‬حتى اكتمل نضوجها‪ ،‬فخ ََرجت إلى الدنيا‪ ،‬لتبدأ فيما‬
‫بعد حقبة أخرى‪ ،‬هي حقبة الت َزاوج بين ذَ َكر كل صنف و أنثاه‪.‬‬

‫فلو أتي َح لنا أن نكون حاضري ذلك المشهد الرهيب‪ ،‬في سفر عبر الزمن السحي ق‪ ،‬لما حسِبنا إال أننا على سطح‬
‫جامحا ً من أفالم الخيال العلمي‪ ،‬حول تخل ق كائنات غريبة و انبثاقها حية من باطن‬
‫عالم آخر‪ ،‬نعايِن فيه فيلما ً ِ‬
‫مستنقعات الطين‪ ،‬بدون تزاوج‪.‬‬

‫قد يبدو هذا األمر مست َن َكرا ً لدى القارىء‪ ،‬لكن القرآن يعلن في كثير من آياته‪ ،‬و بوضوح تام ال يقبل اللف أو‬
‫الدوران أو التأويل‪ ،‬أن هناك نشأة للبشر من األرض مباشرة‪ ،‬و هي التي سماها الذِكر الحكيم "النشأة األولى"‪،‬‬
‫أو "اإلنبات"‪ ،‬ثم في مرحلة الحقة‪ ،‬نشأة أخرى مغايِرة‪ ،‬من رحم األنثى‪.‬‬

‫ض‪ ،‬و إِ ْذ أنت ُ ْم أ ِجنَّةٌ فِى ب ُُط ِ‬


‫ون أُمَّهاتِ ُك ْم ‪ ،‬فَل تُزك ٓو ۟ا‬ ‫س ُع ٱ ْلم ْغ ِفر ِة‪ُ .‬هو أ ْعل ُم ِب ُك ْم إِ ْذ أنشأ ُكم ِمن ٱ ْألرْ ِ‬
‫}‪...‬إِ َّن ربَّك وا ِ‬
‫أنفُس ُك ْم‪ُ ،‬هو أ ْعل ُم بِم ِن ٱتَّقى{‪.[32:53]...‬‬

‫ورين أساسيين مر بهما اإلنسان‪ ،‬يمكن تلخيصهما كما يلي‪:‬‬


‫ط َ‬‫إذاً‪ ،‬يبدو لنا أن هناك نشأتين‪ ،‬أو َ‬

‫‪ -‬نشأة أولى من األرض مباشرة‪.‬‬


‫‪ -‬نشأة ثانية من رحم األنثى‪.‬‬

‫فالحرف "إذ" المستخدَم في اآلية أعاله واضح الداللة في أننا أمام َحقبَتين للخل ق‪.‬‬
‫و في موضع آخر من القرآن‪ ،‬نقرأ بكل وضوح المزيد حول هذه الحقيقة المدَوية‪:‬‬

‫ين * ث ُم سوَّ اهُ ونفخ‬ ‫ٰ‬


‫ين * ث ُم جعل نسْلهُ ِمن سَُلل ٍة ِمن ماءٍ ِ‬
‫مه ٍ‬ ‫}الَّذي أ ْحسن ُك َّل ش ْىءٍ خلقهۥ‪ .‬و بدأ خ ْلق ٱ ْ ِْلنسا ِن ِمن ِط ٍ‬
‫ش ُك ُرون{‪.[9-7:32]...‬‬ ‫وح ِه‪ ،‬و جعل ل ُك ُم ٱلسَّمْ ع و ٱ ْألبْصار و ٱ ْأل ْفـ ِئدة‪ ،‬ق ِليَل ما ت ْ‬
‫فِي ِه ِمن ر ِ‬

‫الحظوا هنا دالالت الفعل "بدأ" و الحرف "ثُم"‪ .‬و هذه اآليات ال تحت َِمل يمينا ً و ال شماالً‪ ،‬مهما حاول‬
‫"المفسرون" لَي عنقها تقديما ً أو تأخيرا ً أو تقديراً‪ .‬فهي تقول لنا بوضوح‪ ،‬و ب ِلسان عربي مبين‪ ،‬أن اإلنسان بدأ‬
‫خلقه من طين (و هو طوره البشري األول)‪ ،‬ثُم فيما بعد‪ ،‬صار لهذا البشر ساللة (أجيال متعا ِقبة) تأتي من ِلقاح‬
‫ذكوره إلناثِه‪ ،‬ثم فيما بعد‪ ،‬نفخ هللا فيه من روحه‪ ،‬لكي يتحول هذا البشر البدائي إلى بشر إنساني‪.‬‬

‫فالخاليا األولى التي كانت بمثابة بذور البشر‪ ،‬و المتكونة على ضفاف األنهار و المست َنقعات‪ ،‬كانت خنثى‬
‫تختزن الجنسين الذكر و األنثى معاً‪ .‬هذا يعني‪ ،‬بلغة مبَسطة‪ ،‬أن فعالية المياه العذبة َك َّونت خاليا‬
‫ِ‬ ‫)‪ ،(xy-xx‬أي‬
‫شواطىء المسطحات المائية‪ .‬و كذلك كان‬ ‫ِ‬ ‫الطمي الطيني المتش َِكل على‬‫كل مخلوق حي‪ ،‬بت َدبير رباني‪ ،‬في َّ‬
‫الحال‪ ،‬إلى أن بلَغَت هذه الخاليا ال ِبدئية المائية‪ ،‬في مراحل تطورها‪ ،‬التكاثر باإلنقسام‪ ،‬ثم ع ِلقَت و نَ َمت‪ ،‬حتى‬
‫فقَّست عن بشر مكت َِملي النمو‪ ،‬نَبَتوا من "بيوض" داخل قوا ِلب طينية‪ ،‬كما نَبَت كل شيء قبلهم بمئات و آالف‬
‫ب من تواجد أجيال مديدة من أولئك البشر‪ ،‬انتقل التكاثر إلى مرحلة أخرى‪ ،‬ليكون عن‬ ‫السنين‪ .‬ثم بعد أحقا ٍ‬
‫طري ق النطفة الذَّ َكرية و الب َويضة األنثوية‪ ،‬أي بتالقح الجن َ‬
‫سين‪.‬‬

‫ون أُمَّهاتِ ُك ْم ‪ ،‬فَل تُزك ٓو ۟ا أنفُس ُك ْم‪،‬‬ ‫ض‪ ،‬و ِإ ْذ أنت ُ ْم أ ِجنَّةٌ فِى ب ُ‬
‫ُط ِ‬ ‫س ُع ٱ ْلم ْغ ِفر ِة‪ُ .‬هو أ ْعل ُم ِب ُك ْم ِإ ْذ أنشأ ُكم ِمن ٱ ْألرْ ِ‬
‫}‪ِ ...‬إ َّن ربَّك وا ِ‬
‫ُهو أ ْعل ُم ِبم ِن ٱتَّقى{‪.[32:53]...‬‬

‫الحظوا الحقبتين جلياً‪" :‬إذ" األولى تتحدث عن مرحلة خل ق البشر قبل والدة األرحام (أي النشأة األولى من‬
‫األرض مباشرة)‪ ،‬و "إذ" الثانية تبيِن تولد الجنس البشري في األرحام‪.‬‬

‫أجنة بشرية تكونت في بيوض طينية‪ ،‬ثم انشقت األرض عنهم ذكورا و إناثا بالغين‬
‫صطلح "البَشَر" يدل بكل وضوح على كائن حي مثلنا‪ ،‬و ليس على تمثا ٍل أو دميَة من طين أو فخار على‬ ‫إن م َ‬
‫هيئتِنا‪ ،‬كما ت َدَّعي كتب التراث المتشبعة بأباطيل أحبار اليهود القدماء‪ .‬فالتعبير القرآني }و إذ قال ربك للمَلئكة‬
‫سر بما معناه‪" :‬إني‬‫يحتمل‪ ،‬بأي شكل من األشكال‪ ،‬أن يفَ َّ‬‫ِ‬ ‫ق بشرا من صلصا ٍل من حمأ مسنون{‪ ،‬ال‬ ‫إني خال ٌ‬
‫خال ق من الطين تِمثاالً كهيئة البشر"‪ .‬فالبشر المخلوق من طين هو أصالً و بحد ذاته كائن حي‪ ،‬ال محالة‪،‬‬
‫و كذلك األمر بالنسبة لساللته‪ ،‬حتى قبل تسويَت َه و نفخ روح هللا فيه‪ .‬و هذه بداهة ال تحتاج فلسفة و ال تعقيد‪.‬‬

‫و لكن هذا من شأنه أن يطرح سؤال آخر‪ :‬ما هو الروح؟‬

‫لقد وقَع السواد األعظام من الناس في غلط فاحش‪ ،‬تم على أث َ ِره الخلط بين مفهومي "الروح" )‪(spirit‬‬
‫و "النفس" )‪ ،(soul‬فظنوا أنهما مترادِف َين‪ ،‬و أن الروح ِسر الحياة‪ .‬نتيجة لهذا الخلط الكارثي‪ ،‬ساد اإلعتقاد‬
‫الخاطىء أن اإلنسان‪ ،‬عندما يموت‪ ،‬تصعد "روحه" إلى هللا‪ .‬كما نرى عامة الناس‪ ،‬في كالمهم المعتاد‪ ،‬يتحدثون‬
‫عن "أرواح" في صيغة الجمع! مع العلم أن القرآن ينفي هذه المقوالت جملة و تفصيالً‪ ،‬و يميز بشكل واضح‬
‫بين "الروح" ( و هو مصطلح يأتي دائما ً في صيغة المذكر)‪ ،‬و "النفس" (و هي لفظة ت َِرد دائما ً في صيغة‬
‫المؤنث)‪ .‬و هذه ليست مصادفة‪ ،‬بل هي ظاهرة لن يستو ِعبَها سوى من يقرأ القرآن بتَدَبر‪.‬‬

‫بارئها عند الوفاة‪ ،‬و ليس الروح إطالقاً‪ .‬و هاكم اآليات لكي تتأكدوا‬
‫فالقرآن يجزم أن النفس هي التي تعود إلى ِ‬
‫من هذا األمر‪:‬‬

‫س ٱ ْل ُم ْطمئِنَّةُ * ارْ ِج ِع ٓى إِلى ر ِب ِك ر ِ‬


‫اضية مرْ ِضيَّة * فا ْد ُخ ِلي فِى ِعبا ِدي * و ا ْد ُخ ِلي‬ ‫}يا أيَّتُها النَّ ْف ُ‬
‫جنَّتِي{‪.[30-27:89]...‬‬

‫س ُل ٱ ْأل ُ ْخرى‬ ‫}ٱ َّّللُ يتوفَّى ا ْألنفُس ِحين موْ تِها‪ ،‬و ٱلَّتِى ل ْم ت ُم ْت فِى من ِ‬
‫امها‪ ،‬فيُمْ س ُِك الَّتِى قضى عليْها ٱ ْلموْ ت و يُرْ ِ‬
‫ت ِلقوْ ٍم يتف َّك ُرون{‪.[42:39]...‬‬ ‫إِلى أج ٍل مسمًّى‪ .‬إِ َّن فِى ذ ِلك آليا ٍ‬

‫َصف لنا النوم و كأنه موت مؤقت‪ ،‬حيث يتوفى هللا األنفُس (و ليس "األرواح" – إذ ال يوجد "أرواح"‬
‫هذه اآلية ت ِ‬
‫في صيغة الجمع أصالً)‪.‬‬

‫}وَل تُع ِْجبْك أمْوالُ ُه ْم وأوْ َٰلدُ ُه ْم‪ ،‬إِنَّما ي ُِريدُ ٱ َّّللُ أن يُعذِبهُم بِها فِى ٱلد ْنيا و ت ْزهق أنفُ ُ‬
‫س ُه ْم و ُه ْم ٰكافِ ُرون{‪.[85:9]...‬‬

‫اآلية أعاله تقول بكل وضوح أن األنفُس هي التي ت َزهَ ق عند الموت‪ ،‬ال "األرواح"‪ ،‬كما دَ ِر َج في كالمنا‬
‫و تراثِنا المتَشَبِعان باللغو و األباطيل‪.‬‬

‫}وإِذا النفُ ُ‬
‫وس ُز ِوجت{‪.[7:81]...‬‬

‫تصف ما سيحدث يوم القيامة و البعث‪ .‬لماذا لم تقل‪" :‬و إذا األرواح ز ِو َجت"؟‬
‫هذه اآلية ِ‬
‫السبب‪ ،‬بكل بساطة‪ ،‬هو أن مفهوم "األرواح" و تصويرها على أنها مثل األشباح التي تخرج من أجساد الناس‬
‫عند الموت‪ ،‬مفهوم خرافي‪ ،‬بعيد كل البعد عن الحقيقة القرآنية‪.‬‬

‫أما الروح‪ ،‬فال عالقة له بالحياة أوالموت إطالقاً‪ ،‬و إنما هو – في سياق موضو ِعنا – ِسر األن َ‬
‫سنَة‪ ،‬أي سر تحول‬
‫البشر البدائي األول إلى بشر إنساني عاقل‪ ،‬م َهيأ ً لتكليفه م ِهمة إعمار األرض‪ .‬فالروح عبارة عن أمر رباني‬
‫جاء من خارج عالَ ِمنا و وعيِنا‪ ،‬وهِب لبني آدم بشكل َجماعي )‪ ،(collective‬لكي يرتقي بهم عن بقية‬
‫المخلوقات‪ .‬هنا تحديدا ً يكمن حل الم ِ‬
‫عضلة‪ .‬و لهذا السبب يخ ِبرنا القرآن ما يلي‪:‬‬

‫وحى فقع ۟‬
‫ُوا لهۥُ سا ِجدِين{‪...‬‬ ‫}إِ ْذ قال ربك ِل ْلم ٰ َٓلئِك ِة إِنِى خا ِل ٌۢ ٌ‬
‫ق بشرا ِمن ِطين * ف ِإذا سوَّ ْيتُهۥُ و نف ْخ ُ‬
‫ت فِي ِه ِمن ر ِ‬
‫]‪.[72-71:38‬‬

‫جامد من الفخار)‪ ،‬و الذي‬‫هذا النفخ في الكائن البشري الذي و ِلد ابتدا ًء من رحم األرض (و ليس نفخ في تمثال ِ‬
‫عمت أسفار‬ ‫تطورت ساللته عبر َحقَبات زمنية تقاس بعشرات اآلالف من السنين‪ ،‬لم يكن نفخ النفس‪ ،‬كما ز َ‬
‫العهد القديم – التي أ َ َخذنا منها الكثير من معت َقَداتنا – بل نفخ الروح في مخلوق كان حيا ً في األصل‪ ،‬و هو الذي‬
‫أكمل حلقة تس ِو َيته )‪ ،(perfection‬و تميزه عن سائر المخلوقات الحية ذات األنفس‪ .‬و عبارة "نفخ" في القرآن‬
‫اجىء‬ ‫لها معنى واحد فقط‪ ،‬و هو‪ :‬التحول أو التبدل أو اإلرتفاع السريع في الشيء‪ .‬هذا يعني أن هناك تحول مف ِ‬
‫صل على المستوى الجيني )‪ (genetic transformation‬أدى إلى ارتقاء هذا البشر إلى إنسان‪ .‬بتعبير آخر‪،‬‬ ‫َح َ‬
‫هناك تدبير إلهي أدى إلى "إيقاذ" شيء ما داخل هذا الكائن البشري‪ ،‬إلى اآلن لم نكتَشِف ِسره‪ .‬فعندما يقول هللا‬
‫نفخت فيه من روحي{‪ ،‬فهو يعني "أيقَذت في هذا المخلوق البَشري البدائي شيئا ً من عندي"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫}‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬عبارة }إذا سوَّ يتُه{ هذه تحتوي على حرف "إذا"‪ ،‬للداللة على أمر مؤكد الحدوث و لكن في‬
‫المستقبل‪ .‬نأخذ على سبيل المثال‪:‬‬

‫}إذا جاء نصر هللا و الفتح{‬

‫}إذا جاء وعدُ ربي{‬

‫}إذا وقعت الواقِعة{‬

‫فبين خل ق البشر البدائي من طين‪ ،‬و تسويته )‪ ،(perfection‬ثم النفخ من روح هللا فيه لكي يتحول إلى إنسان‬
‫فترة زمنية غير معروفة‪ ،‬و لكنها تقاس بآالف السنين‪ ،‬ال بالماليين كما يزعم أنصار مدرسة داروين‪.‬‬

‫ف القرآن‪ ،‬في عدة مواقع‪ ،‬األنبياء بأنهم‬


‫ص َ‬ ‫و قد يسأل القارىء في هذه المناسبة‪ :‬ما دام األمر كذلك‪ ،‬لماذا و َ‬
‫" َبشر"؟ لماذا قال نبي القرآن عن نفسه‪ِ } :‬إنَّما ٓ أن ۠ا بش ٌر ِمثْلُ ُك ْم يُوحى إل َّي{؟‬
‫صف هللا األنبياء‬
‫شر‪ .‬فعندما َو َ‬ ‫الجواب هو أنه من الناحية البيولوجية أو العضوية الصرفة‪ ،‬كلنا في األصل بَ َ‬
‫بأنهم َبشَر‪ ،‬يأكلون و يشربون مثلهم مثل الناس‪ ،‬ثم يموتون مثلهم مثل الناس‪ ،‬لكي يبعثوا يوم القيامة أيضا ً مثل‬
‫طلَب منه‬‫باقي ال ِعباد‪ ،‬كان ذلك بمثابة التأكيد على طبيعتهم العضوية‪ .‬و قال نبي القرآن عن نفسه أنه بَشَر عندما َ‬
‫قومه أن يفعل لهم الخوارق إلثبات نبوته‪ ،‬أو أن يأتيهم بالمالئكة لت َ ِقف أمامهم (و هم أصالً ما‬
‫المشككون من ِ‬ ‫ِ‬
‫*‬
‫كانوا سيؤمنون حتى و لو فعل ذلك) ‪ .‬بالتالي‪ ،‬فسياق اآلية قد فرض إستخدام لفظة "ال َبشَر"‪.‬‬

‫و نستطيع فهم الفرق بين "البشر" و "اإلنسان" بصورة أعم ق عندما نميز بين الطب البشري و العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫فعندما ندرس الطب البشري‪ ،‬نتناول الجسم من الناحية الفيزيولوجية الصرفة‪ ،‬بما فيه من جلد و لحم و عظام‬
‫و أعصاب و أوعية دموية و أعضاء مختلفة‪ .‬أما عندما نتحدث عن العلوم أو الفنون اإلنسانية‪ ،‬فإننا نقصد أمور‬
‫مثل علم القانون و علم اإلجتماع و علم النفس و فن المسرح و فن الرسم و النحت‪ ،‬و غير ذلك من المجاالت‬
‫التي يمتاز بها اإلنسان عن غيره من المخلوقات الحية‪.‬‬

‫درك على أكمل‬ ‫هذا يعني أن كل إنسان هو في األصل َبشَر بالضرورة‪ .‬لكن العكس غير صحيح‪ .‬و من هنا ن ِ‬
‫وجه معنى وصف شخص بأنه "روحاني" – أي أنه ذاك الشخص الذي يكون قريبا ً من هللا في تصرفاته‬
‫و تعامله مع اآلخرين‪ ،‬و يبت ِعد عن الشهوات الكامنة فيه‪ ،‬و النا ِتجة عن أص ِله البشري‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬نرى أن‬
‫يخاطب عقول مست َِمعيه‪ ،‬ال يبدأ الخطاب في صيغة "يا أيها البشر" أبدا ً‪ .‬بل ينادي عليهم‬
‫ِ‬ ‫القرآن‪ ،‬عندما يريد أن‬
‫قائالً‪} :‬يا أيها الناس{ أو }يا أيها الذين آمنوا{‪.‬‬

‫خالصة القول أنه قبل آدم – أي قبل مرحلة التسوية و النفخ من الروح – كان هناك بشر َه َمجي خالص‪ ،‬غير‬
‫صنَما ً من‬
‫يتزاوج و يس ِفك الدماء‪ ،‬و لم يكن َ‬
‫َ‬ ‫إنساني‪ .‬و كان هذا المخلوق حيا ً بطبيعة الحال‪ ،‬يأكل و يشرب و‬
‫طين‪ ،‬كما يحلو للبعض أن يعت ِقد‪.‬‬

‫__________________________‬
‫* راجع القرآن ]‪.[94-91:17‬‬
‫هكذا‪ ،‬يمكن اآلن عرض تسلسل أطوار الخل ق بشيء من التفصيل‪ ،‬كما يلي‪:‬‬

‫ست عنهم بالغين‪ ،‬همجيين‪ ،‬و خنث (أي أن تركيبتهم‬ ‫‪ )1‬والدة أجدادنا البشر مباشرة من بيوض طينية‪ ،‬فق َ‬
‫الجسمانية كانت في األصل الجنسية – أو تحتوي على الجنسين معاً)‪.‬‬

‫ست عنهم ذكورا ً و إناثا ً بالغين‪ ،‬ما زالوا في طور الهمجية‪.‬‬


‫‪ )2‬والدة البشر مباشرة من بيوض طينية‪ ،‬فق َ‬

‫‪ )3‬التسوية التي رافقت إنتهاء مرحلة النشأة األولى‪ ،‬حيث دخل البشر في طور التزاوج بين الذكور‬
‫و اإلناث‪ ،‬فانتقلت الوالدة من رحم األرض إلى رحم األنثى‪.‬‬

‫‪ )4‬نفخة الروح اإللهي‪ ،‬التي أحدَث َت طفرة نوعية و تحول سريع في البشر الهمجي‪ ،‬فصار بشرا ً إنسانيا ً‬
‫صالحا ً إلعمار األرض و تلقي رسائل السماء‪ .‬و هذه هي تحديدا ً بداية حقبة "آدم و زوجه"‪ .‬و قد عاصر‬
‫ضت اإلرادة‬ ‫اإلنسان‪ ،‬في مرحلة طفولته البعيدة تلك‪ ،‬بقايا جنس ال َه َمج‪ ،‬إذ تم اصطفاءه من بينهم‪ .‬كما اقت َ َ‬
‫ينقرض الجنس الهمجي من على وجه األرض‪ِ ،‬وف ق تدبير و خطة ربانية سوف نكشِف لكم‬ ‫اإللهية أن ِ‬
‫أبعادها في الجزء الثاني من هذا البحث‪ ،‬بعنوان‪" :‬آدم و شجرة المعصية"‪.‬‬

‫إن المتَت َبِع لمج َمل آيات الذِكر الحكيم سيفهم أن نفخة الروح ارت َقَت بالبشر البدائي لتجعل منه كائنا ً عاقالً‪ ،‬مفكراً‪،‬‬
‫خاطب القرآن النبي قائالً له‪...‬‬
‫جامد من فخار إلى رجل حي‪ .‬و عندما ي ِ‬ ‫مت َِأمالً‪ ،‬و لم تحول صنم ِ‬

‫مْرنا‪ ،‬ما ُكنت ت ْد ِري ما ا ْل ِكتابُ وَل اْليما ُن‪ ،‬و ٰل ِكن جع ْلناهُ نُورا نَّ ْه ِدي بِ ِه من‬ ‫ٰ‬
‫}و كذ ِلك أوْ حيْنا ٓ إِليْك ُروحا ِم ْن أ ِ‬
‫نشا ُء ِمن ِعبادِنا‪ ،‬و ِإنَّك لت ْه ِدي ِإلى ِصراطٍ ُمسْت ِقيم{‪.[52:42]...‬‬

‫ي إليه‬ ‫طب لم يكن دميةً من طين أو فخار‪ ،‬بل كان رجالً حيا ً فيه نفس‪ .‬لكن الروح الذي ِ‬
‫أوح َ‬ ‫درك أن المخا َ‬ ‫‪ ...‬ن ِ‬
‫ارتقى به إلى النبوة‪ ،‬تماما ً كما كانت نفخة الروح قد ارتقَت بالبشر البدائي األول إلى مستواه اإلنساني (أي طوره‬
‫"اآلدمي")‪ .‬فالروح ليس سر الحياة‪ ،‬كما أفهمونا‪ ،‬و إنما هو أمر إالهي خص به بني آدم فقط‪ ،‬و هو دائما يؤدي‬
‫– بطريقة أو بأخرى – إلى اإلرتقاء من حالة إلى حالة أخرى )‪.(transcendence‬‬

‫بشر همجي ‪( +‬ثم) تسوية ‪( +‬ثم) نفخة الروح = بشر إنساني عادي‪.‬‬
‫بشر إنساني عادي ‪ +‬روح الوحي = بشر إنساني نبي‪.‬‬

‫المعادلة بسيطة للغاية‪ .‬لكن طالما أننا نقرأ القرآن من دون تدَبر‪ ،‬و بعيون مستعارة‪ ،‬سوف تظل هذه الحقيقة‬
‫مغَيَّبة بالنسبة لنا‪.‬‬

‫****‬
‫موضع‪ ،‬أن النشأة األولى هي تماما ً كالنشأة‬ ‫ِ‬ ‫و المدهِش أكثر من كل ما سبَ ق أن القرآن قد كرر‪ ،‬في أكثر من‬
‫اآلخرة‪ ،‬و كما َبدَأنا سنعود‪ ،‬بنفس الكيفية! لذلك‪ ،‬احت َفَظ التقليد الديني في ِمن َ‬
‫طقتنا‪ ،‬منذ ال ِقدَم‪ ،‬بطرائِ ق دفن للموتى‬
‫يجب أن يدفَن لكي يعاد‬ ‫حواضن من الطين‪ ،‬فهكذا ِ‬ ‫ِ‬ ‫تراعي هذه البداية‪ .‬فكما نَشَأ (تخَلَّ ق) البشر في قوالب أو‬
‫إنشاؤه يوم البعث إنباتا ً مرة أخرى‪.‬‬

‫لنقرأ حول هذه الحقيقة المدوية كما هي‪ ،‬من دون أي تخريجات أو بهلوانيات "تفسيرية"‪:‬‬

‫ض نباتا * ثُم يُ ِعيدُ ُك ْم فِيها وي ُْخ ِر ُج ُك ْم ِإ ْخراجا{‪.[18-17:71]...‬‬


‫}و ٱ َّّللُ أنبت ُكم من األرْ ِ‬

‫مارس دَفن موتاه‪ ،‬و غالبا ً في وضعية‬ ‫فاإلنسان القديم‪ ،‬منذ آالف السنين‪ ،‬كان يعي تماما ً ما يفعله حين كان ي ِ‬
‫الجنين )‪ .(fetal position‬فهو يحاكي بذلك وضعية البداية‪ ،‬ألنه يعلَم يقينا ً أنها عين النهاية‪.‬‬
‫} ِم ْنها خل ْقنا ُك ْم و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم و ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم تارة أ ُ ْخرى{‪.[55:20]...‬‬

‫تلك هي الحقيقة البيِنة‪ ،‬من دون شوائب‪ ،‬و من دون تخريجات المفسرين و كتب التراث‪ .‬تلك هي الحقيقة‬
‫ص َرح بها القرآن‪ ،‬لمن أراد أن يتَدَبرها‪:‬‬
‫الناصعة و الكاملة‪ ،‬كما َ‬
‫ِ‬

‫} ِم ْنها خل ْقنا ُك ْم{‪ ،‬و هو اإلنبات األول من البيوض الطينية في األرض‪.‬‬

‫}و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم{‪ ،‬و هو الموت و مآل الجسد األخير‪ ،‬سواء دفِن أو لم يدفَن‪.‬‬

‫}و ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم تارة أ ُ ْخرى{‪ ،‬و هو البعث و اإلنبات مرة ثانية‪.‬‬

‫هكذا كانت البداية و هكذا ستكون النهاية‪ .‬لذلك‪ ،‬يؤكد لنا الذِكر الحكيم ما يلي‪:‬‬

‫ق ن ِعيدُهۥُ‪ ،‬و ْعدا عليْنا إِنَّا ُكنَّا ٰفا ِع ِلين{‪.[104:21]...‬‬


‫ب‪ ،‬كما بدأْنا ٓ أوَّ ل خ ْل ٍ‬
‫}يوْ م ن ْط ِوي ٱلسَّماء كطي الس ِِج ِل ِل ْل ُكت ُ ِ‬

‫إن داللة حرف "كاف" للتشبيه و المحاكاة العربية في هذه اآلية ال تترك أي مجال للشك‪ ،‬و ال تعطي إال الكيفية‬
‫نفسها‪ ،‬و هي الكيفية البدئية للخل ق و الخروج من األرض مباشرة‪ ،‬كما يخرج النبات‪.‬‬

‫ض ۟‬
‫وا على ر ِبك صفًّا‪ ،‬لَّق ْد‬ ‫}ويوْ م نُسيِ ُر ٱ ْل ِجبال و ترى األرض ب ِارزة‪ ،‬و حشرْ نا ُه ْم فل ْم نُغادِرْ ِم ْن ُه ْم أحدا * و ُ‬
‫ع ِر ُ‬
‫ِجئْت ُ ُمونا كما خل ْقنا ُك ْم أوَّ ل مرَّ ٍة‪ ،‬ب ْل زعمْ ت ُ ْم ألَّن نَّ ْجعل ل ُكم مَّوْ ِعدا{‪.[48-47:18]...‬‬

‫و يظهر ذلك أيضا ً في قوله‪:‬‬

‫ج ْالم ِيت ِمن ٱ ْلحي‪ ،‬و ي ُْحي ِ ٱ ْألرْ ض بعْد موْ تِها ‪ ،‬و ك ٰذ ِلك ت ُ ْخرجُون * و ِم ْن آياتِه‬ ‫ج ٱ ْلح َّي ِمن الم ِي ِ‬
‫ت و ي ُْخ ِر ُ‬ ‫}ي ُْخ ِر ُ‬
‫س ُكنُ ٓو ۟ا ِإليْها‪،‬‬
‫س ُك ْم أ ْزو ٰاجا ِلت ْ‬
‫ب ث ُ َّم إِذا أنتُم بش ٌر تنتش ُِرون * و ِم ْن آياتِه أ ْن خلق ل ُكم ِم ْن أنفُ ِ‬‫أ ْن خلق ُكم ِمن تُرا ٌۢ ٍ‬
‫ت ِلقوْ ٍم يتف َّك ُرون{‪.[21-19:30]...‬‬ ‫و جعل بيْن ُكم مَّودَّة ور ْحمة‪ِ ،‬إ َّن ِفى ٰذ ِلك آليا ٍ‬

‫اآلخرة سيكون مماثِل للنشأة األولى‪ ،‬التي ش ِهدَت إخراجنا من األرض‬ ‫هذه اآليات صريحة بأن الخروج في ِ‬
‫الميتة تماما ً كما يخرج النبات‪ ،‬فإذا نحن ب َ‬
‫شر ينتشِر و يدب هنا و هناك‪ ،‬فتلك آية ربانية مذهِلة‪ .‬ثم أعقَ َبها باآلية‬
‫الثانية‪ ،‬حين تعارفَت إناث البشر و ذكورها‪ ،‬لتبدأ مرحلة الت َزاوج‪ ،‬و هي الحقبة التي عاصرها اإلنسان اآلدمي‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫هنا ينبغي السؤال‪ :‬هل سيكون البعث يوم القيامة من القبور؟‬


‫فردة "قبور" إال في وص ِفه ألماكن دفن أجساد الموتى في‬ ‫في الواقع‪ ،‬الجواب هو النفي‪ .‬فالقرآن لم يستخ ِدم م َ‬
‫صف كيفية البعث يوم القيامة‪ ،‬إستخدم لفظة "األجداث"‪ ،‬ولم يقل أبدا ً "القبور"‪.‬‬ ‫الحياة الدنيا‪ .‬و لكن عندما َو َ‬
‫هاكم الدليل في اآليات التالية‪:‬‬

‫سراعا كأنَّ ُه ْم ِإلى‬ ‫وا يوْ م ُه ُم ٱلَّ ِذي يُوعدُون * يوْ م ي ْخ ُرجُون ِمن ٱ ْأل ْجدا ِ‬
‫ث ِ‬ ‫ُوا حتَّى ي ُٰلقُ ۟‬
‫وا و ي ْلعب ۟‬
‫ض ۟‬‫}فذرْ ُه ْم ي ُخو ُ‬
‫وا يُوعدُون{‪.[44-42:70]...‬‬ ‫ٰ‬
‫شعة أبْصا ُر ُه ْم‪ ،‬ترْ هقُ ُه ْم ذِلةٌ‪ ،‬ذ ِلك ٱ ْليوْ ُم ٱلَّذِى كانُ ۟‬‫ضون * خا ِ‬ ‫ب يُوفِ ُ‬ ‫نُ ُ‬
‫ص ٍ‬

‫سلُون{‪.[51:36]...‬‬ ‫ور ف ِإذا ُهم ِمن ٱ ْأل ْجدا ِ‬


‫ث ِإلى ر ِب ِه ْم ين ِ‬ ‫}ونُ ِفخ فِى ٱلص ِ‬

‫ث كأنَّ ُه ْم جرادٌ‬
‫شعا أبْصا ُر ُه ْم‪ ،‬ي ْخ ُرجُون ِمن ٱ ْأل ْجدا ِ‬ ‫}فتو َّل ع ْن ُه ْم يوْ م ي ْد ُ‬
‫ع ٱلدَّاعِ ِإلى ش ْىءٍ نُ ُكر * ُخ َّ‬
‫منتشِر{‪.[7-6:54]...‬‬

‫و لكن لماذا؟ وما هو الفرق؟ دعونا نف ِكر قليالً‪:‬‬

‫أين القبر الذي سيخرج منه ذاك الذي مات غريقا ً في بحر أو نهر‪ ،‬و أ َك َلت جسده األسماك؟ أين القبر الذي‬
‫سيخرج منه ذاك الذي مات في انفجار طائرة‪ ،‬و ف ِقدت جثته؟ أين القبر الذي سيخرج منه ذاك الذي مات في‬
‫س ِط مجتمعٍ يحرق اجساد موتاه وينثر رمادها في الهواء أو في األنهار؟‬
‫و َ‬

‫من خالل هذه التساؤالت‪ ،‬نكت َ ِشف ان األجداث ال يمكن أن تعني القبور‪.‬‬

‫و قد يحتج البعض على ما نقوله باستشهاده باآلية التالية التي تشير صراحة إلى بعث من هم في القبور‪:‬‬

‫ث م ْن فِي ْالقُب ِ‬
‫ُور{‪.[7:22]...‬‬ ‫}وأ َّن السَّاعة آتِيةٌ َل ريْب فِيها وأ َّن َّ‬
‫اّلل يبْع ُ‬

‫نرد عليه بالقول‪ :‬هذه اآلية الكريمة كانت بمثابة تصريح لمتلقيها من المشككين أن جميع من هم في القبور‪،‬‬
‫و الذين صارت عظامهم رميما ً مع مرور السنين‪ ،‬سوف يعاد إخراجهم من األرض أحيا ًء حقا ً‪ .‬و لكنها ال تعني‬
‫بأي حال من األحوال أن خروجهم بحد ذاته سيكون من نفس القبور التي دفِنوا فيها‪ .‬فاإلعتقاد بأن الناس يوم‬
‫تصف لنا بكل وضوح‬ ‫القيامة سيبعثون من مراقِدهم الحالية اعتقاد خاطىء‪ ،‬كونه يصطدم مع اآليات التالية التي ِ‬
‫ما سوف يحل باألرض من أهوال في اآلخرة‪:‬‬

‫ت ْال ِجبا ُل بسًّا *‬ ‫ت ْالواقِعةُ * ليْس ِلو ْقعتِها كاذِبةٌ * خافِضةٌ رافِعةٌ * إِذا ُر َّج ِ‬
‫ت ْاألرْ ضُ رجًّا * وبُ َّ‬
‫س ِ‬ ‫}إِذا وقع ِ‬
‫ًّ‬
‫فكان ْت هباء ُم ْنبثا{‪.[6-1:56]...‬‬

‫سفُها ر ِبي نسْفا * فيذ ُرها قاعا ص ْفصفا * َل ترى فِيها ِعوجا وَل أمْ تا * يوْ م ِئ ٍذ‬ ‫}ويسْألُونك ع ِن ْال ِجبا ِل فقُ ْل ي ْن ِ‬
‫ات لِلرَّ ْحم ِن فَل تسْم ُع إِ ََّل همْ سا{‪.[107-105:20]...‬‬ ‫ت ْاأل ْ‬
‫صو ُ‬ ‫يت َّ ِبعُون الدَّا ِعي َل ِعوج لهُ وخشع ِ‬
‫ت ْاألرْ ضُ و ْال ِجبا ُل فدُ َّكتا د َّكة و ِ‬
‫احدة * فيوْ مئِ ٍذ وقع ِ‬
‫ت‬ ‫ور ن ْفخةٌ و ِ‬
‫احدةٌ * و ح ُِمل ِ‬ ‫}ف ِإذا نُ ِفخ فِي الص ِ‬
‫ْالوا ِقعةُ{‪.[15-13:69]...‬‬

‫ون ْال ِجبا ُل ك ْال ِع ْه ِن‬ ‫اش ْالمبْثُو ِ‬


‫ث * وت ُك ُ‬ ‫اس ك ْالفر ِ‬ ‫} ْالق ِارعةُ * ما ْالق ِارعةُ * وما أ ْدراك ما ْالق ِارعةُ * يوْ م ي ُك ُ‬
‫ون النَّ ُ‬
‫وش{‪.[5-1:101]...‬‬ ‫ْالم ْنفُ ِ‬

‫اح ِد ْالقه ِ‬
‫َّار{‪.[48:14]...‬‬ ‫ات وبر ُزوا ِ َّّللِ ْالو ِ‬ ‫}يوْ م تُبدَّ ُل ْاألرْ ضُ غيْر ْاألرْ ِ‬
‫ض والسَّماو ُ‬

‫فكيف يستقيم‪ ،‬رغم كل ذلك‪ ،‬أن تبقى القبور التي نعرفها اآلن كما هي؟ كال‪ ،‬بل أن القبور التي نراها حاليا ً‬
‫سوف ت َبعثَر‪ ،‬بمعنى أنها سوف تتحطم و تتالشى أما ِكن وجودها من جراء تحرك صفائح األرض و ارتِجافها‬
‫و زلزلتها‪ ،‬و تفتت الجبال‪ ،‬و انشقاق السماء‪ ،‬و غير ذلك من التغيرات التي ستحدث قبيل يوم القيامة‪.‬‬

‫طالما أن خروج البشر من األرض مماثِل لخروج النبات‪ ،‬فهذا يعني أن األجداث ال يمكن أن تكون سوى بذور‬
‫صف القرآن هذا ال َحدَث بأنه }شيء نُ ُكر{ – أي‬ ‫أو بيوض )‪ (cacoons‬يخرج منها الناس يوم البعث‪ .‬و قد َو َ‬
‫شرات منت َ ِشرة!‬‫مشهد رهيب و غير مألوف‪ ،‬حيث يخرج الناس من األرض ِسراعاً‪ ،‬كأنهم َح َ‬

‫ق‪ٰ ،‬ذ ِلك يوْ ُم ال ُخ ُروج * إِنَّا ُ‬


‫نحن نُحي ِ‬ ‫صيْحة بِٱ ْلح ِ‬
‫ان ق ِريب * يوْ م يسْمعُون ٱل َّ‬ ‫}و اسْت ِمعْ يوْ م يُنا ِد ال ُمنا ِد ِمن مك ٍ‬
‫ِير{‪.[44-41:50]...‬‬ ‫ش ٌر عليْنا يس ٌ‬ ‫ٰ‬
‫سراعا‪ ،‬ذ ِلك ح ْ‬ ‫يت و ِإليْنا الم ِصير * يوْ م تشقَّ ُ‬
‫ق ٱ ْألرْ ضُ ع ْن ُه ْم ِ‬ ‫و نُ ِم ُ‬

‫فالنشأة اآلخرة إذا ً ستكون مماثلة تماما ً للنشأة األولى‪ ،‬حيث يبعَث الناس يوم القيامة من البيوض الطينية‪ ،‬ليالقوا‬
‫ربهم و مصيرهم النهائي – كما بدأهم يعودون‪.‬‬

‫فبهذا الكشف‪ ،‬تتضح الخارطة كلها ويزول اإلشكال‪ ،‬حيث أن هللا تعالى صنَعَنا في طين األرض وأنبتنا منها‬
‫لنخرج في البدء‪ ،‬ثم متنا – أينما متنا ولو في قاع سابع محيط – ثم سوف يتم "إعادتنا" في نهاية األمر (بمعنى‬
‫شر‪ ،‬لنخرج مرة ثانية كما خرجنا أول مرة‪.‬‬
‫تصنيعنا) في طين أرض المح َ‬

‫فهل من المعقول أن التراث العربي القديم و الصحيح يعرف كل هذا؟ نعم‪ ،‬ألن نوح (ص)‪ ،‬حسبما أخبرنا‬
‫ض نباتا * ث ُ َّم يُ ِعيدُ ُك ْم فِيها و ي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخراجا{‪ .‬كما أن‬ ‫اّللُ أنبت ُكم ِمن ْاألرْ ِ‬
‫القرآن‪ ،‬هو الذي قال لقومه‪} :‬و َّ‬
‫استرسال جواب موسى (ص) لفرعون هو حديث آيتنا المستهلة } ِم ْنها خل ْقنا ُك ْم و فِيها نُ ِعيدُ ُك ْم و ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم‬
‫تارة أ ُ ْخر ٰى{‪ ،‬و هي المحا ِكية لمقالة نوح (ص) تماماً‪.‬‬

‫ٱنظ ُر ۟‬
‫وا كيْف بدأ‬ ‫ضف ُ‬ ‫ير ۟‬
‫وا فِى األرْ ِ‬ ‫ٱّللُ ْٱلخ ْلق ث ُ َّم يُ ِعيدُ ٓهُۥ‪ِ ،‬إ َّن ٰذ ِلك على َّ‬
‫ٱّللِ يسِير * قُ ْل ِ‬
‫س ُ‬ ‫}أول ْم يروْ ۟ا كيْف يُ ْبدِئُ َّ‬
‫ٱّلل على ُك ِل ش ْىءٍ قدِير{‪.[20-19:29]...‬‬ ‫شأة اآلخرة‪ ،‬إِ َّن َّ‬ ‫ئ ٱلنَّ ْ‬
‫ش ُ‬ ‫ْٱلخ ْلق‪ ،‬ث ُ َّم َّ‬
‫ٱّللُ يُن ِ‬
‫صدق الرواية‬ ‫هذه اآلية تدعو الناس بصراحة للسير في األرض للتيقن من أنها منشأ البشر األول‪ ،‬و لينكشِف لهم ِ‬
‫القرآنية للخل ق‪ ،‬ال بأن يأخذوها من كتب التراث و "التفسير"‪ ،‬التي َج َعلت أسفار العهد القديم هي األساس لفهم‬
‫الموضوع‪ ،‬في حين أصبح القرآن مجرد رديف تابع لها‪ ،‬ال غاية له سوى تصديقها فحسب‪ .‬هذه اآلية تدلنا على‬
‫اآلخرة ستكون تماما ً كالنشأة األولى‪.‬‬
‫رأس الخيط‪ :‬أن النشأة ِ‬

‫المسألة ليست بحاجة ألن نكون ضليعين في ِعلم اآلثار‪ .‬فهناك قرائن كثيرة تدل على أن أصل اإلنسان من‬
‫األرض‪ ،‬و أنه ال يختلف عن النبات في هذه الحيثية‪.‬‬

‫تفكروا قليالً‪ :‬تضعون بذرة في األرض‪ ،‬في التربة الخصبة‪ ،‬و في غضون بضع سنوات‪ ،‬في ظروف مناخية‬
‫مناسبة‪ ،‬تعطيكم شجرة قد يبلغ طولها عشرة أمتار‪ .‬الشجرة تتكون من نفس العناصر الكيميائية الموجودة في‬
‫التربة – كربون و نيتروجين و أوكسيجين و هيدروجين و معادن‪ ،‬كما أنها تأخذ غذائها من األرض‪ ،‬حيث لديها‬
‫جذور تمتد في التربة‪ .‬و الشجرة فيها عروق‪ ،‬بداخلها سائل ينقل هذا الغذاء من جذورها إلى أطرافها‪ .‬و هي‬
‫تحيا و تعطي ثِمارا ً يمكن أخذ بذور منها ثم زرعها في األرض لكي تنبت بدورها أشجارا ً أخرى‪ .‬الشجرة تحيا‬
‫تضمحل و تموت عندما ينتهي عمرها‪ .‬و قد تصاب بغزو فطريات تأكلها من الداخل‪ ،‬فتموت قبل أوانها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ثم‬
‫و إذا اقت ِلعت الشجرة من جذورها و ن ِقلَت إلى أرض بعيدة بمناخ مختلف‪ ،‬قد تدبل أو ربما ال تعطي ثمارا ً‪.‬‬

‫اآلن أنظروا إلى الجسم البشري‪ :‬يتغذى من األرض‪ ،‬إما مباشرة (أكل الفاكهة و الخضار) أو بطريقة غير‬
‫مباشرة (أكل لحوم أنعام تتغذى بدورها من األرض)‪ .‬في داخله عروق يجري فيها الدم‪ ،‬ليحمل الغذاء إلى كافة‬
‫الجسم م َك َّو ن من نفس العناصر الموجودة في األرض (كربون و نيتروجين و أوكسيجين‬ ‫األعضاء‪ .‬هذا ِ‬
‫ب متفا ِوتة‪ ،‬و هو كذلك يم ِكن أن يصاب بفطريات تفتِك به من الداخل‪،‬‬
‫س ٍ‬
‫و هيدروجين و معادن)‪ ،‬و إن بِنِ َ‬
‫و تنتقل من أنسجة إلى أخرى‪ .‬و اإلنسان يمكن أن يزرع بذرته في "تربة خصبة" (و هو رحم اإلمرأة الصالحة)‪،‬‬
‫نجبا "ثمارا ً" (أوالد)‪ .‬و إذا ما اقت ِلع اإلنسان من جذوره و أجبِ َر على العيش في أرض أخرى‪ ،‬بعيدا ً عن أهله‪،‬‬
‫لي ِ‬
‫فهو – و إن لم يمت في الجسد‪ ،‬ألنه يستطيع أن يتأقلَم مع م ِ‬
‫حيطه الجديد (و هنا يمتاز اإلنسان عن الشجرة) –‬
‫لكن نفسيته لن تكون هي ذاتها‪ ،‬و سيظل يشعر بحنين إلى وطنه و األرض التي تغذى منها‪.‬‬

‫قارنوا و تفكروا‬
‫صورة لجراد ينتشر على األرض‬ ‫تخرج من األرض‬
‫صورة لحشرة الجراد و هي ُ‬

‫معارك كثيرة‪ ،‬من ِجداالت و تخريجات و تخمينات عقيمة مألَت كتب التراث‪ ،‬و ي َجاب‬ ‫ِ‬ ‫بهذه الكيفية‪ ،‬تنحسِم‬
‫أمرها‪ ،‬من أن ماليين الناس لم تدفَن في القبور‪ .‬فمنهم من أ ِ‬
‫حرقَ و ذ َّر‬ ‫على التِباسات شتى لطالما احت َرنا في ِ‬
‫ِرماده‪ ،‬و منهم من افترسته الحيوانات‪ ،‬و منهم من مات انفجارا ً في الجو‪ ،‬أو غرقا ً في قاع البحر‪ ،‬و منهم‬
‫و منهم ‪ ...‬و لكن في النهاية‪ ،‬الكل سوف يخرج بهذه الصورة‪ ،‬من بيوض طينية (أجداث)‪ ،‬سواء دفِن أو لم‬
‫يدفَن‪ ،‬ك ِفن أو لم ي َكفَن‪ ،‬و تتوحد بذلك أرض ِ‬
‫المحشَر كمست َن ِبت ألبدان المبعوثين‪ ،‬سوا ًء لمن ط ِمر تحت ركام‬
‫حرقَ في بومباي‪ ،‬أو مات مفقودا ً‬ ‫جليد سيبيريا و كندا‪ ،‬أو غ َِرقَ في فياضانات بنغالديش و أندونيسيا‪ ،‬أو أ ِ‬
‫و َمنسِيا ً في أي ناحية من أنحاء المعمورة‪.‬‬

‫****‬

‫المعرفي القرآني‪ ،‬حين نقرأ‬


‫ِ‬ ‫مع هذه الحقيقة المب ِهرة‪ ،‬فإننا نند ِهش و نأسف جدا ً لإلنحراف العتي عن هذا المسار‬
‫النص التالي من العهد القديم‪:‬‬

‫و جبل الرب اْلله آدم تُرابا من األرض‪ ،‬و نفخ في أن ِفه نسمة حياة‪ ،‬فصار آدم نفسا حية (التكوين ‪.)7:2‬‬

‫كيف؟ كيف جبِل آدم من تراب كما يجبَل التِمثال‪ ،‬و من ثم ن ِف َخ فيه ليتحول إلى رجل حي؟!‬

‫هذا التصور يخا ِلف القرآن تماماً‪ .‬فالمخلوق الترابي هو الجنس البشري بأ َ ِ‬
‫سره‪ ،‬ال آدم وحده – كما بينا لكم –‬
‫و خرجوا أوالً كالنبات‪ ،‬كائنات حية‪ ،‬حتى قبل نفخة الروح‪ .‬و قد رأينا كيف ر َ‬
‫س َم القرآن صورة النشأة األولى‪:‬‬

‫ض نباتا * ثُم يُ ِعيدُ ُك ْم فِيها وي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخراجا{‪.[18-17:71]...‬‬


‫}و ٱ َّّللُ أنبت ُكم من األرْ ِ‬
‫هذه اآليات حا ِسمة‪ ،‬حيث أن اإلنبات يحاكي صورة تخت ِلف جذريا ً عن خرافة جبل التمثال من الطين‪ ،‬التي‬
‫عشعَشَت في وجداننا حتى بات‬‫جاءت بها أيادي أحبار اليهود قديماً‪ ،‬و من ثم تسللت إلى وع ِينا عبر األجيال‪ ،‬و َ‬
‫اقتالعها شبه مستحيل‪ .‬إن وصف "اإلنبات" هذا يقدَح فينا فورا ً صورة الخروج من بذرة في األرض‪ ،‬ال غير‪.‬‬

‫فاإلنسان لم يجبل كتمثال من طين‪ ،‬كما ز ِعم كهنة العهد القديم‪ ،‬الذين كانوا ذوي فِهم بدائي و منظور جامد‪.‬‬
‫و قد أ َخذَ بهذا لألسف السواد األعظم من الناس اليوم‪ ،‬بما في ذلك المسلمين‪ ،‬الذين فسروا خل ق اإلنسان األول‬
‫برجله‬‫على أنه ج ِب َل من تراب‪ ،‬و ت ِركَ حتى يجف‪ ،‬ثم صار الشيطان يدخل من أن ِفه و يخرج من دب ِره و ير ِفسه ِ‬
‫زرية جاءت بدايةً عن الكهنة اليهود‪ ،‬الذين أساؤوا فِهم األساطير القديمة‬ ‫سد! هذه الصورة الم ِ‬‫من الغيرة و ال َح َ‬
‫حول نشأة اإلنسان و حرفوا مدلوالتها‪ ،‬و من ثم تلقَّفَها آباؤنا و زيَّنوها لألذهان و القلوب‪ ،‬و هي ال تزال ترت َع‬
‫حتى يومنا في كتب التراث الصفراء‪.‬‬

‫و في المقابِل‪ ،‬فإن نظرية التطور الداروينية العشوائية قد سقطت بدورها سقوطا ً مدوياً‪ .‬فكل كائِن حي‪ ،‬بأص ِله‬
‫و فروعه‪ ،‬خرج من بذرة أرضية بتركيبته الجينية الخاصة‪ ،‬و بتكوين مت َم ِيز عن كائنات البذور األخرى‪.‬‬
‫يشترك مع اإلنسان بانحدارهما من‬ ‫ِ‬ ‫ضبع‪ ،‬و ال ِقرد ال‬
‫فالبعوضة لم تتحول إلى خفاش‪ ،‬و ال ِقط لم يتطور ليصير َ‬
‫تميز‪ ،‬و ك ٌّل يتغيَّر لكي‬
‫نفرد و الم ِ‬ ‫أصل واحد‪ ،‬كما يزعمون‪ .‬بل ك ٌّل جاء من شجرته الخاصة‪ ،‬من أصله الم ِ‬
‫يتكيَّف مع ظروفه البيئية و المناخية و الجغرافية‪ ،‬لكنه يظل ضمن منظومته الجينية الخاصة به‪.‬‬

‫طتِبين بين فَ َرضيتين ِكلتاهما ِ‬


‫خاطئة‪،‬‬ ‫هكذا إذاً‪ ،‬ب ِقيَت حقيقة الخل ق مغيبة عن أذهان الناس قرونا ً عديدة‪ ،‬ف َ‬
‫ظلوا مق َ‬
‫فسادَ الجهل والتعنت و التعصب في مجمل المسائل‪ ،‬و صدَق القول المأثور‪" :‬لو ع ِل َم الناس كيف َبدَأ الخل ق‪ ،‬لما‬
‫ف اثنان"‪.‬‬ ‫اختَلَ َ‬
‫_____________________‬

‫يتبع‪...‬‬

You might also like