You are on page 1of 31

‫قطر الغيث‬

‫يف شرح مسائل أبي الليث‬


‫تأليف‬

‫محمد نووي بن عمر بن عربي الشافعي الجاوي‬

‫شرح على‬
‫مسائل أبي الليث‬
‫لإلمام نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي‬

‫الملقب‬

‫بإمام الهدى‬

‫‪1‬‬
‫بسم هللا الرمحن الرحمي‬
‫احلمد هلل الذي هدانا لإلسالم واإلميان‪ ،‬وخص بعض عباده بالطاعات‬
‫وبعضهم بالعصيان‪ ،‬والصالة والسالم على أفضل الرسل سيد ولد آدم‪،‬‬
‫سيدنا حممد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته عدد ما جرى به القلم‪.‬‬

‫(أما بعد)‪ :‬فيقول مرتكب الذنوب "حممد نووي بن عمر بن عريب"‬


‫الشافعي‪ :‬هذا شرح عن مسائل الشيخ اإلمام أيب الليث احملدا اسفرسر‬
‫اسفعروف بإمام اهلدى نصر بن حممد بن أمحد بن إبراهيم احلنري السمرقندي‪،‬‬
‫يوضح معانيها ويشيد مبانيها‪ .‬ومسيته‪:‬‬

‫قطرُ الغيثِ يف شرحِ مسائلِ أبي الليثِ‬

‫واهلل أسأل أن ينرع به كل من تلقاه بقلب سليم‪ ،‬وأن جيعله خالصاً‬


‫لوجهه الكرمي‪ ،‬إنه الرؤوف الرحيم‪.‬‬

‫(بسم اهلل الرحمن الرحيم) فاسم "الجاللة" ليس مبشتق وال منقول‪،‬‬
‫و"ال" فيه زائدة الزمة للتعريف‪ ،‬بل وضع كذلك‪ ،‬وهو اسم جامع جلميع‬
‫أمساء اهلل احلسىن وصراته العليا‪ .‬و"الرحمن"‪ :‬كثي الرمحة بالنعم العظيمة‪.‬‬
‫و"الرحيم"‪ :‬كثي الرمحة بالنعم الصغية‪ .‬وختصيص التسمية هبذه األمساء‪،‬‬
‫ليعلم العارف أن اسفستحق بأن يستعان به يف مجيع األمور هو اسفعبود احلقيقي‬
‫معطي النعم كلها جليلها وحقيها‪ .‬وإمنا افتتح اسفصنف كتابه هذا بالبسملة‬
‫اقتداءً بالكتب السماوية‪ ،‬وعمالً باألحاديث اسفروية‪ ،‬كما روي عن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إذا كتب العبد بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫‪2‬‬
‫في لوح أو في كتاب فإنه تكتب له المالئكة األجر‪ ،‬وتستغفر له ما دام‬
‫ذلك االسم في اللوح أو الكتاب))‪.‬‬

‫(الحمد هلل رب العالمين) أي‪ :‬مالك مجيع اسفخلوقات‪( ،‬والعاقبة) أي‪:‬‬


‫األجر احملمود‪( ،‬للمتقين) أي‪ :‬عقاب اهلل تعاىل برتك اسفعاصي‪( ،‬والصالة)‬
‫أي‪ :‬زيادة الرمحة من اهلل تعاىل اسفقرونة بالتعظيم‪( ،‬والسالم) أي‪ :‬التحية من‬
‫اهلل تعاىل‪( ،‬على سيدنا محمد)‪ ،‬هو ابن عبد اهلل‪ ،‬أكمل اخللق خلقاً‬
‫وخلقاً‪ ،‬مبعوا يف مكة ومدفون يف اسفدينة اسفشرفة‪( ،‬وآله) أي‪ :‬أعوانه من‬
‫أهل اإلميان‪( ،‬وأصحابه)‪ ،‬وهم الذين اجتمعوا به صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫حياته بعد نبوته مؤمنني به‪ .‬والصحابة الذين توىف رسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وهم أحياء مائة ألف صحايب وأربعة وعشرون ألراً‪ ،‬رضي اهلل عنهم أمجعني‪،‬‬
‫كعدد األنبياء وعدد أولياء كل عصر‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك)‪ :‬يا مؤمن‪( :‬ما اإليمان؟)‪ ،‬أي‪ :‬ما متعلقات‬
‫حقيقة اإلميان الذي هو التصديق؟‪.‬‬

‫(فالجواب)‪ :‬أن تقول‪( :‬آمنت)‪ ،‬أي‪ :‬صدقت وأقررت (باهلل‬


‫ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر) برتح الدال (خيره وشره من‬
‫اهلل تعالى) وهذا كما رواه مسلم عن سيدنا عمر من حديث جربيل‪ ،‬وإن‬
‫أخذت من رواية البخاري عن أيب هريرة من حديث جربيل أيضاً‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫"آمنت باهلل ومالئكته وبلقائه ورسله وبالبعث"‪ .‬واسفعىن‪ :‬صدقت بوجود اهلل‬
‫وبصراته الواجبة له‪ ،‬وبوجود اسفالئكة‪ ،‬وأهنم عباد مكرمون‪ ،‬وبرؤيته تعاىل يف‬

‫‪3‬‬
‫اآلخرة للمؤمن‪ ،‬وبأن رسله صادقون فيما أخربوا به عن اهلل تعاىل‪ ،‬وبالبعث‬
‫من القبور‪.‬‬

‫قال بعضهم‪ :‬من تعلم يف الصغر‪ :‬آمنت باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم اآلخر وقدره خيه وشره من اهلل تعاىل‪ ،‬وعلم أن ذلك إميان إال أنه ال‬
‫يسن ترسيه‪ ،‬فال يكم بإميانه‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إميان شخص حال يأس‪،‬‬
‫أي‪ :‬وقت سكرات اسفوت عند رؤية مكانه يف اجلنة أو يف النار غي مقبول‬
‫لعدم اإلتيان باسفأمور به عن اختيار‪ ،‬فإن العبد يرى مكانه يف ذلك الوقت‬
‫كما روي عن النب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إن العبد لن يموت‬
‫حتى يرى موضعه في الجنة أو في النار)) خبالف توبة اليائس‪ ،‬فإهنا مقبولة‬
‫بعد صحة إميانه سفا روي عن ابن عمر أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪(( :‬تقبل توبة العبد المؤمن ما لم يغرغر)) أي‪ :‬ما مل تبلغ روحه‬
‫احللقوم‪.‬‬

‫واعلم أن اإلميان باهلل على ثالثة أقسام‪ :‬إميان تقليدي‪ ،‬وإميان حتقيقي‪،‬‬
‫وإميان استداليل‪ :‬فالتقليدي‪ :‬هو أن يعتقد بوحدانية اهلل تعاىل تقليداً بقول‬
‫العلماء من غي برهان‪ ،‬وهذا ال يأمن من التزلزل بتشكيك مشكك‪.‬‬
‫والحقيقي‪ :‬هو أن يطوي قلبه على وحدانية اهلل تعاىل‪ ،‬حبيث لو خالره أهل‬
‫العلم فيما طوى عليه قلبه سفا وجد يف قلبه زلة‪ .‬واالستداللي‪ :‬هو أن يستدل‬
‫من اسفصنوع على الصانع‪ ،‬ومن األثر على اسفؤثر‪ ،‬فاألثر يدل على اسفؤثر‪،‬‬
‫والبناء يدل على الباين‪ ،‬واسفصنوع يدل على الصانع‪ ،‬والبعرة تدل على البعي‬
‫مثالً‪ ،‬إذ األثر بال مؤثر حمال‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك وكيف تؤمن باهلل؟)‪.‬‬


‫‪4‬‬
‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬إن اهلل تعالى) أحد‪ ،‬أي‪ :‬منررد بالصرات ال‬
‫مشارك له‪( ،‬واحد)‪ ،‬أي‪ :‬منررد بالذات ال شريك له‪( ،‬حي) حبياة قدمية‬
‫قائمة بالذات‪ ،‬ال بروح‪( ،‬عالم) بعلم قدمي قائم بالذات حميط بالواجب‬
‫واجلائز واسفستحيل‪( ،‬قادر) بقدرة قدمية قائمة بالذات‪ ،‬ال مبعاجلة وال واسطة‪،‬‬
‫ال يلحقها عجز‪ ،‬عامة التعلق للمكنات‪( ،‬مريد) بإرادة قدمية قائمة بالذات‪،‬‬
‫عامة التعلق للمكنات‪( ،‬سميع) أي‪ :‬مدرك اسفسموعات بسمع قدمي‬
‫بالذات‪( ،‬بصير) أي‪ :‬مدرك اسفبصرات حال وجودها ببصر قدمي قائم‬
‫بالذات‪( ،‬متكلم) بكالم قدمي باق قائم بالذات‪ ،‬ليس حبرف وال صوت‪ ،‬فال‬
‫يسبقه عدم وال يلحقه عدم‪ ،‬متعلق‪ :‬بالواجب‪ :‬كقوله تعاىل‪{ :‬إِنَّنِي أنا اهلل‬
‫ال إِله إَِّال أنا فا ْعب ْدنِي}‪ ،‬وباسفستحيل‪ :‬كقوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن اهلل ثالِث ثالثة}‪،‬‬
‫وباجلائز‪ :‬كقوله تعاىل‪{ :‬واهلل خلقك ْم وما ت ْعملون}‪ .‬والصحيح أن مدلول‬
‫األلراظ اليت نقرؤها متعلقات الكالم النرسي القدمي‪ ،‬كما قاله ابن قاسم‪،‬‬
‫واترق على ذلك مجيع اسفتأخرين‪ .‬وإن سئلت عن القرآن‪ :‬هل هو قدمي أو‬
‫حادا؟ فينبغي لك أن تسترسر السائل‪ ،‬فإن قال لك مرادي‪" :‬القائم بذاته‬
‫تعالى" الدال عليه ما بين نا‪ ،‬فقل‪ :‬هو قدمي بقدم الذات‪ ،‬ألنه من مجلة‬
‫صراهتا الواجبة هلا‪ .‬وإن قال لك مرادي‪" :‬ما بين الدفتين من النقوش"‪،‬‬
‫فقل له‪ :‬ذلك حادا حبدوا النقوش وكذلك األلراظ‪ .‬وإن قال لك مرادي‪:‬‬
‫"من حيث المدلول"‪ ،‬فقل له‪ :‬إن ما دل على ذاته أو صرة من صراته أو‬
‫حكاية له تعاىل هو قدمي‪ ،‬وما دل على احلوادا أو صراهتا‪ ،‬مثل ذوات‬
‫اسفخلوقات أو صراهتا‪ ،‬كجهلنا وعلمنا هو حادا‪ ،‬وكذلك حكايات‬
‫احلوادا‪ .‬ومسيت تلك العبارات بكالم اهلل‪ ،‬فإهنا دالة على كالم اهلل تعاىل‪،‬‬
‫فإن معناه إمنا ينرهم هبا‪ ،‬فإن عرب عنه بالعربية فهو قرآن‪ ،‬وإن عرب عنه بالعربية‬

‫‪5‬‬
‫– وهو لغة اليهود – فهو توراة‪ ،‬وإن عرب عنه بالسريانية فهو إجنيل وزبور‪.‬‬
‫واختالف العبارات ال تستلزم اختالف الكالم‪ ،‬كما أن اهلل يسمى بعبارات‬
‫خمتلرة مع أن ذاته تعاىل واحدة‪( .‬باق) بذاته العليا‪ ،‬أي‪ :‬دائم الوجود ال‬
‫يقبل الرناء‪( ،‬خالَّق)‪ ،‬أي‪ :‬كثي إظهار اسفوجودات بقدرته‪ ،‬وكثي تقدير كل‬
‫واحد مبقدار معني بإرادته‪َّ ( ،‬‬
‫رزاق)‪ ،‬أي‪ :‬خالق األرزاق أو اسفرتزقة وموصلها‬
‫إليهم‪ .‬واسم "الرزق" ال خيتص باسفأكول واسفشروب‪ ،‬بل كل ما انترع به‬
‫احليوان من مأكول ومشروب وملبوس وغيها‪ .‬ومن أعظم الرزق التوفيق‬
‫للطاعات‪ .‬والرزق قسمان‪ :‬ظاهر‪ :‬وهو األقوات واألطعمة وذلك لألبدان‪.‬‬
‫وباطن‪ :‬وهي اسفعارف واسفكاشرات‪ ،‬وذلك للقلوب واألسرار‪.‬‬

‫واعلم أنه تعاىل يوصل الرزق إىل مجيع خملوقاته‪ ،‬وأن من أسباب سعة‬
‫اصطبِ ْر عل ْي ها ال‬ ‫الرزق كثرة الصالة‪ ،‬لقوله تعاىل‪{ :‬وأْمر أ ْهلك بِ َّ ِ‬
‫الصالة و ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ْسألك ِرْزقًا نَّ ْحن ن ْرزقك والْعاقِبة لِلتَّ ْقوى}‪ ،‬والصالة والسالم على النب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم واالستغرار‪( ،‬رب)‪ ،‬ومعناه‪ :‬معبود‪ ،‬ومنه قولك‪ :‬ربنا‬
‫اهلل‪( ،‬ومالك)‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪{ :‬هلل ملك السموات واألرض}‪( ،‬بال‬
‫شريك) أي‪ :‬شبيه له ‪ ،‬أي‪ :‬يف الربوبية‪ ،‬وال ضد أي‪ :‬ال نظي (وال ند) أي‪:‬‬
‫مماثل‪ .‬والررق بني‪" :‬الشبيه" و"النظير" و"المماثل"‪ :‬أن "النظير"‪ :‬ما‬
‫يساوي ولو يف وجه‪ .‬و"الشبيه"‪ :‬ما يساوي أكثر الوجوه‪ .‬و"المماثل"‪ :‬ما‬
‫يساوي يف مجيع الوجوه‪ .‬قال الرباوي‪ :‬وال جيوز البحث عن ذات اهلل تعاىل‬
‫وال عن صراته‪ ،‬ألن ترك اإلدراك إدراك والبحث يف ذات اهلل تعاىل إشراك‪،‬‬
‫وكل ما خطر ببالك من صرات احلوادا فاهلل خبالف ذلك‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫(فائدة)‪ :‬من ترك أربع كلمات كمل إميانه‪ :‬أين‪ ،‬وكيف‪ ،‬ومىت‪ ،‬وكم‪:‬‬
‫فإن قال لك قائل‪ :‬أين اهلل؟‪ ،‬فجوابه‪ :‬ليس يف مكان وال مير عليه زمان‪ .‬وإن‬
‫قال لك‪ :‬كيف اهلل؟‪ ،‬فقل له‪ :‬ليس كمثله شيء‪ .‬وإن قال لك‪ :‬مىت اهلل؟‪،‬‬
‫فقل‪ :‬له أول بال ابتداء وآخر بال انتهاء‪ .‬وإن قال لك‪ :‬كم اهلل؟‪ ،‬فقل له‪:‬‬
‫واحد ال من قلة‪ ،‬قل‪ :‬اهلل أحد‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكيف تؤمن بالمالئكة؟)‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬إن المالئكة أصناف) أي‪ :‬أنواع كثية يف‬


‫ِ‬
‫العرش)‪ :‬وهم أعلى طبقات‬ ‫أحواهلم وأفعاهلم وأشكاهلم‪( :‬فمنهم حملة‬
‫اسفالئكة‪ ،‬وأوهلم وجوداً‪ ،‬وهم يف الدنيا أربعة‪ ،‬ويف يوم القيامة مثانية على صورة‬
‫األوعال‪ ،‬ما بني أظالفها إىل ركبها مسية سبعني عاماً للطائر اسفسرع‪ .‬وأما‬
‫صرة العرش‪ :‬فقيل‪ :‬إنه جوهرة خضراء‪ ،‬وهو من أعظم اسفخلوقات خلقاً‪،‬‬
‫ويكسى كل يوم ألف لون من النور‪ ،‬ال يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬واألشياء كلها يف العرش كحلقة يف فالة‪ .‬وقيل‪ :‬إن العرش قبلة‬
‫أهل السماء‪ ،‬كما أن الكعبة قبلة أهل األرض‪.‬‬

‫(ومنهم حافون)‪ ،‬قال‪ :‬وهب بن منبه‪ :‬إن حول العرش سبعني ألف‬
‫صف من اسفالئكة‪ ،‬صف خلف صف‪ ،‬يطوفون بالعرش‪ ،‬يقبل هؤالء ويقبل‬
‫هؤالء‪ ،‬فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤالء وكرب هؤالء‪ ،‬ومن ورائهم‬
‫سبعون ألف صف قيام أيديهم إىل أعناقهم واضعني هلا على عواتقهم‪ ،‬فإذا‬
‫مسعوا تكبي أولئك وهتليلهم رفعوا أصواهتم فقالوا‪ :‬سبحانك اللهم وحبمدك ما‬
‫أعظمك وأحلمك‪ ،‬أنت اهلل ال إله غيك‪ ،‬أنت األكرب واخللق كلهم لك‬
‫راجعون‪ ،‬ومن وراء هؤالء مائة ألف صف من اسفالئكة قد وضعوا اليمىن على‬
‫‪7‬‬
‫اليسرى‪ ،‬ليس منهم أحد إال يسبح بتسبيح ال يسبحه اآلخر‪ ،‬ما بني جناحي‬
‫أحدهم مسية مثامنائة عام‪ ،‬وما بني شحميت أذن أحدهم إىل عاتقه أربعمائة‬
‫عام‪ ،‬واحتجب اهلل عن اسفالئكة الذين حول العرش بسبعني حجاباً من نور‪،‬‬
‫وسبعني حجاباً من ظلمة‪ ،‬وسبعني حجاباً من در أبيض‪ ،‬وسبعني حجاباً من‬
‫ياقوت أمحر‪ ،‬وسبعني حجاباً من زبرجد أخضر‪ ،‬وسبعني حجاباً من ثلج‪،‬‬
‫وسبعني حجاباً من ماء و سبعني من برد‪ ،‬وما ال يعلمه إال اهلل‪.‬‬

‫(ومنهم روحانيون)‪ ،‬قيل‪ :‬هم يف أرض بيضاء كالرخام‪ ،‬عرضها مسية‬


‫الشمس أربعني يوماً‪ ،‬طوهلا ال يعلمه إال اهلل‪ ،‬وهلم زجل بالتسبيح والتهليل‪،‬‬
‫لو كشف عن صوت أحدهم هللك أهل األرض من هول صوته‪ ،‬منتهاهم إىل‬
‫محلة العرش‪.‬‬

‫(ومنهم كروبيون) برتح الكاف وختريف الراء‪ ،‬هم سادات اسفالئكة‪،‬‬


‫وهم الذين حول العرش‪.‬‬

‫(ومنهم سفرة) أي‪ :‬وسائط بني اهلل وبني أنبيائه والصاحلني يبلغون إليهم‬
‫رسالته بالوحي واإلهلام والرؤيا الصاحلة‪ ،‬أو بينه وبني خلقه يوصلون إليهم آثار‬
‫صنعه‪ .‬و"السفرة" هنا مجع سري مبعىن‪ :‬رسول‪ ،‬وليس مجع سافر مبعىن‪:‬‬
‫كاتب؛ ألن اسفصنف فسرها هبؤالء األربعة (أي‪ :‬جبريل وميكائيل وإسرافيل‬
‫وعزرائيل) برتح العني‪ ،‬فجربيل نازل على مجيع األنبياء‪ ،‬وميكائيل وكيل‬
‫األمطار‪ ،‬وإسرافيل وكيل نرخ الصور ينرخ فيموت اخللق‪ ،‬وينرخ إلحياء‬
‫اخللق فرتجع األرواح ألجسادها‪ ،‬وعزرائيل وكيل قبض األرواح‪ ،‬فإذا حضر‬
‫أجل العبد أمر اهلل تعاىل ملك اسفوت أن يقبض روح ذلك العبد‪ ،‬وسفلك اسفوت‬
‫أعوان من اسفالئكة‪ ،‬يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده‪ ،‬فإذا وصلت إىل‬
‫‪8‬‬
‫احللقوم توىل قبضها ملك اسفوت بنرسه‪ ،‬وخروج الروح يكون من "اليافوخ"‪،‬‬
‫كما أن دخوهلا يف البدن منه‪ ،‬وأما فتح احملتضر فمه عند خروجها فقيل‪:‬‬
‫لشدة ما يراه من األهوال‪ .‬و"اليافوخ" هو اسفوضع الذي يتحرك يف رأس‬
‫الطرل‪.‬‬

‫(ومنهم حفظة)‪ ،‬قال حممد اخلليلي‪ :‬روي أن عثمان بن عران رضي اهلل‬
‫عنه سأل النب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬كم من ملك على اإلنسان؟ فقال‪:‬‬
‫عشرون ملكاً‪ ،‬منهم ملك عن ميينك على حسناتك‪ ،‬وهو أمني على الذي‬
‫عن يسارك‪ ،‬فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة‪ ،‬قال الذي‬
‫على الشمال للذي على اليمني‪ :‬أأكتب؟ فيقول‪ :‬دعه سبع ساعات لعله‬
‫يتوب‪ ،‬فإذا مل يتب قال‪ :‬نعم‪ ،‬اكتب أراحنا اهلل منه‪ .‬فاسم اسفلك الذي‬
‫علىاليمني "رقيب" وهو الذي يكتب احلسنات‪ ،‬واسم اسفلك الذي على‬
‫الشمال "عتيد" وهو الذي يكتب السيئات‪ ،‬وملكان بني يديك ومن‬
‫خلرك‪ ،‬وملك قابض على ناصيتك إذا تواضعت هلل تعاىل رفعك‪ ،‬وإذا‬
‫جتربت على اهلل قصمك‪ ،‬وملكان على شرتيك ليس يرظان عليك إال‬
‫الصالة على النب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وملك على فيك ال يدع احلية أو‬
‫اهلوام تدخل يف فيك‪ ،‬وملكان على عينيك‪ ،‬ويقال‪ :‬إن امسهما "شوية"‪،‬‬
‫فهؤالء عشرة أمالك على كل آدمي‪ ،‬فتنزل مالئكة الليل على مالئكة النهار‬
‫فهؤالء وهؤالء عشرون ملكاً على كل آدمي‪.‬‬

‫(ومنهم كتبة)‪ ،‬وهم الذين ينسخون من اللوح احملروظ‪ ،‬وهم اسفالئكة‬


‫الكرام الكاتبون‪ ،‬ومنهم أصحاب أجنحة‪ ،‬جناحني جناحني لكل واحد‬

‫‪9‬‬
‫منهم‪ ،‬وثالثة ثالثة لصنف آخر منهم‪ ،‬وأربعة أربعة لصنف آخر منهم‪ ،‬ويزيد‬
‫اهلل يف خلق األجنحة يف غيه ما تقتضيه مشيئته وحكمته‪.‬‬

‫(تنبيه)‪ :‬قوله‪" :‬حملة وسفرة وحفظة وكتبة" برتح أحرفها الثالثة‪ ،‬وهي‬
‫مجع حامل وسري وحافظ وكاتب‪.‬‬
‫(وكلهم مخلوقون) أي‪ :‬موجودون بإجياد اهلل إياهم كغيهم‪( ،‬عبيد‬
‫ِ‬
‫هلل)‪ ،‬فال يقولون شيئاً حىت يقوله كما هو شأن العبيد اسفؤدبني‪( ،‬ال يوصفون‬
‫بذكورة وال بأنوثة)‪ ،‬فمن اعتقد أنوثة اسفالئكة أو خنوثتهم فهو كافر‬
‫باالتراق‪ ،‬ومن اعتقد ذكورهتم فهو فاسق‪( ،‬وليس لهم شهوة) أي‪ :‬اشتياق‬
‫النرس‪( ،‬وال نفس)‪.‬‬
‫فالنفس سبع مراتب‪َّ :‬أمارة‪ :‬وحملها الصدر‪ ،‬وجنودها‪ :‬البخل‪،‬‬
‫واحلرص‪ ،‬واحلسد‪ ،‬واجلهل‪ ،‬والكرب‪ ،‬والشهوة‪ ،‬والغضب‪ .‬مث ل َّوامة‪ :‬وحملها‬
‫القلب‪ ،‬وهو حتت الثدي األيسر بقدر أصبعني‪ ،‬وجنودها‪ :‬اللوم‪ ،‬واهلوى‪،‬‬
‫واسفكر‪ ،‬والعجب‪ ،‬والغيبة‪ ،‬والرياء‪ ،‬والظلم‪ ،‬والكذب‪ ،‬والغرلة‪ .‬مث ملهمة‪:‬‬
‫وحملها الروح‪ ،‬وهو حتت الثدي األمين بقدر أصبعني‪ ،‬وجنودها‪ :‬السخاوة‪،‬‬
‫والقناعة‪ ،‬واحللم‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والتوبة‪ ،‬والصرب‪ ،‬والتحمل‪ .‬مث مطمئنة‪ :‬وحملها‪:‬‬
‫السر‪ ،‬وهو يف جانب الثدي األيسر بقدر أصبعني إىل جهة الصدر‪،‬‬
‫وجنودها‪ :‬اجلود‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والشكر‪ ،‬والرضا‪ ،‬واخلشية‪ .‬مث راضية‪:‬‬
‫وحملها‪ :‬سر السر‪ ،‬ولعل اسفراد هبا القالب _ باأللف بعد القاف وبرتح الالم‪،‬‬
‫وهو مجيع اجلسد‪ ،‬وجنودها‪ :‬الكرم‪ ،‬والزهد‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬والورع‪ ،‬والرياضة‪،‬‬
‫والوفاء‪ .‬مث مرضية‪ :‬وحملها اخلري‪ :‬وهو يف جانب الثدي األمين بقدر أصبعني‬
‫إىل أوسط الصدر‪ ،‬وجنودها‪ :‬حسن اخللق‪ ،‬وترك ما سوى اهلل‪ ،‬واللطف‬
‫باخللق‪ ،‬ومحلهم على الصالح والصرح عن ذنوهبم وحبهم‪ ،‬واسفيل إليهم‬
‫‪11‬‬
‫إلخراجهم من ظلمات طبائعهم وأنرسهم إىل أنوار أرواحهم‪ .‬مث كاملة‪:‬‬
‫وحملها األخرى‪ :‬وهو وسط الصدر‪ ،‬وجنودها‪ :‬علم اليقني‪ ،‬وعني اليقني‪،‬‬
‫وحق اليقني‪.‬‬
‫(وال أب وال أم)‪ ،‬فإهنم أجسام نورانية‪ ،‬أي‪ :‬خملوقة من نور غالباً‪ ،‬وقد‬
‫يكون بعضهم خملوقاً من القطرات اليت تقطر من جربيل بعد اغتساله من هنر‬
‫حتت العرش‪ ،‬وهم قادرون على التشكل بأشكال خمتلرة‪( .‬وال يشربون وال‬
‫يأكلون) وال ينامون‪ ،‬ودليل كوهنم ال ينامون قوله تعاىل‪{ :‬يسبِّحون اللَّْيل‬
‫والنَّهار ال ي ْفت رون}‪ ،‬فالنوم فتور يعرتي اإلنسان وال يرقد معه عقله‪( ،‬وال‬
‫يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يخافون ربَّه ْم‬
‫ِم ْن ف ْوقِ ِه ْم وي ْفعلون ما ي ْؤمرون} أي‪ :‬من الطاعة والتدبي‪ ،‬وقال تعاىل‪:‬‬
‫{ب ْل ِعباد م ْكرمون‪ .‬ال ي ْسبِقونه بِالْق ْو ِل وه ْم بِأ ْم ِرهِ ي ْعملون} أي‪ :‬بل‬
‫اسفالئكة عباد من عباده تعاىل مكرمون بالعصمة من الزلل ال يسبقون إذنه‬
‫تعاىل بالقول‪ ،‬وهم بأمره تعاىل إذا أمرهم يعملون‪ ،‬ألهنم يف غاية اسفراقبة له‬
‫تعاىل‪ ،‬فجمعوا يف الطاعة بني القول والرعل وذلك غاية الطاعة‪( .‬ومحبتهم)‬
‫بالقلب (شرط) صحة (اإليمان‪ ،‬وبغضهم‪ :‬كفر) لقوله تعاىل‪{ :‬كل آمن‬
‫اهلل ومالئِكتِ ِه وكتبِ ِه ورسلِ ِه}‪.‬‬
‫بِ ِ‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكيف تؤمن بالكتب؟)‬

‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬إن اهلل أنزل الكتب على أنبيائه‪ ،‬وهي) أي‪:‬‬
‫الكتب (منزلة) على الرسل يف األلواح‪ ،‬أو على لسان ملك (غير مخلوقة)‬
‫أي‪ :‬إن الكتب اسفنزلة من تأليره تعاىل ال من تأليف اخللق‪( ،‬قديمة) من‬
‫حيث داللتها على اسفعىن القدمي‪( ،‬بغير تناقض) أي‪ :‬اختالف يف معىن‬

‫‪11‬‬
‫الكالم‪ .‬و"التناقض"‪ :‬بأن يكون بعض الكالم يف حمل يقتضي إبطال بعض‬
‫يف حمل آخر‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬أفال ي تدبَّرون الْقرآن ولو كان ِمن ِع ْن ِد غي ِر اللَّهِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫لوجدوا فِ ِيه ا ْختِالفًا كثِ ًيرا} أي‪ :‬أفال يتركرون يف القرآن؟ ولو كان من كالم‬
‫البشر لوجدوا فيه "تناقضاً" يف معانيه وتبايناً يف نظمه بأن يكون بعض أخباره‬
‫غي مطابق للواقع وبعض نظمه فصيحاً وبعضه ركيكاً‪ ،‬أي‪ :‬ولو كان من عند‬
‫غي اهلل للزم أن يكون فيه اختالف كثي فضالً عن القليل‪ ،‬لكنه من عند اهلل‪،‬‬
‫فليس فيه اختالف ال كثي وال قليل‪( .‬ومن شك فيها) أي‪ :‬يف الكتب اسفنزلة‬
‫على الرسل بأن مل يؤمن بشيء منها‪( ،‬من آية أو كلمة فقد كفر)‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكم كتاباً أنزل على أنبيائه؟) أي‪ :‬اسفرسلني‪،‬‬
‫ف "كم" اسم استرهام يف حمل نصب مرعول مقدم‪ ،‬و"كتاباً" متييز‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪ :‬يف رواية‪( :‬مائة كتاب) باإلفراد (وأربعة كتب)‬


‫باجلمع اسفكسر‪( :‬أنزل اهلل منها)‪ ،‬أي‪ :‬من اسفائة واألربع (عشر كتب على)‬
‫صري اهلل أيب البشر (آدم عليه السالم‪ ،‬وأنزل اهلل تعالى منها خمسين‬
‫كتاباً على شيث عليه السالم)‪ ،‬فشيث – بالشني مث اسفثلثة – وقيل‪ :‬باسفثناة‬
‫الروقية بينهما ياء‪ ،‬واألكثر صرفه وقد ال يصرف‪ ،‬ومعناه‪ :‬هبة اهلل‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫عطية اهلل‪ ،‬وهو ابن آدم لصلبه‪ ،‬كان من أمجل أوالده وأفضلهم‪ ،‬وأشبهه بأبيه‬
‫وأحبهم إليه‪ ،‬وعاش سبعمائة واثنيت عشرة سنة‪( .‬وأنزل اهلل تعالى منها‬
‫جد أيب نوح (عليه السالم)‪ ،‬وامسه أ ْخن ْوخ ‪-‬‬
‫ثالثين كتاباً على إدريس) ّ‬
‫برتح اهلمزة وسكون اخلاء‪ ،‬أو خنوخ ‪ -‬برتح اخلاء مع حذف اهلمزة ‪،-‬‬
‫قيل‪ :‬مسي إدريس لكثرة درسه الكتب‪ ،‬وهو أول من خط بالقلم ونظر يف‬
‫علم النجوم واحلساب‪ ،‬وأول من خاط الثياب ولبسها‪ ،‬وكانوا من قبله‬

‫‪12‬‬
‫يلبسون اجللود‪ ،‬وأول من اختذ السالح وقاتل الكرار‪( .‬وأنزل اهلل تعالى منها‬
‫عشر كتب على إبراهيم عليه السالم)‪ ،‬وقيل‪ :‬إن يف صحف إبراهيم هذه‬
‫الكلمات‪ :‬ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه‪ ،‬عارفاً بزمانه‪ ،‬مقبالً على‬
‫شأنه‪( .‬وأنزل اهلل تعالى اإلنجيل) مجلة (على عيسى) ابن مرمي (عليه‬
‫السالم‪ ،‬وأنزل اهلل تعالى التوراة) مجلة (على موسى) بن عمران (عليه‬
‫السالم)‪ .‬قال بعضهم‪ :‬التوراة واإلجنيل امسان عربانيان‪ ،‬وقيل‪ :‬سريانيان‬
‫كالزبور‪ .‬وقيل‪ :‬مسيت التوراة بذلك ألن فيها نوراً خيرج به من الضالل إىل‬
‫اهلدى‪ ،‬كما خيرج بالنار من الظالم إىل النور‪ ،‬وقيل‪ :‬مسيت بذلك ألن أكثرها‬
‫تلويات ومعاريض‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬مسي اإلجنيل بذلك ألن فيه توسعة مل‬
‫تكن يف التوراة‪ ،‬إذ حلل فيه أشياء كانت حمرمة يف التوراة‪ ،‬وقيل‪ :‬مسي بذلك‬
‫الستخراجه خالصة نور التوراة‪( .‬وأنزل اهلل تعالى الزبور على داود) بن‬
‫إيشا (عليه السالم)‪ ،‬وهو من أتباع موسى وبعده بأزمان متطاولة‪( .‬وأنزل‬
‫اهلل تعالى القرآن) منجماً مررقاً يف ثالا وعشرين سنة‪ ،‬بعد أن كتب يف‬
‫صحف‪ ،‬وأنزل دفعة واحدة يف ليلة القدر يف بيت العزة‪ ،‬وهو حمل يف مساء‬
‫الدنيا‪ ،‬ومسي القرآن فرقاناً لررقه بني احلق والباطل‪ ،‬ولكونه منجماً ومررقاً يف‬
‫سنني كثية‪ ،‬ومسي قرآناً ألنه قام مقام التوراة واإلجنيل والزبور يف كثرة القراءة‪،‬‬
‫(على محمد المصطفى) أي‪ :‬اسفختار صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وهو‪ :‬ابن عبد‬
‫اهلل بن عبد اسفطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كالب بن مرة بن‬
‫كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزمية بن‬
‫مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‪ ،‬من أوالد سيدنا‬
‫أيب بن كعب أنه سأل‬‫إمساعيل بن إبراهيم عليه السالم‪ .‬وذلك ما روي عن ّ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬كم أنزل اهلل تعاىل من كتاب؟ فقال‪(( :‬مائة‬

‫‪13‬‬
‫وأربعة كتب‪ ،‬منها‪ :‬على آدم عشر صحف‪ .‬وعلى شيث خمسون‬
‫صحيفة‪ .‬وعلى أخنوخ وهو إدريس ثالثون صحيفة‪ .‬وعلى إبراهيم عشر‬
‫صحائف‪ .‬والتوراة واإلنجيل والزبور والفرقان))‪ ،‬كما ذكره الشربيين يف‬
‫ترسيه‪ .‬واحلق عدم حصر الكتب يف عدد معني لكثرة اختالف الروايات‪ ،‬بل‬
‫الواجب أن يعتقد أن اهلل تعاىل أنزل كتباً من السماء ويعرف الكتب األربعة‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكيف تؤمن باألنبياء؟)‬

‫ِ‬
‫األنبياء آدم عليه السالم) وهو امسه‬ ‫(فالجواب) أن تقول‪َّ ( :‬‬
‫إن أول‬
‫صري اهلل (وآخرهم) وأفضلهم (سيدنا‬
‫الشريف‪ ،‬وكنيته أبو البشر‪ ،‬ولقبه ّ‬
‫محمد) فال نب بعده (صلوات اهلل عليهم أجمعين‪ ،‬كلهم كانوا مخبرين)‬
‫عن الغيوب‪ ،‬كالساعة وأحواهلا من البعث والنشر واحلشر واحلساب واجلزاء‬
‫واحلوض والشراعة واسفيزان والصراط واجلنة والنار وغي ذلك (ناصحين) أي‪:‬‬
‫مصرني العمل من شوائب الرساد‪ ،‬وال يغشون قومهم (صادقين) يف‬
‫أخبارهم ويف دعواهم (مبلغين) أي‪ :‬موصلني األحكام اليت أمروا بتبليغها إىل‬
‫األمم إليهم‪ ،‬إذ هم مأمورون بالتبليغ (آمرين) على الطاعات هلل عز وجل‬
‫(ناهين) عن اسفعاصي (أمناء اهلل تعالى) على "وحيه الخفي"‪ ،‬وهو الذي مل‬
‫يظهر إال على ألسنة الرسل‪ ،‬وهو إعالم اهلل تعاىل أنبياءه مبا شاء "بكتاب"‬
‫أو بإرسال "ملك" أو "بمنام" أو "إلهام" أو "بال واسطة"‪ ،‬كما وقع لنبينا‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ليلة اإلسراء من فرض الصالة بال واسطة (معصومين‬
‫من الزلل) أي‪ :‬اخلطايا وهي الصغائر‪" ،‬فال ِزلل" ‪ -‬بكسر الزاي ‪ -‬مجع زلة‪.‬‬
‫قاله حممد اجلوهري يف "شرح الجزائرية" وأما "الزلل" ‪ -‬برتحها ‪ -‬فهو‬
‫مصدر زل يزل من باب علم وضرب‪ ،‬كما يف "القاموس" و"المصباح"‪،‬‬

‫‪14‬‬
‫(والكبائر) أي أن اهلل تعاىل حرظ بواطنهم وظواهرهم عن التلبس مبنهى عنه‪،‬‬
‫ولو هني كراهة ولو حالة الطرولية‪ ،‬كما قال أمحد الدردير‪ .‬والذي عليه‬
‫اجلمهور‪ ،‬وهو الصحيح أهنم معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة‬
‫وبعدها‪ ،‬فعصمتهم واجبة كما قاله أمحد البيلي‪( .‬ومحبتهم) بالقلب (شرط)‬
‫ِ‬
‫اإليمان‪ ،‬وبغضهم كفر)‪.‬‬ ‫صحة (‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكم من أصحاب الشرائع؟)‬

‫(فالجواب) أن تقول‪ :‬هم (ستة‪ :‬آدم ونوح) وعمره ألف سنة وأربعمائة‬
‫ومخسون سنة (وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اهلل عليهم‬
‫أجمعين)‪.‬‬

‫(فرع)‪ :‬قال ابن عباس وقتادة‪ :‬وأولو العزم‪ ،‬أي‪ :‬الثبات واجلد يف‬
‫األمور‪ ،‬مخسة‪ ،‬وهم أصحاب الشرائع‪ ،‬وهم حممد وإبراهيم وموسى وعيسى‬
‫ونوح‪ ،‬ونظمهم بعضهم يف بيت من الطويل فقال‪:‬‬

‫محمد إبراهيم موسى كليمه وعيسى ونوح هم أولو العزم فاعلم‬

‫وقال مقاتل‪ :‬وأولو العزم ستة‪ :‬نوح‪ :‬صرب على أذى قومه‪ .‬وإبراهيم‪:‬‬
‫صرب على النار‪ .‬وإسحاق‪ :‬صرب على الذبح‪ .‬ويعقوب‪ :‬صرب على فقد ولده‬
‫وذهاب بصره‪ .‬ويوسف‪ :‬صرب يف اجلب والسجن‪ .‬وأيوب‪ :‬صرب على الضر‪.‬‬
‫(وكل شريعة منسوخة) أي‪ :‬مزال حكمها (بشر ِ‬
‫يعة) سيدنا (محمد صلى‬
‫اهلل عليه وسلم) إذا مل تكن موافقةً لشريعته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد كان‬
‫من شريعة آدم – عليه السالم – تزويج األخ من أخته اليت ليست توأمته‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫وقد اترقوا على حترميه بعد آدم – عليه السالم – كما قاله حممد اجلوهري‪،‬‬
‫الم ِديناً ف ل ْن ي ْقبل‬
‫والدليل على ذلك قوله تعاىل‪{ :‬وم ْن ي ْبت ِغ غ ْي ر ا ِإل ْس ِ‬
‫ِم ْنه}‪.‬‬

‫(مسألة)‪(:‬إذا قيل لك‪ :‬وكم من األنبياء؟)‪.‬‬

‫(فالجواب)‪ :‬أن تقول هم يف رواية (مائة ألف وأربعة وعشرون ألف‬


‫نبي)‪ .‬قال أمحد الدردير‪" :‬واألوىل ترك حصرهم يف عدد معني ألنه ال يؤمن‬
‫يف ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم جلواز أن يذكر أكثر من الواقع‪،‬‬
‫أو خيرج منهم من هو منهم إن كان العدد أقل"‪ .‬وما روي أن النب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم سئل عن عددهم فقال‪(( :‬مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً))‪ ،‬ويف‬
‫رواية‪(( :‬مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً)) فخرب آحاد ال يريد القطع‪ ،‬وال‬
‫عربة بالظن يف باب االعتقادات‪.‬‬

‫(مسألة)‪(:‬إذا قيل لك‪ :‬وكم كانوا من األنبياء والمرسلين؟)‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪ :‬هم يف رواية‪( :‬ثلثمائة وثالثة عشر مرسالً)‬


‫كعدد أهل بدر‪ ،‬ويف رواية‪ :‬وأربعة عشر‪ ،‬كعدد جيش طالوت الذين صربوا‬
‫معه على قتال جيش جالوت‪ ،‬ويف رواية‪ :‬ومخسة عشر‪ ،‬وروي أن اهلل تعاىل‬
‫بعث مثانية آالف نب‪ ،‬أربعة آالف من بين إسرائيل وأربعة آالف من سائر‬
‫الناس‪ .‬والررق بني "الرسول" و"النبي"‪ :‬أن "الرسول"‪ :‬هو من أمر بتبليغ‬
‫األحكام إىل اسفرسل إليهم‪ ،‬و"النبي"‪ :‬من مل يؤمر بذلك‪ ،‬بل أمر بتبليغ أنه‬
‫نب ليحرتم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪16‬‬
‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وأسماؤهم) أي‪ :‬اسفرسلني (وعددهم) أي‪:‬‬
‫حرظهم علينا (شرط اإليمان أم ال؟)‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬ليس) ذلك المذكور من حفظ األسماء‪،‬‬


‫والعدد (عندنا بشرط اإليمان) أي‪ :‬يف صحته وكماله (لقوله تعالى) يف‬
‫سورة غافر‪{ :‬ولق ْد أ ْرسلْنا رس ًال} أي‪ :‬بكثرة { ِم ْن ق ْبلِك} يا أشرف اخللق‬
‫إىل أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به (منهم) أي‪ :‬الرسل (من قصصنا عليك)‬
‫أي‪ :‬أخبارهم (ومنهم من لم نقصص عليك) أي‪ :‬ال أخبارهم وال ذكرناهم‬
‫لك بأمسائهم‪ ،‬وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة‪ ،‬وإذا ثبت أن الرسل‬
‫مل جيب علينا معرفة عددهم مع قلتهم فمعرفة غي الرسل من األنبياء أوىل‬
‫لكثرهتا‪ ،‬ولكن جيب اإلميان بوجودهم ترصيالً فيما علم كذلك‪ ،‬وهم اخلمسة‬
‫والعشرون الذين هم يف القرآن وهم‪ :‬حممد وآدم ونوح وإدريس وهود وصاحل‬
‫واليسع وذو الكرل وإلياس ويونس وأيوب وإبراهيم‪ ،‬وإمساعيل وإسحاق‬
‫ويعقوب ويوسف‪ ،‬ولوط وداود وسليمان وشعيب‪ ،‬وموسى وهارون وزكريا‬
‫ويىي وعيسى‪.‬‬

‫ومعىن وجوب اإلميان هبؤالء بالترصيل أنه لو عرض عليه واحد منهم مل‬
‫نبوته وال رسالته‪ ،‬ولو مل يرظ أمساءهم فإن احلرظ ال جيب فمن أنكر‬ ‫ي نكر ّ‬
‫نبوة واحد من هؤالء أو رسالته فقد كرر‪ ،‬لكن العامي ال يكم عليه بالكرر‪،‬‬
‫إال إن أنكر بعد تعلمه‪ .‬وجيب اإلميان إمجاالً يف غي هؤالء بأن يصدق‬
‫ويصدق بأن هلل رسالً وأنبياء‪ ،‬فمن مل يؤمن هبم‬
‫ونبوهتم وإرساهلم ّ‬
‫بوجودهم ّ‬
‫كذلك مل يصح إميانه فيكون كافراً‪ .‬واسفختلف يف نبوهتم ثالثة‪ :‬ذو القرنني‬
‫والعزير ولقمان‪ ،‬واختلف يف اخلضر أيضاً‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه نب ورسول‪ .‬وقيل‪ :‬نب‬

‫‪17‬‬
‫وىل وهو باق إىل اآلن أعطي علم الشريعة واحلقيقة‪ ،‬وجيتمع مع‬
‫فقط‪ .‬وقيل‪ّ :‬‬
‫إلياس كل سنة مبكة‪ ،‬ويشربان من ماء زمزم شربة إىل العام القابل‪ ،‬وطعامها‬
‫الكرفس‪ ،‬فإلياس موكل بالرب‪ ،‬واخلضر موكل بالبحر‪ ،‬كذا قاله عيسى الرباوي‬
‫وأمحد البيلي والشيخ يوسف السنبالويين‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكيف تؤمن باليوم اآلخر؟) أي‪ :‬بوجوده‪،‬‬
‫فأوله من النرخة الثانية وهي نرخة البعث‪ ،‬ومسي ذلك اليوم باآلخر ألنه آخر‬ ‫ّ‬
‫أيام الدنيا‪ ،‬ومسي أيضاً بالقيامة لقيام الناس فيه من قبورهم ووقوفهم بني يدي‬
‫رب العاسفني‪.‬‬

‫إن اهلل تعالى يميت الخالئق) أي‪ :‬مجيع‬ ‫(فالجواب) أن تقول‪َّ ( :‬‬
‫ت}‬‫احليوانات من ذوي الروح (كلِّهم) قال تعالى‪{ :‬كل ن ْفس ذائِقة الْمو ِ‬
‫ْ‬
‫و"الموت"‪ :‬ال يكون إال باألجل‪ ،‬وهو الوقت الذي كتب اهلل يف األزل‬
‫انتهاء حياته فيه‪ ،‬فال ميوت أحد بدونه‪ ،‬مقتوالً كان أو غيه لقوله تعاىل‪:‬‬
‫{وما كان لِن ْفس أ ْن تموت إِال بِِإ ْذ ِن ِ‬
‫اهلل كِتاباً مؤ َّجالً} أي‪ :‬وما كان لنرس‬
‫أن متوت إال بقضاء اهلل ومشيئته أو بإذنه سفلك اسفوت يف قبضه روحه‪ ،‬كتب‬
‫اهلل ذلك اسفوت كتاباً مؤقتاً ال يتقدم وال يتأخر (إالَّ م ْن كان في الجنة‬
‫والنار) مث ييي اهلل اسفيت بإعادة الروح إىل مجيع البدن ألجل سؤال اسفلكني‪:‬‬
‫منكر ونكي‪ ،‬وبعد السؤال خيرج منه الروح ويعذب من أراد تعذيبه بأن خيلق‬
‫اهلل يف اسفيت نوع حياة بسبب اتصال الروح جبسده‪ ،‬كاتصال شعاع الشمس‬
‫باألرض بقدر ما يدرك األمل‪ ،‬فيتأمل الروح مع اجلسد‪ ،‬وإن كان خارجاً منه‪.‬‬
‫و"الكافر" عذابه دائم إىل يوم القيامة‪ ،‬ويرفع عن "المؤم ِن" العذاب يف يوم‬
‫اجلمعة ويف شهر رمضان حلرمة النب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإن مات يوم‬

‫‪18‬‬
‫اجلمعة أو ليلته يكون العذاب ساعةً واحد ًة‪ ،‬وضغطة القرب كذلك‪ ،‬مث ينقطع‬
‫وال يعود إىل يوم القيامة‪( .‬ويحييهم اهلل تعالى) بعد فنائهم بإعادة أرواحهم‬
‫إىل أجسادهم‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ي ْحيِي اهلل الْم ْوتى} ويكون اإلحياء بنرخة‬
‫البعث بعد إماتتهم بنرخة الصعق‪ ،‬وبني النرختني أربعون سنة‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ات وم ْن فِي ْاأل ْر ِ‬
‫ض إَِّال م ْن شاء‬ ‫{ون ِفخ فِي الصوِر فصعِق م ْن فِي َّ‬
‫السماو ِ‬
‫اهلل ث َّم ن ِفخ فِ ِيه أ ْخرى فِإذا ه ْم ِقيام ي ْنظرون}‪( .‬و) بعد إحيائهم يسوقهم‬
‫حرا ًة عرا ًة غرالً إىل أرض احملشر أرض بيضاء ال ترى فيها عوجاً وال أمتا‪ ،‬و‬
‫(يحشرهم) أي‪ :‬جيمعهم للعرض واحلساب‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ي ْوم ي ْجمعك ْم‬
‫اسبِين}‪ ،‬فمنهم‬ ‫لِي وِم الْجم ِع}‪( ،‬ويحاسبهم) قال اهلل تعالى‪{ :‬وكفى بِنا ح ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫من ياسب حساباً شديداً على رؤوس األشهاد لرضيحته‪ ،‬وهو من يعطى يف‬
‫ذلك اليوم كتاب عمله الذي كتبته اسفالئكة احلرظة أيام حياته من وراء ظهره‪،‬‬
‫وهو الكافر أو اسفنافق‪ ،‬فتغل ميناه إىل عنقه وجتعل يسراه وراء ظهره‪ ،‬فيأخذ‬
‫هبا كتابه‪ .‬ومنهم من ال ياسبه اهلل على يد أحد من اسفالئكة‪ ،‬وال غيهم سرتاً‬
‫على ذلك احملاسب‪ ،‬وإمنا ياسبه اسفوىل بينه وبينه‪ ،‬وي عرض عمله عليه بأن‬
‫يقول له‪ :‬هذه أفعالك اليت فعلتها يف دار الدنيا وسرتهتا عليك‪ ،‬واليوم أغررها‪،‬‬
‫وهو من يعطى يف ذلك اليوم كتاب عمله من أمامه‪ ،‬وهو اسفؤمن اسفطيع‪.‬‬
‫وكتب األعمال جعلت بعد موت صاحبها يف خزانة حتت العرش‪ ،‬فإذا كانوا‬
‫يف اسفوقف بعث اهلل رياً فتطيها‪ ،‬فكل صحيرة تلتصق بعنق صاحبها ال‬
‫تتجاوزه‪ ،‬مث تأخذها اسفالئكة من األعناق فيعطوهنا إليهم يف أيديهم‬
‫فيأخذوهنا‪ .‬وأول من يأخذ كتابه بيمينه عمر بن اخلطاب وله شعاع كشعاع‬
‫الشمس‪ ،‬وأما أبو بكر فهو رئيس السبعني ألراً الذين يدخلون اجلنة بغي‬
‫حساب‪ ،‬فهم مل يأخذوا صحائف‪ ،‬وبعد عمر أبو سلمة عبد اهلل بن عبد‬

‫‪19‬‬
‫األسد اسفخزومي‪ ،‬أول من يأخذ كتابه بشماله أخوه األسود بن عبد األسد‪.‬‬
‫مث إذا أخذ العبد كتابه وجد حروفه نيًة أو مظلمةً على حسب األعمال‬
‫احلسنة أو القبيحة‪ .‬وأول خط يف الصحائف‪{ :‬اقْرأْ كتابك كفى بِن ْف ِسك‬
‫الْي ْوم عل ْيك ح ِسيبًا}‪ ،‬فإذا قرأه ابيض وجهه إن كان مؤمناً‪ ،‬واسود إن كان‬
‫كافراً‪ ،‬وذلك قوله تعاىل‪{ :‬ي ْوم ت ْب يض وجوه وت ْسود وجوه}‪ .‬وقد ورد يف‬
‫إن أول من يحاسب اهلل تعالى اللوح المحفوظ)) حبيث ي ركب‬ ‫احلديث‪َّ (( :‬‬
‫فيه إدراكاً وعقالً ونطقاً‪ ،‬فيدعى به‪ ،‬فرتتعد فرائصه‪ :‬فيقول له‪ :‬هل بلغت ما‬
‫فيك إلسرافيل؟ فيقول‪ :‬بلغت‪ .‬فيدعى بإسرافيل فرتتعد فرائصه خوفاً من اهلل‬
‫فيقول له‪ :‬ما صنعت فيما روى إليك اللوح؟ فيقول‪ :‬بلغته جلربيل‪ .‬فيدعى‬
‫جبربيل فرتتعد فرائصه فيقول له‪ :‬ما صنعت فيما رواه إليك إسرافيل؟ فيقول‪:‬‬
‫بلغته إىل الرسل‪ .‬فيدعى هبم فيقول هلم‪ :‬ما صنعتم فيما رواه إليكم جربيل؟‬
‫فيقولون‪ :‬بلغناه إىل الناس‪ ،‬فيسألون عن عمرهم فيم أفنوه‪ ،‬وعن شباهبم فيم‬
‫أبلوه‪ ،‬وعن أمواهلم من أين اكتسبوها وفيم أنرقوها‪ ،‬وعن علومهم ماذا عملوا‬
‫هبا‪ .‬وذلك قوله تعاىل‪{ :‬ف لن ْسأل َّن الَّ ِذين أ ْر ِسل إِل ْي ِه ْم ولن ْسأل َّن الْم ْرسلِين‪.‬‬
‫ص َّن عل ْي ِه ْم بِعِلْم وما كنَّا غائِبِين‪ .‬ف وربِّك لن ْسألنَّه ْم أ ْجمعِ ْين ع َّما كانوا‬
‫ف لن ق َّ‬
‫ي ْعملون}‪ ،‬مث ينصب اهلل "الميزان"‪ ،‬وتشخص األبصار إىل الكتب أتقع يف‬
‫اليمني أو يف الشمال‪ ،‬مث إىل لسان اسفيزان أمييل إىل جانب السيئات أو إىل‬
‫جانب احلسنات (ويحكم بينهم بالعدل) وأول ما يقضى يف اسفوقف يف‬
‫"الصالة"‪ ،‬مث بعدها "الدعاوى" من قتل نرسا بغي نرس‪ .‬مث يساقون إىل‬
‫"الصراط"‪ ،‬وهو جسر ممدود على منت النار بني اسفوقف واجلنة‪ ،‬فإن النار‬
‫أحد من السيف‪ ،‬فهو مثل اسفوسى‪ ،‬فالناجون‬ ‫بينهما‪ ،‬أرق من الشعرة و ّ‬
‫جيوزونه كلمحة البصر‪ ،‬مث كالربق‪ ،‬مث كالريح‪ ،‬مث كالطي‪ ،‬مث كاخليل‪ ،‬مث‬

‫‪21‬‬
‫جيوزونه‪ ،‬سعياً‪ ،‬مث مشياً‪ ،‬مث حبواً‪ ،‬مث زحراً‪ ،‬فهم يتراوتون كاهلالكني‪ ،‬فمنهم‬
‫من يكب بأول قدم‪ ،‬وهو الذي يكون آخر اخلارجني من النار‪ ،‬ومنهم من‬
‫يكب عند آخر قدم‪ ،‬فيكون أول اخلارجني منها‪ ،‬وتراوت اسفرور حبسب‬
‫التراوت يف األعمال الصاحلة واإلعراض عن حرمات اهلل تعاىل إذا خطرت‬
‫على القلوب‪ .‬وأول من يأيت إىل النار "قابيل" الذي قتل أخاه "هابيل" بغي‬
‫حق‪ ،‬ألنه أول من أظهر هذه اخلصلة‪ ،‬وهذا أول من يدخلها من اإلنس‪،‬‬
‫و"إبليس" هو أول من يدخلها من اجلن‪( .‬فمن كان) أي‪ :‬فالذي وجد (من‬
‫المالئكة والجن واإلنس فإنهم يتالشون)‪ ،‬أي‪ :‬ميوتون‪ ،‬لكن ال ميوت أحد‬
‫من اسفالئكة قبل النرخة األوىل‪ ،‬بل هبا إال محلة العرش واسفالئكة األربعة‪،‬‬
‫فإهنم ميوتون بعدها وييون قبل النرخة الثانية‪ ،‬وآخر من ميوت ملك اسفوت‪،‬‬
‫كذا قال الشرقاوي‪ .‬وقيل‪ :‬إن محلة العرش ال ميوتون ألهنم خلقوا للبقاء‪.‬‬
‫(فمن كان فاسقاً) أي‪ :‬خارجاً عن أمر اهلل بارتكاب كبية أو إصرار على‬
‫صغية‪ ،‬ومل ت غلب طاعاته على معاصيه (لم يبق في النار بعد الحساب)‬
‫أي‪ :‬بعد فراغ مقدار ذنبه‪ ،‬ألن ذلك ال خيرجه عن اإلميان إال إذا اعتقد حل‬
‫اسفعصية سواءً كانت كبيًة أم صغيًة‪ ،‬ألن اإلميان عند األشاعرة وحمققي‬
‫اسفاتريدية تصديق بالقلب فقط‪ ،‬وأما اإلقرار من القادر فهو شرط إلجراء‬
‫األحكام الدنيوية اليت من مجلتها وجوب اعتقاد أهنم غي خملدين يف النار‪،‬‬
‫وإذا كان اإلميان هو التصديق لزم أن ال خيرج العبد عن االتصاف به إال مبا‬
‫ينافيه من "الكفر"‪ ،‬وهو عدم التصديق مبا علم ضرورة جميء النب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم به‪ ،‬أو االمتناع من شرطه وهو النطق بالشهادتني مع القدرة‪.‬‬
‫وكما أن العصاة من اسفؤمنني ال خلود هلم يف النار‪ ،‬كذلك "الشفاعة" ال‬
‫الشافِعِين}‪.‬‬
‫تصل للكرار‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فما ت ْن فعه ْم شفاعة َّ‬

‫‪21‬‬
‫وللرسل شراعات غي حمصورة أعظمها الشراعة اليت ردها الرسل‪ ،‬وهي‬
‫الشراعة إلنقاذ اخللق من خوف شديد ومن فزع‪ .‬ولقبت هذه الشراعة‬
‫تعم اخللق أمجع‪ ،‬وباسفقام احملمود أيضاً لكونه يمده صلى‬
‫بالعظمى لكوهنا ّ‬
‫اهلل عليه وسلم فيها األولون واآلخرون‪ .‬مث الشراعة يف إدخال قوم اجلنة بغي‬
‫حساب‪ ،‬وهذه من خصائصه صلى اهلل عليه وسلم كاليت قبلها‪ .‬مث الشراعة‬
‫فيمن استحقوا دخول النار فلم يدخلوها‪ .‬مث الشراعة يف زيادة الدرجات يف‬
‫اجلنة مث الشراعة يف قوم من الصلحاء‪ ،‬ليتجاوز اهلل عنهم يف تقصيهم يف‬
‫الطاعات‪ .‬مث الشراعة يف اخراج من أدخل النار من اسفوحدين‪ ،‬وهذه ال‬
‫ختتص به صلى اهلل عليه وسلم بل يشاركه فيها األنبياء واسفالئكة واسفؤمنون‪.‬‬
‫مث الشراعة يف ختريف العذاب سفن استحق اخللود يف النار يف بعض أوقات‬
‫كأيب طالب‪ .‬مث الشراعة يف أطرال اسفشركني ليدخلوا اجلنة‪ .‬مث شراعته صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬سفن مات باسفدينة‪ .‬وسفن صرب على ألوائها‪ .‬وسفن زاره صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بعد موته‪ .‬وسفن أجاب اسفؤذن ودعا له صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالوسيلة‪ .‬وسفن صلى عليه ليلة اجلمعة ويومها‪ .‬وسفن حرظ أربعني حديثاً يف‬
‫أمر الدين وعمل هبا‪ .‬وسفن صام شعبان حلبه صلى اهلل عليه وسلم صيامه‪.‬‬
‫وسفن مدح آل البيت وأثىن عليهم‪.‬‬

‫(وأما المؤمنون) أي‪ :‬الذين ماتوا على دين اإلسالم وإن تقدم منهم‬
‫كرر (ففي الجنة خالدون) وال يصح أن يدخلوا اجلنة مث يدخلوا النار‪ ،‬ألن‬
‫من يدخل اجلنة ال خيرج منها‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪{ :‬فما ت ْن فعه ْم شفاعة‬
‫الشافِعِين}‪ ،‬فالدخول يف اجلنة إما بدون دخول النار باسفرة أو بعد دخول‬
‫َّ‬
‫النار بقدر الذنب‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫(وأما الكافرون) من اإلنس واجلن‪ ،‬أي‪ :‬الذين ماتوا على الكرر وإن‬
‫عاشوا طول عمرهم على اإلميان (ففي النار خالدون) فال يزالون فيها معذبني‬
‫إما باحليات أو بالعقارب أو بالضرب أو بغي ذلك‪.‬‬

‫واحلاصل أن الناس على قسمني‪" :‬مؤمن" و"كافر"‪" :‬فالكافر" خملد‬


‫يف النار‪ .‬و"المؤمن" على قسمني‪" :‬طائع" و"عاص"‪" :‬فالطائع" يف اجلنة‪.‬‬
‫و"العاصي" على قسمني‪" :‬تائب" و"غير تائب"‪" :‬فالتائب" يف اجلنة‪.‬‬
‫و"غير التائب" يف مشيئة اهلل تعاىل‪ ،‬إن شاء عرا عنه وأدخله اجلنة برضله‬
‫وكرمه‪ ،‬وذلك بربكة اإلميان والطاعة أو بشراعة بعض األخيار‪ ،‬وإن شاء عذبه‬
‫بقدر ذنبه صغياً كان أو كبياً‪ ،‬مث آخر أمره اجلنة‪ ،‬فال خيلد يف النار‪.‬‬

‫(وال تفنى الجنة)‪ ،‬وهي سبعة‪ :‬فردوس مث عدن‪ ،‬مث خلد‪ ،‬مث نعيم‪ ،‬مث‬
‫مأوى‪ ،‬مث دار السالم‪ ،‬مث دار اجلالل‪ ،‬وكلها متصلة مبقام صاحب الوسيلة‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ليتنعم أهل اجلنة مبشاهدته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ألنه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يظهر هلم منها‪ ،‬فهي مشرفة على أهل اجلنة كما أن‬
‫الشمس مشرقة على أهل الدنيا‪( .‬والنار) وطبقاهتا سبع أعالها‪ :‬جهنم‪ ،‬وهي‬
‫لعصاة اسفؤمنني‪ ،‬مث لظى لليهود‪ ،‬مث احلطمة للنصارى‪ ،‬مث السعي للصابئني‪،‬‬
‫وهم فرقة من اليهود‪ ،‬مث سقر للمجوس‪ ،‬مث اجلحيم لعبدة األصنام‪ ،‬مث اهلاوية‬
‫للمنافقني‪( .‬وال أهلهما) من احلور العني والولدان وخزنة اجلنة‪ ،‬ومالئكة‬
‫العذاب‪ ،‬والعقارب‪ ،‬واحليات‪ .‬وقال الشربيين نقالً عن النسري‪ :‬سبعة ال‬
‫ترىن‪ :‬العرش‪ ،‬والكرسي‪ ،‬واللوح‪ ،‬والقلم‪ ،‬واجلنة‪ ،‬والنار بأهلهما‪ ،‬واألرواح‪،‬‬
‫اه ‪ .‬واختلف في تفسير قوله تعالى‪{ :‬كل ش ْيء هالِك إَِّال و ْجهه}‪ ،‬فإن‬
‫كان معىن كون الشيء "هالكاً" كونه قابالً للهلك يف ذاته‪ ،‬ألن كل ما عاده‬

‫‪23‬‬
‫تعاىل ممكن الوجود قابل العدم‪ ،‬فهذه السبعة حممولة على هذا اسفعىن‪ ،‬وإن‬
‫كان معىن كونه "هالكاً" كونه خارجاً عن كونه منترعاً به باإلماتة أو ترريق‬
‫األجزاء‪ ،‬فهذه مستثناة من اهلالك‪( .‬ومن شك في شيء من هذه األشياء)‬
‫اسفذكورة (فقد كفر)‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬وكيف تؤمن بالقدر خيره وشره من اهلل‬
‫تعالى؟)‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪َّ ( :‬‬


‫إن اهلل) تعاىل (خلق الخالئق وأمر) بالطاعات‬
‫(ونهى) عن السيئات (وخلق اللوح) وهو لوح من درة بيضاء طوله ما بني‬
‫الدر والياقوت‪،‬‬
‫السماء واألرض‪ ،‬وعرضه ما بني اسفشرق واسفغرب‪ ،‬وحافتاه ّ‬
‫ودفتاه ياقوتة محراء‪ ،‬وأصله يف حجر ملك‪ ،‬وهو يف اهلواء فوق السماء‪ .‬وعن‬
‫إن في صدر اللوح‪ :‬ال إله إال اهلل وحده‪ ،‬دينه‬‫ابن عباس أنه قال‪َّ " :‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومحمد عبده ورسوله‪ ،‬فمن آمن باهلل عز وجل‪ ،‬وصدق بوعيده‬
‫واتبع رسله أدخله الجنة"‪( .‬والقلم)‪ ،‬وهو قلم من نور‪ ،‬طوله كما بني‬
‫السماء واألرض‪ .‬وعن ابن عباس أنه قال‪" :‬أول ما خلق اهلل القلم‪ ،‬ثم‬
‫قال له‪ :‬اكتب‪ ،‬قال له‪ :‬ما أكتب‪ ،‬قال‪ :‬ما كان وما هو كائن إلى يوم‬
‫القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو شر‪ ،‬فجرى القلم بما هو كائن إلى‬
‫يوم القيامة"‪ .‬وروى جماهد احلديث‪" :‬أول ما خلق اهلل تعالى القلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اكتب المقدر‪ ،‬فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‪ ،‬وإنما يجري في‬
‫الناس على أمر قد فرغ منه"‪ ،‬وذلك هو اسفراد بقوله رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫(وأمرهما أن يكتبا أعمال العباد) قال تعاىل‪{ :‬إِنَّا ك َّل ش ْيء خل ْقناه بِقدر}‬
‫أي‪ :‬إنا كل شيء من األشياء اسفخلوقة صغيها وكبيها خلقناه بقدر وقضاء‬

‫‪24‬‬
‫وحكم وقياس مضبوط‪ ،‬وقسمة حمدودة‪ ،‬وقوة بالغة‪ ،‬وتدبي حمكم يف وقت‬
‫معلوم ومكان حمدود‪ ،‬مكتوب ذلك يف اللوح قبل وقوعه‪ ،‬وقال تعاىل‪{ :‬وكل‬
‫صغِير وكبِير م ْستطر} أي‪ :‬وكل صغي وكبي من اخللق وأعماهلم وآجاهلم‬
‫مكتوب يف اللوح احملروظ من الشياطني ومن الزيادة فيه والنقصان‪ .‬وروي أنه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬كتب اهلل مقادير الخالئق كلها قبل أن يخلق‬
‫السموات واألرض بخمسين ألف عام))‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬ال‬
‫يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة‪ :‬يشهد أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل‬
‫بعثني بالحق‪ ،‬ويؤمن بالبعث بعد الموت‪ ،‬ويؤمن بالقدر خيره وشره))‪.‬‬

‫(فالطاعة) وهي‪ :‬ما يثاب به (بقضاء اهلل تعالى وقدره في األزل)‪،‬‬


‫ادته وأمرهِ ورضاه) وحمبته وتوفيقه وختليقه‪ .‬قال بعضهم‪:‬‬
‫أي‪ :‬القدم (وإر ِ‬
‫"القضاء"‪ :‬إرادته األزلية اسفتعلقة باألشياء على ما هي عليه‪ .‬و"القدر"‪:‬‬
‫إجياده إياها على ما يطابق العلم‪" .‬فالقضاء" مبنزلة األساس‪ ،‬و"القدر" مبنزلة‬
‫البناء‪ ،‬والقضاء مبنزلة آلة الكيل‪ ،‬والقدر مبنزلة اسفكيل‪ ،‬والقضاء مبنزلة ما أعد‬
‫ا للبس‪ ،‬والقدر مبنزلة اللبس‪ ،‬والقضاء مبنزلة تصوير النقاش الصورة يف ذهنه‪،‬‬
‫والقدر مبنزلة رمسها‪( .‬والعصيان) وهو ما يعاقب عليه (بقضاء اهلل تعالى‬
‫وقدره وإرادته) أي‪ :‬مشيئته (في األزل) أي‪ :‬القدم وختليقه وخذالنه (وليس‬
‫بأمره وال برضاه) وال مبحبته وال بتوفيقه‪.‬‬

‫واعلم أن "مدلول األمر" غي "مدلول اإلرادة"‪ ،‬فقد ينرك "األمر" عن‬


‫"اإلرادة"‪ ،‬كما إذا قتل ابن احلاكم رجالً عمداً‪ ،‬فإن احلاكم يأمره بقتل ابنه‪،‬‬
‫وال يكون مريداً له‪ ،‬ومعىن "الرضا" قبول الشيء واإلثابة عليه أو ترك‬

‫‪25‬‬
‫التعذيب عليه‪ .‬وأما "المباحات" فليست بأمره تعاىل‪ ،‬فكل ما علم اهلل تعاىل‬
‫أنه يوجد أراد وجوده سواء أمر به أو مل يأمر‪.‬‬

‫مث اعلم أن الكافر مأمور بالعمل كما هو مأمور باإلميان‪ ،‬وهذا عند‬
‫الشافعية ‪ ،‬خالفاً للحنري حيث قال‪ :‬إن الكافر ال يكون مأموراً بالعمل بل‬
‫هو مأمور باإلميان ودليله قوله تعاىل‪{ :‬يا أيها الناس اتقوا} بناءً على أن‬
‫ترسي هذه اآلية عنده‪ :‬يا أيها اسفؤمنون أطيعوا‪ ،‬ويا أيها الكافرون آمنوا‪ ،‬ويا‬
‫أيها اسفنافقون أخلصوا‪ ،‬فإن الناس على ثالثة أصناف‪" :‬مؤمن مخلص في‬
‫يقر باللسان ويصدق باجلنان ويعمل باألركان‪ .‬و"كافر‬‫إيمانه"‪ :‬وهو الذي ّ‬
‫جاحد في كفره"‪ :‬وهو الذي مل يقر بلسانه ومل يؤمن بقلبه‪ .‬و"منافق مداهن‬
‫أقر بلسانه ومل يؤمن بقلبه وداهن مع اسفؤمنون (وهم‬
‫في نفاقه"‪ :‬وهو الذي ّ‬
‫يثابون) على الطاعة (ويعاقبون) على العصيان (وكل ذلك) أي‪ :‬الثواب‬
‫والعقاب (بوعده تعالى) يف الطاعة (ووعيده) يف العصيان‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فأ َّما‬
‫م ْن طغى‪ .‬وآث ر الْحياة الدنْيا‪ .‬فِإ َّن الْج ِحيم ِهي الْمأْوى‪ .‬وأ َّما م ْن خاف‬
‫مقام ربِّهِ} أي‪ :‬قيامه بني يدي ربه {ون هى النَّ ْفس ع ِن الْهوى‪ .‬فِإ َّن الْجنَّة‬
‫ِهي الْمأْوى}‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل قيل لك‪ :‬آإليمان) أي‪ :‬أصله (يتجزأ) أي‪ :‬يقبل‬
‫القسمة بأن جيعل أجزاء (أم ال؟)‪ ،‬قوله‪ :‬آإلميان ‪ -‬مبد اهلمزة ‪ -‬إذ أصله‪:‬‬
‫اإلميان ‪ -‬هبمزتني ‪ -‬فقلبت الثانية ألراً فتمد مداً الزماً‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬اإليمان ال يتجزأ‪ ،‬ألنه) أي‪ :‬اإلميان (نور في‬


‫والروح من بني آدم‪ ،‬إذ هو) أي‪ :‬اإلميان (هداية اهلل تعالى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والعقل‬ ‫ِ‬
‫القلب‬

‫‪26‬‬
‫عليه)‪ ،‬أي‪ :‬اسفؤمن (فمن أنكر) أي‪ :‬جحد (شيئاً منها) أي‪ :‬من كون‬
‫اإلميان هداية اهلل تعاىل (فقد كفر)‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬ما المراد باإليمان؟) الذي هو نور وهداية‬
‫من اهلل تعاىل‪.‬‬

‫(فالجواب) أن تقول‪"( :‬اإليمان" عبارة عن "التوحيد") ّ‬


‫وحد‬
‫"التوحيد" عند "علماء الكالم"‪ :‬إفراد اسفعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً‬
‫وصرات وأفعاالً‪ ،‬ويقال أيضاً‪ :‬هو اعتقاد ما جيب هلل ورسله‪ ،‬وما جيوز وما‬
‫يستحيل‪ .‬وأما عند "أهل التصوف"‪ :‬فهو أن ال يرى إال اهلل تعاىل‪ ،‬مبعىن أن‬
‫كل فعل وحركة وسكون واقع ذلك يف الكون‪ ،‬فمن اهلل تعاىل وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬ال يرون لغيه تعاىل فعالً أصالً‪ .‬وقد يراد باإلميان عالمته كقوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لقوم من العرب قدموا عليه صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫((أتدرون ما اإليمان باهلل تعالى وحده؟)) فقالوا‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬فقال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمداً رسول اهلل‪،‬‬
‫وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وأن تعطوا من المغنم‬
‫الخمس))‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬الصالة) أي‪ :‬اخلمس (والصوم) أي‪ :‬يف‬
‫ِ‬
‫المالئكة وحب الكتب)‬ ‫رمضان (والزكاة) أي‪ :‬لألموال واألبدان (وحب‬
‫أي‪ :‬السماوية اليت أنزهلا اهلل على بعض الرسل (وحب الرسل) واألنبياء‬
‫عليهم الصالة والسالم (وحب القد ِر خي ِره وش ِره من ِ‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬وغير ذلك‬

‫‪27‬‬
‫من األمر والنهي واتباع سنة النبي صلى اهلل عليه وسلم أهو) أي‪ :‬اسفذكور‬
‫(من اإليمان) أي‪ :‬من حقيقته وأصله (أم ال؟)‪.‬‬
‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬ال) أي‪ :‬إن ذلك ليس من حقيقة اإلميان‬
‫وأصله‪ ،‬بل هو فرع اإلميان (ألن اإليمان عبارة عن التوحيد) كما تقدم (وما‬
‫سوى ذلك) أي‪ :‬اسفذكور (شرط من شرائط اإليمان) وشعبة من شعب‬
‫اإلميان‪ ،‬ألن من شرط صحة اإلميان حب اهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وأنبيائه‪ ،‬وأوليائه‪،‬‬
‫وخوف عذاب اهلل‪ ،‬ورجاء رمحة اهلل‪ ،‬وتعظيم أمر اهلل وهنيه‪ ،‬وبغض أعداء اهلل‬
‫وهم الكرار‪ .‬وأما الصالة والصوم والزكاة واحلج فهي "شرط كمال" على‬
‫اسفختار عند أهل السنة‪ ،‬فمن تركها واعتقد وجوهبا عليه أو ترك واحداً منها‬
‫كذلك فهو مؤمن كامل يف جريان أحكام اسفؤمنني يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬ألن‬
‫مرجعه إىل اجلنة وإن دخل النار إن مل ينل شراعة من أحد الشافعني أو‬
‫غرراناً من اهلل تعاىل‪ ،‬وهو مؤمن ناقص من جهة ضعف اإلميان لرتكه لبعض‬
‫اسفأمورات‪ ،‬وإن تركها معانداً للشرع‪ ،‬أو شاكاً يف وجوهبا فهو كافر إمجاعاً‬
‫وكذا إن ترك واحداً منها كذلك‪ ،‬ألهنا معلومة من أدلة الدين بالضرورة‪.‬‬

‫واعلم أن أمور الدين أربعة‪ :‬أولها‪ :‬صحة العقد ‪ :‬بأن تعتقد اعتقاداً‬
‫صحيحاً خالياً عن الرتديد والشبه من ضالالت أهل األهواء‪ .‬وثانيها‪ :‬صدق‬
‫القصد‪ :‬بأن تكون صادقاً يف قصدك لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬إنما‬
‫األعمال بالنيات))‪ .‬وثالثها‪ :‬الوفاء بالعهد‪ :‬فإذا عاهدت عهداً تري به لئال‬
‫يكون فيك خصلة من النراق ألن من خصال اسفنافق إذا عاهد غدر‪.‬‬
‫ورابعها‪ :‬اجتناب احلد‪ ،‬بأن جتتنب اسفعاصي كلها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫(تنبيه)‪ :‬فلو قيل لك‪" :‬الكفر" يكون "بقضاء" اهلل تعاىل و"قدره"‪،‬‬
‫و"الرضا" بالقضاء والقدر واجب‪ ،‬والرضا بالكرر كرر‪ ،‬فكيف اجتماع‬
‫الواجب والكرر‪ .‬قلت‪" :‬الكفر" مقضي ومقدور ال "قضاء وقدر"‪ ،‬والرضا‬
‫إمنا جيب بالقضاء والقدر دون اسفقضي واسفقدور‪ .‬وأيضاً الشيء اسفخالف‬
‫للشرع يكرهه العبد من حيث ذاته‪ ،‬وأما من حيث كونه مقضياً فيضى به‬
‫مبعىن ال يعرتض على مراد اهلل تعاىل فيه‪ ،‬وال يكلف العبد مبحبته ولو من‬
‫حيث أنه مقضي‪ ،‬وإمنا هو مكلف برتك االعرتاض على اهلل واعتقاد احلكمة‬
‫على ذلك والعدل على اهلل‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬اإليمان بصفة الطهارة أم ال؟)‬

‫(فالجواب) أن نقول‪( :‬اإليمان) متلبس (بصفة الطهارة ) فيصح به‬


‫مجيع األعمال (والكفر بصفة الحد ِ‬
‫ث) أو بصرة النجس كما قال تعاىل‪:‬‬
‫{إِنَّما الْم ْش ِركون نجس} أي‪ :‬يف اعتقادهم دون أبداهنم (وينتقض) أي‪:‬‬
‫يبطل (به) أي‪ :‬الكرر (جميع الجوارح) أي‪ :‬األعمال اليت يعملها بأعضائه‪،‬‬
‫لكن لو أسلم الكافر أثيب على ما فعله من القرب اليت ال حتتاج إىل نية‬
‫كصدقة‪ ،‬وصلة‪ ،‬وعتق‪ ،‬وحنكم بالصحة من حينئذ‪ ،‬كما نقله الونائي عن‬
‫اإليم ِ‬
‫ان ف ق ْد حبِط عمله وهو‬ ‫النووي‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعاىل‪{ :‬وم ْن ي ْكف ْر بِ ِْ‬
‫اس ِرين} أي‪ :‬ومن يرتد عن اإلميان فقد بطل عمله‬ ‫فِي ْاآل ِخرةِ ِمن الْخ ِ‬
‫الصاحل قبل ذلك‪ ،‬فال يعتد به وال يثاب عليه‪ ،‬ولو عاد إىل اإلسالم‪ ،‬وهو يف‬
‫اآلخرة من اخلاسرين إذا مات على الكرر‪ ،‬واسفعىن‪ :‬ومن يكرر بكلمة‬
‫التوحيد‪ ،‬وهي‪ :‬شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬فقد فسد عمله الصاحل‪ .‬أما من‬

‫‪29‬‬
‫أسلم قبل اسفوت فإن ثوابه يرسد دون عمله فال جيب عليه إعادة حج قد‬
‫فعله وال صالة قد صالها قبل الردة‪.‬‬

‫(مسألة)‪( :‬إذا قيل لك‪ :‬اإليمان مخلوق أو غير مخلوق؟)‬

‫(فالجواب) أن تقول‪( :‬اإليمان هداية من اهلل تعالى‪ ،‬والتصديق‬


‫بالقلب بما جاء به النبي صلى اهلل عليه وسلم من عند اهلل تعالى‪،‬‬
‫واإلقرار) بالشهادتني (باللسان‪" .‬فالهداية" صنع الرب‪ ،‬وهو قديم‪.‬‬
‫و"التصديق" و"اإلقرار") كل منهما (فعل العبد وهو محدث) برتح‬
‫الدال‪ ،‬أي‪ :‬موجد بعد العدم (وكل ما جاء من القديم يكون قديماً) غي‬
‫خملوق (وكل ما جاء من الم ْحد ِ‬
‫ث يكون محدثاً) وقال الشيخ أبو معني‬
‫النسري‪ :‬ال يقال إن اإلميان خملوق أو غي خملوق‪ ،‬بل يقال‪ :‬إن اإلميان من‬
‫العبد اإلقرار باللسان والتصديق بالقلب ومن اهلل تعاىل اهلداية والتوفيق‪ .‬وقال‬
‫بعضهم‪ :‬ال جيوز أن يكون اإلميان امساً للهداية والتوفيق‪ ،‬وإن كان ال يوجد‬
‫إال هبما ألن العبد مأمور به واألمر إمنا يكون فيما هو داخل حتت قدرة‬
‫العبد‪ ،‬وما كان كذلك يكون خملوقاً؟ وقال الباجوري‪ :‬الصواب أن اإلميان‬
‫خملوق ألنه إما تصديق باجلنان أو هو مع اإلقرار باللسان‪ ،‬وكل منهما‬
‫خملوق‪ ،‬وما يقال من إنه قدمي باعتبار اهلداية خروج عن حقيقة اإلميان على‬
‫أن اهلداية حادثة‪ ،‬نعم إن نظرنا إىل أن اإلميان بالقضاء األزيل صح أن يقال‬
‫إنه قدمي‪ ،‬اه ‪ .‬وقال حممد اخلليلي نقالً عن الشمس الرملي و"اإلميان" عند‬
‫مجهور احملققني‪ :‬تصديق القلب مبا علم ضرورة جميء الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم به من عند اهلل تعاىل‪ ،‬وأما اإلقرار باللسان فإمنا هو شرط إلجراء‬
‫األحكام يف الدنيا‪ .‬وقيل‪ :‬إنه اإلقرار والتصديق معاً‪ .‬وقيل‪ :‬إنه اإلقرار‬

‫‪31‬‬
‫واألعمال‪ .‬وعلى كل قول منها هو خملوق‪ ،‬ألنه فعل العبد اسفخلوق لقوله‬
‫تعاىل‪{ :‬واهلل خلقك ْم وما ت ْعملون}‪ .‬وأما قول أيب الليث السمرقندي يف‬
‫جواب‪" :‬إنه مخلوق أو‪ :‬ال"‪ :‬اإلميان إقرار وهداية‪ ،‬فاإلقرار صنع العبد‪ ،‬وهو‬
‫خملوق‪ ،‬واهلداية صنع الرب‪ ،‬وهو غي خملوق‪ ،‬فري ذلك تسمح‪ ،‬ألن هداية‬
‫اهلل تعاىل للعبد سبب اإلميان ال جزء منه‪ ،‬واسفسؤول عنه نرس اإلميان ال هو‬
‫وسببه معاً‪ ،‬واهلل أعلم‪ .‬وصلى اهلل على سيدنا حممد وآله وصحبه وسلم‪،‬‬
‫واحلمد هلل رب العاسفني‪.‬‬

‫‪31‬‬

You might also like