Professional Documents
Culture Documents
وص باي يف العش رة األوىل من الق رن نفس ه! وم ا أك رب الف رق بني احلي اة يف ه ذه املدين ة العاص مة
أن ا اليوم أس كن ش ارع اهلرم على مقرب ة من هنايت ه عن د فن دق «مين ا ه اوس» ،وتقل ين الس يارة إىل
قلب املدين ة يف عش ر دق ائق أو حنوه ا ،وذل ك م ا مل يكن حيلم ب ه أح د يف أخري ات الق رن املاض ي
وأوائل هذا القرن ،مل يكن أحد يومئذ يسكن شارع اهلرم ،بل كان النيل يفصل بني «القاهرة»
وم ا على ش اطئه املقاب ل هلا من م زارع ممت دة إىل م دى النظ ر ،ومل تكن الس يارات يومئ ذ وس يلة
املواصالت ،بل مل تكن موجودة بالنسبة لسواد الناس ،ولست أذكر مىت جاءت أول سيارة إىل
مص ر! لكن الس يارات بقيت بعض مظ اهر ال رتف إىل م ا بع د احلرب العاملي ة األوىل؛ أي إىل س نة
،١٩٢٠فكان طبيعيًّا أن تظل رقعة املدينة ضيقة مع وسائل مواصالهتا ،وأسرعها عربات اخليل
— احلن اطري — واحلم ري ،أم ا ال رتام ال ذي ب دأ يس ري يف الس نوات اخلمس األخ رية من الق رن
املاضي ،فلم تكن شبكته قد امتدت إىل ما وراء حدود املدينة كما صورهتا.
يوما من سنة ١٩٠٩ذهبت فيه مع أيب إىل ضاحية «مصر اجلديدة» ،وكانت يف بدء
مث إين ألذكر ً
إنش ائها ،فلم يكن هبا غ ري ع دد قلي ل من املن ازل ،على مقرب ة من فن دق «هليوب وليس ب االس»،
ويومئذ مسعت أيب يبدي عجبه :كيف تغامر الشركة البلجيكية القائمة هبذا املشروع باختيار تلك
البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها ،لكن املصريني كانوا يومئذ يؤمنون بعبقرية األجانب ،حىت
ليكادون يضعوهنم يف مصاف املالئكة أو يف مصاف الشياطني ،ولذلك كانوا حيتاطون يف احلكم
ولق د آمنت يومئ ذ مبا أب داه أيب من عجب؛ ألن ه أيب ،وألن ين رأيت ال رتام األبيض ال ذي يص ل
«القاهرة» ﺑ «مصر اجلديدة» ينساب بعد العباسية يف صحراء خالية ال حياة فيها ،فال ترى العني
على جانبيه إال الرمال املمتدة لتالمس السماء عند األفق ،وكانت العباسية هناية القاهرة من هذا
اجلانب ،وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون الذين ألُِفوها يف أثناء خدمتهم يف اجليش؛ ألهنا
جتاور ثكناته ،فلما انتهت خدمتهم فيه أقاموا مساكنهم هناك ،على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها
أما ُسَّرة املدينة فكان ميدان «العتبة اخلضراء» ،منه كانت خطوط الرتام تبدأ سريها ،وفيه كانت
تق وم احملكم ة املختلط ة مي دان النش اط القض ائي بني األج انب واملص ريني يف العاص مة وم ا حوهلا،
وعلى مقربة منه كانت تقوم حديقة األزبكية ،اليت كانت قبل مائة عام بركة ،مث انقلبت حديقة
باسقة الشجر حماطة بأسوارها املنيعة .ومن ميدان العتبة اخلضراء ميتد شارع عابدين املعروف إىل
قص ر احلكم عن مشالك ،وتق وم مت اجر فخم ة عن ميين ك ،وينح در ش ارع املوس كي ذو الش هرة
وكان ميدان «العتبة اخلضراء» والشوارع املتفرعة منه يفصل بني األحياء املصرية واألحياء األجنبية
متجه ا إىل جب ل
يف الق اهرة ،فم ا امت د من ه غربً ا إىل الني ل ك ان مس تقر األج انب ،وم ا امت د ش رقًا ً
املقطم كان مستقر املصريني والشرقيني ،وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «املوسكي» ختتلط
فيه العناصر الثالثة :الشرقيون ،واألجانب ،واملصريون ،يزداد األجانب يف جانبه القريب من العتبة،
واملصريون يف جانبه املتصل بالسكة اجلديدة املؤدية إىل أحياء سيدنا احلسني واألزهر وما وراءها
إىل اجلبل من أحياء وطنية صميمة ،وكان سكان القاهرة يومئذ ال يبلغ عددهم الثلث ،بل الربع
كان طبيعيًّا — وتلك حال القاهرة يف العشرة األوىل من هذا القرن — أاَّل ترى فيها عمارات
شاهقة كالصروح اليت تراها اليوم ،وأن تت ألف منازهلا من طابقني أو ثالثة على األكثر ،وكانت
منازل الذوات وأهل اليسار أشبه باحلصون ،ترتفع جدراهنا اخلارجية لتسرت كل ما فيها وكل من
فيها ،ولتسرت السيدات املخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص ،وبني هذه اجلدران كان املنزل
يتألف من «سالملك» متصل بالباب اخلارجي خاص بالرجال ،ومن «حرملك» منفصل عنه هو
مس ت َقُّر الس يدات ،ويغلب أن تق وم أم ام «احلرمل ك» حديق ة ص غرية تتنس م الس يدات فيه ا اهلواء،
وكان والدي من املصريني ذوي اجلاه واليسار ،فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا
الطراز الذي وصفت ،وكان يقع على امليدان الذي يقوم فيه متثال «الظوغلي» ،وكان سالملكه
يقع إىل ميني الداخل من بوابته الكبرية ،مكونًا من غرفة واسعة للجلوس ،ومن غرفة أصغر منها،
ي دخل اإلنس ان إليهم ا من هبو فس يح أمامهم ا ،ويرتف ع الك ل عن األرض بض ع درج ات ،وك ان
يفص ل بني «الس الملك» و«احلرمل ك» جدار يزي د ارتفاع ه على قام ة الرج ل ،ومن ورائ ه حديقة
غُ رس فيها اجلازون ،وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد واألزهار املختلفة ،كما قامت
كنت إب ان طفول يت أقض ي معظم وق يت يف ه ذه احلديق ة ألعب م ع اثن تني من بن ات اجلواري الاليت
الطفلتني أو جبارية من اجلواري ،ومل تكن تناديين خمافة أن يسمع صوهتا خادم من الرجال ،أو أحد
مع ارف أيب اجلالس ني مع ه يف «الس الملك» ،فص وت املرأة ك ان يومئ ذ ع ورة ال جيوز أن ت داعب
آذان الرجال.
وكانت والديت من قريبات أيب ،وكان أهلها من األعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة
نكرا ،ولكنها كانت بارعة يف إدارة املنزل ،حتذق كل شئونه ،وكانت لذلك مدبِّرة يف غري
أمرا ً
ً
قرش ا يف غ ري موض عه ،وال تض ن على خ ادم ،رجاًل ك ان أو ام رأة ،مبا حيت اج إلي ه
ُش ٍّح ،ال ت رمي ً
وكانت والديت تستقبل السيدات من صديقاهتا مساء الثالثاء من كل أسبوع ،ويف هذا اليوم كان
اخلدم الرج ال يتمتع ون بإج ازة من بع د الظه ر ،وك ان وال دي يغ ادر املنزل فال يبقى ب ه رج ل إال
بوابنا العجوز املتهدم ليستقبل السيدات عند دخوهلن من البوابة وخروجهن منها ،وكنت أغتبط
مب ْق ِدم يوم الثالثاء؛ ألنه كان أشبه بأيام العيد ،وألن بعض املغنيات والراقصات من معارف والديت
كن حيضرن فيحيني هذا االجتماع النسائي ،وكنت قلَّما أحضر هذه االجتماعات إىل هنايتها ،فقد
ك انت وال ديت تبعث يب إىل احلديق ة ألعب فيه ا ،أو إىل ص ديقة يل من األطف ال ك ان م نزل أهله ا
قريبً ا من ا؛ ألن ه ذه االجتماع ات النس ائية ك ان ي دور فيه ا من احلديث م ا ال جيوز أن يس معه
أساسها الغيبة اليت ال ختلو من قصص يألفها النساء ،ويرين عيبً ا أن يسمعها األطفال ،أو يسمعها
الفتيان.
وكنت أغتبط بالذهاب إىل منزل صديقيت الصغرية اليت جتاورنا؛ ألن والدها كان رجاًل رقي ًق ا غاية
الرقة ،وكان حيبها أعظم احلب ،وكان حيبين ألنين صديقتها ،وكان ينتظرين يوم الثالثاء وقد أعد
يل هدية من اللعب اليت يغتبط هبا أمثايل ،فكنت لتوقعي اهلدية أسارع إىل تلبية والديت ،والذهاب
وملا بلغت الس ابعة بعث يب وال دي إىل املدرس ة الس نية ،ومل يكن بينه ا وبني دارن ا م ا ي دعو إىل
ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح ،وأعود معه كل مساء ،ومعي
كتيب وكراس ايت ،وكان معلم الق رآن والديانة واخلط الع ريب يش غل معظم حص ص ال دروس معن ا،
وفرائضه.
ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة اإلجنليزية ،ويف السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ
واجلغرافيا ،تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة اإلجنليزية ،ولذلك أسرعنا إىل التقدم فيها ،وأمكننا أن
نتكلم هبا.
ك ان أليب على ح دود م ديريَّيت القليوبي ة والش رقية عزب ة كن ا نقض ي هبا جانبً ا من الص يف يف ك ل
عام ،وكانت والديت تغتبط أشد االغتباط هبذه الفرتة اليت نقضيها يف الريف ،فقد كان حول منزلنا
حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه ،وكان كثريون من أهلنا األعيان يرتددون علينا هناك ،فيجدون
من والدي مودة ولط ًف ا ،وجتد والديت يف أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحواهلا لونً ا من
احلياة غري الذي أَلَِفته يف العاصمة ،فتتسلى هباتيك القريبات الودودات وبقصصهن ،وكنت أنا أجد
يف احلديق ة ويف احلق ول القريب ة م ا يبعث إىل نفس ي املس رة ،فلم ا بلغت الثالث ة عش رة من عم ري
احلياة ،وأنين موشكة مىت عدت إىل القاهرة أن ألبس مالبس النساء :احلربة والربقع ،وأال أخرج إىل
الطريق وحدي.
كانت عميت تكثر الرتدد علينا يف أثناء مقامنا بالعزبة ،وكانت سيدة من أعيان الريف احملرتمات يف
وس طها ،احملافظ ات على كرام ة األس رة ومكانته ا ،املتص دقات على الفق راء واملس اكني من أه ل
قريتها ،وكانت تكرب والدي عدة سنوات ،وكانت ورعة تقية ،قوية اإلميان باهلل ورسوله ،شديدة
على فروض ديين ،وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها ،سواء أفهمته أم مل تفهمه.
صورا من ماضي
وكانت عميت تقضي معنا أحيانًا أسابيع متعاقبة ،وكان هلا غرام بأن تقص علينا ً
ورا ال تطمئن إلي ه نفس ها ،وك انت تقص
احلي اة يف الري ف ،ه ذا املاض ي ال ذي تط ور يف نظره ا تط ً
علي من تلك الصور ما يثري عجيب؛ كانت تذكر أن أسرتنا اليت استأثرت بعُ ُم ِديَّة البلد ومشيختها،
َّ
وال ت زال تس تأثر هبم ا ،ك انت ُت َع ُّد بالعش رات وتقيم يف من ازل ع دة ،وأن الفالحني ال ذين ك انوا
يعملون يف أراضينا كانوا جيتمعون كل مساء بعد صالة املغرب يف صحن الدار الكبرية يتناولون
زوجها إال بعد أن يقتنع بأن الصلح بني الزوجني غري مستطاع.
وكانت تذكر أن هذه األبوة مل تكن مقصورة على أبناء األسرة والعمال يف مزارعنا ،بل كان أهل
اقتناع ا منهم بعدالته ،وبأنه رجل صاحل خياف اهلل وال يرضى
مجيعا ينزلون على حكم جدي ً
القرية ً
مبا يغضبه ،وأنه إىل ذلك رجل خرِّي يعني البائس واحملتاج ،ويأنف أن يتدخل يف شئون البلد غريب
علي إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية املصرية يف النصف الثاين من
وإن نسيت الكثري مما قصت َّ
القرن املاضي ،فهذه الصورة ال تزال عالقة بذاكريت ،وهي جتعلين أرى أهل تلك القرية يعيشون
عيش القبائ ل يف البادي ة ب رغم أهنم أه ل زراع ة ،ومل يكن ه ذا الن وع من العيش عجيبً ا يف ذل ك
العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش يف عزلة عن غريها من سائر القرى؛ ألن املواصالت السريعة مل
تكن ق د ابتُ ِك رت ،وك ان أهله ا ال يك ادون يس معون ش يئًا عن حي اة املدن ،إال م ا اتص ل منه ا
بعقائدهم وإمياهنم الراسخ باملشايخ واألسياد ،وتطلعهم لزيارة هؤالء األسياد للتربك هبم ،ومل يكن
تطاعا لغ ري ذوي اليس ار ومن يل وذون هبم ،أم ا س ائر أه ل القري ة فك انوا ميض ون حي اهتم
ذل ك مس ً
كادحني يف غري ملل ،مؤمنني بأن اهلل قسم احلظوظ ،وأنَّا لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا ،هو موالنا
كنت أطيل االستماع لعميت ،وأطرب حلديثها ،وكنت أشد اغتباطً ا مبا تقع عليه عيين من مناظر
هذا الريف املمتعة حني أتردد عليه غري مرة خالل السنة ،ومل يكن مجال الريف هو وحده الذي
مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثري إعجايب؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانًا بعد الغروب فأرى
بعيدا عن األعني،
أحدهم يقوم لصالة العشاء يف مصلى ساذج مفروش باحللفاء على حافة الرتعة ً
فيهتز لذلك قليب ،وتتأثر هبذا املنظر كل مشاعري ،فهذا الرجل املنفرد وسط ال هنايات املزارع يف
هذه الساعة من املساء يدعو ربه ويستغفره ،كان مثال الورع يف نظري ،ومل يَ ُدر خبلدي يف تلك
األي ام من طفول يت وبَ ْدء ص باي م ا عس اه ي دور برأس ه يف أثن اء ص الته أو بع دها من أفك ار ق د ال
يرضى اهلل عنها ،بل كنت أُومن بأنه يف وحدته قريب من ربه ،وأن حرصه على فروض دينه خري
جديدا من
ً وع دنا إىل الق اهرة يف أخريات الص يف من تلك السنة ،وأن ا موش كة أن أدخل مي دانًا
ميادين احلياة ،وأن ألبس مالبس النساء :احلربة ،والربقع ،وإين ألذكر اليوم يف ابتسامة ال ختلو من
مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة هلذا االنتقال من حرية الطفولة إىل قيود املرأة،
ه ذه الغبط ة ال يت ال تفس ري هلا إال التطل ع إىل املس تقبل ال ذي ُكتِب على جنس نا ،وال ذي ال نع رف
غ ريه ،وال مف ر لن ا من ه ،وال ذي تنتظ ره ك ل فت اة ،أو على األق ل ك انت تنتظ ره فت اة ذل ك العه د،
وت رى في ه أحالم الس عادة ،وي رى أهله ا في ه أحالم الطمأنين ة إىل احلي اة ،أقص د ال زواجَّ ،أواه ل و
ال أري د أن أس بق احلوادث ،أو أعرِّب عم ا ش عرت ب ه يف حلظ ة غ ري اللحظ ة ال يت أكتب عنه ا ،لق د
كنت يوم دخلنا القاهرة يف ذلك العام سعيدة تفيض عين املسرة ،لقد كنت أحبو من الطفولة إىل
الصبا يف صحة ونضارة ،وكانت حتيط يب كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك اجليل،
ك ان أب واي يس بقاين إىل رغب ايت ،وكنت أج د من حناهنم ا وعطفهم ا وبرمها م ا يس بغ على احلي اة
خري ألواهنا ،وما جيعلين أشعر كأنين يف جنة اخللد ،وكان تقدير أساتذيت يف املدرسة ،وتقدمي فيها
نعيما وغبطة.
يزيدين ً
وكان األمل الباسم الذي يفتح أجنحته األثريية للشباب املوشك أن يتفتح كما تتفتح األزهار ينشر
أمام خيايل الساذج ألوانًا من اهلناءة مل أعرف هلا يف احلقيقة مث ااًل ،وكان مرجع رضاي يومئذ عن
نفسي إىل ما عُ ِرفت به بني زمياليت يف املدرسة من حسن اخللق لشدة حمافظيت على صلوايت ،حىت
ك ان بعض معلم ايت يس مينين «رض وان اجلن ة» نس بة إىل ح ارس جن ة اخلل د؛ وذل ك لش دة عن اييت
مبصلى املدرسة.
معها ،وهلذه املناسبة جعلت أذهب معها إىل احملال التجارية لتختار القماش املناسب ،وإىل اخلياطة
وأعص ايب كم ا يس ري م اء احلي اة يف الش جر فيزي ده رواء ،ويزي د خض رة أغص انه هبج ة ،وأكم ام
ُّحا.
أزهاره تفت ً
كانت تذكر يل أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها ،فتطالب «اخلياطة»
بأن تضع حتت احلربة أسال ًكا ،أو حتشوها فتسرت هذه النحافة ،مع ذلك بدأت أشعر أن يف عيين
من اجلاذبية ما يغنيين عن هذا اجلمال املصطنع ،وإن مل أجرؤ على أن أذكر شيئًا من ذلك لوالديت.
ولبس ت ح ربيت وب رقعي ،وانتعلت ح ذاء ع ايل الكعب ،وأخ ذت أخ رج م ع وال ديت إىل األس واق،
ويف بعض زياراهتا لص ديقاهتا ف إذا ه ذا الش عور باألنوث ة ي زداد يف نفس ي ،وإذا حيويت ه تس رع إىل
النماء أضعاف منوها قبل أن ألبس احلربة والربقع ،ولعل ما شعرت به من اختالف نظرة الرجال
إيل يف أثن اء س ريي م ع وال ديت عم ا ك انت علي ه قب ل ه ذا احلج اب ق د ك ان س ببًا يف ه ذا التزاي د
َّ
وأدى ذل ك يب إىل مزي د من عن اييت هبن دامي ،فكنت أقض ي أم ام املرآة زمنً ا أص لح يف أثنائ ه من
ش أين ،وأالح ظ يف أثنائ ه أدق التفاص يل يف مظه ري ،فكنت أُع ىن ح ىت بالش عرات ال يت خترج من
حتت رأس املالي ة ونظامه ا عن اييت مبوض ع ال ربقع من أنفي ح ىت يزي د يف جاذبي ة نظ رايت ،مث أع ىن
بانسدال املالية على جسمي حىت تنم يف دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله.
ومل يزعجين حديث وال ديت عن حنافيت ،فقد كنت أق رأ بعض اجملالت والقصص اإلجنليزية ،فأرى
تصويرا للسيدات واألوانس النحيفات يشهد جبماهلن ويثري اإلعجاب هبن ،وكنت أقرأ مثل
ً فيها
ذل ك فيم ا ترتمجه ه ذه اجملالت عن األدب الفرنس ي .ليس ت النحاف ة إذن عيبً ا ل ذاهتا ،وإن أث ار
اجلسم الناعم البض من املعاين املألوفة يف مصر ما مل يكن يدور إذ ذاك خباطري ،مث إنين رأيت يف
ه ذه اجملالت والقص ص ح ديثًا عن جاذبي ة املرأة ،وأهنا ترج ع إىل رقته ا ودماث ة طبعه ا وحس ن
حديثها ،فأغراين ذلك بالعناية هبذه النواحي من أنوثيت أكثر من عناييت مبا أقاوم به حنافيت.
على أن ش يئًا من ذل ك كل ه مل يص رفين عن ص لوايت احتفاظً ا مبك انيت بني زمياليت وأس اتذيت يف
املدرسة ،وإرضاء لشعور داخلي كان يرتدد يف أعماق وجداين بأن الزينة ال ختالف التقوى ،وكم
شعورا بأن القراءة تُتِم الزينة ،صحيح أهنا ليست الزينة املادية اليت تلفت النظر
وازددت على الزمن ً
إىل أشخاصنا حني مسرينا يف األسواق ودخولنا على صديقات والديت ،بل هي الزينة املعنوية اليت
تزي د نظراتن ا ذك اء وجاذبيتن ا فعاًل يف النف وس ،ل ذلك أكببت على الكتب واجملالت ال يت كنت
أس تعريها من مكتب ة املدرس ة ،أو أش رتيها من املكتب ات ،وش عرت هلذا اإلكب اب بل ذة قوي ة ك انت
وخشي والدي حني رأى إكبايب على قراءة الكتب واجملالت اإلجنليزية أن يضر ذلك بلغيت العربية
وك ان ه ذا الش يخ على ح ظ غ ري قلي ل من ال ذكاء ،درس أول أم ره يف األزه ر ،مث انتق ل إىل دار
العل وم فج ود اللغ ة العربي ة هبا ،وجع ل مهه أن يطل ع على م ا يظه ر من كتب مؤلف ة أو مرتمجة إىل
العربي ة ليج اري العص ر وال يقب ع يف زواي ا املاض ي على ح د تعب ريه ،فلم ا ب دأ تدريس ه يل مل يلبث
حني وق ف على مبل غ علمي أن اخت ار يل كت اب «عيسى بن هش ام» للم ويلحي ،وكت اب «حتري ر
املرأة» لقاسم أمني ،وكتاب «الرتبية» الذي ترمجه حممد السباعي عن هربرت سبنسر.
علي من ألفاظه ا
غامض ا َّ
وق رأت جانبً ا من ه ذه الكتب الثالث ة مع ه ،ومسعت إلي ه يفس ر م ا رآه ً
وعباراهتا ،ف أغراين ذل ك باملض ي يف قراءهتا يف أثن اء وح ديت ،وتفتحت ل ذلك أم امي آف اق جدي دة
يقص ر دوهنا الكث ريات من أمث ايل ،ب ل يقص ر دوهنا كث ريون من رج ال ذل ك ال وقت ونس ائه ،وق د
كنت أقف َو ِجلة أحيانًا أمام ما أقرأ؛ ألنه خيالف مألوف احلياة يف مصر إذ ذاك ،وهو مع ذلك
مكتوب بلغتنا العربية ،فيجب أن نفكر فيه ،وأال نعترب قراءته جمرد تسلية لقتل الوقت ،وجيب أن
ننتهي من هذا التفكري إىل رأي ،وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانًا فيما يستوقفين ،فال يزيد على
يوم ا حلوار ج رى بني وال دي وأس تاذي حس بت حني مسعته أن الش يخ يب الغ
ولق د أخ ذين العجب ً
فيما يسميه «عصريته» ،فقد ذكر والدي أن شابًّا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية،
فكان جواب الشيخ :وماذا يف ذاك؟ مث تطور احلوار إىل جدل ديين كان الشيخ فيه دون والدي
تعصبًا لعقيدته ،فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من املسلم يتيح هلا الفرصة لتقف من زوجها أو
من أهل ه أو من خلطائ ه على حقيق ة اإلس الم ،ف إذا هي مل تعتنق ه من بع د ك انت مك ابرة ،وك ان
مص ريها إىل اجلحيم ،أم ا الش يخ ف رأى أهنا إذا مل تقتن ع حبج ة زوجه ا أو أهل ه أو خلطائ ه وعملت
صاحلًا فال جناح عليها أن تقيم على دينها ،وأن يغفر اهلل هلا ،ويدخلها اجلنة.
كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بني الرجلني ،وكان اجلدال بينهما يبلغ احلدة ،مث ال يغري ذلك
من ثقة والدي بالشيخ ،واطمئنانه حلسن إميانه ،فإذا نودي للصالة من مئذنة املسجد القريب من
كنت أمسع وأرى ما حيدث من مثل ذلك فال أقف طوياًل عنده ،ومن كان يف مثل سين يومذاك ال
يقف طوياًل عند شيء ،بل متر أمامه األحداث واآلراء ،فيلم هبا إملامات سريعة تبقيها يف ذاكرته
لتنضم على األيام ألشباهها ،مث تكون موضع تفكري وعربة من بعد ،حني نصبح قادرين على أن
حكما ذاتيًّا على ما نرى ونسمع ،وكذلك بقيت ذاكريت ختتزن ما استطاعت اختزانه ،حىت
نبدي ً
وكون وجودي الذايت وكياين املعنوي.
إذا آن األوان تفاعل ذلك كله يف نفسيَّ ،
تعاقبت األيام واألسابيع والشهور ،وانقضت السنة الدراسية ،واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من
أوائل الصيف ،مث ذهبنا إىل العزبة ،وبدأ أقاربنا يزوروننا ،وأقبلت عميت وعلى رأسها طرحة بيضاء
على خالف م ا أَلِفت من لب اس رأس ها يف األع وام املاض ية ،إذ ك انت طرحته ا س وداء؛ ذل ك ألهنا
س افرت إىل احلج از وأدت فريض ة احلج ،واس تبقت الطرح ة البيض اء من لب اس إحرامه ا ،ومل يكن
حديثها ذلك الصيف عن ماضي احلياة يف قريتنا العزيزة ،بل كان كله عن احلج واحلجاز والكعبة،
واسرتاحة قلبها له ،وكنت أشعر يف بعض ما تقصه بأنه أدىن إىل األساطري ،لكنها كانت ترويه يف
حرارة إميان تنقل صداه إىل قلب والديت ،فال تفتأ تكرر :يا خبت من زار النيب.
ولو أنين استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عميت عن حجها لتألَّف منه كتاب شائق ،فقد كان
أستاذي الشيخ أخربين قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا ،ويسألين عما قرأته.
وجاء الشيخ إىل العزبة يف الشهر األخري من أشهر الصيف ،وكنت يف فرتة هذه اإلجازة املدرسية
ق د أس رعت يف النم و وب دأ تكوي ين النس وي ب رغم حنافيت ،وش عرت يف نظ رايت جباذبي ة قوي ة كنت
مجيع ا على
يكن يذرين وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه يل؟! فقد الحظت أنه كان حيضر دروسي ً
غري عادته من قبل ،وما أحسبه خاجلته شبهة يف خلويت مع الشيخ ساعة الدرس ،أو خالطت نفسه
ريبة من أمره ،فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة ،وإمنا أحسبه خشي قالة الناس ،وقالة النساء
أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتين السنون من بعد أن الناس يف مصر ،من أهل املدن كانوا أو من
أه ل الري ف ،يس رعون إىل الريب ة يف غ ري موض ع الريب ة ،ويتن اقلون من األح اديث الكاذب ة يف أم ر
غ ريهم م ا يس رعون إىل تص ديقه .ه ذا يف اعتق ادي ه و م ا دع ا وال دي ملص احبة الش يخ س اعات
تدريسه يل ،وخباصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عناييت هبذه الدروس واستفاديت منها.
وج اءت مولي ات الص يف ،وآن لن ا أن نع ود إىل العاص مة ،وإنن ا لنأخ ذ أهبتن ا للع ودة ،إذ ش عرت
وال ديت مبرض ألزمه ا فراش ها ،وت ولت عم يت احلاج ة العناي ة هبا ،فك انت تالزمه ا ليله ا وهناره ا،
وكانت تتلو وهي يف جملسها إىل جانبها كل ما ع رفت من ُرقًى وتعاويذ ،وكانت ت دير البخور
يوم ا بع د ي وم ،واس تدعى وال دي
على رأس ها تط رد ب ه حس د احلاس د ،لكن املرض ك ان يش تد ً
الط بيب من أق رب مدين ة ،فلم ا فحص وال ديت أش ار بض رورة إس راعنا إىل الق اهرة أو بإدخاهلا
مستشفى املدينة القريب منا ،وآثر والدي أن نعود إىل القاهرة فعدنا إليها مسرعني.
وجاء الطبيب الذي اعتادت والديت أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت ،ففحص وأطال الفحص
ودقق فيه ،مث كتب تذكرة دوائه ،ووعد أن يعود املريضة بعد ثالثة أيام ،وخرج والدي معه من
غرف ة املريض ة ،ووقف ا هنيه ة يتهامس ان ،وبع د أن ودع ه ع اد يؤك د لوال ديت أن األم ر بس يط ،ولن
ميض ي أس بوع ح ىت تكون ق د اس رتدت عافيته ا ،ورأيت على وج ه وال ديت س يما األمل ،وإن ردت
ويف املس اء ج اء وال دي بع د أن خل ع مالبس ه ،ومتطى على «كنب ة» تواج ه الس رير ال ذي رق دت
وال ديت في ه ،بع د أن دع ا اخلادم وأمره ا ففرش ت عليه ا مالءة ،ووض عت على طرفه ا املالص ق
للحائ ط خمدة ن وم ،وعجبت ملا رأيت من ذل ك ،فلم أر وال دي من قب ل ين ام على ه ذه «الكنب ة»
قط ،وأحلت عليه والديت أن ينام على السرير يف الغرفة اجملاورة لغرفتها فأىب قائاًل :لقد منت أنت
وغادرت الغرفة وقد زادين م ا رأيت ومسعت إعجابً ا ب أيب ،وهبذا احلب املتب ادل ،ومتنيت أن أسعد
وج اء الط بيب يف موع ده وأع اد الفحص وخ رج بع ده م ع وال دي ،ويف ص باح الغ د علمت أن ه
سيحض ر ومع ه طبيب ان آخ ران من كب ار األطب اء إلج راء «كونس لتو» يشخص ون بع ده املرض،
ويصفون عالجه .وجاء األطباء الثالثة بعد الظهر من ذلك اليوم ،وفحصوا املريضة وما عوجلت به
كانت والديت تذكر لألطباء الثالثة ،يف أثناء الفحص ،ما ينتاهبا الوقت بعد الوقت من آالم مربحة،
وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم خيففون آالمها ويربئوهنا من علتها ،وكان األطباء ينظر
وردا
بعضهم إىل بعض لدى مساع حديثها ،مث يقول كبريهم العبارات املطمئنة املألوفة ،وكأنه يتلو ً
من األوراد أو دعاء من األدعية اليت تتلوها عميت احلاجة ،فال يفر ثغره عن ابتسامة ،وال يلمع يف
عينيه معىن الرجاء الذي طمعت والديت يف أن ترى بريقه ،فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إىل
غرف ة املريض ة نظ رت إلي ه نظ رة اس تفهام ،فق ال :إهنم يستحس نون نقل ك إىل املستش فى زي ادة يف
العناي ة ب ك ،وأجابت ه وال ديت منزعج ة :املستش فى؟! كال ،ك ل ش يء إال املستش فى ،وإذا ك ان ق د
ُكتِب يل أن أموت ،فخريٌ يل أن أموت على فراشي هذا ،أما إن كان اهلل قد كتب يل الشفاء ،فلن
ورأيت يف عينيها دمعة ترتقرق ،فأخذ والدي يسكن من روعها ،ويذكر هلا أنه كان على يقني من
أهنا لن تقبل الذهاب إىل املستشفى ،وأنه ذكر ذلك لألطباء ،ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما
ق الوا ،وأهنم ي رون اخلري يف أن تك ون يف عناي ة ممرض ة ورقاب ة ط بيب ،مث إن وال دي أض اف :وق د
ذكرت هلم أننا نستطيع أن ندعو املمرضة لتكون إىل جانبك هنا ،وأن طبيبك يستطيع أن يعودك
وج ف ال دمع يف عني وال ديت ،ونظ رت إىل وال دي نظ رة عرف ان ،وب دت على ثغره ا املت أمل ش به
ابتس امة ،لكنه ا ق الت :ال ض رورة ملمرض ة ،فأن ا ال أري د أن تطَّل ع أجنبي ة على دخائ ل بيتن ا ،وإذا
أمكن أن حتضر عميت احلاجة إىل هنا ففيها الربكة ،ويف يدها الشفاء.
وكانت والديت حتب عميت حقًّا ،وتبادهلا عميت هذا احلب الصادق ،وقد رأيتها حتضر صبح الغد
من ه ذا احلديث ،وت دخل على وال ديت تقبِّله ا وتك رر هلا ال دعوات بالش فاء ،ويف حلظ ات خلعت
مالبس السفر ،وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء ،وجلست إىل جانب والديت ،وأخذت تتلو
من األدعية ما اطمأنت له املريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية ،لعل سببها أنه أزال ما تبدَّى
وقد قامت عميت مبهمة التمريض بإخالص وإتقان ،ملا بينها وبني والديت من الود الصادق واحملبة
اخلالص ة ،فلم تكن املريض ة ت رغب يف ش يء إال س بقت إىل تنفي ذ إرادهتا هبم ة ال تع رف الكالل،
وكم من ليلة باتت إىل جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار احلجاز ما تتسلى
مين اهلل عليه ا بالش فاء أن ت ؤدي فريض ة احلج ،وت زور الق رب النب وي وتتمت ع بلمس ش بَّاكه ولثم ه،
ووالديت تس مع ل ذلك فيع اود نظراهتا أمل ي رد إليها احلي اة بع د ذبوهلا ،وال أحسب ممرضة ك انت
تستطيع — وإن بلغت من الدقة يف عملها أعظم مبلغ — أن ختدم املريضة خبري مما كانت ختدمها
وكان الطبيب يعود والديت كل يوم ،بل كان يعودها مرتني أحيانًا ،وكان والدي يقف إىل جانبه
يف أثناء هذه العيادة ،فإذا فرغ منها وطمأن املريضة بأن صحتها يف تقدم ،خرج مع والدي ووقفا
بره ة يتح دثان ،وق د الحظت غ رية م رة أن أس ارير وال دي خالل ه ذا احلديث ك انت أدىن إىل
االنقب اض ،وأن ه ك ان ي ودع الط بيب إىل الب اب ،مث ال يع ود إال بع د زمن لعل ه ك ان حياول في ه أن
يدخل غرفة املريضة بوجه تبدو عليه مالمح الطمأنينة ،وال ينم عن شيء من اليأس واألمل!
ومل يكن ش يء يبعث الطمأنين ة إىل نفس وال ديت م ا تبعثه ا إليه ا ص لوات عم يت احلاج ة ودعواهتا
كثريا
الصادرة من القلب ،فقد كانت تؤدي الفرائض ألوقاهتا على مقربة من سرير والديت ،وكنت ً
ما أأمت هبا ،فإذا ما قضيت الصالة رفعت كفيها ضارعة إىل اهلل أن يشفي املريضة لتتمتع بشباهبا
وتف رح بابنته ا ،وك انت جنواه ا يف أثن اء ه ذه ال دعوات ختالطه ا ح رارة اإلميان الص ادق والرج اء
ض ال قِبَ ل هلا
برغم هذه الدعوات ،وبرغم العناية الصادقة ،شعرت والديت يف إحدى الليايل بأمل مُمِ ٍّ
من هذا األمل مبا يضفيه على زوجه من حمبة وعطف وحنان ،لكن األمل قد بلغ باملريضة ،فكانت
تتأوه وترسل من أعماق صدرها أن ٍ
َّات تذيب اجلماد .وأسرع والدي إىل الطبيب يف منزله ،فكان َّ
كل ما استطاعه أن حقن املريضة باملورفني تسكينًا حلدة األمل ،وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه
الل ذين ش اركاه يف «الكونس لتو» ويف تقري ر العالج .وه دَّأت حقن ة املورفني من ش دة األمل،
نوم ا
وأغمضت والديت عينيها يف غفوة ذكرت يل عميت من بعد أهنم كانوا يرجون أن تنام بعدها ً
هادئً ا ،لكن الص باح تنفس عن مع اودة األمل للمريض ة ،وملا ج اء األطب اء وفحص وا املريض ة ك انت
سيماهم تنطق مبعاين اليأس ،وال يبدو يف نظرات بعضهم لبعض شيء من األمل أو الرجاء ،وكتبوا
أفأستطيع اليوم أن أصف حايل يف أثناء مرض والديت؟ لقد انقضى اآلن على ذلك الزمن ما يزيد
على ثالثني سنة ،وال أزال مع هذا أذكر كيف كنت يف ذلك الظرف القاسي أدور يف أحناء الدار،
تقرا ،مث أرت د إىل غرف ة املريض ة ف إذا مسعتها تت أوه أو تئن
ك أين ال روح احلائر ال يع رف لنفس ه مس ًّ
اضطرب قليب يف صدري ،وشعرت باألمل حيز يف كبدي ،فارتسم ذلك على قسمات وجهي ،مث مل
علي من عظيم عطفه وسابغ حنانه ،بل لقد كنت أشعر حني يزيد به ِ
يُغنين ما كان يسبغه والدي َّ
احلن ان عن م ألوف عطف ه ،ك أنين أص بحت يتيم ة األم ،وكأن ه يري د أن يك ون أيب وأمي يف وقت
واحد ،وكانت عميت حتاول جاهدة أن تقنعين أن والديت وهلل ألف محد وشكر تتقدم حنو العافية،
وت ذكر يل أهنا رأت رؤي ا تفس ريها أن املريض ة س تعود إىل مث ل ص حتها يف خ ري أي ام عافيته ا ،وأن
رؤياه ا ال تك ذب أب ًدا ،ف أطمئن حلديثها بعض الش يء ،مث ال ألبث حني أمسع أنَّات األمل تكظمه ا
املريض ة جه دها ،كلم ا رأت ين مقبل ة عليه ا ،أن ت ذهب طم أنينيت وأش عر يف دخيل ة نفس ي وأعم اق
وجداين بأنين مقبلة على أمر جلل ،فتزداد روحي حرية ،ويزيدين احلنان والعطف األبوي وحشة
على وحشة.
يوم ا حىت أجثو أمامها وأطلب
وتشتد خماويف أحيانًا ،وأكاد أسائل نفسي :أأذنبت يف حق والديت ً
يوم ا ،ودخلت عليه ا أري د أن أقبِّل وجهه ا وي ديها
عفوه ا ومغفرهتا؟ ب ل لق د اع تزمت ذل ك ً
إيل إشارة
وقدميها ،وأسأهلا العفو عما لعله سلف مين ،لكنها إذ رأتين أختطى الباب حنوها أشارت َّ
أمرا ،فلما دنوت منها أجلستين على السرير فهمت منها أهنا تريد أن تطالعين بشيء أو تُ ِس ُّر َّ
إيل ً
إىل جانبها ،وأخذت تقبِّلين وتبكي ،وكأهنا هي املذنبة تطلب الصفح ،ومل أملك عربايت فوضعت
خدي على خدها ،واختلط دمعي بدمعها ،ومل تنبس أيَّتُنا ببنت شفة.
وإنن ا لك ذلك إذ دخ ل علين ا وال دي ،ورأى م ا حنن في ه ،ف اهنمرت من مآقي ه ع ربات جع ل حياول
حبسها ،مث تقدم حنونا ،وقد اختنق صوته ،وأخذ يقول لزوجته :آمين باهلل يا حبيبيت ،إنه الرءوف
الرحيم ،وعما قريب سيشفيك ،فال ترهقي نفسك ،وال ترهقي هذه الصبية العزيزة مبا ال طاقة هلا
يوم ا من غرفيت ،فإذا عميت جالسة على باب غرفة والديت ،وإذا هي ال
فقد خرجت مطلع الفجر ً
تكاد تراين حىت تأخذين إىل صدرها وقد هزه البكاء املختنق وتقبلين وتقول :األمر هلل يا بنييت ،واهلل
حيفظ لك أباك .مث إهنا مل تطق كتمان بكائها ،فعال صوهتا به ،وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا،
وأقبل أيب وعليه ثياب النوم وما يزال ،وأخذ يسكن من أملي ،وكل مالحمه تدل على أنه ال يقل أمل ا
ً
عين ،وعرباته حتدث عن عميق حزنه ،وملا تنفس الصبح جاء اخلدم وهن يتوقعن املصاب الفاجع،
فلما عرفنه ارتفعت أصواهتن بالصريخ املزعج ،وبعد سويعة أقبلت جاراتنا ،وانقلب البيت مناحة
وتركن ا وال دي إىل غرفت ه وه و ي دق رأس ه كأمنا خ رج األمل ب ه عن ص وابه ،وأقب ل ص ديق ل ه من
جرياننا مسع الصريخ ،وكان يرتدد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته ،فلما رآه والدي
ناداه قائاًل :أرأيت يا أخي خراب بييت؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه ،ويذكر له أن
أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب ،فال مفر له ،برغم هول املصاب ،من أن يتجمل بالصرب
حني يتقب ل الع زاء ،وذهب ال رجالن إىل الس الملك بع د أن ذهب وال دي إىل غرفت ه ،وارت دى
مالبسه حماواًل جهد طاقته أن يبدو يف وقاره الذي اشتهر به وعُرف عنه.
يسري شارد الذهن ،مشتت اللب كأمنا أذهله اخلطب الذي نزل بنا! أو كأمنا يفكر يف أمر خطري،
وأنا أشد ما أكون حاجة إليه .وكان والدي حياول ما استطاع أن خيفف لوعيت ،غري متكلف يف
حماوالت ه إال م ا ميلي ه علي ه وجدان ه ،وتفيض ب ه عاطف ة األب وة ،وق د اختص هبا االبن ة الوحي دة ال يت
رزقها منذ تزوج ،وكنت أملح يف عينيه حني حيدثين أنه مل يبق له يف احلياة أمل غريي ،وكنت أمتىن
لذلك لو استطعت أن أدخل إىل قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف
الرقيق ،ومل جير يف خاطري أن أيب ميكن أن يتزوج بعد موت أمي ،وإنين لفي براءة صباي إذ طرق
مسعي ح ديث يتبادل ه اخلدم فيم ا بينهن وهن ال يرين ين ،ح ديث أفزع ين ومل أك د أص دقه ،ق الت
إحداهن إهنا مسعت عميت تتحدث إىل أخيها بأنه ال يزال يف فتوة رجولته ،وأن بيته ال يصلح إال
ملن حنب ف ذلك واجب م ا ع اش احملب وب ،أم ا إذا اخت اره اهلل إىل ج واره فق د س قط عن ا ه ذا
التكلي ف؛ ألن قيم ة الوف اء يف تبادل ه ،ف إذا مل يكن متب اداًل فال مس وغ لوج وده ،واألموات حيلونن ا
مبوهتم من واجب الوف اء هلم ،مث إن عم يت ض ربت على ال وتر احلس اس من قلب أخيه ا ،فق الت:
ولعل اهلل قد كتب لك ذرية صاحلة من البنني حيفظون امسك ،ويفتحون بيتك ،والزواج سبيلك إىل
هذه الذرية ،وابنتك هذه ال تستطيع أن تعيش وحدها يف هذا البيت الفسيح ،فهي حباجة إىل من
ومسع والدي هذا الكالم من عميت فأطرق قلياًل ،مث خرج بالصمت عن كل جواب ،ومسعت أنا
ه ذا الكالم من خادم ات ال بيت ف أخرجين من أحالمي الس وداء حزنً ا على أمي إىل خماوف أش د
سوادا؛ إشفاقًا من املستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعين يف جحيمه ،لكنين مل أكن أستطيع أن أقول شيئًا
ً
شاهدا بعدم رضاه عما
أو أنبس بكلمة ،وكل الذي فعلت أن منَّيت نفسي أن تكون إطراقة أيب ً
ولست أدري أأفضت عميت إىل والدي مبيلي إىل العزلة ،أم أنه الحظ هذا امليل من تلقاء نفسه ،أم
أنه كان صرحيًا حني قال يل إن عميت تريد العودة إىل قريتها ،وإنه يؤثر أن نغرِّي اهلواء بالسفر إىل
أسبوعا أو أسبوعني؟
ً اإلسكندرية واملقام هبا
منا.
وك ان هلذا التغ ري يف ل ون حياتن ا من األث ر احلس ن على نفس ييت م ا خف ف بعض الش يء من عمي ق
نش ط
لوع يت ،فق د كنت أج د من ه واء البح ر املنعش يف ه ذه األي ام األوىل من فص ل اخلري ف م ا يُ ِّ
مسرحا ألفكار
ً ذابل حيوييت ،وكنت أجد يف زرقته املمتدة إىل األفق حيث يتعانق املاء والسماء
مبهم ة ي ذوب خالهلا ج وى احلزن ال ذي ن اء ب ه ص دري ،وك ان ص ريف أمواج ه املتكس رة على
نوعا من السآمة املرحية اليت تدعونا
الشاطئ يداعب مسعي وكأنه أنغام يبعث تشاهبها إىل األعصاب ً
إىل النوم كما تدعو أنغام األم طفلها الرضيع إليه.
مث إنين قلما كنت أرى ما ينبهين إىل ذكر والديت ،فقد كان والدي خيرج كل صباح ،مث ال يعود
إال لتن اول طع ام الغ داء ،وليسرتيح بعده يف س ريره ساعة خيرج بع دها من جدي د ،ومل أكن أس أله
كيف كان يقضي وقته ،وكانت الطاهية تدخل مطبخها يف الصباح إلعداد اإلفطار ،مث إلعداد
طعام النهار ،أما اخلادم الصغرية فكانت من اإلسكندرية ،ومل أكن قد رأيتها من قبل ،وقلما كنت
أجد الفرصة للتحدث إليها ،إال حني تصحبين ساعة خروجي بعد الظهر أسري على شاطئ البحر،
علي أنب اء تافهة عن خمدوميها أص حاب الط ابق ال ذي نقيم به ،ومل
ويف تل ك الساعة ك انت تقص َّ
يُثِ ر عناييت من حديثها إال إعجاهبا الذي ال حد له جبمال سيدهتا ،ومجال أخت هذه السيدة اليت
تزوجت قبلها ،مث ظلت سنوات مع زوجها مل تنجب فطلقها؛ ألهنا مل ترض أن تشاركها فيه امرأة
على أن ه ذه املس كينة احملس نة ال يت خففت بعض لوع يت مل تبل غ أن أنس تين ف ادح مص ايب ،وال
حجبت ع ين طي ف املتوف اة العزي زة ال يت أذاق ين موهتا طعم اليتم املري ر ،فق د ك انت تتب دى يل يف
إيل
أحالمي ،وكنت أرى طيفه ا يف ش به اليقظ ة وأن ا أنظ ر من ال دار إىل غاي ة األف ق ،وكأهنا ترن و َّ
وكثريا ما كنت أناجي السماء عند هذا األفق البعيد أسائلها :مل حرمين
بعيون ممتلئة حنانًا وعط ًفاً ،
اهلل أمي وما جنت ذنبًا ،بل كانت الرب والرمحة بكل حمتاج إىل الرب وإىل الرمحة؟!
وكنت أعيد هذا السؤال على نفسي إذا تبدت يل أمي يف أثناء النوم ،مث استيقظت بكرة الصباح
دامعة العني منقبضة النفس ،واستبد يب هذا السؤال أيامنا األخرية باإلسكندرية ،حىت كنت أخرج
أحيانًا من صاليت قبل أن أمتها خمافة أن جيزيين اهلل بالتعرض لقضائه أو االعرتاض عليه ،وكنت يف
صباي وشبايب ،وجعلين أرى املستقبل أمامي أسود ال يبدد ظلمته خيط من ضياء؟
وأدت يب هذه احلال إىل إمهال بعض صلوايت ،وكنت من قبل حريصة على أال يفوتين فرض منها،
وعدنا إىل القاهرة ملوعد بدء الدراسة يف املدرسة السنية ،فلما كنت بني زمياليت ومعلمايت مل أجد
ب دًّا من الع ودة إىل العناي ة مبص لى املدرس ة حمافظ ة على مك انيت ،واخنرطت يف ال درس ،وض اعفت
م ذاكرة عل ومي يف ال بيت ،ووج دت يف ذل ك مس الة عن مهي ،وج اءت عم يت من جدي د فت ولت
تدبري املنزل ،مث أعفتين املذاكرة من طول املكث معها ،واطردت حياتنا على هذه الوترية زمنً ا كان
يف نفس ي من ناحيته ا تل ك احلفيظ ة ال يت ش عرت هبا من قب ل ،وتع ودت حي اة اليتم وأخذت أش عر
بضرورة االعتماد على نفسي يف كل شأن من شئوين ،وبأين مطالبة فوق ذلك باالشرتاك مع عميت
يف ت دبري ش ئوننا املنزلي ة ،وخباص ة م ا تعل ق براح ة أيب يف ملبس ه ويف غرف ة نوم ه ،آمل ة أن جيد يف