You are on page 1of 27

‫ما أكرب الفرق بني القاهرة اليوم‪ ،‬يف هذه العشرة السادسة من القرن العشرين‪ ،‬وبينها أيام طفوليت‬

‫وص باي يف العش رة األوىل من الق رن نفس ه! وم ا أك رب الف رق بني احلي اة يف ه ذه املدين ة العاص مة‬

‫اليوم‪ ،‬واحلياة فيها إذ ذاك!‬

‫أن ا اليوم أس كن ش ارع اهلرم على مقرب ة من هنايت ه عن د فن دق «مين ا ه اوس»‪ ،‬وتقل ين الس يارة إىل‬

‫قلب املدين ة يف عش ر دق ائق أو حنوه ا‪ ،‬وذل ك م ا مل يكن حيلم ب ه أح د يف أخري ات الق رن املاض ي‬

‫وأوائل هذا القرن‪ ،‬مل يكن أحد يومئذ يسكن شارع اهلرم‪ ،‬بل كان النيل يفصل بني «القاهرة»‬

‫وم ا على ش اطئه املقاب ل هلا من م زارع ممت دة إىل م دى النظ ر‪ ،‬ومل تكن الس يارات يومئ ذ وس يلة‬

‫املواصالت‪ ،‬بل مل تكن موجودة بالنسبة لسواد الناس‪ ،‬ولست أذكر مىت جاءت أول سيارة إىل‬

‫مص ر! لكن الس يارات بقيت بعض مظ اهر ال رتف إىل م ا بع د احلرب العاملي ة األوىل؛ أي إىل س نة‬

‫‪ ،١٩٢٠‬فكان طبيعيًّا أن تظل رقعة املدينة ضيقة مع وسائل مواصالهتا‪ ،‬وأسرعها عربات اخليل‬

‫— احلن اطري — واحلم ري‪ ،‬أم ا ال رتام ال ذي ب دأ يس ري يف الس نوات اخلمس األخ رية من الق رن‬

‫املاضي‪ ،‬فلم تكن شبكته قد امتدت إىل ما وراء حدود املدينة كما صورهتا‪.‬‬

‫يوما من سنة ‪ ١٩٠٩‬ذهبت فيه مع أيب إىل ضاحية «مصر اجلديدة»‪ ،‬وكانت يف بدء‬
‫مث إين ألذكر ً‬
‫إنش ائها‪ ،‬فلم يكن هبا غ ري ع دد قلي ل من املن ازل‪ ،‬على مقرب ة من فن دق «هليوب وليس ب االس»‪،‬‬

‫ويومئذ مسعت أيب يبدي عجبه‪ :‬كيف تغامر الشركة البلجيكية القائمة هبذا املشروع باختيار تلك‬

‫البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها‪ ،‬لكن املصريني كانوا يومئذ يؤمنون بعبقرية األجانب‪ ،‬حىت‬
‫ليكادون يضعوهنم يف مصاف املالئكة أو يف مصاف الشياطني‪ ،‬ولذلك كانوا حيتاطون يف احلكم‬

‫على تصرفاهتم القتناعهم بأن هؤالء األجانب يدركون ما ال ندرك‪.‬‬

‫ولق د آمنت يومئ ذ مبا أب داه أيب من عجب؛ ألن ه أيب‪ ،‬وألن ين رأيت ال رتام األبيض ال ذي يص ل‬

‫«القاهرة» ﺑ «مصر اجلديدة» ينساب بعد العباسية يف صحراء خالية ال حياة فيها‪ ،‬فال ترى العني‬

‫على جانبيه إال الرمال املمتدة لتالمس السماء عند األفق‪ ،‬وكانت العباسية هناية القاهرة من هذا‬

‫اجلانب‪ ،‬وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون الذين ألُِفوها يف أثناء خدمتهم يف اجليش؛ ألهنا‬

‫جتاور ثكناته‪ ،‬فلما انتهت خدمتهم فيه أقاموا مساكنهم هناك‪ ،‬على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها‬

‫عن املدينة وعن مواصالهتا‪.‬‬

‫أما ُسَّرة املدينة فكان ميدان «العتبة اخلضراء»‪ ،‬منه كانت خطوط الرتام تبدأ سريها‪ ،‬وفيه كانت‬

‫تق وم احملكم ة املختلط ة مي دان النش اط القض ائي بني األج انب واملص ريني يف العاص مة وم ا حوهلا‪،‬‬

‫وعلى مقربة منه كانت تقوم حديقة األزبكية‪ ،‬اليت كانت قبل مائة عام بركة‪ ،‬مث انقلبت حديقة‬

‫باسقة الشجر حماطة بأسوارها املنيعة‪ .‬ومن ميدان العتبة اخلضراء ميتد شارع عابدين املعروف إىل‬

‫قص ر احلكم عن مشالك‪ ،‬وتق وم مت اجر فخم ة عن ميين ك‪ ،‬وينح در ش ارع املوس كي ذو الش هرة‬

‫العاملية؛ ألنه كان شريان النشاط التجاري باملدينة‪.‬‬

‫وكان ميدان «العتبة اخلضراء» والشوارع املتفرعة منه يفصل بني األحياء املصرية واألحياء األجنبية‬

‫متجه ا إىل جب ل‬
‫يف الق اهرة‪ ،‬فم ا امت د من ه غربً ا إىل الني ل ك ان مس تقر األج انب‪ ،‬وم ا امت د ش رقًا ً‬
‫املقطم كان مستقر املصريني والشرقيني‪ ،‬وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «املوسكي» ختتلط‬
‫فيه العناصر الثالثة‪ :‬الشرقيون‪ ،‬واألجانب‪ ،‬واملصريون‪ ،‬يزداد األجانب يف جانبه القريب من العتبة‪،‬‬

‫واملصريون يف جانبه املتصل بالسكة اجلديدة املؤدية إىل أحياء سيدنا احلسني واألزهر وما وراءها‬

‫إىل اجلبل من أحياء وطنية صميمة‪ ،‬وكان سكان القاهرة يومئذ ال يبلغ عددهم الثلث‪ ،‬بل الربع‬

‫من سكاهنا اليوم‪.‬‬

‫كان طبيعيًّا — وتلك حال القاهرة يف العشرة األوىل من هذا القرن — أاَّل ترى فيها عمارات‬

‫شاهقة كالصروح اليت تراها اليوم‪ ،‬وأن تت ألف منازهلا من طابقني أو ثالثة على األكثر‪ ،‬وكانت‬

‫منازل الذوات وأهل اليسار أشبه باحلصون‪ ،‬ترتفع جدراهنا اخلارجية لتسرت كل ما فيها وكل من‬

‫فيها‪ ،‬ولتسرت السيدات املخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص‪ ،‬وبني هذه اجلدران كان املنزل‬

‫يتألف من «سالملك» متصل بالباب اخلارجي خاص بالرجال‪ ،‬ومن «حرملك» منفصل عنه هو‬

‫مس ت َقُّر الس يدات‪ ،‬ويغلب أن تق وم أم ام «احلرمل ك» حديق ة ص غرية تتنس م الس يدات فيه ا اهلواء‪،‬‬

‫بعيدات عن أعني الرجال‪.‬‬

‫وكان والدي من املصريني ذوي اجلاه واليسار‪ ،‬فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا‬

‫الطراز الذي وصفت‪ ،‬وكان يقع على امليدان الذي يقوم فيه متثال «الظوغلي»‪ ،‬وكان سالملكه‬

‫يقع إىل ميني الداخل من بوابته الكبرية‪ ،‬مكونًا من غرفة واسعة للجلوس‪ ،‬ومن غرفة أصغر منها‪،‬‬

‫ي دخل اإلنس ان إليهم ا من هبو فس يح أمامهم ا‪ ،‬ويرتف ع الك ل عن األرض بض ع درج ات‪ ،‬وك ان‬

‫يفص ل بني «الس الملك» و«احلرمل ك» جدار يزي د ارتفاع ه على قام ة الرج ل‪ ،‬ومن ورائ ه حديقة‬
‫غُ رس فيها اجلازون‪ ،‬وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد واألزهار املختلفة‪ ،‬كما قامت‬

‫يف أحد أركاهنا «جبالية» صغرية جتري فيها املياه‪.‬‬

‫كنت إب ان طفول يت أقض ي معظم وق يت يف ه ذه احلديق ة ألعب م ع اثن تني من بن ات اجلواري الاليت‬

‫إيل بإحدى هاتني‬


‫يعملن يف خدمة املنزل‪ ،‬وكانت والديت إذا أرادت دعويت إىل داخل الدار بعثت َّ‬

‫الطفلتني أو جبارية من اجلواري‪ ،‬ومل تكن تناديين خمافة أن يسمع صوهتا خادم من الرجال‪ ،‬أو أحد‬

‫مع ارف أيب اجلالس ني مع ه يف «الس الملك»‪ ،‬فص وت املرأة ك ان يومئ ذ ع ورة ال جيوز أن ت داعب‬

‫آذان الرجال‪.‬‬

‫وكانت والديت من قريبات أيب‪ ،‬وكان أهلها من األعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة‬

‫نكرا‪ ،‬ولكنها كانت بارعة يف إدارة املنزل‪ ،‬حتذق كل شئونه‪ ،‬وكانت لذلك مدبِّرة يف غري‬
‫أمرا ً‬
‫ً‬
‫قرش ا يف غ ري موض عه‪ ،‬وال تض ن على خ ادم‪ ،‬رجاًل ك ان أو ام رأة‪ ،‬مبا حيت اج إلي ه‬
‫ُش ٍّح‪ ،‬ال ت رمي ً‬

‫برغم أهنا مل تكن ترى اخلدم الرجال أو ختاطبهم‪.‬‬

‫وكانت والديت تستقبل السيدات من صديقاهتا مساء الثالثاء من كل أسبوع‪ ،‬ويف هذا اليوم كان‬

‫اخلدم الرج ال يتمتع ون بإج ازة من بع د الظه ر‪ ،‬وك ان وال دي يغ ادر املنزل فال يبقى ب ه رج ل إال‬

‫بوابنا العجوز املتهدم ليستقبل السيدات عند دخوهلن من البوابة وخروجهن منها‪ ،‬وكنت أغتبط‬

‫مب ْق ِدم يوم الثالثاء؛ ألنه كان أشبه بأيام العيد‪ ،‬وألن بعض املغنيات والراقصات من معارف والديت‬

‫كن حيضرن فيحيني هذا االجتماع النسائي‪ ،‬وكنت قلَّما أحضر هذه االجتماعات إىل هنايتها‪ ،‬فقد‬

‫ك انت وال ديت تبعث يب إىل احلديق ة ألعب فيه ا‪ ،‬أو إىل ص ديقة يل من األطف ال ك ان م نزل أهله ا‬
‫قريبً ا من ا؛ ألن ه ذه االجتماع ات النس ائية ك ان ي دور فيه ا من احلديث م ا ال جيوز أن يس معه‬

‫بعد حني كربت‪ ،‬وحني عرفت ما تتبادله النساء من أحاديث تافهة‪،‬‬


‫األطفال‪ ،‬ذلك ما تيقنته من ُ‬

‫أساسها الغيبة اليت ال ختلو من قصص يألفها النساء‪ ،‬ويرين عيبً ا أن يسمعها األطفال‪ ،‬أو يسمعها‬

‫الفتيان‪.‬‬

‫وكنت أغتبط بالذهاب إىل منزل صديقيت الصغرية اليت جتاورنا؛ ألن والدها كان رجاًل رقي ًق ا غاية‬

‫الرقة‪ ،‬وكان حيبها أعظم احلب‪ ،‬وكان حيبين ألنين صديقتها‪ ،‬وكان ينتظرين يوم الثالثاء وقد أعد‬

‫يل هدية من اللعب اليت يغتبط هبا أمثايل‪ ،‬فكنت لتوقعي اهلدية أسارع إىل تلبية والديت‪ ،‬والذهاب‬

‫مع خادم من اجلواري أقضي مع صديقيت ووالدها سويعات هنيئة سعيدة‪.‬‬

‫وملا بلغت الس ابعة بعث يب وال دي إىل املدرس ة الس نية‪ ،‬ومل يكن بينه ا وبني دارن ا م ا ي دعو إىل‬

‫ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح‪ ،‬وأعود معه كل مساء‪ ،‬ومعي‬

‫كتيب وكراس ايت‪ ،‬وكان معلم الق رآن والديانة واخلط الع ريب يش غل معظم حص ص ال دروس معن ا‪،‬‬

‫شيخا رقي ًق ا شديد اللطف بنا‪ ،‬يعاملنا معاملة‬


‫فكنا نراه ثالث ساعات كل يوم على األقل‪ ،‬وكان ً‬
‫األب لبناته‪ ،‬فكنا حنبه ونُ َس ُّر مبقدمه‪ ،‬وكنا لذلك حنفظ الدروس اليت يلقيها علينا وحنن مغتبطات‬

‫«عم» يف الس نة األوىل‪ ،‬وج زء «تب ارك» يف الس نة‬


‫أش د االغتب اط‪ ،‬وهلذا حفظت من الق رآن ج زء َّ‬

‫علي‪ ،‬واغتباطًا بنباهيت‪،‬‬


‫والدي ما يزيدمها عط ًف ا َّ‬
‫َّ‬ ‫الثانية‪ ،‬وكنت أشعر باملسرة حني أتلُو منهما أمام‬

‫فرض ا إال ص ليته‬


‫وحا حني رأي اين من ذ ختطيت الثامن ة من س ين ال أت رك ً‬
‫علي وض ً‬
‫وازداد عطفهم ا َّ‬
‫لوقته‪ ،‬فكنت أصلي الصبح قبل الذهاب إىل املدرسة‪ ،‬وأصلي الظهر يف ُمص لَّى املدرسة‪ ،‬وأصلي‬
‫علي هو وحده مظهر تقدير أيب هلذا الصالح وهذه‬
‫بقية الفروض ألوقاهتا باملنزل‪ .‬ومل يكن العطف َّ‬
‫يوم ا إىل املدرسة وطلبين‪ ،‬وطلب الشيخ معلم القرآن والديانة واخلط‪ ،‬وشكره‬
‫التقوى‪ ،‬فقد جاء ً‬
‫أمام ناظرة املدرسة — وكانت إجنليزية — على عنايته بتقومي أخالق التلميذات عن طريق الدين‬

‫وفرائضه‪.‬‬

‫ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة اإلجنليزية‪ ،‬ويف السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ‬

‫واجلغرافيا‪ ،‬تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة اإلجنليزية‪ ،‬ولذلك أسرعنا إىل التقدم فيها‪ ،‬وأمكننا أن‬

‫نتكلم هبا‪.‬‬

‫ك ان أليب على ح دود م ديريَّيت القليوبي ة والش رقية عزب ة كن ا نقض ي هبا جانبً ا من الص يف يف ك ل‬

‫عام‪ ،‬وكانت والديت تغتبط أشد االغتباط هبذه الفرتة اليت نقضيها يف الريف‪ ،‬فقد كان حول منزلنا‬

‫حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه‪ ،‬وكان كثريون من أهلنا األعيان يرتددون علينا هناك‪ ،‬فيجدون‬

‫من والدي مودة ولط ًف ا‪ ،‬وجتد والديت يف أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحواهلا لونً ا من‬

‫احلياة غري الذي أَلَِفته يف العاصمة‪ ،‬فتتسلى هباتيك القريبات الودودات وبقصصهن‪ ،‬وكنت أنا أجد‬

‫يف احلديق ة ويف احلق ول القريب ة م ا يبعث إىل نفس ي املس رة‪ ،‬فلم ا بلغت الثالث ة عش رة من عم ري‬

‫هنارا إىل ما وراء أسوار احلديقة‪ ،‬ومتنع نزويل هبا ساعة‬


‫ذكرت يل والديت أن التقاليد متنع خروجي ً‬
‫وج ود العم ال من الرج ال فيه ا‪ ،‬عن د ذل ك ش عرت ب أنين ب دأت أدخ ل مي دانًا جدي ًدا من مي ادين‬

‫احلياة‪ ،‬وأنين موشكة مىت عدت إىل القاهرة أن ألبس مالبس النساء‪ :‬احلربة والربقع‪ ،‬وأال أخرج إىل‬

‫الطريق وحدي‪.‬‬
‫كانت عميت تكثر الرتدد علينا يف أثناء مقامنا بالعزبة‪ ،‬وكانت سيدة من أعيان الريف احملرتمات يف‬

‫وس طها‪ ،‬احملافظ ات على كرام ة األس رة ومكانته ا‪ ،‬املتص دقات على الفق راء واملس اكني من أه ل‬

‫قريتها‪ ،‬وكانت تكرب والدي عدة سنوات‪ ،‬وكانت ورعة تقية‪ ،‬قوية اإلميان باهلل ورسوله‪ ،‬شديدة‬

‫وس نة‪ ،‬وتص وم ثالثة األش هر‪ :‬رجب‪ ،‬وشعبان‪،‬‬


‫فرض ا ُ‬
‫احملافظة على فروض دينه ا‪ ،‬تص لي اخلمس ً‬
‫علي من عطفها وحبها ما كنت أغتبط به‪،‬‬
‫ورمضان‪ .‬وكان والدي حيبها وحيرتمها‪ ،‬وكانت تغدق َّ‬
‫وكان حبها الشديد إياي يرجع إىل أنين كنت — برغم أنين تلميذة باملدارس — شديدة احملافظة‬

‫على فروض ديين‪ ،‬وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها‪ ،‬سواء أفهمته أم مل تفهمه‪.‬‬

‫صورا من ماضي‬
‫وكانت عميت تقضي معنا أحيانًا أسابيع متعاقبة‪ ،‬وكان هلا غرام بأن تقص علينا ً‬
‫ورا ال تطمئن إلي ه نفس ها‪ ،‬وك انت تقص‬
‫احلي اة يف الري ف‪ ،‬ه ذا املاض ي ال ذي تط ور يف نظره ا تط ً‬
‫علي من تلك الصور ما يثري عجيب؛ كانت تذكر أن أسرتنا اليت استأثرت بعُ ُم ِديَّة البلد ومشيختها‪،‬‬
‫َّ‬
‫وال ت زال تس تأثر هبم ا‪ ،‬ك انت ُت َع ُّد بالعش رات وتقيم يف من ازل ع دة‪ ،‬وأن الفالحني ال ذين ك انوا‬

‫يعملون يف أراضينا كانوا جيتمعون كل مساء بعد صالة املغرب يف صحن الدار الكبرية يتناولون‬

‫طهى لعشراهتم يف هذه الدار‪ ،‬مث ال يُ ُّ‬


‫صد عن الطعام فقريٌ وإن مل يكن يشتغل‬ ‫طعام العشاء الذي يُ َ‬
‫مجيع ا‪ ،‬فال ي تزوج‬
‫مجيع ا ك انوا ينظ رون إىل ج دي أليب على أن ه وال دهم ً‬
‫معهم يف املزارع‪ ،‬وأهنم ً‬
‫أح دهم إال بع د مش ورته‪ ،‬وال خيتل ف اثن ان إال احتكم ا إلي ه وقَبِال حكم ه‪ ،‬وال تُطلَّق ام رأة من‬

‫زوجها إال بعد أن يقتنع بأن الصلح بني الزوجني غري مستطاع‪.‬‬
‫وكانت تذكر أن هذه األبوة مل تكن مقصورة على أبناء األسرة والعمال يف مزارعنا‪ ،‬بل كان أهل‬

‫اقتناع ا منهم بعدالته‪ ،‬وبأنه رجل صاحل خياف اهلل وال يرضى‬
‫مجيعا ينزلون على حكم جدي ً‬
‫القرية ً‬
‫مبا يغضبه‪ ،‬وأنه إىل ذلك رجل خرِّي يعني البائس واحملتاج‪ ،‬ويأنف أن يتدخل يف شئون البلد غريب‬

‫أو أن يستبد بأهله حاكم ظامل‪.‬‬

‫علي إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية املصرية يف النصف الثاين من‬
‫وإن نسيت الكثري مما قصت َّ‬
‫القرن املاضي‪ ،‬فهذه الصورة ال تزال عالقة بذاكريت‪ ،‬وهي جتعلين أرى أهل تلك القرية يعيشون‬

‫عيش القبائ ل يف البادي ة ب رغم أهنم أه ل زراع ة‪ ،‬ومل يكن ه ذا الن وع من العيش عجيبً ا يف ذل ك‬

‫العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش يف عزلة عن غريها من سائر القرى؛ ألن املواصالت السريعة مل‬

‫تكن ق د ابتُ ِك رت‪ ،‬وك ان أهله ا ال يك ادون يس معون ش يئًا عن حي اة املدن‪ ،‬إال م ا اتص ل منه ا‬

‫بعقائدهم وإمياهنم الراسخ باملشايخ واألسياد‪ ،‬وتطلعهم لزيارة هؤالء األسياد للتربك هبم‪ ،‬ومل يكن‬

‫تطاعا لغ ري ذوي اليس ار ومن يل وذون هبم‪ ،‬أم ا س ائر أه ل القري ة فك انوا ميض ون حي اهتم‬
‫ذل ك مس ً‬
‫كادحني يف غري ملل‪ ،‬مؤمنني بأن اهلل قسم احلظوظ‪ ،‬وأنَّا لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا‪ ،‬هو موالنا‬

‫عليه توكلنا‪ ،‬وعليه فليتوكل املؤمنون‪.‬‬

‫كنت أطيل االستماع لعميت‪ ،‬وأطرب حلديثها‪ ،‬وكنت أشد اغتباطً ا مبا تقع عليه عيين من مناظر‬

‫هذا الريف املمتعة حني أتردد عليه غري مرة خالل السنة‪ ،‬ومل يكن مجال الريف هو وحده الذي‬

‫يأخذ بناظري‪ ،‬بل كان يل من الطمأنينة إىل أهله ٌّ‬


‫حظ عظيم‪ ،‬وكيف ال أطمئن إليهم وأنا أرى من‬

‫مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثري إعجايب؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانًا بعد الغروب فأرى‬
‫بعيدا عن األعني‪،‬‬
‫أحدهم يقوم لصالة العشاء يف مصلى ساذج مفروش باحللفاء على حافة الرتعة ً‬

‫فيهتز لذلك قليب‪ ،‬وتتأثر هبذا املنظر كل مشاعري‪ ،‬فهذا الرجل املنفرد وسط ال هنايات املزارع يف‬

‫هذه الساعة من املساء يدعو ربه ويستغفره‪ ،‬كان مثال الورع يف نظري‪ ،‬ومل يَ ُدر خبلدي يف تلك‬

‫األي ام من طفول يت وبَ ْدء ص باي م ا عس اه ي دور برأس ه يف أثن اء ص الته أو بع دها من أفك ار ق د ال‬

‫يرضى اهلل عنها‪ ،‬بل كنت أُومن بأنه يف وحدته قريب من ربه‪ ،‬وأن حرصه على فروض دينه خري‬

‫شاهد على نقاء قلبه‪ ،‬وصفاء سريرته‪.‬‬

‫جديدا من‬
‫ً‬ ‫وع دنا إىل الق اهرة يف أخريات الص يف من تلك السنة‪ ،‬وأن ا موش كة أن أدخل مي دانًا‬

‫ميادين احلياة‪ ،‬وأن ألبس مالبس النساء‪ :‬احلربة‪ ،‬والربقع‪ ،‬وإين ألذكر اليوم يف ابتسامة ال ختلو من‬

‫مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة هلذا االنتقال من حرية الطفولة إىل قيود املرأة‪،‬‬

‫ه ذه الغبط ة ال يت ال تفس ري هلا إال التطل ع إىل املس تقبل ال ذي ُكتِب على جنس نا‪ ،‬وال ذي ال نع رف‬

‫غ ريه‪ ،‬وال مف ر لن ا من ه‪ ،‬وال ذي تنتظ ره ك ل فت اة‪ ،‬أو على األق ل ك انت تنتظ ره فت اة ذل ك العه د‪،‬‬

‫وت رى في ه أحالم الس عادة‪ ،‬وي رى أهله ا في ه أحالم الطمأنين ة إىل احلي اة‪ ،‬أقص د ال زواج‪َّ ،‬أواه ل و‬

‫علمت كل فتاة‪ ،‬وآه لو علم أهلها ما خيبئ الغيب!‬

‫ال أري د أن أس بق احلوادث‪ ،‬أو أعرِّب عم ا ش عرت ب ه يف حلظ ة غ ري اللحظ ة ال يت أكتب عنه ا‪ ،‬لق د‬

‫كنت يوم دخلنا القاهرة يف ذلك العام سعيدة تفيض عين املسرة‪ ،‬لقد كنت أحبو من الطفولة إىل‬

‫الصبا يف صحة ونضارة‪ ،‬وكانت حتيط يب كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك اجليل‪،‬‬

‫ك ان أب واي يس بقاين إىل رغب ايت‪ ،‬وكنت أج د من حناهنم ا وعطفهم ا وبرمها م ا يس بغ على احلي اة‬
‫خري ألواهنا‪ ،‬وما جيعلين أشعر كأنين يف جنة اخللد‪ ،‬وكان تقدير أساتذيت يف املدرسة‪ ،‬وتقدمي فيها‬

‫نعيما وغبطة‪.‬‬
‫يزيدين ً‬

‫وكان األمل الباسم الذي يفتح أجنحته األثريية للشباب املوشك أن يتفتح كما تتفتح األزهار ينشر‬

‫أمام خيايل الساذج ألوانًا من اهلناءة مل أعرف هلا يف احلقيقة مث ااًل ‪ ،‬وكان مرجع رضاي يومئذ عن‬

‫نفسي إىل ما عُ ِرفت به بني زمياليت يف املدرسة من حسن اخللق لشدة حمافظيت على صلوايت‪ ،‬حىت‬

‫ك ان بعض معلم ايت يس مينين «رض وان اجلن ة» نس بة إىل ح ارس جن ة اخلل د؛ وذل ك لش دة عن اييت‬

‫مبصلى املدرسة‪.‬‬

‫ص ل يل حربة ألبسها وألبس الربقع‬


‫وبعد أسابيع من استقرارنا يف العاصمة فكرت والديت يف أن تُ َف ِّ‬

‫معها‪ ،‬وهلذه املناسبة جعلت أذهب معها إىل احملال التجارية لتختار القماش املناسب‪ ،‬وإىل اخلياطة‬

‫جديدا خيالط نفسي‪ ،‬شعور األنوثة اليت تسري يف عروقي‬


‫شعورا ً‬
‫صل احلربة‪ ،‬ويومئذ أحسست ً‬
‫ألُفَ ِّ‬

‫وأعص ايب كم ا يس ري م اء احلي اة يف الش جر فيزي ده رواء‪ ،‬ويزي د خض رة أغص انه هبج ة‪ ،‬وأكم ام‬

‫ُّحا‪.‬‬
‫أزهاره تفت ً‬

‫اب من مجال يزي د‬


‫ولق د كنت إذ ذاك أُعىَن مبالحظ ة الس يدات املربقع ات وم ا يس بغه عليهن احلج ُ‬
‫ُّجل روعة وبراعة‪ ،‬وكنت حنيفة القوام معتدلة‪ ،‬وكانت والديت ال تفتأ تلفتين إىل هاتيك‬
‫عيوهنن الن ْ‬
‫الس يدات املمتلئ ات يتح دث جس ُمهن البض عن مع اين النعم ة‪ ،‬وتك اد تؤنب ين لنح افيت‪ ،‬ب ل لق د‬

‫كانت تذكر يل أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها‪ ،‬فتطالب «اخلياطة»‬
‫بأن تضع حتت احلربة أسال ًكا‪ ،‬أو حتشوها فتسرت هذه النحافة‪ ،‬مع ذلك بدأت أشعر أن يف عيين‬

‫من اجلاذبية ما يغنيين عن هذا اجلمال املصطنع‪ ،‬وإن مل أجرؤ على أن أذكر شيئًا من ذلك لوالديت‪.‬‬

‫ولبس ت ح ربيت وب رقعي‪ ،‬وانتعلت ح ذاء ع ايل الكعب‪ ،‬وأخ ذت أخ رج م ع وال ديت إىل األس واق‪،‬‬

‫ويف بعض زياراهتا لص ديقاهتا ف إذا ه ذا الش عور باألنوث ة ي زداد يف نفس ي‪ ،‬وإذا حيويت ه تس رع إىل‬

‫النماء أضعاف منوها قبل أن ألبس احلربة والربقع‪ ،‬ولعل ما شعرت به من اختالف نظرة الرجال‬

‫إيل يف أثن اء س ريي م ع وال ديت عم ا ك انت علي ه قب ل ه ذا احلج اب ق د ك ان س ببًا يف ه ذا التزاي د‬
‫َّ‬

‫السريع يف منو شعوري‪.‬‬

‫وأدى ذل ك يب إىل مزي د من عن اييت هبن دامي‪ ،‬فكنت أقض ي أم ام املرآة زمنً ا أص لح يف أثنائ ه من‬

‫ش أين‪ ،‬وأالح ظ يف أثنائ ه أدق التفاص يل يف مظه ري‪ ،‬فكنت أُع ىن ح ىت بالش عرات ال يت خترج من‬

‫حتت رأس املالي ة ونظامه ا عن اييت مبوض ع ال ربقع من أنفي ح ىت يزي د يف جاذبي ة نظ رايت‪ ،‬مث أع ىن‬

‫بانسدال املالية على جسمي حىت تنم يف دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله‪.‬‬

‫ومل يزعجين حديث وال ديت عن حنافيت‪ ،‬فقد كنت أق رأ بعض اجملالت والقصص اإلجنليزية‪ ،‬فأرى‬

‫تصويرا للسيدات واألوانس النحيفات يشهد جبماهلن ويثري اإلعجاب هبن‪ ،‬وكنت أقرأ مثل‬
‫ً‬ ‫فيها‬

‫ذل ك فيم ا ترتمجه ه ذه اجملالت عن األدب الفرنس ي‪ .‬ليس ت النحاف ة إذن عيبً ا ل ذاهتا‪ ،‬وإن أث ار‬

‫اجلسم الناعم البض من املعاين املألوفة يف مصر ما مل يكن يدور إذ ذاك خباطري‪ ،‬مث إنين رأيت يف‬

‫ه ذه اجملالت والقص ص ح ديثًا عن جاذبي ة املرأة‪ ،‬وأهنا ترج ع إىل رقته ا ودماث ة طبعه ا وحس ن‬

‫حديثها‪ ،‬فأغراين ذلك بالعناية هبذه النواحي من أنوثيت أكثر من عناييت مبا أقاوم به حنافيت‪.‬‬
‫على أن ش يئًا من ذل ك كل ه مل يص رفين عن ص لوايت احتفاظً ا مبك انيت بني زمياليت وأس اتذيت يف‬

‫املدرسة‪ ،‬وإرضاء لشعور داخلي كان يرتدد يف أعماق وجداين بأن الزينة ال ختالف التقوى‪ ،‬وكم‬

‫جالس ا يف غرفة االنتظار بالطابق األسفل‬


‫اغتبطت حني مسعت الشيخ الذي يتلو القرآن كل صباح ً‬
‫ُ‬
‫ند ُك ِّل َم ْس ِج ٍد‪ ،‬فقد ثبَّتت هذه اآلية شعوري الداخلي‪ ،‬واطمأن‬
‫من منزلنا يرتل‪ُ  :‬خ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِع َ‬

‫حرصا على أداء فروض اهلل‪.‬‬


‫لسماعها وجداين‪ ،‬فازددت عناية بزينيت كما ازددت ً‬

‫شعورا بأن القراءة تُتِم الزينة‪ ،‬صحيح أهنا ليست الزينة املادية اليت تلفت النظر‬
‫وازددت على الزمن ً‬
‫إىل أشخاصنا حني مسرينا يف األسواق ودخولنا على صديقات والديت‪ ،‬بل هي الزينة املعنوية اليت‬

‫تزي د نظراتن ا ذك اء وجاذبيتن ا فعاًل يف النف وس‪ ،‬ل ذلك أكببت على الكتب واجملالت ال يت كنت‬

‫أس تعريها من مكتب ة املدرس ة‪ ،‬أو أش رتيها من املكتب ات‪ ،‬وش عرت هلذا اإلكب اب بل ذة قوي ة ك انت‬

‫علي يف كثري من األحيان لوم والديت‬


‫تأخذين عن نفسي‪ ،‬وتصرفين عن كل ما سواها‪ ،‬وإن جلبت َّ‬
‫خوفًا على عيين‪ ،‬وإشفاقًا منها أن تصرفين القراءة عن االضطالع بواجبات الفتاة واملرأة يف العناية‬

‫بأمور املنزل وحسن تدبريه‪.‬‬

‫وخشي والدي حني رأى إكبايب على قراءة الكتب واجملالت اإلجنليزية أن يضر ذلك بلغيت العربية‬

‫وكثريا ما رأيته يصحبه‪ ،‬بل لقد حضر‬


‫ً‬ ‫شيخا كانت له به ثقة‪،‬‬
‫مدرسا ً‬
‫وثقافيت الدينية‪ ،‬فاختار يل ً‬
‫إىل العزبة يف أثناء مقامنا هبا يف الصيف مما دلين على أن له على أيب دالة تزيد يف ثقته به‪.‬‬

‫وك ان ه ذا الش يخ على ح ظ غ ري قلي ل من ال ذكاء‪ ،‬درس أول أم ره يف األزه ر‪ ،‬مث انتق ل إىل دار‬

‫العل وم فج ود اللغ ة العربي ة هبا‪ ،‬وجع ل مهه أن يطل ع على م ا يظه ر من كتب مؤلف ة أو مرتمجة إىل‬
‫العربي ة ليج اري العص ر وال يقب ع يف زواي ا املاض ي على ح د تعب ريه‪ ،‬فلم ا ب دأ تدريس ه يل مل يلبث‬

‫حني وق ف على مبل غ علمي أن اخت ار يل كت اب «عيسى بن هش ام» للم ويلحي‪ ،‬وكت اب «حتري ر‬

‫املرأة» لقاسم أمني‪ ،‬وكتاب «الرتبية» الذي ترمجه حممد السباعي عن هربرت سبنسر‪.‬‬

‫علي من ألفاظه ا‬
‫غامض ا َّ‬
‫وق رأت جانبً ا من ه ذه الكتب الثالث ة مع ه‪ ،‬ومسعت إلي ه يفس ر م ا رآه ً‬
‫وعباراهتا‪ ،‬ف أغراين ذل ك باملض ي يف قراءهتا يف أثن اء وح ديت‪ ،‬وتفتحت ل ذلك أم امي آف اق جدي دة‬

‫يقص ر دوهنا الكث ريات من أمث ايل‪ ،‬ب ل يقص ر دوهنا كث ريون من رج ال ذل ك ال وقت ونس ائه‪ ،‬وق د‬

‫كنت أقف َو ِجلة أحيانًا أمام ما أقرأ؛ ألنه خيالف مألوف احلياة يف مصر إذ ذاك‪ ،‬وهو مع ذلك‬

‫مكتوب بلغتنا العربية‪ ،‬فيجب أن نفكر فيه‪ ،‬وأال نعترب قراءته جمرد تسلية لقتل الوقت‪ ،‬وجيب أن‬

‫ننتهي من هذا التفكري إىل رأي‪ ،‬وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانًا فيما يستوقفين‪ ،‬فال يزيد على‬

‫أن يبتسم مث يقول‪ :‬الزمن يا فتايت كفيل بإنضاج رأيك يف كل ما تقرئني‪.‬‬

‫يوم ا حلوار ج رى بني وال دي وأس تاذي حس بت حني مسعته أن الش يخ يب الغ‬
‫ولق د أخ ذين العجب ً‬
‫فيما يسميه «عصريته»‪ ،‬فقد ذكر والدي أن شابًّا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية‪،‬‬

‫فكان جواب الشيخ‪ :‬وماذا يف ذاك؟ مث تطور احلوار إىل جدل ديين كان الشيخ فيه دون والدي‬

‫تعصبًا لعقيدته‪ ،‬فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من املسلم يتيح هلا الفرصة لتقف من زوجها أو‬

‫من أهل ه أو من خلطائ ه على حقيق ة اإلس الم‪ ،‬ف إذا هي مل تعتنق ه من بع د ك انت مك ابرة‪ ،‬وك ان‬

‫مص ريها إىل اجلحيم‪ ،‬أم ا الش يخ ف رأى أهنا إذا مل تقتن ع حبج ة زوجه ا أو أهل ه أو خلطائ ه وعملت‬

‫صاحلًا فال جناح عليها أن تقيم على دينها‪ ،‬وأن يغفر اهلل هلا‪ ،‬ويدخلها اجلنة‪.‬‬
‫كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بني الرجلني‪ ،‬وكان اجلدال بينهما يبلغ احلدة‪ ،‬مث ال يغري ذلك‬

‫من ثقة والدي بالشيخ‪ ،‬واطمئنانه حلسن إميانه‪ ،‬فإذا نودي للصالة من مئذنة املسجد القريب من‬

‫دارنا‪ ،‬وقام الشيخ للصالة‪ ،‬ائتم به والدي وقضى فرضه وراءه‪.‬‬

‫كنت أمسع وأرى ما حيدث من مثل ذلك فال أقف طوياًل عنده‪ ،‬ومن كان يف مثل سين يومذاك ال‬

‫يقف طوياًل عند شيء‪ ،‬بل متر أمامه األحداث واآلراء‪ ،‬فيلم هبا إملامات سريعة تبقيها يف ذاكرته‬

‫لتنضم على األيام ألشباهها‪ ،‬مث تكون موضع تفكري وعربة من بعد‪ ،‬حني نصبح قادرين على أن‬

‫حكما ذاتيًّا على ما نرى ونسمع‪ ،‬وكذلك بقيت ذاكريت ختتزن ما استطاعت اختزانه‪ ،‬حىت‬
‫نبدي ً‬
‫وكون وجودي الذايت وكياين املعنوي‪.‬‬
‫إذا آن األوان تفاعل ذلك كله يف نفسي‪َّ ،‬‬

‫تعاقبت األيام واألسابيع والشهور‪ ،‬وانقضت السنة الدراسية‪ ،‬واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من‬

‫أوائل الصيف‪ ،‬مث ذهبنا إىل العزبة‪ ،‬وبدأ أقاربنا يزوروننا‪ ،‬وأقبلت عميت وعلى رأسها طرحة بيضاء‬

‫على خالف م ا أَلِفت من لب اس رأس ها يف األع وام املاض ية‪ ،‬إذ ك انت طرحته ا س وداء؛ ذل ك ألهنا‬

‫س افرت إىل احلج از وأدت فريض ة احلج‪ ،‬واس تبقت الطرح ة البيض اء من لب اس إحرامه ا‪ ،‬ومل يكن‬

‫حديثها ذلك الصيف عن ماضي احلياة يف قريتنا العزيزة‪ ،‬بل كان كله عن احلج واحلجاز والكعبة‪،‬‬

‫تقص ذل ك يف تفص يل يش هد بطمأنين ة نفس ها إلي ه‪،‬‬


‫ومس جد املدين ة‪ ،‬واملقص ورة النبوي ة‪ ،‬وك انت ُّ‬

‫واسرتاحة قلبها له‪ ،‬وكنت أشعر يف بعض ما تقصه بأنه أدىن إىل األساطري‪ ،‬لكنها كانت ترويه يف‬

‫حرارة إميان تنقل صداه إىل قلب والديت‪ ،‬فال تفتأ تكرر‪ :‬يا خبت من زار النيب‪.‬‬
‫ولو أنين استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عميت عن حجها لتألَّف منه كتاب شائق‪ ،‬فقد كان‬

‫يوم ا بع د ي وم‪ ،‬وكأهنا ش هرزاد يف أل ف ليل ة وليل ة‪ ،‬لكن ين كنت يف‬


‫ح ديثها عن ه ذا احلج يتص ل ً‬
‫ش غل بق راءة جماليت وقصص ي اإلجنليزي ة‪ ،‬ومبراجع ة عيس ى بن هش ام وحتري ر املرأة والرتبي ة؛ ألن‬

‫أستاذي الشيخ أخربين قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا‪ ،‬ويسألين عما قرأته‪.‬‬

‫وجاء الشيخ إىل العزبة يف الشهر األخري من أشهر الصيف‪ ،‬وكنت يف فرتة هذه اإلجازة املدرسية‬

‫ق د أس رعت يف النم و وب دأ تكوي ين النس وي ب رغم حنافيت‪ ،‬وش عرت يف نظ رايت جباذبي ة قوي ة كنت‬

‫أغتب ط هبا حني أق ف أم ام املرآة أص لح من هن دامي‪ ،‬ت رى أك ان ه ذا ه و الس بب يف أن وال دي مل‬

‫مجيع ا على‬
‫يكن يذرين وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه يل؟! فقد الحظت أنه كان حيضر دروسي ً‬
‫غري عادته من قبل‪ ،‬وما أحسبه خاجلته شبهة يف خلويت مع الشيخ ساعة الدرس‪ ،‬أو خالطت نفسه‬

‫ريبة من أمره‪ ،‬فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة‪ ،‬وإمنا أحسبه خشي قالة الناس‪ ،‬وقالة النساء‬

‫أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتين السنون من بعد أن الناس يف مصر‪ ،‬من أهل املدن كانوا أو من‬

‫أه ل الري ف‪ ،‬يس رعون إىل الريب ة يف غ ري موض ع الريب ة‪ ،‬ويتن اقلون من األح اديث الكاذب ة يف أم ر‬

‫غ ريهم م ا يس رعون إىل تص ديقه‪ .‬ه ذا يف اعتق ادي ه و م ا دع ا وال دي ملص احبة الش يخ س اعات‬

‫تدريسه يل‪ ،‬وخباصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عناييت هبذه الدروس واستفاديت منها‪.‬‬

‫وج اءت مولي ات الص يف‪ ،‬وآن لن ا أن نع ود إىل العاص مة‪ ،‬وإنن ا لنأخ ذ أهبتن ا للع ودة‪ ،‬إذ ش عرت‬

‫وال ديت مبرض ألزمه ا فراش ها‪ ،‬وت ولت عم يت احلاج ة العناي ة هبا‪ ،‬فك انت تالزمه ا ليله ا وهناره ا‪،‬‬

‫وكانت تتلو وهي يف جملسها إىل جانبها كل ما ع رفت من ُرقًى وتعاويذ‪ ،‬وكانت ت دير البخور‬
‫يوم ا بع د ي وم‪ ،‬واس تدعى وال دي‬
‫على رأس ها تط رد ب ه حس د احلاس د‪ ،‬لكن املرض ك ان يش تد ً‬
‫الط بيب من أق رب مدين ة‪ ،‬فلم ا فحص وال ديت أش ار بض رورة إس راعنا إىل الق اهرة أو بإدخاهلا‬

‫مستشفى املدينة القريب منا‪ ،‬وآثر والدي أن نعود إىل القاهرة فعدنا إليها مسرعني‪.‬‬

‫وجاء الطبيب الذي اعتادت والديت أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت‪ ،‬ففحص وأطال الفحص‬

‫ودقق فيه‪ ،‬مث كتب تذكرة دوائه‪ ،‬ووعد أن يعود املريضة بعد ثالثة أيام‪ ،‬وخرج والدي معه من‬

‫غرف ة املريض ة‪ ،‬ووقف ا هنيه ة يتهامس ان‪ ،‬وبع د أن ودع ه ع اد يؤك د لوال ديت أن األم ر بس يط‪ ،‬ولن‬

‫ميض ي أس بوع ح ىت تكون ق د اس رتدت عافيته ا‪ ،‬ورأيت على وج ه وال ديت س يما األمل‪ ،‬وإن ردت‬

‫إليها هذه الكلمات من الطمأنينة ما خفف بعض وقعه‪.‬‬

‫ويف املس اء ج اء وال دي بع د أن خل ع مالبس ه‪ ،‬ومتطى على «كنب ة» تواج ه الس رير ال ذي رق دت‬

‫وال ديت في ه‪ ،‬بع د أن دع ا اخلادم وأمره ا ففرش ت عليه ا مالءة‪ ،‬ووض عت على طرفه ا املالص ق‬

‫للحائ ط خمدة ن وم‪ ،‬وعجبت ملا رأيت من ذل ك‪ ،‬فلم أر وال دي من قب ل ين ام على ه ذه «الكنب ة»‬

‫قط‪ ،‬وأحلت عليه والديت أن ينام على السرير يف الغرفة اجملاورة لغرفتها فأىب قائاًل ‪ :‬لقد منت أنت‬

‫علي من دين لك‪ ،‬وإن‬


‫على هذه «الكنبة» غري مرة حني مرضي‪ ،‬فال أقل من أن أؤدي بعض ما َّ‬
‫دائما من رقة وود خالص‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كنت موقنًا أنين لن أؤدي إال القليل‪ ،‬مقابل ما غمرتين به ً‬

‫وغادرت الغرفة وقد زادين م ا رأيت ومسعت إعجابً ا ب أيب‪ ،‬وهبذا احلب املتب ادل‪ ،‬ومتنيت أن أسعد‬

‫يف احلياة مبثله‪.‬‬


‫وانقضت األيام الثالثة اليت حتدث عنها الطبيب وشكوى والديت من عنائها ال تنقص‪ ،‬بل تزيد‪،‬‬

‫وج اء الط بيب يف موع ده وأع اد الفحص وخ رج بع ده م ع وال دي‪ ،‬ويف ص باح الغ د علمت أن ه‬

‫سيحض ر ومع ه طبيب ان آخ ران من كب ار األطب اء إلج راء «كونس لتو» يشخص ون بع ده املرض‪،‬‬

‫ويصفون عالجه‪ .‬وجاء األطباء الثالثة بعد الظهر من ذلك اليوم‪ ،‬وفحصوا املريضة وما عوجلت به‬

‫من دواء‪ ،‬مث تبادلوا الرأي‪ ،‬وكتبوا تذكرة جديدة‪.‬‬

‫كانت والديت تذكر لألطباء الثالثة‪ ،‬يف أثناء الفحص‪ ،‬ما ينتاهبا الوقت بعد الوقت من آالم مربحة‪،‬‬

‫وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم خيففون آالمها ويربئوهنا من علتها‪ ،‬وكان األطباء ينظر‬

‫وردا‬
‫بعضهم إىل بعض لدى مساع حديثها‪ ،‬مث يقول كبريهم العبارات املطمئنة املألوفة‪ ،‬وكأنه يتلو ً‬
‫من األوراد أو دعاء من األدعية اليت تتلوها عميت احلاجة‪ ،‬فال يفر ثغره عن ابتسامة‪ ،‬وال يلمع يف‬

‫عينيه معىن الرجاء الذي طمعت والديت يف أن ترى بريقه‪ ،‬فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إىل‬

‫غرف ة املريض ة نظ رت إلي ه نظ رة اس تفهام‪ ،‬فق ال‪ :‬إهنم يستحس نون نقل ك إىل املستش فى زي ادة يف‬

‫العناي ة ب ك‪ ،‬وأجابت ه وال ديت منزعج ة‪ :‬املستش فى؟! كال‪ ،‬ك ل ش يء إال املستش فى‪ ،‬وإذا ك ان ق د‬

‫ُكتِب يل أن أموت‪ ،‬فخريٌ يل أن أموت على فراشي هذا‪ ،‬أما إن كان اهلل قد كتب يل الشفاء‪ ،‬فلن‬

‫يكون يف املستشفى شفائي‪.‬‬

‫ورأيت يف عينيها دمعة ترتقرق‪ ،‬فأخذ والدي يسكن من روعها‪ ،‬ويذكر هلا أنه كان على يقني من‬

‫أهنا لن تقبل الذهاب إىل املستشفى‪ ،‬وأنه ذكر ذلك لألطباء‪ ،‬ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما‬

‫ق الوا‪ ،‬وأهنم ي رون اخلري يف أن تك ون يف عناي ة ممرض ة ورقاب ة ط بيب‪ ،‬مث إن وال دي أض اف‪ :‬وق د‬
‫ذكرت هلم أننا نستطيع أن ندعو املمرضة لتكون إىل جانبك هنا‪ ،‬وأن طبيبك يستطيع أن يعودك‬

‫كل يوم يف الصباح ويف املساء‪.‬‬

‫وج ف ال دمع يف عني وال ديت‪ ،‬ونظ رت إىل وال دي نظ رة عرف ان‪ ،‬وب دت على ثغره ا املت أمل ش به‬

‫ابتس امة‪ ،‬لكنه ا ق الت‪ :‬ال ض رورة ملمرض ة‪ ،‬فأن ا ال أري د أن تطَّل ع أجنبي ة على دخائ ل بيتن ا‪ ،‬وإذا‬

‫أمكن أن حتضر عميت احلاجة إىل هنا ففيها الربكة‪ ،‬ويف يدها الشفاء‪.‬‬

‫وكانت والديت حتب عميت حقًّا‪ ،‬وتبادهلا عميت هذا احلب الصادق‪ ،‬وقد رأيتها حتضر صبح الغد‬

‫من ه ذا احلديث‪ ،‬وت دخل على وال ديت تقبِّله ا وتك رر هلا ال دعوات بالش فاء‪ ،‬ويف حلظ ات خلعت‬

‫مالبس السفر‪ ،‬وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء‪ ،‬وجلست إىل جانب والديت‪ ،‬وأخذت تتلو‬

‫من األدعية ما اطمأنت له املريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية‪ ،‬لعل سببها أنه أزال ما تبدَّى‬

‫لناظرها من شبح املستشفى ومنظر املمرضة‪.‬‬

‫وقد قامت عميت مبهمة التمريض بإخالص وإتقان‪ ،‬ملا بينها وبني والديت من الود الصادق واحملبة‬

‫اخلالص ة‪ ،‬فلم تكن املريض ة ت رغب يف ش يء إال س بقت إىل تنفي ذ إرادهتا هبم ة ال تع رف الكالل‪،‬‬

‫وكم من ليلة باتت إىل جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار احلجاز ما تتسلى‬

‫وكثريا ما مسعت العمة العزيزة متنيها بعد أن‬


‫ً‬ ‫به املريضة عن آالم كانت مربحة يف بعض األحيان‪،‬‬

‫مين اهلل عليه ا بالش فاء أن ت ؤدي فريض ة احلج‪ ،‬وت زور الق رب النب وي وتتمت ع بلمس ش بَّاكه ولثم ه‪،‬‬

‫ووالديت تس مع ل ذلك فيع اود نظراهتا أمل ي رد إليها احلي اة بع د ذبوهلا‪ ،‬وال أحسب ممرضة ك انت‬
‫تستطيع — وإن بلغت من الدقة يف عملها أعظم مبلغ — أن ختدم املريضة خبري مما كانت ختدمها‬

‫الصديقة الوفية الصادقة الود‪.‬‬

‫وكان الطبيب يعود والديت كل يوم‪ ،‬بل كان يعودها مرتني أحيانًا‪ ،‬وكان والدي يقف إىل جانبه‬

‫يف أثناء هذه العيادة‪ ،‬فإذا فرغ منها وطمأن املريضة بأن صحتها يف تقدم‪ ،‬خرج مع والدي ووقفا‬

‫بره ة يتح دثان‪ ،‬وق د الحظت غ رية م رة أن أس ارير وال دي خالل ه ذا احلديث ك انت أدىن إىل‬

‫االنقب اض‪ ،‬وأن ه ك ان ي ودع الط بيب إىل الب اب‪ ،‬مث ال يع ود إال بع د زمن لعل ه ك ان حياول في ه أن‬

‫يدخل غرفة املريضة بوجه تبدو عليه مالمح الطمأنينة‪ ،‬وال ينم عن شيء من اليأس واألمل!‬

‫ومل يكن ش يء يبعث الطمأنين ة إىل نفس وال ديت م ا تبعثه ا إليه ا ص لوات عم يت احلاج ة ودعواهتا‬

‫كثريا‬
‫الصادرة من القلب‪ ،‬فقد كانت تؤدي الفرائض ألوقاهتا على مقربة من سرير والديت‪ ،‬وكنت ً‬
‫ما أأمت هبا‪ ،‬فإذا ما قضيت الصالة رفعت كفيها ضارعة إىل اهلل أن يشفي املريضة لتتمتع بشباهبا‬

‫وتف رح بابنته ا‪ ،‬وك انت جنواه ا يف أثن اء ه ذه ال دعوات ختالطه ا ح رارة اإلميان الص ادق والرج اء‬

‫العميق يف وجه اهلل أن يستجيب هلا‪.‬‬

‫ض ال قِبَ ل هلا‬
‫برغم هذه الدعوات‪ ،‬وبرغم العناية الصادقة‪ ،‬شعرت والديت يف إحدى الليايل بأمل مُمِ ٍّ‬

‫مسرعا حيسب أنه يستطيع أن خيفف‬


‫ً‬ ‫به‪ ،‬وأسرعت عميت فأيقظت أخاها من نومه‪ ،‬وجاء والدي‬

‫من هذا األمل مبا يضفيه على زوجه من حمبة وعطف وحنان‪ ،‬لكن األمل قد بلغ باملريضة‪ ،‬فكانت‬
‫تتأوه وترسل من أعماق صدرها أن ٍ‬
‫َّات تذيب اجلماد‪ .‬وأسرع والدي إىل الطبيب يف منزله‪ ،‬فكان‬ ‫َّ‬

‫كل ما استطاعه أن حقن املريضة باملورفني تسكينًا حلدة األمل‪ ،‬وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه‬
‫الل ذين ش اركاه يف «الكونس لتو» ويف تقري ر العالج‪ .‬وه دَّأت حقن ة املورفني من ش دة األمل‪،‬‬

‫نوم ا‬
‫وأغمضت والديت عينيها يف غفوة ذكرت يل عميت من بعد أهنم كانوا يرجون أن تنام بعدها ً‬
‫هادئً ا‪ ،‬لكن الص باح تنفس عن مع اودة األمل للمريض ة‪ ،‬وملا ج اء األطب اء وفحص وا املريض ة ك انت‬

‫سيماهم تنطق مبعاين اليأس‪ ،‬وال يبدو يف نظرات بعضهم لبعض شيء من األمل أو الرجاء‪ ،‬وكتبوا‬

‫تذكرة دواء جديدة‪ ،‬وودعهم والدي منصرفني‪.‬‬

‫أفأستطيع اليوم أن أصف حايل يف أثناء مرض والديت؟ لقد انقضى اآلن على ذلك الزمن ما يزيد‬

‫على ثالثني سنة‪ ،‬وال أزال مع هذا أذكر كيف كنت يف ذلك الظرف القاسي أدور يف أحناء الدار‪،‬‬

‫تقرا‪ ،‬مث أرت د إىل غرف ة املريض ة ف إذا مسعتها تت أوه أو تئن‬
‫ك أين ال روح احلائر ال يع رف لنفس ه مس ًّ‬

‫اضطرب قليب يف صدري‪ ،‬وشعرت باألمل حيز يف كبدي‪ ،‬فارتسم ذلك على قسمات وجهي‪ ،‬مث مل‬

‫علي من عظيم عطفه وسابغ حنانه‪ ،‬بل لقد كنت أشعر حني يزيد به‬ ‫ِ‬
‫يُغنين ما كان يسبغه والدي َّ‬
‫احلن ان عن م ألوف عطف ه‪ ،‬ك أنين أص بحت يتيم ة األم‪ ،‬وكأن ه يري د أن يك ون أيب وأمي يف وقت‬

‫واحد‪ ،‬وكانت عميت حتاول جاهدة أن تقنعين أن والديت وهلل ألف محد وشكر تتقدم حنو العافية‪،‬‬

‫وت ذكر يل أهنا رأت رؤي ا تفس ريها أن املريض ة س تعود إىل مث ل ص حتها يف خ ري أي ام عافيته ا‪ ،‬وأن‬

‫رؤياه ا ال تك ذب أب ًدا‪ ،‬ف أطمئن حلديثها بعض الش يء‪ ،‬مث ال ألبث حني أمسع أنَّات األمل تكظمه ا‬

‫املريض ة جه دها‪ ،‬كلم ا رأت ين مقبل ة عليه ا‪ ،‬أن ت ذهب طم أنينيت وأش عر يف دخيل ة نفس ي وأعم اق‬

‫وجداين بأنين مقبلة على أمر جلل‪ ،‬فتزداد روحي حرية‪ ،‬ويزيدين احلنان والعطف األبوي وحشة‬

‫على وحشة‪.‬‬
‫يوم ا حىت أجثو أمامها وأطلب‬
‫وتشتد خماويف أحيانًا‪ ،‬وأكاد أسائل نفسي‪ :‬أأذنبت يف حق والديت ً‬
‫يوم ا‪ ،‬ودخلت عليه ا أري د أن أقبِّل وجهه ا وي ديها‬
‫عفوه ا ومغفرهتا؟ ب ل لق د اع تزمت ذل ك ً‬
‫إيل إشارة‬
‫وقدميها‪ ،‬وأسأهلا العفو عما لعله سلف مين‪ ،‬لكنها إذ رأتين أختطى الباب حنوها أشارت َّ‬

‫أمرا‪ ،‬فلما دنوت منها أجلستين على السرير‬ ‫فهمت منها أهنا تريد أن تطالعين بشيء أو تُ ِس ُّر َّ‬
‫إيل ً‬
‫إىل جانبها‪ ،‬وأخذت تقبِّلين وتبكي‪ ،‬وكأهنا هي املذنبة تطلب الصفح‪ ،‬ومل أملك عربايت فوضعت‬

‫خدي على خدها‪ ،‬واختلط دمعي بدمعها‪ ،‬ومل تنبس أيَّتُنا ببنت شفة‪.‬‬

‫وإنن ا لك ذلك إذ دخ ل علين ا وال دي‪ ،‬ورأى م ا حنن في ه‪ ،‬ف اهنمرت من مآقي ه ع ربات جع ل حياول‬

‫حبسها‪ ،‬مث تقدم حنونا‪ ،‬وقد اختنق صوته‪ ،‬وأخذ يقول لزوجته‪ :‬آمين باهلل يا حبيبيت‪ ،‬إنه الرءوف‬

‫الرحيم‪ ،‬وعما قريب سيشفيك‪ ،‬فال ترهقي نفسك‪ ،‬وال ترهقي هذه الصبية العزيزة مبا ال طاقة هلا‬

‫دفع ا رقي ًق ا لدى مساعها هذه الكلمات‪ ،‬فخرجت من الغرفة مسرعة‬


‫باحتماله‪ ،‬ودفعتين أمي عنها ً‬
‫علي ومحرة‬
‫إىل غرفيت‪ ،‬وحبست نفسي‪ ،‬وأرسلت العنان لدموعي‪ ،‬وبعد هنيهة رأيت والدي يقبل َّ‬
‫عينيه تشهد بأنه مسحها ساعة دخوله عندي‪ ،‬وما زال يتلطف يب حىت خرجت معه من الغرفة إىل‬

‫البهو‪ ،‬وهناك جلسنا ندعو للمريضة بعاجل الشفاء‪.‬‬

‫مجيع ا مل تكن لتغ ري حكم الق در‪ ،‬فلك ل‬


‫لكن رؤي ا عم يت وال دعوات الص ادقة الص ادرة من قلوبن ا ً‬
‫أجل كتاب‪ ،‬وإذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال يستقدمون‪.‬‬

‫يوم ا من غرفيت‪ ،‬فإذا عميت جالسة على باب غرفة والديت‪ ،‬وإذا هي ال‬
‫فقد خرجت مطلع الفجر ً‬
‫تكاد تراين حىت تأخذين إىل صدرها وقد هزه البكاء املختنق وتقبلين وتقول‪ :‬األمر هلل يا بنييت‪ ،‬واهلل‬
‫حيفظ لك أباك‪ .‬مث إهنا مل تطق كتمان بكائها‪ ،‬فعال صوهتا به‪ ،‬وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا‪،‬‬

‫وأقبل أيب وعليه ثياب النوم وما يزال‪ ،‬وأخذ يسكن من أملي‪ ،‬وكل مالحمه تدل على أنه ال يقل أمل ا‬
‫ً‬
‫عين‪ ،‬وعرباته حتدث عن عميق حزنه‪ ،‬وملا تنفس الصبح جاء اخلدم وهن يتوقعن املصاب الفاجع‪،‬‬

‫فلما عرفنه ارتفعت أصواهتن بالصريخ املزعج‪ ،‬وبعد سويعة أقبلت جاراتنا‪ ،‬وانقلب البيت مناحة‬

‫تدوي أصواهتا فيما حولنا من األرجاء‪.‬‬

‫وتركن ا وال دي إىل غرفت ه وه و ي دق رأس ه كأمنا خ رج األمل ب ه عن ص وابه‪ ،‬وأقب ل ص ديق ل ه من‬

‫جرياننا مسع الصريخ‪ ،‬وكان يرتدد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته‪ ،‬فلما رآه والدي‬

‫ناداه قائاًل ‪ :‬أرأيت يا أخي خراب بييت؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه‪ ،‬ويذكر له أن‬

‫أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب‪ ،‬فال مفر له‪ ،‬برغم هول املصاب‪ ،‬من أن يتجمل بالصرب‬

‫حني يتقب ل الع زاء‪ ،‬وذهب ال رجالن إىل الس الملك بع د أن ذهب وال دي إىل غرفت ه‪ ،‬وارت دى‬

‫مالبسه حماواًل جهد طاقته أن يبدو يف وقاره الذي اشتهر به وعُرف عنه‪.‬‬

‫ودفِنت أمي يف مش هد مهيب‪َّ ،‬‬


‫وتقض ت لي ايل املأمت الثالث‪ ،‬وانص رف امل َع ُّزون واملعزي ات‪ ،‬وأقف ر‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫بيتنا من روحه‪ ،‬فكنت أرى والدي يتنقل فيه من غرفة إىل غرفة‪ ،‬يف حني كانت عميت تدير شئونه‬

‫يدا بيد‪ ،‬أو‬


‫وتبذل اجلهد لراحة أخيها وراحيت‪ ،‬وكم رأيت أيب يف تطوافه من غرفة إىل غرفة يدق ً‬

‫يسري شارد الذهن‪ ،‬مشتت اللب كأمنا أذهله اخلطب الذي نزل بنا! أو كأمنا يفكر يف أمر خطري‪،‬‬

‫شعورا بفداح ة اليتم الذي أص ابين فحرمين حنان األم‬


‫ً‬ ‫وكنت كلم ا رأيته على ه ذه احلال ازددت‬

‫وأنا أشد ما أكون حاجة إليه‪ .‬وكان والدي حياول ما استطاع أن خيفف لوعيت‪ ،‬غري متكلف يف‬
‫حماوالت ه إال م ا ميلي ه علي ه وجدان ه‪ ،‬وتفيض ب ه عاطف ة األب وة‪ ،‬وق د اختص هبا االبن ة الوحي دة ال يت‬

‫رزقها منذ تزوج‪ ،‬وكنت أملح يف عينيه حني حيدثين أنه مل يبق له يف احلياة أمل غريي‪ ،‬وكنت أمتىن‬

‫لذلك لو استطعت أن أدخل إىل قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف‬

‫الرقيق‪ ،‬ومل جير يف خاطري أن أيب ميكن أن يتزوج بعد موت أمي‪ ،‬وإنين لفي براءة صباي إذ طرق‬

‫مسعي ح ديث يتبادل ه اخلدم فيم ا بينهن وهن ال يرين ين‪ ،‬ح ديث أفزع ين ومل أك د أص دقه‪ ،‬ق الت‬

‫إحداهن إهنا مسعت عميت تتحدث إىل أخيها بأنه ال يزال يف فتوة رجولته‪ ،‬وأن بيته ال يصلح إال‬

‫إكرام ا ل ذكرى املرحوم ة أمي‪ ،‬بع د ال ذي‬


‫أن ي تزوج‪ ،‬وأن وال دي أظه ر ب ادئ ال رأي ع دم الرض ا ً‬
‫كان بينهما من صادق احلب‪ ،‬فكان جواب أخته أهنا كانت حتب املتوفاة كما كان حيبها‪ ،‬وأهنا‬

‫أحكاما ال يدركها البشر‪ ،‬وإنا إذا وجب علينا الوفاء‬


‫ً‬ ‫لكن هلل يف تصاريفه‬
‫حزنت ملوهتا مثل حزنه‪َّ ،‬‬

‫ملن حنب ف ذلك واجب م ا ع اش احملب وب‪ ،‬أم ا إذا اخت اره اهلل إىل ج واره فق د س قط عن ا ه ذا‬

‫التكلي ف؛ ألن قيم ة الوف اء يف تبادل ه‪ ،‬ف إذا مل يكن متب اداًل فال مس وغ لوج وده‪ ،‬واألموات حيلونن ا‬

‫مبوهتم من واجب الوف اء هلم‪ ،‬مث إن عم يت ض ربت على ال وتر احلس اس من قلب أخيه ا‪ ،‬فق الت‪:‬‬

‫ولعل اهلل قد كتب لك ذرية صاحلة من البنني حيفظون امسك‪ ،‬ويفتحون بيتك‪ ،‬والزواج سبيلك إىل‬

‫هذه الذرية‪ ،‬وابنتك هذه ال تستطيع أن تعيش وحدها يف هذا البيت الفسيح‪ ،‬فهي حباجة إىل من‬

‫حتسن توجيهها‪ ،‬وتقوم بشأنك وشأهنا‪.‬‬

‫ومسع والدي هذا الكالم من عميت فأطرق قلياًل ‪ ،‬مث خرج بالصمت عن كل جواب‪ ،‬ومسعت أنا‬

‫ه ذا الكالم من خادم ات ال بيت ف أخرجين من أحالمي الس وداء حزنً ا على أمي إىل خماوف أش د‬
‫سوادا؛ إشفاقًا من املستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعين يف جحيمه‪ ،‬لكنين مل أكن أستطيع أن أقول شيئًا‬
‫ً‬
‫شاهدا بعدم رضاه عما‬
‫أو أنبس بكلمة‪ ،‬وكل الذي فعلت أن منَّيت نفسي أن تكون إطراقة أيب ً‬

‫أفر من كل مكان أراها‬


‫مسعه من أخته‪ ،‬ولقد بدأت أشعر هلذه العمة بالبغض والكراهية‪ ،‬وبدأت ُّ‬

‫رعت إىل احلديق ة ألتمس‬


‫ت يف هبو الط ابق األول أو ن زلت إىل الط ابق األرض ي أس ُ‬
‫في ه‪ ،‬ف إذا جلس ْ‬
‫دت إىل الط ابق األعلى‬‫فيه ا الوح دة‪ ،‬وإذا ن زلت إىل احلديق ة — وقلم ا ك انت تفع ل — ِ‬
‫صع ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫والتمست يف غرفيت ملجأ أسكب فيه الدمع السخني على هذا اليتم الباكر‪.‬‬
‫ُ‬

‫ولست أدري أأفضت عميت إىل والدي مبيلي إىل العزلة‪ ،‬أم أنه الحظ هذا امليل من تلقاء نفسه‪ ،‬أم‬

‫أنه كان صرحيًا حني قال يل إن عميت تريد العودة إىل قريتها‪ ،‬وإنه يؤثر أن نغرِّي اهلواء بالسفر إىل‬

‫أسبوعا أو أسبوعني؟‬
‫ً‬ ‫اإلسكندرية واملقام هبا‬

‫غريا اس تأجره وال دي من أح د معارف ه‬


‫وس افرنا بالفع ل‪ ،‬وس افرت معن ا طاهيتن ا‪ ،‬ونزلن ا طاب ًق ا ص ً‬
‫كانت به خادم صغرية السن تتقن تنظيف املسكن وقضاء ما حتتاج إليه الطاهية من السوق القريبة‬

‫منا‪.‬‬

‫وك ان هلذا التغ ري يف ل ون حياتن ا من األث ر احلس ن على نفس ييت م ا خف ف بعض الش يء من عمي ق‬

‫نش ط‬
‫لوع يت‪ ،‬فق د كنت أج د من ه واء البح ر املنعش يف ه ذه األي ام األوىل من فص ل اخلري ف م ا يُ ِّ‬

‫مسرحا ألفكار‬
‫ً‬ ‫ذابل حيوييت‪ ،‬وكنت أجد يف زرقته املمتدة إىل األفق حيث يتعانق املاء والسماء‬

‫مبهم ة ي ذوب خالهلا ج وى احلزن ال ذي ن اء ب ه ص دري‪ ،‬وك ان ص ريف أمواج ه املتكس رة على‬
‫نوعا من السآمة املرحية اليت تدعونا‬
‫الشاطئ يداعب مسعي وكأنه أنغام يبعث تشاهبها إىل األعصاب ً‬
‫إىل النوم كما تدعو أنغام األم طفلها الرضيع إليه‪.‬‬

‫مث إنين قلما كنت أرى ما ينبهين إىل ذكر والديت‪ ،‬فقد كان والدي خيرج كل صباح‪ ،‬مث ال يعود‬

‫إال لتن اول طع ام الغ داء‪ ،‬وليسرتيح بعده يف س ريره ساعة خيرج بع دها من جدي د‪ ،‬ومل أكن أس أله‬

‫كيف كان يقضي وقته‪ ،‬وكانت الطاهية تدخل مطبخها يف الصباح إلعداد اإلفطار‪ ،‬مث إلعداد‬

‫طعام النهار‪ ،‬أما اخلادم الصغرية فكانت من اإلسكندرية‪ ،‬ومل أكن قد رأيتها من قبل‪ ،‬وقلما كنت‬

‫أجد الفرصة للتحدث إليها‪ ،‬إال حني تصحبين ساعة خروجي بعد الظهر أسري على شاطئ البحر‪،‬‬

‫علي أنب اء تافهة عن خمدوميها أص حاب الط ابق ال ذي نقيم به‪ ،‬ومل‬
‫ويف تل ك الساعة ك انت تقص َّ‬
‫يُثِ ر عناييت من حديثها إال إعجاهبا الذي ال حد له جبمال سيدهتا‪ ،‬ومجال أخت هذه السيدة اليت‬

‫تزوجت قبلها‪ ،‬مث ظلت سنوات مع زوجها مل تنجب فطلقها؛ ألهنا مل ترض أن تشاركها فيه امرأة‬

‫رزق منها اخللف الصاحل‪.‬‬


‫أخرى يرجو أن يُ َ‬

‫على أن ه ذه املس كينة احملس نة ال يت خففت بعض لوع يت مل تبل غ أن أنس تين ف ادح مص ايب‪ ،‬وال‬

‫حجبت ع ين طي ف املتوف اة العزي زة ال يت أذاق ين موهتا طعم اليتم املري ر‪ ،‬فق د ك انت تتب دى يل يف‬

‫إيل‬
‫أحالمي‪ ،‬وكنت أرى طيفه ا يف ش به اليقظ ة وأن ا أنظ ر من ال دار إىل غاي ة األف ق‪ ،‬وكأهنا ترن و َّ‬

‫وكثريا ما كنت أناجي السماء عند هذا األفق البعيد أسائلها‪ :‬مل حرمين‬
‫بعيون ممتلئة حنانًا وعط ًفا‪ً ،‬‬
‫اهلل أمي وما جنت ذنبًا‪ ،‬بل كانت الرب والرمحة بكل حمتاج إىل الرب وإىل الرمحة؟!‬
‫وكنت أعيد هذا السؤال على نفسي إذا تبدت يل أمي يف أثناء النوم‪ ،‬مث استيقظت بكرة الصباح‬

‫دامعة العني منقبضة النفس‪ ،‬واستبد يب هذا السؤال أيامنا األخرية باإلسكندرية‪ ،‬حىت كنت أخرج‬

‫أحيانًا من صاليت قبل أن أمتها خمافة أن جيزيين اهلل بالتعرض لقضائه أو االعرتاض عليه‪ ،‬وكنت يف‬

‫ظلم ا وقع بوالديت ويب‪،‬‬


‫بعض األحيان أمجع بني يدي كل قويت‪ ،‬وأمضي يف االعرتاض على ما أراه ً‬
‫حىت إذا شعرت أنين أصبحت على شفا جرف من هاوية التجديف ارتددت فزعة أبكي‪ ،‬وأنا ال‬

‫أدري‪ :‬أك ان بك ائي فرقً ا من ه ول م ا اج رتحت يف ح ق ريب‪ ،‬أم من ه ول املص اب ال ذي أذب ل‬

‫صباي وشبايب‪ ،‬وجعلين أرى املستقبل أمامي أسود ال يبدد ظلمته خيط من ضياء؟‬

‫وأدت يب هذه احلال إىل إمهال بعض صلوايت‪ ،‬وكنت من قبل حريصة على أال يفوتين فرض منها‪،‬‬

‫علي من دروس الديانة‪.‬‬


‫كما بدأ خيامرين شيء من الشك فيما كان أستاذي يلقيه َّ‬

‫وعدنا إىل القاهرة ملوعد بدء الدراسة يف املدرسة السنية‪ ،‬فلما كنت بني زمياليت ومعلمايت مل أجد‬

‫ب دًّا من الع ودة إىل العناي ة مبص لى املدرس ة حمافظ ة على مك انيت‪ ،‬واخنرطت يف ال درس‪ ،‬وض اعفت‬

‫م ذاكرة عل ومي يف ال بيت‪ ،‬ووج دت يف ذل ك مس الة عن مهي‪ ،‬وج اءت عم يت من جدي د فت ولت‬

‫تدبري املنزل‪ ،‬مث أعفتين املذاكرة من طول املكث معها‪ ،‬واطردت حياتنا على هذه الوترية زمنً ا كان‬

‫علي من قبل من عطف وحنان‪ ،‬وأخذت عميت‬


‫علي يف أثنائه أضعاف ما كان يسبغه َّ‬
‫والدي يسبغ َّ‬
‫تدنيين منها‪ ،‬فأنساين مر الزمن ما مسعته من خدم البيت عن حديثها مع أيب يف أمر زواجه‪ ،‬فلم تبق‬

‫يف نفس ي من ناحيته ا تل ك احلفيظ ة ال يت ش عرت هبا من قب ل‪ ،‬وتع ودت حي اة اليتم وأخذت أش عر‬

‫بضرورة االعتماد على نفسي يف كل شأن من شئوين‪ ،‬وبأين مطالبة فوق ذلك باالشرتاك مع عميت‬
‫يف ت دبري ش ئوننا املنزلي ة‪ ،‬وخباص ة م ا تعل ق براح ة أيب يف ملبس ه ويف غرف ة نوم ه‪ ،‬آمل ة أن جيد يف‬

‫عناييت بأمره ما يصرفه عن التفكري يف الزواج‪.‬‬

You might also like