You are on page 1of 22

‫مطر وذكر‬

‫سلمان داود‬

‫‪1‬‬
‫عندما يأتي الشتاء ‪ ،‬أنين الليل قد أرخى سدوله على مساحات شاسعة تقبع في داخلي‬
‫ومشاعري ‪ ،‬فتجعله يطير ﻻ ستعادة ومضات في الذاكرة ‪ ،‬لحنين الهمس وأشواق‬
‫الذكرى وجمال اﻷ ماني ‪ ،‬فأجد نفسي جالسا في مكاننا المعهود الذي احتضن كل‬
‫لحظاتنا وهمسات مشاعرنا وخلجات قلبينا ‪ ،‬احتشدت الغيوم وتزاحمت ضرب بعضها‬
‫بعضا زأرت الريح كوحش كاسر ‪ ،‬هطل وابل من المطر ‪ ،‬وأختبئنا تحت سقف مظلة‬
‫باص مصلحة نقل الركاب ‪ ،‬أتذكرين ؟ خدود وردية ‪ ،‬وخلجات محار وشالل شعر‬
‫ذهبي ‪ .‬ليتني امتلك زمام تلك اﻷيام كنت جعلت خطانا مشدودة بأرسان الحب وهيهات‬
‫أتركه يسبقني ويتركني هناك مع الشجى والذكريات‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫في هذا الصباح غسل ماء المطر أرض الكلية ‪ ،‬فإنتشرت على ساحاتها وطرقاتها‬
‫رائحة المطر العبقة ‪ .‬وكان أريج اﻷشجار واﻻعشاب الخضراء يعطي للنفس نشوة‬
‫حالمة بالجمال ‪،‬والتطلع الى الغد باﻷماني التي تعصف بالخيال الجامح ‪ ،‬عبر عمار‬
‫ممرات الكلية وهو يشعر وكأنه يمشي على سحب من اﻷحالم الرقيقة ‪ ،‬لقد كان عمار‬
‫من أولئك الشباب الذين يلذ لهم أن يتقلبوا في أحضان الطبيعة ‪ ،‬وفي هذا اليوم المشهود‬
‫كان يشع في وجهه نور الربيع ‪ ،‬فقد كان يحلم حلما جميال ويشعر كأن الدنيا ملئت‬
‫بسعادة ﻻمنتهى لها ‪ ،‬لقد ظل طوال الصباح وهو شارد الذهن يستمع الى اﻷستاذ دون‬
‫أن يفهم شيئا منه ولم يستطع أن يتذكر شيئا مما قاله إذ كانت خياﻻت الربيع وأوهامه‬
‫تحتل الجانب اﻷ كبر من تفكيره ‪ ،‬وكانت عيناه ترنوان اليها بين لحظة وأخرى‬
‫‪،‬ويسترجع ذكريات رحلت ومرت عليها سنون طوال وهو ويتساءل مع نفسه ‪ : -‬هل‬
‫ممكن أن تكون هي ؟وماذا في ذلك قد تكون هي؟ ‪،‬يالسعادتي لوكانت هي ‪ ،‬ﻻبل حتما‬
‫هي بعينها أعاد إختالس النظر الى عيناها فرآهما تبرقان جماﻻ ‪ ،‬والى تلك الغمازة‬
‫في خدها اﻷيسر ‪ ،‬إنهما هما بالتأكيد عيناها وغمازتها ﻻشك في ذلك ؟ ولكن علي أن‬
‫أستوضح منها وأسألها فلم يعد لدي صبر أكثر ! فإن اﻹسم هو نفس اﻹسم والمالمح‬
‫هي بذاتها ‪ ،‬ولم يبق لي سوى السؤآل واﻹستفسار منها فهي وحدها تؤكد لي حقيقتها‬
‫التي أبحث عنها ‪ ،‬وليتها كانت هي ليتها كانت!‬

‫‪3‬‬
‫حين يطوف بي الخيال ويطوف ‪ ،‬ويتغلغل في المشاعر حتى تستقر في القلب نوازعه‬
‫و شجونه ‪ ،‬وتذوب في النفس آهاتها ولوعاتها ‪ ،‬حينها تتولد في المشاعر قصيدة من‬
‫الشجن ! تهبط على القلب عواطف ذكريات عبقة ﻻتنسى ‪ ،‬ﻷنها طبعت في كيان‬
‫الشخص أجمل رياحين شذى الرياض وأشجى ألحان طيوره ‪ .‬أخذه الخيال بعيدا‬
‫لمرحلة عزيزة في حياة كل إنسان ‪ ،‬لمرحلة الطفولة التي رغم ما كان يعاني من الفقر‬
‫إﻵ إنها كانت حياة هانئة ﻻتنسى ‪ ،‬تذكر صديقه (مصعب ) صديق الطفولة المقرب‬
‫لقلبه والذي ﻻولن ينساه ‪ ،‬يحب أحدهم اﻵخر حب صداقة الطفولة النقي ‪ ،‬حب ﻻيحمل‬
‫المصالح الساذجة كان أحدهم يدخل بيت اﻵخر وكأنه بيته ويأكل من طعامه وﻻيحلو‬
‫له اللهو واللعب إﻵ معه ؟ !في أحد العطل الصيفية زار عم مصعب هو وعائلته بيت‬
‫أخيه والد مصعب وكان برفقته زوجته وإبنته سارة وإبنه ناصر الذي يصغر سارة‬
‫بسنتين ونجالء أخت سارة اﻷصغر مهنا ‪ ،‬كانت سارة واقفة مع صديقي مصعب حين‬
‫رأيتها أول مرة فوقفت مذهوﻻ بجمالها ‪ ،‬خدود وردية وخلجات محار بشعر ذهبي ‪،‬‬
‫كان الجو ربيعي الرواء ‪ .‬ومن موقفي هذا من بعد سنوات طوال مرت على تلك‬
‫الذكرى أجدني أتأمل نفسي في ذلك الموقف البهي فأحن لتلك اﻷيام العذبة ‪.‬وأترقب‬
‫مجيئهم كل عطلة صيفية حين يأتون ضيوف لبيت صديقي مصعب من شمال العراق‬
‫تلك الطبيعة الخالبة ‪ ،‬من جبال سامقة وأشجار وارفة ووديان وعيون ماء وشالﻻت‬
‫رائعة الجمال وغابات كثيفة ‪ .‬حين رأيت سارة وقفت مبهورا بما أرى رغم صغر‬
‫سني ‪ ،‬ولكن الجمال ﻻيعرف عمر معين‪.‬‬

‫ياللقدرة العجيبة لهذه النسمات العذبة من المشاعر المرهفة حين تحملني معها على‬
‫أفواف حريرية بيضاء ‪ ،‬ترتفع بي وتجتاز الحاضر الى ماض من الزمان سحيق من‬
‫العبق إلى حيث أريد دون أن تطأ قدماي اﻷرض ‪ ،‬حينها تغرد العنادل تغاريد ساحرة‬
‫تأخذنا معها بعيدا ‪ ،‬الى حيث الرياض الدافئة والبساتين والحدائق الغناء العبقة بالجمال‬

‫‪4‬‬
‫‪ ،‬والجمال ساحر ﻻيعرف عمر معين ! وقفت مبهورا في حضرة الجمال الخالب‬
‫وسلمت عليهم بإرتباك شديد ؟‪! -‬ردا علي السالم والتحية بأدب رائع ‪ ! -‬قال صديقي‬
‫مصعب ‪ : -‬مالي أراك مرتبكا ؟ ولم أعهدك هكذا منذ عرفتك ؟‪! -‬قلت له‪ : -‬أخشى أن‬
‫أكون قد أزعجتكما بمجيئي ؟ ‪-‬قال ‪ : -‬إنك صديقي الغالي ومرحبا بك في كل وقت‬
‫تشاء ‪ ،‬هل تحب أن تلعب معنا ؟ ‪-‬قلت له نعم وأكون سعيدا جدا ‪ ،‬هيا بنا نلعب‪. -‬‬
‫ولعبنا ألعاب الطفولة البريئة ‪ ،‬حين عرفني عليها صديقي مصعب ‪-‬قال هذه (سارة‬
‫)إبنة عمي جاءوا ضيوف لزيارتنا من شمال العراق الحبيب هي ووالديها ! وأخوها‬
‫ناصر اﻷ صغر منها وأختها نجالء أصغرهم سنا ! وقدمني لها بأني صديقه المقرب‬
‫والشاطر في الدراسة ؟ ولعبنا ولهونا بفرح وسعادة ‪ ،‬الى أن جاء أخوها اﻷصغر منها‬
‫(ناصر )فكدر علينا صفو الفرح والسعادة وحولها الى حزن والم حين وقف مستهزئا‬
‫وساخرا من مالبسي الرثة !لكنه جوبه بالتوبيخ والعقاب من قبل صديقي مصعب ‪،‬‬
‫ومن قبل أخته (سارة ) التي لم ترض على تصرفات أخيها ووصفتها بالتصرفات‬
‫الرعناء ؟ وقالت له‪ : -‬عيب عليك أن تسخر وتستهزء من الفقر ‪ ،‬فالفقر ليس عيبا ‪،‬‬
‫إنما العيب على من يسخر من الفقير والمفروض الساخر هو الذي يوبخ والعيب عليه‬
‫؟ ركضت بعيدا والدموع تترقرق من عيوني مدرارا ؟ فلحقاني مصعب وسارة وهما‬
‫يهدئاني بلطيف الكالم وجميل العبارة وقال مصعب أحسبها علي ‪ ،‬قالت سارة ‪: -‬‬
‫عيب عليك البكاء ياعمار ؟‪! -‬قلت لهما أنا ﻻأبك على نفسي إنما أبك على أمي‬
‫المريضة !ووالدي المسكين الذي يكافح من أجلنا كي ينقلنا الى بر اﻷمان ونرتقي في‬
‫حياتنا الى اﻷحسن ! ويضحي بنفسه وصحته ﻷجلنا ! كانت كلمات صديقي مصعب‬
‫وكلمات سارة بلسما عذبا شافيا لمسح دموعي ‪ ،‬تلك الكلمات بعثت بروحي اﻷمل‬
‫المشرق وروح التحدي لالرتقاء والسمو نحو المعالي ‪ ،‬وكانت حافزا ودافعا قويا لي‬
‫كي أطور نفسي وأجد وأجتهد ﻷجل مستقبل مشرق ‪ ،‬بكل ما أمتلك من قوة إرادة ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫في اليوم التالي عند ذهابي لهم شعرت بسعادة غريبة عند رؤيتي لها ‪ ،‬أحببتها دون‬
‫أن أعرف ماهو الحب ؟ ومازالت ﻻتبارح خيالي سنون طوال ! إنها فعال إنسانة‬
‫محبوبة ‪ ،‬وإزدادت محبتي لها حين دافعت عني ووقفت معي ضد أخيها ‪ ،‬وإن الجمال‬
‫هو في جوهر اﻷشياء وليس في ظاهرها ولكنها جميلة في الجوهر وفي المظهر‪. -‬‬
‫أهال بك ياعمار كنت أنتظر قدومك‪ ! -‬شكرا لك ياسارة وأنا أيضا كنت أستعجل الوقت‬
‫كي يمر سريعا للمجيىء اليكم ‪ ! -‬جاء صديقي مصعب وبصحبته ناصر أخو سارة‬
‫وهو يقدم اﻹعتذار لي عما بدر منه ‪ ،‬وسامحته فورا وقبل أحدنا اﻵخر ‪ ،‬قلت له هذا‬
‫درس لك في إحترام الناس على أساس شخصيتهم وثقافتهم وأدبهم وليس على اساس‬
‫فقرهم أو غناهم‪ . -‬إستمر مكوثهم ضيوف أحبة لدى بيت عمهم لمدة إسبوعين من‬
‫أجمل وأسعد أيام حياتي في فترة الطفولة ! وﻻيمكن لي أن أنساها مهما مرت السنون‬
‫‪. -‬قالت لي ربما اليوم هو اليوم اﻷخير الذي أراك فيه !ﻷننا سنرجع الى محافظتنا‬
‫غدا فاﻷيام الجميلة تسرع في الذهاب أرجو منك أن ﻻتنساني فأنا لن أنساك ‪ ،‬وظلت‬
‫تلح علي بالعهد المواثيق أن ﻻأنساها وهل أنساها ؟ ‪! -‬قالت لي ماهو إسمك الكامل‬
‫قلت لها( ‪ : -‬عمار ضياء )وأنت قالت لي ‪( :‬سارة سمير ) كانت تتطلع الى وجهي‬
‫بإمعان شديد مما أربكني ! فوجهت لها سؤآل ‪: -‬لماذا تنظرين إلي بهذه النظرة ؟ !هل‬
‫في وجهي شيء يثير اﻹنتباه ؟ ‪! -‬قالت أبحث في وجهك عن عالمة فارقة مميزة كي‬
‫أتذكرك منها ‪ ،‬والتي ممكن أن أتعرف عليك من خاللها إذا كتب هللا تعالى لنا اللقاء‬
‫مستقبال‪ . -‬قالت اﻵن عثرت على عالمة مميزة لك ؟ وهي شامة (خال )تحت عينك‬
‫اليسرى ‪ ! -‬قلت لها وأنت عينيك الخضراوان ‪ ،‬وغمازتيك الساحرتين وشعرك الذهبي‬
‫هي عالماتك المميزة ! وتم اﻹتفاق على التعارف بهذه اﻷدلة الثبوتية أذا تم لقاؤنا‬
‫مستقبال ؟ !ودعتني وفي قلبي غصة وألم وشجن بريىء إنه وفاء الطفولة الذي ﻻتشوبه‬
‫أي شائبة من شوائب اﻷطماع الساذجة ‪ ،‬وودع أحدنا اﻵخر ‪ ،‬ودائما ماتودعني‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إن لهفتي إلى معرفة الحقيقة تقترن عندي بظمأ خفي شديد وكم أنا محتاج الى جواب‬
‫شافي منها ‪ ،‬كلمة حين تنطق بها لتخطيت بخفة جناح فراشة آفاق زمني وحدود دنياي‬
‫‪ ،‬فأسمو نحو النجوم الزاهرة دون أن يغادر جسمي اﻻرض ! وأسبح معها في السماء‬
‫‪ ،‬كم أنا محتاج لتلك الكلمة وأخشى منها ! خوفي من الخذﻻن الذي يحرق الحياة !‬
‫حين يكون الجواب إنها ليست هي فأخشى أن أسقط محترقا كالفراش حين تحترق‬
‫أجنحته بلهيب النور ‪.‬إنتهت المحاضرة دون أن يشعر بها بل حتى إنه ﻻيتذكر منها‬
‫شيئا ‪ ،‬وﻻ يعي ماذا كتب ! كل مارآه في دفتره بعض الكلمات الغامضة غير المفهومة‬
‫‪ ،‬رسوم لقلوب يقطر منها الدم ‪ ،‬يخترقها سهم جارح ! وزهور وورود متناثرة هنا‬
‫وهناك ‪ ،‬خرج من قاعة الدرس مسرعا قبل الجميع وجلس على أحد اﻷرائك القريبة‬
‫من باب خروج الطلبة وهو ينتظر نزولها بشغف كبير ! ﻷن هذه اللحظات هي‬
‫اللحظات الحاسمة التي تقرر مصير أمانيه التي بنى عليها الكثير من اﻷمال ‪ ،‬وتتسارع‬
‫دقات قلبه ويدعو هللا تعالى بكل جوارحه أن تكون هي المقصودة ! لقد عيل صبره‬
‫ونفذ من اﻹنتظار فأراد الرجوع الى قاعة الدرس للبحث عنها ‪ ،‬هاهي جاءت ‪ ،‬رقص‬
‫قلبه سرورا عندما رآها مقبلة عليه وإتجه مسرعا ﻹستقبالها ‪ ،‬إرتجف رجفة خفيفة بل‬
‫إزدادت عندما قالت له ‪ : -‬صباح الخير ‪ ،‬هل كتبت المحاضرة ؟ ‪-‬قال لها ‪ : -‬إن‬
‫المحاضرة مازالت محفورة في شغاف روحي وإسألي قلبي فهو يحفظها عن ظهر‬
‫قلب ! منذ تلك اللحظات التي ودعتيني فيها في تلك السنين الخوالي ‪ ،‬أتذكرين ؟‪! -‬‬
‫أرادت أن تتالعب بمشاعره وتختبر صبره قالت له‪ : -‬عن أي محاضرة تتكلم ؟ !أنا‬
‫أسألك عن المحاضرة اﻷخيرة هل كتبتها ؟‪! -‬قال لها نعم كتبتها أنظري دفتري ‪.‬‬
‫وإعطاها الدفتر الذي رسم فيه القلوب والورود فضحكت وظهرت غمازتيها‪ ! -‬قال‬
‫لها (سارة سمير ) أتذكرين (عمار ضياء‪ ) -‬قالت له نعم أذكره وكيف لي أن أنساه ‪،‬‬
‫وذكراه مازالت تعصف في قلبي وخيالي أجمل المشاعر‪ ! -‬قال لها ‪ : -‬هللا هللا ماأجمل‬
‫القدر الذي جمعنا بعد فراق دام لسنوات ليس لها في عمر الزمن حساب ‪ ،‬أما في عمر‬
‫اللهفة واﻹشتياق فأن الوقت يتالشى ويفنى فيها ‪ ،‬إنه كنز من الؤلؤ في بحر الحياة‬

‫‪7‬‬
‫والزمن الذي يمضي وﻻيعود ‪ ،‬إنه عيد الفطر للقلب الذي دام صيامه كل هذه السنين‬
‫‪.‬‬

‫رحلت كلمات الهمس الجميل ولم تبق سوى ذكريات مؤلمة ‪ ،‬وحكايات شجية دامعة‬
‫‪ ،‬ينبهر بها السامعون ‪ ،‬ﻷنها كتبت بدموع العيون ! ونقشت بآهات القلب الحزون ‪.‬‬
‫وها أنا بصمت عميق أغزل كلماتي‪ ،‬وأصوغها بمشاعر نبيلة ‪ ،‬صادقة لتخرج نقية‬
‫ناصعة رقيقة الهمسات ‪ .‬إستمرت قصة حبهما العذري أربع سنون ‪ ،‬هي عمر الدراسة‬
‫الجامعية في كلية الهندسة ‪ ،‬وﻻتحسب من عمر الزمن ! منحته خاللها عشقا بحجم‬
‫البحر والسماء ! عشقا خياليا ليس له وصف وﻻ في اﻷحالم ‪ .‬على الرغم من مأساة‬
‫فقره ‪ ،‬وهي ملكة مكلله بتاج اﻷ ميرة ‪ ،‬والقوم حولها قديس وعبد ! منبهرين بجمالها‬
‫‪ ،‬لكن قلبها أختاره هو منذ الطفولة إلتقطته كما يلتقط الطائر الجميل حبة بر نادرة‬
‫ويحتفظ بها لنفسه بعيدا عن أعين الرقباء ‪ .‬كانت لقاءآتهما في حدائق الجامعة الغناء‬
‫‪،‬وأروقتها الرائعة ومقاعد الدراسة ‪ ،‬وكل شبر في أرض الكلية يشهد على قصة حبهما‬
‫العذري ! بعبق اللقاء وجمال اﻷحاسيس ‪ ،‬والمشاعر العذرية الصادقة ! ولكن ﻻبد‬
‫للزمن أن يمضي ‪ ،‬وﻻبد لكل بداية من نهاية ! لكل شيء في هذه الحياة ! وها هي‬
‫السنة اﻷخيرة توشك على اﻹنتهاء ‪ ،‬كانا يسيران إلى قسم التسجيل ليستفسرا عن موعد‬
‫إعالن نتائج اﻹمتحانات ‪ .‬وكان موعد حفلة التخرج في أليوم التالي ! وهو يوم خالد‬
‫من أيام العمر السعيدة التي ﻻتنسى ! إنتشر الطلبة والطالبات في جميع أرجاء الكلية‬
‫‪ ،‬وكان الفرح الغامر يبهجهم ويجمعهم ‪ ،‬وكانت الصور واللقطات التذكارية بين‬
‫الجميع ! بعضهم لبعض من أجمل وأحلى اللقطات المعبرة عن المحبة في تلك الرحلة‬
‫الجميلة ﻷيام الدراسة ‪ ،‬ووفاء اﻷحبة ‪.‬إستمرت أريع سنوات ﻻتحسب من عمر الزمن‬
‫‪ .‬أغاني تأتي من هنا وهناك ‪ ،‬ورقص ودبكات شعبية ‪ ،‬وموسيقى متنوعة ‪ ،‬الكل يعبر‬
‫عن فرحته الكبيرة بهذا اليوم ! وهم على وشك التخرج ووداع اﻷحبة الغوالي ‪،‬‬
‫وفراقهم الذي قد يستمر طويال ‪ ،‬ويتالقوا صدفة كالغرباء ‪ ،‬منظر مؤلم رغم السعادة‬

‫‪8‬‬
‫الظاهرة ‪ ،‬لكن الجميع في حالة من الشجن ! وترى اﻷصدقاء يعانق بعضهم البعض‬
‫‪ ،‬بعيون باكية وقلب مفجوع كأنه يودع عزيزا سوف لن يراه ؛ فرحين بالتخرج ‪،‬‬
‫ومتألمين للفراق القادم ‪ ،‬الذي قد يطول كثيرا وﻻ يرى الزميل زميله بعد إذ كان يراه‬
‫كل يوم في الكلية وقضى معه أحلى لحظات العمر ‪ ،‬حيث الوفاء الصادق وأجمل‬
‫المشاعر الجياشة بالحنان لحظات الوداع حزينة ‪ .‬كان( عمار وسارة) يسيران في كل‬
‫طريق وممر مشيا فيه ‪ ،‬وكل مكان كان لهما ذكرى فيه ‪ .‬وكل أريكة جلسا عليها ‪،‬‬
‫ضحكا مع الضاحكين رقصا مع الراقصين ‪ ،‬صفقا مع المصفقين ‪ ،‬وكان الجميع‬
‫يعرف قصة حبهما ‪ ،‬ويفسحون لهما الطريق حين يمران ‪ ،‬جاء وقت إلتقاط الصورة‬
‫الجماعية التي تجمع جميع طلبة القسم مع اﻷساتذة ‪ ،‬وهم يرتدون بدﻻت وروب‬
‫التخرج وقبعة الرأس ‪ ،‬وتلك اللحظة الحاسمة في تاريخ الدراسة وبعد إلتقاط الصورة‬
‫يتم رمي قبعات الرأس الى اﻷعلى تعبيرا عن مفارقة الكتب الدراسية ! وفرحة التخرج‬
‫‪ ،‬وإنتهاء المعاناة الدراسية ‪ ،‬و كانت أحدى اﻷساتذة بخيلة جدا في إعطاء الدرجات‬
‫وحين جاءت مع أساتذة القسم ‪ ،‬ﻷلتقاط صورة التخرج ‪ ،‬إستقبلها الطلبة بهتاف مازح‬
‫(ست نضيرة نجحينا ‪ ،‬ست نضيرة نجحينا ههههه ) لكنها كانت تؤشر لهم بيدها‬
‫بعالمة الرفض كال ‪ ،‬كال وتخيب رجاءهم في مثل هذا اليوم ‪ .‬وإنتهت حفلة التخرج‬
‫كما ينتهي كل شيء جميل في هذه الحياة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪#‬جمال_الروح أن جمالك الحقيقي جمال روحك ‪ ،‬اما قسمات وجهك ستذبل يوما بينما‬
‫الروح تتوهج لألبد ( ‪ .‬جالل الدين الرومي ) مالت الشمس نحو المغيب ‪ ،‬وخيم الصمت‬
‫والسكون المطبق الرهيب في خميلة البستان حتى يحس السائر فيه ان ﻻشىء يدل‬
‫على حركة الحياة ‪ ،‬مافتأت أجنحة الفراشات تضرب حصارا حول الورود واﻷزهار‬
‫؛ ألقى اﻷصيل ظالله منسابا من بين فجوات الشجر ‪ ،‬وعلى غير توقع تنطلق تغريدة‬
‫قصيرة من طائر مجهول يمزق صوته السكون فيحرك كل جوانب الحياة في الخميلة‬
‫‪ ،‬ان من ألف العيش في الغابات والبساتين هو وحده من يعرف سحر هذه التغريدة ‪.‬‬
‫في جناح معشوشب من الحشائش الخضراء ‪،‬فيبهى المنظر ويزدهر ‪ ،‬وﻻ بد ان تزهو‬
‫الحياة ‪ ،‬وﻻبد للقلب ان يطمئن ‪،‬فكم هو رائع خلو البال حين تنتشي الروح ببهجة‬
‫دواخل اﻷنسان النقية ‪ ،‬فجمال اﻷنسان الحقيقي هو جمال الروح‪.‬‬

‫اليوم اﻷخير إلتقاها في آخر يوم لهما في الجامعة ‪ ،‬وقت الظهيرة ‪ ،‬جلسا على تلك‬
‫اﻷريكة التي جمعت قلبيهما ‪ ،‬وشهدت على قصة حبهما كان الحزن والشجن يمأل‬
‫قلبيهما ‪ ،‬وتترقرق الدموع من مآقيهما وأصوات مبهمة تختلج في كل كيان عمار ‪،‬‬
‫ويشعر بأنه موشك على الغرق في بحر لجي من الفراغ المظلم الموحش من جديد !‬
‫كانت أحشاؤه تنقبض وصدره يضيق ‪،‬ويحاول إيجاد معوﻻ يحطم به هذا الحاجز‬
‫الجامد الذي يحول بينهما ثم يتراجع خشية أن يدمر كل ماهو جميل في عالقة حبهما‬
‫‪ ،‬ويعجز حينئذ عن تدارك آثارالدمار ااذي يخلفه بعدها‪ . -‬هل رأيتم إنسانا يتوه في‬
‫صحراء قاحلة أوشك أن يموت ظمأ وحين يجد جرعة الماء الذي يعيد له رونق الحياة‬
‫يأتي شخص ويقذف ذلك الكأس من يده بعيدا وهو يقول له ﻻحاجة لك بهذا الكأس‬
‫(إحفظ عطشك في أحشاؤك )أتعلمون ماهو مصيره ؟ ‪-‬تكلمي ياسارة ياوشم روحي‬
‫وأريحي روحي ‪ .‬أريد تتويج قصة حبنا بوضع تاج اﻷميرة على رأسك ؟ ‪-‬هل مازلت‬
‫مصرة على طموحك في إتمام دراساتك العليا خارج العراق ؟ ‪-‬قالت له ‪ : -‬حبيبي‬
‫‪11‬‬
‫عمار إن هذا هو رأي والدي وليس لي اﻷعتراض على رأيه ‪ ،‬بل ﻻيمكني أن أخالفه‬
‫الرأي ‪ ،‬وكنت أقول لك إنه طموحي كي أبث في قلبك شيء من اليأس ‪ ،‬لكن الحقيقة‬
‫التي لم أخبرك بها هي أنه طموح والدي الغالي ‪- 1.‬قال لها إذن سأجلب أهلي كي‬
‫أتقدم لك بالخطوبة ؟ ‪-‬قالت له ‪ : -‬وهل تعتقد بأن والدي سيوافق ‪ ،‬أنا ﻻأريد أن تضع‬
‫نفسك في موقف محرج فأن ألمك يمزقني أشالء متناثرة ! وأنا أعرف والدي فهو عنيد‬
‫جدا في هذه المسألة ؟ وطالما شرحت قصتي لوالدتي لعلها تساعدني وتقف معي لتلين‬
‫صالبة موقف والدي ‪ ،‬لكن المفاجأة كانت تقف ضدي ‪ ،‬وقالت لو فتحت هذا الموضوع‬
‫معي مرة أخرى لن تكوني إبنتي التي أعتز بها ‪ .‬حين سمع تلك الكلمات منها تحول‬
‫عقله الى مهرجان في غابة أفريقية تقرع فيها الطبول بضربات مؤلمة عالية في كهوف‬
‫كيانه بصراخ موحش‪ . -‬قال لها ‪ : -‬أتذكرين مثل هذا اليوم في الطفولة حين كان الوداع‬
‫ولوعته ومرارته ‪ ،‬وها هو القدر الذي جمعنا سيفرقنا مرة أخرى ‪ ،‬بصورة أقوى‬
‫وأشد ايالما وشجنا‪ . -‬قالت له ‪ : -‬حبيبي عمار ليس اﻷمر بيدي ‪ ،‬فأنا ممكن أن أهرب‬
‫معك الى آخر الدنيا ‪ ،‬ولكن هل تعتقد إن هذا هو الحل ؟ هل توافق أن نهرب بحبنا‬
‫كالسراق ؟ !وهل تريد أن يكون لقاؤنا في الظالم ؟ !ﻻتعتقد بأن فراقك أمر سهل على‬
‫قلبي ‪ ،‬ويسير على مشاعري ‪ ،‬ولكن هل توافق أن أخالف والدي وأخون الثقة التي‬
‫منحها لي ؟ ‪! -‬قال لها ‪ : -‬طبعا ﻻأوافق وحتى لو أنت طلبت مني هذا الحل والهروب‬
‫فلن أوافقك الرأي ‪-‬قالت له ‪ :‬إذن لنصبر لعل الزمن يجمعنا مرة ثالثة‪.‬‬

‫(سالب الروح ) إحمليني إليها أيتها النسمات العذبة ‪ ،‬إحمليني لتلك الزنبقة البيضاء‬
‫التي رحلت بعيدا ‪ ،‬وتركتني أعاني الوحدة والشجن ‪ ،‬إحمليني اليها طيفا أصنع لعينيها‬
‫الخضراوين خميلة من خمائل اﻷحالم ! إحمليني إليها تغريدة عندليب يطربها بأحلى‬

‫‪11‬‬
‫النغمات بما لم تغن به من قبل الطيور ‪ ،‬إحمليني إليها عطرا يمأل أنفاسها الدافئة ‪،‬‬
‫إحمليني إليها إبتسامة عذبة ترصع جمالها بنشوة اﻵمال ‪ .‬بعد أن تم الفراق والوداع‬
‫في يومهم اﻷخير ‪ ،‬كان عمار يعاني من أيام عصيبة قاتمة سوداء المالمح ‪ ،‬وأصبح‬
‫النوم يجافي جفونه المسهدة ‪ ،‬ورافقه اﻷرق في جميع لياليه ‪ ،‬إﻵ في أوقات قليلة‬
‫ﻻيدري كيف غفى ليصحو بعدها متمنيا أن يكون في كابوس مخيف ‪ ،‬وترجع أيامه‬
‫سعيدة بها ولكنه يصحو على خيبة اﻷمل ‪ ،‬فيحاول أن يمسك كتابا ليتعب عينيه وينام‬
‫‪ ،‬ولكن سرعان مايترك الكتاب حين ﻻيأنس من نفسه تقبال لما يحتويه ذلك الكتاب ‪.‬‬
‫ألدمار في نفسه شديد ومعنوياته محطمة ومقاومته لتقبل اﻷلم هبطت الى الصفر ‪ ،‬في‬
‫كيانه لهفة وإشتياق للقاء الحبيبة الغائبة ولكن هيهات أنى له اللقاء ‪ .‬كان يجوب‬
‫الشوارع المؤدية الى بيت (حبيبته سارة )متلهفا لرؤيتها ‪ ،‬قبل أن يمضي الزمن وترحل‬
‫بعيدا لمواصلة دراستها خارج العراق ‪ ،‬لكي يتزود منها زادا يكفيه لمقاومة ذلك الفراق‬
‫الكبير ‪ ،‬الذي سيمأل حياته فراغ موحش ‪ ،‬يقف بعيدا مراقبا لبيتها لعلها تطل عليه‬
‫بطيفها لحظة ما ‪ ،‬لم تكن الهواتف النقالة منتشرة في تلك الفترة من الزمن فيبقى يجوب‬
‫الشوارع على غير هدى لعل وعسى يراها صدفة حتى يدب في قلبه اليأس بعدم‬
‫رؤيتها فيرجع القهقري الى بيته حزينا كئيبا شاكيا من لوعة ألم الفراق ممنيا نفسه أن‬
‫يراها في اليوم التالي ‪ ،‬وتتكرر مأساته يوميا ‪ .‬ﻷنها رجعت إلى بيتها في شمال العراق‬
‫‪ ،‬وهي في فترة الدراسة تعيش في بيت عمها في بغداد ولم تخبره برجوعها الى بيتها‬
‫‪ ،‬كي تمهد لنفسها وله الصبر على الفراق فهو نفسها الذي تتنفسه ‪ ،‬وألمه يؤلمها ‪،‬‬
‫وضغطت على قلبها ومشاعرها كي ﻻتضعف وتخيب آمال والديها في السفر والدراسة‬
‫لهذا آثرت أن ترحل بصمت كي ﻻتتألم وتؤلمه ﻷنهما كيان واحد وألمه هو ألمها ‪،‬‬
‫يبقى عمار في دوامة من الصراع والحزن يزداد صعوبة مع اﻷيام حتى نصحه أحد‬
‫أصدقاءه أن يجد له وظيفة أو أي عمل يساعده على النسيان ولكن كيف ينسى سالب‬
‫الروح ؟ أمستطيعة اﻷيام أن تنسيه من أحب أقادر قلبه أن ينسى هذه الزنبقة النافحة ‪،‬‬
‫وتلك النسائم العذبة التي تهب على روحه وكيانه فتنعشه ؟ ولكن رغم ذلك قرر البحث‬

‫‪12‬‬
‫عن عمل أو أي وظيفة تساعده على النسيان ‪ .‬ووجد وظيفة تناسب طموحه‬
‫وإختصاصه الهندسي في أحدى الشركات اﻷهلية‪.‬‬

‫الحرمان إن أيام العمر التي نعيشها تمر كثيرة ‪ ،‬ولكن أيام قليلة نشعر فيها بالسعادة‬
‫!وإننا على قيد الحياة ‪ ،‬وهذه اﻷيام وحدها هي التي تعطينا معنى حلوا سعيدا للحياة‬
‫‪ ،‬إنها أيام اللقاء باﻷحبة في هذا الزمان الراحل نحو المجهول ‪ .‬كنت مجبرة من والدي‬
‫ﻷتمام دراساتي العليا في الهندسة ‪ .‬قال لي ‪ : -‬بأن هذا هو طموحه منذ زمن بعيد‬
‫والذي هو لم يحققه بنفسه فأراد أن يحققه بأوﻻده ‪ .‬ﻷن ظروفه الصعبة التي عاشهافي‬
‫تلك الفترة منعته من اتمام دراساته العليا ‪ .‬قال لي ‪ :‬حتى لو أضظررت ﻷرسالك الى‬
‫خارج العراق لتحقيق أملي لن أتوان لحظة في ذلك ‪ .‬كانت هذه الرغبة تجتاح كيانه‬
‫منذ وقت طويل ‪ ،‬ولطالما رددها علي مرارا وتكرارا ‪ ،‬ولهذا أصبحت هذه الرغبة‬
‫تخالج مشاعري وتولدت لدي فكرة اﻹندفاع لتحقيق هذا الحلم واﻷمل لوالدي والذي‬
‫أصبح شغله الشاغل ! قبل أن التقي بعمار كانت فرحتي بهذا الطموح ﻻتوصف ‪،‬‬
‫ولكن بعد قصتي معه كنت أعرف بأن ذهابي ﻷتمام الدراسة سيحول بيني وبين من‬
‫إختاره القلب وتمنته الروح ‪ ،‬وكنت بين أمرين في مفترق طريق كالهما حبيب الى‬
‫قلبي ‪ ،‬أما أن أنصاع وراء قلبي ومخالفة والدي ووالدتي ‪ ،‬وتحديهما وإجبارهما على‬
‫الموافقة على زواجي من عمار بعد أن أضعهم أمام اﻷمر الواقع ‪ ،‬وبهذا أفقد ثقتهما‬
‫الى اﻷبد ‪ ،‬وأخيب رجاءهما وأملهما بي ! أو أدوس على قلبي وأتركه هنا وحيدا‬
‫وأسافر بعيدا لتحقيق رغبة أهلي ‪،‬كنت أعاني من صراع مرير ﻻأحسد عليه وكان‬
‫هذا الصراع يربض على صدري ويجثم فوق مشاعري ويمتص كياني قطرة فقطرة‬
‫‪ ،‬ويتركني ساخرة من شجني وأسى معاناتي ‪ ،‬في عالم موحش فاتحا فمه ليبتلع كل‬
‫ذكرياتي الجميلة ‪ ،‬حتى قذف اليأس الى قلبي ‪ ،‬اليأس ذلك الشبح القاتل ‪،‬وﻻ أكتمكم‬
‫حديثا فحين يسيطر اليأس على عواطف اﻻنسان فأنه يصبح أدعى الى الرثاء واﻷلم‬
‫‪13‬‬
‫لحاله ‪ .‬إيه أيتها اﻷيام القاسية هل حقا بأني سأفقد حبيبي وﻻ أستطيع رؤيته بعد اليوم‬
‫؟ ولم يعد بإمكاني أن أغمض عيني ثم أفتحهما على رؤية وجهه الحبيب وصوته‬
‫العذب الدافيء يداعب مسامعي ‪ .‬إن اﻹنسان ﻻيشعر بقيمة الشيء إﻵ بعد أن يفقد ذلك‬
‫الشيء ‪ ،‬بلى لقد إخترت الذهاب بعيدا ﻷتمام الدراسة على البقاء مع حبيبي ‪ ،‬ولكن لو‬
‫ترى حالي اﻵن إني ﻷصعب حتى على نفسي ‪ ،‬أصبح قلبي كغابة محترقة ليس ﻷحد‬
‫غيره القدرة على إطفاءة ‪ ،‬إن يباس قلبي إستعصى على اﻹخضرار ‪ ،‬ليلي موحش‬
‫وأنينه مزق شغاف روحي الحزينة ‪ ،‬كأنه وحش يزأر طوال الليل ‪ ،‬وحش الغربة‬
‫واﻷحزان ‪ ،‬عفوا ﻻأستطيع اﻹستمرار في الكتابة ﻷن دموعي ستمحو كل ما أكتب‪.‬‬

‫وصية والدتي مرت ثالث سنوات من اﻷلم والشجن منذ رحيل (سارة)سالبة الروح‬
‫والعقل ووشم القلب ‪ ،‬ومازالت ذكرياتها العبقة تنهش كياني ‪ .‬نجحت في وظيفتي أيما‬

‫‪14‬‬
‫نجاح يغبطني عليه زمالئي في العمل ‪ ،‬مما جعلني أتبوء مكانة مرموقة ودرجة‬
‫وظيفية راقية ‪ ،‬بسبب التفاني في العمل وتقديمي أفضل المقترحات العملية في تحسين‬
‫اﻹنتاج كما ونوعا ‪ ،‬مما زاد في إعجاب المدير العام للشركة ‪ .‬تحسنت أحوالنا المعيشية‬
‫كثيرا والحمد هلل ‪ ،‬لكني كنت معرضا عن الزواج ﻷن قلبي الذي سلبته مني سارة لم‬
‫أعد مالكه ‪ ،‬وهو لم يعد قلبي ولحد أﻵن لم أجد الفتاة التي تلفت إنتباهي وممكن لها أن‬
‫تحل محل حبيبيتي الغالية الغائبة ‪ ،‬وتمر اﻷيام دون أن أنسى ‪،‬كثرت اﻷقاويل عني‬
‫من اﻷقارب وحتى من اﻷصدقاء ﻷعراضي عن الزواج وخاصة حين تجاوز عمري‬
‫أكثر من الثالثين ‪ ،‬وبدأت الشائعات التي تمس رجولتي ‪ ،‬لم أبالي بكالم الناس فأنا‬
‫واثق من نفسي ‪ ،‬وقلت سيأتي اليوم الذي ألجم ألسنتهم فيه ‪ .‬ولكن المشكلة ليست مع‬
‫الناس في أقاويلهم لكن المشكلة هي مع والدتي التي خاصمتني وزعلت مني بعد أن‬
‫يأست من إقناعي بالزواج ‪ ،‬وعدم تجاوبي معها ‪ ،‬ولم تعد تكلمني فأثر هذا الخصام‬
‫في كل مشاعري ‪ ،‬وكان حزني ﻻيوصف لوصول هذا اﻷمر مع والدتي لهذا الحد من‬
‫القطيعة ! وزعلها قاس على قلبي ‪ ،‬ويعتبر مني عقوق لحقها علي ‪ ،‬ولكني ﻻأريد‬
‫سوى رضاها عني وكسب ودها ‪ ،‬لهذا جلبت لها هدية جميلة ودخلت غرفتها ذات‬
‫مساء وقبلت يديها ورأسها محاوﻻ مصالحتها ورضاها عني ‪.‬قالت لي ‪ : -‬ﻻأصالحك‬
‫وﻻ أرضى عنك إﻵ ان تحقق إمنيتي وتوافق على طلبي الذي تعرفه وهو الزواج‬
‫بأقرب وقت أريد أن أراك مع زوجتك وأطفالك قبل مماتي‪ . -‬قلت لها ‪ : -‬أسأل هللا‬
‫عزوجل أن يبعد عنك كل مكروه وشر ويعافيك في صحتك ويبارك في عمرك ياست‬
‫الحبايب ‪ ،‬وقبلتها من رأسها ويديها ‪ ،‬وإنحنيت الى قدميها ﻷقبلهما فسحبتهما ولم توافق‬
‫وقالت إرفع رأسك ياولدي الغالي ‪ . -‬قالت لي ‪ : -‬إن عافيتي ياولدي أن أراك عريسا‬
‫ويمنحني هللا عزوجل عمرا كي أرى أطفالك وأحملهم كما حملتك على قلبي من قبل‬
‫‪ ،‬والعمر يمضي وأنت قد تجاوزت الثالثين من عمرك ولم تتزوج لهذا بدأت اﻷقاويل‬
‫تحاك ضدك وكالمهم وهمزهم يزداد عنك يوما بعد آخر ‪ ،‬بإشاعات تخص رجولتك‬
‫كنت أرتاب منها وتقتلني الهواجس والخوف والخشية لو كان كالمهم صحيحا‪ . -‬كال‬
‫ياوالدتي الحنونة والحمد هلل ‪ ،‬وإن كالم الناس خاطيء وﻻ ينتهي وغير صحيح ‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫وسيأتي اليوم الذي ألجمهم فيه وأخرس أفواههم ! ولكن المهم هو أن أجد الفتاة المناسبة‬
‫والتي يمكن لي أن أكون سعيدا معها ‪ ،‬وهي تكون سعيدة معي وﻻ أظلمها معي ‪ ،‬أريد‬
‫أن أكن لها الحب ولكن قلبي قد رحل بعيدا بعد أن خطفته إحدى الفتيات ورحلت به‬
‫بعيد بل بعيد جدا وأنا حين أريد الزواج يجب أن يكون من أجلي وليس من أجل الناس‬
‫فأن رضا الناس غاية ﻻتدرك‪ . -‬ياولدي أنا أريدك أن تتزوج ليس من أجل الناس ‪،‬‬
‫بل من أجلك أنت ومن أجلي ‪ ،‬فأنا قد تقدمت بي السن كما ترى واﻷعمار بيد هللا تعالى‬
‫‪ ،‬وأمنيتي أن أراك عريسا وأرى أطفالك يلعبون من حولي ‪.. -،‬بعيد الشر عنك‬
‫ياوالدتي الحنون‪ . -‬ولدي أريدكأن تتزوج (ميادة )إبنة أختي فهي جميلة وخريجة جامعة‬
‫ومثقفة ! واﻷ هم من ذلك كله إنها تحبك منذ زمن بعيد لكنك لم تك تعيرها إهتمامك‬
‫وإنتباهم ‪ ،‬رغم تلميحاتها لك ‪ ! ،‬وﻻتبادلها المشاعر ! رغم جمالها وكثرة خاطبيها ‪.‬‬
‫والتي كانت ومازالت ترفضهم بسبب حبها لك‪ ! -‬ياأمي الحبيبة أنا أعتبر ميادة أخت‬
‫لي ولم أفكر يوما بأن تكون زوجة لي ؟‪! -‬الحب يأتي بعد الزواج ياولدي ‪ ..،‬وهذه‬
‫أمانة مني أجعلها في عنقك الى يوم الدين أن تتزوجها وتحقق أمنيتي ورغبتي‪ ! -‬قلت‬
‫في نفسي لو كانت والدتي تعرف قصة حبي لسارة لتغير اﻷمر قليﻻ ‪ ،‬وقد لمحت لها‬
‫قبل قليل بأن فتاة خطفت قلبي ولم أشرح لها كل التفاصيل ؟ وهي أيضا لم تتعمق في‬
‫السؤآل عن تلك الفتاة لغاية في نفسها ‪ ،‬ولكن بعد تفكيري العميق رست سفينتي في‬
‫المرفأ والميناء الذي إختارته لي والدتي رغما عني ﻷنها حملتني أمانة في عنقي الى‬
‫يوم الدين ‪ ،‬فلم يكن لي خيارسوى القبول بعد معاناة مع اﻷلم ‪،‬وافقت على مضض‬
‫من زواجي من ميادة ابنة خالتي‪.‬‬

‫(أرسان الحب )إن نار اﻹشتياق أشد إيالما من برد البعاد ‪ ،‬إن قلبي يستعر ويكتوي‬
‫بنار الفراق وشجى البعاد ‪ ،‬ليتني كنت أمتلك قيادة أرسان زمني ‪ ،‬لجعلت أيامه مشدودة‬
‫بخطانا خطوة بخطوة فيما نحن نسير ‪ ،‬أو يسير بنا الحب ‪ .‬ليتني كنت أمتلك قيادة‬
‫أيامي ‪ ،‬كنت جعلتها طوع قلبي وتحت إمرته ! وﻻ أدعها تسبقني خطوة واحدة ‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫فأمسك بمقود أرسانها وأقودها إلى حيث أريد ولكن( ‪ :‬هيهات هيهات )فقادتني اﻷيام‬
‫الى حيث ﻻأحب وﻻ أريد وﻻ أأمل ‪ .‬فأخذتني الى حيث تريد هي ‪ ،‬ﻻما أنا أريد ‪.‬‬
‫فإفترقت عنه بإرادة من زمني وأنا غير راضية‪ ،‬وﻻ راغبة ‪ ،‬ولكن طاعة الوالدين‬
‫واجبة ! وإمتثلت ﻷوامر والدي ورضخت لها حبا بوالدي ‪ ،‬وأنا أعلم بأن هذا سيبعدني‬
‫عن منية الروح ‪ ،‬فأصبحت حياتي خالية منه أتقطع حسرات لنسمات عليلة عذبة ‪،‬‬
‫تهب من هناك من روحه الرقيقة ‪ ،‬طحنتني العاصفة ‪ ،‬وغدوت روحا تذر مع الغبار‬
‫الذي تنشره الريح ‪ ،‬ودفن السيل أناشيد فرحي ‪ ،‬وأخشى أن أموت هنا في الغربة بعيدة‬
‫‪ ،‬شيء واحد هو الذي أمسك بي قبل أن أغيب هو نسمات عذبة تهب على قلبي من‬
‫أرض حبيبي تحمل طيفه الغالي الذي أأمل أن ألتقيه ‪ ،‬وخفقان قلبي بذكرى الساعات‬
‫الجميلة التي عشناها معا في الكلية ‪.‬مرت سنون الفراق صعبة وقاسية على قلبي من‬
‫عمر هذا الزمن ‪ ،‬أنلتقي مرة أخرى ؟ أقادر الزمن أن يجمعنا بعذوبة اللقاء ؟ فالكل‬
‫في هذه الحياة يلتقي إﻵ من كتب هللا تعالى له أﻵيلتقي ‪ ،‬الليل والنهار يلتقيان ‪ ،‬العتمة‬
‫والنور يلتقيان ‪ ،‬فهل سنلتقي ؟ !بلى سنلتقي فمادامت اﻷرض مستديرة سنلتقي ‪،‬‬
‫ونرتقي ‪ .‬شوق كبير في كياني يدفعني نحو أرض الحبيب ‪ ،‬ولتلك الذكريات العبقة‬
‫التي جمعتنا ‪ ،‬وأتمنى وأسأل هللا عزوجل أن يجمعنا مرة أخرى ‪.‬أنهيت دراساتي‬
‫العليا في الهندسة ‪ ،‬ونلت الشهادة التي يطمح لها والدي وحققت طموحه ‪،‬فهل سيحقق‬
‫طموحي ؟ بقى شيء أطمح له وأتمنى أن أناله وهو عندي أغلى من الشهادة ‪ .‬سأعود‬
‫الى مالعب الصبا والذكريات الهانئة ‪ ،‬وﻻ شيء أحب الي من العودة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫(رسالة من عمار الى سارة بعد ذهابها للدراسة خارج العراق ‪ ،‬لكن لألسف لم تصل‬
‫لها ) حبيبتي وستبقين دائما حبيبتي كنت أخفيت عنك مشاعري ‪ ،‬أقولها اﻻن ﻷنك ليس‬
‫هنا ‪ ،‬أفتحي قلبي تجدين فيه غيوما حزينة ‪،‬تمطر ألما وحسرة وشجن ‪ ،‬تود الرحيل‬
‫أليك وأنا أمرت نفسي على رحيلك منذ آخر لقاء بيننا ‪ .‬أعيد فيها كلمات الشجى واﻷلم‬
‫الذي يعتصر قلبي لتلك اﻷيام التي كنا نسرقها من الزمن ! اتذكرين حين كنت سائرة‬
‫الى الكلية في احدى صباحات بغداد العذبة الحالمة حين تحدثت أليك لحظات قليلة‬
‫كانت أجمل لحظات حياتي ! لم أكن أعلم وقتها انك كنت تنوين الغياب الطويل رغما‬
‫عني ‪ ،‬لم أكن أدري حين وضعتي في يدي ورقة ملونة معطرة باريج انفاسك العذبة‬
‫‪،‬مازلت أحتفظ فيها مع كتبي وذكرياتي ‪ ،‬حتى حفظتها عن ظهر قلب ‪،‬كلما اردت‬
‫الرجوع الى تلك اﻷيام الهامسة بعذوبة اللقاء وعطر الوفاء ‪ ،‬كنت أقول لك ‪ : -‬هل‬
‫انت تحبيني بقدر حبي لك ؟ !فتجيبيني ‪ : -‬نعم ‪ ،‬كيف عرفت انا ﻻاحبك ؟ فأضحك‬
‫من كل قلبي ‪ .‬هاهي صورتك اﻻن جاثمة فوق قلبي ﻻتفارقه لحظة ‪ .‬ايتها النسمات‬
‫العليلة في الفجر الندي احملي همسات روحي اليها ‪ ،‬قبل ان تنهض الطيور من بقايا‬
‫نعاسها ‪ ،‬قبل ان تشرق الحقول ويفتح الفجر عيون الزهور ‪،‬احملي همساتي الى الوردة‬
‫الندية الحمراء الساكنة هناك ‪ ،‬بعيدا ‪ ...‬بعيدا ‪ ...‬عن مدينتي‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫(عود لذي بدء )إبتعدت المسافات بيننا ‪ ،‬وليس لدي أي وسيلة ﻹيصال همسات روحي‬
‫الحزينة الى روحك ‪ ،‬وﻻ أجد متنفسا لبوحي سوى الورق أسطر عليه خلجات نفسي‬
‫وشجنها عسى أن يخفف من بعض معاناتي ‪ .‬فأنت كنزي الذي أهدته لي السماء ! بعد‬
‫بحثي عنك بين النجوم الزاهرات ‪ ،‬والغيوم العاطرات ‪ ،‬كم مرت علي من السنون‬
‫وأنا أتأمل فيك الحياة ؟! وموجات ظلمة الديجور والليالي المظلمات ‪ ،‬حينما كنت‬
‫أطرق ليل الشوارع المعتمة بع د الفراق ‪ ،‬باحثا عن طيفك الحالم الذي رحل وتركني‬
‫أتخبط تخبط عشواء مع آﻻمي وشجوني ‪ ،‬ونسيم الذكريات‪ ،‬باﻷمس زرت الكلية باحثا‬
‫عن ماضيات أيامنا وليالينا الحالمات ‪ ،‬وأنا أسير بين جنباتها وأروقتها العذبة وحدائقها‬
‫العطرة ‪ ،‬التي تروي ظمأ فؤآدي وي كأنك أمامي هنا ‪ ،‬ومازال همس صوتك الناعم‬
‫يناجيني ‪ ،‬وأقف أمام شجرتنا الحبيبة ‪ ،‬وارفة الظل والظالل التي طالما جلسنا تحتها‬
‫في سويعات الظهيرة الالهبة ‪ ،‬وأجلس على تلك اﻷريكة التي شهدت حبنا وإحتضنتنا‬
‫وأقبل المكان الذي كنت تجلسين عليه ! كأن أنفاسك وعطر عبيرك مازال يمأل المكان‬
‫‪،‬فمازلت أحتفظ بنوع عطرك الذي ﻻيفارقني ‪ ،‬وأسكبه على اﻷريكة والشجرة وأتخيلك‬
‫هناك تلوحين لي في اﻷفق البعيد !وأنت تبتسمين لي وتملئين روحي دفئا وحنانا ‪،‬‬
‫وهذه عواطفي سكبتها لك بعد رحيلك ‪ ،‬وثقي بأني لم أكتبها هكذا إعتباطا ‪ ،‬بل كتبتها‬
‫بكل جوارحي ‪ ،‬وبكل ذرة في كياني وكل دموع عيوني ! ولكن لألسف فأنا أعرف‬
‫بأن كلماتي لن تصلك ﻷني ﻻأعرف لك عنوان ‪ ،‬وأنت أيضا ﻻتعرفين لي مكان ‪ ،‬بعد‬
‫رحيلنا من مدينتنا مجبرين بعد اﻷحداث التي عصفت بنا وأنت ﻻبد تعرفيها ! تلك‬
‫اﻷحداث التي أحرقت اﻷخضر واليابس ‪ ،‬ولم تبق وﻻ تذر ‪ ،‬ومزقت روحي أشالء‬
‫مبعثرة تناثرت في كل مكان تواجدنا فيه ‪ ،‬فلم يعد لي بقاء فيها ‪ ،‬لهذا لم تصل منك‬
‫أي رسالة لي ﻷنك ﻻتعرفين لي عنوان ‪ ،‬إنها مأساة وطن طالت الجميع ‪ ،‬ورغم‬
‫سنوات الفراق بيننا ‪ ،‬فما زلت أحتفظ بروحي من عطر روحك‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الزمن بدونك كاوراق اشجار الخريف اليابسة سقطت في مهب الريح ‪ ،‬كوحش يزأر‬
‫طوال الليل ‪ ،‬ويمزق قلبي بأنيابه القاطعة ‪ ،‬كحزن شجيرات الصفصاف‪ ،‬ترنو في‬
‫الصيف الى الماء ‪ ،‬تريد الماء‪ ،‬فأين الماء؟ !كسفينة تاهت وسط البحر ! تتقاذفها‬
‫اﻻمواج الثائرة في ليلة ظلماء والمالح فقد المشاعر والخارطة ‪ ،‬تصمت الطيور ‪،‬‬
‫تجف الغصون ‪ ،‬وتمسي اﻷشجار بال ظالل ‪ ،‬وأصبحت الحياة بدونك كالساقية التي‬
‫انقطع ماؤها فهجرتها اﻻزهار والطيور فأين الماء ؟ إنضمر قلبي وجفت البشاشة من‬
‫روحي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫(إن خيروني ) ها هو ذا معي اﻵن ‪ ،‬أتأمل شخصه بهدوء ‪ ،‬كنت حائرة كيف أعود له‬
‫وبأي طريقة أرجع ؟ ! قد يكون انه لم يفهم وضعي وأنا بعيدة عنه في بالد الغربة و‬
‫احتمال انه يدري بما جرى لي وماعانيته بسبب البعاد ؟ هل يعلم لوعتي وشجوني‬
‫وسهادي وأيام الشجن؟ ! كيف هو ‪ ،‬ماهي أخباره ؟! كم أنا متلهفة للقاء به قبل غياب‬
‫الشمس في وقت الغروب ؟ !وأشم نسمات هواء عليلة معطرة تهب من أنفاسه على‬
‫قلبي الخافق بحبه ‪ ،‬لعلي أغمض عيني وأفتحهما على جمال الحياة بقربه كروضة‬
‫غناء في بساتين اﻷمل ‪ . -‬وصلت سارة الى الشركة التي يعمل بها عمار بعد أن ترقى‬
‫لدرجة وظيفية راقية ‪ ،‬أرادت الدخول بلهفة منعتها سكرتيرته الحسناء ‪ ،‬لعدم وجود‬
‫موعد مسبق لها مع المدير ‪ .‬قالت للسكرتيرة ‪ : -‬فقط قولي له سارة على الباب‪! -‬‬
‫دخلت السكرتيرة الى مكتب اﻷستاذ عمار وقالت له ‪ : -‬سارة على الباب ‪ . -‬لم يستوعب‬
‫المفاجأة وبقى واجما ينظر الى الباب مرتبكا ﻻيقوى على الكالم ! إبتسمت سارة وقالت‬
‫له ‪ : -‬لماذا دائما كلما نلتقي ﻷول مرة بعد الفراق تكون بهذا الوجوم واﻹرتباك ؟ ‪! -‬‬
‫هب واقفا يستقبلها بكل لهفة وإشتياق وي كأنه لم يفارقها سوى أيام معدودات ! نسى‬
‫كل حزن وكل معاناة وشجن ولم يعد يشعر أين كائن هو ‪ .‬ها هي الحياة تعود له من‬
‫جديد تنبض بالسعادة والحالوة والنشوة ‪،‬ليعود مطمئن القلب خالي البال منتشيا هانئا‬
‫بعد الفراق اﻵن وبعد اﻵن ‪ ،‬إنتهت المشكلة وعادت الحياة تنبض بالحالوة والجمال ‪.‬‬
‫ﻻ ﻻ عفوا لم تنته ‪ ،‬لقد إبتدأت المعاناة الجديدة ؟ !أنت ياحبيبتي بك عقدت المشكلة‬
‫وبك تشابكت احداثها ‪ ،‬وكنت قطب الرحى في كل ماجرى ‪ ،‬وأنت الحياة كلها بحلوها‬
‫ومرها ‪ ،‬وأنت القصة والقصيدة ‪ ،‬وأنت البداية والنهاية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫حين عرفت سارة قصة زواج عمار تلبية لرغبة والدته في فترة الغياب ‪ ،‬وقد رزقه‬
‫هللا عزوجل بطفل رائع مأل عليه حياته ‪ ،‬وهنا تكمن روعة التضحية في الحب ! ‪ .‬فال‬
‫مجال لألنانية هنا في البقاء أو الرحيل ‪ ،‬فقررت الرحيل وهو أسمى درجات العشق‬
‫‪.‬حين وصلت الى هذا الحال بكت روحي بشجن ‪ ،‬وانتابتني مشاعر شجية مؤلمة ‪،‬‬
‫ربضت على صدري ودمرت خواطري ‪ ،‬وامتصت كل قطرة أمل باسم قطرة فقطرة‬
‫‪ ،‬ثم رحلت بعيدا ساخرة من عواطفي ‪ ،‬وجعلتني اترنح في ثنايا سرابها القاسية ‪ .‬ثم‬
‫تعود فتربض على قلبي فتبتلع كل جمال وعذوبة وﻻتترك شيئا سوى الوجع ‪ .‬لهذا‬
‫قررت أن تضحي بسعادتها وتتركه يشق طريقه مع زوجته وطفله ‪ ،‬بعيدا عنها !‬
‫وطلبت منه اللقاء اﻷخير لوداع حبهما الراحل ‪.‬أمضيا النهار كامال في زيارة اماكن‬
‫الذكريات العبقة واﻻلم يعصف بمشاعرهما ‪،‬في حديث شجي يستعرضان معا أجمل‬
‫ساعات اللقاء الراحلة ‪ ،‬وتعاهدا على التضحية لبعضهما ‪ ،‬حبا في الحب ‪ ،‬كانت تتألم‬
‫وتختنق بالعبرات ولكن أسارير وجهها تشفع لها حين سقطت دموعها ونطقت بوجوب‬
‫اﻹبتعاد عن بعضهما ووداع قلبيهما ‪ ،‬وأن يتركا للزمن الذي هو كفيل بتخفيف لوعة‬
‫الفراق واﻷسى والشجن مما يعانيا ‪ ،‬كلمات الوداع ﻻيمكن وصفها ‪ ،‬وهي تعابير لوعة‬
‫يحسها العاشق المفارق ساعة الوداع ‪ ،‬في هذا اللقاء اﻷخير‪ ،‬وإن طالت ساعاته لكنه‬
‫كان لحظات قصيرة في عمر زمنهما زادا لهما يتزودان منه بقية عمرهما على زورقه‬
‫المتهالك يعبران بحار اﻷ لم للوصول الى شواطىء الشجن للرحيل نحو المجهول ‪،‬‬
‫ومن أزاهير رياضه يعبان ويمآلن نفسيهما بأريج الوفاء والتضحية ‪ ،‬ولكل موجة في‬
‫بحر حبهما الراحل لحن ‪ ،‬ولكل ريح ونسمات عليلة حكاية ‪ ،‬وقررا الوداع ‪ .‬إنتهت‬

‫‪22‬‬

You might also like